خلفهم فلم يدركوهم واشاعوا أنهم قبضوا عليهم من غير أصل ووصل خبرهم حسن باشا فاغتاظ من الاغا والوالي وأمرهما بالذهاب إلى بيوتهم ويسمرونها عليهن ففعلوا ذلك وقبضوا على الاغوات الطواشية والسقائين وحصلت ضجة في البلد بين الظهر والعصر بسبب ذلك وفرت زوجة إبراهيم بك إلى بيت شيخ السادات ثم أن رضوان بك قرابة علي بك تشفع في تسمير البيوت فقبلت شفاعته وأرسل لمعادي الخبيري والجيزة ومنعهم من التعدية وحجزهم إلى البر الشرقي.
وفي يوم الثلاثاء وردت نجابة وعلى أيديهم مكاتبات من عابدي باشا يخبر فيها بأن يحيى بك وحسن كتخدا الجربان حضرا إليه بأمان وخلع عليهم فراوي وصحبتهم عدة من الكشاف والمماليك وذلك بعد أن وصلوا إلى اسنا وأن القبالي ذهبوا إلى ناحية ابريم فتخلف عنهم المذكورون.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه حضر إسمعيل القبطان وكان بصحبته حمامجي أوغلي وأخبر أن العسكر العثمانية ملكوا أسوان وأن الأمراء القبالي ذهبوا إلى إبريم وأنهم في أسوأ حال من العري والجوع وغالب مماليكهم لابسون الزعابيط مثل الفلاحين وتخلف عنهم كثير من اتباعهم فمنهم من حضر إلى عابدي باشا بأمان ومنهم من تشتت في البلاد ومنهم من قتله الفلاحون وغير ذلك من المبالغات.
وفي يوم الإثنين خلع حسن باشا علي رضوان بك العلوي وقلده كشوفية الغربية وقلد علي بك الملط كشوفية المنوفية وقرر لهما على كل بلد أربعة آلاف نصف قضة ونزلا إلى طندتا لأجل خفارة مولد السيد أحمد البدوي.
وفي هذا الشهر عمت البلوى بموت الأبقار والثيران في سائر الإقليم البحري ووصل إلى مصر حتى أنها صارت تتساقط في الطرقات وغيطان المرعى وجافت الأرض منه فمنها ما يدركونه بالذبح ومنها ما يموت(2/19)
ورخص سعر اللحم البقري جدا لكثرته حتى صار يباع بمصر آخر النهار كل رطلين بنصف فضة مع كونه سمينا غير هزيل وعافته الناس وبعضهم كان يخاف من أكله وأما الأرياف فكان يباع فيها بالأحمال وبيعت البقرة بما خلعها بدينار وكثر عويل الفلاحين وبكاؤهم على البهائم وعرفوا بموتها قدر نعمتها وغلا سعر السمن واللبن والاجبان بسبب ذلك لقلتها.
شهر جمادى الآخرة استهل بيوم الأربعاء وكان ذلك يوم النوروز السلطاني وانتقال الشمس لبرج الحمل.
وفي يوم الإثنين سافر حمامجي اوغلي بالجوابات إلى الجهة القبلية وفيها الأمر بحضور عابدي باشا وأسمعيل بك وباقي الأمراء إلى مصر وأن حسن بك ومحمد بك المبدول ويحيى بك يقيمون باسنا محافظين.
وفي يوم الخميس سادس عشره نودي على النساء أن لا يخرجن إلى موسم الخماسين المعروف عند القبط بشم النسيم وذلك يوم الإثنين صبيحة عيدهم.
وفي عشرينه نودي بأبطال المعامله بالذهب الفندقلي الجديد واستمرت المناداة على النساء في عدم خروجهن إلى الأسواق وسبب ذلك وقائعهن مع العسكر منها أنهم وجدوا ببيت يوسف بك سكن حمامجي اوغلي نحو سبعين امرأة مقتولة ومدفونة بالاسطبلات ومن النساء من لعبت على العسكر وأخذت ثيابه وأمثال ذلك فنودي عليهن بسبب ذلك فتضرر المحترفات منهن مثل البلانات والدايات وبياعات الغزل والقطن والكتان ثم حصل الاطلاق وسومحن في الخروج.
وفي خامس عشرينه حضرت نجابة من قبلي وحضر أيضا حمامجي اوغلي وأخبروا أن الباشا والأمراء وصلوا إلى دجرجا.
شهر رجب الفرد استهل بيوم الخميس فيه قبض حسن باشا على أحمد قبودان المعروف بحمامجي اوغلي وحبسه وحبس أيضا تابعه عثمان.(2/20)
التوقتلي كان يسعى معه في الخبائث وكذلك رجل يقال له مصطفى خوجة.
وفي يوم الخميس سابعه نودي على النساء انهن إذا خرجن لحاجة يخرجن في كمالهن ولا يلبسن الحبرات الصندل ولا الإفرنجي ولا يربطن على رؤوسهن العمائم المعروفة بالقازدغلية وذلك من مبتدعات نساء القازدغلية وذلك أنهن يربطن الشاشيات الملونة المعروفة بالمدورات ويجعلنها شبه الكعك ويملنها على جباههن معقوصات بطريقة معلومة لهن وصار لهن نساء يتولين صناعة ذلك بأجرة على قدر مقام صاحبتها ومنهن من تعطي الصانعة لذلك دينارا أو أكثر أو أقل وفعل ذلك جميع النساء حتى الجواري السود.
وفي يوم الأحد حادي عشرة حضر عابدي باشا وأسمعيل بك وعلي بك الدفتردار ورضوان بك بلفيا وحسن بك رضوان ومحمد بك كشكش وعبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابوري وباقي الوجاقلية إلى مصر وذهبوا إلى بيوتهم وبات الباشا في مصر القديمة.
وفي صبحها يوم الإثنين ركب عابدي باشا وطلع إلى القلعة من غير موكب وطلع من جهة الصليبة وذلك قبل آذان الظهر بنحو خمس درجات فلما استقر بها ضربوا له مدافع من الأبراج وبعد انقضاء المدافع ارعدت السماء رعودا متتابعة إلى العصر وأمطرت مطرا غزيرا وذلك رابع عشرين برموده القبطي وتاسع عشر نيسان الرومي وأما حسن بك الجداوي فإنه تخلف بقنا هو واتباعه وكذلك عثمان بك وسليم بك الإسماعيلي باسنا وعلي بك جركس بارمنت وعثمان بك وشاهين بك الحسيني ويحيى بك باكير بك ومحمد بك المبذول كذلك تخلفوا متفرقين في البنادر لأجل المحافظة وقاسم بك أبو سيف في منصبه بدجرجا وأراد الباشا وأسمعيل بك أن يبقوا طائفة من الوجاقلية ومعهم طائفة من العسكر فأبوا وقالوا: حتى نذهب إلى مصر ونعدل حالنا وبعد ذلك نأتي(2/21)
وفي ذلك اليوم وصل الخبر بأن القبالي رجعوا إلى اسوان وشرعوا في التعدية إلى أسنا فأرسل إسمعيل بك إلى الاختيارية فحضروا عنده بعد العصر وتكلموا في شأن ذلك بحضرة علي بك أيضا وكذلك اجتمعوا في صبحها يوم الثلاثاء وانفصل المجسر كالأول.
وفي أواخره وصل الخبر أنهم زحفوا إلى بحرى وأن حسن بك تأخر عنهم.
شهر شعبان المكرم في أوائله جاء الخبر أنهم وصلوا إلى دجرجا وأن حسن بك والأمراء وصدوا في التأخر إلى المنية وعملت جمعيات ودواوين بسبب ذلك وشرعوا في طلوع تجريدة ثم وقع الاختلاف بين الباشا والأمراء واستقر الأمر بينهم في الرأي أن يراسلوهم في الصلح وأنهم يقيمون في البلاد التي كانت بيد إسمعيل بك وحسن بك ويرسلوا أيوب بك الكبير والصغير وعثمان بك الاشقر وعثمان بك المرادي يكونوا بمصر رهائن وكتبوا بذلك مكاتبات وأرسلوها صحبة محمد أفندي المكتوبجي وسليمان كاشف قنبور والشيخ سليمان الفيومي.
وفيه قررت المظالم على البلاد وهي المعروفة برفع المظالم وكان حسن باشا عندما قدم إلى مصر أبطلها وكتب برفعها فرمانات إلى البلاد فلما حضر إسمعيل بك حسن له اعادتها فأعيدت وسموها التحرير وكتب بها فرمانات وعينت بها المعينون وتفرقوا في الجهات والأقاليم بطلبها مع ما يتبعها من الكلف وحق الطرق وغيرها فدهى الفلاحون وأهل القرى بهذه الداهية ثانيا على ما هم فيه من موت البهائم وهياف الزرع وسلاطة الفيران الكثيرة على غيطان الغلة والمقاثي وغيرها وما هم فيه من تكلف المشاق الطارىء عليهم أيضا بسبب موت البهائم في الدراس وادارة السواقي بأيديهم وعوافيهم أو بالحمير أو الخيل أو الجمال لمن عنده مقدرة على شرائها وغلت أثمانها بسبب ذلك إلى الغاية فتغيرت قلوب الخلق جميعا على حسن باشا وخاب ظنهم فيه وتمنوا زواله وفشا شر جماعته وعساكره(2/22)
القليونجية في الناس وزاد فسقهم وشرهم وطمعهم وانتهكوا حرمةالمصر وأهله إلى الغاية.
وفي خامسه يوم الأربعاء توفي أحمد كتخدا المجنون وقلدوا مكانه في كتخدائية مستحفظان رضوان جاويش تابعه عوضا عنه.
وفيه قتل عثمان التوقتلي بالرميلة رفيق حمامجي اوغلي بعد أن عوقب بانواع العذاب مدة حبسه واستصفيت منه جميع الأموال التي كان يملكها واختلسها ودل على غيرها حمامجي اوغلي واستمر حمامجي اوغلي في الترسيم.
وفيه قبض على سراج متوجه إلى قبلي ومعه دراهم وامتعة وغير ذلك فأخذت منه ورمي عنقه ظلما بالرميلة.
واستهل شهر رمضان المعظم بيوم الأحد فيه اختصرت الأمراء من وقدة القناديل في البيوت عن العادة وعبى إسمعيل بك هدية جليلة وأرسلها إلى حسن باشا وهي سبع فروق وخمسون تفصيلة هندي عال مختلفة الاجناس وأربعة آلاف تصفية دنانير نقد مطروقة وجملة من بخور العود والعنبر وغير ذلك فأعطى للشيالين على سبيل الانعام أربعة عشر قرشا رومية عنها خمسمائة وستون نصفا فضة.
وفي يوم الثلاثاء عاشره حضر المحمل صحبة رجل من الأشراف وذلك أنه لما وقع للحجاج من العربان ما وقع في العام الماضي ونهبوا الحجاج وأخذوا المحمل بقي عندهم إلى أن جيش عليهم الشريف سرور وحاربهم وقاتلهم قتالا شديدا وأفنى منهم خلائق لا تحصى واستخلص منهم المحمل وأرسله إلى مصر صحبة ذلك الشريف وقيل أن الشريف الذي حضر به هو الذي افتداه من العرب بأربعمائة ريال فرانسة فلما حضر خرج إلى ملاقاته الإشاير والمحملدارية وأرباب الوظائف ودخلوا به من باب النصر وإمامه الإشاير والطبول والزمور وذلك الشريف راكب إمامه أيضا(2/23)
وفي ذلك اليوم بعد أذان العصر بساعتين وقعت حادثة مهولة مزعجة يخط البندقانيين وذلك أن رجلا عطارا يسمى أحمد ميلاد وحانوته تجاه خان البهار اشترى جانب بارود انكليزي من الفرنج في برميلين وبطة ووضعها في داخل الحانوت فحضر إليه جماعة من أهل الينبع وساوموه على جانب بارود وطلبوا منه شيئا اليروه ويجربوه فأحضر البطة وصب منها شيئا في المنقد الذي يعد فيه الدراهم ووضعوه على قطعة كاغد وأحضروا قطعة يدك وطيروا ذلك البارود عن الكاغد فأعجبهم ومن خصوصية البارود الانكليزي إذا وضع منه شيء على كاغد وطير فالنار لا تؤثر في الكاغد ثم رموا بالقطعة اليدك على مصطبة الحانوت وشرع يزن لهم وهم يضعونه في ظرفهم ويتساقط فيما بين ذلك من حباته وانتشر بعضها إلى ناحية اليدك وهم لا يشعرون فاشتعلت تلك الحبات واتصلت بما في أيديهم وبالبطة ففرقعت مثل المدفع العظيم واتصلت النار بذينك البرميلين كذلك فارتفع عقد الحانوت وما جاوره بما على تلك العقود من الأبنية والبيوت والربع والطباق في الهواء والتهبت بأجمعها نارا وسقطت بمن فيها من السكان على من كان أسفلها من الناس الواقفين والمارين وصارت كوما يظن من لم يكن رآه قبل ذلك أنه له مائة عام وذلك كله في طرفة عين بحيث أن الواقف في ذلك السوق أو المار لم يمكنه الفرار والبعيد أصيب في بعض أعضائه أما من النار أو الردم وكان السوق في ذلك الوقت مزدحما بالناس خصوصا وعصرية رمضان وذلك السوق مشتمل على غالب حوائج الناس وبه حوانيت العطارين والزياتين والقبانية والصيارف وبياعي الكنافة والقطائف والبطيخ والعبدلاوي ودكاكين المزينين والقهاوي وغالب جيران تلك الجهة وسكان السبع قاعات وشمس الدولة يأتون في تلك الحصة ويجلسون على الحوانيت لأجل التسلي والحاصل أن كل من كان حاصلا بتلك البقعة في ذلك الوقت سواء كان عاليا أو متسفلا أو مارا أو واقفا لحاجة أو جالسا أصيب البتة وكان ذلك(2/24)
العطار يبيع غالب الأصناف من رصاص وقصدير ونحاس وكحل وكبريت وعنده موازين شبه الجلل فلما اشتعل ذلك البارود صارت تلك الجلل وقطع الرصاص والكحل والمغناطيس تتطاير مثل جلل المدافع حتى أحرقت واجهة الربع المقابل لها وكان خان البهار مقفولا متخربا وبابه كبير مسماري فصدمه بعض الجلل وكسر واشتعل بالنار واتصل بالطباق التي تعلو ذلك الخان ووقعت ضجة عظيمة وكل من كان قريبا وسلم أسرع يطلب الفرار والنجاة وما يدري أي شيء القضية فلما وقعت تلك الضجة وصرخت النساء من كل جهة وانزعجت الناس انزعاجا شديدا وارتجت الأرض واتصلت الرجة إلى نواحي الأزهر والمشهد الحسيني ظنوها زلزلة وشرع تجار خان الحمزاوي في نقل بضائعهم من الحواصل فإن النار تطايرت إليه من ظاهره وحضرالاغا والوالي فتسلم الاغا جهة الحمزاوي وتسلم الوالي جهة شمس الدولة وتتبعوا النار حتى أخمدوها وختموا على دكاكين الناس التي بذلك لخط وأرسلوا ختموا بيت أحمد ميلاد الذي خرجت النار من حانوته بعد أن أخرجوا منه النساء ثم أفرجوا عنهم بأمر اسمعيل بك وأحضروا في صبحها نحو المائتين فاعل وشرعوا في نبش الأتربة وإخراج القتلى وأخذ ما يجدونه من الأسباب والأمتعة وما في داخل الحوانيت من البضائع والنقود وما سقط من الدور من فرش وأوان ومصاغ النساء وغير ذلك شيئا كثيرا حتى الحوانيت التي لم يصبها الهدم فتحوها وأخذوا ما فيها وأصحابها ينظرون ومن طلب شيئا من متاعه يقال له هو عندنا حتى تثبته هذا إذا كان صاحبه ممن يخاطب ويصغى إليه وقيامه قائمة ومن يقرأ ومن يسمع ووقفت اتباعهم بالنبابيت من كل جهة يطرودن الناس ولا يمكنون أحدا من أخذ شيء جملة كافية وأما القتلى فإن من كان في السوق أو قريبا من تلك الحانوت والنار فإنه احترق ومن كان في العلو من الطباق انهرس ومنهم من احترق بعضه وأنهرس باقيه وإذا ظهر وكان عليه شيء أو معه شيء أخذوه وأن كانت امرأة(2/25)
جردوها وأخدوا حليها ومصاغها ثم لا يمكنون أقاربهم من أخذهم إلا بدراهم يأخذونها وكأنما فتح لهم باب الغنيمة ولما كشفوا عن أحمد ميلاد وحانوته وجدوه تمزق واحترق وصار قطعا مثل الفحم فجمعوا منه ست قطع وأخذوا شيئا كثيرا من حانوته ودراهم وودائع كانت أسفل الحانوت لم تصبها النار وكتم عليها الردم والتراب وكذلك حانوت رجل زيات انهدم على صاحبه فكشفوا عنه وأخرجوه ميتا وأخذوا من حانوته مبلغ دراهم وكذلك من بيت صباغ الحرير بجوار الحمزاوي انهدمت داره أيضا وأخذوا ما فيها ومن جملتها صندوق ضمنه دراهم لها صورة ونحو ذلك واستمر الحال على ذلك أربعة أيام في حفر ونبش واخراج قتلى وجنائز وبلغت القتلى التي أخرجت نيفا عن مائة نفس وذلك خلاف من بقي تحت الردم منهم إمام الزاوية المجاورة لذلك فإنها انخسفت أيضا على الإمام وبقى تحت الردم ولم يجدوا بقية اعضاء أحمد ميلاد وفقدوا دماغه فجمعوا اعضاءه ووضعوها في كيس قماش ودفنوه وسدوا على تلك الخطة من الجهتين وتركوها كما هي مدة أيام ونظفت وعمرت بعد ذلك فكانت هذه الحادثة من أعظم الحوادث المزعجة.
وفي يوم الخميس حضر الرسل من عند القبليين وحضر أيوب بك الكبير رهينة عن المماليك المحمدية وعثمان بك الطنبرجي عن مراد بك وعبد الرحمن بك عن إبراهيم بك فذهبوا إلى حسن باشا وقابلوه وكذلك قابلوا عابدي باشا ثم اجتمع الأمراء عند حسن باشا وتكلموا في شأن هؤلاء الجماعة وقالوا: هؤلاء ليسوا المطلوبين ولم يأت إلا أيوب بك الكبير من المطلوبين ولم يأت عثمان بك الأشقر وأيوب بك الصغير فاتفق الرأي على أعادة الجواب فكتبوا جوابات أخرى وأرسلوها صحبة سلحدار حسن باشا.
وفي هذا الشهر اخذت القرصان ثلاثة غلايين وفيها أناس من اتباع(2/26)
الدولة وأعيانها ووصل الخبر بوقوع حريق عظيم ببندر جدة وتوفي أحمد باشا وإليها وعبى علي بك الدفتردار كساوى للأمراء فأرسل إلى إسمعيل بك وحسن بك الجداوي ورضوان بك وباقي الصنادق والأمراء حتى لحريمهم وأتباعهم وأرسل أيضا لطائفة الفقهاء وفتح السفر لجهة الموسقو وتقليد باكير قبطان باشا قائمقام عن حسن باشا.
وفي منتصفه وقعت حادثة بثغر بولاق بين طائفة الفليونجية والفلاحين باعة البطيخ وذلك أن شخصا قليونجيا ساوم على بطيخة وأعطاه دون ثمنها فامتنع وتشاجر معه فوكزه العسكري بسكين فزعق الفلاح على شيعته وزعق الآخر على رفقائه فاجتمع الفريقان ووقع بينهم مقتله كبيرة قتل فيها من الفلاحين نحو ثلاثين إنسانا ومن القليونجية نحو أربعة.
وفي يوم الأحد ثاني عشرينه قررت تفريدة على بلاد الأرياف أعلى وأوسط وأدنى الأعلى خمسة وعشرون ألف نصف فضة والأوسط سبعة عشر ألف والادنى تسعة آلاف وذلك خلاف ما يتبعها من الكلف وحق الطرق.
وفيه رفعوا خفارة البحرين عن بن حبيب وكذلك الموارد والتزم بها رضوان بك على خمسين كيسا يقوم بها في كل سنة لطرف الميري وسبب ذلك منافسة وقعت بينه وبين بن حبيب فإنه لما تولى المنوفية ومر على دجوة أرسل له بن حبيب تقدمة فاستقلها ثم أرسل إليه بعد ارتحاله من الناحية يطلب منه جمالا وأشياء فامتنع بن حبيب فأرسل يطلبه ليقابله فلم يذهب إليه واعتذر ولما رجع نزل إليه ابنه علي بالضيافة فعاتبه علىامتناع أبيه من مقابلته وأضمر له في نفسه وتكلم معه حسن باشا في رفع ذلك عنهم والتزم بالقدر المذكور وطريقة العثمانية الميل إلى الدنيا بأي وجه كان فأخرج فرمانا بذلك.
وفي ثاني شوال برزت الأمراء المعينون لجمع الفردة وهم سليم بك الإسماعيلي للغربية وشاهين بك الحسيني لأقليم المنصورة علي بك(2/27)
الحسيني لإقليم المنوفية ومحمد بك كشكش للشرقية وعثمان بك الحسيني للجيزة وعثمان كاشف الإسماعيلي للفيوم ويوسف كاشف الإسماعيلي للبهنسا وأحمد كاشف للجيزة.
وفي ثامنة حضر سلحدار الباشا وسليمان كاشف قنبور المسافران بالجوابات إلى الأمراء القبليين وذلك أنهم أرسلوا بطلب بلاد أخرى زيادة على ما عينوا لهم وقالوا: إن هذه البلاد لا تكفينا فأمر لهم حسن باشا بخمسة بلاد أخرى فقال إسمعيل بك: اطلبوا منهم حلوانها فقال إسمعيل كاشف قنبور اجعلوا ما أخذ من بيوتهم في نظير الحلوان فقال: كذلك.
وفي عاشره حضر قاصد من الحجاز بمراسلة من الشريف سرور يخبر فيها بعصيان عرب جرب وغيرهم وقعودهم على الطريق ومنعهم السبيل.
ويحتاج أن أمير الحاج يكون في قوة واستعداد وأن الحرب قائمة بينهم وبين الشريف وخرج إليهم في نحو خمسة عشر ألفا وفي منتصفه كمل عمارة التكية المجاورة لقصر العيني المعروفة بتكية البكتاشية وخبرها أن هذه التكية موقوفة على طائفة من الأعجام المعروفين بالبكتاشية وكانت قد تلاشى أمرها وآلت إلى الخراب وصارت في غاية من القذارة ومات شيخها وتنازع مشيختها رجل أصله من سراجين مراد بك وغلام يدعي أنه من ذرية مشايخها المقبورين فغلب على الغلام ذلك الرجل لانتسابه إلى الأمراء وسافر إلى اسكندرية فصادف مجيء حسن باشا واجتمع به وهو بهيئة الدراويش وهم يميلون لذلك النوع وصار من اخصائه لكونه من أهل عقيدته وحضر صحبته إلى مصر وصار له ذكر وشهرة ويقال له الدرويش صالح فشرع في تعمير التكية المذكورة من رشوات مناصب المكوس التي توسط لأربابها مع حسن باشا فعمرها وبنى اسوارها وأسوار الغيطان الموقوفة عليها المحيطة بها وأنشأ بها صهريجا في فسحة القبة ورتب لها تراتيب ومطبخا وأنشأ خارجها مصلى(2/28)
باسم حسن باشا فلما تم ذلك عمل وليمة ودعا جميع الأمراء فحصل عندهم وسوسة واعتدوا وركبوا بعد العصر بجميع مماليكهم واتباعهم وهم بالاسلحة متحذرين فمد لهم سماطا وجلسوا عليه واوهموا الأكل لظنهم الطعام مسموما وقاموا وتفرقوا في خارج القصر والمراكب وعمل شنك وحرافة نفوط وبارود ظنوا غرابته ثم ركبوا في حصة من الليل وذهبوا إلى بيوتهم.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه خرج المحمل وأمير الحجاج غيطاس بك في موكب محتقر بدون الينكجرية والعزب مثل العام الماضي فخرجوا إلى الحصوة وأقاموا هناك ولم يذهبوا إلى البركة.
وفي يوم الثلاثاء غايته ارتحل الحجاج من الحصوة إلى البركة بعد العصر وارتحلوا في ضحوة يوم الأربعاء غرة شهر القعدة.
شهر القعدة الحرام في ثالثه يوم الجمعة الموافق لثالث عشر مسرى القبطي أو في النيل المبارك أذرعه ونودى بذلك وعمل الشنك وركب حسن باشا في صبحها وكسروا السد بحضرته وجرى الماء في الخليج ولم يحضر عابدي باشا لمرضه.
وفي سادسه نودى على المماليك أن لا يركبوا من بيوت أسيادهم منفردين أبدا فترك ذلك في جملة المتروكات وتزوج المماليك وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون الدخان وهم راكبون في الشارع الأعظم وفي أيديهم شبكات الدخان من غير انكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم انكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور فإذا مات بعض الأعيان بادر أجد المماليك إلى سيده الأمير صاحب الشوكة وقبل يده وطلب منه أن ينعم عليه بزوجة الميت فيجيبه إلى ذلك ثم تراه ركب في الوقت والساعة ذهب إلى بيت المتوفي ولو قبل خروج جنازته ونزل في البيت وجلس فيه وتصرف في تعلقاته وحازه وملكه بما فيه وأقام بمجلس الرجال ينتظر انقضاء العدة ويأمر وينهي(2/29)
ويطلب الغداء والعشاء والفطور والقهوة والشربات من الحريم ويتصرف تصرف الملاك وربما وافق ذلك غرض المرأة فإذا رأته شابا مليحا قويا وكان زوجهاالمقبور بخلاف ذلك أظهرت له المخبآت والمدخرات فيصبح أميرا من غير تأمر وتتعدد عنده الخيول والخدام والفراشون والأصحاب ويركب ويذهب ويجيء إلى بيت سيده وفي حاجاته وغير ذلك فجرى يوما بمجلس حسن باشا ذكر ركوب المماليك على انفرادهم في الأسواق بحضرة بعض الاختيارية فقالوا أنه قلة أدب وخلاف العادة القديمة التي رأيناها وتربينا عليها فقال الباشا: اكتبوا فرمانا بمنع ذلك ففعلوا ذلك ونادوا به من قبيل الشغل الفارغ.
وفي سابعه ثقل عابدي باشا في المرض وأشيع موته.
وفي حادي عشره حضر حسين بك المعروف بشفت من قبلي في جملة الرهائن وقابل الباشا وأقام بمصر.
وفي منتصفه عوفي عابدي باشا من مرضه وشرعوا في طلب المال الشتوي فضج الملتزمون وتكلم الوجاقلية في الديوان وقالوا: من أين لنا ما ندفعه وما صدقنا بخلاص المظالم والصيفي والفردة ولم يبق عندنا ولا عند الفلاحين شيء أعطونا الجامكية ثم ندفعها لكم في المال الشتوي فانحط الرأي على كتابة رجع الجامكية وفرح الناس بذلك ثم تبين له لا أجد يأخذ رجعة إلا بقدر ما عليه من الميري وأن زاد له شيء يبقى له وديعة بالدفتر وأن لم يكن له جامكية يدفع ما عليه نقدا فصار بعض الملتزمين يأتي بأسماء برانية وينسبها لنفسه لأجل غلاق المطلوب منه فاتضحت تلك النسبة له بمراجعة الدفتر ثم منعوا كتابة الرجع وصار الافندية يكشفون على الدفاتر ويملون ويسددون بأنفسهم فمن زاد له شيء تبقى بالدفتر ومن زاد عليه شيء طلب منه.
وفي عشرينه ذهب الأمراء إلى حسن باشا وهم إسمعيل بك وحسن بك وعلي وباقي الأمراء فتكلم معهم بسبب الأموال التي جعلها عليهم(2/30)
والميري المطلوب منهم ومن اتباعهم وقال لهم أنا مسافر بعد الأضحى ولا بد من تشهيل المطلوب فاعتذروا وطلبوا المهلة فشنع عليهم ووبخهم بالكلام التركي ومن جملة ما قال لهم: أنتم وجوهكم مثل الحيط وأمثال ذلك فخرجوا من عنده وهم في غاية من القهر وكان ذلك باغراء إسمعيل بك ولما ذهب إسمعيل بك إلى بيته طلب أمراءه وشنع عليهم كما شنع عليه الباشا وحلف أن كل من تبقى عليه شيء ولو ألف درهم سلمه للباشا يقطع رأسه.
وفي يوم الخميس غايته طلعوا عند عابدي باشا فطالبهم بالميري أيضا وشنع عليهم وخصوصا قاسم بك أباسيف وحلف أنه يحبسهم حتى يدفعوا ما عليهم.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة وفيه حضر الاغا وعلى يده مقرر لعابدي باشا على السنة الجديدة.
وفيه أيضا قوى عزم حسن باشا على السفر إلى بلاد الروم وأعطى لإسمعيل بك جملة مدافع وقنابر وآلات حرب وصنع له قليونا صغيرا وقرر ألفا وخمسمائة عسكري يقيمون بمصر.
وفي يوم الخميس رابع عشرة عمل حسن باشا ديوانا بالقصر وحضر عنده عابدي باشا والمشايخ وسائر الأمراء بسبب قراءة مراسيم حضرت من الدولة فقرأوا منها ثلاثة وفيها طلب حسن باشا إلى الديار الرومية بسبب حركة السفر إلى الجهاد وأن الموسقو زحفوا على البلاد واستولوا على ما بقي من بلاد القرم وغيرهم والثاني فيه ذكر العفو عن إبراهيم بك ومراد بك من القتل وأن يقيم إبراهيم بك بقنا ومراد بك باسنا ولا أذن لهم في دخول مصر جملة كافية.
وفيه نودي على صرف الريال الفرانسة بمائة نصف فضة وكان وصل إلى مائة وعشرة فتضرر الناس من ذلك.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه ركب الأمراء باسرهم لوداع حسن باشا(2/31)
وكان في عزمه النزول في المراكب بعد صلاة الجمعة فلما تكاملوا عنده قبض على الرهائن وهم عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي وحسين بك شفت وعبد الرحمن بك الإبراهيمي ثم أمر بالقبض على حسن كتخدا الجربان وسليمان كاشف قنبور فهرب حسن كتخدا وساق جواده فتبعه جماعة من العسكر فلم يزل رامحا وهم خلفه حتى دخل بيت حسن بك الجداوي ودخل إلى باب الحريم وكان حسن بك بالقصر فرجع العسكر واخبروا الباشا بحضرة إسمعيل بك فطلب حسن بك وسأله إسمعيل بك فقال: إن كان في بيتي خذوه فأرسلوا وأحضروه ووضعوه صحبة المقيدين.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه سافر حسن باشا من مصر وأخذ معه الرهائن وسافر صحبته إبراهيم بك قشطة ليشيعه إلى رشيد وزار في طريقه سيدي أحمد البدوي بطندتا ولم يحصل من مجيئه إلى مصر وذهابه منها إلا الضرر ولم يبطل بدعة ولم يرفع مظلمة بل تقررت به المظالم والحوادث فإنهم كانوا يفعلونها قبل ذلك مثل السرقة ويخافون من إشاعتها وبلوغ خبرها إلى الدولة فينكرون عليهم ذلك وخابت فيه الأمال والظنون وهلك بقدومه إليها ثم التي عليها مدار نظام العالم وزاد في المظالم التحرير لأنه كان عندما قدم أبطل رفع المظالم ثم أعاده بإشارة إسمعيل بك وسماه التحرير فجعله مظلمة زائدة وبقى يقال: رفع المظالم والتحرير فصار يقبض من البلاد خلاف أموال الخراج عدة أقلام منها المضاف والبراني وعوائد الكشوفية والفرد المتعددة ورفع المظالم والتحرير ومال الجهاد وغير ذلك ولو مات حسن باشا بالاسكندرية أو رشيد لهلك عليه أهل الإقليم اسفا وبنوا على قبره مزارا وقبة وضريحا يقصده للزيارة.
من مات في هذه السنة من الأعيان.
توفي الإمام العالم العلامة أوحد وقته في الفنون العقلية والنقلية شيخ(2/32)
أهل الإسلام وبركة الأنام الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير ولد ببني عدي كما أخبر عن نفسه سنة 1127 وحفظ القرآن وجوده وحبب إليه طلب العلم فورد الجامع الأزهر وحضر دروس العلماء وسمع الأولي عن الشيخ محمد الدقري بشرطه والحديث على كل من الشيخ أحمد الصباغ وشمس الدين الحفني وبه تخرج في طريق القوم وتفقه على الشيخ علي الصعيدي ولازمه في جل درسه حتى أنجب وتلقن الذكر وطريق الخلوتيه من الشيخ الحفني وصار من أكبر خلفائه كما تقدم وأفتى في حياة شيوخه مع كمال الصيانة والزهد والعفة والديانة وحضر بعض دروس الشيخين الملوي والجوهري وغيرهما ولكن جل اعتماده وانتسابه على الشيخين الحفني والصعيدي وكان سليم الباطن مهذب النفس كريم الاخلاق وذكر لنا عن لقبه أن قبيلة من العرب نزلت ببلده كبيرهم يدعى بهذا اللقب فولد جده عند ذلك فلقب بلقبه تفاؤلا لشهرته وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل أورد فيه خلاصة ما ذكره الاجهوري والزرقاني واقتصر فيه على الراجح من الأقوال ومتن في فقه المذهب سماه أقرب المسالك لمذهب مالك ورسالة في متشابهات القرآن ونظم الخريدة السنية في التوحيد وشرحها وتحفة الاخوان في آداب أهل العرفان في التصوف وله شرح على ورد الشيخ كريم الدين الخلوتي وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال الدين البكري ورسالة في المعاني والبيان ورسالة أفرد فيها طريقة حفص ورسالة في المولد الشريف ورسالة في شرح قول الوفائية يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم يا علي يا حكيم وشرح على مسائل كل صلاة بطلت على الإمام والأصل للشيخ البيلي وشرح على رسالة في التوحيد من كلام دمرداش ورسالة في الأستعارات الثلاث وشرح على آداب البحث ورسالة في شرح صلاة السيد أحمد البدوي وشرح على الشمائل لم يكمل ورسالة في صلوات شريف اسمها المورد البارق في الصلاة على أفضل.(2/33)
الخلائق والتوجه الأسني بنظم الأسماء الحسنى ومجموع ذكر فيه أسانيد الشيوخ ورسالة جعلها شرحا على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية وله غير ذلك ولما توفي الشيخ علي الصعيدي تعين المترجم شيخا على المالكية ومفتيا وناظرا على وقف الصعايدة وشيخا على طائفة الرواق بل شيخا على أهل مصر بأسرها في وقته حسا ومعنى فإنه كان رحمه الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصدع بالحق ولا يأخذه في الله لومة لائم وله في السعي على الخير يد بضياء تعلل أياما ولزم الفراش مدة حتى توفي في سادس شهر ربيع الأول من هذه السنة وصلى عليه بالأزهر بمشهد عظيم حافل ودفن بزاويته التي أنشأها بخط الكعكبيين بجوار ضريح سيدي يحيى بن عقب وعندما أسسها أرسل إلي وطلب مني أن أحرر له حائط المحراب على القبلة فكان كذلك وسبب إنشائه للزاوية أن مولاي محمد سلطان المغرب كان له صلات يرسلها لعلماء الأزهر وخدمة الآضرحة وأهل الحرمين في بعض السنين وتكرر منه ذلك فأرسل على عادته في سنة ثمان وتسعين مبلغا وللشيخ المترجم قدرا معينا له صورة وكان لمولاي محمد ولد تخلف بعد الحج وأقام بمصر مدة حتى نفذ ما عنده من النفقة فلما وصلت تلك الصلة أراد أخذها ممن هي في يده فامتنع عليه وشاع خبر ذلك في الناس وأرباب الصلات وذهبوا إلى الشيخ بحصته فسأل عن قضية بن السلطان فأخبروه عنها وعن قصده وأنه لم يتمكن من ذلك فقال: والله هذا لا يجوز وكيف اننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب وولده يتلظى من العدم هو أولى مني وأحق أعطوه قسمي فأعطاه ذلك ولما رجع رسول ابيه أخبر السلطان والده بما فعل الشيخ الدردير فشكره على فعله وأثنى عليه واعتقد صلاحه وأرسل له في ثاني عام عشرة امثال الصلة المتقدمة مجازاة للحسنة فقبلها الأستاذ وحج منها ولما رجع من الحج بنى هذه الزاوية مما بقى ودفن بها رحمه(2/34)
الله ولم يخلف بعده مثله.
ومات الشيخ الإمام العلامة المتفنن المتقن المعمر الضرير الشيخ محمد المصيلحي الشافعي أجد العلماء أدرك الطبقة الأولى وأخذ عن شيوخ الوقت وأدرك الشيخ محمد شنن المالكي وأخذ عنه وأجازه الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ عبد ربه الديوي والشيخ أحمد الملوي والحفني والدفري والشيخ علي قايتباي والشيخ حسن المدابغي وناضل ودرس وأفاد وأقر وانتفع عليه الطلبة ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري وانقرض أشياخ الطبقة الأولى نوه بذكره واشتهر صيته وحف به تلامذته وغيرهم ونصبوه شبكة لصيدهم وآلة لاقتناصهم وأخذوه إلى بيوت الأمراء في حاجاتهم وعرضوا به المتصدرين من الاشياخ في الرياسة ويرى أحقيته لها لسنة وأقدميته ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري وتقدم الشيخ أحمد العروسي في مشيخة الأزهر كان المترجم غائبا في الحج فلما رجع وكان الأمر قد تم للعروسي أخذه حمية المعاصرة وأكثرها من اغراء من حوله فيحركونه للمناقضة والمناكدة حتى أنه تعدى على تدريس الصلاحية بجوار مقام الإمام الشافعي المشروطة لشيخ الأزهر بعد صلاة الجمعة فلم ينازعه الشيخ أحمد العروسي وتركها له حسما للشر وخوفا من ثوران الفتن والتزم له الاغضاء والمسامحة في غالب الأطوار ولم يظهر الالتفات لما يعانوه أصلا حتى غلب عليهم بحلمه وحسن مسايرته حتى أنه لما توفي المترجم ورجع إليه تدريس الصلاحية لم يباشر التصدر في الوظيفة بلى قرر فيها تلميده العلامة الشيخ مصطفى الصاوي وأجلسه وحضر افتتاحه فيها وذلك من حسن الرأي وجودة السياسة توفي المترجم ثاني عشر شوال من هذه السنة وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين ومات الإمام العلامة واللوذعي الفهامة لسان المتكلمين وأستاذ المحققين الفقيه النبيه المستحضر الأصولي المنطقي الفرضي الحيسوب الشيخ عبد الباسط السنديوني الشافعي تفقه على أشياخ العصر المتقدمين وأجازه.(2/35)
أكابر المحدثين ولازم الشيخ محمد الدفري وبه تخرج في الفقه وغيره وأنجب ودرس وأفاد وأفنى في حياة شيوخه وكان حسن الالقاء جيد الحافظة يملي دروسه عن ظهر قلبه وحافظته عجيب الأستحضار للفروع الفقهية والعقلية والنقلية ومما شاهدته من استحضاره أنه وردت فتوى في مسالة مشكلة في المناسخة فتصدى لتحريرها وقسمتها جماعة من الأفاضل ومنهم الشيخ محمد الشافعي الجناجي وناهيك به في هذا الفن وتعبوا فيها يوما وليلة حتى حرروها على الوجه المرضي ثم قالوا: دعنا نكتبها في سؤال على بياض ونرسلها للمتصدرين للأفتاء وننظر ماذا يقولون في الجواب: ولو بالمهلة ففعلوا ذلك وأرسلوها للشيخ المترجم مع بعض الناس وهو لا يعلم بشيء مما عانوه فغاب الرسول مدة لطيفة وحضر بالجواب على الوجه الذي تعب فيه الجماعة يوما وليلة فقضعوا عجبا من جودة استحضاره وحدة ذهنه وقوة فهمه إلا أنه كان قليل الورع عن بعض سفاسف الأمور اتفق أنه تنازع مع عجوز في فدان ونصف طين مدة سنين وأهين بسببها مرارا في أيام مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ الحفني ورأيته مرة يتداعى معها عند شيخنا الشيخ أحمد العروسي فنهاه الشيخ العروسي عنها ولامه فلم ينته ولم يزل ينازعها وتنازعه إلى أن مات وغير ذلك أمور يستحي من ذكرها في حق مثله وبذلك قلت وجاهته بين نظرائه توفي في أول جمادى الآخرة من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله وغفر لنا وله.
ومات الشيخ الفاضل الصالح المجذوب صاحب الأحوال محمد ابن أبي بكر بن محمد المغربي الطرابلسي الشهير بالاثرم ولد بقربه انكوان من اعمال طرابلس في حدود سنة خمس وأربعين وبها نشأ وتنتسب جدوده إلى خدمة الولي الصالح الشهير سيدي أحمد زروق قدس سره وغلب عليه الجذب في مبادىء أمره وحفظ جملة من كلام الشيخ المشار إليه ومن كلام غيره وكان مبدأ أمره فيما أخبرنا أنه توجه إلى تونس(2/36)
رجع وكان وقتا شديد الحر فخلع ثيابه فأخذه البرد والرعدة في الحال ومرض نحو ثمانية أيام حتى توفي نهار الثلاثاء ثالث جمادى الثانية وجهز وكفن وصلي عليه بمشهد حافل بالأزهر ودفن تحت جدار قبة الإمام الشافعي في مدافن الرزازين وحزنت عليه الناس كثيرا وقد رآه اصحابه بعد موته في منامات عدة تدل على حسن حاله في البرزخ رحمه الله.
ومات الإمام العلامة والفاضل الفهامة صفوة النبلاء ونتيجة الفضلاء الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد السحيمي الحنفي القلعاوي تفقه على والده وعلى الشيخ أحمد الحماقي وحضر معنا على شيخنا الشيخ مصطفى الطائي الهداية وانجب ودرس في فقه المذهب والمعقول مع الحشمة والديانة ومكارم الأخلاق والصيانة توفي سادس عشر شوال ودفن عند والده بباب الوزير.
ومات الأجل العمدة الشريف الصالح السيد عبد الخالق بن أحمد ابن عبد اللطيف بن محمد تاج العارفين المنتهي نسبه إلى سيدي عبد القادر الحسني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي وهو أخو السيد محمد الجيزي المتوفي قبل ذلك من بيت الثروة والعز والسيادة تولى بعد اخيه الكتابة ببيت النقابة ومشيخة القادرية واحسن السير والسلوك مع الوقار والحشمة وكان إنسانا حسنا كثير الحياء متجمعا عن الناس مقبلا عن شأنه وفيه رقة طبع مع الأخلاق المهذبة والتواضع للناس والانكسار رحمه الله.
ومات الأمير الصالح المبجل أحمد جاويش أرنؤد باش اختيار وجاق التفكجية وكان من أهل الخير والدين والصلاح عظيم اللحية منور الشيبة مبجلا عند أعاظم الدولة يندفع في نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويسمعون لقوله: وينصتون لكلامه ويتقونه ويحترمونه لجلالته ونزهته عن الآغراض وكان يحب أهل الفضائل ويحضر دروس العلماء ويزورهم ويقتبس من أنوار علومهم ويذهب كثيرا إلى سوق(2/37)
رجع وكان وقتا شديد الحر فخلع ثيابه فأخذه البرد والرعدة في الحال ومرض نحو ثمانية أيام حتى توفي نهار الثلاثاء ثالث جمادى الثانية وجهز وكفن وصلي عليه بمشهد حافل بالأزهر ودفن تحت جدار قبة الإمام الشافعي في مدافن الرزازين وحزنت عليه الناس كثيرا وقد رآه اصحابه بعد موته في منامات عدة تدل على حسن حاله في البرزخ رحمه الله.
ومات الإمام العلامة والفاضل الفهامة صفوة النبلاء ونتيجة الفضلاء الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد السحيمي الحنفي القلعاوي تفقه على والده وعلى الشيخ أحمد الحماقي وحضر معنا على شيخنا الشيخ مصطفى الطائي الهداية وانجب ودرس في فقه المذهب والمعقول مع الحشمة والديانة ومكارم الأخلاق والصيانة توفي سادس عشر شوال ودفن عند والده بباب الوزير.
ومات الأجل العمدة الشريف الصالح السيد عبد الخالق بن أحمد ابن عبد اللطيف بن محمد تاج العارفين المنتهي نسبه إلى سيدي عبد القادر الحسني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي وهو أخو السيد محمد الجيزي المتوفي قبل ذلك من بيت الثروة والعز والسيادة تولى بعد اخيه الكتابة ببيت النقابة ومشيخة القادرية واحسن السير والسلوك مع الوقار والحشمة وكان إنسانا حسنا كثير الحياء متجمعا عن الناس مقبلا عن شأنه وفيه رقة طبع مع الأخلاق المهذبة والتواضع للناس والانكسار رحمه الله.
ومات الأمير الصالح المبجل أحمد جاويش أرنؤد باش اختيار وجاق التفكجية وكان من أهل الخير والدين والصلاح عظيم اللحية منور الشيبة مبجلا عند أعاظم الدولة يندفع في نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويسمعون لقوله: وينصتون لكلامه ويتقونه ويحترمونه لجلالته ونزهته عن الآغراض وكان يحب أهل الفضائل ويحضر دروس العلماء ويزورهم ويقتبس من أنوار علومهم ويذهب كثيرا إلى سوق(2/38)
الكتبيين ويشتري الكتب ويوقفها على طلبة العلم واقتنى كتبا نفيسة ووقفها جميعها في حال حياته ووضعها بخزانة الكتب بجامع شيخون العمري بالصليبة تحت يد الشيخ موسى الشيخوني الحنفي وسمع على شيخنا السيد مرتضى صحيح البخاري ومسلم وأشياء كثيرة والشمائل والثلاثيات وغير ذلك وبالجملة فكان من خيار من أدركنا من جنسه ولم يخلف بعده مثله توفي في ثامن شوال من السنة وقد ناهز التسعين.
ومات الأمير المبجل أحمد كتخدا المعروف بالمجنون أجد الأمراء المعروفين والقراصنة المشهورين وهو من مماليك سليمان جاويش القازدغلي ثم انضوى إلى عبد الرحمن كتخدا وانتسب إليه وعرف به وأدرك الحوادث والفتن التليدة والطارفة ونفى من نفى في أمارة علي بك الغزاوي في سنة ثلاث وسبعين إلى بحري ثم إلى الحجاز وأقام بالمدينة المنورة نحو اثنتي عشرة سنة وقادا بالحرم المدني ثم رجع إلى الشام وأحضره محمد بك أبو الذهب إلى مصر وأكرمه ورد إليه بلاده وأحبه واختص به وكان يسامره ويأنس بحديثه ونكاته فإنه كان يخلط الهزل بالجد ويأتي بالمضحكات في خلال المقبضات فلذلك سمي بالمجنون وكان بلد ترسا بالجيزة جارية في التزامه وعمر بها قصرا وانشأ بجانبه بستانا عظيما زرع فيه أصناف الأشجار والنخيل والرياحين ويجلب من ثماره إلى مصر للبيع والهدايا ويرغب فيها الناس لجودتها وحسنها عن غيرها وكذلك أنشأ بستانا بجزيرة المقياس في غاية الحسن وبنى بجانبه قصرا يذهب إليه في بعض الاحيان ولما حضر حسن باشا إلى مصر ورأى هذا البستان اعجبه فاخذه لنفسه واضافه إلى أوقافه وبنى المترجم أيضا داره التي بالقرب من الموسكي داخل درب سعادة ودارا على الخليج المرخم اسكن فيه بعض سراريه وكان له عزوة ومماليك ومقدمون واتباع وإبراهيم بك أوده باشه من مماليكه ورضوان كتخدا الذي تولى بعده كتخدا الباب وكان مقدمة في المدد السابقة يقال له: المقدم فوده له شأن وصوله بمصر وشهرة في القضايا والدعاوى ولم يزل طول المدد السابقة جاويشا فلما(2/39)
كان آخر مدة حسن باشا قلدوه كتخدا مستحفظان ولم يزل معروفا مشهورا في أعيان مصر إلى أن توفي في خامس شعبان من السنة.
ومات الأمير الجليل محمد بك الماوردي وهو مملوك سليمان اغا كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا وخشداشينه حسن بك الأزبكاوي الذي قتل بالمساطب كما تقدم وحسن بك المعروف بأبي كرش فكان الثلاثة أمراء يجلسون بديوان الباشا وسيدهم كتخدا الجاويشية واقف في خدمته على أقدامه ومرت له محن في تنقلاته ورحلاته إلى البلاد عندماتملك علي بك وخرج المترجم منفيا وهاربا من مصر مع من خرج وباشر الحروب باسيوط وذهب إلى الشام وغيرها لكن لم اتحقق وقائعه ولم يزل حتى حضر إلى مصر في أيام أبي الذهب وقد صار ذا شيبة وتزوج ببنت الشيخ العناني وأقام ببيتهم بسوق الخشب خاملا حتى مات في هذه السنة وكان لا بأس به وتقلد في المدد السابقة اغاوية مستحفظان ثم الصنجقية ونظارة الجامع الأزهر(2/40)
سنة اثنتين ومائتين وألف.
استهل المحرم بيوم السبت فيه عزل المحتسب وتولى آخر يسمى يوسف اغا الخربتاوي وتولى عثمان بك طبل الإسماعيلي على دجرجا وفيها انفرد إسمعيل بك الكبير في إمارة مصر وصار بيده العقد والحل والابرام والنقض واستوزر محمد اغا البارودي وجعله كتخداه واستمر إسمعيل كتخدا حسن باشا بمصر لقبض بواقي المطلوبات وسكن ببيت حسن كتخدا الجربان بباب اللوق.
وفيه قبض إسمعيل بك على الحاج سليمان بن ساسي وحبسه ببيت محمد اغا البارودي وصادره في خمسين كيسا.
وفي خامسه طلب إسمعيل بك دراهم قرضة مبلغا كبيرا فوزعوا منها(2/40)
جانبا على تجار البن والبهار وجانبا على الذين يقرضون البن بالمرابحة للمضطرين وجانبا على نصارى القبط وعلى الأروام والشوام وعلى طوائف المغاربة بطولون والغورية وعلى المتسببين في الغلال بالسواحل والرقع وكذلك بياعو القطن والبطانة والقماش والمنجدون واليهود وغير ذلك فانزعج الناس وأغلقوا وكائل البن والغورية ودكاكين الميدان.
وفي يوم السبت خامس عشره اجتمع جملة من الطوائف المذكورة وحضروا إلى الجامع الأزهر وضجوا واستغاثوا من هذا النازل وحضر الشيخ العروسي فقاموا في وجهه وأرادوا قفل أبواب الجامع فمنعهم من ذلك فصاحوا عليه وسبوه وسحبوه بينهم إلى جهة رواق الشوام فمنع عنه المجاورون وأدخلوه إلى الرواق ودافعوا عنه الناس وقفلوا عليه باب الرواق وصحبته طائفة من المتعممين وكتبوا عرضا إلى إسمعيل بك بسبب ذلك وأرسلوه صحبة الشيخ سليمان الفيومي وانتظروه حتى رجع إليهم ومعه تذكرة من إسمعيل بك مضمونها الأمان والعفو عن الطوائف المذكورة.
وفيها أن هذا المطلوب إنما هو على سبيل القرض والسلفة من القادر على ذلك فلما قرئت عليهم التذكرة قالوا: هذه مخادعة وعندما ينفض الجمع وتفتح الدكاكين يأخذونا واحدا بعد واحد ثم قام الشيخ وركب وحوله الجم الغفير والغوغاء وبعض المجاورين يدفع الناس عنه بالعصي والعامة يصيحون عليه ويسمعونه الكلام غير اللائق إلى أن وصل إلى باب زويلة فنزل بجامع المؤيد وأرسل إلى إسمعيل بك يخبره بهذا الحال فحنق إسمعيل بك وظن أنها مفتعلة من الشيخ وأنه هو الذي أغراهم على هذه الأفعال فأجابه الرسل وحلفوا له ببراءته من ذلك وليس قصده إلا الخلاص منهم فقال: أنا ارسلت إليهم بالأمان ودعوهم ينفضوا وما أجد يطالبهم بشيء فانفضوا وتفرقوا ومضى على ذلك يوما فأرسلوا إلى أهل الصاغة والجواهرجية والنحاسين وطالبوهم بالمقرر والموزع عليهم فلم يجدوا بدا من الدفع ثم طالبوا وكالة الجلاية وتطرق الحال إلى باقي(2/41)
الناس حتى بياعي الفسيخ ومجموع ذلك نحو اثنين وسبعين حرفة.
وفي منتصفه حضر علي كاشف من جهة قبلي وقد كان سافر بعد سفر حسن باشا برسالة إلى الأمراء القبالي وأخبر أنهم مستقرون في أماكنهم ولم يتحركوا.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه سافر أمير القلزم بملاقاة الحاج وكان من عادته السفر في أول الشهر ولم يحضر في هذه السنة نجاب الجبل وأخذوا من بلاد أمير الحج بلدين وأخذوا أيضا بيته الذي كان سكن به فلما استقر يحيى بك بمصر أخذه وسكنه لكونه زوج بنت صالح بك وهو بيت أبيها وهو أحق به.
ثم استهل شهر صفر الخير وفيه كملت القيسارية التي عمرها إسمعيل بك بجانب السبيل الذي بسويقة لاجين فأنشأ بها أحدى وعشرين حانوتا وقهوة وجعلها مربعة الأركان وهذا السبيل من انشاء سيده إبراهيم كتخدا ولما أتمها نقل إليها سوق درب الجماميز بعد العصر وانتقل إليه الدلالون والناس والقماشون في عصرية يوم الثلاثاء ثانية ويطل سوق درب الجماميز من ذلك اليوم وليس لإسمعيل بك من المحاسن إلا نقل هذا السوق من تلك الجهة ووضعه في هذه الجهة كما لا يخفى.
وفيه اشتد العسف في الرعية بسبب طلب السلفة وتعدى الحال إلى بياع المخلل والصوفان وتضرر الفقراء من ذلك.
وفي سابعه سافر محمد باشا وإلى جدة إلى السويس.
وفي يوم السبت ثالث عشره طلع إسمعيل بك والأمراء إلى الديوان بالقلعة وأخرج قوائم مزاد البلاد التي تأخر على ملتزميها الميري فتصدر لشرائها كتخدا محمد اغا البارودي فاشترى نحو سبعين بلدا وفي الحقيقة هي راجعة إلى مخدومه يفرقها على من يشاء من أغراضه فشرع أولا في طلب الشتوي وزاد على من أخذ البلاد سنة ونصفا ثم ادعى أن حسن باشا أخذ سنة من الحلوان ودخلت في حسابه وطلب سنة ونصف أخرى وطلب المال الصيفي أيضا فعجزت الملتزمون ففعل هذه الفعلة.(2/42)
وأخرج قوائم مزادهم إلى الديوان واستخلصها من ملتزميها.
وفي تلك الليلة حضرت جماعة من كشاف النواحي القبلية واخبروا أن الأمراء القبالي حضرو إلى أسيوط وأوائلهم تعدي منفلوط فهرب من كان هناك من الكشاف وغيرهم وحضروا إلى مصر فلما تحققت هذه الأخبار طلع في صبحها إسماعيل بك إلى الديوان واجتمع الأمراء والوجاقلية والمشايخ فتكلم إسمعيل بك وقال يا أسيادنا يا مشايخ يا أمراء يا وجاقلية أن الجماعة القبليين نقضوا عهد السلطان وانتقلوا من أماكنهم وزحفوا على البلاد فهل الواجب قتالهم ودفعهم فقالوا نعم فقال: إن المخالفين إذا نقضوا عهد السلطان ولزم الحال إلى قتالهم يصرف على المقاتلين من العسكر من خزينة السلطان وليس هنا خزينة فكل منكم يقاتل عن نفسه فأجابه إسمعيل أفندي الخلوتي وقال ونحن أي شيء تبقى عندنا حتىنصرفه وقد صرنا كلنا شحاتين لا نملك شيئا فقال له الباشا هذا الكلام لا يناسب ولا ينبغي أنك تكسر قلوب العسكر بمثل هذاالكلام والأولى أن تقول لهم أنا وأنتم شيء واحد أن جعت جوعوا معي وأن شبعت اشبعوا معي ثم انحط الرأي بينهم على أن يكتبوا عرضا للدولة والأخبار عن نقضهم وعرضا لهم بالتحذير ثم كتبوا فرمانات لجميع الغز والأجناد الغائبين بالأرياف بالحضور وبكى إسمعيل بك بالمجلس ونهنه في بكائه ثم كتبوا مكاتبة من الباشا ومن الوجاقلية والمشايخ وأرسلوها صحبة واحد من طرف الباشا وسراج من طرف إسماعيل بك وأرسلوا إلى محمد باشا المسافر إلى جدة بالرجوع من السويس إلى مصر بأمر من الدولة.
وفي ذلك اليوم أعني يوم الحد رابع عشرة حضر جاويش الحاج من العقبة.
وفي يوم الأربع سابع عشرة نبهوا على مماليك الأمراء القبليين وكشافهم الكائنين بمصر بالاجتماع والحضور فأرسل كل من كان مستخدماص عنده جماعة من الأمراء والصناجق وغيرهم فجمعهم في مكان في بيته ومن كان غائبا في حاجة أرسلوا إليه وأحضروه فلما تكاملوا أخذوا خيولهم وأسلحتهم وأبقوهم في الترسيم وأما علي بك الدفتردار فإنه لم يسلم(2/43)
فيمن عنده وكان منقطعا في الحريم لصداع برأسه ووجع في عينيه من مدة شهرين.
وفي يوم الجمعة كان نزول الحجاج ودخولهم إلى مصر وكانوا أغلقوا أبواب مصر وأجلسوا عليها حرسجية فلم يدخل الحجاج إلا من باب النصر فقط فتضرر الناس من الإزدحام في ذلك الباب وارتاح الحجاج في هذا العام ولم يحصل لهم تعب وزاروا الدينة الشريفة.
وفيه نزل الاغا وصحبته كتخدا الباشا وأمامهما المناداة على كل من كان مختفيا من اتباع الأمراء القبليين ومماليكهم بالظهور ويطلعوا يقابلوا الباشا وكل من ظهر عنده أجد بعد ثلاث أيام فإنه يستأهل الذي يجري عليه.
وفي صبحها يوم السبت دخل أمير الحاج غيطاس بك وصحبته المحمل.
وفيه شرع إسمعيل بك في طلب تفريدة من البلاد والقرى فجعلوا على كل بلد مائة دينار وعشرة خلاف ما يتبع ذلك من الكلف وحق الطرق وغير ذلك وعين لقبضها خازنداره وغيره.
وفي تاسع عشره قبضوا على جماعة من المماليك والأجناد وهم الذين كانوا في الترسيم وأنزلوهم في مراكب وأرسلوهم إلى ثغر اسكندرية وحبسوهم بالبرج ومنهم جماعة بأبي قير وكان علي بك توقف في تسليم المنتسبين إليه فلم يزل به إسمعيل بك حتى سلم فيهم.
وفي عشرينه قبضوا على بواقيهم وأنزلوهم المراكب أيضا وبعضهم أنزله عريانا ليس عليه سوى القميص والصديري واللباس وطاقية أو طربوش معمم عليه بمحرمة أو منديل ونحو ذلك ولم تزل الحرسجية مقيمين عل الأبواب وحصل منهم الضرر للناس والرعية والمتسببين والفلاحين الواردين من القرى بالجبن والسمن والتبن ونحو ذلك وكل من أراد العبور من باب منعوه من الدخول حتى يأخذوا منه دراهم ولو كان بنفسه(2/44)
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه نزل الاغا وإمامه الوالي وأوده باشة البوابة وإمامهم المناداة على جميع الالضاشات المنتسبين إلى الوجاقات بأنهم يأخذوا لهم أوراقا من أبوابهم وكل من وجد وليس معه ورقة بعد ثلاثة أيام يحصل له مزيد من الضرر وبيد المنادي فرمان من الباشا.
وفيه ركب إسمعيل بك ونزل إلى بولاق ليتفرج على شركفلك الذي صنعه وتم شغله وقد زاد في صنعته عما فعله حسن باشا بأن ركبه على عجل يجروه وزاد في اتقانه وسبك جللا كثيرة للمدافع فلما رآه أعجبه وشرع أيضا في عمل شركفلكين اثنين وجهز ذخيرة عظيمة من بقسيماط وغيره.
وفي يوم الإثنين حضر الرسول الذي كان توجه بالرسالة للأمراء القلبيين وهو الذي من طرف الباشا وصحبته آخر من طرف إسمعيل بك وعلى يدهما جوابان احدهما خطاب للباشا والثاني خطاب للمشايخ فاجتمعوا بالديوان في صبحها يوم الثلاثاء وقرأوا الجوابات وملخصها انكم نسبتونا لنقض العهد والحال أن النقض حصل منكم بتسفير أخواننا الرهائن وذهابهم مع قبطان باشا إلى الروم وما فعلتم في بيوتنا وحريمنا ولما حصل ذلك احتد البعض منا وزحفوا إلى بحري فركبنا خلفهم نردهم فلم يمتثلوا فأقمنا معهم فلما قرأوا ذلك بحضرة الجمع اقتضى الرأي كتابة مراسلة أخرى من الباشا والمشايخ وفيها الملاطفة في الخطاب والأعتذار وأرسلوها وأخذوا في الاهتمام والتشهيل.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الأربعاء وفي ثانيه ركب الآغا وشق الأسواق وصار يقف على الوكائل والخانات ويفتش على الالضاشات ودخل سوق خان الخليلي ونبه على إفرادهم وقال لهم: في غد أحضر في التبديل وكل من وجدته من غير ورقة جدك فعلت به وفعلت وقطعت أذنيه أو أنفه.
وفيه عزل أحمد أفندي الصفائي الروزنامجي من الروزنامة لمرضه وتقلد أحمد أفندي المعروف بأبي كلية قلفة الانبار روزنامجي عوضا عنه.
وفي سادسه ارسلوا بجوابات الرسالة الشيخ أحمد بن يونس وكتبوا(2/45)
لهم أيضا سمهود وبرديس وزيادة على ما بأيديهم من البلاد والحال أن الجميع بأيديهم.
وفي يوم الثلاثاء حضر عابدي باشا وأسمعيل بك إلى بيت الشيخ البكري باستدعاء بسبب المولد النبوي فلما استقر بهم الجلوس التفت الباشا إلى جهة حارة النصارى وسأل عنها فقيل له أنها بيوت النصارى فأمر بهدمها وبالمناداة عليهم بالمنع من ركوب الحمير فسمعوا في المصالحة وتمت على خمسة وثلاثين ألف ريال منها على الشوام سبعة عشر ألفا وباقيها على الكتبه.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الجمعة فيه كتب الباشا فرمانا على موجب الفتوى ونزل به آغات مستحفظان ونادى به جهارا وكذلك التنبيه على جميع الوجاقلية باتباع أبوابهم وحضور الغائبين منهم والاستعداد للخروج.
وفي ثالثه انفق إسمعيل بك على الأمراء الصناجق وأرسل لهم الترحيله فأرسل إلى حسن بك الجداوي ثمانية عشر ألف ريال فغضب عليها وردها ووبخ محمدا كتخدا البارودي وركب مغضبا وخرج إلى نواحي العادلية فركب إليه في صبحها إسمعيل بك وعلي بك الدفتردار وصالحاه وزاد له في الدراهم حتى رضي وتكلم مع إسمعيل بك في تشديده على الرعية والالضاشات.
وفي يوم الخميس ثامنه سافر إمام الباشا وعلي كاشف من طرف إسمعيل بك بجوابات للأمراء القبليين حاصلها أما الرجوع إلى أماكنهم على موجب الاتفاق والصلح بشرط أن تدفعوا ميري البلاد التي تعديتم عليها وإلا فنحن أيضا ننقض الصلح بيننا وبينكم ثم وصل الخبر بأن إبراهيم بك ارتحل من طحطا غرة الشهر وحضر إلى المنية عند قسيمة مراد(2/46)
بك وأن مراد بك فرق البلاد من بحري المنية على اتباعه واتباع أمراء الذين بصحبته ثم وقع التراخي في أمر التجريدة وحصل التواني والاهمال والترك وخرجت الخيول إلى المرعى.
وفي يوم الجمعة سادس عشرة نزل عابدي باشا إلى بولاق وركب إليه إسمعيل بك وبقية الأمراء وإمامه مدافع الزنبلك على الجمال فتفرج على الشركفلكات وسيروا إمامه الثلاث غلايين إلى مصر القديمة وضربوا مدافعها ثم عاد وطلع إلى القلعة.
وفي يوم الثلاثاء عزل أحمد أفندي أبو كلبة من الروزنامة وتقلدها عثمان أفندي العباسي على رشوة دفعها وضاع على أحمد أفندي ما دفعه من الرشوة.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه حضر إمام الباشا وعلي كاشف وأخبرا أن إبراهيم بك حضر عند مراد بك بالمنية وأن جماعة من صناجقهم وأمرائهم وصلوا إلى بني سويف وبحريها وأنهم قالوا في الجواب: إننا تركنا لهم الجهة البحرية وأخذنا الجهة القبلية فإن قاتلونا عليها قاتلناهم وأن انكفوا عنا فلسنا واصلين إليهم ولا طالبين منهم مصر ونعقد الصلح على ذلك فيرسلوا لنا بعض المشايخ والأختيارية نتوافق معهم على أمر يحسن السكوت عليه فعملوا ديوانا اجتمع به الجميع وتحالفوا واتفقوا على إرسال جواب صحبه قاصد من طرف الباشا مضمونه أنهم يرسلون من جهتهم أميرين كبيرين فيهما الكفاءة لفصل الخطاب ليحصل معهما التوافق ونرسل صحبتهما ما أشاروا به.
وفي يوم الإثنين حضر واحد بشلي وعلى يده مكاتبات من حسن باشاخطابا إلى الباشا وأسمعيل بك وعلي بك وحسن بك ورضوان بك وأسمعيل كتخدا والشيخ البكري وأخبر بوصول عسكر ارنؤدا إلى ثغر الأسكندرية وعليهم كبير ومعه هدية إلى الأمراء.
وفي يوم الخميس طلع الأمراء إلى الديوان وتكلموا من جهة النفقة فقال قاسم بك أما أنا فلا يكفيني خمسون ألف ريال فقال له إسمعيل.(2/47)
بك: فعلى هذا أمثالك ويحتاج حسن بك ورضوان بك وعلي بك كل واحد مائة ألف فلازم اننا نرسل إلى السلطان يرسل لكم خزائنه حتى تكفيكم فرد عليه علي بك وقال: أنا صرفت على التجريدة الأولى وشهلت أربع باشاوات والأمراء والأجناد وأنت من جملتهم وما صادرت أحدا في نصف فضة فاغتاظ إسمعيل بك وقال: اعمل كبير البلد وافعل مثل ما فعلت وأنا اعطيك المال الذي تحت يدي الذي جمعته من الناس خذه واصرفه بمعرفتك وقام من المجلس منتورا فرده الباشا واختلى به وبعلي بك وحسن بك ورضوان بك ساعة زمانيةوتشاوروا مع بعضهم ثم قاموا ونزلوا.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم السبت فيه حضر ططرى وبيده مرسومات فاجتمعوا بالديوان وقرأوها أحدها بطلب مشاق ويدك والثاني بسبب الجماعة القبليين أن كانوا مقيمين بالأماكن التي عينها لهم حسن باشا فلا تتعرضوا لهم وأن كانوا زحفوا وتعدوا ونقضوا فأخرجوا إليهم وقاتلوهم وأن احتجتم عساكر أرسلنا لكم والثالث مقرر لعابدي باشا على السنة الجديدة والرابع بالوصية على الفقراء وغلال الحرمين والانبار والجامكية وأمثال ذلك من الكلام الفارغ.
وفيه ورد الخبر بموت محمد باشا يكن المفصل من ولاية مصر.
وفي يوم الإثنين ثالثه حضر المرسل من الجهة القبلية وصحبته صالح اغا الوالي بجوابات حاصلها أنهم يطلبون من طحطا إلى قبلي ويطلبون حريمهم وأن يردوا لهن ما أخذوه من بلادهن وكذلك يطلبون أتباعهم ومماليكهم الذين أرسلوهم إلى الأسكندرية فإن أجيبوا إلى ذلك لا يتعدون بعدها على شيء أصلا فلما قرئت المكاتبة بحضرة الجمع في الديوان قال إسمعيل بك للباشا: لا يمكن ذلك ولا يتصور أبدا وإلا افعلوا ما بدالكم ولا علاقة لي ولا أكتب فرمانا فأني أخاف على نفسي أن زدتهم على ما أعطاهم حسن باشا ولا بد من دفعهم الميري ثم كتبوا لهم جوابا وسافر به صالح أغا المذكور وآخرمن طرف إسمعيل بك.
وفي يوم السبت ثامنه وقع بين أهل بولاق وبين العسكر معركة بسبب(2/48)
إفسادهم وتعديهم وفسقهم مع النساء وأذية السوقة وأصحاب الحوانيت وخطفهم الأشياء بدون ثمن فاجتمع جمع من أهل بولاق وخرجوا إلى خارج البلدة يريدون الذهاب إلى الباشا يشكون ما نزل بهم من البلاء فلما علم عسكر القليونجية ذلك اجتمعوا بأسلحتهم وحضروا إليهم وقاتلوهم وأنهزم القليونجية فنزل الاغا وتلافى الأمر وأخذ بخاطر العامة وسكن الفتنة وخاطب العسكر ووبخهم على أفعالهم.
وفي يوم الإثنين سابع عشرة حضر صالح آغا بجواب وأخبر بصلح الأمراء القبليين على أن يكون لهم من اسيوط وما فوقها ويقوموا بدفع ميرى البلاد وغلالها ولا يتعدوا بعد ذلك وأنهم يطلبون اناسا من كبار الوجاقات والعلماء ليقع الصلح بأيديهم فعمل الباشا ديوانا وأحضر الأمراء والمشايخ واتفقوا على إرسال الشيخ محمد الأمير وأسمعيل أفندي الخلوتي وآخرين وسافروا في يوم الأربعاء تاسع عشره.
وفي خامس عشرينه هبت رياح عاصفة جنوبية حارة واستمرت اثني عشر يوما.
واستهل شهر جمادى الثاني بيوم الأحد فيه ورد الخبر بأن جماعة من الأمراء القبليين حضروا إلى بني سويف.
وفي ثالثه وصل الخبر بأن مراد بك حضر أيضا إلى بني سويف في نحو الأربعين فشرع المصريون في التشهيل والاهتمام وأخرجوا خيامهم ووطاقهم إلى ناحية البساتين.
وفي يوم الخميس طلع الأمراء إلى الباشا وتكلموا معه واخبروه بما ثبت عندهم من زحف الجماعة إلى بحرى وطلبوه للنزول صحبتهم فقال لهم: حتى ترجع الرسل بالجواب أو نرسل لهم جوابا آخر وننظر جوابهم فامتثلوا إلى رأيه فكتب مكتوبا مضمونه إنكم طلبتم الصلح مرارا واجبناكم بما طلبتم وأعطيناكم ما سألتم ثم بلغنا انكم زحفتم ورجعتم إلى بني سويف فما عرفنا أي شيء هذا الحال والقصد أنكم تعرفون عن قصدكم وكيفية حضوركم أن كنتم نقضتم الصلح والا لا فترجعوا إلى(2/49)
ما حددناه لكم وما وقع عليه الاتفاق وأرسله صحبة مرسل من طرفه. وفي يوم الجمعة سحبوا الشركفلكات من بولاق وذهبوا بها إلى الوطاق. وشرع إسمعيل بك في عمل متاريس عند طراو المعصرة وكذلك في بر الجيزة وجمع البنائين والفعلة والرجال وأمر بحفر خندق وبني أبراجا من حجر وحيطانا لنصب المدافع والمتاريس في البرين.
وفي يوم الخميس ثاني عشرة حضر الشيخ محمد الأمير ومن بصحبته واخبروا أنهم تركوا إبراهيم بك ومراد بك في بني سويف وأربعة من الأمراء وهم سليمان بك الاغا وإبراهيم بك لوالي وأيوب بك الصغير وعثمان الشرقاوي بزاوية المصلوب وحاصل جوابهم أن يكن صلح فليكن كاملا ونقعد معهم بالبلد عند عيالنا ونصير كلنا اخوة ونقيم ثأرنا في ثأرهم ودمنا في دمهم وعفا الله عما سلف فإن لم يرضوا بذلك فليستعدوا للقاء وهذا آخر الجواب والسلام وأرسلوا جوابات بمعنى ذلك إلى المشايخ وعلى أنهم يسعون في الصلح أو يخرجوا لهم على الخيل كما هي عادة المصريين في الحروب.
وفي هذه الأيام حصل وقف حال وضيق في المعايش وانقطاع للطرق وعدم أمن وقوف العربان ومنع السبل وتعطيل أسباب وعسر في الأسفار برا وبحرا فاقتضى رأي الشيخ العروسي أنه يجتمع مع المشايخ ويركبون إلى الباشا ويتكلمون معه في شأن هذا الحال فاستشعر إسمعيل بك بذلك فدبج أمرا وصور حضور ططرى من الدوله وعلى يده مرسوم فأرسل الباشا في عصر يوم الجمعة للمشايخ والوجاقلية وجمعهم وقرأوا عليهم ذلك الفرمان ومضمونه الحث والأمر والتشديد على محاربة الأمراء القبالي وطردهم وابعادهم فلما فرغوا من ذلك تكلم الشيخ العروسي قال: خبرونا عن حاصل هذا الكلام فإننا لا نعرف بالتركي فأخبروه فقال: ومن المانع لكم من الخروج وقد ضاق الحال بالناس ولا يقدر أجد من الناس أن يصل إلى بحر النيل وقربه الماء بخمسة عشر نصف فضة وحضره إسمعيل بك مشتغل ببناء حيطان ومتاريس وهذه ليست طريقة(2/50)
المصريين في الحروب بل طريقتهم المصادمة وانفصال الحرب في ساعة أما غالب أو مغلوب وأما هذا الحال فإنه يستدعي طولا وذلك يقتضي الخراب والتعطيل ووقف الحال فقال الباشا: أنا ما قلت لكم هذا الكلام أولا وثانيا هيا شهلوا أحوالكم ونبهوا على الخروج يوم الإثنين وأنا قبلكم.
وفي ليلة الإثنين حضر شخصان من الططر ودخلا من باب النصر وأظهرا انهما وصلا من الديار الرومية على طريق الشام وعلى يدهما مرسومات حاصلهما الأخبار بحضور عساكر برية وعليهم باشا كبير وذلك أيضا لا أصل ونودى في ذلك اليوم بالخروج إلى المتاريس وكل من خرج يطلع أولا إلى القلعة ويأخذ نفقة من باب مستحفظان وقدرها خمسة عشر ريالا فطلع منهم حملة وأخذوا نفقاتهم وخرجوا إلى المتاريس بالجيزة.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه وردت مكاتبات من الديار الحجازية واخبروا فيها بوفا الشريف سرور شريف مكة وولاية أخيه الشريف غالب.
وفي ليلة الأحد تاسع عشرينه مات إبراهيم بك قشطة صهر إسمعيل بك مطعونا.
وفيه عزل إسمعيل بك المعلم يوسف كساب الجمركي بديوان بولاق ونفاه إلى بلاد الافرنج وقيل: إنه غرقه ببحر النيل وقلد مكانه مخاييل كحيل على عشرين ألف ريال دفعها.
واستهل شهر رجب بيوم الثلاثاء
وفي كل يوم ينادي المنادى بالخروج ويهدد من تخلف واستمروا متترسين بالبرين وبعض الأمراء ناحية طرا وبعضهم بمصر القديمة في خلاعاتهم وبعضهم بالجيزة كذلك إلى أن ضاق الحال بالناس وتعطلت الأسفار وانقطع الجالب من قبلي وبحري وأرسل إسمعيل بك إلى عرب البحيرة والهنادي فحضروا بجمعهم واخلاطهم وانتشروا في الجهة الغربية من رشيد إلى الجيزة ينهبون البلاد ويأكلون الزروعات ويضربون المراكب(2/51)
في البحر ويقتلون الناس حتى قتلوا في يوم واحد من بلد النجيلة نيفا وثلثمائة إنسان وكذلك فعل عرب الشرق والجزيرة بالبر الشرقي وكذلك رسلان وباشا النجار بالمنوفية فتعطل السير برا وبحرا ولو بالخفارة حتى أن الإنسان يخاف أن يذهب من المدينة إلى بولاق أو خارج باب النصر.
وفي يوم السبت خامسه نهب سوق انبابة وفيه قتل حمزة كاشف المعروف بالدويدار رجلا نصرانيا روميا صائغا اتهمه مع حريمه فقبض عليه وعذبه أياما وقلع عينيه واسنانه وقطع انفه وشفتيه واطرافه حتى مات بعد أن استاذن فيه حسن بك الجداوي وعندما قبض عليه أرسل حسن بك ونهب باقي حانوته من جوهر ومصاغ الناس وغير ذلك وطلق الزوجة بعد أن أراد قتلها فهربت عند الست نفيسة زوجة مراد بك.
وفي يوم الأحد أخذ إسمعيل بك فرمانا من الباشا بفردة على البلاد لسليم بك أمير الحاج ليستعين بها على الحج وقرر على كل بلدة مائة ريال وجملا.
وفي يوم الثلاثاء اجتمع الأمراء والوجاقلية والمشايخ بقصر العيني فأظهر لهم إسمعيل بك الفرمان وعرفهم احتياج الحال لذلك فقام الاختيارية وأغلظوا عليه ومانعوا في ذلك.
وفي يوم الخميس سابع عشرة وصل نحو الألف من عسكر الارنؤد إلى ساحل بولاق وعليهم كبير يسمى إسمعيل باشا فخرج إسمعيل بك وحسن بك وعلي بك ورضوان بك لملاقاته ومدوا له سماطا عند مكان الحلي القديم.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرة امطرت السماء من بعد الفجر إلى العشاء واطبق الغيم قبل الغروب وأرعد رعدا قويا وابرق برقا ساطعا ثم خرجت فرتونة نكباء شرقية شمالية واستمر البرق والمطر يتسلسل غالب الليل وكان ذلك سابع عشر برمودة وخامس عشر نيسان وخامس درجة من برج الثور فسبحان الفعال لما يريد(2/52)
وفي يوم الأحد عشرينه كان عيد النصارى وفيه تقررت الفرد المذكورة وسافر لقبضها سليم بك امين الحج ولم يفد من قيام الوجاقلية وسعيهم في أبطالها شيء فإنهم لما عارضوا في ذلك فتح عليهم طلب المساعدة وليس بأيدي الملتزمين شيء يدفعونه فقال: إذا كان كذلك فاننا نقبضها من البلاد فلم يسعهم إلا الاجابة.
وفي يوم الإثنين حضر إلى ثغر بولاق اغا اسود وعلى يده مقرر لعابدي باشا وخلعه لشريف مكة فطلع عابدي باشا إلى القلعة وعمل ديوانا في يوم الثلاثاء واجتمع الأمراء والمشايخ والقاضي وقرأوا المقرر ووصل صحبة الاغا المذكور ألف قرش رومي أرسلها حضرة السلطان تفرق على طلبه العلم بالأزهر ويقرأون له صحيح البخاري ويدعون له بالنصر.
وفي يوم الأربعاء قتل إسمعيل باشا كبير الارنؤد رئيس عسكره وكان يخشاه ويخاف من سطوته قيل أنه أراد أن يأخذ العسكر ويذهب بهم إلى الأمراء القبليين رغبة في كثرة عطائهم فطالبه بنفقة وألح عليه وقال له: إن لم تعطهم هربوا حيث شاؤوا فحضر عنده وفاوضه في ذلك فلاطفه وأكرمه واختلى به وأغتاله وقطع رأسه وألقاها من الشباك لجماعته.
وفي يوم الجمعة كتبوا قائمة أسماء المجاورين والطلبة وأخبروا الباشا أن الألف قرش لا تكفي طائفة من المجاورين فزادها ثلاثة آلاف قرش من عنده فوزعوها بحسب الحال أعلى وأوسط وآدنى فخص الأعلى عشرون قرشا والأوسط عشرة والادنى أربعة وكذلك طوائف الاروقة بحسب الكثرة والقلة ثم أحضروا اجزاء البخاري وقرأوا وصادف ذلك زيادة أمر الطاعون والكروب المختلفة.
وفي يوم الإثنين ثامن عشرينه توفي صاحبنا حسن أفندي قلفة الغربية وتقلد عوضه صهره مصطفى أفندي ميسو كاتب اليومية.
وفيه توفي أيضا خليل أفندي البغدادي الشطرنجي.
واستهل شهر شعبان بيوم الأربعاء فيه عدى بعض الأمراء بخيامهم إلى البر الغربي ثم رجعوا في ثانيه ثم عدى البعض ورجع البعض وكل(2/53)
ذلك أيهامات بالسفر وتمويهات من إسمعيل بك وفي الحقيقة قصده عدم الحركة وضاقت أنفس المقيمين بالمتاريس وقلقوا من طول المدة وتفرق غالبهم ودخلوا المدينة.
وفي خامسه حضر إلى مصر رجل هندي قيل أنه وزير سلطان الهند حيدر بك وكان قد ذهب إلى اسلامبول بهدية إلى السلطان عبد الحميد ومن جملتها منبر وقبلة مصنوعان من العود الفاقلي صنعة بديعة وهما قطع مفصلات يجمعها شناكل وأغربة من فضة وذهب وسرير يسع ستة انفار وطائران يتكلمان باللغة الهندية خلاف الببغا المشهور وأنه طلب منه امداد يستعين على حرب أعدائه الانكليز المجاورين لبلاده فأعطاه مرسومات إلى الجهات بالأذن لمن يسير معه فسار إلى الأسكندرية ثم حضر إلى مصر وسكن ببولاق وهو رجل كالمقعد يجلس على كرسي من فضة ويحمل على الأعناق وقد مات العساكر التي كانت معه ويريد اتخاذ غيرها من أي جنس كان وكل من دخل فيهم برسم الخدمة وسموه بعلامة في جبهته لا تزول فنفرت الناس من ذلك وملابسهم مثل ملابس الافرنج وأكثرها من شيث هندي مقمطة على أجسامهم وعلى رأسهم شقات افرنجية.
وفي ليلة الجمعة سابع عشره خرج الأمراء بعد الغروب وأشيع وصول القبليين وهجومهم على المتاريس.
وفي صبحها حصلت زعجة وضجة وهرب الناس من القرافتين ونودى بالخروج فلم يخرج أجد ثم برد هذا الأمر.
وفي تلك الليلة ضربوا اعناق خمسة أشخاص من اتباع الشرطة يقال لهم: البصاصون وسبب ذلك أنهم أخذوا عمله واخفوها من حاكمهم واختصوا بها دونه ولم يشركوه معهم.
وفي سابع عشرينه مات محمد اغا مستحفظان المعروف بالمتيم.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشرينه كسفت الشمس وقت الضحوة الكبرى وكان المنكسف منها نحو الثلاثة أرباع وأظلم الجو إلا يسيرا ثم انجلى ذلك عن الزوال(2/54)
واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة ووافق ذلك أول بؤنة القبطي.
وفي ثالثه قلدوا إسمعيل بك خازندار إسمعيل بك الذي كان زوجه باحدى زوجات أحمد كتخدا المجنون أغات مستحفظان وقلدوا خازندار حسن بك الجداوي واليا عوضا عن إسمعيل اغا الجزايرلي لعزله.
وفي ثاني عشرة حضر إبراهيم كاشف من اسلامبول وكان إسمعيل بك ارسله بهدية إلى الدولة فأوصلها ورجع إلى مصر بجوابات القبول وأنه لما وصل إلى اسلامبول وجد حسن باشا نزل إلى المراكب مسافرا إلى بلاد الموسقو وبينه وبين اسلامبول نحو أربع ساعات فذهب إليه وقابله ورجع معه في شكتربة إلى اسلامبول وطلع الهدية بحضرته وقد كان أشيع هناك بأن إبراهيم بك ومراد بك دخلا إلى مصر وخرج من فيها وحصل هناك هرج عظيم بسبب ذلك فلما وصل إبراهيم كاشف هذا بالهدية حصل عندهم اطمئنان وتحققوا منه عدم صحة ذلك الخبر.
وفي رابع عشرينه نهب العرب قافلة التجار والحجاج الواصلة من السويس وفيها شيء كثير جدا من أموال التجار والحجاج ونهب فيها للتجار خاصة ستة آلاف جمل ما بين قماش وبهار وبن وأقمشة وبضائع وذلك خلاف أمتعة الحجاج وسلبوهم حتى ملابس أبدانهم وأسروا النساء وأخذوا ما عليهن ثم باعوهن لآصحابهن عرايا وحصل لكثير من الناس وغالب التجار الضرر الزائد ومنهم من كان جميع ماله بهذه القافلة فذهب جميعه ورجع عريانا أو قتل وترك مرميا.
وفي خامس عشرينه وقع بين طائف المغاربة الحجاج النازلين بشاطىء النيل ببولاق بين عسكر القليونجية مقاتلة وسبب ذلك أن المغاربة نظروا بالقرب منهم جماعة من القليونجية المتقيدين بقليون إسمعيل بك ومعهم نساء يتعاطون المنكرات الشرعية فكلمهم المغاربة ونهوهم عن فعل القبيح وخصوصا في مثل هذا الشهر أو أنهم يتباعدون عنهم فضربوا عليهم طبنجات فثار عليهم المغاربة فهرب الفليونجية إلى مراكبهم فنط المغاربة خلفهم واشتبكوا معهم ومسكوا من مسكوه وذبحوا من ذبحوه(2/55)
ورموه إلى البحر وقطعوا حبال المراكب ورموا صواريها وحصلت زعجة في بولاق تلك الليلة وأغلقوا الدكاكين وقتل من القليونجية نحو العشرين ومن المغاربة دون ذلك فلما بلغ إسمعيل بك ذلك اغتاظ وأرسل إلى المغاربة يأمرهم بالانتقال من مكانهم فانتقلوا إلى القاهرة وسكنوا بالخانات فلما كان ثاني يوم نزل الاغا والوالي وناديا في الأسواق على المغاربة الحجاج بالخروج من المدينة إلى ناحية العادلية ولا يقيموا بالبلد وكل من آواهم يستأهل ما يجري عليه فامتنعوا من الخروج وقالوا: كيف نخرج إلى العادلية ونموت فيها عطشا وذهب منهم طائفة إلى إسمعيل كتخدا حسن باشا فأرسل إلى إسمعيل بك بالروضة يترجى عنده فيهم فامتنع ولم يقبل الشفاعة وحلف أن كل من مكث منهم بعد ثلاثة أيام قتله فتجمعوا أحزابا واشتروا أسلحة وذهب منهم طائفة إلى الشيخ العروسي والشيخ محمد بن الجوهري فتكلموا مع إسمعيل بك فنادى عليهم بالأمان.
وفي أواخره ورد خبر من دمياط بأن النصارى أخذوا من على ثغر دمياط اثني عشر مركبا.
واستهل شهر شوال بيوم السبت في رابعه حضر سليم بك من سرحته وفي خامسه أرسل الآغا بعض اتباعه بطلب شخصين من عسكر القليونجية من ناحية بين السوربن بسبب شكوى رفعت إليه فيهما فضرب احدهما أجد المعينين فقتله فقبضوا عليه ورموا عنقه أيضا بجانبه.
وفيه حضر طائفة العربان الذين نهبوا القافلة إلى مصر وهم من العيايدة وقابلوا إسمعيل بك وصالحوه على مال وكذلك الباشا واتفقوا على شيل ذخيرة أمير الحاج وخلع عليهم ولما نهبت القافلة اجتمع الأكابر والتجار وذهبوا إلى إسمعيل بك وشكوا إليه ما نزل بهم فوبخهم وأظهر الشماتة فيهم وصارت يده ترتعش الغيظ وخرجوا من بين يديه آيسين والحاضرون يلطفون له القول ويأخذون بخاطره وهو لا ينجلي عنه الغيظ.
وفي يوم السبت ثامنه نزلوا بكسوة الكعبة من القلعة إلى المشهد الحسيني على العادة(2/56)
وفي ليلة الثلاثاء حادي عشره في ثالث ساعة من الليل حصلت زعجة عظيمة وركب جميع الأمراء وخرجوا إلى المتاريس وأشيع أن الأمراء القبليين عدوا إلى جهة الشرق وركب الوالي والأغا وساروا يفتحون الدروب بالعتالات ويخرجون الأجناد من بيوتهم إلى العرضي وباتوا بقية الليل في كركبة عظيمة وأصبح الناس هايجين والمناداة متتابعة على الناس والالضاشات والأجناد والعسكر بالخروج وظن الناس هجوم القبليين ودخولهم المدينة فلما كان أواخر النهار حصلت سكتة وأصبحت القضية باردة وظهران بعضهم عدي إلى الشرق وقصدوا الهجوم على المتاريس في غفلة من الليل فسبق العين بالخبر فوقع ما ذكر فلما حصل ذلك رجعوا إلى بياضة وشرعوا في بناء متاريس ثم تركوا ذلك وترفعوا إلى فوق ولم يزل المصريون مقيمين بطرا ما عدا إسمعيل بك فإنه رجع بعد يومين لأجل تشهيل الحاج.
ثم استهل شهر القعدة بيوم الإثنين في ذلك اليوم رسموا بنفي سليمان بك الشابوري إلى المنصورة وتقاسموا بلاده.
وفيه رجع الأمراء من المتاريس إلى مصر القديمة كما كانوا ولم يبق بها إلا المرابطون قبل ذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثار جماعة الشرام وبعض المغاربة بالأزهر على الشيخ العروسي بسبب الجراية وقفلوا في وجهه باب الجامع وهو خارج يريد الذهاب بعد كلام وصياح ومنعوه من الخروج فرجع إلى رواق المغاربة وجلس به إلى الغروب ثم تخلص منهم وركب إلى بيته ولم يفتحوا الجامع وأصبحوا فخرجوا إلى السوق وأمروا الناس بغلق الدكاكين وذهب الشيخ إلى إسمعيل بك وتكلم معه فقال له أنت الذي تأمرهم بذلك وتريدون تحريك الفتن علينا ومنكم أناس يذهبون إلى أخصامنا ويعودون فتبرأ من ذلك فلم يقبل وذهب أيضا وصحبته بعض المتعممين إلى الباشا بحضرة إسمعيل بك فقال الباشا مثل ذلك وطلب الذين يثيرون الفتن من المجاورين ليؤد بهم وينفيهم فمانعوا في ذلك ثم(2/57)
ذهبوا إلى علي بك الدفتردار وهو الناظر على الجامع فتلا في القضية وصالح إسمعيل بك واجروا لهم الأخبار بعد مشقة وكلام من جنس ماتقدم وامتنع الشيخ العروسي من دخول الجامع أياما وقرأ درسه بالصالحية.
وفي يوم الأحد رابع عشره الموافق لثالث عشر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وركب الباشا في صبحها وكسر سد الخليج.
وفي عشرينه انفتح سد ترعة مويس فأحضر إسمعيل بك عمر كاشف الشعراوي وهو الذي كان تكفل بها لأنه كاشف الشرقية ولامه ونسبه للتقصير في تمكينها والزمه بسدها فاعتذر بعدم الأمكان وخصوصا وقد عزل من المنصب وأعوانه صاروا مع الكاشف الجديد فاغتاظ منه وأمر بقتله فاستجار برضوان كتخدا مستحفظان فشفع فيه واخذه عنده وسعى في جريمته وصالح عليه.
شهر الحجة في غرته حضر قليونان روميان إلى بحر النيل ببولاق يشتمل أحدهما على أجد وعشرين مدفعا والثاني أقل منه اشتراهما إسمعيل بك.
وفيه زاد سعر الغلة ضعف الثمن بسبب انقطاع الجالب.
وفي رابع عشرة عمل الباشا ديوانا بقصر العيني وتشاوروا في خروج تجريدة وشاع الخبر بزحف القبليين.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرة عمل الباشا ديوانا بقصر العيني جمع به سائر الأمراء والوجاقلية والمشايخ بسبب شخص الجي حضر بمكاتبات من قرال الموسقو ولحضوره نبأ ينبغي ذكره كما نقل إلينا وهو أن قرال الموسقو لما بلغه حركة العثمنلي في ابتداء الأمر على مصر أرسل مكاتبة إلى أمراء مصر على يد القنصل المقيم بثغر سكندرية يحذرهم من ذلك ويحضهم على تحصين الثغر ومنع حسن باشا من العبور فحضر القنصل إلى مصر واختلى بهم واطلعهم على ذلك فأهملوه ولم يلتفتوا إليه ورجع من غير رد جواب وورد حسن باشا فعند ذلك انتبهوا وطلبوا القنصل فلم يجدوه وجرى ما جرى وخرجوا إلى قبلي وكاتبوا القنصل فأعاد(2/58)
الرسالة إلى قراله وركب هجانا واجتمع بهم ورجع وصادف وقوع الواقعة بالمنشية في السنة الماضية وكانت الهزيمة على المصريين وشاع الخبر في الجهات بعودهم وقد كان أرسل لنجدتهم عسكرا من قبله ومراكب ومكاتبات صحبة هذا الالجي فحضر إلى ثغر دمياط في أواخر رمضان فرأى انعكاس الأمر فعربد بالثغر وأخذ عدة نقاير كما ذكر ورجع إلى مرساه أقام بها وكاتب قراله وعرفه صورة الحال وأن من بمصر الآن من جنسهم أيضا وأن العثمنلي لم يزل مقهورا معهم فأجمع رأيه على مكاتبة المستقرين وإمدادهم فكتب إليهم وأرسلها صحبة هذاالالجي وحضر إلى دمياط وأنقذ الخبر سرا بوصوله وطلب الحضور بنفسه فاعلموا الباشا بذلك سرا وأرسلوا إليه بالحضور فلما وصل إلى شلقان خرج إليه إسمعيل بك في تطريدة كان لم يشعر به أجد وأعد له منزلا ببولاق وحضر به ليلا وأنزله بذلك القناق ثم اجتمع به صحبة علي بك وحسن بك ورضوان بك وقرأوا المكاتبات بينهم فوصل إليهم عند ذلك جماعة من اتباع الباشا وطلبوا ذلك الالجي عند الباشا وذلك باشارة خفية بينهم وبين الباشا فركبوا معه إلى قصر العيني وأرسل الباشا في تلك الليلة التنابيه لحضور الديوان في صبحها فلما تكاملوا أخرج الباشا تلك المراسلات وقرئت في المجلس والترجمان يفسرها بالعربي وملخصها خطاب إلى الأمراء المصرية أنه بلغنا صنع بن عثمان الخائن الغدار معكم ووقوع الفتن فيكم وقصده أن بعضكم يقتل بعضا ثم لا يبقى على من يبقى منكم ويملك بلادكم ويفعل بها عوائده من الظلم والجور والخراب فإنه لا يضع قدمه في قطر إلا ويعمه الدمار الخراب فتيقظوا لأنفسكم واطردوا من حل ببلادكم من العثمانية وارفعوا بنديرتنا واختاروا لكم رؤساء منكم وحصنوا ثغوركم وامنعوا من يصل اليكم منهم إلا من كان بسبب التجارة ولا تخشوه في شيء فنحن نكفيكم مؤنته وانصبوا من طرفكم حكاما بالبلاد الشامية كما كانت في السابق ويكون لنا أمر بلاد الساحل والواصل لكم كذا وكذا مركبا وبها كذا من العسكر والمقاتلين وعندنا من المال والرجال(2/59)
ما تطلبون وزيادة على ما تظنون فلما قرىء ذلك اتفقوا على إرسالها إلى الدولة فأرسلت في ذلك اليوم صحبة مكاتبة من الباشا والأمراء وانزلوا ذلك الالبي في مكان بالقلعة مكرما.
وفي يوم الإثنين وجهوا خمسة من المراكب الرومية إلى جهة قبلي وابقوا اثنين وأرسلوا بها عثمان بك طبل الإسماعيلي وعساكر رومية والله أعلم وانقضت هذه السنة.
من مات في هذه السنة ممن له ذكر.
مات الإمام العلامة أجد المتصدرين واوحد العلماء المتبحرين حلال المشكلات وصاحب التحقيقات الشيخ حسن بن غالب الجداوي المالكي الأزهري ولد بالجدية في سنة 1128 وهي قرية قرب رشيد وبها نشأ وقدم الجامع الأزهر فتفقه على بلدية الشيخ شمس الدين محمد الجداوي وعلى افقه المالكية في عصره السيد محمد بن محمد السلموني وحضر على الشيخ علي خضر العمروسي وعلى السيد محمد البليدي والشيخ علي الصعيدي أخذ عنهم الفنون بالاتقان ومهر فيها حتى عد من الأعيان ودرس في حياة شيوخه وأفتى وهو شيخ بهي الصور طاهر السريرة حسن السيرة فصيح اللهجة شديد العارضة يفيد الناس بتقريره الفائق ويحل المشكلات بذهنه الرائق وحلقة درسه عليها الخفر وما يلقيه كأنه نثار جواهر ودرر وله مؤلفات وتقييدات وحواش وكان له وظيفة الخطابة بجامع مرزه جربجي ببولاق ووظيفة تدريس بالسنانية أيضا وينزل إلى بلده الجدية في كل سنة مرة ويقيم بها أياما ويجتمع عليه أهل الناحية ويهادونه ويفصلون على يديه قضاياهم ودعاويهم وأنكحتهم ومواريثهم ويؤخرون وقائعهم الحادثة بطول السنة إلى حضوره ولا يثقون إلا بقوله ثم يرجع إلى مصر بما اجتمع لديه من الارز والسمن والعسل والقمح وغير ذلك ما يكفي عياله إلى قابل مع الحشمة والعفة توفي بعد أن تعلل أشهرا في أواخر شهر ذي الحجة وجهز وصلي عليه بالأزهر بمشهد.(2/60)
حافل ودفن عند شيخه الشيخ محمد الجداوي في قبر اعده لنفسه رحمه الله تعالى.
ومات الإمام العالم العلامة الفقيه المحدث النحوي الشيخ حسن الكفراوي الشافعي الأزهري ولد ببلده كفر الشيخ حجازي بالقرب من المحلة الكبرى فقرأ القرآن وحفظ المتون بالمحلة ثم حضر إلى مصر وحضر شيوخ الوقت مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ محمد الحفني والشيخ علي الصعيدي ومهر في الفقه والمعقول وتصدر ودرس وأفتى واشتهر ذكره ولازم الأستاذ الحفني وتداخل في القضايا والدعاوي وفصل الخصومات بين المتنازعين وأقبل عليه الناس بالهدايا والجعالات ونما أمره وراش جناحه وتجمل بالملابس وركوب البغال وأحدق به الاتباع واشترى بيت الشيخ عمر الطحلاوي بحارة الشنواني بعد موت ابنه سيدي علي فزادت شهرته ووفدت عليه الناس وأطعم الطعام واستعمل مكارم الاخلاق ثم تزوج ببنت المعلم درع الجزار بالحسينية وسكن بها فجيش عليه أهل الناحية وأولو النجدة والزعارة والشطارة وصار له بهم نجدة ومنعة على من يخالفه أو يعانده ولو من الحكام وتردد إلى الأمير محمد بك أبي الذهب قبل استقلاله بالامارة وأحبه وحضر مجالس دروسه في شهر رمضان بالمشهد الحسيني فلما استبد بالأمر لم يزل يراعي له حق الصحبة ويقبل شفاعته في المهمات ويدخل عليه من غير استئذان في أي وقت أراد فزادت شهرته ونفذت احكامه وقضاياه واتخذ سكنا على بركة جناق أيضا ولما بنى محمد بك جامعه كان هو المتعين فيه بوظيفة رئاسة التدريس والافتاء ومشيخة الشافعية وثالث ثلاثة المفتين الذين قررهم الأمير المذكور وقصر عليهم الافتاء وهم الشيخ أحمد الدردير المالكي والشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي والمترجم وفرض لهم أمكنة يجلسون فيها أنشأها لهم بظاهر المبيضاة بجوار التكية التي جعلها لطلبة الأتراك بالجامع المذكور حصة من النهار في ضحوة كل يوم للافتاء بعد القائهم دروس الفقه ورتب لهم ما يكفيهم وشرط عليهم(2/61)
عدم قبول الرشا والجعالات فاستمروا على ذلك أيام حياة الأمير واجتمع المترجم بالشيخ صادومه المشعوذ الذي تقدم ذكره في ترجمة يوسف بك ونوه بشأنه عند الأمراء والناس وأبرزه لهم في قالب الولاية ويجعل شعوذته وسيمياه من قبيل الخوارق والكرامات إلى أن اتضح أمره ليوسف بك فتحامل عليه وعلى قرينه الشيخ المترجم من أجله ولم يتمكن من أيذائهما في حياة سيده فلما مات سيده قبض على الشيخ صادومة وألقاه في بحر النيل وعزل المترجم من وظيفة المحمدية والافتاء وقلد ذلك الشيخ أحمد بن يونس الخليفي وانكسف باله وخمد مشعال ظهروه بين أقرانه إلا قليلا حتى هلك يوسف بك قبل تمام الحول ونسيت القضية وبطل أمر الوظيفة والتكية وتراجع حاله لا كالأول ووافاه الحمام بعد أن تمرض شهورا وتعلل وذلك في عشرين شعبان من السنة وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بتربة المجاورين ومن مؤلفاته اعراب الآجرومية وهو مؤلف نافع مشهور بين الطلبة وكان قوي البأس شديد المراس عظيم الهمة والشكيمة ثابت الجنان عند العظائم يغلب على طبعه حب الرياسة والحكم والسياسة ويحب الحركة بالليل والنهار ويمل السكون والقرار وذلك مما يورث الخلل ويوقع في الزلل فإن العلم إذا لم يقرن بالعمل ويصاحبه الخوف والوجل ويجمل بالتقوى ويزين بالعفاف ويحلى باتباع الحق والانصاف أوقع صاحبه في الخذلان وصيره مثلة بين الأقران.
ومات الشيخ العلامة المتفنن البحاث المتقن أبو العباس المغربي اصله من الصحراء من عمالة الجزائر دخل مصر صغيرا فحضر دروس الشيخ علي الصعيدي فتفقه عليه ولازمه ومهر في الآلات والفنون وأذن له في التدريس فصار يقرىء الطلبة في رواقهم وراج أمره لفصاحته وجوده حفظه وتميز في الفضائل وحج سنة 1182 وجاور بالحرمين سنة واجتمع بالشيخ أبي الحسن السندي ولازمه في دروسه وباحثه وعادا إلى مصر وكان يحسن الثناء على المشار إليه واشتهر أمره وصارت له في(2/62)
الرواق كلمة واحترمه علماء مذهبه لفضله وسلاطة لسانه وبعد موت شيخه عظم أمره حتى اشير له بالمشيخة في الرواق وتعصب له جماعة فلم يتم له الأمر ونزل له السيد عمر أفندي الأسيوطي عن نظر الجوهرية فقطع معاليم المستحقين وكان محجاجا عظيم المراس يتقي شره توفي ليلة الأربعاء حادي عشرين شعبان غفر الله لنا وله.
ومات الإمام الفقيه العلامة النحوي المنطقي الفرضي الحيسوب الشيخ موسى البشبيشي الشافعي الأزهري نشأ بالجامع الأزهر من صغره وحفظ القرآن والمتون وحضر دروس الاشياخ كالصعيدي والدردير والمصيلحي والصبان والشتويهي ومهر وانجب وصار من الفضلاء المعدودين ودرس في الفقه والمعقول واستفاد وافاد ولازم حضور شيخا العروسي في غالب الكتب فيحضر ويملي ويستفيد ويفيد وكان مهذبا في نفسه متواضعا مقتصدا في ملبسه ومأكله عفوفا قانعا خفيف الروح لا يمل من مجالسته ومفاكهته ولم يزل منقطعا للعلم والإفادة ليلا ونهارا مقبلا على شأنه حتى توفي رحمه تعالى حادي عشر شعبان مطعونا.
ومات العلامة الأديب واللوذعي اللبيب المتقن المتفنن الشيخ محمد ابن علي بن عبد الله بن أحمد المعروف بالشافعي المغربي التونسي نزيل مصر ولد بتونس سنة 1152 ونشأ في قراءة القرآن وطلب العلم وقدم إلى مصر سنة أحدى وسبعين وجاور بالأزهر برواق المغاربة وحضر علماء العصر في الفقه والمعقولات ولازم دروس الشيخ علي الصعيدي وابي الحسن القلعي التونسي شيخ الرواق وعاشر اللطفاء والنجباء من أهل مصر وتخلق بأخلاقهم وطالع كتب التاريخ والادب وصار له ملكة في استحضار المناسبات الغريبة والنكات وتزوج وتزيا بزي أولاد البلد وتحلى بذوقهم ونظم الشعر الحسن توفي رحمة الله في يوم الجمعة ثالث شعبان من السنة.
ومات صاحبنا الشاب الصالح العفيف الموفق الشيخ مصطفى بن جاد ولد بمصر ونشأ بالصحراء بعمارة السلطان قايتباي ورغب في صناعة(2/63)
تجليد الكتب وتذهيبها فعانى ذلك ومارسه عند الأسطى أحمد الدقدوسي حتى مهر فيها وفاق أستاذه وادرك دقائق الصنعة والتذهيبات والنقوشات بالذهب المحلول والفضة والأصباغ الملونة والرسم والجداول والاطباع وغير ذلك وانفرد بدقيق الصنعة بعد موت الصناع الكبار مثل الدقدوسي وعثمان أفندي بن عبد الله عتيق المرحوم الوالد والشيخ محمد الشناوي وكان لطيف الذات خفيف الروح محبوب الطباع مألوف الاوضاع ودودا مشفقا عفوفا صالحا ملازما على الاذكار والأوراد مواطبا على استعمال اسم لطيف العدة الكبرى في كل ليلة على الدوام صيفا وشتاء سفرا وحضرا حتى لاحت عليه أنوار الأسم الشريف وظهرت فيه أسراره وروحانيته وصار له ذوق صحيح وكشف صريح ومراء واضحة وأخذ على شيخنا الشيخ محمود الكردي طريق السادة الخلوتية وتلقن عنه الذكر والاسم الأول وواظب على ورد العصر أيام حياة الأستاذ ولم يزل مقبلا على شأنه قانعا بصناعته ويستنسخ بعض الكتب ويبيعها ليربح فيها إلى أن وافاه الحمام وتوفي سابع شهر القعدة من السنة بعد أن تعلل أشهرا رحمه الله وعوضنا فيه خيرا فإنه كان بي رؤوفا وعلي شفوقا ولا يصبر عني يوما كاملا مع حسن العشرة والمودة والمحبة لا لغرض من الاغراض ولم أر بعده مثله وخلف بعده أولاده الثلاثة وهم الشيخ صالح وهو الكبير وأحمد بدوي والشيخ صالح المذكور هو الآن عمدة مباشري الأوقاف بمصر وجابي المحاسبة وله شهرة ووجاهة في الناس وحسن حال عشرة وسير حسن وفقه الله وأعانه على وقته.
ومات أيضا الصنو الفريد واللوذعي الوحيد والكاتب المجيد والنادرة المفيد اخونا في الله خليل أفندي البغدادي ولد ببغداد دار السلام وتربى في حجر والده ونشأ بها في نعمة ورفاهية وكان والده من أعيان بغداد وعظمائها مال وثروة عظيمة وبينه وبين حاكمها عثمان باشا معاشرة وخلطة ومعاملة فلما وصل الطاغية طهماز إلى تلك الناحية وحصل منه ما حصل في بغداد وفر منه حاكمها المذكور قبض على والد المترجم واتهمه(2/64)
بأموال الباشا وذخائره ونهب داره واستصفى أمواله ونواله وأهلك تحت عقوبته وخرج أهله وعياله وأولاده فارين من بغداد على وجوهم وفيهم المترجم وكان إذ ذاك أصغر اخوته فتفرقوا في البلاد وحضر المترجم بعد مدة من الواقعة مع بعض التجار إلى مصر واستوطنها وعاشر أهلها وأحبه الناس للطفه ومزاياه وجود الخط على الانيس والضيائي والكشري ومهر فيه وكان يجيد لعب الشطرنج ولا يباريه فيه أجد مع الخفة والسرعة وقل من يتناقل معه فيه بالكامل بل كان يناقل غالب الحذاق بدون الفرزان أو أجد الرخين ولم أر من ناقلة بالكامل إلا الشيخ سلامة الكتبي وبذلك رغب في صحبته العيان والأكابر وأكرموه وواسوه مثل عبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابوري وسليمان جربجي البرديسي وكان غالب مبيته عنده ولم يزل ينتقل عند الأعيان باستدعاء ورغبة منهم فيه مع الخفة واطراح الكلفة وحسن العشرة ويأوي إلى طبقته ولم يتأهل ويغسل ثيابه عند رفيقه السيد حسن العطار بالاشرفية وبآخرة عاشر الأمير مراد بك واختص به وأحبه فكان يجود له الخط ويناقله في الشطرنج وأغدق عليه ووالاه بالبر فراج حاله واشترى كتبا وواسى اخوانه وكان كريم النفس جدا يجود وما لديه قليل ولا يبقى على درهم ولا دينار ولما خرج مراد بك من مصر حزن لفقده وبعد وباع ما اقتناه من الكتب وغيرها وصرف ثمنها في بره ولوازمه وعبه دائما ملآن بالمآكل الجافة مثل التمر والكعك والفاكهة يأكل منها ويفرق في مروره على الأطفال والفقراء والكلاب وكان بشوشا ضحوك السن دائما منشرحا يسلي المحزون ويضحك المغبون ويحب الجمال ولا يؤخر المكتوبة عن وقتها اينما كان ويزور الصلحاء والعلماء ويحضر في بعض الأحيان دروسهم ويتلقى عنهم المسائل الفقهية ويحب سماع الألحان واجتماع الإخوان ويعرف اللسان التركي ودخل بيت البارودي كعادته فأصيب بالطاعون وتعلل ليلتين وتوفي حادي عشرين رجب سنة تاريخه رحمه الله وسامحه فلقد كانت افاعيله وطباعه تدل على جودة أصله وطيب أعراقه وأصوله(2/65)
ومات الجناب الاوحد والنجيب المفرد الفصيح اللبيب والنادرة الاريب السيد إبراهيم بن أحمد بن يوسف بن مصطفى بن محمد امين الدين ابن علي سعد الدين بن محمد امين الدين الحسني الشافعي المعروف بقلفة الشهر تفقه على شيخ والده السيد عبد الرحمن الشيخوني إذ كان إمام والده وتدرج في معرفة الأقلام والكتابة فلما توفي والده تولى مكانه أخوه الأكبر يوسف في كتابة قلم الشهر فلما شاخ وكبر سلمه إلى اخيه المترجم فسار فيه احسن سير واقتنى كتبا نفيسة وتمهر في غرائب الفنون وأخذ طريق الشاذلية والاحزاب والاذكار على الشيخ محمد كشك وكان يبره ويلاحظه بمراعاته وانتسب إليه وحضر الصحيح وغيره على شيخنا السيد مرتضى وسمع عليه كثيرا من الأجزاء الحديثية في منزله بالركبيين وبالازبكية في مواسم النيل وكان مهيبا وجيها ذا شهامة ومروءة وكرم مفرط وتجمل فاخر عمله فوق همته سموحا بالعطاء متوكلا توفي صبح يوم الأربعاء غاية شهر شعبان بعد أن تعلل سبعة أيام وجهز وصلي عليه بمصلى شيخون ودفن على والده قرب السيدة نفيسة وخلف ولديه النجيبين المفردين حسن أفندي وقاسم أفندي ابقاهما الله وأحيا بهما المآثر وحفظ عليهما أولادهما واصلح لنا ولهم الأيام.
ومات الإمام العلامة والجهبذ الفهامة الفقيه النبيه الأصولي المعقولي الورع الصالح الشيخ محمد الفيومي الشهير بالعقاد أجد أعيان العلماء النجباء الفضلاء تفقه على أشياخ العصر ولازم الشيخ الصعيدي المالكي ومهر وأنجب ودرس وانتفع به الطلبة في المعقول والمنقول وألف وأفاد وكان إنسانا حسنا جميل الاخلاق مهذب النفس متواضعا مشهورا بالعلم والفضل والصلاح لم يزل مقبلا على شأنه محبوبا للنفوس حتى تعلل بالبرقوقية بالصحراء وتوفي بها ودفن هناك بوصية منه رحمه الله.
ومات صاحبنا الجناب المكرم والملاذ المفخم أنيس الجليس والنادرة الرئيس حسن أفندي بن محمد أفندي المعروف بالزامك قلف الغربية ومن له في ابناء جنسه أحسن منقبة ومزية تربى في حجر والده ومهر(2/66)
في صناعته ولما توفي والده خلفه من بعده وفاقه في هزله وجده وعاشر أرباب الفضائل واللطفاء وصار منزله منهلا للواردين ومربعا للوافدين فيتلقى من يرد إليه بالبشر والطلاقة ويبذل جهده في قضاء حاجة من له به أدنى علاقة فاشتهر ذكره وعظم أمره وورد إليه الخاص والعام حتى أمراء الالوف العظام فيواسي الجميع ويسكرهم بكأس لطفه المريع مع الحشمة والرياسة وحسن المسامرة والسياسة قطعنا معه أوقاتا كانت في جبهة العمر غرة ولعين الدهر مسرة وقرة وفي هذا العام قصد الحج إلى بيت الله الحرام وقضى بعض اللوازم والاشغال واشترى الخيش وأدوات الأحمال فوافاه الحمام وارتحل إلى دار السلام بسلام وذلك في أواخر رجب بالطاعون رحمه الله.
ومات أيضا الجناب العالي واللوذعي الغالي والرياستين والمزيتين والفضيلتين الأمير أحمد أفندي الروزنامجي المعروف بالصفائي تقلد وظيفة الروزنامة بديوان مصر عندما كف بصر إسمعيل أفندي فكان لها أهلا وسار فيها سيرا حسنا بشهامة وصرامة ورياسة وكان يحفظ القرآن حفظا جيدا وحضر في الفقه والمعقول على أشياخ الوقت قبل ذلك وكان يحفظ متن الألفية لابن مالك ويعرف معانيها ويحفظ كثيرا من المتون ويباحث ويناضل من غير ادعاء للمعرفة والعالمية فتراه أميرا مع الأمراء ورئيسا مع الرؤساء وعالما مع العلماء وكاتبا مع الكتاب وولداه سليمان أفندي المتوفي سنة ثمان وتسعين وعثمان أفندي المتوفي بعده في الفصل سنة خمس ومائتين ووالدتهما المصونة خديجة من أقارب المرحوم الوالد وكانا ريحانتين نجيبين ذكيين مفردين اعقب سليمان محمد أفندي وتوفي في سنة ست عشرة وهو مقتبل الشبيبه وحسن أفندي الموجود الآن وأعقب عثمان أحمد وهو موجود أيضا إلا أنه بعيد الشبه من أبيه وعمه وأولاد عمه وجده وجدته وأما ابن عمه حسن أفندي فهو ناجب ذكي بارك الله فيه ولما تعلل المترجم وانقطع عن النزول والركوب وحضور الدواوين قلدوا عوضه أحمد أفندي المعروف بأبي كلبة على مال دفعه فأقام(2/67)
في المنصب دون الشهرين ومات أحمد أفندي فسمى عثمان أفندي العباسي على المنصب وتقلده على رشوة لها قدر وذهب على أحمد أفندي أبو كلبة ما دفعه في الهباء وكانت وفاة أحمد أفندي الصفائي المترجم في عشرين خلت من ربيع الثاني من السنة.
ومات العمدة المفرد والنجيب الاوحد محمد أفندي كاتب الرزق الأحباسية وهذه الوظيفة تلقاها بالوراثة عن أبيه وجده وعرفوا اصطلاحها واتقنوا أمرها وكان محمد أفندي هذا لا يغرب عن ذهنه شيء يسأل عنه من اراضي الرزق بالبلاد القبلية والبحرية مع اتساع دفاترها وكثرتها ويعرف مظناتها ومن انحلت عنه ومن انتقلت إليه مع الضبط والتحرير والصيانة والرفق بالفقراء في عوائد الكتابة وكان على قدم الخير والصلاح مقتصدا في معيشته قانعا بوظيفته لا يتفاخر في ملبس ولا مركب ويركب دائما الحمار وخلفه خادمه يحمل له كيس الدفتر إذا طلع إلى الديوان مع السكون والحشمة وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات العشر ولم يزل هذا حاله حتى تعلل أياما وتوفي إلى رحمة الله تعالى ثامن ربيع الثاني وتقرر في الوظيفة عوضه ابن ابنه الشاب الصالح حموده أفندي فسار كاسلافه سيرا حسنا وقام بأعباء الوظيفة حسا ومعنى إلا أنه عاجله الحمام وانخسف بدره قبل التمام وتوفي بعد جده بنحو سنتين وشغرت الوظيفة وابتذلت كغيرها وهكذا عادة الدنيا.
ومات الجناب السامي والغيث الهاطل الهامي ذو المناقب السنية والأفعال المرضية والسجايا المنيفة والأخلاق الشريفة السيد السند حامي الاقطار الحجازية والبلاد التهامية والنجدية الشريف السيد سرور أمير مكة تولى الأحكام وعمره نحو احدى عشرة سنة وكانت مدة ولايته قريبا من أربع عشرة سنة وساس الأحكام احسن سياسة وسار فيها بعدالة ورآسة وأمن تلك الاقطار أمنا لا مزيد عليه ومات وفي محبسه نيف وأربعمائة من العربان الرهائن وكان لا يغفل لحظة عن النظر والتدبير في مملكته ويباشر الأمور بنفسه ويتنكر ويعس ويتفقد جميع الأمور الكلية(2/68)
والجزئية ولا ينام الليل قط فيدور ثلثي الليل ويطوف حول الكعبة الثلث الاخير ولم يزل يتنقل ويطوف حتى يصلي الصبح ثم يتوجه إلى داره فينام إلى الضحوة ثم يجلس للنظر في الأحكام ولا تأخذه في الله لومة لائم ويقيم الحدود ولو على اقرب الناس إليه فعمرت تلك النواحي وأمنت السبل وخافته العربان وأولاد الحرام فكان المسافر يسير بمفرده ليلا في خفارته وبالجملة فكانت أفعاله حميدة وأيامه سعيدة لم يأت قبله مثله فيما نعلم ولم يخلفه إلا مذمم ولما مات تولى بعده أخوه الشريف غالب وفقه الله وأصلح شأنه.(2/69)
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين وألف.
فكان ابتداؤها المحرم يوم الخميس وفيه زاد اجتهاد إسمعيل بك في البناء عند طرا وأنشأ هناك قلعة بحافة البحر وجعل بها مساكن ومخازن حواصل وأنشأ حيطانا وابراجا وكرانك وابنية ممتدة من القلعة إلى الجبل واخرج إليها الجبخانة والذخيرة وغير ذلك.
وفي تاسعه سافر عثمان كتخدا عزبان إلى اسلامبول بعرضحال بطلب عسكر وأذن باقتطاع مصاريف من الخزينة.
وفي رابع عشرينه سافر إسمعيل باشا باش الارنؤد بجماعته ولحقوا بالغلايين والجماعة القبليون متترسون بناحية الصول وعاملون سبعة متاريس والمراكب وصلت إلى أول متراس فوجدوهم مالكين مزم الجبل فوقفوا عند أول متراس ومدافعهم تصيب المراكب ومدافع المراكب لا تصيبهم وهم متمنعون بأنفسهم إلى فوق وانخرقت المراكب عدة مرار وطلع مرة من أهل المراكب جماعة أرادوا الكبس على المتراس الأول فخرج عليهم كمين من خلف مزرعة الذرة المزروع فقتل من طائفة المغاربة جماعة وهرب الباقون ونصبت رؤوس القتلى على مزاريق ليراها أهل المراكب(2/69)
وفي سادس عشرينه سافر أيضا عثمان بك الحسني وامتنع ذهاب السفار وايابهم إلى الجهة القبلية وانقطع الوارد وشطح سعر الغلة وبلغ النيل غايته في الزيادة واستمر على الاراضي من غير نقص إلى آخر شهر بابه القبطي وروى جميع الأراضي.
وفي سابع عشرينه حضر سراج من عند القبليين وعلى يده مكاتبات بطلب صلح وعلى أنهم يرجعون إلى البلاد التي عينها لهم حسن باشا ويقومون بدفع المال والغلال للميري ويطلقون السبل للمسافرين والتجار فإنهم سئموا من طول المدة ولهم مدة شهور منتظرين اللقاء مع اخصامهم فلم يخرجوا إليهم فلا يكونون سببا لقطع ارزاق الفقراء والمساكين فكتبوا لهم أجوبة للاجابة لمطلوبهم بشرط إرسال رهائن وهم عثمان بك الشرقاوي وإبراهيم بك الوالي ومحمد بك الألفي ومصطفى بك الكبير ورجع الرسول بالجواب وصحبته واحد بشلي من طرف الباشا.
شهر صفر.
في غرته حضر جماعة مجاريح.
وفي ثانيه حضر المرسال الذي توجه بالرسالة وصحبته سليمان كاشف من جماعة القبليين والبشلي وآخر من طرف إسمعيل باشا الارنؤدي وأحبروا أن الجماعة لم يرضوا بإرسال رهائن ثم أرسلوا لهم على كاشف الجيزة وصحبته رضوان كتخدا باب التفكجية وتلطفوا معهم على أن يرسلوا عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك فامتنعوا من ذلك وقالوا من جملة: كلامهم لعلمكم تظنون أن طلبنا في الصلح عجزا واننا محصورون وتقولون بينكم في مصر أنهم يريدون بطلب الصلح التحليل على التعدية إلى البر الغربي حتى يملكوا الاتساع وإذا قصدنا ذلك أي شيء يمنعنا في أي وقت شئنا وحيث كان الأمر كذلك فنحن لا نرضى إلا من حد أسيوط ولا نرسل رهائن ولا نتجاوز محلنا فلما رجع الجواب بذلك في سابعه أرسل الباشا فرمانا إلى إسمعيل باشا بمحاربتهم فبرزا إليهم بعساكره(2/70)
وجميع العسكر التي بالمراكب وحملوا عليهم حملة واحدة وذلك يوم الجمعة ثامنه فاخلوا لهم وملكوا منهم متراسين فخرج عليهم كمين بعد أن أظهروا الهزيمة فقتل من العسكر جملة كبيرة ثم وقع الحرب بينهم يوم السبت ويوم الأحد واستمرت المدافع تضرب بينهم من الجهتين والحرب قائم بينهم سجالا وكل من الفريقين يعمل الحيل وينصب الشباك على الآخر ويكمن ليلا فيجد الرصد ولم ينفصل بينهم الحرب على شيء.
وفي منتصفه شرع إسمعيل بك في عمل تفريدة على البلاد فقرروا على الأعلى عشرين ألف فضة والأوسط خمسة عشر والادنى خمسة آلاف وذلك خلاف حق الطرق وما يتبعها من الكلف وعمل ديوان ذلك في بيت علي بك الدفتردار بحضرة الوجاقلية وكتبت دفاترها وأوراقها في مدة ثلاثة أيام.
واستهل شهر ربيع الأول والحال على ما هو عليه وحضر مرسوم من القبليين بطلب الصلح ويطلبون من حد اسيوط إلى فوق شرقا وغربا ولا يرسلون رهائن ووصل ساع من ثغر اسكندرية بالبشارة لإسمعيل كتخدا حسن باشا بولاية مصر وأن اليرق والداقم وصل والبقجي والكتخدا وأرباب المناصب وصلوا إلى الثغر فردهم الريح عندما قربوا من المرساة إلى جهة قبرص فشرع عابدي باشا في نقل متاعه من القلعة ولما حضرالمرسول بطلب الصلح رضي المصرلية بذلك واعادوه بالجواب.
وفي رابعه حشر أحمد أغا اغات الجملية المعروف بشويكار لتقرير ذلك فعمل عابدي باشا ديوانا اجتمع فيه الأمراء والمشايخ والاختيارية وتكلم أحمد أغا وقال: نأخذ من أسيوط إلى قبلي شرقا وغربا بشرط أن ندفع ميري البلاد من المال والغلال ونطلق سراح المراكب والمسافرين بالغلال والاسباب وكذلك أنتم لا تمنعون عنا الواردين بالاحتياجات إلا ما كان من آلة الحرب فلكم منعه وبعد أن يتقرر بيننا وبينكم الصلح نكتب عرض محضر منا ومنكم إلى الدولة وننظر ما يكون الجواب فإن حضر الجواب بالعفو لنا أو تعيين أماكن لنا لا نخألف ذلك ولا تتعدى الأوامر السلطانية(2/71)
بشرط أن ترسلوا لنا الفرمان الذي يأتي بعينه نطلع عليه فأجيبوا إلى ذلك كله ورجع أحمد اغا بالجواب صبيحة ذلك اليوم صحبة عبد الله جاويش وشهر حوالة والشيخ بدوي من طرف المشايخ وحضر في أثر ذلك مراكب غلال وانحلت الأسعار وتواجدت الغلال بالرقع وكثرت بعد انقشاعهم ثم وصلت الأخبار بأن القبليين شرعوا في عمل جسر على البحر من مراكب مرصوصة ممتدة من البر الشرقي إلى البر الغربي وثبتوه وسمروه بمسامير وباطات وثقلوه بمراس واحجار مركوزة بقرار البحر وأظهروا أن ذلك لأجل التعدية ورجعت المراكب وصحبتها العسكر المحاربون وأسمعيل باشا الارنؤدي وعثمان بك الحسني والقليونجية وغيرهم وأشيع تقرير الصلح وصحته.
وفي عاشره أخبر بعض الناس قاضي العسكر أن بمدفن السلطان الغوري بداخل خزانة في القبة آثار النبي صلى الله عليه وسلم وهي قطعة من قميصه وقطعةعصا وميل فاحضر مباشر الوقف وطلب منه أحضار تلك الآثار وعمل لها صندوقا ووضعها في داخل بقجة وضمخها بالطيب ووضعها على كرسي ورفعها على رأس بعض الاتباع وركب القاضي والنائب وصحبته بعض المتعممين مشاة بين يديه يجهرون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا بها إلى المدفن ووضعوها في داخل الصندوق ورفعوها في مكانها بالخزانة.
وفي يوم الإثنين سابع عشرة حضر شهر حوالة وعبد الله جاويش وأخبروا بأنهم لما وصلوا إلى الجماعة تركوهم ستة أيام حتى تمموا شغل الجسر وعدوا عليه البر الغربي ثم طلبوهم فعدوا إليهم وتكلموا معهم وقالوا لهم أن عابدي باشا قرر معنا الصلح على هذه الصورة وتكفل لنا بكامل الأمور ولكن بلغنا في هذه الأيام أنه معزول من الولاية وكيف يكون معزولا ونعقد معه صلحا هذا لا يكون إلا إذا حضر إليه مقرر أو تولى غيره يكون الكلام معه وكتبوا له جوابات بذلك ورجع به الجماعة المرسلون وأشيع عدم التمام فاضطربت الأمور وارتفعت الغلال ثانية(2/72)
وغلا سعرها وشح الخبز من الأسواق.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشرة عمل الباشا ديوانا جمع فيه الأمراء والمشايخ والاختيارية والقاضي فتكلم الباشا وقال انظروا يا ناس هؤلاء الجماعة ما عرفنا لهم حال ولا دينا ولا قاعدة ولا عهدا ولا عقدا أنا رأينا النصارى إذا تعاقدوا على شيء لا ينقضوه ولا يختلوا عنه بدقيقة وهؤلاء الجماعة كل يوم لهم صلح ونقض وتلاعب واننا اجبناهم إلى ما طلبوا وأعطيناهم هذه المملكة العظيمة وهي من ابتداء اسيوط إلى منتهى النيل شرقا وغربا ثم أنهم نكثوا ذلك وأرسلوا يحتجون بحجة باردة وإذا كنت أنا معزولا فإن الذي يتولى بعدي لا ينقض فعلى ولا يبطله ويقولون في جوابهم: نحن عصاة وقطاع طريق وحيث اقروا على أنفسهم بذلك وجب قتالهم أم لا فقال القاضي والمشايخ: يجب قتالهم بمجرد عصيانهم وخروجهم عن طاعة السلطان فقال: إذا كان الأمر كذلك فإني اكتب لهم مكاتبة وأقول لهم أما أن ترجعوا وتستقروا على ما وقع عليه الصلح وأما أن أجهز لكم عساكر وانفق عليهم من أموالكم ولا أجد يعارضني فيما افعله وإلا تركت لكم بلدتكم وسافرت منها ولو من غير أمر الدولة فقالوا جميعا نحن لا نخألف الأمر فقال: أضع القبض على نسائهم وأولادهم ودورهم وأسكن نساءهم وحريمهم في الوكائل وأبيع تعلقاتهم وبلادهم وما تملكه نساؤهم واجمع ذلك جميعه وأنفقه على العسكر وأن لم يكف ذلك تممته من مالي فقالوا: سمعنا وأطعنا وكتبوا مكاتبة خطابا لهم بذلك وختم عليها الباشا والأمراء وأرسلوها.
وفي يوم الأحد ثالث عشرينه نزل الاغا ونادى في الأسواق بأن كل من كان عنده وديعة للامراء القبليين يردها لاربابها فإن ظهر بعد ثلاثة أيام عند أجد شيء استحق العقوبة وكل ذلك تدبير إسمعيل بك.
وفي يوم الثلاثاء حضر هجان وباش سراجين إبراهيم بك وأخبر أن الجماعة عزموا على الارتحال والرجوع وفك الجسر فعمل الباشا ديوانا في صبحها وذكروا المراسلة وضمن الباشا غائلتهم وضمن المشايخ غائلة(2/73)
اسمعيل بك وكتبوا محضرا بذلك وختموا عليه وأرسلوه صحبة مصطفى كتخدا باش اختيار عزبان وتحقق رفع الجسر وورود بعض المراكب وانحلت الأسعار قليلا.
واستهل شهر ربيع الثاني.
فيه حضر شيخ السادات إلى بيته الذي عمره بجوار المشهد الحسيني وشرع في عمل المولد واعتنى بذلك ونادوا على الناس بفتح الحوانيت بالليل ووقود القناديل من باب زويلة إلى بين القصرين وأحدثوا سيارات وأشاير ومواكب وأحمال قناديل ومشاعل وطبولا وزمورا واستمر ذلك خمسة عشر يوما وليلة.
وفي يوم الجمعة حضر عابدي باشا باستدعاء الشيخ له فتغدى ببيت الشيخ وصلى الجمعة بالمسجد وخلع على الشيخ وعلى الخطيب ثم ركب إلى قصر العيني.
وفي ذلك اليوم وصل ططرى من الديار الرومية وعلى يده مرسومات فعملوا في صبحها ديوانا بقصر العيني وقرئت المرسومات فكان مضمون احدها تقرير العابدي باشا على ولاية مصر والثاني الأمر والحث على حرب الأمراء القبليين وإبعادهم من القطر المصري والثالث بطلب الافرنجي المرهون إلى الديار الرومية فلما قرىء ذلك عمل عابدي باشا شنكا ومدافع من القصر والمراكب والقلعة وانكسف بال إسمعيل كتخدا بعد أن حضر إليه المبشر بالمنصب واظهر البشر والعظمة وانفذ المبشرين ليلا إلى الأعيان ولم يصبر إلى طلوع النهار حتى أنه أرسل إلى محمد أفندي البكري المبشر في خامس ساعة من الليل واعطاه مائة دينار وحضر إليه الأمراء والعلماء في صبحها للتهنئة وثبت ذلك عند الخاص والعام ونقل عابدي باشا عزاله وحريمه إلى القلعة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرة رجع مصطفى كتخدا من ناحية قبلي وبيده جوابات وأخبر أن إبراهيم بك الكبير ترفع إلى قبلي وصحبته إبراهيم بك(2/74)
الوالي وسليمان بك الاغا وأيوب بك وملخص الجوابات أنهم طالبون من حد المنية.
وفي يوم الأحد رابع عشره عمل الباشا ديوانا حضره المشايخ والأمراء فلم يحصل سوى سفر الافرنجي.
وفي أواخره حضر سراج باشا إبراهيم بك وبيده جوابات يطلبون من حد منفلوط فأجيبوا إلى ذلك وكتبت لهم جوابات بذلك وسافر السراج المذكور.
واستهل شهر جمادى الأولى.
في غرته قلدوا غيطاس بك إمارة الحج.
وفي ثالثه وصل ططريون من البر على طريق دمياط بمكاتبات مضمونها ولاية إسمعيل كتخدا حسن باشا على مصر واخبروا أن حسن باشا دخل إلى اسلامبول في ربيع الأول ونقض ما أبرمه وكيل عابدي باشا والبس قابجي كتخدا إسمعيل المذكور بحكم نيابته عنه قفطان المنصب ثالث ربيع الثاني وتعين قابجي الولاية وخرج من اسلامبول بعد خروج الططر بيومين وحضر الططر في مدة ثلاث وعشرين يوما فلما وصل الططر سر إسمعيل كتخدا سرورا عظيما وانقذ المبشرين إلى بيوت الأعيان.
وفيه ورد الخبر بانتقال الأمراء القبليين إلى المنية وسافر رضوان بك إلى الموفية وقاسم بك إلى الشرقية وعلي بك الحسني إلى الغربية.
وفي عشرينه جمع إسمعيل بك الأمراء والوجاقلية وقال لهم: أيا إخواننا أن حسن باشا أرسل يطلب مني باقي الحلوان فمن كان عنده بقية فليحضر بها ويدفعها فأحضروا حسن أفندي شقبون أفندي الديوان وحسبوا الذي طرف إسمعيل بك وجماعته فبلغ ثلثمائة وخمسين كيساوطلع على طرف حسن بك واتباعه نحو أربعمائة كيس وعلى طرف علي بك الدفتردار مائة وستون كيسا وكانوا أرسلوا إلى علي بك فلم يأت فقال لهم حسن بك: أي شيء هذا العجب والأغراض بلاد علي بك فارسكور وبأرنبال(2/75)
وسرس الليانة حلوانهم قليل وزاد اللغط والكلام فقام من بينهم إسمعيل بك ونزل وركب إلى جزيرة الذهب وكذلك حسن بك خرج إلى قبة العزب وعلي بك ذهب إلى قصر الجلفي بالشيخ قمر وأصبح علي بك وركب إلى الباشا ثم رجع إلى بيته ثم أن علي بك قال لا بد من تحرير حسابي وما تعاطيته وما صرفته من أيام حسن باشا إلى وقتنا وما صرفته على أمير الحج تلك السنة وادعي أمير الحج الذي هو محمد بك المبدول ببواقي ووقع على الجداوي فاجتمعو ببيت رضوان كتخدا تابع المجنون وحضر حسن كتخدا علي بك وكيلا عن مخدومه ومصطفى اغا الوكيل وكيلا عن إسمعيل بك وحرروا الحساب فطلع على طرف علي بك ثلاثة وعشرون كيسا وطلع له بواق في البلاد نيف واربعون كيسا.
شهر جمادى الآخرة.
فيه حضر فرمان من الدولة بنفي أربع اغوات وهم عريف أغا وعلي اغا وادريس اغا وأسمعيل اغا فحنق لذلك جوهر اغا دار السعادة وشرع في كتابه مرافعة.
وفي عاشره وصل فرمان لإسمعيل كتخدا وخوطب فيه بلفظ الوزارة.
وفي يوم الأحد عمل إسمعيل باشا المذكور ديوانا في بتيه بالازبكية وحضر الأمراء والمشايخ وقرأوا المكاتبة وفيها الأمر بحساب عابدي باشا وبعد انفضاض الديوان أمر الروزنامجي والافندية بالذهاب إلى عابدي باشا وتحرير حساب الستة اشهر من أول توت إلى برمهات لأنها مدة إسمعيل باشا وما أخذه زيادة عن عوائده وأخذ منه الضربخانة وسلمها إلى خازنداره وقطعوا راتبه من المذبح.
وفي عصريتها أرسل إلى الوجاقلية والاختيارية فلما حضروا قال لهم إسمعيل باشا: بلغني أنكم جمعتم ثمانمائة كيس فما صنعتم بها فقالوا: دفعناها إلى عابدي باشا وصرفها على العسكر فقال: لأي شيء قالوا:(2/76)
لقتل العدو قال: والعدو قتل قالوا: لا قال حينئذ: إذا احتاج الحال ورجع العدو اطلب منكم كذلك قدرها قالوا: ومن اين لنا ذلك قال: إذا اطلبوها منه واحفظوها عندكم في باب مستحفظان لوقت الاحتياج.
وفيه تواترت الأخبار باستقرار إبراهيم بك بمنفلوط وبنى له بها داراوصحبته أيوب بك وأما مراد بك وبقية الصناجق فإنهم ترفعوا إلى فوق.
وفي يوم الإثنين حضر حسن كتخدا الجربان من الروم وكان إسمعيل بك أرسل يتشفع في حضوره بسعاية محمد اغا البارودي وعلى أنه لم يكن من هذه القبيلة لأنه مملوك حسن بك أبي كرش وحسن بك مملوك سليمان اغا كتخدا الجاويشية ولما حضر أخبر أن الأمراء الرهائن ارسلوهم إلى شنق قلعة منفيين بسبب مكاتبات وردت من الأمراء القبالى إلى بعض متكلمين الدولة مثل القزلار وخلافه بالسعي لهم في طلب العفو فلما حضر حسن باشا وبلغه ذلك نفاهم وأسقط رواتبهم وكانوا في منزله واعزاز ولهم رواتب وجاميكة لكل شخص خمسمائة قرش في الشهر.
وفي عشرينه تحرر حساب عابدي باشا فطلع لإسمعيل باشا نحو ستمائة كيس فتجاوز له عن نصفها ودفع له ثلثمائة كيس وطلع عليه لطرف الميري نحوها أخذوا بها عليه وثيقة وسامحه الأمراء من حسابهم معه وهادوه وأكرموه وقدموا له تقادم وأخذ في أسباب الارتحال والسفر وبرز خيامه إلى بركة الحج.
وفي اواخره ورد الخبر مع السعاة بوصول الاطواخ لإسمعيل باشا واليرق والداقم إلى ثغر الأسكندرية.
شهر رجب الفرد الحرام استهل بيوم السبت.
في ثالثه يوم الإثنين سافر عابدي باشا من البر على طريق الشام إلى ديار بكر ليجمع العساكر إلى قتال الموسقو وذهب من مصر بأموال عظيمة وسافر صحبته إسمعيل باشا الارنؤدي وابقى إسمعيل باشا من عسكر القليونجية والانؤدية من اختارهم لخدمته وأضافهم إليه(2/77)
وفي عاشره وصلت الاطواخ والداقم إلى الباشا فابتهج لذلك وأمر بعمل شنك وحراقة ببركة الأزبكية وحضر الأمراء إلى هناك ونصبوا صواري وتعاليق وعملوا حراقة ووقدة ليلتين ثم ركب الباشا في صبح يوم الجمعة وذهب إلى مقام الإمام الشافعي فزاره ورجع إلى قبة العزب خارج باب النصر ونودى في ليلتها على الموكب فلما كان صبح يوم السبت خامس عشره خرج الأمراء والوجاقلية والعساكر الرومية والمصرلية واجتمع الناس للفرجة وانتظم الموكب إمامه وركب بالشعار القديم وعلى رأسه الطلخان والقفطان الاطلس وإمامه السعاة والجاويشية والملازمون وخلفه النوبة التركية وركب إمامه جميع الأمراء بالشعار والبيلشانات بزينتهم ونظامهم القديم المعتاد وشق القاهرة في موكب عظيم ولما طلع إلى القلعة ضرب له المدافع من الأبراج وكان ذلك اليوم متراكم الغيوم وسح المطر من وقت ركوبه إلى وقت جلوسه بالقلعة حتى ابتلت ملابسه وملابس الأمراء والعسكر وحوائجهم وهم مستبشرون بذلك وكان ذلك اليوم خامس برمودة القبطي.
وفي يوم الثلاثاء عمل الديوان وطلع الأمراء والمشايخ وطلع الجم الكثير من الفقهاء ظانين وطامعين في الخلع فلما قرىء التقرير في الديوان الداخل خلع على الشيخ العروسي والشيخ البكري والشيخ الحريري والشيخ الأمير والأمراء الكبار فقط ثم أن إسمعيل بك التفت إلى المشايخ الحاضرين وقال: تفضلوا يا أسيادنا حصلت البركة فقاموا وخرجوا.
وفي يوم الخميس عشرينه أمر الباشا المحتسب بعمل تسعيرة وتنقيص الأسعار فنقضوا سعر اللحم نصفه فضة وجعلوا الضاني بستة انصاف والجاموسي بخمسة فشح وجوده بالأسواق وصاروا يبيعونه خفية بالزيادة ونزل سعر الاردب الغلة إلى ثلاثة ريال ونصف بعد تسعة ونصف.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه ورد مرسوم من الدولة فعمل الباشا الديوان في ذلك وقرأوه وفيه الأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر(2/78)
والدعاء بالنصر للسلطان على الموسقو فإنهم تغلبوا واستولوا على قلاع ومدن عظيمة من مدن المسلمين وكذلك يدعون له بعد الاذان في كل وقت وأمر الباشا بتقرير عشرة من المشايخ من المذاهب الثلاثة يقرأون البخاري في كل يوم ورتب لهم في كل يوم مائتين نصف فضة لكل مدرس عشرون نصفا من الضربخانة ووعدهم بتقريرها لهم على الدوام بفرمان.
وفيه شرع الباشا في تبييض حيطان الجامع الأزهر بالنورة والمغرة.
وفي يوم الأحد حضر الشيخ العروسي والمشايخ وجلسوا في القبلة القديمة جلوسا عاما وقرأوا اجزاء من البخارى واستداموا على ذلك بقية الجمعة وقرر إسمعيل بك أيضا عشرة من الفقهاء كذلك يقرأون أيضا البخاري نظير لعشرة الأولى وحضر الصناع وشرعوا في البياض والدهان وجلاء الأعمدة وبطل ذلك الترتيب.
شهر شعبان المكرم.
في ثانيه نودي بأبطال التعامل بالزيوف المغشوشة والذهب الناقص وأن الصيارفة يتخدون لهم مقصات يقطعون بها الدراهم الفضة المنحسة وكذلك الذهب المغشوش الخارج وإذا كان الدينار ينقص ثلاثة قراريط يكون بطالا ولا يتعامل به وإنما يباع لليهود الموردين بسعر المصاغ إلى دار الضرب ليعاد جديدا فلم يمتثل الناس لهذا الأمر ولم يوافقوا عليه واستمروا على التعامل بذلك في المبيعات وغيرها لأن غالب الذهب على هذا النقص وأكثر وإذا بيع على سعر المصاغ خسروا فيه قريبا من النصف فلم يسهل بهم ذلك ومشوا على ما هم عليه مصطلحون فيما بينهم.
وفي أوائله أيضا تواترت الأخبار بموت السلطان عبد الحميد حادي عشر رجب وجلوس ابن أخيه السلطان مصطفى مكانه وهو السلطان سليم خان وعمره نحو الثلاثين سنة وورد في أثر الإشاعة صحبة التجار والمسافرين دراهم وعليها اسمه وطرته ودعى له في الخطبة أول جمعة في شعبان المذكور(2/79)
وفي يوم الثلاثاء تاسعه حضر علي بك الدفتردار من ناحية دجوة وسبب ذهابه إليها أن أولاد حبيب قتلوا عبد العلي بك بمنية عفيف بسبب حادثة هناك وكان ذلك العبد موصوفا بالشجاعة والفروسية فعز ذلك على علي بك فأخذ فرمانا من الباشا بركوبه على أولاد حبيب وتخريب بلدهم ونزل إليهم وصحبته باكير بك ومحمد بك المبدول وعندما علم الحبايبة بذلك وزعوا متاعهم وارتحلوا من البلد وذهبوا إلى الجزيرة فلما وصل علي بك ومن معه إلى دجوة لم يجدوا أحدا ووجدوا دورهم خالية فأمروا بهدمها فهدموا مجالسهم ومقاعدهم وأوقدوا فيها النار وعملوا فردة على أهل البلد وما حولها من البلاد وطلبوا منهم كلفا وحق طرق وتفحصوا على ودائعهم وأمانتهم وغلالهم في جيرة البلاد مثل طحلة وغيرها فأخذوها وأحاطوا بزرعهم وما وجدوه بالنواحي من بهائمهم ومواشيهم ثم تداركوا أمرهم وصالحوه بسعي الوسائط بدراهم ودفعوها ورجعوا إلى وطنهم ولكن بعد خرابها وهدمها.
وفيه أرسل الباشا سلحداره بخطاب للامراء القبالي يطلب منهم الغلال والمال الميري حكم الاتفاق.
واستهل شهر رمضان وشوال.
في رابعه وصل إلى مصر أغا معين باجراء السكة والخطبة باسم السلطان سليم شاه فعمل الباشا ديوانا وقرأ المرسوم الوارد بذلك بحضرة الجمع والسبب في تأخيره لهذا الوقت الاهتمام بأمر السفر واشتغال رجال الدولة بالعزل والتولية وورد الخبر أيضا بعزل حسن باشامن رياسة البحر إلى رياسة البر وتقلدا الصدارة وتولى عوضه قبطان باشا حسين الجردلي وأخبروا أيضا بقتل بستحي باشا.
وفي أوائله أيضا فتحوا ميري سنة خمسة مقدمة بعجلة.
وفي أواخره حضر عثمان كتخدا عزبان من الديار الرومية وبيده أوامر وفيها الحث على محاربة الأمراء القبالي والخطاب للوجاقلية وباقي الأمراء(2/80)
بأن يكونوا مع إسمعيل بك بالمساعدة والاذن لهم بصرف ما يلزم صرفه من الخزينة مع تشهيل الخزينة للدولة.
وفي عاشره وصل ططري وعلى يده اوامر منها حسن عيار المعاملة من الذهب والفضة وأن يكون عيار الذهب المصري تسعة عشر قيراطا ويصرف بمائة وعشرين نصفا بنقص أربعة انصاف عن الواقع في الصرف بين الناس ولاسلامبولي بمائة وأربعين وينقص عشر والفندقلي بمائتين بنقص خمسة والريال الفرانسة بمائة بنقص خمسة أيضا والمغربي بخمسةوتسعين بنقص خمسة أيضا وهو المعروف بأبي مدفع والبندقي بمائتين وعشر بنقص خمسة عشر فنزل الاغا والوالي ونادى بذلك فخسر الناس حصة من أموالهم.
وفي غايته خرج أمير الحاج غيطاس بك بالمحمل وركب الحجاج.
وفي منتصف شهر القعدة الموافق لعاشر مسرى القبطي أو في النيل المبارك اذرع الوفاء ونزل الباشا إلى فم الخليج وكسر السد بحضرته على العادة وانقضى هذا العام بحوادثه وحصل في هذه السنة الأزدلاف وتداخل العام الهلالي في الخراجي ففتحوا طلب المال الخراجي القابل قبل أوانه لضرورة الاحتياج وضيق الوار بتعطيل الجهة القبلية واستيلاء الأمراء الخارجين عليها ووجه إسمعيل بك الطلب من أول السنة بباقي الحلوان الذي قرره حسن باشا ثم المال الشتوي ثم الصيفي وفي اثناء ذلك المطالبة بالفرد المتوالية المقرر على البلاد من الملتزمين ووجه على الناس قباح الرسل والمعينين من السراجين والدلاة وعسكر القليونجية فيدهمون الإنسان ويدخلون عليه في بيته مثل التجريدة الخمسة والعشرة بأيديهم البنادق والأسلحة بوجوه عابسة فيشاغلهم ويلاطفهم ويلين خواطرهم بالإكرام فلا يزدادون إلا قسوة وفظاظة فيعدهم على وقت آخر فيسمعونه قبيح القول ويشتطون في أجرة طريقهم وربما لم يجدوا صاحب الدار أو يكون مسافرا فيدخلون الدار وليس فيها إلا النساء ويحصل منهم ما لا خير فيه من الهجوم عليهن وربما نططن من الحيطان أو هربن(2/81)
إلى بيوت الجيران وسافر رضوان بك قرابة علي بك الكبير إلى المنوفية وأنزل بها كل بلية وعسف بالقرى عسفا عينفا قبيحا بأخذ البلص والتساوين وطلب الكلف الخارجة عن المعقول إلى أن وصل إلى رشيد ثم رجع لاى مولد السيد البدوي بطندتا ثم عاد وفي كل مرة من مروره يستأنف العسف والجور وكذلك قاسم بك بالشرقية وعلي بك الحسني بالغربية وقلد إسمعيل بك مصطفى كاشف المرابط بقلعة طرا فعسف بالمسافرين الذاهبين والايبين إلى جهة قبلي فلا تمر عليه سفينة صاعدة أو منحدرة إلا طلبها إليه وأمر باخراج ما فيها وتفتيشها بحجة أخذهم الاحتياجات للأمراء القبليين من الثياب وغيرها أو إرسالهم أشياء أو دراهم لبيوتهم فإن وجد بالسفينة شيئا من ذلك نهب ما فيها من مال المسافرين والمتسببين وأخذه عن آخره وقبض عليهم وعلى الريس وحبسهم ونكل بهم ولا يطلقهم إلا بمصلحة وأن لم يجد شيئا فيه شبهة أخذ من السفينة ما اختاره وحجزهم فلا يطلقهم إلا بمال يأخذه منهم وتحقق الناس فعله فصانعوه ابتداء تقية لشره وحفظا لمالهم ومتاعهم فكان الذي يريد السفر إلى قبلي بتجارة أو متاع يذهب إليه ببعض الوسائط ويصالحه بما يطيب به خاطره ويمر بسلام فلا يعرض له وكذلك الواصلون من قبلي يأتون طائعين إلى تحت القلعة ويطلع إليه الريس والمسافرون فيصالحونه وعلم الناس هذه القاعدة واتبعوها وارتاحوا عليها في الجملة واستعوضوا الخسارة من غلو الأثمان وكذلك فعل نساء سائر الأمراء القبليين وهادينه وارشونه عن إرسالهن إلى أزواجهن من الملابس والأمتعة سراحتى كانوا في الآخر يرسلن إليه ما يرمن إرساله وهو يرسله بمعرفته وتأتي اجوبتهم على يده إلى بيوتهن خفية واتخذ له يدا وجميلا وطوقهم منته بذلك وشاع في بلاد الارنؤد وجبال الروملي رغبة إسمعيل بك في العساكر فوفدوا عليه باشكالهم المختلفة وطباعهم المنحرفة وعدم أديانهم وانعكاس أوضاعهم فأسكن منهم طائفة بالجيزة وطائفة ببولاق وطائفة بمصر العتيقة(2/82)
وأجرى عليهم النفقات والعلوفات وجلب له الياسيرجية المماليك فاشترى منهم عدة وافرة منهم عدة وافرة وأكثرهم عزق ومشنبون واجناس غير معهودة واستعملهم من أول وهلة في الفروسية ولم يدربهم في آداب ولا معرفة دين ولا كتاب كل ذلك حرصا على مقاومة الأعداء وتكثير الجيش وتابع إرسال الهدايا والأموال والتحف إلى الدولة وأحضر السروجية والصواع والعقادين فصنعوا ستة سروج للسلطان وأولاده وذلك قبل موت السلطان عبد الحميد على طريقه وضع سروج المصريين بعبايات مزركشة وهي مع السرج والقصعة والقربوص مرصعة بالجواهر والبروق والذهب والركابات واللجامات والبلامات والشماريخ والسلاسل كلها من الذهب البندقي الكسر والرأس والرشمات كلها من الحرير المصنوع بالمخيش وسلوك الذهب وشماريخ المرجان والزمرد وجميع الشراريب من القصب المخيش وبها تعاليق المرجان والمعادن صناعة بديعة كلفة ثمينة أقاموا في صناعة ذلك عدة أيام ببيت محمد اغا البارودي واشترى كثيرا من الأواني والقدور الصيني الأسكي معدن وملأها بأنواع الشربات المصنوع من السكر المكرر كشراب البنفسج والورد والحماض والصندل المطيب بالمسك والعنبر وماءالورد والمربيات الهندية مثل مربي القرنفل وجوزبوا والبسباسة والزنجبيل والكابلي وأرسل ذلك مع الخزينة بالبحر صحبة عثمان كتخدا عزبان ومعها عدة خيول من الجياد واقمشة هندية وعود وعنبر وظرائف وارزوبن وأفاويه وماء الورد المكرر وغير ذلك ولم يتفق لأحد فيما تقدم من أمراء مصر أرسل مثل ذلك ولم نسمع به ولم نره في تاريخ فإن نهاية ما رأينا أن الأشربة يضعونها في ظروف من الفخار التي قيمة الظرف منها خمسة انصاف أو عشرة حتى الذي يأتي من اسلامبول لخصوص السلطان وأما هذه فأقل ما فيها يساوي مائة دينار وأكثر من ذلك.
ومات في هذه السنة العلامة الماهر الحيسوب الفلكي أبو الاتقان الشيخ مصطفى الخياط صناعة ادرك الطبقة الأولى من أرباب الفن مثل(2/83)
رضوان أفندي ويوسف الكلارجي والشيخ محمد النشيلي والكرتلي والشيخ رمضان الخوانكي والشيخ محمد الغمري والشيخ الوالد حسن الجبرتي وأخذ عنهم وتلقى منهم ومهر في الحساب والتقويم وحل الأزياج والتحاويل والحل والتركيب وتحاويل السنين وتداخل التواريخ الخمسة واستخراج بعضها من بعض وتواقيعها وكبائسها وبسائطها ومواسمها ودلائل الأحكام والمناظرات ومظنات الكسوف والخسوف واستخراج أوقاتها ودقائقها مع الضبط والتحرير وصحة الحدس وعدم الخطأ واقر له أشياخه ومعاصروه بالاتقان والمعرفة وانفرد بعد أشياخه ووفد عليه طلاب الفن وتلقوا عنه وانجبوا واجلهم عصرينا وشيخنا العلامة المتقن الشيخ عثمان ابن سالم الورداني اطال الله بقاءه ونفع به ولازم المترجم المرحوم الوالد مدة مديدة وتلقى عنه وحج معه في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وسمعته يقول عنه الشيخ مصطفى: فريد عصره في الحسابيات والشيخ محمد النشيلي في الرسميات وحسن أفندي قطه مسكين في دلائل الأحكام وكان يستخرج في كل عام دستور السنة من مقومات السيارة ومواقع التواريخ وتواقيع القبط والمواسم والأهلة ويعرب السنة الشمسية لنفع العامة وينقل منها نسخا كثيرة يتناولها لخاص والعام يعلمون منها الاهلة وأوائل الشهور العربية والقبطية والرومية والعبرانية والتواقيع والمواسم وتحاويل البروج وغير ذلك والتمس منه الأستاذ سيدي أبو الأمداد أحمد بن وفا تحريك الكواكب الثابته لغاية سنة ثمانين ومائة وألف فأجابه إلى ذلك واشتغل به أشهرا حتى أتم حساب أطولها وعروضها وجهاتها ودرجات ممرها ومطالع غروبها وشروقها وتوسطها وأبعادها ومواضعها بأفق عرض مصر بغاية التحقيق والتدقيق على أصول الرصد الجديد السمرقندي وقام له الأستاذ باوده ومصرفه ولوازم عياله مدة اشتغاله بذلك واجازه على ذلك إجازة سنية(2/84)
ومات سلطان الزمان السلطان عبد الحميد بن أحمد خان وتولى بعده ابن أخيه السلطان سليم بن مصطفى وفقه الله تعالى آمين.(2/85)
ودخلت سنة أربع ومائتين والف.
في المحرم وصلت الأخبار بأن الموسقو أغاروا على عدة قلاع ومسالك اسلامية منها جهات الاوزي وكانت تغل على اسلامبول كالصعيد على مصر وأن اسلامبول واقع بها غلاء عظيم.
وفي أواخره حضر واحد أغا وبيده مرسومات بسبب الأمراء القبليين بأنهم أن كانوا تعدوا الجهات التي صالحوا عليها حسن باشا ولم يدفعوا المال ولا الغلال فلازم من محاربتهم ومقاتلتهم وأن لم يمتثلوا يخرجوا إليهم ويقاتلوهم فإن السلطان اقسم بالله أنه يزيل الفريقين ولا يقبل عذرهم في التأخير فقرأوا تلك المرسومات في الديوان ثم أرسلوها مع مكاتبات صحبة واحد مصرلي وآخر من طرف الاغا القادم بها وآخر من طرف الباشا.
وفي أوائل ربيع الأول رجع الرسل بجوابات من الأمراء القبليين ملخصها أنهم لم يتعدوا ما حددوه مع حسن باشا إلا بأوامر من عابدي باشا فإنه حدد لنا من منفلوط ثم إسمعيل بك بنى حاجزا وقلاعا وأسوارا بطرا وذلك دليل وقرينة على أن ما وراء ذلك يكون لنا وأنه اختص بالإقاليم البحرية وترك لنا الأقاليم القبلية ولا مزية للامراء الكائنين بمصر علينا فإنه يجمعنا واياهم أصل واحد وجنس واحد وأن كنا ظلمة فهم أظلم منا وأما الغلال والمال فإننا أرسلنا لهم جانب غلال فلم ترجع المراكب التي ارسلناها ثانيا فيرسلوا لنا مراكب ونحن نبيعها ونرسلها وذكروا أيضا أنهم أرسلوا صالح أغا كتخدا الجاويشية سابقا إلى اسلامبول ونحن في انتظار رجوعه بالجواب فعند رجوعه يكون العمل بمقتضى ما يأتي به من المرسومات ولا نخألف أمر السلطان(2/85)
وفي شهر جمادى الأولى وردت أخبار بعزل وزير الدولة وشيخ الإسلام وأغات الينكجرية ونفيهم وأن حسن باشا تولى الصدارة وهو بالسفر وأنه محصور بمكان يقال له إسمعيل لأن الموسقو أغاروا على ما وراء إسمعيل وأخذوا ما بعده من البلاد ثم إنه هادن الموسقو وصالحهم على خمسة أشهر إلى خروج الشتاء وأن السلطان أحضر الأمراء المصرلية الرهائن المنفيين بقلعة ليميا وهم عبد الرحمن بك الإبراهيمي وعثمان بك المرادي وسليمان كاشف وأما حسين بك فإنه مات بليميا ولما حضروا أنزلوهم في قناقات وعين لهم رواتب ويحضرهم السلطان في بعض الأحيان إلى الميدان ويعملوا رماحة بالخيول وهو ينظر إليهم ويعجبه ذلك ويعطيهم أنعاما وورد الخبر أيضا أن صالح أغا وصل إلى اسلامبول فصالح على الأمراء القبالي وتم الأمر بواسطة نعمان أفندي منجم باشا ومحمود بك وأرسلوا بالأوراق إلى حسن باشا فحنق لذلك ولم يمضه وانحرف علي نعمان أفندي ومحمود بك وأمر بعزلهما من مناصبهما ونفيهما واخراجهما من دار السلطنة فنفى نعمان أفندي إلى أماسيه ومحمود بك إلى جهة قريبة من اسلامبول وشاط طبيخهم وسافر صالح اغا من اسلامبول.
وفي شهر شعبان ورد الخبر بموت حسن باشا وكان موته في منتصف رجب وكأنه مات مقهورا من الموسقو.
وفي ثاني عشر رمضان حصل زلزلة لطيفة في ساس ساعة من الليل.
وفيه أيضا وصل ثلاثة أشخاص من الديار الرومية فأخذوا ودائع كانت لحسن باشا بمصر فتسلموها ممن كانت تحت أيديهم ورجعوا.
وفي ليلة الجمعة ثالث عشر شوال قبل الفجر احترق بيت إسمعيل بك عن آخره.
وفي خامس عشرينه عزل حسن كتخدا المحتسب من الحسبة وقلدوها رضوان أغا محرم من وجاق الجاويشية فأنهى حسن أغا أنه كان متكفلا(2/86)
بجراية الجامع الأزهر فإن كان المتولي يتكفل بها مثله استمر فيها وإلا ردوا له المنصب وهو يقوم بها للمجاورين كما كان فلما قالوا لرضوان اغا: ذلك فلم يسمعه إلا القيام بذلك وهي دسيسة شيطانية لا أصل فإن أخبار الجامع الأزهر لها جهات بعضها معطل والناظر عليه علي بك الدفتردار وحسن اغا كتخداه يصل ويقطع من أي جهة أراد من الميري أو من خلافه فدس هذه الدسيسة يريد بها تعجيز المتولي ليرجع إليه المنصب ومعلوم أن المتولي لم يتقلد ذلك إلا برشوة دفعها ويلزم من نزوله عنها ضياع غرامته وجرسته بين اقرانه فما وسعه إلا القيام بذلك وفردها على مظالم الحسبة التي يأخذها من السوقة ويدفعها للخباز يصنع بها خبزا للمجاورين والمنقطعين في طلب العلم ليكون قوتهم وطعامهم من الظلم والسحت المكرر وذلك نحو خمسة آلاف نصف فضة في كل يوم واشتهر ذلك وعلمه العلماء والمجاوزون وغيرهم وربما طالبوه بالمنكسر أو اعتذروا بقولهم الضرورات تبيح المحظورات.
وفي ليلة السبت ثالث شهر الحجة الموافق لعاشر مسرى القبطي أو في النيل أذرعه وكسر السد بحضرة الباشا والأمراء على العادة وجرى الماء في الخليج.
وفيه وقعت واقعة بين عسكر القليونجية والارنؤدية بسوق السلاح وقتل بينهم جماعة من الفريقين ثم تحزبوا احزابا فكان كل من واجه حزبا من الطائفة الأخرى أو انفرد ببعض منها قتلوه ووقع بينهم ما لا خير فيه وداخل الناس الخوف من ذلك فيكون الإنسان مارا بالطريق فلا يشعر إلا وكرشه وطائفة مقبلة وبأيديهم البنادق والرصاص وهم قاصدون طائفة من أخصامهم بلغهم أنهم في طريق من الطرق واستمر هذا الأمر بينهم نحو خمسة أيام ثم ادرك القضية إسمعيل بك وصالحهم.
وفي أواخره حضر جماعة من الأرنؤد إلى بيت محمد أغا البارودي وقبضوا منه مبلغ دراهم من علوفتهم ونزلوا عند الخليج المرخم وازدحموا(2/87)
في المركب فانقلبت بهم وغرق منهم نحو ستة انفار وقيل تسعة وطلع من طلع في أسوأ حال.
ذكر من مات في هذه السنة.
ومات في هذه السنة العلامة الرحلة الفهامة الفقيه المحدث المفسر المحقق المتبحر الصوفي الصالح الشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الشافعي الأزهري المعروف بالجمل ويعرف أبوه وجده بشننت ولد بمنية عجيل أحدى قرى الغربية وورد مصر ولازم الشيخ الحفني فشملته بركته وأخذ عنه طريق الخلوتية ولقنه الأسماء وأذن له واستخلفه وتفقه عليه وعلى غيره من فضلاء العصر مثل للشيخ عطية الاجهوري ولازم دروسه كثيرا واشتهر بالصلاح وعفة النفس ونوه الشيخ الحفني بشأنه وجعله اماما وخطيبا بالمسجد الملاصق لمنزله على الخليج ودرس بالاشرفيه والمشهد الحسيني في الفقه والحديث والتفسير وكثرت عليه الطلبة وضبطت من املائه وتقريراته وقرأ المواهب والشمائل وصحيح البخاري وتفسير الجلالين بالمشهد الحسيني بين المغرب والعشاء وحضره أكبر الطلبة ولم يتزوج وفي آخر أمره تقشف في ملبسه ولبس كساء صوف وعمامة صوف وطيلسانا كذلك واشتهر بالزهد والصلاح ويتردد كثيرا لزيارات المشايخ والأولياء ولم يزل على حاله حتى توفي في حادي عشر القعدة من السنة.
ومات الإمام الفاضل العلامة الصالح المتجرد القانع الصوفي الشيخ علي ابن عمر بن أحمد بن عمر بن ناجي بن فنيش العوني الميهي الشافعي الضرير نزيل طندتا ولد بالميه إحدى قرى مصر وأول من قدمها جده فنيش وكان مجذوبا من بني العونة العرب المشهورين بالبحيرة فتزوج بها وحفظ المترجم القرآن وقدم الجامع الأزهر وجوده على بعض القراء واشتغل بالعلم على مشايخ عصره ونزل طندتا فتديرها ودرس العلم(2/88)
بالمسجد المجاور وللمقام الأحمدي وانتفع به الطلبة وآل به الأمر إلى أن صار شيخ العلماء هناك وتعلم عليه غالب من بالبلد علم التجويد وهو فقيه مجود ماهر حسن التقرير جيد الحافظة يحفظ كثيرا من النقول الغريبة وفيه أنس وتواضع وتقشف وانكسار وورد مصر في المحرم من هذه السنة ثم عاد إلى طندتا وتوفي في ثاني عشر ربيع الأول من السنة ولم يتعلل كثيرا ودفن بجانب قبر سيدي مرزوق من أولاد غازي في مقام مبنى عليه رحمه الله تعالى.
ومات الفاضل النحرير الذي وقف الأدب عند بابه ولاذت أربابه باعتابه النبيه النبيل واللوذعي الجليل قاسم بن عطاء الله المصري الأديب ولد بمصر وبها نشأ وقرأ في الفنون على بعض أهل عصره وحفظ الملحة والألفية وغيرهما واشتهر بفن الأدب والتوشيح والزجل وكان يعرف أولا بالزجال أيضا لاتقانه فيه وصار وحيد عصره في هذه الفنون بحيث لا يجاريه أجد مع ما لديه من الارتجال في الشعر مع غاية الحسن وأما في فن التاريخ فإليه المنتهى مع السلاسة والتناسب وعدم التكلف فيه.
ومات الخواجا المعظم والناخودة المكرم الحاج أحمد أغا بن ملا مصطفى الملطيلي كان من أعيان التجار المشهورين وأرباب أهل الوجاهة المعتبرين عمدة في بابه عدة لاحبابه ومن يلوز بجنابه وينتمي لسدته وأعتابه محتشما في نفسه مبجلا بين أبناء جنسه توفي يوم الأربعاء ثاني عشرين القعدة ولم يخلف بعده مثله.
ومات صاحبنا النبيه المفوه الفصيح المتكلم الكاتب المنشيء حسين ابن محمد المعروف بدرب الشمسي وهو أجد أخوة حسن أفندي من بيت المجد والرياسة والشرف والفضيلة وكان من نوادر العصر في لفصاحة واستحضار المسائل الغربية والنكات والفوائد الفقهية والطبية وعنده حرص على صيد الشوارد وأدرك بمصر أوقاتا ولذات في الأيام السابقة قبل أن يخرجهم علي بك من مصر في سنة اثنتين وثمانين ونفيهم إلى الحجاز(2/89)
وبعد رجوعهم في سنة سبع وثمانين ولكن دون ذلك ولم يزل يرفل في حلل السيادة حتى تعلل نحو عشرين يوما وتوفي في شهر رمضان من السنة وصلى عليه بمصلى أيوب بك ودفن عند اسلافه وخلفه من بعده ابنه حسن جربجي الموجود الآن بارك الله فيه ورحم سلفه.
ومات العمدة المفضل والملاد المبجل الشيخ عبد الجواد بن محمد ابن عبد الجواد الأنصاري الجرجاوي الخير المكرم الجواد من بيت الثروة والفضل جدوده مالكية فتحنف كان من أهل المآثر في إكرام الضيوف والوافدين وله حسن توجه مع الله تعالى وأوراد وأذكار وقيام الليل يسهر غالب ليله وهو يتلو القرآن والاحزاب ووردة مصر مرارا وفي آخره انتقل إليها بعياله واشترى منزلا واسعا بحارة كتامة المعروفة الآن بالعينية وصار يتردد في دروس العلماء مع إكرامهم له ثم توجه إلى الصعيد ليصلح بين جماعة من عرب العسيرات فقتلوه غيلة في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات الأمير المبجل صالح فندي كاتب وجاق التفجية وهو من مماليك إبراهيم كتخدا القازدغلي نشأ من صغره في صلاح وعفة وحبب إليه القراءة وتجويد الخط فجوده على حسن أفندي الضيائي والأنيس وغيرهما حتى مهر فيه وأجازوه على طريقتهم واصطلاحهم واقتنى كتبا كثيرة وكان منزله مأوى ذوي الفضائل والمعارف وله اعتقاد حسن وحب في المرحوم الوالد ولا ينقطع عن زيارته في كل جمعة مرة أو مرتين وكان مترهفا في مأكله وملبسه معتبرا في ذاته وجيها منور الوجه والشيبة له من اسمه نصيب وعنده حزم ومماليكه أحمد ومصطفى تمرض نحو سنة وعجز عن ركوب الخيل وصار يركب حمارا عاليا ويستند على اتباعه ولم يزل حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى وأنقضت هذه السنة(2/90)
واستهلت سنة خمس ومائتين وألف.
في حادي عشر المحرم ورد أغا وعلى يده تقرير لإسمعيل باشا على السنة الجديدة فعملوا له موكبا وطلع إلى القلعة وقرىء المقرر بحضرة الجمع وضربوا له مدافع.
وفي ذلك اليوم قبض إسمعيل بك على المعلم يوسف كساب معلم الدواوين وأمر بتغريقه في بحر النيل.
وفي صبحها نفوا صالحا أغا أغات الارنؤد قيل أن السبب في ذلك أنه تواطأ مع الأمراء القبالي بواسطة المعلم يوسف المذكور على أنه يملكهم المراكب الرومية والقلاع التي بناحية طرا والجيزة وعملوا له مبلغا من المال التزم به الذمي يوسف وكتب على نفسه تمسكا بذلك.
وفيه كثر تعدى أحمد أغا الوالي علىأهل الحسينية وتكرر قبضه وايذاؤه لأناس منهم بالحبس والضرب وأخذ المال بل ونهب بعض البيوت وأرسل في يوم الجمعة ثاني عشرينه أعوانه بطلب أحمد سالم الجزار شيخ طائفة البيومية وله كلمة وصولة بتلك الدائرة وأرادوا القبض عليه فثارت طوائفه على أتباع الوالي ومنعوه منهم وتحركت حميتهم عند ذلك وتجمعوا وانضم إليهم جمع كثير من أهل تلك النواحي وغيرها وأغلقوا الأسواق والدكاكين وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول وقفلوا أبواب الجامع وصعدوا على المنارات وهم يصرخون ويصيحون ويضربون على الطبول وأبطلوا الدروس فقال لهم الشيخ العروسي أنا أذهب إلى إسمعيل بك في هذا الوقت وأكلمه في عزل الوالي وتخلص منهم بذلك وذهب إلى إسمعيل بك فاعتذر بأن الوالي ليس من جماعته بل هو من جماعة حسن بك الجداوي وأمر بعض اتباعه بالذهاب إليه واخباره بجمع الناس والمشايخ وطلبهم عزل الوالي فلم يرض بذلك(2/91)
وقال: إن كان أنا أعزل الوالي تابعي يعزل هو الآخر الاغا تابعه ويعزل رضوان كتخدا المجنون من المقاطعة ويرفع مصطفى كاشف من طرا ويطرد عسكر القليونجية والارنؤد وترددت بينهم الرسل بذلك ثم ركب حسن بك وخرج إلى ناحية العادلية مثل المغضب وصار أحمد أغا الوالي يركب بجماعة كثيرة ويشق من المدينة ليغيظ العامة وكذلك يجمع من العامة خلائق كثيرة ووقع بينه وبينهم بعض مناوشات في مروره وانجرح بينهم جماعة وقتل شخصان ثم ركب المشايخ وذهبوا إلى بيت محمد أفندي البكري وحضر هناك إسمعيل بك وطيب خاطرهم والتزم لهم بعزل الوالي ومر الوالي في ذلك الوقت على بيت الشيخ البكري وكثير من العامة مجتمع هناك ففزع فيهم بالسيف وفرق جمعهم وسار من بينهم وذهب في طريقه ثم زاد الحال وكثرت غوغاء الناس ومشوا طوائف يأمرون بغلق الدكاكين واجتمع بالأزهر الكثير منهم واستمرت هذه القضية إلى يوم الثلاثاء ثالث صفر ثم طلع إسمعيل بك والأمراء إلى القلعة واصطلحوا على عزل الوالي والآغا وجعلوهما صنجقين وقلدوا خلافهما الاغا من طرف إسمعيل بك والوالي من طرف حسن بك ونزل الوالي الجديد من الديوان إلى الأزهر وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم ثم ركب إلى بيته وانفض الجمع وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكب حمارا ركب فرسا.
وفي ليلة الجمعة خامس شهر صفر غيمت السماء غيما مطبقا وسحت امطار غزيرة كأفواه القرب مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان يخطف بالابصار مستديم الاشتعال واستمر ذلك بطول ليلة الجمعة ويوم الجمعة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحراء وخارج باب النصر وهدمت التراب وخسف القبور وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج إلى المدينة فحصل لهم غاية المشقة وأخذ السيل صيوان أمير الحاج بما فيه وانحدر به من الحصوة(2/92)
إلى بركة الحج وكذلك خيام الأمراء وغيرهم وسالت السيول من باب النصر ودخلت البلد وامتلأت الوكائل بالمياه وكذلك جامع الحاكم وقتلت أناس في حواصل الخانات وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة بالامواج وأنهدم من دور الحسينية أكثر من النصف وكان امرا مهولا جدا.
وفيه حصل أيضا كائنة عبد الوهاب أفندي بشناق الواعظ وذلك أنه مات رجل من البشانقة من أهل بلده وكان قد جعله وصيا على تركته فاستولى عليها واستأصلها وكان للرجل المتوفي شركة بناحية الأسكندرية فسافر المذكور إلى الأسكندرية وحاز باقي التركة أيضا ورجع إلى مصر وحضر الوارث وطالبه بتركة مورثه فأظهر له شيئا نزرا فذهب الوارث إلى القاضي فدعاه القاضي وكلمه في ذلك فقال له أنا وصي مختار وأنا مصدق وليس عندي عندي خلاف ما سلمته له فقال له القاضي أنه يدعى عليك بكذا وكذا وعنده اثبات ذلك وطال بينهما الكلام وتطاول على القاضي واستجهله فطلع القاضي إلى الباشا وشكا له فأمر باحضاره فحضر في جمع الديوان وناقشوه فلم يتزلزل عن عناده إلى أن نسب الكل إلى الانحراف عن الحق فحنق الباشا منه وأمر برفعه من المجلس فقبضوا عليه وجروه وضربوه ورموا بتاجه إلى الأرض وحبسوه في مكان وصادف أيضا ورود مكتوب من ناحية المدينة من مفتيها كان أرسله المذكور إليه لسبب من الأسباب وذكر فيه الباشا بقوله التعيس الحربي وكذلك الأمراء بنحو ذلك فأرسله المفتي وأعاده على يد بعض الناس إلى إسمعيل بك حقدا منه عليه لكراهة خفية بينهما سابقة وأوصلة إسمعيل بك أيضا إلى الباشا فازداد غيظا وأرعد وأبرق وأحضر بشناق أفندي من محبسه وقت القائلة وأراه ذلك المكتوب فسقط في يده واعتذر فلطمه على وجهه ونتف لحيته وأراد أن يضربه بخنجره فشفع فيه أكابر أتباعه ثم أخذوه وسجنوه وامر بمحاسبته على ما أخذه من التركة فحوسب وطولب وبقي بالحبس حتى وفي ما طلع عليه وشفع فيه علي بك الدفتردار وخلصه من الترسيم(2/93)
وفي أواخر صفر قلدوا أحمد بك الوالي المذكور كشوفية الدقهلية وعثمان بك الحسني الغربية وشاهين بك شرقي بلبيس وعلي بك جركس المنوفية وصار جماعة أحمد بك واتباعه عند سفرهم يخطفون دواب الناس من الأسواق وخيول الطواحين ولما سرحوا في البلاد حصل منهم ما لا خير فيه من ظلم الفلاحين مما هو معلوم من أفعالهم.
وفي شهر ربيع الأول كمل بناء بيت إسمعيل بك وبياضه وأتمه على هيئة متقنة وترتيب في الوضع ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه وبنى به مقعدا عظيما متسعا ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمراء في ضخامته وعظمه وهو في جهة البركة وغرس بجانبه بستانا عظيما وظن أن الوقت قد صفا له.
وفي اواخر شهر جمادى الأولى أشيع في الناس أن في ليل السابع والعشرين نصف الليل يحصل زلزلة عظيمة وتستمر سبع ساعات ونسوا هذا القول إلى أخبار بعض الفلكيين من غير أصل واعتقده الخاصة فضلا عن العامة وصمموا على حصوله من غير دليل لهم على ذلك فلما كانت تلك الليلة خرج غالب الناس إلى الصحراء وإلى الأماكن المتسعة مثل بركة الازبكية والفيل وخلافهما ونزلوا في المراكب ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله وباتوا ينتظرون ذلك إلى الصباح فلم يحصل شيء وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم.
وفيه ابتدأ أمر الطاعون وداخل الناس منه وهم عظيم.
وفيه قلدوا عبد الرحمن بك عثمان وجعلوه صنجق الخزينة وشرعوا في تشهيله واجتهد إسمعيل بك في سفر الخزينة على الهيئة القديمة ولبس المناصب والسدادة وأرباب الخدم وقد بطل هذا الترتيب والنظام من نيف وثلاثين سنة فأراد إسمعيل بك اعادته ليكون له بذلك منقبة ووجاهة عند دولة بني عثمان فلم يرد الله بذل وعاجله الرجز(2/94)
وفي شهر رجب زاد أمر الطاعون وقوى عمله بطول شهر رجب وشعبان وخرج عن حد الكثرة ومات به ما لا يحصى من الاطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء ومن أمراء الالوف الصناجق نحو اثنى عشر صنجقا ومنهم إسمعيل بك الكبير المشار إليه وعسكر القليونجية والارنؤد الكائنون ببولاق ومصر القديمة والجيزة حتى كانوا يجفرون حفر المن بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها وكان يخرج من بيت الأمير في المشهد الواحد الخمسة والستة والعشرة وازدحموا على الحوانيت في طلب العدد والمغسلين والحمالين ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمسة والعشرة ويتضاربون على ذلك ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضا أو ميتا أو عائدا أو معزيا أو مشيعا أو راجعا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولا في تجهيز ميت أو باكيا على نفسه موهوما ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات ولا يصلي إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة وندر جدا من يشتكي ولا يموت وندر أيضا ظهور الطعن ولم يكن بحمي بل يكون الإنسان جالسا فيرتعش من البرد فيدثر فلا يفيق إلا مخلطا أو يموت من نهاره أو ثاني يوم وربما زاد أو نقص أو كان بخلاف ذلك وكان شبيها بفصل البقر الذي تقدم واستمر عمله إلى أوائل رمضان ثم ارتفع ولم يقع بعد ذلك إلا قليلا نادرا ومات الاغا والوالي في اثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما فماتا أيضا واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة ولما مات إسمعيل بك تنازع الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار ثم اتفقوا على تامير عثمان بك طبل تابع إسمعيل بك على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده وقلدوا حسن بك قصبة رضوان أمير حاج ثم أنهم أظهروا الخوف والتوبة والاقلاع وابطإل الحوادث والمظالم وزيادات المكوس ونادوا بذلك وقلدوا أمراء عوضا عن المقبورين من مماليكهم(2/95)
وفي غرة رمضان حضر ططرى وعلى يده مرسوم بعزل إسمعيل باشا ولن يتوجه إلى الموره وأن باشة الموره محمد باشا الذي كان بجدة في العام الماضي المعروف بعزت هو وإلى مصر فعملوا الديوان وقرئت المرسومات فقال الأمراء لا نرضى بذهابك من بلدنا وأنت أحسن لنا من الغريب الذي لا نعرفه فقال: وكيف يكون العمل ولا يمكن المخالفة فقالوا: نكتب عرضحال إلى الدولة ونرجو تمام ذلك فقال: لا يتم ذلك فإن المتولي كأنكم به وصل إلى الأسكندرية وعزم على النزول صبح تاريخه ثم أنهم اتفقوا على كتابه عرضحال بسبب تركة إسمعيل بك خوفا من حضور معين بسبب ذلك وعين للسفرية الشيخ محمد الأمير.
وفي يوم الخميس خامس عشر رمضان نزل الباشا من القلعة إلى بولاق وقصد السفر على الفور وطلب المراكب وأنزل بها متاعة ويرقه فلما رأوا منه العجلة وعدم التأني وقصدهم تأخيره إلى حضور الباشا الجديد ويحاسب على ما دخل في جهته فاجتمعوا عليه صحبة الاختيارية وكلموه في الثاني فعارضهم وعاندهم وصمم على السفر من الغد فاغلظوا عليه في القول وقالوا له هذا غير مناسب يقال: إن الباشا أخذ مال مصر وهرب فقال وأي شيء أخذته منكم قالوا له لا بد من عمل حساب فإن الحساب لا كلام فيه ولا بد من التاني حتى نعمل الحساب فقال: أنا ابقى عندكم الكتخدا فحاسبوه نيابة عني والذي يطلع لكم في طرفي خذوه منه فلم يرضوا بذلك فقال: أنا لا بد من سفري أما اليوم أو غدا فقاموا من عنده على غير رضا وأرسلوا الوالي والأغا يناديان على ساحل البحر على المراكب بأن كل من سافر بشيء من متاع الباشا أو بأحد من اتباعه يستاهل الذي يجري عليه وطردوا النواتية من المراكب ولم يتركوا في كل مركب إلا شخصا واحدا نوتيا فقط وتركوا عند بيت الباشا جماعة حراسا.
وفيه حضر خازندار الباشا الجديد وأخبر بوصول مخدومه إلى ثغر الأسكندرية ومعه خلعة القائمقامية لعثمان بك طبل ومكاتبة إلى الأمراء(2/96)
بعدم سفر الملاقة وأربا الخدم على العادة وأخبر أنه واصل إلى رسيد في البحر بالنقاير فنزل لملاقاته اغات المتفرقة فقط.
وفيه رفعوا مصطفى كاشف من طرا وعملوه كتخدا عثمان بك شيخ البلده.
وفيه أشيع بأن عبد الرحمن بك الإبراهيمي حضر من طريق الشام ومر من خلف الجبل وذهب إلى سيده بالصعيد.
وفي غرة شوال يوم الجمعة وليلة السبت حضر الباشا الجديد إلى ساحل بولاق فعملوا له اسقالة وركب الأمراء وعدوا إلى برأنبابة وسلموا عليه وعدي صحبتهم وركب إلى قصر العيني واوكب في يوم الإثنين رابعة في موكب أقل من العادة بكثير إلى القلعة من ناحية الصليبة وضربوا له مدافع من القلعة.
وفي ذلك اليوم سافر الشيخ محمد الأمير بالعرضحال وكانوا آخروا سفره إلى أن وصل الباشا الجديد وغيره بعد أن عرضوا عليه الأمر ثم أنهم عملوا حساب الباشا المعزول فطلع عليه للباشا المتولي مائتا كيس من ابتداء منصبه وهو سابع عشر رجب وللامراء مبلغ أيضا فسدد ذلك بعضه أوراق وبعضه نقد وبعضه أمتعة وأذنوا له بالسفر فشرع في نزول متاعه بالمراكب بطول يوم الخميس والجمعة وأراد أن يسافر يوم السبت ففي تلك الليلة وصل بشلي من الروم وبيده مرسوم فعمل الباشا في صبحها ديوانا حضر فيه المشايخ والأمراء وأبرز الباشا المرسوم فكان مضمونه محاسبة الباشا المعزول من ابتداء شهر توت واستخلاص ما تاداه من ابتداء المدة فعند ذلك ارسلوا ثانيا وحجروا عليه ونكتوا عزاله من المراكب وحبسوا النواتية ونادوا عليه ثاني مرة وذلك في سادس عشره.
وفيه تواردت الأخبار بأن الأمراء القبالي تحركوا إلى الحضور إلى مصر فإنه لما حصل ما حصل من موت إسمعيل بك والأمراء حضر مراد بك من اسيوط إلى المنية وانتشر باقي الأمراء في المقدمة وعدي بعضهم إلى الشرق ووصلت أوائلهم إلى كفر العياط وأما إبراهيم بك فإنه لم يزل مقيما(2/97)
بمنفلوط ومنتظرا ارتحال الحجاج ثم يسير إلى جهة مصر فأرسلوا علي بك الجديد إلى طرا عوضا عن مصطفى كاشف وأرسلوا صالح بك إلى الجيزة وأخذوا في الاهتمام.
وفيه حفر خندق من البحر إلى المتاريس وفردوا فلاحين على البلاد للحفر مع اشتغالهم بأمور الحج ودعوا هم نقص مال الصرة وتعطيل الجامكية المضافة لدفتر الحرمين وتوجيه المعينين من القليونجية على الملتزمين.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه حضر السيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي بمكاتبة من الأمراء القبليين خطابا إلى شيخ البلد والمشايخ وللباشا سرا.
وفيه سافر إسمعيل باشا المنفصل من بولاق بعد أن ادى ما عليه.
وفي يوم الإثنين خامس عشرنيه خرج المحمل صحبة أمير الحاج حسن بك قصبة رضوان.
وفي يوم الثلاثاء اجتمعوا بالديوان عند الباشا وقرئت المكاتبات الواصلة عن الأمراء القبليين فكان حاصلها أننا في السابق طلبنا الصلح مع أخواننا والصفح عن الأمور السالفة فأبى المرحوم إسمعيل بك ولم يطمئن لطرفنا وكل شيء نصيب والأمور مرهونة بأوقاتها والآن اشتقنا إلى عيالنا وأوطاننا وقد طالت علينا الغربة وعزمنا على الحضور إلى مصر علىوجه الصلح وبيدنا أيضا مرسوم من مولانا السلطان وصل إلينا صحبة عبد الرحمن بك بالعفو والرضا والماضي لا يعاد ونحن أولاد اليوم وأن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا فلما قرئت تلك المكاتبة التفت الباشا إلى المشايخ العروسي أن كان التفاقم بينهم وبين أمرائنا المصرية الموجودين الآن فاننا نترجى عندهم وأن كان ذلك بينهم وبين السلطان فالأمر لنائب مولانا السلطان ثم اتفق الرأي على كتابة جواب حاصله أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه وذكرتم أنكم تائبون وقد تقدم منكم هذا القول مرارا ولم نر له أثرا فإن شرط التوبة رد المظالم وأنتم لم تفعلوا ذلك ولم ترسلوا ما عليكم من الميري(2/98)
في هذه المدة فإن كان الأمر كذلك فترجعوا إلى أماكنكم وترسلوا المال والغلال ونرسل عرضحال إلى الدولة بالاذن لكم فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوا بسيفهم ولا بقوتهم وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك فأننا الجميع تحت الأمر وعلم على ذلك الجواب الباشا والمشايخ وسلموه إلى السيد عمر وسافر به في يوم الثلاثاء المذكور ثم اشتغلوا بمهمات الحج وادعوا نقص مال الصرة ستين كيسا ففردوها على التجار ودكاكين الغورية وارتحل الحاج من الحصوة وصحبته الركب الفاسي وذلك يوم السبت غايته وبات بالبركة وارتحل يوم الأحد غرة ذي القعدة.
وفي ذلك اليوم عملوا الديوان بالقلعة ورسموا بنفي من كان مقيما بمصر من جماعة القبليين فنفوا أيوب بك الكبير وحسن كتخدا الجربان إلى طندتا وكتبوا فرمانا بخروج الغريب وفرمانا آخر بالأمن والأمان وأخذهما الوالي والأغا ونادوا بذلك في صبحها في شوارع البلد ونبهوا على تعمير الدروب وقفل ابواب الاطراف وأجلسوا عند كل مركز حراسا.
وفي يوم الخميس نزل الاغا وإمامه المناداة بفرمان على الأجناد والطوائف والمماليك بالخروج إلى الخلاء.
وفيه وصل قاصد من الديار الرومية وهو اغا معين بطلب تركة إسمعيل بك وباقي الأمراء الهالكين بالطاعون فأنزلوه ببيت الزعفراني وكرروا المناداة بالخروج إلى ناحية طراوكل من تاجر بعد الظهر يستحق العقوبة.
وفي تلك الليلة وقت المغرب طلع الأمراء إلى الباشا وأشاروا عليه بالنزول والتوجه إلى ناحية طرا فنزل في صبحها وخرج إلى ناحية طرا كما أشاروا عليه وكذلك خرج الأمراء وطاف الاغا والوالي بالشوارع وهما يناديان على الالضاشات المنتسبين إلى الوجاقات بالصعود إلى القلعة والباقي بالخروج إلى متاريس الجيزة وطلع الاوده باشا الاختيارية وجلسوا في الأبواب(2/99)
وفي يوم السبت أشيع أن الأمراء القبليين يريدون التخريم من وراء الجبل إلى جهة للعادلية فخرج أحمد بك وصالح بك تابع رضوان بك إلى جهة العادلية وأقاموا هناك للمحافظة بتلك الجهة وأرسلوا أيضا إلى غرب العائذ فحضروا أيضا هناك.
وفيه وصل القبليون إلى حلوان ونصبوا وطاقهم هناك وأخذ المصريون حذرهم من خلف متاريس طرا.
وفي يوم الثلاثاء توجه المشايخ إلى ناحية طرا وسلموا على الباشا والأمراء ورجعوا وذلك باشارة الأمراء ليشاع عند الاخصام أن الرعية والمشايخ معهم وبقي الأمر على ذلك إلى يوم الثلاثاء التالي.
وفي صبح يوم الأربعاء نزل الاغا والوالي وإمامهم المناداة على الرعية والعامة الكافة بالخروج في صبح يوم الخميس صحبة المشايخ ولا يتأخر أجد وحضر الشيخ العروسي إلى بيت الشيخ البكري وعملوا هناك جميعة وخرج الاغا من هناك ينادي في الناس ووقع الهرج والمرج وأصبح يوم الخميس فلم يخرج أجد من الناس ووقع الهرج والمرج وأصبح يوم الخميس فلم يخرج أجد من الناس وأشيع أن الأمراء القبليين نزلوا اثقالهم في المراكب وتمنعوا إلى قبلي ويقولون أن قصدهم الرجوع وبقي الأمر عل السكوت بطول النهار والناس في بهتة والأمراء متخيلون من بعضهم البعض وكل من علي بك الدفتردار وحسن بك الجداوي يسيء الظن بالآخر ولم يخطر بالبال مخامرة عثمان بك طبل ولا الباشا فإن عثمان بك تابع إسمعيل بك الخصم الكبير وقد تعين عوضه في إمارة مصر ومشيختها والباشا لم يكن من الفريقين فلما كان الليل تحول الباشا والأمراء وخرجوا إلى ناحية العادلية وأخرجوا شركفلك صحبتهم وجملة مدافع وعملوا متاريس فما فرغوا من عمل ذلك إلا ضحوة النهار من يوم الجمعة وهم واقفون على الخيول فلم يشعروا إلا والأمراء القبالي نازلون من الجبل بخيولهم ورجالهم لكنهم في غاية من الجهد والمشقة فلما نزلوا وجدوا الجماعة والمتاريس إمامهم فتشاور المصريون مع بعضهم(2/100)
في الهجوم عليهم فلم يوافق عثمان بك على ذلك وثبطهم عن الاقدام ورجعوا جميع الحملة إلى مصر ووقفوا على جرائد الخيل فتمنع القبليون وتباعدوا عنهم ونزلوا عند سبيل علام يأخذون لهم راحة حتى يتكاملوا فلما تكاملوا ونصبوا خيامهم واستراحوا إلى العصر ركب مصطفى كاشف صهر حسن كتخدا علي بك وهو من مماليك محمد بك الألفي وصحبته نحو خمسة مماليك وذهب إلى سيده ثم ركب محمد بك المبدول أيضا باتباعه وذهب إلى مراد بك لأنه في الأصل من اتباعه ثم ركب مصطفى كاشف الغزاري وهو أخو عثمان بك طبل شيخ البلد وذهب أيضا إليهم واستوثق لاخيه فكتب له إبراهيم بك بالحضور فلم يتمكن من الحضور إلا بعد العشاء الاخيرة حتى انفرد عن حسن بك وعلي بك فلما فعل ذلك وفارقهما سقط في أيديهما وغشى على علي بك ثم أفاق وركب مع حسن بك وصناجقه وهم عثمان بك وشاهين بك وسليم بك المعروف بالدمرجي الذي تآمر عوضا عن علي بك الحبشي ومحمد بك كشكش وصالح بك الذي تآمر عوضا عن رضوان بك العلوي وعلي بك الذي تآمر عوضا عن سليم بك الإسماعيلي وذهب الجميع من خلف القلعة على طريق طرا وذهبوا إلى قبلي حيث كانت اخصامهم فسبحان مقلب الأحوال ولما حضر عثمان بك وقابل إبراهيم بك ارسله مع ولده مرزوق بك إلى مراد بك فقابله أيضا ثم حضرت إليهم الوجاقلية والاختيارية وقابلوهم وسلموا عليهم وشرع اتباعهم في دخول مصر بطول ليلة السبت حادي عشرين شهر القعدة ولما طلع النهار دخلت أتباعهم بالحملات والجمال شيء كثير جدا ثم دخل إبراهيم وشق المدينة ومعه صناجقة ومماليكه وأكثرهم لابسون الدروع ثم دخل بعده سليمان بك والأغا واخوه إبراهيم بك الوالي ثم عثمان بك الشرقاوي وأحمد بك الكلارجي وأيوب بك الدفتردار ومصطفى بك الكبير وعلي أغا وسليم أغا وقائد أغا وعثمان بك الاشقر الإبراهيمي وعبد الرحمن بك الذي كان باسلامبول وقاسم بك(2/101)
الموسقو وكشافهم وأغواتهم وأما مراد بك فإنه دخل من على طريق الصحراء ونزل على الرميلة وصحبته عثمان بك الإسماعيلي شيخ البلد وامراؤه وهم محمد بك الألفي وعثمان بك الطنبرجي الذي كان باسلامبول أيضا وكشافهم وأغواتهم واستمر انجرارهم إلى بعد الظهر خلاف من كان متاخرا أو منقطعا فلم يتم دخولهم إلا في ثاني يوم وأما مصطفى أغا الوكيل فإنه التجأ إلى الباشا وكذلك مصطفى كاشف طرا فأخذهما الباشا صحبته وطلعا إلى القلعة ودخل الأمراء إلى بيوتهم وباتوا بها ونسوا الذي جرى وأكثر البيوت كان بها الأمراء الهالكون بالطاعون وبقي بها نساؤهم ومات غالب نساء الغائبين فلما رجعوا وجدوها عامرة بالحريم والجواري والخدم فتزوجوهن وجددوا فراشهم وعملوا اعراسهم ومن لم يكن له بيت دخل ما أحب من البيوت وأخذه بما فيه من غير مانع وجلس في مجالس الرجال وانتظر تمام العدة أن كان بقي منها شيء واورثهم الله ارضهم وديارهم وأموالهم وأزواجهم.
وفي يوم الأحد ركب سليم أغا ونادى على طائفة القليونجية والارنؤذ والشوام بالسفر ولا يتأخر أجد وكل من وجد بعد ثلاثة أيام استحق ما ينزل به ثم أن المماليك صاروا كل من صادفوه منهم أو رأوه أهانوه وأخذوا سلاحه فاجتمع منهم طائفة وذهبوا إلى الباشا فأرسل معهم شخصا من الدلاة أنزلهم إلى بولاق في المراكب وصار أولاد البلد والصغار يسخرون بهم ويصفرون عليهم بطول الطريق وسكن مراد بك ببيت إسمعيل بك وكأنه كان يبنيه من أجله.
وفي يوم الإثنين أيضا طاف الأغا وهو ينادي على القليونجية والارنؤد.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه صعد الأمراء إلى القلعة وقابلوا الباشا وكانوا يروه ولم يرهم قبل ذلك اليوم فخلع عليهم الخلع ونزلوا من عنده وشرعوا في تجهيز تجريدة إلى الهاربين لأنهم حجزوا ما وجدوه من مراكبهم وأمتعتهم وكتب الباشا عرضحال في ليلة دخولهم وأرسله صحبة(2/102)
واحد ططرى إلى الدولة بحقيقة الحال وعينوا التجريدة إبراهيم بك الولي وعثمان بك المرادي متقلدا امارة الصعيد وعثمان بك الاشقر وأحضر مراد بك حسن كتخدا علي بك بأمان وقابله وقيده بتشهيل التجريدة وعمل البقسماط ومصروف البيت من اللحم والخبز والسمن وغير ذلك ووجه عليه المطالب حتى صرف ما جمعه وحواه وباع متاعه وأملاكه ورهنها واستدان ولم يزل حتى مات بقهره وقلدوا علي أغا مستحفظان سابقا وجعلوه كتخدا الجاويشية.
وفي حادي عشرين شهر الحجة الموافق لسابع عشر مسرى القبطي أوفي النيل أذرعه ونزل الباشا إلى قصر السد وحضر القاضي والأمراء وكسر السد بحضرتهم وعملوا الشنك المعتاد وجرىالماء في الخليج ثم توقفت الزيادة ولم يزد بعد الوفاء إلا شيئا قليلا ثم نقص واستمر يزيد قليلا وينقص إلى الصليب فضجت الناس وتشحطت الغلال وزاد سعرها وانكبوا على الشراء ولاحت الوائح الغلاء.
وفيه أيضا شرع الأمراء في التعدي على أخذ البلاد من أربابها من الوجاقلية وغيرهم وأخذوا بلاد أمير الحاج.
وفيه صالح الباشا الأمراء على مصطفى أغا الوكيل وأخلوا له داره وقد كان سكن بها عثمان بك الاشقر فاخلاه له إبراهيم بك ونزل من القلعة إليه ولازم إبراهيم بك ملازمة كلية وكذلك مصطفى كاشف الذي كان يطرا لازم مراد بك واختص به وصار جليسه ونديمه.
من مات في هذه السنة من الأعيان.
ومات شيخنا علم الأعلام والساحر اللاعب بالافهام الذي جاب في اللغة والحديث كل فج وخاض من العلم كل لج المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والاقلام ذو المعرفة والمعروف وهو العلم الموصوف العمدة الفهامة والرحلة النسابة الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي الناظم الناثر(2/103)
الشيخ أبو القبض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي هكذا ذكر عن نفسه ونسبه ولد سنة خمس واربعين ومائة وألف كما سمعته من لفظه ورايته بخطه ونشأ ببلاده وارتحل في طلب العلم وحج مرارا واجتمع بالشيخ عبد الله السندي والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي وعبد الله السقاف والمسند محمد ابن علاء الدين المزجاجي وسليمان بن يحيى وابن الطيب واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة وبالشيخ عبد الله ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين ونزل بالطائف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين فقرأ على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيرا من مؤلفاته واجازه وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد ولازمه ملازمة كلية والبسه الخرقة واجازه بمروياته ومسموعاته قال وهوالذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وادبائها وما فيها من المشاهد الكرام فاشتاقت نفسي لرؤياها وحضرت مع الركب وكان الذي كان وقرأ عليه طرفا من الاحياء واجازه بمروياته ثم ورد إلى مصر في تاسع سفر سنة سبع وستين ومائة وألف وسكن بخان الصاغة وأول من عشرة وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم وتلقي عنهم واجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه واعتنى بشأنه إسمعيل كتخدا عزبان ووالاه بره حتى راج أمره وترونق حاله واشتهر ذكره عند الخاص والعام ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه وأكرمه شيخ العرب همام وإسمعيل أبو عبد الله وأبو علي وأولاده نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مرارا حين كانت مزينة بأهلها عامره بأكابرها وأكرمه الجميع واجتمع بأكابر النواحي(2/104)
وأرباب العلم والسلوك وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظما نثرا لو جمعت كانت مجلدا ضخما وكناه سيدنا السيد أبو الأنوار بن وفا بابي الفيض وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا يوم زيارة المولد المعتاد ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنه بوكالة الصاغة وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلدا وسماه تاج العروس ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية وذلك في سنة احدى وثمانين ومائة وألف وأطلعهم عليه وأغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة وكتبوا عليه تقاريظهم نثرا ونظما فمن قرظ عليه شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي والشيخ أحمد الدردير والسيد عبد الرحمن العيدروس والشيخ محمد الأمير والشيخ حسن الجداوي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عطية الاجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الزيات والشيخ محمد عبادة والشيخ محمد العوفي والشيخ حسن الهواري والشيخ أبو الأنوار السادات والشيخ علي القناوي والشيخ علي خرائط والشيخ عبد القادر بن خليل المدني والشيخ محمد المكي والسيد علي القدسي والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا والشيخ علي الشاوري والشيخ محمد الخربتاوي والشيخ عبد الرحمن المقرى والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي وهو آخر من قرظ عليه وكنت إذ ذاك حاضرا وكتبه نظما ارتجالا وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربع وتسعين ومائة وألف.
ولما أنشأ محمد بك أبو الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر وعمل فيه خزانة للكتب واشترى جملة من الكتب ووضعها بها أنهوا إليه شرح القاموس هذا وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت(2/105)
بذلك دون غيرها ورغبوه في ذلك فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة ووضعه فيها ولم يزل المترجم يخدم العلم ويرقى في درج المعالي ويحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون كعلم الإنسان والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين وألف في ذلك كتبا ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين ومائة وألف وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه وهو يظهر لهم الغنى والتعفف ويعظهم ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقي ويجيزهم بقراءة أوراد واحزاب فأقبلوا عليه من كل جهة واتوا إلى زيارته من كل ناحية ورغبوا في معاشرته لكونه غريبا وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم ويعرف باللغة التركية والفارسية بل وبعض لسان الكرج فأنجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه ثم شرع في املاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة المخرجين من حفظه على طرق مختلفة وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالاولية وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه ويكتب له سندا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك ثم أن بعض علماء الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة فقال لهم: لا بد من قراءة أوائل الكتب واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الإثنين والخميس تباعدا عن الناس فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخوني واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني إمام المسجد وخازن الكتب وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها وتناقل في الناس سعى علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ مصطفى الطائي والشيخ سليمان الأكراشي وغيرهم للأخذ عنه فازداد شأنه وعظم قدره واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والاكابر والأعيان(2/106)
والتمسوا منه تبيين المعاني فانتقل من الرواية إلى الدراية وصار درسا عظيما فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية وقد استغنى عنهم هو أيضا وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثا من المسلسلات أو فضائل الأعمال ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين وافتتح درسا آخر في مسجد الحنفي وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر فازدادت شهرته وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من اجله ولائم فاخرة فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرىء والمستملي وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئا من الاجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل واصحابه واحبابه وأولاده وبناته ونسائه من خلف الستائر وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ ويكتب الشيخ تحت ذلك صحيح ذلك وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة.
يقول الحقيراني كنت مشاهدا وحاضرا في غالب هذه المجالس والدروس ومجالس آخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق وأماكن آخر كنا نذهب إليها للنزاهة مثل غيط المعدية والازبكية وغير ذلك فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك الأسكندراني وأيوب بك الدفتردار فسعوا إلى منزله وترددوا لحضور مجالس دروسه(2/107)
وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال واشترى الجواري وعمل الاطعمة للضيوف وأكرم الواردين والوافدين من الافاق البعيدة وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر وسمع به فحضر إليه والتمس منه الاجازة وقراء مقامات الحريري فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده واصعده إليه وخلع عليه فروة سمور ورتب له تعيينا من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبر ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة وغلالا من الانبار وأنهى إلى الدولة شانه فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفا فضة في كل يوم وذلك في سنة احدى وتسعين ومائة وألف فعظم أمره وانتشر صيته وطلب إلى الدولة في سنة أربع وتسعين فأجاب ثم امتنع وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق وطار ذكره في الافق وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة وكثرت عليه الوفود من كل ناحية وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها راس العجل وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد فوقع لهم موقعا وكذلك ارسلوا له من طيور الببغا والجواري والعبيد والطواشية فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها ويأتيه في مقابلتها اضعافها وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة وماء الكادي والمربيات والعود والعنبر والعطرشاه بالارطال وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى حتى أن احدهما إذا ورد إلى مصر حاجا ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملا فإذا ورد عليه احدهم سأله(2/108)
عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده وحفظ ذلك أو كتبه ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده فيقول له فلان من بلدة كذا فلا يخلو ما أن يكون عرفه من غيره سابقا أو عرف جاره أو قريبه فيقول له فلان طبيب فيقول نعم سيدي ثم يسأله عن اخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئا ما فضة أو تمرا أو شمعا على قدر فقره وغناه وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها ويلتمسون منه الاجوبة فمن ظفر منم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة وحفظها معه كالتميمة ويرى أنه قد قبل حجه والا فقد باء بالخيبة والندامة وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده ودامت حسرته إلى يوم ميعاده وقس على ذلك ما لم يقل وشرع في شرح كتاب إحياء العلوم للغزالي وبيض منه اجزاء وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس ويرغب في طلبه واستنساخه وماتت زوجته في سنة ست وتسعين فحزن عليها حزنا كثيرا ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية وعمل على قبرها مقاما ومقصورا وستورا وفرشا وقناديل ولازم قبرها أياما كثيرة وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو والقهوة والشربات واشترى مكانا بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتا صغيرا وفرشه واسكن به امها ويبيت به احيانا وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه.
ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها واحرزت ما جمعه من مال وغيره ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام وكثرت عليه الوفود من سائر الاقطار وأقبلت عليه(2/109)
الدنيا بحذافيرها من كل ناحية لزم داره واحتجب عن اصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الاغراض وترك الدروس والأقراء واعتكف بداخل الحريم وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهره وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين أربا من البر وإحمالا من الأرز والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال نقود وبقج كساوى أقمشة هندية وجوخا وغير ذلك فردها وكان ذلك في رمضان وكذلك مصطفى بك الأسكندراني وغيرهما وحضر إليه فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما ورجعا من غير أن يواجهاه ولما حضر حسن باشاالصور التي حضر فيها إلى مصر لم يذهب إليه بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به وقدم له حصانا معدودا مرختا بسرج وعباءة قيمته ألف دينار أعده وهياه قبل ذلك وكانت شفاعته عنده لا ترد وأن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والاجلال وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها في الحال وأرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوبا وذكر له في أنه المهدي المنتظر وسيكون له شأن عظيم فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الإحراز والتمائم فكان يسر بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعى المعارف في الجفور والزايرجات ويعتقد صحته بلا شك ومن قدم عليه من جهة مصر واجمع سأله عن المترجم فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء احبه وأكرمه وأجزل صلته وأن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وابعده ومنع عنه بره ولو كان من أهل الفضائل واشتهر ذلك عنه عند من عرف منه ذلك بالفراسة ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما واتفق أن مولاي محمدا سلطان المغرب رحمه الله وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء فأرسل له في سنة احدى ومائتين صلة لها قدر فردها وتورع عن قبولها وضاعت(2/110)
ولم ترجع إلى السلطان وعلم السلطان ذلك من جوابه فأرسل إليه مكتوبا قرأته وكان عندي ثم ضاع في الأوراق ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة ويقول له: إنك رددت الصلة التي ارسلناها اليك من بيت مال المسلمين وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين فيكون لنا ولك اجر ذلك إلا انك رددتها وضاعت ويلومه أيضا على شرحه كتاب الإحياء ويقول له: كان ينبغي أن تشغل وقتك بشيء نافع غير ذلك ويذكر وجه لومه له في ذلك وما قاله العلماء وكلاما مفحما مختصرا مفيدا رحمه الله تعالى وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الاحياء تأليفات كثيرة منها كتاب الجواهر المنيفة في اصول ادلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مما وافق فيه الأئمة الستة وهو كتاب نفيس حافل رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روى عنه في الأعتقاديات ثم في العمليات على ترتيب كتب الفقه والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية جمع فيه أسانيد العيدروس وهي في نحو عشرة كراريس والعقد الثمين في طرق الالباس والتلقين وحكمة الأشراق إلى كتاب الآفاق وشرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراسا ألفها لعلي أفندي درويش وألف بأسمه أيضا التفتيش في معنى لفظ درويش ورسائل كثيرة جدا منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وابى الوفا وبلغة الاريب في مصطلح آثار الحبيب وأعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلمام بشرح صيغة سيدي عبد السلام ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق والقول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت وتنسيق قلائد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن ولقط اللالى من الجوهر الغالي وهي في اسانيد الأستاذ الحفني وكتب له إجازته عليها في سنة سبع وستين وذلك سنة قدومه إلى مصر والنوافح المسكية علىالفوائح الكشكية وجزء في(2/111)
حديث نعم الأدام الخل وهدية الاخوان في شجرة الدخان ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الالهية واتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتي هود والمربى الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية ورسالة في المناشي والصفين وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس وتفسير على سورة يونس مستقل على لسان القوم وشرح على حزب البر الشاذلي وتكملة على شرح حزب البكري الفاكهي من أوله فكمله للشيخ أحمد البكري ومقامة سماها إسعاف الأشراف وارجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي وحديقة الصفا في والدي المصطفى وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي ورسالة في طبقات الحفاظ ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي وليس من الكرام إلى آخره وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والاحزاب صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة والمنح العلية في الطريقة النقشبندية والانتصار لوالدي النبي المختار وألفية السند ومناقب اصحاب الحديث وكشف اللثام عن آداب الايمان والاسلام ورفع الشكوى لعالم السر والتزجوى وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب ورفع الكلل عن العلل ورسالة سماها قلنسوة التاج الفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي وذلك لما اكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر وذلك في سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الاجهوري ويكتب عليها تقريظا ففعل ذلك وكتب إليه يستجيزه فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج وأصيب بالطاعون في شهر شعبان وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره فطعن بعد ما فرغ من الصلاة ودخل إلى البيت واعتقل لسانه تلك الليلة وتوفي يوم الأحد فأخفت زوجته وأقاربها موته(2/112)
حتى نقلوا الاشياء النفيسة والمال والذخائر والأمتعة والكتب المكلفة ثم اشاعوا موته يوم الإثنين فحضر عثمان بك طبل الإسماعيلي ورضوان كتخدا المجنون وادعى أن المتوفي أقامه وصيا مختارا وعثمان بك ناظرا بسبب أن زوج اخت الزوجة من اتباع المجنون يقال له: حسين أغا فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق أخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج وخرجوا بجنازته وصلوا عليه ودفن بقبر أعده لنفسه ذلك اليوم لاشتغال الناس بأمر الطاعون وبعد الخطة ومن علم منهم وذهب بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية ولم يعلم بموته أهل الأزهر لم يدرك الجنازة ومات رضوان كتخدا في أثر ذلك واشتغل عثمان بك بالامارة لموت سيده أيضا واهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربها متروكاته ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة إلى دراهم ونسى أمره شهورا حتى تغيرت الدولة وتملك الأمراء المصريون الذين كانوا بالجهة القبلية وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من اتباعهم فعند ذلك فتحوا التركة بوصاية الزوجة من طرف القاضي خوفا من ظهور وارث وأظهروا ما انتفوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات وباعوها بحضره الجمع فبلغت نيفا ومائة ألف نصف فضة فأخذ منها بيت المال شيئا واحرز الباقي مع الأول وكانت مخلفاته شيئا كثيرا جدا أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته فأدخلوه إليه فوجده راقدا معتقل اللسان وزوجته واصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق إلى الليوان ورأيت كوما عظيما من الاقمشة الهندية والمقصبات والكشميري والفراء من غير تفصيل نحو الحملين وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها قال: ورأيت عدد كثيرا من ساعات العبب الثمينة مبددا على بساط للقاعة وهي بغلافات بلادها قال: فجلست عند رأسه(2/113)
حصة وأمسكت يده ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه فقمت عنه قال ورأيت في الفسحة التي إمام القاعة قدرا كثيرا من شمع العسل الكبير والصغير والكافوري المصنوع والخام وغير ذلك مما لم اره ولم التفت إليه ولم يترك ابنا ولا ابنة ولم يرثه أجد من الشعراء.
وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضاء معتدل اللحية قد وخطه الشيب في أكثرها مترفها في ملبسه ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض ولها عذبة مرخية على قفاه وله حبكه وشراريب حرير طولها قريب من فتر وطرفها الآخر داخل طي العمامة وبعض أطرافه ظاهر وكان لطيف الذات حسن الصفات بشوشا بسوماوقورا محتشما مستحضرا للنوادر والمناسبات ذكيا لوذعيا فطنا المعيا روض فضله نضير وماله في سعة الحفظ نظير جعل الله مثواه قصور الجنان وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران.
ومات الإمام العلامة والحبر المدفق الفهامة ذو الفضائل الجمة والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحوي المعقولي الفقيه النبيه الشيخ عمر لبابلي الشافعي الأزهري تفقه على علماء العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني وتمهر في العلوم وقرأ الدروس وأخذ طريق الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء ولازمه في مجالسه وأوراده ملازمة كلية ولوحظ بأنظاره وتزوج بزوجة الشيخ أحمد اخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي وكانت مثرية فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس وماتت زوجته المذكورة لا عن عصبة فحاز ميراثها والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها: دار البقر فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا وسكن دارا واسعة واقتنى الجواري والخدم ومواشي وابقارا وأغناما واستأجر أرضا قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع ثم(2/114)
تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته وأقام منعما معها في رفاهية من العيش مع ملازمته للاقراء والافادة إلى أن ادركه الأجل المحتوم وتوفي في هذه السنة بالطاعون وكان إنسانا حسنا جم الفرائد ولفوائد مهذب الاخلاق لين الطباع حسن المعاشرة جميل الاوصاف رحمه الله تعالى.
ومات العمدة الفاضل الواعظ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوى السراى المعروف ببشناق أفندي قدم مصر سنة تسع وستين ومائة وألف ووعظ بمساجدها وأكرمه الأمراء للجنسية ثم توجه إلى الحرمين وقطن بمكة ورتب له شيء معلوم على الوعظ والتدريس ومكث مدة ثم حصلت فتنة بين الأشراف والاتراك فنهب بيته وخرج هاربا إلى مصر فالتجأ إلى علمائها فكتبوا له عرضا إلى الدولة بمعرفة ماجرى عليه فعين له شيء في نظير ما ذهب من متاعه وتوجه إلى الحرمين فلم يقر له بمكة قرار ولم يمكنه الاتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه واستطالته في كل من دب ودرج فتوجه إلى الروم ومكث بها أياما حتى حصل لنفسه شيئا من معلوم آخر فأتى إلى مكة وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على اشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى اتباعهم وذكر مساويهم وظلمهم فأمر شريف مكة بالخروج منها إلى المدينة فخرج إليها وقد حنق غيظا على الشريف فلما استقر بالمدينة لف عليه بعض الاوباش ومن ليس له ميل إلى الشريف فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهرا وغره مرافقة أولئك معه وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة فتعصبوا وزادوا نفورا واخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف وكاتبوا إلى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقا وأنه لا يحكم فيهم أبدا وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط وأرسلوا بالعرض مفتي المدينة فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطابا إلى أمير الحاج الشامي وإلى الشريف ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة وعرف أن اصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم واستعد للقاء أمير الحاج بعسكر جرار(2/115)
على خلاف عادته ورام مناواته أن برز منه شيء خلاف ما عهد منه فلما رأى أمير الحاج ذلك الحال كتم ما عنده وانكر أن يكون عنده شيء من الاوامر في حقه ومضى لنسكه حتى إذا رجع إلى المدينة تنمر وتشمر وكاد أن يأكل على يده من التندم والحسرة وذهب إلى الشام ولما خلت مكة من الحجاج جرد الشريف عسكرا على العرب فقاتلوه وصبر معهم حتى ظفر بهم ودخل المدينة فجأة ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقائه فآنسهم وأخبرهم أنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام وليس له غرض سواه فاطمأنوا بقوله وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده حتى دخل من باب السلام وتملى من الزيارة وأقبلت عليه أرباب الوظائف مسلمين فأكرمهم وكساهم فلما أنس منهم الغفلة أمر بأمساك جماعة من المفسدين الذين كانوا يحفرون وراءه فاختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم خفية بالليل جماعة وكان المترجم أجد من اختفى في بيته ثلاثة أيام ثم غير هيئه وخرج حتى أتى مصر ومشى على طريقته في الوعظ وعقد له مجلسا بالمشهد الحسيني وخالط الأمراء وحضر درسه الأمير يوسف بك ومال إليه والبسه فروة ودعاه إلى بيته وأكرمه وتردد إليه كثيرا وكان يجله ويرفع منزلته ويسمع كلامه وينصت إلى قوله: ولديه بعض معرفة بالعلم على طريقة بلادهم واستمر بمصر وسكن بحارة الروم ورتب له بالضربخانة مائة ونصف فضة في كل يوم لمصروفه وصار له وجاهة عند ابناء جنسه إلى أن وقع له ما وقع مع إسمعيل باشا بسبب الوصاية على التركة كما مر ذلك آنفا وحط من قدره واهانه وحبسه نحو ثلاثة اشهر ثم افرج عنه بشفاعة علي بك الدفتردار وانزوى خاملا في داره إلى أن مات في أوائل شعبان بالطاعون سامحه الله تعالى.
ومات الجناب المكرم المبجل المعظم جامع المعارف وحاوي اللطائف الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشيدي الرومي الأصل مولى المرحوم علي اغا بشير دار السعادة المكتب المصري اشتراه سيده صغيرا(2/116)
وهذبه ودربه وشغله بالخط فاجتهد فيه وجوده على عبد الله الانيس وكان ليوم إجازته محفل نفيس جمع فيه المرؤس والرئيس ثم زوجه ابنته وجعله خليفته ولم يزل في حال حياة سيده معتكفا على المشق والتسويد معتنيا بالتحرير والتجويد إلى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن وجميع كل مستحسن ولما توفي شيخ المكتبين المرحوم إسمعيل الوهبي جعل المترجم شيخا باتفاق منهم لما اعطى من مكارم الشيم وطيب الاخلاق وتمام المروءة وحسن تلقي الواردين وجميل الثناء عليه من أهل الدين وألف من اجله شيخنا السيد محمد مرتضى كتاب حكمة الأشراق إلى كتاب الافاق جمع فيه ما يتعلق بفنهم مع ذكر أسانيدهم وهو غريب في بابه يستوقف الراتع في مريع هضابه ولم يزل شيخا ومتكلما على جماعة الخطاطين والكتاب وعميدهم الذي يشار إليه عند الأرباب نسخ بيده عدة مصاحف وأحزاب وأما نسخ الدلائل فكثرتها لا تدخل تحت الحساب إلى أن طافت به المنية طواف الوداع ونثرت عقد ذلك الاجتماع وبموته انقرض نظام هذا الفن.
ومات صاحبنا الأديب الماهر والنبيه الباهر نادرة العصر وقرة عين الدهر عثمان بن محمد بن حسين الشمسي وهو أجد الاخوة الأربعة أكثرهم معرفة وأغزرهم أدبا وأغوصهم في استخراج الدقائق واستنتاج الرقائق وامهم جميعا الشريفة رقية بنت السيد طه الحموي الحسيني ولد المترجم بمصر وربى في حجر ابويه وتعلق من صغره بمعرفة الفنون الغريبة فنال طرفا منها حسنا يليق عند المذاكرة وعرف الفرائض واستخرج منها طرقا غريبة في استحقاق المواريث في قسم الغرماء في شبابيك وله سليقة شعرية مقبولة وله معرفة باللغة جيدة يطالع كتبها ويحل عقدها ويسأل عن غرائب الفن ويغوص بذهنه على كل مستحسن ولقد نظم فرائض الدين وأسماء أهل بدر وغير ذلك وبالجملة أنه كان من محاسن الزمان توفي رحمة الله في اواخر شعبان مطعونا وخلف ولديه محمد جربجي وحسن جربجي احياهما الله حياة طيبة(2/117)
ومات الأجل المبجل بقية السلف ونتيجة الخلف الوجيه الصالح النبيه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد شيخ سجادة جده سيدي عبد الوهاب الشعراني مات ابوه أحمد في سنة أربع وثمانين وتركه صغيرا دون البلوغ فكفلته امه فتولى السجادة الشيخ أحمد من اقاربه وتزوج بأمه وسكن بدارهم ولما شب المرتجم وترشد اشترك معه بالمناصفة ثم توفي الشيخ أحمد المذكور فاستقل بذلك ونشأ في عز وعفاف وصلاح وحسن حال ومعاشرة ومودة وعمر البيت حسا ومعنى وأحيا مآثر اجداده واسلافه وكان شديد الحياء والحشمة والتواضع والانكسار والخشية والحلم والتؤدة ومكارم الاخلاق ولما تم كماله بدا زواله واخترمته في شبابه يد الأجل فقطعت شمس عمره منطقة الأمل وخلف ابنا صغيرا يسمى سيدي قاسما بارك الله فيه.
ومات أعز الإخوان واخص الأصدقاء والخلان النجيب الصالح والاريب الناجح شقيق النفس والروح وصحبته باب الخير والفتوح المتفنن النبيه سيدي إبراهيم بن محمد الغزالي بن محمد الدادة الشرايبي من اجل أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم وهو كان مسك ختامهم وبموته انقرض بقية نظامهم وقد تقدم استطراد بعض اوصافه في ترجمة المرحوم سيدي أحمد رفيق المرحوم رضوان كتخدا الجلفي ومنها حرصه على فعل الخير ومكارم الاخلاق وتقيد الزاد ليوم المعاد والصدقات الخفية والأفعال المرضية التي منها تفقد طلبة العلم الفقراء والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم وكان يشتري المصاحف والألواح الكثيرة ويفرقها بيد من يثق به على مكاتب أطفال المسلمين الفقراء معونة لهم على حفظ القرآن ويملأ الأسبلة للعطاش ولا يقبل من فلاحينه زيادة على المال المقرر ويعاون فقراءهم ويقرضهم التقاوي واحتياجات الزراعة وغيرها ويحسب لهم هدايا هم من أصل المال وكان يتفقه على العلامة الشيخ محمد العقاد المالكي ويحضر دروسه في كل يوم وبعد وفاته لازم حضور الشيخ عبد العليم الفيومي(2/118)
وكان ينفق عليه وعلى عياله ويكسوهم ولم يزل سمح السجية بسام الثنية إلى أن بغته الطاعون حالا وكان موته ارتجالا فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله وكان الله حسنة في صحائف الأيام والليالي وروضة تنبت الشكر في رياض المعالي.
فلو بعت يوما منه بالدهر كله لفكرت دهرا ثانيا في ارتجاعه.
ومات أيضا من بيتهم الأجل المكرم أحمد حلبي بن الأمير علي وكان شابا لطيف الذات مليح الصفات مقبول الطباع مهذب الاوضاع.
ومات أيضا من بيتهم الأمير عثمان بن عبد الله معتوق المرحوم محمد جربجي وأن من أكابر بيتهم وبقية السلف من طبقتهم ذا وجاهة وعقل وحشمة وجلالة قدر.
ومات أيضا من بيتهم الأمير رضوان صهر أحمد جلبي المذكور وكان إنسانا لا بأس به أيضا.
ومات من بيتهم عدد كثير من النساء والصبيان والجواري في تلك الأيام المبددة منهم ومن غيرهم عقد النظام.
ومات الصنو الفريد والعقد النضيد الذكي النبيه من ليس له في الفضل شبيه صاحبنا الأكرم وعزيزنا الافخم إبراهيم جلبي بن أحمد اغا البارودي نشأ مع اخويه علي ومصطفى في حجر والدهم في رفاهية وعز ولما مات والدهم في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف تزوجت والدتهم وهي ابنة إبراهيم كتخدا القزادغلي بمحمد خازندار زوجها وهو محمد اغا الذي اشتهر ذكره بعد ذلك فكفل أولاد سيده المذكورين وفتح بيتهم وعانى المترجم تحصيل الفضائل وطلب العلم ولازم حضور الدروس بالأزهر في كل يوم وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيوشي وفي المعقول على الشيخ محمد الخشني والشيخ علي الطحان حتى ادرك من ذلك الحظ الاوفر وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسائل النقلية والعقلية وترونق بالفضائل وتحلى بالفواضل(2/119)
إلى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنية وضرب سورا بينه وبين الأمنية.
ومات أيضا بعده بيومين أخوه سيدي علي وكان جميل الخصائل مليح الشمائل رقيق الطباع يشنف بحسن الفاظه الأسماع اخترمته المنية وحالت بساحة شبابه الرزية.
ومات الصاحب الأمثل والاجل الأفضل حاوي المزايا المنزه عن النقائص والرزايا عبد الرحمن أفندي بن أحمد المعروف بالهلواتي كاتب كبير باب تفكشيان من أعيان أرباب الاقلام بديوان مصر كان اشتغل بطلب العلم ولازم حضور الاشياخ وحصل في المعقول والمنقول ما تميز به عن غيره من أهل ضناعته مع حسن الاخلاق وجميل الطباع وحضر علي الشيخ مصطفى الطائي كتاب الهداية في الفقه مشاركا لنا وأخذ أيضا الحديث عن السيد مرتضى وسمع معنا عليه كثيرا من الأجزاء والمسلسلات والصحيحين وغير ذلك وألف حاشية على مراقي الفلاح واقتنى كتبا نفيسة وكان يباحث ويناضل مع عدم الأدعاء وتهذيب النفس والسكون والتؤدة والأمارة والسيادة إلى أن أجاب الداعي ونعته النواعي واضمحل حال أبيه بعده وركبته الديون وجفاه الاخدان والمجنون وصار بحالة يرثى لها الشامت ويبكي حزنا عليه من يسمع ذكره من الناعت إلى أن توفي بعد بنحو سنتين.
ومات الأمير المبجل والنبيه المفضل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى الأمير أحمد كتخدا صالح اشتراه سيده صغيرا فتربى في الحريم وأقرأه القرآن وبعض متون الفقه وتعلم الفروسة ورمى السهام وترقى حتى عمل خازندار عنده.
وكان بيته موردا للافاضل فكان يكرمهم ويحترمهم ويتعلم منهم العلم ثم أعتقه وأنزله حاكما في بعض ضياعه ثم رقاه إلى أن عمله رئيسا في باب المتفرقة وتوجه أميرا على طائفته صحبة الخزينة إلى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة ثم عاد إلى مصر وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيرا وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع(2/120)
وأتقن فن رمي النشاب إلى أن صار أستاذا فيه وانفرد في وقته في صنعة القسى والسهام والدهانات فلم يلحقه أهل عصره واضر بعينيه وعالجها كثيرا فلم يفده فصبر واحتسب ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله ويجيد القسى تركيبا وشدا ولقد اتاه وهو في هذه الضرارة رجل من أهل الروم اسمه حسن فانزله في بيته وعلمه هذه الصنعة حتى فاق في زمن قليل اقرانه وسلم له أهل عصره وسمع المترجم على شيخنا المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه وحديثين مسلسلين بيوم عاشوراء تخريج السيد المذكور أو أشياء آخر ضبطت عند كاتب الأسماء وأخذ الاجازة من الشيخ إسمعيل بن أبي المواهب الجلبي وكان عنده نفيسة في كل فن رحمه الله.
ومات الشاب اللطيف المهذب الظريف الذي يحكي بادبه سنا الملك وابن العفيف محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب ابوه مولى للقاسم الشرايبي مات أبوه في حداثته وكان مولد سنة أربع وستين ومائة وألف وكفله صهره سليمان بن محمد الكاتب أجد كتاب المقاطعة بالديوان ونشأ في الرفاهية والنعم وعانى طلب العلم فنال منه ما اخرجه من ربقة الجهل وتعلق بالعروض واخذه عنه الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي فبرع فيه ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم توفي في غرة شعبان من السنة.
ومات الصنو الفريد والنادرة الوحيد النبيه اللبيب والمفرد العجيب الفاضل الناظم الناثر سيدي عثمان بن أحمد الصفائي المصري تقدم ذكره في ترجمة والده أحمد أفندي كاتب الروزنامة بديوان مصر ونشأ هو في ظل النعمة والرفاهية وقرأ النحو المنطق على كل من الشيخ علي الطحان والشيخ مصطفى المرحومي حتى مهر فيهما وكان يباحث ويناضل(2/121)
ويناقش أهل العلم في المسائل العقلية والنقلية وقرأ علم العروض وأتقن نظم الشعر وجمع الظروف وكان فيه نوع من الخلاعة واللهو وله وله تخميس على البردة واشعار كثيرة ولم يزل رافلا في حلل السعادة حتى حلت بساحة شبابه الشهادة وتوفي مطعونا بمليج وهو ذاهب لموسم المولد الاحمدي بطندتا في شهر رجب وقد ناهز الأربعين وحضروا به إلى مصر محمولا على بعير فغسل وكفن ودفن عند والده رحمه الله.
ومات الخواجا المعظم والتاجر المكرم السيد أحمد ابن السيد عبد السلام المغربي الفاسي نشأ في حجر والده وتربى في العز والرفاهية حتى كبر وترشد وأخذ واعطى وباع واشترى وشارك وعامل واشتهر ذكره وعرف بين التجار ومات أبوه واستقر مكانه في التجارة عرفته الناس زيادة عن أبيه وصار يسافر إلى الحجاز في كل سنة مقوما مثل ابيه وبنى داره ووسعها وأضاف إليها دكة الحسبة التي بجوار الفحامين وانشأ دارا عظيمة أيضا بخط الساكت بالازبكية وانضوى إليه السيد أحمد المحروقي واحبه واتحد به اتحادا كليا وكان له أخ من ابيه بالحجاز يعرف بالعرايشي من أكابر التجار ووكلائهم المشهورين ذو ثروة عظيمة فتوفي وصادف وصول المترجم حينئذ إلى الحجاز فوضع يده على ماله ودفاتره وشركاته وتزوج بزوجته وأخذ جواره وعبيده ورجع إلى مصر واتسع حاله زيادة على ما كان عليه وعظم صيته وصار عظيم التجار وشاه النبدر وسلم قياده وزمامه في الأخذ والعطاء وحساب الشركاء إلى السيد أحمد المحروقي وارتاح إليه لحذقه ونباهته ونجابته وسعادة جده ولم يزل على ذلك حتى اخترمته المنية وحالت بينه وبين الأمنية وتوفي في شعبان مطعونا وغسل وكفن وصلى عليه بالمشهد الحسيني في مشهد حافل بعد العشاء الاخيرة في المشاغل ودفن عند أبيه بزاوية العربي بالقرب من الفحامين والتجأ السيد أحمد المحروقي إلى محمد اغا البارودي كتخدا إسمعيل بك فسعى إليه واقره مكانه وأقامه عوضه في كل شيء وتزوج بزوجاته وسكن داره(2/122)
واستولى على حواصله وبضائعه وامواله ونما أمره من حينئذ وأخذ واعطى ووهب وصانع الأمراء واصحاب الحل والعقد حتى وصل إلى ما وصل إليه وادرك ما لم يدركه غيره فيما سمعنا وراينا كما قيل:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
ومات الأمير الكبير إسمعيل بك وأصله من مماليك إبراهيم كتخدا وانضوى إلى علي بك بلوط قبان فجعله اشراقه وأقره ونوه بشأنه وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم وزوجه بهانم ابنة إبراهيم كتخدا وعمل لهما مهما عظيما ببركة الفيل شهرا كاملا في سنة أربع وسبعين كما تقدم ذكر ذلك وكان من المهمات الجسيمة والمواسم العظيمة التي لم يتفق نظيرها بعده بمصر ولم يزل منظورا إليه في الأمارة مدة علي بك وأرسله في سرياته واعتمده في مهماته وبعثه إلى سويلم بن حبيب بتجريدة فلم يزل يحاربه حتى هزمه وفر إلى البحيرة فلحقه هناك ولم يزل يتبعه ويرصده حتى قتله وحضر برأسه إلى مخدومه وذلك في أواخر سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف.
وسافر إلى الشام صحبة محمد بك أبي الذهب لمقاتلة عثمان باشا ابن العظم وأغاروا على البلاد الشامية وحاربوا يافا أربعة اشهر حتى ملكوها وسافر قبل ذلك في تجاويد الصعيد وحضر غالب مواقف الحروب مع محمد بك ومستقلا إلى أن بدت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك وخرج مع محمد بك إلى الصعيد وجرى بينهما الدم بقتله أيوب بك فأخرج إليه علي بك جردة عظيمة احتفل بها احتفالا زائدا وأميرها المترجم فلما التقى الجمعان القى عصاه وخامر على مولاه وانضم بمن معه إلى محمد بك فشد عضده وخان مخدومه وحصل ما حصل من تقلبهم واستيلائهم كما ذكر واستمر مع محمد بك يراعي حرمته ويقدمه على نفسه ولا يبرم أمرا إلا بعد مشاورته ومراجعته وتقلد الدفتردارية وأميرا على الحج سنتين بشهامة وسير حسن ولما مات محمد بك لم تطمح نفسه للتصدر(2/123)
في الرياسة والأمارة بل تركها لاتباعه وقنع بحاله واقطاعه ولزم داره التي عمرها بالازبكية فناكدوه وطمعوا فيما لديه وقصد مراد بك اغتياله فخرج إلى خارج وتبعه المغرضون له ويوسف بك وغيره وحصل ما هو مسطر ومشروح في محله من تملكه وقتله يوسف بك وأسمعيل بك الصغير بمساعدة العلوية ثم غدروا به حتى آل الأمر به إلى الخروج إلى البلاد الشامية وافتراق جمعه ثم سافر إلى الروم مع بعض أتباعه ومماليكه وذهب منه غالب ما اجتمع لديه من الأموال وذهب إلى اسلامبول فأقام بها مدة ثم نفوه إلى شنق قلعة وخرج منها بحيلة تحيلها على حاكمها ثم ركب البحر إلى درنة ووصل خبر ذلك إلى الأمراء بمصر فخرج مراد بك ليقطع عليه الطريق الموصلة إلى قبلي وأرصد له عيونا ينتظرونه بالطريق وأقام على ذلك شهورا فلم يقفوا له على خبر وهو يتنقل عند العربان حتى أنه اختفى عند بعضهم نيفا وأربعين يوما في مغارة ثم إنه تحيل وأرسل من القى إلى مراد بك أنه مر من الجهة الفلانية بمعرفة الرصد المقيمين فحنق مراد بك وركب في الحال ليقطع عليه الطريق وتفرق الجمع من ذلك المكان فعند ذلك اجتاز إسمعيل بك ذلك الموضع وعداه في زي بعض العربان وخلص إلى القضاء الموصل للبلاد القبلية وذهب مراد بك في نهاية مشواره فلم ير أثرا لذلك الخبر فرجع إلى المكان الذي عرفوه سلوكه فوجد المرابطين على ماهم عليه من التيقظ إلى أن تحقق عنده أنه تحيل بذلك ومر وقت ارتحال مراد بك من ذلك الموضع فرجع بخفي حنين ولم يزل حتى كان ما كان ووصل حسن باشا على الصورة المتقدمة ورجع إلى مصر وتملكها واستقل بإمارتها بعد ثغر به تسع سنين ومقاساته الشدائد وظن أن الوقت قد صفا له واستكثر من شراء المماليك واحترقت داره وبناها احسن مما كانت عليه وحصن المدينة وسورها من عند طرا والجيزة وحصنها تحصينا عظيما من الجبل إلى البحر من الجهتين حتى أنه لما اصيب بالطاعون أحضر أمراءه وقال لعثمان بك: طبل بحضرتهم(2/124)
أنت كبير القوم الباقية فافتح عينك وشد حيلك فاني حصنت لكم البلد وصيرتها بحيث لو ملكتها امرأة لم يقدر عليها عدو وتمرض يومين ومات في الثالث سادس عشر شعبان من السنة وكان أميرا جليلا كفؤا للامارة جهوري الصوت عظيم الهمة بعيد الغور كبير التدبير يحب الصلحاء والعلماء ويتادب معهم ويواسيهم ويقبل شفاعتهم ويكرمهم وله فيهم اعتقاد عظيم حسن ولما مات غسل وكفن وصلي عليه في مصلى المؤمنين ودفن بتربة علي بك مع سيدهما إبراهيم كتخدا بالقرب من ضريح الإمام الشافعي بالقرافة ولم يفلح بعده خليفته عثمان بك واضاع مملكته وسلمها لاخصامه وأخصام سيده.
ومات الأمير رضوان بك وهو ابن اخت علي بك الكبير أمره وقلده الصنجقية وجعله من الأمراء الكبار فلما مات خاله واستقل بالمملكة محمد بك انزوى وارتفعت عنه الأمرية وأقام بطالا هو وحسن بك الجداوي مدة أيام محمد بك فلما مات محمد بك وظهر بالإمارة إبراهيم بك ومراد بك لم يزل على خموله إلى أن وقع التفاقم بينهم وبين إسمعيل بك فانضم هو وحسن بك إلى إسمعيل بك وساعداه فرد لهما أمرياتهما ونوه بشأنهما ثم نافقا عليه وخذلاه عندما سافر معهما إلى قبلي وكانا هما السبب في غربته المدة الطويلة كما ذكر ثم وقع لهما ما وقع مع المحمدية وذهبا إلى الجهة القبلية وأقاما هناك فلما رجع إسمعيل بك من غيبته انضم إليهما ثانيا ولم يزل معهما وافترق منهما المترجم وحضر إلى مصر وانضم إلى المحمدية ولما حضر حسن باشا وخرج معهم رجع ثانيا بامان واستمر بمصر حتى حضر إسمعيل بك وحسن بك فأقام معهم أميرا ومتكلما وتصادق مع علي بك كتخدا الجاويشية وعقد معه المؤاخاة ونزل مرارا إلى الأقاليم وعسف بالبلاد ولما سافر حسن باشا وخلالهما الجو فجر وتجبر وصار يخطف الناس ويحبسهم ويصادرهم في اموالهم تعدى شره لكثير من الفقراء ولم يزل هذا شأنه حتى أطفأ صرصر الموت شعلته وحل بساحته(2/125)
الطاعون ولم يفلته وأراح الله منه العباد وكان أشقر خبيثا.
ومات الأمير الأصيل رضوان بك بن خليل بن إبراهيم بك بلفيا من بيت المجد والعز والسيادة والرياسة وبيتهم من البيوت الجلية القديمة الشهيرة بمصر ولم يكن بمصر بيت عريق في الأمارة والسيادة إلا بيتهم وبيت قصبة رضوان وجميع أمراء مصر تنتهي سلسلتهم إليهما وبيت القازغلية أصل منشتهم ومغرس سيادتهم من بيت بلفيا كما تقدم لأن إبراهيم بك بلفيا جد المترجم مملوك مصطفى بك ومصطفى بك مملوك حسن اغا بلغيا وهو سيد مصطفى كتخدا القازدغلي ومصطفى هذا كان سراجا عند حسن اغا ورقاه وأمره حتى جعله كتخدا باب مستحفظان ونما أمره وعظم شأنه وباض وأفرخ فجميع طائفة القازدغلية تنتهي نسبتهم إليه كما ذكر ذلك غير مرة ولما توفي خليل بك والد المترجم في سنة خمس وثمانين بالحجاز في امارته على الحج وترك اخاه عبد الرحمن اغا وولده رضوان هذا ورجع بالحج عبد الرحمن اغا المذكور وبعد استقرارهم اجتمعت أعيان بيتهم وأرادوا تقليد عبد الرحمن أغا صنجقا عوضا عن أخيه فأبى ذلك فاتفقوا على تقليد ابن أخيه رضوان المذكور فكان كذلك وقلدوه الأمارة وفتح بيتهم وأحيا مآثرهم وانضم إليه أتباعهم وسار سيرا حسنا بعقل ورياسة لولا لثغة في لسانه وتقلد أمير الحج سنة 1192 وكان كفؤا لها وطلع ورجع في أمن وراحة ورخاء ولم يزل في سيادته حتى توفي في هذه السنة واضمحل بيتهم بموته وماتت أعيانهم وعظماؤهم وخرب البيت بالكلية وانمحت آثارهم وانطفأت انوارهم وبطلت خيراتهم وخمدت حركاتهم ومن جملة ما رأيته من خيراتهم في أيام رضوان بك هذا مائة قارىء من الحفظة يقرأون القرآن كل يوم في الأوقات الخمسة في كل وقت عشرون قارئا وقس على ذلك.
ومات الأمير سليمان بك المعروف بالشابوري وأصله من مماليك سليمان كاويش القازدغلي فهو خشداش حسن كتخدا الشعراوي تقلد(2/126)
الإمارة والصنجقية سنة تسع وستين ونفى مع حسن كتخدا المذكور وأحمد جاويش المجنون كما تقدم في سنة ثلاث وسبعين فلما كانات أيام علي بك وورد من الديار الرومية طلب الأمداد من مصر للغز وأرسل علي بك فاحضر المترجم وقلده امارة السفر فخرج بالعسكر في موكب على العادة القديمة وسافر بهم إلى الديار الرومية وذلك سنة ثلاث وثمانين ورجع بعد مدة وأقام بطالا محترما مرعي الجانب ينافق كبار الدولة وانضم إلى مراد بك فكان يجالسه ويسامره ويكرمه المذكور فلما حضر حسن باشا كان هو من جملة المتآمرين فلما استقر إسمعيل بك في إمارة مصر اعتنى به وقدمه ونظمه في عداد الأمراء لكبر سنه واقدميته وكان رجلا سليم الباطن لا بأس به توفي بالطاعون في هذه السنة.
ومات الأمير الجليل عبد الرحمن بك عثمان وهو مملوك عثمان بك الجرجاوي الذي قتل في واقعة قراميدان أيام حمزة باشا سنة تسع وسبعين كما تقدم فقلدوا عبد الرحمن هذا عوضه في الصنجقية فكان كفؤا لها وكان متزوجا ببنت الخواجا عثمان حسون التاجر العظيم المشهور المتوفي في أيام الأمير عثمان بك ذي الفقار وخلف منها ولده حسن بك وكان المترجم حسن السيرة سليم الباطن والعقيدة محبوب الطباع جميل الصورة وجيه الطلعة وكان محمد بك أبو الطهب يحبه ويجله ويعظمه ويقبل قوله ولا يرد شفاعته وكان يميل بطبعه إلى المعارف ويحب أهل العلم والفضائل ويجيد لعب الشطرنج ومن مآثره أنه عمر جامع أبي هريرة الذي بالجيزة على الصفة التي هو عليها الآن وبنى بجانبه قصرا وذلك في سنة ثمان وثمانين ولما أتمه وبيضه عمل به وليمة عظيمة وجمع علماء الزهر على كرسي وأملى حديث من بنى لله مسجدا بحضرة الجمع وكان شيخنا السيد محمد مرتضى حاضرا وباقي العلماء والمشايخ والحقير في جملتهم وكنت حررت له المحراب على انحراف القبلة ثم انتقلنا إلى القصر ومدت(2/127)
الاسمطة وبعدها الشربات والطيب وكان يوما سلطانيا توفي رحمه الله في شعبان بمنزله الذي بقيسون جوار بيت الشابوري ودفن عند سيده بالقرافة.
ومات في أثره ولده حسن بك المذكور وكان فطنا نجيبا ويكتب الخط الجيد ويميل بطبعه إلى الفضائل ودويها منزها عما لا يعنيه من النقائص والرذائل عوض الله شبابه الجنة.
ومات الأمير سليم بك الإسماعيلي من مماليك إسمعيل بك قلده الأمارة في سنة احدى وتسعين وخرج مع سيده إلى الشام ثم رجع إلى مصر بعد سفر سيده إلى الروم وأقام بها بطالا في بيته بجوار المشهد الحسيني ببعض خدم قليلة ويذهب إلى المسجد في الأوقات الخمسة فيصلى مع الجماعة ويتنفل كثيرا ولم يزل على ذلك حتى رجع سيده إلى مصر فرد له إمارته ورجع إلى داره الكبيرة وتقلد امارة الحج في سنة اثنتين ونزل إلى إقليم المنوفية وجمع المال والجمال ورجع وطلع بالحج وعاد في أمن وأمان ولم يزل في امارته حتى توفي بالطاعون في هذه السنة وكان طوالا جسيما خيره أقرب من شره.
ومات الأمير علي بك المعروف بجركس الإسماعيلي وهو من مماليك إسمعيل بك أيضا وقلده الأمارة في مدته السابقة واسكنه ببيت صالح بك الذي بالكبش ولما تغرب سيده حضر إلى مصر وأقام خاملا وسكن بالكعكين وكان لطيفا مهذبا خفيف الروح ضحوك السن يحب العلماء والصلحاء ويتأدب معهم ويكرمهم ولما مات خشداشة إبراهيم بك قشطة تزوج بعده بزوجته بنت إسمعيل بك ولم يزل حتى توفي بعد سيده بأيام قليلة.
ومات الأمير غيطاس بك وهو من بيت صالح بك تابع مصطفى بك القرد وكان يعرف أولا بغيطاس كاشف تقلد الأمارة في سنة مائتين وتولى امارة الحج في سنة 1201 فسار فيها سيرا حسنا وطلع بالحد ورجع مستورا(2/128)
واستمر أميرا إلى أن مات على فراشه بالطاعون في بيته بخط باب اللوق فقلدوا بعده مملوكه صالح امارته وهو موجود إلى الآن في الاحياء وكان المترجم أميرا جليلا محتشما قليل التبسم من رآه ظنه متكبر السكون جاشه وكان لا بأس به في الجملة.
ومات الأمير علي بك الحسني وهو من مماليك حسن بك الجداوي قلده الأمارة في أيام حسن باشا وتزوج بزوجة مصطفى بك الداودية المعروف بالاسكندراني وكان لطيف الذات جميل الطباع سهل الانقياد قليل العناد توفي في رجب من السنة بالطاعون ودفن بالمشهد الحسيني بمدفن القضاة ووجدت عليه زوجته وجدا كثيرا.
ومات الأمير رضوان كتخدا وهو من مماليك أحمد كتخدا المجنون تنقل في المناصب حتى تولي كتخدائية الباب بحشمة وشهامة وعقل وسكون ولما استقل إسمعيل بك في امارة مصر نوه بشأنه واحبه وصار في تلك الأيام أجد المتكلمين المشار إليهم في الأمر والنهي ونفاذ الكلمة والرياسة وكان قريبا إلى الخير واشتهر أكثر من سيده وصار له أولاد وعزوة واتباع ومماليك وبنى لأكبر أولاده دارا بدرب سعادة وسكن هو في بيت أستاذه توفي في اواخر شهر شعبان وكذلك أولاده وجواريه ومماليكه وخربت بيوتهم في أقل من شهر.
ومات الأمير عثمان آغا مستحفظان الجلفي وأصله من مماليك رضوان كتخدا الجلفي وتربى عند خليل بك شيخ البلد القازدغلي ولم يزل يتنقل في خدم الأمراء ومعاشرتهم حتى تقلد الاغاوية في أيام إسمعيل بك ثم عزل عنها وتولاها ثانيا أياما قليلة ومات أيضا بالطاعون وخلف شيئا كثيرا من المال والنوال أخذه جميعه حسن بك الجداوي لأنه كان منضوبا إليه وفي طريقتهم أنهم يرثون من يكون منتسبا إليهم أو جارا لهم وكان إنسانا لا بأس به ومحضره خير ويحب اقتناء للكتب والمسامرة في الأخبار والنوادر مع ما فيه من نوع البلادة(2/129)
ومات الأمير المبجل حسن أفندي شقبون كاتب الحوالة وأصله مملوك أحمد أفندي مملوك مصطفى أفندي شقبون نشأ في الرياسة وخدمة الوزراء والاكابر وحاز شيئا كثيرا من الكتب النفيسة والتي بخط الأعاجم والفارسية والخطوط التعليق المكلفة والمذهبة والمصورة مثل كليلة ودمنة وشاهنامة وديوان حافظ والتواريخ التي من هذا القبيل المصور بها صور الملوك البديعة الصنعة والاتقان الغالية الثمن النادرة الوجود وكان قريبا إلى الخير محتشما في نفسه توفي أيضا بالطاعون وتبددت كتبه وذخائره.
ومات الأمير محمد آغا البارودي وهو مملوك أحمد أغا مملوك إبراهيم كتخدا القازدغلي رباه سيده وجعله خازنداره وعقد له على ابنته فلما توفي سيده في سنة ثمان وثمانين طلقها وتزوج بزوجة سيد هانم بنت إبراهيم كتخدا من الست البارودية وهي أم أولاده إبراهيم وعلي ومصطفى الذين تقدم ذكرهم والتي كان عقد عليها كانت من غيرها فتزوجها حسن كاشف من اتباعهم تنبه المترجم وتداخل في الأمراء والأكابر وانضوى إلى حسن كتخدا الجربان عندما كان كتخدا مراد بك فقلده في الخدم والقضايا وأعجبه سياسته وحسن سعيه فارتاح إليه وكان حسن كتخدا المذكور تعتريه النوازل فينقطع بسببها أياما بمنزله فينوب عنه المترجم في الكتخدائية عند مراد بك فيحسن الخدمة والسياسة وتنميق الأمور ويستجلب له المصالح فأحبه وأعجب به وقلده الأمور الجسيمة وجعله أمين الشون فعند ذلك اشتهر ذكره ونما أمره واتسع حاله وانفتح بيته وقصدته الناس وتردد إليه الأعيان في قضاء الحوائج ووقفت ببابه الحجاب واتخذ له ندماء وجلساء من اللطفاء وأولاد البلد يجلس معهم حصة من الليل ينادمونه ويسامرونه ويضاحكونه ويشرب معهم وماتت زوجته ابنة سيد سيده من بنت البارودي فزوجه مراد بك أكبر محاظية أم ولده أيوب وأتت إلى بيته بجهاز عظيم وصار بذلك صهرا لمراد بك وزادت شهرته ورفعته فلما حصلت الحوادث ووصل حسن باشا وخرج مراد بك من مصر فلم يخرج(2/130)
معه واستمر بمصر وقبض عليه إسمعيل بك وحبسه مع عمر كاشف ببيته ثم نقلهما إلى القلعة بباب مستحفظان مدة فلم يزل المترجم حتى صالح عن نفسه وأفرج عنه وتقيد بخدمة إسمعيل بك وتداخل معه حتى نصبه في كتخدائيته واحبه واحتوى على عقله فسلم إليه قياده في جميع اشغاله وارتاح إليه وجعله أمين الشون والضربخانة وغيرهما فعظم شانه وارتفع قدره وطار صيته بالأقاليم المصرية وكثر الإزدحام ببابه وجبيت إليه الأموال وصار الإيراد إليه والمصرف من يده فيصرف جماكي العسكر ولوازم الدولة وهداياها ومصاريف العمائر والتجاريد واحتياجات أمير الحاج وغير ذلك بتؤدة وزياقة وحسن طريقة من غير جلبةولا عسف ولا شعور لأحد من الناس بشيء من ذلك وكل شيء سأل عنه مخدومه أو أشار بطلبه أو فعله وجده حاضرا ولم يشتغل أمراء الحاج في زمن إسمعيل بك بشيء من لوازم الحج بل كان هو يقضي جميع اللوازم من الجمال والارحال والقرب والخيش والعليق والذخيرة التي تسافر في البحر والبر وعوائد العرب وكساويهم والهجن والبغال وأرباب الصيت وغير ذلك ليلاونهارا في أماكن بعيدة عن داره تحت أيدي مباشريه الذين وظفهم وأقامهم في ذلك بحيث إذا اقتضى لأحدهم شيئا أتاه وأسر له في أذنه فيوجهه بطرف كلمة ولا يشعر أجد من الجالسين معه بشيء وإذا كان وقت خروج المحمل فلا يرى أمير الحاج إلا جميع احتياجاته ولوازمه حاضرة مهيأة على أتم ما يكون وأكمله وزوج ابنة سيده لخازنداره علي أغا وعمل لهما مهما عظيما عدة أيام وحضر إسمعيل بك والأمراء والأعيان وأرسلوا إليه الهدايا العظيمة وكذلك جميع التجار والنصارى والكتاب القبط ومشايخ البلدان وبعد تمام أيام العرس ولياليه بالسماعات والآلات والملاعيب والنقوط عملوا للعروس زفة بهيئة لم يسبق نظيرها ومشى جميع أربا الحرف وأرباب الصنائع مع كل طائفة عربة وفيها هيئة صناعتهم ومن يشتغل فيها مثل القهوجي بآلته وكانونه والحلواني والفطاطري والحباك والقزاز(2/131)
بنوله حتى مبيض النحاس والحيطان والمعاجيني وبياعين البز وأرباب الملاهي والتماءالمغنيين وغيرهم كل طائفة في عربة وكان مجموعها نيفا وسبعين حرفة وذلك خلاف الملاعيب والبهالوين والرقاصين والجنك ثم الموكب وبعده الاغوات والحريم والملازمون والسعاة والجاويشية وبعدها عربة العروس من صناعة الافرنج بديعة الشكل وبعدها مماليك الخزنة والملبسون الزروخ وبعدهم النوبة التركية والنفيرات وكانت زفة غريبة الوضع لم ينفق مثلها بعدها وبلغ المترجم في هذه الأيام من العظمة ما لم يبلغه أجد من نظرائه وكان إذا توجهت همته إلى أي شيء اتمه على الوجه الذي يريده ويقبل الرشوة وإذا أحب إنسانا قضى له اشغاله كائنة ما كانت من غير شيء فلما مات مخدومه إسمعيل بك وتعين في الأمارة بعده عثمان بك طبل استوزره أيضا وسلمه قيادة في جميع أموره وهو الذي أشار عليه بممالاته الأمراء القبليين عندما تضايق خناقه من حسن بك الجداوي ومناكدته له فكاتبهم سرا بسفارته وأطمعهم في الحضور وتمكينهم من مصر ومات المترجم في اثناء ذلك في غرة رمضان وذلك بعد إسمعيل بك بأربعة عشر يوما.
ومات الصنو الوجيه والفريد النبيه محمد أفندي بن سليمان أفندي ابن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي ككليويان ويقال لها: في اللغة العامية جمليان نشأ في عفة وصلاح وخير وطلب العلم وعانى الجزئيات والرياضيات ولازم الشيخ المرحوم الوالد وقرأ عليه كثير من الحسابيات الفلكيات والهيئة والتقويم ومهر في ذلك وانتظم في عدد أرباب المعارف واشترى كتبا كثيرة في الفن واستكتب وكتب بخطه الحسن واقتنى الالات والمستظرقات وحسب وقوم الدساتير السنوية عشرة اعوام مستقبلة بأهلتها وتواريخها وتواقيعها ورسم كثيرا من الآلات الغريبة والمنحرفات وكان شغله وحسابه في غاية الضبط والصحة والحسن وكان لطيف الذات مهذب الاخلاق قليل الأدعاء جميل الصحبة وقورا مات أيضا بالطاعون(2/132)
في شعبان وتبددت كتبه وآلاته.
ومات أيضا الخدن الشقيق والمحب الشفيق النجيب الاريب الأمير رضوان الطويل وهو من مماليك علي كتخدا الطويل وكان من هذا القبيل متولعا من صغره بهذا الفن وقرأ على الشيخ المتقن الشيخ عثمان الورداني وغيره وأنجب وحسب ورسم واشتغل فكره بذلك ليلا نهارا ورسم الأرباع الصحيحة المتقنة الكبيرة والصغيرة والمزاول والمنحرفات وغير ذلك من الآلات المبتكرة والرسميات الدقيقة واتسع باعه في ذلك واشتهر ذكره إلى أن قطعت يد الأجل نواره واطفأت رياح المنية أنواره.
ومات الجناب المكرم والاختيار المعظم الأمير إسمعيل أفندي الخلوتي اختيار جاويشان كان رجلا من أعيان الاختيارية في وقته معروفا صاحب حشمة ووقار ومعرفة بالسياسة وأمور الرياسة ولم يزل حتى توفي في شهر شعبان سنة 1205 بالطاعون.
ومات أيضا الجناب المكرم محمد أفندي باشقلفة وهو مملوك يوسف أفندي باشقلفة وخشداش محمد أفندي ثاني قلفة وعبد الرحمن أفندي وكان مليح بالذات جميل الصفات تقلد كتابة هذا القلم عندما تلبس السيد محمد باشقلفة بكتابة الروزنامة فسار فيها سيرا حسنا وحمدت مساعيه إلى أن وافاه الحمام وسارت نواعيه.
ومات أيضا النبيه اللطيف والمفرد العفيف أحمد أفندي الوزان بالضربخانة وكان إنسانا حسنا جميل الاوضاع مترهف الطباع محتشما وقورا ودودا محبوبا لجميع الناس(2/133)
سنة ست ومائتين وألف
استهل شهر محرم بيوم الأربعاء وفيه عينوا صالح آغا كتخدا الجاويشية إلى السفر إلى الديار الرومية وصحبته هدية وشربات وأشياء وصالح إنما هذا هو الذي بعثوه قبل ذلك لاجراء الصلح على يد نعمان أفندي.(2/133)
ومحمود بك وكاد أن يتم ذلك وأفسد ذلك حسن باشا ونفى نعمان أفندي بذلك السبب وذلك قبل موت حسن باشا بأربعة أيام فلما رجعوا إلى مصر في هذه المرة عينوه أيضا لللإرسالية لسابقته ومعرفته بالاوضاع وكان صالح اغا هذا عندما حضروا إلى مصر سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته فلما كان خامس المحرم ركب الأمراء لوداعه ونزل من مصر القديمة.
وفيه هبط النيل ونزل مرة واحدة وذلك في أيام الصليب ووقف جريان الخليج والترع وشرقت الاراضي فلم يرو منها إلا القليل جدا فارتفعت الغلال من السواحل والرقع وضجت الناس وايقنوا بالقحط وايسوا من رحمة الله وغلا سعر الغلة من ريالين إلى ستة وضجت الفقراء وعيطوا على الحكام فصار الاغا يركب إلى الرقع والسواحل ويضرب المتسببين في الغلة ويسمرهم في آذانهم ثم صار إبراهيم بك يركب إلى بولاق ويقف بالساحل وسعر الغلة بأربعة ريال الاردب ومنعهم من الزيادة على ذلك فلم ينجع وكذلك مراد بك كرر الركوب والتحريج على عدم الزيادة فيظهرون الأمتثال وقت مرورهم فإذا التفتوا عنهم باعوا بمرادهم وذلك مع كثرة ورود الغلال ودخول المراكب وغالبها للأمراء وينقلونها إلى المخازن والبيوت.
وفي أوائل صفر وصل قاصد وعلى يده مرسوم بالعفو والرضا عن الأمراء فعملوا الديوان عند الباشا وقرأوا المرسوم وصورة ما بنى عليه ذلك أنه لما حضر السيد عمر أفندي بمكاتبتهم السابقة إلى الباشا يترجون وساطته في اجراء الصلح أرسل مكاتبة في خصوص ذلك من عنده وذكر فيها أن من بمصر من الأمراء لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على منعهم ودفعهم وأنهم واصلون وداخلون على كل حال فكان هذا المرسوم جوابا عن ذلك وقبول شفاعة الباشا والاذن لهم بالدخول بشرط التوبة والصلح بينهم وبين اخوانهم فلما فرغوا من قراءة ذلك ضربوا شنكا ومدافع.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر حضر الشيخ الأمير الى مصر من الديار الرومية ومعه مرسومات خطابا للباشا والأمراء فركب المشايخ ولا قوه من(2/134)
بولاق وتوجه إلى بيته ولم يأت للسلام عليه أجد من الأمراء وانعمت عليه الدولة بألف قرش ومرتب بالضربخانة قرش في كل يوم وقرأ هنا البخاري عند الآثار الشريفة بقصد النصرة.
وفي شهر ربيع الأول عمل المولد النبوي بالازبكية وحضر مراد بك إلى هناك واصطلح مع محمد أفندي البكري وكان منحرفا عنه بسبب وديعته التي كان اودعها عنده واخذها حسن باشا فلما حضر إلى مصر وضع يده على قرية وكان اشتراها الأفندي من حسن جلبي بن علي بك الغزاوي وطلب من حسن جلبي ثمن القرية الذي قبضه من الشيخ ليستوفي بذلك بعض حقه وطال النزاع بينهما بسب ذلك ثم اصطلحا على قدر قبضه مراد بك منهما وحضر مراد بك إلى الشيخ في المولد وعمل له وليمة واستمر عنده حصة من الليل وخلع على الشيخ فروة سمور.
وفيه عملوا ديوانا عند الباشا وكتبوا عرضحال بتعطيل الميري بسبب شراقي البلاد.
وفيه سافر محمد بك الألفي إلى جهة شرقية بلبيس.
وفيه حضر إبراهيم بك إلى مسجد أستاذه للكشف عليه وعلى الخزانة وعلى ما فيها من الكتب ولازم الحضور إليه ثلاثة أيام وأخذ مفتاح الخزانة من محمد أفندي حافظ وسلمه لنديمه محمد الجراحي وأعاد لها بعض وقفها المرصد عليها بعد أن كانت آلت إلى الخراب ولم يبق بها غير البواب إمام الباب.
وفي شهر ربيع الثاني قرروا تفريدة على تجار الغورية وطيلون وخان الخليلي وقبضوا على انفار انزلوهم إلى التكية ببولاق ليلا في المشاغل ثم ردوهم ووزع كبار التجار ما تقرر عليهم من فقرائهم بقوائم وناكد بعضهم بعضا وهرب كثير منهم فسمروا دورهم وحوانيتهم وكذلك فعلوا بكثير من مساتير الناس والوجاقلية وضج الخلائق من ذلك.
وفي مستهل جمادى الأولى كتبوا فرمانا بقبض مال الشراقي ونودي به(2/135)
في النواحي وانقضى شهر كيهك القبطي ولم ينزل من السماء قطرة ماء فحرثوا المزروع ببعض الاراضي التي طشها الماء وتولدت فيها الدودة وكثرت الفيران جدا حتى اكلت الثمار من أعلى الاشجار والذي سلم من الدودة من الزرع اكله الفار ولم يحصل فيه هذه السنة ربيع للبهائم إلا في النادر جدا ورضي الناس بالعليق فلم يجد والتبن وبلغ حمل الحمار من قصل التبن الأصفر الشبيه بالكناسة الذي يساوي خمسة انصاف قبل ذلك مائة نصف ثم انقطع مرور الفلاحين بالكلية بسبب خطف السواس واتباع الأجناد فصار يباع عند العلافين من خلف الضبة كل حفان تسفين إلى غير ذلك.
وفيه حضر صالح اغا من الديار الرومية.
وفي شهر شوال سافر أيضا بهدية ومكاتبات إلى الدولة ورجالها.
وفي شهر القعدة وردت الأخبار بعزل الصدر الأعظم يوسف باشا وتولية محمد باشا ملكا وكان صالح اغا قد وصل إلى الأسكندرية فغيروا المكاتبات وأرسلوها اليه.
وفيه حضر اغا بتقرير لوالي مصر على السنة الجديدة وطلع بمكب إلى القلعة وعملوا له شنكا.
وفي اواخر شهر الحجة شرع إبراهيم بك في زواج ابنته عديلة هانم للامير إبراهيم بك المعروف بالوالي أمير الحج سابقا وعمر لها بيتا مخصوصا بجوار بيت الشيخ السادات وتغالوا في عمل الجهاز والحلي والجواهر وغير ذلك من الأواني والفضيات والذهبيات وشرعوا في عمل الفرح ببركة الفيل ونصبوا صواري إمام البيوت الكبار وعلقوا فيها القناديل ونصب الملاعيب والملاهي أرباب الملاعيب وفردت التفاريد على البلاد وحضرت الهدايا والتقادم من الأمراء والأكابر والتجار ودعا إبراهيم بك الباشا فنزل من القلعة وحضر صحبته خلع وفرا ومصاغ للعروس من جوهر وقدم له إبراهيم بك تسعة عشر من الخيل منها عشرة معددة وسجة لؤلؤ وأقمشة(2/136)
هندية وشبقات دخان مجوهره وعملوا الزقة في رابع المحرم يوم الخميس وخرجت من بيت أبيها في عربة غريبة الشكل صناعة الإفرنج في هيئة كمال من غير ملاعيب ولا خزعبلات والأمراء والكشاف وأعيان التجار مشاة أمامها.
وفيه حضر عثمان بك الشرقاوي وصحبته رهائن حسن بك الجداوي وهم شاهين بك وسكن في مكان صغير وآخرون.
وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك انفصل من حسن بك ومن معه وسافر على جهة القصير وذهب إلى جدة.
وأما من مات في هذه السنة.
مات الإمام الذي لمعت أفق الفضل بوارقه وسقاه من مورده النمير عذبه ورائقه لا يدرك بحر وصفه الإغراق ولا تلحقه حركات الافكار ولو كان لها في مضمار الفضل السباق العالم النحرير واللوذعي الشهير شيخنا العلامة أبو العرفان الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون واجتهد في طلب العلم وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره وشيوخه فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد وشرح المكودي على الألفية وشرح الشيخ خالد على قواعد الأعراب وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن أبي داود وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها وعلى الشيخ السيد البليدي وصحيح مسلم وشرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على(2/137)
الرجيبه ومعراج النجم الغيطي وشرح الخزرجية لشيخ الإسلام وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة وشرح الشريف الحسيني علىهداية الحكمة قال وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به وقرأت فيه رسائل عديدة وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملا مسكين على الكنز وعلى الشيخ عطية الاجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لاكثر وشرح جمع الجوامع للمحلى وشرح التلخيص الصغير للسعد وشرح الاشموني على الألفية وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية وشرح أم البراهين للحفصى وشرح الاجرومية لريحان اغا وعلى الشيخ على العدوى مختصر السعد على التلخص وشرح القطب على الشمسية وشرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح بقراءته لاكثره وشرح بن عبد الحق على البسملة لشيخ الإسلام ومتن الحكم لابن عطاء الله رحمهم الله تعالى أجمعين قال: وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية على الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي وقد لازمته المدة الطويلة وانتفعت بمدده ظاهرا وباطنا قال وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا سقانا الله من رحيق شرابهم كؤوس الصفا عن ثمرة رياض خلفهم ونتيجة أنوار شرفهم على الأكابر والأصاغر ومطمح انظار أولى الأبصار والبصائر أبي الأنوار محمد السادات ابن وفا نفحنا الله واياه بنفحات جده المصطفى وهو الذي كناني على طريقة اسلافه بأبي العرفان وكتب لي سنده عن حاله السيد شمس الدين أبي الأشراق عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق عن أخيه السيد أبي الارشاد يوسف عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب عن ولد عمه السيد بحيى أبي اللطف إلى آخر السند هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى ولم يزل المترجم يخدم العمل ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم العقلية والنقلية وقرأ الكتب المعتبرة في حياة أشياخه وربى التلاميذ(2/138)
واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل وشاع ذكره وفضله بين العلماء بمصر والشام وكان خصيصا بالمرحوم الشيخ الوالد اجتمع به من سنة سبعين ومائة وألف ولم يزل ملازما له مع الجماعة ليلا ونهارا وأكتسب من اخلاقه ولطائفة وكذلك بعد وفاته لم يزل على حبه ومودته مع الحقير وانضوى إلى أستاذ نا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية وآشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره ومن تآليفه حاشيته على الاشموني التي سارت بها الركبان وشهد بدفنها أهل الفضائل والعرفان وحاشية على شرح العصام على السمرقندية وحاشية على شرح الملوى على السلم ورسالة في علم البيان ورسالة عظيمة في آل البيت ومنظومة في علم العروض وشرحها ونظم أسماء أهل بدر وحاشية على آداب البحث ومنظومة في مصطلح الحديث ستمائة بيت ومثلثات في اللغة ورسالة في الهيئة وحاشية على السعد في المعاني والبيان ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى ورسالة في مفعل ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم وكان في مبدأ أمره وعنفوان عمره معانقا للخمول والأملاق متكلا على مولاه الرزاق يستجدي مع العفة ويستدر من غير كلفة وتنزل أياما في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما جدده عبد الرحمن كتخدا وسكن هناك مدة ثم ترك ذلك ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضا في وظيفة توقيتها وعمر له مكانا بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفة تركه واشترى له منزلا صغيرا بحارة الشنواني وسكن به ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططر زاده وكان متضلعا من العلوم والمعارف وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناجي واجتمعا به اعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما وكذلك سليمان أفندي الرئيس فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله بالملابس وركب البغال وتعرف أيضا باسمعيل كتخدا حسن باشا وتردد إليه قبل ولايته فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه(2/139)
بره ورتب له كفاتيه في كل يوم بالضربخانة والجزية وخرجا من كلاره من لحم وسمن وارز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوى وفراء وأقبلت عليه الدنيا وازداد وجاهة وشهرة عمل فرحا وزوج ابنه سيدي علي فأقبل عليه الناس بالهدايا وسعوا لدعوته وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة وألبس ابنه فروة يوم الزفاف وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادىء ظهور الطاعون في العام الماضي وتوعك الشيخ المترجم بعد ذلك بالسعال وقصبة الرئة حتى دعاه داعي الأكام وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى من السنة وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالبستان تغمده الله بالرحمة والرضوان وخلف ولده الفاضل الصالح الشيخ علي بارك الله فيه.
ومات السيد السند الإمام الفهامة المعتمد فريد عصره ووحيد شامه ومصره الوارد من زلال المعارف على معينها المؤيد بأحكام شريعة جده حتى ابان صبح يقينها السيد العلامة أبي المودة محمد خليل بن السيد العارف المرحوم علي بن السيد محمد بن القطب العارف بالله تعالى السيد محمد مراد بن علي الحسيني الحنفي الدمشقي اعاد الله علينا من بركاته علومهم في الدنيا والاخرة من بيت العلم والجلالة والسيادة والعز والرياسة والسعادة والمترجم وأن لم نره لكن سمعنا خبره ووردت علينا منه مكاتبات ووشى طروسة المحبرات وتناقل إلينا أوصافه الجميلة ومكارم اخلاقه الجليلة وكان شامة الشام وغرة الليالي وأيام اورق عوده بالشام واثمر ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض وقرأ القرآن على الشيخ سليمان الديركي المصري وطالع في العلوم والادبيات واللغة التركية والانشاء والتوقيع ومهر وانجب واجتمعت فيه المحاسن الحسية والمزايا المعنوية مع الطف خلق يسعى اللطف لينظر إليه ورقيق محاسن يقف الكمال متحيرا لديه وأنا وأن لم يقع لي عليه نظر بالعين فسماع الأخبار احدى الروايتين ولما توفي والده المرحوم تنصب مكانه مفتي الحنفية بالديار الشامية ونقيب(2/140)
الإشراف باجماع الخاص والعام وسار فيها احسن سير وزين بمآثره العلوم النفلية وملك بنقد ذهنه جواهرها السنية فكانت تتيه به على سائر البقاع بقاع الشام ويفتخر به عصره على جميع الليالي والأيام فلا تزال تصدح ورق الفصاحة في ناديها وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها ونور فضله باد وموائده ممدودة لكل حاضر وباد وكان رحمه الله مغرما بصيد الشوارد وقيد الاوابد واستعلام الأخبار وجمع الاثار وتراجم العصريين على طريق المؤرخين وراسل فضلاء البلدان البعيدة ووصلهم بالهدايا والرغائب العديدة والتمس من كل جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر يحسب وسع همته واجتهاده وكان هو السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى والتمس منه نحو ذلك فأجابه لطلبته ووعده بأمنيته فعند ذلك تابعه بالمراسلات واتحفه بالصلات المترادفات وشرع شيخنا المرحوم في جمع المطلوب بمعونة الفقير ولم يذكر السبب الحامل على ذلك وجمع الحقير أيضا ما تيسر جمعه وذهبت به يوما وعنده بعض الشاميين فأطلعته عليه فسر بذلك كثيرا وطار حتى وطارحته في نحو ذلك بمسمع من المجالس ولم يلبث السيد إلا قليلا وأجاب الداعي وتنوسي هذا الأمر شهورا ووصل نعي السيد إلى المترجم والصورة الواقعة وكانت أوراق السيد مختوما عليها فعند ذلك أرسل إلي كتابا وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من اوراقه وضم ما جمعه الفقير وما تيسر ضمه أيضا وإرساله وانتقل المترجم بعد ذلك لامور اوجبت رحلته منها إلى حلب الشهباء كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومائتين وألف وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب وهصرت يد الردي يانع غصنه الرطيب فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر لا زال جدثه روضة من رياض الجنان ولا برح مجرى لجداول الرحمة والرضوان وذلك في اواخر صفر من هذه السنة وهو مقتبل الشبيبة ولم يخلف بعده في(2/141)
الفضائل والمكارم مثله.
ومات الإمام المفوه من غذى بلبان الفضل وليدا وعدلبيد إذا قيس بفصاحته بليدا من له في المعالي ارومة وفي مغارس الفضل جرثومة الحسين ابن النور علي بن عبد الشكور الحنفي الطائفي الحريري الفقه والانشاء ويعرف بالمتقي من أولاد الشيخ علي المتقي مبوب الجامع الصغير من أكبر أصحاب الشيخ السيد عبد الله ميرغني ولد بالطائف بها نشأ وتكمل في الفنون العرفانية وتدرج في المواهب الاحسانية وأحبه السيد عبد الله وتعلق بأذياله وشرب من صفو الأوهام وأخذ بالحرمين عن عدة علماء كرام وشارك في العلوم ونافس في المنطوق والمفهوم إلا أنه غلب عليه التصوف وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف وبينه وبين شيخنا العيدروس مودة أكيدة ومحبة عتيدة ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة وقد ورد علينا مصر في سنة 1174 وسكن ببيت الشيخ محسن علي الخليج وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم فأعاد روض الانس نضيرا وماء المصافاة نميرا ودخل الشام وحلب وبها أخذ عن جماعة في أشياء منهم السيد إسمعيل المواهبي فقد عده من شيوخه واثنى عليه ودخل بلاد الروم وانعم بالمروم وعاد إلى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام.
وللسيد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة وغير ذلك مطارحات كثيرة وللمترجم مؤلفات حسان وكلها على ذوق أهل العرفان منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجا كأصلها علىلسان القوم ولما حج الشيخ التاودي بن سودة كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها حتى كتبت منها عدة نسخ ونوه بشأن صاحبها حتى عين له سلطان المغرب بصرة في كل سنة تصل إليه مع الركب والناس في المترجم مختلفون فمنهم من يصفه بالبراعة والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه فبهرهم نظامه ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد ويرميه بالحلول والاتحاذ وهو أن شاء الله تعالى مبرأ مما نسب إليه ولما اجتمع به العلامة(2/142)
محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله فكان أنيسا له في سائر احواله قال اختبرته حق الاختبار فلم اجد له إلا لسانا وهو مثار وبعد اشهر تبرم عن ملازمته واتخذ له حجرة في الحرم وعزل نفسه عنه فالتزم وحكى لي من اموره أشياء غريبة والمترجم معذور فإن ساداتنا المغاربة ليس لهم تحمل في سماع كلام مثل كلامه لانهم الفوا ظاهر الشريعة ولم يدخل على أذهانهم نوادر أهل العرفان ولا تسوروا حصونها المنيعة ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل ومواهبهم تصل إليه في كل قليل وكان له ولد يسمى جعفرا ورد علينا مصر في سنة خمس وثمانين وأقام معنا برهة يغدو إلينا ويبيت ويروح لزيارة بعض احباب ابيه بمصر ويذهب معنا لبعض المنتزهات إذ ذاك ولم يزل حتى اخترمته المنية سامحه الله ولم يخلف بعده مثله.(2/143)
سنة سبع ومائتين وألف.
استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها وانتشارهم بالمدينة حتى ملؤا الأسواق والازقة رجالا ونساء وأطفالا يبكون ويصيحون ليلا ونهارا من الجوع ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع.
وفيه أيضا هبط النيل قبل الصليب بعشرة أيام وكان ناقصا عن ميعاد الري نحو ذراعين فارتجت الأحوال وانقطعت الأمال وكان الناس ينتظرون الفرج بزيادة النيل فلما نقص انقطع أملهم واشتد كربهم وارتفعت الغلال من السواحل والعرصات وغلت اسعارها عما كانت وبلغ الإردب ثمانية عشر ريالا والشعير بخمسة عشر ريالا والفول بثلاثة عشر ريالا وكذلك باقي الحبوب وصارت الأوقية من الخبز بنصف فضة ثم اشتد الحال حتى بيع ربع الويبة بريال وآل الأمر إلى أن صار الناس يفتشون على الغلة فلا يجدونها ولم يبق للناس شغل ولا حكاية ولا سمر بالليل والنهار في مجالس الأعيان وغيرهم إلا مذاكرة القمح والفول والأكل ونحو ذلك وشحت النفوس واحتجب المساتير وكثر الصياح والعويل ليلا ونهارا فلا(2/143)
تكاد تقع الارجل الأعلى خلائق مطروحين بالازقة وإذا وقع حمارا وفرس تزاحموا عليه وأكلوه نيا ولو كان منتنا حتى صاروا يأكلون الاطفال ولما انكشف الماء وزرع الناس البرسيم ونبت اكلته الدودة وكذلك الغلة فقلب اصحاب المقدرة الأرض وحرثوها وسقوها بالماء من السواقم والنطالات والشواديف واشتروا لها التقاوى بأقصى القيم وزرعوها فأكله الدود أيضا ولم ينزل من السماء قطرة ولا أندية ولا صقيع بل كان في أوائل كيهلك شرودات واهوية حارة ثقيلة ولم يبق بالارياف إلا القليل من الفلاحين وعمهم الموت والجلاء.
وفي أواخر شهر ربيع الأول حضر صالح اغا من الديار الرومية وعلى يده مرسومات بالعفو وثلاث خلع احداها للباشا والاخريان لإبراهيم بك ومراد بك فاجتمعوا بالديوان وقرأوا المرسومات وضربوا مدافع وأحضر صحبته صالح آغا وكالة دار السعادة وانتزعها من مصطفى اغا واستولى على ملابلها.
وفيه وصلت غلال رومية وكثرت بالساحل فحصل للناس اطمئنان وسكون ووافق ذلك حصاد الذرة فنزل السعر إلى أربعة عشر ريالا الإردب وأما التبن فلا يكاد يوجد وإذا وجد منه شيء فلا يقدر من يشتريه على ايصاله لداره أو دابته بل يبادر لخطفه السواس واتباع الأجناد في الطريق وإذا سمعوا واستشعروا بشيء منه في مكان كبسوا عليه وأخذوه قهرا فكان غالب مؤنة الدواب قصب الذرة الناشف ويشرح الكثير من الفقراء والشحاذين في نواحي الجسور فيجمعون ما يمكنهم جمعه من الحشيش اليابس والنجيل الناشف ويأتون به ويطوفون به الأسواق ويبيعونه بأغلى الأثمان ويتضارب على شرائه الناس وأن صادفهم السواس والقواسة خطفوه من على رؤوسهم وأخذوه قهرا.
وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك الدفتردار لما سافر من القصير طلع على المويلح وركب من هناك مع العرب إلى غزة وأرسل سرا إلى مصر وطلب رجلا نصرانيا من اتباعه فذهب إليه صحبة الهجان بمطلوبات وبعض(2/144)
احتياجات ولما وصل إلى جهة غزة أرسل إلى أحمد باشا الجزار يعلمه بوصوله فأرسل لملاقاته خيلا ورجالا فذهب إليه وصحبته نحو الثلاثين نفرا لا غير فلما وصل إلى قرب عكا خرج إليه أحمد باشا ولاقاه ووجهه إلى حيفا ورتب لهم بها رواتب وأما مراد بك فإنه خرج إلى بر الجيزة من أول السنة وجلس في قصر إسمعيل بك الذي عمره هناك واشتغل بعمل جبخانة وآلات حرب وبارود وجلل وقنابر وطلب الصناع والحدادين وشرع في انشاء مراكب وغلايين رومية وزاد في بناء القصر ووسعه وانشأ به بستانا عظيما وغير ذلك وسافر عثمان بك الشرقاوي إلى ثغر الأسكندرية وجبى الأموال في طريقه من البلاد.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرين ربيع الآخر وخامس كيهك القبطي امطرت السماء مطرا متوسطا وفرح به الناس.
وفي يوم السبت غرة جمادى الأولى عدى مراد بك من بر الجيزة فدخل إلى بيته واخبروا عن عثمان بك الشرقاوي أنه رجع إلى رشيد ثم في رابعه حضر المذكور إلى مصر.
وفي ليلة الخميس خرج مراد بك وإبراهيم بك وباقي أمرائهم إلى جهة العادلية فأقاموا أياما قليلة ثم ذهب مراد بك إلى ناحية أبو زعبل وكذلك إبراهيم بك الوالي وصحبته جماعة من الأمراء إلى ناحية الجزيرة في وقت خروجهم نهب اتباعهم ما صادفوه من الدواب وصاروا يكبسون الوكائل التي بباب الشعرية ويأخذون ما يجدونه من جمال الفلاحين السفارة وحميرهم نهبا فأما مراد بك فإنه لما وصل إلى أبو زعبل وجد هناك طائفة من عرب الصوالحة في خيشهم لاجنية لهم فنهبهم وأخذ اغنامهم ومواشيهم وقتل منهم نحو خمسة وعشرين شخصا ما بين غلمان وشيوخ وأقام هناك يوما وقبض على مشايخ البلد أبى زعبل وحبسهم وقرر عليهم غرامة أجد عشر ألف ريال ولم يقبل فيهم شفاعة أستاذ هم وشتمه وضربه بالعصا وأما عرب الجزيرة فإنهم ارتحلوا من أماكنهم.
وفي شهر شعبان وقع الاهتمام بسد خليج الفرعونية بسبب احتراق(2/145)
البحر الشرقي ونضوب مائه وظهرت بالنيل كيمان رمل هايلة من حد المقياس إلى البحر المالح وصار البحر الغربي سلسلول جدول تخوضه الأولاد الصغار ولا يمر به إلا صغار القوارب وانقطع الجالب من جميع النواحي إلا ما تحمله المراكب الصغار باضعاف الاجرة وتعطلت دواوين المكوس فأرسلوا إلى سد الترعة رجلا مسلماني وصحبته جماعة من الافرنج وأحضروا الاخشاب العظيمة ورتبوا عمل السد قريبا من كفر الخضرة وركبوا آلات في المراكب ودقوا ثلاث صفوف خوابير من أخشاب طوال فلما أتموا ذلك كانت الصناع فرغت من تطبيق الواح في غاية الثخن شبه البوابات العظام وهي مسمرة بمسامير عظيمة ملحومة بالرصاص وصفائح الحديد مثقوبة بثقوب مقاسة علىما يوازيها من نجوش منجوشة بالخوابير المركوزة في الماء فإذا نزلوا ببوابة آلحموها بتلك الخوابير وتبعتهم الرجال بالجوابي المملوأة بالحصا والرمل من إمام ومن خلف وتبع ذلك الرجال الكثيرة بغلقان الأتربة والطين ففعلوا ذلك حتى قارب التمام ولم يبق إلا اليسير ثم حصل الفتور في العمل بسبب أن المباشر على ذلك أرسل لمراد بك بالحضور ليكون اتمامها بحضرته ويخلع عليه ويعطيه ما وعده به من الانعام فلم يحضر مراد بك وغلبهم الماء وتلف جانب من العمل وكان أيوب بك الصغير حاضرا وفي نفسه أن لا يتم ذلك لأجل بلاده فأصبح مرتحلا وتركوا العمل وانفض الجمع وقد أقام العمل في ذلك من أوائل شعبان إلى اواسط شوال ثم نزل إليها جماعة آخرون وطبوا جملة مراكب موسوقة بالاحجار وشرعوا في عمل سد المكان القديم عن فم الترعة ودقوا أيضا خوابير كثيرة وألقوا احجارا عظيمة وفرغت الاحجار فأرسلوا بطلب غيرها فلم تسعفهم القطاعون فشرعوا في هدم الأبنية القديمة والجوامع التي بساحل النيل وقلعوا احجار الطواحين التي بالبلاد القريبة من العمل واستمروا على ذلك حتى قويت الزيادة ولم يتم العمل ورجعوا كالاول وذهب في ذلك من الأموال والغرامات والسخرات وتلف من المراكب(2/146)
والاخشاب والحديد ما لا يحد ولا يعد.
وفي أوائل شوال ورد الخبر بأن علي بك سافر من عند أحمد باشا إلى اسلامبول صحبة قبجي معين فلما قرب من اسلامبول ارسلوا من وجهه إلى برصا ليقيم بها ورتبوا له كفايته في كل شهر خمسمائة قرش رومي.
من مات في هذه السنة ممن له ذكر.
مات السيد الإمام العارف القطب عفيف الدين أبو السيادة عبد الله ابن إبراهيم بن حسن بن محمد امين بن علي ميرغني بن حسن بن مير خوردابن حيدر بن حسن بن عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد بن علي بن إبراهيم ابن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن إسمعيل ابن ميرخورد البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادي ابن محمدالجوار الحسيني المتقي المكي الطائفي الحنفي الملقب بالمحجوب ولد بمكة وبها نشأ وحضر في مباديه دروس بعض علمائها كالشيخ النخلي وغيره واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف فانتسب إليه ولازمه حتى رقاه وبعد وفاته جذبته عناية الحق وارته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فحينئذ انقطعت الوسايط وسقطت الوسائل فكان اويسيا تلقيه من حضر جده صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك شيخنا السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة 1163 وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق قال وطلبت منه الاجازة واسناد كتب الحديث فقال غنى عنه قال فعلمت أنه أويسي المقام ومدده من جده عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى الطائف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثر شهيرة ومفاخرة كثيرة وكراماته كالشمس في كبد السماء وكالبدر في غيهب الظلماء وأحوله في احتجابه عن الناس مشهورة وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنة الناس مذكورة ومن مؤلفاته كتاب فرائض(2/147)
وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين والكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكب الثاقب وله ديوانان متضمنان لشعره احدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز صلى الله عليه وسلم اختصره من الجامع وذيله وكنوز الحقائق والبدر المنير وهو في أربعة كراريس وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقرأه دروسا ومنها شرح صيغة القطب بن مشيش ممزوجا وهو من غرائب الكلام ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار توفي رضي الله عنه في هذه السنة.
ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكني بأبي العز المكتب الخطاط ويعرف أيضا بحجاج وأمه الشريفة خاصكية ابنة القاضي جلبي بن أحمد العراقي من ذرية القطب شهاب الدين العراقي دفين شنوان الغرف بالمنوفية حفظ القرآن وجوده على الشيخ المقرى حجازي بن غنام تلميذ الزميلي وجود الخط المنسوب على الشيخ أحمد بن إسمعيل الافقم ومهر فيه وأجيز فنسخ بيده كثيرا من المصاحف ونسخ الدلائل والكتب الكبار منها الأحياء للغزالي والأمثال للميداني وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة وفي غضون ذلك تردد على جملة من الشيوخ كالشهابين الملوي والجوهري وأخذ عنهما أشياء والشمس الحفني والشيخ حسن المدابغي ومحمد بن النعمان الطائي في آخرين وأحبوه وجاور بالحرم سنة ثم عاد إلى مصر ولازم معنا كثيرا على شيخنا السيد مرتضى في حضور الحديث فسمع البخارى بطرفيه ومسلما بطرفيه وسنن أبي داود إلى قريب ثلثيه وغالب الشمائل للترمذي وثلاثيات البخاري وثلاثيات الدرامي والحلية لأبي نعيم من أوله إلى مناقب العشرة وأجزاء كثيرة بحدودها في ضمن إجازته باسانيدها وكان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظا للنوادر من الاشعار(2/148)
والحكايات وأصيب المترجم بكريمتيه عوضه الله دار الثواب من غير سابقة عذاب ولا عتاب توفي سابع عشرين جمادى الأولى من السنة.
ومات الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر علام المغرب الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي ولد بفاس سنة 1128 وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارع الأكتفاء والشفاء ولامية الزقاق وغيرها والشهاب أحمد بن عبد العزيزالهلالي السجلماسي قرأ عليهما الموطا وغيرها والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي قرأ عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث وكان في أكثرها هو القارىء بين يديه مدة مديدة وأذن له في اقراء الصحيح في حياته فألقى دروسا بين يديه وكان يوده ويسر به ويقدمه على سائر الطلبة ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائة وألف بالطاعون تزاحم ذو الوجاهات فيمن يلحده في قبره فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره وتلك كرامة له ورضوا بذلك قال وكلمته يوما في شأن الحج متمنيا له ذلك فقال لي مشيرا إلى شيخه سيدي عبد العزيز الدباغ أن الناس قالوا لي جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة وأنت ستحج واعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى قال: ولم تك نفسي تحدثني بالحج يومئذ ولم يخطر ببال ومنهم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله محمد ابن قاسم جسوس لازمه مدة وقرأ عليه كتبا منها رسالة بن أبي زيد ومختصر خليل ثلاث ختمات مع مطالعه شروح وحواش والحكم والشمائل وجميع الصحيح من غير فوت شيء منه ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقاء يعيش بن الزغاوي الشاوي قرأ عليه رجز بن عاصم ولامية الزقاق وطرفا من الصحيح توفي سنة 1150 كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة فنزل به اللصوص ليلا فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيدا رحمه الله ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الأنام أبو العباس(2/149)
أحمد بن أحمد الشدادي الحسني قرأ عليه المختصر الخليلي من أوله إلى الوديعة أو العارية وسمع عليه بعض التفسير من أوله ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد والحكم والتفسير من أوله إلى سورة النساء ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو عبد الله محمد بن جلون قرأ عليه الاجرومية وختم عليه الألفية مرتين والمختصر الخليلي من أوله إلى اليمين ولم يكن له نظير في الضبط والاتقان والتحرير وهو أول شيخ أخذ عليه وذلك قبل البلوغ وكان إذا قام من دروسه عرض على نفسه ماقاله فيجده لا يدع منه حرفا واحدا ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد ابن الحسن الجندوز قرأ عليه الألفية فكان يملي من حفظه في اثنائه الشروح والحواشي وشروح الكافية والتسهيل والرضي والمعنى والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب وقرأ عليه السلم والتلخيص ومن انصافه أنه لما قرب اواخره بلغه أن الشيخ بن مبارك يريد أن يقرأه فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه وهذا من حسن انصافه واعترافه بالحق ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري قرأ عليه الألفية بلفظة ثلاث مرات وشيئا من التسهيل والمغنى وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام أنه قرأ الألفية ألف مرة فقال له بعض من سمعه وكم قرأتها قال أما المائة فجزتها فهؤلاء عشرة شيوخ كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد ابن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف وحج المترجم فقدم مصر سنة أحدى وثمانين ورجع سنة 1182 وعقد درسا حافلا بالجامع الأزهر برواق المغاربة فقرأ الموطأ بتمامه وحضره غالب الموجودين من العلماء واجاد في تقريره وافاد وسمع عليه الكثير أوائل الكتب الستة والشمائل والحكم وغيرها واجاز ولقي بمكة أبا زبد عبد الرحمن بن اسلم اليمني وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني والشيخ إبراهيم الزمزمي وغيرهم وبالمدينة(2/150)
أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان وابا الحسن السندي وعبد الله جعفر الهندي وغيرهم واجازوه واجازهم وعاد إلى مصر واجتمع بفاضلها كالجوهري والصعيدي وحسن الجبرتي والطحلاوي والسيد العيدروس والشيخ محمود الكردي وعيسى البراوي والبيومي والعربان وعطية الأجهوري وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر وسيدي أبو بكر خالي العذار جميل الصورة وتردد على الشيخ الوالد كثيرا وتلقى عنه بعض الرياضيات وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني والشيخ أحمد السوسي ونسهر غالب الليل نراعي المطالع والمغارب وممرات الكواكب بالسطح حذاء خيط المساترة ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه وهو معنا في ناحية أخرى واوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدائرة المقنطر والمجيب توفي سيدي محمد بفاس سنة 1193 ومن تآليف المترجم حاشية قوله وارخه إلى آخره ابتداء التاريخ من الزاي من زج مع حساب السنين بثلاثمائة على قاعدة المغاربة إلا أنه يزيد واحدا عن سنة الوفاة فلعله مات سنة أربع وتسعين ومائة وألف كما يظهر ذلك بحساب التاريخ على البخاري في أربع مجلدات وحاشية على الزرقاني شارح خليل وشرحان على الأربعين النووية ومناسك حج وشرح الجامع لسيدي خليل وشرح تحفة بن عاصم في القضاء والأحكام والمنحة الثابتة في الصلاة الفائتة وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال وحاشية علي بن جزي المفسر وحاشية على البيضاوي لم تكمل وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنساء وكلفه سلطان المغرب خطة القضاء في سنة 1203 فقبلها كرها وكانت فتاويه مسددة واحكامه مؤيدة مع غاية التحرز والصيانة والاتقان وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة يغلب دلاله على جماله قليل التبسم ولما توفي مولاي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب(2/151)
بين أولاده اجتمع الخاصة والعامة على رأى المترجم فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية والسنن المحمدية وبايعه الكافة بعده على ذلك وعلى نصره الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم وكان كذلك ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة حتى توفي في هذه السنة وتوفي بعده ابنه سيدي أبو بكر في سنة عشر ومائتين وألف.
ومات الإمام العلامة والوجيه الفهامة الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله ابن محمد الخناني المالكي البرهاني وجده الاخير يعرف بأبي شوشة وله مقام بزار بام خنان بالجيزة نشأ في طلب العلم وحضر أشياخ الوقت ولازم السيد البليدي وصار معيدا لدروسه بالأزهر والاشرفية وانتفع بملازمته له انتفاعا كليا وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه ونوه بشأنه فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقراء الحديث مكانه بالمشهد الحسيني واجتمع عليه الناس وحضره من كان ملازما لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم واعتقدوا صلاحه وتحبب إليهم وواسوه بالصلاة والزكوات النذور وواظب الاقراء بالأزهر أيضا وزيارة مشاهد الأولياء واحياء لياليها بقراءة القرآن والذكر ويقوم دائما من الثلث الأخير من الليل ويذهب إلى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة وزاد اعتقاد الناس فيه واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وامسكاها وبآخرة اشترى دارا عظيمة بحارة كنامة المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر وانتقل إليها وسكنها وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس فنزل العرب في بعض الجمع إلى بين الكيمان فأراد الهروب وكان جسيما فسقط من على بغلته على خربته فانكسر زره وحمل إلى داره وعالج نفسه شهورا حتى عوفي قليلا ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله وما رأيته قط إلا وهو يتلو قرآنا أو يطالع كتابا سامحه الله تعالى(2/152)
ومات الإمام الفاضل الصالح النجيب المفوه الناجح الشيخ محمد ابن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري قرأ على والده وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وانجب في العلوم وله سليقة جيدة في النثر والنظم وحصل كتبا نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده وله محبة في آل البيت ومدائح كثيرة وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظا بديعا ولم يزل المترجم مقبلا على شأنه مواظبا على دروسه حتى توفي في هذه السنة رحمه الله.
ومات الأجل الصالح الناسك المسلك العارف الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الحماقي وأدرك الأسقاطي والمنصوري ولم يتزوج قط وكف بصره سنة 1181 وانقطع في بيته احدى وعشرين سنة بمفرده وليس عنده قريب ولا غريب ولا جارية ولا عبد ولا من يخدمه في شيء مطلقا وبيته متسع جهة التبانة وبابه مفتوح دائما وعنده الأغنام والدجاج والأوز والبط والجميع مطلوقون في الحوش وهو يباشر علفهم واطعامهم وسقيهم الماء بنفسه ويطبخ طعامه بنفسه وكذلك يغسل ثيابه واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والاسرار ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه وكان له يد طولي في كل شيء ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف والأسماء والروحانيات والأوفاق واستحضار تام في كل ما يسأل عنه وعنده عدة كثيرة من السنانير ويعرفها بالواحد بأسمائها وأنسابها وألوانها ويقول هذه تحفة بنت بستانه وهذه كمونة بنت ياسمين وهذه فلانة أخت فلانة إلى غير ذلك توفي رحمه الله تعالى في شهر شوال من هذه السنة.
ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة المعمر المتقدم الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية وقرأ القرآن وحفظه(2/153)
وجوده وحضر إلى مصر المتون وتفقه على الاشياخ المتقدمين كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم ومهر في المعقول والمنقول وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس كان يتردد إلى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوائده ونوادره وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطائف لا يمل حديث ومفاكهته توفي في هذه السنة رحمه الله.
ومات الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي النحرير الفصيح المتقن المتفنن الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري حضر شيوخ العصر ولازم الشيخ الملوي والجوهري وكان معيد الدروس الاخيروبه وبه تخرج وكان يقرأ الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة إلا أنه كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب ايامه ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان ويطلبها وأن قلت وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم وله منظومة في الفقه ومنظومة في المنطق ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى ومنظومة في المنطق ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى ومنظومة في العروض ومنظومة في البان ومنظومة في الطب وله لاميتان على محاكات لامية بن الوردي كبرى الملوي على السمرقندية توفي في اواخر شعبان من السنة.
ومات الإمام العلامة النبيه الوجيه الفاضل المستعد الشيخ يوسف ابن عبد الله بن منصور السنبلاويني الشهير برزه الشافعي تفقه على بلدية الشيخ أحمد رزة وحضر دروس الشيخ الحفني والشيخ البراوي والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الاشياخ وأنجب ودرس وأفاد ولازم الاقراء وكان إنسانا وجيها محتشما ساكن الجاش وقورا بهي الشكل قانعا بحاله لا يتداخل كغيره في أمور الدنيا مجمل الملابس لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الاحيان لبعض الأمور الضرورية ولم يزل حتى تعلل وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات العلامة المفيد المفوه المجيد الشيخ عبد الرحمن بن علي بن الإمام(2/154)
العلامة عبد الرؤوف البشبيشي نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الاشياخ وتفقه في مذهب ابيه وجده وهم شافعيون واجتمع بالشيخ الوالد ولازمه ملازمة كلية وحضر عليه في مذهب أبي حنيفة وحفظ كثيرا من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات وأقراني في حال الصغر شيئا من القرآن وحروف الهجاء وكان به بعض رعوته فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة واخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله فلامه على فعله وانحط قدره عنده من ذلك الوقت وذلك بعد موت والده في سنة 1187 واملق حاله وتكدر باله وسافر بآخرة إلى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله ثم قدم مصر لامر عرض له فأقام بمصر وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شؤونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب وكان إنسانا حسنا يذاكر بفوائد مع حسن المعرفة وصحة الذهن وربما تعلق ببعض فنون غريبة ولذا قل حظه رحمه الله في هذه السنة وحيدا في داره وهو جالس.
ومات المجذوب المعتقد السيد علي البكري أقام سنينا متجردا ويمشي في الأسواق عريانا ويخلط في كلامه وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته وقد تقدم ذكره وذكر المرأة التي تبعته المعروفة بالشيخة أمونة وكان يحلق لحيته وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون إلى تخليطاته ويوجهون ألفاظه ويؤولونها على حسب أغراضهم ومقتضيات احولهم ووقائعهم وكان له أخ من مساتير الناس فحجر عليه ومنعه من الخروج وألبسه ثيابا ورغب الناس في زيارته وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة وأتوا إليه الهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد وازدحم عليه الخلائق وخصوصا النساء فراج بذلك أمر أخيه واتسعت دنياه ونصبه شبكة لصيده ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت وسمن بدنه وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة وقد كان قبل ذلك عريانا شقيانا يبيت غالب لياليه(2/155)
بالجوع طاويا من غير أكل بالازقة في الشتا والصيف وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته وقضاء حاجته ولا يزال يحدث نفسه ويخلط في الفاظه وكلامه وتارة يضحك وتارة يشتم ولا بد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات فيعدون ذلك كشفا واطلاعا على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم ويحتمل أن يكون كذلك فإنه كان من البله المجاذيب المستغرقين في شهود حالهم وسبب نسبتهم هذه أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكرية ولم يزل هذه حالة حتى توفي في هذه السنة واجتمع الناس لمشهده من كل ناحية ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي في قطعة من المسجد وعملوا على قبره مقصورة ومقاما يقصد للزيارة واجتمع عند مدفنه في ليال وميعادات قراء ومنشدون وازدحم عند أصناف الخلائق ويختلط النساء بالرجال ومات أخوه أيضا بعده بنحو سنتين.
ومات الوجيه المكرم والنبيه المفخم مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي ولد سنة 1174 ونشأ في حجر والده وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره وحفظ في صغره وحفظ البرجلي والشاهدي ومهر في اللغة التركية وتفقه على ابيه وقرأ عليه علم الصرف وحضر على بعض الأشياخ ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجيرت بالأزهر ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأورام ولبس له تاجا وفراجة وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي وذلك قبل نبات لحيته وكان وسيما جسيما بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من الناس من ابناء العرب والأتراك والأمراء والأجناد فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان وممن كان يحضره علي أغا مستحفظان وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيرا ويذهب هو أيضا إلى داره كثيرا وكان والده متوليا على وقف اسكند ومشيخة التكية بباب الخرق فكان(2/156)
هو المتكلم على ذلك عوضا عن أبيه واتفق أنه حاسب المباشر على ذلك وهو الشيخ أحمد الصفطة وطالبه بما تأخر عليه فما طلبه فأغرى به علي أغا المذكور فطلب الشيخ أحمد المذكور ونكل به وشهره وعلقه على شباك السبيل بباب الخرق بقاووقه وهيئته واجتمع الناس للفرجة عليه يوما كاملا ثم اطلقه فاشتهر أمر المترجم وهابه الناس وأكثر من الترداد إلى بيوت الأمراء وعظموه وأحبوه وأكرموه لاتحاد الجنسية وارتباط الحيثية ولما توفي مصطفى أفندي شيخ رواقهم انتبذ هو لطلب المشيخة وذهب إلى مراد بك فألبسه فروة على مشيخة الرواق فتعصب أهل الرواق وأبو مشيخته عليهم لحداثة سنه واجتعوا وذهبوا إلى مراد بك فزجرهم ونهرهم وطردهم فرجعوا بقهرهم وسكتوا واستمر شيخا عليهم يأتي إلى الرواق في كل يوم ويقرأ لهم الدرس كما كان من قبله واشتهر ذكره وعظمت لحيته وصار ذا وجاهة عظيمة وسكن دارا عظيمة جهة التبانة من وقف رواقهم ودعا إليه الأعيان والأكابر وعمل لهم ولائم وقدم لهم التقادم والهدايا واحتفل به مصطفى أغا الوكيل وسعى له في اشغاله وكاتب الدولة في شأنه فأرسلوا له مرتبا بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفا في كل يوم واتسع حاله وأقبلت عليه الدنيا من كل جهة ومات أبوه في سنة أربع ومائتين وألف وكان ذا مكنة وحرص فأحرز مخلفاته أيضا وباع تركته وكان سليط اللسان في حق الناس فاتفق أنه لما حضر حسن باشا إلى مصر فحضر مرة إلى زيارة المشهد الحسيني وجلس مع الشيخ السادات والشيخ البكري فدخل عليهم المترجم فجلس هنيهة ثم قام فسأل عنه حسن باشا فأخبره الشيخ السادات عن أحواله وتكلمه في حق الناس فأمر بنفيه فأنزعج عليه والده ثم ذهب إلى حسن باشا وكلمه فرق له ورحم شيبته وأمر برد ابنه فرجع من ليلته ولم يزل يسعى ويتحيل حتى أحضر حسن باشا إلى داره وجدد معه صداقة وصحبة حتى كان أن يأخذه صحبته ولم يزل في فوعته وفورته حتى غار ماء حياته وانغلق عن الفتح باب قبره(2/157)
هو المتكلم على ذلك عوضا عن أبيه واتفق أنه حاسب المباشر على ذلك وهو الشيخ أحمد الصفطة وطالبه بما تأخر عليه فما طلبه فأغرى به علي أغا المذكور فطلب الشيخ أحمد المذكور ونكل به وشهره وعلقه على شباك السبيل بباب الخرق بقاووقه وهيئته واجتمع الناس للفرجة عليه يوما كاملا ثم اطلقه فاشتهر أمر المترجم وهابه الناس وأكثر من الترداد إلى بيوت الأمراء وعظموه وأحبوه وأكرموه لاتحاد الجنسية وارتباط الحيثية ولما توفي مصطفى أفندي شيخ رواقهم انتبذ هو لطلب المشيخة وذهب إلى مراد بك فألبسه فروة على مشيخة الرواق فتعصب أهل الرواق وأبو مشيخته عليهم لحداثة سنه واجتعوا وذهبوا إلى مراد بك فزجرهم ونهرهم وطردهم فرجعوا بقهرهم وسكتوا واستمر شيخا عليهم يأتي إلى الرواق في كل يوم ويقرأ لهم الدرس كما كان من قبله واشتهر ذكره وعظمت لحيته وصار ذا وجاهة عظيمة وسكن دارا عظيمة جهة التبانة من وقف رواقهم ودعا إليه الأعيان والأكابر وعمل لهم ولائم وقدم لهم التقادم والهدايا واحتفل به مصطفى أغا الوكيل وسعى له في اشغاله وكاتب الدولة في شأنه فأرسلوا له مرتبا بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفا في كل يوم واتسع حاله وأقبلت عليه الدنيا من كل جهة ومات أبوه في سنة أربع ومائتين وألف وكان ذا مكنة وحرص فأحرز مخلفاته أيضا وباع تركته وكان سليط اللسان في حق الناس فاتفق أنه لما حضر حسن باشا إلى مصر فحضر مرة إلى زيارة المشهد الحسيني وجلس مع الشيخ السادات والشيخ البكري فدخل عليهم المترجم فجلس هنيهة ثم قام فسأل عنه حسن باشا فأخبره الشيخ السادات عن أحواله وتكلمه في حق الناس فأمر بنفيه فأنزعج عليه والده ثم ذهب إلى حسن باشا وكلمه فرق له ورحم شيبته وأمر برد ابنه فرجع من ليلته ولم يزل يسعى ويتحيل حتى أحضر حسن باشا إلى داره وجدد معه صداقة وصحبة حتى كان أن يأخذه صحبته ولم يزل في فوعته وفورته حتى غار ماء حياته وانغلق عن الفتح باب قبره(2/158)
سنة ثمان ومائتين وألف.
فيها أوفى النيل أذرعه في سادس عشر المحرم الموافق لثامن عشر مسرى القبطي وأول برج السنبلة وفيها انحلت الأسعار وبورك في رمي الغلال حتى أن الفدان الواحد زكا بقدر خمسة أفدنة وبلغ النيل إلى الزيادة المتوسطة وثبت إلى أول بابه وشمل الماء غالب الأرض بسبب التفات الناس لسد المجارى وحفر الترع واصلاح الجسور.
وفي أوائل شهر صفر وصل قابجي من الديار الرومية بطلب مال المصالحة والحلوان فانزلوه في دار وهادوه ورتبوا له مصروفا.
ومن الحوادث أن الناس انتظروا جاويش الحاج وتشوفوا لحضوره ولم يذهب إليهم في هذه السنة ملاقاة بالوش ولا بالازلم وأرسل إبراهيم بك هجانا يستخبر عن الحجاج فذهب ورجع ليلة الثالث والعشرين من شهر صفر وأخبر أن العرب تجمعوا على الحج من سائر النواحي عند مغاير شعيب ونهبوا الحجاج وكسروا المحمل واحرقوه وقتلوا غالب الحجاج والمغاربة معهم وأخذوا أحمالهم ودوابهم ونهبوا أثقالهم وانجرح أمير الحج وأصابه ثلاث رصاصات وغاب خبره ثلاثة أيام ثم أحضره العرب وهو عريان في أسوأ حال وأخذوا النساء بأجمالهن والذي تبقى منهم أدخلوه إلى قلعة العقبة وتركهم الهجان بها من غير ماء ولا زاد فنزر بالناس من الغم والحزن تلك الليلة ما لا مزيد عليه ثم أنهم عينوا محمد بك الألفي وعثمان بك الاشقر ليسافرا بسبب ذلك فخرجا في يوم الخميس سابع عشرين صفر وخطف اتباعهم في ذلك اليوم ما صادفوه من الجمال والبغال والحمير وقرب السقائين التي تنقل الماء من الخليج ونهبوا الخبر من الطوابين والمخابر والكعك والعيش من الباعة وفي يوم خروجهم(2/159)
وصل جماعة من الحجاج ودخلوا في أسوأ حال من العري والجوع والتعب فلما وصلوا إلى نخل تلاقوا مع باقي الحجاج عل مثل ذلك ووجدوا أمير الحاج ذهب إلى غزة وصحبته جماعة من الحجاج وأرسل يطلب الأمان ولم يزوروا المدينة في هذه السنة وأرسل من صرة المدينة اثنين وثلاثين ألف ريال مع عرب حرب ضاع في هذه الحادثة من الأموال والمحزوم شيء كثير جدا واخبروا أن مواسم هذا العام كان من أعظم المواسم لم يتفق مثله من مدة مديدة.
وفي يوم الإثنين غرة ربيع الأول دخل باقي الحجاج على مثل حالة من وصل منهم قبل ذلك.
وفي صبحها يوم الثلاثاء عملوا الديوان بالقلعة واجتمع الأمراء والوجاقلية والمشايخ وقرىء المرسوم الذي حضر بصحبة الاغا فكان مضمونه طلب الحلوان والخزينة وقدر ذلك تسعة آلاف واربعمائة كيس وعشرة آلاف وخمسة واربعون نصفا فضة تسلم ليد الاغا المعين من غير تأخير.
وفيه عملوا على زوجات أمير الحاج ثلاثين ألف ريال وأرسلوا إلى بيت حسن كاشف المعمار فأخذوا ما فيه من الغلال وغيرها لأنه قتل في معركة العرب مع الحجاج وألبسوا زوجته الخاتم قهرا عنها ليزوجوها لمملوك من مماليك مراد بك وهي بنت علي اغا المعمار ووجدت على زوجها وجدا عظيما وأرسلت جماعة لاحضار رمته من قبره الذي دفن فيه في صندوق على هيئة تابوت.
وفيه شرع الأمراء في عمل تفريدة على البلاد بسبب الأموال المطلوبة وقرروها عال وهو أربعمائة ريال ووسط ثلثمائة والدون مائة وخمسون وكتبوا اوراقها على الملتزمين ليحصلوها منهم.
وفي يوم الخميس سافر حسن كتخدا أيوب بك بامان لعثمان بك ليحضره من غزة ووصل المتسفرون بجثة حسن كاشف المعمار(2/160)
وفي عشرين جمادى الأولى وصل عثمان بك طبل الإسماعيلي أمير الحاج إلى مصر مكسوف البال ودخل إلى بيته.
وفيه حضر الصدر الأعظم يوسف باشا إلى الأسكندرية ليتوجه إلى الحجاز فاعتنى الأمراء بشأنه وأرسلوا له ملاقاة وتقادم وهدايا وفرشوا له قصر العيني ووصل إلى مصر وطلع من المراكب إلى قصر العيني واسلوا له تقادم وضيافات ثم حضروا للسلام عليه في زحمة وكبكبة فخلع على إبراهيم بك ومراد بك خلعا ثمينة وقدم لهما حصانين بسرجين مرختين ثم نزل له الباشا المنولي بعد يومين وسلم عليه ورجع إلى القلعة وأقاموا لخفارته عبد الرحمن بك الإبراهيمي جلس بالقصر المواجه لقصر العيني وقد تخيلوا من حضوره وظنوا ظنونا.
وفي يوم الأحد ثالث جمادى الثانية طلع يوسف باشا إلى القلعة باستدعاء من الباشا المتولي فجلس عنده إلى بعد الظهر ونزل في موكب حافل إلى محله بقصر العيني وأرسل له إبراهيم بك ومراد بك مع كتخدائهم هدية وهي خمسمائة أردب قمح ومائة اردب ارز وتعبيات اقمشة هندية وغير ذلك وأقام بالقصر أياما وقضوا أشغاله وهيؤا له اللوازم والمراكب بالسويس وركب في اواسط جمادى الثانية وذهب إلى السويس ليسافر إلى جدة من القلزم وانقضت هذه السنة وحوادثها واستهلت الأخرى.
من مات فيها من الأعيان ومن سارت بذكرهم الركبان.
مات نادرة الدهر وغرة وجه العصر إنسان عين الاقاليم فريد عقد المجد النظيم جامع الفضائل والمحاسن ومظهر اسم الظاهر والباطن من لبس رداء النجابة في صباه ولاح عنوان المكارم على صحائف علاه ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن ابيه وجده الحسيب النسيب والنجيب الأريب السيد محمد أفندي البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب السادة الأشراف بمصر المحمية تقلد بعد والده المنصبين وورث عنه(2/161)
السيادتين فسار فيهم سيرة الملوك ونثر فرائد المكارم من أسلاك السلوك فجوده حدث عن البحر ولا حرج وبراعة منطقه تلتج سلب الالباب والمهج مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال وأخبار غنية عن البيان مسطرة في صحف الأمكان زمانه كأنه عروس الفلك فكم قال له الدهر: أما الكمال فلك ولم يزل كذلك إلى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت بعد ما طلعت من مشرق الاقبال وقطفت زهرة شبابه وقد سقتها دموع احبابه وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثاني وخرجوا بجنازته من بيتهم بالازبكية وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه وبالجملة فهو كان مسك الختام قلما تسمح بمثله الأيام ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي.
ومات علامة العلوم والمعارف وروضة الأداب الوريقة وظلها الوارف جامع المزايا والمناقب شهاب الفضل الثاقب الإمام العلامة الشيخ أحمد ابن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبضاوي والجلالين وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية وعلى الشمس الحفني الصيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر بن أبي جمرة والشمائل وابن حجر على الأربعين والجامع الصغير وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الاطفيجي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الاجهوري وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة وكان معيدا لدروسه وسمع عليه الصحيح بجامع مرزة ببولاق(2/162)
وسمع من الشيخ ابن الطيب الشمائل لما ورد مصر متوجها إلى الروم وحضر دروس الشيخ يوسف الحفني والشيخ إبراهيم الحلبي وإبراهيم بن محمد الدلجي ولازم الشيخ الوالد وأخذ عنه وقرأ عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقائق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهدايةوقاضي زادة وغير ذلك وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثير واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العربان فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه كما تقدم واختاروه لهذه الخطة العظيمة فكان كذلك واستمر شيخ الجامع على الاطلاق ورئيسهم بالاتفاق يدرس ويعيد ويملي ويفيد ولم يزل يراعي للحقير حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة وسمعت من فوائده كثيرا ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي والمطول وعصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك وكان رقيق الطباع مليح الاوضاع لطيفا مهذبا إذا تحدث نفت الدر وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر ولم تزل كؤوس فضله على الطلبة مجلوة حتى ورد موارد الموت ودعاه الله تعالى بجوار الجنان وتلقاه جدثه بروح رحمة ورضوان وذلك في حادي عشرين شعبان وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بمدفن صهره الشيخ العريان تغمده الله بالرحمة والرضوان ومن تآليفه شرح على نظم التنوير في اسقاط التدبير الشيخ الملوي وهو نظم وحاشية على الملوي على السمرقندية وغير ذلك وخلف أولاده الأربعة كلهم فضلاء أذكياء نبلاء أحدهم الذي تعين بالتدريس في محله بالأزهر العلامة اللوذعي والفهامة الالمعي شمس الدين السيد محمد واخوه النبيه الفاضل المتقن شهاب الدين السيد أحمد وأخوه الذكي(2/163)
اللبيب والفهيم النجيب السيد عبد الرحمن والنبيه الصالح والمفرد الناجح السيد مصطفى بارك الله فيهم.
ومات الخواجة المعظم والملاذ المفخم حائز رتب الكمال وجامع مزايا الافضال سيدي الجامع محمود بن محرم اصل والده من الفيوم واستوطن مصر وتعاطى التجارة وسافر إلى الحجاز مرارا واتسعت دنياه وولد له المترجم فتربى في العز والرفاهية ولما ترعرع وبلغ رشده وخالط الناس وشارك وباع واشترى وأخذ واعطى ظهرت فيه نجابة وسعادة حتى كان إذا مسك التراب صار ذهبا فانجمع والده وسلم له قياد الأمور فاشتهر ذكره ونسا أمره وشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية وعرف بالصدق والأمانة والنصح فاذعنت له الشركاء والوكلاء ووثقوا بقوله ورأيه واحبه الأمراء المصرية وتداخل فيهم بعقل وحشمة وحسن سير وفطانة ومدارات وتؤدة وسياسة ولطف وأدب وحسن تخلص في الأمور الجسيمة وعمر داره ووسعها واتحفها وخرفها وأنشأ بها قاعة عظيمة وامامها فسحة مليحة الشكل وحول القاعة بستان بديع المثال وهي مطلة عليه من الجهتين وزوج ولده سيدي أحمد الموجود الآن وعمل له مهما عظيما دعا إليه الأكابر والأعيان والتجار وتفاخر فيه إلى الغاية وعمر مسجدا بجوار بيته بالقرب من حبس الرحبة فجاء في غاية الإتقان والحسن والبهجة ووقف عليه بعض جهات ورتب فيه وظائف وتدريسا وبالجملة كان إنسانا حسنا وقورا محتشما جميل الطباع مليح الأوضاع ظاهر العفاف كامل الأوصاف حج في هذه السنة من القلزم ورجع في البرمع الحجاج في إمارة عثمان بك الشرقاوي على الحج في أحمال مجملة وهيئة زائدة مكملة فصادفتهم شوبة فقضى عليه فيها ودفن بالخيوف ولم يخلف في بابه مثله رحمه الله.
ومات الأمير حسن كاشف المعمار واصله مملوك محمود بك واعطاه لعلي اغا المعمار اخذه صغيرا ورباه ودربه في الأمور وزوجه ابنته وعمل لزواجهما(2/164)
مهما وولائم ولما مات سيده قام مقامه وفتح بيته ووضع يده على تعلقاته وبلاده ونما أمره وانتظم في سلك الأمراء المحمدية لكونه في الأصل مملوك محمد بك وخشداشهم وكان رئيسا عاقلا ساكن الجاش جميل الصورة واسع العينين أحورهما ولما حج في هذه السنة وخرجت عليهم العرب ركب وقاتلهم حتى مات شهيدا ودفن بمغاير شعيب ونهب متاعه واحماله وحزنت عليه زوجته الست حفيظة ابنة علي أغا حزنا شديدا وأرسلت مع العرب ونقلته إلى مصر ودفنته عند ابيها بالقرافة وزوجته المذكورة هي الآن زوجة لسليمان بك المرادي.
ومات الأمير شاهين بك الحسني وقد تقدم أنه كان حضر إلى مصر رهينة وسكن ببيت بالقرب من الموسكي وهو مملوك حسن بك الجداوي أمره أيام حسن باشا وسكن ببيت مصطفى بك الكبير الذي على بركة الفيل المعروف سابقا بشكر فره وصار من جملة الأمراء المعدودين ولما مات إسمعيل بك وحصل ما تقدم من قدوم المحمديين وخروجهم فحضر المترجم صحبة عثمان بك الشرقاوي رهينة عن سيده وأقام بمصر وكان سبب موته أن إنسانا كلمه عن اصول الصبغة التي تنبت بالغيطان ولها ثمر يشبه عنب الديب في عناقيد يصبغ منه القراشون مياه القناديل في المواسم والأفراح وأن من أكل من أصولها شيئا أسهله اسهالا مفرطا ولم يذكر له المسكن لذلك ولعله كان يجهله فأرسل من أتى له بشي منها من البستان وأكل منه فحصل هل اسهال مفرط حتى غاب عن حسه ومات وتسكين فعلها إذا بلغت غايتها أن يمتص شيئا من الليمون المالح فإنها تسكن في الحال ويفيق الشخص كان لم يكن به شيء.
ومات الأمير أحمد بك الوالي بقبلي وهو أيضا مملوك حسن بك الجداوي وقد تقدم ذكره ووقائعه مع أهل الحسينية وغيرهم في أيام زعامته(2/165)
سنة تسع ومائتين وألف
...
سنة تسع ومائتي وألف.
لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم واتخد مراد بك الجيزة سكنا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة بعضها بالثمن القليل وبعضها غصبا وبعضها معاوضه واتخذ صالح اغا أيضا له دار بجانبه وعمرها وسكنها بحريمه ليكون قريبا من مراد بك.
وفي سابع عشرين المحرم الموافق لعشرين شهر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد في صبحها بحضرة الباشا والأمراء وجرى الماء في الخليج.
وفي شهر صفر ورد الخبر بوصول صالح باشا وإلى مصر إلى اسكندرية وأخذ محمد باشا في اهبة السفر ونزل وسافر إلى جهة اسكندرية.
وفي عشرين شهر ربيع الأول وصل صالح باشا إلى مصر وطلع القلعة.
وفي اواخره ورد الخبر بوصول تقليد الصدارة إلى محمد باشا عزت المنفصل عن مصر وورد عليه التقليد وهو باسكندرية وكان صالح أغا الوكيل ذهب صحبته ليشيعه إلى اسكندرية فأنعم إليه بفرمان مرتب على الضربخانة باسم حريمه ألف نصف فضة في كل يوم.
وفي ليلة السبت خامس عشر ربيع الثاني أمطرت السماء مطرا غزيرا قبل الفجر وكان ذلك آخر بابه القبطي.
وفي شهر الحجة وقع به من الحوادث أن الشيخ الشرقاوي له حصفة في قرية بشرقية بلبيس حضر إليه أهلها وشكوا من محمد بك الألفي وذكروا أن اتباعه حضروا إليهم وظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا ابواب الجامع وذلك بعد ما خاطب مراد بك وإبراهيم بك فلم يبديا شيئا ففعل ذلك في ثاني يوم وقفلوا الجامع وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا في ثاني يوم واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات وازحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة(2/166)
بحيث يراهم إبراهيم بك وقد بلغه اجتماعهم فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار فحضر إليهم وسلم عليهم ووقف بين يديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا له نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وابطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها واحدثتموها فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله فاننا أن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات فقيل له هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس وما الباعث على الأكثار من النفقات وشراء المماليك والأمير يكون أميرا بالاعطاء لا بالأخذ فقال حتى ابلغ وانصرف ولم يعد لهم بجواب وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر واجتمع أهل الاطراف من العامة والرعية وباتوا بالمسجد وأرسل إبراهيم بك إلى المشايخ بعضدهم ويقول لهم أنا معكم وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي وأرسل إلى مراد بك يخيفه عاقبة ذلك فبعث مراد بك يقول اجيبكم إلى جميع ما ذكرتموه إلا شيئين ديوان بولاق وطلبكم المنكسر من الجامكية ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم وندفع لكم جامكية سنة تاريخه اثلاثا ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر ورجعوا من عنده وباتوا على ذلك تلك الليلة وفي اليوم الثالث حضر الباشا إلى منزل إبراهيم بك واجتمع الأمراء هناك وأرسلوا إلى المشايخ فحضر الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير وكان المرسل إليهم رضوان كتخدا إبراهيم بك فذهبوا معه ومنعوا العامة من السعي خلفهم ودار الكلام بينهم وطال الحديث وانحط الأمر على أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون واموال الرزق ويبطلوا رفع المظالم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس ما عدا ديوان بولاق وأن يكفوا اتباعهم عن امتداد أيديهم إلى اموال الناس ويرسلوا صرة الحرمين(2/167)
والموائد المقررة من قديم الزمان ويسيروا في الناس سيرة حسنة وكان القاضي حاضر بالمجلس فكتب حجة عليهم بذلك وفر من عليها الباشا وختم عليها إبراهيم بك وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا وانجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وإمامه وخلفه جملةعظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة ونزل عقيب ذلك مراد بك إلى دمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك.
ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة بقية المحققين وعمدة المدققين الشيخ المعمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الوهاب السمنودي المحلي الشافعي من بيت العلم والصلاح والرشد والفلاح واصلهم من سمنود ولد هو بالمحلة وقدم الجامع الأزهر وحضر على الشمس السجيني والعزيزي والملوي والشبراوي وتكمل في الفنون الغريبة وتلقى عن السيد علىالضرير والشيخ محمد الغلاني الكشناوي مشاركا للشيخ الوالد والشيخ إبراهيم الحلبي وعاد إلى المحلة فدرس في الجامع الكبير مدة ثم أتى إلى مصر بأهله وعياله ومكث بها وأقرأ بالجامع الأزهر درسا وتردد إلى الأكابر والأمراء واجلوه وقرأ في المحمدية بعد موت الشنويهي في المنهج وانضوى إلى الشيخ أبي الأنوار السادات ويأتي إليه في كل يوم وكان إنسانا حسنا بهي الشكل لطيف الطباع عليه رونق وجلال جميل المحادثة حسن الهيئة توفي بعد أن تعلل دون شهر عن مائة وست عشرة سنة كامل الحواس إذا قام نهض نهوض الشباب ودفن ببستان المجاورين وكان يتكتم سني عمره رحمه الله.
ومات الإمام العلامة واللوذعي الفهامة رئيس المحققين وعمدة المدققين النحوي المنطقي الجدلي الأصولي الشيخ أحمد بن يونس الخليفي الشافعي(2/168)
الأزهري من قرابة الشهاب الخليفي ولد سنة 1131 كما سمعته من لفظه وقرأ القرآن وحفظ المتون وحضر كل من الشبراوي والحفني واخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ محمد الدقري والدمنهوري وسالم النفراوي والطحلاوي والصعيدي وسمع الحديث على الشهابين الملوي والجوهري ودرس وأفاد بالجامع الأزهر وتقلد وظيفة الافتاء بالمحمدية عندما انحرف يوسف بك على الشيخ حسن الكفراوي كما تقدم فأتخذ الشيخ أحمد أبا سلامة امينا على فتاويه لجودة استحضاره في الفروع الفقهية وله مؤلفات منها حاشية على شرح شيخ الإسلام على متن السمرقندية في آداب البحث وآخرى على شرح الملوي في الأستعارات واخرى على شرح المذكور على السلم في المنطق وأخرى على شرح شيخ الإسلام على آداب البحث واخرى على شرح الشمسية في المنطق واخرى على متن الياسمينية في الجير والمقابلة وشرح على أسماء التراجم ورسالة متعلقة بالأبحاث الخمسة التي اوردها الشيخ الدمنهوري ولازم الشيخ الوالد مدة وتلقى عنه بعض العلوم الغريبة وكملها بعد وفاته على تلميذه محمود أفندي النيشي وكان جيد التقرير غاية في التحرير ويميل بطبعه إلى ذوي الوسامة والصور الحسان من الجدعان والشبان فإذا رجع من درسه خلع زي العلماء ولبس زي العامة وجلس بالأسواق وخالط الرفاق ويمشي كثيرا بين المغرب والعشاء بالخفيفة نواحي داره جهة السيارج وغيرها ويرى في بعض الأحيان على تلك الصورة في الأوقات المذكورة في نواح بعيدة عن داره وسافر مرة إلى جهة قبلي في سفارة بين الأمراء أيام عابدي باشا ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في أوائل رجب من هذه السنة سامحه الله.
ومات العمدة الجليل والنبيه النبيل العلامة الفقيه المفوه الشريف الضرير السيد عبد الرحمن بن بكار الصفا قسى نزيل مصر قرأ في بلاده على علماء عصره ودخل كرسي مملكة الروم فأكرم وانسلخ عن هيئة المغاربة ولبس(2/169)
ملابس المشارقة مثل التاج والفراجة وغيرها واثرى وقدم إلى مصر وألقى دروسا بالمشهد الحسيني وتأهل وولد له ولد به فضيلة ونجابة واتحد بشيخ السادات الوقائية السيد أبي الأنوار فراج حاله وزادت شوكته علىأبناء جنسه وتردد إلى الأمراء وأشير إليه ودرس كتاب الغرر في مذهب الحنفية وتولى مشيخة رواق المغاربة بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن البناني وسار فيها أحسن سيرة مع شهامة وصرامة وفصاحة لفظ في الالقاء وكان جيد البحث مليح المفاكهة والمحادثة واستحضار اللطائف والمناسبات ليس فيه عربدة ولا فظاظة ويميل بطبعه إلى الحظ والخلاعة وسماع الالحان والآلآت المطربة توفي رحمه الله في هذه السنة وتولى بعده على مشيخة رواقهم الشيخ سالم بن مسعود.
ومات الفقيه العلامة الصالح الصوفي الشيخ أحمد بن أحمد السماليجي الشافعي الأحمدي المدرس بالمقام الاحمدي بطندتاء ولد ببلده سماليج بالمنوفية وحفظ القرآن وحضر إلى مصر وحضر على الشيخ عطية الاجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الخشني والشيخ أحمد الدردير ورجع إلى طندتاء فاتخذها سكنا وأقام بها يقرى دروسا ويفيد الطلبة ويفتي على مذهبه ويقضي بين المتنازعين من أهالي البلاد فراج أمره واشتهر ذكره بتلك النواحي ووثقوا بفتياه وقوله وأتوه افواجا بمكانه المسمى بالصف فوق باب المسجد المواجه لبيت الخليفة وتزوج بأمرأة جميلة الصورةمن بلد الفرعونية وولد منها ولد سماه أحمد كأنما أفرغ في قالب الجمال وأودع بعينيه السحر الحلال فلما ترعرع حفظ القرآن والمتون وحضر على أبيه في الفقه والفنون وكان نجيبا جيد الحافظة يحفظ كل شيء سمعه من مرة واحدة ونظم الشعر من غير قراءة شيء في علم العروض أول ما رأيته في سنة 1189 في أيام زيارة سيدي أحمد البدوي فحضر الي وسلم علي وآنسني بحسن الفاظه وجذبني بسحر الحاظة ولما بلغ زوجه والده بزوجتين في سنة واحدة ولم يزل يجتهد ويشتغل حتى مهر(2/170)
وأنجب ودرس لجماعة من الطلبة وحضر إلى مصر مع والده مرارا وتردد علينا واجتمع بنا كثيرا في مواسم الموالد المعتادة إلى أن اخترمته في شبابه المنية وحالت بينه وبين الأمنية وذلك في سنة ثلاث ومائتين وخلف ولدا صغيرا استأنس به جده المترجم وصبر على فقد ابنه وترحم وتوفي هو أيضا في هذه السنة رحمهما الله تعالى.
ومات الأجل المعظم والملاذ المفخم الأمير حسين بن السيد محمد الشهير بدرب الشمس القادري وابوه محمد أفندي كاتب صغير بوجاق التفكجيان وهو ابن حسين أفندي باش اختيار تفكجيان تابع المرحوم حسن جوربجي تابع المرحوم رضوان بك الكبير الشهير صاحب العمارة ولما مات والد المتجرم اجتمع الاختيارية وقلدوا ابنه المذكور منصب والده في بابه وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة وألف ونوه بشأنه وفتح بيت أبيه وعد في الأعيان واشتهر ذكره وكان نجيبا نبيها ولم يزل حتى صار من أرباب الحل والعقد واصحاب المشورة ولما استقل علي بك بأمارة مصر اخرجه هو واخوته من مصر ونفاهم إلى بلاد الحجاز فأقاموا بها سبع سنوات إلى أن استقل محمد بك بالامارة فأحضرهم وأكرمهم ورد إليهم بلادهم فاستمروا بمصر لا كالحالة الأولى مع الوجاهة والحرمة الوافرة وكان إنسانا حسنا فطنا يعرف مواقع الكلام ويكره الظلم وهو إلى الخير أقرب واقتنى كتبا كثيرة نفيسة في الفنون وخصوصا في الطب والعلوم الغريبة ويسمح باعارتها لمن يكون أهلا لها ولما حضرته الوفاة أوصى أن لا يخرجوا جنازته على الصورة المعتادة بمصر بل يحضرها مائة شخص من القادرية يمشون إمامه في المشهد وهم يقرأون الصمدية سر الاغير وأوصى لهم بقدر معلوم من الدراهم فكان كذلك.
ومات الأمير محمد أغا بن محمد كتخدا أباظة وقد تقدم أنه كان تولى الحسبة في أيام حسن باشا وسار فيها سيرا بشهامة واخاف السوقة وعاقبهم وزجرهم واتفق أنه وزن جانبا من اللحم وجده مع من اشتراه(2/171)
ناقصا وأخبره عن جزاره فذهب إليه وكملها بقطعة من جسد الجزار ثم انفصل عن ذلك وعمل كتخدا عند رضوان بيك إلى أن مات رضوان بك ولم يزل معدودا في عداد الأمراء الأكابر إلى أن توفي في هذه السنة.
ومات العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل خليفة شيخنا الشيخ محمود الكردي حضر إلى مصر وجاور بالأزهر وحضر على الاشياخ في فقه مذهبه وفي المعقول وأخذ الطريق على شيخنا الشيخ محمود المذكور ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والاذكار وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج وسلك سلوكا تاما ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث أنه لا يفارق منزله في غالب أوقاته ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك ولما انتقل شيخه إلى رحمة الله تعالى صار هو خليفته بالاجماع من غير نزاع وجلس في بيته وانقطع للعبادة واجتمع على الجماعة في ورد العصر والعشاء ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت عليه الناس ولم يزل علي حسن حاله حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل.
ومات الذمي المعلم إبراهيم الجوهري رئيس الكتبة الاقباط بمصر وأدرك في هذه الدولة بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة بمصر ما لم يسبق لمثله من ابناء جنسه فيما نعلم وأول ظهوره من أيام المعلم رزق كاتب علي بك الكبير ولما مات علي بك والمعلم رزق ظهر أمر المترجم ونما ذكره في أيام محمد بك فلما انقضت أيام محمد بك وترأس إبراهيم بك قلده جميع الأمور فكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات حتى دفاتر الروزنامة والميري وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارف من تحت يده وإشارته وكان من دهاقين العالم ودهاتهم لا يعزب عن دهنه شيء من دقائق الأمور ويداري كل إنسان بما يليق(2/172)
به من المداراة ويحابي ويهادي ويواسي ويفعل ما يوجب انجذاب القلوب والمحبةويهادي ويبعث الهدايا العظيمة والشموع إلى بيوت الأمراء وعند دخول رمضان يرسل إلى غالب أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا والارز والسكر والكساوى وعمرت في أيامه الكنائس وديور النصارى وأوقف عليها الأوقاف الجلية والاطيان ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق الدارة والغلال وحزن إبراهيم بك لموته وخرج في ذلك اليوم إلى قصر العيني حتى شاهد جنازته وهم ذاهبون به إلى المقبرة وتأسف على فقده تأسفا زائد وكان ذلك في شهر القعدة من السنة.(2/173)
سنة عشرة ومائتين وألف.
لم يقع بها شيء من الحوادت التي يعتني بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم.
وفيها في غرة شهر الحجة عزل صالح باشا ونزل إلى قصر العيني ليسافر فأقام هناك أياما وسافر إلى اسكندرية.
ومات بها الإمام العلامة المفيد الفهامة عمدة المحققين والمدققين الصالح الورع المهذب الشيخ عبد الرحمن النحراوي الاجهوري الشهير بمقرىء الشيخ عطية خدم العلم وحضر فضلاء الوقت ودرس وتمهر في المعقول والمنقول ولازم الشيخ عطية الاجهوري ملازمة كلية وأعاد الدروس بين ديه واشتهر بالمقرىء وبالاجهوري لشدة نسبته إلى الشيخ المذكور ودرس بالجامع الأزهر وأفاد الطلبة وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الحفني ولقنه الاذكار وألبسه الخرقة والتاج وأجازه بالتلقين والتسليك وكان يجيد حفظ القرآن بالقراءات ويلازم المبيت في ضريح الإمام الشافعي في كل ليلة سبت يقرأ مع الحفظة بطول الليل وكان إنسانا حسنا متواضعا لا يرى لنفسه مقاما يحمل طبق الخبز على رأسه ويذهب به إلى الفران ويعود به إلى عياله فإن اتفق أن أجد رآه ممن يعرفه حمله عنه وإلا ذهب به(2/173)
ووقف بين يدي الفران حتى يأتيه الدور ويخبزه له وكان كريم النفس جدا يجود وما لديه قليل ولم يزل مقبلا على شأنه وطريقته حتى نزلت به الباردة وبطل شقه واستمر على ذلك نحو السنة وتوفي إلى رحمة الله تعالى غفر الله له.
ومات العمدة العلامة والرحلة الفهامة الفقيه الفاضل ومن ليس له في الفضل مناضل الشيخ حسن بن سالم الهواري المالكي أجد طلبة شيخنا الشيخ الصعيدي لازمه في دروسه العامة وحصل بجده ما به ناموس جاهه أقامه وبعد وفاة شيخه ولى مشيخة رواق الصعايدة وساس فيهم أحسن سياسة بشهامة زائدة مع ملازمته للدروس وتكلمه في طائفته مع الرئيس والمرؤوس وكان فيه صلابة زائدة وقوة جنان وشدة تجارى واشترى خرابة بسوق القشاشين بالقرب من الأزهر وعمرها دارا لسكنه وتعدى حدوده وحاف على أماكن جيرانه وهدم مكتب المدرسة السنانية وكان مكتباص عظيما ذا واجتهين وعامودين وأربع بوائك وزاوية جداره من الحجر النحيت عجيبة الصنعة في البروز والإتقان فهدمه وأدخله في بنائه من غير تحاش أو خشية لوم مخلوق أو خوف خالق وأوقف اعوانه من الصعايدة المنتسبين للمجاورة وطلب العلم يسخرون من يمر بهم من حمير الترابين وجمال الأعيان المارين عليهم فيستعملونها في نقل تراب الشيخ لأجل التبرك أما قهرا أو محاباة ويأذ من مياسير الناس والسوقة دراهم على سبيل القرض الذي لا يرد وكذلك المؤن حتى تممها على هذه الصورة وسكن فيها واحدق به الجلاوزة من الطلبة يغدون ويروحون في الخصومات والدعاوى ويأخذون الجعالات والرشوات من المحق والمبطل ومن خألف عليهم ضربوه واهانوه ولو عظيما من غير ميالاة ولا حياء ومن اشتد عليهم اجتمعوا عليه من كل فج حتى بوابين الوكائل وسكان الطباق وباعة النشوق وينسب الكل إلى الأزهر ومن عذلهم أو لامهم كفروه ونسبوه إلى الظلم والتعدي والاستهزاء بأهل العلم والشريعة وزاد الحال(2/174)
وصار كل من رؤساء الجماعة شيخا على انفراده يجلس في ناحية ببعض الحوانيت يقضي ويأمر وينهى وفحش الأمر إلى أن نادى عليهم حاكم الشرطة فانكفوا ومرض شيخهم بالتشيخ شهورا وتوفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات الإمام الفقيه العلامة والفاضل والفهامة عثمان بن محمد الحنفي المصري الشهير بالشامي ولد بمصر وتفقه على علماء مذهبه كالسيد محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ حسن المقدسي والشيخ الوالد واتقن الالات ودرس الفقه في عدة مواضع وبالأزهر وانتفع به الناس وقرأ كتاب الملتقي بجامع قوصون وكان له حافظه جيدة واستحضار في الفروع ولا يمسك بيده كراسا عند القراءة ويلقى التقرير عن ظهر قلب مع حسن السبك وألف متنا مفيدا في المذهب ثم حج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقطن بالمدينة وطلب عياله في ثاني عام وباع ما يتعلق به وتجرد على المجاورة ولازم قراء الحديث والفقه بدار الهجرة وأحبه أهل المدينة وتزوج وولد له أولاد ثم تزوج بآخرى ولم يزل على ذلك حتى توفي إلى رحمه الله تعالى في هذه السنة.
ومات العمدة الفاضل المفوه النبيه المناضل الحافظ المجود الأديب الماهر صاحبنا الشيخ شمس الدين بن عبد الله بن فتح الفرغلي المحمدي الشافعي السبريائي نسبة إلى سبرباى قرية بالغربية قرب طندتا وبها ولد ونسبة يرجع إلى القطب سيدي الفرغلي المحمدي من ولد سيدنا محمد بن الحنفية صاحب أبي تيج من قرى الصعيد تفقه على علماء عصره وأنجب في المعارف والفهوم وعانى الفنون فأدرك من كل فن الحظ الأوفر ومال إلى فن الميقات والتقاويم فنال من ذلك ما يرومه وألف في ذلك وصنف زيجا مختصار دل على سعة باعه ورسوخه في الفن ومعرفة القواعد والأصول ودقائق الحساب ونهج مسلك الأدب والتاريخ والشعر ففاق فيه الأقران ومدح الأعيان وصاحبناه وساجلناه كثيرا عندما كان يأتينا مصر وبطندتا(2/175)
في الموالد المعتادة فكان طودا راسخا وبحرا زاخرا مع دماسة الاخلاق وطيب الأعراق ولين العريكة وحسن العشرة ولطف الشمائل والطباع وكان يلي نيابة القضاء ببلده وبالجملة فكان عديم النظير في اقرانه لم ار من يدانيه في أوصافه الجميلة وله مصنفات كثيرة منها الضوابط الجليلة في الأسانيد العلية آلفه سنة 1177 وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلامة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط وسليقته في الشعر عذبة رائقة كلامه بديع مقبول في سائر انواعه من المدح والرثاء والتشبيب والغزل والحماسة والجد والهزل وله ديوان جمع فيه أمداحه صلى الله عليه وسلم سماه عقود القرائد توفي المترجم في شهر ربيع الأول من السنة ببلده ودفن هناك رحمه الله تعال.(2/176)
سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة ومائتين وألف.
لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف لها النفوس أو تشتاق إليها الخواطر فتقيد في بطون الطروس سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل وموجبات ترادف البلاء المتراسل ووقوع الانذارات الفلكية والآيات المخوفة السماوية وكلها أسباب عادية وعلامات من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات فبالنظر في ملكوت السموات والأرض يستدلون وبالنجم هم يهتدون فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي في منتصف شهر الحجة ختام سنة اثنتي عشرة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه اقليم مصر وحضر طائفة الفرنسيس أثر ذلك في أوائل السنة التالية كما سيأتي خبر ذلك مفصلا أن شاء الله تعالى.
من مات في هذين العامين ممن له ذكر وشهرة.
مات العمدة العلامة والفقيه الفهامة الشيخ علي بن محمد الاشبولي(2/176)
الشافعي كان والده أجد العدول بالمحكمة الكبرى وكان ذا ثروة وشهرة ولما كبر ولده المترجم حفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم وحضر الدروس وتفقه على أشياخ الوقت ولازم الشيخ عيسى البراوي وتمهر في المعقول وانجب وتصدر ودرس وانتظم في سلك الفضلاء والنبلاء وصار له ذكر وشهرة ووجاهة ومات والده فاحرز طريفه وتالده وكان لابيه دار بحارة كتامة المعروفة بالعينية بقرب الأزهر وأخرى عظيمة بقناطر السباع على الخليج واخرى بشاطى النيل بالجيزة فكان ينتقل في تلك الدور ويتزوج حسان النساء مع ملازمته للاقراء والافادة وحدثته نفسه بمشيخة الأزهر وكان بيده عدة وظائف وتداريس مثل جامع الآثار والنظامية ولم يباشرها إلا نادرا ويقبض معلوماتها المرتب لها ولم يزل حتى تعلل وتوفي سنة 1111.
ومات الأديب الماهر الصالح الجليس الانيس السيد إبراهيم بن قاسم ابن محمد بن محمد بن علي الحسني الرويدي المكتب المكني بأبي الفتح ولد بمصر كما أحبر عن نفسه سنة 1127 وحفظ القرآن وجوده على الشيخ الحجازي غنام وجود الخط على الشيخ أحمد بن إسمعيل الأفقم على الطريقة المحمدية فمهر فيه وأجازه فكتب بخطه الحسن الفائق كثيرا من المصاحف والأحزاب والدلائل والادعية والقطع وأشير إليه بالرياسة في الفن وكان إنسانا حسنا متمشدقا يحفظ كثيرا من نوادر الاشعار وغرائب الحكايات وعجائب المناسبات وروايتها على أحسن اسلوب وأبلغ مطلوب وسمعت كثيرا من انشاده لم يعلق بذهني منها شيء وقد تفرد بمحاسن لم يشاركه فيها أهل عصره منها صحة الوضع وتكمله على أصوله بغاية التحرير توفي ستة إحدى عشرة رحمه الله تعالى.
ومات النبيه الاريب والفاضل النجيب الناظم الناثر المفوه إسمعيل أفندي بن خليل بن علي بن محمد بن عبد الله الشهير بالظهوري المصري الحنفي المكتب كان إنسانا حسنا قانعا بحاله يتكسب بالكتابة وحسن الخط وقد كان جوده واتقنه على أحمد أفندي الشكري وكتب بخطه الحسن(2/177)
كثيرا من الكتب والسبع المنجيات ودلائل الخيرات والمصاحف وكان له حاصل يبيع به بن القهوة بوكالة البقل بقرب خان الخليلي وله معرفة جيدة بعلم الموسيقى والالحان وضرب العود وينظم الشعر وله مدائح وقصائد موشحات توفي رحمه الله تعالى سنة 1211.
ومات الأجل الأمثل والوجيه الاوحد المبجل حسين أفندي قلفة الشرقية والده الأمير عبد الله من مماليك داود صاحب عيار وتربى المترجم عند محمد أفندي البرقوقي وزوجه ابنته وعانى قلم الكتابة واصطلاح كتاب الروزنامة ومهر في ذلك فلما توفي محمد أفندي كتابة الروزنامة قلده قلف الشرقية ولم تطل مدة محمد أفندي ومات بعد شهرين فاستولى المترجم على تعلقاته وراج أمره واشترى بيتا جهة الشيخ الظلام وانتقل إليه وسكن به وساس أموره واشتهر ذكره وانتظم في عداد الأعيان واقتنى السراري والجواري والمماليك والعبيد وكان إنسانا لا بأس به جميل الاخلاق حسن العشرة مع الرفاق مهذب الطباع لين العريكة واقفا على حدود الشريعة لا يتداخل فيما لا يعنيه مليح الصورة والسيرة توفي رحمه الله أيضا سنة 1211.
ومات العمدة النبيه الفهامة بضعة السلالة الهاشمية وطراز العصابة المطلبية الفصيح المفوه السيد حسين بن عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن أحمد بن أحمد بن حمادة المنزلاوي الشافعي خطيب جامع المشهد الحسيني وأم ابيه السيد عبد الرحمن السيدة فاطمة بنت السيد محمد العمري ومنها اتاه الشرف حضر على الشيخ الملوي والحفني والجوهري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والشيخ البسيوني والشيخ خليل المغربي وأخذ أيضا عن سيدي محمد الجوهري الصغير والشيخ عبد الله إمام مسجد العشراني والشيخ سعودي الساكن بسوق الخشب وتضلع بالعلوم والمعارف وصار له ملكة وحافظة ولسانة واقتدار تام واستحضار غريب وينظم الشعر الجيد والنثر البليغ وانشأ الخطب البديعة وغالب(2/178)
خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من انشائه على طريقة لم يسبق إليها وانضوى إلى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته انواره ومكارمه ويصلى به في بعض الاحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم ويأتي فيهما بمدائح السادات وما تقتضيه المناسبات توفي في منتصف شهر شعبان من السنة غفر الله لنا وله.(2/179)
سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف.
وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الاهوال واختلاف احوال وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
في يوم الأحد العاشر من شهر محرم الحرام من هذه السنة وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الأسكندرية ومضمونها أن في يوم الخميس ثامنه حضر إلى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر وبعد قليل حضر خمسة عشر مركبا أيضا فانتظر أهل الثغر ما يريدون وإذا بقارب صغير وأصل من عندهم وفيه عشرة انفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد والرئيس إذ ذاك فيها والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم الآتي ذكره فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم فأخبروا أنهم انكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لانهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون علىدفعهم ولا تتمكنوا من منعهم فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن فقالت رسل الانكليز نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الأمداد بالماء والزاد بثمنه فلم يجيبوهم لذلك(2/179)
وقالوا: هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الانكليز واقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الأسكندرية وليقضى الله امرا كان مفعولا ثم أن أهل الثغر أرسلوا إلى كاشف البحيرة ليجمع العربان وياتي معهم للمحافظة بالثغر فلما قرئت المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والاراجيف.
ثم ورد في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأول مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة فاطمأن الناس وسكن القيل والقال وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتمادا على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الافرنج لا يقفون في مقابتلهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.
فلما كان يوم الأربعاء العشرون من الشهر المذكور وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بأن في يوم الإثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيين كثيرة فأرسوا في البحر وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد فلما نزلوا إليهم عوقوهم عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب إلى جهة العجمي وطلعوا إلى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج أهل الثغر وما انظم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا امكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم وأنهزم الكاشف ومن معه من العربان ورجع أهل الثغر إلى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الافرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون عن أنفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الأبراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبيته طلب أهل الثغر الأمان فآمنوهم ورفعوا عنهم القتال(2/180)
ومن حصونهم انزلوهم ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فالزمهم بجمع السلاح وأحضاره إليه وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملبوسهم والجوكار ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك مستديرة في قدر الريال سوداء وحمراء وبيضاء توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظهر الالوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض ولما وردت هذه الأخبار مصر حصل للناس انزعاج وعول اكثرهم على الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الأمراء بمصر فإن إبراهيم بك ركب إلى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان مقيما بها واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث إلى اسلامبول وأن مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم وانفض المجلس على ذلك وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله على طريق البرلياتية بالترياق من العراق وأخذوا في الأستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه إلى الجسر الأسود فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقه وعلي باشا الطرابلسي وناصف باشا فإنهم كانوا من اخصائه ومقيمين معه بالجيزة وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والبارود وسار من البر مع العساكر الخيالة وأما الرجال وهم الالداشات القلينجية والأروام والمغاربة فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور ولما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة وطولها مائة ذراع وثلاثون ذراعا لتنصب على البغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر لتمنع مراكب الفرنسيين من العبور لبحر النيل وذلك باشارة علي باشا وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنا منهم(2/181)
أن الافرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة وكان الأمر بخلاف ذلك فإن الفرنسيس عندما ملكوا الأسكندرية ساروا على طريق البر الغربي من غير ممانع وفي اثناء خروج مراد بك والحركة بدت الوحشة في الأسواق وكثر الهرج بين الناس والارجاف وانقطعت الطرق واخذت الحرامية في كل ليلة تطرق اطراف البلد وانقطع مشي الناس من المرور في الطرق والأسواق من المغرب فنادى الاغا والوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلا وتعليق القناديل على البيوت والدكاكين وذلك لأمرين الأول ذهاب الوحشة من القلوب وحصول الأستئناس والثاني الخوف من الدخيل في البلد.
وفي يوم الإثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا إلى فوة نواحيها والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلاء وقد كانت الفرنسيس حين فلولهم بالاسكندرية كتبوا مرسوما وطبعوه وأرسلوا منه نسخا إلى البلاد التي يقدمون عليها تطمينا لهم ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة إلى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين ومعهم منه عدة نسخ منهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطه ويعرفون باللغات.
وصورة ذلك المكتوب بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه من طرف الفرنساوية المبنى على أساس الحرية والتسوية السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية ويظلمون تجارها بأنواع الايذاء والتعدي فحضر الآن ساعة عقوبتهم وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون(2/182)
في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم يا أيها المصريون قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرق إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة فإن كانت الأرض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أجد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب الساميةوعن اكتساب المراتب العالية فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها وسابقا كان في الاراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما إزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد قولوا: لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام ثم قصدوا جزيرة مالطة وطرودا منها الكوا للرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه ومع ذلك أن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لامره فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح(2/183)
حلهم وتعلو مراتبهم طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لاحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالاكثر تسارعوا إلينا بكل قلب لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر.
المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي واحمر.
المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضا تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه.
المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختمون حالا جميع الارزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة: الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة الأئمة أنهم يلازمون وظائفهم وعلى كل أجد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنا وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عالي ادام الله اجلال السلطان العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.
تحريرا بمعسكر اسكندرية في 13 شهر سيدور سنة 1213 من اقامه الجمهور الفرنساوي يعني في آخر شهر محرم سنة هجرية اه بحروفه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى نواحي فوة ثم إلى الرحمانية.
واستهل شهر صفر سنة 1213 وفي يوم الأحد غرة شهر صفر وردت الأخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر(2/184)
المصري مع الفرنسيس فلم تكن إلا ساعة وأنهزم مراد بك ومن معه ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية واحترق بها رئيس الطبجية خليل الكردل وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا فقدر الله أن علقت نار بالقلع وسقط منها نار إلى البارود فاشتعلت جميعها بالنار واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم وتطايروا في الهواء فلما عاين ذلك مراد بك داخله الرعب وولى منهزم وترك الاثقال والمدافع وتبعته عساكره ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر فاشتد انزعاج الناس وركب إبراهيم بك إلى ساحل بولاق وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق إلى شبرا ويتولى الإقامة ببولاق إبراهيم بك وكشافه ومماليكه وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك تجتمع بالأزهر كل يوم ويقرأو البخارى وغيره من الدعوات وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الإشاير ويعملون لهم مجالس بالأزهر وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الأسم اللطيف وغير من الأسماء.
وفي يوم الإثنين حضر مراد بك إلى برانبابة وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشتيل وتولى ذلك هو وصناجقة وامراؤه وجماعة من خشداشينه واحتفل في ترتيب ذلك وتنظيمه بنفسه هو وعلي باشا الطرابلسي ونصوح باشا وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشأها بالجيزة واوقفها على ساحل انبابة وشحنها بالعساكر والمدافع فصار البر الغربي والشرقي مملوئين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك فإنهم من حين وصول الخبر لهم من الأسكندرية شرعوا في نقل امتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة(2/185)
إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها احدوا ستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم وأرسلوا البعض منها لبلاد الارياف وأخذوا أيضا في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل وادوات الارتحال فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولوا المقدرة للهروب ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقى بمصر منهم أحد.
وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم فاغلق الناس الدكاكين والأسواق وخرج الجميع لبر بولاق قكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياما أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم وبعض الناس يتطوع بالانفاق على البعض الآخر ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والاكل وغير ذلك بحيث أن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وسمحت نفوسهم بانفاق أموالهم فلم يشح في ذلك الوقت أجد بشيء يملكه ولكن لم يسعفهم الدهر وخرجت الفقراء وأرباب الإشاير بالطبول والزمور وأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرن باذكار مختلفة وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وإمامه وحوله الوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك وأما مصر فإنها باقية خالية الطرق لا تجد بها أحدا سوى النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة فإنهم مستترون مع النساء في بيوتهم والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش وغلا سعر البارود والرصاص بحيث بيع الرطل البارود بستين نصفا والرصاص بتسعين وغلا جنس أنواع السلاح(2/186)
وقل وجوده وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر وأقام غيرهم من الرعايا البعض بالبيوت والبعض بالزوايا والبعض بالخيام.
ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق وأقام بها من حين نصب إبراهيم بك العرضي هناك إلى وقت الهزيمة سوى القليل من الناس الذي لا يجدون لهم مكانا ولا ماوى فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصيحون إلى بولاق وأرسل إبراهيم بك إلى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما والاها وكذلك اجتمع عند مراد بك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقيعان وأولاد علي والهنادي وغيرهم وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوما فيوما لتعطيل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم.
وأما بلاد الارياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا وكذلك العرب غارت على الاطراف والنواحي وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وأغارة على الأموال وافساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى وطلب أمراء مصر التجار من الافرنج بمصر فحبسوا بعضهم بالقلعة وبعضهم بأماكن الأمراء وصاروا يفتشون في محلات الافرنج على الأسلحة وغيرها وكذلك يفتشون بيوت النصارى الشوام والاقباط والاروام والكنائس والاديرة على الأسلحة والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة وقت الفتنة ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر وتختلف الناس في الجهة التي يقصدون المجيء منها فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين هذا وليس لاحد من أمراء العساكر همة أن يبعث جاسوسا أو طليعة تناوشهم بالقتال قبل(2/187)
دخولهم وقربهم ووصولهم إلى فناء المصر بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل وهذا من سوء التدبير واهمال أمر العدو.
ولما كان يوم الجمعة سادس الشهر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود وأصبح يوم السبت فوصلوا إلى أم دينار فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم مختالون في رئيسهم مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوهم مرتبكون في رويتهم مغمورون في غفلتهم وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع في عرضي إبراهيم بك أنهم قادمون من الجهتين فلم يأتوا إلا من البر الغربي.
ولما كان وقت القائلة ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي وتقدموا إلى ناحية بشتيل بلد مجاورة لانبابة فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي وابلى الفريقان وقتل أيوب بك الدفتردار وعبد الله كاشف الجرف وعدة كثير من كشاف محمد بك الألفي ومماليكهم وتبعهم طابور من الافرنج في نحو الستة آلاف وكبيره ويزه الذي ولى علي الصعيد بعد تملكهم وأما بونابارته الكبير فإنه لم يشاهد الواقعة بل حضر بعد الهزيمة وكان بعيدا عن هؤلاء بكثير ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بك ترامى الفريقان بالمدافع وكذلك العساكر المحاربون البحرية وحضر عدة وافرة من عساكر الارنؤد من دمياط وطلعوا إلى انبابة وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس فلما غاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم يا رب ويا لطيف ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم فكان(2/188)
العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم: أن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ النباح فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه ومن يقرأ ومن يسمع وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرض الشرقي ومنهم إبراهيم بك الوالي وشرعوا في التعدية إلى البر الغربي في المراكب فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد والمراكب قليلة جدا فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة به على المحاربين هذا والريح النكباء اشتد هبوبها وأمواج البحر في قوة اضطرابها والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين فلا يقدر أجد أن يفتح عينيه من شدة الغبار وكون الريح من ناحية العدو وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه.
ثم أن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب وتقارب من المتاريس بحيث صار محيطا بالعسكر من خلفة وإمامه ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع واشتد هبوب الريح وانعقد الغبار وأظلمت الدنيا دخان البارود وغبار الرياح وصمت الأسماع من توالي الضرب بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزلت والسماء عليها سقطت واستمر الحرب والقتال نحو ثلاث أرباع ساعة ثم كانت هذه الهزيمة على العسكر الغربي فغرق الكثير من الخيالة في البحر لاحاطة العدو بهم وظلام الدنيا والبعض وقع أسيرا في أيدي الفرنسيين وملكوا المتاريس وفر مراد بك ومن معه إلى الجيزة فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والاسلحة والفرس ملقاة على الأرض ببرانبابة تحت الارجل وكان من جملة من ألقى نفسه في البحر سليمان بك المعروف بالاغا وأخوه إبراهيم بك الوالي فأما سليمان بك فنجا وغرق إبراهيم بك الصغير وهو صهر إبراهيم بك الكبير ولما انهزم العسكر الغربي حول(2/189)
الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة فقامت فيهم ضجة عظيمة وركب في الحال إبراهيم بك والباشا والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئا فأما إبراهيم بك والباشا والأمراء فساروا إلى جهاة العادلية وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين إلى جهة المدينة ودخلوها أفواجا أفواجا وهم جميعا في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك وهم يضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون إلى الله من شهر هذا اليوم العصيب والنساء يصرخن بأعلى اصواتهن من البيوت وقد كان ذلك قبل الغروب فلما استقر إبراهيم بك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه وكذلك من كان معه من الأمراء فاركبوا النساء بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال والبعض على الحمير والجمال والبعض ماش كالجواري والخدم واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أجد عن أجد بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركه ممتثلا للقضاء متوقعا للمكروه وذلك لعدم قدرته وقلة ذاته يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الافرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية من عسكر مراد بك الذي كان في الغليون بمرسي انبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه وكذلك مراد بك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلي فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء في الطين وكان به(2/190)
عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانة فأمر بحرقه أيضا فصعد لهيب النار من جهة الجيزة بولاق ظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ القادرين فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهروب واللحاق بهم والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون وبيع الحمار الأعرج أو البغل الضعيف باضعاف ثمنه وخرج أكثرهم ماشيا أو حامل متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها ومن قدر عل مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على اقدامه وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهم على اكتافهن يبكين في ظلمة الليل واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته فكان ما أخذته العرب شيئا كثيرا يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التي خرجت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس واصحاب المقدرة أخرجوا أيضا ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان فمنهم من رجع من قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلا عل كثرته(2/191)
وعزوته وخفارته فسلم أو عطب وكانت ليل وصباحها في غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين فما راء كمن سمعا ولما أصبح يوم الأحد المذكور والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع فتبين أن الافرنج لم يعدو إلى البر الشرقي وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الافرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته فغابا وعادا فاخبرا انهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانة ومضمونها الأستفهام عن قصدهم فقال على لسان الترجمان وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة وظمنهم وبش في وجوههم فقالوا نريد أمانا منكم فقال أرسلنا لكم سابقا يعنون الكتاب المذكور فقالوا وأيضا لأجل اطمئنان الناس فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها من معسكر الجيزة خطاب لأهل مصر اننا أرسلنا لكم في السابق كتابا فيه الكفاية وذكرنا لكم اننا حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق أجد منهم بالقطر المصري وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونوا مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين إلى آخر ما ذكرته ثم قال لهم: لا بد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة فتلقاهم وضحك(2/192)
لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار فاعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا فقال: لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية واجراء الشريعة فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا إلى مصر واطمأن برجوعهم الناس وكانوا في وجل وخوف على غيابهم وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحيةالمطرية وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر وكذلك الروزنامجي والافندية وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما ونهبوا أيضا عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وامتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان.
وفي يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية إلى بر مصر وسكن بونابارته ببيت محمد بك الألفي بالازبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه اموالا عظمية وفرشه بالفرش الفاخرة وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحاثة فأخلوه وتركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس وكذلك حصل في بيت حسن كاشف جركس بالناصرية ولما عدى كبيرهم وسكن بالازبكية كما ذكر استمر غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعديل صاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة ويأخذ البيضة بنصف فضة قياسا على اسعار بلادهم وأثمان بضائعهم فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان والبن وصاروا يبيعون عليهم(2/193)
بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوقة الحوانيت والقهاوي.
وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر ارسلوا بطلب المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صارى عسكر فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم وتشاوروا معهم في تعيين عشرة انفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات.
فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي والشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبرخيتي والشيخ محمد الدواخلي وحضر ذلك المجلس أيضا مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضي وقلدوا محمد اغا المسلماني أغات مستحفظان وعلي أغا الشعراوي وإلى الشرطة وحسن اغا محرم امين احتساب وذلك باشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنين من تقليد المناصب لجنس المماليك فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم وقلدوا ذا الفقار كتخدا محمد بك كتخدا بونابارته ومن أرباب المشورة الخواجا موسى كانوا وكلاء الفرنساوي ووكيل الديوان حنا بينو.
وفيه اجتمع أرباب الديوان عند رئيسه فذكر لهم ما وقع من نهب البيوت فقالوا له هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس فقال: لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها فقالوا: هذا أمر لا قدرة لنا على منعه وإنما ذلك من وظيفة الحكام فأمروا الاغا والوالي أن ينادوا بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب فلم يسمعوا ولم ولم ينتهوا واستمر غالب الدكاكين والأسواق معطلة والناس غير مطمئنين وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلوقة التي للأمراء ودخلوها وأخذوا منها أشياء وخرجوا وتركوها مفتوحة فعند ما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية ويستأصلون ما فيها واستمروا على ذلك عدة أيام ثم(2/194)
أنهم تتبعوا بيوت الأمراء وأتباعهم وختموا على بعضها وسكنوا بعضها فكان الذي يخاف على داره من جماعة الوجاقلية أو من أهل البلد يعلق له بنديرة على باب داره أو يأخذ له ورقة من الفرنسيس بخطهم يلصقها على داره.
وفيه قلدوا برطلمين النصراني الرومي وهو الذي تسميه العامة فرط الرمان كتخدا مستحفظان وركب بموكب من بيت صارى عسكر وإمامه عدة من طوائف الأجناد والبطالين مشاة بين يده وعلى رأسه حشيشة من الحرير الملون وهو لابس فروة بزعادة وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة ورتب له بيوك باشي وقلقات عينوا لهم مراكز باخطاط البلد يجلسون بها وسكن المذكور ببيت يحيى كاشف الكبير بحارة عابدين اخذه بما فيه من فر ومتاع وجواري وغير ذلك والمذكور من أسافل نصارى الاروام العسكرية القاطنين بمصر وكان من الطبجية عند محمد بك الألفي وله حانوت بخط الموسكي يبيع فيه القوارير الزجاج أيام البطالة وقلدوا أيضا شخصا افرنجيا وجعلوه أمين البحرين وآخر جعلوه اغات الرسالة وجعلوا الديوان ببيت قائد اغا بالازبكية قرب الرويعي وسكن به رئيس الديوان وسكن روتوي قائمقام مصر ببيت إبراهيم بك الوالي المطل على بركة الفيل وسكن شيخ البلد ببيت إبراهيم بك الكبير وسكن مجلون ببيت مراد بك على رصيف الخشاب وسكن بوسليك مدير الحدود ببيت الشيخ البكري القديم ويجتمع عنده النصارى القبط كل يوم طلبوا الدفاتر من الكتبة ثم أن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيئا فشيئا حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا على أجد ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها ففجر السوقة وصغروا اقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها اصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك وفتح نصارى الاورام عدة دكاكين لبيع أنواع(2/195)
الأشربة وخمامير وقهاوي وفتح بعض الافرنج البلديين بيوتا يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرائفهم في بلادهم فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخه الطباخون ويصنعون أنواع الاطعمة والحلاوت ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم فإذا مرت طائفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا إلى ذلك المكان وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى وعلى كل مجلس علامته ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه فيدخلون إلى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام وحولها كراسي فيجلسون عليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
وفيه تشفع أرباب الديوان في أسرى المماليك فقبلوا شفاعتهم وأطلقوهم فدخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر وهم في أسوأ حال وعليهم الثياب الزرق المقطعة فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء المجاورين به ويتكففون المارين وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وفي يوم السبت اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة وهي مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام وتجار الافرنج أيضا فسالوا التخفيف فلم يجابوا فأخذوا في تحصيلها.
وفيه نادوا من أخذ شيئا من نهب البيوت يحضر به إلى بيت قائمقام وأن لم يفعل وظهر بعد ذلك حصل له مزيد الضرر ونادوا أيضا على نساء الأمراء بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن وأن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يظهرنه فإن لم يكن عندهن شيء من متاع أزواجهن يصالحن على أنفسهن ويأمن في دورهن فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بيك وصالحت عن نفسها واتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون(2/196)
ألف ريال فرانسا وأخذت في تحصيل ذلك من نفسها وغيره ووجهوا عليها الطلب وكذلك بقية النساء بالوسائط المتداخلين في ذلك كنصارى الشوام والافرنج البلدين وغيرهم فصاروا يعملون عليهن ارصاهات وتخويفات وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختفين والغائبين والفارين فجمعوا بذلك أموالا كثيرة وكتبوا للغائبين اوراقا بالأمان بعد المصالحه ويختم على تلك الأوراق المتقيدون بالديوان.
وفي يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئا كثيرا وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى ويستخرجون الخبايا والودائع ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت اسيادهم بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها غراضهم.
وفيه قبضوا على شيخ الجعيدية ومعه آخر وبندقوا عليهما بالرصاص ببركة الأزبكية ثم على آخرين أيضا بالرميلة وأحضر النهابون أشياء كثيرة من الأمتعة التي نهبوها عند ما داخلهم الخوف ودل على بعضهم البعض.
وفي يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسلفة مبلغا يعجزون عنه وأجلوا لها اجلا مقداره ستون يوما فضحوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني وتشفعوا بالمشايخ فتكلموا لهم ولطفوها إلى نصف المطلوب ووسعوا لهم في أيام المهلة.
وفيه شرعوا في تكسير ابواب الدروب والبوابات النافذة وخرج عدة من عساكرهم يخلعون ويقلعون ابواب الدروب والعطف والحارات(2/197)
فاستمروا على ذلك عدة أيام وداخل الناس من ذلك وهم وخوف شديد وظنوا ظنونا وحصل عندهم فساد مخيلة ووسوسة تجسمت في نفوسهم بالفاظ نطقوا بها وتصوروا حقيقتها وتناقلوها فيما بينهم كقولهم أن عساكر الفرنسيس عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة ومنهم من يقول غير ذلك وذلك بعد أن كان حصل عندهم بعض اطمئنان وفتحوا بعض الدكاكين فلما حصلت هاتان النكتتان انكمش الناس ثانيا وارتجفت قلوبهم.
وفي عشرينه حضرت مكاتب الحجاج من العقبة فذهب أرباب الديوان إلى باش العسكر وأعلموه بذلك وطلبوا منه أمانا لأمير الحاج فامتنع وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر فقالوا له: ومن يوصل الحجاج فقال لهم أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكر يوصولونهم إلى مصر فكتبوا لأمير الحاج مكاتبة بالملاطفة وأنه يحضر بالحجاج إلى الدار الحمراء وبعد ذلك يحصل الخير فلم تصل إليهم الجوابات حتى كاتبهم إبراهيم بك يطلبهم للحضور إلى جهة بلبيس فتوجهوا على بلبيس وأقاموا هناك أياما وكان إبراهيم بك ومن معه ارتحل من بلبيس إلى المنصورة وأرسلوا الحريم إلى القرين.
وفي ثالث عشرينه خرجت طائفة من العسكر الفرنساوي إلى جهة العادلية وصار في كل يوم تذهب طائفة بعد أخرى ويذهبون إلى جهة الشرق فلما كان ليل الأربعاء خرج كبيرهم بونابارته وكانت أوائلهم وصلت إلى الخانكة وأبى زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا إلى بلبيس وأما الحجاج فإنهم نزلوا ببلبيس وأكترت حجاج الفلاحين مع العرب فأوصلوهم إلى بلادهم بالغربية والمنوفية والقليبونجية وغيرها وكذلك فعل الكثير من الحجاج فتفرقوا في البلاد بحريمهم ومنهم من أقام ببلبيس وأما أمير(2/198)
الحاج صالح بك فإنه لحق بإبراهيم بك وصحبته جماعة من التجار وغيرهم.
وفي ثامن عشرنيه ملك الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال وبها من بقي من الحجاج فلم يشوشوا عليهم وأرسلوها إلى مصر وصحبتهم طائفة من عساكرهم ومعهم طبل فلما كان ليلة الأحد غايته جاء الرائد إلى الأمراء بالمنصورة وأخبرهم بوصول الافرنج وقربهم منهم فركبوا نصف الليل وترفعوا إلى جهة القرين وتركوا التجار واصحاب الاثقال فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان واتفقوا معهم على أنهم يحملونهم إلى القرين وحلفوا لهم وعاهدوهم على أنهم لا يخونونهم فلما توسطوا بهم الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حمولهم وتقاسموا متاعهم وعروهم من ثيابهم وفيهم كبير التجار السيد أحمد المحروقي وكان ما يخصه نحو ثلثمائة ألف ريال فرانسة نقودا ومتجرا من جميع الأصناف الحجازية وصنعت العرب معهم ما لا خير فيه ولحقهم عسكر الفرنساوية فذهب السيد أحمد المحروقي إلى صارى عسكر وواجهه وصحبته جماعة من العرب المنافقين فشكا له ما حل به وبإخوانه فلامهم على تنقلهم وركونهم إلى المماليك والعرب ثم قبض على بي خشبة شيخ بلد القرين وقال له: عرفني عن مكان المنهوبات فقال: أرسل معي جماعة إلى القرين فأرسل معه جماعة دلهم على بعض الأحمال فأخذها الافرنج ورفعوها ثم تبعوه إلى محل آخر فأوهمهم أنه يدخل ويخرج إليهم احمالا كذلك فدخل وخرج من مكان آخر وذهب هاربا فرجع أولئك العسكر بجمل ونصف جمل لا غير وقالوا هذا الذي وجدناه والرجل فر من أيدينا فقال صارى عسكر لا بد من تحصيل ذلك فطلبوا منه الإذن في التوجه إلى مصر فأصحب معهم عدة من عسكره أوصلوهم إلى مصر وإمامهم طبل وهم في أسوأ حال وصحبتهم أيضا جماعة من النساء اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة وهن أيضا في اسوأ حالة تسكب عند مشاهدتهن العبرات(2/199)
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الإثنين سنة 1213.
في ثانيه وصل الفرنساويه إلى نواحي القرين وكان إبراهيم بك ومن معه وصلوا إلى الصالحية وأودعوا مالهم وحريمهم هناك وضمنوا عليها العربان وبعض الجند فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة فركب صارى عسكر وأخذ معه الخيالة وقصد الاغارة على الحملة وعلى إبراهيم بك بذلك أيضا فركب هو وصالح بك وعدة من الأمراء والمماليك وتحاربوا معهم ساعة أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول وإذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها فعند ذلك فر بمن معه على أثره وتركوا قتال الفرنسيس ولحقوا بالعرب وجلوهم عن متاعهم وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قطيا ورجع صارى عسكر إلى مصر وترك عدة من عساكره متفرقين في البلاد فدخل مصر ليلا وذلك ليل الخميس رابعه.
وفي يوم الجمعة خامسه الموافق لثالث عشر مسرى القبطي كان وفاء الفيل المبارك فأمر صارى عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم وأرسل صحارى عسكر أوراقا لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صبحها وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطا حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع إلى داره وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أجد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والافرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها.
وفيه تواترت الأخبار بحضور عدة مراكب من الانكليز إلى ثغر(2/200)
الاسكندرية وأنهم حاربوا مراكب الفرنساوية الراسية بالمينا وكانت أشيعت هذه الأخبار قبل وتحدث الناس بها فصعب ذلك على الفرنساوية واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزر ومن أعيان التجار بوكالة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا باحضاره وذكروا له ذلك فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضا وأمروا بقطع لسانيهما أو يدفع كل واحد منهما مائة ريال فرانسة نكالا لهما وزجرا عن الفضول فيما لا يعنيهما فتشفغ المشايخ فلم يقبلوا فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي وأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة فلما قبضها الوكيل ردها ثانيا إليه وقال: فرقها على الفقراء كما أشار وردها إلى صاحبها فانكف الناس عن التكلم في شأن ذلك والواقع أن الانكليز حضروا في أثرهم إلى الثغر وحاربوا مراكبهم فنالوا منهم واحرقوا لقايق الكبير المسمى بنصف الدنيا وكان به أموالهم وذخائرهم وكان مصفحا بالنحاس الأصفر واستمر الانكليز بمراكبهم بميناء الأسكندرية يغدون ويروحون يرصدون الفرنسيس وفي ذلك اليوم سافر عدة من عساكرهم إلى بحري وإلى الشرقية ولما جرى الماء في الخليج منعوا دخول الماء إلى بركة الأزبكية وسدوا قنطرة الدكة بسبب وطاقهم ومدافعهم وآلتهم التي فيها.
وفيه سأل صارى عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال فلم يقبل وقال: لا بد من ذلك وأعطى له ثلثمائة ريال فرانسا معاونة وأمر بتعلق تعاليق وإحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية وعدة آلات ومزامير مخلفة(2/201)
الأصوات مطربة وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب.
وفيه ورد الخبر بأن إبراهيم بك والأمراء المصرية استقروا بغزة.
وفي خامس عشرة سافر عدة كبيرة من عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد وكبيرهم ديزة وصحبتهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات.
وفيه حضر القاصد الذي كان أرسله كبير الفرنساوية بمكاتبات وهدية إلى أحمد باشا الجزار بعكا وذلك عند استقرارهم بمصر وصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار ومعهم جانب أرز ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفائن أحمد باشا فلما وصلوا إلى عكا وعلم بها أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه إلى بعض التقارير ولم يواجهه ولم يأخذ منه شيئا وأمره بالرجوع من حيث أتى وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.
وفيه حضر جماعة من عسكر الفرنساوية إلى بيت رضوان كاشف بباب الشعرية وصحبتهم ترجمان ومهندس فانزعجت زوجته وكانت قبل ذلك بأيام صالحت على نفسها وبيتها بألف ريال وثلثمائة ريال وأخذت منهم ورقة ألصقتها على باب دارها وردت ماكانت وزعته من المال والمتاع عند معارفها وأطمأنت فلما حضر إليها الجماعة المذكورون قالوا لها: بلغ صارى عسكران عندك اسلحة وملابس للمماليك فانكرت ذلك فقالوا: لازم من التفتيش فقالت دونكم فطلعوا إلى مكان وفتحوا مخبأة فوجدوا بها أربعة وعشرين شروالا وبلكات وأمتعة وغير ذلك ووجدوا في أسفلها مخبأة أخرى بها عدة كثيرة من الطبنجات والاسلحة والبنادق وصناديق بارود وغير ذلك فاستخرجوا جميع ذلك ثم نزلوا إلى تحت السلالم(2/202)
وفجروا الأرض وأخرجوا منها دراهم كثيرة وحجاب ذهب في داخله دنانير ثم أنزلوا صاحبة الدار ومعها جارية بيضاء وأخذوهما مع الجواري السود وذهبوا بهن فأقمن عندهم ثلاثة أيام ونهبوا ما وجدوه بالدار من فرش وأمتعة ثم قرروا عليها أربعة آلاف ريال أخرى قامت بدفعها وأطلقوها رجعت إلى دارها وبسبب هذه الحادثة شددوا في طلب الأسلحة ونادوا بذلك وأنهم بعد ثلاثة أيام يفتشون البيوت وقال الناس: إن هذه حيلة على نهب البيوت ثم بطل ذلك وحصل بينها وبين مباشرها القبطي منافسة فذهب وأغرى بها ودل على ذلك.
وفي عشرينه قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على امارة الحاج فحضروا إلى المحكمة عند القاضي ولبس هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان والتزم بونابارته بتسهيل مهمات الحج وعمل محلا جديدا.
وفيه سأل أصحاب الحصص الالتزام في التصرف في حصصهم فطلبوا منهم حلوانا فلم يرتضوا بذلك فواعدهم لتمام التحرير والأملاء وقالوا كل من كان له التزام وتقسيط ناطق باسمه يحضره ويمليه ففعلوا ذلك في عدة أيام.
وفيه قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد ونشروا بذلك أوراقا وذكروا فيها أنها تحسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط.
وفيه طلب صارى عسكر بونابارته المشايخ فلما استقروا عنده نهض بونابارته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة الوان كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي فوضع منها واحدا على كتف الشيخ الشرقاوي فرمى به إلى الأرض واستعفى وتغير مزاجه ونزلوا في البلاد مثل الحكام يحبسون ويضربون ويشددون في الطلب وانتفع لونه واحتد طبعه فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابا لصارى عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قولهم فقالوا(2/203)
له: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند اخواننا من المسلمين فاغتاظ لذلك وتكلم بلسانه وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي أنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك فلاطفه بقية الجماعة واستعفوه من ذلك فقال: إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكار في صدروكم وهي العلامة التي يقال لها: الوردة فقالوا: أمهلونا حتى نتروى في ذلك واتفقوا على اثني عشر يوما.
وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات باستدعاء فصادفهم منصرفين فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صارى عسكر ولاطفه في القول الذي يعربه الترجمان وأهدى له خاتم الماس وكلفه الحضور في الغد عنده وأحضر له جوكار أوثقه بفراجته فسكت وسايره وقام وانصرف فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين.
وفي ذلك اليوم نادى جماعة القلقات على الناس بوضع العلامات المذكورة المعروفة بالوردة وهي إشارة الطاعة والمحبة فانف غالب الناس من وضعها وبعضهم رأى أن ذلك لا يخل بالدين إذ هو مكره وربما ترتب على عدم الأمتثال الضرر فوضعها ثم في عصر ذلك اليوم نادوا بأبطالها من العامة والزموا بعض الأعيان ومن يريد الدخول عندهم لحاجة من الحاجات بوضعها فكانوا يضعونها إذا حضرا عندهم ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم وذلك أيام قليلة وحصل ما يأتي ذكره فتركت.
وفي اواخره كان انتقال الشمس لبرج الميزان وهو الأعتدال الخريفي فشرع الفرنساويه في عمل عيدهم ببركة الأزبكية وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهور ببلادهم فجعلوا ذلك اليوم عيدا وتاريخا فنقلوا أخشابا وحفروا حفرا وأقاموا بوسط بركة الأزبكية صاريا عظيما بآلة وبناء وردموا حوله ترابا كثيرا عاليا بمقدار قامة وعملوا في أعلاه قالبا من الخشب محددا لاعلى مربع الأكان ولبسوا باقيه على سمت القالب قماشا تخينا طلوه بالحمرة الجزعة وعملوا اسفله قاعدة نقشوا عليها(2/204)
تصاوير سواد في بياض ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري وفي أعلى القوصرة طلاء أبيض وبه تصاوير بالأسود مصور فيه مثل حرب المماليك المصرية معهم وهم في شبه المنهزمين بعضهم واقع على بعض وبعضهم متلفت إلى خلف وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى البركة مثال بوابة أخرى على غير شكلها لأجل حراقة البارود وأقاموا أخشابا كثيرة منتصبة مصطفة منها إلى البوابة الاخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم قضاء البركة بحيث صار عامود الصاري الكبير المنتصف المذكور في المركز وربطوا بين تلك الاخشاب حبالا ممتدة وعلقوا بها صفين من القناديل وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود أيضا وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء سنة 1213 فيه وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغه ورود الفرنسيس عليهم رجعوا إلى جهة الفيوم وأن عثمان بك الأشقر عدى إلى البر الشرقي وذهب من خلف الجبل إلى أستاذه إبراهيم بك بغزة وخرج جماعة من الفرنساوية إلى جهة الشرق ومعهم عدة جمال وأحمال فخرج عليهم الغزو العرب الذين يصحبونهم فأخذوا منهم عدة جمال باحمالها ولم يلحقوهم.
وفي ثالثه حضرت مكاتبة من إبراهيم بك خطابا للمشايخ وغيرهم مضمونها انكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله تعالى عن قريب نحضر عندكم فلما وردت تلك المكاتبة وقد كان سأل عنها بونابارته فأرسلوها له وقرئت عليه فقال المماليك: كذابون ووافق أيضا أنه حضر آغا رومي وكان معوقا بالاسكندرية فمر بالشارع وذهب لزيارة المشهد الحسيني فشاهده الناس فاستغربوا هيئته وفرحوا برؤيته وقالوا: هذا رسول الحي حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرهم بالخروج من مصر(2/205)
واختلفت رواياتهم وآراؤهم واخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضا وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة ولم يكن تقدم له مجيء وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيئه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب فقال: لا علم لي بذلك ولم يكن بلغه الخبر ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون فلما نظروه وشاهد هو جميعتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا باجمعهم وقالوا بصوت عال الفاتحة فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول وقالوا له: إنهم يدعون لك وذهب إلى داره وكانت نكتة غريبة وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشأ منها فتنة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب غير النافذة أيضا ونقلوا الجميع إلى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين ويرفعونها بالعتالين إلى هناك فاجتمع من ذلك شيء كثير جدا وامتلأ من رصيف الخشاب إلى قريب وسط البركة.
وفي يوم السبت حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة ووضعوا على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة وضربوا طبولهم واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة واصطفوا صفوفا علىطرائقهم المعروفة بينهم ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام فاجتمعوا ببيت صارى عسكر بونابارته وجلسوا حصة من النهار ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على اكتافها(2/206)
واختلفت رواياتهم وآراؤهم واخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضا وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة ولم يكن تقدم له مجيء وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيئه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب فقال: لا علم لي بذلك ولم يكن بلغه الخبر ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون فلما نظروه وشاهد هو جميعتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا باجمعهم وقالوا بصوت عال الفاتحة فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول وقالوا له: إنهم يدعون لك وذهب إلى داره وكانت نكتة غريبة وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشأ منها فتنة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب غير النافذة أيضا ونقلوا الجميع إلى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين ويرفعونها بالعتالين إلى هناك فاجتمع من ذلك شيء كثير جدا وامتلأ من رصيف الخشاب إلى قريب وسط البركة.
وفي يوم السبت حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة ووضعوا على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة وضربوا طبولهم واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة واصطفوا صفوفا علىطرائقهم المعروفة بينهم ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام فاجتمعوا ببيت صارى عسكر بونابارته وجلسوا حصة من النهار ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على اكتافها(2/207)
فقالوا: وأين الفراش فبعثوا لاحضاره وسألوها فانكرت ذلك بالمرة فانتظروا حضور الفراش إلى بعد الغروب فلم يحضر فقال لهم المشايخ دعوها تذهب إلى بيتها وفي غد تأتي وتحقق هذه القضية فقال دبوى نونو ومعناه بلغتهم النفي أي لا تذهب فقالوا له: دعها تذهب هي ونحن نبيت عوضا عنها فلم يرض أيضا وعالجوا في ذلك بقدر طاقتهم فلما أيسوا تركوها ومضوا فباتت عندها في ناحية من البيت وصحبتها جماعة من النساء المسلمات والنساء الافرنجيات فلما أصبح النهار ركب المشايخ إلى كتخدا الباشا والقاضي فركبا معا وذهبا إلى بيت صاري عسكر الكبير فاحضرها وسلمها إلى القاضي ولم يثبت عليها شيء من هذه الدعوة وقرروا عليها ثلاثة آلاف ريال فرانسة وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضي وأقامت فيه لتكون في حمايته.
وفي يوم الخميس نادوا في الأسواق بأن كل من كان عنده بغلة يدهب بها إلى بيت قائمقام ببركة الفيل ويأخذ ثمنها وإذا لم يحضرها بنفسه تؤخذ منه قهرا ويدفع ثلثمائة ريال فرانسا وكان أحضرها باختياره يأخذ في ثمنها خمسين ريالا قلت قيمتها أو كثرت فغنم صاحب الخسيس وخسر صاحب النفيس ثم ترك ذلك وفيه نادوا بوقود قناديل سهارى بالطرق والأسواق وأن يكون على كل دار قنديل وعلى كل ثلاثة دكاكين قنديل وأن يلازموا الكنس والرش وتنظيف الطرق من العفوشات والقاذورات.
وفيه نادوا على الاغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين والبطالين ليسافروا إلى بلادهم وكل من وجد بعد ثلاثة أيام يستأهل الذي يجري عليه وكرروا المناداة بذلك وأجلوهم بعدها أربعة وعشرين ساعة فذهبت جماعة من المغاربة إلى صارى عسكر وقالوا له: أرنا طريقا للذهاب فإن طريق البرغير مسلوكة والانكليز واقفون بطريق البحر يمنعون المسافرين ولا نقدر على المقام في الأسكندرية من الغلاء وعدم الماء بها فتركهم(2/208)
وفيه جعلوا إبراهيم اغات المتفرقة المعمار قبطان السويس وسافر معه انفار ببيرق فرنساوي فخرج عليهم العربان في الطريق فنهبوهم وقتلوا إبراهيم اغا المذكور ومن بصحبته ولم يسلم منهم إلا القليل وفيه أهمل أمر الديوان الذي يحضره المشايخ ببيت قائد آغا فاستمروا أياما يذهبون فلم يأتهم أجد فتركوا الذهاب فلم يطلبوا.
وفيه شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا وكتبوا في شأن ذلك طومارا وشرطوا فيه شروطا ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطى القبطي الذي كان كاتبا عند أيوب بك الدفتردار وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوي وجعلوا لذلك الديوان قواعد واركانا من البدع السيئة وكتبوا نسخا من ذلك كثيرة ارسلوا منها إلى الأعيان ولصقوا منها نسخا في مفارق الطرق ورؤوس العطف وأبواب المساجد وشرطوا في ضمنه شروطا وفي ضمن تلك الشروط شروطا أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم قوانين التراكيب العربية ومحصله التحيل على أخذ الأموال كقولهم بأن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها أما بالبيع أو الانتقال لهم بالارث لا يكتفي بذلك بل يؤمر بالكشف عليها في السجلات ويدفع على ذلك الكشف دراهم بقدر عينوه في ذلك الطومار فإن وجد تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت ويدفع على ذلك الأشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرا آخر ويأخذ بذلك تصحيحا ويكتب له بعد ذلك تمكين وينظر بعد ذلك في قيمته ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم وهذا شيء متعذر وذلك أن الناس إنما وضعوا أيديهم على أملاكهم أما بالشراء أو بايلولتهالهم من مورتهم أو نحو(2/209)
ذلك بحجة قريبة أو بعيدة العهد أو بحجج اسلافهم ومورثيهم فإذا طولبوا باثبات مضمونها تعسر أو تعذر لحادث الموت أو الأسفار أو ربما حضرت الشهود فلم تقبل فإن قبلت فعل به ما ذكر ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضا ولا حق فيها للورثة وأن فتحت على الرسم بأذن الديوان يدفع على ذلك الأذن مقررا أو كذلك على ثبوت الوراثة ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر وكذلك من يدعي دينا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على اثباته مقرر أو يأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه رفع مقررا أيضا ومثل ذلك في الرزق والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوي والمنازعات والمشاجرات والاشهادات الجزئيات والكليات والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا وكذلك المولود إذا ولد ويقال له اثبات الحياة وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.
وفيه نادى أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم.
وفيه نهبوا أمتعة عسكر القلينجية الذين كانوا عسكر عند الأمراء فأخذوا مكانا بوكالة علي بساحل بولاق وبالجمالية وأخذوا متاعهم ومتاع شركائهم محتجين بأنهم قاتلوا مع المماليك وهربوا معهم.
وفيه أحضروا محمد كتخدا أباسيف الذي كان سردارا بدمياط من طرف الأمراء المصريين وكان سابقا كتخدا حسن بك الجداوي فلما حضر حبسوه في القلعة وحبسوا معه فراشا لإبراهيم بك.
وفيه أمروا سكان القلعة بالخروج من منازلهم والنزول إلى المدينة(2/210)
ليسكنوا بها فنزلوا وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدموا بها أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك واسوار وهدموا أبنية عالية وأعلوا مواضع متخفضة وبنوا على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها وأبدلوا محاسنها ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحكماء والعظماء وما كان في الأبواب العظام من الأسلحة والدرق والبلط والحوادث والحرب الهندية وأكر الفداوية وهدموا قصر يوسف صلاح الدين ومحاسن الملوك والسلاطين ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباسقة.
وفيه عينت عساكر إلى مراد بك وذهبوا إليه ببجر يوسف جهة الفيوم.
وفي يوم الخميس سادس عشرة نودي بأن كل من تشاجر مع نصراني أو يهودي يشهد أجد الخصمين على الآخر ويطلبه لبيت صارى عسكر.
وفيه قتلوا شخصين وطافوا برؤسهما وهم ينادون عليهما ويقولون هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب.
وفيه نبهوا على الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن كتربة الأزبكية والرويعي ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة والذي ليس له تربة بالقرافة يدفن ميته في ترب المماليك وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر ونادوا أيضا بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالاسطحة عدة أيام وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدوه ويقولون أن العفونة تنحبس باغوار الأرض فإذا دخل الشتاء وبردت الاغوار بسريان النيل والأمطار والرطوبات خرج ما كان منحبسا بالأرض من الأبخرة الفاسدة فيتعفن الهواء فيحصل الوباء والطاعون ومن قولهم أيضا أن مرض مريض لابد من الأخبار عنه فيرسلون من جهتهم حكيما للكشف عليه أن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيهم فيه.
وفي يوم السبت ثامن عشره ذهبت جماعة من القواسة الذين يخدمون(2/211)
الفرنساوية وشرعوا في هدم التراكيب المبنية على المقابر بتربة الأزبكية وتمهيدها بالأرض فشاع الخبر بذلك وتسامع أصحاب الترب بتلك البقعة فخرجوا من كل حدب ينسلون وأكثرهم النساء الساكنات بحارات المدابغ وباب اللوق وكرم الشيخ سلامة والفوالة والمناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب إلى أن صاروا كالجراد المنتشر ولهم صياح وضجيج واجتمعوا بالازبكية ووقفوا تحت بيت صارى عسكر فنزل لهم المترجمون واعتذروا بأن صارى عسكر لاعلم له بذلك الهدم ولم يأمر به وإنما أمر بمنع الدفن فقط فرجعوا إلى أماكنهم ورفع الهدم عنهم.
وفيه كتبوا من المشايخ كتابا ليرسلوه إلى السلطان وآخر إلى شريف مكة ثم أنهم بصموا منه عدة نسخ ولصقوها بالطرق والمفارق وصورته ملخصا بعد الصدر وذكر ورودهم وقتالهم مع المماليك وهروبهم وأن جماعة من العلماء ذهبت إليهم بالبر الغربي فأمنوهم وكذلك الرعية دون المماليك وذكروا فيه أنهم من اخصاء السلطان العثماني وأعداء اعدائه وأن السكة والخطبة بأسمه وشعائر الإسلام مقامة على ما هي عليه وباقية بمعنى الكلام السابق من قولهم أنهم مسلمون وأنهم محترمون القرآن والنبي وأنهم اوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم وأركبوا الماشي واطعموا الجيعان وسقوا العطشان واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر وعملوا له شأنا ورونقا استجلا بالسرور المؤمنين وانفقوا أموالا برسم الصدقة على الفقراء وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا اموالا في شأن انتظامه وتفق رأينا ورأيهم على لبس حضرة الجناب المحترم مصطفى أغا كتخدا بكر باشا والي مصر حالا فاستحسنا ذلك لبقاء علقة الدولة العلية وهم أيضا مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.
وفيه وقعت حادثة جزئية من جملة الجزئيات وهو أن رجلا صيرفيا بجوار حارة الجوانية وقع من لفظه أنه قال السيد أحمد البدوي بالشرق والسيد إبراهيم الدسوقي بالغرب: يقتلان كل من يمر عليهما من النصارى(2/212)
وكان هذا الكلام بمحضر النصارى الشوام فجاوبه بعضهم واسمعه قبيح القول ووقع بينهما التشاجر فقام النصراني وذهب إلى دبوى وأخبره بالقصة فأرسل وقبض على ذلك الصيرفي وحبسه وسمر حانوته وختم على داره وتشفع فيه المشايخ عدة مرار فأطلقوه بعد يومين وأرسلوه إلى بيت الشيخ البكري ليؤدب هناك بالضرب أو يدفع خمسمائة ريال فرانسة فضرب مائة سوط وأطلق سبيله وكذلك أفرجوا عن بقية المسجونين.
وفي يوم الإثنين طاف أصحاب الدرك على الاخطاط والوكائل فكتبوا أسماءها وأسماء البوابين وأمروهم أن لا يسكنوا أحدا من الاغراب ولا يطلقوا أحدا بلا أذن من اغات مستحفظان.
وفي يوم الثلاثاء عمل المولد الحسيني وكان من العزم تركه في هذا العام فدس بعض المنافقين دسيسة عند الفرنسيس وذلك أنه وقعت المذاكرة بأن من المعتاد أن يعمل المولد الحسيني بعد مولد النبي فقال بونابارته: ولم لم يعملوه فقال ذلك المنافق: غرض الشيخ السادات عدم عمله إلا إذا حضر المسلمون فبلغ شيخ السادات ذلك فشرع في عمله عل سبيل الاختصار وحضر صارى عسكر وشاهد الوقدة ورجع إلى داره بعد العشاء.
وفيه حضر علماء الأسكندرية وأعيانها وكذلك رشيد ودمياط وبقية البنادر باستدعاء صارى عسكر ليحضروا الديوان الشارعين فيه لترتيب النظام الذي سبقت الإشارة اليه.
وفيه سافر أيضا جماعة من الفرنسيس إلى جهة مراد بك ومن معه التقوا معهم وتراموا ساعة ثم انهزموا عنهم واطمعوهم في أنفسهم فتتبعوهم إلى اسفل جبل اللاهون ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالا وتراموا معهم وأكمنوا لهم وثبتوا معهم وظهر عليهم المصريون وقتل من الفرنساوية مقتلة كبيرة.
وفيه سقطت البوابة المصنوعة ببركة الأزبكية المقابلة لباب الهواء التي(2/213)
كانوا وضعوها في يوم عيدهم وقد تقدم شرحها ووصفها وسبب سقوطها أنهم لما منعوا الماء من دخوله للبركةوسدوا القنطرة كما تقدم علا الماء في أرض البركة وتخلخلت الأرض فسقطت تلك البوابة.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه نبهوا على المشايخ والأعيان التجار ومن حضر من الاقطار بالحضور إلى الديوان العام ومحكمة النظام بكرة تاريخه وذلك ببيت مرزوق بك بحارة عابدين فلما أصبح يوم السبت أعادوا التنبيه بحضورهم بالديوان القديم ببيت قائد أغا بالازبكية فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديروا الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعا موفورا فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطى القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط وفي المناقشة فابتدر كبير المدبرين في اخراج طومار آخر وناوله للترجمان فنشره وقرأه وملخصه ومضمونه الأخبار بأن قطر مصر هو المركز الوحيد وأنه اخصب البلاد وكان يجلب إليه المتاجر من البلاد البعيدة وأن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن إلا أن دولة الترك شددت في خرابه لأنها إذا حصلت الثمرة قطعت عروقها فلذلك لم يبقوا بأيدي الناس إلا القدر اليسير وصار الناس لأجل ذلك مختفين تحت حجاب الفقر وقاية لأنفسهم من سوء ظلمهم ثم أن طائفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه واراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلا وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ولم يعاملوا الناس بقسوة وأن غرضهم تنظيم أمور مصر واجراء خلجانها التي دثرت ويصير لها طريقان طريق إلى البحر الأسود وطريق إلى البحر الأحمر فيزداد خصبها وريعها ومنع القوى من ظلم الضعيف وغير ذلك استجلا(2/214)
بالخواطر أهلها وابقاء للذكر الحسن فالمناسب من أهلها ترك الشغب وإخلاص المودة وأن هذه الطوائف المحضرة من الاقاليم يترتب على حضورها أمور جليلة لأنهم أهل خبرة وعقل فيسألون عن أمور ضرورية ويجيبون عنها فينتج لصارى عسكر من ذلك ما يليق صنعه إلى آخر ما سطروه من الكلام قلت ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلا وغباوة بعد قوله بعد ذلك ومع ذلك لم يتعرضوا لاحد إلى آخر العبارة ثم قال الترجمان نريد منكم مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون كبيرا ورئيسا عليكم ممتثلثين أمره واشارته فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي فقال نونو: وإنما ذلك يكون بالقرعة فعملوا قرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي فقال حينئذ: يكون الشيخ عبد الله الشرقاوي هو الرئيس فما تم هذا الأمر حتى زالت الشمس فأدنوا لهم في الذهاب وألزموهم بالحضور في كل يوم.
وفيه وقعت كائنة الحاج محمد بن قيمو المغربي التاجر الطرابلسي وهو أنه كان بينه وبين بعض نصارى الشوام المترجمين منافسة فانهى إلى عظماء الفرنسيس أنه ذو مال وأنه شريك عبد الله المغربي تابع مراد بك فأرسلوا بطلبه فذهب إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي لنسابة بينهما فقال الشيخ للقواسة المرسلين بعد سؤالهم عن سبب طلبهم له فقالوا: لدعوة ليست شرعية فقال لهم في غدا حضروا خصمه ويتداعى معه فإن توجه الحق عليه الزمناه بدفعه فرجعت الرسل وتغيب الرجل لخوفه فبعد مضي مقدار نحو ساعة حضر نحو الخمسين عسكريا من الفرنسيس إلى بيت الشيخ وطالبوه به فأخبرهم أنه هرب فلم يقبلوا عذره والحوا في طلبه ووقفوا ببنادقهم وأرهبوا فركب المهدي والدواخلي إلى صاري عسكر وأخبروه بالقضية وبهروب الرجل فقال ولاي شيء يهرب فقالوا: من خوفه فقال: لولا أن جرمه كبير لما هرب وأنتم غيبتموه وأظهر الحنق والغيظ فلاطفاه واستعطفا خاطر الترجمان فكلمه وسكن غيظه ثم سأل عن منزله ومخزنه فأخبراه عنهما فقال نذهب معكما من يختم(2/215)
عليهما حتى يظهر في غد فاطمأنوا لذلك ورجعوا عن الغروب وختموا على مخزنه ومنزله فلما أصبح النهار فلم يظهر الرجل فأخذوا ما وجدوه فيهما من البضائع والأمانات.
وفي يوم الأحد ذهبوا إلى الديوان وعملوا مثل عملهم الأول حتى تمموا أسماء المنتخبين بديوان مصر من الثغور والمشايخ والوجاقلية والقبط والشوام وتجار الملسلمين وذلك الترتيب غير ترتيب الديوان السابق.
وفي يوم الإثنين اجتمعوا بالديوان ونادى المنادي في ذلك اليوم بالأسواق على الناس باحضارهم حجج أملاكهم إلى الديوان والمهلة ثلاثون يوما فإن تأخر عن الثلاثين يضاعف المقرر ومهلة البلاد ستون يوما ولما تكامل الجميع شرع ملطي في قراءة المنشور وتعداد ما به من الشروط مسطور وذكر من ذلك أشياء منها أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات وأمر المواريث وتناقشوا في ذلك حصة من الزمن وكتبوا هذه الأربعة أشياء أرباب ديوان الخاصة يدبرون رأيهم في ذلك وينظرون المناسب والاحسن وما فيه الراحة لهم وللرعية ثم يعرضون مادبروه يوم الخميس وما بين ذلك له مهلة وانفض المجلس.
واستهل شهر جمادى الأولى يوم الخميس الموعود سنة 1213 م واجتمعوا بالديوان ومعهم مالخصوه واستأصلوه في الجملة فأما أمر المحاكم والقضايا فالأولى ابقاؤها على ترتيبها ونظامها وعرفوهم عن كيفية ذلك ومثل ذلك ما عليه أمر محاكم البلاد فاستحسنوا ذلك إلا أنهم قالوا: يحتاج إلى ضبط المحاصيل وتقريرها على أمر لا يتعداه القضاة ولا نوابهم فقرروا ذلك وهو أنه إذا كان عشرة آلاف فما دونها يكون على كل ألف ثلاثون نصفا وإذا كان المبلغ مائة يكون على الألف خمسة عشر فإن زاد على ذلك فعشرة واتفقوا على تقرير القضاة ونوابهم على ذلك وأما حجج العقارات فإنه أمر شاق طويل الذيل فالمناسب فيه والأولى أن يجعلوا عليها دراهم من بادىء الرأي ليسهل تحصيلها ويحسن عليها السكوت ويكون المحصول أعلى وأدنى وأوسط وبينوا القدر المناسب(2/216)
بتفصيل الأماكن وكتبوه وابقوه حتى يرى الآخرون رأيهم فيه وانفض الديوان وفي ذلك اليوم نودي في الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يوما وقيدوا على مشايخ الاخطاط والحارات والقلقات بالفحص والتفتيش فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة إلى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون وكتبوا بذلك أرواقا لصقوهم بحيطان الأسواق على عادتهم في ذلك.
وفيه حضر إلى بيت البكري جم غفير من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعميان والمؤذنين وأرباب الوظائف والمستحقين من الزمني والمرضي بالمرستان المنصوري وأوقاف عبد الرحمن كتخدا وشكوا من قطع رواتبهم وخبزهم لأن الأوقاف تعطل ايرادها واستولى على نظارتها النصارى القبط والشوام وجعلوا ذلك مغنما لهم فواعدهم على حضورهم الديوان وينهوا شكواهم ويتشفع لهم فذهبوا راجعين وفيه قدمت مراكب من جهة الصعيد وفيها عدة من العسكر مجروحين.
وفيه وضعوا على التلال المحيطة بمصر ببارق بيضا فأكثر الناس من اللغط ولم يعلموا سبب ذلك.
وفي يوم الأحد اجتمعوا في الديوان وأخذوا فيما هم فيه فذكروا أمر المواريث فقال ملطي مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث فأخبره بفروض المواريث الشرعية فقال ومن أين لكم ذلك فقالوا من القرآن وتلوا عليهم بعض آيات المواريث فقال الافرنج: نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا بحسب تحسين عقولهم لأن الولد أقدر على التكسب من البنت فقال ميخائيل كحيل الشامي وهو من أهل الديوان أيضا: نحن والقبط يقسم لنا مواريثنا المسلمون ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فسايروهم ووعدوهم بذلك وانفضوا وفي ذلك اليوم عزلوا محمد أغا(2/217)
المسلماني أغات مستحفظان وجعلوه كتخدا أمير الحاج واستقروا بمصطفى أغا تابع عبد الرحمن أغا مستحفظان سابقا عوضا عنه ونودي بذلك.
وفي يوم الإثنين عملوا لهم ديوانا وكتبوا لهم كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك.
وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأعلى ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخا للاعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والاحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاء وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح في الكلام نصر الله دين الإسلام فذهبوا إلى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والاكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه واوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوى بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط(2/218)
الصنادقية وذهب إلى بيت القاضي فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الاخطاط بالخلائق مزحومة فبادروا إليه وضربوه واثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا الاطراف الدائرة بمعظم اخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية إلى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها ولم يتعد جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا احجارها متاريس للكرنكة لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أجد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية إزالوهم عند ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد وامتدت أيديهم إلى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية ونهبوا دور النصارى الشوام والاروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحل مستمرين وأما الافرنج فإنهم أصبحوا مستعدين وعلى تلال البرقية والقلعة واقفين وأحضروا جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبان ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين وكان كبير الفرنسيس أرسل إلى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات(2/219)
على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص بالجامع الأزهر وجروا عليه المدافع والقنبر وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام يا خفي الالطاف نجنا مما نخاف وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير وأتهمهم في التقصير فاعتذروا إليه فقبل عذرهم وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب وانقضى النهار وأقبل الليل وغلب على الظن أن القضية لهاذيل وأما أهل الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والافرنج اثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع إلى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا وبعد هجعة من الليل دخل الافرنج المدينة كالسيل ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند ابليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا إلى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا إرسالا ركبانا ورجالا ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول وتفرقوا بصحته ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأورقة والحارات(2/220)
وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه وأصبح يوم الثلاثاء فأصطف منهم خرب بباب الجامع فكل من حضر للصلا يراهم فيكر راجعا ويسارع وتفرقت طوائفهم بتلك النواحي افواجا واتخذوا السعي والطواف بها منهاجا وأحاطوا بها احاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب وخرجت سكان تلك الجهة يهرعون وللنجاة بأنفسهم طالبون وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع والفرنساوية لا يمرون بها إلا في النادر ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفا مئينا والوفا فإن مر بهم أجد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه ورفعوا القتلى والمطروحين من الافرنج والمسلمين ووقف جماعة من الفرنسيس ونظفوا مراكز المتاريس وإزالة ما بها من الأتربة والاحجار المتراكمة ووضعوها في ناحية لتصير طرق المرور خالية وتحزبت نصارى الشوام وجماعة أيضا من الاروام الذين انتهبت دورهم بالحارة الجوانية ليشكوا لكبير الفرنسيس مالحقهم من الرزية وأغتنموا الفرصة في المسلمين وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين وضربوا فيهم المضارب وكأنهم شاركوا الافرنج في النوائب وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لديهم إلا لكونهم منسوبين إليهم مع أن المسلمين الذين جاوروهم نهبهم الذعر أيضا وسلبوهم وكذلك خان الملايات المعلوم الذي عند باب حارة الروم فيه بضائع المسلمين وودائع الغائبين فسكت المصاب على غصته واستعوض الله في قضيته لأنه إن تكلم لا تسمع دعواه ولا يلتفت إلى شكواه وانتدب برطلمين للعسس على من حمل السلاح(2/221)
أو اختلس وبث اعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم وما ينهبه النصارى من أبغاضهم فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده ويأخذ منهم الكثير ويركب في موكبه ويسير وهم موثوقون بين يديه بالحبال ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال فيودعونهم السجونات ويطالبونهم بالمنهوبات ويقررونهم بالعقاب والضرب ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب ويدل بعضهم على بعض فيضعون على المدلول عليهم أيضا القبض وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الاغا وتجبر في أفعاله وطغى وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصى عددها إلا الله وطال بالكفرة بغيهم وعنادهم ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع وذهبوا لبيت صارى عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولأطفوه والتمسوا منه أمانا كافيا وعفوا ينادون به باللغتين شافيا لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية فوعدهم وعدا مشوبا بالتسويف وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام وحرضهم على الخلاف والقيام فغالطوه عن تلك المقاصد فقال على لسان الترجمان: نحن نعرفهم بالواحد فترجوا عنده في اخراج العسكر من الجامع الأزهر فأجابهم لذلك السؤال وأمر باخراجهم في الحال وأبقوا منهم السبعين اسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر إلى جهة الشام وفحصوا عليه فلم يجدوه وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا واتهم أيضا إبراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعا من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخفيين(2/222)
والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الاغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشرة توجه شيخ السادات وباقي المشايخ إلى بيت صار عسكر الفرنسيس وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الاغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم: وسعوا بالكم ولا تستعجلوا فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادوا في الأسواق بالأمان ولا أجد يشوش على أجد مع استمرار القبض على الناس وكبس البيوت بادنى شبهة ورد بعضهم الأمتعة التي نهبت للنصارى.
وفيه توسط عمر القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صارى عسكر فأختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحا وآلات حرب ورتبهم عسكرا ورئيسهم عمر المذكور وخرجوا وإمامهم الطبل الشامي على عادة عسكر المغاربة وسافروا إلى جهة بحرى بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضا مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربوهم وقاتلوهم فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشما وقتلوا كبيرها المسمى بأبن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئا كثيرا جدا وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخا عوضا عن ابيهم وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى أشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفا وبأيديهم بنادقهم فيشير إليهم بألفاظ بلغتهم كان يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش: فيمشون صفوفا إلى غير ذلك.
وفيه سافر برطلمين إلى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين إلى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيها ورجع بعد أيام(2/223)
وفي يوم الأربعاء خاطب الشيخ محمد المهدي صارى عسكر في أمر إبراهيم أفندي كاتب البهار وتلطف به بمعونة بوسليك المعروف بمدير الحدود وهو عبارة عن الروزنامجي ونقله من بيت الاغا الىداره وطلبوا منه قائمة كشف عما يتعلق بالمماليك بدفتر البهار.
وفي يوم الخميس سافر عدة من المراكب نحو الأربعين بها عسكر الفرنسيس إلى جهة بحرى.
وفي ليلة السبت رابع عشرينه حضر هجان من ناحية الشام وعلىيده مكاتبات وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا إلى كتخدائه مصطفى بك ومكتوب من إبراهيم بك خطابا للمشايخ وذلك كله بالعربي ومضمون ذلك بعد براعة الأستهلال والآيات القرآنية والاحاديث والاثار المتعلقة بالجهاد ولعن طائفة الافرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم ونحيلهم وكذلك قية المكاتبات بمعنى ذلك فأخذها مصطفى بك كتخدا وذهب بها إلى صارى عسكر فلما اطلع عليها قال هذا تزوير: من إبراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن واليا بالشام ولا مصر لأن والي الشام إبراهيم باشا وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام فانا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة وورد خبر أيضا بانفصال محمد باشا عزت عن الصدارة وعزل كذلك أنفار من رجال الدولة وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات وبنوا ابنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصينا زائدا وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة انبابة الرمة ومسجد المقس المعروف الآن بأولاد عنان على الخليج الناصري بباب البحر وقطعوا نخيلا كثيرة واشجار الجيزة التي عند أبي هريرة قطعوها وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير(2/224)
ذلك وقطعوا نخيل جهة الحلي وبولاق وخربوا دورا كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك.
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس إلى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صارى عسكر ليتحدث معهم فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز وهو الذي كان به دبوىا قائمقام المقتول وسكنه بعده الذي تولى مكانه فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياما وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم إلى صارى عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنا منهم أنهم في قيد الحياة فركب معهم إليه وكلموه في ذلك فقال لهم الترجمان أصبروا ما هذا وقته وتركهم وقام ليذهب في بعض أشغاله فنهض الجماعة أيضا وركبوا إلى دورهم.
وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا إلى الهروب وذهبوا إلى البيوت والمساجد واختلفت اراؤهم ورأوا في ذلك اقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم فذهب بعض المشايخ إلى صارى عسكر واخبروه بذلك وتخوف الناس فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الاغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان وسكن الحال وقيل أن بعض كبرائهم حضر عند القلق الساكن بالمشهد وجلس عنده حصة هؤلاء كانوا اتباعه ووقفوا ينتظرونه ولعل ذلك قصدا للتخويف والارهاب خشية من قيام فتنة لما اشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا اوراقا والصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من اثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس(2/225)
وفيه شرعوا في احصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه.
وفيه أيضا قلعوا ابواب الدروب والحارات الصغيرة الغير النافذة وهي التي كانت تركت وسومح اصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على ابقائها وكذلك دروب الحسينية فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها إلى ما جمعوه من البوابات بالازبكية ثم كسروا جميعها وفصلوا اخشابها ورفعوا بعضها على العربات الىحيث اعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبا للوقود وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها إلى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع.
وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ إلى صارى عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قتل ابوه وكان معوقا ببيت البكري فشفعهم فيه واطلقوه.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1213.
فيه كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ وأرسلوها إلى البلاد والصقوا منها نسخا بالأسواق والشوارع.
وصورتها نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية واشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا اصحابا واحبابا لسوية وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت ولكن حصلت الطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش يونابارته وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل(2/226)
عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقراء والمساكين ولولاه لكانت العساكر احرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم فإن الله سبحانه وتعالى يؤتى ملكه من يشاء ويحكم ما يريد وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا من آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا باسباب معايشكم وأمور دينكم وادفعوا الخراج الذي عليكم الدين النصيحة والسلام.
وفيه امروا بقية السكان على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليسكنوا بها جماعتكم المتباعدين منهم يكون الكل في حومة واحدة وذلك لما داخلهم من المسلمين حتى أن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخولهم البلد لا يمشون به أصلا إلا لغرض والذي لم يكن معه سلاح يأخذ بيده عصا أو سوطا أو نحو ذلك وتنافر قلوبهم من المسلمين وتحذروا منهم وانكف المسلمون عن الخروج والمرور بالأسواق من الغروب إلى طلوع النهار ومن جملة من انتقل من الدرب الأحمر إلى الأزبكية كفرلي المسمى بأبي خشبة وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة وكان من جملة المشار إليهم فيهم والمدبر لامور القلاع وصفوف الحروب ولهم به عناية عظيمة واهتمام زائد كان يسكن ببيت مصطفى كاشف طرا وفي وقت الحادثة هجمت على الدار العامة ونهبوها وقتلوا منها بعض الفرنساوية وفر الباقون فأخبروا من بالقلعة الكبيرة فنزل منهم عدة وافرة وقف بعضهم خارج الدار بعد أن طردوا المزدحمين ببابها وضربوهم بالبندق ودخل الباقون فقتلوا من وجدوه بها من المسلمين وكانوا جملة كثيرة وكان بتلك الدار شيء كثير(2/227)
من آلات الصنائع والنظارات الغربية والآلات الفلكية والهندسية والعلوم الرياضية وغير ذلك مما هو معدوم النظير كل آلة لا قيمة لها عند من يعرف صنعتها ومنفعتها فبدد ذلك كله العامة وكسروه قطعا وصعب ذلك على الفرنسيس جدا وقاموا مدة طويلة يفحصون عن تلك الالآت ويجعلون لمن يأتيهم بها عظيم الجعالات وممن قتل في وقعة هذه الدار الشيخ محمد الزهار.
وفي خامسة افرجوا عن إبراهيم أفندي كاتب البهار وتوجه إلى بيته.
وفي ثامنه قتلوا أربعة أنفار من القبط منهم اثنان من النجارين قيل أنهم سكروا في الخمارة ومروا في سكرهم وفتحوا بعض الدكاكين وسرقوا منها أشياء وقد تكرر منهم ذلك عدة مرار فاغتاظ لذلك القبطة.
وفيه كتبوا عدة أوراق وأرسلوا منها نسخا للبلاد والصقوا منها بالاخطاط والأسواق ذلك على لسان المشايخ أيضا ولكن تزيد صورتها عن الأولى.
وصورتها نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الارياف من العربان والفلاحين أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى سائر الاقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزراءه بالكذب والبهتان وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزائد وأغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم ويتركوا عيالهم وأوطانهم فارادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بانها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارا مع اغوات معينين ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الافرنجية دائما يحبون المسلمين وملتهم ويبغضون المشركين وطبيعتهم أحباب لمولانا السلطان قائمون بنصرته(2/228)
وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته يحبون من والاه ويبغضون من عاداه ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة من اجل عداوة المسكوف القبيحة الرديئة والطائفة الفرنساوية يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلادهم أن شاء الله تعالى ولا يبقون منهم بقية فننصحكم أيها الأقاليم المصرية إنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية فيحصل لكم الضرر والهلاك ولا تسمعوا كلام المفسين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فتصبحوا على ما فعلتم ناديم وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين لأن حضرة صارى عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أجد في دين الإسلام ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام ويرفع عن الرعية سائر المظالم ويقتر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثه الظلمة من المغارم فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد وراجعوا إلى مولاكم مالك الملك وخالق العباد فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم" عليه أفضل الصلاة والسلام وفي ثالث عشره قتلوا شخصين عند باب زويلة أحدهما يهودي لم يتحقق السبب في قتلهما.
وفيه اخرجوا من بيت نسيب إبراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة.
وفي خامس عشرة حضر جماعة من الفرنساوية بباب زويلة وفتحوا بعض دكاكين السكرية وأخذوا منها سكرا وضاع على أصحابه.
وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه باحضارهما فأحضرهما بعد الانكار والحجد عدة مرار فوجدوا ضمنهما أسلحة جواهر وسبح لؤلؤ وخناجر مجوهرة وغير ذلك.
وفي عشرينه كتبوا عدة أوراق مطبوعة وألصقوها بالأسواق مضمونها(2/229)
أن في يوم الجمعة حادي عشرينه قصدنا أن نطير مركبا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية فكثر لغط الناس في هذا كعادتهم فلما كان ذلك اليوم قبل العصر تجمع الناس والكثير من الافرنج ليروا تلك العجيبة وكنت بجملتهم فرأيت قماشا على هيئة الأدية على عمود قاتم وهو ملون احمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال وفي وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى الدائرة وهي مشدودة ببكر واحبال واطراف الاحبال بأيدي أناس قائمين باسطحة البيوت القريبة منها فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة فصعد دخانها إلى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل البكرة وطلب الدخان الصعود إلى مركزه فلم يجد منفذا فجذبها معه إلى العلو فجذبها بتلك الاحبال مساعدة لها حتى ارتفعت عن الأرض فقطعوا تلك الحبال فصعدت إلى الجو مع الهواء ومشت هنيهة لطيفة ثم سقطت طارتها الفتيلة وسقط أيضا ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة من نسخ الأوراق المبصومة فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات بل ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والافراح.
وفي تلك الليلة طاف منهم أنفار بالأسواق ومعهم مقاطف بها لحوم مسمومة فأطعموها للكلاب فمات منها جملة كثيرة فلما طلع النهار وجد الناس الكلاب مرمية وطرحى بالأسواق وهي موتى فأستأجروا لها من أخرجها إلى الكيمان وسبب ذلك أنهم لما كانوا يمرون بالأسواق في الليل وهم سكوت كانت الكلاب تنبحهم وتعدو خلفهم ففعلوا بها ذلك وارتاحوا هم والناس منها.
وفي خامس عشرينه سافر عدة عساكر إلى جهة مراد بك وكذلك إلى جهة كرداسة بسبب العربان وكذلك إلى السويس الصالحية وأخذوا جمال(2/230)
السقائين برواياها وحميرهم ولكن يعطونهم أجرتهم فشح الماء وغلا وبلفت القرية عشرة انصاف فضة.
وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك وانقضى هذا الشهر وما حصل به من الحوادث الكلية والجزئية التي لا يمكن ضبطها لكثرتها.
منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للازبكية ابنية على هيئة مخصوصة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرا مخصوصا يدفعه أو يكون مأذونا وبيده ورقة.
ومنها أنهم هدموا وبنوا بالمقياس والروضة وهدموا أماكن بالجيزة ومهدوا التل المجاور لقنطرة الليمون وجعلوا في أعلاه طاحونا تدور في الهواء عجيبة وتطحن الأرادب من البر وهي بأربعة أحجار وطاحونا أخرى بالروضة تجاه مساطب النشاب وهدموا الجامع المجاور لقنطرة الدكة وشرعوا في ردم جهات حوالي بركة الأزبكية وهدموا الأماكن المقابلة لبيت صارى عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة وهدموا الأماكن المقابلة لها من الجهة الاخرى والجنائن التي خلف ذلك وقطعوا اشجارها وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدأ من حد ببيت صارى عسكر إلى قنطرة المغربي وجددوا القنطرة المذكورة وكانت آلت إلى السقوط وفعلوا بعدها كذلك على الوضع والنسق بحيث صار جسرا عظيما ممتدا ممهدا مستويا على خط مستقم من الأزبكية إلى بولاق قسمين قسم إلى طريق أبي العلا وقسم يذهب إلى جهة التبانة وساحل النيل وبطريقة الطريق المسلوكة الواصلة من طريق أبي العلاء وجامع الخطيري إلى ناحية المدابغ وحفروا في جانبي ذلك الجسر من مبدئه إلى منتهاه خندقين وغرسوا بجانبه اشجارا وسيسبانا واحدثوا طريقا أخرى فيما بين باب الحديد وباب العدوى عند المكان المعروف بالشيخ شعيب حيث معمل الفواخير وردموا جسر ممتدا ممهدا مستطيلا يبتدي(2/231)
من الحد المذكور وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينية وازلوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والاشجار والتلول وقطعوا جانبا كبيرا من التل الكبير المجاور لقنطرة الحاجب وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي وقطعوا اشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي واشجار الجسر أيضا والابنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس وساروا على المنخفض بحيث صارت طريقا ممتدة من الأزبكية إلى جهة قبة النصر المعروفة بقبة العزب جهة العادلية على خط مستقيم من الجهتين وقيدوا بذلك انفارا منهم يتعاهدون تلك الطرق ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الأعتدال بكثرة الدروس وحوافر الخيول والبغال والحمير وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن ولم يسخروا أحدا في العمل بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن اجرتهم المعتادة ويصرفونهم من بعد الظهيرة ويستعينون في الأشغال 2 وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل وقلة الكلفة.
كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو احجارا من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها إمامه فتجرى على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل فيمليها باحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشق وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع وغالب الصناع من جنسهم ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة وجعلوا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية قلعة ومنارته برجا ووضعوا علىأسواره مدافع واسكنوا به جماعة من العسكر وبنوا في داخله عدة مساكن تسكنها العسكر المقيمة به وكان هذا الجامع معطل الشعائر من مدة مدة طويلة وباع نظاره منه أنقاضا وعمدا كثيرة.
ومنها أنهم احدثوا على التل المعروف بتل العقارب الناصرية ابنية وكرانك(2/232)
وأبراجا ووضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه.
وهدموا عدة دور من دور الأمراء وأخدوا أنقاضها ورخامها لابنيتهم وأفردوا للمدبرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت مثل بيت قاسم بك وأمير الحاج المعروف بأبي يوسف وبيت حسن كاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخرفه وصرف عليه اموالا عظيمة من مظالم العبادة وعند تمام بياضه وفرشه حدثت هذه الحادثة ففر مع الفارين وتركه فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وأظهار السرور بمجيئه إليهم وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودته ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الانبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث اممهم مما يحير الافكار ولقد ذهبت إليهم مرارا واطلعوني على ذلك فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظرا إلى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين وفي الاخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه(2/233)
من صخوره بيت المقدس وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني وكذلك صورة الأئمة المجتهدين وبقي الخلفاء والسلاطين ومثال اسلامبول وما بها من المساجد العظام كأياصوفي وجامع السلطان محمد وهيئة المولد النبوي وجمعية اصناف الناس لذلك السلطان سليمان وهيئة صلاة الجمعة فيه وأبى أيوب الانصاري وهيئة صلاة الجنازة فيه وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد والصور والاشكال والافلام المرسومة وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الاثقال وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض ويعبرون عنه بقولهم شفاء شريف والبردة للبوصيري ويحفظون جملة من أبياتها وترجموها بلغتهم ورأيت بعضهم يحفظ سورا من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفهما واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بها الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه وهي تركب براريم مصنوعة محكمة كل آلة عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا ركبت صارت آلة كبير أخذت قدرا من الفراغ وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وارصادها ومعرفة مقاديرها واجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظرتها وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن وغير ذلك وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السنارى وهم المصورون لكل شيء ومنهم اريجو المصور وهو يصور صور الأدميين تصويرا يظن من يراه أنه بارز(2/234)
في الفراغ بجسم يكاد ينطق حتى أنه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان وعلقوا ذلك في بعض مجالس صارى عسكر وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات واخر يصور الأسماك والحيتان بانواعها وأسمائها ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمنا طويلا.
وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين وصناع الدقائق وسكن الحكيم رويا ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح وقدورا عظيمة وبرامات وجعل له مكانا أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وبها كذلك عدة من الاطباء والجرايحية.
وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع والات تصاعيد الارواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الارمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات واستخراج المياه الجلاءة والحلالة وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات وبداخلها أنواع المستخرجات.
ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة فصب منها شيئا في كأس ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى فعلا المآن وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجرا أصفر فقلبه على البرجات حجرا يابسا أخذناه بأيدينا ونظرناه ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرا أزرق وباخرى فجمد حجرا أحمر ياقوتيا وأخذ مرة شيئا قليلا حدا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف(2/235)
فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه فضحكوا منا وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة القسم فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص وأدخل معها أخرى على غير هيئتها وأنزلهما في الماء وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما وآتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضا وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكمية تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاج فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة وإذا مسك علاقتها شخص ولو خيطا لطيفا متصلابها ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى ارتج بدنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة ومن لمس هذا اللامس أو شيئا من ثيابه أو شيئا متصلا به حصل له ذلك ولو كانوا ألفا أو أكثر ولهم فيه أمور وأ وال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
وأفردوا أيضا مكنا للنجارين وصناع الالآت والأخشاب وطواحين الهواء والعربات واللوازم لهم في اشغالهم وهندساتهم وأرباب صنعائهم ومكانا آخر للحدادين وبنوا فيه كوانين عظاما وعليها منافيخ كبار يخرج منها الهواء متصلا كثيرا بحيث يجذبه النافخ من أعلى بحركة لطيفة وصنعوا السندانات والمطارق العظام لصناعات الآلات من الحديد والمخارط وركبوا مخارط عظيمة لخرط القلوزات الحديد العظيمة ولهم فلكات مثقلة يديرها الرجال للمعلم الخراط للحديد بالاقلام المتينة الجافية وعليها حق صغير معلق مثقوب وفيه ماء يقطر على محل الخرط لتبريد النارية الحادثة من الأصطكاك وباعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل البركارات وآلات الساعات والآلات الهندسية المتقنة وغير ذلك(2/236)
شهر رجب سنة.1213
استهل بيوم الأحد في ثالثه قتلوا شخص من الأجناد يقال له مصطفى كاشف من جماعة حسين بك المعروف بشفت وكان قد فر مع الفارين ثم رجع من غير استئذان وأقام أياما مستترا ببيت الشيخ سليمان الفيومي فسلمه لمصطفى أغا مستحفظان ليأخذ له أمانا فأخبر الفرنسيس بشأنه وأغراهم عليه فأمروه بقتله فقطع رأسه وطافوا بها ينادون عليها بقولهم هذا جزاء من يدخل إلى مصر بغير أذن الفرنسيس.
وفي يوم الخميس حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها فلما حضر حبسوه بالقلعة قبل أنهم عثروا له على مكتوب ارسله وقت الفتنة السابقة إلى سر ياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس ولما حبسوه وحبسوا معه أربعة من الأجناد أيضا.
وفيه احدثوا مرمارا يضربونه في كل يوم وقت الزوال لأن ذلك الوقت عندهم ابتداء اليوم.
وفي يوم الأربعاء عاشره نادوا في الأسواق بأن من أراد أن يشتري فرسا أو حمارا فليحضر يوم الجمعة ثالث عشره ببولاق ويشتري من الفرنساويه ما أحب من ذلك وكتبوا بذلك اوراقا وألصقوها بالأسواق والازقة وهي مطوعة وعليها الصورة ونصها فليكن معلوما عند كافة الرعايا المصرية أن في يوم الجمعة ثلاثة عشر من شهر رجب الساعة اثنين يباع في بولاق جملة خيل من المشيخة الفرنساوية فلاجل هذا المشتري كل من أراد أن يقتنى خيلا فمنحنا له الاجازة أنه يقتنى كما يريد ويشاء.
وفي يوم الإثنين سادس عشره سافر صارى عسكر بونابارته إلى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار وأخذ معه أيضا بعض المدبرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري والطون أبو طاقية وغيرهم وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات وتختروان وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية(2/237)
وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على تنظيم آخر وعينوا له ستين نفرا منهم أربعة عشر يقال لهم خصوص وهم الذين يحضرون دائما ويقال لهم الديوان الخصوصي والديوان الديمومي والباقي بحسب الاقتضاء والاربعة عشر هم من المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي ومن التجار المحروقي وأحمد محرم ومن النصارى القبطة لطف الله المصري ومن الشوام يوسف فرحات ومخاييل كحيل ورواحة الانكليزي وبودني وموسى كافر الفرنساوي ومعهم وكلاء ومباشرون من الفرنسيس ومترجمون وأما العمومي فأكثره مشايخ حرف وكتبوا بذلك طومارا كبيرا بصموا منه نسخا كثيرة وأرسلوا منها نسخا كثيرة للاعيان وألصقوا منها بالأسواق على العادة وأرسلوا اللذين عينوا بالديوان أوراقا بأسمائهم شبه التقارير وصورة صدر ذلك الطومار المكتتب في شأن ذلك وقد أوردت ذلك وأن كان فيه بعض طول للاطلاع على ما فيه من التمويهات على العقول والتسلق على دعوى الخواص من البشر بفاسد التخيلات التي تنادى على بطلانها بديهة العقل فضلا عن النظر وهي مقولة على لسان بونابارته كبير الفرنسيس ونصه.
بسم الله الرحمن الرحيم من أمير الجيوش الفرنساويه خطابا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخليين من المعرفة وادراك العواقب سابقا اوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم لله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلث أمره وصرت رحيما بكم شفوقا عليكم ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بحسب تحريك هذه الفتنة بينكم ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وصلاح اموالكم من مدة شهرين والان توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان لأن حسن احوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة إنسانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقا أيها العلماء والاشراف أعلم وأمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه(2/238)
من ضلال عقله وفساد فكرة فلا يجد ملجأ ولا مخلصا ينجيه مني في هذا العالم ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة وأعلموا أيضا امتكم أن الله قدر في الأزل هلاك اعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي وقدر في الأزل أني اجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها واجراء الأمر الذي امرت به ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وارادته وقضائه وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن لعظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعا إلى صفاء النية واخلاص الطوية فإن منهم من يمتنع عن الغي واظهار عداوتي خوفا من سلاحي وشدة سطوتي ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور والذي يفعل ذلك يكون معارضا لأحكام الله ومنافقا وعليه اللعنة والنقمة من الله غلام الغيوب وأعلموا أيضا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أجد منكم لانني أعرف احوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما اراه وأن كنت لا اتكلم ولا انطق بالذي عنده ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم الهي لا يرد وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية واخلاص السريرة والسلام.
ورتبوا لارباب الديوان الديمومي شهرته تدفع إليهم نظير تقيدهم بمصالح العامة والدعاوى وما يترتب عليه النظام بينهم وبين المسلمين.
وفي ثامن عشرة طافوا على الطواحين واختاروا من كل طاحون فرسا أخذوها.
وفي رابع عشرينه حضر السيد المحروقي وكاتب البهار من السويس(2/239)
وكان سارى عسكر ذهب إلى ناحية بلبيس فأستاذ ونه في ذهابهم إلى مصر فأذن لهم وأرسل معهم خمسين عسكريا ليوصلوهم إلى مصر فلما حضروا حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجيء الفرنساوية هربوا وأخلوا البلدة فذهبوا إلى الطور وذهب البعض إلى العرب بالبادية فنهب الفرنسيس ما وجدوه بالبندر من البن والمتاجر والأمتعة وغير ذلك وهدموا الدور وكسروا الاخشاب وخوابي الماء فلما حضر كبيرهم وكان متأخرا عنهم كلمه التجار الذاهبون معه وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباق أو دفع ثمنه بمصر وأن يكتبوا قائمة بالمنهوبات ثم إنه وجد مركبان حضرا إلى قريب من السويس بهما بن ومتاجر فغرقت إحداهما فنزلت طائفة من الفرنسيس في مراكب صغار وذهبوا إليها في الغاطس وأخرجوها بآلات ركبوها واصطنعوها من علم جر الأثقال وفي مدة إقامته بالسويس صار يركب ويتأمل في النواحي وجهات ساحل البحر والبر ليلا ونهارا وكان معه من الأدم في هذه السفرة ثلاثة طيور دجاج محمرة ملفوفة في ورق وليس معه طباخ ولا فراش ولا فرش ولا خيمة وكل شخص من عسكره معه رغيف كبير مرشوق في طرف خربته يتزود منه ويشرب من سقاء لطيف من صفيح معلق في عنقه.
وفي يوم السبت حضر عدة من العسكر الفرنساوية من ناحية بلبيس ومعهم عدة من العربان نحو الثلاثين نفرا موثقون بالحبال وأسروا أيضا عدة من أولادهم ذكورا واناثا ودخلوا بهم إلى مصر يزفونهم بالطبول أمامهم ومعهم أيضا ثلاثة حمول من حمول التجار وبعض جمال مما كان نهب منهم عند رجوعهم من الحج.
وفي ليلة الإثنين غايته حضر سارى عسكر من ناحية بلبيس إلى مصر ليلا وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهائن وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم إلى القاهرة وخلفهم اصحابهم رجالا ونساء وصغارا وفي(2/240)
ذلك اليوم قتلوا شيخ العرب سليمان الشواربي شيخ قليوب ومعه أيضا ثلاثة رجال يقال لهم عرب الشرقية فأنزلوهم من القلعة إلى الرميلة على يد الاغا وقطعوا رؤوسهم وحملوا جثة الشواربي مع رأسه في تابوت وأخذه اتباعه في بلده قليوب ليدفن هناك عند اسلافه وانقضى هذا الشهر وحوادثه الجزئية والكلية.
منها أن في ليلة السابع والعشرين منه أتت جماعة إلى دار الشيخ محمد ابن الجوهري الكائن بالازبكية بالقرب من باب الهواء فخلعوا الشباك المطل على البركة ودخلوا منه وصعدوا إلى أعلى الدار وكان بها ثلاثة من النساء الخدامات وابنة خدامة أيضا وبواب الدار ولم يكن رب الدار بها ولا الحريم بل كانوا قد انتقلوا إلى دار أخرى لما سكن معظم العسكر بالازبكية فاستيقظ النساء وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة واختفت البنت في جهة وعاثوا في الدار وأخذوا متاعا ومصاغا ونزلوا واستيقظ البواب فأختفى خوفا منهم فلما طلع النهار وشاع الخبر وكان سارى عسكر غائبا فلم يقع كلام في شأن ذلك فلما قدم من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه فاغتم لذلك وأظهر الغيظ وذم فاعل ذلك لما فيه من العار الذي يلحقه واهتم في الفحص عمن فعل ذلك وقتله.
ومنها كثرة تعدي القلقات وتشديدهم على وقود القناديل بالازقة هم من أهل البلد وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلا اطفاه الهواء وفرغ زيته سمروا الحانوت أو الدار التي هو عليها ولا يقلعون المسمار حتى يصالحهم صاحبها على ما احبوه من الدراهم وربما تعمدوا كسر القناديل لأجل ذلك واتفق أن المطراطفا عدة قناديل بسوق أمير الجيوش بسبب كونها في ظروف من الورق والجرير فابتل الورق وسال الماء فأطفأ القنديل فسمروا حوانيت السوق وأصبح أهلها صالحوا عليها ووقع مثل ذلك في طرق عديدة فجمعوا في ذلك اليوم جملة من الدراهم وامثال ذلك حتى في الأزقة والعطف الغير النافذة حتى كان الناس ليس لهم شغل إلا القناديل وتفقد حالها وخصوصا في ليل الشتاء الطويل(2/241)
شهر شعبان المعظم سنة 1213.
استهل بيوم الثلاثاء فيه قتلوا ثلاثة انفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل أنهم من المتسلقين على الدور.
وفيه أخبر السفار بأن مراد بك ومن معه ترفعوا إلى قبلي ووصلوا إلى عقبة الهواء وكلما قرب منهم عسكر الفرنساوية انتقلوا وقبلوا ولقد داخلهم من الفرنساوية خوف شديد ولم يقع بينهم ملاقاة ولا قتال.
وفيه قدمت رباعة تحمل البن الذي حضر من السويس بالمركب الداو يصحبه جماعة من الفرنساوية لخفارتها من قطاع الطريق.
وفي يوم الأحد سادسه نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل مولد الحسين وشد في ذلك ووعد من اغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريال فراسنة مكافأة له على ذلك وكان السبب في ذلك والأصل فيه أن هذا المولد ابتدعه السيد بدوي بن فتيح مباشر وقف المشهد فكان قد اعتراه مرض الحب الافرنجي فنذر على نفسه هذا المولد أن شفاه الله تعالى فحصلت له بعض إفاقة فابتدأ به وأوقد في المسجد والقبة قناديل وبعض شموع ورتب فقهاء يقرأون القرآن بالنهار مدارسة واخرين بالمسجد يقرأون بالليل دلائل الخيرات للجذولي ثم زاد الحال وانضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة ويحرفها وينشد له المنشدون القصائد والموالات ومنهم من يقول أبياتا من بردة المديح للبوصيري ويجاوبهم آخرون مقابلون لهم بصيغة صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأما العيسوية فهم جماعة من المغاربة وما دخل فيهم من أهل الاهواء ينسبون إلى شيخ من أهل المغرب يقال له سيدي محمد بن عيسى وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلاما معوجا بلغتهم بنغم وطريقة مشوا عليها وبين أيديهم طبول ودفوف يضربون عليها على(2/242)
قدر النغم ضربا شديدا مع ارتفاع اصواتهم وتقف جماعة أخرى قبالة الذين يضربون بالدفوف فيضعون اكتافهم في اكتاف بعض لا يخرج واحد عن الآخر ويلتوون وينتصبون ويرتفعون وينخفضون ويضربون الأرض بأرجلهم كل ذلك مع الحركة العنيفة والقوة الزائدة بحيث لا يقوم هذا المقام إلا كل من عرف بالقوة وهذه الحركات والايقاعات على نمط الضرب بالدفوف فيقع بالمسجد دوى عظيم وضجات من هؤلاء ومن غيرهم من جماعة الفقراء كل أجد له طريقة وكيفية تباين الأخرى هذا مع ما ينضم إلى ذلك من جمع العوام وتحلقهم بالمسجد للحديث والهذيان وكثرة اللغط والحكايات والاضاحيك والتلفت إلى حسبان الغلمان الذين يحضرون للتفرج والسعي خلفهم والافتتان بهم ورمى قشور اللب والمكسرات والمأكولات في المسجد وطواف الباعة بالمأكولات علىالناس فيه وسقاة الماء فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش ملتحقا بالأسواق الممتهنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم زاد الحال على ذلك بقدوم جماعة الإشاير من الحارات البعيدة والقريبة وبين أيديهم مناور القناديل والجوامع العظيمة التي تحملها الرجال والشموع والطبول والزمور ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها وينسبون من يلومهم أو يعترضهم إلى الأعتزال والخروج والزندقة وغالبهم السوقة وأهل الحرف السافلة ومن لا يملك قوت ليلته فتجد أحدهم يجتهد بقوة سعيه ويبيع متاعه أو يستدين الجملة من الدراهم ويصرفها في وقود القناديل وأجرة الطبالة والزمارة وكل يجتمع عليه ما هو من أمثاله من الحرافيش ثم يقطع ليلته تلك سهرانا ويصبح دايخا كسلانا ويظن أنه بات يتعبد ويذكر ويتهجد واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين ولم يزدد الناذر لذلك إلا مرضا ومقتا واستجلب خدمة الضريح مالاح لهم من خساف العقول مثل الشمع والدراهم واتخذوا ذلك حبالة لاكل أموال الناس بالباطل فلما حصلت هذه الحادثة بمصر ترك هذا المولد في جملة المتروكات ثم حصلت الفتنة التي حصلت وسكن هذا الفرنساوي(2/243)
في خط المشهد الحسيني لضبط تلك الجهة وفيه مسايرة ومداهنة فصار يظهر المحبة للمسلمين ويلاطفهم ويدخل بيوت الجيران ويقبل شفاعة المتشفعين ويجل الفقهاء ويعظمهم ويكرمهم وأبطل وقوف عسكره بالسلاح كعادتهم في غير هذه الجهة وكذلك منع ما يفعله القلقات من أنواع التشديد على الناس في مثل القناديل فأطمأن به أهل الخطة وتراجعوا للبكور إلى الصلاة في المساجد بعد تخوفهم من العسكر الذي رتب معهم وتركهم التبكير فلما أنسوا به وعرفوا اخلاقه رجعوا لعادتهم ومشوا بالليل أيضا بدون فزع وخوف وترجمانه على مثل طريقته وهو رجل شريف من أهل حلب كان أسيرا بمالطة فاستخلصه الفرنسيس في جملة من استخلصوه من أسرىمالطة وقدم معهم مصر فلما أجلس هذا الضبط الخط كان ترجمانه يهوديا فأحتال بعض أعيان الجهة ورتب هذا الشريف المذكور ليكون فيه راحة للناس ففتح له قهوة بالخط بالقرب من دار مخدومه وجمع الناس للجلوس فيها والسهر حصة من الليل وأمرهم بعدم غلق الحوانيت مقدارا من الليل كعادتهم القديمة فأستأنسوا بالاجتماعات والتسلي والخلاعات وعم ذلك جهات تلك الخطة ووافق ذلك هوى العامة لأن أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة وتلك هي طبيعة الفرنساوية فصاروا يجتمعون عنده للسمر والحديث واللعب والممازحة ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين أيضا فانساق الحديث لذكر هذا المولد الشهري وما يقع في لياليه من الجمعيات والمهرجان وحسنوا له اعادته فوافقهم على ذلك وأمر بالمناداة وفتح الحوانيت ووقود القناديل وشدد في ذلك.
وفي يوم الأربعاء كتبوا أوراقا بتطيير طيارة ببركة الأزبكية مثل التي سبق ذكرها وفسدت فاجتمعت الناس لذلك وقت الظهر وطيروها وصعدت إلى الأعلى ومرت إلى أن وصلت تلال البرقية وسقطت ولو ساعدها الريح وغابت عن الأعين لتمت الحيلة وقالوا أنها سافرت إلى البلاد البعيدة بزعمهم(2/244)
وفيه سافر الخواجة مجلون إلى الصعيد واليا على جرجا لتحرير البلاد وقبض الأموال والغلال المتأخرة بالنواحي للعز.
وفيه سافرت قافلة بها احمال كثيرة ومواش ونساء افرنجيات وصناديق قيل أنهم ارسلوها إلى الطور وصحبتهم عدة من العسكر.
وفي يوم الخميس عاشره حضر طائفة من العسكر الفرنساوي إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية ففتحوا طبقة كانت لكتخدا علي باشا الطرابلسي وأخذوا ما وجدوه بها من الأمتعة وختموا عدة حواصل وطباق بذلك الخان وبالوكالة الجديدة وغيرها للمسافرين والهاربين والقليونجية وضبطوا ما بها وقبضوا على جماعة من الأتراك والقليونجية التجار وسجنوهم بالقلعة وصاروا يفتشون على من بقى منهم بالقاهرة وبولاق خصوصا الكرتلية الذين كانوا عسكرا لمراد بك وأخذوا الكثير من نصارى الاروام والقليونجية الذين كانوا مع مراد بك وبعضهم كان بمصر فأدخلوهم في عسكرهم وزيوهم بزيهم وأعطوهم اسلحة وانتظموا في سلكهم.
وفيه تواترت الأخبار أن علي باشا ونصوح باشا فارقا مراد بك وذهبا من خلف الجبل على الهجن إلى جهة الشام وصحبتهم جماعة إبراهيم بك وكان ذهابهم في اواخر رجب.
وفيه نادوا بأبطال القناديل التي توقد في الليل على البيوت والدكاكين وأن يوقدوا عوضها في وسط السوق مجامع في كل مجمع أربع قناديل بين كل مجمع ثلاثون ذراعا ويقوم بذلك الأغنياء دون الفقراء ولا علاقة للقلقات في ذلك ففرح بذلك فقراء الناس وانفرجت عنهم هذه الكربة.
وفيه نادوا أيضا أن كل من كان له دعوى شرعية أو ظلامة فليذهب إلى العلماء والقاضي.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب الكوامل ورجعوا بمنهوباتهم من الغنم والمعز والدجاج والأوز والحمير وغير ذلك.
وفيه حضر رجل من ناحية غزة يطلب أمانا للست فاطمة زوجة مراد بك ولابنة المرحوم محمد أفندي البكري وزوجها الأمير ذي الفقار وخشداشينه(2/245)
والخطاب للشيخ خليل البكري فعرض ذلك على ساري عسكر وترجى عنده فكتب له امان بحضورهم وأرسل لهم نفقة وكان ذلك حيلة منهم لتأتيهم النفقة وبعض الاحتياجات واخبر ذلك الرسول أن عبد الله باشا ابن العظم بغزة وإبراهيم بك ومن معه خارج البلد وهم في ضيق وحصر وحيز عنهم داخل البلد.
وفيه ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطبا وشرعوا في بناء ابنية هناك واشيع سفر ساري عسكر إلى جهة الشام والأغارة عليها.
وفي ليل الأحد ثالث عشرة كان انتقال الشمس لبرج الدلو وهو أول شهر من شهورهم وعملوا تلك الليلة حراقة بارود وسواريخ كما هي عادتهم عند كل انتقال الشمس من برج إلى برج.
وفي يوم الإثنين رابع عشره نادى المحتسب على اللحم الضاني بسبعة انصاف الرطل وكان بثمانية واللحم الجاموسي بخمسة وكان بستة.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب العيايدة نواحي الخانكة وقتلوا منهم طائفة ونهبوهم ووجدوا من منهوبات الناس وأمتعة عسكر الفرنساوية واسلحتهم جملة فأخذوا ذلك مع ما أخذوه وأحضروا معهم بعض رجال ونساء حبسوهم بالقلعة وفيه ذهب عدة من العسكر إلى صنافير واجهور الورد وقرنفيل وكفر منصور وبلاد أخرى للتفتيش على العرب فأخذوا ما وجدوه للعرب من بهائم وغيرها والذي عصى عليهم ضربوه ونهبوه أيضا ونهبوا جمالا وبهائم ممن لم يعص أيضا ودخلوا بذلك المدينة فصاروا يبيعون البقرة بريالين وثلاثة والنعجة وابنها بريال فاشترى غالب ذلك نصارى القبط.
وفي يوم السبت قتلوا بالقلعة نحو التسعين نفرا وغالبهم من المماليك الذين وجدوهم هاربين في البلاد والذين عس عليهم الخبيث الاغا وبرطلمين والقلقات ووجدوهم مختفين في البيوت.
وفيه قبضوا على خمسة أنفار من اليهود وأمرأتين فألقوا الجميع في بحر النيل وفيه نادوا بأن كل من اشترى شيئا من منهوبات العرب التي(2/246)
نهبتها العسكر يحضره لبيت صارى عسكر.
وفيه كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس إلى جهة الشام وطلبوا وهيؤا جملة من الهجن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط ثم رسموا على الاهالي عدة كبيرة من الحمير وكذلك عدة من البغال فطلب شيخ الحمارة وأمر بجمع ذلك وكذلك الركبداريه أمرهم بجمع البغال فاختفى غالب أصحاب الحمير وخاف الناس على حميرهم فأمتنع خروج السقائين الذين ينقلون الماء بالقرب على الحمير وسقائين الجمال والبراسمية فحصل للناس ضيق بسبب ذلك.
وفي يوم الإثنين حادي عشرينه كتبوا أرواقا ولصقوها بالأسواق على العادة ونصها.
الحمد لله وحده وهذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الانام علماء الإسلام والوجاقات والتجار الفخام نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية وعفا عفوا شاملا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد اغا بالازبكية ورتبه من أربعة عشر شخصا اصحاب معرفة واتقان خرجوا بالقرعة من ستين رجلا كان انتخبهم بموجب فرمان وذلك لأجل قضايا حوايج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام وتنظيمها على أكمل نظام وأحكام كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره ومزيد حبه بمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيره رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم وقد اقتص من عسكره الذين اساؤا بمنزل الشيخ محمد الجوهري وقتل منهم اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصا مع النساء الارامل فإن ذلك قبيح عندهم(2/247)
لا يفعله إلا كل خسيس ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم ومراده رفع الظلم عن كامل الخلق ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف اجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الافخم وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق فاشتغلوا بأمر دينكم واسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الأستقامة لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة رزقنا الله واياكم التوفيق والتسليم ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية والسلام عن أفضل الرسل على الدوام.
وفيه أرسلوا الوالي لينبه على السقائين بنقل الماء وعدم التعرض لهم ولحميرهم.
وفي ليلة الأربعاء ثالث عشرينه خرج عدة كبيرة من العسكر وطلب كبير الفرنساوية بونابارته أن يأخذ معه مصطفى بك كتخدا الباشا المتولي أمير الحاج ويأخذ أيضا قاضي العسكر بجمقشي زاده وأربعة أنفار من المتعممين وهم الفيومي والصاوي والعريشي والدواخلي وجماعة أيضا من التجار والوجاقلية ونصارى القبط والشوام.
وفي سادس عشرينه نادوا للناس بالأمان وفتح الأسواق ليلا في رمضان حكم المعتاد.
وفيه انتقل قائمقام من بيته المطل على بركة الفيل وهو بيت إبراهيم بك الوالي وسكن بيت أيوب بك الكبير المطل على بركة الفيل وانتقلوا جميعهم إلى بركة الأزبكية.
وفيه أعرض حسن أغا محرم المحتسب لسارى عسكر أمر ركوبه المعتاد لاثبات هلال رمضان فرسم له بذلك على العادة القديمة فاحتفل لذلك(2/248)
المحتسب احتفالا زائدا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثاء دعا في أول يوم العلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية وغيرهم وفي ثاني التجار والأعيان وكذلك ثالث يوم ورابع يوم دعا أيضا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم وركب يوم الثلاثاء بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وإمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قائمقام وأمير الحاج وسارى عسكر بونابارته ثم رجع بعد الغروب إلى بيت القاضي بين القصرين فانبتوا هلال رمضان ليلة الأربعاء ثم ركب من هناك بالموكب وإمامه المشاغل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم وخلفه عدة خيالة عارية رؤسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه.
فمنها أن أهل مصر جروا على عادتهم في بدعهم التي كانوا عليها وانكمشوا عن بعضها واحتشموها خوفا من الفرنسيس فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها وأنهمكوا في عمل مواليد الأضرحة التي يرون فرضيتها وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك وتقربهم إلى الله زلفى في المسالك فرمحوا في غفلاتهم مع ماهم فيه من الأسر وكساد غالب البضائع وغلوها وانقطاع الأخبار ومنع الجالب ووقوف الانكليز في البحر وشدة حجزهم على الصادر والوارد حتى غلت اسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي وانقطع أثر كثير من رباب الصنائع التي كسدت لعدم طلابها واحتاجوا إلى التكسب بالحرف الدنيئة كبيع الفطير وقلي السمك وطبخ الاطعمة والمأكولات والأكل في الدكاكين واحداث عدة قهاوى وأما أرباب الحرف الدنيئة الكاسدة فأكثرهم عمل حمارا مكاريا حتى صارت الأزقة خصوصا جهات العسكر مزدحمة بالحمير التي تكرى للتردد في شوارع مصر فإن للفرنسيس بذلك عناية عظيمة ومغالاة في الاجرة بحيث أن الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجري(2/249)
به مسرعا في الشارع وكذلك تجتمع الجماعة منهم ويركبون الحمير ويجهدونها في المشي والاسراع وهم يغنون ويضحكون ويصيحون ويتمسخرون ويشاركهم المكارية في ذلك كما أن لهم العناية وبذل الأموال والتردد إلى حانات الراح والتغالي في شراء الفواكه والبوأطي والاقداح.
ومن طبعهم في الشرب أنهم يتعاطون لحد النشوة وترويح النفس فإن زادوا عن ذلك الحد لا يخرجون من منازلهم ومن سكر وخرج إلى السوق ووقع منه أمر مخل عاقبوه وعزروه.
ومنها ترفع أسافل النصارى من القبط والشوام والاروام واليهود وركوبهم الخيول وتقلدهم بالسيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس ومشيهم الخيلاء وتجاهرهم بفاحش القول واستذلالهم المسلمين كل ذلك بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد والحال الحال والمركوز في الطبع ما زال والبعض استهوته الشياطين ومرق والعياذ بالله من الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها تواتر الأخبار من ابتداء شهر رجب بأن رجلا مغربيا يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز ويدعوهم إلى الجهادويحرضهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتابا مؤلفا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس وبذلوا اموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين وركبوا البحر إلى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه فورد الخبر في اواخره أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض اتراك ومغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند وقعة انبابة وركب الغز معهم أيضا وحاربوا الفرنسيس فلم تثبت الغز كعادتهم وأنهزموا وتبعهم هوارة الصعيد والمتجمعة من القرى وثبت الحجازيون ثم انكفوا لقلتهم وذلك بناحية جرجا وهرب الغز والمماليك إلى ناحية اسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي(2/250)
وعثمان بك حسن تابعه ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة بعدة مواضع وينفصل الفريقان بدون طائل.
ومنها أن الفرنسيس عملوا كرنتيلة بجزيرة بولاق وبنوا هناك بناء فيحجزون بها القادمين من السفار أياما معدودة كل جهة من الجهات القبلية لذلك وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة وأن هذا الشيخ صار يعط الناس والبحرية بحسبها والله أعلم.
ثم استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأربعاء سنة 1213.
وفيه أخذ بونابارته في الاهتمام بالسفر إلى جهة الشام وجهزوا طلبا كثيرا وصاروا في كل يوم يخرج منهم طائفة بعد طائفة.
وفي يوم السبت عمل ساري عسكر ديوانا وأحضر المشايخ والوجاقات وتكلم معهم في أمر خروجه للسفر وأنهم قتلوا المماليك الفارين بالصعيد واجلوا باقيهم إلى اقصى الصعيد وأنهم متوجهون إلى الفرقة الاخرى بناحية غزة فيقطعونهم ويمهدون البلاد الشامية لأجل سلوك الطريق ومشى القوافل والتجارات برا وبحرا لعمار القطر وصلاح الأحوال واننا نغيب عنكم شهرا ثم نعود وعند عودنا نرتب النظام في البلد والشرائع وغير ذلك فعليكم ضبط البلد والرعية في مدة غيابنا ونبهوا مشايخ الاخطاط والحارات كل كبير يضبط طائفته خوفا من الفتن مع العسكر المقيمين بمصر فالتزموا له بذلك وكتبوا له اوراقا مطبوعة على العادة في معنى ذلك وألصقوها بالطرق وفي ذلك اليوم خرج القاضي ومصطفى كتخدا الباشا والمشايخ المعينون للسفر إلى جهة العادلية وخرج أيضا عدة كبيرة من عسكرهم ومعهم احمال كثيرة حتى الأسرة والفرش والحصر وعدة مواهي ومحفات للنساء والجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيوت الأمراء وتزيا اكثرهن بزي نسائهم الافرنجيات وغير ذلك.
وفي يوم الأحد خامسه ركب ساري عسكر الفرنسيس وخرج أيضا إلى العادلية وذلك في الساعة الرابعة بطالع الحمل وفيه القمر في تربيع(2/251)
زحل وأبقى بمصر عدة من العسكر بالقلعة والابراج التي بنوها على التلول وقائمقام وبوسليك وساري عسكر وبزة بجملة من العسكر في الصعيد وكذلك سوارى عسكر الاقاليم كل واحد معه عسكر في جهة من الجهات وأخذ معه المديرين واصحاب المشورة والمترجمين وأرباب الصنائع منهم كالحدادين والنجارين ومهندسي الحروب وكبيرهم أبو خشبة بمصر ثم تراسل المتخلفون في الخروج كل يوم تخرج منهم جماعة.
وفي يوم الثلاثاء سابعه انتدب للنميمة ثلاث من النصارى الشوام وعرفوهم أن المسلمين قاصدون الوثوب على الفرنسيس في يوم الخميس تاسعه فأرسل قائمقام خلف المهدي والأغا فأحضرهما وذكر لهما ذلك فقالا له هذا كذب لا أصل له وإنما هذه نميمة من النصارى كراهة منهم في المسلمين ففحص عمن اختلق ذلك فوجدهم ثلاثة من النصارى الشوام فقبضوا عليهم وسجنوهم بالقلعة حتى مضى يوم الخميس فلم يظهر صحة ما نقلوه فأبقاهم في الأعتقال ثم أن نصارى الشوام رجعوا إلى عادتهم القديمة في لبس العمائم السود والزرق وتركوا لبس العمائم البيض والشيلان الكشميري الملونة والمشجرات وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك ونبهوا أيضا بالمنادة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولا ولا يتجاهرون بالأكل ولا يشربون الدخان ولا شيئا من ذلك بمرآى منهم كل ذلك للاستجلاب خواطر الرعية حتى أن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهزه فرد عليه ردا شنيعا فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة فرفعهما إلى قائمقام فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك فأخبروه أن من عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدا فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله.
وفي تاسع عشرينه أحضروا مراد أغا تابع سليمان بك الاغا ومعه آخر من الأجناد من ناحية قبلي فأصعدوهما القلعة قبل قتلهما(2/252)
وفي خامس عشرينه ورد الخبر بأن الفرنساويه ملكوا قلعة العريش وطاف رجل من اتباع الشرطة ينادي في الأسواق أن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش وأسروا عدة من المماليك وفي غد يعملون شنكا ويضربون مدافع فإذا سمعتم ذلك فلا تفزعوا فلما أصبح يوم الأحد حضر المماليك المذكورة وهم ثمانية عشر مملوكا وأربعة من الكشاف وهم راكبون الحمير ومتقلدون بأسلحتهم ومعهم نحو المائة من عسكر الفرنسيس وأمامهم طبلهم وخرج بعض الناس فشاهدهم ولما وصلوا إلى خارج القاهرة حيث الجامع الظاهري خرج الاغا وبرطلمين بطوافيهما ينتظرانهم ومعهم طبول وبيارق وطوائف ومشوا معهم إلى الأزبكية من الطريق التي أحدثوها ودخلوا بهم إلى بيت قائمقام فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم فذهبوا إلى بيوتهم وفيهم أحمد كاشف تابع عثمان بن الأشقر وآخر يقال له: حسن كاشف الدويدار وكاشفان اخران وهما يوسف كاشف الرومي وأسمعيل كاشف تابع أحمد كاشف المذكور وكان من خبرهم أنهم كانوا مقيمين بقلعة العريش وصحبتهم نحو ألف عسكري مغاربة وأرنؤد فحضر لهم الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في أواخر شعبان فأحاطوا بالقلعة وحاربوهم من داخلها ونالوا منهم ما نالوه ثم حضر إليهم سارى عسكر بجموعه بعد أيام والحوا في حصارهم فأرسل من بالعريش إلى غزة فطلب نجدة فأرسلوا لهم نحو السبعمائة وعليهم قاسم بك امين البحرين فلم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وأحاطتهم حولها فنزلوا قريبا من القلعة فكبستهم عسكر الفرنسيس بالليل فأستشهد قاسم بك وغيره وأنهزم الباقون ولم يزل أهل القلعة يحاربون ويقاتلون حتى فرغ ما عندهم من البارود والذخيرة فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم ومن القلعة انزلوهم وذلك بعد أربعة عشر يوما فلما نزلوا على أمانهم ارسلوهم إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم فحضروا إلى مصر كما ذكر وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم وصاروا يترددون عليهم ويعظمونهم ويلاطفونهم ويفرجونهم على صنائعهم(2/253)
وأحوالهم وأما العسكر الذين كانوا معهم بقلعة العريش فبعضهم انضاف إليهم وأعطوهم جامكية وعلوفة وجعلوهم بالقلعة مع عسكر من الفرنسيس والبعض لم يرض بذلك فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم إلى حال سبيلهم وذهب الفرنسيس إلى ناحية غزة وفي ذلك اليوم بعد الظهرعملوا الشنك الموعود به وضربوا عدة مدافع بالقلعة والازبكية وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور وأولموا في بيوتهم الولائم وغيروا الملابس والعمائم وتجمعوا للهو والخلاعة وزادوا في القبح والشناعة.
وفي يوم الأربعاء تدفي أحمد كاشف المذكور فجأة وفي عصر ذلك اليم حضر جماعة من الفرنسيس نحو الخمسة والعشرين وهم راكبون الهجن وعلى رؤوسهم عمائم بيض ولابسون برانس بيضا على اكتافهم فذهبوا إلى بيت قائمقام بالازبكية فلما أصبح يوم الخميس عملوا الديوان وقرأوا المكاتبة التي حضرت مع الهجانة حاصلها أن الفرنسيس أخذوا غزة وخان يونس وأخبار مختلفة.
منها أنهم وجدوا إبراهيم بك ومن معه ارتحلوا من هناك وكانوا أرسلوا حريمهم واثقالهم إلى جبل نابلس وقيل بل تحاربوا معهم وأنهزموا وفي ذلك اليوم بعد العصر بنحو عشرين درجة حضر عدة من الفرنسيس ومعهم كبير منهم وهم راكبون الخيول وعدة من المشاة وفيهم جماعة لابسون عمائم بيضا وجماعة أيضا ببرانيط ومعهم نفير ينفخ فيه وبيدهم بيارق وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش إلى أن وصلوا إلى الجامع الأزهر فأصطفوا رجالا وركبانا بباب الجامع وطلبوا لشيخ الشرقاوي فسلموه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر فنصبوا بيريقين ملونين علىالمنارة الكبيرة ذات الهلالين عند كل هلال بيرقين وعلى منارة أخرى بيرقا ثالثا وعند دفعهم ذلك ضربوا عدة مدافع من القلعة بهجة وسرورا وكان ذلك ليلة عيد الفطر فلما كان عند الغروب ضربوا عدة مدافع أيضا أعلاما بالعيد وبعد العشاء الاخير طاف اصحاب الشرطة ونادوا بالأمان وبخروج الناس(2/254)
على عادتهم لزيارة القبور بالقرافتين والاجتماع لصلاة العيد وأن يلبسوا احسن ثيابهم ولما ملكوا العريش كتبوا أوراقا وأرسلوها إلى البلاد ونصها فرمان عام موجه من أمير الجيوش إلى أهالي الشام قاطبة.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من طرف بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية إلى حضرة المفتين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى بعد السلام نعرفكم أننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم اننا حضرنا في هذا الطرف لقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه وإلى أي سبب أيضا أرسل عساكره إلى قلعة العريش بذلك هجم على اراضي مصر فلا شك كان مراده أجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه فأما أنتم يا أهالي الأطراف المشار إليها فلم نقصد لكم أذية ولا أدنى ضرر فأنتم استمروا في محلكم ووطنكم مطمئنين ومرتاحين وأخبروا من كان خارجا عن محله ووطنه أن يرجع ويقيم في محله ووطنه ومن قبلنا عليكم ثم عليهم الأمان الكافي والحماية التامة ولا أجد يتعرض لكم في مالكم وما تملكه يدكم وقصدنا أن القضاة يلازمون خدمهم ووظائفهم على ما كانوا عليه وعلى الخصوص أن دين الإسلام لم يزل معتزا ومعتبرا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين إذ كل خير يأتي من الله تعالى وهو يعطي النصر لمن يشاء ولا يخفاكم أن جميع ما تأمر به الناس ضدنا فيغدو باطلا ولا نفع لهم به لأن كل ما نضع به يدنا لا بد من تمامه بالخير والذي يتظاهر بالغدر يهلك ومن كل ما حصل تفهمون جيدا اننا نقمع أعداءنا ونعضد من يحبنا وعلى الخصوص من كوننا متصفين بالرحمة والشفقة على الفقراء والمساكين.
ولما أخذوا غزة أرسلوا طومارا بصورة الواقعة وبصموه نسخا وقرىء بالديوان وألصقوا نسخة المطبوعة بالأسواق وصورته.
بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر وأقاليمها أنه حضر فرمان مكتوب من غزة من حضرة الجنرال اسكندر(2/255)
برتبه خطابا إلى حضرة سارى عسكر دوجا وكيل الجيوش بمصر يخبره فيه بأن العساكر الفرنساوية باتوا ليلة تسعة عشر شهر رمضان في خان يونس وفي فجر تلك الليلة توجهوا سائرين إلى ناحية غزة فكشفوا قبل الظهر بساعة عسكر المماليك وعسكر الجزار جالسين تجاه غزة فتوجه إليهم الجنرال مرارا مع عساكر الفرنساوية من خيالة ومشاة مراده اغتيال عسكر المماليك وعسكر الجزار فلما انتبهوا له فروا هاربين ووقع بينه وبين أطراف العساكر بعض مضاربة يسيرة لم ينجرح فيها إلا شخصان من الفرنساوية مات عسكري واحد ومات من عسكر المماليك والجزار ناس قلائل وحين تشاغل سارى عسكر مراد بالمضاربة والمقاتلة دخل حضرة سارى عسكر كلهبر الذي كان حاكما بالاسكندرية وكان ساكنا بالازبكية إلى بندر غزة وملكها من غير معارض له ووجدوا فيها حواصل مشحونة بالذخائر من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعا وحاصلا كبيرا مملوا بالخيام الكثيرة وجللا وبنبات مهيئآت محضرات كصنعة الافرنج هذا ما وقع لملكهم لغزة وقد أخبرناكم على ما وقع في كيفية ملك العريش سابقا فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء اله وتأدبوا في أحكام مولاكم الذي خلقكم وسواكم والسلام ختام.
وانقضى شهر رمضان ووقع به قبل ورود هذه الأخبار من السكون والطمأنينة وخلوا الطرقات من العسكر وعدم مرور المتخلفين منهم إلا في النادر واختفائهم بالليل جملة كافية وانفتاح الأسواق والدكاكين والذهاب والمجيء وزيارة الاخوان ليلا والمشي على العادة بالفوانيس ودونها واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوي ووقود المساجد صلاة التراويح وطواف المسحرين والسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار فيما عدا المجلوبات من الاقطار.
ومنها أن الفرنساوية صاروا يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للافطار والسحور ويعملون لهم الولائم ويقدمون لهم الموائد على نظام(2/256)
المسلمين وعادتهم وبتولي أمر ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينا لخواطرهم ويذهبون هم أيضا ويحضرون عندهم الموائد وياكلون معهم في وقت الافطار ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم ووقع منهم من المسايرة للناس وخفض الجانب ما يتعجب منه والله اعمل.
شهر شوال سنة 1213.
استهل بيوم الجمعة وفي صبح ذلك اليوم ضربوا عدة مدافع لشنك العيد واجتمع الناس لصلاة العيد في المساجد والأزهر واتفق أن إمام الجامع الأزهر نسي قراءة الفاتحة في الركعة الثانية فلما سلم اعاد الصلاة بعد ما شنع عليه الجماعة وخرج الرجال والنساء لزيارة القبور فانتبذ بعض الحرافيش نواحي تربة باب النصر وأسرع في مشيه وهو يقول نزلت عليكم العرب يا ناس فهاجت الناس وانزعجت النساء ورمحت الجعيدية والحرافيش وخطفوا ثياب النساء وأزرهن وما صادفوه من عمائم الرجال وغير ذلك واتصل ذلك بتربة المجاورين وباب الوزير والقرافة حتى أن بعض النساء مات تحت الارجل ولم يكن لهذا الكلام صحة وإنما ذلك من مخترعا الاوباش لينالوا اغراضهم من الخطف بذلك.
وفيه ركب أكابر الفرنسيس وطافوا على أعيان البلد وهنوهم بالعيد وجاملهم الناس بالمدارة أيضا.
وفي أوائله وردت الأخبار بأن الأمراء المصرية القبليين تفرقوا من بعضهم فذهب مراد بك وآخرون إلى نواحي إبراهيم بك ومنهم من ذهب إلى ناحية أسوان والألفي عدي بجماعته إلى البر الشرقي.
وفي خامسه قدم الشيخ محمد الدواخلي من ناحية القرين متمرضا وكان بصحبته الصاوي والفيومي متخلفين بالقرين وسبب تخلفهم أن كبير الفرنسيس لما ارتحل من الصالحية أرسل إلى كتخدا الباشا والقاضي والجماعة الذين بصحبتهم يأمرهم بالحضور إلى الصالحية لانهم كانوا يباعدون عنه مرحلة فلما أرادوا ذلك بلغهم وقوف العرب بالطريق فخافوا من المرور فذهبوا إلى العرين فأقاموا هناك واتخذ عسكر الفرنسيس(2/257)
جمالهم فأقاموا بمكانهم فتقلق هؤلاء الثلاثة وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا للقرين وتخلف عنهم الفيومي فأقام مع كتخدا الباشا والقاضي فحصل للدواخلي توعك فحضر إلى مصر وبقي رفيقاه في حيرة.
وفي سابعه أحضر الاغا رجلا ورمى عنقه عند باب زويلة وشنق امرأة علىشباك السبيل تجاه الباب والسبب في ذلك أن الفرنساوي حاكم خط الخليفة وجهة الركيبة ويسى دلوى أحضر باعة الغلال بالرميلة وصادرهم ومنعهم من دفع معتاد الوالي فاجتمعوا وذهبوا إلى كبير الفرنسيس الذي يقال له شيخ البلد وشكوا إليه وكان الأمير ذو الفقار حاضرا وهو يسكن تلك الجهة فعضدهم وعرف شيخ البلد عن شكواهم فأرسل شيخ البلد إلى دلوى فأنتهره وأمره برد ما أخذه فأخبره اتباعه أن ذا الفقار هو الذي عضدهم وأنهى شكواهم إلى كبيرهم فقام دلوى المذكور ودخل على ذي الفقار في بيته وسبه وشتمه بلغته وفزع عليه ليضربه فلما خرج من عنده قام ودهب إلى كبيرهم واخبره بفعل دلوى معه فأمر باحضاره وحبسه بالقلعة ثم أخبر بعض الناس شيخ البلد أن العرض الذي وقع من دلوى لباعة الغلة إنما هو باغراء خادمة وعرفه أن خادمه المذكور مولع بأمرأة رقاصة من الرميلة تأتيه باشكالها هو واضرابه وترقص لهم تلك المرأة في القهوة التي بخطهم ليلا ونهارا وتبيت معهم في البيت ويصبحون على حالهم فلما حبس أميرهم اختفوا فدلوا على الرجل والمرأة فقبضوا عليهما وفعلوا بهما ما ذكر ولا بأس بما حصل.
وفي ثامنه يوم الجمعة نودى في الأسواق بموكب كسوة الكعبة المشرفة من قراميدان والتنبيه باجتماع الوجاقات وأرباب الإشاير وخلافهم على العادة في عمل الموكب فلما أصبح يوم السبت اجتمع الناس في الأسواق وطريق المرور وجلسوا للفرجة فمروا بذلك وامامها الوالي المحتسب وعليهم القفاطين والبينشات وجميع الإشاير بطبولهم وزمورهم وكاساتهم ثم برطلمين كتخدا مستحفظان وإمامه نفر الينكجرية من المسلمين نحو المائتين أو أكثر وعدة كثيرة من نصارى الاروام بالاسلحة والملازمين(2/258)
بالبراقع وهو لابس فروة عظيمة ثم مواكب القلقات ثم موكب ناظر الكسوة وهو تابع مصطفى كتخدا الباشا وخلفه النوبة التركية فكانت هذه الركبة من أغرب المواكب واعجب العجائب لما اشتملت عليه من اختلاف الأشكال وتنوع الأمثال واجتماع الملل وارتفاع السفل وكثرة الحشرات وعجائب المخلوقات واجتماع الأضداد ومخالفة الوضع المعتاد وكان نسيج الكسوة بدار مصطفى كتخدا المذكور وهو على خلاف العادة من نسجها بالقلعة.
وفي يوم الأربعا ثالث عشرة حضر عدة من الفرنسيس وهم راكبون الهجن ومعهم عدة بيارق وأعلام بعد المهر وأخبروا أن الفرنسيس ملكوا قلعة يافا وبيدهم مكاتبة من سارى عسكرهم بالأخبار عما وقع فلما كان يوم الخميس واجتمع أرباب الديوان فقرأ عليهم تلك المراسلة بعد تعريبها وترصيفها علىهذه الكيفية وهي عن لسان رؤساء الديوان إلى الكافة وذلك بالزامهم وأمرهم بذلك.
وصورتها بسم الله الرحمن الرحيم سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد سبحان الحكم العدل الفاعل المختار ذي البطش الشديد هذه صورة تمليك الله سبحانه وتعالى جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الاقطار الشامية نعرف أهل مصر وأقاليمها من سائر البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث عشرين رمضان ووصلوا إلى الرملة في الخامس والعشرين منه في أمن واطمئنان فشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قائلين الفرار الفرار ثم أن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة لد مقدار كبير من مخازن البقسماط والشعير ورأوا فيها ألفا وخمسمائة قربة مجهزة جهزها الجزار يسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين ومراده أن يتوجه إليها باشرار العربان من سطح الجبل ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل قاصدا سفك دماء الناس مثل عوائده الشامية وتجبره وظلمه مشهور لأنه تربية المماليك الظلمة المصرية ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله كل شيء(2/259)
بقضائه وتدبيره وفي سادس عشرين شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية إلى بندر يافا من الاراضي الشامية واحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية وأرسلوا إلى حاكمها وتحيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل به ويعسكره الدمار فمن خسافة رأيه وسوء تدبيره سعى في هلاكه وتدميره ولم يرد لهم جواب وخألف قانون الحرب والصواب.
وفي أواخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا وصاروا كلهم مجتمعين وانقسموا على ثلاثة طوابير الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيدا عن يافا ربع ساعات وفي السابع والعشرين من الشهر المذكور أمر حضرة ساري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور لأجل أن يعملوا متاريس أمينة وحصارات متقنة حصينه لأنه وجد سور يافا ملآنا بالمدافع الكثيرة ومشحونة بعسكر الجزار الغزيرة.
وفي تاسع عشرين الشهر لما قرب حفر الخندق إلى السور مقدار مائة وخمسين خطوة أمر حضرة سارى عسكر المشار إليه أن ينصب المدافع على المتاريس وأن يضعوا اهوان القنبر بأحكام وتأسيس وامر بنصب مدافع آخر بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم من مراكب المينا لأنه وجد في المينا بعض مراكب اعدها عسكر الجزار للهروب ولا ينفع الهروب من القدر المكتوب ولما رأت عساكر الجزار الكائنون بالقلعة المحاصرون أن عسكر الفرنساوية قلائل في رأى العين للناظرين لمداراة الفرنساوية في الخنادق وخلف المتاريس غرهم الطمع فخرجوا لهم من القلعة مسرعين مهرولين وظنوا أنهم يغلبون الفرنساوية فهجم عليهم الفرنسيس وقتلوا منهم جملة كثيرة في تلك الواقعة والجؤهم للدخول ثانيا في القلعة.
وفي يوم الخميس غاية شهر رمضان حصل عند سارى عسكر شفقة قلبية وخاف على أهل يافا من عسكره إذا دخلوا بالقهر والإكراه فأرسل إليهم مكتوبا من رسول مضمونه لا اله إلا الله وحده لا شريك له(2/260)
بسم الله الرحمن الرحيم من حضرة ساري عسكر اسكندر برتية كتخدا العسكر الفرنساوي الىحضرة حاكم يافا نخبركم أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته امرنا أن نعرفك في هذا الكتاب أن سبب حضوره إلى هذا الطرف اخراج عسكر الجزار فقط من هذه البلدة لأنه تعدى بإرسال عسكره إلى العريش ومرابطته فيها والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا فلا يناسبه الإقامة بالعريش لانها ليس من أرضه فقد تعدى على ملك غيره ونعرفكم يا أهل يافا أن بندركم حاصرناه من جميع أطرافه وجهاته وربطناه بأنواع الحرب وآلات المدافع الكثيرة والجلل والقنابر وفي مقدرا ساعتين ينقلب سوركم وتبطل آلاتكم وحروبكم ونخبكرم أن حضرة ساري عسكر المشار إليه لمزيد رحمته وشفقته خصوصا بالضعفاء من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكره المحاربين إذا دخلوا عليكم بالقهر أهلكوكم اجمعين فلزمنا أننا نرسل لكم هذا الخطاب أمانا كافيا لأهل البلد والأغراب ولأجل ذلك آخر ضرب المدافع والقنابر الصاعدة عنكم ساعة فلكية واحدة واني لكم لمن الناصحين وهذا آخر جواب الكتاب فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين للقوانين الحربية والشريعة المطهرة المحمدية وحالا في الوقت والساعة هيج سارى عسكر واشتد غضبه على الجماعة وأمر بابتداء ضرب المدافع والقنابر الموجب للتدمير وبعد مضي زمان يسير تعطلت مدافع يافا المقابلة لمدافع المتاريس وانقلب عسكر الجزار في وبال وتنكيس وفي وقت الظهر من هذا اليوم انخرق سور يافا وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضرب فيها المدافع من شدة النار ولا راد لقضاء الله ولا مدافع وفي الحال أمر حضرة ساري عسكر بالهجوم عليهم وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية جميع البندر والابراج ودار السيف في المحاربين واشتد بحر الحرب وهاج وحصل النهب فيها تلك الليلة.
وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الصفح الجميل من حضر ساري عسكر الكبير ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا وأعطاهم(2/261)
الأمان وأمرهم برجوعهم إلى بلدهم مكرمين وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم إلى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته يعفو عند المقدرة ويصفح وقت المعذرة مع تمكينه ومزيد اتقانه وتحصينه في هذه الواقعة قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف وأما الفرنساوية فلم يقتل منهم إلا القليل والمجروحون منهم ليسوا بكثير وسبب ذلك سلوكهم إلى القلعة من طريق امينة خافية عن العيون وأخذوا ذخائر كثيرة وأموالا غزيرة وأخذوا المراكب التي في المينة وأكتسبوا امتعة غالية ثمينة ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفع ولم يعلموا مع مقادير الله أن آلات الحرب لا تنفع فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله ولا تعترضوا على أحكام الله وعليكم بتقوى الله وأعلمو أن المك لله يؤتيه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.
فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا وكانوا يظنون بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصا في المدة القليلة ولكن المقضي كائن.
وفي يوم الجمعة خامس عشرة شق جماعة من اتباع الشرطة في الأسواق والحمامات والقهاوي ونبهوا على الناس بترك الفضول والكلام واللغط في حق الفرنسيس ويقولون لهم من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام في ذلك فإن ذلك مما يهيج العداوة وعرفوهم أنه أن بلغ الحاكم من المتجسسين عن أجد تكلم في ذلك عوقب أو قتل فلم ينتهوا وربما قبض على البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم.
وفي ذلك اليوم كان التحويل الربيعي وانتقال الشمس لبرج الحمل وهو أول شهر من شهورهم فعملوا ليلة السبت شنكا وحراقة وسواريخ وتجمعوا بدار الخلاعة نساء ورجالا وتراقصوا وتسابقوا وأوقدوا سراجا وشموعا وغير ذلك وأظهر الاقباط والشوام مزيد الفرح والسرور.
وفي يوم السبت المذكور ارسلوا الأعلام والبيارق التي أحضروها من قلعة يافا وعدتها ثلاثة عشر وفيها من له طلائع فضة كبار إلى الجامع(2/262)
الأزهر وكانوا انزلوا أعلام قلعة العريش قبل ذلك بيوم من أعلى المنارات وأرسلوا بدلها أعلام يافا وعملوا لها موكبا بطائفة من العسكر بقدمهم طبلهم وخلفهم الاغا بجماعته وطائفته والمحتسب ومدبروا الديوان وخلفهم طبل آخر يضربون عليه بأزعاج شديد وخلف ذلك الطبل جماعة من العسكر يحملون البنادق على اكتافهم كالطائفة الأولى وبعدهم عدة من العسكر على رؤوسهم عمائم بيض يحملون تلك الأعلام الكبار والبيارق المذكورة وخلفهم جماعة خيالة من كبار العسكر وآخرون راكبون على حمير المكارية فلما وصلوا إلى باب الجامع الأزهر رتبوا تلك الأعلام وضعوها على أعلى الباب الكبير فوق المكتب منشورة وبعضها على الباب الآخر من الجهة الاخرى عند حارة كتامة المعروفة الآن بالعينية ولم يصعدوا منها عل المنارات كما صنعوا في أعلام العريش.
وفي يوم الأحد سابع عشره رتبوا أوامر وكتبوها في أوراق مبصومة والصقوها بالأسواق أحداها بسبب مرض الطاعون وأخرى بسبب الضيوف الاغراب ومضمون الأولى بتقاسيمه ومقالاته خطابا لأهل مصر وبلاق ومصر القديمة ونواحيها انكم تمتثلون هذه الأوامر وتحافظون عليها ولا تخالفوها وكل من خالفها وقع له مزيد من الانتقام والعقاب الاليم والقصاص العظيم وهي المحافظة من تشويش الكبة وكل من تيقنتم أو ظننتم أو توهمتم أو شككتم فيه ذلك في محل من المحلات أو بيت أو وكالة أو ربع يلزمهم ويتحتم عليكم أن تعملوا كرنتيلة ويجب قفل ذلك المكان ويلزم شيخ الحارة أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالا قلق الفرنساوية حاكم ذلك الخط القلق يخبر شيخ البلد قائمقام مصر وأقاليمها ويكون ذلك فورا وكذلك كل ملة من سكان مصر وأقاليمها وجوانبها والأطباء إذا تحققوا وعلموا حصول ذلك المرض يتوجه كل طبيب إلى قائمقام ويخبره ليأمر بما هو مناسب للصيانة والحفظ من التشويش وكل من كان عنده خبر من كبار الاخطاط أو مشايخ الحارات وقلقات الجهات ولم يخبر بهذا المرض يعاقب بما يراه قائمقام ويجازى(2/263)
مشايخ الحارات بمائة كرباج جزاء للتقصير وملزوم أيضا من اصابه هذا التشويش أو حصل في بيته لغيره من عائلته أو عشيرته وانتقل من بيته إلى آخر أن يكون قصاصة الموت وهو الجاني على نفسه بسبب انتقاله وكل رئيس ملة في خط إذا لم يخبر بالكبة الواقعة في خطه أو بمن مات بها أيضا حالا فوريا كان عقاب ذلك الرئيس وقصاصة الموت والمغسل أن كان رجلا أو امرأة إذا رأى الميت أنه مات بالكبة اوشك في موته ولم يخبر قبل مضي أربع وعشرين ساعة كان جزاؤه وقصاصةالموت وهذه الاوامر الضرورية بلزوم اغات الينكجرية وحكام البلد الفرنساوية والإسلامية تنبيه الرعية واستيقاظهم لها فإنها أمور مخفية وكل من خألف حصل له مزيد من الانتقام من قائمقام وعلى القلقات البحث والتفتيش عن هذه العلة الردية لأجل الصيانة والحفظ لأهل البلد والحذر من المخالفة والسلام.
ومضمون الثانية الخطاب السابق من سارى عسكر دوجا الوكيل وحاكم البلد دسني قائمقام يلزم المدبرين بالديوان أنهم يشهرون الاوامر وينتبهوا لها وكل من خألف يحصل له مزيد الانتقام وهو أنه يتحتم ويلزم صاحب كل خمارة أو وكالة أو بيت الذي يدخل في محله ضيف أو مسافر أو قادم من بلدة أو اقليم أن يعرف عنه حالا حاكم البلد ولا يتأخر عن الأخبار إلا مدة أربعة وعشرين ساعة يعرفه عن مكانه الذي قدم منه وعن سبب قدومه وعن مدة سفره ومن أي طائفة أو ضيفا أو تاجرا أو زائرا أو غريما مخاصما لا بد لصاحب المكان من أيضاح البيان والحذر ثم الحذر من التلبيس والخيانة وإذا لم يقع تعريف عن كامل ما ذكر في شأن القادم بعد الأربعة وعشرين ساعة باظهار اسمه وبلده وسبب قدومه يكون صاحب المكان متعديا ومذنبا وموالسا مع المماليك.
ونخبركم معاشر الرعايا وأرباب الخمامير والوكائل أن تكونوا ملزومين بغرامة عشرين ريالا فرانسة في المرة الأولى وأما في المرة الثانية فإن الغرامة تضاعف ثلاث مرات ونخبركم أن الأمر بهذه الأحكام مشترك(2/264)
بينكم وبين الفرنسيس الفاتحين للخمامير والبيوت والوكائل والسلام.
وفيه اجتمعوا الديوان وتفاوضوا في شأن مصطفى بك كتخدا الباشا المولى أمير الحاج وهو أنه لما ارتحل مع سارى عسكر وصحبته القاضي والمشايخ الذين عينوا للسفر والوجاقلية والتجار وافترق منهم عند بلبيس وتقدم هو إلى الصالحية ثم أنهم انتقلوا إلى العرين فحضر جماعة من العساكر المسافرين فاحتاجوا إلى الجمال فأخذوا جمالهم فلما واصل سارى عسكر إلى وطنه أرسل يستدعيهم إلى الحضور فلم يجدوا ما يحملون عليه متاعهم وبلغهم أن الطريق مخيفة من العرب فلم يمكنهم اللحاق به فأقاموا بالعرين بالعين المهملة عدة أيام وأهمل أمرهم سارى عسكر ثم أن الشيخ الصاوي والعريشي والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر ففارقوهم وذهبوا إلى القرين بالقاف وحصل للدواخلي توعك وتشويش فحضر إلى مصر كما تقدم ذكر ذلك وانتقل مصطفى بك المذكور والقاضي وصحبتهم الشيخ الفيومي وآخرون من التجار والوجاقلية إلى كفور نجم وأقاموا هناك أياما واتفق أن الصاوي أرسل إلى داره مكتوبا وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمور غير لائقة فلماحضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمين في مصر وقرأوه وبحثوا عن الأمور اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والأعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص فظهر لهم خيانته ومخامرته عليهم واجتمع عليه الجبالي وبعض العرب العصاة وأكرمهم وخلع عليهم وانتقل بصحبتهم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف وجعل يقبض منهم الأموال وحين كانوا علىالبحر مر بهم مراكب تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط فقاطعوا عليهم وأخذوا منهم ما معهم قهرا وأحضروا المراكبية بالديوان فحكوا على ما وقع لهم معه فأثبتوا خيانة مصطفى بك المذكور وعصيانه وأرسلوا هجانا بإعلام سارى عسكرهم بذلك فرجع إليهم بالجواب يأمرهم فيه بأن يرسلو له عسكرا ويرسلوا إلى داره جماعة ويقبضون عليه ويختمون على داره ويحبسون جماعته.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه عينوا عليه عسكرا وأرسلوا إلى داره(2/265)
جماعة ومعهم وكلاء فقبضوا على كتخدائه الذي كان ناظرا على الكسوة وعلى ابن أخيه ومن معهم وأودعوهم السجن بالجيزة وضبطوا موجوداته وما تركه مخدومه بكر باشا بقائمة واودعوا ذلك بمكان بالقلعة فوجدوا غالب أمتعة الباشا وبرقة وملابسه وعبى الخيل والسروج وغيرها شيئا كثيرا وجدوا بعض خيول وجمال أخذوها أيضا فانقبض خواطر الناس لذلك فإنهم كانوا مستأنسين بوجوده ووجود القاضي ويتوسلون بشفاعتهما عند الفرنسيس وكلمتهما عندهم مقبولة وأوامرهما مسموعة ثم أنهم ارسلوا أمانا للمشايخ الوجاقلية والتجار بالحضور إلى مصر مكرمين ولا بأس عليهم.
وفيه ورد الخبر بأن السيد عمر أفندي نقيب الأشراف حضر إلى دمياط وصحبته جماعة من أفندية الروزنامة الفارين مثل عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب اشهر ومحمد أفندي ثاني قلفة وباش جاجرت والشيخ قاسم المصلي وغيرهم وذلك أنهم كانوا بقلعة يافا فلما حاصرها الفرنساوية وملكوا القلعة والبلد لم يتعرضوا للمصريين وطلبهم إليه وعاتبهم على نقلهم وخروجهم من مصر وألبسهم ملابس وأنزلهم في مركب وأرسلهم إلى دمياط من البحر.
وفي يوم الإثنين نادوا في الأسواق على المماليك والغز والأجناد الاغراب بأنهم يحضرون إلى بيت الوكيل ويأخذون لهم ارواقا بعد معرفتهم والتضمين على أنفسهم ومن وجد من غير وثيقة في يده بعد ذلك يستاهل الذي يجري عليه وسبب ذلك اشاعة دخول الكثير منهم إلى مصر خفية بصفة الفلاحين.
وفي يوم الثلاثاء نادوا في الأسواق والشوارع بأن من أراد الحج فليحج في البحر من السويس صحبة الكسوة والصرة وذلك بعد أن عملوا مشورة في ذلك.
وفيه حضر إمام كتخدا الباشا ومعه مكتوب فيه الثناء على الفرنساوية وشكر صنيعهم واعتنائهم بعملهم موكب الكسوة والدعاء لهم وأنه مستمر(2/266)
على مودته ومحبته معهم ويطلب منهم الاجازة بالحضور إلى مصر ليسافر بصحبة الكسوة والحجاج فإن الوقت ضاق ودخل أوان السفر للحج وفي آخر المكتوب وأن بلغكم من المنافقين عنا شيء فهو كذب ونميمة فلا تصدقوه فقرىء كتابه بالديوان فلما فهمه الفرنسيس كذبوه ولم يصغوا إليه وقالوا أن خيانته ثبتت عندنا فلا ينفعه هذا الأعتذار ثم كتبوا له جوابا وأرسلوه صحبة إمامه مضمونه أن كان صادقا في مقالته فليذهب إلى جهة سارى عسكر بالشام وامهلوه ست ساعات بعد وصول الجواب إليه وأن تأخر زيادة عليها كان كاذبا في مقالته وأمروا العسكر بمحاربته والقبض عليه.
وفيه كتبوا أوراقا ونادوا بها في الشوارع وهي يا أهل مصر نخبركم أن أمير الحاج رفعوه عن سفره بالحاج بسبب ما حصل منه وأن أهل مصر علماء ووجاقات ورعايا لم يخالطوه في هذا الأمر ولم ينسب لهم شيء فالحمد لله الذي برأ أهل مصر من هذه الفتنة وهم حاضرون سالمون غانمون ما عليهم سوء ومن كان مراده الحج يؤهل نفسه ويسافر صحبة الصرة والكسوة في البحر والمراكب حاضرة والمعينون المحافظون من أهل مصر صحبة الحاج حاضرون يكون في علمكم أن تكونوا مطمئنين واتركوا كلام الحشاشين.
وفي يوم السبت غايته حضر المشايخ والوجاقات والتجار ما خلا القاضي فإنه لم يحضر وتخلف مع مصطفى كتخدا وانقضى هذا الشهر وما تجدد به من الحوادث التي منها أن الفرنساوية عملوا جسرا من مراكب مصطفة وعليها اخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب العيني إلى الروضة إلى الجيزة.
ومنها أن توت الفلكي رسم في فسحة دارهم العليا ببيت حسن كاشف جركس خطوط البسيطة لمعرفة فضل الدائر لنصف النهار على البلاط(2/267)
المفروش بطول الفسحة ووضع لها بدل الشاخص دائرة مثقوبة بثقب عديدة في أعلى الرفوف مقابلة لعرض الشمس ينزل الشعاع من تلك الثقب ويمر على الخطوط المرسومة المقسومة ويعرف منه الباقي للزوال ومدارات البروج شهرا شهرا وعلى كل برج صورته ليعلم منه درجة الشمس ورسم أيضا مزولة بالحائط الأعلى على حوش المكان الأسفل المشترك بين الدارين بشاخص على طريق وضع المنحرفات والمزاول ولكن لساعات قبل الزوال وبعده خلاف الطريق المعروفة عندنا بوقت العصر وفضل دائر الغروب وقوس الشفق والفجر وسمت القبلة وتقسيم الدرج وامثال ذلك لأجل تحقيق أوقات العبادة وهم لا يحتاجون إلى ذلك فلم يعانوه ورسم أيضا بسيطة على مربعة من نحاس أصفر منزلة بخطوط عديدة في قاعدة عامود قصير طوله أقل من قامة قايم بوسط الجنينه وشاخصها مثلث من حديد يمر ظل طرفه على الخطوط المتقاطعة وهي متقنة الرسم والصناعة وحولها معاريفها واسم واضعها بالخط الثلث العربي المجود حفرا في النحاس وفيها تنازيل الفضة على طريق أوضاع العجم وغير ذلك.
ومنها أنهم لما سخطوا على كتخدا الباشا وقبضوا على اتباعه وسجنوهم وفيهم كتخداه الذي كان ناظرا على الكسوة فقيدوا في النظر على مباشرة اتمامها صاحبنا السيد إسمعيل الوهبي المعروف بالخشاب أجد العدول بالمحكمة فنقلها لبيت أيوب جاويش بجوار مشهد السيدة زينب وتمموها هناك واظهروا أيضا الاهتمام بتحصيل مال الصرة وشرعوا في تحرير دفتر الإرسالية خاصة.
واستهل شهر القعدة بيوم الأحد سنة 1213.
في سادسه يوم الجمعة حضرت هجانة من الفرنسيس ومعهم مكاتبة مضمونها أنهم أخذوا حيفا وبعدها ركبوا على عكا وضربوا عليها وهدموا جانبا من سورها وأنهم بعد أربعة وعشرين ساعة يملكونها وأنهم استعجلوا في إرسال هذه الهجانة لطول المدة والانتظار لئلا يحصل(2/268)
لأصحابهم القلق فكونوا مطمئنين وبعد سبعة أيام نحضر عندكم السلام.
وفيه حضرت مغاربة حجاج إلى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقولوا بأنهم عشرون ألفا حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس فأرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طائفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين فآذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضاء أشغالهم فحضر شخص منهم إلى الفرنسيس ووشى إليهم أنهم قدموا لمحاربتهم والجهاد فيهم وأنهم اشتروا خيلا وسلاحا وقصدهم اثارة فتنة فأرسل الفرنسيس إليهم جماعة ينظرون في أمرهم فذهبوا إليهم وتكلموا معهم ومع كبيرهم وعن الذي نقل عنهم فقالوا إنما جئنا بقصد الحج لا لغيره ثم رجعوا وصحبتهم كبير المغاربة فعملوا الديوان في صبحها وأحضروه وكذلك أحضروا الرجل الذي وشى عليهم فتكلموا مع كبير المغاربة وسألوه وناقشوه فقال: أنا لم نأت إلا بقصد الحج فقيل له ولاي شيء تشترون الأسلحة والخيول فقال نعم لازم لنا ذلك ضرورة فقيل له أنه نقل عنكم انكم تريدون محاربة الفرنساوية وتقولون الجهاد افضل من الحج فقال: هذا كلام لا أصل له فقيل له أن الناقل لذلك رجل منكم فقال: إن هذا رجل حرامي أمسكناه بالسرقة وضربناه فحمله الحقد على ذلك وأن هذه البلاد ليست لنا ولا لسلطاننا حتى نقاتل عليها ولا يصح أن نقاتلكم بهذه الشرذمة القليلة وليس معنا إلا نصف قنطار وبارود ثم اتفقوا معه على أن يجمعوا سلاحهم ويقيم كبيرهم عندهم رهينة حتى يعدي جماعته ويسافروا ويلحقهم بعد يومين بالسلاح فأجابهم إلى ذلك فشكروه وأهدوا له هدية فلما كان يوم السبت خرجت عدة من العسكر إلى بولاق ومعهم مدفعان ليقفوا للمغاربة حتى يعدوا البحر ويمشوا معهم إلى العادلية فلما رأى الناس خروج العسكر والمدافع فزعوا في المدينة وبولاق ورمحوا كعادتهم في كرشاتهم وصياحهم وأشاعوا أن الفرنسيس خرجت لقتال المغاربة وأغلقوا غالب الأسواق والدكاكين وأمثال ذلك من تخيلاتهم فلم يعد المغاربة ذلك اليوم وعدوا في ثاني يوم ومشى معهم عسكر الفرنسيس(2/269)
إلى العادلية وهم يضربون الطبول وامامهم مدفع وخلفهم مدفع مع جملة من العساكر.
وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر عدة من عسكر الفرنسيس إلى عرب الجزيرة فإن مصطفى بك كتخدا الباشا ذهب إليهم والتجأ لهم فعينوا عليهم تلك العساكر.
وفي يوم الأربعاء فرجوا عن جماعة من القليونجية وغيرهم الذين كانوا محبوسين بالقلعة وفيهم المعلم نقولا النصراني الأرمني الذي كان رئيس مركب مراد بك الحربية التي أنشأها بالجيزة وأسكنوه ببيت حسن كتخدا بباب الشعرية.
وفيه حضر بن شديد شيخ عرب الحويطات بأمان وكان عاصيا فأعطوه الأمان وخلعوا عليه وسفروا معه قافلة دقيق وبقسماط العسكر بالشام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر مجلون من الناحية القبلية وصحبته اموال البلاد والغنائم من بهائم وخلافها.
وفيه عملوا كرنتيلة عند العادلية لمن يأتي من بر الشام من العسكر إلى ناحية شرق اطفيح بسبب محمد بيك الألفي.
وفيه حضر الذين كانوا ذهبوا إلى عرب الجزيرة فضربوهم ونالوا منهم بعض النيل وأما مصطفى بك فلم تعلم عنه حقيقة حال قيل أنه ذهب إلى الشام.
وفي خامس عشرينه وصلت مراسلة من المذكور خطابا للمشايخ مضمونها أنهم يعرفون أكابر الفرنسيس أنه متوجه إلى ساري عسكرهم بالشام ويرجون الافراج عن قريبه وكتخدائه ويتحفظون على الأمتعة التي أخذوها فإنها من متعلقات الدولة فلما أطلعوهم على تلك المكاتبة قالوا: لا يمكن الافراج عن المذكورين حتى تتحقق أنه ذهب إلى سارى عسكر ويأتينا منه خطاب في شأنه فإنه من الجائز أنه يكذب في قوله.
وفيه ثبت أن محمد بك الألفي مر من خلف الجبل وذهب إلى عرب الجزيرة ومعه من جماعته نحو المائة وقيل أكثر والتف عليه الكثير من(2/270)
الغز والماليك المشردين بتلك النواحي وقدم له العربان التقادم والكف فأرسل له الفرنسيس عدة من العسكر.
وفي سابع عشرينه لخص الفرنساوية طومارا قرىء بالديوان وطبع منه عدة نسخ وألصقت بالأسواق على العادة وكان الناس أكثروا من اللغط بسبب انقطاع الأخبار عن الفرنسيس المحاصرين لعكا والروايات عمن بالصعيد والكيلاني والأشراف الذين معه وغير ذلك.
وصورتها من محفل الديوان الكبير بمصر بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر أجمعين أنه حضر جواب من عكا من حضرة ساري عسكر الكبير خطابا منه إلى حضرة ساري عسكر الوكيل بثغر دمياط تاريخه تاسع القعدة سنة تاريخه يخبر فيه اننا أرسلنا لكم نقيرتين لدمياط الأولى ارسلناها في خمسة وعشرين شوالا والثانية في ثمانية وعشرين منه أخبرناكم فيهما عن مطلوبنا إرسال جانب جليل وذخائر إلى عساكرنا المحافظين في غزة ويافا لأجل زيادة المحافظة والصيانة وأما من قبل العرضي فإن الجلل عندنا كثيرة والذخائر والمآكل والمشارب والخيرات غزيرة حتى أنها زادت عندنا الجلل بكثرة جمعناها مما رمته الأعداء فكأن اعداءنا أعانونا وتخبركم اننا عملنا لغما مقدار عمقه ثلاثون قدما وسرنا به حتى قربناه إلى السور الجواني بمسافة نحو ثمانية عشر قدما وقد قربت عساكرنا من الجهة التي تحارب فيها حتى صار بينهم وبين السور ثمانية وأربعون قدما بمشيئة الله تعالى عند وصول كتابنا اليكم وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا اجمعين فاننا تهيأنا إلى دخولها يأتيكم خبر ذلك بعد هذا الكتاب وأما بقية إقليم الشام وما يلي عكا من البلاد فإنهم لنا طائعون وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا افواجا بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم وهذا من فضل الله علينا ومن شدة بغضهم الجزار باشا ونخبركم أيضا أن الجنرال يونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة(2/271)
فقابلتهم بثلثمائة عسكري مشاة من عسكرنا فكسروا التجريدة المذكورة وأوقع منهم نحو ستمائة نفس ما بين مقتول ومجروح وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب أن ثلثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة هذا آخر كتاب سارى عسكر الكبير إلى وكيله بدمياط وأرسل إلينا بالديوان حضرة الوكيل سارع عسكر دوجا الوكيل بمصر المحروسة يخبرنا بصورة هذا المكتوب ويأمرنا أننا نلزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والانصاف ويتركوا الكذب والخراف فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين فإن حضرة سارى عسكر دوجا الوكيل بلغة أن أهل مصر وأهل الارياف يتكلمون بكلام لا أصل له من قبل الأشراف والحال أن الأشراف الذين يذكرونهم ويكذبون عليهم جاءت أخبارهم من حضرة سارى عسكر الصعيد يخبر الوكيل دوجا بأن الأشراف المذكورين الذين صحبة الكيلاني قد مزقوا كل ممزق وأنهزموا وتفرقوا فلم يكن الآن في بلاد الصعيد شيء يخألف المراد وسلم من الفتن والعناد فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار والأولى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال ويشتغلون باصلاح الأحوال ويرجعون إلى الكبير المتعال والسلام.
وفي هذا الشهر كتبوا أوراقا بأوامر ونصها من محفل الديوان العمومي إلى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري وهو تشويش الطاعون عدم المخالطة مع النساء المشهورات لانهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور فلاجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا إلى مدة ثلاثين يوما من تاريخه أعلاه لجميع الناس أن كان فرنساويا أو مسلما أو روميا(2/272)
أو نصرانيا أو يهوديا من أي ملة كان كل من أدخل إلى مصر أو بولاق أو مصر القديمة النساء المشهورات أن كان في بيوت العسكر أو كل من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت كذلك من قبل النساء والبنات المشهورات بالعسكر أن دخلن من أنفسهن أيضا يقاصصن بالموت.
ومن حوادث هذا الشهر أنه حضر إلى القلزم مركبان انكليزيان وقيل أربعة ووقفوا قبالة السويس وضربوا مدافع ففر أناس من سكان السويس إلى مصر واخبروا بذلك وأنهم صادفوا بعض داوات تحمل البن التجارة فحجزوها ومنعوها من الدخول إلى السويس.
ومنها أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم عرب الغز جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا إلى الرحمانية ورشيد وهم يقتلون من يجدونه من الفرنسيس وغيرهم وينهبون البلاد والزروعات.
ومنها أن الكيلاني المذكور آنفا توفي رحمه الله تعالى وتفرقت طائفته في البلاد حتى أنه حضر منهم جملة إلى مصر وكان أكثر من يخامر عليهم أهل بلاد الصعيد فيوهمونهم معاونتهم وعند الحروب يتخلون عنهم وبعض البلاد يضيفون ويسلط عليهم الفرنسيس فيقبضون عليهم.
ومنها أنه حضر إلى مصر الأكثر من عسكر الفرنسيس الذين كانوا بالجهة القبلية وضربوا في حال رجوعهم بني عدي بلدة من بلاد الصعيد مشهورة وكان أهلها ممتنعين عليهم في دفع المال والكلف ويرون في أنفسهم الكثرة والقوة والمنعة فخرجوا عليهم وقاتلوهم فملك عليهم الفرنسيس تلا عاليا وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم واحرقوا جرونهم ثم كبسوا عليهم وأسرفوا في قتلهم ونهبهم وأخذوا شيئا كثيرا وأموالا عظيمة وودائع جسيمة للغز وغيرهم من مساتير أهل البلاد القبلية لظن منعتهم وكذلك فعلوا بالميمون.
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الثلاثاء سنة 1213.
في ثانيه خرج نحو الألف من عسكر الفرنسيس للمحافظة على البلاد(2/273)
الشرقية لتجمع العرب والمماليك على الألفي وكذلك تجمع الكثير من الفرنسيس وذهبوا إلى جهة دمنهور وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعى المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد وصحبته نحو الثمانين نفرا فكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم إلى الجهاد فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضورا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية واستمر أياما كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.
وفيه اشيع أن الألفي حضر إلى بلاد الشرقية وقاتل من بها من الفرنسيس ثم ارتحل إلى الجزيرة.
وفي سابعه حضر جماعة من فرنسيس الشام إلى الكرنتيلة بالعادلية وفيهم مجاريح واخبر عنهم بعضهم أن الحرب لم تزل قائمة بينهم وبين أحمد باشا بعكا وأن مهندس حروبهم المعروف بأبي خشبة عند العامة واسمه كفرللي مات وحزنوا لموته لأنه كان من دهاتهم وشياطينهم وكان له معرفة بتدبير الحروب ومكايد القتال واقدام عند المصاف مع ما ينضم لذلك من معرفة الأبنية وكيفية وضعها وكيفية أخذ القلاع ومحاصرتها.
وفي يوم الأربعاء كان عبد النحر وكان حقه يوم الخميس وعند الغروب من تل الليلة ضربوا مدافع من القلعة أعلاما بالعيد وكذلك عند الشروق ولم يقع في ذلك العيد اضحية على العادة لعدم المواشي لكونها محجوزة في الكرنتيلة والناس في شغل عن ذلك.
ومن الحوادث في ذلك اليوم أن رجلا روميا من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية خرج لصلاة العيد ورجع إلى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلدا بسلاح ومتزيبا بمثل ملابس القليونجية فقال له: من أين لك هذا اللباس فقال: من عند جارنا فلان العسكري فأمره بنزع ذلك فلم يستمع له ولم ينزعها فشتمه ولطمه على وجهه فخرج من الطبقة وحدثته نفسه بقتل سيده ورجع يريد ذلك(2/274)
فوجد عند سيده ضيفا فلم يتجاسر عليه لحضور ذلك الضيف فوقف خارج الباب ورآه سيده فعرف من عينه الغدر فلما قام ذلك الضيف قام معه وخرج وأغلق الباب على الغلام فصعد الغلام على السطح وتسلق إلى سطح آخر ثم تدلى بحبل إلى اسفل الخان وخرج إلى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس ونحو ذلك من الكلام ومر إلى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصا وهرب الإثنان ورجع على أثره والناس يعدون خلفه من بعد إلى أن وصل إلى درب بالجمالية غير نافذ فدخله وعبر إلى دار وجدها مفتوحة وربها وأقف على بابها والفرنسيس تجمع منهم طائفة وظنوا ظنونا آخر وبادروا إلى القلاع وحضرت منهم طائفة من القلق يسألون عن ذلك الممولك وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم ثم لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك والناس يقولون لهم ذهب من هنا حتى وصلوا إلى ذلك الدرب فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه وتدلى ببئر في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البئر وأخذوه وسكنت الفتنة فسألوه عن أمره وما السبب في فعله ذلك فقال أنه يوم الأضحية فاحببت أن أضحي على الفرنسيس وسألوه عن السلاح فقال أنه سلاحي فحبسوه لينظروا في أمره وطلبوا سيده فوجدوه عند الشيخ المهدي وأخذوا بعض جماعة من أهل الخان ثم أطلقوهم بدون ضرر وأخذوا سيده من عند المهدي وحبسوه وحضر الاغا وبرطلمين إلى الخان بعد العشاء وطلبوا البواب والخانجي والجيران وصعدوا إلى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط فلم يجدوا شيئا وأرادوا فتح الحواصل فمنعهم السيد أحمد بن محمود محرم فخرجوا وأخذوا معهم الخانجي وجيران الطبقة وجملة أنفار وحبسوهم أيضا وقتلوا المملوك في ثاني يوم واستمر الجماعة في الحبس إلى أن أطلقوهم بعد أيام عديدة من الحادثة.
وفي ذلك اليوم أيضا مر نصراني من الشوام على المشهد الحسيني وهو(2/275)
راكب على حمار فرآه ترجمان ضابط الخطة ويسمى السيد عبد الله فأمره بالنزول اجلالا للمشهد على العادة فامتنع فانتهزه وضربه والقاه على الأرض فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس وشكا إليهم السيد عبد الله المذكور فأحضروه وحبسوه فشفع فيه مخدومه فلم يطلقوه وادعى النصراني أنه كان بعيدا عن المشهد وأحضر من شهد له بذلك وأن السيد عبد الله متهور في فعله وادعى أنه ضاع له وقت ضربه دراهم كانت في جيبه واستمر الترجمان محبوسا حتى دفع تلك الدراهم وهي ستة آلاف درهم.
وفيه أرسل فرنسيس مصر إلى رئيس الشام ميرة على جمال العرب نحو الثمانمائة جمل وذهب صحبتها برطلمين وطائفة من العسكر فأوصلوها إلى بلبيس ورجعوا بعد يومين.
وفيه حضر إلى السويس تسعة داوات بها بن وبهار وبضائع تجارية وفيها لشريف مكة نحو خمسمائة فرق بن وكانت الانكليز منعتهم الحضور فكاتبهم الشريف فأطلقوهم بعد أن حددوا عليهم أياما مسافة التنقيل والشحنة وأخذوا منهم عشورا وسامح الفرنسيس بن الشريف من العشور لأنه أرسل لهم مكاتبة بسبب ذلك وهدية قبل وصول المراكب إلى السويس بنحو عشرين يوما وطبعوا صورتها في أوراق وألصقوها بالأسواق وهي خطاب لبوسليك.
من مات في هذه السنة من الأعيان ومن له ذكر في الناس.
مات الإمام العمدة الفقيه العلامة المحقق الفهامة المتقن المتفنن المتجر عين أعيان الفضلاء الأزهرية الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي ولد ببني عدي سنة احدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى تمهر في العلوم وبهر فضله في الخصوص والعموم وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة يملي في تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشي مع حسن سبك والطلبة يكتبون ذلك بين يديه وقد جمع من تقاريره(2/276)
على عدة كتب كان يقرأها حتى صارت مجلدات وانتفع بها الطلبة انتفاعا عاما ودرس في حياة شيخه سنينا عديدة واشتهر بالفتوح وكان الشيخ الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته وكان فيه اتصاف زائد وتؤدة ومروءة وتوجه إلى الحق ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المئيني العددي والحرفي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك ولما توفي الشيخ محمد حسن جلس موضعه للتدريس باشارة من أهل الباطن ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولي مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام وغير ذلك ولم يزل على حالته وافادته وملازمه ودروسه والجماعة حتى توفي في هذه السنة ودفن في تربة المجاورين رحمه الله تعالى عليه.
ومات العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري قرأ على والده وتفقه وانجب ولم يزل ملازما لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله واجتمعت عليه طلبة ابيه وغيرهم ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيزة بلادهم بقضاياهم وخصوماتهم وانكحتهم فيقضي بنيهم ويكتب لهم الفتاوي في الدعاوي التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه ويستمعون لقوله ويمتثلون لاحكامه وربما اتوه بهدايا ودراهم واشتهر ذكره وكان جسيما عظيم اللحية فصيح اللسان ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة ولم يعلم له قبر.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري تفقه على أشياخ العصر وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الاجهوري وغيرهم وتصدر للاقراء والتدريس والافادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني ويحضر درسه فيه الجم الغفير من العامة ويستفيدون منه ويقرأ به كتب الحديث كالبخارى ومسلم وكان حسن الالقاء سلس التقرير جيد الحافظة جميل(2/277)
السيرة مقبلا على شأنه ولم يزل ملازما على حالته حتى اتهم في اثارة الفتنة وقتل بالقلعة شهيدا بيد الفرنسيس في اواخر جمادى الأولى من السنة ولم يعلم له قبر.
ومات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري حفظ القرآن والمتون وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي والبراوي والشيخ عطية الاجوري والشيخ أحمد العروسي وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي وأنجب وأملى دروسا بجامع الكردي بسويقة اللالا وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح ولم يزل ملازما على حاله حتى اتهم أيضا في حادثة الفرنسيس وقتل مع من قتل شهيدا بالقلعة.
ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني تولى شيخا على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم اموالا عظيمة وعقارات فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلا وعينا ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بدا من الدفع وأن كانت غلاله معطلة صالحة بما أحب من الثمن وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة ويطحن منها على طواحينه دقيقا ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزا لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والازقة وتغنيهم بالمدائح الخرافات وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضا في ذلك(2/278)
واتفق أن الشيخ الحفني نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقا مكشوف الرأس مضروبا بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته وتسمع كلمته ويقال قال الشيخ كذا وأمر الشيخ بكذا وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال واتباعه محدقة به وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات واشتر السراري البيض والحبش والسود وكان يفرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كبر أثارة الفتنة التي أصابته وغيره وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر وكان ابنه معوقا ببيت البكري فلما علم بموته قلق وكاد يخرج من عقله خوفا على ما يعلم مكانه من مال أبيه حتى خلص في ثاني يوم بشفاعة المشايخ ولم يكن مقصودا بالذات بل حضر ليعود أباه فحجزه القومه عليهم زيادة في الاحتياط.
ومات الأجل المفوه العمدة الشيخ إسمعيل البراوي بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري وهو ابن اخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر تصدر بعد وفاة والده في مكانه وكان قليل البضاعة إلا أنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة والتداخل وذلك هو الذي أوقعه في حبائل الفرنساوية وقتل مع من قتل شهيدا ولم يعلم له قبر غفر الله لنا وله.
ومات الوجيه الأجل الأمثل السيد محمد كريم وخبره أنه كان في أول أمره قبانيا يزن البضائع في حانوت بالثغر وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة فلم يزل يتقرب إلى الناس بحسن التودد ويستجلب خواطر حواشي الدولة وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى ومن له وجاهة وشهرة في ابناء جنسه حتى أحبه الناس واشتهر ذكره في ثغر الأسكندرية ورشيد ومصر واتصل بصالح بك حتى كان وكيلا بدار السعادة وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد وتملكها وضواحيها واسترق أهلها وقلد(2/279)
أمرها لعثمان خجا فاتحد وبمخدومه السيد محمد المذكور واتصل بمراد بك بعد صالح أغا فتقرب إليه ووافق منه الغرض ورفع شأنه على اقرانه وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر ونفذت كلمته واحكامه وتصدر لغالب الأمور وزاد في المكوسات والجمارك ومصادرات التجار خصوصا من الإفرنج ووقع بينه وبين السيد شهبة الحادثة التي أوجبت له الاختفاء بالصهريج وموته فيه فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الأسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب ولما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بك وفيها مطالعته بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبسوه فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار فلم يمكن إلى أن كانت ليلة الخميس فحضر إليه مجلون وقال له المطلوب منك كذا وكذا من المال وذكر له قدرا يعجز عنه واجله اثنتي عشرة ساعة وأن لم يحضر ذلك القدر والا يقتل بعد مضيها فلما أصبح أرسل إلى المشايخ وإلى السيد أحمد المحروقي فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم اشتروني يا مسلمون وليس بيدهم ما يفتدونه به وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه وذلك في مبادىء أمرهم فلما كان قريب الظهر وقد انقضى الأجل اركبوه حمارا واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة إلى أن ذهبوا إلى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبرت وطافوا بها بجهات الرميلة والمنادى يقول هذا جزاء من يخألف الفرنسيس ثم أن اتباعه أخذوا رأسه ودفنوها مع جثته وانقضى أمره وذلك يوم الخميس خامس عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير إبراهيم بك الصغير المعروف بالوالي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب وتقلد الزعامة بعد موت أستاذه ثم تقلد الإمارة(2/280)
والصنجقية في أواخر جمادى الأولى سنة 1192 وهو أخو سليمان بك المعروف بالاغا وعندما كان هو واليا كان أخوه أغات مستحفظان وأحكام مصر والشرطة بينهما وفي سنة سبع وتسعين تعصب مراد بك وإبراهيم بك على المترجم واخرجوه منفيا هو واخوه سليمان بك وأيوب بك الدفتردار ولما أمروه بالخروج ركب في طوائفه ومماليكه وعدى إلى بر الجيزة فركب خلفه علي بك اباظه ولاجين بك ولحقوا حملته عند المعادى فحجزوها وأخذوها وأخذوا هجنه ومتاعه وعدوا خلفه فأدركوه عند الاهرام فأحتالوا عليه وردوه إلى قصر العيني ثم سفروه إلى ناحية السرو ورأس الخليج فأقام بها أياما وكان أخوه سليمان بك بالمنوفية فلما أرسلوا بنفيه إلى المحلة ركب بطوائفه وحضر إلى مسجد الخضيري وحضر إليه أخوه المترجم وركبا معا وذهبا إلى جهة البحيرة ثم ذهبا إلى طندتا ثم ذهبا إلى شرقية بلبيس ثم توجها من خلف الجبل إلى جهة قبلي وكان أيوب بك المنصورة فلحق بهما أيضا كان بالصعيد عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك فالتفا عليهما وعصى الجميع وأرسل مراد بك وإبراهيم بك محمد كتخدا اباظة وأحمد اغا شويكار إلى عثمان بك ومصطفى بك يطلبانهما إلى الحضور فأبيا وقالا: لا نرجع إلى مصر إلا بصحبة اخواننا والا فنحن معهم أينما كانوا ورجع المذكوران بذلك الجواب فجهزوا لهم تجريدة وسافر بها إبراهيم بك الكبير وضمهم وصالحهم وحضر بصحبة الجميع إلى مصر فحنق مراد بك ولم يزل حتى خرج مغضبا إلى الجيزة ثم ذهب إلى قبلي وجرى بينهما ما تقدم ذكره من إرسال الرسل ومصالحة مراد بك ورجوعه واخراج المذكورين ثانيا فخرجوا إلى ناحية القليوبية وخرج مراد بك خلفهم ثم رجعوهم إلى جهة الاهرام وقبض مراد بك عليهم ونفيهم إلى جهة بحرى وأرسل المترجم إلى طندتا ثم ذهبوا إلى قبلي خلا مصطفى بك وأيوب بك ثم رجعوا إلى مصر بعد خروج مراد بك إلى قبلي واستمر أمرهم على ما ذكر حتى ورد حسن باشا وخرج الجميع وجرى ما تقدم ذكره وتولى المترجم إمارة(2/281)
الحاج ولم يسافر به ولما رجعوا إلى مصر بعد الطاعون وموت إسمعيل بك ورجب بك صاهره إبراهيم بك الكثير وزوجه ابنته كما تقدم ولم يزل في سيادته وإمارته حتى حضر الفرنساوية ووصلوا إلى بر انبابة ومات هو في ذلك اليوم غريقا ولم تظهر رمته وذلك يوم السبت سابع صفر من السنة.
ومات الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية وأصله مملوك سليمان أفندي من خشداشين كتخدا إبراهيم القازدغلي وكان سيده المذكور رغب عن الأمارة ورضي بحاله وقنع بالكفاف ورغب في معاشرة العلماء والصلحاء وفي الانجماع عن ابناء جنسه والتداخل في شؤونهم وكان يأتي في كل يوم إلى الجامع الأزهر ويحضر دروس العلماء ويستفيد من فوائدهم ولازم دروس الشيخ أحمد السليماني من الفقه الحنفي إلى أن مات فتقيد بحضور تلميذه الشيخ أحمد الغزي كذلك واقترن في حضوره بالشيخ عبد الرحمن العريشي وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة مجردا عن العلائق فكان يعيد معه الدروس فاتحد به لما رأى فيه من النجابة فجذبه إلى داره وكساه وواساه واستمر يطالع معه في الفقه ويعيد معه الدروس ليلا وزوجه وأغدق عليه وكان هو مبدأ زواجه ولم يزل ملازما حتى توفي سليمان أفندي المذكور في سنة 1175 فتزوج المترجم بزوجة سيده واستمر هو وخشداشه الأمير أحمد بمنزل أستاذ هما وتتوق نفس المترجم للترفع والأمارة فتردد إلى بيوت الأمراء كغيره من الأجناد فقلده علي بك الكبير كشوفية شرق أولاد يحيى في سنة 1182 فتقلدها بشهامة وقتل البغاة واخاف الناحية وجمع منها أموالا واستمر حاكمها بها إلى أن خألف محمد بك أبو الذهب على سيده علي بك وخرج من مصر إلى الجهة القبلية فلما وصل إلى الناحية كان المترجم أول من أقبل عليه بنفسه وما معه من المال والخيام فسر به محمد بك وقربه وادناه ولم يزل ملازما لركابه حتى جرى ما جرىوتملك محمد بك الديار المصرية فقلده اغاويه المتفرقة أياما قليلة ثم خيره في تقليده الصنجقية أو(2/282)
كتخدا الجاويشية فقال له: حتى استخير في ذلك وحضر إلى المرحوم الشيخ الوالد وذكر له ذلك فأشار عليه بأن يتقلد كتخدا الجاويشية فإنه منصب جليل واسع الايراد وليس على صاحبه تعب ولا مشقة غفر ولا سفر تجاريد ولا كثرة مصايف فكان كذلك وذلك في سنة ست وثمانين وسكن ببيت سليمان اغا كتخدا الجاويشية بدرب الجماميز على بركة الفيل ونما أمره واتسع حاله واشتهر وانتظم في عداد الأمراء ولم يزل على ذلك إلى أن مات محمد بك فاستقل بأمارة مصر إبراهيم بك ومراد بك فكان المترجم ثالثهما واتحد بابراهيم بك اتحادا عظيما حتى كان إبراهيم بك لا يقدر على مفارقته ساعة زمانية وصار معه كالاخ الشقيق والصاحب الشفيق وصار في قبول ووجاهة عظيمة وكلمة نافذة في جميع الأمور ولم يزل على ذلك حتى حضر حسن باشا بالصورة المتقدمة وخرج إبراهيم بك ومراد بك وباقي الأمراء فتخلف عنهم المترجم وقد كان راسل حسن باشا سرا فلما استقر حسن باشا أقبل عليه وسلمه مقاليد الأمور وقلده الصنجقية واضاف إليه الدفتردارية وفوض إليه جميع الأمور الكلية والجزئية فانحصرت فيه رياسة مصر وصار عزيزها وأميرها ووزيرها وقائدها جيوشها ولا يتم أمر إلا عن مشورته ورأيه واجتمعت ببيته الدواوين وقلد الأمريات والمناصب كما يختار وقرب وادنى وابعد واقصى من يختار واشتهر ذكره في اقليم مصر والشام والروم واشار بتقليد مراد كاشف الصنجقية وإمارة الحاج وسموه محمد بك المبدول كراهة في اسم مراد واشتهر بالمبدول ونجزله لوازم الحاج والصرة في أيام قليلة وسافر بالحاج على النسق المعتاد وشهل أيضا التجاريد والعساكر خلف الأمراء المطرودين واستمر مطلق التصرف في مملكة مصر بقية السنة.
ولما استهل رمضان أرسل لجميع الأمراء والأعيان البلكات والكساوي لهم ولحريمهم ومماليكهم بالأحمال وكذلك إلى العلماء والمشايخ حتى الفقهاء الخاملين المحتاجين وظن أن الوقت قد صفا له ولم يزل على ذلك(2/283)
حتى استقر إسمعيل بك وسافر حسن باشا وظهر له أمر حسن بك الجداوي وخشداشينه أخذ يناكد المترجم ويعارضه في جميع اموره وهو يسامح له في كل ما يتعرض له فيه ويساير حاله بينهم ويكظم غيظه ويكتم قهره وهو مع ذلك وافر الحرمة واعتراه صداع في راسه وشقيقة زال ألمه بها ووجعه أشهرا وأتلف احدى عينيه وعوفى قليلا واستمر على ذلك حتى وقع الطاعون بمصر سنة خمس ومات ابن له مراهق احزنه موته وكذلك ماتت زوجته وأكثر جواريه ومماليكه ومات إسمعيل بك وامراؤه ومماليكه ورضوان بك العلوي وبقي هو وحسن بك الجاوي فتجاذبا الأمارة ولم يرض احدهما بالاخر فوقع الاتفاق على تأمير عثمان بك طبل تابع إسمعيل بك ظنا منهما أنه يصلح لذلك وأنه لا يمالىء الأعداء فكان الأمر بخلاف ذلك وكره الأمارة هو أيضا لمناكدة حسن بك له وراسل الأمراء القبليين سرا حتى حضر وأعلى الصورة المتقدمة وقصد حسن بك وعلي بك الأستعداد لحربهم وخرجوا إلى ناحية طرا وتأهبوا لمبارزتهم وصار عمثان بك يثبطهما ويظهر لهما أنه يدير الحيل والمكايد ولم يعلما ضميره ولم يخطر ببالهما ولا غيرهما خيانته بل كان كل منهما يظن بالآخر حتى حصل ما تقدم ذكره في محله وفر المترجم وحسن بك إلى ناحية قبلي فاستمر هناك مدة ثم انفصل عن حسن بك وسافر من القصير إلى بحر القلزم وطلع إلى المويلح وأرسل بعض ثقاته فأخذ بعض الاحتياجات سرا وذهب من هناك إلى الشام واجتمع بأحمد باشا الجزار ونزل بحيفا وأقام بها مدة راسل الدولة في أمره فطلبوه ايهم فلما قرب من اسلامبول ارسلوا إليه من أخذه وذهب به إلى برصا فأقام هناك وعينوا له كفايته في كل شهر وولد له هناك أولاد ثم أحضروه في حادثة الفرنسيس واعطوه مراسيم إلى إبراهيم باشا سارى عسكر في ذلك الوقت فلما وصل بيروت راسل أحمد باشا وأراد الاجتماع به علم أحمد باشا ما بيد من المرسومات إلى إبراهيم باشا فتنكر له وانحرف طبعه منه وأرسل إليه يأمره بالرحيل وصادف ذلك عزل إبراهيم باشا.(2/284)
فارتحل مقهورا إلى نابلس فمات هناك بقهره وحضر من بقى من مماليكه إلى مصر وسكنوا بداره التي بها مملوكه عثمان كاشف وابنته التي تركها بمصر صغيرة وقد كبرت وتأهلت للزواج فتزوج بها خازنداره الذي حضر وهو الآن مقيم معها صحبة خشداشينه ببيتها الذي بدرب الحجر.
وكان المترجم أميرا لا بأس به يميل إلى فعل الخير حسن الأعتقاد ويحب أهل العلم والفضائل ويعظمهم ويكرمهم ويقبل شفاعاتهم وفيه رقة طبع وميل للخلاعة والتجاهر غفر الله له وسامحه.
ومات أيضا الأمير أيوب بك الدفتردار وهو من مماليك محمد بك تولى الأمارة والصنجقية بعد موت أستاذه وقد تقدم ذكره غير مرة وكان ذا دهاء ومكر ويتظاهر بالانتصار للحق وحب الأشراف والعلماء ويشتري المصاحف والكتب ويحب المسامرة والمذاكرة وسير المتقدمين ويواظب على الصلاة في الجماعة ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة وصرامة وصدع للمعاند خصوصا إذا كان الحق بيده ويتعلل كثير بمرض البواسير وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك وعلى موته في حربهم.
ولما حصل ذلك وحضروا إلى بر انبابة عدى المترجم قبل بيومين وصار يقول أنا بعت نفسي في سبيل الله فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعد ما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه وقال: اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم واستشهد في ذلك اليوم وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر.
ومات الأمير صالح بك أمير الحاج في تلك السنة وهو أيضا من مماليك محمد بك أبي الذهب وتولى زعامة مصر بعد إبراهيم بك الوالي واحسن فيها السيرة ولم يتشك منه أجد ولم يتعرض لاحد بأذية وتقلد أيضا كتخدا الجاويشية عندما خرج إبراهيم بك مغاضبا لمراد بك وكان خصيصا به فلما اصطلحا ورجع إبراهيم بك وعلي اغا كتخدا الجاويشية(2/285)
تقلد على منصبه كما كان واستمر المنترجم بطالا لكنه وافر الحرمة معدودا في الأعيان ولما خرجوا من مصر في حادثة حسن باشا ارسله خشداشينه إلى الروم وكاد يتم لهم الأمر فقبض عليه حسن باشاوكان إذ ذاك بالعرضي في السفر ولما رجعوا إلى مصر بعد موت إسمعيل بك سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته وهي أم أيوب التي كانت سرية مراد بك ثم سافر ثانيا إلى الروم بمراسلة وهدية وقضى اشغاله ورجع بالوكالة وأخذ بيت الحبانية من مصطفى اغا وعزله من وكالة دار السعادة وسكن بالبيت واختص بمراد بك اختصاصا زائدا وبنى له دار بجانبه بالجيزة وصار لا يفارقه قط وصار هو بابه الأعظم في المهمات وكان فصيح اللسان مهذب الطبع يفهم بالاشارة يظن من يراه أنه من أولاد العرب لطلاقة لسانه وفصاحة كلامه ويميل بطبعه إلى الخلاعة وسماع الالحان والأوتار ويعرف طرقها ويباشر الضرب عليها بيده ثم ولى الصنجقية وتقلد امارة الحج سنة 1212 وتمم اشغاله وأموره ولوازمه على ما ينبغي وطلع بالحج في تلك السنة في أبهة عظيمة على القانون القديم في أمن وأمان ورخاء وسخاء وراج موسم التجار في تلك السنة إلى الغاية.
وفي أيام غيابه بالحج وصل الفرنساوية إلى القطر المصري وطار إليهم الخبر بسطح العقبة وأرسلوا من مصر مكاتبة بالأمان وحضوره بالحج في طائفة قليلة فأرسل إليهم إبراهيم بك يطلبهم إلى بلبيس فعرج المترجم بالحاج إلى بلبيس وجرى ما تقدم ذكره ولم يزل حتى مات بالديار الشامية وبعد مدة أرسلت زوجته فأحضرت رمته ودفنتها بمصر بتربة المجاورين.
ومات العمدة الفاضل والنحرير الكامل الفقيه العلامة السيد مصطفى الدمنهوري الشافعي تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية واشتهر بنسبته إليه ولما ولى مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الأكابر والأعيان وكان عاقلا ذكيا وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية وكان يكتب على الفتاوى على لسان(2/286)
شيخه المذكور ويتحرى الصواب وعبارت سلسلة جيدة وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين واقتنى كتبا في ذلك مثل كتاب السلوك والخطط للمقريزي واجزا من تاريخ العيني والسخاوي وغير ذلك ولم يزل حتى ركب يوما بغلته وذهب لبعض أشغاله فلما كان بخطبة الموسكي قابله خيال فرنساوي يخج فرسه فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكور والقته من على ظهرها إلى الأرض وصادف حافر فرس الفرنساوي إذنه فرض صماخه فلم ينطق ولم يتحرك فرفعوه في تابوت إلى منزله ومات من ليلته رحمه الله.
ومات عبد الله كاشف الجرف وهو عبد إسمعيل كاشف الجرف تابع عثمان بك ذي الفقار الكبير وكان معروفا بالشجاعة والاقدام كسيده وأدرك بمصر إمارة وسيادة ونفاذ كلمة واشترى المماليك الكثيرة والخيول المسومة والجواري والعبيد وعنده عدة من الأجناد والطوائف وعمر دارا عظيمة داخل الدرب المحروق ولم يزل حتى قتل يوم السبت تاسع صفر بحرب الفرنساوية بأنبابة وكان جسيما أسود ذا شهامة وفروسية مشهورة وجبروت.(2/287)
ثم دخلت سنة أربع عشر ومائتين وألف.
استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء فيه حضر جماعة من الفرنسيس إلى العادلية فضربوا خمسة مدافع لقدومهم فلما كان في ثاني يوم عملوا الديوان وأبرزوا مكتوبا مترجما ونسخته صورة جواب من العرضي قدام عكا وفي سابع عشرين فريبال الموافق لحادي عشر شهر الحجة 1213 من بونابارته سارى عسكر أمير الجيوش الفرنساوية إلى محفل ديوان مصر نخبركم عن سفره من بر الشام إلى مصر فاني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم نسافر بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه ونصل عندكم بعد خمسة عشر يوما وجائب معي جملة محابيس بكثرة وبيارق ومحقت سراية الجزار وسور عكا وبالقنبر هدمت البلد ما أبقيت فيها حجرا على حجر وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر والجزار مجروح(2/287)
ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت ومن جملة ثلاثين مركبا موسوقة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا واخذنا منها أربعة موقره مدافع والذي أخذ هذه الأربعة فرقاطه من بتوعنا والباقي تلف وتبهدل والغالب منهم عدم واني بغاية الشوق إلى مشاهدتكم لاني بشوف انكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة فلاتية دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس ومنتوره مات من تشويش هذا الرجل صعب علينا جدا والسلام ومنتوره هذا ترجمان سارى عكسر وكان لبيبا متبحرا ويعرف باللغات التركية والعربية والرومية والطلبياني والفرنساوي ولما عجز الفرنساوية عن أخذ عكا وعزموا على الرجوع إلى مصر أرسل بونابارته مكاتبة إلى الفرنساوية المقيمين بمصر يقول فيها أن الأمر الموجب للانتقال عن محاصرة عكا خمسة عشر سببا.
الاول: الإقامة تجاه البلدة وعدم الحرب ستة أيام إلى أن جاءت الانكليز وحصنوا عكا باصطلاح الافرنج.
الثاني: الستة مراكب التي توجهت من الأسكندرية فيها المدافع الكبار أخذها الانكليز قدام يافا.
الثالث: الطعون الذي وقع في العسكر ويموت كل يوم خمسون وستون عسكريا.
الرابع: عدم الميرة لخراب البلاد قريب عكا.
الخامس: وقعة مراد بك مع الفرنساوية في الصعيد مات فيها مقدار ثلثمائة فرنساوي.
السادس: بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد.
السابع: المغربي محمد الذي صار له جيش كبير وادعى أنه من سلاطين المغرب.
الثامن: ورود الانكليز تجاه الأسكندرية ودمياط(2/288)
التاسع: ورود عمارة الموسقو قدام رودس.
العاشر: ورود خبر نقض الصلح بين الفرنساوية والنيمساء.
الحادي عشر: ورود جواب مكتوب منا لتيبو أجد ملوك الهند كنا ارسلناه قبل توجهنا لعكا وتيبوا هذا هو الذي كان حضر إلى اسلامبول بالهدية التي من جملتها طائران يتكلمان بالهندية والسرير والمنبر من خشب العود وطلب منه الأمداد والمعاونة على الانكليز المحاربين له في بلاده فوعدوه ومنوه وكتبوا له أوراقا وأوامر وحضر إلى مصر وذلك في سنة 1202 أيام السلطان عبد الحميد وقد سبقت الإشارة إليه في حوادث تلك السنة وهو رجل كان مقعدا تحمله اتباعه في تخت لطيف بديع الصنعة على اعناقهم ثم إنه توجه إلى بلاد فرنسا واجتمع بسلطانها وذلك قبل حضوره إلى مصر واتفق معه على أمر في السر لم يطلع عليه أجد غيرهما ورجع إلى بلاده على طريق القلزم فلما قدم الفرنساوية لمصر كاتبه كبيرهم بذلك السر لأنه اطلع عليه عند قيام الجمهور وتملكه خزانة كتب السلطان ثم أن تيبوا المذكور بقي في حرب الانكليز إلى أن ظفروا به في هذه السنة وقتلوه وثلاثة من أولاده فهذا ملخص معنى السبب.
الثاني عشر: موت كفرللي الذي عملت المتاريس بمقتضى رأيه وإذا تولى أمرها غيره يلزم نقضها ويطول الأمر وكفرللي هذا هو المعروف بابي خشبة المهندس.
الثالث عشرة: سماع أن رجلا يقال له مصطفى باشا أخذه الانكليز من اسلامبول ومرادهم أن يرموه على بر مصر.
الرابع عشر: أن الجزار أنزل ثقله بمراكب الانكليز وعزم على أنه عندما تملك البلد ينزل في مراكبهم ويهرب معهم.
الخامس عشر: لزوم ومحاصرة عكا ثلاثة شهور أو أربعة وهو مضر لكل ما ذكرناه من الأسباب انتهى.
وفي يوم الثلاثاء سابعه حضر جماعة أيضا من العسكر بأثقالهم وحضرت(2/289)
مكاتبة من كبير الفرنساوية أنه وصل إلى الصالحية وأرسل دوجا الوكيل ونبه على الناس بالخروج لملاقاته بموجب ورقة حضرت من عنده يأمر بذلك.
فلما كان ليلة الجمعة عاشره أرسلوا إلى المشايخ والوجاقات وغيرهم فاجتمعوا بالازبكية وقت الفجر بالمشاعل ودقت الطبول وحضر الحكام والقلقات بمواكب وطبول وزمور ونوبات تركية وطبول شامية وملازمون وجاويشية وغير ذلك وحضر الوكيل وقائمقام وأكابر عساكرهم وركبوا جميعا بالترتيب من الأزبكية إلى أن خرجوا إلى العادلية فقابلوا سارى عسكر بونابارته هناك وسلموا عليه ودخل معهم إلى مصر من باب النصر بموكب هائل بعساكرهم وطبولهم وزمورهم وخيولهم وعرباتهم ونسائهم وأطفالهم في نحو خمس ساعات من النهار إلى أن وصل إلى داره بالازبكية وانفض الجمع وضربوا عدة مدافع عند دخولهم المدينة وقد تغيرت ألوان العسكر القادمين واصفرت ألوانهم وقاسوا مشقة عظيمة من الحر والتعب وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يوما حربا مستقيما ليلا ونهارا وأبلى أحمد باشا وعسكره بلاء حسنا وشهد له الخصم.
وفيه قبضوا على إسمعيل القلق الخربطلي وهو المتولي كتخدا العزب وكان ساكنا بخط الجمالية وأخذوا سلاحه واصعدوه إلى القلعة وحبسوه والسبب في ذلك أنه عمل تلك الليلة وليمة ودعا أحبابه وأصدقاءه وأحضر لهم آلات اللهو والطرب وبات سهرانا بطول الليل فلما كان آخر الليل غلب عليهم السهر والسكر فناموا إلى ضحوة النهار وتأخر عن الملاقاة فلما أفاق ركب ولاقاهم عند باب النصر فنقموا عليه بذلك وفعلوا معه ما ذكر ولما وصل سارى عسكر الفرنساوية إلى داره بالازبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين وطوائف الملاعبين والحواة والقرادين والنساء الراقصات والخلابيض ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم واستمروا على ذلك ثلاثة أيام وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكا وحراقات ومدافع وسواريخ ثم انفض الجمع بعد ما أعطاهم سارى عسكر دراهم وبقاشيش(2/290)
وفي يوم الأحد عزلوا دستان قائمقام وتولى عوضه دوجا الذي كان وكيلا عن سارى عسكر وتهيأ المعزول للسفر إلى جهة بحرى وأصبح مسافرا وصحبته نحو الألف من العسكر وسافر أيضا منهم طائفة إلى جهة البحيرة.
وفيه طلبوا من طوائف النصارى دراهم سلفة مقدار مائة وعشرين ألف ريال.
وفي خامس عشرة أرسلوا إلى زوجات حسن بك الجداوي وختموا على دورهن ومتاعهن وطالبوهن بالمال وذلك لسبب أن حسن بك التف على مراد بك وصار يقاتل الفرنسيس معه وقد كانت الفرنسيس كاتبت حسن بك وأمتته وأقرته عل ما بيده من البلاد وأن لا يخألف ويقاتل مع الاخصام فلم يقبل منهم ذلك فلما وقع لنسائه ذلك ذهبن إلى الشيخ محمد المهدي ووقعن عليه فصالح عليهم بمبلغ ثلاثة آلاف فرانسة.
وفي تاسع عشرة هلك مخاييل كحيل النصراني الشامي وهو من رجال الديوان الخصوصي فجأة وذلك لقهره وغمه وسبب ذلك أنهم قرروا عليه في السلفة ستة آلاف ريال فرانسة وأخذ في تحصيلها ثم بلغه أن أحمد باشا الجزار قبض على شريكه بالشام واستصفى ما وجده عنده من المال فورد عليه الخبر وهو جالس يتحدث مع اخوانه حصة من الليل فخرجت روحه في الحال.
وفيه كتبوا أوراقا وطبعوها والصقوها بالأسواق وذلك بعد أن رجعوا من الشام واستقروا وهي من ترصيف وتنميق بعض الفصحاء.
وصورتها من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر خطابا لأقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحيرة النصيحة من الإيمان قال تعالى في محكم القرآن: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وقال تعالى وهو أصدق القائلين في الكتاب المكنون: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ, الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} فعلى العاقل يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور نخبركم معاشر.(2/291)
المؤمنين إنكم لا تسمعوا كلام الكاذبين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وقد حضر إلى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية حضرة بونابارته محب الملة المحمدية ونزل بعسكره في العادلية سليما من العطب والاسقام ودخل إلى مصر من باب النصر يوم الجمعة في موكب عظيم وشنك جليل فخيم وصحبته العلماء والوجاقات السلطانية وأرباب الاقلام الديوانية وأعيان التجار المصرية وكان يوما عظيما مشهودا وخرجت أهل مصر لملاقاته فوجدوه وهو الأمير الأول بذاته وصفاته وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه شرح الله صدره للاسلام والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة العربان الفاجرة والغز الهاربة ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية وتدمير أهل الملة الإسلامية وتعطيل الأموال الديوانية لا يحبون راحة العبيد وقد إزال الله دولتهم من شدة ظلمهم أن بطش ربك لشديد وقد بلغنا أن الألفي توجه إلى الشرقية مع بعض المجرمين من عربان بلى والعيايدة الفجرة المفسدين يسعون في الأرض بالفساد وينهبون أموال المسلمين: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ويزورون على الفلاحين المكاتيب الكاذبة ويدعون أن عساكر السلطان حاضرة والحال أنها ليست بحاضرة فلا أصل لهذا الخبر ولا صحة لهذا الأثر وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر مثل ما كان يفعل إبراهيم بك في غزة حيث كان ويرسل فرمانات بالكذب والبهتان ويدعى أنها من طرف السلطان ويصدقه أهل الأرياف خسفاء العقول ولا يقرأون العواقب فيقعون في المصائب وأهل الصعيد طردوا الغز من بلادهم خوفا على أنفسهم وهلاك عيالهم وأولادهم فإن المجرم يؤخد مع الجيران وقد غضب الله على الظلمة ونعوذ بالله من غضب الديان فكان أهل الصعيد احسن عقلا من أهل بحرى بسبب هذا الرأي السديد ونخبركم أن أحمد باشا الجزار سموه بهذا الأسم لكثرة قتله الأنفس ولا يفرق بين الأخبار والأشرار وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة وكان مراده الأستيلاء على مصر وأقاليمها وأحبوا اجتماعهم عليه لأجل أخذ أموالها(2/292)
وهتك حريمها ولكن لم تساعده الأقدار والله يفعل ما يشاء ويختار وقد كان أرسل بعض هذه العساكر إلى قلعة العريش ومراده أن يصل إلى قطيا فتوجه حضرة سارى عسكر أمير الجيوش الفرنساوية وكسر عسكر الجزار الذين كانوا في العريش ونادوا الفرار الفرار بعدما حصل بعسكرهم القتل والدمار وكانوا نحو ثلاثة آلاف وملك قلعة العريش وأخذ غزة وهرب من كان فيها وفروا ولما دخل غزة نادى في رعيتها بالأمان وامر باقامة الشعائر الإسلامية وإكرام العلماء والتجار والأعيان ثم انتقل إلى الرملة وأخذ ما فيها من بقسماط وارز وشعير وقرب أكثر من الفي قربة كبار كان قد جهزها الجزار لذهابه إلى مصر ثم توجه إلى يافا وحاصرها ثلاثة أيام ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار بالتمام ومن نحوسات أهلها أنهم لم يرضوا بأمانة ولم يدخلوا تحت طاعته واحسانه فدور فيهم السيف من شدة غيظه وقوة بأسه وسلطانه وقتل منهم نحو أربعة آلاف أو يزيدون بعدما هدم سورها وأكرم من كان بها من أهل مصر واطعمهم وكساهم وجهزهم في المراكب إلى مصر وغفرهم بعسكره خوفا عليهم من العربان واجزل عطاياهم وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار هلكوا جميعا وبعضهم ما نجاه إلا الفرار ثم توجه من يافا إلى جبل نابلس فكسر من كان فيه من العساكر بمكان يقال له فاقوم وحرق خمسة بلاد من بلادهم وما قدر كان ثم أخرب سور عكا وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة لم يبق فيها حجر على حجر حتى أنه يقال كان هناك مدينة وقد كان بني حصارها وشيد بنيانها في نحو عشرين من السنين وظلم في بنيانها عباد الله وهكذا عاقبة بنيان الظالمين ولما توجه إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة فهل ترى لهم من باقية نزل عليهم كصاعقة من السماء ثم توجه راجعا إلى مصر المحروسة لأجل شيئين.
الأول أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر والوعد عند الحردين.
والسبب الثاني أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون(2/293)
في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان فلما حضر سكنت الفتنة وزالت الأشرار والفجرة من الرعية وحبه لمصر واقليمها شيء عجيب ورغبته في الخير لأهلها ونيلها بفكره وتدبيره المصيب ويرغب أن يجعل فيها احسن التحف والصناعة ولما حضر من الشام أحضر معه جملة من الأسارى من خاص وعام وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعداء والأخصام فالويل كل الويل لمن عاداه والخير كل الخير لمن والاه فسلموا يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله ولا تسعوا في سفك دمائكم وهتك عيالكم ولا تتسببوا في نهب أموالكم ولا تسمعوا كلام الغز الهربانين الكاذبين ولا تقولوا: إن في الفتنة أعلاه كلمة الدين حاشا الله لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذل أمة النبي عليه الصلاة والسلام والغز والعربان يطمعوكم ويغروكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جند ابليس ولما حضر سارى عسكر إلى مصر أخبر أهل الديوان من خاص وعام أنه يحب دين الإسلام ويعظم النبي عليه الصلاة والسلام ويحترم القرآن ويقرأ منه كل يوم باتقان وأمر بأقامة شعائر المساجد الإسلامية واجراء خيرات الأوقاف السلطانية واعطى عوائد الوجاقلية وسعى في حصول اقوات الرعية فانظروا هذه الالطاف والمزية ببركة نبينا اشرف البرية وعرفنا أن مراده أن يبني لنا مسجدا عظيما بمصر لا نظير له في الأقطار وأنه يدخل في دين النبي المختار عليه افضل الصلاة وأتم السلام انتهى بحروفه.
وكان أشيع بمصر قبل مجيئهم وعودهم من الشام بأن سارى عسكر يونابارته مات بحرب عكا وتناقله الناس وأنهم ولو أخلافه فهذا هو السبب في قولهم في ذلك الطومار وقد حضر سليما من العطب فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته إلى آخر السياق المتقدم.
وفي ثاني عشرينه أرسل سارى عسكر جماعة من العسكر وقبضوا على ملا زاده ابن قاضي العسكر ونهبوا بعضا من ثيابه وكتبه وطلعوا به(2/294)
إلى القلعة فانزعج عليه عياله وحريمه ووالدته انزعاجا شديدا وفي صبحها اجتمع أرباب الديوان بالديوان وحضر إليهم ورقة من كبير الفرنسيس قرئت عليهم مضمونها أن سارى عسكر قبض على ابن القاضي وعزله وأنه وجه اليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخا من العلماء يكون من أهل مصر ومولودا بها يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأى العلماء للعلماء فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم اننا جميعا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس الصدور وأن كان والده وافق كتخدا الباشا في فعله فولده مقيم تحت أمانكم والمرجو انطلاقه وعوده إلى مكانه فإن والدته وجدته وعياله في وجد وحزن عظيم عليه وسارى عسكر من أهل الشفقة والرحمة وتكلم الشيخ السادات بنحو ذلك وزاد في القول بأن قال: وأيضا إنكم تقولون دائما أن الفرنساوية احباب العثمانية وهذا ابن القاضي من طرف العثملي فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم وخصوصا عند العامة فاجاب الوكيل بعدما ترجم له الترجمان بقوله لا بأس بالشفاعة ولكن بعد تنفيذ أمر سارى عسكر في اختيار قاض خلافه والا تكونوا مخالفين ويلحقكم الضرر بالمخالفة فامتثلوا وعملوا القرعة فطلعت الأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي ثم كتبوا عرضحال بصورة المجلس والشفاعة وكتب عليه الحاضرون وذهب به الوكيل إلى سارى عسكر وعرفه بما حصل وبما تكلم به الشيخ السادات فتغير خاطره عليه وأمر باحضاره آخر النهار فلما حضر لامه وعاتبه فتكلم بينهما الشيخ محمد المهدي ووكيل الديوان الفرنساوي بالديوان حتى سكن غيظه وأمره بالانصراف إلى منزله بعد أن عوقه حصة من الليل فلما أصبح يوم الجمعة عملوا جمعية في منزل دوجا قائمقام وركبوا صحبته إلى بيت سارى عسكر ومعهم الشيخ أحمد العريشي فألبسه فروة مثمنة وركبوا جميعا إلى المحكمة الكبيرة بين القصرين ووعدهم بالافراج عن ابن القاضي بعد أربع وعشرين ساعة(2/295)
وقد كانت عياله انتقلوا من خوفهم إلى دار السيد أحمد المحروقي وجلسوا عنده ولما كان في ثاني يوم افرجوا عنه ونزل إلى عياله وصحبته أرباب الديوان والأغا ومشوا معه في وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال.
وفي تلك الليلة قتلوا شخصين أحدهما: علي جاويش رئيس الريالة الذي كان بالاسكندرية عند حضور الفرنسيس والثاني: قبطان آخره فلم يزالا بمصر يحبسونهما أياما ثم يطلقونهما فحبسوهما آخرا فلم يطلقوهما حتى قتلوهما.
وفي صبيحة ذلك اليوم قتلوا شخصين أيضا من الأتراك بالرميلة.
وفيه افرجوا عن زوجات حسن بك الجداوي.
وفي ثامن عشرينه جمعوا الوجاقلية وكتبوا أسماءهم.
وفي تاسع عشرينه قبضوا على ثلاثة انفار أحدهم يسمى حسن كاشف من اتباع أيوب بك الكبير وآخر يسمى أبو كلس والثالث رجل تاجر من تجار خان الخليلي يسمى حسين مملوك الدالي إبراهيم فسجنوهم بالقلعة فتشفع الشيخ السادات في حسين التاجر المذكور فأطلقوه على خمسة آلاف فرانسة.
واستهل شهر صفر الخير بيوم الجمعة سنة 1214.
فيه افرجوا عن بعض قرابة كتخدا الباشا وكان محبوسا بالجيزة ثم نقل إلى القلعة مع كتخدا قريبة فانطلق وبقي الآخر.
وفي يوم الأحد ثالثه حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقا من دمياط إلى مصر وكان مقيما هناك من بعد واقعة يافا ونزل مع الذين انزلوهم من يافا إلى البحر وفيهم عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب الشهر واخوه قاسم أفندي وأحمد أفندي عرفة والسيد يوسف العباسي والحاج قاسم المصلي وغيرهم فمنهم من عوق بالكرنتيلة ومنهم من حضر من البرخفية فحضر بعض الأعيان لملاقاة السيد عمر وركبوا معه بعد أن مكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق حتى وصل إلى(2/296)
داره وتوجه ثاني يوم مع المهدي وقابل سارى عسكر فبش له ووعده بخير ورد إليه بعض تعلقاته واستمر مقيما بداره والناس تغدو وتروح إليه على العادة.
وفي رابعة حضر أيضا حسن كتخدا الجربان بامان وكان بصحبته عثمان بك الشرقاوي وفيه اشيع أن مراد بك ذهب إلى ناحية البحيرة فرار من الفرنسيس الذين بالصعيد.
وفي خامسة قتلوا عبد الله آغا أمير يافا وكان أخذ أسيرا وحبس ثم قتل.
وفيه قتل أيضا يوسف جربجي أبو كلس ورفيقه حسن كاشف.
وفي سادسه عمل الشيخ محمد المهدي وليمة عرس لزواج أجد أولاده ودعا سارى عسكر وأعيان الفرنساوية فتعشوا عنده وذهبوا.
وفيه أحضروا أربعة عشر مملوكا اسرى واصعدوهم إلى القلعة قيل أنهم كانوا لاحقين بمراد بك بالبحيرة فآوو إلى قبة يستظلون بها وتركوا خيولهم مع السواس فنزل عليهم طائفة من العرب فأخذوا الخيول فمروا مشاة فدل الفلاحون عليهم عسكر الفرنسيس فمسكوهم وقيل أنهم آووا إلى بلده وطلبوا منهم غرامة فصالحوهم فلم يرضوا بذلك بدون ما طلبوا فوعدوهم بالدفع من الغد وكانوا أكثر من ذلك وفيهم كاشف من جماعة عثمان بك الطنبرجي فذهب الفلاحون إلى الفرنسيس وأعلموهم بمكانهم فحضروا إليهم ليلا وفر من فر منهم وقتل من قتل وأسر الباقي.
وأما الكاشف فيسمى عثمان التجأ إلى كبير الفرنسيس فحماه واخذه عنده وأحضروا الأسرى إلى مصر وعليهم ثياب زرق وزعابيط وعلى رؤوسهم عراقي من لباد وغيره وأصعدوهم إلى القلعة وقتلوا منهم في ثاني ليلة أشخاصا.
وفي تاسعه أحضروا أيضا ستة أشخاص من المماليك واصعدوهم إلى القلعة وفي ذلك اليوم قتلوا أيضا نحو العشرة من الأسرى المحابيس.
وفي يوم الأحد عاشره ركب في عصريته سارى عسكر وعدى إلى بر الجيزة وتبعته العساكر ولم يعلم سبب ذلك ولما صاروا بالجيزة ضربوا(2/297)
نجع البطران ودهشور بسبب نزول مراد بك عندهم وفي هذا اليوم ظهر أن مراد بك رجع ثانيا إلى الصعيد وشاع الخبر أيضا أن عثمان بك الشرقاوي وسليمان اغا الوالي وآخرين مروا من خلف الجبل وذهبوا إلى ناحية الشرق فخرج عليهم جماعة من العسكر وفيهم برطلمين يني الرومي رئيس عسكر الاروام ومعهم عدة وافرة من اخلاط العسكر أروام وقبط والمماليك المنضمة إليهم وبعض فرنساوية فأدركوهم بالقرب من بلبيس واتوهم من خلاف الطريق المسلوكة فدهموهم على حين غفلة وكان عثمان بك يغتسل فلما احسوا بهم بادروا للفرار وركبوا وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه وهربوا وتركوا ثيابهم ومتاعهم وحملتهم وقدور الطعام على النار ولم يمت منهم إلا مملوكان واسروا منهم اثنين ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من إبراهيم بك يستدعيهم إلى الحضور إليه بالشام.
وفي ليلة الإثنين حادي عشره وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الأسكندرية وابي قير واخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية إلى أبي قير فتبين أن حركة الفرنساوية وتعديتهم إلى البر الغربي بسبب ذلك وأخذوا صحبتهم جرجس الجوهري وفي ضحوة اليوم الثاني عدى الكثير من العسكر أيضا واهتم حنا بينو المتولي على بحر بولاق بجمع المراكب وشحنها بالقومانية والذخيرة وداخل الفرنساوية من ذلك وهم كبير ولما عدى كبيرهم إلى بر الجيزة أقام يوم الإثنين عند الاهرام حتى تجمعت العساكر وبعث بالمقدمة وركب هو في يوم الثلاثاء ثاني عشره وأرسل مكتوبا إلى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة.
وفي سادس عشره ورد الخبر بأن عثمان خجا وصل إلى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنساوية وملكوها وأسروا من بقي بها وعثمان خجا هذا هو الذي كان متواليا إمارة رشيد من طرف صالح بك وحج معه ورجع صحبته إلى الشام فلما(2/298)
توفي صالح بك سافر إلى الديار الرومية وحضر صحبة مصطفى باشاالمذكور فلما تحققت هذه الأخبار كثر اللغط في الناس وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى السوام فقال المسلم للنصراني إن شاء الله تعالى بعد أربعة أيام نشتقي منكم وكلام من هذا المعنى فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس مع عصبة من جنسه واخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين اثارة فتنة فأرسل قائممقام إلى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاججه وأصبحوا فأجتمعوا بالديوان فقام المهدي خطيبا وتكلم كثيرا ونفى الريبة وكذب أقوال الاخصام وشدد في تبرئة المسلمين عما نسب إليهم وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى وهذا المقام من مقاماته المحمودة ثم جمعوا مشايخ الاخطاط والحارات.
وفي ثامن عشره وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان ولتجار وكلها على نسق واحد تزيد عن الماءة مضمونها بأن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الأسكندرية في ثالث ساعة من يوم السبت سادس عشر صفر فصار الناس يحكي بعضهم لبعض ويقول البعض أنا قرأت المكتوب الواصل إلى فلان التاجر ويقول الآخر مثل ذلك ولم يكن لذلك أصل ولا صحة ولم يعلم من فعل هذه الفعلة واختلق هذه النكتة ولعلها من فعل بعض النصارى البلديين ليوقعوا بها فتنة في الناس ينشأ منها القتل فيهم والاذية لهم وسبحان الله علام الغيوب.
وفي ليلة الأربعاء عشرينه اشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير وظهروا عليهم وقتلوا الكثير منهم ونهبوهم وملكوا منهم قلعة أبي قير وأخذوا مصطفى باشا أسيرا وكذلك عثمان خجا وغيرهما واخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة وبصحن الأزبكية وعملوا في ليلتها أعني ليلة الأربعاء حراقة بالازبكية(2/299)
من نفوط وبارود وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه وصلت عدة مراكب وبها اسرى وعساكر جرحى وكذلك يوم الجمعة تاسع عشرينه حضرت مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحالة التي وقعت لم اقف على صورتها.
واستهل ربيع الأول بيوم السبت سنة 1214.
في ثانيه وصلت مراكب من بحري وفيها جرحى من الفرنساوية.
وفيه قبضوا على الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من أعيان أهالي بولاق وحبسوه ببيت قائممقام والسبب في ذلك أن جماعة من جيرانه وشوا عنه بأنه يدخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة فدور مملوءة بالبارود فكبسوا على الحواصل فوجدوا بها ذلك أخبر الواشي فأخذوها وقبضوا عليه وحبسوه كما ذكر ثم نقلوه إلى القلعة.
وفي سادسه حضر أيضا جملة من العسكر وكثر لغط الناس على عادتهم في رواية الاخبار.
وفيه حضرت حجاج المغاربة ووصلوا صحبة الحج الشامي وأخبروا أنهم حجوا صحبته وأمير الحاج الشامي عبد الله باشا ابن العظم.
وفي ليلة الأحد تاسعه حضر سارى عسكر الفرنساوية بونابارته ودخل إلى داره بالازبكية وحضر صحبته عدة أناس من اسرى المسلمين وشاع الخبر بحضوره فذهب كثير من الناس إلى الأزبكية ليتحققوا الخبر على جليته فشاهدوا الأسرى وهم وقوف في وسط البركة ليراهم الناس ثم أنهم صرفوهم بعد حصة من النهار فأرسلوا بعضهم الىجامع الظاهر خارج الحسينية واصعدوا باقيهم إلى القلعة وأما مصطفى باشا سارى عسكر فإنهم لم يقدموا به لمصر بل ارسلوه إلى الجيزة مكرما وابقوا عثمان خجا بالاسكندرية ولما استقر بونابارته في منزله ذهب للسلام عليه المشايخ والأعيان وسلموا عليه فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان أن سارى عسكر يقول لكم أنه لما سافر إلى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه وأما في هذه المرة فليس كذلك لانكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم فكنتم فرحانين ومستبشرين وكنتم(2/300)
تعارضوا الاغا في احكامه وأن المهدي والصاوي ما هم بونوأى ليسوا بطيبين ونحو ذلك وسبب كلامه هذا الحكاية المتقدمة التي حبسوا بسببها مشايخ الحارات فإن الاغا الخبيث كان يريد أن يقتل في كل يوم اناسا بادنى سبب فكان المهدي والصاوي يعارضانه ويتكلمان معه في الديوان ويوبخانه ويخوفانه سوء العاقبة وهو يرسل إلى سارى عسكر فيطالعه بالأخبار يشكو منهما فلما حضر عاتبهم في شأن ذلك فلاطفوه حتى انجلى خاطره وأخذ يحدثهم على ما وقع له من القادمين إلى أبي قير والنصر عليهم وغير ذلك.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره عمل المولد النبوي بالازبكية ودعا الشيخ خليل البكري سارى عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلا واسراج قناديل واصطناع مهرجان وورد الخبر بأن الفرنسيس أحضروا عثمان خجا ونقلوه من الأسكندرية إلى رشيد فدخلوا به البلد وهو مكشوف الرأس حافي القدمين وطافوا به البلد يزفونه بطبولهم حتى وصلوا به إلى داره فقطعوا رأسه تحتها ثم رفعوا رأسه وعلقوها من شباك داره ليراها من يمر بالسوق.
وفي ثالث عشره أشيع بأن كبير الفرنسيس سافر إلى جهة بحري ولم يعلم أجد أي جهة يريد وسئل بعض أكابرهم فأخبر أن سارى عسكر المنوفية دعاه لضيافته بمنوف حين كان متوجها إلى ناحية أبي قير ووعده بالعود إليه بعد وصوله إلى مصر وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.
ولما كان يوم الإثنين سادس عشره خرج مسافرا من آخر الليل وخفى أمره على الناس.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه الموافق التاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك فنودى بوفائه على العادة وخرج النصارى البلدية من القبطة والشوم والاروام وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج واللهو والطرب(2/301)
وذهبوا تلك الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة وأكثروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم ورفضوا الحشمة وسلكوا مسلك الأمراء سابقا من النزول في المراكب الكثيرة المقاذيف وصحبتهم نساؤهم وقحابهم وشرابهم وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكفريات ومحاكاة المسلمين وبعضهم تزيابزي أمراء مصر وليس سلاحا وتشبه بهم وحاكى الفاظهم على سبيل الأستهزاء والسخرية وغير ذلك وأجرى الفرنساوية المراكب المزينة وعليها البيارق وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر ووقع في تلك الليلة بالبحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف وسلك بعض غوغاء العامة وأسافل العلام ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة ورذالة الرقاعة بدون أن ينكر أجد على أجد من الحكام أو غيرهم بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه وما يخطر بباله وأن لم يكن من أمثاله.
واكثر الفرنسيس في تلك الليلة وصباحها من رمي المدافع والسواريخ من المراكب والسواحل وباتوا يضربون أنواع الطبول والمزامير وفي الصباح ركب دوجا قائممقام وصحبته أكابر الفرنسيس وأكابر أهل مصر وحضروا إلى قصر السد وجلسوا به واصطفت العساكر ببر الروضة وبر مصر القديمة بأسلحتهم وطبولهم وبعضهم في المراكب لضرب المدافع المتتالية إلى أن انكسر السد وجرى الماء في الخليج فانصرفوا.
وفي خامس عشرينه طلبوا من كل طاحون من الطواحين فرسا.
وفي سادس عشرينه كتبوااوراقا والصقوها بالأسواق مضمونها أن الناس يذهبون إلى بولاق يوم التاسع والعشرين ليحضروا سوق الخيل ويشتروا ما احبوا من الخيل.
وفيه الصقوا أوراقا أيضا مضمونها بأن من كان عليه مال ميري ملزوم بغلاقه ومن لم يغلق ما عليه بعد مضي عشرين يوما عوقب بما يليق به ونادوا بموجب ذلك بالأسواق(2/302)
وفي سابع عشرينه كتبوا اوراقا أيضا مضمونها انقضاء سنة مؤاجرات اقلام المكوس ومن أراد استثمار شيء من ذلك فليحضر إلى الديوان ويأخذ ما يريد بالمزاد.
وفيه افرج عن الانفار التي قدم بها الفرنساوية من غزة وحبست بالقلعة على مصلحة خمسة وسبعين كيسا دفعوا بعضها وضمنهم أهل وكالة الصابون في البعض الباقي فانزلوهم من القلعة على هذا الاتفاق بشرط أن لا يسافر منهم أجد إلا بعد غلاق ما عليه.
وفي ثامن عشرينه تشفع أرباب الديوان في أهل يافا المسجونين بالقلعة أيضا فوقع التوافق معهم على الافراج عنهم بمصلحة مائة كيس فاجتمع الرؤساء والتجار وترووا واشتوروا في مجلس خاص بينهم فاتفق الحال على تقسيطها وتاجيلها في كل عشرين يوما خمسة وعشرون كيسا فدفع التجار خمسة وعشرين كيسا وافرج عنهم من القلعة واجلوا الباقي على الشرح المذكور.
وفيه ورد من بونابارته سارى عسكر الفرنساوية كتاب من الأسكندرية خطا بالاهل مصر وسكانها فأحضر قائممقام دوجا الرؤساء المصرية وقرأ عليهم الكتاب مضمونه أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر فيغيب نحو ثلاثة أشهر ويقدم مع عساكره فإنه بلغه خروج عمارتهم ليصفوا له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعا كلهبر سارى عسكر دمياط فتحير الناس وتعجبوا في كيفية سفره ونزوله البحر مع وجود مراكب الانكليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية من وقت قدومهم الديار المصرية صيفا وشتاء ولكيفية خلوصة وذهابه أنباء وحيل لم أقف على حقيقتها.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه قدم سارى عسكر كلهبر صبيحة ذلك اليوم فضربوا لقدومه المدافع من جميع القلاع وتلقته كبار الفرنساوية وأصاغرهم وذهب إلى بيت بونابارته الذي كان ساكنا به وهو بيت الألفي(2/303)
بالازبكية وسكن مكانه وفي ذلك اليوم قدمت طائفة من العسكر من جهة الشرقية وصحبتهم منهوبات كثيرة من بلد عصت عليهم فضربوها ونهبوها ومعهم نحو السبعين من الرجال والصغار وبعض النساء وهم موثقون بالحبال فسجنوهم بالقلعة.
وفيه ذهب أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة سارى عسكر الجديد للسلام عليه فلم يجتمعوا به ذلك اليوم ووعدوا إلى الغد فانصرفوا وحضروا في ثاني يوم فقابلوه فلم يروا منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابارته فإن كان بشوشا ويباسط الجلساء ويضحك معهم.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأحد سنة 1214.
في أوائله ابتدأوا في عمل مولد المشهد الحسيني وقهروا الناس وكرروا المناداة بفتح الحوانيت والسهر ووقود القناديل عشر ليال متوالية آخرها ليلة الخميس ثاني عشرة.
وفيه طلب سارى عسكر الجديد من نصارى القبط مائة وخمسين ألف ريال فرانسة في مقابلة بواقي سنة 1212 وشرعوا في تحصيلها.
وفي يوم الجمعة سادسه ركب سارى عسكر الجديد من الأزبكية ومشى في وسط المدينة في موكب حافل حتى صعد إلى القلعة وكان إمامه نحو الخمسمائة قواس وبأيديهم النبابيت وهم يأمرون الناس بالقيام والوقوف على الاقدام لمروره وكان صحبته عدة كثيرة من خياله الافرنج وبأيديهم السيوف المسلولة والوالي والأغا وبرطلمين بمواكبهم وكذلك القلقات والوجاقلية وكل من كان مولى من جهتهم ومنضما إليهم ماعدا رؤساء الديوان من الفقهاء فلم يطبلوهم للحضور ولا للمشي في ذلك الموكب ولما صعد إلى القلعة ضربوا له عدة مدافع وتفرج على القلعة ثم نزل بذلك الموكب إلى داره.
وفي يوم السبت سابعه ركب اغاة الينكجرية في ابهة عظيمة وجبروت وإمامه عدة من عسكر الفرنسيس وإمامه المنادى يقول حكم مارسم سارى عسكر خطابا للاغا أن جميع الدعاوى والقضايا العامية لا تعمل(2/304)
إلا ببيت الاغا وكل من تعدى من الرعايا أو وقع منه قلة أدب يستأهل ما يجري عليه.
وفيه ركب سارى عسكر الكبير في موكب دون الأول ووصل إلى بيت رئيس الديوان الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم رجع إلى داره.
وفي يوم الأحد ثامنه عمل سارى عسكر وليمة في بيته ودعا الأعيان والتجار والمشايخ فتعشوا عنده ثم انصرفوا إلى دورهم.
وفي يوم الثلاثاء عاشره وكان آخر المولد الحسيني وحضر سارى عسكر الفرنساوية مع أعيانهم إلى بيت شيخ السادات بعد العصر في موكب عظيم وإمامه الاغا والوالي والمحتسب وعدة كبير من عسكرهم وبيدهم السيوف المسلولة فتعشوا هناك وركبوا بعد المغرب وشاهدوا وقود القناديل.
وفي سادس عشرة نودى بنشر الحوائج وكتبوا بذلك اوراقا والصقوها بالأسواق وشددوا في ذلك بالتفتيش والنظر بجماعة من طرف مشايخ الحارات ومع كل منهم عسكرى من طرف الفرنساوية وامرأة أيضا للكشف على أماكن النساء فكان الناس يأنفون من ذلك ويستثقلونه ويستعظمونه وتحدثهم أوهامهم بأمور يتخيلونها كقولهم إنما يريدون بذلك الاطلاع على أماكن الناس ومتاعهم مع أنه لم يكن شيء سوى التخوف من العفونة والوباء.
وفي عشرينه نودى بعمل مولد السيد علي البكري المدفون بجامع الشرايبي بالازبكية بالقرب من الرويعي وأمروا الناس بوقود قناديل بالازقة في تلك الجهات وأذنوا لهم بالذهاب والمجيء ليلا ونهارا من غير حرج وقد تقدم ذكر بعض خبر هذا السيد وأنه كان رجلا من البله وكان يمشي بالأسواق عريانا مكشوف الرأس والسوأتين غالبا وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به واستمر على ذلك مدة سنين ثم بدا لأخيه في أمر لما رأى من ميل الناس لأخيه واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر في أمثاله فحجر عليه ومنعه من الخروج من البيت وألبسه ثيابا وأظهر للناس(2/305)
أنه أذن له بذلك وأنه تولى القطبانية ونحو ذلك فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع الفاظه والانصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم في كراماته وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس فانهمكوا على الترداد إليه وقلد بعضهم بعضا وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والأمدادات الواسعة من كل شيء وخصوصا من نساء الأمراء والأكابر وراج حال أخيه واتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم فلم يزل على ذلك إلى أن مات في سنة سبع بعد المائتين كما تقدم فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حجر عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع وعمل عليه مقصورة ومقاما وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الإشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبابهم وصار ذلك المسجد مجمعا وموعدا فلما حضر الفرنساوية إلى مصر تشاغل عنه الناس واهمل شانه في جملة المهملات وترك مع المتروكات فلما فتح أمر الموالد والجمعيات ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات أعيد هذا المولد مع جملة ما أعيد.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الجمعة سنة 1214.
فيه اهتم الفرنسيس بعمل عيدهم المعتاد وهو عند الأعتدال الخريفي وانتقال الشمس لبرج الميزان فنادوا بفتح الأسواق والدكاكين ووقود القناديل وشددوا في ذلك وعملوا عزائم وولائم واطعمة ثلاثة أيام آخرها يوم الإثنين ولم يعملوه على هيئة العام الماضي من الاجتماع بالازبكية عند الصارى العظيم المنتصب والكيفية المذكورة لأن ذلك الصارى سقط وامتلآت البركة بالماء فلما كان يوم الأحد نبهوا على الأمراء(2/306)
والأعيان بالبكور إلى بيت سارى عسكر فاجتمع الجمع في صبح يوم الإثنين فركب سارى سكر معهم في موكب كبير وذهبوا إلى قصر العيني فمكثوا هناك حصة وعرضت عليهم العساكر جميعها على اختلاف انواعها من خيالة ورجالة وهم بأسلحتهم وزينتهم ولعبوا لعبهم في ميدان الحرب وخلع سارى عسكر على الشيخ الشرقاوي والقاضي وأغاة الينكجرية خلع سمور ثم رجع إلى منازلهم ثم نودى في جميع الأسواق بوقود أربع قناديل على كل دكان في تلك الليلة ومن لم يفعل ذلك عوقب ثم عملوا بالازبكية حراقة نفوط ومدافع وسواريخ ولعبوا في المراكب طول ليلهم.
وفي سابعه بعد عيد الصليب نقص ماء النيل وكان من أول زيادته قاصرا عن العادة وزيادته شحيحة فضج الناس وانكبوا على شراء الغلة وازدحموا في الرقع والسواحل وطلب باعة الغلة الزيادة في السعر فجمع الفرنساوية كل من كان له مدخل في تجارة الغلال وزجروهم وخوفوهم وقالوا لهم هذه الغلة الموجودة الآن إنما هي زراعة العام الماضي وأما هذا العام فلا تخرج زراعته إلا في العام المستقبل فانزجروا وباعوا بالسعر الحاضر وقد كاد يقع الغلاء العظيم لولا الطاف الله ورحمته ونعمه العميمة الشاملة حصلت.
وفيه ارسلوا جملة عساكر من الفرنساوية إلى مراد بك بناحية الفيوم وعليهم كبير فوقع بينهم وبينه أمور لم اتحقق تفصيلها وترددت بينه وبين سارى عسكر الرسل والمراسلات ووقع بينه وبينهم الهدنة والمهاداة واصطلح معهم على شروط منها تقليده امارة الصعيد تحت حكمهم وفي هذا الشهر كثرت الإشاعة باجتماع عساكر عثمانية جهة الشام فكثر اهتمام الفرنساوية باخراج الجبخانات والمدافع وآلات الحرب والقومانية والعساكر وتحصين الصالحية والفرين وبلبيس(2/307)
واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1214.
وفيه كثرت الاقوال وتواترت الأخبار بوصول الوزير الأعظم يوسف باشا إلى الديار الشامية وصحبته نصوح باشا وعثمان أغا كتخدا الدولة وحسين اغا نزله امين ومصطفى أفندي الدفتردار وباقي رجال الدولة وعسفوا في البلاد الشامية وضربوا عليهم الضرائب العظيمة وجبوا الأموال وفعلوا ما لا خير فيه من الظلم وقتل الأنفس بسبب استخلاص الأموال فلما كان في منتصفه وردت الأخبار بوصولهم إلى غزة العريش وأنهم حاصروا قلعة العريش وقاتلوا من بها من عسكر الفرنساوية حتى ملكوها في تاسع عشره واحتووا على ماكان فيها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب وصعد مصطفى باشا الذي باشر أخذ القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية وضربت النوبة وحصل لهم الفرح العظيم فاتفق أنه وقعت نار على مكان الجبخانة والبارود المخزون بالقلعة وكان شيئا كثيرا فاشتعلت وطارت القلعة بمن فيها واحترقوا وماتوا وفيهم الباشا المذكور ومن معه ومحمد اغا ارنؤد الجلفي وغيره من المصرلية ومات كثير ممن كان خارجا عنها وبقربها مما نزل عليهم من النار والأحجار المتطايرة في اسرع وقت ولما تحقق الفرنساوية أخذ العريش وأن عساكر العثمانيين زاحفة إلى جهة الصالحية نهيأ سارى عسكر الفرنساوية واستعد للخروج والسفر في اسرع وقت وخرج بعساكره وجنوده إلى الصالحية وقد كان قبل أخذ العثمانيين قلعة العريش أرسل الفرنساوية إلى سينت كبير الانكليز مراسلات ليتوسط بينهم وبين العثمانيين ثم ورد فرمان من حضرة الوزير قبل وصوله لجهة العريش خطابا إلى جمهور الفرنساوية باستدعاء رجلين من رؤسائهم وعقلائهم ليتشاور معهم ويتفق معهم على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين على ما سيشترطونه بينهم فوجهوا إليه من طرفهم بوسليك رئيس الكتاب وديزه سارى عسكر الصعيد فنزلوا في البحر على دمياط وطالت مدة غيابهم وبعث كلهبر سارى عسكر رسلا من طرفه لاستفسار الأخبار(2/308)
واستهل شهر شعبان المعظم سنة 1214.
فورد الخبر بقدومهما في اثنين وعشرين فيه إلى الصالحية فأرسلوا لهما الخيول وما يحتاجان إليه وحضرا إلى مصر وشاع أمر الصلح وحضر من طرف العثمانيين رئيس الكتاب والدفتردار لتقرير الصلح وجنح كل من الفريقين إلى ذلك لما فيه من كف الحرب وحقن الدماء وأظهر الفرنساوية الخداع والخضوع حتى تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطا رسمت وطبعت في طومار كبير وورد الخبر بذلك إلى مصر وفرح الناس بذلك فرحاشديدا وأرسل سارى عسكر الفرنساوية مكاتبة بصورة الحال إلى دوجا قائممقام فجمع أهل الديوان وقرأ عليهم ذلك.
ولما ورد ذلك الطومار المتضمن لعقد الصلح والشروط وعربوه وطبعوا منه نسخا كثيرة فرقوا منها على الأعيان وألصقوا منها بالأسواق والشوارع.
وصورته بما فيه من الفصول والشروط بالحرف الواحد ما عدا ترجمة الأسطر التي باللغة الفرنساوية وهذه صورة الشروط الواقعة لخلو مصر ما بين حضرة الجنرال ديزة متفرقة وحضرة بسليغ مدير الحدود العام نواب سرى العسكر العام كلهبر المفوضين بكامل السلطان وجناب سامي المقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيسه أفندي رئيس كتاب الوكلاء المفوضين بكامل السلطان عن جناب حضرة الوزير سامي المقام أن للجيش الفرنساوي بمصر عندما قصد أن يوضح ما في نفسه من وفور الشوق لحقن الدماء ويرى نهاية الخصام المضر الذي قد حصل ما بين المشيخة الفرنساوية والباب العالي فقد ارتضى أن يسلم بخلو الإقليم المصري بحسب هذه الشروط الآتي ذكرها يأمل أن بهذا التسليم يمكن أن يتجه ذلك إلى الصلح العام في بلاد المغرب قاطبة.
الشرط الأول أن الجيش الفرنساوي يلزمه أن يتنحى بالأسلحة والعزال بالامتعة إلى الأسكندرية ورشيد وأبو قير لأجل أن يتوجه وينتقل بالمركب إلى فرانسا أن كان ذلك في مراكبهم الخاص بهم أم في(2/309)
تلك التي يقتضي للباب العالي أن يقدمها لهم بقدر الكفاية ولأجل تجهيز المراكب المذكورة بأقرب نوال فقد وقع الاتفاق من بعد مضي شهر واحد من تقرير هذه الشروط يتوجه إلى قلعة اسكندرية نائب من قبل الباب العالي وصحبته خمسون نفرا.
الشرط الثاني فلا يدعن المهلة وتوقيف الحرب بمدة ثلاثة اشهر بالاقليم المصري وذلك من عهد امضاء شروط الاتفاق هذه وإذا صادف الأمر أن هذه المهلة تمضي قبل أن المراكب الواجب تجهيزها من قبل الباب العالي تحضر جاهزة فالمهلة المذكورة يقتضي مطاولتها إلى أن ينجز الرحيل على التمام والكمال ومن الواضح أنه لا بد عن اصراف الوسايط الممكنة من قبيل الفريقين لكي لا يحصل ما يمكن وقوعه من التجسس أن كان ذلك من الجيش من أهل البلاد إذا كانت هذه المهلة قد حصل الاتفاق بها لأجل راحتهم.
الشرط الثالث فرحيل الجيش الفرنساوي يقتضي تدبيره بيد الوكلاء القادمين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى وسرى العسكر كلهبر وإذا حصل خصام ما بين الوكلاء المذكورين بوقت الرحيل في هذا الصدد فلينتخب من قبل حضرة سيد نهى سميت رجل لينهى المخاصمات المذكورة بحسب قواعد السياسة البحرية السالكون عليها ببلاد الانكليز.
الشرط الرابع قطية والصالحية لا بد عن خلوهما عن الجيش الفرنساوية في ثامن يوم وأعظم ما يكون في عاشر يوم من امضاء شروط الاتفاق هذه ومدينة المنصورة يكون خلوها من بعد خمسة عشر يوما وأما دمياط وبلبيس من بعد عشرين يوما وأما السويس فيكون خلوه ستة أيام قبل مدينه مصر وأما المحلات الكائنة في الجهة الشرقية من بحر النيل فيكون خلوها في اليوم العاشر والدلطا أي الإقليم البحرية يكون خلوها خمسة عشر يوما من بعد خلو مصر والجهة الغربية وما يتعلق بها تستمر بيد الفرنسيس إلى حد خلو مدينة مصر ولكن من حيث أنها لا بد أن تستمر بيد الفرنساوية إلى أن يكون انحدار العسكر من جهات(2/310)
الصعيد فجهة الغربية وتعلقاتها كما ذكر فممكن أنه لا يتيسر خلوها إلا من بعد انقضاء وقت المهلة المعين إذا لم يمكن خلوها قبل هذا الميعاد والمحلات التي تترك من الجيش فتسلم إلى الباب الأعلى كما هي في حالها الآن.
الشرط الخامس ثم أن مدينة مصر إن أمكن ذلك يكون خلوها بعد أربعين يوما وأكثر ما يكون بمدة خمسة وأربعين يوما من وقت امضاء الشروط المذكورة.
الشرط السادس أنه لقد وقع الاتفاق صريحا على أن الباب الأعلى يصرف كل اعتناء في أن الجيش الفرنساوي الموجود في الجهة الغربية من بحر النيل عندما يقصد التنحي بكامل ماله من السلاح والعزال لنحو معسكرهم لاتصير عليه مشقة ولا أجد يشوش عليه أن كان ذلك مما يتعلق بشخص كل واحد منهم أو بامتعته أو بكرامته وذلك أما من أهالي البلاد وأما من جهة العسكر السلطاني العثملي.
الشرط السابع وحفظا لاتمام الشرط المذكور أعلاه وملاحظة لمنع ما يمكن وقوعه من الخصام والمعاداة فلا بد عن استعمال الوسائط في أن عسكر الإسلام يكون دائما متباعدا عن العسكر الفرنساوي.
الشرط الثامن فمن تقرير وامضاء هذه الشروط فكل من كان من الإسلام أم من باقي الطوائف من رعايا البلم الأعلى بدون تمييز الأشخاص أولئك الواقع عليها الضبط أم الذين واقع عليهم الترسيم ببلاد فرانسا أو تحت أمر الفرنساوية بمصر يعطى لهم الاطلاق والتعلق وبمثل ذلك فكل الفرنساوية المسجونين في كامل البلدان والاساكل من مملكة العثملي وكذلك كامل الأشخاص من ايما طائفة كانت أولئك الذين كانوا في تعلق خدمة المراسلات والقناصل الفرنساوية لا بد عن انعتاقهم.
الشرط التاسع فترجيع الأموال والأملاك المتعلقة بسكان البلاد والرعايا من الفريقين أم دفع مبالغ أثمانها لاصحابها فيكون الشروع به حالا من بعد خلو مصر والتدبير في ذلك يكون بيد الوكلاء في إسلامبول(2/311)
المتحدة وإذا صادف الأمران مركبا من هذه المراكب يحتاج إلى الترقيع فهذه لا غير يباح لها الإقامة إلى أن ينتهي اصلاحها المذكور وفي الحال من ثم تتوجه إلى بلاد فرانسا نظير التي قد تقدم القول عنها عند أول ريح يوافقها.
الشرط الرابع عشر وقد يستطيع حضرة الجنرال كلهبر سرى العسكر العام أن يرسل خبرا إلى أرباب الأحكام الفرنساوية في الحال ومن يصحب هذا الخبر لا بد أن تعطى له أوراق الاذن بالاطلاق كما يقتضي ليسهل بهذه الواسطة وصول الخبر إلى اصحاب الحكم بفرانسا.
الشرط الخامس عشر وإذا قد اتضح أن الجيش الفرنساوي يحتاج إلى المعاش اليومي ما دامت الثلاثة اشهر المعينة لخلو الإقليم المصري وكذلك لمعاش الثلاثة الأشهر الأخرى التي يكون مبتدأها من يوم نزولهم بالمراكب فقد وقع الاتفاق على أنه يقدم له مقدار ما يلزمه من القمح واللحم والارز والشعير والتبن وذلك بموجب القائمة التي تقدمت الآن من وكلاء الجمهور الفرنساوي أن كان ذلك مما يخص إقامتهم أو ما يلاحظ سفرم والذي يكون قد أخذه الجيش المذكور مقدار ما كان من شؤونه وذلك من بعد امضاء هذه الشروط فينخصم مما قد لزم ذاته بتقدمته الباب الأعلى.
الشرط السادس عشر ثم أن الجيش الفرنساوي منذ ابتدأ وقوع امضاء هذه الشروط المذكورة ليس له أن يفرد على البلاد فردة ما من الفرائد قطعا بالإقليم المصري لا بل وبالعكس فإنه يخلى للباب الأعلى كامل فر المال وغيره مما يمكن توجيه قبضه وذلك إلى حين سفرهم وبمثل ذلك الجمال والهجن والجبخانة والمدافع وغير ذلك مما يتعلق بهم ولا يريدون أن يحملوه معهم ونظير ذلك شون الغلال الوارد نعلهم من تحت المال واخيرا مخازن الخراج فهذه كلها لا بد عن الفحص عنها وتسعيرها من أناس وكلاء موجهين من قبل الباب الأعلى لهذه الغاية ومن أمين البحر الانكليزي وبرفقة الوكلاء المتصرفين بأمر الجنرال كلهبر سرى العسكر وهذه الأمتعة لا بد عن قبولها من وكلاء الباب الأعلى المتقدم(2/312)
المتحدة وإذا صادف الأمران مركبا من هذه المراكب يحتاج إلى الترقيع فهذه لا غير يباح لها الإقامة إلى أن ينتهي اصلاحها المذكور وفي الحال من ثم تتوجه إلى بلاد فرانسا نظير التي قد تقدم القول عنها عند أول ريح يوافقها.
الشرط الرابع عشر وقد يستطيع حضرة الجنرال كلهبر سرى العسكر العام أن يرسل خبرا إلى أرباب الأحكام الفرنساوية في الحال ومن يصحب هذا الخبر لا بد أن تعطى له أوراق الاذن بالاطلاق كما يقتضي ليسهل بهذه الواسطة وصول الخبر إلى اصحاب الحكم بفرانسا.
الشرط الخامس عشر وإذا قد اتضح أن الجيش الفرنساوي يحتاج إلى المعاش اليومي ما دامت الثلاثة اشهر المعينة لخلو الإقليم المصري وكذلك لمعاش الثلاثة الأشهر الأخرى التي يكون مبتدأها من يوم نزولهم بالمراكب فقد وقع الاتفاق على أنه يقدم له مقدار ما يلزمه من القمح واللحم والارز والشعير والتبن وذلك بموجب القائمة التي تقدمت الآن من وكلاء الجمهور الفرنساوي أن كان ذلك مما يخص إقامتهم أو ما يلاحظ سفرم والذي يكون قد أخذه الجيش المذكور مقدار ما كان من شؤونه وذلك من بعد امضاء هذه الشروط فينخصم مما قد لزم ذاته بتقدمته الباب الأعلى.
الشرط السادس عشر ثم أن الجيش الفرنساوي منذ ابتدأ وقوع امضاء هذه الشروط المذكورة ليس له أن يفرد على البلاد فردة ما من الفرائد قطعا بالإقليم المصري لا بل وبالعكس فإنه يخلى للباب الأعلى كامل فر المال وغيره مما يمكن توجيه قبضه وذلك إلى حين سفرهم وبمثل ذلك الجمال والهجن والجبخانة والمدافع وغير ذلك مما يتعلق بهم ولا يريدون أن يحملوه معهم ونظير ذلك شون الغلال الوارد نعلهم من تحت المال واخيرا مخازن الخراج فهذه كلها لا بد عن الفحص عنها وتسعيرها من أناس وكلاء موجهين من قبل الباب الأعلى لهذه الغاية ومن أمين البحر الانكليزي وبرفقة الوكلاء المتصرفين بأمر الجنرال كلهبر سرى العسكر وهذه الأمتعة لا بد عن قبولها من وكلاء الباب الأعلى المتقدم(2/313)
ذكرهم بموجب ما وقع عليه السعر إلى حد قدر مبلغ ثلاثة آلاف كيس التي تقتضي للجيش الفرنساوي المذكور لسهولة انتقاله عاجلا ونزوله بالمراكب وإذا كانت الأسعار في هذه الأمتعة المذكورة لا توازي المبلغ المرقوم أعلاه فالخسيس والنقص في ذلك لا بد عن دفعه بالتمام من قبل الباب الأعلى على جهة السلفة تلك التي يلزم بوفائها أرباب الأحكام الفرنساوية بأرواق التمسكات المدفوعة من الوكلاء المعنين من الجنرال كلهبر سرى العسكر العام لقبض واستلام المبلغ المذكور.
الشرط السابع عشر ثم إنه إذا كانت تقتضي للجيش الفرنساوي بعض مصاريف لخلوهم مصر فلا بد أن نقبض وذلك من بعد تقرير تمسك الشروط المذكورة القدر المحدد أعلاه بالوجه الآتي ذكره أعني فمن بعد مضي خمسة عشر يوما خمسمائة كيس وفي غلاق الثلاثين يوما خمسمائة كيس أخرى وبتمام الأربعين يوما ثلثمائة كيس أخرى وعند تمام الخمسين يوما ثلثمائة كيس شرحه وعند غلاق الستين يوما ثلثمائة كيس أخرى وفي السبعين يوما ثلثمائة كيس أخرى وعند تمام الثمانين يوما ثلثمائة كيس أخرى وعند غلاق التسعين يوما خمسمائة كيس أخرى وكل هذه الأكياس المذكورة هي عن كل كيس خمسمائة غرش عثملي ويكون قبضها على سبيل السلفة من يد الوكلاء المعينين لهذه الغاية من قبل الباب الأعلى ولكي يسهل اجراء العمل بما وقع الأعتماد عليه فالباب الأعلىمن بعد وضع الأمضاء على النسختين من الفريقين يوجه حالا الوكلاء إلى مدينة مصر وإلى بقية البلاد المستمر بها الجيش.
الشرط الثامن عشر ثم أن فرد المال الذي يكون قد قبضه الفرنساوية من بعد تاريخ تحرير الشروط المذكورة وقبل أن يكون قد اشتهر هذا الاتفاق في الجهات المختلفة بالاقليم المصري فقد تخصم من قدر مبلغ الثلاثة آلاف كيس المتقدم القول عنها.
الشرط التاسع عشر ثم إنه لكي يسهل خلو المحلات سريعا فالنزول في المراكب الفرنساوية المختصة بالحمولة والموجودة في المين بالإقليم(2/314)
المصري مباح به ما دامت مدة الثلاثة اشهر المذكورة المعينة للمهلة وذلك من دمياط ورشيد حتى إلى الأسكندري ومن اسكندرية حتى إلى رشيد ودمياط.
الشرط العشرون فمن حيث أنه للطمأن الكلي في جهات البلاد الغربية يقتضي الاحتراس الكلي لمنع الوبا الطاعوني عن أنه يتصل هناك فلا يباح ولا لشخص من المرضى أو من أولئك الذين مشكوك بهم برائحة من هذا الداء الطاعوني أن ينزل بالمراكب بل أن المرضى بعلة الطاعون أو بعلة أخرى اينما كانت تلك التي بسببها لا يقتضي أن يسمح بسفرهم بمدة خلو الإقليم المصري الواقع عليها الاتفاق يستمرون في بيمارستان المرضى حيث هم الآن تحت امان جناب الوزير الأعظم عالي الشأن ويعالجونهم الاطباء من الفرنساوية أولئك الذين يجاورونهم بالقرب منهم إلى أن يتم شفاهم يسمح لهم بالرحيل الشيء الذي لا بد عن اقتضاء الأستعجال به بأسرع ما يمكن ويحصل لهم ويبدو ونحوه ما ذكر في الشرطين الحادي عشر والثاني عشر من هذا الاتفاق نظير ما يجري على باقي الجيش ثم أن أمير الجيش الفرنساوي يبذل جهده في ابراز الاوامر الأشد صرامة لرؤساء العساكر النازلة بالمراكب بأن لا يسمحوا لهم بالنزول بمينا خلاف المين التي تتعين لهم من رؤساء الاطباء تلك المين التي يتيسر لهم بها أن يقضوا أيام الكارنتينة بأوفر السهولة من حيث أنها من مجرى العادة ولا بد عنها.
الشرط الحادي والعشرون فكل ما يمكن حدوثه من المشاكل التي تكون مجهولة ولم يمكن الاطلاع عليها في هذه الشروط فلا بد عن نجازها بوجه الأستحباب ما بين الوكلاء المعينين لهذا لقصد من قبل الجناب الوزير الأعظم عالي الشأن وحضرة الجنرال كلهبر سرى العسكر العام بوجه يسهل ويحصل الأسراع بالخلو.
الشرط الثاني والعشرون وهذه الشروط لا تعد صحيحة إلا من بعد اقرار الفريقين وتبديل النسخ وذلك بمدة ثمانية أيام ومن بعد حصول هذا(2/315)
الإقرار لا بد عن حفظ هذه الشروط الحفظ اليقين من الفريقين كليهما.
صح وثبت وتقرر بختوماتنا الخاصة بنا بالمعسكر حيث وقعت المداولة بحد العريش في شهر يلويوز سنة ثمان من إقامة المشيخة الفرنساوية وفي رابع عشرين شهر شعبان هلالية سنة 1224 هجرية الممضين الجنرال متفرقة ذره البلدي بوسيهلغ المفوضين بكامل سلطانه الجنرال كلهبر وجناب سامي مقام مصطفى رشيد أفندي دفتردار ومصطفى راسيسه أفندي رئيس الكتاب المفوضين بكامل سلطان جناب الوزير الأعظم عالي الشأن منقولة عن النسخة الأصلية الموافقة لتلك الموجهة بالفرنساويةالى الوكلاء العثملي بدلا من التي قد وجهوها باللغة التركية ممضي درزه وبوسيهلغ تقرير الجنرال سرى العسكر العام محرر في آخر السنة التركية التي بقيت محفوظة بيد الوزير الأعظم انني أنا الواضع اسمي أدناه الجنرال سري العسكر العام أمير الجيش الفرنساوية بالاقليم المصري اثبت واقرر شروط الاتفاق المذكور أعلاه للحصول على اجرائه بالعمل بالنوع والصورة أن كان من اللازم أن اتيقن بأن الإثنين وعشرين شرطا المشروحة إلى الآن هي موافقة على التدقيق باللغة الفرنساوية الممضي عليها من الوكلاء اصحاب ولاية الوزير الأعظم والمقررة من جناب عالي الشأن الترجمة التي لا بد عن الأعتماد بأجرائها كل مرة أن كان لسبب أم لآخر ممكن حصول بعض الاختلافات ومن ثم فتقلد بعض المشاكل.
صح وجرى بمحل العسكر العام بالصالحية في ثامن شهر بلويوز سنة ثمان من المشيخة ممضي كلهبر عن نسخة صحيحة الجنرال متفرقة رأس صاحب ختام في الجيش الفرنساوية ممضى داماس انتهى بحروفه وما فيه من خطأ أو تحريف فهو طبق الأصل المطبوع بالمطبعة الفرنساوية باللغة العربية ولم أغير منه سوى ما في تواريخ الأشهر والسنين بالارقام الهندية والله أعلم(2/316)
استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأحد سنة 1214.
في ثانيه حضر سارى عسكر الفرنساوية كلهبر إلى ناحية العادلية وصحبته اغا من رجال الدولة العثمانية يسمى محمد اغا فأرسل سارى عسكر إلى حسن اغا نجاتي المحتسب يأمره بأن يتلقاه وينزله في بيته ويكرمه إكراما زائدا فلما كان بعد العشاء دخل ذلك الاغا إلى مصر في موكب فحصل للناس ضجة عظيمة وازدحموا على مشاهدتهم له والفرجة عليه وارتفعت أصواتهم وعلا ضجيجهم وركبوا على مصاطب الدكاكين والسقائف وانطلقت النساء والزغاريت من الطيقان واختلفت آراؤهم في ذلك القادم ولم يعلموا ما هو فدخل من باب النصر وشق القاهر ولم يزل سائرا حتى وصل إلى بيت حسن اغا بسويقة اللالا فنزل هناك فلما استقر به الجلوس ازدحم الناس والأعيان للسلام عليه ولمشاهدته بالمشاعل والفوانيس فلما كان صبح تلك الليلة عمل ديوانا وجمع العلماء والوجاقلية وأعيان الناس وكبار النصارى من الاقباط والشوام فلما تكاملوا أبرز لهم فرمانا من الوزير فقرىء عليهم بالمجلس فدل مضمونه على أنه اغات الجمارك أي المكوس بمصر بولاق ومصر القديمة وفيه التحكير على جميع الواردات من أصناف الأقوات فيشتريها بالثمن الذي يسعره هو بمعرفة المحتسب ويودعه في المخازن وابرز فرمانا آخر قرى بالمجلس مضمونه أن الوزير أقام مصطفى باشا الذي كان اسر بأبي قير وكيلا عنه وقائممقام بمصر إلى حين حضوره وأن السيد أحمد المحروقي كبير التجار ملزوم ومقيد بتحصيل الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية.
وانفض المجلس على ذلك وأخذ السيد أحمد المحروقي في تحصيل ذلك القدر من الناس وفرضوه عل التجار وأهل الأسواق والحرف وشرعوا في تحكير الأقوات فغلت أسعارها وضاقت مؤن الناس ودهى الناس من أول احكامهم بهاتين الداهيتين وكان أول قادم منهم أمير المكوسات ومحكر الأقوات وأول مطلوبهم مصادرة الناس وأخذ المال(2/317)
منهم وتغريمهم واجتهد السيد أحمد الحروقي في توزيع ذلك وجمعه في أيام قليلة فكان كل من توجه عليه مقدار من ذلك اجتهد في تحصيله واخرجه عن طيف قلب وانشراح خاطر وبادر بالدفع من غير تأخير لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية ويقول سنه مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس ومسمعهم وهم يحقدون ذلك عليهم وحضر مصطفى باشا من الجيزة وسكن ببيت عبد الرحمن كتخدا بحارة عابدين.
وارسل الوزير فرامانات إلى البلاد وعين المعينين والمباشرين بطلب المال والغلال والكلف من الاقاليم وأرسل إلى البنادر وجعل في كل بندر أميرا ووكيلا لجمع الغلال والمطلوبات من الذخيرة وجمعها بالحواصل ولا يخفي ما يحصل في ضمن ذلك من الجزئيات التي سيتضح بعضها فيما بعد وأما الرعايا وهمج الناس من أهل مصر فإنهم استولى عليهم سلطان الغفلة ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الأعتبار وكشفوا نقاب الحياء معهم بالكلية وتطاولوا عليهم بالسبب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور ولم يتركوا معهم للصلح مكانا حتى أن فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقا وطوائف حسبة وهم يجهرون ويقولون كلاما مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وافراد رؤسائهم كقولهم الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان ونحو ذلك وظنوا فروغ القضية ولم يملكوا لأنفسهم صبرا حتى تنقضي الأيام المشروطة على أن ذلك لم يثمر إلا الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس وأوجبت ما حصل بعد ذلك من وقوع العذاب البئيس.
وقال الشعبي من جملة كلام وصادفنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وأخذ الفرنساوية في أهبة الرحيل وشرعوا في مبيع امتعتهم وما فضل عن سلاحهم ودوابهم وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصلحية وبلبيس ودمياط والسويس ثم أن العثمانين تدرجوا في دخول(2/318)
مصر وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم فاجتمع العامة واصحاب الحرف إلى مصطفى باشا قائمقام وشكوا إليه فلم يلتفت لشكواهم لأن ذلك من سنن عساكرهم وطرائفهم القبيحة.
وورود الخبر بوصول حضرة الوزير إلى بلبيس وصحبته الأمراء المصرية وأرسلوا إلى مراد بك ومن معه بالحضور إلى العرضي فأجاب بالاعتذار عن الحضور لأنه في الصعيد فلم يقبلوا عذره فأكدوا عليه بالحضور فاستاذن الفرنساوية سرا فأستاذ نوا له في المقابلة وكان سفيره في ذلك عثمان بك البرديسي ثم إنه حضر وقابل الوزير بصحبة إبراهيم بك وخلع عليهما ورجع مراد بك فخيم جهة العادلية وحضر حسن أغا نزله أمين ودخل مصر واخلى الفرنساوية قلعة الجبل وباقي القلاع التي احدثوها ونزلوا منها فلم يطلع إليها أجد من العثمانيين ولم يلتفتوا لتحصينها ولا ربطها بالعساكر والجبخانة وأعرضوا عن المحاذرة وركبهم الغرور لأجل نفاذ المقدور وحضر أيضا غالب المصريين الفارين من مصر وقت مجيء الفرنساوية إليها من الاغوات والوجاقلية والافندية والكتبة مثل إبراهيم أفندي الروزنامجي وثاني قلفة وغيرهما بنسائهم وأولادهم يظنون فروغ القضية والذي خافوا منه وقعوا فيه كما ستراه وأرسل إبراهيم بك إلى السيد أحمد المحروقي يطلب كساوى وثيابا وطرابيش وسراويل للمماليك ولخاصة نفسه فأرسل إليه مطلوبه وأخرجت لهم الخيام والتراتيب والنظام وهيأت نساء الأمراء والأجناد احتياجاتهم وترتيباتهم وجروا على عادتهم في الثغالى ولازمت الخدم والفراشون الغدو والرواح إلى خيم ساداتهم وهم راكبون البغال والرهونات والحمير الفارهة وفي حجورهم تعابي الثياب والبقج المزركشة بالذهب والفضة وكذلك الخدم الذين يحملون الخوانات وطبالي الأطبخة والأطعمة وعليها الأغطية الحرير والوشي الملون وهم يتغنون برفع أصواتهم ويتجاوبون بكلام وسخريات ولعن للنصارى(2/319)
البلدية والفرنسيس بمرآى منهم ومسمع إلى غير ذلك مما يحرك الحفائظ ويوغر الصدور.
ولما استقر الوزير بمدينة بلبيس وذلك في الثاني والعشرين من شهر رمضان استاذن العلماء والتجار والأعيان المصرية مصطفى باشا في التوجه للسلام فاستاذن ثم أذن لهم فذهبوا أيضا إلى سارى عسكر كلهبر وأستاذ نوه فأذن لهم أيضا فذهبوا عند ذلك للسلام عليه فوصلوا إلى نصوح باشا والي مصر وسلموا عليه وباتوا بوطاقه فلما وصلوا إليه واستقر بهم الجلوس سأل عن أسمائهم وكذلك عن التجار وأكابر النصارى ثم خلع عليهم خلعا وانصرفوا من عنده فطافوا على أكابر الدولة بالعرضي وكذلك على الأمراء المصرية ورجعوا إلى مصر ودخلوها وعليهم تلك الخلع وصحبتهم قاضي العسكر وهو لابس قبوط اسود ووصل نصوح باشا والأمراء إلى جهة الخانكاه ثم إلى المطرية.
وفيه حضر درويش باشا والي الصعيد إلى خارج القاهرة جهة الشيخ قمر فمكث أياما ثم توجه إلى قبلي وصحبته نحو المائة نفر وكذلك ذهبت طائفة إلى السويس وإلى دمياط والمنصورة وانبثوا في البلاد ودخلوا مصر شيئا فشيئا.
واستهل شهر شوال سنة 1214.
في سابعه وقعت حادثة بين عسكر الفرنساوية والعثمانية وهي أول الحوادث التي حصلت بينهم وهو أن جماعة من عسكر العثمانية تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنساوية فقتل بينهم شخص فرنساوي ووقعت في الناس زعجة وكرشة وأغلقوا الحوانيت وعمل العثمانية متاريس وتترسوا بها بناحية الجمالية وما والاها واجتمعوا هناك ووقع بينهم مناوشة قتل فيها أشخاص قليلة من الفريقين وكادت تكون فتنة وباتوا ليلتهم عازمين على الحرب فتوسطت بينهم كبراء العسكر في تمهيد ذلك وإزالوا المتاريس وانكف الفريقان وبحث مصطفى باشا عمن اثار الفتنة وهم ستة انفار فقتلهم وأرسلهم إلى سارى عسكر الفرنساوية فلم يطب خاطره(2/320)
بذلك وقال: لا بد من خروج عسكرهم إلى عرضيهم حتى تنقضي الأيام المشروطة وإذا دخل منهم أجد إلى المدينة لا يدخلون إلا بطريقة وبدون سلاح فعند ذلك أمر مصطفى باشا بخروج الداخلين من العساكر ولا يبقى منهم أجد ووقف جماعة من الفرنساوية خارج باب النصر فإذا أراد أجد من العسكر أو من أعيان العثمانية الدخول إلى المدينة فعند وصوله إليهم ينزل عندهم وينزع ما عليه من السلاح ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان إمامه حتى يقضي شغله ويرجع فإذا وصل إلى الفرنساوية الملازمين خارج البلد اعطوه سلاحه فيلبسه ويمضي إلى اصحابه فكان هذا شأنهم.
وفي منتصفه توجه جماعة من أعيان الفرنساوية إلى الأسكندرية بمتاعهم واثقالهم وفيهم قائممقام وديزه سارى عسكر الصعيد وبوسليك رئيس الكتاب ومدير الحدود ونزل جماعة منهم إلى البحر يريدون السفر إلى بلادهم فتعرض لهم الانكليز يريدون معاكستهم فأرسلوا إلى سارى عسكر بمصر وعرفوه الحال فأرسل بذلك إلى الوزير فأجابه بجواب لم يرتضه وأصبح زاحفا إلى سطح الخانكاه وكان ذلك آخر أيام المهلة المتفق عليها في دخول الوزير إلى مصر وخروج الفرنساوية منها فلما رأوا ذلك طلبوا ثمانية أيام اجلة زيادة على أيام المهلة فأجيبوا إلى ذلك ووصل الأمراء المصرية وعرضي نصوح باشا وجملة من العساكر العثمانية إلى ناحية المطرية ونصبوا خيامهم ووطاقهم هناك ثم أن الفرنساوية جعلوا الثمانية أيام المذكورة ظرفا لجمع عساكرهم وطوائفهم من البلاد القبلية والبحرية ونصبوا وطاقهم بساحل البحر متصلا باطراف مصر ممتدا من مصر القديمة إلى شبرا وترددوا إلى نواحي القلاع وهي لم يكن بها أجد وشرعوا واجتهدوا في رد الجبخانة والذخيرة وآلات الحرب والبارود والجلل والمدافع والبنب على العربات ليلا ونهارا والناس يتعجبون من ذلك ومصطفى باشا قائممقام ومن معه يشاهدون ذلك ولا يقولون شيئا والبعض يقول أن الوزير أرسل إليهم وأمرهم برد ذلك كما كان ونحو(2/321)
ذلك من الخرافات التي لا تروج على الفطن ويقال أن الفرنساوية أرسل إليهم بعض أصدقائهم من الانكليز وعرفوهم أن الوزير اتفع مع الانكليز على الاحاطة بالفرنساوية إذا صاروا بظاهر البحر فلما حصل منهم معهم ما سبقت الإشارة إليه تحققوا ذلك وأرسلوا ليوسف باشا بذلك فلم يجبهم بجواب شاف وعجل بالرحيل والقدوم إلى ناحية مصر وقد كان الفرنساوية عندما تراسلوا وترددوا جهة والعرضي تفرسوا في عرضي العثمانيين وعساكرهم وأوضاعهم وتحققوا حالهم وعلموا ضعفهم عن مقاومتهم فلما حصل ما ذكر تأهبوا للمقاومة والمحاربة وردوا آلاتهم إلى القلاع فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من ابقوه وقيدوه بها من عساكرهم واستوثقوا من ذلك خرجوا بأجمعهم إلى ظاهر المدينة جهة قبة النصر وانتشروا في تلك النواحي ولم يبق بداخل المدينة منهم إلا من كان بداخل القلاع وأشخاص ببيت الألفي بالازبكية وبعض بيوت الأزبكية وغلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل.
وفي العشرين منه طلبوا مصطفى باشا وحسن أغا نزله امين فلما حضرا إليهم أرسلوهما للجيزة فلما كان اليوم الثالث والعشرين من شوال ركب سارى عسكر كلهبر قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب وقسم عساكره طوابير فمنهم من توجه إلى عرضي الوزير ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليهم فلم يسعهم إلا الجلاء والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم وركب نصوح باشا ومن كان معه وطلبوا جهة مصر فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من اخوانهم إلى جهة العرضي فلما قاربوه أرسلوا إلى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره وغالب عساكره مفرقون ومنتشرون في البلاد والقرى والنواحي لجمع المال ومقررات الفرض وظلم الفقراء.
وأما أهل مصر فإنهم لما سمعوا صوت المدافع كثر فيهم اللغط والقيل والقال ولم يدركو حقيقة الحال فهاجوا ورمحوا إلى أطارف البلد وقتلوا أشخاصا من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا إلى أصحابهم(2/322)
وذهبت شرذمة من عامة أهل مصر فانتهبت الخشب وبعض ما وجدوه من نحاس وغيره حيث كان عرضي الفرنساويةوخرج السيد عمر أفندي نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي وانضم إليهم اتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر وكذلك حسين أغا شتن أخو أيوب بك الصغير وتبعهم كثير من عامة أهل البلد وتجمعوا على التلول خارج باب النصر وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصي والقليل معه السلاح وكذلك تحزب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات وجعلوا يطوفون بالازقة وأطارف البلد ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقفونها من اختراعاتهم وخرافاتهم وقاموا على ساق وخرج الكثير منهم إلى خارج البلدة على تلك الصورة فلما تضحى النهار حضر بعض الأجناد المصريين ودخلوا مصر وفيهم المجاريح وطفق الناس يسألونهم فلم يخبروهم بشيء لجهلهم أيضا حقيقة الحال ثم لم يزل الحال كذلك إلى أن دخل وقت العصر فوصل جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلدة ولهم صياح وجلبة على الشرح المتقدم وخلفهم إبراهيم بك ثم أخرى وخلفهم سليم أغا ثم أخرى كذلك وخلفهم عثمان كتخدا الدولة ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم وصحبتهم السيد عمر النقيب والسيد أحمد المحروقي وحسن بك الجداوي وعثمان بك المرادي وعثمان بك الأشقر وعثمان بك الشرقاوي وعثمان أغا الخازندار وإبراهيم كتخدا مراد بك المعروف بالسنارى وصحبتهم مماليكهم واتباعهم فدخلوا من باب النصر وباب الفتوح ومروا على الجمالية حتى وصلوا إلى وكالة ذي الفقار فقال نصوح باشا عند ذلك للعامة: اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم فعندما سمعوا منه ذلك القول صاحوا وهاجوا ورفعوا أصواتهم ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشوام وغيرهم فذهبت طائفة إلى حارات النصارى وبيوتهم التي بناحية بين الصورين وباب الشعرية وجهة الموسكي فصاروا يكبسون الدور ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان وينهبون ويأسرون حتى اتصل ذلك بالمسلمين المجاورين لهم فتحزبت(2/323)
النصارى واحترسوا وجمع كل منهم ما قدر عليه من العسكر الفرنساوي والاروام وقد كانوا قبل ذلك محترسين وعندهم الأسلحة والبارود والمقاتلون لظنهم وقوع هذا الأمر فوقع الحرب بين الفريقين وصارت النصارى تقاتل وترمى بالبندق والقرابين من طبقات الدور على المجتمعين بالازقة من العامة والعسكر ويحامون عن أنفسهم والاخرون يرمون من اسفل ويكبسون الدور ويتسورون عليها وبات نصوح باشا وكتخدا الدولة وإبراهيم بك وبعض من صناجق مصر والكشاف والاتباع وطوائف من العسكر بخط الجمالية بوكالة الجمالية بوكالة ذي الفقار فلما أصبح الصباح ارسلوا إلى المطرية وأحضروا منها ثلاثة مدافع فوجدوها مسدودة الفالية فعالجوها حتى فتحوها وقام ناصف باشا وشمر عن ساعديه وشد وسطه ومشى وصحيته الأمراء المصرية على أقدامهم وجروا امامهم الثلاثة مدافع وسحبوها إلى الأزبكية وضربوا منها على بيت الألفي وكان به أشخاص مرابطون من عساكر الفرنساوية فضربوهم أيضا بالمدافع والبنادق واستمر الحرب بين الفريقين إلى آخر النهار فسكن الحرب وباتوا ينادون بالسهر وفي هذا اليوم وضع أهل مصر والعسكر متاريس بالأطراف كلها وبجهة الأزبكية وشرعوا في بناء بعض جهات السور واجتهدوا في تحصين البلد بقدر الطاقة وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس فلما أظلم الليل أطلق الفرنساوية المدافع والبنب على البلد من القلاع ووالوا الضرب بالخصوص على خط الجمالية لكون المعظم مجتمعا بها فلما عاين ذلك الجميع اجمع رأى الكبراء والرؤساء على الخروج من البلد في تلك الليلة لعجزهم عن المقاومة وعدم آلات الحرب عزة الاقوات والقلاع بيد الفرنساوية ومصر لا يمكن محاصرتها لاتساعها وكثرة أهلها وربما مطال الحال فلا يجدون الأقوات لأن غالب قوت أهلها يجلب من قراها في كل يوم وربما امتنع وصول ذلك إذا تجسمت الفتنة فاتفقوا على الخروج بالليل وتسامح الناس بذلك فتجهز المعظم للخروج وغصت خطة الجمالية وما والاها من الاخطاط بإزدحام الناس الذين يريدون الخروج من المدينة(2/324)
وركب بعضهم بعضا وازدحمت تلك النواحي بالحمير والبغال والخيول والهجن المحملة بالاثقال وباتوا على تلك الصورة ووقع للناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والانزعاج والخوف ما لا يوصف وتسامع أهل خان الخليلي من الالداشات وبعض مغاربة الفجامين والغورية ذلك فجاءوا للجمالية وشنعوا على من يريد الخروج وعضدهم طائفة عساكر الينكجرية وعمدوا إلى خيول الأمراء فحبسوها ببيت القاضي والوكائل وأغلقوا باب النصر وبات في تلك الليلة معظم الناس على مساطب الحوانيت وبعض الأعيان في بيوت اصحابهم بالجمالية وفي ازقة الحارات أيضا وكل متهيء للخروج.
فلما حصل ذلك وأصبح يوم السبت فتهيأ كبراء العساكر والعساكر ومعظم أهل مصر ماعدا الضعيف الذي لاقوه له للحرب وذهب المعظم إلى جهة الأزبكية وسكن الكثير في البيوت الخالية والبعض خلف المتاريس وأخذوا عدة مدافع زيادة عن الثلاثة المتقدمة وجدت مدفونة في بعض بيوت الأمراء وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد واحجار استعملوها عوضا عن الجلل للمدافع وصاروا يضربون بها بيت سارى عسكر بالازبكية واستمر عثمان كتخدا بوكالة ذي الفقار بالجمالية وكان كل من قبض على نصراني ويهودي أو فرنساوي اخذه وذهب به إلى الجمالية حيث عثمان كتخدا ويأخذ عليه البقشيش فيحبس البعض حتى يظهر أمره ويقتل البعض ظلما وربما قتل العامة من قتلوه واتوا برأسه لأجل البقشيش وكذلك كل من قطع راسا من رؤوس الفرنساوية يذهب بها أما لنصوح باشا بالازبكية وأما العثمان كتخدا بالجمالية ويأخذوا في مقابلة ذلك الدراهم وبعد أيام اغلقوا باب القرافة وباب البرقية وباقي الأبواب التي في اطراف البلد وزاد الناس في اصطناع المتاريس وفي الاحتراس وجلس عثمان بك الأشقر عند متاريس باب اللوق وناحية المدابغ وعثمان بك طبل عند متاريس المحجر ومحمد بك المبدول عند الشيخ ريحان ومحمد كاشف أيوب وجماعة أيوب(2/325)
بك الكبير والصغير عند الناصرية ومصطفى بك الكبير بقناطر السباع وسليمان كاشف المحمودي عند سوق السلاح وأولاد القرافة والعامة وزعر الحسينية والعطوف عند باب النصر مع طائفة من الينكجرية وباب الحديد وباب القرافة وجماعة خان الخليلي والجمالية عند باب البرقية المعروف الآن بالغريب وبالجملة كل من كان في حارة من اطراف البلد انضم إلى العسكر الذي بجهته بحيث صار جميع أهل مصر والعساكر كلها واقفة باطراف البلد عند الأبواب والمتاريس والاسوار وبعض عساكر من العثمانية وما انضم إليهم من أهل مصر المتسلحين مكثت بالجمالية إذا جاء صارخ من جهة من الجهات بطائفة من هؤلاء وصار جميع أهل مصر أما بالازقة ليلا ونهارا وهو من لا يمكنه القتال وأما بالاطراف وراء المتاريس وهو من عنده اقدام وتمكن من الحرب ولم ينم أجد ببيته سوى الضعيف والجبان والخائف وناصف باشا وإبراهيم بك وجماعاتهم وعسكر من الينكجرية والارنؤد والدلاة وغيرهم جهة الأزبكية ناحية باب الهواء والرحبة الواسعة التي عند جامع ازبك والعتبة الزرقا وانشأ عثمان كتخدا معملا للبارود ببيت قائد اغا بخط الخرنفش وأحضر القندفجية والعربجية والحدادين والسباكين لانشاء مدافع وبنبات واصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت وعمل العجل والعربات والجلل وغير ذلك من المهمات الجزئيه وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الاخشاب وفروع الأشجار والحديد وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك فصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني واهتم لذلك اهتماما زائدا وانفق اموالا جمة وأرسلوا فأحضروا المدافع الكائنة بالمطرية فكانوا كلما ادخلوا مدفعا ادخلوه بجمع عظيم من الاوباش والحرافيش والأطفال ولهم صياح ونباح وتجاوب بكلمات مثل قولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان وغير ذلك وحضر محمد بك الألفي في ثاني يوم وتترس بناحية السويقة(2/326)
التي عند درب عبد الحق وعطفه البيدق وصحبته طوائفه ومماليكه وأشخاص من العثمانية وبذل الهمة وظهرت منه ومن مماليكه شجاعة وكذلك كشافة وخصوصا إسمعيل كاشف المعروف بأبي قطية فإنه لم يزل يحارب ويزحف حتى ملك ناحية رصيف الخشاب وبيت مراد بك الذي اصله بيت حسن بك الأزبكاوي وبيت أحمد اغا شويكار وتترس فيهما وحسن بك الجداوي تترس بناحية الرويعي وربما فارق متراسه في بعض الليالي لنصرة جهة أخرى وحضر أيضا رجل مغربي يقال أنه الذي كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقا والتف عليه طائفة من المغاربة البلدية وجماعة من الحجازية ممن كان قدم صحبة الجيلاني الذي تقدم ذكره وفعل ذلك الرجل المغربي امورا تنكر عليه لأن غالب ما وقع من النهب وقتل من لا يجوز قتله يكون صدوره عنه فكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى فيكبس عليهم ومعه جمع من العوام والعسكر فيقتلون من يجدونه منهم وينهبون الدار ويسحبون النساء ويسلبون ما عليهم من الحلي والثياب ومنهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعا فيما على رأسها وشعرها من الذهب وتتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم واتهم الشيخ خليل البكري بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الاطعمة فهجم عليه طائفة من العسكر مع بعض اوباش العامة ونهبوا داره وسجنوه مع أولاده وحريمه وأحضروه إلى الجمالية وهو ماش على اقدامه ورأسه مكشوفة وحصلت له أهانة بالغة وسمع من العامة كلاما مؤلما وشتما فلما مثلوه بين يدي عثمان كتخدا هالة ذلك وأغتم غما شديدا ووعده بخير وطيب خاطره واخذه سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر مع حريمه إلى داره اكرمهم وكساهم وأقاموا عنده حتى انقضت الحادثة وباشر السيد أحمد المحروقي وباقي التجار ومساتير الناس الكلف والنفقات والمآكل والمشارب وكذلك جميع أهل مصر كل إنسان سمح بنفسه وبجميع ما يملكه وأعان بعضهم بعضا وفعلوا ما في وسعهم وطاقتهم من المعونة(2/327)
وأما الفرنساوية فإنهم تحصنوا بالقلاع المحيطة بالبلد وبيت الألفي وما والاه من البيوت الخاصة بهم وبيوت القبطة المجاورين لهم واستمر الناس بعد دخول الباشا والأمراء ومن معهم من العسكر إلى مصر أياما قليلة وهم يدخلون ويخرجون من باب الفتوح وباب العدوى وأهل الارياف القريبة تأتي بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والتبن والغنم فيبيعونه على أهل مصر ثم يرجعون إلى بلادهم كل ذلك ولم يعلم أجد حقيقة حال الفرنساوية المتوجهين مع كبيرهم للحرب واختلفت الروايات والأخبار وأما الوزير فإنه لما ارتحل بالعرضي تخلف عنه ببلبيس جملة من العسكر وأما عثمان بك حسن وسليم بك أبو دياب ومن معهما فإنهما تقاتلا مع الفرنساوية ثم رجعا إلى بلبيس فحاصروا من بها وكان عثمان بك وسليم بك وعلي باشا الطرابلسي وبعض وجاقلية خرجوا منها وذهبوا إلى ناحية العرضي فحارب الفرنساوية من بلبيس من العسكر ولم يكن لهم بهم طاقة فطلبوا الأمان فأمنوهم وأخذوا سلاحهم واخرجوهم حيث شاؤا فذهبوا اشتاتا في الارياف يتكففون الناس ويأوون إلى المساجد الخربة ومات اكثرهم من العرى والجوع ثم لما لحق عثمان بك ومن معه بالعرضي ناحية الصالحية وتكلموا مع الوزير واوجعوه بالكلام فاعتذر إليهم باعذار ومنها عدم الأستعداد للحرب وتركه معظم الجبخانة والمدافع الكبار بالعريش اتكالا على أمر الصلح الواقع بين الفريقين وظنه غفلة الفرنساوية عما دبره عليهم مع لانكليز فقال له عثمان بك أرسل معنا العساكر وانتظرنا هنا فخاطب العسكر وبذل لهم الرغائب فامتنعوا ولم يمتثل منهم إلا المطيع والمتطوع وهم نحو الألف وعادوا على أثرهم وجمعوا منهم من كان مشتتا ومنتشرا في البلاد ورجعوا يريدون محاربة الفرنساوية فنزلوا بوهدة بالقرب من القرين لكونهم نظروه في قلة من عسكره وعلمهم بقرب من ذكر منهم فضاربوهم بالنبابيت والحجارة وأصيب سرج سارى عسكر بنبوت فانكسر وسقط ترجمانة إلى الأرض وتسامع المسلمون فركبوا لنجدتهم واستصرخ(2/328)
الفرنساوية عساكرهم فلحقوا بهم ووقع الحرب بين الفريقين حتى حال بينهما الليل فانكف الفريقان وانحاز كل فريق ناحية فلما دخل الليل واشتد الظلام احاط العسكر الفرنساوي بعساكر المسلمين فاصبح المسلمون وقد رأوا احاطة العسكر بهم من كل جانب فركبت الخيالة وتبعتهم المشاة واخترقوا تلك الدائرة وسلم منهم من سلم وعطب من عطب ورجعوا على اثرهم إلى الصالحية فعند ذلك ارتحل الوزير ورجع إلى الشام وأما مراد بك فإن بمجرد ما عاين هجوم الفرنسيس على الباش والأمراء بالمطرية وكان هو بناحية الجبل ركب من ساعته هو ومن معه ومروا من سفح الجبل وذهب إلى ناحية دير الطين ينتظر ما يحصل من الأمور وأقام مطمئنا على نفسه واعتزل الفريقين واستمر على صلحه مع الفرنساوية هذا حاصل خبر الشرقيين ولما تحقق الباشا والأمراء الذين انحصروا بمصر ذلك اخفوه بينهم واشاعوا خلافة لئلا تنحل عزائم الناس عن القتال وتضعف نفوسهم واستمر الباشا يظهر كتابة المراسلات وإرسال السعاة في طلب النجدة والمعونة وربما افتعلوا اجوبة فزوروها على الناس فتزوج عليهم وتسرى في غفلتهم ويقولون للناس في كل وقت أن حضرة الصدر الأعظم مجتهد في محاربة الفرنسيس وفي غد أو بعد غد يقوم بالعساكر والجنود بعد قطع العدو وعند حضوره ووصوله يحصل تمام الفتح وتهدم العساكر القلاع وتقلبها على من يبقى من الفرنساوية وبعد ذلك ينظم البلاد ويريح العباد واجتهدوا فيما أنتم فيه وتابعوا المناداة على الناس والعسكر باللسان العربي والتركي بالتحريض والاجتهاد والحرص على لصبر والقتال وملاقاة العدو ونحو ذلك ووصل طائفة من عسكر الفرنساوية ورجعوا من عرضيهم نجدة لاصحابهم الذين بمصر فقويت بهم نفوس الكائنين بمصر ووقفت منهم طائفة خارج باب النصر وخارج باب الحسينية ونهبوا زاوية الدمرداش وما حولها كقبة الغوري والمنيل وحضر نحو خمسمائة من عسكر الارنؤد وهم الذين كان الوزير وجههم إلى القرى لقبض الكلف والفرض فلما قربوا من مصر عارضهم عسكر الفرنساوية الواقفة على التلول(2/329)
الخارجة فحاموا ودافعوا عن أنفسهم وخلصوا منهم ودخلوا إلى مصر وفرح الناس لقدومهم وضجت القلعة بحضورهم واشتدت قواهم واتفقوا أن يقولوا للناس إذا سئلوا: إنهم حاضرون مددا وسيأتي في اثرهم عشرون ألفا وعليهم كبير ونحو ذلك وأما بولاق فإنها قامت على ساق واحد وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم واسلحتهم ورمحوا وصفحوا وأول ما بدؤا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر وعنده حرسية منهم فقلتوا من ادركون منهم ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية وأخذوا ما احبوا منها وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس واستعدوا للحرب والجهاد وقوى في رأسهم العناد واستطالوا على من كان ساكنا ببولاق من نصارى القبط والشوام فأوقعوا بهم بعض النهب وربما قتل منهم أشخاص هذا ما كان من أمر هؤلاء وأما ما كان من أمر سارى عسكر الفرنساوية ومن معه فإنه لما استوثق بهزيمة والوزير وعدم عوده ونجاته بنفسه لم يزل خلفه حتى بعد عن الصالحية فأبقى بها بعضا من عسكر الفرنسيس محافظين وكذلك بالقرين وبليس ورجع إلى مصر وقد بلغت الأخبار بما حصل من دخول ناصف باشا والأمراء وقيام الرعية فلم يزل حتى وصل إلى داره بالازبكية واحاطت العساكر الفرنساوية بالمدينة وبولاق من خارج ومنعوا الداخل من الدخول والخارج من الخروج وذلك بعد ثمانية أيام من ابتداء الحركة وقطعوا الجالب عن البلدين واحاطوا بها احاطة السوار بالمعصم فكانت جماعة من المفوضين لهم المحصورين داخل المدينة كبعض القبطة ونصارى الشوام وغيرهم يهربون إليهم ويتسلقون من الأسوار والحيطان بحريمهم وأولادهم فعند ذلك اشتد الحرب وعظم الكرب وأكثروا من الرمي المتتابع بالمكاحل والمدافع وأكثروا وأوصلوا وقع القنابر والبنبات من اعالي التلول والقلعات خصوصا البنبات الكبار على الدوام والاستمرار آناء الليل واطراف النهار في الغدو والبكور(2/330)
والاسحار وعدمت الاقوات وغلت اسعار المبيعات وعزت المأكوت وفقدت الحبوب والغلات وارتفع وجود الخبز من الأسواق وامتنع الطوافون به على الاطباق وصارت العساكر الذين مع الناس بالبلد يحفظون ما يجدونه بأيدي الناس من المأكل والمشارب وغلا سعر الماء المأخوذ من الأبار أو الأسبلة حتى بلغ سعر القربة نيفا وستين نصفا وأما البحر فلا يكاد يصل إليه أجد وتكفل التجار ومساتير الناس والأعيان بكلف العساكر المقيمين بالمتاريس المجاورة لهم فألزموا الشيخ السادات بكلفة الذين عند قناطر السباع وهم مصطفى بك ومن معه من العساكر وأما أكابر القبط مثل جرجس الجوهري وفلتيوس وملطي فإنهم طلبوا الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وهم في وسطهم وخافوا على نهب دورهم إذا خرجوا فارين فأرسلوا إليهم الأمان فحضروا وقابلوا الباشا والكتخدا والأمراء وأعانوهم بالمال واللوازم وأما يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعدادا كبيرا بالسلاح والعسكر المحاربين وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه هذا والمناداة في كل وقت بالعربي والتركي على الناس بالجهاد والمحافظة على المتاريس وأنهم مصطفى أغا مستحفظان بموالاته للفرنساوية وأنه عنده في بيته جماعة من الفرنسيس فهجمت العساكر على داره بدرب الحجر فوجدوا انفارا قليلة من الفرنسيس فقاتلوا وحاموا عن أنفسهم وقتل منهم البعض وهرب البعض على حمية حتى خلصوا إلى الناصرية وأما الاغا فإنهم قبضوا عليه وأحضروه بين يدي عثمان كتخدا ثم تسلمه الانكشارية وخنقوه ليلا بالوكالة التي عند باب النصر ورموا جيفته على مزبلة خارج البلد واستقر عوضه شاهين كاشف الساكن بالخرنفش فاجتهد وشدد على الناس وكرر المناداة ومنعهم من دخول الدور وكل من وجده داخل داره مقته وضربه فكان الناس يبيتون بالازقة والأسواق حتى الأمراء والأعيان وهلكت البهائم من الجوع لعدم وجود العلف من التين والفول والشعير والدريس(2/331)
بحيث صار ينادي على الحمار أو البغل المعدد الجذى قيمته ثلاثون ريالا وأكثر بمائة نصف فضة أو ريال واحدا وأقل ولا يوجد من يشتريه وفي كل يوم يتضاعف الحال وتعظم الاهوال وزحف المسلمون على جهة رصيف الخشاب وترامى الفريقان بالمدافع والنيران حتى احترق ما بينهم من الدور وكان إسمعيل كاشف الألفي تحصن ببيت أحمد أغا شويكار الذي كان بيته وقد كان الفرنساوية جعلوا به لعما بالبارود المدفون فاشتعل ذلك اللغم ورفع ما فوقه من الأبنية والناس وطاروا في الهواء واحترقوا عن آخرهم وفيهم إسمعيل كاشف المذكور وأنهدم جميع ما هناك من الدور والمباني العظيمة والقصور المطلة على البركة واحترق جميع البيوت التي من عند بين المفارق بقرب جامع عثمان كتخدا إلى رصيف الخشاب والخطة المعروفة بالساكت بأجمعها إلى الرحبة المقابلة لبيت الألفي سكن سارى عسكر الفرنساوية وكذلك خطة الفوالة بأسرها وكذلك خط الروبعي بالسباط العظيمين وما في ضمن ذلك من البيوت إلى حد حارة النصارى وصارت كلها تلالا وخرائب كأنها لم تكن مغني صبابات ولا مواطن أنس ونزاهات وقد جنت عليها أيدي الزمان وطوارق الحدثان حتى تبدلت محاسنها وأفقرت مساكنها وهكذا عقبى سوء ما عملوا فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
وارسلوا إلى مراد بك يطلبونه للحضور أو يرسل الأمراء والأجناد التي عنده فأرسل يعتذر عن الحضور ويقول: إنه محافظ عل الجهة التي هو فيه فأرسلوا إليه بالإرسال والاستكشاف عن أمر الوزير فأرسل يخبر أنه أرسل هجانا إلى الشرق من نحو عشرة أيام وإلى الآن لم يحضر وأن الفرنساوية إذا ظفروا بالعثمانية لا يقتلونهم ولا يضربونهم وأنتم كذلك معهم فأقبلوا نصحي واطلبوا الصلح معهم واخرجوا سالمين فلما بلغهم تلك الرسالة حنق حسن بك الجداوي وعثمان بك الأشقر وغيرهم وسفهوا رأية وقالوا: كيف يصح هذا الأمر وقد دخلنا إلى البلد وملكناها فكيف نخرج منها طائعين ونحو ذلك هذا مما لا يكون أبدا فأشار(2/332)
إبراهيم بك برجوع البرديسي وصحبته عثمان بك الأشقر ليقول الأشقر لمراد بك ما يقوله فلما اجتمع به ورجع لم يرجع على ما كان عليه حال ذهابه وفترت همته وجنح لراي مراد بك واستمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب وشدة البلاء والكرب ووقوع البنبات على الدور والمساكن من القلاع والهدم والحرق وصراخ النساء من البيوت والصغار من الخوف والجزع والهلع مع القحط وفقد المآكل والمشارب وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز ووقوف حال الناس من البيع والشراء وتفليس الناس وعدم وجدان ما ينفقونه أن وجدوا شيئا واستمر ضرب المدافع والقنابر والبنادق والنيران ليلا ونهارا حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة لطيفة من الزمن ومقامهم دائما أبدا بالأزقة والأسواق وكأنما على رؤوس الجميع الطير وأما النساء والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات تحت طباق الأبنية إلى غير ذلك.
وفي اثناء ذلك فرضوا على الناس من أهل الأسواق وغيرهم مائة كيس فردوها على بعض الناس كالسادات والصارى وصار مؤونة غالب الناس الارز ويطبخونه بالعسل وباللبن ويبيعون ذلك في طشوت وأوان بالأسواق وفي كل ساعة تهجم العساكر الفرنساوية على جهة من الجهات ويحاربون الذين بها ويملكون منهم بعض المتاريس فيصيحون على بعضهم بالمناداة يتسامع الناس ويصرخون على بعضهم البعض ويقولون عليكم بالجهة الفلانية الحقوا اخوانكم المسلمين فيرمحون إلى تلك الخطة والمتاريس حتى يجلوهم عنها وينتقلون إلى غيرها فيفعلون كذلك وكان المتحمل لغالب هذه المدافعات حسن بك الجداوي فإنه كان عند ما يبلغه زحف الفرنساوية على جهة من الجهات يبادر هو ومن معه للذهاب لنصرة تلك الجهة ورأى الناس من اقدامه وشجاعته وصبره على مجالدة العدو ليلا ونهارا ما ينبىء عن فضيل نفس وقوة قلب وسمو همة وقل أن وقع حرب في جهة من الجهات إلا وهو مدير رحاها ورئيس كماتها هذا والاغا والوالي يكررون المناداة وكذلك المشايخ والفقهاء والسيد أحمد(2/333)
المحروقي والسيد عمر النقيب يمرون كل وقت ويأمرون الناس بالقتال ويحرضونهم على الجهاد وكذلك بعض العثمانية يطوفون مع اتباع الشرطة وينادون باللغة التركية مثل ذلك وجرىعلى الناس ما لا يسطر في كتاب ولم يكن لاحد في حساب ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلا عن جزئياته منها عدم النوم ليلا ونهارا وعدم الطمأنينة وغلو الاقوات وفقد الكثير منها خصوصا الأدهان وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق ومغالبة الجهلاء على العقلاء وتطاول السفهاء على الرؤساء وتهور العامة ولفط الحرافيش وغير ذلك مما لا يمكن حصره ولم يزل الحال على هذا المنوال إلى نحو عشرة أيام وكل هذا والرسل من قبل الفرنساوية وهم عثمان بك البرديسي تارة ومصطفى كاشف ورستم تارة أخرى والاثنان من اتباع مراد بك يترددون في شأن الصلح وخروج العساكر العثمانية من مصر والتهديد بحرقها وهدمها إذا لم يتم هذا الغرض واستمروا على هذا العناد ثم نصب الفرنساوية في وسط البركة فساطا لطيفا وأقاموا عليه علما وأبطلوا الرمي تلك الليلة وأرسلوا رسولا من قبلهم إلى الباشا والكتخدا والأمراء يطلبون المشايخ يتكلمون معهم في شأن هذا الأمر فأرسلوا الشرقاوي والمهدي والسرسي والفيومي وغيرهم فلما وصلوا إلى سارى عسكر وجلسوا خاطبهم على لسان الترجمان بما حاصله أن سارى عسكر قد أمن أهل مصر أمانا شافيا وأن الباشا والكتخدا ومن معهما من العساكر العثمانية يخرجون من مصر ويلحقون بالعرضي وعلى الفرنساوية القيام بما يحتاجون إليه من المؤونة والذخيرة حتى يصلوا إلى معسكرهم وأما الأجناد المصرية الداخلة معهم فمن أراد منهم المقام بمصر من المماليك والغز الداخلين معهم فليقم وله الأكرام ومن أراد الخروج فليخرج والجرحى من العثملي يجردون من سلاحهم وأن كان يأخذه الكتخدا فليأخذه وعلينا أن نداويهم حتى يبرأوا ومن أقام بعد البرء منهم فعلينا مؤونته ومن أراد الخروج بعد برئه فليخرج وعلى أهل مصر الأمان فإنهم رعيتنا وتوافقوا على ذلك وتراضوا عليه ولما كان(2/334)
الغد وشاع أمر الموادعة واستفيض أمر الصلح على هذا قالوا لهم لأي شيء تفعلون هذا الفعل وهذه المحاربات والوزير ولى مهزوما ورجع هاربا ولا يمكن عوده في هذا الحين إلا أن يكون بعد ستة أشهر فاعتذروا له بأن هذا من فعل ناصف باشا وكتخدا الدولة وإبراهيم بك ومن معهم فإنهم هم الذين اثاروا الفتنة وهيجوا الرعايا ومنوا الناس الأماني الكاذبة والعامة لا عقول لهم فقالوا لهم بعد كلام طويل قولوا لهم يتركون القتال ويخرجون فيلحقون بوزيرهم فإنهم لا طاقة لهم على حربنا ويكونون سببا لهلاك الرعية وحرق البلدين مصر وبولاق فقالوا له نخشى أنهم إذا امتثلوا وجنحوا للموادعة وخرجوا وذهبوا إلى سارى عسكرهم تنتقمون منا ومن الرعايا بعد ذلك فقالو لا نفعل ذلك فإنهم إذا رضوا ومنعوا الحرب اجتمعنا معكم واياهم وعقدنا صلحا ولا نطالبكم بشيء والذي قتل منا في نظير الذي قتل منكم وزودناهم واعطيناهم ما يحتاجون من خيل وجمال وأصبحنا معهم من يوصلهم إلى مأمنهم من عسكرنا ولا نضر أحدا بعد ذلك فلما رجع المشايخ بهذا الكلام وسمعه الانكشارية والناس قاموا عليهم وسبوهم وشتموهم وضربوا الشرقاوي والسرسي ورموا عمائهم وأسمعوهم قبيح الكلام وصاروا يقولون هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس ومرادهم خذرن المسلمين وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس وتكلم السفلة والغوغاء من امثال هذا الفضول وتشدد في ذلك الرجل المغربي الملتف عليه اخلاط العالم ونادى من عند نفسه الصلح منقوض وعليكم بالجهاد ومن تأخر عنه ضرب عنقه وكان السادات ببيت الصارى فتحير واحتال بأن خرج وإمامه شخص ينادى بقوله: الزموا المتاريس ليقي بذلك نفسه من العامة ووافق ذلك اغراض العامة لعدم ادراكهم لعواقب الأمور فألتفوا عليه وتعضد كل بالآخر وأن غرضه هو في دوام الفتنة فإن بها يتوصل لما يريد من النهب والسلب والتصور بصورة الأمارة باجتماع الاوغاد عليه وتكفل الناس له بالمأكل والمشرب هو ومن انضم إليه واشتطاط في المأكل مع فقد الناس لا دون ما يؤكل حتى أنه(2/335)
كان إذا نزل جهة من جهات المدينة لاظهار أنه يريد المعونة أو الحرس فيقدمون له بالطعام فيقول: لا آكل إلا الفراخ ويظهر أنه صائم فيكلف أهل تلك الجهة أنواع المشتقات والتكلفات بتعنته في هذه الشدة بطلب أفحش المأكولات وما هو مفقود ثم هو مع ذلك لا يغني شيئا بل إذا دهم العدو تلك الجهة التي هو فيها فارقها وانتقل لغيرها وهكذا كان ديدنه ثم هو ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك بل كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي فإذا قدر ما قدر تخلص مع حزبه إلى بعض الجهات والتحق بالريف أو غيره وحينئذ يكون كآحاد الناس ويرجع لحالته الأولى وتبطل الهيئة الاجتماعية التي جعلها لجلب الدنيا فخا منصوبا ومخرق بها على سخاف العقول وإخفاء الاحلام وهكذا حال الفتن تكثر فيها الدجاجلة ولو أن نيته ممحضة لخصوص الجهاد لكانت شواهد علانيته اظهر من نار على علم أو اقتحم كغيره ممن سمعنا عنهم من المخلصين في الجهات وفي بيع أنفسهم في مرضاة رب العباد لظا الهيجاء ولم يتعنت على الفقراء ولم يجعل همته في السلب مصروفة وحال سلوكه عند الناس ليست معروفة.
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وبالجملة فكان هذا الرجل سببا في تهدم أغلب المنازل بالازبكية ومن جملةما رميت به مصر من البلاء وكان ممن ينادى به عليه حين اشيع أمر الصلح وتكلم به الأشياخ الصلح منقوض وعليكم بالجهاد ومن تأخر ضرب عنقه وهذا منه افتيات وفضول ودخول فيما لا يعني حيث كان في البلد مثل الباشا والكتخدا والأمراء المصرية فما قدر هذا الاهوج حتى ينقض صلحا أو يبرمه وأي شيء يكون هو حتى ينادي أو ينصب نفسه بدو أن ينصبه أجد لذلك لكنها الفتن يستنسر بها البغات سيما عند هيجان العامة وثوران الرعاع والغوغاء إذ كان ذلك مما يوافق أغراضهم عل أن المشايخ لم يأمروا بشيء ولم يذكروا صلحا ولا غيره إنما بلغوا صورة المجلس الذي طلبوا لأجله لحضرة الكتخدا فبمجرد ذلك قامت عليهم(2/336)
العامة هذا المقام وسبوهم وشتموهم بل وضربوهم وبعضهم رموا بعمامته إلى الأرض واسمعوهم قبيح الكلام وفعلوا معهم ما فعلوا وصاروا يقولون لولا أن الكفرة الملاعين تبين لهم الغلب والعجز ما طلبوا المصالحة والموادعة وأن بارودهم وذخيرتهم فرغت ونحو ذلك من الظنون الفاسدة ولم يردوا عليهم جوابا بل ضربوا بالمدافع والبنادق فأرسلوا أيضا رسلا يسالونهم عن الجواب الذي توجه به المشايخ فأرسل إليهم الباشا والكتخدا يقولان لهم أن العساكر لم يرضوا بذلك ويقولون لا نرجع عن حربهم حتى نظفر بهم أو نموت عن خرنا وليس في قدرتنا قهرهم على الصلح فأرسل الفرنساوية جواب ذلك في ورق يقولون في ضمنها: قد عجبنا من قولكم إن العساكر لم ترض بالصلح وكيف يكون الأمير أميرا على جيش ولا ينفذ أمره فيهم ونحو لك وأرسلوا أيضا رسولا إلى أهل بولاق يطلبونهم للصلح وترك الحرب ويحذرونهم عاقبة ذلك فلم يرضوا وصمموا على العناد فكرروا عليهم المراسلة وهم لا يزدادون إلا مخالفة وشغبا فأرسلوا في خامس مرة فرنساويا يقول أمان أمان سواسوا وبيده ورق من سارى عسكر فأنزلوه من على فرسه وقتلوه وظن كامل أهل مصر أنهم إنما يطلبون صلحهم عن عجز وضعف واشعلوا نيران القتال وجدوا في الحرب من غير انفصال والفرنساوية لم يقصروا كذلك وراسلوا رمي المدافع والقنابر والبندق المتكاثر وحضر الألفي إلى عثمان كتخدا برأي ابتدعه ظن أن فيه الصواب وهو أن يرفعوا على هلالات المنارات أعلاما نهارا ويوقدون عليها القناديل ليلا ليرى ذلك العسكر القادم فيهتدي ويعلمون أن البلد بيد المسلمين وأنهم منصورون وكذلك صنع معهم أهل بولاق وذلك لغلبة ظن الناس أن هناك عسكرا قادمين لنجدتهم.
وظن أهل بولاق أن الباعث على ذلك نصرتهم فصمموا على ذلك للحرب واستمر هذا الحال بين الفريقين إلى يوم الخميس ثاني عشرينه(2/337)
الموافق لعاشر برموده القبطي وسادس نيسان الرومي فغيمت السماء غيما كثيفا وارعدت رعدا مزعجا عنيفا وامطرت مطرا غزيرا وسيلت سيلا كثيرا فسالت المياه في الجهات وتوحلت جميع السكك والطرقات فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال ولطخت الأمراء والعساكر بسراويلهم ومراكيبهم بالطين والفرنساوية هجموا على مصر وبولاق من كل ناحية ولم يبالوا بالأمطار لأنهم في خارج الأفنية وهي لا تتأثر بالمياه كداخل الانية وعندهم الأستعداد والتحفظ والخفة في ملابسهم وما على رؤوسهم وكذلك أسلحتهم وعددهم وصنائعهم بخلاف المسلمين فلما حصل ذلك اغتنموا الفرصة وهجموا على البلدين من كل ناحية وعملوا فتائل مغمسة بالزيت والقطران وكعكات غليظة ملوية على اعناقهم معمولة بالنفط والمياه المصنوعة المقطرة التي تشتعل ويقوى لهبها بالماء وكان معظم كبستهم من ناحية الحديد وكوم أبي الريش وجهة بركة الرطلي وقنطرة الحاجب وجهة الحسينية والرميلة فكانوا يرمون المدافع والبنبات من قلعة جامع الظاهر وقلعة قنطرة الليمون ويهجمون أيضا وإمامهم المدافع وطائفة خلفهم بواردية يقال لهم: السلطات يرمون بالبندق المتتابع وطائفة بأيديهم الفتائل والكعكات المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقائف وضرف الحوانيت وشبابيك الدور ويزحفون على هذه الصورة شيئا فشيئا والمسلمون أيضا بذلوا جهدهم وقاتلوا بشدة همتهم وعزمهم وتحول الاغا وأكثر الناس إلى تلك الجهة وزلزلوا في ذلك اليوم والليلة زلزالا شديدا وهاجت العامة وصرخت النساء والصبيان ونطوا من الحيطان والنيران تأخذ المتوسطين بين الفئتين من كل جهة هذا والأمطار تسح حصة من النهار وكذلك بالليل من ليلة الجمعة وكذلك الرعد والبرق وعثمان بك الأشقر الإبراهيمي وعثمان بك البرديسي المرادى ومصطفى كاشف رستم يذهبون ويجيئون من الفرنسيس إلى المسلمين ومن الفرنسيس إليهم ويسعون في الصلح بين الفريقين(2/338)
ثم إنهم هجموا عل بولاق من ناحية البحر ومن ناحية بوابة أبي العلا بالطريقة المذكورة بعضها وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم وحصروهم من كل جهة وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبلوا بالنهب والسلب وملكوا بولاق وفعلو بأهلها ما يشيب من هوله النواصي وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والازقة واحترقت الأبنية والدور والقصور وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر وكذلك الاطارف وهرب كثير من الناس عند ما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية ثم احاطوا بالبلد ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والاباريز والارز والأدهان والأصناف العطرية وما لاتسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور والذي وجدوه منعكفا في داره أو طبقته ولم يقاتل ولم يجدوا عنده سلاحا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيا وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق واهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم وذلك يوم الجمعة ثالث عشرينه وكان محمد الطويل كاتب الفرنساوية أخذ منهم أمانا لنفسه وأوهم اصحابه أنه يحارب معهم وفي وقت هجوم العساكر انفصل إليهم واختفى البشتيلي فدلوا عليه وقبضوا على وكيله وعلى لرؤساء فحبسوا البشتيلي بالقلعة والباقي ببيت سارى عسكر وضيقوا عليهم حتى منعوهم البول وفي اليوم الثالث اطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة وسلموهم البشتيلي وأمروهم أن يقتلوه بأيديهم لدعواهم أنه هو الذي كان يحرك الفتنة ويمنعهم الصلح وأنه كاتب عثمان كتخدا بمكتوب قال فيه أن الكلب دعانا للصلح فأبينا منه وأرسله مع رجل ليوصله إلى الكتخدا فوقع في يد سارى عسكر كلهبر فحركه ذلك على أخذ بولاق وفعله فيها الذي(2/339)
فعله وقوبل على ذلك بأن اسلم إلى عصبته وأمروا أن يطوفوا به البلد ثم يقتلوه ففعلو ذلك وقتلوه بالنبابيت وألزم أهل بولاق بأن يرتبوا ديوانا لفصل الأحكام وقيدوا فيه تسعة من رؤسائهم ثم بعد مضي يومين الزموا بغرامة مائتي ألف ريال وأما المدينة فلم يزل الحال بها على النسق المتقدم من الحرب والكرب والنهب ولاسلب إلى سادس عشرينه حتى ضاق خناق الناس من استمرار الانزعاج والحريق والسهر وعدم الراحة لحظة من الليل والنهار مع ما هم فيه من عدم القوت حتى هلكت الناس وخصوصا الفقراء والدواب وايذاء عسكر العثمانلي للرعية وخطفهم ما يجدونه معهم حتى تمنوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها والحال كل وقت في الزيادة وأمر المسلمين في ضعف لعدم المير والمدد والفرنساوية بالعكس وفي كل يوم يزحفون إلى قدام والمسلمون إلى وراء فدخلوا من ناحية باب الحديد وناحية كوم أبي الريش وقنطرة الحاجب وتلك النواحي وهم يحرقون بالفتائل والنيران الموقدة ويملكون المتاريس إلى أن وصلوا من ناحية قنطرة الحروبي وناحية باب الحديد إلى قرب باب الشعرية.
وكان شاهين أغا هناك عند المتاريس فأصابته جراحه فقام من مكانه ورجع القهقري فعند رجوعه وقعت الهزيمة ورجع الناس يدوسون بعضهم البعض.
وملك الفرنساوية كوم أبي الريش وصاروا يحاربون من كوم أبي الريش وهم في العلو والمسلمون اسفل منهم وأن المحروقي زور كتابا على لسان الوزير وجاء به رجل يقول أنه اختفى في طريق خفية ونط من السور وأن الوزير يقدم بعد يومين أو ثلاثة وأنه تركه بالصالحية وأن ذلك كذب لا اصل له وأن يكتب جوابا عن فرمان كتبوه على لسان المشايخ والتجار وأرسلوه إلى الوزير في اثناء الواقعة.
هذا والبرديسي ومصطفى كاشف والاشقر يسعون في أمر الصلح إلى(2/340)
أن تموه على كف الحرب وأن الفرنساوية يمهلون العثمانية والأمراء ثلاثة أيام حتى يقضوا اشغالهم ويذهبون حيث أتوا وجعلوا الخليج حدا بين الفريقين لا يتعدى أجد من الفريقين بر الخليج الآخر وابطلوا الحرب واخمدوا النيران وتركوا القتال وأخذ العثمانية والأمراء والعسكر في أهبة الرحيل وقضاء اشغالهم وزودهم الفرنساوية واعطوهم دراهم وجمالا وغير ذلك وكتبوا بعقد الصلح فرمانا مضمونه أنهم يعوقون عندهم عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر ويرسلون ثلاثة انفار من أعيالهم يكونون بصحبة عثمان كتخدا حتى يصل إلى الصالحية وأن يوصلهم سارى عسكر داماس بثلثمائة من العسكر خوفا عليهم من العرب وأن من جاء منهم من جهة يرجع إليها ومن أراد الخروج من أهل مصر معكم فليخرج ما عدا عثمان بك الأشقر فإنه إذا رجع الثلاثة مع الفرنساوية يذهب مع البرديسي إلى مراد بك بالصعيد وأرسلوا الثلاثة مع الفرنساوية يذهب مع البرديسي إلى مراد بك بالصعيد وأرسلوا الثلاثة المذكورين إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية وأجلسوهم بمسجد الجمالي صحبة نصوح باشا الخان ومنع نصوح باشا العامة من الهجوم على المسجد وركب المغربي فتوجه إلى الحسينية وطلب محاربة الفرنسيس فحضر أهل الحسينية إلى عثمان كتخدا يستأذنونه في موافقة ذلك المغربي أو منعه فأمر بمنعه وكفهم عن القتال وركب المحروقي عند ذلك ومر بسوق الخشب وقدامه المناداة بأن لا صلح ولزوم المتاريس ثم فتح باب الوكالة وخرج منها عسكر بالعصي فهاجوا في العامة ففرو وسكن الحال.
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة سنة 1214.
فيه خرج العثمانية وعساكره وإبراهيم بك وامراؤه ومماليكه والألفي واجناده ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر وكثيرون من أهل مصر ركبانا ومشاة إلى الصالحية وكذلك حسن بك الجداوي واجناده وأما عثمان بك حسن ومن معه فرجعوا(2/341)
صحبة الوزير فلم يسع إبراهيم بك وحسن بك ترك جماعتهما خلفهما وذهابهم بأنفسهم إلى قبلي بل رجعا بجماعتهما على اثرهما وذاقوا وبال أمرهم وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين وخيبة امل الذاهبين والمتخلفين وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب فكانت مدة الحرب والحصر بما فيها من الثلاثة أيام الهدنة سبعة وثلاثين يوما وقع بها من الحروب والكروب والانزعاج والشتات والهياج وخراب الدور وعظائم الأمور وقتل الرجال ونهب الأموال وتسلط الأشرار وهتك الاحرار وخصوصا ما أوقع الفرنساوية بالناس بعد ذلك مما سيتلى عليك بعضه وخرب في هذه الواقعة عدة جهات من أخطاط مصر الجليلة مثل جهة الأزبكية الشرقية من حد جامع عثمان والفوالة وحارة كتخدا رصيف الخشاب وخطة الساكت إلى بيت سارى عسكر بالقرب من قنطرة الدكة وكذلك جهة باب الهواء إلى حارة النصارى من الجهة القبلية وأما بركة الرطلي وما حولها من الدور والمنتزهات والبساتين فإنها صارت كلها تلالا وخرائب وكيمان أتربة وقد كانت هذه البركة من اجل منتزهات مصر قديما وحديثا وبالقرب منها المقصف المعروف بدهليز الملك والبرنج والجسر وكانت تعرف ببركة الطوابين ثم عرفت ببركة الحاجب منسوبة للامير بكتمر الحاجب من أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون لأنه هو الذي احتفرها واجرى إليها الماء من الخليج الناصري وبنى القنطرة المنسوبة إليه وعمر عليها الدور والمناظر وبنى على الجسر الفاصل بينها وبين الخليج دورا بهية وكان هذا الجسر من أجل المنتزهات وقد خربت منازله في القرن العاشر في واقعة السلطان سليم خان مع الغوري وصار محله بستانا عظيما قطع اشجاره وغالب نخيلة الفرنساوية.
ومما تخرب أيضا حارة المقس من قبل سوق الخشب إلى باب الحديد وجميع مافي ضمن ذلك من الحارات والدور صارت كلها خرائب متهدمة(2/342)
محترقة تسكب عند مشاهدتها العبرات ويتذكر بها ما يتلى في حق الظالمين من الآيات فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أن في ذلك لاية لقوم يعقلون وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} .
وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} .
ودخل الفرنساوية إلى المدينة يسعون وإلى الناس بعين الحقد ينظرون واستولوا على ما كان اصطنعه واعده العثمانية من المدافع والقنابر والبارود وآلات الحرب جميعها وقيل أنهم حاسبوهم على كلفته ومصاريفه وقبضوا ذلك من الفرنساوية.
وركب المشايخ والأعيان عصر ذلك اليوم وذهبوا إلى كبير الفرنسيس فلما وصلوا إلى داره ودخلوا عليه وجلسوا ساعة ابرز إليهم ورقة مكتوب فيها النصرة لله الذي يريد أن المنصور يعمل بالشفقة والرحمة مع الناس وبناء على ذلك سارى عسكر العام يريد أن ينعم بالعفو العام والخاص على أهل مصر وعلى أهل بر مصر ولو كانوا يخالطون العثملي في الحروب وأنهم يشتغلون بمعايشهم وصنائعهم ثم نبه عليه بحضورهم إلى قبة النصر بكرة تاريخه.
ثم قاموا من عنده وشقوا المدينة وطافوا بالأسواق وبين أيديهم المناداة للرعية بالاطمئنان والأمان فلما أصبح ذلك اليوم ركبت المشايخ والوجاقلية وذهبوا إلى خارج باب النصر وخرج أيضا القلقات والنصارى القبط والشوام وغيرهم فلما تكامل حضور الجميع رتبوا موكبا وسادوا ودخلوا من باب النصر وقدامهم جماعة من القواسة يأمرون الناس بالقيام وبعض فرنساوية راكبين خيلا وبأيديهم سيوف مسلولة ينهرون الناس(2/343)
ويأمرونهم بالوقوف على اقدامهم ومن تباطأ في القيام أهانوه فاستمرت الناس وقوفا من ابتداء سير الموكب إلى انتهائه ثم تلا الطائفة الأمرة للناس بالوقوف جمع كثير من الخيالة الفرنساوية بأيديهم سيوف مسلولة وكلهم لابسون جوخا أحمر وعلى رؤوسهم طراطير من الفراوي على غير هيئة خيالتهم ومشاتهم ثم تتالى بعد هؤلاء طوائف العساكر ببوقاتهم وطبولهم وزمورهم واختلاف اشكالهم واجناسهم وملابسهم من خيالة ورجالة ثم الأعيان والمشايخ والوجاقلية واتباعهم إلى أن قدم سارى عسكر الفرنساوية وخلف ظهره عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر وخلفهم طوائف من خيالة الفرنسيس.
ولما انقضى أمر الموكب نادوا بالزينة فزينت البلد ثلاثة أيام آخرها يوم الثلاثاء مع السهر ووقود القناديل ليلا ثم دعاهم في يوم الأربعاء وعمل لهم سماطا عظيما على طريقة المصرلية.
وقلدوا في ذلك اليوم محمد اغا الطناني اغات مستحفظان وركب ونادى بالأمان واعطواالبكري بيت عثمان كاشف كتخدا الحج وهو بيت البارودي الثاني فسكن به وشرع في تنظيمه وفرشه ولبسوه في ذلك اليوم فروة سمور فقاموا من عنده فرحين مطمئنين مستبشرين.
فلما كان يوم الخميس سابعه ذهب إلى مراد بك بجزيرة الذهب باستدعاء فمد لهم اسمطة عظيمة وانبسط معنم وأفتخر افتخارا زائدا واهدى إلى بعضهم هدايا جليلة وتقادم عظيمة وأعطاه ما كان ارسله درويش باشا معونة للباشا والأمراء من الأغنام وغيرها وكانت نحو الأربعة آلاف رأس وولوه امارة الصعيد من جرجا إلى اسنا ورجع عائدا إلى داره بالازبكية.
فلما كان في صبحها يوم الجمعة ثامنه بكروا بالذهاب إلى بيت سارى عسكر ولبسوا افخر ثيابهم واحسن هيآتهم وطمع كل واحد منهم وظن أن سارى عسكر يقلده في هذا اليوم اجل المناصب أو ربما حصل التغيير(2/344)
والتبديل في أهل الديوان فيكون في الديوان الخصوصي فلما استقر بهم الجلوس في الديوان الخارج اهملوا حصة طويلة لم يؤذن لهم ولم يخاطبهم أجد ثم فتح باب المجلس الداخل وطلبوا إلى الدخول فيه فدخلوا وجلسوا حصة مثل الأولى ثم خرج إليهم سارى عسكر وصحبته الترجمان وجماعة من أعيانهم فوضع له كرسي في وسط المجلس وجلس عليه ووقف الترجمان وأصحابه حواليه واصطف الوجاقلية والحكام من ناحية وأعيان النصارى والتجار من ناحية وعثمان بك الأشقر والبرديسي أيضا حاضران وكلم سارى عسكر الترجمان كلاما طويلا بلغتهم حتى فرغ فالتفت الترجمان إلى الجماعة وشرع يفسر لهم مقالة سارى عسكر ويترجم عنها بالعربي والجماعة يسمعون فكان ملخص ذلك القول أن سارى عسكر يطلب منكم عشرة آلاف ألف إلى آخر العبارة الآتية وأما هذه العبارة فإنه قالها المهدي فقط اننا لما حضرنا إلى بلدكم هذه نظرنا أن أهل العلم هم اعقل الناس والناس بهم يقتدون ولأمرهم يمتثلون ثم انكم اظهرتم لنا المحبة والمودة وصدقنا ظاهر حالكم فاصطفيناكم وميزناكم على غيركم واخترناكم لتدبير الأمور وصلاح الجمهور فرتبنا لكم الديوان وغمرناكم بالإحسان وخفضنا لكم جناح الطاعة وجعلناكم مسموعين القول مقبولين الشفاعة وأوهمتونا أن الرعية لكم ينقادون ولامركم ونهيكم يرجعون فلما حضر العثملي فرحتم لقدومهم وقمتم لنصرتهم وثبت عند ذلك نفاقكم لنا فقالوا له نحن ما قمنا مع العثملي إلا عن أمركم لانكم عرفتمونا اننا صرنا في حكم العثملي من ثاني شهر رمضان وأن البلاد والأموال صارت له وخصوصا وهو سلطاننا القديم وسلطان المسلمين وما شعرنا إلا بحدوث هذا الحادث بينكم وبينهم على حين غفلة ووجدنا أنفسنا في وسطهم فلم يمكننا التخلف عنهم فرد عليهم الترجمان ذلك الجواب ثم أجابهم بقوله ولاي شيء لم تمنعوا الرعية عما فعلوه من قيامهم ومحاربتهم بنا فقالو لا يمكننا ذلك خصوصا(2/345)
وقد تقووا علينا بغيرنا وسمعتم ما فعلوه معنا من ضربنا وبهدلتنا عندما أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال فقال لهم وإذا كان الأمر كما ذكرتم ولا يخرج من يدكم تسكين الفتنة ولا غير ذلك فما فائدة رياستكم وايش يكون نفعكم إلا الضرر لأنكم إذا حضر اخصامنا قمتم معهم وكنتم وإياهم علينا وإذا ذهبوا رجعتم إلينا معتذرين فكان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق من قتلكم عن آخركم وحرق بلدكم وسبي حريمكم وأولادكم ولكن حيث أننا أعطيناكم الأمان فلا تنقض اماننا ولا نقتلكم وإنما نأخذ منكم الأموال فالمطلوب منكم عشرة آلاف ألف فرنك عن كل فرنك ثماينة وعشرون فضة يكون فيها ألف ألف فرانسة عنها خمس عشرة خزنة رومي بثلاث عشرة خزنة مصري منها خمسمائة ألف فرانسة على مائتين على الشيخ السادات خاصة من ذلك خمسمائة وخمسة وثلاثون الفا والشيخ محمد بن الجوهري خمسون ألفا وأخيه الشيخ فتوح خمسون الفا والشيخ مصطفى الصاوي خمسون ألفا والشيخ العناني مائتان وخمسون الفا تقتطعها من ذلك نظير نهب دور الفارين مع العثملي مثل المحروقي والسيد عمر مكرم وحسين أغا شتن وما بقى تدبرون رايكم فيه وتوزعونه على أهل البلد وتتركون عندنا منكم خمسة عشر شخصا انظروا من يكون فيكم رهينة عندنا حتى تغلقوا ذلك المبلغ وقام من فوره ودخل مع اصحابه إلى داخل وأغلق بينه وبينهم الباب.
ووقف الحرس على الباب الآخر يمنعون من يخرج من الجالسين فبهت الجماعة وامتقعت وجوههم ونظروا إلى بعضهم البعض وتحيرت أفكارهم ولم يخرج عن هذا الأمر إلا البكري والمهدي لكون البكري حصل له ما حصل في صحائفهم والمهدي حرق بيته بمرأى منهم وكان قبل ذلك نقل جميع ما فيه بداره بالخرنفش ولم يترك به إلا بعض الحصر ولم يكن به غير بعض الخدم وكان يستعمل المداهنة وينافق الطرفين بصناعته وعادته ولم تزل الجماعة في حيرتهم وسكرتهم وتمنى كل منهم أنه لم(2/346)
يكن شيئا مذكورا ولم يزالوا على ذلك الحال إلى قرب العصر حتى بال اكثرهم على ثيابه وبعضهم شرشر ببوله من شباك المكان وصاروا يدخلون على نصارى القبط ويقعون في عرضهم فالذي انحشر فيهم ولم يكن معدودا من الرؤساء أخرجوه بحجة أو سبب وبعضهم ترك مداسه وخرج حافيا وما صدق بخلاص نفسه.
هذا والنصارى والمهدي يتشاورون في تقسيم ذلك وتوزيعه وتدبيره وترتيبه في قوائم حتى وزعوها على الملتزمين وأصحاب الحرف حتى على الحواة والقردتية والمخمظين والتجار وأهل الغورية وخان الخليلي والصاغة والنحاسين والدلالين والقبانية وقضاة المحاكم وغيرهم كل طائفة مبلغ له صورة مثل ثلاثين ألف فرانسا واربعين ألفا وكذلك بياعون التنباك والدخان والصابون والخردجية والعطارون والزياتون والشواؤن والجزارون والمزينون وجميع الصنائع والحرف وعملوا على اجرة الأملاك والعقار والدور اجرة سنة كاملة ثم أنهم أستاذ نوا للمشايخ الخالص يتوجه حيث أراد والمشبوك يلزمون به جماعة من العسكر حتى يغلق المطلوب منه فأما الصاوي وفتوح بن الجوهري فحبسوهما ببيت قائممقام والعناني هرب فلم يجدوه وداره احترقت فأضافوا غرامته على غرامة الشيخ السادات كملت بها مائة وخمسون ألف فراسنة وانفض المجلس على ذلك وركب سارى عسكر من يومه ذلك وذهب إلى الجيزة ووكل يعقوب القبطي يفعل في المسلمين ما يشاء وقائممقام والخازندار لرد الجوابات وقبض ما يتحصل وتدبير الأمور والرهونات ونزل الشيخ السادات وركب إلى داره فذهب معه عشرة من العسكر وجلسوا على باب داره فلما مضت حصة من الليل حضر إليه مقدار عشرة من العسكر أيضا فأركبوه وطلعوا به إلى القلعة وحبسوه في مكان فأرسل إلى عثمان بك البرديسي وتداخل عليه فشفع فيه فقالوا له أما القتل فلا نقتله لشفاعتك وأما المال فلا بد من دفعه ولا بد من حبسه وعقوبته حتى يدفعه وقبضوا على فراشه ومقدمه(2/347)
وحبسوهما ثم انزلوه إلى بيت قائممقام فمكث به يومين ثم اصعدوه إلى القلعة ثانيا وحبسوه في حاصل ينام على التراب ويتوسد بحجر وضربوه تلك الليلة فأقام كذلك يومين ثم طلب زين الفقار كتخدا فطلع إليه هو وبرطلمان فقال لهم انزلوني إلى داري حتى اسعى وابيع متاعي واشهل حالي فأستاذ نوا له وانزلوه إلى داره فأحضر ما وجده من الدراهم فكانت تسعة آلاف ريال معاملة عنها ستة آلاف ريال فرانسة ثم قوموا ما وجدوه من المصاغ والفضيات والفراوي والملابس وغير ذلك بأبخس الثمن فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة فبلغ المدفوع بالنقدية والمقومات أحدا وعشرين ألف فرانسة والمحافظون عليه من العسكر ملازمونه ولا يتركونه يطلع إلى حريمه ولا إلى غيره وكان وزع حريمه وابنه إلى مكان آخر وبعد أن فرغوا من الموجودات جاسوا خلال الدار يفتشون ويحفرون الأرض على الخبايا حتى فتحوا الكنيفات ونزلوا فيها فلم يجدوا شيئا ثم نقلوه إلى بيت قائممقام ماشيا وصاروا يضربونه خمسة عشر عصا في الصباح ومثلها في الليل وطلبوا زوجته وابنه فلم يجدوهما فأحضروا محمد السندوبي تابعه وقرروه حتى عاين الموت حتى عرفهم بمكانهما فاحضروهما واودعوا ابنه عند اغات الانكشارية وحبسوا زوجته معه فكانوا يضربونه بحضرتها وهي تبكي وتصيح وذلك زيادة في الانكاء ثم أن المشايخ وهم الشرقاوي والفيومي والمهدي والشيخ محمد الأمير وزين الفقار كتخدا تشفعوا في نقلها من عنده فنقلوها إلى بيت الفيومي وبقي الشيخ على حاله وأخذوا مقدمه وفراشه وحبسوهما وتغيب أكثر اتباعه واختفوا ثم وقعت المراجعة والشفاعة في غرامة الشيخ فتوح الجوهري والصاوي فاضعفوها وجعلوها على كل واحد منها خمسة عشر ألف فرانسة ورد الباقي على القردة العامة.
واما الشيخ محمد ابن الجوهري فإنه اختفى فلم يجدوه فنهبوا داره ودار نسيبه المعروف بالشويخ ثم إنه توسل بالست نفيسة زوجة مراد بك(2/348)
فأرسلت إلى مراد بك وهو بالقرب من الفشن فأرسل من عنده كاشفا وتشفع فيه فقبلوا شفاعته ورفعوها عنه وردوها أيضا على الفردة العامة ثم إنهم وكلوا بالفردة العامة وجميع المال يعقوب القبطي وتكفل بذلك وعمل الديوان لذلك ببيت البارودي والزموا الاغا بعدة طوائف كتبوها في قائمة بأسماء أربابها واعطوه عسكرا وأمره بتحصيلها من أربابها وكذلك علي اغا الوالي الشعراوي وحسن اغا المحتسب وعلي كتخدا سليمان بك فنهبوا على الناس بذلك وبثوا الأعوان بطلب الناس وحبسهم وضربهم فدهى الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها.
ومضى عيد النحر ولم يلتفت إليه أجد بل ولم يشعروا به ونزل بهم من البلاء والذل ما لا يوصف فإن أجد الناس غنيا كان أو فقيرا لا بد وأن يكون من ذوي الصنائع أو الحرف فيلزمه دفع ما وزع عليه في حرفته أو في حرفتين وأجرة داره أيضا سنة كاملة فكان يأتي على الشخص غرامتان أو ثلاثة ونحو ذلك وفرغت الدراهم من عند الناس واحتاج كل إلى القرض فلم يجد الدائن من يدينه لشغل كل فرد بشأنه ومصيبته فلزمهم بيع المتاع فلم يوجد من يشتري وإذا أعطوهم ذلك لا يقبلونه فضاق خناق الناس وتمنوا الموت فلم يجدوه ثم وقع الترجي في قبول المصاغات والفضيات فأحضر الناس ما عندهم فيقوم بأبخس الاثمان وأما اثاثات البيوت من فرش ونحاس وملبوس فلا يوجد من يأخذه وأمروا بجمع البغال ومنعوا المسلمين من ركوبها مطلقا سوى خمسة انفار من المسلمين وهم الشرقاوي والمهدي والفيومي والأمير وابن محرم والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم وفي كل وقت وحين يشتد الطلب وتنبث المعينون والعسكر في طلب الناس وهجم الدور وجرجرة الناس حتى النساء من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم والذي لم يجدوه لكونه فر وهرب يقبضون على قريبة أو حريمه أو ينهبون داره فإن لم يجدوا شيئا(2/349)
ردوا غرامته على ابناء جنسه واهل حرفته.
وتطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب ونالوا منهم اغراضهم واظهروا حقدهم ولم يبقوا للصلح مكانا وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين هذا والكتبة والمهندسون والبناؤن يطوفون ويحررون أجر الأماكن والعقارات والوكائل والحمامات ويكتبون أسماء أربابها وقيمتها.
وخرجت الناس من المدينة وجلوا عنها وهربوا إلى القرى والارياف وكان ممن خرج من مصر صاحبنا النبيه العلامة الشيخ حسن المشار إليه فيما تقدم فتوجه لجهة الصعيد وأقام باسيوط فأقام بها نحو ثمانية عشر شهرا.
ثم أن أكثر الفارين رجع إلى مصر لضيق القرى وعدم ما يتعيشون به فيها وانزعاج الريف بقطاع الطريق والعرب والمناسر بالليل والنهار والقتل فيما بينهم وتعدى القوى على الضعيف واستمرت الطرق محفرة والأسواق معفرة والحوانيت مقفولة والعقول مخبولة والنفوس مطبوقة والغرامات نازلة والارزاق عاطلة والمطالب عظيمة والمصائب عميمة والعكوسات مقصودة والشفاعات مردودة وإذا أراد الإنسان أن يفر إلى ابعد مكان وينجو بنفسه ويرضى بغير أبناء جنسه لا يجد طريقا للذهاب وخصوصا من الملاعين الأعراب الذين هم أقبح الاجناس وأعظم بلاء محيط بالناس وبالجملة فالأمر عظيم والخطب جسيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن اخذه أليم شديد.
وفي عشرينه انتقلوا بديوان الفردة من بيت البارودي إلى بيت القيسرلي بالميدان ووقع التشديد في الطلب والانتقام بأدنى سبب وانقضى هذا العام وما جرى فيه من الحوادث العظام بأقليم مصر والشام والروم والبيت الحرام.
فمنها وهو أعظمها تعطيل الثغور ومنع المسافرين برا وبحرا ووقوف(2/350)
الانكليز بثغر الأسكندرية ودمياط يمنعون الصادر والوارد وتخطوا أيضا بمراكبهم إلى بحر القلزم.
ومنها انقطاع الحج المصري في هذا العام أيضا حتى لم يرجع المحمل بل كان مودوعا بالقدس فلما حضر العساكر الإسلامية أحضروه صحبتهم إلى بلبيس.
فيقال: أن السيد بذرا ورجع به إلى جبل الخليل.
ومنها: وقوف العرب وقطاع الطريق بجميع الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والدقهلية وسائر النواحي فمنعوا السبيل ولو بالخفارة وقطعوا طريق السفار ونهبوا المارين من ابناء السبيل والتجار وتسلطوا على القرى والفلاحين وأهالي البلاد والحرف بالعري والخطف للمتاع والمواشي من البقر والغنم والجمال والحمير وافساد المزارع ورعيها حتى كان أهل البلاد لا يمكنهم الخروج ببهائمهم إلى خارج القرية للرعي أو للسقي لترصد العرب لذلك ووثب أهل القرى على بعضهم بالعرب فداخلوهم وتطاولوا عليهم وضربوا عليهم الضرائب وتلبسوا بأنواع الشرور واستعان بعضهم على بعض وقوى القوى على الضعيف وطمعت العرب في أهل البلاد وطلبوهم بالثارات والعوائد القديمة الكاذبة وأن وقت الحصاد فاضطروا لمسالمتهم لقلة الضم فلما انقضت حروب الفرنسيس نزلوا إلى البلاد واحتجوا عليهم بمصادقتهم العرب فضربوهم ونهبوهم وسبوهم وطالبوهم بالمغارم والكلف الشاقة فإذا انقضوا وانتقلوا عنهم رجعت العرب على اثرهم وهكذا كان حالهم وما أن ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون.
ومنها أن النيل قصر مدة في هذه السنة فشرقت البلاد وارتحل أهل البحيرة إلى المنوفية والغربية فاستحسن رحيل عربان البحيرة لأنه بقي لهم في الحي نخيل.
ومنها: أنه لما حضرت العثمانية وشاع أمر الصلح وخضوع الفرنساوية(2/351)
لهم نزل طائفة من الفرنسيس الىالموفية وطلبوا من أهلها كلفة لرحيلهم فلما مروا بالمحلة الكبيرة تعصب أهلها واجتمعوا إلى قاضيها وخرجوا لحربهم فاكمن الفرنسيس لهم وضربوا عليهم طلقا بالمدافع والبنادق فقتلوا منهم نيفا وستمائة إنسان ومنهم القاضي وغيره ولم ينج منهم إلا من فر وكان طويل العمر وكذلك أهل طنتداء عند حضورهم إليهم وصل إليهم رجل من الجزارين المنتسبين للعثمانية من جهة الشرق لزيارة سيدي أحمد البدوي وهو راكب على فرس وحوله نحو الخمسة انفار وكان بعض الفرنسيس بداخل البلدة يقضون بعض اشغالهم فصاحت السوقة والبياعون عند رؤية ذلك الرجل بقولهم نصر الله دين الإسلام وهاجوا وماجوا ولقلقت النساء بألسنتهن وصاحت الصبيان وسخروا بالفرنسيس وتراموا بما على رؤوسهم وضربوهم وجرحوهم وطردوهم فتسحبوا من عندهم فغابوا ثلاثة أيام ورجعوا بجميع عسكرهم ومعهم الآلات من المدافع فاحتاطوا بالبلدة وضربوا عليهم مدفعا ارتحوا له ثم هجموا عليهم ودخلوا إليهم وبايديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبلهم وطلبوا خدمة الضريح الذين يقال لهم أولاد الخادم وهم ملتزموا البلدة وأكابرها ومتهمون بكثرة الأموال من قديم الزمان وكانوا قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر قبضوا عليهم باغراء القبط وأخذوا منهم خمسة عشر ألف ريال فرانسة بحجة مسالمتهم للعرب فلما وصلوا إلى دورهم طلبوهم فلم يمكنهم التغيب خوفا على نهب الدور وغير ذلك فظهروا لهم فأخذوهم إلى خارج البلد وقيدوهم وأقاموا نحو خمسة أيام خارجها يأخذون في كل يوم ستمائة ريال سوى الأغنام والكلف ثم ارتحلوا وأخذوا المذكورين صحبتهم إلى منوف وحبسوهم أياما ثم نقلوهم إلى الجيزة أيام الحرابة بمصر.
فلما انقضت تلك الأيام وسرحوا في البلاد نزلت طائفة إلى طنتداء وهم بصحبتهم وقرروا عليهم أحدا وخمسين ألف ريال فرانسة وعلى أهل(2/352)
البلدة كذلك بل أزيد وأقاموا حول البلد محافظين عليهم واطلقوا بعضهم وحجزوا المسمى بمصطفى الخادم لأنه صاحب الأكثر في الوظيفة والالتزام وطالبوه بالمال وفي كل وقت ينوعون عليه العقاب والعذاب والضرب حتى على كفوف يديه ورجليه ويربطونه في الشمس في قوة الحر والوقت مصيف وهو رجل جسيم كبير الكرش فخرجت له نفاخات في جسده ثم أخذوا خليفة المقام أيضا وذهبوا به إلى منوف ثم ردوه وولوه رئاسة جمع الدراهم المطلوبة من البلد فوزعت على الدور والحوانيت والمعاصر وغير ذلك واستمروا على ذلك إلى انقضاء العام حتى أخذوا عساكر المقام وكانت من ذهب خالص زنتها نحو خمسة آلاف مثقال وأما المحلة الكبرى فإنهم رجعوا عليها وقرروا عليها نيفا ومائة ألف ريال فرانسة وأخذوا في تحصيلها وتوزيعها وهجموا دورها وتتبع المياسير من أهلها كل ذلك مع استمرار طلب الكلف الشاقة في كل يوم منها ومن طنتدا والتعنت عليهم وتسلط طوائف الكشوفية التابعين لهم الذين هم أقبح في الظلم من الفرنسيس بل ومن العرب فإنهم معظم البلاد أيضا فإنهم هم الذين يعرفون دسائس أهل البلاد ويشيعون احولهم ويتجسسون على عوراتهم ويغرون بهم.
واستمروا على ذلك أيضا ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
ومنها أنه لما وقع الصلح بين العثمانية والفرنساوية أرسل الوزير فرمانات للثغور باطلاق الأسافيل وحضور المراكب والتجار بالبضائع وغيرها إلى ثغر الأسكندرية وصحبتها ثلاثة غلايين سلطانية وسفن مشحونة بالذخيرة لحضرة الوزير ولوازم العسكر العثماني فلما قربوا من الثغر أقاموا البنديرات وضربوا مدافع للشنك فطمعهم الفرنساوية وأظهروا لهم المسالمة وأظهروا لهم بنديرة العثماني فدخلوا إلى المينا ورموا مراسيم ووقعوا في فخ الفرنسيس فأستولوا على الجميع وأخذوا مدافعهم وسلاحهم وحبسوا(2/353)
القبابطين وأعيان التجار وأخذوا الملاحين والمتسببين من البحرية والنصارى الاروام وهم عدة وافرة أعطوهم سلاحا وزيوهم بزيهم واضافوهم إلى عسكرهم وأرسلوهم إلى مصر فكانوا أقبح مذكور في تسلطهم على ايذاء المسلمين ثم اخرجوا شحنة المراكب من بضائع ويميش وحازوه بأجمعه لأنفسهم وبقى الأمر على ذلك وكان ذلك في اواسط شهر القعدة.
ومنها أنه بعد نقض الصلح أرسل الفرنسيس عسكرا إلى متسلم السويس الذي كان تولاها من طرف العثمانية فتعصب معه أهل البندر فحاربوهم فغلبهم الفرنسيس وقتلوهم عن آخرهم ونهبوا البندر وما فيه من البن والبهار بحواصل التجار وغير ذلك.
ومنها أن مراد بك عند توجهه للصعيد بعد انقضاء الصلح أخذ ما جمعه درويس باشا من الصعيد من اغنام وخيول وميرة وكان شيئا كثيرا فتسلم الجميع منه وعدى درويش باشا إلى الجهة الشرقية متوجها إلى الشام وأرسل مراد بك جميع ذلك للفرنساوية بمصر.
ومنها أيضا أنه بعد انقضاء المحاربة واستيلاء الفرنسيس على المخازن والغلال التي كان جمعها العثمانية من البلاد الشرقية وبعض البلا الغربية والقليوبية وكذلك الشعير والاتبان طلب الفرنساوية مثل ذلك من البلاد وقرروا على النواحي غلالا وشعيرا وفولا وتبنا وزادوا خيلا وجمالا فوقع على كل اقليم زيادة عن ألف فرس وألف جمل سوى ما يدفع مصالحة على قبولها للوسائط وهو ونحو ثمنا أو ازيد وكذلك التعنت في نقض الغلال وغربلتها وغير ذلك وكل ذلك بارشاد القبطة وطوائف البلاد لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة وتقاسموا الأقاليم والتزموا لهم بجمع الأموال ونزل كل كبير منهم إلى أقليم وأقام بسر الإقليم مثل الأمير والعساكر والفرنساوية وهو في أبهة عظيمة وصحبته الكتبة والصيارف والاتباع والأجناد من الغز البطالة وغيرهم والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب وتقاد بين يديه الجنائب والبغال(2/354)
والرهونات والخيول المسومة والقواسة والمقدمون وبأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة والاسلحة الكاملة والجمال الحاملة ويرسل إلى ولايات الإقليم من جهته المستوفين من القبط أيضا بمنزلة الكشاف ومعهم العسكر من الفرنساوية والطوائف الجاويشية والصارفين والمقدمين على الشرح المذكور فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف ويؤجلونهم بالساعات فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسبي وخصوصا إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم والا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلم وركبهم وسحبوهم معهم في الحبال وأذاقوهم أنواع النكال وخاف من بقي فصانعوهم واتباعهم بالبراطيل والرشوات وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراطل من المنافقين وتقربوا إليهم بما يستميلون قلوبهم به وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم وأجهدوا أنفسهم في التشفي من بعضهم وما يوجب الحقد والتحاسد الكامن في قلوبهم إلى غير ذلك مما يتعذر ضبطه وما كنا مهلكي القرى إلا واهلها ظالمون.
من مات في هذه السنة.
ممن له ذكر مات الإمام الفاضل الصالح العلامة الشيخ عبد العليم ابن محمد بن محمد بن عثمان المالكي الأزهري الضرير حضر دروس الشيخ علي الصعيدي رواية ودراية فسمع عليه جملة من الصحيح والموطأ والشمائل والجامع الصغير ومسلسلات بن عقيلة وروى عن كل من الملوى والجوهري والبلدي والسقاط والمنير والدردير والتاودي بن سودة حين حج ودرس وأفاد وكل من البكائين عند ذكر الله سريع الدمعة كثير الخشية وكان يعرف أشياء في الرقي والخواص وفوائد القرينة وام الصبيان ثم ترك ذلك لرؤيا منامية رآها واخبرني بها توفي في هذه السنة ودفن ببستان المجاورين(2/355)
ومات العمدة الفاضل والنبيه الكامل صاحبنا العلامة الوجيه الشيخ شامل أحمد بن رمضان بن مسعود الطرابلسي المقرى الأزهري حضر من بلده طرابلس الغرب إلى مصر في سنة احدى وتسعين وجاور بالأزهر وكان فيه استعداد وحضر دروس الشيخ أحمد الدردير والبيلي والشيخ أبي الحسن الغلقي وسمع على شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالاولية وغير المسلسل أيضا وأخذ منه الإجازة في سنة اثنتين وتسعين ولما مات الخواجا حسن البناني من تجار المغاربة فتوصل إلى أن تزوج بزوجته بنت الغرياني وسكن بدارها الواسعة بالكعكبين وتجمل بالملابس وتودد للناس بحسن المعاشرة ومكارم الاخلاق وكان سموح النفس جدا دمت الطباع والأخلاق جميل العشرة ولما عزل السيد عبد الرحمن السفاقسي الضرير من مشيخة رواقهم كان المترجم هو المتعين لذلك دون غيره فتولى مشيخة الرواق بشهامة وكرم ونوه بذكره وزادت شهرته وكان وجيها طويل القامة بهى الطلعة بشوشا ولما حصلت واقعة الفرنسيس خرج تلك الليلة مع الفارين وذهب إلى بيت المقدس وتوفي هناك في هذه السنة.
ومات السيد الافضل والسند الأكمل المقرى بن المقرى والفهامة الذي بكل فن على التحقيق يدري بدر أضاء في سماء العرفان وعارف وضح دقائق المشكلات باتقان فلله دره من فاضل أبرز درر اللطائف من كنوزها وكشف عن مخدرات الفهوم لثامها فأظهر الأنفس من نفيسها والأعز من عزيزها فلا غرو فإنه بذلك حقيق كيف لا وما ذكر من بعض صفاته التي به تليق العلامة الشريف الحسن بن علي البدري العوضي ربي في حجر ابيه وحفظ القرآن والمتون وأخذ عن أبيه علم القراءات واتقن القراءات الأربعة عشر بعد أن أتقن العربية والفقه وباقي العلوم وحضر أشياخ الوقت وتمهر وأنجب وقرأ الدروس ونظم الشعر الجيد وشهد له الفضلاء وله ديوان مشهور بأيدي الناس وامتدح الأعيان وبينه بين الصلاحي وقاسم ابن عطاء الله مطارحات ذكرنا منها طرفا في ترجمتهما وله أيضا تآليف(2/356)
وتقييدات وتحقيقات ورسائل في فنون شتى ورسالة بليغة في قوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} وكان الباعث له على تأليفها مناقشة حصلت بينه وبين الشيخ أحمد يونس الخليفي في تفسير الآية بمجلس علي بك الدفتردار فظهر بها على الشيخ المذكور واجاره الأمير المذكور بأن رتب له تدريسا بالمشهد الحسيني ورتب له معلوما بوقته وقدره كل يوم عشرة انصاف فضة يستغلها من جانب الوقف في كل شهر واستمر بقبضها حتى مات في شعبان من هذه السنة رحمه الله ولم يخلف بعده مثله في الفضائل والمعارف.(2/357)
ثم دخلت سنة خمس عشر ومائتين وألف.
كان ابتداء المحرم يوم الأحد في خامسه اصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة وكان أرسل إلى كبار القبط بأن يسعوا في قضيته ورهن حصصه ويغلق الذي عليه فردوا عليه بأنه لا بد من تشهيل قدر نصف الباقي أولا ولا يمكن غير ذلك وأما الحصص فليست في تصرفه ولما تكرر إرساله للنصارى وغيرهم نقلوهم إلى القلعة ومنعوه الاجتماع بالناس وهي المرة الثالثة.
وفيه اشيع حضور مراكب وغلايين من ناحية الروم إلى ثغر سكندرية وسافر سارى عسكر كلهبر وصحبته العساكر الفرنساوية فغاب أياما ثم عاد إلى مصر ولم يظهر لهذا الخبر اثر.
وفيه طلبوا عسكر من القبط فجمعوا منهم طائفة وزيوهم بزيهم وقيدوا بهم من يعلمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك وأرسلوا إلى الصعيد فجمعوا من شبانهم نحو الألفين وأحضروهم إلى مصر واضافوهم إلى العسكر.
وفي حادي عشرينه اعادوا الشيخ أحمد العريشي إلى القضاء كما كان وعملوا له موكبا وركب معه أعيان الفرنسيس وسوارى عساكرهم بطبولهم وزمورهم والمشايخ والتجار والأعيان وبجانبه قائممقام عبد الله(2/357)
منو الذي كان سارى عسكر برشيد فلم يزالوا معه حتى اوصلوه إلى المحكمة الكبرى بعد أن شقوا به المدينة.
وفي ذلك اليوم اعني يوم السبت وقعت نادرة عجيبة وهو أن سارى عسكر كلهبر كان مع كبير المهندسين يسيران بداخل البستان الذي بداره بالازبكية فدخل عليه شخص حلبي وقصده فاشار إليه بالرجوع وقال له ما فيش وكررها فلم يرجع وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في قضائها فلما دنا منه مد إليه يده اليسار كأنه يريد تقبيل يده فمد إليه الآخر يده فقبض عليه وضربه بخنجر كان اعده في يده اليمنى أربع ضربات متوالية فشق بطنه وسقط إلى الأرض صارخا فصاح رفيقه المهندس فذهب إليه وضربه أيضا ضربات وهرب فسمع العسكر الذين خارج الباب صرخة المهندس فدخلوا مسرعين فوجدوا كلهبر مطروحا وبه بعض الرمق ولم يجدوا القاتل فانزعجوا وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين وجروا من كل ناحية يفتشون على القاتل واجتمع رؤساؤهم وأرسلوا العساكر إلى الحصون والقلاع وظنوا أنها من فعل أهل مصر فاحتاطوا بالبلد وعمروا المدافع وحرروا القنابر وقالوا: لا بد من قتل أهل مصر عن آخرهم ووقعت هوجة عظيمة في الناس وكرشة وشدة انزعاج وأكثرهم لا يدري حقيقة الحال ولم يزالوا يفتشون على ذلك القاتل حتى وجدوه منزويا في البستان المجاور لبيت سارى عسكر لمعروف بغيط مصباح بجانب حائط منهدم فقبضوا عليه فوجدوه شاميا فاحضروه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده فوجدوه حلبيا واسمه سليمان فسألوه عن محل ماواه فأخبرهم أنه يأوي ويبيت بالجامع الأزهر فسألوه عن معارفه ورفقائه وهل أخبر أجد بفعله وهل شاركه أجد في رأيه واقره عل فعله أو نهاه عن ذلك وكم له بمصر من الأيام أو الشهور وعن صنعته وملته وعاقبوه حتى أخبرهم بحقيقة الحال فعند ذلك علموا ببراءة أهل مصر من ذلك وتركوا ما كانوا عزموا عليه من محاربة أهل البلد وقد كانوا ارسلوا أشخاصا من ثقاتهم تفرقوا في الجهات(2/358)
والنواحي يتفرسون في الناس فلم يجدوا فيهم قرائن دالة على علمهم بذلك ورأوهم يسألون من الفرنسيس عن الخبر فتحققوا من ذلك برائتهم من ذلك ثم أنهم أمروا باحضار الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ أحمد العريشي القاضي وأعلموهم بذلك وعوقوهم إلى نصف الليل والزموهم بأحضار الجماعة الذين ذكرهم القاتل وأنه أخبرهم بفعله فركبوا وصحبتهم الاغا وحضروا إلى الجامع الأزهر وطلبوا الجماعة فوجدوا ثلاثة منهم ولم يجدوا الرابع فأخذهم الاغا وحبسهم ببيت قائممقام بالازبكية ثم أنهم رتبوا صورة محاكمة على طريقتهم في دعاوى القصاص وحكموا بقتل الثلاثة أنفار المذكورين مع القاتل وأطلقوا مصطفى أفندي البوصلي لكونه لم يخبره بعزمه وقصده فقتلوا الثلاثة المذكورين لكونه أخبرهم بأنه عازم على قصده صبح تاريخه ولم يخبروا عنه الفرنسيس فكأنهم شاركوه في الفعل وانقضت الحكومة على ذلك وألقوا في شأن ذلك أرواقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة ثم رايت كثيرا من الناس تتشوق نفسه إلى الاطلاع عليها لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة ولما فيها من الأعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسو بهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الاقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم سارى عسكرهم وأميرهم بل رتبوا حكومة ومحاكمة وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجمعين ثم نفذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم وأطلقوا مصطفى أفندي البوصلي الخطاط حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص كما يفهم جميع ذلك من فحوى المسطور بخلاف ما رأيناه(2/359)
بعد ذلك من افعال اوباش العساكر الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية مما سيتلى عليك بعضه بعد.
وصورة ترجمة الأوراق المذكورة.
بيان شرح الاطلاع على جسم سارى عسكر العام كلهبر يوم الخامس والعشرين من شهر برريال من السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي نحن الواضعون أسماءنا وخطنا فيه باش حكيم والجرايحي من أول مرتبة الذي صار مرتبة باش جرايحي في غيبته انتهينا حصة ساعتين بعد الظهر إلى بيت سارى عسكر العام في الأزبكية بمدينة مصر وكان سبب روحتنا هو اننا سمعنا دقة الطبل وغاغة الناس التي كانت تخبران سارى عسكر العام كلهبر انغدر وقتل وصلنا له فرأيناه في آخر نفس فحصنا عن جروحاته فتحقق لنا أنه قد انضرب بسلاح مدبب وله حد وجروحاته كانت أربعة الأول منها تحت البز في الشقة اليمنى الثاني اوطى من الأول جنب السوة الثالث في الذراع الشمال نافذ من شقة لشقة والرابع في الخد اليمين فهذا حررنا البيان بالشرح في حضور الدفنزادر سارتلون الذي وضع اسمه فيه كمثلنا لأجل أن يسلم البيان المذكور إلى سارى عسكر مدير الجيوش تحريرا في سراية سارى عسكر العام في النهار والسنة بعد الظهر بامضاء باش حكيم وخط الجرايحي من أول مرتبة كازابيانكا والدفتردار سارتلون شرح جروحات الستوين بروتاين المهندس نهار تاريخه خمسة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في الساعة الثالثة بعد الظهر نحن الواضعون اسماءنا وخطنا فيه باش حكيم وجرايحي من أول مرتبة الذي صار مرتبة باش جرايحي في غيبته انطلبنا من الدفتردار سارتلون أننا نعمل بيان شرح جروحات الستوين بروتاين المهندس وعضو من اعضاء مدرسة العلماء في بر مصر الذي انغدر هو أيضا في جنب سارى عسكر العام كلهبر مدبر الجيوش ومضروب ستة امرار بسلاح مدبب وله(2/360)
حد وهذا بيان الجروحات الأول في جنب الصدغ الثاني في الكف في عظمة الأصبع الخنصر الثالث بين الضلوع الشمالية الخامس في الشدق الشمالي والسادس في الصدر من الشقة الشمالية وشق نحو العرق ثم إلى تأييد ذلك وضعنا أسماءنا وخطنا فيه برفقة الدفتردار سارتلون تحريرا في سراية سارى عسكر مدير الجيوش في اليوم والشهر والساعة المرقومة أعلاه بامضاء باش حكيم وخط الجرايحي من أول مرتبة كازابيانكا والدفتردار سارتلون عن.
اول فحص سليمان الحلبي.
نهار تاريخه خمسة وعشرين في شهر برريال من السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في بيت سارى عسكر داماس مدبر الجيوش واحد فسيال من ملازمين بيت سارى عسكر العام حضر وبيده ماسك راجل من أهل البلد مدعيا أن هذا هو الذي قتل سارى عسكر العام كلهبر المنهوم المذكور انعرف من الستوين بروتاين المهندس الذي كان مع سارى عسكر حين انغدر لأنه أيضا انضرب برفقته بالخنجر ذاته وانجرح بعض جروحات.
ثانيا المتهوم المذكور انشاف بين جماعة سارى عسكر من حد الجيزة وانوجد مخبى في الجنينة التي حصل فيها القتل وفي الجنينة نفسها انوجد الخنجر الذي به انجرح سارى عسكر وبعض حوائج أيضا بتوع المتهوم فحالا بدىء الفحص بحضور سارى عسكر منو الذي هو أقدم أقرانه في العسكر وتسلم في مدينة مصر والفحص المذكور صار بواسطة الخواجا براشويش كاتم سر وترجمان سارى عسكر العام ومحرر من يد الدفتردار سارتلون الذي أحضره سارى عسكر منو لأجل ذلك المتهوم المذكور.
سئل عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته فجاوب أنه يسمى سليمان ولادة بر الشام وعمره أربعة وعشرون سنة ثم صنعته كاتب عربي وكانت سكنته في حلب(2/361)
سئل كم زمان له في مصر فجاوب أنه بقي له خمسة اشهر وأنه حضر في قافلة وشيخها يسمى سليمان بوريجي.
سئل عن ملته فجاوب أنه من ملة محمد وأنه كان سابقا سكن ثلاث سنين في مصر وثلاث سنين أخرى في مكة والمدينة.
سئل هل يعرف الوزير الأعظم وهل له مدة ما شافه فجاوب أنه ابن عرب ومثله ليس يعرف الوزير الأعظم.
وسئل عن معارفه في مدينة مصر فجاوب أنه لم يعرف أحدا وأكثر قعاده في الجامع الأزهر وجملة ناس تعرفه وأكثرهم يشهدون في مشيه الطيب.
سئل هل راح صباح تاريخه الجيزة فجاوب نعم وأنه كان قاصد ينشبك كاتب عند أجد ولكن ما قسم له نصيب.
سئل عن الناس الذين كتب لهم أمس فجاوب أن كلهم سافروا.
سئل كيف يمكن أنه لم يعرف أجد من الذين كتب لهم في الأيام الماضية وكيف يكونون كلهم سافروا فجاوب أنه ليس يعرف الذين كان يكتب لهم وأن غير ممكن أن يتفكر اسماهم.
سئل من هو الآخر في الذين كتب لهم فجاوب أنه يسمى محمد مغر السويسي بياع عرقسوس وأنه ما كتب لأحد في الجيزة.
سئل ثانيا عن سبب روحته للجيزة فجاوب دائما أنه كان قاصدا أن ينشبك كاتبا.
سئل كيف مسكوه في جنينة سارى عسكر فجاوب أنه ما انمسك في الجنينة بل في عارض الطريق فذاك الوقت انقال له أنه ما ينجيك إلا الصحيح لأن عسكر الملازمين مسكوه في الجنينة وفي المحل ذاته انوجدت السكينة وفي الوقت انعرضت عليه فجاوب صحيح أنه كان في الجنينة ولكن ماكان مستخبي بل قاعد لأن الخيالة كانت ماسكة الطرق وما كان يقدر أن يروح للمدينة وأن ما كان عنده سكينة ولم يعرف أن كان هذا موجود في الجنينة(2/362)
سئل لأي سبب كان تابع سارى عسكر من الصبح فجاوب أنه كان مراده فقط يشوفه.
سئل هل يعرف حنة قماش خضرة التي باينة مقطوعة من لبسه وكانت انوجدت في المحل الذي انغدر فيه سارى عسكر فجاوب بأن هذه ما هي تعلقه.
سئل أن كان تحدث مع أجد في الجيزة وفي أي محل نام فجاوب أنه ما تكلم مع ناس إلا لأجل مشترى بعض مصالح وأنه نام في الجيزة في جامع فاشاروا له على جروحاته التي ظاهرة في دماغه وقيل له أن هذه الجروحات بينت أنه هو الذي غدر سارى عسكر لأن أيضا الستوين بروتاين الذي كان معه عرفه وضربه كم عصاية الذين جرحوه فجاوب أنه ما انجرح إلا ساعة ما مسكوه.
سئل هل كان تحدث نهار تاريخه مع حسين كاشف أو مع ممالكيه فجاوب أنه ما شافهم ولا كلمهم فلما أن كان المتهوم لم يصدق في جواباته أمر سارى عسكر أنهم يضربونه حكم عوائد البلاد فحالا انضرب لحد أنه طلب العفو ووعد أنه يقر بالصحيح فارتفع عنه الضرب وانفكت له سواعده وصار يحكي من أول وجديد كما هو مشروح.
سئل كم يوم له في مدينة مصر فجاوب أنه له واحد وثلاثين يوما وأنه حضر من غزة في ستة أيام على هجين.
سئل لاي سبب حضر من غزة فجاوب لأجل أن يقتل سارى عسكر العام.
سئل من الذي ارسله لأجل أن يفعل هذا الأمر فجاوب أنه أرسل من طرف اغات الينكجرية وأنه حين رجع عساكر العثملي من مصر إلى بر الشام ارسلوا إلى حلب بطلب شخص يكون قادرا على قتل سارى عسكر العام الفرنساوي ووعدوا لكل من يقدر على هذه المادة أن يقدموه في الوجاقات ويعطوه دراهم ولأجل ذلك هو تقدم وعرض روحه لهذا.
سئل من هم الناس الذين تصدروا له في هذه المادة في بر مصر وهل(2/363)
سارر أحدا على نيته فجاوب أن ما أجد تصدر له وأنه راح سكن في الجامع الأزهر وهناك شاف السيد محمد الغزي والسيد أحمد الوالي والشيخ عبد الله الغزي والسيد عبد القادر الغزي الذين ساكنون في الجامع المذكور فبلغهم على مراده فهم أشاروا عليه أنه يرجع عن ذلك لأن غير ممكن أن يطلع من يده ويموت فرط وأن كان لازم يشخصوا واحدا غيره في قضاء هذه المادة ثم إنه كل يوم كان يتكلم معهم في الشغل المذكور وأن امس تاريخه قال لهم أنه رائح يقضي مقصوده ويقتل سارى عسكر وأنه توجه إلى الجيزة حتى ينظر أن كان يطلع من يده وأن هناك قابل النواتية بنوع قنجة سارى عسكر فاستخبر عليه منهم أن كان يخرج برا فسالوه ايش طالب منه فقال لهم أن مقصوده يتحدث معه فقالوا له أنه كل ليلة ينزل في جنينة ثم صباح تاريخه شاف سارى عسكر معديا للمقياس وبعده ماشي إلى المدينة فتبعه لحين ما غدره هذا الفحص صار من حضرة سارى عسكر منو بحضور باقي سوارى العساكر الكبار وملازمين ببيت سارى عسكر العام ثم انختم بامضاء سارى منو والدفتردار سارتلون في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه ثم انقرا على المتهوم وهو أيضا خط يده واسمه بالعربي سليمان امضاء سارى عسكر عبد الله منو امضاء سارى عسكر داماس امضاء الجنرال والتين امضاء الجنرال موراند امضاء الجنرال مارتينه امضاء دفتر دار البحر لروا امضاء الدفتردار سارتلون امضاء الترجمان لو ما كان امضاء الترجمان حنا روكه امضاء داميانوس براشويش كاتم السر وترجمان سارى عسكر العام.
فحص الثلاثة مشايخ.
المتهمين نهار تاريخه خمسة وعشرين في شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي في الساعة الثامنة بعد الظهر حضروا في منزل سارى عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية السيد عبد الله الغزي ومحمد الغزي والسيد أحمد الوالي وهم الثلاثة متهومين في قتل(2/364)
سارى عسكر العام كلهبر فسارى عسكر منو أمر بفحصهم فبدىء ذلك حالا في حضور بعض سوارى العساكر المجتمعين لذلك وبواسطة الستوين لوما كا الترجمان كما يذكر أدناه السيد عبد الله الغزي هو الذي سئل أولا لوحده.
سئل عن اسمه وعن مسكنه وصنعته فجاوب أنه يسمى السيد عبد الله الغزي ولادة غزة ومسكنه في مصر في الجامع الأزهر وهناك كان كاره مقرىء القرآن وأنه لم يعرف كم عمره ولكن تخمينه يجيء ثلاثين سنة.
سئل أن كانت سكنته في الجامع الأزهر هل يعرف جميع الغرباء الذين يدخلونه فجاوب أنه ساكن ليل ونهار ويعرف الغرباء الذين فيه.
سئل هل يعرف رجلا حضر من بر الشام من مدة شهر فجاوب أن من مدة خمسين يوم ما شاف أحدا حضر من بر الشام فقيل له أن رجلا من طرف عرضي الوزير حضر من مدة ثلاثين يوما قال أنه يعرفك والظاهر انك لم تكلم بالصدق فجاوب أنه ملهى دائما في وظيفته وأنه ما شاف أحدا من بر الشام بل سمع أن قافلة كانت وصلت من ناحية الشرق فقيل له أيضا أن ناسا حضروا من بر السام يقولون أنهم تكلموا معه ويعرفون فجاوب أن هذا غير ممكن وأنهم يقابلوه مع الذي فتن عليه.
سئل هل يعرف واحد اسمه سليمان كاتب عربي حضر من حلب من مدة ثلاثين يوما فجاوب لا فقيل له أن هذا الرجل يحقق أنه شافه وأنه أخبره ببعض أشياء لازمة فجاوب أنه ما شافه وأن هذا الرجل كذاب وأنه يريد أن يموت أن كان ما يحكي الصحيح فحالا سارى عسكر نده إلى محمد الغزي الذي هو أيضا متهوم في قتل سارى عسكر وبدىء الفحص كما يذكر.
سئل عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته فجاوب أنه يسمى الشيخ محمد الغزي وعمره نحو خمسة وعشرين سنة ولادة غزة وسكن بمصر في الجامع الأزهر ثم صنعته مقرىء القرآن من مدة خمس سنين وما يخرج من الجامع(2/365)
إلا لكي يشتري ما يأكل.
سئل هل يعرف الغرباء الذين يجيئون يسكنون في الجامع فجاوب أن في بعض الأوقات يحضر ناس غرباء وأما البواب فهوالذي يقارشهم ومن قبله ينام بعض ليالي في الجامع والبعض في بيت الشيخ الشرقاوي.
سئل هل يعرف رجلا يسمى سليمان حضر من بر الشام من مدة ثلاثين يوما فجاوب أنه لم يعرفه وأنه غير ممكن أن يشوف كل الناس لأن الجامع كبير قوي.
سئل أنه يحكي على الذي تكلم به معه سليمان فإن المذكور يحقق أنه تكلم معه في الجامع فجاوب أنه يعرفه من مدة ثلاث سنين وأنه كان عند خبر أنه راح مكةواما من بعده ما شافه ولم يعرف أن كان رجع أم لا.
سئل هل السيد عبد الله العزي يعرفه أيضا فجاوب نعم فقيل له محقق أن أمس تاريخه سليمان المذكور تحدث معه حصة طيبة وأن الشواهد موجودة فجاوب أن هذا صحيح سئل لأي سبب كان بدأ يقول: إنه ما شافه فجاوب أن تخمينه ما قال هذا وأن المترجمين غلطوا.
سئل هل سليمان المذكور ما بلغه عن شيء مذنب قوى وتحقيا لذلك معلوم عندنا أنه كان قصده يحوشه فجاوب أنه لم يعرف هذا الأمر وأن سلميان المذكور راح وجاء كام مرة إلى مصر وبقي له هنا مقدار شهر فقيل له: إنه موجود شواهد أن سليمان المذكور كان أخبره أن مراده لن يغدر سارى عسكر العام وأنه أراد أن يمنعه فجاوب أنه ما بلغه عن هذا الأمر بل أمس تاريخه قال له: إنه رائح ويمكن أن ما بقي يرجع فبعده أحضرنا عبد الله الغزي لأجل يتفحص ثانيا كما يذكر أدناه.
سئل لأي سبب قال: إنه لم يعرف سليمان الحلبي حين سألوه عنه بحيث أن موجودة شواهد أن هذا له في مصر واحد وثلاثون يوما وأنه تقابل واياه جملة مرار وتحدث معه أكثر الأيام فجاوب حقا أنه لم يعرفه.
سئل هل يعرف واحد يسمى محمد الغزي الذي هو مثله مقرى القرآن(2/366)
في جامع الأزهر فجاوب نعم.
سئل السيد عبد الله المذكور لاي سبب انكر ذلك فجاوب أنهم لخبطوا عليه السؤال وأن هذا الوقت بحيث أنهم سالوه عن سليمان الذي من حلب فيقر أنه يعرفه فقيل له أنه معلوم عندنا أنه شافه مرارا كثيرة وتحدث معه فجاوب أنه بقي له ثلاثة أيام ما شافه.
سئل هل أنه ما قصد يمنعه عن قتل سارى عسكر العام فجاوب أنه ما قال له أبدا على هذا الأمر وأنه لو كان بلغه منه ذلك كان منعه بكل قدرته.
سئل لأي سبب ما يحكى الصحيح بحيث أنه موجودة عليه شواهد فجاوب أنه غير ممكن يوجد عليه شواهد وأنه ما شاف سليمان المذكور إلا لأجل أن يسلموا على بعض حين تقابلوا.
سئل هل سليمان ما أخبره أبدا عن سبب مجيئه إلى مصر فجاوب حاشا فبعد ذلك اخروا الإثنين المذكورين وأحضروا السيد أحمد الوالي الذي هو متهوم وسئل كما يذكر.
سئل عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته فجاوب أنه يسمى السيد أحمد الوالي ولادة غزة وصنعته مقرى القرآن في الجامع الأزهر من مدة عشر سنين ولم يعرف كم عمره.
سئل هل يعرف الغرباء الذين يدخلون في الجامع فجاوب أن وظيفته يقرأ ولا ينتبه إلى الغرباء فقيل له أن بعض الغرباء الذين حضروا هناك عن قريب يقولون أنهم شافوه في الجامع فجاوب أنه ما شاف احدا.
سئل هل شاف رجلا حضر من بر الشام من طرف الوزير وهذا الرجل قال: إنه يعرفه فجاوب لا وأن كانوا يقدروا يحضروا هذا الرجل حتى يقابله.
سئل هل يعرف سليمان الحلبي فجاوب أنه يعرف واحدا يسمى سليمان الذي كان يروح يقرأ عند واحد أفندي وكان طالب أنه يستقيم في الجامع وأن هذا الرجل قال: إنه من حلب ومن مدة عشرين يوما كان شافه وبعدها(2/367)
ما قابله ثم كان قال له أن الوزير في يافا وأن عساكره ما كان عندهم دراهم وكانوا يفوتوه.
سئل هل هذا الرجل المذكور ما هو تحت حمايته فجاوب أنه لم يعرفه طيبا حتى يضمنه.
سئل هل الإثنان الاخران المتهومان معارفه وهل أن الثلاثة تحدثوا سواء عن قريب أم امس تاريخه مع سليمان المذكور فجاوب لا بل أنه يعرف أن سليمان المذكور كان حضر لزيارة الجامع وأنه وضع في الجامع جملة أوراق مضمونها أنه كان قوي متعبد لخالقه.
سئل هل المذكور امس أيضا ما وضع اوراقا في الجامع فجاوب أن ما عنده خبر بذلك.
سئل هل ما منع سليمان عن فعل ذنب بليغ فجاوب أنه أيدا ما حدثه بهذا الشيء ولكن قال له: إن مراده يفعل شيء جنون وأنه عمل كل جهده حتى يرجعه.
سئل ايش هو الجنان الذي قاصد يعمله وحدثه عليه فجاوب أنه قال له: إنه كان مراده يغازي في سبيل الله وأن هذه المغازاة هي قتل واحد نصراني وليكن ما أخبره باسمه وأنه قصد يمنعه بقوله أن ربنا اعطى القوة للفرنساوية ما أجد يقدر يمنعهم حكم البلاد فبعد هذا المتهوم المذكور انشال لمحله وهذا الفحص تحتم بحضور سوارى العساكر المجموعين بامضاء سارى عسكر منو والدفتردار سارتلون الذي هو ذاته حرر هذا الفحص بأمر سارى عسكر منو ثم بعد قراءته على المتهومين وضعوا اسماءهم وخطهم بالعربي تحريرا في اليوم والشهر والسنة المحرر أعلاه ثلاث امضاآت بالعربي امضاء سارى عسكر منو إمضاء الدفتردار سارتلون امضاء الترجمان لو ما كا سارى عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية في مصر.
المادة الأولى أن ينشأ ديوان قضاة لأجل أن يشرعوا على الذين غدروا سارى عسكر العام كلهبر في اليوم الخامس والعشرين من شهر برريال(2/368)
المادة الثانية القضاة المذكورون يكونوا تسعة وهم سارى عسكر رينيه سارى عسكر فرياند سارى عسكر روبين الجنرال موراند رئيس المعمار بربراند الوكيل رجينيه دفتردار البحر لرو والدفتردار سارتلون في وظيفة مبلغ والوكيل لبهر في وظيفة وكيل الجمهور.
المادة الثالثة القضاة المذكورون ينظر لهم كاتم سر.
المادة الرابعة القضاةالمذكورين مفوضون الأمر في الكشف والتفتيش وحوش كل من يريدوا حتى أنهم يطلعوا على الذين لهم حصة في الذنب المذكور أو يكون عندهم خبرة.
المادة الخامسة القضاة المذكورون يتفقوا على العذاب اللائق إلى موت القاتل ورفقائه.
المادة السادسة القضاة المذكورون يجتمعوا من نهار تاريخه الذي هو السادس والعشرون من شهر برريال لحد خلاص الشريعة المذكورة امضاء سارى عسكر منو وهذه نسخة من الأصل امضاء الجنرال رنة كتخدا مدبر الجيوش.
شرح اجتماع القضاة في السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي.
في اليوم السادس والعشرين من شهر برريال حكم أمر سارى عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوي المحرر في نهار تاريخه اجتمعوا في بيت ساري عسكر رينيه المذكور وساري عسكر وبين ودفتردار البحر لو والجنرال مارتينه عوضا عن سارى عسكر فرياند حكم أمر سارى عسكر منو ثم الجنرال موراند ورئيس العسكر جرجه ورئيس العمارة برتراند ورئيس المدافع فاورو الوكيل رجيه والدفتردار سارتلون في رتبة مبلغ والوكيل ابهر في وظيفة وكيل الجمهور لأجل قضاء شريعة قتل سارى عسكر العام كلهبر الذي انغدر امس تاريخه القضاة المذكورون اجتمعوا مع شيخهم سارى عسكر رينيه وعلى قرار أمر سارى عسكر منو المشروح(2/369)
أعلاه وحكم المادة الثالثة المحررة فيه استخصوا كاتم السرلهم الوكيل بينه الذي حلف كما هي العوائد ولزم وظيفته ثم القضاة المذكورون وكلوا سارى عسكر رينيه والمبلغ الدفتردار سارتلون في التفتيش والحبس لكل من اكتشفوا عليه حكم ما هو محرر في المادة الرابعة المحررة أعلاه وهذا لكي يظهروا رفقاء القاتل ثم أن السكينة التي وجدت مع القاتل حين انمسك تبقى عند كاتم السر لأجل يظهرها في الوقت الذي يلزم ثم وعدوا المجلس لصباح تاريخه في الساعة الرابعة قبل الظهر ثم حرروا خط يدهم مع كاتم السر امضاء الوكيل رجنيه امضاء رئيس المعمار بريراند امضاء رئيس المدافع فاور امضاء رئيس العسكر جرجه امضاء الجنرال موراند امضاء الجنرال مارتينه إمضاء دفتردار البحر لرو امضاء سارى عسكر روبين إمضاء سارى عسكر رينيه امضاء كاتم السر بينه اقرار الشهود نهار تاريخه في ستة وعشرين شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي نحن الواضعون اسماءنا فيه الدفتردار سارتلون المسمى من حضرة سارى عسكر العام منو أمير الجيوش وفي وظيفة مبلغ حكم الأمر الذي خرج من طرفه.
انتشار القضاة في شرع القاتلين سارى عسكر العام كلهبر والسيتوين بينه المسمى من القضاة المذكورين في مرتبة كاتم السر أنه حضر بين يدنا يوسف برين عسكرى خيال من الطبجية الملازمين بيت سارى عسكر العام وقال لنا هو ورفيقه خيال أيضا يسمى روبرت مسكوا المسلم سليمان المتهوم في غدر سارى عسكر العام وأنهم وجدوه في الجنينة التي معمول فيها الحمامان الفرنساويان الملتزقان بجنينة سارى عسكر وأنهم رأوه مخبأ بين حيطان الجنينة المهدودة وأن الحيطان المذكورة كانت ملغمطة بدم في بعض نواحي وأن سليمان المذكور كان أيضا ملغمطا بدم وأنهم مسكوه في هذه الحالة وأن بعده التزموا يضربوه بالسيف لأجل يمشوه ثم برين المذكور قال بعد حوشة سليمان بساعة في الموضع ذاته الذي(2/370)
كان مخبأ فيه شاف سكينة بدمها وأنه سلم السكينة في بيت سارى عسكر العام فقربنا إليه اقراره هذا وسألناه هل فيه شيء زائد أم ناقص فجاوب أن هذا كل الذي فعله وعاينه ثم حرر خط يده معنا امضاء برين الخيال امضاء سارتلون امضاء كاتم السر بينه ثم حرر أيضا بين أيدينا الشاهد الثاني وهو السيتوين روبرت الخيال أجد الطبجية الملازمين وقال أنه حين كان يفتش على الذي قتل سارى عسكر دخل في الجنينة التي فيها الحمامان الفرنساويان لزق جنينة سارى عسكر العام وهناك شاف برفقة برين المذكور سليمان الحلبي مستخبى في ركن حيطان مهدودة وكان ملغمط دم وفي رأسه شرموطة زرقاء وأن في هذه الحالة عرفت أن هذا هو القاتل وأن الحيطان التي كان فات عليها كانت أيضا ملغمطة دم وأن حين مسكوه بأن منه وهم وأن بعد حوشته بساعة شاف برفقة السيتوين برين في الموضع ذاته سكينة بدمها وأنهم سلموها في بيت سارى عسكر العام والسكينة المذكورة كانت مخبية تحت الأرض فقرأنا عليه اقراره هذا ثم سألناه أن كان ما فيه زائد أم ناقص فجاوب أن هذا هو الذي فعله وشافه ثم حرر خط يده معنا حرر بمدينة مصر في النهار والشهر والساعة المحررة أعلاه إمضاء روبرت الخيال امضاء سارتلون إمضاء كاتم السر بينه أنا الدفتردار سارتلون المبلغ رحت إلى بيت السيتوين بروتاين لأنه كان راقدا بسبب جروحاته ثم استلمت منه التبليغ الآتي أدناه أنا حنا قسطنطين بروتاين المهندس وعضو من أعضاء مدرسة العلم في بر مصر انني كنت أتمشور تحت التكعيبة الكبيرة التي في جنينة سارى عسكر وتطل على بركة الأزبكية وكنت برفقة سارى عسكر العام فنظرت رجلا لابسا عثملي خارج من مبتدأ التكعيبة من جنب الساقية فانا كنت بعيد كام خطوة عن سارى عسكر انادى على الغفراء فانتبهت لأجل أشوف السيرة رأيت أن الرجل المذكور يضرب سارى عسكر بالسيكنة ذاتها كام مرة فارتميت على الأرض وفي الوقت سمعت سارى عسكر يصرخ ثانيا فهميت ورحت قريبا من سارى عسكر فرايت الرجل(2/371)
يضربه فهو ضربني ثانيا كام سكينة التي رمتني وغيبت صوابي وما وعدت نظرت شيا غير انني اعرف طبيب اننا قعدنا مقدار ستة دقائق قبل ما أجد يسعفنا فبعده قريت هذا الإقرار على السيتوين بروتاين وسألته هل فيه زائد أم ناقص فجاوب أن هذا الذي فعله وعاينه ثم حرر خط يده معنا إمضاء بروتاين امضاء سارتلون امضاء كاتم السربينه والسيتوين بروتاين بعد ما ختم الورقة أعلاه قال: إن مقصوده يضيف عليها أن بعد غدر سارى عسكر بزمان قليل حين شاف سليمان الحلبي الذي هو ذاته الذي كان ضرب سارى عسكر وبعده ضربه سليمان المذكور كام سكينة غيبت صوابه فقرينا عليه أيضا هذه الاضافة فجاوب أنها حاوية الحق وما فيها زائد ولا ناقص ثم ختمها معنا أمضاء بروتاين سارتلون إمضاء كاتم السر بينه نهار تاريخه سنة وعشرين في شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي أنا الواضع اسمي فيه مبلغ القضاة المأمور في شرع قتلة سارى عسكر العام كلهبر ذهبت إلى مساعدين سارى عسكر المذكور لأجل أن اسمع اقرارهم ثم كان معي كاتم السر بينه وهم قالوا لنا كما يذكر أدناه السيتوين فورتونه دهوج ابن أربعة وعشرين سنة فسيال في طابور الخيالة ومساعد عند سارى عسكر كلهبر قال: إنه في اليوم الخامس والعشرين من شهر برريال كان سارى عسكر العام حين حضر إلى الأزبكية يشوف بيته الذي كان داير فيه العمارة وأنه شاف رجلا بعمة خضراء ودلق وحش وكان دائما تابع سارى عسكر حين كان دائر يتفرج على المحلات وأنه هو وخلافه حسبوا هذا الرجل من جملة الفعلة فما أجد سأله ولكن حين نزل سارى عسكر من بيته إلى الجنينة لأجل ينفذ إلى جنينة سارى عسكر داماس السيتوين دهوج شاف الرجل المذكور مدسوس بين جماعة سارى عسكر فنهره وطرده برا فبعد ساعتين حين انغدر سارى عسكر السيتوين دهوج المذكور عرف دلق الخائن لأنه كان رماه جنب سارى عسكر وبعده حين انمسك الرجل(2/372)
فعرفه أنه هو الذي قبل بشويه طرده من الجنينة ثم قرىء هذا المضمون على السيتوين دهوج المذكور لأجل بيان هل يوجد شيء خلافه يزيد أم ينقص فجاوب أن هذا الحق حكم ما عاين وفعل ثم حرر خط يده مع كاتم السر تحريرا في اليوم والشهر والسنة والمحررة أعلاه امضاء السيتوين دهوج إمضاء سارتلون امضاء بينه كاتم السر.
ثاني فحص سليمان الحلبي.
نهار تاريخه سنة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي نحن الواضعون اسماءنا فيه الدفتردار سارتلون برتبة مبلغ والوكيل بينه في رتبة كاتم سر القضاة المنقامين إلى شرع كل من هو متهوم في غدر سارى عسكر العام كلهبر أحضر سليمان الحلبي لأجل نساله من أول وجديد عن صورة غدر وقتل سارى عسكر وهذا صار بواسطة السيتوين براشويش كاتم سر وترجمان سارى عسكر العام كما يذكر أدناه.
سئل المذكور عن قصة سارى عسكر فجاوب أنه حضر من غزة مع قافلة حاملة صابون ودخان وأنه كان راكب هجين وبحيث أن القافلة كانت خائفة أن تنزل بمصر توجهت إلى ريف يسمى الغيظة في ناحية الألفية وهناك استكرى حمارا من واحد فلاح وحضر لمصر ولكن لم يعرف الفلاح صاحب الحمار ثم أن أحمد اغا وياسين اغا من اغوات الينكجرية بحلب وكلوه في قتل سارى عسكر العام بسبب أنه يعرف مصر طيب بحيث أنه سكن فيها سابق ثلاث سنوات وأنهم كانوا وصوه أنه يروح ويسكن في الجامع الأزهر وأن لا يعطي سره لاحد كليا بل يوعي لروحه ويكب الفرصة في قضاء شفله لأنها دعوة تحب السر والنباهة ثم يعمل كل جهده حتى يقتل سارى عسكر لكن حين وصل إلى مصر التزم يسارر الأربعة مشايخ الذين أخبر عنهم لأنه لو كان ما قال لهم فما كانوا يسكنونه في الجامع وأنه كان كل يوم يتحدث معهم في هذا الأمر وأن المشايخ المذكورين(2/373)
قصدوا يغيروا عقله عن هذا الفعل بقولهم أنه ما يقدر عليه وهو ما دعاهم لمساعدته لأنه كان يعرفه بليدين وأن اليوم الذي قصد التوجه فيه ليقتل سارى عسكر قابل احدهم الذي هو محمد الغزى فعرفه أن مقصوده أن يتوجه إلى الجيزة ليفعل هذا الغدر وأن تخمينه أنه مثل المجنون من حين أراد أن يقضي هذا الأمر لأنه لو كان له عقل ما حضر من غزة لهذا الأمر وأن الأوراق التي وضعها هي بعض آيات من القرآن لأنه عوائد الكتبة أولاد العرب وضعوا ذلك في الجامع وأنه ما أخذ دراهم من أجد في مصر لأن الاغوات كانوا أعطوا له كفايته وأن الافندي الذي كان يروح يقرأ عنده يسمى مصطفى أفندي وكان يقرأ عليه نهار الإثنين والخميس تبع العادة ولكن ما أخبره بسر خوفا أن ينشهر وأما من قبل الأربعة مشايخ المذكورين صحيح أنه قال لهم كل شيء لأنهم من أولاد بلاده ثم حقق لهم أنه ناوى أن يغازى في سبيل الله.
سئل اين كان هو حين رجع الوزير من بر مصر في ابتداء شهر جرمنيال الموافق لشهر الإسلام ذي القعدة فجاوب أنه كان في القدس حاجج من حين كان الوزير أخذ العريش.
سئل اين شاف أحمد اغا الذي يقول أنه عرض عليه مادة قتل سارى عسكر وفي أي يوم قال له ذلك فجاوب أنه حين انكسر الوزير رجع إلى العريش وغزة في أواخر شوال أو في أوائل شهر ذي القعدة الموافق لشهر جرمنيال الفرنساوي وأن أحمد اغا المذكور هو من جملة اغوات الوزير ولكن كان رسم عليه في غزة من حين أخذ العريش وحين رجع ارسله إلى القدس في بيت المتسلم ثم إنه يوم وصوله توجه سلم عليه في بيت المتسلم وشكا له من إبراهيم باشا متسلم حلب الذي كان يظلم اباه الذي يسمى الحاج محمد أمين بياع سمن وحططوه غرامات زائدة ومن الجملة واحدة قبل سفر الوزير من الشام ثم وقع بعرضه بشأن ذلك ثم إنه رجع عند أحمد اغا ثاني يوم وأن الاغا في وقتها قال له: إنه محب إبراهيم باشا وأنه ما يقصر ويوصيه في راحة ابيه ولكن بشرط أنه يروح يقتل أمير الجيوش الفرنساوية(2/374)
ثم في ثالث ورابع يوم كرر عليه أيضا هذا السؤال وحالا ارسله إلى ياسين اغا في غزة لأجل أن يعطي له مصروفه وأنه من بعد هذا الكلام بأربعة أيام سافر من القدس إلى الخليل وهناك قعد كام يوم وما وصله ولا مكتوب من أحمد اغا وأما أحمد اغا المذكور كان أرسل خداما إلى غزة لأجل يخبر ياسين اغا بالذي اتفقوا عليه.
سئل كام يوم قعد في الخليل فجاوب عشرين يوما.
سئل لاي سبب قعد عشرين يوما في الخليل وهل في هذه المدة ما وصله مكاتيب من الإثنين الاغوات فجاوب أن السكة كانت ملانة عرب وأنه خائف منهم فالتزم يستنظر سفر القافلة التي سافر برفقتها وأنه كان في غزة في اواخر شهر ذي القعدة الموافق لغرة شهر فلوريال الفرنساوي.
سئل ايش عمل في غزة وآيش قال له ياسين اغا فجاوب أن ثاني يوم وصوله راح شاف الاغا والمذكور قال له أنه يعرف الشغل الذي هو سبب مشواره هذا وأنه اسكنه في الجامع الكبير وهناك مرار عديدة كان يروح يشوفه ليلا ونهارا ويتحدث معه في هذا الأمر ووعده أنه يرفع الغرائم عن ابيه وأنه دائما يجعل نظره عليه في كل ما يلزمه ثم بلغه عن كل الذي كان لازم يفعله كما شرح أعلاه وهذا صار سرا بينهم ثم أعطى له أربعين قرشا لمصروف السفر وبعد عشرة أيام سافر من غزة راكب هجين ووصل هنا بعد ستة أيام كما عرف سابقا وأن سفره من غزة كان في أوائل شهر ذي الحجة الموافق إلى نصف شهر فلوريال الفرنساوي فبقى باين أنه حين غدر سارى عسكر كان له واحد وثلاثون يوما في مدينة مصر.
سئل هل يعرف الخنجر الملغمط دم الذي قتل به سارى عسكر فجاوب نعم يعرفه.
سئل من اين أحضر هذا الخنجر وهل أجد من الاغوات اعطاه له أم أجد خلافهم فجاوب أنه ما أجد اعطاه له وإنما بحيث أنه كان قصد قتل سارى عسكر توجه إلى سوق غزة واشترى أول سلاح شافه(2/375)
سئل هل أن أحمد أغا أو ياسين اغا ما حدثاه اصلا عن الوزير وعشموه بشيء من طرفه أن كان يقدر يقتل سارى عسكر فجاوب لا بل أنهم ذاتهم وعدوه أنهم يساعدوه في كل ما يلزمه أن كان يخرج هذا الشيء من يده.
سئل هل أن الوزير نادى في تلك النواحي بقتل الفرنساوية فجاوب أنه لا يعلم بل يعرف أن الوزير كان أرسل طاهر باشا لأجل يعين الذين كانوا بمصر وأنه رجع حين شاف العثملي مقبلين لبر الشام من مصر.
سئل هل هو فقط الذي توكل في هذه الإرسالية فجاوب أن تخمينه هكذا لأن هذا الكلام قد حصل سرا ما بينه وبين الاغوات.
سئل كيف كان يعمل حتى أنه كان يعرف الاغوات بالذي فعله فجاوب أنه كان قصده يروح هو بنفسه يخبرهم أو يرسل لهم حالا ساعي فبعد خلاص الفحص المذكور انقرأ على المتهوم وهو حرر خط يده مع المبلغ وكاتم السر والترجمان حرر بمصر في اليوم والشهر والسنة والمحررة أعلاه أمضاء سليمان الحلبي بالعربي امضاء كاتم السر بينه.
مقابلة المتهمين مع بعضهم نهار تاريخه ستة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي أنا الواضع اسمي فيه مبلغ القضاة المنقامين لشرع كل من هو متهوم في قتل سارى عسكر العام كلهبر أحضرنا الشيخ محمد الغزي لأجل تجدد فحصه ونقابله مع سليمان الحلبي قاتل سارى عسكر ولهذا كان موجود معنا السيتوين بينه كاتم سر القضاة المذكورين وصار كما يذكر أدناه.
سئل الشيخ محمد الغزي هل يعرف سليمان الحلبي الموجود ههنا فجاوب نعم.
سئل سليمان الحلبي هل يعرف الشيخ محمد الغزي الموجود ههنا فجاوب نعم.
سئل محمد الغزي هل أن سليمان الحلبي ما قال له من قيمة واحد وثلاثين يوما أنه حضر من بر الشام من طرف أحمد اغا وياسين الاغا لأجل يقتل سارى(2/376)
عسكر العام وهو كل يوم ماحدثه في هذا الشغل حتى أنه في آخر يوم قال له أنه رائح إلى الجيزة حتى يغدر سارى عسكر فجاوب أن هذا ما له اصل لكن حين شافوا بعضا وقع بينهم سلام فقط ومن قبل آخر يوم الذي نوى فيه سليمان على الرواح إلى الجيزة جاب له ورق وحبر وقال له أنه ما يرجع إلا غدا فقيل أنه ما يخبر بالصحيح لأن سليمان يحقق أنه أخبره بهذه السيرة كل يوم وأن عشية قبل غدر سارى عسكر كان قال له أنه رائح لقضاء هذا الأمر فجاوب أن هذا الرجل يكذب.
سئل هل كان يروح مرارا عديدة يبيت عند الشيخ الشرقاوي وهل في الأيام الاخيرة ما راح بات عنده فجاوب أن من حين دخول الفرنساوية ما راح أبدا بات عنده وأما قبل دخول الفرنساوية كان يبيت عنده بعض مرار فقيل له: إنه ما يحكي الصحيح لأن في فحص أمس قال: إنه كان يروح مرارا عديدة يبيت عند الشيخ الشرقاوي فجاوب أنه ما قال ذلك.
سئل سليمان الحلبي هل يقدر يثبت على الشيخ محمد الحاضر بأنه كل يوم كان يخبره على نيته في قتل سارى عسكر وخصوصا عشية النهار الذي صباحه صار القتل فجاوب نعم وأنه ما قال إلا الصحيح وأن الشيخ محمد الغزى ما كان يقر بالحق امرنا بضربه كعادة البلد فحالا انضرب لحد أنه طلب العفو ووعد أنه يحكي على كل شيء فارتفع عنه الضرب.
سئل هل سليمان أخبره على ضميره في قتل سارى عسكر فجاوب أن سليمان كان قال له: إنه حضر من غزة لأجل أنه يغازي في سبيل الله بقتل الكفرة الفرنساوية وأنه منعه عن ذلك بقوله أنه يحصل له من ذلك ضرر وما عرفه أنه مراده يغدر سارى عسكر إلا الليلة التي راح فيها إلى الجيزة وصباحها قتله.
سئل لاي سبب ما حضر أخبرنا على سليمان المذكور فجاوب أنه أبدا ما كان يصدق أن واحدا مثل هذا يقدر على قتل سارى عسكر والذي الوزير بذاته ما قدر عليه(2/377)
سئل هل أخبر بالذي قال له: عليه سليمان لاحد من المدينة وخصوصا إلى الشيخ الشرقاوي فجاوب أنه ما أخبر أحدا بذلك وحتى إذا وضعوه تحت القتل ما يقول بذلك.
سئل هل يعرف أحدا خلاف سليمان حضر لأجل غدر الفرنساوية وأين هم قاعدين فجاوب أنه ما يعرف وأن سليمان ما قال له على احد.
سئل سليمان المذكور أنه يشهر رفقاءه فجاوب أنه لم يعرف أجد في مصر وأن تخمينه ما فيه غيره الذي قاصد قتله الفرنساوية فبعد هذا صرفنا محمد الغزي المذكور لحبسه وابقينا سليمان لأجل نقابله مع السيد أحمد الوالي الذي حالا أحضرناه لأجل ذلك.
سئل هل يعرف سليمان الحلبي الموجود ههنا فجاوب نعم.
سئل أيضا سليمان هل يعرف السيد أحمد الوالي الموجود ههنا فجاوب هو أيضا نعم.
سئل السيد أحمد الولاي هل أن سليمان ما أخبره على نيته في قتل سارى عسكر وخصوصا في العشية التي قصد بها التوجه لذلك فجاوب أن سليمان حين وصل من مدة ثلاثين يوما كان قال له أنه حضر حتى يغازي في الكفرة وأنه نصحه عن ذلك بقوله أن هذا شيء غير مناسب وما أخبره على سيرة سارى عسكر.
سئل سليمان المذكور أنه يبين هل حدثه أحمد الوالي في قتل سارى عسكر وكم يوم له ما حدثه فجاوب أن في أوائل وصوله قال له أنه حضر بقصد الغزو في الكفار وأن السيد أحمد ما رضي له بذلك ثم بعد ستة أيام أخبره على نيته في قتل سارى عسكر ومن بعدما عاد حدثه بذلك وقبل الغدر بأربعة أيام ما كان قابله فقيل للسيد أحمد الوالي أنه لم يصدق في قوله لأنه ينكر أن سليمان ما أخبره بأنه كان ناوي بقتل سارى عسكر فجاوب الآن لما فكره سليمان افتكر أنه أخبره.
سئل لاي سبب ما اشهر سليمان المذكور فجاوب أنه ما اشهره لسببين(2/378)
الأول: إنه كان يخمن أنه يكذب والثاني ما كان مستعنيه في فعل مادة مثل هذه.
سئل هل سليمان ما عرفه برفقائه وهل هو ما تحدث مع أجد بذلك وخصوصا مع شيخ الجامع الذي هو ملزوم يخبر بكل ما يجري فجاوب أن سليمان ما قال له على رفقائه وهو ما أخبر بذلك أحدا ولا أيضا شيخ الجامع.
سئل هل يعرف الأمر الذي خرج من سارى عسكر العام بأن كل من شاف عثملي في البلد يخبر عنه فجاوب أنه ما درى بذلك.
سئل هل سكن سليمان بالجامع لسبب أنه قال له على مراده في قتل سارى عسكر فجاوب لا لأن كل أهل الإسلام تقدر تسكن في الجامع.
سئل سليمان هل أنه ما قال بأنهم ما كانوا يريدوا يسكنوه لولا أنه قال لهم على سبب مجيه لمصر فجاوب أن كامل الغرباء لازم يخبروا عن سبب حضورهم وأما هو يقول: الحق أن ما أجد من المشايخ ارتضى على مقصوده فبعد هذا ارسلنا السيد أحمد الوالي إلى حبسه وبقي سليمان الحلبي لأجل مقابلة السيد عبد الله الغزي الذي أحضرناه في الحال.
سئل سليمان هل يعرف السيد عبد الله الغزي الموجود ههنا فجاوب نعم.
سئل السيد عبد الله الغزي هل ما بلغه نية سليمان في قتل سارى عسكر فجاوب وأقر أن يوم حضور سليمان عرفه أنه حضر يغازي في الكفرة وأنه مراده يقتل سارى عسكر وأنه قصد يمنعه عن ذلك.
سئل لأي سبب ما شكاه فجاوب أنه كان يظن أن سليمان المذكور يتوجه عند المشايخ الكبار وأن المذكورين كانوا يمنعوه ولكن من الآن صار يخبر بالذين يحضرون بهذه النية.
سئل هل يعرف أن سليمان أخبر أحدا خلافه في مصر فجاوب أن ما عنده علم بذلك(2/379)
سئل هل يعرف أن موجود بمصر ناس خلاف سليمان متوكلين في قتل الفرنساوية فجاوب أن ما عنده خبر وأن تخمينه لم يوجد أحد.
فبعد ذلك انقرأ هذا الفحص على الأربعة المتهومين وهم سليمان الحلبي ومحمد الغزىوالسيد أحمد الولاي والسيد عبد الله الغزى وسألوهم هل جواباتهم هذه صحيحة ولافيها زائد ولا ناقص فأربعتهم جاوبوا لاثم حرروا خط يدهم معنا بالعربي برفقة الإثنين المترجمين وكاتم السر حرر بمدينة مصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه امضاء المتهومين بالعربي امضاء الترجمان لو ما كان امضاء دمياسومر برا شويش كاتم السر وترجمان سارى عسكر العام امضاء المبلغ سارتلون امضاء كاتم السر بينه بعد خلاص الفحص المشروح أعلاه أنا المبلغ سارتلون سالت الأربعة المتهومين المذكورين أنهم يختاروا لهم واحدا ليتكلم عنهم قدام القضاة ويحامي عنهم والمذكورون قالوا أن ما هم عارفون من يختاروا فأورينا لهم الترجمان لوماكا لأجل يمشي لهم في ذلك.
بيان فحص مصطفى أفندي.
نهار تاريخه ستة وعشرين شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي أنا المبلغ سارتلون وبينه كاتم سر القضاة المنتشرين لشرع كل من كان له جرة في قتل سارى عسكر العام كلهبر أحضرنا مصطفى أفندي لكي تفحص منه على الذي قد حصل.
سئل عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته فجاوب بأنه يسمى مصطفى أفندي ولادة برصة في بر أناضول وعمره واحد وثمانون سنة وساكن في مصر ثم صنعته معلم كتاب.
سئل هل من مدة شهر شاف سليمان الحلبي فجاوب أن هذا الرجل مشدود من مدة ثلاث سنين وأنه من مدة عشرة أو عشرين يوما حضر عنده وبات ليلة ومن حيث أنه رجل فقير قال له: يروح يفتش له على محل غيره.
سئل هل سليمان المذكور ما أخبره أنه حضر من بر الشام حتى يقتل(2/380)
سارى عسكر العام فجاوب لا بل حضر عنده ليسلم عليه فقط لكونه معلمة من قديم.
سئل هل سليمان ما عرفه عن سبب حضوره لهذا الطرف وهل هو نفسه ما استخبر عن ذلك فجاوب أن كل اجتهاده كان في أنه يصرفه من عنده بحيث أنه رجل فقير بل سأله عن سبب حضوره فأخبره لأجل يتقن القراءة.
سئل هل يعرف بأن سليمان راح عند ناس من البلد وخصوصا عند أجد من المشايخ الكبار فجاوب أنه لا يعرف شيئا لأنه ما شافه إلا قليلا وأنه لم يقدر يخرج كثيرا من بيته بسبب ضعفه وكبره.
سئل هل أنه ما يعلم القرآن إلا مشاديده فجاوب نعم.
سئل هل أن القرآن يرضي بالمغازاة ويأمر بقتل الكفرة فجاوب أنه ما يعرف ايش هي المغازاة التي القرآن ينبي عنها.
سئل هل يعمل مشاديده هذه الأشياء فجاوب واحد اختيار مثله ماله دعوة في هذه الأشياء بل أنه يعرف أن القرآن ينبي عن المغازاة وأن كل من قتل كافرا يكسب اجرا.
سئل هل علم هذا الغرض لسليمان فجاوب أنه ما علمه إلا الكتابة فقط.
سئل هل عنده خبر أن أمس تاريخه رجل مسلم قتل سارى عسكر الفرنساوية الذي ما هو من ملته وهل بموجب تعليم القرآن هذا الرجل فعل طيب ومقبول عند النبي محمد فجاوب أن القاتل يقتل وأما هو يظن أن شرف الفرنساوية هو من شرف الإسلام وإذا كان القرآن يقول غيره شيا هو ما له علاقة فحالا قدمنا سليمان المذكور وقابلناه بمصطفى أفندي ثم سالناه هل شاف مصطفى أفندي مرارا كثيرة وهل بلغه عن نيته فجاوب أنه ما شافه سوى مرة واحدة لأجل أنه يسلم عليه بحيث أنه معلمه القديم.
وبما أنه رجل اختيار وضعيف قوي ما رأى مناسب يخبره عن ضميره.
سئل هل هو من ملة المغازين وهل أن المشايخ سمحوا له في قتل الكفار في مصر ليكتب له أجر ويقبل عند النبي محمد فجاوب أنه ما فتح سيرة المغازاة(2/381)
إلا إلى الأربعة مشايخ فقط الذين سماهم.
سئل هل أنه ما تحدث مع الشيخ الشرقاوي فجاوب أنه ما شاف هذا الشيخ لأنه ما هو من ملته بسبب أن الشيخ الشرقاوي شافعي وهو حنفي فبعد هذا قرينا على سليمان ومصطفى أفندي إقرارهم هذا فجاوبوا أن هذا هو الحق وما عندهم ما يزيدوا ولا ينقصوا ثم حرروا خط يدهم برفقة الترجمان ونحن حرر بمصر في اليوم والشهر والسنة والمحررة أعلاه امضاء الإثنين المتهومين بالعربي امضاء لوماكا الترجمان امضاء سارتلون امضاء كاتم السر بينه.
هذه الرواية المنقولة في اليوم السابع والعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من إقامة الجمهور الفرنساوي عن الوكيل سارتلون بحضور مجمع القضاة المفوضين لمحاكمة قاتل سارى عسكر العام كلهبر وأيضا لمحاكمة شركاء القاتل المذكور يا ايها القضاة أن المناحة العامة والحزن العظيم الذي نحن مشتملون بهما الآن يخبران بعظم الخسران الذي حصل الآن بعسكرنا لأن سارى عسكرنا في وسط نصراته ومماجده ارتفع بغتة من بيننا تحديد قاتل رذيل ومن يد مستأجره من كبراء ذوي الخيانة والغيرة الخبيثة والان أنا معين ومأمور لاستدعاء الانتقام للمقتول وذلك بموجب الشريعة من القاتل المسفور وشركائه كمثل أشنع المخلوقات لكن دعوني ولو لحظة خالطا فيض دموع عيني وحسراتي بدموعكم ولوعاتكم التي سببها هذا المفدى الأسيف والمكرم المنيف فقلبي احتسب جدا اهتياجه لتأدية تلك الجزية لمستحقها فوظيفتي كأنها ليست في الرؤية إلا الما بتغريق المهيب بماء هذه المصنوعة الشنيعة التي بوقوعها ارتبكت سمعتم الآن قراءة أعلام وفحص المتهمين وباقي المكتوبات عما جرى منهم وقط ما ظهر سيئة أظهر من هذه السيئة التي أنتم محاكمون فيها من صفة الغدارين ببيان الشهود واقرار القاتل وشركائه والحاصل كل شيء متحد ورامي الضياء المهيب لمناورة ذا القتل الكريه إني أنا راوي لكم سرعة الأعمال جاهد نفسي أن ظفرت لمنع غضبي منهم منها فلتعلم(2/382)
بلاد الروم والدنيا بكمالها أن الوزير الأعظم سلطنة العثمانية ورؤساء جنود جنود عسكرها رذلوا أنفسهم حتى ارسلوا قتال معدوم العرض إلى الجريء والا نجب كلهبر الذي لا استطاعوا بتقهيره وكذلك ضعوا إلى عيوب مغلوبيتهم المجرم الظالم بالذي ترأسوا قبل السماء والأرض تذكروا جملتكم تلك الدول العثمانية المحاربين من اسلامبول ومن أقاصي أرض الروم وأناضول واصلين منذ ثلاثة شهور بواسطة الوزير لتسخير وضبط بر مصر وطالبين تخليتها بموجب الشروط الذي بمتفقيتهم بذاتهم مانعوا اجراءها والوزير أرق بر مصر وبر الشام بمناداته مستدعي بها قتل عام الفرنساوية وعلى الخصوص هو عطشان لانتقامه لقتل سر عسكرهم وفي لحظة الذين هم أهالي مصر محتفين باغويات الوزير كانوا محرومين شفقات ومكارم نصيرهم وفي دقيقة الذين هم اسارى ومجروحين العثملية هم مقبولين ومرعبين في دور ضيوفنا وضعفائنا تقيد الوزير بكل وجوه بتكميل سوء غفارته تلوه منذ زمان طويل واستخدم لذلك أغا مغضوبا منه ووعد له اعادة لطفه وحفظ رأسه الذي كان بالخطر أن كان يرتضي بذا الصنع الشنيع وهذا المغوى هو أحمد اغا المحبوس بغزة منذ ما ضبط العريش وذهب للقدس بعد انهزام الوزير في أوائل شهر جرمينال الماضي والاغا المرقوم محبوس هناك بدار متسلم البلد وفي ذلك الملجأ فهو مفتكر باجراء السوء الخبيث الذي يستثقل التقدير لافهيم ولا معه تدبير سيما هو عامل شيء لاجراء انتقام الوزير وسليمان الحلبي شب مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا ظهر عند ذا الاغا يوم وصوله القدس وبترجى صيانته لحراسة أبيه تاجر بحلب من اذيات إبراهيم باشا وإلى حلب يرجع له سليمان يوم غدره فقد كان استفتش الاغا عن احتيال اصل وفصل ذا الشب المجنون وعلم أنه مشتغل بجامع بين قراء القرآن وأنه هو الآن بالقدس للزيارة وأنه قد حج سابقا بالحرمين وأن العته النسكي هو منصوب في أعلى رأسه المضطرب من زيغاته وجهالاته بكمالة(2/383)
إسلامه وباعتمده أن المسمى منه جهاد وتهليك الغير المؤمنين فمما أنهى وأيقن أن هذا هوالايمان ومن ذلك الآن مارما بقي تردد أحمد اغا في بين ما نوى منه فوعد له حمايته وانعامه وفي الحال ارسله إلى ياسين اغا ضابط مقدار من جيوش الوزير بغزة وبعثه بعد أيام لمعاملته وأقبضه الدراهم اللازمة له وسليمان قد امتلأ من خباثته وسلك بالطرق فمكث واحد وعشرين يوم في بلد الخليل يجبرون منتظر فيه قبيلة لذهاب البادية وكل مستعجل ووصل غزة في أوائل شهر فلوريال الماضي وياسين اغا مسكنه بالجامع لاستحكام غيرته والمجنون يواجهه مرارا وتكرارا بالنهار والليل مدة عشرة أياما مكثه بغزة يعلمه وبعد ما أعطاه أربعين غرشا أسديا ركبه بعقبيه الهجين الذي وصل مصر بعد ستة أيام وممتن بخنجر دخل بأواسط شهر فلوريال إلى مصر التي قد سكنها سابقا ثلاث سنين وسكن بموجب تربياته بالجامع الكبير ويتحضر فيه للسيئة التي هو مبعوث لها ويستدعي الرب تعالى بالمناداة وكتب المناجاة وتعليقها بالسور مكانه بالجامع المذكور علاه وتأنس مع الأربعة مشايخ الذين قرأ والقرآن مثله وهم مثل مولودين ببر الشام وسليمان أخبرهم بسبب مراسلته وكان كل ساعة معهم متؤامرين به لكن ممنوعين بصعوبة ومخطرات الوحدة محمد الغزي والسيد أحمد الوالي وعبد الله الغزي وعبد القادر الغزي هم معتمدين سليمان بارتهان ما نواه ولا عاملوا شيء لممانعته أو لبيانه وعن مداومة سكونهم به صاروا مسامحين ومشتركين في قبحة القاتل هو منتظر واحد وثلاثين يوم معدودة بمصر فعقبة جزم توجهه إلى الجيزة وبذاك اليوم اعقد سره إلى الشركاء المذكورين أعلاه وكان كل شيء صار سهل جزم القاتل بمصنوعته الشنيعة وبيوم الغدوة طلع السر عسكر من الجيزة متوجها مصر وسليمان طوى الطرق ولحقه هلقدو حتى لزم أن يطروده مرارا مختلفة لكن هو المكار عقيب غدرا تعداه وفي يوم الخامس والعشرين من شهرنا الجاري وصل واختفى في جنينة السر عسكر لتقبيل يده فالسر عسكر لا أبي عن قيافة(2/384)
فقره وفي حال ما السر عسكر ترك له يده ضربه سليمان بخنجرة ثلاث جروح وقصد الستوين بروتاين الذي هو رئيس المعمار ومصاحب العرفاء وجاهد لحماية السر عسكر لكن ما نفع جسارته فهو بذاته وقع أيضا مجروح عن يد القاتل المسفور بستة جروحات وبقي لا مستطيع شيء وهكذا وقع بلا صيانة وهو الذي كان من الأماجد في الحرب ومخاطرات الغزا وهو أول الذين مضوا برياسة عسكر دولة الجمهور الفرنساوي المنصور الرهن الرهين وهو فتح ثانيا بر مصر حينئذ بهجوم سحائب من العثمانية فكيف اقتدر واضم الوجع العميق الجملة إلى دموع الأجناد إلى لوعات الرؤساء وجميع الجنرالية أصحابه بالمجاهدة والمماجدة بالمناحة وموالهة العسكر أنتم جميعا تنعوه والمحاسنات تستأهله وتنبغي له القاتل سليمان ما قدر يهرب من مغاشاة الجيوش غضوبين له الدم ظاهر في ثيابه وخنجره واضطرابه ووحشة وجهه وحاله كشفوا جرمه وهو بالذات مقر بذنبه بلسانه ومسمى شركاه وهو كمادح نفسه للقتل الكريه صنع يديه وهو مستريح بجواباته للمسائل وينظر محاضر سياسات عذابه بعين رفيعة والرفاهية هي الثمر المحصول من العصمة والتفاوه فكيف تظهر بوجوه الآثمين ومسامحينهم شركاء سليمان الاثيم كانوا مرتهنين سره للقتل الذي حصل من غفلتهم وسكوتهم قالوا باطلا أنهم ما صدقوا سليمان هو مستعدد بذا الإثم وقالوا باطلا أيضا أن لو كانوا صدقوا ذا المجنون كانوا في الحال شايعين خيانته لكن الأعمال شهود تزور وتنبيء أنهم قابلوا القاتل وما غيروا له نية إلا خوف مهلكتهم ومصممين تهلكة غيرهم ولا هم مستعذرين وجها من الوجوه لا حكى لهم شيء من مصطفى أفندي بما أن لا ظهر شيء عند ذاك الشيب يثبت معاقرته بشكل العذاب اللائق للمذنبين هو تحت اصطفاكم بموجب الأمر من الذي أنتم مأمورن بعقيبه لمحاكمة السيئين وأظن أن يليق أن تصنعوا لهم من العذابات العادية ببلاد مصر ولكن عظمة الاثم تستدعي أن يصير عذابه مهيبا فإن سألتوني أجبت أنه يستحق الخوزقة وأن قبل كل شيء تحرق(2/385)
يد ذا الرجل الاثيم وأنه هو يموت بتعذيبه ويبقى جسده لمأكول الطيور وبجهة المسامحين له يستحقون الموت لكن بغير عقوبة كما قلت لكم ونبهت فليعلم الوزير والعملية الظالمين تحت أمره حد جزاء الآثمين الذين ارتكبوا بقصد انتقامهم لعدم المروءة أنهم عدموا من عسكرنا واحد مقدام سبب دائمي دموعنا ولوعتنا الأبدية فلا يحسبوا ولا يأملوا بأقلال جزائنا إنما خليفة السر عسكر المرحوم هو رجل قد شهر شجاعة ومضى قدماه بصفاء ضمير منير وهو مشار إليه بالبنان لمعرفة بتدبير الجنود والجمهور المنصور وهو يهدينا بالنصرة وأما أولئك المعدومون القلب والعرض فلا احمرت وجوههم بانتقامهم وأنهزامهم باق ثم عدم اعتبارهم بالتواريخ لا بد أنهم باقين بالرذالة لا نفع لهم قدام العالم إلا اكتساب خجالتهم ولعدم المبالاة حالا كشفتها لهم اثبت محاكمات كما يأتي بيانها.
اولا أن سليمان الحلبي مثبت اسمه الكريه بقتل السرعسكر كلهبر فلهذا هو يكون مدحوضا بتحريق يده اليمنى وبتحريقه حتى يموت فوق خازوقه وجيفته باقية فيه لمأكولات الطيور.
ثانيا أن الثلاثة مشايخ المسمين محمد الغزى وعبد الله الغزي وأحمد الغزي يكونون متبينين منكم أنهم شركاء لهذا القاتل فلذلك يكونون مدحوضين بقطع رؤسهم.
ثالثا أن الشيخ عبد القادر الغزي يكون مدحوضا بذلك العذاب.
رابعا أن اجراء عذابهم يصير بعودة المجتمعين لدفن السر عسكر وإمام العسكر وناس البلد لذاك الفعل موجودين فيه.
خامسا أن مصطفى أفندي تبين غير مثبوت مسامحته وهو مطلوق إلى مانرى.
سادسا أن ذا الأعلام وبيناته وما جرى بطبع في خمس نسخ ويؤول من لسان الفرنساوي بالعربي والتركي لتلزيقها بمحلات بلاد بر مصر بكمالها بموجب المأمور حرر بمصر القاهرة في اليوم السابع وعشرين من(2/386)
شهرنا برريال سنة ثمانية من إقامة الجمهور المنصور ممضى سارتلون.
الفتوى الخارجة من طرف ديوان القضاة المنتشرين بأمر سارى عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية في مصر.
لاجل شرعية كل من له جرة في غدر وقتل سارى عسكر العام كلهبر في السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي وفي اليوم السابع وعشرين من شهر برريال اجتمعوا في بيت سارى عسكر رينيه المذكور وسارى عسكر روبين ودفتردار البحرلرو والجنرال مارتينه والجنرال مورانه ورئيس العسكر جوجه ورئيس المدافع فاور ورئيس المسار برترنه والوكيل رجينه والدفتردار سارتلون في رتبة مبلغ والوكيل لبهر في رتبة وكيل الجمهور والوكيل بينه في رتبة كاتم السر وهذا ما صار حكم أمر سارى عسكر العام منو أمير الجيوش الفرنساوية الذي صدر أمس وأقام القضاة المذكورين لكي يشرعوا على الذي قتل سارى عسكر العام كلهبر في اليوم الخامس والعشرين من الشهر ولكي يحكموا عليه بمعرفتهم فحين اجتمعوا القضاة المذكورون وسارى عسكر رينيه الذي هو شيخهم أمر بقراءة الأمر المذكور أعلاه الخارج من يد سارى عسكر منو ثم بعده المبلغ قرأ كامل الفحص والتفتيش الذي صدر منه في حق المتهومين وهم سليمان الحلبي والسيد عبد القادر الغزي ومحمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي ومصطفى أفندي فبعد قراءة ذلك أمر سارى عسكر رينيه بحضور المتهومين المذكورين قدام القضاة وهم من غير قيد ولا رباط بحضور وكيلهم والابواب مفتحة قدام كامل الموجودين فحين حضروا سارى عسكر رينيه وكامل القضاة سألوهم جملة سؤالات وهذا بواسطة الخواجا براشويش الترجمان فهم ما جاوبوا إلا بالذي كانوا قالوه حين انفحصوا فسارى عسكر رينيه سالهم أيضا أن كان مرادهم يقولوا شيأ مناسبا لتبرئتهم فأجاوبوه بشيء فحالا سارى عسكر المذكور أمر بردهم إلى الحبس مع الخفراء عليهم ثم أن سارى عسكر رينيه التفت إلى القضاة وسالهم ايش رأيهم في عدم حديث المتهومين وأمر(2/387)
بخروج كامل الناس من الديوان وقفل المحل عليهم لأجل يستشارو بعضهم من غير أن أحدا يسمعهم ثم انوضع أول سؤال وقال:.
سليمان الحلبي ابن أربعة وعشرين سنة وساكن بحلب منهم بقتل سارى عسكر العام وجرح السيتوين بروتاين المهندس وهذا صار في جنينة سارى عسكر العام في خمسة وعشرين من الشهر الجاري فهل هو مذنب فالقضاة المذكورون ردوا كل واحد منهم لوحده والجميع بقول واحد أن سليمان الحلبي مذنب.
السؤال الثاني السيد عبد القادر الغزى مقرى قرآن في الجامع الأزهر ولادة غزة وساكن في مصر متهوم أنه بلغه بالسر في غدر سارى عسكر العام وما بلغ ذلك وقصد الهروب فهل هو مذنب فالقضاة جاوبوا تماما أنه مذنب.
ثم وضع السؤال الثالث وقال محمد الغزى ابن خمسة وعشرين سنة ولادة غزة وساكن في مصر مقرى قرآن في الجامع الأزهر متهوم أنه بلغه بالسر في غدر سارى عسكر وأنه حين ذلك الغادر كان نوى الرواح لقضاء فعله بلغه أيضا وهو ما عرف أحدا بذلك فهل هو مذنب فالقضاة جاوبوا تماما أنه مذنب.
السؤال الرابع عبد الله الغزى ابن ثلاثين سنة ولادة عزة ومقرى قرآن في الجامع الأزهر متهوم أنه كان يعرف في غدر سارى عسكر وأنه ما بلغ أحدا بذلك فهو هو مذنب فالقضاة جاوبوا تماما أنه مذنب.
السؤال الخامس أحمد الوالي ولادة غزة مقرى قرآن في جامع الأزهر متهوم أن عنده خبر في غدر سارى عسكر وأنه ما بلغ أحدا بذلك فهل هو مذنب فالقضاة جاوبوا تماما أنه مذنب.
السؤال السادس مصطفى أفندي ولادة برصة في براناضول عمره واحد وثمانين سنة ساكن في مصر معلم كتاب ما عنده خبر بغدر سارى عسكر فهل هو مذنب فالقضاة تماما جاوبوا بأنه غير مذنب وأمروا باطلاقه(2/388)
فبعد ذلك القاضي وكيل الجمهور طلب أنهم يفتوا بالموت على المذنبين المشروحين أعلاه فالقضاة تشاوروا مع بعضهم ليعتمدوا على جنس عذاب لائق لموت المذنبين أعلاه ثم بدؤا بقراءة خامس مادة من الأمر الذي اخرجه امس سارى عسكر منو بسبب ذل والذي بموجبه أقامهم قضاة في فحص وموت كل من كان له جرة في غدر وقتل سارى عسكر العام كلهبر ثم اتفقوا جميعهم أن يعذبوا المذنبين ويكون لائق للذنب الذي صدر وأفتوا أن سليمان الحلبي تحرق يده اليمين وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور وهذا يكون فوق التل الذي برا قاسم بك ويسمى تل العقارب وبعد دفن سارى عسكر العام كلهبر وقدام كامل العسكر وأهل البلد الموجودين في المشهد ثم أفتوا بموت السيد عبد الغادر الغزى مذنب أيضا كما ذكر أعلاه وكل ما تحكم يده عليه يكون حلال للجمهور الفرنساوي ثم هذه الفتوى الشرعية تكتب وتوضع فوق البيت الذي مختص بوضع رأسه وأيضا افتوا على محمد الغزى وعبد الله وأحمد الوالي أن تقطع رؤسهم وتوضع على نبابيت وجسمهم يحرق بالنار وهذا يصير في المحل المعين أعلاه ويكون ذلك قدام سليمان الحلبي قبل أن يجري فيه شيء هذه الشريعة والفتوى لازم أن ينطبعا باللغة التركية والعربية والفرنساوية من كل لغة قدر خمسمائة نسخة لكي يرسلوا ويعلقوا في المحلات اللازمة والمبلغ يكن مشهل في هذه الفتوى تحريرا في مدينة مصر في اليوم والشهر والسنة المحررة أعلاه ثم أن القضاة حطوا خط يدهم باسمائهم برفقة كاتم السر ممضى في اصله ثم هذه الشريعة والفتوى انقرت وتفسرت على المذنبين بواسطة السيتوين لو ما كان الترجمان قبل قصاصهم فهم جاوبوا أن ما عندهم شيء يزيدوا ولا ينقصوا على الذي أقروا به في الأول فحالا قضوا أمرهم في ثمانية وعشرين من شهر برريال حكم الاتفاق وقبل نصف النهار بساعة واحدة حرر بمصر في ثمانية وعشرين برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهور الفرنساوي ثم ختموا باصله الدفتردار سارتلون وكاتم(2/389)
السر بينه وهذه نسخة من الأصل امضاء بينه كاتم السر آه وهذا آخر ما كتبوه في خصوص هذه القضية ورسموه وطبعوه بالحرف الواحد ولم اغير شيئا مما رقم إذ لست ممن يحرف الكلم وما فيه من تحريف فهو كما في الأصل والله أعلم وأحكم.
ولما فرغوا من ذلك اشتغلوا بامر عسكرهم المقتول وذلك بعد موته بثلاثة أيام كما ذكر ونصبوا مكانه عبد الله جاك منو ونادوا ليلة الرابع من قتلته وهي ليلة الثلاثاء خامس عشرين المحرم في المدينة بالكنس والرش في جهات حكام الشرطة فلما أصبحوا اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطائفة عينها القبط والشوام وخرجوا بموكب مشهده ركبانا ومشاة وقد وضعوه في صندوق من رصاص مسنم الغطاء ووضعوا ذلك الصندوق على عربة وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذي قتل به وهو مغموس بدمه وعملوا على العربة أربعة بيارق صغار في اركانها معمولة بشعر أسود ويضربون بطبولهم بغير الطريقة المعتادة وعلى الطبول خرق سود والعسكر بايديهم البنادق وهي منكسة إلى أسفل وكل شخص منهم معصب ذراعه بخرقة حرير سوداء ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السوداء وعليها قصب مخيش وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة وخرجوا من بيت الأزبكية على باب الخرق إلى درب الجماميز إلى جهة الناصرية فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنوها هناك ضربوا عدة مدافع وكانوا أحضروا سليمان الحلبي والثلاثة المذكورين فأمضوا فيهم ما قدر عليهم ثم ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني فرفعوا ذلك الصندوق ووضعوه على علوة من التراب يوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك وعملوا حولها داربزين وفوقه كساء أبيض وزرعوا حوله اعواد سرو ووقف عند بابها شخصان من العسكر ببنادقهما ملازمان ليلا ونهارا يتناوبان الملازمة على الدوام وانقضى أمره واستقر عوضه في السر عسكرية قائممقام عبد الله جاك منو وهو الذي كان متوليا على رشيد من قدومهم وقد كان أظهر أنه(2/390)
أسلم تسمى بعبد الله وتزوج بامرأة مسلمة وقلدوا عوضه في قائمقامية بليار فلما أصبح ثاني يوم حضر قائممقام والاغا إلى الأزهر ودخلا إليه وشقا في جهاته وأروقته وزواياه بحضرة المشايخ.
وفي يوم الخميس حضر سارى عسكر عبد الله جاك منو وقائمقام لو الاغا وطافوا به أيضا وأرادوا حفر أماكن للتفتيش على السلاح ونحو ذلك ثم ذهبوا فشرعت المجاورون به في نقل امتعتهم منه هو نقل كتبهم واخلاء الاروقة ونقلوا الكتب الموقوفة بها إلى أماكن خارجة عن الجامع وكتبوا أسماء المجاورين في ورقة وأمروهم أن لا يبيت عندهم غريب ولا يؤوا إليهم آفاقيا مطلقا وأخرجوا منه المجاورين من طائفة الترك ثم أن الشيخ الشرقاوي والمهدي والصاوي توجهوا في عصريتها عند كبير الفرنسيس منو وأستاذ نوه في قفل الجامع وتسميره فقال بعض القبطة الحاضرين للاشياخ هذا لا يصح ولا يتفق فحنق عليه الشيخ الشرقاوي وقال اكفونا شر دسائسكم ياقبطة وقصد المشايخ من ذلك منع الريبة بالكلية فإن للأزهر سعة لا يمكن الاحاطة بمن يدخل فربما دس العدو من يبيت به واحتج بذلك على انجاز غرضه ونيل مراده من المسلمين والفقهاء ولا يمكن الاحتراس من ذلك فاذن كبير الفرنسيس بذلك لما فيه من موافقة غرضه باطنا فلما أصبحوا قفلوه وسمروا أبوابه من سائر الجهات.
وفي غايته جمعوا الوجاقلية وأمروهم باحضار ما عندهم من الأسلحة فأحضروا ما أحضروه فشددوا عليهم في ذلك فقالوا لم يكن عندنا غير الذي أحضرناه فقالوا وأين الذي كنا نرى لمعانه عند متاريسكم فقالوا تلك اسلحة العساكر العثمانية والأجناد المصرية وقد سافروا بها.
واستهل شهر صفر بيوم الثلاثاء سنة 1215.
في أوائله سافر بعض الأعيان من المشايخ وغيرهم إلى بلاد الارياف بعيالهم وحريمهم وبعضهم بحث حريمه وأقام هو مسافر الشيخ محمد الحريري وصحب معه حريم الشيخ السحيمي وصهره الشيخ المهدي فلما(2/391)
رآهم الناس عزم الكثير منهم على الرحلة وأكثروا المراكب والجمال وغير ذلك فلما أشيع ذلك كتب الفرنسيس أوراقا ونادوا في الأسواق بعدم انتقال الناس ورجوع المسافرين ومن لم يرجع بعد خمسة عشر يوما نهبت داره فرجع أكثر الناس ممن سافر أو عزم على السفر إلا من أخذ له ورقة بالاذن من مشاهير الناس احتج بعذر كائن في خدمة لهم أو قبض خراج أو مال أو غلال من التزامه.
وفيه قرروا فردة أخرى وقدرها أربعة ملايين وقدر المليون مائة وستة وثمانون ألف فرانسة وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى بعد ما قاسوا من الشدائد ما لا يوصف ومات أكثرهم في الحبوس وتحت العقوبة وهرب الكثير منهم وخرجوا على وجوههم إلى البلاد ثم دهوا بهذه الداهية أيضا فقرروا على العقار والدور مائتي ألف فرانسة وعلى الملتزمين مائة وستين ألفا وعلى التجار مائتي ألف وعلى أرباب الحرف المستورين ستين ألفا واسقطوا في نظير المنهوبات مائة ألف وقسموا البلدة ثمانية اخطاط وجعلوا على كل خطة منها خمسةوعشرين ألف ريال ووكلوا بقبض ذلك مشايخ الحارات والأمير الساكن بتلك الخطة مثل المحتسب بجهة الحنفي وعمر شاه وسويقة السباعين ودرب الحجر ومثل ذي الفقار كتخدا جهة المشهد الحسيني وخان الخليلي والغورية والصنادقية والاشرفيةوحسن كاشف جهة الصليبة والخليفة وما في ضمن كل من الجهات والعطف والبيوت فشرعوا في توزيع ذلك على الدور الساكنة وغير الساكنة وقسموها عال وأوسط ودون وجعلوا العال ستين ريالا والوسط أربعين والدون عشرين ويدفع المستأجر قدر ما يدفع المالك والدار التي يجدونها مغلقة وصاحبها غائب عنها يأخذون ما عليها من جيرانها.
وفي سادس عشرينه أفرجوا عن الشيخ السادات ونزل إلى بيته بعد أن غلق الذي تقرر عليه واستولوا على حصصه وأقطاعه وقطعوا مرتباته وكذلك(2/392)
جهات حريمه والحصص الموقوفة على زاوية أسلافه وشرطوا عليه عدم الاجتماع بالناس وأن لا يركب بدون اذن منهم ويقتصد في أمور معاشه ويقلل اتباعه.
شهر ربيع الأول سنة 1215.
فيه نادوا على الناس الخارجين من مصر من خوف الفردة وغيرها بأن من لم يحضر من بعد اثنين وثلاثين يوما من وقت المناداة نهبت داره واحيط بموجوده وكان من المذنبين واشتد الأمر بالناس وضاقت منافسهم وتابعوا نهب الدور بأدنى شبهة ولا شفيع تقبل شفاعته أو متكلم تسمع كلمته واحتجب سارى عسكر عن الناس وامتنع من مقابلة المسلمين وكذلك عظماء الجنرالات وانحرفت طباعهم عن المسلمين زيادة عن أول واستوحشوا منهم ونزل بالرعية الذل والهوان وتطاولت عليهم الفرنساوية وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الاقباط والشوام والاروام بالإهانة حتى صاروا يامرونهم بالقيام إليهم عند مرورهم ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة وضربوه واستمر عدة أيام في الأعتقال ثم يطلق بشفاعة بعض الأعيان.
وفيه أنزلوا مصطفى باشا من الحبس وأهدوا إليه هدايا وأمتعة وأرسلوه إلى دمياط فأقام بها أياما وتوفي إلى رحمة الله تعالى.
شهر ربيع الثاني سنة 1215.
فيه اشتد أمر المطالبة بالمال وعين لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله فنزل بالناس منه ما لا يوصف فكان يدخل إلى دار أي شخص كان لطلب المال وصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة وبأيديهم القزم فيأمرهم بهدم الدار أن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير إلى غير ذلك وخصوصا ما فعله ببولاق فإنه كان يحبس الرجال مع النساء ويدخن عليهم بالقطن والمشاق وينوع عليهم العذاب ثم رجع إلى مصر يفعل كذلك(2/393)
وفيه أغلقوا جميع الوكائل والخانات على حين غفلة في يوم واحد وختموا على جميعها ثم كانوا يفتحونها وينهبون ما فيها من جميع البضائع والاقمشة والعطر والدخان خانا بعد خان فإذا فتحوا حاصلا من الحواصل قوموا ما فيه بما احبوا بابخس الاثمان وحسبوا غرامته فإن بقى لهم شيء أخذوه من حاصل جاره وإن زاد له شيء أحالوه علىجاره الآخر كذلك وهكذا ونقلوا البضائع على الجمال والحمير والبغال وأصحابها تنظر وقلوبهم تنقطع حسرة على مالهم وإذا فتحوا مخزنا دخله امناؤهم ووكلاؤهم فيأخذون من الودائع الخفيفة أو الدراهم وصاحب المحل لا يقدر على التكلم بل ربما هرب أو كان غائبا.
وفيه حرروا دفاتر العشور وأحصوا جميع الأشياء الجليلة والحقيرة ورتبوها بدفاتر وجعلوها اقلاما يتقلدها من يقوم بدفع مالها المحرر وجعلوا جامع أزبك الذي بالازبكية سوقا لمزاد ذلك بكيفية بطول شرحها وأقاموا على ذلك أياما كثيرة يجتمعون لذلك في كل يوم ويشترك الإثنان فاكثر في القلم الواحد وفي الاقلام المتعددة.
وفيه كثر الهدم في الدور وخصوصا في دور الأمراء ومن فر من الناس وكذلك كثر الاهتمام بتعمير القلاع وتحصينها وانشاء قلاع في عدة جهات وبنوا بها المخازن والمساكن وصهاريج الماء وحواصل الجبخانات حتى ببلاد الصعيد القبلية.
واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1215.
والأمور من أنواع ذلك تتضاعف والظلومات تتكاثف وشرعوا في هدم اخطاط الحسينية وخارج باب الفتوح وباب النصر من الحارات والدور والبيوت والمساكن والمساجد والحمامات والحوانيت والأضرحة فكانوا إذا دهموا دارا وركبوها للهدم لا يمكنون أهلها من نقل متاعهم ولا أخذ شيء من أنقاض دارهم فينهبونها ويهدمونها وينقلون الانقاض النافعة من الاخشاب والبلاط إلى حيث عمارتهم وأبنيتهم وما بقى يبيعون منه ما أحبوا(2/394)
بأبخس الأثمان ولوقود النيران وما بقى من كسارات الخشب يحزمه الفعلة حزما ويبيعونه على الناس باغلى الاثمان لعدم حطب الوقود ويباشر غالب هذه الافاعيل النصارى البلدية فهدم للناس من الأملاك والعقار ما لا يقدر قدره وذلك مع مطالبتهم بما قرر على أملاكهم ودورهم من الفردة فيجتمع على الشخص الواحد النهب والهدم والمطالبة في أن واحد وبعد أن يدفع ما على داره أو عقاره وماصدق أنه غلق ما عليه إلا وقد دهموه بالهدم فيستغيث فلا يغاث فترى الناس سكارى وحيارى ثم بعد ذلك كله يطالب بالمنكسر من الفردة وذلك أنهم لما قسموا الاخطاط كما تقدم وتولى ذلك أمير الخطة وشيخ الحارة والكتبة والأعوان وزعوا ذلك برأيهم ومقتضى أغراضهم فأول ما يجتمعون بديوانهم يشرع الكتبة في كتابة التنابيه وهي أوراق صغار باسم الشخص والقدر المقرر عليه وعلى عقاره بحسب اجتهادهم ورأيهم وعلى هامشها كراء طريق المعينين ويعطون لكل واحد من أولئك القراسة عدة من تلك الأوراق فقبل أن يفتح الإنسان عينيه ما يشعر إلا والمعين واقف بابه وبيده ذلك التنبيه فيوعدوه حتى ينظر في حاله فلا يحد بدا من دفع حق الطريق فما هو إلا أن يفارقه حتى يأتيه المعين الثاني بتنبيه آخر فيفعل معه كالاول وهكذا على عدد الساعات فإن لم يوجد المطلوب وقف ذلك القواس على داره ورفع صوته وشتم حريمه أو خادمه فيسعى الشخص جهده حتى يغلق ما تقرر عليه بشفاعة ذي وجاهة أو نصراني وما يظن أنه خلص إلا والطلب لاحقه أيضا بمعين وتنبيه فيقول ما هذا فيقال له أن الفردة لم تكمل وبقى منها كذا وكذا وجعلنا على العشرة خمسة أو ثلاثة أو ما سولت لهم أنفسهم فيرى الشخص أن لا بد من ذلك فما هو إلا أن خلص أيضا الاوكرة أخرى وهكذا أمرا مستمرا ومثل ذلك ما قرر على الملتزمين فكانت هذه الكسورات من أعظم الدواهي المقلقة ونكسات الحمى المطبعة.
وفي خامسة كان عيد الصليب وهو انتقال الشمس لبرج الميزان والأعتدال(2/395)
الخريفي وهو أول سنة الفرنسيس وهي السنة التاسعة من تاريخ قيامهم ويسمى عندهم هذا الشهر وتدميير وذلك يوم عيدهم السنوي فنادوا بالزينة بالنهار والوقدة بالليل وعملوا شنكات ومدافع وحراقات ووقدات بالازبكية والقلاع وخرجوا صبح ذلك اليوم بمواكبهم وعساكرهم وطبولهم وزمورهم إلى خارج باب النصر وعملوا مصافهم فقرىء عليهم كلام بلغتهم على عادتهم وكأنه مواعظ حربية ثم رجعوا بعد الظهر.
وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة لم يعهد مثلها فيما رأينا حتى انقطعت الطرقات وغرقت البلدان وطف الماء من بركة الفيل وسال إلى درب الشمسي وكذلك حارة الناصرية وسقطت عدة دور من المطلة على الخليج ومكث زائدا إلى آخر توت.
واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1215.
فيه قرروا على مشايخ البلدان مقررات يقومون بدفعها في كل سنة أعلى وأواسط وأدنى فالأعلى وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر خمسمائة ريال والأوسط وهو ما كانت خمسمائة فأزيد ثلثمائة ريال والادنى مائة وخمسون ريالا وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلا في ذلك فيكون عبارة عن شيخ المشايخ وعليه حساب ذلك وهو من تحت يد الوكيل الفرنساوي الذي يقال له: يريدون فلما شاع ذلك ضجت مشايخ البلاد لأن منهم من لا يملك عشاءه فاتفقوا على أن وزعوا ذلك على الاطيان وزادت في الخراج واستملوا البلاد والكفور من القبطة فأملوها عليهم حتى الكفور التي خربت من مدة سنين بل سموا اسماء من غير مسميات.
وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار فيه خصوصي وعمومي على ما سبق شرحه بل هو ديوان واحد مركب من الشيخ الأمير والشيخ الصاوي وكاتبه والشيخ موسى السرسي والشيخ تسعة رؤساء هم الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان والمهدي كاتب السر خليل البكري والسيد علي الرشيدي نسيب سارى عسكر والشيخ الفيومي(2/396)
والقاضي الشيخ إسمعيل الزرقاني وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسمعيل الخشاب والشيخ علي كاتب عربي وقاسم أفندي كاتب رومي وترجمان كبير القس رفائيل وترجمان صغير الياس فخر الشامي والوكيل الكمثارى فوريه ويقال له مدير سياسة الأحكام الشرعية ومقدم وخمسة قواسه متعممين لا غير وليس فيهم قبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك وليس واختاروا لذلك بيت رشوان بك الذي بحارة عابدين وكان يسكنه برطلمان فانتقل منه إلى بيت الجلفي بالخرنفش وعمر وبيض وفرشت قاعة الحريم بمجلس الديوان فرشا فاخرا وعينوا عشر جلسات في كل شهر وانتقل إليها فوريه وسكنها بأتباعه واعدوا للمترجمين والكتبة من الفرنساوية مكانا خاصا يجلسون به في غير وقت الديوان على الدوام لترجمة أوراق الوقائع وغيرها وجعلوا لها خزائن للسجلات وفتحوا أيضا بجانبها دارا نفذوها إليها وشرعوا في تعميرها وتأنيقها وسموها بمحكمة المتجر وأخذوا يرتبون انفارا من تجار المسلمين والنصارى يجلسون بها للنظر في القضايا المتعلقة بقوانين التجار والكبير على ذلك كله فوريه ولم يتم ذلك المكان الثاني.
وفي خامس عشره شرعوا في جلسة الديوان وصورته أنه إذا تكامل حضور المشايخ يخرج إليهم الوكيل فوريه وصحبته المترجمون فيقومون له فيجلس معهم ويقف الترجمان الكبير رفائيل ويجتمع أرباب الدعاوي فيقفون خلف الحاجز عند آخر الديوان وهو من خشب مقفص وله باب كذلك وعنده الجاويش يمنع الداخلين خلاف أرباب الحوائج ويدخلهم بالترتيب الأسق فالاسبق فيحكي صاحب الدعوة قضية فيترجمها له الترجمان فإن كانت من القضايا الشرعية فأما أن يتمها قاضي الديوان بما يراه العلماء أو يرسلوها إلى القاضي الكبير بالمحكمة أن احتاج الحال فيها إلى كتابة حجج أو كشف من السجل وأن كانت من غير جنس القضايا الشرعية كأمور الالتزام أو نحو ذلك يقول الوكيل ليس هذا من شغل(2/397)
الديوان فإن ألح على أرباب الديوان في ذلك يقول اكتبوا عرضا لسارى عسكر فيكتب الكاتب العربي والسيد إسمعيل يكتب عنده في سجله كل ما قال المدعي والمدعى عليه وما وقع في ذلك من المناقشة وربما تكلم قاضي الديوان في بعض ما يتعلق بالامور الشرعية ومدة الجلسة من قبيل الظهر بنحو ثلاث ساعات إلى الاذان أو بعده بقليل بحسب الاقتضاء ورتبوا لكل شخص من مشايخ الديوان التسعة أربعة عشر ألف فضة في كل شهر عن كل يوم أربعمائة نصف فضة وللقاضي والمقيد والكاتب العربي والمترجمين وباقي الخدم مقادير متفاوتة تكفيهم وتغنيهم عن الارتشاء وفي أول جلسة من ذلك اليوم عملت المقارعة لرئيس الديوان وكاتب السر فطلعت للشرقاوي والمهدي على عادتهما وكذلك الجاويشية والترجمان وكتبت تذكرة من أهل الديوان خطأ بالسارى عسكر يخبرونه فيها بما حصل من تنظيم الديوان وترتيبه وسر الناس بذلك لظنهم أنه انفتح لهم باب الفرج بهذا لديوان ولما كانت الجلسة الثانية ازدحم الديوان بكثرة الناس وأتوا إليه من كل فج يشكون.
وفي ثالث عشرينه أمروا بجمع الشحاذين أي السؤال بمكان وينفق عليهم نظار الأوقاف.
وفيه أيضا أمروا بضبط ايراد الأوقاف وجمعوا المباشرين لذلك وكذلك الرزق الاحباسية والاطيان المرصدة على مصالح المساجد والزوايا وأرسلوا بذلك إلى حكام البلاد والأقاليم.
وفي غايته حضر رجل إلى الديوان مستغيث بأهله وأن قلق الفرنسيس قبض على ولده وحبسه عند قائممقام وهو رجل زيات وسبب ذلك أن امرأة جاءت إليه لتشتري سمنا فقال لها: لم يكن عندي سمن فكررت عليه حتى حنق منها فقالت له: كأنك تدخره حتى تبيعه على العثملي تريد بذلك السخرية فقال لها: نعم رغما عن انفك وأنوف الفرنسيس فنقل عنه مقالته غلام كان معها حتى أنهوه إلى قائممقام فأحضره وحبسه ويقول أبوه أخاف(2/398)
أن يقتلوه فقال الوكيل: لا لا يقتل بمجرد هذا القول وكن مطمئنا فإن الفرنساوية لا يظلمون كل هذا الظلم فلما كان في اليوم الثاني قتل ذلك الرجل ومعه أربعة لا يدري ذنبهم وذهبوا كيوم مضى.
واستهل شهر رجب الفرج سنة 1215.
والطلب والنهب والهدم مستمر ومتزايد وأبرزوا أوامر أيضا بتقرير مليون على الصنائع والحرف يقومون بدفعه في كل سنة قدره مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسة ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر يدفع من المقرر الثلث وهو اثنان وستون ألف فرانسة فدهى الناس وتحيرت افكارهم واختلطت اذهانهم وزادت وساوسهم واشيع أن يعقوب القبطي تكفل بقبض ذلك من المسلمين ويقلد في ذلك شكر الله واضرابه من شيطاين أقباط النصارى واختلفت الروايات فقيل أن قصده أن يجعلها على العقار والدور وقيل بل قصده توزيعها بحسب الفردة وذلك عشرها لأن الفردة كانت عشرة ملايين فالذي دفع عشرة يقوم بدفع واحد على الدوام ولاستمرار ثم قيدوا لذلك رجلا فرنساويا يقال له دناويل وسموه مدبر الحرف فجمع الحرف وفرض عليهم كل عشرة أربعة فمن دفع عشرة في الفردة يدفع أربعة الآن فعورض في ذلك بأن هذا غير المنقول فقال هذا باعتبار من خرج من البلد ومن لم يدخل في هذه الفردة كالمشايخ والفارين فإن الذي جعل عليهم أضيف على من بقي فاجتمع التجاروتشاورا فيما بينهم في شأن ذلك فرأوا أن هذا شيء لا طاقة للناس به من وجوه الأول وقف الحال وكساد البضائع وانقطاع الأسفار وقلت ذات اليد وذهاب البقية التي كانت في أيدي الناس في الفرد والدواهي المتتابعة الثاني أن الموكلين بالفردة السابقة وزعوا على التجار والمتسببين وكل من كان له اسم في الدفتر من مدة سنين ثم ذهب ما في يده وافتقر حاله وخلا حانوته وكيسه فالزموه بشقص من ذلك وكلفوه به وكتب اسمه في دفتر الدافعين ويلزمه ما يلزمهم وليس ذلك في الأمكان الثالث أن الحرفة التي دفعت مثلا ثلاثين الفا يلزمها ثلاثة آلاف في السنة على الرأي الأول وعلى الثاني(2/399)
اثنا عشر ألفا وقد قل عددهم وغلقت أكثر حوانيتهم لفقرهم وهجاجهم وخصوصا إذا ألزموا بذلك المليون فيفر الباقي ويبقى من لا يمكنه الفرار ولا قدرة للبعض بما يلزم الكل.
وفيه أمر الوكيل بتحرير قائمة تتضمن اسماء الذين تقلدوا قضاء البلاد من طرف القاضي والذين لم يتقلدوا وأخبر أن السر في ذلك أن مناصب الأحكام الشرعية استقر النظر فيها له وأنه لا بد من استئناف ولايات القضاة حتى قاضي مصر بالقرعة من ابتداء سنة الفرنساوية ويكتب لمن تطلع له القرعة تقليد من سارى عسكر الكبير فكتبت له القائمة كما أشار.
وفي رابعه قتل جماعة بالرميلة وغيرها ونودى عليهم هذا جزاء من يتداخل في الفرنسيس والعثملي.
وفي سادسه عملت القرعة على طهابل زاد تكرارها ثلاث مرات لقاضي مصر واستقرت للعريشي على ما هو عليه وخرج له التقليد بعد مدة طويلة.
وفي ثامنه قتل غلام وجارية بباب الشعرية ونودي عليهما هذا جزاء من خان وغش وسعى بالفساد فيقال انهما كانا يخدمان فرنساويا فدسا له سما وقتلاه.
وفي تاسعه حضر جماعة من الوجاقلية إلى الديوان وهم يوسف باشا جاويش ومحمد اغا سليم كاتب الجاويشية وعلي أغا يحيى باشجاويش الجراكسة ومصطفى اغا ابطال ومصطفى كتخدا الرزاز وذكروا أنهم كانوا تعهدوا بباقي الفردة المطلوبة من الملتزمين وقدرها خمسة وعشرين ألف ريال وقد استدانوا لذلك قدرا من البن بخمسة وثلاثين ألف ريال فرانسة ليوفوا ما عليهم من الديوان وأنهم أرسلوا إلى حصصهم يطالبون الفلاحين بماعليهم من الخراج فامتنع الفلاحون من الدفع وأخبروا أن الفرنساوية خرجوا عليهم ومنعوهم من دفع المال للملتزمين فكتب لهم عرض حال في شأن ذلك وأرسل إلى سارى عسكر ولم يرجع جوابه.
وفي رابع عشره صنع الجرنال بليار المعروف بقائم مقام عزومة لمشايخ(2/400)
الدويان والوجاقلية وأعيان التجار وأكابر نصارى القبط والشوام ومد لهم اسمطة حافلة وتعشوا عنده ثم ذهبوا إلى بيوتهم.
وفي ثاني عشرينه طيف بأمرأتين في شوارع مصر بين يدي الحاكم ينادى عليهما هذا جزاء من يبيع الاحرار وذلك انهما باعتا امراة لبعض نصارى الاروام بتسعة ريالات.
وفيه طلب الخواجة الفرنسيسي المعروف بموسى كافو من الوجاقلية بقية الفردة المتقدم ذكرها فأجابوا بأن سبب عجزهم عن غلاقها توقف الفلاحين عن دفع المال بأمر الفرنساوية وعدم تحصيلهم المال من بلادهم ثم احيلوا بعد كلام طويل على استيفاء الخازندار لأن ذلك من وظائفه لا من وظائف الديوان.
وفي سابع عشرنيه حضر الوجاقلية ومعهم بعض الأعيان وحريمات ملتزمان يستغيثون بأرباب الديوان ويقولون أنه بلغنا أن جمهور الفرنساوية يريدون وضع أيديهم على جميع الالتزام المفروج عنه الذي دفعوا حلوانه ومغارمه ولا يرفع أيدي الملتزمين عن التصرف في الالتزام جملة كافيةوقد كان قبل ذلك أنهى الملتزمون الذين لم يفرجوا لهم عن حصصهم أما لفرارهم وعودهم بالأمان وأما لقصر أيديهم عن الحلوان وأما لشراقي بلادهم وأما لانتظارهم الفرج وعود العثمانيين فيتكرر عليهم لحلوان والمغارم فلما طال المطال وضاق حال الناس عرضوا أمرهم وطلبوا من مراحم الفرنساوية الافراج عن بعض ما كان بأيديهم ليتعيشوا به ووقع في ذلك بحث طويل ومناقشات يطول شرحها ثم ما كفى حتى بلغهم أن القصد نزع المفروج عنه أيضا ونزع أيدي المسلمين بالكلية وأنه يستشفعون بأهل الديوان عند سارى عسكر بأن يبقى عليهم التزامهم يتعيشون به ويقضون ديونهم التي استدانوها في الحلوان ومغارم الفردة فقال فوريه الوكيل هل بلغكم ذلك من طريق صحيح فقالوا نعم بلغنا من بعض الفرنساوية وقال الشيخ خليل البكري وأنا سمعته من الخازندار وقال(2/401)
الشيخ المهدي مثل ذلك وأنهم يريدون تعويضهم من أطيان الجمهور فقال الملتزمون أن بيدنا الفرمانات والتمسكات من سلفكم بونابارته ومن السلاطين السابقين ونوابهم وقائمون بدفع الخراج وأنهم ورثوا ذلك عن آبائهم وأسلافهم وأسيادهم وإذا أخذ منهم الالتزام اضطروا إلى الخروج من البلد والهجاج وخراب دورهم ويصبحون صعاليك ولا يأتمنهم الناس وطالب البحث في ذلك والوكيل مع هذا كله ينكر وقوع ذلك مرة ويناقش أخرى إلى أن انتهى الكلام بقوله له أن هذا الكلام في هذا وأمثاله ليس من وظيفتي فإني حاكم سياسة الشريعة لا مدبر أمر البلاد نعم من وظيفتي المعاونة والنصح فقط.
وفي خامس عشرينه اتفق أن جماعة من أولاد البلد خرجوا إلى النزهة جهة الشيخ قمر ومعهم جماعة الآتية يغنون ويضحكون فنزل إليهم جماعة من العسكر الفرنساوية المقيمين بالقلعة خارج الحسينية وقبضوا عليهم وحبسوهم وأرسلوا شخصا منهم إلى شيخ البلد بليار وأخبروه بمكانهم ليستفسر عن شأنهم فلقيه ثم رده إلى القلعة الظاهرية تانيا فبات عند اصحابه ثم طلبهم في ثاني يوم فذهبوا وصحبتهم جماعة من العسكر بالبندق تحرسهم فقابلوه ومن عليهم بالاطلاق وذهبوا إلى منازلهم.
وفيه منعوا الاغا والوالي والمحتسب من عوائدهم على الحرف والمتسببين فإنها اندرجت في أقلام العشور ورتبوا لهم جامكية من صندوق الجمهور يقبضونها في كل شهر.
واستهل شهر شعبان سنة 1215.
فيه أجيب الملتزمون بابقاء التزامهم عليهم وأنكروا ما قيل في رفع أيديهم وعوتب من صدق هذه الأكذوبة وأن كانت صدرت من الخازندار فانما كانت على سبيل الهزل أو يكون التحريف من الترجمان أو الناقل.
وفيه حضر التجار إلى الديوان وذكروا أمر المليون وأن قصدهم أن يجعلوه موزعا على الرؤوس ولا يمكن غير ذلك وطال الكلام والبحث في(2/402)
شأن ذلك ثم انحط الأمر على تفويض ذلك لرأي عقلاء المسلمين وأنهم يجتمعون ويدبرون ويعملون رأيهم في ذلك بشرط أن لا يتداخل معهم في هذا الأمر نصراني أو قبطي وهم الضامنون لتحصيله بشرط عدم الظلم وأن لا يجعلوا على النساء ولا الصبيان ولا الفقهاء ولا الخدامين شيئا وكذلك الفقراء ويراعي في ذلك حال الناس وقدرتهم وصناعتهم ومكاسبهم ثم قالوا: نرجو أن تضيفوا إلينا بولاق ومصر القديمة فلم يجابوا إلى ذلك لكونهم جعلوهما مستقلين وقرروا عليهما قدرا آخر خلاف الذي قرروه على مصر.
وفيه لخصوا عرضا ولطفوا فيه العبارة لسارى عسكر فأجيبوا إلى طلبهم ما عدا بولاق ومصر القديمة وأخرجوا من أرباب الحرف الصيارفة والكيالين والقبانية وجعلوا عليهم بمفردهم ستين ألف ريال خلاف ما يأتي عليهم من المليون أيضا يقومون بدفعها في كل سنة والسر في تخصيص الثلاث حرف المذكورة دون غيرها أن صناعتهم من غير رأس مال.
وفيه افدروا ديوانا لذلك ببيت داود كاشف خلف جامع الغورية وتقيد لذلك السيد أحمد الزرو وأحمد بن محمود محرم وإبراهيم أفندي كاتب البهار وطائفة من الكتبة وشرعوا في تحرير دفاتر باسماء الناس وصناعاتهم وجعلوها طبقات فيقولون فلان من نمرة عشرة أو خمسة أو ثلاثة أو اثنين أو واحد ومشوا على هذا الأصطلاح.
وفيه أبطلوا عشور الحرير الذي يتوجه من دمياط إلى المحلة الكبرى.
وفيه أرسل سارى عسكر يسأل المشايخ عن الذين يدورون في الأسواق ويكشفون عوراتهم ويصيحون ويصرخون ويدعون الولاية وتعتقدهم العامة ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يصومون هذا جائز عندكم في دينكم أو هو محرم فأجابوه بأن ذلك حرام ومخألف لديننا وشرعنا وسنتنا فشكرهم على ذلك وأمر الحكام بمنعهم والقبض على من يرونه كذلك فإن كان مجنونا ربط بالمارستان أو غير مجنون فأما أن يرجع عن حالته(2/403)
وفيه أرسل رئيس الاطباء الفرنساوي نسخا من رسالة ألفها في علاج الجدري لارباب الديوان لكل واحد نسخة على سبيل المحبة والهدية ليتناقلها الناس ويستعملوا ما أشار إليه فيها من العلاجات لهذا الداء العضال فقبلوا منه ذلك وأرسلوا له جوابا شكر له على ذلك وهي رسالة لا بأس بها في بابها.
وفي حادي عشره وجدت امرأة مقتولة بغيط عمر كاشف بالقرب من قناطر السباع فتوجه بسبب الكشف عليها رسول القاضي والاغا وأخذوا الغيطانية وحبسوهم وكان بصحبتهم أيضا القبطان الحاكم بالخط ولم يظهر القاتل ثم أطلقوا الغيطانية بعد أيام.
وفيه كمل المكان الذي أنشؤوه بالازبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكمرى وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم ولا يدخل أجد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.
وفي سادس عشرة ذكروا في الديوان أن سارى عسكر أمر وكيل الديوان أن يذكر لمشايخ الديوان أن قصده ضبط واحصاء من يموت ومن يولد من المسلمين وأخبرهم أن سارى عسكر بونابارته كان في عزمه ذلك وأن يقيد له من يتصدى لذلك ويرتبه ويدبره ويعمل له جامكية وافرة فلم يتم مرامه والان يريد تتميم ذلك ويطلب منهم التدبير في ذلك وكيف يكون وذكر لهم أن في ذلك حكما وفوائد منها ضبط الإنساب ومعرفة الأعمار فقال بعض الحاضرين وفيه معرفة انقضاء عدة الأزواج أيضا ثم اتفق الرأي على أن يعلموا بذلك قلقات الحارات واخطاط وهم يقيدون على مشايخ الحارات والاخطاط بالتفحص عن ذلك من خدمة الموتى والمغسلين والنساء القوابل وما في معنى ذلك ثم ذكر الوكيل أن سارى عسكر ولد له مولود(2/404)
فينبغي أن تكتبوا له تهنئة بذلك المولود الذي ولد له من المرأة المسلمة الرشيدية وجوابا عن هذا الرأي فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة وأوصلها إليه الوكيل فوريه.
وفي غايته سقطت منارة جامع قوصون سقط نصفها الأعلى فهدم جانبا من بوائك الجامع ونصفها الأسفل مال على الأماكن المقابلة له بعطفة الدرب النافذ لدرب الاغوات وبقي مسندا كذلك قطعة واحدة إلى يومنا هذا واظن أن سقوطها من فعل الفرنسيس بالبارود.
واستهل شهر رمضان سنة 1215.
ثبت هلاله ليلة الجمعة وعملت الرؤية وركب المحتسب ومشايخ الحرف بالطبول والزمور عل العادة وأطلقوا له خمسين ألف درهم لذلك نظير عوائده التي كان يصرفها في لوازم الركبة.
وفي خامسه وقع السؤال والفحص عن كسوة الكعبة التي كانت صنعت على يد مصطفى أغا كتخدا الباشا وكملت بمباسرة حضرة صاحبنا العمدة الفاضل الاريب الأديب الناظم الناثر السيد إسمعيل الشهير بالخشاب ووضعت في مكانها المعتاد بالمسجد الحسيني وأهمل أمرها إلى حد تاريخه وربما تلف بعضها من رطوبة المكان وخرير السقف من المطر فقال الوكيل أن سارى عسكر قصده التوجه بصحبتكم يوم الخميس قبل الظهر بنصف ساعة إلى المسجد الحسيني ويكشف عنها فإن وجد بها خللا أصلعه ثم يعيدها كما كانت وبعد ذلك يشرع في إرسالها إلى مكانها بمكة وتكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية فقالوا له شأنكم وما تريدون وقرىء في المجلس فرمان بمضمون ذلك.
وفي ذلك اليوم قرىء فرمان مضمونه أنه وردت مكاتبات من فرانسا بوقوع الصلح بينهم وبين أهل الجزائر وتونس بشروط ممضاة مرضية وقد أطلقوا الأذن للتجار من أهل الجهتين بالسفر للتجارة فمن سافر له الحماية والصيانة في ذهابه وايابه وقامته باسم دولة الجمهور الفرنساوية(2/405)
إلى آخره ولم يظهر لذلك أثر.
وفيه قرىء تقليد الشيخ أحمد العريشي بقضاء مصر ووصل أيضا تقليد القضاء بدمياط لاحمد أفندي عبد القادر وأبيار للعلامة الشيخ رضوان نجا ومحلة مرحوم للشيخ عبد الرحمن طاهر الرشيدي وذلك على موجب القرعة السابقة من مدة شهرين أو أكثر وقرى ذلك بالديوان ولم يحصل بعد ذلك غيرهم فلما كان صبح ذلك اليوم أرسل شيخ البلد بليار إلى العريشي ومشايخ الديوان والوجاقلية فلما تكاملوا خلع على القاضي العريشي فروة سمور بولايته القضاء وركب بصحبته الجميع وجملة من العساكر الفرناسوية وشيخ البلد بجانبه ومشوا من وسط المدينة إلى أن وصلوا المحكمة بين القصرين فجلسوا ساعة من النهار وقرىء تقليده بحضرة الجميع ووكيل الديوان فوريه ثم رجعوا إلى منازلهم.
وفي يوم الخميس الموعود بذكره توجه الوكيل ومشايخ الديوان إلى المشهد الحسيني لانتظار حضور سارى عسكر الفرنسيس بسبب الكشف على الكسوة وازدحم الناس زيادة على عاتهم في الإزدحام في رمضان فلما حضر ونزل عن فرسه عند الباب وأراد العبور للمسجد رأى ذلك الإزدحام فهاب الدخول وخاف من العبور وسأل ممن معه عن سبب هذا الإزدحام فقالوا له هذه عادة الناس في نهار رمضان يزدحمون دائما على هذه الصورة في المسجد ولو حصل منكم تنبيه كنا أخرجناهم قبل حضوركم فركب فرسه ثانيا وكر راجعا وقال نأتي في يوم آخر وانصرف حيث جاء وانصرفوا.
وفي ليلة السبت تاسعه حصلت كائنة سيدي محمود وأخيه سيدي محمد المعروف بابي دفية وذلك أن سيدي محمود المذكور كان بينه وبين علي باشا الطرابلسي صداقة ومحبة أيام إقامته بالجيزة وحج صحبته في سنة تسع ومائتين وألف فلما وقعت حادثة الفرنساوية وخرج علي باشا(2/406)
المذكور مع من خرج إلى الشام ووردت العساكر العثمانية صحبة يوسف باشا الوزير في العام الماضي وصحبته علي باشا المذكور وله به مزيد الوصلة والعناية والمرجع في المشورة لخبرته بالاقطار المصرية ومعرفته أهالي البلاد استشاره في شخص يعرفه يكون عينا بمصر ليراسله ويطالعه بالأخبار فأشار عليه بمحمود أفندي المذكور فكانوا يراسلونه ويطالعهم بالأخبار سرا فلما قدموا إلى مصر في السنة الماضية وجرى ما جرى من نقض الصلح ورجوع الوزير ولم يزل سيدي محمود تأتيه المراسلات بواسطة السيد أحمد المحروقي أيضا ولان علي باشا ارتحل إلى الديار الرومية فيطالعهم كذلك بالأخبار مع شدة الحذر خوفا من سطوة الفرنساوية وتجسس عيونهم المقيدة لذلك فكان يذهب القاصد ويرد له الجواب فلما كان في التاريخ ورد عليه رسول ومعه جواب وأربعة أوراق مكتوبة باللغة الفرنساوية وفيها الأمر بتوزيعها ووضعها في أماكن معينة حيث سكن الفرنساوية فوزع اثنين وقصد وضع الثالثة في موضع جمعيتهم فلم يمكنه ذلك إلا ليلا فأعطاها خادمة وأمره أن يشكها بمسمار في حائط ذلك المكان وهو بالقرب من الحمام المعروف بحمام الكلاب ففعل وتلكأ في الذهاب فأطلع عليه بعض الفرنسيس من أعلى الدار فنزل إليه وأخذ الورقة وقبضوا على ذلك الخادم وصادف ذلك مرور حسن القلق وهو يتوقع نكتة تكون له بها الوجاهة عند الفرنساوية فأغتنم هذه الفرصة وقبض على الخادم مع الفرنساوية وسيده ينظر إليه من بعيد وعلم أنه وقع في خطب لا ينجيه منه إلا الفرار فرفع إلى داره وتناجى مع أخيه وأستشاره فيما وقع فيه وكيف يكون العمل فأشار عليه بالاختفاء ويستمر أخوه بالمنزل مستهدفا للقضاء وليكون وقاية على منزله وعرضه وليس هو مقصودا بالذات فكان كذلك وتغيب سيدي محمود وأصبح الطلب قاصده فلما لم يجده قبضوا على أخيه سيدي محمد أفندي ومن كان معه بالبيت وهو الشيخ خليل المنير وقرابته إسمعيل حلبي ونسيبه البرنوسي والسقاء وشيخ(2/407)
حارتهم وحبسوهم ببيت قائممقام وهم سبعة أنفار بالخادم المقبوض عليه أولا واوقفوا حرسا بدراهم واجتهدوا في الفحص عن سيدي محمود وتكرار السؤال عليه من أخيه ورفقائه أياما فلما لم يقفوا له على خبر أحاطوا بالدار ونهبوا ما فيها وصحبتهم الخادم يدلهم على المتاع والمخبأت ثم أصعدوهم إلى القلعة وضيقوا عليهم وأرسلوا خلف الشواربي شيخ قليوب ومن كان ينتقل عندهم وألزموهم بأحضاره فانكروه وجحدوه ثم أطلقوا خادمه بعد أن أعطوه خمسين ريالا فرانسة وجعلوا له ألفان أن دلهم عليه وقيدوا به عينا يتبعه أينما توجه فأستمر أياما يغدو ويروح في مظناته لم يقع له على خبر فردوه إلى السجن ثانيا عند أصحابه ولم يزالوا حتى فرج الله عنهم وأما المطلوب فوقع له مزيد المشقة في مدة اختفائه وتبرأ منه غالب أصحابه ومعارفه من العربان وغيرهم وتنكروا منه ولم يزل حتى استقر عند شيخ العرب موسى أبي حلاوة وأولاده بناحية أمييه بالقليوبية باطلاع الشواربي فأكرموه وواسوه وأخفوا أمره ولم يزل مقيما عندهم في غاية الأكرام حتى فرج الله عنه.
ولما كان يوم الخميس رابع عشره تقيد للحضور بسبب الكشف على الكسوة استوفو خازندار الجمهور وفوريه وكيل الديوان فحضر صحبتهم المشايخ والقاضي والاغا والوالي والمحتسب بعدما أخلى المسجد من الناس وأحضروا خدامين الكسوة الاقدمين وحلوارباطاتها وكشفوا عليها فوجدوا بها بعض خلل فأمروا بإصلاحه ورسموا لذلك ثلاثة آلاف فضة وكذلك رسموا للخدمة الذين يخدمونها ألف نصف فضة ولخدمة الضريح ألف نصف ثم ركبوا إلى منازلهم ثم طويت ووضعت في مكانها بعد اصلاحها.
وفي رابع عشرينه ضربت مدافع كثيرة بسبب ورود مركبين عظيمين من فرانسا فيهما عساكر وآلات حرب وأخبار بأن بونابارته أغار على بلاد النيمسا وحاربهم وحاصرهم وضايقهم وأنهم نزلوا على حكمه وبقى الأمر بينهم وبينه على شروط الصلح وأنه استغنى عن هذه الأشياء المرسلة(2/408)
وسيأتي في أثرهم مركبان آخران فيهما أخبار تمام الصلح ويستدل بذلك على أن مملكة مصر صارت في حكم الفرنسيس لا يشركهم غيرهم فيها هكذا قالوا في ورقة بالديوان.
واستهل شهر شوال سنة 1215.
فيه بدا أمر الطاعون فانزعج الفرنساوية من ذلك وجردوا مجالسهم من الفرش وكنسوها وغسلوها وشرعوا في عمل كرنتينات ومحافظات.
وفي ثامنه قال وكيل الديوان للمشايخ أن حضرة سارى عسكر بعث إلى كتابا معناه أيضاح ما يتعلق بأمر الكرنتينه ويرى رأيكم في ذلك وهل توافقون على رأي الفرنساوي أم تخالفون فقالوا حتى تنظر ما هو المقصود فقال حضرة أرباب الديوان يجب عليهم أن يعملوا الطريق الذي يكون سببا لانقطاع هذه العلة فاننا نبغي لهم ولغيرهم الخير فإن أجابوا فذاك والا فليزموا ولو قهرا وربما استعملنا القصاص ولو بالموت عند المخالفة ومن الذي يتغافل عما يكون سببا لقطع هذا الداء فإن رأينا قدانعقد على ذلك ويجب أن يتفق معنا أرباب الديوان لأن حفظ الصحة واجب ولذا نرى كثيرا من الناس ولا سيما المتشرعون يستعمل الطبيب عند المرض وغايته حفظ الصحة وما نحن فيه من ذلك ونذكر لكم أن بلاد الغرب قد اعتمدوا فعل الكرنتينة الآن فعلماء القاهرة أولى بأن لا يتأخروا عن استعمال الوسائط إذ قد ربطت الأسباب بالمسببات فقيل له وما الذي تأمرون به أن يفعل فقال هو الحذر لا غير وهو الغاية والنتيجة وهو أنه إذا دخل الطاعون بيتا إلا يدخل فيه أجد ولا يخرج منه أجد مع ما يترتب على ذلك من القوانين المختصة به وخدمة المريض وعلاجه وسيوضح لكم ذلك فيما بعد يعني أن تذعنوا للطاعة وعدم المخالفة وظل البحث والمناقشة في ذلك بين أرباب الديوان والوكيل وانفض المجلس على أن الوكيل سيفاوض سارى عسكر في ذلك ثم يدبرون أمرا وطريقة يكون فيها الراحة للناس البلدية والفرنساوية فإن ذلك فيه مشقة على أهل البلد لعدم الفتهم(2/409)
لهذه الأمور.
وفي ثالث عشرة ضربت عدة مدافع من القلاع لا يدري سببها.
وفي رابع عشر قرىء فرمان من سارى عسكر بالديوان وألصقت منه نسخ في مفارق الطرق والأسواق.
ونصه بعد البسملة والحمدلة من عبد الله جاك منوسر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالا إلى كامل الأهالي كبير وصغير غني وفقير المقيمين حالا بمحروسة مصر وبملكة مصر الناس الذين هم من الأشقياء والمفسدين ولا يفتشون إلا على الأضرار بالناس واضراركم يظهرون في وسط المدينة بينكم أخبارا رديئة تزويرا لتخويفكم وتخويف المملكةوكل ذلك كذب وافتراء فانما نحن نخبركم جميعا أن كلا من الأهالي المذكورة من أي طائفة وملة كان الذي يثبت عليه بالاشها أو النشر من نفسه بينكم تلك الأخبار الرديئة المكذوبة تخويفا لكم وإضلالا بالناس ففي الحال ذلك الرجل يمسك وترمى رقبته بوسط واحدة طرق مصر ويا أهالي مصر انتبهوا وتذكروا هذه الكلمات وكونوا مسترحين البال ومترفهين الحال إنما دولة الجمهور الفرنساوي حاضرة لحمايتكم وصيانتكم ولكن ناظر كذلك إلى تعذيب العصاة والسلام على من اتبع الهدى والصدق والاستقامة تحرير في شهر وافتور سنة تسع الموافق لحادي عشر شهر شوال انتهى.
فعلم الناس من ذلك الفرمان ورودشىء وحصول شيء على حد كاد المرتاب أن يقول خذني وليس للناس ذكر ولا فكر إلا في بواقي الفردة وما لزمهم في المليون ولا شغل لكل فرد إلا بتحصيل ما فرض عليه ولعل ذلك بسبب الأوراق الواصلة على يد سيدي محمود أبي دفية باللغة الفرنساوية التي تقدم ذكرها واشتهر أيضا أنه وردت عليهم أخبار بوصول مراكب انكليز جهة أبي قير وفي ذلك المجلس سئل الوكيل عن ضرب المدافع لأي شيء فقال: لابد وأن أحيط علمكم ببعض ذلك في هذا المجلس وهو أن(2/410)
الفرنساوية كانت تحارب القرانات والآن وقع صلح بينهم وبين القرانات ما عدا الانكليز فإنه الآن مضيق عليه وربما كان ذلك سببا لرضاه بالدخول في الصلح وقد خرج من فرانسا عمارة ربما توجهت على الهند وربما أنهم يقدمون إلى مصر وقد وصل لسارى عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخائر إلى الفرنساوية وأن يمكنهم من دخول اسكندرية وقد خرج سنة غلايين من فرانسا إلى بحر الهند فربما قدموا بعد ذلك إلى جهة السويس وبورود هذه الأخبار تعين خلوص مصر إلى جمهور الفرنساوية وفي سألف الزمان كانت جميع القرانات التي بالجهة الشمالية ضدا للفرنساوية وقد زالت الآن هذه الضدية ومتى انقضى أمر الحرب عمت الرحمة والرأفة والنظر بالملاطفة للرعية والذي أوجب الاغتصاب والعسف إنما هو الحرب ولو دامت المسالمة لما وقع شيء من هذا فقال بعض أهل الديوان سنة الملوك العفو والصفح وما مضى لابعاد فارحموا واعفوا عما سلف فقال الوكيل قد وقع الأمتحان ولم يبق إلا السلم والمسامحة.
وفيه قبضوا على القلق المعروف بعمر أغا وهو أغات المغاربة المرتبة عندهم عسكرا وعلى شخصين آخرين يدعى أحدهما علي جلبي والآخر مصطفى جلبي وسجنا بالقلعة وسبب ذلك أنه حضر إلى مصطفى جلبي مكتوب من نسبيه بجهة الشام يطلب منه بعض حوائج فقرىء ذلك المكتوب بحضرة عمر القلق ورفيقه الآخر فوشي بهم رجل قواس فقبضوا على الجميع وكان مصطفى جلبي المذكور سكن ببيته محمد أفندي ثاني قلفة فدخلوا يفتشون عليه في الدار فلم يجدوه فالزموا به محمد أفندي المذكور وأزعجوه وأحاط به عدة من العسكر ولم يمكنوه من القيام من مجلسه ولا من اجتماعه بأحد وبعد أن وجدوا ذلك الإنسان لم يفرجوا عن محمد أفندي بل استمر معهم في الترسيم ووجدوا مكانا بالدار به أسلحة وأمتعة فنهبوه وانتهبت الدار والحارة وحصل عندهم غاية الكرب والمشقة حتى أن بعض جيران ذلك المحل كبر عنده الخوف وغلب عليه الوهم فمات(2/411)
فجأة رحمه الله ثم فرج الله عن محمد أفندي بعد ثلاثة أيام وأطلق عمر القلق لظهور براءته ولم يكن له جرم غير العلم والسكوت وانتقل محمد أفندي من تلك الدار وما صدق بخلاصة مها وبقي علي جلبي ومصطفى جلبي في الحبس وفي سابع عشره استفيضت الأخبار بوصول مراكب إلى أبي قير كما تقدم.
وفي ثامن عشره خرج جملة من العسكر الفرنساوية وسافروا إلى الجهة البحرية برا وبحرا.
وفي عشرينه اجتمع أهل الديوان فيه على العادة فبدأ الوكيل يقول أنه كان يظن أنه يكون حرب ولكن وردت أخبار أن المراكب التي حضرت إلى اسكندرية وهي نحو مائة وعشرين مركبا قد رجعت فقيل له وما هذه المراكب فقال مراكب فيها طائفة من الانكليز وصحبتهم جماعة من الاروام ليس فيها مراكب كبار إلا قليل جدا وباقيها صغار تحمل الذخيرة ثم قال: إن حضرة سارى عسكر قد كان وجه اليكم فرمانا في شأن ذلك قبل أن يتبين الأمر وهو وأن كان قد فات موضعه من حيث أنه كان يظن أن هناك حرب ولكن من حيث كونه قد برز إلى الوجود فينبغي أن يتلى على مسامعكم ثم أمر رفائيل الترجمان بقراءته ونصه من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالا إلى جميع الكبير والصغير الأغنياء والفقراء المشايخ والعلماء وجميعهم الذين يتبعون الدين الحق والحاصل لجميع أهالي بر مصر سلمهم الله بمقام السر عسكر الكبير بمصر في أربعة عشر شهر ونتور سنة تسع من قيام الجمهور الفرنساوية واحد ولا ينقسم ثم كتب تحت ذلك البسملة ولفظ الجلالة وتحته أن الله هو هادي الجنود ويعطي النصرة لمن يشاء والسيف الصقيل في يد ملاكه يسابق دائما الفرنساوية ويضمحل أعداؤهم أن الانكليزية الذين يظلمون كل جنس للشرفي كل المواضع فهم ظهروا في السواحل وأن كانوا يتجرؤا يضعوا أرجلهم في البر فيرتدوا في(2/412)
الحال على اعقابهم في البحر والعثمانيين متحركين كهؤلاء الانكليزية يعلمون أيضا بعض حركات فإن كان يقدموا ففي الحال يرتدوا وينقلعوا في غبار وعفار البادية فأنتم يا أهالي مملكة ومحروسة مصراني أنا أخبركم أن كان تسلكوا في طريق الخائفين الله وتبقوا مستريحين في بيوتكم ومقيمين كما كنتم في أشغالكم وأغراضكم فحينئذ لا خوف عليكم ولكن أن كان واحد منكم يسلك للفساد واضلالكم بالعداوة ضد دولة الجمهور الفرنساوي فأقسمت بالله العظيم وبرسوله الكريم أن رأس ذلك المفسد ترمي تلك الساعة فتذكروا في كل المواقع حين محاصرة مصر الاخيرة وجرى دماء آبائكم ونسائكم وأولادكم في كل مملكة مصر وخصوصا محروسة مصر وخواصكم انتهبوا تحت الغارات وطرحوا علكيم فردة قوية غير المعتاد فأدخلوا في عقولكم واذهانكم كل ما قلت لكم الآن والسلام على كل من هو في طريق الخير فالويل ثم الويل على كل من يبعد من طريق الخير ممضي خالص الفؤاد عبد الله جاك منو.
وفي ذلك اليوم عملوا شنكا وضربوا عدة مدافع من القلاع فارتاع الناس لذلك واضطربوا شديدا فسئل من الفرنسيس فأخبروا أن ذلك سرور بقدوم مركبين من فرانسة إلى اسكندرية.
وفي ذلك اليوم أيضا وقع بمجلس الديوان بين الوكيل والمشايخ مفاوضة ومناقشة وذلك أنه لما أشيع خبر ورود المراكب إلى أبي قير شحت الغلال وارتفعت من الرقع على العادة وزادت أثمانها فتفاوضوا في شأن ذلك وأنه لا بد من الأعتناء من الحكام وزجر الباعة وطواف المحتسب وشيخ البلد على الرقع والسواحل ولما قرىء الفرمان المذكور قال بعض الحاضرين العقلاء لا يسعون في الفساد وإذا تحركت فتنة لزموا بيوتهم فقال الوكيل ينبغي للعقلاء ولامثالكم نصيحة المفسدين فإن البلاء يعم المفسد وغيره فقال بعضهم هذا ليس بجيد بل العقاب لا يكون إلا على المذنب قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وقال آخر من أهل المجلس(2/413)
ولا تزروا وزرة وزر أخرى فقال الوكيل: المفسدون فيما وقدم هاجوا الفتنة فعمت العقوبة والمدافع والبنبات لا عقل لها حتى تمير بين المفسد والمصلح فإنه لا تقرأ القرآن وقال آخر: المخلص نيته تخلصه فقال الوكيل: إن المصلح من يشمل صلاحه الرعية فإن صلاحه في حد ذاته يخصه فقط والثاني أكثر نفعا وطال البحث والمناقشة في نحو ذلك فلما كان عصر ذلك اليوم ورد فرمان من سارى عسكر إلى وكيل الديوان فأرسل خلف الشيخ إسمعيل الزرقاني فاستدعاه وسلمه إليه وأمره أن يطوف به على مشايخ الديوان في بيوتهم فيقرؤه وهو مبنى على جواب المناقشة المذكورة وصورته بعد البسملة والجلالة من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالا إلى كافة المشايخ والعلماء الكرام المقيمين بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله تعالى فضائلهم وألهمهم الحكمة الواجبة لاجراء فرائضهم نرسل لحضراتكم يا مشايخ ويا علماء الكرام نداء جديد خطابا إلى جميع أهالي مملكة مصر وخصوصا أهل محروسة مصر ولا شبهة لي في تقييدكم لتنبيههم بكل ما هو محرر فيها وغير ذلك تذكروا أن هذا التنبيه هو غرضكم إنما حضراتكم ههنا رجال دولة الجمهور الفرنساوي فيبقى في عقولكم وأذهانكم كل وما وقع حين قصاص مصر الاخيرة تفهموا بناء على ذلك كيف هو واجب إلى أمنيتكم وراحتكم ضبط الخلائق لأنه أن كان يصير أصغر الحركات فلا بدا ثقلها يقع على رؤسكم وغير ذلك ورد لنا في الحال أخبار من فرانسا أنه كملت المصالحة مع امبراطور النيمسا وأن قيصر الروسيا بيزو أقام المحاربة ضد دولة العثمانية والسلام.
ولما أصبح ثاني يوم اجتمع المشايخ ببيت الشيخ عبد الله الشرقاوي وحضر الاغا والوالي والمحتسب وأحضروا مشايخ الحارات وكبراء الاخطاط ونصحوهم وأنذروهم وأمروهم بضبط من دونهم وأن لا يغفلوا أمر عامتهم وحذروهم وخوفوهم العاقبة وما يترتب على قيام المفسدين وجهل(2/414)
الجاهلين وأنهم هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم فالعاقل يشتغل بما يعنيه على أنه لم يبق في الناس إلا رسوم هافتة وانفصلوا على ذلك هذا وديوان المليون يعملون فيه بالجد والاجتهاد وبث المعينين من القواسة والفرنساوية في المطالبة بالثلث والكسرة الباقية من الفردة والتشديد في أمر الكرنتينة وازعاج الناس من ذلك وخوفهم من حصول الطاعون وأشاعوا فيما بينهم أن من أصابه هذا الداء في مكان كشفوا عليه فإن كان مريضا بذلك الداء أخذوا ذلك المصاب إلى الكرنتينة عندهم وانقطع خبره عن أهله إلا أن كان له أجل باق ويشفى من ذلك ويعود إليهم صحيحا والا فلا يراه أهله بعد ذلك أصلا ولا يدري خبره لأنه إذا مات أخذه الموكلون بالكرنتينة ودفنوه بثيابه في حفرة وردموا عليه التراب وأما داره فلا يدخلها أجد ولا يخرج منها مدة أربعة أيام ويحرقون ثيابه التي تختص به ويقف على بابه حرس فإن مر أجد ولمس الباب أو الحد المحدود قبضوا عليه وأدخلوه الدار وكرتنوه وأن مات الشخص في بيته وظهر أنه مطعون جمعوا ثيابه وفرشه وأحرقوها وغسله الغاسل وحمله الحمالون لا غير وأخرجوه من غير مشهد وإمامه ناس تمنع المارين من التقرب منه فإن قرب منه أجد كرتنوه في الحال وبعد دفنه يكرتنون على كل من باشره بغسل أو حمل أو دفن فلا يخرجون إلا لخدمة أخرىمثلها بشري لامساس فهال الناس هذا الفعل واستبشعوه وأخذوا في الهرب والخروج من مصر إلى الارياف لذلك والتوهم وقوع الفتنة بورود أخبار المراكب إلى أبي قير وتحذر الفرنساوية واستعدادهم وتأهبهم ونقل أمتعتهم إلى القلعة.
وفي تاسع عشرة خرجت عساكر كثير بحمولهم وفرشهم وذهبوا إلى جهة الشرق وأشيع حضور عرضي العثمانية ووصولهم إلى العريش صحبة يوسف باشا الوزير.
وفيه أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة من غير إهانة(2/415)
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه قبضوا أيضا على حسن اغا المحتسب وأصعدوه إلى القلعة أيضا بشخص يخدمه فحبسوه بالبرج الكبير فأما الشيخ السادات فسأل الموكل به عن ذنبه وجرمه الموجب لحبسه فقال لم يكن إلا الحذر من اثارة تلك الفتن في البلد واهاجه العامة لبغضك الفرنسيس لما سبق لك منهم من الايذاء وأما المحتسب فإن الشيخ البكري والسيد أحمد الزرو ذهبا إلى قائمقام وإلى سارى عسكر وتكلما في شأنه فأجابهما بأن هذا لم يكن من شغلكما وقيل للسيد أحمد انك رجل تاجروذاك أمير وليس من جنسك حتى تشفع فيه فقال اننا محتاجون إليه لأجل مساعدته معنا في قبض المليون ولا نعرف له ذنبا يوجب حبسه لأنه ناصح في خدمة الفرنسيس فقالا على لسان الترجمان: الله يعلم ذنبه وسارى عسكر وهو أيضا يعلم ذلك من نفسه ولما سجنوه لم يقلدوا مكانه غيره فكان كتخداه يركب مع الاغا وأمامهم الميزان ونوبة الحسبة وفيه نادوا في الأسواق بالأمان وعدم الانزعاج من أمر الكرنتينه وأن من مات لاتحرق إلا ثيابه التي على بدنه لا غير وكان أشيع في الناس ما تقدم وزادوا على ذلك حرق الدار التي يموت فيها أيضا وأن قصدهم أيضا عمل كرنتينه على البلد بتمامها فحصل من هذا المشاع في الناس كرب عظيم ووهم جسيم فنودي بذلك ليسكن روع الناس.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه أرسل كبير الفرنسيس وطلب رؤساء الديوان والتجار فحضروا إلى منزله فأعلمهم أنه مسافر إلى بحري وترك بمصر قائمقام بليار وجملة من العسكر والكتبة والمهندسين وأوصاهم بأن يكون نظرهم على البلد وكان في العزم حبسهم رهينة فاستشار في ذلك فاقتضى رأيهم تأخير ذلك وركب من فوره مسافرا ولم يرجع من هذه السفرة إلى مصر وحضر الجماعة إلى الديوان واجتمعوا بالوكيل فوريه فأخبرهم أنه حضر إلى ناحية أبي قير طائفة من الانكليز وصحبتهم طائفة من المالطية وأخرى نابلطية وطلعوا إلى قطعة ارض رخوة بين(2/416)
سلسولين من الماء وأن الفرنساوية محيطون بهم من كل جهة.
وفي سابع عشرينه رجعت العساكر التي كانت توجهت إلى جهة الشرق بحمولهم وأثقالهم وصحبتهم سارى عسكر الشرقية رينه فسافروا من يومهم ولحقوا بكبيرهم برا وبحرا أو أخبروا عنهم لم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى الصالحية وأرسلوا هجانة إلى العريش فلم يجدوا أحدا فكروا راجعين وأشاعوا أن الجهة الشرقية لم يأت إليها أجد مطلقا وأصل الخبر أن سارى عسكر رينه كاشف القليوبية والشرقية أخبره بعض عربان المويلح بأنهم شاهدوا مراكب انكليزية ترددت بالقلزم فأرسل بخبر ذلك إلى سارى عسكر منو ويقول له في ضمن ذلك ويشير عليه بأن يتوجه صحبة جانب من العسكر ويحصن نواحي الأسكندرية خوفا من ورود الانكليز تلك الناحية وأن رينه يتكفل له بمن يرد إلى ناحية الشرق وأكد عليه في ذلك فأجابه سارى عسكر بقوله أن الانكليز لا يأتون من هذه الناحية وأنهم يأتون من ساحل الشام ويأمره بالارتحال والذهاب إلى الصالحية يرابط فيها فتواني في الحركة وأرسل إليه ثانيا بمعنى الجواب الأول ويحثه على تحصين ثغور الأسكندرية وترددت بينهما المراسلات في ذلك ومضت أيام فيما بين ذلك فورد الخبر للفرنساوية بورود مراكب الانكليز وتردادها تجاه الأسكندرية ثم رجوعها فكتب سارى عسكر منو يقول لرينه: إنهم تراؤا ليوهموا بأن قصدهم ورود الأسكندرية ثم غابوا وأنهم رجعوا ليطلعوا بناحية الطينة ويستحثه على الرحلة والذهاب إلى الصالحية فلم يسعه إلا الأمتثال والارتحال وكتب إليه كتابا يقول فيه أنهم لا يريدون إلا ثغر الأسكندرية وإنما لم يسعفهم الريح فلا تغتر برجوعهم وأنه رحل امتثالا للأمر ويشير عليه هو أيضا بعدم تأخره عن الذهاب إلى الأسكندرية ويقبل إشارته فلم يستمع وتأخر عن ذلك ورحل رينه إلى جهة البركة ولم يستعجل الذهاب ثم انتقل إلى الزوامل ثم إلى بلبيس وفي كل يوم ووقت يرسل(2/417)
إليه سارى عسكر منو ويأمره بالذهاب إلى الصالحية وهو يتلكأ في الرحيل ثم أرسل له آخرا يقول له: إنه وردت علينا أخبار بأن يوسف باشا الوزير متحرك إلى القدوم ويحتم عليه في الرحيل إلى الصالحية فعند ذلك جمع رينه سوارى عسكره وعرض عليهم ذلك وسفه رأيه وأن هذا الخبر لا أصل له وأنا أعلم اننا لا نصل إلى الصالحية حتى يأتي الخبر بخلاف ذلك ويأتينا الأمر بالرجوع والذهاب إلى الأسكندرية فلا نستفيد إلا التعب والمشقة وارتحل بمن معه من غير استعجال فوصلوا إلى القرين في ثلاثة أيام وإذا بمراسلة سارى عسكر منو إلى رينه يخبره بأن الانكليز وصلوا إلى أبي قير وطلعوا إلى البر وتحاربوا مع أمير الأسكندرية ومن معه من الفرنساوية وظهروا عليهم ويستعجله في الرجوع والذهاب إلى الأسكندرية فقال رينه هذا ما كنت أخمنه وأظنه وارتحل راجعا وعدي على برانبابة بعساكره وتقدم سارى عسكر منو وسبقه إلى الأسكندرية.
شهر القعدة سنة 1215.
في ثالثه أمر وكيل الديوان أرباب الديوان بأن يكتبوا السارى عسكر مكتوبا بالسلام ففعلوا ما أمروا به.
وفي سادسه توفي محمد أغا مستحفظان مطعونا مرض يوم السبت وتوفي ليلة الأحد فوضعوه في نعش وخرج به الحمالون لا غير وإمامه الطرادون ولم يعملوا له مشهدا ولا جماعة وكرتنوا داره وأغلقوها على من فيها ولم يقلدوا عواضه أحدا بل أذنوا لعبد العال أن يركب عوضا عنه وذلك بمعونة نصر الله النصراني ترجمان قائممقام فاستقر عبد العال المذكور أغات مستحفظان ومحتسبا فكان ذلك من جملة النوادر والعبر فإن عبد العال هذا كان من اسافل العامة وكان أجبر البعض نصارى الشوام بخان الحمزاوي يخدمه ثم توسط بمصطفى اغا السابق بسبب معرفته للنصارى المترجمين حتى تقدم بوساطته وقلدوه الاغاوية فجعله كتخداه ومشيره فلما تولى محمد آغا تقيد معه كما كان مع مصطفى آغا(2/418)
ولكن دون الحالة التي كان عليها مع ذلك لصلاحية محمد أغا المقتول فلما توفي في هذا الوقت ترك لعبد العال أمر المنصب لاشغال الفرنساوية بما هو الاهم من انفتاح الحروب والطاعون وغير ذلك.
وفي يوم الثلاثاء تاسعه اشيع في الناس وصول العثمانيين إلى ناحية غزة وأن جواسيسهم وصلوا إلى العريش وقدمت الهجانة إلى الفرنساوية بالخبر فلما كان عشاء تلك الليلة طلبوا المشايخ إلى الديوان فلما تكامل حضورهم حضر فورية الوكيل وصحبته آخر من الفرنسيس من طرف قائمقام فتكلم فوريه كلاما كثيرا ليزيل عنهم الوهم ويؤانسهم يزخرف القول كقوله أنه يحب المسلمين ويميل بطبعه إليهم وخصوصا العلماء وأهل الفضائل ويفرح لفرحهم ويغتم لغمهم ولا يحب لهم إلا الخير وسياسة الأحكام تقتضي بعض الأمور المخالفة للمزاج وأن سارى عسكر قبل ذهابه رسم لهم رسوما وأمرهم بأجرائها والمشي عليها في أوقاتها وأنه عند سفره قصد أن يعوق المشايخ وأعيان الناس ويتركهم في الترسيم رهينة عن المسلمين فلما ظهر له وتحقق أن الذين وردوا إلى أبي قير ليسوا من المسلمين وإنما هم انكليزية ونابلطية واعداء للفرنساوية وللمسلمين أيضا وليسوا من ملتهم حتى يتعصبوا من أجلهم والآن بلغنا أن يوسف باشا الوزير وعساكر العثمانية تحركوا إلى هذا الطرف فلزم الأمر لتعويق بعض الأعيان وذلك من قوانين الحروب عندنا بل وعندكم ولا يكون عندكم تكدر ولا هم بسبب ذلك فليس إلا الأعزاز والاكرام أينما كنتم والوكيل دائما نظره معهم ولا يغفل عن تعليل مزاجهم في كل وقت ويوم ثم انتهى الكلام وانقضى المجلسن على تعويق أربعة أشخاص من المشايخ وهم الشيخ الشرقاوي والشيخ المهدي والشيخ الصاوي والشيخ الفيومي فأصعدوهم إلى القلعة في الساعة الرابعة من الليل مكرمين وأجلسوهم بجامع سارية ونقلوا إلى مكانهم الشيخ السادات فاستمر معهم بالمسجد وأمروا الأربعة الباقية من أعضاء(2/419)
الديوان وهم البكرى والأمير والسرسى وكاتبه أن يكون نظرهم على البلد ويجتمعون بشيخ البلد ولا ينقطعون عنه وأن المشايخ المحجوزين لا خوف عليهم ولا ضرروهم معززون مكرمون وأطلقوا لكل شيخ منهم خادما يطلع إليه وينزل ليقضي له أشغاله وما يحتاج إليه من منزله والذي يريد من احبابهم وأصحابهم زيارتهم يأخذ له ورقة بالاذن من قائمقام ويطلع بها فلا يمنع وكذلك اصعدوا إبراهيم أفندي كاتب البهارا وأحمد ابن محمود محرم وحسين قرأ إبراهيم ويوسف باشجاويش تفكجيان وعلي كتخدا يحيى آغات الجراكسة ومصطفى آغا ابطال وعلي كتخدا النجدلي ومحمد أفندي سليم ومصطفى أفندي جمليان ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم وأمروا المشايخ الباقية والذين لم يحبسوا بتقيدهم ونظرهم إلى البلد والعامة وأنهم يترددون على بليار قائمقام ويعلمونه بالامور التي ينشأ عنها الشرور والفتن وأهمل ديوان المليون والمطالبة بثلثه وكذلك كسرة الفردة ونفس الله عن الناس وكذلك تسوهل في أمر الكرنتينة واجازة الأموات وعدم الكشف عليهم وتصديق الناس بما يخبرون به في مرض من يموت وذلك لكثرة اشغالهم وحركاتهم وتحصنهم ونقل متاعهم وصناديقهم وفرشهم وذخائرهم إلى القلعة الكبيرة على الجمال والحمير ليلا ونهارا والطاعون متعلق فيهم ويموت منهم العدة الكثيرة في كل يوم.
وفي حادي عشرة افرجوا عن الشيخ سليمان الفيومي وأنزلوه من القلعة ليكون مع من لم يحبس وأمرهم الوكيل بالتقيد والحضور إلى الديوان على عادتهم ولا يهملونه فكانوا يحضرون ويجلسون حصة يتحدثون مع بعضهم ولا يرد عليهم إلا القليل من الدعاوي ثم ينصرفون إلى منازلهم وكذلك أمروا الشيخ أحمد العريشي القاضي بأن يحضر ويجلس من غير سابقة له بذلك وذلك حفظا للناموس لا غير.
وفي ثالث عشرة نقل الكمثارى فوريه الوكيل متاعه إلى القلعة(2/420)
وصعد إليها فلم ينزل وأرسل إلى الشيخ سليمان الفيومي تذكرة يأمره فيها بأن ينقل فراش المجلس ويودعه في مكان بداره ففعل ما أمره به ولم يتركوا به إلا الحصر وامر بحضور أرباب الديوان على عادتهم فكانوا يفرشون سجاجيدهم ويجلسون عليها حصة الجلوس ثم ينصرفون.
وفي رابع عشره نقلوا حسن آغا المحتسب من البرج إلى جامع سارية صحبة المشايخ وكذلك فوريه الوكيل جعل سكنه الجامع المذكور وأظهر أن قصده مؤانستهم وليس إلا لضيق مساكن القلعة وإزدحام الفرنسيس وكثرة ما نقلوه إليها من الأمتعة والذخائر والفلال والاحطاب مع ما هدموه من أماكنها حتى أنهم سدوا ابواب الميدان وجعلوه من جملة حقوقها فكانوا ينزلون إليه ويصعدون منه من باب السبع حدرات.
وفي تاسع عشره ورد مكتوب من كبير الفرنسيس من ناحية اسكندرية مؤرخ بثالث عشر القعدة وهو جواب عن المكتوب المرسل إليه السابق ذكره وصورته بعد الصدر المعتاد من عبد الله جاك منو سر عسكر أمير عام جيوش الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالا إلى كامل المشايخ والعلماء الكرام المقيمين بالديوان المنيف بمحروسة مصر أدام الله فضائلهم ورد لنا مكتوبكم العزيز ورأينا بكامل السرور كل ما فصلتم لنا به وثبت من مفهومنا صدق ودادكم لنا ولعساكر دولة جمهور الفرنساوية ودمتم حضراتكم وكافة أهالي مصر بالحمية والاستقامة الموعودة ومعلوم على فضائلكم أن الله يهدي كلا فما النصر إلا منه ووضعت عليه اعتمادي وما توفيقي إلا به وبرسوله الكريم عليه السلام الدائم وأن ابتغيت النصرة فما هو إلا لسهول خيراتي إلى بر مصر وسكان ولايتها وخير أمور أهلها والله تعالى يكون دائما معكم ويكرم وجوهكم بالسلامة.
وفيه سمع ونقل عن بعض الفرنسيس أنه وقع الحرب بين الفرنساوية والانكليزية وكانت الهزيمة على الفرنساوية وقتل بينهم مقتلة كبيرة(2/421)
وانحازوا إلى داخل الأسكندرية ووقع بينهم الاختلاف وأنهم منوسارى عسكر رينه وداماص ورابه منهما ما رابه وكان سببا لهزيمته فيما يظن ويعتقد فقبض عليهما وعزلهما من امارتهما وذلك أن رينه وداماص لما ذهبا على الصورة المتقدمة ونظر رينه وأرسل من كشف على متاريس الانكليز فوجدها في غاية الوضع والاتقان فأجتمعوا للمشورة على عادتهم ودبروا بينهم أمر المحاربة فرأى سارى عسكر منو رأيه فلم يعجب رينه ذلك الرأي وأن فعلنا ذلك وقعت الغلبة علينا وإنما الرأي عندي كذا وكذا ووافقه على ذلك داماص وكثير من عقلائم فلم يرض بذلك منو وقال: أنا سارى عسكر وقد رأيت رايي فلم يسعهم مخالفته وفعلوا ما أمر به فوقعت عليهم الهزيمة وقتل منهم في تلك الليلة خمسة عشر ألفا وتنحى رينه وداماص ناحية ولم يدخلا في الحرب بعسكرهما فاغتاظ منه ونسبهما للخيانة والمخامرة عليه وتسفيههم لرايه وأكذ ذلك عنده انهما لما حضرا إلى الأسكندرية أخذا معهما أثقالهما وما كان لهما بمصر لعلمهما عاقبة الأمر وسوء رأى كبيرهما فاشتد انكاره عليهما وعزل عنهما العسكر وحبسهما ثم اطلقهما ونزلا إلى المراكب مع عدة من أكابرهم وسافر إلى بلادهما وأن منو أرسل إلى بونابارته يخبر عن ورود الانكليز ويستنجده فأرسل إليه عسكرا فصادفوا الجماعة المذكورين في الطريق فأخبروهم عن الواقع وردوهم من اثناء الطريق وقد أشاروا لذلك في بعض مكاتباتهم واخبر أيضا المخبرون أن الانكليز اطلقوا حبوس المياه الملحة حتى اغرقت طرق الأسكندرية وصارت جميعها لجة ماء ولم يبق لهم طريق مسلوك إلا من جهة العجمي إلى البرية وأن الانكليز تترسو أقبالهم من جهة الباب الغربي.
وفيه ورد الخبر بأن حسين باشا القبطان ورد بعساكره جهة أبي قير وطلع عسكره من المراكب إلى البر وقويت القرائن الدالة على صحة هذه الأخبار وظهرت لوائح ذلك الفرنسيس مع شدة تجلدهم وكتمان(2/422)
أمرهم وتنميق كلامهم.
وفيه سدوا باب البرقية المعروف بباب الغريب وبنوه فضاق خناق الناس بسبب الخروج إلى القرافة بالاموات فكان الذي مدفنه ببستان المجاورين يخرج بجنازته من باب النصر ويمرون بها من خلف السور المسافة الطويلة حتى ينتهوا إلى مدفنهم فحصل للناس مشقة شديدة وخصوصا مع كثرة الأموات فكلم يوم الأحد حادى عشرينه بعض المشايخ قائمقام في شان ذلك فأرسل إلى قبطان الحنطة ففتح بابا صغيرا من حائط السور جهة كفر الطماعين على قدر النعش والحمالين والمشاة.
وفي ثاني عشرينه سافر جماعة من أعيان الفرنساوية إلى جهة بحرى وهم استوف الخازندار العام ومدبر الحدود وفوريه وكيل الديوان وشنانيلو مدبر املاك الجمهور وبرنار وكيل دار الدرب وريج خازندار دار الضرب ولابرت رئيس مدرسة المكتب وحافظ سجلاتهم وكتبهم وأخذوا معهم طائفة من رؤساء القبط وفيهم جرجس الجوهري وأشيع في الناس بأن سفرهما لتقرير الصلح وليس كذلك.
وفي ثالث عشرينه توكل بحضور الديوان كمثارى يقال له جيرار وحضر يوم الجمعة سادس عشرينه بصحبة كاتب سلسلة التاريخ محبنا الفاضل العمدة السيد إسمعيل المعروف بالخشاب وحضرة قاسم أفندي امين الدين كاتب الديوان فلما استقر به الجلوس أخبر أنه ورد كتاب من كبيرهم جاك منو باللغة الفرنساوية مضمونه أنه مقيم بسكندرية وهو مؤرخ بعشرين القعدة ومثل ذلك من الكلام الفارغ.
وفيه قدم ثلاثة أنفار من العرب صحبة جماعة من الفرنسيس وذهبوا بهم إلى بيت قائمقام فاستفسر منهم فاختل كلامهم وتبين كذبهم فأمر بحبسهم.
وفيه حضر جماعة من الفرنسيس من جهة الشرق ومعهم دواب كثيرة وآلات حرب ومروا في شارع المدينة ومنعوا الناس من شرب الدخان(2/423)
خوفا على البارود من النار ولم يعلم سبب قدومهم ثم تبين أنهم الذين كانوا محافظين بالصالحية وبعد أيام حضر أيضا الذين كانوا بالقرين وكذلك الذين كانوا ببلبيس وناحية الشرق شيئا بعد شيء.
شهر ذي الحجة الحرام سنة 1215.
فيه حصل الاجتماع بالديوان وأخبر الوكيل أن كبيرهم قد بعث أخبارا بالامس منها أنه قد مات جماعة من كبراء الانكليز وأن أكثر عساكرهم مريضون بمرض الزحير والرمد وربما يحصل الصلح عن قريب ويرجعون إلى بلادهم وأن العطش مضاررهم وبعثوا عدة مراكب لتأتيهم بالماء فتعذر عليهم ذلك ثم سأل عن أحوال البلد وسكون الرعية والغلال والأقوات فأجيب بأن البلد مطمئنة والرعية ساكنة والغلال موجودة فقال لا بد من اعتنائكم بجميع هذه الأمور الموجبة للراحة.
وفيه أشيع أن الانكليز ومن معهم من العثمانية ملكوا ثغر رشيد وابراجها وحاربوا من كان بها من الفرنسيس حتى اجلوهم عنها ودخلوها.
وفي ذلك اليوم قبضوا على نيف وستين من مغاربة الفحامين وطولون والغورية ونفوهم وذلك من فعل عبد العال الآغا.
وفيه أمر بليار قائمقام بركوب أجد المشايخ صحبة عبد العال ويمرون بشوارع المدينة فكان يركب معه مرة الشيخ محمد الأمير ومرة الشيخ سليمان الفيومي وذلك لتطمئن الرعية.
وفي سادسه قرىء مكتوب زعموا أنه حضر من سارى عسكر منو من جهة الأسكندرية وصورته بعد البسملة والجلالة والصدر المعتاد إلى حضرات كافة المشايخ والعلماء الكرام المستشارين بمحفل الديوان المنيف بمحروسه مصر أدام الله تعالى فضائلهم وما النصرة إلا من الله وبشفاعة رسوله الكريم عليه السلام الدائم العساكر الفرنساوية والانكليزية هما إلى هذا الآن حصيران قبلهما فحصنا أطرافنا بمتاريس وخنادق لا تغلب ولا تهجن وغير ذلك يلزم نخبر حضراتكم لتهدية تمشياتكم ولأجل انتظامها(2/424)
أن سلطان الروسية المحمية أعلن بواسطة مرسله إلى حضرة السلطان سليم أذعن الأمر إلى عساكره لأجل ما يتجانبوا ويتراووا ويخلو من بر مصر جميعا والا لابد من سلطان الروسيات الجمعية الإقامة بالمحاربة بمعية مائة ألف عسكرية ضد العثمانية وضد قسطنطينية فبناء على ذلك أرسل السلطان سليم أوامره بفرمانه خطابه إلى عساكره لتخلية بر مصر ولكامل من بالبر المذكور لكي وثم ولكن ذهب الانكليزية كفا للارتشاء بعض من مقدار العسكر العثمانية وبتقديم امتثالهم إلى أوامر سلطانهم فاعلنوا وأخبروا كل ذلك إلى أهالي مصر فانتظموا كما كنتم دائما بالخير واعتمدوا واعتنوا بحماية وصيانة دولة الجمهور الفرنساوية والله تعالى يديم فضائلكم عن الالهام بالخير والسلامات حرر في الخامس والعشرين من شهر جرمينيال سنة تسعة الموافق لثلاثة ذي الحجة سنة ألف ومائتين وخمسة عشر وكتب بألفاظه وحروفه من خط منشئه لوما كالترجمان ثم قال الترجمان أن الفرنساوي الذي حمل هذا الكتاب نقل لي عن سر عسكر أنه ناشر لكم ألوية الشكر على قيامكم بوظائفكم فدوموا على ذلك فأجيب السمع والطاعة تم أن بعض الحاضرين من المشايخ أخبر بأن رجلا من المنوفية يقال له موسى خالد كان الفرنساوية أحسنوا إليه وقدموه على أقرانه فلما خرجوا من المنوفية أفسد في البلاد وقطع الطريق ولا يتمكن أجد من أهل هذه الجهة أن يخرج من بلده لتحصيل معاشه وأنه قبض على الشيخ عابدين القاضي وصادره في نحو ثلاثة آلاف ريال وكذلك صادر كثيرا من أغنياء منوف وغيرها وأخذ أموالهم فقال الوكيل: ستسكن الفتنة ويعاقب المفسدون ثم أمر بكتابة مكاتيب ممضاة من مشايخ الديوان خطابا للتجار والمتسببين ولمشايخ البلاد يأمرونهم بإرسال الغلال والاقوات إلى مصر فكتبوا للمحلة الكبرى منوف والمنصورة والفشن وبني سويف.
وفيه كتبوا جوابا من مشايخ الديوان لكبير الفرنسيس جوابا عن(2/425)
المكتوب المذكور آنفا.
وفيه ذكر قائمقام بليار لبعض الرؤساء أنه إذا رجع سارى عسكر منصورا ودامت أهل البلد على طاعتهم وسكونهم رفع عنهم نصف المليون والظلم.
وفي عاشره افرجوا عن ابن محرم التاجر بتوسل والدته بقائمقام بليار على مصلحة الفين ريال فرانسة.
وفيه خرج عبد العال إلى ناحية أبي زعبل ورجع ومعه ثلاثة أشخاص من الفلاحين ضرب عنق أحدهم.
وفي ثاني عشرة قبض عبد العال على أناس من الغورية والصاغة ومرجوش وغيرهم وألزمهم بمال وسئل عن ذلك فقال لم أفعله من قبل نفسي بل عن أمر من الفرنسيس.
وفيه حفروا خندقا عند تلال البرقية فكان الذين يخرجون بالاموات يصعدون بهم من فوق التل ثم ينزلون ويمرون عل سقالة من الخشب على الخندق المحفور فحصل للناس غاية المشقة واتفق أن ميتا سقط من على رقاب الحمالين وتدحرج إلى أسفل التل.
وفيه ورد الخبر بموت مراد بك بالوجه القبلي بالطاعون وكان موته رابع الشهر ودفن بسوهاج عند الشيخ العارف وأقيم عزاؤه عند زوجته الست نفيسة وبنت له قبرا بمدفن على بك وأسمعيل بك بالقرافة بالقرب من قبة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأشيع نقله إليه ثم ترك ذلك وبطل وكان الفرنساوية عند ما اصطلح معهم وأعطوه امارة الصعيد رتبوا لزوجته المذكورة في كل شهر مائة ألف فضة واستمرت تقبض ذلك حتى أخرج الفرنساوية جوابات إلى الأمراء المرادية يعزونهم في أستاذ هم وتقريرا إلى عثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي بأن يكون أميرا ورئيسا على خشداشينه وعوضا عن مراد بك ويستمرون على امريتهم وطاعتهم.
وفيه حضرت جوابات المراسلات التي أرسلت إلى البلاد بسبب(2/426)
الغلال والاقوات بأن المتسببين والتجار أجابوا بالسمع والطاعة غير أن المانع لهم قطاع الطريق وتعدى العرب ومنعهم السبيل وأن أبواب البلدان مغلوقة بحيث لا يمكن الخروج منها فإذا أمنت الطرق حضر المطلوب وكلام هذا معناه وأما الساعي المرسل إلى المنصورة فإنه رجع من اثناء الطريق ولم يمكنه الوصول إليها لأن العساكر القادمة قد دخلوها وصارت في حكمهم.
وفيه أي في هذا الشهر زاد أمر الطاعون وطعن مصطفى أغا أبطال بالقلعة فلما ظهر فيه ذلك رفعوه بطريق مهانة وأنزلوه إلى الكرنتينه بباب العزب وألقوه بها ثم تكلم في شأنه أرباب الديوان فانزلوه إلى داره فمات بها وكذلك وقع لحسين قرأ إبراهيم التاجر وعلى كتخدا النجدلي وذلك في أوائله وفي كل يوم يموت من الفرنسيس الكائنين بالقلعة الثلاثون والاربعون وينزلون بهم من كرنتينة القلعة على الاخشاب مثل الأبواب كل ثلاثة أو أربعة سواء يحملهم الحمالون وامامهم اثنان من الفرنسيس يمنعون الناس ويباعدونهم عن القرب منهم إلى أن يخرجوا بهم من باب القرافة فيلقوهم في حفر عميقة قد اعدها الحفارون ويهيلون عليهم التراب حتى يعلوهم ثم يلقون صفا آخر ويغطونهم بالتراب وهكذا حتى تمتلىء الحفرة ويبقى بينها وبين الأرض نحو الذراع فيكبسونها بالتراب والاحجار ويحفرون أخرى غيرها كذلك فيكون في الحفرة الواحد اثنا عشر وستة عشر وأكثر فوق بعضهم البعض وبينهم التراب ويرمونهم بثيابهم وأغطيتهم وتواسيمهم التي في أرجلهم وذلك المكان الذي يدفنون به في العلوة الكائنة خارج مزار القادرية بين الطريقين الموصلين إلى جهة مزار الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وفيه انهى مشايخ الديوان تعرض عبد العال لمصادرة الناس وطلب المال بعد تأمينهم وتبشيرهم برفع نصف المليون عنهم فأجيبوا بأن ذلك على سبيل القرض لتعطل المال الميري واحتياج العسكر إلى النفقة وقيل(2/427)
لهم أيضا: إن كان يمكنكم أن تكتبوا إلى البلاد بدفع الميري رفعنا الطلب عن الناس فقالوا هذا غير ممكن لحصول البلاد في حيازة القادمين وقطع الطريق من وقوف العرب بها وعدم الانتظام وإنما القصد الملاطفة والرفق فإن وظيفتنا النصح والوساطة في الخير.
وفي يوم الخميس سادس الحجة حضر استوف الخازندار وجرجس الجوهري ومن معهما من القبطة وغيرهم ما عدا الفرنسيس الذين ذهبوا معهم فأرسلت أوراق بحضور مشايخ الديوان والتجار والأعيان من الغد فلما كان في صبحها حصلت الجمعية وأحضر الخازندار والوكيل وعبد العال وعلى أغا الوالي وبعض التجار كالسيد أحمد الزرو والحاج عبد الله التاودي شيخ الغورية والحاج عمر الملطيلي التاجر بخان الخليلي ومحمود حسن وكليمان الترجمان فتكلم استوف وترجم عنه الترجمان بقوله أن سارى عسكر الكبير منو يقرئكم السلام ويثنى عليكم كثيرا وسينجلى هذا الحادث إن شاء الله تعالى ويقدم في خير ويرى أهل مصر ما يسرهم وقد هلك من الانكليز خلق كثير وباقيهم أكثرهم مرمودون الأعين وبمرض الزحير وجاءت طائفة منهم إلى الفرنساوية وانضموا إليهم من جوعهم وعطشهم ولتعلموا أن الفرنساوية لم يسلموا في رشيد قهرا عنهم بل تركوها قصدا وكذلك أخلينا دمياط لأجل أن يطمعوا ويدخلوا إلى البلاد وتتفرق عساكرهم فتتمكن عند ذلك من اسئصالهم ونخبركم أنه قد وردت إلى اسكندرية مركب من فرانسا وأخبرت أن الصلح قد تم مع كامل القرانات ما عدا الانكليز فإنهم لم يدخلوا في الصلح وقصدهم عدم سكون الحرب والفتن ليستولوا على أموال الناس وأعلموا أن المشايخ المحبوسين بالقلعة وغيرهم لا بأس عليهم وإنما القصد من تعويفهم وحبسهم رفع الفتن والخوف عليهم وشريعة الفرنساوية اقتضت ذلك ولا يمكن مخالفتها ومخالفتها كمخالفة القرآن العظيم عندكم وقد بلغنا أن السلطان العثملي أرسل إلى عسكره بالكف عن الفرنساوية والرجوع(2/428)
عن قتالهم فخألف عليه بعض السفهاء منهم وخرجوا عن طاعته وأقاموا الحرب بدون اذنه فأجابه بعض الحاضرين بقوله أن القصد حصول الراحة والصلح والفرنساوية عندنا أحسن حالا من الانكليز لأننا قد عرفنا أخلاقهم ونعلم أن الانكليز إنما يريدون بانضمامهم إلى العثملية تنفيذ أغراضهم فقط فإنهم يدلون العثملي ويغرونه حتى يوقعوه في المهالك ثم يتركوه كما فعلوا سابقا ثم قال الخازندار أن الفرنساوية لا يحبون الكذب ولم يعهد عليهم فلازم أن تصدقوا كل ما أخبروكم به فقال بعض الحاضرين إنما يكذب الحشاشون والفرنساوية لا يأكلون الحشيش ثم قال الخازندار أن وقع من أهل مصر فشل أو فساد عوقبوا أكثر من عام أول وأعلموا أن الفرنساوية لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبدا لأنها صارت بلادهم وداخله في حكمهم وعلى الفرض والتقدير إذا غلبوا على مصر فإنهم يخرجون منها إلى الصعيد ثم يرجعون إليها ثانيا ولا يخطر في بالكم قلة عساكرهم فإنهم على قلب رجل واحد وإذا اجتمعوا كانوا كثيرا وطال الكلام في مثل هذه التمويهات والخرافات وأجوبة الحاضرين بحسب المقتضيات ثم قال الخازندار القصد منكم معاونة الفرنساوية ومساعدتهم وغلاق نصف المليون ولشفع بعد ذلك عند سارى عسكر في فوات النصف الثاني حكم ما عرفكم قائمقام بليار فاجتهدوا في غلاقه من الأغنياء واتركوا الفقراء فأجابوا في آخر الكلام بالسمع والطاعة فقال لكن ينبغي التعجيل فإن الأمر لازم لأجل نفقه العسكر ثم قال لهم ينبغي أن تكتبوا جوابا بالسارى عسكر تعرفونه فيه عن راحة أهل البلد وسكون الحال وقيامكم بوظائفكم وهو أن شاء الله يحضر اليكم عن قريب وانفض المجلس وكتب الجواب المأمورية وأرسل.
وفيه ورد الخبر بوصول طاهر باشا الارنؤدي بجملة من العساكر الارنؤدية إلى أبي زعبل(2/429)
وفيه خرج عدة من عساكر الفرنساوية وضربوا أربع قرى من الريف بعلة موالاة العرب وقطاع الطريق فنهبوهم وحضروا إلى مصر بمتاعهم ومواشيهم.
وفيه أرسل بليار قائمقام يطلب من الوجاقلية بقية ما عليهم من المال المتأخر من فردة الملتزمين وقدره اثنا عشر ألف ريال وأن تأخروا عن الدفع احاط العسكر بيوتهم ونقلهم إلى أضيق الحبوس بل واستعملهم في شيل الاحجار فاعتذروا بضيق ذات يدهم وحبسهم فتصدر إليهم السيد أحمد الزرو وتشفع عند قائمقام بأن يقوموا بدفع أربعة آلاف ريال ويؤجلوا بالباقي وينزلوا من القلعة لتحصيل ذلك فأجابه وأنزل علي أغا يحيى اغات الجراكسة ويوسف باشجاويش إلى بيت عبد العال وحبسهم بمكان بداره وحبس معهم مصطفى كتخدا الرزار فكان يتهددهم ويرسل إليهم أعوانه يقولون لهم شهلوا ما عليكم والا ضربكم الاغا بالكرابيج فسبحان الفعال لما يريد فإن عبد العال هذا الذي يتهددهم ربما كان لا يقدر على الوصول إلى الوقوف بين يدي بعض اتباعهم فضلا عنهم.
وفيه أحاط الفرنسيس بمنزل حسن أغا لوكيل المتوفي قبل تاريخه وذلك بسبب أنه وجد ببيته غلام فرنساوي مختف أسلم وحلق رأسه وقبضوا على أجد خشداشينه وحبسوه لكونه علم ذلك ولم يخبر به.
وفيه حضرت رسل من طرف عرضي الوزير لقائمقام بليار فاجتمعوا به وخلا بهم ووجههم من ليلتهم فلما حصلت الجمعية بالديوان سئل الوكيل عن ذلك فقال نعم أنهم أرسلوا يطلبون الصلح.
وفي ثامن عشره أفرجوا عن إبراهيم أفندي كاتب البهار ليساعد في قبض نصف المليون.
وفي رابع عشرينه قبضوا على أبي القاسم المغربي شيخ رواق المغاربة وحبسوه بالقلعة بسبب أنه كان يتكلم في بعض المجالس ويقول أنا شيخ المغاربة وأحكم عليهم ويتباهى بمثل هذا القول فنقل عنه ذلك إلى(2/430)
عبد العال والفرنسيس وظنوا صحة قوله وأنه ربما أثار فتنة فقبضا عليه وحبسوه وكذلك حبسوا محمد أفندي يوسف ثاني قلفه وآخر يقال له عبيد السكري.
وفي خامس عشرينه أبرزوا مكتوبا وزعموا أنه حضر من سارى عسكرهم وقرىء بالديوان وصورته بعد الصدر خطابا إلى كافة العلماء والمشايخ الكرام بمحفل الديوان المنيف بمحروسة مصر حالا أدام الله تعالى فضائلهم ورد لنا مكتوبكم وانشرح قلبي من كل ما شهدتم لنا فيه بأنه يثبت عقلكم السليم وصدقكم وتقييد قلوبكم في طارق الدستور فدوموا مهتدين بهذه الملكة ولا بد لفضائلكم من دولة جمهورنا كامل الوفاء من حسن رضا واطمئنان عليكم منها ومن طرف عمدة أصحاب الجراءة والشجاعة حضرة القونصل أولها بونابارته وعلى الخصوص من طرفنا وكان ضد اوامري أن الستويان فوريه الذي كنت وضعته قرب فضائلكم ترك ذلك الموضع وتوجه إلى اسكندرية وما تلك الفعلة إلا من نقص جسارته في ذي الوقعة فبدلناه جنب فضائلكم بالستويان جيرار رجل واجب الأستوصاء لأجل عرضه وفضله وخصوصا لأجل غيرته وجسارته فلذلك هو كسب اعتمادي فاعتمدوا إلى كل ما هو قائل بفضائلكم من جانبنا وبمنه وعونه تعالى عن قريب نواجهكم بمصر بخير وسلامة ودوموا حسب تدبيراتكم لتنظيم البلد ومماسكة الطاعة بين الأمة الحامدة والسياسة بين غيرهم وكذلك نرجو من رب الأجناد بحرمة سيد العباد أن تشدوا قلوبكم توكلا له لأن عوننا اسمه العظيم حرر في ثلاثة عشر فلوريال سنة تسعة موافقا لثمانية عشر ذي الحجة سنة ألف ومائتين وخمسة عشر ممضي عبد الله جاك منو انتهى بالفاظه وحروفه.
وفي سادس عشرينه أعادوا فرش الديوان بأمر الوكيل جيرار.
وفيه أفرجوا عن محمد كاشف سليم الشعراوي بشفاعة حسين كاشف وسافر إلى جهة الصعيد(2/431)
وفي ثامن عشرينه وردت الأخبار بوصول ركاب الوزير يوسف باشا إلى مدينة بلبيس وذلك يوم الجمعة رابع عشرينه.
وفيه أخبر وكيل الديوان أن سارى عسكر أرسل كتابا إلى الست نفيسة بالتعزية ورتب لها في كل شهر مائة ألف نصف وأربعين وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها فمنها توالى الهدم والخراب وتغيير المعالم وتنويع المظالم وعم الخراب خطة الحسينية خارج باب الفتوح والخروبي فهدموا تلك الاخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وبركة جناق وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية العظيم بباب النصر وما كان به من القباب العظام المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الاركان الشبيهة بالأهرام والمنارة العظيمة ذات الهلالين واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح وباب القوس إلى باب الحديد حتى بقي ذلك كله خرابا متصلا واحدا وبقي سور المدينة الأصلي ظاهرا مكشوفا فعمروه ورموا ماتشعث منه وأوصلوا بعضه ببعض بالبناء ورفعوا بنيانه في العلو وعملوا عند كل باب كرانك وبدنات عظاما وأبوابا داخلة وخارجه وأخشابا مغروسة بالأرض مشبكة بكيفيه مخصوصة وركزوا عند كل باب عدة من العسكر مقيمين وملازمين ليلا ونهارا ثم سدوا باب الفتوح بالبناء وكذلك باب البرقية وباب المحروق وأنشؤا عدة قلاع فوق التلال البرقية ورتبوا فيها العساكر وآلات الحرب والذخيرة وصهاريج الماء وذلك من حد باب النصر إلى باب الوزير وناحية الصوة طولا فمهدوا أعالي التلال وأصلحوا طرقها وجعلوا لها مزالق وانحدارات لسهولة الصعود والهبوط بقياسات وتحريرات هندسية على زوايا قائمة ومنفرجة وبنوا تلك القلاع بمقادير بين أبعادها وهدموا أبنية رأس الصوة حيث الحطابة وباب الوزير تحت القلعة الكبيرة وما بذلك من المدارس القديمة المشيدة والقباب المرتفعة وهدموا أعالي المدرسة النظامية ومنارتها وكانت في غاية من(2/432)
الحسن وجعلوها قلعة ونبشوا ما بها من القبور فوجدوا الموتى في توابيت من الخشب فظنوا داخلها دراهم فكسروا بعضها فوجدوا بها عظام الموتى فأنزلوا تلك التوابيت وألقوها إلى خارج فاجتمع أهل تلك الجهة وحملوها وعملوا لها مشهدا بجمع من الناس ودفنوها داخل التكية المجاورة لباب المدرج وجعلوا تلك المدرسة قلعة أيضا بعد أن هدموا منارتها أيضا وكذلك هدموا مدرسة القانبية والجامع المعروف بالسبع سلاطين وجامع الجركسي وجامع خوند بركة الناصرية خارج باب البرقية وكذلك أبنية باب القرافة ومدارسها ومساجدها وسدوا الباب وعملوا الجامع الناصري الملاصق له قلعة بعد أن هدموا منارته وقبابه وسدوا أبواب الميدان من ناحية الرميلة وناحية عرب اليسار وأوصلوا سهور باب القرافة بجامع الزمر وجعلوا ذلك الجامع قلعة وكذلك عدة قلاع متصلة بالمجراة التي كانت تنقل الماء إلى القلعة الكبيرة وسدوا عيونها وبواكيها وجعلوها سورا بذاتها ولم يبقوا منها إلا قوصرة واحدة من ناحية الطبي جهة مصر القديمة جعلوها بابا ومسلكا وعليها الكرنك والغفر والعسكر الملازمين الإقامة بها ولقبض المكس من الخارج والداخل وسدوا الجهة المسلوكة من ناحية قنطرة السد بحاجز خشب مقفص وعليه باب يقفل مقفص أيضا وعليه حوسجية ملازمون القيام عليه وذلك حيث سواقي المجراة التي كانت تنقل الماء إلى القلعة وحفروا خلف ذلك خندقا.
وأما ما أنشؤه وعمروه من الأبراج والقلاع والحصون بناحية ثغر الأسكندرية ورشيد ودمياط وبلاد الصعيد فشيء كثير جدا وذلك كله في زمن قليل.
ومنها تخريب دور الأزبكية وردم رصيفاتها بالأتربة وتبديل اوضاعها وهدم خطة قنطرة الموسكي وما جاورها من أول القنطرة المقابلة للحمام إلى البوابة المعروفة بالعتبة الزرقاء حيث جامع أزبك وما كان في ضمن(2/433)
ذلك من الدور والحوانيت والوكائل وكوم الشيخ سلامة فيسلك المار من على القنطرة في رحبة متسعة تنتهي إلى رحبة الجامع الأزبكي وهدموا بيت الصابونجي ووصلوه بجسر عريض ممتد ممهد حتى ينتهي إلى قنطرة الدكة وفي متوسط ذلك الجسر ينعطف جسر آخر إلى جهة اليسار عند بيت الألفي حيث سكن سارى عسكر ممتد ذلك الجسر إلى قنطرة المغربي ومنها يمتد إلى بولاق على خط مستقيم إلى ساحل البحر حيث موردة التبن والشون ووزعوا بحافتيه السيسبان والاشجار وكذلك برصيفات الأزبكية وهدموا المسجد المجاور لقنطرة الدكة مع ما جاوره من الأبنية والغيطان وعملوا هناك بوابة وكرنكا وعسكرا ملامين الإقامة والوقوف ليلا ونهارا وذلك عند مسكن بليار قائمقام وهي دار جرجس الجوهري وما جاوره وكان في عزمهم ايصال ما انتهوا الىهدمه بقنطرة الموسكي إلى صور باب البرقية ويهدمون من حد حمام الموسكي حتى يتصل المهدوم بناحية الأشرفية ثم إلى خان الخليلي إلى اسطبل الطارمة العروفة الآن بالشنواني إلى ناحية كفر الطماعين إلى البرقية ويجعلون ذلك طريقا واحدا متسعا وبحافتيه الحوانيت والخانات وبها أعمدة وأشجار وتكاعيب وتعاريش وبساتين من أولها إلى آخرها من حد باب البرقية إلى بولاق فلما انتهوا في الهدم إلى قنطرة الموسكي تركوا الهدم ونادوا بالمهلة ثلاثة أشهر وشرعوا في أبنية حوائط بحافتي القنطرة ومعاطف ومزالق إلى حارة الافرنج وحارة النباقة وذلك بالحجر النحت المتقن الوضع وكذلك عمروا قناطر الخليج المتهدمة داخل مصر وخارجها على ذلك الشكل مثل قنطرة السد والقنطرة التي بين أراضي الناصرية وطريق مصر القديمة وقنطرة الليمون وقنطرة قدبدار وقنطرة الاوز وغير ذلك ثم فاجأهم حادث الطاعون ووصول القادمين فتركوا ذلك واشتغلوا بأمور التحصين وسيأتي تتمة ذلك ومنها توالي خراب بركة الفيل وخصوصا بيوت الأمراء التي كانت بها وأخذوا أخشابها لعمارة القلاع ووقود النيران والبيع(2/434)
وكذلك ما كان بها من الرصاص والحديد والرخام وكانت هذه البركة من جملة محاسن مصر وفيها يقول أبو سعيد الاندلسي وقد ذكر القاهرة وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ويسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب.
وتخرب أيضا جامع الرويعي وجعلوه خمارة وبعض جامع عثمان كتخدا القزد علي الذي بالقرب من رصيف الخشاب وجامع خير بك حديد الذي بدرب الحمام بقرب بركة الفيل وجامع البنهاوي والطرطوشي والعدوى وهدموا جامع عبد الرحمن كتخدا المقابل لباب الفتوح حتى لم يبق به إلا بعض الجدران وجعلوا جامع أزبك سوقا لبيع أقلام المكوس.
ومنها أنهم غيروا معالم المقياس وبدلوا أوضاعه وهدموا قبته العالية والقصر البديع الشاهق والقاعة التي بها عامود المقياس وبنوها على شكل آخر لا بأس به لكنه لم يتم وهي على ذلك باقية إلى الآن ورفعوا قاعدة العامود العليا ذراعا وجعلوا تلك الزيادة من قطعة رخام مربعة ورسموا عليها من جهاتها الأربع قراريط الذراع.
ومنها أنهم هدموا مساطب الحوانيت التي بالشوارع ورفعوا أحجارها مظهرين أن القصد بذلك توسيع الأزقة لمرور العربات الكبيرة التي ينقلون عليها المتاع واحتياجات البناء من الاحجار والجبس والجير وغيره والمعنى الخفي الشافي خوفا من التترس بها عند حدوث الفتن كما تقدم وكانوا وصلوا في هدم المساطب إلى باب زويلة ومن الجهة الاخرى إلى عطفه مرجوش فهدموا مساطب خط قناطر السباع والصليبة ودرب الجماميز وباب سعادة وباب الخرق إلى آخر باب الشعرية ولو طال الحال لهدموا مساطب العقادين والغورية والصاغة والنحاسين إلى آخر باب النصر وباب الفتوح فحصل لارباب الحوانيت غاية الضيق لذلك وصاروا يجلسون في داخل فجوات الحوانيت مثل الفيران في الشقوق وبعض الزوايا والجوامع(2/435)
والرباع التي درجها خارج عن سمت حائط البناء لما هدموا درجة وبسطته بقي باب مدخله معلقا فكانوا يتوصدون إليه بدرج من الخشب مصنوع يضعونه وقت الحاجة ويرفعونه بعدها وذلك عمل كثير.
ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات الصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الاهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن وكان ذلك التداخل أولا مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في اخفائه فلما وقعت الفتنة الاخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهم من النساء الفواجر ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حور الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهن له وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والأعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصا عقول القاصرات وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم فيظهر حالة العهد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها وصار مع حكام الاخطاط منهم النساء المسلمات متزيبات بريهم ومشوا معهم في الاخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة(2/436)
وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل مايمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام.
ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت في السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والمرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاديف بسخيف موضوعاتهم وكتائف مطبوعاتهم وخصوصا إذا دبت الحشيشة في رؤسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم شيء كثير.
وأما الجواري السود فانهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الانثى ذهن إليهم أفواجا فرادى وأواجا فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك.
ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه سارى عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رؤوسهم مشابه لشكل البرنيطة وعليه قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة مع ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسامهم وزفارة أبدانهم وصيرهم عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الاحمر وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وابراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام وكذلك بنى أبراجا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية وفي جميع السور المحيط والابراج طيقانا للمدافع وبنادق الرصاص على هيئة سور مصر الذي رمه(2/437)
الفرنساوية ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين للوقوف ليلا ونهارا وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية ومنها قطعهم الأشجار والنخيل من جميع البساتين والجنائن الكائنة بمصر وبولاق ومصر القديمة والروضة وجهة قصر العيني وخارج الحسينية وبساتين بركة الرطلي وأرض الطبالة وبساتين الخليج بل وجميع القطر المصري كالشرقية والغربية والمنوفية ورشيد ودمياط كل ذلك لاحتياجات عمل القلاع وتحصين الأسوار في جميع الجهات وعمل العجل والعربات والمتاريس ووقود النار وكذلك المراكب والسفن وأخذ أخشابها أيضا مع شدة الاحتياج إليها وعدم انشاء الناس سفنا جديدة لفقرهم وعدم الخشب والزفت والقار والحديد وباقي اللوازم حتى أنهم حال حلولهم الديار المصرية وسكنهم بالازبكية كسروا جميع القنج والاغربةالتي كانت موجودة تحت الأعيان بقصد التنزه وكذلك ما كان ببركة الفيل وبسبب ذلك شحت البضائع وغلت الأسعار وتعطلت الأسباب وضاقت المعايش وتضاعفت أجر حمل التجارات في السفن لقلتها.
ومنها هدم القباب والمدافن الكائنة بالقرافة تحت القلعة خوفا من تترس المحاربين بها فكانوا يهدمون ذلك بالبارود على طريقة اللغم فيسقط المكان بجميع اجزائه من قوة البارود وانحباسه في الأرض فيسمع له صوت عظيم ودوي فهدموا شيئا كثيرا على هذه الصورة وكذلك إزالوا جانبا كبيرا من الجبل المقطم بالبارود من الجهة المحاذية للقلعة خوفا من تمكن الخصم منها والرمي على القلعة.
ومنها زيادة النيل المفرطة التي لم يعهد مثلها في هذه السنين حتى غرقت الاراضي وحوصرت البلاد وتعطلت الطرق فصارت الأرض كلها لجة ماء وغرق غالب البلاد التي على السواحل فتهدم من دورها شيء كثير وأما المدينة فإن الماء جرى من جهة الناصرية إلى الطريق المسلوكة وطفح من بركة الفيل إلى درب الشمسي وطريق قنطرة عمر شاه(2/438)
ومنها استمرار انقطاع الطرق واسباب المتاجر وغلو البضائع المجلوبة من البلاد الرومية والشامية والهندية والحجازية والمغرب حتى غلت اسعار جميع الأصناف وانتهى سعر كل شيء إلى عشرة امثاله وزيادة على ذلك فبلغ الرطل الصابون إلى ثمانين نصفا واللوزة الواحدة بنصفين وقس على ذلك وأما الأشياء البلدية فإنها كثيرة موجودة وغالبها يباع رخيصا مثل السمن والعسل النحل والأرز والغلال وخصوصا الأرز فإنه بيع في ايامهم بخمسمائة نصف فضة الأردب وكانت النصارى باعة العسل النحل يطوفون به في بلاليص محملة على الحمير ينادون عليه في الأزقة بأرخص الاثمان.
ومنها وقوع الطاعون بمصر والشام وكان معظم عمله ببلاد الصعيد أخبرني صاحبنا العلامة الشيخ حسن المعروف بالعطار المصري نزيل اسيوط مكاتبة ونصه ونعرفكم يا سيدي أنه قد وقع في قطر الصعيد طاعون لم يعهد ولم تسمع بمثله وخصوصا ما وقع منه باسيوط وقد انتشر هذا البلاء في جميع البلاد شرقاوغربا وشاهدنا منه العجائب في أطواره وأحواله وذلك أنه اباد معظم أهل البلاد وكان اكثره في الرجال سيما الشبان والعظماء وكل ذي منقبة وفضيلة وأغلقت الأسواق وعزت الأكفان وصار المعظم من الناس بين ميت ومشيع ومريض وعائد حتى أن الإنسان لا يدري بموت صاحبه أو قريبه إلا بعد أيام ويتعطل الميت في بيته من أجل تجهيزه فلا يوجد النعش ولا المغسل ولا من يحمل الميت إلا بعد المشقة الشديدة وأن أكبر كبير إذا مات لا يكاد يمشي معه مازاد على عشرة انفار تكترى وماتت العلماء والقراء والملتزمون والرؤساء وأرباب الحرف ولقد مكثت شهرا بدون حلق رأسي لعدم الحلاق وكان مبدأ هذا الأمر من شعبان وأخذ في الزيادة في شهر ذي القعدة والحجة حتى بلغ النهاية القصوى فكان يموت كل يوم من اسيوط خاصة زيادة على الستمائة وصار الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى إلا جنازة أو مريضا(2/439)
أو مشتغلا بتجهيز ميت ولا يسمع إلا نائحة أو باكية وتعطلت المساجد من الاذان والأمامة لموت أرباب الوظائف واشتغال من بقى منهم بالمشي أما الجنائز والسبح والسهر وتعطيل الزرع من الحصاد ونشف على وجه الأرض وأبادته الرياح لعدم وجدان من يحصده وعلى التخمين أنه مات الثلثان من الناس هذا مع سعي العرب في البلاد بالفساد والتخويف بسبب خلو البلاد من الناس والحكام إلى أن قال ولو شئت أن اشرح لك يا سيدي ما حصل من أمر الطاعون لملأت الصحف مع عدم الايفاء وتاريخه ثامن عشرين الحجة سنة تاريخه.
من مات في هذه السنة من الأعيان.
مات الإمام الالمعي والذكي اللوذعي من عجنت طينته بماء المعارف وتآخت طبيعته مع العوارف العمدة العلامة والنحرير الفهامة فريد عصره ووحيد دهره الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري وهو أجد الاخوة الثلاثة وأصغرهم ويعرف هو بالصغير ولد سنة احدى وخمسين ومائة وألف ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف وقرأ عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد ابن أحمد وعلي الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلاء الوقت وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته وحضر دروس الشيخ عطية الاجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك فلازمه وبه تخرج في الالقاء وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي وتلقى عن الشيخ الوالد حسن الجبرتي كثيرا من العلوم ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفردا وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه وحج مع والده في سنة ثمان وستين وجاور معه فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله الميرغني صاحب الطائف واقتبس من أنواره واجتنى من ثماره وكان آية في الفهم والذكاء والغوص والاقتدار على حل المشكلات وأقرأ الكتب وألقى الدروس بالاشرفية وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس(2/440)
والذهاب والترداد إلى بيوت الأعيان والتزهد عما بأيديهم فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وأقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيادته وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاورة لبيت والده بالازبكية واتخذ له مكانا خاصا بمنزل والده يجلس فيه في أوقات وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة أو للتلقي يأمره بزيارة ابنه المترجم والتلقي عنه وطلبهم الدعاء منه ويحكى لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات فازداد اعتقاد الناس فيه وعاشر العلماء والفضلاء من أهل عصره ومشايخه وقرنائه وتردد عليهم وترددوا عليه ويبيتون عنده ويطمعهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال ومجانبة الأمور المخلة بالمروأة ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد وقد كان تصدر بعد والده في اقراء الدروس اجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في اقراء الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان فامتنع من ذلك وواظب على حالة انجماعه وطريقته واملائه الدروس بالاشرفية وحج في سنة سبع وثمانين ومائة وألف وجاور سنة وعقد دروسا بالحرم وانتفع به الطلبة ثم عاد إلى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات فعظمت رغبة الناس فيه ورد هداباهم مرة بعد أخرى وأظهر الغني عنهم فازداد ميل الناس إليه وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده وتردد الأمراء وسعوا لزيارته أفواجا وربما احتجب عن ملاقاتهم وقلد بعضهم بعضا في السعي ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط أو أكل من طعام أجد قط إلا بعض أشياخه المتقدمين وكانت شفاعته لا ترد عند الأمراء والأعيان مع الشكيمة والصدع بالامر والمناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه وازدادت شهرته وطار صيته ووفدت عليه الوفود من الحجاز والغرب والهند والشام والروم وقصدوا زيارته والتبرك به وحج أيضا في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمراء(2/441)
مصر فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة فجاور سنة واقرأ هناك دروسا واشترى كتبا نفيسة ثم عاد إلى مصر واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس بل بالغ في ذلك ويقرىء ويملي الدروس بالاشرفية وأحيانا بروايتهم بدرب شمس الدولة وأحيانا بمنزله بالازبكية ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولىمشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي باتفاق الأمراء والمتصدرين من الفقهاء وهاجت حفائظ الشافعية ذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة فأبى ذلك ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه فأجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك وأرسلوا إلى الأمراء فلم يوافقوا على ذلك فركب المترجم بصحبة الجمع إلى ضريح الإمام الشافعي ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلماء والأمراء ورد المشيخة إلى الشافعية وتولى الشيخ أحمد العمروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غائبا عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي باشارته ولم يزل وافر الحرمة معتقدا عند الخاص والعام حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها وتراكمت عليه الهموم والأمراض وحصل له اختلاط ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة سنة تاريخه بحارة برجوان وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر ذهنه وقاد ونظمه مستجاد وكان رقيق الطبع لطيف الذات مترفها في مأكله وملبسه.
ومات الأجل الأمثل العمدة الوجيه السيد عبد الفتاح بن أحمد ابن الحسن الجوهري أخو المترجم المذكور وهو أسن منه واصغر من اخيه الشيخ أحمد ولد سنة احدى واربعين ومائة وألف ونشأ في حجر أبيه(2/442)
وحضر الشيخ الملوي وبعض دروس ابيه وغيره ولم يكن معتنيا بالعلم ولم يلبس زي الفقهاء وكان يعاني التجارة ويشارك ويضارب ويحاسب ويكاتب فلما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وامتنع أخوه الأصغر الشيخ محمد من التصدر للاقراء في محله اتفق الحال على تقدم المترجم حفظا للناموس وبقاء لصورة العلم الموروث فعند ذلك تزيابزي الفقهاء ولبس التا والفراجة الواسعة وأقبل على مطالعة العلم وخالط أهله وصار يطالع ويذاكر وأقرأ دروس الحديث بالمشهد الحسيني في رمضان مع قلة بضاعته وذلك بمعونة الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد الفرماوي فكان يطالع الدرس الذي يمليه من الغد ويتلقى عنه مناقشات الطلبة وثبت على ذلك حتى ثبتت المشيخة وتقررت العالمية كل ذلك مع معاناته التجارة وتردد إلى الحرمين واثرى واقتن كتبا نفيسة وعروضا وحشما واشترى المماليك والعبيد والجواري والأملاك والالتزام ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية وصادروه وأخذوا منه خمسة عشر ألف فرانسة وداخله من ذلك كرب وانفعال زائد فسافر إلى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار فأقام بها أشهرا ثم ذهب إلى شيبين الكوم بلدة أقاربه وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة وذلك بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بنحو خمسة أيام ودفن هناك رحمه الله تعالى.
ومات الإمام العلامة الثقة الهمام النحرير الذي ليس له في فضله نظير أبو محمد أحمد بن سلامة الشافعي المعروف بأبي سلامة اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية وتفقه على كثير من علماء الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم وتبحر في الأصول والفروع وكان مستحضرا للفروع الفقهية والمسائل الغامضة في المذاهب الأربع ويغوص بذهنه وقياسه في الأصول الغريبة ومطالعة كتب الأصول القديمة التي اهملها المتأخرون وكان الفضلاء يرجعون في ذلك إليه ويعتمدون قوله ويعولون في الدقائق عله إلا أن الدهر لم يصافه على(2/443)
عادته وعاش في خمول وضيق وخشونة ملبس وفقد رفاهية بحيث أن من يراه لا يعرف لرثائه ثيابه وكان مهذبا حسن المعاشرة جميل الخلق والنادرة مطبوعا فيه صلاح وتواضع ونزل مؤقتا في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشأه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية انصاف يتعيش بها مع ما برد عليه من بعض الفقهاء والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسائل والفتاوي فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عنه ذلك المعلوم وكان ذا عائلة ومع ذلك لا يسأل شيأ ولا يظهر فاقة توفي في يوم الأحد حادي عشرين جمادى الآخرة من السنة عن خمس وسبعين سنة تقريبا رحمه الله.
ومات الأمير مراد بك محمد مات بسهاج قادما إلى مصر باستدعاء الفرنسيس ودفن بها عند الشيخ العارف وكان موته رابع شهر الحجة كما تقدم وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب ومحمد بك مملوك علي بك وعلي بك مملوك إبراهيم كتخدا الفازدغلي اشترى محمد بك مراد بك المذكور في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وذلك في اليوم الذي قتل فيه صالح بك الكبير فأقام في الرق أياما قليل أعقه وأمره وأنعم عليه بالاقطاعات الجليلة وقدمه على أقرانه وتزوج بالست فاطمة زوجة الأمير صالح بك وسكن داره العظيمة بخط الكبش.
ولما مات علي بك تزوج بسريته أيضا وهي ألست نفيسة الشهيرة الذكر بالخير ولما انفرد محمد بك بأمارة مصر كان هو وإبراهيم بك أكبر أمرائه المشار إليهما دون غيرهما فلما سافر محمد بك إلى الديار الشامية محاربا للظاهر عمر أقام عوضه في إمارة مصر إبراهيم بك وأخذ صحبته مراد بك وباقي أمرائه فلما مات محمد بك بعكا اجتمع أمراؤه على رأى مماليكه في رآسه مراد بك فتقدم وقدمه عليهم وحملوا جثة سيدهم وحضروا بأجمعهم إلى مصر فاتفق راي الجميع على إمارة من استخلفه سيدهم وقدمه دون غيره وهو إبراهيم بك ورضى الجميع بتقدمه ورياسته(2/444)
لوفور عقله وسكون جاشه فاستقر بمشيخة مصر ورياستها ونائب نوابها ووزرائها وعكف مراد بك علي لذاته وشهواته وقضى أكثر زمانه خارج المدينة مرة بقصره الذي أنشأه بالروضة وأخرى بجزيرة الذهب وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية كل ذلك مع مشاركته لإبراهيم بك في الأحكام والنقض والإبرام والايراد والأصدار ومقاسمة الأموال والدواوين وتقليد مماليكه وأتباعه الولايات والمناصب وأخذ في بذل الأموال وانفاقها على أمرائه وأتباعه فانضم إليه بعض أمراء على بك وغيرهم ممن مات أسيادهم كعلي بك المعروف بالملط وسليمان بك الشابوري وعبد الرحمن بك عثمان فأكرمهم وواساهم ورخص لمماليكه في هفواتهم وسامحهم في زلاتهم وحظى عنه كل جريء غشوم عسوف ذميم ظلوم فانقلبت أوضاعهم وتبدلت طباعهم وشرهت نفوسهم وعلت رؤسهم فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذ هم وشمخت آنافهم عليه وأغاروا حتى على ما في يده واشتهر بالكرم والعطاء فقصده الراغبون وامتدحه الشعراء والغاوون وأخذا الشيء من غير حقه واعطاه لغير مستحقه.
ثم لما ضاف عليه المسالك ورأى أن رضا العالم غاية لا تدرك أخذ يتحجب عن الناس فعظم فيه الهاجس والوسواس وكان يغلب على طبعه الخوف والجبن مع التهور والطيش والتورط في الاقدام مع عدم الشجاعة ولم يعهد إليه أنه انتصر في حرب باشرها أبدا علىما فيه من الأدعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور.
ولما قدم حسن باشا إلى مصر وخرج المترجم مع خشداشينه وعشيرته هاربين إلى الصعيد حتى انقضت أيام حسن باشا وأسمعيل بك ومن كان معه ورجعوا ثانيا بعد أربع سنين وشيء من الشهور من غير عقد ولا حرب تعاظم في نفسه جدا واختص بمساكن إسمعيل بك وجعل إقامته بقصر الجيزة وزاد في بنائه وتنميقه وبنى تحته رصيفا محكما وأنشأ بداخله بستانا عظيما نقل إليه أصناف النخيل والاشجار والكروم واستخلص(2/445)
غالب بلاد اقليم الجيزة لنفسه شراء ومعاوضة وغصبا وعمر أيضا قصر جزيرة الذهب وجعل بها بستانا عظيما وكذلك قصر ترسا وبستان المجنون وصار يتنقل في تلك القصور والبساتين ويركب للصيد في غالب أوقاته واقتنى المواشي من الأبقار والجواميس الحلابة والأغنام المختلفة الاجناس فكان عنده بالجيزة من ذلك شيء كثير جدا وعمل له ترسخانة عظيمة وطلب صناع آلات الحرب من المدافع والقنابر والبنب والجلل والمكاحل واتخذ بها أيضا معامل البارود خلاف المعامل التي في البلد وأخذ جميع الحدادين والسباكين والنجارين فجمع الحديد المجلوب والرصاص والفحم الحطب حتى شحت جميع هذه الأدوات لكونه كان يأخذ كل ما وجده منها وكذلك حطب القرطم والترمس والذرة لحرق قمام الجير والجبس للعمارة وأوقف الأعوان في كل جهة يحجزون المراكب التي تأتي من البلاد بالاحطاب يأخذونها ويجمعونها للطلب ويبيعون لأنفسهم ما أحبوا ويأخذون الجعالات على ما يسمحون به أو يطلقونه لأربابه بالوسائط والشفاعات وأحضر أناسا من القليونجية ونصارى الاروام وصناع المراكب فانشؤا له عدة حربية وغلايين وجعلوا بها مدافع وآلات حرب على هيئة مراكب الروم صرف عليها أموالا عظيمة ورتب بها عساكر وبحرية وأدر عليهم الجماكي والأرزاق الكثيرة وجعل عليهم رئيسا كبيرا رجلا نصرانيا وهو الذي يقال له: نقولا بنى له دارا عظيمة بالجيزة وأخرى بمصر وله عزوة وأتباع من نصارى الأروام المرتبين عسكرا وكان نقولا المذكور يركب الخيل ويلبس الملابس الفاخرة ويمشي في شوارع مصر راكبا وإمامه وخلفه قواسة يوسعون له الطريق في مروره على هيئة ركوب الأمراء كل ذلك خطرات من وساوسه لا يدري أجد لاي شيء هذا الاهتمام ولأي حاجة انفاق هذا المال في الخشب والحديد واعطاؤه لنصارى الاروام واختلفت آراء الناس في ذلك فمن قائل أن ذلك خوفا من خشداشينه وقائل من مخافة العثمانية كما تقدم في قضية حسن باشا والبعض يظن خلاف ذلك(2/446)
وليس غير الوهم والتخيل الفاسد والخوف شيء وبقيت آلات الحرب جميعها والبارود بحواصله والجلل والبنيات حتى أخذ جميعه الفرنسيس فيقال: إنه كان بحواصل الترسخانة من جنس الجلل أجد عشر ألف جلة كذا نقل عن معلم الترسخانة أخذ جميع ذلك الفرنسيس يوم استيلائهم على الجيزة والقصر.
ومما اتفق أنه وقعت مشاجرة في بعض نصارى الاروام القليونجية وبعض السوقة بمصر القديمة فتعصب النصارى على أهل البلد وحاربوهم وقتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا وانتهت الشكوى إلى الأمير فطلب كبيرهم فعصى عليه وامتنع من مقابلته وعمر مدافع المراكب ووجهها جهة قصره فلم يسعه إلا التغافل وراحت على من راح واستوزر رجلا بربريا وهو المسمى بابراهيم كتخدا السنارى وجعله كتخداه ومشيره وبلغ من العظمة ونفوذ الكلمة بإقليم مصر ما لم يبلغه أعظم أمير بها وبنى له دارا بالناصرية واقتنى المماليك الحسان والسرارى البيض والحبوش والخدم وتعلم اللغة التركية والأوضاع الشيطانية واختص ذلك السنارى أيضا ببعض رعاع الناس وجعله كتخدا يأتمر بأمره ويتوصل به أعاظم الناس في قضاء أشغالهم ولما حصل لمراد بك الإقامة بالجيزة واختار السكن بها وزين له شيطانه العزلة عن خشداشينه وأقرانه وترك لإبراهيم بك أمر الأحكام والدواوين ومقتضيات نواب السلطنة العثمانية مع كونه لا ينفذ أمرا دون رأيه ومشورته واحتجب هو عن الاجتماع بالناس بالكلية حتى عن الأمراء الكبار من أقرانه كان السفير وبينهم وبينهم إبراهيم كتخدا المذكور فكان هو عبارة عنه وربما نقض القضايا التي انبرم أمرها عند إبراهيم بك أو غيره بنفسه أو عن لسان مخدومه وأقام المترجم على عزلته بالبر الغربي نحو الست سنوات متوالية لا يعدى إلى البر الشرقي أبدا ولا يحضر الديوان ولا يتردد إلى الأقران وإذا حضر الباشا المولى على مصر ووصل إلى بر انبابة ركب وسلم عليه مع الأمراء ورجع إلى قصره(2/447)
فلا يراه بعد ذلك أبدا وتعاظم في نفسه وتكبر على اقرانه وأبناء جنسه فتزاحمت على سدته الطلاب وتكالبت على جيفته الكلاب فانزوى من نبشهم وتوارى من نهشهم فإذا بلغه قدوم من يختشيه أو وصول من يرتجيه وكان يستحي من رده أو يخشى عاقبة صده ركب في الحال وصعد إلى الجبال وربما وصلة الغريم على غفلة فيجده قد شمع الفتلة فإن صادفه واجتمع عليه اعطاه ما في يديه أو وعده بالخير أو وهبه ملك الغير فما يشعر الميسور إلا ولقمته قد اختطفتها النسور.
ثم أخذ يعبث بدواوين الأعشار والمكوسات والبهار فيحول عليهم الحوالات ويتابع لمماليكه ختم الوصولات فتجاذب هو وإبراهيم بك ذلك الإيراد وتعارضت أوراقهما وخافا في المعتاد ثم اصطلحا على أن تكون له الدواوين البحرية ولقسيمه ما يرد من الأصناف الحجازية وما انضاف إلى قلم البهار وحسب في دفاتر التجار فانفرد كل منهما بوظيفته وفعل بها من الاجحاف ما سطر في صحيفته فاحدث المترجم ديوانا خاصا بنفر رشيد على الغلال التي تحمل إلى بلاد الافرنج وسموه ديوان البدعة وأذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الافرنج أو غيرها وجعل على كل اردب دينارا خلاف البراني والتزم بذلك رجل سراج من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد وبقيت له بها وجاهة وكلمة نافذة فجمع من ذلك أموالا وايرادا عظيما وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري مع ما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجاراتهم وبضاعاتهم من غير ثمن واقتدى به أمراؤه وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته واختص بالسيد محمد كريم الأسكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر به وأجرى أحكامه به وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبآت الأمور وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الافرنج حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيس وكان(2/448)
هو من اعظم الأسباب في تملك الفرنسيس للثغر كما ذكر ذلك في قتلته وذلك أنه لما خرجت من مراكب الفرنساوية وعمارتهم لا يدري أجد لاي جهة يقصدون تبعهم طائفة الانكليز إلى الأسكندرية فلم يجدوهم وكانوا ذهبوا أولا إلى جهة مالطه فوقف الانكليز قبالة الأسكندرية وأرسلوا قاصدهم إلى الثغر يسالون عن خبر الفرنساوية فردهم المذكور ردا عنيفا فاخبروه الخبر على جليته وأنهم اخصامهم وعلموا بخروجهم فاقتفوا أثرهم ونريد منكم أن تعطونا الماء والزاد بثمنه ونقف لهم على ظهر البحر فلا نمكنهم من العبور إلى ثغركم فلم يقبل منهم ولم يأذن في تزويدهم فذهبوا ليتزدوا من بعض الثغور فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.
ومما سولت به نفس المترجم بارشاد بعض الفقهاء عمارة جامع عمرو ابن العاص وهو الجامع العتيق وذلك أنه لما خرب هذا الجامع بخراب مدينة الفسطاط وبقيت تلالا وكيمانا وخصوصا ما قرب من ذلك الجامع ولم يبق بها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل وخربت في دولة القزدغلية وأيام حسن باشا لما سكنتها عساكره ولم يبق بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دار النحاس وفم الخليج يسكنها اتباع الأمراء ونصارى المكوس وبها بعض مساجد صغار يصلى بها السواحلية والنواتية وسكان تلك الخطة من القهوجية والباعة والجامع العتيق لا يصل إليه أجد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان وكان فيما أدركنا الناس يصلون به آخر جمعة في رمضان فتجتمع به الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق وبعض الأمراء أيضا والأعيان ويجتمع بصحبته أرباب الملاهي من الحواة والقراداتية وأهل الملاعيب والنساء الراقصات المعروفات بالغوازي فبطل ذلك أيضا من نحو ثلاثين سنة لهدمه وخراب ماحوله وسقوط سقفه واعمدته وميل شقته اليمنى بل وسقوطها بعد ذلك فحسن ببال المترجم هذه وتجديده بإرشاد بعض(2/449)
الفقهاء ليرقع به دينه الخلق فاهتم لذلك وقيد به نديمه الحاج قاسم المعروف بالمصلي فجعله مباشرا على عمارته وصرف عليه اموالا عظيمة أخذها من غير حلها ووضعها في غير محلها وأقام أركانه وشيد بنيانه نصب اعمدته وكمل زخرفته وبني به منارتين وجدد جميع سقفه بالخشب النقي وبيضه جميعه فتم على أحسن ما يكون وفرشه بالحصر الفيومي وعلق به القناديل وحصلت به الجمعية آخر جمعة برمضان سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فحضر الأمراء والأعيان والمشايخ وأكبر الناس وعامتهم وبعد انقضاء الصلاة عقد له الشيخ عبد الله الشرقاوي مجلسا وأملى حديث من بني لله مسجدا وآية: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} وعند فراغه ألبس فروة من السمور وكذلك الخطيب فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل جرى عليه ما جرى على غيره من الهدم والتخريب وأخذ أخشابه حتى أصبح بلقعا أشوه مما كان فياليتها لم تتصدق وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى وأوصافه لا تستقصى وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه واتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم فلعل الهم يزول بزواله.
ومات الأمير حسن بك الجداوي مملوك علي بك وهو من خشداشين محمد بك أبي الذهب مات بغزة بالطاعون وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين ولما انفرد علي بك بمملكة مصر ولاه امارة جدة فلذلك لقب بالجداوي وذلك سنة أربع وثمانين ومائة وألف وابتلى فيها بأمور ظهرت بها شجاعته وعرفت فروسيته ولذلك خير يطول شرحه ولما حصلت الوحشة بين إسمعيل بك والمحمديين كان المترجم ممن نافق معه وعضده هو وخشداشينه رضوان بك وعبد الرحمن بك وكانت لهم الغلبة ونما أمره عند ذلك وظهر شأنه بعد أن كان خمل ذكره وهو الذي تجاسر على قتل يوسف بك في بيته بين مماليكه وعزوته ثم خامر على إسمعيل بك وانقلب مع المحمديين عندما خرج لمحاربتهم بالصعيد فخادعوه وراسلوه(2/450)
وانضم إليهم بمن معه ورجعوا إلى مصر وفر إسمعيل بك بمن معه إلى الشام واستقر هو وخداشينه في مملكة مصر مشاركين لهم مظهرين عليهم الشمم طامعين في خلوص الأمر لهم متوقعين بهم الفرصة مع التهور الموجب لتحذر الآخرين منهم إلى أن استعجلوا اشعال نار الحرب فجرى ما جرى بينهم من الحروب والمحاصرة بالمدينة وانجلت عن خذلانهم وهزيمتهم وظهور المحمديين عليهم وقتل بها عدة من أعيانهم ومواليهم ومن انضم إليهم وربما عوقب من لا جناية له كما سطر ذلك في محله وفر المترجم مع بعض من بقى من عشيرته إلى القليونجية فقبض عليه وأتى به أتى مصر ففر إلى بولاق بمفرده والتجأ إلى بيت الشيخ الدمنهوري فأحاط به العساكر فنط من سطح الدار وخلص إلى الزقاق وسيفه مشهور في يده فصادف جنديا فقتله وأخذ فرسه فركبه وفر والعساكر خلفه تريد أخذه وتتلاحق به من كل جهة وهو يراوغهم ويقاتلهم حتى خلص إلى بيت إبراهيم بك فأمنه واتفقوا على إرساله إلى جدة فلما أقلع به في القلزم أمر رئيس المركب أن يذهب به إلى القصير وخوفه القتل أن لم يفعل فذهب به إلى القصير فتوجه منها إلى اسنا وعلمت به عشيرته وخشداشينه ومماليكه فتلاقوا به واستقر أمرهم بها بعد وقائع يطول شرحها فأقام نيفا وعشر سنين حتى رجع إليهم إسمعيل بك بعد غيبته الطويلة وانضم إليهم واصطلح معهم إلى أن كان ما كان من وصول حسن باشا إلى الديار المصرية واخراج المحمديين وادخاله للمذكور مع إسمعيل بك ورضوان بك واتباعهم وتأميرهم بمصر واستقرارهم بها بعد رجوع حسن باشا إلى بلاده ووقوع الطاعون الذي مات به إسمعيل بك ورضوان بك وغيرهم من الأمراء فاستقل بمن بقي من الأمراء وفعل معهم من التهور والحمق الشر ما أوجب لهم بغض النعيم والحياة معه وخامر عليه من كان يأمن إليه فلم يسعه ومن معه إلا الفرار ورضى ذاك لنفسه بالذل والعار ودخلت المحمديون إلى مصر المحميةواستقر هو كما(2/451)
كان بالجهة القبلي فأقام على ذلك سبع سنين وبعض أشهر إلى أن وقعت حادثة الفرنسيس واستولوا على الإقليم المصري وحضرت العساكر بصحبة الوزير يوسف باشا ووقع ما وقع من الصلح ونقضه وانحصر المترجم مع من انحصر بالمدينة من المصرلية والعثمانية فقاتل وجاهد وأبلى بلاء حسنا شهد له بالشجاعة والإقدام كل من العثمانية والفرنساوية والمصرلية فلما انفصل الأمر وخرجوا إلى الجهة الشامية لم يزل محرصا ومرابطا ومجتهدا حتى مات بالطاعون في هذه السنة وفاز بالشهادتين وقدم على كريم يغفر الذنوب جميعا أنه هو الغفور الرحيم وامراؤه الموجودون الآن عثمان بك المعروف بالحسيني وأحمد بك أمره الوزير عوضا عن أستاذه.
ومات الأمير عثمان بك المعروف بطبل وهو من مماليك إسمعيل بك أمره في سنة اثنتين وتسعين ثم خرج مع سيده وتغرب معه في غيبته الطويلة فلما رجع إلى مصر في أيام حسن باشا تولى إمارة الحج في سنة خمس ومائتين وألف وكان سيده يقدمه على أقرانه ويظن به النجاح ولما طعن وعلم أنه مفارق الدنيا أحضره وأوصاه وحذره من أعدائه وقال له: إني حصنت لك مصر وسورتها وصيترها بحيث تملكها بنت عمياء فلما مات سيده تشوق للإمارة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار فلم يرض كل منهما بالآخر وتخوفا من بعضهما فاتفق رأيهما على تأمير عثمان بك المذكور كبيرا عوضا عن سيده وسكن داره وعقدوا الدواوين عنده فنزل عن إمارة الحج لحسن بك تابع حسن بك قصبة رضوان واشتغل هو بأمور الدولة ومشيخة مصر فلم يفلح وخامر مع أخصامه وأخصام سيده والتف عليهم سرا وصدق تمويهاتهم وخذل نفسه ودولته وذلك غيظا من حسن بك كما سبقت إليه الإشارة وكل من حسن بك وعثمان بك الجداوي وعلي بك الدفتردار يتخوف نفاق صاحبه لتكرر ذلك منهما في الوقائع السابقة وانحراف طبع كل عن صداقة الآخر الباطنية ولم(2/452)
يخطر ببالهما بل ولا ببال أجد من المجانين فضلا عن العقلاء ركون المشار إليه إلى أعدائه وأعداء سيده العداوة الموروثة فكانا كلما شرعا في تدبير شيء من مكايد الحرب تبطهما واقعدهما وهما يظنان نصحه ويعتقدان خلوصه ومعرفته ولكونه تعلم سياسة الحروب من سيده لكثرة تجاربه وسياحته ولم يعلما أنه يمهد لنفسه طريقا مع الأعداء إلى أن كان ماكان من مساعدته لهم بالتغافل والتقاعد حتى تحولوا إلى الجهة الشرقية خلص إليهم بمن انضم إليه من عشيرته فلم يسع الباقين إلا الهرب وأسلم هو نفسه لأعدائه فأظهروا له المحبة وولوه إمارة الحج حكم عهدهم بذلك وأن تكون له إمارة الحج ما دام حيا فخرج في تلك السنة أميرا على الحج اعنى سنة ست ومائتين وألف وكذلك سنة سبع ونهب الحج في تلك السنة وفر المترجم إلى غزة فصودرت زوجاته واقتسمت اقطاعه ورجع بعد حين إلى مصر وأهمل أمره وأقام بطالا واستمر كآحاد الطائفة من الأجناد ويغدو ويروح إليهم ويرجو رفدهم إلى أن حدثت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج إلى الشام ولم يزل هناك حتى مات بالطاعون في السنة المذكورة وكان دائما يقول عند تذكره الدولة والنعيم ذلك تقدير العزيز العليم.
ومات الأمير عثمان بك المعروف بالشرقاوي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب أيضا الكبار وتأمر في أيامه وعرف بالشرقاوي لكونه تول الشرقية ووقع منه ظلم وجبروت بعد موت أستاذه وصادر كثيرا من الناس في أموالهم ثم انكف عن ذلك وزعم أن ذلك كان باغراء مقدمة فشهره وقتله ولم يزل في امارته حتى مات في الشام بالطاعون.
ومات أيوب بك الكبير وهو أيضا من مماليك محمد بك وكان من خيارهم يغلب عليه حب الخير والسكون ويدفع الحق لاربابه وتأمر على الحج وشكرت سيرته واقتنى كتبا نفيسة واستكتب الكثير من المصاحف والكتب بالخطوط المنسوبة وكان لين الجانب مهذب النفس بحب أهل(2/453)
الفضائل ذا ثروة عزوة وعفة لا يعرف إلا الجد ويجتنب الهزل ويلوم ويعترض على خشداشينه في أفعالهم ولا يعجبه سولكهم ولا يهمل حقا توجه عليه وإذا ساوم شيئا وقال له البائع: هذا بعشرة يقول له بل هو بخمسة مثلا وهذا ثمنها حالا وقد يكون ذلك رأس مالها أو بزيادة قليلة ويرضي البائع بذلك ويقبض الثمن في المجلس وهكذا كان شانه وطريقته.
ومات الأمير مصطفى بك الكبير وهو أيضا من مماليك محمد بك تولى الصعيد وإمارة الحج عدة مرار وكان فظا غليظا متمولا بخيلا شحيحا وفي امارته على الحج ترك زيارة المدينة لخوفه من العرب وشحه بعوائدهم وقلة اعتنائه بشعائر الدين وانتقد ذلك على المصريين من الدولة وغيرها وكان ذلك من أعظم ما اجترحه من القبائح.
ومات الأمير سليمان بك المعروف بالاغا توفي بأسيوط بالطاعون وهو أيضا من مماليك محمد بك الكبير وهو أخو إبراهيم بك المعروف بالوالي صهر إبراهيم بك الكبير وهو الذي مات غريقا في وقعة الفرنسيس الأولى بانبابة مدبرا فارا فسقط في البحر وغرق وكان هو وأخوه المترجم قبل تقلدهما الصنجقية أحدهما والي الشرطة والآخر آغات مستحفظان فلم يزالا يلقبان بذلك حتى ماتا وكان المترجم محبا لجمع المال وله أفطاع واسعة وخصوصا بجهة قبلي وفي آخر أمره استوطن اسيوط لأنها كانت في اقطاعه وبنى بها قصرا عظيما وأنشأ بعض بساتين وسواقي واقتنى أبقارا وأغناما كثيرة ومما اتفق له أنه جز صوف الأغنام وكانت أكثر من عشرة آلاف ثم وزعه على الفلاحين وسخرهم في غزله بعد أن وزنه عليهم ثم وزعه على القزازين فنسجوه اكسيه ثم جمع التجار وباعه عليهم بزيادة عن السعر الحاضر فبلغ ذلك مبلغا عظيما.
ومات الأمير قائد أغا وهو من مماليك محمد بك أيضا وكان يلقب أيام كشوفيته بقائد نار لظلمه وتجبره وولى أغات مستحفظان في سنة ثمان(2/454)
وتسعين ومائة وألف فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس وذلك أيام خروج إبراهيم بك إلى قبلي ووحشته من مراد بك وانفراد مراد بك بأمارة مصر فلما تصالحا ورجع إبراهيم بك رد الاغاوية لعلي أغا فحنق المترجم لذلك وقلق قلقا عظيما وترامى على الأمراء وصار يقول أن لم يردوا لي منصبي قتلت علي أغا أو قتلت نفسي فلما حصل منه ذلك عزلوا علي أغا وقلدوا سليم آغا امين البحرين أغاوية مستحفظان ولم يبلغ غرضه ولم ترض نفسه بالخمول وأكثر عنده من الأعوان والاتباع فيحضرون بين يديه الشكاوى والدعاوى ويضرب الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم ويركب وبين يديه العدة الوافرة من القواسة والخدم يحملون بين يديه الحراب والقرابين والبنادق وخلفه الكثير من الأجناد والمماليك واتخذ له جلساء وندماء يباسطونه ويضاحكونه ولم يزل كذلك حتى خرج مع عشيرته إلى الصعيد عند حضور حسن باشا فاستولى على كثير من حصص الاقطاع فلما رجعوا في أواخر سنة خمس بعد المائتين سكن دار جوهر أغا دار السعادة سابقا بالخرنقش وقد كان مات في الطاعون وتزوج سريته قهرا واستكثر من المماليك والجند وتاقت نفسه للامارة وتشوف إلى الصنجقية وسخط على زمانه والأمراء الذين لم يلبوا دعوته ولم يبلغوه أمنيته وصارت جلساؤه وندماؤه لا يخاطبونه إلا بالإمارة ويقولون له يا بك ويكره من يخاطبه بدون ذلك وكان له من الأولاد الذكور اثنا عشر ولدا لصلبه يركبون الخيول ماتوا في حياته وكان له أخ من أقبح خلق الله في الظلم اتخذ له اعوانا واتباعا وليس عنده ما يكفيهم فكان يخطف كل ما مر بخطته بباب الشعرية من قمح وتبن وشعير وغير ذلك ولا يدفع له ثمنا هلك قبله بنحو ست سنين بناحية قبلي وأتوا بجيفته إلى مصر مقرفصا ودفن بمدفن أخيه بتربة المجاورين ومن جملة أفاعيله القبيحة أنه كان يجر سيفه ويضرب رقاب الحمير ويزعم أنه يقطعها في ضربة واحدة ولم يزل المترجم أخوه على حالته حتى خرج(2/455)
من مصر عند مجيء الفرنسيس وعاد بصحبة عرضي العثملي ومات قاسم بك مع من مات من الأمراء والصناجق بالشام فقلده الوزير الصنجيقة فيمن تقلد وأدرك أمنيته فأقام قليلا وهلك فيمن هلك بالطاعون فكان كما قال القائل كالمتمني أن يرى فلقا من الصباح فلما أن رآه عمي.
ومات أيضا حسن كاشف المعروف بجركس وهو أيضا من مماليك محمد بك وأشراق عثمان بك الشرقاوي وكان من الفراعنة وهو الذي عمر الدار العظيمة بالناصرية وصرف عليها أموالا عظيمة فما هو إلا أن تمم بناءها ولم يكمل بياضها حتى وصلت الفرنسيس فسكنها الفلكيون والمدبرون وأهل الحكمة والمهندسون فلذلك صينت من الخراب كما وقع بغيرها من الدور لكون عسكرهم لم يسكنوا بها وتقلد المذكور الصنجقية بالشام أيضا ثم هلك بالطاعون.
ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بالجربان بالشام أيضا وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوي وكان ممتهنا في المماليك فسموه بالجربان لذلك فلما قتل أستاذه بقى هو لا يملك شيئا فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكا وصابونا ثم سافر إلى المنصورة فأقام بها مدة تحت قصر محمود جربجي ثم رجع إلى مصر في أيام دولة علي بك وتنقلت به الأحوال فأنعم عليه علي بك بامرية بناحية قبلي فلما حصلت الوحشة بين علي بك ومحمد بك وخرج محمد بك من مصر إلى قبلي خرج إليه المترجم ولاقاه وقدم بين يديه ما كان عنده من الخيام واليرق والخيول وانضم إليه ولم يزل حتى تملك محمد بك واستوزر إسمعيل أغا الجلفي وكان يبغض المترجم لامور بينهما فلم يزل حتى أوغر عليه صدر مخدومه وادى به الحال إلى الاقصاء والبعد إلى أن انضم إلى مراد بك وتقرب منه وكان مفوها لينا مشاركا قد حنكته الأيام والتجارب فجعله كتخدا ووزيره واشتهر ذكره وعمر دارا بناحية باب اللوق بالقرب من غيظ الطواشي وصار من الأعيان المعدودين وقصدته أرباب الحاجات واحتجب(2/456)
في غالب الأوقات واتحد به محمد اغا البارودي فقربه من مراد بك وبلغ إلى ما بلغ معه وكان يعترى المترجم مرض شبيه بالصرع ينقطع به أياما عن السعي والركوب ولم يزل حتى مات مع من مات بالشام.
ومات الأمير قاسم بك المعروف بالموسقو وكان من مماليك إبراهيم بك وكان لين الجانب قليل الاذى إلا أنه كان شيخا لا يدفع حقا توجه عليه ولما مات خشداشه حسن بك الطحطاوي تزوج بزوجته وشرع في بناء السبيل المجاور لبيته بحارة قوصون بالقرب من الداودية فما قرب اتمامه إلا وقد قدمت الفرنسيس لمصر فخربوه وشعثوا بنيانه وخرقوا حيطانه وأخذوا عواميده وبقى على حالته مثل ما فعلوه بدور تلك الخطة وغيرها ومات أيضا المترجم بالشام.
ومات علي آغا كتخدا الجاويشية وهو من مماليك الدمياطي ونسب إلى محمد بك وأخيه إبراهيم بك ورقاه واختص به وولاه آغات مستحفظان في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف لم يزل إلى سنة ثمان وتسعين فخرج مع إبراهيم بك إلى المنية عندما تغاضب مع مراد بك فلما تصالحا قلد الاغاوية كما كان فحنق قائد آغا وكان ما كان من عزله وولاية سليم اغا كما سبق الالماع بذلك عند ذكر قائد أغا ثم تقلد كتخدا الجاويشية في سنة ست ومائتين وألف ولم يزل متقلدا ذلك حتىخرج مع من خرج في حادثة الفرنسيس وكان ذا مال وثروة مع مزيد شح وبخل واشترى دار عبد الرحمن كتخدا القازدغلي العظيمة التي بحارة عابدين وسكنها وليس له من المآثر إلا السبيل والكتاب الذي أنشأه بجوار داره الاخرى بدرب الحجر وهو من أحسن المباني وقد حماه الله من تخريب الفرنسيس وهو باق إلى يومنا هذا ببهجته ورونقه.
ومات الأمير يحيى كاشف الكبير وهو من مماليك إبراهيم بك الاقدمين وكان لطيف الطباع حسن الاوضاع وعنده ذوق وتودد عطارديا يحب الرسومات والنقوش والتصاوير والاشكال ودقائق الصناعات والكتب(2/457)
المشتملة على ذلك مثل كليلة ودمنه والنوادر والأمثال واهتم في بناء السبيل المجاور لداره بخطة عابدين فرسم شكله قبل الشروع فيه في قرطاس بمعونة الأسطا حسن الخياط ثم سافر إلى الأسكندرية وأحضر ما يحتاجه من الرخام والأعمدة المرمر الكبيرة والصغيرة وأنواع الاخشاب وحفر أساسه واحكم وضعه واستدعى الصناع والمرخمين فتانقوا في صناعته ونقش رخامه على الرسم الذي رسمه لهم كل ذلك بالحفر بالآلات في الرخام وموهوه بالذهب فما هو إلا أن ارتفع بنيانه وتشيدت اركانه وظهر للعيان حسن قالبه وكاد يتم ما قصده من حسن مآربه حتى وقعت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج قبل إتمامه وبقى على حالته إلى الآن ولما خرج سكن داره برطلمين واستخرج مخباة بين داره والسبيل فيها ذخائره ومتاعه فاوصلها للفرنسيس.
ومات الأمير رشوان كاشف وهو من مماليك مراد بك وكان له أقطاع بالفيوم فكان معظم إقامته بها فاحتكر الورد وما يخرج من مائه والخل المتخذ من العنب والخيش واتجر في هذه البضائع بمراده واختياره وتحكم في الإقليم تحكم الملاك في املاكهم وعبيدهم وذلك قوة واقتدار.
ومات الأمير سليم كاشف باسيوط مطعونا وهو من مماليك عثمان بك المعروف بالجرجاوي من البيوت القديمة وخشداش عبد الرحمن بك عثمان المتوفي في سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون الذي مات به إسمعيل بك وخلافه وتزوج ابنته بعد موته وكان ملتزما بحصة من اسيوط وشرق الناصري واستوطن باسيوط وبنى بها دارا عظيمة وعدة دور صغار وانشأ بها عدة بساتين وغرس بها وبشرق الناصري اشجارا كثيرة وعمر عدة قناطر وحفر ترعا وصنع جسورا واسبلة في مفاوز الطرق وانشأ دارا بمصر بالمناخلية بسوق الانماطيين واشترى دارا جليلة كانت لسليمان بك المعروف بابي نبوت بحارة عابدين وعمرها وزخرفها وانشأ باسيوط جامعا عظيما ومكتبا فما هو إلا أن أكمل بنيانه حتى قدمت الفرنسيس(2/458)
فاتخدوه سجنا يسجنون به ثم لما قابل المذكور الفرنسيس وأمنوه أخذ في اصلاح ما تشعث من البناء وتقيم العمارة ولم يساعده الوقت إذ ذاك لقلة الاخشاب وآلات البناء فاشتغل بذلك على قدر طاقته فلما فرغ البناء وقارب التمام ولم يبق إلا اليسير وقع الطاعون باسيوط فمات والمسجد باق على ما هو عليه الآن وهو من المباني العظيمة المزخرفة على هيئة مساجد مصر وكان المذكور ذا بأس وشدة واقدام وشجاعةوتهور مشابه لحسن بك الجداوي في هذه الفعال وموائده مبسوطة وطعامه مبذول وداره باسيوط مقصدا للوارد والقاصد والصادر من الأمراء وغيرهم وله أغداقات وصدقات وأنواع من البر ومحبة في العمارة وغراس الأشجار واقتناء الانعام وكان متزوجا بثلاث زوجات احداهن ابنة سيده عثمان بك توفيت بعصمته والثانية ابنة خشداشه عبد الرحمن المذكور آنفا والثالثةزوجة علي كاشف المعروف بجمال الدين وكان ذا بأس وله صولة وظلم وتجاوز على سفك الدماء فبذلك خافته عرب الناحية وأهل القرى وقاتل العرب مرارا وقتل منهم الكثير وبسكناه باسيوط كثرت عمارتها وأمنت طرقها برا وبحرا واستوطنها الكثير من الناس لحمايتهم وعدم صولة أجد على أهلها وله مهاداة مع الأمراء المصرية وأرباب الحل والعقد بها والمتكلمين عندهم فيرسل إليهم الغلال والعبيد والجوراي السود والطواشية وغير ذلك وله عدة مماليك بيض وسود أعتق كثيرا من جملتهم عزيرتا الأمير أحمد كاشف المعروف بالشعراوي رقيق حواشي الطبع مهذب الاخلاق ذو فروسية في ركوب الخيل ومحبة في العلماء واللطفاء وهو من جملة محاسن سيده.
ومات كل من الأمير باكير بك والأمير محمد بك تابع حسين بك كشكش كلاهما بالشام ومات غير هؤلاء ممن لم تحضرني اسماؤهم.(2/459)
واستهلت سنة ست عشرة ومائتين وألف بيوم الخميس.
وباستهلالها خف أمر الطاعون وفي ليلة الجمعة تلك أرسل عبد العال(2/459)
الاغا أحضر الشيخ محمد الأمير ليلا إلى منزله فبيته عنده ولما أصبح النهار طلع به إلى القلعة وحبسه عند المشايخ بجامع سارية والسبب في ذلك أن ولد الشيخ المذكور كان من جملة من يستحث الناس على قتال الفرنسيس في الواقعة السابقة بمصر فلما انقضت هرب إلى جهة بحرىثم حضر بعد مدة إلى مصر فأقام أياما ثم رجع إلى قوة بأذن من الفرنسيس فلما حصلت هذه الحركة وتحذروا شدة التحذر وأخذوا الناس بأدنى شبهة وتقرب إليهم المنافقون بالتجسس والاغراء ذكر بعضهم ذلك لقائمقام وادخل في مسامعه أن ابن الشيخ المذكور ذهب إلى عرضي الوزير والتف عليهم فأرسل قائممقام إلى الشيخ قبل تاريخه فلما حضر سأله عن ولده المذكور فأخبره أن مقيم بفوة فقال له: لم يكن هناك وإنما هو عند القادمين قال له: لم يكن ذلك وأن شئتم أرسلت إليه بالحضور فقال له: أرسل إليه وأحضره فقام من عنده على ذلك وأمهله ثمانية أيام مدة مسافة الذهاب والمجيء ثم خاطبه على لسان وكيل الديوان أيضا بحضوره أو حضور الجواب بعد يومين واعتذر بعدم أمن الطريق فلما انقضى اليومان أمروا عبد العال بطلبه واصعاده إلى القلعة ففعل.
وفيه حضر جملة من عساكر الفرنساوية من جهة بحري وتواترت الأخبار بوصول القادمين من الانكليز والعثمانية إلى الرحمانية وتملكهم القلعة وما بالقرب منها من الحصون الكائنة بالعطف وغيره وذلك يوم السبت خامس عشرين الحجة.
وفيه حضرت زوجة سارى عسكر كبير الفرنسيس بصحبة أخيها السيد علي الرشيدي أجد أعضاء الديوان وكان خرج بها من رشيد حين ما ملكها القادمون ونزل بها في مركب وأرسى بها قبالة الرحمانية فلما حصلت واقعة الرحمانية وأخذت قلعتها حضر بها إلى مصر بعد مشقة وخوف من العربان وقطاع الطريق وغير ذلك فأقامت هي وأخوها(2/460)
ببيت الألفي بالازبكية نحو ثلاثة أيام ثم صعدا إلى القلعة.
وفيه قربت العساكر القادمة من الجهة الشرقية وحضرت طوالعهم إلى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف فتأهب قائمقام بليار للقائهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل ثم خرج هو في آخر الليل فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قائمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئا.
وفي خامسه رفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون وأظهروا الرفق بالناس والسرور بهم لعدم قيامهم عند خروجهم للحرب وخلوا البلدة منهم وكانوا يظنون منهم غير ذلك.
وفيه أخذت جملة من عدد الطواحين وأصعدت إلى القلعة وأكثروا من نقل الماء والدقيق والاقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب ونقلوا ما في الأسوار والبيوت من الأمتعة والفرش والأسرة وحملوه إليها ولم يبقوا بالقلاع الصغار إلا مهمات الحرب.
وفيه طلبوا الزياتين وألزموهم بمائتي قنطار شيرج وسمروا جملة من حوانيتهم وخرج جماعة من الجزارين لشراء الغنم من القرى القريبة فقبض عليهم عسارك العثمانية القادمة ومنعوهم من العود بالغنم والبقر وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والاقوات إلى المدينة فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية وعزت الاقوات وشحح اللحم والسمن جدا وأغلقت حوانيت الجزارين واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق وطلبوا الفعلة للعمل فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل وكذلك فعلوا بجهة القرافة والقوا الاحجار العظيمة والمراكب ببحر انبابة لتمنع المراكب من العبور وابتدؤا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة إلى قنطرة الليمون إلى قصر افرنج أحمد إلى السبتية(2/461)
إلى مجرى البحر.
وفي ثامنه بعث قائمقام بليار فأحضر التجار وعظماء الناس وسالهم عن سبب غلق الحوانيت فقالوا له من وقف الحال والكساد الجلاء والموت فقال لهم من كان موجودا حاضرا فألزموه بفتح حانوته والا فاخبروني عنه ونزلت الحكام فنادت بفتح الحوانيت والبيع والشراء.
وفي عاشره شرعوا في هدم جانب من الجيزة من الجهة البحرية وقربت عساكر الانكليز القادمة من البر الغربي إلى البلد المسماة بنادر عند رأس ترعة الفرعونية.
وفيه تواترت الأخبار بأن العساكر الشرقية وصلت أوائلها إلى بنها وطحلا بساحل النيل وأن طائفة من الانكليز رجعوا إلى جهة الأسكندرية وأن الحرب قائم بها وأن الفرنساوية محصورون بداخل الأسكندرية والانكليز ومن معهم من العساكر يحاربون من خارج وهي في غاية المنعة والتحصين وأن الانكليز بعد قدومهم وطلوعهم إلى البر ومحاربتهم لهم المرات السابقة أطلقوا الحبوس عن المياه السائلة من البحر المالح منه إلى الجسر المقطوع حتى سالت المياه وعمت الأراضي المحيطة بالاسكندرية وأغرقت أطيانا كثيرة وبلادا ومزارع وأنهم قعدوا في الأماكن التي يمكن الفرنسيس النفوذ منها بحيث أنهم قطعوا عليهم الطرق من كل ناحية.
وفي ثاني عشرة نزلت امرأة من القلعة بمتاعها واختفت بمصر فأحضر الفرنسيس حكام الشرطة والزموهم باحضارها وهذه المرأة اسمها هوى كانت زوجة لبعض الأمراء الكشاف ثم أنها خرجت عن طورها وتزوجت نقولا وأقامت معه مدة فلما حدثت هذه الحوادث جمعت ثيابها واحتالت حتى نزلت من القلعة هي على حمار ومتاعها محمول على حمار آخر فنزلت عند بعض العطف واعطت المكارية الاجرة وصرفتهم من خارج(2/462)
واختف فلما وقع عليها التفتيش وأحضروا المكارية قالوا: لا نعلم غير المكان الذي أنزلناها به وأعطتنا الاجرة عنده فشددوا على المكارية ومنعوهم من السروح وقبضوا على أهل الحارة وحبسوهم ثم أحضروا مشايخ الحارات وشددوا عليهم وعلى سكان الدور وأعلموهم أنه إن وجدت المرأة في حارة من الحارات ولم يخبروا عنها نهبوا جميع دور الحارة وعاقبوا سكانها فحصل للناس غاية الضجر والقلق بسبب اختفائها وتفتيش أصحاب الشرطة وخصوصا عبد العال فإنه كان يتنكر ويلبس زي النساء ويدخل البيوت بحجة التفتيش عليها فيزعج أرباب البيوت والنساء ويأخذ منهن مصالح ومصاغا ويفعل ما لا خير فيه ولا يخشى خالقا ولا مخلوقا.
وفي خامس عشره قبضوا على ألطون أبي طاقية النصراني القبطي وحبسوه بالقلعة والزموه بمبلغ دراهم تأخرت عليه من حساب البلاد.
وفي سادس عشره أفرجوا عن محمد أفندي يوسف ونزل إلى بيته وكذلك الشيخ مصطفىالصاوي لمرضه.
وفيه انقضت دعوة تهمة الشيخ خليل البكري ومحصلها أن خادم مملوكه ذهب عن لسان المملوك إلى بليار قائمقام وأخبره أنه وصل إلى أستاذه الشيخ خليل البكري المذكور فرمان من عرضي الوزير بالأمان وكان هذا باغراء عبد العال ليوقعه في الوبال ويحرك عليه الفرنسيس لحزازة بينه وبينه فلما حضر الشيخ خليل على عادته عند قائمقام سأله عن ذلك فجحده فأحضروا الخادم الذي بلغ ذلك فصدق على ذلك واسند إلى المملوك سيده فأحضروا المملوك وسألوه فقال نعم فقالوا له وأين الفرمان فقال قرأه وقطعه فقال الفرنساوية وكيف يقطعه هذا دليل الكذب لأنه لا يصح أن يتلقاه بالقبول ثم يقطعه فقيل له ومن أتى به قال فلان فألزموا الشيخ بأحضار ذلك الرجل وحبس المملوك عند عبد العال يومين وحضر الرجل فسألوه فجمد ولم يثبت عليه وظهر(2/463)
كذب الغلام والخادم فعند ذلك طلب الشيخ غلامه فقال قائمقام أن قصاصه في شريعتنا أن يقطع لسانه فتشفع فيه سيده وأخذه بعد أمور وكلام قبيح قاله الغلام في حق سيده.
وفيه حضر حسين كاشف اليهودي إلى قائمقام واخبره أن الأمراء الذين بالصعيد خرجوا عن طاعة الفرنساوية وردوا مكاتبتهم التي أرسلوها لهم بعد موت مراد بك وأنهم مروا وتوجهوا إلى بحري من البر الغربي وعثمان بك الأشقر ذهب من خلف الجبل إلى جهة الشرق فلما حصل ذلك ركب قائمقام وذهب للست نفيسة وأمنها وطيب خاطرها وأخبرها أنها في أمان هي وجميع نساء الأمراء والكشاف والأجناد ولا مؤاخذة عليهم بما فعله رجالهن.
وفي عشرينه توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسأل دمه فتشكى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم إلى بليار قائمقام فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة ثم فردوا على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما اجرة من شيخ الحارة.
وفيه وردت الأخبار بأن الوزير وصل دجوة.
وفي يوم الإثنين سمع عدة مدافع على بعد وقت الضحوة.
وفي ذلك اليوم قبل العصر طلبوا مشايخ الديوان فاجتمعوا بالديوان وحضر الوكيل والترجمان وطلبهم للحضور إلى قائمقام فلما حصلوا عنده قال لهم على لسان الترجمان نخبركم أن الخصم قد قرب منا ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية وأن تنصحوا أهل البلد والرعية بأن يكونوا مستمرين على سكونهم وهدوهم ولا يتداخلوا في الشر والشغب فإن الرعية بمنزلة الولد وأنتم بمنزلة الوالد والواجب على الوالد نصح ولده وتأديبه وتدريبه على الطريق المستقيم التي يكون(2/464)
فيها الخير والصلاح فإنهم أن داموا على الهدو حصل لهم الخير ونجوا من كل شر وأن حصل منهم خلاف ذلك نزلت عليهم النار وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم ومتاعهم ويتمت أولادهم وسبيت نساؤهم والزموا بالأموال والفرد التي لا طاقة لهم بها فقد رأيتم ما حصل في الوقائع السابقة فأحذروا من ذلك فإنهم لا يدرون العاقبة ولا نكلفكم المساعدة لنا ولا المعاونة لحرب عدونا وإنما نطلب منكم السكون والهدو لا غير فأجابوه بالسمع والطاعة وقولهم كذلك وقرىء عليهم ورقة بمعنى ذلك وأمروا الاغا واصحاب الشرطة بالمناداة على الناس بذلك وأنهم ربما سمعوا ضرب مدافع جهة الجيزة فلا ينزعجوا من ذلك فإنه شنك وعيد لبعض أكابرهم وأن يجتمع من الغد بالديوان الأعيان والتجار وكبار الاخطاط ومشايخ الحارات ويتلى عليهم ذلك فلما كان ضحوة يوم الثلاثاء اجتمعوا كما ذكر وحصلت الوصية والتحذير وانتهى المجلس وذهبوا إلى محلاتهم.
وفي ذلك اليوم اشيع حضور الوزير إلى شلقان وكذلك عساكر الانكليز بالناحية الغربية وصلوا إلى أول الوراريق.
وفي يوم الجمعة غايته اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العادة وحضر استوف الخازندار وترجم عنه رفاييل بقوله أنه يثنى على كل من القاضي والشيخ إسمعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال والمصالح على التركات المختومة لأن الفرنساوية لم يبق لهم من الايراد إلا ما يتحصل من ذلك والقصد الأعتناء أيضا بأمر البلاد والحصص التي انحلت بموت أربابها فلازم أيضا من المصالحة والحلوان والمهلة في ذلك ثمانية أيام فمن لم يصالح على الالتزام الذي له فيه شبهة في تلك المدة ضبطت حصته ولا يقبل له عذر بعد ذلك وأعلموا أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى ولا يغرنكم هؤلاء القادمون(2/465)
وقربهم فإنه لا يخرج من أيديهم شيء أبدا وهؤلاء الانكليز ناس خوارج حرامية وصناعتهم القاء العداوة والفتن والعثملي مغتربهم فإن الفرنساوية كانت من الاحباب الخلص للعثملي فلم يزالوا حتى اوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة ولو كان بينهم وبين الفرنساوية طريق مسلوك من البر لا تمحى أثرهم ونسى ذكرهم من زمان مديد وتأملوا في شأنهم وأي شيء خرج من أيديهم فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم إلى البر وإلى الآن لم يصلوا إلينا والفرنسيس عند قدومهم وصلوا في ثمانية عشر يوما فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا وكلام كثير من هذا النمط في معنى ذلك من بحر الغفلة ثم ذكر البكري والسيد أحمد الزر وأنه حضر مكتوب من رشيد على يد رجل حناوي لاخر من منية كنانة يذكر فيه أنه حضر إلى اسكندرية مراكب وعمارة من فرانسا وأن الانكليز رجعت إليهم وأن الحرب قائمة بينهم على ظهر البحر فقال الخازندار يمكن ذلك وليس ببعيد ثم نقلوا ذلك إلى بليار قائمقام فطلب الرجل الراوي لذلك فأحضر الزرو رجلا شرقاويا حلف لهم أنه سمع ذلك بأذنه من الرجل الواصل إلى منية كنانة من رشيد.
شهر صفر الخير سنة 1216 استهل بيوم السبت.
وفي ذلك اليوم قبل المغرب مشى عبد العال الاغا وشق في شوارع المدينة وبين يديه منادى يقول الأمن والأمان على جميع الرعايا وفي غد تضرب مدافع وشنك من الفلا في الساعة الرابعة فلا تخافوا ولا تنزعجوا فإنه حضرت بشارة بوصول بونابارته بعمارة عظيمة إلى الأسكندرية وأن الانكليز رجعوا القهقرى فلما أصبح يوم الأحد في الساعة الرابعة من الشروق ضربت عدة مدافع وتابعوا ضربها من جميع القلاع وصعد أناس إلى المنارات ونظروا بالنظارات فشاهدوا عساكر الانكليز بالجهة الغربية وصلوا إلى آخر الورايق وأول انبابة ونصبوا(2/466)
خيامهم أسفل انبابة وعند وصولهم إلى مضاربهم ضربوا عدة مدافع فلما سمعها الفرنساوية ضرب الاخرون تلك المدافع التي ذكروا أنها شنك وأما العساكر الشرقية فوصلت أوائلهم إلى منية الأمراء المعروفة بمنية السيرج والمراكب فيما بينها من البرين بكثرة فعند ذلك عزت الاقوات وشبحت زيادة على قلتها وخصوصا السمن والجبن والأشياء المجلوبة من الريف ولم يبق طريق مسلوكة إلى المدينة إلا من جهة باب القرافة وما يجلب من جهة البساتين من القمح والتبن فيأتي ذلك إلى عرضة الغلة بالرميلة ويزدحم عليه النساء والرجال بالمقاطف فيسمع لهم ضجة عظيمة وشح اللحم أيضا وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام فوصل سعر الرطل تسعة أنصاف والسمن خمسة وثلاثين نصفا والبصل باربعمائة فضة القنطار والرطل الصابون بثمانين فضة والشيرج عشرين نصفا وأما الزيت فلا يوجد البتة وغلت الأبزار جدا واتفق إلى قصة غريبة وهو أني احتجت إلى بعض أنيسون فأرسلت خادمي إلى الأبزارية على العادة يشتري لي منه بدرهم فلم يجده وقيل له أنه لا يوجد إلا عند فلان وهو يبيع الأوقية بثلاثة عشر نصفا ثم اتاني منه باوقيتين بعد جهد في تحصيله فحسب على ذلك سعر الاردب فوجدته يبلغ خمسمائة ريال أو قريبا من ذلك فكان ذلك من النوادر الغريبة.
وفي يوم الإثنين ثالثه حصلت الجمعية بالديوان وحضر التجار ومشايخ الحارات والاغا وحضر مكتوب من بليار قائمقام خطابا بالارباب الديوان والحاضرين يذكر فيه أنه حضر إليه مكتوب من كبيرهم منوبا بالاسكندرية صحبة هجانة فرنسيس وصلوا إليهم من طريق البرية مضمونة أنه طيب بخير والاقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية إلى بحر الخزز وأنها من قريب تصل الأسكندرية وأن العمارة حاربت بلاد الانكليز واستولت على شقة كبيرة منها فكونوا مطمئنين الخاطر من طرفنا ودوموا على هدوكم(2/467)
وسكونكم الىآخر ما فيه من التمويهات وكل ذلك لسكون الناس وخوفا من قيامهم في هذه الحالة وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يوما من انقطاع أخبار في اسكندرية ولا أصل لذلك.
وفي ذلك اليوم قتل عبد العال رجلا ذكروا أنه وجد معه مكتوب من بعض النساء مرسل إلى بعض أزواجهن بالعرضي قتل ذلك الرجل بباب زويلة ونودي عليه هذا جزاء من ينقل الأخبار إلى العثملي والانكليز.
وفيه وصلت العساكر الشرقية إلى العادلية وامتد العرضي منها إلى قبلي منية السيرج وكذلك الغريبة إلى انبابة ونصبوا خيامهم بالبرين والمراكب بينهم في النيل وضربوا عدة مدافع وخرج عدة من الفرنساوية خيالة فترامحوا معهم وأطلقوا بنادق ثم انفصلوا بعد حصة من الليل ورجع كل إلى مأمنه واستمر هذا الحال على هذا المنوال يقع بينهم في كل يوم وفي سادسه زحفت العساكر الشرقية حتى قربوا من قبة النصر وسكن إبراهيم بك زاوية الشيخ دمرداش وحضر جماعة من العسكر وأشرفوا على الجزارين من حائط المذبح وطلبوا شيخ الجزارين ووجدوا ثلاثة انفار من الفرنسيس فضربوا عليهم بنادق فأصيب أحدهم في رجله فأخذوه وهرب الإثنان واصيب جزار يهودي ووقع بين الفريقين مضاربة على بعد وقتل بعض قتلى وأسر بعض اسرى ولم يزل الضرب بينهم إلى قريب العصر والفرنسيس يرمون من القلعة الظاهرية وقلعة نجم الدين والتل ولا يتباعدون عن حصونهم.
وفي سابعه وقعت مضاربة بين الفريقين ببنادق ومدافع من الصباح إلى العصر أيضا.
وفيه أشبع موت السيد أحمد المحروقي بدجوة وكان مريضا بها وامتنع الوارد من الجهة البحرية بالكلية.
وفيه قبضوا على رجل شبه خدام ظنوه جاسوسا فاحضروه عند قائمقام(2/468)
فسألوه فلم يقر بشيء فضربوه عدة مرار حتى ذهل عقله وصار كالمختل وكرروا عليه الضرب والعقاب وضربوه بالكرابيج على كفوفه ووجهه ورأسه حتى قيل أنهم ضربوه نحو ستة آلاف كرباج وهو على حاله ثم أودعوه الحبس.
وفيه اطلقوا محبوسا يقال له الشيخ سليمان حمزة الكاتب وكان محبوسا بالقلعة من مدة اشهر فطلق على مصلحة الفي ريال.
وفي ثامنه وقعت مضاربة أيضا بطول النهار ودخل نحو خمسة وعشرين نفرا من عسكر العثمانية إلى الحسينة وجلسوا على مساطب القهوة وأكلوا كعكا وخبزا وفولا مصلوقا وشربوا قهوة ثم انصرفوا إلى مضربهم وأخذ الفرنساوية عسكريا من اتباع محمد باشا وإلى غزة والقدس المعروف بأبي مرق فحبسوه ببيت قائمقام وأغلقوا في ذلك اليوم باب النصر وباب العدوي.
وفيه زحفت عساكر البر الغربي إلى تحت الجيزة فحضر في صبحها بنى وأخبر قائمقام فركب من ساعته وعدى إلى بر الجيزة فسمع الضرب أيضا من ناحية الجيزة وسمعت طبول الأمراء ونقاقيرهم واستمر الأمر إلى يوم الثلاثاء حادي عشره فبطل الضرب في وقت الزوال ولما حصلوا جهة الجيزة انتشروا إلى قبلي منها ومنعوا المعادي من تعدية البر الشرقي فانقطع الجالب من الناحية القبلية أيضا فامتنع وصول الغلال والاقوات والبطيخ والعجور والخضروات والخيار والسمن والجبن والمواشي فعزت الاقوات وغلت الأسعار في الأشياء الموجودة منها جدا واجتمع الناس بعرصة الغلة بالرميلة يريدون شراء الغلة فلم يجدوها فكثر ضجيجهم وخرج الأكثر منهم بمقاطفهم إلى جهة البساتين ورجع الباقون من غير شيء فاحضر عبد العال القبانية وألزمهم باحضار السمن وضرب البعض منهم فاحضروا له في يومين أربعة عشر رطلا بعد الجهد في تحصيلها وبيعت الدجاجة بأربعين نصفا وامتنع وجود اللحم(2/469)
من الأسواق واستمر الأمر على ذلك الأربعاء والخميس والمضاربة بين الفريقين ساكنة وأشيع وقوع المسالمة والمراسلة بينهما والمتوسط في ذلك الانكليز وحسين قبطان باشا فانسر الناس وسكن جاشهم لسكون الحرب.
وفي ذلك اليوم اغلقوا باب القرافة وباب المجراة ولم يعلم سبب ذلك ثم فتحوهما عند الصباح من يوم الجمعة ورفعوا عشور الغلة.
وفي يوم الإثنين سابع عشرة أطلقوا المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانية وأعطوا كل شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشا وأرسلوهم إلى عرضي الوزير وكان بلغ بهم الجهد من الخدمة والفعالة وشيل التراب والأحجار وضيق الحبس والجوع ومات الكثير منهم وكذلك أفرجوا عن جملة من العربات والفلاحين.
وفي ليلة الإثنين المذكور سمع صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية ثم سمع منها اذان العشاء والفجر فلما أضاء النهار نظر الناس فإذا البيرق العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها فعلموا بتسليمها وكان ذلك المدفع إشارة إلى ذلك ففرح الناس وتحققوا أمر المسالمة وأشيع الافراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضاء أشغالهم.
وفي ذلك اليوم أنزلوا عدة مدافع من القلعة وكذلك من قلعة باب البرقية وأمتعة وفرش وبارود.
وفي يوم الثلاثاء عمل الديوان وحضر الوكيل وأعلن بوقوع الصلح والمسالمة ووعد أن في الجلسة الآتية يأتي إليهم فرمان الصلح وما اشتمل عليه من الشروط ويسمعونه جهارا.
وفي ذلك اليوم أكثر اهتمام الفرنساوية بنقل الأمتعة من القلعة الكبيرة(2/470)
وباقي القلاع بقوة السعي.
وفيه أفرجوا عن محمد جلبي أبي دفية وأسمعيل القلق ومحمد شيخ الحارة بباب اللوق والبرنوسي نسيب أبي دفية والشيخ خليل المنبر وآخرين تكملة ثمانية نفار ونزلوا إلى بيوتهم.
وفيه سافر عثمان بك البرديسي إلى الصعيد وعلى يده فرمانات للبلاد بالأمن والأمان وسوق المراكب بالغلال والاقوات إلى مصر ويلاقي سنة آلاف من عسكر الانكليز حضروا من القلزم إلى القصير.
وفيه شنق الفرنساوية شخصا منهم على شجرة ببركة الأزبكية قيل أنه سرق.
وفيه أرسل الفرنساوية إلى الوزير وطلبوا منه جمالا ينقلون عليها متاعهم فأمر لهم بإرسال مائتي جمل وقيل أربعمائة مساعدة لهم وفيها من جمال طاهر باشا وإبراهيم بك.
وفي يوم الخميس عشرينه أفرجوا عن بقية المسجونين والمشايخ وهم شيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والشيخ محمد المهدي وحسن أغا المحتسب ورضوان كاشف الشعرواي وغيرهم فنزلوا إلى بيت قائمقام وقابلوه وشكروه فقال للمشايخ: إن شئتم اذهبوا فسلموا على الوزير فانى كلمته ووصيته عليكم.
وفيه حضر الوزير ومن معه من العساكر إلى ناحية شبرا وكذلك الانكليز وصحبتهم قبطان باشا إلى الجهة الغربية والعساكر تجاههم ونصبوا الجسر فيما بينهم أعلى البحر وهو من مراكب مرصوصة مثل جسر الجيزة بل يزيد عنه في الاتقان بكونه من الواح في غاية الثخن وله درابزين من الجهتين أيضا وهو عمل الانكليز.
وفيه ألصقوا أوراقا بالطرق المكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة ونصها ثم إنه أراد الله تعالى بالصلح ما بين عسكر الفرنساوية وعساكر الانكليز وعساكرالعثمانية(2/471)
ولكن مع هذا الصلح أنفسكم واديانكم ومتاعكم ما أجد يقارشكم ورؤوس عساكر الثلاثة جيوش قد اشترطوا بهذا كما ترونه الشرط الثاني عشر كل واحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت الذي يريد أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه ما أجد يعارضهم الشرط الثالث عشر لا أجد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت يكون قلقا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي بمدة إقامة الجمهور بمصر ولكن الواجب أن يطيعوا الشريعة ثم يا أهالي مصر وأقاليمها جميع الملل أنتم ناظرون لحد آخر درجة الجمهور الفرنساوي ناظر لكم ولراحتكم فيلزم أنتم أيضا تسلكون في الطريق المستقيمة وتفتكرون أن الله جل جلاله هو الذي يفعل كل شيء وعليه امضاء بليار قائمقام.
وفي يوم الجمعة عملوا الديوان وحضر المشايخ والوكيل فقال الوكيل بلغكم بقية الشروط الثلاثة عشر فقالوا لا فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي فشرع يقرؤها والترجمان يفسرها وهي تتضمن الأحد عشر شرطا الباقية فقال أن الجيش الفرنساوي يلزم أن يخلوا القلاع ومصر ويتوجهوا على البر بمتاعهم إلى رشيد وينزلوا في مراكب ويتوجهوا إلى بلادهم وهذا الرحيل ينبغي أن يسرع به وأقل ما يكون في خمسين يوما وأن يساق الجيش من طريق مختصر وسر عسكر الانكليز والمساعد يلزم أن يقوما لهم بجميع ما يحتاجونه من نفقة ومؤنة وجمال ومراكب والمحل الذي يبدأ منه السعي يكون بالتراضي بين الجمهور والانكليز والمساعد وكامل الأمتعة والاثقال تتوجه من البحر ومعهم جيش من الفرنساوي لأجل الحراسة ولا بد من كون المؤنة التي تترتب لهم كالمؤنة التي كانوا يعطونها هم لجيش الانكليز ورؤسائهم وعلى رؤوساء عساكر الانكليز وحضره العثملي القيام بنفقة الجميع(2/472)
والحكام المتقيدون بذلك يحضرون لهم المراكب ليسفروهم إلى فرانسا من جهة البحر المحيط وأن يقدم كل من حضرة العثملي والانكليز أربعة مراكب للعليق والعلف للخيل التي يأخذونها في المراكب وأن يسيروا معهم مراكب للمحافظة عليهم إلى أن يصلوا إلى فرانسا وأن الفرنساوية لا يدخلون مينة إلا مينة فرانسا والأمناء والوكلاء يقدمون لهم ما يحتاجون إليه نظرا لكفاية عساكرهم والمدبرون والأمناء والوكلاء والمهندسون الفرنساوية يستصحبون معهم ما يحتاجونه من أوراقهم وكتبهم ولو التي شروها من مصر وكل من أهل الإقليم المصري إذا أراد التوجه معهم فهو مطلق السراح مع الأمن على متاعه وعياله وكذلك من داخل الفرنساوية من أي ملة كانت فلا معارضة له إلا أن يجري على أحواله السابقة وجرحى الفرنساوية يتخلفون بمصر ويعالجهم الحكماء وينفق عليهم حضرة العثملي وإذا عوفوا توجهوا إلى فرانسا بالشروط المتقدم ذكرها وحكام العثملي يتعهدون من بمصر منهم ولا بد من حاكمين من طرف الجيشين يتوجهان بمركبين إلى طولون فيرسلون خبرا إلى فرانسا ليطلعوا حكامها على الصلح وسائر الرسوم وكل جدال وخصام صدر بين شخصين من الفرنساوية فلا بد أن يقام شخصان حاكمان من الطائفتين ليتكلما في الصلح ولا يقع في ذلك نقض عهد الصلح وعلى كل طائفة معين من العثملي والفرنساوي أن تسلم ما عندها من الأسرى ولا بد من رهائن من كل طائفة واحد كبير يكون عند الطائفة الاخرى حتى يتوصلوا إلى فرانسا اه ثم قال الوكيل وقد علمنا بالشروط وما ندري ماذا يكون فقيل له هذه شروط عليها علامة القبول وهذا الصلح رحمة للجميع وسيكون الصلح العام فقال الوكيل: إني أرجو أن يكون هذا الصلح الخصوصي مبدأ للصلح العمومي.
وفيه كثر خروج الناس ودخولهم من الاتباع والباعة والمتنكرين من نقب البرقية المعروف بالغريب فصار الحرسجية من الفرنساوية يأخذون(2/473)
من الداخل الخارج دراهم ولا يمنعونهم فلما علم الناس بذلك كثر ازدحامهم فلما أصبحوا منعوهم فدخلوا وخرجوا من باب القرافة فلم يمنعهم الواقفون به من الفرنسيس بل كانوا يفتشون البعض ويمنعون البعض وكل ذلك حذرا من أفعال الطموش وسوء أخلاقهم وتوالد الشر بسببهم وقد دخل بعضهم أكابر الانكليز وصحبتهم فرنساوية يفرجونهم على البلدة والأسواق وكذلك دخل بعض أكابر العثمانية فزاروا قبر الإمام الشافعي والمشهد الحسيني والشيخ عبد الوهاب الشعراوي والفرنساوية ينتظرونهم بالباب.
وفي ليلة الإثنين رابع عشرينه نادوا في الأسواق برمي مدافع في صبحه وذلك لنقل رمة كلهبر فلا يرتاع الناس من ذلك فلما كان في صبح ذلك اليوم اطلقوا مدافع كثيرة ساعة نبش القبر بالقرب من قصر العيني واخرجوا الصندوق الرصاص الموضوع فيه رمته ليأخذوه معهم إلى بلادهم.
وفيه ارسلوا اوراقا ورسلا للاجتماع بالديوان وهو آخر الدواوين فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية واستوف الخازندار والوكيل والترجمان فلما استقر بهم الجلوس أخرج الوكيل كتابا مختوما وأخبر أن ذلك الكتاب من سارى عسكر منو بعث به إلى مشايخ الديوان ثم ناوله لرئيس الديوان ففضه وناوله للترجمان فقرأه والحاضرون ويسمعون وصورته بعد البسملة والجلالة والصدر نخبركم أنا علمنا بكثرة الانبساط انكم تهتدون بكثرة الحكمة والانصاف في الموضع الذي أنتم مستمرون فيه وأن لم تقدروا لتنظيم أهالي البلد بالهدى والطاعة الموجبة منه لحكومة الفرنساوي فالله تعالى بسعادة رسوله الكريم عليه السلام الدائم ينعم عليكم في الدارين عوض خيراتكم وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته المشهور عن كل ما فعلتم حاكما ونافعا بوصايا لأجلكم سارة رضي واستراح لتلك الفعال الجيدة وعرفني أيضا أنه عن قريب(2/474)
يرسل لكم بذاته جواب جميع مكاتيبكم إليه قدمتم الآن بخير الهدى وبقوته تعالى نرى فضائلكم عن قريب ونواجه سكان محروسة مصر كما هو مأمولنا لكن يسركم أن الجمهور المنصور غلب في أقاليم الروم جميع اعدائه وبعون الله هادي كل شيء سيغلب كذلك العدا في مصر واعتمدوا بأكثر الأعتماد على الستويان جيرار هذا الذي وضعناه قربكم لأنه هو رجل مشهور بالعدل والاستقامة ونوجه إلى هممكم النصيحة إلى زوجتنا الكريمة السيدة زبيدة وولدنا العزيز سليمان مراد أن كليهما حالا كائنان في حصننا في مصر الخ وذكر كثيرا من امثال هذه الخرافات والتمويهات ثم اخرج ورقة بالفرنساوي وقرأها بنفسه حتى فرغ منها ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل ومضمونها حصول الصلح وتمويهات وهلسيات ليس في ذكرها فائدة ولما انتهى من قراءتها أبرز أيضا استوف الخازندار ورقة وقرأها بالفرنساوي ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان وهي في معنى الأولى.
وركب المشايخ وخرجوا للسلام على الوزير يوسف باشا الذي يقال له الصدر الأعظم والسلام على القادمين معه أيضا من أعيان دولتهم والأمراء المصرية وكانوا عزموا على الذهاب في الصباح فعوقوا لبعد الديوان وأما الشيخ السادات فإنه خرج للسلام من أول النهار وكتب لهم قائمقام أوراقا للحرسجية لانهم مستمرون على منع الناس من الدخول والخروج وأبواب البلد مغلقة وكان خروجهم من طريق بولاق فلما وصلوا إلى العرضي سلموا على إبراهيم بك وتوجه معهم إلى الوزير فلما وصلوا إلى الصيوان أمروهم برفع الطياسانا التي على أكتافهم وتقدموا للسلام عليه فلم يقم لقدومهم فجلسوا ساعة لطيفة وخرجوا من عنده وسلموا أيضا على محمد باشا المعروف بأبي مرق وعلي المحروقي والسيد عمر مكرم وباتوا تلك الليلة بالعرضي ثم عادوا إلى بيوتهم(2/475)
وفي ثاني يوم عدوا إلى البر الغربي وسلموا على قبطان باشا ورجعوا إلى منازلهم.
وفيه أرسل إبراهيم بك أمانا لاكابر القبط فخرجوا أيضا وسلموا ورجعوا إلى دورهم وأما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه وعدي إلى الروضة وكذلك جمع إليه عسكر القبط وهرب الكثير منهم واختفى واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا إلى قائمقام وبكوا وولولوا وترجوه في ابقائهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبناء وصائغ وغير ذلك فوعدهم أنه يرسل إلى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه.
وفيه ذهب بليار قائمقام وصحبته ثلاثة انفار من عظماء الفرنسيس إلى العرضي وقابلوا الوزير فخلع عليهم وكساهم فراوى سمور ورجعوا.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره خرج المسافرون مع الفرنساوية إلى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الافرنج والمترجمين وبعض مسلمين ممن تداخل معهم وخاف على نفسه بالتخلف وكثير من نصارى الشوام والاروام مثل يني وبرطلمين ويوسف الحموي وعبد العال الاغا أيضا طلق زوجته وباع متاعه وفراشه وما ثقل عليه حمله من طقم وسلاح وغيره فكان إذا باع شيئا يرسل خلف المشتري ويلزمه باحضار ثمنه في الحال قهرا ولم يصحب معه إلا ما خف حمل وغلا ثمنه.
وفيه حضر وكيل الديوان إلى الديوان وأحضر جماعة من التجار وباع لهم فراش المجلس بثمن قدره ستة وثلاثون ألف فضة على ذمة السيد أحمد الزرو.
وفي ذلك اليوم أيضا فتحوا باب الجامع الأزهر وشرعوا في كنسه وتنظيفه(2/476)
وفي ذلك اليوم وما بعده دخل بعض الانجليز ومروا بأسواق المدينة يتفرجون وصحبتهم اثنان أو واحد من الفرنسيس يعرفونهم الطرق.
وأشيع في ذلك اليوم ارتحال الفرنساوية ونزولهم من القلاع وتسليمهم الحصون من الغد وقت الزوال.
فلما أصبح يوم الخميس ومضى وقت الزوال لم يحصل ذلك فاختلفت الروايات فمن الناس من يقول ينزلون يوم الجمعة ومنهم من يقول أنهم أخذوا مهلة ليوم الإثنين وبات الناس يسمعون لغط العساكر العثمانية وكلامهم ووطء نعالاتهم فنظروا فإذا الفرنساوية خرجوا بأجمعهم ليلا وأخلوا القلعة الكبيرة وباقي القلاع والحصون والمتاريخ وذهبوا إلى الجيزة والروضة وقصر العيني ولم يبق منهم شبح يلوح بالمدينة وبولاق ومصر العتيقة والازبكية ففرح الناس كعادتهم بالقادمين وظنوا فيهم الخير وصاروا يتلقونهم ويسلمون عليهم ويباركون لقدومهم والنساء يلقلقن بالسنتهن من الطيقان وفي الأسواق وقام للناس جلبة وصياح وتجمع الصغار والاطفال كعادتهم ورفعوا اصواتهم بقولهم نصر الله السلطان ونحو ذلك وهؤلاء الداخلون ودخلوا من نقل الغريب المثقوب في السور وتسلقوا أيضا من ناحية العطوف والقرافة وأما باب النصر والعدوى فهما على حالهما مغلوقان لم يأذنوا بفتحهما خوفا من تزاحم العسكر ودخولهم المدينة دفعة واحدة فيقع فيهم الفشل والضرر بالناس وباب الفتوح مسدود بالبناء فلما تضحي النهار حضر قبي قول وفتح باب النصر والعدوى واجلس بهما جماعة من النيكجرية ودخل الكثير من العساكر مشاة وركبانا اجناسا مختلفة ودخلت بلوكات الينكجرية وطافوا بالأسواق ووضعوا نشاناتهم وزنكهم على القهاوى والحوانيت والحمامات فامتعض أهل الأسواق من ذلك وكثر الخبز واللحم والسمن والشيرج بالأسواق وتواجدت البضائع وانحلت الأسعار وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبطيخ وتعاطي بيع غالبها الأتراك والارنؤد(2/477)
فكانوا يتلقون من يجلبها من الفلاحين بالبحر البر ويشترونها منهم بالاسعار الرخيصة ويبيعونها على أهل المدينة وبولاق بأغلى الأثمان ووصلت مراكب من جهة بحري وفيها البضائع الرومية واليميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي.
فلما كان قبل صلاة الجمعة وإذا بجاويشية وعساكر وأغوات وتلا ذلك حضره يوسف باشا الصدر فشق من وسط المدينة وتوجه إلى المسجد الحسيني فصلى فيه الجمعة وزار المشهد الحسيني ودعاه حضرة الشيخ السادات إلى دره المجاورة للمشهد فأجابه فدخل معه وجلس هنيهة ثم ذهب إلى الجامع الأزهر فتفرج عليه وطاف بمقصورته وأروقته وجلس ساعة لطيفة وأنعم على الكناسين والخدمة بدراهم وكذلك خدمة المسجد الحسيني ثم ركب راجعا إلى وطاقة بناحية الحلي بشاطيء النيل وعملوا في ذلك الوقت شنكا وضربوا مدافع كثيرة من العرضي والقلعة ودخل قلقات الينكجرية وجلسوا برؤوس العطف والحارات وكل طائفة عندها بيرق ونادوا بالأمان البيع والشراء وطلب أولئك القلقات من أهل الاخطاط المآكل والمشارب والقهوات والزموهم بذلك وانحاز الفرنساوية إلى جهة قصر العيني والروضة والجيزة إلى حد قلعة الناصرية وفم الخليج وعليها بنديراتهم ووقف حرسهم عند حدهم يمنعون من يأوى إلى جهتهم من العثمانية فلا يمر العثماني إلا إلى الجهة الموصلة إلى بولاق وأما إذا كان من أهل البلد فيمر حيث أراد وفي مدة إقامة المشار إليه بساحل الحلى ببولاق خرب عساكره ما قرب منهم من الأبنية والسواقي والمتريز الذي صنعه الفرنساوية من حد باب الحديد إلى البحر وأخذوا ما بذلك من الافلاق الكثيرة المتهدمة والأخشاب المنجرة المرصوصة فوق المتريز وتحته وفي الخندق فخربوا ذلك جميعه في هذه المدة القليلة وذلك لأجل وجود النار والمطابخ.
وفي يوم السبت دخل قبي قول وهو المسمى عند المصريين كتخدا(2/478)
الينكجرية وشق المدينة وأمر بمحو نشانات الانكشارية من الحوانيت ولم يترك إلا القهاوي.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الأحد سنة 1216.
فيه ركب أغات الينكجرية الكبير العثملي وشق المدينة وخلفه سليم آغا المصري ودخل الكثير من العساكر والاجنادالمصرية بمتاعهم وعازقهم واحمالهم وطلبوا البيوت وسكنوها ودخل محمد باشا المعروف بأبي مرق الغزي وهو المرشح لولاية مصر وسكن ببيت الهياتم بالقرب من مشهد الأستاذ الحنفي وأرسل إلى المشايخ وكبار الحارات وطلب منهم التعريف عن البيوت الخالية بالاخطاط.
وفي يوم الثلاثاء ثالثه حضر حسين باشا القبطان من الجيزة ودخل المدينة وتوجه إلى المشهد الحسيني فزاره وذبح به خمس جواميس وسبعة كباش واقتسمتها خدمة الضريح وحلق تاج المقام باربعةشيلان كشميري وأخذ قياس المقام ليصنع له سترا جديدا وفرق عليهم وعلى الفقراء نحو ألفي محبوب ذهب اسلامبولي.
وفي ذلك اليوم وقعت حادثة وهو أن شخصا من العسكر بالجمالية شرب من العرقسوسي شربة عرقسوس ولم يدفع له ثمنها فكلم العرقسوسي القلق الانكشاري فأحضره وأمره بدفع ثمنها ونهره وأراد ضربه فاستل ذلك العسكري الطبنجة وضرب ذلك الحاكم فقتله وهرب إلى حارة الجوانية ودخل إلى دار وامتنع فيها وصار يضرب بالرصاص على كل من قصده فقتل خمسة أنفار ومر شخصان من الارنؤد بتلك الخطة فقتلهما الانكشارية لكون الغريم أرنؤديا من جنسهما فلما أعياهم أمره حرقوا عليه الدار فخرج هاربا من النار فقبضوا عليه وقتلوه ومات تسعة أشخاص في شربة عرقسوس.
ووقع في ذلك اليوم أيضا أن شخصين من القليونجية دخلا إلى دار رجل نصراني فأخذا من بيته بقعتين من الثياب وخرجا فوجدا شخصين(2/479)
مارين من الفلاحين فسخراهما في حمل البقجتين فخرج النصراني وشكا إلى القلق فأمر بالقبض على الشخصين العسكريين فتخلصا وهربا بعد أن انجرح احدهما وأخذوا الشخصين المسخرين فقطعوا رؤسهما ظلما وعدوانا وذلك من مبادي قبائحهم.
وفي يوم الأربعاء رابعه ارتحل الفرنساوية واخلوا قصر العيني والروضة والجيزة وانحدروا إلى بحري الوراريق وارتحل معهم قبطان باشا ومعظم الانكليز ونحو الخمسة آلاف من عسكر الارنؤد ومن الأمراء المصرية عثمان بك الأشقر ومراد الصغير وأحمد بك الكلارجي وأحمد بك حسن فكانت مدة الفرنساوية وتحكمهم بالديار المصرية ثلاث سنوات واحدا وعشرين يوما فإنهم ملكوا برانبابة والجيزة وكسرو الأمراء المصرية يوم السبت تاسع شهر صفر سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف وكان انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم وانخلاعهم عن التصرف والتحكم ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر صفر سنة ست عشرة ومائتين وألف فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه.
وفي ذلك اليوم حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف وصحبته السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار بمصر وعليهما خلعتا سمور وتوجها إلى دورهما.
وفيه نبهوا على موكب حضرة الوزير يوسف باشا من الغد فلما أصبح يوم الخميس خامسه اجتمع الناس من جميع الطوائف وسائر الاجناس وهرع الناس للفرجة وخرجت البنت من خدرها وأكتروا الدور المطلة على الشارع باغلى الاثمان وجلس الناس على السفائف والحوانيت صفوفا وانجر الموكب من أول النهار إلى قريب الظهر ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وإمامه العساكر المختلفة من الارنؤد وارط الينكجرية والعساكر الشامية والأمراء المصرلية والمغاربة والقليونجية وطاهر باشا باشة الارنؤد وإبراهيم باشا والي حلب ومحمد باشا والي(2/480)
مصر الكتبة ورئيس الكتاب وكتخدا الدولة والاغوات الكبار بالطبول والنقرزانات وقاضي العسكر ونواب القضاء والعلماء المصرية ومشايخ التكايا والدراويش وأقبل المشار إليه وإمامه الملازمون بالبراقع والجاويشية والسعاة والجوخدارية وعليه كرك صوف سنجاني مطرز مخبش وعلى رأسه شلنج بفصوص الماس وخلفه اثنان عن يمينه وشماله ينثرون دراهم الفضة البيضاء ضربخانة اسلامبول على المتفرجين من النساء والرجال وخلفه أيضا العدة الوافرة من أكابر اتابعه وبعدهم الكثير من عسكر الارنؤد وموكب الخازندار وخلفه النوبة التركية المختصة به ثم المدافع وعربات الجبخانات وعملوا وقت الموكب شنكا ضربوا فيه مدافع كثيرة فكان ذلك اليوم يوما مشهودا وموسما وبهجة وعيدا عمت المسلمين فيه المسرات ونزلت في قلوب الكافرين الحسرات ودقت البشائر وقرت النواظر وأمروا بوقود المنارات سبع ليال متواليات فلله الحمد والمنة على هذه النعمة ونرجو من فضله أن يصلح فساد القلوب ويوفق أولي الأمر للخير والعدل المطلوب ويلهمهم سلوك سواء السبيل القويم ويهديهم إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين وممن قدم بصحبة ركاب المشار إليه من أكابر دولتهم إبراهيم باشا والي حلب وإبراهيم باشا المعروف بأبي مرق وخليل أفندي الرجائي الدفتر دار ومحمود أفندي رئيس الكتاب وشريف أغا نزله أمين ومحمد أغا جيجي باشا الشهير بطوسون ووقع الاختيار بأن يكون سكن المشار إليه ببيت رشوان بك بحارة عابدين تجاه بيت عبد الرحمن كتخدا القازدغلي.
وفي يوم الجمعة نودي بابطال كلف القلفات وابطال شرك العسكر لارباب الحرف إلا من شارك برضاه وسماحة نفسه فلم يمتثلوا لذلك واستمر أكثرهم على الطلب من الناس.
وفي يوم الأحد نودي بأن لا أجد يتعرض بالاذية لنصراني ولا(2/481)
يهودي سواء كان قبطيا أو روميا أو شاميا فإنهم من رعايا السلطان والماضي لا يعاد والعجيب أن بعض نصارى الاروام الذين كانوا بعسكر الفرنسيس تزيوا بزي العثمانية وتسلحوا بالاسلحة واليطقانات ودخلوا في ضمنهم وشمخوا باآنافهم وتعرضوا بالاذية للمسلمين في الطرقات بالضرب والسب باللغة التركية ويقولون في ضمن سبهم للمسلم فرنسيس كافر ولا يميزهم إلا الفطن الحاذق أو يكون له بهم معرفة سابقة.
وفيه ارسلوا هجانا إلى الحجاز ومعه فرمان بخبر الفتح والنصر وارتجال الفرنساوية من ارض مصر ودخول العثمانية ومكاتبات من التجار لشركائهم بإرسال المتاجر إلى مصر.
وفيه ارسلوا فرمانا أيضا إلى الإقاليم المصرية والقرى بعدم دفع المال إلى الملتزمين ولا يدفعون شيا إلا بفرمان من الوزير.
وفي يوم الإثنين قتلوا شخصا بالرميلة يسمى حجاجا كان متولى الأحكام ببولاق أيام الفرنسيس وجار وعسف وقتل معه آخر يقال أنه أخوه.
وفيه أيضا أشخاصا بالازبكية وجهات مصر.
وفيه ركب الوزير بثياب التخفيف وشق المدينة وتامل في الأسواق وأمر بمنع العسكر من الجلوس على حوانيت الباعة وأرباب الصنائع ومشاركتهم في ارزاقهم ثم توجه إلى المشهد الحسيني فزاره ثم عبر إلى دار السيد أحمد المحروقي وشرفه دبخوله إليه فجلس ساعة ثم ركب وأعطى أتباعه عشرين دينارا وذكر له أنه إنما قصد بحضوره إليه تشريفه وتشريف أقرانه وتكون له منقبة وذلك على ممر الأزمان وأما العسكر فلم يمتثلوا ذلك الأمر إلا أياما قليلة ووقع بسبب ذلك شكاوي ومشاكلات ومرافعات عند العظماء.
وفي يوم الثلاثاء وصل قاصد من دار السلطنة وعلى يده شال شريف من حضرة الهنكار السلطان سليم خان خطابا لحضرة الوزير ومعه خنجر(2/482)
مرصع بفصوص الماس وهو جواب عن رسالته بدخوله بلبيس.
وفيه نودى بتزيين الأسواق من العد تعظيما ليوم المولد النبوي الشريف فلما أصبح يوم الأربعاء كررت المناداة والأمر بالكنس والرش فحصل الأعتناء وبدل الناس جهدهم وزينوا حوانيتهم بالشقق الحرير والزردخان والتفاصيل الهندية مع تخوفهم من العسكر وركب المشار إليه عصر ذلك اليوم وشق المدينة وشاهد الشوارع وعند المساء أوقدوا المصابيح والشموع ومنارات المساجد وحصل الجمع بتكية الكلشني على العادة وتردد الناس ليلا للفرجة وعملوا مغاني ومزامير في عدة جهات وقراءة قرآن وضجت الصغار في الأسواق وعم ذلك سائر اخطاط المدينة العامرة ومصر وبولاق وكان من المعتاد القديم أن لا يعتني بذلك إلا بجهة الأزبكية حيث سكن الشيخ البكري لأن عمل المولد من وظائفه وبولاق فقط.
وفي يوم الخميس ثاني عشره سافر سليمان أغا وكيل دار السعادة وصحبته عدة هجانة إلى ناحية الشام لاحضار المحمل الشريف وحريمات الأمراء إلى مصر.
وفيه افتتحوا ديوان مزاد الأعشار والمكوس وذلك ببيت الدفتردار ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وفيه حضر اليسرجي الذي جلب مملوك الشيخ البكري الذي تقدم ذكره إلى بيت القاضي وأحضرو الشيخ خليلا البكري وادعى عليه أنه قهره في أخذ المملوك بالفرنسيس وأخذه منه بدون القيمة وأنه أن أحضره على ذمة مراد بك وطال بينهما النزاع وآل الأمر بينهما إلى انتزاع المملوك من المذكور وقد كان أعتقه وعقد له عل ابنته فأبطلوا العتق وفسخوا النكاح وأخذ المملوك عثمان بك الطنبرجي المرادي ودفع للشيخ دراهمه ولجلابة باقي الثمن وتجرع فراقه.
وفي يوم الجمعة ركب الوزير وحضر إلى الجامع الأزهر وصلى به(2/483)
الجمعة وخلع علي الخطيب فرجيه صوف وفي ذلك اليوم احترق جامع قايتباي الكائن بالروضة المعروف بجامع السيوطي والسبب في ذلك أن الفرنسيس كانوا يصنعون البارود بالجنينة المجاورة للجامع فجعلوا ذلك الجامع مخزنا لما يصنعونه فبقى ذلك بالمسجد وذهب الفرنسيس وتركوه كما هووجانب كبريت في انخاخ أيضا فدخل رجل فلاح ومعه غلام وبيده قصبة يشرب بها الدخان وكأنه فتح ماعونا من ظروف البارود ليأخذ منه شيئا ونسي المسكين القصبة بيده فأصابت البارود فاشتعل جميعه وخرج له صوت هائل ودخان عظيم واحترق المسجد واستمرت النار في سقفه بطول النهار واحترق الرجل والغلام.
وفي يوم الأحد خامس عشره اشيع بأنه كتب فرمان على النصارى أنهم لا يلبسون الملونات ويقتصرون على لبس الأزرق والاسود فقط فبمجرد الإشاعة وسماع ذلك ترصد جماعة القلقات لمن يمر عليهم من النصارى ومن لم يجدوه بثياب ملونة يأخذوا طربوشه ومداسه الأحمر ويتركوا له الطاقية والشد الأزرق وليس القصد من أولئك القلقات الانتصار للدين بل استغناء السلب وأخذ الثياب ثم أن النصارى صرخوا إلى عظمائهم فأنهوا شكواهم فنودي بعدم التعرض لهم وأن كل فريق يمشي على طريقته المعتادة.
وفي يوم لاثنين طلب الوزير من التجار مائة كيس وعشرة اكياس سلفة من عشور البهار والزمهم باحضارها من الغد فاجتمع المستعدون لجمع الفردة في أيام الفرنساوية كالسيد أحمد الزرو وكاتب البهار وأرادوا توزيعها على المحترفين كعادتهم فاجتمع أرباب الحرف الدنيئة وذهبوا إلى بيت الوزير والدفتردار واستغاثوا وبكوا فرفعوا عنهم الطلب وألزموا بها المياسير.
وفيه قلدوا محمد آغا تابع قاسم بك موسقو الإبراهيمي وجعلوه واليا عوضا عن علي آغا الشعراوي(2/484)
وفي ثامن عشرينه الموافق لثالث مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك وركب محمد باشا المعروف بأبي مرق المرشح لولاية مصر في صبحها إلى قنطرة السد وكسروا جسر الخليج بحضرته وفرق العوائد وخلع الخلع ونثر الذهب والفضة.
وفيه عزل الوزير القاضي وهو قاضي العرضي الذي كان ولاه الوزير قاضي العسكر بمصر نائبا عمن يؤل إليه القضاء باسلامبول فلما تولى ذلك حصل منه تعنت في الأحكام وطمع فاحش وضيق على نواب القضاء بالمحاكم ومنعهم من سماع الدعاوي ولم يجرهم على عوائدهم وأراد أن يفتح بابا في الأملاك والعقار ويقول: إنها صارت كلها ملكا للسلطان لأن مصر قد ملكها الحربيون وبفتحها صارت ملكا للسلطان فيحتاج أن أربابها يشترونها من الميري ثانيا ووقع بينه وبين الفقهاء المصرية مباحثات ومناقشات وفتاوي وظهروا عليه ثم تحامل عليه بعض أهل الدولة وشكوه إلى الوزير فعزله وقلد مكانه قدسي أفندي نقيب الأشراف بحلب سابقا ونقل المعزول متاعه من المحكمة فكانت مدة ولايته خمسة عشر يوما.
وفي ذلك اليوم أيضا خلع الوزير على الأمير محمد بك الألفي فروة سمور وقلده امارة الصعيد وليرسل المال والغلال ويضبط مواريث من مات بالصعيد بالطاعون فبرز خيامه من يومه إلى ناحية الآثار وأسكن داره بالازبكية رئيس أفندي.
وفي يوم الجمعة حضر الوزير إلى جامع المؤيد وصلى به الجمعة.
وفيه قبضوا على عرفة بن المسرى وحبس ببيت الوزير بسبب أخيه إبراهيم كان شيخ مرجوش وتقيد بقبض فردة الفرنسيس ثم ذهب إلى المحلة وتوفي بها فغمزوا على أخيه عرفة المذكور وقبضوا عليه وحبسوه وأرسلوا فرمانا إلى المحلة بضبط ماله وما يتعلق به وبأخيه عند شركائهما ثم نهبوا ببيت المذكور(2/485)
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه طلبت ابنة الشيخ البكري وكانت ممن تبرج مع الفرنسيس بمعينين من طرف الوزير فحضروا إلى دار أمها بالجودرية بعد المغرب وأحضروها ووالدها فسألوها عما كانت تفعله فقالت: إني تبت من ذلك فقالوا لوالدها: ما تقول أنت فقال: أقول إني بريء منها فكسروا رقبتها وكذلك المرأة التي تسمى هوى التي كانت تزوجت نقولا القبطان ثم اقامت بالقلعة وهربت بمتاعها وطلبها الفرنساوية وفتش عليها عبد العال وهجم بسببها عدة أماكن كما تقدم ذكر ذلك فلما دخلت المسلمون وحضر زوجها مع من حضر وهو إسمعيل كاشف المعروف بالشامي أمنها وطمنها وأقامت معه أياما فاستاذن الوزير في قتلها فأذنه فخنقها في ذلك اليوم أيضا ومعهاجاريتها البيضاء أم ولده وقتلوا أيضا امرأتين من اشباههن.
وفي يوم الأربعاء أرسلوا طائفة معينين من طرف محمد باشا أبي مرق إلى أخي الشواربي شيخ قليوب فأحضروه على غير صورة ماشيا مكتوفا مسحوبا مضروبا من قليوب إلى مصر فحبسوه ببيت الوزير ثم حضر أخوه وصالح عليه بعشرة أكياس قام بدفعها وأطلق قيل أن السبب في ذلك أن جماعة من اتباع محمد باشا ذهبوا إلى قليوب وطلبوا تبنا فطردهم الساكن وأعطاهم دراهم ذهبوا عنه وتركوه وأن عاند سبوه وضربوه وشتمهم وردهم من غير شيء وقيل: إن ذلك باغراء ابن المحروقي لضغين بينه وبينهم قديم.
وفي آخره تحرر ديوان العشور فكان المتحصل ستة عشر ألف كيس.
وفيه تشاجر طائفة من الينكجرية مع طائفة من الانكليز بالجيزة وقتل بينهما أشخاص فنودى على الينكجرية ومنعوا من التعدى إلى بر الجيزة.
وفيه كثر اشتغال طائفة العسكر بالبيع والشراء في أصناف المأكولات وتسلطوا على الناس بطلب الكلف ورتبوا على السوقة وأرباب الحوانيت دراهم يأخذونها منهم في كل يوم ويأخذون من لخابز الخبز من غير ثمن وكذلك(2/486)
يشربون القهوة من القهاوي ويحتكرون ما يريدون من الأصناف ويبيعونها بأغلى الاثمان ولا يسرى عليهم حكم المحتسب وكذلك تسلطوا على الناس بالاذية بأدنى سبب وتعرضوا للسكان في منازلهم فتأتي منهم الطائفة ويدخلون الدار ويأمرون أهلها بالخروج ليسكنوها فإن لاطفهم الساكن واعطاهم دراهم ذهبوا عنهم وتركوه وأن عاند سبوه وضربوه ولو عظيما وأن شكا إلى كبيرهم قوبل بالتبكيت ويقال له إلا تفسحون لاخوانكم المجاهدين الذين حاربوا عنكم وانقذوكم من الكفار الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب ويأخذون أموالكم ويفجرون بنسائكم وينهبون بيوتكم وهم ضيوفكم أياما قليلة فما يسع المسكين إلا أن يكلفهم بما قدر عليه وأن أسعفته العناية وانصرفوا عنه باي وجه فيأتي إليه خلافهم وأن سكنوا دارا أخربوها وأما الفلقات والينكجرية الذين تقيدوا بحارات النصارى فإنهم كلفوهم اضعاف ما كلفوا به المسلمين ويطلبون منهم بعد كلف المأكل واللوازم مصروف الجيب وأجرة الحمام وغير ذلك وتسلطت عليهم المسلمون بالدعاوى والشكاوى على أيدي أولئك القلقات فيخلصون منهم ما لزمهم بأدنى شبهة ولا يعطون المدعي إلا القليل من ذلك والمدعي يكتفي بما حصل له من التشفي والظفر بعدوه وإذا تداعي شخص على شخص أو أمرأة مع زوجها ذهب معهم اتباع القلق إلى المحكمة أن كانت الدعوى شرعية فإذا تمت الدعوى أخذ القاضي محصولة ويأخذ مثله اتباع القلق على قدر تحمل الدعوى.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الثلاثاء سنة 1216.
فيه افرج عن عرفة بن المسيري وصولح عليه بخمسة عشر كيسا وكتب له فرمان برد منهوباته وعدم التعرض لتعلقاته بالمحلة.
وفي يوم الأربعاء ثانيه أمر الوزير الوجاقلية بلبس القواويق على عادتهم القديمة فأخبروا إبراهيم بك فقال الأمر عام لنا ولكم أولكم فقط فقالوا: لا ندرى فسأل إبراهيم بك الوزير المشار إليه فقال له: بل ذلك عام فلما كان يوم الجمعة حادي عشره لبس الوجاقلية والأمراء المصرية(2/487)
زيهم من القواويق المختلفة الأشكال على عادتهم القديمة حسب الأمر بذلك وكذلك الأمراء الصناجق وحضروا في يوم الجمعة بديوان الوزير ونظر إليهم وأعجب بهيآتهم واستحسن زيهم ودعا لهم واثنى عليهم وأمرهم أن يستمروا على هيئتهم وذلك على ما هم فيه من التفليس وغالبهم لا يملك عشاء ليلته فضلا عن كونه يقتني حصانا وشنشارا وخدما ولوازم لا بد منها ولا غنى للمظهر عنها.
وفيه حضرت جماعة من عسكر القبط الذين كانوا ذهبوا بصحبة الفرنساوية فتخلفوا عنهم ورجعوا إلى مصر.
وفيه أرسلوا تنابيه للملتزمين بطلب بواقي مال سنة ثلاث عشرة واربع عشرة فأعتذروا بأنهم ممنوعون من التصرف فمن اين يدفعون البواقي.
وفي يوم الخميس نبهوا على العساكر المتداخلة في الينكجرية وغيرهم بالسفر.
وفيه كتبت فرمانات باللغة العربية بترصيف صاحبنا العلامة السيد إسمعيل الوهبي المعروف بالخشاب وأرسلت إلى البلاد الشرقية والمنوفية والغربية مضمونها الكف عن أذية النصارى واليهود أهل الذمة وعدم التعرض لهم وفي ضمنه آيات قرآنية وأحاديث نبوية والأعتذار عنهم بأن الحامل لهم على تداخلهم مع الفرنساوية صيانة اعراضهم وأموالهم.
وفي يوم الجمعة أحضروا رمة زوجة إبراهيم بك عملوا لها قبرا بجانب أخيها محمد بك أبي الذهب بمدرسته المقابلة للجامع الأزهر ودفنوها به.
وفي يوم السبت خامسه ورد الخبر بوفاة أحمد بك حسن أجد الأمراء الذين توجهوا صحبة حسين باشا القبطان والفرنساوية وكان القبطان وجهه إلى عرب الهنادي الذين يحملون الميرة إلى الفرنسيس المحصورين بأسكندرية وضم إليه عدة من العسكر فحاربهم وقاتلهم عدة مرار فأصابته رصاصة دخلت في جوفه فرجع إلى مخيمه ومات من(2/488)
ليلته وكان يضاهي سيده في الشجاعة والفروسية.
وفيه اطلعوا للملتزمين التصرف في سنة خمس عشرة ليقضوا ما لهم وما عليهم من البواقي ومال الميري والمضاف ويدفعوا جميع ذلك إلى الخزينة بأوراق مختومة من إبراهيم بك وعثمان بك والقصد من ذلك اطمئنانهم بالجباية والرجاء بالتصرف في المستقبل ووعدهم بذلك سنة تاريخه بعد دفعهم الحلوان مع أن الفرنساوية لما استقر أمرهم بمصر ونظروا في الأموال الميرية والخراج فوجدوا ولاة الأمور يقبضون سنة معجلة ونظروا في الدفاتر القديمة واطلعوا على العوائد السالفة ورأوا ذلك كان يقبض أثلاثا مع المراعاة في ري الاراضي وعدمه فاختاروا والأصلح في أسباب العمار وقالوا ليس من الانصاف المطالبة بالخراج قبل الزراعة بسنة واهملوا وتركوا سنة خمس عشرة فلم يطالبوا الملتزمين بالاموال الميرية ولا الفلاحين بالخراج فتنفست الفلاحون وراج حالهم وتراجعت ارواحهم مع عدم تكليفهم كثرة المغارم والكلف وحق طرق المعينين ونحو ذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه وصلت قافلة شامية وبها بضائع وصابون ودخان وحضر السيد بدر الدين المقدسي والحاج سعودي الحناوي وآخرون وتراجع سعر الصابون والقناديل الخليلي والدخان.
وفيه ورد الخبر بسفر الفرنساوية ونزولهم المراكب من ساحل أبي قير.
وفي يوم الأحد حبس حسن آغا محرم المنفصل عن الحسبة وطولب بمائتي كيس وذلك معتاد الحسبة في الثلاث سنوات التي تولاها أيام الفرنساوية فإنه لما تقلد أمر الحسبة في أيامهم منعوه من أخذ العوائد والمشاهرات من السوقة وجعلوا له مرتبا في كل يوم يأخذه من الأموال الديوانية نظير خدمته وكذلك أتباعه وطالبوه أيضا بأربعة آلاف قرش كان اعطاها له نزله امين عند حضورهم في العام الماضي لمشتروات الذخيرة ثم نقض الصلح عقيب ذلك وخرجوا من مصر وبقيت بذمته فأخبر أن(2/489)
الفرنساوية علموا بها وأخذوها منه واعطوه ورقة بوصول ذلك إليهم فلم يقبلوا منه ذلك وبقي معتقلا وادعوا عليه أيضا بتركة الاغا الذي كان نزيله ومات عنده واحتوى على موجوده فأخبر أيضا أن الفرنسيس أخذوا منه ذلك أيضا واعطوه سندا فلم يقبلوا منه ذلك واستمر محبوسا.
وفي يوم الإثنين رابع عشره نودي على أن أهل البلدة لا يصاهرون العساكر العثمانية ولا يزوجونهم النساء وكان هذا الأمر كثر بينهم وبين أهل البلد وأكثرهم النساء اللاتي دون مع الفرنساوية ولما حضر العثمانية تحجبن وتنقبن وتوسطن لهن اشباهن من الرجال والنساء وحسنوهن للطلاب ورغبوا فيهن الخطاب فأمهروهن المهور الغالية وانزولهن المناصب العالية وفي ذلك اليوم أيضا نودي على أهل الذمة بالأمن والأمان وأن المطلوب منهم جزية أربع سنوات.
وفيه قبض على جربجي موسى الجيزاوي وعمل عليه عشرون كيسا.
وفيه قبض محمد باشا أبو مرق على مقدمه مصطفى الطاراتي وضربه علقة وحبسه وألزمه بمبلغ دراهم.
وفيه سافر الانكليزية الذين بالجيزة والروضة إلى جهة الأسكندرية وأشيع أن الحرب قائمة بين العساكر والفرنسيس الأسكندرانية من يوم الإثنين سابعه فطلبوا المراكب حتى شح وجودها وضاق الحال بالمسافرين واستمر طلبهم ونزولهم عدة أيام وكذلك نبهوا على الكثير من العساكر الإسلامية بالسفر.
وفي يوم الخميس نقضت الأوامر بتصرف الملتزمين في البلاد وقيدت صيارف من نصارى القبط بالنزول إلى البلاد لقبض الأموال في غير أوانها لطرف الدولة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره لبس الأمراء الكبار القواويق على رؤوسهم.
وفيه قبض من مصطفى الطاراتي المعتقل المتقدم ذكره خمسة عشر(2/490)
ألف ريال ولم يزل معتقلا وقيل: إنه غمز عليه فوجد له في مكان صندوقات ضمنهما ذهب نقدعين ومصطفى هذا كان كلارجيا عند قائد أغا حين كان بمصر فلما خرج الأمراء مقدما عند بونابارته ثم عند كلهبر فلما وقعت الفتنة السابقة وظهر يعقوب القبطي وتولي أمر الفردة وجمع المال تقيد بخدمته وتولى أمر اعتقال المسلمين وحبسهم وعقوبتهم وضربهم فكان يجلس على الكرسي وقت القائلة ويأمر اعوانه بإحضار أفراد المحبوسين من التجار وأولاد الناس فيمثل بين يديه ويطالبه بأحضار ما فرض عليه مما لا طاقة له به ولا قدرة له على تحصيله فيعتذر بخلو يده ويترجى امهاله فيزجره ويسبه ويأمر بضربه فيبطحونه ويضرب بين يديه ويرده إلى السجن بعد أن يأمر أعوانه أن يذهب إلى داره وصحبته الجماعة من عسكر الفرنسيس ويهجمون على حريمه وأمثال ذلك.
وفي يوم الأحد وردت أخبار من اسكندرية بتملك العساكر الإسلامية والانجليزية متاريس الفرنساوية وأخذهم المتاريس التي جهة العجمي وباب رشيد وجانبا من اسكندرية القديمة وتخطت المراكب وعبرت إلى المينة وأن الفرنساوية انحصروا داخل الأبراج وأخذ منهم نحو المائة وسبعين أسيرا وقتل منهم عدة وافرة ووقعت بين الفريقين مقتلة عظيمة لم يقع نظيرها وقتل الكثير من عسكر قبطان باشا وكذلك من الانجليز ثم انجلت الحرب عما ذكر فلما ور الخبر بذلك ضربوا عدة مدافع وسر الناس بذلك.
وفيه ورد الخبر بوصول سليمان صالح إلى بلبيس وصحبته المحمل والحريمات وأحضر معه رمة سيده صالح بك ليدفنها بمصر بالقرافة فخرج أناس لملاقاتهم وأخذوا معهم حمير مكارية لركوب النساء وهدبه.
وفي يوم الإثنين وصل سليمان أغا إلى بركة الحاج وصحبته المحمل ونساء الأمراء القادمين من الشام ومعه أيضا رمة صالح بك ليدفنها بقرافة مصر فخرج الناس لملاقاتهم وأخذوا معهم حمير مكارية لركوب النساء(2/491)
وهديات ونودي في عصريته بعمل موكب من الغد وطاف ألاى جاويش بزيه المعتاد وخلفه القابجية وهم ينادون يارن الاى فلما أصبح يوم الثلاثاء ثاني عشرينه عمل الموكب وانجر الالاى ودخل المحمل من باب النصر وشقوا به من الشارع الأعظم وصادف ذلك اليوم يوم مولد المشهد الحسيني والأسواق مزينة وعلى الحوانيت الشقق الحرير والزردخات والتفاصيل وتعاليق القناديل ومشى في الموكب رسوم الوجاقلية والأوده باشية وأكثر الأمراء والمشايخ والعلماء ونقيب الأشراف ونبه على جميع الأشراف تلك الليلة بالحضور في صبح ذلك اليوم للمشي في ذلك الموكب فمشى كل من كان له عمامة خضراء يكبرون ويهللون فكانوا عدداكثيرا وكل من وجدوه بالطريق وعلى رأسه خضار جذبوه وسحبوه قهرا وأمروه بالمشي وأن أبى ضربوه وسبوه وبكتوه بقولهم ألست من المسلمين وكذلك تجمع أرباب الإشاير ومشوا على عادتهم بطبولهم وزمورهم وخباطهم وخرقهم وخورهم وصياحهم فلم يزالوا حتى وصلوا إلى قراميدان وتسلم المحمل محمد باشا ابومرق من سليمان أغا الذي وصل به ولكونه عوضا عن سيده أمير الحاج صالح بك ثم صعدوا به إلى القلعة وأودعوه هناك وعملت وقدة وشنك تلك الليلة.
وفي ذلك اليوم شرعوا في فتح باب الفتوح وكان القصد ادخال المحمل منه لضيق باب الأستثنا الثاني الذي جدده الفرنساوية عند باب النصر فلم يتأت ذلك لمتانة البناء واستمروا ثلاثة أيام يهدمون في البناء الذي على الباب من داخل فلم يمكن ودفنوا صالح بك بتربة اعدت له بقرافة المجاورين والعجب أن الناس من القديم يتمنون أن يقبروا بالأرض المقدسة لكونها عش الانبياء والصديقين وهؤلاء الثلاثة بالعكس فما هو إلا لتطهيرها منهم.
وفيه ورد خبر باسكندرية بانقضاء الحرب وطلب الفرنسيس الصلح بعد وقوع الغلبة عليهم وهزيمتهم وأخذ منهم عدة اسرى وانحصروا في(2/492)
الأبراج فأمنوهم وأجلوهم خمسة أيام آخرها يوم الخميس سابع عشرينه.
وفيه الزموا حسن أغا المحتسب بالنقلة من داره وهو في الحبس فأرسل إلى حريمه واتباعه فانتقلوا إلى مكان آخر.
وفيه ورد الخبر أيضا بورود عثمان كتخدا الدولة الذي كان بمصر في العام السابق وباشر الحروب بمصر وصحبته آخر يقال له شريف أفندي.
وفي سادس عشرينه قدم محمد أفندي المعروف بشريف أفندي الدفتردار وقدم بصحبته عثمان كتخدا الدولة وسكن شريف أفندي بدرب الجماميز وسكن الكتخدا بمنزل حسن أغا المحتسب سابقا بسويقة اللالا.
وفي غايته عمل شنك ومدافع كثير وذلك لوصول خبر بتسليم الأسكندرية وسبب تأخرهم إلى هذه المدة بعد وقوع الصلح انتظار الأمر بالانتقال من بونابارته وذلك أنه لما وقع الصلح المتقدم أرسل سارى عسكر منو تطريدة إلى فرانسا بالخبر إلى بونابارته وانتظر الجواب فورد عليه الأمر بالانتقال والحضور فعند ذلك نزلوا متاعهم إلى المراكب وسافروا إلى بلادهم.
شهر جمادى الأولى استهل بيوم الخميس سنة 1216.
فيه قرئت فرمانات صحبة عثمان كتخدا وفيها التنويه بذكر أعيان الكتبة الاقباط والوصية بهم مثل جرجس الجوهري واصف وملطي ومقدمهم في تحرير الأموال الميرية.
وفيه أنفصل مولانا السيد محمد المعروف بقدسي أفندي عن القضاء وسافر ذلك اليوم وذلك بمراده واستعفائه وطلبه وتقلد القضاء عوضه عبد الله أفندي قاضي الميري وكاتب الجمرك وحضر في ذلك اليوم إلى المحكمة.
وفي يوم السبت ثالثه أفرج عن حسن أغا المحتسب بشفاعة عثمان(2/493)
كتخدا وحسن أغا وكيل قبطان باشا من غير شيء وتوجه إلى دار بجوار داره.
وفيه تجمع النساء والفلاحون والملتزمون والوجاقلية ببيت الوزير بسبب الالتزام والمنع من التصرف وحضور الفلاحين للضيق عليهم بطلب المال إلى ملتزميهم ومطالبتهم اياهم بما قبضوه منهم فلما اجتمعوا وصرخوا سأل الوزير عن ذلك فأخبروه فأمر بكتابة فرمان بالاطلاق والاذن للملتزمين بالتصرف ووجهوا الأمر إلى الدفتردار فكتب عليه ثم إلى الروزنامجي كذلك ثم توجهوا إلى دفتردار الدولة فتوقف وبقى الأمر زجاجا أياما وذلك أن القوم يريدون أمورا مبطونة في نفوسهم واطماعا مركوزة في طباعهم.
وفي يوم الإثنين نودي بالزينة ثلاثة أيام أولها الأربعاء وآخرها الجمعة تاسعه سرورا بتسليم الأسكندرية فزينت المدينة وعملت الوقدات بالأسواق والمغاني للفرجة ليلا ونهارا وكل ليلة يعمل شنك نفوط وسواريخ وبارود ببركة الغرابين المطل عليها بيت الوزير.
وفيه حضر نحو ستة انفار من أعيان الانكليز وصحبتهم جماعة من العثمانية يفرجونهم على مواطن مزارات المسلمين فدخلوا إلى المشهد الحسيني وغيره بمداساتهم فتفرجوا وخرجوا.
وفيه تحاسب السيد أحمد المحروقي مع السيد أحمد الزرو على شركة بينهما فتأخر علي الزرو أجد وعشرون كيسا فألزمه باحضارها وحبسه بسجن قواس باشا وأمره بالتضييق عليه ولما أصبح يوم السبت لغط الناس باستمرار الزينة سبعة أيام وانتظروا الاذن في رفع التعاليق فلم يؤذن لهم بشيء فاستمروا طول النهار في اختلاف وحل وربط ثم اذن لهم قبيل الغروب برفعها بعدما عمروا القناديل وكان الناس يبيتون سهارى بالحوانيت والقلقات يطوفون بالأسواق فمن وجدوه نائما نبهوه بإزعاج(2/494)
وفي يوم الإثنين ثاني عشره ووقع من طوائف العسكر عربدة بالأسواق وتخطفوا امتعة الناس ومن باعة المآكل كالشواء والفطير والبطيخ والبلح فأنزعجت الناس ورفعوا متاعهم من الحوانيت واخلوا منها وأغلقوها فحضر إليهم بعض أكابرهم وراطنهم فانكفوا وراق الحال وتبين أن السبب في ذلك تأخير علائفهم وذلك أن من عادتهم القبيحة أنه إذا تأخرت عنهم علائفهم فعلوا مثل ذلك بالرعية وأثاروا الشرور فعند ذلك يطلبون خواطرهم ويعدونهم أو يدفعون لهم.
وفيه ورد الخبر بتولية محمد باشا خسرو على مصر وهو كتخدا حسين باشا القبودان فألبس الوزير وكيله خلعةعوضا عنه واشيع عزل محمد باشا أبي مرق وسفره إلى بلاده وحضر السفار أيضا من جهة رشيد واسكندرية واخبروا بأن الفرنساوية لم يزالوا باسكندرية وبنديراتهم على الأبراج وأن القبطان ومن معه لم يدخلوها وإنما يدخلها معهم الانكليزية وأنهم ينتظرون إلى الآن الجواب والاذن من شيختهم وما أشيع قبل ذلك فلا أصل له وأما الطائفة الاخرى التي سافرت من مصر فإنهم نزلوا وسافروا على وفق الشرط من أبي قير كما تقدم.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه وردت مكاتبة من قبطان باشا بطلب عثمان بك المرادي وعثمان بك البرديسي وإبراهيم كتخدا السناري والحاج سلامة تابعه وآخرين فسافروا في يوم السبت رابع عشرينه.
وفي ليلة السبت المذكور قتلوا شخصا يسمى مصطفى الصيرفي من خط الصاغة قطعوا رأسه تحت داره عند حانوته وسبب ذلك أنه كان يتداخل في نصارى القبط والذين يتعاطون الفرد ويوزعونها وتولى فردة أهل الصاغة وسوق السلاح وتجاهر بأمور نقمت عليه وأضر أشخاصا وأغرى به فحبس أياما ثم قتل بأمر الوزير وترك مرميا ثلاث ليال ثم دفن وفي صبيحة قتله طاف المشاعلي بالخطة ودوائرها مثل الجمالية والضيية والنحاسين وباب الزهومة وخان الخليلي فجبى من أرباب(2/495)
الحوانيت دراهم ما بين خمسة انصاف فضة وعشرة وعند شيله جبي القلقات أيضا ما يزيد على المائة قرش وذلك من جملة عوائدهم القبيحة.
وفيه هرب السيد أحمد الزرو فلم يعلم له خبر وذلك بعد ما أطلق بضمانة السيد أسعد وابن محرم فكتب الوزير عدة فرمانات وأرسلها صحبة هجانة إلى جهة الشام وختموا على دوره ولم يعلم هروبه إلا بعد أربعة أيام لما داخله من الخوف بقتل الصيرفي المذكور.
وفي يوم الخميس تاسع عشرنيه عقد إبراهيم بك الكبير عقد ابنته عديلة هانم التي كانت تحت إبراهيم بك الصغير المعروف بالوالي الذي غرق بواقعة الفرنسيس بانبابة على الأمير سليمان كاشف مملوك زوجها الأول على صداق ألفين ريال وحضر العقد الشيخ السادات والسيد عمر النقيب والفيومي وبعض الأعيان.
وفي يوم الجمعة غايته قتل شخص أيضا بسوق السلاح وهو من ناحية المنصورة وجبي المشاعلية والقلقات دراهم من أرباب الحوانيت مثل ذلك المذكور فيما تقدم وانقضى هذا الشهر وحوادثها التي منها الارتباك في أمر حصص الالتزام والمزاد في المحلول وعدم الراحة والاستقرار على شيء يرتاح الناس عليه ومثل ذلك الرزق الاحباسية والأوقاف وحضر شخص تولى النظر والتفتيش على جميع الأوقاف المصرية السلطانية وغيرها وبيده دفاتر ذلك فجمع المباشرين واستملاهم وكذلك كاتب المحاسبة وبث المعينين لاحضار النظار بين يديه وحسابهم على الايراد والمصرف واظهر أنه يريد بذلك تعمير المساجد الكائنة بالقرى المصرية وانضمت إليه الاغوات وطلب كل من كان له أدنى علاقة بذلك واستمروا على ذلك بطول السنة ثم انكشف الأمر وظهر أن المراد من ذلك ليس إلا تحصيل الدراهم فقط وأخذ المصالحات والرشوات بقدر الإمكان بعد(2/496)
التعنت في التحرير والتعلل بأثبات المدعي في الايراد والمصرف خصوصا إذا كان الشخص ضعيفا وليس من أرباب الوجاهة والمتجوهين أو بينه وبين الكتبة حزازة باطنية ثم يحررون دفترا ويحررون الفائظ ثم يطلبون منه ايراد ثلاث سنوات أو أربعة ولم يزل حتى يصالح على نفسه بما أمكنه ثم يختمون له ذلك الدفتر ويتركونه وما يدين أن شاء عمر وأن شاء آخر فإن انتهت إليهم بعد ذلك شكوى في ناظر وقف سبقت له مصالحة لا تسمع شكوى الشاكي ولا يلتفت إليها ويفعلون هذا الفعل في كل سنة.
ومنها زيادة النيل الزيادة المفرطة عن المعتاد وعن العام الماضي أيضا حتى غطى الذراع زاده الفرنساوية على عامود المقياس فإن الفرنساوية لما غيروا معالم المقياس رفعوا الخشبة المركبة على العامود وزادوا فوق العامود قطعة رخام مربعة مهندمة وجعلوا ارتفاعها مقدار ذراع مقسوم باربعة وعشرين قيراطا وركبوا عليها الخشبة فسترها الماء أيضا ودخل الماء بيوت الجيزة ومصر القديمة وغرقت الروضة ولم يقع في هذا النيل حظوظ ولا نزهة للناس كعادتهم في البرك والخلجان والمراكب وذلك لاشتغال الناس بالهموم المتوالية وخصوصا الخوف من اذى العسكر وانحراف طباعهم وأوضاعهم وعدم المراكب وتخريب الفرنسيس أماكن النزاهة وقطع الأشجار وتلف المقاصف التي كانت تجلس بها أولاد البلد مثل دهليز الملك والجسر والرصيف وغير ذلك مثل الكازروني والمغربي وناحية قنطرة السد وقصر العيني والقصور.
ومنها أن محمد بك المعروف بالمنفوخ المرادي حصل عنده وحشة من قبطان باشا فحضر إلى ناحية الاهرام بالجيزة وطلب الحضور عند الوزير يستجير به فذهب إليه خشداشه عثمان بك البرديسي وحادثه وأشار عليه بالرجوع إلى جهة القبطان فأقام أياما ثم رجع إلى ناحية اسكندرية والسبب في ذلك ما حصل في الواقعة التي قتل بها أحمد بك(2/497)
الحسيني قيل أن ذلك بنفاقه عليه واتضح ذلك للقبطان وأحضرت العرب مراسلته إليهم بذلك فانحرف عليه القبطان فلما علم ذلك داخله الخوف ثم أرسل إليه الأمراء والقبطان أمانا فرجع بعد أيام.
ومنها حضور الجمع الكثير من أهالي الصعيد هروبا من الألفي وما أوقعه بهم من الجور والمظالم والتقارير والضرائب والغرائم وحضر أيضا الشيخ عبد المنعم الجرجاوي والشيخ العارف وخلافهم يتشكون مما أنزله على بلادهم وطلب متروكات الأموات وأحضر ورثتهم وأولاده وأطفالهم ومن توسط أو ضبط أو تعاطي شيئا من القضاة والفقهاء وحبسهم وعاقبهم وطالبهم وطلب استئصال ما بأيديهم ونحو ذلك كل ذلك بأمن من الدولة وغير ذلك معين فحضورا فصالحوا على تركة سليم كاشف باثنين وعشرين ألف ريال بعد أن ختموا على دوره بعد أن أزعجوا حريمه وعياله ونطوا من الحيطان ثم حضروا إلى مصر وأمثال ذلك.
ومنها كثرة تعدى العسكر بالاذية للعامة وأرباب الحرف فيأتي الشخص منهم ويجلس على بعض الحوانيت ثم يقوم فيدعي ضياع كيسه أو سقوط شيء منه وأن أمكنه اختلاس شيء فعل أو يبدلون الدنانير الزيوف الناقصة النقص الفاحش بالدراهم الفضة قهرا أو يلاقشون النساء في مجامع الأسواق من غير احتشام ولا حياء وإذا صرفوا دراهم أو أبدلوها اختلسوا منها وانتشروا في القرى والبلدان ففعلوا كل قبيح فتذهب الجماعة منهم إلى القرية وبيدهم ورقة مكتوب باللغة التركية ويوهمونهم أنهم حضروا إليهم بأوامر ما برفع الظلم عنهم أو ما يبتدعونه من الكلام المزور ويطلبون حق طريقهم مبلغا عظيما ويقبضون على مشايخ القرية ويلزمونهم بالكلف الفاحشة ويخطفون الأغنام ويهجمون على النساء وغير ذلك مما لا يحيط به العلم فطفشت الفلاحون وحضر أكثرهم إلى المدينة حتى امتلأت الطرق والازقة منهم أو يركب العسكري حمار المكارى قهرا ويخرج به إلى جهة الخلاء فيقتل المكارى(2/498)
ويذهب بالحمار فيبيعه بساحة الحمير وإذا انفردوا بشخص أو بشخصين خارج المدينة أخذوا دراهمهم أو شلحوهم ثيابهم أو قتلوهم بعد ذلك وتسلطوا على الناس بالسب والشتم ويجعلونهم كفرة وفرنسيس وغير ذلك وتمنى أكثر الناس وخصوصا الفلاحين أحكام الفرنساوية.
ومنها أن أكثرهم تسبب في المبيعات وسائر اصناف المأكولات والخضارات ويبيعونها بما أحبوا من الأسعار ولا يسرى عليهم حكم المحتسب ولا غيره وكذلك من تولى منهم رياسة حرفة من الحرف كالمعمارجية أو غيرهم قبض من أهل الحرفة معلوم أربع سنوات وتركهم وما يدينون فيسعرون كل صنف بمرادهم وليس له هو التفات لشيء سوى ما يأخذه من دراهم الشكاوى فعلا بسبب ذلك الجبس والجير وأجر الفعلة والبنائين خصوصا وقد احتاج الناس لبناء ما هدمه الفرنسيس وما تخرب في الحروب بمصر وبولاق وجهات خارج البلد حتى وصل الاردب الجبس إلى مائة وعشرين نصف فضة والجير بخمسين نصف فضة وأجرة البناء أربعين فضة والفاعل عشرين وأما الغلة فرخصية وكذلك باقي الحبوب بكثرتها مع أن الرغيف ثلاثة آواق بنصف لما ذكر من عدم الالتفات إلى الأحكام والتسعيرات.
واستهلت جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1216.
فيه تفكك الجسر الكبير المنصوب من الروضة إلى الجيزة وذلك من شدة الماء وقوته فتحللت رباطاته وانتزعت مراسيه وانتشرت أخشابه وتفرقت سفنه وانحدرت إلى بحري.
وفي ليلة الأحد ثانية حصلت زلزلة في ثالث ساعة من الليل.
وفي يوم الإثنين ثالثه قطعوا رأس مصطفى المقدم المعروف بالطاراتي بين المفارق بباب الشعريةوذلك بعد حبسه أياما عديدة وضربه وعقابه حتى تورمت أقدامه وطاف مع المعينين عدة أيام يتداين بواقي ما قرر عليه ودخل دارا نافذة وأجلس الملازمين له ببابها وهم لا يعلمون(2/499)
بنفوذها وأوهم أنه يريد التداين من صاحب الدار ونفذ من الجهة الأخرى واختفى في بعض الزوايا فاستعوقه الجماعة ودخلوا إلى الدار فلم يجدوه وعلموا بنفوذها فقبضوا على خدمة الدار وضربوهم فلم يجدوا عندهم علما منه فأطلقوهم وأوقعوا عليه الفحص والتفتيش فرآه شخص ممن صادره في أيام الفردة فصادفه في صبحها خارج باب القرافة فقبض عليه وأحضره بين يدي جماعة القلق فدل عليه فقبضوا عليه وقتلوه بعد القبض عليه بثلاثة أيام وتركوه مرميا تحت الارجل وسط الطريق وكثرة الإزدحام ثلاث ليال وفعلوا عادتهم في جبي الدراهم من تلك الخطة.
وفيه ورد فرمان من محمد باشا والي مصر بأن يتأهبوا لموكبه على القانون القديم فكتبوا تنابيه للوجاقلية والأجناد بالتهيء للموكب.
وفي يوم الثلاثاء وصل شمس الدين بك أميراخور كبير ومرجان أغا دار السعادة فأرسلوا تنابيه إلى الوجاقلية والأمراء والمشايخ ومحمد باشا وإبراهيم باشا فاجتمعوا ببيت الوزير وحضر المذكوران بعد الظهر فخرج الوزير ولاقاهما من المجلس الخارج فسلماه كيسا بداخله خط شريف فأخذه وقبله وأحضرا له بقجة بداخلها خلعة سمور عظيمة فلبسها وسيفا تقلد به وشلنج جوهر وضعه على رأسه ودخل صحبتهما إلى القاعة حيث الجمع ففتح الكيس وأخرج منه الفرمان ففتحه واخرج منه ورقة صغيرة فسلمها لرئيس أفندي فقرأها باللغة التركية والقوم قيام على اقدامهم مضمونها الخطاب لحضرة الوزير الحاج يوسف باشا وحسين باشا القبطان والباشات والأمراء والعساكر والمجاهدين والثناء عليهم والشكر لصنيعهم وما فتحه الله على يديهم واخراجهم الفرنسيس ونحو ذلك ثم وعظ بعض الافندية بكلمات معتادة ودعوا للسلطان والوزير والعساكر الإسلامية وتقدم إبراهيم باشا ومحمد باشا وطاهر باشا وباقي الأمراء فقبلوا ذيل الخلعة وانصرفوا وضربوا مدافع كثيرة(2/500)
من القلعة في ذلك الوقت وفي ذلك اليوم ألبس الوزير الأمراء والبلات فراوى وخلعا وشلنجات ذهب على رؤوسهم.
وفيه حضرت اطواخ بولاية جدة لمحمد باشا توسون اغات الجبجية وهو إنسان لا بأس به.
وفيه حضر القاضي الجديد من الروم ووصل إلى بولاق وهو صاحب المنصب فأقام ثلاثة أيام وصحبته عياله وحريمه فلما كان يوم السبت ثامنه حضر بموكبه إلى المحكمة وذهب إليه الأعيان في صبحها وسلموا عليه وله مسيس بالعلم.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره عمل الوزير الديوان وحضر عنده الأمراء فقبض على إبراهيم بك الكبير وباقي الأمراء الصناجق وحبسهم وأرسل طاهر باشا بطائفة من العسكر الارنؤد إلى محمد بك الألفي بالصعيد وكان اشيع هروبه إلى جهات الواحات وذهبت طائفة إلى سليم بك أبي دياب وكان مقيما بالمنيل فلما أخذ الخبر طلب الهرب وترك حملته فلما حضرت العسكر إليه فلم يجدوه فنهبوا القرية وأخذوا جماله وهي نحو السبعين وهجنه وهي نيف وثلاثون هجينا وذهبت إليه طائفة بناحية طرا فقاتلهم ووقع بينهم بعض قتلى ومجاريح ثم هرب إلى جهة قبلي من على الحاجز ووقفت طائفة العسكر والارنؤد بالاخطاط والجهات وخارج البلد يقبضون على من يصادفونه من المماليك والأجناد ونودي في ذلك اليوم بالأمن والأمان على الرعية والوجاقلية وأطلق الوزير مرزوق بك ورضوان كتخدا إبراهيم بك وسليمان أغا كتخداه المسمى بالحنفي وأحاطت العسكر بالامراء المعتقلين واختفى باقيهم ونودي عليهم وبالتوعد لمن أخفاهم أو آواهم وباتوا بليلة كانت أسوأ عليهم من ليلة كسرتهم وهزيمتهم من الفرنسيس وخاب أملهم وضاع تعبهم وطمعهم وكان في ظنهم أن العثملي يرجع إلى بلاده ويترك لهم مصر ويعودون إلى حالتهم الأولى يتصرفون في الاقاليم كيفما شاؤا(2/501)
فاستمروا في الحبس ثم تبين أن سليم بك أبا دياب ذهب إلى عند الانكليز والتجأ إليهم بالجيزة وألبس لوزير سليمان آغا تابع صالح آغا زي العثمانيين وجعله سلخور وأمره أن يتهيأ ليسافر إلى اسلامبول في عرض الدولة.
وفي يوم الإثنين سابع عشره سافر إسمعيل أفندي شقبون كاتب حوالة إلى رشيد باستدعاء من الباشا والي مصر.
وورد الخبر بوصول كسوة للكعبة من حضرة السلطان فلما كان يوم الأربعاء حضر واحد أفندي وآخرون وصحبتهم الكسوة فنادوا بمرورها في صبحها يوم الخميس فلما أصبح يوم الخميس المذكور ركب الأعيان والمشايخ والأشاير وعثمان كتخدا المنوه بذكره لامارة الحج وجمع الجاويشية والعساكر القاضي ونقيب الأشراف وأعيان الفقهاء وذهبوا إلى بولاق وأحضورها وهم امامها وفردوا قطع الحزام المصنوع من المخيش ثلاث قطع والخمسة مطوية وكذلك البرقع ومقام الخليل كل ذلك مصنوع بالمخيش العال والكتابة غليظة مجوفة متقنة وباقي الكسوة في سحاحير على الجمال وعليها أغطية جوخ أخضر ففرح الناس بذلك وكان يوما مشهودا وأخبر من حضر أنه عند ماوصل الخبر بفتح مصر أمر حضرة السلطان بعملها فصنعت في ثلاثين يوما وعند فراغها أمرهم بالسير بها ليلا وكان الريح مخالفا فعندما حلوا المراسي اعتدل الريح بمشيئة الله تعالى وحضروا إلى اسكندرية في أجد عشر يوما.
وفيه وردت الأخبار بأن حسين باشا القبطان لم يزل يتحيل وينصب الفخاخ للامراء الذين عنده وهم محترزون منه وخائفون من الوقوع في حباله فكانوا لا يأتون إليه إلا وهم متسلحون ومحترزون وهو يلاطفهم ويبش في وجوههم إلى أن كان اليوم الموعود به عزم عليهم في الغليون الكبير الذي يقال له ازج عنيرلي فلما طلعوا إلى الغليون وجلسوا فلم يجدوا القبودان فأحسوا بالشر وقيل: إنه كان بصحبتهم فحضر إليه رسول وأخبره أنه حضر معه ثلاثة من السعاة بمكاتبة فقام ليرى تلك(2/502)
المراسلة فما هو إلا أن حضر إليهم بعض الأمراء وأعلمهم أنه ورد خط شريف باستدعائهم إلى حضرة مولانا السلطان وأمرهم بنزع السلاح فأبوا ونهض محمد بك المنفوخ وسل سيفه وضرب ذلك الكبير فقتله فما وسع البقية إلا أنهم فعلوا كفعله وقاتلوا من بالغليون من العساكر وقصدوا الفرار فقتل عثمان بك المرادي الكبير وعثمان بك الأشقر ومراد بك الصغير وعلي بك أيوب ومحمد بك المنفوخ ومحمد بك الحسيني الذي قامر عوضا عن أحمد بك الحسيني وإبراهيم كتخدا السناري وقبض على الكثير منهم وأنزلوهم المراكب وفر البقية مجروحين إلى عند الانكليز وكانوا واقعين عليهم من ابتداء الأمر فاغتاظ الانكليز وانحازوا إلى اسكندرية وطرودا من بها من العثمانيين وأغلقوا أبواب الأبراج وحضر منهم عدة وافرة وهم طوابير بالسلاح والمدافع واحتاطوا بقبطان باشا من البر والبحر فتهيأ عساكره لحربهم فمنعهم فطلب الانجليز بروزه بعساكره لحربهم فقال لم يكن بيننا وبينكم حرب واستمر جالسا في صيوانه فحضر إليه كبير الانجليز وتكلم معه كثيرا وصمم على أخذ بقية الأمراء المسجونين فاطلقهم له فتسلمهم وأخذ أيضا المقتولين ونقل عرضى الأمراء من محطتهم إلى جهة الأسكندرية وعملوا مشهد للقتلى مشى به عساكر الانجليز على طريقتهم في موتي عظمائهم ووصل الخبر إلى من بالجيزة من الانكليز وذلك ثاني يوم من قبض الوزير على الأمراء ففعلو كفعلهم وأخذوا حذرهم وضربوا بعض مدافع ليلا وشرعوا في ترتيب آلة الحرب.
وفي ذلك اليوم طلع محمد باشا توسون والي جدة الساكن بيت طرا إلى القلعة وصعد معه جملةمن العسكر وشرعوا في نقل قمح ودقيق وقومانية وملؤا الصهاريج وشاع ذلك بين الناس فارتاعوا وداخلهم الوسواس من ذلك واستمروا ينقلون إلى القلعة مدافع وبارود أو آلات حرب.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه حضر كبير الانجليز الذي بالجيزة فالبسه الوزير فروة وشلنجا(2/503)
وفي ذلك اليوم خلع الوزير على عثمان أغا المعروف بقبي كتخدا وقلده على امارة الحج.
وفي ذلك اليوم وقع بين عسكر المغاربة والانكشارية فتنة ووقفوا قبالة بعضهم ما بين الغورية والفحامين وأغلقت الناس حوانيتهم بسوق الغورية والعقادين والصاغة والنحاسين ولم يزالوا على ذلك حتى حضر أغات انكشارية وسكنت الفتنة بين الفريقين.
وفي الخميس سابع عشرينه مروا بزفة عروس بسوق النحاسين وبها بعض انكشارية فحصلت فيهم ضجة ووقع فيه فشل فخطفوا ما على العروس وبعض النساء من المصاغ المزينات به وفي أثناء ذلك مر شخص مغربي فضربه عسكري رومي ببارودة فسقط ميتا عند الأشرفية فبلغ ذلك عسكر المغاربة فأخذوا سلاحهم وسلوا سيوفهم وهاجت حماقتهم وطلعوا يرمحون من كل جهة وهم يضربون البندق ويصرخون فاغلقت الناس الحوانيت وهرب قلق الأشرفية بجماعته وكذلك قلق الصنادقية وفزعت الناس ولم يزالوا على ذلك من وقت الظهر إلى الغروب ثم حال بينهم الليل وقتل المغاربة أربعة أشخاص وأصبحوا محترسين من بعضهم فحضر آغات الانكشارية على تخوف وجلس بسبيل الغورية وحضر الكثير من عقلاء الانكشارية وأقاموا بالغورية وحوالي جهة الكعكبين والشوائين حيث سكن المغاربة واستمر السوق مغلقا ذلك اليوم ورجعت القلقات إلى مراكزها وبردت القضية وكأنهم اصطلحوا وراحت على من راح.
وانقضى هذا الشهر بحوادثه التي منها استمرار نقل الأدوات إلى القلعة وكذلك مراكز باقي القلاع مع أنهم حربوا أكثرها.
ومنها زيادة تعدى العسكر على السوقة والمحترفين والنساء وأخذ ثياب من ينفردون به من الناس في أيام قليلة.
ومنها استمرار مكث النيل على الأرض وعدم هبوطه حتى دخل شهر(2/504)
هاتور وفات أوان الزراعة وعدم تصرف الملتزمين وهجاج الفلاحين من الارياف لما نزل بهم من جور العسكر وعسفهم في البلاد حتى امتلأت المدينة من الفلاحين ونودي عليهم عدة مرار بذهابهم إلى بلادهم.
ومنها أن الوزير أمر المصرلية بتغيير زيهم وأن يلبسوا زي العثمانية فلبس أرباب الاقلام والأفندية والقلقات القواويق الخضر والعنتريات وضيقوا اكمامهم ولبس مصطفى أغا وكيل دار السعادة سابقا وسليمان أغا تابع صالح أغا وخلافهما.
واستهل شهر رجب الفرد سنة 1216.
سافر سليمان أغا تابع صالح أغا إلى اسلامبول.
وفيه أمر الوزير الأمراء المحبوسين بأن يكتبوا كتابا إلى الانكليز بأنهم اتباع السلطان وتحت طاعته وأمره أن شاء أبقاهم في أمارتهم وأن شاء قلدهم مناصب في ولايات أخرى وأن شاء طلبهم يذهبون إليه فلا دخل لكم بيننا وبينه وكلام في معنى ذلك فأرسلوا يقولون أن هذا الكلام لا عبرة به فإنهم مسجونون وتحت امركم ومكتوب المقهور المكره لا يعمل به فإن كان ولا بد فأرسلوهم إلينا لتخاطبهم ونعلم ضميرهم وحقيقة حالهم فلما كان ليلة الإثنين تاسعه أحضر الوزير إبراهيم بك والأمراء وأعلمهم أن قصده إرسالهم إلى بر الجيزة عند الانجليز ليتفسحوا ذلك اليوم ويخبروهم أنهم مطيعون للسلطان وتحت أوامره وأن المراسلة التي ارسلوها عن طيب قلب امنهم وليسوا مكرهين في ذلك فأظهر إبراهيم بك القنع عن الذهاب وأنه لا غرض له في الذهاب إلى مخالفين الدين فجزم عليه ووعده خيرا وعاهدهم وحلفهم فنزلوا وركبوا من عنده في الصباح وما صدقوا بالخلاص وعدوا إلى الجيزة وذهبوا إلى عند الانجليز فتبعهم أتباعهم ومماليكهم يرمحون إليهم ويلقحون بهم فأقاموا هناك ولم يرجعوا فانتظر الوزير رجوعهم خمسة أيام وأرسل إليهم يدعوهم إلى الرجوع حكم عهدهم فامتنع إبراهيم بك وتكلم بما في ضميره من قهره(2/505)
من الوزير وخبانته له.
وفي يوم السبت عملوا جمعية ببيت الشيخ السادات واجتمع المشايخ والوجاقلية وذلك بأمر من الوزير وأرسل إليهم مكاتبة وفي ضمنها النصيحة والرجوع إلى الطاعة فأرسلوا في جواب الرسالة يقولون أنهم ليسوا مخالفين ولا عاصين وأنهم مطيعون لأمر الدولة وإنما تاخرهم بسبب خوفهم وخصوصا ما وقع لاخوانهم باسكندرية وأنهم لم يذهبوا إلى عند الانجليز لعلمهم أنهم عسكر السلطان ومن المساعدين له على أعدائه ومتى ظهر لهم أمر يرتاحون فيه رجعوا إلى الطاعة ونحو ذلك من الكلام.
وفي يوم الجمعة سابع عشرينه حضر عابدي بك نسيب مولانا الوزير فخرج إليه غالب أعيان العثمانية والجاويشية وطاهر باشا وعسكر الارنؤد وتلقوه ودخل بحموله في موكب جليل وكان حضرة الوزير حاصلا عنده توعك وغالب أوقاته محتجب عن ملاقاة الناس.
وفيه ورد الخبر بسفر قبطان باشا من ساحل أبي قير إلى الديار الرومية في منتصف الشهر وأما محمد باشا الوالي على مصر فإنه لم يزل مقيما بأبي قير وحضر خازنداره وسكن ببيت البكري بالازبكية.
واستهل شهر شعبان بيوم الثلاثاء سنة 1216.
فيه حضر يوسف أفندي وبيده مرسوم بولايته على نقابة الأشراف فبات ببولاق وأرسل ناسا يعلمون بحضوره فلم يخرج لملاقاته أجد ثم أن بعض الناس أحضر إليه فرسا فركبه في ثاني يوم وحضر إلى مصر وأشاع أنه متولى نقابة الأشراف ومشيخة المدارس الحبانية وخبر ذلك الإنسان أنه كان يبيع الخردة واليميش بحانوت بخان الخليلي وهو من متصوفة الأتراك الذي يتعاطون الوعظ والاقراء باللغة التركية فمات شيخ رواق الاروام بالأزهر فاشتاقت نفسه للمشيخة عل الرواق المذكور فتولاها بمعونة بعض سفهائهم فنقم عليه الطائفة أمورا واختلاسات من الوقف(2/506)
فتعصبوا عليه وعزلوه وولوا السيد حسين أفندي المولى الآن فحنق من ذلك وداخله قهر عظيم وحقد على حسين أفندي المذكور واضمر له في نفسه المكروه فدعاه يوما إلى داره ودس له سما في شرابه فنجاه الله من ذلك وشربت ابنة يوسف أفندي الداعي تلك الكاسة المسمومة غلطا وماتت وشاع ذلك وتواترت حكايته بين الناس ورجع كيده عليه وذاق وبال أمره.
ثم أنه سافر إلى اسلامبول وأقام هناك مدة إقامة الفرنسيس بمصر ولم يزل يتحيل ويتداخل في بعض حواشي الدولة وعرض بطلب النقابة ومشيخة الحبانية فاعطوه ذلك لعدم علمهم بشأنه وظنهم أنه أهل لذلك بقوله لهم أنه كان شيخا على الأزهر ومعرفته بالعلم فلما حصل بمصر وظهر أمره تجمعت أعيان الأشراف وقالوا لا يكون هذا حاكما ولا نقيبا علينا أبدا تنوقل خبره وظهر حاله لاكابر الدولة وحضرة الصدر الأعظم فلم يصغوا إليه ولم يسعفوه وأهمل أمره وهكذا شأن رؤساء الدولة أدام الله بقاءهم إذا تبين لهم الصواب في قضية لا يعدلون إلى خلافه.
من الحوادث.
أنه تقيد بأبواب القاهرة بعض من نصارى القبط ومعهم بعض من العسكر فصاروا يأخذون دراهم من كل من وجدوا معه شيأ سواء كان داخلا أو خارجا بحسب اجتهادهم وكذلك ما يجلب من الارياف وزاد تعديهم فعم الضرر وعظم الخطب وغلت الأسعار وكل من ورد بشيء يبيعه يشتط في ثمنه ويحتج بأنه دفع عليه كذا وكذا من دراهم المكس فلا يسع المشتري إلا التسليم لقوله والتصديق له وقبول عذره والسبب في ذلك أن الذين تقيدوا بديوان العشور بساحل بولاق دس عليهم بعض المتقيدين معهم من الاقباط بأن كثيرا من المتاجر التي يؤخذ عليها العشور يذهب بها أربابها من طريق البر ويدخلون بها في أوقات الغفلة تحاشيا عن دفع ما عليها وبذلك لا يجتمع المال المقرر بالديوان فيلزم أن(2/507)
يتقيد بكل باب من يترقب لذلك ويرصده ويأخذ ما يخص الديوان من ذلك فأذن كبراء الديوان بذلك فانفتح لهم بذلك الباب فولجوه ولم يحسبوا للعاقبة من حساب وزادوا في الجور والفضائح وأظهروا ما في نفوسهم من القبائح فساءت الظنون واستغاثت المستغيثون وأكثر سخاف الاحلام مما لا طائل تحته من الكلام إلى أن زاد التشكي وأنهى الأمر إلى الوزير فأمر بأبطال ذلك وانجلت تلك الغمة.
وفيه أيضا عرض طائفة القبانية وتشكوا مما رتب عليهم من الجمرك السنوي فأطلق لهم الأمر برفعه عنهم.
وفيه قبضوا على رجل من المفسدين باقليم الموفية يقال له راضي النجار وأحضروه إلى مصر وقطعت رأسه بالرميلة.
وفي خمسه نزل محمد باشا توسون والي جدة من القلعة في موكب وتوجه إلى العادلية قاصدا السفر إلى جدة.
وفي يوم الأربعاء تاسعه قبضوا على ثلاثة من النصارى الاروام المتزيين بزي العساكر الانكشارية ويعملون القبائح بالرعية فرموا رقابهم احدهم بالدرب الاحمر والثاني بسوق السلاح عند الرفاعي والثالث بالرميلة.
وفي يوم الخميس عاشره أيضا قطعوا رأس على جلبي تابع حسين أغاشنن بباب الخرق بين المفارق بأمر من الوزير والسبب في ذلك أن المرحوم يوسف باشا المذكور الكبير المتوفي بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام كان أودع عند حسين أغاشنن وديعة فلما ملك الفرنسيس مصر وجرى ما جرى من ورود العرضي والصلح ونقضه فاعتقد قصار العقول أن الأمر انتهى للفرنسيس فتجاوزوا الحد وأغروا ببعضهم وتتبعوا العورات وكشفوا عن المستورات ودلوا الفرنسيس على المخبآت وتقربوا إليهم بكل ما وصلت إليه همتهم وراجت به سلعتهم والمسكين المقتول مديدة إلى بعض ودائع سيده فاختلس منها وتوسع في نفسه(2/508)
وركب الخيول واتخذ له خدما وتداخل مع الفرنسيس وحواشيهم فاستخفوا عقله فاستفسروا منه فأخبرهم بالوقائع والخبايا فاستخرجوها ونقلوها وكانت شيأ كثيرا جدا وأظهر أن ذلك لم يكن بواسطته ليواري ما اختلسه لنفسه ويكون له عذر في ذلك فلما حضر له سيده صحبة العرضي ذهب إليه وتملق له وربط في رقبته منديلا فاهمل أمره إلى هذاالوقت حتى اطمأن خاطره ثم إنه أخبر بقصته الوزير لعلمه أنه سيطالب بوديعة يوسف باشا فأمره بأن يرفع قصته إلى القاضي ويثبت تلك الدعوى لتبرأ ساحته عند الدولة ففعل ثم أمر الوزير بقتل علي جلبي المذكور فقتل وترك من ميا ثلاثة أيام بلياليها.
شهر رمضان المعظم سنة 1216 استهل بيوم الأربعاء ولم يعمل فيه شنك الرؤيا على العادة خوفا من عربدة العساكر والمحتسب كان غائبا فركب كتخداه بدلا عنه بموكبه فقط ولم يركب معه مشايخ الحرف فذهب إلى المحكمة وثبت الهلال تلك الليلة ونودى بالصوم من الغد.
وفيه أمر الوزير محمد باشا العربي بالسفر إلى البلاد الشامية فبرز خيامه إلى خارج باب النصر وخرج هو في ثالثه وسافر وأشيع سفر الوزير أيضا وذلك بعد أن حضرت أجوبة من الباب الأعلى.
وفي ثالثه ارتحل محمد باشا المذكور.
وفي خامسه انتقل رئيس أفندي من بيت الألفي وسكن في بيت إسمعيل بك وشرعوا في تعميره واصلاحه لسكن والي مصر.
وفي ثاني عشره وصل محمد باشا والي مصر إلى شلقان.
وفي ثالث عشره ضربت عدة مدافع من الجيزة صباحا ومساء فقيل أنه حضر ستة قناصل إلى الجيزة.
وفي خامس عشره حضر القناصل المذكورون إلى بيت الوزير وقابلوه فخلع عليهم خلعا ورجعوا إلى أماكنهم في الجيزة وفي ذلك اليوم وصل محمد باشا والي مصر إلى جهة بولاق ونصب(2/509)
وطافه بالقرب من المكان المعروف بالحلي ثم انتقل إلى جهة قبة النصر فلما كان يوم الجمعة سابع عشره وصل إلى المدينه من باب النصر في موكبه وطوائفه على غير الهيئة المعتادة ولم يلبس الطلخان تادبا مع الوزير لحصوله بمصر فتوجه إلى بيت الوزير وأفطر معه.
وفي تلك الليلة عزل خليل أفندي الرجائي من دفتردارية الدولة وقلد عوضه حسن أفندي باش محاسب وسببه أن الوزير طلب خلعا ليخلعها على والي مصر وقناصل الانكليز فتأخر حضورها فخنق وسأل عن سبب تأخير المطلوب فقال الرسول أن الخازندار قال حتى استاذن الدفتردار فحنق الوزير وأمر بحبس الخازندار وعزل الدفتردار وهرب السفير الذي كان بينهما.
وفيه انتقل الأمراء المصرلية المرادية من الجيزة إلى جزيرة الذهب ونصبوا وطاقهم بها وأرسلوا ما كان عندهم من الحريم إلى دورهم بمصر واستمر إبراهيم بك وعثمان بك الحسيني ومحمد بك المبدول وقاسم بك أبو سيف بالجيزة ولم يعلم حقيقة حالهم ثم في ثاني يوم لحق إبراهيم بك وباقي الجماعة بالآخرين وخرج إليهم طلبهم ومتاعهم وأغراضهم فلما كان ليلة الإثنين تاسع عشره ركبوا ليلا باجمعهم إلى الصعيد من الجهة الغربية وتخلف عنهم قاسم بك أبو سيف لمرضه وكذلك تخلف عنهم محمد آغا آغات المتفرقة وآخرون.
وفي عشرينه نودي بالأمان على المماليك واتباعهم ومن تخلف عنهم أو انقطع منهم وكذلك في ثاني يوم.
وفيه قلد محمد باشا والي مصر حسن أغا وألبسه على جرحا.
وفي ثامن عشرينه عزل الباشا محمد أغا المعروف بالزربة من الكتخدائية وهو من المصرلية وولاه كشوفية الغربية وتقلد عوضه في الكتخدائية يوسف أغا امين الضربخانة سابقا وتقلد كشوفية المنوفية وتقلد كشوفية القليوبية(2/510)
وفي ليلة الأربعاء تاسع عشرينه ذهب يوسف أفندي إلى عند والي مصر فقلده نقابة الأشراف وألبسه فروة بعد أن كان اهمل أمره.
وفيه عزل أغات الانكشارية وتولى آخر عوضه من العثمانية ونزل المعزول إلى بولاق ليسافر إلى جهة الصعيد.
شهر شوال سنة 1216.
استهل بيوم الخميس في ثالثه يوم السبت خرج جاليش الوزير إلى قبة النصر ونودى بخروج العساكر ويكون آخر خروجهم يوم الإثنين فشرعوا في الخروج بأحمالهم ودوابهم فلما كان يوم الإثنين خامسه خرج الوزير على حين غفلة إلى قبة النصر وتتابع خروج الاثقال والأحمال والعساكر وحصل منهم في الناس عربدة وأذية وأخذ بعضهم من عطارين القصر ثلاثة ارطال بن ثمنها مائة وعشرون نصفا فرمى له عشرين نصفا فصرح الرجل وقال اعطني حقي فضربه وقتله فأغلق الناس الحوانيت وانكفوا في دورهم فاستمرت جميع حوانيت البلدة مغلوقة حتى سافرت العساكر وانتقلت من قبة النصر ولازم حضرة محمد باشا والي مصر وطاهر باشا على المرور والطواف بالشوارع بالتبديل وثياب التخفيف ليلا ونهارا ولولا ذلك لحصل من العسكر ما لا خير فيه.
وفيه كتبت فرمانات والصقت بالشوارع ومفارق الطرق مضمونها بأن لا أجد يتعرض بأذية لغيره وكل من كان له دعوى أو شكية فليرفع قصته إلى الباشا وكل إنسان يمشي في زيه وقانونه القديم ويلازموا على الصلوات بالجماعة في المساجد ويوقدوا قناديل ليلا على البيوت والمساجد والوكائل والخانات التي بالشوارع ولا يمر أجد من العسكر من بعد الغروب والذي يمشي بعد الغروب من أهل البلد يكون معه فانوس أو سراج ويبيعون ويشترون بالحظ والمصلحة ولا أجد يخفي عنده أجد من عسكر العرضي والذي يبقى منهم بيده يعاقب وأن القهاوى المحدثة جميعها تغلق ولا يفتح إلا القهاوي القديمة الكبار ولا يبيت أحد(2/511)
من العسكر في قهوة ولا يبيعون المسكرات ولا يشترونها إلا الكفرة سرا وأمثال ذلك فانبرت القلوب بتلك الفرمانات واسشتبشروا بالعدل.
وفيه خرجت عساكر وسافرت إلى جهة قبلي وعدتهم ستة آلاف وذلك بسبب الأمراء المصرلية الهربانين وقرر لهم بأن من أتى برأس صنجق فله ألف دينار أو كاشف فله ثلثمائة أو جندي أو مملوك فله مائة.
وفي يوم السبت ركب الوزير من قبة النصر وارتحل العرضي إلى الخانكة وعند ركوبه حضر إليه السيد عمر أفندي النقيب وبعض المتعممين لوداعه فأعطاهم صررا وقرؤا له الفاتحة وركب وخرج أيضا في ذلك اليوم بقية المشايخ وذهبوا إلى الخانكة أيضا وودعوه ورجعوا.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره أحضر الباشا محمد أغا الوالي وسليم أغا المحتسب وأمر برمي رقابهما فقطعوا رأس الوالي تحت بيت الباشا على الجسر والمحتسب عند باب الهواء وختم على دورهما في تلك الساعة وشاع خبر ذلك في البلد فارتاع الناس لذلك واستعظموه وداخل الخوف أهل الحرف مثل الجزارين والخبازين وغيرهم وعلقوا اللحم الكثير بحوانيتهم وباعوه بتسعة انصاف بعد أن كانوا يبيعونه باحد عشر مع قلته واحتكاره وكانوا نبهوا عليهم قبل ذلك فلم يستمعوا.
وفي صبحها يوم الثلاثاء قلد علي اغا الشعراوي الزعامة عوضا عن محمد آغا المقتول وزين الفقار كتخدا امين احتساب عوضا عن سليم آغا أرنؤد المقتول أيضا واجتمعوا ببيت القاضي وحضر أرباب الحرف وعملوا قائمة تسعيرة لجميع المبيعات من المأكولات وغيرها فعملوا اللحم الضاني بثمانية انصاف والماعز بسبعة والجاموسي بستة وأن لا يباع فيه شيء من السقط مثل الكبدة والقلب وغير ذلك والسمن المسلى بمائة وثمانين نصفا العشرة أرطال بعد أن كانت بثلثمائة واربعين والزبد العشرة بمائة وستين بعد أن كانت بمائتين واربعين وجميع الخضراوات تباع بالرطل حتى الفجل والليمون والجبن الذي بخيره بثلاثة انصاف بعد عشرة(2/512)
والخبز رطل بنصف فضة وكذلك جميع الاشياء العطرية والاقمشة العشرة أجد عشر والراوية الماء بعشرة انصاف بعد عشرين وغير ذلك ورسموا بأن الرطل في الاوزان مطلقا يكون قباني اثني عشر وقية وابطلوا الرطل الزياتي الذي يوزن به الأدهان والاجبان والخضراوات وهو أربعة عشر وقية فلم يستمر من هذه الاوامر بعد ذلك سوى نقص الارطال ولما برزت هذه الرسوم هرع الناس لشراء اللحم والماكولات حتى فرغ الخبز من الافران وشق المحتسب فقبض على جماعة من الخبازين وخزم آنافهم وعلق فيها الخبز وكذلك الجزارون خزمهم وعلق في آنافهم اللحم وأكثر حضرة الباشا وعظماء أتباعه من التجسس وتبديل الشكل والملبوس والمرور والمشي في الأزقة والأسواق حتى أخافوا الناس وانكف العسكر عن الاذية ولزموا الأدب ومشى كل واحد في طريقته ودربه ومشت النساء كعادتهم في الأسواق لقضاء أشغالهم فلم يتعرض لهم أجد من العسكر كما كانوا يفعلون.
وفي يوم الخميس خامس عشره ارتحل الوزير من بلبيس.
وفي يوم السبت سابع عشره سافر خليل أفندي الرجائي الدفتردار المعزول في البحر من طريق دمياط وانتقل شريف أفندي الدفتردار إلى الدار التي كان بها الأول وهي دار البارودي بباب الخرق.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره كان موكب أمير الحاج عثمان بك وصحبته المحمل على العادة وخرج في أبهة ورونق وانسرت القلوب في ذلك اليوم إلى لقائه ونجز له جميع اللوازم مثل الصرة وعوائد العربان وغير ذلك وكان المتقيد بتشهيل ذلك وبجميع اللوازم حضرة شريف أفندي الدفتردار.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه شنقوا ثلاثة أنفار في جهات مختلفة تزيوا بزي العسكر يقال أنهم من الفرنسيس افتقدوهم من العسكر المتوجه إلى الحج.
وفي ذلك اليوم عمل حضرة الباشا ديوانا وأرسل الجاويشية إلى جميع(2/513)
المشايخ والعلماء وخلع عليهم خلعا سنية زيادة على العادة أكثر من سبعين خلعة وكذلك على الوجاقلية والأفندية وجبر خاطر الجميع وكانت العادة في هذا التلبيس أن يكون عند قدومه والسبب في تأخيره لهذا الوقت تعويق حضور المراكب التي بها تلك الخلع.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه انتقل أمير الحاج بالركب من الحصوة إلى البركة.
وفيه ركب حضرة محمد باشا إلى الإمام الشافعي فزاره وانعم على الخدمة بستين ألف فضة والبسهم خلعا وفرق دنانير ودراهم كثيرة في غير محلها وكذلك يوم الجمعة ركب وتوجه إلى المشهد الحسيني فصلى الجمعة وخلع على الإمام الراتب والخطيب وكبير الخدمة فراوى وفرق دراهم كثيرة في طريقه ورجع من ناحية الجمالية وكان في موكب جليل على الغاية.
وفيه أمر المشار إليه بنصب عدة مشانق عند ابواب المدينة برسم الباعة والمتسببين والخبازين وغيرهم وأكثر أرباب الدرك من المرور والتجسس والتخويف وعلقوا عدة أناس من الباعة على حوانيتهم وخزموهم من آنافهم فرخص السعر وكثرت البضائع اوالمأكولات وحصل الأمن في الطرق وانكفت العربان وقطاع الطريق فحضرت الفلاحون من البلاد وكثر السمن والجبن والأغنام وكبر العيش وكثر وجوده وانحط سعر السمن عن التسعيرة عشرين نصفا لكثرته ولله الحمد وهاب الناس هذا الباشا وخافوه وصاروا يترنمون به في البلاد والارياف ويغنون بذكره حتى الصبيان في الأسواق ويقولون سيدي يا محمد باشا يا صاحب الذهب الأصفر وغير ذلك وكان في مبدأ أمره يظنه الظمآن ماء.
شهر القعدة سنة 1216.
استهل بيوم السبت فيه نهبت العربان قافلة التجار الواصلة من السويس.
وفي ثانيه حضر السيد أحمد الزرو الخليلي التاجر بوكالة الصابون بديوان الباشا وتداعى على جماعة من التجار وثبت له عليهم عشرة آلاف(2/514)
ريال فأمر الباشا بسجنهم.
وفي رابعه يوم الثلاثاء حضر السيد أحمد المذكور إلى بيت الباشا فأمر بقتله فقبض عليه جماعة من العسكر وقطعوا رأسه عند المشنقة حيث قنطرة المغربي على قارعة الطريق وختموا على موجوده وأخذ الباشا ما ثبت له على المحبوسين والسبب في ذلك بعضهم أوشى إلى الباشا أنه كان بحب الفرنسيس ويميل إليهم ويسالمهم وعند خروجهم هرب إلى الطور خوفا من العثمانية ثم حضر بأمان من الوزير.
وفي يوم الجمعة حضر المشار إليه إلى الجامع الأزهر بالموكب فصلى به الجمعة وخلع على الخطسب فروة سمور وفرق ونثر دراهم ودنانير على الناس في ذهابه وايابه وتقيد قبي كتخداه وأسمعيل أفندي شقبون بتوزيع دراهم على الطلبة والمجاورين بالاروقة والعميان والفقراء ففرقوا فيهم نحو خمسة أكياس.
وفيه عمل الشيخ عبد الله الشرقاوي وليمة لزواج ابنه ودعا حضرة المشار إليه فحضر في يوم الأحد ثانيه وحضر أيضا شريف أفندي وعثمان كتخدا الدولة فتغدوا عنده وأنعم على ولد الشيخ بخمسة اكياس رومية والبسه فروة سمور وفرق على الخدم والفراشين والقراء دنانير ودراهيم بكثرة وكذلك دفع عثمان كتخدا وشريف أفندي كل واحد منهم كيسا وانصرفوا.
وفي يوم الأربعاء خامسه حضر الباشا محمد أغات المعروف بالوسيع اغات المغاربة وأمر بقتله فقطعوا رأسه على الجسر ببركة الأزبكية قبالة بيت الباشا لأمور نقمها عليه وكتبت في ورقة وضعت عند رأسه.
وفي يوم الخميس سادسه توفي قاسم بك أبو سيف على فراشه.
وفي منتصفه وردت الأخبار من الجهة البحرية بضياع نحو الخمسين مركبا حلت مراسيها من ثغر اسكندرية مشحونة بمتاجر وبضائع وكانت معوقة بكرنتينة الانكليز فلما اذنوا لهم بالسراح فما صدقوا بذلك فصادفتهم فرتونة خرجت عليهم فضاعوا بأجمعهم ولا حول ولا قوة إلا(2/515)
بالله العلي العظيم.
وفيه طلب الباشا المشايخ وتكلم معهم في شأن الشيخ خليل البكري وعزله عن وظيفته وسال رايهم في ذلك فقالوا له الرأي لحضرتكم فقال أن الشيخ خليلا لا يصلح لسجادة الصديق واريد عزله عنها من غير ضرر عليه بل اعطيه اقطاعا لنفقته والقصد أن تروا رايكم فيمن يصلح لذلك ومن يستحق فطلبوا المهلة إلى غد وانحط الرأي بعد اختلاف كبير على تقليد ذلك لمحمد سعد من أولاد جلال الدين فلما حضروا في اليوم الثاني أخبروه بذلك وأنه يستحقها إلا أنه فقير فقال أن الفقر ليس بعيب فأحضروه وألبسه فروة سمور واركبه فرسا بعباءة مزركشة وأنعم عليه بثمانين ألف درهم وكان من الفقراء المحتاجين للدرهم الفرد ولما ذهب للسلام على الشيخ السادات خلع أيضا فروة سمور عليه.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه توفي إلى رحمة الله الشيخ مصطفى الصاوي الشافعي وكان عالما نجيبا وشاعرا لبيبا وقد ناهز الستين.
وفيه جهزت عدة من العسكر إلى قبلي.
وفيه نودي بأن خراج الفدان مائة وعشرون نصفا وكذلك نودي برفع عوائد القاضي والأفندي التي كانت تؤخذ على اثبات الجامكية والجراية والرفق بعوائد تقاسيط الالتزام والاقطاع وكتبوا بذلك أوراقا وألصقت بالأسواق وفي آخرها لا ظلم اليوم أي مما تقرر قبل اليوم فإن الفدان بلغ في بعض القرى بمصاريفه ومغارمه أربعة آلاف نصف فضة وأما بدعة القاضي وعوائد التقاسيط فزادت عن أيام الوزير وزاد على ذلك إهمال الأوراق ببيت الباشا لأجل العلامة شهرين وأربعة حتى يسام صاحبها وتحفى أقدامه من كثرة الذهاب والمجيء ومقاساة الذل من الخدم والاتباع ورفع التفتيش والرشوة على التعجيل أو يتركها وربما ضاعت بعد طول المدة فيحتاج إلى استئناف العمل(2/516)
شهر ذي الحجة الحرام سنة 1216.
استهل بيوم الأحد في رابعه حضر خمسة أشخاص من الكشاف القبالي من اتباع إبراهيم بك الوالي إلى مصر بامان فقابلوا حضرة والي مصر وأنعم عليهم وألبسهم خلعا.
وفيه أنعم على خدامهم وفيه عمل الانكليز كرنتينة بالجيزة ومنعوا من يدخلها ومن يخرج منها وذلك لتوهم وقوع لطاعون وورود الأخبار بكثرته في جهة قبلي وبعض البلاد البحرية وأما المدينة ففيها بعض تنقير.
وفي يوم الإثنين تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة وعملوا في ذلك اليوم شنكا ومدافع وحضرت أغنام وعجول كثيرة للاضحية حتى امتلأت منها الطرقات وازدحمت الناس وافراد العسكر على الشراء وغيمت السماء في ذلك اليوم وأمطرت مطرا كثيرا حتى توحلت الأزقة ونودي بفتح الحوانيت والقهاوي والمزينين ليلا واظهار الفرح والسرور واظهار بهجة العيد واستمر ضرب المدافع في الأوقات الخمسة ونودي أيضا بالمواظبة على الاجتماع للصلوات في المساجد وحضور الجمعة من قبل الصلاة بنصف ساعة وأن يسقوا العطاش من الأسبلة ولا يبيعون ماءها وأشيع سفر الانكليز وسفر عثمان كتخدا الدولة وتشهيل الخزينة.
وفي خامس عشره حضر قاصد من الديار الرومية بمكاتبات وتقرير نقابة الأشراف للسيد عمر وعزل يوسف أفندي فلما كان في صبحها يوم الأحد ركب السيد عمر المذكور وتوجه إلى عند الباشا فألبسه خلعة سمور ثم حضر إلى عند الدفتردار كذلك وكانت مدة ولاية يوسف أفندي المعزول شهرين ونصفا.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره خرج أحمد آغا خورشيد أمير الأسكندرية إلى بولاق قاصدا السفر إلى منصبه وركب الباشا لوداعه في عصريته وضربوا عدة مدافع من بولاق وبرانبابة ونودي في ذلك اليوم بأن لا أجد يواري أحدا من الانكليز أو يخبيه وكل من فعل ذلك عوقب(2/517)
وفي خامس عشرينه قبضوا على امراة سرقت امتعة من حمام وشنقوها عند باب زويله وانقضت هذه السنة وما تجدد بها من الحوادث التي من جملتها أن شريف أفندي الدفتردار أحدث على الرزق الاحباسية المرصدة على الخيرات والمساجد وغيرها مال حماية على كل فدان عشرة أنصاف فضة وأقل وأكثر في جميع الأراضي المصرية القبلية والبحرية وحرروا بذلك دفاتر فكل من كان تحت يده شيء من ذلك قل أو كثر يكتب له عرضحال ويذهب به إلى ديوان الدفتردار فيعلم عليه علامته وهي قوله قيد بمعنى أنه يطلب قيوده من محله التي تثبت دعواه ثم يذهب بذلك العرضحال إلى كاتب الرزق فيكشف عليها في الدفاتر المختصة بالاقليم الذي فيه الارصاد بموجب الاذن بتلك العلامة فيكتب له ذلك تحتها بعد أن يأخذ منه دراهم ويطيب خاطره بحسب كثرة الطين وقلته وحال الطالب ويكتب تحته علامته فيرجع به إلى الدفتردار فيكتب تحته علامة غير الأولى فيذهب به إلى كاتب الميري فيطالبه حينئذ بسنداته وحجج تصرفه ومن أين وصل إليه ذلك فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركي لثبوت ذلك وإلا نعنت على الطالب بضروب من العلل وكلفة بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله فما يسع ذلك الشخص إلا بذل همته في تتميم غرضه بأي وجه كان أما أن يستدين أو يبيع ثيابه ويدفع ما لزمه فإن ترك ذلك وأهمله بعد اطلاعهم عليه حلوه عنه ورفعوه وكتبوه لمن يدفع حلوانه ثلاث سنوات أو أكثر وكتبوا له سندا جديدا يكون هو المعول عليه بعد ويقيد بالدفاتر ويبطل اسم الأول وما بيده من الوقفيات والحجج والأفراجات القديمة ولو كانت عن اسلافه ثم يرجع كذلك إلى الدفتردار فيكتب له علامة لكتابة الأعلام فيذهب به إلى الأعلامجي فيكتب له عبارة أيضا في معنى ما تقدم ويختم تحتها بختم كبير فيه اسم الدفتردار ويأخذ على ذلك دراهم أيضا وبعد ذلك يرجع إلى الدفتردار فيقرر ما يقرره عليها من المال الذي يقال له مال الحماية ثم(2/518)
يذهب بها إلى بيت الباشا ليصحح عليها بعلامته ويطول عند ذلك انتظاره لذلك ويتفق اهمالها الشهرين والثلاثة عند الفرمانجي وصاحبها يغدو ويروح في كل يوم حتى تحفى قدماه ولا يسهل به تركها بعدما قاساه من التعب وصرفه من الدراهم فإذا تمت علامتها دفع أيضا المعتاد الذي على ذلك ورجع بها إلى بيت الدفتردار فعند ذلك يطلبون منه ما تقرر عليها فيدفعه عن تلك السنة ثم يكتبون له سندا جديدا ويطالب بمصروفه أيضا وهو شيء له صورة أيضا فلا يجد بدا من دفعه ولا يزال كذلك يغدو ويروح مدة أيام حتى يتم له المراد.
ومنها المعروف بالجامكية ومرتبات الغلال بالانبار وذلك أن من جملة الأسباب في رواج حال أهل مصر المتوسطين وغناهم ومدار حال معاشهم وايرادهم في السابق هذان الشيآن وهما الجامكية والغلال التي يقال لها: الجرايات رتبها الملوك السالفة من الأموال الميرية للعساكر المنتسبة للوجاقات والمرابطين بالقلاع الكائنة حوالي الإقليم ومنها ما هو للايتام والمشايخ والمتقاعدين ونحوهم وكانت من ارواج الإيراد لأهل مصر وخصوصا أهل الطبقة الذين ليس لهم اقطاع ولا زراعات ولا تجارات كأهل العلم ومساتير أولاد البلد والارامل ونحوهم وثبت وتقرر ايرادها وصرفها في كل ثلاثة أشهر من أول القرن العاشر إلى أواخر الثاني عشر بحيث تقرر في الأذهان عدم اختلالها أصلا ولما صارت بهذه المثابة تناقلوها بالبيع والشراء والفراغ وتغالوا في أثمانها ورغبوا فيها وخصوصا لسلامتها من عوارض الهدم والبناء كما في العقار واوقفوها وأرصدوها ورتبوها عل جهات الخيرات والصهاريج والمكاتب ومصالح المساجد ونفقات أهل الحرمين وبين أهل المقدس وأفتى العلماء بصحة وقفها لعلة عدم تطرق الخلل فلما اختلت الأحوال وحدثت الفتن وطمع الحكام والولاة في الأموال الميرية ضعف شأنها ورخص سعرها وانحط قدرها وافتقر أربابها ولم تزل في الانحطاط والتسفل حتى بيع الأصل والايراد بالغين الفاحش جدا(2/519)
وتعطل بسبب ذلك متعلقاتها ولم يزل حالها في اضطراب إلى أن وصل هؤلاء القادمون وجلس شريف أفندي الدفتردار المذكور ورأى الناس فيه مخايل الخير لما شاهدوه فيه من البشاشة واظهار الرفق والمكارم غرض الناس عليه شأن العلوفة المذكورة والغلال فلم يمانع في ذلك وكتب الإذن على الأوراق كعادته وذهب بها أربابها إلى ديوان الكتبة وكبيرهم ويسمى حسن أفندي باش محاسب وهو من العثمانيين عارض في حسابها وقال: إن العثماني اسم لواحد الاقجة وصرفه عندنا بالروم كل ثلاث أقجات بنصف فضة وما في دفاتركم يزيد في الحساب الثلث فعورض وقيل له أن الاقجة المصري كل اثنين بنصف بخلاف اصطلاح الروم وهذا أمر تداولنا عليه من قديم الزمان ولم يزل حتى فقد ذلك المشروع ومشوا على فقد الثلاث ورضى الناس بذل لظنهم رواج الباقي وعند استقرار الأمر بذلك أخذوا يتعنتون على الناس في الثبوت وقد كان الناس اصطلحوا في اكثرها عند فراغها على عدم تغيير الأسماء التي رقمت بها وخصوصا بعد ضعفها فيبيعها البائع ويأخذها المشتري بتمسك البيع فقط ويترك سند الأصل بما فيه من الأسم القديم عنده أو تكون باسم الشخص ويموت وتبقى عند أولاده فجعلوا معظمها بهذه الصورة وأخذوه لأنفسهم وأعطوا منه لاغراضهم بعد رفع الثلث الأصل وثلث الايراد وضاعت على أربابها مع كونهم فقراء وكذلك فعلوا في أوراق الغلال وجعلوها بدراهم عن كل اردب خمسون نصفا غلا أو رخص وزادوا في القيود التي تكتب على العرضحالات المصطلحين عليها بأن يكتب عليها أيضا قاضي العسكر بعد حسابهم مقدار العلوفة والغلال ويأخذ على كل عثماني نصفين أو أقل أو أكثر وعلى كل اردب قرشا روميا وكل ذلك حيلة على أخذ المال بطريق شيطاني وحرروا ما حرروه ودفعوا للناس حيلة ما دفعوه حرروه ودفعوا للناس ما دفعوه مقسطا على الجمع والشهور ورضوا بذلك وفرحوا به لظنهم دوامة واستعوضوا الله فيما ذهب لهم وختموا الدفتر على مقدرا ما(2/520)
عرض عليهم وما ظهر بعد ذلك لا يعمل به ويذهب في المحلول ولما انقضت هذه السنة الاخرى وافتتح الناس الطلب قيل لهم أن الذي اخذتموه هو عن السنة القابلة وقد قبضتموها معجلة وعزل شريف أفندي الدفترادر في أثرها ووصل خليل أفندي الرجائي واضطربت الأحوال ولم ينفع القيل والقال كما يأتي.
من مات في هذه السنة 1216.
مات الشيخ العمدة الإمام خاتمة العلماء الأعلام ومسك ختام الجهابذة ذوي الافهام ومن افتخر به عصره على الأعصار وصاح بلبل فصاحته في الأمصار يتيمة الدهر وشامة وجه أهل العصر العالم المحقق والتحرير المدقق بديع الزمان والتاج المرصع على رؤوس الأقران الناظم الناثر الفصيح الباهر الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي والده كان من أعيان التجار بمصر وأصل مرباهم بالسويس بساحل القلزم وصاوى نسبة إلى بلدة بشرقية بلبيس سمى الصوة وهي على غير القياس وهي بلدة والده ثم انتقل منها إلى السويس وكان يبيع بها الماء وولد له بها المترجم فارتحل به إلى مصر وسكن بحارة الحسينية مدة وأتى بولده المترجم إلى الجامع الأزهر واشتغل بالقراءة فحفظ القرآن والمتون واشتغل بالعلم وحضر دروس الاشياخ ولازم الشيخ عيسى البراوي وتخرج به ومهر وأنجب وأقرأ الدروس وختم الختوم وشهد له الفضلاء وكان لطيف الذات مليح الصفات رقيق حواشي الطبع مشارا إليه في الأفراد والجمع مهذب الاخلاق جميل الأعراق وحاله وفضله كثير ولم يزل يقرر ويفيد ويملي ويعيد حتى قطفت يد الأجل نواره واطفأت رياح المنية أنواره.
ومات الأمير عثمان بك الأسقر الإبراهيمي وهو من مماليك إبراهيم بك الكبير الموجود الآن اشتراه ورباه واعتقه وجعله خازنداره مدة ثم قلده الإمارة والصنجقية في سنة 1129 وعرف بالاشقر اشقرته ولما انتقل اسناده إلى بيت سيده محمد بك بعطفة قوصون سكن مكانه بدرب(2/521)
الجماميز وصار له مماليك واتباع وانتظم في عداد الأمراء وخرج مع سيده في الحوادث وتغرب معه في البلاد القبلية وطلع أميرا بالحج في سنة 1210 وعاد في أمن وأمان ولما حصلت حادثة الفرنسيس كان هو مع من كان بالبر الغربي وذهب إلى الصعيد ثم مر من خلف الجبل ولحق بأستاذه ببر الشام ولم يزل حتى رجع مع أستاذه والأمراء بصحبة عرضي الوزير في المرة الثانية ثم سافر مع حسين باشا القبودان فقتل مع من قتل بأبي قير ودفن بالاسكندرية وكان ذا حشمة وسكون وحسن عشرة مع مافيه من الشح.
ومات الأمير عثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي المرادي وهو من مماليك مراد بك اشتراه ورباه ورقاه وقلده الأمارة والصنجقية في سنة 1197 ولما وصل حسن باشا الجزايرلي إلى مصر وخرج مع سيده وباقي الأمراء من مصر على الصورة المتقدمة ووقع بينهم ما وقع من الحروب والمهادنة حضر هو وحسين بك المعروف بشفت وعبد الرحمن بك الإبراهيمي إلى مصر رهائن ولما سافر حسن باشا إلى الروم أخذهم صحبته باغراء إسمعيل بك فأقاموا هناك ثم نفوهم إلى ليميا فاستمروا بها ومات بها حسين بك خشداشه المذكور ثم رجع المترجم وعبد الرحمن بك بعد وقوع الطاعون وموت إسمعيل بك واتباعهما إلى مصر فلم يزالوا حتى حصل ما حصل من ورود الفرنسيس وموت مراد بك في آخريات أيامهم فوقع اختيار المرادية على تأميره عوضا عن سيده باشارة خشداشه محمد بك الألفي وانتقل بعشيرته إلى الجهة البحرية وانضموا إلى عرضي الوزير ووصلوا إلى مصر فكان هو وإبراهيم بك الألفي ثاني اثنين يركبان معا وينزلان معا ولم يزل حتى سافر القبودان بعدما مكر مكره مع الوزير سرا على خيانة المصريين فأرسل يستدعيه هو وعثمان بك البرديسي فسافرا امتثالا للامر فأوقع بهما ما تقدم وقتل المترجم ونجا البرديسي ودفن بالاسكندرية وكان أمير لا بأس به وجيه الشكل عظيم اللحية ساكن(2/522)
الجأش فيه تؤدة وعقل وسبب تلقبه بالطنبرجي أنه كان في عنفوان أمره مولعا بسماع الآلات وضرب الطنبور.
ومات الأمير مراد بك المعروف بالصغير وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب وانتمى إلى سليمان بك الآغا واستمر ملازما له ومنسوبا إليه مدة أعوام وكان يعرف بمراد كاشف وله ايراد واسع ومماليك ثم تقلد الأمارة والصنجقية في 1206 فزادت وجاهته ولم يزل كذلك حتى سافر مع عثمان بك الأشقر وأحمد بك الحسني مع القبودان وقتل كذلك بأبي قير ودفن بالاسكندرية.
ومات الأمير قاسم بك أبو سيف وهو مملوك عثمان بك أبي سيف الذي سافر بالخزينة ومات بالروم وذلك سنة 1180 وهي آخر خزينة رأيناها سافرت إلى اسلامبول على الوضع القديم وعثمان بك هذا مملوك عثمان بك أبي سيف الذي كان من جملة القاتلين لعلي بك الدمياطي وخليل بك قطامش ومحمد بك قطامش في ولاية راغب باشا كما تقدم وخدم المترجم مراد بك وكان يعرف بقاسم كاشف أبي سيف وكان له اقطاع والتزام وايراد واشتهر ذكره في أيام مراد بك وبني داره التي بالناصرية وانفق عليها أموالا جمة وكان له ملكة وفكرة في هندسة البناء واستأجر قطعة عظيمة من أراضي البركة الناصرية اتجاه داره من وقف المولوية وسورها بالبناء وبنى في داخلها قصرا مزخرفا برحبة متسعة وقسم تلك الأرض بتقاسيم للمزارع وحولها طرق ممهدة مستطيلة ومجار للمياه التي تصل إليها أيام النيل ومجار أخرى عالية مبنية بالمؤن والخافقي من داخلها تجري فيها المياه من السواقي ويحيط بذلك جمعية اشجار الصفصاف المتدانية القطاف وبداخل تلك البركة المنقسمة النخيل والاشجار ومزارع المقاثىء والبرسيم والغلة وغيرها يسرح فيها النظر من سائر جهاتها وتنشرح النفوس في ارجائها ومساحاتها وجعل السواقي في ناحية تجتمع مياهها في حوض وبأسفله أنابيب تتدفق منها المياه إلى حوض اسفل منه وعنده(2/523)
مجلس ومساطب للجلوس وتجرى منه المياه إلى المجارى المخفقة المرتفعة ومنها تنصب من مصبات من حجر إلى أحواض أسفل منها صغار وتجرى إلى مساقي المزارع وعند كل مصب منها محل للجلوس وعليه اشجار تظله وبوسطه أيضا ساقية بفوهتين تجري منها المياه أيضا والقصر يشرف على ذلك كله وحول رحبة القصر وطرق الممشاة كروم العنب والتكاعيب واباح للناس الدخول إليها والتنزه في رياضها والتفسح في غياضها والسروح في خلالها والتفيؤ في ظلالها وسماها حديقة الصفصاف والاس لمن يريد الحظو والائتناس ونقش ذلك في لوح من الرخام وسمرة في أصل شجرة يقرؤها الداخلون إليها فأقبل الناس على الذهاب إليها للنزاهة ووردوا عليها من كل جهة وعملوا فيها قهاوي ومساقي ومفارش واتخاخا يفرشها القهوجية للعامة وقللا واباريق واجتمع بها الخاص والعام وصار بها مغان وآلات وغواني ومطربات والكل يرى بعضهم بعضا وجعل بها كراسي للجلوس وكنيفات لقضاء الحاجة وجعل للقصر فرشا ومساند ولوازم ومخادع لنفسه ولمن يأتي إليه بقصد النزاهة من أعيان الأمراء والآكابر فيبيتون به الليالي ولا يحتاجون لسوى الطعام فيأتي إليهم من دورهم وزاد بها الحال حتى امتنع من الدخول إليها أهل الحياء والحشمة وأنشأ تجاهها أيضا على يسار السالك إلى طريق الخلاء بستانا آخر علىخلاف وضعها واخبرني المترجم أيضا من لفظه أنه انشأ بستانا بناحية قبلي اعجب وأغرب من ذلك ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر وخرج منها أمراؤها تخلف المترجم عن مخدومه واستقر بمصر فقلدوه الأمارة والصنجقية في سنة 1201 فعظمت امرته وزادت شهرته وتقلد امارة الحج مرتين ولما أوقع العثمانية بالامراء المصرلية ما أوقعوه وانفصلوا من حبس الوزير وانضموا إلى الانكليز بالجيزة ثم انتقلوا إلى جزيرة الذهب وارتحلوا منها إلى قبلي تخلف عنهم المترجم لمرض اعتراه وحضر إلى مصر ولازم الفراش ولم يزل حتى مات في يوم الخميس سادس القعدة من السنة(2/524)
وكان يخضب لحيته بالسواد مدة سنين رحمه الله.
ومات إبراهيم كتخدا السناري الأسود وأصله من برابرة نقلة وكان بوابا في مدينة المنصور وفيه نباهة فتداخل في الغز القاطنين هناك مثل الشابوري وغيره بكتابة الرقي وضرب الرمل ونحو ذلك ولبس ثيابا بيضاء ثم تعاشر مع بعضهم وركب فرسا وانتقل إلى الصعيد مع من اختلط بهم وتداخل في اتباع مصطفى بك الكبير ولم يزل حتى اعتشر بالامير المذكور وتعلم اللغة التركية فأستعمله في مراسلاته وقضاياه فنقل فتنة ونميمة بين الأمراء فاراد مراد بك قتله فألتجا إلى حسين بك وخدمه مدة ثم تحيل والتجأ إلى مراد بك وعاشره وأحبه ولازمه في الغربة والاسفار واشتهر ذكره وكثر ماله وصار له التزام وايراد وبنى داره التي بالناصرية وصرف عليها أموالا واشترى المماليك الحسان والسراري البيض وتداخل في القضايا والمهمات العظيمة والأمور الجسيمة وصار من أعظم الأعيان المشار إليهم بمصر ونمى ذكره وعظم شأنه وباشر بنفسه الأمور من غير مشورة الأمراء فكان يحل ما يعقده الأمراء الكبار ولما تحجب مخدومه بقصر الجيزة كان المترجم لسان حاله في الأمر والنهي وبيده مقاليد الاشياء الكلية والجزئية ولا يحجب عن ملاقاة مخدومه في أي وقت شاء فينهى إليه ما يريد تنفيذه بحسب غرضه واتتخذ له اتباعا وخدما يقضون القضايا ويسعون في المهمات ويتوسطون لارباب الحاجات ويصانعهم الناس حتى الأكابر ويسعون إلى دورهم وصاروا من أرباب الوجاهات والثروات ولم يزل ظاهر الأمر نامي الذكر حتى وقعت الحوادث وسافر الفرنانساوية ودخل العثمانية ورجع قبودان باشا إلى أبي قير فأرسل يطلبه في جملة من استدعاهم إليه وقتل مع من قتل ودفن بالاسكندرية.(2/525)
سنة سبع عشرة ومائتين وألف
...
محرم الحرام ابتداء سنة ألف ومائتين وسبع عشره هجرية.
استهل بيوم الإثنين فيه تواترت الأخبار بحصول الصلح العمومي بين القرانات جميعا ورفع الحروب فيما بينهم(2/525)
وفيه ترادفت الأخبار بأمر عبد الوهاب وظهور شأنه من مدة ثلاث سنوات من ناحيةنجد ودخل في عقيدته قبائل من العرب كثيرة وبث دعاته في أقاليم الأرض ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله ويأمر بترك البدع التي ارتكبها الناس ومشوا عليها إلى غير ذلك.
وفيه سافر عثمان كتخدا الدولة إلى الديار الرومية ونزل إلى بولاق وضربوا له عدة مدافع وأخذ صحبته الخزينة وسافر معه مختار أفندي ابن شريف أفندي دفتردار مصر.
وفي هذه الأيام حصلت امطار متتابعة وغيام ورعود وبروق عدة أيام وذلك في اواسط نيسان الرومي.
وفي ذلك اليوم نبهوا على الوجاقات والعساكر بالحضور من الغد إلى الديوان لقبض الجامكية فلما كان في صبحها يوم الثلاثاء نصبوا صيوانا كبيرا ببركة الأزبكية وحضر العساكر الوجاقلية بترتيبهم ونزل الباشا بموكبه إلى ذلك الصيوان وهو لابس على رأسه الطلخان والقعطان الأطلس وهو شعار الوزارة ووضعوا الأكياس وخطفوها على العادة القديمة فكان وقتا مشهودا.
وفي يوم الثلاثاء تاسعه حضر كبير الانكليز من الأسكندرية ونصبوا وطاقهم ببرانبابة فلما كان يوم الأربعاء يوم عاشوراء عدي كبير الانكليز ومعه عدة من أكابرهم فتهيأ لملاقاته الباشا واصطفت العساكر عند بيت الباشا ووصل الانكلز إلى الأزبكية وطلعوا إلى عند الباشا وقابلوه فخلع عليهم وقدم لهم خيلا وهدية ثم نزلوا وركبوا ورجعوا إلى وطاقهم وعند ركوبهم ضربوا لهم عدة مدافع فلم يعجب الباشا ضربها فأمر الطبجية لكونهم لم يضربوها على نسق واحد.
وفيه وردت الأخبار بأن الانكليز أخلوا القلاع بالاسكندرية وسلموها لاحمد بك خورشيد وذلك يوم الإثنين ثامنه وأبطلوا الكرنتينه أيضا وحصل الفرج للناس وانطلق سبيل المسافرين برا وبحرا وأخذ الباشا في(2/526)
الاهتمام بتشهيل الانكليز المسافرين إلى السويس والقصير وما يحتاجون إليه من الجمال والادوات وجميع ما يلزم ولما حضر الانكليز إلى عند الباشا فدعوه إلى الحضور إلى عندهم فوعدهم على يوم الجمعة فلما كان يوم الجمعة ثالث عشره ركب الباشا وصحبته طاهر باشا في نحو الخمسين وعدي إلى الجيزة بعد الظهر ووقفت عساكر الانكليز صفوفا رجالا وركبانا وبأيديهم البنادق والسيوف واظهروا زينتهم وأبهتهم وذلك عندهم من التعظيم للقادم فنزل الباشا ودخل القصر فوجدهم كذلك صفوفا بدهليز القصر ومحل الجلوس فجلس عندهم ساعة زمانية وأهدوا له هدايا وتقادم وعند قيامه ورجوعه ضربوا له عدة مدافع على قدر ما ضرب لهم هو عند حضورهم إليه فلقد أخبرني بعض خواصهم أن الباشا ضرب لهم سبعة عشر مدفعا ولقد عددت ما ضربه الانكليز للباشا فكان كذلك وأخبرني حسين بك وكيل قبطان باشا وكان بصحبة الباشا عند ذهابه إلى الانكليز قال كنا في نحو الخمسين والانكليز في نحو الخمسة آلاف فلو قبضوا علينا في ذلك الوقت لملكوا الإقليم من غير ممانع فسبحان المنجي من المهالك وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظم الأعتبارات والكرامة لدين الإسلام حيث سخر الطائفة الذين هم اعداء للملة هذه الدفع تلك الطائفة ومساعدة المسلمين عليهم وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" فسبحان القادر الفعال واستمرت طائفة كبيرة بالاسكندرية من الانكليز حتى يريد الله.
وفي ذلك اليوم سافرت الملاقاة للحجاج بالوش.
وفيه وصلت مكاتبات من أهل القدس ويافا والخليل يشكون ظلم محمد باشا أبي مرق وأنه احدث عليهم مظالم وتفاريد ويستغيثون برجال الدولة وكذلك عرضوا أمرهم لأحمد باشا الجزار وحضر الكثير من أهل غزة ويافا والخليل والرملة هروبا من المذكور وفي ضمن المكاتبات أنه حفر قبور(2/527)
المسلمين والأشارف والشهداء بيافا ونبشهم ورمى عظامهم وشرع يبنى في تلك الجبانة سورا يتحصن به واذن للنصارى ببناء دير عظيم لهم ومكنهم أيضا من مغارة السيدة مريم بالقدس وأخذ منهم مالا عظيما على ذلك وفعل من امثال هذه الفعال أشياء كثيرة.
وفيه حضر جماعة من العسكر القبالي وصحبتهم أربعة رؤس من المصرلية وفيهم رأس على كاشف أبي دياب وتواترت الأخبار بوقوع معركة بين العثمانية والمصرلية وكانت الغلبة على العثمانية وقتل منهم الكثير وذلك عند ارمنت وراس عصبة المصرلية الألفي وصحبته طائفة من الفرنسيس وتجمع عليهم عدة من عسكر الفرنساوية والعثمانية طمعا في بذلهم وأن عثمان بك حسن انفرد عنهم وأرسل يطلب أمانا ليحضر فأرسلوا له أمانا فحضر إلى باشة الصعيد وخلع عبيه فروة سمور وقدم له خيلا وهدية.
وفيه ورد الخبر بموت محمد باشا توسون والي جدة وكذلك خازنداره وفي يوم السبت رابع عشره شرع الانكليز المتوجهون إلى جهة السويس في تعدية البر الشرقي ونصبوا وطاقهم عند جزيرة بدران وبعضهم جهة العادلية وذهبت طائفة منهم جهة البر الغربي متوجهين إلى القصير واستمروا يعدون عدة أيام ويحضر أكابرهم عند الباشا ويركبون فيرمون لهم مدافع حال ركوبهم إلى أماكنهم.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه عدى حسين بك وكيل القبطان إلى الجيزة وتسلمها من الانكليز وأقام بها وسكن بالقصر.
وفي خامس عشرينه وصل إلى ساحل بولاق اغا وعلى يده مثالات وأوامر وحضر أيضا عساكر رومية فأرسلوا عدة منهم إلى الجيزة فركب ذلك الاغا في موكب من بولاق إلى بيت الباشا فخلع عليه وقدم له تقدمه وضربوا له عدة مدافع.
وفيه حضر ططرى من ناحية قبلي بالأخبار بما حصل بين العثمانية والمصرلية وطلب جبخانة ولوازمها(2/528)
وفيه وصلت الأخبار بأن أحمد باشا أرسل عسكر إلى أبي مرق من البر والبحر فأحاطوا بيافا وقطعوا عنها الجالب واستمروا على حصاره.
وفيه اتخذ الباشا عسكرا من طائفة التكرور الذين يأتون إلى مصر بقصد الحج فعرضهم واختار منهم جملة وطلبوا الخياطين ففصلوا لهم قناطيش قصارا من جوخ احمر والبسة من جوخ ازرق وصدريات وجميعها ضيقة مقمطة مثل ملابس الفرنسيس وعلى رؤوسهم طراطير حمر واعطوهم سلاحا وبنادق وأسكنوهم بقلعة الجامع الظهري خارج الحسينية وجعلوا عليهم كبيرا يركب فرسا ويلبس فروة سمور وجمع الباشا أيضا العبيد السود وأخذهم من أسيادهم بالقهر وجعلهم طائفة مستقلة وألبسهم شبه ما تقدم وأركبهم خيلا وجعلهم فرقتين صغارا وكبارا واختارهم للركوب إذا خرج إلى الخلاء وعليهم كبير يعلمهم هيئة اصطاف الفرنسيس وكيفية أوضاعهم والإشارات بمرش واردبوش وكذلك طلب المماليك وعصب ما وجده منهم من أسيادهم واختص بهم وألبسهم شبه لبس المماليك المصرلية وعمائم شبه البحرية الاروام وبلكات وشراويل وادخل فيهم ما وجده من الفرنسيس وجعل لهم كبيرا أيضا من الفرنسيس يعلمهم الكر والفر والرمي بالبنادق وفي بعض الاحيان يلبسون زرديات وخودا وبأيديهم السيوف المسلولة وسموا ذلك كله النظام الجديد.
واستهل شهر صفر الخير بيوم الأربعاء سنة 1217.
في ثانيه وصل سعيد اغا وكيل دار السعادة وهو فحل اسمر فحضر عند الباشا فقابله وخلع عليه وقدم له تقدمة وضربوا له عدة مدافع أيضا.
وفي يوم الخميس تاسعه عمل الباشا ديوانا وحضر القاضي والعلماء والأعيان وقرأوا خطا شريفا حضر بصحبة وكيل دار السعادة بأنه ناظر أوقاف الحرمين.
وفي يوم الإثنين ثالث عشره قتل الباشا ثلاثة أشخاص من النصارى(2/529)
المشاهير وهم ألطون أبو طاقية وإبراهيم زيدان وبركات معلم الديوان سابقا وفي الحال أرسل الدفتردار فختم على دورهم واملاكهم وشرعوا في نقل ذلك إلى بيت الدفتردار على الجمال ليباع في المزاد فبدأوا باحضار تركة ألطون أبي طاقية فوجد له موجود كثير من ثياب وامتعة ومصاغ وجواهر وغيرها وجوار سود وحبوش وساعات واستمر سوق المزاد في ذلك عدة أيام.
وفيه تواترت الأخبار بأن بونابارته خرج بعمارة كبيرة ليحارب الجزائر وأنه انضم إلى طائفة الفرنسيس الأسبانيول والنامرطان وتفرقوا في البحر وكثر اللغط بسبب ذلك وامتنع سفر المراكب ورجع الانكليز إلى قلاع الأسكندرية واستمرت هذه الإشاعة مدة أيام ثم ظهر عدم صحة هذه الأخبار وأن ذلك من اختلافات الانكليز.
وفي يوم الخميس سابع عشره حضر جاويش وصحبته مكاتبات الحجاج من العقبة وضربوا لحضوره مدافع واخبروا بالأمن والرخاء والراحة ذهابا وايابا ومشوا من الطريق السلطاني وتلقتهم العربان وفرحوا بهم فلما كان يوم الإثنين وصل الحجاج ودخلوا إلى مصر.
وفي صبحها دخل أمير الحج وصحبته المحمل.
وفي يوم الخميس ثالث عشرينه سافر حسين اغا شنن وزين الفقار كتخدا وصحبتهما على كاشف لملاقاة عثمان بك حسن وأخلوا له دار عبد الرحمن كتخدا بحارة عابدين.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه حضر عثمان بك حسن فأرسل إليه الباشا أعيان اتباعه من الاغوات وغيرهم والجنائب فحضر بصحبتهم وقابل حضرة الباشا وخلع عليه خلعة وقدم له تقدمة وذهب إلى الدار التي اعدت له وحضر صحبته صالح بك غيطاء وخلافه من الأمراء البطالين ومعهم نحو المائتين من الغز والمماليك سكن كل من الأمراء والكشاف في(2/530)
مساكن أزواجهم فكانوا يركبون في كل يوم إلى بيت عثمان بك ويذهبون صحبته إلى ديوان الباشا ورتب له خمسة وعشرين كيسا في كل شهر.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1217.
فيه شرعوا في عمل المولد النبوي وعملوا صوارى ووقدة قبالة بيت الباشا وبيت الدفتردار والشيخ البكري ونصبوا خياما في وسط البركة ونودي في يوم الخميس ثامنه بتزيين البلد وفتح الأسواق والحوانيت والسهر بالليل ثلاث ليال أولها صبح يوم الجمعة وآخرها الأحد ليلة المولد الشريف فكان كذلك.
وفي ليلة المولد حضر الباشا إلى بيت الدفتردار باستدعاء وتعشى هناك واحتفل لذلك الدفتردار وعمل له حراقة نفوط وسواريخ حصة من الليل.
وفيه وصلت الأخبار بكثرة عربدة الأمراء القبالى وتجمع عليهم الكثير من غوغاء الخوف والهوارة والعربان ووصلوا إلى غربي اسيوط وخافتهم العساكر العثمانية وداخلهم الرعب منهم وتحصن كل فريق في الجهة التي هو فيها وانكمشوا عن الإقدام عليهم وهابوا لقاءهم مع ما هم عليه من الظلم والفجور والفسق بأهل الريف والعسف بهم وطلبهم الكلف الشاقة والقتل والحرق وذلك هو السبب الداعي لنفور أهل الريف منهم وانضامهم إلى المصرلية ومن جملة افاعيلهم التي ضيقت المنافس واحرجت الصدور حتى اعاظم الدولة حجزهم المراكب ومنعهم السفار حتى تعطلت الأسباب وامتنع حضور الغلال من الجهة القبلية وخلت عرصات الغلة والسواحل من الغلال مع كثرتها في بلاد الصعيد ولولا تشديد الباشا في عدم زيادة سعر الغلة لغلت اسعارها وامر بأن لا يدخلوا إلى الشون والحواصل شيئا من الغلة بل يباع ما يرد على الفقراء حتى يكتفوا وفي كل وقت يرسلون اوراقا وفرمانات إلى العساكر باطلاق المراكب فلا يمتثلون(2/531)
ويحجز الواحد منهم أو الإثنان المركب التي تحمل الألف اردب ويربطونها بساحل الجهة التي هم بها وتستمر كذلك من غير منفعة وربما مرت بهم شرعوا في تسفير عساكر أيضا وسارى عسكرهم طاهر باشا وأخذ في المراكب المشحونة بالغلة فيأخذون منها النواتية والريس يستخدمونه في مركبهم ويأخذ غيرهم المركب فيرمي ما بها من الغلال على بعض السواحل أن لم يجدوا من يشتريه ويأخذون المراكب فيربطونها عندهم وامثال ذلك مما تقصر عنه العبارة ولما تواترت هذه الأخبار عن الأمراء القبالي التشهيل والسفر فلما كان يوم الخميس خامس عشره عدى إلى البر الغربي وتبعته العساكر.
وفي ذلك اليوم حضرت مكاتبة من الأمراء القبالي ملخصها أن الأرض ضاقت عليهم واضطرهم الحال والضيق وفراق الوطن إلى ما كان منهم وأنهم في طاعة الله والسلطان ولم يقع منهم ما يوجب ابعادهم وطردهم وقتلهم فإنهم خدموا وجاهدوا وقاتلوا مع العثمانية وأبلوا مع الفرنساوية فجوزوا بضد الجزاء ولا يهون بالنفس الذل والاقبال على الموت فأما أن تعطونا جهة نتعيش فيها أو ترسلوا لنا أهلنا وعيالنا وتشهلوا لنا مراكب على ساحل القصير فنسافر فيها إلى جهة الحجاز أو تعينوا لنا جهة نقيم بها نحو خمسة اشهر مسافة ما نخاطب الدولة في أمرنا ويرجع لنا الجواب ونعمل بمقتضى ذلك فإن لم تجيبونا لشيء من ذلك فيكون ذنب الخلائق في رقابكم لا رقابنا وورد الخبر عنهم أنهم رجعوا القهقرى إلى قبلي فلما حضرت تلك المكاتبة فاشتوروا في ذلك وكتبوا لهم جوابا بامضاء الباشا والدفتردار والمشايخ حاصله الأمان لما عدا إبراهيم بك والألفي والبرديسي وابادياب فلا يمكن أن يؤذن لهم بشيء حتى يرسلوا إلى الدولة ويأتي الاذن بما تقتضيه الاراء وأما بقيتهم فلهم الأمان والاذن بالحضور إلى مصر ولهم الأعزاز والاكرام ويسكنون فيما أحبوا من البيوت ويرتب لهم ما يكفيهم(2/532)
من التراتيب والالتزام وغير ذلك مثل ما وقع لعثمان بك حسن فإنهم رتبوا له خمسة وعشرين كيسا في كل شهر ومكنوه مما طلبه من خصوص الالتزام ورفعوها عمن كان أخذها بالحلوان وهذه أول قضية شنيعة ظهرت بقدومهم واستمر طاهر باشا مقيما بالبر الغربي.
وفي هذا الشهر كمل تنميم عمارة المقياس على ما كان عمره الفرنسيس على طرف الميري وأنشا به الباشا طيارة في علوه عوضا عن الطيارة القديمة التي هدمها الفرنسيس وأنشأ ايصا مصطبة في مرمى النشاب بالناصرية وجعل فيها كشكا لطيفا مزينا بالأصباغ ودرابزين حول المصطبة المذكورة.
ومن الحوادث بسكندرية.
حضر قليون وفيه تجار وبزرجانية يقال له قليون مهر الدار الدولة فأرسى بالمينة الغربية وطلع منه قبطان وبعض التجار إلى البلدة وأقام نحو يومين أو ثلاثة فطلع رجل نصراني وأخبر الانكليز أنه مات به رجل بالطاعون ومات قبله ثلاثة أيضا فطلبوا القبطان فهرب فأرسلوا إلى المركب وأحضروا اليازجي وتحققوا القضية وأحرقوا المراكب بما فيها وأشهروا اليازجي وعروه من ثيابه وسحبوه بينهم في الأسواق وكلما مروا به على جماعة من العثمانية مجتمعين على مصاطب القهاوي بطحوه بين أيديهم وضربوه ضربا شديدا ولم يزالوا يفعلون به ذلك حتى قتلوه.
ووقع أيضا أن خورشيد حاكم الأسكندرية أحدث مظالم ومكوسا على الباعة والمحترفين فذهب بعض الانكليز يشتري سمكا فطلب السماك منه زيادة في الثمن عن المعتاد فقال له الانكليزي لاي شيء تطلب زيادة عن العادة فعرفه بما أحدث عليهم من المكس فرجع الانكليزي وأخبر كبراءة فتحققوا القضية وأحضروا المنادي وأمروه بالمناداة بأبطال ما أحدثه العثمانية من المكوس والمظالم فخرج المنادي وقال حسبما رسم الوزير(2/533)
محمد باشا وخورشيد أغا بأن جميع الحوادث المحدثة بطاله فسمعوه يقول ذلك فأحضروه وضربوه ضربا شديدا وعزروه على ذلك القول وقالوا له قل في مناداتك حسبما رسم سارى عسكر الانكليز.
ووقع أيضا أن جماعة من العسكر ارادوا القبض على امرأة من النساء اللاتي يصاحبن الانكليز فمنعها منهم عسكر الانكليز فتضاربوا معهم فقتل من الانكليز اثنان فاجتمع الانكليز وأرسلوا إلى خورشيد بأن يخرج إلى خارج البلدة ويحاربهم فامتنع من ذلك فأمروه بالنزول من القلعة واسكنوه في دار بالبلد ومنعوا عسكره من حمل السلاح مطلقا مثل الانكليزية واستمروا على ذلك.
واستهل شهر ربيع سنة 1217.
فيه حضر أحمد أغا شويكار من عند القبالي ومحمد كاشف صحبته من جماعة الألفي ومعهم مكاتبات وأشيع طلبهم الصلح فأقاموا عدة أيام محجوبين عن الاجتماع بالناس ثم سافروا في أواسطه ولم يظهر كيفية ما حصل وبطل سفر طاهر باشا إلى الجهة القبلية ورجع إلى داره بعد أيام من رجوعهم.
وفيه عمل مولد المشهد الحسيني ودعا شيخ السادات الباشا في خامسه وتعشى هناك ورجع إلى داره.
وفيه تقلد السيد أحمد المحروقي امين الضربخانة وفرق ذهبا كثيرا في ذلك اليوم ببيت الباشا وعمل له ليلة بالمشهد الحسيني ودعا الباشا والدفتردار وأعيان الدولة والعلماء وأولم لهم وليمة عظيمة وأوقد بالمسجد وقدة كبيرة وقدم للباشا تقدمة وفي صبحها أرسل مع ولده هدية وتعبية أقمشة نفيسه فخلع عليه الباشا فروة سمور.
وفي غرة هذا الشهر شرع الباشا في هدم الأماكن المجاورة لمنزله التي تهدمت واحترقت في واقعة الفرنسيس ليبنيها مساكن للعساكر(2/534)
المختصة به وتسمى عندهم بالقشلة وذلك من قبالة منزله من المكان المعروف بالساكت إلى جامع عثمان كتخدا حيث رصيف الخشاب واهتم لذلك اهتماما عظيما ورسم بعمل فردة على البلاد أعلى وأوسط وأدنى وأرسلوا المعينين لقبض ذلك من البلاد مع ما الفلاحون فيه من الظلم والجور من العساكر والمباشرين وحق الطرق وفرد الانكليز.
وفي منتصفه كملت عمارة مشهد السيدة زينب بقناطر السباع وكان من خبره أن هذا المشهد كان أنشأه وعمره عبد الرحمن كتخدا القازدغلي في جملة عمائره وذلك في سنة 1174 فلم يزل على ذلك إلى أن ظهر به خلل ومال شقه فانتدب لعمارته عثمان بك المعروف بالطنبرجي المرادي في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فهدمه وكشف أنقاضه وشرع في بنائه وأقام جدرانه ونصبوا اعمدته وأرادوا عقد قناطره فحصلت حادثة الفرنسيس وجرى ما جرى فبقى على حالته إلى أن خرج الفرنسيس من ارض مصر وحضرت الدولة العثمانية فعرض خدمة الضريح إلى الوزير يوسف باشا فأمر باتمامه وأكماله على طرف الميري ثم وقع التراخي في ذلك إلى أن استقر قدم محمد باشا في ولاية مصر فأهتم لذلك فشرعوا في اكماله وتنميمه وتسقيفه وتقيد لمباشرة ذلك ذو الفقار كتخدا فتم على أحسن ما كان واحدثوا به حنفية وفسحة وزخرفوه بالنقوشات والأصباغ ولما كان يوم الجمعة رابع عشره حصلت به الجمعية وحضر الباشا الدفتردار والمشايخ وصلوا به الجمعة وبعد انقضاء الصلاة عقد الشيخ محمد الأمير المالكي درس وظيفته وأملى إنما يعمر مساجد الله الاية والاحاديث المتعلقة بذلك وثم المجلس وخلع عليه الباشا بعد ذلك خلعة وكذا الأمام.
وفيه نصب للباشا خيمة عند بيته بقرب الهدم يجلس بها حصة كل يوم لمباشرة العمل وربما باشر بنفسه ونقل بعض الانقاض فلما عاينه الاغوات والجوخدارية بادروا إلى الشيل ونقل التراب بالغلقان فلما أشيع ذلك(2/535)
حضر طاهر باشا وأعيان العساكر فنقلوا أيضا وطلبوا المساعدة وحضر طائفة من ناحية الرميلة وعرب اليسار ومعهم طبول وزمور فسأل عن ذلك فقال له المحتسب ذو الفقار هؤلاء طائفة من طوائفي حضروا لأجل المساعدة فشكرهم على ذلك وأمرهم بالذهاب فبقى منهم طائفة وأخذوا في شيل التراب بالاغلاق ساعة والطبول تضرب لهم فانسر الباشا من ذلك وحسن القرناء للباشا المساعدة وأن الناس تحب ذلك فرتبوا ذلك وأحضروا قوائم أرباب الحرف التي كتبت أيام فرد الفرنسيس ونبهوا عليهم بالحضور فأول ما بدأوا بالنصارى الاقباط فحضروا ويقدمهم رؤساؤهم جرجس الجوهري وواصف وفلتيوس ومعهم طبول وزمور وأحضر لهم أيضا مهتار باشا النوبة التركية وأنواع الآلات والمغنين حتى البرامكة بالرباب فاشتغلوا نحو ثلاث ساعات وفي ثاني يوم حضر منهم أيضا كذلك طائفة.
ولما انقضت طوائف الاقباط حضر النصارى الشوام والاروام ثم طلبوا أرباب الحرف من المسلمين فكان يجتمع الطائفتان والثلاثة ويحضرون معهم عدة من الفعلة يستأجرونهم ويحضرون إلى العمل ويقدمهم الطبول والزمور والمجرية وذلك خلاف ما رتبه مهتار باشا فيصير بذلك ضجة عظيمة مختلطة من نوبات تركية وطبول شامية ونقاقير كشوفية ودبادب حربية وآلات موسيقية وطبلات بلدية وربابات برامكية كل ذلك في الشمس والغبار والعفار وزادوا في الطنبور نغمة وهي أنهم بعد أن يفرغوا من الشغل ويأذنوا لهم بالذهاب يلزمونهم بدراهم يقبضها مهتار باشا برسم البقشيش على أولئك الطبالين والزمارين فيعطيهم النزر اليسير ويأخذ لنفسه الباقي وذلك بحسب رسمه واختياره فيأتي على الطائفة المائة قرش والخمسون قرشا ونحو ذلك فيركب في ثاني يوم ويذهب إلى خطتهم ويلزمهم باحضار الذي قرره عليهم فيجمعونه من بعضهم ويدفعونه وإذا حضرت طائفة ولم تقدم بين يديها هدية أو جعالة(2/536)
طولوا عليهم المدة واتعبوهم ونهروهم واستحثوهم في الشغل ولو كانوا من ذوي الحرف المعتبرة كما وقع لتجار الغورية والحريرية وإذا قدموا بين أيديهم شيئا خففوا عليهم وأكرموهم ومنعوا أعيانهم وشيوخهم من الشغل واجلسوهم بخيمة مهتار باشا وأحضر لهم الآلات والمغاني فضربت بين أيديهم كما وقع ذلك لليهود واستمر هذا العمل بقية الشهر الماضي إلى وقتنا هذا فاجتمع على الناس عشرة أشياء من الرذالة وهي السخرة والمعونة واجرة الفعلة والذل ومهنة العمل وتقطيع الثياب ودفع الدراهم وشماتة الأعداء من النصارى وتعطيل معاشهم وعاشرها أجرة الحمام.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره الموافق لسادس مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم الخميس بحضرة الباشا والقاضي والشنك المعتاد وجرى الماء في الخليج ولم يطف مثل العادة ومنعوا دخول السفن والمراكب المعدة للنزهة وذلك بسبب اذية العساكر العثمانية.
وفي منتصفه حضر قصاد من الططر وعلى يدهم مكاتبات من الدولة بوقوع الصلح العام من الدولة والقرانات وعثمان باشا ومن معه من المخالفين على الدولة ومن جهة الروملي فعملوا شنكا ومدافع ثلاثة أيام تضرب في كل وقت من الأوقات الخمسة وكتبوا اوراقا بذلك والصقوها في مفارق الطرق بالأسواق وقد تقدم مثل ذلك واظنه من المختلقات.
وفي اواخره حضر حريم الباشا من الجهة الرومية وهما اثنتان احداهما معتوقة أم السلطان والأخرى معتوقة اخته زوجة قبطان باشا وصحبتهما عدة سراري فاسكنهن ببيت الشيخ خليل البكري وقد كان عمره قبل حضورهن وزخرفه ودهنوه بانواع الصباغات والنقوش وفرشوه بالفرش الفاخرة وفرش المحروقي مكانا وكذلك جرجس الجوهري فرش مكانا وأحمد بن محرم واعتنوا بذلك اعتناء زائدا حتى أن جرجس فرش بساطا من الكشمير وغير ذلك وعمل وليمة العقد وعقد على الثنتين في آن(2/537)
واحد بحضرة القاضي والمشايخ واهدوا لكل من الحاضرين بقجة من ظرائف الاقمشة الهندية والرومية وعملوا شنكا وحراقة بالازبكية عدة ليال.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الإثنين سنة 1217.
في يوم الإثنين ثامنه شنقوا ثلاثة من عساكر الاروام احدهم بباب زويلة والثاني بباب الخرق والثالث بالازبكية بالقرب من جامع عثمان كتخدا وقتلوا أيضا شخصا بالنحاسين.
وفي يوم الثلاثاء تاسعه عمل الباشا ديوانا وفرق الجامكية على الوجاقلية.
وفيه وردت الأخبار بوقوع حادثة بين الأمراء القبالي والعثمانية وذلك أن شخصا من العثمانية يقال له أجدر موصوفا بالشجاعة والاقدام أراد أن يكبس عليهم على حين غفلة ليكون له ذكر ومنقبة في أقرانه فركب في نحو الألف من العسكر المعدودين وكانوا في طرف الجبل بالقرب من الهو فسبق العين إلى الأمراء وأخبرهم بذلك فلما توسطوا سطح الجبل وإذا بالمصرلية أقبلت عليهم في ثلاثة طوابير فأحاطوا بهم فضرب العثمانية بنادقهم طلقا واحدا لا غير ونظروا وإذا بهم في وسطهم وتحت سيوفهم ففتكوا فيهم وحصدوهم ولم ينج منهم إلا القليل وأخذ كبيرهم أجدر المذكور أسيرا وانجلت الحرب بينهم وأحضروا أجدر بين يدي الألفي فقال له لاي شيء سموك أجدر فقال الاجدر معناه الافعى العظيم وقد صرت من اتباعك فقال لكن يحتاج إلى تطريمك واخراج سمك أولا وأمر به فأخذوه وقلعوا اسنانه ثم قتلوه وأخذوا جميع ما كان معهم ومن جملة ذلك أربعة مدافع كبار.
وفيه قلدوا أحمد كاشف سليم امارة اسيوط وعزل أميرها مقدار بك العثماني بسبب شكوى أهل النواحي من ظلمه.
وفي منتصفه تواترت الأخبار برجوع الأمراء القبالي إلى بحري وأنهم وصلوا إلى بني عدي فنهبوا غلالها ومواشيها وقبضوا اموالها وأعطوهم وصولات بختمهم وكذلك الحواوشة وما جاور ذلك من البلاد فشرع(2/538)
العثمانية بمصر في تشهيل جريدة وعساكر.
وفيه حضرت أيضا عساكر كثيرة من هبود الأتراك والارنؤد فأحضروا مشايخ الحارات وأمروهم باخلاء البيوت لسكناهم فأزعجوا الكثير من الناس وأخرجوهم من دورهم بالقهر فحصل للناس غاية الضرر وضاق الحال بالناس وكلما سكنت منهم طائفة بدار أخربوها وأحرقوا أخشابها وطيقانها وأبوابها وانتقلوا إلى غيرها فيفعلون بها كذلك ومن تكلم أو دافع عن داره وبخ بالكلام وقيل له عجب كنتم تسكنون الفرنسيس وتخلون لهم الدور وأمثال ذلك من الكلام القبيح الذي لا أصل له ولما شرعوا في تشهيل التجريدة حصلت منهم أمور وأذية في الناس كثيرة فمنها أنهم طلبوا الحمارة المكارية وأمروهم باحضار ستمائة حمار وشددوا عليهم في ذلك فقيل أنهم لما جمعوها أعطوهم أثمانها في كل حمار خمسة ريالات بعدته ولجامه مع أن فيها ما قيمته خمسون ريالا خلاف عدته ثم ما كفاهم ذلك بل صاروا يخطفون حمير الناس من أولاد البلد بالقهر وكذلك حمير السقائين التي تنقل الماء من الخليج حتى امتنعت السقاؤن بالكلية وبلغ ثمن القربة الكتافي من الخليج عشرة انصاف فضة وتعدى بالخطف أيضا من ليس بمسافر فكانوا ينزلون الناس من على حميرهم ويذهبون بها إلى الساحة ويبيعونها والبعض تبعهم واشترى حماره بالثمن فخبى جميع الناس حميرهم في داخل الدور فكان يأتي الجماعة من العسكر وينصتون بآذانهم على باب الدار ويتبعون نهيق الحمير وبعض شياطينهم يقف على الدار ويقول زر ويكررها فينهق الحمار فيعلمون به ويطلبونه من البيت فأما أخذوه أو افتداه صاحبه ببما ارادوه وغير ذلك.
وفيه حضر قاضي سكندرية إلى مصر وذلك أنه لما حضر من اسلامبول طلع إلى داره وحضرت إليه الدعاوي فأخذ منهم المحصول على الرسم المعتاد فأرسل إليه الانجليز ولاموه على عدم حضوره إليهم وقت قدومه وقالوا له أن أقمت هنا بتقليدنا اياك فلا نأخذ من أجد شيئا ونرتب لك(2/539)
ثلاثة قروش في كل يوم والا فأذهب حيث شئت فحضر إلى مصر بذلك السبب.
شهر جمادى الثانية سنة 1217.
في خامسه سافرت العساكر إلى الأمراء القبالي وسافر أيضا عثمان بك الحسني وباقي العساكر المعزولين وأمير العساكر العثمانية محمد علي سرششمه وكان الباشا أرسل إبراهيم كاشف الشرقية بجواب إليهم فرجع في ثامنه بجواب الرسالة وأعطاه الألفي ألفي ريال وقدم له حصانين وحاصل تلك الرسالة كما تقدم الأمان لجميع الأمراء المصرلية وأنهم يحضرون إلى مصر ويقيمون بها ولهم ما يرضيهم من الفائظ وغيره ما عدا الأربعة الأمراء وهم إبراهيم بك والألفي والبرديسي وأبا دياب فإنهم مطلوبون إلى حضرة السلطان يتوجهون إليه مع الأمن عليهم ويعطيهم مناصب وولايات كما يحبون فإن لم يرضوا بذلك فيأخذوا اقطاع اسنا ويقيمون بها فلما وصل إبراهيم اغا المذكور إلى أسيوط وأرسل إليهم ارسلوا إليه أحمد آغا شويكار ومحمد كاشف الألفي فانتظروه خارج الجبانة فخرج إليهم ولاقوه وأخذوه وصحبتهم إلى عرضيهم وأنزلوه بوطاق بات به فلما أصبح الصباح طلبوه إلى ديوانهم فحضر ووقفت عساكرهم صفوفا ببنادقهم وفيهم كثير على هيئة اصطفاف الفرنسيس وعملوا له شنكا ومدافع ثم اعطاهم المكاتبة بحضرة الجميع فقرؤها ثم تكلم الألفي وقال أما قولكم نذهب إلى اسلامبول ونقابل السلطان ينعم علينا فهذا مما لا يمكن وأن كان مراده أن ينعم علينا فاننا في بلاده وانعامه لا يتقيد بحضورنا بين يديه وأما بقية اخواننا فهم بالخيار أن شاؤا أقاموا معنا والا ذهبوا وكل إنسان نفسه وأما كون حضرة الباشا يعطينا اقطاع اسنا فلا يكفينا هذا وإنما يكفينا من اسيوط إلى آخر الصعيد ونقوم بدفع خراجه فإن لم يرضوا بذلك فإن الأرض لله ونحن خلق الله نذهب حيث شئنا ونأكل من رزق الله ما يكفينا ومن أتى إلينا حاربناه حتى يكون(2/540)
من أمرنا ما يكون ثم استقروا بقنطرة اللاهون وكسروا القنطرة وشرعوا في قبض أموال من بلاد الفيوم فلما رجع إبراهيم كاشف بذلك الجواب ركب الباشا في صبحها إلى الآثار واستعجل العسكر بالذهاب فعدوا إلى البر الغربي وتأخر عنهم عثمان بك الحسني والغز المصرلية وباتوا بطرا.
وفيه شنق الباشا رجلا طبجيا في المشنقة التي عند قنطرة المغربي ثم أن عثمان بك أرسل إلى الباشا يطلب حسين اغا شنن ومصطفى اغا الوكيل ليتفاوض معهما في كلام فأرسل له إبراهيم اغا كاشف الشرقية فأعطاه الخلعة التي خلعها عليه الباشا ودراهم الترحيلة وقال له سلم علي أفندينا وأخبره أني جاهدت الفرنسيس وبلوت معهم ثم إني حضرت بامان طائعا فلم أجاز ولم يحصل ما كنت اؤمله ولم يوفوا معي وعدا وأنا لا اقاتل اخواني المسلمين واختم عملي بذلك ولا اقيم بمصر آكل الصدقة وإنما اذهب سائحا في بلاد الله وكان في ظن عثمان بك أنه إذا أتى إلى مصر على هذه الصورة يجعله الباشا أمير البلد أو أمير الحاج.
وفيه أمر الباشا محمد كتخدا المعروف بالزربة بالسفر إلى جهة قبلي فاستعفى من ذلك فأمر بقتله فشفع فيه يوسف كتخدا الباشا وقال أن له حرمة وقد كان في السابق كتخدا لأفندينا ولا يناسب قتله على هذه الصورة فأمر بسفره إلى جهة البحيرة محافظا فسافر من يومه وأما عثمان بك فإنه ركب وذهب إلى جهة قبلي مشرقا على غير الرسم واشيع ذلك في الناس ولغطوابه فلما تحقق العثمانية ذلك رسموا الطوائف العسكر أن يقيموا منهم طوائف بالقلاع التي على التلول ونصبوا عليها بيارق واوقفوا حراسا على ابواب المدينة يمنعون من يخرج من المدينة من الغز الخياله والمصرلية فمن خرج إلى بولاق أو غيرها فلا يخرج إلا بورقة من كتخدا الباشا.
وفي ليلة الجمعة عاشره أمر الباشا بكبس بيوت الأمراء الحسنية ونهب ما بها من الخيول والجمال والسلاح(2/541)
وفيه حضر اغات التبديل إلى بيت الخربطلي بعطفة خشقدم وبه جماعة من عسكر المغاربة فكبس عليهم وقبض على جماعة منهم وكتفهم وكشف رؤسهم وأحاطت بهم عساكره وسحبوهم وأخذوا ما وجدوه في جيوبهم على هيئة شنيعة ومروا بهم على الغورية ثم على النحاسين وباب الشعرية حتى انتهوا بهم إلى الأزبكية على حارة النصارى ودخلوا بهم بيت الباشا وهم لا يعلمون لهم ذنبا فلما مثلوا بين يدي كتخدا الباشا ذكر لهم أن بجوارهم دير للنصارى وأنهم فتحوا طاقا صغيرا يطل على الدير فقالوا لا علم لنا بذلك وأخبروا أن جماعة من الارنؤد ساكنون معهم بأعلى الدار فيحتمل أن ذلك من فعلهم فأرسلوا من كشف على ذلك فوجدوه كما قال المغاربة فأطلقوهم بعد هذه الجرسة الشنيعة ومرورهم بهم إلى حارة النصارى وأخذ دراهمهم ومتاعهم والأمر لله وحده.
وفيه أشيع مرور جماعة من الغز القبالي على جهة الجيزة إلى جهة سكندرية وكذلك جماعة من الانجليز من سكندرية إلى قبلي.
وفيه تداعي مصطفى خادم مقام سيدي أحمد البدوي مع نسيبه سعد بسبب ميراث اخته فقال مصطفى أنا أحاسبه علىخمسين ألف ريال فقال سعد أنا استخرج منه مائتي ألف ريال بشرط أن تعوقوه هنا وتعطوني خادمه وجماعة من العسكر ففعلوا ذلك وعوقوه ببيت السيد عمر النقيب وتسلم سعد خادمه والعسكر وذهب بهم إلى طندتا فعاقبوا الخادم فاقر على مكان اخرجوا منه ستة وثلاثين ألف ريال فرانسه ثم فتحوا بئر مردومة بالاتربة واخرجوا منها ريالات فرانسه وانصافا وأرباعا وفضة عددية كلها مخلوطة بالاتربة وقد ركبها الصدأ والسواد فأحضروها وجلوها في قاعة اليهود ولم يزالوا يستخرجون حتى غلقوا مائة وسبعة وثمانين ألف وسبعمائة وكسورا وآخر الأمر اخرجوا خبيئة لا يعلم قدرها ثم حصل العفو ورجع العسكر وأخذوا كراء طريقهم وأخذوا من أولاد عمه عشرة أكياس.
وفي يوم السبت حادي عشره كان آخر التسخير في نقل التراب من(2/542)
العمارة وكان آخر ذلك طائفة الخردة من الغياش والقرادتية وأرباب الملاعيب وبطل الزمر والطبل واستمر الفعلة في حفر الأساس ورشح عليهم الماء بادنى حفر لكون أن ذلك في وقت النيل والبركة ملائة بالماء حول ذلك.
وفي خامس عشره خرجت عساكر ودلاة أيضا وسافروا إلى قبلي.
وفي ثالث عشرينه سافر عساكر في نحو الأربعين مركبا إلى جهة البحيرة بسبب عرب بنى على فإنهم عانوا بالبحيرة ودمنهور.
ومن الحوادث السماوية.
ان في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء ثاني عشرينه احمرت السماء بالسحاب عند غروب الشمس حمرة مشوبة بصفرة ثم انجلت وظهر في أثرها برق من ناحية الجنوب في سحاب قليل متقطع وازداد وتتابع من غير فاصل حتى كان مثل شعلة النفط المتوقدة المتوجة بالهواء واستمر ذلك إلى ثالث ساعة من الليل ثم تحول إلى جهة المغرب وتتابع لكن بفاصل على طريقة البرق المعتاد واستمر إلى خامس ساعة ثم أخذ في الاضمحلال وبقي أثره غالب الليل وكان ذلك ليلة سادس عشرين درجة من برج الميزان وحادي عشر بابه القبطي وثامن تشرين أول الرومي ولعل ذلك من الملاحم المنذرة بحادث من الحوادث.
وفيه ورد الخبر بورود مركب من فرانسا وبها الجي وقنصل وصحبتهما عدة فرنسيس فعمل لهم الانكليز شنكا ومدافع بالاسكندرية فلما كان ليلة الثلاثاء ثامن عشرينه وصل ذلك الالجي وصحبته خمسة من أكابر الفرنسيس إلى ساحل بولاق فأرسل الباشا لملاقاتهم خازنداره وصحبته عدة عساكر خيالة وبأيديهم السيوف المسلولة فقابلوهم وضربوا لهم مدافع من بولاق والجيزة والازبكية وركبوا إلى دار أعدت لهم بحارة البنادقة وحضروا في صبحها إلى عند الباشا وقابلوه وقدم لهم خيلا معدة واهدى لهم هدايا وصاروا يركبون في هيئة وأبهة معتبرة وكان فيهم جبير ترجمان بونابارته(2/543)
وفيه وردت الأخبار بأن الغز القبالي نهبوا بلاد الفيوم وقبضوا أموالها ونهبوا غلالها ومواشيها وحرقوا البلاد التي عصت عليهم وقتلوا ناسها حتى قتلوا من بلدة واحدة مائة وخمسين نفرا وأما العثمانية الكائنون بالفيوم فإنهم تحصنوا بالبلدة عملوا لهم متاريس بالمدينة وأقاموا داخلها.
شهر رجب الفرد سنة 1217.
استهل بيوم الجمعة فيه رموا اساس عمارة الباشا وكان طلب من الفلكيين أن يختاروا له وقتا لوضع الأساس ففعلوا ذلك وكان بعد اثني عشر يوما من يوم تاريخه فأستبعده وأمر برمي الأساس في اليوم المذكور.
ورب النجم يفعل ما يشاء.
وفيه أحضروا أربعة رؤس فوضعت عند باب الباشا زعموا أنهم من قتلى الغز المصرلية.
وفي خامسه يوم الثلاثاء سافر الالجي الفرنساوي وأصحابه فنزلوا إلى بولاق وامامهم مماليك الباشا بزينتهم وهم لابسون الزروخ والخود وبايديهم السيوف المسلولة وخلفهم العبيد المختصة بالباشا وعلى رؤسهم طراطير حمر وبايديهم البنادق على كواهلهم فلم يزالوا صحبتهم حتى نزلوا ببيت راشتوا ببولاق ثم رجعوا ثم نزلوا المراكب إلى دمياط وضربوا لهم مدافع عند تعويمهم السفن.
وفيه أشيع انتشار الأمراء القبالي إلى جهة بحري وحضروا إلى اقليم الجيزة وطلبوا منها الكلف حتى وصلوا إلى وردان.
وفيه حضر محمد كتخدا المعروف بالزربة الذي كان كتخدا الباشا وتقدم أنه كان أمره بالسفر إلى قبلي فأمتنع وأذن له بالسفر إلى البحيرة محافظا فلما تقدم طوائف الأمراء إلى بحري فمر منهم جماعة قليلة على محمد كتخدا الزربة المذكورة فلم يتعرض لهم مع قدرته على تعويقهم فبلغ الباشا ذلك فحقدها عليه وأرسل إليه وطلبه إلى الحضور فحضر فلما كان يوم السبت تاسعه طلبه الباشا في بكرة النهار فلما أحضر أمر بقتله فنزل به العسكر(2/544)
ورموا رقبته عند باب الباشا ثم نقلوه إلى بين المفارق قبالة حمام عثمان كتخدا فاستمر مرميا عريانا إلى قبيل الظهر ثم شالوه إلى بيته وغسلوه في حوش البيت سكنه ودفنوه وعند موته أرسل الدفتردار فختم على داره واخرج حريمه وفي ثاني يوم أحضروا تركته ومتاعه وباعوا ذلك ببيت الدفتردار.
وفيه وردت مكاتبات من الديار الرومية وفيها الخبر بعزل شريف أفندي الدفتردار وولاية خليل أفندي الرجائي المنفصل عن الدفتردارية عام أول فحزن الناس لذلك حزنا عظيما فإن أهل مصر لم يروا راحة من وقت دخول العثمانية إلى مصر بل من نحو أربعين سنة سوى هذه السنة التي باشرها هو فإنه أرضى خواطر الصغير قبل الكبير والفقير قبل الغني وصرف الجامكية وغلال الانبار عينا وكيلا وكان كثير الصدقات ويحب فعل الخير والمعروف وكان مهذبا في نفسه بشوشا متواضعا وهو الذي أرسل يطلب الأستعفاء من الدفتردارية لما رأى من اختلال أحكام الباشا.
وفي يوم الإثنين حادي عشره عدى يوسف كتخدا الباشا إلى برانبابة وعدى معه الكثير من العسكر ونصب العرضى ببرانبابة على ساحل البحر وأشيع وصول الأمراء إلى ناحية الجسر الأسود وقطعوا الجسر لأجل تصفية المياه وانحدارها من الملق لأجل مشى الحافر ثم رجعوا إلى ناحية المنصورية وبشتيل واستمر خروج العساكر والعثمانية التي كانت جهة قبلي إلى برانبابة وهم كالجراد المنتشر ونصبوا وطاقهم ظاهر انبابة واستمر خروج العساكر والطلب ونقل البقساط والجبخانة على الجمال والحمير ليلا ونهارا وأخذوا المراكب ووسقوها معهم في البحر وغصبوا ما وجدوه من السفن قهرا وانتشرت عساكرهم وخيامهم ببرانبابة حتى ملؤا الفضاء بحيث يظن الرائي لهم أنهم متى تلاقوا مع الغز المصرلية أخذوهم تحت اقدامهم لكثرتهم واستعدادهم بحيث كان أوائل العرضي عند الوراريق(2/545)
وآخرهم بالقرب من بولاق التكر ورطولا ثم أن الأمراء رجعوا إلى ناحية وردان والطرانة.
وفي يوم الجمعة خامس عشره انتقل العرضي من برانبابة وحلوا الخيام وفي ثاني يوم خرجت عساكر خلافهم ونصبت مكانهم وسافروا وخرج خلافهم وهكذا دأبهم في كل يوم تخرج طائفة بعد أخرى.
وفيه رسم الباشا بألف اردب فتح انعام تفرق على طلبة العلم المجاورين والاروقة بالجامع الأزهر ففرقت بحسب الاغراض وانعم أيضا بعد أيام بألف اردب أخرى فعل بها كذلك.
وأنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وفي يوم الأحد سابع عشره وصلت جماعة ططر واخبروا بتقليد شريف محمد أفندي الدفتردار ولاية جدة.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره خرج طاهر باشا ونصب وطاقه جهة انبابة للمحافظة وخرجت عساكره ونصبت وطاقاتهم ببر انبابة أيضا متباعدين عن بعضهم البعض واستمروا على ذلك.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه حضر رجل من طرف الدولة يقال له حجان وهو رجل عظيم من أرباب الاقلام وعلى يده فرمان فأرسل الباشا إلى شريف أفندي الدفتردار والقاضي والمشايخ وجمعهم بعد صلاة الجمعة وقرىء عليهم ذلك الفرمان وهو خطاب إلى حضرة الباشا وملخصه اننا اخترناك لولاية مصر لكونك ربيت بالسراية ولمانعلمه منك من العقل والسياسة والشجاعة وأرسلنا اليك عساكر كثيرة وامرناك بقتال الخائنين واخراج الأربعة انفار من الإقليم المصري بشرط الأمان عليهم من القتل وتقليدهم ما يختارونه من المناصب في غير اقليم مصر وإكرامهم غاية الأكرام أن امتثلوا الاوامر السلطانية واطلقنا لك التصرف في الأموال الميرية لنفقة العسكر واللوازم وما عرفنا موجب تأخير أمرهم لهذا الوقت فإن كان لقلة العساكر أرسلنا اليك كذلك أن لم يمتثلوا وكل من انضم إليهم كان مثلهم(2/546)
ومن شذ عنهم وطلب الأمان فهو مقبول وعليه الأمان إلى آخر ما ذكر من ذلك المعنى.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه كتبت أوراق بمعنى ذلك وألصقت بالطرقات.
وفي خامس عشرينه تواترت الأخبار بوقوع معركة بين العثمانيين والأمراء المصرلية بأراضي دمنهور وقتل من العساكر العثمانية مقتلة عظيمة وكانت الغلبة للمصرليين وانتصروا على العثمانيين وصورة ذلك أنه لما تراءى الجمعان واصطفت عساكر العثمانيين الرجالة ببنادقهم واصطفت الخيالة بخيولهم وكان الألفي بطائفة من الأجناد نحو الثلاثمائة قريبا منهم وصحبتهم جماعة من الانكليز فلما رأوهم مجتمعين لحربهم قال لهم الانكليز ماذا تصنعون قالوا نصدمهم ونحاربهم قال الانكليز انظر وأما تقولون أن عساكرهم الموجهين اليكم أربعة عشر الفا وانتم قليلون قالواالنصر بيد الله فقالوا دونكم فساقوا إليهم خيولهم واقتحموا إلى الخيالة فقتل منهم من قتل فأنهزم الباقون وتركوا الرجالة خلفهم ثم كروا على الرجالة فلم يتحركوا بشيء وطلبوا الأمان فساقوا منهم نحو السبعمائة مثل الأغنام وأخذوا الجبخانة والمدافع وغالب الحملة والانكليز وقوف على علة ينظرون إلى الفريقين بالنظارات فلما تحقق الباشا ذلك اهتم في تشهيل عساكر ومدافع وعدوا إلى بر انبابة ونصبوا وطاقهم هناك وانتقل ظاهر باشا إلى ناحية الجيزة.
استهل شهر شعبان بيوم السبت سنة 1217.
فيه شرعوا في عمل متاريس جهة الجيزة وقبضوا على أناس كثيرة من ساحل مصر القديمة ليسخروهم في العمل.
وفيه حضر الكثير من العساكر المجاريح وجمع الباشا النجارين والحدادين وشرع في عمل شركفلك فاشتغلوا فه ليلا ونهارا حتى تمموه في خمسة أيام وحملوه على الجمال وأنزلوه المراكب وسفروه إلى دمنهور(2/547)
في سادسه وفي عاشره كتبوا عدة أوراق وختم عليها المشايخ ليرسلوها إلى البلاد خطأ بالمشايخ البلادوالعربان مضمونها معنى ما تقدم وكتبوا كذلك نسخا وألصقت بالأسواق وذلك باشارة بعض قرناء الباشا المصرلية وهي بمعنى التحذير والتخويف لمن يسالم الأمراء المصرلية وخصوصا المغضوب عليهم مطرودين السلطنة للعصاة إلى آخر معنى ما تقدم.
وفي هذه الأيام كثرت الغلال حتى غصت بها السواحل والحواصل ورخص سعرها حتى بيع القمح بمائة وعشرين نصفا الاردب واستمرت الغلال معرمة في السواحل ولا يوجد من يشتريها وكان شريف أفندي الدفتردار أنشأ أربعة مراكب كبار لغلال الميري ولما حصلت النصرة للمصرلية على العثمانية خصوصا هذه المرة مع كثرتهم وقوتهم واستعدادهم ضبغوا فيهم واحتكروها ووقفوا على سواحل النيل يمنعون الصادر والوارد منهم ومن غيرهم وأما الباشا فإنه سخط على العساكر وصار يلعنهم ويشتمهم في غيابهم وحضورهم.
وفيه حضرت جماعة من اشراف مكة وعلمائها هروبا من الوهابيين وقصدهم السفر إلى اسلامبول يخبرون الدولة بقيام الوهابيين ويستنجدون بهم لينقذوهم منهم ويبادروا لنصرهم عليهم فذهبوا إلى بيت الباشا والدفتردار وأكابر البلد وصاروا يحكون ويشكون وتنقل الناس أخبارهم وحكاياتهم.
استهل شره رمضان المعظم سنة 1217.
عملت الرؤية ليلة الأحد وركب المحتسب ومشايخ الحرف على العادة ولم ير الهلال وكان غيما مطبقا فلزم اتمام عدة شعبان ثلاثين يوما فأنتدب جماعة ليلة الأحد وشهدوا أنهم رأوا هلال شعبان ليلة الجمعة فقبله القاضي وحكم به تلك الليلة على أن ليلة الجمعة التي شهدوا برؤيته فيها لم يكن(2/548)
للهلال وجودالبتة وكان الاجتماع في سادس ساعة من ليلة الجمعة المذكورة باجماع الحساب والدساتير المصرية والرومية على أنه لم ير الهلال ليلة السبت الأحد يد البصر في غاية العمر والعجب وشهر رجب كان أوله الجمعة وكان عسر الرؤية أيضا وأن الشاهد بذلك لم يتفوه به إلا تلك الليلة فلو كانت شهادته صحية لاشاعها في أول الشهر ليوقع ليل النصف التي هي من المواسم الإسلامية في محلها حيث كان حريصا على إقامة شعائر الإسلام.
وفيه حضرت جماعة من اشراف مكة وغيرها.
وفي خامس عشرينه حضر خليل أفندي الرجائي الدفتردار في قلة من اتباعه وترك أثقاله بالمراكب وركب من مدينة فوة وحضر على البر وذلك بسبب وقوف جماعة من الأمراء المصرلية ناحية النجيلة يقطعون الطريق على المارين في المراكب ولما حضر نزل ببيت إسمعيل بك بالازبكية.
وفي غايته وقع ما هو أشنع مما وقع في غرته وذلك أن ليلة الإثنين غايته كان بالسماء غيم مطبق ومطر ورعد وبرق متواتر وأوقدت قناديل المنارات والمساجد وصلى الناس التراويح واستمر الحال إلى سابع ساعة من الليل وإذا بمدافع كثيرة وشنك من القلعة والازبكية ولغط الناس بالعيد وذكروا أن جماعة حضروا من دمنهور البحيرة وشهدوا أنهم رأوا هلال رمضان ليلة السبت فذهبوا إلى بيت الباشا فأرسلهم إلى القاضي فتوقف القاضي في قبول شهادتهم فذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي فقبلهم وأيدهم وردهم إلى القاضي والزمه بقبول شهادتهم فكتبوا بذلك أعلاما إلى الباشا وقضوا بتمام عدة رمضان بيوم الأحد ويكون غرة شوال صبحها يوم الإثنين وأصبح الناس في أمر مريج منهم الصائم ومنهم المفطر فلزم من ذلك أنهم جعلوا رجب ثمانية وعشرين يوما وشعبان تسعة وعشرين وكذلك رمضان والأمر لله وحده(2/549)
شهر شوال سنة 1217.
كان أوله الحقيقي يوم الثلاثاء وجزم غالب الناس المفطرين بقضاء يوم الإثنين.
وفي خامسه وصلت أثقال خليل أفندي الرجائي الدفتردار.
وفيه طلبوا ألف كيس سلعة من التجار وأرباب الحرف فوزعت وقبضت على يد أحمد المحروقي وهي أول حادثة وقعت بقدوم الدفتردار.
وفي يوم الخميس عاشره نصب جاليش شريف باشا المعبر عنه بالطوخ عند بيته بالازبكية وضربت له النوبة التركية واهدى له الباشا خياما كثيرة وطقما ولوازم.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه كان خروج أمير الحاج بالموكب والمحمل المعتاد إلى الحصوة وكان ركب الحجاج في هذه السنة عالما عظيما وحضر الكثير من حجاج المغاربة من البحر وكذلك عالم كثير من الصعيد وقرى مصر البحرية والاروام وغير ذلك.
وفي يوم الخميس خامس عشرينه خرج شريف باشا في موكب جليل ونصب وطاقه عند بركة الشيخ قمر فأقام به إلى أن يسافر إلى جدة من القلزم وانتقل خليل أفندي الرجائي الدفتردار إلى دار شريف باشا بالازبكية.
وفي غايته حضر أولاد الشريف سرور شريف مكة هروبا من الوهابيين ليستنجدوا بالدولة فنزلوا ببيت المحروقي بعدما قابلوا محمد باشا والي مصر وشريف باشا والي جدة.
شهر ذي القعدة الحرام سنة 1217.
استهل بيوم الأربعاء فيه تقدم الناس بطلب الجامكية فأمرهم الدفتردار بكتابة عرضحالات فثقل عليهم ذلك فقالوا اننا كتبنا عرضحالات في السنة الماضية وأخذنا سنداتنا من الدفتردار المنفصل ودفع لنا سنة ستة عشر فقيل لهم أنه دفع لكم سنة معجلة والحساب لا يكون إلا من يوم التوجيه(2/550)
فضجوا من ذلك وكثر لغط الناس بسبب ذلك وأكثروا من التشكي من الدفتردار.
وفي سادسه اجتمع الكثير من النساء بالجامع الأزهر وصاحوا بالمشايخ وأبطلوا دروسهم فاجتمعوا بقبلته ثم ركبوا إلى الباشا فوعدهم بخير حتى ينظر في ذلك وبقي الأمر وهم في كل يوم يحضرون وكثر اجتماعهم بالأزهر وباب الباشا فلم يحصل لهم فائدة من ذلك سوى أن رسم لهم بمواجب آخر سنة تاريخه معجلة ولم يقبضوا منها إلا ما قل بسبب تتابع الشرور والحوادث.
وفي حادي عشره يوم السبت ارتحل شريف باشا إلى بركة الحج متوجها إلى السويس.
وفيه ارتحل حجاج المغاربة وكانوا كثيرين فسافر اغنياؤهم والكثير من فقرائهم من طريق البر وآخرون من السويس على القلزم.
وفي رابع عشره حضر ططريات إلى الباشا وعلى يدهم شالات شريفة وبشارة بتقرير على السنة الجديدة وزيد له تشريف تترخانية ومعناه مرتبة عالية في الوزارة فضربوا شنكا ومدافع متوالية يومين.
وفيه اشيع انتقال الأمراء المصرلية من جهة البحيرة وقبلوا إلى ناحية الجسر الأسود وأشيع أيضا أن جماعة منهم نزلوا بصحبة جماعة من الانكليز إلى البحر قاصدين التوجه إلى اسلامبول وانتقل كتخدا بك خلفهم بعساكره ولكن لم يتجاسروا على الاقدام عليهم.
وفيه وصلت الأخبار من الجهات الشامية بهروب محمد باشا أبي مرق من يافا واستيلاء عساكر أحمد باشا الجزار عليها وذلك بعد حصاره فيها سنة وأكثر.
وفي رابع عشره حضر كتخدا الباشا وتقدم الأمراء المصرلية إلى جهة قبلي حتى عدوا الجيزة وحصل منهم ومن العساكر العثمانية الضرر الكثير في مرورهم على البلاد من التفاريد والكلف ورعى الزروع وقطع الطرق(2/551)
برا وبحرا وكان آغات الجو إلى القبلية وهو نجيب أفندي كتخدا الدفتردار وصحبته أرباب مناصب عدوا إلى الجيزة متوجهين إلى الصعيد ونصبوا خيامهم ببر الجيزة فصادفوهم وهجموا عليهم وقتلوا منهم من وجدوه وهرب الباقون فاستولوا على خيامهم ووطاقهم وكذلك كتخدا الدفتردار خرج إلى مصر القديمة متوجها إلى الصعيد لقبض الغلال والأموال فاستمر مكانه وتأخر لعدم المراكب وخوفا من المذكورين.
وفيه ورد الخبر بنزول شريف باشا إلى المراكب بالقلزم يوم الخميس سادس عشره.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه طلبوا أيضا خمسة آلاف كيس سلفة من التجار ثلاثة آلاف كيس ومن الملتزمين ألفا كيس وشرعوا في توزيعها فأنزعج الناس وأغلق أهل الغورية حوانيتهم وكذا خلافهم وهرب أهل وكالة الصابون إلى الشام على الهجن واختفى أكثر الناس مثل السكرية وأهل مرجوش وخلافهم فطلبهم المعينون ولزموا بيوتهم وسمروا مطابخ السكر وكذلك عملوا فردة على البلاد أعلى وأوسط وأدنى إلا على خمسمائة ريال والأوسط ثلثمائة والادنى مائة وخمسون.
وفيه تحقق الخبر بنزول طائفة الانكليز وسفرهم من ثغر الأسكندرية في يوم السبت حادي عشره ونزل بصحبتهم محمد بك الألفي وصحبته جماعة من اتباعه.
وفي خامس عشرينه حضر أحمد باشا والي دمياط وكانوا أرسلوا له طوخا ثالثا وأنه يحضر ويتوجه لمحافظة مكة وكذلك قلدوا آخر باشاوية المدينة يسمى أحمد باشا وضعوا لهما عسكرا يسافرون صحبتهم للمحافظة من الوهابيين وأخذوا في التشهيل.
وفي هذه الأيام كثر تشكي العسكر من عدم الجامكية والنفقة فإنه اجتمع لهم جامكية نحو سبعة أشهر وقد قطع عليهم الباشا رواتبهم وخرجهم لقلة الايراد وكثرة المطلوبات وكراهته لهم فصار كبراؤهم يترددون(2/552)
ويكثرون من مطالبة الدفتردار حتى كان يهرب من بيته غالب الأيام وأشيع بالمدينة قيام العسكر وأنهم قاصدون نهب امتعة الناس فنقل أهل الغورية وخلافهم بضائعهم من الحوانيت وامتنع الكثير منهم من فتح الحوانيت وخافهم الناس حتى في المرور وخصوصا أوقات المساء فكانوا إذا انفردوا بأحد شلحوه من ثيابه وربما قتلوه وكذلك أكثروا من خطف النساء والمردان.
وفي ليلة الثلاثاء ثامن عشرينه كان انتقال الشمس لبرج الحمل وأول فصل الربيع وفي تلك الليلة هبت رياح شمالية شرقية هبوبا شديدا مزعجا واستمرت بطول الليل وفي آخر الليل قبل الفجر اشتد هبوبها ثم سكنت عند الشروق وسقط تلك الليلة دار بالحبالة بالرميلة ومات بها نحو ثلاثة أشخاص وداران أيضا بطولون وغير ذلك حيطان وأطارف أماكن قديمة ثم تحولت الريح غربية قوية واستمرت عدة أيام ومعها غيم ومطر.
وفيه وصل الأمراء المصرلية إلى الفيوم فأخذوا كلفا ودراهم كثيرة فردوها على البلاد ثم سافروا إلى الجهة القبلية.
وفيه ورد الخبر بأن المراكب التي بها ذخيرة أمير الحاج بالقلزم المتوجهة إلى الينبع والمويلح غرقت بما فيها ومركب الجميعي من جملتها.
وفيه حضر مصطفى بينباشا الذي كان أيام الوزير بمصر إلى بلبيس وهو موجه بطلب مبلغ دراهم فأقام ببلبيس حتى أرسلوها له ثم ذهب إلى دمياط وصحبته نحو الأربعمائة من الارنؤد ليسافر من البحر.
وفيه توجه المحروقي والكثير من الناس لزيارة سيدي أحمد البدوي لمولد الشرنبلالية وأخذ معه عدة كثيرة من العسكر خوفا من العربان ووصل إليه فرمان بطلب دراهم من أولاد الخادم ومن أولاد البلد فدلوا على مكان لمصطفى الخادم فأستخرجوا منه ستة آلاف ريال وطلبوا من كل واحد من أولاد عمه مثلها(2/553)
شهر ذي الحجة الحرام سنة 1217.
استهل بيوم الجمعة في يوم الإثنين رابعه قتلوا شخصا عسكريا نصرانيا عند باب الخرق قتله آغات التبديل بسبب أنه كان يقف عند باب داره بحارة عابدين هو ورفيقان له ويخطفون من يمر بهم من النساء في النهار إلى أن قبض عليه وهرب رفيقاه.
وفيه أيضا أخرجوا من دار بحارة خشقدم قتلى كثيرة نساء ورجالا من فعل العسكر.
وفيه عدي إبراهيم باشا إلى بر الجيزة.
وفي يوم الأحد عاشره كان عيد الأضحى في ذلك اليوم حضر من الأمراء القبالي مكاتبة على يد الشيخ سليمان الفيومي خطابا للمشايخ فأخذها بختمها وذهب بها إلى الباشا ففتحها واطلع على ما فيها ثم طلب المشايخ فحضروا إليه وقت العصر.
وفي يوم الجمعة خامس عشره حضرت مكاتبات من الديار الحجازية يخبرون فيها عن الوهابيين أنهم حضروا إلى جهة الطائف فخرج إليهم شريف مكة الشريف غالب فحاربهم فهزموه فرجع إلى الطائف وأحرق داره التي بها وخرج هاربا إلى مكة فحضر الوهابيون إلى البلدة وكبيرهم المضايفي نسيب الشريف وكان قد حصل بينه وبين الشريف وحشة فذهب مع الوهابيين وطلب من مسعود الوهابي أن يؤمره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف ففعل فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام حتى غلبوا فأخذ البلدة الوهابيون واستولوا عليها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والاطفال وهذا دأبهم مع من يحاربهم.
وفي ذلك اليوم مر أربعة أنفار من العسكر وأخذوا غلاما لرجل حلاق بخط بين السورين عند القنطرة الجديدة فعارضهم الاوسطى الحلاق في أخذ الغلام فضربوا الحلاق وقتلوه ثم ذهبوا بالغلام إلى دارهم بالخطة فقامت في الناس ضجة وكرشة وحضر اغات التبديل فطلبهم فكرنكوا بالدار(2/554)
وضربوا عليه البنادق من الطيقان فقتلوا من اتباعه ثمانية أنفار ولم يزالوا على ذلك إلى ثاني يوم فركب الباشا في التبديل ومر من هناك وأمر بالقبض عليهم فنقبوا عليهم من خلف الدار وقبضوا عليهم بعد ما قتلوا وجرحوا آخرين فشنقوهم ووجدوا بالدار مكانا خربا اخرجوا منه زيادة عن ستين امرأة مقتولة وفيهن من وجدوها وطفلها مذبوح معها في حضنها.
وفيه حضر علي آغا الوالي إلى بيت أحمد آغا شويكار بضرب سعادة واخرج منه قتلى كثيرة وامثال ذلك شيء كثير.
وفي خامس عشره أيضا أمر الباشا الوجاقلية أن يخرجوا جهة العادلية لأجل الخفر من العربان فإنهم فحش أمرهم وتجاسروا في التعرية والخطف حتى عل نواحي المدينة بل وطريق بولاق وغير ذلك فلما كان في ثاني يوم ركب الوجاقلية بأبهتهم وبيارقهم وحضروا إلى بيت الباشا وخرجوا من هناك إلى وطاقهم الذي أعدوه لأنفسهم خارج القاهرة وشرعوا أيضا في تعمير قصر من القصور الخارجة التي خربت أيام الفرنسيس.
وفي تاسع عشره سافر جماعة الوجاقلية المذكورين وصحبتهم عدة من العسكر إلى جهة عرب الجزيرة بسبب اغارة موسى خالد ومن معه على البلاد وقطع الطرق فلاقاهم المذكور وحاربهم وهزمهم إلى وردان وذهب هو إلى جهة البحيرة.
وفي رابع عشرينه يوم الأحد كان عيد النصارى الكبير في ليلتها وهي ليلة الإثنين وقع الحريق في الكنيسة التي بحارة الروم وفي صبحها شاع ذلك فركب إليها أغات الانكشارية والوالي وأحضروا السقائين والفعلة الذين يعملون في عمارة الباشا حتى أخذوا الناس المجتمعة بسوق المؤيد بالانماطيين وحضر الباشا أيضا في التبديل واجتهدوا في اطفائها بالماء والهدم حتى طفئت في ثاني يوم واحترق بها أشياء كثيرة وذخائر وأمتعة ونهبت أشياء.
وفيه وردت أخبار بأن الأمراء المصرلية وصلوا إلى منية بن خصيب(2/555)
فأرسلوا إلى حاكمها بأن ينتقل منها ويعدى هو ومن معه من العسكر إلى البر الشرقي حتى أنهم يقيمون بها أياما ويقضون اشغالهم ثم يرحلون فأبوا عليهم وحصنوا البلدة وزادوا في عمل المتاريس وحاكمها المذكور سليم كاشف تابع عثمان بك الطنبرجي المرادي المقتول فإنه سالم العثمانيين وانضم إليهم فألبسوه حاكما على المنية واضافوا إليه عساكر فذهب إليها ولم يزل مجتهدا في عمل متاريس ومدافع حتى ظن أنه صار في منعة عظيمة فلما أجابهم بالامتناع حضروا إلى البلدة وحاربهم اشد المحاربة مدة أربعة أيام بلياليها حتى غلبوا عليهم ودخلوا البلدة وأطلقوا فيها النار وقتلوا أهلها وما بها من العسكر ولم ينج منهم إلا من ألقى نفسه في البحر وعام إلى البر الآخر أو كان قد هرب قبل ذلك وأما سليم كاشف فإنهم قبضوا عليه حيا وأخذوه أسيرا إلى إبراهيم بك فوبخه وأمر بضربه فضربوه علقة بالنبابيت.
وفيه وصلت هجانة من شريف باشا بمكاتبة للباشا والدفتردار يخبر فيها أنه وصل إلى الينبع وهو عازم على الركوب من هناك على البر ليدرك الحج ويترك أثقاله تتوجه في المركب إلى جده.
وفي غايته وصل سلحدار الباشا وصحبته أغات المقرر الذي تقدمت بشارته فلما وصلوا إلى بولاق أرسل الباشا في صبحها إليهم فركبوا في موكب إلى بيت الباشا وضربوا لهم مدافع وحضر المشايخ والقاضي والأعيان والوجاقات فقرىء عليهم ذلك وفيه الأمر بتشهيل غلال للحرمين والحث والأمر بمحاربة المخالفين.
وفيه بعثوا نحو ألف من العسكر إلى جهة اسيوط للمحافظة فساروا على الهجن من البر الشرقي.
وفيه ارسلوا أوراقا إلى التجار وأرباب الحرف بطلب باقي الفردة وهو القدر الذي كان تشفع فيه المحروقي وأخذوا في تحصيله.
وانقضت هذه السنة وما وقع بها من الحوادث الكلية التي ذكر بعضها(2/556)
وأما الجزئية فلا يمكن الإحاطة ببعضها فضلا عن كلها لكثرتها واختلاف جهاتها واشتغال البال عن تتبع حقائقها ونسيان الغائب بالاشتع والقبيح بالاقبح فمن الكلية التي عم الضرر بها زيادة المكوس أضعاف المعتاد في كل ثغر ذهابا وإيابا ومنها توالي الفرد والسلف والمظالم على أهل المدينة والارياف وحق طرق المعينين وكلفهم الخارجة عن الحد والمعقول بأدنى شكوى ولو بالباطل فبمجرد ما يأتي الشاكي بعرضحال شكواه يكتب له ورقة ويعين بها عسكري أو اثنان أو أكثر بحسب اختيار الشاكي وطلبه للتشفي من خصمه فبمجرد وصوله إلى المشكى بصورة منكرة وسلاح كثير متقلد به فلا يكون له شغل إلا طلب خدمته ولا يسأل عن الدعوى ولا عن صورتها ويطلب طلبا خارجا عن المعقول كألف قرش في دعوى عشرة قروش وخصوصا إذا كانت الشكوى على فلاح في قرية فيحصل أشنع من ذلك من إقامتهم عندهم وطلبهم وتكليفهم الذبائح والفطور بما يشترطونه ويقترحونه عليهم وربما يذهب الشخص الذي يكون بينه وبين آخر عداوة قديمة أو مشاحنة أو دعوى قضى عليه فيها بحرق من زمان طويل فيقدم له عرضحال ويعين له مباشرا بفرمان ويذهب هو فلا يظهر ويذهب المعين في شغله والمشكي لا يرى الشاكي ولا يدري من اين جاءته هذه المصيبة ويمكن أنه من بعد خلاصه من أمر المباشر يحضر إلى بيت الباشا ويفحص عن خصمه ويعرفه فينهى دعواه ويظهر حجته بأنه على الحق وأن خصمه على الباطل فيقال له عين على خصمك أيضا فإن أجاب إلى ذلك رسم له بفرمان ومعين آخر كذلك والا ترك أجره على الله ورجع فضاق ذرع الناس من هذه الحال وكرهوا هذه الاوضاع وربما قتل الفلاحون المعينين وهربوا من بلادهم وجلوا عن أوطانهم خوف الغائلة ولم يزل هذا دأبهم حتى نفرت منهم القلوب وكرهتهم النفوس وتمنوا لهم الغوائل وعصت أهل النواحي وعربدت العربان وقطعوا الطرق وعلموا خيانتهم فخانوهم ومكالبتهم فكالبوهم وانتمى عربان الجهة القبلية إلى الأمراء(2/557)
المصرلية وساعدوهم عليهم ولما انحدر الأمراء إلى جهة بحري انضمت إليهم جميع قبائل الجهة العربية والهنادي وعرب البحيرة وخلافهم فلما وقعت الحروب بين الأمراء والعثمانيين وكانت الغلبة للامراء والعربان زادت جسارتهم عليهم ورصدوا لهم الغوائل وقطعوا عليهم وعلى المسافرين الطرق بحرا وبرا فمن ظفروا به ومانعهم نهبوا متاعه وقتلوه والا سلبوه وتركوه فحش الأمر جدا قبلي وبحري حتى وقف حال الناس ورضوا عن أحكام الفرنسيس ومنها أن الباشا لما قتل الوالي والمحتسب وعمل قائمة تسعيرة للمبيعات وأن يكون الرطل اثنتي عشرة أوقية في جميع الأوزان وأبطلوا الرطل الزياتي الذي يوزن به السمن والجبن والعسل واللحم وغير ذلك وهو أربع عشرة أوقية لم ينفذ من تلك الاوامر شيء سوى نقص الأرطال ولم يزل ذو الفقار محتسبا حتى رتب المقررات على المتسببين زيادة عن القانون الأصلي وجعل منها قسط الخزينة الباشا وللكتخدا وخلافهما ورجعت الأمور في الأسعار أقبح وأغلى مما كانت عليه في كل شيء واستمر الرطل اثنتي عشرة أوقية لا غير وكثر ورود الغلال أيام النيل ورخص سعرها والرغيف على مقدار رغيف الغلاء ومنها أن الفضة الانصاف العددية صاروا يأخذونها من دار الضرب أول بأول ويرسلونها إلى الروم والشام بزيادة الصرف ولا ينزل إلى الصيارف منها إلا القليل حتى شحت بأيدي الناس جدا ووقف حالهم في شراء لوازم البيوت ومحقرات الأمور ويدور الأسانن بالريال أو المحبوب أو المجر وهو في يده طول النهار فلا يجد مصارفته وأغلقت غالب الصيارف حوانيتهم بسبب ذلك وبسبب أذية العسكر فإنهم يأتون إليهم ويلزمونهم بالمصارفة فيقول له الصيرفي ليس عندي فضة فلا يقبل عذره ويفزع عليه بيطقانه أو بارودته وأن وجد عنده المصارفة وكان المحبوب أو البندقي ناقصا في الوزن لا يستقيم في نقصه ولا يأخذ إلا صرفه كاملا وإذا اشترى شيئا من سوقي أعطاه بندقيا وطلب باقيه ولم يكن عند البائع باقيه أخذ(2/558)
الذي اشتراه والبندقي وذهب ولا يقدر المسبب على استخلاص حقه منه وأن وجد معه باقي المصارفة وأخذ ذلك البندقي ونقد عند الصراف وكان ناقصا وهو الغالب لا يقدر الصيرفي أن يذكر نقصه فإن قال أنه ينقص كذا فزع عليه وسبه وبعضهم أدخل اصبعه في عين الصراف وأمثال ذلك.
ومنها شحة المراكب حتى أن المسافر يمكث الأيام الكثيرة ينتظر مركبا فلا يجد وربما أخذوها بعد تمام وسقها فنكتوه وأخذوها وأن مرت على الأمراء المصرلية ومن انضم إليهم تعرضوا لها ونهبوا ما بها من الشحنة وأخذوا المركب واستمر هذا الحال على الدوام فكان ذلك من اعظم أسباب التعطيل أيضا.
ومنها تسلط العسكر على خطف الناس وسلبهم وقتلهم وخصوصا في اواخر هذه السنة حتى امتنعت الناس من المرور في جهات سكنهم إلا أن يكونوا في عزوة ومنعة وقوة ولا تكاد ترى شخصا يمر في الأسواق السلطانية من بعد المغرب وقبيل العشاء وإذا اضطر الإنسان إلى المرور تلك الأوقات فلا يمر إلا كالمجازف على نفسه وكأنما على رأسه الطير فيقال أن فعلهم هذه الفعائل من عوائدهم الخبيثة إذا تأخرت نفقاتهم فعلوا ذلك مع العامة على حد قول القائل خلص تارك من جارك وذلك كله بسبب تأخير جماكيهم وقطع خرجهم نحو خمسة أشهر والباشا يسوقهم ويقول هؤلاء لا يستحقون فلسا وأي شيء خرج من يدهم وطول المدى نكلفهم ونعطيهم وما ستروا أنفسهم مع الغز المصرلية ولا مرة فلا حاجة لنا بهم بل يخرجون علي ويذهبون حيث شاؤا فليس منهم إلا الرزية والفنطزية وهم يقولون لا نخرج ولا نذهب حتى نستوفي حقنا على دور النصف الفضة الواحد وأن شئنا أقمنا وأن شئنا ذهبنا ومنها استمرار الباشا على الهمة والاجتهاد في العمارة والبناء وطلب الاخشاب والمؤن حتى عز جميع أدوات العمارة وضاق حال الناس بسبب احتياجهم لعمارة أماكنهم التي تخرب في الحوادث السابقة وبلغ سعر الاردب الجبس مائة وعشرين(2/559)
نصفا والجير المخلوط أربعين نصفا واجرة المعلم في اليوم خمسة وأربعين نصفا ويتبعه آخر مثل ذلك والفاعل اثنين وعشرين نصفا وأحدثوا أخذ إجازة من المعمارجي وهو أن الذي يريد بناء ولو كانونا لا يقدر أن يأتيه البناء حتى يأخذ ورقة من المعمارجي ويدفع عليها خمسين نصفا ولم يزل الاجتهاد في العمارة المذكورة حتى أقاموا جانبا من القشلة وهي عبارة عن وكالة يعلوها طباق وأسفلها اصطبلات وحولها من داخل حواصل ومن خارج حوانيت وقهوة فعندما تمت الحوانيت ركبوا عليها درفها وأسكنوا بها قهوجيا ومزينا من أتباع الباشا وخياطين وعقادين وسروجية الباشا وغير ذلك ولم يكمل تسقيف الطباق وعملوا لها بوابة عظيمة بمصاطب وهدموا حائط الرحبة المقابلة لبيت الباش الخارجة وعمرت وانشئت بالحجر النحت المحكم الصنعة وعملوا لها بابا عظيما ببدنات وابراج عظيمة وبها طاقات عليا وسفلى وصفوا بها المدافع العظيمة وبركة الرحبة مثل ذلك وعملوا لها باب آخر قبالة باب القشلة بحيث صار بينها وبين القشلة رحبة متسعة يسلك منها المارون إلى جهة بولاق على الجسر الذي عمله الفرنسيس ويخرجون أيضا في سلوكهم من بوابة عظيمة إلى طريق بولاق من الجهة الغربية بحائط حجر متصلة من الحربة حيث البوابة المواجهة للقشلة إلى آخر القشلة وعلى هذه البوابة من الجهتين مدافع مركبة على بدنات وابراج وطيقان مهندمة وبأسفلها من داخل مصطبة كبيرة من حجر وبها باب يصعد منه إلى تلك الأبراج والجبخانة والعساكر جلوس على تلك المصاطب الخارجة والداخلة لابسين الأسلحة وبنادقهم مرصوصة بدائر الحيطان وبداخل الرحبة الوسطانية مدافع عظيمة مرصوصة بطول الرحبة يمينا وشمالا وكذلك بداخل الحوش الجواني الأصلي وبأسفل البركة نحو المائتي مدفع مرصوصة أيضا وعربيات وصناديق جبخانة وآلات حرب وغير ذلك والجبخانة الكبيرة لها محل مخصوص بالحوش الداخل الأصلي ولها خزنة وطبجية وعربجية(2/560)
ومنها أنه عدم البصل الاحمر حتى بيع الرطل بسعر القنطار في الزمن السابق وعدم الملح أيضا بسبب احتكاره وعدم المراكب التي تجلبه من بحري لما ترتب عليهم من زيادة الجمرك وعدم مكاسبهم فيه لأن الذي تولى على جمرك الملاحة صار يأخذه من أصحابه على ذمته بسعر قليل معلوم ويبيعه على ذمته بسعر كثير لمن يسافر به إلى جهة قبلي وذلك خلاف ما يأخذه من المراكب التي تحمله فامتنع المتسببون فيه من تجارته فعز وجوده في آخر السنة حتى بيع الربع بثمانين نصفا من ثلاث انصاف وضجت الناس من ذلك فأرسل ذلك الملتزم ثلاثة مراكب على ذمته ووسقها ملحا وصار يبيع الربع بعشرين نصفا ويبيعه المسبب بثلاثين وهذا لم يعهد فيما تقدم من السنين وعدم أيضا الصابون بسبب تأخر القافلة حتى بيع بأغلى ثمن ثم حضرت القافلة فانحل سعره وتواجد وغير ذلك مما لا يمكن الاحاطة به ونسأل الله تعالى حسن العاقبة(2/561)
سنة ثمان عشرة ومائتين وألف.
شهر محرم الحرام سنة 1218.
استهل بيوم السبت في ذلك اليوم وقعت زعجة عظيمة في الناس وحصلت كرشات في مصر وبولاق وحوانيتهم ورفعوا منها ماخف من متاعهم من الدكاكين وبعضهم ترك حانوته وهرب والبعض سقط متاعه من يده ولم يشعر من شدة ما لحقهم من الخوف والارجاف ولم يعلم سبب ذلك فيقال أن السبب في ذلك أن جماعة من كبار العسكر ذهبوا إلى الباشا وطلبوا جماكيهم المنكسرة وخرجهم فقال لهم اذهبوا إلى الدفتردار فذهبوا إلى الدفتردار فقال لهم جمكيتكم عند محمد علي فذهبوا إلى محمد علي وكانوا وعدوهم بقبض جامكيتهم في ذلك اليوم فلما ذهبوا إلى محمد علي قال لهم لم أقبض شيئا فعلموا معه شراسة وضرب بينهم بعض بنادق وهاجت العسكر عند بيت محمد علي سرششمه فحصلت هذه الزعجة في مصر وبولاق ثم سكن ذلك بعد أن وعدهم بعد ستة أيام(2/561)
وفيه وردت عدة تقارير وبها جبخانة وجملة من العسكر وصحبتهم إبراهيم اغا الذي كان كاشف الشرقية عام أول وكان توجه إلى اسلامبول فحضر وصحبته ذلك فحملوا الجبخانة وطلعوها إلى القلعة فيقال أنها متوجهة إلى جدة بسبب فتنة الحجاز وقيل غير ذلك.
وفي يوم الجمعة سابعه ثارت العسكر وحضروا إلى بيت الدفتردار فاجتمعوا بالحوش وقفلوا باب القيطون وطردوا القواسة وطلع جمع منهم فوقفوا بفسحة المكان الجالس به الدفتردار ودخل أربعة منهم عند الدفتردار فكلموه في انجاز الوعد فقال لهم أنه اجتمع عندي نحو الستين ألف قرش فأما أن تأخذوها أو تصبروا كم يوم حتى يكمل لكم المطلوب فقالوا: لا بد من التشهيل فإن العسكر تقلقوا من طول المواعيد فكتب ورقة وأرسلها إلى الباشا بأن يرسل إليه جانب دراهم تكملة للقدر الحاصل عنده في الخزينة فرجع الرسول وهو يقول: لا أدفع ولا آذن بدفع شيء فأما أن يخرجوا ويسافروا من بلدي أو لا بد من قتلهم عن آخرهم فعندما رجع بذلك الجواب قال له: ارجع إليه واخبره أن البيت قد امتلأ بالعساكر فوق وتحت وأني محصور بينهم فعند وصول المرسال وقبل رجوعه أمر الباشا بأن يديروا المدافع ويضربوها على بيت الدفتردار وعلى العسكر فما يشعر الدفتردار إلا وجلة وقعت بين يديه فقام من مجلسه إلى مجلس آخر وتتابع الرمي واشتعلت النار في البيت وفي الكشك الذي أنشأه ببيت جده المجاور لبيته وهو من الخشب والحجنة من غير بياض لم يكمل فالتهب بالنهار فنزل إلى اسفل والارنؤد محيطة به وبات تحت السلالم إلى الصباح ونهب العسكر الخزينة والبيت ولم يسلم إلا الدفتردار والأوراق وضعوها في صناديق وشالوها وكان ابتداء رمي المدافع وقت صلاة الجمعة وأما أهل البلد فإنهم كانوا متخوفين ومتطيرين من قومه أو فزعة تحصل من العسكر قبل ذلك فلما عاين الناس تجمعهم ببيت الدفتردار شاع ذلك في المدينة ومر الوالي يقول للناس: ارفعوا متاعكم(2/562)
واحفظوا أنفسكم وخذوا حذركم وأسلحتكم فأغلق الناس الدكاكين والدروب وهاجوا وماجوا فلما سمعوا ضرب المدافع زاد تطيرهم وتخيلوا هجوم العكسر ونهب البلد بل ودخول البيوت ولا راد يردهم ولا حاكم يمنعهم ونادى المنادي معاشر الناس وأولاد البلد كل من كان عنده سلاح فليلبسه واجتمعوا عند شيخ مشايخ الحارات يذهب بكم إلى بيت الباش وحضرت أوراق من الباشا لأهل الغورية ومغاربة الفحامين وتجار خان الخليل وأهل طولون يطلبهم بأسلحتهم والحضور عنده والتحذير من التخلف فذهب بعض الناس فأقاموهم عند بيت حريم الباشا وبيت بن المحروقي المجاور له وهو بيت البكري القديم فباتوا ليلتهم هناك وحضر حسن آغا والي العمارة عشاء تلك الليلة وطاف على الناس يحرضهم على القيام ومعاونة الباشا وتجمع بعض الاوباش بالعصي والمساوق وتحزبوا أحزابا وعملوا متاريس عند رأس الوراقين وجهة العقادين والمشهد الحسيني فلما دخل الليل بطل الرمي إلى الصباح فشرعوا في الرمي بالمدافع والقنابر من الجهتين وتترست العساكر بجامع أزبك وبيت الدفتردار وبيت محمد علي وكوم الشيخ سلامة وداخل الناس خوف عظيم من هذه الحادثة وأما القلعة الكبيرة فإن الباشا مطمئن من جهتها لأنه مقيد بها الخازندار ومعه عدة من الارنؤد وغيرهم وقافل أبوابها ولما كان يوم الجمعة امس تاريخه قبل حصول الواقعة وحضر اغات الإنكشارية والوجاقلية لأجل السلام على عادتهم ودخلوا عند كتخدا بك فقال لهم: نبهوا على أهل البلد بغلق الدكاكين والأسواق والاستعداد فإن العسكر حاصل عندهم قلة أدب فلما طلعوا عند الباشا أعلموه بمقالة كتخدا بك فقال لهم: نعم فقال له آغات الانكشارية: يا سلطانم ينبغي الاحتفاظ بالقلعة الكبيرة قبل كل شيء فقال: إن بها الخازندار واوصيته بالاحتفاظ وغلق الأبواب فقال له الاغا: لكن ينبغي أن نترك عند كل باب من خارج قدر خمسين انكشاريا فقال وايش فائدتهم ما عليكم من هذا الكلام(2/563)
تريدون تفريق عساكري اذهبوا لما امرتكم به وذلك لأجل انفاذ القضاء وحضر طاهر باشا أيضا في ذلك الوقت وهو كالمحب ومكمن العداوة فلم يقابله الباشا وأمره بأن يذهب إلى داره ولا يقارش فلما كان في صبحها يوم السبت رتب الباشا عساكره على طريقة الفرنسيس وهو المسمى بالنظام الجديد فخرجوا بأسلحتهم وبنادقهم وخيولهم وهم طوابير ومروا حوالي البركة وانقسموا فرقتين فرقة أتت على رصيف الخشاب وفرقة على جهة باب الهواء ليأخذوا الارنؤدية بينهم ويحصروهم من الجهتين فلما حضرت الفرقة التي من ناحية رصيف الخشاب قاتلوا الارنؤدية فعند ذلك أركبوا الدفتردار وأخذوه إلى بيت طاهر باشا ومعه أتباعه وأنهزم الارنؤدية من تلك الجهة وانحصروا جهة جامع ازبك واشتغلوا بمحاربة الفرقة الاخرى وتحققوا الهزيمة والخذلان وعندما وصلت عساكر الباشا إلى بيت الدفتردار والمحروقي وبيت حريم الباشا اشتغلوا بالنهب واخراج الحريم وتركوا القتال وتفرقوا بالمنهوبات وفترت همة الفرقة الأخرى وجرى أكثرهم ليخطف شيئا ويغنم مثلهم وقالوا نحن نقاتل ونموت لاعلى شيء وأصحابنا ينهبون ويغنمون فهزموا أنفسهم لذلك وتراجع الارنؤدية واشتدت عزيمتهم ورجع البعض منهم على عساكر الباشا فهزموا من بقي منهم وملكوا الجهة التي كانوا أجلوهم عنها فعند ذلك ظهر طاهر باشا وركب إلى الرميلة وتقدم إلى باب العزب فوجده مغلوقا فعالج الطاقات الصغار التي في حائط باب العزب القريبة من الأرض المعدة لرمي المدافع من أسفل ففتح بعضها ودخل منها بعض عسكر فتلاقوا مع الارنؤد المحافظين داخل الباب فالتف بعضهم على بعض ثم طلعوا عند الخازندار وكان عنده ابن أخت طاهر باشا ممرضا قبل ذلك بايام وصحبته طائفة أيضا فالتفوا على بعضهم وصاروا عصبة وطلبوا مفاتيح القلعة من الخازندار فمانعهم ولما رأى منهم العين الحمراء سلمهم المفاتيح فنزلوا وفتحوا الأبواب لطاهر باشا وحبسوا الخازندار وأنزلوا من القلعة مدافع وبنبات وجبخانة(2/564)
إلى الأزبكية لجماعتهم وكذلك قيدوا بالقلعة طبجية وعساكر كل ذلك ومحمد باشا لا يدري بشيء من ذلك فلم يشعر إلا والضرب نازل عليه من القلعة فسأل ما هذا فقيل له: إنهم ملكوا القلعة فسقط في يذه وعند ذلك نزل طاهر باشا من القلعة وشق من وسط المدينة وهو يقول بنفسه مع المنادي أمان واطمئنان افتحوا دكاكينكم وبيعوا واشتروا وما عليكم باس وطاف يزور الأضرحة والمشايخ والمجاذيب ويطلب منهم الدعاء ورفع الناس المتاريس من الطرق وانكفوا عن مقارشة العسكر وكذلك لم يحصل أذية من العسكر لاحد من الرعية وأمروا بفتح مخابز العيش والمآكل وأخذوا واشتروا عن غير اجحاف ولا بخس فلما علم الباعة منهم ذلك ذهبوا إليهم بالعيش والكعك والجبن والفطير والسميط وغير ذلك ودخلوا فيهم يبيعون عليهم وهم يشترون منهم بالمصلحة وصار بعض أولاد البلد يذهب إلى الفرجة ويدخل بينهم ويمر من وسطهم فلا يتعرضون لهم ويقولون: نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا ووجدوا مع البضع سلاحا ذهب به عندما أرسل الباشا ونادى بالناس فردوهم بلطف وكل ذلك على غير القياس وطاهر باشا لم يكن له شغل إلا الطواف بالمدينة والأسواق وخارج البلد ويقول للفلاحين الذين يجلبون الحطب والجلة والسمن والجبن من الارياف كونوا على ما أنتم عليه وهاتوا أسبابكم وبيعوا واشتروا وليس عليكم باس وحضر إليه الوالي فأمره بالمرور والمناداة بالأمن للناس واستمر الحرب بين الفريقين نهار السبت واشتد ليل الأحد طول الليل فما أصبح النهار حتى زحف عساكر الارنؤد إلى جامع عثمان كتخدا والي حارة النصارى من الجهة الاخرى وطلعوا إلى التلول التي بناحية بولاق وملكوا بولاق وهجموا على مناخ الجمال الذي بالقرب من الشيخ فرج فقتلوا من به من عسكر التكرور وهرب من بقى منهم عريانا وقبضوا على منش القبطان وعدوا بالغليون إلى برانبابة ونهبوا ما فيه وكان به مال القبطان وذخائره التي جمعها من مظالم المراكب والمسافرين والقادمين شيا كثيرا وكذلك ذهبت(2/565)
طائفة منهم إلى قصر العيني وقبضوا على من به ومن عبيد الباشا وعروهم وأخذوهم أسرى ونهبوا بيت السيد أحمد المحروقي بالازبكية وهو بيت البكري القديم وقد كان اخلاه لنفسه وعمره وسكنه بحريمه فنهبوا منه شيئا كثيرا يفوق الحصر واخرجوا منه النساء بعد ما فتشوهن أو افتدين أنفسهن وكذلك بيت حريم الباشا الملاصق له بعد ما أرسل الباشا عساكره قبل بيوم فنقل منه الحريم عنده بطولهن لا غير ونهبوا بيت جرجس الجوهري وأخذوا منه أشياء نفيسة كثيرة وفراوي مثمنة وحريم بيت الباشا لم يتمكنوا منه إلا بعد انفضاض القضية بيومين بسبب أن المحافظين عليه كانوا ثمانية عشر فرنساويا فحاصروا فيه هذه المدة حتى خرجوا منه بامان وأما سكان تلك الخطة فإنهم كانوا يذهبون إلى طاهر باشا أو محمد علي فيرسل معهم عسكر لخفارتهم حتى ينقلوا امتعتهم أو أمكنهم إلى جهات بعيدة عن ذلك المحل ليامنوا على أنفسهم من الحرب وهرب المحروقي وابنه عند الباشا ولاحت لوائح الخذلان على الباشا واستعد للفرار فإنه لما بات تلك الليلة لم يجد عليقا ولا خبزا فعلقوا على الخيل أرزا وتعشى الباشا بالقسمات وأرسل إلى حارة النصارى فطلب منهم خبزا فأرسلوا له خبزا فخطفه الارنؤد في الطريق ولم يصل إليه ثم عسكر الارنؤد أحضروا آلة بنية ووضعوها بالبركة وضربوا بها على بيت الباشا فوقعت واحدة على الباذاهنج فألتهب فيه النار فأرادوا اطفاءها فلم يجدوا سقائين تنقل الماء ويقال أن الخازندار الذي كان بالقلعة لما قبضوا عليه التزم لهم بحرق بيت الباشا ويطلقوه فأرسل بعض أتباعه إلى مكانه الذي ببيت الباشا فأوقدوا فيه النار في ذلك الوقت واشتعلت في الاخشاب والسقوف وسرت إلى مساكن الباشا فعند ذلك نزل الباشا إلى أسفل وأنزل الحريم وعددهن سبع عشرة امرأة فأركبهن بغالا وأمر الدلاة والهوارة أن يتقدموهن وركب صحبتهن المحروقي وابنه وترجمانه وصير فيه وعبيده وفراشوه وتأخر الباشا حتى أركب الحريم ثم ركب في مماليكه ومن بقي من عسكره(2/566)
وأتباعه وركب معه حسين آغاشنن وبعض آغوات وصحبته ثلاث هجن وخرج إلى جزيرة بدران فعندما أشيع ركوبه هجمت عساكر الارنؤد على البيت واشتغلوا بالنهب هذا والنار تشتعل فيه وكان ركوبه قبيل أذان العصر من يوم الأحد تاسع المحرم وخرج خلفه عدة وافرة من عسكر الارنؤد فرجع عليهم وهزمهم مرتين وقيل ثلاثا وأما المحروقي ومن معه فإنهم تشتتوا من بعضهم خلف الدلاة ولم يلحقوهم وانقطع حزام بغلته فنزل عنها فأدركه العساكر المتلاحقة بالباشا فعروه وشلحوه هو واتباعه وابنه وأخذوا منهم نحو عشرين ألف دينار اسلامبولي نقدية وقيل جواهر بنحو ذلك فأدركهم عمر أغا بينباشي المقيم ببولاق فوقعوا عليه فأمنهم واخذهم معه إلى بولاق وباتوا عنده إلى ثاني يوم وأخذ لهم أمانا وحضر إلى طاهر باشا وقابله وكذلك جرجس الجوهري ونهب العسكر بيت الباشا وأخذوا منه شيئا كثيرا وباتت النار تلتهب فيه والدخان صاعد إلى عنان السماء حتى لم يبق فيه إلا الجدران التحتانية الملاصقة للارض واحترقت وأنهدمت تلك الأبنية العظيمة المشيدة العالية وما به من القصور والمجالس والمقاعد والرواشن والشبابيك والقمريات والمناظر والتنهات والخزائن والمخادع وكان هذا البيت من أضخم المباني المكلفة فإنه إذا حلف الحألف أنه صرف على عمارته من أول الزمان إلى أن احترق عشر خزائن من المال أو أكثر لا يحنث فإن الألفي لما انشأه صرف عليه مبالغ كثيرة وكان اصل هذا المكان قصرا عمره وانشأه السيد إبراهيم ابن السيد سعودي اسكندر من فقهاء الحنفية وجعل في اسفله قناطر وبوائك من ناحية البركة وجعلها برسم النزهة لعامة الناس فكان يجتمع بها عالم من اجناس الناس وأولاد البلد شيء كثير وبها قهاوي وبياعون وفكهانية ومغاني وغير ذلك ويقف عندها مراكب وقوارب بها من تلك الاجناس فكان يقع بها وبالجسر المقابل لها من عصر النهار إلى آخر الليل من الخط والنزاهة ما لا يوصف ثم تداول ذلك القصر أيدي الملاك وظهر علي بك وقساوة حكمه فسدوا تلك البوائك(2/567)
ومنعوا الناس عنها لما كان يقع بها في الاحيان من اجتماع أهل الفسوق والحشاشين ثم اشترى ذلك القصر الأمير أحمد أغا شويكار وباعه بعد مدة فاشتراه الأمير محمد بك الألفي في سنة احدى عشرة ومائتين وألف وشرع في هدمه وتعميره وانشائه على الصورة التي كان عليها وكان غائبا جهة الشرقية فرسم لكتخداه صورته في كاغد بكيفية وضعه فحضر ذو الفقار كتخدا وهدم ذلك القصر وحضر الجدران ووضع الأساس وأقام الدعائم ووضع سقوف الدور السفلى فحضر عند ذلك مخدومه فلم يجده على الرسم الذي حدده له فهدمه ثانيا وأقام دعائمه على مراده واجتهد في عمارته وطلب له الصناع والمؤن من الاحجار والأخشاب المتنوعة حتى شحت المؤن في ذلك الوقت وأوقفت أربعة من أمرائه على أربع جهاته وعمل على ذمة العمارة طواحين للجبس وقمن الجير وأحضر البلاط من الجبل قطعا كبارا ونشرها على قياس مطلوبة وذلك الرخام وذلك خلاف انقاض رخام المكان وانقاض الأماكن التي اشتراها وهدمها وأخذ اخشابها وانقاضها ونقلها على الجمال وفي المراكب لأجل ذلك فمنها البيت الكبير الذي كان أنشأه حسن كتخدا الشعراوي على بركة الرطلي وكان به شيء كثير من الاخشاب والانقاض والشبابيك والرواشن نقلت جميعها إلى العمارة فصار كل من الأمراء المشيدين يبني وينقل ويبيع ويفرق على من أحب حتى بنوا دورا من جانب تلك العمارة والطلب مستمر حتى أتموه في مدة يسيرة وركب على جميع الشبابيك شرائح الزجاج أعلى وأسفل وهو شيء كثير جدا وفي المخادع المختصة به ألواح الزجاج البلور الكبار التي يساوي الواحد منهما خمسمائة درهم وهو كثير أيضا ثم فرشه جميعه بالبسط الرومي والفرش الفاخر وعلقوا به الستائر والوسائد المزركشة وطوالات المراتب كلها مقصبات وبنى به حمامين علويا وسفليا إلى غير ذلك فما هو إلا أن ثم ذلك فأقام به نحو عشرين يوما ثم خرج إلى الشرقية فأقام هناك وحضر الفرنسيس فسكنه سارى عسكر بونابارته فعمر فيه(2/568)
أيضا عمارة ولما سافر وأقام مكانه كلهبر عمر فيه أيضا فلما قتل كلهبر وتولى عوضه عبد الله منو لم يزل مجتهدا في عمارته وغير معاليمه وادخل فيه المسجد وبنى الباب على الوضع الذي كان عليه وعقد فوقه القبة المحكمة وأقام في أركانها الأعمدة بوضع محكم متقن وعمل السلالم العراض التي يصع منها إلى الدور العلوي والسفلي من على يمين الداخل وجعل مساكنه كلها تنفذ إلى بعضها البعض على طريقة وضع مساكنهم واستمر يبني فيه ويعمر مدة إقامته إلى أن خرج من مصر فلما حضر العثمانية وتولى على مصر محمد باشا المذكور رغب في سكنى هذا المكان وشرع في تعميره هذه العمارة العظيمة حتى أنه رتب لحرق الجير فقط اثني عشر قمينا تشتغل على الدوام والجمال التي تنقل الحجر من الجبل ثلاث قطارات كل قطار سبعون جملا وقس على ذلك بقية اللوازم ورموا جميع الأتربة في البركة حتى ردموا منها جانبا كبيرا ردما غير معتدل حتى شوهوا البركة وصارت كلها كيمانا واتربة والعجب أن منتهى الرغبة في سكن هذه البركة وأمثالها إنما هو تسريح النظر وانبساط النفس باتساعها واطلاقها وخصوصا أيام النيل حين تمتلىء بالماء فتصير لحة ماء دائرة بركارية مملوءة بالزوارق والقنج والشطيات المعدة للنزهة تسرح فيها ليلا ونهارا وعند دخول المساء يوقدون القناديل بدائرها في جميع قواطين البيوت فيصير لذلك منظر بهيج لا سيما في الليالي المقمرة فيختلط ضحك الماء في وجه البدر والقناديل وانعكاس خيالها كأنها أسفل الماء أيضا وصدى أصوات القيان والاغاني في ليال لا تعد من الأعمار إذ الناس ناس والزمان زمان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إلى أن كان ما كان وقعت هذه الحوادث فتضاعف المسخ والتشويه والعجب أنه لما وقعت الحرابة بين الفرنساوية والعثمانية وأهل مصر وأقام الحرب 36 يوما وهم يضربون على ذلك بالبيت بالمدافع والقنابر لم يصبه شيء ولم ينهدم منه حجرا واحدا ولما وقعت هذه الحرابة بين الباشا وعسكره احترق وأنهدم في ليلة واحدة كذلك احترق بيت الدفتردار وهو بيت ثلاثة ولية الذي كان أنشأه رضوان كتخدا(2/569)
الجلفي وكان بيتا عظيما ليس له نظير في عمارته وزخرفته وكلفته وسقوفه من اغرب ما صنعته أيدي بني آدم في الدقة والصنعة وكله منقوش بالذهب واللازورد والأصباغ وعلى مجالسه العليا قباب مصنعة وارضه كلها بالرخام الملون فأحترق جميعه ولم يبق به شيء إلا بعد الجدران اللاطئة بالأرض وسكنت الفتنة وشق الوالي علي آغا الشعراوي وذو الفقار المحتسب وأغات الانكشارية ونادوا بالأمان والبيع والشراء فكانت مدة ولاية هذا الباشا عل مصر سنة وثلاثة اشهر وواحدا وعشرين يوما وكان سيء التدبير ولا يحسن التصرف ويحب سفك الدماء ولا يتروى في ذلك ولا يضع شيئا في محله ويتكرم على من لا يستحق ويبخل على من يستحق وفي آخر مدته داخله الغرور وطاوع قرناء السوء المحدقين به والتفت إلى المظالم والفرد على الناس وأهل القرى حتى أنهم كانوا حرروا دفاتر فردة عامة على الدور والأماكن بأجرة ثلاث سنوات وقيل اشنع من ذلك فأنقذ الله منه عباده وسلط عليه جنده وعساكره وخرج مرغوما مقهورا على هذه الصورة ولم يزل في سيره إلى أن نزل بقليوب بعد الغروب فعشاه الشواربي شيخ قليوب ثم سار ليلا إلى دجوة فأنزل الحريم والاثقال في ثلاثة مراكب وسار هو إلى جهة بنها وغالب جماعته تخلفوا عنه بمصر وكذلك الكتخدا وديوان أفندي والخازندار الذي كان بالقعلة والسلحدار وخليل أفندي خزنة كاتب.
وفي يوم الإثنين عاشره نودى بالأمان أيضا وأن العساكر لا يتعرضون لاحد بأذية وكل من تعرض له عسكري بأذية ولو قليلة فليشتكه إلى القلق الكائن بخطته ويحضره إلى طاهر باشا فينتقم له منه.
وفي يوم الخميس وقت العصر حضر الاغا والوجاقلية إلى بيت القاضي وأعلموه باجتماعهم في غد عند طاهر باشا ويتفقون على تلبيسه قائمقام ويكتبون عرض محضر بحاصل ما وقع.
وفي 2 ذلك اليوم حضر جعفر كاشف تابع إبراهيم بك وبيده مراسلة خطابا للعلماء والمشايخ وقيل أنه كان بمصر من مدة أيام وكان يجتمع(2/570)
بطاهر باشا كل وقت بالشيخونية فلما أصبح يوم الجمعة رابع عشره اجتمع المشايخ عند القاضي وركبوا صحبته وذهبوا عند طاهر باشا وعملوا ديوانا وأحضر القاضي فروة سمور البسها لطاهر باشا ليكون قائمقام حتى تحضر له الولاية أو يأتي وال وكلموه على رفع الحوادث والمظالم وظنوا فيه الخيرية واتفقوا على كتابة عرضحال بصورة ما وقع وقرأوا المكتوب الذي حضر من عند الأمراء القبالى وهو مشتمل على آيات واحاديث وكلام طويل ومحصلة أنهم طائعون وممتثلون ولم يحصل منهم تعد ولا محاربة وإنما إذا حضروا إلى جهة أو بلدة وطلبوا المرور عليها أو قضاء حاجة من بندر منعهم الحاكم والعساكر التي بها ونابذ بالمحاربة والطرد ومع ذلك إذا وقعت بيننا محاربة لا يثبتون لنا وينهزمون ويفرون وقد تكرر ذلك المرة بعد المرة ولا يخفي ما يترتب على ذلك من النهب والسلب وهتك الحرائر وقد وقع لنا لما حضرنا بالمنية فحصل ما حصل وبدؤنا بالطرد والابعاد حصل ما حصل مما ذكر وعوقب من لا جنى وذنب الرعية والعباد في رقابكم وقد التمسنا من ساداتنا المشايخ أن يتشفعوا لنا عند حضرة الوزير ويعطينا ما يقوم بمؤنتنا ومعايشنا فأبى حضرة الوزير إلا أخراجنا من القطر المصري كليا وبعثتم تحذرونا مخالفة الدولة العلية مستدلين علينا بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم تذكروا لنا آية تدل على أننا نخرج من تحت السماء ولا آية تدل على أننا نلقي بأيدينا إلى التهلكة وذكرتم لنا أن حريمنا وأولادنا بمصر ربما ترتب على المخالفة وقوع الضرر بهم وقد تعجبنا من ذلك فإننا إنما تركنا حريمنا ثقة بأنهم في كفالتكم وعرضكم على أن المروءة تابى صرف الهمة إلى امتداد الأيدي للحريم والرجال للرجال على أن املك دورا والله يقلب الليل والنهار والملك بيد الله يؤتيه من يشاء قل: اللهم مالك الملك الاية فلما قرىء ذلك بتفاصيله تعجب السامعون له فكأنما كانوا ينظرون من خلف حجاب الغيب وأخذ ذلك المكتوب طاهر باشا(2/571)
وأودعه في جيبه ثم قال الحاضرون: فما يكون الجواب قال: حتى نتروى في ذلك ثم كتب لهم جوابا يخبرهم فيه بما وقع ويأمرهم بأنهم يحضرون بالقرب من مصر لربما اقتضى الحال إلى المعاونة.
وفي يوم الإثنين سابع عشرة كتبوا العرض المحضر بصورة ما وقع وختم عليه المشايخ والوجاقلية وأرسلوه إلى اسلامبول وأما محمد باشا المهزوم فإنه لم يزل في سيره حتى وصل إلى المنصورة وفرد على أهلها تسعين ألف ريال وكذلك فرد على علي ما أمكنه من بلاد الدقهلية والغربية فردا ومظالم وكلفا وصادف في طريقه بعض المعينين حاضرين بمبالع الفردة السابقة فأخذها منهم.
وفي ليلة الثلاثاء بعد المغرب ثامن عشرة أرسل طاهر باشا عدة من العسكر فقبضوا على جماعة من بيوتهم وهم آغات الانكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز ومصطفى آغا الوكيل وأيوب كتخدا الفلاح وأحمد كتخدا علي والسيد أحمد المحروقي فأنزلوه إلى بيته في ثاني يوم وعملوا عليه ستمائة ولزم العسكر بيته وكذلك بقية الجماعة منهم من عمل عليه مائتا كيس وأقل وأكثر وأقاموا في الترسيم.
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه ركب طاهر باشا بالموكب والملازمين وصلى الجمعة بجامع الحسين.
وفيه وردت الأخبار بأن الأمراء المصرية رجعوا إلى قبلي ووصلوا إلى قرب بني سويف.
وفيه تشفع شيخ السادات في مصطفى آغا الوكيل واخذه إلى بيته وعملوا عليه مائتين وعشرين كيسا فلما كان يوم الأحد أرسل طاهر باشا يطلب مصطفى اغا الوكيل من عند شيخ السادات فركب معه شيخ السادات وسعيد اغا وكيل دار السعادة وذهبا صحبته إلى بيت طاهر باشا فلما طلعوا إلى أعلى الدرج خرج عليهم جماعة من العسكر وجذبوا مصطفى أغا من بينهم وقبضوا عليه وأنزلوه إلى أسفل وأخذوه إلى القلعة ماشيا على أقدامه(2/572)
فحنق الشيخ السادات ودخل على طاهر باشا وتشاجر معه فأطلعه على مكتوب مرسل من محمد باشا إليه فقال: هذا لا يؤأخذ به إنما يؤأخذ إذا كان المكتوب منه إلى محمد باشا ثم انحط الأمر عل أنه لا يقتله ولا يطلقه ثم إن طاهر باشا ركب ليلا وذهب إلى شيخ السادات وأخذ خاطره بعد ما فزع من حضوره إليه في ذلك الوقت.
وفي ثالث عشرينه اطلعوا يوسف كتخدا الباشا إلى القلعة والزموه بمال وكذلك خزنة كاتب.
وفيه خرج أمير الالزم لملاقات الحجاج فنصب وطاقه بقبة النصر وأقام هناك.
وفيه حضر هجان على يده مكاتيب كر مؤرخة في عشرين شهر الحجة مضمونها أن الوهابيين أحاطوا بالديار الحجازية وأن شريف مكة الشريف غالب تداخل مع شريف باشا وأمير الحاج المصري والشامي وارشاهم على أن يتعوقوا معه أياما حتى ينقل ما له ومتاعه إلى جدة وذلك بعد اختلاف كبير وحل وربط وكونهم يجتمعون على حربه ثم يرجعون على ذلك إلى أن اتفق رأيهم على الرحيل فأقاموا مع الشريف اثنى عشر يوما ثم رحلوا ورحل الشريف بعد أن احرق داره ورحل شريف باشا أيضا إلى جدة.
وفيه قبضوا على أنفار من الوجاقلية أيضا المستورين وطلبوا منهم دراهم وعملوا على طائفة القبط الكتبة خمسمائة كيس بالتوزيع.
وفي خامس عشرينه قبضوا على جماعة منهم وحبسوهم وكذلك عملوا على طائفة من اليهود مائة كيس.
وفيه حضر أحمد أغا شويكار إلى مصر بمراسلة من الأمراء القبالي.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه سافرت التجريدة المعينة لمحمد باشا وكبيرها حسن بك أخو طاهر باشا فنزلوا في مراكب وفي البر أيضا.
وفي يوم الخميس قبضوا على المعلم ملطي القبطي من أعيان كتبة القبط(2/573)
وهو الذي كان قاضيا أيام الفرنسيس فرموا رقبته عند باب زويلة وكذلك قطعوا رأس المعلم حنا الصبحاني اخي يوسف الصبحاني من تجار الشوام عند باب الخرق في ذلك اليوم وأقاما مرميين إلى ثاني يوم.
وفي يوم السبت غايته رجع أحمد آغا شويكار بجواب من الباشا إلى رفقائه وأشيع وصول إبراهيم بك ومن معه إلى زاوية المصلوب ووصلت مقدماتهم إلى بر الجيزة يقبضون الكلف من البلاد.
وفيه أفرجوا عن يوسف كتخدا الباشا بعد أن دفع ثمانين كيسا ونزل من القلعة إلى داره.
وفيه أرسل طاهر باشا إلى مصطفى أفندي رامز الكاتب وإبراهيم أفندي الروزنامجي وسليمان أفندي فأخذوهم عند عبد الله أفندي رامز الروزنامجي الرومي.
شهر صفر 1218.
استهل بيوم الأحد في ثانيه حضر الأمراء القبالي إلى الشيخ الشيمي.
وفي ليلة الأربعاء رابعه خنقوا أحمد كتخدا علي باش اختيار الانكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز كتخدا العزب وكانا محبوسين بالقلعة وضربوا وقت خنقهما مدفعين في الساعة الثالثة من الليل ورموهما إلى خارج.
وفي صبحها يوم الأربعاء حضر جواب من العسكر الذين ذهبوا لمحاربة محمد باشا مضمونه أنه انتقل من مكانه وذهب إلى جهة دمياط وأنه تخلف عنه العسكر الذين معه وأرسلوا يطلبون منهم الأمان فلم يجاوبوهم حتى يستأذنوا في ذلك فأجابهم طاهر باشا بأن يعطوهم أمانا ويضموهم اليهم.
وفي ذلك اليوم أشيع أن طاهر باشا قاصد التعدية إلى البر الغربي ليسلم على الأمراء المصرلية وفي ذلك الوقت أمر باحضار حسن اغا محرم فارتاع من ذلك وأيقن بالموت فلما حضر بين يديه خلع عليه فروة وجعله معمارجي باشا واعطاه الفي فرانسا وأمره أن يتقيد بتعمير القلعة وما صدق(2/574)
انه خرج من بين يديه وسكن روعه في ذلك الوقت حضر إليه طائفة من الانكشارية وهم الذين كانوا حضروا في أول المحرم في النقاير مع الجبخانة ليتوجهوا إلى الديار الحجازية وأنزلوهم بجامع الظاهر خارج الحسينية وحصلت كائنة محمد باشا وهم مقيمون على ما هم عليه ولما خرج محمد باشا وظهر عليه طائفة الارنؤد شمخوا على الانكشارية وصاروا ينظرون إليهم بعين الاحتقار مع تكبر الانكشارية ونظرهم في أنفسهم أنهم فخذ السلطنة وأن الارنؤد خدمهم وعسكرهم واتباعهم ولما فرد الفرد طاهر باشا وصادر الناس صار يدفع إلى طائفة الارنؤد جماكيهم المنكسرة أو يحولهم بارواق على المصادرين وكلما طلب الانكشارية شيئا من جماكيهم قال لهم ليس لكم عندي شيء ولا اعطيكم إلا من وقت ولايتي فإن كان لكم شيء فأذهبوا وخذوه من محمد باشا فضاق خناقهم واوغر صدورهم وبيتوا أمرهم مع أحمد باشا والي المدينة فلما كان في هذا اليوم ركب الجماعة المذكورون من جامع الظاهر وهم نحو المائتين وخمسين نفرا بعددهم واسلحتهم كما هي عادتهم وخلفهم كبراؤهم وهم إسمعيل اغا ومعه آخر يقال له موسى اغا وآخر فذهبوا على طاهر باشا وسألوه في جماكيهم فقال لهم: ليس لكم عندي إلا من وقت ولايتي وأن أن لكم شيء مكسور فهو مطلوب لكم من باشتكم محمد باشا فألحوا عليه فنتر فيهم فعاجلوه بالحسام وضربه أحدهم فطير رأسه ورماها من الشباك إلى الحوش وسحبت طوائفهم الأسلحة وهاجوا في اتباعه فقتل منهم جماعة واشتعلت النار في الأسلحة والبارود الذي في أماكن اتباعه فوقع الحريق والنهب في الدار ووقع في لناس كرشات وخرجت العساكر الانكشارية وبايديهم السيوف المسلولة ومعهم ما خطفوه من النهب فأنزعجت الناس وأغلقوا الأسواق والدكاكين وهربوا إلى الدور وأغلقوا الأبواب وهم لا يعلمون ما الخبر وبعد ساعة شاع الخبر وشق الوالي والاغا ينادون بالأمن والأمان حسب مارسم أحمد باشا وكرروا المناداة بذلك ثم نادوا باجتماع الانكشارية(2/575)
البلدية وخلافهم عند أحمد باشا على طائفة الارنؤد وقتلهم واخرجهم من المدينة فتحزبوا أحزابا ومشوا طوائف طوائف وتجمع الارنؤد جهة الأزبكية وفي بيوتهم الساكنين فيها وصار الانكشارية إذا ظفروا باحد من الارنؤد أخذوا سلاحه وربما قتلوه وكذلك الارنؤد يفعلون معهم مثل ذلك هذا والنهب والحريق عمال في بيت طاهر باشا وفرج الله عن المعتقلين والمحبوسين على المغارم والمصادرات وبقيت جثة طاهر باشا مرمية لم يلتفت إليها أجد ولم يجسر أجد من اتباعه على الدخول إلى البيت واخراجها ودفنها وزالت دولته وانقضت سلطنته في لحظة فكانت مدة غلبته ستة وعشرين يوما ولو طال عمره زيادة على ذلك لأهلك الحرث والنسل وكان صفته اسمر اللون نحيف البدن اسود اللحية قليل الكلام بالتركي فضلا عن العربي ويغلب عليه لغة الارنؤدية وفيه هوس وانسلاب وميل للمسلوبين والمجاذيب والدراويش وعمل له خلوة بالشيخونية وكان يبيت فيها كثيرا ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل ويذكر معه ثم سكن هناك بحريمه وقد كان تزوج بامرأة من نساء الأمراء وكان يجتمع عنده أشكال مختلفة الصور فيذكر معهم ولما راوأ منه ذلك خرج الكثير من الاوباش وتزيا بما سولت له نفسه وشيطانه ولبس له طرطور طويلا ومرقعة ودلفا وعلق له جلاجل وبهرجان وعصا مصبوغة وفيها شخاشيخ وشراريب وطبلة يدق عليها ويصرخ ويزعق ويتكلم بكلمات مستهجنة والفاظ موهمة بأنه من أرباب الأحوال ونحو ذلك ولما قتل اقام مرميا إلى ثاني يوم لم يدفن ثم دفنوه من غير رأس بقبة عند بركة الفيل وأخذ بعض الينكجرية راسه وذهبوا بها ليوصلوها إلى محمد باشا يأخذوا منه البقشيش فلحقهم جماعة من الارنؤد فقتلوهم واحذوا الرأس منهم ورجعوا بها ودفنوها مع جثته وكتب أحمد باشا مكتوبا إلى محمد باشا يعلمه بصورةالواقعة ويستعجله للحضور وكذلك المحروقي وسعيد اغا أرسل كل واحد مكتوبا بمعنى ذلك وظنوا تمام النصف ولما نهبوا بيته نهبوا ما جاوره من دور(2/576)
الناس من الحبانية إلى ضلع السمكة إلى درب الجماميز ثم أن أحمد باشا أحضر المشايخ وأعلمهم بما وقع وأمرهم بالذهاب إلى محمد علي ويخاطبوه بأن يذعن إلى الطاعة فلما ذهبوا إليه وخاطبوه في ذلك أجاب بأن أحمد باشا لم يكن واليا على مصر بل إنما هو والي المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة والسلام وليس له علاقة بمصر وأنا كنت الذي وليت طاهر باشا لكونه محافظ الديار المصرية من طرف الدولة وله شبهة في الجملة وأما أحمد باشا فليس له جرة ولا شبهة فهو يخرج خارج البلد ويأخذ معه الانكشارية ونجهزه ويسافر إلى ولايته فقاموا من عنده على ذلك واستمر الانكشارية على ما هم عليه من النهب وتتبع الارنؤد وتحزيوا وتسلحوا وعملوا متاريس على جهاتهم ونواحيهم إلى آخر النهار فنادوا على الناس بالسهر والتحفظ والدكاكين تفتح والقناديل تعلق وبات الناس على تحوف ولما أصبح نهار الخميس مر الوالي والاغا ينادون بالأمان برسم حكم أحمد باشا ثم أن أحمد باشا أرسل أوراقا إلى المشايخ بالحضور فذهبوا إليه فقال لهم اريد منكم أن تجمعوا الناس والرعية وتأمروهم بالخروج على الارنؤد وقتلهم فقالوا سمعا وطاعة وأخذوا في القيام فقال لهم لا تذهبوا وكونوا عندي وأرسلوا للناس كما أمرتكم فقالوا له أن عادتنا أن يكون جلوسنا في المهمات بالجامع الأزهر ونجتمع به ونرسل إلى الرعية فإنهم عند ذلك لا يخالفون وكان مصطفى اغا الوكيل حاضرا فراددهم في ذلك وعرف منهم الانفكاك فلم يزالوا حتى تخلصوا وخرجوا وكان أحمد باشا أرسل أحضر الدفتردار ويوسف كتخدا الباشا وعبد الله أفندي رامز الروزنامجي وغالب أكابر العثمانية ومصطفى أغا الوكيل كان مرهونا عند شيخ السادات كما تقدم فعندما سمع بقتل طاهر باشا ركب بجماعته وابهته وأخذ معه عدة من الانكشارية وذهب إلى عند أحمد باشا ووقف بين يديه يعاضده ويقويه وأما محمد علي والأنؤد فإنهم مالكون القلعة الكبيرة ويجمعون أمرهم ويراسلون الأمراء فلما أصبح ذلك اليوم عدى الكثير من المماليك والكشاف(2/577)
الى بر مصر ومروا في الأسواق وعدى أيضا محمد علي وقابلهم في بر الجيزة ورجع وعدى الكثير منهم من ناحية انبابة ومعهم عربان كثيرة وساروا إلى جهة خارج باب النصر وباب الفتوح وأقاموا هناك وأرسل إبراهيم بك ورقة إلى أحمد باشا يقول فيها أنه بلغنا موت المرحوم طاهر باشا عليه الرحمة والرضوان فأنتم تكونون مع أتباعكم الارنؤد حالا واحدا ولا تتداخلوا مع الانكشارية فلما كان ضحوة النهار ذهب جماعة من الانكشارية إلى جهة الرميلة فضربوا عليهم من القلعة مدافع فولوا وذهبوا ثم بعد حصة ضربوا أيضا عدة مدافع متراسلة على جهة بيت أحمد باشا وكان ساكنا في بيت علي بك الكبير بالداودية فعند ذلك أخذ أمره في الانحلال وتفرق عنه غالب الانكشارية البلدية ووافق أن المشايخ لما خرجوا من عنده وركبوا لم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا جامع الغورية فنزلوا به وجلسوا وهم في حيرة متفكرين فيما يصنعون فعندما سمعوا صوت المدافع قاموا وتفرقوا وذهبوا إلى بيوتهم ثم أن إبراهيم بك أرسل ورقة إلى أحمد باشا قبيل العصر يأمره فيها بتسليم الذين قتلوا طاهر باشا ويخرج إلى خارج البلد ومعه مهلة إلى حادي عشر ساعة من النهار ولا يقيم إلى الليل وأن خألف فلا يلومن إلا نفسه فلما رأى حال نفسه مضمحلا لم يجد بدا من الأمتثال إلا أنه لم يجد جمالا يحمل عليها أثقاله فقال للرسول سلم عليه: وقل له: يرسل لي جمالا وأنا أخرج وأما تسليم القاتلين فلا يمكن فقال له أما حضور الجمال فغير متيسر في هذا الوقت لبعد المسافة فقال له: وكيف يكون العمل فقال: يركب حضرتكم ويخرج ووقت ما حضرت الجمال الليلة أو غدا حملت الاثقال ولحقتكم خارج البلد فعند ذلك قام وركب وقت العصر وتفرق من كان معه من أعيان العثمانية مثل الدفتردار وكتخدا بك والروزنامجي وذهبوا إلى محمد علي والتجؤا إليه فأظهر لهم البشر والقبول وخرج أحمد باشا في حالة شنيعة واتباعه مشاة بين يديه وهم يعدون في مشيهم وعلى اكتافهم وسائد وأمتعة خفيفة فعند ما خرج من(2/578)
البيت دخل الارنؤد ونهبوا جميع ما فيه ولم يزل سائرا حتى خرج من المدينة من باب الفتوح فوجد العسكر والعربان وبعض كشاف ومماليك مصرية محدقة بالطرق فدخل مع الانكشارية إلى قلعة الظاهر وأغلقوها عليهم وخرج خلفهم عدة وافرة من الارنؤد والكشاف المصرلية والعرب والغز وأحاطوا بهم وأقاموا على ذلك تلك الليلة وبعد العشاء مر الوالي وإمامه المناداة بالأمان حسب ما رسم إبراهيم بك حاكم الولاية وأفندينا محمد علي فكانت مدة الولاية لأحمد باشا يوما وليلة لا غير وفي ذلك اليوم نهبوا بيت يوسف كتخدا بك وأخرجوا منه أشياء كثير أخذ ذلك جميعه الارنؤد وأصبح يوم الجمعة فركب المشايخ والأعيان وعدوا إلى بر الجيزة وسلموا على إبراهيم بك والأمراء.
وفيه استاذن الدفتردار وكتخدا بك محمد علي في الإقامة عنده أو الذهاب فأذن لهما بالتوجه إلى بيوتهما فركبا قبيل الظهر وسارا إلى بيت الدفتردار وهو بيت البارودي فدخل كتخدا بك مع الدفتردار لعلمه بنهب بيته فنزلا وجلسا مقدار ساعة وإذا بجماعة من كبار الارنؤد ومعهم عدة من العسكر وصلوا إليهما وعند دخولهم طلبوا المشاعلي من بيت علي أغا الشعراوي وهو تجاه بيت البارودي فلم يجدوه فذهب معهم رفيق له وليس معه سلاح فدخلوا الدار وأغلقوا الباب وعلم أهل الخطة مرادهم فاجتمع الكثير من الاوباش والجعيدية والعسكر خارج الدار يريدون النهب ولما دخلوا عليهما قبضوا أولا على الدفتردار وشلحوه من ثيابه وهو يقول عيبتر وأصابه بعضهم بضرب على يده اليمنى واخرجوه إلى فسحة المكان وقطعوا رأسه بعد ضربات وهو يصيح مع كل ضربة لكون المشاعلي لا يحسن الضرب ولم يكن معه سلاح بل ضربه بسلاح بعض العسكر الحاضرين ثم فعلوا ذلك بيوسف كتخدا بك وهو ساكت لم يتكلم وأخذوا لرأسين وتركوهما مرميين وخرجوا بعدما نهبوا ما وجدوه من الثياب والأمتعة بالمكان وكذلك ثياب أتباعهم وخرج اتباعهم في اسوأ حال(2/579)
يطلبون النجاة بأرواحهم ومنهم من هرب وطلع إلى حريم البارودى الساكنات في البيت وصرخ النساء وانزعجن وكانت الست نفيسة المرادية في ذلك المنزل أيضا في تلك الأيام فعند ما رأت وصول الجماعة ارسلت إلى سليم كاشف المحرمجي فحضر في ذلك الوقت فكلمته في أن يتلاف الأمر فوجده قد تم فخرج بعد خروجهم بالرأسين فظن الناس أنها فعلته ثم حضر محمد علي في أثر ذلك وطرد الناس المجتمعين للنهب وختم على المكان وركب إلى داره ثم أن علي أغا الشعراوى استاذن محمد علي في دفنهما فأذن له فأعطى شخصا ستمائة نصف فضة لتجهيزهما وتكفينهما فأخذها وأعطى منها الآخر مائتين نصف لا غير فأخذها وذهب فوضعهما في تابوت واحد من غير رؤوس وكانوا ذهبوا برؤسهما إلى الأمراء بالجيزة ولم يردوهما ولم يدفنا معهما ثم رفعهما بالتابوت إلى ميضاة جامع السلطان شاه المجاور للمكان وهو مكان قذر فغسلهما وكفنهما في كفن حقير ودفنهما في حفرة تحت حائط بتربة الأزبكية من غير رؤوس فهذا ما كان من أمرهما وأما الذين في قلعة الظاهر فإنهم انحصروا وأحاط بهم الارنؤد والغز والعربان وليس عندهم ما يأكلون ولا يشربون فصاروا يرمون عليهم من السور القرابين والبارود وهم كذلك يرمون عليهم من أسفل وجمعوا أتربة وعملوها كيمانا عالية وصاروا يرمون عليهم منها كذلك بقية نهار الجمعة وليلة السبت اشتد الحرب بينهم بطول الليل وفي الصباح أنزلوا من القلعة مدافع كبارا وبنبة وجبخانة وأصعدوها على التلول وضربوا عليهم إلى قبيل العصر فعند ذلك طلبوا الأمان وفتحوا باب القلعة وخرج أحمد باشا وصحبته شخصان وهما اللذان قتلا طاهر باشا فأخذوهم وعدوا بهم إلى الجيزة وبطل الحرب والرمي وبقي طائفة الانكشارية داخل القلعة وحولهم العساكر فلما ذهبوا بهم إلى الجيزة أرسلوا أحمد باشا إلى قصر العيني وأبقوا الإثنين وهم إسمعيل أغا وموسى أغا بالقصر الذى بالجيزة ونودى بالأمان للرعية حسب ما رسم إبراهيم وعثمان بك(2/580)
البرديسي ومحمد علي.
وفي يوم السبت حضر أحمد بك أخو محمد علي إلى جهة خان الخليلي لاجراء التفتيش على منهوبات الارنؤد التي نهبها الانكشارية وأودعوها عند أصحابهم الأتراك ففتحوا عدة حوانيت وقهاوى وأماكن وأخذوا ما فيها وأجلسوا طوائف من عسكر الارنؤد على الخانات والوكائل والأماكن وشلحوا ناسا كثيرة من ثيابهم وربما قتلوا من عصى عليهم فتخوف أهل خان الخليلي ومن جاورهم واستمر الارنؤد كلما مرت منهم طائفة ووجدوا شخصا في اى جهة قبة شبه ما بالاتراك قبضوا عليه وأخذوا ثيابه وخصوصا أن وجدوا شيئا معه من السلاح أو سكينا فتوقي أكثر الناس وانكفوا عن المرور في أسواق المدينة فضلا عن الجهات البرانية.
وفيه كثر مرور الغز والكشاف المصرلية وترددوا إلى المدينة وعلى اكتافهم البنادق والقرابين وخلفهم المماليك والعربان فيذهبون إلى بيوتهم ويبيتون بها ويدخلون الحمامات ويغيرون ثيابهم ويعودون إلى بر الجيزة وبعضهم إمامه المناداة بالأمان عند مرور بوسط المدينة.
وفيه كتبت أوراق بطلب دراهم فردة على البلاد المنوفية والغربية كل بلد ألف ريال وذلك خلاف مضايف العرب وكلفهم.
وفي يوم الإثنين قتلوا شخصا بباب الخرق يقال أنه كان من أكبر المتحزبين على الارنؤد وجمع منهوبات كثيرة.
وفيه أيضا قتلوا إسمعيل اغا وموسى اغا وهما اللذان كان قتلا طاهر باشا وتقدم أنهم كانوا أخذوهما بالأمان صحبة أحمد باشا فأرسلوا أحمد باشا إلى قصر العيني وبقي الإثنان بقصر الجيزة فأخذوهما وعدوا بهما إلى البر الآخر وقطعوا رأسهما عند الناصرية وأخذوا الراسين وذهبوا بهما إلى زوجة طاهر باشا بالشيخوخة ثم طلعوهما إلى اخى طاهر باشا بالقلعة.
وفيه تقلد سليم أغا اغات مستحفظان سايقا الاغاوية كما كان وركب وشق المدينة باعوانه وإمامه جماعة من العسكر الارنؤد ولبسوا أيضا حسين(2/581)
أغا أمين خزنة مراد بك وقلدوه والي الشرطة ولبسوا محمدا المعروف بالبرديسي كتخدا قائد أغا وجعلوه محتسبا وشق كل منهم بالمدينة وامامهم المناداة بالأمن والأمان والبيع والشراء.
وفيه اخرجوا الانكشارية الذين بقلعة الظاهر وسفروهم إلى جهة الصالحية وصحبتهم كاشفان وطائفة من العرب بعد ما أخذوا سلاحهم ومتاعهم بل وشلحوهم ثيابهم والذى بقى لهم بعد ذلك أخذته العرب وذهبوا في أسوا حال وانحس بال وهم نحو الخمسمائة إنسان ومنهم من التجأ إلى بعض المماليك والغز فستر عليه وغير هيئته وجعله من أتباعه وكذلك الانكشارية الذين كانوا مخفيين التجؤا إلى المماليك وانتموا إليهم وخدموهم فسبحان مقلب الأحوال وحضر سليم كاشف المحرمجي وسكن بقلعة الظاهر وكتب إلى اقليم القليوبية أوراقا وقرر على كل بلد ألف ريال ومن كل صنف من الأصناف سبعين مثل سبعين خروف وسبعين رطل سمن وسبعين رطل بن وسبعين فرخة وهكذا وحق طريق المعين لقبض ذلك خمسة وعشرون ألف فضة من كل بلد.
وفي يوم الأربعاء حادى عشره حضر محمد علي وعبد الله أفندى رامز الروزنامجي ورضوان كتخدا إبراهيم بك إلى بيت الدفتردار المقتول وضبطوا تركته فوجد عنده نقود ثلثمائة كيس وقيمة عروض وجواهر وغيرها نحو ألف كيس.
وفيه أرسل إبراهيم بك فجمع الأعيان والوجاقلية وأبرز لهم فرمانات وجدوها عند الدفتردار المقتول مضمونها تقريرات مظالم منها أن المماليك المصرلية كانوا أحدثوا على الغلال التي تباع إلى بحربرا عن كل اردب محبوب فيقرر ذلك بحيث يتحصل من ذلك للخزينة العامرة عشرة آلاف كيس في السنة فإن نقصت عن ذلك القدر أضر ذلك بالخزينة ومنها تقرير المليون الذى كان قرره الفرنسيس على أهالي مصر في آخر مدتهم ويوزع ذلك على الرؤوس والدور والعقار والأملاك ومنها أن الحلوان عن المحلول(2/582)
ثلاث سنوات ومنها أنه يحسب المضاف والبراني إلى ميرى البلاد وغير ذلك.
وفي يوم الخميس ثاني عشره عمل عثمان بك البرديسي عزومة بقصر العيني وحضر إبراهيم بك والأمراء ومحمد علي ورفقاؤه وبعد انقضاء العزومة ألبسوا محمد علي ورفقاءه خلعا وقدموا لهم تقادم.
وفي يوم الجمعة كذلك عملوا عزومة لابن أخي طاهر باشا المقيم بالقلعة وصحبته عابدى بك ورفقاؤهم بقصر العيني وخلعوا عليهم وقدموا لهم تقادم أيضا.
وفي يوم الأحد خامس عشره نزل ابن أخي طاهر باشا من القلعة ومن معه من أكابر الارنؤد وأعيانهم وعساكرهم بعزالهم ومتاعهم وما جمعوه من المنهوبات وهو شيء كثير جدا وسلموا القلعة إلى الأمراء المصرلية وطلع أحمد بك الكلارجي إلى باب الانكشارية وأقام به وعبد الرحمن بك إبراهيم إلى باب العزب وسليم أغا مستحفظان إلى القصر فعند ذلك اطمان الناس بنزولهم من القلعة فإنهم كانوا على تخوف من إقامتهم بها وكثر فيهم اللغظ بسبب ذلك فلم يزل الأمراء يدبرون أمرهم حتى أنزلوهم منها وبقى بها طائفة من الارنؤد وعليهم كبير يقال له حسين قبطان.
وفيه ورد الخبر أن محمد باشا لما قربت منه العساكر التي كان أرسلها له طاهر باشا ارتحل إلى دمياط كما تقدم.
وفي يوم الإثنين وردت مكاتبات من الديار الحجازية مؤرخة في منتصف محرم وفيها الأخبار باستيلاء الوهابيين على مكة في يوم عاشوراء وأن الشريف غالب أحرق داره وارتحل إلى جدة وأن الحجاج أقاموا بمكة ثمانية أيام زيادة عن المعتاد بسبب الارتباك قبل حصول الوهابيين بمكة ومراعاة للشريف حتى نقل متاعه إلى جدة ثم ارتحل الحجاج وخرجوا من مكة طالبين زيارة المدينة فدخل الوهابيون بعد ارتحال الحج بيومين.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره أخرجوا باقي الانكشارية والدلاة(2/583)
والسجمان وكانوا مجتمعين بمصر القديمة فتضرر منهم المارة وأهل تلك الجهة بسبب قبائحهم وخطفهم أمتعة الناس بل وقتلهم وكان تجمعهم على أن يذهبوا إلى جهة الصعيد ويلتفون على حسن باشا بجرجا وينضمون إليه وإلى من بناحية الصعيد من أجناسهم فذهب منهم من أخبر الأمراء المصرلية بذلك فضبطوا عليهم الطرق واتفق أن جماعة منهم وقفوا لبعض الفلاحين المارين بالبطيخ والخضار فحجزوهم وطلبوا منهم دراهم فمر بهم بعض المماليك من أتباع البرديسي فأستجار بهم الفلاحون فكلموهم فتشاحنوا معهم وسحبوا على بعضهم السلاح فقتل مملوك منهم فذهبوا إلى سيدهم وأعلموه فأرسل إلى إبراهيم بك فركب إلى العرضى ناحية بولاق التكرور وترك مكانه بقصر الجيزة محمد بك بشتك وكيل الألفى وشركوا عليهم الطرق وأمروهم بالركوب والخروج من مصر إلى جهة الشام واللحوق بجماعتهم فركبوا من هناك ومروا على ناحية الجبل من خلف القلعة إلى جهة العادلية وامامهم وخلفهم بعض الأمراء المصرلية ومعهم مدفعان وهم نحو ألف وخمسامئة وازيد فلما خرجوا وتوسطوا البرية عروا الكثير منهم ومن المتخلفين والمتاخرين عنهم وأخذوا أسلحتهم وقتلوا كثيرا منهم ورجع المماليك ومعهم الكثير من بنادقهم وسلاحهم يحملونه معهم ومع خدامهم فلما رجع المماليك بهذه الصورة ووقف العسكر الارنؤدية على ابواب المدينة انزعج الناس كعادتهم في كرشاتهم وأغلقوا الدكاكين وعين للسفر معهم حسين كاشف الألفى يذهب معهم إلى القنطرة ونودى في عصريته بالأمان وخروج من تخلف من الانكشارية وكل من وجد منهم بعد ثلاثة أيام فدمه وماله مهدور.
وفي يوم الخميس مر الوالي والمناداة إمامه على الأتراك الانكشارية والبشناق والسجمان بالخروج من مصر والتحذير لمن آواهم أو ثاواهم وكلما صادف في طريقة شخصا من الأتراك قبض عليه وسأله عن تخلفه فيقول أنا من المتسببين والمتأهلين من زمان بمصر فيطلب منه بينة على ذلك(2/584)
ويسلمه عسكر الارنؤد فيودعونه في مكان من امثاله حتى يتحققوا أمره.
وفيه مر بعض المماليك بجهة الميدان ناحية باب الشعرية فصادفوا جماعة من العسكر المذكورين يحملون متاعا لهم فاشتكلوا بهم وأرادوا أخذ سلاحهم ومتاعهم فمانعوهم وتضاربوا معهم فقتل بينهم شخصان من الانكشارية وشخصان من المماليك أحدهما فرنساوى.
وفيه حضر أيضا ثلاثة من المماليك إلى وكالة الصاغة إلى رجل رومي ططرى وسألوه عن جوارى سود عنده لمحمد باشا وأنهم يطلبونهن لعثمان بك البرديسي فأنكر ذلك وشهد جيرانه أنهن ملكه واشتراهن ليتجر فيهن فلم يزالوا حتى أخذوا منه ثلاثة على سوم الشراء وذهب معهن فلما بعدوا عن الجهة فزعوا عليه وطردوه وذهبوا بالجوارى فذهب ذلك الططرى إلى محمد علي فأرسل إلى البرديسي ورقة بطلب الجوارى أو ثمنهن ففحص عنهن حتى ردهن إلى صاحبهن.
وفيه حضر أيضا جماعة من المماليك إلى بيت عثمان أفندى بجوار ضريح الشيخ الشعراني وهو من كتبة ديوان محمد باشا فأخذوا خيله وسلاحه ومتاعه التي بأسفل الدار.
وفي يوم الجمعة نهبوا أيضا دار أحمد أفندى الذى كان شهر حوالة وكاشف الشرقية في العام الماضي فأخذوا جميع ما عنده حتى ثيابه التي على بدنه وقتلوا خادمه على باب داره قتله الوالي زاعما أنه هو الذى دل عليه.
وفي يوم السبت مر سليم أغا وإمامه المناداة على الاغراب الشوام والحلبية والرومية يجتمعون بالجمالية يوم تاريخه فلم يجتمع منهم أحد.
وفي يوم الأحد حضر الشريف عبد الله ابن سرور وصحبته بعض أقاربه من شرفاء مكة وأتباعهم نحو ستين نفرا واخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحجاج وأن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخل إلى مكة من غير حرب وولى الشريف عبد المعين أميرا على مكة والشيخ عقيلا قاضيا وأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والابنية التي أعلى من الكعبة وذلك(2/585)
بعد أن عقد مجلسا بالحرم وباحثهم على ما الناس عليه من البدع والمحرمات المخالفة للكتاب والسنة واخبروا أن الشريف غالبا وشريف باشا ذهبا إلى جدة وتحصنا بها وأنهم فارقوا الحجاج في الجديدة.
وفيه كتبوا عرضالحين أحدهما بصورة ما وقع لمحمد باشا مع العساكر ثم قيام الانكشارية وقتلهم لطاهر باشا ثم كرة الارنؤد على الانكشارية لما أثاروا الفتنة مع أحمد باشا حتى اختلت أحوال المدينة وكايعهما الخراب لولا قرب الأمراء المصرلية وحضورهم فسكنوا الفتنة وكفوا أيدى المتعدين والثاني يتضمن رفع الأحداثات التي في ضمن الاوامر التي كانت مع الدفترادر التي تقدمت الإشارة إليها.
وفيه عزم الأمراء على التوجه إلى جهة بحرى فقصد البرديسي وصحبته محمد بك تابع محمد بك المنفوخ جهة دمياط ومعهم محمد علي وعلي بك أيوب وغيرهم وصحبتهم الجم الكثير من العساكر والعربان ولم يتخلف إلا إبراهيم بك واتباعه والحكام وسافر سليمان كاشف البواب إلى جهة رشيد وصحبته عساكر أيضا.
وفي يوم الثلاثاء عدى الكثير إلى البر الشرقي وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه قدم جاويش الحجاج بمكاتيب العقبة واخبروا بموت الكثير من الناس بالحمى والاسهال وحصل لهم تعب شديد من الغلاء أيضا ذهابا وايابا ومات الشيخ أحمد العريشي الحنفي ودفن بنبط ومات أيضا محمد أفندى باش جاجرت ودفن بالينبع والشيخ علي الخياط الشافعي.
وفيه عدى إبراهيم بك إلى قصر العيني وركب مع البرديسي إلى جهة الحلي وودعه ورجع إلى قصر العيني فأقام به وجلس ابنه مرزوق بك في مضرب النشاب واستمر وكيل الألفي مقيما بقصر الجيزة.
وفيه وردت الأخبار بأن محمد باشا لما ارتحل من المنصورة إلى دمياط أبقي بفارسكور إبراهيم باشا ومملوكه سليم كاشف المنوفية بعدة من(2/586)
العسكر فتحصنوا بها فلما حضر إليهم حسن بك أخو طاهر بك بالعساكر تحاربوا معهم وملكوا منهم فارسكور فنهبوها وأحرقوها وفسقوا بنسائها وفعلوا ما لا خير فيه وقتل سليم كاشف المنوفية المذكور أيضا ثم أن بعض أكابر العسكر المنهزمين أرسل إلى حسن بك يطلب منه أمانا وكان ذلك خديعة منهم فأرسل لهم أمانا فحضروا إليه وانضموا لعسكره وسهلوا له أمر محمد باشا وأنه في قلة وضعف وهم مع ذلك يراسلون اصحابهم ويشيرون عليهم بالعود والتثبت إلى أن عادوا وتأهبوا للحرب ثانيا وخرج إليهم حسن بك بعساكره وخلفه المنضافون إليه من أولئك فلما أن نشبت الحرب بينهم أخذوهم مواسطة فاثخنوهم ووقعت فيهم مقتلة عظيمة وأنهزموا إلى فارسكور فتلقاهم أهل البلدة وكملوا قتلهم ونزلوا عليهم بالنبابيت والمساوق والحجارة جزاء لما فعلوه معهم حتى اشتفوا منهم ولم ينج منهم إلا من كان في عزوة أو هرب إلى جهة أخرى وحضر الكثير منهم إلى مصر في أسوأ حال.
وفي يوم الجمعة والسبت حضر الكثير من حجاج المغاربة وصحبتهم مصاروة وفلاحون كثيرة.
وفيه حضرت مكاتبة من الديار الرومية على يد شخص يسمى صالح أفندى إلى سكندرية فأرسل خورشيد أفندى حاكم الأسكندرية يستأذن في حضوره بمكاتبة على يد راشته قنصل النيمسا فذهب راشته إلى إبراهيم بك وأخبره واطلعه على المكتوب الذى حضر له فبعد ساعة وصل الخبر بوصول صالح أفندى المذكور إلى بولاق فأرسل إبراهيم بك رضوان كتخدا وأحمد بك الارنؤدى وأمرهما بأن يأخذا ما معه من الأوراق ويأمراه بالرجوع بغير مهلة ولا يدعاه يطلع إلى البر ففعلا ذلك ومضمون ما في تلك الأوراق خطاب لطاهر باشا وأنه بلغنا ما حصل من محمد باشا من الجور والظلم وقطع علوفات العسكر وأنهم قاموا عليه وأخرجوه وهذه عادة العساكر إذا انقطعت علوفاتهم واننا وجهنا له ولاية سنانيك وإن(2/587)
طاهر باشا يستمر على المحافظة وأحمد باشا قائمقام إلى أن يأتي المتولي وخطاب لمحمد باشا بمعنى ذلك والسر في تقليد أحمد باشا قائمقام دون طاهر باشا أن طاهر باشا ارنؤد وليس له إلا طوخان ومن قواعدهم القديمة أنهم لا يقلدون الارنؤد ثلاثة اطواخ أبدا.
وفي يوم السبت المذكور دخل الكثير من الحجاج آخر النهار وفي الليل.
وفي يوم الأحد دخل الجم الغفير من الحجاج ومات الكثير من الداخلين في ذلك اليوم زكثير مرضى وحصل لهم مشقة عظيمة وشوب وغلاء وخصوصا بعد مجاوزتهم العقبة وبلغت الشربة الماء دينارا والبطيخة دينارين وكان حجاج كثير وأكثرهم اوباش الناس من الفلاحين والنساء وغير ذلك وخرج سليم اغا مستحفظان وصحبته جماعة من الانكشارية والكشاف والأجناد والعسكر فاستلموا لمحمل من أمير الحاج وأمروه لا يدخل المدينة بل يقيم بالبركة حتى يحاسبوه ويسافر بمن معه من العسكر إلى جهة الشام ثم رجعوا بالمحمل ودخلوا به المدينة وقت الظهر على خلاف العادة وحضر صحبة الحجاج كثير من أهل مكة هروبا من الوهابي ولغظ الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه فمنهم من يجعله خارجيا وكافرا وهم المكيون ومن تابعهم وصدق اقوالهم ومنهم من يقول بخلاف ذلك لخلو غرضه وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته وصورتها.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيآت اعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصى الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ}(2/588)
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فأخبر سبحانه أنه اكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما انزل إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن أمته: "تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع وثبت" في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: "فمن" وأخبر في الحديث الآخر أن أمته: "ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا من هي يا رسول الله قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي اعظمها الأشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى اغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والانبياء.(2/589)
والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده وأخبر أنه لا يهدى من هو كاذب كفار وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} وهو سبحانه وتعالى لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر لله ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه اياها ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الانبياء والأولياء وهذا الذى ذكرناه لا يخألف فيه أجد من العلماء المسلمين بل قد اجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والإئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على مناهجهم وأما ما حدث من سؤال الانبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحذر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الاوثان" وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك(2/590)
فنهى أن يجصص القبر وأن يبني عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذى أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم وهو الذى ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجماع السلف الصالح من الأمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وندعو الناس إلى إقامة الصلوات في الجماعات على الوجه المشروع وايتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فهذا هو الذى نعتقده وندين الله به فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا ونعتقد أيضا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك أقول: إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به ونحن أيضا وهو خلاصة لباب التوحيد وما علينا من المارقين والمتعصبين وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه اغاثة اللهفان والحافظ المقريزى في تجريد التوحيد والإمام اليوسي في شرح الكبرى وشرح الحكم لابن عباد وكتاب جمع الفضائل وقمع الرذائل وكتاب مصايد يد الشيطان وغير ذلك انتهى(2/591)
وفي ذلك اليوم نودى على المتخلفين من الانكشارية بالسفر صحبة أمير الحاج وقبضوا على أنفار منهم وأخرجوهم ومنعوا أيضا حجاج المغاربة من الدخول إلى المدينة ومن دخل منهم لأجل حاجة فليدخل من غير سلاح فذهبوا إلى بولاق وأقاموا هناك.
وفي يوم الإثنين مر الوالي بناحية الجمالية فوجد إنسانا من أكابر غزة يسمى علي أغا شعبان حضر إلى مصر من جملة من حضر مع العرضي وكان مهندسا في عمارة الباشا ثم عين لسد ترعة الفرعونية لمعرفته بأمور الهندسة فوجده جالسا على دكان يتنزه حصة وفرسه وخدمه وقوف إمامه فطلبه وأمره بالركوب معه فركب وذهب صحبته فكان آخر العهد به وكان في جيبه ألف دينار ذهبا بأخبار اخيه خلاف الورق فأخذ ثيابه وفرسه وما معه وخنقه وأخفى أمره وأنكره وكان رجلا لا بأس به.
شهر ربيع الأول سنة 1218.
استهل بيوم الثلاثاء وفي يوم السبت خامسه أحمد باشا والعساكر الانكشارية الذين جمعوهم من المدينة وسافر صحبتهم من العساكر الذين كانوا صحبة أمير الحاج الجميع كانوا نحو الفين وخمسمائة وأما أمير الحاج فإنهم عفوا عنه من السفر ودخل المدينة بخاصته.
وفي هذا اليوم حضر علي كتخدا من جهة قبلي وهو كتخدا حسن باشا إلى جرجا ومعه مكاتبة إلى الأمراء المصرلية وأنه وصل إلى اسيوط فكتبوا له أمانا بالحضور إلى مصر بمن معه من العسكر ورجع علي كتخدا بذلك في ثاني يومه فقط.
وفيه ورد الخبر بوصول أنجد بك إلى ثغر دمياط بالريالة إلى محمد باشا.
وفي يوم الأربعاء تاسعه سافر الشريف عبد الله ابن سرور إلى سكندرية متوجها إلى اسلامبول وأنعم عليه إبراهيم بك بخمسين ألف فضة.
وفي يوم الجمعة كان المولد النبوى ونادوا بفتح الدكاكين ووقود القناديل فأوقدت الأسواق تلك الليلة التي قبلها ولكن دون ذلك(2/592)
وأما الأزبكية فلم يعمل وقدة الاقبالة بيت البكرى لاستيلاء الخراب عليها.
وفي ثاني عشره سفروا جبخانة وجللا وبارودا إلى جهه بحرى وأشيع بأن كثيرا من العسكر المصحوبين بالتجريدة ذهبوا إلى محمد باشا وكذلك طائفة من الانكشارية المطرودين الذين خلصوا إلى طريق دمياط.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره وردت مكاتبات من عثمان بك البرديسي بالخبر بوقوع الحرب بينهم وبين محمد باشا وعساكره.
وفي يوم الإثنين رابع عشره وقع بين الفريقين مقتلة عظيمة وكانوا ملكوا منه متاريس القنطرة البيضاء قبل ذلك ثم هجم المصريون في ذلك اليوم عليهم هجمة عظيمة وكبسوا على دمياط بمخامرة بعض رؤساء عساكر الباشا وفتكوا في عسكر الباشا بالقتل وقتلت خواصه واتباعه وقتل حسين كتخدا شنن ومصطفى أغات التبديل ونهبوا دمياط وأسروا النساء وافتضوا الأبكار وأخذوهم أسرى وصاروا يبيعونهم على بعضهم وفعلوا أفعالا شنيعة من الفسق والفجور وأخذوا حتى ما على اجساد الناس من الثياب ونهبوا الخانات والبيوت والوكائل وجميع أسباب التجار التي بها من اصناف البضائع الشامية والرومية والمصرية وكان شيئا كثيرا يفوق الحصر وما بالمراكب حتى بيع الفرد الارز الذى هو نصف أردب بثلاثة عشر نصفا وقيمته ألف نصف والكيس الحرير الذى قيمته خمسمائة ريال بريالين إلى غير ذلك والأمر لله وحده والتجأ الباشا إلى القرية وتترس بها فأحاطوا به من كل جهة فطلب الأمان فأمنوه من القرية وحضر إلى البرديسي وخطف عمامته بعض العسكر ولما رآه البرديسي ترجل عن مركوبه إليه وتمنى بالسلام عليه وألبسه عمامة وأنزله في خيمة بجانب خيمته متحفظا به ولما وصل الخبر بذلك إلى مصر ضربوا مدافع كثيرة من قصر العيني والقلعة والجيزة ومصر العتيقة واستمر ذلك ثلاثة أيام بلياليها في كل وقت(2/593)
وفي عصريتها حضر جوخدار البرديسي وهو الذى قتل حسين اغا شنن وحكى بصورة الحال فألبسه إبراهيم بك فروة وأنعم عليه ببلاد المقتول وبيته وزوجته وأملاكه وجعله كاشف الغربية وذهب إلى وكيل الألفي أيضا فخلع عليه فروة سمور وصار يبدر الذهب في حال ركوبه.
وفي يوم الجمعة ذهب المذكور إلى مقام الإمام الشافعي وأرخى لحيته على عادتهم التي سنها السدنة ليعفيها بعد ذلك من الحلق.
وفي ذلك اليوم عمل إبراهيم بك ديوانا ببيت ابنته بدرب الجماميز وحضر القاضي والمشايخ ولبس خلعة وتولى قائمقام مصر وضربت في بيته النوبة التركية.
وفي عشرينه ورد الخبر بوصول علي باشا الطرابلسي إلى اسكندرية واليا على مصر عوضا عن محمد باشا وحضر منه فرمان خطابا للأمراء يعلمهم بوصوله ويذكر لهم أنه متولي على الاقطار المصرية عوضا عن محمد باشا من اسكندرية إلى اسوان ولم يبلغ الدولة موت طاهر باشا ولا دخولكم إلى مصر ومعنا أوامر لطاهر باشا وأحمد باشا أنهم يتوجهون بالعساكر إلى الحجاز بسبب الوهابيين فلما وصلنا إلى اسكندرية بلغنا موت طاهر باشا وحضوركم إلى المدينة بمعاونة الارنؤدية وقتل رجال الدولة والانكشارية وقتل من معهم واخراج من بقى على غير صورة إلى غير ذلك وهذا غير مناسب ولا نرضى لكم بهذا على هذا الوجه فاننا نحب لكم الخير ولنا معكم عشرة سابقة ومحبة أكيدة ونطلب راحتكم في أوطانكم ونسعى لكم فيها على وجه جميل وكان المناسب أن لا تدخلوا المدينة إلا بأذن الدولة فإن تظاهركم بالخلاف والعصيان مما يوجب لكم عدم الراحة فإن سيف السلطنة طويل فربما استعان السلطان عليكم ببعض المخالفين الذين لا طاقة لكم بهم ثم قال لهم في ضمن ذلك أن لنا معكم(2/594)
بعض كلام لا يحتمله الكتاب وعن قريب يأتيكم اثنان من طرفنا عاقلان تعلمون معهما مشاورة فكتبوا له جوابا حاصله أن محمد باشا لما كان متوليا لم نزل نترجى مراحمه وهو لا يزداد معنا إلا قسوة ولا يسمح لنا بالإقامة بالقطر المصرى جملة وجرد علينا التجاريد والعساكر من كل جهة وينصرنا الله عليه في كل مرة إلى أن حصل بينه وبين عساكره وحشة بسبب جماكيهم وعلوفاتهم فقاموا عليه وحاربوه وأخرجوه من مصر بمعونة طاهر باشا ثم قامت الانكشارية على طاهر باشا وقتلوه ظلما وقامت العساكر على بعضهم البعض وكنا حضرنا إلى جهة الجيزة باستدعاء طاهر باشا فلما قتل طاهر باشا بقيت المدينة رعية من غير راع وخافت الرعية من جور العساكر وتعديهم فحضر إلينا المشايخ والعلماء واختيارية الوجاقلية واستغاثوا بنا فأرسلنا من عندنا من ضبط العساكر ومن المدينة والرعية وأما محمد باشا فإنه نزل إلى دمياط وظلم البلاد والعباد وفرد عليها الفرد الشاقة وحرقها فتوحه عثمان بك البرديسي لتأمين أهالي القرى إلى أن وصل إلى ظاهر دمياط فأقام بمن معه خارج المدينة فما يشعر إلا ومحمد باشا صدمهم ليلا وحاربهم فحاربوه فنصرهم الله عليه وأنهزمت عساكره وقبض عليه وهو الآن عندنا في الأعزاز والاكرام ونحن الآن على ذلك حتى يأتينا العفو وأما قولكم اننا نخرج من مصر فهذا لا يمكن ولا تطاوعنا جماعتنا وعساكرنا على الخروج من أوطانهم بعد استقرارهم فيها وأما قولكم أن حضرة السلطان يستعين علينا ببعض المخالفين فاننا لا نستعين إلا بالله وأننا أرسلنا عرضحال نطلب العفو ونترجى الرضا ومنتظرون الجواب.
وفي ثاني عشرينه حضر واحد اغا ومعه آخر فضربوا له مدافع وعملوا ديوانا وتكلم معهم وتكلم المشايخ الحاضرون في ظلم العثمانين وما احدثوه من المظالم والمكوس واتفقوا على كتابة عرضحال إلى الباشا فكتبوا ذلك وامضوا عليه ونادوا في الأسواق برفع ما احدثه الفرنساوية والعثمانية(2/595)
من المظالم وزيادة المكوس ودفعوا إلى الاغا الواصل ألف ريال حق طريقه وسافر.
وفيه وصل الخبر بأن سليمان كاشف لما وصل إلى رشيد وبها جماعة من العثمانية وحاكمها إبراهيم أفندى فلما بلغه وصول سليمان كاشف أخلى له البلد وتحصن في برج مغيزل فعبر سليمان كاشف إلى البلد وخرج يحاصر إبراهيم أفندى فهم على ذلك وإذا بالسيد علي باشا القبطان وصل إلى رشيد وأرسل إلى سليمان كاشف يعلمه بحضوره وحضور علي باشا والي مصر ويقول ما هذا الحصار فقال له: نحن نقاتل كل من كان من طرف حسين قبطان باشا وأما من كان من طرف الوزير يوسف باشا فلا نقاتله وارتحل من رشيد إلى الرحمانية ودخل السيد على القبطان إلى رشيد.
وفي ثالث عشرينه سافر جوخدار البرديسي إلى ولاية الغربية وكان شاهين كاشف المرادى هناك يجمع الفردة وتوجه إلى طندتا وعمل على أولاد الخادم ثمانين ألف ريال فحضروا إلى مصر ومعهم مفاتيح مقام سيدي أحمد البدوى هاربين وتشكوا وتظلموا وقالوا لإبراهيم بك لم يبق عندنا شيء فإن الفرنساوية نهبونا وأخذوا اموالنا ثم أن محمد باشا أرسل المحروقي فحفر دارنا وأخذ منا نحو ثلمثائة ألف ريال ولم يبق عندنا شيء جملة كافية.
وفي يوم الإثنين تاسع عشرينه وصل محمد باشا إلى ساحل بولاق وصحبته المحافظون عليه وهم جماعة من عسكر الارنؤد الذين كانوا سابقا في خدمته وجماعة من الأجناد المصرلية ولم يكن معه من اتباعه إلا ست مماليك فقط فإن مماليكه المختصين به اختار منهم البرديسي من اختاره واقتسم باقيهم الارنؤد ومنهم من يخدم الارنؤد المحافظين عليه ووافق أن ذلك اليوم كان جمع سيدى أحمد البدوى ببولاق على العادة فنصبوا له خيمة لطيفة بساحل البحر وطلع إليها فرأى جمع الناس فظن أنهم اجتمعوا للفرجة عليه فقال ما هذا فأخبروه بصورة الحال وكان إبراهيم بك في ذلك بيوم حضر إلى بولاق ودخل إلى بيت السيد عمر نقيب الأشراف باستدعاء(2/596)
فجلس عنده ساعة ثم ركب إلى ديوان بولاق فنزل هناك ساعة أيضا ثم ركب إلى بيته بحارة عابدين فلما وصل الباشا كما ذكر حضر إليه سليم كاشف المحرمجي وأركبه حصانا وركب مماليكه حميرا وذهبوا به إلى بيت إبراهيم بك بحارة عابدين فوجدوا إبراهيم بك طلع إلى الحريم فلم ينزل إليه ولم يقابله فرجع به سليم كاشف إلى بيت حسن كاشف جركس وهو بيت البرديسي فبات به فلما كان في الصباح ركب إبراهيم بك إلى قصر العيني فركب المحرمجي وأخذ معه الباشا وذهب به إلى قصر العيني فقابل إبراهيم بك هناك وسلم عليه وحضر الألفى وباقي الأمراء بجموعهم وخيولهم فترامحوا تحت القصر وتسابقوا ولعبوا بالجريد ثم طلع أكابرهم إلى أعلى القصر فصاروا يقبلون يد إبراهيم بك والباشا جالس حتى تحلقوا حواليهما ثم أن إبراهيم بك قدم له حصانا وقام وركب مع المحرمجي إلى بيت حسن كاشف بالناصرية فسبحان المعز المذل القهار.
وفي ثاني يوم غايته ركب إبراهيم بك الألفي وذهبا إلى الباشا وسلما عليه في بيت البرديسي وهادياه بثياب وأمتعة وبعد أن كانوا يترجون عفوه ويتمنون الرضا منه ويكونوا تحت حكمه صار هو يترجى عفوهم ويؤمل رفدهم واحسانهم وبقى تحت حكمهم فالعياذ بالله من زوال النعم وقهر الرجال.
شهر ربيع الثاني سنة 1218.
استهل بيوم الأربعاء في ثانيه ضربت مدافع كثيرة بسبب إقامة بنديرة الانجليز بمصر.
وفيه عدى البرديسي من المنصورة إلى البر الغربي متوجها إلى جهة رشيد.
وفي يوم السبت رابعه وردت هجانة من ناحية الينبع وأخبروا أن الوهابيين جلوا عن جدة ومكة بسبب أنهم جاءتهم أخبار بأن العجم زحفوا على بلادهم الدرعية وملكوا بعضها والأوراق فيها خطاب من شريف(2/597)
باشا وشريف مكة لطاهر باشا على ظن حياته.
وفي يوم الإثنين نادى الاغا والوالي بالأسواق على العثمانية والاتراك والاغراب من الشوام والحلبية بالسفر والخروج من مصر فكل من وجد بعد ثلاثة أيام فدمه هدد وأمروا عثمان بك أمير الحاج بالسفر على جهة الشام من البر ويسافر المنادى عليهم صحبته وكذلك إبراهيم باشا.
وفي يوم الأربعاء خرج عثمان بك إلى جهة العادلية وخرج الكثير من أعيان العثمانية معه وتتابع خروجهم في كل يوم وصاروا بيبعون متاعهم وثيابهم وهم خزايا حيارى في أسوأ حال وأكثرهم متأهل ومتزوج ومنهم من نهب وسلب وصار لا يملك شيئا فلما تكامل خروجهم وسافروا في عاشره وهم زيادة عن ألفين وبقى منهم أناس التجؤا إلى بعض المصرلية والانجليز وانتموا اليهم.
وفيه وصلت الأخبار بأن البرديسي وصل إلى رشيد وأن السيد علي باشا ريس القبطانية تحصن ببرج مغيزل وغالب أهلها جلا عنها خوفا من مثل حادثة دمياط ولما دخل عثمان بك البرديسي إلى رشيد فرد على أهلها مبلغ دراهم يقال ثمانين ألف ريال.
وفي ثالث عشره حضر قنصل الفرنسيس فعملوا له شنكا ومدافع وأركبوه من بولاق بموكب جليل وقدامه آغات الانكشارية والوالي وأكابر الكشاف وحسين كاشف المعروف بالافرنجي وعساكره الذين مثل عسكر الفرنسيس وهيئته لم يتقدم مثلها بين المسلمين ونصب بندريرته في بركة الأزبكية من ناحية قنطرة الدكة على صارى طويل مرتفع في الهواء واجتمع إليه كثير من النصارى الشوام والاقباط وعملوا جمعيات وولائم وازدحموا على بابه وحضر صحبة كثير من الذين هربوا عند دخول المسلمين مع الوزير وكان المحتفل بذلك حسين كاشف الافرنجي.
وفي ثامن عشره وصلت مكاتبة من البرديسي إلى إبراهيم بك يخبر فيها أنه لما وصل إلى رشيد وتحصن السيد علي باشا بالبرج أرسل إليه فبعث له حسن بك قرابة علي باشا الطرابلسي الوالي فتكلم معه وقال(2/598)
له: ما المراد أن كان حضرة الباشا واليا على مصر فليات على الشرط والقانون القديم ويقيم معنا على الرحب والسعة وأن كان خلاف ذلك فاخبرونا به إلى أن انتهى الكلام بيننا وبينه على مهلة ثلاثة أيام ورجع وانتظرنا بعد مضي الميعاد بساعتين فلم يأتنا منهم جواب فضربنا عليهم في يوم واحد مائة وخمسين قنطارا من البارود وأنكم ترسلون لنا أعظم ما يكون عندكم في البنب والمدافع والبارود فشهلوا المطلوب وأرسلوه في ثاني يوم صحبة حسين الافرنجي وتراسل الطلب خلفه ولحقوا به عدة أيام.
وفي عشرينه وصل حسن باشا الذى كان والي جرجا إلى مصر العتيقة فركب إبراهيم بك للسلام عليه وحضر الطبجية إلى جبخانته فأخذوها وطلعوا بها إلى القلعة وكذلك الجمال أخذها الجمالة والعسكر ذهبوا إلى رفقائهم الذين بمصر وطولب بالمال واستمر بمصر العتيقة مستحفظا به من كل ناحية.
وفي يوم السبت خامس عشرينه وقعت نادرة وهي أن محمد باشا طلب من سليم كاشف المحرمجي أن يأذن له في أن يركب إلى خارج الناصرية بقصد التفسح فأرسل سليم كاشف يستأذن إبراهيم بك في ذلك فأذن له بأن يركب ويعمل رماحة ثم يأتي إليه بقصر العيني فيتغدى عنده ثم يعود واوصى على ذبح اغنام ويعملون له كبابا وشواء فأركبه سليم كاشف بمماليكه وعدة من مماليك المحرمجي وصحبته إبراهيم باشا فلما ركب وخرج إلى خارج الناصرية أرسل جواده ورمحه وتبعه مماليكه من خلفه فظن المماليك المصرلية أنهم يعملون رماحة ومسابقة فلما غابوا عن اعينهم ساقوا خلفهم ولم يزالوا سائقين إلى الأزبكية وهو شاهر سيفه وكذلك بقية الطاردين والمطرودين فدخل إلى أحمد بك الارنؤدى وضرب بعض المماليك فرسه ببارودة فسقط وذلك عند وصوله إلى بيت أحمد بك المذكور ووصل الخبر إلى سليم كاشف فركب على مثل ذلك بباقي اتباعه وهم شاهرون السيوف ورامحون الخيول واتصل الخبر بابراهيم بك فامر الكشاف بالركوب وأرسل إلى البواقي بالطلوع إلى القلعة وحفظ أطارف(2/599)
البلد فركب الجميع وتفرقوا رامحين وبأيديهم السيوف والبنادق فأنزعجت الناس وترامحوا وأغلقوا الحوانيت واختلف رواياتهم وظنوا وقوع الشقاق بين الارنؤد المصرلية وكذلك المماليك أيقنوا ذلك وطلع الكثير منهم إلى القلعة ولما دخل محمد باشا عند أحمد بك ومن معه من أكابر الارنؤد قاموا في وجهه ووبخوه بالكلام وقبضوا عليه وعلى مماليكه وأخذوا ما وجدوه معهم من الدراهم وكان في جيب الباشا خاصة ألف وخمسمائة دينار وحضر سليم كاشف المحرمجي عند ذلك فسلموه له فأركبه الباشا اكديشا لأن فرسه اصيب ببارودة من بعض المماليك اللاحقين به عند وصوله إلى بيت أحمد بك وركب معه أحمد بك أيضا وأخذوه إلى عند إبراهيم بك بقصر العيني فخلع إبراهيم بك على أحمد بك فروة سمور وقدم له حصانا بسرجه وسكنت الفتنة ونعوذ بالله من الخذلان ومعاداة الزمان.
وفي يوم الأحد سادس عشرينه وردت الأخبار ومكاتبة من البرديسي بنصرتهم على االعثمانية واستيلائهم على برج رشيد بعد أن حاربوا عليه نيفا وعشرين يوما واسروا السيد على القبطان واخرين معه وعدة كثيرة من العسكر وأرسلوهم إلى جهة الشرقية ليذهبوا على ناحية الشام بعد أن قتل منهم من قتل فعند ذلك عملوا شنكا وضربوا مدافع كثيرة وكذلك في ثاني يوم وثالث يوم.
وفي يوم الأربعاء عشرينه كسفت الشمس وقت الضحوة وكان المنكسف تسعة اصابع وهو نحو الثلثين واظلم الجو وابتدأوه الساعة واحدة وثمان دقائق ونصف وتمام الانجلاء في ثالث ساعة وست عشرة دقيقة وكان ذلك في أيام زيادة النيل نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
شهر جمادى الأولى سنة 1218.
استهل بيوم الجمعة في ثانيه الموافق لخامس عشر مسرى القبطي وفي النيل سبعة عشر ذراعا وكسر سد الخليج صبحها بحضرة إبراهيم بك(2/600)
قائمقام والقاضي وجرى الماء في الخليج على العادة.
وفيه وردت الأخبار بأن علي باشا كسر السد الذى ناحية أبي قير الحاجز على البحر المالح وهذا السد من قديم الزمان من السدود العظام المتينة السلطانية وتتفقده الدول على ممر الأيام بالمرمة والعمارة إذا حصل به أدنى خلل فلما اختلت الأحوال وأهمل غالب الأمور وأسباب العمارات انشرم منه شرم فسالت المياه المالحة على الاراضي والقرى التي بين رشيد وسكندرية وذلك من نحو ستة عشر عاما فلم يتدارك أمره واستمر حاله يزيد وخرقه يتسع حتى انقطعت الطرق واستمر ذلك إلى واقعة الفرنسيس فلما حضرت الانكليز والعثمانية شرموه أيضا من الناحية البحرية لأجل قطع الطرق على الفرنسيس فسالت المياه المالحة على الاراضي إلى قريب دمنهور واختلطت بخليج الأشرفية وشرقت الاراضي وخربت القرى والبلاد وتلفت المزارع وانقطعت الطرق حول الأسكندرية من البر وامتنع وصول ماء النيل إلى أهل الأسكندرية فلم يصل إليهم إلا ما يصلهم من جهة البحر في النقاير أو ما خزنوه من مياه الأمطار بالصهاريج وبعض العيون المستعذبة فلما استقر العثمانيون بمصر حضر شخص من طرف الدولة يسمى صالح أفندى معين لخصوص السد وأحضر معه عدة مراكب بها أخشاب وآلات وبذل الهمة والاجتهاد في سد الجسر فأقام العمل في ذلك نحو سنة ونصف حتى قارب الأتمام وفرح الناس بذلك غاية الفرح واستبشر أهل القرى والنواحي فما هو إلا وقد حصلت هذه الحوادث وحضر علي باشا إلى الثغر وخرج الأجناد المصرلية وحاربوا السيد على باشا القبطان على برج وشيد فخاف حضورهم إلى الأسكندرية ففتحه ثانيا ورجع التلف كما كان وذهب ما صنعه صالح أفندى المذكور في الفارغ بعد ما صرف عليه اموالا عظيمة وأما أهل سكندرية فإنهم جلوا عنها ونزل البعض في المراكب وسافر إلى ازمير وبعضهم إلى قبرص ورودس والاضات وبعضهم اكترى بالايام وأقاموا بها على الثغر ولم يبق بالبلدة إلا الفقراء والعواجز والذين لا يجدون ما ينفقونه على الرحلة وهم أيضا(2/601)
مستوفزون وعم بها الغلاء لعدم الوارد وانقطاع الطرق وقيل أن علي باشا المذكور فرد عليهم مالا وقبض على ستة انفار من أغنياء المغاربة واتهمهم أنهم كتبوا كتابا للبرديسي يعدونه أنه إذا حضر يدلونه على جهة يملك منها البلد بمعونة عسكر المغاربة فأخذ منهم مائة وخمسين كيسا بشفاعة القبطان الذى في البيليك بالثغر واجتهد في حفر خندق حول البلد واستعملهم في ذلك الحفر وفي عزمه أن يطلق فيه ماء البحر المالح فإن فعل ذلك حصل به ضرر عظيم فقد أخبر من له معرفة ودراية بالأمور أنه ربما خرب اقليم البحيرة بسبب ذلك واجتهدوا أيضا في تحصين المدينة زيادة عن فعل الفرنسيس والانكليز.
وفي يوم السبت تاسعه وصل السيد علي القبطان إلى مصر وطلع إلى قصر العيني وقابل إبراهيم بك فخلع عليه فروة سمور وقدم له حصانا معددا وأكرمه وعظمه وانزلوه عند علي بك أيوب واعطوه سرية بيضاء وجارية حبشية وجاريتين سوداوين للخدمة ورتبوا له ما يليق به وهو رجل جليل من عظماء الناس وعقلائهم وأخبر القادمون البرديسي والأجناد المصريين ارتحلوا من رشيد إلى دمنهور قاصدين الذهاب إلى سكندرية وأرسلوا بطلب ذخيرة وجبخانة ومماليك وعساكر.
وفيه أرادوا عمل فردة وأشيع بين الناس ذلك فانزعجوا منه واستمر الرجاء والخوف أياما ثم انحط الرأى على قبض مال الجهات ورفع المظالم والتحرير من البلاد والميرى عن سنة تاريخه من الملتزمين ويؤخذ من القبط آلاف وأربعمائة كيس هذا مع توالي وتتابع الفرد والكلف على البلاد حتى خرب الكثير من القرى والبلاد وجلا أهلها عنها خصوصا اقليم البحيرة فإنه خرب عن آخره ثم أن البرديسي استقر بدمنهور وبعدما أبقى برشيد مملوكه يحيى بك ومعه جملة من العساكر وكذلك بناحية البغاز وهم كانوا من وقت محاصرة البرج حتى منعوا عنه الأمداد الذى اتاه من البحر وكان ما كان وشحن البرديسي برج مغيزل بالذخيرة والجبخانة وأنزلوا برشيد عدة فرد ومغارم وفتحوا بيوت الراحلين عنها ونهبوها وأخذوا أموالهم من(2/602)
الشوادر والحواصل والأخشاب والأحطاب والبن والارز وقلت الاقوات فيهم والعليق فعلفوا الدواب بشعير الارزبل والارز المبيض وغير ذلك مما لا تضبطه الاقلام ولا تحيط به الاوهام.
وفي منتصف هذا الشهر في أيام النسىء نقص النيل نقصا فاحشا وانحدر من على الاراضي فأنزعج الناس وازدحموا على مشترى الغلال وزاد سعرها ثم استمر يزيد قيراطا وينقص قيراطين إلى أيام الصليب وانكبت الخلائق على شراء الغلال ومنع الغنى من شراء ما زاد على الاردب ونصف اردب والفقير لا يأخذ الاويبة فأقل ويمنعون الكيل بعد ساعتين فتذهب الناس إلى ساحل بولاق ومصر القديمة ويرجعون من غير شيء واستمر سليم اغا مستحفظان ينزل إلى بولاق في كل يوم صار الأمراء يأخذون الغلال القادمة بمراكبها قهرا عن اصحابها ويخزنوها لأنفسهم حتى قلت: الغلة وعز وجودها في العرصات والسواحل وقل الخبز من الأسواق والطوابين وداخل الناس وهم عظيم وخصوصنا مع خراب البلاد بتوالي الفرد والمغارم وعز وجود الشعير والتبن وبيعت الدواب والبهائم بالسعر الرخيص بسبب قلة العلف واجتمع بعض المشايخ وتشاوروا في الخروج إلى الأستسقاء فلم يمكنهم ذلك لفقد شروطها وذهبوا إلى إبراهيم بك وتكلموا معه في ذلك فقال لهم وأنا أحب ذلك فقالوا له: وأين الشروط التي من جملتها رفع المظالم وردها والتوبة والاقلاع عن الذنوب وغير ذلك فقال لهم هذا أمر لا يمكن ولا يتصور ولا أقدر عليه ولا أحكم إلا على نفسي فقالوا: إذا نهاجر من مصر فقال وأنا معكم ثم قاموا وذهبوا.
وفي أواخره وردت الأخبار برجوع البرديسي ومن معه من العساكر وقد كان أشيع أنهم متوجهون إلى الأسكندرية ثم ثنى عزمه عن ذلك لامور الأول وجود القحط فيهم وعدم الذخيرة والعلف والثاني الحاح العسكر بطلب جماكيهم المنكسرة وما يأخذونه من المنهوبات لا يدخل في حساب جماكيهم والثالث العجز عن أخذ الأسكندرية لوعر الطريق وانقطاع الطرق بالمياه المالحة فلو وصلوها وطال عليهم الحصار لا يجدون ما يأكلون(2/603)
ولا ما يشربون.
واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1218 بيوم الأحد.
وفي أوائله نقص ماء النيل ووقف ماء الخليج وازدحم السقاؤن على نقل الماء إلى الصهاريج والاسبلة ليلا ونهارا من الخليج وقد تغير ماؤه بما يصب فيه من الخرارات والمراحيض ولم ينزل بالأراضي التي بين بولاق والقاهرة قطرة ماء وزاد ضجيج الناس وارتفعت الغلات من السواحل والعرصات بالكلية فكانت الفقراء من الرجال والنساء يذهبون بغلقانهم إلى السواحل ويرجعون بلا شيء وهم يبكون ويولولون.
وفي سادسه وصل البرديسي ومن معه من العساكر إلى بر الجيزة وخرج الأمراء وغيرهم وعدوا لملاقاتهم فلما أصبح يوم السبت عدى محمد علي والعساكر الأرنؤدية إلى بر مصر وكذلك البرديسي فخرجت إليهم الفقراء بمقاطفهم وغلقانهم وعيطوا في وجوههم فوعدهم بخير وأصبح البرديسي مجتهدا في ذلك وأرسل محمد علي خازنداره ففتحوا الحواصل التي ببولاق ومصر العتيقة وأخرجوا منها الغلال إلى السواحل واجتمع العالم الكثير من الرجال والنساء فأذنوا لكل شخص من الفقراء بويبة غله لا غير فكان الذي يريد الشراء يذهب إلى خازندار البرديسي ويأخذ منه ورقة بعد المشقة والمزاحمة ويذهب بها فيكيلون له ويدفع ثمنها لصاحب الغلة وما رتبوه عليها فحصل للناس اطمئنان واشترى الخبازون أيضا وفتحوا الطوابين والمخابز وخبزوا وباعوا فكثر الخبز والكعك بالأسواق وجعلوا سعر القمح ستة ريالات الأردب والفول خمسة ريالات وكذلك الشعير أن وجد وكان السعر لاضابط له منهم من كان يشتريه بثمانية وتسعة وسبعة خفية ممن توجد عنده الغلة في مصر أو الارياف فعند ذلك سكن روع الناس واطمأنت نفوسهم وشبعت عيونهم ودعوا لعثمان بك البرديسي.
وفي هذا الشهر تحقق الخبر بجلاء الوهابي عن جدة ومكة ورجوعه إلى بلاده وذلك بعد أن حاصر جدة وحاربها تسعة أيام وقطع عنها الماء ثم(2/604)
رحل عنها وعن مكة ورجع الشريف غالب إلى مكة وصحبته شريف باشا ورجع كل شيء إلى حاله الأول ورد المكوس والمظالم.
وفي يوم الأحد وصل البرديسي إلى بيته بالناصرية وهو بيت حسن كاشف جركس وبيت قاسم بك وقد فرشا له ونقلوا محمد باشا من بيت جركس إلى دار صغيرة بجواره وعليه الحرس.
وفي يوم الإثنين عملوا ديوانا عند إبراهيم بك فاجتمع فيه هو والبرديسي والألفي وتشاوروا في أمر جامكية العسكر فوزعوا على أنفسهم قدرا وكذلك على باقي الأمراء والكشاف والأجناد كل منهم على قدر حاله في الإيراد والمراعاة فمنهم من وزع عليه عشرون كيسا ومنهم عشرة وخمسة واثنان وواحد ونصف واحد وطلبوا من جمرك البهار قدرا كبيرا فعملوا على كل فرقتين مائة ريال وفتحوا الحواصل وأخرجوا منها متاع الناس وباعوه بالبخس على ذلك الحساب وأصحابه ينظرون وأخذوا ابن الحضارمة والينبعاوية بحيث وقف الفرق البن بستة ريالات على صاحبه وأخذوا من ذلك الأصل ألف فرق بن وأخرجت من الحواصل وحملت.
وفي يوم السبت رابع عشره انزلوا فردة أيضا على أهل البلد ووزعوها على التجار وأرباب الحرف كل طائفة قدرا من الأكياس خمسين فما دونها إلى عشرة وخمسة وبثت الأعوان للمطالبة فضج الناس وأغلقوا حوانيتهم وطلبوا التخفيف بالشفاعات والرشوت للوسائط والنصارى فخفف عن البعض وبعد منتصف الشهر انقلب الوضع المشروع في الغلة وانعكس الحال إلى أمر شنيع وهو أنهم سعروها كل اردب بستة ريالات بظاهر الحال ولا يبيع صاحب الغلة غلته إلا بأذن من القيم بعد ما يأخذ منه نصف الغلة أو الثلث أو الربع على حسب ضعفه وقوته من غير ثمن وإذا أرادوا ذو الجاه الشراء ذهب أولا سرا وقدم المصلحة والهدية إلى بيت القيم فعند ذلك يؤذن له في مطلوبه فيكيلون له الغلة ليلا وصار يتأخر في حضوره إلى الساحل إلى قريب الظهر فيذهب الناس والفقراء فينتظرونه وإذا حضر(2/605)
ازدحموا عليه وتقدم أرباب المصانعات والوسايط فيؤذن لهم ويؤخذ منهم عن كل اردب ريال يأخذها القيم لنفسه زيادة عن الثمن وعن الكلفة وهي نحو الخمسين فضة خلاف الاجرة ويرجع الفقراء من غير شيء وأطلقوا للمحتسب أن يأخذ في كل يوم أربعمائة اردب منها مائتان للخبازين ومائتان توضع بالعرصات داخل البلد فكان يأخذ ذلك إلى داره ولا يضعون بالعرصات شيئا ويعطى للخبازين من المائتين خمسين أردبا أو ستين ويبيع الباقي باغراضه بما أحب من الثمن ليلا فضج الناس وشح الخبز من الأسواق وخاطب بعض الناس الأمراء الكبار في شأن ذلك واستمر الحال على ذلك إلى آخر الشهر والأمر في شدة وتسلط العسكر والمماليك على خطف ما يصادفونه من الغلة أو التبن أو السمن فلا يقدر من يشترى شيئا من ذلك أن يمر به ولو قل حتى يكترى واحدا عسكريا أو مملوكا يحرسه حتى يوصله إلى داره وأن حضرت مركب بها غلال وسمن وغنم من قبلي أو بحرى أخذوها ونهبوا ما فيها جملة فكان ذلك من أعظم أسباب القحط والبلاء.
وفي عشرينه مات محمد بك الشرقاوى وهو الذى كان عوض سيده عثمان بك الشرقاوى.
شهر رجب الفرد سنة 1218.
استهل بيوم الثلاثاء فيه رفعوا خازندار البرديسي من الساحل وقلدوا محمد كاشف تابع سليمان بك الاغا أمين البحرين والساحل ورفق بالامر واستقر سعر الغلة بألف ومائتين نصف فضة الاردب فتواجدت بالرقع والساحل وقل الخطف وأما السمن فقل وجوده جدا حتى بيع الرطل بستة وثلاثين نصفا فيكون القنطار بأربعين ريالا وأما التبن فصار يباع بالقدح أن وجد وسرب الناس بهائمهم من عدم العلف.
وفيه حضر واحد انكليزى وصحبته مملوك الألفي وبعض من الفرنسيس فعملوا لهم شنكا ومدافع وأشيع حضور الألفي إلى سكندرية ثم تبين أن هذا الانكليزى أتى بمكاتبات فلما مر على مالطة وجد ذلك المملوك(2/606)
وكان قد تخلف عن سيده لمرض اعتراه فحضر صحبته إلى مصر فأشيع في الناس أن الألفي حضر إلى الأسكندرية وأن هذا خازنداره سبقه بالحضور إلى غير ذلك.
وفيه حضر أيضا بعض الفرنسيس بمكاتبة إلى القنصل بمصر وفيها الطلب بباقي الفردة التي بذمة الوجاقلية فخاطب القنصل الأمراء في ذلك فعملوا جمعية وحضر المشايخ وتكلموا في شأن ذلك ثم قالوا أن الوجاقلية الذين كانت طرفهم تلك الفردة مات بعضهم وهو يوسف باشجاويش ومصطفى كتخدا الرزاز وهم عظماؤهم ومن بقي منهم لا يملك شيئا فلم يقبلوا هذا القول ثم اتفق الأمر على تأخير هذه القضية إلى حضور الباشا ويرى رأيه في ذلك وحضر أيضا صحبة أولئك الفرنسيس الخبر بموت يعقوب القبطي فطلب أخوه الأستيلاء على مخلفاته فدافعته زوجته وأرادت أخذ ذلك على مقتضى شريعة الفرنسيس فقال أخوه أنها ليست زوجته حقيقة بل هي معشوقته ولم يتزوج بها على ملة القبط ولم يعمل لها الأكليل الذى هو عبارة عن عقد النكاح فأنكرت ذلك فأرسل الفرنسيس يستخبرون من قبط مصر عن حقيقة ذلك فكتبوا لهم جوابا بأنها لم تكن زوجته على مقتضى شرعهم وملتهم ولم يعمل بينهم الأكليل فيكون الحق في تركته لأخيه لا لها.
وفيه ورد الخبر بوقوع حادثة بالاسكندرية بين عساكر العثمانية وأجناس الافرنج المقيمين بها واختلفت الرواة في ذلك وبعد أيام وصل من أخبر بحقيقة الواقعة وهي أن علي باشا رتب عنده طائفة من عسكره على طريقة الافرنج فكان يخرج بهم في كل يوم إلى جهة المنشية ويصطفون ويعملون مرش وارد بوش ثم يعودون ذلك مع انحراف طبيعتهم عن الوضع في كل شيء فخرجوا في بعض الأيام ثم عادوا فمروا بمساكن الافرنج ووكالة القنصل فأخرج الافرنج رؤوسهم من الطيقان نساء ورجالا ينظرون ركبهم ويتفرجون عليهم كما جرت به العادة فضربوا عليهم من اسفل بالبنادق فضرب الافرنج عليهم أيضا فلم يكن إلا أن هجموا عليهم ودخلوا(2/607)
يحاربونهم في أماكنهم والأفرنج في قلة فخرج القناصل الستة ومن تبعهم ونزلوا إلى البحر وطلعوا غليون الريالة وكتبوا كتابا بصورة الواقعة وأرسلوه إلى اسلامبول وإلى بلادهم وأما العسكر اتباع الباشا فإنه لما خرج الافرنج وتركوا أماكنهم دخلوا إليها ونهبوا متاعهم وما أمكنهم وأرسل إلى القناصل خورشيد باشا فصالحهم وأخذ بخواطرهم واعتذر إليهم وضمن لهم ما أخذ منهم فرجعوا بعد علاج كبير وجمع الباشا علماء البلدة وأعيانها وطلب منهم كتابة عرض محضر على ما يمليه على غير صورة الحال فأمتنعوا عن الكتابة إلا بصورة الواقع وكان المتصدر للرد الشيخ محمد المسيرى المالكي فمقته ووبخه ومن ذلك الوقت صار يتكلم في حقه ويزدريه إذا حضر مجلسه وسكنت على ذلك.
وفي يوم الجمعة رابعه اجتمع المشايخ وذهبوا إلى إبراهيم بك وكلموه بسبب ما أخذوه من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين ثم استولى على ذلك جماعتهم وأمروهم فطمنهم بالكلام اللين على عادته وكلموه أيضا على خبز الجراية المرتبة لفقراء الأزهر فأطلق لهم دراهم تعطى للخباز يعمل بها خبزا.
وفي ثامنه كتبوا مراسلة على لسان المشايخ وأرسلوها إلى علي باشا باسكندرية مضمونها طلبه لمنصبه والحضور إلى مصر ليحصل الاطمئنان والسكون وتأمين الطرقات ويبطل أمر الاهتمام بالعساكر والتجاريد ولأجل الأخذ في تشهيل أمور الحج وأن تأخر عن الحضور ربما تعطل الحج في هذه السنة ويكون هو السبب في ذلك إلى غير ذلك من الكلام.
وفي عاشره سافر جعفر كاشف الإبراهيمي رسولا إلى أحمد باشا الجزار بعكا لغرض باطني لم يظهر.
وفي هذه الأيام كثرت الغلال بالساحل والعرصات ووصلت مراكب كثيرة وكثر الخبز بالأسواق وشبعت عيون الناس ونزل السعر إلى ثمانية ريالات وسبعة وانكفوا عن الخطف إلا في التبن.
وفي منتصفه فتحوا طلب مال الميرى ومال الجهات ورفع المظالم عن(2/608)
سنة تاريخه وعين لطلبها من البلاد أمراء كبار ووجهت الغربية والمنوفية لعسكر الارنؤد فزاد على ذلك حق الطرق للمعينين للطلب والاستعجالات وتكثير المغارم والمعينين وكلفهم على من يتوانى في الدفع هذا وطلب الفردة مستمر حتى على أعيان الملتزمين ومن تأخر عن الدفع ضبطوا حصته وأخذوها واعطوها لمن يدفع ما عليها من مياسير المماليك فربما صالح صاحبها بعد ذلك عليها واستخلصها من واضع اليد أن أمكنه ذلك.
وفي اواخره نبهوا على تعمير الدور التي اخربها الفرنسيس فشرع الناس في ذلك وفردوا كلفها على الدور والحوانيت والرباع والوكائل واحدثوا على الشوارع السالكة دروبا كثيرة لم تكن قبل ذلك وزاد الحال وقلد أهل الاخطاط بعضهم كما هو طبيعة أهل مصر في التقليد في كل شيء حتى عملوا في الخطة الواحدة دربين وثلاثة واهتموا لذلك اهتماما عظيما وظنوا ظنونا بعيدة وأنشؤا بدنات وأكتافا من احجار منحوتة وبوابات عظيمة ولزم لبعضها هدم حوانيت اشتروها من اصحابها وفردوا أثمانها عن أهل الخطة.
وفي اواخره أيضا نجزت عمارة عثمان بك البرديسي في الأبراج والبوابات التي أنشأها بالناصرية فإنه انشأ بوابتين عظيمتين بالرحبة المستطيلة خارج بيته الذى هو بيت حسن كاشف جركس احداهما عند قناطر السباع والأخرى عند المزار المعروف بكعب الاحبار وبنى حولهما ابراجا عظيمة وبها طيقان بداخلها مدافع افواهما بارزة تضرب إلى خارج ونقل إليها مدافع الباشا التي كانت بالازبكية فسبحان مقلب الأحوال.
وفيه نزل إبراهيم بك والبرديسي وحسين بك اليهودى إلى بولاق وأخذوا ما وجدوه بساحل الغلة وأرسلوه إلى بحرى فأرتج الناس من ذلك وعزت الغلال وزاد سعرها بعد الانحلال.
شهر شعبان سنة 1218.
أوله يوم الأربعاء فيه وصل كاتب ديوان علي باشا الذى يقال له: ديوان أفندى وعلى يديه مكاتبة وهي صورة خط شريف وصل من الدولة(2/609)
مضمونه الرضا عن الأمراء المصرلية بشفاعة صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف باشا وشفاعة علي باشا والي مصر وأن يقيموا بأرض مصر ولكل أمير فائظ خمسة عشر كيسا لا غير وحلوان المحلول ثمان سنوات وأن الاوسبة والمضاف والبراني يضم إلى الميرى وأن الكلام في الميرى والأحكام والثغور إلى الباشا والروزنامجي الذى يأتي صحبة الباشا والجمارك والمقاطعات على النظام الجديد للدفتردار الذى يحضر أيضا فلما قرىء ذلك بحضرة الجمع من الأمراء والمشايخ اظهروا البشر وضربوا مدافع ثم اتفق الرأى على إرسال جواب ذلك الفرمان فكتبوا جوابا مضمونه مختصرا أنه وصل إلينا صورة الخط الشريف وحصل لنا بوروده السرور بالعفو والرضا وتمام السرور حضوركم لتنتظم الأحوال واعظمها تشهيل الحج الشريف وأرسلوه ليلة الإثنين ثانية صحبة رضوان كتخدا إبراهيم بك ومحمود باشجاويش الانكشارية وصحبتهما من الفقهاء السيد محمد ابن الدواخلي من طرف الشيخ الشرقاوى.
وفي هذه الأيام كثر عيث العسكر وعربدتهم في الناس فخطفوا عمائم وثيابا وقبضوا على بعض أفراد وأخذوا ثيابهم وما في جيوبهم من الدراهم.
وفيه وصل قاضي عسكر مصر وكان معوقا بالاسكندرية من جملة المحجوز عليهم.
وفي يوم الجمعة عاشره وقف جماعة من العسكر في خط الجامع الأزهر في طلوع النهار وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمائمهم فأنزعج الناس ووقعت فيهم كرشة وصلت إلى بولاق ومصر العتيقة وأغلقوا الدكاكين واجتمع أناس وذهبوا إلى الشيخ الشرقاوى والسيد عمر النقيب والشيخ الأمير فركبوا إلى الأمراء وعملوا جمعية وأحضروا كبار العساكر وتكلموا معهم ثم ركب الاغا والوالي وإمامه عدة كبيرة من عسكر الارنؤد وخلافهم والمنادى ينادى بالأمن والأمان للرعية وأن وقع من العسكر والمماليك خطف شيء يضربوه وأن لم يقدروا عليه فليأخذوه إلى حاكمه ومثل هذا الكلام الفارغ وبعد مرور الحكام بالمنادة خطفوا(2/610)
عمائم ونساء.
وفي ليلة الأربعاء ثامنه حضر الوالي إلى قصر الشوك ونزل عند رجل من تجار خان الخليلي يسمى عثمان كجك فتعشعى عنده ثم قبض عليه وختم على بيته واخذه صحبته وخنقه تلك الليلة ورماه في بئر فاستمر بها أياما حتى انتفخ فأخرجوه واخذته زوجته فدفنته وسببه أنه كان يجتمع بالعثمانيين ويغريهم بنساء الأمراء وأن بعضهم اشترى منه أواني نحاسا ولم يدفع له الثمن فطالب حريمه في أيام محمد باشا فلم تدفع له فعين عليها جماعة من عسكر محمد باشا ودخل بها إلى دارها وطالبها فقالت له عندى شيء فطلع إلى داخل الحريم وصحبته العسكر ودخل إلى المطبخ وأخذ قدور الطعام من فوق الكوانين وقلب ما فيها من الطعام واخذها وخرج.
وفي يوم الأحدثاني عشرة نبه القاضي الجديد على أن نصف شعبان ليلة الثلاثاء وأخبر أن اتباعه شاهدوا الهلال ليلة الثلاثاء وهم عند البغاز على أن الهلال كان ليلة الأربعاء عسر الرؤية جدا فكان هذا أول احكامه الفاسدة وفي يوم الأربعاء اشيع أن الأمراء في صبحها قاصدون عمل ديوان ببيت إبراهيم بك ليلبسوا ستة من الكشاف ويقلدوهم صناجق عوضا عمن هلك منهم وهم سليمان كاشف مملوك إبراهيم بك الوالي الذى تزوج عديلة بنت إبراهيم بك الكبير عوضا عن سيده وعبد الرحمن كاشف مملوك إبراهيم عثمان بك المرادى الذى قتل بأبي قير الذى تزوج امرأة سيده أيضا وعمر كاشف مملوك عثمان بك الاشقر الذى تزوج امرأة سيده أيضا ومحمد كاشف مملوك المنفوخ ورستم كاشف مملوك عثمان بك الشرقاوى ومحمد كاشف مملوك سليمان بك الاغا وتزوج ابنته أيضا فلما وقع الاتفاق على ذلك تجمع الكشاف الكبار ومماليك مراد بك وآخرون من طبقتهم وخرجوا غضابا نواحي الآثار ثم اصطلحوا على تلبيس خمسة عشر صنجقا.
فلما كان يوم الأحد تاسع عشرة عملوا ديوانا بالقلعة والبسوا فيه خمسة(2/611)
عشر صنجقا وهم أربعة من طرف إبراهيم بك الكبير وهم صهراه سليمان زوج عديلة هاشم ابنة الأمير إبراهيم بك الكبير عوضا عن سيده وأسمعيل كاشف مملوك رشوان بك الذى تزوج بزوجة سيده زينب هانم ابنة الأمير إبراهيم بك أيضا ومحمد كاشف الأشقر الذى تزوج بإمرأته وخليل اغا كتخدا إبراهيم بك ومن طرف البريسي حسين آغا الوالي وسليمان خازندار مراد بك وشاهين كاشف مراد ومحمد تابع محمد بك المنفوخ المرادى ورستم تابع عثمان الشرقاوى وعبد الرحمن كاشف تابع عثمان الطنبرجي الذى تزوج بإمرأته ومن طرف الألفي عثمان آغا الخازندار وحسين كاشف المعروف بالوشاش وصالح كاشف وعباس كاشف تابع سليمان بك الآغا ولبسوا حسن آغا مراد واليا عوضا عن حسين المذكور.
وفيه ورد الخبر بوصول طائفة من الانكليز إلى القصر وهم يزيدون على الألفين.
وفي عشرينه حضر مكتوب من رضوان كتخدا إبراهيم بك من اسكندرية يخبر فيه أنه وصل إلى اسكندرية وقابل الباشا ووعد بالحضور إلى مصر وأنه يأمر بتشهيل أدوات الحج ولوازمه واطلق أربعة واربعين نقيرة حضرت إلى رشيد ببضائع للتجار.
وفيه حضر جعفر كاشف الإبراهيمي من الديار الشامية وقد قابل أحمد باشا الجزار وأكرمه ورجع بجواب الرسالة وسافر ثانيا بعد أيام.
وفيه قلدوا سليمان بك الخازندار ولاية جرجا وخرج بعسكره إلى مصر القديمة وجلس هناك بقصر المحرمجي فاتفق أن جماعة من عسكره الأتراك الذين انضموا إليهم من العثمانية تشاجروا مع العساكر البحرية جماعة حسين بك اليهودى بسبب امرأة رقاصة في قهوة فقتل من الأتراك ثلاثة ومن البحرية أربعة وانجرح منهم كذلك جماعة فحنق حسين بك وتترس بالمقياس وبالمراكب ووجه المدافع إلى القصر وضرب بها عليه وكان سليمان بك غائبا عن القصر فدخلت جلة داخل القصر من الشباك بين جماعة من(2/612)
الأمراء كانوا جالسين هناك ينتظرون رب المكان ففزعوا وخرجوا من المجلس وبلغ سليمان بك الخبر فذهب إلى البرديسي وأعلمه فأرسل البرديسي يطلب حسين بك فامتنع من الحضور والتجأ إلى الألفي فأرسل البرديسي خبرا إلى الألفي بعزل حسين بك عن قبطانبة البحر وتولية خلافه فلم يرض الألفي بعزله وقال لا يذهب ولا يعزل وترددت بينهم الرسل وكادت تكون فتنة ثم انحط الأمر على أن حسين بك يطلع إلى القلعة يقيم بها يومين أو ثلاثة تطيبا لخاطر سليمان بك واخمادا للفتنة فكان كذلك واستمر على ما هو عليه.
وفي يوم الأحد سادس عشرينه البس إبراهيم بك عثمان كاشف تابع علي أغا كتخدا جاويشان واستقروا به كتخدا جاويشان عوضا عن سيده وكان شاغرا من مدة حلول الفرنساوية.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه ركب حسين بك أخو طاهر باشا في عدة وافرة وحضر إلى بيت عثمان بك البرديسي بعد العصر على حين غفلة وكان عند الحريم فأنزعج من ذلك ولم يكن عند في تلك الساعة إلا أناس قليلة فأرسل إلى مماليكه فلبسوا اسلحتهم وأرسلوا إلى الأمراء والكشاف والأجناد بالحضور وتواني في النزول حتى اجتمع الكثير منهم وصعد بعض الأمراء إلى القلعة وحصل بعض قلقة ثم نزل إلى التنهة واذن لاخي طاهر باشا بالدخول إليه في قلة من اتباعه وسأل عن سبب حضوره على هذه الصورة فقال نطلب العلوفة ووقع بينهما بعض كلام وقام وركب ولم يتمكن من غرضه وأرسل البرديسي إلى محمد علي فحضر إليه وفاوضه في ذلك ثم ركب من عنده بعد المغرب.
وفي تلك الليلة نادوا بعمل الرؤية فاجتمع المشايخ عند القاضي وكلموه في ذلك فرجع عما كان عزم عليه ونادوا بها ليلة الخميس فعملت الرؤية تلك الليلة وركب المحتسب بموكبه على العادة إلى بيت القاضي فلم يثبت الهلال تلك الليلة ونودى بأنه من شعبان وأصبح الناس مفطرين فلما كان صبحها حضر بعض المغاربة وشهدوا برؤيته فنودى بالامساك وقت(2/613)
الضحى وترقب الناس الهلال ليلة الجمعة فلم يره إلا القليل من الناس بغاية العمر وهو في غاية الدقة والخفاء.
شهر رمضان المعظم سنة 1218.
استهل بيوم الجمعة في ثانيه قرروا فردة على البلاد برسم نفقة العسكر أعلى وأوسط وأدنى ستين الفا وعشرين الفا وعشرة مع ما الناس فيه من الشراقي والغلاء والكلف والتعايين وعيت العسكر وخصوصا بالارياف.
وفيه نزلت الكشاف إلى الأقاليم وسافر سليمان بك الخازندار إلى جرجا واليا على الصعيد وصالح بك الألفي إلى الشرقية.
وفي ثامنه وصل إلى ساحل بولاق عدة مراكب بها بضائع رومية ويميش وهي التي كان أطلقها الباشا وفيها حجاج وقرمان.
وفيه حضر ساع من الأسكندرية وعلى يده مكتوب من رضوان كتخدا ومن بصحبته يخبرون بأن الباشا كان وعدهم بالسفر يوم الإثنين وبرز خيامه وخازنداره إلى خارج البلد فورد عليه مكاتبة من أمراء مصر يأمرونه بأن يحضر من طريق البر على دمنهور ولا يذهب إلى رشيد فانحرف مزاجه من ذلك وأحضر الرسل الذين هم رضوان كتخدا ومن معه واطلعهم على المكاتبة وقال لهم: كيف تقولون أني حاكمكم وواليكم ثم يرسلون يتحكمون على أني لا أذهب إلى مصر على هذا الوجه فأرسلوا بخبر ذلك.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشره غيمت السماء غيما مطبقا وامطرت مطرا متتابعا من آخر ليلة الأربعاء إلى سادس ساعة من ليلة الخميس وسقط بسببها عدة أماكن قديمة في عدة جهات وبعضها على سكانها وماتوا تحت الردم وزاد منها بحر النيل وتغير لونه اصفر مما سال فيه من جبل الطفل وبقى على ذلك التغير أياما إلا أنه حصل بها النفع في الاراضي والمزارع.
وفي منتصفه ورد الخبر بخروج الباشا من الأسكندرية وتوجهه إلى الحضور إلى مصر على طريق البر وشرعوا في عمل المراكب التي تسمى بالعقبة لخصوص ركوب الباشا وهي عبارة عن موكب كبير قشاشي يأخذونها من أربابها قهرا(2/614)
وينقشونها بأنواع الأصباغ والزينة والالوان ويركبون عليها مقعدا مصنوعا من الخشب المصنع وله شبابيك وطيقان من الخرط وعليه بيارق ملونه وشراريب مزينة وهو مصفح بالنحاس الأصفر ومزين بأنواع الزينة والستائر والمتكفل بذلك آغات الرسالة فلما خرج الباشا من الأسكندرية أرسل محمود جاويش والسيد محمد الدواخلى إلى يحيى بك يقولان له أن حضرة الباشا يريد الحضور إلى رشيد في قلة وأما العساكر فلا يدخل أجد منهم إلى البلد بل يتركهم خارجها فلما وصلوا إلى يحيى بك وأرادوا يقولون له ذلك وجدوه جالسا مع عمر بك كبير الارنؤد الذى عنده وهم يقرؤن جوابا أرسله الباشا إلى عمر بك المذكور يطلبه لمساعدته والخروج معه أمسكه بعض اتباع يحيى بك مع الساعي فلما سمعوا ذلك قالوا لبعضهم اى شيء هذا وتركوا ما معهم من الكلام وحضروا إلى مصر صحبة رضوان كتخدا.
وفي يوم الجمعة سادس عشره ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها لورود الخبر بموت حسين قبطان باشا وتوليه خلافه.
وفي عشرينه اشيع سفرالالفي لملاقاة الباشا وصحبته أربعة من الصناجق وأبرز الخيام من الجيزة إلى جهة انبابة وأخذوا في تشهيل ذخيرة وبقسماط وجبخانه وغير ذلك.
وفي رابع عشرينه عدى الألفى ومن معه إلى البر الشرقي وأشيع تعدية الباشا إلى بر المنوفية فلما عدوا إلى البر الشرقي انتقلوا بعرضيهم وخيامهم إلى جهة شبرا وشرعوا في عمل مخابز العيش في شلقان.
وفيه حضر واحد بيان آغا يسمى صالح أفندى وعلى يده فرمان فأنزلوه ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك ولا يجتمع به أحد.
وفي غايته وصل الباشا إلى ناحية منوف وفردوا له فردا على البلاد وأكلوا الزروعات وما أنبتته الأرض.
وانقضى هذا الشهر وما حصل به من عربدة الانؤد وخطفهم عمائم الناس وخصوصا بالليل حتى كان الإنسان إذا مشى يربط عمامته خوفا عليها وإذا تمكنوا من أجد شلحوا ثيابه وأخذوا(2/615)
ما معه من الدراهم ويترصدون لمن يذهب إلى الأسواق مثل سوق أنبابه في يوم السبت لشراء الجبن والزبد والأغنام والابقار فيأخذون ما معهم من الدراهم ثم يذهبون إلى السوق وينهبون ما يجلبه الفلاحون من ذلك للبيع فامتنع الفلاحون عن ذلك الافي النادر خفية وقل وجوده وغلا السمن حتى وصل إلى ثلثمائة وخمسين نصف فضة العشرة أرطال قباني وأما التبن فصار أعز من التبر وبيع قنطاره بألف نصف فضة أن وجد وعز وجود الحطب الرومي حتى بلغ سعر الحملة ثلثمائة فضة وكذا غلا سعر باقي الاحطاب وباقي الأمور المعدة للوقود مثل البقمة وجلة البهائم وحطب الذرة ووقفت الارنؤد لخطف ذلك من الفلاحين فكانوا يأتون بذلك في آخر الليل وقت الغفلة ويبيعونه بأغلى الأثمان وعلم الارنؤد ذلك فرصدوهم وخطفوهم ووقع منهم القتل في كثير من الناس حتى في بعضهم البعض وغالبهم لم يصم رمضان ولم يعرف لهم دين يتدينون به ولا مذهب ولا طريقة يمشون عليها اباحية أسهل ما عليهم قتل النفس وأخذ مال الغير وعدم الطاعة لكبيرهم وأميرهم وهم أخبث منهم فقطع الله دابر الجميع وأما ما فعله كشاف الأقاليم في القرى القبلية والبحرية من المظالم والمغارم وأنواع الفرد والتساويف فشىء لا تدركه الأفهام ولا تحيط به الأقلام وخصوصا سليمان كاشف البواب بالمنوفية فنسأل الله العفو والعافية وحسن العاقبة في الدين والدنيا والآخرة.
استهل شهر شوال بيوم السبت 1218.
وفي ثانيه سب رجلا تاجرا من وكالة التفاح ثلاثة من العسكر فهرب منهم إلى حمام الطنبدى فدخلوا خلفه وقتلوه داخل الحمام وأخذوا مافي جيبه من الدراهم وغيرها وذهبيوا وحضر أهله وأخذوه في تابوت ودفنوه ولم ينتطح فيه شاتان وقتل في ذلك اليوم أيضا رجل عند حمام القيصرلي وغير ذلك.
وفيه وصل الباشا إلى ناحية شلقان وصحبته عساكر كثيرة انكشارية وغيرهم من الذين خرجوا مطرودين من مصر وصحبته نحو ستين(2/616)
مركبا في البحر بها أثقاله ومتاعه وعساكر أيضا.
وفيه ركب الألفي والأمراء ما عدا إبراهيم بك والبرديسي فإنهما لم يخرجا من بيوتهما وذهبوا إلى مخيمهم بشبرا وخرج أيضا محمد علي وأحمد بك وأتباعهم وابقوا عند بيوتهم طوائف منهم.
وفيه وقعت مشاجرة بين الارنؤدية جهة بيوت سوارى العساكر بسبب امرأة قتل فيها خمسة أنفار بالازبكية.
وفي ثالثة أوقفوا على أبواب المدينة جماعة من العساكر باسلحتهم فازعج الناس وارتاعوا من ذلك وأغلقوا الدروب والبوابات ونقلوا أمتعتهم وبضائعهم من الدكاكين وأكثروا من اللغط وصار العسكر الواقفون بالأبواب يأخذون من الداخل والخارج دراهم ويفتشون جيوبهم ويقولون لهم: معكم أوراق فيأخذون بحجة ذلك ما في جيوبهم.
وفي رابعه غيروا العسكر بأجناد من الغز المصرلية فجلس على كل باب كاشف ومعه جماعة من العسكر فكان الكاشف الذى على باب الفتوح يأخذ ممن يمر به دراهم فإن بزى الفلاحين بأن كا لابس جبة صوف أو زعبوط أخذ منه ما في جيبه أو عشرة أنصاف أن كان فقيرا وأن كان من أولاد البلد ومجمل الصورة أو لابس جوخة ولو قديمة طالبه بألف نصف فضة أو حبسه حتى يسعى عليه أهله ويدفعونها عنه ويطلقه وسدوا باب الوزير وباب المحروق وقفلوا باب البرقية المعروف بالغريب بعد أن كانوا عزموا على سده بالبناء ثم تركوه بسبب خروج الأموات.
وفيه نودى بوقود القناديل ليلا على البيوت والوكائل وكل ثلاثة دكاكين قنديل وفي صبحها خامسه شق الوالي وسمر عدة حوانيت بسبب القناديل وشدد في ذلك.
وفيه انتقل الألفي ومن معه من الأمراء إلى ناحية شلقان ونصبوا خيامهم قبال عرضى الباشا وكلموه عن نزوله في ذلك المكان ونصب الخيام في داخل الخيام ودوسهم لهم فقال لهم هذه منزلتنا ومحطتنا فلم يسمع الباشا وأتباعه الاقلعهم الخيام والتأخر(2/617)
فهذه كانت أول حقارة فعلها المصرلية في العثمانية ونصب محمد علي وأحمد بك وعساكرهم جهة البحر ثم أن خدم الألفى أخذوا جمالا ليحملوا عليها البرسيم فنزلوا بها إلى بعض الغيطان فحضر أميرا خور الباشا بالجمال لأخذ البرسيم أيضا فوجدوا جمال الألفى وأتباعه فنهرهم وطردوهم فرجعوا إلى سيدهم وأخبروه فأمر بعض كشافه بالركوب إليهم فركب رامحا إلى الغيظ وأحضر أميراخور الباشا وقطع رأسه قبالة صيوان الباشا ورجع إلى سيده بالجمال ورأس أميراخور فذهب اتباع الباشا وأخبروه بقتل أميراخور وأخذ الجمال فحنق وأحضر رضوان كتخدا إبراهيم بك وتكلم معه ومن جملة كلامه أنا فعلت معكم ما فعلت وصالحت عليكم الدولة ولم تزل تضحك على ذقني وأنا اطاوعك وأصدق تمويهاتك إلى أن سرت إلى ههنا فأخذتم تفعلون معي هذه الفعال وتقتلون أتباعي وترذلوني وتأخذون حملتي وجمالي فلاطفه رضوان كتخدا في الجواب واعتذر إليه وقال له: هؤلاء صغار العقول ولا يتدبرون في الأمور وحضرة أفندى شأنه العفو والمسامحة ثم خرج من بين يديه وأرسل إلى اتباع الألفي فاحضر منهم الجمال وردها إلى وطاق الباشا وحضر إليه عثمان بك يوسف المعروف بالخازندار وأحمد آغا شويكار فقابلاه واخذا بخاطره ولم يخرج إليه أجد من الأمراء سواهما.
وفي خامسه نادوا بخروج العساكر الارنؤدية إلى العرضى وكل من بقي منهم ولم يكن معه ورقة من كبيره فدمه هدر.
وصار الوالي بعد ذلك كلما صادف شخصا عسكريا من غير ورقة قبض عليه وغيبه واستمر يفتش عليهم ويتجسس على أماكنهم ليلا ونهارا ويقبض على من يجده متخلفا والقصد من ذلك تمييز الارنؤدية من غيرهم المتداخلين فيهم وكذلك من مر على المتقيدين بأبواب المدينة وذلك باتفاق بين المصرلية والارنؤدية لأجل تميزهم من بعضهم وخروج غيرهم.
وفيه أطلعوا السيد على القبطان أخا على باشا إلى القلعة.
وفي سادسه خرج البرديسي إلى جهة شلقان ولم يخرج إبراهيم بك(2/618)
ولم يتنقل من بيته فنصب خيامه على موازاة خيام الألفى وباقي الأمراء كذلك إلى الجبل والارنؤدية جهة البحر وقد كان الباشا أرسل إلى محمد علي وكبار الارنؤدية وغيرهم من قبائل العربان ومشايخ البلاد المشهورين مكاتبات قبل خروجه من الأسكندرية يستميلهم إليه ويعدهم ويمنيهم أن قاموا بنصرته ويحذرهم ويخوفهم أن استمروا على الخلاف وموافقة العصاة المتغليين. فنقل الارنؤدية ذلك إلى المصرلية وأطلعوهم على المكاتبات سرا فيما بينهم واتفقوا على رد جواب المراسلة من الارنؤدية بالموافقة على القيام معه إذا حضر إلى مصر وخرج الأمراء لملاقاته والسلام عليه فيكون هو وعساكره أمامهم والارنؤدية المصرية من خلفهم فيأخذونهم مواسطة فيستأصلونهم والموعد بشلفان وسهلوا له أمر الأمراء المصرلية وأنهم في قلة لا يبلغون الفا ولو بلغوا ذلك فمن المنضمين إليهم من خلاف قبيلتهم وهم أيضا معنا في الباطن. ودبروا له تدبيرا ومناصحات تروج على الأباليس منها أن يختار من عسكره قدر كذا من الموصوفين بالشجاعة والمعرفة بالسباحة والقتال في البحر ويجعلهم في السفن قبالته في البحر وأن يعدوا بالعساكر البرية إلى البر الشرقي من مكان كذا ويجعل الخيالة والرجالة معه على صفة ذكروها له. ولما وصل إلى الرحمانية أرسل له الارنؤد مكاتبة سرا بأن يعدى إلى البر الشرقي وبينوا له الصواب ذلك وهو يعتقد نصحهم فعدى إلى البر الشرقي. فلما حضر إلى شلقان رتب عساكره وجعلهم طوابير وجعل كل بينباشا في طابور وعملوا متاريس ونصبوا المدافع واوقفوا المراكب بما فيها من العساكر والمدافع بالبحر على موازاة العرضي. فخرج الألفي كما ذكر بمن معه من الأمراء المصرلية والعساكر الارنؤدية وأرسل إلى الباشا بالانتقال والتأخر فلم يجد بدا من ذلك فتأخر إلى زفيتة ونزل ونصب هناك وطاقة ومتاريسه. وفي وقت تلك الحركة تسلل حسين بك الافرنج ومن معه من العساكر بالغلايين والمراكب واستعملوا على مركب الباشا واحتاطوا بها وضربوا عليهم بالبنادق والمدافع وساقوهم إلى جهة مصر وأخذوهم اسرى وذهبوا بهم(2/619)
الى الجيزة وبعدها قتلوا من كان فيهم من العساكر المحاربين وكبيرهم يسمى مصطفى باشا أخذوه أسيرا أيضا. وكان بالمركب أناس كثيرة من التجار وصحبتهم بضائع واسباب رومية كان الباشا عوقهم بسكندرية فنزلوا في المراكب ليصلوا ببضائعهم وطمعا في عدم دفعهم الجمرك فوقعوا أيضا في الشرك وارتبكوا فيمن ارتبك ولما تأخر الباشا عن منزلته واستقر باراضي زفيتة احاطت به المصريون والعربان وتحلقوا حوله ووقفوا لعرضيه بالرصد فكل من خرج عن الدائرة خطفوه ومن الحياة أعدموه وأرسل إليه الألفي على كاشف الكبير فقال له حضرة ولدكم الألفي يسلم عليكم ويسأل عن هذه العساكر المصحوبين بركابكم وما الموجب لكثرتها وهذه هيئة المنابذين لا المسالمين والعادة القديمة أن الولاة لا يأتون إلا باتباعهم وخدمهم المختصين بخدمتهم وقد ذكروا لك ذلك وأنتم بسكندرية. فقال نعم وإنما هذه العساكر متوجهة إلى الحجاز تقوية لشريف باشا على الخارجي وعندما نستقر بالقلعة نعطيهم جماكيهم ونشلهم ونرسلهم. فقال: إنهم اعدوا لكم قصر العيني تقيمون به فإن القلعة خربها الفرنسيس وغيروا أوضاعها فلا تصلح لسكناكم كما لا يخفاكم ذلك وأما العسكر فلا يدخلون معكم بل ينفصلون عنكم ويذهبون إلى بركة الحاج فيمكثون هناك حتى نشهل لهم احتياجاتهم ونرسلهم ولسنا نقول ذلك خوفا منهم وإنما البلدة في قحط وغلاء والعساكر العثمانية منحرفوا الطباع ولا يستقم حالهم مع الارنؤدية ويقع بينهم ما يوجب الفشل والتعب لنا ولكم.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره حصل خسوف للقمر جزئي بعد رابع ساعة من الليل ومقدار المنخسف أربع اصابع وثلث وانجلى في سابع ساعة إلا شيئا يسيرا.
وفي ذلك اليوم أرسل البرديسي إلى شيخ السادات تذكرة صحبة واحد كاشف من اتباعه يطلب عشرين ألف ريال سلفة فلاطفه ورده بلطف فرجع إلى مخدومه وأبقى ببيت الشيخ جماعة من العسكر فوبخه على(2/620)
الرجوع من غير قضاء حاجة وأمره بالعود ثانيا فعاد إليه في خامس ساعة من الليل وصحبته جماعة أخرى من العسكر فازعجوا أهل البيت وأرسلت عديلة هانم ابنة إبراهيم بك إلى المعينين تأمرهم أن لا يعملوا قلة أدب وأرسلت إلى ابيها لأن منزلها بجواره فاهتم لذلك وأرسل خليل بك إلى البرديسي فكفه عن ذلك بعد علاج وسعي ورفع المعنيين.
وفي ليلة الخميس عشرينه وصلت أخبار ومكاتبات من الأمراء الذين ذهبوا بصحبة الباشا بالقرين فضربوا مدافع كثيرة بعد العشاء ونصف الليل. ومضمون ما ذكروه في المراسلة أن الباشا أراد أن يكبسهم بمن معه ليلا وكان معهم سائس يعرف بالتركي فحضر إليهم واخبرهم فتحذروا منهم فلما كبسوهم وقعت بينهم محاربة وقتل منهم عدة من المماليك وخازندار محمد بك المنفوخ وانجرح المنفوخ أيضا جرحا بليغا واصيب الباشا وصاحبه من غير قصد والليل ليس له صاحب فقضى عليه وكان ذلك مقدورا وفي الكتاب مسطورا وانكم ترسلوا لنا أمانا بالحضور إلى مصر والا ذهبنا إلى الصعيد. هذا ما قالوه والواقع أنهم لما سافروا معه كان بصحبته خمسة وأربعون نفسا لا غير والعساكر التي كانت سافرت قبله نجعت إلى الصالحية أو ذهبت حيث شاء الله وكان إمامه عسكر المغاربة وخلفه الأمراء المصرلية. فلما وصلوا إلى اراضي القرين ونزلوا هناك عمل المغاربة مع الخدم مشاجرة وجسموها إلى أن تضاربوا بالسلاح فقامت الأجناد المصرلية من خلفهم فصار الباشا ومن معه في الوسط والتحموا عليهم بالقتال ففر من اتباعه أربعة عشر نفسا إلى الوادى وثلاثة عشر رموا بأنفسهم في ساقية قريبة منهم من حلاوة الروح وضرب الباشا بعض المماليك منهم بقرابينة فأصابته وقتل معه ابن اخته حسن بك وكتخداه وباقي الثمانية عشر فلما سقط الباشا وبه رمق رأى أجد الأميرين فقال له: في عرضك يا فلان أن معي كفنا بداخل الخرج فكفني فيه وادفني ولا تتركني مرميا. فلما انقضى ذلك اعطى ذلك الأمير لبعض العرب دنانير وأعطاه الكفن الذى اوصاه عليه وقال له: اذهب إلى مقتلهم(2/621)
وخذ الباشا وادفنه في تربة. ففعل كما امروا وحفروا لباقيهم حفرا وواروهم فيها. وانقضى أمرهم. هذا أخبار بعض تلك البلاد المشاهدين للواقعة وكل ذلك وبال فعله وسوء سريرته وخبث ضميره فلقد بلغنا أنه قال لعسكره أن بلغت مرادى من الأمراء المصريين وظفرت بهم وبالارنؤد أبحت لكم المدينة والرعية ثلاثة أيام تفعلون بها ما شئتم. والدليل على ذلك ما فعله بالاسكندرية مدة إقامته بها من الجور والظلم ومصادرات الناس في أموالهم وبضائعهم وتسلط عساكره عليهم بالجور والخطف والفسق وترذيله لأهل العلم واهانته لهم حتى أنه كان يسمى الشيخ محمد المسيرى الذى هو أجل مذكور في الثغر بالمزور وإذا دخل عليه مع امثاله وكان جالسا اتكأ ومد رجليه قصدا لاهانتهم.
خبر علي باشا المترجم المذكور.
كان اصله من الجزائر مملوك محمد باشا حاكم الجزائر فلما مات محمد باشا وتولى مكانه صهره ارسله بمراسلة إلى حسين قبطان باشا وكان أخوه المعروف بالسيد علي مملوك للدولة ومذكورا عند قبطان باشا ومتولي الريالة فنوه بذكره فقلده قبطان باشا ولاية طرابلس واعطاه فرمانات ويرق فذهب إليها وجيش له جيوشا ومراكب وأغار على متوليها وهو أخو حمودة باشا صاحب تونس وحاربه عدة شهور حتى ملكها بمخامرة أهلها لعلمهم أنه متوليها من طرف الدولة. وهرب أخو حمودة باشا عند اخيه بتونس فلما استولى علي باشا المذكور على طرابلس اباحها لعسكره ففعلوا بها اشنع وأقبح من التمرلنكية من النهب وهتك النساء والفسق والفجور وسبي حريم متوليها وأخذهن أسرى وفضحهن بين عسكره ثم طالبهم بالأموال. وأخذ اموال التجار وفرد على أهل البلد وأخذ اموالهم ثم أن المنفصل حشد وجمع جموعا ورجع إلى طرابلس وحاصره أشد المحاصرة وقام معه المغرضون من أهل البلدة والمقروصون من علي باشا. فلما رأى الغلبة على نفسه نزل إلى المراكب بما جمعه من الأموال والذخائر وأخذ معه غلامين جميلين من أولاد الأعيان شبه الرهائن(2/622)
وهرب إلى اسكندرية وحضر إلى مصر والتجأ إلى مراد بك فأكرمه وأنزله منزلا حسنا عنده بالجيزة وصار خصيصا به. وسبب مجيئه إلى مصر ولم يرجع إلى القبطان علمه أنه صار ممقوتا في الدولة لأن من قواعد دولة العثمانيين أنهم إذا أمروا أميرا في ولاية ولم يفلح مقتوه وسلبوه وربما قتلوه وخصوصا إذا كان ذا مال. ثم حج المترجم في سنة سبع ومائتين وألف من القلزم وأودع ذخائره عند رشوان كاشف المعروف بكاشف الفيوم لقرابة بينهما من بلادهما ولما كان بالحجاز ووصل الحجاج الطرابلسية ورأوه وصحبته الغلامان وذهبوا إلى أمير الحاج الشامي وعرفوه عنه وعن الغلامين وأنه يفعل بهما الفاحشة فأرسل معهم جماعة من اتباعه في حصة مهملة وكبسوا عليه على حين غفلة فوجدوه راقدا ومعه أجد الغلامين فسبه الطرابلسية ولعنوه وقطعوا لحيته وضربوه بالسلاح وجرحوه جرحا بالغا وأخذوا منه الغلامين وكادوا يقتلونه لولا جماعة من جماعة أمير الحاج. ثم رجع إلى مصر من البحر أيضا وأقام في منزلته عند مراد بك زيادة عن ست سنوات إلى أن حضر الفرنسيس إلى الديار المصرية فقاتل مع الأمراء وتغرب معهم في قبلي وغيره ثم انفصل عنهم وذهب من خلف الجبل وسار إلى الشام فأرسله الوزير يوسف باشا بعد الكسرة بمكاتبات إلى الدولة فلم يزل حتى وقعت هذه الحوادث وقامت العسكر على محمد باشا واخرجوه ووصل الخبر إلى اسلامبول فطلب ولاية مصر على ظن بقاء حبل الدولة العثمانية وأوامرها بمصر وليس بها إلا طاهر باشا والارنؤد وجعل على نفسه قدرا عظيما من المال ووصل إلى اسكندرية وبلغه انعكاس الأمر وموت طاهر باشا وطرد الينكجرية وانضمام طائفة الارنؤد للمصرلية وتمكنهم من البلدة فاراد أن يدير أمرا ويصطاد العقاب بالغراب فيجوز بذلك سلطنة مجددة ومنقبة مؤبدة فلم تنفعه التدابير ولم تسعفه المقادير فكان كالباحث على حتفه بظلفه والجادع بيده مارن أنفه ولم يعلم أنها القاهرة كم قهرت جبابرة وكادت فراعنة:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده(2/623)
وكان صفته أبيض اللون عظيم اللحية والشوارب أشقرهما قليل الكلام يا لربي يحب اللهو والخدعة.
ولما انقضى أمره وأرسل سليمان بك ومحمد بك مكاتبات إلى شاهين بك ونظرائه بما ذكروا أن يأخذوا لهم أمانا من إبراهيم بك البرديسي فكتبوا لهم أمانا بعد إمتناع منهما واظهار التغير والغضب والتأسف على التفريط منهما في قتله.
وفي يوم الخميس المذكور عملوا ديوانا وأحضروا صالح أغا قابجي باشا الذى حضر أولا ونزل ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك وقرأوا الفرمان الذى معه وهو يتضمن ولاية علي باشا. الأوامر المعتادة لا غير وليس فيها ما كان ذكره علي باشا من الجمارك والالتزام وغيره.
وتكلم الشيخ الأمير في ذلك المجلس وذكر بعض كلمات ونصائح في اتباع العدل وترك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب وشكا الأمراء والمتآمرون من أفعال بعضهم البعض وتعدى الكشاف النازلين في الأقاليم وجورهم على البلاد وأنه لا يتحصل لهم من التزامهم وحصصهم ما يقوم بنفقاتهم فاتفق الحال على إرسال مكاتبات للكشاف بالحضور والكف عن البلاد.
واما مصطفى باشا فإنهم أنزلوه في مركب مع اتباع الباشا الذين كانوا بقصر العيني وسفروهم إلى حيث شاء الله.
وفيه وصل الألفي من سرحته إلى مصر القديمة فأقام في قصره الذى عمره هناك وهو قصر البارودى يومين ثم عدى إلى الجيزة ودخل اتباعه بالمنهوبات من الجمال والابقار والأغنام ومعهم الجمال محملة بالقمح الأخضر والفول والشعير لعدم البرسيم فإنهم رعوا ما وجدوه في حال ذهابهم وفي رجوعهم لم يجدوا خلاف الغلة فرعوها وحملوا باقيها على الجمال لو شاء ربك ما فعلوه.
وفي ثاني عشرينه وقعت معركة بين الارنؤودية وعسكر التكرور بالقرب من الناصرية بسبب حمل برسيم وضربوا على بعضهم بنادق رصاص وقتل(2/624)
بينهم انفار واستمروا على مضاربة بعضهم البعض نحو سبعة أيام وهم يترصدون لبعضهم في الطرقات.
وفي خامس عشرينه عملوا ديوانا وقرأوا فرمانا وصل من الدولة مع الططر خطابا لعلي باشا والأمراء بتشهيل أربعة آلاف عسكرى وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين وإرسال ثلاثين ألف اردب غلال إلى الحرمين.
وأنهم وجهوا أربع باشات من جهة بغداد بعساكر وكذلك أحمد باشا الجزار أرسلوا له فرمانا بالاستعداد والتوجه لذلك فإن ذلك من اعظم ما تتوجه إليه الهمم الإسلامية وامثال ذلك من الكلام والترفق وفيه بعض القول بالحسب والمروأة بتنجيز المطلوب من الغلال وأن لم تكن متيسرة عندكم تبذلوا الهمة في تحصيلها من النواحي والجهات بأثمانها على طرف الميرى بالسعر الواقع.
وفيه تقيد لضبط مخلفات علي باشا صالح أفندى ورضوان كتخدا ونائب القاضي وباشكاتب.
وفيه حضر الأمراء الذين توجهوا بصحبة الباشا إلى الشرقية.
وفي هذا اليوم حضر عثمان كاشف البواب الذى كان بالمنوفية وترك خيامه واثقاله واعوانه على ما هم عليه وحضر في قلة من اتباعه.
وفيه نقلوا عسكر التكرور من ناحية قناطر السباع إلى جهة أخرى واخرجوا سكانا كثيرة من دورهم جهة الناصرة وأزعجوهم من مواطنهم واسكنوا بها عساكر وطبجية.
وفيه انزلوا السيد علي القبطان من القلعة إلى بيت علي بك أيوب كما كان وهذا السيد علي هو أخو علي باشا المقتول كما ذكر واصله مملوك وليس شريف كما يتبادر إلى الفهم من لفظة سيد أنها وصف خاص للشريف بل هي منقولة من لغة المغاربة فإنهم يعبرون عن الأمير بالسيد بمعنى المالك وصاحب السيادة.
وفي سادس عشرينه انزلوا محمل الحاج من القلعة مطويا من غير هيئة وأشيع في الناس دورانه إلى بيت إبراهيم بك صحبه أجد الكشاف وطائفة(2/625)
من المماليك واتفق الرأى على سفره من طريق بحر القلزم صحبه محمد جاويش مستحفظان ومعه الكسوة والصرة وكان حضر الكثير من حجاج الجهة القبلية بجمالهم ودوابهم ومتاعهم فلما تحققوا عدم السفر حكم المعتاد باعوا جمالهم ودوابهم بالرميلة بأبخس الأثمان لعدم العلف بعد ما كلفوها بطول السنة. وما قاسوه أيضا في الأيام التي أقاموها بمصر في الانتظار والتوهم.
شهر ذى القعدة سنة 1218.
استهل بيوم الإثنين فيه أنزلوا حسين قبطان ومن معه من عسكر الارنؤد من القلعة وكانوا نحو الأربعمائة فذهبوا إلى بولاق وسكنوا بها بعدما أخرجوا السكان من دورهم بالقهر عنهم ولم يبق بالقلعة من أجناسهم سوى الطبجية المتقيدين بخدمة المصرلية.
وفيه ألبس إبراهيم بك كتخداه رضوان خلعة وأشيع أنه قلده دفتردارية مصر وذهب إلى البرديسي فخلع عليه أيضا وكذلك الألفي وذلك إكراما وتنويها بذكره جزاء فعله ومجيئه بالباشا وتحيله عليه.
وفي ليلة الجمعة خامسه وصلت مكاتبات من يحيى بك البرديسي حاكم رشيد يخبر فيها بوصول محمد بك الألفي الكبير إلى ثغر رشيد يوم الأربعاء ثالثه وقد طلع على أبي قير وحضر إلى ادكو ثم إلى رشيد في يوم الأربعاء المذكور وقصده الإقامة برشيد ستة أيام فلما وصلت تلك الاخبارعملوا شنكا وضربوا مدافع كثيرة بعد الغروب وكذلك بعد العشاء وفي طلوع النهار من جميع الجهات من الجيزة ومصر القديمة وبيت البرديسي والقلعة وأظهروا البشر والفرح وشرعوا في تشهيل الهدايا والتقادم وأضمروا في نفوسهم السوء له ولجماعته والمتآمرين حسدا لرآسته عليهم وخمولهم بحضوره فهاجت حفائظهم وكتموا حقدهم وتناجوا فيما بينهم وبيتواء أمرهم مع كبار العسكر. وأرسل البرديسي كتابا إلى مملوكه يحيى بك تابعه حاكم رشيد يأمره فيه بقتل الألفي هناك وركب هو إلى النيل وعدى شاهين بك ومحمد بك المنفوخ وأسمعيل بك(2/626)
صهر إبراهيم بك وعمر بك الإبراهيمي إلى بر الجيزة ليلة الأحد ونصبوا خيامهم ليستعدوا إلى السفر من آخر الليل صحبه الألفي الصغير وعدى أيضا قبلهم حسين بك الوشاش الألفي ونصب خيامه بحرى منهم. فلما كان في خامس ساعة من الليل أرسلوا إلى حسين بك يطلبونه إليهم فحضر مع مماليكه وقد رتبوا جماعة منهم تأتي بخيول ومشاعل من جهة القصر فقالوا له: أين الخيول فاننا راكبون في هذا الوقت للملاقاة وها هو اخوك الألفي قد ركب وهو مقبل. فنظر فرأى المشاعل والخيول فلم يشك في صحة ذلك ولم يخطر بباله خيانتهم له فأمر مماليكه أن يذهبوا إلى خيولهم ويركبوا ويأتوه بفرسه فأسرعوا إلى ذلك وبقى هو وحده ينتظر فرسه فعاجلوه وغدروه وقتلوه بينهم وأرسلوا إلى البرديسي بالخبر وكان محمد علي وأحمد بك والارنؤدية عدوا قبلي الجيزة ليلا وكمنوا بمكان ينتظرون الإشارة ويتحققون وقوع الدم بينهم فلما عملوا ذلك حضروا إلى القصر وأحاطوا به وكان طبجي الألفي مخامرا أيضا فعطل فوالي المدافع واستمروا في ترتيب الأمراء على القصر إلى آخر الليل فحضر إلى الألفي من أيقظة وأعلمه بقتل حسين بك وإحاطتهم بالقصر فأراد الأستعداد للحرب وطلب الطبجي فلم يجده وأعلموه بما فعل بالمدافع فأمر بالتحميل وركب في جماعته الحاضرين وخرج من الباب الغربي وسار مقبلا فركب خلفه الأمراء المذكورون وساروا مقدار ملقتين حتى تهبت خيولهم ولم يكن معهم خيول كثيرة لانهم لم يكونوا يظنون خروجه من القصر واشتغل أكثر أتباعهم بالنهب لأنه عندما ركب الألفي وخرج من القصر دخله العسكر والأجناد ونهبوا ما فيه من الاثقال والأمتعة والفرش وغيرها وكان كاتبه المعلم غالي ساكنا بالجيزة وكذلك كثير من اتباعه ومقدميه فذهبوا إلى دورهم فنهبوها وأخذوا ما عند كاتبه المذكور من الأموال ثم نهبوا دور الجيزة عن آخرها ولم يتركوا بها جليلا ولا حقيرا حتى عروا ثياب النساء وفعلوا بها مثل ما فعلوا بدمياط وأصبح الناس بالمدينة يوم الأحد لا يعلمون شيئا من ذلك إلا أنهم سمعوا الصراخ(2/627)
ببيت حسين بك جهة التبانة وقيل أنه قتل ببر الجيزة. فصار الناس في تعجب وحيرة واختلفت روياتهم ولم يفتحوا دكاكينهم ونقلوا أسبابهم منها وظلوا غالب اليوم لم يعلموا سر قتل حسين بك إلا من صراخ أهل بيته. وكل ذلك وقع وإبراهيم بك جالس في بيته ويسأل ممن يدخل إليه عن الخبر. واحضر محمود جاويش المعين للسفر بالمحمل وصير في الصرة والكتبة واشتغل معهم ذلك اليوم في عدد مال الصرة وحسابها ولوازم ذلك وبعد العصر اشيع المرور بالمحمل فاجتمع الناس للفرجة فمروا به من الجمالية إلى قراميدان قبل الغروب وأصبح يوم الإثنين ثامنه ركب إبراهيم بك وأمراؤه إلى قراميدان وسلم المحمل واجتمع الناس للفرجة على العادة فمروا به من الشارع الأعظم إلى العادلية وإمامه الكسوة في أناس قليلة وطبل وأشاير وعينوا للذهاب معه أربعمائة مغربي من الحجاج رتبوا لهم جامكية ثلاثين نفرا من عسكر الارنؤد هذا ما كان من هؤلاء وأما ما كان من أمر الألفي الكبير فإنه لما حضر إلى رشيد يوم الأربعاء ثالثه كما تقدم قابله يحيى بك وعمل له شنكا وطعاما وما يليق به وسأله عن مدة إقامته برشيد فقال له اريد الإقامة ستة أيام حتى نستريح ونزل ببيت مصطفى عبد الله التاجر. ولم يكن معه إلا خاصة مماليكه وجوخداره تتمة ستة عشر فأستاذ نه يحيى بك في إرسال الخبر إلى مصر ليأتي الأمراء إلى ملاقاته فلم يرض بذلك ثم إنه لم يقم برشيد إلا ليلة واحدة وانزل امتعته في أربع مراكب من الرواحل وانتقل آخر الليل إلى بيت البطروشي القنصل وأمر بتنقيل المتاع إلى مراكب النيل وأهدى له البطروشي غرابا من صناعة الانكليز مليح الشكل نزل هو به وسار إلى مصر وكان قصده الحضور بغتة فعندما يصلهم الخبر يصبحون يجدونه في الجيزة. ويأبى الله إلا ما يريد فلم يسعفه الريح وكان تأخيره سببا لنجاته. ولما وصل الخبر بحضوره وعملوا الشنك جهز له الألفي الصغير بعض الاحتياجات وأرسلها في الذهبية والقنجة صحبة الخواجا محمود حسن وخلافه فنزلوا من بولاق وانحدروا بعد الظهر من يوم السبت فاجتمعوا به عند نادر(2/628)
نصف الليل فلما أصبح الصباح حضر إليه سليمان كاشف البواب وقابله ورجع معه إلى منوف العلا فأقام هناك يوم الأحد وبات هناك ودخل الحمام وسار منها بعد طلوع النهار وهم يسحبون المراكب باللبان لمخالفة الريح فلم يزل سائرا إلى الظهيرة فلاقاه عدة من عسكر الارنؤد الموجهة إليه في أربعة مراكب في مضيق الترعة فسلم عليهم فردوا عليه السلام فسألهم بعض أتباعه بالتركي وقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد الألفي فقال لهم: ها هو الألفي فسكتوا. ثم تلاغى الملاحون مع بعضهم فأعلموهم الخبر فنقلوه إلى الألفي فكذب ذلك وقال هذا شيء لا يكون ولا يصح أن اخواننا يفعلون ذلك معي وأنا سافرت وتغربت سنة لأجل راحتنا ولعلها حادثة بينهم وبين العسكر ثم أن طائفة منهم أدركت الغراب الذي قدمه له البطروشي وكان متأخرا عن المراكب فصعدوا إليه وأخذوا ما فيه من المتاع فأخبروه بذلك ونظر فرآهم يفعلون ذلك فأرسل إليهم بعض من معه من الأتراك ليستخبر عن شأنهم وأمرهم ولم ينتظر رجوعه بالجواب ولكنه أخذ بالحزم ونزل في الحال إلى القنجة مع المماليك وصحبته الخواجا محمود حسن وأمرهم أن يمسكوا المقاذيف ففعلوا ذلك وهو يستحثهم حتى خرجوا من الترعة إلى البحر فلاقاهم طائفة أخرى في سفينتين وفيهم سراج باشا تابع البرديسي وكان بعيدا عنهم فاعماهم الله عنه وكأنهم لم يظنوه اياه ولم يزل يجد في السير حتى وصل إلى شبرا الشهابية فنظر إلى رجل ساع وأعلمه أنه مرسل من بيت سليمان كاشف البواب يخبر الواقع فعند ذلك تحقق الخبر وطلع إلى البر وامر بتغريق القنجة ومشى مع المماليك على أقدامهم وتخلف عنه الخواجا محمود حسن بشبرا فلم يزالوا يجدون السير حتى وصلوا إلى ناحية قرنفيل ودخل إلى نجع عرب الحويطات والتجأ إلى امرأة منهم فاجارته ولبت دعوته وركبته فرسا واصحبت معه شخصين هجانين وركب معهما وصار إلى قرب الخانكة ليلا والمماليك معه مشاة فقابلهم جماعة من عرب بلى وكبيرهم يقال له سعد إبراهيم فاحتاطوا به فاشتغل المماليك بحربهم فتركهم وسار مع(2/629)
الهجانة إلى ناحية الجبل ومضى فسمع الأجناد القريبون منهم وفيهم البرديسي صوت البنادق بين العرب والمماليك فأسرعوا إليهم وسألوهم عن سيدهم فقالوا أنه كان معنا وفارقنا الساعة فأمر البرديسي من معه من المماليك والأجناد أن يسرعوا خلفه ويتفرقوا في الطرق وكل من أدركه فليقتله في الحال فذهبوا خلفه فلم يعثر به أجد منهم وخرم عليه سعد إبراهيم بجماعة قليلة من طريق يعرفها فرمى لهم ما معه من الذهب والجوهر والكرك الذى على ظهره فاشتغلوا به وتركهم وسار وغاب أمره.
وفي حال جلوسه عند العرب مر عليهم طائفة من الأجناد سائرين لانهم لما فعلوا فعلتهم في الجيزة لم يبق لهم شغل إلا هو وأخذوا في الاحتياط عليه ما امكن فأرسلوا عسكرا في المراكب وانبثت طوائفهم في الجهات البحرية شرقا وغربا فذهبت طائفة منهم إلى الشرقية وطائفة إلى القليوبية وكذلك المنوفية والغربية والبحيرة وسلكوا طريق الجبل الموصلة إلى قبلي وذهب حسين بك ورستم بك إلى صالح بك الألفي الذى بالشرقية وذهب شاهين بك إلى سليمان كاشف البواب من البر الغربي ليقطع عليه الطريق وذهب علي بك أيوب ومحمد علي على جهة القليوبية ليلحقه بمنوف فلما وصل إلى دجوة تعوق بسبب قلة المعادى فلما وصل إلى منوف فوجدوه عدى إلى الجهة الأخرى فأخذوا متروكاته التي تركها وهي بعض خيول وجمال وخمسين زلعة سمن مسلي وعملوا على أهل البلد أربعة آلاف ريال قبضوها منهم ورجعوا وكان عندما بلغه الخبر الاجمالي لم يكذب المخبر وذلك بعد مفارقة الألفي له بنحو ثلاث ساعات فعدى في الحال إلى الجهة الغربية بأثقاله وعساكره فوجد إمامه شاهين بك فأرسل يطلب منه أمانا فأجابه إلى ذلك وأرسل إلى مصر من يأتي بالأمان واطمأن شاهين ليلا فلما أصبح شاهين بك وجده قد ارتحل فرجع بخفي حنين وعدى إلى القليوبية فبلغه خبر الألفي وما وقع له مع العرب فطلبهم فأخبروه أنه غاب عنهم في الجبل من الطريق الفلاني فقبض عليهم وأحضرهم صحبته مشنوقين في عمائمهم ووجد المماليك فقبض عليهم(2/630)
وأرسلهم إلى البرديسي.
واما مراكبه فإنه عندما نزل إلى القنجة وفارقها أدركها العسكر الذين قابلوه في المراكب ونهبوا ما فيها وكان بها شيء كثير من الأموال وظرائف الانكليز والأمتعة والجوخ والاسلحة والجواهر. فانه لما وصل إلى القرالي اكرمه إكراما كثيرا وأهدى إليه تحفا غريبة وكذلك أكابرهم وأعطاه جملة كبيرة من المال على سبيل الأمانة يرسل له بها غلالا وأشياء من مصر واشترى هو لنفسه أشياء بأربعة آلاف كيس يدفعها إلى القنصل بمصر وأرسل له بها القرالي بوليصة وأهدى له صورة نفسه من جوهر ونظارات وآلات وغير ذلك. وأما الألفي الصغير فإنه ذهب إلى جهة قبلي وفرد الفرد والكلف على البلاد ومن عصى عليه أو تواني في دفع المطلوب نهبهم وحرقهم. وأما صالح بك الألفي فإنه لما وصل إليه الخبر وقدوم الموجهين إليه ركب في الحال من زنكلون وترك حملته واثقاله فلم يدركوه أيضا.
وفي يوم الثلاثاء أحضروا مماليك الألفي الكبير وجوخداره إلى بيت البرديسي وأرسل إبراهيم بك والبرديسي مكاتبات إلى الأمراء بقبلي وهم سليمان بك الخازندار حاكم جرجا وعثمان بك حسن بقنا ومحمد بك المعروف بالغربية الإبراهيمي يوصونهم ويحذرونهم من التفريط في الألفي الصغير والكبير أن وردا عليهما.
وأما شاهين بك فإنه عدى إلى الشرقية واجتهد في التفتيش ثم رجع في يوم الثلاثاء المذكور وإمامه العرب المتهمون بأنهم يعرفون طريقه وأنهم أدركوه فأعطاهم جوهرا كثيرا وتركوه وأحضروا صحبتهم حقا من خشب وجدوه مرميا في بعض الطرق فأحضر البرديسي مماليك الألفي وأراهم ذلك الحق فقالوا نعم كان مع أستاذ نا وفي داخله جوهر ثمين وأرسلوا عدة من المماليك والهجانة إلى الطريق التي ذكرها العرب وأحضر البرديسي ابن شديد وسأله فأخبره أنه لم يكن حاضرا في نجعة وأن أمه أو خالته هي التي اعطته الفرس والهجانة فوبخه ولامه فقال له هذه عادة العرب من قديم الزمان يجيرون طنيبهم ولا يخفرون ذمتهم. فحبسه أياما ثم اطلقه وقيل: إنه مر(2/631)
عليه علي بك أيوب ومحمد علي ومن معهم من العسكر وهو في خيش العرب وهو يراهم وأعماهم الله عن تفتيش النجع وعن السؤال أيضا.
وفي ذلك اليوم خرج عثمان بك يوسف وحسين بك الوالي وأحمد أغا شويكار إلى جهة الشرقية ومرزوق بك إلى القليوبية يفتشون على الألفي.
وفيه شرعوا في تشهيل تجريدة إلى الألفي الصغير وأميرها شاهين بك وصحبته محمد بك المنفوخ وعمر بك وإبراهيم كاشف.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره سافرت قافلة الحاج بالمحمل إلى السويس.
وفي يوم السبت حضر علي بك أيوب ومحمد علي من سرحتهما على غير طائل.
وفيه سافر قنصل الانكليز من مصر بسبب هذه الحادثة فإنه لما وقع ذلك اجتمع بابراهيم بك والبرديسي وتكلم معهما ولامهما على هذه الفعلة وكلمهما كلاما كثيرا منه أنه قال لهما هذا الذى فعلتماه لأجل نهب مال القرالي ومطلوب مني أربعة آلاف كيس وهي البوليصة الموجهة على الألفي وغير ذلك فلاطفاه وأراد منعه من السفر فقال لا يمكن أني أقيم ببلدة هذا شأنها وطريقتنا لانقيم إلا في البلدة المستقيمة الحال ثم نزل مغضبا وسافر وأراد أيضا قنصل الفرنسيس السفر فمنعاه.
وفي يوم السبت طلب العسكر جماكيهم من الأمراء وشددوا في الطلب واستقلوا الأمراء في أعينهم وتكلموا مع محمد علي وأحمد بك وصادق أغا كلاما كثيرا فسمعوا في الكلام مع الأمراء المصرلية فوعدوهم إلى يوم الثلاثاء ومات بقطر المحاسب كاتب البرديسي يوم الأحد فلما كان يوم الثلاثاء اجتمع العسكر ببيت محمد علي وحصل بعض قلقة فحولهم على القبط بمائتي ألف ريال منها خمسون على غالي كاتب الألفي وثلاثون على تركة بقطر المحاسب والمائة والعشرون موزعة عليهم فسكن الاضطراب قليلا.
وفي يوم الثلاثاء المذكور رجع مرزوق بك من القليوبية.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره توفي إبراهيم أفندى الروزنامجي وفيه(2/632)
حصل رجات وقلقات بسبب العسكر وجماكيهم وأرادوا أخذ القلعة فلم يتمكنوا من ذلك وقفل الناس دكاكينهم وقتلوا رجلا نصرانيا عند حارة الروم وخطفوا بعض النساء وامتعة وغير ذلك وركب محمد علي ونادى بالأمان.
وفي يوم السبت عشرينه حضر سليمان كاشف البواب بالأمان ودخل إلى مصر.
وفي يوم الأحد أفرجوا عن كشاف الألفي المحبوسين.
وفيه حضر عثمان بك يوسف من ناحية الشرقية واستمر هناك حسين بك الوالي ورستم بك وذهب المنفوخ وأسمعيل بك إلى ناحية شرق اطفيح لأنه اشيع أن الألفي ذهب عند عرب المعازة فقبضوا على جماعة منهم وحبسوهم وأرسلوا مائة هجان إلى جميع النواحي واعطوهم دراهم يفتشون على الألفي.
وفيه شرعوا في عمل فردة على أهل البلد وتصدى لذلك المحروقي وشرعوا في كتب قوائم لذلك ووزعوها على العقار والأملاك اجرة سنة يقوم بدفع نصفها المستأجر والنصف الثاني بدفعه صاحب الملك.
وفي يوم الأربعاء رابع عشرينه شرح كتاب الفردة والمهندسون ومع كل جماعة شخص من الأجناد وطافوا بالاخطاط يكتبون قوائم الأملاك ويصقعون الاجر فنزل بالناس ما لا يوصف من الكدر مع ما هم فيم من الغلاء ووقف الحال وذلك خلاف ما قرروه على قرى الارياف فلما كان في عصر ذلك اليوم نطق افواه الناس بقولهم الفردة بطالة وباتوا على ذلك وهم ما بين مصدق ومكذب.
وفي يوم الخميس خامس عشرينه اشيع ابطال الفردة مع سعي الكتبة والمهندسين في التصقيع والكتابة وذهبوا إلى نواحي باب الشعرية ودخلوا درب مصطفى فضج الفقراء والعامة والنساء وخرجوا طوائف يصرخون وبأيديهم دفوف يضربون عليها ويندبن وينعين ويقلن كلاما على الأمراء مثل قولهن ايش تأخذ من تفليسي با برديسي وصبغن أيديهن(2/633)
بالنيلة وغير ذلك فاقتدى بهن خلافهن وخرجوا أيضا ومعهم طبول وبيارق وأغلقوا الدكاكين وحضر الجمع الكثير إلى الجامع الأزهر وذهبوا إلى المشايخ فركبوا معهم الأمراء ورجعوا ينادون بأبطالهم. وسر الناس بذلك وسكن اضطرابهم وفي وقت قيام العامة كان كثير من العسكر منتشرين في الأسواق فداخلهم الخوف وصاروا يقولون لهم نحن معكم سواسو أنتم رعية ونحن عسكر ولم نرض بهذه الفردة وعلوفاتنا على الميرى ليست عليكم أنتم أناس فقراء فلم يتعرض لهم أحد. وحضر كتخدا محمد علي مرسلا من جهته إلى الجامع الأزهر وقال مثل ذلك ونادى به في الأسواق ففرح الناس وانحرفت طباعهم عن الأمراء ومالوا إلى العسكر وكانت هذه الفعلة من جملة الدسائس الشيطانية. فان محمد علي لما حرش العساكر على محمد بك باشا خسروا وأزال دولته وأوقع به ما تقدم ذكره بمعونة طاهر باشا والارنؤد ثم بالاتراك عليه حتى أوقع به أيضا وظهر أمر أحمد باشا وعرف أنه أن تم له الأمر ونما أمر الأتراك لا يبقون عليه فعاجله وإزاله بمعونة الأمراء المصرلية واستقر معهم حتى أوقع باشتراكهم قتل الدفتردار والكتخدا ثم محاربة محمد باشا بدمياط حتى أخذوه أسيرا ثم التحيل على علي باشا الطرابلسي حتى أوقعوه في فخهم وقتلوه ونهبوه. كل ذلك وهو يظهر المصافاة والمصادقة للمصريين وخصوصا البرديسي فإنه تآخى معه وجرح كل منهما نفسه ولحس من دم الآخر وأغتر به البرديسي وراج سوقه عليه وصدقه وتعضد به واصطفاه دون خشداشينه وتحصن بعساكره وأقامهم حوله في الأبراج وفعل بمعونتهم ما فعله بالالفي واتباعه وشردهم وقص جناحه بيده وشتت البواقي وفرقهم بالنواحي في طلبهم فعند ذلك استقلوهم في أعينهم وزالت هيبتهم من قلوبهم وعملوا خيانتهم وسفهوا رأيهم واستضعفوا جانبهم وشمخوا عليهم وفتحوا باب الشر بطلب العلوفة مع الاحجام خوفا من قيام أهل البلد معهم ولعلمهم بميلهم الباطني إليهم فاضطروهم إلى عمل هذه الفردة ونسب فعلها للبرديسي فثارت العامة وحصل ما حصل. وعند ذلك تبرأ(2/634)
محمد علي والعسكر من ذلك وساعدوهم في رفعها عنهم فمالت قلوبهم إليهم ونسوا قبائحهم وابتهلوا إلى الله في إزالة الأمراء وكرهوهم وجهروا بالدعاء عليهم وتحقق العسكر منهم ذلك وانحرف الأمراء على الرعية باطنا بل اظهر البرديسي الغيظ والانحراف من أهل مصر وخرج من بيته مغضبا إلى جهة مصر القديمة وهو يلعن أهل مصر ويقول: لا بد من تقريرها عليهم ثلاث سنوات وأفعل بهم وأفعل حيث لم يمتثلوا لاوامرنا ثم أخذوا يدبرون على العسكر وأرسلوا إلى جماعتهم المتفرقين في الجهات القبلية والبحرية يطلبونهم للحضور فأرسلوا إلى حسين بك الوالي ورستم بك من الشرقية وأسمعيل بك صهر إبراهيم بك ومحمد بك المنفوخ ليأتيا من شرق اطفيح والفريقان كانوا لرصد الألفي وانتظاره وأرسلوا إلى سليمان بك حاكم الصعيد بالحضور من اسيوط بمن حوله من الكشاف والأمراء وإلى يحيى بك حاكم رشيد وأحمد بك حاكم دمياط واصعدوا محمد باشا المحبوس إلى القلعة وعلم الانؤدية منهم ذلك فبادروا واجتمعوا بالازبكية في يوم الأحد ثامن عشرينه فارتاع الناس وأغلقوا الحوانيت والدروب وذهب جمع من العسكر إلى إبراهيم بك واحتاطوا بمهمات بيته بالداودية وكذلك ببيت البرديسي بالناصرية وتفرقوا على بيوت باقي الأمراء والكشاف والاجناد. وكان ذلك وقت العصر والبرديسي عنده عدة كبيرة من العسكر المختصين به ينفق عليهم ويدر عليهم الارزاق والجماكي والعلوفات ومنهم الطبجية وغيرهم وعمر قلعة الفرنسيس التي فوق تل العقارب بالناصرية وجددها بعد تخريبها ووسعها وأنشأ بها أماكن وشحنها بآلات الحرب والذخيرة والجبخانة وقيد بها طبجية وعساكر من الآرنؤدية وذلك خلاف المتقيدين بالابراج والبوابات التي انشأها قبالة بيته بالناصرية جهة قناطر السباع والجهة الاخرى كما سبق ذكر ذلك. فلما علم بوصول العساكر حول دائرته وكان جالسا صحبة عثمان بك يوسف فقام وقال له كن أنت في مكاني هنا حتى اخرج وارتب الأمر وارجع اليك وتركه وركب إلى خارج فضربوا عليه بالرصاص(2/635)
فخرج على وجهه بخاصته وهجنه ولوازمه الخفيفة وذهب إلى ناحية مصر القديمة وذلك في وقت الغروب وكان العسكر نقبوا نقبا من الجنينة التي خلف داره ودخلوا منه وحصلوا بالدار فوجدوه قد خرج بمن معه من المماليك والأجناد فقاتلوا من وجدوه واوقعوا النهب في الدار وانضم إليهم اجناسهم المتقيدون بالدار وقبضوا على عثمان بك يوسف ومماليكه وشلحوهم ثيابهم وسحبوهم بينهم عرايا مكشوفي الرؤس وتسلمهم طائفة منهم على تلك الصورة وذهبوا بهم إلى جهة الصليبة فأودعوهم بدار هناك.
وفي سابع ساعة من الليل أرسل محمد علي جماعة من العسكر ومعهم فرمان وصل من أحمد باشا خورشيد حاكم الأسكندرية بولايته على مصر فذهبوا به إلى القاضي واطلعوه عليه وأمروه أن يجمع المشايخ في الصباح ويقرأه عليهم ليحيط علم الناس بذلك. فلما أصبح أرسل إليهم فقالوا: لا تصح الجمعية في مثل هذا اليوم مع قيام الفتنة فأرسله إليهم واطلعوا عليه وأشيع بين الناس. واما إبراهيم بك فإنه استمر مقيما ببيته بالداودية وأمر مماليكه واتباعه أن يجلسوا برؤس الطرق الموصلة إليه فجلس منهم جماعة وفيهم عمر بك تابعه بسبيل الدهيشة المقابل لباب زويله وكذلك ناحية تحت الربع والقربية وجهة سويقة لاجين والداودية وصار العسكر يضربون عليهم وهم كذلك ودخل عليهم الليل فلم يزالوا على ذلك إلى الصباح واضمحل حالهم وقتل الكثير من المماليك والأجناد ووصل إليهم خبر خروج البرديسي فعند ذلك طلبوا الفرار والنجاة بارواحهم. وعلم إبراهيم بك بخروج البرديسي وأنه أن استمر على حاله أخذ فركب في جماعته في ثاني ساعة من النهار وخرجوا على وجوههم والرصاص يأخذهم من كل ناحية فلم يزل سائرا حتى خرج إلى الرميلة وهدم في طريقه أربعة متاريس وأصيب بعض مماليك وخيول وخدامين واصيب رضوان كتخداه وطلعت روحه عند الرميلة فأنزلوه عند باب العزب وأخذوا ما معه من جيوبه ثم شالوه إلى داره ودفنوه(2/636)
وقبضوا على عمر بك تابع الاشقر الإبراهيمي من سبيل الدهيشة هو ومماليكه. وأما الذين بالقلعة من الأمراء فإنهم أصبحوا يضربون بالمدافع والقنابر على بيوت الارنؤد بالازبكية إلى الضحوة الكبرى فلما تحققوا خروج إبراهيم بك والبرديسي ومن أمكنه الهروب لم يسعهم إلا أنهم ابطلوا الرمي وتهيؤا للفرار ونزلوا من باب الجبل ولحقوا بابراهيم بك وعند نزولهم ارادوا أخذ محمد باشا وعلي باشا القبطان وإبراهيم باشا فقام عليهم عسكر المغاربة ومنعوهم من أخذهم ونهب المغاربةالضربخانة وما فيها من الذهب والفضة والسبائك حتى العدد والمطارق وتسلم العسكر القلعة من غير مانع ولم تثبت المصرلية للحرب نصف يوم في القلعة ولم ينفع اهتمامهم بها طول السنة من التعمير والاستعداد وما شحنوه بها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب وملؤا ما بها من الصهاريج بالماء الحلوه وقام أحمد بك الكلارجي وعبد الرحمن بك الإبراهيمي وسليم اغا مستحفظان من وقت مجيئهم إلى مصر متقيدين ومرتبطين بها ليلا ونهارا لا ينزلون إلى بيوتهم إلا ليلة في الجمعة بالنوبة إذا نزل احدهم أقام الآخران وطلع محمد علي إليها ونزل وبجانبه محمد باشا خسرو ورفقاؤه امامهم المنادى ينادى بالأمان حكم ما رسم محمد باشا ومحمد علي وأشيع في الناس رجوع محمد باشا إلى ولاية مصر فبادر المحروقي إلى المشايخ فركبوا إلى بيت محمد علي يهنون الباشا بالسلامة والولاية وقدم له المحروقي هدية وأقام على ذلك بقية يوم الإثنين ويوم الثلاثاء فكان مدة حبسه ثمانية أشهر كاملة فإنه حضر إلى مصر بعد كسرته بدمياط في آخر ربيع الأول وهو آخر يوم منه وأطلق في آخر يوم من ذي القعدة وخرج الأمراء على اسوا حال من مصر ولم يأخذوا شيئا مما جمعوه وكنزوه من المال وغيره إلا ما كان في جيوبهم أو كان منهم خارج البلد مثل سليم كاشف أبي دياب فإنه كان مقيما بقصر العيني أو الغائبين منهم جهة قبلي وبحرى. واما من كان داخل البلد فإنه لم يخلص له سوى ما كان في جيبه فقط ونهب العسكر أموالهم وبيوتهم(2/637)
وذخائرهم وامتعتهم وفرشهم وسبوا حريمهم وسراريهم وجواريهم وسحبوهن بينهم من شعورهن وتسلطوا على بعض بيوت الأعيان من الناس المجاورين لهم ومن لهم بهم أدنى نسبة أو شبهة بل وبعض الرعية إلا من تدراكه الله برحمته أو التجأ إلى بعض منهم أو صالح على بيته بدراهم يدفعها لمن التجأ إليه منهم ووقع في تلك الليلة واليومين بعدها ما لا يوصف من تلك الأمور وخربوا أكثر البيوت وأخذوا اخشابها ونهبوا ما كان بحواصلهم من الغلال والسمن والادهان وكان شيئا كثيرا وصاروا يبيعونه على من يشتريه من الناس ولولا اشتغالهم بذلك لما نجا من الأمراء المصرلية الذين كانوا بالبلدة أحد. ولو رجع الأمراء عليهم وهم مشتغلون بالنهب لتمكنوا منهم ولكن غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة والجبن وخابت فيهم الظنون وذهبت نفختهم في الفارغ وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم وغرورهم وخصوصا ما فعلوه مع علي باشا من الحيل حتى وقع في أيديهم ثم رذلوه وأهانوه وقتلوا عسكره ونهبوا أمواله ثم طردوه وقتلوه فإنه وأن كان خبيثا لم يعمل معهم ما يستحق ذلك كله وأعظم منه ما فعلوه مع أخيهم الألفي الكبير بعد ما سافر لحاجتهم وراحتهم وصالح عليهم ورتب لهم ما فيه راحتهم وراحة الدولة معهم بواسطة الانكليز وغاب في البحر المحيط سنة وقاسى هول الأسفار والفراتين في البحار فجازوه بالتشريد والتشتيت والنهب وقتل اتباعه وحبسهم وبلصهم واتخذوهم أعداء واخصاما من غير جرم ولا سابقة عداوة معهم إلا الحسد والحقد وحذرا من رآسته عليهم وكانت هذه الفعلة سببا لنفور قلوب العسكر منهم واعتقادهم خيانتهم وقلتهم في اعينهم فإن الألفي واتباعه كانوا يرون في أنفسهم أن الشخص منهم يدوس برجله الجماعة من في غفلتهم ومشتغلون بما هم من مغارم الفلاحين وطلب الكلف فلما أرسلوا لهم بالحضور لم يسهل بهم ترك ذلك ولم يستعجلوا الحركة حتى يستوفوا مطلوباتهم من القرى إلى أن حصل بهم ما نزل ولم يقع لهم منذ ظهورهم أشنع من هذه الحادثة وخصوصا كونها على يد هؤلاء(2/638)
وكانوا يرون في أنفسهم أن الشخص منهم يدرس برجله الجماعة من العسكر وأحسنوا ظنهم فيهم واعتقدوا أنهم صاروا أتباعهم وجندهم مع أنهم كانوا قادرين على إزالتهم من الإقليم وخصوصا عندما خرجوا من المدينة لملاقاة علي باشا واخرجوا جميع العسكر وحازوهم إلى جهة البحر وحصنوا أبواب البلد بمن يثقون به من اجنادهم ورسموا لهم رسوما امتثلوها فلو أرسلوا لهم بعد ايقاعهم بعلي باشا أقل اتباعهم وأمروهم بالرحلة لما وسعتهم المخالفة حتى ظن كثير ممن له أدنى فطنه حصول ذلك فكان الأمر بخلاف ذلك ودخلوا بعد ذلك وهم بصحبتهم ضاحكين من غفلة القوم ومستبشرين برجوعهم ودخولهم إلى المدينة ثانيا وعند ذلك تحقق لذوى الفطن سوء رأيهم وعدم فلاحهم وزادوا في الطنبور نغمة بما صنعوه مع الألفي وكان العسكر يهابون جانبه ويخافون اتباعه ويخشونهم وخصوصا لما سمعوا بوصوله على الهيئة المجهولة لهم داخلهم من ذلك أمر عظيم استمر في اخلاطهم يوما وليلة إلى أن اجلاه البرديسي ومن معه يشؤم رأيهم وفساد تدبيرهم وفرقوا جمعهم في النواحي حرصا على قتل الألفي واتباعه فعند ذلك زالت هيبتهم من قلوب العسكر واوقعوا بهم ما اوقعوا ولا يحيق المكر السيء إلا باهله.
شهر ذى الحجة الحرام استهل بيوم الثلاثاء سنة 1218.
فيه قلدوا علي أغا الشعراوى واليا على مصر.
وفيه نهبوا بيت محمد أغا المحتسب وقبضوا عليه وحبسوه.
وفي ليلة الأربعاء انزلوا محمد باشا خسروا وإبراهيم باشا إلى بولاق وسفروهما إلى بحرى ومعهما جماعة من العسكر وكانت ولايته هذه الولاية الكذابة شبيهة بولاية أحمد باشا الذى تولى بعد قتل طاهر باشا يوما ونصفا وكان قد اعتقد في نفسه رجوعه لولاية مصر حتى أنه لما نزل من القلعة إلى بيت محمد علي نظر إلى بيته من الشباك مهدوما منخربا فطلب في ذلك الوقت المهندسين وأمرهم بالبناء وذلك من وساوسه يقال:(2/639)
إن السبب في سفره اخوة طاهر باشا فإنهم داخلهم غيظ شديد ورأى محمد علي نفرتهم وانقباضهم من ذلك وعلم أنه لا يستقيم حاله معهم وربما تولد بذلك شر فعجل بسفره وذهابه.
ومن الاتفاقيات العجيبة أيضا أن طاهر باشا لما غدر بمحمد باشا اقام بعده اثنين وعشرين يوما وكذلك لما غدر المصرلية بالالفي لم يقيموا بعد ذلك الأمثل ذلك.
وفيه صعد عابدى بك أخو طاهر باشا بالقلعة وأقام بها.
وفي ليلة الخميس ثالثة اطلقوا عثمان بك يوسف وسافر إلى جماعته جهة قبلي يقال أنه افتدى نفسه منهم بمال واطلقوه ومعه خمسة مماليك واعطوه خمسة جمال واربعة هجن وخيلا.
وفيه أفرجوا عن محمد آغا المحتسب وابقوه في الحسبة على مصلحة عملوها عليه وقام بدفعها وركب وشق في المدينة وعمل تسعيرة ونادى بها في الشوارع والأسواق وأما الأمراء فإنهم باتوا أول ليلة جهة البساتين وفي ثاني يوم ذهبوا إلى حلوان وحضر إليهم حسين بك الوالي ورستم بك من الشرقية ومروا من تحت القلعة وانفصلوا من العسكر الذين كانوا معهم في الطرية وتركوا لهم الحملة ووصل إليهم أيضا يحيى بك من ناحية رشيد وأحمد بك من دمياط وذهبوا إليهم ووصل يحيى بك من ناحية الجيزة ونهبوا البلاد وأكلوا الزروعات واستمروا على ذلك وانتشروا إلى أن صارت أوائلهم بزاوية المصلوب وأواخرهم بالجيزة.
وفيه كتبوا مكاتبات من نساء الأمراء المصرلية بأنهم لا يتعرضون لاحد من العساكر الكائنة بقبلي وأن قتل منهم أجد اقتصوا من حريمهم وأولادهم بمصر.
وفي يوم الجمعة حضر محمد بك المبدول بأمان ودخل إلى مصر.
وفي يوم الأحد سادسه اصعدوا عمر بك وبقية الكشاف وبعض الأجناد المصرية إلى القلعة(2/640)
وفيه عدى كثير من العسكر إلى بر الجيزة ووقع بينهم وبين العرب بعض مناوشات وقتل أناس كثيرة من الفريقين.
وفي سابعه ظهر محمد بك الألفي الكبير من اختفائه وكان متواريه بشرقية بلبيس برأس الوادى عند شخص من العربان يسمى عشيبة فأقام عنده مدة هذه الأيام وخلص إليه صالح تابعه بما معه من المال وكان البرديسي استدل على مكانه وأحضر أناسا من العرب وجعل لهم مالا كثيرا عليه وأخذوا في التحيل عليه فحصلت هذه الحوادث وجوزى البرديسي بنيته وخرج من مصر كما ذكر وكانوا في تلك المدة يشيعون عليه إشاعات مرة بموته ومرة بالقبض عليه وغير ذلك فلما حصل ما حصل وانجلت الطرق من المراصدين اطمأن حينئذ وركب في عدة من الهجانة وصحبته صالح بك وتابعه ومروا من خلف الجبل وذهب إلى شرق اطفيح ونزل عند عرب المعازة وتواتر الخبر بذلك.
وفي تاسعه وصل أحمد باشا خورشيد إلى منوف فتقيد السيد أحمد المحروقي وجرجس الجوهرى بتصليح بيت إبراهيم بك بالداودية وفرشه.
وفي ليلة الإثنين رابع عشره وصل الباشا إلى ثغر بولاق فضربوا شنكا ومدافع وخرج العساكر في صبحها والوجاقلية وركب ودخل من باب النصر وإمامه كبار العساكر بزينتهم ولم يلبس الشعار القديم بل ركب بالتخفيفة وعليه قبوط مجرور وخلفه النوبة التركية ودخل إلى الدار التي أعدت له بالداودية وقدموا له التقادم وعملوا بها تلك الليلة شنكا وسواريخ.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشره مر الوالي وإمامه المنادى وبيده فرمان من الباشا ينادى به على الرعية بالأمن والأمان والبيع والشراء.
وفي منتصفه حضر عبد الرحمن بك الإبراهيمي وكان في بشبيش بناحية بحرى فطلب أمانا وحضر إلى مصر.
وفي يوم الجمعة تحول الباشا من الداودية إلى الأزبكية وسكن ببيت البكرى حيث كان حريم محمد باشا فركب قبل الظهر في موكب وذهب(2/641)
إلى المشهد الحسيني وصلى الجمعة هناك ورجع إلى الأزبكية.
وفيه فتحوا طلب مال الميرى من السنة القابلة لضرورة النفقة فاغتم الملتزمون لذلك لضيق الحال وتعطل الأسباب وعدم الأمن وتوالى طلب الفرد من البلاد فلو فضل للملتزم شيء لا يصل إليه إلا بغاية المشقة وركوب الضرر لوثوب الخلائق من العربان والفلاحين والأجناد والعساكر على بعضهم البعض من جميع النواحي القبلية والبحرية ثم أن الوجاقلية وبعض المشايخ راجعوا في ذلك فانحط الأمر بعد ذلك على طلب نصف مال الميرى من سنة تسعة عشر وبواقي سنة سبعة عشر وثمانية عشر وكذلك باقي الحلوان الذى تأخر على المفلسين وكتبوا التنابيه بذلك وقالوا: من لم يقدر على الدفع فليعرض تقسيطه على المزاد هذا والأجناد والعرب محيطة ببر الجيزة والعسكر من داخل الأسوار لا يجسرون على الخروج إليهم وحجزوا المراكب الواردة بالغلال وغيرها حتى لم يبق بالسواحل شيء من تلك الغلة أبدا ووصل سعر الأدرب القمح أن وجد خمسة عشر ريالا.
وفي يوم الأحد عشرينه وصل العسكر الذين كانوا صحبة سليمان بك حاكم الصعيد فدخلوا إلى البلدة وأزعجوا كثيرا من الناس وسكنوا البيوت بمصر القديمة بعد ما أخرجوهم منها وأخذوا فرشهم ومتاعهم وكذلك فعلوا ببولاق ومصر عندما حضر الذين كانوا ببحرى.
وفيه قلدوا الحسبة لشخص عثمانلي من طرف الباشا وعزلوا محمد اغا المحتسب وكذلك عزلوا على آغا الشعراوى وقلدوا الزعامة لشخص آخر من اتباع الباشا وقلدوا آخر آغات مستحفظان.
وفي ليلة الثلاثاء ثاني عشرينه خرجت عساكر كثيرة وعدت إلى البر الغربي ووقعت في صبحها حروب بينهم وبين المصرلية والعربان وكذلك في ثاني يوم دخلت عساكر جرحى كثيرة وعملوا لهم متاريس عند ترسة والمعتمدية وتترسوا بها والمصرلية والعربان يرمحون من خارج وهم(2/642)
لا يخرجون البهم من المتاريس واستمروا على ذلك إلى يوم الأحد سابع عشرينه.
وفي ذلك اليوم ضربوا مدافع ورجع محمد علي والكثير من العساكر واشيع ترفع المصرلية إلى فوق ووقع بين العربان اختلاف واشاعوا نصرتهم على المصرلية وأنهم قتلوا منهم أمراء وكشافا ومماليك وغير ذلك.
وفي ذلك اليوم شنقوا شخصا بباب زويلة وآخر بالحبانية وهما من الفلاحين ولم يكن لهما ذنب قيل: إنه وجد معهما بارود اشترياه لمنع الصائلين عليهم من العرب فقالوا: إنكم تأخذونه إلى المحاربين وكان شيئا قليلا.
وفيه نزل جماعة من العسكر جهة قبة الغورى ومعهم نحو ثلاثين نفرا بجمالهم فقرطوا القمح المزروع وكان قد بدا صلاحه فطارت عقول الفلاحين واجتمعوا وتكاثروا عليهم وقبضوا على ثلاثة أشخاص منهم وهرب الباقون فدخلوا بهم المدينة ومعهم الأحمال وصحبتهم طبل وأطفال ونساء وذهبوا تحت بيت الباشا فأمر بقتل شخص منهم لأنه شامي وليس بارنؤدى ولا انكشارى فقتلوه بالازبكية فوجدوا على وسطه ستمائة بندقي ذهب وثلثمائة محبوب ذهب والله أعلم وانقضت السنة وما حصل بها من الحوادث.
وأما من مات فيها ممن له ذكر.
فمات الفقيه العلامة والتحرير الفهامة الشيخ أحمد اللحام اليونسي المعروف بالعريشي الحنفي حضر من بلدته خان يونس في سنة ثمان وسبعين ومائة وألف وحضر أشياخ الوقت وأكب على حضور الدروس وأخذ البيلي والشيخ محمد الجناجي والصبان والفرماوى وغيرهم وتفقه على الشيخ عبد الرحمن ولازمه وبه تخرج وحضر على شيخ الوالد في الدر المختار من أول كتاب البيوع إلى كتاب الاجارة بقراءته وذلك سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف ولم يزل ملازما للشيخ عبد الرحمن(2/643)
ملازمة كلية وسافر صحبته إلى اسلامبول في سنة تسعين لبعض المقتضيات وقرأ هناك الشفاء والحكم بقراءة المترجم وعاد صحبته إلى مصر ولم يزل ملازما له حتى حصل للعريشي ما حصل ودنت وفاته فأوصى إليه بجميع كتبه واستقر عوضه في مشيخة روانق الشوام وقرأ الدروس في محله وكان فصيحا من المعقولات والمنقولات وقصدته الناس في الافتاء واعتمدوا اجوبته وتداخل في القضايا والدعاوى واشتهر ذكره واشترى دارا واسعة بسوق الزلط بحارة المقس خارج باب الشعرية وتجمل بالملابس وركب البغال وصار له اتباع وخدم وهرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم إليه وتقلد نيابة القضاء لبعض قضاة العساكر اشهرا ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر وهرب القاضي الرومي بصحبة كتخدا الباشا كما تقدم تعين المترجم للقضاء بالمحكمة الكبيرة والبسه كلهبر سارى عسكر الفرنساوية خلعة مثمنة وركب يصحبه قائمقام في موكب إلى المحكمة وفوضوا إليه أمر النواب بالاقاليم ولما قتل كلهبر انحرف عليه الفرنساوية لكون القاتل ظهر من رواق الشوام وعزلوه ثم تبينت براءته من ذلك إلى أن رتبوا الديوان في آخر مدتهم ورسم عبد الله جاك منو باختيار قاض بالقرعة فلم تقم إلا على المترجم فتولاه أيضا وخلعوا عليه وركب مثل الأول إلى المحكمة واستمر بها إلى أن حضرت العثمانيون وقاضيهم فانفصل عن ذلك ولازم بيته مع مخالطة فصل الخصومات والحكومات والأفتاء ثم قصد الحج في هذه السنة فخرج مع الركب وتمرض في حال رجوعه وتوفي ودفن بنبط رحمه الله.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح المحقق الشيخ علي المعروف بالخياط الشافعي حضر أشياخ الوقت وتفقه على الشيخ عيسى البراوى ولازم دروسه وبه تخرج واشتهر بالعلم والصلاح واقرأ الدروس الفقهية والمعقولية وانتفع به الطلبة وانقطع للعلم والافادة ولما وردت ولاية(2/644)
جدة لمحمد باشا توسون طلب إنسانا معروفا بالعلم والصلاح فذكر له الشيخ المترجم فدعاه إليه وأكرمه واساه واحبه وأخذه صحبته إلى الحجاز وتوفي هناك رحمه الله.
ومات الرئيس المبجل المهذب محمد أفندي باش جاجرت الروزنامة وأصله تربية محمد أفندى كاتب كبير الينكجرية وتمهر في صنعة الكتابة وقوانين الروزنامة وكان لطيف الطبع سليم الصدر محبوبا للناس.
مشهور بالذوق وحسن الأخلاق مهذبا في نفسه متواضعا يسعى في حوائج اخوانه وقضاء مصالحهم المتعلقة بدفاترهم قانعا بحاله مترفها في مآكله وملبسه واقتنى كتبا نفيسة ومصاحف وتجتمع ببيته الاحباب ويدير عليهم سلاف انسه المستطاب مع الحشمة والوقار وعدم الملل والغفار ولما اختلفت الأحوال وترادفت الفتن ضاق صدره من ذلك واستوحش من مصر وأحوالها فقصد الهجرة بأهله وعياله إلى الحرمين وعزم على الإقامة هناك فلما حصل هناك رأى فيها الاختلاف والخلل كذلك بسبب ظلم الشريف غالب وأتباعه وأغارة الوهابيين على الحرمين وفتن العربان فلم يستحسن الإقامة هناك واشتاق لوطنه فعزم على العودة إلى مصر فمرض بالطريق وتوفي ودفن بالينبع رحمه الله.
ومات الأمير حسين بك الذى عرف بالوشاش وهو من مماليك محمد بك الألفي وكان يعرف أولا بكاشف الشرقية لأنه كان تولى كشوفيتها وكان صعب المراس شديد الباس قوى الجنان قلبه مع نحافة جسمه أعظم من جبل لبنان لا يهاب كثرة الجنود وتخشى سطوته الأسود ولما أجمعوا على خيانة الألفي واتباعه قال لهم إبراهيم بك: الكبير على ما بلغنا لا يتم مرامكم بدون البداءة بالمترجم فإن امكنكم ذلك وإلا فلا تفعلوا شيئا فلم يزالوا يدبرون عليه ويتملقونه له ويظهرون له خلاف ما يبطنون حتى تمكنوا من غدره على الصورة المتقدمة وسبب تلقبه بالوشاش أنه كان طلع لملاقاة الحجاج بمنزلة الوش في سنة ورود الفرنساوية فلما(2/645)
لاقى الحجاج وأمير الحاج صالح بك رجع صحبتهم إلى الشام وحصل منه بعد ذلك المواقف الهائلة مع الفرنساوية مع أستاذه ومنفردا في الجهات القبلية والشامية ولما انجلت الحوادث وارتحلت الفرنساوية من الديار المصرية واستقرت المصريون بعد حوادث العثمانية تأمر المترجم في ستة عشر صنجقا المتأمرين وظهر شأنه واشتهر فيما بينهم ونفذت اوامره فيهم ونغص عليهم وناكدهم وعاندهم وأغار على ما بأيديهم حتى ثقلت وطأته عليهم فلم يزالوا يحتالون عليه حتى أوقعوه في حبال صيدهم وهو لا يخطر بباله خيانتهم وغدروه بينهم كما ذكر.
ومات الأمير رضوان كتخدا إبراهيم بك وهو أغنى مماليكه رباه واعتقه وجعله جوخداره وكان يعرف أولا برضوان الجوخدار واستمر في الجوخدارية مدة طويلة ولما رجع مع أستاذه في أواخر سنة خمس ومائتين وألف بعد موت إسمعيل بك وأتباعه إلى مصر ارخى لحيته وتقلد كتخدائية أستاذه وتزوج ببعض سراريه وسكن دار عبدى بك بناحية سويقة العزى ثم انتقل منها إلى دار مكة على بركة الفيل تجاه بيت شكر فره وعمرها وصارت له وجاهة بين الأمراء والأعيان وباشر فصل الخصومات والدعاوى وازدحم الناس ببيته واشتهر ذكره وعظم شأنه وقصدته أرباب الحاجات وأخذ الرشوات والجعالات وكان يقرأ ويكتب ويناقش ويحاجج ويعاشر الفقهاء ويباحثهم ويميل بطبعه إليهم ويحب مجالستهم ولا يمل منهم وعنده حلم وسعة صدر وتؤدة وتأن في الأمور وإذا مهر له الحق لا يعدل عنه وعنده دهقنة ومداهنة وقوة خرم ولما حضر علي باشا الطرابلسي على الصورة المتقدمة كان المترجم والمتعين في الإرسال إليه فلم يزل يتحيل عليه حتى انخدع له وادخل رأسه الجراب وصدق تمويهاته وحضر به إلى مصر وأوردوه بعد الموارد وحاز بذلك منقبة بين اقرانه ونوه بعد بشأنه وخلعوا عليه الخلع وعرضوا عليه الأمارة فأباها واستمر على حالته معدودا في أرباب الرياسة وتأتي الأمراء إلى(2/646)
داره ولم يزل حتى ثارت العسكر على من بالبلدة من الأمراء وحصروا إبراهيم بك ببيته في ثاني يوم هاربا والمترجم خلفه والرصاص يأخذهم من كل ناحية فأصيب في دماغه فمال عن جواده واستند على الخدم وذلك جهة الدرب الأحمر فلم يزل في غشوته حتى خرجت روحه بالرميلة فأنزلوه عند باب العزب واحتاط به المتقيدون بالباب وأخذوا ما في جيوبه ثم أحضروا له تابوتا وحملوه فيه إلى داره فغسلوه وكفنوه ودفنوه بالقرافة سامحه الله فإنه كان من خيار جنسه لولا طمع فيه ولقد بلوته سفرا وحضرا يافعا وكهلا فلم ار ما يشينه في دينه غفوفا طاهر الذيل وقورا محتشما فصيح اللسان حسن الرأى قليل الفضول جيد النظر.
ومات العمدة الشريف السيد إبراهيم أفندى الروزنامجي وهو ابن اخي السيد محمد الكماحي الروزنامجي المتوفي سنة سبع ومائتين وألف واصلهم روميون الجنس وكان في الأصل جربجيا ثم عمل كاتب كشيدة وكان يسكن دارا صغيرة بجوار دار عمه واستمر على ذلك خامل الذكر فلما توفي عمه السيد محمد انتبذ عثمان أفندى العباسي المنفصل عن الروزنامة سابقا يريد العود إليها عن شوق وتطلع لها وظنه شغور المنصب عن المتأهل إليه سواه فلم تساعده الاقدار لشدة مراسه وسأل إبراهيم بك عن شخص من أهل بيت المتوفي فذكر له السيد إبراهيم المرقوم وخموله وعدم تحمله لاعباء ذلك المنصب فقال: لا بد من ذلك قطعا لطمع المتطلعين والتزم بمراعاته ومساعدته وطلبه ونقله من حضيض الخمول إلى اوج السعادة والقبول فتقلد ذلك وساس الأمور بالرفق والسير الحسن واشترى دارا عظيمة بدرب الاغوات وسكنها واستمر على ذلك إلى أن ورد الفرنساوية إلى مصر فخرج من خرج هاربا إلى الشام ثم رجع مع من رجع ولم يزل حتى تمرض وتوفي في يوم الأربعاء سادس عشر القعدة من السنة رحمه الله تعالى(2/647)
واستهلت سنة تسعة عشر ومائتين والف.
فكان ابتداء المحرم بيوم الخميس فيه ركب الوالي العثملي وشق من وسط المدينة فمر على سوق الغورية فأنزل الغورية فأنزل شخصا من ابناء التجار المحتشمين وكان يتلو في القرآن فأمر الأعوان فسحبوه من حانوته وبطحوه على الأرض وضربوه عدة عصي من غير جرم ولا ذنب وقع منه ثم تركه وسار إلى الأشرفية فأنزل شخصا من حانوته وفعل به مثل ذلك فأنزعج أهل الأسواق وأغلقوا حوانيتهم واجتمع الكثير منهم وذهبوا إلى بيت الباشا يشكون فعل الوالي وسمع المشايخ بذلك فركبوا أيضا إلى بيت الباشا وكلموه فأظهر الحنق والغيظ على الوالي ثم قاموا وخرجوا من عنده فتبعهم بعض المتكلمين في بيت الباشا وقال لهم أن الباشا يريد قتل الوالي والمناسب منكم الشفاعة فرجعوا إلى الباشا وشفعوا في الوالي وأرسل سعيد أغا الوكيل وأحضروا له المضروب وأخذ بخاطره وطيب نفسه بكلمات ورجع الجميع كما ذهبوا وظنوا عزل الوالي فلم يعزل.
وفيه رجع المصرلية والعربان وانتشروا بأقليم الجيزة حتى وصلوا إلى انبابة وضربوها ونهبوها وخرج أهلها على وجوههم وعدوا إلى البر الشرقي وأخذ العسكر في اهبة التشهيل والخروج لمحاربتهم.
وفي يوم الجمعة ثانية سافر السيد علي القبطان إلى جهة رشيد وخرج بصحبته جماعة كثيرة من العساكر الذين غنموا الأموال من المنهوبات فاشتروا بضائع وأسبابا ومتاجر ونزلوا بها صحبته وتبعهم غيرهم من الذين يريدون الخلاص والخروج من مصر فركب محمد علي إلى وداع السيد علي المذكور ورد كثيرا من العساكر المذكورة ومنعهم عن السفر.
وفي سادسه خرج محمد علي وأكابر العسكر بعساكرهم وعدوا إلى برانبابة ووصلوا ونصبوا وطاقهم وعملوا لهم عدة متاريس وركبوا عليها المدافع واستعدوا للحرب فلما كان يوم الأحد حادى عشره كبس المماليك والعربان وقت الغلس على متاريس العسكر وحملوا على متراس(2/648)
حملة واحدة فقتلوا منهم وهرب من بقى والقوا بأنفسهم في البحر فاستعد من كان بالمتاريس الآخر وتابعوا رمي المدافع وخرجوا للحرب ووقع بينهم مقتلة عظيمة ابلى فيها الفريقان نحو أربع ساعات ثم انجلت الحرب بينهم وترفع المصرلية والعربان وانكفوا عن بعضهم وفي وقت الظهر أرسلوا سبعة رؤوس من الذين قتلوا من المصرلية في المعركة وشقوا بهم المدينة ثم علقوها بباب زوبلة وفيهم رأس حسين بك الوالي وكاشفين ومنهم حسن الكاشف الساكن بحارة عابدين ومملوكان وعلقوا عند رأس حسين بك الوالي المذكور صليبا من جلد زعموا أنهم وجدوه معه وأصيب إسمعيل بك صهر إبراهيم بك ومات بعد ذلك ودفن بأبي صير.
وفي ثاني عشره حصلت اعجوبة ببيت بالقربية به بغلة تدور بالطاحون فزنقوها بالادارة فاسقطت حملا ليس فيه روح فوضعوه في مقطف ومروا به من وسط المدينة وذهبوا به إلى بيت القاضي وأشيع ذلك بين الناس وعاينوه.
وفي يوم السبت سابع عشره حضر علي كاشف المعروف بالشغب بثلاث معجمات وتشديد الشين وفتح الغين وسكون الباء رسولا من جهة الألفي ووصل إلى جهة البساتين وأرسل إلى المشايخ يعلمهم بحضوره لبعض اشغال فركب المشايخ إلى الباشا واخبروه بذلك فاذن بحضوره فحضر ليلا ودخل إلى بيت الشيخ الشرقاوى فلما أصبح النهار اشيع ذلك وركب معه المشايخ والسيد عمر النقيب وذهبوا به إلى بيت الباشا فوجدوه راكبا في بولاق فانتظروه حصة إلى أن حضر فتركوا عنده على كاشف المذكور ورجعوا إلى بيوتهم واختلى به الباشا حصة وقابله بالبشر ثم خلع عليه فروة سمور وقدم له مركوبا بعدة كاملة وركب إلى بيته وإمامه جملة من العسكر مشاة وقدم له محمد علي أيضا حصانا.
وفيه شرعوا في عمل شركفلك للحرب بالازبكية.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره ورد ططرى وعلى يده بشارة الباشا(2/649)
بتقليده ولاية مصر ووصول القابجي الذي معه التقليد والطوخ الثالث إلى رشيد وطوخان لمحمد علي وحسن بك أخي طاهر باشا وأحمد بك فضربوا عدة مدافع وذهب المشايخ والأعيان للتهنئة.
وفي يوم الثلاثاء قتل الباشا أشخاص احدهم رجل سروجي وسبب ذلك أن الرجل السروجي له أخ اجير عند بعض الأجناد المصرلية فأرسل لاخيه فاشترى له بعض ثياب ونعالات وأرسلها مع ذلك الرجل فقبضوا عليه وسألوه فأخبرهم فاحضروا ذلك الرجل السروجي وأحضروا أيضا رجلا بيطارا متوجها إلى بولاق معه مسامير ونعالات فقبضوا عليه واتهموه أنه يعدى إلى البر الآخر ليعمل لاخصامهم نعالات للخيل فأمر الباشا بقتله وقتل السروجي والرجل الذي معه الثياب فقتلوهم ظلما.
وفي يوم الأربعاء حضر القابجي الذي على يده البشرى وهو خازندار الباشا وكان ارسله حين كان بسكندرية ويسمونها المجسدة ولم يحضر معه اطواخ ولا غير ذلك فضربوا له شنكا ومدافع.
وفيه خلع الباشا على السيد أحمد المحروقي فروة سمور وأقره على ما هو عليه أمين الضربخانة وشاه بندر وكذلك خلع على جرجس الجوهرى واقره باش مباشر الاقباط على ما هو عليه.
وفيه رجع علي كاشف الشغب بجواب الرسالة إلى الألفي.
وفيه تحقق الخبر بموت يحيى بك وكان مجروحا من المعركة السابقة.
وفي يوم الخميس عمل الباشا الديوان وحضر المشايخ والوجاقلية وقرأوا المرسوم بحضرة الجمع ومضمونه اننا كنا صفحنا ورضينا عن الأمراء المصرلية على موجب الشروط التي شرطناها عليهم بشفاعة علي باشا والصدر الأعظم فخانوا العهود ونقضوا الشروط وطقوا وبغوا وظلموا وقتلوا الحجاج وغدروا علي باشا المولى عليهم وقتلوه ونهبوا امواله ومتاعه فوجهنا عليهم العساكر في ثمانين مركبا بحرية وكذلك أحمد باشا الجزار بعساكر برية للانتقام منهم ومن العسكر الموالين لهم فورد الخبر بقيام العساكر عليهم ومحاربتهم لهم وقتلهم واخراجهم فعند ذلك رضينا عن العسكر(2/650)
لجبرهم ما وقع من الخلل الأول وصفحنا عنهم صفحا كليا وأطعنا لهم السفر والأقامة متى شاؤا وأينما أرادوا من غير حرج عليهم ولينا حضرة أحمد باشا خورشيد كامل الديار المصرية لما علمنا فيه من حسن التدبير والسياسة ووفور العقل والرآسة إلى غير ذلك وعملوا شنكا وحراقة وسواريخ بالازبكية ثلاث ليال ومدافع تضرب في كل وقت من الأوقات الخمسة من القلعة وغيرها.
وفيه تواترت الأخبار بأن الأمراء القبالي عملوا وحسات وقصدهم التعدية إلى البر الشرقي.
وفي يوم الأحد خامس عشرينه عدى الكثير منهم على جهة حلوان وانتقل الكثير من العسكر من بر الجيزة إلى بر مصر فخاف أهل المطرية وغيرها وجلوا عنها وهربوا إلى البلاد وحضر كثير منهم إلى مصر خوفا من وصول القبالي.
وفي يوم الخميس حادى عشرينه سافر الشيخ الشرقاوى إلى مولد سيدى أحمد البدوى واقتدى به كثير من العامة وسخاف العقول وكان المحروقي وجرجس الجوهرى مسافرين أيضا وشهلوا احتياجاتهم وأستاذ نوا الباشا فأذن لهم فلما تبين لهم تعدية المصرلية إلى الجهة الشرقية امتنعوا من السفر ولم يمتنع الشيخ الشرقاوى ومن تابعه.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه وصل فريق منهم إلى جهة قبة باب النصر والعادلية من خلف الجبل ورمحوا خلف باب النصر من خارج وباب الفتوح ونواحي الشيخ قمر والدمرداش ونهبوا الوايلي وما جاوره وعبروا الدور وعروا النساء وأخذوا دسوتهم وغلالهم وزروعهم وخرج أهل تلك القرى على وجوههم ومعهم بعض شوالي وقصاع ودخل الكثير منهم إلى مصر.
وفي يوم الأربعاء جمع الباشا ومحمد علي العسكر واتفقوا على الخروج والمحاربة وأخرجوا المدافع والشركفلكات إلى خارج باب النصر وشرعوا في عمل متاريس وفي آخر النهار ترفع المصرلية والعرب وتفرقوا(2/651)
في إقليم الشرقية والقليبوبية وهم يسعون في الفساد ويهلكون الحصاد فما وجدوه مدروسا من البيادر أخذوه أو قائما على ساقه رعوه أو غير مدروس أحرقوه أو كان من المتاع نهبوه أو من المواشي ذبحوه وأكلوه وذهب منهم طائفة إلى بلبيس فحاصروا بها كاشف الشرقية يومين ونقبوا عليه الحيطان حتى غلبوه وقتلوا من معه من العسكر وأخذوه أسيرا ومعه اثنان من كبار العسكر ثم نهبوا البلد وقتلوا من أهلها نحو المائتين وحضر أبو طويلة شيخ العائد عند الأمراء ولامهم وكلمهم على هذا النهب وقال لهم هذه الزروعات غالبها للعرب والذى زرعه الفلاح في بلاد الشرق شركة مع العرب وأن هبود العرب المصاحبين لكم ليس لهم رأس مال في ذلك فكفوهم وامنعوهم ويأتيكم كفايتكم وأما النهب فإنه يذهب هدرا فلما سمع كبار العرب المصاحبين لهم من الهنادى وغيرهم قوله هبود العرب اغتاظوا منه وكادوا يقتلونه فدخل بمن معه جامع قليوب وتترس به وحارب ثلاث ليال وأصيب كثير من المحاربين له ثم تركوه ففر بمن بقى معه إلى البحر ونزل في قارب وحضر إلى مصر وأخذوا حملته ومتاعه وجبخانته وطلبوا مشايخ النواحي مثل شيخ الزوامل والعائد وقليوب والزموهم بالكلف وفردوا على القرى الفرد والكلف الشاقة مثل ألف ريال والفين وثلاثة وعينوا بطلبها العرب وعينوا لهم خدما وحق طرق خلاف المقرر عشرين ألف فضة وأزيد ومن استعظم شيئا من ذلك أو عصى عليهم حاربوا القرية ونهبوها وسبوا نساءها وقتلوا أهلها وحرقوا جرونهم وقل الواردون إلى المدينة بالغلال وغيرها فقلت من الرقع وازدحم الناس على ما يوجد من القليل فيها واحتاج العسكر إلى الغلال لاخبارهم لانهم لم يكن عندهم شيء مدخر فأخذوا ما وجدوه في العرصات فزاد الكرب ومنعوا من يشترى زيادة على ربع من الكيل ولا يدركه إلا بعد مشقة بستين نصفا وإذا حضر للبعض من الناس غلة من مزرعته القريبة لا يمكنه ايصالها إلى(2/652)
داره إلا بالتجوه والمصانعة والمغرم لقلقات الأبواب واتباعهم فيحجزون ما يرونه داخل البلد من الغلة متعللين بأنهم يريدون وضعها في العرصات القريبة منهم فيعطونها للفقراء بالبيع فيعطونهم دراهم ويطلقونهم.
وفي اواخره طلبوا جملة اكياس لنفقة العسكر فوزعوا جملة اكياس على الاقباط والسيد أحمد المحروقي وتجار البهار ومياسير التجار والملتزمين.
وطلبوا أيضا مال الجهات والتحرير وباقي مسميات المظالم عن سنة تاريخه معجلة.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه خرج الكثير من العسكر ورتبوا أنفسهم ثلاث فرق في ثلاث جهات وردوا الخيول إلا القليل ووقع بينهم مناوشات قتل فيها أنفار من الفريقين.
شهر صفر الخير سنة 1219.
استهل بيوم الجمعة فيه نادوا على الفلاحين والخدامين البطالين بالخروج من مصر وكل من وجد بعد ثلاثة أيام وليس بيده ورقة من سيده يستاهل الذى يجرى عليه.
وفي ثانيه طاف الأعوان وجمعوا عدة من الناس العتالين وغيرهم ليسخروهم في عمل المتاريس وجر المدافع.
وفي خامسه قبض الوالي على شخص يشترى طربوشا عتيقا من سوق العصر بسويقة لاجين واتهمه أنه يشترى الطرابيش للاخصام من غير حجة ولا بيان ورمى رقبته عند باب الخرق ظلما.
وفي سابعه نزل الارنؤد من القلعة وتسلمها الباشا وطلع إليها وضربوا لطلوعه عدة مدافع ورجع إلى داره آخر النهار.
وفيه اشيع قدوم سليمان بك حاكم جرجا ووصوله إلى بنى سويف وفي عقبة الألفي الصغير أيضا.
وفيه هجم طائفة من الخيالة في طلوع الفجر على المذبح السلطاني وأخذوا ثورين أحدهما من المذبح والآخر من بعض الغيطان وهرب الجزارون(2/653)
وفي يوم السبت تاسعه طلع الباشا إلى القلعة وسكن بها وضربوا له عدة مدافع.
وفيه حضر كاشف الشرقية المقبوض عليه ببلبيس ومعه اثنان وقد أفرج عنهم الأمراء المصرلية وأطلقوهم فلما وصلوا إلى الباشا خلع عليهم وألبسهم فراوى جبرا لخاطرهم.
وفيه وصل الخبر بوقوع حرب بين العسكر والمصرلية والعربان وحضر عدة جرجى وكانت الواقعة عند الخصوص وبهتيم وجلا أهل تلك القرى وخرجوا منها وحضروا إلى مصر بأولادهم وقصاعهم فلم يجدوا لهم مأوى ونزل الكثير منهم بالرميلة.
وفيه حضر أناس من الذين ذهبوا إلى مولد السيد البدوى وفيهم عرايا ومجاريح وقتلى وقد وقفت لهم العرب وقطعت عليهم الطرق فتفرقوا فرقا في البر والبحر وحصر العرب طائفة كبيرة منهم بالقرطيين وحصل لهم ما لا خير فيه وأما الشيخ الشرقاوي فإنه ذهب إلى المحلة الكبيرة وأقام بها أياما ثم ذهب مشرقا إلى بلدة القرين.
وفيه حضر مصطفى أغا الارنؤدى هجانا برسالة من عند الألفي وفيها طلب اتباعه الذين بمصر فلم ياذنوا لهم في الذهاب إليه واحتجوا بعدم تحقق صداقته العثمانية.
وفيه ورد الخبر بتوجه سليمان بك الخازندار حاكم جرجا إلى جهة بحرى وأنه وصل إلى بنى سويف وأن الألفي الصغير في أثره بحرى منية ابن خصيب والألفي الكبير مستقر بأسيوط يقبض في الأموال الديوانية والغلال وأشيع صلحه مع عشيرته سرا ومظهر خلاف ذلك مع العثمانية.
وفي يوم الأحد عاشره أحضروا جماعة من الوجاقلية عند كتخدا الباشا فلما استقروا في الجلوس كلموهم وطلبوا منهم سلفة وحبسوا رضوان كاشف الذى بباب الشعرية وطلبوا منه عشرين كيسا وكذلك طلبوا من باقي الأعيان مثل مصطفى آغا الوكيل وحسن(2/654)
آغا محرم ومحمد أفندى سليم وإبراهيم كتخدا الرزاز وخلافهم مبالغ مختلفة المقادير وعملوا على الاقباط ألف كيس وحلف الباشا أنها لا تنقص عن ذلك وفردوا عن البنادر مثل دمياط ورشيد وفوة ودمنوهر والمنصورة وخلافها مبالغ أكياس ما بين ثمانين كيسا ومائة كيس وخمسين كيسا وغير ذلك لنفقة العسكر وأحضر الباشا الروزنامجي واتهمه في التقصير.
وفي يوم الإثنين أرسل الباشا الوالي والمحتسب إلى بيت الست نفيسة زوجة مراد بك وطلبها فركبت معهما وصحبتهما امرأتان فطلعا بهن إلى القلعة وكذلك ارسلوا بالتفتيش على باقي نساء الأمراء فاختفى غالبهن وقبضوا على بعضهن وذلك كله بعد عصر ذلك اليوم فلما حصلت الست نفيسة بين يديه قام إليها واجلها ثم أمرها بالجلوس وقال لها على طريق اللوم يصح أن جاريتك منور تتكلم مع مصادق آغا وتقول له: يسعى في أمر المماليك العصاة وتلتزم له بالمكسور من جامكية العسكر فأجابته أن ثبت أن جاريتي قالت: ذلك فأنا المأخوذة به دونها فأخرج من جيبه ورقة وقال لها: وهذه واشار إلى الورقة فقالت وما هذه الورقة ارنيها فاني أعرف أن اقرأ لانظر ما هي فأدخلها ثانيا في جيبه ثم قالت له: أنا بطول ما عشت بمصر وقدرى معلوم عند الأكابر وخلافهم والسلطان ورجال الدولة وحريمهم يعرفوني أكثر من معرفتي بك ولقد مرت بنا دولة الفرنسيس الذين هم اعداء الدين فما رأيت منهم إلا التكريم وكذلك سيدى محمد باشا كان يعرفني ويعرف قدرى ولم نر منه إلا المعروف وأما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم فقال: ونحن أيضا لا نفعل غير المناسب فقالت له وأى مناسبة في أخذك لي من بيتي بالوالي مثل أرباب الجرائم فقال أنا ارسلته لكونه أكبر اتباعي فإرساله من باب التعظيم ثم اعتذر إليها وأمرها بالتوجه إلى بيت الشيخ السحيمي بالقلعة واجلسوها عنده بجماعة من العسكر وأصبح الخبر شائعا بذلك فتكدرت(2/655)
خواطر الناس لذلك وركب القاضي ونقيب الأشراف والشيخ السادات والشيخ الأمير وطلعوا إلى الباشا وكلموه في أمرها فقال لا بأس عليها واني انزلتها ببيت الشيخ السحيمي مكرمة حسما للفتنة لانها حصل منها ما يوجب الحجز عليها فقالوا نريد بيان الذنب وبعد ذلك أما العفو أو الانتقام فقال أنها سعت مع بعض كبار العسكر تستميلهم إلى المماليك العصاة ووعدتهم بدفع علوفاتهم وحيث أنها تقدر على دفع العلوفة فينبغي أنها تدفع العلوفة فقالوا له أن ثبت عليها ذلك فإنها تستحق ما تأمرون به فيحتاج أن تتفحص على ذلك فقام إليها الفيومي والمهدى وخاطباها في ذلك فقالت هذا الكلام لا أصل له وليس لي في المصرلية زوج حتى إني أخاطر بسببه فإن كان قصده مصادرتي فلم يبق عندى شيء وعلي ديون كثيرة فعادوا إليه وتكلموا معه وراددهم فقال الشيخ الأمير للترجمان قل لافندينا هذا أمر غير مناسب ويترتب عليه مفاسد وبعد ذلك يتوجه علينا اللوم فإن كان كذلك فلا علاقة لنا بشيء من هذا الوقت أو نخرج من هذه البلدة وقام قائما على حيله يريد الذهاب فأمسكه مصطفى اغا الوكيل وخلافه وكلموا الباشا في اطلاقها وأنها تقيم ببيت الشيخ السادات فرضي بذلك وانزلوها ببيت الشيخ السادات وكانت عديلة هانم ابنة إبراهيم بك عندما وصلها الخبر ذهبت إلى بيته أيضا.
وفيه شنقوا شخصا على السبيل بباب الشعرية شكا منه أهل حارته وأنه يتعاطى القيادة ويجمع بين الرجال والنساء وغير ذلك.
وفي يوم الحميس رابع عشره كتبوا أوراقا وألصقوها بالأسواق بطلب ميرى سنة تاريخه المعجلة بالكامل وكانوا قبل ذلك طلبوا نصفها ثم اضطرهم الحال بطلب الباقي وعملوا قوائم بتوزيع خمسة آلاف كيس استقر منها على طائفة القبطة خمسمائة كيس بعد الألف وجملة على الملتزمين خلاف ما أخذ منهم قبل ذلك وعلى الست نفيسة وبقية نساء الأمراء ثمانمائة كيس.(2/656)
المجلد الثالث
(تابع) سنة تسعة عشر ومائتين وألف
...
بسم الله الرحمن الرحيم.
وفيه خطف العرب جراية العسكر من عند الزاوية الحمراء.
وفيه وصل سليمان بك الخازندار وعدى إلى جهة طرأ فخرج عدة من العسكر خلاف المرابطين هناك قبل ذلك من العسكر والمغاربة فقصد المرور من خلف الجبل واللحوق بجماعته جهة الشرق في آخر الليل فوقف له العسكر وضربوا عليه بالمدافع الكثيرة واستمر الضرب من الفجر إلى عصر يوم الجمعة ونفذ بمن معه على حماية وقتلوا منه مملوكا واحدا وحضروا برأسه إلى تحت القلعة.
وفيه رجع الكثير من عسكر الارنؤد وغيرهم ودخلوا إلى المدينة يطلبون لعوفة واستمر من بقي منهم ببهتيهم وبلقس ومسطرد وقد اخرجوا أهاليها منها ونهبوها واستولوا على ما فيها من غلال واتبان وغير ذلك وكرنكوا فيها ونقبوا الحيطان لرمي بنادق الرصاص من الثقوب وهم مستترون من داخلها ونصبوا خيامهم في أسطحة الدور وجعلوا المتاريس من خارج البلدة وعليها المدافع فلا يخرجون إلى خارج ولا يبرزون إلى ميدان الحرب وكل من قرب منهم من الخيالة المقاتلين رموا عليه بالمدافع والرصاص ومنعوا عن أنفسهم واستمروا على ذلك.
وفيه وردت مكاتبات إلى التجار من الحجاز وأخبروا بان الحجاج أدركوا الحج والوقوف بعرفة ودخلوا قبل الوقوف بيومين وأخبروا أيضا بوفاة شريف باشا إلى رحمة الله تعالى وكان من خيار دولة العثمانيين ووردت.(3/5)
أخبار أيضا من البلاد الشامية بوفاة أحمد باشا الجزار في سادس عشرين المحرم.
وفي يوم السبت سادس عشرة أرسلوا تنابيه إلى أرباب الحرف والصنائع بطلب دراهم وزعت عليهم مجموعها خمسمائة كيس فضج الناس وتكدروا مع ما هم فيه من وقف الحال وغلاء الأسعار في كل شيء وأصبحوا على ذلك يوم الأحد فلم يفتحوا الحوانيت وانتظروا ما يفعل بهم وحضر منهم طائفة إلى الجامع الأزهر ومر الأغا والوالي ينادون بالأمان وفتح الدكاكين فلم يفتح منهم إلا القليل.
وفيه سرح سليم كاشف المحرمجي إلى جهة بحري وأشيع وصول الألفي الصغير إلى المنية وأصبح يوم الإثنين اجتمع الكثير من غوغاء العامة والأطفال بالجامع الأزهر ومعهم طبول وصعدوا إلى المنارات يصرخون ويطلبون وتحلقوا بمقصورة الجامع يدعون ويتضرعون ويقولون: يا لطيف وأغلقوا الأسواق والدكاكين ووصل الخبر إلى الباشا بل سمعهم من القلعة فأرسل قاصدا إلى السيد عمر النقيب يقول: أننا رفعنا عن الفقراء فقال له: إن هؤلاء الناس وأرباب الحرف والصنائع كلهم فقراء وما كفاهم ما هم فيه من القحط والكساد ووقف الحال حتى تطلبوا منهم مغارم لجوامك العسكر وما علاقتهم بذلك فرجع الرسول بذلك وحضر الآغا ومعه عدة من العسكر وجلس بالغورية وهو يأمر الناس بفتح الحوانيت ويتوعد من يتخلف فلم يحضر أحد ولم يسمعوا لقوله وفي وقت العصر رجع القاصد ومعه فرمان برفع الغرامة عن المذكورين ونادى المنادي بذلك فاطمأن الناس وتفرقوا وذهبوا إلى بيوتهم وخرج الأطفال يرمحون ويصرخون ويفرحون.
وفي ذلك اليوم عدى محمد علي وجمع كثير من العسكر والمغاربة إلى بر الجيزة وبرزوا إلى خارج فنزل عليهم جملة من العرب فحاربوهم فقتل بينهم أنفار وانجرح منهم كذلك ثم ترفعوا عنهم فرجعوا ومعهم.(3/6)
رأس من العرب ومع المغاربة قتيل منهم في تابوت وهم يقولون: طردناهم وخطفوا بعض مواش وأغنام في طريقهم من الرعيان فقتلوهم أخذوها منهم.
وفي تاسع عشرة حضر كتخدا الباشا كاتب البهار وأمره بإحضار ستمائة فرق بن فاعتذر إليه بعدم وجود ذلك فقال: إنما نأخذها بأثمانها فقال له: ليس علي إلا التعريف وقد عرفتك أن هذا القدر لا يوجد وأن أردت فأرسل معي من تريد وتكشف على حواصل التجار والخانات فطافوا على الخانات وفتحوا الحواصل فلم يجدوا إلا سبعين فرقا وأكثرها عليه نشانات كبار العسكر من مشترواتهم فرجعوا من غير شيء ثم نودي في أثر ذلك بالأمان.
وفيه وقعت معركة بسوق الصاغة بين بعض العسكر الذين يتحشرون في أيام الأسواق في الدلالين والباعة ويعطلون عليهم دلالتهم وصناعتهم ومعايشهم وضربوا على بعضهم بالرصاص ففزع الناس وحصلت كرشة وظن من لا يعلم الحقيقة من العسكر أنها قومة فهربوا يمينا وشمالا وطلبوا النجاة والتواري ووافق مرور اغات الانكشارية في ذلك الوقت فانزعج هو ومن معه وطلب الهرب ثم انكشف الغبار وظهر شخص عسكري مطروح وبه رمق آخر مجروح فرجع الآغا وأمر بحمله في تابوت ونادى بالأمان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينة قبل المغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وكذلك في صبحها يوم السبت ولم يظهر لذلك سبب سوى ما يقولونه من التمويهات ومن وصول الاطواخ وعساكر ودلاة برية تارة بحيرة أخرى.
وفيه أشيع وقوع معركة بين المصرلية والعثمانية وأخذوا منهم متاريس بلقس ومدافع ووصل منهم جرحى دخلوا ليلا وحضر من المصرلية طائفة ناحية شلقان وقطعوا الطريق على السفار في البحر وأخذوا مركبين وأحرقوا مراكب وامتنع الواصلون والذاهبون وارتفعت الغلال من الرقع والعرصات وغلا سعرها فخرج إليهم مراكب يقال لها: الشلنبات وضربوا.(3/7)
عليهم بالمدافع وأجلوهم عن ذلك الموضع ووصل بعض مراكب من المعوقين.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرية أرسل الباشا إلى المشايخ فذهبوا إليه فاستشارهم في خروجه إلى الحرب وخروجهم صحبته مع الرعية فلم يصوبوا رأيه في ذلك وقالوا له: إذا أنهزم العسكر تأمر غيرهم بالخروج وإذا كانت الهزيمة علينا وأنت معنا من يخرج بعد ذلك وانفض المجلس على غير طائل.
وفي أو آخره يوم الأربعاء ويوم الخميس وقع بينهم مساجلات ومحاربات ومغالبات واحترقت جبخانة العثمانيين وقيل أخذ باقيها ورجع منهم قتلى ومجاريح وانجرح عابدي بك أخو طاهر باشا واحترق أشخاص من الطبجية ودخل سلحدار الباشا والوالي وإمامهما رأس واحدة بشوارب كأنه من المماليك.
وفي عصرية ذلك اليوم اخرجوا عساكر ومعهم مدافع وجباخنة أيضا محملة على نيف وثلاثين جملا.
وفيه ضيقوا على نساء الأمراء في طلب الغرامة وألزموا بقبضها وتحصيلها الست نفيسة وعديلة هانم ابنة إبراهيم بك فوزعتاها بمعرفتهما على باقي النساء وأرسلوا عساكر يلازمون بيوتهن حتى يدفعن ما التزمن به فاضطر أكثرهن لبيع متاعهن فلم يجدن من يشتري لعموم المضايقة والكساد وانقضى هذا الشهر والحال على ما هو عليه من استمرار الحروب والمحاصرات بين الفريقين وانقطاع الطرق برا وبحرا وتسلط العربان واستغنامهم تفاشل الحكام وانفكاك الأحكام وذلك تسلط الفلاحين المقاومين من سعد وحرام على بعضهم البعض بحسب المقدرة والقوة والضعف وجهل القائمين المتآمرين بطرائق سياسة الإقليم ولايعرفون من الأحكام إلا أخذ الدراهم بأي وجه كان وتمادى قبائح العسكر بما لا تحيط به الأوراق والدفاتر بحيث أنه لا يخلوا يوم من زعجان ورجفات وكرشات في غالب الجهات أما لأجل امرأة أو أمرد أو خطف شيء أو تنازع وطلب شربأدى.(3/8)
سبب مع العامة والباعة أو مشاحنة مع السوقة والمتسببين بسبب أبدال دنانير ذهب ناقص بدراهم مكررة فضة كاملة المصارفة من صيارف أو باعة أو غير ذلك وتعطل أسباب المعايش وغلو الأسعار في كل شيء وقلة المجلوب ومنع السبل ووصل سعر الأردب القمح ستة عشر ريالا والفول والشعير أكثر من ذلك لقلته وعزته وإذا حضر منه شئ أخذوه لاحتياج العليق قهرا بأبخس الثمن عند وصوله المأمن وأجرة طحين الويبة من القمح ستة وأربعون نصفا مع ما يسرقه الطحانون منها ويخلطونه فيها وأجرة خبيزها عشرون نصفا بحيث حسب ثمن الأردب بعد غربلته وأجرته ومسكه وكلفته وطحينه وخبيزه إلى أن يصير خبزا أربعة وعشرون ريالا فسبحان اللطيف الخبير المدبر ومن خفي لطفه كثرة الخبز وأصناف الكعك والفطير في الأسواق وسعر الرطل من اللحم الجفط بما فيه من العظم والكبد تسعة أنصاف والجاموسي سبعة أنصاف الرطل والراوية الماء ثلاثون نصفا والسمن القنطار بالفين وأربعمائة نصف وشح الأرز وقل وجوده وغلا ثمنه ووصل سعر الأردب إلى خمسة وعشرين ريالا والجبن القريش بثمانية عشر نصفا الرطل وأما الخضارات فعز وجودها وغلا ثمنها بحيث أن الرطل من البامية بما فيها من الخشب الذي يرمى من وقت طلوعها إلى أن بلغت حد الكثرة بثمانية أنصاف كل رطل والرطل قباني اثنتا عشرة أوقية وعز وجود البن وغلا سعره حتى بلغ في هذا الشهر الرطل سبعين ونصفا والسكر العادة الصعيدي خمسة وأربعون نصفا الرطل والواحد والعسل الأبيض الغير الجيد ثلاثون نصفا والعسل الأسود خمسة عشر نصفا والعسل القطر عشرون نصفا الرطل والصابون أربعة وعشرون نصفا كل ذلك بالرطل القباني الذي عمله محمد باشا فلا جزاه الله خيرا والشيرج بألفين فضة القنطار وورد الكثير من الحطب الرومي ورخص سعره إلى مائة وعشرين نصفا الحملة بعد ثلثمائة نصف وأما أنواع البطيخ والعبدلاوي فلم يشتره أكثر الناس لقلته وغلوا ثمنه فإنه بيعت الواحدة بعشرين نصفا فأقل.(3/9)
فأكثر والخيار بخمسة أنصاف الرطل من وقت طلعوه إلى أن بلغ حد الكثرة وبقي بحال لا تقبله الطبيعة البشرية فعند ذلك بيع بنصفين وأما الفاكهة فلا يشتريها إلا أفراد الأغنياء أو مريض يشتهيها أو امرأة وحمى لغلوها فإن رطل الخوخ بخمسة عشر نصفا والتفاح الأخضر كذلك وقس على ذلك لقلة المجلوب وخراب البساتين وغلو علف البهائم وحوز المتسيين وأخذ الرشوات منهم وتركهم وما يدينون وأما الأتبان فأنها كثرت وانحل سعرها عما كانت.
شهر ربيع الأول سنة 1219 استهل بيوم السبت.
فيه وقع هرج ومرج وإشاعات ثم تبين أن طائفة من العربان والمماليك وصلوا إلى خارج باب النصر وظاهر الحسينية وناحية الزاوية الحمراء وجزيرة بدران جهة الحلى ورمحوا على من صادفوه بتلك النواحي وحالوا بين العسكر الخارجين وبين عرضيهم وأخذوا ما معهم من الجراية والعليق والجبخانة فنزل الباشا ومعه عساكر وذهب إلى جهة بولاق ثم إلى ناحية الزاوية الحمراء أغلقوا أبواب المدينة ثم رجع الباشا بعد العصر ودخل من باب العدوى وطلع إلى القلعة وهو لابس برنسا ثم تكرر بينهم وقائع وخروج عساكر ودخول خلافهم ونزول الباشا وطلوعه.
وفي رابع حضر الشيخ عبد الله الشرقاوي من غيبته بالقرين بعد ذهابه إلى المحلة من طندتا.
وفي يوم الخميس سادسة حضر هجانة بمكاتبة من عند الألفي الكبير للباشا وفيها الأخبار بعزمه على الحضور إلى مصر هو وعثمان بك حسن ويلتمس أن يخلوا له الجيزة وقصر العيني لينظر في هذا الأمر والفساد والواقع بمصر فكتب له الباشا جوابا ملخصه على ما نقل إلينا إنك في السابق عرفتنا انك مذعن للطاعة وأرسلنا لك بالآذن والإقامة بجرجا وما عرفنا موجب هذا الحضور فإن كنت طائعا وممتثلا ما كنت ولك الولاية والحكم بالإقليم القبلي وأرسل المال والغلال ونحو ذلك من الكلام وسافروا.(3/10)
بالجواب يوم السبت ثامنه.
وفيه ترفع الأمراء المصرلية إلى ناحية مشتهروبنها وانتقلوا من منزلتهم وأشاع العسكر ذهابهم وهروبهم.
وفيه وردت مكاتبات من الحجاز وأخبروا فيها بموت محمود جاويش الذي سافر بالمحمل وكذلك الحاج يوسف صبر في الصرة وأن طائفة من الوهابيين حاصروا جدة ولم يملكوها وأن ببلاد الحجاز غلاء شديدا لمنع الوارد عنهم والأردب والقمح بثلاثين ريالا فرانسا عنها من الفضة العددية خمسة آلاف وأربعمائة.
وفي يوم السبت ثامنة أرسلوا فعلة وعمالا لعمل متاريس وابنية بناحية طرا وكذلك بالجيزة وأرسلوا هناك مراكب حربية يسمونها الشلنبات وفي يوم الثلاثاء خرج محمد علي وحسن بك أخو طاهر باشا إلى جهة القليوبية وصحبتهم عساكر كثيرة وأدوات وعدى طائفة من الأمراء إلى بر المنوفية وهرب حاكم المنوفية من منوف.
وفي ثالث عشرة ورد الخبر بوصول مراكب داوات من القلزم إلى السويس وفيها حجاج والمحمل وأخبروا بمحاصرة الوهابين لمكة والمدينة وجدة وأن أكثر أهل المدينة ماتوا جوعا لعزة الأقوات والأردب القمح بخمسين فرانسا أن وجد والأردب الأرز بمائة فرانسا وقس على ذلك.
وفي خامس عشرة يوم السبت وصلت مراكب وفيها طائفة من العسكر وهم الذين يسمونهم النظام الجديد الذين يقلدون محاربة الإفرنج وأشاعوا أنهم خمسة آلاف وعشرة آلاف ووصل صحبتهم الآغا الذي كان حضر بالمجدة والبشارة للباشا بالتقليد الأطواخ ورجع إلى إسكندرية فحضر أيضا وضربوا لوصوله مدافع وشنكا جهة بولاق وأرسلوا له خيولا ويرقا وطبلخانات واركبوه من بولاق وشق من وسط المدينة وإمامه وخلفه أتباع الباشا والوالي والجنيبات وعسكر النظام الجديد وهم دون المائة شخص والآغا المذكور ومعه أوراق في أكياس حرير ملون.(3/11)
وخلفه آخر راكب ومعه بقجة يقال: إن بداخلها خلعة برسم الباشا وآخر معه صندوق صغير وعليه دواة كتابة منقوشة بالفضة وخلفهم الطبلخانات فلما وصلوا إلى القلعة ضربوا لوصولهم مدافع كثيرة من القلعة وعمل الباشا ديوانا في ذلك الوقت بعد العصر وقرأوا التقليد المذكور.
وفي ذلك اليوم وصلت طائفة من العربان إلى جهة بولاق وجزيرة بدران وناحية المذبح وخطفوا ما خطفوه وذهبوا بما أخذوه.
وفيه ورد الخبر بوصول الألفي الكبير إلى ناحية بني سويف وعثمان بك حسن في مقابلته بالبر الشرقي.
وفي يوم الإثنين وصل قاصد من الألفي بمكتوب خطابا للمشايخ العلماء مضمونه أنه لا يخفاكم اننا كنا سافرنا سابقا لقصد راحتنا وراحة البلاد ورجعنا بأوامر وحصل لنا ما حصل ثم توجهنا إلى جهة قبلي واستقرينا بأسيوط بعد حصول الحادث بين إخواننا الأمراء والعسكر وخروجهم من مصر وأرسلنا إلى افندينا الباشا بذلك فأنعم علينا بولاية جرجا ونكون تحت الطاعة فامتثلنا ذلك وعزمنا على التوجه حسب الأمر فبلغنا مصادرة الحريم والتعرض لهم بما لا يليق من الغرائم وتسليط العساكر عليهم ولزومهم لهم فثنينا العزم واستخرنا الله تعالى في الحضور إلى مصر لننظر في هذه الأحوال فإن التعرض للحريم والعرض لا تهضمه النفوس وكلام كثير من هذا المعنى فلما وصلتهم المكاتبة أخذوها إلى الباشا واطلعوه عليها فقال في الجواب: إنه تقدم أنهم تركوا نساءهم للفرنسيس وأخذوا منهم أموالا وإني كنت أعطيت له جرجا ولعثمان بك قنا وما فوق ذلك من البلاد وكان في عزمي أن اكاتب الدولة وأطالب لهم أوامر ومراسيم بما فعلته لهم وبراحتهم فحيث أنهم لم يرضوا بفعلي وغرتهم أمانيهم فليأخذوا على نواصيهم.
وفيه شرعوا في حفر خندق قبلي الإمام الليث بن سعد ومتاريس.
وفي ذلك اليوم أرسل محمد علي إلى مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف.(3/12)
الصابونجي فلما حضرا إليه عوقهما إلى الليل ثم أرسلهما إلى القلعة بعد العشاء ماشيين ومعهما عدة من العسكر فحبسا بها.
وفي يوم الخميس عشرينه عمل الباشا ديوانا وحضر المشايخ والوجاقلية واظهر زينته وتفاخره في ذلك الديوان واوقف خيوله المسومة بالحوش وخيول شجر الدر واصطفت العساكر بالأبواب والحوش والديوان ووقفت أصناف الديوان باختلاف أشكالهم والسعاة بالطاسات المذهبة على رؤوسهم وخرج الباشا بالشعار والهيبة وعلى رأسه الطلخان بالطراز إلى الديوان الكبير المعروف بديوان المغوري وقد اعدوا له كرسيا بغاشية جوخ أحمر وبساط مفروشا خلاف الموضع القديم فجلس عليه وزعقت الجاويشية وأحضر التقليد فقرأه ديوان أفندي بحضور الجمع الكبير ثم قرأ فرمانين آخرين مضمون أحدهما أكثر كلاما من الثاني ملخصه الولاية وحكاية الحال الماضية من ولاية علي باشا وشفاعته في الأمراء المصرية بشرط توبتهم ورجوعهم ثم عودهم إلى البغي والفجور وغدر علي باشا المذكور وظلمهم الرعية بمعونة العسكر ثم قيام الرعية والعسكر عليهم حتى قتلوهم أخرجوهم من مصر فعند ذلك صفحنا عن العسكر وعفونا عما تقدم منهم وامرناهم بان يلازموا الطاعة ويكونوا مع أحمد باشا خورشيد بالحفظ والصيانة والرعاية لكافة الرعية والعلماء وأبعاد أهل الفساد والمعتدين وطردهم وتشهيل لوازم الحج والحرمين من الصرة والغلال ونحو ذلك من الكلام المحفوظ المعتاد المنمق ولما انقضى أمر قراءة الأوراق قام الباشا إلى مجلسه الداخل ودخل إليه المشايخ فخلع عليهم فراوي سمور وكذلك الوجاقلية والكتبة والسيد أحمد المحروقي ثم عملوا شنكا ومدافع كثيرة وطبولا وأحضر في ذلك الوقت المعلم جرجس وكبار الكتبة وعدتهم اثنان وعشرون قبطيا ولم تجر عادة بإحضارهم فخلع عليهم أيضا ثم نزلوا إلى بيت المحروقي فتغدوا عنده ثم عوقهم إلى العصر ثم طلبهم الباشا إلى القلعة فحبسهم تلك الليلة واستمروا في الترسيم وطلب منهم ألف كيس.(3/13)
وفي يوم السبت ثاني عشرينه افرجوا عن مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي على ثلثمائة كيس.
وفيه حضر محمد علي وحسن بك أخو طاهر باشا وطلعا إلى القلعة فخلع عليهما الباشا وهنآه بالولاية واستقر بمحمد علي والي جرجا وحسن بك وإلي الغربية وضربوا لذلك مدافع كثيرة وشنكا وعملوا تلك الليلة حراقة وسواريخ من الازبكية وجهة الموسكي والحال أنهم لا يقدرون أن يتعدوا بر الجيزة ولا شلقان فإن طوائف عسكر الألفي وصلوا إلى بر الجيزة وأخذوا منها الكلف والأمراء البحرية منتشرون ببر الغربية والمنوفية.
وفيه هرب شخص من كبار الأرنؤد يقال له إدريس أغا: كان بجماعته جهة برشوم التين فركب إلى المصرلية ولحق بهم وتبعه جماعته وهم نحو المائة وخمسين شخصا.
وفيه أرسل الباشا اغاة الانكشارية ليقبض على علي كاشف من أتباع الألفي من بيته بسوق الانماطيين فأرسل إلى الارنؤد فأرسلوا له جماعة منعوا الآغا من أخذه وجلسوا عنده فأرسل الباشا من طرفه جماعة أقاموا محافظين عليه في بيته ثم أن سليمان أغا كبير الارنؤد الذي التجأ إليهم المذكور حضر إليه وأخذه إلى داره بالازبكية وصحبته الأمير مصطفى البردقجي الألفي أيضا.
وفي يوم الإثنين وصل شخص رومي بمراسلة من عند الألفي إلى الباشا فعند ما قرا الباشا المراسلة أمر بقتله حالا فرموا عنقه برحبه القلعة وحضر أيضا مملوك بمراسلة من عثمان بك حسن يذكر فيها حضوره مع الألفي وأنه اغتر بكلامه وتمويهاته عليه وأن بيده أوامر شريفة من الدولة ومن حضرة الباشا بالحضور ثم ظهر أنه لم يكن بيده شيء وأن عثمان بك ممتثل لما يأمره به الباشا وأمثال ذلك فكتب له جوابا وخلع على ذلك المملوك ورجع سالما.(3/14)
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه أخرجوا عن النصارى الاقباط بعد ما قرروا عليهم ألف كيس خلاف البراني وقدره مائتان وخمسون كيسا ونزلوا إلى بيوتهم بعد العشاء الأخيرة في الفوانيس.
وفيه وصل الألفي الصغير وانتشرت خيوله إلى بر انبابة فرموا عليهم مدافع من المراكب وبولاق ورفعوا الغلة من الرقع واشيع أن الألفي الكبير وصل إلى الشوبك وعثمان بك حسن وصل إلى حلوان ورجع إبراهيم بك البرديسي وباقي الأمراء إلى ناحية بنها بعدما طافوا المنوفية والغربية وقبضوا الكلف والفرد وخروج كثير من العسكر إلى معسكرهم ناحية شلقان وما وازاها إلى الشرق وخرج أيضا عدة من العسكر إلى ناحية طرا والجيزة.
وفيه أرسل الألفي الصغير وروقة لشخص من كبار العسكر مقطوع الأنف كان من اتباعه حين كان بمصر يطلبه للحضور إليه ويعده بالاكرام وأن يكون كما كان في منزلته عنده فأخذ الورقة والرسول إلى الباشا فأمر بقتل المرسال وهو رجل فلاح فقطعوا رأسه بالرميلة وانعم على مقطوع الانف بعشرين ألف نصف فضة وشكره وقبل ذلك بايام وصلت هجانة من العريش وأخبروا بورود عساكر من الدلاة وغيرهم معونة لمن بمصر واختلفت الروايات في عدتهم فالمكثر من كذابي العثمانية يقولون: عشرة آلاف والمقل من غيرهم يقولون: الفان أو ثلاثة.
وفي يوم الأربعاء تواترت الأخبار بقربهم من الصالحية وانتقل الأمراء البحرية إلى بلبيس وركب منهم عدة وافرة لملاقاة العسكر الواردين وخرج كثير من العسكر الخيالة والرجالة إلى جهة الشرقية ببلبيس ونقلوا عرضيهم من ناحية البحر وردوا الكثير من اثقالهم إلى المدينة.
وفي يوم الخميس أحضر الباشا طائفة اليهود وحبسهم وطلب منهم ألف كيس واستمروا في الحبس.
وفيه رجع الألفي الصغير من ناحية انبابة إلى جهة الشيمي باستدعاء من.(3/15)
سيدة وأشاع العثمانية أنهم ذهبوا ورجعوا من حيث أتوا لعجزهم وعدم قدرتهم عليهم وكان في ظنهم أمور لاتتم لهم كما ظنوا ولحقتهم جميع العساكر من الجهة الشامية.
وفيه أرسلوا ملاقاة للعساكر الواردين وفيها قومانية وجبخانة ولوازم على ستين جملا ومعهم هجانة فعندما توسطوا البرية أطاح بهم العربان وأخذوهم.
وفيه تسحب أشخاص من كبار العسكر باتباعهم وذهبوا إلى المصريين وانضموا إليهم فمنهم من ذهب إلى قبلي ومنهم من ذهب إلى بحري.
وفيه عدى الألفي الكبير والصغير إلى البر الشرقي عند عثمان بك وترفعت مراكبهم إلى قبلي.
وفيه حضر عابدي بك وحسن بك من البحر إلى بولاق وانتقل محمد علي إلى طنط جهة براشيم التين بعد مقتلة وقعت بينهم وبين المصرلية وانهزموا وذهبوا إلى تلك الجهة.
وفي يوم الأحد غايته افرجوا عن طائفة اليهود بعد أن قرروا عليهم مائتي كيس خلاف البراني.
وفيه حضر خازندار الباشا من الديار الرومية إلى ساحل بولاق وصحبته أمتعة ولوازم للباشا وأشياء في صناديق.
استهل شهر ربيع الثاني بيوم الإثنين سنة 1219.
فيه ركب الخازندار المذكور وطلع إلى القلعة من وسط المدينة ونزل لملاقاته أغوات الباشا والجاويشية والشفاسية وحضر صحبته نحو خمسين عسكريا مشوا إمامه وخلفه والصناديق التي حضرت معه خلفه محملة على الجمال والجاويشية إمامه يضربون على طبلات حكم العادة في ركوباتهم ومعه عدة كبيرة من اتباع الباشا وإمامه الجنيبات والخيول.
وفيه وصلت مراكب من الديار الحجازية إلى السويس وفيها حجاج ومغاربة ولم يصل منهم إلا القليل وأكثرهم قتله العسكر الذي بقي.(3/16)