ثم في شوّال أخلع على الأمير إشقتمر «1» الماردينى أمير مجلس بنيابة طرابلس واستقر طغيتمر النظامى عوضه أمير مجلس، واستقر الأمير اسنبغا الأبوبكريّ حاجب الحجّاب عوضا عن طغيتمر النظامى. ثم أخلع على الأمير عزّ الدين أيدمر الشيخى بنيابة حماة. ثم استقرّ الأمير منكلى بغا الشمسى فى نيابة حلب عوضا عن قطلوبغا الأحمدى بحكم وفاته. ثم أمسك الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشى الأستادار ونفى الى حماة واستقرّ عوضه في الأستادارية أروس المحمودى.
ثم تزوّج الأمير الكبير يلبغا بطولوبيه «2» زوجة أستاذه الملك الناصر حسن.
وفي هذه السنة بويع المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد بالخلافة بعد وفاة أبيه المعتضد بالله أبى بكر بعهد من أبيه في يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
ثم أشيع في هذه السنة عن السلطان الملك المنصور محمد أمور شنعة نفّرت قلوب الأمراء منه واتّفقوا على خلعه من السلطنة، فخلع في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة وتسلطن بعده ابن عمه الملك الأشرف شعبان بن حسين، وحسين المذكور لم يتسلطن غير أنه كان لقّب بالأمجد من غير سلطنة، وأخذوا الملك المنصور محمدا وحبسوه داخل الدور السلطانية بقلعة الجبل. وكانت مدّة سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وستة «3» أيام، وليس له فيها من السلطنة إلا مجرّد الاسم فقط.
والأتابك يلبغا هو المتصرف في سائر أمور المملكة.(11/6)
وسبب خلعه- والذي أشيع عنه- أنه بلغ الأتابك يلبغا أنه كان يدخل بين نساء الأمراء ويمزح معهن، وأنه كان يعمل مكاريّا للجوارى ويركبهنّ ويجرى هو وراء الحمار بالحوش السلطانى وأنه كان يأخذ زنبيلا فيه كعك ويدخل بين النساء ويبيع ذلك الكعك عليهن على سبيل المماجنة. وأنه يفسق في حريم الناس ويخلّ بالصلوات وأنه يجلس على كرسى الملك جنبا وأشياء غير ذلك، فاتّفق الأمراء عند ذلك على خلعه فخلعوه وهم يلبغا العمرى الخاصّكى وطيبغا الطويل وأرغون الإسعردى وأرغون الأشرفى وطيبغا العلائى وألجاى اليوسفى وأروس المحمودى وطيدمر البالسى وقطلوبغا المنصورى وغيرهم من المقدّمين والطبلخانات والعشروات.
واستمر الملك المنصور محبوسا بالدور السلطانية من القلعه إلى أن مات بها فى ليلة السبت تاسع المحرّم من سنة إحدى وثمانمائة. وزوّج الملك الظاهر برقوق الوالد «1» بابنته خوند فاطمة في حياة والدها الملك المنصور المذكور واستولدها الوالد عدّة أولاد وماتت تحته في سنة أربع وثمانمائة، ولما مات الملك المنصور صلّى عليه الملك الظاهر برقوق بالحوش «2» السلطانى من القلعة ودفن بتربة «3» جدّته أمّ أبيه بالروضة «4» خارج(11/7)
باب «1» المحروق بالقرب من الصحراء، وكان محبّا للهو والطرب راضيا بما هو فيه من العيش الطيب، وكان له مغان عدّة، جوقة كاملة زيادة على عشر جوار يعرفن بمغانى المنصور استخدمهنّ الوالد بعد موته، وكانت العادة تلك الأيام، أنّ لكل سلطان أو ملك يكون له جوقة من المغانى عنده فى داره، ولم يخلّف الملك المنصور مالا له صورة وخلّف عدّة أولاد ذكور وإناث. رأيت أنا جماعة منهم. انتهى والله أعلم.
السنة الأولى وهي سنة اثنتين وستين وسبعمائة ومدبّر الممالك يلبغا العمرىّ على أن الملك الناصر حسنا حكم منها إلى تاسع جمادى الأولى ثم حكم في باقيها الملك المنصور هذا.
فيها كان خلع الملك الناصر حسن وقتله حسب ما تقدّم وسلطنة الملك المنصور هذا.(11/8)
وفيها توفّى الأديب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علىّ بن محمد المعروف بابن أبى طرطور الشاعر المشهور وبحماة عن بضع وسبعين سنة. وكان رحمه الله شاعرا ماهرا حسن العشرة، مدح الأكابر والأعيان ورحل إلى الشام ثم استوطن حماة إلى أن مات. رحمه الله. ومن شعره في مليح اسمه يعقوب، وهو هذا. [الرمل]
يا مليحا حاز وجها حسنا ... أورث الصّبّ البكا والحزنا
غلطوا في اسمك إذ نادوا به ... يوسف أنت ويعقوب أنا
وتوفّى الحافظ المفتّن علاء الدين أبو عبد الله مغلطاى بن قليح «1» بن عبد الله البكجرىّ الحنفىّ الحافظ المصنف المحدّث المشهور في شعبان ومولده سنة تسعين وستمائة قاله ابن «2» رافع، وغيره في سنة تسع وثمانين وسمع من التاج أحمد «3» ابن دقيق العيد وابن الطبّاخ والحسن بن عمر الكردىّ وأكثر عن شيوخ عصره وتخرّج بالحافظ فتح الدين ابن سيد «4» الناس وغيره ورحل وكتب وصنّف «وشرح صحيح البخارىّ» ورتب «صحيح ابن حبّان» «وشرح [سنن] «5» أبى داود» ولم يكمّله وذيّل على «المشتبه لابن نقطة» وذيّل على «كتاب الضعفاء لابن الجوزىّ» وله عدّة مصنّفات أخر، وكان له اطلاع كبير وباع واسع في الحديث وعلومه وله مشاركة فى فنون عديدة. تغمّده الله برحمته.(11/9)
وتوفّى الشيخ الإمام البارع المحدّث العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف [ابن محمد «1» ] الزّيلعىّ الحنفىّ في الحادى والعشرين من المحرّم. وكان- رحمه الله- فاضلا بارعا في الفقه والأصول والحديث والنحو والعربية وغير ذلك، وصنّف وكتب وأفتى ودرّس وخرّج أحاديث الكشّاف في جزء وأحاديث الهداية [فى الفقه «2» على مذهب أبى حنيفة] فى أجزاء وأجاد، أظهر فيه على اطلاع كبير وباع واسع.
رحمه الله تعالى.
وتوفّى السيّد الشريف «3» شهاب الدين حسين بن محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن زيد الحسينىّ المصرىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى العسكر نقيب الأشراف بالديار المصرية عن أربع وستين سنة وكان كاتبا بارعا أديبا بليغا كتب الإنشاء بمصر وباشر كتابة السّر بحلب وله ديوان خطب وتعاليق ونظم ونثر، ومن شعره قوله.
[المتقارب]
تلقّ الأمور بصبر جميل ... وصدر رحيب وخل الجرج
وسلّم إلى الله في حكمه ... فإمّا الممات وإمّا الفرج
وتوفّى القاضى شهاب «4» الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب بن خلف [ابن محمود بن على «5» ] بن بدر المعروف بابن بنت الأعز العلامىّ الفقيه الشافعى(11/10)
فى يوم الخميس ثامن عشر شهر ربيع الآخر وكان فقيها بارعا فاضلا ولى نظر الأحباس بالقاهرة ووكالة بيت المال وعدّة وظائف دينيّة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله السّنانى الناصرى الأستادار وأحد أمراء المقدّمين بالقاهرة، وكان من أعيان أمراء الديار المصرية وفيه شجاعة ومروءة وكرم. تغمّده الله برحمته.
وتوفّى القاضى شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عيسى [بن عيسى «1» ] بن محمد ابن عبد الوهاب بن ذؤيب الآمدى الدمشقىّ الشافعىّ المعروف بابن قاضى شهبة- رحمه الله- كان إماما بارعا أديبا ماهرا باشر الخطابة بمدينة غزّة سنين، ثم كتب الإنشاء بدمشق وكان له نظم ونثر وخطب.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى بن محمود [بن عبد «2» اللطيف البعلبكى] المعروف بابن المجد الموسوى في سلخ صغر، وكان فقيها فاضلا إلا أنه كان غلب عليه الوسواس، حتى إنه كان في بعض الأحيان يتوضّأ من فسقية الصالحية «3» بين القصرين فلا يزال به وسواسه حتى يلقى نفسه في الماء بثيابه.
وتوفّى الفقيه الكاتب المنشئ كمال الدين أبو عبد الله محمد بن شرف الدين أحمد ابن يعقوب بن فضل بن طرخان الزينبىّ الجعفرىّ العباسىّ الدمشقىّ الشافعىّ بضواحى القاهرة. كان معدودا من الرؤساء الفضلاء الأدباء.(11/11)
وتوفّى الشيخ المعمّر المعتقد أبو العباس أحمد بن موسى الزرعىّ الحنبلىّ أحد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في المحرّم بمدينة حبراص «1» من الشأم وكان قويا فى ذات الله جريئا على الملوك والسلاطين. أبطل عدّة مكوس ومظالم كثيرة وقدم إلى القاهرة أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون وله معه أمور يطول شرحها وكان يخاطب الملوك كما يخاطب بعض الحرافيش وله على ذلك قوّة وشدّة بأس. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين برناق بن عبد الله نائب قلعة دمشق بها في شعبان وكان مشكور السّيرة في ولايته.
وتوفّى قاضى الكرك «2» محيى الدين أبو زكريّا يحيى بن عمر بن الزكىّ الشافعى- رحمه الله- فى أوائل ذى القعدة وهو معزول.
وتوفّى قتيلا صاحب فاس «3» من بلاد المغرب السلطان أبو سالم إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن على بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المرينىّ في ليلة الأربعاء ثامن عشر ذى القعدة- رحمه الله تعالى- وكان من أجلّ ملوك الغرب «4» .
وتوفّى الخواجا عزّ الدين حسين بن داود بن عبد السيّد بن علوان السّلامى التاجر فى شهر رجب بدمشق وقد حدّث وكان مثريا وخلّف مالا كبيرا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع. والله أعلم.(11/12)
[ما وقع من الحوادث سنة 763]
السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر حاجّى على مصر وهي سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العالم الخطيب شمس الدين أبو أمامة محمد بن على بن عبد الواحد بن يحيى بن عبد الرحيم الدّكّالى المصرى الشافعى الشهير بابن النقاش- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الأوّل ودفن آخر النهار بالقرب من باب البرقية «1» خارج القاهرة عن ثلاث وأربعين سنة.
وكان إماما بارعا فصيحا مفوّها وله نظم ونثر ومواعيد. وخطب بجامع أصلم «2» ودرّس به وبالآنوكيّة «3» وعمل عدّة مواعيد بالقاهرة والقدس والشأم واتّصل بالملك الناصر حسن وحظى عنده وهو الذي كان سببا لخراب بيت «4» الهرماس الذي(11/13)
كان عمّره في زيادة جامع الحاكم «1» وساعده في ذلك العلّامة قاضى القضاة سراج «2» الدين الهندىّ الحنفى وكان له نظم ونثر وخطب ومن شعره قصيدته التي أوّلها:
[الكامل]
طرقت وقد نامت عيون الحسّد ... وتوارت الرقباء غير الفرقد
وتوفّى قاضى القضاة تاج الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى علم الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران «3» السّعدى الإخنائى «4» المالكىّ- رحمه الله- بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا رئيسا ولى نظر الخزانة السلطانية ثم باشر الأحكام الشرعية إلى أن مات.
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح ثم أبو بكر ابن الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بن الحسن بن(11/14)
أبى بكر بن على بن حسن ابن الخليفة الراشد بالله منصور ابن الخليفة المسترشد بالله الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله عبيد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدى محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس العباسى الهاشمى المصرى- رحمه الله- بالقاهرة فى ليلة الأربعاء «1» ثامن عشر شهر جمادى الأولى وعهد بالخلافة لولده من بعده المتوكّل محمد.
وتوفّى الأمير سيف الدين طاز بن عبد الله الناصرىّ المقدّم ذكره في عدّة أماكن من تراجم أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو بطّال «2» بالقدس وكان من خواصّ الملك الناصر محمد ثم ترقّى بعد موته إلى أن صار مدبّر الديار المصرية.
ثم ولى نيابة حلب بعد أمور وقعت له ثم قبض عليه وحبس وسمل إلى أن أطلقه يلبغا في أوائل سلطنة الملك المنصور محمد هذا وأرسله إلى القدس بطّالا فمات به وكان من الشجعان.
وتوفّى القاضى أمين الدين محمد بن جمال الدين أحمد بن محمد بن محمد بن نصر الله المعروف بابن القلانسىّ التميمى الدّمشقى بها. كان أحد أعيان دمشق معدودا من الرؤساء، باشربها عدّة وظائف ثم ولى كتابة سرّ دمشق أخيرا، وكان فاضلا كاتبا.(11/15)
وتوفّى القاضى «1» ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم الحلبى الشافعى كاتب سرّ حلب ثم دمشق. ولد سنة سبع وسبعمائة بحلب ونشأ بها، وبرع في عدّة علوم وأذن له بالإفتاء والتدريس وولى كتابة السّرّ والإنشاء بحلب عوضا عن القاضى شهاب الدين ابن القطب وأضيف إليه قضاء العسكر بها. ثم نقل الى كتابة سرّ دمشق بعد وفاة تاج «2» الدين بن الزين خضر، وكان ساكنا محتملا مداريا كثير الإحسان إلى الفقراء. وكان يكتب خطّا حسنا، وله نظم ونثر جيّد إلى الغاية وكان مستحضرا للفقه وأصوله وقواعد أصول الدين والمعانى والبيان والهيئة والطب ومن شعره رحمه الله: [الرمل]
وكأنّ القطر في ساجى الدّجى ... لؤلؤ رصّع ثوبا أسودا
فإذا جادت «3» على الأرض غدا ... فضّة تشرق مع بعد المدى
وتوفّى الأمير سيف الدين أينبك بن عبد الله أخو الأمير بكتمر الساقى وكان من جملة أمراء الطبلخانات.
وتوفّى الأمير الطواشى صفىّ الدين جوهر الزّمرّدى بقوص في شعبان وكان من أعيان الخدّام وله رياسة ضخمة.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن مفرّج الدمشقى الحنبلى بدمشق في شهر رجب. وكان فقيها بارعا مصنّفا صنّف «كتاب الفروع «4» » وهو مفيد جدّا وغيره.(11/16)
وتوفّى الشيخ المعتقد فتح الدين يحيى بن عبد الله بن مروان [بن عبد «1» الله بن قمر] الفارقىّ الأصل الدمشقى الشافعى في شهر ربيع الأوّل بدمشق ومولده بالقاهرة فى سنة اثنتين وسبعين وستمائة- رحمه الله تعالى- وكان صالحا عالما صوفيّا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 764]
السنة الثالثة من سلطنة الملك المنصور محمد على مصر وهي سنة أربع وستين وسبعمائة وهي التي خلع فيها الملك المنصور المذكور بابن عمه الأشرف شعبان بن حسين في شعبان منها.
فيها كان الطاعون بالديار المصرية والبلاد الشامية ومات فيه خلق كثير، لكنه كان على كلّ حال أخفّ من الطاعون الأوّل «2» الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة المقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ عماد الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن «3» بن على بن عمر القرشى الإسنائى الشافعى في ثامن عشرين جمادى الآخرة ودفن خارج باب النصر من القاهرة. كان إماما عالما مفتيا مدرّسا.
وتوفّى الشيخ سراج الدين أبو حفص عمر بن شرف الدين عيسى «4» بن عمر البارينىّ الشافعى الحلبى بحلب عن ثلاث وستين سنة وكان من الفقهاء الأفاضل- رحمه الله.(11/17)
وتوفّى القاضى كمال الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى تاج الدين محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر «1» بن هبة الله بن عبد القاهر «2» بن عبد الواحد بن هبة الله ابن طاهر بن يوسف الحلبى الشهير بابن النصيبى بحلب عن تسع وستين سنة.
كان كاتبا بارعا سمع الحديث وحدث وعلّق بخطه كثيرا، وباشر كتابة الإنشاء بحلب ثم ترك ذلك كلّه ولزم العزلة إلى أن مات.
وتوفّى الصاحب تقىّ الدين سليمان بن علاء الدين علىّ بن عبد الرحيم «3» بن أبى سالم بن مراجل «4» الدّمشقى بدمشق وهو من أبناء الثمانين، وكان كاتبا رئيسا، ولى نظر الدولة بمصر، ثم ولى وزارة دمشق ونظر قلعتها وغير ذلك من الوظائف، ونقل في عدّة خدم؛ ومن إنشاده لوالده: [الطويل]
أأحبابنا شوقى إليكم مضاعف ... وذكركم عندى مع البعد وافر
وقلبى لمّا غبتم طار نحوكم ... وأعجب شىء واقع وهو طائر
وتوفّى القاضى شمس الدين عبد الله بن شرف الدين يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبى السفّاح «5» الحلبى بالقاهرة عن نيّف وخمسين سنة- رحمه الله- كان جليلا باشر كتابة الإنشاء بحلب وعدّة من الوظائف الديوانية وتنقّل في الخدم وقال في مرض موته: [الخفيف]
إن قضى الله موتتى ... وفراقى أحبّتى
فعليهم تأسّفى ... وإليهم تلفّتى
أو يكن حان مصرعى ... وتدانت منيّتى
رحم الله مسلّما ... زار قبرى وحفرتى(11/18)
وتوفّى الشيخ «1» الإمام البارع الأديب المفتن صلاح الدين أبو الصفاء خليل ابن الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله الألبكى الصّفدى الشاعر المشهور بدمشق فى ليلة الأحد عاشر شوّال. ومولده سنة ستّ وتسعين وستمائة وكان إماما بارعا كاتبا ناظما ناثرا شاعرا. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس وهو من المكثرين.
وله مصنّفات كثيرة في التاريخ والأدب والبديع وغير ذلك وتاريخه المسمّى:
«الوافى «2» بالوفيات» فى غاية الحسن وقفت عليه وانتقيته ونقلت منه أشياء كثيرة فى هذا المؤلّف وفي غيره، وله تاريخ آخر أصغر من هذا سمّاه «أعوان النصر «3» فى أعيان العصر» فى عدّة مجلدات.
وقد استوعبنا من أحواله وشعره ومكاتباته نبذة كبيرة في ترجمته في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» وتسميتى للتاريخ المذكور «والمستوفى بعد الوافى» إشارة لتاريخ الشيخ صلاح الدين هذا، لأنه سمّى تاريخه: «الوافى بالوفيات» إشارة على تاريخ ابن خلّكان أنه يوفّى بما أخلّ به ابن خلّكان، فلم يحصل له ذلك وسكت هو أيضا: عن خلائق فخشيت أنا أيضا أن أقول:
«والمستوفى على الوافى» فيقع لى كما وقع له؛ فقلت: «والمستوفى بعد الوافى» انتهى.(11/19)
قلت: وقد خرجنا عن المقصود ولنعود لترجمة الشيخ صلاح الدين ونذكر من مقطّعاته ما تعرف به طبقته بين الشعراء على سبيل الاختصار، فمن شعره بسندنا إليه: أنشدنا مسند عصره ابن «1» الفرات الحنفىّ إجازة، أنشدنا الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ إجازة. [السريع]
المقلة «2» السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادى نبال
وتقطع الطّرق على سلوتى ... حتى حسبنا في السّويدا رجال
قال- وله أيضا- رحمه الله تعالى: [الوافر]
محيّاه «3» له حسن بديع ... غدا روض الخدود به مزهّر
وعارضه رأى تلك الحواشى ... مذهّبة فزمّكها وشعّر
وله- عفا الله عنه-: [البسيط]
بسهم ألحاظه رمانى ... فذبت من هجره وبينه
إن متّ مالى سواه خصم ... فإنه قاتلى بعينه
وقال: [المتقارب]
كئوس المدام تحبّ الصّفا ... فكن لتصاويرها مبطلا
ودعها سواذج من نقشها ... فأحسن ما ذهّبت بالطّلا
وله: [الطويل]
أقول له ما كان خدّك هكذا ... ولا الصّدغ حتى سال في الشّفق الدّجى
فمن أين هذا الحسن والظّرف قال لى ... تفتّح وردى والعذار تخرّجا(11/20)
وله: [الكامل]
أنفقت كنز مدائحى في ثغره ... وجمعت فيه كلّ معنى شارد
وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزّلى في البارد
وله: [المنسرح]
أفديه ساجى الجفون حين رنا ... أصاب منّى الحشا بسهمين
أعدمنى الرشد في هواه ولا ... أفلح شئ يصاب بالعين
وله: [البسيط]
سألتم عن منام عينى ... وقد براه جفا وبين
والنوم قد غاب حين غبتم ... ولم تقع لى عليه عين
وتوفّى الأمير بدر الدين حسين المنعوت بالملك الأمجد ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون بالقلعة في ليلة السبت رابع شهر ربيع الآخر وهو آخر من بقى من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون من الذكور، وهو والد السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين. وموته قبل سلطنة ولده الأشرف بنحو خمسة شهور وأيام ولو عاش لما كان يعدل عنه يلبغا إلى غيره. وكان حسين هذا حريصا على السلطنة فلم ينلها دون إخوته على أنه كان أمثل إخوته.
وتوفّى الأمير سيف الدين بزدار الخليلىّ أمير شكار أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية بها، وكان من أعيان الأمراء؛ عرف بالشجاعة والإقدام.
وتوفّى شيخ القراءات مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن يوسف بن محمد الكفتى في نصف شعبان- رحمه الله- وكان إماما في القراءات، تصدّى للإقراء سنين وانتفع الناس به.(11/21)
وتوفّى السيد الشريف غياث الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشريف صدر الدين حمزة العراقىّ والد الشريف مرتضى- تغمده الله تعالى- وكان رئيسا فاضلا نبيلا.
وتوفّى الأمير سيف الدين جركس بن عبد الله النّوروزىّ أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة وكان من أعيان المماليك الناصرية.
وتوفّى الشيخ المعتقد مسلم السلمى «1» المقيم بجامع الفيلة «2» - رحمه الله- كان صالحا مجاهدا عابدا قائما في ذات الله تعالى وكان يجاهد بطرابلس الغرب ويقيم حاله وفقراءه من الغنائم. وله كرامات ومناقب، فمن ذلك كان عنده سبع ربّاه حتى صار بين فقرائه كالهرّ «3» يدور البيوت: فلما مات الشيخ- رحمه الله- أخذه السّبّاعون فتوحّش عندهم إلى الغاية، حتى أبادهم وعجزوا عنه.(11/22)
وتوفّى الأمير «1» سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الأحمدى الناصرىّ نائب حلب بها، وكان من خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون وترقّى من بعده حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر. ثم ولى حجوبية الحجّاب بها ثم أمير مجلس ثم ولى نيابة حلب في أوائل سلطنة الملك المنصور محمد بن المظفّر حاجىّ صاحب الترجمة، فلم تطل مدّته بحلب ومات بها، وكان من الأماثل. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الطواشى صفىّ الدين جوهر بن عبد الله اللّالا. وكان من أعيان الخدّام، وله عزّ ووجاهة.
وتوفّى خطيب دمشق جمال الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن إبراهيم بن جملة فى يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان، وكان فصيحا، مفوّها ولى خطابة دمشق سنين.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع. والله أعلم بالصواب.(11/23)
ذكر سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر.
السلطان الملك الأشرف أبو المفاخر «1» زين الدين شعبان ابن الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون. تسلطن باتفاق الأمير يلبغا العمرى وطيبغا الطويل مع الأمراء على سلطنته بعد خلع ابن عمه الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر حاجّى وهو السلطان الثانى والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية.
ولمّا اتفق الأمراء على سلطنته أحضر الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة الأربعة وأفيض عليه الخلعة الخليفتيّة السوداء بالسلطنة وجلس على تخت الملك وعمره عشر سنين في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة من غير هرج في المملكة ولا اضطراب في الرعية، بل في أقلّ من قليل وقع خلع المنصور وسلطنة الأشرف هذا وانتهى أمرهما ونزل الخليفة إلى داره وعليه التشريف ولم يعرف الناس ما وقع إلا بدقّ البشائر والمناداة باسمه وزيّنت القاهرة وتمّ أمره على أحسن الأحوال.
ومولد الأشرف هذا في سنة أربع وخمسين وسبعمائة بقلعة الجبل. واستقرّ الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى مدبّر الممالك ومعه خجداشه الأمير طيبغا الطويل أمير سلاح على عادتهما وعند ما ثبّت قواعد الملك الأشرف أرسل يلبغا بطلب الأمير على الماردينى نائب الشام إلى مصر فلمّا حضر أخلع عليه بنيابة السلطنة بديار مصر وتولّى عوضه «2» نيابة دمشق الأمير منكلى بغا الشمسى نائب حلب وتولى نيابة حلب(11/24)
عوضا عن الشمسىّ الأمير اشقتمر الماردينى وتولّى نيابة طرابلس عوضّا عن اشقتمر الأمير أزدمر الخازن نائب صفد وتولّى نيابة صفد عوضا عن أزدمر الخازن الأمير قشتمر المنصورى الذي كان نائبا بالديار المصرية لأمر وقع منه في حقّ يلبغا العمرى الأتابكى واستقرّ الأمير أرغون الأحمدى الخازندار لا لا الملك الأشرف شعبان واستقرّ الأمير يعقوب شاه السّيفى [تابع «1» ] يلبغا اليحياوى خازندارا عوضا عن أرغون الأحمدى ثم استقرّ الأمير أرنبغا الخاصّكى في نيابة غزّة عوضا عن تمان تمر العمرى بحكم وفاته. ثم ولى الأمير عمر شاه حاجب الحجاب نيابة حماة عوضا عن أيدمر الشيخى واستقر الشريف بكتمر في ولاية القاهرة عوضا عن علاء الدين علىّ بن الكورانىّ بحكم استعفائه عنها. ثم استقرّ الأمير أحمد بن القشتمرى في نيابة الكرك. ثم ورد الخبر بوقوع الوباء بمدينة حلب وأعمالها وأنه مات بها خلق كثير، والأكثر في الأطفال والشبان.
ثم نزل السلطان الملك الأشرف شعبان إلى سرياقوس «2» بعساكره على عادة الملوك.
ثم سمّر الأتابك يلبغا خادمين من خدّام السلطان الملك المنصور لكلام بلغه عنهما فشفع فيهما فخلّيا ونفيا إلى قوص «3» .
ثم في سنة خمس وسبعين «4» أنعم على الأمير طيدمر البالسىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.(11/25)
ثم أخلع على الأمير أسن قجا بنيابة ملظية «1» فى ثالث صفر واستقرّ الأمير عمر بن أرغون النائب في نيابة صفد عوضا عن قشتمر المنصورى وحضر قشتمر المذكور الى مصر على إقطاع عمر بن أرغون المذكور واستقر الأمير طينال الماردينىّ «2» نائب فلعة الجبل عوضا عن ألطنبغا الشمسى بحكم استعفائه. ثم أنعم على جماعة بإمرة طبلخاناه وهم تمربغا العمرىّ ومحمد بن قمارى أمير شكار وألطنبغا الأحمدىّ وآقبغا الصّفوىّ وأنعم أيضا على جماعة بإمرة عشرات وهم: إبراهيم «3» بن صرغتمش وأرزمك من مصطفى ومحمد بن قشتمر وآقبغا الجوهرى وطشتمر العلائىّ خازندار طيبغا الطويل وطاجار من عوض وآروس بغا الخليلىّ ورجب بن كلبك التركمانىّ.
ثم وقع الفناء في هذه السنة في البقر حتى هلك منها شئ كثير وأضرّ ذلك بحال الزرّاع.
ثم في هذه السنة فتح الأمير منكلى بغا الشمسىّ نائب الشام باب كيسان «4» ، أحد أبواب دمشق بحضور أمراء الدوله وأعيان أهل دمشق، وذلك بعد بروز المرسوم الشريف إليه بذلك وعقد عليه قنطرة كبيرة ومدّ له الى الطريق جسرا وعمّر هناك جامعا وكان هذا مغلقا من مدّة تزيد على مائتى سنة، كان سدّه الملك العادل نور الدين محمود الشهيد لأمر اقتضى ذلك، فيه مصلحة للإسلام.(11/26)
ثم رسم في هذه السنة بإبطال الوكلاء المتصرفين في أبواب القضاة. وفي هذا المعنى يقول الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب، رحمه الله تعالى: [السريع]
يقول ذو الحقّ الذي عاله ... خصم ألدّ ولسان كليل
إن صيّروا أمر وكيلى سدّى ... فحسبى الله ونعم الوكيل
ثم استقرّ الأمير يعقوب شاه أمير آخور عوضا عن الأمير جرجى الإدريسىّ بحكم انتقال جرجى إلى نيابة حلب عوضا عن إشقتمر «1» الماردينى.
ثم في سنة ست وستين وسبعمائة استقرّ الأمير قطلقتمر العلائىّ أمير جاندار فى نيابة صفد عوضا عن الأمير عمر بن أرغون النائب وحضر عمر بن أرغون إلى مصر على إقطاع قطلقتمر المذكور في سابع شهر رجب. ثم استقرّ الأمير عبد الله ابن بكتمر الحاجب أمير شكار عوضا عن الأمير ناصر الدين محمد بن ألجيبغا، واستقرّ أسندمر العلائى الحرفوش حاجبا عوضا عن عبد الله بن بكتمر المذكور.
ثم أنعم السلطان على الأمير أسندمر المظفّرى بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية في سلخ شهر رمضان. ثم أنعم على الأمير شعبان ابن الأتابك يلبغا العمرى بإمرة مائة وتقدمة ألف.
ثم استقرّ الأمير قشتمر المنصورىّ في نيابة طرابلس، واستقرّ الأمير أزدمر الخازن في نيابة صفد عوضا عن الأمير قطلقتمر العلائىّ.
ثم استقرّ الأمير ألطنبغا البشتكى في نيابة غزة عوضا «2» عن أرنبغا الكاملى بحكم وفاته.(11/27)
ثم أخلع على الأمير منجك اليوسفى باستقراره في نيابة طرسوس بعد تلك الرتّب العالية من تحكمه لمّا ولى الوزر «1» [بالديار «2» المصرية] ونيابة طرابلس والشام وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في عدة أماكن، وإنما أردنا التعريف به هنا لما تقدّم له ولما هو آت. وكانت ولاية منجك اليوسفى لنيابة طرسوس عوضا عن قمارى أمير شكار بحكم وفاته في سلخ ذى القعدة.
ثم أنعم السلطان على جماعة بإمرة طبلخاناه وهم: قطلوبغا البلبانىّ وكمشبغا «3» الحموى أحد مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ وآقبغا «4» الجوهرى أحد اليلبغاويّة أيضا وعلى جماعة بإمرة عشرات وهم: سلجوق الرومى وأروس السّيفى بشتاك وسنقر السيفى أرقطاى ثم أنعم «5» السلطان على الأمير ألجاى اليوسفى في حادى عشرين شهر رجب بإمرة جاندار.
وفي هذه السنة وهي سنة ست وستين وسبعمائة عزل قاضى «6» القضاة عزّ الدّين «7» عبد العزيز بن محمد بن جماعة نفسه من قضاء الديار المصرية في سادس عشر جمادى الأولى ونزل إليه الأتابك يلبغا بنفسه الى بيته وسأله بعوده إلى المنصب فلم يقبل ذلك وأشار على يلبغا بتولية نائبه بهاء الدين «8» أبى البقاء السّبكىّ فولى بهاء الدين قضاة الشافعية عوضه. ثم استقرّ قاضى القضاة جمال الدين محمود بن أحمد بن مسعود القونوىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق بعد موت قاضى القضاة جمال الدين يوسف ابن أحمد الكفرىّ (بفتح الكاف) .(11/28)
وفي هذه السنة أسلم الصاحب شمس الدين المقسى وكان نصرانيا يباشر في دواوين الأمراء، فلما أسلم استقرّ مستوفى المماليك السلطانية.
وفي سنة سبع وستين وسبعمائة أخذت الفرنج مدينة إسكندرية في يوم الجمعة ثالث «1» عشرين المحرّم، وخبر ذلك أنه لمّا كان يوم الجمعة المذكور طرق الفرنج مدينة الاسكندرية على حين غفلة في سبعين قطعة ومعهم صاحب قبرس وعدّة الفرنج تزيد على ثلاثين ألفا وخرجوا من البحر المالح إلى برّ الإسكندرية فخرج أهلها إليهم فتقاتلوا فقتل من المسلمين نحو أربعة آلاف نفس واقتحمت الفرنج الإسكندرية وأخذوها بالسيف واستمروا بها أربعة أيام وهم يقتلون وينهبون ويأسرون وجاء الخبر بذلك إلى الأتابك يلبغا وكان السلطان بسرياقوس «2» ، فقام من وقته ورجع إلى القلعة ورسم للعساكر بالسفر إلى الإسكندرية، وصلّى السلطان الظّهر وركب من يومه ومعه الأتابك يلبغا والعساكر الإسلامية في الحال وعدّوا النيل وجدّوا فى السّير من غير ترتيب ولا تعبية حتى وصلوا إلى الطّرّانة «3» والعساكر يتبع بعضها بعضا، فلمّا وصل السلطان إلى الطرّانة أرسل جاليشا «4» من الأمراء أمامه في خفية وهم قطلوبغا المنصورى وكوندك وخليل بن قوصون وجماعة من الطبلخانات والعشرات وغيرهم وجدّوا في السير، وبينماهم في ذلك جاء الخبر بأن العدوّ المخذول لمّا سمعوا بقدوم(11/29)
السلطان تركوا الإسكندرية وهربوا، ففرح الناس بذلك، ورسم السلطان بعمارة ما تهدّم من الإسكندرية «1» وإصلاح أسوارها وأخلع السلطان على الشريف بكتمر بنيابة الإسكندرية وأعطاه إمرة مائة وتقدمة ألف وبكتمر هذا هو أوّل نائب ولى نيابة الإسكندرية من النوّاب، وما كانت أوّلا إلا ولاية، فمن يومئذ عظم قدر نوّابها وصار نائبها يسمى ملك الأمراء ثمّ أمر يلبغا فنودى بمصر والقاهرة بأن البحّارة والنّفاطة كلّهم يحضرون إلى بيت الأتابك يلبغا للعرض والنّفقة ليسافروا فى المراكب التي تنشأ، وبدأ يلبغا في عمارة المراكب وبعث مراسيم إلى سائر البلاد الشامية والحلبية بإخراج جميع النجّار بن وكلّ من يعرف يمسك منشارا بيده، ولا يترك واحد منهم، وكلّهم يخرجون إلى جبل شغلان وهو جبل عظيم فيه أشجار كثيرة من الصّنوبر والقرو ونحو ذلك، وهذا الجبل بالقرب من مدينة أنطاكية «2» ، وأنهم يقطعون الألواح وينشرون الأخشاب للمراكب ويحملونها إلى الديار المصرية، فامتثل نائب حلب ذلك وفعل ما أمر به ووقع الشروع في عمل المراكب.
هذا، وقد ثقل على يلبغا وطاة خشداشه طيبغا الطويل فأراد أن يستبدّ بالأمر وحده وأخذ يلبغا يدبّر عليه في الباطن. ولقد حكى لى بعض من رآهما قال:
كانا ينزلان من الخدمة السلطانية معا، فتقول العامّة: يا طويل حسّك من هذا القصير! فكان طيبغا يلتفت إلى يلبغا ويقول له وهو يضحك: ما يقولون هؤلاء! فيقول يلبغا: هذا شأن العامة يثيرون الفتن. انتهى.(11/30)
واستمرّ يلبغا على ذلك إلى أن خرج طيبغا الطويل إلى الصيد بالعبّاسة «1» أرسل إليه يلبغا جماعة من مقدّمى الألوف وهم: أرغون الإسعردى الدّوادار والأمير آروس المحمودى الأستادار وأرغون الأزقى وطيبغا العلائى حاجب الحجّاب ومعهم «2» تشريف له بنيابة دمشق فساروا حتى قدموا على طيبغا الطويل وأخبروه بما وقع فلما سمع طيبغا ذلك غضب وأبى قبول الخلعة. وخامر واتّفق معه أرغون الإسعردى الدوادار وآروس المحمودىّ وهرب طيبغا العلائى وأرغون الأزقى ولحقا بالأتابك يلبغا وأعلماه بالخبر فركب يلبغا في الحال ومعه السلطان الملك الأشرف شعبان بالعساكر في صبيحة اليوم المذكور وقد ساق طيبغا الطويل من العبّاسة حتى نزل بقبّة «3» النصر خارج القاهرة ليأتيه من له عنده غرض، فوافاه يلبغا في حال وصوله بالعساكر وقاتله فاقتتلا ساعة وانكسر طيبغا الطويل بمن معه وأمسك هو وأصحابه من الأمراء وهم أرغون الإسعردى وآروس المحمودى وكوندك «4» أخو طيبغا الطويل وجركتمر السّيفى منجك وأرغون من عبد «5» الله وجمق الشّيخونى وكليم أخو طيبغا الطويل وتلك أخو بيبغا الصالحى وآقبغا العمرى البالسى وجرجى ابن كوندك «6» وأرزمك من مصطفى وطشتمر العلائى، وأرسلوا الجمع إلى سجن الإسكندرية، وأخذ يلبغا إقطاع ولدى طيبغا الطويل وهما: على وحمزة وكانا أميرى طبلخاناه.(11/31)
ثم في يوم الاثنين خامس عشرين شعبان من سنة سبع وستين وسبعمائة، باست الأمراء الأرض للسلطان ويلبغا الأتابك معهم وطلبوا من السلطان الإفراج عن الأمراء المسجونين بثغر الإسكندرية المقدّم ذكرهم، فقبل السلطان شفاعتهم، ورسم بالإفراج عن طيبغا الطويل خاصة فأفرج عنه ورسم بسفره إلى القدس بطّالا، فسافر إلى القدس وأقام به إلى ما يأتى ذكره.
ثم بعد ذلك في يوم عيد الفطر رسم السلطان بالإفراج عمن بقى في الإسكندرية من أصحاب طيبغا الطويل، فأفرج عنهم وحضروا فأخرجوا إلى الشام متفرّقين بطّالين وصفا الوقت ليلبغا العمرىّ وصار هو المتكلّم في الأمور من غير مشارك والسلطان الملك الأشرف شعبان معه آلة في السلطنة، وأنعم يلبغا بإقطاعات أصحاب طيبغا الطويل على جماعة من أصحابه، فأنعم على الأمير أرغون بن بلبك الأزقىّ بتقدمة ألف، عوضا عن قطلوبغا المنصورىّ وأنعم على طيبغا العلائى السيفىّ بزلار بتقدمة ألف، عوضا عن ملكتمر الماردينىّ بحكم وفاته، وأنعم على أينبك البدرىّ أمير آخور يلبغا العمرىّ بإمرة طبلخاناه واستقرّ أستادار أستاذه يلبغا.
ثم استقرّ الأمير إشقتمر الماردينىّ المعزول عن نيابة حلب قبل تاريخه فى نيابة طرابلس، عوضا عن قشتمر المنصورىّ، وطلب قشتمر المذكور إلى مصر.
ثم استقرّ الأمير طيدمر البالسى أمير سلاح عوضا عن طيبغا الطويل في سابع جمادى الأولى. ثم استقرّ طيبغا الأبوبكريّ دوادارا كبيرا بإمرة طبلخاناه عوضا عن الإسعردى، فأقام دوادارا إلى حادى عشرين شعبان عزل بأمير بيبغا دوادار أمير على الماردينى بإمرة طبلخاناه أيضا.(11/32)
ثم استقرّ الأمير أرغون ططر رأس نوبة النّوب عوضا عن ملكتمر العمرى الماردينى في آخر جمادى الآخرة، واستقرّ أرغون الأزقى أستادارا عوضا عن آروس المحمودى واستقرّ يعقوب «1» شاه أمير آخور مقدّم ألف وحاجبا ثانيا عوضا عن قطلوبغا المنصورى واستقرّ طقتمر الحسنى أمير آخور كبيرا عوضا عن يعقوب شاه المنتقل إلى الحجوبية الثانية واستقرّ قطلو شاه الشّعبانى أمير طبلخاناه وشادّ الشراب خاناه عوضا عن أرغون بن عبد الملك واستقرّ تمرقبا العمرى جوكندارا عوضا عن جركتمر السّيفى منجك وأنعم على آقبغا الأحمدى المعروف بالجلب بتقدمة ألف وعلى أسندمر الناصرى بتقدمة ألف أيضا، وكلاهما بالديار المصرية واستقرّ حسين [ابن على «2» ] بن الكورانى في ولاية القاهرة وهذه أوّل ولايته.
ثم فرّق على جماعة كبيرة بإمرة طبلخانات وهم: طغيتمر العثمانى وآقبغا الجوهرى وفجماس السيفى طاز وألطنبغا العزى وأرغون «3» كتك العزى وقراتمر المحمدى، الشهابى هذا قراتمر، رأيته وقد شاخ وكان بطّالا يسكن بالقرب «4» من الكبش «5» بعد سنة عشرين وثمانمائة. انتهى. وآروس بغا الكاملى «6» وطاجار من عوض وآقبغا اليوسفى وألطنبغا الماردينى. وهو غير صاحب «7» الجامع، ذاك متقدّم على هذا ورسلان الشيخونى «8» واستقرّ حاجبا بإسكندرية على إمرة(11/33)
طبلخاناه وعلىّ بن قشتمر المنصورى وسودون القطلقتمرى وقطلوبغا الشعبانى «1» ومحمّد المهندس التّركمانى «2» وعلى جماعة بعشرات، وهم: تنبك الأزقى وأرغون الأحمدى وطيبغا «3» السيفى يلبغا وأرغون الأرغونى وسودون الشيخونى، وهو الذي صار نائب السلطنة في دولة الملك الظاهر برقوق كما سيأتى ذكره.
وأزدمر العزى أبو ذقن ويونس العمرى ودرت بغا البالسى وقرابغا الصّرغتمشى وطاز «4» الحسينى وقرقماس «5» الصرغتمشى وطيبغا العلائى وقمارى الجمالى.
ثم في هذه السنة أبطل يلبغا المكوس من مكة والمدينة ورتّب عوض ذلك من بيت المال مائتى ألف وستين ألفا.
ثم في سنة ثمان وستين طلب السلطان الأمير منكلى بغا الشمسى نائب الشام إلى الديار المصرية فلما حضره أكرمه وأخلع عليه بنيابة حلب عوضا عن جرجى الإدريسى لعجزه عن القيام بمصالح حلب مع التّركمان، فامتنع منكلى بغا من نيابة حلب كونه نائب دمشق، ثم ينتقل منها إلى نيابة حلب، فأضيف اليه أربعة آلاف نفر «6» من عسكر دمشق لتكون منزلته أكبر من منزلة نائب دمشق؛ فأذعن عند ذلك ولبس الخلعة وتوجه إلى حلب وتولّى نيابة دمشق عوضه الأمير آقتمر عبد الغنى حاجب الحجّاب بالديار المصرية وتولّى عوضه حجوبيّة الحجّاب طيبغا العلائى. وأما جرجى الإدريسى المعزول عن نيابة حلب فإنه ولى نيابة طرابلس بعد عزل منجك اليوسفى عنها.(11/34)
وفي ثامن عشر شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وستين المذكورة استقرّ أرغون الأزقى الأستادار في نيابة غزّة عوضا عن ألطنبغا البشتكى. وفي الشهر أيضا استقرّ آقبغا الأحمدى المعروف بالجلب لالا السلطان الملك الأشرف عوضا عن أرغون الأحمدى بحكم نفيه إلى الشام لأمر اقتضى ذلك ونفى معه تمربغا العمرى.
ثم في آخر الشهر المذكور أمسك الأتابك يلبغا الأمير الطواشى سابق الدين مثقالا الآنوكى مقدّم المماليك السلطانية وضربه داخل القصر بقلعة «1» الجبل ستمائة عصاة ونفاه إلى «2» أسوان، وسببه ظهور كذبه له وولّى مكانه مختار الدّمنهورى المعروف بشاذروان، وكان مقدّم الأوجاقية بباب «3» السّلسلة، كلّ ذلك والعمل في المراكب مستمرّ إلى أن كملت عمارة المراكب من الغربان «4» والطّرائد لحمل الغزاة والخيول وكانوا نحو مائة غراب وطريدة، عمّرت في أقلّ من سنة مع عدم الأخشاب والأصناف يوم ذاك.
وبينما الناس في ذلك قتل يلبغا العمرى بيد مماليكه في واقعة كانت بينهم؛ وخبر ذلك أنه لمّا كان في مستهل شهر ربيع الآخر نزل السلطان من قلعة الجبل وعدّى إلى برّ الجيزة ليتوجه إلى الصّيد بالبحيرة بعد أن ألزم الأمراء أن يجعلوا- فى الشّهوانى التي نجز عملها برسم الغزاة- العدد والسلاح والرجال على هيئة القتال(11/35)
لينظر السلطان والناس ذلك، فامتثلوا الأمراء المرسوم الشريف وأشحنوا المراكب بالعدد والسلاح والرجال الملبسة وضربوا الطّبلخاناه بها وصارت في أبهى زىّ ولعبوا بها في البحر قدّام السلطان والأتابك يلبغا وخرج الناس للتفرّج من كلّ فجّ، وكان يوم من الأيام المشهودة الذي لم ير مثله في سالف الأعصار.
ثم سار السلطان والأتابك ويلبغا بالعساكر من برّ الجيزة يريدون البحيرة «1» حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادس شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وستين وسبعمائة بالطرّانة «2» وباتوا بها وكانت مماليك يلبغا قد نفرت قلوبهم منه لكثرة ظلمه وعسفه وتنوعه في العذاب لهم على أدنى جرم، حتى إنه كان إذا غضب على مملوك ربما قطع لسانه فاتّفق جماعة من مماليك يلبغا تلك الليلة على قتله من غير أن يعلموا الملك الأشرف هذا بشىء من ذلك، وركبوا عليه نصف الليل، ورءوسهم من الأمراء: آقبغا الأحمدى الجلب وأسندمر الناصرى وقجماس الطازى وتغرى برمش العلائى وآقبغا جاركس أمير سلاح وقرابغا الصّرغتمشى في جماعة من أعيان اليلبغاويّة ولبسوا آلة الحرب وكبسوا في الليل على يلبغا بخيمته بغتة وأرادوا قتله، فأحسّ بهم قبل وصولهم إليه، فركب فرس النّوبة بخواصّه من مماليكه وهرب تحت الليل وعدّى النيل إلى القاهرة ومنع سائر المراكب أن يعدّوا بأحد واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجب الحجاب وأينبك البدرى أمير آخور وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمّا مماليك يلبغا فإنهم لمّا علموا بأن أستاذهم نجا بنفسه وهرب، اشتدّ تخوّفهم من أنه إذا ظفر بهم بعد ذلك لا يبقى منهم أحدا، فاجتمعوا الجميع بمن انضاف إليهم من الأمراء وغيرهم وجاءوا إلى الملك الأشرف(11/36)
شعبان- تغمّده الله برحمته- وهو بمخيّمه أيضا بمنزله بالطّرّانة وكلّموه في موافقنهم على قتال يلبغا فامتنع قليلا ثم أجاب لما في نفسه من الحزازة من حجر يلبغا عليه، وعدم تصرّفه في المملكة، وركب بمماليكه وخاصّكيته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائق من مماليك يلبغا وعساكر مصر وساروا حتى وصلوا إلى ساحل النيل ببولاق التّكرورى تجاه بولاق والجزيرة الوسطى «1» ، فأقام الملك الأشرف ببولاق التّكرورى «2» يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة فلم يجدوا مراكب يعدّون فيها.
وأما يلبغا فإنه لمّا علم أنّ الملك الأشرف طاوع مماليكه وقرّبهم أنزل من قلعة الجبل سيّدى آنوك ابن الملك الأمجد حسين أخى الملك الأشرف شعبان وسلطنه ولقّبه بالملك المنصور وذلك بمخيّمه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة «3» الوسطانية، تجاه بولاق التّكرورى حيث الملك الأشرف نازل بمماليك يلبغا بالبرّ الشرقىّ؛ والأشرف بالبر الغربى، فسمّته العوامّ سلطان الجزيرة.
ثم في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامىّ والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصيّدان بالعباسة «4» وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقوى أمره بهما وعدّى إليه أيضا جماعة من عند الملك الأشرف وهم الأمير قرابغا البدرى والأمير يعقوب شاه والأمير بيبغا العلائى الدّوادار والأمير خليل بن قوصون وجماعة من(11/37)
مماليك يلبغا الذين أمّرهم: مثل آقبغا الجوهرى وكمشبغا الحموى ويلبغا شقير فى آخرين واسمرّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التّكرورى، إلى أن حضر إلى الأشرف شخص يعرف [بمحمد] ابن «1» بنت لبطة رئيس [شوانى] السلطان وجهّز للسلطان من الغربان «2» التى عمزها برسم الغزاة نحو ثلاثين غرابا برجالها وكسّر بروقها، وجعلها مثل الفلاة لأجل التّعدية، قنزل فيها جماعة من الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعدوا فيها إلى الجزيرة فرمى عليهم يلبغا بمكاحل النّفط وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسّهام فيردّونهم على أعقابهم وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضا النفط والنّشّاب، والأشرفية لا يلتفتون الى ذلك، بل يزيدون فى سبّ يلبغا ولعنه وقتاله، وأقاموا على ذلك الى عصر يوم السبت وقد قوى أمر الملك الأشرف وضعف أمر يلبغا.
ثم اتّفق رأى عساكر الملك الأشرف على تعدية الملك الأشرف من الورّاق «3» ، فعدّى وقت العصر من الورّاق الى جزيرة «4» الفيل وتتابعته عساكره، فلما صاروا(11/38)
الجميع في برّ القاهرة وبلغ ذلك يلبغا هرب الأمراء الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاءوا إلى الملك الأشرف وقبّلوا الأرض بين يديه، فلمّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوق الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبق معه غير طيبغا حاجب الحجاب الذي كان أوّلا أستاداره فوقف يلبغا ساعة ورأى أمره في إدبار، فنزل عن فرسه بسوق «1» الخيل تجاه باب الميدان وصلّى العصر وحلّ سيفه وأعطاه للأمير طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصد بيته بالكبش «2» فرجمته العوامّ من رأس سويقة «3» منعم الى أن وصل حيث اتّجه وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعة الجبل في آخر نهار السبت المذكور، وأرسل جماعة من الأمراء إلى يلبغا فأخذوه من بيته ومعه طيبغا الحاجب وطلعوا به إلى القلعة، بعد المغرب فسجن بها إلى بعد عشاء الآخرة من اليوم المذكور فلمّا أذّن للعشاء جاء جماعة من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعة فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فرسا ليركبه، فلما أراد الركوب ضربه مملوك من مماليكه يسمّى(11/39)
قراتمر فأرمى رأسه ثم نزلوا عليه بالسيوف حتى هبّروه تهبيرا وأخذوا رأسه وجعلوها فى مشعل [النار «1» ] إلى أن انقطع الدم فلمّا رآه بعضهم أنكره وقال: أخفيتموه وهذه رأس غيره فرفعوه من المشعل ومسحوه ليعرفوه أنه رأس يلبغا بسلعة كانت خلف أذنه فعند ذلك تحقّق كلّ أحد بقتله، وأخذوا جثته فغيبوها بين العروستين «2» ، فجاء الأمير ظشتمر الدوادار فأخذ الرأس منهم في الليل واستقصى على الجثّة حتى أخذها وحطّ الرأس على الجثّة وغسّلها وكفّنها وصلّى عليه في الليل ودفنه بتربته «3» التى أنشأها بالصحراء بالقرب من تربة «4» خوند طغاى أمّ آنوك زوجة الناصر محمد ابن قلاوون. وفيه يقول بعض الشعراء [مخلع البسيط] :
بدا شقا يلبغا وعدّت ... عداه في سفنه إليه
والكبش لم يفده وأضحت ... تنوح غربانه عليه
قلت: لا جرم أنّ الله سبحابه وتعالى عامل يلبغا هذا من جنس فعله بأستاذه الملك الناصر حسن فسلّط عليه مماليكه فقتلوه كما قتل هو أستاذه الناصر حسنا، فالقصاص قريب والجزاء من جنس العمل.
ولما أصبح نهار الأحد عاشر شهر ربيع الآخر وهو صبيحة ليلة قتل فيها يلبغا العمرىّ الخاصّكى المقدّم ذكره طلع جميع الأمراء إلى القلعة واستقرّ الأمير طغيتمر النّظامىّ هو المتحدّث في حلّ المملكة وعقدها ومعه آقبغا جلب الأحمدىّ وأسندمر(11/40)
الناصرىّ وقجماس الطازىّ وقبضوا من الأمراء على تمربغا «1» البدرىّ ويعقوب شاه وبيبغا العلائىّ الدوادار وقيّدوا وأرسلوا عشيّة النهار إلى الإسكندرية ورسم للامير خليل بن قوصون أن يلزم بيته بطالا.
وفي يوم الاثنين حادى عشرة استقرّ قشتمر المنصورىّ حاجب الحجاب عوضا عن طيبغا العلائىّ واستقرّ أيدمر الشامىّ دودارا بإمرة مائة وتقدمة ألف وناظر الأحباس ولم يعلم قبله دوادار أمير مائة ومقدّم ألف. ثم قبض على جماعة من الأمراء وهم: أزدمر العزّىّ وآقبغا الجوهرىّ وأرغون كتك العزّىّ أيضا وأرغون الأرغونىّ ويونس الرمّاح العمرىّ وكمشبغا الحموىّ وأرسلوا الجميع في القيود إلى ثغر الإسكندرية فحبسوا «2» بها. ثم استقرّ طيدمر البالسىّ أستادار العالية ثم أخلع على قجماس الطازىّ واستقرّ أمير سلاح عوضا عن طيدمر البالسىّ المنتقل إلى الأستادارية وأنعم على قرابغا الصّرغتمشىّ بتقدمة ألف دفعة واحدة من إمرة عشرة.
ثم في العشرين من الشهر استقرّ أسنبغا القوصونىّ لالا السلطان، عوضا عن آقبغا جلب «3» واستقرّ قراتمر المحمدىّ خازندارا، عوضا عن تلكتمر المحمدىّ وحضر سابق الدين مثقال [الآنوكى «4» ] من قوص بطلب من السلطان وقبل الأرض ونزل إلى داره. وفى [يوم الخميس «5» ] ثانى [عشر «6» ] جمادى الأولى قبض على فخر الدين ماجد بن قروينة وسلّم لقرابغا [الصّرغتمشى «7» ] ليستخلص منه الأموال، واستقرّ عوضه في الوزارة الصاحب جمال الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبى شاكر وأضيف إليه نظر الخاصّ أيضا وكان أوّلا صاحب ديوان يلبغا.(11/41)
وفي سادس عشر جمادى الأولى أعيد [الطواشى «1» ] سابق الدين مثقال إلى تقدمة المماليك السلطانية وصرف الدّمنهورىّ المعروف بشاذروان.
فى يوم الخميس سادس عشر شهر رجب قبض على قرابغا الصرغتمشىّ وعند ما قبض على قرابغا المذكور ركب الأمير تغرى برمش بالسلاح ومعه عدّة من الأمراء والخاصّكية فرسم السلطان بركوب الأمراء والخاصّكية فركبوا في الحال وقبضوا عليه وأمسكوا معه الأمير أينبك البدرىّ وإسحاق الرّجبىّ وقرابغا العزّى، ومقبل الرومىّ وأرسلوا إلى الإسكندرية. ثمّ أنعم السلطان على كلّ من قطلوبغا جركس وأقطاى بتقدمة ألف.
ومن هذا الوقت أخذ أسندمر الناصرىّ في التعاظم وانضمام الناس عليه فاتّفق جماعة من الأمراء العزّية مع طغيتمر النظامىّ وآقبغا جلب على قبض أسندمر ودبّروا عليه إلى أن كانت ليلة الأحد سابع شهر شوّال من سنة ثمان وستين المذكورة ركبوا نصف الليل وضربوا الكوسات وأنزلوا الملك الأشرف إلى الإصطبل السلطانىّ وقصدوا مسك أسندمر الناصرىّ وبعض مماليك يلبغا العمرىّ الأشرار وبلغ ذلك أسندمر، فمكث في بيته إلى طلوع الشمس. ثمّ ركب من بيته بالكبش «2» فإنّه كان سكن فيه بعد قتل بلبغا وتوجّه بمن معه إلى قبّة «3» النّصر ومنها إلى(11/42)
القرافة إلى باب الدّرفيل «1» من وراء القلعة، فلم يفطن به الأمراء إلّا وهو تحت الطبلخاناه السلطانية من القلعة وكبس عليهم من الصّوة «2» فهرب أكثر الأمراء وكان غالبهم قد استخدم عنده جماعة من مماليك يلبغا فلما رأى مماليك يلبغا أسندمر ومن(11/43)
معه من خشداشيتهم توجّهوا إليهم وتركوا أمراءهم. ثمّ خرج إلى أسندمر آقبغا جلب وطردوا الحاجب ابن أخى آل ملك فقوى أسندمر بهم على الأمراء وصدمهم صدمة هائلة كسرهم فيها كسرة شنيعة وهربوا الجميع إلّا ألجاى اليوسفىّ وأرغون ططر فإنهما ثبتا وقاتلا أسندمر وليس معهما غير سبعين فارسا، فقاتلوا أسندمر وجماعته إلى قريب الظهر، فلم يرجع إليهما أحد من أصحابهما فانكسرا وانتصر أسندمر الناصرىّ عليهم وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض بين يدى الملك الأشرف شعبان فأخلع عليه الأشرف باستقراره أتابكا ومدبّر المماليك كما كان يلبغا العمرىّ الخاصّكى.
ثم قبض أسندمر على جماعة من الأمراء وقيّدهم وأرسلوا إلى ثغر الإسكندرية فحبسوا بها وهم: ألجاى اليوسفىّ وطغيتمر النظامىّ وأيدمر الشامى وآقبغا جلب وقطلوبغا جركس وأقطاى وأرغون ططر وقجماس الطازىّ وجميع هؤلاء مقدّمو ألوف.
ثم قبض على جماعة من الأمراء الطبلخانات وهم: طاجار من عوض ويلبغا شقير وقرابغا شادّ الأحواش وقرابغا الأحمدىّ وقطلوبغا الشعبانىّ وأيدمر الخطائىّ وتمراز الطازىّ وآسن الناصرىّ وقراتمر المحمدىّ.
ثم أصبح أسندمر في يوم حادى عشر شوّال أنعم على جماعة من الأمراء واستقرّوا مقدّمى ألوف بالديار المصرية وأصحاب وظائف، فأخلع على أزدمر العزّىّ واستقرّ أمير مائة ومقدم ألف وأمير سلاح واستقرّ جركتمر السيفىّ منجك أمير مائة ومقدّم ألف وأمير مجلس واستقرّ ألطنبغا اليلبغاوىّ رأس نوبة النّوب من امرأة عشرة دفعة واحدة واستقرّ قطلقتمر العلائى أمير جاندار واستقرّ سلطان شاه أمير مائة ومقدّم ألف وحاجبا ثانيا واستقرّ بيرم العزّىّ دوادارا بتقدمة ألف وكان جنديّا قبل ذلك، فانعم عليه بإقطاع طغيتمر النظامىّ ووظيفته وجميع(11/44)
موجوده ومماليكه وحواصله وأنعم على خليل بن قوصون بتقدمة ألف وعلى قبق العزّىّ بتقدمة ألف وعلى أرغون القشتمرى بتقدمة ألف وعلى محمد بن طيطق «1» العلائىّ بتقدمة ألف.
ثم أنعم على جماعة بإمرة طبلخاناه وهم: بزلار العمرىّ وأرغون المحمدىّ الآنوكىّ الخازن وأرغون الأرغونىّ ومحمد بن طقبغا الماجارى وباكيش السيفىّ يلبغا وآقبغا آص الشّيخونىّ وسودون الشيخونىّ وجلبان السّعدىّ وكبك الصّرغتمشى وإينال اليوسفىّ وكمشبغا الطازىّ وبكتمر العلمىّ وقمارى الجمالى وأرسلان خحا ومبارك الطازىّ وتلكتمر «2» الكشلاوىّ وأسنبغا العزىّ وقطلوبغا الحموى «3» ومأمور القلمطاوىّ.
ثم أنعم على جماعة بإمرة عشرات وهم: كزك «4» الأرغونى وألطنبغا المحمودى وقرأبغا الأحمدى، وهذا غير قرابغا الأحمدى الجلب وحاجىّ ملك بن شادى وعلى بن باكيش «5» ورجب بن خضر وطيطق الرمّاح. ثم خلع على جماعة واستقرّت جوكندارية وهم: مبارك الطازى المقدّم ذكره وقرمش الصرغتمشى وإينال اليوسفى وأخلع على ملكتمر «6» المحمدى واستقرّ خازندارا على عادته وبهادر الجمالى شادّ الدواوين، عوضا عن خليل بن عرّام بحكم انتقال ابن عرام إلى نيابة الإسكندرية واستقرّ أسندمر الزين في نيابة طرابلس، عوضا عن اشقتمر الماردينى وأمسك اشقتمر وحبس(11/45)
بالإسكندرية واستقر طيبغا الطويل الناصرى رفيق يلبغا العمرى الخاصكى المقدّم ذكره فى نيابة حماة وكان بطّالا بالقدس في تاسع صفر، فلم تطل مدّته وقبض عليه منها في ذى القعدة واعتقل بالإسكندرية ثانيا، وتولّى نيابة حماة عمر شاه على عادته واستقرّ بيبغا القوصونى أمير آخور كبيرا، عوضا عن آقبغا الصّفوى بحكم وفاته، وأرسل الى الأمير منكلى بغا الشمسى نائب حلب خلعة الاستمرار.
وقد كمل جامع «1» منكلى بغا الذي أنشاه بحلب في هذه السنة بقنسرين.
واستهلت سنة تسع وستين والملك الأشرف شعبان كالمحجور عليه مع أسندمر، غير أن اسمه السلطان، وخليفة الوقت المتوكّل على الله وأسندمر الناصرى أمير كبير أتابك العساكر ومدبّر المملكة ونائب السلطنة مع أمير علىّ الماردينى آلة يتعاطى الأحكام لا غير، ونائب دمشق آقتمر عبد الغنىّ ونائب حلب منكلى بغا الشمسىّ وهو يومئذ يخشى شرّه ونائب طرابلس منجك اليوسفىّ ونائب حماة عمر(11/46)
شاه صاحب القنطرة «1» على الخليج خارج القاهرة ونائب صفد أرغون الأزقى واستمرّ الأتابك أسندمر على ما هو عليه الى يوم الجمعة سادس صفر اتّفقت عليه مماليك يلبغا الأجلاب وركبوا معهم الأمراء وقت صلاة الجمعة ودخلوا على أسندمر الناصرىّ وسألوه أن يمسك جماعة من الأمراء، فمسك أزدمر العزّىّ أمير سلاح وحركتمر المنجكىّ أمير مجلس وبيرم العزّىّ الدوادار الكبير وبيبغا القوصونىّ والأمير آخور كبك الصرغتمشى الجوكندار واستمرّت المماليك لابسين السلاح، وأصبحوا يوم السبت ومسكوا خليل بن قوصون ثم أطلقوه وانكسرت الفتنة الى عشيّة النهار وهي ليلة الأحد وقالوا لأسندمر: نريد عزل الملك الأشرف، وكان أسندمر مفهورا معهم وبلغ الخبر الملك الأشرف، فأرسل في الحال إلى [خليل «2» ] ابن قوصون فحضر وركب الملك الأشرف وركب ابن قوصون ومماليك الأشرف الجميع مع أستاذهم، وكانوا نحو المائتين لا غير، وكان الذين اجتمعوا من مماليك يلبغا فوق الألف وخمسمائة وركب مع الملك الأشرف جماعة «3» من الأمراء الكبار مثل أسنبغا ابن الأبوبكريّ وقشتمر المنصورى في آخرين وضربت الكوسات واجتمع على السلطان خلق كثير من العوامّ، ولمّا بلغ أسندمر الناصرىّ ركوب الملك الأشرف أخذ جماعة من مماليك يلبغا وطلع من خلف القلعة كما فعل أوّلا في واقعة آقبغا الجلب وتقدّمت مماليك يلبغا وصدموا المماليك الأشرفية وتقاتلوا، وبينما هم في ذلك جاء أسندمر بمن معه من تحت الطبلخاناه كما فعل تلك المرة، فعلم به الأشرفية والأمراء فمالوا عليه فكسروه أقبح كسرة وهرب أسندمر، ثم أمسك وتمزقت المماليك اليلبغاوية، فلما جىء للأشرف بأسندمر وحضر بين يديه شفعت فيه الأمراء(11/47)
الكبار، فأطلقه السلطان ورسم له أن يكون أتابكا على عادته ورسم له بالنزول الى بيته بالكبش «1» ورسم للأمير خليل بن قوصون أن يكون شريكه في الأتابكيّة، فنزل أسندمر الى بيته ليلة الاثنين وأرسل السلطان معه الأمير خليل بن قوصون صفة الترسيم وهو شريكه في وظيفة الأتابكيّة ليحضره في بكرة نهار الاثنين، فلمّا نزلا الى الكبش تحالفا وخامرا ثانيا على السلطان واجتمع عند أسندمر وخليل بن قوصون في تلك الليلة جماعة كبيرة من مماليك يلبغا وصاروا مع أسندمر كما كانوا أوّلا وأصبحا يوم الاثنين وركبا الى سوق الخيل «2» ، فركب السلطان بمن معه من الأمراء.
والمماليك الأشرفية وغيرهم فالتقوا معهم وقاتلوهم وكسروهم وقتلوا جماعة كبيرة من مماليك يلبغا وهرب أسندمر وابن قوصون واشتغل مماليك السلطان والعوامّ بمسك مماليك يلبغا، يمسكونهم ويحضرونهم عرايا مكشّفى الرءوس وتوجّه فرقة من السلطانية الى أسندمر وابن قوصون فقبضوا عليهما وعلى ألطنبغا اليلبغاوىّ وجماعة أخر من الأمراء اليلبغاوية فقيّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية.
وفي هذه الواقعة يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطّار: [البسيط]
هلال شعبان جهرا لاح في صفر ... بالنصر حتى أرى عيدا بشعبان
وأهل كبش كأهل الفيل قد أخذوا ... رغما وما انتطحت في الكبش شاتان
ثم جلس الملك الأشرف شعبان في الإيوان وبين يديه أكابر الأمراء، ورسم بتسمير جماعة من مماليك يلبغا نحو المائة وتوسيطهم، ونفى جماعة منهم الى الشام وأخذ مال أسندمر وأنفق على مماليكه لكل واحد مائة دينار، ولكل واحد من غير مماليكه خمسون دينارا، ورسم للامير يلبغا المنصورى باستقراره أتابك العساكر هو(11/48)
والأمير ملكتمر الخازندار، وأنعم على كل منهما بتقدمة ألف وأنعم على تلكتمر بن بركة بتقدمة ألف عوضا عن خليل بن قوصون، وكان ذلك في سادس عشر صفر.
ثم أصبح السلطان من الغد في يوم الثلاثاء «1» سابع عشر صفر قبض على يلبغا المنصورىّ المذكور ورفيقه تلكتمر المحمدىّ لأنهما أرادا الإفراج عن مماليك يلبغا وقصد يلبغا المنصورىّ أن يسكن بالكبش فمسكهما الملك الأشرف وأرسلهما إلى الإسكندرية. ثم أرسل السلطان بطلب الأمير منكلى بغا الشمسىّ نائب حلب إلى الديار المصرية، فحضرها بعد مدّة وأخلع عليه السلطان خلعة النيابة بديار مصر، فأبى أن يكون نائبا، فأنعم عليه بتقدمة ألف وجعله أتابك العساكر وتولى نيابة حلب عوضه طيبغا الطويل، وكان أخرجه من سجن الإسكندرية قبل ذلك.
ثم زوّج السلطان أخته «2» للأمير منكلى بغا الشمسى المذكور فتزوجها وأولدها بنتا «3» تزوّجها الملك الظاهر برقوق وعاشت بعد الملك الظاهر الى أن ماتت في سنة ثلاث وثلاثين بقاعتها بخطّ «4» الكعكيين من القاهرة، ثم رسم الملك الأشرف أن يفرج عن طغيتمر النظامى وأيدمر الخطائى وألجاى اليوسفى وكانوا محبوسين بالإسكندرية فحضروا إلى بين يدى السلطان وقبّلوا الأرض بين يديه وخلع على(11/49)
بكتمر المؤمنى واستقرّ أمير آخور كبيرا بتقدمة ألف وهو صاحب المصلّاة «1» والسبيل بالرّميلة ثم رسم السلطان بإحضار الأمير آقتمر عبد الغنى. فلما وصل آقتمر إلى مصر أخلع عليه السلطان باستقراره حاجب الحجّاب بالديار المصرية، وكان آقتمر هذا قد ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية، قبل نيابة الشام وتولى نيابة دمشق بعده بيدمر الخوارزمىّ قليلا، ثم عزل واستقرّ عوضه في نيابة دمشق منجك اليوسفى نائب طرابلس واستقرّ في نيابة طرابلس بعد منجك أيدمر الآنوكى.(11/50)
ثم أخلع السلطان على الأمير الأكز الكشلاوىّ باستقراره شادّ الدواوين، عوضا عن بهادر الجمالى. ثم أفرج عن الأمير أرغون ططر وأخلع عليه واستقرّ أمير شكار بتقدمة ألف. ثم رسم باحضار قطلوبغا الشعبانى من الشام فحضر بعد مدّة.
[ثم في ثامن «1» عشر جمادى الآخرة استقرّ الأمير آقتمر الصاحبى دوادارا عوضا عن آقبغا بن عبد الله بإمرة طبلخاناة واستقرّ طغيتمر العثمانى شادّ الشراب خاناه واستقرّ بشتك العمرى رأس نوبة ثانيا] .
ثم أخلع الملك الأشرف في تاسع عشرين شهر رمضان على الأمير أرغون الأزقى باستقراره رأس نوبة كبيرا عوضا عن تلكتمر بن بركة واستقرّ تلكتمر المذكور أمير مجلس عوضا عن طغيتمر النظامى.
ثم استقرّ الأمير ألجاى اليوسفى أمير سلاح برانيّا عوضا عن أزدمر العزّى.
واستقرّ آقبغا بن عبد الله دوادارا كبيرا بإمرة طبلخاناه. ثم استقرّ الأكز أستادارا عوضا عن ألطنبغا بحكم وفاته.
وفي سابع شوّال استقرّ الأمير عمر بن أرغون النائب في نيابة الكرك، عوضا عن ابن القشمرى واستقرّ طيدمر البالسىّ في نيابة الإسكندرية، عوضا عن صلاح الدين خليل بن غرّام واستقرّ خليل بن عرّام حاجبا بثغر الإسكندرية. ثم استقرّ أيدمر الشيخى في نيابة حماة عوضا عن عمر شاه، وأخلع على شمس الدين ابن المقسىّ باستقراره ناظر الخواص الشريفة بالقاهرة عوضا عن ابن أبى شاكر(11/51)
فى ثالث عشر ذى القعدة. واستقرّ العلامة سراج «1» الدين عمر بن إسحاق الغزنوىّ الهندىّ الحنفىّ قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية، بعد موت قاضى القضاة جمال «2» الدين التّركمانى واستقرّ الشيخ سراج عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكنانى «3» البلقينى الشافعى في قضاء دمشق عوضا عن قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب السّبكىّ، فلم تطل مدّة البلقينى في قضاء دمشق وعزل وأعيد تاج الدين السّبكى واستقرّ القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله العمرى في كتابة السر بالديار المصرية بعد وفاة والده واستقرّ فتح «4» الدين محمد بن الشهيد في كتابة سرّ دمشق عوضا عن جمال الدين «5» بن الأثير.
ثم وقع الوباء بالديار المصرية حتى بلغت عدّة الموتى في اليوم أكثر من ألف نفس وأقام نحو الأربعة أشهر وارتفع.
وفي هذه السنة أيضا وهي سنة تسع وستين وسبعمائة قصدت الفرنج مدينة طرابلس الشام في مائة وثلاثين مركبا من الشوانى والقراقير «6» والغربان والطرائد وصحبتهم صاحب قبرس وهو المقدّم ذكره عليهم وكان نائبها وأكثر عسكرها غائبين(11/52)
عنها، فاغتنمت الفرنج الفرصة وخرجوا من مراكبهم إلى الساحل فخرج لهم من طرابلس بقية عسكرها بجماعة من المسلمين فتراموا بالنّبال ثم اقتتلوا أشدّ قتال وتقهقر المسلمون ودخل المدينة طائفة من الفرنج فنهبوا بعض الأسواق. ثم إن المسلمين تلاحقوا وحصل بينهم وبين الفرنج، وقائع عديدة استشهد فيها من المسلمين نحو أربعين نفرا وقتل من الفرنج نحو الألف وألقى الله تعالى الرّعب في قلوب الفرنج فرجعوا خائبين.
وفي هذه السنة قوى أمر الملك الأشرف في السلطنة وصار تدبير ملكه إليه يعزل ويولّى من غير مشورة الأمراء وصار في الملك من غير منازع ولا معاند وحسنت سيرته وحبّته الرعية إلى الغاية وصار يقصد المقاصد الجميلة مما سيأتى ذكره.
ثم في أوّل جمادى الآخرة عزل الأشرف أسنبغا بن الأبوبكريّ عن نيابة حلب بالأمير قشتمر المنصورىّ. ثم قبض السلطان على أرغون العجمىّ الساقى أحد المماليك السلطانية بسبب أنه سرق أحجارا مثمّنة من الخزانة السلطانية وباعها على الفرنج، وفيها حجر يعرف بوجه الفرس فجاء به الفرنج الى منجك اليوسفى نائب الشام فعرفه وأرسله الى السلطان وأخبره بخبر أرغون العجمىّ وكيف باعه للفرنج فصفح السلطان عنه ونفاه الى الشام.
ثم في يوم السبت العشرين من شهر رمضان نفى السلطان الأمير آقتمر الصاحبىّ الدوادار الكبير إلى الشام لأمر وقع بينه وبين الأمير ألجاى اليوسفىّ.
وفي تاسع عشر ذى القعدة أحضر الأمير بيدمر الخوارزمى المعزول عن نيابة الشام قبل تاريخه وأدخل الى قاعة الصاحب «1» بقلعة الجبل وطلب منه ثلاثمائة ألف(11/53)
دينار وكان متولّى أمره علىّ بن محمد بن كلبك التّركمانى فعصر يوم الثلاثاء حادى عشرين ذى القعدة، ثم أفرج عنه ونفى الى طرابلس بعد أن اخذ منه مائة ألف دينار.
ثم قدم الخبر على السلطان بقتل الأمير قشتمر المنصورىّ نائب حلب، وخبره أنه لما ولى نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجّه إلى حلب فلم يقم بها إلا يسيرا وخرج منها وكبس أمير آل فضل بعربه مثل السلطان فركب العرب وقاتلته فقتل في المعركة هو وولده محمد بن قشتمر وكان الذي قتله حيّار أمير آل فضل وولده نعير بن حيّار وكان ذلك يوم الجمعة خامس عشر ذى الحجة ولما بلغ الملك الأشرف عظم عليه وأرسل تقليدا للامير اشقتمر الماردينى بنيابة حلب على يد الأمير قطلوبغا الشعبانى وعزل حيّارا عن إمرة العرب وولّاها لزامل «1» .
ثم أنعم الملك الأشرف في هذه السنة على ألوف بتقادم وطبلخانات وعشرات، فممن أنعم عليهم بتقدمة ألف الأمير بهادر الجمالى وبشتك العمرى وممن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه صراى الإدريسى وبيبغا القوصونى وأحمد بن آقتمر عبد الغنى وأحمد بن قنغلى وخليل بن قمارى الحموى وطغيتمر الحسينى وحسين بن الكورانى وأرغون شاه الأشرفى.
وكان أمير الحاج في هذه السنة بهادر الجمالى، وحجّت في هذه السنة أيضا خوند بركة والدة السلطان الملك الأشرف صاحب الترجمة بتجمّل زائد ورخت «2» عظيم وبرك هائل وفى خدمتها من الأمراء الألوف بشتك العمرى وبهادر الجمالى(11/54)
أمير الحاج ومائة مملوك من المماليك السلطانية الخاصّكية وكان من جملة ما معها بدرب الحجاز كوسات وعصائب سلطانية وعدّة محفّات بأغطية زركش وعدّة محاير «1» كثيرة بأفخر زينة وحمل معها أشياء كثيرة يطول الشرح في ذكرها من ذلك: قطر جمال عليها مزروع خضر وغير ذلك وحجّت وعادت إلى الديار المصرية، بعد أن احتفل جميع أمراء الدولة إلى ملاقاتها، ولما وصلت إلى الفلعة أثلت على بهادر الجمالى فأخلع السلطان عليه.
ثم بعد مدّة في يوم حادى عشرين المحرّم من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة استقرّ به «2» أمير آخور كبيرا عوضا عن الأمير بكتمر المؤمنى بعد موته واستقرّ الأمير تلكتمر [من بركة «3» ] أستادارا عوضا عن بهادر [الجمالى «4» ] المذكور واستقرّ أرغون شاه الأشرفى أمير مجلس عوضا عن تلكتمر المنتقل الى الأستادارية ثم نقل أرغون شاه المذكور بعد مدّة يسيرة من وظيفة أمير مجلس إلى وظيفة رأس نوبة النّوب، بعد موت بشتك العمرى واستقرّ أرغون [الأحمدى «5» ] اللّالا أمير مجلس عوضا عن أرغون شاه المذكور.
ثم أنعم السلطان على الأمير طينال الماردينى بتقدمة ألف وعلى علم دار أيضا بتقدمة ألف واستقرّ أستادار العالية عوضا عن تلكتمر.
ثم في سنة اثنتين وسبعين استقرّ الأمير طشتمر العلائى دوادارا كبيرا بإمرة طبلخاناه، انتقل إليها من الجندية عوضا عن منكوتمر من عبد الغنى واستقرّ يلبغا الناصرى اليلبغاوىّ خازندارا كبيرا، عوضا عن يعقوب شاه.(11/55)
قلت: والناصرى هذا هو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق الآتى ذكرها في ترجمة الظاهر المذكور.
ثم في سنة ثلاث وسبعين عزل السلطان الأمير اشقتمر الماردينى عن نيابة حلب بالأمير عز الدين أيدمر الدوادار.
قلت: وإشقتمر الماردينى هذا ومنجك اليوسفى نائب الشام وبيدمر الخوارزمى هؤلاء الثلاثة لا أعلم أحدا في الدولة التركيّة ولى ولايتهم من الأعمال والوظائف ولا طال مكثه في السعادة مثلهم على ما ذكرناه فيما مضى وما سنذكره فيما يأتى إن شاء الله تعالى على أن اشقتمر هذا طال عمره في السعادة حتى ولى نيابة الشام عن الملك الظاهر برقوق، وبرقوق يومئذ في خدمة منجك اليوسفى نائب الشام، وإلى الآن لم يتصل بخدمة السلطان ولا صار من جملة المماليك السلطانية وقد تقدّم أنّ اشقتمر ولى الأعمال الجليلة من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى وكان يلبغا العمرى أستاذ برقوق يوم ذاك خاصّكيّا، فانظر إلى تقلّبات هذا الدهر ونيل كلّ موعود بما وعد. انتهى.
وفى سنة ثلاث وسبعين المذكورة رسم السلطان الملك الأشرف أنّ الأشراف بالديار المصرية والبلاد الشامية كلّهم يسمون عمائمهم بعلامة خضراء بارزة للخاصّة والعامّة إجلالا لحقّهم وتعظيما لقدرهم ليقابلوا بالقبول والإقبال ويمتازوا عن غيرهم من المسلمين، فوقع ذلك ولبسوا الأشراف العلائم الخضر، التى هي الآن مستمرّة على رعوسهم، فقال الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الشهير بالمزيّن في هذا المعنى: [الكامل]
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر كأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصّصهم بها ... شرفا لنعرفهم من الأطراف
وقال أيضا في المعنى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر الأندلسى: [الكامل](11/56)
جعلوا لأبناء الرّسول علامة ... إنّ العلامة شأن من لم يشهر
نور النّبوّة في كريم وجوههم ... يغنى الشّريف عن الطّراز الأخضر
وقال أيضا في المعنى الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب الحلبى: [الرجز]
عمائم الأشراف قد تميّزت ... بخضرة رقّت وراقت منظرا
وهذه إشارة أنّ لهم ... فى جنّة الخلد لباسا أخضرا
وقال ولده أبو العزّ طاهر بن حسن بن حبيب في المعنى أيضا: [الطويل]
ألا قل لمن يبغى ظهور سيادة ... تملّكها الزّهر الكرام بنو الزّهرا
لئن نصبوا للفخر أعلام خضرة ... فكم رفعوا للمجد ألوية حمرا
وقال الشيخ شهاب الدين بن أبى حجلة التّلمسانىّ الخنفى- تغمده الله تعالى- فى المعنى أيضا. [الطويل]
لآل رسول الله جاه ورفعة ... بها رفعت عنّا جميع النّوائب
وقد أصبحوا مثل الملوك برنكهم «1» ... إذا ما بدوا للناس تحت العصائب
قلت: وبهذه الفعلة يدلّ على حسن اعتقاد الملك الأشرف المذكور في آل بيت النبوّة وتعظيمه لهم؛ ولقد أحدث شيئا كان الدهر محتاجا إليه ولا ألهم الله تعالى الملوك ذلك من قبله؛ ولله درّ القائل: «كم ترك الأوّل للآخر» .
وفي أوّل سنة أربع وسبعين وسبعمائة استقرّ الأمير ألجاى اليوسفى أمير سلاح أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن منكلى بغا الشمشى بحكم وفاته- إلى رحمة الله تعالى- وأخلع عليه أيضا بنظر البيمارستان «2» المنصورىّ فعند ذلك عظم قدر(11/57)
ألجاى المذكور من كونه زوج أمّ السلطان وصار أتابك العساكر، وبهذا استطال الجاى في المملكة.
فإنّه قبل زواجه بأمّ السلطان خوند بركة كان من جملة الأمراء المقدّمين لا غير انتهى.
ثم أخلع السلطان على الأمير كجك من أرطق شاه باستقراره أمير سلّاح برانيّا عوضا عن ألجاى اليوسفى المذكور واستقرّ يلبغا الناصرىّ شادّ الشراب خاناه عوضا عن كجك واستقرّ تلكتمر الجمالى خازندارا عوضا عن يلبغا الناصرى.
ثم توجّه السلطان الى سرحة الأهرام بالجيزة وعاد بعد أيام وعند عوده الى قلعة الجبل أخلع على الطّواشى سابق الدين مثقال مقدّم المماليك السلطانية قباء حرير أزرق صاف بطرز زركش عريض أسوة بالأمراء الخاصّكيّة وهذا شىء لم يلبسه مقدّم قبله، وكان السلطان الملك الأشرف قبل ذلك قد استجدّ في كلّ سنة عند طلوعه من هذه السّرحة وهي توجّه السلطان إلى ربيع الخيل أن يلبس الأمراء الخاصّكية مقدّمى الألوف أقبية حرير بفرو سمّور بأطواق سمّور بطرز زركش والطّبلخانات والعشرات أقبية حرير بطرز زركش منها ما هو بفرو قاقم ومنها ما هو بفرو سنجاب.
ثم بعد ذلك نزل السلطان في يوم الثلاثاء سادس عشر ذى القعدة سنة أربع وسبعين ووالدته معه وهي متمرّضة إلى الرّوضة «1» تجاه مصر القديمة بمنظرة الأمير طشتمر الدّوادار، فاقام فيها يوم الثلاثاء والأربعاء وصحبته جميع الأمراء وطلع يوم الخميس إلى القلعة واستمرّت أمّ السلطان متمرّضة الى أن ماتت في ذى الحجّة وهي في عصمة(11/58)
الجامى اليوسفى وصلّى عليها ابنها السلطان الملك الأشرف ودفنت بمدرستها «1» التى عمّرتها بخطّ التّبانة خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير ووجد عليها ولدها الملك الأشرف وجدا عظيما، لأنها كانت من خيار نساء عصرها دينا وخيرّا وصدقة ومعروفا.
ومن الاتفاق العجيب بعد موتها البيتان اللذان عملهما الأديب شهاب الدين السعدىّ الأعرج وتفاعل بهما على ألجاى اليوسفىّ وهما: [الكامل](11/59)
فى مستهلّ العشر من ذى الحجة ... كانت صبيحة موت أمّ الأشرف
فالله يرحمها ويعظم أجره ... ويكون في عاشور موت اليوسفى
فكان الأمر على ما ذكر، وهذا من الاتفاق الغريب وهو أنه لمّا ماتت خوند بركة المذكورة، واستهلت سنة خمس وسبعين وقع بين الملك الأشرف وبين زوج أمّه ألجاى اليوسفى كلام من أجل التّركة المتعلقة بخوند بركة المذكورة وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس المحرّم من السنة المذكورة، وكثر الكلام بين السلطان وبين ألجاى اليوسفى حتى غضب ألجاى وخرج عن طاعة المك الأشرف ولبس هو ومماليكه آلة الحرب ولبست مماليلك السلطان أيضا وركب السلطان بمن معه من أمرائه وخاصّكيّته.
وباتوا الليلة لابسين السّلاح إلى الصّباح، فلما كان نهار الأربعاء سابع المحرّم كان الوقعة بين الملك الأشرف شعبان وبين زوج أمّة الأتابك ألجاى اليوسفى فتواقعوا إحدى عشرة مرة وعظم القتال بينهما حتى كانت الوقعة الحادية عشرة انكسر فيها ألجاى اليوسفى وانهزم إلى بركة الحبش «1» .
ثم تراجع أمره وعاد بمن معه من على الجبل الأحمر إلى قبّة النّصر، فطلبه السلطان الملك الأشرف فأبى فأرسل إليه خلعة بنيابة حماة فقال: أنا أروح بشرط أن يكون كلّ ما أملكه وجميع مماليكى معى، فأبى السلطان ذلك وباتوا تلك الليلة فهرب جماعة من مماليك ألجاى في الليل وجاءوا إلى الملك الأشرف.
فلما كان صباح يوم الخميس ثامن المحرّم أرسل السلطان الأمراء والخاصّكية ومماليك أولاده وبعض المماليك السلطانية إلى قبّة النصر إلى حيث ألجاى، فلمّا(11/60)
رآهم ألجاى هرب فساقوا خلفه إلى الخرقانية «1» ، فلما رأى ألجاى أنه مدرك رمى بنفسه وفرسه إلى البحر؛ ظنّا أنه يعدّى به إلى ذلك البرّ؛ وكان ألجاى عوّاما فثقل عليه لبسه وقماشه فغرق في البحر وخرج فرسه وبلغ الخبر السلطان الملك الأشرف فشقّ عليه موته وتأسّف عليه. ثم أمر بإخراجه من النيل فنزل الغوّاصون وطلعوا به وأحضروه إلى القلعة في يوم الجمعة تاسع المحرّم في تابوت وتحته لبّاد أحمر فغسّل وكفّن وصلّى عليه الشيخ جلال الدين التّبانى ودفن في القبّة التي أنشأها بمدرسته «2» برأس سويقة «3» العزّى خارج القاهرة والمدرسة معروفة وبها خطبة. وكان الجاى من أجلّ الأمراء وأحسنها سيرة.
ثم قبض السلطان على مماليك ألجاى ونودى بالمدينة أنّ كل من لقى أحدا منهم يحضره إلى السلطان ويأخذ له خلعة. ثم أخذ السلطان أولاد ألجاى وهم إخوته(11/61)
لأمّه ورتب لهم ما يكفيهم واحتاط على سائر موجود ألجاى وأخذ جميع مماليكه وصفح عنهم وجعلهم في خدمة ولديه: أمير علىّ وأمير حاج.
ثم قبض السلطان على جماعة من الأمراء ممن كان يلوذ بالأمير ألجاى وهم صراى العلائىّ وسلطان شاه بن قراجا وطقتمر الحسنى وعلىّ بن كلبك «1» وصادره.
ثم أمسك بيبغا القوصونى وخليل بن قمارى الحموى فشفع فيهما الأمير طشتمر الدوادار.
ثم في آخر صفر رسم السلطان بنفى جماعة إلى البلاد الشامية، وهم محمد شاه دوادار ألجاى وخليل بن عرّام المعزول عن نيابة الإسكندرية وعلىّ بن كلبك وآقبغا البشمقدار خازندار ألجاى وكان السلطان في تاسع الحرّم رسم لبورى الحلبى الخازندار أن يتوجّه الى طرابلس لإحضار نائبها الأمير عزّ الدين أيدمر الدوادار الناصرى الى مصر، فتوجّه بورى اليه وأحضره، فلّما مثل بين يدى السلطان أخلع عليه باستقراره بأتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن ألجاى اليوسفى وتولّى عوضه نائب طرابلس الأمير يعقوب شاه، وبعد موت ألجاى أنعم السلطان على جماعة من الأمراء بإقطاعات ووظائف فأخلع على الأمير صرغتمش الأشرفى باستقراره أمير سلاح خاصّكيا يجلس بالإيوان فى دار العدل «2» واستقرّ ارغون الأحمدى الّالا أمير كبير برانيّا وأجلس بالإيوان، قاله العينى في تاريخه ووافقه غيره.
قلت: فيكون على هذا الحكم تلك الأيام أمير كبير خاصّ وأمير كبير برّانى وأمير سلاح خاص وأمير سلاح برّانى وهذا شىء لم يسمع بمثله. انتهى(11/62)
ثم أنعم السلطان على قطلوبغا الشعبانى بتقدمة ألف واستقرّ رأس نوبة ثانيا.
قلت: وهذه الوظيفة الآن هي وظيفة رأس نوبة النّوب ورأس نوبة نوب تلك الأيام قد بطلت من الدولة الناصرية فرج بن برقوق. وكانت تسمى رأس نوبة الأمراء وآخر من وليها آقباى الطّرنطاوى الحاجب.
ثم أخلع على جماعة وأنعم عليهم بإمرة طبلخانات وهم: أحمد بن يلبغا العمرى الخاصّكى وآقتمر الصاحبى وتمرباى الحسنى وإينال اليوسفى وعلى بن بهادر الجمالى وبلّوط الصّرغتمشى ومختار الطواشى الحسامى مقدّم الرّفرف «1» .
قلت: وأيضا هذا شىء لم يسمع بمثله من أن يكون بعض خدّام الأطباق أمير طبلخاناه، وأغرب من ذلك أنّ مقدّم المماليك في زماننا هذا إقطاعه إمرة عشرة ضعيفة. انتهى. وعلى ألجيبغا المحمدى وحاجى بك بن شادى. وأنعم على اثنين بعشرات وهم ألطنبغا من عبد الملك وطشتمر الصالحىّ.
ثم في عاشر شهر ربيع الآخر استقرّ أحمد بن آل ملك في نيابة غزة عوضا عن طشبغا المظفّرى وأنعم على مبارك الطّازى بتقدمة ألف وعلى سودون جركس المنجكى بتقدمة ألف وارتجع السلطان من طينال الماردينى تقدمته وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة. ثم استقر منكلى بغا البلدى الأحمدى في نيابة الكرك واستقر ناصر الدين محمّد بن آقبغا آص أستادارا بتقدمة ألف. ثم أنعم السلطان على ألطنبغا ططق العثمانى بتقدمة ألف واستقر أمير سلاح برانيا عوضا عن طيدمر البالسى وأنعم على(11/63)
طغيتمر اليلبغاوى الدوادار الثانى بإمرة طبلخاناه وهو أوّل من لبس «1» الدوادارية الثانية. ثم نقل منكلى بغا البلدى من نيابة الكرك الى نيابة صفد واستقرّ آقتمر عبد الغنى النائب بديار مصر في نيابة طرابلس وقد تقدّم أن آقتمر هذا كان ولى نيابة الشام سنين.
وفي رابع عشرين ذى القعدة استقرّ يلبغا الناصرى اليلبغاوى صاحب الوقعة مع برقوق الآنى ذكرها حاجبا ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف. ثم عزل السلطان سابق الدين مثقالا الآنوكى مقدّم المماليك وأمره أن يلزم بيته واستقرّ عوضه في تقدمة المماليك الطواشى مختار الحسامى مقدّم الرّفرف «2» المقدّم ذكره.
ثم ندب السلطان الأمير يلبغا الناصرى للسفر الى دمشق لإحضار نائبها الأمير منجك اليوسفى فسار من وقته الى أن وصل الى دمشق وأحضر الأمير منجك المذكور، ووصل منجك الى الديار المصرية وصحبته أولاده ومملوكه جركتمر وصهره آروس المحمودى بعد أن احتفل أهل الدولة لملاقاته وخرجت اليه الأمراء الى بين الحوضين «3» خارج قبّة النصر وطلع الى القلعة من باب السرّ «4» وسائر الأمراء والخاصّكيّة مشاة بين يديه في ركابه، مثل أيدمر الدوادار ومن دونه بإشارة السلطان، فلما(11/64)
دخل منجك على السلطان وقبّل الأرض أقبل عليه السلطان إقبالا كليّا وخلع عليه باستقراره نائب السلطنة بالديار المصرية خاصّكيّا عوضا عن آقتمر عبد الغنى المنتقل الى نيابة طرابلس وفوّض اليه السلطان النظر في الأحباس والأوقاف والنظر في الوزارة، فإنه كان وليها بعد موت أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون كما تقدّم ذكره والنظر على ناظر الخاص وقرئ تقليده بالإيوان «1» ، وأن السلطان أقامه مقام نفسه فى كل شىء وفوّض إليه سائر أمور المملكة، وأنه يخرج الإقطاعات التي عبرتها «2» سبعمائة دينار إلى ما دونها، وأنه يعزل من شاء من أرباب الدولة، وأنه يخرج الطبلخانات والعشرات بسائر المماليك الشامية، ورسم للوزير أن يجلس قدّامه فى الدركاه مع الموقّعين.
ثم بدأ الغلاء بالديار المصرية في هذه السنة وتزايد سعر القمح إلى أن أبيع بتسعين درهما الإردب، وزاد النيل بعد أن نقص في شهرها تور، وهذا أيضا من الغرائب، وهذه السنة تسمى سنة الشراقىّ كما سنبينه في حوادث السنين من سلطنة الملك الأشرف هذا.
ثم في أوّل سنة ست وسبعين عزل السلطان الأمير آقتمر عبد الغنى عن نيابة طرابلس بالأمير منكلى بغا البلدى نائب صفد وولّاه نيابة صفد.
قلت: درجة إلى أسفل.
ثم مرض الأمير منجك اليوسفىّ النائب فنزل السلطان لعيادته، ففرش منجك تحت رجلى فرسه الشّقق الحرير وقدّم له عشرة مماليك وعشرة بقج وعدّة خيول فقبلها السلطان ثم أنعم بها عليه، وكان ذلك في يوم الثلاثاء سابع عشرين ذى الحجة ومات منجك بعد يومين.(11/65)
ثم ورد الخبر على السلطان بأن القان حسين ابن الشيخ أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا «1» بن أيلكان، تولى مملكة «2» تبريز وبغداد بعد وفاة «3» أبيه.
وفي هذه السنة فتحت سيس «4» - وهي كرسى الأرمن- على يد الأمير اشقتمر الماردينى نائب حلب، بعد أن نازلها مدّة ثلاثة شهور حتى فتحها وانقرضت منها دولة الأرمن- ولله الحمد- فدقّت البشائر لذلك وفرح الملك الأشرف فرحا عظيما بهذا الفتح العظيم.
وفي هذه السنة- أيضا وهي سنة ست وسبعين المذكورة- وقع الفناء بالديار المصرية من نصف جمادى الآخرة وتزايد في شعبان، ثم في شهر رمضان حتّى صار يموت في كلّ يوم من الحشريّة «5» نحو خمسمائة نفس ومن الطّرحى»
نحو الألف، فأبيع كلّ فرّوج بخمسة وأربعين درهما، وكل سفرجلة بخمسين درهما، وكل رمّانة بعشرة دراهم، والعشرة دراهم يوم ذاك كانت أزيد من نصف دينار، وكل رمّانة حلوة بستة عشر درهما، وكلّ بطيخة صيفية بسبعين درهما.
ولما توفّى منجك شغرت نيابة السلطنة بديار مصر الى العشرين من شهر ربيع الأوّل استقرّ فيها الأمير آقتمر الصاحبى الحنبلى.(11/66)
وفي محرّم سنة سبع وسبعين ختن السلطان أولاده وعمل المهمّ سبعة أيام.
وفي العشر الأوسط من صفر هذه السنة ابتدأ الملك الأشرف بعمارة مدرسته «1» التى أنشأها بالصوه تجاه الطبلخاناة «2» السلطانية التي موضعها الآن بيمارستان «3» الملك المؤيد شيخ وهو كلا شىء، فاشترى الملك الأشرف بيت الأمير شمس الدين سنقر الجمالى وشرع في هدمه.(11/67)
وفي هذه السنة تزايد الغلاء بالبلاد الشامية، حتى جاوز الحدّ وجعل الغنى فقيرا، وأبيع فيه الرطل الخبز بدرهمين، وفي هذا المعنى يقول بدر الدين بن حبيب: [الخفيف]
لا تقيمن بى على حلب الشّه ... باء وارحل فأخضر العيش أدهم
كيف لى بالمقام والخبز فيها ... كلّ رطل بدرهمين ودرهم
وفي سنة ثمان وسبعين عزل السلطان الملك الأشرف آقتمر الصاحبىّ الحنبلىّ عن نيابة السلطنة بالديار المصرية واستقرّ به أتابك العساكر وعزل الأمير آقتمر عبد الغنىّ عن نيابة صفد واستقرّ به أمير «1» مائة ومقدّم ألف بالقاهرة.(11/68)
ثم في العشرين من شهر ربيع الآخر غرقت الحسينية «1» خارج القاهرة وخرب فيها أزيد من ألف بيت، وكان سبب هذا الغرق أنّ أحمد بن قايماز أستادار محمد ابن آقبغا آص استأجر مكانا خارج القاهرة بالقرب من آخر الحسينية وجعله بركة وفتح له مجرى «2» من الخليج فتزايد الماء وغفلوا عنه فطفح على الحسينية فغرّقها فقبض السلطان بعد ذلك بمدّة على محمد بن آقبغا آص وصادره وعزله عن الأستادارية؛ هذا والسلطان في تأهّب سفر الحجاز.
فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان «3» سفّر السلطان إخوته وأولاد أعمامه إلى الكرك صحبة الأمير سودون الفخرى الشيخونى ليقيم عندهم بالكرك مدّة غيبة السلطان في الحجاز، كلّ ذلك والسلطان متضعّف وحركة الحجاز عمّالة وحواشيه وخواصّه ينهونه عن السفر في هذه السنة وهو لا يلتفت إلى كلامهم.
ثم توجه السلطان الى سرياقوس «4» على عادته في كل سنة وعاد وقد نصل عن ضعفه إلى يوم السبت الثانى عشر من شوّال خرجت أطلاب «5» الأمراء المتوجّهين صحبة السلطان إلى الحجاز.
وفي الأحد ثالث عشر خرج السلطان بتجمّل زائد وطلب عظيم إلى الغاية جرّ فيه عشرون قطارا من الهجن الخاص بقماش ذهب وخمسة عشر قطارا بقماش حرير وقطار واحد بلبس خليفتىّ وقطار آخر بلبس أبيض برسم الإحرام ومائة فرس ملبسة(11/69)
وكجاوتان «1» بأغشية زركش وتسع محفّات، غشاء خمس منهن زركش وستة وأربعون زوجا من المحاير وخزانة عشرون جملا وقطاران من الجمال محمّلة خضر مزروعة كالبقل والشّمار والنّعناع والسلق والكسبرة وغير ذلك. وأما أحمال المطاعم والمشارب والمآكل فلا تدخل تحت حصر كثرة: منها ثلاثون ألف علبة حلاوة في كل علبة خمسة أرطال كلّها معمولة من السكر المكرر المصرىّ وطيّبت بمائة مثقال مسك، سوى الصّندل والعود؛ هذا خلاف ما كان للأمراء والخاصّكية وإنما كان هذا للسلطان خاصّة نفسه وأشياء من هذا النّموذج كثيرة ومع هذا كلّه لم يتغيّر سعر السكّر بمصر.
وسار السلطان بأمرائه في أبّهة عظيمة حتى نزل سرياقوس فاقام بها يوما، وفي هذا اليوم أخلع السلطان على الشيخ ضياء الدين القرمى الحنفىّ باستقراره شيخ شيوخ المدرسة التي أنشأها بالصّوّة وقد أشرفت على الفراغ وجاءت من أحسن البناء.
ثم رحل السلطان من سرياقوس حتى نزل بالبركة «2» على عادة الحجّاج فأقام بها إلى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شوّال ورحل بعساكره وأمرائه إلى جهة الحجاز وكان الذي صحبه من أمراء الألوف تسعة وهم: الأمير صرغتمش الأشرفى وأرغون شاه الأشرفى ويلبغا الشامىّ وهؤلاء الثلاثة أشرفيّة مماليكه والأمير بهادر الجمالىّ وصراى تمر المحمدىّ وطشتمر العلائى الدّوادار ومبارك الطازى وقطلقتمر العلائى الطويل وبشتك من عبد الكريم الأشرفىّ أيضا. ومن أمراء الطبلخانات خمسة وعشرون أميرا وهم: بورى الأحمدىّ وأيدمر الخطائىّ من صديق وعبد الله بن(11/70)
بكتمر الحاجب وبلوط الصرغتمشى وآروس المحمودى ويلبغا المحمدى ويلبغا الناصرىّ، على أنه كان أنعم عليه بتقدمة ألف، غير أنه أضيف إلى الطبلخانات كونه كان حاجبا ثانيا وأرغون العزّى الأفرم وطغيتمر الأشرفى ويلبغا المنجكىّ وكزل الأرغونى وقطلوبغا الشعبانىّ وأمير حاج بن مغلطاى وعلىّ بن منجك اليوسفى ومحمد ابن تنكزبغا وتمرباى الحسنى الأشرفىّ وأسندمر العثمانى وقرابغا الأحمدىّ وإينال اليوسفى وأحمد بن يلبغا العمرى وموسى بن دندار بن قرمان ومغلظاى البدرى وبكتمر العلمى وآخر. ومن العشرات خمسة عشر أميرا وهم: آقبغا بوز الشيخونى وأبو بكر بن سنقر الجمالى وأحمد بن محمد بن بيبرس الأحمدى وأسنبغا التّلكىّ وشيخون ومحمد بن بكتمر الشمسى و [محمد «1» بن] قطلوبغا المحمدى وخضر بن عمر ابن أحمد بن بكتمر الساقى وجوبان الطّيدمرى وألطنبغا من عبد الملك وقطلوبغا البزلارى وطوغان العمرى الظهيرى وتلكتمر العيسوىّ ومحمد بن سنقر المحمدىّ.
وعيّن الملك الأشرف جماعة من الأمراء ليقيموا بالديار المصرية، عيّن الأمير:
أيدمر الشمسىّ نائب الغيبة بالقلعة وأميرين أخر تسكن بالقلعة أيضا وعيّن الأمير آقتمر عبد الغنى نائب الغيبة وأن يسكن بالقاهرة للحكم بين الناس وعيّن أيضا للاقامة بالديار المصرية من الأكابر: الأمير طشتمر اللّفّاف وقرطاى الطازى وأسندمر الصرغتمشى وأينبك البدرى.
وسافر السلطان وهو متوعّك في بدنه، بعد أن أشار عليه جماعة من الصّلحاء والأعيان بتأخير الحج في هذه السنة فأبى إلا السفر لأمر يريده الله تعالى، وأمر السلطان لنائب الغيبة وغيره أن يطلعوا القلعة في كل يوم موكب ويدخلوا إلى باب «2»(11/71)
السّتارة ويخرج الأسياد أولاد السلطان الملك الأشرف ساعة ثم يعود كلّ واحد إلى محلّه فامتثلوا ذلك، فكانوا لما يطلعون إلى القلعة ويخرج عليهم الأسياد وأكبرهم أمير علىّ يقوم الأمراء ويبوسون أيديهم ويقعدون ساعة لطيفة فيقوم أمير علىّ ويشير بيده أمرا باسم الله فيقوم الأمراء وينصرفون بعد أن يسقون مشروبا ووقع ذلك في غيبة السلطان مدّة يسيرة.
فلما كان يوم السبت ثالث ذى القعدة اتفق طشتمر اللفّاف وقرطاى الطازى وأسندمر الصرغتمشى وأينبك البدرى وجماعة من المماليك السلطانية وجماعة من مماليك الأسياد أولاد السلطان الملك الأشرف وجماعة من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف ولبسوا السلاح واتفق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية وهجموا الجميع القلعة وقصدوا باب السّتارة فغلق سابق الدين مثقال الزّمام باب الساعات ووقف داخل الباب ومعه الأمير جلبان اللّالا، لالا أولاد السلطان وآقبغا جركس اللّالا أيضا، فدقّت المماليك الباب وقالوا: أعطونا سيّدى أمير علىّ، فقال لهم اللّالا: من هو كبيركم حتى نسلم لهم سيّدى عليّا! وأبى أن يسلمهم سيدى عليّا، وكثر الكلام بينهم ومتقال الزّمام يصمّم على منع أمير علىّ فقالوا له:
السلطان الملك الأشرف مات: ونريد أن نسلطن ولده أمير علىّ، فلم يلتفت مثقال الى كلامهم، فلما علموا المماليك ذلك، طلعوا جميعا وكسروا شبّاك الزّمام المطلّ على باب الساعات، ودخلوا منه ونهبوا بيت الزمام وقماشه، ثم نزلوا إلى رحبة باب السّتارة ومسكوا مثقالا الزّمام وجلبان اللّالا وفتحوا الباب، فدخلت بقيّتهم وقالوا: أخرجوا أمير علىّ، حتى نسلطنه فانّ أباه توفّى إلى رحمة الله تعالى، فدخل الزمام على رغم أنفه وأخرج لهم أمير علىّ فأقعد في باب الستارة، ثم أحضر الأمير أيدمر الشمسى فبوّسوه الأرض لأمير علىّ، ثم أركبوا أمير علىّ على بعض خيولهم(11/72)
وتوجّهوا به إلى الإيوان الكبير وأرسلوا خلف الأمراء الذين بالقاهرة، فركبوا إلى سوق الخيل وأبوا أن يطلعوا إلى القلعة فأنزلوا أمير علىّ إلى الإسطبل السلطان، حتى رأوه الأمراء فلما رأوه طلعوا وقبّلوا له الأرض وحلفوا له، غير أنّ الأمير طشتمر الصالحى وبلاط السّيفى ألجاى «1» الكبير وحطط رأس نوبة النّوب لم يوافقوا ولا طلعوا، فنزلوا اليهم المماليك ومسكوهم وحبسوهم بالقصر وعقدوا لأمير علىّ بالسلطنة ولقّبوه با «لملك المنصور» على ما يأتى ذكره فى محله، ونسوق الواقعة على جليّتها.
ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبيع والشراء، بعد أن أخذوا خطوط سائر الأمراء المقيمين بمصر فأقاموا ذلك النهار وأصبحوا يوم الأحد رابع ذى القعدة من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وهم لابسون آلة الحرب واقفون بسوق الخيل يتكلمون في إتمام أمرهم، وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر أنّ شخصا يسمّى قازان اليرقشىّ كان مسافرا صحبة السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز الشريف وجدوه متنكّرا فمسكوه وأتوا به إلى الأمراء فسألوه عن خبر قدومه وعن أخبار السلطان، فأبى أن يخبرهم بشيء وأنكر أنه لم يتوجّه إلى الحجاز، فأوهموه بالتوسيط فأقرّ وأعلمهم الخبر بقدوم السلطان الملك الأشرف شعبان وكسرته من مماليكه بالعقبة فقالوا له:
وما سبب هزيمة السلطان من عقبة أيلا «2» ؟ قال: لما نزل السلطان الملك الأشرف بمن معه من أمرائه وعساكره إلى العقبة وأقام بها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء سلخ(11/73)
شوّال فطلب المماليك السلطانية العليق، فقيل لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم «1» : فغضبوا وامتنعوا من أكل السّماط عصر يوم الأربعاء واتفقوا على الركوب، فلما كانت ليلة الخميس المذكورة ركبوا على السلطان ورءوسهم الأمير طشتمر العلائىّ ومبارك الطازىّ وصراى تمر المحمدىّ وقطلقتمر العلائىّ الطويل وسائر مماليك الأسياد وأكثر المماليك السلطانية، فلما بلغ السلطان أمرهم ركب بأمرائه وخاصّكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان معه من الأمراء وهم: صرغتمش الأشرفىّ وأرغون شاه الأشرفىّ وبيبغا الأشرفىّ وبشتك الأشرفىّ وأرغون كتك ويلبغا الناصرىّ وصار السلطان بهؤلاء إلى بركة عجرود «2» ، فنزل بها وهو مقيم به،(11/74)
فقالوا له: كذبت قل لنا حقيقة أمره، فامتنع وحلف، فأرادوا توسيطه حقيقة، فقال: أطلقونى أنا أدلّكم عليهم، فأطلقوه فأخذهم وتوجّه بهم إلى قبّة النصر خارج القاهرة إلى محل كان الأشرف نزل فيه بجماعته فوجدوا بالمكان أرغون شاه وصرغتمش وبيبغا وبشتك وأرغون كتك وكان الذي توجّه مع قازان اليرقشىّ من القوم أسندمر الصرغتمشىّ وطولو الصرغتمشىّ ومعهما جماعة كبيرة من المماليك الذين ثاروا بالقاهرة، فقبضوا على الأمراء المذكورين وسألوهم عن الملك الأشرف، فقالوا: فارقنا وتوجّه هو ويلبغا الناصرىّ إلى القاهرة ليختفى بها، فقتلوا الأمراء المذكورين في الحال وحزوا رءوسهم وأتوا بها إلى سوق الخيل ففرح بذلك بقيّة الأمراء الذين هم أصل الفتنة وعلموا أنّ الأشرف قد زال ملكه.
وأمّا الملك الأشرف فإنه لما وصل إلى قبّة النصر توجّه منها نحو القاهرة ومعه يلبغا الناصرىّ واختفى عند أستادار يلبغا الناصرىّ، فلم يأمن على نفسه فتوجّه تلك الليلة من عند أستادار يلبغا الناصرىّ الى بيت آمنة زوجة المشتولىّ «1» فاختفى عندها، فقلق عند ذلك الأمراء الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبة ظهور الأشرف وهم: قرطاى الطازىّ وطشتمر اللفّاف وأسندمر الصرغتمشىّ وقطلوبغا البدرىّ وألطنبغا السلطانىّ وبلاط الصغير ودمراش اليوسفىّ وأينبك البدرىّ ويلبغا النظامىّ وطولو الصرغتمشىّ وهؤلاء الأمراء، وأمّا الأجناد فكثير فاشتد قلقهم.
وبينماهم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قتلوا الأمراء المذكورين بقبّة النصر، وقبل أن يمضى النهار جاءت امرأة إلى الأمراء وذكرت لهم أنّ السلطان مختف عند آمنة(11/75)
زوجة المشتولىّ في الجودرية «1» ، فقام ألطنبغا من فوره ومعه جماعة وكبسوا بيت آمنة المذكورة فهرب السلطان واختفى في بادهنج «2» البيت فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش النساء، فمسكوه وألبسوه عدّة الحرب وأحضروه الى قلعة الجبل فتسلّمه الأمير أينبك البدرىّ وخلا به وأخذ يقرّره على الذخائر فأخبره الملك الأشرف بها وقيل. إنّ أينبك المذكور ضربه تحت رجليه عدّة عصىّ. ثم أصبحوا في يوم الاثنين خنقوه وتولّى خنقه جاركس شادّ عمائر ألجاى اليوسفىّ فأعطى جاركس المذكور إمرة عشرة واستقرّ شادّ عمائر السلطان.
ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه، بل أخذوه ووضعوه في قفّة وخيّطوا عليها ورموه في بئر، فأقام بها أياما إلى أن ظهرت رائحته، فاطّلع عليه بعض خدّامه من الطواشيّة، ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان «3» السيدة نفيسة وذلك الخادم يتبعهم من بعد حتى عرف المكان، فلما دخل الليل أخذ جماعة من إخوته وخدمه ونقلوه فى تلك الليلة من موضع دفنوه المماليك ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التى بخطّ التّبّانة في قبّة وحده، بعد أن غسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه وقيل: غير ذلك وهو أنهم لمّا وجدوه في البيت المذكور وعليه قماش النّسوة أركبوه على هيئة بازار خلف مملوك ومشوا خلفه وطلعوا به من على قنطرة باب «4» الخلق وطلعوا به على(11/76)
معديّة «1» فريج وطلعوا به من على الصّليبة وقت الظهر، وكان من رآه(11/77)
ظنه «1» أميرا من الأمراء وفعلوا ذلك خوفا من العامّة فإنهم لو علموا أنه السلطان خلّصوه منهم ولو ذهبت أرواحهم الجميع لمحبة الرعية في الأشرف المذكور.
ثم دخلوا بالأشرف إلى إسطبل بالقرب من الصليبة «2» ، مخافة من العامّة لا يعرفون به لمّا تكاثروا للفرجة عليه، فأقام بالإسطبل ونزل إليه قرطاى وقرّره على الذخائر، فقرّ له. ثم قتله ودفنه بمصطبة بالإسطبل المذكور، فهذه رواية أخرى غير ما ذكرنا أوّلا والأوّل أشهر وأظنه الأصحّ والأقوى.
وأمّا الذين تخلّفوا بالعقبة من الذين وثبوا على الملك الأشرف وكسروه وهرب الأشرف إلى جهة الديار المصرية ولم يدركوه، فإنهم اتّفقوا الجميع الأمراء وغيرهم وتوجّهوا إلى الخليفة المتوكّل على الله وكان أيضا في صحبة السلطان الملك الأشرف وقالوا له: يا أمير المؤمنين تسلطن ونحن بين يديك. وكانت العصائب السلطانية حاضرة فامتنع الخليفة من ذلك.
هذا وهم لا يعلمون بما وقع بالديار المصرية من ركوب هؤلاء وسلطنة أمير علىّ فإنّ كلّ طائفة وثبت على السلطان. وليس للأخرى بها علم ولا كان بينهم(11/78)
اتّفاقيّة على ذلك، وهذا من غريب الاتفاق، كون الواقعة تكون في العقبة وينكسر السلطان.
ثم بعد ثلاثة أيام أو أقلّ تكون بمصر أيضا ويخلع الملك الأشرف ويتسلطن ولده وكلاهما من غير مواعدة الأخرى، فنعوذ بالله من زوال النعم.
ثم إنّ الأمراء والمماليك أقاموا بالعقبة بعد هروب السلطان يومين وقد جهزوا للخليفة قماش السلطنة وآلة الموكب وألحّوا عليه بالسلطنة وهو يمتنع وتوجّهت القضاة الى القدس للزيارة وردّ الحاجّ بأسره إلى أبيار «1» العلائىّ وقد قصدوا العود إلى القاهرة وإبطال الحاج في تلك السنة، فنهض الأمير بهادر الجمالىّ أمير الحاجّ وردّهم وحجّ بهم. ولما تحقّقت الأمراء والمماليك أنّ الخليفة امتنع من السلطنة رجعوا نحو الديار المصرية حتى وصلوا إلى عجرود، أتاهم الخبر بما جرى من مسك السلطان الملك الأشرف وقتله فاطمأنوا فإنهم كانوا على وجل ومنهم من ندم على ما فعل فإنه كان سببا لزوال دولة الملك الأشرف ولم ينله ما آمل وخرج الأمر لغيره. ثم ساروا الجميع من عجرود إلى أن وصلوا إلى بركة الحاجّ، فسار إليهم جماعة من القائمين بمصر بآلة الحرب فتعبّوا لقتالهم، فأرسل طشتمر العلائىّ الدوادار طليعة عليها قطلقتمر الطويل، فقاتلوه المصريون فكسرهم قطلقتمر وسار خلفهم إلى قلعة الجبل، فلما قرب إلى القلعة تكاثروا عليه ومسكوه، وفي ذلك الوقت حضر(11/79)
إلى الديار المصرية الأمير آقتمر الصاحبى نائب السلطنة بالديار المصرية وكان قد توجّه إلى بلاد الصعيد قبل توجّه السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز، فتلقاه أمراء مصر وعظّموه وقالوا له: أنت نائب السلطنة على عادتك وأنت المتحدّث وكلّنا مماليكك، فلم يسعه إلا مطاوعتهم على ما أرادوا وكان كلام الأمراء لآقتمر الصاحبى بهذا القول، خوفا ممّن أتى من الأمراء والخاصكيّة من العقبة.
ثم اتفق المصريون على قتال طشتمر الدوادار ومن أتى معه من العقبة من المماليك الأشرفية وغيرها، فنزلوا اليهم من القلعة بعد المغرب في جمع كبير والتقوا معهم على الصوّة «1» من تحت القلعة، تجاه الطبلخاناة السلطانية وتقاتلوا، فانكسر طشتمر ومن معه من الأمراء والمماليك الأشرقية وانهزموا بعد المغرب إلى ناحية الكيمان، فلما كان الليل أرسل طشتمر طلب الأمان لنفسه، فأرسلوا له الأمان، فلما حضر مسكوه وقيّدوه هو وجماعته وحبسوهم بالقلعة، وفيه يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار. [الكامل]
إن كان طشتمر طغى ... وأتى بحرب مسرع
وبغى سيؤخذ عاجلا ... ولكلّ باغ مصرع
قلت: ما أشقى هؤلاء القوّم العصاة بالعقبة فإنهم كانوا سببا لزوال ملك أستاذهم الملك الأشرف وذهاب مهجته من غير أن يحصل أحدهم على طائل، بل ذهبت عنهم الدنيا والآخرة، فإنهم عصوا على أستاذهم وخلعوا طاعته من غير موجب وشمل ضررهم على الحجاج وغيرهم وارتكبوا أمورا قبيحة، فهذا ما حصلوه من الإثم.
وأما أمر الدنيا فإنها زالت عنهم بالكلية وخرج عنهم إقطاعاتهم ووظائفهم وأرزاقهم ومنهم من قتل أشرّ قتلة ولم يقرّبهم ملك من الملوك بعد ذلك، بل(11/80)
صاروا مبعودين في الدّول وماتوا قهرا مما قاسوه من الذل والهوان، حتى إننى رأيت منهم من كان عمّر واحتاج إلى السؤال، وما ربك بظلّام للعبيد.
وكان السلطان الملك الأشرف- رحمه الله تعالى- من أجلّ الملوك سماحة وشهامة وتجملا وسؤددا.
قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى- رحمه الله- فى تاريخه: كان ملكا جليلا لم ير مثله فى الحلم، كان هينا ليّنا محبّا لأهل الخير والعلماء والفقراء مقتديا بالأمور الشّرعية واقفا عندها محسنا لإخوته وأقار به وبنى أعمامه، أنعم عليهم وأعطاهم الإمريات والإقطاعات وهذا لم يعهد من ملك قبله في ملوك الترك ولا غيرهم ولم يكن فيه ما يعاب، سوى كونه كان محبّا لجمع المال. وكان كريما يفرّق في كل سنة على الأمراء أقبية بطرز زركش والخيول المسوّمة بالكنابيش الزركش والسلاسل الذّهب والسروج الذّهب وكذلك على جميع أرباب الوظائف وهذا لم يفعله ملك قبله. انتهى كلام العينى باختصار- رحمه الله تعالى-.
وقال غيره- رحمه الله- وكان ملكا جليلا شجاعا مهابا كريما هيّنا ليّنا محبّا للرعية، قيل إنه لم يل الملك في الدولة التركية أحلم منه ولا أحسن خلقا وخلقا وأبطل عدّه مكوس في سلطنته. والله أعلم.
قلت: حدّثنى العلامة علاء «1» الدّين على القلقشندى- تغمده الله تعالى- الشافعى، قال حدّثنى العلّامة قاضى القضاة شمس الدين محمد البساطىّ «2» المالكىّ(11/81)
أنّ الملك الأشرف شعبان هذا كان من فطنته وذكائه يعرف غالب أحوال القلاع الشامية وغيرها ويعرف كيف تؤخذ ومن أين تحاصر معرفة جيّدة.
قلت: هذا دليل على الذّكاء المفرط والتيقّظ في أحوال مملكته. انتهى.
ورأيت أنا كثيرا من المماليك الأشرفيّة وبهم رمق وقوّة في أوائل الدولة الأشرفية برسباى منهم الأمير آق سنقر الأشرفىّ الحاجب وغيره وكانت أيام الملك الأشرف شعبان المذكور بهجة وأحوال الناس في أيامه هادئة مطمئنّة والخيرات كثيرة، على غلاء وقع في أيامه بالديار المصرية والبلاد الشامية ومع هذا لم يختلّ من أحوال مصر شىء لحسن تدبيره ومشى سوق أرباب الكمالات في زمانه من كل علم وفن؛ ونفقت في أيامه البضائع الكاسدة من الفنون والملح وقصدته أربابها من الأقطار وهو لا يكلّ من الاحسان إليهم في شىء يريده وشىء لا يريده، حتى كلّمه بعض خواصّه في ذلك، فقال- رحمه الله-. أفعل هذا لئلا تموت الفنون في دولتى وأيامى.
قلت. لعمرى إنه كان يحشى موت الفنون والفضائل؛ ولقد جاء من بعده من قتلها صبرا، قبل أوان موتها ودفنها في القبور وعفّى أثرها، وما أحسن قول أبى الطيب أحمد بن الحسين حيت يقول:
على قدر أهل العزم تأتى العزائم ... [وتأتى «1» على قدر الكرام المكارم]
[الطويل] وخلّف الملك الأشرف [رحمه الله] من الأولاد ستّة بنين، وهم الملك المنصور علىّ الذي تسلطن من بعده على ما يأتى ذكره وذكر من قام بسلطنته مفصّلا- والملك الصالح أمير حاج وقاسم ومحمد وإسماعيل وأبو بكر وولدت بعده خوند سمراء جاريته ولدا سمّوه أحمد فصاروا سبعة.(11/82)
وخلّف سبع بنات رأيت إحداهنّ بعد سنة عشرين وثمانمائة.
وكانت مدّة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يوما، ومات وعمره أربع وعشرون سنة. وقد تقدّم مولده في أوّل ترجمته، ورثاه الشعراء بعد موته بعدّة قصائد وحزن الناس عليه حزنا عظيما وكثر تأسّفهم عليه. وعمل عزاؤه بالقاهرة عدّة أيام. وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار: [البسيط]
للملك الأشرف المنصور سيّدنا ... مناقب بعضها يبدو به العجب
له خلائق بيض لا يغيّرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
وقال غيره: [الزجل]
كوكب السعد غاب من القلعه ... وهلا لو قد انطفا بأمان
وزحل قد قارن المرّيخ ... لكسوف شمس الضّحى شعبان
[ما وقع من الحوادث سنة 765]
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر. وهي سنة خمس وستين وسبعمائة على أنه حكم في السنة الماضية من شعبان إلى آخرها.
وفيها (أعنى سنة خمس وستين) توفّى الشيخ الإمام العالم ناصر الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز القونوىّ الحنفىّ الشهير بابن الرّبوة- رحمه الله- كان إماما عالما بارعا خطيبا فصيحا فقيها مناظرا أفتى ودرّس وأعاد وشرح «الفرائض «1» السراجيّة» و «كتاب المنار» وله عدّة مصنّفات أخر ومات بدمشق في هذه السنة وقيل «2» فى الخالية.(11/83)
وتوفّى قاضى القضاه نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضى شمس الدين إبراهيم بن شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن المسلم بن عبد الله بن حسّان المعروف بالبارزىّ الجهنىّ الحموىّ الشافعىّ قاضى قضاة حماة بها، بعد أن ولى قضاءها ستّا وعشرين سنة وكان مشكور السّيرة في أحكامه- رحمه الله-.
وتوفّى الأديب عزّ الدين أبو محمد الحسن بن علىّ بن الحسن بن علىّ العبّاسىّ الشهير بابن البنّاء الحلبىّ الشاعر المشهور؛ قدم إلى حلب وبها مات، وسنّه زيادة على سبعين سنة. ومن شعره قصيدة أوّلها: [الرجز]
أنفقت عمرى في رجاء وصلكم ... والعصر إنّى بكم في خسر
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد ابن الصاحب جمال الدين محمد ابن الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد الحنفىّ الحلبىّ الشهير بابن العديم بحلب، عن بضع وسبعين سنة. وكان فقيها عارفا بالتاريخ والأدب.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا الأحمدىّ نائب حلب بها عن نيّف وثلاثين سنة- رحمه الله- وكان أميرا جليلا شجاعا كريما، نشأ في السعادة وولى نيابة حلب مرّتين.
وتوفّيت خوند «1» طولوبيه الناصريّة التّتريّة، زوجة السلطان الملك الناصر حسن.
ثم من بعده زوجة مملوكه يلبغا العمرىّ في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر.
ودفنت «2» بتربتها التي أنشأتها بجوار تربة خوند طغاى الناصريّة أمّ آنوك خارج باب البرقيّة بالصحراء، وكانت من أجمل نساء عصرها.(11/84)
وتوفّى القاضى تاج الدين أبو عبد الله محمد بن بهاء الدين إسحاق بن إبراهيم السّلمىّ المناوىّ الشافعىّ خليفة الحكم بالديار المصرية وقاضى العسكر، ووكيل بيت المال والخاصّ بها في يوم الجمعة سادس شهر ربيع الآخر.
وتوفّى القاضى صلاح الدين عبد الله بن عبد الله بن إبراهيم البرلّسىّ المالكىّ محتسب القاهرة بها في يوم الخميس خامس عشرين صفر وهذا المحتسب هو الذي أمر المؤذّنين أن يقولوا في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء الآخرة، وقبل الفجر: «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله» فاستمرّ ذلك إلى سلطنة الملك الظاهر برقوق، أمر محتسب القاهرة نجم الدّين الطّنبذىّ أن يقولوا ذلك عقيب كلّ أذان إلّا المغرب، واستمرّ ذلك أيضا إلى يومنا هذا، على ما سنبيّنه في وقته- إن شاء الله تعالى- ونذكر سببه، ولم يكن قبل ذلك إلّا الأذان فقط.
وتوفّى قاضى مكّة تقىّ الدين محمد بن أحمد بن قاسم العمرىّ الحرازىّ «1» الشافعىّ معزولا.
وتوفّى بالمدينة النبويّة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الحافظ عفيف الدين أبو السيادة عبد الله بن محمد بن أحمد بن خلف في سادس عشرين شهر ربيع الأوّل- رحمه الله- وكان إماما حافظا متقنا سمع الكثير ورحل البلاد وكتب وحصّل.
وتوفّى السلطان الملك الصالح شمس الدين صالح ابن الملك المنصور نجم الدين غازى ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن الملك السعيد غازى بن أرتق بن أرسلان ابن «2» إيل بن غازى بن ألبى بن تمرداش بن إيل بن غازى بن أرتق الأرتقىّ صاحب(11/85)
ماردين بها، وقد ناهز السبعين سنة من العمر، بعد أن دام في سلطنة ماردين أربعا وخمسين سنة. وتولّى ماردين بعده ابنه الملك المنصور أحمد. وكان الملك الصالح من أجلّ ملوك بنى أرتق حزما وعزما ورأيا وسؤددا وكرما ودهاء وشجاعة وإقداما، وكان يحبّ الفقهاء والفضلاء وأهل الخير وكان له فضل وفهم وذوق للشعر والأدب، وكان يحبّ المديح ويجيز عليه بالجوائز السنيّة. ولصفىّ الدين عبد العزيز الحلى فيه مدائح وغرر في مخلص بعض قصائده- رحمه الله-.
[الكامل]
لم أشك جور الحادثات ولم أقل ... حالت بى «1» الأيام عن حالاتها
مالى أعدّ لها مساوئ جمة ... والصالح السلطان من حسناتها
ملك تقرّ له الملوك بأنه «2» ... إنسان عينيها وعين حياتها
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. وكان الوفاء ثانى عشرين توت. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 766]
السنة الثانية من ولاية الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر. وهي سنة ست وستين وسبعمائة.
فيها توفّى العلّامة قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفرى (بفتح الكاف) الدّمشقىّ الحنفىّ قاضى قضاة دمشق بها.
وكان- رحمه الله- إماما بارعا في مذهبه ماهرا في علم العربيّة بصيرا بالأحكام، باشر مدّة طويلة نيابة عن والده. ثم استقلّ بها إلى أن مات، وكان مشكور السّيرة وأفتى ودرّس سنين.(11/86)
وتوفّى قاضى القضاة زين الدين محمد بن سراج الدين عمر بن محمود الحنفى المعروف بابن السّراج بالقاهرة في ذى القعدة عن تسع وستين سنة ودفن بتربته «1» خارج باب النصر بالقرب من تربة «2» الصوفية- رحمه الله. وكان فقيها بارعا عالما مفتيا يحفظ الهداية في الفقه ودرّس بالجامع «3» الحاكمى وأعاد بجامع «4» أحمد بن طولون والأشرفية وغيرهما وناب في القضاء عن قاضى القضاة جمال «5» الدين التّركمانى الحنفى وكان معدودا من الفقهاء العلماء.
وتوفّى الخطيب أبو المعالى تقىّ الدين محمد بن الخطيب محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن ناصح الحموى ثم الحلبى الشافعى الشهير بابن القوّاس بحلب عن نيّف وخمسين سنة- رحمه الله-.
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلّامة قطب الدين محمد بن محمد «6» الرازى الشافعى الشهير بالقطب التحتانى «7» - رحمه الله. بدمشق عن نيف وستين سنة. كان بحرا في جميع العلوم لا سيما في العلوم العقلية وله تصانيف مفيدة، منها: شرح الشمسية «8» وشرح(11/87)
المطالع «1» والحواشى على كشاف الزمخشرى «2» ، وكانت تصانيفه أحسن من تصانيف شيخه العلّامة شمس الدين الأصفهانى «3» - رحمه الله.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرنبغا بن عبد الله الكاملى نائب غزّة وكان، أصله من مماليك الملك الكامل شعبان ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وكان خصيصا عنده إلى الغاية.
وتوفّى الأمير الشريف أبو على الحسن بن محمد بن الحسن بن علىّ بن الحسن ابن زهرة الحسنىّ الحلبىّ، ولى نقابة الأشراف بحلب بعد والده- رحمهما الله تعالى- واستقرّ أمير طبلخاناه بحلب مدّة ثم صرف عن الوظيفتين ومات بظاهر حلب عن ثلاث وخمسين سنة.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الهادى الفوّىّ الفقيه الشافعىّ في يوم الخميس ثانى عشر جمادى الأولى وقد تصدّر للتدريس والإقراء- رحمه الله.
وتوفّى الشيخ شرف الدين محمد بن أحمد بن أبى بكر المزّىّ الدمشقىّ الحريرىّ المحدّث بمصر في شعبان. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير آسن قجا بن عبد الله من على بك الناصرىّ أحد أمراء الطبلخانات، بعد ما تنقّل في عدّة أعمال مثل البيرة وطرسوس وغيرهما- رحمه الله.(11/88)
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى بن عبد الله الحموىّ الناصرىّ الحاجب وهو على نيابة طرسوس وكان من أعيان الأمراء ومن أكابر المماليك الناصريه.
وتوفّى الشيخ المعمّر الرّحلة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبى بكر بن ابراهيم بن يعقوب [بن الياس «1» ] الأنصارىّ الخزرجىّ المقدسىّ البيانىّ الشاهد، كان أبوه يعرف بابن إمام الصّخرة واشتهر هو بالبيانى، ولد سنة ستّ وثمانين وستمائة فأحضر على زينب بنت مكى في الثانية من عمره وعلى الفخر ابن البخارى في الثالثه وأسمع على أبى الفضل بن عساكر وغيره وأجاز له جماعة وحدّث بالكثير، وعمّر وصار مسند عصره ورحلة زمانه وخرّج له الحافظ تقىّ الدين بن رافع «2» مشيخة وذيّل عليها الحافظ زين الدين العراقىّ. وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشرين ذى القعدة، وآخر من تأخّر ممن سمع عليه شيخنا الرّحلة زين الدين عبد الرحمن الزّركشىّ الخيلىّ.
رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 767]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة سبع وستين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكنانىّ الحموى(11/89)
المصرى الشافعىّ بمكة المشرفة في يوم الاثنين ثامن «1» عشر جمادى الآخرة، ودفن بباب المعلاة بين الفضيل بن عياض وأبى القاسم القشيرىّ «2» ونجم الدين الأصبهانىّ.
ومولده بالعادلية بدمشق في سنة أربع وتسعين وستمائة- رحمه الله- وكان إماما عالما فاضلا ديّنا صالحا، سمع بمصر والشام والحجاز وأخذ عن الأبرقوهىّ «3» والدّمياطىّ «4» وغيرهما من الحفّاظ وجمع وكتب وحدّث وخطب وأفتى ودرّس وتولى القضاء تسعا وعشرين سنة. ثم استعفى وتوجّه إلى مكة مجاورا بها إلى أن مات.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم أيوب العينتابىّ الحنفىّ قاضى العسكر بدمشق- رحمه الله تعالى- وبها كانت وفاته وقد جاوز ستين سنة، وكان إماما بارعا في المذهب وأفتى ودرّس وشرح مجمع البحرين فى الفقه في المذاهب الثلاثة في عشرة مجلدات وسماه: «المنبع «5» » .
وتوفّى الشيخ الرضىّ شيخ خانقاة «6» بيبرس الجاشنكير في ليلة الجمعة حادى عشر شهر رجب ودفن بمقابر الصوفية وتولّى مكانه الشيخ ضياء «7» الدين العفيفى المعروف بقاضى قرم. رحمه الله.(11/90)
وتوفّى السلطان الملك المجاهد سيف الدين أبو يحيى على ابن السلطان الملك المؤيد هزير الدين داود ابن السلطان الملك المظفر يوسف ابن السلطان الملك لمنصور عمر بن نور الدين على رسول التّركمانىّ الأصل اليمنىّ المولد والمنشأ والوفاة، صاحب اليمن بعدن- رحمه الله- فى يوم السبت الخامس والعشرين من شهر جمادى الأولى من هذه السنة وقيل سنة أربع وستين وولى بعده ابنه الملك الأفضل عباس. ومولد المجاهد هذا في سنة إحدى وسبعمائة بتعز ونشأ بها وحفظ التنبيه في الفقه وبحثه وتخرّج على المشايخ منهم: الشيخ الإمام العلامة الصاغانىّ، وتأدّب على الشيخ تاج الدين عبد الباقى وغيرهما، وشارك في علوم وكان جيّد الفهم- رحمه الله- وله ذوق في الأدب وله نظم ونثر، وهذا المجاهد الذي ذكرنا في ترجمة الملك الناصر «1» محمد بن قلاوون أنه أرسل إليه نجدة إلى بلاد اليمن، لما خرج عليه ونازعه الملك الناصر بن الأشرف صاحب زبيد، وسقنا حكايته هناك مفصلا، وطالت مدّة المجاهد في مملكة اليمن وفعل الخيرات وله مآثر: عمر مدرسة عظيمة بتعز وزيادة أخرى وغير ذلك وعمّر مدرسة بمكة المشرفة بالمسجد الحرام بالجانب اليمانىّ مشرفة على الحرم الشريف. وقد استوعبنا ترجمته في المنهل الصافى بأطول من هذا إذ هو كتاب تراجم. والله أعلم
وتوفّى الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الظاهر المعروف بابن الشرف «2» الحنفىّ الفقيه خطيب جامع «3» شيخون وكان من أعيان الفقهاء وله مشاركة وفضل. رحمه الله تعالى.(11/91)
وتوفّى الأمير سيف الدين بطا بن عبد الله أحد أمراء الطبلخانات وقرئ على قبره بعد موته ألف ختمة شريفة بوصيّته هكذا نقل الشيخ تقىّ الدين المقريزى.
رحمه الله.
وتوفّى الشيخ المحدّث العالم العلّامة شمس الدين أبو الثناء محمود بن خليفة بن محمد ابن خلف المنبجىّ ثم الدّمشقىّ التاجر. ومولده في سنة سبع وثمانين وستمائة ومات فى ذى الحجة. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام أحد فقهاء المالكيّة خليل بن إسحاق المعروف بابن الجندى الفقيه المالكىّ- رحمه الله- فى يوم الخميس ثانى عشر شهر ربيع الأوّل.
وكان فقيها مصنّفا صنّف المختصر في فقه المالكية وغيره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. والله سبحانه أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 768]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر. وهي سنة ثمان وستين وسبعمائه.
وفيها كانت وقعة يلبغا العمرىّ الخاصكى صاحب الكبش «1» ومقتلته وسلطنة آنوك بجزيرة الوسطى ولم يتم أمره ولا عدّ من السّلاطين وقد تقدم ذكر ذلك كله مفصلا في ترجمة الملك الأشرف هذا فلينظر هناك.
وفيها توفّى قاضى القضاة أمين الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقىّ الحنفىّ قاضى قضاة حماة وبها توفّى وهو من أبناء الأربعين- رحمه الله- وكان فقيها عالما مشكور السيرة.(11/92)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم المسلّك العارف بالله تعالى عفيف الدين أبو محمد وقيل أبو السيادة عبد الله بن أسعد بن على بن سليمان بن فلاح اليمانىّ اليافعىّ، نزيل مكة وشيخ الحرم وإمام المسلّكين وشيخ الصوفية في ليلة الأحد العشرين من جمادى الآخرة بمكة المشرفة ودفن بالمعلاة بجوار الفضيل بن عياض. ومولده سنة ثمان وستين وستمائة «1» تقريبا وسمع الكثير وبرع في الفقه والعربية والأصلين واللغة والفرائض والحساب والتصوّف والتسليك، وغير ذلك. وكان له نظم جيّد كثير، دوّن منه ديوان وله تصانيف كثيرة منها: «روض «2» الرياحين» [فى حكايات «3» الصالحين] وتاريخ بدأ فيه من أوّل الهجرة وأشياء غير ذلك، ذكرناها مستوفاة فى ترجمته في تاريخنا «المنهل الصافى» وما وقع له مع علماء عصره بسبب قصيدته التى أولها حيث قال في ذلك: [الطويل]
ويا ليلة فيها السعادة والمنى ... لقد صغرت في جنبها ليلة القدر «4»
قال: ومن شعره أيضا قصيدته التي أوّلها: [الطويل]
قفا حدّثانى فآلفؤاد عليل ... عسى منه يشفى بالحديث غليل
أحاديث نجد علّلانى بذكرها ... فقلبى إلى نجد أراه يميل
بتذكار سعدى أسعدانى فليس لى ... إلى الصّبر عنها والسّلوّ سبيل
ولا تذكر الى العامرية إنها ... يولّه عقلى ذكرها ويزيل(11/93)
ومنها المخلص:
ألا يا رسول الله يا أكرم الورى ... ومن جوده خير النّوال ينبل
ومن كفّه سيحون منها وجيحن «1» ... ودجلة تجرى والفرات ونيل
مدحتك أرجو منك ما أنت أهله ... وأنت الذي في المكرمات أصيل
فياخير ممدوح أئب شرّ مادح ... عطا مانح منه الجزاء جزيل
وتوفّى الشيخ الإمام العالم المسلّك الصوفىّ العارف بالله تعالى المعتقد جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن عبد الله بن عمر بن على بن خضر [الكردىّ «2» ] الكورانىّ الأصل المصرىّ الدار والوفاة المعروف بالشيخ يوسف العجمىّ بزاويته بقرافة مصر الصّغرى في يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الأوّل وقيل: جمادى الأولى وقيل:
يوم الأحد النصف من جمادى الأولى ودفن بزاويته المذكوة وقبره يقصد للزيارة وكان- رحمه الله- شيخا حقيقة ومقتدى طريقة، كان إمام المسلّكين في عصره وكان على قدم هائل، كان غالب علماء عصره يقتدون به وكان له أوراد وأذكار هائلة، انتفع بصحبته جماعة من العلماء والصلحاء والفقهاء وكان لا يأخذه في الله لومة لائم، مع فضيلة غزيرة ومعرفة تامّة بالتصوّف وله رسالة سمّاها «ريحان القلوب «3» والتوصّل إلى المحبوب» . وقد شاع ذكر الشيخ يوسف في الدنيا وأثنى عليه العلماء والصلحاء.
حكى أنّ الشيخ يوسف هذا دخل مرة الى الشيخ يحيى بن علىّ بن «4» يحيى الصنافيرى، فقام إليه الشيخ يحيى وكان لا يلتفت إلى أحد وتلقّاه وهو ينشد بقوله: [الوافر](11/94)
ألم تعلم بأنّى صيرفىّ ... بلوت «1» العالمين على محكى
فمنهم زائف لا خير فيه ... ومنهم جائز تجويز شكّ
وأنت الخالص الإبريز منهم ... بتزكيتى وحسبك من أزكّى!
فحصل للشيخ يوسف بهذا الكلام غاية السرور والفرح وكان مع الشيخ يوسف ولده محمد فأقبل عليه الشيخ يحيى وأنشده فقال: [الكامل]
إنّ السّرىّ إذا سرى فبنفسه ... وابن السّرىّ إذا سرى أسراهما
قال: فازداد الشيخ يوسف سرورا على سروره بهذا القول. رحمهما الله تعالى ونفعنا ببركاتهما.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البارع المفتن جمال الدين أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن صالح بن على بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب أبى يحيى عبد الرحيم بن نباته (بضم النون) الفارقىّ: الأصل الجذامى المصرىّ المعروف بابن نباتة بالقاهرة- رحمه الله تعالى- بالبيمارستان «2» المنصورىّ في ثامن شهر صفر من السنة المذكورة. ومولده في مصر في شهر ربيع الأوّل سنة ست وثمانين وستمائة «بزقاق القناديل «3» » ونشأ بمصر وبرع في عدّة علوم وفاق أهل زمانه في نظم القريض وله الشّعر الرائق والنّثر الفائق وهو أحد من حذا حذو القاضى الفاضل وسلك طريقه وأجاد فيما سلك وكان خطّه في غاية الحسن وديوان شعره مشهور وقد مدح الملوك والأعيان ورحل إلى البلاد وانقطع إلى السلطان الملك المؤيّد إسماعيل(11/95)
صاحب حماة وله فيه غرر مدائح وكان مع ما اشتمل عليه من المحاسن قليل الحظ ومن شعره في المعنى: [الكامل]
أسفى «1» لشعر بارع نظمته ... تحتاج بهجته لرفد بارع
درّ يتيم قد تضوّع نشره ... يا من يرقّ على اليتيم الضّائع
ومن شعره أيضا قوله: [السريع]
مقبّل «2» الخدّ أدار الطّلا ... فقال لى في حبّها عائبى
عن أحمر المشروب ما تنتهى ... قلت: ولا عن أخضر الشارب
وله أيضا: [السريع]
وتاجر قلت له إذ رنا ... رفقا بقلب صبره خاسر
ومقلة تنهب طيب الكرى ... منها على عينك يا تاجر «3»
وله أيضا: [الكامل]
قبلته عند النّوى فتمرّرت ... تلك الحلاوة [بالتفرّق «4» والجوى]
ولثمته عند القدوم فحبّذا ... رطب الشّفاه السّكّرىّ بلا نوى
وله: أيضا- عفا الله عنه-[البسيط]
أهلا بطيف على الجرعاء مختلس ... والفجر في سحر كالثّغر في لعس
والنّجم في الأفق الغربىّ منحدر ... كشعلة سقطت من كفّ مقتبس
يا حبّذا زمن الجرعاء من زمن ... كلّ الليالى فيه ليلة العرس(11/96)
وحبّذا العيش مع هيفاء لو ظهرت «1» ... للبدر لم يزه أو للغصن لم يمس
خود لها مثل ما في الظّبى من ملح «2» ... وليس للظّبى ما فيها من الأنس
محروسة بشعاع البيض ملتمعا ... ونور ذاك المحيّا آية الحرس
يسعى ورا لحظها قلبى ومن عجب ... سعى الطّريدة في آثار مفترس
ليت العذول عنى مر أى محاسنها ... لو كان ثنّى عمى عينيه بالخرس «3»
وقد استوعبنا من شعره وأحواله نبذة كبيرة في المنهل الصافى. انتهى والله أعلم.
وتوفّى الوزير الصّاحب فخر الدين ماجد بن قروينة القبطىّ المصرى تحت العقوبة، بعد أن أحرقت أصابعه بالنار، وكان- رحمه الله- وزيرا عارفا مكينا عفيفا رزينا ذا حرمة ونهضة، لم يل الوزارة في الدولة التركية من يشابهه؛ عمّر فى أيام وزارته بيوت الأموال بالذهب والفضة، وترك بالأهراء مغلّ ثلاث سنين وبعض الرابعة، وذلك فوق ثلاثمائة ألف اردبّ. وبالبلاد مغلّ سنتين، بعد ما كان يقوم بالكلف السلطانية وكلفة الأتابك يلبغا العمرىّ الخاصّكى وبعد هذا كله كان يحمل إلى الخزانة الشريفة في كل شهر ستين ألف دينار، وكان فيه محاسن كثيرة، غير أنه كانت نفسه نفسا شامخة، وفيه تهكّم على الناس مع تكبّر، هذا مع الكرم الزائد والإحسان للناس وقلّة الظلم بالنسبة إلى غيره، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم.
وتوفّى الأمير سيف الدين دروط ابن أخى الحاج آل ملك، كان أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وحاجبا ثانيا بها.
وتوفّى الأمير علاء الدين آقبغا بن عبد الله الصّفوى أحد الأمراء الطبلخانات بالديار المصرية وأمير آخور وكان- رحمه الله- من أعيان الأمراء.(11/97)
وتوفّى الأمير علاء الدين آقبغا بن عبد الله الأحمدى اليلبغاوى المعروف بالجلب فى أواخر السنة المذكورة وهو مسجون بثغر الإسكندرية، من جرح أصابه في شهر ذى القعدة؛ وقد تقدّم ذكره في عدّة مواطن. والله أعلم.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله العزّى أحد أمراء الطبلخانات فى يوم الاثنين رابع شهر ربيع الآخر، وكان مثيرا للفتن.
وتوفّى القاضى بهاء الدين حسن بن سليمان بن أبى الحسن بن سليمان بن ريّان ناظر الجيش بحلب في دمشق عن ثمان وستين سنة، وكان رئيسا نبيلا كاتبا بارعا، ولى عدّة وظائف؛ وله نظم ونثر؛ ومن شعره- رحمه الله تعالى-[الرجز]
نحن الموقّعون في وظائف ... قلوبنا من أجلها في حرق
قسمتنا في الكتب لا في غيرها ... وقطعنا ووصلنا في الورق
وتوفّى القاضى تقىّ الدين محمد بن محمد بن عيسى بن محمود «1» بن عبد اللطيف «2» البعلبكى الشافعى الشهير بابن المجد- رحمه الله- كان فقيها فاضلا ولى قضاء طرابلس وغيرها.
وقد تقدم أنّ يلبغا العمرى قتل في هذه السنة؛ انتهى، والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وستة أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 769]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين صاحب الترجمة على مصر؛ وهي سنة تسع وستين وسبعمائة.(11/98)
فيها كانت الوقعة بين الملك الأشرف صاحب الترجمة وبين الأتابك أسندمر الزّينى الناصرى وانتصر الأشرف حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى العلّامة قاضى القضاة جمال الدين عبد الله بن قاضى القضاة علاء الدين علىّ ابن العلامة فخر الدين عثمان بن إبراهيم «1» بن مصطفى بن سليمان الحنفىّ الماردينىّ، الشهير بابن التّركمانىّ بالقاهرة، فى ليلة الجمعة حادى عشر شهر شعبان ودفن بتربة والده خارج باب النصر من القاهرة وتولّى بعده القضاء العلّامة سراج الدين عمر الهندى. ومولده في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقيل سنة خمس عشرة وسبعمائة. وتفقّه على والده وغيره، حتى برع في الفقه والأصول والعربية وشارك في فنون كثيرة، وكان من جملة محفوظاته «الهداية في الفقه» حتى إنه كان يمليها فى دروسه من صدره، وكمّل شرح أبيه لها، وتولّى القضاء بعد وفاة أبيه وباشر القضاء بعفّة وحشمة ورئاسة وتصدّى للإفتاء والتدريس والإقراء سنين في حياة والده الى أن مات. وكان له عبادة وأوراد هائلة ومحاسن كثيرة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى القضاة موفّق الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الملك ابن عبد الباقى الحجّاوى «2» المقدسىّ الحنبلىّ قاضى قضاة الديار المصرية بعد أن حكم بها ثلاثين سنة- رحمه الله تعالى- وتولّى بعده القاضى ناصر الدين نصر الله العسقلانى الحنبلىّ. وكان موفّق الدين مشكور السّيرة جميل الطريقة.(11/99)
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين يوسف «1» بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمود المرداوى المقدسى الحنبلىّ قاضى قضاة دمشق بها عن نيّف وسبعين سنة، مصروفا عن القضاء- رحمه الله تعالى-
وتوفّى قاضى «2» قضاة طرابلس شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ تقي الدين عبد الله الشّبلىّ الدمشقىّ الحنفىّ وهو من أبناء السبعين- رحمه الله- وكان عالما ديّنا مجاهدا مرابطا يلبس السّلاح في سبيل الله ويغزو وسمع الكثير وجمع وألّف وأفتى ودرّس وانتفع الناس به وباشر الحكم خمس عشرة سنة. رحمه الله.
وتوفّى قاضى قضاة حلب «3» صدر الدين أحمد بن عبد الظاهر بن محمد الدّميرى المالكى- رحمه الله- عن نيّف وسبعين سنة. وكان فقيها فاضلا مشكور السّيرة.
وتوفّى الشيخ «4» العلّامة قاضى القضاة بهاء الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن ابن عقيل المصرى الشافعىّ قاضى قضاة الديار المصريّة وفقيه الشافعية- تغمّده الله برحمته- بالقاهرة في ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل ودفن بالقرافة «5» بالقرب من قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- ومولده في المحرّم سنة ثمان وتسعين وستمائة. ونسبه يتّصل إلى عقيل بن أبى طالب رضى الله عنه.(11/100)
ونشأ بالقاهرة. وقرأ على علماء عصره وبرع في علوم كثيرة وصنّف التصانيف المفيدة فى الفقه والعربيّة والتفسير، منها «شرح الألفيّة» لابن مالك و «شرح»
التسهيل» أيضا وباشر قضاء الديار المصريّة مدّة يسيرة وباشر التداريس الجليلة والمناصب الشريفة، وكتب إليه قاضى القضاة بهاء «2» الدين أبو البقاء السّبكى من دمشق يقول:
[الطويل]
تقضّت شهور بالبعاد وأحوال ... جرت بعدكم فيها أمور وأحوال
فإن يسر الله التّلاقى ذكرتها ... وإلا فلى في هذه الأرض أمثال
وتوفّى الشيخ عزّ الدين أبو يعلى حمزة بن قطب الدين موسى بن ضياء الدين أحمد بن الحسين «3» الدّمشقى الحنبلى الشهير بابن شيخ السلامية بدمشق وقد جاوز ستين سنة وكان- رحمه الله- إماما عالما فاضلا كتب على «المنتقى «4» » .
وتوفّى الإمام العالم شهاب الدين أحمد «5» بن لؤلؤ الشهير بابن النّقيب المصرى الشافعى في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكان- رحمه الله- مفتنّا فى علوم وله مصنّفات ونظم حسن.
وتوفّى الشيخ الإمام المحدّث صلاح الدين عبد الله ابن المحدّث شمس الدين محمد بن إبراهيم بن غنائم «6» بن أحمد بن سعيد الصالحىّ الحنفى الشهير بابن المهندس(11/101)
- رحمه الله تعالى- بحلب عن نيفّ وسبعين سنة. وكان محدّثا مسندا سمع الكثير بمصر والشام والحجاز والعراق وكتب وحدّث وحجّ غير مرّة وطاف البلاد ثم استوطن حلب إلى أن مات. رحمه الله.
وتوفّى القاضى «1» علاء الدين علىّ ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله القرشى العمرى كاتب السّر الشريف بالديار المصريّة بالقاهرة في ليلة الجمعة تاسع عشرين شهر رمضان عن سبع وخمسين سنة. وكان قبل موته نزل عن وظيفة كتابة السّر لولده بدر الدين محمد فتمّ أمره من بعده. وكان القاضى علاء الدين- رحمه الله تعالى- إماما في فنّه كاتبا عاقلا طالت أيّامه في السعادة حتّى إنه باشر وظيفة كتابة السّر نيّفا وثلاثين سنة لأحد عشر سلطانا من بنى قلاوون. استوعبنا ذلك كلّه فى «المنهل الصافى» .
قلت: ولا أعلم أحدا ولى كتابة السّر هذه المدّة الطويلة من قبله ولا من بعده سوى العلّامة القاضى كمال الدين محمد بن البارزى- رحمه الله- فإنّه وليها أيضا نحوا من ثلاث وثلاثين سنة على أنه عزل منها غير مرّة وتعطّل سنين، كما سيأتى ذكره في ترجمته إذا وصلنا إليه- إن شاء الله تعالى- وكان للقاضى علاء الدين- رحمه الله- نظم ونثر وترسّل وإنشاء ومن شعره: [البسيط]
بان الحمى لم يمس من بعد بعدكم ... ولا تغنّت به ورقاؤه طربا
يا جيرة خلّفونى في ديارهم ... أجرى الدموع على آثارهم سحبا
قد كان يحزننى واش يراقبنى ... واليوم يحزننى أن ليس لى رقبا
وتوفى الأمير علاء الدين طيبغا بن عبد الله الناصرى المعروف بالطويل نائب حلب بها في يوم السبت وقت الظهر سلخ شوّال ودفن خارج باب المقام وقيل:(11/102)
إنه سمّ، لأنّه كان أراد الخروج عن الطاعة، فعاجلته المنيّة، وقد تقدّم ذكره مع خشداشه يلبغا العمرى الخاصّكى وما وقع له معه في ترجمة الملك الناصر حسن وكيفيّة خروجه من الديار المصرية والقبض عليه فلا حاجة للإعادة هاهنا.
وتوفّى الأتابك سيف الدين أسندمر بن عبد الله الناصرىّ صاحب الواقعة مع الملك الأشرف شعبان محبوسا بثغر الإسكندريّة في شهر رمضان وقد تقدّم أيضا ذكر واقعته مفصّلا في ترجمة الملك الأشرف.
وتوفّى الأمير سيف الدين قنق بن عبد الله العزّى أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية على هيئة عجيبة؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة بمحمد وآله. وخبره أنه كان قد عصى مع أسندمر الناصرى المقدّم ذكره، ركب معه من جملة اليلبغاويّة، فلما انكسرت اليلبغاويّة ساق قنق هذا فرسه إلى بركة «1» الحبش ونزل بشاطئ البركة وبقى يشرب الماء ويستفّ الرمل إلى أن مات، فآنظر إلى هذا الجاهل وما فعل فى نفسه.
وتوفّى السلطان الملك المنصور أحمد ابن الملك الصالح صالح ابن الملك المنصور غازى بن قرا أرسلان بن أرتق الأرتقى صاحب ماردين «2» بها وقد جاوز الستين سنة من العمر وكانت مدّة ملكه ثلاث سنن، وكان صاحب همّة عليّة وحرمة سنية.
رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشاب الفاضل تاج الدين محمد بن السّكّرى- رحمه الله- وكان فاضلا عالما ودرّس وبرع- رحمه الله- وفيه يقول ابن نباتة: [السريع]
سألته في خدّه قبلة ... فقال قولا ليس بالمنكر
عليك بالصبر ومن ذا الذي ... ينفعه الصبر عن السّكّرى(11/103)
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله البشتكى نائب غزّة وأستادار السلطان كان في رابع «1» عشر شعبان.
وتوفّى الأمير سيف الدين باكيش بن عبد الله اليلبغاوىّ الحاجب في صفر، وكان من رءوس الفتن وممن قام على أستاذه يلبغا.
وتوفّى الأمير سيف الدين بيليك بن عبد الله الفقيه الزرّاق، أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية- رحمه الله تعالى- كان فاضلا فقيها ويكتب المنسوب وعنده مشاركة في فنون.
وتوفى الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله المحمدى الخازندار أحد أمراء الألوف بالديار المصرية مسجونا بثغر الإسكندرية. وكان ممن قام مع أسندمر الناصرى.
وتوفّى الأمير سيف الدين جرجى بن عبد الله الإدريسىّ الأمير آخور ثم نائب حلب وهو بدمشق. وكان من أجلّ الأمراء وتنقّل في عدّة وظائف وولايات- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى الأمير سيف الدين جرقطلو «2» بن عبد الله أمير جاندار في صفر وكان من الأشرار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا سواء. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 770]
السنة السادسة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة سبعين وسبعمائة.(11/104)
وفيها توفّى الشيخ بدر الدين محمد بن جمال الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن أحمد الشّريشىّ البكرىّ الوائلىّ الدّمشقى الشافعى بدمشق عن ستّ وأربعين سنة- رحمه الله- وكان عالما فاضلا فقيّها درّس بالإقبالية «1» بدمشق إلى أن مات.
وفيها توفّى قاضى القضاة «2» جمال الذين محمود بن أحمد بن مسعود القونوىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق بها عن ستّ وسبعين سنة وكان- رحمه الله- من العلماء الأماثل، كان رأسا فى الفقهاء الحنفية، بارعا في الأصول والفروع ودرّس بدمشق بعدّة مدارس وأفتى وجمع وألّف- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى القاضى شمس «3» الدين محمد بن خلف بن كامل الغزّى الشافعىّ بدمشق عن بضع وخمسين سنة. وكان عالما، درّس بدمشق وأفتى وباشر بها نيابة الحكم إلى أن مات- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى الطواشى ناصر الدين شفيع بن عبد الله الفوّىّ نائب مقدّم المماليك السلطانيّة في يوم الأحد ثامن شعبان وكان من أعيان الخدّام وطالت أيامه فى السعادة.(11/105)
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون «1» بن عبد الله بن غلبك الأزقى رأس نوبة النّوب بالديار المصريّة في العشر «2» الأوّل من جمادى الآخرة. وكان من أعيان الأمراء وهو أحد من ثار على يلبغا.
وتوفّى الأمير صلاح «3» الدين خليل بن أمير على ابن الأمير الكبير سلّار المنصورى وكان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة وهو أحد من ركب مع الأتابك أسندمر.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن طقبغا الناصرى أحد أمراء الطبلخانات أيضا.
وتوفّى الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير سيف الدين صرغتمش الناصرى وكان أيضا من أمراء الطبلخانات وله وجاهة في الدولة، وفيه شجاعة وإقدام ودفن بمدرسة «4» أبيه. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأديب الموّال شهاب الدين أحمد بن محمد «5» بن أحمد المعروف بالفار الشّطرنجىّ العالية، وكان بارعا في المواليا وله شعر جيّد وكان ماهرا في الشّطرنج.
وتوفّى الأمير سيف الدين قشتمر بن عبد الله المنصورى نائب حلب بها مقتولا بيد العرب في وقعة كانت بينه وبينهم على تلّ «6» السلطان وقتل معه ولده، وقد تقدّم(11/106)
أنّ قشتمر هذا ولى نيابة طرابلس ونيابة دمشق ونيابة السلطنة بالديار المصريّة.
ثم أخرج من مصر إلى نيابة حلب فلم تطل مدّته على نيابة حلب وقتل- رحمه الله- وكان شجاعا مقداما عارفا عاقلا مدبّرا سيوسا دبّر أمر السلطنة سنين وحمدت سيرته.
وتوفّى القاضى عماد الدين محمد بن شرف الدين موسى بن سليمان الشهير بالشيرجى بدمشق. كان ولى حسبة دمشق ونظر خزانتها وكان له ثروة ولديه فضيلة وعنده سياسة.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقتمر بن عبد الله من عبد الغنى الصغير في شهر رمضان، وآقتمر هذا غير الأمير الكبير آقتمر عبد الغنى وكان آقتمر هذا من جملة أمراء الطبلخانات. والله أعلم.
وتوفّى السلطان صاحب تونس وما والاها من بلاد الغرب أبو إسحاق إبراهيم ابن أبى بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى في العشرين من شهر رجب بعد ما ملك تسع عشرة سنة- رحمه الله- وكان من أجلّ ملوك الغرب، كان شجاعا وله مواقف وفتوحات هائلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة اذرع وعشرون إصبعا. مبلغ لزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 771]
السنة السابعة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.(11/107)
وفيها توفّى «1» قاضى القضاة شرف الدين أبو العبّاس أحمد ابن الشيخ شرف الدين حسن بن الخطيب شرف الدين أبى بكر عبد الله ابن الشيخ أبى عمر محمد بن أحمد ابن محمد بن قدامة الشهير بابن قاضى الجبل الحنبلىّ المقدسىّ الصالحىّ قاضى قضاة دمشق بها في ثالث عشر شهر رجب عن ثمان وسبعين سنة- رحمه الله- وكان إماما عظيم القدر انتهت إليه رياسة مذهبه، وكان صحب ابن تيميّة وسمع منه وتفقّه به وبغيره، وفي هذا المعنى يقول: [الوافر]
نبيّي أحمد وكذا إمامى ... وشيخى أحمد «2» كالبحر طامى
واسمى أحمد أرجو «3» بهذا ... شفاعة سيّد الرسل الكرام
وتوفى قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضى القضاة تقىّ الدين علىّ ابن عبد الكافى بن علىّ بن تمّام بن يوسف بن موسى بن تمّام الأنصارىّ السلمىّ السّبكىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق بها، فى عصر يوم «4» الثلاثاء سابع شهر ذى الحجّة ودفن بسفح قاسيون «5» . تغمّده الله برحمته عن أربع وأربعين سنة. وكان إماما بارعا مفتنّا في سائر العلوم وله تصانيف شتّى: منها «شرح المنهاج «6» » فى الفقه للنّووىّ(11/108)
«وشرح مختصر ابن الحاجب» ومنهاج «1» البيضاوىّ، وغير ذلك ودرّس «بالعادليّة «2» » و «والغزاليّة «3» » و «الأمينيّة «4» » و «الناصريّة «5» » و «دار الحديث «6» الأشرفيّة» «والشامية»
البرانيّة» وباشر قضاء دمشق أربع مرّات وخطب بالجامع الأموىّ، وقدم القاهرة وتولّى مكانه أخوه أبو حامد بهاء الدين واستقرّ تاج الدين هذا مكان أخيه أبى حامد المذكور في تدريس «الشّيخونية «8» » بمصر، وقيل: إنه كان أفقه من أخيه أبى حامد المذكور.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن على بن عبد الملك المسلّاقى السّلمى قاضى قضاة دمشق بالقاهرة(11/109)
وهو من أبناء السبعين سنة وكان- رحمه الله- عالما فاضلا سمع بالإسكندرية «1» ومصر والشام وأخذ عن القونوىّ وأبى «2» حيّان وغيرهما وولى نيابة الحكم بدمشق.
ثم استقلّ بالقضاء أكثر من عشرين سنة.
وتوفّى الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن أحمد الماردينى الشهير بابن خطيب الموصل- رحمه الله- مات بحماة وهو من أبناء الستين سنة.
وكان أديبا فاضلا، كان يتنقّل في البلاد وكان يكتب المنسوب وله مشاركة.
ومن شعره: [المتقارب]
ليهنك ما نلت من منصب ... شريف له كنت مستوجبا
وما حسن أن تهنّى به ... ولكن نهنّى بك المنصبا
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير تنكز الحسامى الناصرىّ نائب الشام، كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية وله وجاهة في الدولة.
رحمه الله.
وتوفّى الوزير الصاحب شمس الدين موسى بن أبى إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم القبطى المصرىّ، أسلم أبوه وتولّى نظر الجيش والخاصّ بعد كريم الدين الكبير واستناب ابنه هذا وكان يوم ذاك ناظر الخزانة الشريفة.
فلمّا مات أبوه في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة استقرّ مكانه في نظر الخاصّ، فباشر فيه مدّة وصرف بالنشو واستقرّ في نظر الجيش عوضا عن الفخر، فلم تطل مدّته وأمسك بسعى النّشو وسلّم هو وأخوه علم الدين ناظر الدولة إلى النّشو،(11/110)
فأوقع الحوطة على موجودهما، فوجد لهما ما لا يوصف: من ذلك أربعمائة سراويل لزوجته واستقرّ عوضه في نظر الجيش مكين الدين إبراهيم بن قروينة واستمرّ موسى في المصادرة وأجرى عليه العذاب ألوانا، وأمره أعجب من العجب وهو أنه كان قبل مصادرته نحيف البدن قليل الأكل، لا يزال سقيما بالرّبو وضيق النّفس، لزمه «1» الحمّى الصّالبة «2» ، فلا يبرح محتميا ويلبس الفراء شتاء وصيفا، فبنى له أبوه بيتا فى الروضة ووكّل به الأطباء، يدبّرون له الأغذية الصالحة ويعالجونه وهو على ما هو عليه إلى أن قبض عليه وصودر وسلّم لوالى القاهرة ناصر الدين محمد بن المحسنى.
ثم نقل إلى لؤلؤ شادّ الدواوين وكان النّشو يغريهما على قتله، فضمن لؤلؤ للنشو قتله، فضربه أوّل يوم مائتى شيب «3» وسعطه «4» بالماء والملح وبالخل والجير حتى قوى عنده أنه مات فأصبح سويّا، فضربه بعد ذلك حتى أعياه أمره، وعقّد «5» له المقرعة التى يضربه بها، فكانت إذا نزلت على جنبه تثقبه، فكان يضربه بتلك المقرعة حتى يقولوا: مات فيصبح فيعيدون عليه العذاب والتّسعيط، فصار يقيم اليوم واليومين والثلاثة لا يمكّن فيها من أكل ولا شرب. وكانوا إذا عاقبوه وفرغوا رموه عريانا فى قوّة الشتاء على البلاط فيتمرّغ عليه بجسده وهو لا يعى من شدّة الضرب والعقوبة، كل ذلك والنّشو يستحثّ على قتله. ثم عصروه في كعبيه وصدغيه، حتى لهجوا بموته وبشّروا النشر بموته غير مرة. ثم يتحرّك فيجدوه حيّا، واستمرّ على ذلك أشهرا ثم ترك نحو الشهر لمّا أعياهم أمره وأعادوا عليه العقوبة وعلى زوجته بنت الشمس غبريال وكانت كحاله في ضعف البدن والنّحافة وكانت حاملا، فولدت وهي تعصر،(11/111)
فعاش ولدها حتى كبر، وما زالا في العقوبة حتى هلك النّشو وهو يقول: أموت وفي قلبى حسرة من موسى بن التاج، فمات النشو ولم ينل فيه غرضه. قيل: إنّ مجموع ما ضرب موسى هذا ستة عشر ألف شيب، حتى إنه ضرب مرة فوقع من ظهره قطعة لحم بقدر الرّغيف، وأعجب من هذا كلّه أنه لمّا أطلق تعافى مما كان به من الأمراض المزمنة القديمة. وصار صحيح البدن. ثم أفرج عنه الملك الناصر محمد وأكرمه وأنعم عليه ببغلة النشو وردّ عليه أشياء كثيرة وولّاه نظر جيش دمشق، ثم ولى نظر الخاصّ ثانيا وأضيف إليه نظر الخزانة الشريفة وساءت سيرته واستعفى وأعيد إلى دمشق وزيرا، ولم يزل يتنقّل في الوظائف إلى أن مات في هذا التاريخ.
وقد أطلنا فى ذكره لما أوردناه من الغرائب. انتهى.
وتوفّى الأمير علاء الدين طيبغا المحمدىّ في شهر صفر وكان أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر بن عبد الله المؤمنى الأمير آخور الكبير بالديار المصرية- رحمه الله- وكان من أجل الأمراء فضلا ومعرفة ودينا وعفّة عن الأموال، وتولّى عدّة وظائف وتنقّل في الولايات، مثل نيابة حلب والإسكندرية، ثم استقرّ أمير آخور إلى أن مات، وهو صاحب المصلّاة «1» بالرّميلة، والسبيل المعروف بسبيل المؤمنىّ. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين، أسندمر بن عبد الله الكاملىّ زوج خوند القردمية «2» بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون وكان أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية ومات بالقاهرة.(11/112)
وتوفّى الأمير سيف الدين آروس بغا بن عبد الله الخليلىّ أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة في شهر رجب وهو أحد من قام على يلبغا.
وتوفّى الأمير سيف الدين أسن بن عبد الله الصرغتمشىّ أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة بدمشق بعد ما نفى إليها وكان من الأشرار.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله العلائىّ المعروف «فرفور» كان أحد أمراء الطبلخانات بمصر وكان خصيصا عند الملك الأشرف. رحمه الله.
وتوفّى الأمير علاء الدين آقبغا بن عبد الله اليوسفىّ الناصرىّ الحاجب في شعبان بمدينة منفلوط «1» ، وقد توجّه إلى لقاء هدية صاحب اليمن إلى السلطان الملك الأشرف.
وتوفّى الأمير سيف الدين أينبك بن عبد الله الأزقىّ أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة ثانى بها وكان من الشجعان.
وتوفّى الأمير الأكز بن عبد الله الكشلاوىّ وهو منفىّ بحلب في شهر ربيع الأوّل وكان من أعظم الأمراء وأوجهم، ولى الوزر والأستدارية بمصر ونالته السعادة وعظم في الدّول إلى أن تغيّر عليه الملك الأشرف شعبان وعزله ثم نفاه إلى حلب لأمر اقتضى ذلك.
وفيها كان بدمشق طاعون عظيم وانتشر إلى عدّة بلاد ومات فيه خلائق لا تحصى كثرة. والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة وعشرون إصبعا- مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.(11/113)
[ما وقع من الحوادث سنة 772]
السنة الثامنة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر، وهي سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
وفيها توفّى الشيخ العالم المفتّن جمال «1» الدين أبو محمد عبد الرحيم الحسن بن علىّ ابن عمر القرشىّ الأموىّ الإسنائىّ «2» الشافعىّ شيخ الشافعية بالديار المصرية. مات فجأة في ليلة الأحد ثامن «3» عشرين جمادى الأولى عن سبع وستين سنة، رحمه الله تعالى.
وكان إماما عالما مصنّفا بارعا، درّس بالأقبغاوية «4» والفاضلية «5» والفارسية «6» ،(11/114)
ودرّس التفسير بجامع أحمد بن طولون وتصدّر بالملكية «1» وأعاد «بالناصرية «2» » والمنصورية وغيرهما. وله مصنّفات كثيرة مفيدة: منها «كتاب المهمّات على الرافعىّ» و «شرح المنهاج في الفقه» و «شرح منهاج البيضاوىّ في الأصول» وله «كتاب طبقات الفقهاء الشافعية» و «كتاب تخريج الفروع على الأصول» وسمّاه «التمهيد» و «كتاب تخريج الفروع على العربية» وسماه «الكوكب» و «شرح عروض ابن الحاجب» و «مختصر الإمام الرافعىّ» و «كتاب الجمع والفرق» . وكان له نظم ليس بذاك، من ذلك ما قاله يمدح كتاب الرافعىّ فى الفقه: [الكامل]
يا من سما نفسا إلى نيل العلا ... ونحا الى العلم الغزير الرافع
قلّد سمىّ المصطفى ونسيبه ... والزم مطالعة العزيز الرافعى
وتوفّى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الصالح برهان الدين إبراهيم [بن عمر بن أحمد «3» ] العمرىّ الصالحىّ الحنفى، قاضى قضاة الإسكندرية(11/115)
وبها توفى- رحمه الله- وقد قارب سبعين سنة وكان فاضلا عالما أفتى ودرّس وخطب وأفاد وأعاد وأقام بحلب مدّة، يقرئ ويفتى. ثم قدم إلى مصر وأقام بها أيضا إلى أن ولى قضاء الإسكندرية مسئولا في ذلك.
وتوفّى الأمير الكبير «1» علاء الدين علىّ الماردينىّ، ثمّ الناصرى نائب السلطنة بدمشق، ثم بالديار المصرية في العشر الأوّل من المحرّم عن بضع وستين سنة وكان أميرا جليلا دينا خيرا عفيفا عاقلا، تنقل في الأعمال الجليلة سنين عديدة وطالت أيامه في السعادة، وكان- رحمه الله- منقادا إلى الشريعة في أحكامه وأفعاله، مشتغلا بالفقه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة- رضى الله عنه- مستحضرا له وكان قريبا من الناس محببّا للرعية. وأجلّ أعمال وليها نيابة حلب ثمّ دمشق ثلاث مرّات فيما أظنّ. والله أعلم. ثم نيابة السلطنة بالديار المصرية. وأمّا الولايات التي دون هؤلاء فكثير.
وتوفّى الأمير سيف الدين جرجى بن عبد الله الإدريسىّ الناصرىّ بدمشق عن بضع وخمسين سنة. وكان أصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، وترقّى إلى أن ولى نيابة حلب. ثمّ عزل بعد مدّة وأنعم عليه بإمرة بدمشق، فتوجّه إليها وأقام بها إلى أن مات- رحمه الله- وكان عالى الهمّة، غزير النعمة، وله سعادة وافرة، وقد تقدّم وفاته، والأصحّ أنه توفّى في هذه السنة.
وتوفّى قاضى «2» قضاة المدينة النبوية- على الحالّ بها أفضل الصلاة والسلام- نور الدين أبو الحسن علىّ بن عز الدين أبى المحاسن يوسف بن الحسن [بن محمد(11/116)
ابن «1» محمود] الزّرندىّ «2» الحنفىّ المدنىّ- رحمه الله- كان عالما فاضلا ولى قضاء المدينة سنين.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله من قيران السّلّارىّ أحد أمراء الطبلخانات ونقيب الجيوش المنصورة في شهر جمادى الأولى، وكان قديم هجرة وله كلمة في الدولة وحرمة وقرب من الملوك.
وتوفّى الأمير سيف الدين أسندمر بن عبد الله العلائىّ الحاجب المعروف «حرفوش» بعد ما أنعم عليه يإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق على هيئة النّفى، فإنه كان من أكابر أمراء الألوف بالديار المصرية وكان ممن يخاف شرّه.
وتوفّى القاضى بدر الدين أبو علىّ الحسن بن محمد بن صالح [بن محمد بن محمد «3» ] النابلسىّ «4» الفقيه الحنبلىّ- رحمه الله- مفتى دار العدل «5» فى شهر جمادى الآخرة.
وتوفّى الشيخ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن عماد الدين إسماعيل بن برهان الدين إبراهيم [بن «6» موسى] الفقيه المالكىّ، المعروف بابن الظريف في أربع عشر شهر جمادى الأولى. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد الزّركشى الحنبلىّ في رابع عشرين جمادى الأولى أيضا- رحمه الله تعالى- وكان من أعيان الفقهاء الحنابلة.(11/117)
وتوفّى الأمير سيف الدين منكوتمر «1» بن عبد الله من عبد الغنى الأشرفى الدّوادار فى شهر جمادى الأولى وكان من خواصّ السلطان الأشرف شعبان ومن مماليكه.
وتوفّى القاضى تاج الدين أبو عبد الله محمد بن البها المالكى المعروف بابن شاهد الجمالى- تغمده الله تعالى- كان فقيها وتولّى إفتاء دار العدل وشاهد الجيش وناظر البيمارستان «2» المنصورى ووكيل الخاصّ وتوجّه إلى الحجاز فمات في عوده بمنزلة العقبة «3» .
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح صاحب الكرامات الخارقة أبو زكرياء يحيى بن على ابن يحيى المغربى الأصل الصّنافيرى الضرير المجذوب، قدم جدّه يحيى من الغرب ونزل عند الشيخ أبى العباس البصير بزاويته «4» بجوار باب الخرق وولد له على أبو يحيى هذا وكانت له أيضا كرامات، وقدم في التجريد وكان الغالب عليه الوله، وذكر له الموفّق «5» كرامات جمّة. ثم ولد له يحيى هذا صاحب الترجمة مكفوفا مجذوبا، إلا أنه له كلام خارق وأحوال عجيبة، وكان الغالب عليه الوله، كما كان أبوه، وكان لا يفيق من سكرته، لا يزال مغمورا في نشأته، لا يفرّق بين من هو(11/118)
فى حضرته من سلطان ولا أمير ولا غنىّ ولا فقير، والناس كلّهم عنده سواء، وكان يقيم أوّلا بالقرافة عند ضريح «1» أبى العباس البصير، وبنى له هناك قبّة وجعل لها بابين:
بابا ظاهرا وبابا في الأرض نازلا، وكان إذا أحسّ بالناس هرب من ذلك الباب الذي في الأرض، فلمّا كثر ترداد الناس إليه للزيارة من كلّ فجّ، صار يرجمهم بالحجارة، فلم يردّهم ذلك عنه رغبة في التماس بركته، ففرّ منهم وساح في الجبال مدّة طويلة. ثم نزل صنافير «2» بالقليوبية من قرى القاهرة، فكان كل يوم في أيام الشتاء يغطس في الماء البارد صبيحة نهاره وفي شدّة الحرّ يجلس عريانا مكشوف الرأس فى الشمس، وليس عليه سوى ما يستر عورته، فكان يقيم على سقيفة طابونة سوداء، أقام على ذلك ثلاث سنين، لا ينزل عنها وبنى له بعض الأمراء زاوية، فلم يسكنها ولا التفت اليها وكان الناس يتردّدون اليه فوجا فوجا ما بين قاض وعالم وأمير ورئيس وهو لا يلتفت إلى أحد منهم.
ومن كراماته- نفعنا الله به- أنه أتى مرة بمنسف «3» خشب فيه طعام أرز، فقال لهم: سخّنوه، فلم يسعهم إلا موافقته، ووضعوا المنسف الخشب على النار، حتى اشتدّت سخونة الطعام ولم تؤثّر النار في الخشب، ثم عاد إلى القرافة فمات بها في يوم الأحد سابع عشرين شهر شعبان وصلّى عليه بمصلّاة «4» خولان فحرز عدّة من صلّى عليه من الناس، فكانوا زيادة على خمسين ألفا. والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.(11/119)
[ما وقع من الحوادث سنة 773]
السنة التاسعة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
فيها رسم السلطان الملك الأشرف للأشراف بسائر الأقطار أن يسموا عمائمهم بعلائم خضر، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في ترجمة الأشرف. والله أعلم.
وفيها توفّى القاضى كمال الدين أبو الغيث محمد ابن القاضى تقىّ الدين عبد الله ابن قاضى القضاة نور الدين أبى عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن [عبد الخالق «1» بن] عبد القادر الأنصارىّ الدمشقىّ الشافعىّ الشهير بابن الصائغ بدمشق عن بضع وأربعين سنة. رحمه الله. وكان ولى قضاء حلب مرتين ثم ولى قضاء حمص، ثم عاد إلى دمشق، وبها كانت وفاته.
وتوفّى الشيخ العالم العلّامة قاضى القضاة «2» سراج الدين أبو حفص عمر ابن الشيخ نجم الدين إسحاق بن شهاب الدين أحمد الغزنوىّ الهندىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصرية بها في ليلة الخميس سابع شهر رجب، بعد أن ولى القضاء نحو خمس عشرة سنة- رحمه الله- وتولّى بعده القضاء صدر الدين «3» محمد بن جمال الدين التّركمانىّ؛ ومولد السراج هذا في سنة أربع أو خمس وسبعمائة تخمينا، وقدم القاهرة قبل سنة أربعين [وسبعمائة]- رحمه الله- وكان إماما عالما بارعا مفتنّا في الفقه والأصلين والنحو وعلمى المعانى والبيان وغيرهم، وناب في الحكم بالقاهرة وتصدّى للإفتاء والتدريس والإقراء سنين، ثمّ تولّى عدّة وظائف دينيّة، وهو أحد من قام(11/120)
مع ابن النقّاش في قضية الهرماس حتى وغّرا خاطر السلطان عليه ووقع له معه ما وقع.
وكان السراج- رحمه الله تعالى- إماما مصنّفا: منها «شرح المغنى» فى مجلدين و «شرح البديع» لابن السّاعاتىّ وغير ذلك، وقد ذكرنا من علوّ همّته وغزير فضله فى «المنهل الصافى» نبذة كبيرة جيّدة تنظر هناك.
وتوفّى الشيخ الأديب أبو زكرياء يحيى بن محمد بن زكرياء بن محمد بن يحيى العامرىّ الحموىّ الشهير بالخبّاز بدمشق وهو من أبناء الثمانين وكان بارعا فى النّظم، نظم سائر فنون الأدب وكان فيه تشبّع كبير ومن شعره: [الوافر]
بعيشك هاتها صفراء صرفا ... صباحا واطّرح قول النّصوح
فإنّ الشّمس قد بزغت «1» بعين ... تغامزنا على شرب الصّبوح
وله أيضا: [السريع]
باكر عروس الرّوض واستجلها ... وطلّق الحزن «2» ثلاثا بتات
بقهوة حلّت لنا كلّما ... حلّت لآلى القطر جيد النبات
وتوفّى العلّامة «3» قاضى القضاة بهاء الدين أبو حامد أحمد ابن قاضى القضاة تقىّ الدين أبى الحسن علىّ ابن الشيخ زين الدين عبد الكافى بن علىّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى بن تمام الأنصارىّ السّبكى الشافعىّ. بمكة المشرفة عن ست وخمسين سنة- رحمه الله- وكان إماما عالما بارعا فى عدّة من الفنون وسمع من الحفّاظ، وأخذ من والده وعن أبى حيّان «4» - وهو أسنّ من أخيه تاج الدين المقدّم ذكره-(11/121)
ودرّس بقبّة الشافعىّ والجامع «1» الطولونىّ والمنصورية «2» والشّيخونية «3» ، وباشر قضاء العسكر وإفتاء دار العدل بمصر وخطب وألّف وصنّف وتولّى قضاء الشام عوضا عن أخيه تاج الدين وتولّى أخوه تاج الدين وظائفه بمصر، وقد تقدّم ذلك.
ثم ترك قضاء دمشق عفّة ورجع إلى مصر يدرّس ويفتى ثم جاور بمكّة وبها مات- رحمه الله-.
وتوفّى الأمير سيف الدين أيدمر بن عبد الله الشّيخى أحد أمراء الألوف بالديار المصريّة. ثم نائب حماة وكان من أعيان الأمراء، وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن.
وتوفّى الشيخ الفقير المعتقد عبد الله درويش- رحمه الله- فى سابع عشر «4» شهر رجب. وكان فقيرا مباركا وللناس فيه محبة واعتقاد حسن.
وتوفّى الأديب الشاعر شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان بن شيخان «5» المعروف بابن المجد البكرى التّيمىّ القرشىّ البغدادىّ في عاشر شهر رمضان بمنية «6» ابن خصيب من صعيد مصر ومن شعره: [الوافر]
أتى المحبوب في السّنجاب يسعى ... وطلعته لناظره تروق
فتبصر طوقه السّنجاب سحبا ... وفيها من تبسّمه بروق
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وخمسة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.(11/122)
[ما وقع من الحوادث سنة 774]
السنة العاشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
وفيها استقرّ الأمير ألجاى اليوسفىّ أتابك العساكر بديار مصر بعد موت منكلى بغا الشّمسى.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرّخ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن الخطيب شهاب الدين أبى حفص عمر بن كثير القرشىّ الشافعىّ صاحب «التاريخ» و «التفسير» فى يوم الخميس سادس عشرين شعبان بدمشق. ومولده بقرية شرقىّ بصرى «1» من أعمال دمشق في سنة إحدى وسبعمائة- رحمه الله تعالى- قال العبنىّ رحمه الله: كان قدوة العلماء والحفّاظ، وعمدة أهل المعانى والألفاظ. وسمع وجمع وصنّف ودرّس وحدّث وألّف. وكان له اطّلاع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهى إليه علم التاريخ والحديث والتفسير، وله مصنّفات عديدة مفيدة. انتهى كلام العينى- رحمه الله.
قلت: ومن مصنّفاته «تفسير القرآن «2» الكريم» فى عشر مجلدات، وكتاب «طبقات الفقهاء» و «مناقب الإمام الشافعى» رضى الله عنه والتاريخ المسمّى «بالبداية والنّهاية» حذا فيه حذو ابن الأثير- رحمه الله- فى «الكامل» والتاريخ أيضا في عشرة مجلدات، وخرّج أحاديث «مختصر ابن الحاجب» وكتب(11/123)
على «البخارى» ولم يكمّله- رحمه الله تعالى- ولما مات رثاه بعض طلبته رحمه الله بقوله: [الطويل]
لفقدك طلّاب العلوم تأسّفوا ... وجادوا بدمع لا يبيد غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدّما ... لكان قليلا فيك يا ابن كثير
وتوفّى الشيخ الحافظ تقىّ الدين محمد بن جمال الدين رافع بن هجرس بن محمد ابن شافع بن السّلّامىّ «1» المصرىّ الشافعىّ بدمشق عن ستين سنة، وكان- رحمه الله- إماما في الحديث، رحل البلاد وسمع بمصر والشام وحلب والحجاز وكتب لنفسه مشيخة و «ذيّل على تاريخ البخارى» رحمه الله.
وتوفّى الأديب زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الخضر بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يوسف بن عثمان السّنجارىّ، قدم حلب وباشر بها توقيع الدّرج إلى أن مات بها عن نيّف وخمسين سنة. ومن شعره في مغنّ ورأيته لغيره: [الكامل]
أضحى يخرّ لوجهه قمر السّما ... وغدا يلين لصوته الجلمود
فإذا بدا فكأنّما هو يوسف ... وإذا شدا فكأنّه داود
وتوفّى الأمير مظفّر الدين موسى ابن الحاج أرقطاى الناصرىّ نائب صفد بها، وتولّى عوضه نيابة صفد الأمير علم دار المحمدىّ، وكان مظفّر الدين من الأماثل، وله وجاهة في الدّول وثروة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف منكلى بغا بن عبد الله الشمسىّ أتابك العساكر بالديار المصرية بها في شهر جمادى الأولى عن بضع وخمسين سنة، كان من أجلّ الأمراء وأعظمهم حرمة وهيبة ووقارا، وكان فيه ديانة، وله معرفة بالأمور، وله اشتغال جيّد(11/124)
فى علوم متعدّدة، ولى نيابة صفد وطرابلس وحلب ودمشق ثم أعيد إلى حلب لإصلاح البلاد الحلبيّة، فعاد إليها ومهّد أمورها، ثم طلبه الملك الأشرف إلى الديار المصرية وسأله أن يلى النيابة بها فامتنع من ذلك، فأخلع عليه باستقراره أتابك العساكر الديار المصرية وزوّجه الأشرف بأخته: «خوند سارة» فاستمرّ على ذلك إلى أن مات في التاريخ المذكور- رحمه الله-.
وتوفّيت خوند بركة خاتون والدة السلطان الملك الأشرف هذا وزوجة الأمير ألجاى اليوسفى في شهر ذى القعدة، ودفنت بمدرستها «1» التى أنشأتها بخط «2» التّبّانة، وبسبب ميراثها كانت الوقعة بين ابنها الملك الأشرف وزوجها ألجاى اليوسفى، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه مفصّلا في أوائل هذه الترجمة، وكانت خيّرة ديّنة عفيفة جميلة الصورة. ماتت في أوائل الكهولية. رحمها الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة ولىّ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الملّوىّ «3» الدّيباجىّ الشافعىّ- رحمه الله- ذو الفنون بالقاهرة في ليلة الخميس خامس عشرين شهر ربيع الأوّل عن بضع وستين سنة. وكان من أعيان فقهاء الديار المصرية.
وتوفّى الشيخ العارف بالله تعالى المعتقد المسلّك بهاء الدين محمد بن الكازرونىّ فى ليلة الأحد خامس شهر ذى الحجّة بزاويته «4» بالمشتهى بالرّوضة وكان- رحمه الله تعالى رجلا صالحا معتقدا وللناس فيه محبّة زائدة واعتقاد حسن.(11/125)
وتوفّى القاضى بدر الدين محمد بن محمد ابن العلامة شهاب الدين محمود بن سليمان ابن فهد الحلبىّ ثمّ الدّمشقى الحنبلىّ ناظر جيش حلب بها- رحمه الله- وكان رئيسا كاتبا فاضلا من بيت كتابة وفضل- رحمه الله تعالى- والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر لأجل التحويل، حوّلت هذه السنة إلى سنة خمس وسبعين.
[ما وقع من الحوادث سنة 775]
السنة الحادية عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
فيها كانت وقعة الملك الأشرف المذكور مع زوج أمّه الأتابك ألجاى اليوسفى وغرق ألجاى في بحر النيل حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى قاضى القضاة بدر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن صدر الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن المخزومىّ المصرىّ الشافعىّ الشهير بابن الخشّاب وهو في البحر المالح بالقرب من الأزلم «1» عائدا إلى الديار المصريّة وهو من أبناء الثمانين سنة- رحمه الله- وكان عالما مفتيا مدرّسا، شاع ذكره فى الأقطار وانتفع الناس بعلمه وولى نيابة الحكم بالقاهرة. وباشر قضاء حلب استقلالا. ثم ولى القضاء بالمدينة النبويّة وأراد التوجّه إلى نحو مصر فأدركته المنيّة فى طريقه- رحمه الله-.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة أرشد الدين أبو الثناء محمود بن قطلوشاه السّرائىّ الحنفىّ بالقاهرة في جمادى الآخرة عن نيّف وثمانين سنة- رحمه الله(11/126)
تعالى- وكان بحرا في العلوم لا سيّما العلوم العقلية والأدبية، وأقام بالقاهرة سنين كثيرة يشتغل ويقرئ، وانتفع به عامّة الطلبة من كلّ مذهب، وتولّى مشيخة الصّرغتمشيّة «1» بعد وفاة الشيخ العلّامة قوام الدّين أمير كاتب الإتقانىّ فباشر تدريسها إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين طيبغا بن عبد الله الفقيه الحنفىّ أحد أمراء العشرات بالديار المصرية بالقاهرة وقد ناهز الستين سنة، وكان فقيها مستحضرا لفروع مذهبه ويشارك في فنون كثيرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمرقيا بن عبد الله العمرىّ الجوكندار، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية وسنّه نحو الخمسين سنة وهو خشداش يلبغا العمرىّ الخاصّكى. وتمرقيا باللغة التركية: جبل حديد، فتمر هو الحديد وقيا بفتح القاف هو الصخر العظيم.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله الجمالىّ، أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة، مات بمنزلة «2» قاقون من طريق الشام في شهر ذى الحجة، كان الملك الأشرف أرسله في مهمّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين آل ملك بن عبد الله الصرغتمشى أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة وكاشف الوجه البحرى ونقيب الجيوش المنصورة في شهر شوّال. وكان أصله من مماليك الأمير صرغتمش الناصرىّ صاحب المدرسة بالصليبة المقدّم ذكره. وكلّ من نذكره في هذه السنين بالصرغتمشى فهو منسوب إليه، ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.(11/127)
وتوفّى الأمير سيف الدين آقبغا بن عبد الله من مصطفى اليلبغاوىّ، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية وهو مجرّد بالإسكندرية وهو ممن قام على أستاذه يلبغا.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله الأحمدىّ أحد مقدّمىّ الألوف بالديار المصرية ولالا الملك الأشرف شعبان صاحب الترجمة وكان معظما في الدول وله همة ومعرفة وشجاعة وحرمة وافرة في الدولة الأشرفية. وقد مرّ ذكره في عدّة حكايات، ولمّا ثقل على الملك الأشرف أخرجه إلى نيابة الإسكندرية فمات بها فى خامس عشر ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ نور الدين علىّ بن الحسن بن علىّ الإسنائىّ الشافعىّ أخو الشيخ جمال الدين عبد الرحيم المتقدّم ذكره، مات في شهر رجب- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى القاضى شمس الدين شاكر القبطىّ المصرىّ المعروف بابن البقرىّ ناظر الذخيرة وصاحب المدرسة «1» البقريّة بالقاهرة في ثالث عشر شوّال وكان معدودا من رؤساء الأقباط.(11/128)
وتوفّى الأمير سيف الدين بيبغا بن عبد الله المعروف بحارس طير، أحد أمراء الطبلخانات، وهو غير بيبغا ططر حارس طير الذي ولى نيابة السلطنة في سلطنة الملك حسن.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الماردينىّ في ثانى جمادى الآخرة، وهو أيضا غير ألطنبغا الماردينىّ الناصرىّ صاحب الجامع، وقد تقدّم ذكر هذاك فى محلّه.
وتوفّى الأمير سيف الدين آروس بن عبد الله المحمودىّ أحد أمراء الألوف بالقاهرة، وزوج بنت الأمير منجك اليوسفىّ في ذى القعدة، وكان أصله من مماليك الناصر محمد، وترقّى في الدول إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف، ثم ولى الحجوبية، ثم أمير جاندار، ثم ولى الأستدارية العالية مدّة طويلة. ووقع له أمور وحوادث، وأخرج إلى الشام. ثم قدم إلى مصر صحبة حميه منجك اليوسفىّ، فأقام بها إلى أن مات.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين ألجاى اليوسفىّ أحد مماليك الملك الناصر حسن غريقا بالنيل بساحل الخرقانية «1» ، بعد وقعة كانت بينه وبين الملك الأشرف شعبان حسب ما ذكرناه أنه انكسر في الآخر وتوجّه إلى الجهة المذكورة واقتحم البحر بفرسه، فغرق في يوم الجمعة تاسع المحرّم، ودفن بمدرسته بسويقة «2» العزّىّ خارج القاهرة. وكان من أجلّ الأمراء شجاعة وكرما وهمّة وسؤددا، وقد تقدّم ذكره فى عدّة تراجم من هذا الكتاب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا وهي سنة الشراقى العظيم.(11/129)
[ما وقع من الحوادث سنة 776]
السنة الثانية عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن على مصر وهي سنة ست وسبعين وسبعمائة.
وفيها كان ابتداء الغلاء العظيم بسائر البلاد.
وفيها فتحت سيس «1» على يد نائب حلب الأمير إشقتمر الماردينى، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في أصل الترجمة.
وفيها توفّى العلّامة قاضى «2» القضاة صدر الدين أبو عبد الله محمد ابن العلّامة قاضى القضاة جمال الدين عبد الله ابن قاضى القضاة علاء الدين علىّ بن عثمان بن الماردينى الحنفىّ الشهير بابن التّركمانىّ، قاضى قضاة الديار المصرية بها في ليلة الجمعة ثالث ذى القعدة عن نحو أربعين سنة، بعد أن باشر ثلاث سنين وأشهرا، وكان سلك فى العدل طريقة أبيه وجدّه، وكان عالما بارعا ذكيّا فهما عفيفا. وله نظم ونثر، ومن شعره وقد حصل له رمد: [الوافر]
أفرّ إلى الظلام بكلّ جهدى ... كأنّ النور يطلبنى بدين
وما للنور من ظلّ وإنّى ... أراه حقيقة مطلوب عينى
وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه كلّ واحد منهما في محلّه.
وتوفّى «3» قاضى القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفرى (بفتح الكاف) الحنفىّ بدمشق، بعد أن كفّ بصره عن خمس وثمانين سنة. وكان من العلماء الأعلام، ماهرا في مذهبه، أفتى ودرّس وأفاد وأتقن(11/130)
روايات القرّاء السبعة وناب في الحكم بدمشق مدّة من الزمان. ثم استقلّ بالوظيفة مدّة طويلة ثم تركها لولده متنزّها عن ذلك ولزم العبادة إلى أن مات.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن عمّار الحارثى «1» الدّمشقىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى الزّبدانىّ بدمشق عن سبع وثمانين سنة، وقد انتهت إليه رياسة الفتوى بالشام في زمانه، ودرّس بظاهرية «2» دمشق وعادليتها «3» الصغرى وكتب وصنّف.
وتوفّى الشيخ أمين الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى برهان الدين إبراهيم بن علىّ بن أحمد بن علىّ بن يوسف بن إبراهيم الدمشقىّ الحنفىّ الشهير بابن عبد الحق درّس بدمشق بعدّة مدارس وباشر بها الوظائف الجليلة وكان معدودا من أعيان أهل دمشق إلى أن مات بها عن بضع وستين سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة الأديب المفتن شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن أبى بكر بن عبد الواحد التّلمسانىّ المغربىّ الحنفىّ الشهير بابن أبى حجلة نزيل الديار المصرية بها في يوم الخميس مستهلّ ذى الحجّة عن إحدى وخمسين سنة.
ومولده بالمغرب بزاوية جدّه أبى حجلة عبد الواحد، ثم رحل إلى الشام ثم استوطن مصر وولى مشيخة خانقاه منجك اليوسفىّ إلى أن مات. وكان إماما بارعا فاضلا ناظما ناثرا، وله مصنّفات كثيرة تبلغ ستين مصنّفا- رحمه الله- ومن شعره في مليح له خال على خدّه: [البسيط](11/131)
تفرّد الخال عن شعر بوجنته ... فليس في الخدّ غير الخال والخفر
يا حسن ذاك محيّا ليس فيه سوى ... خال من المسك في خال من الشّعر
وله: [السريع]
وعاذل بالغ في عذله ... وقال لمّا هاج بلبالى
بعارض المحبوب ما تنتهى ... قلت ولا بالسّيف «1» والوالى
وله مضمّنا وهو أحسن قوله في المعنى: [الكامل]
يا صاح قد حضر الشّراب وبغيتى ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسا العذار الخدّ حسنا فاسقنى ... واجعل حديثك كلّه في الكاس
وتوفّى الصاحب الوزير فخر الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبى شاكر بالقاهرة ودفن بالقرافة بتربته بجوار تربة قاضى القضاة شمس الدين الحريرى. وكان فى مبادئ أمره صاحب ديوان يلبغا العمرىّ ثم تولّى الوزر بعد موته ثلاث مرات وجمع في بعض الأحيان بين الوزارة ونظر الخاصّ معا كما كان ابن قروينة من قبله. وكان حسن السّيرة مليح الشكل بشوشا متواضعا، ليّن الجانب، قليل الأذى محببّا للناس.
وتوفّى التاجر ناصر الدين محمد بن مسلّم الكارمىّ «2» المصرىّ في يوم الجمعة ثانى عشر شوّال. وقد خلّف اموالا كثيرة من المتجر وعمل الكيميا بحيث إنه لم يكن أحد من أهل عصره أكثر مالا منه.(11/132)
وتوفّى القان «1» أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن اقبغا «2» بن أيلكان صاحب تبريز «3» وبغداد وما والاهما. وفي موتته غريبة وهي أنه رأى في منامه قبل موته أنه يموت في يوم كذا وكذا، فخلع نفسه من الملك وولّى عوضه ولده الكبير الشيخ حسين بن أويس واعتزل هو عن الملك وصار يتعبّد ويكثر من الصلاة والصدقة والبرّ إلى الوقت الذي عيّنه لهم أنه يموت فيه فمات فيه. وكان ملكا حازما عادلا ذا شهامة وصرامة، قليل الشرّ كثير الخير محبّبا للفقراء والعلماء، وكان مع هذا فيه شجاعة وكرم ومات في عنفوان شبيبته وكان تسلطن بعد أبيه فمكث في الملك تسعة عشر سنة ومات بتبريز عن نيّف وثلاثين سنة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين منجك بن عبد الله اليوسفى الناصرى أتابك العساكر ونائب السلطنة الشريفة بالديار المصرية بداره «4» من القاهرة بالقرب من سويقة العزّىّ الملاصقة لمدرسة السلطان حسن، بعد عصر يوم الخميس تاسع عشرين شهر ذى الحجة ودفن صبيحة يوم الجمعة بتربته «5» التى أنشأها عند(11/133)
جامعه «1» وخانقاته، خارج باب الوزير بالقرب من قلعة الجبل. وكانت جنازته مشهودة وكان عمره يوم مات بضعا وستين سنة، وقد مرّ من ذكره ما يستغنى به عن التكرار هنا. وكان ابتداء أمره وظهور اسمه من سلطنة الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وهلمّ جرّا إلى يومنا هذا، حتى إنه لم يذكر سلطان بعد موت محمد بن قلاوون، إلا ومنجك هذا له فيه أمر وذكر وواقعة. وقد طالت أيامه في السعادة على أنه قاسى فيها خطوبا وأهوالا وأمسك وحبس ثم أطلق واختفى مدّة ثم ظهر وقد تكرر ذلك كلّه مفصلا في عدّة تراجم من سلاطين مصر.
وأمّا ما عمّره من المساجد والجوامع والمآثر فقد ذكرنا ذلك كلّه في ترجمته «فى المنهل الصافى «2» والمستوفى بعد الوافى» فلينظر هناك.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله الناصرىّ حاجب الحجّاب بالديار المصرية وأحد أمراء الألوف بها، وكان من أماثل الأمراء وأعيان المماليك الناصرية، ترقّى بعد موت أستاذه الملك الناصر محمد وولى عدّة وظائف أعظمها حجوبيّة الحجّاب.
وتوفّى الأمير سيف الدين أيدمر بن عبد الله الناصرىّ الدّوادار بالقاهرة عن نيّف وستين سنة، وكان أميرا عالى القدر ظاهر الحشمة وافر المهابة حسن السياسة والتدبير، يبدأ الناس بالسلام ويكثر من ذلك، حتى إنه لمّا ولى نيابة حلب لقّبه أهلها «بسلام عليكم» وكان أوّلا أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر.
ثم ولى نيابة طرابلس ثم نيابة حلب ثم عزل وطلب إلى ديار مصر واستقرّ بها أمير مائة ومقدّم ألف أيضا إلى أن مات وهو أجل أمراء عصره.(11/134)
وتوفّى الأمير الطواشى سابق الدين مثقال بن عبد الله الحبشى الآنوكىّ مقدّم المماليك السلطانية وأحد أمراء الطبلخانات، وكان أصله من خدّام سيدى آنوك ابن الملك الناصر محمد وترقّى إلى أن ولى تقدمة المماليك السلطانية وهو الذي ضربه يلبغا العمرى داخل القصر ستمائة عصاة ونفاه إلى أسوان «1» وولّى مكانه مختار الدمنهورىّ شاذروان، فلما قتل يلبغا أعاده الملك الأشرف هذا إلى رتبته ووظيفته تقدمة المماليك السلطانية إلى أن مات وولى التّقدمة بعده مختار الدمنهورىّ شاذروان المقدّم ذكره ثانيا، وأظن مثقالا هذا هو صاحب المدرسة «2» السابقيّة داخل بين القصرين من القاهرة. والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.(11/135)
[ما وقع من الحوادث سنة 777]
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
فيها كان الغلاء المفرط بالبلاد الشامية حتى أكل الناس الميتات والكلاب والقطط.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن القاضى علم الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن «1» بدران الهيدبانى السعدى الإخنائى المالكى قاضى قضاة الديار المصرية بها في يوم الأربعاء ثالث شهر رجب بعد أن مكث في القضاء خمس عشرة سنة وكان- رحمه الله- من أعيان الفقهاء المالكية.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضى القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد ابن قاضى القضاة سديد الدين عبد البر بن صدر الدين يحيى السّبكىّ الأنصارىّ الشافعىّ- رحمه الله تعالى- قاضى القضاة بالديار المصرية ثم بدمشق المحروسة فى شهر ربيع الأوّل. ومولده في سنة سبع وسبعمائة. وكان إمام وقته وعالم زمانه، روى البخارى عن الوزيرة والحجّار وتولّى القضاء بدمشق ثم بمصر ثم عزل وعاد إلى قضاء دمشق إلى أن مات- رحمه الله- بعد أن أفتى ودرّس وكتب وألّف ونظم ونثر. ومن شعره- رحمه الله تعالى-. [الكامل](11/136)
ودّعته ولثمت باسم ثغره ... مع خدّه وضممت مائس قدّه
ثمّ انتبهت ومقلتى تبكى دما ... يا ربّ لا تجعله آخر عهده
قلت: ويعجبنى في هذا المعنى قول الأديب المفتنّ علاء الدين علىّ كاتب «1» ابن وداعة. [مخلّع البسيط]
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمّنّك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإنّ قلب الوداع عادوا
وتوفّى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن المجلى بن دعجان، ينتهى نسبه الى الإمام عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- مات بدمشق ودفن بسفح قاسيون عن نيف وثلاثين سنة بعد أن باشر نيابة كتابة سر مصر عن والده. وكان إماما بليغا كاتبا ناظما ناثرا أخذ العربية عن الشيخ كمال «2» الدين بن قاضى شهبة ثم عن قاضى القضاة شمس الدين «3» محمد بن مسلّم- رحمهم الله تعالى- وتوجّه القاضى شهاب الدين المذكور إلى دمشق واستوطنها إلى أن مات. وشهاب الدين هذا سمى على اسم عمّه شهاب الدين أحمد صاحب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» وقد مرّ ذكره وذكر جماعة من آبائه وأقاربه.(11/137)
وتوفّى الشيخ المعتقد أحمد بن مسعود المجذوب ودفن بالقرافة بالقرب من قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وكان يجلس في المريس «1» دائما وللناس فيه اعتقاد.
وتوفّى الإمام العالم العلّامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن على الشهير بابن الصائغ الحنفىّ- رحمه الله- فى يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر شعبان، وكان إماما في القراءات وسمع الحديث وأخذ النحو عن أبى حيّان وبرع في الفقه وأعاد ودرّس وأفاد وأفتى وبرع في النحو والأدب ودرّس بجامع «2» ابن طولون بالقاهرة وتولّى قضاء العسكر بمصر وكان أديبا لطيفا ظريفا بارعا في النظم ومن شعره: [الطويل]
بروحى أفدى خاله فوق خدّه ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال
تبارك من أخلى من الشّعر خدّه ... وأسكن كلّ الحسن في ذلك الخال
وله عفا الله عنه: [الرجز]
قاس الورّى وجه حبيبى بالقمر ... لجامع بينهما وهو الخفر
قلت القياس باطل بفرقه ... وبعد ذا عندى في الوجه نظر(11/138)
وله: [السريع]
وشادن ظلّت عيون الرّبا ... لمّا رأته مقبلا ساجده
سألته من ريقه شربة ... فقال ذى مسألة بارده
وتوفّى السيّد الشريف عزّ الدّين عجلان بن رميثة بن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد «1» حسن بن على بن قتادة بن إدريس المكىّ الحسنىّ أمير مكة. وكان قبل موته نزل لولده السيّد الشريف أحمد بن عجلان عن نصف إمرة مكة التي كانت بيده، فإنه كان قبل ذلك نزل له عن النّصف الأوّل قديما وكان ولى إمرة مكة غير مرة نحو ثلاثين سنة مستقلا بها مدّة وشريكا لأخيه ثقبة «2» مدّة وشريكا لابنه أحمد هذا مدّة. وكانت وفاته في ليلة الاثنين الحادى عشر من شهر جمادى الأولى ودفن بالمعلاة- رحمه الله- وقد قارب السبعين سنة من العمر، وكان ذا عقل ودهاء ومعرفة بالأمور وسياسة حسنة. وكان بخلاف آبائه وأقاربه يحبّ أهل السّنّة وينصرهم على الشّيعة وربما كان يذكر أنه شافعىّ المذهب، وهذا نادرة في السادة الأشراف، فإنّ غالبهم زيديّة يتجاهرون بذلك. قيل: إنه ذكر عنده مرة معاوية بن أبى سفيان لينظروا رأيه فيه، فقال عجلان: معاوية شيخ من كبار قريش لاح له الملك فتلقّفه.
قلت: لو لم يكن من محاسنه إلا اتباعه للسّنة النبوية لكفاه ذلك شرفا. وكان ممدوحا، مدحه النّشو أحد شعراء مكة بقصيدة طنّانة أوّلها: [الكامل](11/139)
لولا الغرام ووجده ونحو له ... ما كنت ترحمه وأنت عدو له
إن كنت تنكره فسل عن حاله ... فالحبّ داء لا يفيق عليله
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى ... دع لومهم فالصبر مات جميله
وتوفّى الأمير سيف الدين أسنبغا بن بكتمر الأبوبكريّ في يوم الأربعاء خامس المحرّم وكان من عظماء أمراء الديار المصرية، كان خصيصا عند الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه. ثم ترقى بعد موته حتى ولى الأمير آخورية الكبرى للسلطان حسن. ثم للاشرف. ثم ولى نيابة الإسكندرية. ثم نيابة حلب.
ثم حجوبيّة الحجّاب بديار مصر وطالت أيامه في السعادة وأظنّه صاحب الأبوبكريّة «1» داخل القاهرة. والله أعلم.
وتوفّى الشيخ الإمام المعتقد العالم العلّامة جمال الدين عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن خليل بن إبراهيم بن يحيى بن أبى عبد الله بن يحيى بن إبراهيم بن سعيد بن طلحة بن موسى بن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن أبان بن عثمان بن عفّان- رضى الله عنه- فى يوم الأحد ثالث شهر جمادى الأولى بخلوته بسطح جامع(11/140)
الحاكم «1» . وكانت جنازته مشهودة جدّا، اجتمع فيها خلائق لا تحصى- رحمه الله- ومولده في سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان فقيها شافعيّا صاحب فنون وعلوم.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير قيران الحسامىّ، كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة- رحمه الله تعالى- وكان كريما شجاعا مقداما وله وجاهة في الدّول وحرمة وافرة.
وتوفّى تاج الدين أبو غالب الكلبشاوى «2» الأسلمىّ القبطىّ ناظر الذّخيرة فى نصف شهر شوّال وإليه تنسب المدرسة المعروفة بمدرسة «3» أبى غالب تجاه باب(11/141)
الخوخة ظاهر القاهرة «1» . وتوفى شيخ الكتّاب غازى بن قطلوبغا التركى في شهر رجب، وقد انتهت إليه الرياسة في الخط المنسوب وتصدّر للإفادة سنين عديدة وانتشر خطه في الآفاق.
وتوفّى الشيخ نور الدين علىّ بن محمد بن محمد بن علىّ بن أحمد الكنانىّ العسقلانىّ الشافعىّ الشهير بابن حجر والد الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر في يوم الأربعاء عاشر شهر رجب، وكان تاجرا بمدينة مصر القديمة، وتفقّه على مذهب الإمام الشافعىّ(11/142)
- رضى الله عنه- وحفظ الحاوى «1» وأخذ الفقه عن بهاء الدين محمد بن عقيل- رحمه الله- وقال الشعر، ومن شعره يشير إلى المتجر: [المجتث]
إسكندريّة كم ذا ... يسمو قماشك عزّا
فطمت نفسى عنها ... فلست أطلب بزّا
وله أيضا: [الكامل]
يا ربّ أعضاء السّجود عتقتها ... من فضلك الوافى وأنت الواقى
والعتق يشرى بالغنى ياذا الغنى ... فامنن على الفانى بعتق الباقى
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 778]
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وهي التي قتل فيها في ذى القعدة.
فيها توفّى القاضى محبّ الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى نجم الدين أبى المحاسن يوسف بن أحمد بن عبد الدائم التّميمىّ المصرىّ ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية بها في يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر ذى الحجة عن إحدى وثمانين سنة. وكان فى ابتداء أمره تولّى ديوان چنكلى بن البابا ثم خدم عند الأمير منكلى الفخرىّ فكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ يقول: [السريع]
من چنكلى صرت الى منكلى ... فكلّ خير أرتجى منك لى
وأنت لى كهف وما مقصدى ... من هذه الدنيا سوى أنت لى(11/143)
وكان القاضى محبّ الدين المذكور رجلا صالحا فاضلا وله سماع عال وله مصنّفات- رحمه الله- منها «شرح التسهيل» [فى النحو «1» ] فى أربعة مجلدات و «شرح التلخيص في المعانى والبيان» وغير ذلك.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة تقىّ الدين أبو الفداء إسماعيل بن نور الدين علىّ بن الحسن «2» القلقشندىّ الشافعىّ المصرىّ مفتى المسلمين بالقدس الشريف عن نحو سبعين سنة وكان فقيها برع في عدّة علوم وأفتى ودرّس واستقل. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر الرّحلة أبو حفص عمر بن الحسن بن مزيد «3» الشهير بابن أميلة المراغىّ الحلبى ثم الدمشقىّ بها عن ثمان وتسعين سنة، بعد أن صار رحلة زمانه وقصد من الأقطار للسماع عليه فسمع منه خلائق كثيرة.
وتوفّى الشيخ الأديب جمال الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن يعقوب المصرىّ ثم الحلبىّ بحلب، وقد قارب الخمسين سنة وكان معدودا من الكتّاب الأدباء الفضلاء، ومن شعره: [الطويل]
رياض جرت بالظّلم عادات ريحها ... وسار بغير العدل في الحكم سيرها
ففرّقت «4» الاغصان عند اعتناقها ... وسلسلت الانهار إذ جنّ طيرها(11/144)
وتوفّى الأمير سيف الدين يعقوب شاه بن عبد الله الحاجب الثانى وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وكان ممن قام مع الملك الأشرف في واقعة أسندمر وأظهر شجاعة عظيمة، فقرّبه السلطان الملك الأشرف من ثمّ ورقّاه وأنعم عليه، حتى جعله من جملة الأمراء الألوف بالديار المصرية إلى أن مات- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى السلطان الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد علىّ ابن الملك المؤيّد داود ابن الملك المظفّر يوسف بن عمر [بن على «1» ] بن رسول التّركمانىّ الأصل اليمنىّ صاحب اليمن وابن صاحبها- رحمه الله تعالى- فى شعبان، وتسلطن بعده ولده السلطان الملك الأشرف إسماعيل، وكان الملك الأفضل ولى السلطنة بعد موت أبيه المجاهد فى شهر جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبعمائة. ولمّا ولى اليمن خرج في أيامه ابن ميكائيل فوقع له معه وقائع، حتى أباده الأفضل وزالت دولة ابن ميكائيل في أيامه.
وكان الأفضل- رحمه الله- شجاعا مهابا كريما وله إلمام بالعلوم والفضائل ومشاركة جيّدة في عدّة علوم وتصانيف منها: «كتاب العطايا «2» السنية في ذكر أعيان اليمنية» و «كتاب نزهة «3» العيون في تاريخ طوائف القرون» و «مختصر تاريخ ابن خلّكان» و «كتاب بغية ذوى الهمم في أنساب العرب والعجم» وكتاب آخر «فى الألغاز الفقهية» وغير ذلك. وكان فيه برّ وصدقة وله مآثر حسنة- رحمه الله تعالى-(11/145)
بنى مدرسة عظيمة بتعزّ وله أيضا بمكة مدرسة «1» معروفة به بالصفا. وقيل: إن هذه التصانيف المذكورة إنما هي لقاضى تعز رضىّ الدين أبى بكر بن محمد بن يوسف الجرائى الصبرىّ «2» [الناشرى]- رحمه الله- عمل ذلك على لسان الأفضل- والله أعلم-.
وتوفّى الأمير سيف الدين جركتمر بن عبد الله الخاصّكى الأشرفىّ أحد مقدّمى الألوف بالقاهرة مقتولا في هذه السنة وكان من خواصّ الملك الأشرف هذا ومن أجلّ مماليكه.
وتوفّى السلطان الملك المظفّر فخر الدين داود ابن الملك الصالح صالح ابن الملك المنصور غازى بن ألبى بن تمرتاش بن إيل غازى بن أرتق الأرتقىّ صاحب ماردين وابن صاحبها بماردين في هذه السنة، بعد أن حكمها نحو عشرين سنة وتولّى سلطنة ماردين من بعده ابنه الملك الظاهر مجد الدين عيسى الآتى ذكره في محلّه- إن شاء الله تعالى- وكان الملك المظفر هذا ولى ملك ماردين بعد ابن أخيه الملك الصالح محمود الذي أقام في سلطنة ماردين أربعة أشهر عوضا عن والده الملك المنصور أحمد ابن الملك الصالح صالح وخلع وتسلطن الملك المظفر هذا فأظهر العدل واقتفى أثر والده الملك الصالح في الإحسان إلى الرعية وإصلاح الأمور إلى أن مات- رحمه الله-.(11/146)
وتوفّى في هذه السنة جماعة كبيرة من الأمراء الأشرفية ممن مرّ ذكرهم في أواخر ترجمة الملك الأشرف، قتلوا بالسيف عند كسرة الأشرف من العقبة «1» ، وهم: الأمير «2» سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الجمالىّ الأشرفى أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية وأجلّ أمراء الأشرف، بعد أن قدم معه من العقبة والأمير سيف الدين صرغتمش بن عبد الله الأشرفىّ رأس نوبة في النّوب وأحد مقدّمى الألوف أيضا بالديار المصرية والأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله السابقىّ الأشرفى أحد مقدّمى الألوف أيضا والأمير سيف الدين بشتك بن عبد الله الأشرفىّ أحد مقدّمى الألوف أيضا وهو غير بشتك الناصرى صاحب القصر «3» والحمّام «4» والأمير سيف الدين أرغون ابن عبد الله العزّى الأشرفىّ الأفرم أحد مقدّمى الألوف أيضا وغيرهم من أمراء الطبلخانات والعشرات.
وهؤلاء الذين ذكروا هم أعيان الأشرفية القادمون صحبة أستاذهم الملك الأشرف من العقبة إلى مصر، قتلوا الجميع في ساعة واحدة وأتوا برءوسهم من قبة النصر إلى الأمراء الذين ثاروا بالقاهرة وهم يقولون: «صلّوا على محمّد» ووضعوها بين يديهم.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في أواخر ترجمة الملك الأشرف شعبان، وتأتى بقيّة ما وقع فى ترجمة الملك المنصور على ابن الملك الأشرف شعبان هذا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان. والله أعلم.(11/147)
ذكر سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر
السلطان الملك المنصور علاء الدين علىّ ابن السلطان الملك الأشرف زين الدّين شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الألفىّ الصالحىّ وهو السلطان الثالث والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، تسلطن في حياة والده حسب ما تقدّم ذكره أنّ الأمير قرطاى وطشتمر اللّفاف وأينبك البدرىّ لمّا ثاروا بمن معهم بالدّيار المصرية، وطلعوا إلى القلعة وأخذوا أمير علىّ هذا من الدور السلطانية وسلطنوه في حياة والده أرادوا بذلك انضمام الناس عليهم فإنهم كانوا أشاعوا موت الملك الأشرف شعبان فى العقبة حتى تمّ لهم ما أرادوه وسلطنوا أمير علىّ هذا من غير حضور الخليفة والقضاة فإنهم كانوا صحبة السلطان الملك الأشرف بالعقبة فلمّا زالت دولة الملك الأشرف وقبض عليه وقتل ثم حضر الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد من العقبة وكان القضاة بالقدس الشريف توجّهوا إليه من العقبة بعد واقعة الملك الأشرف وهروبه الى مصر.
فلما كان يوم الخميس ثامن «1» شهر ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وذلك بعد قتل الملك الأشرف شعبان بثلاثة أيام، اجتمع الأمراء القائمون بهذا الأمر بالقلعة واستدعوا الخليفة ومن كان بمصر من القضاة ونوّاب من هو غائب من القضاة بالقدس وحضر الأمير آقتمر الصاحبىّ نائب السلطنة بالديار المصرية وقعدوا الجميع بباب الآدر الشريفة من قلعة الجبل «2» وجدّدوا البيعة بالسلطنة للملك المنصور علىّ هذا بعد وفاة أبيه الملك الأشرف وقبل له البيعة آقتمر الصاحبىّ المذكور(11/148)
ولبسوه السواد خلعة السلطنة وكانت فرجيّة حرير بنفسجىّ بطرز ذهب وبدائرها تركيبة زركش بحاشية حرير أزرق خطائى وشاش أسود خليفتى وقبعا أسود بعذبة خليفتيّا زركش. وركب بأبّهة السلطنة وشعار الملك من باب الستارة «1» والأمراء مشاة بين يديه إلى أن وصل إلى الإيوان «2» وجلس على تخت الملك في يوم الخميس المذكور وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه وحلفوا له على العادة وأخلع على الخليفة وعلى الأمراء وعلى من له عادة بلبس الخلع ومدّ السّماط وكان عمر السلطان الملك المنصور يوم تسلطن نحو سبع سنين تخمينا.
ثم قام الملك المنصور من الإيوان ودخل إلى القصر وأخلع على الأمير طشتمر اللفّاف [المحمدى «3» ] باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وأنعم عليه بكل مال أرغون شاه الأشرفىّ بعد قتله، وخلع على الأمير قرطاى الطازىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا وأطابكا «4» وأنعم عليه بكل مال صرغتمش الأشرفىّ بعد قتله أيضا، ورسم لهما أيضا أن يجلسا بالإيوان في الميمنة، وخلع على أسندمر الصّرغتمشىّ واستقرّ أمير سلاح ورسم له أن يجلس في الميسرة، وخلع على قطلوبغا البدرىّ واستقرّ أمير مجلس وخلع على طشتمر «5» العلائى الدوادار واستقرّ في نيابة دمشق ورسم له أن يخرج من يومه وخلع على إياس الصرغتمشىّ واستقرّ دويدارا كبيرا عوضا عن طشتمر العلائىّ بإمرة طبلخاناه. ثم أنعم على أينبك البدرىّ واستقر أمير آخور كبيرا وبلاط السيفىّ ألجاى الصغير ودمراش اليوسفىّ واستقرّ رأس نوبة ثانيا- وهذه الوظيفة هي الآن(11/149)
وظيفة رأس نوبة النّوب في زماننا هذا- ويلبغا النظامىّ وألطنبغا السلطانىّ، وكان الجميع أجنادا ماعدا أينبك البدرىّ فإنه كان أمير طبلخاناه وطشتمر اللفّاف فإنه كان أمير عشرة فانتقل للأتابكيّة دفعة واحدة وأنعم على جماعة بإمرة طبلخاناه، وهم:
الأمير طغيتمر الناصرىّ وقطلوبغا البيسرىّ وبيخجا الكاملىّ وصربغا الناصرىّ وطولو الصّرغتمشىّ وأطلمش الأرغونىّ ومقبل الرومىّ وألجيبغا السيفىّ ألجاى وقطلوبغا النظامىّ وأحمد بن يحمر «1» التّركمانىّ وقطلوخجا أخو أينبك البدرىّ وتمربغا البدرىّ وألطنبغا المعلّم «2» وتلكتمر «3» بن عبد الله المنصورىّ وأسنبغا الصارمىّ وأطلمش الطازىّ وإبراهيم بن قطلقتمر العلائى وأرنبغا السيفىّ ألجيبغا وعلىّ بن آقتمر عبد الغنىّ وأسنبغا النظامىّ ومأمور القلمطاوىّ.
وأنعم على جماعة بإمرة عشرات وهم: تكا الشمسىّ ومحمد بن قرطاى الطازىّ وخضر بن ألطنبغا السلطانى ومحمد بن شعبان بن يلبغا العمرىّ وأسنبغا المحمودىّ وطبج المحمدىّ وألطنبغا شادى وسودون العثمانىّ شادّ السلاح خاناه وتلكتمر المنجكىّ وآقبغا السيفىّ ألجاى وجركس السّيفىّ ألجاى وطقتمش السيفىّ يلبغا وطوغان العمرىّ الظهيرىّ وبكلمش الإبراهيمىّ ويلبغا العلائى دوادار أمير علىّ النائب ويوسف بن شادى أخو حاج ملك وخضر الرسولىّ وأسندمر الشرفىّ ومغلطاى الشرفىّ وخليل بن أسندمر العلائىّ ورمضان بن صرغتمش وحسن أخو قطلوبغا حاجّى أمير علم ومنكلى الشمسىّ وألجيبغا السيفىّ جنقرا.
ثم رسم بالإفراج عن جماعة من السجن بقلعة الجبل في يوم السبت عاشر شهر ذى القعدة وهم: الأمير آقتمر عبد الغنى نائب السلطنة بديار مصر ونائب الشام كان(11/150)
والأمير علم المحمدىّ وأيدمر الشمسىّ وسودون جركس المنجكىّ وطيبغا الصّفوىّ ألجاى «1» ومغلطاى البدرىّ الجمالىّ وصربغا السيفىّ وطشتمر الصالحىّ وبلاط الكبير السيفىّ ألجاى وحطط اليلبغاوىّ وإياس الماردينىّ وبلّوط الصرّغتمشىّ ويلبغا المنجكىّ وقرابغا أبو جركتمر «2» وحاجىّ خطاى والد غريب. ثم من الغد أمر بمسكهم ثانيا وتقييدهم وإرسالهم إلى سجن الإسكندرية فقبض عليهم وأرسلوا في تلك الليلة ما خلا آقتمر عبد الغنىّ وسودون المنجكىّ «3» .
ثم في يوم الأحد ثامن عشر ذى القعدة قبضوا على جماعة من مباشرى الدولة وطلعوا بهم إلى القلعة وهم: الصاحب الوزير شمس الدين المقسى وتاج الدين موسى ناظر الخواصّ الشريفة وأمين الدّين وعلاء الدّين بن السائس وشهاب الدين ابن الطّولونى وأدخلوا قاعة الصاحب «4» وصودروا حتى قرّر عليهم ما يقومون به من الأموال ثم أفرج عنهم.
ثم أحضر الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام من الإسكندرية وصودر وقرّر عليه ألف ألف درهم ثم خلع عليه باستقراره في نيابة الإسكندرية على عادته.
ثمّ مسكوا من الطواشية والخدّام جماعة كبيرة، وهم: مختصّ الأشرفىّ وجوهر الإسكندرىّ وسنبل رأس نوبة الجمدارية وأدخلوا قاعة الصاحب.
ثم أصبحوا من الغد قبضوا على جماعة أخروهم: دينار اللّالا وشاهين دست وسنبل اللّفاف أحد الجمدارية وأدخلوا أيضا إلى قاعة الصاحب. ثم أصبحوا من الغد ورسموا لمثقال الجمالىّ الزّمام بحمل ثلاثمائة ألف درهم، ثم استقرّت مائة ألف درهم.(11/151)
ثم في يوم الاثنين تاسع عشر ذى القعدة خلع على الأمير آقتمر «1» الصاحبىّ واستقرّ على نيابة السلطنة بالدّيار المصرية، كما كان في أيام الملك الأشرف شعبان، وفوّض إليه أن يخرج الإقطاعات للأمراء والأجناد والنوّاب وألّا يكون لأحد معه تحكّم وذلك بعد أن رضيت الأمراء والخاصّكية والبرّانيّون بذلك.
ثم أخلع على الأمير أرغون الإسعردىّ بنيابة طرابلس عوضا عن الأمير منكلى «2» بغا الأحمدىّ البلدىّ. ثم أخلع على القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السّر باستمراره على وظيفته.
ثم أخلع على الصاحب تاج الدين المكّىّ بإعادته إلى الوزارة ثانية وهي وزارته الرابعة وأخلع على القاضى كريم الدين بن الرّويهب باستقراره ناظر الدولة واستقرّ القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد في نظر الجيوش المنصورة عوضا عن والده محبّ الدين المذكور بحكم وفاته.
ثم شرع الأمراء في النفقة على المماليك السلطانية فأعطوا كلّ نفر عشرة آلاف درهم. وفي ثانى عشر شهر ذى الحجة قرئ تقليد السلطان الملك المنصور على بالإيوان من قلعة الجبل وعلّم عليه الخليفة المتوكّل على الله وشهدت عليه القضاة بتفويض السلطنة للملك المنصور وخلع على الخليفة وأنعم عليه بألف دينار وهي رسم المبايعة.
ثم بعد أيام دخل أسندمر الصرغتمشىّ ودمرداش اليوسفىّ إلى الدّور السلطانيّة وفرّقوا جوارى الملك الأشرف شعبان على الأمراء.
ثم استقرّ في خامس المحرّم من سنة تسع وسبعين وسبعمائة الأمير قرطاى الطازىّ أتابكا بعد موت طشتمر اللّفّاف وأخلع عليه بعد أيام بنظر البيمارستان «3»(11/152)
المنصورىّ وأخلع على الأمير مبارك الطازىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا عوضا عن قرطاى المذكور. ثم بعد ذلك بمدّة يسيرة استقرّ الأمير أينبك البدرىّ الأمير آخور الكبير في نظر البيمارستان، عوضا عن قرطاى برغبة قرطاى عنه واستقرّ سودون جركس أستادارا.
ثم في العشرين من المحرّم خلع على الأمير سودون الفخرىّ الشّيخونىّ وبلّوط الصرغتمشىّ واستقرّا حاجبين بالديار المصريّة.
ثم في صفر حضر الأمير يلبغا الناصرىّ إلى القاهرة وكان قد نفى إلى بلاد الشام، بعد قتل السلطان الأشرف فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وكانوا أيضا قبل تاريخه قد عزلوا الأمير منكلى بغا الأحمدىّ عن نيابة طرابلس وتمرباى نائب صفد عن نيابة صفد فجاء الخبر بأنّ منكلى بغا حلّ سيفه وأطاع وأنّ تمرباى عصى وامتنع بصفد فخلع على الأمير أرغون الإسعردىّ ثانيا بنيابة طرابلس عوضا عن منكلى بغا المذكور وتولى نيابة حماة تمراز الطازىّ.
ثم في هذه الأيام بدت الوحشة بين قرطاى الطازىّ الأتابك وبين صهره أينبك البدرىّ الأمير آخور الكبير في الباطن، كلّ ذلك في هذه المدّة اليسيرة وصار كلّ واحد يدبّر على الآخر مع أصحابه وحواشيه، فلمّا كان يوم الأحد العشرون من صفر عمل الأمير الأتابك قرطاى وليمة فأهدى له أينبك مشروبا يقال له الشّشش «1» وعمل فيه بنجا، فلمّا شربه قرطاى تبنّج، وكان لأينبك عند قرطاى عيون فأخبروه أنّه تبنّج فركب أينبك من وقته بالسلاح ومعه جماعة كبيرة ملبسين وأنزل السلطان الملك المنصور عليّا إلى الإسطبل السلطانىّ ودقّت الكوسات فجاءت الأمراء إلى السلطان وأقام أينبك راكبا من عصر يوم الأحد إلى صبيحة يوم الاثنين، وسببه أنه كان(11/153)
عند قرطاى في بيته جماعة من الأمراء من أصحابه: منهم سودون جركس وأسندمر الصرغتمشىّ وقطلوبغا البدرىّ وقطلوبغا جركس وأمير سلاح ومبارك الطازىّ رأس نوبة كبير وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات فركبوا الجميع ومنعوا أينبك من الوصول إلى قرطاى وحموه إلى أن استفاق قرطاى من بنجه وقد ضعف أمر أصحابه وقوى أمر أينبك، فبعث قرطاى يسأل أينبك أن ينعم عليه بنيابة حلب ويرسل إليه منديل الأمان، فأجابه أينبك إلى ذلك فخرج قرطاى من وقته إلى سرياقوس «1» وقبض أينبك على من كان عند قرطاى من الأمراء فإنّهم كانوا قاتلوه وأبادوه من أخذ قرطاى وقيّدهم وأرسلهم إلى الإسكندرية «2» فسجنوا بها. ورسم للأمير آقتمر الصاحبىّ نائب السلطنة بمصر بنيابة دمشق عوضا عن طشتمر العلائىّ الدوادار فلبس آقتمر الخلعة وخرج من وقته ونودى بالقاهرة ومصر في الوقت بالأمان ومن كان له ظلامة، فعليه بباب المقرّ الأشرف العزىّ الأتابك أينبك البدرىّ وسافر قرطاى، فلمّا وصل إلى غزّة نفى إلى طرابلس. ثم حمل منها إلى المرقب «3» فحبس به ثم خنق بعد مدّة يسيرة وصفا الوقت لأينبك فأخلع السلطان عليه خلعة سنيّة في خامس عشرين شهر صفر باستقراره أتابك العساكر ومدبّر الممالك وخلع على الأمير آقتمر عبد الغنى واستقرّ نائب السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن الأمير آقتمر الصاحبىّ المنتقل إلى نيابة دمشق وكلاهما قديم هجرة من أكابر الأمراء المشايخ.
واستقرّ الأمير بهادر الجمالىّ أستادارا عوضا عن سودون جركس واستقرّ بلاط السيفى ألجاى أمير سلاح، عوضا عن قطلوبغا جركس واستقرّ ألطنبغا السلطانىّ أمير مجلس واستقرّ دمرداش اليوسفىّ رأس نوبة كبيرا.(11/154)
وأنعم على يلبغا الناصرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف واستقرّ رأس نوبة ثانيا ويلبغا الناصرىّ هذا هو صاحب الوقعة المشهورة مع السلطان الملك الظاهر برقوق وإلى الآن برقوق لم يتأمّر عشرة.
ثم أنعم على أطلمش الأرغونىّ بإمرة طبلخاناه واستقرّ دوادار كبيرا عوضا عن إياس الصرغتمشىّ وأخلع على قطلوخجا واستقرّ أمير آخور كبيرا عوضا عن أخيه أينبك البدرىّ وصار الأمر في المملكة لأينبك البدرىّ وحده من غير منازع وأخذ أينبك في المملكة وأعطى وحكم بما اختاره وأراده، فمن ذلك أنه في رابع شهر ربيع الأوّل رسم بنفى الخليفة المتوكّل على الله تعالى إلى مدينة قوص فخرج المتوكل على الله ثم شفع فيه فعاد إلى بيته ومن الغد طلب أينبك نجم الدين زكريا بن إبراهيم ابن الخليفة الحاكم بأمر الله وخلع عليه واستقرّ به في الخلافة عوضا عن المتوكّل على الله من غير مبايعة ولا خلع المتوكل من الخلافة نفسه، ولقّب زكرياء المذكور بالمعتصم بالله. ثم في العشرين من شهر ربيع الأوّل المذكور تكلّم الأمراء مع أينبك فيما فعله مع الخليفة ورغّبوه في إعادته فطلبه وأخلع عليه على عادته بالخلافة وعزل زكرياء. ومن الناس من لم يثبت خلافة زكريا المذكور، فإنّه لم يخلع المتوكل نفسه من الخلافة حتى يبايع زكريا المذكور.
ثم بدا لأينبك أن يسكن جماعة من مماليكه بمدرسة السلطان «1» حسن وبمدرسة «2» الملك الأشرف شعبان ويجعل في كل مدرسة مائة مملوك. ثم أعطى أينبك لولديه تقدمتى ألف وهما الأمير أحمد وأبو بكر. ثم نفى أرغون العثمانىّ إلى الشام بطالا وخلع على مقبل الدوادار الطواشىّ الرومىّ واستقرّ زماما بالآدر الشريفة عوضا عن(11/155)
مثقال الجمالىّ. ثم خلع على بهادر الجمالىّ الأستادار واستقرّ في نظر البيمارستان «1» المنصورىّ.
وبينما أينبك في أمره ونهيه ورد عليه الخبر بعصيان نوّاب الشام ففى الحال علّق أينبك جاليش «2» السفر في تاسع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور ورسم للعساكر بالتجهيز إلى سفر الشام وأسرع بالنفقة على العساكر وتجهّز في أسرع وقت وخرج الجاليش من القاهرة إلى الريدانية «3» فى سادس عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور وهم خمسة من أمراء الألوف أوّلهم: قطلوخجا الأمير آخور الكبير أخو أينبك الأتابك وأحمد ولده ويلبغا الناصرىّ والأمير بلاط السيفىّ ألجاى وتمرباى الحسنىّ. ومن الطبلخانات بورى الأحمدىّ وآقبغا آص الشيخونىّ في آخرين ومائة مملوك من المماليك السلطانية ومائة مملوك من مماليك الأتابك أينبك.
وفي تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور من سنة تسع وسبعين وسبعمائة خرج طلب السلطان الملك المنصور وطلب الأتابك أينبك البدرىّ وأطلاب بقيّة العساكر من الأمراء وغيرهم إلى الرّيدانية فأقاموا بالريدانية إلى يوم السبت مستهلّ شهر ربيع الآخر استقلّوا بالمسير قاصدين البلاد الشامية، وساروا حتى وصلوا بلبيس «4» رجعوا على أعقابهم بالعساكر إلى جهة الديار المصرية.
وخبر ذلك أن قطلوخجا أخا أينبك مقدّم الجاليش بلغه أن الجماعة الذين معه مخامرون وأنهم أرادوا أن يكبسوا عليه فاستقصّ الخبر حتّى تحقّقه فركب من وقته وساعته وهرب في الحال وهو في ثلاثة أنفس عائدا إلى أخيه أينبك فاجتمع به وعرّفه(11/156)
الخبر ففى الحال أخذ أينبك السلطان ورجع به إلى نحو القاهرة حتّى وصلها في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر وطلع به إلى قلعة الجبل وأنزل الأتابك أينبك السلطان الملك المنصور إلى الإسطبل السلطانىّ وجاءه بعض أمراء من أصحابه ثم أخذ أينبك فى إصلاح أمره وبينما هو في ذلك بلغه أن الأمير قطلقتمر العلائىّ الطويل والأمير ألطنبغا السلطانىّ وكانا رجعا معه من بلبيس، ركبا بجماعتهما في نصف الليل ومعهما عدّة من الأمراء وسائر المماليك السلطانية وخرج الجميع إلى قبّة النصر «1» موافقة لمن كان من الأمراء بالجاليش المقدّم ذكره، فجهز أينبك الأمير قطلوخجا في مائتى مملوك لقتال هؤلاء، فخرج بهم قطلوخجا إلى قبّة النصر، فتلقّاه القوم وحملوا عليه فآنكسر ومسك.
فلما بلغ أينبك ذلك جهّز الأمراء الذين كانوا بقلعة الجبل وأرسلهم إلى قبة النصر وهم: آقتمر من عبد الغنىّ نائب السلطنة وأيدمر الشمسىّ وبهادر الجمالىّ الأستادار ومبارك الطازىّ. هذا وقد ضعف أمر أينبك المذكور وخارت قواه، فإنّه بلغه أن جميع العساكر اتّفقت على مخالفته حتى إنه لم يعلم من هو القائم بهذا الأمر لكثرة من خرج عليه، فلمّا رأى أمره في إدبار ركب فرسه ونزل من الإسطبل السلطانىّ من غير قتال وهرب إلى ناحية كيمان مصر فتبعه أيدمر الخطائىّ وجماعة من العسكر فلم يقف له أحد على أثر، كلّ هذا وإلى الآن لم يجتمع من بالجاليش مع من هو بقبّة النصر من الأمراء، غير أنّ الفتنة قائمة على ساق والغوغاء ثائرة والسعد قد زال عنه من غير تدبير ولا عمل واختفى أينبك بتلك الجهة ثم وجدوا فرسه وقباءه ولبسه، ولمّا استولت الأمراء على القلعة على ما سنحكيه- إن شاء الله تعالى- بعد أن نذكر قتلة أينبك المذكور ألزموا والى القاهرة(11/157)
ومصر بإحضاره فنودى عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه بانواع النّكال، فخاف كلّ أحد على نفسه من تقريبه، فلم يجد بدّا من طلب الأمان من الأمير يلبغا الناصرىّ الآتى ذكره، فأمّنه بعد مدّة فطلع أينبك اليه فحال وقع بصر القوم عليه قبضوه وأرسلوه مقيّدا إلى سجن الإسكندرية وكان ذلك آخر العهد به، كما سيأتى ذكره بعد استيلاء الأمراء على القلعة. قلت «وكما تدين تدان» . وما من طالم إلّا سيبلى بظالم.
وفي أينبك هذا يقول الأديب شهاب الدين بن العطّار: [المنسرح]
من بعد عزّ قد ذلّ أينبكا ... وانحطّ بعد السّموّ من فتكا
وراح يبكى الدماء منفردا ... والناس لا يعرفون أين بكى
وأمّا الأمراء فإنهم لمّا بلغهم هروب أينبك من قلعة الجبل ركبوا الجميع من قبّة النصر وطلعوا إلى الإسطبل «1» السلطانىّ من القلعة وصار المتحدّث فيهم قطلقتمر العلائى الطويل وضرب رنكه «2» على إسطبل شيخون «3» بالرمبلة تجاه باب السلسلة وأقام ذلك اليوم متحدثا، فأشار عليه من عنده من أصحابه أن يسلطن سلطانا كبيرا يرجع الناس إلى أمره ونهيه، فلم يفعله وقال: حتّى يأتى إخواننا، يعنى الأمراء الذين كانوا بالجاليش مع قطلوبغا وهم الذين ذكرناهم فيما تقدّم عند خروج الجاليش ومعهم من الأمراء الطبلخانات والعشرات جماعة: منهم برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ وبركة الجوبانىّ اليلبغاوىّ وكان أينبك قد أنعم على كل واحد منهما بإمرة طبلخاناه، بعد واقعة قرطاى دفعة واحدة من الجندية، قبل خروج السفر بأيام قليلة وهذا أوّل(11/158)
ظهور برقوق وبركة في الدّول ثم حضرت الأمراء الذين كانوا بالجاليش إلى الإسطبل السلطانىّ وهم جمع كبير ممّن أنشأه أينبك وغيرهم وتكلّموا فيمن يكون إليه تدبير الملك واشتوروا في ذلك فاختلفوا. فى الكلام وظهر للقادمين الغدر ممّن كان بالإسطبل السلطانىّ ممّن ذكرناه، فقبضوا على جماعة منهم وهم: قطلقتمر العلائىّ الطويل المذكور الذي كان دبّر الأمر لنفسه وألطنبغا السلطانىّ ومبارك الطازىّ فى آخرين وقيّدوا الجميع وأرسلوا إلى الإسكندرية صحبة جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب واتّفقوا على أن يكون المتكلم في المملكة الأمير يلبغا الناصرىّ، فصار هو المتحدّث في أحوال الملك وسكن الإسطبل السلطانىّ وأرسل بإحضار الأمير طشتمر العلائىّ الدوادار نائب الشام.
ثم في يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر لمّا تزايد الفحص على أينبك حضر أينبك بنفسه إلى عند الأمير بلاط فطلع به بلاط إلى يلبغا الناصرىّ بعد أن أخذ له منه الأمان حسب ما تقدّم ذكره، فلم تطل أيام يلبغا الناصرىّ في التحدث وظهر منه لين جنب، فاتّفق برقوق وبركة وهما حينذاك من أمراء الطبلخانات، لهم فيها دون الشهرين مع جماعة أخر وركبوا في سادس عشر شهر ربيع الآخر المذكور وركبت معهم خشداشيّتهم من المماليك اليلبغاوية ومسكوا دمرداش اليوسفىّ وتمرباى الحسنىّ وآقبغا آص الشيخونىّ وقطلوبغا الشعبانىّ ودمرداش التمان تمرىّ المعلّم وأسندمر العثمانىّ وأسنبغا تلكى وقيّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية فسجنوا بها. وقد أضربنا عن أشياء كثيرة من وقائع هذه الأيام لاختلاف نقول الناس فيها، لأنّ غالب من وثب وأثار الفتنة من واقعة الملك الأشرف شعبان إلى هذه الأيام كان فيما قيل في العام الماضى إمّا جنديا وإمّا أمير(11/159)
عشرة لا يعرف من أحواله إلا القليل وأيضا لم يكن في هذه الواقعة رجل عظيم له شأن قام بأمر وتبعته الناس، بل كل واقعة من هؤلاء تكون فيها جماعة كبيرة، كلّ منهم يقول: أنا ذاك ولهذا اختلفت النقول. وقد ذكرنا المقصود من ذلك كلّه وما فيه كفاية. إن شاء الله تعالى.
ولنشرع الآن في سياق ما وقع في أيام الملك المنصور- إلى أن يتوفّى إلى رحمة الله تعالى- فنقول:
ثم في النهار المذكور (أعنى اليوم الذي مسك فيه الأمراء) قبض أيضا على الطواشى مختار الحسامىّ مقدّم المماليك السلطانية وحبس بالبرج «1» من القلعة ثم أفرج عنه بعد أيام قلائل وأعيد إلى تقدمة المماليك على عادته. ثم بعد مدّة يسيرة استقرّ برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ أمير آخور كبيرا دفعة واحدة وسكن بالإسطبل السلطانىّ وأنزل معه الأمير يلبغا الناصرىّ واستقرّ الأمير زين الدين بركة الجوبانى اليلبغاوىّ أمير مجلس. ثم حضر الأمير طشتمر الدوادار نائب الشام إلى الديار المصرية بطلب من يلبغا الناصرىّ لما كان متحدّثا في أمور المملكة، فخرج السلطان الملك المنصور وسائر الأمراء لتلقيه إلى الرّيدانية «2» خارج القاهرة، فلمّا رأى السلطان نزل عن فرسه وقبّل الأرض بين يديه وبكى وطلع فى خدمة السلطان إلى القلعة وخلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وحضر مع طشتمر من الشام الأمير تمرباى التمرتاشىّ والأمير تغرى برمش وسودون الشيخونىّ وكان أينبك قد نقله إلى الشأم والأمير طقطمش ونزل طشتمر إلى بيت شيخون بالرّميلة وسكن به ليحكم بين الناس.(11/160)
فلمّا كان في ثالث جمادى الأولى أمر طشتمر أن ينادى بالقاهرة ومصر «من كان له ظلامة فعليه بباب المقرّ الأشرف طشتمر العلائىّ» .
ثم في خامس جمادى الأولى المذكور أخلع السلطان على تمرباى التمرداشىّ باستقراره رأس نوبة كبيرا عوضا عن دمرداش اليوسفىّ وخلع على برقوق العثمانىّ باستمراره على وظيفة الأمير آخورية وعلى بركة الجوبانىّ باستمراره في إمرة مجلس وأنعم على الأمير أطلمش الأرغونىّ بتقدمة ألف واستقرّ دوادارا كبيرا واستقرّ يلبغا المنجكىّ شادا لشراب خاناه ورسم للأمير بلاط أمير سلاح أن يجلس بالإيوان ثم استقرّ دينار الطواشى الناصرىّ لالا السلطان الملك المنصور عوضا عن مقبل الكلبكىّ بحكم نفيه.
وفي سلخ جمادى الآخرة عزل الأمير آقتمر عبد الغنىّ من نيابة السلطنة بديار مصر.
ثم استقرّ الأمير تغرى برمش حاجب الحجّاب بالقاهرة واستقرّ أمير علىّ ابن قشتمر حاجبا ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف ويقال له: حاجب ميسرة.
ثم في يوم الأحد ثانى شهر رجب توجّه الأمير أيتمش البجاسىّ إلى الإسكندرية بالإفراج عن جميع من بها من الأمراء المسجونين خلا أربعة أنفس: أينبك وأخوه قطلوخجا وأسندمر الصّرغتمشى وقيل جركس الجاولى الرابع وأنّ أينبك كان قتل.
فلما أحضروا الأمراء من الإسكندرية أخرجوا إلى بلاد الشام. ثم ولى الأمير بيدمر الخوارزمىّ نيابة الشام بعد موت الأمير آقتمر الصاحبىّ الحنبلىّ وكان آقتمر أحد من نفى من أكابر الأمراء المشايخ.
وأخلع على مبارك شاه المشطوب بنيابة غزة.(11/161)
وفي مستهلّ شعبان استقرّ قطلقتمر العلائىّ نائب ثغر الإسكندرية عوضا عن خليل بن عرّام ثم نفى بيبغا الطويل العلائىّ أحد أمراء الطبلخانات إلى الشام بطّالا. ثم نقل الأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضا عن أرغون الإسعردىّ ونقل أرغون الإسعردىّ إلى نيابة حماة عوضه لأمر اقتضى ذلك ونقل الأمير آقبغا الجوهرىّ حاجب حجّاب طرابلس إلى نيابة غزّة عوضا عن مبارك العلائىّ ونقل مبارك العلائىّ عوضه في حجوبيّة طرابلس. ثم أخلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام المعزول عن نيابة إسكندرية باستقراره وزيرا بالديار المصرية عوضا عن القاضى كريم الدين بن الرّويهب. وقبض على ابن الرّويهب وصودر.
وفي شوّال توجّه بلاط أمير سلاح إلى خيله بالجيزة فأرسل إليه خلعة بنيابة طرابلس، فأجاب وخرج من القاهرة فرسم له بأن يتوّجه إلى القدس بطّالا واستقرّ عوضه يلبغا الناصرىّ أمير سلاح وأخلع على إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ واستقرّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف، عوضا عن يلبغا الناصرىّ المذكور. وأخلع على القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى بهاء الدين أبى البقاء السبكىّ الشافعىّ قاضى قضاة الديار المصرية عوضا عن قاضى القضاة برهان الدين ابن جماعة بحكم توجّهه إلى القدس بحسب سؤاله على ذلك.
ولمّا صار الأمر للأتابك طشتمر العلائىّ الدوادار أخذ في تنفيد الأمور على القواعد فعظم ذلك على برقوق واتّفق مع بركة الجوبانىّ خجداشه ومع جماعة أخر على الركوب على طشتمر، فلما كان ليلة تاسع ذى الحجة من سنة تسع وسبعين المذكورة ركب برقوق العثمانىّ وخجداشه بركة الجوبانىّ بمن وافقهما من الأمراء وغيرهم وأنزلوا السلطان الملك المنصور بكرة النهار وهو يوم عرفة ودقت الكوسات،(11/162)
وقصد برقوق مسك طشتمر الأتابك، فركبت مماليك طشتمر وخرجوا إليهم وتقاتلوا معهم قتالا عظيما، حتى تكاثر جمع برقوق وبركة وقوى أمرهم فحينئذ انكسرت مماليك طشتمر وأرسل طشتمر يطلب الأمان فأرسل السلطان إليه منديل الأمان، فطلع إلى القلعة فمسك في الحال هو والأمير أطلمش الأرغونىّ الدوادار وأمير حاج بن مغلطاى ودوادار الأمير طشتمر المذكور وأرسل الجميع إلى سجن الإسكندرية فاعتقلوا بها.
ثم في يوم الاثنين ثالث عشر ذى الحجّة استقرّ برقوق العثمانىّ أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن طشتمر العلائى المقدّم ذكره واستقرّ بركة الجوبانىّ رأس نوبة كبيرا أطابكا «1» - وهذه الوظيفة الآن مفقودة في زماننا- وسكن بركة «2» فى بيت قوصون تجاه باب (3) السلسلة واستقرّ الأمير أيتمش البجاسىّ أمير آخور كبيرا بتقدمة ألف عوضا عن برقوق واستقرّ برقوق بسكنه بالإسطبل السلطانىّ وصار هؤلاء الثلاثة هم: نظام الملك وإليهم العقد والحلّ وبرقوق كبيرهم الذي يرجع إليه والمعوّل على الاثنين: برقوق وبركة، حتى لهجت الناس بقولهم: (برقوق وبركة، نصبا على الدنيا شبكة) .
ثم بعد يومين مسك الأمير يلبغا الناصرىّ أمير سلاح وأرسل إلى سجن الإسكندريّة ومعه الأمير كشلى «3» أحد أمراء الطبلخانات. ثم أخرج يلبغا الناصرىّ بعد مدّة إلى نيابة طرابلس؛ ويلبغا الناصرىّ هذا هو صاحب الوقعة مع برقوق الآتى ذكرها في سلطنته إن شاء الله تعالى.(11/163)
ثم في العشرين من ذى الحجّة خلع على الأمير إينال اليوسفىّ واستقرّ أمير سلاح عوضا عن يلبغا الناصرىّ.
ثم في مستهل شهر المحرّم سنة ثمانين وسبعمائة أنعم على آقتمر العثمانىّ بتقدمة ألف واستقرّ دوادارا كبيرا عوضا عن أطلمش الأرغونىّ. ثم بعد أيام قبض على صراى تمر نائب صفد وسجن بالكرك واستقرّ عوضه في نيابة صفد آقبغا الجوهرى نائب غزّة واستقرّ عوضه في نيابة غزّة مبارك شاه.
ثم في سادس صفر تولّى كريم الدين عبد الكريم بن مكانس الوزر والخاصّ معا ووكالة بيت المال ونظر الدواوين. ثم استقرّ برقوق بالأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ نائب طرابلس في نيابة حلب عوضا عن إشقتمر الماردينىّ بحكم عزله بالقبض عليه بمدينة بلبيس وسجنه بالإسكندرية. وقد قدّمنا أنّ إشقتمر هذا كان ممن ولى الأعمال الجليلة من سلطنة السلطان حسن وبرقوق يوم ذاك من صغار مماليك يلبغا العمرىّ. انتهى.
ثمّ أخرج برقوق يلبغا الناصرىّ وولّاه نيابة طرابلس عوضا عن منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ المنتقل إلى نيابة حلب. ثمّ بعد مدّة يسيرة قبض على منكلى بغا المذكور واعتقل بقلعة حلب وتولّى حلب عوضه الأمير تمرباى الأفضلىّ التمرداشى.
ثمّ رسم بالإفراج عن إشقتمر الماردينىّ من سجن الإسكندرية وأن يتوجّه إلى القدس بطّالا.
ثم في هذه الأيام رسم بعزل الأمير بيدمر الخوارزمىّ عن نيابة الشام بالأمير «1» كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ.(11/164)
قلت: وبيدمر هذا أيضا ممّن ولى نيابة طرابلس في أيام يلبغا العمرىّ وغيرها من الأعمال وحضر بيدمر إلى القاهرة وقبض عليه واعتقل بسجن الإسكندرية.
ثمّ استقرّ الأمير قرادمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ أمير مجلس واستقر ألطنبغا الجوبانىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف وهذه الوظيفة هي الآن وظيفة رأس نوبة النوب واستقر الأمير بزلار العمرىّ الناصرىّ نائب إسكندرية عوضا عن الأمير قطلقتمر بتقدمة ألف واستقر منكلى بغا الطرخانىّ نائب الكرك، عوضا عن تمراز الطازىّ واستقرّ خليل بن عرّام المعزول عن نيابة إسكندرية وعن الوزر وهو يومئذ من جملة أمراء الألوف أستادار بركة الجوبانىّ وهذا شئ لم يسمع بمثله كون أمير مائة ومقدّم ألف يكون أستادارا عند بعض أعيان الأمراء، فهذا شئ عجيب.
ثم استقرّ الأمير بركة الجوبانىّ ناظر الأوقاف الحكمية «1» جميعها وجعل نائبه فى النظر جمال الدين محمود العجمىّ الحنفى.
ثمّ استعفى الأمير تغرى برمش من الإمرة والحجوبية الكبرى بديار مصر فأعفى، فاستقر عوضه الأمير مأمور القلمطاويّ اليلبغاوىّ أمير مائة ومقدّم ألف وحاجب الحجاب.
وفي هذه الأيام اتّفق جماعة على قتل الأتابك برقوق العثمانىّ، ففطن بهم فمسك منهم جماعة منهم طشبغا الخاصّكى وآقبغا بشمقدار ألجاى وآقبغا أمير آخور ألجاى في آخرين تقدير أربعين نفسا، فنفى برقوق بعضهم وحبس البعض، ثمّ مسك(11/165)
برقوق ألطنبغا شادى وجماعة من مماليك ألجاى اليوسفىّ ثمّ أمسك بعد ذلك بمدّة سبعة عشر أميرا وقيّدهم وأرسلهم إلى الإسكندرية.
ثمّ في حادى عشرين شهر ربيع الأوّل سمّر برقوق آقبغا البشمقدار ومعه أحد عشر مملوكا من المماليك السلطانية، وعشرين من مماليك طشتمر الدوادار لكلام صدر منهم في حق برقوق.
وفي أوّل هذه السنة (أعنى سنة ثمانين) كان الحريق العظيم بديار مصر بظاهر باب زويلة «1» ، احترق فيه الفاكهيون «2» والنقليون والبراذعيون وعمل الحريق إلى سور القاهرة، فركب الأمير بركة والأمير أيتمش والأمير قرادمرداش الأحمدىّ وجماعة كبيرة من الأمراء والحكّام، حتى قدروا على طفيه بعد أيام واستمر مواضع الحريق خرابا من أوّل هذه السنة إلى آخرها.
ثمّ في سادس عشرين ذى القعدة اجتمع الأمراء والقضاة عند الأتابك برقوق وقالوا: إنّ العساكر قلت في الإسلام ونريد أن نحلّ الأوقاف المحدثة، بعد الملك الناصر محمد بن قلاوون، فمنعهم الشيخ سراج الدين البلقينىّ من ذلك، فلم يسمعوا له وحلّوا أوقاف الناس وجعلوها إقطاعات وفرّقوها.(11/166)
وفي مستهل شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وثمانين وسبعمائة طلب اشقتمر الماردينىّ من القدس «1» الى القاهرة، فحضر في أوّل جمادى الأولى وتولّى نيابة حلب بعد عزل تمرباى الأفضلىّ التّمرداشىّ، ولمّا حضر اشقتمر إلى القاهرة تلقّاه الأتابك برقوق والأمير بركة الى الحوض «2» التحتانىّ من الريدانية وترجّلا له عن خيولهما، وأنزله برقوق عنده وخدمه أتمّ خدمة، ثمّ عزل الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ عن نيابة دمشق، وتولّى عوضه بيدمر الخوارزمىّ على عادته، وكان بيدمر معتقلا بالإسكندرية.
ثمّ في أثناء هذه السنة كانت واقعة الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ مع الأتابك برقوق.
وخبر هذه الواقعة: أنه لمّا كان في يوم رابع عشرين شعبان ركب الأتابك برقوق من الإسطبل السلطانىّ في حواشيه ومماليكه للتسيير على عادته، وكان الأمير بركة الجوبانىّ مسافرا بالبحيرة «3» للصيد، فلما بلغ إينال اليوسفىّ أمير سلاح ركوب برقوق من الإسطبل السلطانىّ انتهز الفرصة لركوب برقوق وغيبة بركة، وركب بمماليكه وهجم الإسطبل السلطانىّ وملكه ومسك الأمير جركس الخليلىّ، وكان مع إينال المذكور جماعة من الأمراء: منهم سودون جركس المنجكىّ أمير آخور، والأمير صصلان الجمالىّ، وسودون النّوروزىّ، وجمق الناصرىّ، وقمارى،(11/167)
وجماعة أخر، ولما طلع إينال الى باب «1» السلسلة وملكها أرسل الأمير قمارى لينزل بالسلطان الملك المنصور إلى الإسطبل، فأبى السلطان من نزوله ومنعه، ثمّ كبس إينال زردخاناه برقوق وأخرج منها اللّبوس وآلة الحرب، وأخذ مماليك برقوق الذين كانوا وافقوه وألبسهم السلاح وأوقفهم معه وأوعدهم بمال كبير وإمريات، وبلغ برقوقا الخبر فعاد مسرعا، وجاء الى بيت «2» الامير أيتمش البجاسىّ بالقرب من باب الوزير «3» وألبس مماليكه هناك، وجاءه جماعة من أصحابه، فطلع بالجميع الى تحت القلعة وواقعوا إينال اليوسفىّ، وأرسل برقوق الأمير قرط في جماعة الى باب السلسلة الذي من جهة باب المدرّج، فأحرقه، ثمّ تسلّق قرط المذكور من عند باب سرّ قلعة الجبل، ونزل ففتح لأصحابه الباب المتصل الى الإسطبل السلطانىّ، فدخلت أصحاب برقوق منه وقاتلت إينال، وصار برقوق بمن معه يقاتل من الرّميلة «4» فانكسر إينال ونزل الى بيته جريحا من سهم أصابه في رقبته من بعض مماليك برقوق، وطلع برقوق الى الإسطبل وملكه وأرسل الى إينال من أحضره، فلمّا حضر قبض عليه وحبسه بالزّردخاناه وقرّره بالليل فأقرّ: أنه ما كان قصده إلّا مسك بركة لا غير.
ثم إنّ برقوق مسك جماعة من الأمراء وغيرهم من أصحاب يتال اليوسفىّ ما خلا سودون النوروزىّ وجمق الناصرىّ وشخصا جنديّا يسمى أزبك وكان يدّعى أنه من أقارب برقوق. ثمّ حمل إينال في تلك الليلة إلى سجن الإسكندرية(11/168)
ومعه سودون جركس. ثم أخذ برقوق في القبض على مماليك إينال اليوسفىّ، ونودى عليهم بالقاهرة ومصر؛ وفي هذه الواقعة يقول الأديب شهاب الدين أحمد ابن العطار: [الرجز]
ما بال إينال اتى ... فى مثل هذى الحركه
مع علمه بأنها ... خالية من بركه
وله أيضا- عفا الله عنه: [السريع]
قد ألبس الله برقوق المهابة فى ... نهار الاثنين من نصر وتمكين
وراح إينال مع سودون وانكسرا ... وكان يوما عسيرا يوم الاثنين
وله عفا الله عنه: [الوافر]
بغى إينال واعتقد الأمانى ... تساعده فما نال المؤمّل
ومدّ لأخذ برقوق يديه ... ولم يعلم بأن الخوخ أسفل
ثمّ في الثامن والعشرين من شعبان حضر الأمير بركة من السّرحة، فركب الأتابك برقوق وتلقّاه من السّحر وأعلمه بما وقع من إينال اليوسفىّ في حقّه. ثم اتّفقا على طلب الأمير يلبغا الناصرىّ من نيابة طرابلس فحضر وأنعم عليه باقطاع إينال اليوسفىّ ووظيفته إمرة سلاح وكانت وظيفة يلبغا قبل إينال. وتولّى مكانه فى نيابة طرابلس منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ ثم استقر بلّوط الصّرغتمش في نيابة الإسكندريّة، بعد عزل بزلار عنها ونفيه إلى الشام بطّالا.
ثمّ نقل حطط من نيابة أبلستين إلى نيابة حماة عوضا عن أرغون الإسعردىّ ثمّ استقر قرط فى نيابة الوجه القبلىّ مضافا إلى أسوان.(11/169)
ثمّ أمسك برقوق مثقال الجمالىّ الزّمام وسأله عن ذخائر الملك الأشرف شعبان فأنكر ففرض عليه العقوبة فأقرّ بصندوق داخل الدار السلطانية فأرسله، ومعه خادمان فأتى بالصندوق وفيه ثلاثون ألف دينار. ثمّ قرّره فأخرج من قاعة المجدىّ ذخيرة فيها خمسة عشر ألف دينار وبرنيّة فيها فصوص، منها فصّ عين هرّ، زنته ستة عشر درهما.
ثمّ بعثه إلى الأمير بركة فعصره فلم يعترف بشىء ثمّ وجدوا عند دادة الملك الاشرف أوراقا فيها دفتر بخط الملك الأشرف: فيه كلّ شىء ادّخره مفصّلا، فوجدوا الذخائر كلّها قد أخذت ولم يتأخر إلا عند طشتمر الدوادار ذخيرة فيها خمسة عشر ألف دينار وعلبة فصوص وعلبة لؤلؤ، وما وجدوا في ذلك اسم مثقال المذكور فأفرج عنه.
وفي هذه السنة وجّه الأمير بركة دواداره سودون باشا إلى الحجاز الشريف لإجراء الماء الى عرفة، وكان في أوائل هذه السنة برز المرسوم الشريف بأن يعمل على قنطرة فم الخور «1» التى عند موردة الجبس سلسلة تمنع المراكب من الدخول إلى الخليج(11/170)
وإلى بركة الرطلى «1» ، فعمل شعراء العصر في ذلك أبياتا، منها قول بدر الدين ابن الشاميّة أحد صوفية الخانقاة الرّكنية بيبرس: [البسيط]
يا سادة فعلهم جميل ... وما لهم في الورى وحاشه
سلسلتم البحر لا لذنب ... وارسلتموا للحجاز باشه(11/171)
قلت: لم تصح التورية معه في قوله: باشه، لعدم معرفته باللغة التركية، لأن اسم باشا بالتفخيم والألف وباشه مرقّقة وفي آخرها هاء وبينهما بون في اللفظ، وكثير مثل هذا يقع للشعراء من أولاد العرب، فيأخذون المعانى الصالحة فيجعلونها هجوا مثل لفظة نكريش وغيرها، لأن نكريش باللغة العجمية معناه: «جيد اللحية» ، فاستعملوها الشعراء في باب الهجو وكثير مثل هذا. وقد أوضحنا ذلك في مصنف «1» بيّنا فيه تحاريف أولاد العرب في الأسماء التركية وغيرها. وقال الأديب عبد العال البغدادىّ في المعنى: [مخلّع البسيط]
أطلقت دمعى على خليج ... مذ سلسلوه فصار يقفل
من رام من دهرنا عجيبا ... فلينظر المطلق المسلسل
[مخلّع البسيط] وقال غيره:
قد أطلقوا البحر من فسوق ... مذ سلسلوا منه خير جدول
ورق قلب الهوى عليه ... فجذا نهره المسلسل
وفي هذه السنة كانت بالديار المصرية واقعة غريبة من كلام الحائط، وخبره:
أن في أوائل شهر رجب من هذه السنة ظهر كلام شخص من حائط في بيت العدل شهاب الدين [أحمد] الفيشىّ «2» الحنفىّ بالقرب من الجامع الأزهر، فصار كلّ من(11/172)
يأتى الى الحائط المذكور ويسأله عن شىء يردّ عليه الجواب ويكلّمه بكلام فصيح، فجاءته الناس أفواجا وتردّدت الى الحائط المذكور أكابر الدولة وتكلّموا معه وافتتن الناس بذلك المكان وتركوا معايشهم وازدحموا على الدار المذكورة وأكثر أرباب العقول الفحص عن ذلك، فلم يقفوا له على خبر، وتحيّر الناس في هذا الأمر العجيب، إلى أن حضر الى البيت المذكور القاضى جمال الدين «1» محمود القيصرىّ العجمىّ محتسب القاهرة وفحص عن أمره بكلّ ما يمكن القدرة اليه، حتّى إنه أخرب بعض الحائط فلم يؤثّر ذلك شيئا واستمرّ الكلام في كلّ يوم الى ثالث شعبان، وقد كادت العامّة أن تتعبد بالمكان المذكور. وأكثروا من فولهم: «يا سلام سلّم، الحيطة بتتكلّم» وخاف أهل الدولة من إفساد الحال وقد أعياهم أمر ذلك، حتّى ظهر أنّ الذي كان يتكلّم هي زوجة صاحب المنزل، فأعلم بذلك الأتابك برقوق، فاستدعى بها مع زوجها فحضرا فأنكرت المرأة فضربها فأقرّت، فأمر بتسميرها وتسمير شخص آخر معها يسمى «عمر» وهو الذي كان يجمع الناس إليها، بعد أن ضرب برقوق الزوج وعمر المذكور بالمقارع وطيف بهما في مصر والقاهرة ثم أفرج عنهم، بعد أن حبسوا مدّة، وفي ذلك يقول الشيخ شهاب الدين بن العطار:
[البسيط]
يا ناطقا من جدار وهو ليس يرى ... اظهر وإلّا فهذا الفعل فتّان
فما سمعنا وللحيطان «2» ألسنة ... وإنّما قيل للحيطان آذان(11/173)
وقال غيره: [البسيط]
قد حار في منزل الفيشى الورى عجبا ... بناطق من جدار ظل مبديه
وكلّهم في حديد بارد ضربوا ... وصاحب البيت أدرى بالذى فيه
وفي هذه السنة أمر الأمير بركة بنقل الكلاب وقرّر على كلّ أمير شيئا معيّنا وعلى أصحاب الدكاكين على كلّ صاحب دكّان كلبا، فتتّبع الناس الكلاب حتى أبيع كلّ كلب بدرهم فأخذ بركة جميع الكلاب ونفاها إلى برّ الجيزة.
وفي يوم الأربعاء سابع صفر من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة كان ابتداء الفتنة بين الأتابك برقوق وبين خجداشه بركة الجوبانىّ وهو أن بركة أرسل يقول إلى برقوق في اليوم المذكور: إن أيتمش البجاسىّ لابس آلة الحرب هو ومماليكه بإسطبله فأرسل برقوق إلى أيتمش في الحال فلم يجد الأمر صحيحا. ثم طلع أيتمش إلى برقوق وأقام عنده وتردّدت الرسل بين برقوق وبركة، والذي كان الرسول بينهما العلّامة أكمل الدّين شيخ الشيوخ بالشيخونية، أراد بذلك إخماد الفتنة والشيخ أمين الدين الحلوانىّ ولا زالا بهما حتى أوقع الصلح بينهما ورضى بركة على أيتمش البجاسىّ وخلع عليه قباء «نخّ» عند نزوله إليه بأمر برقوق صحبة الشيخين المذكورين.
ثم فسد ما بينهما أيضا بعد اثنى عشر يوما في ليلة الجمعة تاسع عشر صفر وبات تلك الليلة كلّ أمير من أمراء مصر ملبسا بماليكه في إسطبله، وسببه: أن بركة أراد أن يمسك جماعة من الأمراء، ممّن هو من ألزام برقوق فأصبح نهار الجمعة والأمراء لابسون السلاح ولمّا وقع ذلك، طلب برقوق القضاة إلى القلعة ليرشّد السلطان الملك المنصور وقال لهم: نرشّد السلطان فيتكلم في أمور مملكته وأنكفّ أنا وغيرى من التّكلّم وأنا مملوك من جملة مماليك السلطان، فتكلّم القضاة بينه وبين(11/174)
الأمير بركة وتردّدوا في الرّسلية غير مرّة إلى أن أذعن كلّ منهما إلى الصلح وتحالفا على ذلك واصطلحا وأصبحت الأمراء من الغد ركبوا إلى الميدان ولعبوا بالكرة وخلع بركة على أيتمش ثانيا. واستقرّ الصلح وخلع برقوق على القضاة الأربعة والتزم بركة أنه لا يتحدّث في شىء من أمور المملكة البتة.
واستمرّ الأمراء على ذلك إلى يوم الاثنين سابع شهر ربيع الأوّل ركبت الأمراء وسيّروا بناحية قبّة النصر ورجعوا وطلع برقوق إلى الإسطبل السلطانىّ، حيث سكنه، وذهب بركة إلى بيته وكان برقوق قد ولد له ولد ذكر وعمل سماطا للناس وطلع إليه الأمير صراى الرّجبىّ الطويل وكان من إخوة بركة وقال لبرقوق: إن بركة وحاشيته قد اتّفقوا على قتلك إذا دخلت يوم الجمعة إلى الصلاة هجموا عليك وقتلوك فبقى برقوق متفكّرا في ذلك متحيّرا لا يشكّ فيما أخبره صراى لصحبته مع بركة وبينما برقوق فى ذلك إذ طلع إليه الأمير قرادمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ أمير مجلس وطبج المحمدىّ وآقتمر العثمانىّ الدّوادار الكبير. وهم من أعيان أصحاب بركة وهنّئوه بالولد وأكلوا السّماط، فلمّا فرغوا طلب برقوق الأمير جركس الخليلىّ ويونس الدّوادار وأمرهما بمسك هؤلاء الثلاثة ومن معهم، فمسكوا في الحال. ثم أمر برقوق حواشيه بلبس السلاح فلبسوا ونزل بزلار الناصرىّ من وقته غارة إلى مدرسة السلطان حسن مع مماليكه وطلع إليها وأغلق بابها وصعد إلى سطحها ومآذنها ورمى بالنّشّاب على بركة في إسطبله الملاصق للمدرسة المذكورة وهو بيت قوصون تجاه باب السلسلة، فلمّا رأى بركة ذلك أمر مماليكه وأصحابه بلبس السلاح، فلبسوا ونادى برقوق في الحال للعامّة تنهب بيت بركة، فتجمّعوا في الحال وأحرقوا بابه ولم يتمكن بركة من قتالهم من عظم الرمى عليه من أعلى سطوح المدرسة، فخرج من بابه الذي(11/175)
بالشارع الأعظم المتّصل إلى صليبة «1» ابن طولون وخرج معه سائر أصحابه ومماليكه وترك ماله بالبيت ودخل من باب «2» زويلة وأخذ والى القاهرة معه إلى باب الفتوح «3» ، ففتحه له فإنه كان أغلق عند قيام الفتنة مع جملة أبواب القاهرة وسار بركة بمن معه من الأمراء والمماليك إلى قبّة النصر، خارج القاهرة فأقام بها ذلك اليوم في مخيّمه ثم أخرج طائفة من عساكره إلى جهة القلعة فتوجّهوا يريدون القلعة فندب برقوق لقتالهم جماعة من أصحابه، فنزلوا إليهم وقاتلوهم قتالا شديدا، قتل فيه من كلّ طائفة جماعة. ثم رجعت كلّ طائفة إلى أميرها وباتوا تلك الليلة.
فلمّا أصبح نهار الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، ندب برقوق لقتال بركة الأمير علّان الشعبانىّ وأيتمش البجاسىّ وقرط الكاشف فى جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك وتوجّهوا إلى قبّة النصر فبرز لهم من أصحاب بركة الأمير يلبغا الناصرىّ أمير سلاح بجماعة كبيرة والتقوا وتصادموا صدمة هائلة انكسر فيها يلبغا الناصرىّ بمن معه وانهزم إلى جهة قبة النصر، فلمّا رأى الأمير بركة انهزام عسكره ركب بنفسه وصدمهم صدمة صادقة وكان من الشّجعان كسرهم فيها أقبح كسرة وتتّبعهم إلى داخل التّرب، ثم عاد إلى مخيّمه وطلع أصحاب برقوق إلى باب السلسلة في حالة غير مرضية وباتوا تلك الليلة، فلمّا أصبح نهار الأربعاء تاسع شهر ربيع الأوّل المذكور، أنزل برقوق السلطان الملك المنصور إلى عنده بالإسطبل السلطانىّ، ونادى للماليك السلطانية بالحضور، فحضروا فأخرج جماعة كبيرة من الأمراء ومعهم المماليك السلطانية وندبهم لقتال بركة ودقّت الكوسات بقلعة الجبل(11/176)
حربية، هذا وقد جهّز بركة أيضا جماعة كبيرة أيضا من أصحابه، لملتقى من ندبه برقوق لقتاله، وسار كلّ من الفريقين إلى الآخر حتّى تواجها على بعد، فلم يتقدّم أحد من العسكرين إلى غريمه، فلما كان بعد الظهر بعث الأمير بركة أمير آخر سيف الدين طغاى يقول لبرقوق: ما هذا العمل! هكذا كان الاتفاق بيننا؟ فقال برقوق: هكذا وقع، قل لأستاذك يتوجه نائبا في أىّ بلد شاء، فرجع أمير آخوره بركة له بهذا القول، فلم يوافق بركة على خروجه من مصر أصلا، فلما أيس منه أمير آخوره قال له: إن كان ولا بدّ فهذا الوقت وقت القيلولة والناس مقيّلة، فهذا وقتك، فركب بركة بأصحابه ومماليكه من وقته وساقوا فرقتين: فرقة من الطريق المعتادة، وفرقة من طريق الجبل. وكان بركة في الفرقة التي بطريق الجبل؛ وبلغ برقوقا ذلك فأرسل الأمراء والمماليك في الوقت لملتقاه، فلمّا أقبل بركة هرب أكثر عساكر برقوق ولم يثبت إلّا الأمير علّان الشعبانىّ في نحو مائة مملوك، والتي مع بركة. وكان يلبغا الناصرىّ بمن معه من أصحاب بركة توجّه من الطريق المعتادة، فآلتقاه أيتمش البجاسىّ بجماعة وكسره وضربه بالطّبر وأخذ جاليشه وطبلخاناته ورجع مكسورا بعد أن وقع بينهم وقعة هائلة جرح فيها من الطائفتين خلائق.
وأمّا بركة فإنه لما التقى مع علّان صدم علان صدمة تقنطر فيها عن فرسه وركب غيره، فلمّا تقنطر انهزم عنه أصحابه، فصار في قلّة فثبت ساعة جيّدة ثم انكسر وانهزم إلى جهة قبّة النصر، وأقام به إلى نصف الليل فلم يجسر أحد من البرقوقية على التوجّه إليه وأخذه.
فلمّا كانت نصف ليلة الخميس المذكورة رأى بركة أصحابه في قلّة وقد خلّ عنه أكثر مماليكه وحواشيه وهرب من قبّة النصر هو والأمير آقبغا صيوان إلى جامع(11/177)
المقسىّ «1» خارج القاهرة فغمز عليه في مكانه فمسك هو وآقبغا المذكور من هناك وطلع بهما إلى برقوق وتتبّع برقوق أصحاب بركة ومماليكه فمسك منه جماعة كبيرة حسب ما يأتى ذكره مع من مسك مع بركة من الأمراء وبقيت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة والناس في وجل بسبب الفتنة فنادى برقوق عند ذلك بالأمان والاطمئنان.(11/178)
وفي واقعة بركة يقول طاهر بن حبيب: [الرجز]
يا لؤمها من حالة ... وشؤمها من حركه
وقبحها من فتنة ... فيها زوال بركه
وعظم كسرة بركة ومسكه على الناس، لأنه كان محبّبا للرعيّة وفيه كرم وحشمة وكان أكثر ميل الناس إليه.
ولمّا كان عشيّة ليلة الخميس المذكورة أخذ برقوق خجداشه بركة وقيّده وأرسله إلى سجن الإسكندرية فحبس به صحبة الأمير قردم الحسنىّ ومعه جماعة في القيود من أصحابه الأمراء وهم: الأمير قرادمرداش الأحمدىّ أمير مجلس المقبوض عليه قبل واقعة بركة وآقتمر العثمانىّ الدوادار وأمير آخر.
ثم أخذ برقوق في القبض على الأمراء من أصحاب بركة، فمسك جماعة كبيرة وهم: أيدمر الخطائىّ وخضر (بضم الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة وراء ساكنة) وقراكسك وأمير حاج بن مغلطاى وسودون باشا ويلبغا المنجكىّ وقرابلاط وقرابغا الأبوبكريّ وتمربغا السيفىّ تمرباى وإلياس الماجرىّ وتمربغا الشمسىّ ويوسف ابن شادى وقطلبك النظامىّ وآقبغا صيوان الصالحىّ وكزل القرمىّ وطولو تمر الأحمدىّ وطوجى الحسينىّ وتنكر العثمانى وقطلوبغا السيفىّ وغريب الأشرفىّ وكمجىّ «1» وألطنبغا الأرغونىّ ويلبغا الناصرىّ رفيق منطاش الآتى ذكرهما وأطلمش الطازىّ وتمرقيا.
فأرسل منهم برقوق في ليلة الأحد ثانى عشر ربيع الأوّل جماعة إلى الإسكندرية صحبة الأمير سودون الشيخونىّ وهم: يلبغا الناصرىّ وهو أكبر الجماعة(11/179)
وطبج المحمدىّ ويلبغا المنجكىّ وأطلمش الطازىّ وقرابلاط وتمرقيا السيفىّ تمربغا وإلياس وقرابغا.
ثم عرض برقوق مماليك بركة فأخذ أكابرهم في خدمته، وكذلك فعل بمماليك يلبغا الناصرىّ، ثم أمسك أرسلان الأشرفىّ دوادار بركة. ثم أفرج برقوق عن ستة أمراء ممن أمسكهم.
ثم أنعم برقوق على جماعة من أصحابه بتقادم ألوف فأنعم على ولده محمد بن برقوق بإقطاع بركة بتمامه وكماله، ثم أنعم على أربعة أخر بتقادم ألوف وهم: جركس الخليلىّ وبزلار العمرىّ الناصرىّ وألطنبغا المعلّم وآلابغا العثمانىّ وأنعم على أطلمش الطازىّ أحد أصحاب بركة بإمرة طبلخاناة بالشام.
ثم في يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل المذكور أنعم على جماعة بإمرة طبلخانات، وهم: آقبغا الناصرىّ وتنكزبغا السيفىّ؟؟ وفارس الصرغتمشىّ وكمشبغا الأشرفىّ الخاصّكى وقطلوبغا السيفىّ كوكاى وتمربغا المنجكىّ وسودون باق السّيفىّ تمرباى وإياس الصرغتمشىّ وعلى جماعة بإمرة عشرات وهم: قوصون الأشرفىّ وبيبرس التمان تمرىّ وطغا الكريمىّ وبيرم العلائىّ وآقبغا اللّاجينىّ.
ثم في حادى عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور أخلع برقوق على جماعة من الأمراء بوظائف، فاستقرّ أيتمش البجاسىّ رأس نوبة كبيرا أطابكا عوضا عن بركة- وهذه الوظيفة بطلت من أيام الملك الناصر فرج- واستقرّ علّان الشعبانىّ أمير سلاح عوضا عن يلبغا الناصرىّ واستقرّ ألطنبغا الجوبانىّ أمير مجلس عوضا عن قرادمرداش الأحمدىّ واستقرّ آلابغا العثمانىّ دوادارا عوضا عن آقتمر العثمانىّ واستقرّ ألطنبغا المعلّم رأس نوبة ثانى بتقدمة ألف (أعنى رأس نوبة النّوب) واستقرّ جركس الخليلىّ أمير آخور كبيرا واستقرّ قرابغا الأبوبكري حاجبا واستقرّ(11/180)
بجمان «1» المحمدىّ من جملة رءوس النوب واستقرّ كمشبغا الأشرفىّ الخاصّكى شادّ الشراب خاناه.
وفي ثانى عشرينه استقرّ الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام نائب إسكندرية عوضا عن بلّوط الصرغتمشىّ فتوجّه ابن عرّام إلى الإسكندرية ثم عاد إلى القاهرة، بعد مدّة يسيرة وشكا من الأمير بركة، فأوصاه برقوق به في الظاهر وسيّره إلى الإسكندرية ثانيا.
ثم أمسك برقوق الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام وأمسك معه جماعة من أصحابه من الأمراء وكان بيدمر من حزب بركة وخرج عن طاعة برقوق فولّى برقوق عوضه الأمير اشقتمر الماردينىّ نائب حلب.
وتولّى نيابة حلب بعد اشقتمر منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ نائب طرابلس.
ثم في آخر جمادى الأولى أفرج برقوق عن جماعة الأمراء المسجونين بثغر الإسكندرية ما خلا أربعة أنفس، وهم: بركة ويلبغا الناصرىّ وقرادمرداش الأحمدىّ وبيدمر الخوارزمىّ نائب الشام وحضرت البقيّة إلى القاهرة فأخرج بعضهم إلى الشام ونفى بعضهم إلى قوص.
ثم في شعبان باست الأمراء الأرض للسلطان الملك المنصور علىّ وسألوه الإفراج عن المسجونين بالإسكندرية وذلك بتدبير برقوق فرسم السلطان بالإفراج عنهم وهم: بيدمر الخوارزمىّ ويلبغا الناصرىّ وقرادمرداش الأحمدىّ ولم يبق بسجن الإسكندرية ممّن مسك من الأعيان في واقعة بركة غير بركة المذكور ومات فى شهر رجب على ما يأتى ذكره، بعد أن نحكى قدوم آنص والد الأتابك برقوق من(11/181)
بلاد الجركس ولمّا حضر الأمراء إلى مصر أخرج يلبغا الناصرىّ إلى دمشق على إمرة مائة وتقدمة ألف بها وقرّادمرداش إلى حلب على تقدمة ألف أيضا بها وتوجّه بيدمر الخوارزمىّ إلى ثغر دمياط بطّالا.
ثم رسم برقوق بالإفراج عن الأمير إينال اليوسفىّ صاحب الواقعة مع برقوق المقدّم ذكرها من سجن الإسكندرية واستقرّ في نيابة طرابلس. ثم استقرّ كمشبغا الحموىّ اليلبغاوى في نيابة صفد عوضا عن تمرباى الأفضلىّ التّمرداشىّ مدّة يسيرة ونقل إلى نيابة طرابلس بحكم انتقال إينال اليوسفىّ إلى نيابة حلب بعد وفاة منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ.
ثم في ذى الحجّة من السنة وصل الخبر بوصول الأمير آنص الجركسىّ والد الأمير الكبير برقوق العثمانىّ صحبة تاجر برقوق الخواجا عثمان بن مسافر، فخرج برقوق بجميع الأمراء إلى لقائه في يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجة سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة المذكورة، فسافر برقوق إلى العكرشة «1» . قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ الحنفىّ: وهو المكان الذي التقى به يوسف الصّدّيق أباه يعقوب عليهما السلام على ما قيل.(11/182)
وكان قد هيّأ له ولده الأتابك برقوق الإقامات والخيم والأسمطة والتقى برقوق مع والده فحال وقع بصر آنص على ولده برقوق مدّ له يده فأخذها برقوق وقبلها ووضعها على رأسه ثم سلّم عليه أكابر أمراء مصر على مراتبهم وأقعد آنص والد برقوق في صدر المخيّم وقعد الأمير آقتمر عبد الغنىّ النائب من جانب والأمير أيدمر الشمسىّ من جانب آخر وجلس برقوق تحت أيدمر وهو يوم ذاك مرشّح للسلطنة، فانظر إلى تلك الآداب والقواعد السالفة. ولمّا استقرّ بهم الجلوس أخذ آنص يخاطب برقوقا ولده باسمه من غير تحشم، كما يخاطب الوالد ولده على قاعة الجراكسة، والقاعدة عندهم: أنّ الولد والخديم عندهم سواء، وكان الملتقى بالعكرشة والنزول بالمخيّم بالخانقاه، فإنهم لمّا تلاقوا ساروا على ظهر إلى خانقاه سرياقوس وحضر مع الأمير آنص جماعة كبيرة من أقاربه وأولاده إخوة الأتابك برقوق خوند الكبرى والصّغرى أمّ بيبرس الأتابك وغيرهما.
ثم مدّت الأسمطة من المآكل والمشارب والحلاوات وغيرها ودام برقوق والأمراء بخانقاة سرياقوس إلى ظهر اليوم المذكور ثم ركبوا الجميع وعادوا إلى جهة الديار المصريّة والموكب لآنص والد برقوق وأكابر الأمراء عن يمينه وشماله وتحته فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش بذهب هائل قد تناهوا في عملهما وسار الجميع حتّى دخلوا إلى القاهرة واجتازوا بها وقد أوقدت لهم الشموع والقناديل فتحيّر والد برقوق ممّا رأى وكان جركسيّا جنسه «كسا» لا يعرف باللغة التركيّة شيئا، لأن الكسا بالبعد عن بلاد التّتار وطلع والد برقوق مع ابنه إلى القلعة وصار هو المشار إليه على ما سنذكره.
وأمّا أمر بركة فإنه لمّا كان شهر رجب من هذه السنة ورد الخبر من لأمه صلاح الدين خليل بن عرّام نائب الإسكندرية بموت الأمير زين الدين بركه(11/183)
الجوبانىّ اليلبغاوىّ المقدّم ذكره بسجن الإسكندرية، فلمّا بلغ الأتابك برقوقا ذلك عظم عليه في الظاهر- والله سبحانه وتعالى متولى السرائر- وبعث بالأمير يونس النّوروزىّ الدّوادار بالإسكندرية لكشف خبر الأمير بركة وكيف كانت وفاته فتوجّه يونس إلى الإسكندرية، ثم عاد إلى مصر ومعه ابن عرّام المذكور نائب الإسكندرية وأخبر برقوقا بأنّ الأمر صحيح وأنه كشف عن موته وأخرجه من قبره فوجد به ضربات: إحداها في رأسه وأنه مدفون بثيابه من غير كفن وأنّ يونس أخرجه وغسّله وكفّنه ودفنه وصلّى عليه خارج باب رشيد «1» وبنى عليه تربة وأن الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام هو الذي قتله، فحبس برقوق ابن عرّام بخزانة «2» شمائل. ثم عصره وسأله عن فصوص خلّاها بركة عنده فأنكرها وأنكر أنه ما رآها.
فلمّا كان يوم الخميس خامس عشرين شهر رجب المذكور طلع الأمراء الخدمة على العادة وطلب ابن عرّام من خزانة شمائل فطلعوا به إلى القلعة على حمار فرسم برقوق بتسميره، فخرج الأمير مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب وجلس بباب القلّة «3» هو وأمير جاندار وطلب ابن عرّام بعد خدمة الإيوان فعرّى وضرب بالمقارع ستة وثمانين شيبا ثم سمّر على جمل بلعبة تسمير عطب وأنزل من القلعة إلى سوق الخيل بالرّميلة بعد نزول الأمراء وأوقفوه تجاه الإسطبل السلطانىّ ساعة فنزل إليه جماعة(11/184)
من مماليك بركة وضربوه بالسيوف والدّبابيس حتى هبّروه وقطّعوه قطعا عديدة ثم إنّ بعضهم قطع أذنه وجعل يعضّها صفة الأكل وأخذ آخر رجله وآخر قطع رأسه وعلّقها بباب زويلة وبقيت قطع منه مرميّة بسوق الخيل، وذكر أن بعض مماليك بركة أخذ من لحمه قطعة شواها. والله أعلم بصحة ذلك.
ثم جمع ابن عرّام بعد ذلك ودفن بمدرسته «1» خارج القاهرة عند جامع أمير حسين بن جندر «2» بحكر جوهر النوبىّ وقد صار أمر ابن عرّام المذكور في أفواه(11/185)
العامّة مثلا يقولون: خمول ابن عرام وكان ابن عرام المذكور أميرا جليلا فاضلا تنقّل في الولايات والوظائف وكان له يد طولى في التاريخ والأدب وله مصنفات مفيدة وتاريخ كبير فيه فوائد وملح وفي هذا المعنى يقول الأديب شهاب الدين أحمد ابن العطار: [البسيط]
أيا بن عرّام قد سمّرت مشتهرا ... وصار ذلك مكتوبا ومحسوبا
ما زلت تجهد في التاريخ تكتبه ... حتّى رأيناك في التاريخ مكتوبا
وفيه يقول أيضا: [الوافر]
بدت أجزا ابن عرّام خليل ... مقطّعة من «1» الضرب الثقيل
وأبدت أبحر الشعر المراثى ... محرّرة «2» بتقطيع الخليل(11/186)
حدّثنى الزينى فيروز الطواشىّ الرومىّ العرّامىّ وكان ثقة صاحب فضل ومعرفة ودين أن أستاذه صلاح الدين خليل بن عرّام المذكور كان مليح الشكل فصيح العبارة بلغات عديدة مع فضيلة تامّة ومعرفة بالأمور وسياسة حسنة وتولّى نيابة ثغر الإسكندرية غير مرة سنين طويلة وتولّى الوزر بالديار المصرية وتنقّل في عدّة وظائف أخر، قال: وكان من رجال الدهر وكان محبّبا في الفقهاء والفقراء وأرباب الصلاح. انتهى.
وقال غيره: كان بشّره الشيخ يحيى الصنافيرىّ والشيخ المعتقد نهار «1» أنه يموت مقتولا بالسيف مسمّرا، وفي معنى ما قاله الشيخ نهار المذكور يقول الشيخ الشهاب ابن العطار المقدّم ذكره: [السريع]
وعد ابن عرّام قديم بما ... قد نال من شيخ رفيع المنار
يا ليلة بالسّجن أبدت له ... ما قاله الشيخ نهار جهار
وقال العينىّ- رحمه الله-: وذكر القاضى تاج الدين بن المليجىّ شاهد الخاصّ الشريف أنّه طلع إلى القلعة وهم يسمّرون ابن عرّام فقعد إلى أن تخفّ الناس، فلمّا فرغوا من تسميره، جازوا به عليه فسمعه وهو يقول في تلك الحالة وينشد أبيات أبى بكر الشّبلىّ «2» وهي قوله: [الخفيف]
لك «3» قلبى تعلّه ... فدمى لم؟؟
قال إن كنت قاهرا ... فلى؟؟ كلّه
انتهى. وقد خرجنا عن المقصود وأطلنا الكلام في قصّة بركة وابن عرّام على سبيل الاستطراد ولنرجع لما كنّا فيه.(11/187)
وأما برقوق فإنه استمرّ على حاله كما كان قبل مسك بركة وقتله وإليه حلّ المملكة وعقدها ولم يجسر على السلطنة، وبينما هو في ذلك مرض السلطان الملك المنصور علىّ ولزم الفراش، حتى مات بين الظهر والعصر من يوم الأحد ثالث عشرين صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ودفن من ليلته بعد عشاء الآخرة في تربة «1» جدّته لأبيه خوند بركة بالقبّة التي بمدرستها بالتبانة. وكان الذي تولّى تجهيزه وتغسيله ودفنه الأمير قطلوبغا الكوكائىّ. وكانت مدّة سلطنته على ديار مصر خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما. ومات وعمره اثنتا عشرة سنة ولم يكن له في سلطنته سوى مجرّد الاسم فقط. وإنما كان أمر المملكة في أيام سلطنته إلى قرطاى أوّلا ثم إلى برقوق آخرا، وهو كالآلة معهم لصغر سنه ولغلبتهم على الملك. وتسلطن من بعده أخوه أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين ولم يقدر برقوق- مع ما كان عليه من العظمة- أن يتسلطن. وكان الملك المنصور علىّ مليح الشكل حسن الوجه، حشيما كثير الأدب واسع النفس كريما. رحمه الله تعالى.
[ما وقع من الحوادث سنة 779]
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور على ابن الملك الأشرف شعبان على مصر وهي سنة تسع وسبعين وسبعمائة، على أنه تسلطن في الثامن من ذى القعدة من السنة الخالية.
فيها. (أعنى سنة تسع وسبعين وسبعمائة) كانت واقعة قرطاى الطازىّ مع صهره أينبك البدرىّ وقتل قرطاى. ثم بعد مدّة قتل أينبك أيضا.(11/188)
وفيها كان ظهور برقوق وبركة، وابتداء أمرهما حسب ما ذكرنا ذلك كلّه فى أصل ترجمة الملك المنصور هذا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أبو جعفر أحمد «1» بن يوسف بن مالك الرّعينىّ الغرناطىّ المالكىّ بحلب عن سبعين سنة وكان إليه المنتهى في علم النحو والبديع والتصريف والعروض وله مشاركة في فنون كثيرة ومصنفات جيدة وكان له نظم ونثر. ومن شعره ما كتبه على ألفية الشيخ «2» يحيى: [البسيط]
يا طالب النحو ذا اجتهاد ... تسمو به في الورى وتحيا
إن شئت نيل المراد فاقصد ... أرجوزة للإمام يحيى
وتوفّى الشيخ الإمام بدر الدين حسن بن زين الدين عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب الحلبىّ الشافعى بحلب عن سبعين سنة وكان باشر كتابة الحكم وكتابة الإنشاء وغير ذلك من الوظائف الدّينية وكان إمام عصره في صناعتى الإنشاء والشروط وله تصانيف مفيدة منها: «تاريخ دولة الترك» أنهاه إلى سنة سبع وسبعين وسبعمائة وذيّل عليه ولده أبو العزّ طاهر وقال: [البسيط]
ما زلت تولع بالتاريخ تكتبه ... حتّى رأيناك في التاريخ مكتوبا
قلت: وأكثر الناس من نظم هذا المعنى الركيك البارد في حقّ عدّة كثيرة من المؤرّخين، وتزاحموا على هذا المعنى المطروق. انتهى.
قلت: وكان له نظم كثير ونثر وتاريخه مرجّز وهو قليل الفائدة والضبط ولذلك لم أنقل عنه إلّا نادرا، فإنه كان إذا لم تعجبه القافية سكت عن المراد.(11/189)
وليس هذا مذهبى في التاريخ. ومن شعر الشيخ بدر الدين حسن هذا- رحمه الله تعالى-: [السريع]
الورد والنّرجس مذ عاينا ... نيلوفرا يلزم أنهاره
شمّر ذا للخوض عن ساقه ... وفكّ ذا للعوم أزراره
وله في مليح يدعى موسى: [الرجز]
لما بدا كالبدر قال عاذلى ... من ذا الذي قد فاق عن شمس الضّحا
فقلت موسى واستفق فإنه ... أهون شىء عنده حلق اللّحى
وله عفا الله تعالى عنه: [الرجز]
يا أيها الساهون عن أخراكم ... إنّ الهدايا فيكم لا تعرف
المال بالميزان يصرف عندكم ... والعمر بينكم جزابا يصرف
وله قصيدة على روىّ قصيدة كمال الدين علىّ بن النّبيه، قد أثبتناها في ترجمته فى المنهل الصافى، أوّلها: [البسيط]
جوانجى للقا الأحباب قد جنحت ... وعاديات غرامى نحوهم جنحت «1»
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلقتمر بن عبد الله العلائىّ صاحب الواقعة مع الأمير أينبك البدرىّ وغيره وهو ممن قام على الملك الأشرف شعبان وأخذ تقدمة ألف بالديار المصرية دفعة فلم يتهنأ بها وعاجلته المنية ومات ولحقه من بقى من أصحابه بالسيف.
وتوفّى الأمير طشتمر اللّفاف المحمدىّ مقتولا في ثالث المحرّم وهو أيضا ممّن قام على الملك الأشرف وصار أميرا كبيرا أتابك العساكر دفعة واحدة من الجندية، وقد تقدّم ذكر هؤلاء الجميع في أواخر ترجمة الملك الأشرف شعبان وفي أوائل ترجمة ولده الملك المنصور علىّ هذا.(11/190)
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين آقتمر الصاحبىّ المعروف بالحنبلىّ نائب السلطنة بديار مصر، ثم بدمشق بها في ليلة الحادى عشر من شهر رجب وكان من أجلّ الأمراء وأعظمهم، باشر نيابة دمشق مرتين وتولّى قبلها عدّة ولايات. ثم بعد النيابة الأولى لدمشق ولى نيابة السلطنة بالقاهرة وساس الناس أحسن سياسة وشكرت سيرته وكان وقورا في الدول مهابا وفيه عقل وحشمة وديانة وكان سمّى بالحنبلىّ لكثرة مبالغته في الطهارة والوضوء.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله النظامىّ الناصرىّ، وكان أوّلا من خاصكية الملك الناصر حسن ثم ترقى إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بمصر، ثم ولى نيابة حلب وبها مات فيما أظنّ وكان شجاعا مقداما.
وتوفى الأمير سيف الدين قرطاى أتابك العساكر مخنوقا بطرابلس وقد تقدّم واقعته مع صهره أينبك البدرىّ وهو أحد رءوس الفتن وممن ولى أتابكيّة العساكر من إمرة عشرة، وكان قتله في شهر رمضان. وجميع هؤلاء من أصاغر الأمراء لم تسبق لهم رياسة ليعرف حالهم وإنما وثب كل واحد منهم على ما أراد فأخذه، فلم تطل مدّتهم وقتل بعضهم بعضا إلى أن تفانوا.
وتوفّى القاضى صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر بن السّفّاح الحلبى الشافعىّ وهو عائد من الحج بمدينة بصرى «1» وكنيته أبو النّسك؛ ومولده في سنة اثنتى عشرة وسبعمائة بحلب وبها نشأ وولى بها وكالة بيت المال ونظر الأوقاف وعدّة وظائف أخر. وهو والد شهاب الدين أحمد كاتب سر حلب ثم مصر وكان كاتبا حسن التصرف، ذكره [زين الدين] أبو العزّ طاهر بن حبيب في تاريخه وأورد له نظما من ذلك: [الدّوبيت](11/191)
لا نلت من الوصال ما أمّلت ... إن كان متى ما حلت عنّى حلت «1»
أحببتكم طفلا وها قد شبت ... أبغى بدلا ضاق علىّ الوقت
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين قوصون في ثانى عشر ذى الحجّة وكان من جملة أمراء الطبلخانات بمصر وله وجاهة في الدول.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله السلاح دار المعروف بأبى درقة «2» وكان أيضا من جملة أمراء مصر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة وعشرون إصبغا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبغا.
[ما وقع من الحوادث سنة 780]
السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور علىّ بن الأشرف شعبان على مصر وهي سنة ثمانين وسبعمائة فيها كانت وقعة الأمير تمرباى الأفضلىّ التّمرداشى نائب حلب مع التركمان.
وتوفّى العلّامة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى الحسن بن علىّ بن جابر الأندلسىّ المالكىّ الهوّارىّ بحلب عن سبعين سنة.
وكان عالما بارعا في فنون كثيرة، وله نظم ونثر وله مصنّفات كثيرة. ومن شعره:
[الخفيف]
وقفت للوداع زينب لمّا ... رحل الرّكب والمدامع تسكب
فالتقت بالبنان دمعى وحلو ... سكب دمعى على أصابع زينب(11/192)
وتوفّى الشيخ الإمام العلامة ضياء الدين أبو محمد عبد الله ابن الشيخ سعد الدين سعد العفيفىّ القزوينىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى القرم بالقاهرة في ثالث عشر ذى الحجة عن نيّف وستين سنة. وكان من العلماء عارفا بعدّة علوم، كان يدرّس فى المذهبين: الحنفية والشافعية. وكتب إليه زين الدين طاهر بن حبيب يقول:
[الخفيف]
قل لربّ النّدى ومن طلب العل ... م مجدّا إلى سبيل السواء
إن أردت الخلاص من ظلمة الجه ... ل فما تهتدى بغير الضياء
فأجابه ضياء الدين:
قل لمن يطلب الهداية منّى ... خلت لمع السّراب بركة ماء
ليس عندى من الضياء شعاع ... كيف تبغى الهدى من اسم الضياء
وتوفّى الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع المعتقد شهاب الدين أبو العباس أحمد المعروف ببادار بالقدس الشريف عن نيّف وسبعين سنة، بعد أن كف بصره، وكان يعرف علم التصوّف وعلم الحرف جيّدا وللناس فيه اعتقاد كبير. رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته.
وتوفّى الشيخ صالح المعتقد أبو النّسك صالح بن نجم بن صالح المصرىّ المقيم بزاويته بمنية «1» الشّيرج من ضواحى القاهرة وبها مات ودفن في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان عن نيف وستين سنة، وكان على قدم هائل من العبادة والزّهد والورع. وفيه يقول أبو العزّ طاهر بن حبيب: [الطويل]
إذا رمت وجه الخير فالشيخ صالح ... عليك به فالقصد إذ ذاك ناجح
وحىّ هلا وانشده في الحى منشدا ... ألا كلّ ما قرّت به العين صالح(11/193)
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح المجذوب صاحب الكرامات الخارقة والأحوال العجيبة نهار المغربىّ الإسكندرىّ بها في يوم الاثنين سادس عشرين جمادى الأولى. وقيل يوم الثلاثاء ودفن بتربة الديماس داخل الإسكندرية- ومن كراماته: ما اتّفق له مع الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام نائب الإسكندرية.
وكان ابن عرام يخدمه كثيرا، فقال له الشيخ نهار: يا بن عرّام! ما تموت إلّا موسّطا أو مسمّرا، قبل قتل ابن عرّام بسنين، مرارا عديدة وابن عرام يقول له: فى الغزاة:
إن شاء الله تعالى، فكان كما قال. وقد تقدّم ذلك.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد عبد الله الجبرتىّ الزّيلعىّ الحنفىّ في ليلة الجمعة سادس عشر المحرّم ودفن بالقرافة وقبره معروف بها يقصد للزيارة. وكان من عباد الله الصالحين: رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى ابن الأزكشىّ في سادس عشر ذى القعدة بالمحلّة «1» من أعمال مصر وحمل إلى داره بالحسينية «2» وهو إذ ذاك من أمراء الطبلخانات وكان ديّنا عفيفا، تولّى ولايات جليلة منها: الأستادارية العالية والحجوبية واستقر فى أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين مشير الدولة وكان إذا ركب يحمل مملوكه وراءه دواة ومزمّلة.
وتوفّى الأمير سيف الدين أطلمش بن عبد الله الدوادار أحد أمراء الألوف بديار مصر فى شهر ربيع الآخر بدمشق «3» وقد أخرج إليها منفيا على إمرة مائة وتقدمة(11/194)
ألف لمّا ملك برقوق وبركة ديار مصر وصار لهما أمرها ونهيها وكان من أعيان الأمراء وهو أيضا أحد من قام على الملك الأشرف شعبان.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الوهاب بن عثمان بن محمد بن هبة الله ابن عرب محتسب القاهرة في ثالث عشر ذى الحجة بمكة بعد قضاء الحج.
وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن كلبك شادّ الدواوين في جمادى الآخرة وكان ولى في بعض الأحيان ولاية القاهرة.
وتوفى الشيخ المعمّر سند الوقت صلاح الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبى عمر المقدسىّ، آخر من بقى من أصحاب ابن البخارىّ في شوّال بصالحية «1» دمشق.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن محمد بن شهرى الكردىّ نائب سيس وكان فقيها شافعيا فاضلا كاتبا.
قلت: وبنو شهرى معروفون: منهم جماعة إلى الآن في قيد الحياة ويلى بعضهم أعمال البلاد الحلبية في زماننا هذا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وخمسة أصابع وقيل أربعة عشر.
[ما وقع من الحوادث سنة 781]
السنة الثالثة من سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر وهي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فيها كان ركوب إينال اليوسفىّ على الأتابك برقوق وقد تقدّم ذكر الواقعة فى أصل هذه الترجمة.
وفيها كان الكلام من الحائط كما تقدّم أيضا.(11/195)
وفيها توفّى الشيخ تقىّ الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن علىّ الواسطىّ الأصل المصرىّ المولد والوفاة الشافعىّ المقرئ المحدّث الشهير بابن البغدادىّ، بعد ما عمى في يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان بالقاهرة ومولده ببغداد سنة سبع وتسعين وستمائة وكان ولى قضاء المالكية بدمشق مدّة ثم صرف. كان فقيها نصدّر للإقراء بمدرسة «1» الحاج آل ملك والجامع الطولونىّ «2» وتولى مشيخة الحديث بالخانقاه «3» الشيخونية.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن مرزوق العجيسىّ «4» التّلمسانىّ المغربىّ المالكىّ. كان من ظرفاء عصره، ترقى عند الملك الناصر حسن حتى صار صاحب سرّه وإمام جمعته ومنبره. ثم توجّه فى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة إلى الأندلس خوفا من النّكبة، ثم عاد إلى مصر وتولّى عدّة تداريس وكان له سماع كثير وفضل غزير.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البارع المفتنّ الفقيه برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ الإمام المفتى شرف الدين عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر بن نجم ابن شادى بن هلال الطائىّ الطّريفىّ القيراطىّ الشافعىّ بمكة المشرفة في ليلة الجمعة(11/196)
العشرين من شهر ربيع الأوّل ودفن بالمعلاة بعد صلاة الجمعة والطّريفىّ «1» فخذ من طيئ والقيراطىّ نسبه إلى قيراط «2» وهي بلدة بالشرقية من أعمال الديار المصرية. ومولده ليلة الأحد حادى عشرين صفر من سنة ست وعشرين وسبعمائة. ونشأ بالقاهرة وطلب العلم ولازم علماء عصره إلى أن برع في الفقه والأصول والعربية ودرّس بعدّة مدارس وسمع الكثير وبرع في النظم وقال الشعر الفائق الرائق. وعندى أنه أقرب الناس في شعره لشيخه الشيخ جمال الدين بن نباتة من دون تلامذته ومعاصريه على ما سنذكره من شعره هنا وقد استوعبنا نبذة كبيرة في المنهل الصافى ومن شعره: [السريع](11/197)
تنفّس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيّه
وأطربت لى العود قمريّة ... وكيف لا تطرب عوديه «1»
وله فى طبّاخ: [السريع]
هويت طبّاخا له نصبة ... نيرانها للقلب جنّات
يكسر أجفانا إذا ما رنا ... لها على الأرواح نصبات
وله أيضا: [السريع]
جفنى وجفن الحبّ قد أحرزا ... وصفين من نيلك يا مصر
جفنى له يوم الوداع الوفا ... وجفه السّاحى له الكسر «2»
وله أيضا: [مخلّع البسيط]
لو لم يكن كفّه غماما ... ما أنبتت في الطروس رهرا
نعم ولولاه بحر جود ... ما أبرز اللّفظ منه درّا
ومن شعره- رحمه الله تعالى وعفا عنه- قصيدته «3» التى أوّلها:
[الكامل]
قسما بروضة خدّه ونباتها ... وبآسها المخضرّ في جنباتها
وبسورة الحسن التي فى خدّه ... كتب العذار بخطّه آياتها
وبقامة كالغصن إلا أننى ... لم أجن غير الصّد من ثمراتها
لأعزّرنّ غصون بان زوّدت ... أعطافه بالقطع من عذباتها(11/198)
وأباكرنّ رياض وجنّته التى ... ما زهرة الدنيا سوى زهراتها
ولأصبحنّ للذّتى متيقّظيا ... ما دامت الأيام في غفلاتها
كم ليلة نادمت بدر سمائها ... والشمس تشرق في أكفّ سقاتها
وجرت بنادهم الليالى للصّبا ... وكؤوسنا غرر على جبهاتها
فصرفت دينارى على دينارها ... وقضيت أعوامى على ساعاتها
خالفت في الصّهباء كلّ مقلّد «1» ... وسعيت مجتهدا إلى حاناتها
فتحيّر الخمّار أين دنانها ... حتى اهتدى بالطّيب من نفحاتها
فشممتها ورأيتها ولمستها ... وشربتها وسمعت حسن صفاتها
فتبعت كلّ مطاوع لا يخشنى ... عند ارتكاب ذنوبه تبعاتها
يأتى إلى اللذات من أبوابها ... ويحجّ للصّهباء من ميقاتها
عرف المدام بحسنها وبنوعها ... وبفضلها وصفاتها وذواتها
يا صاح قد نطق الهزار «2» مؤذنا ... أيليق بالأوتار طول سكاتها
فخذ ارتفاع الشمس من أقداحنا ... وأقم صلاة اللهو في أوقاتها
إن كان عندك يا شراب بقيّة ... مما تزيل بها العقول فهاتها
الخمر من أسمائها والدّرّ من ... تيجانها والمسك من نسماتها
وإذا العقود من الحباب تنظّمت ... إيّاك والتفريط في حيّاتها
أمحرّك الأوتار إن نفوسنا ... سكناتها وقف على حركاتها
دار العذار بحسن وجهك منشدا ... لا تخرج الأقمار عن هالاتها
كسرات جفنك كلّمت قلبى فلم ... يأت الصّحاح لنا بمثل لغاتها(11/199)
والبدر يستر بالغيوم وينجلى ... كتنفّس الحسناء في مرآتها
وتلا نسيم الروض فيها قارئا ... فأمال من أغصانها ألفاتها
ومليحة أرغمت فيها عاذلى ... قامت إلى وصلى برغم وشاتها
لا مال وجهى عن مطالع حسنها ... وحياة طلعة وجهها وحياتها
يا خجلة الأغصان من خطراتها ... وفضيحة الغزلان من لفتاتها
ما الغصن ميّاسا سوى أعطافها ... ما الورد محمرا سوى وجناتها
وعدت بأوقات الوصال كأنّها ... ظنّت «1» سلامتنا إلى أوقاتها
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر ناصر الدين محمد الكردىّ الحرازىّ المعروف بالطّبردار في ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وكان سمع الكثير وتفرّد بأشياء كثيرة، منها. «كتاب فضل الحيل» سمعه من مصنّفه الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدّمياطىّ وهو آخر من روى عنه. ووقع لنا سماع فضل الخيل المذكور من طريقه عاليا.
وتوفّى الشيخ المعتقد حسن المغربىّ الصبّان الحاجاوىّ في العشرين من شهر ربيع الأوّل بداره بالحسينية ودفن بباب النصر.
وتوفّى الأمير قارا بن مهنّا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة ابن فضل بن ربيعة أمير آل فضل وملك العرب وكان كريما جليلا شجاعا مشكور السّيرة. وتولّى عوضه إمرة آل فضل زامل بن موسى.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد صالح الجزيرىّ ساكن جزيرة أروى أعنى الجزيرة «2» الوسطى بها في رابع شهر ربيع الأوّل ودفن بزاويته بالجزيرة الوسطى.(11/200)
وتوفّى الأمير سيف الدين حطط بن عبد الله اليلبغاوىّ نائب حماة بها. وتولّى بعده الأمير طشتمر خازندار يلبغا أيضا. وكان حطط المذكور غير مشكور السّيرة وعنده ظلم وعسف وهو من الذين قاموا على أستاذهم يلبغا العمرىّ الخاصّكى حسب ما تقدّم ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين ماماق بن عبد الله المنجكىّ أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة فى يوم الخميس ثالث شعبان ودفن بتربته «1» عند دار الضّيافة «2» تجاه قلعة الجبل.(11/201)
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير ألجيبغا العادلى نائب غزّة بها، بعد ما استعفى في سلخ جمادى الآخرة وتولى بعده نيابة غزة آقبغا بن عبد الله الدّوادار.
وكان ابن ألجيبغا هذا شجاعا مقداما وله حرمة ووقار في الدولة.
وتوفّى الأمير حاجّى بك بن شادى أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية بها فى هذه السنة.
وتوفّى الطواشى زين الدين ياقوت بن عبد الله الرّسولىّ شيخ الخدّام بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- فى ليلة الجمعة سابع عشرين شهر رمضان- وكان من أعيان الخدّام، له وجاهة في الدول وثروة كبيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين سطلمش بن عبد الله الجلالى بدمشق في ذى القعدة.
وكان أوّلا من جملة أمراء مصر ثم نفى منها على إمرة في دمشق.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن أحمد بن مزهر أحد موقّعى دمشق بها فى شوّال عن نحو الأربعين سنة وهو أخو القاضى بدر الدين محمد بن مزهر كاتب سرّ مصر.
وفيها كان الطاعون بالديار المصرية وضواحيها ومات فيها عالم كثير جدّا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 782]
السنة الرابعة من سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر
وهي سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة.
فيها كانت الوقعة بين الأتابك برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ وبين خشداشه زين الدين بركة الجوبانىّ اليلبغاوىّ ومسك بركة وحبس ثم قتل حسب ما تقدّم ذكره وحسب ما يأتى أيضا في الوفيات.(11/202)
وفيها حضر من بلاد الجركس الأمير آنص والد الأتابك برقوق وأخواته النسوة كما تقدّم ذكره.
وفيها قتل ابن عرّام وقد تقدّم ذكره وكيفية تسميره في أواخر ترجمة الملك المنصور هذا، فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا.
وفيها توفّى ماماى ملك التتار وحاكم بلاد الدّشت «1» وكان ولى الملك بعد كلدى بك خان في سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وكان من أجلّ ملوك الترك وأعظمهم، ومات قتيلا.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة جلال الدين محمد «2» المعروف بجار الله ابن الشيخ قطب الدين محمد بن الشيخ شرف الدين أبى الثناء محمود النّيسابورىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصرية عن نيفّ وثمانين سنة، بعد أن حكم خمس سنين وكانت ولايته بعد ابن منصور، وتولّى القضاء بعده صدر الدين بن منصور ثانيا. وكان عالما بارعا في فنون من العلوم وتولى مشيخة الصّرغتمشيّة بعد موت العلامة أرشد الدين السّرائىّ، وفيه يقول الأديب أبو العزّ زين الدين بن حبيب- رحمه الله تعالى-: [الكامل]
لله جار الله حاكمنا الذي ... ما مثله يسعى له ويزار
حبّا له وكرامة من ماجد ... حسنت خلائقه ونعم الجار
ورثاه شهاب الدين بن العطار. [البسيط]
قاضى القضاة جلال الدين مات وقد ... أعطاه ما كان يرجو بارئ النّسم
حاشاه أن يحرم الراجى مكارمه ... أو يرجع الجار منه غير محترم(11/203)
وتوفّى الأمير الكبير زين الدين بركة بن عبد الله الجوبانىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة الأمراء وأطابك الديار المصريّة مقتولا بثغر الإسكندرية بيد صلاح الدين خليل ابن عرّام نائب الثغر المذكور في شهر رجب. وقد ذكرنا ما وقع لابن عرّام بسببه من الضرب والتّسمير والتّقطيع بالسيوف في ترجمة الملك المنصور هذا. كان بركة من مماليك يلبغا وصار من بعده في خدمة أولاد الملك الأشرف شعبان إلى أن كانت قتلة الملك الأشرف شعبان، قام هو وخشداشه برقوق مع أينبك فأنعم أينبك على كلّ منهما بإمرة طبلخاناه دفعة واحدة من الجنديّة وندبهما بعد شهر للسفر مع الجاليش إلى الشام فاتّفق بركة هذا مع خشداشيته ووثبوا على أخى أينبك حتى كان من أمر أينبك ما ذكرناه، صار بركة هذا أمير مائة ومقدّم ألف هو وبرقوق وأقام على ذلك مدّة. ثم اتّفق مع برقوق وخشداشيته على مسك الأمير طشتمر العلائىّ الدّوادار فمسك طشتمر بعد أن قاتلهم، ومن يوم ذاك استبدّ برقوق بالأمر وبركة هذا شريكه فيه وصار برقوق أتابك العساكر وبركة أطابك رأس نوبة الأمراء، وحكما مصر إلى أن وقع الخلف بينهما وتقاتلا، فانتصر برقوق على بركة هذا وأمسكه وحبسه بثغر الإسكندرية إلى أن قتله ابن عرّام، حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المنصور. وإنما ذكرناه هنا ثانيا تنبيها لما تقدّم، فكان بركة ملكا جليلا شجاعا مهابا تركىّ الجنس وفيه كرم وحشمة وله المآثر بمكة المشرّفة وبطريق الحجاز الشريف وغيره. رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى «1» القضاة جلال الدين أبو المعالى محمد ابن قاضى القضاة نجم الدين محمد ابن قاضى القضاة فخر الدين عثمان بن جلال الدين أبى المعالى علىّ بن(11/204)
شهاب الدين أحمد بن عمر بن محمد الزّرعىّ الشافعىّ سبط الشيخ جمال الدين الشّريشىّ في هذه السنة وقد قارب الأربعين سنة، وكان قد ولى قضاء حلب وحمدت سيرته.
وتوفّى الوزير الصاحب تاج الدّين عبد الوهّاب المكّىّ المعروف بالنّشو فى المصادرة تحت العقوبة عن نيّف وستين سنة، بعد أن ولى الوزارة أربع مرّات.
وكان مشكورا في وزارته محسنا لأصحابه. وهذا النّشو غير النشو «1» الذي تقدّم ذكره فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وتوفّى الأمير سيف الدين منكلى بغا بن عبد الله الأحمدىّ البلدىّ نائب حلب بها ودفن خلف تربة قطلوبغا الأحمدىّ بين الجوهرىّ والجمالية. وكان من أجلّ الأمراء وممّن طالت أيامه في السعادة، ولى نيابة طرابلس وحماة وحلب مرّتين، مات فى الثانية وعدّة وظائف بالديار المصريّة، وكان حازما هيوبا كريما ذا مروءة كاملة وتحشّم. وكان يقول: كلّ أمير لا يكون مصروف سماطه نصف إقطاعه ما هو أمير.
وتوفّى الأمير الطّواشى زين الدين مختار السّحرتىّ الحبشىّ مقدّم المماليك السلطانية وكان صاحب معروف وصدقة وفيه كرم مع تحشّم.
وتوفّى قاضى القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن نور الدين علىّ بن أبى البركات منصور الدّمشقىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصريّة، وليها ثم عزل نفسه وكان من أعيان العلماء. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام نور الدين أبو الحسن علىّ بن ألجاوىّ (بالجيم) أحد فقهاء المالكيّة في رابع عشر ذى الحجة، بعد ما أفتى ودرّس وأشغل.(11/205)
وتوفّى الشيخ الإمام المقرئ شمس الدين أبو عبد الله المعروف بالحكرىّ الشافعى فى ذى الحجة بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا بارعا في القراءات.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد زين الدين محمد بن الموّاز في شهر ربيع الأوّل، وكان صاحب عبادة وللناس فيه اعتقاد حسن
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن نجم بن عمر بن محمد بن عبد الوهّاب ابن محمد بن ذؤيب الأسدىّ الدّمشقى المعروف بابن قاضى شهبة أحد أعيان الفقهاء الشافعية في ثامن المحرّم. ومولده ليلة الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة بدمشق. وكان بارعا فقيها مدرّسا مفتنّا.
وتوفّى الشيخ زين الدين أبو محمد ححّىّ بن موسى بن أحمد بن سعد السّعدىّ الحسبانىّ الشافعىّ الدّمشقىّ في ليلة الأربعاء سابع عشر صفر، وكان أحد فقهاء الشافعية بدمشق، وحجّى هذا هو والد بنى حجىّ رؤساء دمشق في عصرنا.
انتهى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع- انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 783]
ذكر سلطنة الملك الصالح حاجىّ الأولى على مصر
السلطان الملك الصالح صلاح الدين أمير حاج ابن السلطان الملك الأشرف شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون وهو الرابع والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية.
تسلطن بعد وفاة أخيه الملك المنصور علاء الدين علىّ في يوم الاثنين رابع عشرين صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.(11/206)
وخبر سلطنته أنه لمّا مات أخوه الملك المنصور علىّ تكلّم الناس بسلطنة الأتابك برقوق العثمانىّ وأشيع ذلك فعظمت هذه المقالة على أكابر أمراء الدولة وقالوا: لا نرضى أن يتسلطن علينا مملوك يلبغا وأشياء من هذا النّمط، وبلغ برقوقا ذلك، فخاف ألّا يتمّ له ذلك، فجمع برقوق الأمراء والقضاة والخليفة في اليوم المذكور بباب الستارة بقلعة الجبل وتكلم معهم في سلطنة بعض أولاد الأشرف شعبان، فقالوا له: هذا هو المصلحة وطلبوهم من الدور السلطانية وحضر أمير حاج هذا من جملة الإخوة، فوجدوا بعضهم ضعيفا بالجدرى والبعض صغيرا، فوقع الاختيار على سلطنة أمير حاج هذا، لأنه كان أكبرهم، فبايعه الخليفة وحلف له الأمراء وباسوا يده ثم قبّلوا له الأرض، ولقّب بالملك الصالح وهو الذي غيّر لقبه فى سلطنته الثانية بالملك المنصور، ولا نعرف سلطانا تغيّر لقبه غيره، وذلك بعد أن خلع برقوق وحبس بالكرك على ما سنذكره إن شاء الله تعالى مفصّلا في وقته- انتهى.
ولمّا تمّ أمر الملك الصالح هذا ألبسوه خلعة السلطنة وركب من باب الستارة بأبّهة الملك وبرقوق والأمراء مشاة بين يديه إلى أن نزل إلى الإيوان بقلعة الجبل وجلس على كرسىّ الملك وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ثم مدّ السّماط وأكلت الأمراء. ثم قام السلطان الملك الصالح ودخل القصر وخلع على الخليفة المتوكّل على الله خلعة جميلة ونودى بالقاهرة ومصر بالأمان والدعاء للملك الصالح حاجّى وخلع على الأتابك واستقرّ على عادته أتابك العساكر ومدبّر الممالك لصغر سنّ السلطان، وكان سنّ السلطان يوم تسلطن نحو تسع سنين تخمينا.
ثم في سابع عشرين صفر المذكور جلس السلطان الملك الصالح بالإيوان للخدمة على العامه. ثم قام ودخل القصر، بعد أن حضر الخليفة والقضاة والأمراء والعساكر(11/207)
وقرئ تقليد السلطان الملك الصالح عليهم، وعند فراغ القراءة أخذ بدر الدين محمد ابن فضل الله كاتب السر التقليد وقدّمه للخليفة فعلّم عليه بخطّه وخلع السلطان على القضاة وعلى كاتب السّر المذكور. وانفضّ الموكب وأخذ برقوق في التكلّم في الدولة على عادته من غير معاند وفي خدمته بقية الأمراء يركبون في خدمته وينزلون عنده ويأكلون السّماط.
وأما القضاة والنوّاب بالبلاد الشاميّة وأرباب الوظائف بالديار المصريّة فى هذه الدولة، فكان أتابك العساكر برقوق العثمانىّ اليلبغاوى ورأس نوبة الأمراء أيتمش البجاسىّ وأمير سلاح علّان الشّعبانىّ وأمير مجلس ألطنبغا الجوبانىّ اليلبغاوىّ والدوادار الكبير آلابغا العثمانىّ والأمير آخور جركس الخليلىّ وحاجب الحجّاب مأمور القلمطاوى اليلبغاوى وأستادار العالية بهادر المنجكىّ ورأس نوبة ثانى- أعنى رأس نوبة النّوب في زماننا- قردم الحسنى وهؤلاء غير نائب السلطنة وهو الأمير آقتمر عبد الغنى وغير أيدمر الشمسى وهما من أجل الأمراء وأقدمهم هجرة، يجلس الواحد عن يمين السلطان والآخر عن يساره.
والقضاة: الشافعىّ برهان الدين بن جماعة والحنفىّ صدر الدين بن منصور والمالكىّ علم الدين البساطىّ والحنبلىّ ناصر الدين العسقلانىّ وكاتب السر بدر الدين ابن فضل الله العمرى والوزير شمس الدين المقسى وناظر الجيش والمحتسب جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ وناظر الخاصّ هو ابن المقسى أيضا، ونائب دمشق إشقتمر الماردينى ونائب حلب إينال اليوسفىّ ونائب طرابلس كمشبغا الحموى ونائب حماة طشتمر القاسمى ونائب صفد الأمير الكبير طشتمر العلائىّ، نقل إليها من القدس ونائب غزّة آقبغا بن عبد الله ونائب إسكندريّة بلّوط الصّرغتمشىّ.(11/208)
والذين هم معاصروه من ملوك الأقطار: صاحب بغداد وتبريز وما والاهما الشيخ حسين بن أويس وصاحب ماردين الملك الظاهر مجد الدين عيسى وصاحب اليمن الملك الأشرف ابن الملك الأفضل وصاحب مكّة الشريف أحمد بن عجلان وصاحب المدينة الشريفة عطية بن منصور وصاحب سيواس القاضى برهان الدين أحمد وصاحب بلاد قرمان الأمير علاء الدين وصاحب بلاد سمرقند وما والاها تيمور لنك كوركان وصاحب بلاد الدّشت طقتمش خان من ذرية جنجز خان انتهى.
ولمّا كان يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر: أنعم على الأمير تغرى برمش بتقدمة ألف بديار مصر بعد وفاة أمير علىّ بن قشتمر المنصورى. ثم أنعم على سودون الشيخونى بتقدمة ألف أيضا واستقرّ حاجبا ثانيا عوضا عن علىّ بن قشتمر المنصورى. ثم بعد مدّة استقرّ تغرى برمش المقدّم ذكره أمير سلاح بعد وفاة علّان الشعبانىّ. ثم استقرّ مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب في نيابة حماة بعد وفاة طشتمر خازندار يلبغا العمرى.
ثم طلب يلبغا الناصرى من دمشق وكان منفيّا بها على تقدمة ألف، فحضر فى آخر شعبان، فتلقاه الأتابك برقوق والأمراء وترجّل له برقوق وأركبه مركوبا من مراكيبه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة وأجلس راس ميسرة فوق أمير سلاح فلم تطل مدّته بديار مصر وأخلع عليه بنيابة حلب في يوم الخميس ثانى شوّال بعد عزل إينال اليوسفى وطلبه إلى مصر، فلما وصل إينال إلى غزّة قبض عليه وأرسل الى سجن الكرك. ثم أنعم الأتابك برقوق على دواداره الأمير يونس النوروزى بتقدمة ألف بمصر عوضا عن يلبغا الناصرى وخلع على الأمير جركس الخليلى الأمير آخور الكبير واستقرّ مشير الدولة ورسم للوزير ألا يتكلم في شىء إلا بعد مراجعته.(11/209)
وفي العشر الأخير من شوّال أنعم على قطلوبغا الكوكائىّ بتقدمة ألف بعد وفاة الأمير آنص والد الأتابك برقوق العثمانىّ الذي قدم قبل تاريخه من بلاد الجركس، يأتى ذكر وفاته في الوفيات.
ثم في يوم الاثنين تاسع ذى الحجّة من سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة تخلّى الأمير تغرى برمش أمير سلاح عن إمرته ووظيفته وتوجّه إلى جامع قوصون ليقيم به بطّالا، فأرسل الأتابك إليه الأمير سودون الشيخونى الحاجب الثانى وقردم الحسنى رأس توبة وتوجّها إليه وسألاه أن يرجع إلى وظيفته وإمرته فلم يرجع لها، فعادا بالجواب إلى برقوق بذلك.
ثم إنّ تغرى برمش المذكور ندم من ليلته وأرسل يسأل الشيخ أكمل الدين شيخ الشيخونية أن يسأل برقوقا أن يعيده إلى إمرته ووظيفته فأرسل أكمل الدين إلى برقوق بذلك فلم يقبل برقوق ورسم بخروجه إلى القدس ماشيا، فأخرجه النّقباء إلى قبة النصر ماشيا. ثم شفع فيه فركب وسار إلى القدس.
ثم في العشر الأخير من شعبان أجرى جركس الخليلى الأمير آخور الماء إلى الميدان من تحت القلعة إلى الحوض الذي على بابه.
قلت: وإلى الآن الحوض باق على حاله بلا ماء.
ثم في التاريخ المذكور أخرج الأمير جركس الخليلى فلوسا جددا من الفلوس العتق، منها فلس زنته أوقيّة بربع درهم وفلس زنته نصف أوقية وفلس بفلسين.
فلما فعل ذلك وقف حال الناس وحصل الغلاء وقلّ الجالب؛ فلمّا بلغ الأتابك برقوقا أمر بإبطالها، وفي المعنى يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار- رحمه الله تعالى: [البسيط](11/210)
تغيير عتق فلوس قد أضرّ فكم ... حوادث جدد جلّت من العدد
فكيف تمشى علاقات الأنام إذا ... والحال واقفة بالعتق والجدد
وقالت العامّة- لمّا فعل الخليلى ذلك ورسم بنقش اسمه على الفلوس-:
الخليلى من عكسو، نقش اسمو على فلسو. انتهى.
ثم حضر إلى الديار المصرية في ذى الحجّة الأمير كمشبغا الحموى نائب طرابلس وكان السلطان والأتابك برقوق في الصيد بناحية كوم برا «1» ؛ فأخلع السلطان عليه باستمراره على نيابة طرابلس.
ثم في يوم الخميس ثالث المحرّم سنة أربع وثمانين وسبعمائة استقرّ سودون الفخرى الشيخونى حاجب الحجاب بالديار المصرية، وكانت شاغرة من العام الماضى منذ توجّه مأمور القلمطاوى إلى نيابة حماة.
ثم أرسل الأتابك برقوق بكلمش الطازى العلائى إلى دمياط «2» لإحضار بيدمر الخوارزمى المعزول عن نيابة دمشق قبل تاريخه فحضر في العشرين من المحرّم وتلقّاه الأتابك برقوق من البحر «3» وخلع عليه باستقراره في نيابة دمشق على عادته عوضا عن إشقتمر الماردينى.
وفي سلخ صفر تولّى القاضى بدر الدين بن أبى البقاء قضاء الشافعية بديار مصر عوضا عن قاضى القضاة برهان الدين بن جماعة ورسم بانتقال مأمور القلمطاوى من(11/211)
نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضا عن كمشبغا الحموى بحكم انتقال كمشبغا إلى دمشق على خبز جنتمر أخى طاز بحكم توجّه جنتمر إلى القدس بطّالا ونقل إلى نيابة حماة الأمير الكبير طشتمر العلائى الدّوادار الذي كان قبل تاريخه حكم مصر، وتولّى نيابة صفد بعد طشتمر الدوادار تلو حاجب حجّاب دمشق.
وفي العشر الأوسط من شعبان نام الأتابك برقوق بمبيته بسكنه بالإسطبل السلطانىّ وقعد شيخ الصّفوىّ الخاصّكى يكبّسه وبينما هو نائم مسكه شيخ المذكور فى جنبه قويّا خارجا عن الحدّ، فقعد برقوق من اضطجاعه وقال له: ما الخبر؟ فقال:
إنّ مملوكك أيتمش اتّفق مع مماليك الأسياد الذين في خدمتك ومعهم بطا الأشرفىّ على أنهم الساعة يقتلونك، فسكت برقوق وجلس على حاله، فإذا أيتمش المذكور دخل عليه فقام برقوق وأخذ بيده قوسا وضربه به ضربة واحدة صفحا أرماه وأمر بمسكه وقال له: يا متخنّث! الذي يأخذ الملك ويقتل الملوك يقع من ضربة واحدة. ثم مسك بطا الخاصّكى وخرج برقوق وجلس بالإسطبل وطلب سائر الأمراء الكبار والصغار، فطلع الجميع إليه في الحال فكلّمهم بما سمع وجرى ثم أمسك من مماليك الأسياد نحو سبعة عشر نفرا؛ منهم: كزل الحططىّ، ويلبغا الخازندار الصغير وجماعة من رءوس نوب الجمداريّة عنده.
ثم في صبيحة نهاره أمسك جماعة من رءوس نوب الجمدارية وجماعة أخر تتمة خمسة وستين نفرا من مماليك الأسياد وهرب من بقى منهم. فالذين كان قبض عليهم اوّل يوم حبسهم بالبرج «1» من قلعة الجبل والذين مسكهم من الغد حبسهم بخزانة شمائل «2» . ثم أنزل بطا الخاصّكى الأشرفىّ وأيتمش إلى خزانة شمائل. ثم أمسك الأتابك(11/212)
برقوق الأمير ألابغا العثمانى الدوادار الكبير وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية وسجنه. ثم أخرجه على إمرة طبلخاناه بطرابلس. ثم نقله بعد مدّة يسيرة إلى تقدمة ألف بدمشق.
ثم في يوم السبت مستهل شهر رمضان أخرج برقوق من خزانة شمائل ثلاثة وأربعين مملوكا من الممسوكين قبل تاريخه، وأمر بتخشيبهم وتقييدهم ومشوا وهم مزنجرين بالحديد. ومعهم سودون الشّيخونىّ حاجب الحجّاب ونقيب الجيش إلى أن أوصلوهم إلى مصر القديمة وأنزلوهم إلى المراكب، وصحبتهم جماعة من الجبليّة فتوجّهوا بهم إلى قوص.
وكان سبب اتفاق هؤلاء المماليك على برقوق وقتله بسكنه بباب السلسلة لفرصة كانت وقعت لهم باشتغال الأمير جركس الخليلى الأمير آخور بجسر كان عمّره بين الروضة ومصر في النيل.
وخبره أنه لمّا كان في أوائل شهر ربيع الأوّل من هذه السنة اهتمّ الأمير جركس الخليلىّ المذكور في عمل جسر «1» بين الرّوضة وبين جزيرة «2» أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، طوله نحو ثلاثمائة قصبة وعرضه عشر قصبات وأقام هو بنفسه على عمله ومماليكه وجعل في ظاهر الجسر المذكور خوازيق «3» من سنط وسمّر عليها أفلاق نخل، جعلها على الجسر كالستارة تقيه من الماء عند زيادته، وانتهى العمل منه في آخر شهر ربيع الآخر. ثم حفر في وسط البحر خليجا من الجسر المذكور إلى زريبة «4» قوصون ليمرّ الماء فيه عند زيادته. ويصير البحر ممرّه دائما منه صيفا(11/213)
وشتاء. وغرّم على هذا العمل أموالا كثيرة فلم يحصل له ما أراد على ما يأتى ذكره.
وفي هذا المعنى يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار. [الخفيف]
شكت النّيل أرضه ... للخليلى فأحضره
ورأى الماء خائفا ... أن يطأها فجسّره
وقال في المعنى شرف الدين عيسى بن حجّاج العالية- رحمه الله تعالى-[الكامل]
جسر الخليلى المقرّ لقد رسا ... كالطّود وسط النّيل كيف يريد
فإذا سالتم عنهما قلنا لكم ... : ذا ثابت دهرا وذاك يزيد
فهذا هو الذي كان أشغل الخليلى عن الإقامة بالإسطبل السلطانى. وأيضا لما كان خطر في نفوسهم من الوثوب على الملك فإنه من يوم قتل الملك الأشرف شعبان وصار طشتمر اللّفّاف من الجنديّة أتابك العساكر. ثم من بعده قرطاى الطازى. ثم من بعده أينبك البدرى. ثم من بعده قطلقتمر. ثم الأتابك برقوق وبركة، وكلّ من هؤلاء كان إمّا جنديّا أو أمير عشرة وترقّوا إلى هذه المنزلة بالوثوب وإقامة الفتنة، طمع كلّ أحد أن يكون مثلهم ويفعل ما فعلوه فذهب لهذا المعنى خلائق ولم يصلوا إلى مقصودهم. انتهى.
واستمرّ الأتابك برقوق بعد مسك هؤلاء في تخوّف عظيم واحترز على نفسه من مماليكه وغيرهم غاية الاحتراز. فأشار عليه بعد ذلك أعيان خشداشيّته وأصحابه مثل:
أيتمش البجاسى وألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقردم الحسنىّ وجركس الخليلى ويونس النّوروزىّ الدوادار وغيرهم- أن يتسلطن ويحتجب عن الناس ويستريح ويريح من هذا الذي هو فيه من الاحتراز من قيامه وقعوده. فجبن عن الوثوب على السلطنة وخاف عاقبة ذلك فاستحثّه من ذكرناه من الأمراء، فاعتذر بأنّه يهاب قدماء(11/214)
الأمراء بالديار المصريّة والبلاد الشامية. فركب سودون الفخرى الشيخونى حاجب الحجّاب ودار على الأمراء سرّا حتّى استرضاهم، ولا زال بهم حتّى كلّموا برقوقا فى ذلك وهوّنوا عليه الأمر وضمنوا له أصحابهم من أعيان النّوّاب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موت الأمير آقتمر عبد الغنى، فإنّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوق يجلس في الموكب تحته لقدم هجرته وكذلك بموت الأمير أيدمر الشّمسى، فإنه كان أيضا من أقران آقتمر عبد الغنى، فماتا في سنة واحدة على ما يأتى ذكرهما في الوفيات- إن شاء الله تعالى.
فعند ذلك طابت نفسه وأجاب، وصار يقدّم رجلا ويؤخر أخرى، حتّى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائى أمير سلاح وألطنبغا المعلّم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاجّ صاحب التّرجمة، فأخذاه من قاعة الدّهيشة «1» وأدخلاه إلى أهله بالدور السلطانية، وأخذا منه النّمجاة وأحضراها إلى الأتابك برقوق العثمانى، وقام بقيّة الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفة والقضاة وسلطنوه؛ على ما سنذكره في أوّل ترجمته، بعد ذكر حوادث سنين الملك الصالح هذا على عادة هذا الكتاب. إن شاء الله تعالى.
وخلع الملك الصالح من السلطنة، فكانت مدّة سلطنته على الديار المصريّة سنة واحدة وسبعة أشهر تنقص أربعه أيام، على أنه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهى لا كثير ولا قليل. واستمرّ الملك الصالح عند أهله بقلعة الجبل إلى أن أعيد للسلطنة ثانيا، بعد خلع الملك الظاهر برقوق من السلطنة وحبسه بالكرك في واقعة يلبغا الناصرىّ ومنطاش؛ كما سيأتى ذكر ذلك مفصّلا.(11/215)
السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح أمير حاج الأولى على مصر
وهي سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. على أنّ أخاه الملك المنصور عليا حكم فيها من أوّلها إلى ثالث عشرين صفر؛ حسب ما تقدّم ذكره في وفاته.
فيها (أعنى سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة) توفّى قاضى «1» القضاة عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن الشيخ شرف الدين أبى البركات محمد بن أبى العزّ بن صالح الدمشقى الحنفى قاضى قضاة دمشق بها عن نيّف وتسعين سنة. وكان فقيها رئيسا من بيت علم ورياسة بدمشق. وهم يعرفون ببنى أبى العز وبنى الكشك.
وتوفّى قاضى القضاة كمال الدين أبو القاسم عمر ابن قاضى القضاة فخر الدين أبى عمر عثمان بن الخطيب هبة الله المعرّى «2» الشافعىّ بدمشق عن إحدى وسبعين سنة بعد أن حكم بها خمس سنين. وكان تنقّل في البلاد وولّى قضاء طرابلس وحلب ودمشق غير مرة؛ وكان فقيها عارفا بالأحكام خبيرا بالأمور.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شهاب «3» الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد ابن عبد الواحد الأذرعىّ الشافعىّ بحلب عن نيف وسبعين سنة. وكان عديم النظير، فقيها عالما، شرح «منهاج النّووى» . واستوطن حلب وولى بها التدريس ونيابة الحكم إلى أن توفّى. رحمه الله.(11/216)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفاضل ركن الدين أحمد القرمىّ الحنفى الشهير بقاضى قرم ومفتى دار العدل «1» بالديار المصرية بها عن ثمانين سنة. واستقر عوضه في إفتاء دار العدل الشيخ شمس الدين محمد النيسابورىّ ابن أخى جار الله الحنفىّ. وكان ركن الدين فاضلا عارفا بمذهبه، ناب في الحكم عن قاضى القضاة جلال الدين جار الله، وكان معدودا من أعيان فقهاء مصر.
وتوفّى شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق ابن الشيخ مجد الدين عاصم ابن الشيخ سعد الدين محمد الأصبهانىّ الحنفىّ في ليلة الأحد ثالث عشر وبيع الآخر؛ قاله المقريزىّ.
وخالفه العينى؛ بأن قال: فى المحرم سنة ثمانين ولم يوافق لا في الشهر ولا في السنة.
والصواب: المقالة الأولى. وكان قدم إلى القاهرة وتولّى مشيخة خانقاه «2» سرياقوس، ثم توجه في الرّسلية إلى بلاد الهند وعاد وقد كثر ماله، حتى إنه أهدى الذهب فى الأطباق. ومما يدلّ على اتساع ماله عمارته الخانقاه بالقرب من قلعة الجبل تجاه باب الوزير على بعد متر شرقىّ الجبل وهي في غاية الحسن. وكان له همة ومكارم، حدّثنى حفيده بأشياء كثيرة من مكارمه وفضله وأفضاله.
توفّى الشيخ جمال الدين عبد الله بن محمد بن حديدة الأنصارى أحد الصوفية بالخانقاه «3» الصلاحية سعيد السعداء في سادس عشرين شعبان. وكان يروى الشّفاء وثلاثيّات «البخارى» وغير ذلك. وصنّف كتاب «المصباح المضئ» فى كتّاب النبي عليه السلام ومكاتباته.
وتوفّى الأمير سيف الدين مازى بن عبد الله اليلبغاوىّ أحد أمراء الطلبخانات بالديار المصرية بها.(11/217)
وتوفّى السيد الشريف عطية بن منصور بن جمّاز بن شيحة الحسنىّ أمير المدينة النبويّة بها وتولى بعده ابن أخيه جمّاز بن هبة الله وكان كريما عادلا. رحمه الله.
وتوفّى الأمير آنص العثمانىّ الجركسىّ والد الأتابك برقوق العثمانىّ أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية في العشر الأوسط من شوّال وقد جاوز ثمانين سنة من العمر، أقام عمره في بلاد الجزكس، حتى هداه الله تعالى للإسلام على يد ولده الأتابك برقوق، وقدم القاهرة كما تقدّم ذكره في ترجمة الملك المنصور علىّ وأسلم وحسن إسلامه وأقام بعد ذلك دون السنتين ومات. ومع هذه المدة القصيرة من إسلامه أظهر فيها عن دين كبير وخير وصدقات كثيرة ومحبّة لأهل العلم وشفقة على الفقراء وأهل الصّلاح. وكان لا يدّخر شيئا من المال، بل كان مهما حصل في يده فرّقه في الحال على الفقراء والمساكين. أخبرنى جماعة من خدمه أنّه كان إذا ركب ولقى في طريقه أحدا من المحابيس المكدّين يأخذه من جنداره ويطلقه في الحال من زبحيره، ولم يقدر أحد أن يردّه عن ذلك، فمنع برقوق من خروج المحابيس للتّكدّى خوفا من أن يطلقهم، فإنّه كان إذا رأى أحدا منهم يسأل من مماليكه هذا مسلم أم كافر؟ فيقولون له: مسلم؛ فيقول: كيف يفعل بمسلم هكذا في بلاد الإسلام! أطلقوه فيطلق في الحال. ومات قبل سلطنة ولده برقوق ودفن بتربة «1» الأمير يونس الدوادار(11/218)
برأس الروضة خارج باب البرقية من القاهرة، ثم نقل بعد فراغ مدرسة ولده البرقوقية ببين القصرين إلى الدفن بها في القبّة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف آقتمر بن عبد الله من عبد الغنى نائب السلطنة بالديار المصرية بالقاهرة في هذه السنة، بعد أن باشر عدّة أعمال ووظائف مثل: نيابة صفد، وطرابلس، ودمشق، وحجوبّية الحجّاب بديار مصر، وإمرة جاندار، ونيابة السلطنة بها مرتين. وبموته خلا الجوّ للأتابك برقوق وتسلطن، مع أنه كان عديم الشر، غير أنه كان مطاعا في الدولة يرجع إلى كلامه، فكان برقوق يراعيه ويجلس تحته إلى أن مات في تاسع عشرين جمادى الآخرة.
وتوفّى الأمير الكبير عزّ الدين أيدمر بن عبد الله الشمسى أحد أكابر أمراء الألوف بالديار المصريّة بها في ثالث عشر «1» صفر وقد جاوز الثمانين سنة. وكان أصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، أقام أميرا نحوا من ستين سنة، وهو أيضا ممّن كان برقوق يخشاه ويعظّمه ويجلس تحته حتّى في يوم حضور والد برقوق بخانقاة سرياقوس، جلس برقوق تحته في الملأ من الناس، فبموت هؤلاء صفا الوقت لبرقوق وإن كان بقى من القدماء إشقتمر الماردينىّ بأيدمر الخوارزمىّ، فهما ليس كهؤلاء فإنهما لحبّهما لنيابة دمشق وغيرها يتواضعا لأصحاب الشوكة. انتهى وكان أيدمر الشمسىّ هذا كونه مملوك ابن قلاوون يجلس عن اليمين وآقتمر عبد الغنى عن اليسار.
وتوفّى الأمير سيف الدين طشتمر بن عبد الله القاسمىّ المعروف بخازندار يلبغا العمرىّ نائب حماة في هذه السنة في شهر رجب بعين «2» تاب صحبة العساكر الشاميّة.(11/219)
وكان من أجلّ مماليك يلبغا العمرىّ وأكابرهم، وتولّى بعده نيابة حماة مأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ حاجب الحجّاب.
وتوفّى الأمير علّان بن عبد الله الشعبانىّ أمير سلاح في ثمانى عشر شهر ربيع الآخر وهو أحد أعيان مماليك يلبغا، وكان من حزب برقوق وقام معه في نوبة واقعة بركة أتمّ قيام وكان برقوق لا يخرج عن رأيه.
وتوفّى خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر جالب الأتابك برقوق من بلاده ثم جالب أبيه وإخوته إلى الديار المصريّة بالقاهرة في سادس عشر شهر رجب. وكان رجلا مقداما عاقلا وقورا، نالته السعادة لجلبه الأتابك برقوق ومات وهو من أعيان المملكة. وكان برقوق إذا رآه قام له من بعد وأكرمه وقبل شفاعته وأعطاه ما طلب.
وتوفّى الشيخ الفقير المعتقد على الشامىّ بالقاهرة في خامس صفر وكان يعرف بأبى لحاف.
وتوفّى الأمير علاء الدين على بن قشتمر الحاجب الشهير بالوزيرىّ في تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، كان أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر وكان من خواصّ برقوق وأحد من قام معه في وقائعه وساعده.
وتوفّى الأستاذ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن السّورى العمّارى الموصلى العوّاد المغنّى- نسبته بالعمّارى إلى عمّار بن ياسر الصحابىّ رضى الله عنه- فى يوم العشرين من صفر بالقاهرة، وقد انتهت إليه الرئاسة في ضرب العود والموسيقى ونالته السعادة من أجلها، حتّى إنّه كان إذا مرض عاده جميع أعيان الدولة.(11/220)
قلت: وهو صاحب التصانيف الهائلة في الموسيقى.
وتوفّيت المسندة المعمّرة جويرة بنت الشّهاب أبى الحسن [أحمد] بن أحمد الهكّارى في يوم السبت ثانى عشرين صفر وقد انفردت برواية النّسائى وغيرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 784]
ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر
السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثمانى اليلبغاوى الجاركسىّ القائم بدولة الجراكسة بالديار المصرية. وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية والثانى من الجراكسة، إن كان الملك المظفر بيبرس الجشنكير چاركسيا، وإن كان بيبرس تركى الجنس فبرقوق هذا هو الأوّل من ملوك الچراكسة، وهو الأصحّ وبه نقول.
جلس على تخت الملك في وقت الظّهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة الموافق له آخر يوم هاتور وسادس تشرين الثانى، بعد أن اجتمع الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخ الإسلام سراج الدّين عمر البلقينى وخطب الخليفة المتوكّل على الله خطبة بليغة. ثم بايعه على السلطنة وقلّده أمور المملكة ثم بايعه من بعده القضاة والأمراء.
ثم أفيض على برقوق خلعة السلطنة، وهي خلعة سوداء خليفتيّة على العادة، وأشار السّراج البلقينى أن يكون لقبه «الملك الظاهر» فإنه وقت الظّهيرة والظّهور وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافيا، فتلقّب بالملك الظاهر وركب فرس النّوبة من الحرّافة من المقعد الذي بالإسطبل السلطانىّ من باب السّلسلة. والقبّة والطّير(11/221)
على رأسه، وطلع من باب السّر «1» إلى القصر الأبلق «2» ، وأمطرت السماء عند ركوبه بأبّهة السلطنة، فتفاءل الناس بيمن سلطنته ومشت الأمراء والأعيان بين يديه إلى أن نزل ودخل القصر المذكور وجلس على تخت الملك. وكان طالع جلوسه على تخت الملك برج الحوت والشمس في القوس متصلة بالقمر تثليثا والقمر بالأسد متّصل بالمشترى تثليثا وزحل بالثّور راجعا والمشترى بالحمل متصل بعطارد من تسديس والمرّيخ بالجوزاء في شرفه والزّهراء بالعقرب وعطارد بالقوس. ودقّت البشائر بقلعة الجبل عند ركوبه ثم زيّنت القاهرة ومصر ونودى بالقاهرة بالدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.
ولمّا جلس على تخت الملك قبّلت الأمراء الأرض بين يديه وخلع على الخليفة على العادة.
ثم كتب بذلك إلى الأعمال وخرجت الأمراء لتحليف النّوّاب بالبلاد الشامية ثم أمر الملك الظاهر في السلطنة وثبتت قواعد ملكه.
ومدحه جماعة من شعراء عصره منهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار فقال:
[السريع]
ظهور يوم الأربعاء ابتدا ... بالظاهر المعتز بالقاهر
والبشر قد تمّ وكلّ امرئ ... منشرح الباطن بالظاهر
وقال الشيخ شهاب الدين الأعرج السّعدى من قصيدة: [الوافر]
تولّى الملك برقوق المفدّى ... بسعد الجدّ والاقدار حتم
نهار الأربعاء بعيد ظهر ... وللتربيع في الاملاك حكم
بتاسع عشر رمضان بعام ... لأربع مع ثمانين يتمّ(11/222)
قلت: ولنذكر أمر الملك الظاهر هذا من أوّل ابتداء أمره فنقول:
أصله من بلاد الچاركس وجنسه «كسا» ثم أخذ من بلاده وأبيع بمدينة قرم فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر المقدّم ذكره وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى الناصرى في حدود سنة أربع وستين وسبعمائة أو قبلها بيسير وأعتقه وجعله من جملة مماليكه، واستمرّ بخدمته إلى أن ثارت مماليك يلبغا عليه وقتل في سنة ثمان وستين وسبعمائة، فلم أدر هل كان برقوق ممّن هو مع أستاذه يلبغا أم كان عليه. ولما قتل يلبغا وتمزّقت مماليكه وحبس أكثرهم حبس برقوق هذا مع من حبس مدّة طويلة هو ورفيقه بركة الجوبانىّ ومعهم أيضا جاركس الخليلى وهو دونهم في الرتبة. ثم أفرج عنه وخدم عند الأمير منجك اليوسفىّ نائب الشام سنين إلى أن طلب الملك الأشرف مماليك يلبغا إلى الديار المصرية حضر برقوق هذا من جملتهم وصار بخدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف جنديّا ولم يزل على ذلك حتى ثار مع من ثار من مماليك يلبغا على الملك الأشرف شعبان في نوبة قرطاى وأينبك وغيرهما في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وقتل الأشرف.
ثم لمّا وقع بين أينبك وقرطاى وانتصر أينبك على قرطاى أنعم أينبك عليه بإمرة طبلخاناة دفعة واحدة من الجندية، فدام على ذلك نحو الشهر، وخرج أيضا مع من خرج على أينبك من اليلبغارية فأخذ إمرة مائة وتقدمة ألف وكذلك وقع لرفيقه بركة. ثم صار بعد أيام قليلة أمير آخور كبيرا ودام على ذلك دون السنة واتّفق مع الأمير بركة على مسك طشتمر الدوادار ومسكاه بعد أمور حكيناها في ترجمة الملك المنصور علىّ وتقاسما المملكة وصار برقوق أتابك العساكر، وبركة رأس نوبة الأمراء أطابكا، فدام على ذلك من سنة تسع وسبعين إلى سنة اثنتين وثمانين ووقع(11/223)
بينه وبين خشداشه بركة وقبض عليه بعد أمور وحروب وصفا له الوقت إلى أن تسلطن. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه، غير أننا ذكرناه هنا ثانيا على سبيل الاختصار لينتظم سياق الكلام مع سياقه. انتهى.
قال المقريزى- رحمه الله: وكان اسمه ألطنبغا فغيّره أستاذه يلبغا لمّا اشتراه وسمّاه برقوقا. وقال القاضى علاء الدين علىّ ابن خطيب «1» الناصريّة: كان اسمه «سودون» نقلا عن قاضى القضاة ولىّ الدين أبى زرعة العراقىّ عن التاجر برهان الدين المحلّى عن خواجا عثمان بن مسافر. والقولان ليسا بشىء وإن كان النقلة لهذا الخبر ثقات في أنفسهم فإنهم ضعفاء في الأتراك وأسمائهم وما يتعلّق بهم لا يرجع إلى قولهم فيها. والأصح: أنّه من يوم ولد اسمه برقوق كما سنبيّنه في هذا المحلّ من وجوه عديدة منها: أن الخواجا عثمان كان لا يعرف بالعربية، وكان البرهان المحلّى لا يعرف باللغة التركية كلمة واحدة، فكيف دار بينهما الكلام، حتى حكى له ما نقل وإن وقع اجتماعهما في بعض المجالس وتكالما، فالبرهان يفهم عنه بالرمز لا بالتحقيق وليس بهذا نستدل، بل أشياء أخر منها: أنّ والد الملك الظاهر برقوق لمّا قدم من بلاد الجاركس إلى الديار المصرية ونزل الملك الظاهر برقوق في وجوه الأمراء إلى ملاقاته بالعكرشة وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه، وكان يوم ذلك برقوق مرشّحا للسلطنة،(11/224)
فعندما وقع بصر والده عليه وأخذ برقوق في تقبيل يده ناداه باسمه برقوق من غير تعظيم ولا تحشّم. وكان والد برقوق لا يعرف الكلمة الواحدة من اللغة التركية، فلمّا جلس في صدر المخيّم وصار يتكلّم مع ولده برقوق بالجاركس تكرّر منه لفظ «برقوق» غير مرة.
ثم لمّا قدم القاهرة وصار أمير مائة ومقدّم ألف استمرّ على ما ذكرناه من أنه ينادى برقوقا باسمه ولا يقوم له إذا دخل عليه، فكلّمه بعض أمراء الجراكسة أن يخاطبه بالأمير، فلم يفعل وغضب وطلب العود إلى بلاد الجاركس، فلو كان لبرقوق اسم غير برقوق ما ناداه إلّا به ولو قيل له في ذلك ما قبله. فهذا من أكبر الأدلة على أن اسمه القديم «برقوق» . وكذلك وقع لبرقوق مع الخوندات، فإن أخته الكبرى كانت أرضعت برقوقا مع ولد لها، وكانت أيضا لا تعرف باللّغة التركية، فكان أعظم يمين عندها: وحقّ رأس برقوق. وقدم مع الخوندات جماعة كبيرة من أقاربهم وحواشيهم وتداول مجيئهم من بلاد الجاركس إلى القاهرة إلى الدولة الناصرية، ورأيت أنا الخوندات غير مرّة.
وأما جواريّهم وخدمهم فصار غالبهم عندنا بعد موتهم. واستولد الوالد بعض من حضر معهم من بلاد الجاركس من الجوارى وكان غالب من حضر معهم من عجائز الجراكسة يعرف مولد برقوق فلم نسمع من أحد منهم ما نقله من تغيير اسمه ولا من أحد من مماليكه مع كثرة عددهم واختلاف أجناسهم. ومنهم من يدّعى له بقرابة مثل الأمير قجماس والد إينال الأمير الآخور الكبير وغيره، وقد أثبت ذرية قجماس المذكور أنّه ابن عمّ برقوق بسبب ميراث مماليكه بمحضر شهد فيه جماعة من قدماء الجراكسة وسمّى فيه برقوق برقوقا وسمّى قجماس فجماسا.(11/225)
ثم لمّا وقفت على هذه النّقول الغريبة سألت عن ذلك من أكابر مماليك برقوق، فكلّ من سألت منه يقول: لم يطرق هذا الكلام سمعى إلّا في هذا اليوم، هذا مع كثرتهم وتعظيمهم لأستاذهم المذكور وحفظهم لأخياره، وما وقع له قديما وحديثا حتى إنّ بعضهم قال: هذا اسم جاركسى ويلبغا اسم تترى لا يعرف معناه، ثم ذكر معناه فقال: هذا الاسم أصله «ملى جق «1» » ومعناه بالجاركسى غنّام، فإنّ «ملى» بلغتهم اسم للغنم ثم خفّف على «جق» ببرقوق ثم ذكر أسماء كثيرة، كان أصلها غير ما هي عليه الآن مثل «بايزير» فسمى «بايزيد» ومنهم من جعله كنية أبى يزيد ومثل «آل باى» فسّمى «على باى» وأشياء من ذلك يطول شرحها. وقد خرجنا عن المقصود لتأييد قولنا، وقد أوضحنا هذا وغيره في مصنّف على حدته في تحريف أولاد العرب للاسماء التركيّة والعجميّة وفي شهرتهم إلى بلادهم في مثل جانبك وتنبك وشيخون، ومثل من نسب إلى فيروزباد واسترآباد من زيادة ألفاظ وترقيق ألفاظ يتغيّر منها معناها، حتّى إن بعض الأتراك أو الأعاجم إذا سمعها لا يفهمها إلّا بعد جهد كبير. انتهى.
وأمّا الملك الظاهر برقوق فإنه لمّا تسلطن جلس بالقصر الأبلق «2» ثلاثة أيام، فصارت هذه الإقامة سنّة بعده لمن يتسلطن ولم تكن قبل ذلك. فلمّا كان يوم الاثنين رابع عشرين شهر رمضان قرئ عهد الملك الظاهر برقوق بالسلطنة بحضرة الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة وخلع السلطان عليهم الخلع السنيّة. ثم أخلع على الأمير أيتمش البجاسىّ باستمراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانىّ أمير مجلس على عادته، وعلى جاركس الخليلى الأمير آخور الكبير على(11/226)
عادته، وعلى الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ حاجب الحجّاب باستقراره نائب السّلطنة بالديار المصرية، وكانت شاغرة من يوم مات الأمير آقتمر عبد الغنى. وخلع على الأمير ألطنبغا الكوكائى أمير سلاح، واستقرّ حاجب الحجّاب عوضا عن سودون الشيخونىّ، وعلى الأمير ألطنبغا المعلّم باستقراره أمير سلاح عوضا عن الكوكانى المنتقل إلى الحجوبيّة.
قلت: وهذا مما يدل على أن وظيفة إمرة سلاح كانت إذ ذاك دون الحجوبيّة انتهى.
ثم أخلع السلطان على الأمير يونس النّوروزى دواداره قديما باستقراره دوادارا كبيرا بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن ألابغا العثمانى المقبوض عليه قبل تاريخه، وعلى الأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ باستقراره على عادته رأس نوبة ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن ألابغا.
وهذه الوظيفة هي الآن وظيفة رأس نوبة النّوب وقد بينا ذلك في غير موضع.
ثم خلع السلطان على القضاة الأربعة؛ وهم: قاضى القضاة بدر الدين بن أبى البقاء السّبكى الشافعىّ. وقاضى القضاة صدر الدين بن منصور الحنفىّ. وقاضى القضاة جمال الدين بن خير المالكىّ. وقاضى القضاة ناصر الدين العسقلانى الحنبلىّ. وخلع على قضاة العسكر مفتى دار العدل «1» ، ووكلاء بيت المال، وعلى مباشرى الدولة، وعلى القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، وعلى علم الدّين سنّ إبرة الوزير، وعلى تقىّ الدين محمد بن محبّ الدّين ناظر الجيش، وعلى سعد الدين بن البقرى ناظر الخاصّ.(11/227)
ثم خلع الملك الظاهر على القاضى أوحد الدين عبد الواحد موقّعه في أيام إمرته، وعلى جمال الدين محمود القيصرى محتسب القاهرة، وعلى سائر أرباب الدولة وأعيان المملكة فكان يوما مشهودا.
ثمّ في يوم الخميس سابع عشرينه طلب السلطان سائر الأمراء والأعيان، وحلّفهم على طاعته. وفيه أيضا خلع على الأمير بهادر المنجكىّ، واستقرّ أستدارا بإمرة طبلخاناه، وأضيف إليه أستاداريّة المقام الناصرىّ محمد ابن السلطان الملك الظاهر برقوق.
ثم في يوم الاثنين تاسع شوّال أخلع السلطان على العلّامة أوحد الدين عبد الواحد ابن إسماعيل بن ياسين الحنفىّ باستقراره كاتب السرّ بالديار المصريّة عوضا عن القاضى بدر الدين بن فضل الله بحكم عزله.
ثمّ أخلع السلطان على الأمير جلبان العلائى واستقرّ حاجبا خامسا، ولم يعهد قبل ذلك بديار مصر خمسة حجّاب، وعدّ ذلك من الأشياء التي استجدّها الملك الظاهر برقوق.
وأخلع على رجل من صوفيّة خانقاه شيخون يقال له: خير الدين [العجمىّ «1» ] باستقراره قاضى قضاة الحنفيّة بالقدس الشريف.
ثم أخلع أيضا على رجل آخر من صوفيّة خانقاه شيخون يقال له: موفّق الدّين العجمىّ بقضاء غزة، كلّ ذلك بسفارة الشيخ أكمل الدّين شيخ الخانقاه الشّيخونية.
وهذا أيضا ممّا استجدّه الملك الظاهر، فإنه لم يكن قبل ذلك بالقدس ولا بغزة قاض حنفىّ.(11/228)
ثم في يوم الأربعاء «1» تاسع عشرين شوّال ركب السلطان الملك الظاهر من قلعة الجبل وعدّى النيل من بربلاق إلى الجيزة وتصيّد ثم عاد من آخر النهار، وقد ركب الأمير أيتمش عن يمينه والعلّامة أكمل الدين شيخ الشّيخونيّة عن يساره.
ثم رسم السلطان بعد عوده من الصّيد باستقرار بدر الدين محمد بن أحمد [ابن إبراهيم «2» ] ابن مرهر في كتابة سرّ دمشق عوضا عن القاضى فتح الدين [محمد «3» ] ابن الشهيد.
ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب بأنّ الأمير ألطنبغا السلطانىّ نائب أبلستين «4» عصى وطلع الى قلعة «5» دارندة المضافة اليه وأنه أمسك بعض أمرائها وأطلع إلى دارندة ذخائره، فركب العسكر الذين هم بالمدينة عليه وأمسكوا مماليكه وحاصروه فطلب الأمان منهم، ثم فرّ من القلعة إلى أبلستين ثانيا فكتب إليه الناصرىّ نائب حلب يهدّده فلم يرجع إليه ومرّ هاربا إلى بلاد التّتار وقال: لا أكون في دولة حاكمها جاركسىّ!
وفي يوم السبت سابع عشر ذى القعدة ركب السلطان أيضا من القلعة إلى(11/229)
جهة المطريّة «1» ومضى إلى قناطر أبى منجّا «2» ، ثم عاد وشقّ القاهرة من باب الشعرية «3» ، وكان لمروره يوم مشهود وهو أوّل ركوبه ومروره من القاهرة في سلطنته.(11/230)
ثم قدم الخبر على السلطان بفرار الأمير آقبغا من عبد الله نائب غزّة منها إلى الأمير نعير «1» .
وفي هذه الأيام أخلع السلطان على الأمير قرقماس الطّشتمرىّ باستقراره خازندارا كبيرا.
وفي سابع «2» عشر ذى الحجّة من سنة أربع وثمانين وسبعمائة ركب السلطان من القلعة وعدّى النيل إلى برّ الجيزة ثم عاد من بلاق في سابع عشر ذى الحجّة المذكور.
وفي سابع عشرين ذى الحجّة قدم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ امير مجلس من الحجاز وكان حج مع الركب الشامىّ وعاد من طريق الحجّ المصرىّ.
وفي يوم السبت أوّل محرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة قدم الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى الديار المصرية فخرج الأمير سودون الشّيخونىّ النائب إلى لقائه وجماعة من الأمراء، وطلع الجميع في خدمته إلى القلعة، وقبّل الناصرىّ الأرض بين يدى السلطان الملك الظاهر.
وخلع السلطان عليه بالاستمرار على نيابة حلب، فكان مجىء الناصرى إلى مصر أوّل عظمة نالت الملك الظاهر برقوقا؛ لأن يلبغا الناصرى المذكور كان من كبار مماليك الأتابك يلبغا العمرى وممن تأمّر في أيام يلبغا، وبرقوق كان من صغار مماليكه، وأيضا فإن الناصرى كان في دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين أمير مائة ومقدّم ألف وبرقوق من جملة الأجناد ممن يتردّد إليه ويقوم في مجلسه على قدميه، فلم يمض غير سنيات حتى صار كلّ منهما في رتبة معروفة. فسبحان مغيّر حال بعد(11/231)
حال. ويلبغا الناصرى هو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق الآتى ذكرها- إن شاء الله تعالى- فى هذا المحل.
ثم نزل الأمير يلبغا الناصرى وعليه خلعة الاستمرار بنيابة حلب وعن يمينه الأمير أيتمش وعن يساره الأمير ألطنبغا الجوبانى ومن ورائه سبعة جنائب من خيل السلطان بسروج ذهب وكنابيش زركش أنعم بها عليه. ثم حمل إليه السلطان والأمراء من التّقادم مما يجلّ وصفه.
ثم ركب السلطان في يوم السبت ثامن المحرّم ومعه الأمير يلبغا الناصرى وعدّى النيل من بلاق إلى برّ الجيزة وتصيّد وعاد في آخر النهار.
وفي عاشره خلع السلطان على الأمير يلبغا الناصرى نائب حلب خلعة السفر، وخرج من يومه إلى محل كفالته بحلب.
ثم في يوم الاثنين سابع عشره أخلع السلطان على شمس الدين إبراهيم كاتب أرنان واستقرّ به وزيرا على شروط عديدة، منها: أنه لم يلبس خلعة الوزر، فأجيب ولبس خلعة [من صوف «1» ] كخلعة القضاة وغير ذلك.
وفيه وصل الأمير أسد الدين الكردى أحد أمراء حلب في الحديد لشكوى بعض التّجّار عليه أنه غصبه مملوكا فحبس أياما ثم أفرج عنه وأخرج على تقدمة «2» ألف بطرابلس.
ثم عزل السلطان الأمير إينال اليوسفى عن نيابة صفد بالأمير تمرباى التّمرداشى، وأنعم على إينال بتقدمة ألف بدمشق.(11/232)
وفيه استعفى الأمير يلّو من نيابة حماة فأعفى.
وفي تاسع عشرة قدم سالم الدوكارى «1» من حلب فأكرمه السلطان وأخلع عليه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بحلب.
وفي ثامن عشرين جمادى الأولى وهو سادس «2» مسرى أو في النيل فنزل الملك الظاهر من القلعة في موكب عظيم حتى عدّى النيل وخلّق المقياس «3» وفتح خليج السّدّ. وهذا أيضا مما استجدّه الملك الظاهر برقوق، فإنه لم يعهد بعد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى سلطان نزل من القلعة لتخليق المقياس وفتح الخليج غير الملك الظاهر هذا، فهو أيضا ممن استجدّه لطول ترك الملوك له.
وفي هذا الشهر أخلع السلطان على الأمير صنجق الحسنى اليلبغاوى بنيابة حماة عوضا عن يلّو بحكم استعفائه عن نيابة حماة.
وفيه ورد الخبر بموت الأمير تمرباى التّمرداشىّ نائب صفد بعد أن أقام على نيابة صفد خمسة أيام، فأخلع السلطان بعد مدّة على الأمير كمشبغا الحموىّ بنيابة صفد عوضه، وكمشبغا هذا هو أكبر مماليك يلبغا العمرىّ وممّن صار في أيام أستاذه أمير طبلخاناه ولم يخرج عن طاعة أستاذه يلبغا، ولهذا مقته خشداشيّته الذين خرجوا على أستاذهم يلبغا، لكونه لم يوافقهم، وقد تقدّم أنّه ولى نيابة دمشق وصفد وطرابلس قبل ذلك.(11/233)
وفي أوّل شهر رجب من سنة خمس وثمانين وسبعمائة طلع الأمير [صلاح الدين «1» ] محمد بن محمد بن تنكز إلى السلطان ونقل له عن الخليفة المتوكّل على الله أبى عبد الله محمد أنه اتفق مع الأمير قرط بن عمر التّركمانىّ المعزول عن الكشوفية ومع إبراهيم ابن قطلوقتمر العلائىّ أمير جاندار ومع جماعة من الأكراد والتّركمان، وهم نحو من ثمانمائة فارس أنهم يثبون على السلطان إذا نزل من القلعة إلى الميدان في يوم السبت للعب بالكرة يقتلونه ويمكّنون الخليفة من الأمر والاستبداد بالملك فحلّف السلطان ابن تنكز على صحّة ما نقل فحلف له وطلب يحاققهم على ذلك، فبعث السلطان إلى الخليفة وإلى قرط وإلى إبراهيم بن قطلقتمر فأحضرهم وطلب سودون النائب وحدّثه بما سمع، فأخذ سودون ينكر ذلك ويستبعد وقوعه منهم، فأمر السلطان بالثلاثة فحضروا بين يديه وذكر لهم ما نقل عنهم فأنكروا إلا قرط، فإنّه خاف من تهديد السلطان، فقال: الخليفة طلبنى وقال: هؤلاء ظلمة وقد استولوا على هذا الملك بغير رضائى، وإنى لم أقلّد برقوقا السلطنة إلّا غصبا، وقد أخذ أموال الناس بالباطل وطلب منّى أن أقوم معه وأنصر الحقّ فأجبته إلى ذلك ووعدته بالمساعدة، وأن أجمع له ثمانمائة واحد من الأكراد والتّركمان وأقوم بأمره، فقال السلطان للخليفة: ما قولك في هذا، فقال: ليس لما قاله صحّة، فسأل إبراهيم ابن قطلقتمر عن ذلك، فقال: ما كنت حاضرا هذا الاتفاق، لكنّ الخليفة طلبنى إلى بيته بجزيرة «2» الفيل وأعلمنى بهذا الكلام وقال لى: إنّ هذا مصلحة، ورغّبنى في موافقته والقيام لله تعالى ونصرة الحق، فأنكر الخليفة ما قاله إبراهيم أيضا وصار إبراهيم يذكر له أمارات والخليفة يحلف أن هذا الكلام ليس له صحة، فاشتدّ(11/234)
حنق الملك الظاهر وسلّ السيف ليضرب عنق الخليفة؛ فقام سودون النائب وحال بينه وبين الخليفة، وما زال به حتى سكّن بعض غضبه. فأمر الملك الظاهر بقرط وإبراهيم يسمّرا واستدعى القضاة ليفتوه بقتل الخليفة، فلم يفتوه بقتله وقاموا عنه، فأخذ الخليفة وسجنه بموضع في قلعة الجبل وهو مقيّد وسمرّقرط وإبراهيم وشهّرا فى القاهرة ومصر. ثم أوقفا تحت القلعة بعد العصر فنزل الأمير أيدكار «1» الحاجب وسار بهما ليوسّطا خارج باب المحروق «2» من القاهرة، فابتدأ بقرط فوسّط وأبى أن يأخذوا إبراهيم [إذ «3» ] جاءت عدّة من المماليك بأن الأمراء شفعوا في إبراهيم ففكّت مساميره وسجن بخزانة «4» شمائل.
ثم طلب السلطان زكريّاء وعمر ابنى إبراهيم عمّ المتوكّل، فوقع اختياره على عمر فولّاه الخلافة وتلقّب بالواثق بالله، كلّ ذلك في يوم الاثنين أوّل شهر رجب.
ثم في يوم الاثنين ثامن شهر رجب أخلع السلطان على الطواشى بهادر الرومىّ واستقرّ مقدّم المماليك السلطانية عوضا عن جوهر الصّلاحى.
ثم في يوم السبت ثالث عشره ركب السلطان إلى الميدان ثانى مرة للعب الكرة. ثم ركب في يوم السبت عشرينه ثالث مرّة. ثم ركب في يوم السبت سابع عشرينه إلى خارج القاهرة وعاد من باب النصر ونزل بالبيمارستان المنصورى.(11/235)
ثم ركب منه إلى القلعة «1» ، فلم يتحرّك أحد بأمر من الأمور.
ثم خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة في كلّ سنة وأقام بها أياما وعاد وفي عوده قبض على سعد الدين نصر الله بن البقرىّ ناظر الخاصّ بالخدمة.
وخلع السلطان على موفّق الدين أبى الفرج عبد الله الأسلمى بنظر الخاصّ عوضا عن ابن البقرى وأجرى على ابن البقرىّ العقوبة ثم ضربه بالمقارع، بعد ما أخذ منه ثلثمائة ألف دينار.
وفيه شفع الأمراء في الخليفة وتقدّم منهم الأمير أيتمش والأمير ألطنبغا الجوبانىّ وقبّلا الأرض وسألا السلطان في العفو عنه وترفّقا في سؤاله؛ فعدّد لهما السلطان ما أراد أن يفعله بقتله فما زالا به حتّى أمر بفكّ قيده.
وفي هذه السنة توجه السلطان عدة مرار للصيد ببر الجيزة وغيرها، وفي الأخير اجتاز السلطان بخيمة الأمير قطلقتمر العلائىّ أمير جاندار ووقف عليها فخرج قطلقتمر إليه وقدّم له أربعة أفراس فلم يقبلها فقبّل الأرض ثانيا وسأل السلطان أن يقبلها، فأجاب سؤاله وقبلها وسار حتى نزل بمخيّمه. وفي الحال استدعى بإبراهيم ابن قطلقتمر المذكور من خزانة شمائل وأطلقه وخلع عليه وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، وأعطاه ثلاثة أرؤس أخر وهي التي قدّمها أبوه للسلطان وأذن له أن يمشى في الخدمة ووعده بإمرة «2» هائلة وأرسله إلى أبيه قطلقتمر المذكور فسر به سرورا زائدا وكان قطلقتمر في مدّة حبس ابنه لم يحدّث السلطان ولا الأمراء فى أمر ابنه بكلمة واحدة، فأتاه الفرج من الله تعالى بغير «3» مأنّة أحد.(11/236)
وفي هذه الأيام جمع السلطان القضاة واشترى الأمير أيتمش البجاسى وهو يوم ذاك رأس نوبة الأمراء وأطابك وأكبر جميع أمراء ديار مصر من ذرّيّة الأمير جرجى الإدريسىّ نائب حلب بحكم أنّ جرجى لمّا مات لم يكن أيتمش ممّن أعتقه، فأخذه بعد موته الأمير بجاس وأعتقه من غير أن يملكه بطريق شرعى وأثبتوا ذلك على القضاة، فعند ذلك اشتراه الملك الظاهر من ذرّيّة جرجى بمائة ألف درهم وأعتقه وأنعم عليه بأربعة «1» آلاف درهم وبناحية سفط «2» رشيد. ثم خلع السلطان على القضاة والموقّعين الذين سجّلوا «3» قضيّة البيع والعتق.
وفي يوم الثلاثاء تاسع ذى القعدة أفرج السلطان عن الخليفة المتوكّل على الله، ونقل من سجنه بالبرج إلى دار بالقلعة وأحضر إليه عياله.
ثمّ في يوم السبت ثالث صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة قبض السلطان على الأمير يلبغا الصغير الخازندار، وعلى سبعة من المماليك وشى بهم أنهم قصدوا قتل السلطان فضربهم ونفاهم إلى الشام.
وفي يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل قدم الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام؛ فأجلسه السلطان فوق الأمير سودون النائب بدار العدل. ثم في ثالث عشره خلع عليه السلطان، وقيّد له ثمانية جنائب من الخيل بقماش ذهب، جرّوها الأوجاقيّة خلفه.(11/237)
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره نزل السلطان لعيادة الأمير ألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقد توعّك.
وفيه قدّم الأمير بيدمر نائب الشام تقدّمته للسلطان وكانت تشتمل على عشرين مملوكا وثلاثة وثلاثين جملا عليها أنواع الثّياب من الحرير والصوف والفرو وثلاثة «1» وعشرين كلبا سلوقيّا، وثمانية عشر فرسا عليها أجلال حرير، وخمسين فحلا، واثنتين وثلاثين حجرة ومائة إكديش لتتمة مائتى «2» فرس وثمانية قطر هجن بقماش ذهب وخمسة وعشرين قطارا من الهجن أيضا بكيران ساذجة «3» ، وأربعة قطر جمال بخاتىّ لكل جمل منها سنامان وثمانين جملا عرابا. وباسم ولد السلطان سيّدى محمد عشرين فرسا وخمسة عشرة جملا وثيابا وغيرها. وفي عشرينه خلع عليه السلطان خلعة السفر وتوجّه إلى محلّ ولايته بدمشق.
وفي خامس عشرينه نزل السلطان لعيادة ألطنبغا الجوبانىّ ثانيا ففرش له الجوبانىّ شقاق الحرير السّكندرىّ وشقاق نخّ من باب إسطبله إلى حيث هو مضطجع، فمشى عليها السلطان بفرسة، ثم بقدميه «4» فنثرت عليه الدنانير والدراهم.
وقدّم له الجوبانىّ جميع ما عنده من المماليك والخيل، فلم يأخذ السلطان شيئا منها، وجلس ساعة عنده ثم عاد إلى القلعة.
وفي ثالث عشر جمادى الأولى غضب السلطان على القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد [بن يوسف بن أحمد «5» ] ناظر الجيوش المنصورة بسبب إقطاع الأمير زامل أمير عرب آل فضل وضربه بالدواة، ثم امر به فضرب بين(11/238)
يديه نحو ثلثمائة عصاة وكان ترفا، فحمل في محفّة إلى داره بالقاهرة، فلزم الفراش إلى أن مات بعد ثلاثة أيام في ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى. وأخلع السلطان على موفّق الدّين أبى الفرج [الأسلمى «1» ] ناظر الخاصّ واستقرّ به في نظر الجيش مضافا لنظر الخاصّ والذّخيرة ولاستيفاء الصحبة.
وفي أثناء شهر رجب المذكور استبدل السلطان خان «2» الزّكاة من ذرّية الملك الناصر محمد بن قلاوون بقطعة أرض وأمر بهدمه وعمارة مدرسة مكانه، وأقام السلطان على عمارتها الأمير جاركس الخليلىّ أمير آخور، فابتدأ بهدمه وشرع فى عمارة المدرسة المعروفة بالبرقوقيّة «3» بين القصرين، فلمّا كان يوم الاثنين ثانى شعبان مات تحت الهدم جماعة من الفعلة. وفي خامسه ركب السلطان إلى رؤية عمارته المذكورة وعاد إلى القلعة، ثم سار إلى سرحة سرياقوس على العادة بحريمه وخواصّه في ندمائه وسائر الأمراء والأعيان ثم عاد بعد أيام.
ثمّ نزل في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان لعيادة الشيخ أكمل الدّين الشيخ بالشّيخونيّة. ثمّ نزل في يوم الخميس ثامن عشرة ليصلّى عليه فظهر أنه أعمى عليه ولم يمت، فعاد السلطان ونزل في يوم تاسع عشره حتى صلّى عليه بمصلّاة «4» المؤمنىّ من تحت القلعة ومشى على قدميه أمام النّعش من المصلّى إلى خانقاه شيخون مع الناس في الجنازة بعد ما أراد أن يحمل النعش غير مرّة فتحمله الأمراء عنه وما زال واقفا على قبره حتى دفن وعاد إلى القلعة، كلّ ذلك لاعتقاده في دينه وغزير علمه ولقدم صحبته معه. ومن يوم مات الشيخ أكمل الدين صار الشيخ سراج الدين عمر البلقينى يجلس مكانه عن يمين السلطان.(11/239)
ثم خلع السلطان على الشيخ عزّ الدين يوسف بن محمود الرّازىّ العجمىّ باستقراره في مشيخة خانقاه شيخون عوضا عن الشيخ أكمل الدين المذكور.
ثم في حادى عشر شوّال قدم الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى القاهرة وعدّى إلى السلطان ببرّ الجيزة، وعاد معه من برّ الجيزة، بعد ما غاب [عن «1» ] صحبة السلطان أياما في يوم الخميس أوّل ذى القعدة. وفي خامسه خلع عليه خلعة السّفر وتوجّه إلى محلّ كفالته بحلب، وهذا قدوم يلبغا الناصرىّ ثانى مرّة، بعد سلطنة الملك الظاهر برقوق.
وفي يوم الخميس ثانى ذى القعدة أسّست المدرسة الظاهريّة «2» ببين القصرين موضع خان الزكاة.(11/240)
وفي يوم الاثنين رابع ذى الحجّة خلع السلطان على القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله باستقراره في وظيفة كتابة السّرّ على عادته بعد وفاة القاضى أوحد الدين.
وفي ثامن عشرين ذى الحجّة استجدّ السلطان لقرافة «1» مصر واليا أمير عشرة وهو سليمان الكردىّ وأخرجت «2» عن والى مدينة مصر ولم يعهد هذا فيما مضى.
وفيه نقل الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ من نيابة صفد إلى نيابة طرابلس عوضا عن مأمور القلمطاوىّ وهذه ولاية كمشبغا لنيابة طرابلس ثانى مرّة.
وفي يوم الاثنين ثانى محرّم سنة سبع وثمانين وسبعمائة استقرّ الأمير سودون المظفرىّ حاجب حجاب حلب في نيابة حماة بعد عزل الأمير صنجك وتوجّه إلى طرابلس أميرا بها.
وفي يوم الجمعة ثالث شهر رجب توجّه «3» الأمير حسن قجا على البريد لإحضار يلبغا الناصرىّ نائب حلب.
وفي عشرينه خرج من القاهرة الأمير كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ على البريد لنقل سودون المظفّرى في نيابة حماة إلى نيابة حلب؛ عوضا عن الأمير يلبغا الناصرىّ.
وأما الناصرىّ فإنّه لما وصل إلى مدينة بلبيس قبض عليه وقيّد وحمل إلى الإسكندريّة واحتاط محمود شادّ الدواوين على أمواله بحلب ومن يومئذ أخذ أمر الملك الظاهر في إدبار بقبضه على الأمير يلبغا الناصرىّ بغير ذنب.(11/241)
ثمّ في يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجّة قبض السلطان على الأمير ألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقيّده وحبسه ثم أفرج عنه بعد أيام وخلع عليه بنيابة الكرك عوضا عن تمرداش القشتمرىّ.
ثم في محرّم سنة ثمان وثمانين وسبعمائة قبض الملك الظاهر على جماعة من المماليك السلطانية وضربهم بالمقارع لكلام بلغه عنهم أنهم اتّفقوا على الفتك به، ثمّ قبض سريعا على الأمير تمربغا الحاجب، وكان اتّفق مع هؤلاء المذكورين وسمّره ومعه عشرة من المماليك المذكورين، [أركب «1» ] كلّ مملوكين على جمل، ظهر أحدهما إلى ظهر الآخر وأفرد تمربغا المذكور على جمل وحده ثم وسّطوا الجميع، فكان هذا اليوم من أشنع الأيام، وكثر الكلام بسببهم في حقّ الملك الظاهر إلى الغابة.
وفي خامس «2» عشرينه قبض السلطان على ستة عشر من مماليك الأمير الكبير أيتمش ونفوا إلى الشام. ثمّ تتبّع السلطان من بقى من المماليك الأشرفية فقبض على كثير منهم وأخرجوا من القاهرة إلى عدّة جهات.
وفي يوم الخميس «3» ثانى عشر شهر ربيع الأوّل رسم السلطان بالإفراج عن الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب كان ونقله من سجن الإسكندريّة إلى ثغر دمياط وأذن له أن يركب ويتنزّه حيث شاء.(11/242)
وفي شهر ربيع الآخر غضب السلطان على موفّق الدين أبى الفرج ناظر الجيش وضربه نحو مائة وأربعين عصاة «1» وأمر بحبسه.
وفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الآخرة نقلت رمم أولاد السلطان الخمسة من مدافنهم إلى القبّة بالمدرسة الظاهريّة التي أنشأها الملك الظاهر بين القصرين ونقلت أيضا رمّة والد الملك الظاهر الأمير آنص عشاء والأمراء مشاة أمام نعشه، حتى دفن أيضا بالقبّة المذكورة.
ثمّ في يوم الأربعاء حادى عشرة نزل الأمير جاركس الخليلىّ الأمير آخور إلى المدرسة الظاهريّة المقدّم ذكرها بعد فراغها وهيّا بها الأطعمة والحلاوات والفواكه.
ثمّ ركب السلطان من الغد في يوم الخميس ونزل من القلعة بأمرائه وخاصّكيّته إلى المدرسة المذكورة، وقد اجتمع القضاة وأعيان الدولة، فمدّ بين يديه سماطا جليلا، أوّله عند المحراب وآخره عند البحرة التي بوسط المدرسة، وأكل السلطان والقضاة والأمراء والمماليك، ثمّ تناهبت الناس بقيّته، ثم مدّ سماط الحلوات والفواكه وملئت البحرة التي بصحن المدرسة من مشروب السّكّر، ثم بعد رفع السماط أخلع السلطان على الشيخ علاء الدين [علىّ «2» ] السّيرامىّ الحنفىّ وقد استدعاه السلطان من بلاد الشرق واستقرّ مدرّس الحنفيّة وشيخ الصوفيّة وفرش له الأمير جاركس الخليلىّ السّجّادة بيده حتّى جلس عليها. ثم خلع السلطان على الأمير جاركس الخليلىّ شاد عمارة المدرسة المذكورة وعلى المعلّم شهاب الدين أحمد بن الطّولونىّ المهندس وركبا فرسين بقماش ذهب. ثم خلع السلطان على خمسة عشر نفرا من مماليك(11/243)
جاركس الخليلىّ ممن باشروا العمل مع أستاذهم وأنعم على كلّ منهم بخمسمائة درهم.
ثم خلع السلطان على مباشرى العمارة.
ولمّا جلس الشيخ علاء «1» الدين السّيرامىّ على السّجّادة تكلّم على قوله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
الآية. ثم قرأ القارىّ عشرا من القرآن ودعا. وقام السلطان وركب بأمرائه وخاصّكيّته وعاد إلى القلعة، بعد أن خرج من باب زويلة، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة.
ثمّ بدا للسلطان بعد ذلك أن يقبض على الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام، فأرسل طاووسا «2» البريدىّ للقبض عليه ورسم للأمير تمربغا المنجكى أن يتوجّه على البريد لتقليد الأمير إشقتمر الماردينىّ عوضه بنيابة الشام وكان إشقتمر بالقدس بطّالا، وقد تقدم أنّ إشقتمر هذا ولى نيابة حلب في أيّام السلطان حسن الأولى ويلبغا أستاذ برقوق يوم ذاك خاصّكىّ، فانظر إلى تقلّبات الدهر.
وفي يوم الجمعة عاشر شهر رمضان من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة أقيمت الجمعة بالمدرسة الظاهريّة المذكورة وخطب بها جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ المحتسب.
وحجّ في هذه السنة الأمير جاركس الخليلىّ بتجمّل كبير وحجّ من الأمراء كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ ومحمد بن تنكز [بن «3» ] بغا وجاركس المحمودىّ «4» .(11/244)
وفي يوم الاثنين [خامس «1» ] عشرين شوّال استدعى السلطان زكريّا ابن الخليفة المعتصم بالله أبى إسحاق إبراهيم- وإبراهيم المذكور لم يل الخلافة- ابن المستمسك بالله أبى عبد الله محمد- وكذلك المستمسك لم يل الخلافة- ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد العباسىّ وأعلمه السلطان أنّه يريد أن ينصّبه في الخلافة، بعد وفاة أخيه الواثق بالله عمر.
ثم استدعى السلطان القضاة والأمراء والأعيان، فلمّا اجتمعوا أظهر زكريّاء المذكور عهد عمّه المعتضد له بالخلافة، فخلع السلطان عليه خلعة غير خلعة الخلافة ونزل إلى داره. فلمّا كان يوم الخميس ثامن عشرينه طلع الخليفة زكرياء المذكور إلى القلعة وأحضر أعيان الأمراء والقضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ فبدأ البلقينى بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريّاء على الخلافة فبايعه السلطان أوّلا، ثم بايعه من حضر على مراتبهم ونعت بالمستعصم بالله وخلع عليه خلعة الخلافة على العادة ونزل إلى داره وبين يديه القضاة وأعيان الدولة.
ثم طلع زكرياء المذكور في يوم الاثنين ثانى «2» ذى القعدة وخلع عليه السلطان ثانيا بنظر المشهد النفيسىّ على عادة من كان قبله من الخلفاء، ولم تكن هذه العادة قديما، بل حدثت في هذه السنين.
وفي خامس عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاجّ السّيفىّ بطا الخاصّكىّ وأخبر أنّ الأمير آقبغا الماردينىّ أمير الحاجّ لمّا قدم مكّة خرج الشريف محمد بن أحمد ابن عجلان أمير مكّة لتلقّيه على العادة ونزل وقبّل الأرض ثم قبّل خفّ جمل المحمل.(11/245)
وعند ما انحنى وثب عليه فداويّان، ضربه أحدهما بخنجر في عنقه وهما يقولان:
غريم السلطان فخرّ ميتا وتمّ نهاره ملقى حتى حمله أهله وواروه وكان كبيش على بعد، فقتل الفداويّة رجلا آخر يظنّوه كبيشا وأقام أمير الحاجّ لابس السلاح سبعة أيام خوفا من الفتنة، فلم يتحرّك أحد، ثم خلع أمير الحاجّ على الشريف غنان باستقراره أمير مكّة عوضا عن محمد المذكور وتسلّمها.
ثمّ في تاسع عشرين ذى الحجة قدمت رسل الحبشة بكتاب ملكهم الحطّى واسمه داود بن سيف أرعد ومعهم هديّة على [أحد «1» و] عشرين جملا، فيها من طرائف بلادهم، من جملتها قدور قد ملئت حمّصا صنع من ذهب إذا رآه الشخص يظنّه حمصا وغير ذلك.
ثم في يوم السبت سابع عشر صفر من سنة تسع وثمانين وسبعمائة قدم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الكرك باستدعاء، فأخلع عليه السلطان باستقراره في نيابة دمشق عوضا عن إشقتمر الماردينىّ وعزل إشقتمر ولم تكمل ولايته على دمشق عشرة أشهر وأقام ألطنبغا الجوبانىّ بالقاهرة ثلاثة أيام وسافر في يوم تاسع عشره بعد ما أنعم عليه الملك الظاهر بمبلغ ثلاثمائة ألف درهم فضّة وفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش وأرسل إليه الأمير أيتمش بمائة ألف درهم وعدّة بقج ثياب واستقرّ مسفّره الأمير قرقماس الظاهرىّ وخرج الجوبانىّ من مصر بتجمّل عظيم.
ثم رسم باستقرار الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك المهمندار في نيابة حماة عوضا عن الأمير سودون العثمانى، واستقرّ سودون العثمانى على إقطاع محمد بن المهمندار المذكور بحلب.(11/246)
وفي آخر جمادى الآخرة من السنة وهى سنة تسع وثمانين ورد الخبر على السلطان بأن تيمور لنك صاحب بلاد العجم كبس الأمير قرا محمد صاحب مدينة تبريز «1» وكسره ففرّ منه قرا محمد في نحو مائتى فارس وتوجّه بهم إلى جهة ملطية «2» ونزل هناك ونزل تيمور لنك على آمد «3» فاستدعى السلطان القضاة والفقهاء والأمراء وتحدّث معهم فى أخذ الأوقاف من البلاد بسبب ضعف عسكر مصر فكثر الكلام في ذلك وصمّم الملك الظاهر على إخراج الجميع للجند، ثم رجع عن ذلك ورسم بتجهيز أربعة أمراء من أمراء الألوف بالديار المصريّة وهم: الأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب والأمير يونس النّوروزىّ الدوادار الكبير والأمير سودون باق وسبعة أمراء أخر من أمراء الطبلخانات وعيّن معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس فتجهّز الجميع وخرجوا من القاهرة فى أوّل شهر رجب وساروا إلى حلب ونائبها يوم ذاك سودون المظفّرى وقد وصل إليه الخبر بأن قرا محمدا واقع ابن تيمور لنك وكسره ورجع إلى بلاده.
وبعد خروج العسكر استدعى السلطان في سادس «4» عشرين شعبان من سنة تسع وثمانين المذكورة الشيخ ناصر الدين ابن بنت الميلق «5» وولّاه قضاء الشافعيّة بالديار المصرية بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء عنها بعد ما تمنّع(11/247)
ابن الميلق المذكور من قبول القضاء تمنّعا زائدا وصلى ركعتى الاستخارة حتى أذعن، فألبسه السلطان الملك الظاهر تشريف القضاء بيده وأخذ طيلسانه يتبرّك به ونزل وبين يديه عظماء الدولة إلى المدرسة الصالحية «1» ، فداخل أرباب الدولة بولايته خوف ووهم وظنّوا أنه يحمل الناس على محض الحق وأنه يسير على طريق السّلف من القضاة، قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله- لما ألفوه من تشدّقه في وعظه وتفخّمه في منطقه وإعلانه في التّنكير على الكافة ووقيعته فى القضاة واشتماله على لبس المتوسّط من الخشن ومعيبه على أهل التّرف.
وكان أوّل ما بدأ به أن عزل قضاة مصر كلهم من العريش «2» إلى أسوان «3» وبعد يومين تكلّم معه الحاجّ مفلح مولى «4» القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السرّ فى إعادة بعض من عزله من القضاة، فأعاده، فانحلّ ما كان معقودا بالقلوب من مهابته. ثمّ قلع زيّه الذي كان يلبسه ولبس الشاش الكبير الغالى الثمن ونحوه وترفّع فى مقاله وفعاله، حتى كاد يصعد الجوّ وشحّ في العطاء ولاذ به جماعة غير محبّبين إلى الناس فانطلقت ألسنة الكافّة بالوقيعة في عرضه واختلقوا عليه ما ليس فيه.
انتهى كلام المقريزىّ باختصار.
قلت: كل ذلك والملك الظاهر لا يسمع فيه قول قائل، حتى كانت وقعة الناصرىّ ومنطاش مع الملك الظاهر برقوق وحبس الملك الظاهر بالكرك وكان هو قاضيا يومئذ فوقع في حقّ الظاهر وأساء القول فيه، فبلغ الظاهر ذلك قبل(11/248)
ذهابه إلى الكرك وهو بسجن القلعة فأسرّها في نفسه على ما سنذكره فى محلّه فى سلطنة الملك الظاهر الثانية إن شاء الله تعالى.
ثمّ ورد الخبر على السلطان الظاهر بأن العسكر المجرّد من الديار المصرية عاد إلى حلب وكان توجّه نحو ديار بكر صحبة نوّاب البلاد الشامية وعاد وكان الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام مقدّم العساكر وخرج بثقل عظيم وزدخاناه هائلة، جدّدها بدمشق حتى إنه رسم لفضلاء دمشق أن ينظموا له ما ينقش على أسنّة الرّماح، فنظم له القاضى فتح الدين محمد بن الشهيد كاتب سرّ دمشق:
[البسيط]
إذا الغبار علا في الجوّ عثيره ... وأظلم الجوّ ما للشمس أنوار
هذا سنانى نجم يستضاء به ... كأنّنى علم في رأسه نار
والسيف إن نام ملء الجفن في غلف ... فإننى بارز للحرب خطّار
إنّ الرماح لأغصان وليس لها ... سوى النجوم على العيدان أزهار
ونظم القاضى صدر الدين علىّ بن الآدمىّ الدمشقىّ الحنفى في المعنى فقال:
[الكامل]
النصر مقرون بضرب أسنة ... لمعانها كو ميض برق يشرق
سبكت لتسبك كلّ خصم مارد ... وتطرّقت لمعاند يتطرّق
زرق «1» تفوق البيض في الهيجاء إذ ... يحمرّ من دمه العدوّ الأزرق
ينسجن يوم الحرب كلّ كتيبة ... تحت الغبار فنصرهنّ محقّق(11/249)
ونظم الشيخ شمس الدين محمد المزيّن الدّمشقىّ في المعنى وأجاد إلى الغاية:
[الكامل]
أنا أسمر والراية البيضاء لى ... لا للسيوف وسل من الشّجعان
لم يحل لى عيش العداة لأننى ... نوديت يوم الجمع بالمرّان
وإذا تغاتمت «1» الكماة بجحفل ... كلّمتهم فيه بكلّ لسان
فتخالهم غنما تساق إلى الرّدى ... قهرا لمعظم سطوة الجوبانى
ثمّ في شوّال خرج السلطان من القاهرة إلى سرياقوس «2» على العادة في كل سنة، واستدعى به بالأمير يلبغا الناصرىّ من ثغر دمياط «3» ، فوصل إلى سرياقوس فى ثالث عشر «4» شوّال وقبّل الأرض بين يدى السلطان، فأكرمه السلطان وأنعم عليه بمائة فرس ومائة جمل وسلاح كثير [ومال «5» ] وثياب وأشياء غير ذلك، قيمة ذلك كله خمسمائة ألف درهم فضة، وأهدى إليه سائر الأمراء على العادة، كل واحد على قدر حاله.
ثم عاد السلطان من سرياقوس في أوّل ذى القعدة، وخلع على الأمير يلبغا الناصرىّ المذكور في خامس ذى القعدة من سنة تسع وثمانين المذكورة باستقراره فى نيابة حلب على عادته، عوضا عن سودون المظفرىّ بحكم استقرار سودون المظفرىّ أتابك حلب وأمره بالتجهيز، وهذه ولاية الناصرىّ الثالثة على حلب،(11/250)
فأصلح الأمير يلبغا الناصرىّ أمره وتهيّأ للسفر، وخرج في ثامن ذى القعدة إلى الرّيدانيّة، بعد أن أخلع السلطان عليه خلعة السفر، وسافر من الريدانية في تاسعه بتجمّل عظيم وبرك هائل ومسفّره الأمير جمق ابن الأمير أيتمش البجاسىّ، وبعد خروجه بثلاثة أيام قدم البريد من البلاد الشامية بأنّ تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعوّ منطاش نائب ملطية خرج عن الطاعة ووافقه القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس وقرا محمد التّركمانى ونائب البيرة ويلبغا المنجكىّ وعدّة كبيرة من خشداشيّة منطاش من المماليك الأشرفية وأنه انضم عليه جماعة كبيرة من التّركمان، فتشوّش السلطان في الباطن ولم يظهر ذلك، وندم على توليته يلبغا الناصرىّ على نيابة حلب، غير أنه لم يسعه إلا السّكات.
ثم ركب السلطان الملك الظاهر في ثانى يوم جاء الخبر بعصيان منطاش وعدّى البحر إلى برّ الجيزة وتصيّد وعاد في سادس عشرينه، وبعد عوده بأيام وصل قاصد الأمير تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعوّ منطاش نائب ملطية يخبر أنه ما نافق وأنه باق على طاعة السلطان، فأخذ السلطان في أخبار القاصد وأعطى، وبينما هو في ذلك قدم البريد من حلب في إثره يخبر السلطان بأنّ منطلق المذكور عاص، وأنه ما أرسل يقول: إنه باق على الطاعة إلّا يدفع عن نفسه حتى يخرج فصل الشتاء ويدخل فصل الربيع وتذوب الثلوج، فسيّر السلطان السيفىّ ملكتمر الدوادار بعشرة آلاف دينار إلى الأمراء المجرّدين قبل تاريخه توسعة لهم، وأمره في الباطن بالفحص عن أخبار منطاش وحقيقة أمره، وبعد خروج ملكتمر فشا الطاعون بالقاهرة ونواحيها في شهر ربيع الأوّل من سنة تسعين وسبعمائة، واشتغل الناس بمرضاهم وأمواتهم عن غيره.(11/251)
ثمّ أخلع السلطان على الأمير أيدكار «1» العمرىّ اليلبغاوىّ الحاجب الثانى وأحد مقدّمى الألوف، باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية، عوضا عن قطلوبغا الكوكائىّ بعد شغورها عنه أربع سنين، وأضيف إليه نظر خانقاة شيخون، واستقرّ الأمير زين الدين أبو بكر بن سنقر عوضه حاجبا ثانيا حاجب ميسرة بتقدمة ألف.
ثم في حادى عشرين جمادى الأولى من السنة قدم صراى تمر دوادار الأمير يونس النّوروزىّ الدوادار، ومملوك نائب حلب الأمير يلبغا الناصرىّ يخبران بأنّ العسكر توجّه إلى سيواس وقاتلوا عسكرها، وقد استنجد أهل سيواس»
بالتتر، فأتاهم من التتر نحو الستين ألفا فحاربهم العسكر المصرىّ والحلبىّ يوما كاملا حتى هزموهم وحصروا سيواس بعد ما قتل كثير من الفريقين وجرح معظمهم، وأنّ الأقوات عندهم عزيزة، فجهّز السلطان للعسكر المذكور خمسين ألف دينار مصرية وشكرهم وسار بالذهب ملكتمر الدوادار ثانيا بعد قدومه مصر بأيام قليلة.
وكان خروج ملكتمر في هذه المرّة الثانية بالذهب في سابع عشرين جمادى الآخرة «3» ، هذا ما أخبره صراى تمر دوادار ثانى يونس الدّوادار.
وأمّا ما وقع من بعده هناك فإنّ العسكر تحرّك إلى الرحيل عن سيواس لطول مكثهم، وعند ما ساروا هجم عليهم التتر من خلفهم، فاحترز الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى جهة حتى صار خلفهم، ثم طرقهم بمن معه ووضع السيف فيهم،(11/252)
فقتل منهم خلائق كثيرة وأسر منهم نحو الألف وأخذ منهم نحو عشرة آلاف فرس وعاد العسكر سالما إلى حلب؛ فقدم هذا الخبر الثانى أيضا على يد بعض مماليك الأمير يونس الدوادار، فسرّ السلطان بذلك ودقّت البشائر بالديار المصرية، ورسم السلطان بعود العسكر المصرىّ إلى نحو الديار المصرية، فعادوا إليها في ثالث شعبان من سنة تسعين وسبعمائة، فكانت غيبتهم عن القاهرة سنة وعدّة أيام. ولمّا وصلوا وطلعوا إلى القلعة أخلع عليهم السلطان الخلع الهائلة وشكرهم ونزلوا إلى دورهم، وكثرت التهانئ لمجيئهم.
ثمّ في خامس عشر شعبان المذكور طلب السلطان الأمير الطواشى بهادر مقدّم المماليك السلطانية، فلم يجده بالقلعة ثم أحضر سكرانا من بيت على بحر النيل، فغضب السلطان عليه ونفاه إلى صفد على إمرة عشرة بها، وأخلع على الطواشى شمس الدين صواب السّعدىّ المعروف بشنكل الأسود بتقدمة المماليك السلطانية عوضا عن بهادر المذكور، واستقرّ الطواشى سعد الدين بشير الشّرفىّ فى نيابة المقدّم عوضا عن شنكل المذكور.
وحجّ في هذه السنة أيضا الأمير جاركس الخليلىّ الأمير آخور الكبير أمير حاجّ الأوّل. وكان أمير حاجّ المحمل الأمير آقبغا الماردينىّ وخرج الحجّ من مصر في عاشر شوّال، وفي أثناء ذلك قدم الخبر بعصيان الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام وأنه ضرب الأمير طرنطاى حاجب حجّاب دمشق واستكثر من استخدام المماليك وشاع ذلك بالقاهرة وكثرت القالة بين الناس بهذا الخبر، فلمّا بلغ الأمير ألطنبغا الجوبانىّ ذلك أرسل استأذن السلطان في الحضور إلى الديار المصرية، فأذن له السلطان فى ذلك وفي ظنّ كلّ أحد أنه لم يحضر، فعندما جاءه الإذن ركب البريد من دمشق(11/253)
فى خواصه وسار حتى نزل سرياقوس خارج القاهرة في ليلة الخميس سابع عشرين شوّال من سنة تسعين المذكورة، وبلغ السلطان ذلك فأرسل إليه الأمير فارسا الصّرغتمشىّ أمير جاندار، فقبض عليه من سرياقوس وقيّده وسيّره إلى سجن الإسكندرية صحبة الأمير ألجيبغا الجمالىّ الدوادار.
ثمّ رسم السلطان بأنّ طرنطاى حاجب حجاب دمشق يستقرّ في نيابة دمشق عوضا عن الأمير ألطنبغا الجوبانىّ المذكور، وحمل إليه التشريف والتقليد الأمير سودون الطّرنطائىّ، فعظم مسك الأمير ألطنبغا الجوبانىّ على الناس كونه ظهر للسلطان براءته ممّا نقله عنه أعداؤه وكونه من أكابر اليلبغاويّة، ولم يسعهم إلا السكات لفوات الأمر.
ثم كتب السلطان كتابا لأمراء طرابلس وأرسله على يد بعض خواصّه بالقبض على الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ نائب طرابلس، فقدم سيفه في عاشر ذى القعدة فتأكّد تشويش الناس بمسك كمشبغا أيضا، فإنه أكبر مماليك يلبغا العمرىّ.
وممّن صار في أيام أستاذه يلبغا أمير طلبخاناه، وتوجّه الأمير شيخ الصّفوىّ بتقليد الأمير أسندمر المحمّدىّ حاجب حجّاب طرابلس بنياية طرابلس عوضا عن كمشبغا الحموىّ المقدّم ذكره.
ثم نفى السلطان الملك الظاهر الأمير كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ، أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة إلى طرابلس، فسار من دمياط «1» ، لأنّه كان في اليزك بالثّغر المذكور.(11/254)
ثمّ قدم البريد بعشرين سيفا من سيوف الأمراء الذين قبض عليهم من أمراء البلاد الشامية، ثم كتب السلطان بالقبض على الأمراء البطّالين ببلاد الشام جميعا، ثم أعيد سودون العثمانىّ إلى نيابة حماة بحكم خروج كشلى منها إلى نيابة ملطية، عوضا عن منطاش، وكان كشلى ولى نيابة حماة قبل تاريخه بمدّة يسيرة عوضا عن ابن المهمندار.
ثم في ثانى ذى القعدة قدمت رسل قرا محمد وأخبروا أنه أخذ مدينة تبريز، وضرب بها السّكّة باسم السلطان الملك الظاهر برقوق، ودعا له على منابرها وسيّر دنانير ودراهم، عليها اسم السلطان، وسأل أن يكون نائبا بها عن السلطان فأجيب بالشكر والثناء، هذا والخواطر قد نفرت من الملك الظاهر لكثرة قبضه على الأمراء من غير موجب، وتخوّف كلّ أحد منه، على نفسه حتى خواصّه وكثر تخيّل الأمراء منه، وبينما هم في ذلك أشيع بالديار المصريّة بعصيان الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب، وكثر هذا الخبر في محرّم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وسبب ذلك أنه وقع بين الأمير يلبغا الناصرىّ وبين سودون المظفّرىّ أتابك حلب المعزول عن نيابة حلب قبل تاريخه، وكاتب كلّ منهما في الآخر، فاحتار السلطان بينهما وقد قوى تخوّفه من الناصرىّ.
قال المقريزىّ- رحمه الله-. وكان أجرى الله سبحانه وتعالى على ألسنة العامّة: من غلب، صاحب حلب، حتى لا يكاد صغير ولا كبير إلا يقول ذلك، حتى كان من أمر الناصرىّ نائب حلب ما كان. انتهى كلام المقريزى.(11/255)
ولمّا شاع ذلك جمع السلطان الأمراء والخاصّكيّة في يوم الأحد خامس صفر بالميدان من تحت القلعة وشرب معهم القمزّ، وقرّر لشربه معهم يومى الأحد والأربعاء، يروم بذلك أخذ خواطرهم.
ثمّ في عاشره بعث السلطان هديّة للأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب فيها عدّة خيول بقماش ذهب [وقباء «1» ] واستدعاه ليحضر ليعمل معه مشورة في أمر منطاش، فلمّا أتاه رسول السلطان بالحضور إلى الديار المصرية، خشى أن يفعل به كما فعل بالأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام من مسكه وحبسه بالإسكندرية، فكتب يعتذر عن الحضور إلى حضرة السلطان بحركة التّركمان وعصيان منطاش، وأنه يتحوّف على البلاد الحلبية منهم، ومهما كان للسلطان من حاجة يرسل يعرّفه ليقوم بقضائها، وعاد رسول السلطان إلى مصر بهذا الجواب، فلم يقبل السلطان ذلك منه في الباطن وقبله في الظاهر وقد كثر تخيّله منه، وأخذ في التدبير على الأمير يلبغا الناصرىّ مع خواصّه، حتى اقتضى رأى الجميع على إرسال تلكتمر «2» الدوادار إلى حلب بحيلة دبّروها، فخرج تلكتمر المحمّدىّ الدوادار المذكور وعلى يده مثالان ليلبغا الناصرىّ نائب حلب ولسودون المظفرىّ أتابك حلب المقدّم ذكره أن يصطلحا بحضرة الأمراء والقضاة والأعيان وسير معه خلعتين يلبسانها بعد صلحهما وحمل السلطان في الباطن مع ملكتمر عدّة مطالعات إلى سودون المظفرىّ وغيره من أمراء حلب وأرباب وظائفها بالقبض على الناصرىّ وقتله إن امتنع من الصلح وكان مملوك الناصرىّ قد تأخر بالقاهرة عن السفر لحلب ليفرّق كتبا(11/256)
من أستاذه على أمراء مصر، يدعوهم فيها إلى موافقته على الخروج على السلطان وأخّر السلطان أيضا جواب الناصرىّ الوارد على يد مملوكه المذكور، عامدا حتى يسبقه تلكتمر الدوادار إلى حلب. وكان مملوك الناصرىّ المذكور يقظا حاذقا، فبلغه ما على يد تلكتمر الدوادار من المطالعات بالقبض على أستاذه يلبغا الناصرىّ وعلم أنه عوّق حتى سافر تلكتمر. ثم أعطى الجواب، فأخذه وخرج من مصر فى يومه وسار مسرعا وجّد في السّوق حتى سبق تلكتمر الدوادار إلى حلب وعرّف أستاذه بخبر تلكتمر كلّه سرّا، فأخذ الناصرىّ في الحذر. ويقال: إنّ تلكتمر الدّوادار كان بينه وبين الشيخ حسن رأس نوبة الناصرىّ مصاهرة، فلما قرب من حلب بعث يخبر الشيخ حسنا المذكور بما أتى فيه، فعلى كل حال احترز الناصرىّ.
وهذا الخبر الثانى يبعد والأوّل أقرب وأقوى عندى من كلّ وجه.
ثمّ لمّا تحقّق الناصرىّ ما جاء فيه تلكتمر احترز على نفسه وتعبّأ، فلما قرب تلكتمر من حلب، خرج الأمير يلبغا الناصرىّ من حلب ولاقاه على العادة مظهرا لطاعة السلطان وقبّل الأرض وأخذ منه مثاله وعاد به إلى دار السعادة «1» بحلب وقد اجتمع الأمراء والقضاة وغيرهم لسماع مرسوم السلطان وتأخّر الأمير سودون المظفّرى أتابك حلب عن الحضور ولم يعجبه ما فعله الملك الظّاهر برقوق من حضوره عند الناصرىّ لمعرفته بقوّة الناصرىّ وكثرة مماليكه، فأرسل له الناصرىّ- غير قاصد- يستعجله للحضور فلم يجد بدّا من الحضور وحضر وهو لابس آلة الحرب من تحت قماشه خوفا على نفسه من الناصرىّ وحواشيه، فعندما دخل سودون المظفّرىّ إلى دهليز دار السّعادة. جسّ قازان اليرقشىّ أمير آخور الناصرىّ كتفه فوجد السلاح،(11/257)
فقال: يا أمير! الذي يجيء للصلح يدخل دار السعادة وعليه السلاح وآلة الحرب، فسبّه سودون المظفّرىّ فسلّ قازان سيفه وضربه به وأخذت سودون المظفّرى السّيوف من كل جانب من مماليك الناصرىّ الذين كان رتّبهم لهذا الأمر، فقتل سودون المظفرىّ بعد أن جرّدت مماليكه أيضا سيوفهم وقاتلوا مماليك الناصرىّ ساعة هيّنة وقتل من الفريقين أربعة أنفس لا غير وثارت الفتنة.
ففى الحال قبض الناصرىّ على حاجب حجّاب حلب وعلى أولاد المهمندار وكانا مقدّمى ألوف بحلب وعلى عدّة أمراء أخر ممن يخشاهم ويخاف عاقبتهم. ثم ركب الناصرىّ إلى القلعة وتسلّمها واستدعى التركمان والعربان وكتب إلى تمربغا الأفضلىّ الأشرفىّ المعروف بمنطاش يدعوه إلى موافقته، فسرّ منطاش بذلك وقدم عليه بعد أيام ودخل تحت طاعته. وكان الناصرىّ قد أباد منطاش وقاتله، منذ خرج عن طاعته وطاعة السلطان غير مرّة، وصار منطاش من جملة أصحابه وتعاضد الأشرفيّة واليلبغاويّة، واليلبغاوية هم الأكثر، فإنّ الناصرىّ من كبار اليلبغاويّة ومنطاش من كبار الأشرفيّة، هذا مع ما انضم على الناصرىّ من أكابر الأمراء على ما سيأتى ذكره.
وعاد ملكتمر الدّوادار بهذا الخبر في خامس عشر صفر، فكان عليه خبر غير صالح، فكتب السّلطان في الحال إلى الأمير إينال اليوسفىّ أتابك دمشق والمعزول قبل تاريخه عن نيابة حلب بنيابة حلب ثانيا. وجهّز إليه التّشريف والتّقليد فى ثامن عشر صفر المذكور من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وكان إينال اليوسفىّ ممن انحرف على السلطان في الباطن من أيام ركوبه عليه، قبل أن يتسلطن وقبض عليه وحبسه سنتين، ثم أطلقه على إمرة بدمشق ثم ولّاه بعض البلاد الشامية وهي نيابة طرابلس، ثم نقله إلى نيابة حلب، فدام بها سنين، ثم عزله عنها بالأمير(11/258)
يلبغا الناصرىّ وجعله أتابك دمشق، فصار في نفسه حزازة من هذا كله على ما سيأتى ذكره.
ثمّ إن السلطان في ثامن عشر صفر المذكور طلب الأمراء إلى القلعة وكلّهم فى أمر الناصرىّ وعصيانه واستشارهم في أمره، فوقع الاتفاق على خروج تجريدة لقتاله وحلّف الأمراء على طاعته، ثم خرج إلى القصر الأوّل وحلّف أكابر المماليك السلطانيّة.
ثم في تاسع عشره ضربت خيمة كبيرة بالميدان من تحت القلعة وضرب بجانبها عدّة صواوين برسم الأمراء ونزل السلطان إلى الخيمة المذكورة وحلّف بها سائر الأمراء وأعيان المماليك السلطانيّة بل غالبهم. ثم مدّ لهم سماطا جليلا فأكلوا وانفضّوا.
ثم في رابع عشرينه قدم البريد من دمشق بأنّ الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمرىّ الناصرىّ والأمير دمرداش اليوسفىّ والأمير كمشبغا الخاصّكى الأشرفىّ وآقبغا قبجق «1» اجتمع معهم عدّة كثيرة من المماليك المنفيّين بطرابلس ووثبوا «2» على نائبها الأمير أسندمر المحمّدىّ وقبضوا عليه وقتلوا من أمراء طرابلس الأمير صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه وقبضوا على جماعة كبيرة من أمراء طرابلس، ثم دخل الجميع فى طاعة الناصرىّ وكاتبوه بذلك وملكوا مدينة طرابلس.
وفي يوم وصول هذا الخبر على السلطان عرض السلطان المماليك السلطانيّة، وعيّن منهم أربعمائة وثلاثين مملوكا من المماليك السلطانيّة للسفر، وعيّن خمسة من أمراء الألوف بديار مصر وهم: الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ «3» ، والأمير جاركس(11/259)
الخليلىّ الأمير آخور الكبير والأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا أمير مجلس والأمير يونس النّوروزىّ الدّوادار الكبير والأمير أيدكار «1» حاجب الحجاب وعيّن من أمراء الطبلخاناه سبعة وهم: فارس الصّرغتمشىّ وبكلمش العلائىّ رأس نوبة وجاركس المحمّدىّ وشاهين الصّرغتمشىّ وآقبغا الصغير السلطانىّ وإينال الجاركسىّ أمير آخور وقديد القلمطاوىّ من أمراء العشرات جماعة كبيرة.
ثمّ أرسل السلطان للأمير أيتمش برسم النفقة مائتى ألف درهم فضة وعشرة آلاف دينار ذهبا مصريا. ثم أرسل إلى كل من أمراء الألوف ممن عيّن للسفر مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار ماخلا أيدكار حاجب الحجاب فإنه حمل إليه مبلغ ستين ألف درهم وألفا وأربعمائة دينار.
ثم في سادس عشرين صفر المذكور قدم الخبر من الشّام بأنّ مماليك الأمير سودون العثمانىّ نائب حماة اتّفقوا على قتله، ففرّ منهم إلى دمشق وأنّ الأمير بيرم العزّىّ حاجب حجاب حماة سلّم حماة إلى الأمير يلبغا الناصرىّ ودخل تحت طاعته، فعظم هذا الخبر أيضا على السلطان حتى كاد يهلك وعرض المماليك ثانيا وعيّن منهم أربعة وسبعين نفرا لتتمّة خمسمائة مملوك.
قلت: ولهذا تعرف هذه الواقعة بوقعة الخمسمائة وبوقعة شقحب «2» وبوقعة الناصرىّ ومنطاش. انتهى.
وفي يوم الجمعة سابع عشرين صفر رسم السلطان للأمير بجاس نائب «3» قلعة الجبل أن يتوجّه إلى الخليفة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد بالقلعة وينقله من داره إلى(11/260)
البرج من القلعة ويضيّق عليه ويمنع الناس من الدخول إليه، ففعل بجاس ذلك، فبات الخليفة ليلته بالبرج ثم أعيد من الغد إلى مكانه بالقلعة، بعد أن كلّم السلطان الأمراء في ذلك.
ثمّ رسم السلطان للطّواشى زين الدين مقبل الزّمام بالتّضييق على الأسياد أولاد «1» السّلاطين بالحوش السّلطانىّ من القلعة ومنع من يتردّد إليهم من الناس والفحص عن أحوالهم، ففعل مقبل ذلك.
ثم في يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأوّل خرج البريد من مصر بتقليد الأمير طغاى تمر القبلائى أحد أمراء دمشق بنيابة طرابلس.
ثم فرّق السلطان في المماليك نفقة ثانية، فكانت الأولى لكل واحد: خمسة آلاف درهم فضّة والثانية ألف درهم، سوى الخيل والجمال والسلاح، فإنه فرّق فى أرباب الجوامك لكل واحد جملين ولكل اثنين من أرباب الأخباز ثلاثة جمال ورتّب لهم [اللحم «2» ] والجرايات والعليق، فرتّب لكل من رءوس النّوب [فى اليوم «3» ] ستة عشرة عليقة ولكلّ من أكابر المماليك عشر علائق ولكل من أرباب الجوامك خمس علائق. ورسم أيضا لكل مملوك من المماليك السلطانية بخمسمائة درهم بدمشق.
ثم في رابع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور جلس السلطان بمسجد «4» الرّدينىّ داخل القلعة بالحريم السلطانىّ واستدعى الخليفة المتوكّل على الله من مكانه بالقلعة، فلّما(11/261)
دخل عليه الخليفة قام الملك الظاهر له وتلقّاه وأخذ في ملاطفته والاعتذار إليه واصطلحا وتحالفا ومضى الخليفة إلى موضعه بالقلعة، فبعث السلطان إليه عشرة آلاف درهم وعدّة بقج، فيها أثواب صوف وقماش سكندرىّ.
ثمّ تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشامية والمماليك الأشرفيّة واليلبغاويّة في طاعة الناصرىّ وكذلك الأمير سولى بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميع في طاعة الناصرى على محاربة السلطان الملك الظاهر وأنّ الناصرىّ أقام أعلاما «1» خليفتيّة وأخذ جميع القلاع بالبلاد الشامية، واستولى عليها ما خلا قلعة الشام وبعلبكّ والكرك، فقلق السلطان لذلك وكثر الاضطراب بالقاهرة وكثر كلام الناس في هذا الأمر، حتى(11/262)
تجاوز الحدّ واختلفت الأقاويل، كلّ ذلك وإلى الآن لم تخرج التجريدة من مصر، فلما بلغ السلطان هذه الأخبار رسم بخروج التجريدة، فخرجت الأمراء المذكورون قبل تاريخه في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الاوّل من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة إلى الرّيدانية بتجمل زائد واحتفال عظيم بالأطلاب من الخيول المزيّنة بسروج الذهب والكنابيش والسلاح الهائل، لا سيما الأمير أيتمش والأمير أحمد ابن يلبغا فإنهما أمعنا في ذلك وكان للناس مدّة طويلة لم يتجرّد السلطان إلى البلاد الشامية ولا عسكره، سوى سفر الأمراء في السنة الماضية إلى سيواس وكانوا بالنسبة إلى هذه التجريدة كلا شىء وتتابعتهم المماليك شيئا بعد شىء، حتى سافر الجميع من الرّيدانية في يوم الاثنين سادس عشر شهر ربيع الأوّل المذكور.
ثمّ أخذ السلطان بعد خروج العسكر في استجلاب خواطر الناس وأبطل الرّمايات والسّلف على البرسيم والشعير وإبطال قياس القصب والقلقاس والإعفاء على ذلك كله.
ثم في يوم الثلاثاء [أوّل ربيع الآخر «1» ] قدم البريد بأن الأمير كمشبغا المنجكىّ نائب بعلبكّ دخل تحت طاعة يلبغا الناصرىّ وكذلك [فى خامسه قدم البريد بأن «2» ] ثلاثة عشر أميرا من أمراء دمشق خرجوا بمماليكهم من دمشق وساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصرى.
وأما العسكر الذي خرج من مصر فإنه لما وصل إلى غزّة أحسّ الأمير جاركس الخليلىّ بمخامرة نائبها الأمير آقبغا الصفوىّ فقبض عليه وبعثه إلى الكرك وأقرّ في نيابة غزّة الأمير حسام الدين بن باكيش.(11/263)
ثم في عشرين شهر ربيع الآخر قدم على السلطان رسول قرا محمد التركمانى ورسول الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين يخبران بقدومهما إلى خابور ويستأذنان في محاربة الناصرى فأجيبا بالشكر والثناء وأذن «1» لهما في ذلك.
وأمّا العسكر فإنه سار من غزّة حتّى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر المذكور، ودخلوا دمشق بعد أن تلقّاهم نائبها الأمير [حسام الدين «2» ] طرنطاى، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصرىّ بعساكره اليها بمدّة، وأقبل المماليك السلطانية على الفساد بدمشق، واشتغلوا باللهو وأبادوا أهل دمشق شرّا، حتى سئمتهم أهل الشام وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيهم وفي مرسلهم.
قلت: هو مثل سائر: «الولد الخبيث يكون سببا لوالده في اللّعنة» وكذلك وقع، فإنّ أهل دمشق لمّا نفرت قلوبهم من المماليك الظاهرية، لم يدخلوا بعد ذلك في طاعة الملك الظاهر البتّة على ما سيأتى ذكره.
وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر بنزول يلبغا الناصرىّ بعساكره على خان لاجين «3» خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيّأ الأمراء المصريّون والشاميون إلى قتالهم وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين حادى عشرينه إلى برزة «4» والتقوا بالناصرىّ على خان لاجين، وتصاففوا ثم اقتتلوا قتالا شديدا ثبت فيه كلّ من الفريقين ثباتا لم يسمع بمثله، ثمّ تكاثر العسكر المصرىّ وصدقوا الحملة على الناصرىّ ومن معه فهزموهم وغيّروه عن موقفه.(11/264)
ثمّ تراجع عسكر الناصرىّ وحمل بهم، والتقى العسكر السّلطانى ثانيا واصطدما صدمة هائلة ثبت فيها أيضا الطائفتان وتقاتلا قتالا شديدا، قتل فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصرىّ ثانيا. ثم تراجع عسكره وعاد إليهم والتقاهم ثالث مرّة، فعندما تنازلوا في المرّة الثالثة «1» والتحم القتال، أقلب الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس رمحه ولحق بعساكر الناصرىّ بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تبعه الأمير أيّدكار العمرىّ حاجب الحجاب أيضا بطلبه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصّرغتمشىّ ثم الأمير شاهين [حسين «2» ] أمير آخور بمن معهم وعادوا قاتلوا العسكر المصرىّ، فعند ذلك ضعف أمر العساكر المصريّة وتقهقروا وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ولّوا الادبار في أوائل الهزيمة هجم مملوك من عسكر الناصرىّ يقال له يلبغا الزينىّ الأعور وضرب الأمير جاركس الخليل الأمير آخور بالسيف قتله وأخذ سلبه وترك رمّته عارية، إلى أن كفّنته امرأة بعد أيام ودفنته.
ثم مدّت التركمان والعرب أيديهم ينهبون من انهزم من العسكر المصرىّ ويقتلون ويأسرون من ظفروا به وساق الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ حتى لحق بدمشق وتحصّن بقلعتها وتمزّق العسكر المصرىّ وذهب كأنه لم يكن ودخل الناصرىّ من يومه إلى دمشق بعساكره ونزل بالقصر من الميدان وتسلّم بالقلعة بغير قتال وأوقع الحوطة على سائر [ما «3» ] للعسكر وأنزل بالأمير الكبير أيتمش وقيّده هو والأمير طرنطاى نائب الشام وسجنهما بقلعة دمشق وتتبّع بقيّة الأمراء والمماليك حتى قبض من يومه أيضا على الأمير بكلمش العلائى في عدّة من أعيان المماليك(11/265)
الظاهريّة، فاعتقلهم أيضا بقلعة دمشق. ثم مدّت التركمان والأجناد أيديهم في النهب، فما عفّوا ولا كفّوا وتمادوا على هذا عدّة أيام.
وقدم هذا الخبر على الملك الظاهر من غزة في يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر المذكور فاضطربت الناس اضطرابا عظيما لا سيما لمّا بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلىّ والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ وغلّقت الأسواق وانتهبت الأخباز وتشغّبت الزّعر وطغى أهل الفساد، هذا مع ما للناس فيه من الشغل بدفن موتاهم وعظم الطاعون بمصر، كلّ ذلك وإلى الآن لم يعرف السلطان بقتل الأمير يونس النّوروزىّ الدوادار على ما سيأتى ذكره.
وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لمّا بلغه ما وقع لعسكره وجم وتحيّر فى أمره وعظم عليه قتل جاركس الخليلىّ والقبض على أيتمش أكثر من انهزام عسكره، فإنهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمين بتدبير ملكه، وأخذ يفحص عن أخبار يونس الدوادار المذكور، فلم يقف له على خبر، لسرعة مجىء خبر الوقعة له من مدينة غزّة وإلى الآن لم يأته أحد ممن باشر الواقعة غير أنه صحّ عنده ما بلغه.
ثمّ خرج إلى الإيوان بالقلعة واستدعى الأمراء والمماليك وتكلّم معهم السلطان فى أمر الناصرىّ ومنطاش واستشارهم، فوقع الاتفاق على خروج تجريدة ثانية، فانفضّ الموكب وخرج السلطان في ثامن عشر شهر ربيع الآخر إلى الإيوان، وعيّن من المماليك السلطانيّة ممن اختار سفره خمسمائة مملوك، وأنفق فيهم ذهبا حسابا عن ألف درهم فضّة لكل واحد، ليتوجّهوا إلى دمشق صحبة الأمير سودون الطّرنطائىّ، وقام السلطان فكلّمه بعض خواصّه في قلّة من عيّن من المماليك، وأن العسكر الذي كان صحبة أيتمش كان أضعاف ذلك وحصل ما حصل، فعرض العسكر ثانيا وعيّن(11/266)
خمسمائة أخرى ثم عيّن أربعمائة أخرى لتتمّة ألف وأربعمائة مملوك، وأنفق في الجميع ألف درهم فضة، لكل واحد.
ثمّ أنفق السلطان في المماليك الكتابيّة لكل مملوك مائتى درهم فضّة، فإنه بلغه أنهم في قلق لعدم النفقة عليهم.
هذا، وقد طمع كلّ أحد من المماليك وغيرهم في جانب الملك الظاهر لما وقع لعسكره بدمشق.
ثم عمل السلطان الموكب في يوم الأربعاء أوّل جمادى الأولى، وأنعم على كلّ من قرابغا البوبكرىّ وبجاس النّوروزىّ نائب قلعة الجبل وشيخ الصّفوىّ وقرقماس الطّشتمرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، عوضا عمّن قتل أو أمسك بالبلاد الشامية.
ثم أنعم السلطان أيضا في اليوم المذكور على كل من الجيبغا الجمالىّ الخازندار وألطنبغا العثمانىّ رأس نوبة ويونس الإسعردىّ الرمّاح وقنق باى الألجاوىّ اللالا وأسنبغا الأرغونىّ شاوىّ وبغداد الأحمدىّ وأرسلان اللّفّاف وأحمد الأرغونىّ وجرباش الشيخىّ وألطنبغا شادى وأرنبغا «1» المنجكىّ وإبراهيم بن طشتمر العلائىّ الدوادار وقرا كسك السيفىّ بإمرة طبلخاناه.
وأنعم على كل من السيد الشريف بكتمر الحسينىّ «2» والى القاهرة [كان «3» ] وقنق باى الأحمدى بإمرة عشرين. وأنعم على كل من بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ ويلبغا السودونىّ وسودون اليحياوىّ وتنّبك «4» اليحياوىّ وأرغون شاه البيدمرىّ وآقبغا(11/267)
الجمالىّ الهذبانىّ وفوزى الشعبانىّ وتغرى بردى البشبغاوىّ والد كاتبه وبكبلاط السعدىّ «1» وأرنبغا «2» العثمانىّ وشكرباى العثمانىّ وأسنبغا السيفىّ بإمرة عشرة، وكلّ هؤلاء مماليك الملك الظاهر برقوق وخاصّكيّته أمرّهم في هذه الحركة وكانوا قبل ذلك من جملة الخاصكيّة، ومنهم من هو إلى الآن لم يحضر من التجريدة.
ثمّ قدم البريد على السلطان من قطيا بأنّ الأمير إينال اليوسفىّ أتابك دمشق المنعم عليه بنيابة حلب بعد عصيان الناصرىّ والأمير إينال أمير آخور والأمير إياس أمير آخور دخلوا إلى غزّة في عسكر كثيف من عساكر الناصرىّ وقد صاروا قبل تاريخه من حزب الناصرىّ واستولوا على مدينة غزة والرّملة وتمزّقت عساكرها، فعظم لهذا الخبر جزع الملك الظاهر وتحيّر في أمره.
ثم في يومه «3» استدعى السلطان القضاة والأمراء والأعيان وبعث الأمير سودون الطّرنطائى والأمير قرقماش الطشتمرىّ إلى الخليفة المتوكّل على الله بمسكنه في قلعة الجبل فأحضراه، فلمّا رآه الملك الظاهر قام له وتلقّاه وأجلسه، وأشار إلى القضاة فحلّفوا كلّا منهما للآخر على الموالاة والمناصحة، وخلع السلطان على الخليفة المتوكل على الله المذكور خلعة الرضا، وقيّد إليه حجرة شهباء من خواصّ خيل السلطان بسرج ذهب وكنبوش مزركش وسلسلة ذهب وأذن له في النزول إلى داره، فركب ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل، وأعيدت إقطاعاته ورواتبه وأخلى له بيت بقلعة الجبل ليسكن فيه.(11/268)
ثمّ طلع الخليفة من يومه ونقل حرمه إلى البيت المذكور بالقلعة، وصار يركب فى بعض الأحيان وينزل إلى داره بالمدينة ثم يطلع من يومه إلى مسكنه بالقلعة ويبيت فيه مع أهله وحرمه، واستمرّ على ذلك إلى ما سيأتى ذكره.
ثم في يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى المذكورة قدم الأمير شهاب الدين أحمد ابن بقر أمير عرب الشرقيّة، ومعه هجّان الأمير جاركس الخليلىّ، فحدّث السلطان بتفصيل واقعة العسكر المصرى مع الناصرى، وأنه فرّمع الأمير يونس الدوادار فى خمسة نفر طالبين الديار المصرية، فعرض لهم الأمير عنقاء بن شطّى أمير آل فضل بالقرب من خربة اللصوص من طريق دمشق، وقبض على الأمير يونس الدّوادار ووبّخه لما كان في نفسه منه، ثم قتله وحزّ رأسه وبعث به إلى الناصرىّ، فعندما بلغ السلطان قتل يونس الدوادار وتحقّقه كادت نفسه تزهق وكان بلغه هذا الخبر، غير أنه لم يتحقّقه إلا في هذا اليوم وبقتل يونس الدوادار استشعر كلّ أحد بذهاب ملك الملك الظاهر.
ثم أصبح السلطان أمر بالمناداة بمصر والقاهرة بإبطال سائر المكوس من سائر ديار مصر وأعمالها، فقام جميع كتّاب المكوس من مجالسهم.
ثم في سادس الشهر «1» ركب الخليفة المتوكّل على الله من القلعة بأمر السلطان الملك الظاهر ونزل إلى القاهرة، ومعه الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ نائب السلطنة وقضاة القضاة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينىّ وسائر الحجّاب وداروا في شوارع القاهرة ورجل أمامهم على فرس يقرأ ورقة فيها: إنّ السلطان قد أزال المكوس والمظالم وهو يأمر الناس بتقوى الله وطاعته وإنّا قد سألنا العدق(11/269)
الباغى في الصلح فأبى وقد قوى أمره فأغلقوا دوركم وأقيموا الدروب «1» على الحارات وقاتلوا عن أنفسكم وحريمكم، فلمّا سمع الناس ذلك تزايد خوفهم وقلقهم ويئس كلّ واحد من الملك الظاهر وأخذ الناس في العمل للتوصّل إلى الناصرىّ، حتى حواشى برقوق لمّا سمعوا هذه المقالة وقد تحقّقوا بسماعها بأنّ الملك الظاهر لم يبق فيه بقيّة يلقى بها الناصرىّ وعساكره وقول الملك الظاهر: وإنا قد سألنا العدوّ فى الصلح فأبى وقوى، فإنه كان لمّا توجه العسكر من مصر لقتال الناصرى أمرهم أن يرسلوا له في طلب الصلح مع الناصرىّ ففعلوا، فلم ينتظم صلح ووقع ما حكيناه من القتال وغيره.
ثمّ إن الناس لمّا سمعوا هذه المناداة شرعوا في عمل الدّروب فجدّد بالقاهرة دروب كثيرة وأخذوا في جمع الأقوات والاستعداد للقتال والحصار وكثر كلام العامّة فيما وقع وهان الملك الظاهر وعساكره في أعين الناس وقلّت الحرمة وتجمّع الزّعر، ينتظرون قيام الفتنة لينهبوا الناس وتخوّف كلّ أحد على ماله وقماشه، كلّ ذلك والناصرى إلى الآن بدمشق.
ثم انقطع أخبار الناصرىّ عن مصر لدخول الأمير حسام الدين بن باكيش نائب غزة في طاعة الناصرىّ.
ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوى نائب الكرك في طاعة الناصرىّ وأنه سلّم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، فتيقّن كلّ أحد عند سماع هذا الخبر أيضا بزوال ملك الملك الظاهر. هذا والأمراء والعساكر المعيّنة للسفر فى اهتمام، غير أنّ عزائم السلطان فاترة وقد علاه وله وداخله الخوف من غير أمر(11/270)
يوجب ذلك. وكان السلطان لمّا عيّن هذه التجريدة الثانية أرسل إلى بلاد الصعيد يطلب نجدة فقدم إلى القاهرة في هذا اليوم طوائف من عرب هوّارة نجدة للسلطان ونزلوا تحت القلعة.
ثمّ أمر السلطان بحفر خندق «1» القلعة وتوعير طريق باب القلعة المعروف بباب القرافة وباب الحرس وباب «2» الدّرفيل.
ثمّ أمر السلطان بسدّ خوخة «3» الأمير أيدغمش خارج بابى زويلة، فسدّت حتى صار لا يدخل منها راكب ثمّ أمر السلطان فنودى بالقاهرة بإبطال مكس النّشا والجلود.(11/271)
وفي يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة خطب للخليفة المتوكّل على الله أبى عبد الله محمد، فإنه أعيد إلى الخلافة من يوم خلع عليه السلطان خلعة الرّضا، ثمّ قرئ تقليده في ثانى عشره بالمشهد «1» النّفيسىّ وحضره القضاة ونائب السلطنة. ولمّا انقضى مجلس قراءة التقليد توجّهوا الجميع إلى الآثار النّبوية «2» وقرءوا به صحيح البخارىّ ودعوا الله تعالى للسلطان الملك الظاهر برقوق بالنصر وإخماد الفتنة بين الفريقين.
ثمّ في يوم ثالث عشر أخلع السلطان على الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن الأمير أيتمش البجاسى بحكم حبسه بقلعة دمشق وعلى الأمير سودون باق باستقراره أمير سلاح، عوضا عن قرا دمرداش المذكور وعلى الأمير قرقماس الطّشتمرىّ باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن يونس النّوروزىّ المقتول بيد عنقاء أمير آل فضل وعلى الأمير تمربغا «3» المنجكىّ أمير آخور كبيرا عوضا عن الأمير جاركس الخليلىّ المقتول في واقعة الناصرىّ(11/272)
بدمشق وعلى قرابغا البوبكرىّ باستقراره أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا بحكم عصيانه ودخوله في طاعة الناصرىّ وعلى آقبغا الماردينىّ باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن أيدكار العمرىّ الداخل أيضا في طاعة الناصرى ونزل الجميع بالخلع والتشاريف.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير صلاح الدين محمد [بن محمد «1» ] بن تنكز الناصرىّ نائب الشّام كان بإمرة طبلخاناه وعلى جلبان الكمشبغاوى الخاصكى الظاهرى بإمرة طبلخاناه.
وكثر في هذه الأيام تحصين السلطان لقلعة الجبل فعلم بذلك كلّ أحد أنه لم تخرج تجريدة من مصر ولم يثبت الملك الظاهر لقتال الناصرىّ بما أفرزوا من أحوال السلطان، خذلان من الله تعالى.
ثمّ أخذ السلطان ينقل إلى قلعة الجبل المناجنيق والمكاحل والعدد وأمر السلطان لسكّان قلعة الجبل من الناس بادّخار القوت بها لشهرين.
ثمّ رسم السلطان للمعلم أحمد بن الطّولونى بجمع الحجّارين لسدّ فم وادى «2» السدرة بجوار الجبل الأحمر وأن يبنى حائط من جوار باب الدرفيل إلى الجبل.
ثمّ نودى بالقاهرة بأنّ من له فرس من أجناد الحلقة يركب للحرب ويخرج مع العسكر، فكثر الهرج وتزايد قلق الناس وخوفهم وصارت الشوارع كلها ملآنة بالخيول الملبّسة، هذا وإلى الآن لم يعرف السلطان ما الناصرىّ فيه وطلبت آلات الحرب من الخوذ والقرقلات والسيوف والأرماح بكل ثمن غال.(11/273)
ثمّ رسم السلطان للأمير حسام الدين حسين [بن «1» على] بن الكورانى والى القاهرة بسدّ باب المحروق «2» أحد أبواب القاهرة فكلّمه الوالى في عدم سدّه، فنهره وأمره بسدّه وسدّ الباب الجديد «3» أيضا أحد أبواب القاهرة، ففعل. ثمّ سدّ باب الدّرفيل المعروف قديما بباب سارية ويعرف في يومنا هذا بباب المدرّج «4» .
ثمّ أمر السلطان بسدّ جميع الخوخ، فسدّ عدّة خوخ وركّب عند قناطر «5» السباع ثلاثة دروب: أحدها من جهة مصر والآخر من جهة قبو «6» الكرانىّ والآخر بالقرب من الميدان ثمّ بنى بالقاهرة عدّة دروب أخر وحفر خنادق كثيرة.(11/274)
هذا والموت بالطاعون عمّال بالديار المصريّة في كل يوم يموت عدّة كبيرة.
وأما الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب وصاحبه منطاش نائب ملطية بمن معهما، فإنّ الناصرىّ لمّا استقرّ بدمشق وملكها بعد الوقعة، نادى في جميع بلاد الشام وقلاعها بألا يتأخر أحد عن الحضور إلى دمشق من النوّاب والأمراء والأجناد ومن تأخّر سوى من غبن لحفظ البلاد قطع خبزه وسلبت نعمته، فاجتمع الناس بأسرهم في دمشق من سائر البلاد وأنفق الناصرى فيهم وتجهّز وتهيأ للخروج من دمشق وبرز منها بعساكره وأمرائه من الأمراء والأكراد والتركمان والعربان وكان اجتمع إليه خلائق كثيرة جدّا في يوم السبت حادى عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المقدّم ذكرها، بعد أن أقرّ في نيابة دمشق الأمير جنتمر المعروف بأخى طاز وسار الناصرى بمن معه من العساكر يريد الديار المصرية وهو يظنّ أنّه يلقى العساكر المصريّة بالقرب من الشام واستمرّ في سيره على هيّنة إلى أن وصل إلى غزّة، فتلقّاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتّقادم والإقامات، فسأله الناصرى عن أخبار عسكر مصر، فقال: لم يرد خبر بخروج عسكر من مصر وقد أرسلت جماعة كبيرة غير مرة لكشف هذا الخبر ولم يكن منى تهاول في ذلك، فلم يبلغنى عن الديار المصرية إلا أنّ برقوقا في تخوّف كبير وقد استعدّ للحصار فلم يلتفت الناصرى إلى كلامه، غير أنه صار متعجبا على عدم خروج العساكر المصرية لقتاله.
ثم قال في نفسه: لعله يريد قتالنا في فم الرمل بمدينة قطيا «1» ، ليكون عسكره فى راحة من جواز الرّمل وأقام الناصرىّ بغزّة يومه. ثم سار من الغد يريد ديار مصر وأرسل أمامه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكه كشّافة واستمرّ في السّير إلى أن نزل مدينة قطيا وجاء الخبر بنزول الناصرىّ بعساكره على قطيا فلم يتحرّك بحركة.(11/275)
وفي ليلة وصول الخبر فرّ من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصرىّ وهي ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى المذكورة وهم: الأمير طغيتمر الجركتمرى وأرسلان اللّفاف وأرنبغا العثمانىّ في عدّة كبيرة من المماليك ولحقوا بالناصرىّ ودخلوا تحت طاعته، بعد ما صرفوا في طريقهم الأمير عز الدين [أيدمر «1» ] أبا درقة كاشف الوجه البحرى وقد سار من عند الملك الظاهر لكشف الأخبار، فضربوه وأخذوا جميع ما كان معه وساقوه معهم إلى الناصرىّ، فلما وصلوا إلى الناصرى حرّضوه على سرعة الحركة وعرّفوه ما الظاهر فيه من الخوف والجبن عن ملاقاته، فقوى بذلك قلب الناصرى وهو إلى الآن يأخذ في أمر الملك الظاهر ويعطى.
ثم جلس الملك الظاهر صبيحة هرب الأمراء بالإيوان من قلعة الجبل وهو يوم الثلاثاء ثامن عشرينه وأنفق على المماليك جميعها، لكل مملوك من مماليك السلطان ومماليك الأمراء، لكل واحد خمسمائة درهم فضة واستدعاهم طائفة بعد طائفة وأعطى كل واحد بيده وصار يحرّضهم على القتال معه وبكى بكاء شديدا في الملأ.
ثمّ فرّق جميع الخيول حتى خيل الخاصّ في الأمراء والأجناد وأعطى الأمير اقبغا الماردينى حاجب الحجّاب جملة كبيرة من المال ليفرّقه على الزّعر وعظم أمر الزعر وبطل الحكم من القاهرة وصار الأمر فيها لمن غلب وتعطّلت الأسواق وأكثر الناس من شراء البقسماط والدقيق والدهن ونحو ذلك.
ثم وصل الخبر على السلطان بنزول الناصرىّ على الصالحيّة «2» بمن معه وقد وقف لهم عدّة خيول في الرمل وأنّه لما وجد الصالحية خالية من العسكر سجد لله تعالى(11/276)
شكرا، فإنه كان يخاف أن يتلقّاه عسكر السلطان بها ولو تلقّاه عسكر السلطان لما وجد لعسكره منعة للقتال، لضعف خيولهم وشدّة تعبهم، فلهذا كان حمده لله تعالى.
وأخبر السلطان أيضا أنّ الناصرىّ لمّا نزل إلى الصالحيّة تلقّاه عرب العائد مع كبيرهم الأمير شمس الدين محمد بن عيسى وخدموه بالإقامات والشعير وغيرها فردّ بذلك رمقهم.
فلمّا سمع السلطان ذلك رسم للأتابك الأمير قرادمرداش الأحمدىّ أن يتوجّه لكشف الأخبار «1» من جهة بركة الحبش مخافة أن يأتى أحد من قبل إطفيح «2» ، فسار لذلك. ثم رتّب السلطان العسكر نوبتين: نوبة لحفظ النهار ونوبة لحفظ الليل وسيّر «3» ابن عمه الأمير قجماس في عدّة أمراء إلى المرج «4» والزيات «5» طليعة للكشف.(11/277)
ثمّ في يوم الأربعاء تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور أنفق السلطان فى مماليك أمراء الطبلخانات والعشرات، فأعطى كلّ واحد أربعمائة درهم فضة وأنفق السلطان أيضا في الطّبرداريّة [والبزداريّة «1» ] والأوجاقية وأعطاهم القسىّ والنّشّاب. ثم رتّب من الأجناد البطّالين جماعة بين شرفات القلعة ليرموا على من لعلّه يحاصر القلعة، وأنفق فيهم أيضا. ثم استدعى السلطان رماة قسىّ الرمل من ثغر الإسكندرية فحضر منهم جماعة كبيرة وأنفق فيهم الأموال.
ثم عاد الأمير قجماس بمن معه من المرج والزيّات وأخبر السلطان أنه لم يقف للقوم على خبر.
ثم خرج الأمير سودون الطّرنطائىّ في ليلة الخميس في عدّة من الأمراء والمماليك إلى قبّة النصر للحرس وسارت طائفة أخرى إلى بركة «2» الحبش وبات السلطان بالإسطبل السلطانى ساهرا لم ينم ومعه الأمير سودون الشيخونى النائب والأتابك قرادمرداش الأحمدىّ، بعد أن عاد من بركة الحبش وعدّة كبيرة من المماليك والأمراء.
ثم توجّه الأمير قرابغا الأبوبكرىّ أمير مجلس في يوم الخميس أوّل جمادى الآخرة إلى قبّة النصر، ثم عاد ولم يقف على خبر، كلّ ذلك لضعف خيول عساكر الناصرى وكلّهم من السفر، فلم يجد الناصرىّ لهم منعة، فأقام بهم على الصالحية ليتراجع أمرهم وتعود قواهم، هذا والأمراء بالديار المصريّة لابسون آلة الحرب وهم على ظهور خيولهم بسوق الخيل تحت القلعة.(11/278)
وفي ليلة الخميس المذكورة هرب من المماليك السلطانية اثنان ومن مماليك الأمراء جماعة «1» كبيرة بعد أخذهم نفقة السلطان وساروا الجميع إلى الناصرىّ.
ثمّ طلب السلطان أجناد الحلقة، فدارت النقباء عليهم فأحضروا منهم جماعة كبيرة فرّقوا على أبواب القاهرة ورتّبوا بها لحفظها.
ثمّ ندب السلطان الأمير ناصر الدين محمدا ابن الدوادارى أحد أمراء الطبلخانات ومعه جماعة لحفظ قياسر القاهرة وأغلق والى القاهرة باب البرقيّة. ثمّ رتّب السلطان النّفطيّة على برج الطبلخاناه السلطانية وغيره بقلعة الجبل.
ثمّ قدم الخبر على السلطان بنزول طليعة الناصرىّ بمدينة بلبيس «2» ومقدّمها الطواشى طقطاى الرومىّ الطّشتمرىّ.
ثم في يوم الجمعة نزلت عساكر الناصرى بالبئر البيضاء»
، فأخذ عند ذلك عسكر السلطان يتسلّل إلى الناصرى شيئا بعد شىء، وكان أوّل من خرج إليه من القاهرة الأمير جبريل الخوارزمىّ ومحمد بن بيدمر نائب الشام وبجمان المحمدى نائب الإسكندرية وغريب الخاصّكىّ والأمير أحمد بن أرغون الأحمدىّ [اللّالا «4» ] .(11/279)
ثمّ نصب السلطان السناجق السلطانيّة على أبراج القلعة ودقّت الكوسات الحربيّة فاجتمعت العساكر جميعها وعليهم آلة الحرب والسلاح ثم ركب السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبل بعد العصر وسار السلطان بمن معه حتى وقفا خلف دار الضّيافة وقد اجتمع حول السلطان من العامة خلائق لا تحصى كثرة، فوقف هناك ساعة ثم عاد وطلع إلى الإسطبل «1» السلطانى وجلس فيه من غير أن يلقى حربا وصعد الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل، وقد نزلت الذّلّة على الدولة الظاهريّة وظهر من خوف «2» السلطان وبكائه ما أبكى الناس شفقة له ورحمة عليه.
فلمّا غربت الشمس صعد السلطان إلى القلعة وبات بالقصر السلطانى ومعه عامّة مماليكه وخاصّكيّته وهم عدّة كبيرة إلى الغاية.
ثمّ في يوم السبت ثالث جمادى الآخرة نزل الناصرى بعساكره بركة «3» الجبّ ظاهر القاهرة، ومعه من أكابر الأمراء الأمير تمربغا الأفضلىّ الأشرفىّ المدعو منطاش والأمير بزلار العمرى الناصرىّ حسن والأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى نائب طرابلس كان والأمير أحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس والأمير أيدكار حاجب الحجاب وجماعة أخر من أمراء الشام ومصر وغيرها.
ثمّ تقدمت عساكر الناصرىّ إلى المرج وإلى مسجد التّبن «4» ، فعند ذلك غلّقت أبواب القاهرة كلّها إلا باب زويلة وأغلقت جميع الدروب والخوخ وسدّ باب القرافة وانتشرت الزّعر في أقطار المدينة تأخذ ما ظفرت به ممّن يستضعفونه.(11/280)
ثمّ ركب السلطان ثانيا من القلعة ومعه الخليفة المتوكل على الله ونزل إلى دار الضّيافة فقدم عليه الخبر بأنّ طليعة الناصرىّ وصلت الى الخراب طرف الحسينيّة فلقيتهم كشّافة السلطان فكسرتهم.
ثمّ ندب السلطان الأمراء فتوجهوا بالعساكر إلى جهة قبّة النصر ونزل السلطان ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار.
ثمّ عاد إلى الإسطبل السلطانىّ وصحبته الأمراء الذين توجّهوا لقبّة النصر والكوسات تدقّ وهم على أهبة اللّقاء وملقاة العدوّ وخاصّكيّة السلطان حوله والنّفوط لا تفترّ والرّميلة قد امتلأت بالزّعر والعامة ومماليك الأمراء ولم يزالوا على ذلك حتّى أصبحوا يوم الاثنين «1» وإذا بالأمير آقبغا الماردينىّ حاجب الحجاب والأمير جمق ابن أيتمش البجاسى والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائى الدوادار قد خرجوا «2» فى الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحقوا بالناصرىّ.
ثمّ أصبح السلطان من الغد وهو يوم خامس «3» جمادى الآخرة، فرّ الأمير قرقماس الطّشتمرى الدوادار الكبير وقرادمرداش الأحمدىّ أتابك العساكر بالديار المصرية والأمير سودون باق أمير مجلس ولحقوا بالناصرىّ وكانوا في عدّة وافرة من المماليك والخدم والأطلاب الهائلة، ولم يتأخر عند السلطان من أعيان الأمراء إلا ابن عمه الأمير قجماس وسودون الشّيخونى النائب وسودون طرنطاى وتمزبغا المنجكىّ وأبو بكر ابن سنقر وبيبرس التّمان تمرىّ وشيخ الصفوىّ ومقدم المماليك شنكل وطائفة من أمرائه مشترواته وخاصّكيّته والعجب أنّ السلطان كان أنعم في أمسه على الأمراء(11/281)
الذين توجّهوا للناصرى لكلّ أمير من أمراء الألوف عشرة آلاف دينار ولكل أمير طبلخاناه خمسة آلاف دينار وحلّفهم على طاعته ونصرته وأعطى في ليلة واحدة للأمير الكبير قرادمرداش الأحمدىّ ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة وخاتما مثمّنا، قيمته آلاف عديدة، حتى قال له: قرادمرداش المذكور: يا مولانا السلطان روحى فداؤك لا تخف ما دمت أنا واقف في خدمتك أنت آمن، فشكره السلطان، فنزل من عنده في الحال ركب وخرج من باب القرافة وقطع الماء الذي يجرى إلى القلعة وتوجّه مع من ذكرنا من الأمراء إلى الناصرىّ، فلم يلتفت الناصرىّ لهم ذاك الالتفات الكلّىّ، بل فعل معهم كما فعل مع غيرهم ممّن توجّه إليه من أمراء مصر. انتهى.
ولمّا بلغ السلطان نفاق هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أنّ دولته قد زالت، فأغلق في الحال باب زوبلة وجميع الدروب وتعطّلت الأسواق وامتلأت القاهرة بالزّعر واشتدّ فسادهم وتلاشت الدولة الظاهريّة وانحلّ أمرها وخاف والى القاهرة حسام الدين بن الكورانىّ على نفسه، فقام من خلف باب زويلة وتوجّه إلى بيته واختفى وبقى الناس غوغاء وقطع المسجونون قيودهم بخزانة شمائل «1» وكسروا باب الحبس وخرجوا على حميّة جملة واحدة، فلم يردّهم أحد بشغل كلّ واحد بنفسه وكذلك فعل أهل حبس «2» الدّيلم وأهل سجن(11/282)
الرّحبة «1» ، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل والنّفوط عمالة والكوسات تدقّ حربيا، ثمّ أمر السلطان مماليكه فنزلوا ومنعوا العامة من التوجّه إلى يلبغا الناصرىّ،(11/283)
فرجمهم العامّة بالحجارة، فرماهم المماليك بالنّشاب، قتلوا منهم جماعة تزيد عدّتهم على عشر أنفس.
ثمّ أقبلت طليعة الناصرىّ مع عدّة من أعيان الأمراء من أصحابه، فبرز لهم لأمير قجماس ابن عمّ السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم وأكثر الرّمى عليهم من فوق القلعة بالسّهام والنفوط والحجارة بالمقاليع وهم يوالون الكرّ والفرّ غير مرة وثبتت السلطانيّة ثباتا جيّدا غير أنهم في علم بزوال دولتهم.
هذا وأصحاب السلطان تتفرّق عنه شيئا بعد شىء، فمنهم من يتوجّه إلى الناصرىّ ومنهم من يختفى خوفا على نفسه، حتى لم يبق عند السلطان إلّا جماعة يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلمّا كان آخر النهار المذكور أراد السلطان أن يسلّم نفسه، فمنعه من بقى عنده من الأمراء وخاصكيّته وقالت مماليكه: نحن نقاتل بين يديك حتى نموت، ثم سلّم بعد ذلك نفسك فلم يثق بذلك منهم، لكنه شكرهم على هذا الكلام والسعد مدبر والدولة زائلة.
ثمّ بعد العصر من اليوم المذكور قدم جماعة من عسكر الناصرىّ عليهم الطواشىّ طقطاى الرّومى الطّشتمرىّ والأمير بزلار العمرى الناصرىّ وكان من الشجعان والأمير ألطنبغا الأشرفىّ في نحو الألف وخمسمائة مقاتل، يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطّولوتمرى الظاهرىّ الخاصّكى والأمير شكرباى «1» العثمانىّ الظاهرىّ وسودون شقراق والوالد، فى نحو عشرين مملوكا من الخاصكيّة الظاهريّة وبلاقوا مع العسكر المذكور صدموهم صدمة واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبّة النصر ولم يقتل منهم غير سودون شقراق، فإنه أمسك وأتى به إلى الناصرىّ فوسّطه فلم يقتل(11/284)
الناصرى في هذه الوقعة أحدا غيره لا قبله ولا بعده، أعنى صبرا، غير أن جماعة كبيرة قتلوا في المعركة ورد الخبر بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغترّ بذلك وعلم أن أمره قد زال، فأخذ في تدبير أمره مع خواصّه، فأشار عليه من عنده أن يستأمن من الناصرى، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكىّ «1» شادّ القصر بالمنجاة إلى الأمير يلبغا الناصرىّ أن يأخذا له أمانا على نفسه ويترقّقا له، فسارا من وقتهما إلى قبّة النصر ودخلا على الناصرى وهو بمخيّمه واجتمعا به في خلوة فآمنه على نفسه وأخذ منهما منجاة الملك وقال الملك الظاهر: أخونا وخشداشنا ولكنّه يختفى بمكان إلى أن تخمد الفتنة، فإن الآن كلّ واحد له رأى وكلام، حتى ندبّر له أمرا يكون فيه نجاته، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق وأقام السلطان بعد ذلك في مكانه مع خواصه إلى أن صلّى عشاء الآخرة وقام الخليفة المتوكل على الله إلى منزله بالقلعة على العادة في كل ليلة وبقى الملك الظاهر في قليل من أصحابه، أذن لسودون النائب في التوجّه إلى حال سبيله والنظر في مصلحة نفسه، فوادعه وقام ونزل من وقته. ثمّ فرّق الملك الظاهر بقية أصحابه، فمضى كلّ واحد إلى حال سبيله.
ثمّ استتر الملك الظاهر وغيّر صفته، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيا على قدميه، فلم يعرف له أحد خبرا وانفصّ ذلك الجمع كله في أسرع ما يكون وسكن فى الحال دقّ الكوسات ورمى مدافع النفط ووقع النهب في حواصل الإسطبل حتى أخذوا سائر ما كان فيه من السّروج واللّجم وغيرها والعبىّ ونهبوا أيضا ما كان بالميدان من الغنم الضأن وكان عدّتها نحو الألفى رأس ونهبت طباق المماليك بالقلعة(11/285)
وطار الخبر في الوقت إلى الناصرى فلم يتحرك من مكانه ودام بمخيّمه وأرسل جماعة من الأمراء من أصحابه فسار من عسكره عدّة كبيرة واحتاطوا بالقلعة.
واصبح الأمير يلبغا الناصرىّ بمكانه وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه وطلع إلى الإسطبل السلطانىّ فنزل إليه الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد وسار مع منطاش إلى الناصرى بقبّة النصر، حتى نزل بمخيّمه، فقام الناصرى إليه وتلقّاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث.
هذا وقد انضمّت العامّة والزّعر والتّركمان من أصحاب الناصرى وتفرّقوا على بيوت الأمراء وحواصلهم، فنهبوا ما وجدوا حتى أخربوا الدور وأخذوا أبوابها وخشبها وهجموا منازل الناس خارج القاهرة ونهبوها واستمرّوا على ذلك وقد صارت مصر غوغاء وأهلها رعيّة بلا راع، حتى أرسل الناصرى الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام وقد ولّاه ولاية القاهرة فسار ابن الحسام إلى القاهرة فوجد باب النصر مغلوقا، فدخل بفرسه راكبا من جامع «1» الحاكم إلى القاهرة وفتح باب النصر «2» وباب الفتوح «3» وعند فتح الأبواب طرق جماعة كبيرة من عسكر الناصرىّ القاهرة ونهبوا منها جانبا كبيرا، فقاتلهم الناس وقتلوا منهم أربعة نفر ومرّ بالناس في هذه الأيام شدائد وأهوال، وبلغ الناصرى الخبر فبعث أبا بكر بن سنقر الحاجب وتنكز بغا رأس نوبة إلى حفظ القاهرة فدخلاها.(11/286)
ثمّ نودى بها من قبل الناصرى بالأمان ومنع النّهب، فنزل تنكز بغا المذكور عند الجملون «1» وسط القاهرة ونزل سيدى أبو بكر بن سنقر عند باب زويلة وسكن الحال وهدأ ما بالناس وأمنوا على أموالهم.
وأمّا الناصرى، فإنّه لمّا نزل إليه الخليفة وأكرمه، كما تقدّم وحضر قضاه القضاة والأعيان للهناء، أمرهم الناصرىّ بالإقامة عنده وأنزل الخليفة بمخيّم وأنزل القضاة بخيمة أخرى، ثمّ طلب الناصرىّ من عنده من الأمراء والأعيان وتكلم معهم فيما يكون وسألهم فيمن ينصّب في السلطنة بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابرهم بسلطنة الناصرىّ فامتنع الناصرى من ذلك أشدّ امتناع وهم يلحّون عليه ويقولون له: ما المصلحة إلا ما ذكرنا وهو يأبى وانفضّ المجلس من غير طائل، فعند ذلك تقدّم الناصرى بكتابة مرسوم عن الخليفة، وعن الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ بالإفراج عن الأمراء المعتقلين بتغر الإسكندرية وهم: ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام وقردم الحسنى وألطنبغا المعلّم أمير سلاح وإحضارهم إلى قلعة الجبل والجميع يلبغاويّه، فسار البريد بذلك ثم أمر الناصرى بالرحيل من قبّة النصر إلى نحو الديار المصرية وركب في عالم كبير من العساكر نحو الستين ألفا، حتى إنه(11/287)
كان عليق جمالهم في كل ليلة ألفا [وثلثمائة «1» ] إردب فول وسار الناصرى بخيوله وبجيوشه حتى طلع إلى القلعة ونزل بالإسطبل السلطانى وطلع الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل ونزل كلّ أمير في بيت من بيوت الأمراء بديار مصر وجلس الناصرىّ فى مجلس عظيم وحضر إلى خدمته الوزير كريم الدين عبد الكريم بن الغنّام وموفّق الدين أبو الفرج ناظر الخاص والقاضى جمال الدين محمود ناظر الجيش والقاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر الشريف وغيرهم من أرباب الوظائف، فأمرهم الأمير الكبير بتحصيل الأغنام إلى مطابخ الأمراء ونودى في القاهرة ثانيا بالأمان.
ثمّ رسم للأمير تنكزبغا رأس نوبة بتحصيل [مماليك «2» ] الملك الظاهر برقوق، فأخذ تنكزبغا يتتبّع أثره وأصبح الناس في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة فى هرج كبير ومقالات كثيرة مختلفة في أمر الملك الظاهر برقوق.
ثمّ استدعى الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ الأمراء واستشارهم فيمن ينصّبه فى سلطنة مصر، فكثر الكلام بينهم وكان غرض غالب الأمراء سلطنة الناصرىّ ماخلا منطاش وجماعة من الأشرفيّة، حتى استقرّ الرأى على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيا، بعد أن أعيا الأمراء أمر الناصرىّ في عدم قبوله السّلطنة وهو يقول: المصلحة سلطنة الملك الصالح أمير حاج، فإن الملك الظاهر برقوقا خلعه من غير موجب، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة واستدعوا الملك الصالح وسلطنوه وغيّروا لقبه بالملك المنصور(11/288)
على ما سنذكره في أوّل ترجمته الثانية- إن شاء الله تعالى- بعد أن نذكر حوادث سنين الملك الظاهر برقوق كما هي عادة كتابنا هذا من أوّله إلى آخره.
وأمّا الملك الظاهر برقوق فإنّه دام في اختفائه إلى أن قبض عليه بعد أيام على ما سنحكيه في سلطنة الملك الصالح مفصّلا إلى أن يسجن بالكرك ويعود إلى ملكه ثانيا.
قلت: وزالت دولة الملك الظّاهر برقوق كأن لم تكن- فسبحان من لا يزول ملكه- بعد أن حكم مصر أميرا كبيرا وسلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، تفصيله مدّة تحكّمه أميرا منذ قبض على الأمير طشتمر العلائىّ الدوادار في تاسع ذى الحجّة سنة تسع وسبعين وسبعمائة إلى أن جلس على تخت الملك وتلقّب بالملك الظاهر في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيّام. وكان يقال له في هذه المدة:
الأمير الكبير أتابك العساكر ومن حين تسلطن في سنة أربع وثمانين المذكورة إلى يوم ترك الملك واختفى في ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يوما، فهذا تفصيل تحكّمه على مصر أميرا أو سلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
وذهب ملكه من الديار المصريّة على أسرع وجه مع عظمة في النفوس وكثرة مماليكه وحواشيه، فإنه خلع من السلطنة وله نحو الألفى مملوك مشترى، غير من أنشأه من أكابر الأمراء والخاصكيّة من خشداشيّته وغيرهم، هذا مع ما كان فيه من القوّة والشّجاعة والإقدام، فإنّه قام في هذا الأمر بالقوّة في ابتداء أمره وتوثّب على الرئاسة والإمرة بيده دفعة واحدة حسب ما تقدّم ذكره، ولم يكن له يوم ذاك عشرة مماليك مشتراة، وأعجب من هذا ما سيكون من أمره في سلطنته الثانية عند(11/289)
خروجه من حبس الكرك وهو في غاية ما يكون من الفقر وقلّة الحاشية ومع هذا يملك مصر ثانيا، كما سيأتى ذكر ذلك مفصلا. وما أرى هذا الذي وقع للملك الظاهر في خلعه من الملك مع ما ذكرنا إلّا خذلانا من الله تعالى ولله الأمر.
وقال المقريزى- رحمه الله-: وكان في سلطنته مخلّطا يخلّط الصالح بالطالح.
ومما حكاه المقريزىّ قال: وكان له في مدته أشياء مليحة، منها: إبطاله ما كان يؤخذ من أهل البرلّس «1» وشورى «2» وبلطيم «3» من أعمال مصر شبه الجالية فى كلّ سنة.
قلت: وقد تجدّد ذلك في دولة الملك الظاهر جقمق ثانيا في سنة سبع وأربعين وثمانمائة: قال وهو مبلغ ستّين ألف درهم فضّة يعنى عن الذي كان يؤخذ من هذه الجهات المذكورة، قال: وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغر دمياط من المكوس وما كان يؤخذ من معمل الفراريح بالجيزيّة وأعمالها والغربية وغيرها، وما كان يؤخذ على الملح من المكس بعينتاب «4» وما كان يؤخذ على الدقيق بالبيرة «5» من المكس. وأبطل(11/290)
أيضا ما كان يؤخذ في طرابلس عند قدوم النائب إليها- من قضاة البرّ وولاة الأعمال عن كل واحد خمسمائة درهم وأبطل أيضا ما كان يؤخذ في كلّ سنة من الخيل والجمال والبقر والغنم من أهل الشرقيّة من أعمال مصر. وأبطل ما كان يؤخذ من المكس بديار مصر على الدريس والحلفاء خارج باب النصر. وأبطل ضمان المغانى بالكرك والشوبك ومن منية «1» ابن خصيب وزفتة من أعمال مصر وأبطل رمى الأبقار بعد فراغ عمل الجسور على أهل النّواحى وأنشأ من العمائر في هذه السلطنة الأولى المدرسة بخطّ بين القصرين من القاهرة ولم يعمّر داخل القاهرة مثلها ولا أكثر معلوما منها وله أيضا الصهريج والسبيل بقلعة الجبل تجاه الإيوان وعمّر الطاحون أيضا بالقلعة وأنشأ جسر الشريعة على نهر الأردن بطريق الشام وطوله مائة وعشرون ذراعا في عرض عشرين ذراعا وجدّد خزائن السلاح بثغر الاسكندريّة وعمّر سور دمنهور بالبحيرة وعمّر الجبال الشرقيّة بالفيوم وزاوية البرزخ بدمياط وبنى قناطر بالقدس وبنى بحيرة برأس وادى بنى سالم قريبا من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قال: وكان حازما مهابا محبّا لأهل الخير والعلم إذا أتاه أحد منهم قام إليه ولم يعرف أحد قبله من الملوك [الترك] يقوم لفقيه وقلّما كان يمكّن أحدا منهم من تقبيل يده، إلا أنه كان محبّا لجمع المال وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل، فكان لا يكاد يولّى أحدا وظيفة ولا عملا إلا بمال وفسد بذلك كثير من الأحوال وكان مولعا بتقديم الأسافل وحطّ ذوى البيوتات.
قلت: وهذا البلاء قد تضاعف الآن حتّى خرج عن الحدّ وصار ذوو البيوت معيرة في زماننا هذا. انتهى.(11/291)
قال: وغيّر ما كان للناس من الترتيب. واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة:
إتيان الذكران من اشتهاره بتقريب المماليك الحسان وتظاهر البراطيل وكان لا يكاد يولّى أحدا وظيفة إلا بمال واقتدى بهذا الملوك من بعده وكساد الأسواق لشحه وقلة عطائه، فمساوئه أضعاف حسناته. انتهى كلام المقريزىّ من هذا المعنى.
قلت: ونحن نشاحح الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ في كلامه حيث يقول:
وحدث في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة، فأمّا إتيان الذكران، فأقول: البلاء قديم وقد نسب اشتهار ذلك من يوم دخول الخراسانيّة إلى العراق في نوبة أبى مسلم الخراسانىّ في سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة.
وأما اقتناؤه المماليك الحسان، فأين الشيخ تقىّ الدين من مشترى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى حسان المماليك بأغلى الأثمان الذي لم يقع للملك الظاهر فى مثلها، حتى إن الملك الناصر محمد قدّم جماعة من مماليكه ممن شغف بمحبّتهم وأنعم عليهم بتقادم ألوف بمصر ولم يطرّ شارب واحد منهم، مثل بكتمر الساقى ويلبغا اليحياوى وألطنبغا الماردينى وقوصون وملكتمر الحجازى وطقزدمر الحموى وبشتك وطغاى الكبير وزوّجهم بأولاده، فحينئذ الفرق بينهما في هذا الشأن ظاهر. وأما قوله: أخذ البراطيل، فهذا أيضا قديم جدّا من القرن الثالث وإلى الآن، حتى إنه كان في دولة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ديوان يعرف بديوان البذل (أعنى بديوان البرطيل) وشاع ذلك في الأقطار وصار من له حاجة يأتى إلى صاحب الديوان المذكور ويبذل فيما يرومه من الوظائف وهذا شىء لم يصل الملك الظاهر برقوق اليه.
وأما شحّه فهو بالنسبة لمن تقدّمه من الملوك شحيح وإلى من جاء بعده كريم والشيخ تقي الدين- رحمه الله- كان له انحرافات معروفة تارة وتارة ولولا ذاك(11/292)
ما كان يحكى عنه في تاريخه السلوك قوله: ولقد سمعت العبد الصالح جمال الدين عبد الله السكسرىّ «1» المغربى يخبرنى «2» - رحمه الله- أنه رأى قردا في منامه صعد المنبر بجامع الحاكم فخطب ثم نزل ودخل المحراب ليصلّى بالناس الجمعة، فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم، فأخرجوه من المحراب وكانت هذه الرؤيا في أواخر سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فكان ذلك تقدّم الملك الظاهر برقوق على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا، فإنه كان متخلّقا بكثير من أخلاق القردة شحا [وطمعا «3» ] وفسادا ولكن الله يفعل ما يريد ولله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى كلام المقريزى.
قلت: وتعبير الشيخ تقي الدين لهذه الرؤيا أن القرد هو الملك الظاهر فليس بشىء من وجوه عديدة، منها: أن برقوقا لم يتسلطن بعد قتل الملك الأشرف إلا بعد أن تسلطن ولد الملك الأشرف الملك المنصور علىّ وولده الملك الصالح أمير حاجّ.
ثم تسلطن برقوق بعد ستّ سنين من وفاة الأشرف ومنها: أن الناس لمّا أخرجوا القرد في أثناء الصلاة كان ينبغى أن يعود ويصلّى بالناس بعد إخراجه ثانيا صلاة أطول من الصّلاة الأولى، فإن برقوقا لما خلع عاد إلى السلطنة ثانيا ومكث فيها أكثر من سلطنته الأولى حتى كانت تطابق ما وقع لبرقوق وقولنا: إن الشيخ تقي الدين كان له تارات يشكر فيها وتارات يذم فيها، فإنه لما صحب الملك الظاهر المذكور فى سلطنته الثانية وأحسن إليه الظاهر أمعن في الثناء عليه في عدّة أماكن من مصنفاته ونسى مقالته هذه وغيرها وفاته أن يغيّر مقالته هذه، فإنه أمعن، ويقال(11/293)
فى المثل من شكر وذمّ، فكأنما كذّب نفسه مرّتين. وبإجماع الناس أن الملك الظاهر برقوقا كان في سلطنته الأولى أحسن حالا من سلطنته الثانية، فإنه ارتكب فى الثانية أمورا شنيعة مثل قتل العلماء وإبعادهم والغضّ منهم، لمّا أفتوا بقتاله عند خروجه من الكرك ونحن أعرف بأحوال الملك الظاهر وابنه الناصر من الشيخ تقي الدين وغيره وإن كان هو الأسنّ، ولم أرد بذلك الحطّ على الشيخ تقىّ الدين ولا التعصّب للملك الظاهر، غير أن الحق يقال والحق المحض فيه أنّه كان له محاسن ومساوئ وليس للإمعان محلّ، كما هي عادة الملوك والحكّام. وبالجملة فهو أحسن حالا ممن جاء بعده من الملوك بلا مدافعة. والله تعالى أعلم.
السنة الأولى من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر
وهي سنة أربع وثمانين وسبعمائة، على أن الملك الصالح حاجيّا حكم منها إلى تاسع عشر شهر رمضان ثم حكم الملك الظاهر في باقيها.
وفيها توفّى قاضى قضاة الحنفيّة بدمشق همام الدين أمير غالب ابن العلّامة قاضى القضاة قوام الدين أمير كاتب الإتقانى الفارابى الانزارى الحنفى، ولى أوّلا حسبة دمشق ثم القضاء بها، وكان قليل العلم بالنسبة إلى أبيه، إلّا أنه كان رئيسا حسن الأخلاق كريم النفس، عادلا في أحكامه وكان في ولايته يعتمد على العلماء من نوّابه، فمشى حاله وشكرت سيرته إلى أن مات في جمادى الأولى.
وتوفّى قاضى القضاة بدر الدين عبد الوهاب ابن الشيخ كمال الدين أحمد ابن قاضى القضاة علم الدين محمود «1» بن أبى بكر بن عيسى [بن بدران «2» ] السعدىّ(11/294)
الإخنائى المالكىّ. ولد في حدود العشرين وسبعمائة وتولّى القضاء بعد موت القاضى برهان الدين إبراهيم الإخنائى وكان ضعيفا، فجاءه التشريف من الملك الأشرف شعبان وألقى عليه على لحافه، فلما عوفى لبسه وباشر القضاء وحسنت سيرته إلى أن صرف بعلم الدين سليمان بن خالد بن نعيم البساطى في ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم أعيد في صفر سنة تسع وسبعين وعزل في السنة بالبساطىّ ثانيا ولزم داره إلى أن مات. وكان خيّرا ديّنا مشكور السيرة.
وتوفّى الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الرّويهب في سابع «1» عشر شهر رمضان، وقد اتّضع حاله وافتقر وكان من أعيان الأقباط وباشر عدّة مباشرات، منها الوزر ونظر الدولة والاستيفاء وغير ذلك.
وتوفّى الشيخ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن محمد ابن قاضى القضاة تقي الدين محمد ابن دقيق العيد موقّع الحكم في خامس عشر «2» صفر.
وتوفّى الشيخ جمال الدين محمد بن علىّ [بن يوسف «3» ] الأسوانىّ «4» فى يوم الأحد عاشر شهر ربيع الأوّل وكان معدودا من الفضلاء.
وتوفّى الأمير فخر الدين إياس بن عبد الله الصّرغتمشىّ الحاجب أحد أمراء الطبلخانات في ثالث شهر ربيع الآخر وكان فيه شجاعة وعنده كرم وتعصّب لمن يلوذ به.(11/295)
وتوفّى الشيخ الإمام عزّ الدين عبد العزيز بن عبد الحق «1» الأسيوطى الشافعى فى يوم الأحد «2» عاشر ذى القعدة بعد ما تصدّر للاشتغال والإفتاء عدّة ستين ودرّس بعدّة مدارس وكان من أعيان الشافعية.
وتوفى الأمير زين الدين زبالة الفارقانىّ نائب قلعة دمشق بها في شعبان.
وتوفى السلطان الملك المعزّ حسين بن أويس ابن الشيخ حسن بن حسين ابن آقبغا بن أيلكان المنعوت بالشيخ حسين سلطان بغداد وتبريز وما والاهما وكان سبط ألقان أرغون بن بو سعيد ملك التتار. ولى سلطنة بغداد في حياة أبيه، لأن والده أويسا، كان رأى مناما يدلّ على موته في يوم معين، فاعتزل الملك وسلطن ولده هذا وقد تقدّم ذكره في ترجمة والده المذكور فى سنة ست وسبعين وسبعمائة. ودام الشيخ حسين هذا في الملك إلى أن قتله أخوه السلطان أحمد ابن أويس وملك بغداد بعده بإشارة خجاشيخ الكجحانىّ في هذه السنة. وكان الشيخ حسين هذا ملكا شابا جميلا «3» جليلا شجاعا مقداما كريما محببّا للرعية كثير البر قليل الطمع؛ ولقد كانت العراق في أيامه مطمئنة معمورة إلى أن ملكها أخوه أحمد بعده فاضطربت أحوالها إلى أن قتل، ثم ملكها قرا يوسف وأولاده، فكان خراب العراق على أيديهم. وبالجملة فكان الشيخ حسين هذا هو آخر ملوك بغداد والعراق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع ونصف. مبلغ الزيادة عشرون ذراعا وثلاثة أصابع. وهي سنة الغرقى لعظم زيادة النيل.(11/296)
[ما وقع من الحوادث سنة 785]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة خمس وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى الأديب المقرئ الفاضل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى ابن مخلوف بن مرّ «1» بن فضل الله بن سعد بن ساعد السعدىّ الأعرج الشاعر المشهور. كان لديه فضيلة وعلا قدره على نظم الشّعر، وكان عارفا بالقراءات، وقال الشعر وسنّه دون العشرين «2» سنة. ومن شعره رحمه الله: [الكامل]
إنّ الكريم إذا تنجّس عرضه ... لو طهّروه بزمزم لم يطهر
ممّا اعتراه من القذاوة والقذى ... لم ينق من نجس بسبعة أبحر
وتوفى الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله من صديق المعروف بالخطائى وهو مجرّد بالإسكندرية، كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية ورأس نوبة، وكان ممن انضمّ على الأمير بركة الجوبانىّ، فقبض عليه برقوق وحبسه مدّة ثم أفرج عنه وأعاده على إمرته إلى أن مات. وخلّف موجودا كبيرا استولى عليه ناظر الخاص.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله السّيفى المعروف بالصغير أمير سلاح وهو بطرابلس في جمادى الأولى، وكان حيثما وقورا مشكور السيرة.
وتوفى الأمير سيف الدين تمرباى بن عبد الله الأفضلىّ الأشرفىّ نائب صفد بها فى جمادى الأولى، وكان من أعيان المماليك الأشرفية وقد تقدّم أنّه ولى نيابة(11/297)
حلب وغيرها، ثم عزله الملك الظاهر فنقله في عدة بلاد إلى أن ولّاه نيابة صفد، فمات بها.
وتوفّى الشيخ الإمام علم الدين سليمان بن شهاب الدين أحمد بن سليمان بن عبد الرحمن [بن «1» أبى الفتح بن هاشم] العسقلانىّ الحنبلىّ، أحد فقهاء الحنابلة فى ثالث [عشرين «2» ] جمادى الآخرة.
وتوفى قاضى قضاه الشافعية بدمشق ولىّ الدين عبد الله ابن قاضى القضاة بهاء الدين «3» أبى البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى بن على بن تمّام السبكى الشافعى بها فى هذه السنة.
وتوفى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الكوكانىّ حاجب حجّاب دمشق في سادس المحرّم. وكان أصله من مماليك الأمير كوكاى، وترقى إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم ولى إمرة سلاح، ثم نقل إلى حجوبية الحجّاب في أوّل سلطنة الملك الظاهر برقوق عوضا عن سودون الفخرىّ الشيخونىّ بحكم انتقال سودون إلى نيابة السلطنة بالديار المصرية، فدام قطلوبغا هذا في وظيفة الحجوبيّة إلى أن مات وشغرت الوظيفة وهي الحجوبية من بعده أربع سنين إلى أن وليها أيدكار العمرىّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله دوادار الأمير الكبير طشتمر العلائىّ في هذه السنة. وكان من جملة أمراء الطبلخانات بديار مصر، وكان عارفا عاقلا مدبّرا وله وجاهة في الدول.(11/298)
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن دندار «1» بن قرمان أحد أمراء الطبلخانات فى ليلة الأربعاء العشرين من جمادى الأولى.
وتوفى مستوفى ديوان المرتجع أمين الدين عبد الله المعروف بجعيص «2» الأسلمىّ فى [ثالث عشر «3» ] المحرّم. كان من أعيان الكتّاب القبطيّة.
وتوفى القاضى شرف الدين موسى ابن القاضى بدر الدين محمد بن محمد ابن العلّامة شهاب الدين محمود الحلبى الحنبلى، أحد موقّعى الدّست بمدينة الرّملة عائدا من القاهرة إلى دمشق في رابع عشرين صفر، وكان من بيت كتابة وفضل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع سواء. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 786]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة ست وثمانين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الجمالىّ المعروف بالمشرف، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وأمير حاج المحمل في ذى القعدة بعيون «4» القصب من طريق الحجاز وبها دفن وقبره معروف هناك. وكان مشكور السيرة، ولى إمرة الحاج غير مرّة. رحمه الله تعالى.(11/299)
وتوفّى قاضى القضاة علم الدين أبو الربيع سليمان بن خالد بن نعيم بن مقدم ابن محمد بن حسن بن غانم بن محمد الطائى البساطىّ المالكى قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية وهو معزول في يوم الجمعة سادس عشر صفر وقد أناف على الستين سنة، وأصل آبائه من قرية شبرا بسيون «1» بالغربية من أعمال القاهرة وولد هو ببساط «2» وكان فقيها فاضلا بارعا ولى قضاء مصر في الدولة الأشرفيّة شعبان عوضا عن بدر الدين الإخنائىّ، بعد عزله وباشر بعفّة وتقشّف واطّراح التكلّف، حتى عزل في سنة ثلاث وثمانين ولزم داره حتى مات.(11/300)
وتوفى الأمير سيف الدين طنج المحمّدى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، بعد أن أخرج منفيّا إلى دمشق، فمات بها وكان من أعيان الأمراء.
وتوفى العلّامة أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفى المصرى المولد والدار والوفاة، كاتب السر الشريف بالديار المصرية في يوم السبت ثانى ذى الحجّة. وكان فقيها فاضلا عالما مفتنّا مشاركا في عدّة علوم مع رياسة وحشمة، خدم عند الملك الظاهر برقوق موقّعا، فلمّا تسلطن ولّاه كتابة السر بالديار المصرية، فى شوّال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله فباشر الوظيفة بحرمة وافرة وحسنت سيرته وعظم في الدولة، فعاجلته المنيّة وعمره سبع وثلاثون سنة في عنفوان شبيبته وأعيد بدر الدين بن فضل الله من بعده إلى كتابة السر.
وتوفّى القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد بن يوسف ابن أحمد بن عبد الدائم [التّيمىّ «1» ] الحلبى الأصل المصرى الشافعى ناظر الجيوش المنصورة في ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى. وسبب موته أن الملك الظاهر برقوقا غضب عليه بسبب إقطاع زامل أمير العرب وضربه بالدواة ثم مدّه وضربه نحو ثلاثمائة عصاة، فحمل إلى داره في محفّة ومات بعد ثلاثة أيام أو أكثر.
وتوفّى الأمير جمال الدين عبد الله ابن الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب أحد أمراء الطبلخاناه في يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى بداره خارج باب النصر.(11/301)
وتوفى الأمير علاء الدين على بن أحمد بن السائس الطّيبرسىّ أستادار خوند بركة أمّ الملك الأشرف شعبان في سادس شوّال وكان من أعيان رؤساء الديار المصرية وله ثروة.
وتوفى العلّامة قاضى القضاة صدر الدين محمد ابن قاضى القضاة علاء الدين على ابن منصور الحنفى قاضى قضاة الديار المصرية، وهو قاض في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل وقد أناف على ثمانين سنة في ولايته الثانية وتولّى القضاء عوصه قاضى القضاة شمس الدين الطرابلسىّ وتولى مشيخة الصرغتمشيّة من بعده العلّامة جلال الدين التبّانىّ. قال العينى- رحمه الله- كان إماما عالما فاضلا كاملا بحرا فى فروع أبى حنيفة مستحضرا قويّا، وكان ريّض الخلق كثير التواضع والحلم ليّن الجانب جميل المعاشرة حسن المحاضرة والمذاكرة معتمدا على جانب الصدق فى أقواله وأفعاله سعيدا في حركاته وسكناته. رحمه الله تعالى.
وتوفّى العلّامة إمام عصره ووحيد دهره وأعجوبة زمانه أكمل الدين محمد بن محمد بن محمود «1» الرومى البابرتىّ «2» الحنفىّ شيخ خانقاة «3» شيخون في يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان وحضر السلطان الملك الظاهر الصلاة عليه ومشى أمام نعشه من مصلّاة المؤمنىّ إلى أن وقف على دفنه بقبّة الشيخونيّة، بعد أن همّ على أن يحمل نعشه غير مرة فتحمّله أكابر الأمراء عنه. كان واحد زمانه في المنقول والمعقول ونالته السعادة والحاه العريض حتى إن الملك الظاهر برقوقا مع عظمته كان ينزل فى موكبه ويقف على باب خانقاه شيخون، حتى يتهيّأ الشيخ أكمل الدين للركوب(11/302)
ويركب ويسير مع الملك الظاهر، وقع له ذلك معه غير مرّة وهو الذي كان سببا لقيام الملك الظاهر برقوق للقضاة، فإنه كان يقوم له إذا دخل عليه ولا يقوم للقضاة، لما كانت عادة الملوك من قبله فكلّمة الشيخ أكمل الدين هذا في القيام للقضاة، حتى قام لهم وصارت عادة إلى يومنا هذا. وبعد موته جلس الشيخ سراج الدين البلقينىّ عن يمين السلطان، وقد استوعبنا أحواله في المنهل الصافى بأطول من هذا.
وتوفّى قاضى مكّة وخطيبها كمال الدين أبو الفضل محمد بن أحمد بن على العقيلىّ النّويرى الشافعى بمكة في يوم «1» الأربعاء ثالث عشر شهر رجب.
وتوفّى عالم بغداد شمس الدين محمد بن يوسف بن على [بن «2» ] الكرمانىّ البغدادى الشافعىّ شارح البخارى في المحرّم بطريق الحجاز وحمل إلى بغداد ودفن بها. ومولده فى جمادى الآخرة سنة سبع «3» عشرة وسبعمائة وكان قدم مصر والشام. رحمه الله.
وتوفّى صائم الدهر الشيخ محمد بن صديق التّبريزىّ الصوفىّ في ليلة الاثنين خامس عشر شهر رمضان بالقاهرة، أقام [نيّفا «4» و] أربعين سنة يصوم (الدهر 5) ويفطر على حمّص بفلس لا يخلطه إلا بالملح فقط. وكان على قدم هائل من العبادة.
وتوفّى الأمير الطواشى شبل الدولة كافور بن عبد الله الهندى الزّمرّدى الناصرى حسن في ثامن شهر ربيع الأول وقد عمّر طويلا وهو صاحب التربة بالقرافة.(11/303)
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين طشتمر بن عبد الله العلائىّ الدوادار. كان من أجلّ الأمراء وهو أوّل دوادار وليها بتقدمة ألف، ثم ولى نيابة الشام ثم أتابك العساكر بالديار المصرية إلى أن ركب عليه الملك الظاهر برقوق قبل سلطنته وقبض عليه وحبسه مدّة وولى الأتابكّية من بعده ثم أخرجه إلى القدس بطّالا، ثم ولاه نيابة صفد ثم حماة إلى أن مات. وكان ديّنا خيّرا وله مشاركة في فنون وفيه محبة لأهل العلم والفضل وكان يكتب الخطّ المنسوب ويحب الأدب والشعر.
وتوفّى تاج الدين موسى بن سعد «1» الله بن أبى الفرج ناظر الخاصّ وهو معزول وكان يعرف بابن كاتب السعدىّ وكان من أعيان الأقباط.
وتوفّى تاج الدين بن وزير بيته الأسلمىّ ناظر الإسكندرية بها في شهر ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 787]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة سبع وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى قاضى قضاة الحنفية بحلب تاج الدين أحمد بن شمس الدين محمد ابن محمد «2» بدمشق في هذه السنة، وكان فقيها فاضلا محدثا أديبا شاعرا ومات عن سنّ عالية.(11/304)
وتوفّى «1» القاضى جمال الدين إبراهيم ابن قاضى قضاة حلب ناصر الدين محمد ابن قاضى قضاة حلب كمال الدين عمر ابن قاضى قضاة حلب عز الدين [أبى البركات «2» ] عبد العزيز ابن الصاحب فخر «3» الدين محمد ابن قاضى القضاة نجم الدين [أبى الحسن «4» ] أحمد ابن قاضى القضاة جمال الدين [أبى الفضل «5» ] هبة الله ابن قاضى قضاة حلب محب الدين محمد ابن قاضى قضاة حلب جمال الدين هبة الله ابن قاضى قضاة حلب محب الدين أبى غانم محمد ابن قاضى قضاة حلب جمال الدين هبة الله ابن القاضى نجم الدين أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد ابن عامر بن أبى جرادة بن ربيعة الحنفى المعروف بآبن العديم. مات عن نيّف وسبعين سنة.
قلت: هو من بيت علم ورياسة وقد تقدّم ذكر جماعة من أقار به ويأتى أيضا ذكر جماعة منهم، كلّ واحد في محلّه، إن شاء الله تعالى.
وتوفّى رئيس «6» التّجّار زكىّ الدين أبو بكر بن علىّ الخرّوبىّ المصرىّ بمصر القديمة فى يوم الخميس تاسع عشر المحرّم وخلّف مالا كبيرا.
وتوفّى الأمير فخر الدين عثمان بن قارا «7» بن [حيّار «8» ] بن مهنّا بن عيسى بن مهنّا أمير آل فضل بالبلاد الشامية في شهر ربيع الأوّل وكان من أجلّ ملوك العرب.(11/305)
وتوفّى الأمير سيف الدين قرا بلاط بن عبد الله الأحمدى اليلبغاوىّ نائب الإسكندرية بها فى [نصف «1» ] شهر ربيع الآخر. وكان من أكابر مماليك الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم نجم الدين أحمد بن عثمان بن عيسى بن حسن بن حسين ابن عبد المحسن الراسوفىّ الدمشقى الشافعىّ المعروف بابن الحبّال في جمادى الآخرة،- بعد عوده من مصر- بدمشق. وكان فقيها عالما متبحّرا في مذهبه، انتهت إليه رياسة مذهب الشافعىّ بدمشق في زمانه وتصدّى للإفتاء والتدريس والإشغال سنين عديدة.
وتوفّى السيد الشريف شمس الدين أبو المجد محمد بن النقيب جمال الدين أحمد ابن النقيب شمس الدين محمد بن أحمد الحرّانى الحلبى الحنفى عن سبع وأربعين سنة ولم يل نقابة الأشراف.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الهادى بن أحمد المعروف بالشاطر الدمنهورىّ الشاعر المشهور بعقبة «2» أيلا متوجّها إلى الحجاز الشريف، فى العشر الأول من ذى القعدة. ومولده في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. وكان أديبا بارعا فاضلا، بارعا في فنون لا سيّما: فى المترجم ونظم القريض. ومن شعره فى مروحة: [الطويل]
ومخطوبة في الحرّ من كل هاجر ... ومهجورة في البرد من كلّ خاطب
إذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقا ... أتت بالهوى الممدود من كل جانب(11/306)
وتوفّى الأمير سيف الدين [أحمد «1» ] آقبغا بن عبد الله الدّوادار في شهر ربيع الآخر، وكان من المماليك اليلبغاويّة من حزب خشداشية الملك الظاهر برقوق.
وتوفى الرئيس شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن سبع العبسىّ مستوفى ديوان الأحباس في ثامن [عشر «2» ] شعبان وكان معدودا من أعيان الديار المصرية.
وتوفّى قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن بن رشد المالكىّ، قاضى قضاة حلب بها. وكان معدودا من فقهاء المالكية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 788]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة.
فيها توفّى القاضى بدر الدين أحمد بن شرف الدين محمد ابن الوزير الصاحب فخر الدين محمد ابن الوزير الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف بابن حنّاء في يوم الجمعة تاسع عشرين جمادى الآخرة بمدينة «3» مصر عن نيّف وسبعين سنة.
وكان فقيها عالما مفتنّا أديبا معدودا من فقهاء الشافعية. ومن شعره: [الكامل]
هنئت يا عود الأراك بثغره ... إذ أنت للأوطان غير مفارق
إن كنت فارقت العقيق وبارقا ... ها أنت ما بين العذيب وبارق(11/307)
قلت: وأحسن من هذا قول ابن دمرداش الدّمشقىّ في المعنى: [الطويل]
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق
تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى ... أعلّله بين العذيب وبارق
ولابن قرناص في هذا المعنى وهو أيضا في غاية الحسن: [الطويل]
سألتك يا عود الأراك بأن تعد ... إلى ثغر من أهوى فقبّله مشفقا
ورد من ثنيّات العذيب منيهلا ... تسلسل ما بين الأبيرق والنّقا
وتوفّى السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عجلان بن رميثة، واسم رميثة منجد [ابن أبى نمىّ «1» سعد] الحسنىّ المكىّ أمير مكّة في حادى عشرين «2» شعبان عن نيف وستين سنة بمكة ودفن بالمعلاة. وكان حسن السّيرة مشكور الطريقة.
وولى إمرة مكة بعده ابنه محمد بن أحمد بأمر عمّه كبيش بن عجلان.
وتوفّى الشيخ عماد الدين إسماعيل أحد الأفراد في الخطّ المنسوب المعروف بابن الزّمكحل، كان رئيسا في كتابة المنسوب، كان يكتب سورة الإخلاص على حبة أرز كتابة بيّنة تقرأ بتمامها وكمالها لا ينطمس منها حرف واحد- وكان له بدائع فى فنّ الكتابة وكتب عدّة مصاحف إلى أن مات (والزّمكحل بزاى مضمومة وميم مضمومة أيضا وكاف ساكنة وحاء مضمومة مهملة وبعدها لام ساكنة) .
وتوفّى الأمير سيف الدين جلبان بن عبد الله الحاجب أحد أمراء الطبلخانات فى شهر رمضان. وكان عاقلا ساكنا مشكور السيرة.(11/308)
وتوفى الأمير غرس الدين خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التّركمان اليروقية «1» وصاحب أبلستين «2» قتيلا في الحرب مع الأمير صارم الدين إبراهيم بن همر التّركمانىّ، قريبا من مدينة مرعش «3» عن نيّف وستين سنة.
وتوفّى الأمير سودن العلائىّ نائب حماة قتيلا في محاربة التّركمان أيضا. وكان ممن أنشأه الملك الظاهر برقوق وأظنّه من خشداشيّته.
وتوفّى الشريف بدر الدين محمد بن عطيفة بن منصور بن جمّاز بن شيحة أمير المدينة النبويّة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-
وتوفى الشيخ الزاهد العابد الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان القرمىّ الحنفىّ بالقدس الشريف في صفر. ومولده في ذى الحجّة سنة ستة وعشرين وسبعمائة. وكان كثير العبادة والتّلاوة للقرآن حتى قيل: إنه قرأ في اليوم والليلة ثمانى ختمات.
قلت: هذا شىء من وراء العقل فسبحان المانح.
وتوفّى الشيخ الإمام «4» العابد الصالح الورع شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن إلياس القونوىّ الحنفىّ بدمشق عن نيّف وسبعين سنة. وكان إماما عالما زاهدا شديدا في الله. وقدم القاهرة غير مرّة وتصدّى للإقراء والتصنيف سنين عديدة وانتفع الناس به. ومن مصنّفاته المفيدة «شرح تلخيص المفتاح» و «كتاب درر البحار» ونظم فيه فقه الأربعة و «شرح مجمع البحرين» فى الفقه(11/309)
فى عشر مجلّدات، وشرح آخر في ستة أجزاء، وله: «رسالة في الحديث» وغير ذلك. رحمه الله تعالى.
وتوفّى شيخ أهل الميقات ناصر الدين محمد بن الخطائى فى يوم الأربعاء ثالث عشرين شعبان وكان إماما في وقته.
وتوفّى أيضا قرينه في علم الميقات شمس الدين محمد بن الغزولىّ في رابع شهر رجب. وكان أيضا من علماء هذا الشأن.
وتوفّى ملك الغرب صاحب مدينة فاس وما والاها السلطان موسى ابن السلطان أبى عنان فارس بن أبى الحسن المرينىّ في جمادى الآخرة. وأقيم بعده المستنصر محمد بن أبى العباس أحمد المخلوع بن أبى سالم فلم يتم أمره وخلع بعد قليل. وأفيم الواثق محمد بن أبى الفضل ابن السلطان أبى الحسن، كلّ ذلك بتدبير «1» الوزير ابن مسعود وهو يوم ذاك صاحب أمر فاس.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد بن محمد بن الزّركشى أمين الحكم فجاة بالقاهرة فى ليلة الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الأوّل واتّهم أنّه سمّ نفسه، حتى مات لمال بقى عليه، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وتوفّى الأمير أحمد ابن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فى جمادى الآخرة بمجلسه في قلعة الجبل بالحوش السلطانىّ.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن التّقىّ الحنبلىّ قاضى قضاة الحنابلة بدمشق بها «2» فى هذه السنة.(11/310)
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى المعروف بابن الفافا أستدار الأمير أيتمش البجاسىّ في تاسع شوال. وكانت لديه فضيلة وله ثروة عظيمة وحشم. وكان من رءوس الظاهرية مذهبا وأثنى عليه الشيخ تقىّ الدين المقريزى. رحمه الله.
وتوفّى السيد الشريف هيازع بن هبة الله الحسنىّ المدنىّ أمير المدينة النبويّة مات وهو في السجن بثغر الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل.
وتوفّى الشيخ شرف الدين صدقة ويدعى محمد بن عمر بن محمد بن محمد العادلىّ شيخ الفقراء القادريّة بالفيوم في جمادى الآخرة. وكان ديّنا صالحا أحرم مرّة من القاهرة.
وتوفّى علم الدين يحيى القبطى الأسلمى ناظر الدولة المعروف بكاتب ابن الدينارى فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع سواء. مبلغ الزيادة عشرون ذراعا، وقيل: تسعة عشرة ذراعا وسبعة عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 789]
السنة السادسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة تسع وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين طينال بن عبد الله الماردينىّ الناصرىّ. كان أصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وصار في أيام الملك الناصر حسن أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية. ثم نفاه الناصر حسن إلى الشام، فأقام بها إلى أن طلبه الملك الأشرف شعبان وأعاده إلى تقدمة ألف بديار مصر مدّة. ثمّ انتزعه منه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وجعله نائب قلعة الجبل فدام على ذلك مدّة سنين.(11/311)
ثم عزله وأخذ الطبلخاناه منه وأنعم عليه بإمرة عشرة وترك طرخانا إلى أن مات فى شهر رمضان وقد عمّر.
وتوفّى الأمير تاج الدين إسماعيل بن مازن الهوّارىّ أمير عرب هوارة ببلاد الصعيد في هذه السنة وترك أموالا جمّة.
وتوفى الوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم المعروف بكاتب أرنان. كان أصله من نصارى مصر وأسلم وخدم في ديوان الملك الظاهر برقوق في أيام إمرته، بعد أن باشر عند جماعة كبيرة من الأمراء. ولمّا تسلطن ولّاه الوزارة على كره منه وأحوال الدولة غير مستقيمة، فلما وزّر نفّذ الأمور ومشّى الأحوال مع وفور الحريّة ونفوذ الكلمة والتقلّل في الملبس بحيث إنه كان مثل أوساط الكتاب ودخل الوزارة وليس للدولة حاصل من عين ولا غلّة وقد استأجر الأمراء النواحى بأجرة قليلة، وكفّ أيدى الأمراء عن النواحى وضبط المتحصّل وجدّد مطابخ السكّر ومات والحاصل فيه ألف ألف درهم فضة وثلاثمائة وستون ألف اردبّ غلّة وستة وثلاثون ألف رأس من الغنم ومائة ألف طائر من الإوز والدّجاج وألف قنطار من الزيت وأربعمائة قنطار ماء ورد، قيمة ذلك كلّه يوم ذاك خمسمائة ألف دينار، هذا بعد قيامه بكلف الديوان تلك الأيام أحسن قيام.
وتوفّى الحافظ صدر الدين سليمان بن يوسف بن مفلح الياسوفىّ «1» الطوسىّ الحنفىّ الشافعىّ بقلعة دمشق قتيلا بها، بعد أن اعتقل بها مدّة في محنة رمى بها. وكان من الفضلاء العلماء عارفا بالفقه إماما في الحديث والتفسير عفيفا عن أمور الدنيا.(11/312)
وتوفى الأمير سيف الدين طقتمش بن عبد الله الحسنىّ «1» اليلبغاوىّ أحد أمراء الطبلخاناه في سابع شهر رجب «2» . كان من أعيان مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ وممن قام مع الملك الظاهر برقوق.
وتوفّى الشيخ الزاهد الورع أمين الدين محمد بن محمد بن محمد الخوارزمىّ النسفى اليلبغاوى «3» الحنفىّ المعروف بالخلواتىّ «4» فى سابع عشرين شعبان، خارج القاهرة.
وكان ممن جمع بين العلم والعمل.
وتوفّى الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد القرمىّ الحنفىّ قاضى العسكر بالديار المصريّة في سابع عشرين شهر ربيع الآخر. وكان فاضلا بارعا في فنون من العلوم وكان خصيصا عند السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين.
وتوفى قاضى قضاة المالكيّة بحلب زين الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الجعيد الشهير بابن رشد المالكىّ المغربىّ السّجلماسىّ، كان من فضلاء السادة المالكية وله مشاركة في سائر العلوم وأفتى ودرّس وتولّى قضاء حلب وحسنت سيرته.
وتوفى التاجر نور الدين على بن عنان في شوّال وكان من أعيان تجّار الكارم بمصر وخلّف مالا كبيرا.
وتوفىّ القاضى شمس الدين محمد بن على بن الخشاب الشافعىّ في شعبان وكان فاضلا عالما محدّثا، حدّث عن وزيرة والحجّار.(11/313)
وتوفى الخطيب البليغ ناصر الدين محمد بن على بن محمد [بن «1» محمد] بن هاشم ابن عبد الواحد بن عشائر الحلبى الشافعىّ بالقاهرة في ليلة الأربعاء سادس عشرين شهر ربيع الآخر. وكان فقيها عالما عارفا بالفقه والحديث والنحو والشعر وغيره.
وولى هو وأبوه خطابة جامع حلب وقدم إلى القاهرة فلم تطل مدّته حتى مات.
وتوفى القاضى فتح الدين محمد ابن قاضى القضاة بهاء الدين [عبد الله «2» بن] عبد الرحمن بن عقيل الشافعىّ موقّع الدّرج بالديار المصرية في حادى عشرين صفر وكان معدودا من فضلاء الشافعية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة عشرا إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 790]
السنة السابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة تسعين وسبعمائة.
وفيها توفى قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن «3» بن محمد ابن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكنانى الشافعى قاضى قضاة مصر ثم دمشق بها وهو على قضائها في ليلة الجمعة ثامن عشر شعبان. ومولده في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وسمع الكثير بمصر والشام وبرع في الفقه والعربية وولى خطابة المسجد الأفصى. ثم ولى القضاء بديار مصر ثم بالشام.(11/314)
قلت: وهو خلاف قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعة وهو جدّ عبد الرحمن والد صاحب الترجمة.
وتوفّى الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن الأميوطى «1» الشافعى بمكة المشرفة في ثانى شهر رجب بعد أن عمّر وأسمع صحيح مسلم وغيره. وكان فقيها بارعا أفتى ودرّس وأشغل سنين.
وتوفّى الشيخ المعتقد إسماعيل بن يوسف الإنبابى بزاويته «2» بناحية منبابة في سلخ شعبان. وكان شيخا معتقدا وله كرامات. وللناس فيه اعتقاد وظنون حسنة.
ترجمه الشيخ تقىّ الدين المقريزى وقد رآه وحضر عنده وذكر عن الوقت الذي كان يعمله بزاويته (- أعنى المولد- قبائح كان الإضراب عن ذكرها أليق) وإن كان هو كما قال: مما يقع به من الفساد من المتفرّجين والمترددين، غير أن السكات فى مثل هذا أحسن، كونه رجلا منسوبا إلى الصلاح ومن ذريّة الصالحين، على أننى أيضا أنكر هذا الوقت الذي يعمل بالزاوية المذكورة إلى الآن وإبطاله من أعظم معروف يعمل، لما ترتكب العامّة فيه من الفسق وصار عندهم هذا الوقت من جملة النّزه ويتواعدون عليه من قبل عمله بأيام ويتوجّهون إليه أفواجا. ومنهم من له سنين على ذلك وهو لا يعرف باب الزاوية، غير أنه صار ذلك عنده عادة، يتّزه بها هو ومن يريد هو وأمثاله ممّن لا خلاق لهم، فلا قوّة إلا بالله ما شاء الله كان.(11/315)
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المنجكىّ الأستادار وأحد أمراء الألوف بالديار المصرية في أوّل جمادى الآخرة. وأصله من مماليك الأمير منجك اليوسفىّ الناصرىّ. وكان الملك الظاهر برقوق لمّا صار بخدمة منجك المذكور بقى بينهما أنسة وصحبة، فلمّا تسلطن برقوق عرف له ذلك ورقّاه حتى ولاه الأستدارية العالية إلى أن مات وتولّى محمود بن على الاستدارية بعده. وكان بهادر عنده معرفة وعقل وسياسة وتدبير، ومات ولم ينتكب كونه كان فيه إحسان للفقراء والصلحاء والغرباء وكان له صدقات كثيرة وبرّ وافر. وكان أصله روميّا وقيل إفرنجيا وأخذه الأمير منجك.
قلت: وهو أعظم أستدار ولى الأستدارية في دولة الملك الظاهر برقوق إلى يومنا هذا وأوفرهم حرمة وأوقرهم في الدول.- رحمه الله-.
وتوفّى الوزير الصاحب علم الدين بن القسّيس الأسلمى القبطىّ المعروف بكاتب سيدى في آخر ذى الحجة، بعد أن باشر عدّة وظائف أعظمهم الوزر.
وتوفّى الرئيس أمين الدين عبد الله بن المجد فضل الله بن أمين الدين عبد الله أبن ريشة القبطى الأسلمىّ ناظر الدولة في ليلة الأربعاء سادس جمادى الأولى. وكان معدودا من أعيان الأقباط بالديار المصرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين سيرج بن عبد الله الكمشبغاوىّ نائب قلعة الجبل، فى تاسع عشرين شهر ربيع الآخر وكان من جملة أمراء الطبلخانات وكان وقورا وله وجاهة.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة علاء الدين أحمد بن محمد المعروف بالعلاء السّيرامىّ العجمىّ الحنفىّ شيخ الشيوخ بالمدرسة الظاهرية البرقوقية في ثالث جمادى(11/316)
الأولى وكان إماما عالما مقدّما مفتنّا أعجوبة زمانه في الفقه وفروعه وعلمى المعانى والبيان والأصول. وكان أدرك المشايخ وأخذ عنهم العلوم العقلية والنقلية وبرع ودرّس وأفتى في بلاد العجم بمدينة هراة وخوارزم وسراى وقرم وتبريز، حتى شاع ذكره وبعد صيته ولمّا بنى الملك الظاهر مدرسته بين القصرين أرسل يطلبه على البريد حتى قدم فولّاه شيخ شيوخ مدرسته فدام بها إلى أن أدركته المنية ودفن بتربة «1» الملك الظاهر برقوق بالصحراء. وهو أحد من أوصى الملك الظاهر أن يدفن تحت رجليه ويبنى عليه مدرسة ففعل ذلك وكان ديّنا خيّرا عابدا صالحا.
ولمّا مات طلب السلطان الشيخ سيف الدين السّيرامى من حلب وولّاه عوضه شيخ الظاهرية وهو والد الشيخ نظام الدين يحيى وجدّ الشيخ عضد الدين عبد الرحمن شيخ الظاهرية المذكورة الآن.
وتوفّى القاضى تقىّ الدين محمد بن محمد بن أحمد بن شاس الماكى أحد أعيان موقّعى الدست بالديار المصرية في سابع عشر شعبان. وكان كاتبا فاضلا عيّن لكتابة السرّ بديار مصر غير مرّة.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قليج «2» والى الفيّوم في هذه السنة.
كان أبوه من أمراء الألوف بالديار المصرية وكذلك جدّه وكان هو من جملة أمراء الطبلخانات. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير قطلوبغا المحمدى المعروف بقشقلندق أحد أمراء العشرات في ثانى جمادى الآخرة وكان له وجاهة وعنده فروسية.(11/317)
وتوفّى القاضى عز الدين أبو اليمن محمد بن عبد اللطيف بن الكويك الرّبعى الشافعى في ثالث «1» عشر جمادى الأولى عن خمس وستين سنة وكان له سماع ورواية ولديه فضيلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سنة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذرعا وأربعة أصابع. وكان الوفاء سابع عشر مسرى أحد شهور القبط.(11/318)
[ما وقع من الحوادث سنة 791]
ذكر سلطنة الملك المنصور حاجى الثانية على مصر
السلطان الملك الصالح ثم المنصور حاجّى ابن السلطان الملك الأشرف شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون.
وقد تقدّم ذكر نسبه أيضا في سلطنتة الأولى.
وكان سبب عوده للملك أنه لمّا وقع ما حكيناه من خروج الأمير يلبغا الناصرى وتمربغا الأفضلى المدعو منطاش بمن معهما على الملك الظاهر برقوق ووقع ما حكيناه من الحروب بينهم إلى أن ضعف أمر الملك الظاهر واختفى وترك ملك مصر واستولى الأمير الكبير يلبغا الناصرى على قلعة الجبل وكلّمه أصحابه على أنه يتسلطن فلم يفعل وأشار بعود الملك الصالح هذا وقال: إن الملك الظاهر برقوقا خلعه بغير سبب وطلب أكابر الأمراء من أصحابه مثل الأمير منطاش المقدم ذكره والأمير بزلا العمرى الناصرى والأمير قرادمرداش الأحمدى وغيرهم، وكلّمهم في عود الملك الصالح الى السلطنة ثانيا فأجاب الجميع وطلعوا من الإسطبل «1» السلطانى إلى الحوش من قلعة الجبل وجلس الأتابك يلبغا الناصرى به وطلب الملك الصالح هذا من عند أهله وقد حضر الخليفة والقضاة وبايعوه بالسلطنة وألبسوه خلعتها وركب من الحوش بأبّهة الملك وشعار السلطنة إلى الإيوان «2» بقلعة الجبل والأمراء المذكورون مشاة بين يديه وأجلسوه على تخت الملك وغيّروا لقبه بالملك المنصور ولم نعلم بسلطان تغيّر لقبه قبله ولا بعده، فإنّه كان لقبه أولا الصالح وصار الآن في سلطنته(11/319)
الثانية المنصور وقلده الخليفة أمور الرعية على العادة وقبّل الأمراء الأرض بين يديه ودقّت النواقيس والكوسات ونودى باسمه بالقاهرة ومصر وبالأمان والدعاء للملك المنصور ثم للأتابك يلبغا وتهديد من نهب فاطمأنت الناس.
ثم قام الملك المنصور إلى القصر وسائر أرباب الدولة بين يديه واستقرّ الأمير الكبير يلبغا الناصرى أتابك العساكر بالديار المصرية ومدبّر المملكة وصاحب حلّها وعقدها، ففى الحال أمر الناصرى للامير ألطنبغا الأشرفى والأمير أرسلان اللفاف وقراكسك والأمير أردبغا العثمانى أن يكونوا عند السلطان الملك المنصور بالقصر، وأن يمنعوا من يدخل عليه من التّركمان وغيرهم. ونزل الأتابك يلبغا الناصرىّ إلى الإسطبل السلطانى حيث هو سكنه وخلع على الأمير حسام الدين حسين بن على ابن الكورانى بولاية القاهرة على عادته أولا فسّر الناس بولايته. وتعيّن الصاحب كريم الدين بن عبد الكريم بن عبد الرزّاق بن إبراهيم بن مكانس مشير الدولة وأخوه فخر الدين عبد الرحمن لنظر الدولة على عادته وأخوهما زين الدين لنظر الجهات، وأعاد جميع المكوس التي أبطلها الملك الظاهر برقوق.
ثم نودى بالأمان للماليك الجراكسة وأن جميع المماليك والأجناد على حالهم وأنّ الأمير الكبير لا يغيّر على أحد منهم شيئا مما كان فيه ولا يخرج عنه إقطاعه.
ثم في يوم الأربعاء سادس الشهر قدم الأمير ألطنبغا الجوبانى نائب الشام كان والأمير الطنبغا المعلم أمير سلاح كان والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب كان من سجن الإسكندرية وطلعوا إلى السلطان وترحّب بهم الأمير الكبير يلبغا الناصرى.
ثم نودى ثانيا بالقاهرة بأن من ظهر من المماليك الظاهرية فهو على حاله باق على إقطاعه ومن اختفى منهم بعد النداء حل ماله ودمه للسلطان.(11/320)
ثم رسم الأمير الكبير للامير سودون الفخرى الشيخونى نائب السلطان للديار المصرية بلزوم بيته، وأما محمود الأستادار فإنه توجه إلى كريم الدين بن مكانس وترامى عليه فتكلم ابن مكانس في أمره مع الأمير الكبير وأصلح شأنه معه على مال يحمله للامير الكبير يلبغا الناصرى وجمع بينهما فآمنه الناصرى ونزل الى داره.
ثم في ثامن جمادى الآخرة المذكورة اجتمع الأمراء في الخدمة السلطانية على العادة، فأغلق باب القلعة وقبض على تسعة من الأمراء المقدّمين وهم: الأمير سودون الفخرى الشيخونى النائب المقدم ذكره وسودون باق وسودون طرنطاى وشيخ الصفوى وقجماس الصالحى ابن عم الملك الظاهر برقوق وأبو بكر بن سنقر وآقبغا الماردينى حاجب الحجاب وبجاس النّوروزى ومحمود بن على الأستدار المقدم ذكره أيضا وقبض أيضا على جماعة من أمراء الطبلخانات وهم: عبد الرحمن بن منكلى بغا الشمسى وبورى الأحمدى وتمربغا المنجكى ومنكلى الشمسى الطرخانى ومحمد بن جمق بن أيتمش البجاسى وجرجى وقرمان المنجكى وحسن خجا وبيبرس التمان تمرى وأحمد الأرغونى وأسنبغا الأرغونى وشادى وقنق باى اللّالا السيفى ألجاى وجرباش الشيخى الظاهرى وبغداد الأحمدى ويونس الرمّاح وبرسبغا الخليلى وبطا الطّولوتمرى الظاهرى ونوص المحمدى وتنكز العثمانى وأرسلان اللّفّاف وتنكزبغا السيفى وألطنبغا شادى وآقبغا اللاجينى وبلاط المنجكى وبجمان المحمدى وألطنبغا العثمانى وعلىّ بن آقتمر من عبد الغنى وإبراهيم بن طشتمر الدوادار وخليل بن تنكزبغا ومحمد بن الدوادارى وحسام الدين حسين بن على الكورانى والى القاهرة وبلبل الرومى الطويل والطواشى صواب السعدى المعروف بشنكل مقدّم المماليك والطواشى مقبل الزمام الرومى الدوادارى.(11/321)
ثم قبض على نيّف وثلاثين أمير عشرة وهم: أزدمر الجركانى وقمارى الجمالى وجلبان أخو مامق وقرطاى السيفى ألجاى اليوسفى وآقبغا بورى الشيخونى وصلاح الدين محمد بن تنكزبغا وعبدوق العلائى وطولوبغا الأحمدى ومحمد بن أرغون شاه الأحمدى وإبراهيم ابن الشيخ على بن قرا وغريب بن حاجى وأسنبغا السيفى وأحمد بن حاجّبك بن شادى وآقبغا الجمالى الهيدبانى الظاهرى وأميرزه بن ملك الكرج وجلبان الكمشبغاوى الظاهرى قراسقل وموسى بن أبى بكر بن رسلان أمير طبر وقنق باى الأحمدى وأمير حاج بن أيتمش وكمشبغا اليوسفى ومحمد بن آقتمر الصاحبى الحنبلى النائب وآقبغا الناصرى حطب ومحمد بن سنقر المحمدى وبهادر الفخرى ومحمد بن طغاى تمر النظامى ويونس العثمانى وعمر بن يعقوب شاه وعلى بن بلاط الكبير ومحمد بن أحمد بن أرغون النائب ومحمد بن بكتمر الشمسى وألجيبغا الدوادر ومحمد بن يونس الدوادار وخليل بن قرطاى شاد العمائر ومحمد بن قرطاى نقيب الجيش وقطلوبك أمير جاندار وعلى جماعة كبيرة من المماليك الظاهرية.
ثم شفع فيه جماعة من الأمراء فأفرج عنهم: منهم صواب مقدّم المماليك المعروف بشنكل، والطواشى مقبل الدوادارى الزّمام، وحسين بن الكورانى الوالى وجماعة أخر، وأخرج قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق على البريد إلى طرابلس.
وفيه نودى بالقاهرة ومصر: من أحضر السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الأمير الكبير يلبغا الناصرى، إن كان عامّيّا خلع عليه وأعطى ألف دينار، وإن كان جنديّا أعطى إمرة عشرة بالديار المصرية، وإن كان أمير عشرة أعطى طبلخاناه، وإن كان طبلخاناه أعطى تقدمة ألف. ومن أخفاه بعد ذلك شنق وحلّ ماله ودمه للسلطان.(11/322)
ثم في ليلة الجمعة حملوا الأمراء المسجونون بقلعة الجبل إلى ثغر الإسكندريه ما خلا الأمير محمود الأستدار وبقيت المماليك الظاهرية في الأبراج متفرقة بقلعة الجبل، ثم أطلق الأمير آقبغا الماردينى حاجب الحجّاب، وأخرج من الحرّاقة «1» لشفاعة صهره الأمير أحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس فيه فردّ معه أرسلان اللّفّاف ومحمد بن تنكر شفع فيهما أيضا بعض الأمراء.
وفيه أيضا نودى على الملك الظاهر برقوق وهدّد من أخفاه فكثر الدعاء من العامة للملك الظاهر برقوق وكثر الأسف على فقده، وثقلت أصحاب الناصرى على الناس ونفروا منهم، فصارت العامّة تقول:
راح برقوق وغزلانه، وجاء الناصرى وتيرانه.
ثم قبض الناصرى على الطواشى بهادر الشهابى مقدّم المماليك، كان الذي كان الملك الظاهر عزله من التقدمة ونفاه إلى طرابلس، فحضر مع الناصرى من جملة أصحابه، فاتّهم أنه أخفى الملك الظاهر برقوقا، فنفى إلى المرقب «2» وختم على حواصله ونفى معه أسنبغا المجنون.
وفي ثانى عشره سجن محمود الأستدار وهو مقيّد بالزردخاناه.
وفيه ألزم الأمير الكبير يلبغا الناصرى حسين بن الكورانى الوالى بطلب الملك الظاهر برقوق وخشّن عليه في الكلام بسببه، فنزل ابن الكورانى من وقته وكرر النداء عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه بأنواع العذاب والنّكال.
هذا وقد كثر فساد التركمان أصحاب الناصرى بالقاهرة، وأخذوا النساء من الطرقات ومن الحمامات، ولم يتجاسر أحد على منعهم.(11/323)
وفيه قلع العسكر السلاح من عليهم ومن على خيولهم، وكانوا منذ دخولهم وهم بالسلاح إلى هذا اليوم.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة غمر على الملك الظاهر برقوق من بيت أبى يزيد، وأمره: أنه لمّا نزل بالإسطبل بالليل سار على قدميه حتى وصل إلى بيت أبى يزيد أحد أمراء العشرات واختفى بداره ولم يعرف له خبر، وكثر الفحص عليه من قبل الناصرى وغيره وهجم في مدّة اختفائه على بيوت كثيرة فلم يقف له أحد على خبر وتكرّر النداء عليه والتهديد على من أخفاه، فخاف الملك الظاهر من أن يدلّ عليه فيؤخذ غصبا باليد فلا يبقى عليه، فأرسل أعلم الأمير ألطنبغا الجوبانى بمكانه فتوجّه إليه الجوبانى واجتمع به وأخذه وطلع به إلى الناصرى على ما سنذكره.
وقيل غير ذلك؛ وهو أنه لما نزل الملك من الإسطبل السلطانى ومعه أبو يزيد المذكور لا غير، تبعه نعمان مهتار الطشتخاناه إلى الرّميلة، فردّه الملك الظاهر، ومضى هو وأبو يزيد حتى قربا من دار أبى يزيد، فتوجّه أبو يزيد قبله، وأخلى له دارا، ثم عاد إليه وأخفاه فيها.
ثم أخذ الناصرىّ يتتبع أثر الملك الظاهر برقوق حتى سأل المهتار نعمان عنه، فأخبره أنه نزل ومعه أبو يزيد، وأنه لمّا تبعه ردّه الملك الظاهر، فعند ذلك أمر الناصرى حسين بن الكورانىّ بإحضار أبى يزيد المذكور، فشدّد فى طلبه، وهجم بيوتا كثيرة، فلم يقف له على خبر، فقبض على جماعة من أصحاب أبى يزيد وغلمانه وقرّرهم فلم يجد عندهم علما «1» به، وما زال يفحص على ذلك حتى دلّه بعض الناس على مملوك أبى يزيد، فقبض عليه، وقبض ابن الكورانى على امرأة المملوك وعاقبها(11/324)
فدلّته على موضع أبى يزيد وعلى الملك الظاهر، وأنهما في بيت رجل خيّاط بجوار بيت أبى يزيد، فمضى ابن الكورانىّ إلى البيت، وبعث إلى الناصرىّ يعلمه، فأرسل إليه الأمراء.
وقيل غير ذلك وجه آخر، وهو أن السلطان الملك الظاهر لمّا نزل من الإسطبل كان ذلك وقت نصف الليل من ليلة الاثنين المقدّم ذكرها، فسار إلى بحر النيل، وعدّى إلى بحر النيل، وعدّى إلى برّ الجيزة ونزل عند الأهرام، وأقام هناك ثلاثة أيام، ثمّ عاد إلى بيت أبى يزيد المذكور، فأقام عنده إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، فحضر مملوك أبى يزيد إلى الناصرى وأعلمه أن الملك الظاهر في بيت أستاذه، فأحضر الناصرىّ في الحال أبا يزيد، وسأله عن الملك الظاهر فاعترف أنه عنده، فأخذه ألطنبغا الجوبانى وسار به إلى البيت الذي فيه الملك الظاهر برقوق، فأوقف أبو يزيد الجوبانى بمن معه، وطلع هو وحده إلى الملك الظاهر وحدّثه الخبر، ثم أذن أبو يزيد للجوبانى، فطلع فلما رآه الملك الظاهر برقوق قام له وهمّ بتقبيل يديه فاستعاذ بالله الجوبانى من ذلك، وقال له: ياخوند، أنت أستاذنا ونحن مماليك، وأخذ يسكّن روعه، حتى سكن ما به.
ثم ألبسه عمامة وطيلسانا وأنزله من الدار المذكورة، وأركبه، وأخذه وسار من صليبة «1» ابن طولون نهارا، وشقّ به بين الملأ من الناس إلى أن طلع به إلى الإسطبل السلطانى بباب السلسلة حيث هو سكن الأمير [الكبير] يلبغا الناصرى، فأجلس بقاعة الفضة من القلعة وألزم أبو يزيد بمال الملك الظاهر الذي كان معه، فأحضر كيسا وفيه ألف دينار، فأنعم به الناصرى عليه، وأخلع عليه، ورتّب الناصرى(11/325)
فى خدمة الملك الظاهر مملوكين وغلامه المهتار نعمان، وقيّد بفيد ثقيل، وأجرى عليه من سماطه طعاما بكرة وعشيا، ثم خلع الناصرىّ على الأمير حسام الدين حسن الكجكنىّ باستقراره في نيابة الكرك عوضا عن مأمور القلمطاوىّ.
ورسم بعزل مأمور، وقدومه إلى مصر أمير مائة ومقدّم ألف بها.
هذا بعد أن جمع الناصرى الأمراء من أصحابه وشاورهم في أمر الملك الظاهر برقوق بعد القبض عليه، فاختلفت آراء الأمراء فيه، فمنهم من صوّب قتله، وهم الأكثر، وكبيرهم منطاش، ومنهم من أشار بحبسه وهم الأقل، وأكبرهم الجوبانىّ فيما قيل، فمال الناصرىّ إلى حبسه لأمر يريده الله تعالى، وأوصى حسام الدّين الكجكنى به وصايا كثيرة حسب ما يأتى ذكره في محلّه، فأقام الكجكنى بالقاهرة فى عمل مصالحه إلى يوم تاسع عشر جمادى الآخرة، وسافر إلى محل كفالته بمدينة الكرك.
وعند خروجه قدم الخبر على الناصرى بأن الأمير آقبغا الصغير وآقبغا أستدار آقتمر، اجتمع عليهما نحو أربعمائة مملوك من المماليك الظاهرية ليركبوا على جنتمر نائب الشام ويملكوا منه البلد، فلمّا بلغ جنتمر ذلك ركب بمماليكه وكبسهم على حين غفلة، فلم يفلت منهم إلا اليسير وفيهم آقبغا الصغير المذكور، فسرّ الناصرى بذلك، وخلع على القاصد.
ولمّا وصل هذا الخبر إلى مصر ركب منطاش وجماعة من أصحابه إلى الناصرى وكلّموه بسبب إبقاء الملك الظاهر، وخوّفوه عاقبة ذلك، ولا زالوا به حتى وافقهم على قتله، بعد أن يصل إلى الكرك ويحبس بها، واعتذر إليهم بأنه إلى الآن لم يفرّق الاقطاعات والوظائف لاضطراب المملكة، وأنّه ثمّ من له ميل للظاهر في الباطن(11/326)
وربّما يثور بعضهم عند قتله، وهذا شىء يدرك في أىّ وقت كان، حتى قاموا عنه ونزلوا إلى دورهم.
ثم أخذ الناصرى في اليوم المذكور يخلع على الأمراء باستقرارهم في الإمريات والإقطاعيات، فاستقرّ بالأمير بزلار العمرى الناصرى حسن في نيابة دمشق، والأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى في نيابة حلب، وبالأمير صنجق الحسنىّ في نيابة طرابلس، وبالأمير شهاب الدين أحمد بن محمد الهيدبانىّ في حجوبية طرابلس الكبرى.
ثم في حادى عشرينه عرض الأمير الكبير يلبغا الناصرى المماليك الظاهريّة وأفرد من المستجدّين مائتين وثلاثين مملوكا لخدمة السلطان الملك المنصور حاجىّ صاحب الترجمة وسبعين من المشتروات أنزلهم بالأطباق وفرّق من بقى على الأمراء، وكان العرض بالإسطبل، وأنعم على كلّ من آقبغا الجمالى الهيدبانىّ أمير آخور ويلبغا السّودونىّ وتنبك اليحياوى وسودون اليحياوى بإمرة عشرة في حلب، وهؤلاء الأربعة ظاهريّة من خواصّ مماليك الملك الظاهر برقوق، ورسم بسفرهم مع الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب.
ثم في ليلة الخميس ثانى عشرين جمادى الاخرة رسم الناصرى بسفر الملك الظاهر برقوق إلى الكرك، فأخرج من قاعة الفضّة في ثلث الليل من باب القرافة أحد أبواب القلعة ومعه الأمير ألطنبغا الجوبانى، فأركبوه هجينا ومعه من مماليكه أربعة مماليك صغار على هجن، وهم قطلوبغا الكركى وبيغان الكركى وآقباى الكركى وسودون الكركى، والجميع صاروا في سلطنة الملك الظاهر الثانية بعد خروجه من الكرك أمراء، وسافر معه أيضا مهتاره نعمان، وسار به الجوبانى إلى قبة النصر خارج(11/327)
القاهرة، وأسلمه إلى الأمير سيف الدين محمد بن عيسى العائدى؛ فتوجه به إلى الكرك من على عجرود «1» حتى وصل به إلى الكرك، وسلّمه إلى نائبها الأمير حسام الدين الكجكنى وعاد بالجواب، فأنزل الكجكنى الملك الظاهر بقاعة النحاس من قلعة الكرك، وكانت ابنة الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى أستاذ الملك الظاهر برقوق زوجة مأمور المعزول عن نيابة الكرك هناك، فقامت للملك الظاهر برقوق بكلّ ما يحتاج، كونه مملوك أبيها يلبغا، مع أن الناصرى أيضا مملوك أبيها، غير أنها حبّب إليها خدمة الملك الظاهر، ومدّت له سماطا يليق به، واستمرّت على ذلك أياما كثيرة، وفعلت معه أفعالا، كان اعتادها أيام سلطنته.
ثم إن الكجكنىّ أيضا اعتنى بخدمته لمّا كان أوصاه الناصرىّ به قبل خروجه من مصر، ومن جملة ما كان أوصاه الناصرىّ وقرّره معه أنّه متى حصل له أمر من منطاش أو غيره فليفرج عن الملك الظاهر برقوق من حبس الكرك، فاعتمد الكجكنى على ذلك، وصار يدخل إليه في كل يوم ويتلطّف به ويعده أنه يتوجّه معه إلى التّركمان، فإنّه له فيهم معارف، وحصّن قلعة الكرك وصار لا يبرح من عنده نهاره كلّه، ويأكل معه طرفى النهار سماطه، ولا زال على ذلك حتى أنس به الملك الظاهر وركن له حسب ما يأتى ذكره.
وأما الناصرىّ فإنه بعد ذلك خلع على جماعة من الأمراء، فاستقرّ بالأمير قطلوبغا الصّفوىّ في نيابة صفد، وبالأمير بغاجق في نيابة ملطية، ثم رسم فنودى بالقاهرة بأن المماليك الظاهريّة يخدمون مع نوّاب البلاد الشامية، ولا يقيم أحد منهم بالقاهرة، ومن تأخّر بعد النداء حلّ ماله ودمه للسلطان، ثم نودى بذلك من الغد ثانيا.(11/328)
وفي رابع عشرينه برز النوّاب إلى الرّيدانيّة للسفر بعد أن أخلع الناصرى على الجميع خلع السفر.
ثم في سادس عشرينه خلع السلطان الملك المنصور على الأمير يلبغا الناصرى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وأن يكون مدبّر المملكة، وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانى باستقراره رأس نوبة الأمراء وظيفة بركة الجوبانى وعلى الأمير قرادمرداش الأحمدى واستقرّ أمير سلاح، وعلى الأمير أحمد بن يلبغا واستقرّ أمير مجلس على عادته أوّلا، وعلى الأمير تمرباى الحسنى، واستقرّ حاجب الحجاب، وخلع على القضاة الثلاثة باستمرارهم، وهم: القاضى شمس الدين محمد الطّرابلسىّ والقاضى جمال الدين عبد الرحمن بن خير المالكى والقاضى ناصر الدين نصر الله الحنبلى، ولم يخلع على قاضى القضاة ناصر الدين ابن بنت ميلق الشافعى، لتوعّكه، ثم خلع على القاضى صدر الدين المناوى مفتى دار العدل «1» ، وعلى القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر الجميع باستمرارهم.
وفي هذا اليوم سافر نوّاب البلاد الشامية، وسافر معهم كثير من التّركمان واجناد الشام وأمرائها، وفيه نودى أيضا بألّا يتأخر أحد من مماليك الملك الظاهر برقوق إلّا من يكون بخدمة السلطان ممّن عيّن، ومن تأخر بعد ذلك شنق، ثم نودى على التركمان والشاميين والغرباء بخروجهم من الديار المصرية إلى بلادهم.
وفي يوم الخميس خلع الناصرى على الأمير آقبغا الجوهرى باستقراره أستادارا، وعلى الأمير آلابغا العثمانى دوادارا كبيرا، وعلى الأمير ألطنبغا الأشرفىّ رأس نوبة ثانيا، وهي الآن وظيفة رأس نوبة النّوب، وعلى الأمير جلبان العلائى حاجبا، وعلى الأمير بلاط العلائى أمير جاندار، وعلى شهرى نائب دوركى باستمراره.(11/329)
ثمّ في سلخ جمادى الآخرة فرّق الناصرى المثالات «1» على الأمراء، وجعلهم أربعة وعشرين تقدمة على العادة القديمة، أراد بذلك أن يظهر للناس ما أفسده الملك الظاهر برقوق في أيام سلطنته من قوانين مصر، فشكره الناس على ذلك.
ثم نودى بالقاهرة بالأمان: ومن ظلم من مدّة عشرين سنة فعليه بباب الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ، ليأخذ حقّه.
ثم في يوم السبت أوّل شهر رجب وقف أوّل النهار زامر على باب السلسلة تحت الإسطبل السلطانى، حيث هو سكن الناصرىّ، وزعق في زمره؛ فلما سمعه الناس اجتمع الأمراء والمماليك في الحال، وطلعوا إلى خدمة الناصرىّ، ولم يعهد هذا الزّمر بمصر قبل ذلك على هذه الصورة، وذكروا أنها عادة ملوك التتار إذا ركبوا يزعق هذا الزامر بين يديه، وهو عادة أيضا في بلاد حلب، فاستغرب أهل مصر ذلك واستمرّ في كلّ يوم موكب.
وفيه أيضا رسم الناصرىّ أن يكون رءوس نوب السّلاحداريّة والسّقاة والجمداريّة ستّة لكل طائفة على ما كانوا أوّلا قبل سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين، فإن الأشرف هو الذي استقرّ بهم ثمانية، وخلع الناصرى على قطلوبغا الفخرى باستقراره نائب قلعة الجبل عوضا عن الأمير بجاس.
وفي خامسه قدم الأمير نعير بن حيّار بن مهنّأ ملك العرب إلى الديار المصرية، ولم يحضر قطّ في أيام الملك الظاهر برقوق، وقصد بحضوره رؤية الملك المنصور(11/330)
وتقبيل الأرض بين يديه، فخلع السلطان عليه، ونزل بالميدان الكبير من تحت القلعة، وأجرى عليه الرّواتب.
وفيه خلع على الأمير آلابغا العثمانى الدوادار الكبير باستقراره في نظر الأحباس مضافا لوظيفته، وقرقماس الطّشتمرى واستمرّ خازندارا.
وفي ثامنه خلع على الأمير نعير خلعة السفر وأنعم على الطواشى صواب السعدى شنكل بإمرة عشرة، واسترجعت منه إمرة طبلخاناه، ولم يقع مثل ذلك أن يكون مقدّم المماليك أمير عشرة.
وفيه خلع السلطان الملك المنصور على شخص وعمله خيّاط السلطان، فطلبه الناصرى وأخذ منه الخلعة، وضربه ضربا مبرّحا، وأسلمه لشادّ الدواوين، ثم أفرج عنه بشفاعة الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، فشقّ ذلك على الملك المنصور، فقال:
إذا لم ينفّذ مرسومى في خيّاط فما هذه السلطنة؟ ثمّ سكت على مضض.
وفي أوّل شعبان أمر المؤذّنون بالقاهرة ومصر أن يزيدوا في الآذان، إلّا آذان المغرب: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله عدّة مرّات، وسبب ذلك أن رجلا من الفقراء المعتقدين سمع في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء: الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان العادة في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء يصلّى المؤذنون على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرارا على المئذنة، فلمّا سمع الفقير ذلك قال لأصحابه الفقراء:
أتحبون أن تسمعوا هذا في كل أذان؟ قالوا: نعم، فبات تلك الليلة، وأصبح وقد زعم أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في منامه يأمره أن يقول لمحتسب القاهرة نجم الدين الطّنبدى أن يأمر المؤذنين أن يصلّوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقيب كلّ أذان، فمشى الشيخ إلى المحتسب المذكور وقصّ عليه ما رآه، فسّره ذلك، وأمر به فبقى إلى يومنا هذا.(11/331)
ثم إن الناصرىّ أنزل السبعين الذين قرّرهم بالأطباق من مماليك برقوق وفرّقهم على الأمراء، ورسم أيضا بإبطال المقدّمين والسوّاقين من الطّواشيّة، ونحوهم، وأنزلهم من عند الملك المنصور، فاتّضح أمر السلطان الملك المنصور، وعرف كلّ أحد أنه ليس له أمر ولا نهى في المملكة.
ذكر ابتداء الفتنة بين الأمير الكبير يلبغا الناصرى وبين الأمير تمربغا الأفضلىّ المدعو منطاش:
ولمّا كان سادس عشر شعبان أشيع في القاهرة بتنكّر منطاش على الناصرىّ، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، ففطن الناصرىّ بأنه يريد يعمل مكيدة، فلم ينزل لعيادته، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوبانى رأس نوبة كبيرا فى يوم الاثنين سادس عشر شعبان المذكور ليعوده في مرضه، فدخل عليه، وسلّم عليه، وقضى حقّ العيادة، وهمّ بالقيام، فقبض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكه، وضرب قرقماس دوادار الجوبانى ضربا مبرّحا، مات منه بعد أيام.
ثم ركب منطاش حال مسكه للجوبانىّ في أصحابه إلى باب السلسلة وأخذ جميع الخيول التي كانت واقفة على باب السلسلة وأراد اقتحام الباب ليأخذ الناصرىّ على حين غفلة، فلم يتمكّن من ذلك، وأغلق الباب، ورمى عليه مماليك الناصرىّ من أعلى السور بالنّشّاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وكانت داره دار «1» منجك اليوسفىّ التي اشتراها تمربغا الظاهرىّ الدوادار وجدّدها بالقرب من مدرسة السلطان «2» حسن، ونهب منطاش في عوده بيت الأمير آقبغا الجوهرىّ الأستدار وأخذ خيوله وقماشه.(11/332)
ثمّ رسم منطاش في الوقت لمماليكه وأصحابه بالطلوع إلى مدرسة السلطان حسن، فطلعوا إليها وملكوها، وكان الذي طلع إليها الأمير تنكزبغا رأس نوبة والأمير أزدمر الجوكندار دوادار الملك الظاهر برقوق في عدّة من المماليك، وحمل إليها منطاش النّشّاب والحجارة، ورموا على من كان بالرّميلة «1» من أصحاب الناصرىّ من أعلى المئذنتين ومن حول القبّة، فعند ذلك أمر الناصرىّ مماليكه وأصحابه بلبس السلاح وهو يتعجّب من أمر منطاش كيف يقع منه ذلك وهو في غاية من قلّة المماليك وأصحابه، وبلغ الأمراء ذلك، فطلع كلّ واحد بمماليكه وطلبه إلى الناصرىّ.
وأمّا منطاش فإنّه أيضا تلاحقت به المماليك الأشرفيّة خشداشيته والمماليك الظاهرية، فعظم بهم أمره، وقوى جأشه، فأمّا مجىء الظاهريّة إليه فرجاء لخلاص أستاذهم الملك الظاهر برقوق والأشرفية، فهم خشداشيّته، لأن منطاش كان أشرفيّا ويلبغا الناصرىّ يلبغاويّا خشداشا لبرقوق، وانضمت اليلبغاويّة على الناصرى وهم يوم ذاك أكابر الأمراء وغالب العسكر المصرى، وتجمّعت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعد ما كان سبعون فارسا في أوّل ركوبه، ثم أتاه من العامّة عالم كبير، فترامى الفريقان واقتتلا.
ونزل الأمير حسام الدّين حسين بن الكورانى والى القاهرة والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصرىّ، ونودى في الناس بنهب مماليك منطاش، والقبض على من قدروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصرىّ فخرج عليهما طائفة من المنطاشيّة فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصرى، وسار الوالى إلى القاهرة، وأغلق أبوابها: واشتدّ الحرب، وخرج منطاش في أصحابه، وتقرّب من العامّة، ولا طفهم(11/333)
وأعطاهم الذهب، فتعصّبوا له وتزاحموا على التفاط النّشّاب الذي يرمى به من أصحاب الناصرىّ على منطاش وأتوه به، وبالغوا في الخدمة لمنطاش، حتى خرجوا عن الحدّ، فكان الواحد منهم يثب في الهواء حتى يخطف السهم قبل أن يأخذه غيره، ويأتى به منطاش وطائفة منهم تنقل الحجارة إلى أعلى المدرسة «1» الحسنيّة، واستمرّوا على ذلك إلى الليل، فبات منطاش ليلة الثلاثاء سابع عشر شعبان على باب مدرسة السلطان حسن المذكورة والرمى يأتيه من القلعة من أعوان الناصرى،.
هذا والمماليك الظاهريّة تأتيه من كلّ فجّ، وهو يعدهم ويمنّيهم حتى أصبح يوم الثلاثاء وقد زادت أصحابه على ألف فارس، كلّ ذلك والناصرى لا يكترث بأمر منطاش، ويصلح أمره على التراخى استخفافا بمنطاش وحواشيه، يحرّضه على سرعة قتال منطاش ويحذّرونه التهاون في أمره.
ثمّ أتى منطاش طوائف من مماليك الأمراء والبطّالة وغيرهم شيئا بعد شىء، فحسن حاله بهم، واشتدّ بأسنه، وعظمت شوكته بالنسبة لما كان فيه أوّلا، لا بالنسبة لحواشى الناصرىّ ومماليكه، فعند ذلك ندب الناصرىّ الأمير بجمان والأمير قرابغا الأبوبكرى في طائفة كبيرة ومعهم المعلّم شهاب الدين أحمد بن الطّولونى المهندس وجماعة كبيرة من الحجّارين والنقّابين لينقبوا بيت منطاش من ظهره حتى يدخلوا منه إلى منطاش ويقاتلوه من خلفه والناصرى من أمامه، ففطن منطاش بهم، فأرسل إليهم في الحال عدّة من جماعته قاتلوهم حتى هزموهم، وأخذوا قرابغا وأتوا به إلى منطاش، فرتّب عدّة رماة على الطبلخاناه السلطانية، وعلى المدرسة الأشرفيّة التي هدمها الملك الناصر فرج، وجعل الملك المؤيّد مكانها(11/334)
بيمارستانا في الصوّة، فرموا على منطاش بالمدافع والنّشّاب، فقتل عدّة من العوامّ، وجرح كثير من المنطاشية، هذا وقد انزعج الناصرى وقام بنفسه وهيّأ أصحابه لقتال منطاش، وندب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعة لقتاله، وهم الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير جمق ابن الأتابك أيتمش البجاسىّ في جمع كبير من المماليك، فنزلوا وطردوا العامّة من الرّميلة، فحملت العامّة من أصحاب منطاش عليهم حملة واحدة هزموهم فيها أقبح هزيمة.
ثم عاد أحمد بن يلبغا المذكور غير مرّة، واستمرّ القتال بينهما إلى آخر النهار والرّمى والقتال عمّال من القلعة على المدرسة الحسنيّة ومن المدرسة على القلعة وبينماهم فى ذلك خرج من عسكر الناصرىّ الأمير آقبغا الماردينىّ بطلبة وصار إلى منطاش فتسلّل الأمراء عند ذلك واحدا بعد واحد، وكلّ من يأتى منطاش من الأمراء يوكّل به واحد يحفظه ويبعث به إلى داره، ويأخذ مماليكه فيقاتل الناصرى بهم.
فلمّا رأى حسين بن الكورانى الوالى جانب الناصرىّ قد اتضع خاف على نفسه من منطاش واختفى، فطلب منطاش ناصر الدين محمد بن ليلى نائب حسين ابن الكورانى وولّاه ولاية القاهرة، وألزمه بتحصيل النّشّاب، فنزل في الحال إلى القاهرة، وحمل إليه كثيرا من النشاب.
ثم أمره منطاش فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بالنصر.
هذا وقد أخذ أمر الناصرىّ في إدبار، وتوجّه جماعة كبيرة من أصحابه الى منطاش، فلمّا رأى الناصرىّ عسكره في قلّة وقد نفر عنه غالب أصحابه، بعث الخليفة المتوكّل على الله إلى منطاش يسأله في الصلح وإحماد الفتنة، فنزل الخليفة(11/335)
إليه وكلّمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطان، وهو أستاذى وابن أستاذى، والأمراء إخوتى وما غريمى إلا الناصرىّ، لأنّه حلف لى وأنا بسيواس «1» ثم بحلب ودمشق أيضا بأننا نكون شيئا واحدا، وأن السلطان يحكم في مملكته بما شاء، فلمّا حصل لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبد بالأمر، ومنع السلطان من التّحكّم، وحجر عليه، وقرّب خشداشيته اليلبغاوية وأبعدنى أنا وخشداشيّتى الأشرفية، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثنى لقتال الفلّاحين، وكان الناصرى أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لمّا عظم فساد فلّاحيها.
ثم قال منطاش: ولم يعطنى الناصرى شيئا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسه أحسن الإقطاعات وأعطانى أضعفها، والإقطاع الذي قرّره لى يعمل فى السنة ستمائة ألف درهم، والله ما أرجع عنه حتى أقتله أو يقتلنى، ويتسلطن ويستبدّ بالأمر وحده من غير شريك، فأخذ الخليفة يلاطفه فلم يرجع له، وقام الخليفة من عنده وهو مصمّم على مقالته، وطلع إلى الناصرى وأعاد عليه الجواب.
فعند ذلك ركب الناصرىّ بسائر مماليكه وأصحابه، ونزل بجمع كبير لقتال منطاش وصفّ عساكره تجاه باب السلسلة «2» ، وبرز إليه منطاش أيضا بأصحابه وتصادما وأقتتلا قتالا شديدا، وثبت كلّ من الطائفتين ثباتا عظيما، فخرج من عسكر الناصرى الأمير عبد الرحمن ابن الأتابك منكلى بغا الشمسى صهر الملك الظاهر برقوق بمماليكه، والأمير صلاح الدين محمد بن تنكر نائب الشام، وكان أيضا من خواصّ الملك الظاهر برقوق، وسار صلاح الدين المذكور إلى منطاش ومعه خمسة أحمال نشّاب وثمانون حمل مأكل وعشرة آلاف درهم وانكسر الناصرى وأصحابه وطلع إلى باب السلسلة،(11/336)
فتراجع أمره، وانضمّ عليه من بقى من خشداشيته اليلبغاوية، وندب لقتال منطاش الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس ثانيا، والأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح، والأمير ألطنبغا المعلّم، والأمير مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب، والجميع يلبغاوية، ونزلوا في جمع موفور من العسكر وصدموا منطاش صدمة هائلة، وأحمى أظهرهم من في القلعة بالرمى على منطاش وأصحابه، فأخذ أصحاب منطاش عند ذلك في الرمى من أعلى المدرسة بالنشّاب والنفط، والتحم القتال، من فوق ومن أسفل، فانكسر عسكر الناصرى ثانيا، وانهزموا إلى باب السلسلة.
هذا والعامّة تأخذ النّشّاب من على الأرض وتأتى به منطاش وهو يتقرّب منهم ويترفّق لهم، ويقول لهم: أنا واحد منكم وأنتم إخواننا وأصحابنا، وأشياء كثيرة من هذه المقولة، هذا وهم يبذلون نفوسهم في خدمته ويتلاقطون النّشّاب من الرّميلة مع شدة رمى الناصرى عليهم من القلعة.
ثم ظفر منطاش بحاصل للأمير جركس الخليلى الأمير آخور وفيه سلاح كثير ومال، وبحاصل آخر لبكلمش العلائى، فأخذ منطاش منهما شيئا كثيرا، فقوى به، فإنّه كان أمره قد ضعف من قلّة السلاح لا من قلّة المقاتلة، لأن غالب من أتاه بغير سلاح.
ثم ندب الناصرىّ لقتاله الأمير مأمورا حاجب الحجّاب والأمير جمق بن أيتمش والأمير قراكسك في عدة كبيرة من اليلبغاويّة وقد لاح لهم زوال دولة اليلبغاوية بحبس الملك الظاهر برقوق، ثم بكسرة الناصرىّ من منطاش إن ثم ذلك؛ فنزلوا إلى منطاش وقد بذلوا أرواحهم، فبرز لهم العامة أمام المنطاشية، وأكثروا من رميهم بالحجارة في وجوههم ووجوه خيولهم حتى كسروهم، وعادوا إلى باب السلسلة.(11/337)
كلّ ذلك والرمى من القلعة بالنّشّاب والنفوط والمدافع متواصل على المنطاشية، وعلى من بأعلى المدرسة الحسنية، حتى أصاب حجر من حجارة المدفع القبة الحسنية فخرقها، وقتل مملوكا من المنطاشية، فلمّا رأى منطاش شدّة الرمى عليه من القلعة أرسل أحضر المعلّم ناصر الدين محمد بن الطّرابلسى وكان أستاذا في الرمى بمدافع النّفط، فلمّا حضر عنده جرّده من ثيابه ليوسّطه من تأخّره عنه فآعتذر إليه بأعذار مقبولة، ومضى ناصر الدين في طائفة من الفرسان وأحضر آلات النفط وطلع على المدرسة ورمى على الإسطبل السلطانى، حيث هو سكن الناصرى حتى أحرق جانبا من خيمة الناصرى وفرّق جمعهم، وقام الناصرىّ والسلطان الملك المنصور من مجلسهما ومضيا إلى موضع آخر امتنعا فيه، ولم يمض النهار حتى بلغت عدّة فرسان منطاش نحو الألفى مقاتل.
وبات الفريقان في تلك الليلة لا يبطلان الرّمى حتى أصبحا يوم الأربعاء وقد جاء كثير من مماليك الأمراء إلى منطاش، ثم خرج من عسكر الناصرى الأمير تمرباى الحسنىّ حاجب الحجّاب، والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب في جماعة كبيرة من الأمراء، وصاروا إلى منطاش من جملة عسكره، وغالب هؤلاء الأمراء من اليلبغاوية.
ثم ندب الناصرىّ لقتال منطاش الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير قرا دمرداش الأحمدى أمير سلاح، وعيّن منهم جماعة كبيرة، فنزلوا وصدموا المنطاشية صدمة هائلة انكسروا فيها غير مرّة، وابن يلبغا يعود بهم إلى أن ضعف أمره، وانهزم وطلع إلى باب السلسلة، هذا والقوم يتسللون من الناصرى إلى منطاش والعامه تمسك من وجدوه من التّرك ويقولون له: ناصرىّ، أم منطاشىّ فإن قال:
ناصرى أنزلوه من على فرسه وأخذوا جميع ما عليه وأتوا به إلى منطاش.(11/338)
ثم تكاثرث العامة على بيت الأمير أيدكار حتى أخذوه بعد قتال كبير وأتوا به إلى منطاش، فأكرمه منطاش، وبينما هو في ذلك جاءه الأمير ألطنبغا المعلّم بطلبه ومماليكه، وكان من أجل خشداشية الناصرى وأصحابه، وصار من جملة المنطاشية، فسرّ به منطاش.
ثم عيّن له ولأيدكار موضعا يقفان فيه ويقاتلان الناصرى منه، وبينما منطاش فى ذلك أرسل إليه الأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح يسأله في الحضور إليه طائعا فلم يأذن له، ثم أتاه الأمير بلّوط الصرغتمشى بعد ما قاتله عدّة مرار وكان من أعظم أصحاب الناصرى.
ثم حضر إلى منطاش جمق بن أيتمش واعتذر إليه، فقبل عذره، وعظم أمر منطاش، وضعف أمر الناصرىّ، واختل أمره وصار في باب السلسلة بعدد يسير من مماليكه وأصحابه، وندم الناصرىّ على خلع الملك الظاهر برقوق، وحبسه لمّا علم أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم.
فلمّا أذّن العصر قام الناصرىّ هو وقرادمرداش الأحمدى أمير سلاح وأحمد ابن يلبغا أمير مجلس وآقبغا الجوهرى الأستادار والابغا العثمانى الدوادار والأمير قراكسك في عدّة من المماليك وصعد إلى قلعة الجبل ونزل من باب القرافة، وعند ما قام الناصرىّ من باب السلسلة وطلع القلعة ونزل من باب القرافة أعلم أهل القلعة منطاش فركب في الحال بمن معه وطلع إلى الإسطبل السلطانىّ وملكه ووقع النهب فيه فأخذ من الخيل والقماش شيئا كثيرا وتفرّق الذّعر والعامّة إلى بيوت المنهزمين، فنهبوا وأخذوا ما قدروا عليه ومنعهم الناس من عدّة مواضع وبات منطاش بالإسطبل.(11/339)
وأصبح من الغد وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى القلعة إلى السلطان الملك المنصور حاجى وأعلمه بأنه في طاعته وأنه هو أحقّ بخدمته لكونه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرف شعبان، وأنه يمتثل مرسومه فيما يأمره به وأنه يريد بما فعله عمارة بيت الملك الأشرف- رحمه الله- فسرّ المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية، فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضّيق مع اليلبغاوية من مدّة سنين.
ثم تقدّم الأمير منطاش إلى رءوس النّوب بجمع من المماليك وإنزالهم بالأطباق من قلعة الجبل على العادة، ثم قام من عند السلطان ونزل إلى الإسطبل بباب السلسلة، وكان ندب جماعة للفحص على الناصرى ورفقته، ففى حال نزوله أحضر إليه الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير مأمور القلمطاوى، فأمر بحبسهما بقاعة الفضّة من القلعة وحبس معهما أيضا الأمير بجمان المحمّدىّ، وكتب منطاش بإحضار الأمير سودون الفحرىّ الشيخونىّ النائب من ثغر الإسكندرية، ثم قدم عليه الخبر بأنّ الأمراء الذين توجّهوا في أثر الناصرىّ أدركوه بسرياقوس وقبضوا عليه، وبعد ساعة أحضر الأمير يلبغا الناصرىّ بين يديه فأمر به فقيّد وحبس أيضا بقاعة الفضّة، ثم حمل هو والجوبانىّ في آخرين إلى سجن الإسكندرية فحبسوهما «1» ، وأخذ الأمير منطاش يتتبّع أصحاب الناصرىّ وحواشيه من الأمراء والمماليك.
فلمّا كان يوم عشرين شعبان قبض على الأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح فأمر به منطاش فقيّد وحبس ثم قبض منطاش على جماعة كبيرة من الأمراء، وهم: الأمير ألطنبغا المعلّم، والأمير كشلى القلمطاوى، واقبغا الجوهرىّ، وألطنبغا(11/340)
الأشرفىّ، وآقبغا العثمانى، وفارس الصرغتمشى، وكمشبغا، وشيخ اليوسفىّ، وعبدوق العلائى، وقيّد الجميع وبعث بهم إلى ثغر الإسكندرية، فحبسوا بها.
ثم في حادى عشرينه أنعم منطاش على الأمير إبراهيم بن قطلقتمر الخازندار «1» بإمرة مائة وتقدمة ألف، واستقرّ أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا دفعة واحدة من إمرة عشرة، ثم أخلع السلطان الملك المنصور على الأمير منطاش باستقراره أتابك العسكر ومدبّر الممالك عوضا عن يلبغا الناصرى المقبوض عليه، ثم كتب منطاش أيضا بإحضار قطلوبغا الصّفوىّ نائب صفد، والأمير أسندمر الشرفىّ، ويعقوب شاه وتمان تمر الأشرفىّ، وعيّن لكل منهم إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم في ثانى عشرينه قبض على الأمير تمرباى الحسنى حاجب الحجّاب بديار مصر، وعلى الأمير يلبغا المنجكىّ، وعلى إبراهيم بن قطلقتمر أمير مجلس الذي ولّاه فى أمسه، ثم أطلقه وأخرجه على إمرة مائة وتقدمة ألف بحلب لأمر اقتضى ذلك.
ثم في ثالث عشرين شعبان المذكور قبض منطاش على أرسلان اللّفّاف، وعلى قراكسك السيفىّ، وأيدكار العمرىّ حاجب الحجّاب، وقردم الحسنىّ، وآقبغا الماردينىّ وعدّة من أعيان المماليك اليلبغاوية وغيرهم.
ثم قبض على الطواشى مقبل الزّومىّ الدّوادارى الزّمام، وجوهر اليلبغاوى لالا السلطان الملك المنصور، ثم قبض منطاش على الطواشى صندل الرومىّ المنجكى خازندار الملك الظاهر برقوق وعذّبه على ذخائر برقوق وعصره مرارا حتّى دلّ على شىء كثير، فأخذها منطاش وتقوّى بها.(11/341)
وفي ثامن «1» عشرينه وصل سودون الشيخونى النائب من سجن الإسكندريّة فأمره منطاش بلزوم بيته.
ثم أنفق منطاش على من قاتل معه من الأمراء والمماليك بالتدريج، فأعطى لمائة واحد منهم لكل واحد ألف دينار، وأعطى لجماعة أخر لكلّ واحد عشرة آلاف درهم، ودونهم لكل واحد خمسة آلاف درهم، ودونهم لكل واحد ألف درهم، ودونهم لكلّ واحد خمسمائة درهم. وظهر على منطاش الملل من المماليك الظاهرية والتخوّف منهم، فإنه كان قد وعدهم بأنه يخرج أستاذهم الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك إذا انتصر على الناصرىّ، فلم يفعل ذلك، ولا أنعم على واحد منهم بإمرة ولا إقطاع، وإنما أخذ يقرّب خشداشيته ومماليكه وأولاد الناس، فعزّ عليهم ذلك في الباطن، وفطن منطاش بذلك، فعاجلهم بأن عمل عليهم مكيدة، وهى:
أنه لمّا كان يوم الثلاثاء ثانى شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المذكورة طلب سائر المماليك الظاهريّة على أنّه ينظر في أمرهم وينفق عليهم ويترضّاهم، فلمّا طلعوا إلى القلعة أمر منطاش فأغلق عليهم باب القلعة، وقبض على نحو المائتين منهم.
حدّثنى السّيفى إينال المحمودى الظاهرى قال: كنت من جملتهم، فلمّا وقفنا بين يدى منطاش ونحن في طمعة النّفقة والإقطاعات، ظهر لى من وجه منطاش الغدر، فتأخّرت خلف خشداشيتى، فلمّا وقع القبض عليهم رميت بنفسى إلى الميدان، ثم منه إلى جهة باب القرافة، واختفيت بالقاهرة. انتهى.(11/342)
ثم بعث منطاش بالأمير جلبان الحاجب، وبلاط الحاجب، فقبض على كثير من المماليك الظاهريّة، وسجنوا بالأبراج من قلعة الجبل.
قلت: لا جرم، فإنه من أعان ظالما سلّط عليه، وفي الجملة أن الناصرىّ كان لحواشى برقوق خيرا من منطاش، غير أنّه لكل شىء سبب، وكانت حركة منطاش سببا لخلاص الملك الظاهر برقوق، وعوده إلى ملكه على ما سيأتى ذكره، ثم أمر منطاش فنودى بالقاهرة أن من أحضر مملوكا من مماليك برقوق فله كذا وكذا، وهدّد من أخفى واحدا منهم.
قلت: وما فعله منطاش هو الحزم، فإنّه أزال من يخشاه، وقرّب مماليكه وأصحابه، وكاد أمره أن يتمّ بذلك لو ساعدته المقادير، وكيف تساعده المقادير وقد قدّر بعود برقوق إلى ملكه بحركة منطاش وبركوبه على الناصرىّ.
ثم في ثالث شهر رمضان قبض منطاش على سودون النائب وألزمه بمال يحمله إلى خزانته. وفيه شدّد الطلب على المماليك الظاهريّة، وألزم سودون النائب المتقدّم ذكره بحمل ستمائة ألف درهم كان أنعم عليه بها الملك الظاهر برقوق فى أيام سلطنته.
ثم خلع على حسين ابن الكورانى بعوده إلى ولاية القاهرة، وحرّضه منطاش على المماليك الظاهريّة.
ثم قدمت الأمراء المطلوبون من البلاد الشاميّة، وخلع منطاش عليهم، وأنعم على كلّ منهم بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية دفعة، ولم يسبق لهم قبل ذلك أخذ إمرة عشرة بديار [مصر «1» ] .(11/343)
وفيه ظفر منطاش بذخيرة كانت للملك الظاهر برقوق بجوار جامع الأزهر.
وفيه أفرج منطاش عن الأمير محمود بن على الأستادار بعد ما أخذ منه جملة كبيرة من المال، ثم أمسك منطاش جماعة من أعيان المماليك الظاهريّة ممّن كانوا ركبوا معه في أوائل أمره، وبهم كان استفحل أمره، وأضافهم إلى من تقدّم من خشداشيّتهم، وحبس الجميع بأبراج قلعة الجبل، ولم يرقّ لأحد منهم.
قلت: لعله تمثّل بأبيات المتنبى: (الكامل)
لا يخدعنّك من عدوّك دمعه ... وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وبينما منطاش في ذلك ورد عليه البريد بخروج الأمير نعير عن الطاعة غضبا للناصرىّ، وأنه اتفق هو وسولى بن دلغادر ونهبا بلادا كثيرة من الأعمال الحلبيّة، فلم يلتفت منطاش إلى ذلك وكتب لهما يستعطفهما على دخولهما تحت الطاعة.
ثم بعد أيام ورد البريد أيضا بخروج الأمير بزلار العمرى الناصرى حسن نائب الشام عن طاعة منطاش غضبا للأمير يلبغا الناصرى، فكتب إليه أيضا مكاتبة خشّن له فيها.
ثم أخذ منطاش فيما يفعله في أمر دمشق وغيرها- على ما سيأتى ذكره- بعد أن يقعّد له قواعد بمصر، فبدأ منطاش في اليوم المذكور بالقبض على الطواشى صواب السّعدى المعروف بشنكل مقدّم المماليك السلطانية.
وخلع على الطواشى جوهر وأعاده لتقدمة المماليك، ثم أنعم على جماعة من حواشيه ومماليكه بإقطاعات كثيرة، وأنعم على جماعة منهم بتقدمة ألف، وهم: ولده الأمير ناصر الدين محمد بن منطاش، وهي أحسن التقادم، والأمير قطلوبغا الصّفوى،(11/344)
وأسندمر بن يعقوب شاه وتمان تمر الأشرفى وأيدكار العمرى وأسندمر الشرفى رأس نوبة منطاش وجنتمر الأشرفى، ومنكلى باى الأشرفى، وتكا الأشرفى، ومنكلى بغا خازندار منطاش وصراى تمر دوادار منطاش وتمربغا الكريمى، وألطنبغا الحلبىّ ومبارك شاه.
ثم أنعم على جماعة كبيرة بإمرة طبلخاناه، وعشرينات وعشرات، فممن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه: الشريف بكتمر الحسنى، وأبو بكر بن سنقر الجمالى، ودمرداش القشتمرى وعبد الرحمن بن منكلى بغا الشمسى على عادته أوّلا، وجلبان السعدى، وآروس بغا صلغيه وإبراهيم بن طشتمر الدوادار وسربغا الناصرى، وتنكز الأعور الأشرفى، وصراى تمر الأشرفى، وآقبغا المنجكى، وملكتمر «1» المحمدى، وقرابغا السيفى، وقطلوبغا الزينى، وتمربغا المنجكى وأرغون شاه السيفى ومقبل السيفى منطاش أمير سلاح وطيبرس السيفى رأس نوبة، وبيرم خجا الأشرفى، وألطنبغا الجربغاوى، ومنجك الزينى، وبزلار الخليلىّ، ومحمد بن أسندمر العلائى؛ وطشبغا السيفى منطاش، وإلياس الأشرفى، وقطلوبغا السيفى، وشيخون الصرغتمشى، وجلبان السيفى، وألطنبغا الطازى، وإسماعيل السيفى، وحسين بن الكورانى.
وأنعم على كل ممّن يدكر بإمرة عشرين «2» ، وهم: غريب الخطائى وبايجى الأشرفى، ومنكلى بغا الجوبانى، وقرابغا الأحمدى، وآق كبك «3» السيفى، وفرج شادّ الدواوين، ورمضان السيفى، ومحمد بن مغلطاى المسعودى والى مصر.
وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرة «4» : صلاح الدين محمد بن تنكز، زيادة على ما بيده، وخضر بن عمر بن بكتمر الساقى، ومحمد بن يونس الدوادار، وعلىّ(11/345)
الجركتمرى، ومحمد بن رجب بن محمد التركمانى، ومحمد بن رجب بن جنتمر من عبد الغنى وجوهر الصلاحى، وإبراهيم بن يوسف بن برلغى ولؤلؤ العلائى الطواشى، وتنكز العثمانى وصراى تمر الشرفى الصغير، ومنكلى بغا المنجكى، وآق سنقر الأشرفى، رأيت أنا المذكور في دولة الملك الأشرف برسباى في حدود سنة ثلاثين وثمانمائة وقد شاخ وجاركس القرابغاوى، وأسنبغا التاجى، وسنقر السيفى، وكزل الجوبانى، وقرابغا الشهابى، وبك بلاط الأشرفى، ويلبغا التركمانى، وأرنبغا الأشرفى، وحاجى اليلبغاوى، وأرغون الزينى، ويلبغا الزينىّ وتمر الأشرفى وجنبغا الشرفى، وجقمق السيفى، وأرغون شاه البكلمشى، وألطنبغا الأشقر، وصراى السيفى، وألطنبغا الإبراهيمى، وآقبغا الأشرفى وألجيبغا السيفى. انتهى.
ثم في خامس عشر شهر رمضان نودى على الزّعر بالقاهرة ومصر من حمل منهم سيفا أو سكّينا أو شالق بحجر وسّط وحرّض الموالى عليهم، فقطع أيدى ستة منهم فى يوم واحد.
وفي يوم عشرين شهر رمضان ورد البريد بأن بزلار نائب الشام مسكه الأمير جنتمر أخو طاز فكاد منطاش أن يطير من الفرح بذلك، لأن بزلار كان من عظماء الملوك «1» ممن كان الملك الظاهر برقوق يخافه، ونفاه إلى الشام، فوافق الناصرىّ، فولاه الناصرى نيابة الشام دفعة واحدة مخافة من شرّه، وكان من الشجعان حسب ما يأتى ذكره في الوفيات.
ولمّا أن بلغ منطاش هذا الخبر قلع السلاح عنه وأمر أمراءه ومماليكه بقلع السلاح، فإنهم كانوا في هذه المدّة الطويلة لابسين السلاح في كلّ يوم.
ثمّ في الحال قبض منطاش على جمق بن أيتمش البجاسىّ وعلى بيرم العلابى رأس نوبة أيتمش.(11/346)
وفيه قدم سيف الأمير بزلار المقدّم ذكره، وكان من خبره أن منطاش لمّا انتصر على الناصرىّ وملك مصر أرسل إلى الأمير بزلار المذكور بحضوره إلى مصر فى ثلاثة سروج لا غير على البريد، فأجابه بزلار: لا أحضر اليه إلا في ثلاثين ألف مقاتل، وخاشنه في ردّ الجواب، وخرج عن طاعته، فخادعه منطاش حسب ما تقدّم ذكره، وكتب في الباطن للأمير جنتمر أخى طاز أتابك دمشق بنيابة دمشق إن قبض على بزلار المذكور ثم سيّر، إليه التشريف بذلك، وكتب إليه أن محمد ابن بيدمر يكون أتابك دمشق عوضه، وجبريل حاجب حجّاب دمشق، فلمّا بلغ جنتمر ذلك عرّف الأمراء المذكورين الخبر، واتّفق مع جماعة أخر من أكابر أمراء دمشق وركبوا على بزلار المذكور على حين غفلة وواقعوه، فلم يثبت لهم، وانكسر ومسك وحبس بقلعة دمشق، وأرسل جنتمر سيفه إلى منطاش، واستقرّ عوضه فى نيابة دمشق، فسرّ منطاش بذلك غاية السرور.
فلم يتّم سروره، وقدم عليه الخبر بما هو أدهى وأمرّ، وهو خروج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك، وأنه استولى على مدينتها ووافقه نائبها الأمير حسام الدين حسن الكجكنى، وقام بخدمته وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابن خاطر أمير بنى عقبة من عرب الكرك ودخل في طاعته، وقدم هذا الحبر من ابن باكيش نائب غزة، فلمّا سمع منطاش ذلك كاد يهلك واضطربت الديار المصرية، وكثرت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويل، وتشغّب الذعر وكان من خبر الملك الظاهر برقوق أن منطاش لمّا وثب على الأمير وأقهر الأتابك يلبغا الناصرى وحبسه وحبس عدّة من أكابر الأمراء، عاجل في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصا يعرف بالشهاب البريدى ومعه كتب للأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك وغيره بقتل الملك الظاهر برقوق من غير مراجعة، ووعده بأشياء غير نيابة الكرك،(11/347)
وكان الشهاب البريدىّ أصله من الكرك، وتزوج ببنت قاضى الكرك القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرىّ الكركى، ثم وقع بين الشهاب المذكور وبين زوجته، فقام أبوها عليه حتى طلّقها منه، وزوجها بغيره، وكان الشهاب مغرما بها، فشقّ ذلك عليه، وخرج من الكرك وقدم مصر وصار بريديّا وضرب الدهر ضرباته حتى كان من أمر منطاش ما كان، فاتصل به الشهاب المذكور ووعده أنه يتوجّه لقتل الملك الظاهر برقوق، فجهزه منطاش لذلك سرّا وكتب على يده إلى الأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك كتبا بذلك وحثّه على القيام مع الشهاب المذكور على قتل برقوق وأنه ينزله بقلعة الكرك ويسكنه بها حتى يتوصّل لقتل الملك الظاهر برقوق.
وخرج الشهاب من مصر ومضى إلى نحو الكرك على البريد حتى وصل قرية المقيّر «1» بلد صهره القاضى عماد الدين قاضى الكرك الذي أصله منها، فنزل بها الشهاب ولم يكتم ما في نفسه من الحقد على القاضى عماد الدين، وقال: والله لأخربن دياره وأزيد في أحكار أملاكه وأملاك أقاربه بهذه القرية وغيرها، فاشتوحش قلوب الناس وأقارب عماد الدين من هذه الكلام وأرسلوا عرّفوه بقصد الشهاب وما جاء بسببه قبل أن يصل الشهاب إلى الكرك، ثم ركب الشهاب من المقيّر وسار إلى الكرك حتى وصلها في الليل، وبعث للنائب من يصيح به من تحت السور، فمنعوه من ذلك، وأحسّ الكجكنى بالأمر، فلمّا أصبح أحضره إلى دار السعادة، وقرأ كتاب السلطان الذي على يده، وكتاب منطاش ومضمونهما أمور أخر غير قتل الظاهر برقوق؛ فامتثل النائب ذلك بالسمع والطاعة.(11/348)
فلمّا انفضّ الناس أخرج الشهاب إليه كتاب منطاش الذي بقتل برقوق، فأخذه الكجكنى منه ليكون له حجّة عند قتله السلطان برقوق، ووعده بقضاء الشغل، وأنزل الشهاب بمكان قلعة الكرك قريبا من الموضع الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنس به، ثم قام الكجكنى من فوره ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقتله، فأوقفه على الكتاب، فلمّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يهلك من الجزع، فخلف له الكجكنى بكل يمين أنه لا يسلّمه لأحد ولو مات، وأنه يطلقه ويقوم معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسه، واطمأنّ خاطره.
هذا وقد اشتهر في مدينة الكرك بمجيء الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق لخفّة كانت في الشهاب المذكور، وأخذ القاضى عماد الدين يخوّف أهل الكرك عاقبة قتل الملك الظاهر برقوق وينفّرهم عن الشهاب حتى خافوه وأبغضوه، وكان عماد الدين مطاعا في أهل بلده، مسموع الكلمة عندهم لما كانوا يعهدون من عقله وحسن رأيه، وثقل الشهاب على أهل الكرك إلى الغاية، وأخذ الشهاب يلحّ على الأمير حسام الدين نائب الكرك في قتل الملك الظاهر برقوق، وبقى النائب يسوّف به من وقت إلى وقت، ويدافعه عن ذلك بكلّ حجّة وعذر فزاد الشهاب فى القول حتى خاشنه في اللفظ، فعند ذلك قال له الكجكنى: هذا شىء لا أفعله بوجه من الوجوه حتى أكتب إلى مصر بما أعرفه وأسأل عن ذلك ممّن أثق به من أصحابى من الأمراء.
ثمّ أرسل البريد إلى مصر أنه لا يدخل في هذا الأمر، ولكن يحضر إليه من يتسلّمه منه ويفعل فيه ما يرسم له به، وكان في خدمة الملك الظاهر غلام من أهل الكرك يقال له: عبد الرحمن، فنزل إلى جماعة في المدينة وأعلمهم أن الشهاب قد حضر،(11/349)
لقتل أستاذه الملك الظاهر، فلمّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال؛ وقصدوا القلعة وهجموها حتى دخلوا إلى الشهاب المذكور وهو بسكنه من قلعة الكرك، ووثبوا عليه وقتلوه، ثم جرّوه برجله إلى الباب الذي فيه الملك الظاهر برقوق، وكان نائب الكرك الكجكنى عند الملك الظاهر، وقد ابتدءوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المقدّم ذكرها، فلم يشعر الملك الظاهر والكجكنى إلا وجماعة قد هجموا عليهم وهم يدعون للملك الظاهر بالنصر؛ وأخذوا الملك الظاهر بيده حتى أخرجوه من البرج الذي هو فيه، وقالوا له: دس بقدمك عند رأس عدوّك، وأروه الشهاب مقتولا، ثم نزلوا به إلى المدينة فدهش النائب ممّا رأى، ولم يجد بدا من القيام في خدمة الملك الظاهر وتجهيزه، وانضمّ على الملك الظاهر أقوام الكرك وأجنادها، وتسامع به أهل البلاد، فأتوه من كلّ فجّ بالتقادم والخيول، كلّ واحد بحسب حاله، وأخذ أمر الملك الظاهر برقوق من يوم ذلك في استظهار على ما سيأتى ذكره.
وأمّا أمر منطاش فإنه لمّا سمع هذا الخبر وتحقّقه علم أنه وقع في أمر عظيم، فأخذ في تدبير أحواله، فأوّل ما ابتدأ بمسك الأمير قرقماس الطشتمرى الخازندار، وأحد أمراء الألوف بديار مصر، وبمسك الأمير شاهين الصرغتمشى أمير آخور، وبمسك قطلوبك أستادار الأتابك أيتمش البجاسىّ، وعلى جماعة كبيرة من المماليك الظاهريّة، وتداول ذلك منه أياما.
ثم أنعم منطاش على جماعة من الأمراء بأموال كثيرة، ورسم بسفر أربعة آلاف فارس إلى مدينة غزّة صحبة أربعة أمراء من مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وهم: أسندمر اليوسفى، وقطلوبغا الصفوى، ومنكلى باى الأشرفىّ، وتمربغا الكريمى، وأنفق في كلّ أمير منهم مائة ألف درهم فضّة، ثم عيّن منطاش مائة مملوك(11/350)
للسفر صحبة أمير الركب إلى الحجاز، واسمرّ منطاش في عمل مصالحه إلى أن كان يوم سابع شوّال خلع السلطان الملك المنصور على الأمير منطاش المذكور، وفوّض إليه تدبير الأمور، وصار أتابك العساكر كما كان يلبغا، أراد منطاش بذلك إعلام الناس أنه ليس له غرض في السلطنة، وأنه في طاعة الملك المنصور ابن أستاذه.
ثمّ خلع الملك المنصور أيضا على الأمير قطلوبغا الصّفوى المقدّم ذكره في الأربعة أمراء المعينين للسفر باستقراره أمير سلاح، وعلى تمان تمر الأشرفىّ باستقراره رأس نوبة النوب، وعلى أسندمر بن يعقوب شاه أمير مجلس، وعلى ألطنبغا الحلبى دوادارا كبيرا، وعلى تكا الأشرفىّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف وعلى إلياس الأشرفىّ أمير آخور بإمرة طبلخاناه، وعلى أرغون شاه السيفى رأس نوبة ثالثا بإمرة طبلخاناه، وعلى تمربغا المنجكى رأس نوبة، رابعا بإمرة طبلخاناه، وعلى قطلوبغا الأرغونى أستدارا، وعلى جقمق شادّ الشراب خاناه، ثم خلع على تمان تمر رأس نوبة بنظر البيمارستان المنصورى، وعلى ألطنبغا الحلبى الدوادار الكبير بنظر الأحباس، ثم بطل أمر التجريدة المعيّنة إلى غزة خوفا من المماليك لئلا يذهبوا للملك الظاهر برقوق.
ثم في تاسع شوّال خلع على الأمير أيدكار باستقراره حاجب الحجاب وعلى أمير حاج بن مغلطاى حاجبا ثانيا بتقدمة ألف.
وفيه سمّر منطاش أربعة من الأمراء، وهم: سودون الرمّاح أمير عشرة، ورأس نوبة، والطنبغا أمير عشرة أيضا، وأميران من الشام، ووسّطوا بسوق الخليل في عاشره لميلهم إلى الملك الظاهر برقوق.
ثم أخلع منطاش على تنكز الأعور باستقراره في نيابة حماة عوضا عن طغاى تمر القبلاوى، وفيه حمل جهاز خوند بنت الملك الأشرف شعبان أخت الملك المنصور،(11/351)
هذا لتزفّ على الأمير الكبير منطاش، وكان على خمسمائة جمل وعشرة قطر بغال، ومشى الحجاب وغالب الأمراء أمام الجهاز، فخلع عليهم منطاش الخلع السّنيّة، وبنى بها من ليلته، بعد أن اهتمّ بالعرس اهتماما زائدا، وعند ما زفّت إليه علّق منطاش على شربوشها دينارا زنته مائتا مثقال، ثم ثانى مرّة دينارا زنته مائة مثقال وفتح للقصر بابا من الإسطبل بسبب ذلك بجوار باب السرّ، هذا مع ما كان منطاش فيه من شغل السرّ من اضطراب المملكة بعد مسكه الناصرىّ وغيره.
وفيه أخرج عدّة من المماليك الظاهريّة إلى قوص «1» ، وبينما منطاش في ذلك قدم عليه الخبر بأن الأمراء المقيمين بمدينة قوص من المنفيّين قبل تاريخه خرجوا عن الطاعة، وقبضوا على والى قوص، وحبسوه واستولوا على مدينة قوص، وانضم عليهم جماعة كبيرة من عصاة العربان، فندب منطاش لقتالهم تمربغا الناصرى وبيرم خجا، وآروس بغا من أمراء الطبلخاناة في عدّة مماليك.
ثم قدم عليه الخبر بأن الأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى نائب حلب خرج عن الطاعة، وأنه قبض على جماعة من أمراء حلب بعد أن حارب إبراهيم بن قطلقتمر الخازندار، وقبض عليه ووسّطه هو وشهاب الدين أحمد بن أبى الرضا قاضى قضاة حلب الشافعى بعد أن قاتلوه ومعهم أهل بانقوسا «2» ، فلمّا ظفر بهم كمشبغا المذكور قتل منهم عدّة كبيرة.(11/352)
قلت: وإبراهيم بن قطلقتمر هذا هو صاحب الواقعة مع الملك الظاهر برقوق لمّا اتفق مع الخليفة هو وقرط الكاشف على قتل الملك الظاهر، وقبض عليهما الظاهر، وعزل الخليفة وحبسه سنين، وقد تقدّم ذكر ذلك كله، وهو الذي أنعم عليه منطاش في أوائل أمره بإمرة مائة، وتقدمة ألف بمصر، وجعله أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا، ثم أخرجه بعد أيام من مصر خوفا من شرّه إلى حلب على إمرة مائة وتقدمة ألف، فدام بها إلى أن كانت منيّته على يد كمشبغا هذا.
ثم قدم الخبر على منطاش بأن الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة جمع العشران وسار لمحاربة الملك الظاهر برقوق، فسرّ منطاش بذلك، وفي اليوم ورد عليه الخبر أيضا بقوّة شوكة الأمراء الخارجين عن طاعته ببلاد الصعيد، فأخرج منطاش في الحال الأمير أسندمر بن يعقوب شاه أمير مجلس في نحو خمسمائة فارس نجدة لمن تقدّمه من الأمراء إلى بلاد الصعيد، فسار أسندمر بمن معه في ثالث عشرينه، وفي يوم مسيره ورد البريد من بلاد الصعيد باتفاق ولاة الصعيد مع الأمراء المذكورين.
وكان من خبرهم أنه لمّا استقر أبو درقة في ولاية أسوان سار إلى ابن قرط، واتّفق معه على المخامرة، وسار معه إلى قوص، وأفرج عمن بها من الأمراء المقدّم ذكرهم. وكان عدّة الأمراء الذين بقوص زيادة على ثلاثين أميرا، وعدّة كبيرة من المماليك السلطانية الظاهرية، فلما بلغ خبرهم الأمير مبارك شاه نائب الوجه القبلى اجتمع معه أيضا نحو ثلثمائة مملوك من الظاهرية واتفقوا على المخامرة أيضا، واستمال مبارك شاه عرب هوّارة وعرب ابن الأحدب، فوافقوه، واستولوا على البلاد، فلمّا خرجت تجريدة منطاش الأولى لهم انتهت إلى أسيوط، فقبض عليهم مبارك شاه المذكور، وأفرج عمّن كان معهم من المماليك الظاهرية؛ فلما بلغ(11/353)
منطاش ذلك أخرج أسندمر بن يعقوب شاه كما تقدّم ذكره، وسار اليهم من الشرق، وتوجّه إلى جهة الصعيد بمن معه، فلقيه الخارجون عن الطاعة، فواقعهم أسندمر بمن معه، فكسروه، فرسم منطاش بخروج نجدة لهم من الأمراء والمماليك وأجناد الحلقة، وبينما هو في تجهيز أمرهم جاء الخبر أن أسندمر واقع مبارك شاه ثانيا وكسره، وقبض عليه، وأرسله إلى منطاش. فقدم مقيدا، فرسم منطاش بحبسه في خزانة شمائل «1» .
ثمّ في يوم سابع عشرينه عيّن منطاش تجريدة إلى جهة الكرك فيها أربعة وقيل خمسة أمراء من مقدّمى الألوف، وثلاثمائة مملوك، ثم أخرج منطاش الأمير بلّوط الصرغتمشى، والأمير غريب لكشف أخبار الملك الظاهر برقوق بالكرك.
وأما الملك الظاهر برقوق فإنه لما أنزله عوامّ الكرك من قلعتها إلى المدينة وقاموا فى خدمته، وأتته العربان، وصار في طائفة كبيرة، ووافقه أيضا أكابر أهل الكرك، فقوى شوكته بهم، وعزم على الخروج من الكرك، وبرّز أثقاله إلى ظاهر الكرك، فاجتمع عند ذلك أعيان الكرك عند القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرى قاضى الكرك وكلموه في القيام على الملك الظاهر برقوق مراعاة للملك المنصور حاجّى، وللأمير منطاش، واتفقوا على قبضه وإعلام أهل مصر بذلك، وأنهم يعتذرون لمنطاش أنه لم يخرج من حبسه بالكرك إلا باجتماع السفهاء من أهل الكرك، ليكون ذلك عذرا لهم عند السلطان، وبعثوا ناصر الدين محمدا أخا القاضى عماد الدين المذكور، فأغلق باب المدينة، وبقى الملك الظاهر برقوق داخل المدينة وحيل بينه وبين أثقاله ومعظم أصحابه.(11/354)
فلمّا قام الملك الظاهر برقوق ليركب فرسه بلغه ذلك، وكان القاضى علاء الدين علىّ كاتب سر الكرك، وهو أخو القاضى عماد الدين يكتب للملك الظاهر فى مدة خروجه من حبس الكرك، وبالغ في خدمته، وانضمّ عليه، فلما رأى ما نزل بالملك الظاهر وبلغه اتفاق أهل المدينة مع أخيه القاضى عماد الدين على القبض على الملك الظاهر برقوق أعلم الملك الظاهر بذلك، وقوى قلبه، وحرّضه على السير إلى باب المدينة، فركب معه برقوق، وسار حتى وصل إلى الباب وجده مغلقا وأخوه ناصر الدين قائم عند الباب، كما أمره أخوه عماد الدين قاضى الكرك، فما زال علاء الدين بأخيه ناصر الدين المذكور حتى فتح له الباب، وخرج بالملك الظاهر منه ولحق ببقية أصحابه ومماليكه الذين كانوا حضروا إليه من البلاد الشامية، فأقام الملك الظاهر بالتّنية «1» خارج الكرك يوما واحدا، وسأر من الغد في يوم ثانى عشرين شوال الى نحو دمشق، ونائبها يوم ذاك جنتمر أخو طاز، وقد وصل إليه الأمير الطنبغا الحلبى من مصر نائبا بحلب عوضا عن الأمير كمشبغا الحموى، فاستعدّوا لقتال الملك الظاهر، ومعهما أيضا حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة مساكرها.
ثم أقبل الملك الظاهر برقوق بمن معه، فالتقوا على شقحب «2» قريبا من دمشق، واقتتلوا قتالا شديدا، كسروا فيه الملك الظاهر غير مرّة، وهو يعود إليهم ويقاتلهم إلى أن كسرهم، وانهزموا إلى دمشق وقتل منهم ما يزيد على الألف، قاله المقريزى،(11/355)
فيهم خمسة عشر أميرا، وقتل من أصحاب الملك الظاهر ستون نفسا، ومن أمرائه سبعة نفر، فهى أعظم وقعة كانت للملك الظاهر برقوق في عمره.
وركب الملك الظاهر أقفية الشاميين إلى دمشق، فامتنع جنتمر بقلعة دمشق، وتوجّه من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرا، ونحو ثلاثمائة وخمسين فارسا وقد أثخنوا بالجراحات ومعهم نائب صفد وقصدوا الديار المصرية.
فلم يمص غير يوم واحد حتى عاد ابن باكيش نائب غزّة بجماعة كبيرة من العربان والعشير لقتال الملك الظاهر، وبلغ الملك الظاهر ذلك فأرسل الوالد وقلمطاى لكشف الخبر، فعادا إليه بسرعة بحضور ابن باكيش، فركب الملك الظاهر في الحال وخرج إليه والتقى معه وقاتله حتى كسره، وأخذ جميع ما كان معه من الأثقال والخيول والسلاح، تقوّى الملك الظاهر بذلك، وأتاه عدة كبيرة من مماليكه الذين كانوا بالبلاد الشامية في خدمة أمراء الشام، ثم دخل في طاعته الأمير جبريل حاجب حجاب دمشق، وأمير على بن أسندمر الزّينى، وجقمق الصفوىّ، ومقبل الرومى، وصاروا من جملة عسكره، فعند ذلك ركب الملك الظاهر إلى دمشق، وحصرها وأحرق القبيبات وأخربها، فهلك في الحريق خلق كبير وأخذ أهل دمشق في قتال الملك الظاهر برقوق، وأفحشوا في أمره بالسب والتوبيخ، وهو لا يفترّ عن قتالهم؛ وبينما هو في ذلك أتاه المدد من الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب ومن جملة المدد ثمانون مملوكا من المماليك الظاهريّة البرقوقية، فلما بلغ جنتمر مجينهم أخرج إليهم من دمشق خمسمائة فارس ليحيلوا بينهم وبين الملك الظاهر، فقاتلتهم المماليك الظاهريّة وكسرتهم، وأخذوا جميع ما كان معهم، وأتوا بهم إلى أستاذهم الملك الظاهر، ففرح بهم غاية الفرح.(11/356)
قال الوالد: فعند ذلك قوى أمرنا، واستفحل واستمرّوا على حصار دمشق وبينما هم في ذلك وإذا بنعير قد أقبل في عربانه يريد قتال الملك الظاهر برقوق، فخرج الملك الظاهر وقاتله فكسره، واستولى على جميع ما كان معه فقوى الملك الظاهر بما صار إليه من هذه الوقائع من الخيل والسلاح وصار له برك كبير بعد ما كان معه خيمة صغيرة لا غير، وكانت مماليكه في أخصاص، وكلّ منهم هو الذي يخدم فرسه بنفسه. والآن فقد صاروا بالخيم والسلاح والغلمان، هذا ومماليك الملك الظاهر يتداول مجيئهم إليه شيئا بعد شىء ممن كان نفاهم الناصرى ومنطاش إلى البلاد الشامية.
ووصل الخبر بهذه الوقائع كلّها إلى منطاش في خامس عشر ذى القعدة، فقامت قيامة منطاش لما سمع هذه الأخبار وأخذ في تجهيز الملك المنصور حاجىّ للسفر لبلاد الشام لقتال الملك الظاهر برقوق، وأمر الوزير موفّق الدين بتجهيز ما يحتاج إليه السلطان، فلم يجد في الخزانة ما يجهّز به السلطان، واعتذر بأنّ المال انتهب وتفرّق في هذه الوقائع فقبل عدره وسأل منطاش قاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعى. وكان ولّاه قضاء القضاة قبل تاريخه بمدة يسيرة بعد عزل ناصر الدين ابن بنت الميلق. وقال له: أقرضنى مال الأيتام، وكانت إذ ذاك أموالا كثيرة، فامتنع المناوى من ذلك، ووعظه فلم يؤثر فيه الوعظ، وختم على جميع مال الأيتام، ثم رسم منطاش لحاجب الحجّاب ولناصر الدين محمد بن قرطاى نقيب الجيش بتفرقة النقباء على أجناد الحلقة، وحثّهم على التجهيز للسفر، وبينما هم في ذلك قدم عليه الخبر بكسرة ابن باكيش نائب غزة ثانيا من الملك الظاهر برقوق، وأخذ الملك الظاهر ما كان معه، فاشتدّ عند ذلك الاضطراب وكثر الإرجاف ووقع الاهتمام بالسفر، وأزعج أجناد الحلقة، واستدعى منطاش الخليفة المتوكّل(11/357)
على الله والقضاة، والشيخ سراج الدين عمر البلقينى، وأعيان الفقهاء، ورتبو صورة فتيا في أمر الملك الظاهر برقوق، وانفضوا من غير شىء وفي اليوم ورد على منطاش واقعة صفد، وكان من خبرها أن مملوكا من مماليك الملك الظاهر برقوق يقال له يلبغا السالمىّ كان أسلمه الظاهر إلى الطواشى بهادر الشهابى مقدّم المماليك، فرباه بهادر ورتّبه خازنداره واستمرّ على ذلك إلى أن نفى الملك الظاهر بهادر إلى البلاد الشامية، فصار يلبغا السالمى المذكور عند صواب السعدى شنكل لمّا استقر مقدم المماليك بعد بهادر المذكور، وصار دواداره الصغير، فلما قبض الناصرىّ على شنكل المذكور، خدم يلبغا السالمىّ هذا عند الأمير قطلوبك النظامى نائب صفد، وصار دواداره، وسار مع أهل صفد سيرة حميدة إلى أن قدم إلى صفد خبر الملك الظاهر برقوق، وخروجه من حبس الكرك، جمع النظامى عسكر صفد ليتوجّه بهم إلى نائب دمشق نجدة على الظاهر، وأبقى يلبغا السالمى بالمدينة، فقام يلبغا السالمى في طائفة من المماليك الذين استمالهم، وأفرج عن الأمير إينال اليوسفى نائب حلب كان، وعن الأمير قجماس ابن عم السلطان الملك الظاهر برقوق، ونحو المائتين من المماليك الظاهرية من سجن صفد ونادى بشعار الملك الظاهر برقوق وأراد القبض على الأمير قطلوبك النّظامى، فلم يثبت النظامى، وفرّ في مملوكين فاستولى السالمىّ ومن معه على مدينة صفد وقلعتها، وصار الأمير إينال اليوسفى هو القائم بمدينة صفد، والسالمى في خدمته، وأرسلوا إلى الملك الظاهر بذلك، وكان هذا الخبر من أعظم الأمور على منطاش، وزاد قلقه.
وكثرت مقالة الناس في أمر الملك الظاهر، ثم تواترت الأخبار بأمر الملك الظاهر وفي حادى عشرينه ورد الخبر على منطاش بوصول نائب غزة حسام الدين بن باكيش وصحبته الأمير قطلوبك النّظامى نائب صفد المقدّم ذكره. والأمير محمد(11/358)
ابن بيدمرى أتابك دمشق، وخمسة وثلاثون أميرا من أمراء دمشق، وجمع كبير من الأجناد قد هزموا الجميع من الملك الظاهر برقوق، وقدموا إلى القاهرة وهم الذين قاتلوا برقوقا مع جنتمر نائب الشام، وقد تقدّم ذكر الواقعة، فرسم منطاش بدخولهم القاهرة.
وفي هذا اليوم استدعى منطاش الخليفة المتوكل على الله والقضاة والعلماء بسبب الفتيا في الملك الظاهر برقوق وفي قتاله، فكتب ناصر الدين الصالحى موقّع الحكم فتيا في الملك الظاهر برقوق تتضمّن: عن رجل خلع الخليفة والسلطان وقتل شريفا في الشهر الحرام والبلد الحرام وهو محرم، يعنى عن أحمد بن عجلان صاحب مكة، واستحل أخذ أموال الناس وقتل الأنفس وأشياء غير ذلك، ثم جعل الفتيا عشر نسخ، فكتب جماعة من الأعيان والقضاة.
ثم رسم منطاش بفتح سجن قديم بقلعة الجبل كان قد ارتدم وسجن فيه عدّة من المماليك الظاهرية المقبوض عليهم قبل تاريخه ثم وجد منطاش ذخيرة بالقاهرة للأمير جركس الخليلى في بيت جمال الدين أستاداره: فيها خمسمائة ألف درهم، ونحو خمسين ألف دينار، فأخذها منطاش، ثم أخذ أيضا من مال ابن جركس الخليلى نحو ثلثمائة ألف دينار مصرية.
ودخل الأمراء المنهزمون من الشام إلى القاهرة، وهم قطلوبك النّظامى نائب صفد، وتنكز الأعور نائب حماة، ومحمد بن أيدمر أتابك، دمشق، ويلبغا العلائى أحد مقدّمى دمشق، وآقباى الأشرفى نائب قلعة الروم، ومن الطبلخانات دمرداش الأطروش والى الولاة، وأحمد بن تنكز، وجوبك الخاصكى الأشرفى، وقطلوبك جنجق وخير بك. ومن العشرنيات آقبغا الوزيرى وأزدمر القشتمرى وقنق الزّينى، ومنكلى بغا الناصرى، وآقبغا الإبنالى وأحمد بن ياقوت، ومن(11/359)
العشرات أسنبغا العلائى، وطغاى تمر الأشرفى ومصطفى البيدمرى، وقرابغا السيفى من أمراء صفد، وتغرى برمش الأشرفى، ومنجك الخاصّكى وقجقار السيفى.
ومن أمراء حماة جنتمر الإسعردىّ، وألطنبغا الماردينى، وبكلمش الأرغونى القرمى، وأسنبغا الأشرفى، وحسين الأيتمشى، ومن المماليك عدّة مائتين وعشرين نفرا. وفي يوم قدم هؤلاء أفرج منطاش عن الأمير قرقماس الطشتمرى، واستقر خازندارا على عادته، وعن شيخ الصفوى الخاصكى، وعن أرغون السلامىّ، ويلبغا اليوسفى، ونزلوا إلى دورهم.
ثم نودى بأمر منطاش أن الفقهاء والكتّاب لا يركب أحد منهم فرسا، وأن الكتّاب الكبار يركبون البغال.
ثم رسم بأخذ أكاديش الحمّالين وخيل الطواحين الجياد، ورسم بتتبّع المماليك الجراكسة، فطلبهم حسين بن الكورانى وأخذهم من كل موضع.
ثم رسم منطاش بتخشيب المماليك الظاهرية المسجونين بقلعة الجبل في أيديهم وأرجلهم.
ثم في حادى عشرينه. اجتمع الأمراء وأهل الدولة مع الأمير منطاش واتّفقوا على استبداد السلطان الملك المنصور حاجّى بالأمر، وأثبتوا رشده بحضرة القضاة والخليفة فرسم السلطان بتعليق الجاليش على الطبلخاناه ليعلم الناس بسفر السلطان إلى الشام لقتال الملك الظاهر برقوق. ثم أحضر منطاش نسخ الفتوى في الملك الظاهر برقوق وقد أزيد فيها واستعان على قتال المسلمين بالكفّار وحضر الخليفة المتوكّل على الله والقضاة الأربعة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضى العسكر وابن خلدون المالكى وابن الملقّن وقاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء(11/360)
وجماعة أخر، فحضر الجميع بحضرة السلطان الملك المنصور بالقصر «1» الأبلق وقدّمت إليهم الفتوى فكتبوا عليها بأجمعهم كتابة شنيعة على قدر النهى وانصرفوا إلى منازلهم.
ثم نودى على أجناد الحلقة للعرض وهدّد من تأخر منهم وكتب لعرب البحيره بالحضور للسفر مع السلطان إلى الشام.
ثم خلع منطاش على أمير حاج بن مغلطاى الحاجب باستقراره أستادارا.
ثم أنعم السلطان على الأمراء القادمين من الشام لكل أمير مائة ومقدم ألف بفرس بقماش ذهب ولمن عداهم بأقبية ورتّب لهم اللحم والجامكيات والعليق وأخذ منطاش يستعطفهم بكل ما تصل إليه القدرة.
وفي سابع عشرينه أخليت خرانة الخاص بالقلعة وسدّت شبابيكها وبابها وفتح من سقفها طاقة وعملت سجنا للمماليك الظاهرية.
ثم في يوم السبت أوّل ذى الحجة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة قدم الخبر على منطاش من الصعيد بأن العسكر الذي مع أسندمر بن يعقوب شاه واقع الأمراء الظاهرية بمدينة قوص «2» وكسرهم وقبض عليهم فسر منطاش بذلك وخفّ عنه بعض الأمر ودقّت البشائر لذلك ثلاثة أيام.
وفيه أنفق منطاش على الأمراء نفقة السفر فأعطى لكل أمير من أمراء الألوف مائة ألف درهم فضة وأعطى لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسين ألف درهم فضة، ثم أمر منطاش بسدّ باب الفرج «3» أحد أبواب القاهرة وخوخة أيدغمش.(11/361)
ثم قبض منطاش على متّى بطرك النصارى وألزمه بمال وعلى رئيس اليهود وألزمه أيضا بمال فقرّر على البطرك مائة ألف درهم وعلى رئيس اليهود خمسين ألف درهم.
ثم طلب منطاش الشيخ شمس الدين محمد الرّكراكى المالكى وألزمه بالكتابة على الفتوى في أمر الملك الظاهر برقوق فامتنع من الكتابة غاية الامتناع فضربه منطاش مائة عصاه وسجنه بالإسطبل.
ثم في خامس عشر ذى الحجة برز الأمراء الشاميون من القاهرة الى ظاهرها للتوجه إلى الشام أمام العسكر السلطانى. وفيه قبض منطاش على الخليفة المخلوع من الخلافة زكريا: وأخذ منه العهد الذي عهده إليه أبوه بالخلافة وأشهد عليه أنه لا حقّ له في الخلافة.
ثم قدمت الأمراء ماخلا أسندمر بن يعقوب شاه من تجريدة الصعيد ومعهم المماليك الظاهرية الذين كانوا خرجوا عن الطاعة بقوص مقيدين فخلع منطاش على الأمراء وأخذ المماليك غرّق منهم جماعة في النيل ليلا وأخرج بستة من الجب بالقلعة موتى خنقا.
ثم قدم الأمير أسندمر بن يعقوب شاه من بلاد الصعيد ومعه الأمراء الخارجون عن الطاعة: وهم الأمير تمرباى الحسنى وقرابغا الأبوبكرى، وبجمان المحمدىّ ومنكلى الشمسىّ وفارس الصرغتمشىّ وتمربغا المنجكىّ وطوجى الحسنى وقرمان المنجكى، وبيبرس التمان تمرى وقرا كسك السيفىّ وأرسلان اللّفاف ومقبل الرومى وطغاى تمر الجركتمرى وجرباش التمان تمرى الشيخى وبغداد الأحمدى ويونس الإسعردى وأردبغا العثمانى وتنكز العثمانى وبلاط المنجكى وقرابغا المحمدى وعيسى التركمانى وقراجا السيفى وكمشبغا اليوسفى وآقبغا حطب(11/362)
وبك بلاط فأوقفوا الجميع بين يدى السلطان ومنطاش زمانا ثم أمر بهم فحبسوا وأفرج عن جماعة: منهم الأمير قنق باى الألجائى اللالا وآقبغا السيفى وتمرباى الأشرفى وفارس الصرغتمشى وخلع عليهم ثم سجن منطاش بخزانة شمائل وخزانة الخاص التي سدّ بابها قبل تاريخه الأمير محمود بن على الاستادار وآقبغا الماردينى وآيدمر أبو زلطة وشاهين الصرغتمشى أمير آخور وجمق بن أيتمش البجاسى وبطا الطولوتمرى الظاهرى وبهادر الأعسر وعدّة كبيرة من الأمراء والمماليك الظاهرية.
وفيه ألزم منطاش سائر مباشرى الديوان السلطانى وجميع الدواوين بأن يحمل كل واحد خمسمائة درهم وفرسا وقرّر ذلك على الوظائف لا على الأشخاص، حتى من كان له عشرة وظائف في عدّة دواوين يحمل عن كل وظيفة خمسمائة درهم وفرسا فنزل بالناس ما لم يعهدوه فتوزّعوا ذلك فجاء جملة الخيل التي أخذت من المباشرين خيلا وعينا ألف فرس:
ثم أحضر منطاش من ألزم من أجناد الحلقة للسفر فأعفاهم على أن يحضر كلّ منهم فرسا جيّدا فأحضروا خيولهم فأخذ جيادها وردّ ما عداها.
ثم ألزم منطاش رءوس نوّاب الحجاب وغيرها بحمل كل واحد منهم خمسة آلاف درهم وعدتهم أربعة.
وفي يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة نزل السلطان الملك المنصور حاجى من قلعة الجبل ومعه الأمير الكبير منطاش وتوجّها بالعساكر المصرية إلى الرّيدانية «1» خارج القاهرة بتجمّل عظيم إلى الغاية.(11/363)
فلمّا نزلا بالمخيّم استدعى منطاش قاضى القضاة صدر الدين محمد المناوى الشافعى إلى الريدانية وألزمه بالسفر معه إلى الشام فآمتنع من ذلك وسأل الأعفاء فأعفى وخلع على قاضى القضاة بدر الدين محمد ابن أبى البقاء باستقراره عوضه في قضاء ديار مصر على أن يعطى مال الأيتام ويعطى من ماله مائة ألف درهم أخرى فضة، وخلع عليه ودخل القاهرة من باب النصر بالتشريف.
قلت: هذا هو الكريم الذي تكرّم بماله ودينه.
ثم رسم منطاش بحبس الخليفة زكرياء والأمير سودون الشيخونى النائب بقاعة الفضة من القلعة.
ثم نزل الوزير موفّق الدين أبو الفرج وناصر الدين أبى الحسام إلى خان «1» مسرور بالقاهرة حيث هو مودع مال الأيتام، وأخذ منه بأمر منطاش ثلاثمائة ألف(11/364)
درهم، وألزم أمين الحكم بالقاهرة أن يحصل تتمّة خمسمائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بمصر أن يحمل مائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بالحسينيّة أن يحمل مائة ألف درهم قرضا، كلّ ذلك حسب إذن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء.
وفيه استدعى منطاش القضاة إلى الرّيدانية بكرة فأجلسوا بغير أكل إلى قريب العصر، ثم طلبوا إلى عند السلطان، فعقدوا عقده على بنت الأمير أحمد ابن السلطان حسن بصداق مبلغه ألف دينار وعشرون ألف درهم.
وعقدوا أيضا عقد الأمير قطلوبغا الصفوى على ابنة الأمير أيدمر الدوادار.
وفي ثانى عشرينه رحل الأمير الكبير منطاش في عدّة من الأمراء جاليشا للسلطان، ثم رحل السلطان الملك المنصور والخليفة والقضاة وبقية العساكر بعد أن أقيم نائب الغيبة بالقلعة الأمير تكا الأشرفى ومعه الأمير دمرداش القشتمرىّ، وأقيم بالإسطبل السلطانى الأمير صراى تمر، وبالقاهرة الأمير قطلوبغا الحاجب، وجعل منطاش أمر الولاية والعزل إلى صراى تمر.
ثم رحل السلطان من العكرشة «1» إلى جهة بلبيس، فتقنطر عن فرسه، فتطيّر الناس من ذلك بأنه يرجع مقهورا، وكذلك كان. ثم سار السلطان وسائر العساكر إلى غزة في ثامن المحرم من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وعليهم آلة الحرب والسلاح.
وأما أمراء الديار المصرية فإن منطاش أمر قبل خروجه حسين بن الكورانى بالاحتفاظ على حواشى الملك الظاهر برقوق فأخذ ابن الكورانى يتقرّب إلى(11/365)
منطاش بكل ما تصل قدرته إليه من ذلك أنه توجّه إلى قاعة «1» البيسريّة بين القصرين حيث هو سكن الخوندات إخوة الملك الظاهر برقوق الكبرى والصغرى أم الأتابك بيبرس وهجم عليهن بالقاعة المذكورة، وأخذ بيبرس من أمّه أخذا عنيفا، بعد أن أفحش في سبّهنّ، وبالغ في ذم الملك الظاهر والحطّ منه، وأخذ الخوندات حاسرات هن وجواريهنّ مسبّيات يسحبهنّ بشوارع القاهرة وهنّ في بكاء وعويل حتى أبكين كلّ أحد، وحصل بذلك عبرة لمن اعتبر، ولا زال يسحبهنّ على هذه الصورة إلى باب زويلة فصادف مرورهنّ بباب زويلة دخول مقبل نائب الغيبة من باب زويلة، فلما رأى مقبل ذلك أنكره غاية الإنكار، ونهر حسين ابن الكورانى على فعله ذلك، وردهن من باب زويلة، بعد أن أركب الخوندات وسترهن إلى أن عدن إلى قاعة البيسرية، فكان هذا من أعظم الأسباب في هلاك حسين بن الكورانى على ما يأتى ذكره في سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية إن شاء الله تعالى.
ثم نادى حسين بن الكورانى على المماليك الظاهرية أنّ من أحضر مملوكا منهم كان له ألفا درهم.
وأما السلطان الملك المنصور ومنطاش فإن الأخبار أتتهما بأن الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب لم يزل يبعث يمدّ الملك الظاهر من حلب بالعساكر والأزواد والآلات والخيول وغير ذلك، حتى صار لبرقوق برك عظيم، ثم خرج من بعد ذلك من حلب بعساكرها وقدم على الملك الظاهر لنصرته، فعظم أمر الملك الظاهر به إلى الغاية، وكثرت عساكره، وجاءته التركمان والعربان والعشير من كلّ فجّ، فلما(11/366)
بلغ ذلك منطاش جدّ في السير هو والسلطان والعساكر إلى نحو الملك الظاهر برقوق.
وبلغ الملك الظاهر مجىء الملك المنصور ومنطاش لقتاله فترك حصار دمشق وأقبل نحوهم بعساكره ومماليكه حتى نزل على شقحب «1» ، ونزل العسكر المصرى على قرية المليحة وهي عن شقحب بنحو البريد، وأقاموا بها يومهم، وبعثوا كشافتهم، فوجدوا الملك الظاهر برقوقا على شقحب، فتقدم منطاش بالسلطان والعساكر إلى نحوه بعد أن صف منطاش عساكر السلطان ميمنة وميسرة، وقلبا وجناحين، وجعل للميمنة رديفا، وكذلك للميسرة، هذا بعد أن رتّب الملك الظاهر برقوق أيضا عساكره، غير أنه لم يتصرف في التعبية كتصرف منطاش لقلة جنده.
ووقف منطاش في الميمنة على ميسرة الظاهر برقوق، والتقى الفريقان في يوم الأحد رابع عشر للمحرم في سنة اثنتين وتسعين وتصادما، واقتتل الفريقان قتالا عظيما لم يقع «2» مثله في سالف الأعصار وحمل منطاش من الميمنة على ميسرة الظاهر، وحمل أصحاب ميمنة الظاهر على ميسرة الملك المنصور، وبذل كلّ من الفريقين جهده، وثبتت كلّ طائفة للأخرى، فكانت بينهما حروب شديدة انهزم فيها ميمنة الملك الظاهر وميسرته، وتبعهم منطاش بمن معه، وثبت الملك الظاهر في القلب، وقد انقطع عنه خبر أصحابه، وأيقن بالهلاك، وبينما هو في ذلك لاح له طلائع السلطان الملك المنصور، وقد انكشف الغبار عنه، فحمل الملك الظاهر بمن بقى معه على الملك المنصور، فأخذه وأخذ الخليفة المتوكل على الله والقضاة والخزائن، ومالت(11/367)
الطائفة التي ثبتت معه على أثقال المصريين، فأخذوها على آخرها، وكانت شيئا يخرج عن الحد في الكثرة «1» .
ووقع الامير قجماس ابن عم الملك الظاهر في قبضة، منطاش، فلم يتعوّق، ومرّ في أثر المنهزمين وهو يظن أن الملك الظاهر أمامه إلى أن وصل إلى دمشق وبها نائبها الأمير جنتمر أخو طاز فقال له منطاش قد كسرنا الظاهر برقوقا، وفي الغد يقدم السلطان الملك المنصور، فاخرج إلى لقائه، فمشى ذلك على جنتمر واحتار منطاش فيما يفعل في الباطن، ولم يعرف ما حصل بعده للملك المنصور، ومع هذا كله في نفسه أن الملك الظاهر برقوق قد انكسر.
وأما أمر السلطان الملك الظاهر برقوق وأصحابه فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان على ميمنة الملك الظاهر برقوق فلما انهزم من منطاش تمّ في هزيمته إلى حلب وتبعه خلائق من عساكر حلب وغيرها، وفي ظن كمشبغا أن الملك الظاهر قد انكسر، وتبعه في الهزيمة الأمير حسام الدين حسن الكجكنى «2» ، نائب الكرك، ومعه أيضا عدة كبيرة من عساكر حلب والكرك فسار بهم إلى الكرك كما سار كمشبغا إلى حلب فلم يصل كل واحد من كمشبغا والكجكنى حتى قاسى شدائد ومحنا.
هذا مع أنهم قطعوا رجاءهم من نصرة الملك الظاهر برقوق، غير أن كل واحد ينظر في مصلحة نفسه فيما يأتى.
وأما الملك الظاهر فإنه لم يتأخر عنده إلا نحو من ثلاثين نفرا، أعنى من المماليك الظاهرية الذين كانوا معه عند أخذه الملك المنصور. وأما من بقى من التركمان والغوغاء فأزيد من مائتى نفر.(11/368)
ولما قصد الملك الظاهر السلطان الملك المنصور حاجّيّا والخليفة والقضاة وأخذهم وملك العصائب السلطانية وقف تحت العصائب، فلما رآه المنصور ارتاع، فسكّن الملك الظاهر روعه، وآنسه بالكلام، وسلّم على الخليفة والقضاة، وبشّ في وجوههم وتلطّف بهم، فإنه لمّا رآه الخليفة كاد بهلك من هيبته، وكذلك القضاة؛ فما زال بهم حتى اطمأن خواطرهم.
هذا بعد أن سلبت النّهابة القضاة الثلاثة جميع ما عليهم، قبل أن يقع بصر الملك الظاهر عليهم، ما خلا القاضى الحنبلى ناصر الدين نصر الله، فإنه سلم من النهب، لعدم ركوبه وقت الحرب، ولم يركب حتى تحقق نصرة الملك الظاهر برقوق، فعند ذلك ركب وجاء إليه مع جملة رفقته، وأما مباشر والدولة فإنهم كانوا توجهوا الجميع إلى دمشق، هذا بعد أن قتل من الطائفتين خلائق كثيرة جدّا بطول الشرح في ذكرها.
واستمر الملك الظاهر واقفا تحت العصائب السلطانية والملك المنصور والخليفة بجانبه، وتلاحق به أصحابه شيثا بعد شىء، وتداول مجيئهم إليه، وجاءه جمع كبير من العساكر المصرية طوعا وكرها، فإنه صار الرجل منهم، بعد فراغ المعركة يقصد العصائب السلطانية، فيجد الملك الظاهر تحتها، فلم يجد بدّا من النزول إليه وتقبيل الأرض له، فإن خافه الملك الظاهر قبض عليه، وإلّا تركه من جملة عسكره.
واستمر الملك الظاهر برقوق يومه وليلته على ظهر فرسه بسلاحه، وحوله مماليكه وخواصّه.
قال الوالد فيما حكاه بعد ذلك لمماليكه وحواشيه: وبات كلّ منا على فرسه، على أن غالبنا به الجراح الفاشية المنكية «1» ، وهو مع ذلك بسلاحه على فرسه،(11/369)
لم يغف أحد منا تلك الليلة، من السرور الذي طرقنا، وأيضا من الفكر فيما يصير أمرنا بعد ذلك إليه، غير أننا حصل لنا ولخيولنا راحة عظيمة، ببياتنا تلك الليلة فى مكان واحد وتشاورنا فيما نفعل من الغد، وكذلك السلطان الملك الظاهر، فإنه أخذ يتكلّم معنا فيما يرتّبه من الغد، فى قتال منطاش ونائب الشام، فما أصبح باكر نهار الاثنين إلا وقد رتبنا جميع أحوالنا وصار الملك الظاهر في عسكر كثيف وتهيّأنا لقتال منطاش وغيره وبعد ساعة وإذا بمنطاش قد أقبل من الشام في عالم كبير، من عسكر دمشق وعوامّها وممن تراجع إليه من عسكره، بعد الهزيمة، فتواقعنا، فحصل بيننا وقعة من شروق الشمس إلى غروبها ووقع بيننا وبينهم قتال لم يعهد مثله في هذا العصر. وبذل كلّ منا ومنهم نفسه، فقاتلنا عن أرواحنا لا عن أستاذنا، لأننا تحقّق كل منا أنه إن انهزم بعد ذلك لا بقاء له في الدنيا والمنطاشية أيضا قالوا كذلك وانكسر كل منا ومنهم غير مرة ونتراجع. هذا والملك الظاهر يكرّ فينا بفرسه كالأسد ويشجّع القوم ويعدهم ويمنيهم، ثم قصدنى شخص من الأمراء يقال له آقبغا الفيل وحمل علىّ فحملت عليه وطعنته برمحى ألقيته عن فرسه، فرآه الملك الظاهر، فسأل عنى، فقيل له: تغرى بردى فتفاءل باسمى. وقال ما معناه:
الله لا ينوّلنى ما في خاطرى إن كنت ما أرقّيك إلى الرتب العالية. انتهى.
قلت: ومعنى اسم تغرى بردى باللغة التركية: الله أعطى، فلهذا تفاءل الملك الظاهر به، لمّا قيل له، تغرى بردى واستمر كلّ من الطائفتين تبذل نفسها لنصرة سلطانها إلى أن أرسل الله سبحانه وتعالى في آخر النهار ريحا ومطرا في وجه منطاش ومن معه، فكانت من أكبر الأسباب في هزيمته وخذلانه ولم تغرب الشمس حتى قتل من الفريقين خلائق لا يحصيها إلا الله تعالى: من الجند والتّركمان والعربان والعامّة وولّى منطاش هو وأصحابه منهزما إلى دمشق، على أقبح وجه.(11/370)
وعاد الملك الظاهر برقوق بمماليكه إلى مخيّمه بالمنزلة المذكورة ولم يكن في أحد من عسكره منعة أن يتبع منطاش ولا عسكره واستمرّ الملك الظاهر بمزلة شقحب سبعة أيام، حتى عزّت عنده الأقوات وأبيعت البقّسماطة بخمسة دراهم فضة وأبيع الفرس بعشرين درهما والجمل بعشرة دراهم، وذلك لكثرة الدواب وقلّة العلف.
وغنم أصحاب الملك الظاهر أموالا جزيلة.
وفي مدة إقامة الملك الظاهر بشقحب، قدم عليه جماعة كبيرة من الأمراء والتركمان والعربان والمماليك.
ثم جمع الملك الظاهر من معه من الأمراء والأعيان بحضرة الخليفة والقضاة، وأشهد على الملك المنصور حاجى يخلع نفسه من السلطنة وحكم بذلك القضاة.
ثم بويع الملك الظاهر برقوق بالسلطنة وأثبت القضاة بيعته وخلع على الخليفة والقضاة.
ثم ولّى الأمير إياس الجرجاوى نيابة صفد والأمير قديد القلمطاوى نيابة الكرك والأمير آقبغا الصغير نيابة غزّة.
ثم تهيّأ الملك الظاهر للعود إلى الديار المصرية ورحل من شقحب فأتاه عند رحيله منطاش بعسكر الشام ووقف على بعد، فاستعدّ الملك الظاهر للقائه فلم يتقدّم منطاش.
ثم ولّى إلى ناحية دمشق فأراد الملك الظاهر أن يتبعه فمنعه من ذلك أعيان دولته وقالوا له: أنت سلطان مصر أم سلطان الشام امض إلى مصر واجلس على تخت الملك، فتصير الشام وغيرها في قبضتك، فصوّب الملك الظاهر هذا الرأى وسار من وقته بمن معه من الملك المنصور والخليفة والقضاة إلى جهة الديار المصرية.(11/371)
ثم أرسل الملك الظاهر يأمر منصور حاجب غزة بالقبض على حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة، فقبض عليه واستولى على مدينة غزة وقيّد ابن باكيش المذكور وبعث به إلى الملك الظاهر، فوافاه بمدينة الرملة «1» فأوقفه بين يديه ووبّخه، ثم ضربه بالمقارع، ثم حمله معه إلى غزّة فضربه بها أيضا ضربا مبرّحا. وكان يوم دخول السلطان الملك الظاهر إلى غزة يوم مستهلّ صفر من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة.
وأمّا أمر الديار المصرية، فإنه أشيع بكسرة الملك الظاهر لمنطاش، يوم رابع عشر المحرم، وهو يوم الوقعة، قاله الشيخ تقي الدين المقريزى- رحمه الله- وهذا شىء من العجائب.
وفي هذه الأيام ورد من الفيّوم محضر على نائب الغيبة مفتعل بأن حائطا سقط على الأمراء المسجونين بالفيّوم، ماتوا تحته، وهم: الأمير تمرباى الحسنى حاجب(11/372)
الحجّاب وقرابغا الأبوبكرى أحد مقدّمى الألوف وطوغاى تمر الجركتمرى أحد أمراء الألوف أيضا ويونس الإسعردى الرماح الظاهرىّ وقازان السيفىّ وتنكز العثمانى وأردبغا العثمانىّ وعيسى التركمانىّ.
قال المقريزى: هذا والكتب المزوّرة ترد على أهل مصر فى كل قليل، بأنّ السلطان الملك المنصور انتصر على الملك الظاهر برقوق، وملك الشام، وأنّ الظاهر هرب، فدقّ البشائر لذلك أياما، ولم يمش ذلك على أعيان الناس، مع أن الفتنة لم تزل قائمة في هذه المدة بين الأمير صراى تمر نائب الغيبة وبين الأمير تكا الأشرفىّ المقيم بقلعة الجبل وكل منهما يحترز من الآخر.
واتّفق مع ذلك أن الأمراء والمماليك الظاهريّة الذين سجنوا بخزانة الخاصّ من القلعة زرعوا بصلا في قصريّتين فخّار وسقوهما فنجب بصل إحدى القصريّتين ولم ينجب الآخر، فرفعوا القصريّة التي لم ينجب بصلها، فإذا هي مثقوبة من أسفلها وتحتها خلوّ، فما زالوا به حتى اتّسع وأفضى بهم إلى سرداب مشوا فيه حتى صعد بهم إلى طبقة الأشرفية «1» من قصور القلعة القديمة وكان منطاش سدّ بابها الذي ينزل منه إلى الإسطبل السلطانى، فعاد الذين مشوا وأعلموا أصحابهم، فقاموا بأجمعهم وهم نحو الخمسمائة رجل ومشوا فيه ليلة الخميس ثانى صفر وقد عملوا عليهم الأمير بطا الطولوتمرى الظاهرى رأسا وحاربوا باب الأشرفية: حتى فتحوه فثار بهم الخرّاس الموكّلون بحفظ الباب وضربوا مملوكا يقال له تمربغا، قتلوه وكان ابتدأ بالخروج، فبادر بطا بعده ليخرج فضربه الحارس ضربة كما ضرب تمربغا قبله، سقط منها بطا إلى الأرض، ثم قام وضرب بقيده الرجل الحارس ضربة كما ضربه(11/373)
صرعه وخرج البقيّة وصرخوا المماليك: ياتكا يا منصور وجعلوا قيودهم سلاحهم، يقاتلون بها وقصدوا الإسطبل السلطانى، فانتبه صراى تمر، فسمع صياحهم تكا يا منصور، فلم يشكّ أنّ تكا ركب عليه ليأخذه بغتة لما كان بينهما من التخاصم وقوى خوفه، فنهض في الحال ونزل من الإسطبل من باب السلسلة، وتوجّه إلى بيت الأمير قطلوبغا الحاجب وكان قريبا من الإسطبل بالرّميلة، فملك بطا ورفقته الإسطبل واحتوى على جميع ما كان فيه من قماش صراى تمر وخيله وسلاحه وقبض على المنطاشيّة وأفرج عن المحبوسين من الظاهريّة وأخذ الخيول التي كانت هناك وأمر في الوقت بدقّ الكوسات، فدقّت في الوقت نحو ثلث الليل الأوّل فاستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا يوم الخميس وندم صراى تمر على نزوله من الإسطبل ولبس هو وقطلوبغا الحاجب آلة الحرب وأرسلوا إلى تكا بأن يقاتل المماليك الظاهرية من أعلى القلعة وهم يقاتلونهم من تحت، فرمى تكا عليهم من الرفرف والقصر وساعده الأمير مقبل أمير سلاح ودمرداش القشتمرى بمن معه من مماليكهم والمماليك المقيمين بالقلعة، فقاتلهم المماليك الظاهريّة وتسامعت المماليك الظاهرية البطّالة ومن كان مختفيا منهم، فجاءوهم من كل مكان، وكذلك المماليك اليلبغاوية وغيرهم من حواشى الملك الظاهر برقوق، ومن حواشى يلبغا الناصرىّ وغيره من الأمراء الممسوكين وكبسوا سجن الدّيلم، وأخرجوا من كان به محبوسا من المماليك وغيرهم. ثم بعثوا إلى خزانة شمائل فكسروا بابها وأخرجوا من كان بها أيضا من المماليك اليلبغاويّة والظاهريّة وغيرهم، ثم فعلوا ذلك بحبس الرحبة فقوى أمر بطا ورفقته وكثر جمعهم فخاف حسين بن الكورانى وهرب واختفى.
ثم ركب الأمير صراى تمر والأمير قطلوبغا حاجب الحجّاب في جمع كبير من مماليكهم وغيرها وخرجا لقتال بطا وأصحابه، فنزل بطا بمن معه وقد تهيّأ للقتال،(11/374)
وقد صار في جمع كبير واجتمعت عليه العوام لمعاونته، فلما تصاففا خامر جماعة من المنطاشيّة وجاءوا إلى بطا، وصدم بطا المنطاشية فكسرهم، فانحازوا إلى مدرسة السلطان حسن، فلما رأى تكا ذلك خرج إلى الطبلخاناه ورمى على بطا وأصحابه بالنّشاب ومدافع النفط، فنزل طائفة من الظاهرية إلى بيت قطلوبغا وملكوه، ونقبوا منه نقبا طلعوا منه إلى المدرسة «1» الأشرفية بالصّوّه، وصعدوا إلى سطحها تجاه الطبلخاناه السلطانية ورموا على من بالطبلخاناه، من أعوان تكا فانهزموا فملك الظاهرية الطبلخاناه فحاصروا من هو بمدرسة السلطان حسن وكان بها طائفة من التركمان قد أعدّهم منطاش لحفظها، فصاحوا وسألوا الأمان لشدة الرمى عليهم بمكاحل النفط، فانهزم عند ذلك أيضا من كان من الرماة على باب المدرج أحد أبواب القلعة وسارت الظاهرية واليلبغاوية إلى بيوت الأمراء فنهبوها.
كلّ ذلك والقاهرة في أمن مع عدم من يحفظها ولم يمض النهار حتى وصل عدد الظاهرية إلى ألف، وأمدّهم ناصر الدين أستادار منطاش بمائة ألف درهم، ثم طلب بطا ناصر الدين محمد بن العادلىّ، وأمره أن يتحدّث في ولاية القاهرة عوضا عن ابن الكورانى، فدخلها ابن العادلى ونادى فيها بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق، فسرّ الناس بذلك سرورا زائدا.
ثم في يوم الجمعة ثالث صفر سلّم الأمير تكا قلعة الجبل إلى الأمير سودون الشيخونى النائب، ثم أقام بطا في ولاية القاهرة منجك المنجكى، عوضا عن ابن العادلى، فركب ودخل القاهرة ونادى أيضا بالأمان والدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.(11/375)
وفيه نزل الأمير سودون النائب من القلعة ومعه تكا الأشرفىّ ودمرداش القشتمرى ومقبل السيفى أمير سلاح، إلى عند الأمير بطا فقبض بطا عليهم وقيّدهم وبالغ في إكرام الأمير سودون النائب وبعثه إلى الأمير صراى تمر، فنزل سودون إلى صراى تمر وما زال به حتى كفّه عن الرمى وأخذه هو وقطلوبغا وسار فتكاثر العامّة عليهما يريدون قتلهما والأمير سودون النائب يمنعهم من ذلك أشدّ المنع، فلم يلتفتوا إليه ورجموهما رجما متتابعا كاد يهلك الجميع، فاحتاجوا إلى الرمى بالنشّاب عليهم وضربهم بالسيوف فقتل منهم جماعة كبيرة، فطلع سودون النائب بهما وبمن كان معهما إلى الإسطبل، فقيّدهم بطا أيضا وسجنهم وأمر بمن فى المدرسة من المقاتلة فنزلوا كلّهم.
وأذهب الله تعالى الدولة المنطاشية من مصر في نحو ثلاثة أيام كأنها لم تكن، وركب الأمير سودون الشيخونى النائب وعبر إلى القاهرة والمنادى ينادى بين يديه بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق وأرسل إلى خطباء الجوامع فدعوا له في خطبة الجمعة وأطلق بطا زكرياء المخلوع عن الخلافة والشيخ شمس الدين محمد الركراكىّ المالكى وسائر من كان بالقلعة من المسجونين وصار بطا يتتبع المنطاشية ويقبض عليهم كما كان منطاش يتتبع الظاهريّة ويقبض عليهم.
وفي أثناء ذلك قدم أحمد بن شكر الدليل وأشاع الخبر بالقاهرة بأنّ الملك الظاهر برقوقا قادم إلى الديار المصرية، ثم قدم جلبان العيسوى الخاصّكى وأخبر برحيل الملك الظاهر برقوق من مدينة غزّة في يوم الخميس ثانى صفر، فدقّت البشائر وتخلّق الظاهرية بالزعفران وكتب بطا للسلطان يخبره بما اتّفق وأنهم ملكوا ديار مصر وأقاموا الخطبة باسمه وبجميع ما وقع لهم مفصّلا وبعثوا بهذا الخبر(11/376)
الشريف عنان «1» بن مغامس، ومعه آقبغا الطولوتمرى المعروف باللّكّاش أحد المماليك الظاهريّة، فى يوم السبت رابع صفر، ثم كتب بطا إلى سائر الأعمال بالقبض على المنطاشيّة والإفراج عن الظاهريّة وإرسالهم إلى الديار المصرية.
ثم طلب بطا حسين بن الكورانى في الإسطبل، فلما طلع أراد المماليك الظاهرية قتله لقبح ما فعل فيهم، فشفع فيه سودون النائب.
ثم خلع عليه بطا وأعاده إلى ولاية القاهرة وأمره بتحصيل المنطاشية فنزل فى الحال ونادى من قبض على مملوك منطاشى أو أشرفىّ فله كذا وكذا، ثم قبض بطا على الأمير قطلوبغا والأمير بورى صهر منطاش، والأمير بيد مرشادّ القصر والأمير صلاح الدين محمد بن تنكز وحبسهم بالقلعة، ثم حصّن بطا القلعة تحصينا زائدا ورتّب الرماة والنفطية والرجال حتى ظنّ كلّ أحد أنه يمنع الملك الظاهر من طلوع القلعة.
قلت: وكان الأمر كما ظنّه الناس حسب ما حكاه الوالد بعد ذلك كما سنذكره الآن في محلّه.
قال: وكثر الكلام في أمر بطا، ثم أمر بطا الفخرى بن مكانس بعمل سماط في الإسطبل السلطانىّ فصار الأمراء والمماليك بأجمعهم يأكلون منه في كل يوم عند الأمير بطا.
ثم قدم كتاب الملك الظاهر إلى بطا على يد سيف الدين محمد بن عيسى العائدىّ يأمره بتجهيز الإقامات إليه.(11/377)
ثم قدم كتاب الملك الظاهر بتفصيل الوقعة بينه وبين منطاش، ثم قدم كتاب آخر عقيبه، كلّ ذلك ولم تطمئن النفوس بعود الملك الظاهر إلى ملكه ولا ارتفع الشكّ، بل كان بطا يخشى أن يكون ذلك مكيدة من مكايد منطاش، وهو ينتظر جواب كتابه للملك الظاهر، حتى قدم آقبغا الطولوتمرى اللّكّاش، وقد ألبسه الملك الظاهر خلعة سنيّة شقّ بها القاهرة، فعند ذلك تحقّق كل أحد بنصرة الملك الظاهر برقوق ونودى بالأمان والاطمئنان، ومن ظلم أو قهر فعليه بباب الأمير بطا.
ثم قبض بطا على حسين بن الكورانى وقيّده بقيد ثقيل جدّا ونهبت داره وصار الصارم يأخذ ابن الكورانى في الحديد، كما يؤخذ اللصوص ويضربه ويعصره ثم نقل من عند الصارم الوالى إلى الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شادّ الدواوين، فعاقبه أشدّ عقوبة.
وفي تاسعه قدم تغرى بردى البشبغاوىّ الظاهرىّ وهو والد كاتبه إلى القاهرة بكتاب السلطان يتضمّن السلام على الأمراء وغيرهم وبأمور أخر.
وأمّا ما وعدنا بذكره من أمر بطا وأنه كان حدّثته نفسه بملك مصر فى الباطن، حكى لى الوالد- رحمه الله-. قال: لما قدمت إلى مصر وتلقّانى بطا وسلّم علىّ وعانقنى وأخذ يسألنى عن أستاذنا الملك الظاهر برقوق وكيف كانت الوقعة بينه وبين منطاش وصار يفحص عن أمره حتى رابنى أمره، فكان من جملة ما سألنى عنه بأن قال: يا أخى تغرى بردى مع أستاذنا صبيان ملاح شجعان أم مماليك ملفّقة، فقلت: مع أستاذنا جماعة إذا أجروا خيولهم هدموا باب السلسلة إنقابها وأقلّهم أنت وأنا إيش هذا السؤال. أما تعرف أغواتك وخشداشيّتك،(11/378)
فقال: صدقت، وكم مثلثا في خجداشيّتنا عند أستاذنا وأخذ ينتقل بى إلى كلام آخر بما هو في مصالح السلطان الملك الظاهر. انتهى.
وعند قدوم الوالد إلى الديار المصريّة تزايد سرور الناس وفرحهم وتحقّقوا عود الملك الظاهر إلى ملكه.
ثم قدم تنبك الحسنىّ الظاهرىّ المعروف بتنم من الإسكندرية وكان أرسله بطا لنائب الإسكندرية وقد امتنع من الإفراج عن الأمراء المسجونين إلّا بكتاب السلطان.
ثم ألزم بطا الفخر بن مكانس بتجهيز الإقامات والشّقق الحرير للفرش في طريق الملك الظاهر حتى يمشى عليها بفرسه عند قدومه إلى القاهرة.
ثم قدم من ثغردمياط الأمير شيخ الصفوىّ وقبق باى السيفىّ ومقبل الرومىّ الطويل وألطنبغا العثمانىّ وعبدوق العلائى وجرجى الحسنىّ وأربعة أمراء أخر.
وفي عاشره شدّد العذاب على ابن الكورانىّ وألزم بحمل مائة ألف درهم فضة ومائة فرس ومائة لبس حربىّ.
وفي حادى عشر صفر قدم البريد بنزول السلطان الملك الظاهر إلى منزلة الصالحية فخرج الناس أفواجا إلى لقائه ونودى بزينة القاهرة ومصر فتفاخر الناس فى الزينة ونزل السلطان بعساكره إلى العكرشة في ثالث عشر صفر.
وأمّا أمر منطاش وما وقع له بعد ذلك وبقيّة سياق أمر الملك الظاهر برقوق ودخوله إلى القاهرة وطلوعه إلى قلعة الجبل وجلوسه على تخت الملك يأتى ذكر ذلك كلّه مفصّلا في ذكر سلطنته الثانية من هذا الكتاب، بعد أن نذكر من توفّى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة التي حكم في غالبها على مصر الملك المنصور حاجىّ، ثم نعود إلى ذكر الملك الظاهر وسلطنته الثانية- إن شاء الله تعالى-.(11/379)
وأما الملك المنصور حاجىّ فإنه عاد إلى ديار مصر صحبة الملك الظاهر برقوق محتفظا به وهو في غاية ما يكون من الإكرام وطلع إلى القلعة وسكن بها بالحوش «1» السلطانىّ على عادة أولاد الأسياد ودام عند أهله وعياله إلى أن مات بها في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوّال سنة أربع عشرة وثمانمائة ودفن بتربة «2» جدّته لأبيه خوند بركة بخطّ التّبانة بالقرب من باب الوزير خارج القاهرة، بعد أن تسلطن مرّتين وكان لقّب في أوّل سلطنته بالملك الصالح وفي الثانية بالملك المنصور، ولا نعلم سلطانا غيّر لقبه غيره ومات الملك المنصور هذا عن بضع وأربعين سنة وقد تعطّلت حركته وبطلت يداه ورجلاه مدّة سنين قبل موته وكان ما حصل له من الاسترخاء من جهة جواريه على ما قيل: إنّهم أطعموه شيئا بطلت حركته منه وذلك لسوء خلقه وظلمه.
حدّثنى غير واحد من حواشى الملك الظاهر برقوق ممّن كان يباشر أمر الملك المنصور المذكور قال: كان إذا ضرب أحدا من جواريه يتجاوز ضربه لهنّ الخمسمائة عصاة، فكان الملك الظاهر لمّا يسمع صياحهنّ يرسل يشفع فيهنّ فلا يمكنه المخالفة فيطلق المضروبة، وعنده في نفسه منها كمين، كونه ما اشتفى فيها وكان له جوقة مغان كاملة من الجوارى، كما كانت عادت الملوك والأمراء تلك الأيام نحو خمس عشرة واحدة، يعرفن من بعده بمغانى المنصور، وكنّ خدمن عند الوالد بعد موته، فلمّا صار الملك الظاهر برقوق يشفع في الجوارى لمّا يسمع صياحهنّ، بقى المنصور إذا ضرب واحدة من جواريه يأمر مغانيه أن يزفّوا بالدّفوف وتزعق(11/380)
المواصيل فتصيح الجارية المضروبة فلا يسمعها الملك الظاهر ولا غيره، ففطن بذلك حريم الملك الظاهر وأعلموه الخبر، وقلن له إذا سمع السلطان زفّ المغانى فى غير وقت المغنى فيعلم السلطان أنّه يضرب جواريه وخدمه، فعلم الظاهر ذلك، فصار كلّما سمع المغانى تزفّ أرسل إليه في الحال بالشفاعة، وله من ذلك أشياء كثيرة. وكان الملك الظاهر قبل أن يتكسّح يرسل خلفه في مجلس أنسه وينادمه فى غالب الأوقات وتكرر ذلك منه سنين وكان إذا غلب عليه السّكر تسفّه على الملك الظاهر ويخاطبه باسمه من غير تحشّم فيبتسم الملك الظاهر ويقول لحواشى الملك المنصور: خذوا سيّدى أمير حاج وردّوه إلى بيته، فيقوم على حاله وهو مستمرّ في السّبّ واللّعن، فيعظم ذلك على حواشى الملك الظاهر ويكلّمون الملك الظاهر في عدم الاجتماع به، فلا يلتفت إلى كلامهم فيصبح المنصور يعتذر للسلطان فيما وقع منه في أمسه، فلمّا تكرر منه ذلك غير مرّة تركه وصار لا يجتمع به إلّا في الأعياد والمواسم، فلما بطلت حركته انقطع عنه بالكليّة.
السنة التي حكم في أولها الملك الظاهر برقوق إلى ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة وحكم في باقيها الملك المنصور حاجّى.
ولم يكن له في سلطنته إلا مجرّد الاسم فقط والمتحدّث في المملكة الأتابك يلبغا الناصرىّ ثم تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعو منطاش وهي سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
وفيها كان خلع الملك الظاهر برقوق من السلطنة وسلطنة الملك المنصور هذا كما تقدم ذكره.(11/381)
وفيها في ذى الحجّة كانت وقائع بين الملك الظاهر برقوق وبين جنتمر نائب الشام بعد خروجه من سجن الكرك.
وفيها توفّى خلائق كثيرة بالطاعون والسيف وكان الطاعون وقع بالديار المصرية فى أيام الفتنة، فكان من أجل ذلك أشد الطواعين وأعظمها خطبا لما دها الناس من شدّة الطاعون وأهوال الوقائع، فممّن قتل من الأعيان: القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن أبى الرضا قاضى قضاة الشافعيّة بحلب. وخبره أن الملك الظاهر برقوقا لما خرج من سجن الكرك ووافقه الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب ثار عليه شهاب الدين هذا محاماة لمنطاش وجمع أهل بانقوسا وحرّضهم على قتال كمشبغا المذكور وأفتى بجواز قتال برقوق، فركب كمشبغا وقاتلهم فكسرهم وقتل كثيرا من البانقوسيّة ممّن ظفر به، ففرّ شهاب الدين هذا إلى ظاهر حلب، فأخذ قريبا من حلب وأتى به إلى كمشبغا فقتله صبرا، وعمره زيادة على أربعين سنة، أثنى على علمه القاضى علاء الدين بن خطيب الناصريّة والشيخ تقىّ الدين المقريزىّ رحمهما الله- وذكر عنه قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ- رحمه الله- مساوى وقبائح، نسأل الله تعالى السلامة في الدّين، ذكرناها في ترجمته فى تاريخنا المنهل الصافى.
قلت: والجمع بين هذه الأقوال هو أنه كان عالما غير أنه كان خبيث اللسان، يرتكب أمورا شنيعة مشهورة عنه عند الحلبيين.
وتوفّى قتيلا الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير قطلقتمر الخازندار بحلب قتله أيضا الأمير كمشبغا الحموى بحلب، وقد قام بنصرة منطاش وقاتل كمشبغا فلمّا ظفر به كمشبغا وسّطه في شوال وإبراهيم هذا هو الذي كان وقع له مع الملك الظاهر برقوق ما وقع، لمّا اتفق مع الخليفة المتوكّل على الله ووافقهما الأمير قرط(11/382)
الكاشف على قتل الملك الظاهر برقوق وتمّ عليهم وظفر بهم برقوق وخلع الخليفة وحبسه ووسّط قرط الكاشف وحبس إبراهيم هذا مدّة ثم أطلقه لأجل أبيه قطلقتمر، ثم أنعم عليه بإمرة فلمّا خلع الملك الظاهر وحبس، قام عليه إبراهيم هذا وانضم مع الناصرىّ ومنطاش وصار من جملة أمراء الطبلخاناة، ثم كان مع منطاش على الناصرى، فلمّا ملك منطاش الديار المصرية أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر واستقرّ أمير مجلس عوضا عن الأمير أحمد بن يلبغا فلم يقنع بذلك وبدا منه أمور فأخرجه منطاش بعد أخذه الإمرة بدون السبعة أيام إلى حلب أمير مائة ومقدّم ألف بها، فدام بها حتى ثار أهل بانقوسا على كمشبغا نائب حلب وافقهم إبراهيم هذا فظفر به كمشبغا ووسطه.
قلت: ما كان جزاؤه إلا ما فعله به كمشبغا وكان شجاعا غير أنه كان يحب الفتن ويثير الشرور- عفا الله تعالى عنه-.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أحمد بن أبى يزيد بن محمد المعروف بمولانا زادة السّيرامىّ العجمىّ الحنفى والد العلّامة محبّ الدين محمد ابن مولانا زادة فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرّم بالقاهرة وكان إماما مفتنّا في علوم كثيرة؛ وهو أوّل من ولى درس الحديث بالمدرسة الظاهريّة البرقوقية ودام على ذلك إلى أن مات في التاريخ المقدّم ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله أحد أمراء الطبلخانات بالطاعون في جمادى الأول وكان من خواصّ الملك الظاهر برقوق.
وتوفّى قتيلا الأمير سيف الدين جاركس بن عبد الله الخليلى اليلبغاوى الأمير آخور الكبير وعظيم دولة الملك الظاهر برقوق، قتل في محاربة الناصرىّ خارج(11/383)
دمشق، فى يوم الاثنين حادى عشر شهر ربيع الأول «1» وبقتله تخلخلت أركان دولة الملك الظاهر برقوق وكان أميرا مهابا عاقلا عارفا خبيرا سيوسا وله بالقاهرة خان يعرف بخان «2» الخليلى ومآثر بمكة وغيرها وخلّف أموالا كثيرة أخذها منطاش وفرّقها في أصحابه.
وتوفّى الأمير يونس بن عبد الله النّوروزى اليلبغاوى الدوادار الكبير، قتله الأمير عنقاء «3» بن شطّى أمير آل مرا بخربة اللصوص وهو عائد إلى الديار المصرية، بعد انهزامه من الناصرى وكان أيضا أحد أركان الملك الظاهر برقوق وإليه كان تدبير المملكة وكان خدمه وباشر دواداريّته من أيام إمرته وكان عاقلا مدبّرا حازما وهو صاحب الخان خارج مدينة غزّة وغيره معروفة عمائره باسمه ولا يحتاج ذلك إلى التعريف به، فإننا لا نعلم أحدا في الدولة التركيّة سمّى بيونس الدوادار غيره ثم دوادار زماننا هذا الأمير يونس الدوادار السيفىّ آقباى، انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين بزلار بن عبد الله العمرىّ ثم الناصرى نائب الشام قتيلا بها وكان أصله من مماليك الملك الناصر حسن اشتراه وربّاه مع أولاده وقرأ(11/384)
القرآن وتأدّب ومهر في الخط المنسوب وبرع في عدة علوم لا سيما علم الفلك والنجوم مع تقدّمه في أنواع الفروسية والشجاعة المفرطة وأنواع الملاعيب، مع ذكاء وفطنة وذوق وعقل ومحاضرة حسنة وحسن شكاله، ولاه الملك الظاهر برقوق نيابة الإسكندرية، ثم عزله وجعله من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم خافه، فقبض عليه ونفاه إلى طرابلس فلمّا كانت نوبة الناصرية اتفق مع جماعة قليلة من أصحابه وملك طرابلس من نائبها أسندمر ووافق الناصرىّ على قتال الملك الظاهر برقوق، فلمّا ملك الناصرىّ مصر خلع عليه بنيابة دمشق، فولى دمشق ودام به إلى أن قبض منطاش على الناصرىّ، فغضب بزلار المذكور للناصرى وخرج عن الطاعة، فخادعه منطاش وأرسل ملطّفات إلى جنتمر بنيابة دمشق فاتّفق أمراء دمشق مع جنتمر ووثبوا عليه على حين غفلة، فركب وقاتلهم، وكاد يهزمهم لولا تكاثروا عليه ومسكوه وحبسوه بقلعة دمشق، حتى أرسل منطاش بقتله فقتل، وسنّه نيّف على خمسين سنة، وكان من محاسن الدنيا، حدّثنى الشيخ موسى الطرابلسىّ قال: لمّا نفاه الملك الظاهر برقوق إلى طرابلس صحبته فكنت أقعد لتكبيسه فأجد أضلاعه صفيحة واحدة، انتهى.
وتوفّى الشيخ المعتقد حسن الخبّاز الواعظ، كان صاحب الشيخ ياقوت الشاذلىّ وتلقّن منه وتزوّج بآبنته وترك بيع الخبز وانقطع بزاويته خارج القاهرة وجلس للوعظ حتى مات في حادى عشرين شهر ربيع الآخر ودفن بالقرافة وكان للناس فيه اعتقاد حسن ولوعظه تأثير في القلوب.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون المظفرىّ أتابك حلب قتيلا بها بيد مماليك الأمير يلبغا الناصرى حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الظاهر برقوق وكان أصله من مماليك قطلوبغا المظفّرى أحد أمراء حلب وبها نشأ وخدم الأمير جرجى(11/385)
الإدريسىّ نائب حلب وصار خازنداره ثم صار من جملة أمراء حلب، ثم ولّاه برقوق حجوبية حلب ثم أتا بكابها، ثم نقله إلى نيابة حماة، ثم إلى نيابة حلب بعد القبض على يلبغا الناصرىّ، ثم عزله الظاهر عن نيابة حلب بالأمير يلبغا الناصرىّ المذكور وجعله أتابك حلب، فكان بينهما مباينة كبيرة وكان الناصرى يزدريه ودام على ذلك حتى بلغ الظاهر خروج الناصرىّ عن الطاعة وكتب ملطّفا لسودون المظفرى هذا بنيابة حلب على عادته وأرسل الملك الظاهر بصلحهم، فلمّا دخل سودون المذكور إلى دهليز دار السعادة «1» أخذته سيوف مماليك الناصرى حتى قتل.
وتوفّى الأمير سيف الدين صراى الطويل أحد أعيان المماليك اليلبغاوية خارج القاهرة في شهر ربيع الأوّل وكان أحد أمراء الطبلخاناة بالديار المصرية.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سليمان بن خير السكندرىّ المالكى في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكنيته أبو القاسم، مولده بالإسكندرية في يوم الأحد سابع جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وبها نشأ وطلب العلم وسمع الحديث وتفقّه بأبيه وغيره وبرع في الفقه والأصول وشارك في غيره وجلس مع الشهود بالثغر، ثم ولى به نيابة الحكم، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية، عوضا عن قاضى القضاة علم الدين سليمان بن خالد البساطىّ بعد عزله في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وحمدت سيرته إلى الغاية ودام مدة سنين إلى أن عزل بالقاصى ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون، ثم أعيد بعد ذلك إلى أن مات قاضيا، وتولّى بعده تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدّميرىّ.(11/386)
وتوفّى إمام السلطان الملك الظاهر برقوق الشيخ شرف الدين عثمان بن سليمان ابن رسول بن يوسف بن خليل بن نوح الكرادىّ (بتخفيف الراء المهملة) الحنفىّ المعروف بالأشقر، فى يوم الخميس رابع عشرين شهر ربيع الآخر، كان أصله من البلاد الشمالية واشتغل بها ثم قدم القاهرة في عنفوان شبابه في الدولة الأشرفيّة شعبان بن حسين واشتغل بها على علماء عصره، حتى شارك في عدّة فنون ويجب الملك الظاهر في أيام إمرته، فلما تسلطن الملك الظاهر قرّره إمامه وتقدم في دولته ثم ولى قضاء العسكر، ثم مشيخة الخانقاه البيبرسيّة إلى أن مات وكان حسن الهيئة جميل الطريقة وهو والد القاضى محبّ الدين محمد بن الأشقر كاتب سرّ الديار المصرية الآن وقد سألت من ولده المذكور عن أصل آبائه فقال: أصلنا من بلاد القرم وكان جدّى عالما مفتنّا وكان والد جدّى ملكا بتلك البلاد، انتهى.
وتوفى الأمير سيف الدين إشقتمر بن عبد الله الماردينىّ الناصرى نائب حلب والشام، غير مرّة بطّالا بحلب في شوّال، كان أصله من مماليك صاحب ماردين وبعثه إلى الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون فربّاه الناصر وأدّبه وكان يعرف ضرب العود ويحسن الموسيقى وكان ماهرا في عدّة فنون، فقرّبه أستاذه الملك الناصر حسن، وجعله من أعيان خاصّكيّته،؟؟ أمّره ثم تنقّل بعد موت أستاذه في عدة وظائف إلى أن ولّاه الملك الأشرف شعبان نيابة حلب بعد وفاة قطلوبغا الأحمدىّ، فباشرها نحو سنة ونصف وعزل بالأمير جرجى الناصرى الإدريسىّ، ثم ولى نيابة طرابلس عوضا عن قشتمر المنصورىّ، ثم أعيد بعد مدة إلى نيابة حلب عوضا عن قشتمر المنصورىّ المذكور، فى سنة إحدى وسبعين بعد قتل يلبغا أستاذ الملك الظاهر برقوق وكان إشقتمر خجداش يلبغا وصاحبه ومن أقرانه، فباشر نيابة حلب مدّة ثم عزل وأعيد إلى نيابة طرابلس والسواحل(11/387)
عوضا عن أيدمر الدوادار، ثم أعيد إلى نيابة حلب مرّة ثالثة في سنة أربع وسبعين فباشر نيابة حلب إلى أن عزل في سنة خمس وسبعين بالأمير بيدمر الخوارزمىّ وتولى نيابة دمشق، فباشر نيابة دمشق أربعة أشهر وعزل وأعيد إلى نيابة حلب رابع مرّة، فطالت مدّته في هذه الولاية، وغزاسيس «1» وفتحها في سنة ست وسبعين وكان فتحا عظيما وسرّ الملك الأشرف شعبان بفتحه، وفيه يقول الشيخ بدر الدين «2» حسن بن حبيب: [السريع]
الملك الأشرف إقباله ... يهدى له كلّ عزيز نفيس
لمّا رأى الخضراء في شامة ... تختال والشقراء عجبا تميس
وعاين الشّهباء في ملكه ... تجرى وتبدى ما يسرّا الجليس
ساق إلى سوق العدى أدهما ... وساعدا الجيش على أخذ سيس
واستمرّ على نيابتها إلى أن عزل بالأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ وقبض عليه وحبس بالإسكندرية ثم أطلق وتوجه إلى القدس بطالا، كل ذلك وإلى الآن لم يكن برقوق من جملة المماليك السلطانية، بل كان في خدمة منجك، ثم من بعده فى خدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف شعبان، ثم أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضا عن تمرباى الأفضلىّ الأشرفىّ في سنة إحدى وثمانين، ثم نقل بعد عشرة أشهر إلى نيابة دمشق، عوضا عن بيدمر الخوارزمىّ في سنة اثنتين وثمانين، فدام بدمشق إلى أن عزل في محرم سنة أربع وثمانين وتوجّه إلى القدس بطّالا، فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة دمشق ثالث مرة، من قبل الملك الظاهر برقوق(11/388)
فى سنة ثمان وثمانين، ثم عزل بعد «1» أربعة أشهر ورسم له أن يتوجّه إلى حلب بطّالا، فدام بحلب إلى أن مات وكان فيه كل الخصال الحسنة لولا حبّه لجمع المال.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة بدر الدين محمد ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينىّ الشافعىّ قاضى العساكر في يوم الجمعة سابع عشر شعبان ودفن بمدرسة «2» أبيه بحارة بهاء الدين قراقوش وكان أعجوبة في الذكاء والحفظ مفتنّا في عدّة علوم وهو أسنّ من أخيه قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ وكان له نظم ونثر ومما ينسب إليه من الشعر: [الرمل]
كسروا الجرّة عمدا ... سقوا الأرض شرابا
قلت والإسلام دينى ... ليتنى كنت ترابا
وتوفّى العلامة شمس الدين محمود بن عبد الله النّيسابورىّ الحنفىّ المعروف بابن أخى جار الله، فى سابع جمادى الأولى وكان عالما مفتنّا في علوم كثيرة.
وتوفّى تاج الدين عبد الله وقيل: أمين الدين بن مجد الدين فضل الله بن أمين الدين عبد الله بن ريشة القبطىّ المصرىّ ناظر الدولة، فى سادس جمادى الأولى.(11/389)
وتوفّى الأمير قرا محمد التّركمانىّ صاحب الموصل، قتيلا في هذه السنة وهو والد قرا يوسف صاحب تبريز، وجدّ بنى قرا يوسف ملوك العراق، الذين خربت بغداد وغيرها في دولتهم وأيامهم.
وتوفّى الأمير الطواشى سابق الدين مثقال بن عبد الله الجمالىّ الحبشىّ الزّمام وأصله من خدّام الملك الأمجد والد الأشرف شعبان، تنقّل في عدة وظائف إلى أن صار زماما للدور السلطانية، فلمّا أن قتل الملك الأشرف عزله أينبك البدرىّ وولّى عوضه مقبلا الرومىّ الطواشى اليلبغاوىّ ودام مثقال بطّالا سنين وصادره برقوق وحصل له محن، ثم أفرج عنه فصار يتردّد إلى مكة والمدينة إلى أن مات ببدر من طريق الحجاز في ذى القعدة ودفن عند الشهداء في ليلة الجمعة تاسع عشرينه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع، والله تعالى أعلم.
انتهى الجزء الحادى عشر من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثانى عشر وأوله: ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر(11/390)
فهرس الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر «1»
من سنة 762- 791 هـ (س) (1) السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين- ولايته من ص 24- 147
(2) السلطان الملك الصالح صلاح الدين أمير حاج ابن السلطان الملك الأشرف شعبان- ولايته من ص 206- 221
(3) السلطان الملك الصالح ثم المنصور حاجى ابن السلطان الملك الأشرف بن حسين- ولايته من ص 319- 390
(4) السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثمانى اليلبغاوى الجاركسى- ولايته الأولى من ص 221- 318
(5) السلطان الملك علاء الدين على ابن السلطان الملك الأشرف زين الدين بن شعبان- ولايته من ص 148- 206
(6) السلطان الملك المنصور أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المظفر حاجى- ولايته من ص 3- 23(11/391)
[الجزء الثانى عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
[ما وقع من الحوادث سنة 792]
ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر
«1» تقدّم ذكر الملك الظاهر برقوق وأصله وخبر قدومه من بلاد الجاركس إلى الديار المصريّة وما وقع له بها إلى أن ملكها وتسلطن، كلّ ذلك فى ترجمته الأولى من هذا الكتاب «2» . وذكرنا أيضا ما وقع له من يوم خلع نفسه وسجن بالكرك «3» إلى أن خرج من الحبس وقاتل منطاشا وانتصر عليه وعاد إلى الديار المصرية بعد أن أعيد إلى السلطنة بمنزلة شقحب «4» ، وأشهد على الملك المنصور بخلع نفسه، ثم(12/1)
سار حتى نزل بالصالحية «1» ، كلّ ذلك فى ترجمة السلطان الملك المنصور حاجى مفصّلا، فمن أراد شيئا من ذلك فلينظره فى محلّه، ومن يومئذ نذكر رحيله من منزلة الصالحية إلى نحو الديار المصرية فنقول:
ولمّا نزل الملك الظاهر برقوق على منزلة الصالحيّة فى يوم عاشر صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة أقام بها نهاره، وأعيان الدولة تأتيه فوجا بعد فوج، مثل أكابر الأمراء الذين كانوا بالحبوس وأعيان العلماء ومباشرى الدولة وغيرهم.
ثمّ رحل من الغد بعساكره وصحبته الخليفة والملك المنصور حاجى والقضاة وسار بهم يريد الديار المصرية إلى أن نزل بالرّيدانيّة «2» خارج القاهرة فى بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر صفر، فخرج الأعيان من العلماء والأمراء والفقراء إلى لقائه(12/2)
فخرجت الأشراف مع السيد الشريف علىّ نقيب الأشراف، وخرجت طوائف الفقراء بأعلامها وأذكارها، ومشايخ الخوانق بصوفيّتها، وخرجت العساكر المصريّة بلبوسها الحربيّة، لأن العسكر المصرىّ كان من يوم خروج بطا وأصحابه من السجن وملكوا الديار المصريّة؛ عليهم آلة الحرب، وخرجت اليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل، ومعهم الشموع المشعولة. وخرج من الناس ما لا يحصيه إلا الله تعالى وعندهم من الفرح والسرور ما لا يوصف، وهم يصيحون بالدعاء له حتّى لقوه وخاطبوه.
فشرع الملك الظاهر يكلّم الناس ويدنيهم ويرجع رءوس النّوب عن منعهم من السلام عليه. وكلّما دعا له شخص منهم رحّب به. هذا وقد فرشت له الشّقق الحرير خارج التّرب إلى باب السلسلة «1» ، فلمّا وصل الملك الظاهر إلى الشقق المفروشة له، تنحّى بفرسه عنها وقدم الملك المنصور حاجّى، حتى مشى بفرسه عليها، ومشى الملك الظاهر برقوق بجانبه خارجا عن الشقق، فصار الموكب كأنه للملك المنصور لا للظاهر، فوقع هذا من الناس موقعا عظيما، ورفعوا أصواتهم له بالدعاء والابتهال لتواضعه فى حال غلبته وقهره له وكون المنصور معه كالأسير، وصارت القبّة والطير على رأس الملك المنصور أيضا، والخليفة أمامها وقضاة القضاة بين يدى الخليفة، وتناهبت العامّة الشّقق الحرير بعد دوس فرس السلطان عليها، من غير أن يمنعهم أحد، وكذلك لمّا نثر عليه الذهب والفضّة تناهبتّه العامّة. وكانت عادة ذلك كلّه للجمداريّة، فقصد الظاهر بذلك زيادة التحبّب للعامّة، كونهم أظهروا المحبّة له فى غيبته، وقاموا مع المماليك، وصاروا مع مماليكه، وصار الملك الظاهر يعظّم الملك المنصور فى مشيه(12/3)
وخطابه، ويعامله كما يعامل الأمير سلطانه، إلى أن أدخله داره بالقلعة؛ ثم عاد الملك الظاهر إلى حيث نزل من القلعة، وتفرّغ عند ذلك لشأنه، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ والأمراء وأعيان الدولة، فجدّد عقد السلطنة له وتجديد التفويض الخليفتىّ، فشهد بذلك القضاة على الخليفة ثانيا وأفيضت التشاريف الخليفتيّة على السلطان بسلطنته، ثم أفيضت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطان الملك الظاهر من الإسطبل «1» السلطانىّ من باب السلسلة بأبّهة السلطنة وشعار الملك، وطلع إلى القلعة ونزل إلى القصر، وجلس على تخت الملك، ودقت البشائر وعملت التهانى والأفراح بالقلعة وفى دور الأمراء وأهل الدولة، وكان هذا اليوم من الأيام التى لم يقع مثلها إلا نادرا.
ثم قام السلطان ودخل إلى حرمه وإخوته، ففرشت له أيضا الشّقق الحرير والشقق المذهّبة تحت رجليه، ونثر عليه الذهب والفضة ولاقته التهانى من خارج باب السّتارة «2» ، ثم أصبح السلطان فى يوم الأربعاء؛ فأمر أن يكتب إلى ثغر الإسكندرية «3» بالإفراج عن الأمراء المسجونين بها، وإحضارهم إلى الديار المصريّة.(12/4)
ثم خلع السلطان على فخر الدين بن مكانس صاحب ديوان الجيش باستقراره فى وظيفته نظر الجيش عوضا عن القاضى جمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ بحكم توجّهه مع منطاش إلى دمشق، وخلع على الوزير موفّق الدين أبى الفرج واستقرّ به فى الوزارة، ونظر الخاصّ، وعلى ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شادّ الدواوين باستمراره. وأنعم على الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وعيّن للدواداريّة الكبرى وأخلع على الأمير قرقماش الطشتمرىّ أستادارا.
ثم فى سابع عشر صفر قدم الأمراء من الإسكندرية إلى بر الجيزة، فباتوا به وعدّوا فى ثامن عشره وطلعوا إلى القلعة وهم سبعة عشر أميرا، أعظمهم الأتابك يلبغا الناصرىّ، الذي كان خرج على الملك الظاهر، وقبض عليه وحبسه بالكرك ثم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام الذي كان قبض على الملك الظاهر برقوق من بيت أبى يزيد، وطلع به إلى القلعة نهارا، ثم الأمير الكبير قرادمرداش الأحمدىّ الذي كان الظاهر جعله أتابك العساكر بديار مصر، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار فتركه وتوجّه إلى يلبغا الناصرى المقدّم ذكره، والأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح وهؤلاء الأربعة من أعيان اليلبغاويّة خشداشيّة الملك الظاهر برقوق، ثم الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس الذي كان سببا لكسرة عسكر الملك الظاهر بدمشق بهرو به إلى الناصرىّ، والأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة النّوب والأمير سودون باق أحد أمراء الألوف اليلبغاوية والأمير سودون طرنطاى أحد الألوف أيضا والأمير آفبغا الماردينىّ الأستادار أحد الألوف، وكشلى اليلبغاوىّ «1» وبجاس النّورورى(12/5)
كلاهما أيضا مقدّم ألف ومأمور القلمطاوى نائب حماة والكرك وألطنبغا الأشرفىّ أحد الألوف أيضا ويلبغا المنجكىّ ويونس العثمانىّ، فوقف الجميع بين يدى الملك الظاهر برقوق وقبّلوا الأرض له، وهم فى غاية ما يكون من الخجل والحياء منه، بما تقدّم منهم فى حقّه، فرحّب بهم الملك الظاهر وطيّب خواطرهم ولم يذكر لهم ما فعلوه به ولا عتبهم عن شئ مما وقع منهم فى حقّه، بل أكرمهم غاية الإكرام بكلّ ما يمكن القدرة إليه، ثم أمرهم بالنزول إلى بيوتهم، فنزل الجميع وهم فى غاية السرور.
ثم فى يوم الاثنين العشرين من صفر جلس السلطان بالإيوان «1» من القلعة المعروفة بدار العدل، وأخلع على الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ بنيابة السلطنة بالديار المصرية على عادته أوّلا، وعلى الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، وعلى الأمير الكبير يلبغا الناصرى صاحب الوقعة باستقراره أمير سلاح، وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانىّ باستقراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وعلى الأمير كمشبغا الأشرفىّ الخاصكىّ باستقراره أمير مجلس وعلى الأمير بطاالطّولوتمرىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا كبيرا، وهو الذي كان خرج من حبس القلعة وملك باب السلسلة فى فتنة الملك الظاهر وعلى الأمير طوغان العمرىّ باستقراره أمير(12/6)
جاندار، وعلى سودون النظامىّ باستقراره نائب قلعة «1» الجبل، ونزل الجميع بالخلع وتحتهم الخيول بالسروج الذهب والكنابيش الزّركش إلى دورهم، بعد أن خرجت الناس للفرجة عليهم، فكان يوما من الأيام المشهودة.
ثم فى يوم حادى عشرين صفر أخلع السلطان على الأمير بكلمش العلائىّ باستقراره أمير آخور كبيرا، وسكن بالإصطبل السلطانىّ.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشرين صفر قرئ عهد السلطان الملك الظاهر برقوق بدار العدل، وخلع السلطان على الخليفة المتوكّل على الله وأخلع على القاضى علاء الدين علىّ بن عيسى المقيّرىّ الكركى كاتب سرّ الكرك فى كتابة سرّ مصر، لما تقدم له من الإيادي على الظاهر فى القيام معه بالكرك، عوضا عن القاضى بدر الدين محمد ابن فضل الله بحكم توجّهه أيضا مع منطاش إلى دمشق.
ثم أخلع السلطان على بيجاس السّودونىّ باستقراره فى نيابة صفد.
وفى سادس عشرينه قبض السلطان على حسين بن الكورانىّ وأمر به فعدّب بأنواع العذاب.
وفيه قدم البريد على السلطان من صفد بفرار الأمير طغاى تمر القبلاوىّ من دمشق إلى حلب فى مائتين وواحد من المنطاشية.
وفى سابع عشرين صفر استقرّ الأمير محمود بن على الأستادار كان باستقراره مشير الدولة.(12/7)
وفى يوم الأربعاء تاسع عشرينه جلس السلطان الملك الظاهر بالميدان «1» من تحت القلعة للنظر فى أحوال الرعية والحكم بين الناس على العادة، واستمرّ على ذلك فى كلّ يوم أحد وأربعاء.
وفى ثامن عشر شهر ربيع الأوّل أخلع السلطان على الشيخ محمد الرّكراكىّ المالكىّ باستقراره فى قضاء المالكية بالديار المصرية عوضا عن تاج الدين بهرام الدّميرىّ. والرّكراكىّ هذا هو الذي كان امتنع من الكتابة على الفتيا فى أمر الملك الظاهر برقوق لمّا كتب عليها البلقينىّ وغيره من القضاة والعلماء، وضربه منطاش بسبب عدم كتابته. وحبسه إلى أن أطلقه بطا فيمن أطلق من سجن منطاش، فعرف له الظاهر ذلك وولّاه قضاء المالكية.
وفيه استقرّ سعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين مرسى المعروف بابن كاتب السعدىّ باستقراره فى نظر الخاصّ عوضا عن الصاحب موفّق الدّين، وانفرد موفّق الدين بالوزر.
وفى خامس عشرين شهر ربيع الأوّل استقرّ الأمير ألطنبغا الجوبانىّ رأس نوبة الأمراء فى نيابة الشام عوضا عن جنتمر أخى طاز بحكم انضمامه مع منطاش.
واستقرّ الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ فى نيابة طرابلس ورسم لهما الملك الظاهر فى محاربة الأمير منطاش.
وفى يوم السبت أوّل شهر ربيع الآخر استقرّ الأمير مأمور القلمطاوىّ فى نيابة حماة واستقرّ أرغون العثمانىّ فى نيابة الإسكندرية، وآلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق، وأسندمر السيفى حاجب حجّاب طرابلس(12/8)
وفيه أيضا أنعم السلطان على كل من ألطنبغا الأشرفىّ وسودون باق وبجمان المحمّدىّ بإمرة مائة بدمشق ورسم لهم أن يخرجوا نوّاب البلاد الشامية.
وفى سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور استقرّ سعد الدين «1» نصر الله بن البقرىّ فى الوزارة عوضا عن موفّق الدين أبى الفرج، واستقرّ الصاحب علم الدين سنّ إبرة فى نظر الدولة.
وفى رابع عشرينه قبض السلطان على الأمير سربغا الظاهرىّ وعلى الأمير أيدكار العمرىّ وعلى بكتمر الدوادار وعلى طشبغا الحسنىّ وقرابغا وأرغون الزّينىّ.
وفيه أيضا خلع السلطان على الأمير جلبان الكمشبغاوىّ الظاهرىّ المعروف بقراسقل باستقراره رأس نوبة النّوب بعد وفاة الأمير حسين قجا. كلّ ذلك والأخبار ترد على السلطان بأن المنطاشيّة تدخل فى الطاعة شيئا بعد شىء وأن منطاشا فى إدبار.
وفيه أخلع السلطان على الأمير يلبغا الناصرىّ واستقرّ به مقدّم العساكر المتوجّهة لقتال منطاش، وندبه للتوجّه صحبة النوّاب، وقال له: هو غريمك، اعرف كيف تقاتله. وجعل إليه مرجع العسكر جميعه.
وفيه أيضا خلع على نوّاب الشام خلع السّفر. وأنعم السلطان على جماعة كبيرة من مماليكه وغيرهم بإمريات بالبلاد الشامية، ورسم أيضا لجماعة من أمراء مصر بالسفر صحبة الأمير يلبغا الناصرىّ لقتال منطاش.
وفى عاشر جمادى الأولى برزت أطلاب «2» النّوّاب والأمراء إلى الرّيدانية خارج القاهرة، هذا بعد دخول الأمير قطلوبغا الصّفوى فى طاعة السلطان وحضوره إلى الديار المصرية بمن معه، كما سيأتى ذكره.(12/9)
وكان من خبر قطلوبغا الصّفوىّ أن منطاشا جهّزه على تجريدة من دمشق لمحاصرة مدينة صفد «1» ، فلما قارب قطلوبغا صفد، دخل هو وجميع من معه فى طاعة السلطان.
ثم قدم قطلوبغا المذكور بمن معه فى ثالث عشر جمادى المذكورة، وكان لقدومه يوم مشهود. وعند دخوله إلى القاهرة قدم البريد فى إثره بأن منطاشا لمّا بلغه مخامرة الصفوىّ بمن معه، قبض على الأمير جنتمر أخى طاز نائب الشام وهو أعظم أصحابه وعلى ولده وعلى أستاداره ألطنبغا وعلى الأمير أحمد بن خوجى وعلى الأمير أحمد بن قجق وعلى كمشبغا المنجكىّ نائب بعلبك «2» وعلى القاضى شهاب الدين أحمد بن عمر القرشىّ الشافعىّ قاضى دمشق وعلى عدّة من الأمراء والأعيان؛ هذا ومجىء المنطاشية يتداول إلى مصر شيئا بعد شئ.
وفى تاسع عشرينه استقرّ الأمير محمود بن علىّ الأستادار أستادارا على عادته عوضا عن الأمير قرقماس الطشتمرىّ بعد وفاته.
هذا والقتال عمّال بالبلاد الشامية فى كلّ قليل بين عسكر منطاش وعساكر السلطان.
ثم قدم البريد بأن منطاشا أخذ بعلبك بعد ما حاصرها محمد بن بيدمر نحو أربعة أشهر وأنه وسّط ابن الحنش وأربعة نفر معه.(12/10)
وفى سابع عشر جمادى الآخرة قدم البريد بأن منطاشا لمّا بلغه قدوم العساكر لقتاله برز من دمشق وأقام بقبة «1» يلبغا أياما، ثم رحل نصف ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصّه، وهم نحو ستمائة فارس ومعه نحو سبعين حملا ما بين ذهب وفضة، وتوجّه نحو قارا «2» والنّبك «3» ، بعد أن قتل جماعة من المماليك الظاهرية وقتل الأمير ناصر الدين محمد بن المهمندار نائب؟؟؟ اة كان وأنّ الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق، وأفرج عمن كان محبوسا بها، وملك القلعة وأرسل إلى النوّاب يعلمهم بذلك. فلمّا سمع النوّاب ذلك ساروا إلى دمشق وملكوها من غير قتال، فسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما ودقت البشائر ونودى بالقاهرة ومصر بالزينة.
وفى سابع عشر جمادى الآخرة المذكور، قدم البريد من دمشق بثلاثة عشر سيفا من سيوف الأمراء المنطاشية الذين قبض عليهم بدمشق.
ثم فى حادى عشرينه قدم البريد أيضا بثمانية سيوف أيضا من المنطاشية، ثم قدم البريد بسبعة سيوف أخر، منهم سيف الأمير ألطنبغا الحلبىّ وسيف دمرداش اليوسفىّ.
وفى ثالث عشرينه قدم البريد بأن الأمير نعير بن حيّار قبض على الأمير منطاش فدقّت البشائر لذلك، ثم تبيّن كذب الخبر.
وفى سابع عشرينه حضر الأمراء المقبوض عليهم من المنطاشية بدمشق.(12/11)
وفى يوم الخميس ثانى شهر رجب قدم القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرىّ قاضى الكرك إلى القاهرة، بعد أن خرج الأعيان إلى لقائه وطلع إلى القلعة فلمّا وقع بصر السلطان عليه قام له، ومشى لتلقّيه خطوات، وعانقه وأجلسه بجانبه وحادثه ساعة، ثم قام ونزل إلى داره؛ كلّ ذلك لما كان له على السلطان أيام حبسه بالكرك من الخدم.
وفى ثانى عشر شهر رجب حضر من دمشق القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر والقاضى جمال الدين محمود العجمىّ ناظر الجيش ونزلا فى بيوتهما من غير أن يجتمعا بالسلطان لتوغّر خاطر السلطان عليهما لكونهما توجّها إلى دمشق صحبة منطاش.
وفى ثالث عشره أخلع السلطان على القاضى عماد الدين الكركىّ المقدّم ذكره باستقراره قاضى قضاة الديار المصرية عوضا عن القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء، فصار عماد الدين هذا قاضى قضاة مصر وأخوه علاء الدين المقدّم ذكره كاتب سرّ مصر.
ثم قدم الخبر على السلطان من حلب بأن الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب لمّا انهزم وتوجّه إلى حلب جهّز إليه منطاش من دمشق بعد عود الملك الظاهر إلى مصر عسكرا عليه الأمير تمان تمر الأشرفى، فوصل تمان تمر المذكور إلى حلب واجتمع به أهل بانقوسا «1» ، وقاتلوا كمشبغا المذكور وحصروه بقلعة حلب نحو أربعة أشهر ونصف، وأحرقوا الباب والجسر، ونقبوا القلعة من ثلاثة مواضع، فنقب كمشبغا على أحد النّقوب من أعلاه، ورمى على من به من فوق بالمكاحل واختطفهم(12/12)
بكلاليب الحديد، وصار يقاتلهم من النقب فوق السبعين يوما وهو فى ضوء الشموع بحيث إنه لا ينظر شمسا ولا قمرا ولا يعرف الليل من النهار، وقاسى شدائد ومحنّا، ودام ذلك عليه إلى أن بلغ تمان تمر المذكور فرار منطاش من دمشق فضعف أمره، فثار عليه أهل بانقوسا ونهبوه، فحضر حاجب حجّاب حلب إلى الأمير كمشبغا وأعلمه بذلك، فعمّر كمشبغا الجسر فى يوم واحد، ونزل وقاتل أهل بانقوسا يومين، وقد أقاموا عليهم رجلا يعرف بأحمد بن «1» الحرامىّ؟ فلمّا كان اليوم الثالث وقت العصر انكسر أحمد بن الحرامىّ المذكور وقبض كمشبغا عليه وعلى أخيه وعلى نحو الثمانمائة من الأتراك والأمراء والبانقوسية، فوسّطهم كمشبغا بأجمعهم وضرب بانقوسا حتى صارت دكّا، ونهب جميع ما فيها. ثمّ إن الكتاب يتضمّن أيضا أن كمشبغا بالغ فى تحصين قلعة حلب وعمارتها وأعدّ بها مؤونة عشر سنين، وأنه جمع من أهل حلب مبلغ ألف درهم، وعمّر سور مدينة حلب وكان منذ خرّبه هولاكو خرابا، فجاء فى غاية الحسن، وعمل له بابين وفرغه فى نحو الشهرين ونصف، وكان أكثر أهل حلب يعمل فيه وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار والأمير طغجى «2» نائب دوركى «3» كان لهما قيام تام مع الأمير كمشبغا فى هذه الوقعة. انتهى.
قلت: يقال: إنه قتل فى واقعة كمشبغا مع الحلبيين بحلب نحو العشرين ألفا من الفريقين. ثم أشبع بالقاهرة أن الأمير بطا الطولوتمرى الدوادار يريد إثارة فتنة، فتحرّز الأمراء واعتدّوا للحرب إلى أن كان يوم الاثنين عشرينه جلس السلطان بدار العدل «4» على العادة، ثم توجّه إلى القصر ومعه الأمراء فتقدّم الأمير(12/13)
بطا إلى السلطان وقال للسلطان: قد سمعت ما قيل عنى وهأنا. وحلّ سيفه وعمل فى عنقه منديلا، فسأل السلطان الأمراء عما ذكره الأمير بطا وأظهر أنه لم يسمع شيئا من ذلك، فذكر الأمراء أن الأمير كمشبغا رأس نوبة تنافس مع الأمير بكلمش العلائى أمير آخور.
ثم وقع بين الأمير بطا ومحمود الأستادار مخاشنة فى اللفظ، فأشاع الناس ما أشاعوه فجمعهم السلطان وأصلح بينهم.
ثم حلّفهم على طاعته وحلّف المماليك أيضا، وطيّب خواطر الجميع بلين كلامه ودهائه؛ وفى النفس من ذلك شىء.
ثم أحضر السلطان مملوكا انّهم أنه هو الذي أشاع الفتنة، فضرب ضربا مبرّحا وسمّر على جمل وشهّر، ثم سجن بخزانة «1» شمائل، فلم يعرف له خبر بعد ذلك، وهو من المماليك الظاهرية.
ثم قبض السلطان على الأمير يلبغا أحد أمراء العشرات، وسمّر ونودى عليه: هذا جزاء من يرمى الفتن بين الأمراء. وسكنت الفتنة بعد أن كادت أن تثور. وبينما السلطان فى ذلك وصل إليه الخبر من الشام بأن منطاشا ونعير بن حيّاز جمعوا جمعا كبيرا من المماليك الأشرفية والتركمان والعربان وقصدوا النوّاب، والأمير يلبغا الناصرىّ مقدّم العساكر، فلمّا بلغ الناصرىّ ذلك خرج بالعساكر هو والأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب(12/14)
الشام وغيره من دمشق ونزل بسلمية «1» ، وخلّفوا الأمير الكبير أيتمش البجاسى بدمشق لحفظها، فثار على أيتمش المذكور بدمشق بعد خروج العسكر منها جماعة من المماليك البيدمريّة والطازيّة والجنتمريّة فى طوائف من العامّة يريدون أخذ مدينة دمشق من أيتمش، فأرسل أيتمش بطاقة من قلعة دمشق إلى سلمية، يعلم الأمراء والنوّاب بذلك، فحالما سمع الناصرىّ الخبر ركب ليلا فى طائفة من عسكره وقدم دمشق ومعه الأمير آلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق، وقاتل المذكورين قتالا شديدا، قتل بينهما خلائق كثيرة من العامّة والأتراك، حتى انتصر الناصرىّ وقبض على جماعة منهم ووسّطهم تحت قلعة دمشق، وقبض أيضا على جماعة كثيرة فقطع أيديهم وهم: نحو سبعمائة رجل، قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزيّ- سامحه الله- وحبس جماعة أخر. ثم عاد الناصرى إلى سلمية بعد أن مهّد أمر الشام واجتمع مع أصحابه النوّاب، فذكروا له أنّ منطاشا فرّق أصحابه ثلاث فرق، فأشار عليهم الناصرىّ بأنه أيضا يفرّق أصحابه وعساكره، فتفرّقوا هم أيضا ثلاث فرق: الناصرىّ فرقة، والجوبانىّ فرقة، وقرادمرداش نائب طرابلس فرقة.
فأما الناصرىّ، فإنه تولّى قتال نعير بن حيّار، فحاربه وكسره أقبح كسرة، وقتل جمعا كبيرا من عربانه؛ على أن نعيرا كان من أصحاب الناصرىّ قبل ذلك، وممن خرج على منطاش غضبا للناصرىّ، وركب الناصرىّ قفا نعير إلى منازله.
وأما الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ نائب طرابلس فانتدب لقتال منطاش، فإنه كان بينهما عداوة قديمة، فتواقعا وتقاتلا قتالا شديدا، برز فيه كلّ من منطاش وقرا دمرداش لصاحبه، وضرب كلّ مهما الآخر بسيفه، فجاءت ضربة منطاش(12/15)
فى يد قرا دمرداش، فقلعت عدّة أصابع من أصابعه، وجاءت «1» ضربة قرا دمرداش فى كتف منطاش فحلّته، هذا والحوبانىّ فى القلب واقف بعساكره، فخامرت جماعة من الأشرفية من خجداشية منطاش وجاءت إليه، وصارت من عسكره، وكان حضر إلى الجوبانىّ قبل ذلك جماعة أخر من المماليك الأشرفية، فأحسن إليهم ألطنبغا الجوبانىّ وقرّبهم وجعلهم من خواصّ عسكره، فاتفقوا مع بعض مماليك الجوبانىّ على قتل الجوبانىّ، فلما كان وقت الوقعة، وقد التحم القتال بين الناصرىّ ونعير وبين قرا دمرداش ومنطاش وثبوا عليه من خلفه وقتلوه بالسيوف، ثم قبضوا على الأمير مأمور القلمطاوىّ نائب حماة ووسّطوه، ثم قتلوا الأمير آقبغا الجوهرىّ والثلاثة من عظماء المماليك اليلبغاوية خجداشية الملك الظاهر برقوق وأكابر أمرائه، ثم قتلوا عدّة أمراء أخر من اليلبغاوية وكانت هذه الوقعة من أعظم الملاحم، قتل فيها من الفريقين عالم لا يحصى كثرة وانتهبت العربان والتركمان والعشير «2» ما كان مع العسكرين، وقدم البريد بذلك على السلطان، فشقّ عليه قتل الأمراء إلى الغاية، وأخبر البريد أيضا أنّ منطاش لمّا انكسر من قرا دمرداش وهو مجروح أشيع موته، فأقام الأشرفية عوضه عليهم خجداشهم الأمير ألطنبغا الأشرفىّ، فلما حضر منطاش من الغد غضب من ذلك وأراد قتل ألطنبغا الأشرفىّ فلم تمكّنه الأشرفية من ذلك.
وأما يلبغا الناصرىّ فإنه لما رجع من محاربة نعير ووجد الأمير ألطنبغا الجوبانى قد قتل، جمع العساكر وعاد إلى دمشق وأقام به يومين حتى أصلح أمره، ثم خرج من دمشق بجميع العساكر وأغار على آل علىّ، فوسّط منهم جماعة كبيرة نحو مائتى نفس ونهب بيوتهم وكثيرا من جمالهم، وعاد إلى دمشق وكتب للسلطان أيضا بذلك،(12/16)
فكتب السلطان للناصرىّ الجواب بالشكر والثناء والتأسف على الأمير ألطنبغا الجوبانىّ وغيره وأرسل إليه الأمير أبا يزيد بن مراد بالتقليد والتشريف بنيابة الشام عوصا عن ألطنبغا الجوبانىّ ومبلغ عشرين ألف دينار برسم النفقة فى العساكر.
قلت: وأبو يزيد هذا هو الذي كان اختفى عنده الملك الظاهر برقوق لمّا خلع نفسه عند حضور الناصرىّ ومنطاش إلى الديار المصرية.
ثم فى يوم الخميس أوّل ذى الحجة من سنة اثنتين وتسعين المذكورة، رسم السلطان للأمير قرا دمرداش الأحمدىّ نائب طرابلس باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن الأمير كمشبغا الحموىّ بحكم عزله وقدومه إلى القاهرة وجهّز إليه التقليد والتشريف على يد الأمير تنبك المعروف بتنم الحسنىّ الظاهرىّ.
ثم فى خامس ذى الحجّة استقرّ السلطان بالأمير إينال من خجا أتابك حلب باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قرا دمرداش المنتفل لنيابة حلب، واستقرّ الأمير آقبغا الجمالىّ الظاهرىّ أتابك حلب عوضا عن إينال المذكور واستقر الأمير محمد بن سلّار حاجب حجّاب حلب وكتب لسولى بن دلغادر بنيابة أبلستين «1» .
ثم فى يوم عيد النحر خرج الأمير بيليك المحمدىّ لإحضار الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ نائب حلب، ثم أرسل السلطان الملك الظاهر الأمير تمربغا المنجكىّ بمال كبير ينفقه فى العساكر الشاميّة ويجهّزهم إلى عينتاب «2» لقتال منطاش.
ثم فى سادس محرّم سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ورد الخبر من دمشق بأن الأمير يلبغا الناصرىّ تنافس هو والأمير الكبير أيتمش البجاسىّ فأضمر الناصرىّ الخروج(12/17)
عن الطاعة ولبس السلاح وألبس حاشيته ونادى بدمشق من كان من جهة منطاش فليحضر، فصار إليه نحو ألف ومائتى فارس من المنطاشيّة، فقبض على الجميع وسجنهم، ثم قلع السلاح وكتب بذلك إلى السلطان يعرّفه، فأجابه السلطان بالشكر والثناء.
ثم فى ثانى صفر رسم السلطان بهدم سلالم مدرسة «1» السلطان حسن فهدمت وفتح بابها من شباك بالرّميلة تجاه باب السلسلة.
ثم قدم الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب إلى القاهرة فى سابع صفر، بعد أن خرج الأمير سودون النائب مع أعيان الأمراء والحجّاب إلى لقائه وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض، فقام له السلطان واعتنقه وأجلسه فى الميمنة فوق الأمير الكبير إينال اليوسفىّ ونزل إلى دار أعدّت له، وبعث له السلطان ثلاثة أرؤس من الخيل بقماش ذهب وحضر مع كمشبغا أيضا الأمير حسام الدين حسن الكجكنىّ نائب الكرك وكان قد انهزم مع كمشبغا نائب حلب من يوم وقعة شقحب، فرحّب السلطان به أيضا وأكرمه وأرسل إليه فرسا بقماش ذهب وقدم معهما أيضا عدّة أمراء أخر.
ثم قدم البريد فى أثناء ذلك بأن العساكر الشامية وصلت إلى مدينة عينتاب ففرّ منطاش إلى جهة مرعش «2» وفرّ من عنده جماعة كبيرة ودخلوا تحت طاعة السلطان.(12/18)
ثم أحضر السلطان الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة من السجن وضربه بالمقارع وأحضر أيضا آقبغا الماردينىّ نائب الوجه القبلى وضربه على أكتافه وأمر والى القاهرة بتخليص حقوق الناس منه واستقرّ عوضه فى كشف الوجه القبلىّ الأمير يلبغا الأحمدىّ المجنون أحد المماليك الظاهرية.
ثم فى تاسع عشرينه أحضر السلطان القاضى شهاب الدين أحمد بن الجبّال الحنبلىّ قاضى طرابلس فضرب بين يديه عدّة عصىّ بسبب قيامه مع منطاش.
ثم أنعم السلطان على الأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك كان بإقطاع أرغون العثمانىّ البجمقدار نائب الإسكندرية والإقطاع تقدمة ألف بالقاهرة.
ثم خرج البريد من مصر بإحضار الأمير أيتمش البجاسىّ من دمشق وكان بها من يوم قبض عليه الناصرىّ فى واقعة الناصرىّ ومنطاش مع الملك الظّاهر برقوق وحبس بقلعة دمشق إلى أن أطلق بعد خروج منطاش من دمشق واستمرّ بدمشق لمصالح الملك الظاهر حتى طلب فى هذا التاريخ وخرج بطلبه الأمير قنق باى الأحمدىّ رأس نوبة، فقدم فى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى على البريد، فتلقّاه الأمير سودون النائب والحجّاب وقدم مع أيتمش المذكور عدّة أمراء، منهم:
آلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق والأمير أيتمش المذكور والأمير جنتمر أخو طاز نائب دمشق كان وأمير ملك ابن أخت جنتمر ودمرداش اليوسفىّ وألطنبغا الحلبىّ وكثير من المماليك السلطانية وجماعة أخر والجميع فى الحديد على ما يأتى ذكرهم، ما خلا المماليك الظاهريّة وطلع الأمير أيتمش إلى السلطان وقبّل الأرض فأكرمه السلطان وأجلسه فى الميسرة تحت الأمير سودون النائب وكانت منزلته فى الميمنة، فإنّه كان أتابك العساكر بالديار المصرية قبل توجّهه إلى قتال الناصرىّ، لكنه لمّا حضر الآن كان بطّالا وكان الأتابك يومئذ الأمير إينال(12/19)
اليوسفىّ اليلبغاوىّ، على أنه يجلس تحت الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ نائب حلب كان، فلو جلس الأمير أيتمش الآن فى الميمنة لجلس ثالثا، فإنّه لا يمكنه الجلوس، فوقف إينال كونه متولّيا أتابك العساكر وأيتمش الآن منفصل، فرسم له السلطان أن يجلس فى الميسرة ولم يجسر أن يأمره بالجلوس فوقه لكبر سنّه وقدمته، فجلس تحته.
قلت: وهذا شأن الدنيا، الرفع والخفض، ثم أحضر السلطان الأمراء القادمين صحبة الأمير الكبير أيتمش وعدّتهم ستة وثلاثون أميرا ومعهم أيضا قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن عمر القرشىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق والقاضى فتح الدين محمد بن محمد بن أبى بكر بن إبراهيم بن الشهيد كاتب سرّ دمشق وابن شكر ناظر جيش دمشق والجميع فى القيود، فونّج السلطان ألطنبغا الحلبىّ وجنتمر نائب الشام وابن القرشىّ وأطال الحديث معهم وكانوا قابلوه فى محاربته لدمشق بأشياء قبيحة إلى الغاية وأفحشوا فى أمره إفحاشا زائدا، بحيث إنّ القاضى شهاب الدين القرشىّ المذكور كان يقف على سور دمشق وينادى: إن قتال برقوق أوجب من صلاة الجمعة وكان يجمع عوامّ دمشق ويحرّضهم على قتاله ويرمى الملك الظاهر بعظائم فى دينه ويختلق عليه ما ليس هو فيه.
ثم أمر بهم الملك الظاهر فسجنوا وأسلم ابن شكر لشادّ الدواوين، فعصره والزمه بحمل ستة «1» آلاف دينار ثم أفرج عنه. ولما نزل الأمير أيتمش إلى داره بعث إليه السلطان بأشياء كثيرة من الخيل والجمال والقماش والمماليك، ثم قبض السلطان على أسندمر وإسماعيل التّركمانىّ وكزل القرمىّ وآقبغا البجاسىّ وسربغا وسلّمهم إلى والى القاهرة.(12/20)
ثم قبض السلطان أيضا على أحد عشر أميرا وهم: قطلوبغا الطّشتمرىّ الحاجب وطقطاى الطّشتمرىّ الطواشى الرومىّ وآلابغا الطشتمرىّ وقرابغا السيفىّ وآقبغا السيفىّ وبيبغا السيفىّ وطيبغا السيفىّ ومحمد بن بيدمر أتابك دمشق وخير بك الخوارزمىّ ومنجك الزّينىّ وأرغون شاه السيفىّ وحبسهم ورسم بتسمير أسندمر الشّرفىّ رأس نوبة وآقبغا الظّريف البجاسىّ وإسماعيل التّركمانىّ وكزل القرمىّ وسربغا، فسمّروا وشهّروا بالقاهرة. ثم وسّطوا بالكوم «1» وهذا شىء لم يفعله ملك قبله بأمير، ففعل ذلك لما كان فى نفسه منهم.
ثم أحضر السلطان الأمير ألطنبغا الحلبىّ وألطنبغا أستادار جنتمر إلى مجلس قاضى القضاة شمس «2» الدين الرّكراكىّ المالكىّ وادّعى عليهما بما يقتضى القتل فسجنهما القاضى بخزانة شمائل «3» مقيّدين.
ثم قبض السلطان على الأمير سنجق الحسنىّ نائب طرابلس كان، ثم شكا رجل القاضى شهاب الدين القرشىّ إلى السلطان فأحضره السلطان من السجن وادّعى عليه غريمه بمال له فى قبله وبدعاوى شنيعة، فأمر به السلطان فضرب بالمقارع وسلّم إلى والى القاهرة ليخلّص منه مال المدّعى عليه، فضربه الوالى وأهانه وعصره مرارا ثم سجنه بخزانة شمائل.
ثم وقف شخص وادّعى أن أمير ملك ابن أخت جنتمر أخذ له ستمائة ألف درهم وأغرى به منطاش، حتّى ضربه بالمقارع، فأحضره السلطان حتّى سمع(12/21)
الدّعوى. ثم أمر به فضرب بالمقارع ضربا مبرّحا وسلّمه إلى والى القاهرة، فمات بعد ثلاثة أيام تحت العقوبة.
ثم قبض السلطان على مماليك الأمير بركة الجوبانىّ والمماليك الذين خدموا عند منطاش وتتبّعوا من الأماكن، ثم ضرب والى القاهرة القاضى شهاب الدين أحمد القرشى نحو مائتى شيب «1» .
ثم قدم البريد من الشام بأن منطاشا فى أوّل شهر رجب قدم دمشق وكان من خبر منطاش أنّ الناصرىّ لمّا كان بدمشق ورد عليه الخبر بمجيء منطاش إليه فخرج من وقته بعساكره يريد لقاءه على حين غفلة ومرّ من طريق الزّبدانىّ «2» ، فبادر أحمد بن شكر بجماعة البيدمرية ودخل دمشق من باب كيسان «3» ونهب إسطبل الناصرىّ وإسطبلات أمراء دمشق وخرج يوم الأحد تاسع عشرين جمادى الآخرة من دمشق ليلحق منطاش، فدخل منطاش من صبيحة اليوم وهو يوم الاثنين أوّل رجب إلى دمشق من طريق آخر ونزل بالقصر «4» الأبلق ونزل جماعته حوله، فعاد ابن شكر فى إثره إلى دمشق وأحضر إليه الخيول التى أخذها وهى نحو ثمانمائة فرس(12/22)
وكان منطاش لمّا خرج من عند نعير يريد دمشق، سار إلى مرعش «1» على العمق «2» حتى قدم على حماة فطرق نائبها بغتة فانهزم نائب حماة إلى نحو طرابلس من غير قتال، فدخل منطاش حماة ولم تحدث بها مظلمة.
ثم توجّه منها إلى حمص ففرّ منها أيضا نائبها إلى دمشق ومعه نائب بعلبك واجتمعا بالناصرىّ وعرّفاه الخبر، فخرج الناصرىّ على الفور- كما قدمنا ذكره- من طريق وجاء منطاش من طريق آخر. انتهى.
ثم إن منطاشا لما أقام بالقصر «3» الأبلق ندب أحمد بن شكر المذكور ليدخل إلى مدينة دمشق ويأخذ من أسواقها المال، فبينما هو فى ذلك إذ قدم الناصرى بعساكره فاقتتلا قتالا عظيما دام بينهم أياما إلى أواخر الشهر، وقتل كثير من الفريقين والأكثر ممن كان مع منطاش وفرّ عن منطاش معظم التركمان الذين قدموا معه شيئا بعد شىء، وصار منطاش محصورا بالقصر الأبلق والقتال عمّال بينهم فى كل يوم، حتى وجد منطاش له فرصة، ففرّ إلى جهة التركمان وتبعه عساكر دمشق فلم يدركه أحد، فعظم هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق إلى الغاية واتّهم الناس الناصرىّ بالتراخى فى قتال منطاش.
ثم إن الملك الظاهر خلع على الأمير قطلوبغا الصوىّ باستقراره حاجب الحجّاب بديار مصر وعلى الأمير بتخاص باستقراره حاجب ميسرة وعلى الأمير قديد(12/23)
باستقراره حاجبا ثالثا بإمرة طبلخاناه وعلى الأمير على باشاه باستقراره حاجبا رابعا وخلع على الأمير يلبغا الأشقر الأمير آخور باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن آقبغا الصغير بحكم طلبه إلى القاهرة وعلى ناصر الدين محمد بن شهرى فى نيابة ملطية «1» ثم خلع السلطان على الأمير أرغون شاه الإبراهيمىّ الظاهرىّ الخازندار، باستقراره حاجب حجاب دمشق عوضا عن آلابغا العثمانىّ واستقر آلابغا العثمانى المذكور فى نيابة حماة.
قلت: وكلّ من نذكره من هذا الوقت وننعته بالظاهرىّ فهو منسوب إلى الملك الظاهر برقوق ولا حاجة للتعريف بعد ذلك. ثم أنعم السلطان على كلّ من قاسم ابن الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ ولاجين الناصرىّ وسودون العثمانىّ النظامىّ وأرغون شاه الآقبغاوىّ وسودون من باشاه الطغاى تمرىّ وشكرباى العثمانى الظاهرىّ وقجق القرمشىّ «2» الظاهرىّ بإمرة طبلخاناه وعلى كل من قطلوبغا الطّقتمشىّ وعبد الله أمير زاه ابن ملك الكرج «3» وكزل الناصرىّ(12/24)
وعلّان «1» اليحياوىّ الظاهرىّ وكمشبغا الإسماعيلىّ الظاهرىّ وقلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ بإمرة عشرة.
ثم فى تاسع شهر رجب ضرب القاضى شهاب الدين القرشىّ قاضى قضاة دمشق بخزانة شمائل «2» ، حتى مات تحت العقوبة من ليلته وأخرج على وقف الطّرحى.
ثم فى خامس عشر رجب اجتمع القضاة والأمير بتخاص الحاجب بالمدرسة «3» الصالحية بين القصرين وأحضر الأمير ألطنبغا دوادار جنتمر وأوقف تحت الشّباك عند خيمة الغلمان على الطريق وادّعى عليه بما اقتضى إراقة دمه وشهد عليه وضربت رقبته، ثم فعل بالأمير ألطنبغا الحلبىّ مثله وحملت رءوسهما على رمحين ونودى عليهما بشوارع القاهرة.
ثم رسم السلطان فى أوّل شعبان بخروج تجريدة من الأمراء إلى الشام لتكون معاونة للناصرىّ على قتال منطاش، فأخذ من عيّن للسفر فى التجهيز، ثم أشيع سفر السلطان بنفسه وأخذ أرباب الدولة فى إصلاح أمر السفر.
ثم فى خامس شعبان قتل السلطان الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة كان، وسببه أنّه لمّا عوقب واستمرّ محبوسا بخزانة شمائل جمع ولده كثيرا من العشير ونهب الرملة «4» وقتل كثيرا من الناس، فلما بلغ السلطان ذلك أمر بقتله فقتل(12/25)
ثم ضرب السلطان الأمير حسام الدين حسين بن علىّ الكورانىّ فى سجنه بخزانة شمائل بالمقارع ضربا مبرّحا.
ثم فى عاشر شعبان علّق السلطان جاليش «1» السفر إلى بلاد الشام فتحقّق كلّ أحد عند ذلك بسفر السلطان وأصبح من الغد وهو يوم حادى عشر شعبان تسلّم الأمير علاء الدين علىّ بن الطّبلاوىّ والى القاهرة الأمير صراى تمر دوادار منطاش الذي كان والى الغيبة بديار مصر وكان سكن بباب «2» السلسلة والأمير تكا الأشرفىّ ودمرداش القشتمرىّ ودمرداش اليوسفى وعليّا الجركتمرىّ، فقتلوا جميعا إلّا عليّا الجركتمرىّ فإنّه عصر وعوقب، ثم قتل بعد ذلك مع الأمير قطلوبغا النظامىّ نائب صفد.
ثم فى ثانى عشره عرض السلطان المحابيس من المنطاشية فأفرد [منهم «3» ] جماعة كبيرة للقتل فقتلوا فى ليلة الأحد ثالث عشره، منهم الأمير جنتمر أخو طاز نائب الشام والأمير ألطنبغا الجربغاوىّ والطواشى طقطاى الطّشتمرىّ الرومىّ والقاضى فتح الدين محمد بن الشهيد كاتب سر دمشق، ضربت أعناقهم بالصحراء.
ثم خلع السلطان فى يوم خامس عشر شعبان على القاضى جمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية وصرف قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل ونزل فى موكب جليل وكتب له فى توقيعه الجناب العالى،(12/26)
كما كتب للقاضى عماد الدين أحمد الكركىّ وكان سبب كتابة ذلك لعماد الدين إيادى سلفت له على الملك الظاهر برقوق فى أيام حبسه فى الكرك وأيضا اعتنى به أخوه القاضى علاء الدين على الكركىّ كاتب السر الشريف وهو أوّل من كتب له: الجناب العالى من المتعمّمين وما كان يكتب ذلك إلا للوزير بديار مصر فقط وكان يكتب للقضاة بالمجلس العالى.
ثم فى ثامن عشر شعبان المذكور قبض السلطان على عدّة من الأمراء فسجنوا بالقلعة، فكان ذلك آخر العهد بهم.
وفيه عيّن السلطان لنيابة الغيبة الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ ورسم للأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ النائب أن يتحوّل إلى قلعة الجبل، فتحوّل إليها هو والأمير بجاس النّوروزىّ ورسم السلطان بأن يقيم بالقلعة أيضا ستمائة مملوك وأميرهم تغرى بردى اليشبغاوى الظاهرىّ رأس نوبة، أعنى: (الوالد) والأمير الطواشى صواب السعدىّ شنكل مقدّم المماليك السلطانية وتعيّن للإقامة بالقاهرة من الأمراء الأمير قطلوبغا الصّفوى حاجب الحجّاب والأمير بتخاص السّودونىّ الحاجب الثانى والأمير قديد القلمطاوىّ الحاجب الثالث وأحد أمراء الطبلخاناه والأمير طغاى تمر باشاه الحاجب وقرابغا الحاجب فى عدة من الأمراء العشرات.
ورسم للشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وقاضى القضاة بدر الدين بن أبى البقاء وهو غير قاض والقاضى بدر الدين محمد بن فضل الله [العمرى «1» ] المعزول عن كتابة السرّ وقضاة العسكر ومفتى دار العدل بالسفر صحبة السلطان من جملة القضاة الأربعة فتجهّزوا لذلك.(12/27)
ونزل السلطان بعد صلاة الظهر فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شعبان المذكور من قلعة «1» الجبل وتوجّه حتى نزل بالرّيدانية خارج القاهرة وأقام به، ثم طلب من الغد سائر المسجونين بخزانة شمائل إلى الريدانية، فحضروا وعرضوا على السلطان، فأفرد منهم سبعة وثلاثين رجلا، فأمر بثلاثة منهم فغرّقوا فى النيل: وهم محمد بن الحسام أستادار أرغون أسكى وأحمد بن النقوعىّ ومقبل الصّفوى وسمّر منهم سبعة وهم: شيخ الكريمى وأسندمر نائب قلعة الجبل وثلاثة من أمراء الشام واثنان من التّركمان «2» ، ثمّ وسّطوا، ثمّ قتل من بقى منهم فى السجن.
ثمّ فى رابع عشر منه استقر ناصر الدين محمد بن كلبك «3» شاد الدواوين، وأنعم على الأمير أبى بكر بن سنقر الجمالى بإمرة طبلخاناه ورسم له بإمرة الحاج.
ثم رحل السلطان الملك الظاهر بعساكره من الريدانية فى سادس عشرين شعبان سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وبعد سفر السلطان من الرّيدانيّة قتل والى القاهرة اثنى عشر أميرا من الأمراء المسجونين بالقاهرة فى ليلة الثلاثاء، وهم:
أرغون شاه السّيفى وآلابغا الطشتمرىّ وآقبغا السيفى وبزلار الخليلىّ وآخرون.(12/28)
ثمّ فى ليلة الأربعاء سلخه قتل الأمير صنجق الحسنى «1» نائب حماة، ثمّ طرابلس وقرابغا السيفىّ ومنصور حاجب غزّة وأظنّ هؤلاء هم تمام السبعة والثلاثين نفرا الذين عرضهم السلطان بالريدانية. والله أعلم.
ثمّ استقل السلطان بالمسير إلى نحو البلاد الشامية حتى دخل دمشق فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر رمضان وقد زيّنت له دمشق وخرج الأمير يلبغا الناصرى نائب الشام إلى لقائه بمنزلة اللّجون «2» ، فكان لدخوله إلى دمشق يوم مشهود وحمل الناصرىّ على رأسه القبّة والطير وعند دخول السلطان إلى دمشق نادى فيها بالأمان لأهل دمشق، فإنهم كانوا قاموا مع منطاش قياما عظيما وأفحشوا فى أمر الملك الظاهر وقتاله.
ثم فى يوم ثالث عشرين شهر رمضان صلّى السلطان صلاة الجمعة بجامع «3» دمشق وعند ما فرغ السلطان من الصلاة نادى الجاويش فى الناس بالأمان، والماضى(12/29)
لا يعاد، ونحن من اليوم تعارفنا، فضجّ الناس بالدعاء للسلطان وخرجوا من بيوتهم إلى معايشهم وحوانيتهم وأمنوا بعد أن كانوا فى وجل وخوف وهم مترقّبون ما يحلّ بهم منه، لما وقع منهم فى حقّه فى السنة الماضية لمّا حضر منطاش ومبالغتهم فى سبّه ولعنه واستمرارهم على قتاله.
وأمّا الأمير كمشبغا نائب الغيبة فإنه عمل النيابة على أعظم حرمة، حتى إنّه نادى فى تاسع عشرين شهر رمضان بمنع النساء فى يوم العيد إلى التّرب، ومن خرجت وسّطت هى والمكارى وألّا يركب أحد فى مركب للتفرّج وأشياء كثيرة من هذا النّموذج، فلم يجسر أحد على مخالفته.
ثم نادى ألّا تلبس امرأة قميصا واسع الأكمام ولا يزيد تفصيل القميص على أكثر من أربعة عشر ذراعا، وكان النساء بالغن فى سعة القمصان حتى كان يفصّل القميص الواحد من اثنين وسبعين ذراعا من القماش، فمشى ذلك وفصّلوا قمصانا سمّوها كمشبغاويّة. ورأيت أنا القمصان الكمشبغاويّة المذكورة، وكان أكمامها مثل أكمام قمصان العربان.
وأمّا السلطان الملك الظاهر برقوق فإنّه أقام بدمشق إلى ثانى شوّال وخرج منه يريد مدينة حلب، فسار بعساكره حتى وصلها فى ثانى عشرين شوّال، بعد أن أقام بمدينة حمص وحماة أيّاما كثيرة وأعاد السلطان القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله إلى كتابة السّرّ لضعف القاضى علاء الدين الكركىّ وعندما دخل السلطان إلى حلب ورد عليه الخبر أن سالما الدّوكارىّ قبض على الأمير منطاش وأنّ صاحب ماردين «1»(12/30)
قبض أيضا على جماعة من المنطاشية، فسّر السلطان بذلك وبعث بالأمير قرا الأحمدىّ نائب حلب فى عساكر حلب لإحضار منطاش من عند سالم الدّوكارىّ، فسار قرا دمرداش حتى وصل إلى سالم الدوكارىّ وأقام عنده أربعة أيام يطالبه بتسليم منطاش وهو يماطله، فحنق منه قرا دمرداش وركب بمن معه من العساكر ونهب بيوته وقتل عدّة من أصحابه وفرّ سالم بمنطاش إلى سنجار «1» ، وامتنع بها وفى عقب ذلك وصل الأمير يلبغا الناصرىّ نائب الشام إلى بيوت سالم الدّوكارىّ قرا دمرداش ما وقع منه فى حقّ سالم وأغلظ له فى القول وهم أن يضربه بالسيف، فدخل بعض الأمراء بينهما حتى سكّن ما به وكادت الفتنة أن تقوم بينهما ويعود الأمر على ما كان عليه أوّلا.
وأما الأمير الكبير إينال اليوسفىّ فإنّه وجّه السلطان إلى صاحب ماردين، فسار إلى رأس عين «2» وتسلّم منه الجماعة المقبوض عليهم من المنطاشية وعاد بهم إلى السلطان وكبيرهم الأمير قشتمر الأشرفىّ وبكتاب صاحب ماردين وهو يعتذر فيه ويعد بتحصيل غريم السلطان، فكتب له الجواب بالشكر والثناء.(12/31)
وأما السلطان لمّا بلغه ما جرى بين يلبغا الناصرىّ نائب الشام وبين قرا دمرداش الأحمدىّ نائب حلب وعودهما من غير طائل، غلب على ظنه صحة ما نقل عن يلبغا الناصرىّ قبل تاريخه أنّ قصده مطاولة الأمر بين الملك الظاهر وبين منطاش وأن منطاش لم يحضر إلى دمشق فيما مضى إلّا بمكاتبته له بقدومه وأنه طاوله فى القتال، (أعنى: لمّا كان نزل منطاش بالقصر الأبلق «1» بميدان دمشق) ولو شاء الناصرىّ لكان أخذه فى أقلّ من ذلك وأنّ رسل الناصرىّ كانت ترد على منطاش فى كلّ ليلة بما يأمره به وأنّ سالما الدوكارىّ لم يدخل بمنطاش إلى سنجار إلّا بمكاتبته وقوى عند الملك الظاهر برقوق وتحرّكت عنده تلك الكمائن القديمة من خروجه عليه وخلعه من الملك وحبسه بالكرك وكلّ ما هو فيه إلى الآن من الشرور والفتن، فالناصرىّ هو السبب فيها وسكت حتى قدم الناصرىّ إلى حلب، فقبض عليه وعلى الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة وعلى الأمير كشلى أمير آخور الناصرىّ(12/32)
والشيخ حسن رأس نوبته وسجن الجميع بقلعة حلب، ثم قتلهم من ليلته بقلعة حلب.
وكان الناصرىّ من أجلّ الأمراء ومن أكابر مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ، وقد تقدّم من أمره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الأولى وفى ترجمة الملك المنصور حاجىّ وما وقع له مع منطاش وغيره ما يغنى عن التعريف به هنا ثانيا.
قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ الحنفىّ فى تاريخه «1» فى حق يلبغا الناصرىّ المذكور: وكان من ابتداء إنشائه من أيام الملك الناصر حسن إلى آخر عمره على فتنة وسوء رأى وتدبير وشؤم؛ حتى قيل: إنه ما كان مع قوم فى أمر من الأمور إلّا وقد حصل لهم العكس وشوهد ذلك منه، كان مع أستاذه يلبغا الخاصّكىّ العمرىّ فانكسر، ثم أسندمر الناصرىّ فغلب وانقهر، ثم مع الأشرف شعبان بن حسين فقتل، ثم مع الأمير بركة فخذل، انتهى كلام العينىّ.
قلت: نصرته على الملك الظاهر برقوق وأحده مملكة الديار المصريّة وحبسه للملك الظاهر برقوق بالكرك بكلّ ما قاله العينىّ، وقد فات العينىّ أيضا كسرة الناصرىّ من منطاش بباب السلسلة وحبس منطاش له، لأنّ قضيته مع منطاش كانت أعظم شاهد للعينىّ فيما رماه به من الشؤم. انتهى.
ثم عزل الملك الظاهر الأمير قرا دمرداش عن نيابة حلب، وأنعم عليه بتقدمة ألف بالديار المصريّة، عوضا عن الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ الدوادار الكبير بحكم انتقال بطا إلى نيابة الشام عوضا عن الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ المقدّم(12/33)
ذكره، وخلع السلطان على بطا المذكور، وعلى جلبان الكمشبغاوى الظاهرىّ رأس نوبة النّوب المعروف بقرا سقل باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن قرا دمرداش الأحمدىّ فى يوم واحد، وهما أوّل من ترقّى من مماليك الملك الظاهر إلى الرّتب وولى الأعمال الجليلة.
ثم خلع الملك الظاهر على الأمير فخر الدين إياس الجرجاوى باستقراره فى نيابة طرابلس، وأخلع على الأمير دمرداش المحمدىّ الظاهرى بنيابة حماة، وخلع على الأمير أبى يزيد بن مراد الخازن باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن بطا المنتقل إلى نيابة الشام، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، لما لأبى يزيد المذكور على السلطان من الإيادي عند ما اختفى عنده فى محنة الناصرىّ ومنطاش.
ثم أنعم السلطان على الأمير تنبك اليحياوىّ الظاهرىّ بإقطاع جلبان قرا سقل المنتقل إلى نيابة حلب.
ثم خرج السلطان من حلب فى يوم الاثنين أوّل ذى الحجّة عائدا إلى دمشق فدخلها فى ثالث عشرين «1» ذى الحجّة، وقتل بها يوم دخوله الأمير آلابغا العثمانى الدوادار الكبير كان، والأمير سودون باق أحد مقدّمى الألوف أيضا، وسمّر ثلاثة عشر أميرا منهم الأمير أحمد بن بيدمر أتابك دمشق، وأحمد بن أمير علىّ الماردينىّ أحد مقدّمى الألوف بدمشق، ويلبغا العلائىّ، وقنق باى السّيفىّ، نائب ملطية، وكمشبغا السيفى نائب بعلبكّ، وغريب الخاصّكى أحد أمراء الطبلخاناه بمصر، وقرا بغا العمرى وجماعة أخر ووسّطوا الجميع، وأقام السلطان بدمشق، وأهلها على تخوّف عظيم منه إلى أن خرج منها فى العشر الأخير من ذى الحجّة سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة عائدا إلى الديار المصرية، فسار بعساكره حتى دخل مدينة غزّة فى يوم الجمعة ثالث محرّم(12/34)
سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فعند ذلك نودى بالقاهرة بالزّينة لقدومه، فزيّنت أعظم زينة إلى يوم ثالث عشر المحرّم، فقدم البريد من السلطان إلى مصر بالخروج إلى ملاقاته إلى بلبيس «1» ، فخرج الأمير كمشبغا الحموىّ نائب الغيبة، ومعه الأمير سودون الشيخونىّ النائب، وبقية الأمراء، وساروا حتى وافوا السلطان بمدينة بلبيس، فقبّلوا الأرض بين يديه وعادوا فى ركابه حتى نزل السلطان بالعكرشة «2» ، وأقام بها إلى ليلة الجمعة، ثم رحل فى صبيحة الجمعة سابع عشر المحرّم، فخرج من القاهرة سائر الطوائف إلى لقائه ومشوا فى خدمته، وقد اصطفّت الناس لرؤيته إلى أن طلع إلى القلعة يوم الجمعة المذكور فى موكب جليل إلى الغاية، وكان لطلوعه يوم مشهود.
ولمّا طلع إلى القلعة جلس بالقصر وخلع على الأمراء وأرباب الوظائف.
ثم قام ودخل إلى الدور السلطانية، فاستقبله المغانى والتهانى وفرشت الشّقق الحرير تحت أقدامه، ونثر على رأسه الذهب والفضّة، هذا! وقد تخلّق غالب أهل القلعة بالزّعفران.
فلم يمض بعد ذلك إلا أيام يسيرة، وقدم البريد من دمشق فى يوم خامس عشرينه بسيف الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ نائب الشام، وبطا هذا! هو الذي خرج من سجن القلعة وملك باب السلسلة فى غيبة الملك الظاهر برقوق حسب ما ذكرناه فى وقته من هذا الكتاب، واتّهم الملك الظاهر فى موته، فخلع السلطان(12/35)
فى يوم سابع عشرينه على الأمير سودون طرنطاى بنيابة دمشق، عوضا عن بطا المذكور.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشر صفر قبض السلطان على الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ المعزول قبل تاريخه عن نيابة حلب وعلى الأمير ألطنبغا، المعلم نائب الإسكندرية وهو أيضا يلبغاوىّ، وسجنا بالبرج من القلعة، وقرا دمرداش هذا! هو الذي كان الملك الظاهر خلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار، فأخذها قرا دمرداش وخامر عليه وتوجّه إلى الناصرىّ ومنطاش فأسرّ له السلطان ذلك إلى يوم «1» قبض عليه، فذكرها للأمراء وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة الملك الظاهر الأولى.
ثمّ فى خامس عشرين صفر أيضا مسك السلطان الأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة النوب كان وأخرج بعد أيام على إمرة عشرة بغزّة، ثم خلع السلطان على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظّاهرىّ باستقراره أمير جاندار بعد موت قطلوبغا القشتمرىّ وخلع على ناصر الدين محمد ابن الأمير محمود الأستادار بنيابة الإسكندرية عوضا عن ألطنبغا المعلّم المقبوض عليه.
ثمّ قدم البريد من دمشق بأنّ خمسة من المماليك أتوا إلى نائب قلعة دمشق مشاة، وشهروا سيوفهم وهجموا القلعة وملكوها وأغلقوا بابها وأخرجوا من بها من المنطاشيّة والناصريّة وهم نحو مائة رجل وقتلوا نائب القلعة ومن معه وأنّ حاجب حجّاب دمشق ركب بعسكر دمشق وقاتلهم ثلاثة أيام حتى أخذ القلعة منهم وقبض على الجميع إلا خمسة، فإنهم فرّوا فوسّط الحاجب الجميع.(12/36)
ثمّ فى ثالث عشرين شهر ربيع الآخر رسم السلطان بقتل الأمير أيدكار العمرىّ حاجب الحجّاب كان والأمير قراكسك والأمير أرسلان اللّفّاف والأمير أرغون شاه.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى أحضرت إلى القاهرة من الإسكندريّة عدّة رءوس من الأمراء المسجونين بها وغيرهم.
وفى تاسع عشر شهر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على الأمير كمشبغا الحموىّ باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد موت الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ، على أن كمشبغا كان يجلس فوق إينال المذكور.
ثمّ خلع السلطان على الأمير أيتمش البجاسىّ باستقراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وأنعم عليه بزيادة على إقطاعه حتى صار إقطاعه يضاهى إقطاع الأمير الكبير، لأن أيتمش المذكور كان ولى الأتابكيّة بديار مصر فى سلطنة الملك الظاهر الأولى إلى أن مسكه الناصرىّ وحبسه بقلعة دمشق وقد تقدّم ذلك.
وفى يوم الاثنين أوّل شهر رمضان خلع السلطان على الأمير كمشبغا الأشرفىّ الخاصكىّ أمير مجلس باستقراره فى نيابة دمشق بعد موت سودون طرنطاى.
قلت: هذا رابع نائب ولى دمشق فى أقل من سنة: الأوّل الناصرى، والثانى بطا، والثالث سودون طرنطاى، والرابع كمشبغا هذا، فلعمرى! هل هذه آجال متقاربة لديهم، أم كؤوس منايا تدور عليهم.
ثم قدم البريد على السلطان بقتال عسكر حلب لمنطاش وفرار منطاش وانهزامه أمامهم حتى عدّى الفرات.
ثم أنعم السلطان فى اليوم المذكور على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وأنعم بطبلخانات الوالد على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ، وكان(12/37)
الإقطاع المنعم به على الوالد عوضا عن كمشبغا الخاصّكى المنتقل إلى نيابة الشام وأنعم السلطان بإقطاع قلمطاى على الأمير شادى خجا الظاهرىّ والإقطاع إمرة عشرة.
ثمّ أمسك السلطان شيخ الشيوخ المعروف بالشيخ أصلم بن نظام الدين الأصبهانىّ صاحب الزاوية «1» على الجبل تجاه باب الوزير وسلّمه لشادّ الدواوين على حمل مائتى ألف درهم، وسببه أنّ السلطان لما اختلّ أمره فى حركة الناصرىّ ومنطاش وهمّ بالهرب طلب أصلم المذكور، وأعطاه خمسة آلاف دينار، وواعده أنه ينزل إليه ويحتفى عنده، فلم يف له أصلم بذلك، وأخذ الذهب وغيّب، فاختفى السلطان فى بيت أبى يزيد من غير ميعاد واعده.
وفى سابع عشرين شوّال استقرّ الأمير بكلمش العلائىّ الأمير آخور أمير سلاح، واستقر الأمير تنبك اليحياوىّ الظاهرىّ أمير آخور كبيرا عوضه.
وفى ثانى عشر ذى القعدة قتل الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ نائب حلب كان، والأمير تغاى تمر نائب سيس فى عدة أمراء أخر.
وفى ثالث محرّم سنة خمس وتسعين وسبعمائة قدم البريد على السلطان من الشام بموت الأمير كمشبغا الخاصّكى الأشرفى نائب دمشق، فاستقر السلطان بالأمير تنبك الحسنىّ الظاهرىّ المعروف بتنم أتابك دمشق فى نيابتها عوضا عن كمشبغا المذكور.
قلت: الآن طاب خاطر السلطان الملك الظاهر برقوق بنيابة تنم المذكور فإنّ الشام صار الآن بيد مملوكه، كما نيابة حلب وحماة مع جلبان ودمرداش ولمّا(12/38)
استقرّ تنم فى نيابة دمشق، رسم السلطان بنقل الأمير إياس الجرجاوىّ نائب طرابلس إلى أتابكيّة دمشق، عوضا عن تنم المذكور، ونقل الأمير دمرداش المحمدى الظاهرى من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضه، واستقر الأمير آقبغا الصغير فى نيابة حماة عوضا عن دمرداش المذكور.
وفى أثناء ذلك قدم البريد على السلطان. يخبر بأنّ منطاشا ونعيرا أمير العرب وابن بزدغان التّركمانىّ وابن إينال التركمانىّ صاروا فى عسكر كثيف وحضروا به إلى سلمية «1» فلقيهم محمد بن قارا أمير العرب على شيزر «2» بتراكمين الطاعة، فقاتلهم وقتل ابن بزدغان وابن إينال، وجرح منطاش وسقط عن فرسه، فلم يعرف لأنه كان حلق شاربه ورمى شعره حتى أدركه ابن نعير وأردفه خلفه وانهزم به، بعد أن قتل من الفريقين عالم كبير، وحملت رأس ابن بزدغان وابن إينال إلى دمشق، فعلّقتا على قلعتها، ففرح السلطان بذلك، وكتب لمحمد بن قارا بالشكر والثناء وأرسل إليه خلعة هائلة.(12/39)
ثمّ بعد أيام يسيرة ورد الخبر بأن نعيرا والأمير منطاشا كبسا حماة فى عسكر كبير، فقاتلهم الأمير آقبغا الصغير نائب حماة فيما بين حماة وطرابلس وكسرهما، فلمّا بلغ الأمير جلبان الكمشبغاوى قراسقل نائب حلب ذلك ركب بعسكره وسار إلى أبيات نعير ونهبها «1» وأخذ ما قدر عليه من المال والخيل والجمال والأغنام والنساء والأطفال، وأضرم النيران فيما بقى عندهم.
ثمّ أكمن كميا. فلما سمع نعير بما وقع عليه رجع إلى نحو بيوته بجماعته، فخرج الكمين عليه وقتل من عربانه جماعة كبيرة وأسر مثلها، وقتل فى هذه الوقعة من عسكر «2» حلب نحو المائة فارس، وعدّة من الأمراء، فأعجب السلطان «3» ما فعله نائب حلب، وكتب إليه بالشكر والثناء، وأرسل إليه خلعة عظيمة وفرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم أخرج السلطان الأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح كان، من السجن وأرسله إلى ثغر دمياط «4» بطالا، وأفرج السلطان أيضا عن الأمير قطلوبغا السيفى حاجب الحجاب كان فى أيام منطاش وأرسله إلى الثغر المذكور.
ثم فى رابع عشر جمادى الآخرة من سنة خمس وتسعين وسبعمائة قدم البريد بموت الأمير يلبغا الإشقتمرى نائب غزة «5» ، وفى تاسع عشرين جمادى المذكورة خلع(12/40)
السلطان على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا كبيرا بعد موت الأمير أبى يزيد بن مراد الخازن، وخلع السلطان على الأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن يلبغا الأقشتمرىّ.
قلت: أدركت أنا ألطنبغا العثمانى الظاهرىّ هذا فى نيابته على دمشق فى دولة الملك المؤيّد شيخ. انتهى.
وأنعم السلطان بإقطاع ألطنبغا العثمانىّ على الأمير تمراز الناصرىّ الظاهرىّ رأس نوبة، والإقطاع: إمرة طبلخاناه، وأنعم السلطان بإمرة تمراز المذكور على الأمير شرف الدين موسى بن قمارى أمير شكار، والإقطاع إمرة عشرة.
وفى يوم الاثنين ثالث شهر رمضان من سنة خمس وتسعين المذكورة قدم البريد من حلب بالقبض على الأمير منطاش، وكان من خبره، أن الأمير جلبان نائب حلب لم يزل فى مدّة ولايته على حلب يبذل جهده فى أمر منطاش، حتى وافقه الأمير نعير على ذلك بعد أمور صدرت بينهما، وكان منطاش فى طول هذه المدّة مقيما عند نعير، فبعث جلبان شادّ شراب خاناته السيفى كمشبغا فى خمسة عشر مملوكا إلى نعير، بعد أن التزم الأمير جلبان لنعير بإعادة إمرة العرب عليه، فسار كمشبغا المذكور حتى قارب أبيات نعير، فنزل فى موضع، وبعث يأمر نعيرا بالقبض على منطاش ويعلمه بحضوره، فندب نعير أحد عبيده إليه يستدعيه، فأحس منطاش بالشر وفطن بالقصد فهمّ بالفرار، فركب فرسه وأراد التوجه إلى حال سبيله، فقبض العبد على عنان فرسه فهم منطاش بضربه، فأدركه عبد آخر وأنزلاه عن فرسه وأخذا سيفه، فتكاثروا عليه، فلما تحقّق منطاش أنه أخذ ومسك أخذ سكينا كانت معه وضرب نفسه بها أربع ضربات أغشى عليه، وحمل وأتى به إلى عند كمشبغا المذكور ومعه فرسه وأربعة جمال، فتسلمه كمشبغا وسار به(12/41)
إلى حلب، فدخلها فى أربعمائة فارس من عرب نعير، فكان لدخوله حلب يوم عظيم مشهود وحمل منطاش إلى قلعة حلب وسجن بها.
ثمّ كتب إلى السلطان بمسكه، فلما بلغ السلطان ذلك سرّ سرورا عظيما وأنعم على كمشبغا المذكور بخمسة آلاف درهم وخلع عليه فوقانيا «1» بطرز ذهب مزركش ورسم السلطان إلى سائر الأمراء أن يوافوه بالخلع ودقّت البشائر لهذا الخبر بالديار المصرية وزيّنت القاهرة من الغد زينة عظيمة.
ثمّ خلع السلطان على الأمير طولو من علىّ باشاه الظاهرىّ أحد أمراء العشرات وندبه للتوجّه إلى حلب على البريد لإحضار رأس منطاش، بعد أن يعذّبه بأنواع العذاب ليقرّ على أمواله، فسار طولو فى خامسه إلى حلب وأحضر منطاشا وعصره وأجرى عليه أنواع العذاب ليقرّ بالمال، فلم يعترف بشىء، فذبحه بعد عذاب شديد، قيل: إنه عذّب بأنواع العذاب والكسّارات والنار فى أطرافه، حتى لم يبق فيه عضو إلا وتكسّر وهو مصمم على أنه لا يملك شيئا، ثم قطع رأسه وحملت على رمح وطيف بها بمدينة حلب، ثمّ أخذها طولو وعاد يريد الديار المصرية، فصار كلما دخل إلى مدينة طاف بها على رمح وعمل بها كذلك فى سائر مدن الشام، حتى وصلت إلى الديار المصرية صحبة طولو المذكور فى يوم الجمعة حادى عشرين رمضان «2» ، فعلّقت على باب قلعة الجبل، ثمّ طيف بها القاهرة على رمح، ثمّ علقت على باب زويلة أياما، ثم سلمت إلى زوجته أم ولده، فدفنتها فى سادس عشرينه.
ثمّ ندب السلطان يلبغا السالمىّ الظاهرىّ إلى نعير بالخلع.(12/42)
ثمّ فى سادس عشرينه قدم رسل الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين على السلطان تخبر بأن تيمورلنك أخذ مدينة تبريز وأرسل يستدعيه «1» إلى عنده فاعتذر لمشاورة سلطان مصر، فلم يقبل منه تيمور ذلك وقال له: ليس لصاحب «2» مصر بملكك حكم وأرسل إليه خلعة «3» وسكة «4» ينقش بها الذهب والدنانير وقدم مع القاصد أيضا رسول صاحب بسطام «5» ، يذكر بأن تيمور قتل شاه منصور متملّك شيراز وبعث برأسه إلى بغداد وبعث بالخلع والسكة إلى السلطان أحمد بن أويس صاحب العراق، فلبس السلطان أحمد الخلعة وطاف بها فى شوارع بغداد وضرب باسمه السكة، وكان ذلك خديعة من تيمور، حتى ملك منه بغداد فى يوم السبت حادى عشرين شوّال من سنة خمس وتسعين المذكورة.
وكان سبب أخذ تيمور بغداد أن ابن أويس المذكور كان أسرف فى قتل أمرائه وبالغ فى ظلم رعيته وانهمك فى الفجور والفساد.
قلت فائدة: حكى بعض الحكماء أن الرجل إذا كان فيه خصلة من سبع خصال تمنعه السيادة على قومه ونظم السبعة بعضهم فقال: [الخفيف]
منع الناس أن يسود عليهم ... سبعة قاله ذوو التبيان
أحمق كاذب صغير فقير ... ظالم النفس ممسك الكفّ زان(12/43)
ولما وقع من السلطان أحمد ذلك كاتب أهل بغداد تيمور بعد استيلائه على مدينة تبريز «1» يحثونه على المسير إلى بغداد، فتوجّه إليها بعساكرها حتى بلغ الدّربند «2» وهو من بغداد مسيرة يومين، فبعث إليه أحمد بن أويس بالشيخ نور الدين الخراسانىّ فأكرمه تيمور وقال له: أنا أترك بغداد لأجلك ورحل يريد السلطانية، فبعث نور الدين كتبة بالبشارة إلى بغداد.
ثم قدم فى إثرها فاطمأن أهلها وكان تيمور قد سار يريد بغداد من طريق أخرى، فلم يشعر أحمد بن أويس وقد اطمأن إلا وتيمور نزل غربى بغداد قبل أن يصل الشيخ نور الدين فدهش عند ذلك ابن أويس وأمر بقطع الجسر ورحل من بغداد بأمواله وأولاده وقت السحر من ليلته وهى ليلة السبت المذكورة وترك بغداد فدخلها تيمور لنك وأرسل ابنه فى إثر ابن أويس فأدركه بالحلّة «3» ونهب ماله وسبى حريمه وأسر وقتل كثيرا من أصحابه، فنجا السلطان أحمد بن أويس بنفسه فى طائفة وهم عراة، فقصد حلب وتلاحق به من بقى من أصحابه.
ثم بعد ذلك قدم البريد على السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ ابن أويس المذكور نزل بالرحبة «4» فى نحو ثلاثمائة فارس وقدم كتاب ابن أويس وكتاب نعير،(12/44)
فأجيب أحسن جواب وكتب بإكرامه والقيام بما يليق به، فلما وصل كتاب السلطان إلى نعير توجه إليه، وعندما عاين ابن أويس نزل عن فرسه وقبّل الأرض بين يديه وسار به إلى بيوته وأضافه.
ثم سيّره إلى حلب فقدمها ومعه أحمد بن شكر ونحو الألفى فارس فأنزله الأمير جلبان قرا سقل نائب حلب بالميدان وقام له بما يليق به وكتب مع البريد إلى السلطان بذلك وعلى يد القادم أيضا كتاب السلطان أحمد بن أويس يستأذن فى القدوم إلى مصر، فجمع السلطان الأمراء للمشورة فى أمر ابن أويس، فاتفقوا على إحضاره وأن يخرج إلى مجيئه الأمير عز الدين أزدمر ومعه نحو ثلاثمائة ألف درهم فضة وألف دينار برسم النفقة على ابن أويس فى طريقه إلى مصر وتوجه أزدمر المذكور فى سادس عشرينه وسار أزدمر إلى حلب وأحضر السلطان أحمد ابن أويس المذكور إلى نحو الديار المصرية، فلما قرب ابن أويس من ديار مصر أخرج السلطان عدّة من الأمراء إلى لقائه.
فلمّا كان يوم الثلاثاء سابع عشرين «1» شهر ربيع الأوّل من سنة ست وتسعين وسبعمائة، نزل السلطان الملك الظاهر من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره إلى لقاء أحمد بن أويس وجلس بمسطبة مطعم «2» الطير من الرّيدانية خارج القاهرة إلى أن(12/45)
قرب السلطان أحمد بن أويس ووقع بصره على المسطبة التى جلس عليها السلطان، فنزل عن فرسه ومشى عدّة خطوات، فتوجه إليه الأمير بتخاص حاجب الحجّاب بالديار المصرية ومن بعده الأمراء للسلام على ابن أويس، فتقدّم بتخاص المذكور وسلم عليه ووقف بإزائه وصار كلما تقدّم إليه أمير ليسلّم عليه يعرّفه بتخاص باسمه ووظيفته وهم يقبّلون يده واحدا بعد واحد، حتى أقبل الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس فقال له: الأمير بتخاص هذا أمير مجلس وابن أستاذ السلطان، فعانقه ابن أويس ولم يدعه يقبّل يده.
ثمّ جاء بعده الأمير بكلمش العلاثىّ أمير سلاح فعانقه أيضا، ثمّ من بعده الأمير أيتمش البجاسىّ رأس نوبة الأمراء وأطابك فعانقه ثمّ من بعده الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ نائب السلطنة فعانقه، ثمّ الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر فعانقه وانقضى سلام «1» الأمراء، فقام عند ذلك السلطان ونزل من على المسطبة ومشى نحو العشرين خطوة، فلمّا رأى ابن أويس مشى السلطان له هرول حتى التقيا، فأومأ أحمد بن أويس ليقبّل يد السلطان فمنعه السلطان من ذلك وعانقه.
ثمّ بكيا ساعة ثم مشيا إلى نحو المسطبة والسلطان يطيّب خاطره ويعده بكل جميل وبالعود إلى ملكه ويده فى يده حتى طلعا على المسطبة وجلسا معا على البساط من غير أن يقعد السلطان على مرتبته وتحادثا طويلا، ثمّ طلب السلطان له خلعة فقدّم قبا حرير بنفسجىّ بفرو وقاقم بطرز زركش هائلة، فألبسه الخلعة المذكورة وقدّم له فرسا من خاصّ مراكيب السلطان بسرج ذهب وكنبوش زركش وسلسلة ذهب فركبه ابن أويس من حيث يركب السلطان، ثمّ ركب السلطان بعده وسارا(12/46)
يتحادثان والأمراء والعساكر سائرة على منازلهم ميمنة وميسرة، حتى قربا من القلعة، هذا والناس قد خرجت إلى قريب الرّيدانية «1» وامتلأت الصحراء منهم للفرجة على موكب «2» السلطان، حتى أدهش كثرتهم السلطان أحمد بن أويس، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة، ولما وصلا إلى قريب القلعة «3» وأخذت العساكر تترجّل عن خيولهم على العادة، صار ابن أويس مواكبا للسلطان حتى بلغا تحت الطبلخاناه من قلعة الجبل، فأومأ إليه السلطان بالتوجه إلى المنزل الذي أعدّ له على بركة «4» الفيل، وقد جدّدت عمارته وزخرفت بالفرش والآلات والأوانى، فسلّم ابن أويس على السلطان، وسار إليه وجميع الأمراء فى خدمته، وطلع السلطان إلى القلعة.
فلما دخل ابن أويس إلى المنزل المذكور ومعه الأمراء، مدّ الأمير جمال الدين محمود الأستادار بين يديه سماطا جليلا إلى الغاية فى الحسن والكثرة، فأكل السلطان أحمد وأكل الأمراء معه، ثم انصرفوا إلى منازلهم، وفى اليوم جهّز السلطان إليه مائتى ألف درهم فضة، ومائتى قطعة قماش سكندرىّ، وثلاثة أفراس بقماش ذهب وعشرين مملوكا وعشرين جارية، فلما كان الليل «5» قدم حريم ابن أويس وثقله.
ثمّ فى يوم الخميس عمل السلطان الخدمة بدار «6» العدل المعروفة بالإيوان «7» ، وطلع القان أحمد بن أويس المذكور، وعبر من باب الجسر الذي يقال له باب السرّ «8» وجلس(12/47)
تجاه الإيوان حتى خرج إليه رأس نوبة ومضى به إلى القصر، فأخذه السلطان، وخرج به إلى الإيوان، وأقعده رأس الميمنة فوق الأمير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر، فلما قام القضاة ومدّ السماط، قام الأمراء على العادة، فقام ابن أويس أيضا معهم ووقف، فأشار إليه السلطان بالجلوس فجلس، حتى فرغ الموكب، ولما انقضت خدمة الإيوان دخل مع السلطان إلى القصر وحضر خدمة القصر أيضا، ثمّ خرج الأمراء بين يديه، حتى ركب وقدّامه جاويشه ونقيب جيشه، فسار الأمراء فى خدمته إلى منزله.
ثمّ علّق السلطان جاليش السفر إلى البلاد الشامية على الطبلخاناه، فشرع الأمراء والمماليك وغيرهما فى تجهيز أحوالهم إلى السفر صحبة السلطان.
ثمّ فى حادى عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور، ركب السلطان من القلعة ومعه السلطان أحمد بن أويس إلى مدينة «1» مصر وعدّى النيل إلى برّ الجيزة، ونزل بالخيام ليتصيّد، فأقام هناك ثلاثة أيام وعاد، وقد أذهل ابن أويس ما رأى من تجمّل المملكة وعظمتها من ندماء السلطان ومغانيه وترتيبه فى مجلس موكبه وأنسه ثم فى سلخه قدم البريد من حلب بتوجّه الأمير ألطنبغا الأشرفىّ نائب الرّها «2» كان، وهو يوم ذلك أتابك حلب «3» ، والأمير دقماق المحمدىّ نائب ملطية «4» بعسكريهما(12/48)
وموافقتهما لطلائع تيمور لنك وهزيمتهما له، بعد أن قتلا من اللّنكيّة خلقا كثيرا، وأسرا أيضا جماعة كبيرة، وعاد إلى حلب بمائة رأس من التّمريّة.
وفى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر ابتدأ السلطان بنفقة المماليك، لكل مملوك مبلغ ألفى درهم وعدّتهم خمسة آلاف مملوك، فبلغت النفقة فى المماليك خاصة عشرة آلاف درهم فضة، سوى نفقة الأمراء وسوى ما حمل فى الخزائن وسوى ما تكلفه للقان أحمد بن أويس فيما مضى، وفيما يأتى ذكره.
وبينما السلطان فى ذلك قدم عليه كتاب تيمور يتضمن الإرداع والتخويف، ونصّه:
قل اللهم مالك الملك، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه، ومسلّطون على من حلّ عليه غضبه، لا نرقّ لشاك، ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا ومن جهتنا! قد خرّبنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا فى الأرض الفساد، وذلّت لنا أعزّتها، وملكنا بالشوكة أزمّتها، فإن خيّل ذلك على السامع وأشكل، وقال: إن فيه عليه مشكلا، فقل: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة) ، وذلك لكثرة عددنا، وشدّة بأسنا، فخيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وأسنّتها بوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وجيوشنا كعدد الرمال، ونحن أبطال وأقيال، وملكنا لا يرام، وجارنا لا يضام، وعزّنا أبدا لسؤدد منقام، فمن سالمنا سلم، ومن(12/49)
حاربنا ندم، ومن تكلّم فينا بما لا يعلم جهّل. وأنتم فإن أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا، فلكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم وعلى بغيكم تماديتم، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فالحصون منّا مع تشييدها لا تمنع، والمدائن بشدّتها لقتالنا لا تردّ ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا فلا يسمع، فكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام، وظلمتم «1» جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام، وقبلتم الرشوة من الحكّام، وأعددتم لكم النار وبئس المصير: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) فبما فعلتم ذلك أوردتم أنفسكم موارد المهالك، وقد قتلتم العلماء، وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف، وهذا والله هو البغى والإسراف، فأنتم بذلك فى النار خالدون، وفى غد ينادى عليكم:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
، فأبشروا بالمذلّة والهوان، يا أهل البغى والعدوان، وقد غلب عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا والله أنكم الكفرة الفجرة، وقد سلطنا عليكم الإله، له أمور مقدّرة، وأحكام محرّرة، فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل، لأننا ملكنا الأرض شرقا وغربا، وأخذنا منكم كلّ سفينة غصبا، وقد أوضحنا لكم الخطاب، فأسرعوا بردّ الجواب، قبل أن ينكشف الغطاء، وتضرم الحرب نارها، وتضع أو زارها، وتصير كلّ عين عليكم باكية، وينادى منادى الفراق:
هل ترى لهم من باقية، ويسمعكم صارخ الفناء بعد أن يهزّكم هزا، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، فلا تقتلوا المرسلين، كما فعلتم بالأوّلين، فتخالفوا كعادتكم سنن الماضين، وتعصوا رب العالمين، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
، وقد أوضحنا لكم الكلام، فأرسلوا بردّ الجواب والسلام(12/50)
فكتب جوابه بعد البسملة الشريفة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ
، وحصل الوقوف على ألفاظكم الكفريّة، ونزغاتكم الشيطانية، وكتابكم يخبرنا عن الحضرة الخانيّة، وسيرة الكفرة الملائكية، وأنكم مخلوقون من سخط الله ومسلطون على من حلّ عليه غضب الله، وأنكم لا ترقّون لشاك، ولا ترحمون عبرة باك، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، فذاك أكبر عيوبكم، وهذه من صفات الشياطين، لا من شيم السلاطين، وتكفيكم هذه الشهادة الكافية، وبما وصفتم به أنفسكم ناهية، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
ففى كل كتاب لعنتم، وعلى لسان كلّ مرسل نعتم، وبكل قبيح وصفتم، وعندنا خبركم من حين خرجتم، أنكم كفرة، ألا لعنة الله على الكافرين، من تمسّك بالأصول فلا يبالى بالفروع، نحن المؤمنون حقّا، لا يدخل علينا عيب، ولا يضرنا ريب، القرآن علينا نزل، وهو سبحانه رحيم لم يزل، فتحققنا نزوله، وعلمنا ببركته تأويله، فالنار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ
، ومن أعجب العجب تهديد الرتوت «1» بالتوت والسباع بالضباع والكماة بالكراع، نحن خيولنا برقيّة، وسهامنا عربية، وسيوفنا يمانية، ولبوسنا مصرية، وأكفّنا شديدة المضارب، وصفتنا مذكورة فى المشارق والمغارب، إن قتلنا كم فنعم البضاعة، وإن قتل منا أحد فبينه وبين الجنة ساعة، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ(12/51)
الْمُؤْمِنِينَ
. وأمّا قولكم: قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالقصّاب لا يبالى بكثرة الغنم، وكثير الحطب يغنيه الضّرم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
الفارّ الفارّ من الزوايا، وطول البلايا، واعلموا أنّ هجوم المنيّة، عندنا غاية الأمنية، إن عشنا عشنا سعداء، وإن قتلنا قتلنا شهداء ألا إن حزب الله هم الغالبون أبعد أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، تطلبون منا طاعة، لا سمع لكم ولا طاعة، وطلبتم أن نوصّح لكم أمرنا، قبل أن ينكشف الغطاء، ففى نظمه تركيك، وفى سلكه تلبيك، لو كشف الغطاء لبان القصد بعد بيان، أكفرتم بعد إيمان، أم اتخذتم إلها «1» ثان، وطلبتم من معلوم رأيكم، أن نتبع دينكم، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
قل: لكاتبك الذي وضع رسالته، ووصف مقالته، وصل كتابك كضرب رباب، أو كطنين ذباب، كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ
إن شاء الله تعالى لقد لبكتم «2» ، فى الذي أرسلتم، والسلام. انتهى.
فعرض هذا الجواب على السلطان ثمّ ختم وأرسل إليه.
ثم فى سادس شهر ربيع الآخر المذكور عرض السلطان أجناد الحلقة الذين عيّنوا للسفر وعيّن منهم أربعمائة فارس للسفر صحبة السلطان وترك الباقى بالديار المصرية.
ثمّ فى سابعه خرجت مدوّرة السلطان من القاهرة ونصبت بالريدانية «3» خارج القاهرة.
ثمّ فى يوم الأربعاء تاسعه عقد السلطان عقده على الخاتون تندى بنت حسين ابن أويس وكانت قدمت مع عمها السلطان أحمد بن أويس، ومبلغ الصداق ثلاثة(12/52)
آلاف دينار وكان صرف الدينار إذ ذاك ستة وعشرين درهما ونصف درهم، وبنى عليها ليلة الخميس عاشره وهو يوم سفره إلى الشام.
وأصبح من الغد فى يوم الخميس المذكور نزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإسطبل «1» السلطانىّ، ثمّ خرج من باب «2» السلسلة إلى الرميلة «3» وقد وقف القان أحمد ابن أويس وجميع الأمراء وسائر العسكر ملبسين آلة الحرب ومعهم أطلابهم، فسار السلطان وعليه قرقل «4» بلا أكمام وعلى رأسه كلفتة «5» وتحته فرس بعرقيّة من صوف سميك إلى باب القرافة والعساكر قد ملأت الرّميلة فرتّب هو بنفسه أطلاب الأمراء ومرّ فى صفوفها ذهابا وإيابا غير مرّة، حتى رتّبها أحسن ترتيب وصاحبها ينظر وأخذ يخالف فى تعبئة الأطلاب، كلّ تعبئة بخلاف الذي يتقدّمها، حفظت أنا غالبها عن الأستاذ الأتابك آقبغا التمرازىّ عن أستاذه تمراز الناصرىّ النائب ولولا الإطالة والخروج عن المقصود لرسمتها هنا بالنقط. انتهى.
فلمّا فرغ السلطان الملك الظاهر برقوق من تعبئة أطلاب أمرائه أخذ فى ترتيب طلب نفسه وجعله أمام أطلاب الأمراء كالجاليش لكثرة من كان به(12/53)
وعبّأه قلبا وجناح يمين وجناح شمال ورديفا وكمينا وأمر الكوسات والطبول فدقّت حربيّا.
ثمّ ترك جميع الأطلاب ومضى فى خواصّه إلى قبة «1» الإمام الشافعىّ [رضى الله عنه] وزاره وتصدّق على الفقراء بمال كثير خارج عن الحدّ، ثم سار إلى المشهد «2» النفيسىّ وزاره وتصدّق به أيضا، وفى طول طريقه بجملة مستكثرة، ثمّ عاد إلى الرّميلة وأشار إلى طلب السلطان فسار إلى نحو الرّيدانيّة فى أعظم قوّة وأبهج زىّ وأفخر هيئة وأحسن ملبس، جرّ فيه من خواصّ الخيل مائتا جنيب ملبسة آلة الحرب التى عظمت من الآلات المذهبة والمفضّضة والمزركشة على اختلاف أنواعها وصفاتها التى تحيّر العقول عند رؤيتها.
ثمّ أشار لأطلاب الأمراء فسارت أيضا بأعظم هيئة وقد تفاخر الأمراء أيضا فى أطلابهم وخرج كل طلب أحسن من الآخر حتى حاذوا القلعة(12/54)
فوقفوا يمينا ويسارا حتى سار السلطان فى موكبه فى غاية العظمة والأبّهة وإلى جانبه القان أحمد بن أويس على فرس بقماش ذهب وبجانب ابن أويس الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ ثم الأمراء ميمنة وميسرة، كلّ واحد فى رتبته حتى انقضى ممرّ السلطان وأمامه العساكر وخلفه، ثمّ سارت أطلاب الأمراء تريد الريدانية شيئا بعد شىء وسار السلطان حتى نزل بمخيّمه بالريدانيّة وأقام بها أياما.
ثم فى رابع عشره خلع على القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء باستقراره قاضى قضاة الشافعية بديار مصر، بعد عزل القاضى صدر الدين المناوىّ ودخل من الرّيدانية إلى القاهرة ومعه تغرى بردى من يشبغا رأس نوبة النّوب (أعنى الوالد) والأمير قلمطاى من عثمان الدوادار الكبير وآقبغا اللكّاش رأس نوبة ثان وجماعة أخر.
ثم قدم على السلطان بالريدانية ولد الأمير نعير ومعه محضر أنّ أباه أخذ مدينة بغداد وخطب بها للسلطان الملك الظاهر برقوق، فخلع السلطان عليه ووعده بكل خير.
ثمّ كتب السلطان بإحضار الأمير ألطنبغا المعلّم من ثغر دمياط «1» .
ثمّ خلع السلطان على الأمير سودون النائب ليقيم بالقاهرة فى مدّة غيبة السلطان، وعلى الأمير بجاس ليقيم بالقلعة، وعلى الأمير محمود الأستادار، وعلى ولده وخلع على التاجر برهان الدين المحلّىّ، وعلى التاجر شهاب الدين أحمد بن مسلم، وعلى التاجر نور الدين على الخرّوبىّ لكون السلطان اقترض منهم مبلغ ألف ألف درهم.
ثمّ فى ثالث عشرينه رحل السلطان بعساكره وأمرائه من الريدانية، بعد أن أقام بها نحو ثلاثة عشر يوما، وفرّق من الجمال فى المماليك نحو أربعة آلاف جمل،(12/55)
ومن الخيل ألفى فرس وخمسمائة فرس، وحمل معه أشياء كثيرة مما يحتاج السلطان إليه، منها خمسة قناطير من العاج والآبنوس برسم الشّطرنج الذي يلعب به السلطان، وسببه انه كان إذا لعب بشطرنج وفرغ من لعبه أخذه صاحب النّوبة وجدّد غيره، وأشياء كثيرة أخر من هذه المقولة.
ثمّ فى ثامن عشرينه أرسبل السلطان يطلب بدر الدين محمود الكلستانىّ، فأخذ محمود المذكور من خانقاة «1» شيخون فإنه كان من بعض صوفيتها وسار وهو خائف وجل، لأنه كان من ألزام ألطنبغا الجوبانىّ إلى أن وصل إلى السلطان.
وخبره أنّ السلطان كان ورد عليه كتاب من بعض الملوك بالعجمىّ، فلم يعرف القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر يقرؤه، فطلب السلطان من يقرؤه، فنوّه بعض من حضر من الأمراء بذكر الكلستانىّ هذا، فطلب لذلك وحضر وقرأه فأعجب السلطان قراءته، فأمره بالسفر معه، فسافر صحبة السلطان وصار ينزل مع الأمير قلمطاى الدوادار كأنّه من بعض حواشيه فإنه كان فى غاية من الفقر إلى أن وصل إلى دمشق كما سنذكره.
وأما السلطان فإنه دخل دمشق فى عشرين جمادى الأولى وقام به إلى أن أخرج عسكرا إلى البلاد الحلبية فى سابع عشر شهر رجب، وعليهم الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ والأمير بكلمش أمير سلاح والأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس وبيبرس ابن أخت السلطان الملك الظاهر برقوق، ونائب صفد «2» ونائب غزّة، كل ذلك والسلطان مقيم بدمشق فى انتظار قدوم تيمور لنك.
ثم أمر السلطان للقان غياث الدين أحمد بن أويس بالتوجه إلى محل مملكته ببغداد، فخرج من دمشق فى يوم الاثنين أوّل شعبان من سنة ست وتسعين(12/56)
المذكورة، بعد ما قام له السلطان بجميع ما يحتاج إليه، وعند وداعه خلع عليه الملك الظاهر خلعة أطلسين متمّرا وقلّده بسيف مسقّط بذهب، وكتب له تقليدا بسلطنة بغداد، وناوله إيّاه، فأراد أحمد بن أويس أن يقبّل الأرض فلم يمكّنه السلطان من ذلك، إجلالا له وتعظيما فى حقه، وقام له وعانقه ووادعه، ثمّ افترقا، وكان ما أنعم به السلطان الملك الظاهر على القان غياث الدين أحمد بن أويس عند سفره خاصّة من النقد خمسمائة ألف درهم، سوى الخيل والجمال والسلاح والمماليك والقماش السكندرىّ وغير ذلك، واستمرّ ابن أويس بمخيّمه خارج دمشق إلى يوم ثالث عشر شعبان، فسافر إلى جهة بغداد بعد أن أظهر الملك الظاهر من علوّ همته ومكارمه وإنعامه لابن أويس المذكور ما أدهشه.
قلت: هكذا تكون الشّيم الملوكية، وإظهار الناموس، وبذل الأموال فى إقامة الحرمة، مع أن الملك الظاهر لم يخرج من الديار المصرية، حتّى تحمّل جملة كبيرة من الديون، فإنه من يوم حبس بالكرك «1» وملك الناصرىّ ومنطاش ديار مصر فرّقا جميع ما كان فى الخزائن السلطانية، وحضر الملك الظاهر من الكرك فلم يجد فى الخزائن ما قلّ ولا كثر وصار مهما حصّله أنفقه فى التجاريد والكلف، فلله درّه من ملك! على أنه كان غير مشكور فى قومه.
حدّثنى غير واحد من حواشى الأسياد أولاد السلاطين، قالوا: كنّا نقول من يوم تسلطن هذا المملوك: هذا الكعب الشؤم نشّفت القلعة من الرّزق وخربت الدنيا هذا، وكان الذي يصرف يوم ذلك على نزول السلطان إلى سرحة سرياقوس «2» بكلفة(12/57)
ملوك زماننا هذا! من أوّل السنة إلى آخرها، فلعمرى! هل الأرزاق قلّت أم الهمة اضمحلّت! وما الشيء إلا كما كان وزيادة، غير أنّ قلّة العرفان تمنع السيادة. انتهى.
وفى يوم ثانى شعبان خلع السلطان على الشيخ بدر الدين محمود الكلستانى المقدّم ذكره باستقراره فى كتابة سرّ مصر، بعد موت القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله، وكانت تولية الكلستانى هذه الوظيفة كتابة السرّ من غريب الاتفاق، كونه كان فقيرا مملقا خائفا من السلطان، وعند طلب السلطان له من خانقاه «1» شيخون لقراءة الكتاب الوارد عليه من العجم لم يخرج من الخانقاه حتى أوصى.
ثم إنّه بعد قراءة الكتاب سافر صحبة السلطان إلى دمشق واشتغل السلطان بما هو فيه عنه، فضاق عيشه إلى الغاية وبقى فى أعوز حال وبات ليلته يتفكّر فى عمل أبيات يمدح بها قاضى دمشق، لعلّه ينعم عليه بشىء يردّ به رمقه. فنظم قصيدة هائلة وكان بارعا فى فنون عديدة، وأصبح من الغد ليتوجه بالقصيدة إلى القاضى، فجاءه قاصد السلطان بولاية كتابة سرّ مصر فجاءته السعادة فجاة.
وكان من أمر السلطان أنه لمّا مات كاتب السرّ طلب من يوليه كتابة السرّ فذكر له جماعة وبذلوا له مالا، له صورة، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك وأراد من يكون كفئا لهذه الوظيفة التى يكون متولّيها صاحب لسان وقلم فلم يجد غير الكلستانى المذكور، وكان أهلا لها، فطلبه وولّاه كتابة السرّ، فباشرها على أحمل وجه. انتهى.
ثمّ قدم على السلطان رسل طقتمش خان صاحب كرسى بلاد القفجاق «2» بأنه يكون عونا مع السلطان على تيمور لنك، فأجابه السلطان لذلك.(12/58)
ثم قدمت رسل خوندكار يلدرم با يزيد بن عثمان متملّك بلاد الروم بأنّه جهز لنصرة السلطان مائتى ألف درهم، وأنّه ينتظر ما يرد عليه من جواب السلطان ليعتمده.
ثمّ قدم رسول القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «1» بأنّه فى طاعة السلطان ويترقّب ورود المراسيم السلطانية الشريفة عليه بالمسير إلى جهة يعيّنه السلطان إليها، عند قدوم تيمور، فكتب جواب الجميع بالشكر والثناء وبما اختاره السلطان.
ثمّ فى أوّل ذى القعدة خرج السلطان من دمشق يريد البلاد الحلبية وسار حتى دخلها فى العشر الأوسط من ذى القعدة.
وبعد دخوله حلب بأيام قليلة، عزل نائبها الأمير جلبان من كمشبغا الظاهرىّ المعروف بقراسقل، وخلع على الوالد باستقراره عوضه فى نيابة حلب، وأنعم على الأمير جلبان المذكور بإقطاع الوالد وإمرته، وهى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، ولم يستقرّ به فى وظيفته، وكانت وظيفة الوالد قبل نيابة حلب رأس نوبة النّوب.
ثم أمسك السلطان الأمير دمرداش المحمدىّ نائب طرابلس وحبسه وخلع على الأمير أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ نائب صفد باستقراره عوضه فى نيابة طرابلس، وخلع على الأمير آقبغا الجمالى الظاهرى أتابك حلب باستقراره فى نيابة صفد «2» ، عوضا عن أرغون شاه الإبراهيمى، وخلع على الأمير دقماق المحمّدىّ الظاهرىّ باستقراره فى نيابة ملطية، وعلى الأمير كور مقبل باستقراره فى نيابة طرسوس «3» .(12/59)
ثم قبض السلطان على عدّة أمراء من أمراء حلب: منهم الأمير ألطنبغا الأشرفى، والأمير تمرباى الأشرفى، وقطلوشاه الماردينى، وحبس الجميع بقلعة حلب وانفضّ الموكب، والوالد واقف لم يتوجه، فقال له السلطان: لم لا تتوجه! فقال:
يا مولانا السلطان! أستحى أنزل من الناس يمسك أخى دمرداش نائب طرابلس «1» وأتولّى أنا نيابة حلب! وما يقبل السلطان شفاعتى فيه، فقال له السلطان: قبلت شفاعتك فيه، غير أنه يمكث فى السجن أيّاما، ثم أفرج عنه لأجلك، لئلا يقال:
يمسك السلطان نائب طرابلس ويطلقه من يومه! فيصير ذلك وهنا فى المملكة، فقال:- الوالد رحمه الله-: السلطان يتصرّف فى مماليكه كيف يشاء، ما علينا من قول القائل! ثم قبّل الأرض ويد السلطان، فتبسّم السلطان، وأمر بإطلاق دمرداش وحضوره، فحضر من وقته، فخلع عليه بأتابكية حلب عوضا عن آقبغا الجمالى المستقرّ فى نيابة صفد، ثم قال له السلطان: خذ أخاك وانزل، فكانت(12/60)
هذه الواقعة أول عظمة نالت الوالد من أستاذه الملك الظاهر برقوق انتهى هذا الخبر.
والأخبار ترد على السلطان شيئا بعد شىء من بلاد الشمال بعود تيمور لنك إلى بلاده والسلطان لا يصدّق ذلك. ويتقحّم «1» على لقاء تيمور لنك، فلم يجسر تيمور على القدوم إلى البلاد الشامية مخافة من الملك الظاهر برقوق، وتوجّه إلى بلاده، فلما تحقّق السلطان عوده تأسّف على عدم لقائه، وخرج من حلب بعساكره فى سابع محرّم سنة سبع وتسعين وسبعمائة يريد دمشق، فوصلها ولم يقم بها إلا أياما قليلة لطول إقامته بها فى ذهابه، وخرج منها بعساكره فى سابع عشر المحرّم المذكور، يريد الديار المصرية، بعد أن خلع على الأمير بتخاص السودونىّ حاجب حجّاب الديار المصرية باستقراره فى نيابة الكرك، عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ علىّ، ونقل الشهابىّ المذكور إلى حجوبية دمشق الكبرى، عوضا عن الأمير تمربغا المنجكى بحكم قدوم تمربغا المنجكىّ إلى مصر صحبة السلطان، وسار السلطان إلى أن وصل مدينة قطيا «2» ، فأمسك مملوكه الأمير جلبان الكمشبغاوىّ قراسقل المعزول عن نيابة حلب وبعثه من قطيا فى البحر إلى ثغر دمياط، وسار السلطان من قطيا حتى وصل إلى ديار مصر فى ثامن عشر صفر، وطلع إلى القلعة من يومه، بعد أن احتفل(12/61)
الناس لطلوعه، وزيّنت القاهرة أياما، غير أن الغلاء كان حصل قبل قدوم السلطان، فتزايد بعد حضوره لكثرة العساكر.
ومن يومئذ صفا الوقت للملك الظاهر، وصارت مماليكه نوّاب البلاد الشامية من أبواب الروم إلى مصر، وأخذ السلطان يكثر من الركوب والتوجّه إلى الصيد، وعمل له الأمير تمربغا المنچكى شرابا من زبيب، يسمى التمر بغاوى، وأقبل السلطان على الشرب منه مع الأمراء، ولم يكن يعرف منه السّكر قبل ذلك.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير فارس من قطلوجا الظاهرى الأعرج بإمرة مائة وتقدمة ألف وولّاه حجوبية الحجاب عوضا عن بتخاص السودونى المستقر فى نيابة الكرك. وأنعم على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، عوضا عن الوالد، وهو الإقطاع الذي كان أنعم به السلطان على جلبان نائب حلب.
ثم أنعم السلطان على الأمير أرغون شاه البيدمرى بإمرة مائة وتقدمة ألف، وأنعم السلطان أيضا على كل من تمربغا المنجكى، وصلاح الدين محمد بن محمد تنكز وصرغتمش المحمدى الظاهرى بإمرة طبلخاناه، وأنعم أيضا على كل من مقبل الرومى، وآقباى من حسين شاه الظاهرىّ، وآق بلاط الأحمدى، ومنكلى بغا الناصرى بإمرة عشرة.
ثم بعد أشهر خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى باستقراره رأس نوبة النوب، عوضا عن الوالد بحكم انتقاله إلى نيابة حلب، وكانت شاغرة من تلك الأيام.
ثم قبض السلطان على الأمير محمود بن على الأستادار المعروف بابن أصفر، عيّنه فى صفر سنة ثمان «1» وتسعين، وعلى ولده وعلى كاتبه، سعد الدين إبراهيم بن غراب(12/62)
وخلع السلطان على قطلوبك العلائى أستادار الأمير أيتمش باستقراره فى الأستادارية، عوضا عن محمود المذكور، وأنعم السلطان عليه بإمرة عشرين، واستمرّ محمود على إمرته وهو مريض محتفظ به، وخلع السلطان أيضا على سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب محمود باستقراره ناظر ديوان المفرد وهذا أول ظهور ابن غراب فى الدولة الظاهرية، واستمال السلطان ابن غراب، فأخذ يدلّ على ذخائر أستاذه محمود، ومحمود فى المصادرة إلى أن أظهر شيئا كثيرا من المال.
ثم أنعم السلطان على جماعة من مماليكه بإمرة طبلخاناه وهم: طولو من على باشاه الظاهرى، ويلبغا الناصرىّ الظاهرىّ، وشاذى خجا الظاهرى العثمانى، وقينار العلائى، وأنعم أيضا على جماعة بإمرة عشرة وهم: طيبغا الحلبى الظاهرى، وسودون من علىّ باشاه الظاهرى المعروف بسودون طاز، ويعقوب شاه الخازندار الظاهرى ويشبك الشعبانى الخازندار وتمان تمر الإشقتمرىّ رأس نوبة الجمدارية.
ثم خلع السلطان على الأمير فارس الحاجب باستقراره فى نظر الشيخونية»
وخلع على الأمير تمربغا المنجكىّ حاجبا ثانيا بتقدمة ألف.
وفى هذه الأيام عظم الغلاء وفقد الخبز من الدكاكين.
وفى آخر ذى العقدة استقرّ سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب محمود فى وظيفة نظر الخاصّ بعد القبض على سعد الدين بن أبى الفرج بن تاج الدين موسى.(12/63)
ثم رسم السلطان بإحضار الأمير محمود فحمل إلى بين يدى السلطان، وهو فى ألم عظيم من العصر والضرب والعقوبة، فانتصب إليه كاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب فى محاققته والفحش له فى الكلام، حتى امتلأ السلطان غضبا على محمود وأمر بعقوبته حتى يموت من عظم ما أغراه سعد الدين المذكور به.
ثم ورد الخبر بقدوم الأمير تنم الحسنىّ نائب الشام، وكان خرج بطلبه الأمير سودون طاز، وقدم من الغد فى يوم الاثنين ثالث صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة، بعد أن خرج السلطان إلى لقائه بالرّيدانيّة «1» ، وجلس له على مطعم «2» الطير، وبعث الأمراء والقضاة إليه فسلّموا عليه، ثم أتوا به، فقبّل الأرض، فخلع عليه خلعة باستمراره على نيابة دمشق.
ثم قدّم من الغد تقدمته، وكانت تقدمة جليلة، وهى عشرة كواهى «3» وعشرة مماليك صغار فى غاية الحسن، وعشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ألف درهم فضة، ومصحف عليه قراءات وسيف مسقّط ذهب مرصّع، وعصابته منسبكة من ذهب مرصّع، بجوهر نفيس وبدلة فرس من ذهب، فيها أربعمائة مثقال ذهب، وكان أجرة صائغها ثلاثة آلاف درهم فضّة، ومائة وخمسين بقجة فيها أنواع الفرو، ومائة وخمسين(12/64)
فرسا، وخمسين جملا، وخمسة وعشرين حملا من نصافى ونحوه، وثلاثين حملا فاكهة وحلوى، فخلع السلطان على أرباب «1» الوظائف.
ثم نزل السلطان بعد أيام إلى برّ «2» الجيزة، ومعه الأمير تنم وغيره، وتصيّد ببرّ الجيزة.
ثم عاد. وعمل السلطان الموكب بدار العدل فى يوم سابع عشر صفر من سنة تسع وتسعين المذكورة، وخلع على الأمير تنم خلعة الاستمرار ثانيا، وجرّت له من الإسطبل ثمانى جنائب بكنابيش وسروج ذهب، فتقدّم تنم، وشفع فى الأمير جلبان الكمشبغاوى المعزول عن نيابة حلب، فقبل السلطان شفاعته، وخرج البريد بطلبه من ثغردمياط «3» ، فقدم بعد أيام، وقبّل الأرض بين يدى السلطان، فأنعم عليه السلطان بإقطاع الأمير إياس الجرجاوى وخلع عليه بأتابكية دمشق عوضا «4» عن(12/65)
إياس المذكور بحكم القبض عليه وحضوره إلى الديار المصرية، وبعث إليه ثمانية أفراس بقماش ذهب (أعنى عن جلبان) .
ثم أمر السلطان أن يسلّم الأمير إياس الجرجاوى إلى ابن الطبلاوى ليخلّص منه الأموال، فأحده ابن الطبلاوىّ فالتزم بحمل خمسمائة ألف درهم وبعث مملوكه لإحضار ماله وهو مريض، فمات إياس بعد يومين، واختلف الناس فى موته، فمنهم من قال: إنه كان معه خاتم فيه سمّ فشربه فمات منه قهرا مما فعله معه الملك الظاهر، ومنهم من قال: إنه مات من مرضه. والله أعلم بحاله.
ثم فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أمسك السلطان الوزير سعد الدين نصر الله بن البقرىّ وولده تاج الدين وسائر حواشيه، وخلع على بدر الدين محمد بن محمد بن الطّو؟؟؟ «1» واستقر عوضه فى الوزارة واستقر فى نظر الدولة سعد الدين ابن الهيصم.
ثم خلع السلطان على شرف الدين محمد بن الدّمامينى باستقراره فى وظيفة نظر الجيش بديار مصر بعد موت القاضى جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ، نقل إليها من حسبة القاهرة.
ثم من الغد فى يوم الثلاثاء تاسع شهر ربيع الأول المذكور استقر القاضى شمس الدين محمد بن أبى بكر الطرابلسى قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضا عن جمال الدين محمود القيصرى المقدّم ذكره.
ثم فى خامس عشرينه قدمت هدية ممهّد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد على بن داود بن يوسف بن عمر بن رسول ملك اليمن صحبة التاجر(12/66)
برهان الدين إبراهيم المحلّى «1» والطواشى افتخار الدين فاخر، وهى عشرة خدّام طواشية وبعض عبيد حبوش وست جوار وسيف بحلية ذهب مرصّع بعقيق وحياصة بعواميد عقيق مكلّلة بلؤلؤ كبار ووجه فرس عقيق ومرآة هندية محلّاة بفضّة قد رصعت بعقيق وبراشم «2» برسم الخيول عشرة ورماح عدّة مائتين وشطرنج عقيق أبيض وأحمر وأربع مراوح مصفّحة بذهب ومسك ألف مثقال وسبعون أوقية زباد «3» ومائة مضرّب غالبة ومائتان وستة عشر رطلا من العود وثلاثمائة وأربعون رطلا من اللّبان وثلاثمائة وأربعة وستون رطلا من الصّندل «4» وأربعة برانى من الشّند «5» وسبعمائة رطل من الحرير الخام ومن البهار والاقطاع والصينى وغير ذلك من تحف اليمن؟؟؟ كثير.
ثم فى يوم الخميس ثانى جمادى الأولى نقل الأمير جمال الدين محمود الأستادار إلى خزانة شمائل «6» وهو مريض.
وفى سادس عشر جمادى الآخرة أنعم على الأمير بيسق الشّيخىّ بإمرة طبلخاناه.
ثم خلع السلطان على الأمير صرغتمش القزوينى باستقراره فى نيابة الإسكندرية بعد عزل الأمير قديد عنها ونفيه إلى القدس «7» بطّالا، وأنعم السلطان على الأمير شيخ(12/67)
المحمودى الساقى الظاهرى (أعنى عن الملك المؤيّد) بإمرة طبلخاناه، عوضا عن صرغتمش القزوينى المتولى نيابة الإسكندرية وأنعم بإقطاع شيخ المحمودى وهو إمرة عشرة على الأمير طغنجى نائب البيرة «1» ، وأنعم السلطان أيضا على يشبك العثمانى الظاهرى بإقطاع الأمير صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز.
ثم فى سادس عشرينه استقرّ الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرى المعروف بالمجنون أستادار السلطان، عوضا عن قطلوبك العلائى واستقرّ قطلوبك على إمرة عشرين «2» .
ثم فى يوم الاثنين ثامن محرم سنة ثمانمائة توجّه السلطان إلى سرحة سرياقوس «3» بعساكره وحريمه على العادة فى كل سنة، فأقام به أياما على ما يأتى ذكره.
وفى ثانى عشر المحرم المذكور خرج الأمير بكتمر جلّق الظاهرى على البريد إلى حلب لإحضار الوالد- رحمه الله وعفا عنه- بعد عزله عن نيابة حلب وكتب بانتقال الأمير أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرى نائب طرابلس إلى نيابة حلب عوضا عن الوالد، وخرج الأمير يشبك العثمانى بتقليد أرغون شاه المذكور، ورسم بانتقال الأمير آقبغا الجمالى الظاهرىّ من نيابة صفد إلى نيابة طرابلس عوضا عن أرغون شاه المذكور، وتوجّه بتقليده الأمير أزدمر أخو إينال ومعه أيضا خلعة للأمير تنم الحسنى باستمراره فى نيابة الشام، ورسم بانتقال الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على حاجب حجّاب دمشق إلى نيابة صفد عوضا(12/68)
عن آقبغا الجمالى المذكور، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير يلبغا الناصرى الظاهرى رأس نوبة.
ثم قدم فى هذه الأيام جماعة من سوابق الحاجّ وأخبروا أنه هلك بالسبع «1» وعرات من شدّة الحر نحو ستمائة إنسان.
ثم عاد السلطان من سرحة سرياقوس فى خامس عشرينه ولم يخرج إليها بعد ذلك، ولا أحد من السلاطين وبطلت عوائدها وخرّبت تلك القصور، وكانت من أجمل عوائد الملوك وأحسنها، وكان النزول إلى سرياقوس يضاهى نزول السلطان إلى الميدان «2» فالميادين أبطلها الملك الظاهر وسرياقوس أبطله الملك الناصر، ثم صار كل ملك يأتى بعد ذلك يبطل نوعا من نراتيب مصر، حتى(12/69)
ذهب الآن جميع شعار الملوك السالفة وصار الفرق بين سلطنة مصر ونيابة الأبلستين «1» اسم السلطنة ولبس الكلفتاة فى المواكب لا غير.
قلت: والفرق بين براعة الاستهلال وبين براعة المقطع واضح.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشرين المحرّم من سنة ثمانمائة المذكورة قبض السلطان فى وقت الخدمة بالقصر على الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر بالديار المصرية وعلى الأمير بكلمش العلائىّ أمير سلاح، وقيّدا وحبسا بقلعة الجبل، يأتى ذكر السبب على قبضهما فى الوفيات، وفى هذه الترجمة- إن شاء الله تعالى-.
ثم نزل فى الحال الأمير قلمطاى الدوادار، والأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة النّوب، والأمير فارس حاجب الحجّاب إلى الأمير شيخ الصّفوى أمير مجلس ومعهم خلعة له بنيابة غزّة، فلبسها شيخ المذكور وخرج من وقته ونزل بخانقاه «2» سرياقوس.(12/70)
ثم فى ليلة الثلاثاء سلخه توجّه الأمير سودون الطيّار الظاهرى بالأتابك كمشبغا وبكلمش فى الحديد إلى سجن الإسكندرية فسجنا بها، وفى الغد استعفى الأمير شيخ الصّفوىّ من نيابة غزّة وسأل الإقامة بالقدس «1» فرسم له بذلك.
وفى يوم الخميس ثانى صفر استقرّ الأمير أيتمش البجاسىّ أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن كمشبغا الحموى وأنعم السلطان على أيتمش المذكور وعلى قلمطاى الدوادار، وعلى الأمير تنبك اليحياوى الأمير آخور بعدّة بلاد من إقطاع كمشبغا المذكور زيادة على ما بأيديهم وأنعم ببقيّة إقطاع كمشبغا على الأمير سودون المعروف بسيّدى سودون ابن أخت الملك الظاهر وجعله من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية وأنعم بإقطاع سيّدى سودون المذكور على ولد السلطان الأمير عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق.(12/71)
ثمّ أنعم السلطان بإقطاع بكلمش العلائى على الأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة النّوب.
وأنعم بإقطاع نوروز المذكور على الأمير أرغون شاه البيدمرىّ الظاهرى وأنعم بإقطاع أرغون شاه على الأمير يلبغا المجنون الأستادار والجميع تقادم ألوف لكنّ التفاوت بينهم فى زيادة المغلّ والخراج.
ثم عيّن السلطان الأمير شيخ الصفوىّ أمير مجلس للوالد قبل قدومه إلى القاهرة من نيابة حلب.
ثم فى رابعه استقر الأمير باى خجا الشّرفى الأمير آخور المعروف بطيفور فى نيابة غزة.
ثم فى تاسع صفر استقر الأمير بيبرس ابن أخت السلطان أمير مجلس عوضا عن شيخ الصفوى المقدّم ذكره.
ثم فى سابع عشرين «1» صفر أنعم السلطان على الأمير بهادر فطيس بإمرة طبلخاناه، عوضا عن طيفور بحكم انتقاله إلى نيابة غزّة، واستقر عوضه أيضا فى الأمير آخورية الثانية وأنعم بإقطاع بهادر فطيس المذكور، وهو إمرة عشرة على يلبغا السالمىّ الظاهرى.
وفى ليلة الجمعة ثانى شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد «2» النبوىّ على العادة فى كلّ سنة.(12/72)
قلت: نذكر صفة ما كان يعمل بالمولد قديما ليقتدى به من أراد تجديده فلمّا كان يوم الخميس المذكور، جلس السلطان بمخيّمه بالحوش «1» السلطانى، وحضر القضاة والأمراء ومشايخ العلم والفقراء، فجلس الشيخ سراج الدين عمر البلقينى عن يمين السلطان، وتحته الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة، وجلس على يسار السلطان الشيخ المعتقد أبو عبد الله المغربى، ثم جلس القضاة يمينا وشمالا على مراتبهم، ثم حضر الأمراء فجلسوا على بعد من السلطان، والعساكر ميمنة وميسرة فقرأت الفقهاء، فلمّا فرغ القرّاء وكانوا عدّة جوق كثيرة، قام الوعاظ واحدا بعد واحد، وهو يدفع لكل منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كلّ أمير شقّة حرير خاصّ وعدّتهم عشرون واحدا.
وأنعم أيضا على القرّاء لكل جوقة بخمسمائة درهم فضة وكانوا أكثر من الوعّاظ، ثم مدّ سماط جليل يكون مقداره قدر عشرة أسمطة من الأسمطة الهائلة، فيه من الأطعمة الفاخرة ما يستحى من ذكره كثرة، بحيث إن بعض الفقراء أخذ صحنا فيه من خاصّ الأطعمة الفاخرة فوزن الصحن المذكور فزاد على ربع قنطار.
ولمّا انتهى السّماط «2» مدّت أسمطة الحلوى من صدر المخيّم إلى آخره.(12/73)
وعند فراغ ذلك مضى القضاة والأعيان وبقى السلطان فى خواصّه وعنده فقراء الزوايا والصوفية، فعند ذلك أقيم السّماع من بعد ثلث الليل إلى قريب الفجر وهو جالس عندهم ويده تملأ من الذهب، وتفرّغ لمن له رزق فيه والخازندار يأتيه بكيس بعد كيس، حتى قيل: إنّه فرّق فى الفقراء ومشايخ الزوايا والصوفية فى تلك الليلة أكثر من أربعة آلاف دينار.
هذا، والسّماط من الحلوى والفاكهة يتداول مدّة بين يديه، فتأكله المماليك والفقراء وتكرّر ذلك أكثر من عشرين مرّة.
ثم أصبح السلطان ففرّق فى مشايخ الزوايا القمح من الأهراء «1» لكل واحد بحسب حاله وقدر فقرائه، كلّ ذلك خارج عمّا كان لهم من الرواتب عليه فى كلّ سنة حسب ما يأتى ذكر ذلك فى آخر ترجمة الملك الظاهر بعد وفاته.
ثم فى خامس عشر شهر ربيع الأوّل المذكور قدم الوالد إلى القاهرة معزولا عن نيابة حلب.
فنزل السلطان الملك الظاهر إلى لقائه، قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله-: «وفى خامس عشر شهر ربيع الأوّل قدم الأمير تغرى بردى اليشبغاوى من حلب بتجمّل زائد عظيم إلى الغاية، فخرج السلطان وتلقّاه بالمطعم «2» من الريدانية «3» خارج القاهرة، وسار معه من غير خلعة، فلمّا قارب القلعة أمره(12/74)
بالتوجّه إلى حيث أنزله وبعث إليه بخمسة أفراس بقماش ذهب وخمس بقج فيها قماش مفصّل له مفرّى؟ انتهى كلام المقريزى.
قلت: وقوله: وعاد «1» معه بغير خلعة هى العادة، فإنّه منفصل عن نيابة حلب ولم يعط إلى الآن وظيفة حتى يلبس خلعتها.
وفى سابع عشره قدّم الوالد تقدمته إلى السلطان، وكانت «2» نيّفا وعشرين مملوكا وخمسة طواشية بيض من أجمل الناس، من جملتهم: خشقدم اليشبكى مقدّم المماليك السلطانية فى دولة الملك الأشرف برسباى، أنعم به الملك الظاهر على فارس الحاجب، ثم ملكه يتسبك الشعبانى بعده وأعتقه، وثلاثين ألف دينار مصرية، ومائة وخمسة وعشرين فرسا، وعدّة جمال بخاتى «3» تزيد على الثمانين، وأحمالا من البقج، فيها من أنواع الفرو والشقق الحرير وأثواب الصوف والمخمّل زيادة على مائة بقجة، فآبتهج السلطان بذلك وقبله، وخلع على أصحاب وظائف الوالد، ونزلوا فى غاية الجبر.
حكى لى بعض أعيان الظاهرية، قال: لما رأى الملك الظاهر تقدمة والدك تعجّب غاية العجب من حسن سيرته وقلّة ظلمه بحلب، ومع هذا كيف قام بهذه التقدمة الهائلة مع كثرة مماليكه وخدمه.
وكان سبب عزل الوالد- رحمه الله- عن نيابة حلب، شكوى الأمير تنم الحسنى نائب الشام منه للملك الظاهر، ورماه بالعصيان والخروج عن الطاعة،(12/75)
وخبر ذلك: أن الوالد وتنم لمّا توجّها فى السنة الماضية إلى سيواس «1» وغيرها بأمر الملك الظاهر وتلاقى الوالد مع تنم بظاهر حلب وعادا جميعا إلى حلب وكلّ منهما سنجقه «2» منتصب على رأسه، فعظم ذلك على تنم، كون العادة إذا حضر نائب الشام يصير هو رأس العساكر وينزل نائب حلب سنجقه، فلمّا سارا وكلّ منهما سنجقه على رأسه، تكلّم سلحدارية تنم مع سلحداريّة الوالد فى نزول السّنجق، فلم يفعل حامل السنجق، فخرجا من القول إلى الفعل، وتقاتل الفريقان بالدبابيس بسبب ذلك، وكادت الفتنة تقع بينهما، والوالد بتجاهل عمّا هم فيه، حتى التفت تنم ونهى مماليكه عن القتال، وسار كلّ واحد وسنجقه على رأسه، حتى نزلا بمخيّمهما «3» ، فاستشهد تنم أمراء دمشق بما وقع من الوالد ومماليكه، وكتب للسلطان بذلك فلم يشكّ السلطان فى عصيانه، وكتب بعزله وطلبه إلى القاهرة.
وأما الوالد لمّا نزل بمخيّمه كلّمه بعض أعيان مماليكه فيما وقع، فقال الوالد:
أنا خرجت من مصر جنديّا حتى أنزل سنجقى، أشار بذلك أنه ولى نيابة حلب وهو رأس نوبة النوب، وأن تنم ولى أتابكيّة دمشق، وهو أمير عشرة بمصر قبل ولايته نيابة دمشق، ثم نقل من أتابكية دمشق إلى نيابتها، يعنى بذلك أن تنم لم تسبق له رياسة بمصر قبل ولايته نيابة دمشق، فلمّا بلغ تنم ذلك قامت قيامته. انتهى.(12/76)
ثم أنعم السلطان على سودون بن زادة بإمرة عشرة، بعد موت الأمير طوغان الشاطر.
ثم نزل السلطان وعاد الأمير قلمطاى الدّوادار، ففرش قلمطاى تحت حوافر فرسه الشّقق الحرير، مشى عليها السلطان من باب داره حتى نزل بالقصر، فمشى من باب القصر على الشقق النخ «1» المذهب حتى جلس، فقدّم إليه طبقا فيه عشرة آلاف دينار وخمسا وعشرين بقجة قماش، وتسعة وعشرين فرسا ومملوكا تركيّا بديع الحسن، فقبل الملك الظاهر ذلك كله، ورجع إلى القلعة، وفى حال رجوعه قدم عليه الخبر بأن تيمور لنك سار من سمرقند «2» إلى بلاد الهند وأنه ملك مدينة دلّى «3» .
ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر جمادى الأولى خلع السلطان على قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطى باستقراره قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية، بعد موت شمس الدين محمد الطرابلسى، بعد ما شغر قضاء الحنفية بمصر مائة يوم وأحد عشر يوما، حتى طلب جمال الدين المذكور لها من حلب وقدم على البريد.(12/77)
قلت: هكذا تكون ولاية القضاء.
ثم أنعم السلطان على الأمير علىّ باى بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن الأمير تنبك الأمير آخور بعد موته.
ثم بعد أيام أنعم على الأمير يشبك العثمانى بإمرة مائة وتقدمة ألف بعد موت الأمير قلمطاى العثمانى الدوادار، وأنعم على الأمير أسنبغا العلائى الدوادار الثانى بطبلخانات الأمير بكتمر الركنى، وكان بكتمر المذكور أخذ طبلخاناه الأمير علىّ باى المنتقل إلى تقدمة تنبك الأمير آخور.
ثمّ أنعم السلطان على آقباى الطّرنطائى بإمرة طبلخاناه، وعلى تنكزبغا الحططى بإمرة عشرين.
وفى يوم تاسع عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على جماعة من الأمراء بعدة وظائف، فخلع على الوالد باستقراره أمير سلاح عوضا عن بكلمش العلائى، بعد ما شغرت أشهرا وعلى الأمير آقبغا الطولوتمرى الظاهرى المعروف باللّكّاش باستقراره أمير مجلس عوضا عن بيبرس ابن أخت السلطان، وعلى نوروز الحافظى رأس نوبة النوب باستقراره أمير آخور كبيرا، بعد موت الأمير تنبك وعلى الأمير بيبرس ابن أخت السلطان باستقراره دوادارا كبيرا، عوضا عن الأمير قلمطاى، بعد موته وعلى الأمير علىّ باى الخازندار باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن نوروز الحافظى وعلى يشبك الشعبانى باستقراره خازندارا عوضا عن علىّ باى المذكور.
ثمّ فى ليلة الجمعة ثامن شعبان أمسك السلطان الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى وأمسك أخاه ناصر الدين محمدا والى القاهرة وجماعة من ألزامه وأوقع الحوطة على دورهم وتسلمه الأمير يلبغا الأحمدى المجنون الأستادار ليخلّص منه(12/78)
الأموال، فأخذه يلبغا وتوجّه به إلى دار ابن الطبلاوى وأخذ منها مالا وقماشا بنحو مائة وستين ألف دينار.
ثم أخذ منها أيضا بعد أيام ألفا ومائة قفّة فلوسا وصرفها ستمائة ألف درهم، ومن الدراهم الفضّة خمسة وثمانين ألف درهم فضة، واستمر علاء الدين فى المصادرة وخلع السلطان على الأمير الكبير أيتمش البجاسى باستقراره فى نظر البيمارستان «1» المنصورى عوضا عن ابن الطّبلاوى المذكور ومن يومئذ استمر نظر البيمارستان مع كلّ من يلى الأتابكية بمصر.
ثم بعد أيام طلب ابن الطّبلاوى الحضور بين يدى السلطان، فأذن له السلطان فى ذلك، فحضر فى الحديد، بعد أن عوقب أياما كثيرة، وطلب من السلطان أن يدنيه منه، فاستدناه، حتى بقى من السلطان على قدر ثلاثة ادرع، فقال له:
تكلّم، قال: أريد أن أسارّ السلطان فى أذنه، فلم يمكّنه من ذلك، فألّح عليه ابن الطبلاوى فى مسارّة السلطان فى أذنه، حتى استراب منه وأمر بإبعاده واستخلاص المال منه، فأخذه يلبغا وأخرجه من مجلس السلطان إلى باب «2» النحاس من القلعة، فجلس ابن الطبلاوى هناك ليستريح فضرب نفسه بسكّين كانت معه ليقتل نفسه وجرح فى موضعين من بدنه، فمسكوه ومنعوه من قتل نفسه وأخذوا السكين منه(12/79)
وبلغ السلطان ذلك، فلم يشكّ أنه أراد الدنوّ من السلطان حتى يقتله بتلك السكين التى كانت معه.
فلمّا فاته السلطان ضرب نفسه، فعند ذلك أمر السلطان بتشديد عقوبته فعاقبه يلبغا المجنون، فدلّ على خبيئة فيها ثلاثون «1» ألف دينار، ثم أخرى فيها تسعون ألف دينار، ثم أخرى فيها عشرون ألف دينار ودام فى العقوبة، ثم نقله يلبغا المجنون إلى خزانة شمائل «2» .
ثمّ فى خامس عشر شوال ختن السلطان الملك الظاهر ولديه. الأمير فرجا والأمير عبد العزيز وختن معهما عدّة من أولاد الأمراء المقتولين، منهم: ابن الأمير منطاش وغيره وأنعم عليهم بقماش وذهب وعمل السلطان مهمّا عظيما بالقلعة للنساء فقط ولم يعمل للرجال، مخافة على الأمراء من الكلف.
وفى يوم السبت ثانى عشر ذى القعدة عمل السلطان مهمّا عظيما بالميدان «3» تحت القلعة، سببه: أنه لعب بالكرة مع الأمراء على العادة، فغلب السلطان الأمير(12/80)
الكبير أيتمش البجاسى، فلزم أيتمش عمل مهمّ بمائتى ألف درهم فضة، كونه غلب، فقام عنه السلطان بذلك وألزم السلطان الوزير بدر الدين محمد بن الطوخى والأمير يلبغا الأستادار ونصبت الخيم بالميدان وعمل المهم، وكان فيه من اللحم عشرون ألف رطل ومائتا زوج إوز وألف طائر من الدّجاج وعشرون فرسا وثلاثون قنطارا من السكر وثلاثون قنطارا من الزبيب عملت أقسما «1» وستون إردبا دقيقا لعمل البوزا وعملت المسكرات فى دنان من الفخّار.
ونزل السلطان سحر يوم السبت المذكور، وفى عزمه أن يقيم نهاره مع الأمراء والمماليك، يعاقر الشراب، فأشار عليه بعض ثقاته بترك ذلك وخوّفه العاقبة، فمدّ السّماط وعاد إلى القصر، قبل طلوع الشمس، وأنعم على كلّ من الأمراء المقدّمين بفرس بقماش ذهب، وأذن السلطان للعامّة فى انتهاب ما بقى من الأكل والشراب، قال المقريزى: «فكان يوما فى غاية القبح والشّناعة أبيحت فيه المسكرات وتجاهر الناس فيه بالفواحش، بما لم يعهد مثله، وفطن أهل المعرفة بزوال الأمر، فكان كذلك، ومن يومئذ انتهكت الحرمات بديار مصر وقلّ الاحتشام» . انتهى كلام المقريزى.(12/81)
ذكر وقعة علىّ باى مع السلطان الملك الظاهر برقوق
لمّا كان يوم السبت تاسع عشر ذى القعدة من سنة ثمانمائة أو فى النيل وقدم أيضا البريد بقتل سولى بن دلغادر أمير التّركمان «1» ، فركب السلطان بعد صلاة الظهر يريد المقياس «2» ليخلّقه ويفتح خليج «3» السّدّ على العادة، ومعه جميع الأمراء إلّا الأمير عليّا باى الخازندار، فإنه كان انقطع بداره أياما وتمارض وفى باطن أمره أنه قصد الفتك بالسلطان، فإنّه علم أنه إذا نزل لفتح الخليج يدخل إليه ويعوده كما جرت به عادته مع الأمراء فدبّر علّى باى على السلطان وأخلى إسطبله من الخيل وداره من حريمه، وأعدّ قوما اختارهم من مماليكه، فتهيئوا لذلك فرآهم شخص كان يسكن بأعلى الكبش «4» من المماليك اليلبغاويّة يسمى سودون الأعور، فركب إلى(12/82)
الملك الظاهر فى أثناء طريقه بعد تخليق المقياس وفتح خليج السدّ وأسرّ إليه أنه شاهد من سكنه مماليك علىّ باى وقد لبسوا آلة الحرب ووقفوا عند بوائك الخيل من إسطبله وستروا البوائك بالأنخاخ «1» ليخفى أمرهم، فقال له: السلطان اكتم ما معك، فلم يبد السلطان ذلك إلا لأكابر أمرائه.
ثم أمر السلطان الأمير أرسطاى رأس نوبة أن يتوجّه إلى دار علىّ باى ويعلمه أن السلطان يدخل إليه لعيادته، فتوجّه أرسطاى عادة وأعلم عليّا باى بذلك، فلمّا بلغ عليّا باى أن السلطان يعوده اطمأن وظنّ أن حيلته تمّت ووقف أرسطاى على باب علىّ باى ينتظر قدوم السلطان، وعند ما بعث السلطان أرسطاى إلى علىّ باى أمر الجاويشية بالسكوت فسكتوا عن الصّياح أمام السلطان.
ثم أبعد السلطان العصائب السلطانية عنه وأيضا السّنجق الذي يحمل على رأس السلطان وتقدّم عنهم حتى صار بينه وبين العصائب مدى بعيدا من خلفه وسار السلطان كآحاد الأمراء وسار حتى وافى الكبش، وهو تجاه دار علىّ باى والناس قد اجتمعوا للفرجة على موكب السلطان، فصاحت امرأة من أعلى الكبش «2» على السلطان لا تدخل، فإنّهم قد لبسوا لقتالك، فحرّك السلطان فرسه وأسرع(12/83)
فى المشى ومعه الأمراء ومن ورائه المماليك الخاصّكيّة يريد القلعة «1» ، وكان باب علىّ باى مردود الدّرفتين، وضبّته مطرقة ليمنع الناس من الدخول إليه، حتى يأتى السلطان، فلمّا مرّ السلطان ولم يعلم به من ندبه علىّ باى لرؤية «2» السلطان وإعلامه به، حتى جاوزهم السلطان بما دبّره السلطان من المكيدة بتأخير العصائب السلطانية والسّنجق والجاويشيّة وتقدّمه عنهم.
ثم بلغ عليّا باى أن السلطان فاته، فركب وبادر أحد أصحابه يريد فتح الضّبّة فأغلقها، وإلى أن يحضر مفتاح الضّبّة ويفتحونها، فاتهم السلطان وصار بينه وبينهم سدّ عظيم من الجمداريّة والغلمان وغيرهم، فخرج علىّ باى ومن معه من أصحابه لابسين السلاح، وعدّتهم نحو الأربعين فارسا يريدون السلطان، وقد ساق السلطان ومعه الأمراء، حتى دخل باب «3» السلسلة وامتنع به «4» ، فوقف على باى من معه تجاه باب السلسلة، فنزل إليه فى الحال طائفة من المماليك السلطانية لقتاله، فقاتلهم، وثبت لهم ساعة حتى جرح من الفريقين جماعة وقتل من المماليك السلطانية بيسق المصارع.
ثم انهزم علىّ باى وتفرّق عنه أصحابه، وقد ارتجت مصر والقاهرة، وركب يلبغا المجنون الأستادار ومعه مماليك لابسين يريد القلعة، وأرجف الناس بقتل السلطان واشتدّ خوف الرعيّة وتشعّب الذّعر.(12/84)
ثم لبست المماليك السلطانية السلاح، وأتى السلطان من كان غائبا عنه من الأمراء والخاصكيّة وتحلّقوه.
فعندما طلع يلبغا الأحمدىّ المجنون الأستادار إلى السلطان وثب عليه الخاصكيّة، واتّهموه بموافقة علىّ باى لكونه جاء هو ومماليكه فى أسرع وقت بآلة الحرب، فأخذه اللّكم من الخاصكيّة من كل جهة، ونزعوا ما عليه من السلاح، وألقوه إلى الأرض ليذبحوه، لولا أن السلطان منعهم من ذلك، فلمّا كفّوا عن ذبحه سجنوه «1» بالزّردخاناه السلطانية مقيّدا.
ثم قبض على نكباى شادّ شرابخاناه علىّ باى، وقطّع قطعا بالسيوف، فإنّه أصل هذه الفتنة.
وسبب ركوب علىّ باى على السلطان وخبره أن نكباى هذا كان تعرّض لجارية من جوارى الأمير آقباى الطّرنطائى، وصار بينهما مشاكلة، فبلغ ذلك آقباى، فمسك نكباى المذكور وضربه ضربا مبرّحا ثم أطلقه، فحنق علىّ باى من ذلك، وشكا آقباى للسلطان، فلم يلتفت السلطان إليه، وأعرض عنه، وكان فى زعمه أن السلطان يغضب على أقباى بسبب مملوكه، فغضب علىّ باى من ذلك، ودبّر هذه الحبلة الباردة، فكان فى تدبيره تدميره.
وبات السلطان تلك الليلة بالإسطبل السلطانى، ونهبت العامّة بيت علىّ باى حتى إنهم لم يبقوا به شيئا.
وأما علىّ باى فإنه لما رأى أمره تلاشى ذهب واختفى فى مستوقد حمّام فقبض عليه وحمل إلى السلطان، فقيّده وسجنه بقاعة «2» الفضّة من القلعة.(12/85)
فلما أصبح النهار وهو نهار الأحد والعشرين من ذى القعدة نزع العسكر السلاح وتفرّقوا، وطلع السلطان إلى القلعة من الإسطبل وأخذ علىّ باى وعصره، فلم يقر على أحد، وأحضر يلبغا المجنون فخلف علىّ باى أنه لم يوافقه ولا علم بشىء من خبره، وحلف يلبغا أنه لم يعلم بما وقع، وأنه كان مع الوزير بمصر.
فلمّا أشيع بركوب علىّ باى لحق بداره، ولبس السلاح ليقاتل عليّا باى، فأفرج عنه السلطان وخلع عليه باستمراره على الأستادارية ونزل إلى داره، فلم يجد بها شيئا، وجميع ما كان فيها نهبته العامّة حتى سلبت جواريه وفرّت امرأته خوند بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين، وأخذوا حتى رخام بيته وأبوابه، وتشعّثت داره وصارت خرابا، والدار هى التى على بركة «1» الناصرى بيت سونجبغا الناصرى الآن.(12/86)
ثم قدم البريد على السلطان من حلب بأن أولاد ابن بزدغان من التّركمان والأمير عثمان بن طر على «1» المدعو قرايلك «2» تقاتلوا مع القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «3» ، فقتل برهان الدين فى المعركة وقام من بعده ابنه.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشرين ذى القعدة جلس السلطان بدار العدل «4» وعصر عليّا باى المذكور فلم يقر على أحد.
وبينما السلطان فى ذلك إذا بهجّة عظيمة قامت فى الناس، فلبس العسكر ووقفوا تحت القلعة؛ «5» وقد غلقت أبواب القلعة، وأشيع أن يلبغا المجنون، والأمير آقبغا الطّولوتمرى المعروف باللّكّاش أمير مجلس خامرا على السلطان، ولم يكن الأمر كذلك وبلغ اللكاش ذلك، فركب من وقته فطلع إلى القلعة.(12/87)
وأمّا يلبغا المجنون فإنه كان فى بيت الأمير فرج، فركب فرج المذكور ليعلم السلطان بأنه كان فى داره بالقاهرة حتى يبرأ ممّا رمى به، وطلع فى الحال جميع الأمراء، فأمر السلطان بقلع السلاح ونزول كلّ أحد إلى داره، وسكن الأمر ونودى بالأمان والاطمئنان.
ثم فى ليلة الثلاثاء عذّب على باى أيضا بين يدى السلطان عذابا شديدا، كسرت فيه رجلاه وركبتاه وخسف صدره، فلم يقرّ على أحد، ثم أخذ إلى خارج وخنق، فتنكّرت الأمراء وكثر خوفهم من السلطان، خشية أن يكون علىّ باى ذكر أحدا منهم من حرارة العقوبة، ومن يومئذ فسد أمر السلطان مع مماليكه الجراكسة، ودخل السلطان إلى زوجته خوند الكبرى أرد «1» وكانت تركية الجنس، وكانت تحذره عن اقتناء المماليك الجراكسة وتقول له: اجعل عسكرك أبلق من أربعة أجناس:
تتر وجاركس وروم وتركمان، تستريح أنت وذريّتك، فقال لها: الذي كنت أشرت به علىّ هو الصواب، ولكن هذا كان مقدّرا ونرجو الله تعالى إصلاح الأمر من اليوم.
ثمّ فى يوم الثلاثاء أمر السلطان الأمير يلبغا المجنون أن ينفق على المماليك السلطانية، فأعطى الأعيان منهم خمسمائة درهم، فلم يرضهم ذلك وكثرت الإشاعات الردية والإرجاف بوقوع فتنة وباتوا ليلة الخميس على تخوّف، ولم تفتح الأسواق فى يوم الخميس، فنودى بالأمان والبيع والشراء، ولا يتحدّث أحد فيما لا يعنيه.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير أرسطاى بتقدمة علىّ باى، ووظيفته رأس نوبة النّوب، وأنعم على الأمير تمان تمر الناصرى بإقطاع أرسطاى، والإقطاع: إمرة طبلخاناه.(12/88)
ثم فى سادس عشرينه نزل الأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تمربغا المنجكى أحد أمراء الألوف، وحاجب ثانى، وقبضا على الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرىّ المعروف بالمجنون الأستادار من داره، وبعثاه فى النّيل إلى ثغردمياط «1» واستقرّ عوضه أستادارا الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر بإمرة خمسين فارسا وأنعم السلطان على الأمير بكتمر جلّق الظاهرى رأس نوبة بتقدمة ألف عوضا عن يلبغا المجنون.
وفى يوم السبت ثالث ذى الحجة خلع السلطان على أميرين باستقرارهما رءوس نوب صغارا وهما: طولو بن على باشا الظاهرى وسودون الظريف الظاهرىّ.
وفى يوم الأحد رابع ذى الحجة سمّر السلطان أربعة نفر من مماليك علىّ باى ثم وسّطوا.
ثم رسم السلطان بإحضار الأمير بكلمش العلائىّ أمير سلاح كان من سجنه بالإسكندرية «2» وتوجّه إلى القدس «3» بطّالا على ما كان للأمير شيخ الصّفوى من المرتّب.
ثمّ استهلّ القرن التاسع: أعنى- سنة إحدى وثمانمائة- والخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد العباسى والسلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق(12/89)
ابن أنص الجاركسى اليلبغاوىّ والقاضى الشافعىّ تقي الدين عبد الرحمن الزّبيرى والقاضى الحنفى جمال الدين يوسف الملطىّ والقاضى المالكى ناصر الدين أحمد التّنسى «1» والحنبلىّ برهان الدين إبراهيم بن نصر الله، والأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، وأمير سلاح تغرى بردى بن يشبغا الظاهرى (أعنى عن الوالد) وأمير مجلس آقبغا اللكّاش الظاهرى، والأمير آخور نوروز الحافظى الظاهرى، وحاجب الحجاب فارس الظاهرى والدوادار بيبرس ابن أخت الملك الظاهر برقوق ورأس نوبة النّوب أرسطاى.
ونوّاب البلاد صاحب مكة «2» المشرفة الشريف حسن بن عجلان الحسنىّ المكّى وأمير المدينة «3» النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الشريف ثابت بن نعير الحسينىّ،(12/90)
ونائب الشام الأمير تنبك الحسنى المعروف بتنم الظاهرى، ونائب حلب أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرى، ونائب طرابلس يونس الظاهرى المعروف بيونس بلطا، ونائب حماة آقبغا الجمالى، ونائب صفد شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على ونائب غزّة بيخجا «1» المعروف بطيفور الظاهرى، ونائب الإسكندرية صرغتمش القزوينى وجميع من ذكرنا من النوّاب بالبلاد الشامية وأصحاب الوظائف بالديار المصريه هم مماليك الظاهر برقوق ومشترواته، ما خلا نائب صفد وهو أيضا نشؤه، والأتابك أيتمش وقد اشتراه بعد سلطنته، حسبما تقدم ذكره أنه اشتراه من أولاد معتق أستاذه.
ثم فى يوم سابع عشر المحرم المذكور سمّر السلطان سبعة نفر من المماليك يقال لأحدهم: آقبغا الفيل الظاهرى وآخر من إخوة علىّ باى ظاهرى أيضا والباقى من مماليك علىّ باى وشهّروا بالقاهرة، ثم وسّطوا.
وفيه أيضا تنكّر السلطان على سودون الحمزاوى الخاصّكى الظاهرى وضربه ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة «2» شمائل مدّة، ثم أخرجه منفيّا إلى بلاد الشام لأمر اقتضى ذلك.
وفى هذا الشهر توعّك السلطان وحدث له إسهال مفرط لزم منه الفراش مدّة تزيد على عشرين يوما.
ورسم السلطان بتفرقة مال على الفقراء، ففرّق فيهم، فاجتمع تحت القلعة «3» منهم عالم كثير وازدحموا لأخذ الذهب، فمات فى الزّحام منهم سبعة وخمسون شخصا، ما بين رجل وامرأة وصغير، قاله المقريزى.(12/91)
وفى يوم ثانى عشره رسم السلطان بجمع أهل الإسطبل «1» السلطانى من الأمير آخورية والسلاخورية ونحوهم، فاجتمعوا ونزل السلطان من القصر إلى مقعده بالإصطبل السلطانى، وهو متوعّك البدن لعرضهم، وعرضهم حتى انقضى العرض، فأمسك جرباش الظاهرى أحد الأمير «2» آخورية الأجناد وقال له بعد ذلك على ماذا تريد قتلى وأنا أستاذك! فلم ينزعج جرباش المذكور وقال: بعد أن أشار بيده الى حياصته: أكون أنا لابس حياصة وهؤلاء أمراء، وأشار لمن حول السلطان من الأمراء من مماليكه، وهم الجميع أقلّ منى وبعدى شريتهم، فأشار السلطان بأخذه، فأخذ وسجن، فكان ذلك آخر العهد به.
ثم عرض السلطان الخيل وفرّق خيل السّباق على الأمراء، كما كانت العادة يوم ذلك.
ثم عرض الجمال البخاتى، كلّ ذلك تشاغل، والمقصود القبض على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى الأمير آخور الكبير، ثم أظهر السلطان أنه تعب واتّكأ على الأمير نوروز ومشى من الإسطبل متكئا عليه، حتى وصل إلى الباب الذي يطلع منه إلى القصر، فأدار السلطان يده على عنق نوروز المذكور، فبادر الخاصّكيّة إليه باللّكم حتى سقط إلى الأرض، ثم قبضوا عليه وحملوه مقيّدا إلى السجن، ودخل السلطان من الباب وطلع إلى القلعة، وكان للأمير نوروز ذنوب كثيرة: منها الممالأة لعلىّ باى، ومعه أيضا الأمير آقبغا اللّكّاش، ثم تخاذل نوروز فى فتح باب السلسلة للسلطان يوم وقعة علىّ باى.(12/92)
ثمّ بعد ذلك بلغ السلطان أن نوروز المذكور قصد الركوب عليه، فمنعته أصحابه، وأشاروا عليه أن يصير حتى ينتظر ما يصير من أمر السلطان فى مرضه، فإن مات فقد حصل له القصد من غير تعب ولا شنعة، وإن تعافى من مرضه فليفعل عند ذلك ما شاء.
وكان ممن حضر هذه المشورة مملوك من خاصّكية الملك الظاهر، فلم يعجب نوروز ذلك، وقرّر مع أصحابه من الخاصّكية الذين وافقوه أنه إذا كان ليلة نوبتهم فى خدمة القصر ودخلوا مع السلطان فى القصر «1» الصغير المعروف بالخرجة المطلّ على الإسطبل السلطانى يثبون عليه بمن اتفق معهم ويقتلون السلطان على فراشه، ثم يكسرون الثّريّة المعلقة بقناديلها الموقدة يكون ذلك إشارة بينهم وبين نوروز، بعد قتل السلطان، فيركب نوروز عند ذلك ويملك القلعة من غير قتال، فأخذ الخاصّكية يستميلون جماعة أخر من الخاصكية ليكثر جمعهم، وكان من جملة من استمالوه قانى باى الصغير الخاصكىّ وأظنه الذي ولى نيابة الشام فى دولة الملك المؤيّد شيخ، والله أعلم. فأجابهما قانى باى بالسمع والطاعة وحلف لهم على الموافاة، ثم فارقهم ودخل إلى السلطان من فوره وقعد لتكبيسه، فحكى له القصة بتمامها وكمالها، فاحترز الملك الظاهر على نفسه ودبّر على نوروز حتى قبض عليه.
ثم بعد مدة فى يوم السبت رابع صفر خلع السلطان على الأمير آقبغا اللّكّاش الظاهرىّ بنياية الكرك «2» وأخرج من ساعته وأذن له بالإقامة بخانقاه «3» سرياقوس حتى يجهّز أمره، ووكّل به الأمير تنبك الكركى الخاصّكى وهو مسفّره.(12/93)
ثم فى ليلة الأحد أنزل الأمير نوروز الحافظى من القلعة مقيّدا إلى سجن الإسكندرية ومسفّره الأمير أردبغا الظاهرى أحد أمراء العشرات.
ثم قبض السلطان على قوزى الخاصّكى أحد من كان اتفق مع نوروز وسلّم إلى والى القاهرة.
ثم أنعم السلطان بإفطاع الأمير نوروز الحافظى على تمراز الناصرى، وصار من جملة مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وأنعم على سودون الماردينىّ بإقطاع آقبغا اللّكّاش، وهو تقدمة ألف أيضا، وخلع على الأمير أرغون شاه البيدمرى الظاهرى باستقراره أمير مجلس، عوضا عن آقبغا اللكاش المذكور، وخلع على سودون المعروف بسيّدى سودون قريب الملك الظاهر برقوق باستقراره أمير آخور عوضا عن نوروز الحافظىّ.(12/94)
وفى ثالث عشرين صفر أيضا أملى بعض المماليك السلطانية إليه بالأطباق على بعض فقهاء الأطباق أسماء جماعة من الأمراء والمماليك، أنهم اتفقوا على إقامة فتنة والقيام على السلطان وكتبها ودخل بها المملوك على السلطان، فلما قرئت الورقة على السلطان، استدعى المذكورين وأخبرهم بما قيل عنهم، فخلفوا أن هذا شىء لم يسمعوه إلا الآن، وحلّوا أوساطهم ورموا سيوفهم، وقالوا يوسّطنا السلطان أو يخبرنا بمن قال هذا عنا، فأحضر السلطان المملوك وسلّمه إليهم وضربوه نحو الألف عصا، حتى أقرّ أنه اختلق هذا الكلام عليهم حنقا من واحد منهم، وسمّى شخصا كان خاصمه «1» قبل ذلك.
ثم أحضر السلطان الفقيه الذي كتب الورقة وضربه بالمقارع وسمر، ثم شفع فيه من القتل وحبس بخزانة شمائل.
ولما وصل الأمير آقبغا اللكاش إلى غزة «2» متوجّها إلى محل كفالته بمدينة الكرك، قبض عليه بها وأحيط على سائر ما كان معه، وحمل إلى قلعة الصّبيبة «3» فسجن بها.
ثم ورد الخبر على السلطان فى صفر المذكور أن السكّة ضربت باسمه بمدينة ماردين «4» ، وخطب له بها وحملت له الدنانير والدراهم وعليها اسم السلطان.
ثم فى شهر ربيع الأول فى رابعه، ورد الخبر على السلطان بموت الأمير أرغون الإبراهيمى الظاهرى نائب حلب، فرسم السلطان أن ينقل الأمير آقبغا الجمالى(12/95)
الظاهرى المعروف بالأطروش من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، وحمل إليه التقليد والتشريف إينال باى بن قجماس، ورسم أيضا باستقرار يونس بلطا نائب حماة «1» فى نيابة طرابلس عوضا عن آقبغا المذكور، وتوجّه بتقليده وتشريفه الأمير يلبغا الناصرى الظاهرى، ورسم أن يستقر دمرداش المحمدى أتابك حلب فى نيابة حماة، وتوجه بتقليده الأمير شيخ المحمودى «2» الساقى رأس نوبة وهو الذي تسلطن
ثم خلع السلطان على الأمير سودون الظاهرى المعروف بالظريف فى نيابة الكرك.
وفى خامس عشر شهر ربيع الأول أنعم السلطان على الوالد بجميع سرحة البحيرة «3» وداخلها مدينة الإسكندرية.(12/96)
ثم فى سلخ ربيع الأول المذكور أمسك السلطان الأمير عزّ الدين أزدمر أخا إينال اليوسفى وأمسك معه ناصر الدين محمد بن إينال اليوسفىّ ونفيا إلى الشام.
ثم فى يوم الأربعاء أوّل شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير سراى تمرشلّق الناصرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة بديار مصر باستقراره أتابك العساكر بحلب عوضا عن دمرداش المحمّدى المنتقل إلى نيابة حماة.
ثم فى عشرينه أنعم السلطان على الأمير على بن إينال اليوسفى بخبز أخيه محمد، وأمير علىّ هذا هو أستاذ الملك الظاهر جقمق الآتى ذكره، وبه عرف بالعلائىّ.
وفيه أنعم السلطان على كلّ من سودون من زادة الظاهرى، وتغرى بردى الجلبانى، ومنكلى بغا الناصرى، وبكتمر الظاهرى، وأحمد بن عمر الحسنى بإمرة طبلخاناة بالديار المصرية.
وأنعم أيضا على كلّ من بشباى الظاهرى، وتمربغا من باشاه، وشاهين من إسلام الأفرم الظاهرىّ، وجوبان العثمانى الظاهرى، وجكم من عوض الظاهرى بإمرة عشرة.
ثم فى خامس عشرينه طلع إلى السلطان رجل عجمىّ، وهو جالس للحكم بين الناس وهيئته كهيئة الصوفية، وجلس بجانب السلطان، ومدّ يده إلى لحيته ليقبض عليها وسبّه سبّا قبيحا، فبادر إليه رءوس النّوب وأقاموه، ومرّوا به، وهو مستمرّ فى السبّ، فأمر به السلطان، فسلّم لوالى القاهرة، فأخذه الوالى ونزل به وعاقبه حتى مات تحت العقوبة.(12/97)
ثم فى يوم الخميس سلخه خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج ابن نقولا الأرمنىّ الأسلمىّ والى قطيا «1» باستقراره وزيرا عوضا عن الوزير بدر الدين محمد بن الطوخى.
وفى رابع جمادى الأولى رسم السلطان بإحضار الأمير يلبغا الأحمدى المجنون من ثغردمياط.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى المذكور رسم السلطان باستدعاء رئيس الأطبّاء فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الداودىّ «2» التّبريزى وخلع عليه باستقراره فى كتابة السّر، بعد موت القاضى بدر الدين محمود الكلستانى، وكان نفيس جدّ فتح الله هذا يهوديّا من أولاد نبىّ الله داود عليه السلام.
وفى رابع عشرينه خلع السلطان على الأمير فرج الحلبى أستدار الذخيرة والأملاك باستقراره فى نيابة الإسكندرية.
ثمّ فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب رسم السلطان بانتقال الأمير جقمق الصّفوى حاجب حجّاب حلب إلى نيابة ملطية «3» بعد عزل دقماق المحمّدىّ الظاهرىّ وجهّز تقليده على يد مقبل الخازندار الظاهرى.(12/98)
ثمّ فى حادى عشرين شهر رجب المذكور خلع السلطان على الشيخ تقي الدين المقريزى المؤرّخ باستقراره فى الحسبة بالقاهرة، عوضا عن شمس الدين البجاسىّ.
ثم فى خامس عشرينه أعيد قاضى القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوى إلى قضاء الشافعيّة بالديار المصرية، بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيرىّ.
وفى هذه الأيام أعيد أيضا يلبغا المجنون إلى وظيفة الأستدارية، بعد عزل ناصر الدين محمد بن سنقر، واستقر ابن سنقر أستادار الذخيرة والأملاك عوضا عن فرج المنتقل إلى نيابة الإسكندريّة.
ثم كتب السلطان للأمير تنم الحسنىّ نائب الشام بالقبض على الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على نائب صفد وعلى الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى المعروف بقراسقل أتابك دمشق، فورد مرسوم السلطان على تنم وهو بالغور فاستدعى نائب صفد المذكور وقبض عليه، ثم قبض على الأمير جلبان المذكور وبعث بهما إلى قلعة دمشق فسجنا بها.
ورسم السلطان بنقل الأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى من حجوبيّة دمشق إلى نيابة صفد، ونقل الأمير بيخجا الشرفى المعروف بطيفور نائب غزة منها إلى حجوبية دمشق، ونقل ألطنبغا الظاهرىّ نائب الكرك كان إلى نيابة غزة.
ثم فى تاسع شعبان خلع السلطان على كمال الدين عمر بن العديم باستقراره قاضى قضاة حلب بسفارة الوالد.(12/99)
ثم فى رابع عشرين شهر رمضان كتب السلطان بالإفراج عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ علىّ من محبسه بقلعة «1» دمشق واستقراره أتابك العساكر بها، عوضا عن الأمير جلبان قراسقل.
ثم فى سابع عشرينه أخرج الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى من خزانة شمائل وسلّم للأمير يلبغا المجنون الأستادار.
ثم قدم الخبر على السلطان بموت الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ بسجن الإسكندرية، فابتهج السلطان بموته، ورأى أنه قد تمّ له أمره، فإنه آخر من بقى من اليلبغاويّة الأمراء.(12/100)
وأصبح من الغد فى يوم الجمعة وهو أوّل شوّال، صلّى صلاة العيد بالميدان على العادة، ثم صلّى الجمعة بجامع القلعة «1» فتفاءل الناس بزوال السلطان، كونه خطب بمصر فى يوم واحد مرّتين.
قلت: وهذه القاعدة غير صحيحة، فإنّ ذلك وقع للملك الظاهر جقمق فى أوّل سنين سلطنته، ثم وقع ذلك فى سلطنة الملك الأشرف إينال.
ثم فى سادس شوّال أخرج ابن الطبلاوىّ علاء الدين منفيّا إلى الكرك ومعه نقيب واحد.
وفى يوم الثلاثاء خامس شوّال من سنة إحدى وثمانمائة، فيه كان ابتداء مرض السلطان الملك الظاهر برقوق وسببه أنّه ركب للعب الكرة بالميدان،(12/101)
فلما فرغ منه قدم عليه عسل نخل ورد من كختا «1» ، فأكل منه ومن لحم بلشون «2» مشوىّ.
ثم دخل إلى مجلس أنسه وشرب مع ندمائه، فاستحال ذلك خلطا رديئا لزم منه «3» الفراش من ليلته.
ثم أصبح وعليه حمّى شديدة الحرارة، ثم تنوّع مرضه، وأخذ فى الزيادة من اليوم الثالث وليلة الرابع، وهو البحران «4» الأوّل، فأنذر عن السابع إنذارا رديئا لشدّة الحمى وضعف القوّة، حتى أيس منه، وأرجف بموته فى يوم السبت تاسعه، واستمرّ أمره فى الزيادة إلى يوم الأربعاء ثالث عشره، فقوى الإرجاف بموته، وغلّقت الأسواق، فركب الوالى ونادى بالأمان.
فلما أصبح يوم الخميس استدعى السلطان الخليفة المتوكل على الله وقضاة القضاة وسائر الأمراء وجميع أرباب الدولة، فحضر الجميع فى مجلس السلطان، فحدّثهم السلطان فى العهد لأولاده، وابتدأ «5» الخليفة بالحلف للأمير فرج ابن السلطان، وأنه هو السلطان بعد وفاة أبيه.
ثم حلف القضاة والأمراء وجميع أرباب الدولة، وتولى تحليفهم كاتب السرّ فتح الله، فلما تمّ الحلف للأمير فرج، حلفوا أن يكون القائم بعد فرج أخوه عبد العزيز، وبعد عبد العزيز أخوهما إبراهيم.(12/102)
ثم كتبت وصيّة السلطان، فأوصى لزوجاته وسراريه وخدّامه بمائتى ألف دينار وعشرين ألف دينار، وأن يعمّر له تربة «1» بالصحراء خارج باب النصر «2» تجاه تربة «3»(12/103)
الأمير يونس الدّوادار بثمانين ألف دينار، ويشترى بما فضل عن «1» عمارة التربة المذكورة عقار ليوقف عليها، وأن يدفن السلطان الملك الظاهر برقوق بها فى لحد تحت أرجل الفقراء: وهم الشيخ علاء الدين السيرامىّ الحنفىّ، والشيخ أمين الدين الخلواتى الحنفىّ، والمعتقد عبد الله الجبرتىّ، والمعتقد طلحة، والشيخ المعتقد أبو بكر البجائىّ، والمجذوب أحمد الزهورىّ، وقرّر أن يكون الأمير الكبير أيتمش هو القائم بعده بتدبير ابنه فرج، وأن يكون «2» وصيّا على تركته ومعه تغرى بردى بن «3» بشبغا أمير السلاح، أعنى عن الوالد، والأمير بيبرس الدوادار ابن أخت السلطان بعدهما، ثم الأمير قطلوبغا الكركىّ أحد أمراء العشرات، ثم الأمير يلبغا السالمىّ أحد أمراء العشرات أيضا، ثم سعد الدين إبراهيم بن غراب، وجعل الخليفة ناظرا على الجميع.
ثم انفضّ المجلس ونظر الأمراء بأسرهم فى خدمة الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ إلى منزله، فوعد الناس أنه يبطل المظالم وأخذ البراطيل على المناصب والولايات.
وأكثر السلطان فى مرضه من الصدقات، فبلغ ما تصدّق به فى هذا المرض أربعة عشرة ألف دينار وتسعمائة دينار وتسعة «4» وتسعين دينارا، وأخذ فى النزع من بعد الظهر إلى أن مات السلطان الملك الظاهر برقوق من ليلته بعد نصف الليل.
وهى ليلة الجمعة خامس عشر شوّال، وقد تجاوز ستّين سنة من العمر، بعد أن حكم على الديار المصرية والممالك الشامية أميرا كبيرا مدبرا وسلطانا إحدى وعشرين سنة وسبعة وخمسين يوما، منها تحكّمه بديار مصر، بعد مسك الأمير الكبير طشتمر العلائىّ الدوادار أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان يسمّى إذ ذاك بالأمير(12/104)
الكبير نظام الملك، ومنذ تسلطن سلطنته الأولى فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة إلى أن خلع واختفى فى واقعة الناصرى ومنطاش فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يوما، وتسلطن عوضه الملك المنصور حاجّىّ ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين، ودام مخلوعا محبوسا، ثم خارجا بالبلاد الشامية ثمانية أشهر وستة عشر يوما، وأعيد إلى السلطنة ثانيا، فمن يوم أعيد إلى سلطنته ثانية إلى أن مات فى ليلة الجمعة المذكورة تسع سنين وثمانية أشهر، وتسلطن من بعده ابنه الملك الناصر فرج وجلس على تخت الملك حسبما يأتى ذكره فى سلطنته.
ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان الظاهر برقوق- رحمه الله- وغسّل وكفّن، وصلّى عليه بالقلعة قاضى القضاة صدر الدين المناوى، وحمل نعشه سائر الأمراء على أعناقهم إلى تربته، فدفن بها- حيث أوصى- على قارعة الطريق، ولم يكن بذلك المكان يوم ذاك حائط، ودفن قبل صلاة الجمعة، ونزل أمام نعشه سائر الأمراء وأرباب الدولة مشاة يصيحون ويصرخون بالبكاء والعويل، وقد امتلأت طرق الصحراء بالجوارىّ والنساء السّبيات «1» الحاسرات منشّرات الشعور من حرم مماليكه وحواشيه، فكان يوما فيه عبرة لمن اعتبر، ولم يعهد قبله أحد من ملوك مصر دفن نهارا غيره، وضربت الخيام على قبره، وقرئ القرآن أياما، ومدّت لهم الأسمطة العامة الهائلة، وتردّدت أكابر الدول فى كل ليلة إلى قبره عدّة أيام وكثر أسف الناس عليه.(12/105)
قلت: وهو أوّل من ولى السلطنة من الجراكسة بالديار المصرية بعد الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، على خلاف فى بيبرس، وهو القائم بدولة الجراكسة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أوّل ترجمته.
وخلّف من الأولاد ثلاثة ذكور: الملك الناصر فرجا، وأمه أمّ ولد رومية تسمّى: «شيرين» وهى بنت عمّ الوالد، وقيل: أخته، وماتت فى سلطنة ابنها الملك الناصر فرج. وعبد العزيز، وأمّه أمّ ولد أيضا تركيّة الجنس، تسمّى قنق باى، ماتت فى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، وإبراهيم، وأمّه خوند بركة، ماتت فى أواخر دولة الملك الأشرف برسباى.
وخلّف أيضا ثلاث بنات: خوند سارة وأمّها أمّ ولد، تزوّجها الأمير نوروز الحافظىّ، ثم مقبل الرومىّ، وماتت فى سنة ست عشر وثمانمائة بطريق دمشق، رخوند بيرم وأمّها خوند هاجر بنت منكلى بغا الشمسىّ، تزوجها إينال باى بن قجماس، وماتت بالطاعون فى سنة تسع عشرة وثمانمائة وخوند زينب، وأمّها أمّ ولد، تزوجها الملك المؤيّد شيخ، ثم من بعده الأتابك قجق، وماتت فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة.
وخلّف فى الخزانة وغيرها من الذّهب العين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الغلال والقنود «1» والأعسال والسكّر والثياب وأنواع الفرو ما قيمته أيضا ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار.
وخلّف من الخيل نحو ستّة آلاف فرس، ومن الجمال نحو خمسة آلاف جمل، ومن البغال وحمير التراب عدّة كبيرة.(12/106)
وبلغت عدّة مماليكه المشتروات خمسة آلاف مملوك، وبلغت جوامك «1» مماليكه فى كل شهر نحو أربعمائة ألف درهم فضة، وعليق خيولهم فى الشهر ثلاثة عشر ألف إردب شعير، وعليق خيوله بالإسطبل «2» السلطانى وغيره، وجمال النّفر وأبقار السواقى وحمير التراب فى كل شهر أحد عشر ألف إردب من الشعير والفول.
وكان ملكا جليلا حازما شهما شجاعا مقداما صارما فطنا عارفا بالأمور والوقائع والحروب، ومما يدل على فرط شجاعته وثوبه على الملك وهو من جملة أمراء الطبلخانات، وتملّكه الديار المصرية من تلك الشجعان، وما وقع له مع الناصرىّ ومنطاش عند خلعة من السلطنة كان خذلانا من الله تعالى (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) ، وما وقع له بعد خروجه من حبس الكرك «3» ، فهو من أكبر الأدلة على شجاعته وإقدامه.
وكان- رحمه الله- سيوسا عاقلا ثبتا، وعنده شهامة عظيمة ورأى جيّد ومكر شديد وحدس صائب، وكان يتروّى فى الشيء المدّة الطويلة حتى يفعله، ويتأنّى فى أموره، مع طمع كان فيه وشره فى جمع المال، وكان يحب الاستكثار(12/107)
من المماليك، ويقدّم جنس المماليك الجراكسة على غيره، ثم ندم على ذلك فى أواخر عمره، بعد فتنة علىّ باى.
وكان يحب اقتناء الخيول والجمال، وكان يتصدّى للأحكام بنفسه ويباشر أحكام المملكة برأيه وتدبيره، فيصيب فى غالب أموره، على أنه كان كثير المشورة لأرباب التجارب، يأخذ رأيهم فيما يفعله، ثم يقيس رأيهم على حدسه، فيظهر له ما يفعله.
وكان يحب أهل الخير والصلاح، وله اعتقاد جيّد فى الفقراء والصّلحاء، وكان يقوم للفقهاء والصلحاء إذا دخل عليه أحد منهم، ولم يكن يعهد هذا من ملك كان قبله من ملوك مصر، على أنه صار يعض من الفقهاء فى سلطنته الثانية، من أجل أنهم أفتوا فى قتاله وقتله، لاسيما القاضى ناصر الدين ابن بنت ميلق، فإنه كان كثير الاعتقاد فيه، ومع شدّة حنقه عليهم كان لا يترك إكرامهم.
وكان كثير الصّدقات والمعروف، أوقف ناحية بهتيت «1» على سحابة «2» تسير مع الحج إلى مكة فى كلّ سنة، ومعها جمال تحمل المشاة من الحاج وتصرف لهم ما يحتاجون(12/108)
إليه من الماء والزاد ذهابا وإيابا، ووقف أيضا أرضا على قبور «1» إخوة يوسف عليه السلام بالقرافة «2» ، وكان يذبح دائما فى طول أيام إمارته وسلطنته فى كلّ يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، يتصدّق بها بعد ما أن تطبخ، ومعها آلاف من أرغفة الخبز النّقى، تفرّق على أهل الجوامع والمساجد والرّبط «3» وأهل السجون، لكل إنسان رطل لحم مطبوخ، وثلاثة أرغفة، وهذا، غير ما كان يفرّق فى الزوايا من اللحم أيضا، فإنه كان يعطى لكل زاوية خمسين رطلا من اللحم الضأن، وعدّة أرغفة فى كل يوم، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم وكان يفرق فى كل سنة فى أهل العلم والصلاح مائتى ألف درهم، الواحد إلى مائة دينار، وكان يفرّق فى فقراء القرافتين «4» لكل فقير من دينار إلى أكثر وأقلّ، ويفرّق فى كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحا على أهل الخير وأرباب الصلاح.
ويبعث فى كل سنة إلى بلاد الحجاز ثلاثة آلاف إردب قمحا، تفرّق فى الحرمين وفرّق فى مدة الغلاء كلّ يوم أربعين إردبا؛ عنها ثمانية آلاف رغيف، فلم يمت فيه أحد من الجوع.(12/109)
وكان غير هذا كلّه يبعث فى كل قليل بجملة من الذهب تفرّق فى الفقهاء والفقراء، حتى إنه تصدّق مرة بخمسين ألف دينار مصرية على يد خازنداره العبد الصالح الطواشى صندل المنجكى الرومىّ.
وأبطل عدّة مكوس: منها ما كان يؤخذ من أهل شورى «1» وبلطيم «2» من البرلّس «3» ، وكانت شبه الجالية «4» فى كل سنة. قلت: أعيد ذلك فى سلطنة الملك الظاهر جقمق.
وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغردمياط «5» عما تبتاعه الفقراء وغيرهم.(12/110)
وأبطل مكس معمل الفراريج بال؟؟؟ ريرية «1» وما معها من بلاد الغربية، وأبطل مكس الملح بعينتاب «2» ، ومكس الدقيق بالبيرة «3» ، وأبطل من طرابلس»
ما كان مقرّرا على قضاة البرّ وولاة الأعمال عند قدوم النائب إليها، وهو مبلغ خمسمائة درهم على كلّ منهم، أو بغلة بدل ذلك.
وأبطل ما كان يؤخذ على الدّريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة.(12/111)
وأبطل ضمان المغانى بمدينة الكرك «1» والشّوبك «2» ، وبمنية «3» ابن خصيب، وأعمال الأشمونين «4» وزفتة «5» ومنية غمر «6» .(12/112)
وأبطل رمى الأبقار بعد الفراغ من عمل الجسور بأراضى مصر على البطّالين بالوجه البحرىّ.
وأنشأ بالقاهرة مدرسته التى لم يعمر مثلها ببين القصرين، ورتّب لها صوفية بعد العصر كلّ يوم، وجعل بها سبعة دروس لأهل العلم على المذاهب الأربعة أعظمهم بالإيوان القبلىّ الحنفى، ثم درسا للتفسير، ودرسا للحديث، ودرسا للقراءات. وأجرى على الجميع فى كلّ يوم الخبز ولحم الضّأن المطبوخ، وفى الشهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضى والدّور ونحوها.
وعمّر جسرا على نهر الأردن «1» بالغور فى طريق دمشق «2» ، طوله مائة وعشرون ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وجدّد خزائن السلاح بثغر الإسكندرية، وسور(12/113)
دمنهور «1» ، وعمّر جبال الشرقية بالفيوم «2» ، وزاوية البرزخ بدمياط «3» ، وقناة العرّوب بالقدس، وبنى أيضا بركة بطريق الحجاز، وبركة أخرى برأس وادى بنى سالم(12/114)
وجدّد عمارة القناة التى تحمل ماء النيل إلى قلعة الجبل، وجدّد عمارة الميدان من تحت القلعة، بعد ما كان خرب، وسقاه وزرع به الفرط، وغرس فيه النخل، وعمر صهريجا ومكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفا، وعمّر أيضا بالقلعة طاحونا، وعمر أيضا سبيلا تجاه باب دار الضيافة تجاه القلعة.
وخطب له على منابر تبريز «1» ، عند ما أخذها قرا محمد التّركمانى، وضربت الدنانير والدراهم فيها باسمه وخطب له على منابر الموصل «2» من العراق، وعلى منابر ماردين «3» بديار بكر، ومنابر سنجار «4» ، وخرب عساكره مدينة دوركى «5» وأرزن «6» كان من أرض الروم.
وكان نائبه بالديار المصرية الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ إلى أن مات سودون المذكور، فلم يستنب الملك الظاهر أحدا بعده.
وكانت نوّابه بدمشق «7» (أعنى الذين تولوا فى أيام سلطنته) : الأمير بيدمر الخوارزمى، وإشقتمر الماردينىّ، وألطنبغا الجوبانىّ غير مرة، وطرنطاى السيفىّ،(12/115)
ويلبغا الناصرى صاحب الوقعة معه، وبطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ المعروف بتنم، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحلب «1» : يلبغا الناصرىّ غير مرّة، وسودون المظفّرىّ وكمشبغا الحموىّ وقرادمرداش الأحمدىّ وجلبان الكمشبغاوىّ الظاهرىّ قراسقل وتغرى بردى من بشبغا الظاهرىّ (أعنى الوالد) وأرغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ وآقبغا الجمالى الظاهرىّ الأطروش، ومات السلطان وهو على نيابتها.
ونوّابه بطرابلس «2» مأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ وكمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ وأسندمر السيفىّ، وقرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ، وإينال بن خجا على، وإياس الجرجاوى، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ، وأرغون شاه الإبراهيمىّ الظاهرىّ، وآقبغا الجمالىّ الظاهرىّ الأطروش، ويونس بلطا الظاهرىّ، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحماة «3» : صنجق الحسنىّ، وسودون المظفّرىّ وسودون العلائىّ، وسودون العثمانىّ، وناصر الدين محمد بن المهمندار، ومأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ وليها مرّتين، وآقبغا السلطانىّ، ويونس بلطا الظاهرى، ثم دمرداش المحمدى، ومات برقوق وهو على نيابتها.(12/116)
ونوّابه بصفد «1» : أركماس السيفىّ، وبتحاص السّودونىّ، وارغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ وآقبغا الجمالىّ الأطروش الظاهرىّ، وأحمد ابن الشيخ علىّ، وألطنبغا العثمانىّ الظاهرىّ، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بالكرك: «2» طغاى تمر القبلائى، ومأمور القلمطاوىّ، اليلبغاوى، وقديد القلمطاوىّ اليلبغاوىّ، ويونس القشتمرى، وأحمد ابن الشيخ على، وبتخّاص السّودونىّ، ومحمد بن مبارك شاه المهندار، وألطنبغا الحاجب، وسودون الظريف الظاهرىّ الشمسىّ، ومات السلطان وهو على نيابتها.
ونوّابه بغزّة «3» : قطلوبغا الصّفوىّ وآقبغا الصغير، ويلبغا القشتمرى، وألطنبغا العثمانى الظاهرىّ، وبيخجا الشرفىّ المدعو طيفور، وألطنبغا الحاجب، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ذكر قضاته بالديار المصرية
فالشافعية: برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وبدر الدين محمد بن أبى البقاء، وناصر الدين محمد بن بنت ميلق، وعماد الدين أحمد المقيّرى الكركىّ. وصدر الدين محمد المناوى، وتقىّ الدين عبد الرحمن الزّبيرى، ثم المناوى ثالث مرة، ومات السلطان وهو قاض.(12/117)
والحنفيّة: صدر الدين محمد بن منصور الدّمشقى، وشمس الدين محمد الطرابلسى ومجد الدين إسماعيل بن إبراهيم، وجمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ، وجمال الدين يوسف الملطىّ ومات الملك الظاهر وهو قاض.
والمالكية: جمال الدين عبد الرحمن بن خير السّكندرىّ، ثمّ ولىّ الدّين عبد الرحمن بن خلدون، وشمس الدين محمد الرّكراكىّ المغربى، وشهاب الدين أحمد النحريرىّ، وناصر الدين أحمد بن التّنسىّ، ثم ابن خلدون، ومات الملك الظاهر وهو قاض.
والحنابلة: نصر الدين نصر الله العسقلانىّ، ثم ابنه برهان الدين إبراهيم، ومات السلطان وهو قاض.
وأما أصحاب وظائفه من أكابر أمراء مصر فلم يضبطهم أحد من مؤرّخى ملك العصر، واكتفوا بذكرهم عند ولاية أحدهم أو عزله أو موته، إن كانوا فعلوا ذلك.
ذكر مباشرى دولته، أستاداريّته: بهادر المنجكىّ، ثم محمود بن على بن أصفر عينه. ثم قرقماس الطّشتمرىّ، ثم عمر بن محمد بن قايماز، ثم قطلوبك العلائى، ثم يلبغا الأحمدى المجنون، ثم محمد بن سنقر، ثم يلبغا المجنون، ومات السلطان وهو على وظيفته.
ووزراؤه بديار مصر: علم الدين عبد الوهاب المعروف بسنّ إبرة، وشمس الدين إبراهيم بن كاتب أرنان، وعلم الدين عبد الوهاب بن كاتب سيّدى، وكريم الدين عبد الكريم بن الغنّام، وموفّق الدين أبو الفرج، وسعد الدين نصر الله بن البقرىّ، وناصر الدين محمد بن الحسام، وركن الدين عمر بن قايماز، وتاج الدين عبد الرحيم ابن أبى شاكر، وناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك، ومبارك شاه، وبدر الدين(12/118)
محمد بن الطّوخىّ، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، ومات السلطان وهو وزير.
وكتّاب سره: القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله، وأوحد الدّين عبد الواحد، وعلاء الدين على المقيّرى الكركىّ، ثم ابن فضل الله ثانيا، ثم بدر الدين محمود الكلستانىّ، وفتح الدّين فتح الله، ومات السلطان وهو كاتب سرّه.
ونظار جيشه: تقىّ الدين عبد الرحمن بن محبّ الدين، وموفّق الدين أبو الفرج وجمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ، وكريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز، وشرف الدين محمد الدّمامينى، وسعد الدين إبراهيم بن غراب، ومات السلطان هو ناظر الجيش.
ونظّار خاصّه: سعد الدين نصر الله بن البقرىّ، وموفّق الدين أبو الفرج، وسعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين موسى كاتب السعدى، وسعد الدين بن غراب، ومات السلطان وهو ناظر الجيش والخاص معا، والله تعالى أعلم.
السنة الأولى من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، على أن الملك المنصور حاجّى بن الملك الأشرف شعبان حكم منها ثمانية أشهر وسبعة أيام من يوم سلطنته إلى يوم طلوع الملك الظاهر برقوق إلى قلعة الجبل «1» .
فيها توفّى الأمير سيف «2» الدين آقبغا بن عبد الله الجوهرىّ اليلبغاوىّ، كان من أكابر اليلبغاويّة وتولّى الأستادارية وحجوبيّة الحجّاب كليهما بديار مصر، ووقع له(12/119)
أمور، وهو أحد من أخرجه الملك الظاهر من حبس منطاش بالإسكندرية، وندبه فيمن ندب من الأمراء لقتال منطاش، فقتل فى وقعة حمص «1» عن بضع وخمسين سنة. وكان أميرا جليلا عارفا يذاكر بمسائل جيّدة فقهيّة وغيرها فى عدّة فنون مع حدّة مزاج.
وتوفّى الأمير سيف الدين أردبغا بن عبد الله العثمانىّ اليلبغاوى أحد أمراء الطبلخانات قتيلا أيضا فى وقعة منطاش، وكان من كبار اليلبغاويّة.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الجوبانىّ اليلبغاوى نائب الشام قتيلا فى واقعة منطاش، وقد تقدّم ذكر موته وكيفيّة قتله فى أوائل سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية، وكان من عظماء المماليك اليلبغاوية، ولّاه الملك الظاهر فى سلطنته الأولى أمير مجلس، ثم ولّاه نيابة الكرك، ثم نقله إلى نيابة الشام، ثم قبض عليه وحبسه إلى أن أخرجه الناصرىّ بعد خلع الملك الظاهر برقوق وحبسه، فولّاه الناصرىّ رأس نوبة الأمراء إلى أن أمسكه منطاش وحبسه بالإسكندرية ثانيا، حتى أخرجه الملك الظاهر برقوق فيمن أخرجه بعد عوده إلى سلطنة مصر، وولّاه نيابة الشام، وندبه لقتال منطاش فتوجّه وقاتله، وقتل فى الواقعة، وتولّى الناصرىّ نيابة الشام بعده، ومات الجوبانى وقد قارب الخمسين سنة من العمر، وكان حشما فخورا معظّما فى الدول متجمّلا فى مركبه ومماليكه ولبسه، وعنده سياسة وأدب ومعرفة، رحمه الله تعالى.(12/120)
وتوفّى الأمير سيف الدين قازان اليرقشى «1» أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من حواشى الناصرى، قتل فى واقعة منطاش على حمص، وقبل أن يخرج منطاش بالملك المنصور من مصر لقتال الملك الظاهر برقوق لمّا خرج من سجن الكرك، أمر والى الفيّوم فى الباطن بقتل جماعة كبيرة من الأمراء ممن كان بحبس الفيوم، ثم سافر منطاش، وبعد سفره بأيّام قدم محضر مفتعل من كاشف الفيوم:
أنه لمّا كان يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الآخرة سقط على الأمراء المسجونين حائط سجنهم فماتوا جميعا، فعظم ذلك على الناس إلى الغاية، كونهم من أكابر الأمراء وأعيان الدولة، وهم: الأمير تنكز العثمانى اليلبغاوى أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من الشجعان، وتمان تمر الأشرفىّ نائب بهنسا «2» وكان من أكابر المماليك الأشرفيّة، وهو من خشداشيّة منطاش، لكنه كان من حزب الناصرىّ، وتمرباى الحسنى الأشرفى حاجب الحجاب بالديار المصرية ومن أجلّ المماليك الأشرفية، وهو حمو الوالد وكان من الشجعان، وجمق الكمشبغاوى أحد أعيان أمراء مصر والشام، وكان من حزب الناصرى، وتمر الجركتمرىّ أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من حزب الملك الظاهر برقوق، وقطلوبغا الأحمدىّ اليلبغاوىّ أحد أمراء العشرات بالقاهرة، وعيسى التّركمانى أحد أمراء الطبلخانات بمصر، وقد ولى عدّة أعمال، وقرابغا البو بكرى أمير مجلس وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وقرقماش الطّشتمرىّ أستادار العالية والخازندار، والدوادار الكبير بالديار المصرية، تنقّل فى جميع هذه الوظائف وغيرها، وكان أوّلا من حزب(12/121)
الظاهر، ثم صار من بعد خلعه من حزب يلبغا الناصرىّ، ويونس الإسعردى الرمّاح الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات لم يكن فى المماليك الظاهريّة من يضاهيه فى حسن الشّكالة ولا فى لعب الرّمح، قتل الجميع فى يوم واحد حسب ما ذكرناه.
وتوفّى الأمير سيف الدين مأمور بن عبد الله القلمطاوى اليلبغاوى فى واقعة حمص أيضا وكان ولى نيابة الكرك، وتقدمة ألف بديار مصر، وحجوبية الحجاب بها، ثم ولّاه الملك الظاهر فى سلطنته الثانية نيابة حماة «1» ، فقتل وهو على نيابة حماة، وكان من أجلّ المماليك اليلبغاوية وأعيان أمراء مصر، وهو زوج بنت أستاذه الأتابك يلبغا التى خدمت الملك الظاهر برقوقا لمّا حبس بالكرك «2» .
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح علىّ المغربل فى خامس جمادى الأولى، ودفن بزاويته خارج القاهرة بحكر الزرّاق وكان للناس فيه اعتقاد حسن ويقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح محمد الفاوىّ فى ثامن جمادى الأولى ودفن خارج باب النصر، وكان خيّرا معتقدا.
وتوفّى الشيخ المقرئ شمس الدين محمد المعروف بالرفاء «3» فى سابع جمادى الأولى.
وتوفّى الأديب الشاعر شمس الدين محمد بن إسماعيل الإفلاتىّ فى سادس جمادى الأولى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان. والوفاء حادى عشر مسرى. والله تعالى أعلم.(12/122)
[ما وقع من الحوادث سنة 793]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير الكبير الحاج آل ملك الجوكندار فى يوم الأحد ثانى عشرين جمادى الآخرة.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن مسلم بن سعيد ابن بدر القرشىّ الدمشقى الشافعى قاضى قضاة دمشق بخزانة «1» شمائل، بعد عقوبات شديدة فى ليلة الأحد «2» تاسع شهر رجب، وكان غير مشكور السّيرة، مسرفا على نفسه، وهو ممن قام على الملك الظاهر برقوق بدمشق، وحرّض العامّة على قتاله وقد مرّ من ذكره ما فيه غنية عن ذكره ثانيا.
وتوفّى الأمير حسام الدين حسين بن علىّ بن الكورانىّ أحد أمراء الطبلخانات ووالى القاهرة مخنوقا بخزانة شمائل بعد عقوبات كثيرة، فى عاشر شعبان، وكان غير مشكور السيرة وفيه ظلم وجبروت، قتل من الزّعر فى أيام ولايته خلائق لا تدخل تحت حصر.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جلال الدين جلال بن رسول «3» بن أحمد بن يوسف العجمىّ الثّيرىّ «4» التّبّانىّ الحنفىّ خارج القاهرة فى يوم الجمعة ثالث [عشر «5» ](12/123)
شهر رجب، والتّبانىّ نسبة إلى سكنه، موضع خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير، يقال له: التبّانة «1» ، وكان إماما عالما بفنون كثيرة، أفتى وأقرأ ودرّس عدّة سنين، وعرض عليه قضاء مصر فامتنع عفّة منه. وله مصنفات كثيرة: منها «شرح المنار» فى أصول الفقه، و «شرح مختصر ابن الحاجب» وخرّج أيضا «مختصر التلويح فى شرح الجامع الصحيح» للحافظ مغلطاى، وله «منظومة فى الفقه» ، وشرحها فى أربع مجلدات، وله «مختصر فى ترجيح الإمام أبى حنيفة» ، وله تعليق على البزدوى ولم يكمله، وشرح كتبا كثيرة غير ذلك، وأصله من بلدة بالروم يقال لها: ثيرة بكسر (الثاء المثلثة) وسكون الياء آخر الحروف.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح على الروبىّ فى رابع ذى الحجة، وكان للناس فيه اعتقاد ويقصد للزيارة للتبرك به.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين محمد بن يوسف الرّكراكىّ المالكىّ قاضى قضاة الديار المصرية وهو قاض بحمص «2» ، فى رابع عشر شوّال، وقد تجرّد صحبة السلطان، وكان عالما ديّنا مشكور السّيرة.
وتوفّى شيخ الخانقاه «3» الصلاحيّة سعيد السعداء شهاب الدين أحمد بن الأنصارى الشافعى فى عاشر ذى القعدة.(12/124)
وتوفّى قاضى قضاة الحنابلة بدمشق الشيخ شرف الدين عبد القادر بن شمس الدين محمد بن عبد القادر الحنبلى النابلسى الدمشقى فى عيد الأضحى بدمشق، وكان فقيها فاضلا، أفتى ودرّس.
وتوفّى القاضى «1» فتح الدين أبو بكر محمد ابن القاضى عماد الدين أبى إسحاق إبراهيم ابن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبى الكرم محمد الدّمشقى الشافعى المعروف بابن الشّهيد كاتب سرّ دمشق قتيلا بخزانة «2» شمائل، فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين شعبان، وكان ممن خرج على الملك الظاهر برقوق ووافق منطاشا، وحرّض على قتال برقوق، وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة عند حضوره إلى القاهرة مع جنتمر نائب دمشق وابن القرشى قاضى دمشق وغيرهما، وكان فتح الدين رئيسا فاضلا بارعا فى الأدب والترسّل، مشاركا فى فنون كثيرة، ماهرا فى التفسير، مليح الخطّ، وله مصنفات، منها: أنه نظم السّيرة النبوية لابن هشام، فى مسطور مرجّز، وجملتها خمسون ألف بيت، ولمّا ولى كتابة سرّ دمشق، قال فيه بدر الدين ابن حبيب: (السريع)
كتابة السرّ علا قدرها ... بابن الشهيد الألمعىّ «3» الأديب
وكيف لا تعلو وقد جاءها ... (نصر من الله وفتح قريب)
ومن شعر القاضى فتح الدين هذا- رحمه الله- قوله: (الوافر)(12/125)
مدير الكأس حدّثنا ودعنا ... بعيشك عن كؤوسك والحثيث «1»
حديثك عن قديم الراح «2» يغنى ... فلا تسق الأنام سوى الحديث
وله: (الكامل)
قاسوا حماة «3» بجلّق «4» فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم
فعروس جامع جلّق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم
وله فى عين بعلبك «5» - رحمه الله- (الكامل)
ولقد أتيت لبعلبكّ فشاقنى ... عين بها روض النعيم منعّم
فلأهلها من أجلها أنا مكرم ... ولأجل عين ألف عين تكرم
وتوفى الأمير الكبير يلبغا بن عبد الله الناصرىّ اليلبغاوىّ قتيلا بقلعة حلب «6» ، وهو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق التى خلع الملك الظاهر فيها من الملك وحبس بالكرك «7» ، وكان أصله من أكابر مماليك يلبغا العمرى أستاذ برقوق، وتولّى فى أيام أستاذه يلبغا إمرة طبلخاناه، ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بالقاهرة فى دوله الملك الأشرف شعبان، وكان معه فى العقبة «8» ، ثم ملك باب السلسلة «9» من الإسطبل(12/126)
السلطانىّ، كلّ ذلك وبرقوق لم يتأمّر إلّا من نحو شهر واحد، ثم وقع له أمور وحبس ونفى إلى البلاد الشامية على إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق حتى ولى نيابة حلب عن المنصور علىّ، ثم عن أخيه، ثم عن الملك الظاهر برقوق، ثم أطلقه وولّاه نيابة حلب ثانيا، فعصى بعد مدّة ووافق منطاش، وقهر الظاهر برقوقا وخلعه من السلطنة وحبسه بالكرك ورشّح إلى سلطنة مصر، فامتنع غاية الامتناع وسلطن الملك الصالح حاجيّا ثانيا ولقبّه بالمنصور، وصار هو مدبّر مملكته، وحكم مصر إلى أن خرج عليه منطاش وكسره وقبض عليه وحبسه بسجن الإسكندرية «1» ، إلى أن أفرج عنه الملك الظاهر برقوق لما خرج من حببس الكرك وكسر منطاش وتسلطن ثانيا، فأخرجه ولم يؤاخذه، وندبه لقتال منطاش ثم ولّاه نيابة الشام بعد قتل الجوبانى ثم قبض عليه فى هذه السنة، وقتله بقلعة حلب ليلته هو وكشلى أمير آخوره والأمير محمد بن المهمندار نائب حماة، وقد تقدّم ذلك كله مفصلا فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الأولى والثانية، وترجمة المنصور حاجّى، فإنه كان فى الحقيقة هو السلطان، وحاجى له الاسم لا غير، فيكتفى بما وقع من ذكره هناك، ولا حاجة للإعادة هنا.
وكان يلبغا الناصرىّ من أجلّ الملوك عفّة وصيانة، ولى مصر وخلع الملك الظّاهر، وولى الملك المنصور، ولم يقتل أحدا صبرا «2» غير واحد يسمّى سودون من مماليك الظاهر، ويكفيه من عفته عن سفك الدماء عدم قتله للملك الظاهر برقوق بعد أن أشار عليه جميع أصحابه بقتله وكان مذهبى فيه أنّ الملك الظاهر برقوقا لا يقتله(12/127)
أبدا، بل إذا ظهر منه ما يخيفه يحبسه إلى أن يموت مراعاة لما سبق له من المنّ عليه لمّا خلعه من الملك والسلطنة وحبسه ولم يقتله. انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 794]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» ، وهى سنة أربع وتسعين وسبعمائة. وفيها توفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن على الدّنيسرىّ «1» المعروف بابن العطار الشاعر المشهور فى سادس عشر شهر ربيع الآخر، وقد مرّ من شعره نبذة كثيرة فى عدّة مواطن، ومن نظمه المشهور فى الأقباط قوله: (السريع)
قالوا ترى الأقباط قد رزقوا ... حظا واضحوا كالسلاطين
وتملّكوا الأتراك قلت لهم: ... رزق الكلاب على المجانين
وتوفّى الأمير الكبير إينال بن عبد الله اليوسفىّ اليلبغاوىّ أتابك العساكر بالديار المصرية بها فى رابع عشرين جمادى الآخرة، وتولّى الأتابكية من بعده الأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى، على أن كمشبغا كان يجلس فى الخدمة تحت «2» إينال المذكور، وكان إينال شجاعا مقداما، وقد تقدم ركوبه على الملك الظاهر برقوق قبل سلطنته والقبض عليه وحبسه مدّة إلى أن أخرجه برقوق إلى بلاد الشام وصار بها أميرا، ثم نقله إلى عدّة ولايات إلى أن ولّاه نيابة حلب، ثم عزله فى سلطنته الأولى عن نيابة حلب، وجعله أتابك دمشق، ثم ولّاه نيابة حلب بعد عصيان الناصرىّ، فلم يتم له ذلك، وخرج إينال أيضا على الظاهر، ووافق الناصرىّ، فلمّا ملك الناصرىّ مصر ولّاه نيابة صفد «3» ، ووقع له أمور حتى ولّاه الملك الظاهر برقوق(12/128)
أتابكية العساكر بالديار المصرية فى سلطنته الثانية، فدام على ذلك إلى أن مات فى التاريخ المذكور، وقد تقدّم ذكر إينال هذا فى عدّة تراجم من هذا الكتاب، فيها كفاية عن التعريف بحاله.
وتوفّى الأمير سيف الدين بطا بن عبد الله الطولوتمرىّ الظاهرىّ نائب الشام بها، بعد أن ولى نيابة الشام أياما قليلة، فى حادى عشرين المحرم؛ وقد ذكرنا أمر بطا هذا فى أواخر ترجمة الملك المنصور، وكيفية خروجه من سجن القلعة؛ وكيف ملك باب «1» السلسلة من صراى تمر نائب غيبة منطاش، وإقامته بباب السلسلة إلى أن قدم أستاذه الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية، وولّاه الدوادارية الكبرى، ثم ولاه نيابة دمشق بعد القبض على الأتابك يلبغا الناصرى، فلم تطل أيامه، ومات، وكان من أعيان المماليك الظاهرية، واتّهم الملك الظاهر فى أمره أنه اغتاله بالسم، والله أعلم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله الناصرىّ بطّالا ملازما لبيته فى حادى عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان قديم هجرة فى الأمراء، تأمّر فى دولة الناصر حسن، ثم أنعم عليه الملك الأشرف شعبان بإمرة مائة، وتقدمة ألف بالديار المصرية، ثم جعله رأس نوبة النّوب، بعد واقعة أسندمر الناصرى، ثم نقل إلى إمرة مجلس، ثم صار أستادارا كبيرا فى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة عوضا عن علم دار المحمدى، ثم أخرج إلى نيابة صفد فى السنة المذكورة، ثم عزل وأحضر إلى القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بها، ثم ولى حجوبية الحجّاب بالدّيار المصرية مدّة سنين، ثم تعطّل ولزم داره حتى «2» مات.(12/129)
وتوفى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الطولوتمرى «1» نائب دمشق بها فى شعبان، وكان ولى نيابة دمشق بعد موت الأمير بطا المقدّم ذكره، فحكم بدمشق ومات، وتولى بعده نيابة دمشق الأمير كمشبغا الأشرفى الخاصّكىّ أمير مجلس.
متوفّى الشيخ المعتقد المجذوب طلحة المغربىّ فى رابع عشر شوال بمدينة مصر، وكانت جنازته مشهودة، ودفن خارج باب النصر «2» من القاهرة، وهو أحد من أوصى الملك الظاهر برقوق أن يدفن تحت أرجلهم من الصالحين والعلماء، فدفن هناك، ثم عمّرت التربة»
الناصرية الموجودة الآن، وكان للناس فيه اعتقاد كبير، لاسيما الملك الظاهر برقوق.
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلامة عز الدين يوسف بن محمود بن محمد الرازى الحنفى العجمى، المعروف بالأصم، شيخ خانقاه «4» الملك المظفر ركن الدين بيبرس(12/130)
الجاشنكير، ثم شيخ الخانقاه الشيخونية «1» فى ثالث عشرين المحرم، وقد أناف على السبعين سنة، وكان من العلماء.
وتوفى الأديب الوزير فخر الدين أبو الفرج «2» عبد الرحمن، وقيل عبد الوهاب ابن عبد الرزاق بن إبراهيم القبطى الحنفى الشهير بابن مكانس «3» وزير دمشق، وناظر الدولة بالديار المصرية، والشاعر المشهور بالقاهرة فى خامس ذى الحجة، وكان أديبا فاضلا شاعرا فصيحا بليغا لا يعرف فى أبناء جنسه الأقباط من يقاربه ولا يدانيه، وهو أحد فحول الشعراء بالديار المصرية فى عصره، وشعره فى غاية الحسن والرّقة والانسجام، وديوان «4» شعره مشهور كثير الوقوع بأيدى الناس، وقد استوعبنا من شعره أشياء كثيرة فى كتابنا (المنهل الصافى) ، إذ هو كتاب تراجم، نذكر هنا بعضها، ومن شعره وقد صادره الملك الظاهر برقوق، فقال: [الرمل]
ربّ خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالى
كلّفونى بيع خيلى ... برخيص وبغالى
ولما علّقه الملك الظاهر برقوق فى مصادرته منكسا على رأسه قال: [البسيط]
وما تعلقت بالسّرياق «5» منتكسا ... لجرمة أوجبت تعذيب ناسوتى «6»
لكننى مذ نفثت السّحر من أدبى ... علّقت تعليق هاروت وماروت(12/131)
وله- عفا الله عنه-: [الكامل]
زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كى تختفى فأبى شذا العطر
يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا فى اللّفّ والنّشر
وله- سامحه الله تعالى-: [الوافر]
يقول معذّبى إذ همت وجدا ... بخدّ خلت فيه الشّعر نملا
أتعرف خدّه للعشق أهلا ... فقلت لهم نعم أهلا وسهلا
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سليم بن حميد «1» الأزرقى المقيّرى «2» الكركىّ الشافعى كاتب سرّ الكرك ثم الديار المصرية فى أوّل شهر ربيع الاوّل، ودفن خارج باب النصر «3» ، وهو أحد من قام بنصرة الملك الظاهر عند خروجه من حبس الكرك، وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة الملك الظاهر برقوق، فعرف له برقوق ذلك، وولّاه كتابة سرّ مصر، وولى أخاه القاضى عماد الدين قضاء الديار المصرية، واستمرّ علاء الدين هذا فى وظيفته كتابة السر إلى أن مرض ومات، وأعيد بدر الدين بن فضل الله من بعده فى وظيفة كتابة السرّ.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الله بن يوسف البيرىّ «4» الحلبىّ الشاعر الكاتب المنشئ فى رابع عشر شهر ربيع الأوّل مخنوقا بأمر الملك برقوق، وكان(12/132)
بارعا فى الإنشاء والأدب، وخدم جماعة من الملوك إلى أن اتصل بخدمة الأتابك يلبغا الناصرى، وسار صحبته إلى الديار المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق.
ولمّا ملك الناصرىّ ديار مصر صار علاء الدين هذا من عظماء مصر، ولا زال على ذلك حتى قبض على الناصرىّ وحبس بالإسكندرية، فاستمر علاء الدين بمصر، فلمّا عاد الظاهر إلى ملكه وأخرج الناصرىّ، عاد علاء الدين هذا إلى خدمته، إلى أن قبض عليه الملك الظاهر وقتله، وأمسك علاء الدين هذا وحمل إلى القاهرة فى الحديد، ثم قتل، وكان بارعا أديبا شاعرا، ومن شعره: [الطويل]
أرى البدر لمّا أن دنا «1» لغروبه ... وألبس منه أزرق الماء أبيضا
توهّم أن البحر رام التقامه ... فسلّ له سيفا عليه مفضّضا
وتوفّى الأمير عنقاء بن شطّى ملك العرب وأمير آل مرا «2» ، كان قد خرج عن طاعة الملك الظاهر، وقتل الأمير يونس الدّوادار، ووافق الناصرىّ ومنطاشا، فلمّا عاد الملك الظاهر إلى ملكه لم يزل يرسل إليه الفداويّة ويعد الناس فى قتله حتى قتلته الفداويّة فى هذه السنة فى رابع المحرم.
وتوفى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الصّفوى، كان أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وحاجب الحجّاب بها فى أوّل شهر ربيع الآخرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك «3» بن عبد الله السيفى طشتمر الدوادار، كان أحد أمراء العشرات مات فى عاشر صفر.(12/133)
وتوفّى الشيخ بدر الدين محمد بن عبد الله المنهاجىّ الفقيه الشافعى المعروف بالزّركشىّ «1» المصنّف المشهور فى ثالث رجب وكان فقيها مصنّفا.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد أبو عبد الله محمد الرّكراكىّ المغربىّ المالكىّ فى ثالث «2» جمادى الأولى، وقد قارب مائة سنة.
وتوفّى الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الأمير حسام الدين لاچين الصقرىّ المنجكىّ المعروف بابن الحسام فى ثانى عشر صفر، بعد مرض طويل، بعد أن ولى الوظائف الجليلة مثل وزر مصر والأستادارية وغيرهما.
وتوفى القاضى جمال الدين محمود ابن القاضى حافظ الدين محمد بن تاج الدين إبراهيم القيصرىّ الحنفىّ قاضى قضاة الحنفية بحلب.
وتوفى الأمير سيف الدين قرا دمرداش بن عبد الله الأحمدى اليلبغاوىّ مقتولا فى محبسه بقلعة الجبل «3» فى ذى الحجة، وهو أيضا من أعيان المماليك اليلبغاويّة، وكان من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، وأمير سلاح فى سلطنة الظاهر الأولى، فلمّا انتصر الناصرىّ على عسكر الملك الظاهر برقوق بدمشق، وقبض الناصرىّ على الأتابك «4» أيتمش البجاسىّ، خلع الملك الظاهر على قرا دمرداش هذا باستقراره عوضه أتابك العساكر بالديار المصرية، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار، فأخذها وعصى من ليلته، وتوجّه إلى الناصرىّ، وصار من جملة عساكره، فلمّا ملك الناصرىّ، الديار المصرية استقرّ به أمير مجلس إلى أن أمسك منطاشا مع من(12/134)
أمسك من حواشى الناصرىّ، وحبسه إلى أن أطلقه الملك الظاهر برقوق، وولّاه نيابة طرابلس، ثم نقله إلى نيابة حلب وندبه لقتال منطاش فدأم على نيابة حلب إلى أن عزله عنها الملك الظاهر، بعد أن أمسك الناصرىّ وأنعم عليه بتقدمة ألف بديار مصر، ثم قبض عليه بمصر وحبسه ثم قتله.
وتوفّى الشيخ المحدّث المسند بدر الدين محمد بن محمد بن مجير المعروف بابن الصائغ وابن المشارف فى ثالث شهر ربيع الآخر.
- أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 795]
السنة الرابعة من ولاية «1» الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
وفيها توفى الأديب الشاعر زين الدين أبو بكر بن عثمان بن العجمىّ فى سادس عشر ذى الحجّة، وكان عنده فضيلة، وله شعر جيّد من ذلك قوله: [البسيط]
قد عاود الحبّ قلبى بعد سلوته ... واستعذب الضّيم والتعذيب والنّصبا
وكان أقسم لا يصبو لظبى نقا ... فما رأى فى هوى غزلانه وصبا
وتوفّى الأمير زين الدين أبو يزيد بن مراد الخازن، دوادار السلطان الملك الظاهر برقوق، وأحد أمراء الطبلخاناه فى رابع جمادى الآخرة، وحضر السلطان الصلاة عليه، وأبو يزيد هذا هو الذي كان أخفى الملك الظاهر برقوقا عنده(12/135)
فى نوبة الناصرى ومنطاش، وأخذ من داره، وكان الظاهر توجّه إليه واختفى عنده من غير مواعدة، فعرف له الملك الظاهر ذلك، فلما عاد الملك الظاهر إلى ملكه ثانيا أنعم عليه بإمرة طبلخاناه ثم استقرّ به دوادارا كبيرا بعد توجّه بطا لنيابة الشام، فدام على ذلك حتى مات فى التاريخ المذكور، ودفن بتربته «1» التى أنشأها عند دار الضيافة بالقرب من قلعة الجبل، وكان أميرا فاضلا عارفا ذكيّا له يد فى فتون، وكان يعرف بالتّركى والعجمىّ والأرمنىّ، على أنه كان فصيحا باللغة العربية.
قلت: هكذا يكون الدوادار، لا كمن لا يعرف اسمه من اسم الحمار، وكان يميل إلى مذهب الصوفية، وكان الملك الظاهر يثق إليه، ويشاوره فى أموره.
وتوفّى الوزير الصاحب شمس الدين أبو الفرج عبد الله المقسىّ، فى رابع شعبان ودفن بجامعه «2» الذي جدّده على الخليج الناصرىّ «3» بالقرب من باب البحر، وكان معدودا من رؤساء الأقباط.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير علاء «4» الدين آقبغا آص، قال المقريزى رحمه الله: كان أولا من جملة أمراء الملك الأشرف شعبان الطبلخانات، ثم نزعها منه لمّا سخط على والده، وتعطّل مدّة وعقّ أباه، وحكى عنه(12/136)
أمور شنيعة فى عقوقه لوالده، وسافر إلى اليمن وعاد إلى القاهرة وتنقّلت به الأيام إلى أن ولى شد الدواوين بإمرة عشرة مدّة، ثم أمسك وصودر وعوقب عقوبة شديدة، وكان سيّئ السيرة، من أشرّ خلق الله المتجاهرين بالمعاصى، إلى أن توفى فى يوم الأربعاء ثامن عشرين شوّال» . انتهى كلام المقريزى.
وتوفّى الأمير الطواشى مقبل بن عبد الله الشهابى شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ، وكان أصله من خدّام الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وتنقّل فى الخدم إلى أن اختص بالأمير شيخون العمرى، ثم خدم السلطان حسنا [ابن قلاوون] ، ثم ولى مشيخة الخدّام بالحرم النبوى بعد وفاة الطواشى افتخار الدين ياقوت الرسولى الخازندار الناصرى، وكان مقبل ينوب عنه فى الحرم، فلمّا مات ولى مكانه.
وتوفى قاضى القضاة ناصر الدين أبو الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبى الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم الكنانى العسقلانىّ الحنبلى، قاضى قضاة الديار المصرية بها فى ليلة الأربعاء حادى عشرين شعبان، وكان مشكور السيرة محبّا للناس.
وتوفى الشيخ نجم الدين محمد بن جماعة الشافعى خطيب القدس فى يوم الأربعاء تاسع ذى القعدة [بالقاهرة ودفن خارج باب النصر «1» ] .
وتوفى الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير الكبير طشتمر الدوادار فى شهر رمضان بثغر الإسكندرية، وكان من جملة أمراء الطبلخاناه بالديار المصرية.(12/137)
وتوفى الشيخ علاء الدين أبو الحسن على بن محمد الأقفهسى «1» الفقيه الشافعىّ فى ثامن عشرين شوّال، وكان معدودا من فقهاء الشافعية.
وتوفى علاء الدين «2» قطلوبغا بن عبد الله الأسنقجاوى، والمعروف بأبى درقة الكاشف «3» ، ولى الكشف بجهات كثيرة، ووقع له أمور مع العربان، وقتل منهم جماعة كبيرة حتى مهّد البلاد القبلية.
وتوفى الشيخ صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلى، مدرس مدرسة الملك الظاهر «4» برقوق فى شهر ربيع الآخر.
وتوفى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الضياء المناوى الشافعى، شيخ المدرسة الجاولية بالكبش «5» ، وأحد نواب الحكم بالقاهرة فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 796]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة ست وتسعين وسبعمائة. وفيها توفى الأمير سيف الدين أبرك بن عبد الله المحمودى الظاهرى شادّ الشراب خاناه السلطانية، وهو مجرّد بدمشق، وبها دفن وكان خصيصا عند أستاذه الملك الظاهر برقوق.(12/138)
وفيها توفّى الصاحب الوزير موفّق الدين أبو الفرج الأسلمى تحت العقوبة فى يوم الاثنين [حادى «1» ] عشرين شهر ربيع الآخر، وكان أسوأ الوزراء سيرة، لأنه كان أكره على الإسلام حتى قال: كلمة الإيمان غصبا ولبس العمامة البيضاء وهو باق على دين النّصرانية، فكان «2» على الناس بذنوبهم، ولما كان على دين النصرانية وهو يباشر الحوائج خاناه كان مشكور السيرة، حتى أكره على الإسلام، فبلغ من المسلمين مبلغا عظيما من الظلم والجور، وولى فى بعض الأحيان نظر الجيش بديار مصر أيضا.
قلت: لا ألومه على ما فعله وما الذنب إلا لمولّيه: لم لا أقتدى بمن كان قبله من الملوك السالفة ووزرائهم! مثل القاضى الفاضل عبد الرحيم، وابن بنت الأعز وبنى حنّاء وغيرهم- رحمهم الله تعالى.
وتوفى الشيخ المعتقد الصالح رشيد التّكرورى الأسود فى البيمارستان المنصورى «3» فى يوم السبت ثالث عشرين جمادى الآخرة، وكان يقيم بجامع راشدة «4» خارج مدينة مصر القديمة، وهو آخر من سكنه وهو يقصد للزيارة وللناس فيه اعتقاد حسن.
وتوفى الأمير سلّام «5» (بتشديد اللام) ابن محمد سليمان بن فايد، المعروف بابن التركية أمير خفاجة «6» من الصعيد فى سابع شهر ربيع الآخر، وكان من أجلّ أمراء العرب.(12/139)
وتوفّى الرئيس علاء الدين على بن عبد الواحد بن صغير رئيس الأطباء، وهو بمدينة حلب «1» فى التجريدة صحبة السلطان فى يوم الجمعة عاشر ذى الحجة ودفن بها، ثم نقل بعد مدّة إلى القاهرة، وكان من الأفراد فى علم الطب والملاطفة ماهرا فى صناعته، كان من عظم اطلاعه فى علم الطب يصف للموسر بأربعين ألفا ويصف الدواء فى ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس واحد.
قال المقريزى: «وكنت عنده فدخل عليه شيخ وشكا شدة السّعال، فقال له: إياك تنام بغير سراويل، فقال الشيخ: إى والله، فقال له: فلا تفعل، ثم بسراويلك! قال: فصدفت ذلك الشيخ بعد أيام فسألته، فقال لى: عملت ما قال فبرئت، قال: وكان لنا جار حدث لابنه رعاف حتى أفرط فانحلت قوى الصغير، فجاء به إلى ابن صغير هذا وشكا من كثرة الرّعاف، فقال له: شرّط أذنه، فتعجّب وتوقف فقال له ثانيا: توكّل على الله وافعل، ففعل ذلك فبرئ الصغير وذكر له أشياء كثيرة من هذا النموذج يطول شرحها.
وتوفى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن مجلّى بن دعجان بن خلف بن تصر بن منصور بن عبد الله بن على ابن محمد بن أبى بكر عبد الله بن [عبد الله «2» بن] عمر بن الخطاب العدوى القرشى العمرى المصرى الشافعى كاتب سر الديار المصرية ورئيسها بدمشق فى يوم الثلاثاء العشرين من شوّال مجردا صحبة السلطان الملك الظاهر برقوق ودفن بتربتهم بدمشق، وولى كتابة السر من بعده القاضى بدر الدين محمود [السّيرامىّ «3» ] الكلستانى.(12/140)
وتوفى أخوه حمزة بن على بن فضل الله بعده بشهر، فقال فى موتهما بعض شعراء العصر: [الوافر] .
قضى البدر بن فضل الله نحبا ... ومات أخوه حمزة بعد شهر
فلا تعجب لذى الأجلين يوما ... فحمزة مات حقا بعد بدر
وكان القاضى بدر الدين المذكور إماما رئيسا فاضلا فى الإنشاء والأدب وله مشاركة جيدة فى الفقه وغيره، وكان محمود السيرة مشكور الطريقة، باشر كتابة سرّ مصر نحو سبع وعشرين سنة، على أنه انفصل فيها أولى وثانية، فالأولى بأوحد الدين عبد الواحد، والثانية بعلاء الدين الكركى وهو ثالث واحد سمّى بدر الدين من بنى فضل الله كتّاب سر دمشق، وآخر من ولى كتابة سر مصر وغيرها من بنى فضل الله، وبموته خرجت كتابه السر عن بنى فضل الله- رحمه الله تعالى- وتوفى القاضى تاج الدين محمد بن محمد بن محمد المليجى «1» المعروف بصائم الدهر محتسب القاهرة، وناظر الأحباس وخطيب مدرسة «2» السلطان حسن فى تاسع عشر صفر عن سبعين سنة وكان خيّرا دينا مشكور السيرة- رحمه الله-
وتوفى الأمير منكلى بغا بن عبد الله الشمسى الطرخانى، أحد الأمراء بديار مصر ثم نائب الكرك فى ليلة عاشوراء، وكان من أكابر أمراء مصر ولديه حشمة ورياسة.
وتوفى الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الأتابك منكلى بغا الشمسى وابن أخت الملك الأشرف شعبان بن حسين، وصهر الملك الظاهر برقوق وأحد أمراء الطبلخانات بديار مصر بها فى عاشر شعبان.(12/141)
وتوفى الشيخ ناصر الدين محمد بن مقبل الجندى الفقيه الظاهرىّ المذهب فى يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان فاضلا وله مشاركة جيّدة فى فنون، وكان لا يتكتّم الاقتداء بمذهب أهل الظاهر ويحفّ شاربه ويرفع يديه فى كلّ خفض ورفع فى الصلاة.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير شرف الدين موسى بن [سيف الدين «1» أرقطاى بن] الأمير جمال الدين يوسف أحد أمراء العشرات بالديار المصرية فى ليلة الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة، وكان أبوه وجدّه من أمراء الألوف بالقاهرة، وكان يحبّ علم الحديث، ويواظب سماعه، وله مشاركة فى المذهب.
وتوفّيت الشيخة الصالحة المعتقدة المعروفة بالبغدادية، صاحبة الرّباط «2» بالقاهرة فى يوم السبت ثانى عشرين جمادى الآخرة، وكانت على قدم هائل من الصلاة والعبادة، وللناس فيها اعتقاد، وتقصد للزيارة.
وتوفّى السلطان أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر بن يحيى بن إبراهيم «3» ؛ فى ليلة الخميس رابع شعبان بمحلّ ملكه مدينة تونس «4» من بلاد المغرب، بعد أن حكمها أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر ونصفا، وقام من بعده على ملك تونس ابنه السلطان أبو فارس عبد العزيز وكان من أجلّ ملوك الغرب، وطالت أيام ولده عبد العزيز فى الملك حسب ما يأتى ذكره فى محلّه، إن شاء الله تعالى.(12/142)
وتوفّى أيضا صاحب مملكة فاس «1» من بلاد الغرب- السلطان أبو العباس أحمد «2» بن أبى سالم بن إبراهيم بن أبى الحسن المرينى ملك الغرب فى المحرّم، وأقيم بعده ابنه أبو فارس عبد العزيز.
قلت: وهو يشارك المقدّم ذكره فى الاسم والكنية واسم الأب والجدّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 797]
السنة السادسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى «3» الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم الآمدى الدّمشقى الفقيه الحنبلى أحد أصحاب ابن تيميّة.
وتوفى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الحلبى الأشرفى، وهو مسجون بقلعة حلب، وكان من أعيان المماليك الأشرفية؛ وأحد أكابر الأمراء بديار مصر.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب أبو بكر البجائى «4» المغربى، أحد من أوصى السلطان الملك الظاهر برقوقا أن يدفن تحت رجليه فى يوم السبت خامس جمادى(12/143)
الآخرة، ودفن خارج باب النصر حيث هى التربة الظاهرية «1» الآن، وكانت جنازته مشهودة، وأخرجه السلطان وجهّزه على يد الأمير يلبغا السالمى «2» ؛ وكان للناس فيه اعتقاد لا سيّما الظاهر برقوق فإنه كان له فيه اعتقاد.
وتوفّى العلّامة صدر الدين «3» بديع بن نفيس التّبريزى رئيس الأطباء بالديار المصرية فى سادس عشر شهر ربيع الأول، وهو عمّ القاضى فتح الدين فتح الله كاتب السّر الآتى ذكره، وهو الذي كفله بعد موت جدّه نفيس؛ وكان مات والد فتح الدين معتصم بن نفيس، وفتح الله طفل صغير؛ وكان بديعا ماهرا فى علم الطبّ كثير الحفظ لمتونه، وهو صاحب التصانيف المشهورة.
وتوفّى الشريف أبو الحسن على «4» بن عجلان بن رميثة، واسم رميثة منجد بن أبى نمىّ بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عبد الله المحض بن موسى بن الحسن السّبط بن الحسن بن على بن أبى طالب المكى الحسنى، أمير مكة المشرفة، وليها ثمانى سنين ونحو ثلاثة أشهر مستقلّا بالإمارة؛ غير سنتين أو نحوهما؛ فإنه كان فيهما شريكا لعنان «5» بن مغامس بن رميثة؛ ووقع له أمور بمكة مع الأشراف ووقائع؛ وآخر الأمر توجّه أخوه الشريف حسن «6» بن عجلان إلى القاهرة يريد إمرة مكة؛ فقبض عليه السلطان(12/144)
وحبسه؛ وبعث إلى علىّ هذا باستمراره على إمرة مكة، فاستمرّ على إمرتها إلى ان وقع بينه وبين بعض القواد، وخرج إليهم علىّ هذا، فبدره بعضهم وسايره، وهو راكب على راحلته، والشريف علىّ هذا على فرس فرمى القائد بنفسه على الشريف علىّ المذكور وضربه بجنبيّة «1» كانت معه، فوقعا جميعا على الأرض، فوثب عليه علىّ وضربه بالسيف ضربة كاد منها يهلك، وولّى علىّ راجعا إلى الحلّة، فأغرى به شخص يقال له أبو نمىّ غلام لصهره حازم بن عبد الكريم جنديا، وعتبة وحمزة وقاسما «2» ، فوثبوا عليه وقتلوه وقطّعوه وبعثوا به إلى مكة، فدفن بالمعلاة على أبيه عجلان، وكان قتله فى يوم الأربعاء سابع شوّال «3» ، وولى إمرة مكة بعده أخوه حسن بن عجلان.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد «4» بن السلطان الملك الظاهر برقوق فى يوم السبت ثالث عشرين ذى الحجة، ومولده فى مستهل شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وأمّه خوند الكبرى أرد «5» ، صاحبة قاعة العواميد «6» ، ومات بعد أن أعيا الأطباء داؤه الذي كان برجليه من أرياح الشّوكة. وبه مات، وكان إقطاعه الديوان المفرد الآن، فإنه لما مات جعله السلطان إقطاعه لمماليكه المشتروات(12/145)
وأفرده فسمى المفرد من يومئذ، وجعل كاتبه الهيصم، وكان محمد هذا أكبر أولاد السلطان وأعظمهم، ووجد السلطان عليه وجدا عظيما.
وتوفّى قاضى القضاة ناصر الدين محمد «1» بن عبد الرحمن بن عبد الدائم بن محمد المعروف بابن بنت ميلق الشاذلى الصوفى، قاضى قضاة الديار المصرية، وهو معزول فى ليلة الاثنين تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان أصله من أشموم «2» الرمان، ولد قبل سنة ثلاثين وسبعمائة، وسمع الحديث وطلب العلم وتفقّه ووعظ دهرا، وقال الشعر، وأنشأ عدّة خطب بليغة، وجمع عدّة أجزاء فى عدّة فنون، وكان يتزيّا بزىّ الفقراء ويتصدى لعمل المواعيد، واعتقده الناس وتبرّكوا به، وخطب بعدّة جوامع وصار له أتباع وشهرة كبيرة، إلى أن طلبه الملك الظاهر برقوق للقضاء بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء، فامتنع ثم أجاب فألبسه الملك الظاهر تشريف القضاء بيده، وأخذ طيلسانه يتبرّك به.
قال المقريزى: فداخل الناس بولايته خوف ووهم، وظنوا أنه يحمل الناس على محض الحق، وأنه يسير على طريق السلف من القضاة، لما ألفوه من تشدّقه فى وعظه، وتفخّمه فى منطقه، وإعلانه بالتبكير على الكافّة، ووقيعته فى القضاة، واشتماله على لبس الخشن المتوسط من الثياب، ومعيبه على أهل التّرف، فكان أوّل(12/146)
ما بدأ به أن عزل قضاة مصر جميعهم من العريش «1» إلى أسوان «2» ، وبعد يومين تكلم معه الحاجّ مفلح مولى القاضى بدر الدين «3» بن فضل الله كاتم السرّ فى إعادة بعض من عزله من القضاة فأعاده، فانحل ما كان معقودا بالقلوب من مهابته، ثم قلع زيّه الذي كان يلبسه، ولبس الشاش الكبير الغالى الثمن ونحوه من الثياب، وترفّع فى مقاله وفعاله، حتى كاد يصعد الجو، وشح فى العطاء ولاذبه جماعة غير محبّبين إلى الناس. فانطلقت ألسنة الكافّة بالوقيعة فى عرضه، واختلقوا عليه ما ليس فيه، فلما قدم الأمير يلبغا الناصرىّ إلى الديار المصرية، وغلب برقوقا على المملكة وبعثه إلى سجن الكرك كان هو قاضيا يومئذ فوقّع فى حقّ الظاهر، وأساء القول فيه، فبلغه ذلك قبل ذهابه إلى الكرك فأسرّها فى نفسه، فلمّا ثار منطاش على الناصرى صرف ابن ميلق هذا عن القضاء بالصدر المساوى، بعد ما كان أخذ خطّه فى الفتاوى المكتتبة فى حقّ برقوق، فلمّا عاد برقوق إلى الملك لهج «4» بدمه فتنبّهت أعين العدا لابن ميلق هذا وحسنوا للبيد فى أحمد أمين الحكم أن يقف للسلطان ويشكو ابن ميلق المذكور بسبب ما أخذه من أموال الأيتام، وكان نحو الثلاثين ألف درهم فضة، عنها قريب من ألف وخمسمائة مثقال من الذهب، فرفع فيه قصة إلى السلطان فطلبه فجاءوا به وقد حضر القضاة فأوقف مع النقباء تحت مقعد السلطان فى الميدان فحالما مثل قائما سقط مغشيا عليه، وصار على التّراب بحضرة(12/147)
ذلك الجمع العظيم، فتقدّم بعض من كان يلوذ به ليصلح من شأنه، فصرخ فيه السلطان وترك طويلا حتى أفاق، وادّعى عليه البيد فى فلم يلحن بحجة، وألزمه القضاة بغرامة ذلك، والقيام به للأيتام من ماله، ولم يكن المال المذكور فى ذمته، وإنما كان اقترضه وصرّه للحرمين، فلزمه غصبا ورسم عليه وسجن بالمدرسة «1» الشريفية، ليدفع المال وما زال يورده حتى أتى ذلك على غالب موجوده، ثم لزم داره وذهبت عينه، وتخلّى عنه أحبابه إلى أن مات، ودفن حارج باب النصر بتربة الصوفية، فلقد كان قبل ولايته حسنة من حسنات الدهر، ما رأيت قبله أحسن صلاة منه ولا أكثر خشوعا مع حسن منطق، وفصاحة ألفاظ، وعذوبة كلام، وبهجة زىّ، وصدع فى وعظه إذا قصّ أو خطب، إلّا أنه امتحن بالقضاء، وابتلى بما أرجو أن يكون كفارة له. انتهى كلام المقريزى باختصار.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن على بن صلاح الحريرى أحد نوّاب القضاة الحنفية، ومشايخ القرّاء بالديار المصرية، فى يوم الجمعة رابع عشرين شهر رجب.
وكان فقيها مقرئا، أقرأ ودرّس وناب فى الحكم سنين.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن عمر القليجى الحنفى مفتى دار العدل «2» ، وأحد نواب القضاة بالديار المصرية، فى ليلة الثلاثاء العشرين من شهر رجب وقد بلغ من الرياسة مبلغا عظيما، وكانت لديه فضيلة تامّة.(12/148)
وتوفّى العلّامة شمس الدين محمد الأقصرائى الحنفى شيخ المدرسة الأيتمشية «1» بباب الوزير «2» ، فى سابع عشر جمادى الأولى، وكان إماما عالما مدرسا فقيها ذكيا حافظا، كان يلقى الدرس عند الملك الظاهر أيام إمرته، وصدرا من سلطنته، وكان خصيصا عند السلطان وله وجاهة فى الدولة، وتولّى بعد موته مشيخة الأيتمشية الشيخ سراج الدين عمر القرمى.
وتوفّى القاضى برهان الدين إبراهيم القلقشندىّ الشافعىّ موقّع الحكم، وأحد الفقهاء الشافعية فى ثالث عشرين شعبان.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوغان بن عبد الله الظاهرىّ أمير جاندار، فى سادس عشر صفر «3» ، وكان أحد أعيان المماليك الظاهرية برقوق خصيصا عند أستاذه.
وتوفّى الشيخ نور الدين أبو الحسن على الهورينىّ الفقيه الشافعى شيخ القوصونية «4» فى شهر رجب وكان فقيها فاضلا بارعا.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد السفرى الحلبى الحنفى فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الأوّل، وأصله من قرية خربتا من عمل عزاز «5» ، وكان فقيها بارعا، وله مشاركة فى فنون.(12/149)
وتوفّى القاضى جمال الدين أبو محمد عبد الله بن فرج النّويرى المالكى، أحد نواب الحكم المالكية بالديار المصرية، وكان معدودا من فضلاء المالكية.
وتوفّى الأمير سيف الدين قرابغا بن عبد الله، والد الأمير جركتمر الخاصكى الأشرفىّ، فى ثانى شهر ربيع الأوّل وكان أحد أمراء العشرينات بالقاهرة، وكان مشكور السيرة خيّرا ديّنا.
وتوفّى الشيخ المعتقد شمس الدين محمد المقسى «1» فى يوم الأحد أول شهر رمضان، وكان يسكن بجامع «2» المقسى على الخليج، وكان يقصد للزيارة.
وتوفى الشيخ المعتقد محمد السّملوطى الصعيدى المالكى، فى ثانى عشر شهر رمضان، وكان فقيها خيّرا ديّنا، وللناس فيه اعتقاد ومحبة.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن على بن عبد العزيز المعروف بابن المطرّز فى يوم الأحد سادس جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع- مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 798]
السنة السابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ المقرئ الفقيه شهاب الدين أحمد بن محمد بن بيبرس الجندىّ، المعروف بابن الركن البيبرسى «3» الحنفى، وكان إماما فاضلا.(12/150)
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الأعسر «1» فى يوم عيد الفطر، وكان من أعيان الأمراء، وتنقّل فى عدّة ولايات.
وتوفّى الأمير تمر بن عبد الله الشّهابى الحاجب أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان فقيها فاضلا، وإماما بارعا فى الفقه وفروعه، معدودا من فقهاء الحنفيّة، وكان شجاعا مقداما خرج عليه العرب العصاة فقاتلهم فجرح فى المعركة، ومات من جراحه، رحمه الله.
وتوفّى الأمير الجليل سودون بن عبد الله الفخرى الشيخونى، نائب السلطنة بالديار المصرية بها؛ فى يوم الثلاثاء خامس جمادى الآخرة «2» ، بعد ما شاخ، وكان أصله من مماليك الأمير الكبير شيخون العمرى الناصرىّ، ثم ترقّى فى الدول إلى أن ولى حجوبية الحجاب بالديار المصرية، فى دولة الملك الصالح حاجى، ثم نقله الملك الظاهر برقوق إلى نيابة السلطنة فى أوائل سلطنته، وطالت أيامه فى السعادة، وكان وقورا فى الدّول، معظّما عند الملوك، ولما كبر وشاخ أخذ يتبرّم من الإمرة والوظيفة ويستعفى، إلى أن أعفاه الملك الظاهر بعد قدومه من سفرته إلى البلاد الشامية، وكان سودون مقيما بالقاهرة، فلزم داره من صفر سنة سبع وتسعين وسبعمائة إلى أن مات فى التاريخ المقدّم ذكره، وكان أميرا خيّرا ديّنا وافر الحرمة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ومنذ مات تجاهر الملك الظاهر برقوق بالمنكرات التى لم تكن قبل تعرف منه، وكان محبا للعلماء والفقراء، كان يدور وينزل إلى بيوت الفقراء، ويتبرّك بهم ويبذل إليهم الأموال.(12/151)
قال قاضى القضاة العينى- رحمه الله-: وكان حصل له شىء من التّغفّل والتساهى.
قلت: كان فيه سلامة باطن مع دين وشفقة ولين جانب، حتى صار يحكى عنه أشياء فى حكوماته مختلقة عليه، كما يذكر الناس ذلك عن الخادم بهاء الدين قراقوش الصّلاحى الخصىّ وليس لذلك صحة. انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك بن عبد الله الطّشتمرى، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وكان جليل القدر وقورا من الأمراء المشايخ.
وتوفّى الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك «1» التّركمانى الأصل المصرى، فى يوم الجمعة سادس عشرين صفر، كان شابا جميلا حسن الهيئة، وهو ممن توفّى بغير نكبة، ولّاه الملك الظاهر برقوق أوّلا شادّ الدواوين بعد ابن آقبغا آص، ثم عزل بابن آقبغا آص، وعوّض عن شدّ الدواوين بشد الدواليب الخاصّ، عوضا عن خاله محمد بن الحسام، بحكم انتقال خاله إلى الوزارة، ثم بعد مدّة صودر، وحمّل مائة وسبعين ألف درهم، وقبل أن يغلقها أفرج عنه، ثم ولاه الملك الظاهر الوزارة عوضا عن الوزير موفّق الدين، فى يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وسبعمائة، وأنعم السلطان عليه فى يوم ولايته للوزارة بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر، ثم خلع السلطان على جماعة من الوزراء البطّالين بوظائف تحت يده تعظيما له، وصار الجميع فى خدمته، فاستقرّ الوزير سعد الدين نصر الله ابن البقرىّ ناظر الدولة، واستقرّ الوزير كريم الدين بن الغنّام فى نظر البيوت، واستقرّ الوزير علم الدين سنّ إبرة فى استيفاء الدولة، شريكا للوزير تاج الدين عبد الرحيم(12/152)
ابن أبى شاكر، ونزل الجميع فى خدمته، وباشروا بين يديه، كما كانوا بين يدى خاله الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصّفوى، فسمّى بوزير الوزراء وباشر بحرمة وافرة إلى أن مات.
وتوفّى السيد الشريف صدر الدين مرتضى بن الشريف غياث الدين إبراهيم ابن حمزة الحسنىّ العراقىّ، نقيب الأشراف فى ليلة [السبت «1» ] ثالث شهر ربيع الآخر، ودفن على أبيه بتربة الأتابك يلبغا العمرى بالصحراء خارج القاهرة، وكان ولى نظر وقف الأشراف مع نقابة الأشراف، ونظر القدس والخليل، وكان شكلا جميلا مهيبا «2» فصيحا بالألسن الثلاثة: العربية والعجمية والتركية، وكان ديّنا خيّرا، صاحب عبادة ونسك، وكان له نظم على طريق البغاددة- رحمه الله تعالى- وهو قوله:
بحقّى عليكم بشوقى إليكم ... إذا اشتقت ليكم تعالوا ابصرونى
وتوفّى ملك الغرب وصاحب فاس السلطان أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبى العباس أحمد بن أبى سالم بن إبراهيم «3» بن أبى الحسن المرينى، وأقيم بعده على سلطنة فاس أخوه أبو عامر عبد الله.
وتوفّى الشيخ صلاح الدين محمد الشّطنوفى موقّع الحكم فى شهر رمضان، وكان إماما فى صناعته.(12/153)
وتوفّى الشيخ نور الدين على بن عبد الله بن عبد العزيز [بن عمر بن عوض «1» ] الدّميرى المالكى شيخ القرّاء بخانقاه «2» شيخون، وأخو القاضى تاج الدين بهرام، فى ثانى عشرين شهر رمضان، وكان إماما فى القراءات مشاركا فى عدّة فنون.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن جمق بن الأمير الكبير أيتمش البجاسى فى يوم الجمعة خامس صفر، وحضر السلطان الصلاة عليه وكان أحد أمراء الطبلخانات.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جاركس الخليلى فى يوم الثلاثاء تاسع صفر، وكان محمد المذكور أيضا من أمراء الطبلخانات بالديار المصرية.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن محمد بن موسى الشنشى «3» الحنفى المعروف بالرّخ، أحد نوّاب القضاة الحنفية بمصر فى [يوم الخميس سادس «4» ] جمادى الأولى.
وتوفّى الشيخ زين الدين مقبل بن عبد الله الصّرغتمشى الفقيه الحنفى فى أول شهر رمضان بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا مستحضرا لفروع مذهبه، وله مشاركة فى عدّة فنون.
وتوفى الأمير سيف الدين تغرى بردى بن عبد الله القردمىّ قتيلا فى محبسه، وكان من أعيان الأمراء، ووقع له أمور فى واقعة الناصرى ومنطاش مع الملك الظاهر برقوق أوّلا، ثم كان من حزب الملك الظاهر على منطاش آخرا، ودام على(12/154)
ذلك إلى أن قبض عليه وحبس، ثم قتل فى التاريخ المذكور- رحمه الله- وكان شجاعا مقداما.
وتوفّى الشيخ الخطيب برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ المعتقد الصالح عبد الله المنوفى الفقيه المالكى فى شهر رجب، وكان أحد الفقهاء المالكية، أقرأ ودرّس وخطب بجامع «1» الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر سنين، وهو ابن العبد الصالح المشهور عبد الله المنوفى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 799]
السنة الثامنة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين إياس بن عبد الله الجرجاوى نائب طرابلس بالقاهرة بعد أن قبض عليه وألزم بحمل مال كبير، فأرسل خازنداره إلى حضور المال، فمات بعد يومين، فى يوم الجمعة ثامن عشرين صفر، وكان أولا من أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم تنقل فى عدّة أعمال بالبلاد الشامية، حتى إنه ولى نيابة طرابلس ثلاث مرات آخرها فى سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية إلى أن عزله بالأمير دمرداش المحمدى الظاهرى، نائب حماة، وتوجّه إياس أتابكا بدمشق، فأقام بها يسيرا وطلب إلى القاهرة وصودر وأهين إلى أن مات بعد يومين حسب(12/155)
ما تقدّم ذكره، وقيل: إنه لما أهين كان فى يده خاتم سمّ فمصّه فمات من وقته، وقيل غير ذلك، وكان بشع المنظر ظالما غشوما حدّ المزاج كرية المعاشرة، يرمى بعظائم، قيل: إنه قال له رجل مرة: يا وجه القمر؛ بعد أن دعا له كما هى عادة العوامّ، فضرب الرجل ضربا مؤلما، وقال: أنا أعرف بنفسى منك، وكانت بعض حظاياه ملكها الوالد «1» من بعده واستولدها، فكانت تحكى عنه عظائم من سوء خلقه وخلقه.
وتوفّى الأمير أبو بكر بن [محمد بن واضل «2» ] المعروف بابن الأحدب أمير العربان ببلاد الصعيد قتيلا.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله التمان تمرى الأمير آخور الثانى، وأحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، فى رابع عشر جمادى الآخرة، وكان من قدماء الأمراء، وهو من أوّل الأمر إلى آخره كان من حزب الملك الظاهر برقوق، وكان الملك الظاهر ينادمه ويمازحه ويعجبه كلامه، وأنا أتعجّب غاية العجب من الملك الظاهر برقوق فى عدم ترقّيه، ولعلّه كان راضيا بما هو فيه- والله أعلم- وهو والد صاحبنا الناصرى محمد بن بيبرس- رحمهما الله تعالى-.
وتوفّى الأمير عمر بن عبد العزيز أمير عرب هوّارة «3» ببلاد الصعيد.
قلت: وعمر هذا هو والد بنى عمر أمراء العربان ببلاد الصعيد فى زماننا هذا، ولعله يكون أوّل من ولى منهم الإمرة.(12/156)
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر المعتقد زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن المبارك بن حماد المغربى المعروف بابن الشيخة «1» ، ومولده فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ومات فى تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن خارج القاهرة بعد أن حدّث سنين وصار رحلة فى زمانه.
وتوفّى الشيخ نور الدين أبو الحسن على بن أحمد بن عبد العزيز العقيلىّ (بفتح العين المهملة) المالكى إمام المالكية بالمسجد الحرام بمكة المشرفة، وأخو القاضى أبى الفضل، وكان يعرف بالفقيه علىّ النّويرىّ، فى ثانى جمادى الأولى بمكة المشرفة، وكان سمع الكثير وحدّث سنين.
وتوفى الشيخ الإمام محبّ الدين محمد بن الشيخ الإمام العلّامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام النحوىّ، فى ليلة الاثنين رابع عشرين شهر رجب بعد أن تصدّى لإقراء النحو سنين، وانتفع به جماعة الطلبة، وكان له مشاركة جيّدة فى الفقه وغيره، وكان خيّرا ديّنا.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر الطرابلسى الحنفىّ، قاضى قضاة الديار المصرية، فى يوم السبت ثامن عشرين ذى الحجة، وكان عفيفا دينا مشكور السّيرة، وتولى القضاء من بعده قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطىّ، بعد أن خرج البريد بطلبه، وشغر منصب القضاء بالقاهرة، مائة يوم وأحد عشر يوما، حتى حضر وولى قضاء الحنفية بديار مصر.(12/157)
قلت: هكذا تكون ولاية قضاة الشرع الشريف بعزّة وطلب واحترام، لا كمن يسعى فيها من بيت المال والأمير الكبير إلى بيت والى القاهرة، حتى يلى بالمال والبذل من غير تستّر فى ذلك حتى إنه يعرف ولايته بالبرّطيل، كلّ أحد من المسلمين حتى النصارى واليهود، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم زين الدين ميكائيل بن حسن بن إسرائيل التّركمانى، الفقيه الحنفىّ فى ذى الحجة عن نيّف وسبعين سنة، كان فقيها فاضلا بارعا مشاركا فى فنون كثيرة من العلوم، وكان مستحضرا لمذهبه مناظرا طلق اللسان فصيحا وأقرأ ودرّس سنين.
وتوفّى القاضى جمال الدين محمود بن أحمد، وسماه بعضهم محمودا بن محمد بن على ابن عبد الله القيصري العجمىّ الحنفى، قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية، وناظر الجيوش المنصورة بها، وشيخ شيوخ خانقاه «1» شيخون، فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأول، بعد أن جمع بين هذه الوظائف الثلاث التى لم تجمع لغيره، وكان من رجال الدهر حزما وعزما، ومعرفة وعقلا وفضلا، وكان قدم إلى القاهرة فى عنفوان شبيبته فقيرا مملقا، وترك بالمدرسة الصّرغتمشية «2» مدّة يخدم الفقهاء، فرأى فى منامه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول له: أنت شاهنشاه، ففسّر المنام على الشّنشى «3» ، وكان من جملة الصوفية بالصرغتمشية، وتنقّلت به الأحوال إلى أن(12/158)
صار يقرئ المماليك بالأطباق من القلعة، وقتل الملك الأشرف شعبان وصار مخدومه طشتمر اللّفاف أتابك العساكر، فتكلّم له فى حسبة القاهرة دفعة واحدة فوليها، ونزل عند شخص فى داره حتى تعيّن له دار يسكنها، وبعث له قاضى القضاة صدر الدين المناوى بثوب حتى لبسه، لعجزه عن شراء ثوب، وهذا كان أوّل مبدأ أمره، ثم تنقّل فى الوظائف حتى كان من أمره ما كان، ولما مات خلّف موجودا كبيرا وكتبا حسنة، وخلّف ثمانية أولاد من الذكور والإناث، منهم العلّامة صدر الدين أحمد بن العجمى الآتى ذكره فى وفيات ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وتولّى قضاء الحنفيّة من بعده القاضى شمس الدين محمد الطرابلسى، ومات فى السنة حسب ما تقدّم، وولى الجيش بعده شرف الدين بن الدّمامينى «1» .
وتوفّى الأمير جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه الأستادار، فى يوم الأحد تاسع شهر رجب بخزانة «2» شمائل، بعد ما نكب وعوقب وصودر ودفن بمدرسته خارج بابى زويلة المعروفة به، وجملة ما أخذه الملك الظاهر منه من المال فى ايام مصادرته ألف ألف دينار، وأربعمائة ألف دينار، وألف ألف درهم فضة، وبضائع وغلال، وغير ذلك بما ينيف على ألف ألف درهم فضة، وتلف له بأيدى من عاقبه وحواشيه جملة كبيرة، واخفى هو أيضا أشياء كثيرة «3» يترجّى البقاء، ومن عطم ما ظهر له من المال، قالت العامة: ألان الله الحديد لداود، والذهب لمحمود، وكان أصل محمود هذا أنه كان فى مبدأ أمره فقيرا يتعانى الشدّ فى إقطاعات الجند،(12/159)
ثم حدم عند بعض الأمراء، فصلحت حاله، وحصّل وسعى، حتى ولى شدّ الدواوين بالقاهرة، فظهر منه نجابة ويقظة، وترقّى حتى ولى الأستادارية فى دولة الملك الظاهر برقوق الأولى، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف، ونكبه الناصرى لمّا ملك مصر، وحبسه إلى أن خرج من السجن فى توبة بطا وأصحابه من الجبّ، وأعاده الملك الظاهر إلى وظيفة الأستادارية، بعد مدة فإنه كان أولا لما قدم إلى مصر ولّاه مشيرا، ثم أعاده إلى الأستادارية، ودام بها إلى أن قبض عليه الظاهر، بسعى كاتبه سعد الدين إبراهيم «1» بن غراب، وأجرى عليه العقوبة إلى أن مات.
وتوفّى الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله القبطى الأسلمى، المعروف بابن البقرى، فى ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة مخنوقا بعد عقوبة شديدة ومصادرة.
وتوفّى قاضى القضاة سرىّ الدين [أبو الخطاب «2» محمد] بن محمد قاضى قضاة الشافعية بدمشق، المعروف بابن المسلّاتى الشافعى، بالقاهرة فى يوم الخميس سابع عشرين شهر رجب، وكان فقيها عالما أفتى ودرّس وولى قضاء دمشق، وكان معدودا من علماء الشافعية.
وتوفى قاضى القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن قاضى القضاه عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عبد العزيز بن صالح بن أبى العزّ «3» وهيب بن عطاء بن جبير ابن جابر بن وهيب الحنفى الدمشقى، المعروف بابن أبى العز، وبابن الكشك قتيلا(12/160)
بدمشق، فى مستهل ذى الحجة بعد أن لزم داره مدة، وكان إماما فقيها بارعا عالما مفتنّا، ولى قضاء دمشق استقلالا غير مرة، وحسنت سيرته، وأشخص فى سنة سبع وسبعين وسبعمائة إلى الديار المصرية، وولى بها قضاء الحنفية بعد قاضى القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله التركمانى بعد موته، فلم تطل مدته واستعفى، وألحّ فى ذلك حتى أعفاه السلطان، وولّاه قضاء الحنفية بدمشق على عادته، فدام بها سنين، ثم صرف عنها، ولزم داره حتى مات قتيلا بدمشق- رحمه الله تعالى-
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 800]
السنة التاسعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة ثمانمائة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين تنبك «1» بن عبد الله اليحياوىّ الظاهرىّ، الأمير آخور الكبير فى ليلة الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر، ونزل السلطان إلى الإسطبل ومشى فى جنازته حتى حضر الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى «2» ، ثم ركب وتوجّه أمام جنازته حتى شاهد دفنه، وأقام القرّاء على قبره أسبوعا، ووجد السلطان عليه كثيرا وبكى عند دفنه، وكان من عظماء المماليك الظاهرية، أنعم عليه السلطان بإمرة عشرة فى أوائل واقعة الناصرىّ ومنطاش، ثم رقّاه حتى ولّاه الأمير آخورية بعد الأمير(12/161)
بكلمش العلائى، لمّا نقل إلى إمرة سلاح، فدام فى وظيفة الأمير آخورية إلى أن توفى، وتولّى الأمير آخورية بعد موته الأمير نوروز الحافظى الظاهرىّ رأس نوبة النوب.
وتوفّى السيد الشريف جمال الدين عبد الله بن عبد الكافى بن على بن عبد الله الطّباطبى نقيب الأشراف فى ليلة رابع عشرين ذى القعدة.
وتوفّى القاضى العلّامة تاج الدين أبو محمد عبد الله بن على بن عمر السّنجارى الحنفى المعروف بقاضى صور (بفتح الصاد المهملة) وصور: بليدة بين حصن كيفا «1» ، وبين ماردين «2» من ديار بكر «3» بن وائل، وكان إماما عالما مفتنّا بارعا فى الفقه والأصلين، والعربية واللغة، وأفتى ودرّس سنين بدمشق ومصر، وكان فى ابتداء أمره لما قدم القاهرة اجتاز بدمشق واستوطنها مدّة، وأخذ بها عن العلّامة علاء الدين القونوى «4» الحنفىّ، ثم قدم إلى القاهرة فأخذ عن العلّامة شمس الدين محمد الأصبهانى وغيره، حتى برع فى عدّة فنون، وأفتى ودرّس وصنّف وأشغل، ومن تآليفه كتاب «البحر الحاوى فى الفتاوى» ونظم كتاب «المختار فى الفقه» ونظم «السراجية فى الفرائض»(12/162)
ونظم كتاب «سلوان المطاع لابن ظفر» وناب فى الحكم بالقاهرة، وولى وكالة بيت المال بدمشق، وكان من محاسن الدنيا دينا وعلما وخيرا وكرما.
وتوفّى الأمير سيف الدين قلمطاى بن عبد الله العثمانى الظاهرى الدوادار الكبير بالديار المصرية فى ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى، وحضر السلطان الملك الظاهر الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى، وحضر دفنه أيضا بتربته التى أنشأها عند الصّوّة بالقرب من باب الوزير، وبكى السلطان عليه بكاء كثيرا، وأقام القرّاء على قبره أسبوعا، وتولّى الدوادارية من بعده الأمير بيبرس ابن أخت السلطان، وكان قلمطاى من أجلّ المماليك الظاهرية، باشر الدوادارية بحرمة وافرة، ونالته السعادة وعظم فى الدولة، وهو صاحب الحاصل بالقرب من البندقيين بالقاهرة، وخلّف مالا كثيرا، وهو أيضا ممن نشّأه أستاذه الملك الظاهر برقوق فى سلطنته الثانية، رحمه الله تعالى.
وتوفّى أمين الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن على الأنصارى الحمصى الحنفى كاتب سرّ دمشق بها فى ثانى عشر ذى الحجة، ومولده فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتفقه بدمشق، وبرع فى الفقه والعربية، وشارك فى عدّة فنون مشاركة جيّدة، ومهر فى الأدب والترسّل والنظم، وتولى كتابة سرّ دمشق وباشرها بحرمة وافرة، ونالته السعادة فى مباشرته، وكان ذا شكالة حسنة، وعبارة فصيحة، وفضل وإفضال، وكان له يد فى علم الموسيقى وتأديته، وعنده ميل إلى اللهو والطرب مع حشمة ودين وكرم، ومن شعره لمّا عاد(12/163)
من تجريدة أرزنكان «1» صحبة الأمير تنم الحسنى «2» نائب الشام، وقد ضلّ غالب العسكر فى بعض الليالى عن الماء، فنزل هو على ماء فى بعض الطريق، وقال فى ذلك:
(البسيط) .
ضلّوا عن الماء لمّا أن سروا سحرا ... قومى فظلوا حيارى يلهثون ظما
والله أكرمنى بالورد دونهم ... فقلت «يا ليت قومى يعلمون بما»
وله أيضا- سامحه الله تعالى- (الوافر) .
جفون من تأرّقها «3» دوامى ... مدامعها تفيض على الدوام
فديت عيون من حرمت عيونى ... مناها من لقا طيب المنام
وراشت «4» من لواحظها نبالا ... مراشقها شفين من السقام
إذا لاحظننى فتصيب قلبى ... على اللّحظات موفور السهام «5»
لها شفتان قد شفتا فؤادى ... ولا شفتاه إلّا للغرام
وثغر من يعيش به ارتواء ... يموت من الصّبابة وهو ظام
أدامت لى مدامته ارتشافا ... فوا سكراه من ذاك المدام
ولمّا رام بدر الأفق فخرا ... وتشبيها بما تحت اللّثام
بدت تختال عجبا عن عقود ... وتبسم عن جمان بانتظام(12/164)
فأزرى ثغرها بالدر نقصا ... وأخجل وجهها بدر التمام
بعيشك يا كريم الخيم «1» كن لى ... معينا إن مررت على الخيام
وقل صبّ توصّل فى أوان ... له قلب تقطّع بالأوام «2»
ولبّ هام بالذكرى ودمع ... كوبل عطاء فخر الدين هامى «3»
وتوفّى القاضى نجم الدين محمد بن عمر الطّمبدى وكيل بيت المال ومحتسب القاهرة فى رابع عشرين شهر ربيع الأوّل. قال المقريزى: «وكان غاية فى الجهل»
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد أبو عبد الله محمد بن سلامة النّويرىّ المغربىّ المعروف بالكركى لطول إقامته بمدينة الكرك فى خامس عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان عند الملك الظاهر برقوق بمنزلة مكينة جدّا، كان يجلسه فوق قضاة القضاة، ولم يغيّر لبس العباءة، ولا أخذ من الملك الظاهر شيئا من المال، وكان الناس فيه على قسمين ما بين مفرط فى مدحه، وما بين مفرط فى الحطّ عليه. وتولّى الأمير يلبغا السالمى تجهيزه، وبعث السلطان مائتى دينار للقراءة على قبره مدّة أسبوع.
وتوفّى الأمير سيف الدين آق بلاط بن عبد الله الأحمدى الظاهرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة فى شهر ربيع الآخر، وكان تركىّ الجنس شجاعا.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوغاى بن عبد الله العمرى أحد أمراء العشرات بالديار المصرية، ونقيب الفقراء السّطوحيّة فى أوّل شهر ربيع الأوّل، وكان ديّنا خيّرا يحب الفقراء، ويتردّد لزيارة الصالحين.(12/165)
وتوفّى الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد البعلبكّى الدمشقى الضرير المعروف بالبرهان الشامى فى ثامن جمادى الأولى، وكان فاضلا أديبا فقيها.
وتوفّى الأمير سولى «1» بن قراجا بن دلغادر التّركمانى، صاحب أبلستين «2» ، قتل غيلة على فراشه، وكان غير مشكور السيرة، كثير الشرور والفتن.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن قمارى أمير شكار فى ثانى عشر شهر رجب وكان من جملة أمراء العشرات.
وتوفّى الشيخ الأديب المادح أبو الفتح محمد بن الشيخ العارف على البديوىّ فى ثامن عشر جمادى الآخرة بالنّحريرية «3» ، وكان أكثر شعره مدائح.(12/166)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا- مبلغ الزيادة. تسعة عشر ذراعا وسبعة أصابع والله تعالى أعلم.(12/167)
[ما وقع من الحوادث سنة 801]
ذكر سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الأولى على مصر
السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن السلطان الملك الظاهر أبى سعيد برقوق بن الأمير آنص، الجاركسى الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ، سلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية، والأقطار الحجازية، وهو السلطان السادس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثانى من الجراكسة، وأمّه أم ولد رومية تسمّى شيرين، ماتت فى سلطنته. مولده فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، قبل خلع أبيه الملك الظاهر برقوق من السلطنة، وحبسه بالكرك «1» ، فأراد أن يسمّيه «بلغاك» يعنى «تخبيط» باللغة التركية، فسمّى «فرجا» .
جلس على تخت الملك بقلعة «2» الجبل صبيحة موت أبيه يوم الجمعة النصف من شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعهد من أبيه إليه حسب ما تقدّم ذكره، فى أواخر ترجمة أبيه، وحسب ما نذكره أيضا.
وفى سلطنته يقول الأديب المقرئ شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن حسن الأوحدى «3» : [الطويل]
مضى الظاهر السلطان أكرم مالك ... إلى ربّه يرقى إلى الخلد فى الدرج
وقالوا ستأتى شدّة بعد موته ... فأكرمهم ربّى وما جا سوى (فرج)(12/168)
ذكر جلوسه على تخت الملك
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزى- رحمه الله تعالى-: ولمّا كان صبيحة يوم الجمعة اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش، والأمير تغرى بردى أمير سلاح، وسائر أمراء الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقينى «1» ، فلما تكاملوا «2» بالإسطبل «3» السلطانى، أحضر فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطنة وقلّده أمور المسلمين، وأحضرت خلعة سوداء فأفيضت على فرج المذكور، ونعت بالملك الناصر، وركب بشعار السلطنة، وطلع حتى جلس على تخت الملك بالقصر السلطانى، وقبّل الأمراء كلّهم الأرض بين يديه على العادة، ولبس الخليفة تشريفا جليلا، ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان الملك الظاهر برقوق. انتهى كلام المقريزى.
قلت: ونذكر الآن فى ابتداء دولة الملك الناصر فرج اسم خليفة الوقت ولقبه، وقضاة القضاة، وأرباب الوظائف من الأمراء وغيرهم من النوّاب، بالبلاد الشامية، ليكون ذلك مقدّمة لما يأتى من تغيير الوظائف وتقلّبات الدّول. انتهى.(12/169)
فخليفة الوقت: أمير المؤمنين المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد العباسىّ، والقاضى الشافعى صدر الدين محمد المناوى «1» ، والقاضى الحنفى جمال الدين يوسف «2» الملطى، والقاضى المالكىّ ولىّ الدين عبد الرحمن بن خلدون «3» ، والقاضى الحنبلى برهان الدين إبراهيم «4» بن نصر الله العسقلانى، والأمير الكبير أتابك العساكر أيتمش البجاسىّ، وأمير سلاح تغرى بردى من يشبغا الظاهرىّ (أعنى الوالد) ، وأمير مجلس أرغون شاه البيدمرى الظاهرى، والأمير آخور الكبير سيّدى سودون قريب الملك الظاهر برقوق، وحاجب الحجاب فارس الأعرج الظاهرى، ورأس نوبة النّوب أرسطاى، والدوادار الكبير بيبرس ابن أخت السلطان الملك الظاهر، والخازندار يشبك الشعبانى الظاهرىّ، وهو أمير مائة ومقدّم ألف، وشادّ الشراب خاناه سودون الماردانىّ، والأستادار الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرى المجنون، وكاتب(12/170)
السرّ فتح الدين فتح الله التّبريزىّ، والوزير تاج الدين عبد الرزّاق بن أبى الفرج، وناظر الجيش والخاصّ معا سعد الدين إبراهيم بن غراب، ومحتسب القاهرة الشيخ تقىّ الدين أحمد المقريزىّ، ووالى القاهرة شهاب الدين أحمد بن الزين، بالبلاد الحجازية والشامية، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان الحسنىّ، وأمير المدينة النبوية الشريف ثابت بن نعير الحسينىّ، ونائب الشام الأمير تنبك الحسنى المعروف بتنم الظاهرى، ونائب حلب آقبغا الجمالى الظاهرى، المعروف بالأطروش ونائب طرابلس يونس بلطا الظاهرى، ونائب حماة دمرداش المحمدى الظاهرى، ونائب صفد ألطنبغا العثمانى الظاهرى، ونائب غزّة ألطنبغا الحاجب الظاهرى، ونائب الكرك سودون الشمسىّ الظاهرى المعروف بالظريف، وعدّة نوّاب أخر بقلاع الساحل وغيرها يطول الشرح فى ذكرهم.
ولمّا تم أمر الملك الناصر فرج فى الملك، بعد أن دفن والده، وصار الأتابك أيتمش مدبّر ملكه، أراد أيتمش أن يطلع إلى باب السلسلة «1» ويسكن بالإسطبل السلطانىّ، فمنعه من ذلك الأمير سودون الأمير آخور الكبير، قريب الملك الظاهر، وردّ ما بعته الأمير الكبير أيتمش من القماش، فاستدعى سودون إلى حضرة السلطان فامتنع، فأمسك أيتمش عن الكلام فى ذلك، وتكلّم فيما يعود نفعه، فأمر فكتب إلى سائر الأقطار بالعزاء فى الملك الظاهر برقوق، والهناء بسلطنة ولده الملك الناصر فرج، وكتب تقليد الشريف حسن بن عجلان بإمرة مكّة، وكان بالقاهرة، وكتب إلى مكّة وبها الأمير بيسق الشيخى والى المدينة النبوية، وتوجّه بذلك بعض الخاصكية، وكتب إلى الأمير نعير بن حيّار بإمرة آل فضل على عادته،(12/171)
وعزل الأمير شمس الدين محمد بن عنقاء بن مهنّا، وعرف بموت الملك الظاهر، وبسلطنة الملك الناصر فرج؛ وحمل إليه التشريف والتقليد على يد الأمير أسنبغا الدوادار، وعيّن الأمير سودون الطّيار الأمير آخور بالكتب والخلع إلى نائب الشام الأمير تنم الحسنى، وعيّن يلبغا الناصرى رأس نوبة إلى الأمير آقبغا الجمالى نائب حلب، وعيّن الأمير تغرى بردى قرا إلى الأمير يونس بلطا نائب طرابلس، وعيّن الأمير يشبك إلى الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد، وعيّن الأمير شاهين كنك إلى الأمير سودون الظريف نائب الكرك، وعلى يد كل من هؤلاء كتاب يتضمّن العزاء والهناء، وأن يحلّف كلّ نائب أمراء بلده للملك الناصر فرج على العادة، وقرر الأمير الكبير أيتمش مع أرباب الدولة إبقاء الأمور على ما هى عليه.
ثم كلّم الوزير والأستادار فى الكفّ عن الظلم وتجهيز الجامكيّة «1» والعليق برسم لمماليك السلطانية.
وفى يوم الاثنين ثامن عشر شوّال خرج ركب المحمل إلى البركة «2» صحبة أمير الحج الأمير شيخ المحمودىّ الظاهرىّ، «أعنى الملك المؤيد» ، وأمير الركب الأوّل الأمير الطواشى بهادر مقدّم المماليك السلطانية.
وفى اليوم المذكور اجتمع الأمراء بالقلعة فى الخدمة السلطانية على عادتهم، وطلبوا الأمير سودون أمير آخور، فامتنع عن الحضور، فبعث الأمراء إليه ثانيا فامتنع، فكرروا الإرسال إليه ثلاث مرات إلى أن حضر فكلّموه فى النزول من(12/172)
الإسطبل فلم يجبهم إلى ذلك، فتخيّلوا منه واتّهموه بأنه يريد إثارة فتنة، فقبضوا عليه وعلى الأمير علىّ بن إينال اليوسفى، وأخرجوا ما كان له بالإسطبل من خيول وقماش ونحو ذلك، وسكن الأتابك أيتمش مكانه بالإسطبل من باب السلسلة، وأنزل سودون وعلى بن إينال فى الحديد إلى الحرّاقة «1» وجهزا إلى سجن «2» الاسكندرية ثم نودى بالقاهرة ومصر بخروج طائفة العجم من الديار المصرية، وهدّد من تأخّر بعد ثلاثة أيام بالقتل.
ثم خلع على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار باستقراره (لا لا) السلطان الملك الناصر فرج، ومعه الأمير قطلوبغا الكركى (لا لا) أيضا.
ولمّا كان يوم حادى عشرين شوّال جلس السلطان الملك الناصر فرج بدار العدل، «أعنى بالإيوان من قلعة الجبل» على عادة الملوك، وخلع على الأمير الكبير أيتمش، وعلى الوالد الأمير تغرى بردى وهو أمير سلاح، وعلى أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس؛ وعلى بيبرس الدوادار، وأرسطاى رأس نوبة النّوب، وفارس حاجب الحجّاب، وتمربغا المنجكى الحاجب الثانى، وأحد مقدّمى الألوف، وعلى يلبغا المجنون الأستادار، وعلى جميع أرباب الدولة.
ثم قام السلطان من دار العدل ودخل إلى القصر، وجلس القضاة بجامع القلعة حتى يخلع عليهم، فعند ما تكامل الأمراء وأرباب الدولة بالقصر، أغلق الأمراء الخاصكية باب القصر، وكان رئيسهم يوم ذاك سودون طاز، وسودون من زادة،(12/173)
وآقباى «1» رأس نوبة، وجاركس القاسمى المصارع، ثم سلّوا سيوفهم بمن معهم، وهجموا على الأمراء وقبضوا على أرسطاى رأس نوبة النّوب، وتمراز وتمربغا المنجكى، وطغنجى وبلاط السعدى، وطولو رأس نوبة، وفارس الحاجب، وفرّ مبارك شاه وطبج، فأدركا، وقبض عليهما أيضا، وبلغ ذلك يلبغا المجنون الأستادار وكان خارج القصر، فخلع خلعته وسلّ سيفه، ونزل من القلعة إلى داره.
ثم أحضر الخاصكيّة الأمراء المقبوض عليهم إلى عند «2» الأمير الكبير أيتمش وقد بهت وأسكت، وقيّدوا أرسطاى رأس نوبة النّوب، وتمراز وتمربغا المنجكى؛ وطغنجى أحد أمراء الطبلخانات، وأطلقوا من عداهم، واستدعوا يلبغا المجنون الأستادار، فلمّا حضر قبض عليه أيضا وقيّد وأضيف إلى الأمراء المقبوض عليهم وأنزل الجميع من يومهم إلى الحرّاقة، وتوجّهوا إلى سجن الإسكندرية، ما خلا يلبغا المجنون فإنه فى يوم السبت ثالث عشرينه عصر يلبغا المجنون ليحضر المال، ثم أسلموه لسعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش والخاصّ ليحاسبه، فنزل به إلى داره، وسألوا يلبغا السالمىّ بوظيفته الأستادارية فامتنع، فعرضوها على ناصر الدين محمد بن سقر وابن قطينة فلم يوافقا، فخلع على الأمير مبارك شاه باستقراره أستادارا عوضا عن يلبغا المجنون.
وفيه أنفق على المماليك السلطانية نفقة سلطنة الملك الناصر، وتولّى الإنفاق عليهم يلبغا السالمى، وفرّقت بحضرة السلطان والأمراء، فأعطى كلّ مملوك من(12/174)
من أرباب الخدم الجوانية والمشتروات ستين دينارا؛ صرف كل دينار ثلاثون درهما.
وفى يوم الاثنين خامس عشرينه، تأخّر سائر أمراء الألوف عن طلوع الخدمة السلطانية خوفا من الخاصكيّة، فإن الأمور صارت معذوقة «1» بهم، فبعث الخاصكية إلى الأمراء بالحضور فأبوا ذلك، فنزل الخاصكيّة إلى الإسطبل فى خدمة الأمير الكبير أيتمش، واستدعوا الأمراء من منازلهم فحضروا، وكثر الكلام بينهم حتى اتفقوا جميعا، وتحالفوا على طاعة الأمير الكبير أيتمش، والملك الناصر، وحلف لهم أيضا أيتمش، ثم حلف سائر المماليك والخاصكيّة، وتولّى تحليفهم يلبغا السالمىّ، وخلع على سودون الماردانى باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن أرسطاى المقبوض عليه قبل تاريخه، وعلى قطلوبغا الحسنىّ الكركى باستقراره شادّ الشراب خاناه، عوضا عن سودون الماردانى، وأنعم على الأمير قراكسك بإمرة مائة، وتقدمة ألف كانت مؤخّرة.
ثم فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شوّال خلع على الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن أبى الفرج باستقراره فى وظيفة الأستادارية مضافا للوزر عوضا عن مبارك شاه بحكم استعفاء مبارك شاه.
وفيه كتب مرسوم سلطانىّ باستقرار قرا يوسف بن قرا محمد صاحب تبريز «2» فى نيابة الرّهاء «3» على عادته، وباستقرار دمشق خجا فى نيابة جعبر «4» .(12/175)
وفيه ورد الخبر بأن أبا يزيد بن عثمان ملك الروم تحرّك للمشى على البلاد الشامية، وفى ثامن عشرين شوّال، ورد الخبر بأن الأمير تنم الحسنى نائب الشام أخذ قلعة دمشق، وكان خبر أخذه لقلعة دمشق أنّ تنم كان بالمرج من غوطة دمشق، فقدم عليه الخبر بموت الملك الظاهر برقوق، فركب وقصد دمشق ولم يشعر به الناس، فى ليلة الأربعاء العشرين من شوّال، حتى حضر إلى دار السعادة «1» ثلث الليل، فلما أصبح استدعى الأمير جمال الدين يوسف الهيدبانىّ نائب قلعة دمشق، بحجة أن الملك الظاهر برقوقا طلبه إلى الديار المصرية، فعندما نزل إليه أمسكه وبعث من تسلّم قلعة دمشق، فلم يعلم أحد ما قصده تم المذكور إلى أذان الظهر، فوصل فارس دوادار تنم من مصر، وأخبر بموت الملك الظاهر، وسلطنة ولده الملك الناصر فرج، وأخبر أيضا بأن سودون الطيّار قادم بالخلعه إلى الأمير تنم، فخرج الأمير تنم إلى لقائه، ولبس الخلعة، وباس الأرض خارج مدينة دمشق، ثم عاد إلى دار السعادة وقد اجتمع بها القضاة والأعيان، وقرئ عليهم كتاب السلطان الملك الناصر فرج، فأجابوا بالسمع والطاعة، ونودى بدمشق بالأمان والزينة، فزيّنت البلد، ودقّت البشائر، وسرّ الناس بذلك، وأخذ الأمير تنم يقول بأنّ السلطان صغير، وكلّ ما يصدر ليس هو عنه، وإنما هو عن الأمراء، وأنا وصىّ السلطان لا يعمل أحد شيئا إلا بمراجعتى ونحو هذا، فاضطرب الناس بدمشق، وبلغ ذلك نائب حمص، فأخذ قلعتها، وأخذ أيضا نائب حماة قلعة حماة، كلّ ذلك قبل تكملة خمسة عشر يوما من سلطنة الملك الناصر فرج.(12/176)
ثم فى أوّل ذى القعدة ركب الأمير طغاى تمر مقدّم البريدية من مصر على البريد إلى البلاد الشامية، ومعه ملطّفات لأمراء الورسق «1» والأمراء الأوجقيّة «2» ، ومطلق لنواب الممالك والقلاع، ومثال لأحمد بن رمضان نائب أذنة «3» ولأمراء التّركمان، ولنائب حلب، ولنائب سيس وصحبته أقبية مطرّزة بفرو؛ خمس عشرة قطعة، وفوقانيات حرير بطرز زركش؛ أربع وعشرون قطعة، وتشاريف عدّة كبيرة.
وفى ثالث ذى القعدة فرغ تحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج.
وفيه أنعم على الأمير إينال باى من قجماس بإمرة مائة وتقدمة ألف، وهو خبز أرسطاى رأس نوبة النّوب، وعلى سودون من على بك المعروف بطاز، بتقدمة الأمير سودون أمير آخور المقبوض عليه، وعلى آقباى من حسين شاه، بتقدمة ألف أيضا عوضا عن تمربغا المنجكىّ، وأنعم على الأمير يعقوب شاه الخازندار بإمرة طبلخاناه زيادة على طبلخاناته، فصارت تقدمته بثمانين فارسا «أعنى إمرة ثمانين» ، وأنعم على كل من قرابغا الأسنبغاوى وينتمر المحمدى وآقباى الإينالى بإمرة طبلخاناه، وعلى جرباش الشيخى بإقطاع يلبغا المجنون، إمرة خمسين فارسا وعلى آقبغا المحمودى بإمرة طبلخاناه أيضا وعلى كلّ من تمر الساقى وجركس القاسمىّ المصارع، وإينال حطب، وكمشبغا الجمالى، وألطنبغا الخليلىّ، وكزل العجمىّ البجمقدار، وقانى باى العلائى، وجكم من عوض، وصوماى الحسنى بإمرة عشرة.(12/177)
وفى سابعه خلع على سودون الماردانى باستقراره رأس نوبة النّوب، وكانت عيّنت له قبل ذلك، غير أنه كان متوعّكا، وعلى يعقوب شاه الظاهرى باستقراره حاجبا ثانيا، عوضا عن تمربغا المنجكى بإمرة ثمانين، وعلى كلّ من سودون من زاده، وتنكزبغا الحططىّ، وبشباى وجكم من عوض، وآقبغا المحمودى الأشقر واستقروا رءوس نوب صغارا.
وفى تاسعه خلع على قرابغا الأسنبغاوى ومقبل الظاهرى، واستقروا حجّابا، فصارت الحجّاب ستة بالديار المصرية، ورءوس نوب نحو العشرة، وهذا شىء لم يكن قبل ذلك.
ثم حضر الأمير دقماق المحمّدى معزولا عن نيابة ملطية بتقادم كثيرة.
وفى ثانى عشره خلع على الأمير جرباش الشيخى وتمان تمر، باستقرارهما رءوس نوب أيضا، فزادت عدّة رءوس النّوب على العشرة، وخلع على كزل المحمدى العجمى البجمقدار باستقراره أستادار الصحبة، عوضا عن قرابغا الأسنبغاوى، المنتقل إلى الحجوبية، وخلع على كل من الطواشيين: شاهين الحسنى الأشرفى، وعبد اللطيف الأشرفى باستقرارهما (لالا) السلطان.
وفى سابع عشره استدعى الأمير الكبير الشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ والقضاة وأعيان الفقهاء من كل مذهب، فحضر الجميع عند الأمير الكبير بالإسطبل، وقد حضر الأمراء والخاصكيّة بسبب الأموال التى خلّفها السلطان الملك الظاهر برقوق، هل تقسّم فى ورثته؟ أو يكون ذلك فى بيت مال المسلمين؟ فوقع كلام كثير آخره أن تفرّق فى ورثته من السدس، وما بقى فلبيت المال.
وفيه استقرّ الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس فى نظر خانقاه شيخون عوضا عن يلبغا السالمى.(12/178)
وفى حادى عشرين ذى القعدة، استقر الأمير سودون الطيّار أمير آخورا كبيرا، عوضا عن سودون قريب السلطان، بعد أن شغرت عدّة أيام.
وفى ثالث عشرينه خلع على أستادار الوالد؛ شهاب الدين أحمد بن عمر المعروف بابن قطينة باستقراره وزيرا، عوضا عن تاج الدين بن أبى الفرج.
[وخلع أيضا على يلبغا السالمى الظاهرى باستقراره أستادارا عوضا عن ابن أبى الفرج «1» ] المذكور، وقبض على تاج الدين بن أبى الفرج وصودر، فلم تطل مدة ابن قطينة فى الوزر، وعزل بفخر الدين ماجد بن غراب فى رابع ذى الحجة وعاد إلى أستادارية الوالد على عادته.
ثم قدم الخبر فى ثامن عشر ذى الحجة بأن ابن عثمان أخذ الأبلستين «2» وملطية «3» ، وعزم على المسير إلى البلاد الشامية، فعمل الأمراء مشورة فى أمره، واتفق الحال على المسير إلى قتاله، وتفرّقوا فأنكر المماليك السلطانية ذلك، وقالوا هذه حيلة علينا حتى نخرج من القاهرة، وعيّنوا سودون الطيّار الأمير آخور لكشف هذا الخبر، وحضر البريد من دمشق بأن علاء الدين بن الطبلاوى ترك لبس الأمراء، وتزيّا بزىّ الفقراء، وامتنع من الحضور إلى مصر، وكان طلب إليها، وأن تنم نائب الشام قال: هذا رجل فقير قد قنع بالفقر، اتركوه.(12/179)
وفى يوم ثامن عشر المذكور خرج سودون الطيّار لكشف الأخبار، فدخل دمشق فى العشرين منه، وهذا شىء من وراء العقل، كونه يصل من مصر إلى الشام فى يومين.
وفى أواخر ذى الحجة قدم الخبر بأن تنم نائب الشام خرج عن الطاعة، وقبض جانبك اليحياوى الظاهرى، الذي كان ولى نيابة قلعة دمشق، ولم تسلّم له قلعة دمشق، وأنه أرسل إلى نائب الصّبيبة «1» . فأفرج عن آقبغا اللكّاش، وألجيبغا الحاجب، وخضر الكريمى، واستدعاهم إلى دمشق، فقدموا عليه، فلم يتحرّك بسبب ذلك ساكن بمصر لاختلاف الكلمة.
[ما وقع من الحوادث سنة 802]
ثم فى يوم الثلاثاء حادى عشرين المحرم سنة اثنتين وثمانمائة، ركب السلطان الملك الناصر من قلعة الجبل، ومعه الأمير الكبير أيتمش البجاسى، والوالد أمير سلاح، وسائر الأمراء، ونزل إلى تربة أبيه «2» بالصحراء وزاره، ثم عاد بعد أن شقّ القاهرة، وطلع إلى القلعة، وهذا أوّل ركوب الملك الناصر.
ثم فى هذه الأيام تزايد الاختلاف بين أكابر الأمراء، وبين الأمراء الخاصّكية واشتدّت الوحشة بين الطائفتين، واتّفق سودون طاز، وسودون من زاده، وجركس القاسمى المصارع، وآقباى من حسين شاه، وبشباى وغيرهم، وانضموا على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار، وصاروا فى عصبة قوية وشوكة شديدة، واستمالوا جماعة كبيرة من خجداشيّتهم «3» الظاهرية، الذين بالأطباق من القلعة،(12/180)
وتأكّدت الفتنة، وشرعت كلّ من الطائفتين تدبّر على الأخرى، فأخذ الأمراء الخاصكيّة يتخوّفون من تنم نائب الشام، فأرسلوا بتفويض أمور البلاد الشامية إليه، فلما وصل ذلك إلى تنم على يد مملوكه سونجبغا، فى ثالث عشر المحرم، وقرئ المرسوم الشريف الذي على يده بدار السعادة، وفيه أنه يعزل من شاء، ويولّى من شاء، ويطلق من شاء من المسجونين، فأرسل أطلق الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى المعروف بقراسقل المعزول عن نيابة حلب، ثم عن أتابكيّة دمشق، من سجن قلعة دمشق فى ليلة الجمعة رابع عشرين المحرم، وأطلق أيضا الأمير أزدمر أخا إينال اليوسفى، ومحمد بن إينال اليوسفى، من سجن طرابلس وأحضرهما إلى دمشق، ثم بعث إلى نوّاب البلاد الشامية يدعوهم إلى طاعته، وإلى القيام معه فأجابه الأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب، والأمير يونس بلطبا نائب طرابلس، والأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى نائب صفد، وامتنع من إجابته الأمير دمرداش المحمدى الظاهرى، نائب حماة، ثم بعث تنم إلى طرابلس بتجهيز شينى «1» فى البحر إلى ثغردمياط، ليحمل فيه الأمير نوروز الحافظى، وغيره من الأمراء الذين بثغردمياط، فبادر ناصر الدين محمد بن بهادر المؤمنى، فتسلم برج الأمير أيتمش بطرابلس، وركب البحر إلى دمياط، وقدم إلى القاهرة، وأعلم القوم بما قصده تنم، فكتب على يده عدّة ملطّفات إلى الأمير قرمش حاجب حجّاب طرابلس، وإلى القضاة والأعيان بأن قرمش يركب على يونس بلطا نائب طرابلس ويقتله، ويلى نيابة طرابلس عوضه، فاتفق أنّ يونس المذكور قبض على قرمش الحاجب وقتله قبل وصول ابن بهادر إلى طرابلس، ثم إن تنم استدعى الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى المقدّم ذكره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق لمّا(12/181)
صودر وحبس بخزانة «1» شمائل، ثم نفى وخلع عليه، وأقامه متحدّثا فى أمور الدولة:
كما كان فى ديار مصر، فأخذ ابن الطبلاوى هذا فى الإفحاش فى أمر الشاميّين، وطرح عليهم السّكّر الواصل من الغور «2» ، بحيث إنه طرح ذلك على الناس، حتى على الفقهاء ونقباء القضاة، فتنكّرت القلوب عليه، وقدم الخبر بهذا كلّه إلى الديار المصرية، فتحقّق عند ذلك أعيان الدولة عصيان تنم وصرّح الأمراء الخاصكية بأن الأمير الكبير أيتمش، والوالد وجماعة من أكابر الأمراء بالديار المصرية، قد وافقوا تنم على ذلك، وكاتبوه بالخروج، ولم يكن لذلك صحّة، فأخذ الأمراء الخاصّكية وكبيرهم يشبك الشعبانىّ الخازندار، فى التدبير على أيتمش ورفقته، واتفقوا على أمر يكون فيه زوال أيتمش وأصحابه، وعلّموا السلطان الملك الناصر فرجا يقول يقوله إلى أيتمش.
فلمّا كان يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثمانمائة وجميع الأمراء بالخدمة السلطانية، ابتدأ السلطان الملك الناصر بالكلام مع الأمير الكبير أيتمش، وقال له: يا عمّ أنا قد أدركت وبلغت الحلم، وأريد أن أرشد فقال له أيتمش: السمع والطاعة، واتّفق مع الأمراء الخاصكيّة على ترشيد السلطان وصوّب ذلك جميع الأمراء؛ إلّا الوالد وفارس الحاجب، وخالفا الجميع، فأخذ الأتابك أيتمش يحسّن ذلك للوالد ولفارس، حتى أذعنا على رغمها لترشيد السلطان وأنهم يمتثلون بعد ترشيده سائر ما يرسم به، وطلب فى الحال الخليفة والقضاة والسراج البلقينىّ ومفتى دار العدل فحضروا، وقام سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش والخاصّ، وادّعى على الأمير الكبير أيتمش، بأن السلطان قد بلغ رشده(12/182)
وشهد عدّة من الأمراء الخاصكيّة بذلك، ولم يكن لذلك صحّة فحكم القضاة بعد البيّنة برشد السلطان، وخلع على الخليفة وقضاة القضاة وعلى الأمير الكبير أيتمش وانفضّ الموكب، ونزل الأمير الكبير إلى داره التى كان يسكن بها بالقرب من باب الوزير «1» ومعه جميع الأمراء، فلما سار أيتمش حتى صار تحت الطبلخاناه السلطانية، وطلب أن يسلّم على الأمراء، والتفت برأس فرسه، وقد وقف له جميع الأمراء لردّ سلامه، وقبل أن يسلّم عليهم، قال له الوالد: إلى أين يتوجّه الأمير الكبير من هنا؟ قال الأمير أيتمش: إلى بيتى! أو ما علمت بما وقع عليه الاتفاق من ترشيد السلطان، وأنه يستبدّ بالأمور، وأنزل أنا من باب السّلسلة إلى دارى! فقال الوالد: نعم، وقع ذلك، غير أنه بنزولك تسكن الفتنة، اطلع إلى باب السلسلة، وامكث به اليوم، وخذ فى نقل قماشك شيئا بعد شىء إلى الليل حتى نبرم أمرا نفعله فى هذه الليلة، فإذا أصبحت فانزل إلى دارك، فقال أيتمش: يا ولدى! ليس ذلك مصلحة ويقيم- من له غرض فى إثارة الفتنة- الحجّة علينا، فألح عليه الوالد حتى سمع كلامه كلّ أحد، وأيتمش لا يذعن إليه، وأبى إلّا النزول إلى داره، ثم سلّم عليهم، والتفت برأس فرسه، فقال الوالد: أخربت بيتك وبيوتنا بسوء تدبيرك، وعاد الوالد إلى جهة داره، بخط الصليبة «2» عند حمام «3» الفارقانى، ومعه سائر الأمراء،(12/183)
فكلّمهم فى الطريق وقال: هؤلاء الأجلاب لابدّ لهم معنا من رأس، فإن كان ولابد يكون ذلك فى الإسطبل السلطانى معنا، وندب الأمراء إلى أن يتوجّهوا إلى أيتمش فى ذلك، فقالوا: قد فات الأمر، ونزل إلى داره، ثم توجّه كلّ واحد إلى منزله، وفى الحال دقّت البشائر لترشيد السلطان، وزيّنت القاهرة، وافترق العسكر فرقتين: فرقة مع الأمير الكبير أيتمش البجاسى، وهم جميع أكابر الأمراء والمماليك القرانيص، وفرقة مع الأمير يشبك الشعبانى الخازندار، وهم الأمراء الخاصّكية ومماليك الأطباق، وقويت شوكة الأمير يشبك بعجز أيتمش وعدم أهليته فى القيام بتدبير الأمور من يوم مات الملك الظاهر برقوق، واستمر ذلك إلى ليلة عاشر شهر ربيع الأول المذكور، وقد ندم الأمير الكبير أيتمش على نزوله من باب السلسلة، حيث لا ينفعه الندم، ولم يجد بدّا من الركوب، واتّفق مع الأمراء على الركوب
ذكر الواقعة بين الأتابك أيتمش وبين يشبك وغيره
ولما كان ليلة الاثنين عاشر شهر وبيع الأول، اتفق الأمراء الأكابر مع الأمير الكبير أيتمش، ولبسوا الجميع آلة الحرب، واجتمعوا على الأتابك أيتمش بداره بخط باب الوزير، بعد نزول أيتمش من باب السلسلة بثلاثة أيام، وأخذ بعض رفقته من أكابر الأمراء يلومه على نزوله من الإسطبل السلطانى، وعلى عدم ميله لكلام الأمير تغرى بردى (أعنى الوالد) فى النزول، فقال: هكذا قدّر، وكان سبب ركوب أيتمش بعد نزوله من الإسطبل أنه لمّا وقع ترشيد السلطان، واتفقوا معه على أن ينزل إلى داره ظنّ أيتمش أن بنزوله تسكن الفتنة، وتطمئن الخواطر، ويصير هو على عادته رأس مشورة، ولا يعمل شىء إلّا بعد مشاورته،(12/184)
فتمشى الأحوال بذلك على أحسن وجه؛ ولم يدر أن القصد كان بنزوله من باب السلسلة حتى يضعف أمره؛ وتصير القلعة بأسرها فى أيدى الجماعة؛ ويستبدّوا بالأمر من غير مشارك؛ ثم يقبضوا على واحد واحد، حتى يصفو لهم الوقت؛ وفطن الوالد لذلك فعرّف أيتمش بالمقصود وقال له: إنّه لا بدّ لهؤلاء الجماعة من إثارة فتنة فإن كان ولا بدّ فيكون ذلك ونحن ملّاك باب السلسلة؛ وهى شطر القلعة، فأبى إلّا ما أراد الله تعالى، ونزل إلى داره وأقام يومه، ثم أصبح وقد تحقّق ما قاله الوالد وغيره، وعلم أنه متى ظفروا به وبالأمراء رفقته قبضوا عليهم، فلم يجد بدّا من الركوب وركب إلى الوالد فى ظهر نهاره وترضاه، حتى وافقه، فعند ذلك وافقه الجميع، واتّفق رأيهم على الركوب فى ليلة الاثنين المذكورة، فركبوا بعد صلاة العشاء الأخيرة، وهم جماعة كثيرة من أمراء الألوف والطبلخانات والعشرات والمماليك السلطانية القرانيص، فالذى كان معه من مقدمى الألوف: الأمير تغرى بردى من يشبغا أمير سلاح (أغنى عن الوالد) ، والأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، وفارس حاجب الحجاب، ويعقوب شاه الحاجب الثانى، ومن أمراء الطبلخانات ألطنبغا شادى، وشادى خجا العثمانى، وتغرى بردى الجلبانى، وبكتمر الناصرىّ المعروف بجلّق، وتنكزبغا الحططى، وآقبغا المحمودى الأشقر، وعيسى فلان والى القاهرة، ومن العشرينات أسندمر الإسعردىّ، ومنكلى العثمانى، ويلبغا من خجا الظريف، ومن العشرات خضر بن عمر بن بكتمر الساقى، وخليل بن قرطاى شادّ العمائر، وعلى بلاط الفخرى، وبيرم العلائى، وأسنبغا المحمودى، ومحمد بن يونس النّوروزى، وألجيبغا السلطانى وتمان تمر الإشقتمرى، وتغرى بردى البيدمرى، وأرغون السّيفىّ، ويلبغا المحمودى، وباى خجا الحسنىّ، وأحمد بن أرغون شاه الأشرفى، ومقبل الحاجب، ومحمد بن على بن كلبك نقيب الجيش وخير بك من(12/185)
حسن شاه: وجلبّان العثمانى، وكزل العلائى ويدى «1» شاه العثمانى، وكمشبغا الجمالى، وألطنبغا الخليلى، وألطنبغا الحسنى، ونحو الألف مملوك من أعيان المماليك السلطانية، وخرج أيتمش إلى داره ملبسا هو ومماليكه، وكانوا نحو الألف مملوك، وصحبته الأمراء المذكورون، وعبّى عساكره، وأوقف طلبه «2» ومماليكه بمن انضاف إليهم من أمراء الطبلخانات والعشرات، والمماليك السلطانية بالصّوّة «3» ، تجاه باب المدرّج أحد أبواب قلعة الجبل، وأصعد جماعة أخر من حواشيه إلى سطح المدرسة الأشرفية التى مكانها الآن بيمارستان الملك المؤيد شيخ»
، ليرموا على من بالطبلخاناة السلطانية ويحموا ظهور مماليكه، ولم يخرج هو من بيته وكان الذي رتب العساكر الوالد، ووقف الأمير فارس حاجب الحجّاب ومعه جماعة من أمراء الطبلخانات والعشرات، فى رأس الشارع الملاصق لمدرسة السلطان «5» حسن، المتوصّل منه إلى سوق القبو، ليقاتل من يخرج من باب السلسلة من السلطانية، ووقف الوالد ومعه الأمير أرغون شاه أمير مجلس، برأس سويقة منعم من خط الصليبة، تجاه القصر السلطانى وتفرقت الأمراء والمماليك ثلاث فرق: كل فرقة إلى جهة من الأمراء المذكورين مع من انضاف إليهم من المماليك البطالة والزّعر وغيرهم، وأخذ كلّ واحد من هؤلاء الأمراء يعبّئ طلبه وعساكره، على حسب ما يختار، كلّ ذلك فى الليل.(12/186)
وأمّا أهل القلعة فإن الأمير يشبك الشعبانىّ الخازندار لمّا سمع بذلك ركب إلى القلعة هو وبيبرس الدّوادار وطلعا إلى السلطان، وقد اجتمع غالب الأمراء والخاصكيّة من الظاهرية عند السلطان، وطلب يشبك فى الحال مماليك الأطباق، وأمرهم يلبس السلاح ولبس هو وجميع الأمراء، وحرّضهم على قتال أيتمش ورفقته، وخوّفهم عاقبة الأمر، وقال لهم: هؤلاء وإن كانوا خشداشيتّنا، فقد صاروا الآن أجانب، وتركوا خبز الملك الظاهر برقوق، وخرجوا على ولده، وأرادوا يسلطتون أيتمش ونحن نقاتل مع ابن أستاذنا حتى نموت، فأجابه جميع المماليك الجلبان وظنوا أن مقالته حقيقية، وفى الحال دقّت الكوسات الحربية بالقلعة ولبس سائر الأمراء الذين بالقلعة، وهم: بيبرس الدوادار ابن أخت الملك الظاهر برقوق، ويشبك الشعبانى الخازندار المقدّم ذكره، وسودون الماردانى رأس نوبة النّوب، وسودون من على بك طاز، وإينال باى بن قجماس، ويلبغا الناصرى. وبكتمر الرّكنى ودقماق المحمدى المعزول عن نيابة ملطية، وشيخ المحمودى (أعنى المؤيّد) وآقبغا الطرنطائى والجميع ألوف، وجماعة أخر من الطبلخانات والعشرات، وأما المماليك السلطانية فمعظمهم، ونزل السلطان الملك الناصر فرج من القصر إلى الإسطبل السلطانى، ووقع القتال بين الطائفتين من وقت عشاء الأخيرة إلى باكر النهار ومعظم قتال أهل القلعة مع الذين كانوا برأس سويقة منعم، وتصادموا غير مرّة، وبينما القتال يشتدّ أمر الأتابك أيتمش البجاسى فنودى من قبض على مملوك جركسىّ وأحضره إلى الأمير الكبير أيتمش فله كيت وكيت، فلمّا سمعت الجراكسة الذين كانوا من حزب أيتمش ذلك حنقوا منه وتوجّه أكثرهم إلى السلطان، مع أن أيتمش كان من أعظم الجراكسة؛ غير أن زوال النعم شئ آخر، فعند ذلك كثر جمع السلطانية وقوى أمرهم، وحملوا على الوالد، وبمن معه وهو برأس سويقة(12/187)
منعم، فكسروه، فمرّ بمن معه من الأمراء ومماليكه حتى اجتاز بداره، وهى دار طاز بالشارع «1» الأعظم تجاه حمّام الفارقانى «2» ، والقوم فى أثره، فحمى ظهره مماليكه الجلبان الذين بالأطباق بالرمى على السلطانية، حتى تركوه وعادوا، ومرّ الوالد حتى لحق بالأمير أيتمش بالصّوّة.
وأما السلطانية فإنهم لمّا كسروا الوالد، وكان الأهم عادوا لقتال فارس الحاجب، وكان فارس من الفرسان المعدودة الأقشية، فثبت لهم فارس المذكور ثباتا عظيما، لولا ما كادوه من أخذ مدرسة السلطان حسن، والرمى عليه من أعلاها إلى أن هزموه أيضا، وانحاز بطائفته إلى أيتمش بالصوّة، فكرر أيتمش المناداة على المماليك الجراكسة- خذلان من الله-، فذهب من كان بقى عنده منهم، وعند ذلك صدمته السلطانية صدمة هائلة كسروه فيها، وانهزم من بقى معه من الأمراء المذكورين والمماليك وقت الظهر من يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وثمانمائة، ومرّوا قاصدين إلى جهة الشأم حتى نزلوا بسرياقوس «3» ، فأخذوا من الخيول السلطانية التى كانت بها من جيادها نحو المائة فرس، ثم ساروا إلى نحو البلاد الشامية، وندب السلطان خلف أيتمش ورفقته من المنهزمين جماعة من أمراء الألوف وغيرهم، فالذى كان منهم من أمراء الألوف بكتمر الرّكنى المعروف(12/188)
ببكتمر باطيا، ويلبغا الناصرى، وآقبغا الطرنطائى، ومن أمراء الطبلخانات أسنبغا الدوادار وبشباى من باكى، وصوماى الحسنى فى جماعة كثيرة من أمراء العشرات، والمماليك السلطانية، وهم نحو خمسمائة مملوك فلم يقفوا لهم على خبر، وعادوا من قريب.
وامتدّت الأيدى إلى بيوت الأمراء المنهزمين بالنهب، فنهبوا جميع ما كان فيها حتى نهبت الزّعر مدرسة أيتمش «1» وأحذوا جميع ما كان فيها حتى حفروا قبر ولده الذي كان بها، وأحرقوا الرّبع المجاور لها من خارج باب الوزير، ونهبوا جامع «2» آق سنقر المجاور لدار أيتمش، واستهانوا حرمة المصاحف بها، ثم نهبوا مدرسة السلطان حسن، وانتهبوا بيوتا كثيرة من بيوت المنهزمين، فكان الذي أخذ من بيت الوالد فقط من الخيل والقماش والسلاح وغير ذلك ما تزيد قيمته على عشرين ألف دينار.
ثم كسرت الزّعر حبس «3» الديلم وحبس «4» الرحية، وأخرجوا من كان بهما من أرباب الجرائم، وصارت القاهرة فى ذلك اليوم غوغاء، من غلب على شىء صار له، وقتل فى هذه الواقعة من الطائفتين جماعة كبيرة من المماليك وغيرهم، فكان الذي قتل من الأمراء قجماس المحمدى شادّ السلاح خاناه، وقرابغا الأسنبغاوى، وينتمر(12/189)
المحمدى، واختفى بالقاهرة ممن كان مع الأتابك أيتمش، مقبل الرومى الطويل أمير جاندار، وكمشبغا الخضرى وجماعة أخر يأتى ذكرهم، وتوجّه بقية أصحابه الجميع صحبته إلى دمشق، وقصد أيتمش الأمير تنم الحسنى نائب الشام.
وأما تنم نائب الشام فإنه لما عظم أمره بدمشق وتمّ له ما قصده، وجّه الأمير آقبغا الطولوتمرى اللّكّاش فى عدّة من الأمراء والعساكر إلى غزّة فساروا من دمشق فى أوّل شهر ربيع الأوّل المذكور. ثم ندب جماعة أخر من كبار الأمراء إلى البلاد الحلبية، وخرجوا من دمشق فى ثالث شهر ربيع الأوّل، وعليهم الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى، المعروف بقراسقل المعزول عن نيابة حلب قديما، ومعه الأمير أحمد بن الشيخ على نائب صفد كان، والأمير بيخجا المعروف بطيفور نائب غزّة كان، وهو يومئذ حاجب دمشق والأمير يلبغا الإشقتمرى، والأمير صرق الظاهرى، وساروا إلى حلب لتمهيد أمورها. ثم قبض الأمير تنم على الأمير بتخاص وعيسى التركمانى وحبسهما بالبرج من قلعة دمشق، ثم خرج تنم فيمن بقى معه من عساكره فى سادسه يريد حلب، وجعل الأمير أزدمر أخا إينال اليوسفى نائب الغيبة بدمشق، وسار حتى قدم حمّص والستولى عليها، وولّى عليها من يثق به من أصحابه، ثم توجّه إلى حماة، فوافاه الأمير يونس بلطا نائب طرابلس ومعه عسكر طرابلس، ونزلوا على مدينة حماة، فامتنع نائبها الأمير دمرداش المحمدى بها، وقاتل تنم قتالا شديدا، وقتل من أصحاب تنم نحو الأربعة أنفس ولم يقدر عليه تنم، وبينما تنم فى ذلك ورد عليه الخبر بقيام أهل طرابلس على من بها من أصحابه.
وخبر ذلك أنه لما قرب محمد بن بهادر المؤمنى من طرابلس، بعث ما كان معه من الملطّفات من الديار المصرية لأهل طرابلس، فوصلت إليهم قبل قدومه،(12/190)
ثم وصل هو بمن معه فى البحر، فظنه نائب غيبة يونس بلطا من الفرنج، فخرج إليه فى نحو ثلاثمائة فارس من أجناد طرابلس، فتبيّن له أنه من المسلمين، فطلبه نائب الغيبة بمن معه فلم يأته، وقاتلهم على ساحل البحر فانهزم إلى برج أيتمش، وكان تحت حكم ابن المؤمنى المذكور، فأصبح الذين أتتهم الملطّفات من مصر، ونادوا فى العامّة بجهاد نائب الغيبة، وخطب خطيب البلد بذلك، فشرعت العامّة فى قتال نائب الغيبة حتى هزموه ونهبوا ما كان معه توجه إلى حماة، فأرسل تنم الأمير الأمير صرق على عسكر كبير لقتال أهل طرابلس، فتوجه صرق إليهم، وقاتلهم قتالا شديدا مدّة تسعة أيام، وبينما تنم فى ذلك ورد عليه الخبر بواقعة الأمير أيتمش مع المصريين، وأنه نزل بمن معه فى دار النيابة بغزّة، وأنه سار بمن معه يريد دمشق، فسرّ تنم بذلك وأذن لنائب غيبته بدمشق وهو الأمير أزدمر بدخول أيتمش، ومن معه إلى دمشق وبالقيام فى خدمتهم حتى يحضر إليهم، تم لما بلغه عجز صرق عن أهل طرابلس، جهّز إليها نائبها الأمير يونس بلطا فى طائفة كبيرة من العساكر، فسار إليها يونس ودخلها بعد أن هزم ابن المؤمنى، وركب البحر ومعه القاضى شرف الدين مسعود قاضى القضاة الشافعية بطرابلس، يريدان القاهرة بمن معهما، ونهب يونس أموال الناس كافّة بطرابلس، وفعل فى طرابلس وأهلها ما لا تفعله الكفرة، وقتل نحو العشرين رجلا من أعيان طرابلس وقضاتها وعلمائها منهم: الشيخ العالم المفتى جمال الدين بن النابلسى الشافعى. والخطيب شرف الدين محمود، والقاضى المحدّث شهاب الدين أحمد الأذرعى المالكىّ، وقاضى القضاة شهاب الدين الحنفىّ، والقاضى موفّق الدين الحنبلى، وقتل من عامة طرابلس ما يقارب الألف، وصادر الناس مصادرات كثيرة، وأخذ أموالهم وسى حريمهم،(12/191)
فكانت هذه الكائنة من أقبح الحوادث، وكانت فى الخامس عشر من شهر ربيع الأوّل المذكور.
وأمّا أمر الديار المصرية فإنه لمّا كان بعد الواقعة من الغد خلع السلطان على الأمير قرابغا مغرق «1» الظاهرى باستقراره فى ولاية القاهرة عوضا عن عيسى فلان بحكم عصيانه مع أيتمش، فمات من الغد من جرح كان أصابه فى الواقعة، واستقرّ فى ولاية القاهرة عوضه بلبان أحد المماليك الظاهريّة، فنزل بلبان المذكور بالخلعة إلى القاهرة فمرّ من باب زويلة يريد باب الفتوح، وعبر راكبا من باب الجامع الحاكى «2» وهو ينادى بالأمان، وإذا بالأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزين قد جاء من جهة باب النصر، وهو أيضا ينادى بين يديه باستقراره فى ولاية القاهرة، فتحيّرت المقدّمون والجبلية بينهما، وبينما هم فى ذلك وقد التقى بلبان مع ابن الزين فقال بلبان أنا ولّانى فلان، وقال ابن الزّين أنا ولّانى فلان، وإذا بالطواشى شاهين الحسنى قدم ومعه خلعة ابن الزين بولايته القاهرة، فبطل أمر بلبان، وتصرّف ابن الزين فى أمور الولاية ونادى بالكف عن النهب، وهدّد من ظفر به من النّهابة.
ثم فى سادس عشره عرض السلطان المماليك السلطانية، ففقد منهم مائة وثلاثون نفر قد انهزموا مع الأتابك أيتمش.
ثم قبض السلطان على الأمير بكتمر جلّق أحد أمراء الطبلخانات، وتنكزبغا الحططىّ أحد أمراء الطبلخانات أيضا ورأس نوبة، وقرمان المنجكى وكمشبغا الخضرى، وخضر بن عمر بن بكتمر الساقى، وعلى بن بلاط الفخرى، ومحمد بن(12/192)
يونس النوروزى وألجيبغا السلطانى وأرغون السيفى وأحمد بن أرغون شاه، والجميع من أصحاب أيتمش.
ثم رسم السلطان فكتب بإحضار الأمير سودون أمير أخور المعروف بسيدى سودون، والأمير تمراز الناصرى من سجن الإسكندرية، والأمير نوروز الحافظى الأمير أخور الكبير كان، من ثغردمياط وسارت القصّاد لإحضارهم، فوصلوا فى العشرين منه وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ونزلوا إلى دورهم.
وفى أوّل شهر ربيع الآخر استقرّ الأمير آقباى من حسين شاه الطّرنطائىّ حاجب الحجّاب عوضا عن الأمير فارس الأعرج، واستقرّ الأمير دقماق المحمدى المعزول عن نيابة ملطية باستقراره حاجبا ثانيا عوضا عن يعقوب شاه بحكم عصيانهما مع أيتمش.
ثم فى ثالثه خلع السلطان على كلّ من الأمير أسنبغا العلائى الدوادار والأمير قمارى الأسنبغاوى والى باب القلعة «1» ومنكلى بغا الصلاحى الدوادار وسودون المأمورى باستقرارهم حجّابا، واستقر تمربغا المحمدى نائب القلعة «2» .
وأما الأمير تنم فإنه لما جاءه خبر أيتمش ترك حصار حماة وعاد إلى دمشق ثم خرج إلى لقاء أيتمش وأصحابه فى خامس شهر ربيع الآخر إلى ظاهر دمشق.
فلمّا عاينهم ترجّل عن فرسه وسلّم عليهم وبالغ فى إكرامهم، وعاد بهم إلى دمشق وقدّم إليهم تقام جليلة، لاسيّما الوالد فإن تنم قام بخدمته زيادة عن الجميع، حتى يزول ما كان عنده حسب ما تقدّم ذكره وسببه أنه كان وعّر خاطر أستاذه الملك الظاهر برقوق عليه حتى عزله عن نيابة حلب، فأخذ تنم يعتذر إليه، ويتلطّف(12/193)
به حتى زال ما كان عنده من الكمائن القديمة، وصار من أعظم أصحابه، وحلّفه على موافقته وحلف له، ووعده بأمور كثيرة يستحيا من ذكرها.
ثم كتب الوالد إلى الأمير دمرداش المحمدى نائب حماة بالدخول فى طاعة تنم حسب ما يأتى ذكره.
ثم قدم على الأمير تنم كتاب الملك الناصر فرج يأمره بمسك الأتابك أيتمش وبمسك الوالد ومن قدم معهما، فأخذ تنم الكتاب وأتى به إلى أيتمش ورفقته، وقرأه عليهم بالقصر الأبلق «1» من الميدان، فضحك الوالد وقال له: امتثل مرسوم السلطان وافعل ما أمرك به فتبسّم تنم وقال له: بالله عليك زوّل ما عندك وطيّب قلبك، وقام وعانقه، ثم تكلّم تنم مع الأمراء فيما يفعله فى أمر دمرداش نائب حماة، فأشار الوالد بأنه يتوجّه إليه صحبة الأمير الكبير أيتمش، ثم يتوجّهان أيضا إلى نائب حلب يدعوانه إلى طاعة تنم وموافقته، فقال: هذا الذي كان خاطرى، فإن دمرداش لا يسمع لأحد غيرك، وخرجا بعد أيام إلى جهة حماة، فأجاب دمرداش بالسمع والطاعة، ودخل تحت طاعة تنم ووعد بالقيام بنصرته، ثم عاد الوالد وأيتمش إلى دمشق فسرّ تنم بذلك غاية السرور.
ثم قدم دمرداش بعد ذلك بأيام إلى دمشق، فخلع عليه تنم باستمراره على نيابة حماة، وأنعم عليه بأشياء كثيرة وتوجّه إلى حماة ثم أخذ الجميع فى التأهّب إلى قتال المصريين.
وأمّا ما وقع بالديار المصرية من الولايات والعزل، فإنه لمّا كان العشر الأخير من شهر ربيع الاخر، خلع السلطان على الأمير بيبرس الدوادار باستقراره أتابك(12/194)
العساكر بالديار المصرية عوضا عن الأمير أيتمش البجاسىّ، وأنعم عليه بإقطاعه إلا النّحريرية «1» ومنية بدران «2» وطوخ «3» الجبل، فغضب بيبرس بسبب ذلك فلم يلتفت إلى غضبه، وأنعم بإقطاع الوالد ووظيفته على نوروز الحافظى، وأنعم على تمراز الناصرىّ بإقطاع أرغون شاه أمير مجلس، وأنعم على سودون أمير آخور بإقطاع يعقوب شاه الحاجب، وأنعم بإقطاع بيبرس على بكتمر الرّكنى، وبإقطاع بكتمر على دقماق المحمدى نائب ملطية كان، وبإقطاع دقماق على جركس القاسمىّ المصارع، واستقرّ أمير طبلخاناه، وأنعم على كلّ من كزل الناصرى، وقمارى الأسنبغاوى، وشاهين من شيخ الإسلام، وشيخ السليمانىّ، وبشباى من باكى، وتمربغا الظاهرى، وجكم من عوض، وصوماى، وتمر الساقى، وإينال حطب، وقانى باى العلائىّ، وسودون المأمورىّ، وألطنبغا الخليلىّ ومجترك القاسمىّ، وكزل المحمدى، وبيغان الإينالى بإمرة عشرين، وأنعم على كلّ من أزبك الرمضانىّ وأسندمر العمرىّ وقرقماس السيفىّ ومنكلى بغا الصلاحى وآقبغا الجوجرى وطيبغا الطولوتمرى وقانى باى من باشاه ودمرداش الأحمدى وآقباى السلطانى وأرغون شاه الصلاحىّ ويونس العلائى وجمق ونكباى الأزدمرى وقانى بك الحسامى وبا يزيد من بابا وآقبغا المحمدى وسودون الشمسىّ وسودون البجاسىّ وتمراز من باكى وسودون النوروزىّ وأسنبغا المسافرى وقطلوبغا الحسنى وقطلقتمر المحمدىّ وسودون الحمصىّ وسودون القاسمىّ وأرزمك وأسنباى بإمرة عشرة، وحلفوا الجميع على طاعة السلطان، والسفر معه لقتال تنم.(12/195)
ولمّا بلغ المماليك السلطانية سفر السلطان إلى الشام امتنعوا وهدّدوا الامراء وأكثروا لهم من الوعيد، فخاف سودون طاز وتأخّر عن الخدمة السلطانية، ثم اتفقت المماليك المذكورة، وتوجّهوا إلى الأمير يشبك وهو متوعّك وحدّثوه فى أمر السفر، فاعتذر لهم بما هو فيه من الضعف، ثم وقع الخلف بين الأمير سودون قريب الملك الظاهر المعروف بسيّدى سودون وبين الأمير سودون طاز، وتسابا بسبب سكنى الإسطبل السلطانى بالحرّاقة، وعلى وظيفة الأمير أخورية وكادا يقتتلان، لولا فرق بينهما الأمير نوروز الحافظى.
ثم وقع أيضا بين الأمير سودون طاز المذكور وبين الأمير جركس القاسمى المصارع تنافس، وتقابضا بالأطواق، ولم يبق إلّا أن تثور الفتنة، حتى فرّق الأمراء بينهما، وصارت المملكة بأيدى هؤلاء الأمراء، وكلّ من أراد شيئا فعله، فصار الرجل يلى الوظيفة من سعى فلان، وينزل إلى داره فيعزل فى الحال بأمر غيره، وكلّ أحد يتعصّب لواحد، وكل منهم يروم الرتب العلية.
هذا ومثل تنم وأيتمش ورفقتهما فى طلبهم وفى القصد إلى الديار المصرية، ثم أخذ نوروز يسكّنهم عن إثارة الفتنة، ويخوّفهم عاقبة تنم، حتى عملوا مشورة بين يدى السلطان بسبب قتال تنم وغيره، فحضر جميع الأمراء ورتّبوا أمورا: منها إقامة نائب بالديار المصرية، وعيّنوا عدّة تشاريف.
فلمّا كان يوم الخميس ثانى عشر شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير سودون طاز باستقراره أمير أخورا كبيرا، عوضا عن سودون الطّيار، لتأخّره بدمشق عند تنم، وخلع على الأمير مبارك شاه باستقراره حاجبا ثالثا بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهذا بخلاف العادة.(12/196)
ثم خلع على بعض الأمراء واستقرّ حاجبا ثامنا، وهذا أيضا بخلاف العادة، لأن فى القديم كان بمصر ثلاثة حجّاب (أعنى بالقديم فى دولة الملك الناصر محمد ابن قلاوون) ثم لا زال الملك الظاهر برقوق يزيد الحجّاب حتى صار عدّتهم ستة، وذلك فى أواخر دولته، والآن صاروا ثمانية، وكان هذا أيضا مما عابه الأمير تنم على أمراء مصر فيما فعلوه.
قلت: والسّكات أجمل، فإنّ تلك الحجّاب الثمانية كان فيهم ثلاثة أمراء ألوف وثلاثة طبلخاناه، وأمّا يومنا هذا ففيه بمصر أزيد من عشرين حاجبا، ما فيهم أمير خمسة، بل الجميع أجناد، وفيهم من جنديّته غير كاملة، والحاجب الثانى أمير عشرة، فسبحان الحكيم الستّار.
ثم بعد أيام خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى باستقراره رأس نوبة الأمراء، وعلى الأمير تمراز باستقراره أمير مجلس، وعلى الأمير سيدى سودون باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن بيبرس، وكانت شاغرة منذ انتقل بيبرس عنها إلى الأتابكية.
وهذا كله بعد أن ورد الخبر على الملك الناصر بخروج الأمير تنم من دمشق يريد القاهرة، فعندئذ أمر السلطان بأن يخرج ثمانية أمراء من مقدّمى الألوف بألف وخمسمائة مملوك من المشتروات، وخمسمائة مملوك من مماليك الخدمة، وأن يخرجوا فى أول جمادى الآخرة، فمنهم من أجاب، ومنهم من قال: لا بدّ من سفر السلطان واختلف الرأى وانفضوا على غير شىء، ونفوسهم متغيّرة من بعضهم على بعض، كلّ ذلك والأمراء تكذّب خروج تنم من دمشق حتى علّق جاليش «1» السفر على(12/197)
الطبلخاناه السلطانية، ووقع الشروع فى النفقة للأمراء، فحمل إلى كل من الأمراء الأكابر مائة ألف درهم، ولمن دونهم كل واحد على قدر رتبته، وأنفق على ثلاثة آلاف مملوك وستمائة مملوك لكل واحد مائة دينار، فبلغت جميع النفقة نحو خمسمائة ألف دينار.
ثم خرجت مدوّرة «1» السلطان وخيامه، ونصبوا خارج القاهرة تجاه مسجد التبن «2» .
ثم خلع السلطان على الأمير بكتمر الركنى باستقراره أمير سلاح عوضا عن الوالد، وكانت شاغرة عنه منذ توجه مع أيتمش إلى الشام، وبينما السلطان فى ذلك قدم علاء الدين على بن المكلّلة والى منفلوط، وأخبر أن ألطنبغا نائب الوجه القبلى خرج هو ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الهوّارى عن الطاعة، وكبسا عثمان بن الأحدب، ففرّ ابن الأحدب إلى جهة منفلوط وتبعاه إليها وأخرباها، فرسم السلطان لكل من الأمير الكبير بيبرس والأمير إينال باى من قجماس وآقباى بن حسين شاه حاجب الحجّاب وسودون من زادة وإينال حطب رأس نوبة، وبيسق الشيخىّ الأمير أخور الثانى، وبهادر فطيس الأمير أخور الثالث أن يتوجّهوا إلى بلاد الصعيد لقتال ألطنبغا وابن عمر الهوّارى فلم يوافقوا على ذلك ولا سار أحد.(12/198)
ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ الأمير دمرداش المحمدى نائب حماة قدم على الأمير تنم بدمشق بعساكر حماة، وأن لأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب لمّا برز هو أيضا من حلب يريد المسير إلى دمشق ثار عليه جماعة من أمراء حلب وقاتلوه فكسّرهم، وقبض على جماعة منهم، ثم سار إلى دمشق فسرّ بقدومه تنم وأكرمه غاية الإكرام، وأنه قد خرج من دمشق من أصحاب تنم الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، والأمير يعقوب شاه، وفارس حاجب الحجّاب، وصرق وفرج بن منجك إلى غزّة، فعند ذلك خلع السلطان على الأمير عمر بن الطحّان حاجب غزّة باستقراره فى نيابة غزّة، وعلى سودون حاجبها الصغير باستقراره حاجب حجّاب غزّة عوضا عن ابن الطحان المذكور.
ثم قدم الخبر على السلطان بأن عساكر تنم خرجوا من دمشق فى يوم خامس عشرين جمادى الآخرة، فأمر السلطان الأمير سودون المأمورىّ الحاجب بالتوجّه إلى دمياط لينقل منها الأمير يلبغا الأحمدى المجنون الأستادار كان، والأمير تمربغا المنجكى، وطغنجى وبلاط السعدىّ، وقراكسك إلى سجن الإسكندرية.
هذا وقد تجهّزت العساكر المصرية للسفر صحبة السلطان لقتال تنم وتهيأ الجميع.
فلمّا كان يوم الاثنين رابع شهر رجب نزل السلطان الملك الناصر من القلعة إلى الرّيدانية «1» خارج القاهرة، وأصبح من الغد خلع على الأمير الكبير بيبرس باستقراره فى نظر البيمارستان المنصورى، وبنيابة الغيبة بالديار المصرية، وخلع على الأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة الأمراء باستقراره فى نظر الخانقاه الشيخونية، ثم أصبح من الغد سادس الشهر خلع السلطان على الأمير نوروز المذكور بتقدمة(12/199)
العساكر، ثم أنفق السلطان على جماعة من المماليك السلطانية بنحو خمسة وعشرين ألف دينار إنعاما.
وفى اليوم المذكور رحل جاليش «1» السلطان من الرّيدانيّة، وفيه من الأمراء نوروز الحافظىّ مقدّم العساكر وبكتمر الركنى المعروف بباطيا أمير سلاح، وتمراز الناصرى أمير مجلس، ويلبغا الناصرى، وسودون الدوادار المعروف بسيدى سودون، وشيخ المحمودى هو المؤيّد، ودقماق المحمدى الحاجب الثانى، والجميع مقدّمو ألوف.
ثم رحل السلطان بعدهم فى يوم الجمعة ثامنه ببقيّة العساكر، وعدّة ما سافر أوّلا وثانيا سبعة آلاف فارس، وهذا سوى من أقام بالقاهرة، وهم أيضا عدّة كبيرة من الأمراء والمماليك، فأمّا الأمراء فكان بالقاهرة بيبرس، وآقباى حاجب الحجّاب، وأقام بقلعة الجبل الأمير إينال باى من قجماس أحد مقدّمى الألوف، وإينال حطب رأس نوبة، وأقام بالإسطبل السلطانى «2» سودون من زادة، وبهادر؟؟؟ طيس وبيسق الشيخى أمير أخور ثانى، وأقام عند هؤلاء جماعة كبيرة من المماليك السلطانية.
وأما تنم فكان من خبره أنه قدم جماعة من أمرائه وعساكره إلى مدينة غزّة حسب ما ذكرناه، وهم: الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، وفارس حاجب(12/200)
الحجاب، ويعقوب شاه وصرق، والأمير فرج من منجك فتوجّهوا أمامه بعساكر كثيرة.
ثم قدم على تنم الأمير يونس بلطا نائب طرابلس بعساكرها وغيرهم، ومعه الأمير حمد بن يلبغا أمير مجلس كان، وكان قدم على تنم قبله نائب حلب الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، ونائب حماة الأمير دمرداش المحمدى، فخرج هؤلاء النوّاب أيضا أمام تم إلى جهة غزة، ثم تبعهم الأمير تنم ومعه الأتابك أيتمش والوالد وبقية عساكره، بعد أن جعل الأمير جركس المعروف بأبى تنم نائب الغيبة بدمشق، وعنده جماعة أخر من أعيان الأمراء، ثم خرج بعد الأمير تنم الأمير يونس بلطا نائب طرابلس، وسار تنم فى عساكر عظيمة إلى الغاية، وكان قبل سفره بدمشق منذ قدم عليه أمراء مصر يعمل كلّ يوم موكبا أعظم من الآخر، حتى قيل: إن موكبه كان يضاهى موكب أستاذه الملك الظاهر برقوق بل أعظم، وكان يركب بالدّفّ والشبّابة «1» والشعراء والجاويشية، ويركب فى خدمته من الأتابك أيتمش إلى من دونه من أمراء الألوف، وهم نحو خمسة وعشرين أميرا من أمراء الألوف، سوى أمراء الطبلخانات والعشرات، وذلك خارج عن التركمان والأعراب والعشير «2» ، وكانوا أيضا جمعا كبيرا إلى الغاية، وآخر موكب عمله بدمشق كان فيه عساكر دمشق بتمامها وكمالها، وعساكر حلب وطرابلس وحماة، وجماعة كبيرة من عظماء أمراء الديار المصرية (أعنى أيتمش ورفقته) ، وكان الجميع قد أذعنوا لتنم بالطاعة، حتى إنه لم يشكّ أحد فى سلطنته، حتى ولا أمراء مصر أخصامه، فإنهم كتبوا له فى الصلح غير مرة، وفى المستقبل أيضا حسب ما يأتى ذكره، وأنفق تنم فى العساكر من الأموال ما لا يحصى.(12/201)
وأمّا أمراء الديار المصرية فإنه لما سافر السلطان إلى جهة تنم بعساكره فى ثامن الشهر، قدم الخبر فى صبيحته على الأمير بيبرس وهو يوم السبت من البحيرة، بأن الأمير سودون المأمورىّ الحاجب أخذ الأمراء من ثغردمياط، وسار بهم نحو الإسكندرية، فلمّا وصل بهم إلى ديروط «1» لقيه الشيخ المعتقد عبد الرحمن ابن نفيس الدّيروطىّ وأضافه، فعندما قعد الأمير سودون المأمورىّ هو والأمراء للأكل قام يلبغا المجنون ووثب هو ورفقته من الأمراء على سودون المأمورىّ، وقبضوا عليه وعلى مماليكه وقيّدوهم بقيودهم، وبينما هم فى ذلك قدمت حرّاقة من القاهرة فيها الأمير كمشبغا المحضرى وإياس الكمشبغاوى وجقمق البجمقدار، وأمير آخر، والأربعة فى القيود، فدخلت الحرّاقة بهم إلى شاطئ ديروط ليقضوا حاجة لهم، فأحاط بهم يلبغا المجنون، وخلّص منهم الأربعة المقيّدين، وأخذهم إلى أصحابه.
ثم كتب يلبغا إلى نائب البحيرة بالحضور إليه، وأخذ خيول الطواحين، وركب هو ورفقته من الأمراء وسار بهم إلى مدينة دمنهور وطرقها بغتة، وقبض على متولّيها، وأتته العربان من كل فجّ حتى صار فى عدد كبير.
ثم نادى بإقليم البحيرة بحطّ الخراج عن أهلها عدّة سنين، وأخذ مال السلطان الذي استخرج من تروجة «2» وغيرها، وبعث يستدعى بالمال من النواحى، فراعاه الناس، فإنه كان ولى وظيفة الأستادارية سنين كثيرة، فكتب بيبرس بذلك يعرّف السلطان والأمراء، فوردت كتبهم إلى نائب الإسكندرية بالاحتراز على مدينة(12/202)
إسكندرية وعلى من عنده من الأمراء المسجونين، وكتب السلطان أيضا إلى أكابر العربان بالبحيرة بالإنكار عليهم، وبإمساك يلبغا المجنون ورفقته، وكتب السلطان أيضا للأمير بيبرس أن يتجرد هو وآقباى الحاجب وإينال باى بن قجماس ويسق أمير أخور، وإينال حطب رأس نوبة، وأربعمائة مملوك من المماليك السلطانية لقتال يلبغا المجنون، وكتب السلطان مثالا «1» إلى عربان البحيرة بحطّ الخراج عنهم مدّة ثلاث سنين.
وأما يلبغا المجنون فإنه عدّى من البحيرة إلى الغربيّة خوفا من عرب البحيرة، ودخل المحلّة «2» ، ونهب دار الكاشف، ودار إبراهيم بن بدوى كبيرها، وقبض عليه وأخذ منه ثلاثمائة ففّة فلوس، ثم عدّى بعد أيّام سمنّود إلى برّ أشموم طناح، وسار إلى الشرقيّة، ونزل على مشتول الطواحين «3» ، وسار منها إلى العبّاسة «4» ، فارتجّت القاهرة، وبعث الأمير بيبرس إلى برّ الجيزة حيث الخيول مربوطة به على الربيع، فأحضروها إلى القاهرة خوفا من يلبغا، لئلّا يطرقهم على حين غفلة، وبينما بيبرس فى ذلك ورد عليه الخبر بمخامرة كاشف الوجه القبلى مع العرب، فاضطرب بيبرس وخاف على القاهرة، وكان فيه لين جانب وانعكاف على اللهو والطرب، فشرع بيبرس فى استخدام الأجناد، وأراد بيبرس الخروج إلى يلبغا المجنون، فمنع، وخرج إليه الأمير آقباى الحاجب ويلبغا السالمى، وبيسق أمير أخور، ومحمد بن سنقر فى ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية كما سنذكره.(12/203)
وأما السلطان الملك الناصر فإنه لما سار بعساكره من الريدانية، واستقل بالمسير من يومه حتى نزل على منزلة تل العجول «1» خارج مدينة غزة فى ثامن عشر رجب، وأقام به يومه، فلم يلبث إلا وجاليش الأمير تنم طرقه، ومقدّم العسكر المذكور الولد، وصحبته من أكابر الأمراء والنوّاب: آقبغا الجمالى نائب حلب ودمرداش المحمدى نائب حماة، وألطنبغا العثمانى نائب صفد وجقمق الصفوى نائب ملطية، وجماعة أخرى من أكابر الأمراء وهم: أرغون شاه أمير مجلس وفارس الحاجب، وآقبغا الطولوتمرى اللّكّاش، ويعقوب شاه، وجماعة كبيرة من الأمراء والعساكر، فركبت العساكر المصرية فى الحال، وقاتلوهم من بكرة النهار إلى قريب الظهر، وكل من الفريقين يبذل جهده فى القتال، والحرب تشتدّ بينهم إلى أن خرج من جاليش عسكر تنم دمرداش المحمدى نائب حماة بمماليكه وطلبه، ثم تبعه ألطنبغا العثمانى نائب صفد بطلبه وعساكره، ثم صراى تمر الناصرى أتابك حلب بمماليكه، ثم جقمق الصّفوى نائب ملطية بطلبه ومماليكه، ثم فرج بن منجك أحد أمراء الألوف بطلبه ومماليكه، ثم تبعهم عدّة أمراء أحر، فعند ذلك انهزم الوالد بمن بقى معه إلى نحو الأمير تنم، وملك السلطان الملك الناصر مدينة غزّة، ونزل على مصطبة السلطان.
وأما تنم فإنه نزل بعساكره على مدينة الرّملة واجتمع عليه الوالد بها بمن بقى معه من العساكر الشامية، وقصّ عليه ما وقع من أمر القتال وهروب الأمراء من عسكره، فتأثّر تنم قليلا ثم أراد القبض على الأمير بتحاص، فمنعه بعض أصحابه من ذلك، ثم أخذ يتهيّأ لقتال المصريين، ولم يكترث بما وقع لجاليشه لكثرة عساكره، وقوّته بمن بقى معه من أكابر الأمراء وغيرهم.(12/204)
وأمّا العسكر السلطانىّ المصرىّ فإنهم لمّا دخلوا إلى غزّة بلغهم أنّ تنم إلى الآن لم يصل إلى الرّملة بعساكره، وإنما الذي قاتلهم هو جاليش عسكره، فكثر عند ذلك تخوّفهم منه، وداخلهم الرّعب، وعملوا بسبب ذلك مشورة، فاتفق الرأى أن يتكلّموا معه فى الصلح، وأرسلوا إليه من غزّة قاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعىّ، ومعه المعلّم نصر الدين محمد الرّماح أمير أخور، وطغاى تمر مقدّم البريديّة، فخرجوا الجميع من غزّة فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب، وكتب لتنم صحبتهم أمان من السلطان، وأنه باق على كفالته بدمشق إن أراد ذلك، وإلّا فيكون أتابك العساكر بمصر، وإليه تدبير ملك ابن أستاذه الملك الناصر فرج لا يشاركه فى ذلك أحد.
ثم كتب إليه أعيان الأمراء يقولون: أنت أبونا وأخونا وأستاذنا، فإن أردت الشام فهى لك، وإن أردت مصر كنّا مماليكك، وفى خدمتك، فصن دماء المسلمين ودع عساكر مصر فى قوّتها، فإنّ خلفنا مثل تيمورلنك، وأشياء كثيرة من أنواع التضرّع إليه، فسار إليه قاضى القضاة المذكور برفيقيه حتى وافاه بمدينة الرملة «1» وهو بمخيّمه على هيئة السلطان، والأتابك أيتمش عن يمينه والوالد عن يساره، وبقيّة الأمراء على منازلهم ميمنة وميسرة، فلمّا عاين تنم قاضى القضاة المذكور قام له واعتنقه، وأجلسه بجانبه فحدّثه قاضى القضاة المذكور فى الصلح، وأدّى له الأمان ووعظه، وحذّره الشّقاق والخروج عن الطاعة، ثم كلّمه ناصر الدين الرّماح وطغاى تمر بمثل ذلك، وترّفقا له عن لسان الأمراء، وأن السلطان هو ابن الملك الظاهر برقوق، ليس له من يقوم بنصرته غيرك، فقال تنم: أنا مالى مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلى يشبك وسودون طاز وجركس المصارع، وعدّد جماعة أخر كثيرة،(12/205)
ويعود الأمير الكبير أيتمش وجميع رفقته على ما كانوا عليه أوّلا، فإن فعلوا ذلك وإلّا فما بينى وبينهم إلا السيف، وصمّم على ذلك، فراجعه قاضى القضاة غير مرّة فيما يريده غير ذلك، فأبى إلّا ما قاله، فعند ذلك قام القاضى من عنده، فخرج معه تنم إلى ظاهر مخيّمه يوادعه، فلمّا قدم صدر الدين المناوى على الملك الناصر وأعاد عليه الجواب قال: السلطان: أنا ما أسلّم لالاتى لأحد (يعنى عن يشبك الشعبانى) ، وانفضّ الأمراء، وقد أجمعوا على قتاله، وركب تنم بعساكره من مدينة الرملة يريد جهة غزّة، وركب السلطان بعساكره من غزّة يريد الرملة. إلى أن أشرف على الجيتين «1» قريب الظهر، فعاين تنم وقد عبّأ عساكره، وهم نحو الخمسة آلاف فارس، ونحو ستة آلاف راجل، وصفّ الأطلاب فعبّأ أيضا الأمراء عسكر السلطان ميمنة وميسرة، وقلبا فى قلب فى قلب، ولكل جماعة «2» رديف، وكان ذلك تعبئة ناصر الدين المعلّم أخذت أنا هذه التعبئة عن الأتابك آقبغا التمرازى عنه، انتهى.
ثم تقدّم العسكران وتصادما فلم يكن إلا أسرع وقت، وكانت الكسرة على تنم، وانهام غالب عسكره من غير قتال، خذلان من الله تعالى، لأنه تقنطر عن فرسه فى أوائل الحرب، فانكسرت عساكره لتقنطره فى الحال ولوقوعه فى الأسر، وقبض عليه وعلى جماعة كبيرة من أعيان أصحابه من أكابر الأمراء والنوّاب، ولقد سألت جماعة من أعيان مماليك تنم ممن كان معه فى الوقعة المذكورة عن سبب تقنطره، فإنه لم يطعنه أحد من العسكر السلطانىّ، فقالوا: كان فى فرسه الذي ركبه شؤم. إما شعر رسل «3» أو تحجيل «4» ، منتهى الوهم متى، قالوا: فكلّمناه فى ذلك ونهيناه عن ركوبه فأبى(12/206)
إلا ركوبه، وقال: ما خبأته إلا لهذا اليوم، فحالما علا ظهره وحرّكه لينظر حال عسكره ووغل فى القوم تقنطر به، وقد كرّت عساكره إلى نحوه، ولم يلحقه أحد من مماليكه، فظفر به، ولما قبض على تنم قبض معه بعد هزيمة عسكره على الأمير آقبغا الجمالى نائب حلب، ويونس بلطا نائب طرابلس، وأحمد بن الشيخ على نائب صفد كان، وجلبان قراسقل نائب حلب كان، وفارس حاجب الحجاب، وبيغوت وبيرم رأس نوبة أيتمش، وشادى خجا، ومن الطبلخانات والعشرات من أمراء مصر والشام ما ينيف على مائة أمير، وفرّ الأتابك أيتمش والوالد، وأحمد بن يلبغا أمير مجلس كان، وأرغون شاه أمير مجلس، ويعقوب شاه وآقبغا اللّكّاش، وبيخجا المدعو طيغور نائب غزّة كان، وجماعة أخر فى نحو ثلاثة آلاف مملوك، وتوجّهوا إلى دمشق.
ولمّا قبض على تنم أنزل فى خيمة وقيّد، ثم شكا العطش وطلب ماء ليشربه، فقام الأمير قطلوبغا الحسنى الكركى وهو يوم ذلك أحد أمراء الطبلخانات وشادّ الشراب خاناه السلطانية، وتناول الكوز وأخذ ششنة «1» على عادة الملوك، ثم سقاه لتنم، وكان لما أمسك تنم ادّعى مملوك من الظاهرية أنه قنطر تنم عن فرسه، وطلب إمرة عشرة، فلمّا بلغ ذلك تنم قال: اطلبوه إلى عندى، فأحضروه، فنظر إليه طويلا ثم قال له: أنت تستأهل إمرة عشرة وغيرها بدون ذلك، إلا أنّ الكذب قبيح، هذا قرقلى «2» إلى الآن علىّ، أين المكان الذي طعنتنى فيه برمحك، أنا ما رمانى إلا الله تعالى، ثم فرسى الأشقر.(12/207)
وعندما أمسك تنم كتبت البشائر إلى الديار المصرية والبلاد الشاميّة بذلك، ودقّت البشائر، وسار أيتمش ورفقته إلى نحو دمشق حتى وصلوها، فأراد الوالد ويعقوب شاه وجماعة أن يتوجّهوا إلى بلاد التّركمان، حتى يأتيهم أمان من السلطان، وأشاروا على أيتمش بذلك، فامتنع أيتمش من ذلك، وأبى إلّا دخول دمشق، فحال دخولهم إليها وهم فى أشدّ ما يكون من النعب، وقد كلّت خيولهم، ثار عليهم أمراء دمشق، وقبضوا على أيتمش والوالد، وآقبغا اللّكّاش وأحمد بن يلبغا النابلسى، وحبسوا بدار السعادة، وفرّ من بقى، ثم أمسك بعد يومين أرغون شاه ويعقوب شاه، وتتبّع أمراء دمشق بقيّة أصحاب تنم من كلّ مكان حتى قبضوا على جماعة كبيرة منهم.
وأمّا يلبغا المحنون فإنه لمّا خرج إليه العسكر من مصر مع آقباى الحاجب، سار آقباى إلى العبّاسة «1» فلم يقف ليلبغا المجنون على خبر، فقيل له إنه سار إلى قطيا «2» ، فنزل آقباى بالعساكر على الصالحية «3» فلم يروا له أثرا، فعادوا إلى القاهرة من غير حرب، وسار ابن سنقر وبيسق نحو بلاد السباخ فلم يجدا أحدا، فعادا إلى عيتا «4» فى يوم الجمعة وأقاما بها، فلم يشعرا إلّا ويلبغا المجنون قد طرقهما وقبض عليهما، وأخذ خطّهما بجملة من المال، فارتجّت القاهرة لذلك، ثم سار يلبغا بعد(12/208)
أيام، حتى نزل البئر «1» البيضاء، فبعث له بيبرس أمانا، فقبض على من حضر من عند بيبرس وطوّقه من الحديد، فاستعدّ الناس تلك الليلة بالقاهرة لقتاله، وباتوا على أهبة اللقاء، وركب الأمراء بأسرهم من الغد إلى قبّة النصر «2» خارج القاهرة، وصفّوا عسكرهم من الغد، وبعد ساعة أقبل يلبغا المجنون بجموعه فواقعهم عند بساتين المطرية «3» ومعه نحو ثلاثمائة فارس، فيهم واحد من مماليك الوالد يسمى كزل بغا، وصدمهم بمن معه، وقصد القلب، وكان فيه سودون من زادة، وإينال حطب، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية، فأطبق عليه الأمير بيبرس من الميمنة، ومعه يلبغا السّالمىّ الأستادار، وساعدهما إينال باى من قجماس بمن معه من الميسرة، فنقنطر سودون من زادة، وخرق يلبغا المجنون القلب فى عشرين فارسا، وسار إلى الجبل الأحمر، وانكسر سائر من كان معه من الأمراء وغيرهم، فتبعهم العسكر وفى ظنّهم أن يلبغا المجنون فيهم، فأدركوا الأمير تمربغا المنجكى بالزيّات «4» ، وقبضوا عليه، وأخذ طلب يلبغا المجنون من عند خليج الزّعفران فوجدوا فيه ابن سنقر وبيسق الشيخى أمير آخور اللذين كان قبض عليهما يلبغا المجنون بالبئر البيضاء، فأطلقوهما، وعاد العسكر إلى تحت قلعة الجبل، وسار يلبغا المجنون فى عشرين فارسا مع ذيل الجبل إلى تجاه دار الضيافة، فلمّا رأى كثرة من اجتمع من العامّة خاف منهم أن(12/209)
يرجموه، فقال لهم: أنتم ترجمونى بالحجارة وأنا أرجمكم بالذهب، فدعوا له وتركوه فسار من خلف القلعة ومضى إلى جهة الصعيد من غير أن يعرّف الأمراء، وتوجّه فى نحو المائة فارس، وأخذ خيل والى الفيّوم «1» ، وانضمّ عليه جماعة من العربان.
وأمّا السلطان الملك الناصر فإنه لمّا كسر تنم وقبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وقيّدهم، أرسل فى الحال سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى الشام لتحصيل الإقامات «2» ، ثم ندب السلطان الأمير جكم من عوض رأس نوبة للتوجه إلى دمشق لتقييد الأمير أيتمش ورفقته وإيداعهم بسجن قلعة دمشق، ثم خلع السلطان على الأمير سودون الدوادار المعروف بسيّدى سودون، باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير تنم الحسنىّ، فسار جكم وفعل ما أمر به، ثم دخل بعده سودون نائب الشام إليها فى ليلة الاثنين ثانى شعبان ومعه الأمير تنم نائب الشام وعشرة أمراء فى القيود، فحبس الجميع بقلعة دمشق، ثم دخل السلطان الملك الناصر بعساكره وأمرائه إلى دمشق من الغد فى يوم الاثنين ثانى شعبان المذكور، فكان لدخوله يوم مشهود، وأوقع ابن غراب الحوطة على حواشى تنم، وعلى الأمير علاء الدين بن الطبلاوى.
ثم أصبح السلطان من الغد وخلع على سيّدى سودون بنيابة الشام ثانيا، وعلى الأمير دمرداش المحمّدى نائب حماة باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن آقبغا الجمالى الأطروش، وعلى الأمير شيخ المحمودى المؤيّد باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن يونس «3» بلطا، وعلى الأمير دقماق المحمدى باستقراره(12/210)
فى نيابة حماة عوضا عن دمرداش المحمدى، وعلى الأمير ألطنبغا العثمانى باستمراره على نيابة صفد، وعلى الأمير جنتمر التركمانى نائب حمص بنيابة بعلبك، وعلى الأمير بشباى من باكى باستقراره حاجب حجّاب دمشق عوضا عن بيخجا المدعوّ طيفور.
واستمرّ السلطان بعساكره فى دمشق إلى ليلة الأحد رابع عشر شعبان، فاتّفقت الأمراء المصريون على قتل جماعة من المقبوض عليهم، فذبح فى الليلة المذكورة الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، وجلبان الكمشبغاوى المعروف بقراسقل نائب حلب كان، فى دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، وأرغون شاه البيدمرى الظاهرىّ أمير مجلس كان، وأحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس كان، وابن أستاذ الملك الظاهر برقوق، وآقبغا الطّولوتمرى الظاهرى اللّكّاش أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وأمير مجلس، وفارس الأعرج حاجب الحجّاب بالديار المصرية، وكان من الشجعان، وفيه يقول الشيخ المقرئ الأديب شهاب الدين أحمد الأوحدى: [الرجز]
يا دهر كم تفنى الكرام عامدا ... هل أنت سبع للورى ممارس
أيتمش ربّ العلا صرعته ... ورحت للندب الهمام فارس
والأمير يعقوب شاه الظاهرى الحاجب الثانى، وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وبيخجا المدعو طيفور نائب غزّة كان، ثم حاجب حجّاب دمشق، والأمير بيغوت اليحياوى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات، والأمير مبارك المجنون والأمير بهادر العثمانى الظاهرى نائب البيرة، وجميع من قتل من هؤلاء المذكورين من عظماء مماليك الملك الظاهر برقوق، قتلتهم خجداشيّتهم بذنب واحد لأجل الرياسة، ولم يكن فيهم غير ظاهرىّ إلّا الأتابك أيتمش، وهو أيضا ممن أقامه الملك الظاهر برقوق وأنشأه، بل كان اشتراه أيضا فى سلطنته الأولى حسب ما ذكرناه، وكان عند الظاهر بمنزلة عظيمة لسلامة باطنه، ولين جانبه وشيخوخته، فإنه كان(12/211)
بمعزل عن إثارة الفتن، ويكفيك أن منطاشا لمّا ملك الديار المصريّة بعد خلع الظاهر برقوق، والقبض على الناصرىّ قتل غالب حواشى الملك الظاهر برقوق، وكان أيتمش فى حبسه بقلعة دمشق وهو أتابك العساكر وعظيم دولة برقوق، فلم يتعرّض إليه بسوء، لكونه كان مكفوفا عن الشرور والفتن، إلا هؤلاء القوم، فإنهم لمّا ظفروا بتنم وأصحابه لم يرحموا كبيرا لكبره ولا صغيرا لصغره، ولهذا سلّط الله تعالى بعضهم على بعض، إلى أن تفانوا جميعا.
ثم جهّزوا رأس الأتابك أيتمش المذكور، ورأس فارس الحاجب لا غير إلى الديار المصرية، فعلّقتا بباب قلعة الجبل، ثم بباب زويلة أيّاما ثم سلّمتا إلى أهلهما.
ثم خلع السلطان الملك الناصر على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن سيّدى سودون المنتقل إلى نيابة الشام، واستمر السلطان بدمشق إلى ليلة الخميس رابع شهر رمضان، فقتل فى الليلة المذكورة الأمير تنم الحسنى نائب الشام بمحبسه بقلعة دمشق، وقتل معه الأمير يونس بلطا نائب طرابلس أيضا، خنقا بعد أن استصفيت أموالهما بالعقوبة، ثم سلّما إلى أهلهما، فدفن تنم بتربته التى أنشأها عند ميدان الحصى خارج دمشق، وكان تنم المذكور- رحمه الله- من محاسن الدنيا، وكانت مدة ولايته على دمشق سبع سنين وستة أشهر ونصفا. ولقد أخبرنى بعض مماليك الوالد- رحمه الله- قال: لما حصر تيمورلنك العساكر المصرية بدمشق، كان الوالد يوم ذلك متولّى ثيابة دمشق، وكان مقيما على بعض أبواب دمشق لحفظها، وكان نوروز الحافظىّ على باب آخر، فركب نوروز الحافظى فى بعض الأيام، وأتى الوالد ووقف يحادثه، فكان من جملة كلامه للوالد، يا فلان، انظر عساكر هذا اللعين ما أكثرها، والله لو عاش أستاذنا لما قدر عليه لكثرة عساكره، فتبسّم الوالد وخاشنه فى اللفظ يمازحه، وقال له:(12/212)
والله لو كان تنم حيّا للقيه من الفرات وهزمه أقبح هزيمة، وإنما عساكرنا الآن مفلولة، وآراؤهم مختلفة، وليس فيهم من يرجع إلى كلامه، فلهذا كان ما ترى. انتهى.
ثم دفن يونس بلطا بصالحية «1» دمشق، وكان أيضا ولى نيابة طرابلس نحو ست سنين، ثم قتل جميع من كان من أصحاب أيتمش وتنم، ولم يبق منهم إلا آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب، والوالد أبقى لشفاعة أخته خوند شيرين أم السلطان الملك الناصر فرج فيه، فإنها كانت ألزمت الأمير نوروز الحافظى والأمير يشبك الشعبانىّ بالوالد وحرّضتهما على بقائه، وكان لها يوم ذلك جاه كبير لسلطنة ولدها الملك الناصر، ثم أوصت ولدها الملك الناصر أيضا به، فزاد ذلك فسحة الأجل فأبقى، وأما آقبقا الأطروش فإنه بذل فى إبقائه مالا كبيرا للأمراء فأبقى.
ثم خلع السلطان على الأمير بتخاص السّودونى باستقراره فى نيابة الكرك عوضا عن سودون الظريف.
ثم خرج السلطان بعساكره وأمرائه من مدينة دمشق فى يوم رابع شهر رمضان صبيحة قتل تنم ويونس يريد الديار المصريّة، وسار حتى نزل غزّة فى ثانى عشر شهر رمضان المذكور، وقتل بغزّة علاء الدين على بن الطبلاوى أحد أصحاب تنم، ثم خرج من غزّة وسار يريد القاهرة حتى وصلها فى سادس عشرين رمضان من سنة اثنتين وثمانمائة، بعد أن زيّنت القاهرة، وفرشت له الشّقاق الحرير من تربة الأمير يونس الدوادار بالصحراء إلى قلعة الجبل، وكان يوم دخوله إلى مصر من الأيام المشهودة، وطلع إلى القلعة وكثرت التهانى بها لمجيئه.(12/213)
ثم فى ثامن عشرينه أنعم السلطان على الأمير قصلوبغا الكركى الحسنى الظاهرى بإقطاع سيّدى سودون نائب الشام وأنعم على الأمير آقباى الكركى الخازندار بإقطاع شيخ المحمودى المنتقل إلى نيابة طرابلس، وأنعم على الأمير جركس القاسمى المصارع بإقطاع مبارك شاه، وأنعم على الأمير جكم من عوض بإقطاع دقماق المحمدى نائب حماة، والجميع تقادم ألوف، وأنعم السلطان على الأمير الطواشى مقبل الزمّام بإقطاع الطواشى بهادر الشّهابى «1» مقدّم المماليك بعد موته، وأنعم بإقطاع مقبل على الطواشى صواب السعدى المعروف بشنكل، وقد استقرّ مقدّم المماليك بعد موت بهادر المذكور، وأنعم بإقطاع صواب المذكور على الطواشى شاهين الألجائى نائب مقدّم المماليك.
ثم قدم على السلطان مملوك الأمير يلبغا المجنون من بلاد الصعيد بكتاب يلبغا المجنون يسأل فى نيابة الوجه القبلى، فرسم السلطان أن يخرج إليه تجريدة من الأمراء وهم: الأمير نوروز الحافظىّ وهو مقدم العسكر المذكور، وبكتمر أمير سلاح، وآقباى الحاجب، وتمراز أمير مجلس، ويلبغا الناصرى، وإينال باى بن قجماس، وأسنبغا الدوادار، وتتمّة ثمانية عشر أميرا، وخرجوا من القاهرة فى ثالث عشر شوّال ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية.
وفى صبيحة يوم خروج العسكر، ورد الخبر على السلطان بأن الأمير محمد بن عمر ابن عبد العزيز الهوّارى حارب يلبغا المجنون، وأنه قبض على أمير على دواداره، وعلى نائب الوجه البحرى، وعلى الأمير إياس الكمشبغاوى الخاصكى، وعلى جماعة من أصحابه، وأن يلبغا المجنون فرّ بعد أن انهزم ونزل إلى البحر بفرسه فغرق، وأنه أخرج من النيل ميتا، فوجدوه قد أكل السمك لحم وجهه، فسر السلطان والأمراء بذلك، وخرج البريد فى الوقت بعود الأمراء المجرّدين إلى القاهرة.(12/214)
ثم فى ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بيسق الشّيخى أمير آخور الثانى بالمحمل، وكان تكلم الناس بعدم سفر الحاج فى هذه السنة ولم يكن لذلك أصل.
ثم ابتدأت الفتنة بين الأمير يشبك الشعبانى الدوادار وبين الأمير سودون من على بك المعروف بطاز الأمير آخور الكبير؛ ووقع بينهما أمور.
فلما كان يوم ثامن عشرين شوّال المذكور منع جميع مباشرى الدولة بديار مصر من النزول إلى بيت الأمير يشبك الدوادار، وذلك أن المباشرين بأجمعهم الكبير منهم والصغير كانوا ينزلون فى خدمة يشبك منذ قدم السلطان من دمشق، فعظم ذلك على سودون طاز، وتفاوض معه فى مجلس السلطان فى كفّه عن ذلك، حتى أذعن يشبك فمنعوا، ثم نزلوا إليه على عادتهم، وصاروا جميعا يجلسون عنده من غير أن يقفوا، وكانوا من قبل يقفون على أقدامهم.
ثم فى ثانى ذى القعدة ورد الخبر على السلطان من حلب بواقعة الامير دمرداش المحمدى نائب حلب مع السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد والعراق.
وخبره أن القان غياث الدين أحمد بن أويس المذكور لما ملك بغداد بعد حضوره إلى الديار المصرية حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية، فأخذ السلطان أحمد المذكور يسير مع أمرائه ورعيته سيرة سيئة، فركبوا عليه وقاتلوه، وكاتبوا صاحب شيراز «1» فى القدوم عليهم لأخذ بغداد، وخرج ابن أويس منهزما إلى الأمير قرا يوسف يستنجده، فركب معه قرا يوسف وسار إلى بغداد، فخرج إليهما أهل بغداد، وقاتلوهما وكسروهما بعد حروب طويلة، فانهزما إلى شاطئ الفرات، وبعثا يسألان الأمير دمرداش نائب حلب فى نزولهما ببلاد الشام،(12/215)
ففى الحال استدعى دمرداش دقماق نائب حماة بعساكره إلى حلب فقدم عليه، وخرجا معا فى عسكر كبير وكبسا ابن أويس وقرا يوسف، وهما فى نحو سبعة آلاف فارس، فاقتتلا قتالا شديدا فى يوم الجمعة رابع عشرين شوّال، قتل فيه الأمير جانيبك اليحياوى أتابك حلب، وأسر دقماق المحمدى نائب حماة، وانهزم دمرداش المحمدى نائب حلب، وفرّ فيمن بقى من عسكره إلى حلب، ثم لحقه دقماق بعد أن فدى نفسه بمائة ألف درهم، وحضر الوقعة الأمير سودون من زاده المتوجه بالبشارة إلى البلاد الشامية بسلامة السلطان، وقدم مع ذلك كتب ابن أويس وقرا يوسف على السلطان تتضمن: إنا لم نجئ محاربين، وإنما جئنا مستجيرين مستنجدين بسلطان مصر، على عوائد فضل أبيه الملك الظاهر- رحمه الله- فحاربنا هؤلاء بغتة، فدافعنا عن أنفسنا وإلا كنا هلكنا، فلم يلتفت أهل الدولة إلى كتبهما، وكتبوا إلى نائب الشام بمسيره بعساكر الشام وقتال ابن أويس وقرا يوسف والقبض عليهما وإرسالهما إلى مصر.
هذا وخوند شيرين والدة الملك الناصر فرج مستمرّة السعى فى الإفراج عن الوالد من سجنه بقلعة دمشق، إلى أن أجاب الأمراء إلى ذلك وكتب بالإفراج عنه وعن الأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب فى يوم عرفة من محبسهما بقلعة دمشق، وحملا إلى القدس بطالين بها.
وبينما القوم فى انتظار ما يرد عليهم من أمر السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف، قدم عليهم الخبر من حلب بنزول تيمور لنك على مدينة سيواس «1» ، وأنه حارب سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فانهزم سليمان المذكور إلى أبيه بمدينة برصا «2» ، ومعه قرا يوسف، وأخذ تيمور سيواس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة.(12/216)
ثم وصلت بعد قليل رسل ابن عثمان إلى الديار المصرية وكتابه يتضمّن اجتماع الكلمة وأن يكون مع السلطان عونا على قتال هذه الطاغية تيمورلنك، ليستريح الإسلام والمسلمون منه، وأخذ يتخضّع ويلحّ فى كتابه على اجتماع الكلمة، فلم يلتفت أحد إلى كلامه، وقالت أمراء مصر يوم ذاك الآن صار صاحبنا، وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب، يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا، وكتب له عن السلطان بمعنى هذا اللفظ، وكان ما قاله أبو يزيد بن عثمان من أكبر المصالح، فانه حدّثنى فيما بعد الأمير أسنباى الظاهرى الزردكاش «1» ، وكان أسره تيمور وحظى عنده وجعله زردكاشه، قال: قال لى تيمورلنك ما معناه: إنه لقى فى عمره عساكر كثيرة وحاربها، لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أن عسكر مصر كان عسكرا عظيما ليس له من يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج، وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب، وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أنه كان أبو يزيد صاحب رأى وتدبير وإقدام، لكنه لم يكن له من العساكر من يقوم بنصرته.
قلت: ولهذا قلت إن المصلحة كانت تقتضى الصلح مع أبى يزيد بن عثمان المذكور، فإنه كان يصيّر للعساكر المصرية من يدبّرها، ويصيّر لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عونا، فكان تيمور لا يقوى [على] مدافعتهم، فإن كلا من العسكرين كان يقوى دفعه لولا ما ذكرناه، فما شاء الله كان.
وبعد أن كتب لابن عثمان بذلك لم يتأهب أحد من المصريين لقتال تيمور، ولا التفت إلى ذلك، بل كان جل قصد كل أحد منهم ما يوصله إلى سلطنة مصر(12/217)
وإبعاد غيره عنها، ويدع الدنيا تنقلب ظهرا لبطن، فإنه مع ورود هذا الخبر المزعج بلغ السلطان والأمراء أن الأمير قانى باى العلائى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة يريد إثارة فتنه، فطلبه السلطان وأمره بلبس التشريف بنيابة غزة، فامتنع من لبسه، فأمر السلطان به فقبض عليه وسلم للأمير آقباى الحاجب، فأخذه ونزل إلى داره وأقام عنده إلى آخر النهار، فاجتمع عليه طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه من آقباى الحاجب غصبا، فخاف آقباى وطلع به إلى القلعة، فطلب السلطان الأمراء وتشاوروا على قتله «1» ، فاتفقوا على إبقائه فى إمرته ووظيفته.
[ما وقع من الحوادث سنة 803]
ثم فى خامس عشرين المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة ورد البريد على السلطان من حلب بأخذ تيمور ملطية، ثم وصل من الغد البريد أيضا بوصول أوائل عسكر تيمور لنك إلى مدينة عينتاب، وفى الكتاب: أدركوا المسلمين وإلا هلكوا، فاستدعى السلطان بعد يومين الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة، وعلموا أن تيمور لنك وصلت مقدّمته إلى مرعش وعينتاب، وكان القصد بهذا الجمع أخذ مال التجار إعانة على النفقة فى العساكر، فقال القضاة: أنتم أصحاب الأمر والنهى وليس لكم فيه معارض، وإن كان القصد الفتوى فى ذلك فلا يجوز أخذ مال أحد يخاف على العساكر من الدعاء، فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف من البلاد، نقطعها للأجناد البطّالين، فإن الأجناد «2» قلّت لكثرة الأوقاف، فقال القضاة: وما قدر ذلك؟
ومتى عمدتم على البطّالين فى الحرب، خيف أن يؤخذ الإسلام، وطال الكلام فى ذلك حتى استقر الرأى على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمور لنك، وسار أسنبغا فى خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد، ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء.(12/218)
هذا وأهل البلاد الشامية فى أمر لا يعلمه إلا الله تعالى، مما داخلهم من الرعب والخوف، وقصد كل واحد أن يرحل من بلده، فمنعه من ذلك حاكم بلده، ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم.
ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدى، وصحبته أيضا كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا «1» ، بعد ما ملك مدينتها، وأنه مستمر على حصارها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب «2» ، ووصل هذا الخبر إلى مصر رابع عشرين صفر المذكور، فوقع الشروع عند ذلك فى حركة سفر السلطان، ثم علق جاليش السفر فى يوم ثالث شهر ربيع الأوّل، وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق فى سابع صفر، فقرأ كتاب السلطان فى الجامع «3» الأموى، وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور، وقدم فى تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء، بأنه قدم فى عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة «4» ، ثم عاد إلى الهند، فبلغه موت الملك الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج «5»(12/219)
ثم قصد الروم «1» لمّا بلغه قلّة أدب هذا الصبىّ سليمان بن أبى يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه، فتوجه إليه وفعل بسيواس «2» وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم، ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه فى الخطبة، ثم يرجع، وطلب فى الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه، فى دولة الملك الظاهر برقوق، وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين فى ذمتكم، فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه، وأمر بالرسول فوسّط.
وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة؛ فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب، فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر فى ثالث شهر ربيع الأول؛ وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة «3» ظاهر حلب، وقد اجتمع بحلب سائر نوّاب البلاد الشامية، واستحثّ فى خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية، وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمور لنك فى سبعمائة فارس، والتتار فى نحو ثلاثة آلاف فارس، وترامى الجمعان بالنشاب ثم اقتتلوا ساعة، وأخذ شيخ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه، فوسّط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب، وكان الذي اجتمع بها الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها،(12/220)
ونائب طرابلس شيخ المحمودى المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجّالتها، ونائب حماة دقماق المحمدى بعساكر حماة وعربانها، ونائب صفد ألطنبغا العثمانى بعساكر صفد وعشيرها، ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة، غير أن الكلمة متفرّقة، والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان. انتهى.
وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب، ويأمره بمسك سودون نائب الشام، فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه، فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب، فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام، وقال لدمرداش:
إن الأمير (يعنى تيمور) لم يأت البلاد إلا بمكاتباتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش لمّا سمع منه هذا الكلام، وقام إليه وضربه، ثم أمر به، فضربت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمور لنك ودهائه ومكره ليفرّق بذلك بين العساكر، فعلم الأمراء ذلك، ولم يقع ما قصده، ومن الحليين جماعة يقولون إلى الآن:
إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال. والله أعلم بصحّة ذلك.
ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور، وتهيّأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره، لعلمهم بعدم رأى مدبّرى مملكة مصر من الأمراء، ولصغر سن السلطان، وقد فات الأمر وهم فى قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه، وكان الاليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس، كما فعل الملك الظاهر برقوق- رحمه الله- فبما تقدّم ذكره.(12/221)
وبينما النواب فى إصلاح شأنهم للقتال، نزل تيمور بعساكره على قرية جيلان «1» ، خارج حلب فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل وأحاط بمدينة حلب، وأصبح من الغد فى يوم الجمعة، زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها، فكانت بين أهل حلب وبينه فى هذين اليومين حروب كثيرة، ومناوشات بالنشّاب والنّفوط والمكاحل، وركب اهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشدّ قتال، فلما اشرقت الشمس يوم السبت حادى عشره خرج نوّاب الشام بجميع عساكرها، وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب، وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور، ووقف سيّدى سودون نائب دمشق بمماليكه، وعساكر دمشق فى الميمنة، ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه، وعساكر حلب فى الميسرة، ووقف بقية النواب فى القلب، وقدّموا أمامهم أهل حلب المشاة، فكانت هذه التعبئة من أيشم «2» التعابئ، هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبئة العساكر، وحال وقوف الجميع فى منازلهم زحف تيمور بجيوش قد سدّت الفضاء، وصدم عساكر حلب صدمة هائلة فالتقاه النوّاب وثبتوا لصدمته أوّلا، ثم انكسرت الميسرة، وثبت سودون نائب الشام فى الميمنة، وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالا عظيما، وبرز الأمير عزّ الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفى وولده يشبك بن أزدمر فى عدّة من الفرسان وقد بذلوا نفوسهم فى سبيل الله، وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وظهر عن(12/222)
أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعلّه يذكر إلى يوم القيامة، ولم يزل أزدمر يقتحم القوم ويكرّ فيهم إلى أن قتل وفقد خبره فإنه لم يقتل إلّا وهو فى قلب العدوّ، وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته، وصار فى رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره، سوى ما فى بدنه.
ثم أخذ وحمل إلى بين يدى تيمور، فلمّا رأى تيمور ما به من الجراح تعجّب من إقدامه وثباته غاية العجب، وأمر بمداواته، فيما قيل؛ ولم تمض غير ساعة حتى ولّت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب، وركب أصحاب تيمور أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور، حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك فى دخولهم إلى أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضا، حتى صارت الرّمم طول قامة، والناس تمشى من فوقها، وقصد نوّاب المماليك الشامية قلعة «1» حلب وطلعوا إليها، فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب.
هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب فى الحال، وأشعلوا فيها النّيران وأخذوا فى الأسر والنهب والقتل، فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع «2» حلب وبقية المساجد، فمال أصحاب تيمور عليهن، وربطوهن بالحبال أسرى، ثم وضعوا السيف فى الأطفال، فقتلوهم بأسرهم، وشرعوا فى تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصار الأبكار تفتضّ من غير تستّر، والمخدّرات يفسق فيهنّ من غير احتشام، بل(12/223)
يأخذ التّترى الواحدة ويعلوها فى المسجد والجامع بحضرة الجمّ الغفير من أصحابه ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلّة مقدرته، ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب، ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهى مكشوفة العورة.
ثم بذلوا السيف فى عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى، وجافت حلب، واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل، هذا والقلعة فى أشدّ ما يكون من الحصار والقتال، وقد نقبها عسكر تيمور من عدّة أماكن، وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ.
فتشاور النوّاب والأعيان الذين بالقلعة، فأجمعوا على طلب الأمان، فأرسلوا لتيمور بذلك، فطلب تيمور نزول بعض النوّاب إليه، فنزل إليه دمرداش نائب حلب، فخلع عليه، ودفع إليه أمانا وخلعا إلى النوّاب، وأرسل معه عدّة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب، فطلعوا إليها وأخرجوا النوّاب منها بمن معهم من الأمراء والأعيان، وجعلوا كلّ اثنين فى قيد، وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه، فنظر إليهم طويلا وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام.
ثم أخذ يقرّعهم ويوبّخهم ويلوم سودون نائب الشام فى قتله لرسوله، ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كلّ واحد منهم إلى من يحتفظ به.
ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا، وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة، ففرّقها على أمرائه وأخصّائه، واستمرّ النهب والسبى والقتل بحلب فى كل يوم(12/224)
مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشا، لا يجد الشخص مكانا يمشى عليه إلّا وتحت رجليه رمّة قتيل. وعمل تيمور من رءوس المسلمين منائر «1» عدّة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع فى دور عشرين ذراعا، حسب ما فيها من رءوس بنى آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس، ولمّا بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمرّ بها.
ثم رحل تيمور «2» من حلب «3» بعد أن أقام بها شهرا، وتركها خاوية على عروشها، خالية من سكّانها وأنيسها، قد خربت وتعطّلت من الأذان والصلوات، وأصبحت خرابا يبابا مظلمة بالحريق موحشة قفرا، لا يأويها إلّا البوم والرّخم. وسار تيمور قاصدا جهة دمشق، فمرّ بمدينة حماة، وكان أخذها ابنه ميران «4» شاه.
وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وأحاط بها بعساكره، بعد أن نهب خارج مدينة حماة، وسبى النساء والأطفال، وأسر الرجال، واستمرّت أيدى أصحابه يفعلون فى النساء(12/225)
والأبكار تلك الأفعال القبيحة، وخرّبوا جميع ما خرج «1» عن سور المدينة. هذا وقد استعدّ أهل حماة للقتال، وركب الناس سور المدينة، وامتنعوا من تسليم المدينة، وباتوا على ذلك، فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور، ففتحوا له بابا من أبواب المدينة، ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان؛ فقدم الناس عليه، وقدّموا له أنواع المطاعم، فقبلها منهم، وعزم أن يقيم رجلا من أصحابه عليها، فقيل له:
إن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيّمه وبات به.
ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير؛ ومع ذلك فإن قلعة «2» حماة لم يتسلّمها، بل كانت امتنعت عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرّهما بالمدينة، فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها واقتحم البلد، وأشعل النار بها، وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب، غير أنّه كان رفق بأهل حلب، فإنه كان سأل قضاة حلب لمّا صاروا فى أسره عن قتاله، ومن الشهيد [من العسكرين «3» ] ؟ فأجاب محبّ الدين محمد بن محمد بن الشّحنة الحنفىّ «4» بأن قال: سئل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن هذا، فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو الشهيد» ، فأعجبه ذلك وحادثهم، فطلبوا منه أن يعفو عن(12/226)
أهل حلب، ولا يقتل أحدا؛ فأمّنهم جميعا وحلف لهم، فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.
وأمّا أهل دمشق، فإنه لمّا قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودى فى الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة، والاستعداد لقتال العدوّ المخذول فأخذوا فى ذلك، فقدم عليهم المنهزمون من حماة، فعظم خوف أهلها وهمّوا بالجلاء، فمنعوا من ذلك، ونودى «من سافر نهب» ، فعاد إليها من كان خرج منها، وحصّنت دمشق، ونصبت المجانيق «1» على قلعة دمشق، ونصبت المكاحل «2» على أسوار المدينة، واستعدّوا للقتال استعدادا جيّدا إلى الغاية.
ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب «3» الغيبة بدمشق ليتسلّموا منه دمشق، فهمّ نائب الغيبة بالفرار، فردّه العامّة ردّا قبيحا، وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها، واستغاث النساء والصّبيان، وخرجت النساء حاسرات لا بعرفن أين يذهبن، حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد.
وقدم الخبر فى أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشاميّة، ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان.(12/227)
وأمّا أمراء الديار المصريّة فإنه لمّا كان ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيّام، فرقّت الجماكى «1» على المماليك السلطانيّة بسبب السفر.
ثم فى عشرينه نودى على أجناد «2» الحلقة بالقاهرة أن يكونوا فى يوم الأربعاء ثانى عشرينه فى بيت الأمير يسك الشّعبانى الدّوادار «3» للعرض عليه.
ثم فى خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب، وأنه يحاصر قلعتها، فكذّبوا ذلك، وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه، ووقع الشروع فى النفقة، فأخذ كلّ مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم.
ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن فى ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر.
ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقينى وقضاة القضاة والأمير آقباى الحاجب «4» ، ونودى بين أيديهم: «5» «الجهاد فى سبيل الله تعالى لعدوّكم الأكبر تيمورلنك، فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب وقتّل الأطفال على صدور الأمّهات، وأخرب الدّور والجوامع والمساجد، وجعلها إسطبلات للدوابّ، وأنّه قاصدكم، يخرّب(12/228)
بلادكم، ويقتّل رجالكم؛ فاضطربت القاهرة لذلك، واشتدّ جزع الناس، وكثر بكاؤهم وصراخهم، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فى أعيان الدولة.
واستهلّ شهر ربيع الآخر «1» ، فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الحاجب «2» وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها باتفاق دمرداش، وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق «3» يخلّى بين الناس وبين الخروج من دمشق، فإن الأمر صعب، [وإن النائب لم يمكّن أحدا من السير «4» ] فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالرّيدانيّة بأمرائه وعساكره [والخليفة «5» ] والقضاة، وتعيّن الأمير تمراز الناصرىّ أمير مجلس لنيابة الغيبة بالديار المصريّة، وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض فى عدّة أخر، وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة، وفى تحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسّفر.
ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاى من خجا على رأس نوبة النّوب كان فى نيابة الإسكندريّة «6» بعد موت نائبها فرج الحلبى.(12/229)
وكان أرسطاى منذ أفرج عنه بطّالا بالإسكندريّة، فوردت عليه الولاية وهو بها، وأخذ الأمير تمراز فى عرض أجناد الحلقة، وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلىّ والبحرىّ لقتال تيمور، كلّ ذلك والسلطان بالرّيدانيّة.
ثم خرج الجاليش فى بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر، وفيه من أكابر الأمراء مقدّمى الألوف: الأتابك بيبرس، والأمير نوروز الحافظى رأس نوبة الأمراء، والامير بكتمر الركنى أمير سلاح، وآقباى حاجب الحجّاب، ويلبغا الناصرى، وإينال باى بن قجماس، وعدّة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.
ثم رحل السلطان ببقيّة الأمراء والعساكر من الرّيّدانيّة يريد جهة الشام لقتال تيمور لنك، وسار حتى نزل بغزّة فى يوم عشرين من الشهر، واستدعى بالوالد وآقبغا(12/230)
الجمالىّ الأطروش نائب حلب كان من القدس، وأخلع على الوالد باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور، وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى.
وخلع على الأمير آقبغا الجمالى الأطروش باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ المحمودىّ بحكم أسره مع تيمور أيضا، وعلى الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد عوضا عن ألطنبغا العثمانى بحكم أسره، وعلى طولو «1» من على باشاه باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن عمر بن الطحّان، وعلى صدقة بن الطويل باستقراره فى نيابة القدس، وبعث الجميع إلى ممالكهم.
وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء: عندى رأى أقوله، وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان، فقيل له: وما هو؟ فقال: الرأى أن السلطان لا يتحرّك هو ولا عساكره من مدينة غزّة، وأنا أتوجّه إلى دمشق وأحرّض أهلها على القتال، وأحصّنها- وهى بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان، وبها ما يكفى أهلها من الميرة «2» سنين، وقد داخل أهلها أيضا من الخوف ما لا مزيد عليه، فهم يقاتلون قتال الموت- وتيمور لا يقدر على أخذها منّى بسرعة، وهو فى عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق لمكث بهم بمكان واحد مدّة طويلة، فإما أنه يدع دمشق ويتوجّه نحو السلطان إلى غرّة، فيتوغّل فى البلاد ويصير بين عسكرين، وأظنه لا يفعل ذلك، وإمّا أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره(12/231)
بالبلاد الشامية، وقلّة ما فى طريقه من الميرة لخراب البلاد، ويركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أقفية التّمرية إلى الفرات، فيظفر منهم بالغرض وزيادة»
، فاستصوب ذلك جميع الناس، حتى تيمور عند ما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق، وما بقى إلا أن يرسم بذلك، تكلّم بعض جهّال الأمراء مع بعض فى السرّ ممّن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم، وقال: تقتلوا رفقته وتسلّموه الشام، والله ما قصده إلّا أن يتوجّه إلى دمشق، ويتّفق مع تيمور ويعود يقاتلنا، حتى ياخذ منّا ثأر رفقته، وكان نوروز الحافظى بإزاء الوالد، فلمّا سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد، فأشار إليه بالسّكات والكفّ عن ذلك، وانفضّ المجلس، وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه، وتوجّه إلى دمشق، فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق، وقد جفل أهل دمشق لمّا بلغهم قرب تيمور إلى دمشق فأخذ الوالد فى إصلاح أمر «2» دمشق، فوجد أهلها فى غاية الاستعداد، وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعا، فتأسّف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه ولم يسعه إلّا السّكات.
ثم رحل جاليش السلطان من غزّة فى رابع عشرين شهر ربيع الآخر، ثم رحل السلطان ببقيّة عسكره من غزّة فى سادس عشرينه، وسار الجميع حتى وافوا دمشق.
وكان دخول السلطان دمشق فى يوم الخميس سادس جمادى الأولى، وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته، وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه، فنزل من قلعة دمشق(12/232)
وخرج بعساكره إلى مخيّمه عند قبة «1» يلبغا ظاهر دمشق، وتهيّأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصّرت المماليك الظاهريّة أرماحهم حتى يتمكّنوا من طعن التّمرية أولا بأوّل لازدرائهم عساكر تيمور.
فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثّلج «2» فى نحو الألف فارس، فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة، بدّدوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة، وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا.
ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمريّة وأخبروا بنزول تيمور على البقاع «3» العزيزى فلتكونوا على حذر، فإن تيمور كثير الحبل والمكر، فاحترز القوم منه غاية الاحتراز.(12/233)
ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمّن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز «1» وأولاد شهرى اتّفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمريّة، وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس، وأن تيمور بعث عسكرا إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر، وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نيّة المسير إلى طاعة السلطان.
وكان ذلك من مكايد تيمور، ثم قال: وإن صاحب قبرص «2» وصاحب الماغوصة «3» وغيرهم وردت كتبهم بانتظار الإذن لهم فى تجهيز المراكب فى البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان، فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب، وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة.
ثم فى يوم السبت نزّل تيمور بعساكره على قطنا «4» ، فملأت عساكره الأرض كثرة، وركب طائفة منهم لكشف الخبر، فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيّئوا للقتال وصفّت العساكر السلطانيّة، فبرز إليهم التمريّة وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كلّ من العسكرين ساعة، فكانت بينهم وقعة انكسر فيها ميسرة السلطان، وانهزم(12/234)
العسكر الغزّاوىّ وغيرهم إلى ناحية حوران «1» ، وجرح جماعة، وحمل تيمور بنفسه حملة «2» شديدة ليأخذ فيها دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه.
ونزل كلّ من العسكر بن بمعسكره، وبعث تيمور إلى السلطان فى طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم فى وقعة حلب، فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركى فى قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلّا القتال.
ثم أرسل تيمور رسولا آخر فى طلب الصّلح، وكرّر القول ثانيا، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صدق مقالته، وأن ذلك على حقيقته، فأبى الأمراء ذلك، هذا «3» والقتال مستمرّ بين الفريقين فى كلّ يوم.
فلما كان ثانى عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانيّة جماعة، منهم الأمير سودون الطيّار، وقانى باى العلائى رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكيّة يشبك العثمانى وقمش «4» الحافظى وبرسبغا الدوادار وطرباى فى جماعة أخر، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن فى الوظائف والإقطاعات والتحكّم فى الدولة، وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن، وأخذوا فى الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم.(12/235)
هذا وتيمور فى غاية الاجتهاد فى أخذ دمشق وفى عمل الحيلة فى ذلك.
ثم أعلم بما الأمراء فيه، فقوى أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعدّ لذلك.
ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجّهوا جميعا إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاچين الچركسى أحد الأجناد البرّانيّة؛ فعظم ذلك على مدبّرى المملكة لعدم رأيهم، وكان ذلك عندهم أهمّ من أمر تيمور، واتّفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة «1» ، وعوده إلى الديار المصرية فى الليل، ولم يعلموا بذلك إلّا جماعة يسيرة، ولم يكن أمر لاچين يستحقّ ذلك، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفى السلطان أمرهم، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.
فلما كان آخر ليلة الجمعة حادى عشرين جمادى الأولى «2» ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة «3» دمّر يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعيّة من المسلمين غنما بلا راع، وجدّوا فى السير ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى مدينة صفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكى وأخذوه معهم «4» ، وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها، وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر- عليهم(12/236)
من الله ما يستحقّوه- بمدينة غزّة، فكلّموهم فيما فعلوه، فاعتذروا بعذر غير مقبول فى الدنيا والآخرة؛ فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
وأما بقيّة أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لمّا علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا فى الحال فى إثره طوائف طوائف يريدون اللّحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير، وسلبوهم «1» ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا.
أخبرنى غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا فى الحال، غير أنه لم يعقنا عن اللّحاق به إلا «2» كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق ممارمتها المماليك السلطانيّة ليخفّ ذلك عن خيولهم، فمن كان فرسه ناهضا خرج، وإلّا لحقه أصحاب تيمور وأسروه، فممّن أسروه قاضى القضاة صدر الدين المناوىّ «3» ومات فى الأسر حسبما يأتى ذكره فى الوفيات «4» وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانيّة وغيرهم إلى القاهرة فى أسوإ حال من المشى(12/237)
والعرى والجوع، فرسم السلطان لكلّ من المماليك السلطانية المذكورين بألف درهم وجامكيّة شهرين.
وأمّا الأمراء فإنهم دخلوا إلى مصر وليس مع كلّ أمير سوى مملوك أو مملوكين، وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق؛ فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لمّا بلغهم توجّه السلطان من دمشق، وأخذ كلّ واحد ينجو بنفسه.
وأما العساكر الّذين خلّفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيّين والحمويّين والحمصيّين وأهل القرى ممّن خرج جافلا من تيمور.
ولمّا أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلّقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادوا بالجهاد، فتهيّأ أهل دمشق للقتال، وزحف عليهم تيمور بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدّ قتال، وردّوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدّة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم فى زيادة فأعيا تيمور أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ فى مخادعتهم، وعمل الحيلة فى أخذ دمشق منهم.
وبينما أهل دمشق فى أشدّ ما يكون من القتال والاجتهاد فى تحصين بلدهم، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد: «الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلا عاقلا حتى يحدّثه الأمير فى ذلك» .(12/238)
قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزّة فى نيابة دمشق، وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوّة لدفع تيمور عن دمشق، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرّزق، وهى فى الغاية من التحصين، وأنه يتوجّه إليها ويقاتل بها تيمور، فلم يسمع له أحد فى ذلك، فلعمرى لو رأى من لا أعجبه «1» كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدّة بأسهم وهم بغير نائب ولا مدبّر لأمرهم، فكيف ذاك لو كان عندهم متولّى أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير. انتهى.
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور فى الصلح وقع اختيارهم فى إرسال قاضى القضاة تقى الدّين إبراهيم بن [محمد بن «2» ] مفلح الحنبلى، فأرخى من سور دمشق إلى الأرض، وتوجّه إلى تيمور واجتمع به وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه، وتلطّف معه فى القول، وترفق له فى الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّى وعن أولادى، ولولا حنقى من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولى ما أتيتها، وقد صار سودون المذكور فى قبضتى وفى أسرى، وقد كان الغرض فى مجيئى إلى هنا، ولم يبق لى الآن غرض إلا العود، ولكن لا بدّ من أخذ عادتى من التّقدمة من الطّقزات.
وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحا يخرج إليه [أهلها «3» ] من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدوابّ والملابس والتّحف تسعة؛ يسمّون ذلك طقزات، والطّقز باللّغة التركيّة: تسعة، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا.(12/239)
فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذّل الناس عن القتال ويثنى على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيما، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله، فمال معه طائفة من الناس، وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلّا قتاله، وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا نهار السّبت وقد غلب رأى ابن مفلح على من خالفه، وعزم على إتمام الصلح، ونادى فى الناس: إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه؛ فكفّ الناس عن القتال.
وفى الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق فى طلب الطقزات المذكورة، فبادر ابن مفلح، واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار، حمل ذلك كلّ أحد بحسب حاله، فشرعوا فى ذلك حتى كمل، وساروا به إلى باب النصر «1» ليخرجوا به إلى تيمور، فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك، وهدّدهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا له: [أنت «2» ] احكم على قلعتك، ونحن نحكم على بلدنا، وتركوا باب النصر وتوجهوا، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور، وتدلّى ابن مفلح من السور أيضا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيّم تيمور، وباتوا به ليلة الأحد، وعادوا بكرة الأحد، وقد استقرّ تيمور بجماعة منهم فى عدّة وظائف: ما بين قضاة القصاة، والوزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، معهم فرمان من تيمور لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمّن أمان أهل دمشق على أنفسهم(12/240)
وأهليهم خاصّة؛ فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بنى أمية بدمشق، وفتح من أبواب دمشق باب الصغير «1» فقط، وقدم أمير من أمراء تيمور، جلس فيه ليحفظ البلد ممّن يعبر إليها من عساكر تيمور، فمشى ذلك على الشاميّين وفرحوا به، وأكثر ابن مفلح ومن كان توجّه معه من أعيان دمشق الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله، ودعا العامّة لطاعته وموالاته، وحثّهم بأسرهم على جمع المال الّذى تقرّر لتيمور عليهم، وهو ألف ألف دينار، وفرض ذلك على الناس كلّهم، فقاموا به من غير مشقّة لكثرة أموالهم، فلمّا كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه، فلمّا عاينه غضب غضبا شديدا، ولم يرض به، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فأخرجوا من وجهه، ووكّل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار [من الذّهب «2» ] ، إلّا أنّ سعر الذهب عندهم يختلف، وعلى كلّ حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوها ثانيا على الناس [كلّها «3» ] عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر، وألزموا كلّ إنسان من ذكر وأنثى حرّ وعبد بعشرة دراهم، وألزم(12/241)
مباشر كلّ وقف «1» بحمل مال له جرم، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم، وعوقب كثير منهم بالضّرب «2» ، فغلت الأسعار، وعزّ وجود الأفوات، وبلغ المدّ القمح- وهو أربعة أقداح- إلى أربعين درهما فضّة، وتعطّلت صلاة الجمعة»
من دمشق فلم تقم بها جمعة إلّا مرتين حتى دعى بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولىّ عهده ابن الأمير «4» تيمور لنك، وكان السلطان محمود مع تيمور آلة، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلّا من يكون من ذرّية الملوك. انتهى.
ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور.
ثمّ بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق، كلّ ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمور تحاصره أشدّ حصار، حتى سلّمها بعد تسعة وعشرين يوما، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر، يكفيك أن التمريّة من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب، فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها(12/242)
ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة، رمى أهل قلعة دمشق نفطا فأحرقوها عن آخرها، فأنشئوا قلعة ثانية أعظم من الأولى «1» وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة.
هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلّا نفر يسير «2» دون الأربعين نفرا، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النّجدة، وطلبوا الأمان، وسلّموها بالأمان.
قلت: لا شلّت يداهم! هؤلاء هم الرجال الشجعان. رحمهم الله تعالى.
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد بقى عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لى أنكم عجزتم.
وكان تيمور لما اتفق أوّلا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور، فخرج إليه ابن مفلح بأموال اهل مصر جميعها «3» ، فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق، فسارعوا أيضا إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه، فلما(12/243)
كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما فى البلد من السلاح جليلها وحقيرها، فتتبّعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شىء، فلمّا فرغ ذلك كلّه قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرّقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كلّ أمير فى قسمه وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضّرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوسا، وغمّ «1» الأنف بخرقة فيها تراب ناعم كلّما تنفّس دخل فى أنفه حتى تكاد نفسه تزهق، فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلّى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعا، فكان المعاقب يحسد رفيقه الّذى هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتنى أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا كلّه تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذّب امرأته أو بنته وهى توطأ، وولده وهو يلاط به، يصرخ «2» هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللّواط، وكل ذلك من غير تستّر فى النهار بحضرة الملأ من الناس. ورأى أهل دمشق أنواعا من العذاب لم يسمع بمثلها؛ منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشدّ رأسه بحبل ويلويه «3» حتى يغوص فى رأسه، ومنهم من كان يضع الحبل بكتفى الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان، ومنهم من كان يربط إبهام يدى المعذّب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويذرّ فى منخريه(12/244)
الرّماد مسحوقا، فيقرّ على «1» ما عنده شيئا بعد شىء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدّقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرّر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقب ميّتا مخافة أن يتماوت. ومنهم من كان يعلّق المعذّب بإبهام يديه فى سقف الدار ويشعل النار تحته، ويطول تعليقه، فربمّا يسقط فيها، فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق، ثم يعلّقه ثانيا.
واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة، فهلك فى هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى.
فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شىء خرجوا إلى تيمور، فسألهم: هل بقى لكم تعلّق فى دمشق؟ فقالوا: لا؛ فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق على أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدّور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهنّ، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين فى الحبال.
ثم طرحوا النار فى المنازل والدّور والمساجد، وكان يوم عاصف الريح، فعمّ الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار فى البلد ثلاثة أيّام بلياليها آخرها يوم الجمعة.
وكان تيمور- لعنه الله- سار من دمشق فى يوم السبت ثالث شهر شعبان «2» بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوما، وقد احترقت كلّها وسقطت سقوف جامع بنى أميّة(12/245)
من الحريق، وزالت أبوابه وتفطّر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها «1» وحمّاماتها وصارت أطلالا بالية ورسوما خالية، ولم يبق بها [دابة تدبّ «2» ] إلّا أطفال يتجاوز عددهم [آلاف «3» ] فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع.
وأمّا السلطان [الملك الناصر «4» فرج] فإنّه أقام بغزّة ثلاثة أيام، وتوجّه إلى الدّيار المصريّة بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية، فقدم إلى القاهرة فى يوم الاثنين ثانى جمادى الآخرة، وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزّة، فارتجّت القاهرة، وكادت عقول الناس تزهق، وظنّ كلّ أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور، وأنّ تيمور فى أثره، وأخذ كلّ أحد يبيع ما عنده ويستعدّ للهروب من مصر، وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالا.
فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونوّاب البلاد الشامية، ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية، وقيل نحو الخمسمائة.
ثم فى يوم السبت سابع جمادى الآخرة المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة، وتقدمة «5» ألف بالدّيار المصريّة كانت موفّرة فى الديوان السلطانىّ، بعد استعفائه(12/246)
من نيابة دمشق، وعيّن السلطان لنيابة «1» دمشق آقبغا الجمالى الأطروش، ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة «2» .
ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمىّ الأستادار «3» أن يتحدّث فى جميع ما يتعلّق بالمملكة، وأن يجهّز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور، فشرع يلبغا السالمى المذكور فى تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضى مصر فرائض من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان، وأخباز الأجناد «4» ، وبلاد الأوقاف عن عبرة كلّ ألف دينار خمسمائة درهم فضّة وفرس.
ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهر هما أجرة شهر، حتى إنه كان يقوّم على الإنسان داره التى يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها، وأخذ من الرزق، وهى الأراضى التى يأخذ مغلّها قوم على سبيل البرّ والصدقة عن كل فدّان عشرة دراهم، وكان يوم ذاك أجرة الفدّان من ثلاثين درهما إلى ما دونها.
قلت: أخذ نصف خراجها بدورة دارها، وأخذ من الفدّان القصب أو القلقاس أو النّيلة من القنطار مائة درهم، وهى نحو أربعة دنانير، وجبى من البساتين عن كلّ فدان مائة درهم.(12/247)
ثم استدعى أمناء «1» الحكم والتجّار وطلب منهم المال على سبيل القرض، وصار يكبس الفنادق والحواصل فى الليل، فمن وجده «2» حاضرا فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد، وهى الذهب والفضّة والفلوس، وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهى الذهب والفضة والفلوس، وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف، ومع ذلك فإن الصّيرفىّ يأخذ عن كل مائة درهم ثلاثة دراهم «3» ، ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيبا أخذ عشرة دراهم؛ قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله، قال: فاشتدّ ما بالناس، وكثر دعاء الناس على السالمىّ.
قلت: وبالجملة فهم أحسن حالا من أهل دمشق، وإن أخذ منهم نصف مالهم، وأيش «4» يعمل السالمىّ! مسكين، وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور. انتهى.
ثمّ خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى وعلى الأمير يشبك الشعبانى، واستقرّا مشيرى الدّولة ومدبّرى أمورها.
ثمّ فى ثالث عشره خلع على القاضى أمين الدين عبد الوهاب بن قاضى القضاة شمس الدين محمد الطرابلسى [قاضى العسكر باستقراره «5» ] قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضى القضاة جمال الدين يوسف الملطى، وعلى القاضى(12/248)
جمال الدين عبد الله الأقفهسى «1» باستقراره قاضى قضاة المالكيّة بالديار المصرية عوضا عن القاضى نور الدين علىّ بن الجلال بحكم وفاته.
وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلثمائة مملوك بأسوإ حال: من المشى والعرى والجوع.
ثم فى حادى عشرينه حضر إلى القاهرة قاضى القضاة موفّق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلىّ من دمشق بأسوإ حال، وقدم أيضا قاضى قضاة دمشق علاء الدين على بن أبى البقاء الشافعىّ، وحضر كتاب تيمور لنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانيّة يتضمّن طلب أطلمش «2» ، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنوّاب وغيرهم، وقاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعى، ويرحل عن دمشق، فطلب أطلمش من البرج بالقلعة، وأطلق وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير، وعيّن للسفر معه قطلوبغا «3» العلائى، والأمير محمد بن سنقر.
ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخى الأمير آخور رسولا من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر، هذا ويلبغا السالمى يجدّ فى تحصيل الأموال، وأخذ فى عرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم «4» قادرا على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور، وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل، أو تحصيل نصف مغلّه(12/249)
فى السّنة، وألزم أرباب الغلال المحضّرة للبيع فى المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كلّ إردب درهم [وأن «1» يؤخذ من كلّ مركب من المراكب التى تسير «2» فيها الناس مائة درهم] .
ثم «3» فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب أمر السالمىّ أن تضرب دنانير «4» مازنة الدينار مائة مثقال ومثقال، ومنها ما زنته تسعون مثقالا ومثقال، ثم ما دون ذلك، إلى أن وصل منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.
ثم فى ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبى كمّ باستقراره وزيرا بديار مصر عوضا عن فخر الدين ماجد بن غراب.
ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمّدى نائب حلب تخلّص من تيمور، وجمع جموعا من التركمان، وأخذ حلب وقلعتها»
من التمريّة، وقتل منهم جماعة كبيرة.
ثم خلع السلطان على شاهين الحلبى نائب مقدّم المماليك باستقراره فى تقدمة المماليك السلطانية عوضا عن صواب المعروف بچنكل، واستقرّ الطواشى فيروز من جرجى مقدّم الرّفرف نائب المقدّم.(12/250)
ثم حضر فى سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستّة آلاف فارس، وحضر من عربان الشرقيّة من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس، ومن العيساويّة وبنى وائل ألف وخمسمائة فارس، فأنفق فيهم يلبغا السالمى الأموال ليتجهّزوا لحرب تيمور.
ثم حضر فى ثامنه قاصد الأمير نعير، وذكر أنه جمع عربانا كثيرة ونزل بهم على تدمر «1» ، وأنّ تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيّفة «2» .
هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمى والعمل فى زواله حتى تمّ لهم ذلك.
فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمى وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولى الوزر قبل تاريخه، وسلّما لسعد الدين إبراهيم بن غراب ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس فى الجبايات.(12/251)
قلت: فصار حاله كالمثل السائر «أفقرنى فيمن «1» أحبّ ولا استغنى» .
ثم فى ثامن عشره استقرّ سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستادارا عوضا عن السالمى مضافا لما بيده من وظيفتى نظر الجيش والخاصّ.
ثم فى خامس «2» شعبان برز الأمراء المعيّنون للسفر لقتال تيمور بمن عيّن معهم من المماليك السلطانيّة وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة، وهم الّذين كانوا بالقاهرة فى غيبة السلطان بدمشق، وتقدّم الجميع الأمير تمراز الناصرىّ الظاهرىّ أمير مجلس، والأمير آقباى من حسن شاه الظاهرى حاجب الحجّاب، ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخى، والأمير تمان تمر والأمير صوماى الحسنى، وامتنع الأمير جكم من السّفر.
وفى اليوم «3» قدم الأمير شيخ المحمودىّ نائب طرابلس فارّا من أسر تيمور إلى الديار المصرية، وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده، فرسم السلطان بإبطال السفر، ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة.
ثم «4» فى الغد قدم دقماق المحمّدى نائب حماة فارّا أيضا من تيمور.
وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره فى نيابة دمشق ثانيا على كره منه، وكانت شاغرة من يوم قدوم تيمور دمشق.(12/252)
ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودى باستقراره فى نيابة طرابلس على عادته، وعلى الأمير دقماق المحمّدى باستقراره فى نيابة حماة على عادته.
ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد وعلى الأمير تنكزبغا الحططى بنيابة بعلبكّ.
ثم نودى بالقاهرة ألّا يقيم «1» بها أحد من الأعاجم، وأمهلوا ثلاثة أيّام، وهدّد من تخلّف منهم بالقاهرة، فلم يخرج أحد، وأكثر الناس من الكتابة فى الحيطان:
«من نصرة الإسلام، قتل الأعجام» ، كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة.
وأما البلاد الشاميّة فحصل بها جراد عظيم بعد خروج اللّنك «2» منها، فزادت خرابا على خراب «3» .
قلت: ولنذكر هنا نبذة يسيرة من أخبار تيمور لنك ونسبه وكثرة عساكره وعظم دهائه ومكره؛ ليكون الناظر فى «4» هذا الكتاب على علم من أخباره وأحواله، وإن كان فى ذلك نوع تطويل وخروج عن المقصود، فهو لا يخلو من فائدة.(12/253)
فنقول: هو تمرلنك وقيل تيمور؛ كلاهما بمعنى واحد، والثانى أفصح. [وهو «1» ] باللغة التركية الحديد «2» بن أيتمش قنلغ بن زلكى بن سنيا بن طارم طربن طغريل بن قليج ابن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا «3» بن التاخان المغولىّ الأصل التركىّ من طائفة جغتاى الطاغية تيمور، كوركان، أعنى باللغة العجمية «4» صهر الملوك «5» .
مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمّى خواجا أيلغار «6» من عمل كشّ «7» أحد مدائن ما وراء النهر، وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد، ويقال:(12/254)
إنه رؤى يوم «1» ولد كأن شيئا يشبه الخوذة تراءى طائرا فى جوّ السماء، ثم وقع إلى الأرض فى فضاء كبير، فتطاير منه جمر وشرر حتى ملأ الأرض. وقيل: إنه لما خرج من بطن أمّه وجدت كفّاه مملوءتين دما، فوجدوا أنه تسفك على يديه الدماء.
قلت: وكذا وقع.
وقيل: إن والده كان إسكافا. وقيل: بل كان أميرا عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ «2» ، وكان أحد أركان دولته، وإن أمه من ذريّة جنكزخان.
وقيل: كان للسلطان حسين المذكور أربعة وزراء، فكان أبو تيمور أحدهم، وولى تيمور بعد موته مكانه عند السلطان حسين. وأصل تيمور من قبيلة برلاص.
وقيل: إن أوّل ما عرف من حال تيمور أنه كان يتجرّم «3» ، فسرق فى بعض الليالى غنمة «4» وحملها ليهرب بها، فانتبه الراعى وضربه بسهم فأصاب كتفه، ثم ردفه بآخر فلم يصبه، ثم بآخر فأصاب فخذه وعمل فيه الجرح الثانى الذي فى فخذه حتى عرج منه؛ ولهذا سمى تمرلنك، لأن «لنك» باللغة العجميّة أعرج، وأما اسمه الحقيقىّ ف (تمر) بلا «لنك» ، فلما أعرج [تمر «5» ] أضيف إليه «لنك» .
ولما تعافى أخذ فى التجرّم على عادته وقطع الطريق، وصحبه فى تجرّمه جماعة عدّتهم أربعون رجلا.(12/255)
وكان تيمور لنك يقول لهم فى تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا؛ فيسخر منه بعضهم، ويصدّقه البعض، لما يرونه من شدّة حزمه وشجاعته.
وقيل: إنه تاه فى بعض تجرّماته مدّة أيام إلى أن وقع على خيل السلطان حسين المقدّم ذكره، فأنزله الجشارىّ صاحب مرج الخيل «1» عنده، وعطف عليه وآواه وأتى إليه بما يحتاجه من طعام وشراب. وكان لتيمور معرفة تامّة فى جياد الخيل فأعجب الجشارىّ منه ذلك، فاستمرّ به عنده إلى أن أرسل معه بخيول إلى السلطان حسين وعرّفه به، فأنعم عليه وأعاده إلى الجشارى، فلم يزل عنده حتّى مات، فولّاه السلطان حسين عوضه على جشاره، ولا زال يترقّى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء. وتزوّج بأخت السلطان حسين، وأقام معها مدّة إلى أن وقع بينهما فى بعض الأيّام كلام، فعايرته بما كان عليه من سوء الحال، فقتلها وخرج هاربا، وأظهر العصيان على السلطان حسين، واستفحل أمره، واستولى على ما وراء النهر «2» ، وتزوّج ببنات ملوكها، فعند ذلك لقّب ب «بكوركان» ، وقد تقدم الكلام على اسم كوركان. ولا زال أمره ينمو وأعماله تتّسع إلى أن خافه السلطان حسين، وعزم على قتاله، وبلغه ذلك فخرج هاربا «3» .(12/256)
ثم قوى أمره بعد سنة ستّين وسبعمائة، فلمّا كثر عسكره بعث إلى ولاة بلخشان «1» وكانا أخوين قد ملكا بعد موت أبيهما يدعوهما إلى طاعته؛ فأجاباه، وكانت المغل قد نهضت من جهة الشرق على السلطان حسين، وكان كبيرهم الخان قمر الدين فتوجّه السلطان حسين إليهم وقاتلهم، فأرسل تيمور يدعوهم إليه، فأجابوه ودخلوا تحت طاعته، فقويت بهم شوكته.
ثم قصده «2» السلطان حسين ثانيا فى عسكر عظيم حتى وصل إلى ضاغلغا «3» ، وهو موضع ضيّق يسير الراكب فيه ساعة، وفى وسطه باب إذا أغلق وأحمى لا يقدر عليه أحد، وحوله جبال عالية، فملك العسكر فم هذا الدّربند من جهة سمرقند، ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر، وفى ظن العسكر أنهم حصروه وضيقوا عليه، فتركهم ومضى فى طريق مجهولة، فسار ليلة فى أو عار مشقة حتى أدركهم فى السحر وقد شرعوا فى تحميل أثقالهم، على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفا منهم، فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم [وتركوها ترعى فى تلك «4» المروج وناموا كأنهم من جملة العسكر فمرت بهم خيولهم] وهم يظنون أنهم منهم قد قصدوا الراحة، فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم، وهم يصيحون وأيديهم تدقهم دقا بالسيوف، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوى أحد على أحد، حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تمر [لنك «5» ] على ما كان معه، ولمّ «6»(12/257)
من بقى من العسكر عليه، فعظم جمعه، وكثر ماله، واستولى على الممالك «1» ، ولا زال حتى قبض على السلطان حسين بعد أن أمّنه وقتله، فهذا أوّل عظمته.
والثانية واقعته مع تقتمش «2» خان ملك التتار، فإنه لما واقعه بأطراف تركستان «3» قريبا من نهر خجند «4» ، واشتد الحرب بينهما وكثرت القتلى فى عسكر تيمور حتى كادت تفنى، وعزم تيمور على الهزيمة، فإذا هو بالمعتقد السيد الشريف بركة قد أقبل على تيمور، فقال له تيمور وقد جهده البلاء: يا سيّدى جيشى انكسر، فقال له السيد الشريف بركة المذكور: لا تخف، ثم نزل عن فرسه وتناول كفّا من الحصى ثم ركب فرسه ورمى بها فى وجوه جيش تقتمش وصرخ قائلا بأعلى صوته «ياغى قجتى» . يعنى باللّغة التركية العدوّ هرب «5» ، فصرخ بها أيضا تيمور كمقالة الشريف بركة(12/258)
فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعد ما كانوا ولّوا هاربين «1» ، فكّر بهم تيمور ثانيا فى عسكر تفتمش وما منهم أحد إلا وهو يصرخ «ياغى قجتى» ، فانهزم عند ذلك عسكر تقتمش خان وركبت التمرية أقفيتهم وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر، فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان.
والثالثة واقعته مع شيره «2» على صاحب مازندران «3» وكيلان «4» وبلاد الرىّ «5» والعراق وكسره وقبض عليه وقتله وملك جميع بلاده، ثم قصته مع شاه شجاع صاحب شيراز «6» وتزوّج «7» بنت شاه شجاع لابن تيمور، ومهادنة شاه شجاع له إلى أن مات شاه شجاع، واختلفت أولاده وقوى شاه منصور على اخوته فمشى عليه تيمور هذا، فلقيه شاه منصور فى ألفى فارس لا غير.(12/259)
وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة، فإنه برز إليه فى ألفى فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف.
وعند ما برز له شاه منصور فر من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين «1» إلى تيمور بأكثر العساكر، فبقى شاه منصور فى أقل من ألف فارس، فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل.
ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره، فركب شاه منصور فى الليل «2» وبيّت التمرية، فقتل منهم نحو العشرة آلاف فارس.
ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس، فأصبح وقاتل بهم من الغد وقصد بهم تيمور حتى أزاله عن موقفه، وهرب تيمور واختفى بين حرمه، فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلّت يداه وقتلت أبطاله، فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى، فعرفه «3» بعض التمرية فقتله، وأتى برأسه إلى تيمور، فقتل تيمور قاتله أسفا عليه. واستولى تيمور أيضا على جميع ممالك العجم بأسرها بعد شاه منصور.(12/260)
هذا وقد استوعبنا واقعة شاه منصور «1» بأوسع من ذلك فى تاريخنا (المنهل الصافى) .
إذ هو كتاب تراجم.
ثم أخذ تيمور فى الاستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين «2» ، وهرب منه السلطان أحمد بن أويس، وأخرب غالب العراق: مثل بغداد «3» والبصرة «4» والكوفة «5» وأعمالهم، ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر «6» ، وأخرب بها أيضا عدّة بلاد.
ثم قصد البلاد الشاميّة فى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ثم رجع خائفا من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده، فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد، وأن أمر الناس بمدينة دلّى «7» فى اختلاف، وأنه جلس على تخت الملك بدلّى وزير يقال له ملّو(12/261)
فخالف عليه أخو فيروز شاه، واسمه سارنك خان متولّى مدينة مولتان «1» ، فلمّا سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند فى ذى الحجّة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستّة أشهر، وكان فى عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها.
ثم سار تيمور إلى مدينة دلّى وهى تخت الملك، فخرج لقتاله صاحبها «2» ملّو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة، وقد جعل على كلّ فيل برجا فيه عدّة من المقاتلة، وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات «3» ، وعلّق عليها من الأجراس والقلاقل «4» ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاى، وشدّوا فى خراطيمها عدّة من السيوف المرهفة، وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفّر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها، فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافا من الشوكات الحديد مثلّثة الأطراف، ونثرها فى مجالات الفيلة، وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوّة بالفتائل المغموسة بالدّهن، وقدّمها أمام عسكره، فلمّا تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب، أضرم تيمور فى تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة.
فركضت تلك الأباعر من شدّة حرارة النار، ثم نخسها سوّاقوها من خلف. هذا وقد كمن تيمور كمينا من عسكره.(12/262)
ثم زحف بعساكره قليلا [قليلا «1» ] وقت السحر. فعندما تناوش القوم للقتال لوى تيمور رأس فرسه راجعا يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ويكفّ عن طريق الفيلة كأنّ خيوله قد جفلت منها، وقصد المواضع التى نثر فيها تلك الشوكات الحديد التى صنعها، فمشت حيلته على الهنود، ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشدّ السّوق حتى داست على تلك الشوكات الحديد، فلما وطئتها نكصت على أعقابها.
ثم التف «2» تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال، وقد عظم لهيبها على ظهورها، وتطاير شررها فى تلك الآفاق، وشنع زعاقها من شدّة النخس فى أدبارها.
فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرّت راجعة على العسكر الهندى، فأحست بخشونة الشوكات التى طرحها تيمور فى طريقها، فبركت وصارت فى الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة، وسالت أنهار من دمائها؛ فخرج عند ذلك الكمين [من عسكر «3» تيمور] من جنبى عسكر الهنود، ثم حطم تيمور بمن معه فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام.
ثم إنهم تضايقوا وتقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف والأطبار «4» ، وصبر كلّ من الفريقين زمانا طويلا، إلى أن كانت الكسرة على الهنود بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم، وانهزم باقيهم بعد أن ملّوا من القتال، فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل [على «5» ] مدينة دلّى وحصرها [مدّة «6» حتى] أخذها [من جوانبها «7» ] بعد مدّة عنوة، واستولى على(12/263)
تخت ملكها واستصفى ذخائرها «1» ، وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسّبى والقتل والنّهب والتخريب.
وبينما هم فى ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وموت القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم، فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما، وكان أن يطير بموتهما فرحا، فنجز أمره وولّى «2» مسرعا بعد أن استناب بالهند من يثق به من أمرائه، وسار حتى وصل سمرقند، ثم خرج منها عجلا فى أوائل سنة اثنتين وثمانمائة، فنزل خراسان «3» .
ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها ابنه ميران «4» شاه، ثم سار حتى نزل قرا «5» باغ [فى سابع «6» عشر] شهر ربيع الأوّل، فقتل وسبى، ثم رحل منها ونزل تفليس «7» [فى يوم الخميس «8» ثانى] جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج، وأسرف فيها أيضا فى القتل والسبى، ثم قصد بغداد ففرّ منه [صاحبها «9» ] السلطان أحمد بن أويس [فى ثامن «10» عشر شهر رجب] إلى قرا يوسف «11» فعاد تيمور من بغداد وصيّف ببلاد التركمان ثم سار إلى [ماردين فعصى صاحبها عليه الملك الظاهر مجد الدين عيسى، فتركه تيمور ومضى إلى «12» ](12/264)
سواس وقد أخذها «1» الأمير سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فحصرها تيمور ثمانية عشر يوما حتى أخذها فى خامس المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة، وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، فحفر لهم سردابا «2» وألقاهم فيه وطمّهم بالتراب بعد ما كان حلف لهم ألّا يريق لهم دما وقال: أنا على يمينى ما أرقت لهم دما، ثم وضع السيف فى أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها.
ثم سار إلى بهسنا «3» فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يوما حتى أخذها، ومضى إلى ملطية فدكّها دكّا، وسار حتى نزل قلعة «4» الروم فلم يقدر عليها «5» ، فتركها وقصد عين «6» تاب، ففرّ منه نائبها الأمير أركماس الظاهرى، وهو غير أركماس الدّوادار فى الدولة الأشرفية.
ثم قصد حلب ووقع له بها وبدمشق ما تقدّم ذكره إلى أن خرج من البلاد الشاميّة.
وكان رحيله عن دمشق فى يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة، واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيا، ثم سار منها حتى نزل على ماردين «7» يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها.(12/265)
وأوهم أنه يريد سمرقند يورّى بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرا يقال له فرج، وتوجّه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفا لأخذ بغداد.
ثم تبعه بمن بقى معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوة فى يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف فى أهل بغداد.
حدّثنى الأمير أسنباى الزّردكاش الظاهرى برقوق- وكان أسر عند «1» تيمور وحظى عنده، وجعله زرد كاشه «2» عند أخذ بغداد وحصارها- بأشياء مهولة، منها أنه لمّا استولى على بغداد ألزم جميع من معه أن يأتيه كلّ واحد منهم برأسين من رءوس أهل بغداد، فوقع القتل فى أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارا، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، فكانت عدّة من قتل فى هذا اليوم من أهل بغداد تقريبا مائة ألف «3» إنسان. وقال المقريزى: تسعين ألف إنسان، وهذا سوى من قتل فى أيّام الحصار، وسوى من قتل فى يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه فى الدّجلة «4» فغرق، وهو أكثر من ذلك.
قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها، قال: وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مرّ به ويقطع رأسه.(12/266)
ثم رحل تيمور من «1» بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكّا خرابا، ثم كتب إلى أبى يزيد «2» بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلّا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردّ أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التّتر.
فلمّا تكامل جيشه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبى يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا، ويكون لكم الروم عوضهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه.
وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردّه عن عبور أرض الروم «3» ، فسلك تيمور غير الطريق، ومشى فى أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد ابن عثمان، ونزل بأرض مخصبة «4» وسيعة، فلم يشعر ابن عثمان إلّا وقد نهبت بلاده. فقامت قيامته وكرّ راجعا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغا أوهن قواهم، وكلّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلمّا تدانوا للحرب كان أوّل بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه، فضعف بذلك عسكره، لأنّهم كانوا معظم عسكره، ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائدا إلى مدينة برصا «5» بباقى عسكره، فلم يبق مع أبى يزيد إلا(12/267)
نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور، وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، واستمرّ القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فكلّت عساكر ابن عثمان، وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلّتهم وكثرة النّمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صرع منهم أكثر أبطالهم، وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيرا قبضا باليد على نحو ميل من مدينة أنقرة «1» ، فى يوم الأربعاء سابع عشرين ذى الحجّة سنة أربع وثمانمائة بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش، فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطىّ وهو تموز بالرومىّ، وصار تيمور يوقف بين يديه فى كل يوم ابن عثمان ويسخر منه وينكيه بالكلام، وجلس تيمور مرّة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلبا مزعجا، فحضر وهو يرسف «2» فى قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه «3» ، ثم [وقف تيمور «4» ] وسقاه من يد جواريه اللّائى «5» أسرهنّ تيمور، ثم أعاده إلى محبسه.
ثم قدم على تيمور إسفنديار «6» أحد ملوك الروم بتقادم جليلة، فقبلها وأكرمه وردّه إلى مملكته [بقسطمونية «7» ] ، هذا وعساكر تيمور تفعل فى بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدّم ذكرها.(12/268)
وأما أمر سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة برصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة «1» وتلاحق به الناس، وصالح أهل إستانبول «2» ، فبعث تيمور فرقة كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى برصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضا بعساكره.
ثم أفرج تيمور عن محمد وعن أولاد ابن قرمان من حبس أبى يزيد بن عثمان، وخلع عليهما وولّاهما بلادهما، وألزم كلّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضرب السّكّة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش «3» .
ثم شتا فى معاملة «4» منتشا وعمل الحيلة فى قتل التتار الّذين أتوه من عسكر ابن عثمان حتى أفناهم عن آخرهم.
وأما أبو يزيد بن عثمان، فإنه استمر فى أسر تيمور من ذى الحجّة سنة أربع، إلى أن مات بكربته وقيوده، فى أيام من ذى القعدة سنة خمس وثمانمائة، بعد أن حكم ممالك الروم نحو تسع سنين.
وكان من أجلّ الملوك حزما وعزما وشجاعة، رحمه الله تعالى. وهو المعروف بيلدرم بايزيد.
ثم توجّه «5» تيمور من بلاد الروم وقد تعلّقت آماله بأخذ بلاد الصين، فأخذه الله قبل أن يصل، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمره وما وقع له بطريق الصين إلى(12/269)
أن توفّى [لعنه الله «1» ] ولكن أضربنا عن ذلك خشية الإطالة، وأيضا قد ذكرناه فى ترجمته «2» فى (المنهل الصافى) مستوفاة، فلتنظر هناك «3» .
وكانت وفاة تيمور فى يوم «4» الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة وهو نازل بالقرب من أترار «5» ، وأترار بالقرب من آهنگران، ومعنى آهنگران باللغة العربية الحدّادون «6» .
ولما مات لبسوا عليه المسوخ، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فتسلطن موضع جدّه تيمور فى حياة والده ميران شاه المذكور، فاستولى خليل المذكور على خزائن جدّه وبذل الأموال، وتم أمره. انتهى ما أوردناه من قصة تيمور لنك على سبيل الاختصار.
ولنعد إلى ما نحن بصدده من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق [رحمه الله «7» ] .
ولما كان يوم الأحد أوّل شوّال أفرج السلطان عن الأمير يلبغا السالمى وهو متضعّف بعد ما عصر وأهين إهانة بالغة.(12/270)
وفى هذه الأيّام كثر احتراز الأمراء بعضهم من بعض، وتحدّث الناس بإثارة فتنة «1» .
ثم فى سابع شوّال المذكور استقرّ الأمير طولو من على باشاه الظاهرى فى نيابة إسكندرية عوضا عن الأمير أرسطاى، واستقر الأمير بشباى «2» من باكى الظاهرى حاجبا ثانيا على خبز «3» سودون الطيّار، إمرة طبلخاناه، واستقر كلّ من سودون الطيار وألطنبغا من سيدى حجّابا بحلب لأمر اقتضى ذلك.
ثم استدعى السلطان الأمراء بقلعة الجبل، وقال لهم: قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية «4» بأمريّات ببلاد الشام من أوّل شهر رمضان، فلم لا يسافروا؟ وكلّ ذلك بتعليم يشبك الدوادار، فقال الأمير نوروز الحافظى ما فى هذا مصلحة، إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى عنده من مماليك أبيه الأعيان؟ ووافق نوروز سودون الماردانى. فقال السلطان: من ردّ مرسومى فهو عدوّى، فسكت الأمراء وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها.
فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من ردّ منشوره، فغضب السلطان وأصبح الجماعة يوم الأحد، وقد اتفقوا مع الأمراء وساروا للأمير نوروز الحافظى(12/271)
وتحدّثوا معه فى عدم سفرهم، فاعتذر إليهم، وبعثهم لسودون الماردانى رأس نوبة النوب «1» فحدّثوه فى ذلك، وما زالوا به حتى ركب للأمير يشبك الشعبانى الدوادار وحدّثه فى ألّا يسافروا، فأغلظ يشبك فى ردّ الجواب عليه، وهدّدهم بالتوسيط «2» إن امتنعوا من «3» السفر.
ثم أمره أن يطلع إلى السلطان ويسأله فى [ذلك فطلع «4» سودون الماردانىّ إلى السلطان] ، وسأله فى إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد اتفق منهم نحو الألف تحت القلعة، وهم مجتمعون، فبعث السلطان إليهم بعض الخاصكيّة يقول لهم: نحن ما خلّيناكم بلا رزق بل عملناكم أمراء، فما هو إلّا أن نزل إليهم وكلّمهم فى ذلك «5» ، ثاروا عليه وسبّوه ثم ضربوه حتى كاد يهلك، فبينما هم فى ضربه، وإذا بالأمير قطلوبغا الحسنى الكركى والأمير آقباى الكركى الخازندار نزلا من القلعة، فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدّبابيس إلى أن سقط قطلوبغا الكركى، وتكاثر عليه مماليكه وحملوه إلى بيته، ونجا آقباى الكركى الخازندار والتجأ إلى بيت الأمير يشبك الدوادار، وماجت البلد وغلّقت الأسواق، فنودى بعد العصر من اليوم المذكور بطلوع الأمراء والمماليك السلطانيّة فى الغد إلى القلعة، ومن لم يطلع حلّ ماله ودمه للسلطان.
ثم طلع الأمير يشبك، ونوروز الحافظى، وآقباى الكركى الخازندار، وقطلوبغا الكركى إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بالقلعة إلّا نوروزا فإنّه أقام معهم ساعة عند السلطان.(12/272)
ثم نزل إلى داره وطلع أيضا فى الليل غالب المماليك السلطانية.
وأصبحوا يوم الاثنين تاسع شوال، فطلع جميع الأمراء والمماليك إلا الأمير جكم من عوض، وسودون الطيّار، وقانّى باى العلائى، وقرقماس الأينالى، وجمق وتمربغا المشطوب، فى عدّة من المماليك السلطانية الأعيان، منهم يشبك العثمانى، وقمج وبرسبغا وطرباى وبقية خمسمائة مملوك، والجميع لبسوا السلاح وآلة الحرب ووقفوا تحت القلعة حتى تضحّى النهار. ثم مضوا إلى بركة الحبش «1» ونزلوا عليها.
وأما أهل القلعة، فإن يشبك بعث فى الحال نقيب «2» الجيش إلى الشيخ لاچين الجركسى أحد الأجناد، فقبض عليه وحمله إلى بيت آقباى حاجب الحجّاب، فوكّل به آقباى من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس ليسافر إلى الشام.
ثم قبض على سودون الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاچين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها.
واستمرّ الأمير جكم ورفقته ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعى الأمير يشبك سائر الأمراء، فلما صاروا بالقلعة وكّل بهم من يحفظهم، فاستمرّوا على ذلك حتى مضى جانب من الليل.(12/273)
ثم نزل الطلب إلى الأمير سودون طاز الأمير آخور «1» الكبير من السلطان ليطلع إلى عند الأمراء، وفى عزمهم أنه إذا طلع قبضوا عليه، فمّ لسودون طاز بعض الخاصكية يسمّى قانى باى، وقال له: فز بنفسك؛ فلم يكذّب سودون طاز الخبر، وأخذ الخيول السلطانية التى بالإسطبل السلطانى، وركب بمماليكه، وسار حتى لحق بالأمير جكم ببركة الحبش، وبلغ السلطان ذلك، فارتجّ القصر السلطانىّ، وقام كلّ أمير ونزل إلى داره ولبس آلة الحرب بمماليكه، ودقّت الكوسات وطلعوا إلى القلعة.
فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل، وبعث إلى الأمير جكم من عوض بأن يتوجّه إلى صفد نائبا بها، فزدّ جكم الجواب «2» «نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، ولو أراد قتلنا ما خالفناه، غير أننا لنا غرماء يدعنا نحن وإيّاهم، ثم بعد ذلك مهما أراد السلطان يفعل فينا، فنحن بين يديه» . فلمّا عاد الرسول بذلك بكى الأمير يشبك الدوادار، وتكلم هو والأمير آقباى الكركى الخازندار وقطلوبغا الكركى مع السلطان، ودار بينهم كلام «3» كثير، حتى بعث السلطان بالأمير نوروز الحافظى والقاضى الشافعى «4» وناصر الدين المعلّم الرمّاح أمير آخور إلى الأمير جكم فى طلب الصلح، فنزلوا إليه وكلّموه فى ذلك، فامتنع جكم من الصلح هو ومن معه وقالوا: لابدّ لنا من غرمائنا، وأخذوا عندهم الأمير نوروز الحافظى، وعاد القاضى «5» الشافعى وناصر الدين الرمّاح بالجواب، فعند ذلك قال السلطان ليشبك: دونك وغرماءك؛ فطلب يشبك المساعدة من السلطان عليهم، فلم يفعل، فنزل يشبك إلى داره وقد اختلّ أمره.(12/274)
ثم عاد إلى القلعة ليطلع إلى السلطان فلم يمكّن منها، وتخلّى عنه المماليك السلطانية؛ فلم تكن غير «1» ساعة حتى أقبل جكم وسودون طاز ونوروز فى عددهم وأصحابهم.
وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وسودون طاز عن يمينه، وساروا نحو يشبك، فنادى يشبك: «من قاتل معى من المماليك السلطانية فله عشرة آلاف درهم» فأتاه طائفة، وخرج من بيته وصفّ عساكره، فحمل عليه نوروز بمن معه، وصدمه صدمة واحدة كسره فيها؛ فانهزم إلى داره وقاتل بها ساعة، ثم هرب منها، فنهبت داره ودار قطلوبغا الكركىّ.
وكان بيت يشبك دار منجك اليوسفى الملاصقة لمدرسة «2» [السلطان «3» ] حسن وهى الآن على ملك تمربغا الظاهرى الدوادار، ودار قطلوبغا [الكركى «4» ] البيت الذي تجاهه، وقبض على آقباى الكركى الخازندار، فشفع فيه السلطان، فترك فى داره إلى يوم الخميس ثانى عشره، فركب الأمير جكم إليه، وأخذه وطلع به إلى الإسطبل السلطانىّ وقيّده.
ثم قبض على الأمير قطلوبغا الكركى الحسنى من بيت الأمير يلبغا «5» الناصرى وقيّده.(12/275)
ثم قبض على جركس القاسمى المصارع من عند سودون الجلب، وقيّده وبعث الثلاثة إلى الإسكندرية، والثلاثة أمراء ألوف من أصحاب يشبك، وسافروا إلى الإسكندرية فى ليلة السبت رابع عشر شوّال المذكور من سنة ثلاث وثمانمائة، وكتب جكم بإحضار سودون الفقيه من الإسكندرية.
وسودون الفقيه هذا هو حمو الملك الظاهر ططر، وجدّ الملك الصالح محمد ابن ططر الآتى ذكرهما. وطلب جكم الأمير يشبك الشعبانى الدوادار فلم يقدر عليه إلى ليلة الاثنين سادس عشره دلّ عليه أنه فى تربة «1» بالقرافة، فنزل إليه جكم فلمّا أحيط بيشبك [وهو «2» ] فى التربة المذكورة ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشجّ جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز الحافظى، فقيّد وسيّر من ليلته إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفى يوم الاثنين خلع على سعد الدين إبراهيم بن غراب باستمراره [فى وظائفه «3» ] وهو أحد أصحاب يشبك بعد أن اجتهد غاية الاجتهاد فى رضا جكم عليه فلم يقدر.(12/276)
ثم فى ثامن عشره أخلع السلطان على الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس باستمراره على نيابته، وهى خلعة السفر «1» ، وكان له من يوم قدم من أسر تيمور بالقاهرة فى عمل مصالحه، وكذلك الأمير دقماق نائب صفد خلع عليه خلعة السفر.
وكان دقماق أولا نائب حماة، ثم صار الآن فى نيابة صفد، وأذن لهما بالسفر إلى محلّ كفالتهما «2» .
وفى تاسع عشره خلع السلطان الملك الناصر على الأمير جكم باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن يشبك الشعبانى، بحكم حبسه بالإسكندرية، وعلى سودون من زاده باستقراره خازندارا، عوضا عن آقباى الكركى، وعلى أرغون «3» من يشبغا باستقراره شادّ الشراب «4» خاناه، عوضا عن قطلوبغا الكركى، وأخلع على بيسق الشيخى خلعة إمرة الحاج على العادة، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحجّ بمكّة لعمارة «5» ما بقى من المسجد الحرام.
ثم فى سادس عشرين شوّال أخلع السلطان على الأمير يونس الحافظى باستقراره فى نيابة حماة بعد عزل الأمير عمر بن الهيدبانى «6» ، وفى هذا اليوم أنعم على(12/277)
الأمير جكم من عوض الدوادار بإقطاع يشبك الشعبانى الدوادار، وعلى سودون الطيّار بإقطاع الأمير جكم، وأنعم بإقطاع آقباى الكركىّ على قانى باى العلائى، وبإقطاع قطلوبغا الكركى على تمربغا من باشاه المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس القاسمى المصارع على سودون من زاده بستّين فارسا.
ثم فى أوّل ذى القعدة ألزم سعد الدين «1» بن غراب بتجهيز نفقة المماليك السلطانية، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، ويلبغا السالمى بمائة ألف دينار، فشرع الجميع فى تجهيزها.
ثم قبض على السالمى وصودر، وعذّب بأنواع العذاب، ثم أفرج عنه بعد مدّة، واستمرّ الحال على أن جكم صار متحدّثا فى المملكة.
ثم فى رابع ذى الحجة اختفى سعد الدين بن غراب «2» ، وأخوه فخر الدين ماجد، ولم يعرف خبرهما. فاستقرّ ناصر الدين محمد بن سنقر فى الأستداريّة، عوضا عن سعد الدين بن غراب، مضافا لما معه من الذخيرة والأملاك.
ثم استعفى سودون من زاده من وظيفة الخازندارية «3» ، وأخلع على الوزير علم الدين أبى كمّ باستقراره فى نظر «4» الخاصّ مضافا على الوزر عوضا عن(12/278)
؟؟؟ الدين بن غراب، وأخلع على سعد الدين بن أبى الفرج بن بنت الملكى، صاحب ديوان «1» الجيش، واستقرّ فى نظر الجيش «2» عوضا عن ابن غراب.
ثم فى تاسع ذى الحجة ورد كتاب مشايخ تروجة «3» يتضمن قدوم سعد بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطانىّ باستخراج الأموال، ومسيرهم معه إلى الإسكندريّة لإخراج يشبك والأمراء من سجن الإسكندرية، وإحضارهم إلى القاهرة. فأخلع «4» السلطان على رسولهم، وكتب على يده مثالا سلطانيّا بالقبض على ابن غراب ومن معه، وإرسالهم إلى القاهرة. ثم قدم كتاب نائب الإسكندرية بأن سعد الدين ابن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بعلام «5» الخدّام بالزّعر إلى تروجة، فأعطى لكل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرّر معهم قتل النائب، فبلغ ذلك النائب، فلما قدموا إلى الإسكندرية قبض على جماعة منهم وقتل بعضهم وقطع أيدى بعضهم، وضرب علّام الخدّام بالمقارع، وأنه أيضا ظفر بكتاب ابن غراب لبعض تجار الإسكندرية، وفيه أن يجتمع بالنائب ويؤكّد(12/279)
عليه ألّا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر فى أمر يشبك الدوادار ومن معه من الأمراء، وأن يجعل باله لا يجرى عليه مثل ما جرى على ابن عرّام فى قتله الأمير بركة.
ثم وردت كتب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أمانا، وكتب «1» الأمراء ما خلا الأمير جكم، فإنه كتب إليه كتابا ولم يكتب إليه أمانا، فقدم إلى القاهرة فى حادى عشرينه فى الليل، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار الأمير سودون طاز أمير آخور، فتحدّث له مع سودون طاز وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومى الثلاثاء والأربعاء، حتى استرضى له الأمراء، وأحضره فى يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، وخلع عليه باستقراره فى وظائفه القديمة:
الأستادارية، ونظر الجيش، والخاص.
ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه جكم من الدخول إليه وردّه وما زال يسعى ابن غراب حتى دخل إليه مع الأمير سودون من زادة، وقبّل يده فلم يكلّمه كلمة، وأعرض عنه، فلم يزل حتى أرضاه بعد ذلك، ثم فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة أنفق ابن غراب تتمّة النفقة على المماليك السلطانية.
فأعطى كل واحد ألف درهم، وعند ما نزل من القلعة أدركه عدّة من المماليك السلطانية ورجموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به حتى أجاره.(12/280)
[ما وقع من الحوادث سنة 804]
ثم فى محرم سنة أربع وثمانمائة، كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الوالد «1» ، فكتب للوالد بذلك بعض أعيان أمراء مصر، فسبق ذلك المثال السلطانى، فركب الوالد من دار السعادة «2» بدمشق فى نفر من مماليكه فى ليلة الجمعة ثانى عشرين المحرم وخرج إلى حلب، فتعين لنيابة «3» دمشق عوضا عن الوالد، الأمير آقبغا الجمالى الأطروش أتابك دمشق وكتب بانتقال دقماق نائب صفد إلى نيابة حلب، عوضا عن دمرداش المحمّدى بحكم عصيانه وانضمامه على الوالد لمّا قدم عليه من دمشق، واستقر الأمير تمربغا المنجكى فى نيابة صفد عوضا عن دقماق.
وأما الوالد رحمه الله فإنه لمّا سار إلى حلب وجد الأمير دمرداش نائب حلب قد قبض على الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان «4» ، فأمره الوالد(12/281)
بإطلاقه، فاطلقه، واتفق الجميع على الخروج عن طاعة السلطان بسبب من حوله من الأمراء، واجتمع عليهم خلائق من التركمان وغيرهم على ما سيأتى ذكره.
ثم وقع بين أمراء مصر، وهو أن سودون الحمزاوى وقع بينه وبين أكابر الأمراء، مثل نوروز، وجكم، وسودون طاز، وتمربغا المشطوب، وقانى باى العلائى، فانقطعوا الجميع عن الخدمة السلطانية من أول صفر، وعزموا على إثارة فتنة، فلبس سودون الحمزاوى آلة الحرب فى داره، واجتمع عليه من يلوذ به.
وكان الأمراء المذكورون، قد عيّنوا قبل ذلك للخروج من ديار مصر ثمانية انفس، وهم سودون الحمزاوى المذكور، وسودون بقجة وهما «1» من أمراء الطبلخانات ورءوس نوب، وأزبك الدوادار، وسودون بشتو وهما من أمراء العشرات، وقانى باى الخازندار، وبردبك وهما من الخاصكية، وآخرين «2» ، ولما لبس الحمزاوى مشت الرسل بينهم فى الصلح إلى «3» أن وقع الاتفاق على خروج سودون الحمزاوى إلى نيابة صفد، وإقامة الباقين بمصر من غير حضورهم إلى الخدمة السلطانية.
ثم فى سابع عشرين صفر المذكور، أخلع على سودون الحمزاوى بنيابة صفد وبطل ولاية تمربغا المنجكى من صفد.
وفى هذا الشهر، حضر الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد كان «4» ، والأمير عمر ابن الطحّان نائب غزّة كان، من أسر تيمور لنك، وذكرا أنّهما فارقاه من أطراف بغداد.(12/282)
ثم فى يوم الاثنين نصف شهر ربيع الأوّل من سنة أربع وثمانمائة، طلع الأمير نوروز الخدمة السلطانية، بعد ما انقطع عنها زيادة على شهر، فخلع عليه خلعة الرضا.
ثم فى ثامن عشره، طلع الأمير جكم من عوض الدوادار الخدمة بعد ما انقطع عنها مدّة شهرين وخلع عليه أيضا، هذا ودقماق نائب حلب، وأقبغا الأطروش نائب الشأم فى الاستعداد وجمع التركمان والعشير لقتال الوالد ودمرداش.
ثم خرج الوالد ودمرداش من حلب إلى ظاهرها لانتظار دقماق وقتاله.
ثم إن السلطان فى شهر ربيع الآخر أخلع على جمق رأس نوبة باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن چركس المصارع، وكانت شاعرة من يوم مسك چركس المذكور، واستقرّ مبارك شاه الحاجب وزيرا عوضا عن علم الدين يحيى المعروف بأبى كمّ، وقبض على أبى كم وسلّم لشادّ الدواوين «1» للمصادرة.
وفى العشر الأخير من هذا الشهر استقر جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى قاضى قضاة الديار المصرية بعد عزل القاضى ناصر الدين الصالحى، وهذه أول ولاية جلال الدين البلقينى.
ثم فى ثامن جمادى الأولى استقر الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد كان، فى نيابة غزّة عوضا عن الأمير صرق بعد عزله.
ثم ابتدأت الفتنة بين الأمراء، وطال الأمر وانقطع جكم ونوروز عن الخدمة السلطانية أياما كثيرة.(12/283)
ودخل شهر رمضان وانقضى، ولم يحضروا الهناء بالعيد، ولا صلّوا صلاة العيد مع السلطان.
واستهلّ شوّال فقويت فيه القالة بين الأمراء، وأرجف بوقوع الحرب غير مرّة.
فلما كان يوم الجمعة ثانى شوّال ركب الأمراء للحرب بالسلاح، ونزل الملك الناصر إلى الإسطبل السلطانىّ عند سودون طاز الأمير أخور، وركب الأمير نوروز وجكم وخصمهما سودون طاز، ووقع الحرب بينهم من بكرة النهار إلى العصر.
فلما كان آخر النّهار بعث السلطان بالخليفة المتوكّل على الله والقضاة الأربعة إلى الأمير نوروز فى طلب الصّلح، فلم يجد نوروز بدّا من الصلح وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكف الأمير جكم أيضا عن الحرب «1» ، وكان ذلك مكيدة من سودون طاز، فإنه خاف أن يغلب ويسلمه السلطان إلى أخصامه، فتمّت مكيدته بعد ما كاد أن يؤخذ، لقوّة نوروز وجكم بمن معهما من الأمراء والخاصكيّة، وسكنت الفتنة، وبات الناس فى أمن وسكون.
فلما كان يوم السبت ركب الخليفة والقضاة، وحلّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، فطلع الأمير نوروز إلى الحدمة فى يوم الاثنين خامس شوّال، وخلع عليه السلطان، وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم طلع الأمير جكم فى ثامنه وهو خائف ولم يطلع قانى باى ولا قرقماس، وطلبا فلم يوجدا فجهز إليهما خلعتان، على أن يكون قانى باى نائبا بحماه، وقرقماس حاجبا بدمشق، ونزل جكم بغير خلعة فكاد أن يهلك لكونه لم يخلع عليه.(12/284)
وعند ما جلس بداره نزل إليه جرباش الشيخى رأس نوبة، وبشباى الحاجب الثانى يطلبان قانى باى منه ظنا أنه اختفى عنده، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما بجواب ملفّق.
ثم ركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكى الخازندار، ويشبك الساقى، وهو الذي صار أتابكا فى دولة الأشرف برسباى، ويشبك العثمانى، وألطنبغا جاموس، وجانيباى الطيبى، وبرسبغا الدوادار، وطرباى الدوادار، وساروا الجميع إلى بركة الحبش خارج القاهرة، ولحق بهم فى الحال قانى باى، وقرقماس الرماح، وأرغز، وقبجق، ونحو الخمسمائة مملوك من المماليك السلطانية، وغيرهم وأقاموا جميعا ببركة الحبش إلى ليلة السبت عاشر شوال فأتاهم الأمير نوروز، وسودون من زاده رأس نوبة، وتمربغا المشطوب، فى نحو الألفين من المماليك السلطانية وغيرهم، وأقاموا جميعا ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء رابع عشر شوال، وأمرهم فى زيادة وقوّة، بمن يأتيهم أوّلا بأوّل من الأمراء والمماليك السلطانية.
وفى الليلة المذكورة، دبّر سودون طاز أمره وطلع إلى السلطان، وأنزله إلى الإسطبل السلطانىّ وبات به.
فلمّا أصبح بكرة يوم الأربعاء المذكور، ركب السلطان فيمن معه من الأمراء والخاصكية ونزل من القلعة، وسار نحو بركة الحبش من باب «1» القرافة، بعد ما نادى فى أمسه بالعرض، واجتمع إليه جميع عساكره، وقد صف سودون طاز عساكر(12/285)
السلطان، فلما قارب بركة الحبش، ركب نوروز وجكم بمن معهما أيضا، من الأمراء والمماليك السلطانية، فصدمهم سودون طاز بالعسكر السلطانىّ صدمه كسرهم فيها، وأسر الأمير تمربغا المشطوب، وسودون من زاده، وعلى بن إينال وأرغز، وهرب نوروز وجكم فى عدّة كثيرة من الأمراء والمماليك إلى «1» بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمراء وسودون طاز مظفّرا منصورا، وقيّد سودون طاز الأمراء الممسوكين «2» ، وبعثهم إلى الإسكندرية فى ليلة السبت سابع عشره، وسار نوروز وجكم إلى أن وصلا إلى منية القائد «3» ، ثم عادوا إلى طموه «4» ونزلوا على ناحية منبابة «5» ، من برّ الجيزة تجاه بولاق، وطلب الأمير يشبك الشعبانى الدوادار من سجن الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين تاسع عشره إلى قلعة الجبل، ومعه خلائق ممن خرج إلى لقائه، فقبّل الأرض ونزل إلى داره، كل ذلك والأمراء بالجيزة.
فلما كان ليلة الثلاثاء عشرين شوّال ركب الأمير نوروز نصف الليل وعدّى النيل، وحصر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس، وكان قد تحدّث هو وإينال باى من قجماس مع السلطان فى أمر نوروز حتى أمّنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك(12/286)
أيضا من مكر سودون طاز، فمشى ذلك على نوروز وحضر، فاختلّ عند ذلك أمر جكم، وتفرّق منه من كان معه، وصار فريدا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يسأله «1» فى الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباى الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء حادى عشرين شوّال إلى باب السلسلة «2» من الإسطبل السلطانى؛ فتسلمه عدوّه الأمير سودون طاز، وأصبح وقد حضر الأمير يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس ثانى عشرينه، قيّد وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها فى البرج الذي كان سجن يشبك الدوادار فيه، وسكن يشبك مكانه وعلى إقطاعه بعد ما حبس بالإسكندرية نحوا من سنة، واستقرّ دوادارا على عادته عوضا عن جكم المذكور؛ على ما سيأتى ذكره.
وأما أمر البلاد الشأميّة فإن دقماق جمع جموعه من العساكر والتركمان لقتال الوالد ودمرداش نائب حلب، وسار إلى جهة الوالد «3» ، فخرج إليه الوالد وعلى مقدّمته دمرداش، وصدموه صدمة واحدة انكسر فيها بجموعه وولّوا الأدبار، ونهب ما معهم. وعاد دقماق منهزما إلى دمشق، واستنجد بنائبها الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، وكتب أيضا دقماق لجميع نوّاب البلاد الشامية بالحضور والقيام بنصرة السلطان، وجمع من التركمان والعربان جمعا كبيرا، وخرج معه غالب العساكر(12/287)
الشأمية، وعاد إلى جهة حلب بعساكر عظيمة، والوالد ودمرداش فى مماليكهم لا غير؛ مع جدب البلاد الحلبية، وخراب قراها، فإنه عقيب توجه تيمور بسنة واحدة وأشهر.
فلما قارب دقماق بعساكره حلب أشار دمرداش على الوالد بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال الوالد لا بدّ من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحق، فتوجّها «1» لدقماق بمماليكهما، وقد صف دقماق عساكره واقتتلا قتالا شديدا، وثبت كل من الفريقين وقد أشرف دقماق على الهزيمة.
وبينما هو فى ذلك خرج من عسكر الوالد ودمرداش جماعة إلى دقماق، فانكسرت عند ذلك الميمنة.
ثم انهزم الجميع إلى نحو بلاد التركمان، فلم يتبعهم أحد من عساكر دقماق، وملك دقماق حلب، واستمرّ الوالد ودمرداش ببلاد التركمان؛ على ما سيأتى ذكره.
وأما ما وقع بمصر فإنه لما حبس جكم من عوض بالإسكندرية، أخلع على نوروز الحافظى فى بيت بيبرس فى يوم الأربعاء بنيابة دمشق، وتوجه إلى داره.
فلما كان من الغد فى يوم الخميس قبض عليه وحمل إلى باب السلسلة فقيد به وحمل من ليلته، وهى ليلة الجمعة ثالث عشرين شوال إلى الإسكندرية، فسجن بها، وغضب لذلك الأميران بيبرس الأتابك، وإينال باى من «2» قجماس، وتركا طلوع الخدمة السلطانية أياما.
ثم أرضيا وطلعا إلى الخدمة، وراحت على نوروز، واختفى الأمير قانى باى العلائى وقرقماس الرمّاح، فلم يعرف خبرهما.(12/288)
فلما كان يوم الاثنين ثالث ذى القعدة، أنعم السلطان بإقطاع الأمير نوروز على الأمير إينال العلائى المعروف بحطب رأس نوبة بعد أن أخرجوا منه النحريرية.
وأنعم السلطان بإقطاع قانى باى العلائى على الأمير علّان جلّق، وبإقطاع تمربغا المشطوب على الأمير بشباى الحاجب الثانى، فلم يرض به، فاستقر باسم قطلوبغا الكركى، وكان إقطاعه قبل حبسه بالإسكندرية، وهو إلى الآن لم يحضر من سجن الإسكندرية. وبقى بشباى على طبلخانته.
وأنعم بإقطاع جكم من عوض على الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، وهو إقطاعه أيضا قبل حبسه بالإسكندرية.
وأنعم على الأمير بيغوت بإمرة طبلخاناة، وعلى أسنبغا المصارع بإمرة طبلخاناة وعلى سودون بشتا «1» بإمرة طبلخاناة.
ثم فى سادس ذى القعدة، قدم الأمراء من سجن الإسكندرية من أصحاب يشبك، وهم الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار، وقطلوبغا الحسنى الكركى و چركس القاسمى المصارع، وصعدوا إلى القلعة، وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ثم نزلوا إلى بيوتهم، ثم رسم السلطان بانتقال الأمير شيخ المحمودى الساقى من نيابة طرابلس إلى نيابة دمشق، بعد عزل الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، وتوجّهه إلى القدس بطّالا.
ولما كان يوم الثلاثاء ثامن عشر ذى القعدة لعب الأمراء الكرة فى بيت الأتابك بيبرس، فاجتمع على باب بيبرس من المماليك السلطانية نحو الألف مملوك يريدون الفتك بسودون طاز.(12/289)
وعند ما خرج سودون طاز من بيت بيبرس هموا به، فتحاوطته أصحابه ومماليكه، وساق سودون حتى لحق بباب السلسلة، وامتنع بالإسطبل السلطانى حيث هو سكنه، ووقع كلام كثير. ثم خمدت الفتنة.
فلما كان رابع عشرينه، خلع السلطان على الأمير يشبك الشعبانى باستقراره دوادارا على عادته، عوضا عن الأمير جكم من عوض بحكم حبسه.
ثم فى يوم السبت رابع عشر ذى الحجة خلع السلطان على الأمير آقباى الكركى باستقراره خازندارا على عادته.
ثم فى سلخ ذى الحجة استقر الأمير جمق الدوادار الثانى فى نيابة الكرك، واستقر الأمير علّان جلّق أحد مقدّمى الألوف بديار مصر فى نيابة حماة، بعد عزل يونس الحافظى، فشقّ ذلك على سودون طاز.
ثم كتب للأمير دمرداش أمانا، وأنه يستقر فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير شيخ المحمودى المنتقل إلى نيابة دمشق، وكتب للأمير على بك بن دلغادر بنيابة عين تاب، وللأمير عمر بن الطحان بنيابة ملطية.
وكانت الأخبار وردت بجمع التركمان ونزولهم مع دمرداش إلى حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع معه نائب حماة والأمير نعير، وأن تيمور لنك نازل على مدينة سيواس، ولم يحجّ أحد فى هذه السنة من الشام ولا من العراق.
[ما وقع من الحوادث سنة 805]
وفى يوم ثالث «1» المحرم من سنة خمس وثمانمائة أنعم السلطان بإقطاع علان جلّق المستقر فى نيابة حماة على الأمير چركس القاسمى المصارع، وبإقطاع جمق المستقر فى نيابة الكرك على آقباى الكركىّ الخازندار، وزيد عليه قرية سمسطا «2» .(12/290)
هذا والكلام يكثر بين الأمراء والمماليك، والناس فى تخوّف من وقوع فتنة.
فلما كان سابع المحرم نزل الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير من الإسطبل السلطانى بأهله ومماليكه إلى داره، وعزل نفسه عن الأمير آخوريّة، وصار من جملة الأمراء.
ثم فى هذا الشهر قدم الوالد إلى دمشق بأمان كان كتب له من قبل السلطان مع كتب جميع الأمراء.
فلما وصل إلى دمشق خرج الأمير شيخ المحمودى إلى تلقّيه، حتى عاد معه إلى دمشق وأنزله بالقرمانية، وأكرمه غاية الإكرام بحيث إنه جاءه فى يوم واحد ثلاث مرات.
ثم خرج الوالد بعد أيام من دمشق يريد الديار المصرية، فخرج الأمير شيخ أيضا لوداعه، وسار حتى وصل [إلى «1» ] مصر فى سلخ المحرم. بعد ما خرج الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض بين يدى السلطان، فأخلع السلطان عليه كاملّية بمقلب سمّور، وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم نزل إلى داره ومعه سائر الأمراء؛ وظهر الأمير قرقماس الرّماح، فشفع فيه الوالد، فإنه كان أنّبه «2» ، فقبل السلطان شفاعته.
وأما أمر سودون طاز، فإنه أقام بداره إلى ليلة الاثنين ثالث عشر صفر من سنة خمس وثمانمائة المذكورة، خرج من القاهرة بمماليكه وحواشيه إلى المرج «3»(12/291)
والزيات «1» بالقرب من خانقاه سرياقوس «2» ليقيم هناك حتى يأتيه من وافقه ويركب على أخصامه ويقهرهم ويعود إلى وظيفته.
وكان خبر سودون طاز أنه لما وقع بينه وبين يشبك أولا وصار من حزب نوروز وجكم وقبضوا على يشبك وأصحابه من الأمراء وسجنوا بثغر الاسكندرية حسبما تقدم ذكره، صار تحكّم مصر له ويشاركه فى ذلك نوروز وجكم فثقلا عليه، وأراد أن يستبدّ بالأمر والنهى وحده، فدبّر فى إخراجهما حتى تم له ذلك، ظنا منه أنه ينفرد بالأمر بعدهما، فانتدب إليه يشبك الشعبانى الدوادار وأصحابه لما كان فى نفوسهم منه قديما بعد مجيئهم من حبس الاسكندرية، لأنه كان انحصر لخروجهم من الحبس.
وكان الملك الناصر يميل إلى يشبك وقطلوبغا الكركى، لأنّ كل واحد منهما كان لالته «3» .
وكان الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار يعادى سودون طاز قديما ويقول «طاز واحد يكفى بمصر، فأنا طاز وهو طاز ما تحملنا مصر» واتفقوا الجميع عليه، وظاهرهم السلطان فى الباطن، فتلاشى أمر سودون طاز لذلك، وما زالوا فى التدبير عليه حتى نزل من الإسطبل السلطانى، خوفا على نفسه من كثرة جموع يشبك الدوادار، وجرأة آقباى الخازندار الكركى؛ فعندما نزل ظن أن السلطان يقوم بناصره، فلم يلتفت السلطان إليه، وأقام هذه المدّة من جملة الأمراء،(12/292)
فشق عليه عدم تحكمه فى الدولة، وكفه عن الأمر والنهى، وكان اعتاد ذلك، فخرج لتأتيه المماليك السلطانية وغيرهم، فإنه كان له عليهم أياد وإحسان زائد عن الوصف- ليحارب بهم يشبك وطائفته، ويخرجهم من الديار المصرية، أو يقبض عليهم كما فعل أوّلا ويستبدّ بعدهم بالأمر، فجاء حساب الدهر غير حسابه، ولم يخرج إليه أحد غير أصحابه الذين خرجوا معه، وأخلع السلطان على الأمير إينال باى من قجماس باستقراره عوضه أمير آخورا كبيرا فى يوم الاثنين عشرين صفر، وبعث السلطان إلى سودون طاز بالأمير قطلوبغا الكركى يأمره بالعود على إقطاعه وإمرته من غير إقامة فتنة، وإن أراد البلاد الشأمية فله ما يختاره من النيابات بها، فامتنع من ذلك وقال: لا بدّ من إخراج آقباى طاز الكركى الخازندار أوّلا إلى بلاد الشام، فلم يوافق السلطان على إخراج آقباى، وبعث إليه ثانيا بالأمير بشباى الحاجب الثانى فلم يوافق، فبعث إليه مرة ثالثة فلم يرض، وأبى إلا ما قاله أوّلا من إخراج آقباى، فلما يئس السلطان منه ركب بالعساكر من قلعة الجبل «1» ، ونزل(12/293)
جميع عساكره بالسلاح وآلة الحرب فى يوم الأربعاء سادس شهر ربيع الأوّل، فلم يثبت سودون طاز، ورحل بمن معه وهم نحو الخمسمائة من المماليك السلطانية ومماليكه، وقد ظهر الأمير قانى باى العلائى ولحق به من نحو عشرة أيام، وصار من حزبه، فتبعه السلطان بعساكره وهو يظن أنه توجه إلى بلبيس.
وكان سودون عند ما وصل إلى سرياقوس نزل من الخليج ومضى إلى جهة القاهرة وعبر من باب «1» البحر بالمقس، وتوجّه إلى الميدان، وهجم قانى باى العلائى فى عدّة كبيرة على الرّميلة «2» تحت القلعة ليأخذ باب السلسلة، فلم يقدر على ذلك، ومر السلطان الملك الناصر وهو سائق على طريق بلبيس، وتفرّقت عنه العساكر وتاهوا فى عدّة طرق.
وبينما السلطان فى ذلك بلغه أن سودون طاز توجه إلى نحو القاهرة وهو يحاصر قلعة الجبل، فرجع بأمرائه مسرعا يربد القلعة حتى وصل إليها بعد العصر، وقد بلغ منه ومن عساكره التعب مبلغا عظيما، ونزل السلطان بالمقعد المطلّ على الرّميلة من الإسطبل بباب السلسلة، وندب الأمراء والمماليك لقتال سودون طاز، فقاتلوه فى الأزقّة طعنا بالرّماح ساعة فلم يثبت، وانهزم بمن معه، وقد جرح من الفريقين جماعة كثيرة، وحال الليل بينهم، وتفرّق أصحاب سودون طاز عنه، وتوجّه كلّ واحد إلى داره، وبات السلطان ومن معه على تخوّف، وأصبح من الغد فلم يظهر لسودون طاز ولا قانى باى خبر، ودام ذلك إلى الليل، فلم يشعر الأمير يشبك وهو جالس بداره بعد عشاء الآخرة إلا وسودون طاز دخل عليه فى ثلاثة(12/294)
أنفس، وترامى عليه، فقبله وزاد «1» فى إكرامه وأنزله عنده، وأصبح يوم الجمعة كتب سودون طاز وصيّته وأقام بدار يشبك إلى ليلة الأحد عاشره، فأنزل فى حرّاقة وتوجه إلى [ثغر «2» ] دمياط «3» بطّالا بغير قيد، ورتّب له بها ما يكفيه، بعد أن أنعم عليه الأمير يشبك بألف دينار مكافأة له على ما كان سعى فى أمره حتّى أخرجه من حبس الإسكندرية وعوّده إلى وظيفته وإبقائه فى قيد الحياة، فإن جكم الدوادار كان أراد قتله عند ما ظفر به، وحبسه بالإسكندرية لولا سودون طاز هذا.
وأمّا قانى باى هذا «4» فإنه اختفى ثانيا فلم يعرف له خبر، وسكنت الفتنة.
فلمّا كان خامس عشرين شهر ربيع الأوّل قدم الأمير سودون الحمزاوى نائب صفد إلى القاهرة باستدعاء من السلطان صحبة الطواشى عبد اللطيف اللّالا بسعى الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار فى ذلك لصداقة كانت بينهما.
واخلع السلطان على الأمير شيخ السليمانى شاد الشراب خاناه، واستقرّ فى نيابة صفد عوضا عن سودون الحمزاوى، وأنعم السلطان على سودون الحمزاوى بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة.(12/295)
ثم أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة وتقدمة [ألف «1» ] ، وأزيد مدينة أبيار «2» من الديوان المفرد، ورسم له أن يجلس رأس ميسرة.
ثم أخرج «3» الأمير قرقماس الرمّاح إلى دمشق على إقطاع الأمير صرق. وأخلع «4» السلطان على سودون الحمزاوى المعزول عن نيابة صفد باستقراره شادّ الشراب خاناه عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن المنتقل إلى نيابة صفد، فلم يقم سودون الحمزاوى فى المشدية إلا أياما، ومرض صديقه الأمير آقباى الكركى الخازندار ومات، فولّى الخازندارية عوضه فى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة.
ثم فى ليلة الأربعاء ثالث عشرين [جمادى الآخرة «5» ] غمز على قانى باى العلائى فى دار فكبس عليها «6» ، وأخذ منها، وقيّد وحمل إلى الإسكندرية.
وفى هذه الأيام ورد الخبر أن سودون طاز خرج من ثغر دمياط يوم الخميس رابع عشرين جمادى الآخرة فى طائفة، وأنه اجتمع عليه جماعة كبيرة من العربان والمماليك، فندب السلطان لقتاله الوالد والأمير تمراز الناصرى أمير مجلس وسودون الحمزاوى فى عدة أمراء أخر، وخرجوا من القاهرة، فبلغهم أنه عند الأمير [علم «7» الدين سليمان بن] بقر بالشرقية جاءه ليساعده على غرضه، فعند ما أتاه أرسل [ابن «8» ] بقر إلى الأمراء يعلمهم بأن سودون طاز عنده، فطرقه الأمراء وقبضوا عليه وأحضروه إلى القلعة فى يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة.(12/296)
ثم أصبح السلطان فى يوم الخميس أول شهر رجب، سمّر خمسة من المماليك السلطانية ممن كان مع [الأمير «1» ] سودون طاز، أحدهم سودون الجلب الآتى ذكره فى عدة أماكن، ثم جانبك القرمانى حاجب حجّاب زماننا هذا، فاجتمع المماليك السلطانية لإقامة الفتنة بسببهم: وتكلّم الأمراء مع السلطان فى ذلك، فخلّى عنهم، وقيّدوا وسجنوا بخزانة شمائل، ونفى سودون الجلب إلى قبرس بلاد الفرنج من الإسكندرية.
ثم فى ثالث شهر رجب حمل سودون طاز مقيّدا إلى الإسكندرية، وسجن بها عند غريمه الأمير جكم من عوض الدوادار.
وفى هذا الشهر ورد الخبر من دمشق أنه أقيمت الجمعة بالجامع الأموى وهو خراب، وكان بطّل منه صلاة الجمعة من بعد كائنة تيمور، وأن الأمير شيخا المحمودى نائب دمشق سكن بدار السعادة بعد أن عمرت، وكانت حرقت أيضا فى نوبة تيمور، وأن سعر الذهب زاد عن الحدّ، فأجيب: بأن الذهب [قد «2» ] زاد سعره بمصر أيضا، حتى صار سعر المثقال الهرجة «3» بخمسة وستين درهما، والدينار المشخّص «4» ، بستّين درهما.
ثم عقد السلطان للأمير «5» سودون الحمزاوى على أخته خوند زينب بنت الملك الظاهر برقوق، وعمرها نحو الثمان سنين، فصارت أخوات السلطان الثلاث(12/297)
كل واحدة مع أمير من أمرائه، فخوند سارّة زوجة الأمير نوروز الحافظى، وخوند بيرم زوجة الأمير إينال باى بن قجماس، وخوند زينب وهى أصغر هن مع سودون الحمزاوى هذا.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشرين شهر رجب أخلع السلطان على قاضى القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستقراره فى قضاء الحنفية بالديار المصرية بعد أن عزل القاضى أمين الدين عبد الوهاب الطرابلسى بسفارة الوالد لصحبة كانت بينهما من حلب.
ثم فى ليلة الثلاثاء سابع عشرين شهر رجب المذكور أرسل السلطان إلى الإسكندرية الأمير أقبردى والأمير تنبك من الأمراء العشرات فى ثلاثين مملوكا من المماليك السلطانية، فوصلوها فى تاسع شعبان، وأخرجوا الأمير نوروز الحافظى، وجكم من عوض، وسودون طاز، وقانى باى العلائى من سجن الإسكندرية وأنزلوهم فى البحر المالح، وساروا بهم إلى البلاد الشأمية، فحبس نوروز وقانى باى فى قلعة الصّبيبة «1» من عمل دمشق. وحبس جكم فى حصن الأكراد «2» من عمل طرابلس، وحبس سودون طاز فى قلعة المرقب «3» ، ولم يبق بسجن الإسكندرية من الأمراء غير سودون من زاده، وتمربغا المشطوب.(12/298)
ثم حوّل جكم بعد مدّة إلى قلعة المرقب عند غريمه سودون طاز.
ثم فى ثامن عشر شوّال خلع السلطان على الأمير بكتمر الرّكنى أمير سلاح باستقراره رأس نوبة الأمراء عوضا عن نوروز الحافظى، واستقرّ الأمير تمراز الناصرىّ أمير مجلس عوضه أمير سلاح، واستقرّ سودون الماردانى رأس نوبة النّوب أمير مجلس عوضا عن تمراز، واستقرّ سودون الحمزاوى رأس نوبة النوب عوضا عن سودون الماردانى، وأخلع السلطان على الأمير طوخ باستقراره خازندارا عوضا عن سودون الحمزاوى.
ثم فى خامس عشرين ذى القعدة أفرج عن سعد الدين إبراهيم بن غراب وأخيه فخر الدين ماجد، وكان السلطان قبض عليهما من شهر رمضان، وولّى وظائفهما جماعة، واستمرّا فى المصادرة إلى يومنا هذا، وكان الإفراج عنهما بعد ما التزم سعد الدين بن غراب بحمل ألف ألف درهم [فضة «1» ] وفخر الدين بثلاثمائة ألف درهم، ونقلا إلى السالمىّ ليستخرج الأموال منهما ثم يقتلهما «2» .
وكان ابن قايماز أهانهما وضرب فخر الدين وأهانه، فلم يعاملهما السالمىّ [بمكروه «3» ] ولم ينتقم منهما، وخاف سوء العاقبة، فعاملهما من الاحسان والإكرام بما لم يكن ببال أحد، وما زال يسعى فى أمرهما حتى نقلا من عنده لبيت شادّ الدّواوين ناصر الدين محمد بن جلبان الحاجب، وهذا بخلاف ما كانا فعلا مع السالمىّ، فكان هو المحسن وهم المسيئون.
ثم أخلع السلطان على يلبغا السالمىّ باستقراره أستادارا، وعزل ابن قايماز، وهذه ولاية يلبغا السالمىّ الثانية.(12/299)
ثم فى سابع ذى الحجّة من سنة خمس أخرج السلطان الأمير أسنبغا المصارع، والأمير نكباى الأزدمرى وهما من أمراء الطبلخاناه بمصر إلى دمشق، وإينال المظفّرى وآخر. وهما من الأمراء العشرات، ورسم للاربعة بإقطاعات هناك، لأمر اقتضى ذلك، فساروا إلى «1» القلعة «2» .
فلما كان يوم تاسع عشرين ذى الحجّة أغلق المماليك السلطانيّة باب القصر من قلعة الجبل على من حضر من الأمراء، وعوّقوهم بسبب تأخّر جوامكهم، فنزل الأمراء من باب السرّ «3» ، ولم يقع كبير أمر، وأمر السلطان ليلبغا السالمىّ أن ينفق عليهم فنفق عليهم.
[ما وقع من الحوادث سنة 806]
ثم فى يوم الثلاثاء رابع المحرّم من سنة ستّ وثمانمائة عزل يلبغا السالمى عن الأستادارية، وأعيد إليها ركن الدين عمر بن قايماز، وقبض على السالمى وسلّم إليه.
ثم فى ثامنه أخلع السلطان على الصاحب علم الدين يحيى أبى كمّ واستقرّ فى الوزارة ونظر الخاصّ معا عوضا عن تاج الدين بن البقرى واستقر ابن البقرى على ما بيده من وظيفتى نظر الجيش ونظر ديوان المفرد «4» ، فلم يباشر أبو كمّ الوزر غير ثمانية أيام وهرب واختفى، فأعيد تاج الدين بن البقرى إليها، هذا والسالمىّ فى المصادرة.(12/300)
وفى هذه السنة كان الشراقى العظيم «1» بمصر، وعقبه الغلاء المفرط ثم الوباء، وهذه السنة هى أوّل سنين الحوادث والمحن التى خرّب فيها معظم الديار المصرية وأعمالها، من الشراقى، واختلاف الكلمة، وتغيير الولاة بالأعمال وغيرها.
ثم فى شهر ربيع الأول كتب بإحضار دقماق نائب حلب، وفيه اختفى الوزير تاج الدين بن البقرى، فخلع على سعد الدين بن غراب واستقر فى وظيفتى الأستادارية ونظر الجيش، وصرف ابن قايماز، وخلع على تاج الدين رزق الله وأعيد إلى الوزارة.
وفى خامس صفر كتب باستقرار الأمير آقبغا الجمالى الأطروش فى نيابة حلب عوضا عن دقماق، فلما بلغ دقماق أنه طلب إلى مصر هرب من حلب.
ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ قرا يوسف بن قرا محمد قدم إلى دمشق. فأنزله الأمير شيخ المحمودى بدار السعادة وأكرمه.
وكان من خبر قرا يوسف أنه حارب السلطان غياث الدين أحمد بن أويس وأخذ منه بغداد.
فلما بلغ تيمور ذلك بعث إليه عسكرا، فكسرهم قرا يوسف، فجهّز إليه تيمور جيشا ثانيا فهزموه، ففرّ بأهله وخاصّته إلى الرّحبة، فلم يمكّن منها ونهبته العرب، فسار إلى دمشق، فوافى بها السلطان أحمد بن أويس وقد قدمها أيضا قبل(12/301)
تاريخه، وأخبر الرسول أيضا أن قانى باى العلائى هرب من سجن الصّبيبة، فتأخر نوروز بالسجن ولم يعرف أين ذهب.
ثم فى يوم الثلاثاء خلع السلطان على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّى «1» واستقرّ فى نظر الخاص عوضا عن ابن البقرى، وهذه أوّل ولاية الصاحب بدر الدين ابن نصر الله للوظائف الجليلة.
ثم فى عاشره اختفى الوزير تاج الدين، وفى ثالث عشره أعيد ابن البقرى للوزر على عادته ونظر الخاص، وصرف ابن نصر الله، هذا والموت فاش بين الناس وأكثر من كان يموت الفقراء من الجوع.
ثم فى آخر جمادى الآخرة رسم بالقبض على السلطان أحمد بن أويس، وقرا يوسف بدمشق، فقبض عليهما الأمير شيخ وسجنهما.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشر شهر رجب قدم إلى القاهرة سيف الأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب بعد موته، فرسم السلطان بانتقال الأمير دمرداش المحمدى نائب طرابلس إلى نيابة حلب، وحمل إليه التقليد «2» والتشريف الأمير سودون المحمدى المعروف تلى.(12/302)
وفى أثناء ذلك ورد الخبر بأن الأمير دقماق نزل على حلب ومعه جماعة من التركمان فيهم الأمير على بك بن دلغادر، وفرّ منه أمراء حلب، فملك دقماق حلب، ورسم السلطان بانتقال الأمير شيخ السليمانى المسرطن نائب صفد إلى نيابة طرابلس، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير أقبردى، ورسم باستقرار الأمير بكتمر جلّق أحد أمراء دمشق فى نيابة صفد «1» عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وخرج الأمير إينال المأمور «2» بقتل الأمراء المسجونين بالبلاد الشامية، وقبل وصول إينال المذكور أفرج الأمير دمرداش نائب طرابلس عن الأمير جكم وعن سودون طاز، وكانا ببعض حصون طرابلس وسار بهما إلى حلب، وهذا أوّل أمر جكم وظهوره بالبلاد الشامية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجة قبض السلطان على الأمير بيبرس الدوادار الثانى، وعلى الأمير جانم من حسن شاه، وعلى الأمير سودون المحمدى تلى، وحملوا إلى سجن الإسكندرية، واستقر الأمير قرقماس أحد أمراء الطبلخانات دوادارا ثانيا عوضا عن بيبرس المذكور.
[ما وقع من الحوادث سنة 807]
ثم فى صفر من سنة سبع وثمانمائة، وقع بين الأمير يشبك الشعبانى وبين الأمير إينال باى بن قجماس الأمير آخور كبير وسبب ذلك: أن الأمير يشبك الشعبانى الدوادار صار هو مدبّر الدولة وبيده جميع أمورها من الولاية والعزل، فصار له بذلك عصبة كبيرة، فأحبوا عصبته عزل إينال باى من الأمير اخورية، لاختصاصه بالسلطان الملك الناصر لقرابته منه ثم لمصاهرته، فإنه كان تزوج بخوند(12/303)
بيرم بنت الملك الظاهر برقوق، وسكن بالإسطبل السلطانى «1» على عادة الأمير اخورية، فصار السلطان ينزل عنده ويقيم ببيت أخته ويعاقره الشراب، فعظم أمر إينال باى لذلك، فخافه حواشى يشبك، وأحبوا أن يكون چركس القاسمى المصارع عوضه أمير اخورا، واتفقوا مع يشبك على ذلك، فانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم. وتمادى الحال إلى يوم الجمعة، فأمر السلطان لإينال باى أن ينزل للأمراء المذكورين ويصالحهم، فمنع جماعة من المماليك السلطانية إينال باى أن ينزل، واشتد ما بينهم من الشر حتى خاف السلطان عاقبة ذلك، وباتوا مترقبين وقوع الحرب بينهما، وكان السلطان رسم للأمير يشبك أن يتحول من داره قبل تاريخه، فإنها مجاورة لمدرسة السلطان «2» حسن، فامتنع يشبك من ذلك(12/304)
فساء ظن السلطان به، ثم استدعى السلطان القضاة فى يوم السبت ثانى صفر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس ليصلحوا بين إينال باى وبين يشبك ورفقته، فلم يقع صلح بين الطائفتين، وتسوّر بعض أصحاب يشبك على مدرسة السلطان حسن، فتحقّق السلطان عند ذلك ما كان يظنّه بيشبك، ويحذّره منه إينال باى وغيره، وأخذ كلّ أحد من الطائفتين فى أهبة الحرب، والسلطان من جهة إينال باى، وأصبحوا جميعا يوم الأحد لابسين السلاح، وطلع أعيان الأمراء إلى السلطان، وهم الأتابك بيبرس، والوالد، وبكتمر رأس نوبة الأمراء، وسودون الماردانى أمير مجلس، وآقباى حاجب الحجّاب، وطوخ الخازندار فى آخرين من مقدّمى الألوف والطبلخانات والعشرات والمماليك السلطانيّة.
وكان مع يشبك من أمراء الألوف سبعة «1» ، وهم الأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، ويلبغا الناصرى، وإينال حطب العلائى، وقطلوبغا الكركى، وسودون الحمزاوى رأس نوبة النوب، وطولو، و چركس المصارع، وانضم معهم سعد الدين إبراهيم بن غراب الأستادار، ومحمد بن سنقر البكجرىّ، وناصر الدين محمد بن على ابن كلبك «2» ، فى جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية، وتجهّز يشبك للحرب، وأعدّ بأعلى مدرسة السلطان حسن مدافع النفط والمكاحل والأسهم للرمى على الإسطبل السلطانىّ وعلى من يقف تحته من الرميلة، واجتمع عليه خلائق، ونزل السلطان أيضا من القصر إلى الإسطبل السلطانى، وجلس بالمقعد واجتمع عليه أكابر أمرائه وخاصّكيته، ووقع القتال بين الطائفتين والحصار والرمى بالمدافع من بكرة يوم الأحد إلى ليلة الخميس سابعه، وقد ظهر أصحاب السلطان على البشبكيّة، وحصروهم والقتال مستمرّ بينهم، وأمر يشبك فى إدبار، وحال السلطان فى استظهار، إلى أن(12/305)
كانت ليلة الخميس المذكورة، فاتفق الأمير يشبك مع أصحابه، وركب نصف الليل، وخرج بمن معه من الأمراء من الرميلة على حميّة، ومرّوا من تحت الطبلخاناه إلى جهة الشام، فلم يتبعهم أحد من السلطانيّة، ونودى بالقاهرة فى آخر الليلة المذكورة بالأمان، ومنع أهل الفساد والزّعر من النّهب، ومرّ يشبك بمن معه من الأمراء والمماليك إلى قطيا، فتلقّاه مشايخ عربان العائذ «1» بالتقادم، وسار إلى العريش وقد بلغ خبره إلى غزّة، فتلقّاه نائب غزّة الأمير خير بك بعساكر غزّة، فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشر صفر «2» ونزل بها.
ثم بعث الأمير طولو إلى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام يعلمه الخبر، وسار طولو يريد دمشق حتى قدم دمشق يوم الأحد ثامن عشره، فخرج الأمير شيخ إليه، وتلقّاه وأعلمه طولو الخبر، فشقّ ذلك عليه، ووعده بالقيام بنصرته ليشبك «3» .
وكان فى ثامن عشر الشهر الخارج «4» قدم الأمير دقماق المحمّدى دمشق فأكرمه الأمير شيخ.
وخبر دقماق وسبب قدومه إلى دمشق، أنه لمّا فرّ من حلب، وجمع التركمان وأخذ حلب، وقدم الأمير دمرداش المحمّدى نائب طرابلس عليه وقد ولى نيابة حلب بعد أن أطلق دمرداش وسودون طاز وجكم، وسار بهما من طرابلس إلى حلب لقتال التركمان، وواقع التركمان بعد أن قتل سودون طاز، فانكسر دمرداش، وملك جكم حلب منه بعد أمور صدرت يطول شرحها، فكتب السلطان إلى دقماق يخيّره فى أىّ بلد يقيم؟ فاختار الشام، فقدمها.(12/306)
ولما بلغ الأمير شيخ ما وقع ليشبك بعث بالأمير ألطنبغا حاجب الحجّاب بدمشق والأمير شهاب الدين أحمد بن اليغمورىّ، وجماعة أخر من الأعيان إلى الأمير يشبك، ومعهم أربعة أحمال قماش ومال، وكتب شيخ على أيديهم مطالعات للأمير يشبك يرغّبه فى القدوم عليه، وأنه يقوم بنصرته ويوافقه على غرضه.
فلمّا بلغ يشبك ذلك رحل من غزّة فى ليلة الاثنين خامس عشرينه، بعد ما أقام بها ثلاثة عشر يوما، وأخذ ما كان بها من حواصل الأمراء وعدّة خيول، وبعث إليه أهل الكرك «1» والشّوبك «2» بعدّة تقادم، بعد ما كان عرض من معه من المقاتلة فكانوا ألفا وثلاثمائة وخمسة «3» وعشرين فارسا، وتلقّاه بعد مسيره من غزّة بمشايخ بلاد الساحل «4» ، وحمل إليه الأمير بكتمر جلق نائب صفد عدّة تقادم- وقدم عليه ابن بشارة فى عدّة من مشايخ العشير.
ثم جهز إليه الأمير شيخ نائب الشام جماعة لملاقاته طائفة بعد أخرى.
ثم خرج إليه شيخ المذكور من دمشق حتى وافاه، فلمّا تقاربا ترجّل الأمير شيخ عن فرسه، فلمّا عاينه يشبك ترجّل هو وأصحابه وسلّم عليه، ثم سلّم على الأمراء وجلسا قليلا.(12/307)
ثم ركبا، وسار يشبك المذكور وقد ألبسه شيخ هو وجميع من معه من الأمراء الخلع بالطّرز العريضة، وعدّتهم أحد وثلاثون أميرا من الطبلخانات والعشرات سوى من تقدّم ذكرهم من أمراء الألوف، ودخلوا [دمشق «1» ] يوم الثلاثاء رابع شهر رجب.
ولمّا طال جلوسهم بدمشق سألهم الأمير شيخ عن خبرهم، فأعلموه بما كان وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفى طاعته، لا يخرجون عنها أبدا، غير أنّ إينال باى نقل عنهم للسلطان ما لا يقع منهم، فتغيّر خاطر السلطان عليهم حتى وقع ما وقع وأنهم ما لم ينصفوا منه ويعودوا لما كانوا عليه وإلّا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، حتى قيل إنه بلغت نفقته عليهم نحو مائتى ألف دينار مصريّة. ثم كتب شيخ إلى السلطان يسأله فى أمرهم.
وأمّا أمر السلطان الملك الناصر، فإنّه لما أصبح وقد انهزم يشبك بمن معه إلى جهة الشام، كتب بالإفراج عن الأمير سودون من زاده، وتمربغا المشطوب، وصرق وكتب [إلى الأمير نوروز «2» بالحضور إلى الديار المصرية ليستقرّ على عادته] وكتب للأمير جكم أمانا توجّه به طغاى تمر مقدّم البريديّة.
ثم فى ثامن عشره خلع على عدّة من الأمراء بعدّة وظائف، فأخلع على سودون الماردانى «3» أمير مجلس باستقراره دوادارا عوضا عن يشبك الشعبانى المقدّم ذكره، وعلى الأمير سودون الطّيار الأمير آخور الثانى، واستقرّ أمير مجلس عوضا عن سودون الماردانى «4» ، وعلى آقباى حاجب الحجّاب باستقراره أمير سلاح عوضا(12/308)
عن تمراز الناصرى، وخلع على أبى كمّ، واستقرّ فى وظيفة نظر الجيش عوضا عن ابن غراب، وعلى ركن الدين عمر بن قايماز، باستقراره أستادارا عوضا عن ابن غراب أيضا.
ثم فى تاسع عشره، قدم سودون من زاده وتمربغا المشطوب وصرق من سجن الإسكندرية «1» وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ونزلوا إلى دورهم.
وفى حادى عشرينه خلع السلطان على الأمير يشبك بن أزدمر باستقراره رأس نوبة النّوب «2» عوضا عن سودون الحمزاوى.
ثم ألزم السلطان مباشرى الأمراء المتوجّهين إلى الشام بمال، فقرّر على موجود الأمير يشبك مائة ألف دينار، وعلى موجود تمراز مائة ألف دينار، وعلى موجود سودون الحمزاوى ثلاثين ألف دينار، وعلى موجود قطلوبغا الكركىّ عشرين ألف دينار، ورسم السلطان أن يكون الدينار بمائة درهم، ثم افتقد السلطان المماليك السلطانية ممن توجه مع الأمير يشبك فكانوا مائتى مملوك.
ثم قدم الخبر على السلطان أنّ الأمير نوروز قدم إلى دمشق من قلعة الصّبيبة، فتلقّاه الأمير شيخ وأكرمه، وضربت البشائر لقدومه بدمشق، فعظم ذلك على السلطان.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب طلب السلطان جمال الدين يوسف البيرى أستادار بجاس وأخلع عليه باستقراره أستادارا عوضا عن ابن قايماز، بعد ما رسم على جمال الدين المذكور فى بيت شادّ الدواوين محمد بن الطبلاوى يوما وليلة، واستمرّ يتحدّث فى استادارية الأتابك بيبرس فإنه كان خدم عنده ليحميه من الوزر والأستادارية، فلم ينهض بيبرس بذلك.(12/309)
ثم قدم الخبر بأن الأمير شيخا أفرج عن قرا يوسف.
وأما خبر جكم مع دمرداش وكيف ملك منه حلب، وقد قدّمنا ذكر ذلك مجملا من غير تفصيل، فإن جكم لما أطلقه دمرداش وأخذه صحبته إلى حلب، وقاتل معه التركمان ووقع لهما أمور حاصلها أن جكم تخوّف من دمرداش وفرّ منه إلى جهة التركمان، وانضم عليه سودون الجلب بعد مجيئه من بلاد الأفرنج، والأمير حمق نائب الكرك كان وغيره من المخامرين.
ثم وافقه ابن صاحب الباز أمير التركمان بتركمانه، فعاد جكم وقاتل دمرداش، ووقع بينهما أمور وحروب إلى أن ملك جكم طرابلس، وأرسل إليه الأمير شيخ نائب الشام، والأمير يشبك ورفقته يستميلونه ليقدم عليهم دمشق ويوافقهم على قتال المصريين، فأجابهم إلى ذلك، وخرج من طرابلس كأنه يريد التوجه إلى دمشق.
فلما وصل حماة أخذ نائبها الأمير علان بمن انضم عليه وتوجه بهم إلى دمرداش وقاتله حتى هزمه وأخذ منه مدينة حلب، وفرّ دمرداش بجماعة من أمراء حلب إلى بلاد التركمان.
ولما ملك جكم حلب أنعم بموجود دمرداش على علّان نائب حماة، وأقرّه على نيابة حماة على عادته، فصار مع جكم حلب وطرابلس وحماة، وأخذ يسير مع الرعية أحسن سيرة، فأحبه الناس وجرى على ألسنتهم «جكم حكم، وما ظلم» واستمرّ جكم بحلب إلى أن أرسل إليه الأمير شيخ نائب الشام الأمير سودون الحمزاوى، والأمير سودون الظريف، فتوجها إلى جكم على أنه بطرابلس.
ثم أرسل الأمير شيخ الأمير شرف الدين موسى الهيدبانى «1» حاجب دمشق إلى حلب رسولا إلى دمرداش يستدعيه إلى موافقته هو ومن عنده من الأمراء.(12/310)
وكان قد ورد كتاب دمرداش على شيخ ويشبك أنه معهما «1» ، ومتى دعواه حضر إليهما «2» ؛ فهذا ما كان من أمر جكم، وبقية خبر قدومه يأتى إن شاء الله تعالى فيما بعد.
ثم إن الأمير شيخا نائب الشام عين جماعة من الأمراء ليتوجهوا لأخذ صفد، فخرج الأمير تمراز الناصرىّ أمير سلاح، والأمير چاركس القاسمى المصارع، والأمير سودون الظريف بعد عوده من طرابلس، وساروا بعسكرهم «3» لأخذ صفد من بكتمر جلّق، بحيلة أنهم يسيرون إلى جشار «4» الأمير بكتمر جلق كأنهم يأخذوه فإذا أقبل عليهم «5» بكتمر ليدفعهم عن جشاره قاطعوا عليه وأخذوا مدينة صفد منه، فتيقظ بكتمر لذلك وترك لهم الجشار، فساقوه من غير أن يتحرك بكتمر من المدينة وعادوا إلى دمشق وأخبروا الأمراء بذلك، فاستعد شيخ لأخذ صفد وعمل ثلاثين «6» مدفعا وعدّة مكاحل ومنجنيقين، وجمع الحجّارين والنقّابين وآلات الحصار، وخرج من دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان ومعه جمع كبير من عسكر مصر والشام من جملتهم قرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس [متملك بغداد «7» ] وجماعة من التركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه «8» وعيسى بن الكابولىّ بعشرانه، ونادى شيخ بدمشق قبل خروجه منها: من أراد النهب والكسب فعليه(12/311)
بمصر «1» ، فاجتمع عليه خلائق، وسار معه مائة جمل تحمل مكاحل ومدافع وآلات الحصار، وولى الأمير ألطنبغا العثمانى نيابة صفد كما كان أولا، وسار شيخ بمن معه من العساكر حتى وافى مدينة صفد، فأرسل شيخ بالأمير علّان إلى بكتمر جلّق يكلّمه فى تسليم مدينة صفد، فلم يذعن إليه بكتمر وأبى إلا قتاله، وقال: ماله عندى إلا السيف؛ فحينئذ ركب شيخ ويشبك بمن معهما وأحاطا بقلعة صفد «2» ، وحصراها من جميع جهاتها، وقد حصنها بكتمر وشحنها بالرجال، وقام يقاتل شيخا أتم «3» قتال فاستمر الحرب بينهم أياما كثيرة خرح فيها من أصحاب شيخ نحو ثلاثمائة رجل، وقتل أزيد من خمسين نفسا.
وبينما هم فى قتال صفد إذ ورد عليهم الخبر بقدوم جكم إلى دمشق، ففرحوا بذلك، ولم يمكنهم العود إلى دمشق إلا عن فيصل من أمر صفد.
وكان خروج جكم من حلب فى حادى عشر شهر رمضان، وسار حتى قدم دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، فإن شيخا كان أرسله إليه قبل خروجه إلى صفد بعد عود سودون الحمزاوى وسودون الظريف من طرابلس، وقبل خروج جكم من حلب سلّم قلعتها إلى الأمير شرف الدين موسى ابن يلدق، وعمل حجّابا وأرباب وظائف، وعزم على أنه يتسلطن ويتلقب بالملك العادل.(12/312)
ثم بدا له تأخير ذلك، وقدم دمشق لمرافقة شيخ ويشبك ومن معهما، ووصل إلى دمشق ومعه الأمير قانى باى وتغرى بردى القجقارى وجماعة كبيرة، فخرج من بدمشق من أمراء مصر والشام جميعهم إلى لقائه، وأنزل بالميدان، فسلم جكم على الأمراء سلام السلاطين على الأمراء، وأخذ يترفع عليهم ترفعا زائدا أوجب تنكرهم عليه فى الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الانقياد إليه، فأكرموه على رغمهم، وأنزلوه وكلّموه فى القيام معهم، فأجاب، وأمرهم أن يكتبوا ليشبك وشيخ بقدومه إلى دمشق، فكتبوا إلى يشبك وشيخ بذلك، وأخذ جكم فى إظهار شعار السلطنة مع خدمه وأصحابه، فشق على الأمراء ذلك، وما زالوا به بالملاطفة حتى ترك ذلك إلى وقته، وأقام معهم بدمشق إلى ليلة الأحد سابع عشرين شهر رمضان من سنة سبع وثمانمائة المذكورة، فخرج من دمشق وتوجه مخفّا إلى طرابلس ليجمع عساكر طرابلس، وترك ثقله «1» بدمشق، وورد عليه الخبر أن دمرداش لما فر منه ركب البحر وتوجه إلى دمياط.
ثم قدم إلى مصر فى رابع عشرين شهر رمضان المذكور فهدأ سرّجكم بذلك عن أمر حلب.
وأما يشبك وشيخ بمن معهما من الأمراء والعساكر لما طال عليهم القتال على مدينة صفد، وعجزوا عن أخذها، تكلموا فى الصلح مع بكتمر حتى تم لهم ذلك، واصطلحوا وتحالفوا، ونزل إليهم بكتمر جلّق فى يوم الاثنين حادى عشرين شهر رمضان بعد أن كانت مدة القتال بينهم [على صفد «2» ] اثنين وعشرين يوما، وعاد شيخ إلى دمشق وهو مجروح، ويشبك الشعبانى وهو مجروح أيضا، و چاركس المصارع وهو مجروح.(12/313)
وأما عساكرهم فغالبهم أثخنته الجراح، فعندما أقاموا بدمشق قدم عليهم الأمير جكم من طرابلس بعد أن أرسلوا يستحثونه على سرعة المجىء إليهم غير مرة فخرجوا لتلقّيه وسلّموا عليه، وعادوا به إلى دمشق وهما فى غاية الحنق من جكم، وهو أنه لما وافاهما جكم ترجّل إليه الأمير يشبك عن فرسه إلى الأرض، وسلّم عليه فلم يعبأ به جكم، ولا التفت إليه، لأنه كان غريمه فيما تقدّم ذكره، فشق ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجّله.
ثم عتب شيخ جكم على ما وقع منه فى عدم إنصاف يشبك، ونزل «1» جكم بالميدان وجلس فى صدر المجلس، وجلس يشبك عن يمينه، وشيخ عن يساره، فكاد شيخ ويشبك أن يهلكا فى الباطن، ولم يسعهما إلا الإذعان لتمام أمرهما.
ثم أمرهم جكم ألّا يفعلوا شيئا إلا بمشاورته، فاتفقوا على منع الدعاء للسطان الملك الناصر فرج بمنابر دمشق، فوقع ذلك للخطباء، وذكروا «2» اسم الخليفة فى الخطبة فقط.
وكان الأمير شيخ قبل قدوم جكم إلى دمشق أفرج عن السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد من سجن دمشق، وأنعم عليه بمائة ألف درهم فضة وثلاثمائة فرس.
وأنعم أيضا على قرا يوسف بمائة ألف وثلاثمائة «3» فرس، وأخرج عدة كبيرة من أمراء مصر إلى جهة غزة [بعد أن حمل إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة «4» ] وهم: الأمير تمراز الناصرىّ، وابنه الأمير سودون بقجة «5» ، وسودون الحمزاوى،(12/314)
ويلبغا الناصرى، وإينال حطب، و چاركس المصارع بعد أن حمل شيخ أيضا إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة، ولم يتأخر بدمشق من أعيان الأمراء إلّا الأمير يشبك الدوادار والأمير شيخ نائب الشام، وأقاما فى انتظار الأمير جكم [حتى قدم عليهما جكم «1» ] حسبما تقدّم ذكره، وبعد قدوم جكم أجمعوا على المسير إلى جهة مصر، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا فى يوم رابع عشر ذى القعدة.
ثم خرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق فى يوم عشرينه «2» وساروا إلى الخربة «3» فافترقوا منها. فتوجه يشبك وقرا يوسف إلى صفد لقتال نائبها بكتمر جلق ثانيا، فإنه بلغهم أنه مستمر على طاعة السلطان. وتوجه شيخ إلى قلعة الصّبيبة وبها ذخائره وحريمه.
فلما بلغ بكتمر جلق مجىء العسكر لقتاله استعد هو أيضا لقتالهم، وقد قوى قلبه، فإنه بلغه أن علّان نائب حماة دخل فى طاعة السلطان وخالف الأمراء، وكذلك شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فإنه دخل فى طاعة السلطان، واستولى على طرابلس واستفحل أمره، وأن الأمير شيخا السليمانى نائب طرابلس بعد أخذ طرابلس قدم عليه البريد بولاية «4» قانى باى على طرابلس، فخرج منها شيخ السليمانى إلى حماة، فأشار عليه علّان نائب حماة أنه لا يسلّم طرابلس لقانى باى حتى يراجع السلطان ويعلمه بما يترتب على عزله من الفساد، فعاد شيخ إلى طرابلس، فبهذه الأخبار ثبت بكتمر جلق على طاعة السلطان وقتال الأمراء.(12/315)
ولما قارب يشبك، وقرا يوسف صفد أخرج بكتمر كشّافته «1» بين يديه، ونزل جسر يعقوب «2» ، فالتقى كشافته بأصحاب يشبك وقرا يوسف، فاقتتلوا قتالا شديدا ظهر فيه الصفديون «3» ، وأخذوا من الشاميين عشرة أفراس، فعاد يشبك وقرا يوسف إلى طبرية «4» ، ونزلوا بها حتى قدم عليهم الأمير شيخ نائب الشام.
ثم ساروا جميعا إلى غزة، وقد تقدّمهم الأمير جكم ونزل على الرملة «5» .
وأما أمراء الديار المصرية فإن السلطان الملك الناصر لما تحقق اتفاق الأمير شيخ المحمودى نائب الشام مع يشبك ورفقته، وبلغه أخبارهم مفصّلا، استشار الأمراء فى أمرهم فأجمعوا على خروج السلطان لقتالهم، فتجهّز السلطان، وعلّق جاليش السفر فى ثانى ذى القعدة «6» بالطبلخاناة السلطانية على العادة.
ثم أنفق فى رابعه على المماليك السلطانية على كل مملوك خمسة آلاف درهم.
وكان صرف الذهب يوم ذاك مائة درهم المثقال، فصرف لكل واحد منهم تسعة «7» وأربعين مثقالا، واحتاج السلطان فى النفقة المذكورة حتى اقترض من مال أيتام الأمير قلمطاى الدوادار عشرة آلاف مثقال، ورهن عندهم جوهرا، وجعل كسب ذلك ألف دينار ومائتى دينار، وأخذ منهم أيضا نحو ستة عشر ألف مثقال وباعهم بها بلدة من أعمال الجيزة تسمى البراجيل «8» ، وأخذ من [تركة «9» ] التاجر برهان(12/316)
الدين المحلّى وغيره مالا كثيرا، ووزّع له قاضى القضاة شمس الدين الأخنائى الشافعى خمسمائة ألف درهم على تركات خارجة عن المودع، وكانت نفقة السلطان على خمسة آلاف مملوك.
ثم عزل السلطان الأخنائى عن قضاء «1» الشافعية بقاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينى، وعزل ابن خلدون بقاضى القضاة جمال الدين يوسف البساطىّ المالكى.
ثم قدم الخبر على السلطان بنزول الأمراء على مدينة غزة، وأخذهم الإقامات «2» المجهّزة للعساكر السلطانية.
وكانت غزة قد غلابها الأسعار لقلّة الأمطار، وبلغت الويبة القمح مائة وعشرين درهما، فعند ذلك جد السلطان الملك الناصر فى حركة السفر، والاستعداد للحرب.
وأما أمر الأمراء فإنه خرج جاليشهم من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية فى يوم الأحد ثانى ذى الحجة.
ثم سار من الغد الأمير شيخ ويشبك وجكم ببقية عساكرهم، واستنابوا بغزة الأمير ألطنبغا العثمانى.
ثم قدم الخبر على جناح الطير من بلبيس بنزول الأمراء على قطيا، فكثرت حركات العسكر بالقاهرة، وخرجت مدوّرة «3» السلطان إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، واختبط العسكر واضطرب لسرعة السفر.(12/317)
ثم ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره فى يوم السبت ثامن ذى الحجة من سنة سبع وثمانمائة، وسار حتى نزل بالريدانية خارج القاهرة، وبات بها، وقد أقام من الأمراء بباب السلسلة بكتمر الركنى رأس نوبة الأمراء وجماعة أخر بالقاهرة.
وبينما السلطان بالريدانية ورد عليه الخبر بنزول الأمراء بالصالحية فى يوم التّروية وأخذوا ما كان بها من الإقامات السلطانية، فرحل السلطان من الريدانية فى يوم الأحد تاسعه، ونزل العكرشة «1» ، ثم سار منها ليلا، وأصبح ببلبيس وضحّى بها، وأقام عليها يومى الاثنين والثلاثاء، ورحل من مدينة بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل على منزلة السعيدية «2» ، فأتاه كتب الأمراء الثلاثة، وهم: جكم، وشيخ، ويشبك بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك وبين إينال باى بن قجماس، وطلبوا منه أن يخرج إينال باى المذكور ودمرداش المحمدى نائب حلب من مصر، وأن يعطى لكلّ من يشبك وجكم وشيخ ومن معهم بمصر والشام ما يليق بهم من النيابات والإقطاعات لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، ولحقن «3» الدماء ويعمر بذلك ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تلفت أرواح كثيرة، وخرّبت بيوت عديدة.
وكانوا أرادوا هذه المكاتبة من الشام، ولكن خشوا أن يظنّ بهم العجز، فإنه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك، ولم يأمر(12/318)
بكتابة جواب لهم، وكان ذلك مكيدة من الأمراء حتى كبسوا على السلطان فى ليلة الخميس وهم فى نحو ثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركمانى من أصحاب قرا يوسف.
وبينما السلطان على منزلة السعيدية ورد الخبر على الوالد من بعض أصحابه ممن هو صحبة الأمراء، أن الأمراء اتفقوا على تبييت السلطان والكبس عليه فى هذه الليلة، فأعلم الوالد السلطان وحرّضه على الركوب بعساكره من وقته، فمال إليه السلطان، فأخذ الأمير بيغوت وغيره يستبعد ذلك، ولا زالوا بالسلطان حتى فتر عزمه عن الركوب، فعاد الوالد إلى وطاقه «1» ، وأمر جميع مماليكه بالركوب بآلة الحرب.
وبينما هو فى ذلك إذ ثارث غبرة عظيمة وهجّة فى الناس، وقبل أن يسأل السلطان عن الخبر طرقه الأمراء على حين غفلة، فركب السلطان فى الليل بمن معه واقتتل الفريقان قتالا شديدا من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جرح فيه جماعة كثيرة من الطائفتين، وقتل الأمير صرق الظاهرى صبرا بين يدى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام، لأن السلطان كان ولاه عوضه نائب الشام، وانهزم السلطان وركب وسار «2» عائدا على الهجن إلى جهة الديار المصرية، ومعه سودون الطيار وسودون الأشقر، وساقوا إلى أن وصلوا إلى القلعة، وتفرقت العساكر السلطانية وانهزموا وتركوا أثقالهم وخيامهم، وسائر أموالهم غنمها الشاميون، ووقع فى قبضة الأمراء من المصريين الخليفة والقضاة، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب غزة، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية وغيرهم، وقدم المنهزمون من السلطانية إلى القاهرة فى يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجة، ولم يحضر السلطان(12/319)
ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف وماج الناس، وانتهبت عدة حوانيت حتى قدم السلطان قريب العصر ومعه الأمراء، وقد قاسى من [مرّ «1» ] العطش والتعب مالا يوصف، فسر الناس بقدومه، وطلع إليه الأمراء والعساكر وباتوا تلك الليلة، وأصبح السلطان يتهيأ للقاء الأمراء، وقبض على يلبغا السالمىّ وسلّمه لجمال الدين البيرىّ الأستادار، فعاقبه وصادره، وشرع أمر السلطان كل يوم فى زيادة لعدم قدوم العسكر الشامى إلى القاهرة.
فلما كان آخر نهار الأحد نزلت الأمراء بالريدانية خارج القاهرة.
ثم أصبحوا فى بكرة نهار الاثنين ركبوا وزحفوا على القاهرة، فأغلقت أبواب المدينة وتعطلت الأسواق عن المعايش، ومشوا حتى وصلوا قريبا من دار الضيافة «2» بالقرب من قلعة الجبل، فقاتلهم السلطانية من بكرة نهار الاثنين المذكور إلى بعد الظهر، فلما أذّن الظهر أقبل جماعة كثيرة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين: منهم الأمير يلبغا الناصرى، وآسنباى أمير ميسرة الشام المعروف بالتركمانى، وسودون اليوسفى، وإينال حطب، وجمق، فلما وقع ذلك اختل أمر الأمراء، وعزم جماعة منهم على العود إلى البلاد الشامية فحمل ما خف من أثقاله وعاد، وفعل ذلك جماعة كبيرة بعد أن أفرج شيخ عن الخليفة والقضاة وغيرهم، فتسلّل عند ذلك الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، والأمير جاركس القاسمى المصارع، والأمير قطلوبغا الكركى فى جماعة أخر، واختفوا بالقاهرة وظواهرها.
فلما وقع ذلك ولى الأمير جكم والأمير شيخ والأمير طولو وقرا يوسف فى طائفة يسيرة، وقصدوا البلاد الشأمية، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان.(12/320)
ثم نادى السلطان بالأمان لكل أحد، فطلع إليه جماعة، فقبض عليهم وقيّدهم وبعث بهم إلى سجن الإسكندرية، وخمدت الفتنة، وانجلت «1» هذه الواقعة عن إتلاف مال كثير من العسكرين، ذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب ما لا يدخل تحت حصر من غير فائدة.
ثم أخذ الملك الناصر فى تمهيد أمور دولته وإصلاح الدولة والمفرد، فقبض على الصاحب تاج الدين بن البقرى، وسلّمه لجمال الدين الأستادار، واستقرّ عوضه فى الوزارة فخر الدين ماجد بن غراب.
وكان أخوه سعد الدين إبراهيم بن غراب مع العسكر الشامى، فلما قدم معهم اختفى بالقاهرة، ثم ترامى على الأمير إينال باى بن قجماس، فجمع بينه وبين السلطان ليلا، ووعده بستين ألف دينار.
وأصبح يوم الأربعاء تاسع عشر ذى الحجة طلع سعد الدين بن غراب إلى القلعة فخلع عليه السلطان وجعله مشيرا.
ثم فى ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى، وكان ممن قدم مع العسكر، باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير شيخ المحمودى، وعلى بكتمر جلّق باستقراره على نيابة صفد، وعلى سلامش حاجب غزّة بنيابة غزّة.
وأما جكم وشيخ فإنهما قدما غزّة فى نحو خمسمائة فارس أكثرهم من التركمان أصحاب قرا يوسف، وقد غنموا شيئا كثيرا، وتفرّقت عساكر شيخ، وتلفت أمواله وخيوله، ومضى إلى دمشق، فخرج إليه الأمير بكتمر جلق والأمير شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فهرب منهما، فتتبّعاه إلى عقبة «2» فيق، فنجا بنفسه(12/321)
فلم يدركاه، ودخل دمشق وهو فى أسوأ حال، فوجد السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد فرّ من دمشق إلى جهة بلاده فى ليلة الأحد سادس عشر ذى الحجة، وكان قد تأخر بدمشق ولم يتوجه إلى نحو الديار المصرية صحبة الأمراء.
ثم إن شيخا أوقع الحوطة على بيوت الأمراء الذين خامروا عليه وتوجهوا إلى مصر، وأخذ فى إصلاح أمره ولمّ شعثه.
وأما جكم فإنه لما فارق حلب كان «1» بها عدّة من أمرائها، ورفعوا سنجق «2» السلطان بقلعة حلب، فاجتمع إليهم العسكر، فحلف بعضهم لبعض على طاعة السلطان وقدم ابنا شهدى الحاجب ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظى، وامتدت أيدى عرب العجل ابن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئا، كل ذلك قبل قدوم جكم إليها من مصر.
وأما السلطان فإنه رسم فى أواخر ذى الحجة بانتقال الأمير علّان اليحياوى نائب حماة إلى نيابة حلب عوضا عن جكم، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير إينال الخازندار، واستقرّ الأمير دقماق المحمدى فى نيابة حماة عوضا عن علّان المذكور، واستقرّ الأمير بكتمرجلق نائب صفد فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وتوجه بتقليده الأمير جرباش العمرى، واستقر عوضه فى نيابة صفد الأمير بكتمر الركنى رأس نوبة الأمراء درجة إلى أسفل.
[ما وقع من الحوادث سنة 808]
ثم فى ثالث المحرم سنة ثمان وثمانمائة قدم مبشر الحاج وأخبر بأنه كان أشيع بمكة المشرفة قدوم تيمور لنك إليها، فاستعد صاحب مكة لذلك، فلم يصحّ ما أشيع.(12/322)
ثم قدم رسل الأمير شيخ نائب الشام إلى السلطان بديار مصر، وهم شهاب الدين أحمد بن حجّى أحد خلفاء الحكم بدمشق، والشريف ناصر الدين محمد بن على نقيب الأشراف، والشيخ المعتقد محمد بن قويدار، والأمير يلبغا المنجكى، ومعهم كتبه تتضمن الترقق والاعتذار عما وقع منه، وتسأل استقراره على عادته فى نيابة دمشق، فلم يلتفت السلطان إلى قوله، ومنع رسله من الاجتماع بأحد.
ثم فى رابع عشرين المحرم سار الأمير نوروز الحافظى إلى نيابة دمشق وخرج الأمراء لوداعه، ونزل بالريدانية ومعه متسفرّه «1» الأمير برد بك الخازندار.
ثم وقعت الوحشة بين السلطان وبين الأمير إينال باى بن قجماس الأمير آخور، فقبض السلطان فى يوم الاثنين سادس صفر على الأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة النوب، وعلى الأمير تمر، وعلى الأمير سودون، وهما من إخوة سودون طاز، فاختفى الأمير إينال باى أمير آخور ومعه الأمير سودون الجلب، وأحاط السلطان بدورهم، ثم قيّد الأمراء وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية.
وأما إينال باى فإنه دار على جماعة من الأمراء ليركبوا معه، فلم يؤهّله أحد لذلك، فاختفى إلى يوم الجمعة عاشره، فظهر، وطلع به الأتابك بيبرس إلى القلعة، فكثر الكلام بين الأمراء حتى آل الأمر إلى مسك إينال باى وإرساله إلى ثغر دمياط بطّالا.
ثم فى خامس عشرين صفر فرّق السلطان إقطاعات الأمراء الممسوكين، فأنعم بإقطاع إينال باى على الوالد، وزاده إمرة طلبخاناه، وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب كان، وبإقطاع دمرداش على الأمير أزبك الإبراهيمى.(12/323)
وجميع هذه الإقطاعات تقادم ألوف، لكن شيئا أحسن من شىء فى كثرة المغلّ.
وأنعم على الأمير بيبرس الصغير الدوادار بتقدمة ألف قبل أن تكمل لحيته، وعلى الأمير بشباى الحاجب بتقدمة ألف، وعلى الأمير علّان بتقدمة ألف، وعلى الأمير قراجا بإمرة عشرين، وأنعم بطبلخانات سودون الجلب على الأمير أيتمش الشعبانى.
ثم أخلع على الأمير جرباش الشيخى رأس نوبة ثانى باستقراره أمير آخورا كبيرا عوضا عن إينال باى.
وأما الأمير شيخ فإنه توجه صحبة الأمير جكم وقرا يوسف لحرب نعير.
ثم اختلفوا، فمضى جكم إلى طرابلس، وتوجه قرا يوسف إلى جهة الشرق عائدا إلى بلاده، وعاد الأمير شيخ من البقاع ونزل سطح المزّة «1» ومعه خواصّه فقط.
ثم توجه إلى الصّبيبة «2» هاربا من نوروز الحافظى، فدخل نوروز إلى دمشق فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين صفر من غير مدافع لضعف الأمير شيخ عن مقاومته وقتاله.
وأما السلطان، فإنه أخلع على الأمير بشباى الحاجب باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن يشبك بن أزدمر، وأخلع على الأمير أرسطاى باستقراره حاجب الحجّاب بعد بشباى.(12/324)
ثم فى يوم الثلاثاء وقع بالديار المصرية فتنة، وكثر الكلام بين الأمراء إلى أن اتفق جماعة من المماليك الچركسية وسألوا السلطان القبض على الوالد وعلى الأمير دمرداش المحمدى، وعلى الأمير أرغون من بشبغا وجماعة أخر من كون السلطان اختص بهم، وتزوّج بكريمتى على كره من الوالد، وكونه أيضا أعرض عن الچراكسة وأمسك إينال باى، فخافوا أن تقوى شوكة هؤلاء عليهم، واتفقوا واجتمعوا على الأتابك بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، وكثر كلام القوم فى ذلك إلى أن طلب السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فقال له دمرداش:
المصلحة [تقتضى] قتالهم «1» ، وأنا كفء هؤلاء الچراكسة، والسلطان لا يتحرك من مجلسه فنهره الوالد وقال له ما معناه: نقاتل من؟ نقاتل خشداشيّتك «2» ، كلّنا مماليك السلطان ومماليك أبيه مهما شاء السلطان فعل «3» فينا وفيهم.
هذا وقد ظهر الملل على السلطان من كثرة الفتن، ولحظ الوالد منه ذلك، فإنه قال فيما بعد: سمعته يقول فى ذلك اليوم: وددت لو كنت كما كنت ولا أكون سلطانا.
ثم أمر السلطان الوالد أن يختفى حتى ينظر السلطان فى مصلحته، وأمر دمرداش أيضا بذلك، وانفض المجلس من غير إبرام أمر.
ثم أصبح الناس يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الأول من سنة ثمان المذكورة، وقد ظهر الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، والأمير جاركس القاسمى المصارع، والأمير قانى باى العلائى، وكانوا مختفين بالقاهرة من يوم واقعة السعيدية.(12/325)
وخبر ظهورهم أن الأتابك بيبرس ركب إلى السلطان، وأخبره بمواضع الأمراء المذكورين، ووافقه على مصالحة الچراكسة وإحضار الأمراء من اختفائهم، والإفراج عن إينال باى وغيره، فرضى السلطان بذلك، وتقرر الحال على ذلك، وطلع الأمراء المذكورون من الغد فى يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل المذكور، فأخلع «1» السلطان على الأمير سودون المحمّدى باستقراره أمير آخورا كبيرا عوضا «2» عن جرباش الشيخى، وعوده إلى إقطاعه إمرة طبلخاناة ووظيفنه رأس نوبة.
ثم فى عاشره طلع الأمير يشبك الدوادار والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح والأمير جاركس القاسمى المصارع وجماعة أخر إلى القلعة، وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان، فأخلع عليهم خلع الرضا، ونزل كل واحد إلى داره.
ثم فى خامس عشرة قدم الأمير قطلوبغا الكركى، وإينال حطب، وسودون الحمزاوى، ويلبغا الناصرى، وأسندمر الناصرى، وتمر من سجن الإسكندرية، وهؤلاء الذين كان السلطان نادى لهم بالأمان بعد وقعة السعيدية، فلما طلعوا له قبض عليهم وسجنهم بالإسكندرية وهم رفقة يشبك وشيخ و چكم.
ثم قدم الأمير إينال باى بن قجماس من ثغر دمياط ومعه تمان تمر الناصرى.
ثم قدم الأمير يشبك بن أزدمر أيضا من سجن الإسكندرية.
ثم أمسك السلطان القاضى فتح الدين فتح الله كاتب «3» السرّ، وولّى عوضه سعد الدين إبراهيم بن غراب، وألزم فتح الدين بحمل ألف ألف درهم.
ثم ظهر الأمير دمرداش [نائب حلب «4» ] من اختفائه، فأخلع السلطان عليه نيابة غزّة، فسار فى يوم السبت رابع عشرينه، وخلع السلطان أيضا على يشبك بن(12/326)
أزدمر بنيابة ملطيّة، فامتنع من ذلك، فأكره حتى لبس الخلعة «1» ، ووكّل به الأمير أرسطاى الحاجب والأمير محمد بن جلبان الحاجب حتى أخرجاه من فوره إلى ظاهر القاهرة.
ثم بعث السلطان إلى الأمير أزبك الإبراهيمى الظاهرى المعروف بخاص خرجى «2» ،- وكان تأخّر عن طلوع الخدمة- بأن يستقرّ فى نيابة طرسوس «3» ، فأبى أن يقبل والتجأ إلى بيت الأمير إينال باى، فاجتمع طائفة من المماليك ومضوا إلى يشبك بن أزدمر، وردّوه فى ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل وقد وصل قريبا من سرياقوس، وضربوا الحاجب المرسّم عليه، وصار العسكر فرقتين، وأظهر المماليك الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد الطلوع إلى السلطان، وجلس الأتابك بيبرس بجماعة من الأمراء فى بيته، وصار السلطان بالقلعة وعنده عدّة أمراء، وتمادى الحال على ذلك يوم الخميس والجمعة والسبت والسقالة بينهم.
فلما كان يوم السبت نزل السلطان من القلعة إلى باب السلسلة، واجتمع عنده بعض الأمراء لإصلاح الأمر، فلم يفد ذلك، وباتوا على ما هم عليه، وأصبحوا يوم الأحد خامس عشرينه وقد كثروا وطلبوا من السلطان الوالد أرغون من بشبغا.
وكان الوالد قد ظهر من يوم أخرج دمرداش إلى نيابة غزة، فلم يستجر أحد يتكلم فى خروجه من القاهرة، واستمر على إمرته، فأبى الملك الناصر أن يرسله إليهم،(12/327)
فقال الوالد: هذا أمر يطول، ولا بدّ من النزول، فنزل إليهم ومعه أرغون، وكلّم الأمراء فى سبب طلبهم إياه، وخشّن للأتابك بيبرس فى القول، فإنه كان مسفّر الوالد لما ولى نيابة حلب فى أيام الملك الظاهر برقوق، فلم يتكلّم بيبرس ولا غيره بكلمة واحدة، وسكت الجميع.
فلما طال المجلس قال الوالد: ما تتكلموا، فعندها «1» تكلّم شخص من الخاصكية الظاهرية يقال له: قرمش الأعور، وهو الذي قطع رأسه فى دولة الملك الأشرف برسباى من أجل جانى بك الصوفى حسبما يأتى ذكره، وقال قرمش: ياخوند، المقصود أنك تخرج من الديار المصرية حتى تسكن هذه الفتنة، ثم تعود بعد أيام أو يعطيك السلطان ما تختار من البلاد. فقال الوالد: بسم الله حتى أشاور السلطان ثم أسافر، وخرج فلم يجرؤ أحد أن يقبضه ولا يرسّم عليه، وعاد إلى بيته ولم يطلع إلى السلطان.
وكان سكنه بالبيت الذي بباب الرّميلة تجاه مصلّاة المؤمنىّ «2» ، وأقام به يومه وتجهّز وخرج فى الليل فى نحو مائة مملوك من خواصّه، فلم يقف له أحد على خبر، وسار من البرّية إلى القدس الشريف فى دون الخمسة أيام، ولم يجتز بقطيا خوفا من تسليط العربان عليه.
وكان لما خرج من بيت بيبرس أرسل إليه السلطان يعلمه أنه أيضا يريد يختفى ويترك السلطنة، فلهذا جدّ الوالد فى السير لئلا يخرج القوم فى أثره ويقبضون عليه.(12/328)
فلما كان وقت الظهر من يوم خروج الوالد من مصر وهو يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل فقد السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق من قلعة الجبل ولم يعرف له خبر.
وسبب تركه السلطنة أنه كان فى يوم النوروز جلس السلطان مع جماعة من الأمراء والخاصكية من مماليك أبيه، وشرب معهم حتى سكر، ثم ألقى بنفسه إلى فسقيّة هناك، فألقى الجماعة أنفسهم معه، وقد غلب على السلطان السكر، وصار يسبح معهم فى الماء ويمازحهم، وترك الوقار، فجاء من خلفه الأمير أزبك الإبراهيمى المعروف بخاصّ خرجى، وقيل غيره، وأزبك الأشقر «1» ، وأغمّه فى الماء مرارا وهو يمرق من تحته كأنه يمازحه حتى قبض عليه وغرّقه فى الماء حتى كادت نفسه تزهق، ففطن به بعض مماليك أبيه من الأروام ممن كان معهم أيضا فى الفسقية، وخلّصه منه، وأفحش فى سبّ أزبك المذكور، وأراد قتله، فمنعه السلطان من ذلك، وقال: كان يلعب معى، وأسرّها فى نفسه.
ثم طلع السلطان من الفسقيّة، وذهب كل واحد إلى حال سبيله، فذكر السلطان بعد ذلك للوالد ما وقع له مع أزبك المذكور، وأمره أن يكتم ذلك لوقته، فأخذ الوالد يزوّل عنه ذلك ويهوّنه عليه.
ثم عرّف السلطان جماعة من أكابر أمراء الجراكسة بذلك، فلم يلتفتوا لقوله وقالوا: لم يرد بذلك إلّا مباسطة السلطان، فعند ذلك تحقّق السلطان أنهم يريدون قتله، وكان ذلك بعد خروج الأمراء من السجن وظهور يشبك ورفقته، وقد كثروا وعظم جمعهم، فلم يجد الملك الناصر بدّا من أن يفوز بنفسه ويترك لهم ملك مصر.(12/329)
ولما أراد النزول من القلعة ليختفى بالقاهرة قام ومعه بكتمر مملوك القاضى سعد الدين بن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهر ابن غراب، ونزلوا من باب السرّ الذي يلى القرافة، وساروا على بركة الحبش «1» ، ونزلوا منها فى مركب، وتركوا الخيل وتغيّبوا نهارهم كلّه فى البحر حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت سعد الدين ابن غراب وهو فيما بين الخليج «2» وبركة الفيل «3» بالقرب من قنطرة طقزدمر «4» ، فلم يجدوه فى داره، فمروا على أقدامهم حتى باتوا فى بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر.
ثم بعثوا لابن غراب بمجيء السلطان إلى عنده، فهيأ له سعد الدين مكانا من داره، وأنزله فيه من غير أن يعلم أحد به.
وأما الأمراء، فإنه لمّا بلغهم ذهاب السلطان الملك الناصر [خرج المذكور «5» ] فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وثمانمائة، بادروا بالطلوع إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التى كانت خالفت السلطان الملك الناصر، وركبوا عليه وقاتلوه أياما، ثم توجهوا إلى الشام وعادوا إلى الديار المصرية وصحبتهم جكم وشيخ وقرا يوسف وواقعوه بالسعيدية «6» ، وكسروه. ثم اختفوا؛ ورأسهم يشبك الشعبانى الدوادار بمن كان معه من الأمراء وقد مر ذكرهم فى عدّة مواضع، والطائفة الأخرى كبيرهم بيبرس الأتابك، وسودون الماردانى الدوادار الكبير، وإينال باى وغيرهم.
فلما طلعوا الجميع إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدى الأمير آخور الكبير من الطلوع إلى القلعة، فصاروا يتضرّعون إليه من نصف النهار إلى بعد(12/330)
غروب الشمس، حتى مكّنهم من العبور من باب السلسلة، فطلعوا ومعهم الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة، وتكلموا فيمن ينصّبوه سلطانا، حتى اتّفقوا على سلطنة الأمير عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق، فإنه ولى عهد أخيه فى السلطنة حسبما قرّره والده الملك الظاهر برقوق قبل وفاته، فطلبوه من الدّور السلطانية، فمنعته أمه خوند قنّق باى أوّلا، ثم دفعته لهم فأحضروه، وتم أمره، وتسلطن حسبما نذكره فى محلّه من ترجمته، وخلع الملك الناصر فرج من السلطنة وسنّه نحو سبع عشرة سنة تخمينا، فكانت مدّة تحكم الملك الناصر على مصر من يوم مات أبوه الملك الظاهر برقوق إلى يوم خلع ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوما [والله أعلم «1» ] .
«انتهى الجزء الثانى عشر من النجوم الزاهرة، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر، وأوّله: السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق الأولى على مصر» .
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 1
[الجزء الثالث عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لأبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى المتوفى فى أخريات سنة أربع وسبعين وثمانمائة هجرية من الكتب القلائل التى جعلت الأحداث فى مصر وما يدور فى فلكها من الأقاليم والأطراف مدار بحثها، إلا أنه ينفرد من بينها بأنه أجمعها وأسلسها لغة، وأبعدها عن الحشو، وأكثرها تنظيما، وأشدها اهتماما بألوان الحضارة المختلفة وتطورها على مدارج التاريخ فى الدولة العربية.
ثم هو يعدّ فى أجزائه من الأوّل إلى الثانى عشر- وهى التى تعالج الحقبة التاريخية من سنة عشرين من الهجرة إلى سنة إحدى وثمانمائة- واسطة بين الكتب والموسوعات التاريخية التى اهتمت بمعالجة الأحداث فى تلك الحقبة، فهو وإن اعتمد عليها فى تأليف مادته فإنه تميز عليها فى كثير من المواطن بأحكامه الصادقة واستنباطاته السليمة. ثم هو فيما بعد ذلك إلى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة يعتبر عمدة فى تاريخ مصر والأطراف إذا ما قورن بغيره من الكتب التى تعرضت لأحداث ما بعد السنة الحادية والثمانمائة من الهجرة.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 2
ومن هنا لقى هذا الكتاب اهتماما بالغا من العلماء العرب والمستشرقين ابتداء من سنة 1855 م قشروا منه أجزاء تكاد تشمله كله. ومن قبل أمر السلطان سليم الأول العثمانى بترجمته إلى اللغة التركية. بل ترجم إلى اللغة اللاتينية وغيرها.
وكان لاهتمام القسم الأدبى بدار الكتب بتحقيق أجزاء منه ونشرها فضل كبير فى تيسير الاستفادة به، ولقد بدأ فى نشره سنة 1929 م ثم توقف عن الاستمرار فى نشره بعد أن أخرج الجزء الثانى عشر سنة 1956 م.
ثم أخذت المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر على عاتقها مسئولية تحقيق الأجزاء الأربعة الباقية منه والتى لم يسبق نشرها فى مصروفنا للمنهج الذي نهجه القسم الأدبى.
وأسند تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى العالم الجليل الأستاذ/ حسن عبد الوهاب ولكنه توفى إلى رحمة الله قبل أن يبدأ فى التحقيق، وتعثرت بقية الأجزاء أيضا فى مرحلة التحقيق لأسباب مختلفة.
ولما توليت منصب رئيس مجلس إدارة المؤسسة، وأطل علينا عام الاحتفالات بالعيد الألفى لمدينة القاهرة وجهت اهتمامى إلى دفع الأجزاء الباقية فى مراحل التحقيق والنشر.
فأسندت المؤسسة تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى الأستاذ/ فهيم محمد شلتوت، وطلبت منه أن يفرغ جهده كله لتحقيقه وعمل فهارسه بحيث يكون بداية فى طبع الأجزاء الأربعة الباقية. وقد قام السيد/ المحقق بواجبه فى إخلاص وأمانة وأنجز التحقيق والفهارس على خير وجه.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 3
والجزء الثالث عشر هذا يعالج حقبة من تاريخ العالم العربى والأطراف الدائرة فى فلكه، وهى حقبة سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق (801 هـ- 815 هـ) وما تخللها من سلطنة أخيه الملك المنصور عبد العزيز. ثم سلطنة الخليفة المستعين بالله العباس، وقد شهدت فيها مصر وما والاها أحداثا لم تشهد مثلها من قبل.
شهدت فيها غزو تيمورلنك لسوريا (802- 803 هـ) وما كان من عجز السلطان وولاته عن دفع هذا الغزو، ثم ما كان من تلك المذابح التى تميز بها الغزو التترى المغولى والتى لم يسجل مثلها التاريخ بشاعة وقسوة.
وشهدت هذه الحقبة أيضا أسوأ صورة للخلاف والصراع بين سلطان وكبار رجال دولته بحيث فنى كثير منهم تحت عقوبته وبحد سيفه. ومع ذلك استمروا فى صراعه حتى تغلبوا عليه وقتلوه بقلعة دمشق سنة 815 هـ.
وشهدت فيها قيضاصور فن النيل (806- 807 هـ) مما أدى إلى الجدب العظيم الذي شمل البلاد وأصابها بسنة من السنين العجاف التى حلت بالدولة الإسلامية على مدارج التاريخ.
وشهدت هذه الفترة أيضا انتشار الطاعون (808 هـ، 813 هـ) والموتان المنتشر بين السكان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
كما شهدت الغلاء الفاحش والفقر المدقع والجوع الشامل.
وانعكس أثر ذلك كله فى الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية ففسدت الأحوال وتولى الأمور من لا يحسن أداءها، وتوصل كل طالب وظيفة إليها بالرشوة والبذل، ثم تسلط بعد ذلك على رقاب ذوى الحرف والتجار والزراع يفرض عليهم أنواع الضرائب والإتاوات، ولا يكف عن طلبها ولا يعف
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 4
فى تحصيلها، وابتلى أهل الريف خاصة بكثرة المغارم وتنوّع المظالم، فاختلت أحوالهم، وجلوا عن أوطانهم.
وكما يقول تقي الدين المقريزى «1» : «فاقتضى الحال من أجل ذلك ثورة أهل الريف، وانتشار الزّعّار وقطاع الطريق ... وتزايدت غباوة أهل الدولة، وأعرضوا عن مصالح العباد ... ثم إن قوما ترقوا فى خدم الأمراء يتولّفون إليهم بما جبوا من الأموال ... فأحبوا مزيدا من القربة منهم- ولا وسيلة أقرب إليهم من المال- فتعدوا إلى الأراضى الجارية فى إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا فى مقادير الأجر ... وجعلوا الزيادة ديدنهم فى كل عام حتى بلغ الفدان- لهذا العهد- نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث» .
ولقد كان ذلك الخراب الذي نزل بالديار المصرية، وقضى على كثير من المنشآت العمرانية نتيجة للإهمال، ولاستحواز السلطان وبطانته على أوقافها وتوجيه أرياعها إلى مصارف أخرى، وأصبح الحديث عن سنة 806 هـ- فيما تلاها من الأزمان- يعطى صورة لأفدح ما أصيبت به الآثار العمرانية- التى وصلت إلى قمة الفن المعمارى للعصر المملوكى والأيوبى والفاطمى- من الهدم والخراب والاندثار.
وإنى إذ أقدم هذا الجزء الثالث عشر للقارئ فإننى أرجو أن يجد بقية
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 5
الأجزاء الأربعة من الكتاب بين يديه تباعا بإذن الله، حيث إنه قد تم تحقيقها وأخذت طريقها إلى المطابع.
ولعل نشر هذه الأجزاء من هذا الكتاب يكون بمثابة تحية من الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر للقاهرة فى عام أعيادها الألفية.
والله ولى التوفيق.
شوال سنة 1389 هـ. دكتورة ديسمبر سنة 1969 م. سهير القلماوى(12/331)
تراثنا النّجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة تأليف جمال الدين أبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى الاتابكى الجزء الثالث عشر تحقيق فهيم محمّد شلتوت الهيئة للمصرية العامة للتأليف والنشر 1389 هـ- 1970 م(13/1)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
[ما وقع من الحوادث سنة 801]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على مصر وهى سنة إحدى وثمانمائة، على أنّ والده الملك الظاهر برقوق حكم منها إلى نصف شوّال، ثمّ حكم فى باقيها الملك النّاصر هذا.
فيها توفّى قاضى القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى بن سليم بن جميل الأزرقىّ العامرىّ الكركىّ الشافعىّ، قاضى قضاة الكرك «1» ، ثم الدّيار المصرية بالقدس فى سادس شهر ربيع الأوّل، وكان فاضلا رئيسا نبيلا، وهو أحد من قام مع الملك الظّاهر برقوق عند خروجه من سجن الكرك، وخدمه فى أيّام حبسه بها- وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك الظّاهر برقوق- ولمّا عاد الملك الظّاهر إلى ملكه عرف له ذلك، وطلبه إلى الدّيار المصريّة، وولّاه قضاء الشّافعيّة بالدّيار المصريّة، وولّى أخاه علاء الدين كاتب سرّ الكرك كتابة «2» سرّ مصر، ثم صرف القاضى(13/3)
عماد الدين هذا عن القضاء برغبة منه، وولى مشيخة الصلاحية «1» بالقدس الشّريف إلى أن مات به.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الإبراهيمىّ الظّاهرىّ- يرقوق- نائب حلب بها، فى ليلة خامس عشرين صفر، وكان من أخصّاء مماليك الملك الظّاهر برقوق؛ رقّاه إلى أن ولّاه نيابة صفد «2» ، ثم طرابلس، ثم تقله إلى نيابة حلب بعد عزل الوالد عنها فى سنة ثمانمائة، فدام بها إلى أن مات، وكان أميرا عاقلا ساكنا، مشكور السيرة، وتولّى بعده نيابة حلب الأمير آقبغا الجمالى الأطروش.
وتوفّى الأمير زين الدين أمير حاج بن مغلطاى، أحد الأمراء بالدّيار المصريّة.
فى شهر ربيع الأول، وكان له رياسة ووجاهة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة قنبر بن محمد العجمىّ السّيرامىّ «3» الشافعى، العالم المشهور بالقاهرة، فى شعبان، وكان قدومه إليها من بلاد العجم فى حدود سنة سبع وثمانين وسبعمائة، ونزل بجامع الأزهر، وكان متفنّنا فى عدّة فنون من العلوم، درّس، واشتغل، وانتفع به الطلبة، وكان تاركا للدّنيا، متقشّفا فى ملبسه، قد قنع بجبّة من لبد «4» ، وطاقيّة من لبد- صيفا وشتاء- وقال العينىّ بعدما أثنى على علمه: وكان يميل إلى سماع المغانى واللهو والرقص، وكان يتّهم بالمسح على رجليه من غير خفّ «5» - انتهى.(13/4)
وتوفّى الأمير سيف الدين بكلمش بن عبد الله العلائىّ. أمير سلاح»
كان- بطّالا- بالقدس فى صفر، وأصله من مماليك الأمير طيبغا الحسنىّ الناصرىّ، المعروف بالطويل، وترقّى بعده حتى صار من جملة الأمراء، ثمّ أنعم عليه الملك الظاهر برقوق بإمرة طبلخاناة «2» قبل خلعه من الملك، ثمّ جعله فى سلطنته الثانية أمير آخورا كبيرا «3» مدّة سنين، ثمّ نقله- بعد أن أمسكه وحبسه- إلى إمرة سلاح، فدام على ذلك سنين إلى أن قبض عليه فى تاسع عشرين المحرم من سنة ثمانمائة، وقبض- معه أيضا- على الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ، وحملا إلى سجن الإسكندرية، وتولّى الأمير آخورية بعده الأمير تنبك الظاهرى، فدام بكلمش هذا فى السجن إلى أن أفرج عنه، وبعثه إلى القدس بطّالا، فدام به إلى أن مات، وكان أميرا شجاعا مقداما، ذا كلمة نافذة فى الدولة، إلا أنه كان فيه كبر وجبروت، وخلق سيئ مع كرم وإنعام، وكان سبب القبض عليه أنّه ضرب موقّعه القاضى صفىّ الدين الدميرى وصادره، فشكا صفىّ الدين حاله إلى السلطان فى أبيات مدح السلطان فيها، وذمّ بكلمش المذكور، من جملتها قوله:
يأكلنى ذئب وأنت ليث «4»
فسمع بذلك بكلمش، فطلبه وضربه ثانيا بالمقارع، وكلما ضربه رشّ عليه الملح، فكان كلّما صاح يقول له بكلمش قل للّيث يخلّصك من الذئب، فأقام بعد(13/5)
ذلك مدة، ومات من تلك العقوبة، وبلغ السلطان ذلك فأمهله مدة ثم قبض عليه.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين حسن الكجكنّىّ «1» نائب الكرك، ثم أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، وهو الذي أخرج الملك الظاهر يرقوق من سجن الكرك، ولما أرسل إليه منطاش الشهاب البريدىّ بقتله فقام حسام الدين هذا بنصرته، فلما عاد الملك الظاهر إلى ملكه كافأه وأنعم عليه بإمرة مائة «2» ، وتقدمة ألف بديار مصر، وصار من أعظم أمرائه إلى أن مات- رحمه الله- وكان عارفا، عاقلا، سيوسا، وعنده فضيلة، وفهم جيد ومذاكرة.
وتوفّى الشيخ المعتقد خلف بن حسن بن حسين الطّوخى «3» ، فى ثانى عشرين شهر ربيع الأول، وكان للناس فيه اعتقاد ومحبّة.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح خليل بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الجليل المغربىّ، ويعرف بابن المشيّب، فى سادس عشرين شهر ربيع الأول «4» .
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العامل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى بكر ابن محمد العبّادىّ الحنفىّ الفقيه المشهور، فى ليلة الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وكان من فضلاء الحنفيّة، أفتى ودرّس فى عدة فنون.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البليغ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن أيبك [التقصباوى الناصرى] «5» الدّمشقىّ الشاعر المشهور، فى ثالث عشر ربيع الأول بدمشق، وكان بارعا فى النّظم، وله شعر رائق، ذكرنا منه قطعة جيدة فى ترجمته فى(13/6)
تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ومولده فى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بدمشق، ومن شعره- رحمه الله- قوله: (الكامل)
قم زفّ بنت الكرم ثمّ استجلها ... بكرا لها فى الكأس رأس أشمط
فالطّير شاد والنّسيم مشبّب ... والغصن يرقص والغمام ينقّط
وله أيضا: (الوافر)
كأنّ الرّاح لمّا راح يسعى ... بها فى الرّاح ميّاس القوام
سنا المرّيخ فى كفّ الثّريّا ... يحيّينا به بدر التّمام
وله الموشح المشهور الذي أوله:
يا من حكى خدّه الشّقائق ... وماله فى اليها «1» شقيق
تركتنى بالدموع شارق ... لمّا بدا خدّك الشّريق
سللت من ناظريك صارم ... للفتك يا شادن الصّريم
وسرت يوم الفراق سالم ... وقد تركت الحشا سليم
متى أراك الغداة قادم ... يا من حديثى به قديم
شيّبت من أجلك المفارق ... وسرت مع جملة الفريق
ما بين حاد حدا وسائق ... حملى بمن ساقه وسيق
وهو أطول من ذلك.
وتوفّى العارف بالله شمس الدين محمد بن أحمد بن علىّ، المعروف بابن نجم الصوفىّ بمكة المشرّفة، فى صفر بعد أن جاور بها عدة سنين.(13/7)
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتصم بالله زكريا بن إبراهيم بن محمد بن أحمد- وهو مخلوع من الخلافة- فى رابع عشرين جمادى الأولى، وقد تقدم ذكر ولايته للخلافة فى أيام أينبك البدرى «1» ، بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين فى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم خلع حتى ولاه الملك الظاهر برقوق ثانيا بعد موت أخيه الواثق، فلم تطل مدته أيضا، وخلعه الملك الظاهر من الخلافة فى أول جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأعاد المتوكل على الله، فاستمرّ المعتصم هذا معزولا طول عمره إلى أن مات فى هذه السنة، وخلافته الأولى والثانية لم تطل مدته فيهما- انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين شيخ بن عبد الله الصّفوىّ الخاصّكىّ «2» ، أمير مجلس، وهو مسجون بسجن المرقب «3» ، وكان ممن رقاه الملك الظّاهر برقوق إلى أن جعله أمير مائة ومقدّم ألف فى سلطنته الثانية، وجعله أمير مجلس، ثمّ قبض عليه فى سنة ثمانمائة، وأنعم بإقطاعه على الوالد بعد عزله عن نيابة حلب، وأخرجه الملك الظاهر إلى القدس بطّالا، فساءت سيرته بها، وكان مسرفا على نفسه منغمسا فى اللذات، فأمر الملك الظاهر به فنقل من القدس إلى حبس المرقب إلى أن مات به، قلت: وشيخ هذا هو أول أمير عظيم فى دولة الملك الظاهر برقوق ممن سمّى بهذا الاسم، ثم بعده شيخ المحمودىّ الساقىّ، أعنى الملك المؤيد، ثم بعده شيخ السّليمانىّ المسرطن نائب طرابلس، فهؤلاء الثلاثة هم أعظم من سمّى بهذا الاسم، ثم جاء بعدهم فى الدولة الأشرفيّة- برسباى- اثنان: شيخ الأمير آخور الثانى مملوك بيبرس الأتابك، وشيخ الحسنىّ الحسنىّ الظاهرىّ أمير عشرة ورأس نوبة، وهما كلا شىء بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة- انتهى.(13/8)
وتوفّى العبد الصالح الأمير الطواشىّ الرّومىّ صندل بن عبد الله المنجكىّ «1» ، خازندار «2» الملك الظاهر برقوق، وعظيم دولته، وصاحب الطّبقة- بالقلعة- المعروفة بالصّندليّة، فى ثالث شهر رمضان، ووجد الملك الظاهر عليه وجدا عظيما، ومات ولم يخلّف من المال إلا النّزر اليسير إلى الغاية، هذا مع تمكّنه فى الدولة، وطول مدته فى وظيفة الخازنداريّة فى تلك الأيام، وأنياته «3» جماعة كبيرة من المماليك الظاهريّة، ومنهم جماعة فى قيد الحياة يحكون عن زهده وصلاحه وعبادته أشياء عظيمة إلى الغاية، وكان الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ إذا حدّث عنه يقول: حدّثنى من لا أتّهمه العبد الصالح المنجكىّ- انتهى.
وتوفّى الأمير الكبير- أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وعظيم المماليك اليلبغاويّة- كمشبغا بن عبد الله الحموىّ اليلبغاوىّ، بسجن الإسكندرية، فى العشرين من شهر رمضان، وهو أحد من قام بنصرة الملك الظّاهر برقوق عند خروجه من سجن الكرك، وكان كمشبغا يوم ذلك يلى نيابة حلب، وقد تقدم ذكر كمشبغا هذا فى مواطن كثيرة من أواخر دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين إلى أن أمسك وحبس، ومات، وكان من أجلّ الملوك وأعظمها قدرا، قيل للوالد لما ولى الأتابكيّة بالديار المصرية: يا خوند امش على قاعدة الأمير كمشبغا، فقال الوالد:(13/9)
أيش أنا حتى أمشى على طريق كمشبغا! كمشبغا فى مقام أستاذى، وكان بخدمة الوالد يومئذ أزيد من ثلاثمائة مملوك، ورأيت سماطه ومرتّباته تسعمائة رطل من اللحم فى كل يوم، وفى هذا كفاية فى التعريف بحال كمشبغا- رحمه الله.
وتوفّى قاضى القضاة ناصر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء الله ابن عواض بن نجا بن أبى الثّناء محمود بن نهار بن مؤنس بن حاتم بن نيلى ابن جابر بن هشام بن عروة بن الزّبير بن العوّام- رضى الله عنه- المعروف بابن التّنسىّ [السكندرى] «1» المالكىّ، قاضى قضاة الإسكندرية، ثم الديار المصرية- بها- وهو قاض، فى أول شهر رمضان، وكان مشكور السيرة- رحمه الله- وهو والد القاضى بدر الدين محمد بن التّنسىّ الآتى ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين قديد بن عبد الله القلمطاوىّ، أحد أمراء الطّبلخانات- بطّالا- بالقدس، فى شهر ربيع الأول، وكان من قدماء الأمراء، وولى نيابة الكرك فى بعض الأحيان.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب العجمى، المعروف بالزهورىّ «2» فى أول صفر، وكان شيخا عجميّا، وللناس فيه اعتقاد كبير لا سيما الملك الظاهر برقوق؛ فإنه كان له فيه اعتقاد كبير إلى الغاية.
أخبرنى بعض حواشى الملك الظاهر: أن الزهورىّ هذا كان إذا جلس عند الملك الظاهر برقوق وكلّمه يأخذ الملك الظاهر كلامه على سبيل المكاشفة، وكان يقيم عنده غالبا فى الدور السّلطانيّة عند الخوندات «3» ، ووقع له مع(13/10)
الظاهر خوارق ومكاشفات، منها: أنه قال له يوما- وقد حان أجلهما- يا برقوق أنا آكل فراريج وأنت تأكل بعدى دجاجا ثم تروح، ففطن برقوق أنه يقيم بعد موت الزّهورىّ بمقدار ما يكبر فيه الفرّوج، ومرض الزهورىّ ومات، وضاق صدر برقوق حتى كلمه جماعة فى عدم ما ظنه، فلم يقم بعده الظاهر إلا ثمانية أشهر ومات.
وتوفّى العلامة القاضى بدر الدين محمود بن عبد الله الكلستانىّ السّرّائىّ «1» الحنفىّ، كاتب السرّ الشريف بالديار المصرية، وأحد العلماء الأعيان فى عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، وولى بعده كتابة السرّ فتح الدين فتح الله رئيس الأطباء- وقد تقدم ذكر ولاية الكلستانىّ هذا لوظيفة كتابة السرّ بعد موت بدر الدين بن فضل الله بدمشق فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية- وكان إماما بارعا مفتنّا فى علوم كثيرة، عارفا باللغة العربية والعجمية والتركية، وسمّى بالكلستانىّ لكثرة قراءته كتاب السعدىّ العجمىّ الشاعر، وكان الكتاب المذكور يسمى كلستان «2» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر أصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع- والله أعلم.(13/11)
[ما وقع من الحوادث سنة 802]
السنة الثانية من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على مصر وهى سنة اثنتين وثمانمائة:
فيها كانت وقعة أيتمش مع الملك الناصر، ثم وقعة تنم نائب الشام- وقد تقدم ذكرهما فى أول ترجمة الملك الناصر.
وفيها توفّى خلائق من أعيان الأمراء بالسيف فى واقعة تنم: منهم الأمير الكبير أيتمش بن عبد الله الأسندمرى البجاسى الجرجاوى «1» ثم الظاهرى، أتابك «2» العساكر بالديار المصرية، ذبح فى سجنه بقلعة دمشق، فى ليلة رابع عشر شعبان، وكان أصله من مماليك أسندمر البجاسى الجرجاوى، وترقّى إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بديار مصر، بسفارة الأتابك برقوق فى دولة الملك الصالح حاجى، وأمير آخورا، ولما تسلطن الملك الظاهر برقوق جعله رأس نوبة كبيرا، ثم اشتراه من ورثة الأمير جرجى لما بلغه أنه إلى الآن فى الرّقّ- وقد مر ذلك كله- ثم جعله أتابك العساكر بالديار المصرية، ثم ندبه فيمن ندب من الأمراء لقتال الناصرى ومنطاش، فقبض عليه هناك، وحبس بقلعة دمشق مدة طويلة إلى أن أطلق بعد عود الملك الظاهر للملك وقدم القاهرة، وكان الأمير إينال اليوسفى يوم ذاك أتابك العساكر بالديار المصرية، فأنعم الملك الظاهر على أيتمش بإقطاع يضاهى إقطاع الأتابكية، وولّاه رأس نوبة الأمراء وجعله أتابكا، فدام على ذلك سنين إلى أن قبض الملك الظاهر على الأتابك كمشبغا الحموى، وأعاده إلى الأتابكيّة من بعده على عادته أولا، ثم جعله فى مرض موته وصيّه المتحدّث فى تدبير مملكة ولده الملك الناصر فرج، فأخذ أيتمش يدبر ملك الناصر(13/12)
بعد موت برقوق أحسن تدبير، فثار عليه الأمراء الأجلاب من مماليك برقوق، وقاتلوه وكسروه، وأخرجوه من مصر إلى الشام، فسار إلى دمشق، ووافق تنم نائبها على قتالهم هو ورفقته، مثل: الوالد، وأرغون شاه أمير مجلس، وغيرهم، فواقعوا الأمراء المذكورين بغزّة، وانكسروا ثانيا، وقبض على الجميع، وحبسوا بقلعة دمشق ثم قتلوا عن آخرهم، وكان كسر تنم وأيتمش هذا وقتلهما وتحكّم الأمراء الأجلاب أول وهن وقع بالديار المصرية، وكان أيتمش معظّما فى الدول، قليل الشّرّ كثير الخير، متجمّلا فى ملبسه ومركبه ومماليكه، هو وكمشبغا الحموى، كانا من عظماء الأتابكية فى الدولة التركية بعد يلبغا العمرى الخاصّكى، وشيخون العمرى.
وتوفّى أيضا- قتيلا بقلعة دمشق فى التاريخ «1» المذكور مع الأتابك أيتمش- الأمير سيف الدين أرغون شاه البيدمرى الظاهرى «2» - أمير مجلس، وكان من خواص مماليك الملك الظاهر برقوق، وأكابر مماليكه وخيارهم.
وتوفّى قتيلا- أيضا- الأمير سيف الدين فارس بن عبد الله القطلقجاوى «3» ، ثم الظاهرى، حاجب الحجّاب بالديار المصريّة- ذبحا- بقلعة دمشق، فى رابع عشر شعبان، وكان أصله من مماليك الأمير خليل بن عرام نائب الإسكندرية، اشتراه من شخص خباز بالإسكندريّة، وكان فارس هذا يبيع الخبز على حانوت أستاذه، فرآه ابن عرّام فأعجبه وابتاعه منه، ثم ملكه الملك الظاهر برقوق بعد ابن عرام، وما أعلم نسبته بالقطلقجاوى لأى قطلقجا، ولعله تاجره الذي جلبه من بلاده أولا- والله أعلم- وكان فارس يعرف أيضا بالأعرج، وكان من الشّجعان الفرسان الأقشيّة(13/13)
المعدودة، الذين يضرب برميهم المثل، وقد تقدم من ذكره فى واقعة أيتمش ما يكتفى بذكره «1» .
وتوفى- قتيلا أيضا فى رابع عشر شعبان بقلعة دمشق- الأمير شهاب الدين أحمد- أمير مجلس- ابن الأتابك يلبغا العمرى الخاصكى صاحب الكبش «2» ، وأستاذ برقوق وغيره من اليلبغاوية، ولد بالكبش، فى حياة والده الأتابك يلبغا، ثم نشأ بمصر، وصار من جملة الأمراء، فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق ولّاه أمير مجلس، ثم ندبه لقتال الناصرى ومنطاش فيمن ندب من الأمراء، فلما وصل إلى دمشق عصى على برقوق، وانضم على الناصرى، وهو أيضا مملوك أبيه فأقرّه الناصرى على إمرته ووظيفته، إلى أن قبض عليه منطاش وحبسه مع الناصرى إلى أن أخرجهما الملك الظاهر برقوق فى سلطنته الثانية، وخلع عليه على عادته أمير مجلس، فدام على ذلك سنين عديدة إلى أن تنكّر عليه برقوق وحبسه، ثم أطلقه- بطّالا- بالبلاد الشامية إلى أن ثار الأمير تنم الحسنى نائب الشام، فقدم عليه أحمد هذا ووافقه، فقبض عليه مع من قبض عليه من الأمراء، وقتل، وكان مشهورا بالشّجاعة والإقدام.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق فى رابع عشر شعبان- الأمير سيف الدين جلبان [بن عبد الله «3» ] الكمشبغاوىّ الظاهرىّ، المعروف بقرا سقل نائب حلب، ثم أتابك دمشق، كان من أكابر مماليك الملك الظاهر برقوق، وأول من نال منهم الرّتب السنية، صار أمير مائة، ومقدّم ألف فى أوائل سلطنة(13/14)
الملك الظاهر برقوق الثانية، ثم رأس «1» نوبة النّوب، ثم ولى نيابة حلب بعد الأتابك قرا دمرداش الأحمدىّ، وهو الذي قام فى أمر منطاش حتى أخذه وتسلمه من نعير، ثم أمسكه الظاهر وحبسه، وولّى الوالد عوضه نيابة حلب، فحبس مدة ثم أطلق، واستقرّ أتابك دمشق، فدام على ذلك مدة، ثم قبض عليه برقوق ثانيا، وحبسه بقلعة دمشق إلى أن أطلقه الأمير تسنم بعد موت الظاهر برقوق، فدام من حزبه إلى أن أمسك وقتل مع من قتل، وكان جليل المقدار، عاقلا شجاعا، معدودا من رؤساء المماليك الظاهريّة.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق فى التاريخ المذكور- سيف الدين يعقوب شاه [بن عبد الله] «2» الظاهرىّ الخازندار، ثم الحاجب «3» الثانى، وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وكان أيضا من خواصّ الملك الظّاهر برقوق، وأجلّ مماليكه، وهو أيضا ممن انضم على أيتمش وتنم.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق- الأمير سيف الدين آقبغا [بن عبد الله] «4» الطولوتمرىّ الظاهرى، المعروف باللكّاش، أمير مجلس، وكان من جملة أمراء الألوف فى دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، ثم صار أمير مجلس، فلما ركب على باى على الملك الظاهر اتّهم آقبغا هذا بممالأة على باى فى الباطن فأخرج إلى الشّام، ودام به حتى وافق تنم، وقتل مع من قتل من الأمراء، وكان شجاعا مقداما، من وجوه المماليك الظاهريّة.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق- الأمير بى خجا الشّرفىّ المدعوّ(13/15)
طيفور [بن عبد الله الظاهرى «1» ] نائب غزّة، ثم حاجب حجّاب دمشق، وهو أيضا من مماليك الظاهر برقوق، وممّن صار فى أيامه أمير طبلخاناة، وأمير آخور ثانيا.
فهؤلاء قتلوا جميعا فى ليلة واحدة، ومعهم جماعة أخر مثل الأمير بيغوت اليحياوىّ الظاهرى، والأمير مبارك المجنون، والأمير بهادر العثمانى نائب ألبيرة «2» ، ولم يبق من أعيان من قتل فى هذه الواقعة- صبرا- إلّا تنم [الحسنى] «3» ويونس بلطا، أخّروهما حتى استصفوا أموالهما، ثم قتلوهما حسبما يأتى ذكره الآن.
وتوفّى- أيضا قتيلا- الأمير تنبك الحسنىّ الظاهرىّ، المدعو تنم نائب الشام، وقد مر من ذكره فى واقعته مع الملك الناصر فرج ما فيه غنية عن التكرار، غير أننا نذكر مبادئ أمره وترقّيه إلى انتهائه على سبيل الاختصار، فنقول: هو من أعيان خاصّكية أستاذه الظاهر برقوق، ثم أمّره إمرة عشرة فى سلطنته الثانية، ثم أخرجه إلى دمشق، وجعله أتابكا بها بعد إياس الجرجاوى، ثم نقله بعد مدة يسيرة إلى نيابة دمشق، بعد موت الأمير كمشبغا الأشرفى الخاصكى، فدام على نيابة دمشق نحو سبع سنين، إلى أن مات الظاهر، وخرج عن الطاعة، وانضم عليه سائر نواب البلاد الشامية، ثم جاءه أيتمش والوالد، وغيرهما من أمراء مصر، وواقع الملك الناصر على غزة، وانكسر مع كثرة عساكره- خذلانا من الله- وأمسك، وحبس بقلعة دمشق، وعوقب على المال، ثم خنق فى ليلة الخميس رابع شهر رمضان، وخنق معه الأمير يونس [بن عبد الله] «4» الظاهرى المعروف ببلطا [وبالرماح] «5» نائب(13/16)
طرابلس. وكان يونس أيضا من كبار المماليك الظاهرية وأمرائها. وقد ولى نيابة صفد وحماة وطرابلس. إلا أنه كان ظالما جبارا متكبرا، سفا كاللدماء، قتل بطرابلس من القضاة والعلماء والأعيان خلائق لا تدخل تحت حصر، وقد مر ذكر هذه الوقائع كلّها فى أوائل ترجمة الملك الناصر فرج الأولى، فلينظر هناك.
وتوفّى قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن علىّ [بن موسى] «1» قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصريّة- وهو معزول- فى خامس جمادى الأولى، وكان فقيها مفتنّا فاضلا، أفتى ودرّس سنين بحلب وغيرها، إلى أن طلب إلى مصر، وولّى القضاء بها، إلى أن عزل لثقل بدنه من السّمن، وقلّة حركته؛ فإنّه كان إذا طلع للسلام على السلطان وجلس عنده لا يستطيع القيام إلّا بعد جهد من السّمن.
وتوفّى قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم ابن قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمّد بن أبى الفتح الحنبلىّ «2» ، قاضى قضاة الديار المصريّة بها- وهو قاض- فى ثامن شهر ربيع الأوّل، وتولّى القضاء بعده أخوه موفّق الدين أحمد.
وتوفّى المعلّم شهاب الدين أحمد بن محمّد الطولونىّ المهندس، بطريق مكّة فى صفر، وقد توّجه لعمارة المناهل «3» بطريق الحجاز.
وتوفّى شيخ شيوخ خانقاة «4» سرياقوس جلال الدين أبو العبّاس أحمد ابن شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق بن عامر الأصبهانىّ الحنفىّ «5» ، بخانقاة سرياقوسن، فى خامس عشر شهر ربيع الآخر.(13/17)
وتوفّى الأمير الطّواشى زين الدين بهادر الشهابىّ «1» ، مقدّم المماليك السلطانيّة، فى سابع عشر شهر رجب، وكان من عظماء الخدّام، وغالب أعيان مماليك الظاهر برقوق من أنياته.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب سليم السّوّاق القرافىّ «2» بالقرافة، فى تاسع عشر شهر ربيع الأوّل، وكان للناس فيه اعتقاد، ويقصد للزيّارة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قجماس بن عبد الله المحمّدىّ الظاهرىّ، شادّ السّلاح خاناة- قتيلا-[فى ثامن شهر ربيع الأول] «3» فى الواقعة التى كانت بين الأتابك أيتمش وبين الأمراء الذين كانوا بالقلعة.
وتوفّى أيضا الأمير سيف الدين قشتمر بن قجماس أخو إينال باى، الأمير آخور، فى ثامن شهر ربيع الأوّل- قتيلا- فى الواقعة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الحسامىّ المنجكىّ «4» بالينبع «5» بطريق الحجاز.
وتوفّى الأمير سيف الدين قرابغا بن عبد الله الأسنبغاوىّ «6» أحد أمراء الطبلخانات، كان من قدماء الأمراء بديار مصر.
وتوفّى الأمير جمال الدين عبد الله ابن الأمير بكتمر الحاجب «7» ، فى خامس عشرين شهر ربيع الآخر، بداره خارج باب النصر «8» من القاهرة.(13/18)
وتوفّيت خوند شيرين [بنت عبد الله الرومية] «1» والدة الملك الناصر فرج بن برقوق، بعد مرض طويل، فى ليلة السبت أوّل ذى الحجّة، ودفنت بالمدرسة الظاهريّة البرقوقية «2» بين القصرين، وحضر ولدها الملك الناصر الصّلاة عليها، بباب القلّة «3» من القلعة، ومشى سائر أمراء الدولة وأعيانها أمام نعشها من القلعة إلى بين القصرين، وكانت أمّ ولد للملك الظّاهر برقوق، روميّة الجنس، وهى بنت عمّ الوالد، وكانت من خيار نساء عصرها حشمة ورياسة وعقلا.
أمر النّيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزّيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.(13/19)
[ما وقع من الحوادث سنة 803]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على مصر وهى سنة ثلاث وثمانمائة:
فيها كان ورود تيمور لنك إلى البلاد الشّاميّة، ومات بسيفه ولقدومه خلائق لا يعلمها إلا الله تعالى كثرة، حسبما ذكرناه مفصّلا.
وفيها تجرّد «1» السّلطان الملك النّاصر فرج إلى البلاد الشّامية بسبب تيمورلنك- وقد مرّ ذلك أيضا- وهى تجريدته الثانية إلى البلاد الشّامية.
وفيها قتل الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهرىّ، قريب الملك الظّاهر برقوق، المعروف بسيّدى سودون، نائب الشّام، فى أسر تيمور بظاهر دمشق، ودفن بقيوده من غير أن يتولّاه «2» ، واختلفت الأقوال فى موتته، فمن الناس من قال: ذبحا، ومنهم من قال: ألقاه تيمور إلى فيل كان معه فداسه برجله حتى مات، وكان ذلك فى أواخر شهر رجب، وتولّى نيابة دمشق بعده الوالد؛ وهى نيابته الأولى على دمشق، وكان سودون المذكور قدم من بلاد الجركس «3» صغيرا مع جدّته لأمّه أخت الملك الظاهر برقوق، ومع خالة أمّه أمّ الأتابك بيبرس، والجميع صحبة الأمير أنص والد الملك الظّاهر برقوق، فربّاه الظّاهر ورقّاه إلى أن جعله أمير آخور كبيرا بعد القبض على الأمير نوروز الحافظىّ، ثمّ وقع له(13/20)
أمور، وقبض عليه بعد موت الملك الظّاهر برقوق، وسجن بالإسكندريّة إلى أن أخرج بعد واقعة الأتابك أيتمش، ثمّ ولى نيابة دمشق بعد مسك الأمير تنم الحسنىّ نائب الشّام، ودام بدمشق إلى أن ورد عليه قاصد تيمورلنك فوسّطه فكان ذلك أكبر الأسباب فى قتله، فإن تيمور لم يقتل أحدا من نوّاب البلاد الشّاميّة سواه.
وتوفّى قاضى القضاة موفّق الدين أحمد ابن قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد ابن محمد بن أبى الفتح العسقلانىّ الحنبلىّ، فى ثامن عشر شهر رمضان، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدّته فى القضاء، فإنه ولى القضاء بعد أخيه برهان الدين إبراهيم فى السنة الماضية.
وتوفّى قاضى القضاة تقىّ الدين عبد الله بن يوسف [بن الحسين بن سليمان ابن فزارة بن بدر بن محمد بن يوسف] «1» الكفرىّ- بفتح الكاف- الحنفىّ الدمشقىّ، قاضى قضاة دمشق، فى العشرين من ذى القعدة فى أسر تيمور.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد [بن عبد الله] «2» النّحريرىّ المالكىّ، قاضى قضاة الديار المصريّة، وهو معزول فى ثانى شهر رجب.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزّين «3» ، والى القاهرة فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل، بعد أن ولى شدّ الدّواوين، وولاية القاهرة غير مرّة، وكان من الظّلمة.
وتوفّى الأمير سيف الدين أسنبغا بن عبد الله العلائىّ الدّوادار الظاهرىّ، فى سادس عشر جمادى الأولى، وكان من جملة الدّواداريّة الصّغار فى دولة الملك الظّاهر برقوق.(13/21)
وتوفّى الأمير زين الدّين فرج الحلبىّ «1» نائب الإسكندريّة بها، فى آخر شهر ربيع الأوّل، وقد ولى شدّ الدّواوين «2» بالقاهرة، ثمّ صار من جملة الحجاب، ثمّ ولى أستادارية «3» الذخيرة والأملاك، ثم ولى نيابة الإسكندريّة، فدام بها إلى أن مات.
وتوفّى الأمير زين الدين [وقيل سيف الدّين] »
أبو بكر بن سنقر ابن أخى بهادر الجمالى، فى ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان ولى الحجوبية الثانية بالدّيار المصرية بتقدمة ألف، وتوجّه أمير حاجّ المحمل، وتنقّل فى عدّة وظائف، وطالت أيامه فى السعادة، وهو من بيت رئاسة وإمرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بجاس بن عبد الله النّوروزىّ [العثمانى اليلبغاوىّ] «5» أحد مقدّمى الألوف بالدّيار المصرية بها- بطّالا- بعد ما كبرت سنّه، فى ثانى عشر شهر رجب، وكان لمّا استعفى من الإمرة بعد موت الملك الظاهر برقوق، أنعم بإقطاعه على الأمير شيخ المحمودىّ: أعنى الملك المؤيد، فرعاه أستاداره جمال الدّين يوسف البيرى البجاسىّ، فعرف له ذلك الملك المؤيد شيخ لمّا تسلطن، وأحسن لذرّيته.
وتوفّى الوزير كريم الدّين عبد الكريم بن عبد الرزّاق بن إبراهيم بن مكانس «6» القبطى المصرى، أخو الشّاعر فخر الدين، فى خامس عشر جمادى الآخرة، وهو معزول عن الوزر، وقد ولى الوزر بالديار المصرية، ونكب وصودر غير مرّة، وجمع فى(13/22)
بعض الأحيان بين وظيفتى الوزر ونظر الخاص معا، وكان سيّىء السيرة، كثير الظلم والرّمايات، وولّى مشيرا «1» فى سلطنة الملك الظاهر برقوق، ثمّ نكب هو وإخوته، ومات- بعد خطوب قاساها- يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الآخرة، وكان من أعاجيب الزّمان من الخفّة، والطيش، وسرعة الحركة، يقال إنه قال لبعض حواشيه- وهو نازل فى موكبه بخلعة الوزارة، لمّا أعيد إليها، والناس بين يديه: يا فلان ما هذه الركبة غالية بعلقة مقارع.
وتوفّى قاضى قضاة الدّيار المصرية نور الدين على بن يوسف بن مكى الدميرى «2» المالكىّ المعروف بابن الجلال، باللجون «3» من طريق دمشق فى جمادى الأولى، وهو مجرّد صحبة السلطان.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الحنفى، فى نصف جمادى الأولى، وكان فقيها فاضلا مستحضرا لمذهبه، معدودا من فقهاء الحنفية.
وتوفّى قاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء الشافعى قاضى قضاة الدّيار المصرية، وهو معزول عن القضاء، فى سابع عشرين شهر ربيع الآخر.
وتوفّى قاضى القضاة شرف الدّين محمد بن محمد الدّمامينى المالكى الإسكندرى، قاضى الإسكندرية، ثم ناظر الجيش والخاص بالدّيار المصرية، فى سابع عشرين المحرم، كان رئيسا فاضلا، ولى قضاء الإسكندرية، ثم وكالة بيت المال «4» ، ونظر الكسوة «5» ،(13/23)
ثم نظر ديوان المفرد «1» ، ثم نظر الأسواق «2» ، وولى حسبة «3» القاهرة غير مرة، ثمّ ولى نظر «4» الجيش بالدّيار المصرية بعد موت القاضى جمال الدين محمود العجمى- مضافا إلى وكالة بيت المال فى سنة تسع وتسعين إلى أن صرف بسعد الدين إبراهيم بن غراب واستمر على وكالة بيت المال- ثم أعيد إلى نظر الجيش والخاصّ معا، فلم تطل مدته فيهما، وعزل وأعيد إليهما ابن غراب، وتولى قضاء الإسكندرية، فدام بها إلى أن مات فى التاريخ المذكور.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطىّ الحنفى «5» ، قاضى قضاة الدّيار المصرية- وهو قاض- فى تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وكان بارعا فى الفقه والأصول، والعربيّة، وعلمى المعانى والبيان، وكان تفقّه فى مبادئ أمره على العلّامة الشيخ قوام الدين الأترارىّ الحنفىّ شارح الهداية «6» ، ثم على العلامة أرشد الدين(13/24)
السرائى «1» ، وغيرهما بالدّيار المصرية، ثم انتقل إلى حلب، واشتغل بها أيضا إلى أن برع وأفتى ودرّس، وتفقّه به جماعة كبيرة من العلماء إلى أن طلب إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة القاضى شمس الدين الطرابلسى سنة ثمانمائة، فدام قاضيا إلى أن مات، وقد ناهز الثمانين سنة.
وتوفّى قاضى قضاة الحنابلة- بدمشق- تقي الدين إبراهيم ابن العلامة شمس الدين محمد بن مفلح «2» ، الحنبلىّ الدّمشقى بها، فى شعبان.
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو المعالى محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم ابن عبد الرحمن السلمى المناوى «3» الشافعى، قاضى قضاة الديار المصرية، وهو فى أسر تيمور غريقا بنهر «4» الزّاب، بعد ما مرّت به محن وشدائد، بعد أن ولى قضاء الدّيار المصرية غير مرّة.
وتوفّى قاضى القضاه الحنفية- بدمشق- بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد «5» القدسىّ الحنفىّ، بمدينة غزّة، فى شهر ربيع الأوّل، فارّا من تيمورلنك إلى الديار المصرية، وكان فاضلا بارعا، أفتى ودرّس وناب فى الحكم، ثمّ استقلّ بالقضاء مدّة.
وتوفّى السلطان الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد علىّ ابن الملك المؤيّد داود ابن الملك المظفّر يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علىّ ابن رسول «6» ، صاحب اليمن، فى ليلة السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول، بمدينة(13/25)
تعز «1» من بلاد اليمن، عن سبع وثلاثين سنة، وكان ولى سلطنة اليمن بعد موت أبيه فى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فدام فى الملك إلى أن مات فى التاريخ المذكور فى هذه السنة، وكان ملكا جليلا سخيّا، مقبلا على أهل العلم، وصنّف تاريخا حسنا، وجمع كتبا كثيرة، وتولى مملكة اليمن من بعده ابنه الملك الناصر أحمد.
وتوفّى السّلطان الأعظم ملك دلّى «2» من بلاد الهند فيروز شاه بن نصرة شاه، وكان من أجلّ الملوك، ومملكته متّسعة جدا، ذكر عنها القاضى شهاب الدين أحمد بن فضل الله أشياء عظيمة فى كتابه مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار، من ذلك أن له ألف مغنّ، وألف نديم، وذكر عن سماطه أشياء خارجة عن الحد، وأظنّ أن فيروز شاه هو حفيد الملك الذي ترجمه القاضى شهاب الدين أحمد بن فضل الله، قلت ولما سمع تيمور لنك بموت فيروز شاه بادر وتوجه إلى الهند، واستولى على ممالكه حسبما تقدم ذكره فى ترجمة الملك الناصر فرج هذا، وقام بممالك الهند بعده ابنه محمد شاه، وجميع مملكته حنفيّة، بل غالب ممالك الهند.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا، وهى سنة تحويل «3» .(13/26)
[ما وقع من الحوادث سنة 804]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى سنة أربع وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير سيف الدين جنتمر بن عبد الله التّركمانىّ الطّرخانىّ، كاشف الوجه القبلى، فى صفر، كان له مع الأعراب أمور ووقائع، وكان شجاعا، أبادهم وأفنى منهم خلائق إلى أن مهد بلاد الصعيد وقراها.
وتوفى الشيخ الإمام المقرئ فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان البلبيسىّ «1» الشافعى، الضرير، إمام جامع الأزهر، وشيخ القراءات، فى ثانى ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ سيف الدين لاجين بن عبد الله الچركسىّ «2» ، فى شهر ربيع الآخر، عن ثمانين سنة، وكان معظّما عند طائفة الجراكسة، يزعمون أنه يملك الديار المصرية، ويشيعون ذلك، ولأجله هرب جماعة من الأمراء من دمشق فى واقعة تيمور، وعادوا إلى الديار المصرية ليسلطنوه، فكان ما حصل على أهل الشّام من تيمور بسبب هذا المشؤوم الطلعة، وكان لاجين المذكور لا يكتم ذلك، بل كان يعد الناس أنه إذا ملك مصر يبطل الأوقاف التى على المساجد والجوامع، ويحرّق كتب الفقه، ويعاقب الفقهاء، ويولّى بمصر قاضيا واحدا من الحنفيّة، وهو من الأتراك لا من الفقهاء، فسلبه الله ما أمّله قبل أن يتأمّر عشرة، بل مات وهو على جنديّته، وكان يتمعقل ويدعى العرفان، مع جهل مفرط، وخفة عقل، وهو مع ذلك مقبول الكلام عند(13/27)
الطائفة إلى الغاية، وببعض كلامه يتمثّل بعضهم إلى يومنا هذا، وممن أدركناه من أتباعه سودون الفقيه حمو الملك الظاهر ططر، وسودون الأعرج الظاهرىّ، وطرباى الأتابك نائب طرابلس، وكانوا يحكون عنه أمورا يقصدون بذلك تعظيمه؛ لو تأملوها لعلموا أنه رفع عنه وعنهم القلم.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الناصح «1» فى سابع عشر شهر رمضان، ودفن بالقرافة.
أمر النيل فى هذه السنة؛ الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا.(13/28)
[ما وقع من الحوادث سنة 805]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى سنة خمس وثمانمائة:
فيها كانت وقعة تيمور لنك مع أبى يزيد بن عثمان متملّك بلاد الروم، وقد مرّ ذكر ذلك، وأسره تيمور ومات فى أسره.
وفيها توفّى قاضى القضاة تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدميرىّ المالكىّ، فى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة، عن سبعين سنة، وقد انتهت إليه رئاسة السّادة المالكية فى زمانه.
وتوفّى شيخ الإسلام سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح «1» - وصالح أول من سكن بلقينة «2» - بن شهاب بن عبد الخالق بن مسافر بن محمد البلقينىّ الكنانىّ الشافعى، فى يوم الجمعة، عاشر ذى القعدة، وصلى عليه بجامع الحاكم «3» ، ثم دفن بمدرسته التى أنشأها تجاه داره بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة، ومولده ببلقينة، فى ليلة الجمعة ثانى عشر شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
وأجاز له من دمشق الحافظ أبو الحجاج «4» المزّى، والحافظ الذهبى «5» ، والمسند أحمد(13/29)
ابن الجزرىّ «1» - فى آخرين- ثم حفظ المحرّر فى الفقه، والكافية لابن مالك فى النحو، ومختصر ابن الحاجب فى الأصول والشّاطبيّة فى القراءات، وأقدمه أبوه إلى القاهرة، وله اثنتا عشرة سنة، وطلب العلم واشتغل على علماء عصره، مثل: أثير الدين أبى حيّان «2» ، وأبى الثّناء «3» محمود الأصبهانىّ، وتفقّه بجماعة كثيرة، وبرع فى الفقه وأصوله، والعربية والتفسير، وغير ذلك، وأفتى ودرّس سنين، وانفرد فى أواخر عمره برئاسة مذهبه، وولى إفتاء دار العدل، ودرّس بزاوية الشافعى المعروفة بالخشّابيّة «4» من جامع عمرو بن العاص، وولى قضاء دمشق فى سنة سبع وتسعين وسبعمائة عوضا عن تاج الدين عبد الوهاب السّبكىّ، فباشر مدة يسيرة، ثم تركه وعاد إلى مصر، واستمر بمصر يقرئ ويشتغل ويفتى بقية عمره، وانتفع به عامة الطلبة إلى أن مات، وقد استوعبنا ترجمته فى المنهل الصافى بأوسع من هذا- فلينظر هناك.
وتوفّى شيخ الشيوخ بدر الدين حسن بن على بن الآمدى خارج القاهرة، فى أول شعبان وكان يعتقد فيه الخير، ويقصد للزيارة.
وتوفّى السيد الشريف عنان بن مغامس بن رميثة «5» المكىّ الحسنىّ بالقاهرة، فى أول شهر ربيع الأول.(13/30)
وتوفّى الأمير سيف الدين آقباى بن عبد الله الكركىّ «1» الظاهرى، الخازندار، وأحد مقدمى الألوف، المعروف بالطّاز، فى ليلة السبت رابع عشر جمادى الأولى بعد مرض طويل، ودفن بالحوش «2» الظاهرى بالصحراء، وهو أحد المماليك الصغار الأربعة الذين توجهوا صحبة الملك الظاهر برقوق إلى سجن الكرك، ولذلك سمى بالكركىّ، وكان من الأشرار، كثير الفتن، وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة الملك الناصر فرج، هذا وكان بينه وبين سودون طاز الأمير آخور الكبير عداوة، فكان يقول له: أنت طاز وأناطاز ما تسعنا مصر، فأراح الله الناس منهما فى مدة يسيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا [بن عبد الله] «3» السّودونىّ حاجب حجّاب دمشق، وتولى الحجوبيّة من بعده الأمير جركس المعروف بوالد تنم الحسنى، نقل إليها من حجوبيّة طرابلس.
وتوفى الأمير سيف الدين قرقماس الإينالى الرّمّاح «4» - قتيلا بدمشق- فى أواخر شهر رمضان، بأمر السلطان، وكان أصله من مماليك الأتابك إينال اليوسفى، وصار من بعده أميرا بديار مصر من جملة الطّبلخانات، وكان رأسا فى لعب الرّمح، ووقع له أمور بديار مصر حتى أخرجه السلطان الملك الناصر منها إلى دمشق، على إقطاع الأمير صرق، فثار بدمشق أيضا وهرب منها، فقبض عليه عند مدينة بعلبكّ فقتل بها فى عدة مماليك أخر.
وتوفّى خوند كار أبو يزيد بن مراد بك بن أورخان بن عثمان «5» ملك الروم.(13/31)
وصاحب برصا «1» ، فى أسر تيمور- بعد أن واقعه- ومات فى ذى القعدة، وكان من أجلّ ملوك بنى عثمان حزما وعزما وجلالة وشجاعة وإقداما، وقد تقدم ذكر واقعته مع تيمور فى ضمن ترجمة الملك الناصر، هذا وكان أبو يزيد هذا يعرف بيلدرم بايزيد، [ويلدرم] «2» هو باللغة التركية اسم للبرق، وهو بكسر الياء آخر الحروف، وسكون اللام، وكسر الدال المهملة، والراء المهملة، وسكون الميم- انتهى.
وتوفّى قاضى قضاة المالكيّة- بدمشق- علم الدين محمد القفصى «3» المالكى، فى حادى عشر المحرم، وكان من فضلاء المالكية.
وتوفّى السلطان محمود خان، وكان يعرف بصر غتمش، الذي كان تيمور لنك يدبّر مملكته، وليس له من الأمر مع تيمور إلا مجرد الاسم فقط، وهو من ذرّية جنكز خان، ولهذا كان سلطنه تمر وصار مدبّر مملكته؛ لكون القاعدة عند التتار لا يتسلطن إلا من يكون من ذرية الملوك.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الوزير ناصر الدين محمد بن رجب أحد أمراء العشرات «4» بديار مصر.
وتوفى سيف الدين سودون بن عبد الله بن على بك الظّاهرى، الأمير آخور الكبير، المعروف بسودون طاز «5» ، أحد أعيان المماليك الذين مر ذكرهم فى عدة مواضع، لا سيما واقعته مع يشبك، ففيها ذكرنا أحواله مفصّلا، قتل فى سجن المرقب(13/32)
بالبلاد الشامية بعد ما نقل إليها من سجن الإسكندرية، وكان سودون طاز رأسا فى لعب الرّمح، يضرب بقوّة طعنه، وشدة ثباته على فرسه المثل. وأما سرعة حركته، وحسن تسريحه لفرسه فى ميادين اللّعب بالرمح فإليه المنتهى فى ذلك، وكان أحد الأشرار الذين يثيرون الفتن والوقائع، وقد مرّ من ذكره ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا سواء.(13/33)
[ما وقع من الحوادث سنة 806]
السنة السادسة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى سنة ست وثمانمائة:
فيها توفّى قاضى القضاة ناصر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الصالحى الشافعىّ، قاضى قضاة الشافعية بالديار المصرية- وهو قاض- فى يوم الأربعاء ثانى عشر المحرم بالقاهرة، وكان رئيسا نبيلا كريما كثير البرّ والإحسان، إلّا أنه كانت بضاعته مزجاة من العلم.
وتوفّى شمس الدين محمد بن البجانسىّ الصعيدى، محتسب القاهرة، فى يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، بعد أن ولى حسبة القاهرة غير مرّة بالسعى والبذل.
وتوفّى الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن أبى بكر العراقىّ «1» الشافعىّ، شيخ الحديث بالدّيار المصرية، فى يوم الأربعاء ثامن شعبان بها، ومولده فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وسمع الكثير ورحل [فى] «2» البلاد، وكتب وألف وصنّف وأملى سنين كثيرة، وكان ولى قضاء المدينة النبويّة، وعدّة تداريس، وانتهت إليه رئاسة علم الحديث فى زمانه، ومن شعره فيمن كان يشبه النبي- صلى الله عليه وسلّم- أنشدنا حافظ العصر شهاب الدين أحمد بن حجر- إجازة- أنشدنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقىّ رحمه الله تعالى- إجازة إن لم يكن سماعا. [البسيط]
وسبعة شبّهوا بالمصطفى قسما ... لهم بذلك قدر قد زكا ونما(13/34)
سبط النّبيّ، أبو سفيان، سائبهم ... وجعفر وابنه ذو الجود والقثما «1»
وله بالسّند فى الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة فقال: [الطويل]
وأفضل أصحاب النّبيّ مكانة ... ومنزلة من بشّروا بجنان
سعيد زبير سعد عثمان عامر ... علىّ ابن عوف طلحة العمران
وقد استوعبنا مسموعه ومصنفاته فى المنهل الصافى، حيث هو محلّ الإطناب.
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الرمضانىّ الظاهرى، أحد أمراء الطبلخانات بديار مصر، فى ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول، وكان من أعيان المماليك الظاهرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك بن عبد الله، أستادار الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، فى يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر، كان ولى أستاداريّة السلطان فى بعض الأحيان مدة يسيرة، فلم ينجح أمره، وعزل وعاد إلى حاله أوّلا، وكان له ثروة ومال، غير أنه لم يعظم إلا بصهارته لسعد الدين بن غراب.
وتوفّى التاجر برهان الدين إبراهيم بن عمر بن على المحلّى المصرىّ «2» التاجر المشهور بكثرة المال، فى يوم الأربعاء ثانى عشرين شهر ربيع الأول.(13/35)
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير شيخ على، فى ذى القعدة بدمشق، بعد ما ولى نيابة صفد وغيرها، ثم صار أمير مائة، ومقدّم ألف بدمشق حتى مات، وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى القاضى علاء الدين على بن خليل الحكرىّ الحنبلىّ «1» ، فى يوم السبت ثامن المحرم.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقبغا [بن عبد الله] «2» الجمالىّ الظاهرىّ، المعروف بالأطروش والهيدبانىّ «3» نائب حلب بها، فى ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، وكان من أعيان المماليك الظاهريّة- برقوق- وممن صار فى دولة أستاذه حاجب حجّاب حلب، ثم ولى نيابة صفد، ثم ولى نيابة طرابلس بعد الأمير دمرداش المحمّدى، بحكم توجّه دمرداش أتابكا بحلب، ثم نقله الملك الظاهر إلى نيابة حلب بعد موت أرغون شاه الإبراهيمى، فى سنة إحدى وثمانمائة، ودام على نيابة حلب إلى أن خرج تنم نائب الشام عن طاعة الملك الناصر، فوافقه آقبغا هذا، وصار من حزبه، إلى أن قبض عليه مع من قبض عليه من الأمراء، وحبس مدّة ثم أطلق، وولى نيابة طرابلس ثانيا بعد الأمير شيخ المحمودى، بحكم أسره مع تيمور، فلم يتم أمره، وأعيد شيخ إلى نيابة طرابلس، واستقر آقبغا هذا أتابكا بدمشق مدّة، ثم ولى نيابة دمشق بعد الوالد؛ بحكم خروجه من دمشق إلى حلب، فلم تطل أيامه بدمشق، وعزل بالأمير شيخ المحمودى، وتوجّه- بطّالا- إلى القدس إلى أن أعيد إلى نيابة حلب بعد دقماق المحمدى، فتوجّه إليها، وأقام بها إلى أن مات فى التّاريخ المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين دمشق خجا بن سالم الدّوكارى «4» التركمانىّ، نائب(13/36)
قلعة جعبر «1» - قتيلا بيد الأمير نعير بن حيّار- فى سابع عشر شهر رمضان.
وتوفّى الشّيخ شمس الدّين محمد بن مبارك شيخ الرّباط النبوىّ- المعروف بالآثار- فى المحرم.
وتوفّى الشيخ محمد المعروف بالحرفىّ «2» فى شوال من السنة، وكان عالما بعلم الحرف، وله مشاركة فى غيره.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا، والوفاء خامس توت.(13/37)
[ما وقع من الحوادث سنة 807]
السنة السابعة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى سنة سبع وثمانمائة:
فيها كان الشراقى العظيم بالديار المصرية.
وفيها كانت واقعة السعيديّة «1» بين الملك الناصر فرج صاحب الترجمة، وبين يشبك، وشيخ، وجكم، وقرا يوسف، حسبما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم عبيد الله الأردبيلىّ الحنفىّ، فى آخر شهر رمضان، وكان من الفضلاء، معدودا من فقهاء الحنفيّة.
وتوفّى الوزير الصاحب بدر الدين محمد بن محمد الطوخىّ «2» ، وزير الديار المصرية، تنقّل فى الخدم الدّيوانية حتى ولى ناظر الدولة «3» ، ثم نقل إلى الوزر سنة تسع وتسعين بعد مسك ابن البقرىّ «4» ، وتولّى بعده نظر الدولة سعد الدين الهيصم، ثم باشر الوزر بعد ذلك غير مرّة، ووقع له أمور ومحن إلى أن مات- بطّالا- فى هذه السنة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى بن عبد الله الظاهرى، رأس نوبة، وأحد أمراء العشرات بديار مصر، فى يوم الخميس أول جمادى الآخرة، وكان من خاصكيّة الملك الظاهر برقوق الصّغار.(13/38)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفقيه عبد المنعم بن محمد بن داود «1» البغدادى الحنبلىّ، ثم المصرىّ بها، فى يوم السبت ثامن عشر شوال، وقد انتهت إليه رئاسة مذهب الإمام أحمد بن حنبل، بعد ما كتب على الفتوى، ودرّس عدة سنين، وكان لما قدم من بغداد إلى الدّيار المصرية تفقّه بقاضى الفضاة موفق الدين الحنبلى، وهو جدّ صاحبنا قاضى القضاة بدر الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم- رحمه الله.
وتوفّى القاضى ناصر الدين محمد ابن صلاح الدين صالح «2» الحلبىّ، الموقع الشافعى، المعروف بابن السّفّاح، موقّع الأمير يشبك الشّعبانىّ الدّوادار، فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين المحرم.
وتوفّى الشيخ نور الدين على ابن الشيخ الإمام سراج الدين عمر البلقينىّ»
، فى يوم الاثنين سلخ شعبان فجاءة بمدينة بلبيس، وحمل منها إلى القاهرة، ودفن بتربة «4» الصوفية، خارج باب النّصر عند أبيه، وكان مولده فى شوال سنة ثمان وستين وسبعمائة، وكان بارعا فى الفقه والعربية، ودرّس بعد موت أبيه بعدّة مدارس.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن عباس بن محمد بن حسين بن محمود بن عباس الصّلتىّ، فى مستهل جمادى الأولى، بعد ما ولى القضاء بعدّة بلاد من معاملة دمشق وغيرها، ولى قضاء بعلبك، وحمص، وغزّة، وحماة، ثم عمل مالكيّا وولى قضاء المالكيّة بدمشق، ثم ترك ذلك بعد مدة وولى قضاء الشافعية بدمشق، ولم تحمد سيرته فى مباشرته القضاء، وكيف تحمد سيرته وهو ينتقل فى كلّ قليل إلى مذهب لأجل المناصب! فلو كان يرجع إلى دين ما فعل ذلك، ومن لم يحترز على دينه يفعل ما يشاء.
قلت- والشيء بالشيء يذكر- وهو أننى اجتمعت مرة بالقاضى كمال الدين بن(13/39)
البارزى، كاتب السر الشريف بالدّيار المصرية- رحمه الله تعالى- فدفع إلىّ كتابا من بعض أهل غزّة، ممن هو فى هذه المقولة، فوجدت الكتاب يتضمّن السعى فى بعض وظائف غزّة، وهو يقول فيه: يا مولانا، المملوك منذ عزل من الوظيفة الفلانية بغزّة خاطره مكسور، والمسؤول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشّافعية بغزّة، فإن لم يكن فقضاء الحنفيّة، فإن لم يكن فقضاء المالكية، وإلا فقضاء الحنابلة، فكتبت على حاشية الكتاب بخطى: فإن لم يكن، فمشاعلىّ «1» ملك الأمراء- انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ذراع واحد وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.(13/40)
[ما وقع من الحوادث سنة 808]
ذكر سلطنة الملك المنصور عبد العزيز على مصر السلطان الملك المنصور عز الدين عبد العزيز ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبى سعيد برقوق ابن الأمير أنص العثمانىّ، سلطان الديار المصرية، وهو السلطان السابع والعشرون من ملوك التّرك بالديار المصرية، والثالث من الجراكسة، تسلطن بعهد من أبيه له بعد أخيه الملك الناصر فرج، وباتفاق الأمراء من أعيان مماليك أبيه؛ بعد ما اختفى أخوه الملك الناصر فرج ابن الملك الظّاهر برقوق، بعد عشاء الآخرة من ليلة الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، وقد ناهز الاحتلام، بعد أن حضر الخليفة والقضاة والأعيان من الأمراء، وطلب عبد العزيز من الدور السلطانية إلى الإسطبل «1» السلطانى، وبويع بالسلطنة، وفوّض عليه الخلعة الخليفتية، وركب فرس النوبة فى الفوانيس والشموع، والأمراء مشاة بين يديه حتى طلع إلى القصر، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ولقّب بالملك المنصور أبى العز عبد العزيز، ودقت البشائر- على العادة- وأصبح نودى من الغد بالأمان والدعاء للسلطان الملك المنصور عبد العزيز. وأمّ الملك المنصور هذا أم ولد تترية، تسمّى قنّق باى، صارت خوند بسلطنة ولدها هذا، وعاشت إلى حدود سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
ولما تسلطن الملك المنصور هذا فى الليلة المذكورة، أصبح الناس فى هدوء وأمان، وتحيّرت الناس فى أمر السلطان الملك الناصر فرج، ولم يشكّ أحد فى أن الوالد أخذه ومضى إلى البلاد الشامية؛ لأنه كان عقد على الأخت قبل تاريخه بمدة يسيرة ولم يدخل بها، فاطمأنّ بذلك قلب من هو من أصحاب الملك الناصر، وكان ممّن اختفى بعد خروج الوالد من مصر من أعيان الأمراء، دمرداش المحمّدىّ نائب حلب، والأمير(13/41)
بيغوت، وهمّ كثير من حواشى الملك الناصر فرج باللحاق بهما إلى البلاد الشامية، لولا أن أشاع آخرون قتل الملك الناصر المذكور، ثمّ أشيع بعد ذلك أنه اختفى بالقاهرة، وأعرض أكابر الأمراء عن الفحص فى أخبار الملك الناصر، والتفتيش عليه.
وقام بتدبير مملكة الملك المنصور، القاضى سعد الدين إبراهيم بن غراب، وهو يوم ذاك كاتب سرّ مصر، وصار الملك المنصور تحت كنف أمه، ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم فقط، وهى كثيرة التخوّف عليه من أخيه الملك الناصر فرج، وكانت امتنعت عن سلطنته، وحجبته عن الأمراء حين طلبوه للسلطنة، حتى أخذ منها بحيلة، دبّروها عليها، واستقرّ الأمير بيبرس الصغير لا لا «1» السلطان الملك المنصور.
ثمّ فى يوم الخميس تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور، عملت الخدمة بالإيوان من قلعة الجبل على العادة، وجلس الملك المنصور على تخت الملك، وحضر الأمراء، والقضاة، وسائر أعيان الدّولة، وخلع الملك المنصور على جماعة كبيرة من الأمراء باستمرارهم على وظائفهم، وبتجديد وظائف أخر، فخلع على بيبرس باستقراره أتابك العساكر على عادته، وعلى الأمير آقباى باستقراره أمير سلاح على عادته، وعلى سودون الطيّار باستقراره على عادته أمير مجلس، وعلى سودون تلى المحمّدىّ الأمير آخور باستمراره على عادته، وعلى بشباى رأس نوبة النوب على عادته، وعلى الأمير أرسطاى حاجب الحجّاب على عادته، وعلى سودون الماردانىّ الدّوادار الكبير على عادته، وعلى سعد الدّين بن غراب على عادته كاتب السرّ، وعلى أخيه فخر الدين ماجد وزيرا على عادته، وعلى فخر الدين ماجد بن المزوّق ناظر الجيش على عادته، وعلى جمال الدّين يوسف البيرىّ الأستادار على عادته، وأنعم بإقطاعات الأمراء المنهزمين، مثل الوالد وغيره، على الأمير إينال باى بن قجماس، ومن كان قدم من الحبوس.(13/42)
وأخذ من هذا اليوم أمر يشبك الشّعبانىّ الدّوادار- كان- ورفقته يضعف، وأمر الأتابك بيبرس ورفقته يقوى، حتى صار يشبك والأمراء يطلعون إلى بيبرس ويأكلون على سماطه، وإذا كان لهم حاجة سألوا بيبرس فيها، ولم يعهدوا قبل ذلك لبيبرس فى الدولة كلاما، فعزّ ذلك على يشبك وحاشيته إلى الغاية، وندموا على ما وقع منهم فى حقّ الملك الناصر فرج، وتساعوا فى عوده، ولم يعرفوا للناصر خبرا، كلّ ذلك وسعد الدين بن غراب لا يعرّف أحدا بأمر الملك الناصر فرج، لكنه يدبّر فى إخراجه، وعوده إلى ملكه من حيث لا يعلم بذلك أحد، وأخذ يدبّر أيضا على قبض إينال باى بن قجماس فى الباطن، فلم يتمّ له ذلك؛ لكثرة حاشيته وعصبته، واضطراب الدولة، وعدم اجتماع الكلمة فى واحد بعينه.
ثمّ فى يوم الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر، أفرج عن فتح الدين فتح الله كاتب السرّ- كان- على أنه يحمل خمسمائة ألف درهم ثمنها يوم ذاك ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثون مثقالا ذهبا وثلث مثقال، كلّ ذلك والدولة غير مستقيمة، وأحوال الناس متوقفة؛ لترقّبهم وقوع فتنة، غير أنّ أخبار الناصر لا تظهر، مع علمهم أنه مختف بالقاهرة، لما يظهر من أمر بيبرس ورفقته من الاحتراز من الناصر، وإصلاح أمر الملك المنصور عبد العزيز فيما يثبّت به ملكه.
ثم فى حادى عشر جمادى الأولى، توجه الطواشى شاهين الحسنىّ، رأس نوبة الجمداريّة، ولالا السلطان الملك المنصور، ومعه نحو عشرة أنفس، إلى البلاد الشامية لإحضار الأمير شيخ المحمودىّ الساقى نائب الشام- كان- إلى الديار المصرية، وكان يوم ذاك الأمير نوروز الحافظىّ ولى نيابة الشام عوضا عن شيخ المذكور، وخرج لقتال شيخ وكسره، وحصره بقلعة الصّبيبة «1» ، ولإحضار الأمير جكم من عوض نائب حلب، ثمّ ورد كتاب الأمير شيخ المذكور، وكتاب جكم(13/43)
أيضا إلى الديار المصرية بعد ذلك بعشرة أيام، يخبران بأنهما حاربا الأمير نوروزا الحافظىّ وهزماه، وأنه لحق بطرابلس، وأنهما دخلا دمشق وأقاما بها أياما، ثم إن جكم خرج من دمشق لقتال نوروز الحافظى بطرابلس، وتبعه شيخ، فلما بلغ نوروزا ذلك خرج من طرابلس إلى حماة، ونزل جكم وشيخ على حمص، ثم سارا إلى طرابلس، ففرّ منها نائبها الأمير بكتمر جلّق، فوصل جكم وشيخ إلى طرابلس، وبلغ الأمير علّان جلق نائب حلب نزول نوروز وبكتمر جلّق إلى حماة، فخرج بعساكره من حلب، وقدم عليهما ووافقهما على قتال جكم وشيخ.
ولما وصل هذا الخبر إلى الديار المصرية، عظم على الأتابك بيبرس وحاشيته انهزام نوروز من جكم وشيخ إلى الغاية، وسر بذلك يشبك وحاشيته فى الباطن، وكثر قلق يشبك وأصحابه من الأمراء على الملك الناصر فرج، لاسيما لما مرض الملك المنصور عبد العزيز فى يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة، فلما رأى سعد الدين إبراهيم ابن غراب أمر يشبك الشعبانىّ فى إدبار عزّ عليه ذلك، لأن يشبك المذكور كان هو الذي أقامه بعد موت الملك الظاهر برقوق، وقام بمساعدته أعظم قيام، حتى كان من أمر ابن غراب ما كان، فعند ذلك أعلمه ابن غراب بأمر الملك الناصر مفصلا، وأنه عنده مقيم من يوم تسحب من قلعة الجبل، وقال له: أى وقت تشتهى الاجتماع به فعلت لك ذلك، فسرّ يشبك بذلك غاية السرور، وأعلم إخوته وحواشيه بما وقع، وأخذ من يومه فى تدبير أمر الملك الناصر فرج، وظهوره وعوده إلى ملكه فى الباطن، حتى استحكم أمرهم، ووافق ذلك مرض الملك المنصور عبد العزيز، فقويت حركتهم، وكثرت القالة بين الناس فى أمر الملك الناصر وعوده إلى الملك، وتحقّق كلّ أحد أنه مقيم بالديار المصرية، وصارت أخباره تأتى يشبك وأصحابه مياومة ومساعاة، هذا بعد أن اجتمع عليه يشبك وغيره من الأمراء فى اللّيل غير مرة، وواعدوه، وتردّدوا إليه فى أماكن عديدة، كلّ ذلك وبيبرس ورفقته لا يعرفون ما الخبر، بل يتحقّقون أنه مقيم بالقاهرة لاغير، وأنّ له عصبية كبيرة من الأمراء، ومع ذلك(13/44)
قلوبهم مطمئنة أنّ القلعة بيدهم والسلطان عندهم، وأن الناصر أمره تلاشى واضمحل.
فلما كان يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانمائة المذكورة، سعى المماليك بعضهم إلى بعض، وكثر هرجهم، وعادت خيول كثيرة من الربيع، وصاروا يركبون جمعا كبيرا ويتسارّون بالكلام، وبلغ ذلك بيبرس ورفقته، فأمرهم بيبرس وإينال باى بن قجماس بالفحص عن أخبارهم، فخرج جماعه كبيرة منهم وداخلوا المماليك المذكورة فى كلام الناصر، فلم يقفوا له على خبر، وعمّى عليهم جميع أحوال الملك الناصر، غير أنهم علموا أنّ الملك الناصر يريد الظهور والعود إلى الملك فاضطرب أمرهم، وحرّضوا بعضهم بعضا على قتاله إن خرج، وتهيئوا لذلك، وحصنوا القلعة، وطلبوا جماعة كبيرة من المماليك السلطانية، ووعدوهم بالأمريّات والإقطاعات والوظائف، وحذروهم من عود الملك الناصر إلى الملك؛ أنه لا يبقى على أحد منهم، وتواصوا على القيام مع الملك المنصور عبد العزيز وإتمام أمره، كلّ ذلك وأحوالهم مفلولة، لعدم أهلية بيبرس بتنفيذ الأمور، ومعرفة الحروب، والقيام بأعباء الملك؛ لانهماكه فى اللذات، ولانعكافه على اللهو والطرب عمره كلّه، لا يميل لغير ذلك، ومنذ مات خاله الملك الظاهر برقوق لم يدخل بنفسه فى أمر غير هذا المعنى المذكور، ولسان حاله ينشد ويقول: [موشح]
خلّى الملوك تسطو بالملك والسلاح ... إنى قنعت منهم بالراح والملاح.
قلت: وليته دام على ما كان عليه من لهوه وطربه، ولم يدخل بنفسه فى هذه المضايق التى ذهبت فيها روحه، وأما رفيقه إينال باى فإنه كان فيه طيش وخفة مع عدم تدبير ومعرفة، وأيضا لو علم ذلك كله، لم يكن أهلا إلى القيام بمثل هذا الأمر مع وجود من هو أعظم منه فى النفوس، وأكبر منه قدرا، وهم جماعة كبيرة، فلهذا كله لم ينتج أمرهم، وزال ملك الملك المنصور عبد العزيز بعد ما كان تمّ أمره، وقطع الناصر آماله من الملك.(13/45)
واستمرّ الأمر على ذلك، وباتوا ليلة السبت المذكورة، والحال على ما هو عليه، إلى أن كان نصف الليل، فخرج الملك الناصر فرج بن برقوق من بيت القاضى سعد الدين إبراهيم بن غراب، كاتب السرّ، فى جماعة كبيرة، من غير تستّر، بل فى موكب عظيم سلطانىّ، ومضى بعساكره إلى بيت الأمير سودون الحمزاوىّ ونزل به، وأرسل استدعى الأمراء والمماليك السلطانية، وتسامعت به الناس، فأتوه من كلّ فج بالسلاح وآلة الحرب، ثم لبس الملك الناصر سلاحه وركب فى أمرائه وعساكره، وقصد قلعة الجبل، وقد استعدّ بيبرس وإينال، وغيرهما من الأمراء الذين بالقلعة لقتاله، وحصّنوا القلعة، فلما حضر إليها الملك الناصر فرج بعساكره ناوشوه بالقتال، ورموا عليه، وتقاتل الفريقان قتالا ليس بذاك، فلما رأى الملك الناصر أمر أهل القلعة مفلولا، توجّه إلى نحو باب القلعة، وكان به الأمير صوماى الحسنىّ الظاهرىّ- رأس نوبة-[و] قد وكّل بباب المدرّج «1» ، فعندما رأى صوماى الملك الناصر فتح له باب القلعة، فطلع منه الملك الناصر بأمرائه، وملك القلعة وجلس بالقصر السلطانى، هذا وبيبرس وإينال باى يقاتلان أمراء السلطان من باب «2» السلسلة من الإسطبل السلطانى.
فبينما هم فى ذلك، وإذا بالرمى عليهم من القصر، فالتفتوا وإذا بالناصر جالس بالقصر السلطانى، فلم يثبت بيبرس عند ذلك ساعة واحدة، وانهزم من وقته، ونزل بمن معه فارّا إلى خارج القاهرة، فأرسل السلطان فى أثره الأمير سودون الطيّار- أمير مجلس- فى جماعة، فأدركه خارج القاهرة، فلم(13/46)
يدفع عن نفسه، فقبض عليه سودون الطيّار، وأتى به إلى الملك الناصر، فقيّد فى الحال، وأرسل إلى الإسكندرية، فسجن بها، واختفى إينال باى، وسودون الماردانىّ، وطلب السلطان الملك الناصر فرج أخاه السلطان الملك المنصور عبد العزيز، وطيّب خاطره، وأرسله إلى أمه بالدّور السلطانيّة، وتم أمر الملك الناصر، وأعيد إلى ملكه بعد أن خلع من الملك هذه المدة، وزال ملك الملك المنصور كأنه لم يكن، فكانت مدّة سلطنة الملك المنصور عبد العزيز المذكور على مصر شهرين وعشرة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم لا غير، وأقام عند أمه بالدور السلطانية من قلعة الجبل إلى أن أخرجه أخوه الملك الناصر فرج إلى ثغر الإسكندرية، ومعه أخوه إبراهيم بن الملك الظاهر برقوق، صحبة الأمير قطلوبغا الحسنىّ الكركىّ، والأمير إينال حطب العلائىّ، فى حادى عشرين صفر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، فأقام الملك المنصور عبد العزيز المذكور وأخوه إبراهيم بالإسكندرية مدة يسيرة، ومرضا معا، فمات الملك المنصور هذا فى ليلة الاثنين سابع شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، بعد أن لزم الفراش واحدا وعشرين يوما، ومات أخوه إبراهيم بعده فى ليلته، فاتهم الملك الناصر أنه أمر باغتيالهما بالسّم قبل سفره إلى الشام- حسبما يأتى ذكره.
قلت: لا يبعد ذلك من وجوه عديدة ليس لإبدائها محل- والله أعلم.(13/47)
[ما وقع من الحوادث سنة 809]
ذكر سلطنة الملك الناصر فرج الثانية على مصر «1» ولما كان صبيحة يوم السبت خامس جمادى الآخرة، طلع الملك الناصر فرج إلى قلعة الجبل وملكها، وقبض على الأتابك بيبرس، ثم على من يأتى ذكره، ثم طلب الخليفة والقضاة فحضروا، وجدّدت له بيعة السّلطنة ثانيا، وثبت خلع الملك المنصور عبد العزيز، وتسلطن وعاد إلى ملك مصر، وخلع على الخليفة والقضاة، وتمّ أمره، وانفضّ الموكب، ونزل الجميع إلى دورهم، وسكن أمر الناس.
فلما كان يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة المذكورة، خلع السلطان على الأمير يشبك الشّعبانىّ الظاهرىّ الدّوادار- كان- باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن بيبرس ابن أخت السّلطان الملك الظاهر برقوق، وخلع على الأمير سودون الحمزاوىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا كبيرا، عوضا عن سودون الماردانىّ، وعلى الأمير جركس القاسمىّ المصارع باستقراره أمير آخور كبيرا، عوضا عن سودون تلى «2» المحمدىّ، ثم أمسك السلطان الأمير جارقطلو- رأس نوبة- وقانى باى- أمير آخور- وآقبغا- رأس نوبة- والثلاثة أمراء عشروات، وأمسك بردبك وصمغار- رأس نوبة- أحد أمراء الطبلخانات- ثم خلع على القاضى سعد الدين إبراهيم ابن غراب، واستقر رأس «3» مشورة، وأنعم عليه بإمرة مائة، وتقدمة ألف بالدّيار(13/48)
المصريّة، وصار أميرا بعدما كان مباشرا، ولبس الكلفتاة «1» ، وتقلّد بالسيف، وكان فى أمسه قد ركب مع السلطان الملك الناصر بقرقل «2» وعليه آلة الحرب- كاملا- وصار بعد من جملة المقاتلين، وتزيّا بزىّ الأتراك، وطلع إلى الخدمة من جملة الأمراء، ثمّ نزل إلى داره بقماش الموكب- على عادة الأمراء- فلم يركب بعدها، ولزم الفراش حتى مات، حسبما يأتى ذكره فى محله.
وخلع السلطان على فخر الدين ماجد بن المزوّق- ناظر الجيش- باستقراره فى كتابة السرّ، عوضا عن سعد الدين بن غراب المذكور؛ بحكم انتقاله إلى إمرة مائة، وتقدمة ألف بالديار المصريّة، ثم أمر السلطان فكتب بتقليد الأمير شيخ المحمودىّ باستقراره فى نيابة دمشق على عادته، عوضا عن الأمير نوروز الحافظىّ، وأن يتوجّه نوروز المذكور إلى القدس بطّالا، وحمل التقليد والتّشريف إلى الأمير شيخ الأمير إينال المنقار شادّ «3» الشّراب خاناة، وكتب بتقليد الأمير جكم بنيابة حلب، عوضا عن علّان، وحمل إليه التقليد والتّشريف سودون السّاقى، وكتب للأمير دمرداش المحمدىّ نائب حلب- كان- بالحضور إلى مصر، ثم قبض السلطان الملك الناصر على سودون المحمدىّ المعروف بتلى الأمير آخور الكبير، وأخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير سودون اليوسفىّ، ثمّ خلع السلطان على الأمير سودون من زادة باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن سلامش.
ثمّ فى حادى عشرين جمادى الآخرة المذكورة، خلع السّلطان على الأمير تمراز الناصرىّ باستقراره نائب السّلطنة الشّريفة بالدّيار المصرية، وكانت شاغرة سنين(13/49)
عديدة، من يوم تركها سودون الفخرىّ الشيخونىّ، فى دولة الملك الظاهر برقوق، وخلع على الأمير آقباى أمير سلاح، واستقر رأس نوبة الأمراء، واستقرّ سودون الطّيّار أمير سلاح عوضا عن آقباى المذكور، واستقرّ يلبغا الناصرىّ أمير مجلس عوضا عن سودون الطّيّار.
وأما البلاد الشّاميّة، فإنه لمّا بلغ أعيان الأمراء بها عود الملك الناصر فرج إلى ملكه، وتولية شيخ ثانيا نيابة دمشق عوضا عن نوروز، فرحوا بذلك فرحا عظيما، ودقّت البشار لذلك أياما، وخرج نوروز الحافظىّ، وعلّان جلّق «1» من حماة، وتوجّها إلى حلب بمن معهما، وكان الأمير دمرداش المحمّدىّ قد فرّ منها، وتوجّه إلى بلاد التّركمان، فمضيا إليه، ثم فارقاه وعادا إلى جهة أخرى حسبما يأتى ذكره، وأقام بحلب الأمير دقماق المحمّدىّ، فلما قدم جكم إلى حلب امتنع دقماق بحلب، وقاتله وانكسر، وأخذ دقماق وقتل بين يدى جكم صبرا- على ما يأتى ذكره فى محلّه.
وأما السّلطان الملك الناصر فرج، فإنه لمّا كان يوم الخميس رابع شهر رجب، قبض على الأمير أزبك الرّمضانىّ، وقيّده وبعثه إلى الإسكندرية فسجن بها، ثم ورد عليه الخبر بأنّ الأمير جكم سار إلى حلب ومعه الأمير شيخ نائب الشام، ونوروز بحلب، فلمّا وصلا إلى المعرّة كتب إليهما نوروز يعتذر بأنّه لم يعلم بولاية الأمير جكم لحلب، وخرج بمن معه منها إلى البرّيّة، فدخل جكم حلب من غير قتال، وعاد شيخ إلى الشّام، فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى الأمير جكم بنيابة طرابلس مضافا على ما بيده من نيابة حلب بمثال سلطانى من غير تقليد، وتوجّه بالمثال الأمير مغلباى، وكتب إلى نوروز بالحضور إلى القدس- بطّالا- كما كتب له أولا، وكتب إلى الأمير بكتمر جلّق نائب طرابلس بأن يكون أميرا كبيرا بدمشق.
وأمّا جكم فإنّه لمّا استقرّ بحلب ما زال يكاتب نوروزا وعلّان [جلّق] «2»(13/50)
حتى قدما عليه، فأكرمهما وصارا من جملة أصحابه، ثمّ وقع له مع شيخ وغيره أمور نذكرها فى محلّها.
وفى يوم الاثنين أول شعبان، استدعى السّلطان الملك الناصر أبا الفضل العبّاس ولد الخليفة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد، وبايعه بالخلافة بعد موت أبيه المذكور، ولبس التّشريف، ولقّب بالمستعين بالله، ونزل إلى داره. وكانت وفاة المتوكل على الله فى سابع عشرين شهر رجب، ثمّ كتب السّلطان باستقرار الأمير طولو من علىّ باشاه فى نيابة صفد عوضا عن بكتمر الرّكنىّ، المعروف بكتمر باطيا، وجهّز تشريف طولو على يد الأمير آقبردى رأس نوبة، وكتب باستقرار الأمير دمرداش المحمّدىّ فى نيابة حماة، ثم ورد الخبر بوصول الأمير علّان جلّق إلى دمشق مفارقا لجكم نائب حلب. ومات سعد الدين إبراهيم بن غراب فى يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان- كما سيأتى ذكره فى الوفيات- ثم أمسك السلطان الأمير إينال الأشقر وأرسله إلى سجن الإسكندرية لأمر بلغه عنه، ثمّ فى أواخر شهر رمضان قبض على الأمير سودون الماردانىّ من بيت بالقاهرة، فقيّد وحمل إلى سجن الإسكندرية، ثمّ كتب السلطان أمانا لكلّ من جمق، وأسنباى، وأرغز، وسودون اليوسفىّ، وبرسباى الدّقماقىّ، أعنى الملك الأشرف، وجهّزه إليهم بالشام، ثمّ قبض السلطان على الوزير فخر الدين ماجد بن غراب فى سابع ذى القعدة، وسلّمه إلى جمال الدين يوسف البيرىّ الأستادار، ثم كتب السلطان إلى الأمير نوروز لحافظىّ- وهو عند جكم بحلب- أنه قد قدّمت مكاتبة السلطان له أنّه يتوجّه إلى القدس بطّالا، وأنه أيضا ساعة وصول هذا المرسوم إليه يحضر إلى الدّيار المصريّة، فلم يلتفت جكم إلى مرسوم السلطان، ونهر القاصد، وخشّن له فى الكلام.
ثمّ فى سابع من ذى الحجّة، خلع السلطان على القاضى فتح الدين فتح الله بإعادته إلى وظيفة كتابة السّر، بعد عزل فخر الدين بن المزوّق عنها، ثم أفرج السّلطان عن فخر الدين بن غراب، وخلع عليه، واستقرّ وزيرا ومشيرا وناظر الخاص- على عادته أوّلا- بعد أن حمل عشرين ألف دينار.(13/51)
وكان فى هذه السّنة- أعنى سنة ثمان [وثمانمائة] «1» - الطاعون العظيم بصعيد مصر، حتى شمل الخراب غالب بلاد الصعيد، ثمّ بلغ السّلطان أنّ جكم من عوض نائب حلب قد عظم أمره، وأنه قد بدا منه أمور تدلّ على المخالفة، فكتب السّلطان بعزله عن نيابة حلب وطرابلس، وولاية الأمير دمرداش نيابة حلب عوضه، وتولية الأمير علّان اليحياوىّ [جلّق] «2» ، نيابة طرابلس عوضه، وتولية الأمير عمر الهيدبانىّ نيابة حماة، وتوجّه بتقاليدهم ألطنبغا شقل مملوك الأمير شيخ المحمودىّ نائب الشام، ولم يرسل السلطان إليهم أحدا من أمراء مصر لضعف حالهم وعدم موجودهم، وقبل أن يصل إليهم الخبر بذلك اقتتل الأمير شيخ مع الأمير جكم بأرض الرّستن «3» - فيما بين حماة وحمص- فى خامس من ذى الحجة قتالا عظيما، قتل فيه الأمير علّان اليحياوىّ جلّق، والأمير طولو من علىّ باشاه نائب صفد، وجماعة كبيرة فى الواقعة، وأما علّان وطولو فإنه قبض عليهما فقدّما بين يدى الأمير جكم؛ فأمر بضرب رقابهما، فضربت أعناقهما بين يديه، وضرب عنق طواشى كان فى خدمة الأمير شيخ معهما.
قلت: وهذا ثالث أمير قتله الأمير جكم من أعيان الملوك من خشداشيّته فى هذه السنة- أعنى: دقماق المحمّدىّ نائب حلب، وعلّان هذا نائب حلب أيضا، وطولو نائب صفد- انتهى. وانهزم الأمير شيخ المحمودىّ نائب الشام ومعه الأمير دمرداش نائب حلب إلى دمشق، فلم يقدر شيخ على الإقامة بدمشق خوفا من نوروز الحافظىّ، وخرج من دمشق ومضى إلى الرّملة «4» يريد القدوم إلى القاهرة، ودخل نوروز إلى دمشق، وملك المدينة من جهة جكم بعساكره فى يوم الاثنين سابع عشرين(13/52)
ذى الحجة المذكورة، ثمّ دخل جكم دمشق بعده فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة، ونادى جكم فى دمشق بالأمان، وأنه لا يشوّش أحد على أحد، وكان جكم قد شنق رجلا من عسكره بحلب؛ كونه رعى فرسه زرعا، وشنق آخر على شىء وقع منه فى حقّ بعض الرعيّة، ثم لما قدم دمشق شنق بها أيضا جنديا بعد المناداة على شىء من ذلك، فخافته عساكره وانكفّوا عن مظالم الناس، وعن شرب الخمر، حتى لهجت النّاس بقولهم: جكم حكم وما ظلم، وعظم أمر جكم بالبلاد الشامية إلى الغاية.
ولما بلغ خبر هذه الواقعة المصريين خارت قواهم وتخوّفوا من جكم، وخرج البريد من يومه يطلب الأمير تغرى بردى- أعنى الوالد- من برّيّة القدس، فحضر إلى القاهرة، وجلس رأس الميسرة، بعد أن بنى السلطان على ابنته- كريمة «1» مؤلف هذا الكتاب «2» - ثم جهّز السلطان تشريفا للأمير شيخ فى حادى عشر المحرم من سنة تسع وثمانمائة بنيابة الشام على عادته، وأمدّه بمال وسلاح، وقبل خروج القاصد إليه قدم الخبر بوصول شيخ المذكور إلى مدينة بلبيس، فخرج إليه المطبخ السّلطانىّ وتلقّته الأمراء.
ثم قبض السلطان على الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجاب- وكان أمير حاجّ المحمل- لما فعله مع الحجّاج فى هذه السّنة؛ فإنه أخذ من الحاج على كلّ جمل دينارا وباعهم الماء الذي يردونه، فصادره السلطان وأخذ منه نحو المائتى ألف درهم، ففر فى سلخه، فأخذ له حاصل كبير «3» أيضا.
وأما جكم، فإنّه أقام بدمشق مدة وقرّر أمورها، وجعل على نيابتها الأمير نوروزا الحافظى، وكان الأمير سودون تلّى المحمّدى الأمير آخور- كان- فى سجن الأمير شيخ، ففرّ منه ولحق بالأمير نوروز الحافظىّ، ثم ورد الخبر من قضاة حماة أنه سمع طائر يقول:(13/53)
«اللهمّ انصر جكم» وهذا من غريب الاتّفاق، وهذا والناس فى جهد وبلاء من غلوّ الأسعار بالديار المصرية، لا سيّما لحم الضأن والبقر وغيره، فإنه عزّ وجوده البتة، ثم خرج الأمير الكبير يشبك الشّعبانىّ وغالب الأمراء إلى ملاقاة شيخ، ودمرداش، ومعهما خير بك نائب غزّة، وألطنبغا العثمانى حاجب حجّاب دمشق، ويونس الحافظىّ نائب حماة- كان- وسودون الظريف نائب الكرك- كان- وتنكزبغا الحططىّ فى آخرين، وطلع الجميع إلى القلعة، وقبلّوا الأرض بين يدى السلطان، فأكرمهم السلطان غاية الإكرام، ثم نزلوا إلى القاهرة، وعقيب ذلك ورد الخبر بأخذ عسكر جكم مدينة صفد، والكرك، والصّبيبة وغيرها.
ثمّ فى سادس صفر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، خلع السّلطان على الأمير شيخ المحمودىّ بنيابة الشام على عادته، وعلى الأمير دمرداش بنيابة حلب على عادته، وأخذ السّلطان فى تجهيز أمر السّفر إلى البلاد الشّامية.
ثم فى حادى عشرين صفر من سنة تسع المذكورة، حمل السلطان الملك الناصر أخاه الملك المنصور عبد العزيز، وأخاه إبراهيم- ابنى الملك الظاهر برقوق- إلى سجن الإسكندرية صحبة الأمير قطلوبغا الكركىّ، والأمير إينال حطب العلائىّ، ورسم لهما أن يقيما باسكندريّة عندهما، وقد تقدّم ذكر ذلك فى أواخر ترجمة الملك المنصور عبد العزيز.
ثمّ أنعم السّلطان على الأمير شيخ بأشياء كثيرة، فتجهّز شيخ المذكور وخرج من الديار المصرية فى يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول، وخلع السلطان على الأمير دمرداش المحمّدى نائب حلب أيضا خلعة السّفر، وخرج صحبة الأمير شيخ، وتوجّها بجماعتهما ونزلا بالرّيدانيّة «1» ثم لحق بهما الأمير سودون الحمزاوىّ الدوادار الكبير،(13/54)
والأمير سودون الطّيّار أمير سلاح بطلبهما «1» ومماليكهما وهؤلاء كالجاليش «2» . وأقام الجميع بالرّيدانيّة إلى أن رحلوا منها، وبعد رحيلهم نزل السّلطان بعساكره وأمرائه من قلعة الجبل، ونزل بمخّيمه من الرّيدانيّة خارج القاهرة، فى ثامن شهر ربيع الأول المذكور من سنة تسع وثمانمائة، وهذه تجريدة الملك النّاصر الثالثة إلى البلاد الشّاميّة، فإنّ الأولى كانت من سنة اثنتين لقتال تنم، والثانية فى سنة ثلاث لقتال تمر لنك، وهذه الثالثة.
وأقام السلطان بالرّيدانيّة إلى يوم ثانى عشر شهر ربيع الأول، فرحل منها بعساكره إلى جهة الشّام، بعد أن خلع على الأمير تمراز الناصرىّ نائب السلطنة الشّريفة بالديار المصرية باستقراره أيضا فى نيابة الغيبة «3» بالقاهرة، وأنزل السلطان بقلعة الجبل جماعة أخرى من الأمراء ممن يثق بهم، وكذلك بالقاهرة.
قال المقريزىّ- رحمه الله: ولم يحمد رحيل السّلطان الملك النّاصر من الرّيدانيّة فى يوم الجمعة، فقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- أنه قال: ما سافر أحد يوم الجمعة إلّا رأى ما يكره. وسار السلطان بعساكره حتى دخل دمشق فى يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر من السنة بتجمّل عظيم، ونزل بدار السّعادة «4» بعد أن زيّنت له دمشق، فأقام بدمشق إلى يوم سابع عشره، فرحل من دمشق بعساكره يريد حلب، وسار حتى دخل حلب فى يوم سادس عشرينه، وقد فرّ منها جكم وعدّى الفرات خوفا من الملك النّاصر فرج، ومعه الأمير نوروز الحافظىّ وتمربغا المشطوب، فى جماعة أخر، فنزل السلطان(13/55)
بالقلعة من حلب، وبعث بجماعة فى طلب جكم ورفقته، فتوجّهوا فى أثره، ثمّ عادوا بعد أيام بغير طائل، وخرج السّلطان من حلب عائدا إلى الدّيار المصريّة يريد الشّام فى أوّل جمادى الآخرة، بعد ما ولّى الأمير جركس القاسمىّ المصارع الأمير آخور الكبير نيابة حلب عوضا عن جكم من عوض، وولّى الأمير سودون بقجة نيابة طرابلس. وجدّ السلطان فى سيره بعد خروجه من حلب حتى قدم دمشق فى خامس جمادى الآخرة، وبعد خروج السلطان من حلب بيوم ثارت طائفة من المماليك ومعهم عامّة حلب على جركس المصارع، ثمّ قدم الأمير نوروز الحافظىّ إلى نحو حلب، ففرّ منها جركس المصارع يريد دمشق ونوروز فى أثره، فعثر نوروز بحلم «1» الملك النّاصر- وكان تخلّف عن السّلطان لسرعة سير السّلطان- فقطعه نوروز ووقع النهب فيه، ولحق الأمير جركس السلطان ودخل معه دمشق، فنزل السّلطان فى دار السعادة، ونادى بالإقامة فى دمشق شهرين، وكان الأتابك يشبك الشّعبانىّ قدم دمشق، وهو متمرّض فى أمسه، ومعه الأمير دمردش المحمّدىّ، وبشباى رأس نوبة النّوب، وورد الخبر على السّلطان بنزول نوروز على حماة، وبقدوم جكم إلى حلب.
فلمّا بلغ السّلطان ذلك خرج من دمشق فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، بعد ما أمر العسكر أنّ من كان فرسه عاجزا فليتوجّه إلى القاهرة، وألّا يتبع السلطان إلّا من كان قويّا، فتسارع أكثر العسكر إلى العود لجهة الديار المصريّة، ولم يتبع السّلطان من عسكره إلا القليل، وسار الملك النّاصر حتى وصل إلى منزلة قارا «2» ، ثمّ عاد مجدّا فدخل دمشق وقد تمزّق عسكره، وتأخّر جماعة كبيرة من الأمراء مع شيخ نائب الشّام، ثم قدموا دمشق، ثم خرج الأمير شيخ فى ثالث عشرينه من دمشق ومعه دمرداش المحمّدىّ،(13/56)
وألطنبغا العثمانىّ فى عدّة من الأمراء إلى جهة صفد، وسار السّلطان ويشبك، ومعهما جميع الأمراء إلى جهة مصر، فدخل السلطان إلى القدس، وقد تخلّف عنه الأمير سودون الحمزاوىّ الدّوادار الكبير بدمشق، ومعه عدّة من الأمراء مغاضبين للسّلطان لأمر اقتصى ذلك، ثمّ خرج الحمزاوىّ من دمشق يريد صفد، وأخذ كثيرا من الأثقال السّلطانيّة واستولى على صفد.
وأما نوروز فإنه جهّز عسكرا عليهم الأمير سودون تلّى المحمّدىّ، وأزبك الدّوادار «1» فى آخرين، فساروا إلى جهة الرّملة، ثمّ قدم على الأمير نوروز الحافظىّ الأمير إينال باى بن قجماس والأمير يشبك بن أزدمر، وكانا مختفيين بالقاهرة من يوم خروج الملك النّاصر فرج وعوده إلى ملكه، واختفيا حتى خرجا صحبة السلطان إلى البلاد الشّامية، فلما عاد السّلطان إلى نحو الدّيار المصريّة توجّها إلى نوروز بدمشق، وتوجّه معهما الأمير سودون المحمّدىّ لصعف أصابه، فأكرمهما الأمير نوروز غاية الإكرام، وأنعم عليهما بأشياء كثيرة، وكتب للأمير جكم بقدومهما.
وأمّا السلطان الملك النّاصر، فإنه سار من القدس حتى دخل إلى القاهرة فى حادى عشر شهر رجب بغير طائل، وقد تلف له ولعساكره مال كبير، وزيّنت القاهرة لقدومه، وخرج أعيان المصريّين لتقّيه، ثمّ بعد قدومه بسبعة أيام وصل دمرداش نائب حلب، وسودون من زادة نائب غزّة إلى القاهرة، واستمرّ سودون الحمزاوىّ وشيخ نائب الشّام بصفد، وأخذ [سودون] «2» الحمزاوىّ يسعى فى الصّلح بين شيخ ونوروز، ولا زال فى ذلك حتى أجاب نوروز، وكتب فى هذا المعنى إلى جكم، فبينما هم فى ذلك خرج سودون الحمزاوىّ يوما من صفد ليسير، فقام شيخ وركب واستولى على قلعة صفد، وأخذ جميع ما للحمزاوىّ، وبلغ ذلك الحمزاوىّ(13/57)
فهرب ونجا بنفسه فى قليل من أصحابه، وتوجّه إلى دمشق فرحّب به نوروز، غير أنّ نوروزا كان مشغولا بعمارة قلعة دمشق، فلم ينهض بالخروج معه لقتال شيخ.
وأمّا الملك النّاصر، فإنّه فى يوم الجمعة رابع شعبان، مسك الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وسلّمه لجمال الدين الأستادار، ليصادره ويعاقبه، واستقرّ جمال الدين فى وظيفتى الوزير وناظر الخاصّ مضافا إلى الأستاداريّة، وهذا أوّل ابتداء تحكّم جمال الدين فى الناس، ثم قبض على الأمير خير بك نائب عزّة، وقدم به إلى القاهرة مقيّدا، ثمّ عيّن السلطان جماعة من الأمراء للتجريدة بالبلاد الشّامية ومقدّمهم الأمير تمراز النّاصرىّ النائب، وآقباى، وغيرهما، وخرجوا من القاهرة فى عاشر شهر رمضان، فورد الخبر بأن عسكرا من الشام أخذ غزّة، وأن يشبك بن أزدمر أخذ قطيا «1» ، وأخربها وعاد إلى غزّة، فأقام تمراز بمن معه على مدينة بلبيس أياما، ثم عاد هو وآقباى بمن معهما إلى القاهرة فى سابع شوّال.
ثمّ قدم الخبر على الملك الناصر بأن الأمير جكم من عوض نائب حلب تسلطن بقلعة حلب فى يوم حادى عشر شوال من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، وتلقّب بالملك العادل أبى الفتح عبد الله جكم، وخطب باسمه من الفرات إلى غزّة- ما عدا صفد- فإن بها الأمير شيخا المحمودىّ، وقد استولى عليها من سودون الحمزاوىّ حسبما تقدّم ذكره، وأنه لم يخطب باسم جكم، وأنه مستمرّ على طاعة السّلطان، وأن الأمير نوروزا نائب الشّام باس الأرض لجكم، وخلع على بكتمر جلّق بنيابة صفد بأمر الملك العادل جكم، ثمّ قدم بعد ذلك عدّة كتب من أمراء الشّام على السّلطان يرغّبون السّلطان فى الخروج إلى البلاد الشّامية، ثم قدمت عدّة كتب من جكم إلى عربان مصر وفلّاحيها بمنعهم من دفع الخراج إلى السلطان وأمرائه وأجناده، وتحذيرهم من ذلك حتى يقدم جكم إلى مصر، ثم ورد الخبر من البلاد الشّامية أنه فى ثامن عشر شوال وصل إلى دمشق(13/58)
قاصد الملك العادل جكم، وعلى يده مرسوم جكم بأنّ الأمير سودون الحمزاوى يكون دوادارا بالدّيار المصرية على عادته، وأن الأمير إينال باى بن قجماس يكون أمير آخور كبيرا على عادته؛ وأن الأمير يشبك بن أزدمر يكون رأس نوبة النّوب على عادته، وأن الأمير نوروزا مستمرّ على نيابة دمشق، وجىء له بالخلعة فلبسها نوروز، وقبّل الأرض، ودقت البشائر لذلك- بدمشق- أياما، وزيّنت المدينة.
فلما بلغ السّلطان ذلك أراد الخروج إلى البلاد الشّامية فكلمه أمراؤه فى تأخير السفر حتى يخفّ الطاعون من الدّيار المصريّة، فإنه كان فشا بها وكثر، فلم يلتفت السلطان لذلك، وشرع فى أوّل ذى الحجة فى الاهتمام إلى سفر الشّام هو وعساكره، ثم فى خامس عشرين ذى الحجة المذكورة علّق السلطان جاليش «1» السفر، وصرفت النّفقة للمماليك السّلطانية فى تاسع عشرين، لكل مملوك ثلاثون مثقالا وألف درهم فلوسا، فتجمّع المماليك تحت الطّبلخاناة السلطانيّة وامتنعوا من أخذها، فكلّمهم بعض الأمراء على لسان السّلطان فى ذلك، فرضوا، وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه الخبر بقتل الأمير جكم بآمد «2» ، من ديار بكر بن وائل، فى سابع عشر ذى القعدة من سنة تسع وثمانمائة المذكورة.
وسبب قتلة جكم المذكور أنه لما تسلطن بمدينة حلب، ووافقه وأطاعه غالب نوّاب البلاد الشّاميّة، وعظم أمره، وكثرت عساكره، وخافه كلّ أحد حتى أهل مصر، وتهيّأ الملك النّاصر إلى الخروج من مصر لقتاله، ابتدأ جكم بالبلاد الشّاميّة، واستعد لأخذها، على أن الدّيار المصريّة صارت فى قبضته، وأعرض عنها حتى ينتهى من بلاد الشرق، وجعل تلك الناحية هى الأهم، وخرج من مدينة حلب بعساكره إلى نحو الأمير عثمان بن طرعلىّ المعروف بقرايلك، صاحب آمد، وغيرها(13/59)
من ديار بكر، وكان قرايلك المذكور يومئذ نازلا بآمد، فسار جكم حتّى نزل على البيرة، وحصرها وأخذها، وقتل نائبها الأمير كزل، فأتته بها رسل قرايلك يرغب إليه فى الطّاعة، ويسأله الرجوع عنه إلى حلب، وأنه يحمل إليه من الجمال والأغنام عدّة كبيرة، ويخطب له بديار بكر، فلم يقبل جكم ذلك، وسار حتى نزل قرب ماردين «1» ، فأقام هناك أياما حتى قدم عليه الملك الظّاهر مجد الدين عيسى الأرتقىّ صاحب ماردين، ومعه حاجبه فيّاض بعساكره، فاستصحبه جكم معه إلى نحو مدينة آمد، وقد تهيأ قرا يلك لقتال جكم المذكور، فعبّأ جكم عساكره، ومشى على آمد، فالتقاه قرايلك بظاهرها، وتقاتلا قتالا شديدا قاتل فيه جكم بنفسه، وقتل بيده إبراهيم بن قرايلك، ثمّ حمل على قرايلك بنفسه، فانهزم قرايلك بمن معه إلى مدينة آمد وامتنعوا بها، وغلّقوا أبوابها، فاقتحم جكم فى طائعة من عسكره القرايلكيّة، وساق خلفهم حتى صار فى وسط بساتين آمد، وكان قرايلك قد أرسل المياه على أراضى آمد حتى صارت ربوا، يدخل فيها الفارس بفرسه فلا يقدر على الخلاص، فلما وصل جكم إلى ذلك الموضع المذكور أخذه الرّحم هو ومن معه من كلّ جهة، وقد انحصروا من الماء الذي فاض على الأرض، وجعلها ربوا، فصاروا لا يمكنهم فيه الكرّ والفرّ، فصوّب عند ذلك بعض التّراكمين من القرايلكيّة على جكم، وهو لا يعرفه، ورماه بحجر فى مقلاع أصاب جبهته وشجّه، وسال الدّم على ذقنه ووجهه، وجكم يتجلّد ويمسح الدّم عن وجهه، فلم يتمالك نفسه وسقط عن فرسه مغشيّا عليه، وتكاثر التّركمان على رفقته فهزموهم بعد أن قتلوا منهم عدّة كبيرة، فنزل بعض التّراكمين وقطع رأس جكم، وجال العسكر واضطرب أمر جيش جكم ساعة، ثم انكسروا لفقد جكم، وقد عاينت أنا موضع قتل جكم بظاهر مدينة آمد لما نزل السّلطان(13/60)
الملك الأشرف برسباى عليها فى سنة ستّ وثلاثين وثمانمائة، عرّفنى ذلك الأمير السّيفىّ صربغا أمير آخور الوالد، فإنه كان يوم ذاك صحبة جكم فى الواقعة المذكورة- انتهى.
ثم أخذ التّركمان فى الأسر والقتل والنّهب فى عساكر جكم وعساكر ماردين حتى إنه لم ينج منهم إلّا القليل، فلما ذهب القوم نزل قرايلك وتطلّب جكم بين القتلى حتى ظفر به، فقطع «1» رأسه، وبعث به إلى السلطان الملك النّاصر إلى الدّيار المصريّة، وقتل فى هذه الواقعة مع الأمير جكم من الأعيان: الملك الظّاهر عيسى صاحب ماردين، وكان من أجلّ الملوك، والأمير ناصر الدين محمد بن شهرىّ حاجب حجّاب حلب، والأمير قمول نائب عين «2» تاب، وصارو سيّدى، وفرّ الأمير تمربغا المشطوب. وكمشبغا العيساوىّ، حتى لحقا بحلب فى عدّة يسيرة من المماليك، وكانت هذه الواقعة فى سابع عشر ذى القعدة من سنة تسع وثمانمائة- انتهى أمر جكم وقتلته.
وأما أمر الأمير شيخ المحمودىّ نائب الشّام- كان- فإنه فى ذى القعدة أيضا ركب من صفد يريد الأمراء الذين من جهة نوروز وجكم. وقد وصلوا من دمشق إلى غزّة، وهم إينال باى بن قجماس، وسودون الحمزاوىّ، ويشبك ابن أزدمر، ويونس الحافظىّ نائب حماة- كان- وسودون قرناص فى آخرين، فسار شيخ بمن معه وطرقهم بغزّة على حين غفلة فى يوم الخميس رابع ذى الحجة، فركبوا وقاتلوه قتالا شديدا، قتل فيه إينال باى بن قجماس، ويونس الحافظىّ، وسودون قرناص، وقبض شيخ على سودون الحمزاوىّ، بعد ما قلعت عينه، وهرب يشبك بن أزدمر إلى دمشق، وقبض شيخ على(13/61)
عدّة مماليك من المماليك السّلطانيّة، فوسّط منهم تسعة، وغرّق أحد عشر، وأفرج عن مماليك الأمراء، ولم يتعرض لهم بسوء، وبعث بطائفة أخرى من المماليك السّلطانيّة إلى الملك النّاصر فرج، ثم عاد شيخ إلى صفد.
[ما وقع من الحوادث سنة 810]
ثمّ ورد الخبر بأن الأمير نوروزا نائب الشام عاد إلى طاعة السّلطان بعد قتل جكم، وأنّ تمربغا المشطوب تغلّب على حلب، وقاتلته التّراكمين حتى ملك قلعة حلب بعد أمور، وأنه أخذ ما كان لجكم بحلب واستخدم مماليك جكم، فعظم أمره لذلك، فأمر السلطان بتجهيز أموره للسفر إلى البلاد الشّاميّة، وتجهزت العساكر، فلمّا كان يوم الاثنين سادس المحرم من سنة عشرة وثمانمائة فرّق السلطان الجمال على المماليك السّلطانيّة؛ برسم السّفر إلى الشّام صحبة السّلطان.
ثمّ فى يوم الجمعة عاشر المحرم قدم إلى القاهرة حاجب الأمير نعير برأس الأمير جكم، ورأس ابن شهرى، فخلع السلطان عليه، وطيف بالرأسين على رمحين، ونودى عليهما بالقاهرة، ثمّ علّقا على باب زويلة، ودقّت البشائر، وزيّنت القاهرة لذلك.
ثمّ فى تاسع عشر المحرم، خرجت مدوّرة «1» السلطان إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، ثمّ فى يوم حادى عشرينه، برز الجاليش السّلطانى من الأمراء إلى الرّيدانيّة، وهم الأتابك يشبك، والوالد، وهو تغرى بردى البشبغاوىّ، والأمير بيغوت فى آخرين من الأمراء، ورحلوا فى خامس عشرينه من الرّيدانيّة، ونزل السّلطان من قلعة الجبل فى يوم الاثنين ثامن عشرينه إلى الرّيدانيّة ببقيّة أمرائه وعساكره. وهذه تجريدة الملك النّاصر الرابعة إلى البلاد الشّاميّة، غير واقعة السّعيدية.
ثمّ رحل السلطان من الرّيدانيّة فى يوم ثانى صفر من سنة عشرة وثمانمائة، يريد البلاد الشاميّة.
وأما البلاد الشّاميّة- فإنّ نوروزا الحافظىّ خرج من دمشق فى أوّل محرم من(13/62)
هذه السنة لقتال شيخ، فضعف شيخ عن مقاومته، ولم يخرج من صفد، وأرسل يستحثّ السلطان على سرعة المجىء إلى البلاد الشّاميّة، فعاد نوروز إلى دمشق بعد أن حاصر شيخا أياما، وأرسل إلى السلطان يطلب أمانا، وأنه يمتثل ما يرسم به السّلطان، وأنه يوافق شيخا، ويرضى بما يولّيه السلطان من البلاد.
ثمّ أرسل نوروز إلى شيخ بأن يكاتب السلطان بأن يكون نائب حلب ويكون شيخ نائب الشام على عادته، فلم يلتفت شيخ إلى كلامه، وانتهز الفرصة وقد قوى أمره بعد ما كان خائفا من نوروز؛ لقدوم السّلطان الملك النّاصر إلى البلاد الشّاميّة، وسار بمماليكه وحواشيه حتى نزل بالقرب من دمشق، ففرّ فى تلك الليلة من نوروز إلى شيخ جماعة من الأمراء، منهم: قمش، وجمق، ثمّ تحوّل نوروز من المزّة «1» إلى قبّة «2» يلبغا، فوصل إليه قاصد الأمير شيخ، بأنّ السلطان أرسل إليه تشريفا بنيابة دمشق، وأنه طلب من السلطان لنوروز نيابة حلب، فأبى السّلطان ذلك، وأن عسكر السّلطان وصل إلى مدينة غزّة، فتحول عند ذلك نوروز إلى برزة «3» ، ودخلت مماليك الأمير شيخ إلى الشام من غير قتال.
وأمّا السّلطان الملك النّاصر فإنه لمّا رحل من الرّيدانيّة بعد أن عمل الأمير تمراز نائب السّلطنة نائب غيبته بديار مصر، وأنزله بباب السّلسلة، وأنزل الأمير آقباى بقلعة الجبل، وسكّن سودون الطيّار أمير سلاح بالرميلة «4» تجاه باب السّلسلة، وسار السّلطان حتى وصل إلى غزّة فى ثانى عشر صفر، فورد عليه الخبر بفرار نوروز، فلم يلتفت إلى ذلك، وسار حتى دخل إلى دمشق فى يوم ثانى عشرين صفر بعد(13/63)
ما خرج الأمير شيخ إلى لقائه، وقبّل الأرض بين يديه، وسار معه حتى دخل دمشق فى خدمته من جملة الأمراء، ونزل السّلطان بدار السّعادة من دمشق، وصلّى الجمعة بجامع بنى أمية، ثم قبض على قضاة دمشق ووزيرها، وكاتب سرها، وأهانهم السّلطان وألزمهم بحمل مال كبير.
ثم فى يوم الأحد خامس عشرين صفر، أمسك السّلطان الأمير شيخا المحمودىّ نائب دمشق، والأمير الكبير يشبك الشّعبانىّ الأتابكى، واعتقلهما بقلعة دمشق، وكان الأمير جركس القاسمىّ المصارع الأمير آخور قد تأخّر فى هذا اليوم عن الخدمة السلطانية بداره، فلما بلغه الخبر فرّ من وقته، فلم يدرك، وهرب جماعة كبيرة من الشّيخيّة واليشبكيّة.
ثمّ فى سادس عشرين صفر خلع السلطان على الأمير بيغوت باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن شيخ المحمودىّ، بحكم حبسه بقلعة دمشق، وخلع على الأمير فارس دوادار تنم باستقراره حاجب حجّاب دمشق، وخلع على الأمير عمر الهيدبانىّ بنيابة حماة، وعلى صدر الدّين علىّ بن الأدمىّ باستقراره قاضى قصاة الحنفيّة بدمشق، ودام يشبك وشيخ بقلعة دمشق إلى أن استمالا نائب قلعتها الأمير منطوقا، حتى أفرج عنهما فى ليلة الاثنين ثالث شهر ربيع الأوّل من سنة عشرة وثمانمائة، وهو أن منطوقا تحيّل على من عنده من المماليك بأنّ السّلطان رسم له بأن ينقل الأميرين شيخا ويشبك، من حبس إلى آخر فصدّقوه، فأخرجهما على أنه ينقلهما، وفرّ بهما، ونزل من القلعة، فلم يبلغ السلطان الخبر حتى ذهبوا حيث شاءوا، وأصبح السلطان يوم الاثنين ندب الأمير بيغوت لطلبهم، فركب بيغوت من وقته بمماليكه، وسار فى طلبهم- غارة- وقد اختفى الأمير شيخ بدمشق ولم يخرج منها، وتوجّه يشبك فلم يدرك بيغوت سوى منطوق نائب قلعة دمشق الذي أطلقهما؛ لثقل جثّته؛ فإنه كان فى غاية من السّمن، ففرّ يشبك، وقاتل منطوق(13/64)
بيغوت ساعة ثمّ انهزم، وقبض عليه [بيغوت] «1» وقطع رأسه، وحملها إلى الملك الناصر، ورفعت على رمح وطيف بها دمشق، ثمّ علّقت على سور دمشق، ثمّ قدم الخبر باجتماع الأتابك يشبك وشيخ وجركس، وأنّهم فى دون الألف فارس، وهم على حمص، وأنّهم اشتدّوا على النّاس فى طلب المال، فكتب السّلطان فى الحال للأمير نوروز الحافظىّ وهو بمدينة حلب، عند تمربغا المشطوب يستدعيه لمحاربة يشبك وشيخ، وأنه ولّاه نيابة الشّام وأمره أن يحمل إليه جماعة من الأمراء، ويبعث السلطان إليه التّقليد والتّشريف مع الأمير سلامش، ثم جهّز السلطان سلامش إلى نوروز، وعلى يده خلعته بنيابة دمشق، فلبس نوروز الخلعة، وقبّل الأرض وامتثل ما أمره السّلطان به من قتال الأمراء وغيره، وكتب يعتذر من عدم الحضور بما عنده من الحياء من السّلطان، والخوف لما وقع منه قبل تاريخه، وأنّه إذا سار السّلطان من دمشق نحو الدّيار المصرية قدمها وكفاه أمر هؤلاء.
ثمّ أرسل نوروز بعد ذلك بأنّه قبض على جماعة من الأمراء الذين فرّوا من السلطان من دمشق، وهم: الأمير علّان، والأمير جانم من حسن شاه، والأمير إينال الجلالىّ المفقار، والأمير جقمق العلائى أخو جركس المصارع: أعنى الملك الظاهر جقمق، والأمير أسنباى التّركمانى، أحد أمراء الألوف بدمشق، والأمير اسنباى أمير آخور، والأمير جمق، نائب الكرك- كان- وبعث بهم الجميع ما خلا جانم، ثم أرسل إلى الدّيار المصريّة بالقبض على الأمير تمراز النّاصرىّ نائب السّلطنة بالدّيار المصريّة. ثمّ نائب الغيبة، فأذعن تمراز وسلّم نفسه، فمسك وقيّد وحبس بالبرج «2» من(13/65)
قلعة الجبل، وسكن سودون الطيّار عوضه بباب السّلسلة من الإسطبل السّلطانى.
ثمّ ركب السّلطان الملك الناصر فى يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر من دار سعادة دمشق، وتوجّه إلى الرّبوة «1» فتنزّه بها ثم عاد إلى دار السّعادة، ثمّ أصبح لعب الكرة بالميدان، وقدم عليه الأمير بكتمر جلّق بالأمراء الذين قبض عليهم الأمير نوروز، وهم المقدّم ذكرهم، فرسم السلطان بحبسهم، ثمّ فى اليوم المذكور خرج حريم السّلطان من دمشق إلى جهة الدّيار المصرية.
ثمّ خرج السّلطان من دمشق فى يوم السّبت سابع شهر ربيع الآخر يريد الدّيار المصرية ومعه الأمراء المقبوض عليهم، وفيهم: الأمير سودون الحمزاوىّ وقد أحضر من سجن صفد، والأمير آقبردى رأس نوبة أحد أمراء الطبلخانات، وسودون الشّمسىّ أمير عشرة، وسودون البجاسىّ أمير عشرة، وسار السّلطان إلى مصر، وجعل بكتمر جلّق نائب الغيبة بدمشق حتى يحضر إليها نائبها الأمير نوروز، وكان بكتمر جلّق المذكور قد خلع عليه السّلطان باستقراره فى نيابة طرابلس قبل تاريخه، وأصبح شيخ لمّا بلغه خروج السّلطان من دمشق طرقها ومعه يشبك وجركس، وأخذها من بكتمر، وملكها بعد أن فرّ بكتمر منها، وقبض شيخ على جماعة من أمراء دمشق، وولّى وعزل، وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة.
ثم ورد الخبر على يشبك وشيخ بنزول بكتمر جلّق على بعلبك بأناس قليلة فخرج إليه يشبك الشّعبانىّ وجركس فى عسكر، ومضى بكتمر جلّق إلى حمص، وسار يشبك وجركس حتى وصلا إلى بعلبك، فوافاهما الأمير نوروز بعساكره(13/66)
على كروم بعلبك، فبرز إليه يشبك وجركس بمن معهما، فقاتلهم نوروز حتى هزمهم، وقتل الأتابك يشبك الشّعبانىّ، وجركس القاسمى المصارع فى ليلة الجمعة ثالث عشر شهر ربيع المذكور، وقتل جماعة أخر، وقبض نوروز على جماعة، وفرّ من بقى، فلما بلغ ذلك شيخا خرج من وقته من دمشق على طريق جرود «1» ، ودخل الأمير نوروز فى يوم رابع عشره إلى دمشق وملكها من غير قتال، وبعث نوروز بهذا الخبر إلى السلطان، فوافاه المخبر بذلك على العريش، فسرّ السلطان بذلك سرورا كبيرا، وهان عليه أمر شيخ بعد ذلك.
ثمّ سار السلطان الملك الناصر مجدّا حتى دخل إلى الديار المصرية ضحى نهار الثلاثاء، رابع عشرين شهر ربيع الآخر، وبين يديه ثمانية عشر أميرا فى الحديد، ورمّة الأمير إينال باى بن قجماس، وقد حملها الملك الناصر من غزة لأنه كان خصّيصا عند الملك الناصر، وقتل بغزّة فى واقعة شيخ بغير اختيار السلطان، وطلع السلطان إلى قلعة الجبل، وحبس الأمراء المذكورين بالبرج من قلعة الجبل إلى أن كان يوم سادس عشرينه، فاستدعى السلطان القضاة إلى بين يديه، وأثبت عندهم إراقة دم الأمير سودون الحمزاوىّ لقتله إنسانا ظلما، فحكموا بقتله، فقتل، وقتل معة تمربغا دواداره، والأمير آقبردى، وجمق، وأسنباى التركمانى، وأسنباى أمير آخور، وتأخر الأمير إينال المنقار، وسودون الشّمسىّ، وجقمق العلائى، وجماعة أخر، وسودون البجاسى فى البرج من قلعة الجبل.
ثمّ فى يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر، أنعم السلطان على الوالد بإقطاع الأتابك يشبك الشّعبانىّ، وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير قردم الخازندار، وأنعم على الأمير قراجا بإقطاع تمراز الناصرىّ المقبوض عليه فى غيبة السلطان بالقاهرة، واستقرّ قراجا المذكور شادّ الشّراب خاناة، وأنعم بإقطاع قراجا على الأمير أرغون من بشبغا، وأنعم بإقطاع أرغون المذكور على الأمير شاهين قصقا، وأنعم بإقطاع شاهين على الأمير طوغان الحسنىّ.(13/67)
ثم فى يوم الخميس ثالث جمادى الأولى خلع السلطان على الوالد باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصرية عوضا عن يشبك الشّعبانىّ، وخلع على الأمير كمشبغا المزوّق الفيسىّ باستقراره أمير آخور كبيرا، عوضا عن جركس القاسمىّ المصارع.
وفى اليوم المذكور قدم إلى القاهرة قاصد الأمير نوروز الحافظىّ برأس الأتابك يشبك، ورأس جركس المصارع، ورأس الأمير فارس التّنمىّ حاجب حجّاب دمشق.
وفيه شاور جمال الدين الأستادار السّلطان أنه يعمّر للسلطان مدرسة بخط رحبة باب العيد «1» ، فأذن له السلطان فى ذلك، فشقّ جمال الدين أساسها فى هذا اليوم، وبدأ بعمارتها.
ثم أرسل السلطان إينال المنقار، وعلّان، وبلبغا الناصرىّ إلى سجن الإسكندرية.
ثم ركب الملك الناصر متخفّفا بثياب جلوسه ونزل إلى عيادة الأمير قراجا، فعاده، ثم سار إلى بيت جمال الدين الأستادار وأخذ تقدمته، ثم ركب وسار حتى نزل بالمدرسة الظاهرية ببين القصرين، وزار أمه وجده لأبيه الأمير أنص، وجعل ناحية منبابة «2» بالجيزة وقفا عليها.
ثم ركب منها إلى دار الأمير بشباى- رأس نوبة النّوب- ونزل عنده، ثم ركب من عنده، وتوجّه إلى بيت الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب، ثم سار من عنده إلى قلعة الجبل.
قال المقريزى: ولم نعهد ملكا من ملوك مصر ركب من القلعة بقماش جلوسه غيره، قلت: لعل المقريزى أراد بقماش جلوسه عدم لبس السّلطان الكلفتاة، وقماش الخدمة، وهذا كان مقصوده- والله أعلم.(13/68)
ثم فى تاسع عشر جمادى الأولى المذكور، خلع السلطان على الأمير طوخ الخازندار باستقراره أمير مجلس عوضا عن يلبغا النّاصرى بحكم القبض عليه، والعامة تسمّى طوخ هذا طوق الخازندار، والصواب ما قلناه. وخلع على الأمير قردم باستقراره خازندارا عوضا عن طوخ المذكور.
ثم فى سادس عشر جمادى الآخرة قبض السّلطان على الأمير سودون من زادة، وقيّده وحمله إلى الإسكندريّة، فسجن بها مع من بها من الأمراء.
وأمّا الأمير نوروز الحافظىّ فإنّه منذ دخل دمشق كانت مكاتبات الأمير شيخ ترد عليه بطلب الصّلح، ويترقّق شيخ لنوروز، ويتخضّع إليه إلى أن أجاب نوروز إلى ذلك، وخرج من دمشق فى سادس عشرين شهر رجب، إلى جهة حلب، ليصالح الأمير شيحا، فتقدّم الأمير شيخ إليه والتقاه واصطلحا، ومسك نوروز بكتمر جلّق، بعد ما كان أعزّ أصحاب نوروز؛ مراعاة لخاطر شيخ.
وحكى لى من أثق به من أعيان المماليك الظّاهريّة ممّن كان فى صحبتهم يوم ذاك قال: لمّا أراد شيخ الصّلح مع نوروز، طلب منه القبض على بكتمر، فبلغ بكتمر ذلك، فلم يصدّق أنّ نوروزا يقع فى مثل هذا لما كان بينهما من تأكّد الصّحبة، فلمّا اجتمع شيخ مع نوروز وأراد نوروز القبض على بكتمر، قال بلسان الجركسىّ: وبط «1» . قال بكتمر: يا جنس النّحس بلغنى ذلك من مدّة، ولكنّنى ما ظننت أنّها تخرج من فمك فى حقّى أبدا، ومسك بكتمر جلّق، وسجن بقلعة دمشق، ثمّ دخل الأمير شيخ ونوروز إلى دمشق، وقد استقرّت طرابلس للأمير شيخ، ودمشق للأمير نوروز، فأقام شيخ بدمشق عشرة أيّام، ثم خرج منها وسار إلى طرابلس، وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها فى أيام هذه الفتن، وأخرجت الأوقاف عن أربابها، وخربت(13/69)
بلاد كثيرة بمصر والشّام؛ لكثرة التّجاريد، وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع.
ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك، وما وقع من نوروز فى حقّ شيخ من الإكرام شقّ عليه ذلك؛ لأن شيخا كان قد تلاشى أمره، ونفر عنه مماليكه وأصحابه؛ من كثرة الأسفار والانتقال من بلد إلى بلد، وافتقر وصار لا يجد بلدا يأوى إليه، حتّى صالحه نوروز، وأعطاه طرابلس، فعاد إليه مماليكه، ودار فيه الرّمق- انتهى.
ثمّ فى حادى عشر شعبان أفرج السّلطان عن الأمير تمراز النّاصرىّ نائب السّلطنة- كان- من حبسه بالبرج من قلعة الجبل، ونزل إلى داره، ثمّ ورد الخبر على الملك النّاصر بأن بكتمر جلّق فرّ من سجن قلعة دمشق فى ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة عشر وثمانمائة، وأنّه توجّه إلى صفد، ثمّ نزل غزّة.
ثمّ ورد على السّلطان كتاب الأمير شيخ يسأل السلطان الملك الناصر الرّضى عنه، وعن جماعته، فلم يقبل السّلطان ذلك، فلم تزل مكاتبات شيخ ترد على السّلطان فى ذلك حتّى رضى عنه. وكتب له بنيابة الشّام على عادته، وحمل إليه التّقليد الأمير ألطنبغا بشلاق صحبة مملوك شيخ ألطنبغا شقل، وقاضى القضاة نجم الدين عمر بن حجّىّ، وقاضى القضاة صدر الدين بن الأدمى، وقد تولّى كلّ منهما قاضيا بدمشق على مذهبه، وكانا هما وألطنبغا شقل قدموا فى إصلاح أمر شيخ مع أستاذه الملك النّاصر فرج.
ثمّ كتب السّلطان باستقرار بكتمر جلّق فى نيابة طرابلس على عادته، وكتب السّلطان أيضا باستقرار يشبك بن أزدمر فى نيابة حماة، ووصلت رسل السّلطان إلى الأمير شيخ وغيره من الأمراء المذكورين من البحر المالح من عكّا، وساروا حتّى لقوا شيخا على المرقب، وقد تغيّر(13/70)
عن حاله، وأوصلوه التّقليد بنيابة الشّام، فقال: أنا لا أعادى نوروزا وقد أحسن إلىّ، وأقامنى ثانيا، وأيضا لم يكن لى قدرة على قتاله، وأخذ الخلعة منهم، وبعثها إلى الأمير نوروز، وأعلمه أنه باق على طاعته، فدقّت البشائر لذلك، وزيّنت دمشق.
[ما وقع من الحوادث سنة 811]
ثمّ فى أوّل المحرم من سنة إحدى عشرة وثمانمائة برز الأمير نوروز من دمشق، يريد قتال الأمير بكتمر جلّق، فتهيّأ بكتمر أيضا لقتاله، وتصاففا، واقتتلا قتالا شديدا، قتل بينهما أناس، وحرقت الزّروع، وخربت البلاد. ثمّ عاد نوروز إلى جهة الرّملة لحفظ مدينة غزّة.
وكان الملك النّاصر لمّا بلغه أنّ سودون تلّى المحمّدى صار نائب غزّة، من قبل نوروز، ولّى الأمير ألطنبغا العثمانىّ نيابة غزّة وندبه لقتال سودون المحمّدىّ. وأرسل معه من الأمراء بشباى رأس نوبة النّوب، وسودون بقجة، وطوغان الحسنىّ، والجميع يتوجّهون لقتال سودون المحمّدى، ثمّ يمضون إلى صفد؛ نجدة لمن بها من السلطانيّة، وخرجوا من القاهرة، وساروا حتى وصلوا إلى العريش، فبلغهم أنّ الأمير بكستمر جلّق، والأمير جانم من حسن شاه، خرجا من صفد إلى غزّة، وملكاها من سودون المحمّدى؛ وفرّ سودون المحمّدى، ولحق بالأمير نوروز، فجهّزه نوروز فى الحال بعدّة مقاتلة لقتالهم، وأنّ نوروزا يكون فى أثره إلى غزّة. فلمّا بلغ بكتمر جلق، وجانم، مجىء سودون المحمّدى، ونوروز إلى غزّة، خرجا من غزّة وعادا إلى صفد، وبلغ هذا الخبر بشباى وهو بالعريش، فعاد هو وأصحابه إلى الدّيار المصرية؛ من كونه لا يقاوم نوروزا؛ لكثرة جموعه، فسكت السّلطان عن نوروز لما يأتى ذكره.
ثمّ أفرج السلطان عن الأمير إينال المنقار، والأمير علّان، من سجن الإسكندريّة، وقدم الخبر على السلطان فى أثناء ذلك بوقوع الفتنة بين(13/71)
شيخ ونوروز، وأنّ شيخا نزل القريتين «1» ، ونوروزا بالقرب منه، وتراسلا فى الكفّ عن القتال، فامتنع شيخ وقال: السلطان ولّانى نيابة دمشق، وباتا على القتال، فلمّا كان الليل سار شيخ بمن معه يريد دمشق، وأكثر فى منزلته من إشعال النّيران، يخدع بذلك نوروزا، فلم يفطن نوروز برحيله، حتىّ مضى أكثر الليل، فركب فى الحال نوروز فى أثر شيخ حتّى سبقه إلى دمشق، ودخلها، ولم يقدر شيخ على دخول دمشق وكان مع نوروز يشبك بن أزدمر نائب حماة، ووقع أمور إلى أن واقع نوروز شيخا بعساكره، وكان مع شيخ نفر يسير، وقد تعوّق عنه أصحابه، لكنه كان متولى دمشق من قبل السلطان، ومعه سنجق «2» الملك النّاصر، وأردفه بكتمر جلّق، وسيدى الكبير [الأمير قرقماس] «3» وغيرهما من الأمراء، فتواقعا بسعسع «4» ، فانهزم نوروز بمن معه، وقصد حلب، وركب شيخ أقفيتهم، فدخل نوروز دمشق، فى عدّة يسيرة من الأمراء من أصحابه، وبات بها ليلة واحدة، ثمّ خرج منها على وجهه إلى حلب، وبعد خروج نوروز من دمشق، دخل إليها الأمير بكتمر جلّق، والأمير قرقماس ابن أخى دمرداش، المعروف بسيدى الكبير، ونودى فى دمشق بالأمان، وأنّ شيخا نائب دمشق، ثمّ دخل شيخ بعدهم إلى دمشق، ونزل بدار السعادة، ثم خرج شيخ من دار السعادة ونزل بقبة يلبغا، ولبس التّشريف السلطانىّ المجهز إليه من مصر بنيابة الشام قبل تاريخه، وعاد إلى دار السعادة فى موكب جليل،(13/72)
وقبض على الأمير نكباى حاجب دمشق، وعلى الأمير أرغز، وهما من أصحاب نوروز، وعلى جماعة أخر من النوروزية. ثمّ قدم عليه الأمير دمرداش المحمّدى، فأكرمه شيخ وأنزله بدمشق مدّة أيام، ثمّ ندبه هو والأمير بكتمر جلّق لقتال نوروز ومعهما عساكر دمشق، وورد الخبر على السلطان بذلك، فسرّ سرورا عظيما، وكتب للأمير شيخ بالشكر والثّناء على ما فعله مع نوروز؛ لأنّ الملك النّاصر كان حصل له من نوروز قهر عظيم، كونه كان ولّاه نيابة دمشق، ولم يلتفت إلى شيخ، فتركه نوروز، ووافق شيخا، فلم يقم شيخ على صلحه مع نوروز إلّا أياما يسيرة، وتركه وعاد إلى طاعة السّلطان، وحارب نوروزا، فعرف له السّلطان ذلك وولّاه نيابة دمشق عوضا عن نوروز، وسلّط بعضهم على بعض.
ثمّ إنّ الملك النّاصر فى يوم الجمعة سابع جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وثمانمائة أمسك أعزّ أمرائه الأمير بيغوت، وأمسك معه الأمير سودون بقجة، والأمير أرنبغا أحد أمراء الطبلخانات، والأمير قرا يشبك، أحد أمراء العشرات، وقيد الجميع وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية، وخلع على إينال المنقار، وعلّان، ويشبك الموساوىّ، وجعل كلّا منهم أمير مائة، ومقدّم ألف بالدّيار المصرية، ثمّ خلع السّلطان على الأمير أرغون من بشبغا، واستقرّ به أمير آخور كبيرا، عوضا عن كمشبغا الفيسىّ.
وأمّا أمراء الشام فإنّ الأمير نوروزا الحافظى، لمّا خرج من دمشق لم يأمن على نفسه أن يكون بحلب عند تمربغا المشطوب، وكان أوّل ما قدمها قابله تمر بغا المذكور ووافقه، ثمّ بدا له أن يكون على طاعة السّلطان، ففطن نوروز بذلك؛ فخرج من حلب بعد أمور، وسار إلى ملطية واستقرّ بها، وآواه ابن صاحب الباز «1» التركمانىّ، ثمّ سلم تمربغا المشطوب حلب للامير قرقماس ابن(13/73)
أخى دمرداش المعروف بسيدى الكبير، ونزل من قلعتها، ثمّ فرّ جماعة من الأمراء أصحاب نوروز إلى شيخ، وهم: الأمير سودون تلى المحمّدىّ، وسودون اليوسفىّ، وأخبروه أن نوروزا عزم على الفرار من أنطاكيّة، فسار شيخ بجموعه من العمق «1» يريد نوروزا بغتة، فأدرك أعقابه، وقبض على عدّة من أصحابه وعاد إلى العمق، وبعث العسكر فى طلبه، فقدم عليه الخبر أنّه أمسك هو ويشبك بن أزدمر فى جماعة أخر، فكتب شيخ فى الحال يعرّف السّلطان بذلك كلّه، فشكره السّلطان على ذلك وأرسل إليه بالخلع.
ثمّ إنّ السّلطان فى هذه السّنة أضاف إمرة المدينة النّبوية، وإمرة الينبع، وخليص «2» ، والصّفراء «3» ، وأعمالهم، إلى الشّريف حسن بن عجلان أمير مكة، وكتب له بذلك توقيعا، وهذا شىء لم ينله أمير مكة قبله فى هذا الزّمان.
ثمّ فى خامس عشرين جمادى الآخرة، أنعم السّلطان بإقطاع بشباى رأس نوبة النّوب- بعد وفاته- على الأمير إينال المحمّدى السّاقىّ المعروف إينال ضضع، وأنعم بإقطاع إينال المذكور على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير، وأنعم بإقطاع أرغون المذكور على الأمير مقبل الرّومىّ، والجميع تقادم ألوف، لكن بينهم التّفاوت فى كثرة المغلّ والخراج، وأنعم بإقطاع مقبل الرّومىّ- وهو إمرة طبلخاناة- على الأمير بردبك، ثمّ خلع السّلطان على الامير إينال الساقىّ المذكور باستقراره رأس نوبة النّوب، عوضا عن بشباى المذكور بحكم موته.
ثمّ قدم الخبر على السلطان من شيخ بأن التركمان الذين كانوا قبضوا على نوروز أطلقوه، وأنّ تمربغا المشطوب هرب من الأمير شيخ، وأن نوروزا توجّه(13/74)
بعد خلاصه من يد التركمان إلى قلعة «1» الرّوم، وأنّه خرج من دمشق جماعة كبيرة من عند شيخ إلى نوروز، فركب شيخ فى أثرهم فلم يدركهم، فعاد إلى دمشق وقبض على الأمير يشبك العثمانىّ، ثمّ بعد مدّة يسيرة بلغ الأمير شيخا أنه قيل للسلطان عنه إنّه عاص، فطلب الأمير شيخ القضاة وأعيان أهل دمشق، وكتب محضرا بأنه باق على طاعة السلطان الملك النّاصر، وبعث به مع القاضى نجم الدين عمر بن حجّىّ، وقدم ابن حجّىّ بالمحضر، ومع المحضر المذكور كتاب الأمير شيخ يستعطف خاطر السّلطان عليه، ويعتذر عن تأخّره بإرسال من طلبه السّلطان من الأمراء النّوروزيّة، وكان السّلطان قد بعث إليه قبل ذلك يشبك الموساوىّ بطلب جماعة من الأمراء، فلم يرسلهم شيخ إليه، فلم يقبل السّلطان عذره، واشتدّ غضبه، وأظهر الاهتمام بالسّفر إلى الشّام، ثم كتب الجواب بتجهيز أمراء عيّنهم، وواعدهم على مدة ستة وعشرين يوما، ومتى مضت هذه المدّة ولم يجهّزهم، سار السّلطان لقتاله، وبعث السلطان بذلك على يد قاصد شيخ نجم الدين بن حجّىّ، فعاد ابن حجى إلى الأمير شيخ وأدّى الرّسالة، فأخذ شيخ فى تجهيز الأمراء الذين طلبهم السّلطان، وامتثل مرسومه بالسّمع والطّاعة.
وبينما هو فى ذلك، بلغه أنّ تغرى برمش كاشف «2» الرّملة فرّ منها لقدوم كاشف ونائب القدس من قبل السّلطان، وأنّ السلطان قد عزم على المسير إلى الشّام، وأخرج الرّوايا والقرب على الجمال ومعهم الطّبول، نحو(13/75)
مائتى جمل إلى البركة «1» ، فعند ذلك رجع شيخ عن إرسال الأمراء، وعوّل على مصالحة نوروز، وبعث إليه الأمير جانم ليصلح بينهما، وجهز له شيخ ستّة آلاف دينار، فمال نوروز لمصالحته، فلما بلغ دمرداش نائب حلب الخبر اهتمّ لقتال نوروز، وجمع طوائف التّركمان والعربان، وسار إليه بكتمر جلّق نائب طرابلس، وحضر إليه أيضا نائب أنطاكيّة «2» وبعث دمرداش ابن أخيه تغرى بردى المعروف بسيّدى الصغير- وهو يومئذ أتابك حلب- إلى مرج «3» دابق ومعه جماعة كبيرة من التّركمان، ثم أتاه بكتمر جلّق، فرحلا من حلب بعساكرهما وقصدا نوروزا، وقد نزل نوروز بجموعه على عين تاب، فتقدّم إليه تغرى بردى سيّدى الصغير بالتركمان الكبكيّة»
، جاليش عمّه دمرداش، فرحل نوروز إلى مرعش «5» ، وتحاربت كشّافته مع كشّافة دمرداش محاربة قويّة، أسر فيها عدّة من النّوروزية، وانهزم نوروز، واستولى عسكر دمرداش على عين تاب، وعاد دمرداش إلى حلب، وكتب بذلك إلى السّلطان.
[ما وقع من الحوادث سنة 812]
فسرّ السلطان بذلك، وكتب الجواب: إنّى واصل عقيب ذلك إلى البلاد الشامية، وعظم اهتمام السلطان وعساكره للسّفر، إلى أن خرج جاليشه من الأمراء إلى الرّيدانيّة، فى يوم الأربعاء سابع المحرّم من سنة اثنتى عشرة(13/76)
وثمانمائة، وهم: الوالد- وهو يومئذ أتابك العساكر بالدّيار المصرية- وآقباى الطّرنطائىّ رأس نوبة الأمراء، وطوخ أمير مجلس، وطوغان الحسنىّ، وإينال المنقار، وكمشبغا الفيسىّ المعزول عن الأمير آخورية، ويشبك الموساوىّ الأفقم، وعدّة أمراء أخر من الطّبلخانات والعشرات، ونزل الجميع بالريدانية.
ثمّ فى يوم الاثنين حادى عشر المحرّم المذكور، ركب السّلطان الملك النّاصر ببقيّة أمرائه وعساكره من قلعة الجبل، ونزل بمخيّمه بالرّيدانيّة، وفى اليوم المذكور، رحل الوالد بمن معه من الأمراء وهو جاليش السّلطان، وسار بهم يريد دمشق.
ثمّ خلع السّلطان على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير باستقراره فى نيابة الغيبة، وأنه يقيم بسكنه بالإسطبل السلطانى، وخلع على مقبل الرومىّ، ورسم له أن يقيم بقلعة الجبل، وخلع على الأمير يلبغا النّاصرىّ باستقراره فى نيابة الغيبة، ويقيم بالقاهرة للحكم بين النّاس، وكذلك الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب، ثمّ رحل السلطان فى رابع عشر المحرّم من الرّيدانيّة، يريد البلاد الشّاميّة.
وأما الأمير شيخ نائب الشّام، فإنه لما سمع بخروج السّلطان من مصر، أفرج عن الأمير سودون تلى المحمّدى، وعن سودون اليوسفى، وعن الأمير طوخ، وهم الذين كان السلطان أرسل إلى شيخ بطلبهم، وأظهر شيخ العصيان، وأخذ فى مصادرات أهل دمشق، وأفحش فى ذلك إلى الغاية، ثمّ سار الملك النّاصر إلى أن وصل إلى غزّة، وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثمانىّ وولاه نيابة صفد، وخلع على الأمير إينال الصّصلانى الأمير آخور الثانى باستقراره عوضه فى نيابة غزّة، وكان الأمير شيخ قد أرسل قبل ذلك الأمير سودون المحمّدى ودواداره شاهين إلى غزّة، فلما وصل جاليش السلطان إليها انهزما من الرّملة إلى شيخ، وأخبراه بنزول السلطان على غزّة، وكان استعدّ(13/77)
شيخ فى هذه المرة لقتال السّلطان، فلمّا تحقق قدومه، خارت طباعه، وتحوّل فى الوقت إلى داريّا «1» فقدم عليه الأمير قرقماس ابن أخى دمرداش فارّا من صفد، وشجّع الأمير شيخا على ملاقاة السلطان وقتاله، وعرّفه أن غالب عساكره قد تغير خاطرهم على السلطان، فلم يلتفت شيخ لذلك، وأبى إلا الهروب، ثم قدم عليه الأمير جانم نائب حماة بعسكره، وعرّفه قدوم نوروز عليه، وهو مع ذلك فى تجهيز الرّحيل من دمشق.
وسار السّلطان من غزّة حتى نزل اللجون فى يوم السبت أوّل صفر من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، فكثر الكلام فى وطاق «2» السّلطان بتنكّر قلوب المماليك الظّاهريّة على السّلطان، وتحدّثوا فى بعضهم بإثارة فتنة؛ لتقديمه مماليكه «3» الجلب عليهم، وكثرة عطاياه لهم، فلما أصبح السلطان رحل من اللجون ونزل بيسان «4» وأقام بها نهاره إلى أن غربت الشمس، فماج العسكر، وهدّت الخيم، واشتد اضطراب الناس، وكثر قلق السّلطان طول ليلته إلى أن أصبح وجد الأمير تمراز النّاصرىّ النائب، وإنيّه وزوج بنته سودون بقجة، والأمير إينال المنقار، والأمير قرايشبك، والأمير سودون الحمصىّ، وعدة كبيرة من المماليك السلطانيّة قد فروا إلى الأمير شيخ، وكان سبب فرارهم فى هذه الليلة أنّ آقبغا الدّوادار اليشبكىّ عرّف السلطان بأنّ هؤلاء الجماعة يريدون إثارة فتنة، فطلب السّلطان كاتب سرّه فتح الله، وجمال الدين الأستادار، وعرّفهما ما بلغه عن الجماعة، فدار الأمر بينهم على أنّ السّلطان فى وقت المغرب يرسل خلفهم(13/78)
ويقبض عليهم، وخرجوا على ذلك من عند السّلطان، فغدر جمال الدين الأستادار وأرسل- بعد خروجه من عند السّلطان- عرّف الأمراء بالأمر، وكان تمراز قدم من مصر فى محفّة، لرمد كان اعتراه، فأعلمهم جمال الدين بالخبر، وبعث إليهم بمال كبير لهم وللأمير شيخ نائب الشّام، فأخذوا حذرهم، وركبوا قبل أن يرسل السّلطان خلفهم، ولحقوا بالأمير شيخ، ولمّا خرجوا من الوطاق وساروا لم يكن حينئذ عند السلطان أحد من أكابر الأمراء؛ لتوجّههم فى الجاليش أمام السّلطان، فبعث السّلطان خلف فتح الله وجمال الدين الأستادار، ولا علم للسّلطان بما فعله جمال الدين المذكور، وكلّمهما فيما يفعل، واستشارهما، فأشار عليه فتح الله بالثّبات، وأشار عليه جمال الدين بالرّكوب ليلا وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حاله، فمال السّلطان إلى كلام فتح الله، وأقام بوطاقه، فلمّا طلع الفجر ركب وسار بعساكره نحو دمشق، فقدم عليه الخبر برحيل شيخ من دمشق إلى بصرى «1» ، فنزل السّلطان على الكسوة «2» ، ففرّ فى تلك الليلة الأمير علّان وجماعة من المماليك لشيخ، فركب السّلطان بكرة يوم الخميس سادس صفر، ودخل دمشق، ونزل بدار السّعادة، ثمّ قبض على شهاب الدين أحمد الحسبانىّ وسلّمه إلى الأمير ألطنبغا شقل؛ من أجل أنّه أفتى بقتاله، وطلب ابن التّبّانىّ فإذا هو سار مع شيخ، وكتب السلطان بالإفراج عن الأمير أرغز، وسودون الظّريف، وسلمان «3» ، من قلعة الصّبيبة، وخلع على الأمير زين الدين عمر الهيدبانىّ باستقراره حاجب حجّاب دمشق، وعلى ألطنبغا شقل حاجبا ثانيا، وخلع على الأمير بردبك باستقراره(13/79)
فى نيابة حماة عوضا عن جانم، ثمّ كتب السّلطان للأمير نوروز تقليدا بنيابة حلب عوضا عن الأمير دمرداش المحمّدىّ.
ثمّ قدم الأمير بكتمر جلّق نائب طرابلس إلى دمشق، وأخبر أنّ الطاعون فشا ببلاد حمص وطرابلس، ثمّ فى عشرينه قدم الأمير دمرداش المحمّدىّ نائب حلب فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثمّ خلع السّلطان على الأمير بكتمر جلّق باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن شيخ المحمودىّ، وخلع على دمرداش المحمّدىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن بكتمر حلّق- مضافا لنيابة حلب.
ثمّ وقع من جمال الدين الأستادار نكبة فى حقّ بعض أصحاب الأمير شيخ، وهو أنّه أمسك جمال الدين القاضى ناصر الدين ابن البارزىّ وضربه ضربا مبرّحا، لأجل معلوم تناوله لشمس الدين أخى جمال الدّين الأستادار، ثمّ فى ليلة السبت أيضا قتل جمال الدين الأستادار القاضى شرف الدين بن الشّهاب محمود الحلبىّ كاتب سرّ دمشق؛ لحقد كان فى نفس جمال الدين منه أيّام خموله بحلب، وكان شرف الدين أيضا من أصحاب الأمير شيخ، وكان عبد الباسط بن خليل فى خدمة شرف الدّين هذا، ومنه تعرّف بالأمير شيخ، وكان عبد الباسط فى أيّام سعادته بمصر ينقل فى غالب أفعاله عن أستاذه شرف الدين هذا.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأوّل، خرج أطلاب السّلطان والأمراء من دمشق، وتبعهم السّلطان بعساكره وهم بآلة الحرب والسلاح، ونزل بالكوة وأصبح راحلا إلى جهة الأمير شيخ ورفقته، فالتقى كشّافة السلطان مع كشّافة شيخ، واقتتلوا، وأسر من الشّيخيّة رجل، ثمّ انهزمت الشّيخيّة، ثمّ سار السّلطان بكرة يوم الأربعاء فنزل قرية الحراك «1» نصف النهار، وأقام بها قدر ما أكل السّماط، ثم ركب منها بعساكره وسار سيرا مرعجا، ونزل عند الغروب(13/80)
بكرك البثنيّة «1» من حوران، وبات وأصبح وسار حتّى نزل مدينة بصرى، فتحقّق هناك خبر شيخ بأنّه فى عصر يوم الأربعاء الماضى بلغه أنّ السّلطان خرج من دمشق فى أثره، فرحل من بصرى بعساكره فزعا يريد صرخد بعد ما كلّمه الأمراء فى الثّبات، وقتال الملك الناصر؛ فلم يقبل، وركب من وقته، وترك غالب أصحابه بمدينة بصرى، ثم تبعته أصحابه مع كثرة عددهم إلى صرخد.
ولما بلغ الملك الناصر فرار شيخ وأصحابه، تأوّه لذلك وقال لكاتب سرّه فتح الله ولجمال الدين الأستادار: ألم أقل لكما إن شيخا فظيع ليس له قلب ولو كان معه مائة ألف مقاتل لا يقدر أن يقابلنى بهم؛ لرعب سكن فى قلبه منى؟ ثم أقام السّلطان على بصرى إلى بكرة يوم السبت، فقدم عليه وهو ببصرى الأمير برسباى الدّقماقىّ الساقى: أعنى الملك الأشرف، والأمير سكب اليوسفىّ، فأكرمهما السلطان ووعدهما بكلّ خير، ثمّ ركب وسار- وهو ثمل- حتى نزل بقرية عيون تجاه صرخد، فتناوش العسكران بالقتال، فقتل من جماعة شيخ فارسان، وجرح جماعة من السلطانيّة، ثم فرّ جماعة أخر من السلطان إلى الأمير شيخ، وبات السّلطان وأصبح فى وقت الفجر نادى أن لا يهدّ أحد خيمته، ولا يحمّل جمل، وأن يركب العسكر خيولهم، ويجرّ كل فارس جنيبه مع غلامه من غير أن يأخذوا أثقالهم، فركبوا، وسار بهم على هذه الحالة حتى طرق شيخا وأصحابه على حين غفلة، بعد أن كان سار هو بنفسه أمام عسكره مسرعا، وأمراؤه يخذّلونه من انقطاع عساكره عنه، ويقولون له: بمن تلقى شيخا، وقد عظم جمعه وتخلفت عساكر السلطان منقطعة؟ والملك الناصر لا يلتفت إلى قولهم ويقول:
لو بقى معى عشرة مماليك لقيت بهم شيخا ومن معه، [أنا] «2» أعرفهم حقّ المعرفة.(13/81)
ودام على سيره حتى طرق شيخا على حين غفلة، وقد عبأ شيخ عساكره، فأوقف المصريين ناحية: أعنى الذين فرّوا إليه من الملك الناصر، وجعل عليهم الأمير تمراز النائب، ووقف هو فى ثقاته وخواصه، وهم نحو خمسمائة نفر، فتقدّم السلطان وصدم بعساكره الأمير تمراز بمن معه- وكانوا جمعا كبيرا- فانكسروا من أوّل وهلة، ثم مال على الأمير شيخ وأصحابه، وقد تقهقر شيخ وأصحابه إلى جهة القلعة، فكان بينهم معركة صدرا من النهار، وهو يتأخر إلى المدينة، وأصحابه تتسلّل منه، وصار القتال يجدران مدينة صرخد، ولا زال شيخ يتأخر بمن معه، والملك الناصر يتقدّم بمن معه، حتى ملك وطاق شيخ وانتهب جميع ما كان فيه من خيل وقماش وغيرها، ثمّ هرب شيخ إلى داخل جدران المدينة، واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعد أصحابه فرموا من أعلى المنارة بمكاحل «1» النفط والمدافع والأسهم الخطائية «2» على شيخ، وشيخ يلوم أصحابه ويوبّخهم على ما أشاروا عليه من قتال الملك النّاصر، ثمّ حمل السلطان عليه حملة منكرة بنفسه، فلم يثبت شيخ وانهزم والتجأ فى نحو العشرين من أصحابه إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره وقد أسند عليها، فتسارع إليه عدّة من أصحابه، وتمزّق باقيهم، وطلع شيخ إلى قلعة صرخد فى أسوإ حال، وأحاط السّلطان على المدينة، ونزل حول القلعة، وأتاه الأمراء فقبّلوا الأرض بين يديه، وهنّئوه بالظفر والنّصر، وامتدّت أيدى السلطانية إلى مدينة صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلا ولا حقيرا، وانطلقت ألسنة أهل صرخد بالوقيعة فى شيخ وأصحابه، وأكثروا له التوبيخ بكلام معناه أنه إذا لم يكن له قوّة ما باله يقاتل من لم يطق دفعه وقتاله، وسار الأمير تمراز، وسودون بقجة، وسودون الجلب،(13/82)
وسودون المحمدىّ، وتمربغا المشطوب، وعلّان فى عدة كبيرة إلى دمشق، فقدموها يوم الاثنين تاسعه، فقاتلتهم العامّة ودفعوهم عنها، وأسمعوهم من المكروه أضعاف ما سمعه شيخ بصرخد، فولوا يريدون جهة الكرك وهم فى أحقر ما يكون من الأحوال، وساروا عن دمشق بعد ما قتل منهم جماعة، وجرح جماعة، وتأخّر كثير منهم بظواهر دمشق، ومضى منهم جماعة إلى حماة، والجميع فى أنحس حال، وأخذ منهم جماعة كثيرة بدمشق وغيرها.
ولمّا دخلت الأمراء على السّلطان الملك الناصر للتّهنئة حسبما ذكرناه التفت السّلطان للوالد، وكان يسمّيه أطا: أعنى أب، وقال له: يا أطا، أنا ما قلت لك أنا أعرف شيخا، إذا كان معى عشرة مماليك قاتلته بهم، ثم تكلّم فى حقّ شيخ بما لا يليق ذكره، فقال له الوالد: يا مولانا السّلطان، هذا كلّه بسعد مولانا السّلطان، وعظم مهابته، وأمّا شيخ فإنّه إذا كان من حزب السّلطان وشمله نظر مولانا السّلطان من ذا يضاهيه فى الفروسيّة؟ غير أنّ للرّعب الذي فى قلبه من حرمة مولانا السّلطان، وغضبه عليه يقع فى مثل هذا أو أكثر.
قلت: وأظهر الملك النّاصر من الشجاعة والإقدام ما سيذكر عنه إلى يوم القيامة، على أنّ غالب أمرائه ومماليكه الأكابر كانوا اتفقوا مع جمال الدين الأستادار أنهم يكبسون عليه ويقتلونه فى اللّيل، وبلغ الملك النّاصر ذلك من يوم خروجه من غزّة، فاحترز على نفسه، وأشار عليه كلّ من خواصّه أن يرجع عن قتال شيخ وأصحابه بحيلة يدبّرها، ويرجع إلى نحو الدّيار المصرية؛ مخافة أن تخذله عساكره، فلم يلتفت إلى كلام أحد، وأبى إلّا قتال شيخ، وهذا شىء مهول عظيم إلى الغاية، وإن كان هو يهول فى السّماع، فإذا تحقّقه الشخص يهوله إلى الغاية؛ من كون عسكر الملك يكون مختلفا عليه وهو يريد يقاتل ملوكا عديدة، كل واحد منهم مرشّح للسّلطنة، وما أظنّ أن بعد الملك الأشرف خليل بن قلاوون ولّى على مصر سلطان أشجع من الملك النّاصر هذا فى ملوك التّرك جميعها. ولقد أخبرنى جماعة كبيرة من أعيان المماليك(13/83)
الظاهريّة الذين كانوا يوم ذاك مع الأمير شيخ المذكور.
قالوا: لمّا قيل للأمير شيخ: إنّ السّلطان الملك الناصر قدم إلى جهة صرخد، تغيّر لونه واختلط فى كلامه، وأراد طلوع قلعد صرخد قبل أن يقاتل الملك الناصر، فلامه على ذلك بعض خواصّه، وقالوا له: قد انضمّ عليك فى هذه المرّة من الأمراء والعساكر ما لم يجتمع مثله لأحد قبلك، فإن كنت بهم لا تقاتل الملك الناصر فى هذه النّوبة فمتى تقاتله؟ وبعد هذا فلا ينضمّ عليك أحد، فقال شيخ:
صدقت فيما قلت، غير أنّ جميع من تنظره الآن وهو يتنمّر على فرسه إذا وقع بصره على الملك النّاصر صار لا يستطيع الهروب، فكيف القتال؟! فقال له القائل: فالذى يعلم هذا لا يصلح له أن يعصى ويتطلّب السّلطنة، فقال شيخ: والله ما أريد السّلطنة، وإنّما غالب ما أفعله خوفا من شرّ هذا الرّجل، وقد بذلت له الطاعة غير مرّة، وتوجّهت إلى خدمته بمصر والشّام، وقاتلت أعداءه، والله أنا أهابه أكثر من أستاذى الملك الظاهر برقوق، غير أنّه لا يريد إلّا أخذ روحى، والرّوح والله لا تهون، فأيش يكون العمل؟
وشرع يتكلم فى هذا المعنى ويكثر حتى أمره تمراز النائب بالكفّ عن هذا الكلام فى مثل هذا الوقت، والعمل فيما يعود نفعه عليه وعلى رفقته، فكفّ شيخ عن ذلك، وأخذ فى تدبير أمره وتعبية عساكره، حتى وقع ما حكيناه- انتهى.
ولمّا نزل السّلطان الملك الناصر على قلعة صرخد، أصر النّوّاب أن يتوجّه كلّ واحد منهم إلى محلّ كفالته، فسار الجميع إلّا الأمير دمرداش المحمّدىّ، فإنه أرسل ابن أخيه تغرى بردى المدعو سيّدى الصّغير إلى حلب؛ ليكون نائبا عنه بها، وأقام هو عند السّلطان على صرخد، وكذلك الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، فإنّه أيضا أقام عند السّلطان، وأخذ السّلطان فى حصار قلعة صرخد، وعزم على أنّه لا يبرح عن قتالها حتى يأخذها.(13/84)
ثمّ قدم الخبر على السّلطان أنّ تركمان الطّاعة «1» قاتلوا نوروزا وكسروه كسرة قبيحة، فدقّت البشائر بصرخد لذلك، ثمّ أمر السّلطان دمرداش المحمّدىّ بالتوجّه إلى محل كفالته بحلب، هذا ونوّاب الغيبة بدمشق فى أمر كبير من مصادرات الشّيخيّة، وقبضوا على جماعة كبيرة من حواشيه، منهم: علم الدين داود، وصلاح الدين أخوه أبنا الكويز، قبض عليهما من بيت نصرانىّ بدمشق، فأهينا، وقبض أيضا على شهاب الدين أحمد الصّفدىّ موقّع الأمير شيخ، وتوجّه الطّواشى فيروز الخازندار فتسلّمهم من دمشق، هذا والملك الناصر مستمر على حصار قلعة صرخد، وأحرق جسر القلعة، فامتنع شيخ بمن معه داخلها، فأنزل السّلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كلّ أمير أن يقاتل من جهته، والسّلطان فى لهوه وظربه لا يركب إلى جهة القلعة إلّا ثملا، ثمّ طلب السّلطان مكاحل النّفط، والمدافع من قلعة الصّبيبة وصفد ودمشق، ونصبها حول القلعة، وكان فيها ما يرمى بحجر زنته ستّون رطلا دمشقيّا، وتمادى الحصار ليلا ونهارا؛ حتى قدم المنجنيق «2» من دمشق على مائتى جمل، فلمّا تكامل نصبه ولم يبق إلّا أن يرمى بحجره، وزنة حجره تسعون رطلا بالدمشقىّ، فلمّا رأى شيخ ذلك خاف خوفا عظيما، وتحقّق أنّه متى ظفر به الملك الناصر على هذه الصّورة لا يبقيه، فترامى على الوالد، وعلى بقيّة الأمراء، وألقى إليهم الأوراق فى السّهام، وأخذ شيخ لا يقطع كتبه عن الوالد فى كلّ يوم وساعة، وهو يقول له فى الكتب: صن دماء المسلمين واجعلنا عتقاءك، وما لك فينا جميلة فإنّنا إنيّاتك «3» ، وخشداشيّتك، ولم يكن فى القوم من له علىّ أنا خاصّة شفقة وإحسان غيرك، وأنت أتابك العساكر وحمو السّلطان، وأعظم مماليك أبيه، فأنت عنده فى مقام برقوق، وكلمتك لا تردّ عنده، وشفاعتك مقبولة. وأشياء كثيرة من هذا الكلام وأشباهه، وكان الوالد يميل إلى الأمير(13/85)
شيخ لما كان لشيخ عليه من الخدم بالقصر السّلطانىّ أيّام أستاذهما الملك الظّاهر برقوق من تلبيسه القماش، والقيام فى خدمته، ثمّ كاتب شيخ أيضا الأمير جمال الدين الأستادار، وفتح الله كاتب السرّ، وكان جمال الدين قد انحطّ قدره عند الملك النّاصر فى الباطن، واتّفق السّلطان مع الوالد على مسكه بدمشق، فمنعه الوالد من ذلك، ووعده أنه يكفيه أمره ويمسكه بالقرب من القاهرة، حتى لا يفرّ أحد من أقاربه وحواشيه.
ثمّ أخذ الوالد مع السّلطان فى أمر شيخ ورفقته فى كلّ يوم وساعة، ولا زال يخذّل الملك الناصر عن قتالهم، ويحسّن له الرّضى عنهم حتى أذعن السّلطان، وشرط عليه شروطا، فعند ذلك ركب الوالد ومعه الخليفة المستعين بالله العبّاس، وفتح الله كاتب السّرّ، فى يوم السّبت ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة، وساروا حتى نزلوا على جانب الخندق، وخرج شيخ وجلس بداخل باب القلعة، فأخذ الوالد يوبخه على أفعاله، وما وقع للنّاس والبلاد بسببه، وهو ساكت لا يتكلّم، وقيل إنّ شيخا أراد الخروج إليهم فغمزه الوالد ألّا يخرج، ففطن شيخ بها، وجلس بداخل باب القلعة، ثمّ أخذ فتح الله أيضا يحذّره مخالفة السّلطان، ويخوّفه عواقب البغى، وفى كل ذلك يعتذر شيخ للوالد بأعذار مقبولة، ويستعفى من مقابلة السّلطان؛ خوفا من سوء ما اجترمه، والوالد يشتدّ عليه، ويلزمه بالخروج معه إلى السلطان فى الظاهر، وفى الباطن يشير عليه بعدم الخروج- هكذا حكى الملك المؤيد شيخ بعد سلطنته- وطال الكلام حتى قام الوالد، والخليفة، وفتح الله، وأعادوا بالجواب على السّلطان، فأبى السّلطان الرّضى عنه إلّا أن ينزل إليه، فكلّم الوالد السّلطان فى العفو عن ذلك، فلم يقبل، فكرّر عليه السّؤال مرّات، وقبّل يده والأرض غير مرّة، واعتذر عن عدم حضوره بأعذار مقبولة.
ثمّ عاد الوالد وفتح الله فقط إلى شيخ، فخرج شيخ حينئذ للوالد فعانقه الوالد، فبكى شيخ، فقال له الوالد على سبيل المداعبة والمماجنة: ما متّ يا شيخ حتى مشينا(13/86)
فى خدمتك، فقال شيخ: لم تزل الأكابر تمشى فى مصالح الأصاغر، كلّ ذلك فى حال الوقوف للسلام ثمّ جلسا، وعرّفه الوالد رضى السّلطان عليه، وعرّفه الشّروط فقبلها، وقام قائما وقبّل الأرض غير مرّة، وتقدّم فتح الله حلّفه على طاعة السّلطان، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالىّ، وأسنبغا- وكانا فى حبس الأمير شيخ- بعد ما خلع عليهما شيخ وأدلاهما من سور قلعة صرخد، ثمّ أدلى الأمير شيخ أبنه إبراهيم ليتوجّه مع الوالد ويقبّل يد السّلطان، فلمّا تعلّق الصغير من أعلى السّور بالسّريّاقات «1» ، صاح وبكى من خوفه أن يقع، فرحمه الوالد وأمره بردّه إلى القلعة، فنشلوه ثانيا، وقال الوالد: أنا أكفيك هذا الأمر، ولا يحتاج إلى نزول الصّغير، ثمّ تصايح الفريقان من أعلى السّور ومن جمع خيم العسكر:
الله ينصر السّلطان؛ فرحا بوقوع الصّلح، وفرح أهل القلعة من أصحاب شيخ فرحا عظيما؛ لأنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك، وأمّا فرح العسكر فإن غالب أمراء الملك الناصر كانوا غير نصحاء له، ولم يرد أحد منهم أن يظفر بشيخ، حتى ولا الوالد، خشية أن يتفرّغ السّلطان من شيخ لهم.
ثمّ أصبحوا يوم الأحد، ركب الوالد وكاتب السرّ وجماعة من الأمراء، طلعوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على عادتهم، وخرج شيخ وجلس على باب القلعة، وأحلف فتح الله من بقى مع شيخ من الأمراء، وهم جانم من حسن شاه نائب حماة، وقرقماس ابن أخى دمرداش- وقد فارق عمّه دمرداش، وصار من حزب شيخ- وتمراز الأعور، وأفرج شيخ عن تجّار دمشق، الذين كان قبض عليهم لما خرج عن الطّاعة وصادرهم، ثمّ بعث شيخ بتقدمة إلى السلطان فيها عدّة مماليك.
وتقرّر الحال على أنّ شيخا المذكور يكون نائب طرابلس، وأن يلبس التشريف(13/87)
السلطانىّ إذا رحل السلطان. ثمّ قام الوالد ومن معه وسلم على شيخ، وعاد إلى السّلطان.
فرحل السلطان من وقته، وسار حتى نزل زرع «1» وبات بها، ثمّ سار حتى قدم دمشق يوم الثلاثاء أوّل شهر ربيع الآخر، بعد أن جدّ فى السير، فنزل بدار السعادة على عادته.
وأمّا شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السّلطان، ولبس التّشريف السلطانىّ بنيابة طرابلس، وقبّل الأرض على العادة، ثمّ قبّل يد الوالد غير مرّة، ثمّ جهز شيخ ولده إبراهيم صحبة الوالد إلى السّلطان الملك الناصر، ورحل الوالد، ورحل معه سائر من تخلّف عنده من الأمراء، منهم: بكتمر جلّق نائب الشّام- وهو أعدى عدوّ للأمير شيخ- وساروا حتى وصلوا الجميع دمشق فى سابع شهر ربيع الآخر المذكور، وأحضر الوالد إبراهيم ابن الأمير شيخ إلى السلطان، فأكرمه السّلطان وخلع عليه، وأعاده إلى أبيه، ومعه خيول، وجمال، وثياب، ومال كبير.
ثمّ خلع السلطان على الشّريف جمّاز بن هبة الله بإمرة المدينة النبويّة- على ساكنها أفضل الصّلاة والسلام- وشرط عليه إعادة ما أخذه من الحاصل بالمدينة.
ثمّ فى رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور، خرج قضاة مصر الذين كانوا فى صحبة الملك الناصر من دمشق عائدين إلى الديار المصرية، هم وكثير من الأثقال، ونزلوا بداريّا خارج دمشق، ثمّ طلبت القضاة من يومهم فعادوا إلى مدينة دمشق؛ لعقد [عقد «2» ] ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، ثمّ فى يوم الخميس سابع عشره حمل بكتمر جلّق المهر، وزفّته المغانى حتى دخل دار السّعادة إلى السّلطان، ثمّ عقد العقد بحضرة(13/88)
السلطان والأمراء والقضاة، فتولى العقد السلطان بنفسه، وقبله عن الأمير بكتمر جلّق الوالد، ثمّ خرجت القضاة من الغد فى يوم الجمعة سائرين إلى مصر، ثمّ صلّى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموىّ، وخرج منه وسار من دمشق بعساكره يريد القاهرة، ونزل بالكسوة، وخلع على الأمير نكباى باستقراره حاجب حجّاب دمشق، عوضا عن عمر بن الهيدبانىّ.
ثم فى تاسع عشره أخلع السلطان على الأمير سودون الجلب باستقراره فى نيابة الكرك، ثم سار السّلطان فى ليلة الأحد من الكسوة، واستولى بكتمر جلّق على دمشق، ونزل بدار السّعادة، وسار السّلطان حتى نزل الرّملة فى رابع عشرينه، وركب منها وسار مخفّا يريد زيارة القدس، وبعث الأثقال إلى غزّة، ودخل القدس وزاره، وتصدّق بخمسة آلاف دينار، وعشرين ألف درهم فضّة، وبات ليلته فى القدس، وسار من الغد إلى الخليل عليه السلام فبات به، ثمّ توجه إلى غزة، فدخلها فى سابع عشرينه، وأقام بها إلى ثانى جمادى الأولى، فرحل منها.
وأمّا دمشق، فإنه قدم إليها فى ثالث جمادى الأولى كتاب السّلطان إلى أعيان أهل دمشق بأنّه قد ولّى الأمير شيخا نيابة طرابلس، فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه، وسببه أنّ الأمير شيخا كان قصد دخول دمشق، وكتب إلى الأمير بكتمر جلّق يستأذنه فى الحضور إليها ليقضى بها أشغاله ثمّ يرحل إلى طرابلس، وكان الذي قصده الأمير شيخ على حقيقته، وليس له غرض فى أخذ دمشق، فلم يأذن له بكتمر فى الحضور إليها وخاشنه بالكلام، فقال شيخ أنا أسير إلى جهة دمشق ولا أدخلها، وسار حتى نزل شيخ فى ليلة الجمعة عاشر جمادى الأولى على شقحب «1» ، وكان الأمير بكتمر قد خرج بعساكر دمشق إلى لقائه، ونزل(13/89)
بقبّة يلبغا، ثمّ ركب ليلا يريد كبس الأمير شيخ، فصدف كشّافته عند خان ابن ذى النّون فواقعهم، فبلغ ذلك شيخا فركب وأتى بكتمر وصدمه بمن معه صدمة كسره فيها، وانهزم بكتمر بمن معه إلى جهة صفد، ومعه قريب من مائة فارس، وعدّة من الأمراء، وتخلّف عنه جميع عساكر دمشق، وسار شيخ حتّى أتى دمشق بكرة يوم الجمعة، ونزل بدار السّعادة من غير ممانع، وقد تلقّاه أعيان الدّماشقة فاعتذر إليهم، وحلف لهم أنّه لم يقصد سوى النّزول بالميدان خارج دمشق ليقضى أشغاله، وأنّه لم يكن له استعداد لقتال، وأنّه كتب يستأذن الأمير بكتمر فى ذلك، فأبى ثم خرج وقاتله فانهزم، وسأل جماعة من أعيان دمشق أن يكتبوا للسّلطان بذلك بعد أن كتب بهذا جميعه محضرا، وأراد إرساله إلى السّلطان فلم يجسر أحد من الشاميّين أن يمضى به إلى السّلطان الملك الناصر؛ خوفا من سطوته.
ثمّ فى ثالث عشره ولّى الأمير شيخ شهاب الدّين أحمد بن الشّهيد نظر جيش دمشق، وولّى شمس الدين محمّد بن التّبّانىّ نظر الجامع الأموىّ، وولّى تغرى برمش أستاداره نيابة بعلبكّ، وولّى إياسا الكركىّ نيابة القدس، وولّى منكلى بغا كاشف القبليّة، وولى الشّريف محمّدا محتسب دمشق.
وأمّا السّلطان فإنّه لمّا خرج من مدينة غزّة سار منها حتّى نزل قرية غيتا «1» خارج مدينة بلبيس فى يوم الخميس تاسع جمادى الأولى، ولمّا استقرّ السّلطان فى المنزلة المذكورة، وقد خرج الناس لتلقى العسكر، وخرج غالب أقارب جمال الدين الأستادار إلى تلقّيه، وفرشت له الدّور بالقاهرة، فركب الوالد بقماش جلوسه من مخيّمه من غير أن يجتمع بالسّلطان؛ لاتّفاق كان بينهما من دمشق فى القبض على جمال الدّين المذكور لأسباب نذكرها، وكان الوالد يكره جمال الدين بالطّبع، على أنّه باشر أيّام عظمته أستاداريّة الوالد، مضافا إلى أستاداريّة السّلطان، وصار(13/90)
يجلس مع مباشريه وينفّذ الأمور، ومع ذلك لم يقبل عليه الوالد؛ لقلّة دينه وسفكه الدّماء، وعظم ظلمه، وسار الوالد من مخيّمه ومماليكه مشاة حوله يقصد وطاق جمال الدّين.
حدّثنى القاضى شرف الدين أبو بكر بن العجمىّ، موقّع جمال الدين، وزوج بنت أخيه، قال: كنت جالسا بين يدى الأمير جمال الدين الأستادار فى وطاقه، وقد حضر إلى تلقّيه غالب أقاربة، فقيل له إنّ الأمير الكبير تغرى بردى قادم إلى جهتك، فلمّا سمع جمال الدّين ذلك تغيّر لونه وقال: هذا من دون عسكر السّلطان لا يعودنى فى مرضى، فما مجيئه فى هذا الوقت لخير. ونهض من وقته قبل أن نردّ عليه الجواب، وخرج من خامه ماشيا إلى جهة الوالد خطوات كثيرة غالبها هرولة حتى لقى الوالد- وهو راكب- فقبّل رجله فى الرّكاب، فمسكه الوالد من رأسه ثمّ أمر به فقيّد فى الحال، وقال لمن تولّى تقييده هذا الأمير جمال الدين عظيم الدّولة، أبصر له قيدا ثقيلا يصلح له، فبكى جمال الدين ودخل تحت ذيله.
ثمّ أمر الوالد بالقبض على جميع أقاربه وحواشيه، فقبض على ابنه أحمد، وعلى ابنى أخته أحمد وحمزة، وكان الوالد ندب جماعة من مماليكه إلى القاهرة للحوطة على دور جمال الدين وأقاربه، ثمّ أخذهم الوالد «1» ، وأركبهم بالقيود، وسار بهم إلى جهة الدّيار المصريّة، كلّ ذلك والسّلطان لا يعلم بما وقع إلّا بعد سير الوالد إلى جهة القاهرة، وأخذ جمال الدين فى طريقه يترقّق للوالد ويعده ويسأله القيام فى أمره، كلّ ذلك والوالد لا يعتبه إلّا على قتل أستاداره عماد الدين إسماعيل وأخذ ماله.
وكان خبر إسماعيل مع جمال الدين المذكور أن [عماد الدين] «2» إسماعيل كان أستادار الوالد، وكان له عزّ وثروة ومعرفة ورئاسة قبل أن يترأس جمال الدين، فكان يستخفّ بجمال الدين، ويطلق لسانه فى حقّه، وجمال الدين لا يصل إليه من انتمائه للوالد، فأخذ جمال الدين يسعى فى أستاداريّة الوالد مدّة طويلة(13/91)
حتى ولّاه الوالد أستاداريته، بعد أن بذل جمال الدّين مالا كثيرا للوالد ولحواشيه، واستأذن الوالد أنّه يقبض على [عماد الدين] «1» إسماعيل ويؤدّبه ويظهر للوالد فى جهته جملة كبيرة من الأموال، وفى ظنّ الوالد أنّه يوبّخه بالكلام، أو يهينه ببعض الضرب ثمّ يطلقه، فأذن له الوالد فى ذلك، وكان [عماد الدين] «2» إسماعيل المذكور مسافرا، فلمّا قدم من السّفر ركب وأتى إلى الوالد، وكان الوالد تغيّر عليه قبل ذلك لسبب من الأسباب، فقبّل يد الوالد، وخرج من عنده فصدف جمال الدين عند مدرسة سودون من زادة، فقال له الأمير جمال الدين: بسم الله يا أمير عماد الدين، أين الهديّة؟ فعاد معه عماد الدين، وحال وصوله إلى بيته أجرى عليه العقوبة، وأخذ منه أربعين ألف دينار، ثمّ ذبحه من ليلته، فلمّا سمع الوالد بقتلته من الغد كاد عقله أن يذهب، وأراد الرّكوب فى الحال والطّلوع إلى السّلطان، فقال له حواشيه وخواصّه: يا خوند قد فات الأمر، وما عسى أن يصنع فيه الملك الناصر مع خصوصيّته عنده، فسكت الوالد على دغل «3» ، وأخذ فى توغير خاطر السّلطان عليه، ويعرّف السّلطان بأفعال جمال الدين، ولا زال به حتّى تغيّر عليه مع أمور أخر وقعت من جمال الدين، فكان ذلك أكبر أسباب ذهاب جمال الدين، وأراح الله المسلمين منه.
ثمّ ركب السلطان من غيتا وسار حتى نزل بالخانقاه «4» ، ثمّ سار حتى طلع إلى قلعة الجبل فى يوم السّبت حادى عشر جمادى الأولى المذكور، بعد أن زيّنت له القاهرة ومصر، وخرج النّاس لتلقّيه، فكان لدخوله يوم عظيم، وحمل الوالد على رأسه القبّة والطّير «5» ، ولمّا استقرّ السّلطان بقلعة الجبل- وقد حبس بها جمال الدين-(13/92)
ثمّ رسم السّلطان للوالد أن يتسلّم جمال الدين ويعاقبه، فقال الوالد: يا مولانا السلطان جمال الدين كلب لا يتسلّمه إلّا كلب مثله، فقال تاج الدّين عبد الرّزّاق «1» ابن الهيصم: يا خوند، أنا ذلك الكلب، فسلّمه السلطان له.
وأمّا أسباب القبض على جمال الدين فكثيرة، منها: ما فعله ليلة بيان لمّا استشاره السلطان هو وفتح الله، وفرّ الأمراء، وكان جمال الدين لمّا خرج من عند السّلطان أرسل إلى الأمراء بذلك، وطلب جمال الدين صيرفيّه عبد الرحمن وأمره فصرّ للأمير شيخ المحمودىّ نائب الشّام بخمسة آلاف دينار يرسلها له صحبة الأمراء المتوجّهين فى الليل إليه، وإلى تمراز بثلاثة آلاف دينار، وهو رأس الأمراء الذين عزموا على الفرار، وعلى رفقته: سودون بقجة، وعلّان، وإينال، لكلّ واحد بألفى دينار، وبعث بالمبلغ إليهم، وأعلمهم بما عزم عليه «2» السلطان من القبض عليهم، فكان هذا من أكبر الأسباب فى هلاك جمال الدين، ولم يعلم السلطان ذلك إلّا بعد أيّام.
ومنها أنّ السلطان الملك الناصر لم يكن معه فى هذه السّفرة من الذّهب إلّا النزر اليسير، فسأل جمال الدين فى مبلغ فقال جمال الدّين: ما معى إلّا مبلغا هيّنا، فندب السلطان فتح الله كاتب السرّ فى الفحص عن ذلك، فقال له فتح الله: قد رافق جمال الدين فى هذه السّفرة تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم كاتب المماليك، وأخوه مجد الدين عبد الغنىّ مستوفى الديوان «3» المفرد فاسألهما «4» وتلطّف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذّهب، فطلبهما السلطان، وفعل ذلك، فأعلماه بليلة بيسان، وما فعله جمال الدين من إرسال الذّهب، وإعلام الأمراء بقصد السّلطان حتى فرّوا ولحقوا(13/93)
بالأمير شيخ، فقال السلطان: من أين لكم هذا الخبر؟ فقالا: صيرفيّه عبد الرحمن ينزل عندنا وعند تقىّ الدين عبد الوهّاب بن أبى شاكر ناظر ديوان المفرد، وهو الحاكى، فصدّق السلطان مقالتهما وأسرّها فى نفسه، واستشار الوالد فى القبض على جمال الدين، فقال له الوالد: المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة، ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه؛ حتى لا يفوت السّلطان منهم أحد، وتكون الحوطة على الجميع معا، فأعجب السّلطان ذلك، وسكت عن قبضه بالديار الشامية.
ثمّ إن [تاج الدين عبد الرزّاق «1» ] بن الهيصم لا زال حتى أوصل عبد الرحمن الصّيرفىّ إلى السلطان، وحكى له الواقعة من لفظه فى مجلس شرابه، وشرب معه عبد الرحمن فى تلك الليلة.
ومنها: أنّ القاضى محبى الدين أحمد المدنىّ كاتب سرّ دمشق لقى ابن هيازع عند باب الفراديس «2» بدمشق، فأعلمه ابن هيازع أن أصحابه وجدوا عند مدينة زرع ساعيا معه كتب، فقبضوا عليه وأخذوا منه الكتب وجاءوا بها إليه، وكان محيى الدين المذكور معزولا عن كتابة سرّ دمشق من مدّة، فأخذ الكتب ولم يدر ما فيها وسلّمها لفتح الله، فأخذ فتح الله الكتب ومحيى الدين إلى السّلطان وفتحت الكتب، وقرئت بحضرة السّلطان، فاذا هى من جمال الدين إلى الأمير شيخ، فزاد السلطان غضبا على غضبه، وأخفى ذلك كلّه عن جمال الدين لأمر سبق، وأخذ السلطان يغالط جمال الدين والتغيير يظهر من وجهه؛ لشبيبته وشدّة حقده عليه، فتقهقر جمال الدين قليلا، وأخذ يغالط السلطان، ويسأله أن يسلّم له ابن الهيصم وابن أبى شاكر، وألحّ فى ذلك والسّلطان لا يوافقه ويعده ويمنّيه، إلى أن نزل السلطان بمدينة غزّة، وأظهر لجمال الدين الجفاء، وأراد القبض عليه، فلم يمكّنه الوالد، فتركه السّلطان إلى أن نزل بلبيس ووقع ما حكيناه.(13/94)
وأما أصل جمال الدين ونسبه فانّه يوسف بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن جعفر ابن قاسم البيرىّ الحلبىّ البجاسيّ، كان أبوه يتزيّا بزىّ الفقهاء، وكان يخطب بألبيرة، فتزوّج بأخت شمس الدين عبد الله بن سهلول، وقيل سحلول، المعروف بوزير حلب، فولدت له يوسف هذا، ولقّب بجمال الدين، وكنّى بأبى المحاسن هو وأخوته، ونشأ جمال الدين يوسف المذكور بألبيرة، ثمّ قدم البلاد الشّاميّة على فاقة عظيمة، وتزيّا بزىّ الجند، وخدم بلاصيّا «1» عند الشّيخ علىّ كاشف برّ دمشق، ثمّ عند غيره من الكشّاف، وطال خموله، وخالط «2» الفقر ألوانا إلى أن خدم عند الأمير بجاس- وهو أمير طبلخاناة- بعد أمور يطول شرحها، ثمّ جعله بجاس أستاداره وتموّل وعرف عند الناس بجمال الدين أستادار بجاس، وكثر ماله، وسكن بالقصر بين القصرين، وأتّهم أنّه وجد به من خبايا الفاطميّين خبيثة، ثمّ خدم بعد بجاس عند جماعة من الأمراء إلى أن عدّ من الأعيان، وصحب سعد الدين إبراهيم بن غراب، فنوّه ابن غراب بذكره إلى أن طلب أن يلى الوزر فامتنع من ذلك، وطلب الأستاداريّة، فخلع السلطان عليه باستقراره أستادارا عوضا عن سعد الدين بن غراب المذكور، بحكم توجّه ابن غراب مع يشبك الدّوادار إلى البلاد الشّاميّة، وذلك فى رابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة، ومن يومئذ أخذ أمره يظهر حتّى صار حاكم الدّولة ومدبّرها، بعد أن قتل خلائق من الأعيان لا تدخل تحت حصر من كلّ طائفة، بالعقوبة والذّبح والخنق وأنواع ذلك.
قلت: لا جرم أنّ الله تعالى قاصصه فى الدنيا ببعض ما فعله؛ فعوقب أيّاما بالكسّارات وأنواع العذاب، ثمّ ذبح فى ليلة الثلاثاء حادى عشر جمادى الآخرة، وأراح الله الناس من سوء فعله وقبح منظره- انتهى.(13/95)
ثمّ فى يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم ناظر الإسطبل، وكاتب المماليك السلطانيّة، باستقراره أستادارا عوضا عن جمال الدين يوسف البيرىّ- بحكم القبض عليه- وترك لبس المباشرين ولبس الكلفتاة «1» ، وتقلّد بالسيف وتزيّا بزىّ الأمراء، وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم مستوفى ديوان المفرد، واستقر فى نظر الخاصّ، وخلع على سعد الدين إبراهيم بن البشرىّ ناظر الدّولة، واستقر فى الوزارة، وكل هذه الوظائف كانت مع جمال الدين الأستادار، وخلع على تقىّ الدين عبد الوهّاب بن أبى شاكر واستقرّ ناظر ديوان المفرد، وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانيّة، عوضا عن أحمد ابن أخت جمال الدين، وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرّملىّ واستقرّ ناظر الدّولة، وخلع على حسام الدين حسين الأحول- عدوّ جمال الدين- واستقر أمير جاندار.
ثمّ قدم الخبر بأخذ شيخ لدمشق، وفرار بكتمر جلّق إلى صفد، وأرسل الأمير شيخ محضرا يتضمن أنه كان يريد التوجّه إلى طرابلس، فلما وصل شقحب قصده بكتمر جلّق وقاتله، فركب ودفع عن نفسه، وشهد له فى المحضر جماعة كبيرة من أهل دمشق وغيرها، وكان الأمر كما قاله شيخ- حسبما ذكرناه قبل تاريخه- وسكت الوالد، واحتار فى نفسه بين بكتمر وشيخ، فإنّه كان يميل إلى كل منهما.
ثمّ قدم فى أثناء ذلك الأمير بكتمر جلّق إلى القاهرة فى سابع عشرين جمادى الأولى، بعد دخول السلطان إلى القاهرة بنحو ستّة عشر يوما، وقدم صحبة بكتمر المذكور الأمير بردبك نائب حماة، والأمير نكباى حاجب دمشق، والأمير ألطنبغا العثمانىّ، والأمير يشبك الموساوىّ الأفقم نائب غزّة، فخرج السلطان إلى لقائهم، ودخل بهم من باب النّصر، وشقّ القاهرة وخرج من باب زويلة، ونزل بدار الأمير طوخ(13/96)
- أمير مجلس- يعوده فى مرضه، ثمّ طلع إلى القلعة، ولم يعتب السّلطان على الوالد فى أمر شيخ، ولا فاتحه الوالد فى أمره حتى قال الوالد لبعض مماليكه:
كأن السلطان عذر الأمير شيخا فيما وقع منه- والله أعلم.
وفى هذه الأيّام، تناولت جمال الدين وحواشيه العقوبات، وأخذوا له عدّة ذخائر من الأموال، وما استهلّ جمادى الآخرة حتى كان مجموع ما أخذ منه من الذّهب العين المصرىّ تسعمائة ألف دينار وأربعة وستّين ألف دينار، وهو إلى الآن تحت العقوبة والمصادرة.
ثمّ ورد الخبر على السلطان من البلاد الشامية، من دمرداش نائب حلب، بأنّ الأمير نوروزا الحافظىّ قدم إلى حلب، ومعه يشبك بن أزدمر وغيره، وأنّ الأمير دمرداش المحمّدى نائب حلب تلقّاه وأكرمه وحلّفه للسلطان، ثمّ كتب يعلم السلطان بذلك، ويسأله أن يعيده إلى نيابة دمشق، وأن يولّى يشبك بن أزدمر نيابة طرابلس، وأن يولّى ابن أخيه [تغرى بردى] «1» المعروف بسيّدى الصغير نيابة حماة، فأجاب السّلطان إلى ذلك، وأرسل الأمير مقبلا الرّومىّ فى البحر إلى نوروز المذكور وعلى يده التّقليد والتّشريف بنيابة الشّام، فوصل إليه مقبل الرومىّ المذكور فى رابع شعبان، فلبس نوروز التشريف، وقبل الأرض، وجدّد اليمين للسّلطان بالطّاعة على كلّ حال، وعدم المخالفة، ولما بلغ شيخا ذلك فرّ منه جماعة من الأمراء وأتوا إلى الأمير نوروز، منهم: تمربغا العلائىّ المشطوب، وجانم من حسن شاه نائب حماة، وسودون الجلب. وجانبك القرمىّ وبردبك حاجب حلب، فلمّا وقع ذلك أرسل الأمير شيخ إلى السلطان الملك الناصر إمام الصّخرة «2»(13/97)
وجنديّا آخر بكتابه، فقدما إلى القاهرة فى ثانى جمادى الآخرة المذكور وعلى يدهما أيضا محضر مكتوب، فغضب السلطان غضبا عظيما، ووسّط الجندىّ، وضرب إمام الصخرة ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة شمائل «1» .
ثمّ من الغد أنزل جمال الدين وابنه أحمد على قفصى حمّال إلى بيت تاج الدين بن الهيصم، ثمّ قبض السّلطان على الأمير بلاط أحد مقدّمى الألوف، وعلى الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب وقيدهما وأرسلهما إلى سجن الإسكندرية.
ثمّ فى حادى عشر جمادى الآخرة نقل جمال الدين الأستادار- فى قفص حمال أيضا- من بيت ابن الهيصم، بعد ما قاسى محنا وشدائد، إلى بيت حسام الدين الأحول، فتنوّع حسام الدين فى عقوبته أنواعا؛ لما كان فى نفسه منه، وأخذ فى استصفاء أمواله، فاستحثه القوم فى قتله خشية أن يحدث فى أمره حادث، فقتله خنقا، ثمّ حزّ رأسه من الغد وحمله إلى السّلطان حتى رآه، ثمّ أعاده فدفن مع جثته بتربته بالصّحراء، وقد ذكرنا تاريخ موته عند القبض عليه.
ثم أصبح السلطان خلع على الأمير يلبغا الناصرىّ باستقراره حاجب الحجاب- بالدّيار المصرية- بعد مسك كزل العجمىّ.
ثم ورد الخبر بأن الأمير شيخا توجه لقتال نوروز بحماة، فتوجه وحصره بها، وأنّ الأمير يشبك الموساوىّ نائب غزة كان بينه وبين سودون المحمدى وعلّان واقعة قتل فيها جماعة، وفرّ يشبك الموساوى إلى جهة الديار المصرية، وأن علّان جرح فى وجهه فحمل إلى الرملة فمات بها.(13/98)
قلت: وعلّان هذا هو خلاف علّان جلّق نائب حماة وحلب- الذي قتله جكم مع طولو نائب صفد فى سنة [ثمان و] «1» ثمانمائة- حسبما تقدّم ذكره، وأن سودون المحمدى بعث يسأل شيخا فى نيابة صفد فأجابه إلى ذلك، كل هذا ورد على السلطان فى يوم واحد.
ولما طال حصار شيخ لنوروز على حماة، خرج دمرداش نائب حلب وقدم إلى حماة- نجدة لنوروز- ومعه عساكر حلب، فلمّا بلغ شيخا قدوم دمرداش، بادر بأن ركب وترك وطاقه وأثقاله وتوجه إلى ناحية العربان «2» فركب دمرداش بسكرة يوم الأحد، وأخذ وطاق شيخ واستولى عليه، فعاد شيخ وتقاتلا بمن معهما قتالا شديدا قتل فيه جماعة كبيرة، منهم: بايزيد- من إخوة نوروز الحافظىّ- وأسر عدّة كبيرة من أصحاب دمرداش، منهم: الأمير محمد بن قطبكى كبير التركمان الأوشرية «3» ، وفارس أمير آخور دمرداش، واستولى الأمير شيخ على طبلخاناة الأمير دمرداش، وكسر أعلامه، ثم ركب شيخ وسار يريد حمص.
ثم إن الأمير شيخا بعد مدّة أرسل يخادع السلطان بكتاب يسترضيه ويقول فيه: إنه باق على طاعة السلطان، وحكى ما وقع له مع الأمير بكتمر جلّق نائب الشام، ثم ما وقع له مع الأمير نوروز، ثم مع الأمير دمرداش وأن كلّ ذلك ليس بإرادته ولا عن قصده، غير أنه يدافع عن نفسه خوفا من الهلاك، وأنّه تاب وأناب ورجع إلى طاعة السّلطان، وأرسل أيضا للوالد بكتاب مثل ذلك، فلم يتكلّم الوالد فى حقّه بكلمة، ثم أخذ شيخ يقول عن نوروز أشياء ويغرى السّلطان به؛ من ذلك أنّه يقول: إنّ نوروزا يريد الملك لنفسه، وهو حريص على ذلك من أيّام السّلطان السّعيد الشهيد الملك الظاهر(13/99)
برقوق، وأنّه لا يطيع أبدا، وأنّه هو لا يريد إلّا الانتماء إلى السّلطان فقط، ورغبته فى عمل مصالح العباد والبلاد، ثمّ كرّر السؤال فى العفو والصّفح عنه فى هذه المرّة، فلم يمش ذلك على الملك الناصر ولم يلتفت إلى كتابه.
وشرع السّلطان فى التّنزّه، وأكثر من الرّكوب إلى برّ الجيزة للصّيد فى كلّ قليل، ووقع منه ذلك فى الشهر غير مرة، ولمّا عاد فى بعض ركوبه فى يوم الخميس ثالث عشرين شوّال من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة، ووصل قريبا من قناطر السّباع «1» عند الميدان الكبير أمر السّلطان بالقبض على الأمير قردم الخازندار، وعلى الأمير إينال المحمّدى السّاقىّ- المعروف بضضع- أمير سلاح، فقبض فى الحال على قردم، وأما إينال ضضع المذكور فإنّه شهر سيفه وساق فرسه ومضى، فلم يلحقه غير الأمير قجق الشّعبانىّ، فأدركه وضربه بالسّيف على يده ضربة جرحته جرحا بالغا، ثم فاته ولم يقدر عليه، وطلع السلطان القلعة، كلّ ذلك وهو لا يملك نفسه على فرسه من شدّة السّكر، ونودى فى الحال بالقاهرة على الأمير إينال المحمّدىّ المذكور، فلم يظهر له خبر، وقيّد قردم وحمل إلى الإسكندريّة من يومه.
وأمّا الأمير شيخ، فإنّه كمّل فى هذا الشهر- وهو ذو الحجّة من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة- سبعة أشهر وهو يقاتل نوروزا ودمرداش، ويحاصرهما بحماة، ووقع بينهم فى هذه المدّة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقتل بينهم خلائق لا تحصى، واشتدّ الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلّت عندهم الأزواد، وقاسوا شدائد حتّى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ؛ وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشّاميّة، وخاف نوروز إن ظفر به(13/100)
الملك الناصر لا يبقيه؛ فاحتاج إلى الصّلح، وحلف كلّ من نوروز وشيخ لصاحبه، واتّفقا على أنّ نوروزا يمسك دمرداش نائب حلب، وأنّ شيخا يمسك ابن أخيه قرقماس- المدعوّ سيّدى الكبير- ففطن دمرداش بذلك، وأرسل أعلم ابن أخيه قرقماس المذكور مع بعض الأعوان، وهرب دمرداش من نوروز إلى العجل ابن نعير، وفرّ ابن أخيه قرقماس من عند شيخ إلى أنطاكيّة، والعجب أنّ قرقماس المذكور كان قد صار من حزب شيخ، وترك عمّه دمرداش وخالفه وصار يقاتل نوروزا وعمه هذه المدة الطويلة، وعمه دمرداش يرسل إليه فى الكفّ عن قتالهم، ويدعوه إلى طاعة نوروز ويوبخه بالكلام وهو لا يلتفت، ولا يبرح عن الأمير شيخ، حتى بلغه من عمّه أنّ شيخا يريد القبض عليه، فعند ذلك تركه وهرب، ثمّ إنّ الأمير نوروزا قصد حلب وأخذها واستولى عليها، وهرب مقبل الرومىّ، الذي كان حمل للأمير نوروز التّقليد بنيابة الشام، ولحق بالسّلطان على غزّة.
[ما وقع من الحوادث سنة 813]
وأمّا السلطان الملك الناصر، فإنه أخذ فى التّجهيز إلى السفر نحو البلاد الشّامية، وعظم الاهتمام فى أوّل محرم سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وخلع فى عاشر المحرّم على الأمير قراجا شادّ الشراب خاناة باستقراره دوادارا كبيرا- دفعة واحدة- بعد موت الأمير قجاجق، وخلع على سودون الأشقر باستقراره شادّ الشّراب خاناة عوضا عن قراجا المذكور، ثمّ عمل السلطان فى هذا اليوم عرس الأمير بكتمر جلّق، وزفّت عليه ابنة السلطان الملك الناصر- التى كان عقد عليه عقدها بدمشق- وعمرها يوم ذلك نحو سبع سنين أو أقلّ، وبنى عليها بكتمر فى ليلة الجمعة حادى عشر المحرّم المذكور، وأخذ السّلطان فى أسباب السفر، وتهيأ وأنفق على المماليك السلطانيّة وغيرهم من الأمراء، ومن له عادة بالنّفقة، فأعطى لكلّ مملوك من المماليك السلطانية عشرين ألف درهم، وحمل إلى الأمراء مقدّمى الألوف لكلّ واحد ألفى دينار،(13/101)
ما خلا الوالد وبكتمر فإنه حمل لكلّ منهما ثلاثة آلاف دينار، وأعطى لكل أمير من أمراء الطّبلخانات خمسمائة دينار، ولأمراء العشرات ثلاثمائة دينار.
ثم خرج الأمير بكتمر جلّق جاليشا من القاهرة إلى الرّيدانيّة، وصحبته عدّة من أمراء الألوف وغيرهم، فى يوم الخميس ثالث عشرين صفر، فالذى كان معه من أمراء الألوف هم:-
يلبغا الناصرى حاجب الحجّاب، وألطنبغا العثمانىّ، وطوغان الحسنىّ رأس نوبة النّوب، وسنقر الرّومى، وخيربك، وشاهين الأفرم، وعدة كبيرة من أمراء الطّبلخانات والعشرات، وسار بكتمر بعد أيام قبل خروج السلطان.
ثمّ ركب السلطان من قلعة الجبل ببقيّة أمرائه وعساكره فى يوم الاثنين رابع شهر ربيع الأول من سنة ثلاث عشرة المذكورة، ونزل بالرّيدانية، وهذه تجريدة الملك الناصر السادسة إلى البلاد الشامية، غير سفرة السعيدية، وخلع على أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير بنيابة الغيبة على عادته، وأنه يستمر بسكنه بباب السلسلة، وأنزل الأمير كمشبغا الجمالى بقلعة الجبل، وجعل بظاهر القاهرة الأمير إينال الصصلانى الحاجب الثانى أحد مقدمى الألوف، ومعه عدّة أمراء أخر، والذي كان بقى مع السلطان- من أمراء الألوف وخرجوا صحبته- الوالد رحمه الله، وهو أتابك العساكر، وقجق الشعبانى، وسودون الأسندمرى، وسودون من عبد الرحمن، وسودون الأشقر شاد الشّراب خاناة، وكمشبغا الفيسى المعزول عن الأمير آخورية، وبردبك الخازندار.
ثمّ ركب الملك الناصر من الغد فى يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأوّل من الرّيدانية إلى التربة التى أنشأها على قبر أبيه بالصّحراء.
قلت: وجماعة كبيرة من النّاس يظنّون أنّ هذه التربة العظيمة أنشأها الملك الظاهر برقوق قبل موته، ويسمونها الظاهريّة، وليس هو كذلك، وما عمرها إلّا الملك(13/102)
الناصر فرج بعد موت أبيه بسنين، وهى أحسن تربة بنيت بالصّحراء- انتهى.
وسار الملك النّاصر حتى نزل بالتّربة المذكورة، وقرّر فى مشيختها صدر الدين أحمد بن محمود العجمىّ «1» ، ورتّب عنده أربعين صوفيّا، وأجرى عليهم الخبز واللحم الضأن للطبوخ فى كلّ يوم، وفرشت السّجادة لصدر الدين المذكور بالمحراب، وجلس عليها. أخبرنى العلّامة علاء الدين علىّ القلقشندىّ «2» قال: حضرت جلوس صدر الدين المذكور فى ذلك اليوم مع من حضر من الفقهاء، وقد جلس السلطان بجانب صدر الدين فى المحراب، وعن يمينه الأمير تغرى بردى من بشبغا الأتابك- يعنى الوالد- وتحته بقيّة الأمراء، وجلس على يسار السلطان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة «3» ، وتحته المعتقد الكركى «4» ، فجاء القضاة فلم يجسر قاضى القضاة جلال الدين البلقينى «5» الشافعىّ أن يجلس عن يمين السّلطان فوق الأمير الكبير، وتوجّه وجلس عن ميسرة السّلطان تحت ابن زقّاعة(13/103)
والكركى، فإنهما كان لهما عادة بالجلوس فوق القضاة من أيّام الملك الظاهر برقوق- انتهى.
قلت: والعادة القديمة من أيّام شيخون العمرىّ إلى ذلك اليوم، أنه لا يجلس أحد فوق الأمير الكبير من القضاة ولا غيرهم، حتى ولا ابن السّلطان، غير صاحب مكة المشرّفة؛ مراعاة لسلفه الطاهر- انتهى.
ثمّ ركب السّلطان بأمرائه وخواصه وعاد إلى مخيّمه بالرّيدانية، وأقام به إلى أن رحل منه فى يوم السبت تاسع شهر ربيع الأوّل المذكور، يريد البلاد الشّامية.
وأمّا الأمير شيخ، فإنه لمّا بلغه خروج السّلطان من الديّار المصرية، لم يثبت وداخله الخوف، وخرج من دمشق فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور بعساكره ومماليكه، وتبعه الأمير جانم نائب حماة.
فدخل بكتمر جلّق إلى الشّام من الغد فى يوم سابع عشرينه- على حين غفلة- حتى يطرق شيخا، ففاته شيخ بيوم واحد، لكنّه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعة، ونهب بعض أثقال شيخ، ثمّ دخل السلطان الملك النّاصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس ثامن عشرينه، وقد ركب من بحيرة طبريّة «1» فى عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبس شيخا، ففاته بيسير، وكان شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السّعادة من دمشق، فركب من وقته وترك أصحابه، ونجا بنفسه بقماش جلوسه، فما وصل إلى سطح المزّة إلّا وبكتمر جلّق داخل دمشق، ومرّ شيخ على وجهه منفردا عن أصحابه، ومماليكه وحواشيه فى أثره، والجميع فى أسوإ ما يكون من الأحوال.(13/104)
ولمّا دخل السّلطان إلى دمشق، أصبح نادى بدمشق بالأمان والاطمئنان لأهل الشّام، وألا ينزل أحد من العسكر فى بيت أحد من الشّاميّين، ولا يشوّش أحد منهم على أحد فى بيع ولا شراء، ونودى أن الأمير نوروزا الحافظىّ هو نائب الشّام.
ثمّ فى ثانى شهر ربيع الآخرة قدم الأمير شاهين الزّردكاش «1» نائب صفد على السّلطان بدمشق، ثمّ فى ثالثه خلع السّلطان على الأمير يشبك الموساوىّ الأفقم باستقراره فى نيابة طرابلس، واستقرّ أبو بكر بن اليغمورىّ فى نيابة بعلبك، وأخوه شعبان فى نيابة القدس، ثمّ فى سادس شهر ربيع الآخر المذكور، خرج أطلاب السّلطان والأمراء من دمشق إلى برزة، وصلى السلطان الجمعة يجامع بنى أميّة، ثمّ ركب وتوجه بأمرائه وعساكره جميعا إلى أن نزل بمخّيمه ببرزة، وخلع السلطان على شاهين الزّردكاش نائب صفد باستقراره نائب الغيبة بدمشق، وسكن شاهين بدار السعادة، وتأخر بدمشق من أمراء السلطان الأمير قانى باى المحمّدىّ، لضعف كان اعتراه، وتخلّف بدمشق أيضا القضاة الأربعة، والوزير سعد الدين بن البشيرىّ، وناظر الخاص مجد الدين بن الهيصم، وسار السّلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها، فى قصد شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء، ثمّ كتب السّلطان لنوروز وشيخ يخيّرهما، إما الخروج من مملكته، أو الوقوف لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، يريد- بذلك- الملك الناصر الشفقة على الرعيّة من أهل البلاد الشّامية؛ لكثرة ما صار يحصل لهم من الغرامة والمصادرة، وخراب بلادهم من كثرة النّهّابة من جهة العصاة، ثمّ أخبرهما الملك الناصر أنه عزم على الإقامة بالبلاد الشّامية السنتين والثلاثة حتى ينال غرضه، فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته، ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة(13/105)
الخوف والهيبة عند ما قبض عليه السّلطان مع الأتابك يشبك الشعبانىّ فى سنة عشر وثمانمائة، وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش، من يوم حلّفه الأمير الكبير تغرى بردى- أعنى الوالد- فى نوبة صرخد، وكرّر الاعتذار عن محاربته لبكتمر جلّق، حتى قال: وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشّام على عادته، فينعم عليه بنيابة أبلستين «1» ، وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية، وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عين تاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع؛ فإنهم أحق من التركمان المفسدين فى الأرض، وكان ما ذكروه على حقيقته، فلم يرض السّلطان بذلك، وصمّم على الإقامة ببلاد الشام، وكتب يستدعى التركمان وغيرهم، كلّ ذلك والسلطان بأبلستين، وبيناهم فى ذلك فارق الأمير سودون الجلب شيخا ونوروزا، وتوجه إلى الكرك واستولى عليها بحيلة تحيّلها.
ثمّ عاد السّلطان إلى حلب فى أوّل جمادى الآخرة، ولم يلق حربا، فقدم عليه بها قرقماس ابن أخى دمرداش- المدعو سيّدى الكبير- والأمير جانم من حسن شاه نائب حماة- كان- فأكرمهما السلطان وأنعم على قرقماس بنيابة صفد، وعلى جانم بنيابة طرابلس، واستقرّ الأمير جركس والد تنم حاجب حجّاب دمشق، ثمّ خلع على الأمير بكتمر جلّق باستقراره فى نيابة الشام ثانيا، وأنعم بإقطاعه على الأمير دمرداش المحمّدىّ نائب حلب، ثمّ بعد مدّة غيّر السلطان قرقماس سيّدى الكبير- من نيابة صفد إلى نيابة حلب، عوضا عن عمّه الأمير دمرداش المحمّدىّ، وأخلع على أخيه تغرى بردى- المدعو سيّدى الصّغير- باستقراره فى نيابة صفد.
وبينما السلطان فى ذلك بحلب، ورد عليه الخبر بأنّ شيخا ونوروزا وصلا عين تاب، وسارا على البريّة إلى جهة الشّام، فركب السلطان مسرعا(13/106)
من حلب على حين غفلة فى ثالث عشرين شهر رجب ببعض عساكره، وسار حتى دخل دمشق فى أربعة أيّام، ثمّ قدم فى أثره الوالد بغالب العساكر، ثمّ الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، ثمّ بقيّة الأمراء والعساكر، ثمّ فى ثالث شعبان قدم الأمير تمراز النّاصرى نائب السّلطنة- كان- إلى دمشق فى خمسين فارسا، داخلا فى طاعة السّلطان بعدما فارق شيخا ونوروزا، فركب السّلطان وتلقّاه وبالغ فى إكرامه، قلت، وتمراز هذا هو الذي كان فرّ من السّلطان فى ليلة بيسان ومعه عدّة أمراء- وقد تقدّم ذكر ذلك فى وقته- ثمّ فى الغد سمّر السّلطان ستة نفر من أصحاب شيخ ووسّطهم.
وأما شيخ ونوروز، فإنّهما لمّا سار السّلطان عن أبلستين خرجا من قيساريّة «1» بمن معهم، وجاءوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم، فانكسروا منهم وفرّوا إلى عين تاب، فلمّا قربوا من تلّ باشر «2» تمزّقوا وأخذت كلّ طائفة جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدّة وافرة، واختفى منهم جماعة، ومرّ شيخ ونوروز بحواشيهما على البريّة إلى تدمر «3» فامتاروا منها، ومضوا مسرعين إلى صرخد وتوجهوا إلى البلقاء «4» ودخلوا بيت المقدس، ثمّ توجّهوا إلى غزّة بعد أن مات من أصحابهم الأمير(13/107)
تمربغا المشطوب نائب حلب- كان- والأمير إينال المنقار، كلاهما بالطّاعون بمدينة حسبان «1» .
ثمّ قدم عليهم سودون الجلب من الكرك، فتتّبعوا ما بغزّة من الخيول فأخذوها، وأقاموا بها حتى أخرج السّلطان إليهم بكتمر جلّق على عسكر كبير، فسار إلى زرع، ثمّ كتب للسّلطان يطلب نجدة، فأخرج إليه السّلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانيّة، ورأس الأمراء الأمير تمراز النّاصرىّ- الذي قدم على السّلطان طائعا بدمشق- ويشبك الموساوىّ الأفقم، وألطنبغا العثمانىّ، وأسنبغا الزّرد كاش وسودون الظّريف نائب الكرك- كان- والأمير طوغان الحسنىّ رأس نوبة النّوب، فخرجوا من دمشق مجدّين فى السّير إلى قاقون «2» - وبها الأمير بكتمر جلّق- فساروا جميعا إلى غزّة، فقدموها فى عصر يوم الثلاثاء من ثالث شهر رمضان، وقد رحل شيخ ونوروز بمن معهما بكرة النهار عند ما قدم عليهم سودون بقجة وشاهين الدّوادار من الرّملة، وأخبراهم بقدوم عسكر السلطان إليهم، فنهبوا غزّة وأخذوا منها خيولا كثيرة وغلالا، فتبعهم الأمير خير بك نائب غزّة إلى الزّعقة «3» ، وسارت كشّافته فى أثرهم إلى العريش، ثمّ عادوا إلى غزّة.
فلمّا وصل بكتمر جلّق بمن معه من الأمراء إلى غزّة، وبلغه توجّه شيخ ونوروز إلى جهة مصر، أرسل بكتمر الأمير شاهين الزّردكاش والأمير أسنبغا الزّردكاش على البرّية إلى مصر ليخبرا من بقلعة الجبل بقدوم شيخ ونوروز إلى مصر، فسارا وسبقا شيخا ونوروزا، وعرّفا الأمير أرغون الأمير آخور(13/108)
وغيره ممن هو من الأمراء بمصر، وردّ جواب أرغون على بكتمر بأنه حصّن قلعة الجبل، والإسطبل السلطانىّ، ومدرسة السلطان حسن، ومدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين- التى كانت تجاه الطبلخاناة عند الصّوة «1» - وأنه هو ومن معه قد استعدّوا للقاء شيخ ونوروز.
وأمّا شيخ ونوروز ومن معهم فإنهم ساروا من مدينة غزّة إلى جهة الدّيار المصرية، فمات بالعريش شاهين دوادار الأمير شيخ- وكان عضد الأمير شيخ وأعظم مماليكه- ثمّ ساروا إلى قطيا «2» ونهبوها، ثم ساروا من قطيا إلى أن وصلوا إلى مصر فى يوم الأحد ثامن شهر رمضان من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة المذكورة، ودخل شيخ ونوروز بمن معهما من أمراء الألوف، وهم:
الأمير يشبك بن أزدمر، والأمير سودون بقجة، والأمير سودون المحمّدى تلّى، والأمير يشبك العثمانىّ، وغيرهم من أمراء الطّبلخانات مثل قمش وقوزى وغيرهما، ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزّعر، وبنى وائل- من عرب الشّرقية- والأمير سعيد الكاشف- وهو معزول- فبلغهم تحصين القلعة والمدرستين «3» ، وأنّ الأمير أرغون ومن معه من الأمراء قبضوا على أربعين مملوكا من النّوروزيّة- أعنى ممن كان له ميل إلى نوروز من المماليك السلطانيّة- وسجنوهم بالبرج من قلعة الجبل خوفا من غدرهم، فساروا من جهة المطريّة خارج القاهرة إلى بولاق، ومضوا(13/109)
إلى الميدان الكبير إلى الصّليبة «1» ، وخرجوا إلى الرّميلة «2» تحت قلعة الجبل، فرماهم المماليك السلطانية بالمدافع والنّشّاب، وبرز لهم الأمير إينال الصصلانىّ الحاجب الثانى بمن معه، ووقف تجاه باب السّلسلة، وقاتل الشيخية والنّوروزية ساعة، فتقنطر من القوم فارسان، ثمّ انهزم إينال الصّصلانىّ وعاد إلى بيته تجاه سبيل المؤمنىّ «3» - المعروف ببيت نوروز- وبات الأمراء تلك الليلة بالقاهرة، وأصبح الأمير شيخ أقام رجلا فى ولاية القاهرة فنادى بالأمان، ووعد الناس بترخيص الأسعار، وبإزالة المظالم، فمال إليه جمع من العامّة، وأقاموا ذلك اليوم، وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التى كانت بالصوّة تجاه الطّبلخاناة السلطانية، هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة، ثمّ ملك الأمراء مدرسة السلطان حسن، وهزموا من كان فيها من المقاتلة، بعد قتال شديد، وأقاموا بها جماعة رماة من أصحابهم، ورموا على قلعة الجبل يومهم وليلتهم، وطلع الأمير أرغون من بشبغا- الأمير آخور- من الإسطبل السّلطانىّ إلى أعلا القلعة عند الأمير جرباش وكمشبغا الجمالى، فأدخلاه القلعة بمفرده من غير أصحابه.
فلمّا كانت ليلة الاثنين، كسرت خوخة أيدغمش «4» ، ودخلت طائفة من الشاميّين إلى القاهرة، ومعهم طوائف من العامة؛ ففتحوا باب زويلة، وكان والى القاهرة حسام الدين الأحول، وقد اجتهد فى تحصين المدينة، ثمّ كسروا باب خزانة شمائل، وأخرجوا من كان بها، وكسروا سجن(13/110)
الدّيلم «1» أيضا، وسجن رحبة باب العيد «2» ، وانتشروا فى حارات القاهرة، ونهبوا بيت كمشبغا الجمالىّ، وتتبّعوا الخيول والبغال من الإسطبلات وغيرها، وأخذوا منها شيئا كثيرا، ثمّ فتحوا حاصل الديوان المفرد ببين القصرين وأخذوا منه مالا كثيرا، ثمّ ملك شيخ باب السلسلة، وجلس بالحرّاقة هو ورفقته، ثمّ طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح القلعة لهم فى بكرة يوم الثلاثاء، فاعتذر الأمراء لهم «3» بأنّ المفاتيح عند الزّمام «4» كافور، فاستدعوه فأتاهم، وكلّمهم من وراء الباب، فسلموا عليه من عند الأمير شيخ ومن عند أنفسهم، وكان الأمير نوروز من جملة من كان واقفا على الباب، وسألوه الفتح لهم، فقال: ما يمكن ذلك؛ فإنّ حريم السّلطان بالقلعة، فقالوا مالنا غرض فى النهب وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا، يعنون بابن أستاذنا: الامير فرج ابن السّلطان الملك الناصر فرج، وكان هذا الصبىّ سمى على اسم أبيه- وهو أكبر أولاد الملك الناصر- فقال كافور الزّمام: وأيش صاب السّلطان حتى تأخذوا ولده؟ فقالوا: لو كان السّلطان حيّا ما كنّا هاهنا- يعنون أنهم(13/111)
قتلوا السلطان، وساروا إلى الديار المصرية لبسلطنوا ولده- فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره، وطال الكلام بينهم فى ذلك، فلم يلتفت كافور إلى كلامهم، فهدّدوه بإحراق الباب، فخاف وقال: إن كنتم ما تريدون إلا ابن أستاذكم فليحضر إلى باب السرّ اثنان منكم أو ثلاثة، وتحضر القضاة، ثمّ احلفوا أنكم لا تغدرون به ولا تمسّونه بسوء، وكان كافور يقصد بذلك التطويل، فإنه كان بلغه هو والأمراء الذين بالقلعة قرب مجىء العسكر السلطانىّ إلى القاهرة، فبعثوا لهم البطاقة من القلعة باستعجالهم، وأنهم فى أقوى ما يكون من الحصار، ومتى «1» لم يدركوا أخذوا، وأخذ كافور فى مدافعة الجماعة والتمويه عليهم- قلت: وعلى كل حال فهو أرجل من أرغون الأمير آخور، فإنّ أرغون مع كثرة من كان عنده من المماليك السلطانية ومماليكه لم يقدر على منع باب السّلسلة، وتركها وفرّ فى أقلّ من يومين، وكان يمكنه مدافعة القوم أشهرا- انتهى.
وبينما [كافور] «2» الزّمام فى مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطانىّ لمن كان شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل، وقد ارتفع العجاج، واقبلوا سائقين سوقا عظيما جهدهم، فلما بلغ شيخا وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعة واحدة، وركبوا من فورهم ووقفوا قريبا من باب السّلسلة، فدهمهم العسكر السّلطانىّ فولوا هاربين نحو باب القرافة «3» والعسكر فى أثرهم، فكبا بالأمير شيخ فرسه عند سوق الخيم «4» بالقرب من باب(13/112)
القرافة، فتقنطر من عليه، فلم يستطع النهوض ثانيا؛ لعظم روعه وسرعة حركته، فأركبه بعض أمراء آخوريته- يقال إنه الأمير جلبّان الأمير آخور، الذي كان ولى نيابة الشام فى دولة الملك الظاهر جقمق إلى أن مات فى دولة الملك الاشرف إينال فى سنة ثمان وخمسين وثمانمائة- وركب شيخ ولحق بأصحابه، فمرّوا على وجوههم على جرائد الخيل، وتركوا ما أخذوه من القاهرة، وأيضا ما كان معهم، وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السّلطان على جماعة من أصحاب شيخ، مثل الأمير قرايشبك- قريب نوروز- وبردبك رأس نوبة نوروز؛ لأنّ نوروزا ثبت قليلا بالرّميلة بعد فرار الأمير شيخ، وعلى برسباى الطّقطائىّ أمير جاندار، وثمانية وعشرين فارسا، وجرح جماعة كبيرة، منهم السيفىّ يشبك السّاقىّ الظاهرىّ- الذي ولّى فى الدولة الأشرفية [برسباى] «1» الأتابكية- ومن هذا الجرح صار أعرج بعد أن أشرف على الموت «2» .
ودخل الأمير بكتمر جلّق بعساكره، وأرسل الامير سودون الحمصىّ فاعتقل جميع من أمسك من الشّاميين، وأخذ يتتبّع من بقى من الشّامية بالقاهرة، ثمّ نادى فى الوقت بالأمان، ثمّ أخذت عساكره يقتلون فى الشاميّين، ويأسرون وينهبون إلى طمّوه «3» ، وألزم بكتمر جلّق والى القاهرة بمسك الزّعر الذين قاموا مع الشّاميين، فأبادهم الوالى، وقطع أيدى جماعة كبيرة، وحبس جماعة أخر بعد ضربهم بالمقارع، وأخذ الامير بكتمر جلّق فى تمهيد أحوال الديار المصرية، وقدم عليه الخبر فى ليلة الأربعاء حادى عشر من شهر رمضان المذكور بأنّ شيخا(13/113)
نزل إطفيح «1» ، وأنّ شعبان بن محمد بن عيسى العائذىّ توجه بهم إلى نحو الطور «2» ، فنودى بالقاهرة ومصر بتحصيل من اختفى من الشاميين بها، ثمّ قدم الخبر بوصولهم إلى السّويس، وأنهم أخذوا علفا كان هناك للتجّار، وزادا وجمالا، وسار بهم شعبان بن عيسى فى درب الحاج «3» إلى نخل «4» ، فأخذوا عدّة جمال للعربان، وأن شعبان المذكور أمدّهم بالشعير والزّاد، وأنهم افترقوا فرقتين، فرقة رأسها الأمير نوروز الحافظىّ ويشبك بن أزدمر وسودون بقجة، وفرقة رأسها الأمير شيخ المحمودىّ وسودون تلّى المحمدىّ وسودون قراصقل، وكلّ فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك، وأنهم لما وصلوا إلى الشّوبك «5» دفعهم أهلها عنها، فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب، فتضرعوا له حتّى نزل إليهم من قلعة الكرك، وتلقّاهم وادخلهم مدينة الكرك، وأنهم استقرّوا بالكرك.
وأما الأمير بكتمر جلّق بمن معه من الأمراء والعساكر السّلطانية، فإنهم أقاموا بالقاهرة نحو ستّة أيّام حتّى تحقّقوا توجّه القوم إلى جهة البلاد الشّامية، فخرجوا من القاهرة فى يوم سادس عشر من رمضان يريدون البلاد الشّاميّة إلى الملك الناصر وهو بدمشق، وتأخّر بالقاهرة من الأمراء من(13/114)
أصحاب بكتمر جلق: طوغان الحسنىّ رأس نوبة النّوب- وقد استقرّ قبل تاريخه دوادارا كبيرا بعد موت الأمير قراجا بطريق دمشق، فى ذهاب الملك النّاصر إلى الشّام- ويشبك الموساوىّ الأفقم، وشاهين الزّرد كاش وأسنبغا الزّرد كاش، وسار بكتمر جلّق بمن بقى حتى وصل دمشق.
وأما السّلطان الملك النّاصر، فإنه كان فى هذه الأيام بدمشق، وبلغه ما وقع بالدّيار المصرية مفصلا، لكن نقل إليه أنّ بكتمر جلّق وطوغان الحسنىّ قصّرا فى أخذ شيخ ونوروز، ولو قصدا أخذهما لأمكنهم ذلك، فأسرّها الملك الناصر فى نفسه، قلت: ولا يبعد ذلك؛ لما حكى لى غير واحد- ممّن حضر هذه الواقعة- من ضعف شيخ ونوروز، وتقاعد الأمراء عن المسير فى أثرهم. ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك لم يسعه إلّا السكات، وعدم معاتبة الأمراء على ذلك.
ثمّ إنّ السّلطان أمسك الأمير جانبك القرمىّ بدمشق فى يوم الاثنين أوّل شوّال، وضربه ضربا مبرّحا، وسجنه بقلعة دمشق، ثمّ أمر السّلطان الأمير قرقماس ابن أخى دمرداش- المعروف بسيّدى الكبير- بالمضىّ إلى محلّ كفالته بحلب، فسار من دمشق عائدا إلى حلب، واستمرّ السّلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذى القعدة، وخرج منها إلى قبّة يلبغا، ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعد ما تحقّق نزول الأمراء بالكرك، وخلع على بكتمر جلّق بنيابة الشام على عادته، وعاد بكتمر إلى دمشق.
وأما شيخ ونوروز وجماعتهما، فإنهم أقاموا بالكرك أياما، واطمأنّوا بها، ثمّ أخذوا فى تحصينها، فلما كان بعض الأيام نزل الأمير شيخ ومعه الأمير سودون بقجة، وقانى باى المحمّدىّ فى طائفة يسيرة من قلعة الكرك إلى حمّام الكرك، فدخل جميع هؤلاء الحمام، وبلغ ذلك الأمير شهاب الدين أحمد حاجب الكرك، فبادر بأصحابه ومعه جمع كبير من أهل(13/115)
البلد، واقتحموا الحمام المذكورة ليقتلوا بها الأمير شيخا وأصحابه، فسبقهم بعض المماليك وأعلم الأمير شيخا، فخرج من وقته من الحمام ولبس ثيابه ووقف فى مسلخ الحمام عند الباب، ومعه أصحابه الذين كانوا معه فى الحمام، فطرقهم القوم بالسلاح، فدافع كلّ واحد منهم عن نفسه، وقاتلوا قتال الموت، حتى أدركهم الأمير نوروز بجماعته، فقاتلوهم حتى هزموهم بعد ما قتل الأمير سودون بقجة، وأصاب الأمير شيخا سهم غار فى بدنه، فنزف منه دم كثير حتى أشرف على الموت، وحمل إلى قلعة الكرك فأقام ثلاثة أيام لا يعقل، ثمّ أفاق، ومن هذه الرّجفة حصل له مرض المفاصل الذي تكسّح منه بعد سلطنته، هكذا ذكر المؤيد لبعض أصحابه.
وأمّا الأمير نوروز لمّا بلغه قتل سودون بقجة وهو يعارك القوم جدّ فى قتالهم حتى كسرهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ عاد إلى الكرك وقد جرح من أصحابه جماعة، وبلغ هذا الخبر السلطان الملك النّاصر فسرّ بقتل سودون بقجة سرورا عظيما؛ لكثرة ما كان أحسن إليه ورقّاه حتى ولّاه نيابة طرابلس، فتركه وتوجّه إلى الأمير شيخ ونوروز من غير أمر أوجب تسحبّه، بل لأجل خاطر أغاته «1» وحميّه الأمير تمراز النائب.
ثمّ وقع بين الأمراء وبين سودون الجلب بالكرك، فنزل سودون الجلب من الكرك وتركها لهم، ومضى حتى عدّى الفرات.
وأما السّلطان الملك النّاصر، فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك فى يوم الجمعة رابع عشرين ذى القعدة، وأحاط بها ونصب عليها الآلات، وجدّ فى قتالها، وحصرها وبها شيخ ونوروز وأصحابهما، واشتدّ الحصار عليهم بالكرك، وأخذ الملك النّاصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتّسليم، ثمّ أخذ شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون(13/116)
الوالد ويتضرّعون إليه، وهو يتبرّم من أمرهم والكلام فى حقهم، ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلّق بعد حلفه فى واقعة صرخد، فأخذ شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلّق كان الباغى عليه والبادئ بالشرّ، وأنه هو دفع عن نفسه لا غير، وأنّه ما قصده فى الدّنيا سوى طاعة السّلطان، وأنت الأمير الكبير، وأكبر خشدا شيتنا، إن لم تتكلم بيننا فى الصلح «1» فمن يتكلم؟ ثمّ كاتبوا أيضا جماعة من الأمراء فى طلب العفو والصّلح، ولا زالوا حتى تكلم الوالد مع السّلطان فى أمرهم، فأبى السّلطان إلّا قتالهم وأخذهم، والوالد يمعن فى ذلك حتى ابترم الصّلح غير مرّة والسلطان يرجع عن ذلك.
ثمّ تردّدت الرسل بينهم وبين السّلطان أياما حتى انعقد الصلح، على أن يكون الوالد نائب الشام، وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب، وأن يكون الأمير نوروز نائب طرابلس، وكان ذلك بإرادة شيخ ونوروز؛ فإنهما قالا: لا نرضى أن يكون بكتمر جلّق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشّام- ونحن أقدم منه عند السّلطان- فإن كان ولا بدّ، فيكون الأمير الكبير تغرى بردى فى نيابة الشّام، ونكون نحن تحت أوامره، ونسير فى المهمّات السّلطانية تحت سنجقه، وأمّا بكتمر ودمرداش فلا، وإن فعل السّلطان ذلك لا يقع منّا بعدها مخالفة أبدا.
ولمّا بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الإعجاب، وقد ضجر القوم من الحصار، وملّوا من القتال، فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية الوالد نيابة الشّام، وكلّم الوالد فى ذلك، فأبى وامتنع غاية الامتناع، وكان السّلطان قد شرط على الأمراء شروطا كثيرة فقبلوها- على أن يكون الوالد نائب دمشق- وأخذ الملك الناصر يكلم الوالد فى ذلك(13/117)
والوالد مصمم على عدم القبول، وأرمى سيفه غير مرّة بحضرة السّلطان، وأراد التوجّه إلى القدس بطّالا.
وصار الوالد كلّما امتنع من الاستقرار وحنق يكفّ عنه السلطان، فإذا رضى كلّمه، ثمّ سلط عليه الأمراء فكلّموه من كلّ جهة [حتى قبل] «1» ، ثمّ قام إليه السّلطان واعتنقه، وطلب الخلعة فجىء بها فى الحال، وألبسها للوالد باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن بكتمر جلّق، واستقرّ الأمير شيخ فى نيابة حلب عوضا عن قرقماس سيّدى الكبير، والأمير نوروز فى نيابة طرابلس عوضا عن جانم من حسن شاه، واستقرّ جانم المذكور أمير مجلس بإمرة مائة وتقدمة ألف بالدّيار المصرية، واستقرّ تغرى بردى سيّدى الصّغير فى نيابة حماة على عادته، ورسم للأمير سودون من عبد الرحمن نائب صفد أن ينتقل من نيابة صفد إلى تقدمة ألف بالدّيار المصرية، وأن يكون الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق عند الوالد، فإنه كان من ألزامه، وعقد عقده بعد ذلك على إحدى بناته- ولها من العمر نحو ثلاث سنين- ويكون قانى باى المحمّدى أميرا بحلب عند الأمير شيخ، ثمّ شرط السّلطان على شيخ ونوروز ألا يخرجا إقطاعا، ولا إمرة، ولا وظيفة لأحد من النّاس إلا بمرسوم السّلطان، وأن يسلّما قلعة الكرك إلى السلطان، ويسلّم شيخ قلعد صهيون «2» وصرخد أيضا، فرضوا بذلك جميعه، وحلفوا على طاعة السّلطان، وخلع السلطان عليهم خلعا جليلة، ومدّ لهم سماطا أكلوا منه.
ثمّ رحل السّلطان من الكرك بعساكره يريد القدس، فوصله وأقام به خمسة أيّام، ثمّ خرج منه وسار يريد القاهرة.(13/118)
[ما وقع من الحوادث سنة 814]
وأمّا الوالد فإنه سار من الكرك إلى نحو دمشق حتى دخلها فى يوم سادس المحرّم من سنة أربع عشرة وثمانمائة، ونزل بدار السّعادة وقد خمدت الفتنة، وسكن هرج النّاس، ثمّ خرج الأمير شيخ والأمير نوروز من الكرك إلى محلّ كفالتهما، وقدما إلى دمشق بمن معهما من الأمراء والمماليك لعمل مصالحهما بدمشق، فلمّا بلغ الوالد قدومهما خرج لتلقّيهما بقماش جلوسه فى خواصّه لا غير، فلمّا وقع بصرهما على الوالد نزلا عن خيولهما، فأقسم عليهما الوالد فى عدم النزول، فنزلوا قبل أن يسمعوا القسم، فعند ذلك نزل لهم الوالد أيضا عن فرسه وسلّموا عليه، فحلف عليهم الوالد بالنزول فى دار. السّعادة، فامتنعوا من ذلك، فأنزلهم بالمزّة، ثمّ ركب إليهم الوالد وأخذهم من وطاقهم غصبا.
وأنزل الأمير شيخا بالقرمانيّة، ونوروزا بدار الأمير فرج بن منجك، ونزل كلّ واحد من أصحابهما بمكان حتى عملت مصالحهم، وكثر تردادهم إلى الوالد بدار السّعادد فى تلك الأيام؛ فسرّ أهل الشّام بذلك غاية السّرور، وصار الأمير شيخ يتنزّه بدمشق، ويتوجّه إلى الأماكن ومعه قليل من مماليكه. حدّثنى بعض مماليك الوالد: أن الأمير شيخا كان يجيء فى تلك المدّة إلى الوالد فى دار السعادة ومعه شخص واحد من مماليكه، وينزل ويقيل بالبحرة «1» ، وينام بها نومة كبيرة إلى أن يطبخ له ما اقترحه من المآكل.
ثمّ خرج الأمير شيخ والأمير نوروز كلّ منهما إلى محلّ كفالته(13/119)
بعد أن أنعم الوالد فى يوم سفرهما على كلّ واحد بألف دينار، وقيّد له فرسا بسرج ذهب وكنبوش «1» زركش، وأشياء غير ذلك كثيرة.
وأمّا أمر السّلطان الملك النّاصر، فإنّه سار من القدس حتّى نزل بتربة والده بالصّحراء خارج القاهرة فى يوم الأربعاء ثانى عشر المحرّم من سنة أربع عشرة وثمانمائة، وخلع على الخليفة المستعين بالله العبّاس، وعلى القضاة والأمراء، وسائر أرباب الدّولة، وخلع على الأمير دمرداش المحمدىّ باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصرية، عوضا عن الوالد؛ بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق حسبما تقدّم ذكره، ثمّ ركب السّلطان من التربة المذكورة وطلع إلى القلعة بعد ما خرج الناس للفرجة عليه، فكان لطلوعه يوما مشهودا، وزيّنت القاهرة أياما لقدومه، ثمّ بعد قدوم السّلطان باثنى عشر يوما قدم الأمير بكتمر جلّق المعزول عن نيابة دمشق، فركب السّلطان وتلقّاه وألبسه تشريفا، وخلع على الأمير الكبير دمرداش بنظر البيمارستان المنصورىّ «2» ، ودخل السّلطان من باب النصر وشقّ القاهرة، ونزل بمدرسته التى أنشأها جمال الدين الأستادار له برحبة باب العيد المعروفة بالجمالية، وقد أثبت القضاة أنها له وسمّيت بالنّاصرية، ثمّ ركب السّلطان من المدرسة المذكورة، ونزل بمدرسة والده المعروفة بالبرقوقيّة «3» ببين القصرين، ثمّ ركب منها وأمر الأتابك دمرداش بعبور البيمارستان المنصورىّ، وتوجّه السّلطان إلى جهة القلعة.(13/120)
ثمّ فى ثانى عشر صفر من سنة أربع عشرة وثمانمائة عيّن السّلطان اثنين وعشرين أميرا من الأمراء البطّالين ليتوجّهوا إلى الشّام على إقطاعات عيّنها السّلطان لهم، منهم: الأمير حزمان الحسنى، وتمان تمر النّاصرىّ، وسونجبغا، وشادى خجا، وألطنبغا، وقانى باى الأشقر، ومعهم مائتا مملوك؛ ليكونوا أعوانا للوالد بدمشق، وفى خدمته، وكان الوالد شفع فى هؤلاء المذكورين حتى أطلقهم السلطان- على عادتهم- من السجن، ثم أمر السّلطان بقتل جانبك القرمىّ، وأسندمر الحاجب، وسودون البجاسىّ، وقانى باى أخى بلاط، والجميع كانوا بسجن الإسكندرية.
ثمّ فى حادى عشرين صفر خلع السلطان على تقىّ الدين عبد الوهّاب ابن الوزير فخر الدين ماجد بن أبى شاكر باستقراره فى وظيفة نظر الخاصّ- وكانت شاغرة منذ توفّى مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم فى ليلة الأربعاء العشرين من شعبان من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة- ثمّ أمسك السّلطان بثلاثة أمراء من أمراء الألوف، وهم: قانى باى المحمّدى، ويشبك الموساوى الأفقم، وكمشبغا الفيسىّ، وقبض على جماعة أخر من الطبلخانات والعشرات، وهم: الأمير منجك، والأمير قانى باى الصّغير العمرى ابن بنت أخت الملك الظاهر برقوق- وقانى باى هذا جد خوند بنت جرباش الكريمىّ وزوجة السلطان الملك الظاهر جقمق لأمّها- وكان أمير عشرة، وعلى الأمير شاهين، وخير بك، ومأمور، وخشكلدى، وحملوا الجميع إلى سجن الإسكندريّة فسجنوا بها.
ثمّ رسم السّلطان للأمير تمراز الناصرىّ أن يكون طرخانا «1» لا يمشى(13/121)
فى الخدمة، ويقيم بداره أو يتوجّه إلى دمياط، وتمراز هذا هو الذي كان فرّ من السّلطان وصحبته الأمراء من بيسان إلى الأمير شيخ.
ثمّ خلع السّلطان على الأمير سنقر الرّومىّ باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن قانى باى المحمّدىّ المقبوض عليه قبل تاريخه.
ثمّ أرسل الوالد إلى السّلطان يعلمه برفع الطّاعون من دمشق وغيرها، وأنّه أحصي من مات من أهل دمشق فقط فكانوا خمسين ألفا سوى من لم يعرف.
وفى أوّل شهر ربيع الأوّل، قدم الأمير إينال المحمّدىّ السّاقىّ المعروف بضضع من سجن الإسكندريّة- بطلب من السّلطان- ورسم له أن يكون بطّالا بالقاهرة.
ثمّ أخرج السّلطان إقطاع الأمير جرباش كبّاشة، ورسم له بأن يتوجّه إلى دمياط بطّالا.
ثمّ بعده توجّه تمراز الناصرىّ المقدّم ذكره إلى دمياط أيضا بطّالا.
ثمّ قبض السّلطان على جماعة من كبار المماليك الظاهريّة- برقوق- وحبسهم بالبرج من القلعة.
ثمّ قدم الخبر على السّلطان بأنّ شيخا ونوروزا لم يمضيا حكم المناشير السّلطانيّة، وأنّهما أخرجا إقطاعات حلب وطرابلس لجماعتهما، وأنّ الأمير شيخا سيّر يشبك العثمانىّ لمحاصرة قلعة ألبيرة وقلعة الرّوم، وأنّ عزمهما العود لما كانا عليه من الخروج عن الطّاعة.
فعلم السّلطان عند ذلك أنّ الذي يحرّك هؤلاء على الخروج عن الطّاعة والعصيان إنّما هم المماليك الظّاهريّة الذين هم فى خدمة السّلطان، ووافقه على ذلك أكابر أمرائه، وحسّنوا له القبض عليهم، وكان الوالد ينهاه عن مسكهم، ويحذّره من الوقوع فى ذلك، فلمّا استقرّ الوالد فى نيابة دمشق خلا له الجوّ، وفعل ما حدّثته نفسه ممّا كان فيه ذهاب روحه، فقبض الملك النّاصر على(13/122)
جماعة كبيرة منهم، وحبسهم بالبرج من القلعة، ثمّ قتلهم بعد شهر، وكانوا جمعا كبيرا.
ثمّ أمسك السّلطان الأمير خير بك نائب غزّة، وهو يومئذ من أمراء الألوف بالدّيار المصريّة.
ثمّ ورد الخبر على السّلطان بحصار عسكر نوروز لحصن الأكراد «1» ، فاختبط السّلطان وكتب إلى شيخ ونوروز بالتّهديد والوعيد.
ثمّ فى أوّل شهر ربيع الآخر خلع السّلطان على الأمير أسنبغا الزّردكاش- أحد أمراء الألوف وزوج أخته خوند بيرم بنت الملك الظّاهر برقوق- باستقراره شاد الشّراب خاناة عوضا عن الأمير سودون الأشقر.
ثمّ فى ثالث عشره خلع السّلطان على فخر الدين عبد الغنىّ بن أبى الفرج كاشف الوجه البحرىّ باستقراره أستادارا عوضا عن تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم؛ بحكم القبض عليه، وتسليمه وحواشيه إلى فخر الدين المذكور.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى رسم السّلطان بهدم مدرسة الملك الأشرف شعبان ابن حسين، التى كانت بالصّوّة تجاه الطبلخاناة السّلطانيّة، ومكانها اليوم بيمارستان «2» الملك المؤيّد شيخ، فوقع الهدم فيها، وكانت من محاسن الدّنيا، ضاهى بها الملك الأشرف مدرسة عمّه السّلطان الملك الناصر حسن التى بالرّميلة تجاه قلعة الجبل.
ثمّ رسم السّلطان بهدم البيوت التى هى ملاصقة للميدان من مصلّاة المؤمنىّ «3» إلى باب القرافة، فهدمت بأجمعها وصارت خرابا.(13/123)
ثمّ أمر السّلطان بالقبض على أقارب جمال الدين يوسف الأستادار وعقوبتهم، فأمسكوا وعوقبوا عقوبات كثيرة.
ثمّ خنق أحمد أبنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة أخاه فى ليلة الأحد سادس عشر جمادى الأولى.
ثمّ كتب السّلطان ثانيا إلى الأمير شيخ يخوّفه ويحذّره، ويأمره أن يجهّز إليه الأمير يشبك العثمانىّ، وبردبك، وقانى باى الخازندار، ويرسل سودون الجلب إلى دمشق؛ ليكون من جملة أمرائها.
ثمّ بعد إرسال الكتاب تواترت الأخبار باتّفاق شيخ ونوروز على الخروج عن الطّاعة، وعزما على أخذ حماة، فوقع الشّروع والاهتمام لسفر السّلطان إلى البلاد الشّامية، وكتب إليها بتجهيز الإقامات.
ثمّ تكلّم الأستادار فخر الدين بن أبى الفرج مع السّلطان وحسّن له القبض على الوزير ابن البشيرىّ «1» ، وعلى ناظر الخاصّ ابن أبى شاكر «2» ، فلمّا بلغهما ذلك بادرا واتّفقا مع السّلطان على مال يقومان به للسّلطان إن قبض على فخر الدين ابن أبى الفرج المذكور، فمال السّلطان إلى كلامهما وأمسك فخر الدين المذكور فى سلخ جمادى الآخرة، وسلّمه للوزير ابن البشيرىّ، فلم يدع ابن البشيرىّ نوعا من العقوبات حتى عاقب ابن أبى الفرج المذكور بها، فلم يعترف بشىء غير أنّه وجد له ستّة آلاف دينار، وجرار كثيرة قد ملئت خمرا، واستمرّ ابن أبى الفرج فى العقوبة أيّاما كثيرة.
ثمّ فى شهر رجب نزل السّلطان من القلعة إلى الصيّد، فبات ليلة وعزم على مبيت ليلة أخرى بسرياقوس، فبلغه أنّ طائفة من الأمراء والمماليك اتّفقوا(13/124)
على قتله، فعاد إلى القاهرة مسرعا، وأخذ يتتبّع ما قيل حتّى ظفر بمملوكين عندهما الخبر؛ فعاقبهما فى ثامن عشر شهر رجب المذكور، فأظهرا ورقة فيها خطوط جماعة كبيرة، كبيرهم الأمير جانم من حسن شاه نائب طرابلس- كان- وهو يوم ذاك أمير مجلس.
وكان جانم المذكور قد سافر قبل تاريخه إلى منية ابن سلسيل «1» ، وهى من جملة إقطاعه، فندب السّلطان الأمير بكتمر جلّق، والأمير طوغان الحسنىّ الدّوادار؛ لإحضار جانم المذكور، وخرجا فى يوم السّبت عشرين شهر رجب، على أنّ بكتمر جلّق يسير فى البرّ ويمسك عليه الطّريق، وطوغان يتوجّه إليه فى البحر، ويمسكه ويحضره إلى السّلطان، فساروا.
ومسك السّلطان بعد خروجهما جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك الظّاهريّة، منهم: الأمير عاقل، والأمير سودون الأبويزيديّ.
وأمّا طوغان الدّوادار فإنّه سار فى البحر حتى وافى الأمير جانم، واقتتلا فى البرّ، ثمّ فى المراكب حتى تعيّن «2» طوغان على جانم، فألقى جانم نفسه فى الماء لينجو فرماه أصحاب طوغان بالنّشّاب حتى هلك، وأخذ وقطع رأسه فى ثانى عشرينه، وقدم طوغان على السّلطان فى رابع عشرينه.
وكان السّلطان قد مسك فى يوم ثانى عشرينه فى القاهرة الأمير إينال الصّصلانىّ الحاجب، والأمير أرغز، والأمير سودون الظّريف، وجماعة من المماليك الظّاهريّة.
ثمّ قبض السّلطان فى يوم ثالث عشرينه أيضا على الأمير سودون الأسندمريّ أحد أمراء الألوف وأمير آخور ثانى، وعلى الأمير جرباش العمرىّ رأس نوبة، وأحد أمراء الألوف أيضا.(13/125)
ثمّ فى خامس عشرينه قبض السّلطان على جماعة من أكابر المماليك الظاهريّة، ووسّط منهم خمسة؛ فنفرت القلوب منه، ووجد شيخ ونوروز للوثوب عليه سبيلا لكمين كان فى نفسهما منه.
ثمّ خلع السّلطان على منكلى أستادار الخليلىّ باستقراره أستادارا عوضا عن فخر الدين بن أبى الفرج.
ثمّ كتب السّلطان للوالد بالقبض على الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق، وعلى إينال الخازندار، وعلى بردبك الخازندار، وعلى بردبك أخى طولو، وعلى سودون من إخوة الأتابك يشبك، وعلى تنبك من إخوة يشبك أيضا، والفحص عن نكباى الحاجب؛ فإن وجده من جملة المنافقين فليقبض عليه، ويعتقلهم، وسار البريد للوالد بذلك، وبعد خروج البريد بذلك، ذبح السلطان فى ليلة الأربعاء- مستهل شعبان- عشرين مملوكا ممّن قبض عليهم.
ثمّ وسّط من الأمراء فى يوم الأربعاء ثامنه عشرة أخر تحت القلعة، منهم:
الأمير حزمان نائب القدس، والأمير عاقل، وأرغز أحد أمراء الألوف بدمشق، والأمير سودون الظّريف، والأمير مغلباى، والأمير محمّد بن قجماس.
وفى ليلة الأربعاء المذكورة قتل السّلطان أيضا بالقلعة من المماليك الظّاهريّة زيادة على مائة مملوك من الجراكسة من مماليك أبيه.
ثمّ ركب سحر يوم الخميس إلى الصّيد بناحية بهتيت «1» - من ضواحى القاهرة- وأمر والى القاهرة أن يقتل عشرة من المماليك الظّاهريّة لتخلّفهم عن الرّكوب معه، فقتلوا.
وعاد السّلطان من الصّيد بثياب جلوسه، وشقّ القاهرة وهو سكران لا يكاد(13/126)
يثبت على فرسه من شدّة سكره، ومرّ فى أقلّ من مائة فارس، وسار على ذلك حتى طلع القلعة نصف النّهار.
وفى شعبان هذا، ابتدأ بالوالد مرض موته، ولزم الفراش بدار السّعادة، وقد لهجت الناس أنّ الملك النّاصر قد اغتاله بالسّمّ؛ فإن كان ما قيل حقيقة فقد التقيا بين يدى حاكم لا يحتاج إلى بيّنة، وسبب ذلك- على ما قيل- عدم مسك الوالد للأمير شيخ ونوروز لمّا دخلا عليه بدار السّعادة بدمشق، وأيضا أنّه لمّا أمره بمسك من تقدّم ذكرهم فأمسك منهم جماعة، وأعلم يشبك بن أزدمر بالخبر ففرّ إلى جهة شيخ ونوروز، وأشياء غير ذلك.
ولكن حدّثنى كريمتى خوند فاطمة زوجة الملك الناصر المذكور بخلاف ذلك، وهو أنّه لمّا قدم عليه الخبر بمرضه صار يتأسّف ويقول: إن مات أبوك تخربت مملكتى، وبقى كلّما ورد عليه الخبر بعافيته يظهر السّرور، وكلّما بلغه أنّه انتكس يظهر الكآبة، وأنّه ما أخذها صحبته فى التجريدة إلى الشّام إلّا حتى تعوده فى مرضه، وأشياء من ذلك.
ثمّ إنّ السّلطان نادى فى أوّل شهر رمضان من سنة أربع عشرة وثمانمائة بالقلعة بالأمان، وأنّهم عتقاء شهر رمضان.
ثمّ تتبّعهم «1» بعد الأمان وأمسك منهم جماعة كبيرة؛ حتى إنّه لم يخرج شهر رمضان حتى أمسك منهم أزيد من أربعمائة نفر وسجنهم بالبرج من القلعة.
وفى رابع شهر رمضان المذكور أفاق الوالد من مرضه، وزيّنت دمشق ودقّت البشائر بسائر البلاد الشّاميّة حتى حلب وطرابلس، وأرسل الأمير شيخ ونوروز إليه بالتّهنئة، فعظم ذلك أيضا على الملك الناصر.
وفى هذا الشهر تأكّد عند السّلطان خروج شيخ ونوروز عن طاعته، وبلغه أنّ نوروزا قتل آق سنقر الحاجب، فتحقّق السّلطان عصيان المذكورين.(13/127)
ثمّ ذبح السّلطان فى ليلة ثالث شوّال أزيد من مائة نفس من المماليك السّلطانية الظّاهريّة المحبوسين بالبرج، ثمّ ألقوا من سور القلعة إلى الأرض، ورموا فى جبّ ممّا يلى القرافة، واستمرّ الذبح فيهم.
ثمّ فى يوم الاثنين عاشر شوّال عدّى السلطان النيل إلى ناحية وسيم «1» للرّبيع «2» وبات به، ورحل فى السّحر بعساكره يريد مدينة إسكندريّة، بعد ما نودى فى القاهرة بألّا يتأخّر أحد من المماليك السلطانيّة بالقاهرة، وأن يعدّوا إلى برّ الجيزة فعدّوا بأجمعهم، فمنهم من أمره السلطان بالسّفر، ومنهم من أمره بالإقامة.
ثمّ بعث السلطان الأمير طوغان الحسنىّ الدّوادار، والأمير جانبك الصّوفىّ، وسودون الأشقر، ويلبغا النّاصرىّ، وجماعة من المماليك إلى عدّة جهات من أراضى مصر؛ لأخذ الأغنام والخيول والجمال حيث وجدت لكائن من كان، فسار الأمراء وشنّوا الغارات فما عفّوا ولا كفّوا.
ثمّ سار السلطان ببقيّة أمرائه وعساكره إلى الإسكندريّة، فدخلها فى يوم الثلاثاء ثامن عشر شوّال من سنة أربع عشرة المذكورة، فقدم بها على السلطان مشايخ البحيرة بتقادمهم، فخلع عليهم ثمّ أمسكهم وساقهم فى الحديد، واحتاط على أموالهم، ففرّ باقيهم إلى جهة برقاء، ثم قدم الأمراء وقد ساقوا ألوفا من الأغنام التى انتهبوها من النواحى، وقد مات أكثرها، فسيقت إلى القاهرة مع الأموال والجاموس والخيول.
ثمّ رسم السلطان أن يؤخذ من تجار المغاربة العشر، وكان يؤخذ منهم قبل ذلك الثّلث، فشكر النّاس له ذلك.
ثمّ خرج من الإسكندرية عائدا إلى القاهرة، وسار حتى نزل على وسيم فى يوم السبت تاسع عشرينه.(13/128)
وقد مات بسجن الإسكندريّة الأمير خيربك نائب غزّة، فانّهم السلطان أنّه اغتاله بالسّم، والصحيح أنّه مات حتف أنفه.
ثمّ قدم كتاب الأمير نوروز الحافظىّ على السلطان على يد فقيه يقال له سعد الدّين، ومملوك آخر، ومعهما محضر شهد فيه ثلاثة وثلاثون رجلا من أهل طرابلس- ما بين قاض وفقيه وتاجر- بأنه لم يظهر منه بطرابلس منذ قدم إليها إلا الإحسان للرعيّة، والتمسك بطاعة السلطان، وامتثال مراسيمه، وأنّ أهل طرابلس كانوا قد خرجوا منها فى أيّام جانم لما نزل بهم من الضرر والظلم، فعادوا إليها أيّام نوروز المذكور، وأنّه كلّما ورد عليه مثال سلطانىّ يتكرّر منه تقبيل الأرض، وأنّه حلف- بحضرة من وضع خطّه- بالأيمان المغلّظة الجامعة لمعانى الحلف أنه مقيم على طاعة السّلطان، متمسّك بالعهد واليمين، فلم يغترّ السلطان بالمحضر ولا التفت إليه؛ لما ثبت عنده من عصيانهما «1» .
قلت: ولهذه الأيمان الحانثة ذهب الجميع على السيف فى أسرع مدّة، حتى إننى لا أعلم أن أحدا من هؤلاء «2» الأمراء مات على فراشه، بل غالبهم تفانوا قتلا على أنواع مختلفة لتجرّئهم على الله تعالى، وكان يمكنهم الخروج على الملك النّاصر المذكور لسوء سيرته فيهم ثمّ يعودون إلى طاعته من غير أن يتعرّضوا للأيمان والعهود، والتلاعب بذلك فى كلّ قليل، وصار ذلك دأبا لهم إلى أن سلط الله بعضهم على بعض، فذهبوا كأنهم لم يكونوا- مع قوّتهم، وشدّة بأسهم، وفرط شجاعتهم- وملك بعدهم من لم يكن فى رتبتهم ولا يدانيهم فى معنى من المعانى، ودانت له البلاد، وأطاعته العباد، وصفا له الوقت من غير معاند ولا مدافع.(13/129)
«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»
«1» .
ثمّ إنّ السّلطان الملك الناصر بعد حضور هذا المحضر أخذ فى الاهتمام للسّفر.
ثمّ نزل من القلعة وعدّى النيل فى يوم الاثنين ثانى ذى القعدة، وتوجّه إلى الربيع، وعاد من يومه إلى القلعة وهو فى أناس قليلة، ثمّ بعد عوده رسم بقتل الأمير جرباش العمرىّ، والأمير خشكلدى بثغر الإسكندريّة، فقتلا بها ودفنا بالثّغر المذكور.
ثمّ فى رابع عشر من ذى القعدة، أنفق السّلطان على المماليك السّلطانية نفقة السفر؛ فأعطى لكلّ نفر سبعين دينارا ناصريّا، وبعث للأمير الكبير دمرداش المحمّدىّ ثلاثة آلاف دينار، ولكلّ من أمراء الألوف بألفى دينار، ولامراء الطّبلخانات ما بين سبعمائة دينار إلى خمسمائة دينار.
ثم فى ليلة الخميس رابع عشرين ذى القعدة، طلب السّلطان الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد بن الطّبلاوىّ؛ فلما حضر إلى عنده ضرب عنقه بيده، بعد أن قتل مطلّقته بنت صرق بيده تهبيرا بالسّيف عند كريمتى بقاعة العواميد «2» ، فإنها كانت يوم ذاك صاحبة القاعة.
وخبر ذلك: أن السّلطان الملك الناصر كان قد طلّق خوند بنت صرق المذكورة، ونزلت إلى دارها، وكان له إليها ميل، فوشى بها أنّ(13/130)
ابن الطّبلاوىّ المذكور وقع بينه وبينها اجتماع، وظهر له قرائن تدلّ على ذلك، منها أنّه وجد لها خاتم عنده.
فأرسل السّلطان خلفها، فلبست أفخر ثيابها ظنّا منها أنّ السّلطان يريد يعيدها لعصمته. قالت أختى خوند فاطمة: وكان السّلطان جالسا عندى بالقاعة، فلمّا قيل له جاءت خوند بنت صرق نهض من وقته وخرج إلى الدّهليز، وجلس به على مسطبة.
قالت: فخرجت خلفه ولا علم لى بقصده، فجاءت بنت صرق وقبّلت يده، فقال لها: يا قحبة، مراكيب الملوك تركبها البلّاصية؟!
وقبل أن تتكلم ضربها بالنّمجاة «1» قطع أصابعها- وكانت مقمعة بالحناء- فصاحت وهربت، فقام خلفها وضربها ضربة ثانية قطع من كتفها قطعة، وصارت تجرى وهو خلفها- وقد اجتمع جميع الخوندات عندى بالقاعة للسّلام على بنت صرق المذكورة- ولا زال يضربها بالنّمجاة وهى تجرى إلى أن دخلت المستراح، فتمّم قتلها فى صحن المستراح، ثمّ قطع رأسها وأخذها بدبّوقتها «2» - وفى آذانها الحلق البلخش «3» الهائلة- وخرج إلى قاعة الدّهيشة «4» ، ووضعها بين يديه وغطّاها بفوطة، ثمّ طلب ابن الطبلاوىّ المقدّم ذكره وأجلسه وكشف له عن الفوطة، وقال له: تعرف هذه الرأس؟ فأطرق.(13/131)
فضربه بالنّمجاة طيّر رقبته. ولفهما معا فى لحاف وأمر بدفنهما فى قبر واحد. قالت أختى [خوند فاطمة] «1» : وصار دم بنت صرق فى حيطان القاعة ودهليزها.
وقالت: فوالله لمّا دخل الفداويّة «2» بقلعة دمشق على الملك الناصر ليقتلوه- وكان استصحبنى معه لأعود الوالد فى مرضه- فصارت الفداويّة تضربه بالسكاكين، وهو يفرّ من بين أيديهم كما كانت تفرّ بنت صرق أمامه وهو يضربها بالنّمجاة. وبقى دمه بحيطان البرج شبه دم بنت صرق بحيطان القاعة. قلت: فانظروا إلى هذا الجزاء الذي من جنس العمل- انتهى.
ثمّ أصبح السلطان أمر بخروج الجاليش من الأمراء إلى البلاد الشّامية، فخرجوا بتجمّل عظيم- وعليهم آلة الحرب هم ومماليكهم- وعرضوا على السّلطان وهم مارّون من تحت القلعة والسّلطان ينظر إليهم من أعلى القصر السلطانىّ. وساروا حتى نزلوا بالرّيدانيّة خارج القاهرة فى يوم الخميس رابع عشرين ذى القعدة من سنة أربع عشرة وثمانمائة.
وهم: الأمير بكتمر جلّق رأس نوبة الأمراء وصهر السلطان زوج ابنته، وشاهين الأفرم أمير سلاح، وطوغان الحسنىّ الدّوادار الكبير، وشاهين الزّردكاش، بمضافيهم.
وكان السّلطان قبل خروج الأمراء المذكورين- من عظم غضبه وحنقه على الأمير نوروز الحافظىّ- جمع القضاة، وطلّق أخته خوند سارة بنت الملك الظاهر(13/132)
برقوق من زوجها الأمير نوروز، وزوّجها للأمير مقبل الرّومىّ- على كره منها، بعد أن هدّدها بالقتل- بعقد ملفق من قضاة الجاه والشوكة.
فعظم ذلك على الأمير نوروز إلى الغاية، ولم يحسن ذلك ببال أحد- انتهى.
ودام الأمراء بالرّيدانيّة إلى يوم السّبت خامس ذى الحجّة فرحلوا منها يريدون الشّام.
ثمّ ركب السلطان فى يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجّة ونزل من قلعة الجبل ببقيّة أمرائه وعساكره- والجميع عليهم آلة السّلاح- بزىّ لم ير أحسن منه، بطلب هائل جرّفيه ثلاثمائة جنيب من خواصّ الخيل بالسّروج الذّهب التى بعضها مرصّع بالفصوص المجوهرة المثمّنة «1» ، ومياثرها «2» المخمل المطرّز بالزركش، وعلى أكفالها العبى «3» الحرير المثمنة، وفيها العبى المزركشة بالذهب، وفيها بالكنابيش «4» الزّركش، والكنابيش المثلّثة بالزّركش والرّيش واللؤلؤ، وكلّها باللّجم المسقّطة «5» بالذّهب والفضّة، والبذلات المينة «6» ، والبذلات الذّهب الثّقيلة، ومن وراء الجنائب المذكورة ثلاثة آلاف(13/133)
فرس ساقها جشارا «1» ثمّ عدد كبير من العجل التى تجرّها الأبقار وعليها آلات الحصار؛ من مكاحل النّفط الكبار ومدافع النّفط المهولة، والمناجيق «2» العظيمة ونحو ذلك، ثمّ خرجت خرانة السّلاح- أعنى الزّردخاناة- على أكثر من ألف جمل تحمل القرقلات «3» ، والخوذ، والزّرديّات، والجواشن «4» ، والنّشّاب، والرّماح، والسّيوف وغير ذلك.
ثمّ خرجت خزانة المال فى الصّناديق المغطّاة بالحرير الملوّن، وفيها زيادة على أربعمائة ألف دينار، وجميع الطّبّال والزّمّار- مماليكه مشتراواته- بالكلفتات، وعليهم ططريّات «5» صفر، وغالبهم قد ناهز الحلم، بأشكال بديعة من الحسن، وقد تعلموا صناعة ضرب الطبل والزّمر وأتقنوه إلى الغاية، وهذا شىء لم يفعله ملك قبله.
ثمّ خرج حريم السّلطان فى سبع محفّات «6» قد غشّيت بالحرير المخمّل الملوّن، ما خلا محفّة الأخت فإنها غشّيت بالزّركش؛ كونها كانت خوند الكبرى صاحبة القاعة، ومن ورائهم نحو الثلاثين حملا من المحاير»
المغشّاة بالحرير والجوخ.
ثمّ خرج المطبخ السّلطانىّ، وقد ساق الرّعيان برسمه ثمانية وعشرين(13/134)
ألف رأس من الغنم الضّأن، وكثيرا من البقر والجاموس لحلب ألبانها، فبلغت عدّة الجمال التى صحبة السّلطان إلى ثلاثة وعشرين ألف جمل، وهذا شىء كثير إلى الغاية.
ثمّ سار السلطان من القاهرة حتى نزل بمخيّمه من الرّيدانيّة تجاه مسجد التّبن «1» وهذه تجريدة السلطان الملك النّاصر السّابعة إلى البلاد الشّاميّة، وهى التى قتل فيها حسبما يأتى ذكره، وهذه التّجاريد خلاف تجريدة السّعيديّة التى انكسر فيها الملك النّاصر من الأمراء وعاد إلى الدّيار المصرية، ولم يصل إلى قطيا، على أنّه تكلّف فيها إلى جمل مستكثرة، وذهب له من الأثقال والقماش والسّلاح أضعاف ما تكلّفه فى النّفقة وغيرها. وكانت تجريدته الأولى إلى قتال الأمير تنم الحسنىّ الظّاهرىّ نائب الشّام فى سنة اثنتين وثمانمائة.
وتجريدته الثانية لقتال تيمورلنك فى سنة ثلاث وثمانمائة.
والثالثة لقتال جكم من عوض فى سنة تسع وثمانمائة بعد واقعة السّعيدية.
والرابعة فى سنة عشر وثمانمائة، التى مسك فيها الأمير شيخا المحمودىّ نائب الشّام والأتابك يشبك الشّعبانىّ، وحبسهما بقلعة دمشق، وأطلقهما منطوق نائب قلعة دمشق.
والخامسة فى محرّم سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، وهى التى حصر فيها شيخا ونوروزا بصرخد.
والسادسة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وهى التى حصر فيها أيضا شيخا ونوروزا بقلعة الكرك.
والتجريدة السابعة هذه.
فجملة تجاريده ثمانى سفرات بواقعة السعيدية- انتهى.(13/135)
ثمّ خرج الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العبّاس، والقضاة الأربعة، وهم:
قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ الشّافعىّ، وقاضى القضاة ناصر الدين محمّد بن العديم الحنفىّ، وقاضى القضاة المالكىّ «1» ، وقاضى القضاة الحنبلىّ «2» ، ونزل الجميع بالرّيدانيّة، وتردّد السّلطان فى مدّة إقامته بالرّيدانيّة إلى التّربة التى أنشأها على قبر أبيه بالصّحراء خارج باب النّصر، وبات بها ليالى، ونحر بها ضحاياه، وجعل الأمير يلبغا الناصرىّ نائب الغيبة بالقاهرة، وجعل فى باب السّلسلة الأمير ألطنبغا العثمانىّ، وبقلعة الجبل الأمير أسنبغا الزّردكاش شادّ الشّراب خاناة، وزوج أخته خوند بيرم، وولّى نيابة القلعة للأمير شاهين الرّومىّ عوضا عن كمشبغا الجمالىّ، وبعث كمشبغا الجمالىّ صحبة حريمه، وقدّمهم بين يديه بمرحلة.
ثمّ رحل السّلطان من تربة أبيه قبيل الغروب من يوم الجمعة ثانى عشر ذى الحجّة من سنة أربع عشرة وثمانمائة، لطالع اختاره له الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقاعة، وقد حزر ابن زقاعة وقت ركوبه، وعوّق السّلطان عن الركوب- والعساكر واقفة- حتى دخل الوقت الذي اختاره له، فأمره فيه بالرّكوب، فركب السّلطان وسار يريد البلاد الشّاميّة، ونزل بمخيّمه من الرّيدانيّة، وفى ظنّه أنّه منصور على أعدائه؛ لعظم عساكره، ولطالع اختاره له ابن زقاعة، فكانت عليه أيشم «3» السّفرات، فلعمرى هل رجع الشيخ برهان الدين بن زقاعة المذكور بعد ذلك عن معرفة هذا العلم أم استمرّ على دعواه؟!.
وأنا أتعجّب من وقاحة أرباب هذا الشّأن حيث يقع لهم مثل هذا الغلط الفاحش وأمثاله، ثم يعودون إلى الكلام فيه والعمل به- انتهى.(13/136)
ثمّ استقلّ السّلطان بالمسير فى سحر يوم السبت ثالث عشر ذى الحجّة.
وفى هذا الشّهر انتكس الوالد ثالث مرّة، ولزم الفراش إلى أن مات «1» حسبما يأتى ذكره.
وأمّا السّلطان الملك الناصر فإنّه قبل المسير حذّر عسكره من الرّحيل قبل النّفير، فبلغه وهو بالرّيدانيّة أنّ طائفة رجلت، فركب بنفسه وقبض على واحد ووسّطه، ونصب مشنقة، فما وصل إلى غزّة حتى قتل عدّة من الغلمان؛ من أجل الرّحيل قبل النّفير، فتشاءم الناس بهذه السّفرة.
ثمّ سار حتى نزل مدينة غزّة، فوسّط بها تسعة عشر نفرا من المماليك الظاهريّة وهو لا يعقل من شدّة السّكر، وعقيب ذلك بلغه أنّ الأمراء الذين بالجاليش توجّهوا بأجمعهم إلى شيخ ونوروز، وكان من خبرهم أنّهم لمّا وصلوا إلى دمشق دخلوا إلى الوالد وقد ثقل فى الضّعف وسلّموا عليه، وأخبره بكتمر جلّق وطوغان أنهما بمن معهما يريدون التّوجّه إلى شيخ ونوروز، فرجّعهم الوالد عن ذلك، فذكروا له أعذارا فسكت عنهم، فقاموا عنه وخرجوا بأجمعهم وتوجّهوا إلى شيخ ونوروز- ما خلا شاهين الزّردكاش- فإنّه لم يوافقهم على الذّهاب، فمسكوه وذهبوا به إلى شيخ ونوروز.
ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك، ركب وسار من غزّة مجدّا فى طلبهم، وقد نفرت منه القلوب، حتى نزل بالكسوة فى يوم الثلاثاء سلخ ذى الحجّة، فألبس من معه من العساكر السّلاح ورتبهم بنفسه.
ثمّ سار بهم قاصدا دمشق حتى دخلها من يومه وقت الزّوال، وقد خرج أعيان دمشق وعوامّها لتلقّيه وللفرجة عليه، وزيّنت لقدومه دمشق، ونزل بالقلعة(13/137)
بعد أن نزل عند الوالد بدار السّعادة وسلّم عليه، وأمر زوجته خوند [فاطمة «1» ] بالإقامة عند الوالد.
[ما وقع من الحوادث سنة 815]
ثمّ أصبح يوم الأربعاء أوّل محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة خلع على القاضى شهاب الدين أحمد بن الكشك وأعاده إلى قضاء الحنفيّة بدمشق.
ثمّ شفع الوالد فى القاضى ناصر الدين محمّد بن البارزىّ، فطلبه السّلطان بدار السّعادة وأطلقه من سجنه بقلعة دمشق.
ثمّ أفرج السّلطان أيضا عن الأمير نكباى الحاجب، وكان الوالد قبض عليه وحبسه.
ثمّ دخل السّلطان للوالد واستشاره فى الملأ من النّاس فيما يفعل مع هؤلاء الأمراء العصاة، فقال له الوالد: يا خوند تذبح فى سنتك خمسمائة نفس، وتتجرّد فى سنتك؟! فرسك الذي تحتك عاص عليك، فقال له الملك الناصر: الكلام فى الفائت فائت، أيش تشير علىّ الآن؟ فقال: عندى رأى أقوله، إن فعله السّلطان انصلح به حاله، قال: وما هو؟ قال: ترجع من هنا إلى مصر، فمن كان له إليك ميل عاد صحبتك، ومن كان قد داخله الرّعب منك فهو يفارقك من هنا ويتوجّه إلى القوم، فإذا دخلت إلى مصر ناد بالأمان، وكفّ عن قتل مماليك أبيك وغيرهم، وأغدق عليهم بالإحسان، وأكثر إليهم من الاعتذار فيما وقع منك فى حقّ غيرهم، واسلك معهم قرائن تدلّ على صفو النّيّة، فبهذا تطمئنّ قلوب رعيتّك، ويعودون لطاعتك، فإذا صار معك منهم ألف مملوك قهرت بهم جميع أعدائك؛ لما شاع من إقدامك وشجاعتك، ولعظم ما فى قلب أعدائك من الرّعب منك، وأيضا فإنّ هؤلاء الأمراء العصاة قد كثروا إلى الغاية، فالبلاد الشّاميّة لا تقوم بأمرهم، فإمّا أن يقع بينهم الخلف على البلاد فيفترقوا، وإمّا أن يتّفقوا ويجتمعوا على قتالك ويأتوك إلى مصر، فاخرج إليهم(13/138)
والقهم برأس الرّمل، فإن انتصرت عليهم فافعل ما بدالك، وإن كانت الأخرى فاخرج إلى البلاد؛ فمن قرا يوسف صاحب العراق إلى والى قطيا فى طاعتك، فما عندى غير هذا. فاستحسن جميع عسكره هذا الرأى إلّا هو؛ فإنّه لم يعجبه، وسكت طويلا، ثمّ رفع رأسه وقال: يا أطا «1» ، أنا قتلت هذه الخلائق لتعظّم حرمتى، فإذا رجعت من هنا أيش يبقى لى حرمة، وأنا أعرف بحال هؤلاء من غيرى، والله ما صفتهم قدّامى إلّا كالصّيد المجروح، والله إذا بقى معى عشرة مماليك قاتلتهم بهم، ولا أطلب إلّا أن يثبتوا ويقفوا، ويقاتلونى حتى أنتصف منهم، فقال له الوالد: اعلم أنّهم الآن يقاتلونك.
ثمّ طلبنا الملك النّاصر [أنا وإخوتى] «2» فأحضرونا بين يديه، وكنّا ستّة ذكور، فقبّلنا يده- وأنا أصغر الجميع- فسأل عن. سمائنا، فقيل له ذلك، ثمّ تكلّم الأتابك دمرداش المحمّدىّ عن لسان الوالد بالوصيّة علينا، فقال [السّلطان] «3» : هؤلاء أولادى وأصهارى وإخوتى، ما هذه الوصيّة فى حقّهم؟
كلّ ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلّم، فلمّا قام الملك النّاصر قال الوالد: أودعت أولادى إلى الله تعالى، واستعنت به فى أمرهم، فنفعنا ذلك غاية النّفع- ولله الحمد- مع ما أخذ لنا من الأموال التى لا تدخل تحت حصر عند هزيمة الملك النّاصر من الأمراء، ودخوله إلى دمشق.
ثمّ خرج السّلطان الملك الناصر من دمشق بعساكره فى يوم الاثنين سادس المحرّم، ونزل برزة، ثمّ رحل منها يريد محاربة الأمراء، ونزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا وساق فى أثرهم إلى بعلبك، فوجدهم قد توجّهوا إلى البقاع «4» فقصدهم، فمضوا نحو الصّبيبة(13/139)
فتبعهم حتى نزلوا باللّجّون، فساق خلفهم وهو سكران لا يعقل، فما وصل إلى اللّجّون حتى تقطّعت عساكره عنه من شدّة السّوق، ولم يبق معه غير من ثبت على سوقه، وهم أقلّ ممّن تأخّر.
وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم من سنة خمس عشرة وثمانمائة، فوجد الأمراء قد نزلوا باللّجّون وأراحوا، وفى ظنّهم أنّه يتمهّل ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنّهم الليل ساروا بأجمعهم من وادى عارة «1» إلى جهة الرّملة، وسلكوا البرّيّة عائدين إلى حلب، وليس فى عزمهم أن يقاتلوه أبدا، لا سيّما الأمير شيخ فإنّه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه، فحال وصول الملك النّاصر إلى اللّجّون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدىّ أن يريح خيله وعساكره تلك اللّيلة، ويقاتلهم من الغد، فأجابه السّلطان بأنّهم يفرّون اللّيلة، فقال له دمرداش المذكور: إلى أين «بقوا» يتوجّهوا يا مولانا السّلطان بعد وقوع العين فى العين؟ يا مولانا السّلطان مماليكك فى جهد وتعب من السّوق، والخيول كلّت، والعساكر منقطعة، فلم يلتفت إلى كلامه، وحرّك فرسه ودقّ بزخمته على طبله، وسار نحو القوم، وحمل عليهم بنفسه من فوره حال وصوله، فارتضمت «2» طائفة من مماليكه فى وحل كان هناك.
ثمّ قبل اللّقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره، وذهب إلى الأمراء، وتداول ذلك من المماليك الظّاهرية واحدا بعد واحد، والملك الناصر لا يلتفت إليهم، ويشجّع من بقى معه حتى التقاهم وصدمهم صدمة هائلة، قتل فيها من عسكره الأمير مقبل الرّومىّ أحد أمراء الألوف، الذي زوّجه الملك النّاصر بأخته- زوجة الأمير نوروز-(13/140)
ثمّ قتل أحد خواصّه من الأمراء [وهو] الأمير ألطنبغا شقل، وتقهقر عسكره مع قلّتهم، فانهزم السّلطان عند ذلك، بعد أن قاتل بنفسه، وساق يريد دمشق- وكان الرّأى توجّهه إلى مصر- وتبعه سودون الجلب، وقرقماس ابن أخى دمرداش، ففاتهما الملك النّاصر ومضى إلى دمشق، وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وفتح الدّين فتح الله كاتب السّر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاصّ ابن أبى شاكر، واستولوا على جميع أثقال الملك النّاصر وأمرائه.
وامتدّت أيدى أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر فى أصحاب الملك النّاصر، وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقوى أمرهم، وأذّن المغرب فتقدّم إمام الأمير شيخ، شهاب الدين أحمد الأذرعىّ، وصلى بهم المغرب، وقرأ فى الرّكعة الأولى بعد الفاتحة:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
«1» .
فوقعت هذه الآية الموقع الحسن، كونهم كانوا فى خوف وجزع وصاروا إلى الأمن والتّحكم، وباتوا تلك اللّيلة بمخيّماتهم- وهى ليلة الثلاثاء- وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه، بل كلّ واحد منهم يقول: أنا رئيس القوم وكبيرهم، فنادى شيخ بأنّه الأمير الكبير، ورسم بما شاء، ونادى نوروز أيضا بأنه الأمير الكبير، ورسم بما أراد، ونادى سودون المحمّدىّ بأنه الأمير الكبير، وقد استولى على الإسطبل السّلطانىّ بما فيه لنفسه، ونادى بكتمر جلّق بأنه الأمير الكبير.(13/141)
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله: حدّثنى فتح الله كاتب السرّ قال: بعث إلىّ الأمير شيخ ونوروز، قالا لى: أكتب بما جرى إلى الدّيار المصريّة، وأعلم الأمراء به، فقال لهما: من السّلطان الذي أكتب عنه؟ ... فأطرق كلّ منهما ساعة ثم قالا: ابن أستاذنا ما هو هنا حتى نسلطنه- يريدان الأمير فرج ابن الملك النّاصر فرج.
فلمّا رأى انقطاعهما قال: الرأى أن يتقدّم كلّ منكما إلى موقّعه بأن يكتب عنه إلى الأمراء بمصر كتابا بصورة الحال، ويأمرهم بحفظ القلعة والمدينة، ويعدهم بالخير، ثمّ يكتب الخليفة كذلك. فوقع هذا منهما الموقع الحسن، وكتب كلّ منهما كتابا، وندب قجقار القردمىّ لحمل الكتب، وجهّز إلى مصر، فمضى من يومه، ونودى بالرّحيل فى يوم الأربعاء خامس عشره، وليس عندهم خبر عن الملك النّاصر ولا أين ذهب- انتهى.
قلت: وأما الملك النّاصر، فإنه لمّا انكسر سار نحو دمشق حتى دخلها ليلة الأربعاء فى ثلاثة نفر، ونزل بالقلعد وسأل عن الوالد فقيل له محتضر.
ومات الوالد فى يوم الخميس سادس عشر المحرّم، ودفن من يومه بتربة الأمير تنم الحسنىّ نائب الشّام، خارج دمشق بميدان الحصى «1» .
وأمّا الملك الناصر فإنه أصبح يوم الأربعاء استدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكلّ خير، وحثّهم على نصرته والقيام معه، فانقادوا له، فأخذ فى تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئا بعد شىء.(13/142)
ثمّ قدم عليه الأتابك دمرداش، فأصبح خلع عليه فى عصر يوم الخميس سادس عشر المحرّم بولايته نيابة دمشق- بعد موت الوالد- رحمه الله.
وأخذ السلطان فى الاستعداد، وأخرج الأموال، ثمّ استولى على جميع ما للوالد من خيل وجمال وقماش وزردخاناة ومال؛ من كونه وصيّا، وأيضا وكيل زوجته، فكان من جملة ما أخذه نحو الألف فرس ما بين مراكيب وجشار «1» ، واستخدم جميع مماليك الوالد المشتروات ومماليك الخدمه، وكانوا أيضا نحو الألف مملوك، وخلع على طوغان دوادار الوالد باستقراره على تقدمة ألف بدمشق على عادته، وعلى أرغون شاه شادّ شراب خاناته باستقراره على إمرة طبلخاناة وكذلك رأس نوبة، فكلّموه فيما أخذ للوالد من الخيول والقماش، فوعدهم برد ما أخذ وأضعافه.
ثمّ أحضر السّلطان الأموال وصبّها بين يديه، فأشار عليه دمرداش بالخروج إلى حلب فلم يوافقه، وأبى إلا الإقامة فى دمشق، فأشار عليه ثانيا بالعود إلى الدّيار المصرية فلم يرض، وأقام بدمشق، وكان رأى دمرداش فيه غاية الجودة، فإنّ جميع أمراء التركمان كانت مع الملك الناصر مثل قرايلك، وابن قرمان، وبنى دلغادر وغيرهم، فحبّب إليه الإقامة بدمشق لأمر سبق فى القدم، ولما أخرج السلطان الأموال أتاه الناس من كلّ فجّ من التّركمان والعربان والعشير «2» وغيرهم، فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقوّاهم بالسلاح، وأنزل كلّ طائفة منهم بموضع يحفظه، فكان عدّة من استخدمه من المشاة زيادة على ألف رجل، وحصّن القلعة بالمناجيق(13/143)
والمدافع الكبار؛ وجعل بين كلّ شرفتين من شرفات «1» سور المدينة جنويّة «2» ؛ ومن ورائها الرّماة بالسّهام الخلنج «3» ، والأسهم الخطائية، ونصب على كلّ برج من أبراج السور شيطانيا «4» يرمى به الحجارة.
وأتقن تحصين القلعة بحيث إنه لم يبق سبيل للتوصّل إليها بوجه من الوجوه.
ثمّ خلع على نكباى الحاجب بنيابة حماة، ثمّ ركب قاضى القضاة جلال الدين البلقينى، ومعه بقيّة قضاة مصر ودمشق؛ وجماعة من أرباب الدّولة، ونودى بين أيديهم عن لسان السلطان أنه قد أبطل المكوس، وأزال المظالم فادعوا له؛ فعظم ميل الشّاميّين إليه وتعصبوا له، وصار غالبهم من حزبه، وغنّوا عن لسانه:
أنا سلطان ابن سلطان وأنت يا شيخ أمير وأكثروا من الدّعاء له والوقيعة فى شيخ ونوروز، ووعدوه القتال معه حتى الممات.
واستمرّ ذلك إلى بكرة يوم السّبت ثامن عشر المحرّم، فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السّلطان عسكرا فتوجّهوا إلى القبيبات «5»(13/144)
فبرز لهم سودون المحمّدى، وسودون الجلب، واقتتلوا حتّى تقهقر السّلطانيّة منهم مرّتين، ثمّ انصرف الفريقان.
وفى يوم الأحد تاسع عشر المحرّم ارتحل الأمراء عن قبّة يلبغا، ونزلوا غربىّ دمشق من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا بالنّشّاب نهارهم وبالنّفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق، فلمّا كان الغد من يوم الاثنين عشرين المحرّم اجتمع الأمراء للحصار، فوقفوا شرقىّ البلد وقبليّة، ثمّ كرّوا راجعين ونزلوا ناحية القنوات «1» إلى يوم الأربعاء ثانى عشرينه، ووقع القتال من شرقىّ البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم «2» ، وامتدّت أصحابه إلى العقيبة «3» ، ونزل طائفة بالصالحيّة والمزّة، ونزل شيخ بدار غرس الدين خليل أستادار الوالد تجاه جامع كريم الدّين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب السرّ فتح الله، ونزل بكتمر جلّق وقرقماس- سيّدى الكبير- فى جماعة من جهة بساتين معين الدّين «4» ومنعوا الميرة عن الملك النّاصر، وقطعوا نهر دمشق؛ فقد الماء من البلد، وتعطّلت الحمّامات وغلّقت الأسواق.
واشتدّ الأمر على أهل دمشق، واقتتلوا قتالا شديدا، وتراموا بالسّهام والنّفوط، فاحترق عدّة حوانيت بدمشق. وكثرت الجراحات فى أصحاب(13/145)
الأمراء من الشّاميّين، وأنكاهم السلطانية بالرّمى من أعلى السّور، وعظم الأمر، وكلّوا من القتال.
تمّ إن الأمير شيخا أرسل إلى شهاب الدّين الحسبانىّ «1» ، والباعونى «2» ، وقاضى القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفىّ قاضى قضاة الدّيار المصرية- وكان قد انقطع بالشّبلية «3» لمرض به- فأحضر شيخ الثلاثة وأنزلهم عنده، ثم لحق ناصر الدّين بن البارزىّ، وصدر الدّين الأدمىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق بالأمير شيخ.
ولمّا بلغ الملك الناصر توجّه ابن العديم إلى شيخ أرسل خلف محبّ الدّين ابن الشّحنة قاضى حلب وولّاه قضاء الحنفيّة بالدّيار المصرية عوضه.
ثمّ فى يوم الجمعة رابع عشرينه أحضر الأمير شيخ الأمير بلاط الأعرج شادّ الشّراب خاناة- وكان ممّن قبض عليه بعد انهزام الملك النّاصر- ووسّطه، ثمّ أحضر أيضا الأمير بلاط أمير علم- وكان ممّن قبض عليه أيضا يوم الواقعة؛ من أجل أنّه كان يتولّى ذبح خشداشيّته من المماليك الظّاهريّة- فلما حمل للتّوسيط صاح: يا ظاهريّة الجيرة، أنا خشداشكم، قالوا له: الآن أنت خشداشنا، وأيّام الذبح كنت عدوّنا!! فلم يقم إليه أحد.
وفى يوم السّبت خامس عشرين المحرّم، خلع الخليفة المستعين بالله الملك النّاصر فرج من السّلطنة، واتّفق الأمراء على إقامة الخليفة المستعين بالله المذكور فى(13/146)