وفيها توفّى الصاحب تاج الدين أحمد بن [المولى «1» ] شرف الدين سعيد ابن شمس الدين محمد بن الأثير الحلبى الكاتب المنشئ. وأولاد ابن الأثير هؤلاء غير بنى الأثير الموصليّين. وكان تاج الدين هذا بارعا فاضلا معظّما فى الدّول باشر الإنشاء بدمشق ثم بمصر للملك الظاهر بيبرس، ثم للملك المنصور قلاوون، وكان له نظم ونثر ولكلامه رونق وطلاوة. ومن عجيب ما اتّفق أنّ الأمير عز الدين أيدمر السّنانىّ النّجيبىّ الدّوادار أنشد تاج الدين المذكور عند قدومه إلى القاهرة فى الأيام الظاهريّة أوّل اجتماعه به، ولم يكن يعلم اسمه ولا اسم أبيه، قول الشاعر:
كانت مساءلة الرّكبان تخبرنى ... عن أحمد بن سعيد أحسن الخبر
حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذنى بأحسن ممّا قد رأى بصرى
فقال له تاج الدين: يا مولانا، أتعرف أحمد بن سعيد؟ فقال: لا، فقال: المملوك أحمد بن سعيد. ولم يزل تاج الدين هذا يترقّى الى أن ولى كتابة السرّ بمصر بعد موت فتح الدين محمد بن عبد الظاهر الآتى ذكره. ولمّا ولى كتابة السرّ سافر مع السلطان الى الديار المصريّة فأدركه أجله فمات بغزّة «2» ودفن هناك؛ وولى بعده كتابة السرّ ابنه عماد الدين «3» إسماعيل مدّة إلى أن عزل بشرف الدين عبد الوهاب بن فضل «4» الله العمرىّ.
وكان تاج الدين فاضلا نبيلا، وله يد فى النظم والنثر. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
أتتنى «5» أياديك التى لو تصوّرت ... محاسنها كانت من الأنجم الزّهر(8/34)
وفيها توفى القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر ابن نشوان بن عبد الظاهر الجذامىّ الرّوحىّ «1» المصرىّ المعروف بابن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء ومؤتمن المملكة بالديار المصريّة. مولده بالقاهرة فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة وسمع الحديث وتفقّه ومهر فى الإنشاء، وساد فى الدولة المنصوريّة قلاوون برأيه وعقله وحسن سياسته، وتقدّم على والده فكان والده من جملة الجماعة الذين يصرفهم أمره ونهيه. وقد تقدّم ذكره فى ترجمة الملك المنصور قلاوون والتعريف بحاله. ومن شعر فتح الدين المذكور لمّا توجّه إلى دمشق صحبة السلطان وحصل له توعّك فكتب إلى والده يقول:
إن شئت تبصرنى «2» وتبصر حالتى ... قابل إذا هبّ النسيم قبولا
تلقاه مثلى رقّة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا
فهو الرسول اليك منى ليتنى ... كنت اتّخذت مع الرسول سبيلا
وله:
ذو قوام يحور منه اعتدال ... كم طعين به من العشّاق
سلب القضب لينها فهى غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
قلت: وأجاد شمس الدين محمد بن العفيف فى هذا المعنى حيث قال:
قدّه حاز اعتدالا ... فله فتك ونسك
سلب الأغصان لينا ... فهى بالأوراق تشكو(8/35)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى سيف الدين عبد الرحمن بن محفوظ الرّسعنىّ «1» فى المحرّم. وخطيب دمشق زين الدين عمر بن مكّى الوكيل «2» فى ربيع الأوّل. والمقرئ رضىّ الدين جعفر بن القاسم [المعروف «3» با] بن دبوقا الرّبعىّ فى رجب. والعدل علاء الدين علىّ بن أبى بكر بن أبى الفتح بن محفوظ [بن «4» الحسن] بن صصرّى الضرير فى شعبان. والموقّعان: سعد الدين [سعد «5» الله] ابن مروان الفارقىّ، وفتح الدين محمد بن محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 692]
السنة الثالثة من ولاية الملك الأشرف خليل على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
فيها حصل ببلاد غزّة والرّملة «6» وقاقون «7» والكرك «8» زلزلة عظيمة، وكان معظم تأثيرها بالكرك بحيث انهدم ثلاثة أبراج من قلعتها، وبنيان كثير من دورها وأماكنها.
وكانت الزّلزلة المذكورة فى صفر.(8/36)
وفيها كانت وفاة الأمير الكبير شمس الدين سنقر بن عبد الله العلائىّ، ثم الصالحىّ النّجمىّ المعروف بالأشقر، كان من كبار الأمراء ممّن تملّك الشام فى أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون ودعا لنفسه وتلقّب «بالملك الكامل» وخطب له على منابر الشام، وضرب الدرهم والدينار باسمه. وقد أوضحنا من أمره نبدة كبيرة فى عدّة مواضع من ترجمة الملك المنصور قلاوون وغيره. ووقع له مع الملك المنصور أمور أسفرت بعد سنين على أنّه دخل تحت طاعته، وصار من جملة أكابر أمرائه. واستمرّ سنقر على ذلك إلى أن مات الملك المنصور قلاوون وملك بعده ابنه الملك الأشرف خليل صاحب الترجمة؛ قبض عليه فى هذه السنة وخنقه وخنق معه جماعة من الأمراء لأمر اقتضاه رأيه. والأمراء الذين قتلوا معه مثل: الأمير ركن الدين طقصو الناصرىّ، وجرمك الناصرىّ وبلبان الهارونىّ؛ وكان معهم الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ الذي تسلطن بعد ذلك، فوضع السلطان الوتر فى رقبته لخنقه فانقطع الوتر؛ فقال لاچين: يا خوند، إيش ذنبى! مالى ذنب إلّا أنّ طقصو حموى وأنا أطلّق بنته، فرقّوا له خشداشيته لأمر سبق فى علم الله وقبلّوا الأرض وسألوا السلطان فيه، وضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، فأطلقه السلطان وأعاده إلى رتبته، وأخذ سنقر الأشقر هذا ودفن بالقرافة. وكان سنقر المذكور أميرا شجاعا مقداما كريما حسن السياسة مهابا جليلا معظّما فى الدّول، وخوطب بالسلطنة سنين عديدة إلى أن ضعف أمره ونزل من قلعة صهيون بالأمان، وقدم على الملك المنصور قلاوون فأكرمه قلاوون، ودام على ذلك إلى أن مات. وكان سنقر شجاعا أشقر عبل البدن جهورىّ الصوت مليح الشكل. رحمه الله تعالى.(8/37)
وفيها توفّى الشيخ الصالح القدوة المعتقد شيخ الشام أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ السيد العارف أبى محمد عبد الله الأرموىّ «1» بزاويته بجبل قاسيون بعد الظهر وكانت جنازته مشهودة، رحمه الله.
وفيها توفّى الصاحب محيى الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر السّعدىّ الموقّع كاتب الإنشاء بالديار المصريّة. وقد تقدّم ذكر ولده القاضى فتح الدين فى السنة الماضية. كان محيى الدين هذا من سادات الكتاب ورؤسائهم وفضلائهم. ومولده فى سنة عشرين وستمائة بالقاهرة، ومات يوم الأربعاء ثالث شهر رجب ودفن بالقرافة بتربته»
التى أنشأها. وهو صاحب النظم الرائق والنثر الفائق. ومن شعره قوله:
يا قاتلى بجفون «3» ... قتيلها ليس يقبر
إن صبّروا عنك قلبى ... فهو القتيل المصبّر
وله وأجاد إلى الغاية:
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأراها فى الشّجو ليست هنالك
خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت وما الحزين كذلك
وله مضمّنا:
لقد قال كعب فى النّبيّ قصيدة ... وقلنا عسى فى مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك(8/38)
وله:
سلّفتنا على العقول السّلافه ... فتقاضت ديونها بلطافه
ضيّفتنا بالنّشر والبشر واليس ... ر ألا هكذا تكون الضّيافه
وقد سقنا من ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» عدّة أخر غير هؤلاء المقطّعات.
وفيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الحلبى، الأمير الكبير أحد الموصوفين بالشجاعة والإقدام، وقد شهد عدّة حروب، وله مواقف مشهورة مع العدوّ.
وكان أبيض الرأس واللّحية من أبناء الثمانين، وكان ولى نيابة دمشق فى آخر سنة ثمان وخمسين وستمائة. ولمّا تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس لم يبايعه سنجر هذا ودعا لنفسه وحلّف الأمراء وتسلطن بدمشق ولقّب «بالملك المجاهد» ، فلم يتمّ له ذلك حسب ما تقدّم ذكره فى أوّل ترجمة الملك الظاهر بيبرس، وقبض الظاهر عليه وحبسه مدّة سنين إلى أن مات. وتسلطن بعده ولده الملك السعيد أفرج عنه وأمّره، فدام على ذلك إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون، وخرج عليه الأمير سنقر الأشقر المقدّم ذكره وتسلطن بدمشق، ندب المنصور لحربه علم الدين سنجر هذا، وأضاف إليه العساكر المصريّة، فخرج إليه وقاتله وكسره وأخرجه من دمشق، ثمّ عاد إلى الديار المصريّة، فأنعم عليه المنصور قلاوون بأشياء كثيرة، ثم خانه وقبض عليه وحبسه إلى أن مات. فلمّا تسلطن ولده الملك الأشرف خليل أفرج عنه وأكرمه ورفع منزلته. وكان سبب مسك قلاوون له أنّه لمّا كسر سنقر الأشقر عظم فى أعين الناس ولهج بعض الناس بتسميته «بالملك المجاهد» كما كان تلقّب أوّلا لمّا ادّعى السلطنة، فبادره قلاوون وقبض عليه. وكان سنجر هذا من بقايا الأمراء الصالحيّة النّجميّة، رحمه الله تعالى.(8/39)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ الزاهد إبراهيم ابن العارف الشيخ عبد الله الأرموىّ فى المحرّم. وكمال الدين أحمد بن محمد النّصيبىّ الحلبىّ فى المحرّم. والمقرئ جمال الدين إبراهيم بن داود الفاضلىّ فى أوّل جمادى الأولى. والإمام القدوة تقىّ الدين إبراهيم بن علىّ بن الواسطى الحنبلىّ فى جمادى الآخرة، وله تسعون سنة. والسيف علىّ بن الرّضى عبد الرحمن المقدسىّ فى شوّال.
والمحدّث التقى عبيد [بن «1» محمد بن عبّاس] الإسعردىّ. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن ترجم المصرىّ راوى التّرمذىّ «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا. انتهت ترجمة الملك الأشرف خليل.(8/40)
[ما وقع من الحوادث سنة 693]
ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى على مصر
هو السلطان الملك الناصر أبو الفتوح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحىّ النّجمىّ الألفىّ سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها، مولده بالقاهرة فى سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة «1» الجبل، ووالده الملك المنصور قلاوون يحاصر حصن المرقب «2» ، وجلس على تخت الملك بعد قتل أخيه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون فى يوم الاثنين رابع عشر المحرّم، وقيل يوم الثلاثاء خامس عشر المحرّم، من سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لأنّ الملك الأشرف قتل بتروجة «3» فى يوم السبت ثانى عشر المحرّم وقتل قاتله الأمير بدر الدين بيدرا فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم، ثم اتّفقوا على سلطنة الملك الناصر محمد هذا عوضا عن أخيه، فتمّ له ذلك.
فتكون سلطنته فى أحد اليومين المذكورين تخمينا لما وقع فى ذلك من الاختلاف بين المؤرّخين. انتهى.
والملك الناصر هذا هو السلطان التاسع من ملوك التّرك بالديار المصريّة، ولما استقر فى السلطنة رتّبوا الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى وزيرا ومدبّرا للمملكه وأتابك العساكر؛ ثم قبضوا على جماعة من قتلة الملك الأشرف خليل حسب ما تقدّم ذكره، وتمّ ذلك ودام إلى العشرين من صفر. فبلغ الأمير زين الدين كتبغا أنّ الأمير علم الدين(8/41)
سنجر الشجاعىّ يريد الوثوب عليه وقبضه وقتله. وكان الذي أخبره بذلك سيف الدين قنقغ «1» التّتارى، وأعلمه بما فى باطن الشجاعىّ؛ والسبب فى «2» اطّلاعه على ما فى باطن الشجاعىّ أنّ هذا قنقغ هاجر من بلاد التّتار فى زمن الملك الظاهر بيبرس، وأقام بمصر وأقطع فى الحلقة فرزقه الله تعالى اثنى عشر ولدا كلّهم ذكور، منهم: ستة أولاد فى خدمة الملك الأشرف، وخمسة فى خدمة الشجاعىّ، وواحد منهم صغير؛ وجميع أولاده شباب ملاح من أجمل الناس صورة. وكان لقنقغ هذا منزلة عظيمة عند الشجاعىّ وكلمته مسموعة، وشفاعته مقبولة؛ وله اطّلاع على أمور الدولة بسبب أولاده، فعلم بما دبّره الشجاعىّ، فحملته الجنسيّة حتّى أعلم الأمير كتبغا على ما فى باطن الشجاعىّ؛ فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم الأمراء بالخبر، وكان الأمراء كارهين الشجاعىّ. فلمّا كان يوم الخميس ثانى عشرين صفر ركب الأمير كتبغا إلى سوق «3» الخيل فنزل إليه من القلعة أمير يقال له البندقدارىّ «4» وقال له من قبل الشجاعىّ:
أين حسام الدين لاچين المنصورى؟ أحضره الساعة؛ فقال له كتبغا: ما هو عندى، وكان لاچين من يوم قتل الأشرف قد اختفى، والمماليك الأشرفيّة قد أعياهم أمره(8/42)
من كثرة التفتيش عليه، فقال له البندقدارىّ: بلى، لاچين عندك، ثم مدّ يده إلى سيفه ليضربه به، فجدب سيف الدين بلبان الأزرق مملوك كتبغا سيفه وعلا «1» به البندقدارىّ من ورائه وضربه ضربة حلّ بها كتفه ويده، ثم إنّهم تكاثروا عليه وأنزلوه عن فرسه وذبحوه، وهمّ مماليك كتبغا. وذلك فى وسط سوق الخيل، ومال غالب العسكر من الأمراء والمقدّمين وأجناد الحلقة والتتار والأكراد إلى كتبغا وانضمّوا عليه، ومالت البرجيّة «2» وبعض الخاصّكيّة إلى سنجر الشجاعىّ، لأنّ الشجاعىّ كان أنفق فيهم فى الباطن فى يوم واحد ثمانين ألف دينار، واتّفق معهم أيضا أنّ كلّ من جاء برأس أمير كان له إقطاعه؛ وكان الاتّفاق معهم أنّه فى يوم الخميس وقت الموكب لمّا يطلع الأمير كتبغا إلى القلعة ويمدّوا السّماط يمسك هو(8/43)
ومن اتّفق معه من الأمراء يقبضون عليهم. فاستعجل البندقدارىّ ونزل إلى سوق الخيل وفعل ما ذكرناه.
ولمّا وقع ذلك تحقّق الأمراء صحّة ما نقل إليهم الأمير زين الدين كتبغا عن الشجاعىّ، فاجتمع فى الحال الأمراء عند كتبغا بسوق الخيل وركبت التّتار جميعهم وجماعة من الشّهرزوريّة والأكراد وجماعة من الحلقة كراهية منهم فى الشجاعىّ، وخرج الشجاعىّ بمن معه إلى باب القلعة، فإنّ إقامته كانت بالقلعة وأمر بضرب الكوسات «1» فضربت، وبقى يطلب أن يطلع إليه أحد من الأمراء والمقدّمين فلم يجبه أحد؛ وكان قد أخرج صحبته الذهب فى الصّرر وبقى كلّ من جاء إليه يعطيه صرّة؛ فلم يجئ إليه إلّا أناس قليلون ما لهم مرتبة. وشرع كتبغا ومن معه فى حصار القلعة وقطعوا عنها الماء وبقوا ذلك اليوم محاصرين. فلمّا كان ثانى يوم نزلت البرجيّة من القلعة على حميّة وتلاقوا مع كتبغا وعساكره وصدموه صدمة كسروه فيها كسرة شنيعة وهزموه إلى بئر «2» البيضاء، وتوجّه كتبغا إلى جهة بلبيس «3» ؛ فلمّا سمعوا باقى الأمراء بذلك(8/44)
ركب الأمير بدر الدين بيسرىّ المنصورىّ والأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح وبقيّة العساكر المصريّة، وتوجهت الجميع إلى نصرة الأمير كتبغا وأصحابه، وقاتلوا المماليك البرجية حتّى كسروهم وردّوهم إلى أن أدخلوهم إلى قلعة الجبل؛ ثم جدّوا فى حصار القلعة ومن فيها، وعاد الأمير كتبغا وقد قوى عضده بخشداشيته والأمراء؛ ودام الحصار على القلعة إلى أن طلعت الستّ خوند والدة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السّور وكلّمتهم بأن قالت لهم: إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا: مالنا غرض إلّا مسك الشجاعىّ وإخماد الفتنة، ونحن لو بقيت بنت عمياء من بنات أستاذنا الملك المنصور قلاوون كنّا مماليكها لا سيما ولده الملك الناصر محمد حاضر وفيه كفاية. فلمّا علمت ذلك رجعت واتّفقت مع الأمير حسام الدين لاچين أستاذ الدار، وغلقوا باب القلّة «1» من القلعة وهى التى عليها المعتمد، وبقى الشجاعى بداره بالقلعة محصورا. فلمّا رآه أصحابه أنّه فى أنحس حال شرعوا فى النزول إلى عند الأمير كتبغا، فبقى جمع الشجاعىّ يقلّ وجمع كتبغا يكثر إلى يوم السبت رابع عشرين صفر ضجر الشجاعىّ وطلب الأمان فلم يوافقوه الأمراء؛ وطلع وقت صلاة الظهر «2» بعض الأمراء وجماعة من الخاصّكّية وفيهم آقوش «3» المنصورىّ إلى عند الشجاعى(8/45)
يطلبونه إلى عند السلطان وإلى والدته [فى «1» ] صورة أنهم يريدون يستشيرونه فيما يعملون، فمشى معهم قليلا وتكاثروا عليه المماليك وجاء آقوش من ورائه وضربه بالسيف ضربة قطع بها يده، ثم بادره بضربة ثانية أبرى بها رأسه عن جسده، وأخذوا رأسه فى الحال ورفعوه على سور القلعة، ثم عادوا ونزلوا [به «2» ] إلى كتبغا ودقّوا البشائر وفتحوا باب القلّة، وأخذوا رأس الشجاعىّ وجعلوه على رمح وأعطوه للمشاعليّة فجبوا عليه مصر والقاهرة، فحصّل المشاعليّة مالا كثيرا لبغض الناس قاطبة فى الشجاعىّ؛ فقيل: إنهم كانوا يأخذون الرأس من المشاعليّة ويدخلونه بيتهم فتضربه النسوة بالمداسات لما فى نفوسهم منه. وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوّعه فى الظلم والعسف حسب ما يأتى ذكره فى الوفيات بأوسع من هذا. وأغلقت القاهرة خمسة أيام إلى أن طلع كتبغا إلى القلعة فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر ودقّت البشائر وفتحت الأبواب وجدّدت الأيمان «3» والعهود للملك الناصر محمد بن قلاوون وأن يكون الأمير كتبغا نائب السلطنة.
ولمّا تمّ ذلك قبض كتبغا على جماعة من الخاصّكيّة والبرجيّة المتّفقين مع الشجاعىّ، ثم أفرج عن جماعة من الأمراء كان قبض عليهم فى المخيم، وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على ما يأتى ذكره، والأمير سيف الدين برلغى، والأمير القمامىّ «4» وسيف الدين قبجق «5» المنصورىّ، والأمير بدر الدين(8/46)
عبد الله، والأمير سيف الدين بورى «1» [السلاح دار] والأمير زين «2» الدين عمر، والأمير سيف الدين قرمشى «3» ، والأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ وغيرهم. وأخذ الأمير زين الدين كتبغا وأعطى فى الملك وانفرد بتدبير الأمر ومشى مع الملك الناصر محمد مشى المملوك مع أستاذه.
ثمّ بعث بتقليد نائب الشام على عادته، وهو الأمير أيبك الحموىّ. ثم بعد ذلك نزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلعة الجبل فى موكب هائل بأبّهة السلطنة، وتوجّه إلى ظاهر القاهرة ثمّ عاد وشقّ القاهرة، ودخل من باب «4» النصر وخرج من باب «5» زويلة عائدا إلى القلعة، والأمراء مشاة بين يديه حتّى الأمير كتبغا، وكان ذلك فى يوم الأحد رابع عشرين «6» شهر رجب. ولمّا كان سابع عشرين شهر رمضان ظهر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ من اختفائه واجتمع بالأمير كتبغا خفية،(8/47)
فتكلّم كتبغا فى أمره مع الأمراء، فاتّفقوا على إظهار أمره لما رأوا فى ذلك من إصلاح الحال، فطيّب كتبغا خاطر الأمير حسام الدين لاچين ووعده أن يتكلّم فى أمره مع السلطان والمماليك الأشرفيّة. ولا زال كتبغا بالسلطان والحاشية حتى رضّاهم عليه وطيّب قلوبهم إلى أن كان يوم عيد الفطر، ظهر حسام الدين لاچين من دار كتبغا، وحضر السّماط وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك الناصر محمد، فخلع عليه السلطان وطيب قلبه، ولم يعاتبه بما فعل مع أخيه الملك الأشرف خليل مراعاة لخاطر كتبغا. ثم خلع عليه الأمير كتبغا أيضا، وحملت إليه الهدايا والتّحف من الأمراء وغيرهم؛ كلّ ذلك لأجل خاطر كتبغا. واصطلحت أيضا معه المماليك الأشرفيّة على ما فى نفوسهم منه من قتل أستاذهم بأمر كتبغا لهم وإلحاحه عليهم فى ذلك حتى قبلوا كلامه. وكانت مكافأة لاچين لكتبغا بعد هذا الإحسان كله بأن دبّر عليه حتّى أخذ الملك منه وتسلطن عوضه على ما يأتى ذكره وبيانه إن شاء الله تعالى.
ثمّ خلع السلطان على الصاحب تاج «1» الدين محمد ابن الصاحب فخر «2» الدين محمد ابن الصاحب بهاء «3» الدين علىّ بن حنّا باستقراره فى الوزارة بالديار المصريّة.
ثمّ استهلت سنة أربع وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد. وسلطان مصر والشام الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومدبّر مملكته الأمير كتبغا المنصورىّ. ولمّا كان عاشر المحرّم ثار جماعة من المماليك الأشرفيّة خليل فى الليل بمصر والقاهرة وعملوا عملا قبيحا وفتحوا أسواق السلاح بالقاهرة بعد حريق باب «4» السعادة، وأخذوا خيل السلطان وخرقوا ناموس الملك، وذلك كلّه بسبب(8/48)
ظهور الأمير حسام الدين لاچين وعدم قتله؛ فإنّه كان ممّن باشر قتل أستاذهم الملك الأشرف خليل، فحماه الأمير كتبغا ورعاه، وأيضا قد بلغهم خلع أخى أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون من السلطنة وسلطنة كتبغا فتزايدت وحشتهم وترادفت عليهم الأمور، فاتّفقوا ووثبوا فلم ينتج أمرهم. فلمّا أصبح الصباح قبض عليهم الأمير كتبغا وقطع أيدى بعضهم وأرجلهم وكحّل البعض وقطع ألسنة آخرين وصلب جماعة منهم على باب زويلة؛ ثم فرّق بقيّة المماليك على الأمراء والمقدّمين، وكانوا فوق الثلاثمائة نفر وهرب الباقون؛ فطلب الأمير زين الدين كتبغا الخليفة والقضاة والأمراء وتكلّم معهم فى عدم أهليّة الملك الناصر محمد للسلطنة لصغر سنّه، وأنّ الأمور لابدّ لها من رجل كامل تخافه الجند والرعيّة وتقف عند أوامره ونواهيه.
كلّ ذلك كان بتدبير لاچين فإنّه لمّا خرج من إخفائه علم أنّ المماليك الأشرفيّة لا بدّ لهم من أخذ ثار أستاذهم منه. وأيضا أنّه علم أنّ الملك الناصر محمد متى ترعرع وكبر لا يبقيه لكونه كان ممّن قتل أخاه الملك الأشرف خليلا، فلمّا تحقق ذلك أخذ يحسّن للأمير كتبغا السلطنة وخلع ابن استاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلطنته، وكتبغا يمتنع من ذلك فلا زال به لاچين حتّى حذّره وأخافه عاقبة ذلك، وقال له:
متى كبر الملك الناصر لا يبقيك البتّة، ولا يبقى أحدا ممّن تعامل على قتل أخيه الملك الأشرف، وأنّ هؤلاء الأشرفيّة ما دام الملك الناصر محمد فى الملك شوكتهم قائمة، والمصلحة خلعه وسلطنتك. فمال كتبغا إلى كلامه، غير أنّه أهمل الأمر وأخذ فى تدبير ذلك على مهل. فلمّا وقع من الأشرفيّة ما وقع وثب وطلب الخليفة والقضاة حسب ما ذكرناه. ولمّا حضر الخليفة والقضاة واتّفق رأى الأمراء والجند على خلع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك وسلطنة كتبغا هذا عوضه؛ فوقع ذلك وخلع الملك الناصر محمد من السلطنة وتسلطن كتبغا وجلس على تخت الملك(8/49)
فى يوم خلع الملك الناصر، وهو يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة بعد واقعة المماليك الأشرفيّة بيومين، وأدخل الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الدور بالقلعة، وأمره كتبغا بألّا يركب ولا يظهر. وكان عمره يوم خلع نحو العشر سنين.
وكانت مدّة سلطنته فى هذه المرّة الأولى سنة واحدة إلا ثلاثة أيام أو أقلّ. ويأتى بقية ترجمته فى سلطنته الثانية والثالثة إن شاء الله تعالى.
السنة «1» الأولى من سلطنة الملك الناصر محمد الأولى على مصر على أنّه لم يكن له من السلطنة فيها إلّا مجرّد الاسم فقط، وإنّما كان الأمر أوّلا للأمير علم الدين سنجر الشجاعى ثم للأمير كتبغا المنصورىّ، وهى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، على أنّ الأشرف قتل فى أوائلها فى المحرّم حسب ما تقدّم ذكره.
فيها توفّى الصاحب فخر الدين أبو العبّاس إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشّيبانىّ الإسعردىّ ثم المصرىّ، رئيس الموقّعين بالديار المصريّة، ثم الوزير بها ولى الوزارة مرّتين، وكان مشكور السّيرة قليل الظّلم كثير العدل والإحسان للرعيّة.
وفى أيام وزارته سعى فى إبطال مظالم كثيرة، وكان يتولّى الوزارة بجامكيّة «2» الإنشاء، وعند ما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان «3» خلفه، ويروح يقعد فى ديوان الإنشاء وكأنّه ما تغيّر عليه شىء، وكان أصله من العدن «4» من بلاد إسعرد وتدرّب فى الإنشاء بالصاحب بهاء الدين «5» زهير حتى برع فى الإنشاء وغيره.(8/50)
قال الذهبىّ: رأيته شيخا بعمامة صغيرة وقد حدّث عن ابن رواح «1» وكتب عنه البرزالىّ «2» والطّلبة. انتهى. وكان ابن لقمان المذكور فاضلا ناظما ناثرا مترسّلا، ومات بالقاهرة فى جمادى الآخرة ودفن بالقرافة. ومن شعره:
كن كيف شئت فإنّنى بك مغرم ... راض بما فعل الهوى المتحكّم
ولئن كتمت عن الوشاة صبابتى ... بك فالجوانح بالهوى تتكلّم
أشتاق من أهوى وأعجب أنّنى ... أشتاق من هو فى الفؤاد مخيّم
يا من يصدّ عن المحبّ تدلّلا ... وإذا بكى وجدا غدا يتبسّم
أسكنتك القلب الذي أحرقته ... فحذار من نار به تتضرّم
وفيها قتل الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الشّجاعىّ المنصورىّ، كان من مماليك الملك المنصور قلاوون، وترقّى حتّى ولى شدّ الدواوين، ثم الوزارة بالديار المصريّة فى أوائل دولة الناصر، وساءت سيرتة وكثر ظلمه، ثم ولى نيابة دمشق فتلطّف بأهلها وقلّ شرّه، ودام بها سنين إلى أن عزل بالأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وقدم إلى القاهرة. وكان موكبه يضاهى موكب السلطان من التجمّل، ومع ظلمه كان له ميل لأهل العلم وتعظيم الإسلام، وهو الذي كان مشدّ عمارة البيمارستان «3» المنصورىّ ببين القصرين «4» فتمّمه فى مدّة يسيرة، ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قليلة، وكان يستعمل فيه الصنّاع والفعول بالبندق حتّى لا يفوته من هو بعيد عنه فى أعلى سقالة كان. ويقال إنّه يوما وقع بعض الفعول من أعلى السقالة بجنبه فمات، فما اكترث سنجر هذا ولا تغيّر من مكانه وأمر بدفنه. ثم عمل الوزارة أيضا(8/51)
فى أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون أكثر من شهر حسب ما تقدّم ذكره، وحدّثته نفسه بما فوق الوزارة، فكان فى ذلك حتفه وقتله حسب ما ذكرناه فى أوّل ترجمة الملك الناصر هذا، وفرح أهل مصر بقتله فرحا زائدا حتّى إنّه لمّا طافت المشاعليّة برأسه على بيوت الكتّاب القبط بلغت اللّطمة على وجهه بالمداس نصفا، والبولة عليه درهما، وحصّلوا المشاعليّة جملا من ذلك.
قلت: وهذا غلط فاحش من المشاعليّة، قاتلهم الله! لو كان من الظلم ما كان هو خير من الأقباط النصارى. ولمّا كان على نيابة دمشق وسّع ميدانها أيّام الملك الأشرف، فقال الأديب علاء الدين الوداعىّ «1» فى ذلك:
علم الأمير بأنّ سلطان الورى ... يأتى دمشق ويطلق الأموالا
فلأجل ذا قد زاد فى ميدانها ... لتكون أوسع للجواد مجالا
قال الصلاح الصّفدىّ: أخبرنى من لفظه شهاب الدين «2» بن فضل الله قال أخبرنى والدى عن قاضى القضاة نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين شيخ الجبل قال: كنت ليلة نائما فاستيقظت وكأن من أنبهنى وأنا أحفظ كأنّما قد أنشدت ذلك:
عند الشجاعىّ أنواع منوّعة ... من العذاب فلا ترحمه بالله
لم تغن عنه ذنوب قد تحمّلها ... من العباد ولا مال ولا جاه
قال: ثم جاءنا الخبر بقتله بعد أيام قلائل فكانت قتلته فى تلك الليلة التى أنشدت فيها الشعر. انتهى.
قلت: وهذا من الغرائب. وقد ذكرنا من أحوال سنجر هذا فى تاريخنا المنهل الصافى نبذة كبيرة كونه كتاب تراجم وليس للإطناب لهؤلاء هنا محلّ. انتهى.(8/52)
وفيها توفّى قتيلا الملك كيختو ملك التّتار قتله ابن أخيه بيدو «1» .
قلت: وهنا نكتة غريبة لم يفطن إليها أحد من مؤرّخى تلك الأيام، وهى أنّ سلطان الديار المصرية الملك الأشرف خليل بن قلاوون قتله نائبه الأمير بيدرا، وملك التتار كيختو هذا أيضا قتله ابن أخيه بيدرا «2» ، وكلاهما فى سنة واحدة، وذاك فى الشرق وهذا فى الغرب. انتهى.
وملك بعد كيختو بيدو المذكور الذي قتله.
قلت: وكذلك وقع للأشرف خليل؛ فإن بيدرا ملك بعده يوما واحدا وتلقّب بالملك الأوحد. وعلى كلّ حال فإنّهما تشابها أيضا. انتهى. وكان بيدو الذي ولى أمر التّتار يميل إلى دين النّصرانيّة، وقيل إنه تنصّر، لعنه الله، ووقع له مع الملك غازان أمور يطول شرحها.
وفيها قتل الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن أبى الرجاء التّنوخىّ الدمشقىّ التاجر المعروف بابن السّلعوس. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدى: كان فى شبيبته يسافر بالتجارة، وكان أشقر سمينا أبيض معتدل القامة فصيح العبارة حلو المنطق وافر الهيبة كامل الأدوات خليقا للوزارة تامّ الخبرة زائد الإعجاب عظيم التّيه، وكان جارا للصاحب تقىّ الدين البيّع «3» ، فصاحبه ورأى فيه الكفاءة فاخذ له حسبة دمشق، ثم توجّه إلى مصر وتوكّل للملك الأشرف خليل فى دولة أبيه، فجرى عليه نكبة من السلطان فشفع فيه مخدومه الأشرف خليل، وأطلقه من الاعتقال، وحج فتملّك الأشرف فى غيبته. وكان محبّا له فكتب إليه بين الأسطر: يا شقير، يا وجه الخير، قدّم السّير. فلمّا قدم وزره. وكان إذا ركب تمشى الأمراء الكبار فى خدمته. انتهى.(8/53)
قلت: وكان فى أيام وزارته يقف الشجاعىّ المقدّم ذكره فى خدمته، فلمّا قتل مخدومه الملك الأشرف وهو بالإسكندريّة قدم القاهرة فطلب إلى القلعة فأنزله الشجاعىّ من القلعة ماشيا، ثم سلّمه من الغد إلى عدوّه الأمير بهاء الدين قراقوش [الظاهرىّ «1» ] مشدّ الصّحبة، قيل: إنّه ضربه ألفا ومائة مقرعة، ثم تداوله المسعودىّ «2» وغيره وأخذ منه أموالا كثيرة، ولا زال تحت العقوبة حتى مات فى صفر. ولما تولّى الوزارة كتب إليه بعض أحبّائه من الشام يحذّره من الشجاعىّ:
تنبّه يا وزير الأرض واعلم ... بأنّك قد وطئت على الأفاعى
وكن بالله معتصما فإنّى ... أخاف عليك من نهش الشجاعى
فبلغ الشجاعىّ، فلما جرى ما جرى طلب أقاربه وأصحابه وصادرهم، فقيل له:
عن الناظم، فقال: لا أوذيه فإنّه نصحه فىّ وما انتصح. وقد أوضحنا أمره فى المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى بأطول من هذا. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المقرئ شمس الدين محمد بن عبد العزيز الدّمياطىّ بدمشق فى صفر. وقاضى القضاة شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خليل الخويّىّ «3» . والسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن قلاوون، فتكوا به فى المحرّم. ونائبه بيدرا قتل من الغد. ووزيره الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن السّلعوس هلك تحت العذاب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع أصابع. وثبت إلى سادس عشر توت.(8/54)
[ما وقع من الحوادث سنة 694]
ذكر سلطنة الملك العادل زين الدّين كتبغا على مصر
هو السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصورىّ التركىّ المغلىّ سلطان الديار المصريّة؛ جلس على تخت الملك بعد أن خلع ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستّمائة باتّفاق الأمراء على سلطنته. وهو السلطان العاشر من ملوك التّرك بالديار المصريّة، وأصله من التّتار من سبى وقعة حمص «1» الأولى التى كانت فى سنة تسع وخمسين وستمائة؛ فأخذه الملك المنصور قلاوون وأدّبه ثم أعتقه؛ وجعله من جملة مماليكه، ورقّاه حتّى صار من أكابر أمرائه، واستمرّ على ذلك فى الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون إلى أن قتل، وتسلطن أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة ثلاث وتسعين وأقام الناصر فى الملك إلى سنة أربع وتسعين «2» ووقع الاتفاق على خلعه وسلطنة كتبغا هذا، فتسلطن وتلقّب بالملك العادل، وسنّه يوم ذاك نحو الأربعين سنة، وقيل خمسين سنة. وقد تقدّم سبب خلع الملك الناصر محمد وسلطنة كتبغا هذا فى آخر ترجمة الملك الناصر محمد فلا حاجة فى الإعادة.
وقال الشيخ شمس الدين بن الجزرىّ قال: حكى لى الشيخ أبو الكرم النّصرانىّ الكاتب، قال: لمّا فتح هولاكو حلب بالسيف ودمشق بالأمان طلب هولاكو نصير «3» الدين الطّوسىّ وكان فى صحبته، وقال له: اكتب أسماء مقدّمى عسكرى، وأبصر أيّهم يملك مصر، ويقعد على تخت الملك بها حتّى أقدّمه؟ قال: فحسب(8/55)
نصير الدّين [أسماء «1» ] المقدّمين؛ فما ظهر له من الأسماء اسم من يملك الديار المصريّة غير اسم كتبغا. وكان كتبغا «2» صهر هولاكو، فقدّمه على العساكر فتوجّه بهم كتبغا فآنكسر على عين «3» جالوت «4» ، فتعجّب هولاكو من هذه الواقعة وظنّ أنّ نصير الدين قد غلط فى حسابه. وكان كتبغا هذا من جملة من كان فى عسكر هولاكو من التّتار ممّن لا يؤبه إليه من الأصاغر، وكسبه قلاوون فى الواقعة؛ فكان بين المدّة نحو من خمس وثلاثين سنة، حتّى قدّر الله تعالى بما قدّر من سلطنة كتبغا هذا. انتهى.
ولمّا تمّ أمر كتبغا فى الملك وتسلطن مدّ سماطا عظيما وأحضر جميع الأمراء والمقدّمين والعسكر وأكلوا السّماط، ثم تقدّموا وقبّلوا الأرض ثم قبّلوا يده وهنّئوه بالسلطنة، وخلع على الأمير حسام الدين لا چين وولّاه نيابة السلطنة بالديار المصريّة، وولّى عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير سيف الدين بهادر حاجب الحجّاب؛ ثم خلع على جميع الأمراء والمقدّمين ومن له عادة بلبس الخلع [عند «5» تولية الملك كما جرت العادة] . وفى يوم الخميس تاسع عشر المحرّم ركب جميع الأمراء والمقدّمين(8/56)
وجميع من خلع عليه وأتوا إلى سوق «1» الخيل وترجّلوا وقبّلوا الأرض، ثم كتب بسلطنة الملك العادل إلى البلاد الشاميّة وغيرها. وزيّنت مصر والقاهرة لسلطنته.
ولمّا كان يوم الأربعاء مستهلّ شهر ربيع الأوّل «2» ركب السلطان الملك العادل كتبغا بأبّهة السلطنة وشعار الملك من قلعة الجبل ونزل وسار إلى ظاهر القاهرة نحو قبّة «3» النصر، وعاد من باب النصر «4» وشقّ القاهرة حتّى خرج من باب زويلة عائدا إلى قلعة الجبل، كما جرت العادة بركوب الملوك. ولم تطل مدّة سلطنته حتى وقع الغلاء والفناء بالديار المصرية وأعمالها؛ ثمّ انتشر ذلك بالبلاد الشاميّة جميعها فى شوّال من هذه السنة، وارتفع سعر القمح حتّى بيع كلّ اردبّ بمائة وعشرين درهما بعد أن كان بخمسة وعشرين درهما الإردبّ، وهذا فى هذه السنة، وأما فى السنة الآتية التى هى سنة خمس وتسعين وستمائة فوصل سعر القمح إلى مائة وستين «5» درهما الإردبّ.
وأمّا الموت فإنّه فشا بالقاهرة وكثر، فأحصى من مات بها وثبت اسمه فى ديوان [المواريث «6» ] فى ذى الحجّة فبلغوا سبعة عشر ألفا وخمسمائة. وهذا سوى من لم يرد اسمه فى ديوان المواريث من الغرباء والفقراء ومن لم يطلق من الديوان. ورحل جماعة كثيرة من أهل مصر عنها إلى الأقطار من عظم الغلاء وتخلخل «7» أمر الديار المصريّة. وفى هذه السنة حجّ الأمير أنس بن الملك العادل كتبغا صاحب الترجمة، وحجّت معه والدته وأكثر حرم السلطان، وحجّ بسببهم خلق كثير من نساء الأمراء(8/57)
بتجمّل زائد، وحصل بهم رفق كبير لأهل مكّة والمدينة والمجاورين، وشكرت سيرة ولد السلطان أنس المذكور وبذل شيئا كثيرا لصاحب مكّة.
ثم استهلّت سنة خمس وتسعين وستمائة وخليفة المسلمين الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ. وسلطان الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والشماليّة والفراتيّة والساحليّة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ. ووزيره الصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين بن الخليلىّ. ونائب السلطنة بالديار المصريّة الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ. وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد «1» الحسنىّ المكّى. وصاحب المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ.
وصاحب اليمن ممهّد الدين عمر ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر [بن «2» علىّ] بن رسول. وصاحب حماة بالبلاد الشاميّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين محمود [ابن «3» الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر] بن شاهنشاه «4» بن أيّوب. وصاحب ماردين [الملك «5» السعيد شمس الدين داود ابن] الملك المظفّر فخر «6» الدين ألبى أرسلان ابن الملك السعيد شمس الدين قرا أرسلان بن أرتق الأرتقىّ. وصاحب الروم السلطان غياث الدين مسعود ابن السلطان عز الدين [كيكاوس «7» ] ابن السلطان(8/58)
غياث الدين كيخسرو بن سلجوق السّلجوقى. وملك التّتار غازان ويقال قازان، وكلاهما يصحّ معناه، واسمه الحقيقىّ محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، وهو مظهر الإسلام وشعائر الإيمان. ونائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ المنصورىّ.
وكان الموافق لأوّل هذه السنة عاشر «1» بابه أحد شهور القبط المسمّى بالرومىّ تشرين الأوّل.
وقال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: وفى العشر الأوّل من المحرّم حكى جماعة كثيرة من أهل دمشق واستفاض ذلك فى دمشق وكثر الحديث فيه عن قاضى جبّة «2» أعسال، وهى قرية من قرى دمشق، أنّه تكلّم ثور بقرية من قرى جبّة أعسال، وملخّصها: أنّ الثور خرج مع صبىّ يشرب ماء من هناك فلمّا فرغ حمد الله تعالى فتعجّب الصبى! وحكى لسيّده مالك الثور فشكّ فى قوله، وحضر فى اليوم الثانى بنفسه، فلمّا شرب الثور حمد الله تعالى؛ ثم فى اليوم الثالث حضر جماعة وسمعوه يحمد الله تعالى؛ فكلّمه بعضهم فقال الثور: «إنّ الله كان كتب على الأمّة سبع سنين جدبا، ولكن بشفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبدلها بالخصب، وذكر أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بتبليغ ذلك، وقال الثور: يا رسول الله ما علامة صدقى عندهم؟ قال: أن يموت عقب الإخبار. قال الحاكى لذلك: ثم تقدّم الثور على مكان عال فسقط ميتا، فأخذ الناس من شعره للتّبرّك، وكفّن ودفن. انتهى.
قلت: وهذه الحكاية غريبة الوقوع والحاكى لها ثقة حجّة، وقد قال: إنّه استفاض ذلك بدمشق. انتهى.(8/59)
وأمّا أمر الديار المصريّة فإنه عظم أمر الغلاء بها حتّى أكل بعضهم الميتات والكلاب، ومات خلق كثير بالجوع. والحكايات فى ذلك كثيرة، وانتشر الغلاء شرقا وغربا. وبينما السلطان الملك العادل كتبغا فيما هو فيه من أمر الغلاء ورد عليه الخبر فى صفر بأنّه قد وصل إلى الرّحبة «1» عسكر كثير نحو عشرة آلاف بيت من عسكر بيدو ملك التّتار طالبين الدخول فى الإسلام خوفا من السلطان غازان، ومقدّمهم أمير اسمه طرغاى «2» ، وهو زوج بنت هولاكو؛ فرسم الملك العادل إلى الأمير علم الدين سنجر [الدوادارى «3» ] بأن يسافر من دمشق إلى الرّحبة حتّى يتلقاهم، فخرج إليهم، ثم خرج بعده الأمير «4» سنقر الأعسر شادّ دواوين دمشق، ثم ندب الملك العادل أيضا الأمير قرا سنقر «5» المنصورىّ بالخروج من القاهرة، فخرج حتّى وصل إلى دمشق لتلقى المذكورين، ورسم له أن يحضر معه فى عوده إلى مصر جماعة من أعيانهم، فوصل قرا سنقر إلى دمشق وخرج لتلقّيهم، ثم عاد إلى دمشق فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل، ومعه من أعيانهم مائة فارس وثلاثة عشر فارسا؛ وفرح الناس بهم وبإسلامهم وأنزلوهم بالقصر الأبلق من الميدان.
وأمّا الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى فبقى مع الباقين، وهم فوق عشرة آلاف ما بين رجل كبير وكهل وصغير وامرأة ومعهم ماشية كثيرة ورخت «6» عظيم، وأقام قرا سنقر بهم أيّاما، ثم سافر بهم إلى جهة الديار المصرية، وقدموا القاهرة فى آخر شهر ربيع الآخر، فأكرمهم السلطان الملك العادل كتبغا ورتّب لهم الرواتب.(8/60)
ثمّ بدا للملك العادل كتبغا السفر إلى البلاد الشاميّة لأمر مقدّر اقتضاه رأيه، وأخذ فى تجهيز عساكره وتهيّأ للسفر، وخرج بجميع عساكره وأمرائه وخاصّكيته فى يوم السبت سابع عشر شوّال وسار حتّى دخل دمشق، فى يوم السبت خامس عشر ذى القعدة وخامس ساعة من النهار المذكور ودخل دمشق والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «1» على رأسه، ونائب سلطنته الأمير حسام الدين لاچين المنصورى ماشيا بين يديه، ووزيره الصاحب «2» فخر الدين بن الخليلىّ، واحتفل أهل دمشق لقدومه وزيّنت المدينة وفرح الناس به.
ولمّا دخل الملك العادل إلى دمشق وأقام بها أيّاما عزل عنها نائبها الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وولّى عوضه فى نيابة دمشق مملوكه الأمير سيف الدين أغزلوا «3» العادلى وعمره نحو من اثنتين وثلاثين سنة، وأنعم على الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ بخبز أغزلو بمصر، وخرجا من عند السلطان وعليهما الخلع، هذا متولّ وهذا منفصل. ثم سافر السلطان الملك العادل من دمشق فى ثانى عشر ذى الحجّة بأكثر العسكر المصرىّ وبقيّة جيش الشام إلى جهة قرية جوسية «4» ، وهى ضيعة اشتراها له الصاحب شهاب الدين الحنفىّ فتوجّه إليها، ثم سافر منها فى تاسع عشر ذى الحجّة إلى حمص ونزل عند البحرة بالمرج «5» بعد ما أقام فى البريّة أيّاما لأجل الصيد، وحضر(8/61)
إليه نوّاب البلاد الحلبيّة جميعها؛ ثم عاد إلى دمشق ودخلها بمن معه من العساكر ضحا نهار الأربعاء ثانى المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة. وأقام بدمشق إلى يوم الجمعة رابع المحرّم ركب السلطان الملك العادل المذكور بخواصّه وأمرائه إلى الجامع لصلاة الجمعة فحضر وصلّى بالمقصورة؛ وأخذ من الناس قصصهم حتى إنّه رأى شخصا بيده قصّة فتقدّم إليه بنفسه خطوات وأخذها منه؛ ولمّا جلس الملك العادل للصلاة بالمقصورة جلس عن يمينه الملك المظفّر تقىّ الدين محمود صاحب حماة، وتحته بدر الدّين «1» أمير سلاح، ثم من تحته نائب دمشق أغزلو العادلىّ؛ وعن يسار السلطان الشيخ حسن «2» بن الحريرى وأخواه، ثم نائب السلطنة لاچين المنصورىّ، ثم تحته نائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ (أعنى الذي عزل عن نيابة دمشق) ، ثم من تحته الأمير بدر الدين بيسرى، ثم قرا سنقر المنصورى، ثم الحاج بهادر «3» حاجب الحجّاب؛ ثم الأمراء على مراتبهم ميمنة وميسرة.
فلمّا انقضت الصلاة خرج من الجامع والأمراء بين يديه والناس يبتهلون بالدعاء له، وأحبّه أهل دمشق وشكرت سيرته، وحمدت طريقته. ثم فى يوم الخميس سابع عشر المحرّم أمسك السلطان الأمير أسندمر «4» وقيّده وحبسه بالقلعة. وفى يوم الاثنين حادى عشرين المحرّم عزل السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر عن شدّ دواوين دمشق ورسم له بالسفر صحبة السلطان إلى مصر، وولّى عوضه فتح الدين «5» ابن صبرة.(8/62)
ولمّا كان بكرة يوم الاثنين المذكور خرج السلطان الملك العادل من دمشق بعساكره وجيوشه نحو الديار المصريّة، وسار حتى نزل باللّجّون «1» بالقرب من وادى فحمة «2» فى بكرة يوم الاثنين ثامن عشرين المحرّم من سنة ست وتسعين، وكان الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ نائب السلطنة قد اتّفق مع الأمراء على الوثوب على السلطان الملك العادل كتبغا هذا والفتك به، فلم يقدر عليه لعظم شوكته؛ فدبّر أمرا آخر وهو أنّه ابتدأ أوّلا بالقبض على الأميرين: بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين، وكانا شهمين شجاعين عزيزين عند أستاذهما الملك العادل المذكور، فركب لاچين بمن وافقه من الأمراء على حين غفلة وقبض على الأميرين المذكورين وقتلهما فى الحال، وقصد مخيّم السلطان فمنعه بعض مماليك السلطان قليلا وعوّقوه عن الوصول إلى الملك العادل. وكان العادل لمّا بلغه هذا الأمر علم أنّه لا قبل «3» له على قتال لاچين لعلمه بمن وافقه من الأمراء وغيرهم وخاف على نفسه، وركب من خيل النّوبة فرسا تسمّى حمامة وساق لقلّة سعده ولزوال ملكه راجعا إلى الشام، ولو أقام بمخيّمه لم يقدر لاچين على قتاله وأخذه، فما شاء الله كان! وساق حتى وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم قرب العصر، ومعه أربعة أو خمسة من(8/63)
خواصّه. وكان وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم أوّل النهار أمير شكار السلطان، وأخبر نائب الشام بصورة الحال وهو مجروح، فتهيأ نائب الشام الأمير أغزلو العادلىّ واستعدّ وأحضر أمراء الشام عند السلطان ورسم بالاحتياط على نوّاب الأمير حسام الدين لاچين وعلى حواصله بدمشق، وندم الملك العادل على ما فعله مع لاچين هذا من الخير والمدافعة عنه، من كونه كان أحد من أعانه على قتل الأشرف، وعلى أنّه ولّاه نيابة السلطنة، وفى الجملة أنّه ندم حيث لا ينفعه الندم! وعلى رأى من قال:" أشبعتهم سبّا وفازوا بالإبل" ومثله أيضا قول القائل:
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذة الجسور
ثم إنّ الملك العادل طلب قاضى قضاة دمشق بدر الدين «1» بن جماعة فحضر بين يدى السلطان هو وقاضى القضاة حسام «2» الدين الحنفىّ، وحضرا عند الملك العادل تجليف الأمراء والمقدّمين وتجديد المواثيق منهم، ووعدهم وطيّب قلوبهم.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين فإنّه استولى على دهليز السلطان والخزائن والحرّاس والعساكر من غير ممانع، وتسلطن فى الطريق ولقّب بالملك المنصور حسام الدين لاچين، وتوجّه إلى نحو الديار المصريّة وملكها وتمّ أمره، وخطب له بمصر وأعمالها والقدس والساحل جميعه.
وأمّا الملك العادل فإنّه أقام بقلعة دمشق هذه الأيّام كلّها لا يخرج منها، وأمّر جماعة بدمشق، وأطلق بعض المكوس بها، وقرئ بذلك توقيع يوم الجمعة سادس عشر صفر بعد صلاة الجمعة بالجامع. وبينما هو فى ذلك ورد الخبر على أهل دمشق بأنّ(8/64)
مدينة صفد زيّنت لسلطنة لاچين ودقّ بها البشائر، وكذلك نابلس والكرك.
فلمّا بلغ الملك العادل ذلك جهّز جماعة من عسكر دمشق مقدّمهم الأمير طقصبا الناصرىّ بكشف هذا الأمر وتحقيق الخبر، فتوجّهوا يوم الخميس ثانى عشرين صفر فعلموا بعد خروجهم فى النهار المذكور بدخول الملك المنصور لاچين إلى مصر وسلطنته، فرجعوا وعلموا عدم الفائدة فى توجّههم. ثم فى الغد من يوم الجمعة ثالث عشرين صفر ظهر الأمر بدمشق وانكشف الحال وجوهر الملك العادل كتبغا بذلك، وبلغه أنّه لمّا وصل العسكر إلى غزّة ركب الأمير حسام الدين لاچين فى دست السلطنة، وحمل البيسرى على رأسه الجتر وحلفوا له، ونعت بالملك المنصور.
ثم فى يوم السبت رابع عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير كجكن «1» ومعه جماعة من الأمراء كانوا مجرّدين إلى الرّحبة، فلم يدخلوا دمشق بل توجّهوا إلى جهة ميدان الحصا، وأعلن الأمير كجكن أمر الملك المنصور لاچين، وعلم جيش دمشق بذلك، فخرج إليه طائفة بعد طائفة، وكان قبل ذلك قد توجّه أميران من أكابر أمراء دمشق إلى جهة الديار المصريّة. فلمّا تحقّق الملك العادل كتبغا بذلك وعلم انحلال أمره وزوال دولته بالكليّة أذعن بالطاعة لأمراء دمشق، وقال لهم: الملك المنصور لاچين خشداشى وأنا فى خدمته وطاعته، وحضر الأمير سيف الدين جاغان الحسامىّ إلى قلعة دمشق إلى عند الملك العادل كتبغا، فقال له كتبغا: أنا أجلس فى مكان بالقلعة حتّى نكاتب السلطان ونعتمد على ما يرسم به. فلمّا رأى الأمراء منه ذلك تفرّقوا وتوجّهوا إلى باب الميدان وحلفوا للملك المنصور لاچين وأرسلوا البريد إلى القاهرة بذلك، ثم احتفظوا بالقلعة وبالملك العادل كتبغا، ولبس عسكر دمشق آلة الحرب وسيّروا عامّة نهار السبت بظاهر دمشق وحول القلعة؛ والناس فى هرج(8/65)
واختباط وأقوال مختلفة، وأبواب دمشق مغلّقة سوى باب النصر «1» ، وباب القلعة مغلّق فتح منه خوخته، واجتمع العامّة والناس من باب القلعة إلى باب النصر وظاهر البلد حتّى سقط منهم جماعة كثيرة فى الخندق فسلم جماعة وهلك دون العشرة، وأمسى الناس يوم السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاچين لا يخفى أحد ذلك، وشرع [وقت «2» العصر فى] دقّ البشائر بالقلعة. ثم فى سحر يوم الأحد ذكره المؤذّنون بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ...
إلى آخرها.
وأظهروا اسم المنصور والدعاء له، ثم ذكره قارئ المصحف بعد صلاة الصبح بمقصورة جامع دمشق، ودقّت البشائر على أبواب جميع أمراء دمشق دقّا مزعجا، وأظهروا الفرح والسرور وأمر بتزين أسواق البلد جميعها فزيّنت مدينة دمشق، وفتحت دكاكين دمشق وأسواقها واشتغلوا بمعايشهم، وتعجّب الناس من تسليم الملك العادل كتبغا الأمر إلى الملك المنصور لاچين على هذا الوجه الهيّن من غير قتال ولا حرب مع ما كان معه من الأمراء والجند، ولو لم يكن معه إلّا مملوكه الأمير أغزلو العادلىّ نائب الشام لكفاه ذلك. على أنّ الملك المنصور لاچين كان أرسل فى الباطن عدّة مطالعات لأمراء دمشق وأهلها واستمال غالب أهل دمشق، فما أحوجه الملك العادل كتبغا لشىء من ذلك بل سلّم له الأمر على هذا الوجه الذي ذكرناه. خذلان من الله تعالى.
وأمّا الأمير سيف الدين أغزلو العادلىّ مملوك الملك العادل كتبغا نائب الشام لمّا رأى ما وقع من أستاذه لم يسعه إلا الإذعان للملك المنصور وأظهر الفرح به(8/66)
وخلف له. وقال: الملك المنصور لاچين- نصره الله- هو الذي كان عيّننى لنيابة دمشق، وأستاذى الملك العادل كتبغا استصغرنى فأنا نائيه. ثم سافر هو والأمير جاغان الحسامى إلى نحو الديار المصريّة.
وأمّا لاچين فإنّه تسلطن يوم الجمعة عاشر صفر وركب يوم الخميس سادس عشر صفر وشقّ القاهرة وتمّ أمره. وأمّا الملك العادل كتبغا هذا فإنّه استمرّ بقلعة دمشق إلى أن عاد الأمير جاغان المنصورىّ الحسامىّ إلى دمشق فى يوم الاثنين حادى عشر شهر ربيع الأوّل، وطلع من الغد إلى قلعة دمشق ومعه الأمير الكبير حسام الدين الظاهرىّ أستاذ الدار فى الدولة المنصوريّة والأشرفيّة، والأمير سيف الدين كحكن، وحضر قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة قاضى دمشق ودخلوا الجميع إلى الملك العادل كتبغا، فتكلّم معهم كلاما كثيرا بحيث إنّه طال المجلس كالعاتب عليهم، ثم إنّه حلف يمينا طويلة يقول فى أوّلها: أقول وأنا كتبغا المنصورىّ، ويكرّر اسم الله تعالى فى الحلف مرّة بعد مرّة، أنّه يرضى بالمكان الذي عيّنه له السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين ولا يكاتب ولا يسارر، وأنّه تحت الطاعة، وأنه خلع نفسه من الملك وأشياء كثيرة من هذا النّموذج، ثم خرجوا من عنده. وكان المكان الذي عيّنه له الملك المنصور لاچين قلعة صرخد، ولم يعيّن المكان المذكور فى اليمين. ثم ولّى الملك المنصور نيابة الشام للأمير قبجق المنصورىّ وعزل أغزلوا العادلىّ، فدخل قبجق إلى دمشق فى يوم السبت «1» سادس عشر شهر ربيع الأوّل، وتجهّز الملك العادل كتبغا وخرج من قلعة دمشق بأولاده وعياله ومماليكه(8/67)
وتوجّه إلى صرخد فى ليلة الثلاثاء تاسع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وجرّدوا معه جماعة من الجيش نحو مائتى فارس إلى أن أوصلوه إلى صرخد. فكانت مدّة سلطنة الملك العادل كتبغا هذا على مصر سنتين وثمانية وعشرين يوما، وقيل سبعة عشر يوما، وتسلطن من بعده الملك المنصور حسام الدين لاچين حسب ما تقدّم ذكره.
ثم كتب له الملك المنصور حسام الدين لاچين تقليدا بنيابة صرخد، فقبل الملك العادل ذلك وباشر نيابة صرخد سنين إلى أن نقله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سلطنته الثانية من نيابة صرخد إلى نيابة حماة. وصار من جملة نوّاب السلطنة، وكتب له عن السلطان كما يكتب لأمثاله من النوّاب، وسافر فى التجاريد فى خدمة نوّاب دمشق وحضر الجهاد؛ ولم يزل على نيابة حماة حتى مات بها فى ليلة الجمعة «2» يوم عيد الأضحى وهو فى سنّ الكهوليّة. ودفن بحماة، ثم نقل منها ودفن بتربته التى أنشأها بسفح جبل قاسيون دمشق غربىّ الرّباط الناصرى، وله عليها أوقاف. وكان ملكا خيّرا ديّنا عاقلا عادلا سليم الباطن شجاعا متواضعا، وكان يحبّ الفقهاء والعلماء والصلحاء ويكرمهم إكراما زائدا، وكان أسمر اللون قصيرا دقيق الصّدر قصير العنق، وكان له لحية صغيرة فى حنكه، أسر صغيرا من عسكر هولاكو. وكان لمّا ولى سلطنة مصر والشام تشاءم الناس به، وهو أنّ النيل قد بلغ فى تلك السنة ست عشرة ذراعا ثم هبط من ليلته فشرقت البلاد وأعقبه غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة. وقد تقدّم ذكر ذلك فى أوّل ترجمته. ومات الملك العادل(8/68)
كتبغا المذكور بعد أن طال مرضه واسترخى حتى لم يبق له حركة. وترك عدّة أولاد.
وتولّى نيابة حماة بعده الأمير بتخاص المنصورىّ نقل إليها من نيابة الشّوبك. وقد تقدّم التعريف بأحوال كتبغا هذا فى أوائل ترجمته وفى غيرها فيما مرّ ذكره. وأمر كتبغا هذا هو خرق العادة من كونه كان ولى سلطنة مصر أكثر من سنتين وصار له شوكة ومماليك وحاشية، ثم يخلع ويصير من جملة نوّاب السلطان بالبلاد الشاميّة؛ فهذا شىء لم يقع لغيره من الملوك. وأعجب من هذا أنّه لما قتل الملك المنصور لاچين وتحيّر أمراء مصر فيمن يولّونه السلطنة من بعده لم يتعرّض أحد لذكره ولا رشّح للعود البتّة حتى احتاجوا الأمراء وبعثوا خلف الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، وأتوا به وسلطنوه.
قلت: وما أظنّ أنّ القلوب نفرت منه إلا لما رأوه من دنىء همّته عند ما خلع من السلطنة وتسليمه للامر من غير قتال ولا ممانعة، وكان يمكنه أن يدافع بكلّ ما تصل القدرة إليه ولو ذهبت روحه عزيزة غير ذليلة، وما أحسن قول عبد المطّلب جدّ نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم واسمه شيبة الحمد:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... وإن تسلّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلّا فى منازلنا ... كالنّوم ليس له مأوى سوى المقل
وقول عنترة أيضا:
أروم من المعالى منتهاها ... ولا أرضى بمنزلة دنيّه
فإمّا أن أشال على العوالى ... وإمّا أن توسّدنى المنيّه
ويعجبنى المقالة الثامنة من تأليف العلّامة شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانى المعروف بشوروة فإنّ أوائلها تقارب ما نحن فيه، وهى:(8/69)
رتبة الشرف، لا تنال بالتّرف «1» ؛ والسعادة أمر لا يدرك، إلا بعيش يفرك «2» ، وطيب يترك؛ ونوم يطرد، وصوم يسرد «3» ؛ وسرور عازب «4» ، وهمّ لازب «5» ؛ ومن عشق المعالى ألف الغمّ، ومن طلب اللآلئ ركب اليمّ؛ ومن قنص الحيتان «6» ورد النهر، ومن خطب الحصان «7» نقد المهر؛ كلّا أين أنت من المعالى! إنّ السّحوق «8» جبّار وأنت قاعد، والفيلق جرّار «9» وأنت واحد؛ العقل يناديك وأنت أصلخ «10» ، ويدنيك ويحول بينكما البرزخ؛ لقد أزف الرحيل فاستنفد جهدك، وأكثب «11» الصيد فضمّر فهدك؛ فالحذر يترصّد الانتهاز، والحازم يهيّئ أسباب الجهاز؛ تجرّع مرارة النوائب فى أيّام معدوده، لحلاوة معهودة غير محدوده؛ وإنما هى محنة بائده، تتلوها فائده؛ وكربة نافده، بعدها نعمة خالده، [وغنيمة «12» بارده] ؛ فلا تكرهنّ صبرا أو صابا «13» ، يغسل عنك أو صابا «14» ؛ ولا تشربنّ وردا يعقبك سقاما، ولا تشمّن وردا يورثك زكاما؛ [ما ألين «15» الرّيحان لولا وخز البهمى «16» ، وما أطيب الماذىّ لولا حمة «17» الحمى] ! فلا تهولنّك مرارات ذاقها عصبه، إنما يريد الله ليهديهم بها؛ ولا تروقنّك حلاوات نالها فرقه، إنما يريد الله ليعذّبهم بها. انتهى.(8/70)
السنة الأولى من سلطنة الملك العادل كتبغا المنصورىّ على مصر، وهى سنة أربع وتسعين وستمائة.
كان فيها الغلاء العظيم بسائر البلاد ولا سيّما مصر والشام، وكان بمصر مع الغلاء وباء عظيم أيضا وقاسى الناس شدائد فى هذه السنة واستسقى الناس بمصر من عظم الغلاء والفناء.
وفيها أسلم ملك التّتار غازان وأسلم غالب جنده وعساكره، على ما حكى الشيخ علم الدين «1» البرزالىّ.
وفيها توفّى السلطان الملك المظفّر شمس الدين أبو المحاسن يوسف ابن السلطان الملك المنصور نور الدين عمر بن علىّ بن رسول التّركمانىّ الأصل الغسّانىّ صاحب بلاد اليمن، مات فى شهر رجب بقلعة تعزّ «2» من بلاد اليمن، وقيل: اسم رسول محمد ابن هارون بن أبى الفتح بن نوحى بن رستم من ذرّيّة جبلة بن الأيهم، قيل: إنّ رسولا جدّ هؤلاء ملوك اليمن كان انضم لبعض الخلفاء العباسيّة، فاختصه بالرسالة إلى الشام وغيرها فعرف برسول، وغلب عليه ذلك. ثم انتقل من العراق إلى الشام ثم إلى مصر، وخدم هو وأولاده بعض بنى أيّوب، وهو مع ذلك له حاشية وخدم.
ولمّا أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أخاه الملك المعظّم توران شاه(8/71)
إلى اليمن أرسل الملك المنصور عمر «1» والد صاحب الترجمة معه كالوزير له واستحلفه على المناصحة، فسار معه إلى اليمن. فلمّا ملك الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل محمد بن أبى بكر بن أيّوب اليمن بعد توران شاه قرّب عمر المذكور وزاد فى تعظيمه وولّاه الحصون، ثمّ ولّاه مكة المشرفة ورتّب معه ثلثمائة فارس، وحصل بينه وبين صاحب مكة حسن بن قتادة وقعة انكسر فيها حسن ودخل المنصور مكة واستولى عليها، وعمّر بها المسجد «2» الذي اعتمرت منه عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فى سنة تسع عشرة وستمائة، ثم عمّر فى ولايته لمكة أيضا دار «3» أبى بكر الصدّيق، رضى الله عنه فى زقاق «4» الحجر فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ثم استنابه الملك المسعود على اليمن لمّا توجّه إلى الديار المصرية، واستناب على صنعاء «5» أخاه بدر الدين حسن بن علىّ(8/72)
ابن رسول. ولمّا عاد الملك المسعود إلى اليمن قبض على نور الدين هذا وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور وعلى أخيه فخر الدين وعلى شرف الدين موسى تخوّفا منهم لما ظهر من نجابتهم فى غيبته، وأرسلهم إلى الديار المصريّة محتفظا بهم خلا نور الدين عمر (أعنى الملك المنصور) فإنّه أطلقه من يومه لأنه كان يأنس إليه، ثم استحلفه وجعله أتابك عسكره؛ ثم استنابه الملك المسعود ثانيا لمّا توجّه إلى مصر، وقال له:
إن متّ فأنت أولى بالملك من إخوتى لخدمتك لى، وإن عشت فأنت على حالك، وإياك أن تترك أحدا من أهلى يدخل اليمن، ولو جاءك الملك الكامل. ثم سار الملك المسعود إلى مكة فمات بها. فلما بلغ الملك المنصور ذلك استولى على ممالك اليمن بعد أمور وخطوب، واستوسق له الأمر، فكانت مدّة مملكته باليمن نيّفا على عشرين سنة. ومات بها فى ليلة السبت تاسع ذى القعدة سنة «1» سبع وأربعين وستمائة، وملك بعده ابنه الملك المظفّر يوسف هذا، وهو ثانى سلطان من بنى رسول باليمن؛ وأقام الملك المظفّر هذا فى الملك نحوا من ستّ وأربعين سنة. وكان ملكا عادلا عفيفا عن أموال الرعيّة، حسن السّيرة كثير العدل، وملك بعده ولده الأكبر الملك الأشرف ممهّد «2» الدّين عمر فلم يمكث الأشرف بعد أبيه إلا سنة «3» ومات، وملك أخوه الملك المؤيّد هزبر الدّين داود «4» . ومات الملك المظفّر هذا مسموما سمّته بعض جواريه. ومات وقد جاوز الثمانين. وخلّف من الأولاد الملك الأشرف الذي ولى بعده، والمؤيّد داود والواثق [إبراهيم «5» ] والمسعود [تاج الدين حسن «6» ] والمنصور [أيوب «7» ] . انتهى.(8/73)
وفيها توفّى العلّامة جمال الدين أبو غانم محمد ابن الصاحب كمال الدين أبى القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبى جرادة الحلبىّ الحنفىّ المعروف بابن العديم.
مات بمدينة حماة، وكان إماما فاضلا بارعا من بيت غلم ورياسة.
وفيها قتل الأمير عساف «1» ابن الأمير أحمد بن حجّىّ أمير العرب من آل مرى، وكان أبوه أكبر عربان آل برمك، وكان يدّعى أنه من نسل البرامكة من العبّاسة أخت هارون الرشيد. وقد ذكرنا ذلك فى وفاة أبيه الأمير شهاب الدين أحمد.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الفارسىّ الأتابكىّ، كان من خيار الأمراء وأكابرهم وأحسنهم سيرة.
وفيها توفّى شيخ الحجاز وعالمه الشيخ محبّ الدين أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن إبراهيم الطّبرىّ المكىّ الشافعىّ فقيه الحرم بمكة- شرفها الله تعالى- ومفتيه، ومولده فى سنة أربع عشرة وستّمائة بمكّة. وكانت وفاته فى ذى القعدة «2» . وقال البرزالىّ «3» : ولد بمكّة فى يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
قلت: ونشأ بمكّة وطلب العلم وسمع الكثير ورحل البلاد.
وقال جمال الدين الإسنائىّ «4» : إنّه تفقّه بقوص «5» على الشيخ مجد الدين «6» القشيرىّ. انتهى.(8/74)
وذكر نحو ذلك القطب «1» الحلبىّ فى تاريخ مصر، وحدّث وخرّج لنفسه أحاديث عوالى.
قال أبو حيّان «2» : إنّه وقع له وهم فاحش فى القسم الأول وهو التّساعىّ، وهو إسقاط رجل من الإسناد حتى صار له الحديث تساعيّا فى ظنّه. انتهى.
قلت: وقد استوعبنا سماعاته ومصنّفاته ومشايخه فى ترجمته من تاريخنا المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى مستوفاة فى الكتاب المذكور. وكان له يد فى النظم، فمن ذلك قصيدته الحائيّة:
ما لطرفى عن الجمال براح ... ولقلبى به غذا ورواح
كلّ معنى يلوح فى كلّ حسن ... لى إليه تقلّب وارتياح
ومنها:
فيهم يعشق الجمال ويهوى ... ويشوق الحمى وتهوى الملاح
وبهم يعذّب الغرام ويحلو ... ويطيب الثناء والامتداح
لا تلم يا خلىّ قلبى فيهم ... ما على من هوى الملاح جناح
ويح قلبى وويح طرفى إلى كم ... يكتم الحبّ والهوى فضّاح
صاح عرّج على العقيق وبلّغ ... وقباب فيها الوجوه الصباح
والقصيدة طويلة كلّها على هذا المنوال.
وفيها توفّى سلطان إفريقيّة وابن سلطانها وأخو سلطانها عمر بن أبى زكريّا يحيى ابن عبد الواحد بن عمر الهنتاتىّ «3» الملقّب بالمستنصر بالله والمؤيّد به، وولى سلطنة(8/75)
تونس «1» بعد وفاة أخيه إبراهيم فيما أظنّ، وقتل الدعىّ «2» الذي كان غلب عليها، وملك البلاد ودام فى الملك إلى أن مات فى ذى الحجّة. وكان عهد لولده عبد الله بالملك، فلمّا احتضر أشار عليه الشيخ أبو محمد المرجانى «3» بأن يخلعه لصغر سنّه فخلعه، وولّى ولد الواثق محمد بن يحيى بن محمد الملقّب بأبى عصيدة الآتى ذكر وفاته فى سنة تسع وسبعمائة. وكان المستنصر هذا ملكا عادلا حسن السيرة وفيه خبرة ونهضة وكفاية ودين وشجاعة وإقدام. رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الزاهد القدوة أبو الرجال بن مرى بمنين «4» فى المحرّم. وعزّ الدين أبو بكر محفوظ بن معتوق التاجر ابن البزورىّ «5» فى صفر. والإمام عزّ الدين أحمد بن إبراهيم بن الفاروثىّ «6» فى ذى الحجة.(8/76)
وصاحب اليمن الملك المظفّر يوسف بن عمر فى رجب؛ وكانت دولته بضعا وأربعين سنة. وشيخ الحجاز محبّ الدين الطّبرىّ. وأبو الفهم «1» أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسينىّ النقيب فى المحرّم. والعلّامة تاج «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهّر «3» بن أبى عصرون التميمى مدرّس الشاميّة «4» الصغرى فى ربيع الأوّل. ومحيى الدين عبد الرحيم بن عبد المنعم [بن خلف «5» بن عبد المنعم] بن الدّميرى فى المحرّم، وله تسعون سنة. والزاهد القدوة شرف الدين محمد بن عبد الملك «6» اليونينىّ المعروف بالأرزونى»
. والزاهد المقرئ شرف الدين محمود بن محمد التّادفىّ «8» بقاسيون فى رجب. والعلّامة زين الدين [أبو البركات «9» ] المنجّا بن عثمان بن أسعد(8/77)
ابن المنجا الحنبلىّ فى شعبان، وله خمس وستون سنة. وقاضى القضاة شرف الدين الحسن بن عبد الله ابن الشيخ أبى عمر المقدسىّ الحنبلىّ. وناصر الدين نصر الله بن محمد بن عيّاش الحدّاد فى شوّال. والعدل كمال الدين عبد الله بن محمد [بن نصر «1» ] ابن قوام فى ذى القعدة. وأبو الغنائم بن محاسن الكفرابى. والمقرئ موفّق الدين محمد بن أبى العلاء [محمد «2» بن علىّ] ببعلبكّ «3» فى ذى الحجة. والمقرئ أبو القاسم عبد الرحمن ابن عبد الحليم سحنون «4» المالكىّ فى شوّال بالإسكندريّة. والعلّامة الصاحب محيى الدين محمد بن يعقوب [بن إبراهيم «5» بن هبة الله بن طارق بن سالم] بن النحّاس الحلبىّ الحنفى فى آخر السنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراع وأصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. وكان الوفاء فى سادس أيام النّسىء.
[ما وقع من الحوادث سنة 695]
السنة الثانية من ولاية الملك العادل كتبغا المنصورىّ على مصر، وهى سنة خمس وتسعين وستمائة.(8/78)
فيها كان الغلاء العظيم بسائر البلاد، ولا سيّما مصر والشام؛ وكان بمصر مع الغلاء وباء عظيم أيضا، وقاسى الناس شدائد فى هذه السنة والماضية.
وفيها ولى قضاء الديار المصريّة الشيخ تقىّ الدين «1» أبو الفتح محمد بن علىّ بن وهب ابن دقيق العيد بعد وفاة قاضى القضاة تقىّ الدين عبد الرحمن بن بنت الأعزّ.
وفيها توفّى الملك السعيد شمس «2» الدين إيلغازى ابن الملك المظفّر [فخر «3» الدين قرا أرسلان] ابن الملك السعيد صاحب ماردين الأرتقىّ، ودفن بتربة جدّه أرتق، وتولّى بعده سلطنة ماردين أخوه الملك المنصور نجم الدين غازى. وكان مدّة مملكة الملك السعيد هذا على ماردين دون الثلاث سنين. وكان جوادا عادلا حسن السّيرة، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بيليك بن عبد الله المحسنىّ المعروف بأبى شامة بالقاهرة، وكان من أعيان الأمراء وأكابرهم، رحمه الله.
وفيها توفى الأسعد بن السّديد القبطىّ الأسلمىّ الكاتب مستوفى الديار المصريّة والبلاد الشامية والجيوش جميعها المعروف بالماعز الديوانى «4» المشهور، وكان معروفا بالأمانة والخير، وكان نصرانيّا ثم أسلم فى دولة السلطان الملك الأشرف خليل ابن قلاوون.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدى- رحمه الله-: حكى لى القاضى شهاب الدين محمود رحمه الله قال: لمّا مرض المذكور توجّهنا إليه نعوده فوجدناه ضعيفا إلى الغاية، وقد وضعوا عنده أنواعا من الحلىّ والمصاغ المجوهر والعقود(8/79)
وفيها العنبر الفائق وأنواع من الطّيب. ثم إنّه قال: ارفعوا هذا عنّى، وأسرّ إلى خادم كلاما؛ فمضى وأتى بحقّ ففتحه وأقبل يشمّه وقمنا من عنده ثم إنه مات، فسألنا ذلك الخادم فيما بعد: ما كان فى ذلك الحقّ؟ قال: شعرة من است الراهب الفلانىّ الذي كان له كذا كذا سنة ما لمس الماء ولا قربه. قال فأنشدت:
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ... إلّا وفى يده من نتنها عود
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الأفرم الكبير أمير جاندار الملك الظاهر والملك السعيد والملك المنصور قلاوون. فلمّا تسلطن الملك الأشرف خليل ابن قلاوون حبسه، وبعد قتل الأشرف خليل أخرجه أخوه الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأعاده إلى مكانته؛ ثم استقرّ فى أيام الملك العادل كتبغا على حاله إلى أن مات بالقاهرة فى يوم السبت «1» سابع شهر ربيع الأوّل.
قال القطب اليونينىّ: حكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار قال: أوصى الأفرم عند موته أنه إذا توفّى يأخذون خيله يلبسونها أفخر مالها من العدّة، وكذلك جميع مماليكه وغلمانه يلبسونهم عدّة الحرب، وأن تضرب نوبة الطبلخاناه خلف جنازته، كما كان يطلع إلى الغزاة، وألّا يقلب له سنجق ولا يكسر له رمح، ففعلوا أولاده ما أمر به ما خلا الطبلخاناه، فإنّ نائب السلطنة حسام الدين لاچين منعهم من ذلك، وكانت جنازته حفلة حضرها السلطان ومن دونه. وكان ديّنا من وسائط الأخيار وأرباب المعروف. وكان يقال: إنه يدخل عليه من أملاكه وضماناته وإقطاعاته كلّ يوم ألف دينار خارج عن الغلال.(8/80)
قلت: وهذا مستفاض بين الناس. وقصّة أولاده لمّا احتاجوا مع كثرة هذا المال إلى السؤال مشهورة. يقال إنه كان له ثمن الديار المصرية، وهو صاحب الرّباط «1» والجسر «2» على بركة الحبش «3» خارج القاهرة.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: «كنت بالقاهرة وقد وقف أولاده وشكا عليهم أرباب الديون إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فقال السلطان:
يا بشتك «4» ، هؤلاء أولاد الأفرم الكبير صاحب الأملاك والأموال، أبصر كيف حالهم! وما سببه إلا أنّ أباهم وكلهم «5» على أملاكهم فما بقيت، وأنا لأجل ذلك لا أدّخر لأولادى ملكا ولا مالا» . انتهى كلام الصّفدى.
قلت: والعجيب أنه كان قليل الظلم كثير الخير، وغالب ما حصله من نوع المتاجر والمزروعات والمستأجرات، ومع هذا احتاج أولاده وذريته إلى السؤال.(8/81)
وفيها توفّى قاضى القضاة بالديار المصريّة ورئيسها تقىّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن ابن قاضى القضاه تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب ابن القاضى الأعز أبى القاسم خلف [بن «1» محمود] بن بدر العلامىّ «2» الشافعى المصرىّ المعروف بابن بنت الأعز. مات يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى ودفن عند والده بالقرافة فى تربتهم وهو فى الكهولية. وكان فقيها بارعا شاعرا خيّرا ديّنا متواضعا كريما، تفقّه على والده وعلى ابن عبد السلام، وتولّى الوزارة والقضاء ومشيخة الشيوخ، وأضيف اليه تدريس الصلاحيّة «3» والشريفية «4» بالقاهرة والمشهد الحسينى «5» وخطابة الجامع الأزهر، وامتحن محنة شديدة فى أوّل الدولة الأشرفية وعمل على إتلافه بالكلّية، وذلك بسعاية الوزير ابن السّلعوس الدّمشقىّ. وقد استوعبنا أمره فى المنهل الصافى، ثم أعيد إلى القضاء بعد وفاة الأشرف، فلم تطل أيامه ومات.(8/82)
ولمّا حج القاضى تقىّ الدين هذا وزار قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنشد عند الحجرة [النبويّة «1» ] قصيدته التى مطلعها:
الناس بين مرجّز ومقصّد ... ومطوّل فى مدحه ومجوّد
ومخبّر عمّن روى ومعبّر ... عمّا رآه من العلا والسّودد
وفيها توفّى الشيخ الإمام الأديب البارع المفتنّ سراج الدين أبو حفص عمر بن محمد ابن الحسين «2» المصرىّ المعروف بالسّراج الورّاق الشاعر المشهور. مولده فى العشر الأخير من شوّال سنة خمس عشرة وستمائة، ومات فى جمادى الأولى من هذه السنة ودفن بالقرافة. وكان إماما فاضلا أديبا مكثرا متصرّفا فى فنون البلاغة، وهو شاعر مصر فى زمانه بلا مدافعة. ومن شعره:
فى خدّه ضلّ علم الناس واختلفوا ... أللشقائق أم للورد نسبته
فذاك بالخال يقضى للشقيق وذا ... دليله أنّ ماء الورد ريقته
وله:
كم قطع الجود من لسان ... قلّد من نظمه النّحورا
فهأنا شاعر سراج ... فاقطع لسانى أزدك نورا
وله:
لا تحجب الطّيف إنّى عنه محجوب ... لم يبق منى لفرط السّقم مطلوب
ولا تثق بأنينى إنّ موعده ... بأن أعيش للقيا الطّيف مكذوب
هذا وخدّك مخضوب يشاكله ... دمع يفيض على خدىّ مخضوب
وليس للورد فى التشبيه رتبته ... وإنّما ذاك من معناه تقريب(8/83)
وما عذارك ريحانا كما زعموا ... فات «1» الرياحين ذاك الحسن والطّيب
تأوّد الغصن مهتزّا فأنبأنا ... أنّ الذي فيك خلق فيه مكسوب
يا قاسى القلب لو أعداه رقّته ... جسم من الماء بالألحاظ مشروب
أرحت سمعى وفى حبّيك من عذلى ... إذ أنت حب إلى العذّال محبوب
وكان السّراج أشقر أزرق العين. وفى ذلك يقول عن نفسه:
ومن رآنى والحمار مركبى ... وزرقتى للروم عرق قد ضرب
قال وقد أبصر وجهى مقبلا ... لا فارس الخيل ولا وجه العرب
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة دراعا وإصبع. وكان الوفاء فى رابع عشرين «2» توت.(8/84)
[ما وقع من الحوادث سنة 696]
ذكر سلطنة الملك المنصور لا چين على مصر
هو السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين بن عبد الله المنصورىّ سلطان الديار المصرية، تسلطن بعد خلع الملك العادل كتبغا المنصورىّ كما تقدّم ذكره فى يوم الجمعة عاشر صفر من سنة ست وتسعين وستمائة. وأصل لا چين هذا مملوك للملك المنصور قلاوون اشتراه وربّاه وأعتقه ورقّاه إلى أن جعله من جملة مماليكه، فلمّا تسلطن أمّره وجعله نائبا بقلعة دمشق. فلما خرج الأمير سيف الدين سنقر الأشقر عن طاعة الملك المنصور قلاوون وتسلطن بدمشق وتلقّب بالملك الكامل وملك قلعة دمشق قبض على لا چين هذا وحبسه مدّة إلى أن انكسر سنقر الأشقر وملك الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ دمشق أخرجه من محبسه، ودام لا چين بدمشق إلى أن ورد مرسوم الملك المنصور قلاوون باستقرار لاچين هذا فى نيابة دمشق دفعة واحدة؛ فوليها ودام بها إحدى عشرة سنة إلى أن عزله الملك الأشرف خليل بن قلاوون بالشّجاعىّ. ثم قبض عليه ثم أطلقه بعد أشهر، ثم قبض عليه ثانيا مع جماعة أمراء، وهم: الأمير سنقر الأشقر المقدّم ذكره الذي كان تسلطن بدمشق وتلقّب بالملك الكامل. والأمير ركن الدين طقصو الناصرىّ حمو لاچين هذا. والأمير سيف الدين جرمك الناصرىّ. والأمير بلبان الهارونىّ وغيرهم، فحنقوا الجميع وما بقى غير لاچين هذا، فقدّموه ووضعوا الوتر فى حلقه وجذب الوتر فانقطع، وكان الملك الأشرف حاضرا؛ فقال لاچين: ياخوند، إيش لى ذنب! ما لى ذنب إلا أنّ صهرى طقصوها هو قد هلك، وأنا أطلّق ابنته، فرقّ له خشداشيته وقبّلوا الأرض وسألوا السلطان فيه، وضمنوه فأطلقه وخلع عليه وأعطاه إمرة مائة فارس بالديار المصرية وجعله سلاح دار.(8/85)
قلت: (يعنى جعله أمير سلاح) فإنّ أمير سلاح هو الذي يناول السلطان السلاح وغيره. قلت: لله درّ المتنبّى حيث يقول:
لا تخدعنّك من عدوّك دمعة ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وذلك أنّ لاچين لمّا خرج من الحبس وصار من جملة الأمراء خاف على نفسه، واتّفق مع الأمير بيدرا نائب السلطنة وغيره على قتل الأشرف حتى تمّ لهم ذلك حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الأشرف. ثمّ اختفى لاچين أشهرا إلى أن أصلح أمره الأمير كتبغا وأخرجه وخلع عليه الملك الناصر محمد بن قلاوون كما تقدّم وجعله على عادته. كلّ ذلك بسفارة «1» الأمير كتبغا. ثم لمّا تسلطن كتبغا جعله نائب سلطنته بل قسيم مملكته، واستمرّ لاچين على ذلك حتى سافر الملك العادل كتبغا إلى البلاد الشاميّة وأصلح أمورها وعاد إلى نحو الديار المصريّة، وسار حتى نزل بمنزلة اللّجون «2» ، اتّفق لاچين هذا مع جماعة من أكابر الأمراء على قتل الملك العادل كتبغا ووثبوا عليه بالمنزلة المذكورة، وقتلوا الأميرين: [سيف الدين «3» ] بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين، وكانا من أكابر مماليك الملك العادل كتبغا وأمرائه، واختبط العسكر وبلع الملك العادل كتبغا ذلك ففاز بنفسه، وركب فى خمسة من خواصّه وتوجّه إلى دمشق.
وقد حكينا ذلك كلّه فى ترجمة كتبغا. فاستولى عند ذلك لاچين على الخزائن(8/86)
والدهليز وبرك «1» السلطنة، وساق الجميع أمامه إلى مدينة غزّة «2» . وبايعوه الأمراء بالسلطنة بعد شروط اشترطوها الأمراء عليه حسب ما يأتى ذكرها فى محلّه. وسار الجميع إلى نحو الديار المصريّة حتى دخلوها وملكوا القلعة بغير مدافع، وجلس لاچين هذا على كرسىّ المملكة فى يوم الجمعة المقدّم ذكره. وتم أمره وخلع على الأمراء بعدّة وظائف، وهم: الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ بنيابة السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن نفسه. وخلع على الأمير قبجق المنصورىّ بنيابة الشام عوضا عن الأمير أغزلوا «3» العادلى. وعلى عدّة أمراء أخر. ثم ركب الملك المنصور لاچين بعد ذلك من قلعة الجبل فى يوم الاثنين العشرين من صفر بأبّهة السلطنة وعليه الخلعة الخليفتيّة، وخرج إلى ظاهر القاهرة إلى جهة قبّة «4» النصر، ثم عاد من باب النصر وشقّ القاهرة إلى أن خرج من باب زويلة، والأمراء والعساكر بين يديه؛ وحمل الأمير بدر الدين بيسرى الجتر على رأسه وطلع إلى القلعة. وخلع أيضا على الأمراء وأرباب الوظائف على العادة. واستمرّ فى السلطنة وحسنت سيرته، وباشر الأمور بنفسه وأحبّه الناس لولا مملوكه منكوتمر، فإنّه كان صبيا مذموم السيرة. ولمّا(8/87)
كان يوم الثلاثاء منتصف ذى القعدة من سنة ست وتسعين وستمائة قبض السلطان الملك المنصور لاچين على الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائب السلطنة وحبسه، وولّى مملوكه منكوتمر المذكور نيابة السلطنة عوضه، فعظم ذلك على أكابر الأمراء فى الباطن. ثم بعد أيام ركب السلطان الملك المنصور لاچين ولعب الكرة بالميدان «1» فتقنطر به الفرس فوقع من عليه وتهشّم جميع بدنه وانكسرت يده وبعض أضلاعه ووهن عظمه وضعفت حركته، وبقى يعلّم عنه مملوكه ونائبه سيف الدين منكوتمر وأيس من نفسه. كلّ ذلك والأمراء راضون بما يفعله منكوتمر لأجل خاطره إلى أن منّ الله تعالى عليه بالعافية وركب، ولمّا ركب زيّنت له القاهرة ومصر والبلاد الشاميّة لعافيته، وفرح الناس بعافيته فرحا شديدا خصوصا الحرافيش «2» .
فإنه لمّا ركب بعد عافيته قال له واحد من الحرافشة: يا قضيب الذهب، بالله أرنى يدك، فرفع إليه يده وهو ماسك المقرعة وضرب بها رقبة الحصان الذي تحته. وكان ركوبه فى حادى عشرين صفر من سنة سبع وتسعين وستمائة. ولمّا كان لعب الكرة وكبا به فرسه ووقع وانكسرت يده قال فيه الأديب شمس الدين محمد [المعروف بابن البيّاعة «3» ] :
حويت بطشا وإحسانا ومعرفة ... وليس يحمل هذا كلّه الفرس
ولمّا تعافى الملك المنصور لاچين قال فيه شمس الدين المذكور نثرا وهو: أسفر ثغر صباحه عن محيّا القمر الزاهر، وبطش الأسد الكاسر، وجود البحر الزاخر؛ فياله يوما(8/88)
نال به الإسلام على شرفه شرفا، وأخذ كلّ مسلم من السرور العامّ طرفا؛ فملئت كلّ النفوس سرورا، وزيدت قلوب المؤمنين وأبصارهم ثباتا ونورا. ثم أنشد أبياتا منها:
فمصر والشام كلّ الخير عمّهما ... وكلّ قطر علت فيه التّباشير
فالكون مبتهج والخلق مبتسم ... والخير متّصل والدّين مجبور
ومنها:
وكيف لا وعدوّ الدّين منكسر ... بالله والملك المنصور منصور
والشرك قد مات رعبا حيث صاح به التو ... حيد هذا حسام الدين مشهور
ثم بعد ذلك بمدّة قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى، واحتاط على جميع موجوده فى سادس شهر ربيع الآخر. ثم جهّز السلطان الملك المنصور العساكر إلى البلاد الشاميّة لغزو سيس «1» وغيرها، وعليهم الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى وغيره من الأمراء، وسارت العساكر من الديار المصرية إلى البلاد الشامية، وفتحت تلّ «2» حمدون وتلّ «3» باشر وقلعة «4» مرعش؛ وجاء الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى حجر فى رجله عطّله عن الركوب فى أيّام الحصار. واستشهد الأمير علم الدين سنجر المعروف بطقصبا، وجرح جماعة كثيرة من العسكر والأمراء. ثم إنّ الملك المنصور قبض على الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ المعزول عن نيابة دمشق قبل تاريخه بمدّة(8/89)
سنين وعلى الأمير سنقر شاه الظاهرى لأمر بلغه عنهما. ثم فى أواخر صفر أخرج السلطان الملك المنصور لاچين الملك الناصر محمد بن قلاون من الديار المصريّة إلى الكرك ليقيم بها، وفى خدمته الأمير جمال الدين آقوش أستاذ دار الملك المنصور، فنزل الملك الناصر محمد بحواشيه من قلعة الجبل، وسافر حتى وصل إلى الكرك.
ثم بدا للسلطان الملك المنصور هذا أن يعمل الرّوك «1» بالديار المصريّة وهو الروك الحسامىّ. فلمّا كان يوم سادس جمادى الأولى من سنة سبع «2» وتسعين وستمائة ابتدأ عمل الروك والشروع فيه فى إقطاعات «3» الأمراء وأخباز الحلقة والأجناد وجميع(8/90)
عساكر الديار المصريّة، واستمرّوا فى عمله إلى يوم الاثنين ثامن «1» شهر رجب من سنة سبع وتسعين وستمائة، وفرّقت المثالات «2» على الأمراء والمقدّمين. وفى اليوم العاشر شرع نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكوتمر فى تفرقة المثالات على الحلقة والبحريّة ومماليك السلطان وغير ذلك، فكان كلّ من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، فمن الجند من سعد ومنهم من شقى، وأفرد للخاصّ «3» أعمال الجيزيّة «4» بتمامها وكمالها، ونواحى الصّفقة الإتفيحيّة «5» وثغر دمياط «6» والإسكندريّة «7» ونواحى معيّنة من البلاد القبليّة والبحريّة، وعيّن لمنكوتمر من النّواحى ما اختاره لنفسه وأصحابه؛ وكان الحكم فى التعيين لدواوين منكوتمر، والاختيار لهم فى التفرقة. وكان الذي باشر هذا الرّوك وعمله من الأمراء الأمير بدر الدين بيليك «8» الفارسىّ الحاجب والأمير بهاء الدين قراقوش الطّواشىّ «9» الظّاهرىّ.(8/91)
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ: وكان مدّة عمل الرّوك ثمانية أشهر إلا أيّاما قلائل. ثم تقنطر السلطان الملك المنصور لاچين عن فرسه فى لعب الكرة.
انتهى كلام الصّفدىّ.
وقال القطب اليونينىّ: حكى بعض كتّاب الجيش بالديار المصريّة فى سنة سبعمائة قال لى: أخدم فى ديوان الجيش بالديار المصريّة أربعين سنة، قال: والديار المصريّة أربعة وعشرون قيراطا، منها: أربعة قراريط للسلطان ولما يطلقه وللكلف والرواتب وغير ذلك، ومنها عشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات، ومنها عشرة قراريط للحلقة. قال: وذكروا للسلطان ولمنكوتمر أنّهم يكفون الأمراء والجند بأحد عشر قيراطا «1» ، يستخدم عليها حلقة بمقدار الجيش، فشرعوا فى ذلك وطلبونا وطلبوا الكتّاب الجياد فى هذه الصّناعة، فكفينا الأمراء والجند بعشرة قراريط، وزدنا الذين تضرّروا قيراطا فبقى تسعة، فاتّفق قتل السلطان ومنكوتمر.
وكان فى قلوب الأمراء من ذلك همّ عظيم، فأنعم على كلّ أمير ببلد وبلدين من تلك التسعة قراريط، وبقى الجيش ضعيفا ليس له قوّة. وكانت التسعة قراريط التى بقيت خيرا من الأحد عشر قيراطا المقطعة.
قلت: يعنى أنّ هذا خارج عن الأربعة قراريط التى هى برسم السلطان خاصّة. انتهى.
وقيل فى الرّوك وجه آخر؛ قال: لمّا كان فى ذى الحجّة سنة سبع وتسعين وستّمائة قصد السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين المنصورىّ أن يروك البلاد المصريّة وينظر فى أمور عساكر مصر، فتقدّم التاج «2» الطويل مستوفى الدولة(8/92)
بجمع الدواوين لعمل أوراق بعبرة «1» إقطاع الأمراء والجند وقانون البلاد، وندب الأمير بهاء الدين قراقوش الظّاهرىّ والأمير بدر الدين بيليك الفارسىّ الحاجب، فجمع سائر الكتّاب لذلك؛ وأخذوا فى عمله فلم يحكموا العمل، وذلك أنّهم عمدوا إلى الإقطاعات الثقيلة المتحصّلة من إقطاعات الأمراء والجند، وأبدلوها بإقطاعات دونها فى العبرة والمتحصّل، وأصلحوا ما كان من الإقطاعات ضعيفا، وأفرد للعسكر بأجمعه أربعة عشر قيراطا، وللسلطان أربعة قراريط، وأرصد لمن عساه يتضرّر من الأمراء والجند ويشكو قلّة المتحصّل قيراطان، فتمّ بذلك عشرون قيراطا. وقتل الملك المنصور لاچين ولم يستخدم أحدا وأوقف برسم عسكر أخر يستجدّ أربعة قراريط.
وأفرد لخاصّ السلطان الجيزيّة والإتفيحيّة ومنفلوط «2» وهو «3» والكوم «4» الأحمر ومرج «5»(8/93)
بنى هميم وحرجة «1» سمطا، واتفو «2» (أدفو) بأعمال قوص «3» وإسكندريّة ودمياط، وأفرد لمنكوتمر مملوكه نائب السلطنة من الجهات ما لم يكن لنائب قبله، وهو عبرة نيّف عن مائة «4» ألف دينار. فلمّا فرغت الأوراق على ما ذكرنا جلس السلطان الملك المنصور لاچين لتفرفة المثالات على الأمراء والمقدّمين فأخذوها وهم غير راضين بذلك، وتبيّن للسلطان من وجوه الأمراء الكراهة، فأراد زيادة العبرة فى الإقطاعات فمنعه «5» نائبه منكوتمر من ذلك وحذّره فتح هذا الباب، فإنّه يخشى أن يعجز السلطان عن سدّه، وتكفّل له منكوتمر بإتمام العرض فيما قد عمل برسم السلطان. [و] «6» ] لمن كان له تعلّق فى هذا العمل من الأمراء وغيرهم أن يرفعوا شكايتهم إلى النائب؛ وتصدّى منكوتمر لتفرقة إقطاعات أجناد الحلقة، فجلس فى شبّاك النيابة بالقلعة ووقف الحجّاب بين يديه، وأعطى لكلّ تقدمة مثالاتها فتناولوها على كره منهم، وخافوا أن يكلّموا منكوتمر لسوء خلقه وسرعة بطشه؛ وتمادى الحال على ذلك عدّة أيام. وكانت أجناد الحلقة قد تناقصت أحوالهم عن أيّام الملك المنصور قلاوون، فإنّهم كانوا على أنّ أقل عبرة الإقطاعات وأضعف متحصّلاتها عشرة آلاف درهم وما فوق ذلك إلى ثلاثين ألف درهم وهى أعلاها، فرجع الأمر فى هذا الرّوك إلى أن استقرّ أكثر الإقطاعات عشرين ألفا إلى ما دونها؛ فقلّ لذلك رزق الأجناد؛ فإنّه صار من كان متحصّله(8/94)
عشرين ألفا رجع إلى عشرة آلاف، ومن كان عبرة إقطاعه عشرة آلاف بقيت خمسة آلاف، فشقّ ذلك على الجند ولم يرضوه إلّا أنهم خشوا التنكيل من منكوتمر؛ وكانت فيهم بقيّة من أهل القوّة والشجاعة، فتقدّموا إلى النائب منكوتمر وألقوا مثالاتهم، وقالوا: إنّا لا نعتد قطّ بمثل هذه الإقطاعات، ونحن إمّا أن نخدم الأمراء وإلّا بطّلنا، فعظم قولهم على النائب وأغضبه، وأمر الحجّاب بضربهم وساقهم الى السجن؛ فشفع فيهم الأمراء فلم يقبل شفاعتهم، وأقبل منكوتمر على من حضر من الأمراء والمقدّمين وغيرهم فأوسعهم سبّا وملأهم تقريعا وتعنيفا حتّى وغّر صدورهم وغيّر نيّاتهم فانصرفوا، وقد عوّلوا على عمل الفتنة؛ وبلغ السلطان ذلك فعنّف منكوتمر ولامه وأخرج الأجناد من السجن بعد أيام. وكان عمل هذا الرّوك وتفرقته من أكبر الأسباب وأعظمهما فى فتك الأمراء بالسلطان الملك المنصور لاچين وقتله وقتل نائبه منكوتمر المذكور. على ما سيأتى ذكره.
وكان هذا الرّوك أيضا سببا كبيرا فى إضعاف الجند بديار مصر وإتلافهم، فإنه لم يعمل فيه عمل طائل ولا حصل لأحد منهم زيادة يرضاها، وإنما توفّر من البلاد جزء كبير. فلمّا قتل الملك المنصور لاچين تقسّمها الأمراء زيادة على ما كان بيدهم. انتهى.
ثم إنّ السلطان الملك المنصور لاچين جهّز الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير والأمير سيف الدين حمدان [بن سلغيه «1» ] إلى البلاد الشاميّة، وعلى أيديهم مراسيم شريفة بخروج العساكر الشامية، وخروج نائب الشام الأمير قبجق المنصورىّ بجميع أمراء دمشق حتى حواشى الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق،(8/95)
فوصلوا إلى دمشق وألحوّا «1» فى خروج العسكر ونوّهوا بأنّ التّتار قاصدون البلاد، فخرج نائب الشام بعساكر دمشق فى ليلة الخميس رابع عشر المحرّم من سنة ثمان وتسعين وستمائة. ووقع لقبجق نائب الشام المذكور فى هذه السّفرة أمور أوجبت عصيانه وخروجه من البلاد الحلبيّة بمن معه من الأمراء ومماليكه إلى غازان ملك التّتار.
وكان الذي توجّه معه من أكابر الأمراء: بكتمر «2» السّلاح دار وألبكى «3» وبيغار «4» وغيرهم فى جمع كثير، وكان خروجهم فى ليلة الثلاثاء ثامن شهر ربيع الآخر. وسبب خروج قبجق عن الطاعة وتوجّهه أنه كان ورد عليه «5» مرسوم السلطان بالقبض على هؤلاء الأمراء المذكورين وغيرهم، ففطن الأمراء بذلك فهرب منهم من هرب وبقى هؤلاء، فجاءوا إلى قبجق وهو نازل على حمص، فطلبوا منه أمانا فأمّنهم وحلف لهم، وبعث قبجق إلى السلطان يطلب منه أمانا لهم فأبطأ عليه الأمان، ثم خشّن عليه بعض أكابر أمراء دمشق فى القول بسببهم فعلم قبجق أنّ ذلك الكلام من قبل السلطان فغضب، وخرج على حميّة وتبعه الأمير عز الدين بن صبرا، والملك الأوحد [ابن الزاهر «6» ] وجماعة من مشايخ الأمراء يسترضونه فلم يرجع؛ وركب هو ومن معه من حواشيه ومن الأمراء(8/96)
المذكورين وسار حتى وصل ماردين «1» ، والتقى مع مقدم التّتار فخدمهم مقدّم التتار، وأخذهم وتوجّه بأطلاب التتار وعساكره إلى أن وصلوا إلى غازان ملك التتار وهو نازل بأرض السّيب «2» من أعمال واسط «3» . فلمّا قدم قبجق ومن معه على غازان سرّ بهم وأكرمهم ووعدهم ومنّاهم وأعطى لكلّ أمير عشرة آلاف دينار، ولكل مملوك مائة دينار، وللمماليك الصّغار مع الرّكبدارية «4» خمسين دينارا، وكلّ دينار من هذه الدنانير(8/97)
صرفه باثنى عشر درهما؛ ثم أقطع الأمير قبجق المذكور مدينة همذان «1» وأعمالها، فلم يقبل قبجق واعتذر أن ليس له قصد إلّا أن يكون فى صحبة السلطان الملك غازان ليرى وجهه فى كلّ وقت! فأجابه غازان إلى ما سأله وأعجبه ذلك منه.
وكان لمّا خرج قبجق من حمص إلى جهة التتار، وبلغ أمراء دمشق ذلك خرج فى طلبه الأمير كجكن والأمير أيدغدى شقير بمماليكهم ومعهم أيضا جماعة من عسكر الشام، فوجدوه قد قطع الفرات ولحقوا بعض ثقله. وعند وصول قبجق ومن معه إلى غازان بلغه قتل السلطان الملك المنصور لاچين بالديار المصرية وكان خبر قتل السلطان أيضا بلغ الأمير كجكن والأمير أيدغدى لمّا خرجوا فى أثر قبجق فآنحلّت عزائمهم عن اللّحوق بقبجق ورجعوا عنه وإلا كانوا لحقوه وقاتلوه.
وأمّا أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين صاحب الترجمة فإنه لمّا أخذ فى قبض من استوحش منهم من الأمراء وغيرهم، وزاد فى ذلك بإشارة مملوكه منكوتمر، استوحش الناس منه ونفرت قلوبهم وأجمعوا على عمل فتنة.
ثم فوّض لمملوكه منكوتمر جميع أمور المملكة فاستبدّ منكوتمر بوظائف الملك ومهمّاته.
وانتهى حال أستاذه الملك المنصور معه إلى أن صار إذا رسم الملك المنصور لاچين مرسوما أو كتب لأحد توقيعا وليس هو بإشارة منكوتمر يأخذه منكوتمر من يد المعطى له ويمزّقه فى الملأ، ويردّه ويمنع أستاذه منه؛ فعند ذلك استثقل الأمراء وطأة منكوتمر وعلموا أن أستاذه الملك المنصور لا يسمع فيه كلام متكلّم، فعملوا على قتل أستاذه الملك المنصور لاچين.(8/98)
قلت: الولد الخبيث يكون سببا لاستجلاب اللّعنة لوالده! انتهى:
وقال الأمير بيبرس الدّوادار فى تاريخه: وكان سبب قتل لاچين أمور، منها: أنّه لمّا أراد أن يتسلطن جاءه جماعة من الأمراء واشترطوا عليه شروطا فالتزمها لاچين، منها أنه يكون كأحدهم ولا ينفرد برأى عنهم، ولا يسلّط يد أحد من مماليكه فيهم. وكان الأعيان الحاضرون فى هذه المشورة، والمتفقون على هذه الصورة: الأمير بدر الدين بيسرى الشمسىّ. والأمير قرا سنقر المنصورىّ. والأمير سيف الدين قبجق. والأمير الحاج بهادر أمير حاجب الحجّاب. والأمير كرت «1» .
والأمير حسام الدين لاچين السّلاح دار الرومى الأستادار. والأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح. والأمير عز الدين أيبك الخازندار. والأمير جمال الدين آقوش الموصلى. والأمير مبارز الدين أمير شكار. والأمير بكتمر السّلاح دار. والأمير سيف الدين سلّار «2» . والأمير طغجى. والأمير كرجى. والأمير طقطاى. والأمير برلطاى وغيرهم. ولمّا حلف لهم الملك المنصور لاچين على ما شرطوا قال الأمير سيف الدين قبجق: نخشى أنّك إذا جلست فى المنصب تنسى هذا التقرير وتقدّم الصغير من مماليكك على الكبير، وتفوّض لمملوك منكوتمر فى التحكم والتدبير، فتنصّل لاچين من ذلك، وكرّر لاچين الحلف أنّه لا يفعل، فعند ذلك حلفوا له. ورحلوا نحو الديار المصريّة (يعنى أنّ ذلك كان بعد هروب الملك العادل كتبغا وعند دخول لاچين إلى غزّة) فوقّع هذه الشروط كلّها بمدينة غزّة. انتهى.(8/99)
قال بيبرس: فلمّا تسلطن رتّب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائبا.
والأمير الحاجّ بهادر حاجبا على عادته. والأمير سلّار أستادارا. والأمير بكتمر السّلاح دار أمير آخور. واستقرّ بالصاحب فخر الدين بن الخليلى فى الوزارة؛ ورتّب الأمير قبجق نائب الشام، ثم بعد مدّة أفرج عن الأمير برلغى فأعطاه إقطاعا بدمشق. ثم أفرج عن الأمير بيبرس الجاشنكير وجماعة من الأمراء، وأعطى بيبرس الجاشنكير إمرة بالقاهرة.
قلت: وبيبرس هذا هو الذي تسلطن فيما بعد حسب ما يأتى ذكره.
ثم برز مرسومه باستقرار الملك العادل كتبغا فى نيابة صرخد، وكتب له بها منشورا. انتهى كلام بيبرس باختصار، لأنه خرج فى سياق الكلام إلى غير ما نحن بصدده.
وقال غيره: ولمّا تسلطن لاچين وثبتت قدمه ورسخت نسى الشروط وقبض على أكابر خشداشيته من أعيان أمراء مصر وأماثلهم، مثل: الأمير قرا سنقر والبيسرى وبكتمر السّلاح دار وغيرهم، وولّى مملوكه منكوتمر نيابة السلطنة بل صار منكوتمر هو المتصرّف فى الممالك. فعند ذلك نفرت قلوب الأمراء والجند من الملك المنصور لاچين ودبرّوا عليه، واستوحش هو أيضا منهم واحترز على نفسه، وقلّل «1» من الركوب ولزم القعاد بقلعة الجبل متخوّفا؛ وكان كرجى خصيصا به وهو أحد من كان أعانه على السلطنة، فقدّمه لاچين لمّا تسلطن على المماليك السلطانية، فكان يتحدّث فى أشغالهم ويدخل للسلطان من أراد، لا يحجبه عنه حاجب؛ فحسده منكوتمر مع ما هو فيه من الحلّ والعقد فى المملكة؛ وسعى فى إبعاد كرجى عن السلطان الملك المنصور لاچين. فلمّا ورد البريد يخبر بأمر القلاع التى فتحها عسكر السلطان(8/100)
ببلاد الأرمن حسن منكوتمر إلى السلطان أن يرسل كرجى المذكور إليها نائبا ليقيم فيها، فوافقه السلطان على ذلك، وكلّم كرجى فاستعفى كرجى من ذلك فأعفاه السلطان بعد أمور فكمن كرجى فى نفسه. ثم أخذ مع هذا منكوتمر يغلظ على المماليك السلطانية وعلى الأمراء الكبار فى الكلام، فعظم ذلك عليهم وتشاكوا فيما بينهم من منكوتمر، وقالوا: هذا متى طالت مدّته أخذنا واحدا بعد واحد، وأستاذه مرتبط به، ولا يمكن الوثوب عليه أيّام أستاذه، فلم يجدوا بدّا من قتل أستاذه الملك المنصور لاچين قبله، ثم يقتلونه بعده، واتفقوا على ذلك.
قال الشيخ مجد الدين الحرمىّ وكيل بيت المال: كان الملك المنصور لاچين متزوّجا ببنت الملك الظاهر بيبرس، وكانت ديّنة عفيفة، فحكت أنها رأت فى المنام، ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة واحدة، كأنّ السلطان جالس فى المكان الذي قتل فيه، وكأنّ عدّة غربان سود على أعلى المكان، وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه، وهو يقول: كرج كرج؛ فلمّا ذكرت ذلك للسلطان، قالت له: أقم الليلة عندنا؛ فقال السلطان: ما ثمّ إلّا ما قدّره الله! وخرج من عندها إلى القصر بعد أن ركب فى أوّل النهار على العادة، وكان صائما وهو يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، فأفطر بالقصر.
ثم دخل إلى القصر الجوّانى بعد العشاء الآخرة وأخذ فى لعب الشّطرنج وعنده خواصّه وهم: قاضى القضاة «1» حسام الدين الحنفى، والأمير عبد الله، وبريد البدوى، وإمامه محب الدين «2» بن العسال؛ فأوّل من دخل عليه كرجى، وكان نوعيه السّلاح دار من(8/101)
جملة المتّفقين، وهو فى نوبته عند السلطان. وكان كرجى مقدّم البرجيّة والسلطان مكبّ على لعب الشّطرنج، فأوهم كرجى أنّه يصلح الشمعة فرمى الفوطة على النّيمچاه ثم قال السلطان لكرجى: رحت بيّت البرجيّة وغلّقت عليهم؟ والبرجيّة هم الآن مماليك الأطباق «1» ، فقال كرجى: نعم يا خوند. وقد كان أوقف كرجى أكثرهم فى دهليز القصر، فشكره السلطان وأثنى عليه من حضر، فقال السلطان: لولا الأمير سيف الدين كرجى ما وصلت أنا إلى السلطنة. فقبّل كرجى الأرض، وقال:
يا خوند، ما تصلّى العشاء؟ فقال السلطان: نعم وقام حتّى يصلّى فضربه كرجى بالسيف على كتفه، فطلب السلطان النّيمچاة فلم يجدها، فقام من هول الضربة ومسك كرجى ورماه تحته؛ وأخذ نوغيه السّلاح دار النّيمچاة وضرب بها رجل السلطان فقطعها، فانقلب السلطان على قفاه يخور فى دمه. انتهى ما ذكره وكيل بيت المال.
وقال القاضى حسام الدين الحنفىّ: كنت عند السلطان فما شعرت إلّا وستة أو سبعة أسياف نازلة على السلطان، وهو مكبّ على لعب الشّطرنج، فقتلوه ثم تركوه وأنا عنده، وغلّقوا علينا الباب، وكان سيف الدين طغجى قد قصد بقيّة البرجيّة المتّفقين معه ومع كرجى فى الدّركاه، فقال لهم: قضيتم الشغل؟ فقالوا: نعم. ثم إنهم توجّهوا جميعا إلى دار سيف الدين منكوتمر وهو بدار النّيابة من قلعة الجبل، فدقّوا عليه الباب وقالوا له: السلطان يطلبك، فأنكر حالهم وقال لهم: قتلتم السلطان؟
فقال له كرجى: نعم يا مأبون وقد جئناك نقتلك، فقال: أنا ما أسلم نفسى إليكم إنما أنا فى جيرة الأمير سيف الدين طغجى، فأجاره طغجى وحلف له أنه لا يؤذيه ولا يمكّن أحدا من أذيّته؛ ففتح داره فتسلّموه وراحوا به إلى الجبّ «2» فأنزلوه إلى(8/102)
عند الأمراء المحبوسين. فلمّا دخل إلى الجبّ قام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر «1» وتلقاه متهكّما عليه، ثم قام إليه الأمير عز الدين أيبك الحموى وشتمه، وأراد قتله، لأنّ منكوتمر هذا كان هو السبب فى مسك هؤلاء الأمراء، وإقلاب الدولة من حرصه على أنّ الأمر يفضى إليه ويتسلطن بعد أستاذه. فأقام منكوتمر نحو ساعة فى الجبّ وراح الأمير طغجى إلى داره حتى يقضى شغلا له، فآغتنم كرجى غيبته وأخذ معه جماعة وتوجّه إلى باب الحبس وأطلع منكوتمر صورة أنهم يريدون تقييده كما جرت العادة فى أمر المحتبسين، فامتنع من الطلوع فألحوا عليه وأطلعوه وذبحوه على باب الجبّ، ونهبوا داره وأمواله. ثم اتّفقوا كما هم فى الليل على سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وعوده إلى ملكه كونه ابن استاذهم، وأن يكون سيف الدين طغجى نائب السلطنة، ومهما عملوه يكون باتّفاق الأمراء، وحلفوا على هذا الأمر.
كلّ ذلك فى تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر وأصبح نهار الجمعة حلّفوا الأمراء والمقدّمين والعسكر جميعه للملك الناصر محمد بن قلاوون ونائب السلطنة طغجى. وسيّروا فى الحال خلف الملك الناصر محمد يطلبونه من الكرك، وركب الأمير طغجى يوم السبت فى الموكب والتفّ عليه العسكر وطلع إلى قلعة الجبل، وحضر الأمراء الموكب ومدّ السّماط كما جرت العادة به من غير هرج ولا غوغاء وكأنّه لم يجر شىء، وسكنت الفتنة، وفرح غالب الناس بزوال الدولة لأجل منكوتمر. ودام ذلك إلى أن كان يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وتسعين المذكورة، وصل الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح عائدا من الشام من فتوح سيس، وصحبته العساكر المتوجّهة معه، وكان قد راح إليه جماعة من أمراء مصر لتلقيه إلى بلبيس(8/103)
وأعلموه بصورة الحال، وقالوا له: الذي وقع من قتل الملك المنصور ليس هو عن رضاهم ولا علموا به، وأغروه على قتل طغجى واتّفقوا معه على ذلك، وكانوا الأمراء المذكورون قد أشاروا قبل خروجهم على طغجى أن يخرج يلتقى الأمير بكتاش أمير سلاح، فركب طغجى بكرة يوم الاثنين وتوجّه نحوه حتى التقاه وتعانقا وتكارشا.
ثم قال أمير سلاح لطغجى: كان لنا عادة من السلطان إذا قدمنا من السفر يتلقانا، وما أعلم ذنبى الآن ما هو، كونه ما يلقانى اليوم! فقال له طغجى: وما علمت بما جرى على السلطان؟ السلطان قتل. فقال أمير سلاح: ومن قتله؟ قال له: بعض الأمراء [وهو «1» الأمير سيف الدين كرت أمير حاجب: قتله] سيف الدين طغجى وكرجى، فأنكر عليه وقال: كلّما قام للمسلمين ملك تقتلونه! تقدّم عنى لا تلتصق بى، وساق عنه أمير سلاح؛ فتيقّن طغجى أنّه مقتول، فحرّك فرسه وساق فانقضّ عليه بعض الأمراء وقبض عليه بشعر دبوقته «2» ، ثم علاه بالسيف وساعده على قتله جماعة من الأمراء، فقتل وقتل معه ثلاثة نفر، ومرّوا سائقين إلى تحت القلعة. وكان كرجى قد قعد فى القلعة لأجل حفظها، فبلغه قتل رفيقه طغجى، فألبس البرجيّة السلاح وركب فى مقدار ألفى فارس حتى يدفع عن نفسه، فركبت جميع أجناد الحلقة والأمراء والمقدّمين فى خدمة أمير سلاح إلى الرابعة من النهار؛ ثم حملوا العساكر على جماعة كرجى فهزموهم، وساق كرجى وحده، واعتقد أنّ أصحابه يتوجّهون حيث توجّه، فلم يتبعه غير تبعه ونوغيه الكرمونىّ أمير سلاح دار الذي كان أعانه على قتل الملك المنصور لاچين. فلمّا أبعدوا والقوم فى أثرهم لحقه بعض خشداشيته وضربه بالسيف حلّ كتفه، ثم ساعده بعض الأمراء حتى قتل، وقتل(8/104)
معه نوغيه الكرمونىّ السّلاح دار الذي كان أعانه على قتل لاچين المقدّم ذكره، واثنا عشر نفرا من مماليكهما وأصحابهما، وبطلت الغوغاء وسكنت الفتنة فى الحال؛ واستقرّ الأمر أيضا على تولية السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون كما كان دبّره طغجى وكرجى. وسيّروا بطلبه وحثّوا الطلب فى قدومه من «1» الكرك إلى الديار المصريّة، وبقى يدبّر الأمور ويعلّم على الكتب المسيّرة إلى البلاد ثمان أمراء إلى أن حضر السلطان، وهم: الأمير سيف الدين سلّار، والأمير سيف الدين كرت، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير عزّ الدين أيبك الخازندار، والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير؛ والأمير حسام الدين لاچين أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير جمال الدين عبد الله [السّلاح دار «2» ] وجميعهم منصوريّة قلاوونيّة، وغالبهم قد أخرج من السجن بعد قتل لاچين. يأتى ذلك كلّه فى ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية عند عوده إلى السلطنة إن شاء الله تعالى.
وأمّا السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين فإنّه أخذ بعد قتله وغسّل وكفّن ودفن بتربته»
بالقرافة الصغرى بالقرب من سفح المقطّم، ودفن مملوكه منكوتمر تحت رجليه. وقتل الملك المنصور لاچين وهو فى عشر الخمسين أو جاوزها بقليل. وقد تقدّم التعريف به فى عدّة تراجم ممّا تقدّم؛ ونذكر هنا أيضا من أحواله ما يتّضح التعريف به ثانيا:
كان لاچين ملكا شجاعا مقداما عارفا عاقلا حشيما وقورا معظّما فى الدّول، طالت أيّامه فى نيابة دمشق أيّام أستاذه فى السعادة، وهو الذي أبطل الثّلج الذي كان(8/105)
ينقل فى البحر من الشام إلى مصر؛ وقال: أنا كنت نائب الشام وأعلم ما يقاسى الناس فى وسقه من المشقّة. وكان- رحمه الله- تامّ القامة أشقر فى لحيته طول يسير وخفّة، ووجه رقيق معرّق، وعليه هيبة ووقار، وفى قدّه رشاقة. وكان ذكيّا نبيها شجاعا حذورا.
ولمّا قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون هرب هو وقرا سنقر، فإنهما كانا أعانا الأمير بيدرا على قتله حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك الأشرف المذكور، بل كان لاچين هذا هو الذي تمّم قتله، ولمّا هرب جاء هو وقرا سنقر إلى جامع أحمد بن طولون «1» وطلعا إلى المئذنة واستترا فيها. وقال لاچين: لئن نجّانا الله من هذه الشدّة وصرت شيئا عمّرت هذا الجامع.(8/106)
قلت: وكذا فعل رحمه الله تعالى، فإنه لمّا تسلطن أمر بتجديد جامع أحمد ابن طولون المذكور ورتب فى شدّ عمارته وعمارة أوقافه الأمير علم الدين أبا موسى سنجر بن عبد الله الصالحىّ النّجمىّ الدّوادارى المعروف بالبرنلى، وكان من أكابر أمراء الألوف بالديار المصريّة، وفوّض السلطان الملك المنصور لاچين أمر الجامع المذكور وأوقافه إليه فعمّره وعمّر وقفه وأوقف عليه عدّة قرى، وقرّر فيه دروس الفقه والحديث والتفسير والطّبّ وغير ذلك، وجعل من جملة ذلك وقفا يختص بالدّيكة التى تكون فى سطح الجامع المذكور فى مكان مخصوص بها، وزعم أن الدّيكة تعين الموقّتين وتوقظ المؤذّنين فى السّحر، وضمّن ذلك كتاب الوقف؛ فلمّا قرئ كتاب الوقف على السلطان وما شرطه أعجبه جميعه. فلما انتهى إلى ذكر الدّيكة أنكر السلطان ذلك، وقال: أبطلوا هذا لئلّا يضحك اناس علينا، وأمضى ما عدا ذلك من الشروط. والجامع المذكور عامر بالأوقاف المذكورة إلى يومنا هذا، ولولاه لكان دثر وخرب، فإنّ غالب ما كان أوقفه صاحبه أحمد بن طولون خرب وذهب أثره، فجدّده لاچين هذا وأوقف عليه هذه الأوقاف الجمّة، فعمّر وبقى إلى الآن. انتهى.(8/107)
وكان المنصور لاچين فهما كريم الأخلاق متواضعا. يحكى أن القاضى شهاب الدين محمود كان يكتب بين يديه فوقع من الحبر على ثيابه، فأعلمه السلطان بذلك؛ فنظم فى الحال بيتين وهما:
ثياب مملوكك يا سيّدى ... قد بيّضت حالى بتسويدها
ما وقع الحبر عليها بلى ... وقّع لى منك بتجديدها
فأمر له المنصور بتفصيلتين وخمسمائة درهم. فقال الشهاب محمود: يا خوند، مماليك الجماعة رفاقى يبقى ذلك فى قلوبهم، فأمر لكلّ منهم بمثل ذلك، وصارت راتبا لهم فى كلّ سنة.
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى تاريخه: حكى لى الشيخ فتح «1» الدين بن سيّد الناس: لمّا دخل عليه لم يدعه يبوس الأرض، وقال: أهل العلم منزّهون عن هذا وأجلسه عنده، وأظنّه قال: على المقعد، ورتّبه موقّعا فباشر ذلك أيّاما، واستعفى فأعفاه وجعل المعلوم له راتبا فتناوله إلى أن مات. ولمّا تسلطن مدحه القاضى شهاب الدين محمود بقصيدة أوّلها:
أطاعك الدهر فأمر فهو ممتثل ... واحكم فأنت الذي تزهى بك الدّول
ولمّا تسلطن الملك المنصور لاچين تفاءل الناس واستبشروا بسلطنته، وجاء فى تلك السنة غيث عظيم بعد ما كان تأخّر؛ فقال فى ذلك الشيخ علاء الدين الوداعىّ:
يأيّها العالم بشراكم ... بدولة المنصور ربّ الفخار
فالله قد بارك فيها [لكم «2» ] ... فأمطر الليل وأضحى النهار
وكانت مدّة سلطنة المنصور لاچين على الديار المصرية سنتين وثلاثة شهور.(8/108)
قال الأديب صلاح الدين الصّفدىّ: وكان ديّنا متقشّفا كثير الصوم قليل الأذى، قطع أكثر المكوس، وقال: إن عشت ما تركت مكسا واحدا.
قلت: كان فيه كلّ الخصال الحسنة، لولا توليته مملوكه منكوتمر الأمور ومحبته له، وهو السبب فى هلاكه حسب ما تقدّم. وتسلطن من بعده ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون طلب من الكرك وأعيد إلى السلطنة. انتهت ترجمة الملك المنصور لاچين. رحمه الله تعالى.
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور لاچين على مصر، وهى سنة ستّ وتسعين وستمائة. على أنّ الملك العادل كتبغا حكم منها المحرّم وأياما من صفر.
فيها كان خلع الملك العادل كتبغا المنصورىّ من السلطنة وتوليته نيابة صرخد، وسلطنة الملك المنصور لاچين هذا من بعده حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها فى ذى القعدة مسك الملك المنصور لاچين الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ نائب السلطنة بديار مصر وحبسه، وولّى عوضه مملوكه منكوتمر.
وفيها ولى قضاء دمشق قاضى القضاة إمام الدين القزوينىّ «1» عوضا عن القاضى بدر الدين بن جماعة، واستمرّ ابن جماعة المذكور على خطابة جامع دمشق.
وفيها تولّى سلطنة اليمن الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور نور الدين «2» عمر بن علىّ بن رسول، بعد موت أخيه الأشرف.(8/109)
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مفتى المسلمين محيى الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب ابن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النّحاس الحلبى الأسدىّ الحنفىّ فى ليلة سلخ المحرّم «1» ببستانه بالمرّة «2» ودفن بتربته بالمزّة، وحضر جنازته نائب الشام ومن دونه، وكان إماما مفتنا فى عاوم، وتولّى عدة تداريس ووظائف دينيّة، ووزر بالشام للملك المنصور قلاوون، وحسنت سيرته ثم عزل ولازم الاشتغال والإقراء وانتفع به عامّة أهل دمشق. ومات ولم يخلّف بعده مثله.
وفيها توفّى الملك لأشرف ممهّد الدين عمر ابن الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين «3» عمر بن علىّ بن رسول ملك اليمن، وتولّى بعده أخوه هزبر الدين داود المقدّم ذكره، وكانت مدّة ملكه دون السنتين.
وفيها توفّى القاضى تاج الدين عبد القادر ابن القاضى عزّ الدين محمد السّنجارىّ الحنفى قاضى قضاة الحنفيّة بحلب فى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، كان إماما فقيها عالما مفتيا ولى القضاء بعدّة بلاد وحمدت سيرته.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أزدمر بن عبد الله العلائىّ فى ذى القعدة بدمشق، وكان أميرا كبيرا معظّما الا أنّه شرس الأخلاق قليل الفهم رسم له الملك الظاهر بيبرس أنّه لا يركب بسيف [فبقى أكثر من عشرين سنة لا يركب بسيف «4» ] ، وهو أخو الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرىّ.(8/110)
وفيها توفّى شيخ الحرم وفقيه الحجاز رضىّ الدين محمد بن أبى بكر عبد «1» الله بن خليل بن إبراهيم القسطلانيّ المكىّ المعروف بابن خليل. مولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان فقيها عالما مفتنّا مفتيا، وله عبادة وصلاح وحسن أخلاق. مات بمكّة بعد خروج الحاج بشهر، ودفن بالمعلاة بالقرب من سفيان الثّورىّ. ومن شعره رحمه الله:
أيّها النازح المقيم بقلبى ... فى أمان أنّى حللت ورحب
جمع الله بيننا عن قريب ... فهو أقصى مناى منك وحسبى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى تاج الدين عبد الخالق بن عبد السلام بن سعيد ببعلبكّ فى المحرّم، وله ثلاث وتسعون سنة.
وقاضى القضاة عزّ الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض الحنبلىّ بالقاهرة.
والحافظ الزاهد جمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهرىّ بمصر. والمحدث ضياء الدين عيسى بن يحيى السّبتىّ بالقاهرة فى رجب. والزاهد شمس الدين محمد [بن حازم «2» ] بن حامد المقدسىّ فى ذى الحجّة. وأبو العباس أحمد بن عبد الكريم فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم كان قليلا جدّا. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا. ثم نقص ولم يوفّ فى تلك السنة.
[ما وقع من الحوادث سنة 697]
السنة الثانية من ولاية الملك المنصور لاچين على مصر، وهى سنة سبع وتسعين وستمائة.(8/111)
فيها مسك الملك المنصور لاچين الأمير بدر الدين بيسرى الشمسىّ وحبسه واحتاط على موجوده.
وفيها أخذت العساكر المصريّة تلّ حمدون وقلعتها بعد حصار، ومرعش وغيرهما، ودقّت البشائر بمصر أياما بسبب ذلك.
وفيها قدم الملك المسعود نجم «1» الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ من بلاد «2» الأشكرى إلى مصر، فتلقّاه السلطان الملك المنصور لاچين فى الموكب أكرمه. وطلب الملك المسعود الحج فأذن له بذلك. وكان الملك الأشرف خليل بن قلاوون أرسله إلى هناك. وسكن الملك المسعود بالقاهرة إلى أن مات بها حسب ما يأتى ذكره. وكان خضر هذا من أحسن الناس شكلا، ولما ختنه أبوه قال فيه القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر يهنّئ والده الملك الظاهر ركن الدين بيبرس:
منأت بالعيد وما ... على الهناء أقتصر
بل إنّها بشارة ... لها الوجود مفتقر
بلوحة قد جمعت ... ما بين موسى والخضر
قد هيأت لوردكم ... ماء الحياة المنهمر
قلت: وأحسن من هذا قول من قال فى مليح حليق:
مرت الموسى على عارضه ... فكأنّ الماء بالاس غمر
مجمع البحرين أضحى خدّه ... إذ تلاقى فيه موسى والخضر(8/112)
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد بقيّة المشايخ بدر الدين حسن ابن الشيخ الكبير القدوة العارف نور الدين أبى الحسن على بن منصور الحريرى فى يوم السبت عاشر شهر ربيع الآخر بزاويته بقرية بسر «1» من أعمال زرع، وكان هو المتعيّن بعد أبيه فى الزاوية وعلى الطائفة الحريرية المنسوبين الى والده؛ ومات وقد جاوز الثمانين «2» .
وفيها توفّى قاضى القضاة صدر الدين إبراهيم بن أحمد بن عقبة البصراوىّ الفقيه الحنفى المدرّس، أحد أعيان فقهاء الحنفية، ولى قضاء حلب ثم عزل ثم أعيد فمات قبل دخوله حلب، وكان عالما مفتنّا وله اليد الطّولى فى الجبر والمقابلة والفرائض وغير ذلك.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام شمس الدين محمد بن أبى بكر الفارسىّ الأبجىّ «3» فى رمضان. وعائشة ابنة المجد عيسى بن [الإمام «4» ] الموفّق [عبد الله «5» بن أحمد بن محمد بن قدامة] المقدسىّ فى [تاسع عشر] «6» شعبان ولها ست وثمانون سنة. وقاضى حماة جمال الدين محمد بن سالم [بن نصر الله بن «7» سالم] ابن واصل فى شوّال. وشهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن [بن عبد المنعم بن نعمة(8/113)
ابن سلطان بن سرور «1» ] النابلسىّ الحنبلىّ العابر «2» . والشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادىّ بن المكبّر «3» فى ذى الحجة، وله ثمان وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع. وكان الوفاء آخر أيام النسىء.(8/114)
[ما وقع من الحوادث سنة 698]
ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر
السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، تقدّم ذكر مولده فى ترجمته الأولى من هذا الكتاب. أعيد إلى السلطنة بعد قتل الملك المنصور لاچين، فإنه كان لمّا خلع من الملك بالملك العادل كتبغا المنصورىّ أقام عند والدته بالدّور من قلعة الجبل إلى أن أخرجه الملك المنصور لاچين لمّا تسلطن إلى الكرك، فأقام الملك الناصر بالكرك إلى أن قتل الملك المنصور لاچين حسب ما ذكرناه. أجمع رأى الأمراء على سلطنته ثانيا، وخرج إليه الطلب من الديار المصرية صبيحة يوم الجمعة الحادى عشر من شهر ربيع الاخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهو ثانى يوم قتل لاچين وسار الطلب إليه؛ فلمّا قتل طغجى وكرجى فى يوم الاثنين رابع عشره استحثوا الأمراء فى طلبه، وتكرّر سفر القصّاد له من الديار المصرية إلى الكرك، حتى إذا حضر إلى الديار المصرية فى ليلة السبت رابع جمادى الأولى من السنة، وبات تلك الليلة بالإسطبل السلطانىّ، ودام به إلى أن طلع إلى القلعة فى بكرة يوم الاثنين سادس جمادى الأولى المذكور.
وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد والقضاة، وأعيد إلى السلطنة وجلس على تخت الملك. وكان الذي توجّه من القاهرة بطلبه الأمير «1» الحاجّ آل ملك، والأمير سنجر «2» الجاولى. فلمّا قدما إلى الكرك كان لملك الناصر بالغور «3» يتصيّد(8/115)
فتوجّها إليه ودخل آقوش «1» نائب الكرك إلى أمّ السلطان وبشّرها، فخافت أن تكون مكيدة من لاچين فتوقّفت فى المسير، فما زال بها حتى أجابت.
ووصل الأميران إلى الملك الناصر بالغور وقبّلا الأرض بين يديه وأعلماه بالخبر، فرحّب بهما وعاد إلى البلد وتهيّأ، وأخذ فى تجهيز أمره، والبريد يترادف باستحثاثه إلى أن قدم القاهرة، فخرج الأمراء وجميع الناس قاطبة للقائه، وكادت القاهرة ومصر ألّا يتأخر بهما أحد فرحا بقدومه. وكان خروجهم فى يوم السبت، وأظهر الناس لعوده إلى الملك من السرور ما لا يوصف ولا يحدّ، وزيّنت القاهرة ومصر بأفخر زينة، وأبطل الناس معايشهم وضجّوا له بالدعاء والشكر لله على عوده إلى الملك، وأسمعوا حواشى الملك العادل كتبغا والملك المنصور لاچين من المكروه والاستهزاء ما لا مزيد عليه، واستمروا فى الفرح والسرور إلى يوم الاثنين، وهو يوم جلوسه على تخت الملك. وجلس على تخت الملك فى هذه المرّة الثانية وعمره يومئذ نحو أربع عشرة سنة. ثم جدّد للملك الناصر العهد، وخلع على الأمير سيف الدين سلار بنيابة السلطنة، وعلى الأمير حسام الدين لاچين بالأستادارية على عادته، واستمرّ الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة دمشق على عادته، وخلع عليه وسفر بعد أيام.
وفى معنى سلطنة الملك الناصر محمد يقول الشيخ علاء «2» الدين الوداعىّ الدّمشقىّ.
الملك الناصر قد أقبلت ... دولته مشرقة الشمس
عاد إلى كرسيّه مثلما ... عاد سليمان إلى الكرسى
وفى تاسع جمادى الأولى فرّقت الخلع على جميع من له عادة بالخلع من أعيان الدولة. وفى ثانى عشرة لبس الناس الخلع وركب السلطان الملك الناصر بالخلعة(8/116)
الخليفتيّة وأبّهة السلطنة وشعار الملك، ونزل من قلعة الجبل إلى سوق «1» الخيل ثم عاد إلى القلعة؛ وترجّل فى خدمته جميع الأمراء والأكابر «2» وقبّلوا الأرض بين يديه.
واستقرّت سلطنته وتمّ أمره، وكتبت البشا وبذلك إلى الأقطار، وسرّ الناس بعوده إلى الملك سرورا زائدا بسائر الممالك.
وبعد أيام ورد الخبر عن غازان ملك التتار أنه قد عزم على قصد البلاد الشامية لمّا قدم عليه الأمير قبجق المنصورىّ نائب الشام ورفقته. ثم رأى غازان أن يجهّز سلامش بن أباجو»
فى خمسة وعشرين ألفا من الفرسان إلى بلاد الروم، على أنه يأخذ بلاد الروم، ويتوجّه بعد ذلك بسائر عساكره إلى الشام من جهة بلاد سيس «4» ويجيء غازان من ديار «5» بكر، وينزلون على الفرات ويغيرون على البيرة «6» والرّحبة «7» وقلعة الروم «8» ، ويكون اجتماعهم على مدينة حلب، فإن التقاهم أحد من العساكر المصرية والشامية(8/117)
التقوه وإلّا دخلوا بلاد الشام؛ فاتّفق أنّ سلامش لما توجّه من عند قازان ودخل إلى الرّوم أطمعته نفسه بالملك؛ وملك الروم وخلع طاعة غازان؛ واستخدم الجند، وأنفق عليهم وخلع على أكابر الأمراء ببلاد الروم، وكانوا أولاد قرمان «1» قد أطاعوه، ونزلوا إلى خدمته، وهم فوق عشرة آلاف فارس. وهذا الخبر أرسله سلامش المذكور إلى مصر، وأرسل فى ضمن ذلك يطلب من المصريين النّجدة والمساعدة على غازان.
قلت: غازان وقازان كلاهما اسم لملك التتار. انتهى. وكان وصول رسول سلامش بهذا الخبر إلى مصر فى شعبان من السنة.
وأما قازان فإنه وصل إلى بغداد، وكانوا متولّين بغداد من قبله شكوا إليه من أهل السّيب «2» والعربان أنّهم ينهبون التّجار القادمين من البحر، وأنّهم قد قطعوا السابلة فسار قازان بنفسه إليهم ونهبهم، وأقام بأرض دقوقا «3» مشتيا. ولمّا بلغه خبر سلامش انثنى عزمه عن قصد الشام وشرع فى تجهيز العساكر مع ثلاثة مقدّمين، ومعهم خمسة وثلاثون ألف فارس: منها خمسة عشر مع الأمير سوتاى «4» وعشرة مع هندوجاغان «5» وعشرة مع بولاى «6» وهو المشار إليه من المقدّمين مع العساكر وسفّرهم(8/118)
إلى الروم لقتال سلامش. ثم رحل قازان إلى جهة تبريز «1» ومعه الأمير قبجق المنصورىّ نائب الشام وبكتمر السلاح دار والألبكى، وهؤلاء هم الّذين خرجوا من دمشق مغاضبين للملك المنصور لاچين، وسار التتار الذين أرسلهم غازان حتى وصلوا إلى الروم فى أواخر شهر رجب والتقوا مع سلامش، وكان سلامش قد عصى عليه أهل سيواس «2» وهو يحاصرهم، فتركهم سلامش وتجهز، وجهز عساكره لملتقى التتار؛ وكان قد جمع فوق ستين ألف فارس. فلمّا قارب التتار فرّ من عسكر سلامش التتار والروم ولحقوا بولاى مقدّم عساكر غازان.
وأمّا التّركمان فإنهم تركوه وصعدوا إلى الجبال على عادتهم وبقى سلامش فى جمع قليل دون خمسمائة فارس، فتوجه بهم من سيواس إلى جهة سيس، وسار منها فوصل إلى بهسنا «3» فى أواخر شهر رجب. وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قد برز مرسومه إلى نائب الشام بأن يجرّد خمسة أمراء من حمص وخمسة من حماة وخمسة من حلب لتكملة خمسة عشر أميرا ويبعثهم نجدة إلى سلامش.
فلمّا وصل الخبر بقدوم سلامش إلى بهسنا منهزما توقّف العسكر عن المسير، ثم وصل سلامش إلى دمشق. وسلامش هذا هو من أولاد عمّ غازان، وهو سلامش بن أباجو بن هولاكو. وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الخميس ثانى عشر شعبان، فتلقّاه نائب الشام واحتفل لملاقاته احتفالا عظيما وأكرمه، وقدّم(8/119)
فى خدمته نائب بهسنا الأمير بدر الدين بكتاش الزّردكاش، ثم سار سلامش من دمشق إلى جهة الديار المصرية إلى أن وصلها، فأكرمه السلطان غاية الإكرام، وأقام بمصر أياما قليلة ثم عاد إلى حلب، بعد أن اتفق معه أكابر دولة الملك الناصر محمد على أمر يفعلونه إذا قدم غازان إلى البلاد الشامية، ثم بعد خروجه جهز السلطان خلفه أربعة آلاف فارس من العسكر المصرى نجدة له لقتال التتار، وأيضا كالمقدّمة السلطان، وعلى كلّ ألف فارس أمير مائة ومقدّم ألف فارس، وهم: الأمير جمال الدين آقوش قتّال السّبع. والمبارز أمير شكار. والأمير جمال الدين عبد الله.
والأمير سيف الدين [بلبان «1» ] الحبشىّ، وهو المقدّم على الجميع؛ وساروا الجميع إلى بلاد حلب، وتهيّأ السلطان للسفر، وتجهّزت أمراؤه وعساكره. وخرج من الديار المصرية بأمرائه وعساكره فى يوم الخميس سادس عشرين ذى الحجّة الموافق لسادس عشرين توت أحد شهور القبط.
هذا والعساكر الشامية فى التهيّؤ لقتال التتار، وقد دخلهم من الرعب والخوف أمر لا مزيد عليه، وسار السلطان بعساكره إلى البلاد الشامية بعد أن تقدّمه أيضا جماعة من أكابر أمراء الديار المصرية غير أولئك، كالجاليش «2» على العادة، وهم:
الأمير قطلوبك والأمير سيف الدين نكيه «3» وهو من كبار الأمراء، كان حما الملكين الصالح والأشرف أولاد قلاوون، وجماعة أمراء أخر، ودخلوا هؤلاء الأمراء قبل السلطان إلى الشام بأيام، فاطمأنّ خواطر أهل دمشق بهم، وسافر السلطان(8/120)
بالعساكر على مهل، وأقام بغزّة «1» وعسقلان «2» أياما كثيرة؛ ثم دخل إلى دمشق يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وستمائة، واحتفل أهل دمشق لدخوله احتفالا عظيما، ودخل السلطان بتجمّل عظيم زائد عن الوصف حتى لعلّه زاد على الملوك الذين كانوا قبله، ونزل بقلعة دمشق بعد أن أقام بغزّة وغيرها نحو الشهرين فى الطريق إلى أن ترادفت عليه الأخبار بقرب التتار إلى البلاد الشامية، قدم دمشق وتعين حضوره إليها ليجتمع بعساكره السابقة له، وأقام السلطان بدمشق وجهّز عساكرها إلى جهة البلاد الحلبيّة أمامه، ثم خرج هو بأمرائه وعساكره بعدهم فى يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة تسع وتسعين المذكورة فى وسط النهار، وسار من دمشق إلى حمص، وابتهل الناس له بالدعاء، وعظم خوف الناس وصياحهم وبكاؤهم على الإسلام وأهله. ووصل السلطان إلى حمص وأقام لابس السلاح «3» ثلاثة أيام بلياليها إلى أن حصل الملل والضّجر، وغلت الأسعار بالعسكر وقلّت العلوفات. وبلغ السلطان أنّ التتار قد نزلوا بالقرب من سلمية «4» وأنّهم يريدون الرجوع إلى بلادهم لما بلغهم من كثرة الجيوش واجتماعهم على قتالهم. وكان هذا الخبر مكيدة من التتار، فركب السلطان بعساكره من حمص بكرة يوم الأربعاء وقت الصبح السابع والعشرين من شهر ربيع الأول، وساقوا الخيل إلى أن وصلوا إليهم، وهم بالقرب من سلمية بمكان يسمى وادى الخازندار؛ فركب التتار للقائهم وكانوا تهيّئوا لذلك، وكان الملتقى فى ذلك المكان فى الساعة(8/121)
الخامسة من نهار الأربعاء المذكور وتصادما، وقد كلّت خيول السلطان وعساكره من السّوق، والتحم القتال بين الفريقين، وحملت ميسرة المسلمين عليهم فكسرتهم أقبح كسرة، وقتلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف أو أكثر؛ ولم يقتل من المسلمين إلّا اليسير.
ثم حملت القلب أيضا حملة هائلة وصدمت العدوّ أعظم صدمة، وثبت كل من الفريقين ثباتا عظيما، ثم حصل تخاذل فى عسكر الإسلام بعضهم فى بعض.
بلاء من الله تعالى. فانهزمت ميمنة السلطان بعد أن كان لاح لهم النصر! فلا قوّة إلا بالله. ولمّا انهزمت الميمنة انهزم أيضا من كان وراء السناجق السلطانيّة من غير قتال، وألقى الله تعالى الهزيمة عليهم فانهزم جميع عساكر الإسلام بعد النصر، وساق السلطان فى طائفة يسيرة من أمرائه ومدبّرى مملكته إلى نحو بعلبكّ «1» وتركوا جميع الأثقال، ملقاة «2» ، فبقيت العدد والسلاح والغنائم والأثقال ملات تلك الأراضى حتى بقيت الرماح فى الطرق كأنها القصب لا ينظر اليها أحد، ورمى الجند خوذهم عن رءوسهم وجواشنهم وسلاحهم تخفيفا عن الخيل لتنجيهم بأنفسهم، وقصدوا الجميع دمشق. وكان أكثر من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك.
ولمّا بلغ أهل دمشق وغيرها كسرة السلطان عظم الضجيج والبكاء، وخرجت المخدّرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن والأطفال بأيديهنّ، وصار كلّ واحد فى شغل عن صاحبه إلى أن ورد عليهم الخبر أنّ ملك التتار قازان مسلم وأن غالب جيشه على ملّة الإسلام، وأنّهم لم يتبعوا المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدا ممّن وجدوه؛ وإنما يأخذون سلاحه ومركوبه ويطلقونه، فسكن بذلك روع أهل دمشق قليلا،(8/122)
ثم صار من وصل إلى دمشق أخذ أهله وحواصله بحيث الإمكان وتوجّه إلى جهة مصر، وبقى من بقى بدمشق فى خمدة وحيرة لا يدرون ما عاقبة أمرهم؛ فطائفة تغلّب عليهم الخوف وطائفة يترجون حقن الدماء وطائفة يترجّون أكثر من ذلك من عدل وحسن سيرة، واجتمعوا فى يوم الأحد بمشهد علىّ، واشتوروا فى أمر الخروج إلى ملك التتار غازان وأخذهم أمانا لأهل البلد فحضر من الفقهاء قاضى القضاة بدر الدين [محمد بن إبراهيم «1» ] بن جماعة، وهو يومئذ خطيب جامع أهل دمشق. والشيخ زين الدين الفارقىّ. والشيخ تقىّ الدين «2» بن تيميّة وقاضى قضاة دمشق نجم الدين [ابن «3» ] صصرّى. والصاحب فخر الدين «4» بن الشيرجى. والقاضى عزّ الدين «5» بن الزكىّ.
والشيخ وجيه الدين بن المنجّا. والشيخ [الصدر «6» الرئيس] عز الدين [عمر «7» ] بن القلانسىّ. وابن عمّه بشرف الدين. وأمين الدين بن شقير الحرّانىّ. والشريف زين الدين بن عدنان «8» والصاحب شهاب الدين الحنفىّ. والقاضى شمس الدين بن الحريرىّ. والشيخ محمد بن قوام النابلسىّ. وجلال الدين أخو القاضى إمام الدين القزوينىّ. وقد خرج أخوه إمام الدين قبل ذلك مع جماعة جافلا إلى مصر. وجلال الدين ابن القاضى حسام الدين الحنفىّ. وجماعة كثيرة من العدول والفقهاء والقراء.(8/123)
وأمّا السلطان الملك الناصر وعساكره فإنه سار هو بخواصّه بعد الوقعة إلى جهة الكسوة «1» . وأمّا العساكر المصرية والشامية فلا يمكن أن يعبّر عن حالهم، فإنه كان أكبر الأمراء يرى وهو وحده وقد عجز عن الهرب ليس معه من يقوم بخدمته وهو مسرع فى السّير خائف متوجّه إلى جهة الكسوة لا يلوى على أحد، قد دخل قلوبهم الرّعب والخوف، تشتمهم العامة وتوبّخهم بسبب الهزيمة من التتار، وكونهم كانوا قبل ذلك يحكمون فى الناس ويتعاظمون عليهم، وقد صار أحدهم الآن أضعف من الهزيل، وأمعنوا العامّة فى ذلك وهم لا يلتفتون إلى قولهم، ولا ينتقمون من أحد منهم.
قلت: وكذا وقع فى زماننا هذا فى وقعة تيمور لنك وأعظم، فإنّ هؤلاء قاتلوا وكسروا ميمنة التّتار، إلّا أصحابنا فإنّهم سلّموا البلاد والعباد من غير قتال! حسب ما يأتى ذكره فى محلّه من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق. انتهى.
قال: وعجز أكثر الأمراء والجند عن التوجّه إلى جهة مصر خلف السلطان بسبب ضعف فرسه «2» ، فصار الجندىّ يغير زيّه حتى يقيم بدمشق خيفة من توبيخ العامّة له، حتى بعضهم حلق شعره وصار بغير دبوقة «3» .
قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: مع أنّ الله تعالى لطف بهم لطفا عظيما إذ لم يسق عدوّهم خلفهم ولا تبعهم إلا حول المعركة وما قاربها، وكان ذلك لطفا من الله تعالى بهم، وبقى الأمر على ذلك إلى آخر يوم الخميس سادس شهر ربيع الاخر، فوصل أربعة من التتار ومعهم الشريف القمّىّ «4» وتكلّموا مع أهل دمشق، فلم ينبرم(8/124)
أمر. ثم قدم من الغد آخر ومعه فرمان (يعنى مرسوما من غازان بالأمان) وقرئ بالمدرسة البادرائية «1» ، ثم وقع بعد ذلك أمور يطول شرحها من أن قازان أرسل إلى أهل دمشق وعرّفهم أنه يحب العدل والإحسان للرّعية وإنصاف المظلوم من الظالم، وأشياء من هذا النمط، فحصل للناس بذلك سكون وطمأنينة. ثم دخل الأمير قبجق المنصورىّ الذي كان نائب دمشق قبل تاريخه، وهرب من الملك المنصور لاچين إلى غازان، ومعه رفقته الأمير بكتمر السّلاح دار وغيره إلى دمشق، وكلّموا الأمير أرجواش المنصورىّ خشداشهم نائب قلعة دمشق فى تسليمها إلى غازان؛ وقالوا له: دم المسلمين فى عنقك إن لم تسلّمها؛ فأجابهم: دم المسلمين فى أعناقكم أنتم الذين خرجتم من دمشق وتوجّهتم إلى غازان وحسّنتم له المجىء إلى دمشق وغيرها، ثم وبّخهم ولم يسلّم قلعة دمشق، وتهيّأ للقتال والحصار؛ واستمرّ على حفظ القلعة. ثم ترادفت قصّاد غازان إلى أرجواش هذا، وطال الكلام بينهم فى تسليم القلعة؛ فثّبته الله تعالى ومنع ذلك بالكلّية. وملك قازان دمشق وخطب له بها فى يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر. وصورة الدعاء لغازان أن قال الخطيب: «مولانا السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفّر الدنيا والدين محمود غازان» . وصلّى الأمير قبجق المنصورىّ وجماعة من المغل بالمقصورة من جامع دمشق، ثم أخذ التّتار فى نهب قرى دمشق والفساد بها، ثم بجبل الصالحية «2» وغيرها،(8/125)
وفعلوا تلك الأفعال القبيحة، ثم قرّروا على البلد تقارير تضاعفت غير مرّة، وحصل على أهل دمشق الذّلّ والهوان وطال ذلك عليهم، وكان متولّى الطلب من أهل دمشق الصفىّ السّنجارىّ، وعلاء الدين أستادار قبجق، وابنا الشيخ الحريرىّ «1» الحنّ والبن؛ وعمل الشيخ كمال الدين «2» الزّملكانىّ فى ذلك قوله:
لهفى على جلّق يا شرّ ما لقيت ... من كلّ علج له فى كفره فنّ
بالطّمّ «3» والرّمّ جاءوا لا عديد لهم ... فالجنّ بعضهم والحنّ والبنّ
وللشيخ عز الدين عبد الغنى الجوزىّ «4» فى المعنى:
بلينا يقوم كالكلاب أخسّة ... علينا بغارات المخاوف قد شنّوا
هم الجنّ حقّا ليس فى ذاك ريبة ... ومع ذا فقد والاهم الحنّ والبنّ
ولابن قاضى «5» شهبة:
رمتنا صروف الدهر حقّا بسبعة ... فما أحد منا من السبع سالم
غلاء وغازان وغزو وغارة ... وغدر وإغبان وغمّ ملازم
وفى المعنى يقول أيضا الشيخ علاء الدين الوداعىّ وأجاد:
أتى الشام مع غازان شيخ مسلّك ... على يده تاب الورى وتزهّدوا
فخلّوا عن الأموال والأهل جملة ... فما منهم إلا فقير مجرّد
ودامت هذه الشدّة على أهل دمشق والحصار عمّال فى كلّ يوم على قلعة دمشق حتى عجزوا عن أخذها من يد أرجواش المذكور.(8/126)
قلت: على أنّ أرجواش كان عنده سلامة باطن إلى الغاية. يأتى ذكر بعض أحواله فى الوفيات من سنين الملك الناصر محمد بن قلاوون. انتهى.
قال: وتمّ جبى المال، وأخذه غازان وسافر من دمشق فى يوم الجمعة ثانى عشر جمادى الأولى بعد أن ولّى الأمير قبجق المنصورىّ نيابة الشام على عادته أوّلا، وقرّر بدمشق جماعة أخر يطول الشرح فى ذكرهم. وأقام الأمير قطلو شاه مقدّم عساكر التتار بعد غازان بدمشق بجماعة كثيرة من التتار لأخذ ما بقى من الأموال ولحصار قلعة دمشق، ودام على ذلك حتى سافر من دمشق ببقيّة التتار فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين جمادى الأولى، وخرج الأمير قبجق نائب الشام لتوديعه، ثم عاد يوم الخميس خامس عشرينه، وانقطع أمر المغل من دمشق بعد أن قاسى أهلها شدائد وذهبت أموالهم.
قال ابن المنجّا: إنّ الذي حمل إلى خزانة قازان خاصة نفسه ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف «1» سوى ما محق «2» عليهم من التّراسيم والبراطيل، والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك، بحيث إن الصّفىّ السّنجارىّ استخرج لنفسه أكثر «3» من ثمانين ألف درهم، وللأمير إسماعيل مائتى ألف درهم، وللوزير نحو أربعمائة ألف وقس على هذا. واستمرّ بدمشق ورسم أن ينادى فى دمشق: بأنّ أهل القرى والحواضر يخرجون إلى أماكنهم، رسم بذلك سلطان الشام حاجّ الحرمين سيف الدين قبجق، وصار قبجق يركب بالعصابة، والشاويشية «4» بين يديه، واجتمع الناس عليه. كلّ(8/127)
ذلك والقتال والمباينة واقعة بين الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق وبين قبجق المذكور ونوّاب قازان، والرسل تمشى بينهم فى الصلح، وأرجواش يأبى تسليم القلعة له، فلله درّ هذا الرجل! ما كان أثبت جنانه مع تغفّل كان فيه حسب ما يأتى ذكره.
هذا وقبجق غير مستبدّ بأمر الشام بل غالب الأمر بها لنوّاب قازان مثل بولاى وغيره. ثم سافر بولاى من دمشق بمن كان بقى معه من التتار فى عشية يوم السبت «1» الرابع من شهر رجب، ومعه قبجق وقد أشيع أن قبجق يريد الانفصال عن التتار. وبعد خروجهما استبد أرجواش نائب قلعة دمشق بتدبير أمور البلد.
وفى يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب أعيدت الخطبة بدمشق إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، وللخليفة الحاكم بأمر الله على العادة، ففرح الناس بذلك. وكان أسقط اسم الملك الناصر محمد بن الخطبة بدمشق من سابع شهر ربيع الآخر، فالمدة مائة يوم. ثم نادى أرجواش بكرة يوم السبت بالزينة فى البلد فزيّنت.
وأما الملك الناصر محمد بن قلاوون فإنّ عوده إلى الديار المصرية كان يوم الأربعاء ثانى عشر شهر ربيع الآخر وتبعته العساكر المصرية والشامية متفرّقين، وأكثرهم عراة مشاة ضعفاء، وذاك الذي أوجب تأخّرهم عن الدخول مع السلطان إلى مصر، وأقاموا بعد ذلك أشهرا حتى استقام أمرهم، ولولا حصول البركة بالديار المصرية وعظمها ما وسعت مثل هذه الخلائق والجيوش التى دخلوها فى جفلة التتار وبعدها «2» ، فمنّ الله تعالى بالخيل والعدد والرزق، إلا أنّ جميع الأسعار غلت لا سمّا السّلاح وآلات الجنديّة من القماش والبرك «3» وحوائج الخيل وغير ذلك حتى زادت(8/128)
عن الحدّ. وممّا زاد سعر العمائم، فإنّ الجند كان على رءوسهم فى المصافّ الخوذ، فلمّا انكسروا رموا الخوذ تخفيفا ووضعوا على رءوسهم المناديل، فاحتاجوا لمّا حضروا إلى مصر إلى شراء العمائم، مع أن الملك الناصر أنفق فى الجيش بعد عوده، واستخدم جمعا كثيرا من الجند خوفا من قدوم غازان إلى الديار المصرية، وتهيّأ السلطان إلى لقاء غازان ثانيا. وجهّز العساكر وقام بكلفهم أتمّ قيام على صغر سنّه.
فلمّا ورد عليه الخبر بعدم مجىء قازان إلى الديار المصرية تجهّز وخرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية إلى ملتقى غازان ثانيا، بعد أن خلع على الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة الشام على عادته، وعلى الأمير قرا سنقر المنصورىّ بنيابة حماة وحلب؛ وكان خروج السلطان من مصر بعساكره فى تاسع شهر رجب من سنة تسع وتسعين وستمائة، وسار حتى نزل بمنزلة الصالحية «1» بلغه عود قازان بعساكره إلى بلاده، فكلّم الأمراء السلطان فى عدم سفره ورجوعه إلى مصر فأبى عن رجوع العسكر، وسمع لهم فى عدم سفره، وأقام بمنزلة الصالحية.
وسافر الأمير سلّار المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصرية، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام. ولما سار سلار وبيبرس الجاشنكير إلى جهة الشام تلاقوا فى الطريق مع الأمير سيف الدين قبجق والأمير يكتمر السلاح دار والألبكى وهم قاصدون السلطان، فعتب الأمراء قبجق ورفقته عتبا هيّنا على عبور قازان إلى البلاد الشامية، فاعتذروا أن ذلك كان خوفا من الملك المنصور لاچين وحنقا من مملوكه مكوتمر، وأنّهم لمّا بلغهم قتل الملك المنصور لاچين كانوا قد تكلّموا مع قازان فى دخول الشام، ولا بقى يمكنهم الرجوع عمّا قالوه، ولا سبيل إلى الهروب من عنده، فقبلوا عذرهم وبعثوهم إلى الملك الناصر، فقدموا عليه(8/129)
بالصالحية وقبّلوا الأرض بين يديه، فعتبهم أيضا على ما وقع منهم، فذكروا له العذر السابق ذكره، فقبله منهم وخلع عليهم؛ وعاد السلطان إلى القاهرة وصحبته خواصّه والأمير قبجق ورفقته، فطلع القلعة فى يوم الخميس رابع عشر شعبان. ودخل الأمراء إلى دمشق ومعهم الأمير آقوش الأفرم الصغير نائب الشام وغالب أمراء دمشق، وفى العسكر أيضا الأمير قرا سنقر المنصورىّ متولّى نيابة حماة وحلب، ودخل الجميع دمشق بتجمّل زائد، ودخلوها على دفعات كلّ أمير بطلبه على حدة، وسرّ الناس بهم غاية السرور، وعلموا أن فى عسكر الإسلام القوّة والمنعة ولله الحمد.
وكان آخر من دخل إلى الشام الأمير سلّار نائب السلطنة، وغالب الأمراء فى خدمته، حتى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ نائب صرخد، ونزل جميع الجيش بالمرج وخلع على الأمير أرجواش المنصورىّ نائب قلعة دمشق باستمراره على عادته، وشكروا له الأمراء ما فعله من حفظ القلعة، ودخلوا الأمراء إلى دمشق وقلعة دمشق مغلقة وعليها الستائر والطّوارف «1» ، فكلّموه الأمراء فى ترك ذلك.
فلما كان يوم السبت مستهلّ شهر رمضان أزال أرجواش الطوارف والستائر من على القلعة؛ فأقام العسكر بدمشق أياما حتى أصلحوا أمرها، ثم عاد الأمير سلّار إلى نحو الديار المصرية بجميع أمراء مصر وعساكره فى يوم السبت ثامن شهر رمضان، وتفرّق باقى الجيش كلّ واحد إلى محلّ ولايته؛ ودخل سلّار إلى مصر بمن معه فى ثالث شوّال بعد أن احتفل الناس لملاقاتهم، وخرج أمراء مصر إلى بلبيس «2» ، وخلع السلطان على جميع من قدم من الأمراء رفقة سلّار، وكانت خلعة سلّار أعظم من الجميع. ودام السلطان بقيّة سنته بالديار المصرية.(8/130)
فلمّا استهلّت سنة سبعمائة كثرت الأراجيف بالشام ومصر بحركة قازان وكان قازان قد تسمى محمودا، وصار يقال له السلطان محمود غازان. ثم وصلت فى أول المحرّم من سنة سبعمائة الأخبار والقصّاد من الشرق وأخبروا أنّ قازان قد جمع جموعا كثيرة وقد نادى فى جميع بلاده الغزاة إلى مصر، وأنه قاصد الشام؛ فجفل أهل الشام من دمشق وتفرّقوا فى السواحل وقصدوا الحصون وتشتّت غالب أهل الشام إلى البلاد من الفرات إلى غزّة؛ فعند ذلك تجهز الملك الناصر وجهّز عساكره وتهيّأ وخرج بجميع عساكره وأمرائه من القاهرة إلى مسجد التّبن «1» فى يوم السبت ثالث عشر صفر، وسافر حتى قارب دمشق أقام بمنزلته «2» إلى سلخ شهر ربيع الآخر، وتوجّه هو وعساكره عائدين إلى جهة الديار المصرية، بعد أن لاقوا شدّة ومشقّة عظيمة من كثرة الأمطار والثلوج والأوحال وعدم المأكول، بحيث إنه انقطعت الطريق من البرد والمطر وعدم جلب المأكول لهم ولدوابّهم، حتى إنهم لم يقدروا على الوصول إلى دمشق؛ وكان طلوع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى قلعة الجبل يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى. وقبل عود السلطان إلى مصر كان جهّز السلطان الأمير بكتمر السلاح دار والأمير بهاء الدين يعقوبا «3» إلى دمشق أمامه، فدخلوا دمشق. ثم أشيع بدمشق عود السلطان إلى القاهرة، فجفل غالب(8/131)
أهل دمشق منها، ونائب الشام لم يمنعهم بل يحسّن لهم ذلك. وقيل: إنّ والى دمشق بقى يجفّل الناس بنفسه، وصار يمرّ بالأسواق، ويقول: فى أىّ شىء أنتم قعود! ولما كان يوم السبت تاسع جمادى الأولى نادت المناداة بدمشق من قعد فدمه فى رقبته، ومن لم يقدر على السفر فليطلع إلى القلعة، فسافر فى ذلك اليوم معظم الناس.
وأمّا قازان فإنه وصل إلى حلب ووصل عساكره إلى قرون حماة وإلى بلاد سرمين «1» ، وسيّر معظم جيشه إلى بلاد أنطاكية وغيرها، فنهبوا من الدوابّ والأغنام والأبقار ما جاوز حدّ الكثرة، وسبوا عالما كثيرا من الرجال والنساء والصبيان.
ثم أرسل الله تعالى على غازان وعساكره الأمطار والثلوج بحيث إنه أمطر عليهم واحدا وأربعين يوما، وقت مطر ووقت ثلج، فهلك منهم عالم كثير؛ ورجع غازان بعساكره إلى بلادهم أقبح من المكسورين، وقد تلفت خيولهم وهلك أكثرها، وعجّزهم الله تعالى وخذلهم، وردّهم خائبين عما كانوا عزموا عليه. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ
. ووصل الخبر برجوعهم فى جمادى الآخرة، وقد خلت دمشق وجميع بلاد الشام من سكانها.
ثم فى شهر رجب من السنة وصل إلى القاهرة وزير ملك الغرب بسبب الحج، واجتمع بالسلطان وبالأمير سلار نائب السلطنة وبالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فقابلوه بالإكرام وأنعموا عليه واحترموه، فلمّا كان فى بعض الأيام جلس(8/132)
الوزير المغربىّ المذكور بباب القلعة عند بيبرس الجاشنكير وسلّار. فحضر بعض كتّاب النصارى، فقام إليه المغربىّ يتوهّم أنه مسلم ثم ظهر له أنه نصرانىّ فقامت قيامته، وقام من وقته ودخل إلى السلطان بحضرة الأمير سلّار وبيبرس مدبّرى مملكة الناصر محمد، وتحدّث معهم فى أمر النصارى واليهود، وأنهم عندهم فى بلادهم فى غاية الذّل والهوان، وأنهم لا يمكنونهم من ركوب الخيل، ولا من استخدامهم فى الجهات السلطانية والديوانية، وأنكر على نصارى ديار مصر ويهودها كونهم يلبسون أفخر الثياب ويركبون البغال والخيل، وأنهم يستخدمونهم فى أجلّ الجهات ويحكّمونهم فى رقاب المسلمين؛ ثم إنه ذكر عهد ذمّتهم قد انقضت من سنة ستمائة من الهجرة النبويّة، وذكر كلاما كثيرا من هذا النوع، فأثّر كلامه عند القلوب النّيّرة من أهل الدولة، وحصل له قبول من الخاصّ والعام بسبب هذا الكلام، وقام بنصرته الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجماعة كثيرة من الأمراء وافقوه على ذلك، ورأوا أنّ فى هذا الأمر مصلحة كبيرة لاظهار شعائر الاسلام. فلمّا كان [يوم الخميس «1» العشرون من] شهر رجب جمعوا النصارى واليهود ورسموا لهم ألّا يستخدموا فى الجهات السلطانيّة ولا عند الأمراء، وأن يغيّروا عمائمهم فيلبس النصارى عمائم زرقا وزنانيرهم مشدودة فى أوساطهم؛ وأنّ اليهود يلبسون عمائم صفرا، فسعوا الملّتان عند جميع أمراء الدولة وأعيانها، وساعدهم أعيان القبط وبذلوا الأموال الكثيرة الخارجة عن الحدّ للسلطان والأمراء على أن يعفوا من ذلك، فلم يقبل منهم شيئا.
وشدّد عليهم الأمير بيبرس الجاشنكير الأستادار- رحمه الله- غاية التشديد، فإنه هو الذي كان القائم فى هذا الأمر، عفا الله تعالى عنه وأسكنه الجنة بما فعله، فإنه رفع الاسلام بهذه الفعلة وخفض أهل الملّتين بعد أن وعد بأموال جمّة فلم يفعل.(8/133)
قلت: رحم الله ذلك الزمان وأهله ما كان أعلى هممهم، وأشبع نفوسهم! وما أحسن قول المتنبىّ:
أتى الزمان بنوه فى شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم
ثم رسم السلطان الملك الناصر محمد بغلق الكنائس بمصر والقاهرة، فضرب على كل باب منها دفوف ومسامير «1» ، وأصبح يوم «2» الثانى والعشرين من شهر رجب المبارك من سنة سبعمائة، وقد لبسوا اليهود عمائم صفرا، والنصارى عمائم زرقا، وإذا ركب أحد منهم بهيمة يكفّ إحدى رجليه، وبطلوا من الخدم السلطانية وكذلك من عند الأمراء؛ وأسلم لذلك جماعة كثيرة من النصارى، منهم: أمين الملك مستوفى الصّحبة «3» وغيره. ثم رسم السلطان أن يكتب بذلك فى جميع بلاده من دنقلة «4» إلى الفرات.
فأمّا أهل الإسكندرية لما وصل إليهم المرسوم سارعوا إلى خراب كنيستين عندهم، وذكروا أنهما مستجدّتان فى عهد الإسلام، ثم داروا إلى دورهم فما وجدوه أعلى على من جاورها من دور المسلمين هدموه، وكلّ من كان جاور مسلما فى حانوت أنزلوا مصطبة حانوته بحيث يكون المسلم أرفع منه، وفعلوا أشياء كثيرة(8/134)
من هذا، وأقاموا شعار الإسلام كما ينبغى على العادة القديمة؛ ووقع ذلك بسائر الأقطار لا سيّما أهل دمشق، فإنهم أيضا أمعنوا فى ذلك. وعملت الشعراء فى هذا المعنى عدّة مقاطيع شعر، ومما قاله الشيخ شمس الدين الطيبىّ:
تعجّبوا للنصارى واليهود معا ... والسامريّين لمّا عمّموا الخرقا
كأنّما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم ذرقا
ومما قاله الشيخ علاء الدين كاتب ابن وداعة المعروف بالوداعىّ «1» فى المعنى وأجاد:
لقد الزموا الكفّار شاشات ذلّة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائما ... ولكنّهم قد ألبسوكم براطيشا
وفيها فى تاسع ذى القعدة وصل إلى القاهرة من حلب الأمير أنس يخبر بحركة التتار، وأنّ التتار قد أرسلوا أمامهم رسلا، وأنّ رسلهم قد قاربت الفرات، ثم وصلت الرسل المذكورة بعد ذلك بمدة إلى الديار المصرية فى ليلة الاثنين خامس عشر ذى الحجّة، وأعيان القصّاد ثلاثة نفر: قاضى «2» الموصل وخطيبها كمال الدين «3» بن بهاء الدين بن كمال الدين بن يونس الشافعى، وآخر عجمىّ وآخر تركىّ. ولما كان عصر يوم الثلاثاء جمعوا الأمراء والمقدّمين إلى القلعة وعملت الخدمة ولبسوا المماليك أفخر الثياب والملابس، وبعد العشاء الأخيرة أوقدوا الشموع نحوا من ألف شمعة، ثم أظهروا زينة عظيمة بالقصر، ثم أحضروا الرسل، وحضر القاضى بجملتهم وعلى رأسه طرحة، فقام وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة فى معنى الصلح واتّفاق الكلمة ورغّب فيه، ثم إنه دعا للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون،(8/135)
ومن بعده للسلطان محمود غازان، ودعا للمسلمين والأمراء وأدّى الرسالة.
ومضمونها: إنّما قصدهم الصلح ودفعوا إليهم كتابا مختوما من السلطان غازان، فأخذ منهم الكتاب ولم يقرءوه تلك الليلة، وأعيد الرسل إلى مكانهم. فلمّا كان ليلة الخميس فتح الكتاب وقرئ على السلطان وهو مكتوب بالمغلى «1» وكتم الأمر. فلما كان يوم الخميس ثامن عشر ذى الحجّة حضر جميع الأمراء والمقدّمين وأكثر العسكر وأخرج إليهم الكتاب وقرئ عليهم، وهو مكتوب بخطّ غليظ فى نصف قطع البغدادىّ، ومضمونه:
«بسم «2» الله الرحمن الرحيم، وننهى بعد السلام «3» إليه أنّ الله عزّ وجلّ جعلنا وإياكم أهل ملّة واحدة، وشرفنا بدين الإسلام وأيّدنا، وندبنا لإقامة مناره وسدّدنا؛ وكان بيننا وبينكم ما كان بقضاء الله وقدره، وما كان ذلك إلّا بما كسبت أيديكم، وما الله بظلّام للعبيد! وسبب ذلك أنّ بعض عساكركم أغاروا على ماردين «4» وبلادها فى شهر رمضان المعظّم قدره، الذي لم تزل الأمم يعظّمونه فى سائر الأقطار، وفيه تغلّ «5» الشياطين وتغلق أبواب النيران، فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها، وقتلوا وسبوا وفسقوا وهتكوا محارم الله بسرعة من غير مهلة؛ وأكلوا الحرام وارتكبوا الآثام، وفعلوا ما لم تفعله عبّاد الأصنام؛ فأتونا أهل ماردين صارخين مسارعين ملهوفين مستغيثين بالأطفال والحريم، وقد استولى عليهم الشّقاء بعد النعيم؛ فلاذوا بجنابنا «6» وتعلّقوا بأسبابنا، ووقفوا موقف المستجير الخائف ببابنا؛ فهزّتنا نخوة الكرام، وحركتنا حميّة(8/136)
الإسلام، فركبنا على الفور بمن كان معنا ولم يسعنا بعد هذا المقام؛ ودخلنا البلاد وقدّمنا النّية، وعاهدنا الله تعالى على ما يرضيه عند بلوغ الأمنية؛ وعلمنا أنّ الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر بأن يسعوا فى الأرض فسادا [والله «1» لا يحبّ الفساد] ، وأنه يغضب لهتك الحريم وسبى الأولاد؛ فما كان إلا أن لقيناكم بنيّة صادقة، وقلوب على الحميّة للدين موافقة؛ فمزّقنا كم كلّ ممزّق، والذي ساقنا إليكم، هو الذي نصرنا عليكم؛ وما كان مثلكم إلا كمثل قرية كانت آمنة مطمئنة الآية. فولّيتم الأدبار، واعتصمتم من سيوفنا بالفرار، فعفونا عنكم بعد اقتدار، ورفعنا عنكم حكم السيف البتّار؛ وتقدمنا إلى جيوشنا ألّا يسعوا فى الأرض كما سعيتم، وأن ينشروا من العفو والعفاف ما طويتم، ولو قدرتم ما عفوتم ولا عففتم «2» ؛ ولم نقلّدكم منّة بذلك، بل حكم الإسلام فى قتال البغاة كذلك؛ وكان جميع ما جرى فى سالف القدم، ومن قبل كونه جرى به فى اللّوح القلم؛ ثم لمّا رأينا الرعيّة تضرّروا «3» بمقامنا فى الشام، لمشاركتنا «4» لهم فى الشراب والطعام؛ وما حصل فى قلوب الرعيّة من الرّعب، عند معاينة جيوشنا التى هى كمطبّقات السّحب؛ فأردنا أن نسكّن تخوّفهم بعودتنا من أرضهم بالنصر والتأييد، والعلوّ والمزيد؛ فتركنا عندهم بعض جيوشنا بحيث تنونّس بهم، وتعود فى أمرها «5» إليهم؛ ويحرسونهم من تعدّى بعضهم على بعض، بحيث إنّكم ضاقت بكم الأرض؛ إلى أن يستقرّ جأشكم، وتبصروا رشدكم؛ وتسيّروا إلى الشام من يحفظه من أعدائكم المتقدمين، وأكرادكم «6»(8/137)
المتمرّدين؛ وتقدّمنا إلى مقدّمى طوامين «1» جيوشنا أنّهم متى سمعوا بقدوم أحد منكم «2» إلى الشام، أن يعودوا إلينا بسلام؛ فعادوا الينا بالنصر المبين، والحمد لله رب العالمين.
والان فإنّا وإيّاكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين، وما بيننا ما يفرّق كلمتنا إلا ما كان من فعلكم بأهل ماردين؛ وقد أخذنا منكم القصاص، وهو جزاء كلّ عاص؛ فنرجع الآن فى إصلاح الرعايا، ونجتهد نحن وإيّاكم على العدل فى سائر القضايا فقد انضرّت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها، ومنعها «3» الخوف من القرار فى أوطانها؛ وتعذّر سفر التجار، وتوقّف حال المعايش لانقطاع البضائع والأسفار؛ ونحن نعلم أنّنا نسأل عن ذلك ونحاسب عليه، وأنّ الله عزّ وجلّ لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، وأنّ جميع ما كان وما يكون فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها. وأنت تعلم أيّها الملك الجليل، أنّنى وأنت مطالبون بالحقير والجليل؛ وأننا مسئولون عمّا جناه، أقل من وليناه، وأنّ مصيرنا إلى الله؛ وأنا معتقدون الإسلام قولا وعملا [ونيّة، عاملون بفروضه فى كلّ وصيّة «4» ] . وقد حمّلنا قاضى القضاة علامة الوقت حجّة الإسلام بقيّة السلف كمال «5» الدين موسى بن محمد أبا عبد الله، أعزّه الله تعالى، مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها، فإذا عاد من الملك «6» الجواب فليسيّر لنا هديّة الديار المصرية، لنعلم بإرسالها أن قد حصل(8/138)
منكم فى إجابتنا للصلح صدق النيّة؛ ونهدى إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم، والسلام الطيّب منا عليكم. إن شاء الله تعالى» .
فلمّا سمع الملك الناصر الكتاب استشار الأمراء فى ذلك، وبعد أيام طلبوا قاضى الموصل (أعنى الرسول) المقدّم ذكره من عند قازان، وقالوا له: أنت من أكابر العلماء وخيار المسلمين، وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدّين؛ فنحن ما نتقاتل إلا لقيام الدّين؛ فإن كان هذا الأمر قد فعلوه حيلة ودهاء فنحن نحلف لك أنّ ما يطّلع على هذا القول أحد من خلق الله تعالى، ورغّبوه غاية الرغبة؛ فخلف لهم بما يعتقده أنّه ما يعلم من قازان وخواصّه غير الصلح وحقن الدماء ورواج التجّار ومجيئهم وإصلاح الرعية. ثم إنّه قال لهم: والمصلحة أنّكم تتفقون وتبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوّكم، وأنتم فلكم عادة فى كلّ سنة تخرجون إلى أطراف بلادكم لأجل حفظها فتخرجون على عادتكم؛ فإن كان هذا الأمر خديعة فيظهر لكم فتكونون مستيقظين؛ وإن كان الأمر صحيحا فتكونون قريبين منهم «1» فينتظم الصلح وتحقن الدماء فيما بينكم. فلمّا سمعوا كلامه رأوه ما فيه غرض وهو مصلحة، فشرعوا لعيّنوا من يروح فى الرسالة، فعيّنوا جماعة، منهم الأمير شمس الدين [محمد «2» ] بن التّيتىّ، والخطيب شمس الدين «3» الجوزىّ خطيب جامع ابن طولون «4» ، فتشفّع ابن الجوزىّ حتى تركوه، وعيّنوا القاضى عماد «5» الدين بن السّكّرىّ(8/139)
خطيب جامع الحاكم «1» ، وهو ناظر دار العدل «2» بالديار المصرية، وشخصا أمير آخور من البرجيّة. ثم إنّ السلطان أخذ فى تجهيز أمرهم إلى ما يأتى ذكره.
ثم استقرّ السلطان فى سنة إحدى وسبعمائة بالأمير عزّ الدين أيبك البغدادىّ المنصورىّ، أحد الأمراء البرجية فى الوزارة عوضا عن شمس الدين سنقر الأعسر، وجلس فى قلعة الجبل بخلعة الوزارة، وطلع إليه جميع أرباب الدولة وأعيان الناس.(8/140)
وأيبك هذا هو الرابع من الوزراء الأمراء الأتراك بالديار المصرية، الذين كان تضرب على أبوابهم الطبلخاناه على قاعدة الوزراء بالعراق زمن الخلفاء؛ فأوّلهم الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ المنصورىّ. ثم ولى بعده الأمير بدر الدين بيدرا، ولمّا ولى بيدرا نيابة السلطنة أعيد الشجاعىّ، وبعده ابن السّلعوس وليس هما من العدد، ثم الخليلىّ وليس هو من العدد. ثم بعد الخليلى، ولى الأمير سنقر الأعسر الوزر، وهو الثالث. ثم بعده أيبك هذا وهو الرابع. وكان الوزير يوم ذاك فى رتبة النيابة بالديار المصرية، ونيابة السلطنة كانت يوم ذاك دون السلطنة. انتهى.
وفى يوم الأحد تاسع عشر المحرّم من سنة إحدى وسبعمائة، رسم السلطان لجميع الأمراء والمقدّمين بمصر والقاهرة أن يخرجوا صحبة السلطان إلى الصيد نحو العبّاسة «1» ، وأن يستصحبوا معهم عليق عشرة أيام، وسافر السلطان بأكثر العسكر والجميع بعدّتهم فى بكرة يوم الاثنين فى العشرين من المحرّم. ونزل إلى بركة الحجّاج «2» وتبعه جميع الأمراء(8/141)
والمقدّمين والعساكر، وبعد سفره سيّروا طلبوا القضاة الأربعة فتوجّهوا إليه، واجتمعوا بالسلطان فى بركة الحجاج وعادوا إلى القاهرة، ثم شرعوا فى تجهيز رسل قازان، وتقدّم دهليز السلطان إلى الصالحية «1» ، ودخل السلطان والأمراء إلى البريّة «2» بسبب الصيد. فلمّا كان يوم الاثنين عشيّة النهار وصل السلطان والأمراء إلى الصالحية، فخلع على جميع الأمراء والمقدّمين، وكان عدّة ما خلع أربعمائة وعشرين خلعة، وكان الرسل قد سفّروهم من القاهرة وأنزلوهم بالصالحية، حتى إنهم يجتمعون بالسلطان عند حضوره من الصيد. فلما حضر الأمراء قدّام السلطان بالخلع السنيه وتلك الهيئة الجميلة الحسنة أذهل عقول الرسل مما رأوا من حسن زىّ عسكر الديار المصرية بخلاف زىّ التتار، وأحضروا الرسل فى الليل إلى الدهليز إلى بين يدى السلطان، وقد أوقدوا شموعا كثيرة ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة من ذلك تتجاوز عن الحد بحيث إنّ البريّة بقيت حمراء تتلهّب نورا ونارا، فتحدّثوا معهم ساعة، ثم أعطوهم جواب الكتاب، وخلعوا عليهم خلع السفر وأعطوا لكلّ واحد من الرسل عشرة آلاف درهم وقماشا وغير ذلك. ونسخة الكتاب المسيّر إليهم صورته:
«بسم الله الرحمن الرحيم: علمنا «3» ما أشار الملك إليه، وعوّل فى قوله [وفعله «4» ] عليه؛ فأمّا قول الملك: قد جمعتنا وإياكم كلمة الإسلام! وإنه لم يطرف بلادنا ولا قصدها إلا لما سبق به القضاء المحتوم، فهذا الأمر غير مجهول [بل] هو عندنا(8/142)
معلوم؛ وإنّ السبب فى ذلك غارة بعض جيوشنا على ماردين، وإنهم قتلوا وسبوا وهتكوا الحريم وفعلوا فعل من لاله دين؛ فالملك يعلم أن غارتنا ما برحت فى بلادكم، مستمرّة من عهد آبائكم وأجدادكم؛ وأنّ من فعل ما فعل من الفساد «1» ، لم يكن برأينا ولا من أمرائنا ولا الأجناد؛ بل من الأطراف الطامعة ممّن لا يؤبه إليه، ولا يعوّل فى فعل ولا قول عليه؛ وأنّ «2» معظم جيشنا كان فى تلك الغارة إذا لم يجدوا ما يشترونه للقوت صاموا لئلّا يأكلوا ما فيه شبهة أو حرام، وأنهم أكثر ليلهم سجّد ونهارهم صيام.
وأمّا قول الملك ابن الملك «3» الذي هو من أعظم القان فيقول قولا يقع عليه الردّ من قريب، ويزعم أنّ جميع ما هو عليه من علمنا ساعة واحدة يغيب؛ ولو يعلم أنّه لو تقلّب فى مضجعه من جانب إلى جانب، أو خرج من منزله راجلا أو راكبا؛ كان عندنا علم من ذلك فى الوقت القريب؛ [ويتحقق أنّ أقرب بطائنه إليه، هو العين لنا عليه، وإن كثر ذلك لديه «4» ،] . ونحن تحقّقنا أنّ الملك بقى عامين يجمع «5» الجموع، وينتصر بالتابع والمتبوع؛ وحشد وجمع من كلّ بلد واعتضد بالنصارى والكرج والأرمن، واستنجد بكلّ من ركب فرسا من فصيح وألكن؛ وطلب من المسوّمات خيولا وركاب، وكثر سوادا وعدّد أطلاب؛ ثم إنّه لمّا رأى أنه ليس له بجيشنا قبل فى المجال، عاد إلى قول الزّور والمحال، والخديعة والاحتيال؛ وتظاهر بدين الإسلام، واشتهر به فى الخاص والعام؛ والباطن بخلاف ذلك، حتّى ظنّ جيوشنا(8/143)
وأبطالنا أنّ الأمر كذلك؛ فلمّا [التقينا «1» معه] كان معظم جيشنا يمتنع من قتاله، ويبعد عن نزاله؛ ويقول: لا يجوز لنا قتال المسلمين، ولا يحلّ قتل من يتظاهر بهذا الدين!؛ فلهذا حصل منهم الفشل، وبتأخّرهم عن قتالكم حصل ما حصل؛ وأنت تعلم أنّ الدائرة كانت عليك. وليس يرى من «2» أصحابك الّا من هو نادم أو باكى، أو فاقد عزيز عنده أو شاكى؛ والحرب سجال يوم لك، ويوم عليك؛ وليس ذلك ممّا تعاب به الجيوش ولا تقهر، وهذا بقضاء الله وقدره المقدّر.
وأمّا قول الملك إنّه لما التقى بجيشنا مزّقهم كلّ ممزّق، فمثل هذا القول ما كان يليق بالملك أن يقوله أو يتكلّم به، وهو يعلم وإن كان ما رأى بل يسأل كبراء دولته وأمراء عساكره عن وقائع جيوشنا ومراتع سيوفنا من رقاب آبائه وأجداده، وهى إلى الآن تقطر من دمائهم؛ وإن كنت نصرت مرّة فقد كسرت آباؤك مرار، وإن كان جيشك قد داس أرضنا مرّة فبلادكم لغارتنا مقام ولجيوشنا قرار؛ وكما تدين تدان.
وأمّا قول الملك: إنّه ومن معه اعتقدوا الإسلام قولا وفعلا «3» وعملا ونيّة، فهذا الذي فعلته ما فعله من هو متوجّه الى هذه البنيّة، أعنى الكعبة المضّية فإنّ الذي جرى بظاهر دمشق وجبل الصالحية ليس بخفىّ عنك «4» ولا مكتوم، وليس هذا هو فعل المسلمين، ولا من هو متمسّك بهذا الدين؛ فأين وكيف وما الحجّة! وحرم البيت المقدس تشرب فيه الخمور، وتهتك الستور، وتفتضّ البكور؛ ويقتل فيه المجاورون،(8/144)
ويستأسر خطباؤه [والمؤذّنون «1» ] ، ثم على رأس خليل الرحمن، تعلّق الصّلبان، وتهتك النسوان، ويدخل فيه الكافر سكران؛ فإن كان هذا عن علمك ورضاك، فواخيبتك فى دنياك وأخراك؛ ويا ويلك فى مبدئك ومعادك، وعن قليل يؤذن بخراب عمرك وبلادك، وهلاك جيشك وأجنادك؛ وإن كنت لم تعلم بذلك فقد أعلمناك، فاستدرك ما فات فليس مطلوبا به سواك؛ وإن كنت كما زعمت أنّك على دين الإسلام، وأنت فى قولك صادق فى الكلام، وفى عقدك صحيح النظام؛ فاقتل الطّوامين الذين فعلوا هذه الفعال، وأوقع بهم أعظم النّكال؛ لنعلم أنك على بيضاء المحجّة، وكان فعلك وقولك أبلغ حجّة؛ ولمّا وصلت جيوشنا إلى القاهرة المحروسة وتحقّقوا أنّكم تظاهرتم بكلمة الإخلاص وخدعتم باليمين والإيمان، وانتصرتم على قتالهم بعبدة الصّلبان؛ اجتمعوا وتأهّبوا وخرجوا بعزمات محمديّة، وقلوب بدريّة، وهمم عليّة، عند الله مرضيّة؛ وحدّوا السير فى البلاد، ليتشفّوا منكم غليل الصدور والأكباد؛ فما وسع جيشكم إلا الفرار، وما كان لهم على اللّقاء صبر ولا قرار؛ فاندفعت عساكرنا المنصورة مثل أمواج البحر الزّخار إلى الشام، يقصدون دخول بلادكم ليظفروا بنيل المرام؛ فخشينا على رعيتكم تهلك، وأنتم تهربون ولا تجدون إلى النجاة مسلك؛ فأمرناهم بالمقام، ولزوم الأهبة والاهتمام؛ ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
وأمّا ما تحمّله قاضى القضاة من المشافهة، فإنّا سمعناه ووعيناه وتحقّقنا تضمنته مشافهة؛ ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور، وزهده فى دار الغرور؛ ولكن قاضى القضاة غريب عنكم بعيد منكم، لم يطّلع على بواطن قضاياكم وأموركم، ولا يكاد يظهر له خفىّ مستوركم؛ فإن كنتم تريدون الصلح والإصلاح، وبواطنكم كظواهركم متتابعة فى الصلاح؛ وأنت أيها الملك طالب الصلح على التحقيق، وليس(8/145)
فى قولك مين ولا يشوبه تنميق؛ فنحن نقلّدك [سيف «1» ] البغى، ومن سلّ سيف البغى قتل به، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله؛ فيرسل إلينا من خواص دولتك رجل يكون منكم ممّن إذا قطع بأمر وقفتم عنده، أو فصل حكما انتهيتم إليه، أو جزم أمرا عوّلتم عليه؛ يكون له فى أوّل دولتكم حكم وتمكين، وهو فيما يعوّل عليه ثقة أمين؛ لنتكلّم معه فيما فيه الصلاح لذات البين، وإن لم يكن كذلك عاد بخفّى حنين.
وأمّا ما طلبه الملك من الهديّة من الديار المصريّة فليس نبخل عليه، ومقداره عندنا أجلّ مقدار وجميع ما يهدى إليه دون قدره، وإنّما الواجب أن يهدى أوّلا من استهدى؛ لتقابل هديته بأضعافها، ونتحقّق صدق نيّته، وإخلاص سريرته؛ ونفعل ما يكون فيه رضا الله عزّ وجلّ ورضا رسوله فى الدنيا والآخرة، لعلّ صفقتنا رابحة فى معادنا غير خاسرة. والله تعالى الموفّق للصواب» . انتهى.
ثم سافر القصّاد المذكورون، وعاد السلطان من الصّيد فى ثالث صفر إلى بركة الحجّاج والتقى أمير الحاج وهو الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار، وصحبته ركب الحاجّ والمحمل السلطانىّ، فنزل عنده السلطان وخلع عليه؛ ثم ركب وتوجّه حتى صعد قلعة الجبل عصر النهار، ودخل عقيب دخوله المحمل والحجاج، وشكر الحاجّ من حسن سيرة بكتمر المذكور مع سرعة مجيئه بخلاف العادة؛ فإن العادة كانت يوم ذاك دخول المحمل فى سابع صفر، وقبل ذلك وبعد ذلك. وعمل بكتمر فى هذه السّفرة من الخيرات والبرّ والخلع على أمراء الحجاز وغيرهم شيئا كثيرا؛ قيل: إنّ جملة ما أنفقه فى هذه السفرة خمسة وثمانون ألف دينار مصرية، تقبل الله تعالى منه. ثمّ فى صفر هذا وصل الخبر إلى السلطان بأنّ قازان على عزم الركوب وقصد الشام، وأنّ مقدّم عساكره الأمير بولاى قد قارب(8/146)
الفرات، وأنّ الذي أرسله من الرسل خديعة. فعند ذلك شرع السلطان فى تجهيز العساكر، وتهيّأ للخروج إلى البلاد الشامية، ثم فى أثناء ذلك ورد على السلطان قاصد الأمير كتبغا المنصورىّ نائب صرخد، وكتبغا هذا هو الملك العادل المخلوع بالملك المنصور لاچين المقدّم ذكرهما، وأخبر أنه وقع بين حماة وحمص وحصن الأكراد برد وفيه شىء على صورة بنى آدم من الذكور والإناث، وصور قرود وغير ذلك، فتعجب السلطان وغيره من ذلك. ثمّ فى ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى فى وقت السحر توفّى الخليفة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن علىّ «1» الهاشمىّ العباسىّ بمسكنه بالكبش «2» ظاهر القاهرة ومصر المطلّ على بركة الفيل «3» ، وخطب له فى ذلك اليوم بجوامع القاهرة ومصر، فإنهم أخفوا موته إلى بعد صلاة الجمعة، فلمّا انقضت الصلاة سيّر الأمير سلّار نائب السلطنة خلف جماعة الصوفية ومشايخ الزوايا «4» والرّبط «5» والقضاة والعلماء والأعيان من الأمراء وغيرهم للصلاة عليه، وتولّى غسله وتكفينه الشيخ كريم «6» الدين شيخ الشيوخ بخانقاه(8/147)
سعيد «1» السعداء، ورئيس المغسّلين بين يديه، وهو عمر بن عبد العزيز الطوخىّ، وحمل من الكبش إلى جامع أحمد بن طولون، ونزل نائب السلطنة الأمير سلّار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأستادار، وجميع الأمراء من القلعة إلى الكبش، وحضروا تغسيله ومشوا أمام جنازته إلى الجامع المذكور، وتقدّم للصلاة عليه الشيخ كريم الدين المذكور، وحمل إلى تربته «2» بجوار السيدة نفيسة ودفن بها، بعد أن أوصى بولاية العهد إلى ولده أبى الربيع سليمان، وتقدير عمره فوق العشرين سنة. وكان السلطان طلبه فى أوّل نهار الجمعة قبل الإشاعة بموت والده، وأشهد عليه أنه ولّى الملك الناصر محمد بن قلاوون جميع ما ولّاه والده وفوّضه إليه، ثم عاد إلى الكبش. فلمّا فرغت الصلاة على الخليفة ردّ ولده المذكور وأولاد أخيه من جامع ابن طولون إلى دورهم، ونزل من القلعة خمسة خدّام من خدّام السلطان، وقعدوا على باب الكبش صفة الترسيم عليهم، وسيّر السلطان يستشير قاضى القضاة تقىّ الدين ابن دقيق العيد الشافعىّ فى أمر سليمان المذكور، هل يصلح للخلافة أم لا؟ فقال: نعم يصلح وأثنى(8/148)
عليه، وبقى الأمر موقوفا إلى يوم الخميس رابع عشرين جمادى الأولى المذكور.
فلمّا كان بكرة النهار المذكور طلب سليمان إلى القلعة فطلع هو وأولاد أخيه بسبب المبايعة فأمضى السلطان ما عهد اليه والده المذكور بعد فصول وأمور يطول شرحها بينه وبين أولاد أخيه، وجلس السلطان وخلع على أبى الربيع سليمان هذا خلعة الخلافة، ونعت بالمستكفى، وهى جبّة سوداء وطرحة سوداء، وخلع على أولاد أخيه خلع الأمراء الأكابر خلعا ملوّنة. وبعد ذلك بايعه السلطان والأمراء والقضاة والمقدّمون وأعيان الدولة، ومدّوا السّماط على العادة؛ ثم رسم له السلطان بنزوله إلى الكبش وأجرى راتبه الذي كان مقرّرا لوالده وزيادة، ونزلوا إلى الكبش وأقاموا به إلى يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة حضر من عند السلطان المهمندار «1» ومعه جماعة وصحبتهم جمال كثيرة، فنقلوا الخليفة وأولاد أخيه ونساءهم وجميع من يلوذ بهم إلى قلعة الجبل، وأنزلوهم بالقلعة فى دارين: الواحدة تسمّى بالصالحية، والأخرى بالظاهريّة، وأجروا عليهم الرواتب المقرّرة لهم، وكان فى يوم الجمعة ثانى يوم المبايعة خطب بمصر والقاهرة للمستكفى هذا، ورسم بضرب اسمه على سكّة الدينار والدرهم. انتهى.
وكان السلطان قبل ذلك أمر بخروج تجريدة إلى الوجه القبلى لكثرة فساد العربان وتعدّى شرّهم فى قطع الطريق إلى أن فرضوا على التجّار وأرباب المعايش بأسيوط «2» ومنفلوط «3» فرائض جبوها شبه الجالية «4» ، واستخفّوا بالولاة ومنعوا الخراج(8/149)
وتسمّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرين: أحدهما سمّوه سلّار، والآخر بيبرس، ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بأيديهم؛ فأحضر السلطان الأمراء والقضاة [والفقهاء «1» ] واستفتوهم فى قتالهم، فأفتوهم بجواز ذلك؛ فاتّفق الأمراء على الخروج لقتالهم، وأخذت الطّرق عليهم لئلا يمتنعوا بالجبال والمنافذ، فيفوت الغرض فيهم، واستدعوا الأمير ناصر الدين محمد بن الشيخى متولّى الجيزة وندبوه لمنع الناس بأسرهم من السفر إلى الصعيد فى البر والبحر، ومن ظهر أنه سافر كانت أرواح الولاة قباله وما ملك، وأشاع الأمراء أنهم يريدون السفر إلى الشام وتجهّزوا، وكتبت أوراق الأمراء المسافرين وهم عشرون مقدّما بمضاقيهم، وعينوا أربعة أقسام: قسم يتوجّه فى البرّ الغربىّ. وقسم يتوجه فى البر الشرقىّ. وقسم يركب النيل. وقسم يمضى فى الطريق السالكة. وتوجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وكان قد قدم من الشام، إلى الواح «2» فى خمسة أمراء، وقرّروا أن يتأخّر مع السلطان أربعة أمراء من المقدّمين، ورسم(8/150)
إلى كلّ من تعيّن من الأمراء لجهة أن يضع السيف فى الكبير والصغير والجليل والحقير، ولا يبقوا شيخا ولا صبيّا ويحتاطوا على سائر الأموال، وسار الأمير سلّار نائب السلطنة فى رابع جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء فى البر الغربىّ، وسار الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه من الحاجر «1» فى البرّ الغربىّ أيضا من طريق الواحات وسار الأمير بكتاش أمير سلاح بمن معه فى البرّ الشرقىّ وسار الأمير قتّال السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلمشى «2» وغيره «3» من الشرقية إلى السّويس «4»(8/151)
والطور «1» ، وسار الأمير قبجق المنصورىّ نائب الشام بمن كان معه إلى عقبة السيل «2» ، وسار طقصبا والى قوص «3» بعرب الطاعة، وأخذ عليهم المفازات؛ وقد عمّيت أخبار الديار المصرية على أهل الصعيد لمنع المسافرين إليها فطرقوا(8/152)
الأمراء البلاد على حين غفلة من أهلها، ووضعوا السيف من الجيزة بالبرّ «1» الغربىّ والإطفيحية «2» من الشرقىّ، فلم يتركوا أحد إلّا قتلوه، ووسّطوا نحو عشرة آلاف رجل، وما منهم إلا من أخذوا ماله وسبوا حريمه، فكان إذا ادّعى أحد منهم أنه حضرىّ، قيل له: قل دقيق، فإن قال: دقيق بالكاف لغات العرب قتل، وإن قال: بالقاف المعهودة أطلق، ووقع الرعب فى قلوب العربان حتى طبّق عليهم الأمراء وأخذوهم من كلّ جهة فرّوا إليها، وأخرجوهم من مخابئهم حتى قتلوا من جانبى «3» النيل إلى قوص، وجافت الأرض بالقتلى، واختفى كثير منهم بمغاور الجبال فأوقدت عليهم النّيران حتى هلكوا بأجمعهم، وأسر منهم نحو ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحصّل من أموالهم شىء عظيم جدّا تفرّقته الأيدى، وأحضر منه إلى الديوان السلطانىّ ستة عشرة ألف رأس من الغنم، وذلك من جملة ثمانين ألف رأس ما بين ضأن وما عز، ومن السلاح نحو مائتين وستين جملا من السيوف والسلاح والرماح، ومن الأموال على بغال محملة مائتين وثمانين بغلا، ونحو أربعة آلاف فرس، واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غير ما أرصد فى المعاصر، وصار لكثرة ما حصّل للاجناد والغلمان والفقراء الذين اتّبعوا العسكر فباعوا الكبش الكبير السمين من ثلاثة دراهم إلى درهم «4» ، والمعز بدرهم الرأس، والجزّة الصوف بنصف درهم، والكساء بخمسة دراهم «5» ، والرّطل السمن بربع درهم، ولم يوجد من يشترى الغلال لكثرتها؛ فإنّ البلاد طرقت وأهلها آمنون، وقد كسروا الخراج سنتين «6» . ثم عاد العسكر فى سادس عشر شهر رجب من سنة إحدى وسبعمائة،(8/153)
وقد خلت بلاد الصعيد من أهلها بحيث صار الرجل يمشى فلا يجد فى طريقه أحدا وينزل القرية فلا يرى إلا النساء والصبيان؛ ثم أفرج السلطان عن المأسورين وأعادهم إلى بلادهم لحفظ البلاد.
وعند عود الأمراء المذكورين من بلاد الصعيد ورد الخبر من حلب أن تكفور متملّك سيس منع الحمل وخرج عن الطاعة وانتمى لغازان، فرسم بخروج العساكر لمحاربته، وخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح، والأمير عزّ الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراء وغيرهم فى شهر رمضان، فساروا إلى حماة فتوجه معهم نائبها الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ فى خامس عشرين شوّال.
وتوجّهوا إلى بلاد سيس وأحرقوا الزروع وانتهبوا ما قدر عليه، وحاصروا مدينة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيئا كثيرا من جفّال الأرمن؛ وعادوا من الدّربند إلى مرج أنطاكية «1» . ثمّ قدموا حلب فى تاسع عشر ذى القعدة. ثم ورد الخبر على السلطان من طرابلس «2» بأنّ الفرنج أنشئوا جزيرة تجاه طرابلس تعرف بجزيرة(8/154)
أرواد «1» ، وعمّروها بالعدد والآلات، وكثر فيها جمعهم، وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب. فرسم السلطان للوزير بعمارة أربعة شوان حربيّة فى محرّم سنة اثنتين وسبعمائة ففعل ذلك، ونجّزت عمارة الشوانى وجهّزت بالمقاتلة وآلات الحرب مع الأمير جمال الدين آقوش القارئ العلائىّ والى البهنسا «2» ، واجتمع الناس لمشاهدة لعب الشوانى فى يوم السبت ثانى «3» عشر المحرّم، ونزل السلطان والأمراء لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لا يحصيه إلّا الله تعالى حتّى بلغ كراء المركب الّتى تحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم؛ وامتلأ البرّ من بولاق «4»(8/155)
إلى الصّناعة «1» حتّى لم يوجد موضع قدم، ووقف العسكر على برّ بستان «2» الخشّاب وركب الأمراء الحراريق إلى الروضة «3» ، وبرزت الشوانى تجاه المقياس «4» تلعب كأنّها فى الحرب، فلعب الشينىّ الأوّل والثانى والثالث، وأعجب الناس إعجابا زائدا لكثرة ما كان فيها من المقاتلة والنفوط وآلات الحرب، وتقدّم الرابع وفيه الأمير آقوش فما هو إلّا أنّه خرج من الصناعة بمصر وتوسّط فى النيل إذا بالريح حركّته فمال به ميلة واحدة انقلب وصار أعلاه أسفله، فصرخ الناس صرخة واحدة كادت تسقط منها الحبالى، وتكدّر ما كانوا فيه من الصّفو فتلاحق الناس بالشّينىّ وأخرجوا ما سقط منه فى الماء، فلم يعدم منه سوى الأمير آقوش وسلم الجميع، فتكدّر السلطان والأمراء بسببه، وعاد السلطان بأمرائه إلى القلعة وانفضّ الجمع. وبعد ثلاثة أيام أخرج الشّينىّ فإذا امرأة الريّس وابنها وهى ترضعه فى قيد الحياة، فاشتدّ عجب الناس من سلامتها طول هذه الأيام! قاله المقريزى وغيره، والعهدة عليهم فى هذا النقل. ثم شرع العمل فى إعادة الشّينى الذي غرق حتى نجزّ، وندب السلطان الأمير سيف الدين كهرداش «5» الزرّاق المنصورىّ إلى السفر فيه عوضا عن آقوش الذي غرق، رحمه الله تعالى، وتوجّه الجميع إلى طرابلس ثم إلى جزيرة أرواد المذكورة، وهى بالقرب(8/156)
من أنطرطوس «1» ، فأخربوها وسبوا وغنموا، وكان الأسرى منها مائتين وثمانين نفرا، وقدم الخبر بذلك إلى السلطان فسّر وسرّ الناس قاطبة ودقّت البشائر لذلك أياما؛ واتّفق فى ذلك اليوم أيضا حضور الأمير بكتاش الفخرىّ أمير سلاح من غزو سيس.
ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر من حلب بأنّ قازان على عزم الحركة إلى الشام، فوقع الاتّفاق على خروج العساكر من الديار المصرية إلى الشام، وعيّن من الأمراء الأمير بيبرس الجاشنكير، وطغريل الإيغانىّ، وكراى المنصورىّ، وحسام الدين لاچين أستادار بمضافيهم وثلاثة آلاف من الأجناد، وساروا من مصر فى ثامن عشر شهر رجب، وتواترت الأخبار بنزول قازان على الفرات، ووصل عسكره إلى الرحبة، وبعث أمامه قطلوشاه من أصحابه على عساكر عظيمة إلى الشام تبلغ ثمانين ألفا، وكتب إلى الأمير عزّ الدين [أيبك «2» ] الأفرم نائب الشام يرغّبه فى طاعته، ودخل الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه إلى دمشق فى نصف شعبان، ولبث يستحثّ السلطان على الخروج. وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التّتار، فاستعدّ أهل دمشق للفرار ولم يبق إلّا خروجهم، فنودى بدمشق من خرج منها حلّ ماله ودمه، وخرج الأمير بهادر آص والأمير قطلوبك المنصورىّ، وأنس الجمدار فى عسكر إلى حماة، ولحق بهم عساكر طرابلس وحمص. فاجتمعوا على حماة عند نائبها الملك العادل كتبغا المنصورىّ، وبلّغ التتار ذلك فبعثوا طائفة كثيرة إلى القريتين «3» فأوقعوا بالتّركمان، فتوجّه إليهم أسندمر «4» كرجى نائب طرابلس وبهادر آص(8/157)
وكجكن وإغزلو العادلى وتمر الساقى وأنص الجمدار ومحمد بن قرا سنقر فى ألف وخمسمائة فارس، فطرقوهم بمنزلة «1» عرض فى حادى عشر شعبان على غفلة، فافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالا شديدا من نصف النهار إلى العصر حتّى كسروهم وأفنوهم، وكانوا التّتار، فيما يقال، أربعة آلاف، واستنقذوا التّركمان وحريمهم وأولادهم من أيدى التتار، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يفقد من العسكر الإسلامى إلا الأمير أنص الجمدار المنصورى ومحمد بن باشقرد الناصرىّ وستة وخمسون من الأجناد، وعاد من انهزم من التتار إلى قطلوشاه، وأسر العسكر المصرىّ مائة وثمانين من التتار، وكتب إلى السلطان بذلك ودقّت البشائر [بدمشق «2» ] . وكان السلطان الملك الناصر محمد قد خرج بعساكره وأمرائه من الديار المصريّة إلى جهة البلاد الشاميّة فى ثالث شعبان، وخرج بعده الخليفة المستكفى بالله، واستناب السلطان بديار مصر الأمير عزّ الدين أيبك البغدادىّ.
وجدّ قطلوشاه مقدّم التتار بالعساكر فى المسير حتّى نزل قرون حماة فى ثالث «3» عشر شعبان، فاندفعت العساكر المصريّة التى كانت بحماة بين يديه إلى دمشق، وركب نائب حماة الأمير كتبغا الذي كان تسلطن وتلقّب بالملك العادل فى محفّة لضعفه، واجتمع الجميع بدمشق واختلف رأيهم فى الخروج إلى لقاء العدوّ أو انتظار قدوم السلطان، ثم خشوا من مفاجأة العدوّ فنادوا بالرحيل، وركبوا فى أوّل شهر رمضان من دمشق، فاضطربت دمشق بأهلها وأخذوا فى الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حريمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة، فلم يأت اللّيل إلا وبوادر التتار فى سائر(8/158)
نواحى المدينة، وسار العسكر مخفّا، وبات الناس بدمشق فى الجامع يضجّون بالدعاء إلى الله تعالى، فلمّا أصبحوا رحل التتار عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجّهوا إليه من مرج «1» راهط فلقوه على عقبة «2» الشّحورا فى يوم السبت ثانى شهر رمضان وقبّلوا الأرض، ثم ورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتار فى خمسين ألفا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتّفقوا على قتال التتار بشقحب «3» تحت جبل غباغب «4» ؛ وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر، فصفّت العساكر الإسلامية، فوقف السلطان فى القلب وبجانبه الخليفة، والأمير سلّار النائب، والأمير بيبرس الجاشنكير، وعزّ الدين أيبك الخازندار، وبكتمر الجوكندار، وآقوش الأفرم نائب الشام، والأمير برلغى «5» ، والأمير أيبك الحموىّ، وبكتمر الأبوبكريّ، وقطلوبك، ونوغاى السلاح دار، ومبارز الدين أمير شكار، ويعقوبا الشّهرزورىّ، ومبارز الدين أوليا بن قرمان؛ ووقف فى الجناح الأيمن الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان وجماعة كثيرة من الأمراء؛ ووقف فى الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح، والأمير قرا سنقر نائب حلب بعساكرها، والأمير بتخاص نائب صفد بعساكرها؛ والأمير طغريل «6» الإيغانى، وبكتمر السلاح دار(8/159)
وبيبرس الدّوادار بمضافيهم. ومشى السلطان على التتار والخليفة بجانبه ومعهما القرّاء يتلون القرآن ويحثّون على الجهاد ويشوّقون إلى الجنة، وصار الخليفة يقول:
يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن دين نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم وعن حريمكم! والناس فى بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض! ووصّى «1» بيبرس وسلّار على الثبات فى الجهاد. وكلّ ذلك والسلطان والخليفة يكرّ فى العساكر يمينا وشمالا. ثم عاد السلطان والخليفة إلى مواقفهما، ووقف خلفه الغلمان والأحمال والعساكر صفّا واحدا، وقال لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه. فلمّا تمّ الترتيب زحفت كراديس «2» التتار كقطع الليل، وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثانى رمضان المذكور. وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطّوامين، وحملوا على الميمنة فثبت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدّ قتال حتى قتل من أعيان الميمنة الأمير حسام الدين لاچين الأستادار، وأوليا بن قرمان، والأمير سنقر الكافورى «3» ، والأمير أيدمر الشّمسىّ القشّاش، والأمير آقوش الشمسىّ الحاجب، وحسام الدين على بن باخل ونحو الألف فارس، كلّ ذلك وهم فى مقابلة العدوّ والقتال عمّال بينهم. فلما وقع ذلك أدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلّار: هلك والله أهل الإسلام! وصرخ فى بيبرس الجاشنكير وفى البرجيّة فأتوه دفعة واحدة، فأخذهم وصدم بهم العدوّ وقصد مقدّم التتار قطلوشاه، وتقدّم عن الميمنة حتّى أخذت الميمنة راحة، وأبلى سلّار فى ذلك اليوم هو وبيبرس الجاشنكير بلاء حسنا، وسلّموا نفوسهم إلى الموت. فلمّا رأى باقى الأمراء منهم ذلك ألقوا نفوسهم إلى الموت، واقتحموا القتال، وكانت لسلّار والجاشنكير فى ذلك(8/160)
اليوم اليد البيضاء على المسلمين- رحمهما الله تعالى- واستمرّوا فى القتال إلى أن كشفوا التّتار عن المسلمين، وكان جوبان وقرمجى من طوامين التتار قد ساقا تقوية لبولاى وهو خلف المسلمين؛ فلمّا عاينوا الكسرة على قطلوشاه أتوه نجدة ووقفوا فى وجه سلّار وبيبرس، فخرج من عسكر السلطان [أسندمر «1» ] والأمير قطلوبك والأمير قبجق والمماليك السلطانية وأردفوا سلّار وبيبرس، وقاتلوا أشدّ قتال حتى أزاحوهم عن مواقفهم، فمالت التتار على الأمير برلغى فى موقفه، فتوجّهوا الجماعة المذكورون إلى برلغى، واستمرّ القتال بينهم.
وأمّا سلّار فإنّه قصد قطلوشاه مقدّم التتار وصدمه بمن معه، وتقاتلا وثبت كلّ منهما، وكانت الميمنة لمّا قتل الأمراء منها انهزم من كان معهم، ومرّت التتار حلفهم فجفل الناس وظنّوا أنّها كسرة، وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها ونهبوا ما فيها من الأموال، وجفل النساء والأطفال. وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها، وكشف النساء عن وجوههنّ وأسبلن الشعور وضجّ ذلك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة! واستمرّ القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كلّ من الطائفتين عن القتال.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفى نفسه أنّه انتصر، وأنّ بولاى فى أثر المنهزمين من المسلمين، فلمّا صعد الجبل رأى السهل والوعر كلّه عساكر والميسرة السلطانية ثابتة، وأعلامها تخفق، فبهت قطلوشاه وتحيّر واستمرّ بموضعه حتّى كمل معه جمعه وأتاه من كان خلف المنهزمين من السلطانية ومعهم عدّة من المسلمين قد أسروهم، منهم: الأمير عزّ الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانيّة،(8/161)
فأحضره قطلوشاه وسأله من أين أنت؟ فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان، وكان قطلوشاه ليس له علم بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا ذلك الوقت، فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها، فلم يثبت بولاى وخرج من تجاه قطلوشاه فى نحو العشرين ألفا من التتار، ونزل من الجبل بعد المغرب ومرّ هاربا.
وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطّبول تضرب، وتلاحق بهم من كان انهزم شيئا بعد شىء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات، واحتاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلّار وقبجق والأمراء والأكابر فى طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم ويرتّبونهم ويؤكّدون عليهم فى التيقّظ، ووقف كلّ أمير فى مصافّه مع أصحابه، والحمل والأثقال قد وقف على بعد، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس، وشرع قطلو شاه فى ترتيب من معه ونزلوا مشاة وفرسانا وقاتلوا العساكر، فبرزت المماليك السلطانيّة بمقدّميها إلى قطلو شاه وجوبان، وعملوا فى قتالهم عملا عظيما، فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضا بقتل من فى جهتهم يتناوبون القتال أميرا بعد أمير، وألحّت المماليك السلطانية فى القتال وأظهروا فى ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتّى إنّ بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل، وما زال الأمراء على ذلك حتّى انتصف نهار الأحد، صعد قطلو شاه الجبل وقد قتل من عسكره نحو ثمانين رجلا، وجرح الكثير واشتدّ عطشهم، واتّفق أنّ بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعرّفه أنّ التتار قد أجمعوا على النزول فى السّحر لمصادمة العساكر السلطانية، وأنّهم فى شدّة من العطش،(8/162)
فاقتضى الرأى أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم. فلمّا باتوا على ذلك وأصبحوا نهار الاثنين ركب التتار فى الرابعة من النهار ونزلوا من الجبل فلم يتعرّض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه، فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيّدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رءوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومرّوا فى أثرهم قتلا وأسرا إلى وقت العصر. وعادوا إنى السلطان وعرّفوه بهذا النصر العظيم، فكتبت البشائر فى البطائق، وسرّحت الطيور بهذا النصر العظيم إلى غزة.
وكتب إلى غزّة بمنع المنهزمين من عساكر السلطان من الدخول إلى مصر، وتتبّع من نهب الخزائن السلطانية والاحتفاظ بمن يمسك منهم، وعيّن السلطان الأمير بدر الدين بكتوت الفتّاح للمسير بالبشارة إلى مصر.
ثم كتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وبات السلطان ليلته وأصبح يوم الثلاثاء وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها فى عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامّة والنساء والصبيان لا يحصيهم إلّا الله تعالى، وهم يضجّون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه المنّة! وتساقطت عبرات الناس فرحا ودقت البشائر بسائر الممالك، وكان هذا اليوم يوما لم يشاهد مثله. وسار السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق «1» ، وقد زيّنت المدينة، واستمرّت الأمراء وبقيت العساكر فى طلب التتار إلى القريتين، وقد كلّت خيول التتار وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم واستسلموا للقتل، والعساكر تقتلهم بغير مدافعة، حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقا كثيرا وغنموا عدّة غنائم، وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتار فما فوقها؛ ثم أدركت عربان البلاد التتار وأخذوا فى كيدهم كأنّهم يهدونهم إلى طريق قريبة مفازة، فيوصّلونهم إلى البريّة(8/163)
وتركوهم بها فماتوا عطشا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامّة دمشق فقتلوا منهم خلقا كثيرا. ثم تتبّعت الحكّام النّهبة وعاقبوا منهم جماعة كثيرة حتّى تحصل أكثر ما نهب من الخزائن ولم يفقد منه إلّا القليل. ثم خلع السلطان على الأمراء جميعهم، ثم حضر الأمير برلغى وقد كان انهزم فيمن انهزم، فلم يأذن له السلطان فى الدخول عليه، وقال: بأىّ وجه تدخل علىّ أو تنظر فى وجهى! فما زال به الأمراء حتى رضى عنه. ثم قبض على رجل من أمراء حلب كان قد انتمى إلى التتار وصار يدلّهم على الطّرقات، فسمّر على جمل وشهّر بدمشق وضواحيها، واستمرّ الناس فى شهر رمضان كلّه فى مسرّات تتجدد، ثم صلّى السلطان صلاة عيد الفطر وخرج فى ثالث شوّال من دمشق يريد الديار المصريّة.
وأمّا التتار فإنّه لمّا قتل أكثرهم ودخل قطلو شاه الفرات فى قليل من أصحابه ووصل خبر كسرته إلى همذان «1» ، ووقعت الصّرخات فى بلادهم، وخرج أهل تبريز «2» وغيرها إلى لقائهم واستعلام خبر من فقد منهم حتّى علموا ذلك، فقامت النّياحة فى مدينة تبريز شهرين على القتلى.
ثم بلغ الخبر غازان فاغتمّ غمّا عظيما وخرج من منخريه دم كثير حتّى أشفى على الموت واحتجب عن حواشيه، فإنه لم يصل إليه من عساكره من كلّ عشرة واحد! ممن كان انتخبهم من خيار جيشه. ثم بعد ذلك بمدّة جلس قازان وأوقف قطلو شاه مقدّم عساكره وجوبان وسوتاى ومن كان معهم من الأمراء، وأنكر على قطلو شاه وأمر بقتله، فما زالوا به حتى عفا عنه وأبعده من قدّامه حتى صار على(8/164)
مسافة بعيدة بحيث يراه، وقام إليه، [وقد مسكه الحجاب «1» ] وسائر من حضروهم خلق كثير جدّا، وصار كلّ منهم يبصق فى وجهه حتى بصق الجميع! ثم أبعده عنه إلى كيلان «2» ثم ضرب بولاى عدّة عصىّ وأهانه. وفى الجملة فإنّه حصل على غازان بهذه الكسرة من القهر والهمّ ما لا مزيد عليه، ولله الحمد.
وسار السلطان الملك الناصر بعساكره وأمرائه حتى وصل إلى القاهرة، ودخلها فى يوم ثالث عشرين شوّال حسب ما يأتى ذكره. وكان نائب الغيبة رسم بزينة القاهرة من باب «3» النصر إلى باب السلسلة «4» من القلعة؛ وكتب بإحضار سائر مغانى «5» العرب بأعمال الديار المصرية كلّها، وتفاخر الناس فى الزينة ونصبوا القلاع «6» ، واقتسمت أستادارية الأمراء شوارع القاهرة إلى القلعة، وزيّنوا ما يخصّ كلّ واحد منهم وعملوا به قلعة بحيث نودى من استعمل صانعا فى غير صنعة القلاع كانت عليه جناية «7» السلطان، وتحسّن سعر الخشب والقصب وآلات النّجارة، وتفاخروا(8/165)
فى تزيين القلاع المذكورة، وأقبل أهل الرّيف إلى القاهرة للفرجة على قدوم السلطان وعلى الزينة، فإنّ الناس كانوا أخرجوا الحلىّ والجواهر واللآلئ وأنواع الحرير فزيّنوا بها، ولم ينسلخ شهر رمضان حتّى تهيّأ أمر القلاع؛ وعمل ناصر الدين محمد ابن الشّيخىّ والى القاهرة قلعة بباب النصر فيها سائر أنواع الجدّ والهزل ونصب عدّة أحواض ملأها بالسّكّر واللّيمون وأوقف مماليكه بشربات حتّى يسقوا العسكر.
قلت: لو فعل هذا فى زماننا والى القاهرة لكان حصل عليه الإنكار بسبب إضاعة المال، وقيل له: لم لا حملت إلينا ما صرفته؟ فإنّه كان أنفع وخيرا من هذا الفشار «1» ، وإنما كانت نفوس أولئك غنيّة وهممهم عليّة، وما كان جلّ قصدهم إلا إظهار النّعمة والتفاخر فى الحشم والأسمطة والإنعامات حتى يشاع عنهم ذلك ويذكر إلى الأبد، فرحم الله تلك الأيام وأهلها!.
وقدم السلطان إلى القاهرة فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوّال، وقد خرج الناس إلى لقائه وللفرجة عليه، وبلغ كراء البيت الذي يمرّ عليه السلطان من خمسين درهما إلى مائة درهم، فلمّا وصل السلطان إلى باب النصر ترجّل الأمراء كلّهم، وأوّل من ترجّل منهم الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح وأخذ يحمل سلاح السلطان، فأمره السلطان أن يركب لكبر سنّه ويحمل السلاح خلفه فامتنع ومشى، وحمل الأمير مبارز الدين سوار «2» الرومى أمير شكار القبة، والطير على رأس السلطان، وحمل الأمير بكتمر أمير جاندار العصا، والأمير سنجر [الجمقدار «3» ] الدّبّوس؛ ومشى كلّ أمير فى منزلته وفرش كلّ منهم الشّقق من قلعته إلى قلعة غيره(8/166)
التى أنشئوها بالشوارع. وكان السلطان إذا تجاوز قلعة فرشت القلعة المجاورة لها الشّقق، حتّى يمشى عليها بفرسه مشيا هيّنا من غير هرج بسكون ووقار لأجل مشى الأمراء بين يديه. وكان السلطان كلّما رأى قلعة أمير أمسك عن المشى ووقف حتّى يعاينها ويعرف ما اشتملت عليه هو والأمراء حتى يجبر خاطر فاعلها بذلك.
هذا والأمراء من التتار بين يديه مقيّدون ورءوس من قتل منهم معلّقة فى رقابهم، وألف رأس على ألف رمح، وعدّة الأسرى ألف وستمائة، وفى أعناقهم أيضا ألف وستمائة رأس، وطبولهم قدّامهم مخرّقة. وكانت «1» القلاع التى نصبت أوّلها قلعة الأمير ناصر الدين ابن الشّيخى والى القاهرة بباب النصر، ويليها قلعة الأمير علاء الدين مغلطاى أمير مجلس، ويليها قلعة ابن أيتمش السّعدىّ، ثم يليها قلعة الأمير سنجر الجاولى، وبعده قلعة الأمير طغريل الإيغانىّ ثم قلعة بهادر اليوسفىّ، ثم قلعة سودى «2» ، ثم قلعة بيليك الخطيرى، ثم قلعة برلغى، ثم قلعة مبارز الدين أمير شكار، ثم قلعة أيبك الخازندار، ثم قلعة سنقر الأعسر، ثم قلعة بيبرس الدّوادار، ثم قلعة سنقر الكاملىّ، ثم قلعة موسى «3» ابن الملك الصالح، ثم قلعة الأمير آل ملك، ثم قلعة علم الدين الصوابى، ثم قلعة الأمير جمال الدين الطّشلاقىّ، ثم قلعة الأمير [سيف الدين «4» ] آدم، ثم قلعة الأمير سلّار [النائب «5» ] ، ثم قلعة الأمير بيبرس الجاشنكير، ثم قلعة بكتاش أمير سلاح، ثم قلعة الطّواشى مرشد «6» الخازندار، وكانت قلعته على باب(8/167)
المدرسة المنصوريّة، «1» ، ثم بعده قلعة بكتمر أمير جاندار «2» ، ثم قلعة أيبك البغدادىّ نائب الغيبة، ثم قلعة ابن أمير سلاح، ثم قلعة بكتوت «3» الفتّاح، ثم قلعة تاكز «4» الطغريلىّ، ثم قلعة قلّى السلاح دار، ثم قلعة لاچين زيرباج «5» الجاشنكير، ثم قلعة طيبرس الخازندارى نقيب الجيش، ثم قلعة بلبان طرنا «6» ، ثم قلعة سنقر العلانى، ثم قلعة بهاء الدين يعقوبا، ثم قلعة الأبوبكرى، ثم قلعة بهادر المعزى «7» ، ثم قلعة كوكاى، ثم قلعة قرا لاچين، ثم قلعة كراى «8» المنصورىّ، ثم قلعة جمال الدين آقوش قتال السبع، وقلعته كانت على باب زويلة «9» ؛ وكان عدّتها سبعين قلعة. وعند ما وصل السلطان إلى باب البيمارستان «10» المنصورى ببين القصرين نزل ودخل وزار قبر والده الملك المنصور قلاوون وقرأ القرّاء أمامه، ثم ركب إلى باب زويلة ووقف حتّى أركب الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح، ثم سار السلطان على شقق الحرير إلى داخل قلعة الجبل. هذا والتهانى فى دور السلطان والأمراء وغيرهم قد امتلأت منهم البيوت والشوارع بحيث إنّ الرجل كان لا يسمع كلام من هو بجانبه إلا بعد جهد، وكان يوما عظيما عظم فيه سرور الناس قاطبة لا سيّما أهل مصر، فإنّهم فرحوا بالنصر وأيضا بسلامة سلطانهم الملك الناصر محمد.(8/168)
وأقام الملك الناصر بالديار المصريّة إلى سنة ثلاث وسبعمائة ورد عليه الخبر بموت غازان بمدينة الرّىّ «1» وقام بعده أخوه خربندا «2» بن أرغون بن أبغا بن هولاكو فى ثالث عشر شوال وجلس خربندا على تخت الملك فى ثالث عشر «3» ذى الحجّة وتلقّب غياث الدين محمدا، وكتب إلى السلطان بجلوسه وطلب الصلح وإخماد الفتنة.
ثم فى السنة استأذن الأمير سلّار نائب السلطنة فى الحجّ فأذن له، فحجّ كما حجّ الأمير بيبرس الجاشنكير فى السنة الماضية سنة اثنتين وسبعمائة إلّا أنّ سلّار صنع من المعروف فى هذه السنة والإحسان إلى أهل مكّة والمجاورين وغيرهم وعاد، ثم حجّ الأمير بيبرس الجاشنكير ثانيا فى سنة أربع وسبعمائة. وورد الخبر على السلطان الملك الناصر بقدوم رجل من بلاد التتار إلى دمشق يقال له الشيخ براق «4» فى تاسع جمادى الأولى ومعه جماعة من الفقراء نحو المائة لهم هيئة عجيبة، على رأسهم كلاوت لباد مقصّص بعمائم فوقها، وفيها قرون من لباد يشبه قرون الجواميس، وفيها أجراس، ولحاهم محلّقة دون شواربهم، ولبسهم لبابيد بيض، وقد تقلّدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكلّ منهم مكسور الثّنيّة العليا «5» ، وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوّة نفس وله صولة، ومعه طبلخاناه تدقّ له نوبة، وله محتسب على جماعته، يؤدّب كلّ من يترك شيئا من سنّته، يضرب عشرين عصاة(8/169)
تحت رجليه، وهو ومن معه ملازمون التعبّد والصلاة، وإنه قيل له عن زيّه، فقال:
أردت أن أكون مسخرة الفقراء. وذكر أنّ غازان لما بلغه خبره استدعاه وألقى عليه سبعا ضاريا فركب على ظهر السّبع ومشى به فجلّ فى عين قازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار، وأنّه عند ما قدم دمشق كان النائب بالميدان الأخضر فدخل عليه، وكان هناك نعامة قد تفاقم ضررها وشرّها ولم يقدر أحد على الدنوّ منها، فأمر النائب بإرسالها عليه فتوجّهت نحوه، فوثب عليها وركبها فطارت به فى الميدان قدر خمسين ذراعا فى الهواء حتّى دنا من النائب، وقال له: أطير بها إلى فوق شيئا آخر؟ فقال له النائب: لا، وأنعم عليه وهاداه الناس، فكتب السلطان بمنعه من القدوم إلى الديار المصريّة، فسار إلى القدس ثم رجع إلى بلاده. وفى فقرائه يقول سراج الدين عمر الورّاق من موشّحة طويلة أوّلها:
[جتنا عجم «1» من جوّ الروم] ... صور تحير فيها الأفكار
لها قرون مثل التّيران ... إبليس يصيح منهم زنهار
وقد ترجمنا براق هذا فى تاريخنا المنهل الصافى بأوسع من هذا. انتهى.
ثم إنّ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة سبع وسبعمائة ضجر من الحجر عليه من تحكّم الأميرين سلّار وبيبرس الجاشنكير ومنعه من التصرّف وضيق يده، وشكا ذلك لخاصّته، واستدعى الأمير بكتمر الجوكندار وهو أمير جاندار يوم ذاك فى خفية وأعلمه بما عزم عليه من القيام على الأميرين سلّار وبيبرس، فقرّر معه بكتمر أنّ القلعة إذا أغلقت فى اللّيل وحملت مفاتيحها إلى السلطان على العادة لبست مماليك السلطان السلاح وركبت الخيول من الإسطبل وسارت إلى إسطبلات الأمراء، ودقّت كوسات السلطان بالقلعة حربيّا ليجتمع المماليك تحت القلعة بمن هو فى طاعة السلطان، قال بكتمر: وأنا أهجم على بيتى سلّار وبيبرس بالقلعة أيضا.(8/170)
قلت: أعنى أنّ بكتمر كان سكنه بالقلعة، فيهجم هو أيضا على بيتى سلّار وبيبرس بالقلعة أيضا، ويأخذهما قبضا باليد.
وكان لكلّ من بيبرس وسلّار أعين عند السلطان، فبلّغوهما ذلك فاحترزا على أنفسهما، وأمرا الأمير [سيف الدين «1» ] بلبان الدّمشقىّ والى القلعة، وكان خصيصا بهما، أن يوهم أنّه أغلق باب القلعة ويطرّف أقفالها ويعبر بالمفاتيح إلى السلطان على العادة ففعل ذلك. وظنّ السلطان ومماليكه أنّهم قد حصلوا على عرضهم، وانتظروا بكتمر الجوكندار أن يحضر إليهم فلم يحضر، فبعثوا إليه فإذا هو مع بيبرس وسلّار وقد حلف لهما على القيام معهما. فلمّا طلع النهار ظنّ السلطان أنّ بكتمر قد غدر به وترقّب المكروه من الأمراء وليس الأمر كذلك، وما هو إلّا أنّ سلّار وبيبرس لمّا بلغهما الخبر خرجوا إلى دار النيابة بالقلعة، وعزم بيبرس أن يهجم على بكتمر ويقتله فمنعه سلّار لما كان عنده من التثبّت والتّؤدة، وأشار بالإرسال إليه ويحضره حتّى تبطل حركة السلطان؛ فلمّا أتى بكتمر الرسول تحيّر فى أمره وقصد الامتناع، وألبس مماليكه السلاح ومنعهم وخرج إليهم، فعنّفه سلّار ولامه على ما قصد فأنكر وحلف لهم على أنّه معهم، وأقام عندهم إلى الصباح ودخل مع الأمراء إلى الخدمة عند الأمير سلّار النائب، ووقف ألزام سلّار وبيبرس على خيولهم بباب الإسطبل مترقّبين خروج المماليك السلطانية، ولم يدخل أحد من الأمراء إلى خدمة السلطان وتشاوروا، وقد أشيع فى القاهرة أنّ الأمراء يريدون قتل السلطان الملك الناصر أو إخراجه إلى الكرك، فعزّ عليهم ذلك لمحبّتهم له، فلم تفتح الأسواق، وخرج العامّة والأجناد إلى تحت القلعة، وبقى الأمراء نهارهم مجتمعين وبعثوا(8/171)
بالاحتراس على السلطان خوفا من نزوله من باب السّرّ «1» ، وألبسوا عدّة مماليك وأوقفوهم مع الأمير سيف الدين سمك «2» أخى سلّار على باب الإسطبل «3» . فلمّا كان نصف الليل وقع بداخل الإسطبل حسّ وحركة من قيام المماليك السلطانية ولبسهم السلاح لينزلوا بالسلطان على حميّة من الإسطبل وتوقّعوا الحرب، فمنعهم السلطان من ذلك، وأراد الأمير سمك إقامة الحرمة فرمى بالنّشّاب ودقّ الطّبل فوقع سهم من النّشّاب بالرّفرف السّلطانىّ، واستمرّ الحال على ذلك إلى أذان العصر من الغد، فبعث السلطان إلى الأمراء يقول: ما سبب هذا الركوب على باب إسطبلى؟ إن كان غرضكم فى الملك فما أنا متطلّع إليه، فخذوه وابعثونى أىّ. وضع أردتم! فردّوا إليه الجواب مع الأمير بيبرس الدّوادار والأمير عزّ الدين أيبك الخازندار والأمير برلغى الأشرفى بأنّ السبب هو من عند السلطان ومن المماليك الذين يحرّضونه على الأمراء، فأنكر أن يكون أحد من مماليكه ذكر له شيئا عن الأمراء؛ وفى عود الجواب من عند السلطان وقعت صيحة بالقلعة سببها أنّ العامة كان جمعهم قد كثر، وكان عادتهم أنّهم لا يريدون أن بلى الملك أحد من المماليك، بل إن كان ولا بدّ يكون الذي بلى الملك من بنى قلاوون. وكانوا مع ذلك شديدى المحبّة للملك الناصر محمد بن قلاوون.(8/172)
فلمّا رأوا العامة أنّ الملك الناصر قد وقف بالرّفرف من القلعة، وحواشى بيبرس وسلّار قد وقفوا على باب الإسطبل محاصرينه، حنقوا من ذلك وحملوا وصرخوا يدا واحدة على الأمراء بباب الإسطبل، وهم يقولون: يا ناصر يا منصور! فأراد سمك قتالهم، فمنعه من كان معه من الأمراء وخوّفه الكسرة من العوامّ، فتقهقروا عن باب الإسطبل السلطانىّ وسطا عليهم العامّة وأفحشوا فى حقّهم. وبلغ ذلك بيبرس وسلّار فأركبا الأمير بتخاص المنصورىّ فى عدّة مماليك فنزلوا إلى العامة ينحّونهم ويضربونهم بالدبابيس ليتفرّقوا فاشتدّ «1» صياحهم: يا ناصر يا منصور! وتكاثر جمعهم وصاروا يدعون للسلطان، ويقولون: الله يخون الخائن، الله يخون من يخون ابن قلاوون! ثم حمل طائفة منهم على بتخاص ورجمه طائفة أخرى، فجرّد السيف ليضعه فيهم فخشى تكاثرهم عليه، فأخذ يلاطفهم، وقال لهم: طيّبوا خاطركم، فإنّ السلطان قد طاب خاطره على أمرائه، وما زال يحلف لهم حتّى تفرّقوا؛ وعاد بتخاص إلى سلّار وبيبرس وعرّفهم شدّة تعصّب العامّة للسلطان؛ فبعث الأمراء عند ذلك ثانيا إلى السلطان بأنّهم مماليكه وفى طاعته، ولا بدّ من إخراج الشباب الذين يرمون الفتنة بين السلطان والأمراء، فامتنع السلطان من ذلك واشتدّ، فما زال به بيبرس الدّوادار وبرلغى حتّى أخرج منهم جماعة وهم: يلبغا التّركمانىّ، وأيدمر «2» المرقبى، وخاصّ ترك؛ فهدّدهم بيبرس وسلّار ووبّخاهم وقصد سلّار أن يقيّدهم، فلم توافق الأمراء على ذلك رعاية لخاطر السلطان؛ فأخرجوا إلى القدس من وقتهم على البريد. ودخل جميع الأمراء على السلطان وقبّلوا الأرض ثم قبّلوا يده فخلع على الأمير بيبرس وسلّار، ثم سأل الأمراء السلطان أن يركب فى أمرائه(8/173)
إلى الجبل الأحمر «1» حتّى تطمئنّ قلوب العامّة عليه ويعلموا أنّ الفتنة قد خمدت، فأجاب لذلك. وبات ليلته فى قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه المذكورين إلى القدس.
ثم ركب بالأمراء من الغد إلى قبّة النّصر «2» تحت الجبل الأحمر، وعاد بعد ما قال لبيبرس وسلار: إنّ سبب الفتنة إنما كان من بكتمر الجوكندار، وذلك أنه رآه قد ركب بجانب الأمير بيبرس الجاشنكير وحادثه فتذكّر غدره به فشقّ عليه ذلك فتلطّفوا به فى أمره؛ فقال والله ما بقيت لى عين تنظر إليه، ومتى أقام فى مصر لا جلست على كرسى الملك أبدا فأخرج من وقته إلى قلعة الصّبيبة «3» ، واستقرّ عوضه أمير جاندار الأمير بدر الدين بكتوب الفتاح. فلمّا مات سنقر شاه بعد ذلك استقرّ بكتمر الجوكندار فى نيابة صفد عوضه فنقل إليها من الصّبيبة. واجتاز السلطان بخانقاه «4»(8/174)
الأمير بيبرس الجاشنكير داخل باب النصر فرآها فى ممرّه، وكان قد نجز العمل منها فى هذه الأيام، وطلع السلطان إلى القلعة وسكن الحال، والأمراء فى حصر من جهة العامّة من تعصّبهم للسلطان، والسلطان فى حصر بسبب حجر الأمراء عليه وإخراج مماليكه من عنده. واستمرّ ذلك إلى أن كان العاشر من جمادى الآخرة من سنة ثمان وسبعمائة عدّى السلطان الجيزة وأقام حول الأهرام «1» يتصيّد عشرين يوما، وعاد وقد ضاق صدره وصار فى غاية الحصر من تحكّم بيبرس الجاشنكير وسلّار عليه، وعدم تصرّفه فى الدولة من كلّ ما يريد، حتّى إنّه لا يصل إلى ما تشتهى نفسه من المأكل لقلة المرتّب له! فلولا ما كان يتحصّل له من أملاكه وأوقاف أبيه لما وجد سبيلا لبلوغ بعض أغراضه، وطال الأمر عليه سنين، فأخذ فى عمل مصلحة نفسه(8/175)
وأظهر أنّه يريد الحجّ بعياله، وحدّث بيبرس وسلّار فى ذلك يوم النصف من شهر رمضان فوافقاه عليه، وأعجب البرجيّة خشداشية بيبرس سفره لينالوا أغراضهم وشرعوا فى تجهيزه، وكتب إلى دمشق والكرك وغزّة برمى الإقامات، وألزم عرب الشرقية بحمل الشّعير، فتهيّأ ذلك، وأحضر الأمراء تقادمهم له من الخيل والجمال فى العشرين من شهر رمضان فقبلها منهم وشكرهم على ذلك. وركب فى خامس عشرين شهر رمضان من القلعة يريد السفر إلى الحجّ، ونزل من القلعة ومعه جميع الأمراء، وخرج العامّة حوله وحاذوا بينه وبين الأمراء، وهم يتباكون حوله ويتأسّفون على فراقه ويدعون له إلى أن نزل بركة الحجّاج. وتعيّن للسفر مع السلطان من الأمراء:
عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، وسيف الدين آل ملك الجوكندار، وحسام الدين قرا لاچين أمير مجلس، وسيف الدين بلبان [المحمدىّ «1» ] أمير جاندار، وعزّ الدين أيبك الرومى السّلاح دار، وركن الدين بيبرس الأحمدىّ، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وسيف الدين تقطاى الساقى «2» ، وشمس الدين سنقر السّعدىّ النقيب؛ ومن المماليك خمسة وسبعون نفرا. وودّعه سلّار وبيبرس بمن معهم من الأمراء، وهم على خيولهم من غير أن يترجّلوا له وعاد الأمراء، فرحل السلطان من ليلته وخرج إلى جهة الصالحيّة «3» وتصيّد بها، ثم سار إلى الكرك ومعه من الخيل مائة وخمسون فرسا، فوصل إلى الكرك فى يوم الأحد عاشر شوّال بمن معه من الأمراء ومماليكه. واحتفل الأمير جمال الدين آقوش الأشرفى نائب الكرك بقدومه وقام له بما يليق به، وزيّن له القلعة والمدينة، وفتح له باب السّرّ من قلعة الكرك ومدّ الجسر على الخندق، وكان له مدّة سنين لم يمدّ وقد ساس خشبه لطول مكثه.(8/176)
فلمّا عبرت الدوابّ عليه وأتى السلطان فى آخرهم انكسر الجسر تحت رجلى فرس السلطان بعد ما تعدّى يدا الفرس الجسر، فكاد فرس السلطان أن يسقط لولا أنهم جبدوا عنان الفرس حتّى خرج من الجسر وهو سالم، وسقط الأمير بلبان طرنا أمير جاندار وجماعة كثيرة، ولم يمت منهم سوى رجل واحد وسقط أكثر خاصّكيّة السلطان فى الخندق وسلموا كلّهم إلا اثنين، وهم: الحاج عزّ الدين أزدمر رأس نوبة الجمداريّة انقطع نخاعه وبطل نصفه وعاش كذلك لسنة ستّ عشرة وسبعمائة، والآخر مات لوقته.
قال ابن كثير فى تاريخه: ولما توسط السلطان الجسر انكسر فسلم من كان قدّامه وقفز به فرسه فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات أربعة وتهشّم أكثرهم فى الوادى تحته. انتهى.
وقال غيره «1» : لمّا انقطعت سلسلة الجسر وتمزق الخشب صرخ السلطان على فرسه وكان قد نزلت رجله فى الخشب فوثب الفرس إلى داخل الباب، ووقع كلّ من كان على الجسر وكانوا أكثر من مائة مملوك، فوقعوا فى الخندق فمات منهم سبعة وانهشم منهم خلق كثير وضاق صدر السلطان، فقيل «2» له: هذه شدّة يأتى من بعدها فرج!.
ولمّا جلس السلطان بقلعة الكرك ووقف نائبها الأمير آقوش خجلا وجلا خائفا أن يتوهّم السلطان أن يكون ذلك مكيدة منه فى حقّه، وكان النائب المذكور قد عمل ضيافة عظيمة للسلطان غرم عليها جملة مستكثرة، فلم تقع الموقع لاشتغال(8/177)
السلطان بهمّه وبما جرى على مماليكه وخاصّكيّته. ثم إنّ السلطان سأل الأمير آقوش عن الجسر المذكور فقال: ما سبب انقطاعه؟ فقال آقوش بعد أن قبّل الأرض: أيّد الله مولانا السلطان، هذا الجسر عتيق وثقل بالرجال فما حمل، فقال السلطان: صدقت، ثم خلع عليه وأمره بالانصراف. وعند ما استقرّ السلطان بقلعة الكرك عرّف الأمراء أنّه قد انثنى عزمه عن الحجّ، واختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة، وخلع نفسه ليستريح خاطره.
وقال ابن كثير: لمّا جرى على السلطان ما جرى واستقرّ فى قلعة الكرك خلع على النائب، وأذن له فى التوجّه إلى مصر فسافر.
وقال صاحب النّزهة: لمّا بات السلطان تلك اللّيلة فى القلعة وأصبح طلب نائب الكرك وقال له: يا جمال الدّين، سافر إلى مصر واجتمع بخشداشيتك فباس الأرض، وقال: السمع والطاعة، ثم إنّه خرج فى تلك الساعة بمماليكه وكلّ من يلوذ به. ثم بعد ثلاثة أيام نادى السلطان بالقلعة والكرك لا يبقى هنا أحد لا كبير ولا صغير حتّى يخرج فيجيب ثلاثة أحجار من خارج البلد، فخرج كلّ من بالقلعة والبلد.
ثم إنّ السلطان أغلق باب الكرك ورجعت الناس ومعهم الأحجار فرأوا الباب مغلقا فقيل لهم: كلّ من له أولاد أو حريم يخرج إليه ولا يبقى أحد بالكرك، فخرج الناس بمتاعهم وأولادهم وأموالهم، وما أمسى المساء وفقى فى الكرك أحد من أهلها غيره ومماليكه. ثم طلب مملوكه أرغون «1» الدّوادار وقال له: سر إلى عقبة أيّلة «2» وأحضر بيتى وأولادى، فسار إليهم أرغون وأقدمهم عليه. ووجد الملك الناصر من الأموال(8/178)
بالكرك سبعة وعشرين ألف دينار عينا، وألف ألف درهم وسبعمائة ألف درهم.
ثم إنّ السلطان طلب الأمراء الذين قدموا معه وعرفهم أنّه اختار الإقامة بالكرك كما كان أوّلا، وأنه ترك السلطنة فشقّ عليهم ذلك وبكوا وقبّلوا الأرض يتضرّعون إليه فى ترك هذا الخاطر وكشفوا رءوسهم فلم يقبل ولا رجع إلى قولهم. ثم استدعى القاضى علاء الدين «1» على بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب السرّ، وكان قد توجّه معه، وأمره أن يكتب للأمراء بالسلام عليهم، ويعرّفهم أنّه قد رجع عن الحجّ وأقام بالكرك ونزل عن السلطنة، وسألهم الإنعام عليه بالكرك والشّوبك؛ وأعطى الكتب للأمراء وأمرهم بالعودة إلى الديار المصريّة، وأعطاهم الهجن التى كانت معه برسم الحجّ، وعدّتها خمسمائة هجين والجمال والمال الذي قدّمه له الأمراء برسم التّقدمة قبل خروجه من القاهرة، فساروا الجميع إلى القاهرة.
وأمّا إخراج السلطان أهل قلعة الكرك منها لأنّه قال: أنا أعلم كيف باعوا الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس بالمال لطرنطاى! فلا يجاوروننى، فخرج كلّ من كان فيها بأموالهم وحريمهم من غير أن يتعرّض إليهم أحد البتّة.
وأمّا النائب آقوش فإنّه أخذ حريمه وسافر إلى مصر بعد أن قدّم ما كان له من الغلال إلى السلطان، وهو شىء كثير، فقبله السلطان منه. فلمّا قدم آقوش إلى مصر قال له سلّار وبيبرس: من أمرك بتمكين السلطان من الطلوع إلى القلعة؟
(يعنى قلعة الكرك) فقال: كتابكم وصل إلىّ يأمرنى بأن أنزل إليه وأطلعه إلى القلعة، فقال: وأين الكتاب؟ فأخرجه، فقالا: هذا غير الكتاب الذي كتبناه فاطلبوا ألطنبغا، فطلبوه فوجدوه قد هرب إلى الكرك عند السلطان فسكتوا عنه. انتهى.(8/179)
وأمّا الكتاب الذي كتبه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك إلى بيبرس وسلّار مضمونه، بسم الله الرحمن الرحيم:
حرس الله تعالى نعمة الجنابين العاليين الكبيرين الغازيين المجاهدين، وفّقهما الله تعالى توفيق العارفين! أمّا بعد فقد طلعت إلى قلعة الكرك وهى من بعض قلاعى وملكى، وقد عوّلت على الإقامة فيها، فإن كنتم مماليكى ومماليك أبى فأطيعوا نائبى (يعنى نائبه سلّار) ولا تخالفوه فى أمر من الأمور، ولا تعملوا شيئا حتّى تشاورونى فأنا ما أريد لكم إلّا الخير، وما طلعت إلى هذا المكان إلّا لأنّه أروح لى وأقلّ كلفة، وإن كنتم ما تسمعون منى فأنا متوكّل على الله والسلام.
فلمّا وصل الكتاب إلى الأمراء قرءوه وتشاوروا ساعة، ثم قاموا من باب القلعة وذهبوا إلى دار بيبرس واتفقوا على أن يرسلوا إلى الملك الناصر كتابا، فكتبوه وأرسلوه مع البروانىّ على البريد، فسار البروانىّ إلى أن وصل إلى الكرك واجتمع بالملك الناصر وقبّل الأرض بين يديه وناوله الكتاب، فأعطاه الملك الناصر لأرغون الدّوادار، فقرأه فتبسّم السلطان وقال: لا إله إلّا الله! وكان فى الكتاب:
ما علمنا ما عوّلت عليه، وطلوعك إلى قلعة الكرك وإخراج أهلها وتشييعك نائبها، [وهذا أمل بعيد «1» ] فخلّ عنك شغل الصّبىّ، وقم واحضر إلينا وإلّا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصحّ لك، وتندم ولا ينفعك النّدم، فياليت لو علمنا ما كان وقع فى خاطرك وما عوّلت عليه، غير أنّ لكلّ ملك انصرام، ولانقضاء الدولة أحكام، ولحلول الأقدار سهام؛ ولأجل هذا أمرك غيّك بالتطويل، وحسّن لك زخرف الأقاويل؛ فالله الله حال وقوفك على هذا الكتاب، يكون الجواب حضورك بنفسك ومعك مماليكك، وإلا تعلم أنّا ما نخلّيك فى الكرك، [ولو كثر شاكروك «2» ] ويخرج الملك من يدك؛ والسلام.(8/180)
فقال الملك الناصر: لا إله إلا الله، كيف «1» أظهروا ما فى صدورهم! ثم أمر بإحضار آلة الملك مثل العصائب والسناجق والكوسات [والهجن «2» ] وكلّ ما كان معه من آلة الملك وسلّمها إلى البروانىّ، وقال له: قل لسلّار ما أخذت لكم شيئا من بيت المال، وهذا الذي أخذته قد سيرته لكم، وانظروا فى حالكم فأنا ما بقيت أعمل سلطانا، وأنتم على هذه الصورة! فدعونى أنا فى هذه القلعة منعزلا عنكم إلى أن يفرج الله تعالى إمّا بالموت وإمّا بغيره. فأخذ البروانىّ الكتاب وجميع ما أعطاه السلطان وسار إلى أن وصل إلى الديار المصريّة؛ ودفع الكتاب لسلّار وبيبرس، فلما قرأا الكتاب قالا: ولو كان هذا الصبىّ يجيء ما بقى يفلح ولا يصلح للسلطنة، وأىّ وقت عاد إلى السلطنة لا نأمن غدره. فلمّا سمعت الأمراء ذلك اجتمعت على سلطنة الأمير سلّار، فخاف سلّار من ذلك وخشى العاقبة فامتنع، فاختار الأمراء ركن الدين بيبرس الجاشنكير وأكثرهم البرجية فإنّهم خشداشيته. وبويع له بعد أن أثبت كتاب الملك الناصر محمد بن قلاوون على القضاة بالديار المصريّة بأنّه خلع نفسه، وكانت البيعة لبيبرس فى الثالث والعشرين من شوّال من سنة ثمان وسبعمائة فى يوم السبت بعد العصر فى دار سلّار. يأتى ذكر ذلك كلّه فى أوّل ترجمة بيبرس، إن شاء الله تعالى. وكانت مدّة سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون فى هذه المرّة الثانية عشر سنين وخمسة أشهر وتسعة «3» عشر يوما.
وتأتى بقيّة ترجمته فى سلطنته الثالثة، بعد أن نذكر سلطنة بيبرس وأيّامه، كما نذكر أيّام الملك الناصر هذا قبل ترجمة بيبرس المذكور على عادة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده.(8/181)
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة ثمان وتسعين وستمائة، على أن الملك المنصور لاچين كان حكم منها مائة يوم.
فيها كان قتل الملك المنصور حسام الدين لاچين المذكور ومملوكه منكوتمر حسب ما تقدّم.
وفيها فى العشر الأوسط من المحرّم ظهر كوكب ذو ذؤابة فى السماء ما بين أواخر برج الثّور إلى أوّل برج الجوزاء، وكانت ذؤابته إلى ناحية الشمال، وكان فى العشر الأخير من كانون الثانى وهو شهر طوبة «1» .
وفيها توفّى القاضى نظام الدين أحمد ابن الشيخ الإمام العلّامة جمال الدين محمود ابن أحمد بن عبد السلام «2» الحصيرىّ الحنفىّ فى يوم الخميس ثامن «3» المحرّم ودفن يوم الجمعة بمقابر الصوفيّة «4» عند والده، وكان إماما عالما بارعا ذكيّا وله ذهن جيّد وعبارة طلقة مفيدة، ودرّس بالنّورية «5» وغيرها وأفتى سنين وأقرأ، وناب فى الحكم بدمشق عن قاضى القضاة حسام «6» الدين الحنفىّ وحسنت سيرته رحمه الله.(8/182)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الموصلىّ [المنصورىّ «1» ] نائب طرابلس والفتوحات الطرابلسيّة فى أوّل صفر مسموما. وكان من أجلّ الأمراء وله مواقف مشهورة.
وفيها توفّى قتيلا الأمير سيف الدين طغجى بن عبد الله الأشرفىّ. أصله من مماليك الملك الأشرف خليل بن قلاوون. وقتل أيضا الأمير سيف الدين كرجى.
والأمير نوغاى الكرمونى السلاح دار، وهؤلاء الذين قتلوا السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين ومملوكه منكوتمر، ثم قتلوا بعده بثلاثة أيام حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه فى آخر ترجمة الملك المنصور لاچين مفصّلا، وقتل معهم تمام اثنى عشر نفرا من الأمراء والخاصّكيّة ممّن تألبّوا على قتل لاچين.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بدر [الحبشىّ «2» ] الصّوابىّ [الخادم «3» ] فى ليلة الخميس تاسع جمادى الأولى بقرية الخيارة «4» ، كان خرج إليها فمرض بها ومات، وقيل بل مات فجأة وهو الأصحّ فحمل منها إلى جبل قاسيون، ودفن بتربته التى أعدّها لنفسه.
وكان أميرا مباركا صالحا ديّنا خيّرا. قال عزّ الدين بن عبد الدائم: أقام أمير مائة ومقدّم ألف أكثر من أربعين سنة، وولى إمرة الحاجّ بدمشق غير مرّة. رحمه الله.
وفيها توفّى العلّامة حجّة العرب الإمام الأستاذ بهاء الدين أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبىّ النحوىّ المعروف بابن النحّاس، مات بالقاهرة فى يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى وأخرج من الغد، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الملك المنصور لاچين، ومولده فى سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب، وكان إماما عالما علّامة بارعا فى العربيّة، نادرة عصره فى فنون كثيرة. وله نظم ونثر.(8/183)
قال العلّامة أثير الدين أبو حيّان «1» : قال حدّثنا الشيخ بهاء الدين ابن النحاس قال: اجتمعت أنا والشّهاب مسعود السنبلىّ والضياء «2» المناوىّ فأنشد كلّ منا له بيتين، فكان الذي أنشده السّنبلى فى مليح مكارى:
علقته مكاريا ... شرّد عن عينى الكرى
قد أشبه البدر فلا ... يملّ من طول السّرى
وأنشد المناوىّ فى مليح اسمه جمرىّ:
أفدى الذي يكبت بدر الدّجى ... لحسنه الباهر من عبده
سمّوه جمريّا وما أنصفوا ... ما فيه جمرىّ سوى خدّه
وأنشد الشيخ بهاء الدين هذا فى مليح مشروط:
قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القانى على الوجه اليقين
غير بدع ما أتوا فى فعلهم ... هو بدر ستروه بالشّفق
قلت: ونظم الثلاثة نظم متوسّط ليس بالطبقة العليا. وأحسن من الأوّل قول من قال:
أفدى مكاريّا تراه إذا سعى ... كالبرق ينتهب العيون ويخطف
أخذ الكرا منّى وأحرمنى الكرى ... بينى وبينك يا مكارى الموقف
وأحسن من الأخير قول من قال، وهو نجم الدين عبد المجيد بن محمد التّنوخىّ:
أنظر إليه وسلّ قل ... بك عن محبته لعلّك
ملك الفؤاد بغير شر ... ط حسنه والشّرط أملك(8/184)
غيره فى المعنى:
شرّطوه فبكى من ألم ... فغدا ما بين دمع ودم
ناثرا من ذا ومن ذا لؤلؤا ... وعقيقا ليس بالمنتظم
وفيها توفّى الصاحب تقىّ الدين أبو البقاء [الربعىّ «1» ] توبة بن علىّ بن مهاجر بن شجاع بن توبة التّكريتىّ [المعروف بالبيع «2» ] فى ليلة الخميس ثامن جمادى الآخرة ودفن بقاسيون. وكان رئيسا فاضلا ولى الوزر بدمشق لخمسة سلاطين: أوّلهم المنصور قلاوون، ثانيهم ابنه الأشرف خليل، ثم لأخيه الناصر محمد، ثم للعادل كتبغا، ثم للمنصور لاچين. انتهى. وكان مولده سنة عشرين وستمائة.
وفيها فى أوّل ذى القعدة وقيل فى شوّال توفّى بالقاهرة الأمير الكبير بدر الدين بيسرى بن عبد الله الشّمسىّ الصالحىّ النّجمىّ بالسّجن بقلعة الجبل، ودفن بتربته «3» بالقاهرة. كان أميرا جليلا معظّما فى الدّول؛ كان الظاهر بيبرس يقول: هذا ابن سلطاننا فى بلادنا! وعرضت عليه السلطنة لما قتل الملك الأشرف خليل ابن قلاوون فامتنع، وكانت قد عرضت عليه قبل ذلك بعد الملك السّعيد بن الظاهر فلم يقبل، وهو آخر من بقى من أكابر مماليك الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وترقّى حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف، وعظم فى الدّول حتّى قبض عليه خشداشه المنصور قلاوون وحبسه تسع سنين إلى أن أطلقه ابنه الأشرف خليل وأعاده إلى رتبته، فاستمر إلى أن قبض عليه المنصور لاچين وحبسه إلى أن قتل لاچين، وأعيد الناصر محمد بن قلاوون فكلّموه فى إطلاقه فأبى إلا حبسه إلى أن مات فى الحبّ «4» . وكانت له(8/185)
دار «1» عظيمة ببين القصرين وقد تغيّرت رسومها الآن. وكان عالى الهمّة كثير الصدقات والمعروف، كان عليه فى أيام إمرته رواتب لجماعة من مماليكه وحواشيه وخدمه، فكان يرتّب لبعضهم فى اليوم من اللّحم سبعين رطلا وما تحتاج إليه من التّوابل وسبعين عليقة، ولأقلّهم خمسة «2» أرطال وخمس علائق وما بين ذلك، وكان ما يحتاج إليه فى كلّ يوم لسماطه ولدوره والمرتّب عليه ثلاثة آلاف رطل لحم وثلاثة آلاف عليقة فى كلّ يوم؛ وكانت صدقته على الفقير ما فوق الخمسمائة ولا يعطى أقلّ من ذلك، وكان إنعامه ألف اردبّ غلّة وألف قنطار عسل وألف دينار وأشياء يطول شرحها.
وفى الجملة أنّه كان من أعظم أمراء مصر بلا مدافعة. (وبيسرى: اسم مركب من لفظتين: تركية وعجمية) وصوابه فى الكتابة (پاى سرى) فپاى فى اللغة التركية بالتفخيم هو السعيد، وسرى بالعجمى الرأس، فمعنى الاسم سعيد الرأس.(8/186)
قلت: وكان سعيد الرأس كما قيل. وهذا بخلاف مذهب النّجاة فإنّ هذا الاسم عين المسمّى. انتهى.
وفيها توفّى الأستاذ جمال الدين أبو المجد ياقوت بن عبد الله المستعصمىّ الرّومىّ الطّواشىّ صاحب الخطّ البديع الذي شاع ذكره شرقا وغربا، كان خصيصا عند أستاذه الخليفة المستعصم بالله العبّاسىّ آخر خلفاء بنى العبّاس ببغداد، ربّاه وأدّبه وتعهّده حتّى برع فى الأدب، ونظم ونثر وانتهت إليه الرياسة فى الخط المنسوب.
وقد سمّى بهذا الاسم جماعة كثيرة قد ذكر غالبهم فى هذا التاريخ، منهم كتّاب وغير كتّاب، وهم: ياقوت أبو الدرّ [الكاتب «1» مولى أبى المعالى أحمد بن على بن النجار] التاجر الرومى، وفاته بدمشق سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وياقوت الصّقلبىّ الجمالى أبو الحسن مولى الخليفة المسترشد العباسىّ، وفاته سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
وياقوت أبو سعيد مولى أبى عبد الله عيسى بن هبة الله بن النّقّاش، وفاته سنة أربع وسبعين وخمسمائة. وياقوت [بن عبد الله «2» ] الموصلى الكاتب أمين الدين المعروف بالملكى نسبة إلى أستاذه السلطان ملكشاه السّلجوقىّ، وياقوت هذا أيضا ممن انتشر خطّه فى الآفاق، ووفاته بالموصل سنة ثمانى عشرة وستمائة. وياقوت [بن عبد الله «3» ] الحموىّ الرومى شهاب الدين أبو الدرّ كان من خدّام بعض التّجّار ببغداد يعرف بعسكر الحموىّ، وياقوت هذا هو صاحب التصانيف والخط أيضا، ووفاته سنة ستّ وعشرين وستمائة. وياقوت [بن عبد الله «4» ] مهذّب الدّين الرّومى مولى أبى منصور التاجر الجيلىّ، وياقوت هذا كان شاعرا ماهرا وهو صاحب القصيدة التى أوّلها:
إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا ... فكلّ ما تدّعى زور وبهتان(8/187)
ووفاته سنة اثنتين وعشرين وستمائة. فهؤلاء الذين تقدّموا ياقوت المستعصمىّ صاحب الترجمة بالوفاة، وكلّ منهم له ترجمة وفضيلة وخطّ وشعر. وقد تقدّم ذكر غالبهم فى هذا الكتاب، وإنما ذكرناهم هنا جملة لكون جماعات كثيرة من الناس مهما رأوه من الخطوط والتصانيف يقرءوه لياقوت المستعصمىّ، وليس الأمر كذلك بل فيهم من رجّح خطّه ابن خلّكان على ياقوت هذا.
قلت: وقد خرجنا عن المقصود لكثرة الفائدة ولنعد إلى بقية ترجمة ياقوت المستعصمىّ. فمن شعره قوله:
تجدّد الشمس شوقى كلّما طلعت ... إلى محيّاك يا سمعى ويا بصرى
وأسهر اللّيل ذا أنس بوحشته ... إذ طيب ذكرك فى ظلمائه سمرى
وكلّ يوم مضى [لى «1» ] لا أراك به ... فلست محتسبا ماضيه من عمرى
ليلى نهارى إذا ما درت فى خلدى ... لأنّ ذكرك نور القلب والبصر
وله أيضا:
صدّقتم فىّ الوشاة وقد مضى ... فى حبّكم عمرى وفى تكذيبها
وزعمتم أنّى مللت حديثكم ... من ذا يملّ من الحياة وطيبها
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين المنصورىّ. ومن الغد قتل نائبه منكوتمر. ثم قتلوا الأميرين كرجى وطغجى الأشرفيّين. وأحضر السلطان الملك الناصر وعاد إلى السلطنة.
وفيها توفى الإمام جمال الدين محمد بن سليمان بن النقيب الحنفىّ صاحب التفسير بالقدس فى المحرّم. والعلّامة بهاء الدين محمد [بن إبراهيم «2» بن محمد بن إبراهيم] أبو عبد الله الحلبىّ ابن النحاس فى جمادى الأولى. والصاحب تقىّ الدّين توبة بن علىّ(8/188)
[ابن مهاجر «1» ] التّكريتىّ فى جمادى الآخرة. والزاهد الملقّن علىّ بن محمد [بن علىّ «2» ] ابن بقاء الصالحىّ فى شوّال. والمسند ناصر الدين عمر بن عبد المنعم بن عمر [ابن عبد الله بن غدير «3» ] بن القوّاس فى ذى القعدة. وصاحب حماة الملك المظفر تقي الدين محمود ابن المنصور محمد [بن محمود بن محمد «4» بن عمر بن شاهنشاه] . والملك الأوحد يوسف ابن الملك الناصر داود بن المعظّم عيسى. والعماد عبد الحافظ بن بدران بن شبل النابلسىّ فى ذى الحجّة، وقد قارب التسعين.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 699]
السنة الثانية من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة تسع وتسعين وستمائة.
فيها كانت وقعة السلطان الملك الناصر محمد المذكور مع قازان على حمص.
وقد تقدّم ذكرها.
وفيها توفى القاضى علاء الدين أحمد بن عبد الوهّاب بن خلف بن محمود [بن علىّ «5» ] ابن بدر العلامىّ المعروف بابن بنت الأعزّ. كان لطيف العبارة جميل الصورة لطيف المزاج، تولّى حسبة القاهرة ونظر الأجباس، ودرّس بعدّة مدارس وحجّ(8/189)
ودخل اليمن ثم عاد إلى القاهرة ومات بها فى شهر ربيع الآخر، وكان له نظم ونثر.
ومن شعره قصيدة أوّلها:
إن أومض البرق فى ليل بذى سلم ... فإنّه ثغر سلمى لاح فى الظّلم
وفيها توفّى الشيخ المسند المعمّر شرف الدين أحمد بن هبة الله ابن تاج الأمناء أحمد بن محمد [بن الحسن «1» بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين] بن عساكر بدمشق، وبها دفن بمقابر الصوفيّة بتربة الشيخ فخر الدين «2» بن عساكر، وكان من بقايا المسندين تفرّد سماعا وإجازة.
ذكر من عدم فى هذه السنة فى وقعة حمص مع التّتار
قاضى القضاة حسام «3» الدّين الحنفىّ. والشيخ عماد الدين إسماعيل ابن تاج الدين [أحمد بن سعيد «4» ] بن الأثير الكاتب. والأمير جمال الدين المطروحى «5» . والأمير سيف الدين كرت «6» . والأمير ركن «7» الدين الجمالى نائب غزّة، ولم يظهر للجميع خبر، غير أنّهم ذكروا أن قاضى القضاة حسام الدين المذكور أسروه التتار وباعوه للفرنج، ووصل قبرص وصار بها حكيما، وداوى صاحب قبرص من مرض مخيف فشفى فأوعده أن بطلقه، فمرض القاضى حسام الدين المذكور ومات. كذا حكى بعض أجناد الإسكندرية.(8/190)
وفيها توفى الشيخ الصالح الحافظ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرج بن أحمد بن اللّخمىّ الإشبيلى بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وكان حافظا ديّنا خيّرا زاهدا متورّعا، عرض عليه جهات كثيرة فأعرض عنها، وهو صاحب القصيدة المشتملة على صفات «1» الحديث:
غرامى صحيح والرّجا فيك معضل ... وحزنى ودمعى مرسل ومسلسل
وصبرى عنكم يشهد العقل أنّه ... ضعيف ومتروك وذلّى أجمل
فلا حسن إلا سماع حديثكم ... مشافهة تملى علىّ فأنقل
وأمرى موقوف عليك وليس لى ... على أحد إلّا عليك المعوّل
ولو كان مرفوعا إليك لكنت لى ... على رغم عذّالى ترقّ وتعدل
وعذل عذول منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يردّ ويهمل
أقضّى زمانى فيك متّصل الأسى ... ومنقطعا عمّا به أتوصّل
وهأنا فى أكفان هجرك مدرج ... تكلّفنى ما لا أطيق فأحمل
وهى أطول «2» من ذلك.
وفيها توفّى قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضى القضاة محيى الدين يحيى ابن محمد بن علىّ بن الزكىّ فى يوم الأحد حادى عشر ذى الحجّة. وكان من أعيان الدمشقيين، ودرّس بعدّة مدارس وانتفع به الناس. رحمه الله.
وفيها توفى الشيخ الإمام العالم مفتى المسلمين القاضى شمس الدين محمد ابن الشيخ الإمام العلّامة شيخ المواهب «3» قاضى القضاة صدر الدين أبى الربيع سليمان(8/191)
ابن أبى العزّ وهيب الحنفى الدّمشقى فى يوم الجمعة سادس عشر ذى الحجة بالمدرسة النورية «1» بدمشق، ودفن بتربة والده بقاسيون، وكان فقيها عالما مفتيا بصيرا بالأحكام متصدّيا للفتوى والتدريس، أفتى مدّة أربع وثلاثين سنة وقرأ عليه جماعة كثيرة وانتفع الناس به، وكان نائبا فى القضاء عن والده وسئل بالمناصب الجليلة فامتنع من قبولها. رحمه الله.
قلت: وبنو العز بيت كبير بدمشق مشهورون بالعلم والرياسة.
وفيها توفّى صاحب الأندلس أمير المسلمين أبو عبد الله محمد «2» بن محمد بن يوسف المعروف بابن الأحمر ملك الأندلس وما ولاها بعد موت والده سنة إحدى وسبعين وستمائة، وامتدت أيامه وقوى سلطانه، ومات فى عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: فيها توفّى الإمام شمس الدين محمد بن عبد القوىّ المقدسىّ النحوىّ. وعماد الدين يوسف بن أبى نصر الشقارىّ «3» ، وقاضى القضاة إمام الدين عمر بن عبد الرحمن القزوينىّ بمصرفى ربيع الآخر.
وعبد الدائم بن أحمد المحجّى [القبّانى] الوزّان «4» . وعلى بن أحمد بن عبد الدائم وأخوه عمر. وأحمد بن زيد [بن أبى الفضل الصالحى الفقير المعروف «5» ] بالجمّال:
وشرف الدين أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن أحمد بن عساكر فى جمادى الأولى.
وعيسى بن بركة بن والى. ومحمد بن أحمد بن نوال الرصافى. وعلى بن مطر المحجّى(8/192)
البقّال «1» . وصفيّة بنت عبد الرحمن بن عمرو الفرّاء، وابن عمها إبراهيم بن أبى الحسن [بن «2» عمرو بن موسى أبو إسحاق الفرّاء] . وأحمد بن محمد الحدّاد. وخديجة بنت [التّقىّ محمد بن محمود «3» بن عبد المنعم] المراتبىّ. والحافظ شهاب الدين أحمد بن فرج اللّخمىّ الإشبيلىّ فى جمادى الآخرة. وأبو العبّاس أحمد بن سليمان بن أحمد المقدسىّ الحرّانى.
والشيخ عزّ الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد الحقّ. والخطيب موفّق الدين محمد بن محمد [المعروف «4» ب] ابن حبيش فى جمادى الآخرة بدمشق. والمعمّرة زينب بنت عمر ابن كندى «5» ببعلبكّ. والأمير علم الدين [سنجر «6» البرنلى] الدّوادارى فى رجب بحصن «7» الأكراد. والمؤيّد علىّ «8» بن إبراهيم بن يحيى ابن خطيب عقرباء «9» . وشمس الدين محمد ابن على بن أحمد بن فضل الواسطىّ فى رجب، وله أربع وثمانون سنة. والعلّامة نجم الدين أحمد بن مكّى فى جمادى «10» الآخرة. والإمام شمس الدين محمد بن سلمان «11» بن حمائل سبط «12» غانم. والشيخ بدر الدين حسن بن على بن يوسف بن هود المرسىّ فى رجب «13» .
والإمام شمس الدين محمد ابن الفخر عبد الرحمن بن يوسف البعلبكّىّ فى رمضان.
والشريف شمس الدين محمد بن هاشم بن عبد القاهر العباسىّ العدل فى رمضان،(8/193)
وله أربع وتسعون سنة. والشيخ بهاء الدين أيّوب بن أبى بكر [بن «1» إبراهيم بن هبة الله أبو صابر] بن النحاس مدرس القليجيّة «2» فى شوّال. والمفتى جمال الدين عبد الرحيم بن عمر الباجربقي «3» . والعدل بهاء الدين محمد بن يوسف البرزالىّ عن اثنتين وستين سنة. والأديب جمال الدين عمر بن إبراهيم بن العقيمىّ الرّسعنىّ «4» ، وله أربع وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعدة أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع، وكان الوفاء ثالث عشر توت.
[ما وقع من الحوادث سنة 700]
السنة الثالثة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة سبعمائة من الهجرة.
فيها توفّى الأمير سيف الدّين بلبان الطّبّاخىّ بالعسكر المنصور على الساحل، وكان من أعيان الأمراء وأحشمهم وأشجعهم وأكثرهم عدّة ومماليك وحاشية.
وولى نيابة حلب قبل ذلك بمدّة، ثم ولى الفتوحات بالساحل ودام عليها سنين.
وكان جميل السّيرة والطريقة وله المواقف المشهورة والنّكاية فى العدوّ. رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الأديب البارع شهاب الدين أبو جلنك «5» الحلبىّ الشاعر المشهور صاحب النوادر الطّريفة، كان بارعا ماهرا وفيه همّة وشجاعة. ولما كانت وقعة التّتار فى هذه السنة نزل أبو جلنك المذكور من قلعة حلب لقتال التّتار، وكان ضخما(8/194)
سمينا فوقع عن فرسه من سهم أصاب الفرس فبقى راجلا، فأسروه وأحضروه بين يدى مقدّم التتار، فسأله عن عسكر المسلمين، فرفع شأنهم فغضب مقدّم التتار، عليه اللعنة، من ذلك فضرب عنقه. رحمه الله تعالى. ومن شعر أبى جلنك المذكور قوله:
وشادن يصفع مغرى به ... براحة أندى من الوابل
فصحت فى الناس ألا فاعجبوا ... بحر غدا يلطم فى الساحل
قال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ رحمه الله: وكان أبو جلنك قد مدح قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان فوقّع له برطلى خبز، فكتب أبو جلنك على بستانه:
لله بستان حللنا دوحه ... كجّنة قد فتّحت أبوابها «1»
والبان تحسبه سنانيرا رأت ... قاضى القضاة فنفّشت أذنابها
قلت: لعل الصلاح الصّفدىّ وهم فى ابن خلّكان، والصواب أنّ القصّة كانت مع قاضى القضاة كمال الدين بن الزّملكانىّ «2» . انتهى.
ومن شعر أبى جلنك فى أقطع.
وبى أقطع ما زال يسخو بماله ... ومن جوده ما ردّ فى الناس سائل
تناهت يداه فاستطال عطاؤها ... وعند التّناهى يقصر المتطاول
قلت: ووقع فى هذا المعنى عدّة مقاطيع جيّدة فى كتابى المسمى ب «حلية الصفات فى الأسماء والصناعات» فمن ذلك:
أفديه أقطع يشدو ... ساروا ولا ودّعونى
ما أنصفوا أهل ودى ... واصلتهم قطعونى(8/195)
ولشمس «1» الدين بن الصائغ الحنفىّ:
وأقطع قلت له ... هل أنت لصّ أوحد
فقال هذى صنعة ... لم يبق لى فيها يد
وفى المعنى هجو:
تجنّب كلّ أقطع فهو لصّ ... يريد لك الخيانة كلّ ساعه
وما قطعوه بعد الوصل لكن ... أرادوا كفّه عن ذى الصّناعه
غيره فى المعنى:
من يكن فى الأصل لصّا ... لم يكن قطّ أمينا
فثقوا منه برهن ... أو خذوا منه يمينا
وفيها توفّى الشيخ الصالح المسند عزّ الدين أبو الفدى إسماعيل بن عبد الرحمن ابن عمر بن موسى بن عميرة المعروف بابن الفرّاء المرداوىّ ثم الصالحىّ الحنبلىّ، مولده سنة عشر «2» وستّمائة وسمع الكثير وحدّث، وخرّج له الحافظ شمس الدين الذّهبىّ مشيخة، وكان ديّنا خيّرا وله نظم. من ذلك قوله:
أين من عهد آدم وإلى الآ ... ن ملوك وسادة وصدور
مزّقتهم أيدى الحوادث واستو ... لت عليهم رحى المنون تدور
وله فى المعنى وقيل هما لغيره:
ثم انقضت تلك السّنون وأهلها ... فكأنّها وكأنّهم أحلام
وكذاك من يأتى وحقّك بعدهم ... أمضاه ربّ قادر علّام(8/196)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى عزّ الدين أحمد ابن العماد عبد الحميد بن عبد الهادى فى المحرّم، وله ثمان وثمانون سنة. وعماد الدين أحمد [بن محمد «1» ] بن سعد «2» المقدسىّ وله ثلاث وثمانون سنة. وعز الدين إسماعيل ابن عبد الرحمن بن عمر «3» الفرّاء فى جمادى الآخرة، وله تسعون سنة. وأبو «4» على يوسف ابن أحمد بن أبى بكر الغسولىّ «5» فى الشهر، وله نحو من تسعين سنة. والحافظ شمس الدين أبو العلاء محمود بن أبى بكر البخارىّ الفرضىّ بماردين «6» فى ربيع الأوّل، وله ستّ وخمسون سنة. وشمس الدين أبو القاسم الخضر بن عبد الرحمن [بن «7» الخضر بن الحسين ابن الخضر بن الحسين] بن عبد الله بن عبدان الأزدىّ فى ذى الحجة. والمقرئ شمس الدين محمد بن منصور الحاضرىّ فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم والحديث (أعنى مجموع النيل) فى هذه السنة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 701]
السنة الرابعة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة إحدى وسبعمائة.
فيها فى ثالث عشر من شهر ربيع الأوّل سافر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير إلى الإسكندريّة وصحبته جماعة كثيرة من الأمراء بسبب الصّيد، ورسم(8/197)
له السلطان أنّ مدّة مقامه بالإسكندريّة يكون دخلها له، ثم أعطى السلطان لجميع الأمراء دستورا لمن أراد السفر لإقطاعه لعمل مصالح بلاده، وكان إذ ذاك يربّعون خيولهم شهرا واحدا لأجل العدوّ المخذول.
وفيها توفّى مسند العصر شهاب الدين أحمد بن رفيع الدّين إسحاق بن محمد بن المؤيّد الأبرقوهىّ «1» بمكّة فى العشرين من ذى الحجّة. ومولده سنة خمس عشرة وستمائة بابرقوه «2» من أعمال شيراز، وكان سمع الكثير وحدّث وطال عمره وتفرّد بأشياء.
وفيها توفّى الحافظ شرف الدين أبو الحسين على ابن الإمام أبى عبد الله محمد بن أبى الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونينىّ فى يوم الخميس حادى «3» عشر شهر رمضان ببعلبكّ. ومولده فى حادى عشر شهر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك.
وفيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله المعروف بأرجواش المنصورىّ نائب قلعة دمشق فى ليلة السبت ثانى عشرين ذى الحجّة وكان شجاعا. وهو الذي حفظ قلعة دمشق فى نوبة غازان وأظهر من الشجاعة ما لا يوصف على تغفّل كان فيه؛ حسب ما قدّمنا من ذكره فى أصل ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون ما فعله وكيف كان حفظه لقلعة دمشق. وأمّا أمر التّغفّل الذي كان به:(8/198)
قال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك فى تاريخه: حكى لى عنه عبد الغنى الفقير المعروف قال: لمّا مات الملك المنصور قلاوون (أعنى أستاذه) قال لى:
أحضر لى مقرئين يقرءون ختمة للسلطان، فأحضرت إليه جماعة فجعلوا يقرءون على العادة، فأحضر دبوسا وقال: كيف تقرءون للسلطان هذه القراءة! تقرءون عاليا، فضجّوا بالقراءة جهدهم، فلمّا فرغوا منها، قلت: يا خوند فرغت الختمة، فقال: يقرءون أخرى فقرءوها وقفزوا ما أرادوا، فلمّا فرغوا أعلمته، قال ويلك «1» ! السماء ثلاثة، والأرض ثلاثة، والأيام ثلاثة، والمعادن ثلاثة، وكل ما فى الدنيا ثلاثة، يقرءون أخرى! فقلت: اقرءوها واحمدوا الله تعالى على أنّه ما علم أن هذه الأشياء سبعة سبعة، فلمّا فرغوا [من «2» ] الثلاثة وقد هلكوا من صراخهم، قال:
دعهم عندك فى التّرسيم إلى بكرة، ورح اكتب عليهم حجّة بالقسامة الشريفة بالله تعالى، وبنعمة السلطان أنّ ثواب هذه الختمات لمولانا السلطان الملك المنصور قلاوون؛ ففعلت ذلك وجئت إليه بالحجّة، فقال: هذا جيّد، أصلح الله أبدانكم وصرف لهم أجرتهم. وحكى عنه عدّة حكايات من هذا تدلّ على تغفّل كبير.
قلت: ويلحق أرجواش هذا بعقلاء المجانين فإنّ تدبيره فى أمر قلعة دمشق وقيامه فى قتال غازان له المنتهى فى الشجاعة وحسن التدبير. انتهى.
وفيها توفّى شمس «3» الدين سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير فى سابع عشر ذى القعدة بدمشق، وكان رئيسا فاضلا كاتبا، كتب الإنشاء بدمشق سنين.
وفيها توفّى الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علىّ بن عبد الله(8/199)
ابن محمد بن موسى بن عبد الله المحض «1» بن موسى [بن عبد الله] بن الحسن بن الحسن بن علىّ ابن أبى طالب الحسنىّ المكىّ صاحب مكّة المشرّفة فى يوم الأحد «2» رابع صفر بعد أن أقام فى إمرة مكّة أربعين سنة، وقدم القاهرة مرارا، وكان يقال لولا أنّه زيدىّ لصلح للخلافة لحسن صفاته.
أمر النيل فى هذه السنة الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 702]
السنة الخامسة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة اثنتين وسبعمائة.
فيها فى أوّل المحرّم قدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز ومعه الشريفان حميضة «3» ورميثة «4» فى الحديد فسجنا بقلعة الجبل.
وفيها فى رابع جمادى الآخرة «5» ظهر بالنيل دابّة كلون الجاموس بغير شعر، وأذناها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، ويغطّى فرجها ذنب طوله شبر ونصف،(8/200)
طرفه كذنب السّمك، ورقبتها مثل ثخن التّلّيس «1» المحشوّ تبنا، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربع أنياب [اثنتان فوق «2» اثنتين] فى طول نحو شبر وعرض إصبعين، وفى فمها ثمانية وأربعون ضرسا وسنّا مثل بيادق الشّطرنج، وطول يدها من باطنها شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها قدر ذراعين ونصف، ومن فمها إلى ذنبها خمس عشرة قدما، وفى بطنها ثلاث كروش، ولحمها أحمر له ذفرة السّمك، وطعمه مثل لحم الجمل، وثخانة جلدها أربع أصابع، لا تعمل فيه السّيوف؛ وحمل جلدها على خمسة جمال فى مقدار ساعة من ثقله، وكان ينقل من جمل إلى جمل وقد حشى تبنا حتّى وصل إلى قلعة الجبل.
وفيها كان بمصر والقاهرة زلزلة عظيمة أخربت عدّة منائر ومبان كثيرة من الجوامع والبيوت حتّى أقامت الأمراء ومباشرو الأوقاف مدّة طويلة ترمّ وتجدّد ما تشعّث فيها من المدارس والجوامع حتّى منارة «3» الإسكندريّة.(8/201)
وفيها أبطل الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد بمصر، وهو أنّ النصارى كان عندهم تابوت فيه اصبع يزعمون أنّها من أصابع بعض شهدائهم، وأنّ النيل لا يزيد ما لم يرم فيه هذا التابوت، فكان يجتمع النصارى من سائر النواحى إلى شبرا «1» ، ويقع هناك أمور يطول الشرح فى ذكرها، حتى إنّ بعض النصارى باع(8/202)
فى أيّام هذا العيد باثنى عشر ألف درهم خمرا من كثرة الناس التى تتوجّه إليه للفرجة، وكان تثور فى هذا العيد فتن وتقتل خلائق. فأمر الأمير بيبرس رحمه الله بإبطال ذلك، وقام فى ذلك قومة عظيمة، فشقّ ذلك على النصارى، واجتمعوا بالأقباط الذين أظهروا الإسلام، فتوجّه الجميع إلى التاج بن سعيد الدولة كاتب بيبرس، وكان خصيصا به وأوعدوا بيبرس بأموال عظيمة، وخوّفه من عدم طلوع النيل ومن كسر الخراج، فلم يلتفت إلى ذلك وأبطله إلى يومنا هذا.
وفيها توفّى الشيخ كمال الدين «1» أحمد بن أبى الفتح «2» محمود بن أبى الوحش أسد ابن سلامة بن سليمان بن فتيان المعروف بابن العطّار، أحد كتّاب الدّرج بدمشق فى رابع عشر «3» ذى القعدة. ومولده سنة ستّ وعشرين وستمائة، وكان كثير التلاوة محبّا لسماع الحديث وسمع وحدّث، وكان صدرا كبيرا فاضلا وله نظم ونثر، وأقام يكتب الدّرج أربعين سنة.
وفيها توفّى الشيخ شهاب الدين أحمد ابن الشيخ القدوة برهان الدين إبراهيم ابن معضاد الجعبرىّ بالقاهرة؛ وقد تقدم ذكر وفاة والده، ودفن بزاويته «4» خارج باب النصر من القاهرة.(8/203)
وفيها توفّى الأمير فارس الدين ألبكى الساقى أحد مماليك الملك الظاهر بيبرس، كان من أكابر أمراء الديار المصريّة، ثم اعتقل إلى أن أفرج عنه الملك المنصور قلاوون وأنعم عليه بإمرة؛ ثم نقله إلى نيابة صفد فأقام بها عشر سنين، وفرّ مع الأمير قبجق إلى غازان وتزوّج بأخته، ثم قدم مع غازان ولحق بالسلطان، فولّاه نيابة حمص حتى مات بها فى يوم الثلاثاء ثامن ذى القعدة. وكان مليح الشكل كثير الأدب ما جلس قطّ بلا خفّ، وإذا ركب ونزل حمل جمداره شاشه، فإذا أراد الركوب لفّه مرّة واحدة بيده كيف كانت.
وفيها استشهد بوقعة شقحب «1» الأمير عزّ الدين أيدمر العزّى نقيب المماليك السلطانيّة [فى أيّام لاچين «2» ] ، وأصله من مماليك الأمير عزّ الدين أيدمر [الظاهرى «3» ] نائب الشام وكان كثير الهزل، وإليه تنسب سويقة «4» العزّى خارج القاهرة بالقرب من جامع «5» ألجاى اليوسفىّ.(8/204)
وفيها استشهد الأمير سيف الدين أيدمر الشمسى القشّاش، وكان قد ولى كشف الغربية والشرقية جميعا واشتدّت مهابته، وكان يعذّب أهل الفساد بأنواع قبيحة من العذاب، منها: أنّه كان يغرس خازوقا بالأرض ويجعل عوده «1» قائما ويرفع الرّجل ويسقطه عليه! وأشياء كثيرة ذكرناها فى ترجمته فى تاريخنا المنهل الصافى، ولم يجسر أحد من الفلّاحين فى أيّامه أن يلبس مئزرا أسود ولا يركب فرسا ولا يتقلّد بسيف ولا يحمل عصا مجلّبة حتى ولا أرباب الإدراك، ثم استعفى من الولاية ولزم داره، وخرج لغزوة شقحب فى محفّة إلى وقت القتال لبس سلاحه وركب فرسه وهو فى غاية الألم، فقيل له: أنت لا تقدر تقاتل، فقال: والله لمثل هذا اليوم أنتظر، وإلّا بأىّ شىء يتخلّص القشّاش من ربّه بغير هذا! وحمل على العدوّ وقاتل حتّى قتل ورئى فيه- بعد أن مات- ستّة جراحات.
وفيها أيضا استشهد الأمير أوليا بن قرمان «2» أحد أمراء الظاهريّة وهو ابن أخت قرمان، وكان شجاعا مقداما.(8/205)
وفيها استشهد أيضا الأمير عزّ الدين أيبك الأستادار، وكان من كبار الأمراء المنصوريّة.
واستشهد الأمير جمال الدين آقوش الشمسى الحاجب. والأمير سيف الدين بهادر أحد الأمراء بحماة. والأمير صلاح الدين بن الكامل «1» . والأمير علاء الدين [على «2» ] ابن الجاكى. والشيخ نجم الدين [أيّوب «3» ] الكردىّ. والأمير شمس الدين سنقر الشمسى [الحاجب «4» ] . والأمير شمس الدين سنقر الكافرى «5» . والأمير سنقر شاه أستادار بيبرس الجالق. والأمير حسام الدين علىّ بن باخل. والأمير لاچين الرومىّ [المنصورى «6» ] أستادار الملك المنصور قلاوون ويعرف بالحسام.
قلت: ورأيت أنا من ذريّته الصارمى إبراهيم بن الحسام. وكلّ هؤلاء استشهدوا فى نوبة غازان بشقحب بيد التتار.
وفيها توفّى الملك العادل كتبغا المنصورىّ نائب حماة بها وهو فى الكهوليّة فى ليلة الجمعة يوم عيد الأضحى. وقد تقدّم ذكره فى ترجمته من هذا الكتاب عند ذكر سلطنته بالديار المصريّة، وما وقع له حتى خلع وتوجّه لنيابة صرخد، ثم نقل إلى نيابة حماة فمات بها.
وفيها توفّى قاضى القضاة تقىّ الدين محمد ابن الشيخ مجد الدين علىّ بن وهب ابن مطيع بن أبى الطاعة القشيرىّ المنفلوطىّ الفقيه المالكىّ ثم الشافعىّ المعروف بابن دقيق العيد قاضى قضاة الشافعيّة بالديار المصريّة. كان إماما عالما، كان مالكيّا ثم انتقل إلى مذهب الشافعىّ. ومولده فى عشرين شعبان سنة خمس وعشرين(8/206)
وستمائة، ومات فى يوم الجمعة حادى عشر صفر، وكان تفقّه بأبيه ثم بالشيخ عزّ «1» الدين ابن عبد السلام وغيره، وسمع من ابن المقيّر «2» وابن رواح «3» وابن عبد الدئم «4» وغيرهم، وخرّج لنفسه تساعيات، وصار من أئمة العلماء فى مذهبى مالك والشافعىّ مع جودة المعرفة بالأصول والنحو والأدب، إلّا أنّه كان قهره الوسواس فى أمر المياه والنّجاسات، وله فى ذلك حكايات ووقائع عجيبة. وروى عنه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، وقاضى القضاة علاء الدين «5» القونوىّ، وقاضى القضاة علم الدين الإخنائى»
وغيرهم وكان أبو «7» حيّان النحوىّ يطلق لسانه فى حقّ قاضى القضاة المذكور، وقد أوضحنا ذلك فى ترجمته فى المنهل الصافى باستيعاب. ومن نظمه قصيدته المشهورة فى مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التى أوّلها «8» :
يا سائرا نحو الحجاز مشمّرا ... اجهد فديتك فى المسير وفى السّرى
وإذا سهرت اللّيل فى طلب العلا ... فحذار ثم حذار من خدع الكرى
وله أيضا:
سحاب فكرى لا يزال هاميا ... وليل همّى لا أراه راحلا
قد أتعبتنى همّتى وفطنتى ... فليتنى كنت مهينا جاهلا(8/207)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء، وكان الوفاء فى سابع عشرين مسرى «1» .
[ما وقع من الحوادث سنة 703]
السنة السادسة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاون الثانية على مصر، وهى سنة ثلاث وسبعمائة.
فيها انتدب الأمراء لعمارة ما خرب من الجوامع بالزّلزلة فى السنة الماضية، وأنفقوا فيها مالا جزيلا.
وفيها كملت عمارة المدرسة الناصريّة «2» ببين القصرين، ونقل الملك الناصر محمد ابن قلاوون أمّه من التّربة المجاورة «3» للمشهد النّفيسىّ «4» إليها. وموضع هذه المدرسة(8/208)
الناصريّة كان دارا تعرف بدار سيف الدين بلبان الرشيدىّ فاشتراها الملك العادل زين الدين كتبغا وشرع فى بنائها مدرسة، وعمل بوّابتها من أنقاض مدينة عكّا وهى بوّابة كنيسة بها ثم خلع كتبغا، فاشتراها الملك الناصر محمد هذا على يد قاضى القضاة زين «1» الدين علىّ بن مخلوف وأتمّها وعمل لها أوقافا جليلة، من جملتها:
قيساريّة أمير علىّ «2» بالشرابشيين «3» .(8/209)
والرّبع المعروف بالدهيشة «1» قريبا من باب زويلة «2» ، وحوانيت باب الزّهومة «3»(8/210)
والحمّام «1» المعروفة بالفخرية بجوار المدرسة «2» الفخرية، وعدّة أوقاف أخرى فى مصر والشام.(8/211)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ كان أصله من مماليك الملك المنصور «1» صاحب حماة، فطلبه منه الملك الظاهر بيبرس هو وأبو خرص [علم الدين سنجر «2» ] من الملك المنصور، فسيّرهما إليه فرقّاهما ثم أمّرهما، ثم ولّى الملك الأشرف خليل أيبك هذا نيابة دمشق بعد سنجر الشجاعىّ حتّى عزله الملك العادل كتبغا بمملوكه إغزلوا العادلىّ، وولى بعد ذلك نيابة صرخد ثم حمص وبها مات فى تاسع «3» عشر ربيع الآخر.
وفيها توفى الأمير ركن الدين بيبرس التّلاوىّ وكان يلى شدّ دمشق، وكان فيه ظلم وعسف، وتولّى عوضه شدّ دمشق الأمير قيران [المنصورى «4» ] الدوادارى.
وفيها توفّى القاضى شمس الدين سليمان «5» بن إبراهيم بن إسماعيل الملطىّ «6» ثم الدّمشقىّ الحنفىّ أحد نوّاب الحكم بدمشق ومصر، كان فقيها عالما ديّنا مباركا حسن السّيرة.
وفيها توفّى القان إيل خان معزّ الدين «7» قازان، وقيل غازان، وكلاهما يصح معناه ابن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن چنكز خان ببلاد قزوين «8» فى ثانى عشر شوال «9» وحمل إلى تربته وقبّته التى أنشأها خارج تبريز «10» . وكان جلوسه على تخت(8/212)
الملك فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأسلم فى سنة أربع وتسعين؛ ونثر الذهب والفضّة واللؤلؤ على رءوس الناس، وفشا الإسلام بإسلامه فى ممالك التتار، وأظهر العدل وتسمّى محمودا، وكان أجلّ ملوك المغل من بيت هولاكو، وهو صاحب الوقعات مع الملك الناصر محمد بن قلاوون والذي ملك الشام. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أصل هذه الترجمة.
وفيها توفّى القاضى فتح الدين أبو محمد عبد الله ابن الصاحب عزّ الدين محمد بن أحمد بن خالد بن محمد القيسرانىّ فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر بالقاهرة، وقد وزر جدّه موفّق الدين «1» خالد للملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد، وكانت لديه فضيلة وعنى بالحديث وجمع وألّف كتابا فى معرفة الصحابة، وكان له نظم ونثر، وخرّج لنفسه أربعين حديثا، وروى عنه الدّمياطىّ من شعره، وأخذ عنه الحافظ فتح الدين ابن سيّد الناس، والبرزالىّ والذهبىّ.
ومن شعره:
بوجه معذّبى آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشى
ونسخة حسنه قرئت فصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشى
وفيها توفّى القاضى كمال «2» الدين أبو الفتح موسى ابن قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن شهاب الدين محمد بن خلّكان، كان فاضلا اشتغل فى حياة والده ودرس، وكانت سيرته غير مشكورة، وهو كان أكبر الأسباب فى عزل والده، ومات فى شهر ربيع»
الأوّل.(8/213)
وفيها توفّى الشريف أبو فارس عبد العزيز بن عبد الغنى بن سرور بن سلامة «1» المنوفىّ أحد أصحاب أبى «2» الحجّاج الأقصرىّ. مات فى ليلة الاثنين خامس عشر ذى الحجة بمصر عن مائة وعشرين سنة.
وفيها توفّى الشريف جمّاز بن شيحة [بن هاشم بن قاسم بن مهنّا «3» ] أمير المدينة النبويّة مصروفا عن ولايتها، والأصح وفاته فى القابلة.
وفيها توفّى الإمام المحدّث تاج الدين علىّ بن أحمد بن عبد المحسن الحسينىّ الغرّافى «4» الإسكندرانىّ فى سابع ذى الحجّة.
وفيها توفّى الأمير الوزير ناصر الدين محمد، ويقال ذبيان «5» ، الشيخىّ، تحت العقوبة فى سابع ذى القعدة.
وفيها توفّى الشريف شمس الدين أبو عبد الله «6» محمد بن الحسين بن محمد الأرموىّ نقيب الأشراف فى تاسع عشر شوّال، وكان فاضلا رئيسا. وقيل وفاته فى الآتية، وهو الأقوى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعدّة أصابع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا. وكان الوفاء أوّل أيام النّسىء.(8/214)
[ما وقع من الحوادث سنة 704]
السنة السابعة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة أربع وسبعمائة.
فيها توجّه الأمير بيبرس الجاشنكير إلى الحجاز مرّة ثانية ومعه علاء الدين أيدغدى الشّهرزورىّ رسول ملك الغرب، والأمير بيبرس المنصورىّ الدّوادار، والأمير بهاء الدين يعقوبا وجماعة كثيرة من الأمراء، وخرج ركب الحاجّ فى عالم كثير من الناس مع الأمير عزّ الدين أيبك الخازندار زوج بنت الملك الظاهر بيبرس.
وفيها ظهر فى معدن الزّمرّد قطعة زنتها مائة «1» وخمسة وسبعون مثقالا فأخفاها الضامن ثم حملها إلى بعض «2» الملوك، فدفع فيها مائة ألف وعشرين ألف درهم فأبى يبيعها، فأخذها «3» الملك منه غصبا وبعث بها إلى السلطان فمات الضامن غمّا.
وفيها توفّى القاضى فتح الدين أحمد بن محمد بن سلطان «4» القوصىّ الشافعىّ وكيل بيت المال بقوص وأحد أعيانها، كان من الرؤساء ومات بها فى حادى عشر المحرّم.
وفيها توفّى القاضى زين الدين أحمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم بن حنّا فى ليلة الخميس ثامن صفر، وكان فقيها فاضلا متديّنا وافر الحرمة.(8/215)
وفيها توفّى شمس الدين أحمد بن علىّ بن هبة الله بن السّديد الإسنائىّ خطيب إسنا «1» ونائب الحكم بها وبأدفو «2» وقوص «3» فى شهر رجب، وكانت قد انتهت إليه رياسة الصعيد، وبنى بقوص مدرسة، وكان قوىّ النفس كثير العطاء مهابا ممدوحا يبذل فى بقاء رياسته الآلاف الكثيرة، يقال إنه بذل فى نيابة الحكم بالصعيد مائتى «4» ألف، وصادره الأمير كراى المنصورىّ وأخذ منه مائة وستين ألف درهم، فقدم القاهرة ومات بها.
وفيها توفّى الأمير بيبرس الموفّقى «5» المنصورىّ أحد الأمراء بدمشق بها فى يوم الأربعاء ثالث عشر «6» جمادى الآخرة مخنوقا وهو سكران. نسأل الله حسن الخاتمة بمنّه وكرمه.(8/216)
وفيها توفّى الأمير الشريف عزّ الدين جمّاز بن شيحة أمير المدينة، وقد تقدّم فى الماضية. والأصح أنّه فى هذه السنة.
وفيها توفّى الأمير شمس الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبى سعيد «1» بن التّيتىّ الآمدىّ أحد الأمراء ونائب دار العدل بقلعة الجبل، كان رئيسا فاضلا.
وفيها توفّى الأمير مبارز الدين سوار «2» الرومىّ المنصورىّ أمير شكار، وكان من أعيان الأمراء وفيه شجاعة وحشمة ورياسة، وكان معظّما فى الدول.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المنصورىّ المعروف بسمز «3» (أعنى سمينا) مقتولا بأيدى عرب الشام بعد أن قتل منهم مقتلة كبيرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا، وكان الوفاء رابع توت.
[ما وقع من الحوادث سنة 705]
السنة الثامنة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة خمس وسبعمائة.
فيها قدمت هدية الملك المؤيّد هزبر الدين داود صاحب اليمن فوجدت قيمتها أقلّ من العادة؛ فكتب بالإنكار عليه والتهديد.
وفيها استسقى أهل دمشق لقلّة الغيث فسقوا بعد ذلك، ولله الحمد.
وفيها توفّى خطيب دمشق شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزارىّ الفقيه المقرئ النحوى المحدّث الشافعى فى شوّال عن خمس وسبعين سنة.(8/217)
وفيها توفّى الحافظ شرف الدين أبو محمد «1» عبد المؤمن بن خلف بن أبى الحسن ابن شرف بن الخضر بن موسى الدّمياطىّ الشافعىّ أحد الأئمة الأعلام والحفّاظ والثقات. مولده فى سنة ثلاث عشرة وستمائة بتونة «2» وهى بلدة فى بحيرة تنّيس «3» من عمل دمياط، وقيل فى سنة عشر وستمائة، واشتغل بدمياط وحفظ التنبيه «4» فى الفقه، وسمع بها وبالقاهرة من الحافظ عبد العظيم «5» المنذرىّ وأخذ عنه علم الحديث، وقرأ القرآن بالروايات، وبرع فى عدّة فنون وسمع من خلائق؛ استوعبنا أسماء غالبهم فى ترجمته فى المنهل الصافى. ورحل إلى الحجاز ودمشق وحلب وحماة وبغداد، وحدّث وسمع منه خلائق مثل اليونينىّ «6» والقونوىّ «7» والمزّىّ «8»(8/218)
وأبى «1» حيّان والبرزالىّ «2» والذهبىّ «3» وابن «4» سيّد الناس وخلق سواهم، وصنّف مصنّفات كثيرة ذكرنا غالبها فى المنهل الصافى، [وله «5» كتاب فضل الخيل، وقد سمعت أنا هذا الكتاب بقراءة الحافظ قطب الدين «6» الخيضرىّ فى أربعة مجالس آخرها فى سلخ شعبان سنة خمس وأربعين وثمانمائة بالقاهرة فى منزل المسمع بحارة برجوان «7» ] على الشيخ الإمام العلّامة مؤرّخ الديار المصريّة تقىّ الدين أحمد [بن «8» علىّ بن عبد القادر] المقريزىّ بسماعه جميعه على الشيخ ناصر الدين محمد «9» بن علىّ بن الطّبردار الحرّاوى بسماعه جميعه على الشيخ مؤلّفه الحافظ شرف الدين الدّمياطىّ صاحب الترجمة- رحمه الله- وكانت وفاته فجأة بالقاهرة بعد أن صلّى العصر غشى عليه فى موضعه، فحمل إلى منزله فمات من ساعته فى يوم الأحد خامس عشر ذى القعدة.
ومن شعره:
روينا بإسناد عن ابن مغفّل «10» ... حديثا شهيرا صحّ من علّة القدح
بأنّ رسول الله حين مسيره ... لثامنة وافته من ليلة الفتح
وفيها توفّى الملك الأوحد، وقيل الزاهر «11» ، تقي الدين شادى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه الصغير ابن الأمير ناصر الدين(8/219)
محمد ابن الملك المنصور اسد الدين شير كوه الكبير ابن شادى بن مروان الأيّوبى فى ثالث صفر وهو يوم ذاك أحد أمراء دمشق.
وفيها توفى المسند أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبى بكر الحرّانى الحنبلىّ.
مولده بحرّان سنة ثمانى عشرة وستمائة، وسمع من ابن روزبة «1» والمؤتمن بن قميرة «2» ، وسمع بمصر من ابن الجميزىّ «3» وغيره وتفرّد بأشياء، وكان فيه دعابة ودين، وتلا بمكّة ألف ختمة.
وفيها توفّى قاضى قضاة الشافعيّة بحلب شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام بها فى أوّل جمادى الأولى، وكان فقيها فاضلا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام شرف الدين أبو زكريّا يحيى بن أحمد بن عبد العزيز الجذامىّ الإسكندرانى المالكىّ شيخ القراءات بها فى هذه السنة، وكان إماما عالما بالقراءات، وله مشاركة فى فنون. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر، وزاد البحر حتى بلغ ثمانى أذرع ونصفا ثم توقّف إلى ثامن مسرى، ثم زاد حتّى أوفى فى رابع توت. وبلغ ست عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 706]
السنة التاسعة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة ست وسبعمائة.(8/220)
فيها وقع بين الأميرين: علم الدين سنجر البروانىّ وسيف الدين الطشلاقىّ على باب قلعة الجبل مخاصمة بحضرة الأمراء لأجل استحقاقهما فى الإقطاعات، لأنّ الطشلاقىّ نزل على إقطاع البروانىّ، وكان كل منهما فى ظلم وعسف. والبروانىّ من خواصّ بيبرس الجاشنكير، والطشلاقىّ من ألزام سلّار لأنه خشداشه، كلاهما مملوك الملك الصالح على ابن الملك المنصور قلاوون. ومات فى حياة والده قلاوون. فسطا الطشلاقىّ على البروانىّ وسفه عليه، فقام البروانىّ إلى بيبرس واشتكى منه فطلبه بيبرس وعنّفه، فأساء الطشلاقىّ فى ردّ الجواب وأفحش فى حقّ البروانىّ، وقال:
أنت واحد منفىّ تجعل نفسك مثل مماليك السلطان! فاستشاط بيبرس غضبا وقام ليضرب، فجرّد الطشلاقىّ سيفه يريد ضرب بيبرس، فقامت قيامة بيبرس وأخذ سيفه ليضربه، فترامى عليه من حضر من الأمراء وأمسكوه عنه، وأخرجوا الطشلاقىّ من وجهه بعد ما كادت مماليك بيبرس وحواشيه تقتله بالسيوف، وفى الوقت طلب بيبرس الأمير سنقر الكمالىّ الحاجب وأمر بنفى الطشلاقىّ إلى دمشق، فخشى سنقر من النائب سلّار ودخل عليه وأخبره، فأرسل سلّار جماعة من أعيان الأمراء إلى بيبرس، وأمرهم بملاطفته حتى يرضى عن الطشلاقىّ وأنّ الطشلاقىّ يلزم داره، فلمّا سمع بيبرس ذلك من الذين حضروا صرخ فيهم وحلف إن بات الطشلاقىّ الليلة بالقاهرة عملت فتنة كبيرة، فعاد الحاجب وبلّغ سلّار ذلك فلم يسعه إلّا السكوت لأنّهما (أعنى بيبرس وسلّار) كانا غضبا على الملك الناصر محمد وتحقّق كلّ منهما متى وقع بينهما الخلف وجد الملك الناصر طريقا لأخذهما واحدا بعد واحد، فكان كلّ من بيبرس وسلّار يراعى الآخر وقد اقتسما مملكة مصر، وليس للناصر معهما إلّا مجرّد الاسم فى السلطنة فقط. انتهى. وأحرج الطشلاقىّ من وقته وأمر سلّار الحاجب بتأخيره فى بلبيس حتّى يراجع بيبرس فى أمره، فعند(8/221)
ما اجتمع سلّار مع بيبرس فى الخدمة السلطانية من الغد بدأ بيبرس سلّار بما كان من الطشلاقىّ فى حقّه من الإساءة، وسلّار يسكّنه ولا يسكن بل يشتدّ فأمسك سلار عن الكلام على حقد فى الباطن، وصار السلطان يريد إثارة الفتنة بينهما فلم يتمّ له ذلك. وتوجّه الطشلاقى إلى الشام منفيّا.
وفيها قدم البريد على الملك الناصر من حماة بمحضر ثابت على القاضى بأن ضيعة تعرف ببارين «1» بين جبلين فسمع للجبلين فى اللّيل قعقعة عظيمة فتسارع الناس فى الصباح إليهما، وإذا أحد الجبلين قد قطع الوادى وانتقل منه قدر نصفه إلى الجبل الآخر، والمياه فيما بين الجبلين تجرى فى الوادى فلم يسقط من الجبل المنتقل شىء من الحجارة، ومقدار النصف المنتقل من الجبل مائة ذراع وعشر أذرع، ومسافة الوادى الذي قطعه هذا الجبل مائة ذراع، وأن قاضى حماة خرج بالشهود حتى عاين ذلك وكتب به محضرا. فكان هذا من الغرائب.
وفيها وقعت الوحشة بين بيبرس الجاشنكير وسلّار بسبب كاتب بيبرس التاج ابن سعيد الدولة، فإنّه كان أساء السيرة «2» ، ووقع بين هذا الكاتب المذكور وبين الأمير سنجر الجاولى، وكان الجاولى صديقا لسلّار إلى الغاية؛ فقام بيبرس فى نصرة كاتبه، وقام سلّار فى نصرة صاحبه الجاولى، ووقع بينهما بسبب ذلك أمور؛ وكان بيبرس من عادته أنّه يركب لسلّار عند ركوبه وينزل عند نزوله، فمن يومئذ لم يركب معه وكادت الفتنة أن تقع بينهما، ثم استدركا أمرها خوفا من الملك الناصر واصطلحا بعد أمور يطول شرحها؛ وتكلّما فى أمر الوزر ومن يصلح لها، فعيّن سلار(8/222)
كاتب بيبرس التاج بن سعيد الدولة المقدّم ذكره تقرّبا لخاطر بيبرس بذلك، فقال بيبرس: ما يرضى، فقال سلّار: دعنى وإيّاه، فقال بيبرس: دونك، وتفرّقا.
فبعث سلّار للتاج المذكور وأحضره فلمّا دخل عليه عبّس وجهه وصاح بإزعاج هاتوا خلعة الوزارة فأحضروها، وأشار إلى تاج الدولة المذكور بلبسها فتمنّع فصرخ فيه وحلف لئن لم يلبسها ضرب عنقه فخاف الإخراق به لما يعلمه من بغض سلار له فلبس التشريف، وكان ذلك يوم الخميس خامس عشر المحرّم من السنة وقبّل يد سلّار فشّ فى وجهه ووصاه؛ وخرج تاج الدولة بخلعة الوزارة من دار النيابة بقلعة الجبل إلى قاعة الصاحب بها، وبين يديه النّقباء والحجّاب، وأخرجت له دواة الوزارة والبغلة فعلّم على الأوراق وصرّف الأمور إلى بعد العصر ثم نزل الى داره.
وهذا كلّه بعد أن أمسك بيبرس سنجر الجاولى وصادره ثم نفاه إلى دمشق على إمرة طبلخاناه، وولّى مكانه أستادارا الأمير أيدمر «1» الخطيرىّ صاحب الجامع «2» ببولاق.(8/223)
وفيها توفّى الصاحب شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطاء «1» الله الأذرعىّ الدمشقىّ الحنفى محتسب دمشق ووزيرها، وكان رئيسا فاضلا حسن السّيرة.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الطويل الخازندار المنصورىّ فى حادى عشر شهر ربيع الأوّل بدمشق، وكان ديّنا كثير البرّ والصدقات والمعروف.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتاش بن عبد الله الفخرىّ الصالحىّ النجمىّ أمير سلاح. أصله من مماليك الأمير فخر الدين «2» يوسف بن شيخ الشيوخ، ثم نقل إلى ملك الملك الصالح نجم الدين أيّوب، فترقّى فى الخدم حتّى صار من أكابر الأمراء، وغزا غير مرّة وعرف بالخير وعلوّ الهمّة وسداد الرأى وكثرة المعروف.
ولمّا قتل الملك المنصور لاچين أجمعوا على سلطنته فامتنع وأشار بعود السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبعدها ترك الإمرة فى حال مرضه الذي مات فيه.
رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين كاوركا «3» المنصورىّ أحد أعيان الأمراء بالديار المصريّة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورىّ، وكان ولى نيابة قلعة صفد وشدّ دواوين دمشق ثم نيابة قلعتها، ثم نقل إلى نيابة حمص فمات بها، وكان مشكور السيرة.
وفيها توفّى القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلّى العمرىّ الدمشقى أخو كاتب السرّ القاضى شرف الدين عبد الوهاب ومحيى الدين يحيى وقد جاوز سبعين سنة. وهذا أوّل بدر الدين من بنى فضل الله، ويأتى ذكر ثان وثالث، والثالث هو كاتب السر بمصر.(8/224)
وفيها توفّى الأمير فارس الدين أصلم الردّادىّ «1» فى نصف ذى القعدة، وكان رئيسا حشيما من أعيان الدولة الناصرية.
وفيها توفّى الأمير بهاء الدين يعقوبا الشّهرزورىّ بالقاهرة فى سابع عشر ذى الحجّة، وكان أميرا حشيما شجاعا وهو من حواشى بيبرس الجاشنكير.
وفيها توفّى الطواشى عزّ الدين دينار العزيزى الخازندار الظاهرىّ فى يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأوّل، وكان ديّنا خيّرا كثير الصدقات والمعروف.
وفيها توفّى ملك الغرب أبو يعقوب يوسف [بن يعقوب «2» ] بن عبد الحقّ، وثب عليه سعادة الخصىّ أحد مواليه فى بعض حجره وقد خضّب رجليه بالحنّاء وهو مستلق على قفاه فطعنه طعنات قطع بها أمعاءه، وخرج فأدرك وقتل، ومات السلطان من جراحه فى آخر يوم الأربعاء سابع ذى القعدة، وأقيم بعده فى الملك أبو ثابت عامر ابن الأمير أبى عامر [عبد الله «3» ] ابن السلطان أبى يعقوب هذا أعنى حفيده. وكان مدّة ملكه إحدى وعشرين سنة.
وفيها توفّى الطّواشى شمس الدين صواب السّهيلى بالكرك عن مائة سنة، وكان مشكور السيرة.
وفيها توفّى الشيخ ضياء الدين عبد العزيز بن محمد بن على الطوسىّ الفقيه الشافعىّ بدمشق فى تاسع عشرين جمادى «4» الأولى، وكان فقيها نحويّا مصنّفا شرح «الحاوى» فى الفقه و «مختصر ابن الحاجب» وغير ذلك.(8/225)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعدّة أصابع.
مبلغ الزيادة سبع «1» عشرة ذراعا وسبع أصابع، وكان الوفاء فى رابع عشر مسرى.
[ما وقع من الحوادث سنة 707]
السنة العاشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة سبع وسبعمائة.
فيها ورد الخبر عن ملك اليمن هزبر الدين داود بأمور تدلّ على عصيانه، فكتب السلطان والخليفة بالإنذار، ثم رسم السلطان للأمراء أن يعمل كلّ أمير مركبا يقال لها: جلبة «2» ، وعمارة قيّاسة يقال لها: فلوة برسم حمل الأزواد وغيرها لغزو بلاد اليمن.
وفيها عمّر الأمير بيبرس الجاشنكير الخانقاه «3» الرّكنيّة داخل باب «4» النصر موضع دار الوزارة «5» برحبة «6» باب العيد من القاهرة، ووقف عليها أوقافا جليلة ومات قبل فتحها، فأغلقها الملك الناصر فى سلطنته الثالثة مدّة، ثم أمر بفتحها ففتحت.
وفيها عمّر الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم الصغير نائب دمشق جامعا بالصالحية «7» ، وبعث يسأل فى أرض يوقفها عليه فأجيب إلى ذلك.
وفيها وقع الاهتمام على سفر اليمن وعوّل الأمير سلّار أن يتوجّه إليها بنفسه خشية من السلطان الملك الناصر، وذلك بعد أن أراد السلطان القبض عليه وعلى بيبرس الجاشنكير عند ما اتّفق السلطان مع بكتمر الجوكندار، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه(8/226)
فى أصل هذه الترجمة، وأيضا أنه شقّ عليه ما صار إليه بيبرس الجاشنكير من القوّة والاستظهار عليه بكثرة خشداشيته البرجيّة، والبرجية كانت يوم ذاك مثل مماليك الأطباق الآن، وصار غالب البرجية أمراء، فاشتد شوكة بيبرس بهم بحيث إنّه أخرج الأمير سنجر الجاولى وصادره بغير اختيار سلّار، وعظمت مهابته وانبسطت يده بالتحكّم وانفرد بالركوب فى جمع عظيم، وقصد البرجية فى نوبة بكتمر الجوكندار إخراج الملك الناصر محمد إلى الكرك وسلطنة بيبرس، لولا ما كان من منع سلّار لسياسة وتدبير كانا فيه.
فلمّا وقع ذلك كلّه خاف سلّار عواقب الأمور من السلطان ومن بيبرس وتحيّل فى الخلاص من ذلك بأنه يحجّ فى جماعته، ثم يسير إلى اليمن فيملكها ويمتنع بها، ففطن بيبرس لهذا فدسّ عليه جماعة من الأمراء من أثنى عزمه عن ذلك، ثم اقتضى الرأى تأخير السفر حتى يعود جواب صاحب اليمن.
وفيها حبس الشيخ تقىّ الدين «1» بن تيميّة بعد أمور وقعت له.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيدمر السنانىّ بدمشق، وكان فاضلا وله شعر وخبرة بتفسير المنامات. ومن شعره:
تجد النّسيم إلى الحبيب رسولا ... دنف حكاه رقّة ونحولا
تجرى العيون من العيون صبابة ... فتسيل فى إثر الغريق سيولا
وتقول من حسد له يا ليتنى: ... كنت اتّخذت مع الرّسول سبيلا
وفيها توفّى الأمير ركن الدين بيبرس العجمىّ الصالحى المعروف بالجالق، و (الجالق باللّغة التركيّة: اسم للفرس الحادّ المزاج الكثير اللّعب) ، وكان أحد البحريّة(8/227)
وكبير الأمراء بدمشق، ومات فى نصف جمادى الأولى بمدينة الرملة «1» عن نحو الثمانين سنة، وكان ديّنا فيه مروءة وخير. (وجالق بفتح الجيم وبعد الألف لام مكسورة وقاف ساكنة) .
وفيها توفّى «2» الأمير الطّواشى شهاب الدين فاخر المنصورىّ مقدّم المماليك السلطانية، وكانت له سطوة ومهابة على المماليك السلطانية بحيث إنّه كان لا يستجرئ أحد منهم أن يمرّ من بين يديه كائنا من كان بحاجة أو بغير حاجة، وحيثما وقع بصره عليه أمر بضربه.
قلت: لله درّ ذلك الزمان وأهله! ما كان أحسن تدبيرهم وأصوب حدسهم من جودة تربية صغيرهم وتعظيم كبيرهم! حتى ملكوا البلاد، ودانت لهم العباد، واستجلبوا خواطر الرعيّة، فنالوا الرتب السنية. وأما زماننا هذا فهو بخلاف ذلك كلّه، فالمقدّم مؤخّر والصغير متنمّر «3» ، والقلوب متنافرة، والشرور متظاهرة، وإن شئت تعلم صدق مقالتى حرّك تر. انتهى.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد عمر «4» بن يعقوب بن أحمد [السعودى «5» فى جمادى الآخرة] .
[وفيها «6» توفّى الشيخ فخر الدين عثمان] بن جوشن السّعودىّ فى يوم الأربعاء من شهر رجب، وكان رجلا صالحا معتقدا.
وفيها توفّى الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم بن حنّا، ومولده فى تاسع شعبان سنة أربعين وستمائة،(8/228)
وجدّه لأمّه الوزير شرف «1» الدين صاعد الفائزىّ. وكانت له رياسة ضخمة وفضيلة، ومات بالقاهرة فى يوم السبت خامس جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
[ما وقع من الحوادث سنة 708]
السنة الحادية عشرة من ولاية السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر، وهى سنة ثمان وسبعمائة، وهى التى خلع فيها الملك الناصر المذكور من ملك مصر وأقام بالكرك وتسلطن من بعده بيبرس الجاشنكير حسب ما تقدّم ذكره.
فيها أفرج عن الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ من البرج بقلعة الجبل، وأسكن بدار الأمير عزّ الدين «2» الأفرم الكبير بمصر، وذلك فى شهر ربيع الأوّل.
وفيها كان خروج الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة من القاهرة قاصدا الحجّ وسار إلى الكرك وخلع نفسه.
وفيها توفّى الشيخ علم الدين إبراهيم بن الرشيد بن أبى الوحش رئيس الأطباء بالديار المصريّة والبلاد الشاميّة، وكان بارعا فى الطبّ محظوظا عند الملوك، ونالته السعادة من ذلك، حتّى إنّه لمّا مات خلّف ثلثمائة ألف دينار غير القماش والأثاث.
وفيها توفّى الأمير عز الدين أيبك الشجاعىّ الأشقر شادّ الدواوين بالقاهرة فى المحرّم.(8/229)
وفيها توفّى الأمير علاء الدين ألطبرس «1» المنصورىّ والى باب القلعة والملقّب بالمجنون المنسوب إليه العمارة فوق قنطرة المجنونة «2» على الخليج الكبير خارج القاهرة، عمّرها للشيخ شهاب «3» الدين العابر ولفقرائه وعقدها قبوا. وفى ذلك يقول علم الدين ابن الصاحب:
ولقد عجبت من الطبرس وصحبه ... وعقولهم بعقوده مفتونه
عقدوه عقدا لا يصح لأنهم ... عقدوا لمجنون على مجنونه
وكان ألطبرس المذكور عفيفا ديّنا غير أنه كان له أحكام قراقوشية من تسلطه على النساء ومنعهنّ من الخروج إلى الأسواق وغيرها، وكان يخرج أيام الموسم إلى القرافة وينكّل بهن فامتنعن من الخروج فى زمانه إلا لأمر مهم مثل الحمّام وغيره.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيدمر الرشيدىّ أستادار الأمير سلّار نائب السلطنة بالديار المصرية فى تاسع عشر شوال، وكان عاقلا رئيسا وله ثروة واسعة وجاه عريض.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد عبد الغفّار [بن «4» أحمد بن عبد المجيد بن نوح] القوصىّ القائم بخراب الكنائس بقوص وغيرها فى ليلة الجمعة سابع ذى القعدة، وكان له أتباع ومريدون وللناس فيه اعتقاد.(8/230)
وفيها توفّى ظهير «1» الدين أبو نصر بن الرشيد بن أبى النصر السّامرىّ الدمشقى الكاتب فى حادى عشرين شهر رمضان بدمشق، ومولده سنة اثنتين وعشرين وستمائة، كان أوّلا سامريّا ثم أسلم فى أيام الملك المنصور قلاوون، وتنقّل فى الخدم حتّى ولى نظر جيش دمشق إلى أن مات.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة مثل السنة الماضية.(8/231)
[ما وقع من الحوادث سنة 709]
ذكر سلطنة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير على مصر
السلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورىّ الجاشنكير، أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون البرجيّة، وكان جركسىّ الجنس، ولم نعلم أحدا ملك مصر من الجراكسة قبله إن صحّ أنه كان جركسيّا. وتأمّر فى أيّام أستاذه المنصور قلاوون، وبقى على ذلك إلى أن صار من أكابر الأمراء فى دولة الملك الأشرف خليل بن قلاوون. ولما تسلطن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد قتل أخيه الأشرف خليل صار بيبرس هذا أستادارا «1» إلى أن تسلطن الملك العادل زين الدين كتبغا عزله عن الأستادارية بالأمير بتخاص، وقيل: إنّه قبض على بيبرس هذا وحبسه مدّة، ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصريّة.
واستمرّ على ذلك حتّى قتل الملك المنصور حسام الدين لاچين فكان بيبرس هذا أحد من أشار بعود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك. فلمّا عاد الناصر إلى ملكه تقرّر بيبرس هذا أستادارا على عادته وسلّار نائبا، فأقاما على ذلك سنين إلى أن صار هو وسلّار كفيلى الممالك الشريفة الناصرية، والملك الناصر محمد معهما آلة فى السلطنة إلى أن ضجر الملك الناصر منهما وخرج إلى الحجّ فسار إلى الكرك وخلع نفسه من الملك. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى ترجمة الملك الناصر محمد. فعند ذلك وقع الاتّفاق على سلطنة بيبرس هذا بعد أمور نذكرها؛ فتسلطن وجلس على تخت الملك فى يوم السبت الثالث والعشرين من شوّال من سنة ثمان وسبعمائة. وهو السلطان الحادى(8/232)
عشر من ملوك الترك والسابع ممن مسّهم الرّقّ، والأوّل من الجراكسة إن صحّ أنه جركسىّ الجنس، ودقّت البشائر وحضر الخليفة أبو الربيع سليمان وفوّض إليه تقليد السلطنة، وكتب له عهدا وشمله بخطّه، وكان من جملة عنوان التقليد: إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم. ثم جلس الأمير بتخاص والأمير قلّى والأمير لاچين الجاشنكير لاستحلاف الأمراء والعساكر، فحلفوا الجميع وكتب بذلك إلى الأقطار.
والآن نذكر ما وعدنا بذكره من سبب سلطنة بيبرس هذا مع وجود سلار وآقوش قتّال السّبع وهما أكبر منه وأقدم وأرفع منزلة، فنقول:
لمّا خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصريّة إلى الحجّ ثم ثنى عزمه عن الحج وتوجّه إلى الكرك خلع نفسه، فلمّا حضر كتابه الثانى «1» بتركه السلطنة، وقد تقدّم ذكر ذلك فى أواخر ترجمة الناصر بأوسع من هذا، أثبت الكتاب على القضاة.
فلمّا أصبح نهار السبت الثالث والعشرين من شوّال جلس الأمير سلّار النائب بشبّاك دار النيابة بالقلعة وحضر إلى عنده الأمير بيبرس الجاشنكير هذا وسائر الأمراء واشتوروا فيمن يلى السلطنة، فقال الأمير آقوش قتّال السّبع، والأمير بيبرس الدّوادار، والأمير أيبك الخازندار وهم أكابر الأمراء المنصوريّة:
ينبغى استدعاء الخليفة والقضاة وإعلامهم بما وقع، فخرج الطّلب لهم وحضروا وقرئ عليهم كتاب السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وشهد عند قاضى القضاة زين الدين بن مخلوف «2» الأميران: عز الدين أيدمر الخطيرىّ والأمير الحاج آل ملك ومن كان توجّه معهم إلى الكرك فى الرسليّة بنزول الملك الناصر عن الملك(8/233)
وتركه مملكة مصر والشام فأثبت ذلك، وأعيد الكلام فيمن يصلح للسلطنة من الأمراء، فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلّار، فقال سلّار: نعم على شرط، كلّ ما أشير به لا تخالفوه، وأحضر المصحف وحلّفهم على موافقته وألّا يخالفوه فى شىء، فقلق البرجيّة من ذلك ولم يبق إلّا إقامتهم الفتنة، فكفّهم الله عن ذلك وانقضى الحلف، فعند ذلك قال الأمير سلّار: والله يا أمراء، أنا ما أصلح للملك ولا يصلح له إلّا أخى هذا، وأشار إلى بيبرس الجاشنكير ونهض قائما إليه، فتسارع البرجيّة بأجمعهم: صدق الأمير سلّار وأخذوا بيد الأمير بيبرس، وأقاموه كرها وصاحوا بالجاويشية فصرخوا باسمه، وكان فرس النوبة عند الشباك فألبسوه تشريف السلطنة الخليفتى، وهى فرجيّة أطلس سوداء وطرحة سوداء وتقلّد بسيفين، ومشى سلّار والأمراء بين يديه من عند سلّار من دار النيابة بالقلعة وهو راكب، وعبر من باب القلعة «1» إلى الإيوان «2» بالقلعة، وجلس على تخت الملك وهو يبكى بحيث يراه الناس. وذلك فى يوم السبت المذكور، ولقّب بالملك المظفر. وقبّل الأمراء الأرض بين يديه طوعا وكرها، ثم قام إلى القصر وتفرّق الناس بعد ما ظنّوا كلّ الظنّ من وقوع الفتنة بين السّلّاريّة والبيبرسيّة. وقيل فى سلطنته وجه آخر وهو أنّه لما اشتوروا الأمراء فيمن يقوم بالملك، فاختار الأمراء سلّار لعقله وتؤدته، واختار البرجيّة(8/234)
بيبرس؛ فلم يجب سلّار إلى ذلك وانفضّ المجلس، وخلا كلّ من أصحاب بيبرس وسلّار بصاحبه، وحسّن له القيام بالسلطنة وخوّفه عاقبة تركها، وأنه متى ولى غيره لا يوافقوه بل يقاتلونه. وبات البرجية فى قلق خوفا من ولاية سلّار، وسعى بعضهم إلى بعض، وكانوا أكثر جمعا من أصحاب سلّار، وأعدّوا السلاح وتأهّبوا للحرب. فبلغ ذلك سلّار فخشى سوء العاقبة، واستدعى الأمراء إخوته وحفدته ومن ينتمى إليه، وقرّر معهم سرا موافقته على ما يشير به، وكان مظاعا فيهم فأجابوه؛ ثم خرج فى شباك النيابة ووقع نحو ممّا حكيناه من عدم قبوله السلطنة وقبول بيبرس الجاشنكير هذا، وتسلطن حسب ما ذكرناه وتمّ أمره واجتمع الأمراء على طاعته ودخلوا إلى الخدمة على العادة فى يوم الاثنين خامس عشرين شوّال، فأظهر بيبرس التغمّم بما صار إليه. وخلع على الأمير سلار خلعة النيابة على عادته بعد ما استعفى وطلب أن يكون من جملة الأمراء، وألحّ فى ذلك حتى قال له الملك المظفّر بيبرس:
إن لم تكن أنت نائبا فلا أعمل أنا السلطنة أبدا، فقامت الأمراء على سلّار إلى أن قبل ولبس خلعة النيابة، ثم عيّنت الأمراء للتوجّه إلى النوّاب بالبلاد الشامية وغيرها، فتوجّه إلى نائب دمشق، وهو الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير المنصورىّ، الأمير أيبك البغدادىّ ومعه آخر يسمّى شادى «1» ومعهما كتاب، وأمرهما أن يذهبا إلى دمشق ويخلّفا نائبه المذكور وسائر الأمراء بدمشق، وتوجّه إلى حلب الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ وطيبرس الجمدار وعلى يليهما كتاب مثل ذلك، وتوجّه إلى حماة الأمير سيف الدين بلاط الجوكندار وطيدمر الجمدار، وتوجّه إلى صفد عزّ الدين أزدمر الإسماعيلىّ وبيبرس بن عبد الله، وتوجّه إلى طرابلس(8/235)
عزّ الدين أيدمر اليونسى وأقطاى الجمدار. وخطب له بالقاهرة ومصر فى يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوّال المذكور، وتوجه الأمراء المذكورون إلى البلاد الشامية.
فلما قرب من سار إلى دمشق خرج النائب آقوش الأفرم ولاقاهما خارج دمشق وعاد بهما، فلما قرأ الكتاب بسلطنة بيبرس كاد أن يطير فرحا لأنه كان خشداش بيبرس، وكان أيضا جاركسىّ الجنس، وكانا يوم ذاك بين الأتراك كالغرباء، وزيّنت دمشق زينة هائلة كما زيّنت القاهرة لسلطنته. ثم أخرج كتاب السلطان بالحلف وفيه أن يحلفوا ويبعثوا لنا نسخة الأيمان، فأجاب جميع الأمراء بالسمع والطاعة وسكت منهم أربعة أنفس ولم يتحدّثوا بشىء، وهم: بيبرس العلائىّ وبهادر آص وآقجبا «1» الظاهرى وبكتمر الحاجب بدمشق، فقال لهم الأفرم: يا أمراء، كلّ الناس ينتظرون كلامكم فتكلّموا، فقال بهادر آص: نريد الخطّ الذي كتبه الملك الناصر بيده وفيه عزل نفسه، فأخرج النائب خطّ الملك الناصر فرآه بهادر ثم قال:
يا مولانا ملك الأمراء، لا تستعجل فممالك الشام فيها أمراء غيرنا، مثل الأمير قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، وأسندمر نائب طرابلس وغيرهم، فنرسل إليهم ونتّفق معهم على المصلحة، فإذا شاورناهم تطيب خواطرهم، وربّما يرون من المصلحة ما لا نرى نحن، ثم قام بهادر المذكور وخرج فخرجت الأمراء كلّهم فى أثره، فقال الأمير أيبك البغدادىّ القادم من مصر للأفرم: لو مسكت بهادر آص لانصلح الأمر على ما نريد! فقال له الأفرم: والله العظيم لو قبضت عليه لقامت فتنة عظيمة تروح فيها روحك، وتغيير الدول يا أيبك ما هو هين! وأنا ما أخاف من أمراء الشام من أحد إلّا من قبجق المنصورىّ، فإنّه ربّما يقيم فتنة من خوفه على روحه.(8/236)
قلت: وقبجق هذا هو الذي كان نائب دمشق فى أيّام المنصور لاچين، وتوجّه إلى غازان وأقدمه إلى الشام. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
ولمّا كان اليوم الثانى طلب الأفرم هؤلاء الأمراء الأربعة واختلى بهم، وقال لهم: اعلموا أنّ هذا أمر انقضى، ولم يبق لنا ولا لغيرنا فيه مجال، وأنتم تعلمون أنّ كلّ من يجلس على كرسىّ مصر كان هو السلطان ولو كان عبدا حبشيّا، فما أنتم بأعظم من أمراء مصر، وربّما يبلّغ هذا اليه فيتغيّر قلبه عليكم، ولم يزل يتلاطف بهم حتّى حلفوا له، فلمّا حلفوا حلف باقى الأمراء، وخلع الأفرم على جميع الأمراء والقضاة خلعا سنيّة، وكذلك خلع على الأمير أيبك البغدادىّ وعلى رفيقه شادى وأعطاهما ألفى دينار وزوّدهما وردّهما فى أسرع وقت. وكتب معهما كتابا يهنّئ بيبرس بالملك، ويقول: عن قريب تأتيك نسخة الأيمان. وقدما القاهرة وأخبرا الملك المظفّر بيبرس بذلك، فسرّ وانشرح صدره بذلك: ثمّ إنّ الأفرم نائب الشام أرسل إلى قراسنقر وإلى قبجق شخصا «1» من مماليكه بصورة الحال، فأمّا قرا سنقر نائب حلب فإنّه لمّا سمع الواقعة وقرأ كتاب الأفرم، قال: إيش الحاجة إلى مشاورتنا! أستاذك بعثك بعد أن حلف، وكان ينبغى أن يتأنّى فى ذلك، وأمّا قبجق نائب حماة فإنه لمّا قرأ كتاب الأفرم، قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلى العظيم، إيش جرى على ابن أستاذنا حتّى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير، هذه والله نوبة لاچين. ثم قال لمملوك الأفرم: اذهب إلى أستاذك وقل له: الآن بلغت مرادك، وسوف تبصر من يصبح ندمان، وفى أمره حيران! وكذلك لمّا بعث الأفرم لأسندمر نائب طرابلس، فلما «2» قرأ كتابه أطرق رأسه إلى الأرض؛ ثم قال:(8/237)
اذهب لأستاذك وقل له: يا بعيد الذّهن وقليل العلم بعد أن دبرت أمرا، فما الحاجة إلى مشاورتنا! فو الله ليكوننّ عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك، ولم يكتب له جوابا.
وأمّا قراسنقر نائب حلب فإنه أرسل إلى قبجق وإلى أسندمر يعلمهما أنّ الأفرم حلّف عساكر دمشق على طاعة بيبرس، ولا نأمن أن يعمل الأفرم علينا، فهلمّوا نجتمع فى موضع واحد فنتشاور ونرى أمرا يكون فيه المصلحة، فاتّفقوا الجميع على أن يجتمعوا فى حلب عند قراسنقر، وعيّنوا ليلة يكون اجتماعهم فيها.
فأمّا قبجق فإنه ركب إلى الصيد بمماليكه خاصّة، وتصيّد إلى الليل فسار إلى حلب. وأمّا أسندمر أظهر أنّه ضعيف وأمر ألّا يخلّى أحدا يدخل عليه، وفى الليل ركب بمماليكه الذين يعتمد عليهم وقد غيّروا ملابسهم، وسار يطلب حلب. واجتمع الجميع عند قرا سنقر، فقال لهم قراسنقر: ما تقولون فى هذه القضيّة التى جرت؟ فقال قبجق: والله لقد جرى أمر عظيم، وإن لم نحسن التدبير نقع فى أمور! يعزل ابن أستاذنا ويأخذها بيبرس! ويكون الأفرم هو مدبّر الدولة! وهو على كلّ حال عدوّنا ولا نأمن شرّه، فقالوا: فما نفعل؟ قال: الرأى أن نكتب إلى ابن أستاذنا فى الكرك ونطلبه إلى حلب ونركب معه، فإما نأخذ له الملك، وإما أن نموت على خيولنا! فقال أسندمر: هذا هو الكلام، فحلف كلّ من الثلاثة على هذا الاتّفاق، ولا يقطع واحد منهم أمرا إلّا بمشورة أصحابه، وأنّهم يموت بعضهم على بعض، ثم إنّهم تفرّقوا فى اللّيل كلّ واحد إلى بلده.
وأمّا الأمراء الذين خرجوا من مصر إلى النوّاب بالبلاد الشاميّة بالخلع وبسلطنة بيبرس، فإنهم لمّا وصلوا إلى دمشق قال لهم الأفرم: أنا أرسلت إليهم مملوكى، فردّوا علىّ جوابا لا يرضى به مولانا السلطان. وكان الأفرم أرسل إلى الملك المظفّر(8/238)
بيبرس نسخة اليمين التى حلّف بها أمراء دمشق مع مملوكه مغلطاى، فأعطاه الملك المظفّر إمرة طبلخاناه «1» وخلع عليه، وأرسل معه خلعة لأستاذه الأفرم بألف دينار، وأطلق له شيئا كثيرا كان لبيبرس فى الشام قبل سلطنته من الحواصل والغلال، فسّر الأفرم بذلك غاية السرور، ثم قال الأميران اللذان وصلا إلى دمشق للافرم:
ما تشير به علينا؟ فقال لهما: ارجعا إلى مصر ولا تذهبا إلى هؤلاء، فإنّ رءوسهم قويّة، وربّما يثيرون فتنة، فقالا: لاغنى لنا [من] أن نسمع كلامهم، ثم إنّهما ركبا من دمشق وسارا إلى حماة، ودخلا على قبجق ودفعا له كتاب الملك المظفّر، فقرأه ثم قال: وأين كتاب الملك الناصر؟ فأخرجا له الكتاب، فلمّا وقف عليه بكى، ثم قال: من قال إنّ هذا خطّ الملك الناصر؟ والله واحد يكون وكيلا فى قرية ما يعزل نفسه منها بطيبة من خاطره! ولا بدّ لهذا الأمر من سبب، اذهبا إلى الأمير قراسنقر فهو أكبر الأمراء وأخبرهم بالأحوال، فركبا وسارا إلى حلب واجتمعا بقراسنقر؛ فلمّا قرأ كتاب المظفّر قال: يا إخوتى إنّا على أيمان ابن أستاذنا لا نخونه ولا نحلف لغيره ولا نواطئ عليه ولا نفسد ملكه، فكيف نحلف لغيره! والله لا يكون هذا أبدا ودعوا «2» يجرى ما يجرى، وكلّ شىء ينزل من السماء تحمله الأرض.
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم! فخرجا من عنده وسارا إلى طرابلس ودخلا على أسندمر فقال لهما: مثل مقالة قبجق وقرا سنقر، فخرجا وركبا وسارا نحو الديار المصريّة، ودخلا على الملك المظفر بيبرس وأعلماه بما كان، فضاق صدر المظفّر وأرسل خلف الأمير سلّار النائب وقصّ عليه القصّة، فقال له سلّار: هذا أمر هيّن ونقدر (أن) نصلح هؤلاء، فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال: تكتب إلى(8/239)
قرا سنقر كتابا وترقّق له فى الكلام، وأرسل إليه تقليدا بنيابة حلب وبلادها، وأنّه لا يحمل منه الدّرهم الفرد، وكذا لقبجق بحماة، ولأسندمر بطرابلس والسواحل، فقال بيبرس: إذا فرّقت البلاد عليهم ما يساوى ملكى شيئا! فقال له سلّار: وكم [من] يد تقبّل عن ضرورة وهى تستحقّ القطع! فاسمع منّى وأرضهم فى هذا الوقت، فإذا قدرت عليهم بعد ذلك افعل بهم ما شئت؛ فمال المظفّر إلى كلامه وأمر أن يكتب بما قاله سلّار لكلّ واحد على حدته، فكتب ذلك وأرسله مع بعض خواصّه.
وأمّا أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون فإنّ الملك المظفّر لمّا تسلطن وتمّ أمره كتب له تقليدا بالكرك، وسيّره له على يد الأمير آل ملك، ومنشورا بما عيّن له من الإقطاعات. وأمّا أمر قرا سنقر فإنّه جهّز ولده محمدا إلى الملك الناصر محمد بالكرك، وعلى يده كتابه وكتاب قبجق نائب حماة وكتاب أسندمر نائب طرابلس. ومضمون كتاب قرا سنقر: أنّه يلوم الملك الناصر عن نزوله عن الملك، وكيف وقع له ذلك ولم يشاوره فى أوّل الأمر، ثمّ وعده برجوع ملكه إليه عن قريب، وأنّه هو وقبجق وأسندمر ما حلفوا للمظفر، وأنّهم مقيمون على أيمانهم له. وكذلك كتاب قبجق وكتاب أسندمر، فأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن قرا سنقر كتب الثلاثة وسار مسرعا ومعه نجّاب «1» خبير بتلك الأرض، فلم يزالا سائرين فى البريّة والمفاوز إلى أن وصلا إلى الكرك،.
وابن قرا سنقر عليه زىّ العرب، فلمّا وقفا على باب الكرك سألوهما من أين أنتما؟
فقالا: من مصر، فدخلوا وأعلموا الملك الناصر محمدا بهما واستأذنوه فى إحضارهما، فأذن لهما بالدخول؛ فلمّا مثلا بين يديه كشف ابن قراسنقر لثامه عن وجهه فعرفه السلطان، وقال له: محمد؟ فقال: لبيّك يا مولانا السلطان، وقبّل الأرض وقال:
لا بدّ من خلوة، فأمر السلطان لمن حوله بالانصراف، فعند ذلك حدّث(8/240)
ابن قرا سنقر السلطان بما جرى من أبيه وقبجق وأسندمر، وأنهم اجتمعوا فى حلب وتحالفوا بأنّهم مقيمون على الأيمان التى حلفوها للملك الناصر، ثم دفع له الكتب الثلاثة فقرأها، ثم قال: يا محمد، ما لهم قدرة على ما اتّفقوا عليه، فإنّ كلّ من فى مصر والشام قد اتّفقوا على سلطنة بيبرس، فلما سمع ابن قراسنقر ذلك حلف بأنّ كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة كفء لأهل مصر والشام، ومولانا السلطان أخبر بذلك منّى، فتبسّم السلطان وقال صدقت يا محمد، ولكن القائل يقول:
كن جريا إذا رأيت جبانا ... وجبانا إذا رأيت جريّا
لا تقاتل بواحد أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويّا
وهذه البلاد كلّها دارت مع بيبرس ولا يتمّ لنا الحال إلّا بحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور. ثم إنّه أنزله فى موضع وأحسن إليه، وقال له: استرح اليوم وغدا ثم سافر، فأقام يومين ثم طلبه الملك الناصر فى صبيحة اليوم الثالث وأعطاه جواب الكتب، وقال له: سلّم على أبى (يعنى على قرا سنقر) وقل له: اصبر، ثم خلع عليه خلعة سنيّة وأعطاه ألف دينار مصريّة، وخلع على معن النّجاب الذي أتى به أيضا وأعطاه ألف درهم؛ فخرج ابن قرا سنقر والنّجاب معه، وأسرعا فى السير إلى أن وصلا إلى حلب، فدخل ابن قرا سنقر إلى أبيه ودفع له كتاب الملك الناصر ففتحه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله تعالى نعمة المقرّ العالى الأبوىّ الشمسىّ ومتّعنا بطول حياته، فقد علمنا ما أشار به وما عوّل عليه، وقد علمنا قديما وحديثا أنّه لم يزل على هذه الصورة، وأريد منك أنّك تطوّل روحك علىّ، فهذا الأمر ما ينال بالعجلة لأنّك قد علمت انتظام أمراء مصر والشام فى سلك واحد ولا سيّما الأفرم ومن معه من اللئام، فهذه عقدة لا تنحلّ إلّا بالصبر، وإن حضر إليك أحد(8/241)
من جهة المظفّر وطلب منك اليمين له، فقدّم النيّة أنّك مجبور ومغصوب واحلف.
ولا تقطع كتبك عنى فى كلّ وقت، وعرّفنى بجميع ما يجرى من الأمور قليلها وكثيرها.
وكذلك كتب فى كتاب قبجق وأسندمر، فعرف قرا سنقر مضمون كتابه وسكت.
ثم بعد قليل وصل إلى قرا سنقر من الملك المظفّر بيبرس تقليد بنيابة حلب وبلادها دربست «1» على يد أمير «2» من أمراء مصر. ومن مضمون الكتاب الذي من المظفّر إلى قرا سنقر: أنت خشداشى، ولو علمت أنّ هذا الأمر يصعب عليك ما عملت شيئا حتّى أرسلت إليك وأعلمتك به، لأنّ ما فى المنصوريّة أحد أكبر منك، غير أنّه لما نزل ابن أستاذنا عن الملك اجتمع الأمراء والقضاة وكافّة الناس، وقالوا:
ما لنا سلطان إلّا أنت، وأنت تعلم أنّ البلاد لا تكون بلا سلطان، فلو لم أتقدّم أنا كان غيرى يتقدّم [وقد وقع ذلك «3» ] ! فاجعلنى واحدا منكم ودبّرنى برأيك. وهذه حلب وبلادها دربست لك، وكذا لخشداشيتك: الأمير قبجق والأمير أسندمر.
وسيّر الملك المظفّر لكلّ من هؤلاء الثلاثة خلعة بألف دينار، وفرشا قماشه بألف دينار، وعشرة رءوس من الخيل. فعند ذلك حلف قراسنقر وقبجق وأسندمر، ورجع الأمير المذكور إلى مصر بنسخة اليمين. فلمّا وقف عليها الملك المظفّر فرح غاية الفرح، وقال: الآن تمّ لى الملك. ثم شرع من يومئذ فى كشف أمور البلاد وإزالة المظالم والنظر فى أحوال الرعيّة.
ثم استهلّت سنة تسع وسبعمائة، وسلطان الديار المصريّة الملك المظفّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصورىّ، والخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، ونائب(8/242)
السلطنة بديار مصر الأمير سلّار، ونائب الشام الأمير آقوش الأفرم الصغير، ونائب حلب الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، ونائب حماة الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أسندمر المنصورىّ. ثم فشا فى الناس فى السنة المذكورة أمراض حادّة، وعمّ [الوباء «1» ] الخلائق وعزّ سائر ما يحتاج إليه المرضى. ثم توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسرى، وارتفع سعر القمح وسائر الغلال، ومنع الأمراء البيع من شونهم إلّا الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، فإنّه تقدّم إلى مباشريه ألّا يتركوا عنده سوى مئونة سنة واحدة، وباع ما عداه قليلا قليلا. والخطيرىّ هذا هو صاحب الجامع «2» الذي بخطّ بولاق. انتهى.
وخاف الناس أن يقع نظير غلاء كتبغا، وتشاءم الناس بسلطنة الملك المظفّر بيبرس المذكور. ثمّ إنّ الخطيب نور الدّين علىّ بن محمد بن الحسن بن علىّ القسطلانيّ «3» خرج بالناس واستسقى، وكان يوما مشهودا، فنودى من الغد بثلاث أصابع، ثم توقّفت الزيادة مدّة، ثم زاد وانتهت زيادة النيل فيه إلى خمس عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا فى سابع عشرين توت، ثم «4» نقص فى أيّام النسىء وجاء النّوروز ولم يوفّ النيل ستّ عشرة ذراعا ففتح خليج «5» السدّ فى يوم الجمعة ثامن توت وهو ثامن عشرين «6» شهر ربيع الأوّل. وذكر بعضهم أنّه لم يوفّ إلى تاسع عشر بابه، وهو يوم الخميس(8/243)
حادى عشر جمادى الأولى، وذلك بعد اليأس منه، وهذا القول هو الأشهر.
قال: وانحطّ مع ذلك بعد الوفاء السّعر وتشاءم الناس بطلعة الملك المظفّر بيبرس.
وغنّت العامّة فى المعنى:
سلطاننا ركين ... ونائبنا دقين
يجينا الماء من أين
يجيبوا لنا الأعرج ... يجى الماء ويدحّرج «1»
ومن يومئذ وقعت الوحشة بين المظفّر وبين عامّة مصر، وأخذت دولة الملك المظفّر بيبرس فى اضطراب، وذلك أنّه كثر توهّمه من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقصد فى أيّامه كل واحد من خشداشيته أن يترقّى إلى أعلى منزلة، واتّهموا الأمير سلار بمباطنة الملك الناصر محمد وحذّروا الملك المظفّر منه، وحسّنوا له القبض على سلّار المذكور، فجبن بيبرس عن ذلك. ثم ما زالوا حتّى بعث الأمير مغلطاى إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك ليأخذ منه الخيل والمماليك التى عنده، وتغلّظ فى القول، فغضب الملك الناصر من ذلك غضبا شديدا وقال له: أنا خلّيت «2» ، ملك مصر والشام لبيبرس، ما يكفيه حتّى ضاقت عينه على فرس عندى ومملوك لى ويكرّر الطلب! ارجع إليه وقل له: والله لئن لم يتركنى، وإلّا دخلت بلاد التّتار وأعلمهم أنّى تركت ملك أبى وأخى وملكى لمملوكى، وهو يتابعنى ويطلب منّى ما أخذته، فجافاه مغلطاى وخشّن له فى القول بحيث اشتدّ غضب الملك الناصر، وصاح به:
ويلك وصلت إلى هنا! وأمر أن يجرّ ويرمى من سور القلعة، فثار به المماليك، يسبّونه ويلعنونه وأخرجوه إلى السّور، فلم يزل به أرغون الدّوادار والأمير طغاى(8/244)
إلى أن عفا عنه وحبسه ثمّ أخرجه ماشيا، وعظم ذلك على الملك الناصر وكتب ملطّفات إلى نوّاب البلاد الشامية بحلب وحماة وطرابلس وصفد، ثمّ إلى مصر ممّن يثق به، وذكر ما كان به من ضيق اليد وقلّة الحرمة، وأنّه لأجل هذا ترك ملك مصر وقنع بالإقامة بالكرك، وأنّ السلطان الملك المظفّر فى كلّ وقت يرسل يطالبه بالمماليك والخيل التى عنده. ثم ذكر لهم فى ضمن الكتاب: أنتم مماليك أبى وربيّتمونى فإمّا أن تردّوه عنى وإلّا سرت إلى بلاد التّتار، وتلطّف فى مخاطبتهم غاية التلطّف؛ وسيّر لهم بالكتب على يد العربان فأوصلوها إلى أربابها. وكان قد أرسل الملك المظفّر قبل ذلك يطلب منه المال الذي كان بالكرك والخيل والمماليك التى عنده.
حسب ما يأتى ذكره فى ترجمة الملك الناصر محمد. فبعث إليه الملك الناصر بالمبلغ الذي أخذه من الكرك فلم يقنع المظفّر بذلك وأرسل ثانيا، وكان الملك الناصر لمّا أقام بالكرك صار يخطب بها للملك المظفّر بيبرس بحضرة الملك الناصر والملك الناصر يتأدّب معه، ويسكت بحضرة مماليكه وحواشيه. وصار الملك الناصر إذا كاتب الملك المظفّر يكتب إليه: «الملكىّ المظفّرىّ» وقصد بذلك سكون الأحوال وإخماد الفتن، والمظفّر يلحّ عليه لأمر يريده الله تعالى حتى كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما النّوّاب بالبلاد الشاميّة فإنّ قرا سنقر نائب حلب كتب إلى الملك الناصر الجواب: بأنّى مملوك السلطان فى كلّ ما يرسم به، وسأل أن يبعث إليه بعض المماليك السلطانية، وكذلك نائب حماة ونائب طرابلس وغيرهما ما خلا بكتمر الجوكندار، فإنّه طرد قاصد الملك الناصر ولم يجتمع به. ثم أرسل الملك الناصر مملوكه أيتمش المحمّديّ إلى الشام وكتب معه ملطّفات إلى الأمير قطلوبك المنصورىّ وبكتمر الحسامىّ الحاجب بدمشق ولغيرهما، ووصل أيتمش إلى دمشق خفية(8/245)
ونزل عند بعض مماليك قطلوبك المذكور، ودفع إليه الملطّف؛ فلمّا أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه وأمره بالاحتفاظ على أيتمش المذكور ليوصّله إلى الأفرم نائب الشام ويتقرّب إليه بذلك؛ فبلغ أيتمش الخبر فترك راحلته التى قدم عليها ومضى إلى دار الأمير بهادر آص فى اللّيل، فاستأذن عليه فأذن له فدخل إليه أيتمش وعرّفه ما كان من قطلوبك فى حقّه، فطيّب بهادر آص خاطره وأنزله عنده وأركبه من الغد معه إلى الموكب، وقد سبق قطلوبك إلى الأفرم نائب الشام وعرّفه قدوم مملوك الملك الناصر اليه وهروبه من عنده ليلا، فقلق الأفرم من ذلك وألزم والى المدينة بتحصيل المملوك المذكور، فقال بهادر آص: هذا المملوك عندى وأشار إليه، فنزل عن فرسه وسلّم على الأفرم وسار معه فى الموكب إلى دار السعادة، وقال له بحضرة الأمراء:
السلطان الملك الناصر يسلّم عليك ويقول: ما منكم أحد إلّا وأكل خبز الملك الشهيد قلاوون، وما منكم إلا من إلعامه عليه، وأنتم تربية الشهيد والده، وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة بها، فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرّفوه، فلم يتمّ هذا القول حتى صاح الكوكندى «1» الزرّاق أحد أكابر أمراء دمشق وا ابن أستاذاه! وبكى، فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه، ثم قال الأفرم:
لأيتمش قل له (يعنى الملك الناصر) : كيف يجيء إلى الشام أو إلى غير الشام! كأنّ الشام ومصر الآن تحت حكمك. أنا لمّا أرسل إلىّ السلطان الملك المظفر أن أحلف له ما حلفت حتى سيّرت أقول له: كيف يكون ذلك وابن أستاذنا باق! فأرسل يقول: أنا ما تقدّمت عليه حتى خلع ابن أستاذنا نفسه، وكتب خطّه وأشهد عليه بنزوله عن الملك فعند ذلك حلفت له، ثم فى هذا الوقت تقول: من يردّنى عن الشام! ثم أمر به الأفرم فسلّم إلى أستاداره. فلمّا كان اللّيل استدعاه ودفع له(8/246)
خمسين دينارا وقال قل له: لا تذكر الخروج من الكرك، وانا أكتب إلى المظفّر وأرجعه عن الطلب «1» ، ثم أطلقه فعاد أيتمش إلى الكرك وأعلم الملك الناصر بما وقع.
فأعاده الملك الناصر على البريد «2» ومعه أركتمر وعثمان الهجّان ليجتمع بالأمير قرا سنقر نائب حلب ويواعده على المسير إلى دمشق، ثم خرج الملك الناصر من الكرك وسار إلى بركة زيزاء «3» فنزل بها.
وأمّا الملك المظفّر بيبرس صاحب الترجمة فإنّه لمّا بلغه أنّ الملك الناصر حبس قاصده مغلطاى المقدّم ذكره قلق من ذلك واستدعى الأمير سلّار وعرّفه ذلك، وكانت البرجيّة قد أغروا المظفّر بيبرس بسلّار واتّهموه أنّه باطن الملك الناصر وحسّنوا له القبض عليه، حسب ما ذكرناه، فجبن الملك المظفّر من القبض عليه. وبلغ ذلك سلّار فخاف من البرجيّة لكثرتهم وقوّتهم وأخذ فى مداراتهم؛ وكان أشدّهم عليه الأمير بيكور «4» وقد شرق إقطاعه، فبعث إليه سلّار بستة آلاف إردب غلّة وألف دينار فكفّ عنه، ثم هادى خواصّ المظفّر وأنعم عليهم. فلمّا حضر سلّار عند المظفّر وتكلّما فيما هم فيه فاقتضى الرأى إرسال قاصد إلى الملك الناصر بتهديده ليفرج عن مغلطاى. وبينما هم فى ذلك قدم البريد من دمشق بأنّ الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج «5» الأبيض ولم يعرف أحد مقصده، فكتب الجواب فى الحال بحفظ(8/247)
الطّرقات عليه. واشتهر بالديار المصريّة حركة الملك الناصر محمد وخروجه من الكرك فماجت الناس؛ وتحرّك الأمير نوغاى القبجاقىّ، وكان شجاعا مقداما حادّ المزاج قوىّ النفس، وكان من ألزام الأمير سلّار النائب، وتواعد مع جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفّر إذا ركب ويقتله. فلمّا ركب المظفّر ونزل إلى بركة الجبّ استجمع نوغاى بمن وافقه يريدون الفتك بالمظفّر فى عوده من البركة، وتقرّب نوغاى من السلطان قليلا قليلا وقد تغيّر وجهه وظهر فيه أمارات الشرّ، ففطن به خواصّ المظفر وتحلّقوا حول المظفّر، فلم يجد نوغاى سبيلا إلى ما عزم عليه، وعاد الملك المظفّر إلى القلعة فعرّفه ألزامه ما فهموه من نوغاى وحسّنوا له القبض عليه وتقريره على من معه، فاستدعى السلطان الأمير سلّار وعرّفه الخبر، وكان نوغاى قد باطن سلّار بذلك، فحذّر سلّار الملك المظفّر وخوّفه عاقبة القبض على نوغاى وأنّ فيه فساد قلوب جميع الأمراء، وليس الرأى إلّا الإغضاء فقط. وقام سلار عنه فأخذ البرجيّة بالإغراء بسلّار وأنّه باطن نوغاى، ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. وبلغ نوغاى الحديث فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر، وخرج هو والأمير مغلطاى القازانى وتقطاى الساقى ونحو ستين مملوكا وقت المغرب عند «1» غلق باب القلعة فى ليلة الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعمائة المذكورة. وقيل فى أمر نوغاى وهروبه وجه آخر:
قال الأمير بيبرس الدّوادار فى تاريخه: تسحّب من الديار المصريّة إلى الكرك المحروس سيف الدين نوغاى القفجاقىّ أحد المماليك السلطانيّة وسيف الدين تقطاى الساقى وعلاء الدين مغلطاى القازانىّ، وتوجّه معهم من المماليك السلطانية بالقلعة(8/248)
مائة وستة وثلاثون نفرا، وخرجوا طلبا واحدا بخيلهم وهجنهم وغلمانهم وتركوا بيوتهم وأولادهم. انتهى.
وقال غيره «1» : لمّا ولى الملك المظفر بيبرس السلطنة بقى سلّار هو الملك الظاهر بين الناس والملك المظفّر بيبرس من وراء حجاب، فلمّا كان فى بعض الأيام دخل على الملك المظفّر أميران: أحدهما يسمّى نوغاى والآخر مغلطاى فباسا الأرض بين يديه وشكوا له ضعف أخبازهما، فقال لهما المظفّر: اشكوا إلى سلّار فهو أعلم بحالكما منى، فقالا: خلّد الله ملك مولانا السلطان، أهو مالك البلاد أم مولانا السلطان! فقال: اذهبا إلى سلّار، ولم يزدهما على ذلك، فخرجا من عنده وجاءا إلى سلّار وأعلماه بقول الملك المظفّر، فقال سلّار: والله يا أصحابى أبعدكما بهذا الكلام، وأنتما تعلمان أنّ النائب ما له كلام مثل السلطان. وكان نوغاى شجاعا وعنده قوّة بأس، فأقسم بالله لئن لم يغيّروا خبزه ليقيمنّ شرّا تهرق فيه الدماء، ثم خرجا من عند سلّار. وفى الحال ركب سلّار وطلع إلى عند الملك المظفّر وحدّثه بما جرى من أمر نوغاى ومغلطاى، وقال: هذا نوغاى يصدق فيما يقول، لأنّه قادر على إثارة الفتنة، فالمصلحة قبضه وحبسه فى الحبس، فاتّفقوا على قبضه. وكان فى ذلك الوقت أمير يقال له أنس «2» فسمع الحديث، فلمّا خرج أعلم نوغاى بذلك، فلمّا سمع نوغاى الكلام طلب مغلطاى وجماعة من مماليك الملك الناصر، وقال لهم: يا جماعة، هذا الرجل قد عوّل على قبضنا، وأمّا أنا فلا أسلّم نفسى إلّا بعد حرب تضرب فيه الرّقاب، فقالوا له:
على ماذا عوّلت؟ فقال: عوّلت على أنّى أسير إلى الكرك إلى الملك الناصر أستاذنا، فقالوا له: ونحن معك فحلف كلّ منهم على ذلك، فقال نوغاى، وكان بيته خارج(8/249)
باب النصر: كونوا عندى وقت الفجر الأوّل راكبين وأنتم لابسون وتفرّقا، فجهّز نوغاى حاله فى تلك الليلة وركب بعد الثّلث الأخير مع مماليكه وحاشيته، ثم جاءه مغلطاى القازانى بمماليكه ومعه جماعة من مماليك السلطان الملك الناصر والكلّ ملبسون [على «1» ظهر الخيل] . ثم إنّ نوغاى حرّك الطبلخاناه «2» حربيّا وشقّ من الحسينيّة «3» فماجت الناس وركبوا من الحسينية وأعلموا الأمير سلّار، فركب سلار وطلع إلى القلعة وأعلم السلطان بذلك.
قال ابن كثير: وكان ذلك بمباطنة سلّار مع نوغاى. فلمّا بلغ المظّفر ذلك قال على إيش توجّها! فقال سلّار: على نباح الجراء فى بطون الكلاب «4» ، والله ما ينظر فى عواقب الأمور ولا يخاف آثار المقدور؛ فقال المظفر: إيش المصلحة؟ فاتفقوا على تجريد عسكر خلف المتسحّبين فجرّد فى أثرهم جماعة من الأمراء صحبة الأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ «5» ، والأمير سيف الدين قلّى فى جماعة من المماليك، فساروا سيرا خفيفا قصدا فى عدم إدراكهم وحفظا لسلطانهم وابن سلطانهم الملك الناصر محمد ابن قلاوون فلم يدركوهم، وأقاموا على غزّة أياما وعادوا إلى القاهرة.
وقال صاحب نزهة الألباب «6» : وجرّد السلطان الملك المظفّر وراءهم خمسة آلاف فارس صحبة الأمير أخى سلّار، وقال له المظفّر: لا ترجع إلّا بهم ولو غاصوا(8/250)
فى البحر! وكان فيهم الأمير شمس الدين دباكوز «1» وسيف الدين بجاس وجنكلى «2» ابن البابا وكهرداش وأيبك البغدادىّ وبلاط وصاروجا «3» والقرمانى وأمير آخر، وهؤلاء الأمراء هم خيار عسكر مصر فساروا. وكان نوغيه قد وصل إلى بلبيس وطلب واليها وقال له: إن لم تحضر لى فى هذه الساعة خمسة آلاف دينار من مال السلطان وإلّا سلخت جلدك من كعبك [إلى أذنك «4» ] ، ففى الساعة أحضر الذهب، وكان نوغيه قد أرصد أناسا يكشفون له الأخبار، فجاءوا له وذكروا أنّ عسكرا عظيما قد وصل من القاهرة وهم سائقون؛ فلمّا سمع نوغيه ذلك ركب هو وأصحابه وقالوا لوالى بلبيس قل للامراء الجائين خلفى أنا رائح على مهل حتى تلحقونى، وأنا أقسم بالله العظيم لئن وقعت عينى عليهم لأجعلنّ عليهم يوما يذكر إلى يوم القيامة! ولم يبعد نوغيه حتى وصل أخو سلّار وهو الأمير سمك ومعه العساكر، فلاقاهم والى بلبيس وأخبرهم بما جرى له مع نوغيه وقال لهم: ما ركب إلا من ساعة، فلما سمعوا بذلك ساقوا إلى أن وصلوا إلى مكان بين الخطّارة «5»(8/251)
والسعيدية «1» ، فإذا بنوغاى واقف وقد صفّ رجاله ميمنة وميسرة وهو واقف فى القلب قدّام الكلّ، فلما رآهم سمك أرسل إليه فارسا من كبار الحلقة، وسار إليه الفارس واجتمع بنوغيه وقال له: أرسلنى سمك إليك وهو يقول: السلطان الملك المظفّر يسلّم عليك ويقول لك: سبحان الله! أنت كنت أكبر أصحابه، فما الذي غيّرك عليه؟
فإن كان لأجل الخبز فما يأكل الخبز أحد أحقّ منك، فإن عدت إليه فكلّ ما تشتهى يفعله لك. فلمّا سمع نوغيه هذا الكلام ضحك وقال: إيش هذا الكلام الكذب! لمّا أمس سألته أن يصلح خبزى بقرية واحدة ما أعطانى، وأنا تحت أمره، فكيف يسمح لى اليوم بما أشتهى وأنا صرت عدوّه! فخلّ عنك هذا الهذيان، ومالكم عندى إلا السيف، فرجع الرسول وأعلم سمك بمقالته، ثم إنّ نوغيه دكس «2» فرسه وتقدّم إلى سمك وأصحابه وقال له: إن هؤلاء الذين معى أنا الذي أخرجتهم من بيوتهم وأنا المطلوب، فمن كان يريدنى يبرز لى وهذا الميدان! فنظرت الأمراء بعضهم إلى بعض، ثم قال: يا أمراء، ما أنا عاص على أحد، وما خرجت من بيتى إلا غبنا، وأنتم أغبن منى، ولكن ما تظهرون ذلك، وهأنتم سمعتم منى الكلام فمن أراد الخروج إلىّ فليخرج وإلا احملوا علىّ بأجمعكم، وكان آخر النهار، فلم يخرج اليه أحد فرجع إلى أصحابه ونزل سمك فى ذلك المكان. فلما أمسى الليل(8/252)
رحل نوغيه بأصحابه وسار مجدّا ليله ونهاره حتى وصل قطيا «1» ، فوجد واليها قد جمع العربان لقتاله، لأنّ البطاقة وردت عليه من مصر بذلك، والعربان الذين جمعهم الوالى نحو ثلاثة آلاف فارس؛ فلما رآهم نوغاى قال لأصحابه: احملوا عليهم وبادروهم حتى لا يأخذهم الطّمع فيكم (يعنى لقلّتهم) وتأتى الخيل التى وراءكم، فحملوا عليهم وكان مقدّم العرب نوفل [بن «2» حابس] البياضى، وفيهم نحو الخمسمائة نفر بلبوس، فحملت الأتراك أصحاب نوغاى عليهم وتقاتلا قتالا عظيما حتى ولّت العرب، وانتصر نوغيه عليهم هو وأصحابه، وولّت العرب الأدبار طالبين البرّيّة، ولحق نوغيه والى قطيا فطعنه وألقاه عن فرسه وأخذه أسيرا. ثم رجعت الترك من خلف العرب وقد كسبوا منهم شيئا كثيرا.
وأمّا سمك فإنه لم يزل يتبعهم بعساكر مصر منزلة بعد منزلة حتى وصلوا إلى قطيا فوجدوها خرابا، وسمعوا ما جرى من نوغيه على العرب، فقال الأمراء: الرأى أننا نسير إلى غزّة ونشاور نائب غزّة فى عمل المصلحة، فساروا إلى غزّة فلاقاهم نائب غزّة وأنزلهم على ظاهر غزّة وخدمهم، فقال له سمك: نحن ما جئنا إلّا لأجل نوغاى، وأنّه من العريش «3» سار يطلب الكرك، فما رأيك؟ نسير إلى الكرك أو نرجع إلى مصر؟
فقال لهم نائب غزة: رواحكم إلى الكرك ما هو مصلحة، وأنتم من حين خرجتم من مصر سائرون وراءهم ورأيتموهم فى الطريق فما قدرتم عليهم، وقد وصلوا إلى الكرك وانضمّوا إلى الملك الناصر، والرأى «4» عندى أنكم ترجعون إلى مصر وتقولون للسلطان ما وقع وتعتذرون له، فرجعوا وأخبروا الملك المظفّر بالحال فكاد يموت غيظا، وكتب(8/253)
من وقته كتابا للملك الناصر فيه: إنّ ساعة وقوفك على هذا الكتاب وقبل وضعه من يدك ترسل لنا نوغاى ومغلطاى ومماليكهما، وتبعث المماليك الذين عندك ولا تخلّ منهم عندك سوى خمسين مملوكا، فإنك اشتريت الكلّ من بيت المال، وإن لم تسيرهم سرت إليك وأخذتك وأنفك راغم! وسيّر الكتاب مع بدوىّ «1» إلى الملك الناصر.
وأمّا نوغاى فإنه لما وصل إلى الكرك وجد الملك الناصر فى الصيد، فقال نوغيه لمغلطاى: انزل أنت ها هنا وأسير أنا للسلطان، وركب هجينا وأخذ معه ثلاثة مماليك وسار إلى ناحية عقبة أيلة «2» ، وإذا بالسلطان نازل فى موضع وعنده خلق كثير من العرب والترك، فلما رأوا نوغيه وقد أقبل من صدر البرّيّة، أرسلوا إليه خيلا فكشفوا خبره، فلما قربوا منه عرفه مماليك السلطان فرجعوا وأعلموا السلطان أنه نوغاى، فقال السلطان: الله أكبر! ما جاء هذا إلّا عن أمر عظيم، فلّما حضر نزل وباس الأرض بين يدى الملك الناصر ودعا له، فقال له الملك الناصر: أراك ما جئت لى فى مثل هذا الوقت إلى هذا المكان إلا لأمر؟ فحدثنى حقيقة أمرك، فأنشأ نوغيه يقول:
أنت المليك وهذه أعناقنا ... خضعت لعزّ علاك يا سلطانى
أنت المرجّى يا مليك فمن لنا ... أسد سواك وما لك البلدان
فى أبيات أخر، ثم حكى له ما وقع له منذ خرج الملك الناصر من مصر إلى يوم تاريخه، فركب الملك الناصر وركب معه نوغيه وعادا إلى الكرك، وخلع عليه وعلى رفقته وأنزلهم عنده ووعدهم بكلّ خير.(8/254)
ثم إنّ الملك الناصر جمع أمراءه ومماليكه وشاورهم فى أمره، فقال نوغيه:
من ذا الذي يعاندك أو يقف قدّامك والجميع مماليكك! والذي خلق الخلق إذا كنت أنت معى وحدى ألتقى بك كلّ من خرج من مصر والشام! فقال السلطان:
صدقت فيما قلت، ولكن من لم ينظر فى العواقب، ما الدهر له بصاحب. انتهى.
وقال ابن كثير فى تاريخه: وصل المتوجّهون إلى الكرك إلى الملك الناصر فى الحادى والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فقبلهم الناصر أحسن قبول، وكان حين وصلوا إلى قطيا أخذوا ما بها من المال، ووجدوا أيضا فى طريقهم تقدمة لسيف الدين طوغان «1» نائب البيرة «2» فأخذوها بكمالها وأحضروا الجميع بين يدى الملك الناصر محمد، ولمّا وصلت إليه الأمراء المذكورون أمر الملك الناصر بالخطبة لنفسه، ثم كاتب النوّاب فاجتمعوا وأجابوه بالسمع والطاعة. ولما عاد الأمراء من غزّة إلى مصر اشتدّ خوف السلطان الملك المظفّر وكثر خياله من أكثر عسكر مصر، فقبض على جماعة تزيد على ثلثمائة مملوك، وأخرج أخبازهم وأخباز المتوجّهين مع نوغيه إلى الكرك لمماليكه، وتحلّقوا عليه البرجيّة وشوّشوا فكره بكثرة تخيّله بمخامرة العسكر المصرىّ عليه، وما زالوا به حتّى أخرج الأمير بينجار والأمير صارم الدين الجرمكىّ فى عدّة من الأمراء مجرّدين، وأخرج الأمير آقوش الرومىّ بجماعته إلى طريق السّويس ليمنع من عساه يتوّجّه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر. ثم قبض الملك المظفّر على أحد عشر مملوكا وقصد أن يقبض على آخرين فاستوحش الأمير بطرا «3» فهرب، فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة فأحضره فحبس؛ وعند إحضاره(8/255)
طلع الأمير ألديكز السّلاح دار بملطّف من عند الملك الناصر محمد، وهو جواب الكتاب الذي كان أرسله الملك المظفر للملك الناصر يطلب نوغيه وأصحابه. وقد ذكرنا معناه وما أغلظ فيه وأفحش فى الخطاب للملك الناصر، وكان فى وقت وصول كتاب المظفّر حضر إلى الملك الناصر الأمير أسندمر نائب طرابلس كأنّهما كان على ميعاد، فأخذ الناصر الكتاب وأسندمر إلى جانبه، وعليه لبس العربان، وقد ضرب اللّثام فقرأ الناصر الكتاب، ثم ناوله إلى أسندمر فقرأه وفهم معناه، ثم أمر الملك الناصر الناس بالانصراف وبقى هو وأسندمر، وقال لأسندمر: ما يكون الجواب؟
فقال له أسندمر: المصلحة أن تخادعه فى الكلام وتترقّق له فى الخطاب حتى نجهّز أمرنا ونستظهر، فقال له السلطان: اكتب له الجواب مثل ما تختاره، فكتب أسندمر:
«المملوك محمد بن قلاوون يقبّل اليد العالية المولوية السلطانيّة المظفّريّة أسبغ الله ظلّها، ورفع قدرها ومحلّها، وينهى بعد رفع دعائه، وخالص عبوديته وولائه أنه وصل إلىّ المملوك نوغيه ومغلطاى وجماعة من المماليك، فلمّا علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة ولم يمكّن أحدا منهم يعبر إليه، وسيّرت إليهم ألومهم على ما فعلوه، وقد دخلوا على المملوك بأن يبعث ويشفع فيهم، فأخذ المملوك فى تجهيز تقدمة لمولانا السلطان ويشفع فيهم، والذي يحيط به علم مولانا السلطان أنّ هؤلاء من مماليك السلطان، خلّد الله ملكه، وأنّ الذي قيل فيهم غير صحيح، وإنما هربوا خوفا على أنفسهم، وقد استجاروا بالمملوك، والمملوك يستجير بظلّ الدولة المظفّريّة، والمأمول «1» ألّا يخيّب سؤاله ولا يكسر قلبه، ولا يردّه فيما قصده «2» . وفى هذه الأيام يجهّز المملوك(8/256)
تقدمة مع المماليك الذين طلبهم مولانا السلطان، وأنا ما لى حاجة بالمماليك فى هذا المكان، وإن رسم مولانا ما لك الرّقّ أن يسيّر نائبا له ينزل «1» المملوك بمصر ويلتجئ بالدولة المظفريّة ويحلق رأسه ويقعد فى تربة الملك المنصور.
والمملوك قد وطّن نفسه على مثل هذا؛ وقد قال أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه: «ما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النّعم والموت من الحياة» . وقال بعضهم: إيّاك وما يسخط سلطانك، ويوحش إخوانك؛ فمن أسخط سلطانه فقد تعرّض للمنيّة، ومن أوحش إخوانه فقد تبرّأ عن الحرية «2» .
والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل! والله تعالى قال فى كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والمملوك ينتظر الأمان والجواب. أنهى المملوك ذلك» .
فلمّا قرأ الملك المظفّر الكتاب خفّ ما كان عنده، وكان سلّار حاضرا فقال له سلّار: ما قلت لك إنّ الملك الناصر ما بقيت له قدرة على المعاندة! وقد أصبح ملك الشام ومصر طوع يدك، ولكن عندى رأى: وهو أن تسيّر إلى الأفرم بأن يجعل بآله من الأمراء، فإنّهم ربّما يهربون إلى بلاد التّتار فاستصوب المظفّر ذلك، وكتب إلى الأفرم فى الحال بالغرض، فلمّا وصل الكتاب إلى الأفرم اجتهد فى ذلك غاية الاجتهاد.
وأخذ الملك الناصر فى تدبير أمره، وبينما المظفّر فى ذلك ورد عليه الخبر من الأفرم بخروج الملك الناصر من الكرك، فقلق المظفّر من ذلك وزاد توهّمه ونفرت قلوب جماعة من الأمراء والمماليك منه وخشوا على أنفسهم واجتمع كثير(8/257)
من المنصوريّة والأشرفية والأويراتيّة «1» وتواعدوا على الحرب، وخرج منهم مائة وعشرون فارسا بالسلاح، وساروا على حميّة إلى الملك الناصر، فخرج فى أثرهم الأمير بينجار والصارم الجرمكىّ بمن معهم، وقاتلوا المماليك وجرح الجرمكىّ بسيف فى خدّه «2» سقط منه إلى الأرض، ومضى المماليك إلى الكرك ولم يستجرئ أحد أن يتعرّض إليهم؛ فعظم بذلك الخطب على الملك المظفّر، واجتمع عنده البرجيّة وقالوا: هذا الفساد كلّه من الأمير سلّار، ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك، فلم يوافق على ذلك وجبن من القبض على سلّار لشوكته ولاضطراب دولته، ثم طلب الملك المظفّر الأمير سلّار وغيره من الأمراء واستشارهم فى أمر الملك الناصر، فاتّفق الرأى على خروج تجريدة لقتال الملك الناصر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه أرسل الأمير أيتمش المحمّدىّ الناصرىّ إلى الأمير قبجق نائب حماة، فأحال الأمير قبجق الأمر على الأمير قرا سنقر نائب حلب، فاجتمع أيتمش بقرا سنقر فأكرمه ووافق على القيام مع الملك الناصر، ودخل فى طاعته وأعلن بذلك، وهو أكبر المماليك المنصوريّة، وواعد الملك الناصر على المسير إلى دمشق فى أوّل شعبان. ثم كتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب الشام يحثّه على طاعة الملك الناصر ويرغّبه فى ذلك ويحذّره مخالفته؛ وأشار قراسنقر على الملك الناصر أنه يكاتب الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، والأمير كراى المنصورىّ نائب القدس. ثم عاد أيتمش إلى أستاذه الملك الناصر وأخبره بكلّ ما وقع، فسرّ الملك الناصر بذلك هو وكلّ من عنده(8/258)
غاية السرور، وتحقّق كلّ أحد من حواشى الملك الناصر بإتمام أمره. وكان نوغيه منذ قدم على الملك الناصر بالكرك لا يبرح يحرّضه على المسير إلى دمشق حتّى إنّه ثقل على الملك الناصر من مخاشنته فى المخاطبة بسبب توجّهه إلى دمشق، وغضب منه وقال له: ليس لى بك حاجة، ارجع حيث جئت، فترك نوغاى الخدمة وانقطع وحقد له الملك الناصر ذلك حتّى قتله بعد عوده إلى الملك بمدّة حسب ما يأتى ذكره من كثرة ما وبّخه نوغيه المذكور، وأسمعه من الكلام الخشن.
ولمّا قدم أيتمش بالأجوبة على الملك الناصر قوى عزم الملك الناصر على الحركة؛ ثم إنّ الملك الناصر أيضا أرسل مملوكه أيتمش المحمدى المذكور إلى الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد حسب ما أشار به قرا سنقر، فسار أيتمش إليه واجتمع بالأمير محمد بن بكتمر الجوكندار، فجمع محمد المذكور بين أيتمش وبين أبيه ليلا فى مقابر صفد، فعتبه أيتمش على ردّه أوّلا قاصد السلطان الملك الناصر فاعتذر له بكتمر بالخوف من بيبرس وسلّار كما كان وقع له مع الناصر أوّلا بالديار المصريّة حين اتّفقا على قبض بيبرس وسلّار ولم يتمّ لهم ذلك، وأخرج بكتمر بسبب ذلك من الديار المصريّة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه. انتهى. ثم قال له بكتمر: ولولا ثقتى بك ما اجتمعت عليك، فلمّا عرّفه أيتمش طاعة الأمير قراسنقر والأمير قبجق والأمير أسندمر أجاب بالسمع والطاعة، وأنّه على ميعاد النوّاب إلى المضى إلى الشام، وعاد أيتمش إلى الملك الناصر بجواب بكتمر فسرّ به غاية السرور.
وأمّا السلطان الملك المظفّر بيبرس هذا فإنّه أخذ فى تجهيز العساكر إلى قتال الملك الناصر محمد حتّى تمّ أمرهم وخرجوا من الديار المصريّة فى يوم السبت تاسع شهر رجب وعليهم خمسة أمراء من مقدّمى الألوف، وهم: الأمير برلغى الأشرفىّ، والأمير جمال الدين آقوش الأشرفى نائب الكرك كان، والأمير عزّ الدين أيبك(8/259)
البغدادىّ، والأمير سيف الدين طغريل الإيغانىّ، والأمير سيف الدين الدكز «1» السلاح دار، ومعهم نحو ثلاثين أميرا من أمراء الطبلخاناه بعد ما أنفق فيهم الملك المظفّر، فأعطى برلغى عشرة آلاف دينار، وأعطى لكل مقدّم ألفى دينار، ولكلّ من الطبلخاناه ألف دينار، ولكلّ واحد من مقدّمى الحلقة ألف درهم، ولكل واحد من أجناد الحلقة خمسمائة درهم، ونزلوا بمسجد التّبن «2» خارج القاهرة ولم يتقدّموا، ثم عادوا بعد أربعة أيّام إلى القاهرة. وكان الباعث على عودهم أن كتب آقوش الأفرم نائب الشام وردت على الملك المظفّر: تتضمّن وصول الملك الناصر إلى البرج «3» الأبيض، ثم عاد إلى الكرك فاطمأنّ الملك المظفر وأرسل إلى برلغى ومن معه من المجرّدين بالعود فعادوا بعد أربعة أيام. فلم يكن إلا أيّام وورد الخبر ثانيا بمسير الملك الناصر محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهّز العسكر المذكور فى أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة فى العشرين من شعبان إلى العبّاسة. فورد البريد من دمشق بقد أيتمش المحمّدى من قبل الملك الناصر بمشافهة إلى الأفرم ذكرها للمظفّر. ثم إنّ الأفرم بعد قدوم أيتمش بعث الأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ، والأمير جوبان لكشف خبر الملك الناصر، وأنهما توجّها من الشام إلى جهة الكرك، فوجدا الملك الناصر يتصيّد وأنّه عوّق أيتمش عنده، فسرّ المظفّر بذلك، وكان الأمر بخلاف ذلك، وهو أن أمرهما: أنّه لمّا سيّرهما الأفرم لكشف خبر الملك الناصر قدما على الملك الناصر، ودخلا تحت طاعته، وعرّفاه أنهما جاءا لكشف خبره وحلفا له على القيام بنصرته سرّا، وعادا إلى الأفرم بالجواب المذكور. وكان الناصر هو الذي أمرهما بهذا القول، فظنّ(8/260)
الأفرم أنّ أخبارهما على الصدق، فكتب به إلى المظفّر. ثم إنّ الأفرم خاف أن يطرق الملك الناصر دمشق على غفلة فجرّد إليه ثمانية أمراء من أمراء دمشق، وهم:
الأمير سيف الدين قطلوبك المنصورىّ، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبىّ الحاجب، والأمير جوبان، والأمير كجكن، والأمير علم الدين سنجر الجاولى وغيرهم ليقيموا على الطّرقات لحفظها على من يخرج من الشام وغيره إلى الملك الناصر. وكتب إلى الملك المظفّر يستحثّه على إخراج عساكر مصر لتجتمع عنده مع عساكر دمشق على قتال الملك الناصر، وأنّه قد جدّد اليمين للمظفّر وحلّف أمراء دمشق ألّا يخونوه ولا ينصروا الملك الناصر. فلمّا قرأ المظفّر كتاب الأفرم اضطرب وزاد قلقه.
ثم ورد عليه كتاب الأمير برلغى من العبّاسة بأنّ مماليك الأمير آقوش الرومىّ تجمّعوا عليه وقتلوه وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر، وأنّه لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه فى جماعة من مماليك الأمراء وقد فسد الحال، والرأى أن يخرج السلطان بنفسه.
فلمّا سمع الملك المظفّر ذلك أخرج تجريدة أخرى فيها عدّة أمراء أكابر، وهم:
الأمير بجاس «1» وبكتوت وكثير من البرجيّة، ثم بعث إلى برلغى بألفى دينار ووعده بأنه عازم على التوجّه إليه بنفسه.
فلمّا ورد كتاب الملك المظفر بذلك وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل إلى جهة الكرك، فلمّا كان الليل رحل كثير ممّن كان معه يريدون الملك الناصر، فثنى عزمه عن الرحيل ثانيا، وكتب إلى المظفّر يقول: بأنّ نصف العسكر سار إلى الملك الناصر وخرج عن طاعة الملك المظفّر، ثم حرّض الملك المظفّر على الخروج(8/261)
بنفسه. وقبل أن يطلع الفجر من اليوم المذكور وصل إلى القاهرة الأمير بهادر جك «1» بكتاب الأمير برلغى المذكور وطلع إلى السلطان، فلمّا قضى الملك المظفّر صلاة الصبح تقدّم إليه بهادرجك وعرّفه بوصول أكثر العسكر إلى الملك الناصر وناوله الكتاب، فلمّا قرأه بيبرس تبسّم وقال: سلّم على الأمير برلغى، وقل له لا تخش من شىء، فإنّ الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية وجدّد لنا عهدا، وقد قرئ على المنابر، وجدّدنا اليمين على الأمراء، وما بقى أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين! ثم دفع إليه العهد الخليفتى وقال: امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند ثم يرسله إلىّ، فإذا فرغ من قراءته يرحل بالعساكر إلى الشام وجهّز له بألفى دينار أخرى، وكتب جوابه بنظير المشافهة، فعاد بهادر جك إلى برلغى.
فلمّا قرأ عليه الكتاب وانتهى إلى قوله: وأنّ أمير المؤمنين ولّانى تولية جديدة وكتب لى عهدا وجدد لى بيعة ثانية، وفتح العهد فإذا أوّله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فقال برلغى: ولسليمان الريح! ثم التفت إلى بهادر جك وقال له، قل له: يا بارد الذقن، والله ما بقى أحد يلتفت إلى الخليفة، ثم قام وهو مغضب. وكان سبب تجديد العهد للملك المظفّر هذا أنّ الأفرم نائب الشام لمّا ورد كتابه على المظفّر أنه حلّف الأمراء بدمشق ثانيا، وبعث بالشيخ صدر الدين محمد ابن عمر [بن مكّى بن عبد الصمد الشهير «2» بابن] المرحّل إلى الملك المظفّر فى الرسليّة، صار صدر الدين يجتمع به هو وابن عدلان «3» وصار الملك المظفّر يشغل وقته بهما، فأشارا عليه بتجديد العهد والبيعة وتحليف الأمراء، وأنّ ذلك يثبّت به قواعد ملكه(8/262)
ففعل الملك المظفّر ذلك، وحلف الأمراء بحضور الخليفة، وكتب له عهدا جديدا عن الخليفة أبى الربيع سليمان العباسىّ. ونسخة العهد:
«إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الله وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبى الربيع سليمان بن أحمد العبّاسىّ لأمراء المسلمين وجيوشها، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
وإنّى رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفّر ركن الدين نائبا عنى لملك الديار المصرية والبلاد الشاميّة، وأقمته مقام نفسى لدينه وكفاءته وأهليّته ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمى بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيّنا علىّ، وحكمت بذلك الحكّام الأربعة؛ واعلموا، رحمكم الله، أنّ الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابر؛ وقد استخرت الله تعالى وولّيت عليكم الملك المظفّر، فمن أطاعه فقد أطاعنى، ومن عصاه فقد عصانى، ومن عصانى فقد عصى أبا القاسم ابن عمّى صلّى الله عليه وسلّم. وبلغنى أنّ الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شقّ العصاة على المسلمين وفرّق كلمتهم وشئت شملهم وأطمع عدوّهم فيهم، وعرّض البلاد الشاميّة والمصريّة إلى سبى الحريم والأولاد وسفك الدماء، فتلك دماء قد صانها الله تعالى من ذلك. وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمرّ على ذلك، وأدافع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم لهذا الأمر العظيم، وأقاتله حتّى يفىء إلى أمر الله تعالى، وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافّة الخروج تحت لوائى اللّواء الشريف، فقد أجمعت الحكّام على وجوب دفعه وقتاله إن استمرّ على ذلك، وأنا مستصحب معى الملك المظفّر فجهّزوا أرواحكم والسلام» .(8/263)
وقرئ هذا العهد على منابر الجوامع بالقاهرة، فلمّا «1» بلغ القارئ إلى ذكر الملك الناصر صاحت العوامّ: نصره الله نصره الله! وكررت ذلك. وقرأ، فلمّا وصل إلى ذكر الملك المظفّر صاحوا: لا، ما نريده! ووقع فى القاهرة ضجّة وحركة بسبب ذلك.
انتهى.
ثم قدم على الملك المظفّر من الشام على البريد الأمير بهادر آص يحثّ الملك المظفر على الخروج إلى الشام بنفسه، فإن النوّاب قد مالوا كلّهم إلى الملك الناصر، فأجاب أن لا يخرج، واحتجّ بكراهيته للفتنة «2» وسفك الدماء، وأنّ الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر فإن قبلوا وإلّا ترك الملك. ثم قدم أيضا الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغى، وفيه أن جميع من خرج معه من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر وتبعهم خلق كثير، ولم يتأخر غير برلغى وآقوش نائب الكرك وأيبك البغدادىّ، وألدكز والفتّاح، وذلك لأنّهم خواصّ الملك المظفّر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه سار من الكرك بمن معه فى أوّل شعبان يريد دمشق بعد أمور وقعت له؛ نذكرها فى أوائل ترجمته الثالثة. فلمّا سار دخل فى طاعته الأمير قطلوبك المنصورىّ والحاج بهادر وبكتمر الحسامىّ حاجب حجّاب دمشق وعلم الدين سنجر الجاولى. وصار الملك الناصر يتأنّى فى مسيره من غير سرعة حتّى يتبيّن ما عند أمراء دمشق الذين أخرجهم الأفرم لحفظ الطرقات قبل ذلك، فكتبوا أمراء دمشق المذكورون إلى الأفرم أنّه لا سبيل لهم إلى محاربة الملك الناصر، وأرادوا بذلك إمّا أن يخرج بنفسه فيقبضوه أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فيأتيهم بقيّة الجيش وكان كذلك. فإنّه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شارع بين الناس مجىء الملك(8/264)
الناصر من الكرك فثارت العوامّ وصاحوا. نصر الله الملك الناصر! وتسلّل عسكره من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر، وانفرط الأمر من الأفرم واتّفق الأمير بيبرس العلائى «1» والأمير بيبرس «2» المجنون بمن معهما على الوثوب على الأفرم والقبض عليه، فلم يثبت عند ما بلغه ذلك، واستدعى علاء الدين [علىّ «3» ] بن صبيح، وكان من خواصّه وخرج ليلا وتوجّه إلى جهة الشّقيف «4» ، فركب قطلو بك والحاجّ بهادر عند ما سمعا خبر الأفرم، وتوجّها إلى الملك الناصر، وكانا كاتباه بالدخول فى طاعته قبل ذلك، فسّر بهما وأنعم على كل واحد منهما بعشرة آلاف درهم؛ وقدم على الناصر أيضا الجاولى وجوبان وسائر من كان معهم، فسار بهم الملك الناصر حتى نزل الكسوة، وخرج إليه بقيّة الأمراء والأجناد. وقد عمل له سائر شعار السلطنة من السناجق الخليفتيّة والسلطانيّة والعصائب والجتر «5» والغاشية «6» ، وحلف العساكر وسار يوم الثلاثاء ثانى «7» عشر شعبان يريد مدينة دمشق، فدخلها من غير مدافع بعد ما زيّنت له زينة عظيمة، وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار الكتّاب، وبلغ كراء البيت من البيوت التى بميدان الحصى إلى قلعة دمشق للتفرّج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم، وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملوّنة، وحمل الأمير قطلوبك المنصورىّ الغاشية، وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر، وترجّل الأمراء والعساكر بأجمعهم ومشوا بين يديه حتّى نزل بالقصر [الأبلق «8» ] ؛ وفى وقت نزوله قدم مملوك الأمير قرا سنقر نائب حلب لكشف الخبر(8/265)
وأنّ قراسنقر خرج من حلب وقبجق خرج من حماة فخلع عليه وكتب لهما بسرعة الحضور إليه. ثم كتب إلى الأفرم أمانا وتوجّه به علم الدين سنجر الجاولى، فلم يثق بذلك لما كان وقع منه فى حقّ الناصر لمّا قدم عليه تنكز «1» ، وطلب يمين السلطان فحلف السلطان له وبعث إليه نسخة الحلف. وكان قبل ذلك بعث الملك الناصر خازنداره وتنكز مملوكه إلى الأفرم هذا صحبة عثمان الركاب يستدعيه إلى طاعته بكلّ ما يمكن، ثم أمره الملك الناصر إن لم يطع يخشّن له فى القول، وكذلك كتب فى المطالعة التى على يد تنكز: أوّلها وعد وآخرها وعيد، فلمّا قرأ الأفرم الكتاب المذكور اسودّ وجهه من الغضب، ثم التفت إلى تنكز وقال: أنت وأمثالك الذين حمّقوا هذا الصبىّ حتى كتب لى هذا الكتاب، ويلك! من هو الذي وافقه من أمراء دمشق على ذلك! وكان الناصر قد كتب له فى جملة الكلام «2» أنّ غالب أمراء البلاد الشاميّة أطاعونى، وكان الأفرم لما حضر إليه تنكز قبل أن يقرأ الكتاب جمع أمراء دمشق ثم قرا الكتاب، فلمّا وصل إلى ذلك، قال الأفرم، قل لى: من هو الذي أطاعه حتى أقبض عليه وأرسله إلى مصر؟ فنظر أمراء دمشق بعضهم إلى بعض وأمعن الأفرم فى الكلام؛ فقام الأمير بيبرس المجنون وقال: ما هذا الكلام مصلحة، تجاوب ابن استاذك بهذا الجواب! ولكن لاطفه وقل له: أنت تعلم أنّنا متّبعون مصر وما يبرز منها، فإن أردت الملك فاطلبه من مصر، ولا تبتلش «3» بنا وارجع عنّا، وذكر له أشياء من هذا النّمط؛ فقال الأفرم: أنا ما أقول هذا الكلام، وليس له عندى إلّا السيف إن جاءنا! ثم طلب الأفرم تنكز فى خلوة وقال له: سر إلى أستاذك وقل له: يرجع، وإلّا يسمع الملك المظفّر فيمسكك ويحبسك، فتبقى تمنّى أن تشبع(8/266)
الخبز! ولا ينفعك حينئذ أحد، فإن كان لك رأى فاقبض على نوغيه ومن معه وسيّرهم للملك المظفّر، فإن فعلت ذلك يصلح حالك، ولا تفعل غير هذا تهلك. وكتب له كتابا بمعنى هذا ودفعه إلى تنكز، فلم يخرج تنكز من دمشق إلى أثناء الطريق حتى خرج فى أثره جماعة من أمراء دمشق إلى طاعة الناصر. وكان كلام الأفرم لتنكز أكبر الأسباب لخروج الملك الناصر من الكرك إلى دمشق، فلما قدم الناصر دمشق وكتب الأمان للافرم فتخوف الأفرم مما كان وقع منه من القول لمّا قدم عليه تنكز وطلب الحلف. انتهى.
وقال بيبرس فى تاريخه: وأرسل السلطان إلى الأفرم رسلا «1» بالأمان والأيمان، وهما الأميران عزّ الدين أيدمر الزّردكاش والأمير سيف الدين جوبان. وقال غيره: بعث إليه السلطان نسخة الحلف مع الأمير الحاج أرقطاى الجمدار، فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبيح «2» ، فركب السلطان إلى لقائه حتى قرب منه نزل كلّ منهما عن فرسه، فاعظم الأفرم نزول السلطان له وقبل الأرض، وكان الأفرم قد لبس كامليّة وشدّ وسطه وتوشّح بنصفيه (يعنى أنه حضر بهيئة البطالين من الأمراء) وكفنه تحت إبطه، وعند ما شاهدته الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد: يا مولانا السلطان، بتربة والدك الملك الشهيد قلاوون لا تؤذه ولا تغيّر عليه! فبكى سائر من حضر، وبالغ السلطان فى إكرامه وخلع عليه وأركبه وأقرّه على نيابة دمشق، فكثر الدعاء له وسار إلى القصر. فلما كان من الغد أحضر الأفرم خيلا وجمالا وثيابا بمائتى ألف درهم تقدمة إلى السلطان الملك الناصر. وفى يوم الجمعة «3» ثانى عشرين(8/267)
شعبان خطب للملك الناصر بدمشق وانقطع منها اسم المظفّر، وصليت الجمعة بالميدان فكان يوما مشهودا؛ وفى ذلك اليوم قدم الأمير قراسنقر نائب حلب، والأمير قبجق نائب حماة، والأمير أسندمر كرجى نائب طرابلس، وتمر السّاقى نائب حمص، فركب السلطان إلى لقائهم وترجّل إلى قراسنقر وعانقه وشكر الأمراء وأثنى عليهم؛ ثم قدم الأمير كراى المنصورىّ نائب القدس والأمير بكتمر الجو كندار نائب صفد، ثم قدّم كلّ من الأمراء والنوّاب تقدمته بقدر حاله ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاة «1» زركش وخيول مسرجة، فى عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك، وعدّة بغال وجمال بخاتىّ وغير ذلك. وشرع الملك الناصر فى النفقة على الأمراء والعساكر الواردة عليه مع النوّاب. فلما انتهت النفقة قدم بين يديه الأمير كراى المنصورىّ على عسكره إلى غزّة فسار إليها، وصار كراى يمدّ فى كلّ يوم سماطا عظيما للمقيمين والواردين عليه، فأنفق فى ذلك أموالا جزيلة من حاصله، واجتمع عليه بغزّة عالم كثير وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم.
وأما الملك المظفّر فإنه قدم عليه الخبر فى خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال، فعظم ذلك على الملك المظفّر وأظهر الذلّة، وخرجت عساكر مصر شيئا بعد شىء تريد الملك الناصر حتى لم يبق عنده بالديار المصرية سوى خواصّه من الأمراء والأجناد.
وأمّا الأمير برلغى ومن معه من الأمراء صار عساكرهم تتسلّل واحدا بعد واحد حتى بقى برلغى فى مماليكه وجماعة من خواصّ الملك المظفّر بيبرس، فتشاور برلغى مع جماعته حتى اقتضى رأيه ورأى آقوش نائب الكرك اللّحاق بالملك الناصر أيضا،(8/268)
فلم يوافق على ذلك البرجية، وعاد أيبك البغدادىّ وبكتوت الفتّاح وقجقار «1» ببقية البرجية إلى القاهرة، وصاروا مع الملك المظفّر بيبرس، وسار برلغى وآقوش إلى الملك الناصر فيمن بقى من الأمراء والعساكر، فاضطربت القاهرة لذلك.
وكان الملك المظفّر قد أمّر فى مستهلّ شهر رمضان سبعة وعشرين أميرا ما بين طبلخاناه وعشرات، منهم من مماليكه: صديق وصنقيجى «2» وطوغان وقرمان وإغزلو وبهادر؛ ومن المماليك السلطانية سبعة وهم: قراجا الحسامىّ وطرنطاى المحمّدى وبكتمر الساقى وبهادر قبجاق وانكبار «3» وطشتمر أخو بتخاص ولاچين؛ وممن عداهم جركتمر «4» بن بهادر وحسن بن الردادى، ونزلوا الجميع إلى المدرسة «5» المنصورية ليلبسوا الخلع على جارى العادة، واجتمع لهم النقباء والحجّاب والعامّة بالأسواق ينتظرون طلوعهم القلعة، وكلّ منهم بقى لابس الخلعة، فاتّفق أن شخصا من المنجّمين كان بين يدى النائب سلّار، فرأى الطالع غير موافق، فقال: هذا الوقت ركوبهم غير لائق، فلم يلتفت بعضهم ولبس وركب فى طلبه، فاستبردوهم العوامّ وقالوا:
ليس له حلاوة، ولا عليه طلاوة؛ وصار بعضهم يصيح ويقول: يا فرحة لا تمّت.
ثم أخرج الملك المظفّر عدّة من المماليك السلطانية إلى بلاد الصعيد وأخذ أخبازهم، وظنّ الملك المظفّر أنه ينشئ له دولة، فلما بلغه مسير برلغى وآقوش نائب الكرك إلى الملك الناصر سقط فى يده وعلم زوال ملكه، فإن برلغى كان زوج ابنته وأحد خواصّه وأعيان دولته، بحيث إنّه أنعم عليه فى هذه الحركة بنيّف وأربعين(8/269)
ألف دينار مصريّة، وقيل: سبعين ألف دينار. وظهر عليه اختلال الحال، وأخذ خواصّه فى تعنيفه على إبقاء سلّار النائب وأنّ جميع هذا الفساد منه، وكان كذلك.
فإنّه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك ودبّر عليه، وبيبرس فى غفلة عنه، فإنّه كان سليم الباطن لا يظنّ أنّ سلّار يخونه. ثم قبض الملك المظفّر ليلة الجمعة على جماعة من العوامّ، وضربوا وشهّروا لإعلانهم بسبّ الملك المظفّر بيبرس؛ فما زادهم ذلك إلّا طغيانا! وفى كلّ ذلك تنسب البرجية فساد الأمور لسلّار، فلمّا أكثر البرجية الإغراء بسلّار قال لهم الملك المظفّر: إن كان فى خاطركم شىء فدونكم وإياه إذا جاء سلّار للخدمة؛ وأما أنا فلا أتعرّض له بسوء قطّ، فاجتمعت البرجيّة على قبض سلار إذا حضر الخدمة فى يوم الاثنين خامس عشره، فبلغ سلّار ذلك، فتأخّر عن حضور الخدمة واحترس على نفسه، وأظهر أنّه قد توعّك، فبعث الملك المظفّر يسلّم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه، فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها.
فلمّا كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملك المظفّر الأمراء كلّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدّوادار المؤرّخ والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك والإشهاد عليه بذلك كما فعله الملك الناصر، وتسيّر إلى الملك الناصر بذلك وتستعطفه وتخرج إلى إطفيح بمن تثق به وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر عليك، فأعجبه ذلك وقام ليجهّز أمره، وبعث بالأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المذكور إلى الملك الناصر محمد يعرّفه بما وقع. وقيل: إنّه كتب إلى الملك الناصر يقول مع غير بيبرس الدوادار: والذي أعرّفك به أنّى قد رجعت أقلّدك بغيك، فإن حبستنى عددت ذلك خلوة، وإن نفيتنى عددت ذلك سياحة، وإن قتلتنى(8/270)
كان ذلك لى شهادة؛ فلمّا سمع الملك الناصر ذلك، عيّن له صهيون على ما نذكره.
وأمّا ما كتبه المظفّر على يد بيبرس الدوادار يسأله فى إحدى ثلاث: إمّا الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها، أو صهيون ومضافاتها.
ثم اضطربت أحوال المظفّر وتحيّر وقام ودخل الخزائن وأخذ من المال والخيل ما أحبّ، وخرج من يومه من باب الإسطبل فى مماليكه وعدّتهم سبعمائة مملوك، ومعه من الأمراء: الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، والأمير بكتوت الفتّاح والأمير سيف الدين قجماس والأمير سيف الدين تاكز فى بقية ألزامه من البرجيّة، فكأنّما نودى فى الناس بأنّه خرج هاربا، فاجتمع العوامّ، وعند ما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه بأنواع الكلام، وزادوا فى الصياح حتّى خرجوا عن الحدّ، ورماه بعضهم بالحجارة. فشقّ ذلك على مماليكه وهمّوا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم فمنعهم الملك المظفّر من ذلك، وأمر بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنه، فأحرج كلّ من المماليك حفنة من الذهب ونثرها، فلم يلتفت «1» العامّة لذلك وتركوه وأخذوا فى العدو خلفه وهم يسبّون ويصيحون، فشهر المماليك حينئذ سيوفهم ورجعوا إلى العوامّ فانهزموا منهم. وأصبح الحرّاس بقلعة الجبل فى يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان يصيحون باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفّر بإشارة الأمير سلّار بذلك، فإنّه أقام بالقلعة ومهّد أمورها بعد خروج المظفّر إلى إطفيح. وفى يوم الجمعة تاسع عشره خطب على منابر القاهرة ومصر باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفّر بيبرس هذا وزال ملكه.(8/271)
وأمّا الملك المظفّر فإنّه لما فارق القلعة أقام بإطفيح يومين ثم اتّفق رأيه ورأى أيدمر الخطيرى وبكتوت الفتّاح إلى المسير إلى برقة «1» وقيل بل إلى أسوان «2» ، فأصبح حاله كقول القائل:
موكّل ببقاع الأرض يذرعها ... من خفّة الرّوع لا من خفّة الطّرب
ولمّا بلغ مماليك الملك المظفّر هذا الرأى عزموا على مفارقته. فلمّا رحل من إطفيح رجع المماليك عنه شيئا بعد شىء إلى القاهرة، فما وصل المظفّر إلى إخميم «3» حتّى فارقه أكثر من كان معه، فعند ذلك انثنى عزمه عن التوجّه إلى برقة، وتركه «4» الخطيرىّ والفتّاح وعادا نحو القاهرة. وبينما هو سائر قدم عليه الأميران: بيبرس الدّوادار وبهادر آص من عند الملك الناصر ليتوجّه إلى صهيون بعد أن يدفع ما أخذه من الخزائن، فدفع المظفّر المال بأجمعه إلى بيبرس الدّوادار، فأخذ بيبرس المال وسار به فى النيل إلى الملك الناصر وهو بقلعة الجبل، وقدم بهادر آص فى البرّ بالملك المظفّر ومعه كاتبه كريم «5» الدين أكرم، وسأل المظفّر فى يمين السلطان مع من يثق به، فحلف له الملك الناصر بحضرة الأمراء وبعث إليه بذلك مع أيتمش المحمّدى؛ فلمّا قدم عليه أيتمش بالغ المظفّر فى إكرامه وكتب الجواب بالطاعة وأنّه يتوجّه إلى ناحية(8/272)
السّويس «1» ، وأنّ كريم الدين يحضر بالخزانة والحواصل التى أخذها، فلم يعجب السلطان ذلك، وعزم على إخراج تجريدة إلى غزّة ليردّوه، وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقراسنقر نائب دمشق «2» والحاج بهادر وأسندمر نائب طرابلس.
فلمّا كان يوم الخميس الذي قبض فيه الملك الناصر على الأمراء- على ما سيأتى ذكره مفصّلا فى أوّل ترجمة الملك الناصر الثالثة إن شاء الله تعالى- جلس بعض المماليك الأشرفيّة خارج القلعة، فلمّا خرج الأمراء من الخدمة قال: وأىّ ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم! وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف، ودمه الآن على سيفه، قد صار اليوم حاكم المملكة (يعنى عن قراسنقر) ، فقيل هذا لقراسنقر، فخاف على نفسه وأخذ فى عمل الخلاص من مصر، فالتزم للسلطان أنّه يتوجّه ويحصّل الملك المظفّر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج تجريدة فإن فى بعث الأمراء لذلك شساعة، فمشى ذلك على السلطان ورسم بسفرهما، فخرج قراسنقر ومعه سائر النوّاب إلى ممالكهم، وعوّق السلطان عنده أسندمر كرجى وقد استقرّ به فى نيابة حماة، وسار البقية. ثم جهّز السلطان أسندمر كرجى لإحضار المظفّر مقيّدا. واتّفق دخول قراسنقر والأمراء إلى غزّة قبل وصول المظفّر إليها؛ فلمّا بلغهم قربه ركب قراسنقر وسائر النوّاب والأمراء ولقوه شرقىّ غزّة وقد بقى معه عدّة من مماليكه وقد تأهّبوا للحرب، فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم،(8/273)
فأنكر المظفّر على مماليكه تأهّبهم للقتال وقال: أنا كنت ملكا، وحولى أضعافكم ولى عصبة كبيرة من الأمراء، وما اخترت سفك الدماء! وما زال بهم حتّى كفّوا عن القتال، وساق هو بنفسه حتّى بقى مع الأمراء وسلّم نفسه إليهم؛ فسلّموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة، وأخذوا سلاح مماليكه ووكّلوا بهم من يحفظهم؛ وأصبحوا من الغد عائدين بهم معهم إلى مصر، فأدركهم أسندمر كرجى بالخطّارة «1» فأنزل فى الحال المظفّر عن فرسه وقيّده بقيد أحضره معه، فبكى وتحدّرت دموعه على شيبته، فشقّ ذلك على قراسنقر وألقى الكلفتاة عن رأسه إلى الأرض وقال: لعن الله الدنيا، فيا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم! فترجّلت الأمراء وأخذوا كلفتاته ووضعوها على رأسه. هذا مع أنّ قراسنقر كان أكبر الأسباب فى زوال دولة المظفّر المذكور! وهو الذي جسّر الملك الناصر حتّى كان من أمره ما كان.
ثم عاد قراسنقر والحاج بهادر إلى محلّ كفالتهما، وأخذ بهادر يلوم قراسنقر كيف خالف رأيه! فإنّه كان أشار على قراسنقر فى اللّيل بعد القبض على المظفّر بأن يخلّى عن المظفّر حتّى يصل إلى صهيون، ويتوجّه كلّ منهما إلى محلّ ولايته، ويخيفا الملك الناصر بأنّه متى تغيّر عمّا كان وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفّر وإعادته إلى الملك، فلم يوافق قراسنقر، وظنّ أنّ الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفّر. فلمّا رأى ما حلّ بالمظفر ندم على مخالفة بهادر. وبينما هما فى ذلك بعث أسندمر كرجى إلى قراسنقر مرسوم السلطان بأن يحضر صحبة المظفّر إلى القلعة، وكان عزم الناصر أن يقبض عليه: ففطن قراسنقر بذلك وامتنع من التوجّه إلى مصر، واعتذر بأنّ العشير «2» قد تجمّعوا ويخاف على دمشق منهم، وجدّ فى السير وعرف أنّه ترك الرأى فى مخالفة بهادر! فقدم أسندمر بالمظفّر إلى القلعة فى ليلة(8/274)
الأربعاء الرابع عشر من ذى القعدة «1» ، فلمّا مثل المظفّر بين يدى السلطان قبّل الأرض، فأجلسه وعنّفه بما فعل به وذكّره بما كان منه إليه، وعدّد ذنوبه، وقال له: تذكر وقد صحت علىّ يوم كذا بسبب فلان! ورددت شفاعتى فى حقّ فلان! واستدعيت بنفقة فى يوم كذا من الخزانة فمنعتها! وطلبت فى وقت حلوى بلوز وسكّر فمنعتنى، ويلك! وزدت فى أمرى حتّى منعتنى شهوة نفسى، والمظفّر ساكت. فلما فرغ كلام السلطان قال له المظفّر: يا مولانا السلطان، كلّ ما قلت فعلته، ولم يبق إلّا مراحم السلطان، وإيش يقول المملوك لأستاذه! فقال له:
يا ركن، أنا اليوم أستاذك! وأمس تقول لما طلبت إوزّا مشويّا: إيش يعمل بالإوزّ! الأكل هو عشرون مرّة فى النهار! ثم أمر به إلى مكان وكان ليلة الخميس، فاستدعى المظفّر بوضوء وقد صلّى العشاء. ثم جاء السلطان الملك الناصر فخنق بين يديه بوتر حتى كاد يتلف، تم سيّبه حتى أفاق وعنّفه وزاد فى شتمه، ثم خنقه ثانيا حتى مات وأنزل على جنوية «2» إلى الإسطبل السلطانىّ فغسل ودفن خلف قلعة الجبل، وذلك فى ليلة الجمعة خامس عشر ذى القعدة «3» سنة تسع وسبعمائة. وكانت أيام المظفّر هذا فى سلطنة مصر عشرة «4» أشهر وأربعة وعشرين يوما لم يتهنّ فيها من الفتن والحركة.
وكان المظفّر لمّا خرج من مصر هاربا قبل دخول الملك الناصر. قال بعض الأدباء:
تثنّى عطف مصر حين وافى ... قدوم الناصر الملك الخبير
فذلّ الجشنكير بلا لقاء ... وأمسى وهو ذو جأش نكير
إذا لم تعضد الأقدار شخصا ... فأوّل ما يراع من النّصير(8/275)
وقال النّويرىّ فى تاريخه: ولمّا وصلوا بالمظفّر بيبرمن إلى السلطان الناصر أوقفه بين يديه وأمر بدخوله الحمّام، وخنق فى بقية من يومه ودفن بالقرافة وعفّى أثر قبره مدّة، ثم أمر بانتقاله إلى تربته بالخانقاه «1» التى أنشأها فنقل إليها. وكان بيبرس هذا ابتدأ بعمارة الخانقاه والتربة داخل باب النصر موضع دار الوزارة «2» فى سنة ست «3» وسبعمائة، وأوقف عليها أوقافا جليلة، ولكنّه مات قبل تمامها، فأغلقها الملك الناصر مدّة ثم فتحها. انتهى كلام النّويرىّ.
وكان الملك المظفّر ملكا ثابتا كثير السكون والوقار، جميل الصفات، ندب إلى المهمّات مرارا عديدة، وتكلّم فى أمر الدولة مدّة سنين، وحسنت سيرته، وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف، تولّى السلطنة على كره منه، وله أوقاف على وجوه البرّ والصدقة، وعمّر ما هدم من الجامع «4» الحاكمى داخل باب النصر، بعد ما شعّثته الزلازل. وكان من أعيان الأمراء فى الدولة المنصوريّة قلاوون أستاذه، ثم فى الدولة الأشرفية خليل، والدولة الناصرية محمد بن قلاوون.
وكان أبيض اللون أشقر مستدير اللّحية، وهو جاركسىّ الجنس على ما قيل.
ولم يتسلطن أحد من الجراكسة قبله ولا بعده إلى الملك الظاهر برقوق؛ وقبل إنه كان تركيّا، والأقوى عندى أنه كان جاركسيّا، لأنه كان بينه وبين آقوش الأفرم نائب الشام مودّة ومحبّة زائدة، وقيل قرابة، وكان الأفرم جاركسىّ الجنس. انتهى.
واستولى السلطان الملك الناصر على جميع تعلّقاته، واستقدم كاتبه كريم الدين أكرم بن المعلّم بن السديد، فقدم على الملك الناصر بأموال المظفّر بيبرس وحواصله،(8/276)
فقرّبه السلطان وأثنى عليه ووعده بكلّ جميل إن أظهره على ذخائر المظفّر بيبرس.
فنزل كريم الدين إلى داره وتتبّع أموال بيبرس وبذل جهده فى ذلك، ثم انتمى كريم الدين إلى طغاى وكستاى وأرغون الدّوادار الناصرية، وبذل لهم مالا كثيرا حتى صاروا أكبر أعوانه، وحموه من أستاذهم الملك الناصر، ثم قدم من كان مع المظفّر بيبرس من المماليك ومعهم الهجن والخيل والسلاح، ومبلغ مائتى ألف درهم «1» وعشرين ألف دينار، وستون بقجة من أنواع الثياب، فأخذ السلطان جميع ذلك، وفرّق المماليك على الأمراء ما خلا بكتمر الساقى لجمال صورته وطوغان الساقى وقراتمر.
ثم استدعى الملك الناصر القضاة وأقام عندهم البيّنة بأن جميع مماليك المظفّر بيبرس وسلّار، وجميع ما وقفاه من الضّياع والأملاك اشترى من بيت المال. فلمّا ثبت ذلك ندب السلطان جمال الدين آقوش الأشرقىّ نائب الكرك، وكريم الدين أكرم لبيع تركة المظفّر بيبرس وإحضار نصف ما يتحصّل، ودفع النصف الآخر لابنة المظفّر زوجة الأمير برلغى الأشرفىّ، فإنّ المظفّر لم يترك من الأولاد سواها، فشدّد كريم الدين الطلب على زوجة المظفّر وابنته حتى أخذ منهما جواهر عظيمة القدر، وذخائر نفيسة؛ ثم تابع موجود المظفّر فوجد له شيئا كثيرا.
السنة التى حكم فى أوّلها الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير على مصر إلى شهر رمضان «2» ، ثم حكم فى باقيها الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهى سنة تسع وسبعمائة، على أن الملك المظفّر بيبرس حكم من السنة الماضية أياما.(8/277)
فيها (أعنى سنة تسع وسبعمائة) كانت الفتنة بين السلطان الملك الناصر محمد ابن قلاوون وبين الملك المظفّر بيبرس. حسب ما تقدّم ذكره مفصّلا حتى خلع المظفّر وأعيد الناصر.
وفيها كانت الفتنة أيضا بالمدينة النبوية بين الشريف مقبل بن جمّاز بن شيحة وبين [كبيش «1» ابن] أخيه منصور بن جمّاز، وكان مقبل «2» قدم القاهرة فولّاه المظفّر نصف إمرة المدينة شريكا لأخيه منصور، فتوجّه إليها فوجد منصورا بنجد وقد ترك ابنه كبيشة «3» بالمدينة، فأخرجه مقبل فحشد كبيشة وقاتل مقبلا حتى قتله، وانفرد منصور بإمرة المدينة.
وفيها كتب السلطان الملك الناصر لقرا سنقر نائب الشام بقتال العشير.
وفيها أظهر خربندا ملك التّتار الرّفض فى بلاده وأمر الخطباء ألّا يذكروا فى خطبهم إلّا علىّ بن أبى طالب وولديه وأهل البيت.
وفيها حجّ بالناس من القاهرة الأمير شمس الدين إلدكز السلاح دار ولم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة.
وفيها توفّى الأمير الوزير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورىّ بالقاهرة فى شهر ربيع الأوّل ودفن خارج باب النصر بعد ما استعفى ولزم داره مدّة.
وفيها توفى قاضى القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الغنى بن يحيى [بن محمد بن أبى «4» بكر] بن عبد الله بن نصر [بن «5» محمد] بن أبى بكر الحرّانىّ الحنبلىّ فى ليلة(8/278)
الجمعة الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل ودفن بالقرافة. ومولده بحرّان فى سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وتفقّه وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحيّة «1» ثم أضيف إليه قضاء الحنابلة، فباشره وحمدت سيرته.
وفيها توفّى الشيخ نجم الدين محمد بن إدريس بن محمد القمولىّ «2» الشافعىّ بقوص فى جمادى الأولى، وكان صالحا عالما بالتفسير والفقه والحديث.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين طغريل بن عبد الله الإيغانىّ بالقاهرة فى عاشر شهر رمضان، وكان من كبار الأمراء وأعيان الديار المصريّة.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الخازندار فى سابع شهر رمضان بالقاهرة، وكان من أعيان أمراء مصر.
وفيها توفّى متملّك تونس من بلاد الغرب الأمير أبو عبد الله محمد المعروف بأبى عصيدة بن يحيى الواثق ابن محمد المستنصر ابن يحيى بن عبد الواحد بن أبى حفص فى عاشر شهر ربيع الآخر. وكانت مدّة ملكه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، وتولّى بعده الأمير أبو بكر بن أبى يزيد «3» عبد الرحمن بن أبى بكر بن يحيى بن عبد الواحد المدعوّ بالشهيد، لأنّه قتل ظلما بعد ستة عشر يوما من ملكه، وبويع بعده أيضا أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم.
وفيها توفّى الوزير التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة فى يوم السبت ثانى شهر رجب، وكان عند الملك المظفّر بيبرس بمكانة عظيمة، ولمّا تسلطن بيبرس قرّره(8/279)
مشيرا، فكانت تحمل إليه فوطة العلامة فيمضى منها ما يختاره، ويكتب عليه «عرض» فإذا رأى المظفّر خطّه علّم وإلّا فلا، ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه الأمير آقوش الأفرم نائب الشام يهدّده بقطع رأسه فامتنع. وكان الأفرم صار يدبّر غالب أمور الديار المصريّة وهو بدمشق، لأنه كان خشداش المظفّر بيبرس وخصيصا به والقائم بدولته، والمعاند للناصر وغيره من نوّاب البلاد الشاميّة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المظفّر بيبرس.
وفيها توفّى الشيخ القدوة العارف بالله تعالى تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد ابن عبد الكريم بن عطاء الله السّكندرىّ المالكىّ الصوفى الواعظ المذكّر المسلّك بالقاهرة فى جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وقبره «1» معروف بها، يقصد للزيارة. وكان رجلا صالحا عالما يتكلّم على كرسىّ ويحضر ميعاده خلق كثير، وكان لوعظه تأثير فى القلوب، وكان له معرفة تامّة بكلام أهل الحقائق وأرباب الطريق، وكان له نظم حسن على طريق القوم، وكانت جنازته مشهودة حفلة إلى الغاية. ومن شعره قصيدة أوّلها:
يا صاح إنّ الركب قد سار مسرعا ... ونحن فعود ما الذي أنت صانع
أترضى بأن تبقى المخلّف بعدهم ... صريع الأمانى والغرام ينازع
وهذا لسان الكون ينطق جهرة ... بأنّ جميع الكائنات قواطع
وفيها توفّى القاضى عزّ الدين عبد العزيز ابن القاضى شرف الدين محمد [بن فتح «2» الدين عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد] بن القيسرانىّ أحد كتّاب الدّرج(8/280)
ومدرس الفخرية «1» فى ثامن صفر بالقاهرة، ودفن عند والده بالقرافة، وكان من أعيان الموقّعين هو ووالده وجدّه، ومات وله دون الأربعين سنة، وكان له فضيلة ونظم ونثر. ومن شعره فى ردّ جواب:
جاء الكتاب ومن سواد مداده ... مسك ومن قرطاسه الأنوار
فتشرّف الوادى به وتعطّرت ... أرجاؤه وأنارت الأقطار
قلت وأين هذا من قول البارع جمال الدين محمد بن نباتة المصرىّ، حيث يقول فى هذا المعنى:
أفديه من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللّاتى حكتها الكواكب
ملكت بها رقّى وأنحلنى الأسى ... فهأنذا عبد رقيق مكاتب
والشيخ علاء الدين علىّ بن محمد [بن عبد «2» الرحمن] العبىّ رحمه الله:
أهلتنى لجواب ... ما كان ظنّى أجاوب
لكنّنى عبد رقّ ... مدبّر ومكاتب
وفيها توفّى القاضى بهاء الدين عبد الله ابن نجم الدين أحمد بن على ابن المظفّر المعروف بابن الحلّى ناظر ديوان الجيش المنصور، واستقرّ عوضه القاضى فخر الدين صاحب ديوان الجيش.
وفيها توفّى الأديب إبراهيم بن علىّ بن خليل الحرّانى المعروف بعين بصل. كان شيخا حائكا أناف على الثمانين، وكان عامّيّا مطبوعا، وقصده ابن خلّكان واستنشده من شعره فقال: أمّا القديم فلا يليق إنشاده، وأمّا نظم الوقت الحاضر فنعم، وأنشده بديها:(8/281)
وما كلّ وقت فيه يسمح خاطرى ... بنظم قريض رائق اللفظ والمعنى
وهل يقتضى الشرع الشريف تيمّما ... بترب وهذا البحر يا صاحبى معنا
فقال له ابن خلّكان. أنت عين بصر، لا عين بصل. انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تأخّر وتأخّرت الزيادة إلى أن دخل شهر مسرى ووقع الغلاء واستسقى الناس، فنودى بزيادة ثلاث أصابع، ثم توقّفت الزيادة ونقص فى أيام النّسىء، ثم زاد حتى بلغ فى سابع عشرين توت خمس عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا، وفتح خليج السدّ، بعد ما كان الوفاء فى تاسع عشر بابه، بعد النّوروز بتسعة وأربعين يوما. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة ستّ عشرة ذراعا وإصبعين. وكان ذلك فى أوائل سلطنة المظفّر بيبرس الجاشنكير. فتشاءم الناس بكعبه وأبغضته العامّة.
انتهى الجزء الثامن من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء التاسع، وأوّله:
ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرّة
تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثريّة على اختلاف أنواعها، والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا وعضو المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية. كالتعليقات السابقة فى الأجزاء الماضية. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.(8/282)
استدراكات على بعض تعليقات وردت فى الجزء السابع من هذا الكتاب لحضرة الأستاذ محمد رمزى بك
زاوية الشيخ أبى السعود بن أبى العشائر
بما أن الشرح الخاصّ بوصف هذه الزاوية الوارد فى صفحة 384 من الجزء السابع من هذه الطبعة جاء غير واف فأضيف إليه ما يأتى:
ذكرت فى التعليق السابق لهذه الزاوية أنها اندثرت، والصواب أنها خربت لأنه لا يزال يوجد من مبانيها بقايا بابها والحائط الشمالى الشرقى والحائط الذي فيه المحراب. ومكانها اليوم أرض مشغولة بالمقابر. وعلاوة على ما سبق ذكره فى التعليق السابق فإن هذه الزاوية واقعة فى الشمال الغربى لجامع السادات الوفائية على بعد مائتى متر منه ويجاورها قاعة بها ضريح الشيخ أبى السعود بن أبى العشائر رحمه الله.
الحد الذي كان ينتهى عنده النيل على شاطئه الشرقى تجاه مدينتى مصر القديمة والقاهرة وقت فتح العرب لمصر
بيّنت فى الاستدراك الخاصّ بقنطرة عبد العزيز بن مروان الوارد فى صفحة 387 من الجزء السابع من هذه الطبعة موقع فم الخليج المصرى، والنقطة التى كان يأخذ منها مياهه من النيل وقت فتح العرب لمصر. وقد فاتنى أن أبيّن لقرّاء النجوم الزاهرة الحد الذي كان ينتهى عنده النيل على شاطئه الشرقى تجاه مدينتى مصر القديمة والقاهرة فى ذاك الوقت، ولهذا أستدرك ما فاتنى إتماما للفائدة المطلوبة من التعليقات فأقول:(8/283)
يستفاد مما ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على ساحل النيل بمدينة مصر (ص 343 ج 1) وعلى المنشأة (ص 345 ج 1) وعلى أبواب مدينة مصر (ص 347 ج 1) وعلى منظرة المقس (ص 380 ج 1) وعلى ظواهر القاهرة المعزيّة (ص 108 ج 2) وعلى برّ الخليج الغربى (ص 113 ج 2) وعلى اللوق (ص 117 ج 2) وعلى المقس (ص 121 ج 2) وعلى بولاق (ص 130 ج 2) وعلى قنطرة السد (ص 146 ج 2) وعلى قنطرة باب البحر (ص 151 ج 2) وعلى جزيرة الفيل (ص 185 ج 2) ، وعلى صناعة مصر (ص 197 ج 2) وعلى الميدان الناصرى (ص 200 ج 2) ، ويستفاد أيضا مما ورد فى حوادث سنة 680 هـ المذكورة فى كتاب النجوم الزاهرة لابن تغرى بريد (ص 307 ج 7) ومما هو مبيّن على خريطة الحملة الفرنسية الموضوعة سنة 1800؛ يستفاد من كلّ ما سبق ذكره، ومن المباحث التى أجريتها أن شاطىء النيل الشرقى الأصلى القديم تجاه مدينة مصر والقاهرة كان وقت فتح العرب لمصر واقعا فى الأمكنة التى تعرف اليوم بالأسماء الآتية:
كان النيل بعد أن يمرّ على سكن ناحية أثر النّبيّ جنوبى مصر القديمة يسير إلى الشمال بجوار شارع أثر النبي إلى أن يتلاقى بسكة حديد حلوان عند محطة المدابغ، فيسير النيل بجواز هذه السكة إلى أن يتقابل بشارع مارى جرجس فيسير محاذيا له من الجهة الغربية مارّا تحت قصر الشمع (الكنيسة المعلقة بمصر القديمة) وجامع عمرو، ثم يسير محاذيا لشارع سيدى حسن الأنور إلى نهايته ثم يسير شمالا إلى النقطة التى يتقابل فيها شارع السد البرانى بسكة المذبح، ثم يسير بعد ذلك متّجها فى طريقه إلى الشمال فيمر فى حارة المغربى بجنينة قاميش فشارع بنى الأزرق بجنينة لاظ فشارع جنان الزهرى فشارع الشيخ عبد الله فحارة البير قدار فشارع البلاقسة(8/284)
فشارع عماد الدين إلى نهايته البحرية، ثم ينعطف النيل مائلا إلى الشرق ويسير بجوار شارع الملكة نازلى حتى يصل إلى ميدان باب الحديد، ومن هناك ينعطف إلى الشمال الشرقى مارا بميدان محطة مصر، ثم يمر بجوار محطة كوبرى الليمون من الجهة البحرية الغربية، ثم يسير فى شارع غمرة بطول مائتى متر، ثم يسير إلى الشمال محاديا لمخازن بضائع محطة مصر من الجهة الشرقية، ثم يسير محاذيا لشارع مهمشة من الجهة الغربية، ثم يسير بعد ذلك محاذيا لجسر السكة الحديدية الذاهبة إلى الإسكندرية من الجهة الشرقية. وعند وصول النيل إلى نقطة واقعة على هذه السكة تجاه عزبة الخمايسة يميل إلى الغرب حتى يصل إلى سكن ناحية منية السيرج، وهناك يسير غربى سكن هذه الناحية، ثم يسير إلى الشمال بدوران خفيف إلى الغرب حتى يتقابل مع مجراه الحالى عند فم الترعة الإسماعيلية.
هذا هو خط سير الشاطئ الأصلىّ القديم للنيل تجاه مدينتى مصر والقاهرة فى سنة 20 هـ 641 م أى وقت فتح العرب لمصر. وبعد ذلك طرح البحر عدة مرّات ولذلك انتقل الشاطئ الأصلى المذكور من مكانه القديم السابق ذكره إلى مكانه الحالى من مصر القديمة إلى روض الفرج.(8/285)
[الجزء التاسع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء التاسع من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 710]
ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرّة
وقد تقدّم ذكر نزوله عن الملك وتوجّهه إلى الكرك وخلع نفسه وما وقع له بالكرك من مجىء نوغاى ورفقته، ومكاتباته إلى نوّاب الشام وخروجه من الكرك إلى الشام، طالبا ملك مصر إلى أن دخل إلى دمشق؛ كلّ ذلك ذكرناه مفصّلا فى ترجمة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير. ونسوق الآن ذكر دخوله إلى مصر فنقول:
لمّا كانت الثانية من نهار الثلاثاء السادس عشر من شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، وهى الساعة التى خلع الملك المظفر بيبرس نفسه فيها من ملك مصر بديار مصر، خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من دمشق يريد الديار المصرية، فانظر إلى هذا الاتّفاق العجيب، وإقبال سعد الناصر وإدبار سعد المظفّر! وسار الملك الناصر يريد الديار المصريّة وصحبته نوّاب البلاد الشاميّة بتمامهم وكمالهم والعساكر الشامية وخواصّه ومماليكه.(9/3)
وأمّا أمر الديار المصرية فإنّ الملك المظفّر بيبرس لمّا خلع نفسه وخرج من مصر إلى الإطفيحيّة جلس الأمير سلّار بقاعة النيابة من قلعة الجبل وجمع من بقى من الأمراء واهتم بحفظ القلعة، وأخرج المحابيس الذين كانوا فيها من حواشى الملك الناصر محمد وغيرهم، وركب ونادى فى الناس: ادعوا لسلطانكم الملك الناصر، وكتب إلى الملك الناصر بنزول المظفّر عن الملك وفراره إلى إطفيح «1» ، وسيّر بذلك أصلم الدّوادار ومعه النّمجاه «2» ، وكان قد توجّه قبل ذلك من القاهرة الأمير بيبرس المنصورىّ الدّوادار، والأمير بهادر آص فى رسالة المظفّر بيبرس أنّه قد ترك السلطنة وأنّه سأل: إمّا الكرك وإمّا حماة وإما صهيون، واتّفق يوم وصولهما إلى غزّة قدوم الملك الناصر أيضا إليها، وقدوم الأمير سيف الدين شاطى السّلاح دار فى طائفة من الأمراء المصريّين إليها أيضا. ثم قدمت العربان وقدم الأمير مهنّا بجماعة كثيرة من آل فضل، فركب السلطان إلى لقائه. ثم قدم الأمير برلغى الأشرفى مقدّم عساكر المظفّر بيبرس وزوج ابنته، والأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، فسرّ الملك الناصر بقدومهما، فإنّهما كانا عضدى المظفّر. قال الأمير بيبرس الدّوادار المقدّم ذكره فى تاريخه- رحمه الله-:
«وأمّا نحن فإنّا تقدّمنا على البريد فوصلنا إلى السلطان يوم نزوله على غزّة فمثلنا بين يديه وأعدنا المشافهة عليه، وطالعناه بنزول الرّكن عن السلطنة والتماسه مكانا من بعض الأمكنة، فاستبشر لحقن دماء المسلمين وخمود الفتنة، واتّفق فى ذلك النهار ورود الأمير سيف الدين برلغى والأمير عزّ «3» الدين البغدادىّ ومن معهما من الأمراء(9/4)
والمقدّمين، واجتمعنا جميعا بالدّهليز المنصور، وقد شملنا الابتهاج، وزال عنّا الازعاج، وأفاض السلطان على الأمراء التشاريف الجليلة على طبقاتهم، والحوائص «1» الذهب الثمينة لصلاتهم، فلم يترك أميرا إلّا وصله، ولا مقدّما حتى شرّفه بالخلع وجمّله، وجدّدنا استعطاف السلطان، فيما سأله الركن من «2» الأمان، وكلّ من الأمراء لحاضرين بين يديه يتلطّف فى سؤاله، ويتضرّع فى مقاله؛ حتّى أجاب، وعدنا بالجواب. ورحل السلطان على الأثر قاصدا الديار المصرية؛ فوصلنا إلى القلعة يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان، واجتمعنا بالأمير سيف الدين سلّار ووجدنا الجاشنكير قد تجاوز موضع الميعاد، وأخذ فى الإصعاد، وحمله الإجفال على الإبعاد، ولم يدعه الرّعب يستقرّ به قرار، ولا تلقّته معه أرض ولا دار؛ فاقتضى الحال أن أرسلنا إليه الكتب الشريفة الواردة على أيدينا، وعدت أنا وسيف الدين بهادر آص إلى الخدمة السلطانية، فوجدنا الدّهليز على منزلة السعيدية» . «3» انتهى كلام بيبرس الدوادار باختصار.
قلت: ولمّا تكاملت العساكر بغزّة سار الملك الناصر يريد الديار المصريّة، فوافاه أصلم دوادار سلّار بالنّمچاه، ثم وصل «4» رسلان الدّوادار فسّر السلطان بنزوله.
وسار حتى نزل بركة الحجّاج «5» فى سلخ شهر رمضان، وقد جهّز إليه الأمير سلّار الطلب(9/5)
السلطانى والأمراء والعساكر، ثم خرج الأمير سلّار إلى لقائه، وصلّى السلطان صلاة العيد بالدّهليز ببركة الحاج فى يوم الأربعاء مستهلّ شوّال، وخرج الناس إلى لقاء السلطان الملك الناصر. وأنشد الشعراء مدائحهم بين يديه؛ فمن ذلك ما أنشده الشيخ شمس الدين محمد بن على بن موسى الداعى أبياتا منها:
الملك عاد إلى حماه كما بدا ... ومحمد بالنصر سرّ محمدا
وإيابه كالسيف عاد لغمده ... ومعاده كالورد عاوده النّدى
الحقّ مرتجع إلى أربابه ... من كفّ غاصبه وإن طال المدى
ومنها:
يا وارث الملك العقيم تهنّه ... واعلم بأنك لم تسد فيه سدى
عن خير أسلاف ورثت سريره ... فوجدت منصبه السّرىّ ممهّدا
يا ناصرا من خير منصور أتى ... كمهنّد خلف الغداة مهنّدا
آنست ملكا كان قبلك موحشا ... وجمعت شملا كان منه مبدّدا
ومنها:
فالناس أجمع قد رضوك مليكهم ... وتضرّعوا ألا تزال مخلّدا
وتباركوا بسناء غرّتك التى ... وجدوا على أنوار بهجتها هدى
الله أعطاك الذي لم يعطه ... ملكا سواك برغم آناف العدا
لا زلت منصور اللّواء مؤيّد ال ... عزمات ما هتف الحمام وغرّدا
ثم قدّم الأمير سلّار سماطا جليلا بلغت النفقة عليه اثنى عشر ألف درهم؛ وجلس عليه السلطان والأمراء والأكابر والعساكر، فلما انقضى عزم السلطان على المبيت هناك والركوب بكرة النهار يوم الخميس، فبلغه أن الأمير برلغى والأمير آقوش نائب الكرك قد اتّفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله، فبعث السلطان إلى الأمراء(9/6)
عرّفهم بما بلغه وأمرهم بالركوب، فركبوا وركبت المماليك ودقت الكوسات وسار وقت الظهر من يوم الأربعاء، وقد احتفّت به مماليكه كى لا يصل إليه أحد من الأمراء حتى وصل إلى القلعة، وخرج الناس بأجمعهم إلى مشاهدته. فلما وصل بين العروستين «1» ترجّل سلّار عن فرسه، وترجّل سائر الأمراء ومشوا بين يديه إلى باب السّرّ «2» من القلعة، وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السّلاح، حتى عبر السلطان إلى القلعة، ثم أمر السلطان الأمراء بالانصراف إلى منازلهم، وعيّن جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمرّوا على ظهور خيولهم حول القلعة(9/7)
طول الليل فباتوا على ذلك، وأصبحوا من الغد وفد جلس السلطان الملك الناصر على كرسىّ الملك وهو يوم الخميس ثانى شوّال. وحضر الخليفة أبو الربيع سلمان والقضاة والأمراء وسائر أهل الدولة للهناء «1» ، فقرأ الشيخ شمس الدين محمد بن علىّ ابن موسى الداعى: «قل اللهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء» الآية. وأنشد بعض الشعراء هذه الأبيات:
تهنّأت الدنيا بمقدمه الذي ... أضاءت له الآفاق شرقا ومغربا
وأمّا سرير الملك فاهتز رفعة ... ليبلغ فى التشريف قصدا ومطلبا
وتاق إلى أن يعلو الملك فوقه ... كما قد حوى من قبله الأخ والأبا
وكان ذلك بحضرة الأمراء والنوّاب والعساكر، ثم حلّف السلطان الجميع على طبقاتهم ومراتبهم الكبير منهم والصغير.
ولمّا تقدّم الخليفة ليسلّم على السلطان نظر إليه وقال له: كيف تحضر وتسلّم على خارجىّ؟ هل كنت أنا خارجيّا؟ وبيبرس من سلالة بنى العباس؟ فتغيّر وجه الخليفة ولم ينطق.
قلت: والخليفة هذا، كان الملك الناصر هو الذي ولّاه الخلافة بعد موت أبيه الحاكم بأمر الله.
ثم التفت السلطان إلى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الظاهر الموقّع وكان هو الذي كتب عهد المظفّر بيبرس عن الخليفة، وقال له: يا أسود الوجه، فقال ابن عبد الظاهر من غير توقّف: يا خوند، أبلق خير من أسود. فقال السلطان:
ويلك! حتّى لا تترك رنكه «2» أيضا، يعنى أنّ ابن عبد الظاهر كان ممّن ينتمى(9/8)
إلى سلّار، وكان رنك سلّار أبيض وأسود. ثم التفت السلطان إلى قاضى القضاة بدر الدين [محمد «1» ] بن جماعة وقال له: يا قاضى، كنت تفتى المسلمين بقتالى؟ فقال: معاذ الله! أن تكون الفتوى كذلك، وإنّما الفتوى على مقتضى كلام المستفتى. ثم حضر الشيخ صدر الدين محمد بن عمر [بن مكّى بن عبد الصمد «2» الشهيربا] ن المرحّل وقبّل يد السلطان، فقال له السلطان: كنت تقول فى قصيدتك:
ما للصبىّ وما للملك يكفله
فخلف ابن المرحّل بالله ما قال هذا، وإنّما الأعداء أرادوا إتلافى فزادوا فى قصيدتى هذا البيت، والعفو من شيم الملوك فعفا عنه. وكان ابن المرحّل قد مدح المظفّر بيبرس بقصيدة عرّض فيها بذكر الملك الناصر محمد، من جملتها:
ما للصّبىّ وما للملك يكفله ... شأن الصبىّ بغير الملك مألوف
ثم استأذن شمس الدين «3» محمد بن عدلان للدخول على السلطان، فقال السلطان للدّوادار، قل له: أنت أفتيت أنّه خارجىّ وقتاله جائز، مالك عنده دخول، ولكن عرّفه هو وأبن المرحّل يكفيهما ما قال الشّارمساحىّ «4» فى حقّهما، وكان من خبر ذلك أن الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الدائم الشّارمساحىّ الماجن مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة يهجو فيها المظفّر بيبرس ويعرّض لصحبته ابن المرحّل وابن عدلان، منها «5» :(9/9)
ولّى المظفّر لمّا فاته الظّفر ... وناصر «1» الحقّ وافى وهو منتصر
وقد طوى الله من بين الورى فتنا ... كادت على عصبة الإسلام تنتشر
فقل لبيبرس إنّ الدهر ألبسه ... أثواب عارية فى طولها قصر
لمّا تولّى تولّى الخير عن أمم ... لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا
وكيف تمشى به الأحوال فى زمن ... لا النّيل وافى ولا وافاهم مطر
ومن يقوم ابن عدلان بنصرته ... وابن المرحّل قل لى كيف ينتصر
وكان المطر لم يقع فى تلك السنة بأرض مصر وقصّر النيل، وشرقت البلاد وارتفع السعر. واتّفق أيضا يوم جلوس السلطان الملك الناصر أنّ الأمراء لمّا اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان، أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق، فقام مسعود وأنشد أبياتا لبعض عوام القاهرة، قالها عند توجّه الملك الناصر من الديار المصرية إلى الكرك: منها:
أحبّة قلبى إنّنى لوحيد ... أريد لقاكم والمزار بعيد
كفى حزنا أنّى مقيم ببلدة ... ومن شفّ» قلبى بالفراق فريد
أجول بطرفى فى الديار فلا أرى ... وجوه أحبّائى الذين أريد
فتواجد الأفرم وبكى وحسر عن رأسه [ووضع «3» ] الكلفتاة على الأرض، فأنكر الأمراء ذلك، وتناول الأمير قراسنقر الكلفتاة ووضعها بيده على رأس الأفرم، ثم خرج السلطان فقام الجميع، وصرخ الجاويشية فقبّل الأمراء الأرض وجرى ما ذكرناه، وانقضت الخدمة، ودخل السلطان إلى الحريم.(9/10)
ثم بعد الخدمة قدّم الأمير سلّار النائب عدّة من المماليك والخيول والجمال وتعابى «1» القماش ما قيمته مائتا ألف درهم، فقبل السلطان شيئا وردّ الباقى. وسأل سلّار الإعفاء من الإمرة والنيابة وأن ينعم عليه بالشّوبك فأجيب إلى ذلك، بعد أن حلف أنّه متى طلب حضر، وخلع السلطان عليه، وخرج سلّار من مصر عصر يوم الجمعة ثالث شوّال مسافرا إلى الشّوبك، فكانت مدّة نيابة سلّار على مصر إحدى عشرة سنة، وكانت الخلعة التى خلعها السلطان عليه بالعزل عن النيابة أعظم من خلعة الولاية؛ وأعطاه حياصة من الذهب مرصّعة، وتوجّه معه الأمير نظام الدين آدم مسفّرا له، واستمرّ أمير علىّ بن سلّار بالقاهرة، وأعطاه السلطان إمرة عشرة بمصر. ثم فى خامس شوّال قدم رسول المظفّر بيبرس يطلب الأمان فأمّنه السلطان.
وفيه خلع السلطان على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ باستقراره فى نيابة دمشق، عوضا عن الأمير آقوش الأفرم بحكم عزله. وخلع على الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ بنيابة حلب عوضا عن قراسنقر. وخلع على أسندمر كرجى بنيابة حماة عوضا عن قبجق، وخلع على الحاج بهادر الحلبىّ بنيابة طرابلس عوضا عن أسندمر كرجى. وخلع على قطلوبك المنصورىّ بنيابة صفد عوضا عن بكتمر الجوكندار. واستقرّ [سنقر «2» ] الكمالىّ حاجب الحجّاب بديار مصر على عادته، وقرالاچين أمير مجلس على عادته. وبيبرس الدوادار على عادته، وأضيف إليه نيابة دار العدل «3» ونظر الأحباس. وخلع على الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام كان بنيابة صرخد على خبز مائة فارس. وأنعم السلطان على نوغاى القبچاقىّ بإقطاع الأمير قطلوبك المنصورىّ، وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق. ونوغاى هذا هو صاحب الواقعة مع المظفّر والخارج من مصر إلى الكرك. انتهى.(9/11)
ثم رسم السلطان لشهاب الدين بن عبادة بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهّزت، وخلع عليهم كلّهم فى يوم الاثنين سادس شوّال، وركبوا بالخلع والتشاريف فكان لركوبهم يوم عظيم. وفى يوم الأحد ثانى عشر شوّال استقرّ فخر الدين «1» عمر بن الخليلىّ فى الوزارة عوضا عن ضياء الدين النشائىّ. ثم رسم السلطان للنوّاب بالسفر، فأوّل من سافر منهم الأمير قبجق نائب حلب، وخرجت معه تجريدة من العساكر المصريّة خوفا من طارق يطرق البلاد. والذي تجرّد مع قبجق من أمراء مصرهم: الأمير جبا أخو سلّار، وطرنطاى البغدادىّ، وعلاء الدين أيدغدى، و [سيف الدين «2» ] بهادر الحموىّ، و [سيف الدين «3» ] بلبان الدّمشقىّ، وسابق الدين بوزنا «4» الساقى، وركن الدين بيبرس الشجاعىّ، و [سيف الدين «5» ] كورى السلاح دار، و [علاء الدين «6» ] آقطوان الأشرفىّ، و [سيف الدين «7» ] بهادر الجوكندار، و [سيف الدين «8» ] بلبان الشمسىّ، و [علاء الدين «9» ] أيدغدى الزّرّاق، و [سيف الدين «10» ] كهرداش الزّرّاق، و [سيف الدين «11» ] بكتمر أستادار، و [عز الدين «12» ] أيدمر الإسماعيلىّ، و [فارس الدين «13» ] أقطاى الجمدار، وجماعة من أمراء العشرات. فلمّا وصلوا إلى حلب رسم بإقامة جماعة منهم بالبلاد الشاميّة، عدّتهم ستة من أمراء الطبلخاناه، وعادت البقيّة.
وفى يوم الخميس سادس عشر شوّال حضر الأمراء للخدمة على العادة، وقد قرّر السلطان مع مماليكه القبض على عدّة من الأمراء، وأنّ كل عشرة يقبضون أميرا ممّن عينهم، بحيث يكون العشرة عند دخول الأمير محتفّة به، فإذا رفع السّماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كلّ جماعة على من عيّن لهم، فلمّا حضر الأمراء(9/12)
فى الخدمة أحاط بهم المماليك ففهموا القصد وجلسوا على السّماط، فلم يتناول أحد منهم لقمة، وعند ما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار فتقدّم إليه وقبض المماليك على الأمراء المعيّنين، وعدّتهم اثنان وعشرون أميرا فلم يتحرّك أحد منهم، فبهت الجميع ولم يفلت منهم سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة، فإنّه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنّه رعف وخرج من غير أن يشعر به أحد؛ واختفى عند الأمير قراسنقر، وكان زوج أخته فشفع قرا سنقر فقبل السلطان شفاعته.
وكان الأمراء المقبوض عليهم: الأمير باكير «1» وأيبك البغدادىّ وقينغار «2» التّقوىّ وقجماس وصاروجا وبيبرس، وبيدمر وتينوا «3» ، ومنكوبرس، وإشقتمر، والسّيواسىّ و [سنقر] الكمالىّ الحاجب، والحاجّ بيليك [المظّفرىّ «4» ] ، والغتمى، وإكبار، وحسن الرّدادىّ، وبلاط وتمربغا، وقيران، ونوغاى الحموىّ وهو غير نوغاى القبجاقىّ صاحب الواقعة «5» ، وجماعة أخر تتمّة الاثنين وعشرين أميرا. وفى ثالث عشرين شوّال استقرّ الأمير [سيف الدين «6» ] بكتمر الجوكندار المنصورىّ فى نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن سلّار. وفيه أمّر السلطان اثنين وثلاثين أميرا من مماليكه، منهم: تنكز الحسامىّ الذي ولى نيابة الشام بعد ذلك، وطغاى «7» ، وكستاى «8» ، وقجليس «9» ، وخاصّ ترك،(9/13)
وطط قرا «1» ، وأقتمر «2» ، وأيدمر الشّيخىّ، وأيدمر الساقى «3» ، وبيبرس أمير آخور، وطاجار [الماردينى الناصرى «4» ] وخضر بن نوكاى، وبهادر قبجق «5» ، والحاج أرقطاى، وأخوه [سيف الدين»
] أيتمش المحمّدى، وأرغون الدّوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر، وسنقر المرزوقى «7» ، وبلبان الجاشنكير، وأسنبغا [بن عبد الله «8» المحمودىّ الأمير سيف الدين] ، وبيبغا «9» المكىّ، وأمير علىّ بن قطلوبك، ونوروز أخو جنكلى، وألجاى الحسامى، وطيبغا حاجّى، ومغلطاى العزىّ «10» صهر نوغاى، وقرمشى الزينى، وبكتمر قبجق «11» ، وتينوا الصالحىّ، ومغلطاى البهائى، وسنقر السّلاح دار، ومنكلى بغا، وركبوا الجميع بالخلع والشرابيش من المنصوريّة «12» ببين القصرين «13» وشقّوا القاهرة، وقد أوقدت الحوانيت كلّها إلى الرّميلة «14» وصفّت المغانى وأرباب الملاهى فى عدّة أماكن، ونثرت عليهم الدراهم فكان يوما مشهودا. وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه وعشراوات. وفيه قبض السلطان على برلغى الأشرفى وجماعة أخر. ثمّ بعد أيام أيضا قبض السلطان على الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ الأستادار، والأمير [بدر الدين «15» ] بكتوت الفتاح أمير جاندار بعد ما حضرا من عند الملك المظفّر بيبرس؛ وخلع عليهما، وذلك بعد الفتك بالمظفّر بيبرس حسب(9/14)
ما ذكرناه فى ترجمة المظفّر بيبرس، وسكتنا عنه هنا لطول قصّته، ولقصر مدّة حكايته، فإنّه بالأمس ذكر فليس لتكراره محلّ، ومن أراد ذلك فلينظر فى ترجمة المظفّر بيبرس. انتهى. وفيه سفّر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندريّة، وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها، وهم: آقوش المنصورىّ قاتل الشجاعىّ، والشيخ على التّتارىّ، ومنكلى التّتارى، وشاورشى «1» [قنقر] وهو الذي كان أثار فتنة الشجاعىّ، وكتبغا، وغازى وموسى أخوا حمدان بن صلغاى، فلمّا حضروا خلع عليهم وأنعم عليهم بإمريات فى الشام. ثم أحضر شيخ الإسلام تقىّ الدين أحمد ابن تيميّة من سجن الإسكندرية وبالغ فى إكرامه، وكان حبسه المظفّر لأمر وقع بينه وبين علماء دمشق ذكرناه فى غير هذا الكتاب، وهو بسبب الاعتقاد وما يرمى به أو باش الحنابلة. وفى يوم الثلاثاء تاسع عشرين صفر سنة عشر وسبعمائة عزل السلطان قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى عن قضاء الديار المصرية بقاضى القضاة جمال الدين أبى داود سليمان ابن مجد الدين أبى حفص عمر الزرعىّ، وعزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم السّروجىّ الحنفىّ، فأقام بعد عزله ستة «2» أيام ومات.
ثم كتب السلطان الملك الناصر بالقبض على الأمراء الذين كان أطلقهم من حبس الإسكندرية وأنعم عليهم بإمريات بالبلاد الشاميّة خوفا من شرّهم.
ثم استقر السلطان بالأمير بكتمر الحسامى حاجب دمشق فى نيابة غزّة عوضا عن بلبان البدرىّ. ثم قبض السلطان على قطقطو، والشيخ علىّ وضروط، مماليك سلّار،(9/15)
وأمّر عوضهم جماعة من مماليكه وحواشيه، منهم: بيبغا الأشرفىّ، و [سيف الدين «1» ] جفتاى «2» ، وطيبغا الشمسىّ، وأيدمر الدوادار، وبهادر «3» النقيب.
وفيها حضر ملك العرب حسام الدين مهنّا أمير آل فضل فأكرمه السلطان وخلع عليه، وسأل مهنّا السلطان فى أشياء وأجابه، منها: ولاية حماة للملك المؤيّد إسماعيلى ابن الملك الأفضل [علىّ «4» ابن المظفّر محمود ابن المنصور محمد تقي الدين] الأيّوبىّ، فأجابه إلى ذلك ووعده بها بعد أسندمر كرجى، ومنها الشفاعة فى أيدمر الشّيخىّ فعفا عنه وأخرجه إلى قوص «5» ، ومنها الشفاعة فى الأمير برلغى الأشرفىّ، وكان فى الأصل مملوكه قد كسبه مهنّا هذا من التتار ثم أهداه إلى الملك المنصور قلاوون، فورثه منه ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فعدّد السلطان الملك الناصر ذنوبه فما زال به مهنّا حتى خفّف عنه، وأذن للناس فى الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضى بذلك وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء على الملك الناصر.
ولما فرغ السلطان الملك الناصر من أمر المظفّر بيبرس وأصحابه ولم يبق عنده ممّن يخشاه إلّا سلّار، ندب إليه السلطان الأمير ناصر الدين محمد ابن أمير سلاح بكتاش الفخرىّ وكتب على يده كتابا بحضوره إلى مصر، فاعتذر سلّار عن الحضور إلى الديار المصرية بوجع فى فؤاده، وأنّه يحضر إذا زال عنه، فتخيّل السلطان من تأخّره وخاف أن يتوجّه إلى التتار؛ فكتب إلى قراسنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب حماة بأخذ الطّرق على سلّار لئلّا يتوجّه إلى التتار. ثم بعث الملك الناصر بالأميرين: بيبرس الدوادار وسنجر الجاولى إلى الأمير سلّار، وأكّد عليهما إحضاره(9/16)
وأن يضمنا له عن السلطان أنه يريد إقامته عنده يستشيره فى أمور المملكة، فقدما على سلّار وبلّغاه عن السلطان ما قال، فوعدهما أنه يحضر، وكتب الجواب بذلك، فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله منه.
وأمّا سلّار فإنه تحيّر فى أمره واستشار أصحابه فاختلفوا عليه، فمنهم: من أشار بتوجّهه إلى السلطان، ومنهم من أشار بتوجّهه إلى قطر من الأقطار: إمّا إلى التتار أو إلى اليمن أو إلى برقة، فعوّل على المسير إلى اليمن، ثم رجع عن ذلك وأجمع على الحضور إلى السلطان، وخرج من الشّوبك وعنده ممّن سافر معه [من مصر «1» ] أربعمائة وستون فارسا، فسار إلى القاهرة، فعند ما قدم على الملك الناصر قبض عليه وحبسه بالبرج «2» من قلعة الجبل، وذلك فى سلخ شهر «3» ربيع الأوّل سنة عشر وسبعمائة. ثم ضيّق السلطان على الأمير برلغى بعد رواح الأمير مهنّا، وأخرج حريمه من عنده؛ ومنع ألّا يدخل إليه أحد بأكل ولا شرب حتى أشفى على الموت ويبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدّة الجوع، ومات ليلة الأربعاء ثانى شهر رجب.
وأمّا أمر سلّار فإنه لما حضر بين يدى الملك الناصر عاتبه عتابا كثيرا وطلب منه الأموال، وأمر الأمير سنجر الجاولى أن ينزل معه ويتسلّم منه ما يعطيه من الأموال، فنزل معه إلى داره ففتح سلّار سربا تحت الأرض، فأخرج منه سبائك ذهب وفضّة وجرب من [الأديم «4» ] الطائفىّ، فى كل جراب عشرة آلاف دينار، فحملوا من ذلك السّرب أكثر من [حمل «5» ] خمسين بغلا من الذهب والفضة، ثم طلع سلّار إلى الطارمة «6» التى كان يحكم عليها فخفروا تحتها، فأخرجوا سبعا وعشرين خابية مملوءة(9/17)
ذهبا، ثم أخرج من الجواهر «1» شيئا كثيرا، منها: حجر بهرمان زنته أربعون مثقالا، وأخرج ألفى حياصة ذهب مجوهرة بالفصوص، وألفى قلادة من الذهب، كلّ قلادة تساوى مائة دينار، وألفى كلفتاة زركش وشيئا كثيرا؛ يأتى ذكره أيضا بعد أن نذكر وفاته. منها: أنهم وجدوا له لجما مفضّضة فنكتوا الفضّة عن السيور ووزنوها، فجاء وزنها عشرة قناطير بالشامى. ثم إنّ السلطان طلبه وأمر أن يبنى عليه أربع حيطان فى مجلسه، وأمر ألّا يطعم ولا يسقى؛ وقيل: إنه لما قبض عليه وحبسه بقلعة الجبل أحضر إليه طعاما فأبى سلّار أن يأكل وأظهر الغضب، فطولع السلطان بذلك، فأمر بألّا يرسل إليه طعام بعد هذا، فبقى سبعة أيام لا يطعم ولا يسقى وهو يستغيث الجوع، فأرسل إليه السلطان ثلاثة أطباق مغطّاة بسفر الطعام، فلما أحضروها بين يديه فرح فرحا عظيما وظنّ أنّ فيها أطعمة يأكل منها، فكشفوها فإذا فى طبق ذهب، وفى الآخر فضّة، وفى الآخر لؤلؤ وجواهر، فعلم سلّار أنه ما أرسل إليه هذه الأطباق إلا ليقابله على ما كان فعله معه، فقال سلّار: الحمد لله الذي جعلنى من أهل المقابلة فى الدنيا! وبقى على هذه الحالة اثنى عشر يوما ومات، فأعلموا الملك الناصر بموته فجاءوا إليه، فوجدوه قد أكل ساق خفّه، وقد أخذ السّرموجة «2» وحطّها فى فيه وقد عضّ عليها بأسنانه وهو ميّت؛ وقيل: إنهم دخلوا عليه قبل موته وقالوا: السلطان قد عفا عنك، فقام من الفرح ومشى خطوات ثم خرّ ميّتا، وذلك فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة؛ وقيل: فى العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
فأخذه الأمير علم الدين سنجر الجاولى بإذن السلطان وتولّى غسله وتجهيزه، ودفنه(9/18)
بتربته «1» التى أنشأها بجانب مدرسته على الكبش خارج القاهرة بالقرب من جامع ابن طولون، لصداقة كانت بين الجاولى وسلّار قديما وحديثا. وكان سلّار أسمر اللون أسيل الخدّ لطيف القدّ صغير اللّحية تركىّ الجنس، وكان أصله من مماليك الملك الصالح علىّ بن قلاوون الذي مات فى حياة والده قلاوون؛ وكان سلّار أميرا جليلا شجاعا مقداما عاقلا سيوسا، وفيه كرم وحشمة ورياسة، وكانت داره «2» ببين القصرين بالقاهرة. وقيل: إنّ سلار لما حج المرّة الثانية فرّق فى أهل الحرمين أموالا كثيرة وغلالا وثيابا، تخرج عن حدّ الوصف حتى إنه لم يدع بالحرمين فقيرا، وبعد هذا مات، وأكبر شهواته رغيف خبز، وكان فى شونته يوم مات من الغلال ما يزيد على أربعمائة ألف إردب. وكان سلّار ظريفا لبّيسا كبير الأمراء فى عصره،(9/19)
اقترح أشياء من الملابس كثيرة مثل السّلّارى وغيره، ولم يعرف لبس السّلّارىّ قبله، وكان شهد وقعة شقحب «1» مع الملك الناصر وأبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا وثخنت «2» جراحاته، وله اليد البيضاء فى قتال التتار. وتولّى نيابة السلطنة بديار مصر، فاستقلّ فيها بتدبير الدولة الناصرية نحو عشر سنين. ومن جملة صدقاته أنه بعث إلى مكة فى سنة اثنتين وسبعمائة فى البحر المالح عشرة آلاف إردب قمح ففرّقت فى أهل مكة، وكذا فعل بالمدينة. وكان فارسا، كان إذا لعب بالكرة لا يرى فى ثيابه عرق، وكذا فى لعب الرمح مع الإتقان فيهما.
وأمّا ما خلّفه من الأموال فقد ذكرنا منه شيئا ونذكر منه أيضا ما نقله بعض المؤرّخين. قال الجزرىّ «3» : وجد لسلّار بعد موته ثمانمائة ألف ألف دينار، وذلك غير الجوهر والحلىّ والخيل والسلاح. قال الحافظ أبو عبد الله الذّهبىّ: هذا كالمستحيل، وحسب زنة الدينار وجمله بالقنطار فقال: يكون ذلك حمل خمسة آلاف بغل، وما سمعنا عن أحد من كبار السلاطين أنه ملك هذا القدر، ولا سيما ذلك خارج عن الجوهر وغيره. انتهى كلام الذهبىّ.
قلت: وهو معذور فى الجزرىّ، فإنه جازف وأمعن.
وقال ابن دقماق «4» فى تاريخه «5» : وكان يدخل إلى سلّار فى كل يوم من أجرة أملاكه ألف دينار. وحكى الشيخ محمد «6» بن شاكر الكتبىّ فيما رآه بخط الإمام العالم(9/20)
العلّامة علم الدين «1» البرزالىّ، قال: رفع إلىّ المولى جمال الدين ابن الفويرة «2» ورقة فيها قبض أموال سلّار وقت الحوطة عليه فى أيام متفرّقة، أولها يوم الأحد: ياقوت أحمر وبهرمان «3» رطلان. بلخش «4» رطلان ونصف. زمرّد ربحانىّ «5» وذبابىّ «6» تسعة عشر رطلا.
صناديق ضمنها فصوص [وجواهر «7» ] ستة. ما بين زمرّد وعين «8» الهرّ ثلثمائة قطعة كبار. لؤلؤ مدوّر من مثقال إلى درهم ألف ومائة «9» وخمسون حبّة. ذهب عين مائتا ألف دينار وأربعة وأربعون ألف دينار. ودراهم أربعمائة ألف وأحد وسبعون ألف درهم. يوم الاثنين: فصوص مختلفة رطلان. ذهب عين خمسة وخمسون ألف دينار، دراهم ألف ألف درهم. مصاغ وعقود ذهب(9/21)
مصرىّ أربع قناطير. فضّيّات طاسات وأطباق وطشوت ستّ قناطير. يوم الثلاثاء: ذهب عين خمسة وأربعون ألف دينار، دراهم ثلثمائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم. قطزيّات «1» وأهلّه وطلعات صناجق فضّة ثلاثة قناطير.
يوم الأربعاء: ذهب عين ألف ألف دينار، دراهم ثلثمائة ألف درهم. أقبية بفرو قاقم «2» ثلثمائة قباء. أقبية حرير عمل الدار «3» ملوّنة [بفرو «4» ] سنجاب «5» أربعمائة قباء، سروج «6» ذهب مائة سرج. ووجد له عند صهره أمير موسى ثمانية صناديق لم يعلم ما فيها، حملت إلى الدور السلطانية. وحمل أيضا من عند سلّار إلى الخزانة تفاصيل «7» طردوحش «8» ، وعمل الدار ألف تفصيلة. ووجد له خيام «9» السّفر ستّ عشرة نوبة كاملة.
ووصل معه من الشّوبك ذهب مصرىّ خمسون ألف دينار، ودراهم أربعمائة الف درهم وسبعون ألف درهم، وخلع ملوّنة ثلثمائة خلعة وخركاه «10» كسوتها أطلس أحمر(9/22)
معدنىّ مبطّن بأزرق مرو زىّ [وستر «1» ] بابها زركش «2» . ووجد له خيل ثلثمائة فرس، ومائة وعشرون قطار بغال، ومائة وعشرون قطار جمال. هذا خارج عمّا وجد له من الأغنام والأبقار والجواميس والأملاك والمماليك والجوارى والعبيد. ودلّ مملوكه على مكان مبنىّ فى داره فوجدوا حائطين مبنيين بينهما أكياس ما علم عدّتها، وفتح مكان آخر فيه فسقيّة ملانة ذهبا منسبكا بغير أكياس.
قلت: وممّا زاد سلّار من العظمة أنّه لمّا ولى النيابة فى الدولة الناصرية محمد بن قلاوون، وصار إليه وإلى بيبرس الجاشنكير تدبير المملكة حضر إلى الديار المصرية الملك العادل زين الدين كتبغا الذي كان سلطان الديار المصرية وعزل بحسام الدين لاچين، ثم استقرّ نائب صرخد ثم نائب حماة، فقدم كتبغا إلى القاهرة وقبّل الأرض بين يدى الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثمّ خرج من عنده وأتى سلّار هذا ليسلّم عليه، فوجد سلّار راكبا وهو يسير فى حوش داره، فنزل كتبغا عن فرسه وسلّم على سلّار، وسلّار على فرسه لم ينزل عنه، وتحادثا حتى انتهى كلام كتبغا، وعاد إلى حيث نزل بالقاهرة؛ فهذا شىء لم يسمع بمثله! انتهى.
وبعد موت سلّار قدم على السلطان البريد بموت الأمير قبجق المنصورىّ نائب حلب، وكان الملك الناصر عزل أسندمر كرجى عن نيابة حماة وولّى نيابة حماة للملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل، فسار إليه المؤيّد من دمشق فمنعه أسندمر، فأقام المؤيّد بين حماة ومصر ينتظر مرسوم السلطان، فاتّفق موت قبجق نائب حلب، فسار أسندمر من حماة إلى حلب وكتب يسأل السلطان فى نيابة حلب، فأعطاها له، وأسرّ ذلك فى نفسه، لكونه أخذ نيابتها باليد، ثم عزل السلطان بكتمر(9/23)
الحسامى الحاجب عن نيابة غزّة وأحضره إلى القاهرة، وولّى عوضه على نيابة غزّة الأمير قطلقتمر «1» ، وخلع على بكتمر الحاجب بالوزارة بالديار المصرية عوضا عن فخر الدين [عمر «2» ] بن الخليلىّ. ثم قدم البريد بعد مدة- لكن فى السنة- بموت الأمير الحاج بهادر الحلبىّ نائب طرابلس، فكتب السلطان بنقل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من نيابة صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر المذكور فسار إليها، وفرح السلطان بموت الحاج بهادر فرحا عظيما، فإنّه كان يخافه ويخشى شرّه.
ثم التفت السلطان بعد موت قبجق والحاج بهادر المذكور إلى أسندمر كرجى، وأخرج تجريدة من الديار المصرية، وفيها من الأمراء كراى المنصورىّ وهو مقدّم العسكر، وسنقر الكمالىّ حاجب الحجّاب، وأيبك الرّومىّ وبينجار وكجكن وبهادر آص فى عدّة من مضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومقدّمى الحلقة «3» ، وأظهر أنّهم توجهوا لغزو سيس، وكتب لأسندمر كرجى بتجهيز آلات الحصار على العادة، والاهتمام فى هذا الأمر حتى يصل إليه العسكر من مصر. وكتب الملك الناصر إلى المؤيّد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بالمسير مع العسكر المصرىّ. ثم خرج الأمير كراى من القاهرة بالعساكر فى مستهلّ ذى القعدة سنة عشر وسبعمائة.
وبعد خروج هذا العسكر من مصر توحّش خاطر الأمير بكتمر الجو كندار نائب السلطنة من الملك الناصر وخاف على نفسه، واتّفق مع الأمير بتخاص المنصورىّ على إقامة الأمير مظفّر الدين موسى ابن الملك الصالح علىّ بن قلاوون فى السلطنة، والاستعانة بالمماليك المظفّريّة، وبعث إليهم فى ذلك فوافقوه. ثم شرع النائب(9/24)
بكتمر الجوكندار فى استمالة الأمراء ومواعدة المماليك المظفّريّة الذين بخدمة الأمراء، على أنّ كل طائفة تقبض على الأمير الذي هى فى خدمته فى يوم عيّنه لهم، ثم يسوق الجميع إلى قبّة «1» النّصر خارج القاهرة، ويكون الأمير موسى المذكور قد سبقهم هناك، فدبّروا ذلك حتّى انتظم الأمر ولم يبق إلّا وقوعه، فنمّ عليهم إلى الملك الناصر بيبرس الجمدار أحد المماليك المظفّريّة، وهو ممّن اتّفق معهم بكتمر الجوكندار، أراد بذلك أن يتخذ يدا عند السلطان الملك الناصر بهذا الخبر، فعرّف خشداشه قراتمر الخاصّكى بما عزم عليه فوافقه. وكان بكتمر الجوكندار قد سيّر يعرّف الأمير كراى المنصورىّ بذلك، لأنّه كان خشداشه، وأرسل كذلك إلى قطلوبك المنصورىّ نائب صفد ثم إلى قطلقتمر نائب غزّة؛ فأمّا قطلوبك وقطلقتمر فوافقاه، وأمّا كراى فأرسل نهاه وحذّره من ذلك، فلم يلتفت بكتمر، وتمّ على ما هو عليه. فلمّا بلغ السلطان هذا الخبر وكان فى اللّيل لم يتمهّل، وطلب الأمير موسى إلى عنده وكان يسكن بالقاهرة، فلما نزل إليه الطلب هرب، ثم استدعى الأمير بكتمر الجوكندار النائب، وبعث أيضا فى طلب بتخاص، وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة، فلما دخل إليه بكتمر أجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص، فلما رآه بكتمر علم أنه قد هلك، فقيّد بتخاص وسجن وأقام السلطان ينتظر الأمير موسى، فعاد إليه الجاولى ونائب الكرك وأخبراه بفراره فاشتدّ غضبه عليهما، وما طلع النهار حتّى أحضر السلطان الأمراء وعرّفهم بما قد وقع، ولم يذكر اسم بكتمر النائب، وألزم السلطان الأمير كشدغدى البهادرىّ والى القاهرة بالنداء على الأمير موسى، ومن أحضره من الجند فله إمرته، وإن كان من العامّة فله ألف دينار، فنزل ومعه(9/25)
الأمير فخر الدين إياز «1» شادّ الدواوين وأيدغدى شقير، وألزم السلطان سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة «2» الأشرفيّة من القلعة حتى يظهر خبر الأمير موسى. ثم قبض السلطان على حواشى الأمير موسى وجماعته وعاقب كثيرا منهم، فلم يزل الأمر على ذلك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة. قبض على الأمير موسى المذكور من بيت «3» أسنادار الفارقانىّ من حارة «4» الوزيريّة بالقاهرة، وحمل إلى القلعة فسجن بها، ونزل الأمراء إلى دورهم، وخلّى عن الأمير بكتمر النائب أيضا ونزل إلى داره، ورسم السلطان بتسمير أستادار الفارقانىّ، ثم عفا عنه وسار إلى داره، وتتبّع السلطان المماليك المظفّريّة، وفيهم: بيبرس [الجمدار] الذي نمّ عليهم وعملوا فى الحديد، وأنزلوا ليسمّروا تحت القلعة، وقد حضر نساؤهم وأولادهم، وجاء الناس من كلّ موضع وكثر البكاء والصّراخ عليهم- رحمة لهم- والسلطان ينظر فأخذته الرحمة عليهم فعفا عنهم، فتركوا ولم يقتل أحد منهم، فكثر الدعاء للسلطان والثناء عليه.
وأمّا أمر أسندمر كرجى فإنّ الأمير كراى لما وصل بالعساكر المصرية إلى حمص وأقام بها على ما قرّره السلطان معه حتى وصل إليه الأمير منكوتمر الطبّاخى، وكان السلطان كتب معه ملطّفات إلى أمراء حلب بقبض نائبها أسندمر كرجى(9/26)
فى الباطن، وكتب فى الظاهر لكراى وأسندمر كرجى بما أراده من عمل المصالح، فقضى كراى شغله من حمص وركب وتهيّأ من حمص، وجدّ فى السير جريدة حتى وصل إلى حلب فى يوم ونصف، فوقف بمن معه تحت قلعة حلب عند ثلث الليل الآخر، وصاح: «يا لعلى» ، وهى الإشارة التى رتّبها بينه وبين نائب قلعة حلب، فنزل نائب القلعة عند ذلك بجميع رجالها وقد استعدّوا للحرب، وزحف الأمير كراى على دار النيابة ولحق به أمراء حلب وعسكرها، فسلّم الأمير أسندمر كرجى نفسه بغير قتال، فأخذ وقيّد وسجن بقلعتها وأحيط على موجوده، وسار منكوتمر الطبّاخى على البريد بذلك إلى السلطان، ثم حمل أسندمر كرجى إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرّومىّ. فخاف عند ذلك الأمير قرا سنقر نائب الشام على نفسه، وسأل أن ينتقل من نيابة دمشق إلى نيابة حلب ليبعد عن الشرّ، فأجيب إلى ذلك، وكتب بتقليده وجهّز إليه فى آخر ذى الحجة من سنة عشر وسبعمائة على يد الأمير أرغون الدّوادار الناصرىّ، وأسرّ له السلطان بالقبض عليه إن أمكنه ذلك. وقدم أسندمر كرجى إلى القاهرة واعتقل بالقلعة، وبعث يسأل السلطان عن ذنبه فأعاد جوابه؛ مالك ذنب، إلا أنك قلت لى لما ودّعتك عند سفرك: أوصيك يا خوند:
لا تبق فى دولتك كبشا كبيرا وأنشئ مماليكك! ولم يبق عندى كبش كبير غيرك.
ثمّ قبض السلطان على طوغان نائب البيرة، وحمل إلى السلطان فحبس أياما ثم أطلقه وولّاه شدّ الدواوين [بدمشق «1» ] .
وفى مستهلّ سنة إحدى عشرة وسبعمائة وصل الأمير أرغون الدّوادار إلى الشام [لتسفير قراسنقر «2» المنصورى منها إلى نيابة حلب] فاحترس منه الأمير قراسنقر على نفسه، وبعث إليه عدّة من مماليكه يتلقونه ويمنعون(9/27)
أحدا ممن جاء معه أن ينفرد مخافة أن يكون معه ملطّفات إلى أمراء «1» دمشق.
ثم ركب قراسنقر إليه ولقيه بميدان الحصى خارج دمشق، وأنزله عنده بدار السعادة «2» وكلّ بخدمته من ثقاته جماعة. فلما كان من الغد أخرج له أرغون تقليده فقبّله وقبّل الأرض على العادة، وأخذ فى التجهيز ولم يدع قراسنقر أرغون أن ينفرد عنه، بحيث إنه أراد زيارة أماكن «3» بدمشق فركب معه قراسنقر بنفسه، حتى قضى أرغون أربه وعاد، وتمّ كذلك إلى أن سافر. فلما أراد قراسنقر السفر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه، وألا يخرج من بيته، واستعدّ وقدّم أثقاله أوّلا فى الليل، فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرّم بمماليكه، وعدّتهم ستمائة فارس، وركب أرغون الدوادار بجانبه وبهادر آص فى جماعة قليلة، وسار معه أرغون حتى أوصله إلى حلب ثم عاد. وقلّد الأمير كراى المنصورىّ نيابة الشام عوضا عن قراسنقر، وأنعم كراى على أرغون الدّوادار بألف دينار سوى الخيل والخلع وغير ذلك.
ثم إنّ الملك الناصر عزل الأمير بكتمر الحسامى عن الوزارة وولاه حجوبيّة الحجّاب بالديار المصرية عوضا عن سنقر الكمالىّ. ولا زال السلطان يتربّص فى أمر بكتمر الجوكندار النائب حتى قبض عليه بحيلة دبّرها عليه فى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وقبض معه على عدّة من الأمراء، منهم:(9/28)
صهر «1» الجوكندار ألكتمر الجمدار وأيدغدى العثمانى «2» ، ومنكوتمر الطبّاخىّ وبدر الدين بكمش «3» الساقى وأيدمر الشّمسى «4» وأيدمر الشيخى، وسجنوا الجميع إلّا الطباخى فإنه قتل من وقته.
والحيلة التى دبّرها السلطان على قبض بكتمر الجوكندار أنه نزل السلطان إلى المطعم «5» وبكتمر بإزائه، فخرج السلطان من البرج «6» ومال إلى بكتمر وقال يا عمى:
ما بقى فى قلبى من أحد إلّا فلان وفلان وذكر له أميرين، فقال له بكتمر: يا خوند، ما تطلع من المطعم إلا وتجدنى قد أمسكتهما، وكان ذلك يوم الثلاثاء، فقال له السلطان: لا، يا عمى إلا دعهما إلى يوم الجمعة؛ تمسكهما فى الصلاة، فقال له:
السمع والطاعة. ثم إنّ السلطان جهّز لبكتمر تشريفا هائلا ومركوبا معظّما، فلما كان يوم الجمعة قال له فى الصلاة: والله يا عمى مالى وجه أراهما! وأستحى منهما، ولكن أمسكهما إذا دخلت أنا إلى الدار، وتوجّه بهما إلى المكان الفلانى تجد هناك منكلى بغا وقجماس فسلّمهما إليهما، ورح أنت، فأمسكهما بكتمر الجوكندار وتوجّه بهما إلى المكان المذكور له، فوجد الأميرين: قجماس ومنكلى بغا هناك، فقاما إليه وقالا له: عليك السمع والطاعة لمولانا السلطان وأخذا سيفه، فقال لهما:(9/29)
يا خشداشيتى ما هو هكذا الساعة كما فارقت السلطان، وقال لى: أمسك هؤلاء، فقالا: ما القصد إلا أنت، فأمسكاه وأطلقا الأميرين، وكان ذلك آخر العهد ببكتمر الجوكندار كما يأتى ذكره. انتهى.
ثم أرسل السلطان استدعى الأمير بيبرس الدّوادار المنصورىّ المؤرّخ وولّاه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن بكتمر الجوكندار، ثم أرسل السلطان قبض أيضا على الأمير كراى المنصورىّ نائب الشام بدار السعادة فى يوم الخميس ثانى عشرين جمادى الأولى، وحمل مقيّدا إلى الكرك فحبس بها. وسبب القبض عليه كونه كان خشداش بكتمر الجوكندار ورفيقه، ثم قبض السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها، وكان أيضا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير موسى حسب ما تقدّم ذكره. ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفى نائب الكرك باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن كراى المنصورىّ، واستقر بالأمير بهادرآص فى نيابة صفد عوضا عن قطلوبك، ثم نقل السلطان بكتمر الجوكندار النائب وأسندمر كرجى من سجن الإسكندرية إلى سجن الكرك، فبقى بسجن الكرك جماعة من أكابر الأمراء مثل: بكتمر الجوكندار وكراى المنصورىّ وأسندمر كرجى وقطلوبك المنصورىّ نائب صفد وبيبرس العلائى فى آخرين. ثم عزل السلطان مملوكه أيتمش المحمّدى عن نيابة الكرك، واستقرّ فى نيابتها بيبغا الأشرفىّ، وكان السلطان قد استناب أيتمش هذا على الكرك لما خرج منها [إلى دمشق «1» ] .
وأما قراسنقر فإنه أخذ فى التدبير لنفسه خوفا من القبض عليه كما قبض على غيره، واصطنع العربان وهاداهم، وصحب سليمان بن مهنّا وآخاه، وأنعم عليه وعلى أخيه موسى حتى صار الجميع من أنصاره، وقدم عليه الأمير مهنّا إلى حلب وأقام(9/30)
عنده أياما وأفضى إليه قراسنقر بسرّه، وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنّا، وأنه لم يوافق على ذلك، ثم بعث قراسنقر يسأل السلطان فى الإذن له فى الحجّ فجهّز قراسنقر حاله، وخرج من حلب فى نصف شوّال ومعه أربعمائة مملوك، واستناب بحلب الأمير قرطاى وترك عنده عدّة من مماليكه لحفظ حواصله، فكتب السلطان لقرطاى بالاحتراس، وألّا يمكّن قراسنقر من حلب إذا عاد، ويحتج عليه بإخضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك. ثم كتب إلى نائب غزّة ونائب الشام ونائب الكرك وإلى بنى عقبة «1» بأخذ الطريق على قراسنقر، فقدم البريد أنّه سلك البرّيّة إلى صرخد وإلى زيزاء «2» ، ثم كثر خوفه من السلطان فعاد من غير الطريق التى سلكها، ففات أهل الكرك القبض عليه فكتبوا بالخبر إلى السلطان فشقّ عليه؛ ثم وصل قراسنقر إلى ظاهر حلب فبلغه ما كتب السلطان إلى قرطاى فعظم خوفه وكتب إلى مهنّا، فكتب مهنّا إلى قرطاى أن يخرج حواصل قراسنقر وإلّا هجم مدينة حلب وأخذ ماله قهرا، فخاف قرطاى من ذلك، وجهّز كتابه إلى السلطان فى طىّ كتابه، وبعث بشىء من حواصل قراسنقر إلى السلطان مع ابن قراسنقر الأمير عز الدين فرج، فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة عشرة، وأقام بالقاهرة مع أخيه أمير على بن قراسنقر. ثم إن سليمان بن مهنّا قدم على قراسنقر، فأخذه ومضى وأنزله فى بيت أمّه فاستجار قراسنقر بها فأجارته، ثم أتاه مهنّا وقام له بما يليق به. ثم بعث مهنّا يعرّف السلطان بما وقع لقراسنقر وأنه استجار بأمّ سليمان فأجارته، وطلب من(9/31)
السلطان العفو عنه؛ فأجاب السلطان سؤاله، وبعث إليه أن يخيّر قراسنقر فى بلد من البلاد حتى يولّيه إياها، فلما سافر قاصد مهنّا وهو ابن مهنا لكنه غير سليمان جهّز السلطان تجريدة هائلة فيها عدّة كثيرة من الأمراء وغيرهم إلى جهة مهنّا، فاستعدّ مهنّا وكتب قراسنقر إلى الأفرم نائب طرابلس يستدعيه اليه، فأجابه ووعده بالحضور إليه. ثم بعث قراسنقر ومهنّا إلى السلطان وخدعاه وطلب قراسنقر صرخد، فانخدع السلطان وكتب له تقليدا بصرخد، وتوجّه إليه بالتقليد أيتمش المحمّدى، فقبّل قراسنقر الأرض، واحتج حتّى يصل إليه ماله بحلب ثم يتوجّه إلى صرخد، فقدمت أموال قراسنقر من حلب، فما هو إلا أن وصل إليه ماله، وإذا بالأفرم قد قدم عليه من الغد ومعه خمسة أمراء من أمراء طبلخاناه وستّ عشراوات فى جماعة من التّركمان فسّر قراسنقر بهم، ثم استدعوا أيتمش وعدّدوا «1» عليه من قتله السلطان من الأمراء، وأنهم خافوا على أنفسهم وعزموا على الدخول فى بلاد التتار، وركبوا بأجمعهم، وعاد أيتمش إلى الأمراء المجرّدين بحمص وعرّفهم الخبر، فرجعوا عائدين إلى مصر بغير طائل. وقدم الخبر على السلطان بخروج قراسنقر والأفرم إلى بلاد التّتار فى أوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة؛ وقيل إنّ الأفرم لما خرج هو وقراسنقر إلى بلاد التتار بكى الأفرم، وأنشد:
سيذكرنى قومى إذا جدّ جدّهم «2» ... وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر
فقال له قراسنقر: امش بلا فشار «3» ، تبكى عليهم ولا يبكون عليك! فقال الأفرم:
والله ما بى إلا فراق ابنى موسى، فقال قراسنقر: أىّ بغاية «4» بصقت فى رحمها جاء(9/32)
منه موسى وإبراهيم وعدّد أسماء كثيرة، وتوجّها. انتهى. ثم إن السلطان أفرج عن الأمير أيدمر الخطيرى وأنعم عليه بخبز الأمير علم الدين سنجر الجاولى.
وفى أوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة كملت عمارة الجامع الجديد «1» الناصرىّ بمصر القديمة على النيل ووقف عليه عدّة أوقاف كثيرة. وأما قراسنقر والأفرم فإنهما سارا بمن معهما إلى بلاد التّتار، فخرج خربندا ملك التّتار وتلقّاهم وترجّل لهم وترجّلوا له وبالغ فى إكرامهم وسار بهم إلى مخيّمه وأجلسهم معه على التّخت، وضرب لكلّ منهم خركاه ورتّب لهم الرواتب السنّية، ثم استدعاهم بعد يومين واختلى بقراسنقر فحسّن له قراسنقر عبور الشام وضمن له تسليم البلاد بغير قتال. ثم اختلى بالأفرم فحسّن له أيضا أخذ الشام الّا أنه خيّله من قوّة السلطان وكثرة عساكره. ثم إن خربندا أقطع قواسنقر مراغة «2» وأقطع الأفرم همذان «3» ، واستمرّوا هناك إلى ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ولمّا حضر من تجرّد من الأمراء إلى الديار المصرية حضر معهم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الذي ولى نيابة الشام بعد كراى المنصورىّ، فقبض السلطان عليه وعلى الأمير بيبرس الدّوادار نائب السلطان صاحب التاريخ،(9/33)
وعلى سنقر الكمالىّ، ولاچين الجاشنكير وبينجار وألدكز الأشرفىّ «1» ، ومغلطاى المسعودىّ وسجنوا بالقلعة فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وذلك لميلهم إلى قراسنقر والأفرم. ثم خلع السلطان على تنكز الحسامى الناصرى بنيابة دمشق دفعة واحدة عوضا عن آقوش نائب الكرك؛ وتنكز هذا هو أوّل من رقّاه من مماليكه إلى الرّتب السنيّة. ثم استقرّ بسودى الجمدار فى نيابة حلب، واستقرّ تمر «2» الساقى المنصورىّ فى نيابة طرابلس.
ثم إنّ السلطان عزل مهنّا بأخيه فضل ورسم بأنّ مهنّا لا يقيم بالبلاد.
ثم قبض السلطان على الأمير بيبرس المجنون وبيبرس العلمىّ وسنجر البروانى وطوغان المنصورىّ وبيبرس التاجى، وقيّدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك فى سادس «3» ربيع الآخر من السنة. ثم أمّر السلطان فى يوم واحد ستة وأربعين أميرا، منهم طبلخاناه تسعة وعشرون وعشروات سبعة عشر وشقّوا القاهرة بالشرابيش والخلع. ثم فى يوم الاثنين أوّل جمادى الأولى خلع السلطان على مملوكة أرغون الدّوادار بنيابة السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن بيبرس الدّوادار بحكم القبض عليه. ثم خلع السلطان على بلبان طرنا أمير باندار بنيابة صفد عوضا عن بهادر آص، وأن يرجع بهادر آص إلى دمشق أميرا على عادته أوّلا. ثم ركب السلطان إلى الصيد ببر الجيزة وأمّر جماعة من مماليكه، وهم: طقتمر «4» الدّمشقى، وقطلوبغا الفخرىّ المعروف بالفول المقشّر، وطشتمر البدرىّ المعروف بحمّص أخضر. ثم ورد على السلطان الخبر بحركة خربندا ملك التتار، فكتب السلطان إلى الشام بتجهيز الإقامات، وعرض السلطان العساكر(9/34)
وأنفق فيهم الأموال، وابتدأ بالعرض فى خامس عشر «1» شهر ربيع الآخر، وكمل فى أوّل جمادى «2» الأولى، فكان يعرض فى كلّ يوم أميرين من مقدّمى الألوف، وكان يتولّى العرض هو بنفسه ويخرجان الأميران بمن أضيف إليهما من الأمراء ومقدّمى الحلقة والأجناد، ويرحّلون شيئا بعد شئ من أوّل شهر رمضان إلى ثامن عشرينه حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر. ثم خرج السلطان فى ثانى شوّال ونزل مسجد التّبن «3» خارج القاهرة ورحل منه فى يوم الثلاثاء «4» ثالث من شوّال، ورتّب بالقلعة نائب الغيبة الأمير [سيف الدين «5» ] أيتمش المحمّدى الناصرى. فلمّا كان ثامن شوّال قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرين رمضان من الرّحبة وعودهم إلى بلادهم بعد ما أقاموا عليها من أوّل شهر رمضان. فلمّا بلغ السلطان ذلك فرّق العساكر فى قاقون «6» وعسقلان «7» ؛ وعزم على الحجّ ودخل دمشق فى تاسع عشر شوّال، وخرج منها فى ثانى ذى القعدة إلى الكرك، وأقام بدمشق أرغون النائب والوزير أمين الملك ابن الغنّام «8» يجمع المال. وتوجّه السلطان من الكرك إلى الحجاز فى أربعين أميرا فحجّ وعاد إلى دمشق فى يوم الثلاثاء حادى عشر المحرّم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وكان لدخوله دمشق يوم مشهود، وعبر دمشق على ناقة وعليه بشت من ملابس العرب بلثام وبيده حربة، فأقام بدمشق خمسة عشر يوما وعاد إلى مصر، فدخلها يوم ثانى عشر صفر.(9/35)
ثم عمل السلطان فى هذه السنة (أعنى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة) الرّوك بدمشق، وندب إليه الأمير علم الدين سنجر الجاولى نائب غزّة. ثم إنّ السلطان تجهّز إلى بلاد الصعيد ونزل من قلعة الجبل فى ثانى عشرين شهر رجب من السنة ونزل تحت الأهرام «1» بالجيزة، وأظهر أنّه يريد الصيد، والقصد السفر للصعيد وأخذ العربان لكثرة فسادهم، وبعث عدّة من الأمراء حتّى أمسكوا طريق السّويس وطريق الواحات فضبط البرّين على العربان، ثم رحل من منزلة الأهرام إلى جهة الصعيد وفعل بالعربان أفعالا عظيمة من القتل والأسر، ثم عاد إلى الديار المصريّة فدخلها فى يوم السبت عاشر شهر رمضان. وكان ممّن قبض عليه السلطان مقداد بن «2» شمّاس، وكان قد عظم ماله، حتّى كان عدّة جواريه أربعمائة جارية، وعدّة أولاده ثمانين. وكان السلطان قد ابتدأ فى أوّل هذه السنة بعمارة القصر الأبلق «3» على الإسطبل «4» السلطانى ففرغ فى سابع عشر شهر رجب، وقصد السلطان أن يحاكى(9/36)
به قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى الذي بظاهر دمشق، واستدعى له صنّاع دمشق وصنّاع مصر حتى كمل وأنشأ بجانبه جنينة، وقد ذهبت تلك الجنينة كما ذهب غيرها من المحاسن. ثمّ إنّ السلطان رسم بهدم مناظر اللّوق بالميدان الظاهرى «1» ، وعمله بستانا وأحضر إليه سائر أصناف الزراعات، واستدعى خولة الشام والمطعّمين فباشروه حتّى صار من أعظم البساتين، وعرف أهل جزيرة «2» الفيل من ذلك اليوم التطعيم للشجر.(9/37)
ثم فى سنة أربع عشرة وسبعمائة كتب السلطان لنائب [حلب و «1» ] حماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحدا منهم لا يكاتب السلطان، وإنّما يكاتب الأمير تنكز نائب الشام، ويكون تنكز هو المكاتب للسلطان فى أمرهم، فشقّ ذلك على النوّاب، وأخذ الأمير [سيف الدين «2» ] بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك؛ فكاتب فيه تنكز حتّى عزل، واستقرّ عوضه الأمير بلبان البدرى، وحمل بلبان طرنا مقيّدا إلى مصر. ثمّ إن السلطان اهتم بعمارة الجسور بأرض مصر وترعها، وندب الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ إلى الشرقية «3» ، والأمير علاء الدين أيدغدى شقير(9/38)
إلى البهنساويّة «1» والأمير حسين «2» ابن جندر إلى أسيوط «3» ومنفلوط «4» ، والأمير سيف الدين آقول «5» الحاجب إلى الغربية «6» ، والأمير سيف الدين قلّى أمير سلاح(9/39)
إلى الطّحاويّة «1» وبلاد الأشمونين «2» ، والأمير جنكلى بن البابا إلى القليوبية «3» ، والأمير بهادر المعزّى «4» إلى إخميم «5» ، والأمير بهاء الدين «6» أصلم إلى قوص «7» .(9/40)
ثم إنّ السلطان قبض على الأمير [علاء الدين «1» ] أيدغدى شقير وعلى الأمير بكتمر الحسامى الحاجب صاحب الدار «2» خارج باب النصر فى أوّل شهر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وسبعمائة فقتل أيدغدى شقير من يومه، لأنه اتّهم أنه يريد الفتك بالسلطان، وأخذ من بكتمر الحاجب مائة ألف دينار وسجن. ثم قبض السلطان على الأمير طغاى، وعلى الأمير تمر الساقى نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير [سيف الدين»
] بهادر آص وحمل إلى الكرك من دمشق، واستقرّ الأمير كستاى الناصرىّ نائب طرابلس عوضا عن تمر الساقى. ثم أفرج السلطان عن الأمير قجماس المنصورىّ أحد البرجية من الحبس، وأخرج الأمير بدر الدين محمد بن الوزيرىّ إلى دمشق منفيّا. ثم فى ثامن عشر شهر رجب أفرج السلطان عن الأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير حسام الدين لاچين الأستادار بعد موته.(9/41)
وفى العشر الأخير من شعبان من سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع فى عمل الرّوك «1» بأرض مصر، وسبب ذلك أنّ أصحاب بيبرس الجاشنكير وسلّار وجماعة من البرجية، كان خبز الواحد منهم ما بين ألف مثقال فى السنة إلى ثلثمائة «2» مثقال، فأخذ السلطان أخبازهم وخشى الفتنة، وقرّر مع فخر الدين [محمد بن فضل الله «3» ] ناظر الجيش روك البلاد، وأخرج الأمراء إلى الأعمال، فتعيّن الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى الغربية «4» ومعه آقول «5» الحاجب والكاتب مكين الدين إبراهيم بن قروينة. وتعيّن للشرقية الأمير أيدمر الخطيرى ومعه أيتمش المحمدى والكاتب أمين الدين قرموط، وتعيّن للمنوفية «6»(9/42)
والبحيرة «1» الأمير بلبان الصّرخدى و [طرنطاى «2» ] القلنجقىّ و [محمد «3» ] بن طرنطاى وبيبرس الجمدار. وتعيّن جماعة أخر للصعيد «4» ، وتوجّه كلّ أمير إلى عمله. فلمّا نزلوا بالبلاد استدعى كلّ أمير مشايخ البلاد ودلاتها «5» وقيّاسيها وعدو لها وسجلّات كلّ بلد، وعرف متحصّلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها، وما يتحصّل منه للجندىّ من العين والغلّة والدّجاج والإوزّ والخراف والكشك والعدس والكعك. ثم قاس الأمير تلك «6» الناحية وكتب بذلك عدّة نسخ، ولا زال يعمل ذلك فى كلّ بلد حتّى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوما بالأوراق، فتسلّمها فخر الدين ناظر الجيش، وطلب التّقىّ «7» كاتب برلغى وسائر مستوفي الدولة، ليفردوا الخاصّ السلطان بلادا ويضيفوا الجوالى «8» إلى البلاد، وكانت الجوالى قبل ذلك إلى وقت الرّوك لها ديوان مفرد(9/43)
يختصّ بالسلطان، فأضيف جوالى كلّ بلد إلى متحصل خراجها، وأبطلت جهات المكوس التى كانت أرزاق الجند عليها، منها ساحل الغلّة «1» ، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة جندىّ من أجناد المحلقه سوى الأمراء، وكان متحصّلها فى السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم.
قلت: وهذا القدر يكون الآن شيئا كثيرا من الذهب من سعر يومنا هذا. وكان إفطاع الجندىّ من عشرة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم، وللأمراء من أربعين ألفا(9/44)
إلى عشرة آلاف درهم، فآقتنى المباشرون منها أموالا عظيمة، فإنّها كانت أعظم الجهات الديوانيّة وأجلّ معاملات مصر. وكان الناس منها فى أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والعسف والظّلم، فإنّ أمرها كان يدور على نواتية «1» المراكب والكيّالين والمشدّين والكتّاب؛ وكان المقرّر على كل إردب درهمين ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما كان ينهب. وكان له ديوان فى بولاق خارج المقس «2» ، وقبله كان له خصّ يعرف بخصّ الكيّالة «3» . وكان فى هذه الجهة نحو ستين رجلا ما بين نظّار ومستوفين وكتّاب وثلاثين جنديّا للشدّ، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلّا فيه، فأزال الملك الناصر هذا الظلم جميعه عن الرعيّة، ورخص سعر القمح من ذلك اليوم، وانتعش الفقير وزالت هذه الظّلامة عن أهل مصر، بعد أن راجعته أقباط مصر فى ذلك غير مرّة، فلم يلتفت إلى قول قائل- رحمه الله تعالى- ما كان أعلى همّته، وأحسن تدبيره.
وأبطل الملك الناصر أيضا نصف السّمسرة الذي كان أحدثه ابن الشّيخىّ «4» فى وزارته- عامله الله تعالى بعدله- وهو أنه من باع شيئا فإنّ دلالة كل مائة درهم درهمان، يؤخذ منها درهم للسلطان، فصار الدلّال يحسب حسابه ويخلّص درهمه(9/45)
قبل درهم السلطان؛ فأبطل الملك الناصر ذلك أيضا، وكان يتحصل منه جملة كثيرة وعليها جند مستقطعة.
وأبطل السلطان الملك الناصر أيضا رسوم الولايات والمقدّمين والنّوّاب والشّرطية، وهى أنها كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وكان عليها أيضا جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف وهتك الحرم وهجم البيوت وإظهار الفواحش ما لا يوصف، فأبطل ذلك كلّه- سامحه الله تعالى وعفا عنه-.
وأبطل ما كان مقرّرا للحوائص والبغال، وكان يجبى من المدينة ومن الوجهين:
القبلىّ والبحرىّ، ويحمل فى كلّ قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن الحياصة ثلثمائة درهم، وعن ثمن البغل خمسمائة درهم، وكان على هذه الجهة أيضا عدّة مقطعين، سوى ما كان يحمل إلى الخزانة، فكان فيها من الظلم بلاء عظيم؛ فأبطل الملك الناصر ذلك كلّه، رحمه الله.
وأبطل أيضا ما كان مقرّرا على السجون، وهو على كلّ من سجن ولو لحظة واحدة مائة «1» درهم سوى ما يغرمه. وكان أيضا على هذه الجهة عدّة مقطعين، ولها ضامن يجبى ذلك من سائر السجون؛ فأبطل ذلك كلّه، رحمه الله.
وأبطل ما كان مقرّرا من طرح الفراريح «2» ، وكان لها ضمّان فى سائر الأقاليم، كانت تطرح على الناس بالنواحى الفراريح؛ وكان فيها أيضا من الظّلم والعسف وأخذ(9/46)
لأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وكان عليها عدّة مقطعين ومرتّبات، ولكل إقليم ضامن مقرّر، ولا يقدر أحد أن يشترى فروّجا إلّا من الضامن، فأبطل الناصر ذلك، ولله الحمد.
وأبطل ما كان مقرّرا للفرسان، وهو شىء تستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجى من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة «1» دراهم من كثرة الظلم، فأبطل الملك الناصر ذلك، رحمه الله تعالى.
وأبطل ما كان مقررا على الأقصاب والمعاصر، كان يجبى من مزارعى الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة، فيحصل من ذلك شىء كثير.
وأبطل ما كان يؤخذ من رسوم الأفراح، كانت تجبى من سائر البلاد، وهى جهة لا يعرف لها أصل فبطل ذلك ونسى، ولله الحمد.
وأبطل جباية المراكب، كانت تجبى من سائر المراكب التى فى بحر النيل بتقرير معيّن على كلّ مركب، يقال له مقرّر «2» الحماية، كان يجبى ذلك من مسافرى المراكب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، فبطل ذلك أيضا.
وأبطل ما كان يأخذه مهتار «3» طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش، وكانت جملة مستكثرة.(9/47)
وأبطل ضمان تجيب «1» بمصر وشدّ الزعماء «2» وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فكان يؤخذ عن كلّ عبد وجارية مبلغ مقرّر عند نزولهم فى الخانات، وكانت جهة قبيحة شنيعة إلى الغاية، فأراح الله المسلمين منها على يد الملك الناصر، رحمه الله.
وأبطل أيضا متوفّر الجراريف «3» بالأقاليم، وكان عليها عدّة كثيرة من المقطعين.
وأبطل ما كان مقرّرا على المشاعلية من تنظيف أسربة البيوت والحمّامات والمسامط وغيرها، فكان إذا امتلأ سراب بيت أو مدرسة لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرّر أجرته بما يختار، ومتى لم يوافقه صاحب البيت تركه ومضى حتى يحتاج إليه ويبذل له ما يطلب.
وأبطل ما كان مقرّرا من الجبى برسم ثمن العبى «4» وثمن ركوة»
السّوّاس.
وأبطل أيضا وظيفتى النظر والاستيفاء من سائر الأعمال، وكان فى كل بلد ناظر ومستوف ومباشرون، فرسم السلطان ألّا يستخدم أحد فى إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون ناظرا وأمين حكم لا غير، ورفع يد سائر المباشرين من البلاد.(9/48)
قلت: وكلّ ما فعله الملك الناصر من إبطال هذه المظالم والمكوس دليل على حسن اعتقاده وغزير عقله وجودة تدبيره وتصرّفه، حيث أبطل هذه الجهات القبيحة التى كانت من أقبح الأمور وأشنعها وعوّضها من جهات لا يظلم فيها الرجل الواحد. ومثله فى ذلك كمثل الرجل الشجاع الذي لا يبالى بالقوم، كثروا أو قلّوا، فهو يكرّ فيهم فإن أوغل فيهم خلص، وإن كرّ راجعا لا يبالى بمن هو فى أثره، لما يعلم ما فى يده من نفسه، فأبطل لذلك ما قبح وأحدث ما صلح من غير تكلّف، وعدم تخوّف، فلله درّه من ملك عمّر البلاد، وعمّر بالإحسان العباد. وهذا بخلاف من ولى بعده من السلاطين فإنهم لقصر باعهم عن إدراك المصلحه، مهما رأوه، ولو كان فيه هلاك الرعية، وعذاب البرية؛ يقولون: بهذا جرت العادة من قبلنا، فلا سبيل إلى تغيير ذلك ولو هلك العالم، فلعمرى هل تلك العادة حدثت من الكتاب والسّنة، أم أحدثها ملك مثلهم! وما أرى هذا وأمثاله إلّا من جميل صنع الله تعالى، كى يتميّز العالم من الجاهل. انتهى.
ثم رسم السلطان الملك الناصر [بالمسامحة «1» ] بالبواقى الديوانية والإقطاعية من سائر النواحى إلى آخر سنة أربع «2» عشرة وسبعمائة. وجل الرّوك «3» الهلالىّ لاستقبال صفر سنة ستّ عشرة وسبعمائة، والرّوك «4» الخراجىّ لاستقبال ثلث مغلّ سنة خمس عشرة(9/49)
وسبعمائة. وأفرد السلطان لخاصته الجيزية «1» وأعمالها، وأخرجت الجوالى من الخاص وفرّقت فى البلاد، وأفردت الجهات التى بقيت من المكس كلها، وأضيفت إلى الوزير، وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدّة بلاد كانت اشتريت من بيت المال وحبست، فأدخلت فى الإقطاعات.
قلت: وشراء الإقطاعات من بيت المال شراء لا يعبأ الله به قديما وحديثا، فإنه متى احتاج بيت مال المسلمين إلى بيع قرية من القرى، وإنفاق ثمنها فى مصالح المسلمين! فهذا شىء لم يقع فى عصر من الأعصار «2» ، وإنما تشترى القرية من بيت المال؛ ثم إن السلطان يهب للشارى ثمن تلك القرية، فهذا البيع وإن جاز فى الظاهر لا يستحلّه الورع، ولا فعله السّلف، حتى إنّ الملك لا تجوز له النفقة من بيت المال إلّا بالمعروف، فمتى جاز له أن يهب الألوف المؤلّفة من أثمان القرى لمن لا يستحقّ أن يكون له النّزر اليسير من بيت المال، وهذا أمر ظاهر معروف يطول الشرح فى ذكره. وفى قصّة سيّدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ما فرضه لنفسه من بيت المال كفاية عن الإكثار فى هذا المعنى. انتهى.
ثم إن السلطان رسم بأن يعتدّ فى سائر البلاد بما كان يهديه الفلّاحين وحسب من جملة المبلغ. فلمّا فرغ من العمل فى ذلك نودى فى الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من جهات المكس وغيره، وكتبت المراسيم بذلك إلى سائر النواحى بهذا الإحسان العظيم، فسّر الناس بذلك قاطبة سرورا عظيما، وضجّ العالم بالدعاء للسلطان بسائر الأقطار، حتى شكر ذلك ملوك الفرنج، وهابته من حسن تدبيره. ووقع ذلك لملوك التتار وأرسلوا فى طلب الصّلح حسب ما يأتى ذكره.(9/50)
ثم جلس السلطان الملك الناصر بالإيوان «1» الذي أنشأه بقلعة الجبل فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجّة سنة خمس عشرة وسبعمائة لتفرقة المثالات «2» . وهذا الرّوك يعرف بالرّوك الناصرى المعمول به إلى يومنا هذا، وحضروا الناس ورسم السلطان أن يفرّق فى كلّ يوم على أميرين من المقدّمين بمضافيهما، فكان المقدّم يقف بمضافيه، ويستدعى كلّ واحد باسمه، فإذا تقدّم المطلوب سأله السلطان، من أنت؟
ومملوك من أنت؟ حتّى لا يخفى عليه شىء من أمره، ثم يعطيه مثالا يلائمه؛ فأظهر السلطان فى هذا العرض عن معرفة تامّة بأحوال رعيّته، وأمور جيوشه وعساكره؛ وكان كبار الأمراء تحضر التّفرقة فكانوا إذا أخذوا فى شكر جندىّ عاكسهم السلطان، وأعطاه دون ما كان فى أملهم له، وأراد بذلك ألّا يتكلّم أحدهم فى المجلس، فلمّا علموا بذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث إنّه لا يتكلّم أحد منهم بعد ذلك إلا ردّ جواب له عما يسأل عنه فمشى الحال بذلك على أحسن وجه من غير غرض ولا عصبيّة، وأعطى لكلّ واحد ما يستحقّه.
قلت: وأين هذه الفعلة من فعل الملك الظاهر برقوق، رحمه الله؛ وقد أظهر من قلّة المعرفة، وإظهار الغرض التامّ، حيث أنعم على قريبه الأمير قجماس بإمرة(9/51)
مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهو إذ ذاك لا يحسن يتلفّظ بالشهادتين، فكان مباشر وإقطاعه يدخلون إليه مع أرباب وظائفه فيجدون الفقيه يعلّمه الشهادة وقراءة الفاتحة وهو كالتّيس بين يدى الفقيه! فكان ذلك من جملة ذنوب الملك الظاهر برقوق التى عدّدوها له عند خروج الناصرىّ «1» ومنطاش «2» عليه، ونفرت القلوب منه حتى خلع وحبس حسب ما يأتى ذكره. ولم أرد بذلك الحطّ على الملك الظاهر المذكور غير أنّ الشيء بالشيء يذكر. انتهى.
ثم فعل السلطان الملك الناصر ذلك مع مماليكه وعساكره، فكان يسأل المملوك عن اسمه واسم تاجره وعن أصله وعن قدومه إلى الديار المصرية، وكم حضر مصافّ، وكم لعب بالرمح [وعن «3» ] سنّه، ومن كان خصمه فى لعب الرّمح، وكم أقام سنة بالطبقة؟ فإن أجابه بصدق أنصفه وإلّا تركه، ورسم له بجامكيّة هيّنة حتى يصل إلى رتبة من يقطع بباب السلطان، فأعجب الناس هذا غاية العجب. وكان الملك الناصر أيضا يخيّر الشيخ المسنّ بين الإقطاع والراتب، فيعطيه ما يختاره، ولم يقطع فى هذا العرض إلا العاجز عن الحركة، فيرتّب له ما يقوم به عوضا عن إقطاعه.
واتّفق للسلطان أشياء فى هذا العرض، منها: أنّه تقدّم إليه شاب تامّ الخلقة فى وجهه أثر يشبه ضربة السيف، فأعجبه وناوله مثالا بإقطاع جيّد، وقال له: فى أىّ مصاف وقع فى وجهك هذا السيف؟ فقال يا خوند: هذا ما هو أثر سيف، وإنّما وقعت من سلّم فصار فى وجهى هذا الأثر، فتبسّم السلطان وتركه،(9/52)
فقال له الفخر ناظر الجيش: ما بقى يصلح له هذا الخبز، فقال الملك الناصر:
قد صدقنى وقال الحق، وقذ أخذ رزقه، فلو قال: أصبت فى المصافّ الفلانى، من كان يكذّبه! فدعت الأمراء له وانصرف الشابّ بالإقطاع. ومنها: أنّه تقدّم إليه رجل دميم الخلق وله إقطاع ثقيل، عبرته «1» ثمانمائة دينار، فأعطاه مثالا وانصرف به، عبرته نصف ما كان فى يده، فعاد وقبّل الأرض، فسأله السلطان عن حاجته؟
فقال: الله يحفظ السلطان، فإنّه غلط فى حقّى، فإنّ إقطاعى كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا عبرته أربعمائة دينار؛ فقال السلطان: بل الغلط كان فى إقطاعك الأول، فامض بما قسم الله لك؛ وأشياء من هذا النوع إلى أن انتهت تفرقة المثالات فى آخر المحرّم سنة ستّ عشرة وسبعمائة، فوقر منها نحو مائتى مثال «2» .
ثم أخذ السلطان فى عرض مماليك الطّباق ووفّر جوامك «3» عدّة منهم، ثم أفرد جهة قطيا «4» للعاجزين من الأجناد، وقرّر لكلّ منهم ثلاثة آلاف [درهم «5» ] فى السنة.
ثم إن السلطان ارتجع ما كانت المماليك البرجيّة اشترته من أراضى الجيزة وغيرها.
وارتجع السلطان أيضا ما كان لبيبرس وسلّار وبرلغى والجوكندار وغيرهم من الرّزق «6»(9/53)
وغيرها، وأضاف ذلك كلّه لخاصّ السلطان، وبالغ السلطان فى إقامة الحرمة فى أيّام العرض، وعرّف الأمير أرغون النائب وأكابر الأمراء أنّه من ردّ مثالا أو تضرّر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأنّ أحدا من الأمراء لا يتكلّم مع السلطان فى أمر جندىّ ولا مملوك، فلم يتجاسر أحد يخالف ما رسم به؛ وغبن فى هذا الرّوك أكثر الأجناد، فإنّهم أخذوا إقطاعا دون الإقطاع الذي كان معهم، وقصد الأمراء التحدث فى ذلك مع السلطان، فنهاهم أرغون النائب عن ذلك، فقدّر الله تعالى أنّ الملك الناصر نزل إلى بركة «1» الحجيج لصيد الكركى «2» على العادة، وجلس فى البستان المنصورىّ الذي كان هناك ليستريح، فدخل بعض المرقداريّة «3» يقال له عزيز وكان من عادته يهزل قدّام السلطان ليضحكه، فأخذ المرقدار يهزل ويمزح ويتمسخر قدّام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية فتمادى فى الهزل لشؤم بخته إلى أن قال:
وجدت جنديّا من جند الرّوك الناصرىّ وهو راكب إكديشا، وخرجه ومخلاته ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام، فآشتدّ غضب السلطان، فصاح فى المماليك: عرّوه ثيابه، ففى الحال خلعت عنه الثّياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت فى الدوران، فصار عزيز المذكور تارة ينغمس فى الماء وتارة يظهر وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضبا ولم يجسر أحد من الأمراء أن يشفع فيه حتّى مضى نحو ساعتين وانقطع حسّه، فتقدّم الأمير طغاى الناصرىّ والأمير قطلوبغا «4» الفخرىّ الناصرىّ وقالا: ياخوند، هذا المسكين لم يرد إلّا أن يضحك(9/54)
السلطان ويطيّب خاطره، ولم يرد غير ذلك، فما زالا به حتّى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من الديار المصريّة، فعند ذلك حمد الله تعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة فى تغيير «1» مثالات الأجناد. انتهى أمر الرّوك وما يتعلّق به.
وفى محرّم سنة ستّ عشرة وسبعمائة ورد الخبر على السلطان بموت خربندا ملك التّتار وجلوس ولده بو سعيد «2» فى الملك بعده. ثم أفرج الملك الناصر عن الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب وخلع عليه يوم الخميس ثالث عشر شوّال من السنة المذكورة بنيابة صفد، وأنعم عليه بمائتى ألف درهم. ثم نقل السلطان فى السنة أيضا الأمير كراى المنصورىّ وسنقر الكمالىّ الحاجب من سجن الكرك إلى البرج بقلعة الجبل فسجنا بها.
ثمّ بدا له زيارة القدس الشريف، ونزل السلطان بعد أيام فى يوم الخميس رابع جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وسبعمائة، [وسار «3» ] ومعه خمسون أميرا، وكريم الدين الكبير ناظر الخواصّ وفخر الدين ناظر الجيش، وعلاء الدين [علىّ بن أحمد بن «4» سعيد] بن الأثير كاتب السّرّ، بعد ما فرّق فى كلّ واحد فرسا مسرجا وهجينا، وبعضهم ثلاث هجن، وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات «5» لزيارة القدس، فتوجّه إلى القدس وزاره، ثم توجّه إلى الكرك ودخله وأفرج عن جماعة، ثم عاد إلى الديار المصريّة فدخلها فى رابع عشر جمادى الآخرة، فكانت غيبته عن مصر أربعين يوما.(9/55)
ثمّ بعد مجىء السلطان وصل إلى القاهرة الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى، والأمير بهادر آص، والأمير بيبرس الدّوادار، وهؤلاء الذين أفرج عنهم من حبس الكرك، وخلع السلطان عليهم وأنعم على بهادر بإمرة فى دمشق، ولزم بيبرس داره، ثم أنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف على عادته أوّلا.
ثم عزل السلطان الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب عن نيابة صفد فى أوّل سنة ثمانى عشرة وسبعمائة وقدم القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر.
وفى هذه السنة تجهّز السلطان لركوب الميدان «1» ، وفرّق الخيل على جميع الأمراء، واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوافى زركش على صفة الطاسات وهم الجفتاوات «2» . وفيها ابتدأ السلطان بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشتخاناه وجامع القلعة القديم، وأخلط الجميع وبناه الجامع «3» الناصرى الذي هو بالقلعة الآن فجاء من أحسن المبانى. وتجدّد(9/56)
أيضا فى هذه السنة بدمشق ثلاثة جوامع: جامع الأمير تنكز «1» المشهور به، وجامع كريم «2» الدين، وجامع شمس الدين «3» غبريال. ثم حجّ فى هذه السنة أمير الحاج الأمير مغلطاى الجمالىّ، وقبض بمكة على الشريف «4» رميثة، وفرّ حميضة «5» وقدم مغلطاى المذكور برميثة مقيّدا إلى القاهرة.
وفى سنة تسع عشرة وسبعمائة استجدّ السلطان القيام فوق الكرسىّ للأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نائب الكرك الذي أفرج عنه السلطان فى السنة الماضية، وكذلك للأمير بكتمر البوبكرىّ «6» السّلاح دار، فكانا إذا دخلا عليه قام لهما، وكان آقوش نائب الكرك يتقدّم على البوبكرى عند تقبيل يد السلطان، فعتب الأمراء على البوبكرى فى ذلك، فسأل البوبكرىّ السلطان عن تقديم نائب الكرك عليه، فقال:
لأنه أكبر منك فى المنزلة، فاستغرب الأمراء ذلك وكشفوا عنه، فوجدوا نائب الكرك تأمّر فى أيام الملك المنصور قلاوون [إمرة «7» ] عشرة، وجعله أستادار ابنه الأشرف خليل فى سنة خمس وثمانين وستمائة، ووجدوا البوبكرىّ تأمّر فى سنة تسعين وستمائة فسكتوا الأمراء عند ذلك، وعلموا أنّ السلطان يسير على القواعد القديمة وأنه أعرف منهم بمنازل الأمراء وغيرها.(9/57)
وفيها اهتمّ السلطان لحركة السفر إلى الحجاز الشريف، وتقدّم كريم الدين الكبير ناظر الخواصّ إلى الإسكندرية لعمل الثّياب الحريز برسم كسوة الكعبة، وبينا السلطان فى ذلك وصلت تقدمة الأمير تنكز نائب الشام، وفيها الخيل والهجن بأكوار «1» ذهب وسلاسل ذهب وفضّة ومقاود حرير، وكانت عدّة كثيرة يطول الشرح فى ذكرها. ثم أيضا وصلت تقدمة الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وهى أيضا تشتمل على أشياء كثيرة، وتولّى كريم الدين تجهيز ما يحتاج إليه السلطان من كلّ شىء حتى إنه عمل له عدّة قدور من ذهب وفضّة [ونحاس «2» ] تحمل على البخاتىّ ويطبخ فيها للسلطان، وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين فى أحواض خشب تحمل على الجمال فتسير مزروعة فيها وتسقى بالماء، ويحصد منها ما تدعو الحاجة إليه أوّلا بأوّل، فتهيأ من البقل والكرّاث والكسبرة والنعناع وأنواع المشمومات والرّيحان شىء كثير، ورتّب لها الخولة لتعاهدها بالسقية وغيرها، وجهّزت الأفران وصنّاع الكماج «3» والجبن المقلى وغيره. وكتبت أوراق عليق السلطان والأمراء الذين معه وعدّتهم اثنان وخمسون أميرا، لكل أمير ما بين مائة عليقة، [فى كل يوم «4» ] إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة، وكانت جملة العليق فى مدّة سفر السلطان ذهابا وإيابا مائة ألف اردبّ وثلاثين ألف إردب [من الشعير «5» ] وحمل تنكز من دمشق خمسمائة حمل على الجمال ما بين حلوى وسكر وفواكه ومائة وثمانين حمل حبّ رمّان ولوز، وما يحتاج إليه من أصناف الطبخ، وجهّز كريم الدين الكبير من الإوزّ ألف طائر، ومن الدّجاج ثلاثة آلاف طائر، وأشياء كثيرة من ذلك.(9/58)
وعيّن السلطان للإقامة بديار مصر الأمير أرغون الناصرىّ النائب ومعه الأمير أيتمش المحمّدىّ وغيره. ثم قدم الملك المؤيّد صاحب حماة إلى القاهرة ليتوجّه فى ركاب السلطان إلى الحجاز، وسافر المحمل على العادة فى ثامن عشر شوّال مع الأمير سيف الدين طرچى «1» أمير مجلس، وركب السلطان من قلعة الجبل فى أوّل ذى القعدة، وسار من بركة الحجّاج فى سادس ذى القعدة وصحبته المؤيد صاحب حماة والأمراء وقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعىّ وغالب أرباب الدولة، وسار حتى وصل مكة المشرّفة بتواضع زائد بحيث إنّ السلطان قال للأمير جنكلى بن البابا: لا زلت أعظّم نفسى إلى أن رأيت الكعبة المشرّفة وذكرت بوس الناس الأرض لى، فدخلت فى قلبى مهابة عظيمة ما زالت عنى حتى سجدت لله تعالى. وكان السلطان لما دخل مكة حسّن له قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة أن يطوف بالبيت راكبا كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له الملك الناصر: ومن أنا! حتى أتشبّه بالنبىّ صلى الله عليه وسلم، والله لا طفت إلا كما يطوف الناس! ومنع الحجّاب من منع الناس أن يطوفوا معه، وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد منهم فى مدّة طوافه، وفى تقبيله الحجر الأسود.
قلت: وهذه حجّة الملك الناصر الثانية. ولما كان الملك الناصر بمكّة بلغه أن جماعة من المغل ممّن حجّ فى هذه السنة قد اختفى خوفا منه فأحضرهم السلطان وأنعم عليهم وبالغ فى إكرامهم. وغسل السلطان الكعبة بيده وصار يأخذ أزر إحرام الحجّاج ويغسلها لهم فى داخل البيت بنفسه، ثم يدفعها لهم، وكثر الدعاء له. وأبطل سائر المكوس من الحرمين الشريفين، وعوّض أميرى مكة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام، وأحسن إلى أهل الحرمين، وأكثر من الصدقات.(9/59)
وفى هذه السنة مهّد السلطان ما كان فى عقبة أيلة من الصخور، ووسّع طريقها، حتى أمكن سلوكها بغير مشقّة، وأنفق على ذلك جملا مستكثرة، واتفق لكريم الدين الكبير ناظر الخاصة أمر غريب بمكة فيه موعظة، وهو أنّ السلطان بالغ فى تواضعه فى هذه الحجّة للغاية، فلما أخرجت الكسوة لتعمل على البيت صعد كريم الدين المذكور إلى أعلى الكعبة بعد ما صلّى بجوفها، ثم جلس على العتبة ينظر فى الخيّاطين، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفين، فبعث الله عليه وهو جالس نعاسا سقط منه على رأسه من علو البيت فلو لم يتداركوه من تحته لهلك، وصرخ الناس فى الطواف صرخة عظيمة تعجّبا من ظهور قدرة الله تعالى فى إذلال المتكبرين! وانقطع ظفر كريم الدين وعلم بذنبه فتصدّق بمال جزيل.
وفى هذه السّفرة أيضا أجرى السلطان الماء لخليص «1» وكان انقطع من مدّة سنين، ولقى السلطان فى هذه السّفرة جميع العربان وملوكها من بنى مهدىّ «2» وأمرائها وشطى «3» وأخاه عسّافا وأولاده وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم، وأشراف المدينة وينبع وغيرهم، وعرب خليص وبنى «4» لأم وعربان حوران «5» وأولاد مهنّا: موسى «6» وسليمان وفيّاضا وأحمد وغيرهم، ولم يتفق اجتماعهم عند ملك غيره، وأنعم عليهم بإقطاعات وصلات وتدلّلوا على السلطان، حتى إنّ موسى بن مهنّا كان له ولد صغير فقام فى بعض(9/60)
الأيام ومدّ يده إلى لحية السلطان وقال له: يا أبا علىّ بحياة هذه اللّحية ومسك منها شعرات إلّا ما أعطيتنى الضّيعة الفلانية إنعاما علىّ، فصرخ فيه فخر الدين ناظر الجيش وقال له:
شل يدك، قطع الله يدك! تمدّ يدك إلى السلطان، فتبسّم له السلطان وقال: هذه عادة العرب، إذا قصدوا كبيرا فى شىء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته، يريد أنه استجار بذلك المسّ، فهو سنّة عندهم؛ فغضب الفخر ناظر الجيش وقام وهو يقول: إنّ هؤلاء مناحيس وسنّتهم أنحس. ثم عاد السلطان بعد أن قضى مناسكه إلى جهة الديار المصرية فى يوم السبت ثانى عشر المحرّم سنة عشرين وسبعمائة بعد أن خرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحجّاج، وركب السلطان بعد انقضاء السّماط فى موكب عظيم، وقد خرج الناس لرؤيته وسار حتى طلع القلعة، فكان يوما مشهودا، وزيّنت القاهرة ومصر زينة عظيمة لقدومه، وكثرت التهانى وأرباب الملاهى من الطبول والزمور، وجلس السلطان على تخت الملك وخلع على الأمراء وألبس كريم الدين الكبير أطلسين، ولم يتّفق ذلك لمتعمّم قبله. ثم خلع السلطان على الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة وأركبه بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية ببين القصرين، وحمل وراءه الأمير قجليس السّلاح دار السّلاح، وحمل الأمير ألجاى الدّوادار الدواة، وركب معه الأمير بيبرس الأحمدى أمير جاندار والأمير طيبرس، وسار بالغاشية «1» والعصائب «2» وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن طلع إلى القلعة، فكان عدّة تشاريف من سار معه مائة وثلاثين تشريفا فيها ثلاثة عشر أطلس والبقية كنجى «3» وعمل الدار وطرد وحش، وقبّل الأرض وجلس على ميمنة(9/61)
السلطان ولقّبه السلطان بالملك المؤيّد وسافر من يومه بعد ما جهّزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه. ثم أفرج السلطان عن جماعة من الأمراء المحبوسين، وعدّتهم ازيد من عشرة نفر. ثم ندب السلطان الأمير بيبرس الأحمدى الحاجب وطائفة من الأجناد إلى مكة ليقيم بها بدل الأمير آق سنقر شادّ العمائر خوفا من هجوم الشريف حميضة على مكّة.
وفى هذه السنة أبطل السلطان مكس الملح بالقاهرة وأعمالها فأبيع الإردبّ الملح بثلاثة دراهم بعد ما كان بعشرة دراهم. ثمّ أذن السلطان للأمير أرغون النائب فى الحجّ فحجّ، وعاد فى سنة إحدى وعشرين بعد أن مشى من مكّة إلى عرفات على قدميه تواضعا. ثم أخرج السلطان الأمير شرف الدين حسين «1» بن جندر إلى الشام على إقطاع الأمير جوبان، ونقل جوبان على إمرة بديار مصر. وسبب نفى الأمير حسين أنّه لمّا أنشأ جامعه المعروف بجامع «2» أمير حسين بجوار داره «3» على الخليج(9/62)
فى البرّ الغربىّ بحكر جوهر النّوبى. ثم عمّر القنطرة «1» وأراد أن يفتح فى سور القاهرة خوخة «2» تنتهى إلى حارة الوزيريّة، فأذن له السلطان فى فتحها، فخرق بابا كبيرا وعمل عليه رنكه، فسعى به علم الدين سنجر الخيّاط متولّى القاهرة، وعظم الأمر على السلطان فى فتح هذا الباب المذكور، فرسم بنفيه فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة المذكورة.
وفيها وقع الحريق بالقاهرة [ومصر «3» ] فابتدأ من يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى وتواتر إلى سلخه، وكان ممّا احترق فيه الرّبع الذي «4» بالشّوّايين من أوقاف(9/63)
البيمارستان المنصورىّ واجتهد الأمراء فى طفيه، فوقع الحريق فى حارة الدّيلم «1» قريبا من دار كريم الدين الكبير، ودخل اللّيل واشتدّ هبوب الرياح فسرت النار فى عدّة أماكن، وبعث كريم الدين ابنه عبد الله للسلطان فعرّفه، فبعث السلطان لإطفائه عدّة كثيرة من الأمراء والمماليك خوفا على الحواصل السلطانية، فتعاظم الأمر وعجز آق سنقر شاد العمائر، والنار تعمل طول نهار الأحد، وخرج النساء مسيّبات وبات الناس على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنين والنار تلفّ ما تمرّ به، والهدم واقع فى الدور المجاورة للحريق. وخرج أمر الحريق عن القدرة البشريّة، وخرجت ريح عاصفة(9/64)
ألقت النخيل وغرّقت المراكب ونشرت النار، فما شكّ الناس [فى] أنّ القيامة قد قامت، وعظم شرر النّيران وصارت تسقط الأماكن البعيدة، فخرج الناس وتعلّقوا بالموادن «1» واجتمعوا فى الجوامع والزوايا وضجّوا بالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى، وصعد السلطان إلى أعلى القصر فهاله ما شاهده، وأصبح الناس فى يوم الثلاثاء، فى أسوإ حال، فنزل أرغون النائب بسائر الأمراء وجميع من فى القلعة، وجمع أهل القاهرة ونقل الماء على جمال الأمراء، ثم لحقه الأمير بكتمر الساقى بالجمال السلطانية، ومنعت أبواب القاهرة ألّا يخرج منها سقّاء، ونقلت المياه من المدارس والحمّامات والآبار، وجمعت سائر البنّائين والنجّارين فهدمت الدور من أسفلها، والنار تحرق فى سقوفها وعمل الأمراء الألوف، وعدّتهم أربعة وعشرون أميرا بأنفسهم فى طفى الحريق ومعهم مضافوهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وتناولوا الماء بالقرب من السّقائين بحيث صار من باب زويلة «2» إلى حارة الروم «3» بحرا، فكان يوما لم ير أشنع منه، بحيث إنه لم يبق أحد إلا وهو فى شغل، ووقف الأمير أرغون النائب وبكتمر الساقى حتى نقلت الحواصل «4» السلطانية من بيت كريم الدين ناظر الخاص إلى بيت(9/65)
ولده علم الدين عبد الله بدرب الرصاصى «1» ، وهدم لأجل نقل الحواصل سبع «2» عشرة دارا، وخمدت النار وعاد الأمراء؛ فوقع الصّياح فى ليلة الأربعاء بحريق آخر وقع بربع الملك «3» الظاهر بيبرس خارج باب زويلة وبقيساريّة «4» الفقراء، وهبّت الرياح مع ذلك فركبت الحجّاب والوالى فعملوا فى طفيها عملا إلى بعد ظهر يوم الأربعاء، وهدموا دورا كثيرة، فما كاد أن تفزغ الأمراء من إطفاء ربع الملك الظاهر، حتى وقعت النار فى بيت «5» الأمير سلّار بخطّ بين القصرين «6» ، وإذا بالنار ابتدأت من(9/66)
أصل «1» البادهنج «2» وكان ارتفاعه من الأرض زيادة على مائة ذراع بذراع العمل، ورأوا فيه نفطا قد عمل فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أطفئت من غير أن يكون لها أثر كبير. فنودى أن يعمل بجانب كلّ حانوت بالقاهرة ومصر زير أودنّ كبير ملأن ماء.
ثم فى ليلة الخميس وقع الحريق بحارة الروم وبموضع آخر خارج القاهرة، وتمادّى الحال على ذلك لا يخلو وقوع الحريق بالقاهرة ومصر، فشاع بين الناس أنّ الحريق من جهة النصارى لمّا أبكاهم هدم الكنائس. ثم وقع الحريق فى عدّة مساجد وجوامع ودور، إلى أن كان ليلة الجمعة حادى عشرينه قبض على راهبين خرجا من المدرسة الكهاريّة «3» بالقاهرة وقد أرميا النار بها، فأحضرا إلى الأمير علم الدين سنجر(9/67)
والى القاهرة وشمّ منهما رائحة الكبريت والزّيت، فأحضرهما من الغد إلى السلطان فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا، فلما نزل بهما وجد العامة قد قبضت على نصرانىّ، وهو خارج والأثر فى يديه من جامع الظاهر «1» بالحسينيّة ومعه كعكة خروق وبها نفط وقطران، وقد وضعها بجانب المنبر، فلما فاح الدّخان أنكروا ووجدوا النّصرانىّ وهو خارج والأثر فى يديه كما ذكر فعوقب قبل صاحبيه، فاعترف أنّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعملوا النّفط وفرّقوه على جماعة ليدوروا به على المواضع، ثم عاقب الراهبين فاعترفا بأنهما من دير «2» البغل وأنهما اللذان أحرقا سائر الأماكن نكاية للمسلمين بسبب هدم الكنائس، وكان أمرهم أنهم عملوا النّفط وحشوه فى فتائل وعملوها فى سهام ورموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السهم تقع على مسافة مائة ذراع أو أكثر، فأمر السلطان كريم الدين الكبير يطلب البترك فطلبه وبالغ فى إكرامه على عادة القبطية، وأعلمه كريم الدين بما وقع فبكى، وقال: هؤلاء سفهاء، قد عملوا كما فعل سفهاؤكم بالكنائس من غير إذن السلطان، والحكم للسلطان، ثم ركب بغلة وتوجّه إلى حال سبيله، فكادت الناس أن تقتله، لولا حماية المماليك له، ثم ركب كريم الدين من الغد إلى القلعة، فصاحت عليه العوامّ وأسمعته ما يكره، فلما طلع كريم الدين عرّف السلطان بمقالة البترك واعتنى به، وكان النصارى أقرّوا على أربعة عشر راهبا بدير البغل، فقبض عليهم وعملت حفيرة كبيرة بشارع الصليبة وأحرق فيها أربعة منهم فى يوم الجمعة، واشتدّت العامّة عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسلبوهم ثيابهم وألقوهم عن الدوابّ إلى الأرض. وركب السلطان إلى الميدان فى يوم السبت وقد اجتمع عالم عظيم، وصاحوا: نصر الله الإسلام، انصر دين محمد بن عبد الله،(9/68)
فلما استقرّ السلطان بالميدان أحضر والى القاهرة نصرانيين قد قبض عليهما فأحرقا خارج الميدان، وخرج كريم الدين من الميدان وعليه التشريف، فصاحت به العامّة:
كم تحامى للنصارى! وسبّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشقّ ذلك على السلطان، واستشار السلطان الأمراء فى أمر العامّة، فأشار عليه الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بعزل الكتّاب النصارى، فإنّ الناس قد أبغضوهم، فلم يرضه ذلك، وتقدّم إلى ألماس الحاجب أن يخرج فى أربعة أمراء ويضع السيف فى العامّة حتى ينتهى إلى باب زويلة، ويمرّ كذلك إلى باب النصر ولا يرفع السيف عن أحد، وأمر والى القاهرة أن يتوجه إلى باب اللّوق وباب البحر ويقبض على من وجده من العامّة ويحمله إلى القلعة، وعيّن لذلك أيضا عدّة مماليك فخرجوا من الميدان، فبادر كريم الدين وسأل السلطان العفو فقبل شفاعته، ورسم بالقبض على العامّة من غير قتلهم، وكان الخبر بلغ العامّة ففرّت العامّة حتى الغلمان وصار الأمير لا يجد من يركّبه، وانتشر ذلك فغلقّت الأسواق بالقاهرة فكانت ساعة لم يمرّ بالناس أبشع منها، وهى من هفوات الملك الناصر. ومرّ الوالى بباب اللّوق وبولاق وباب البحر وقبض على كثير من الكلابزيّة «1» وأراذل العامّة بحيث إنه صار كلّ من رآه أخذه، وجفل الناس من الخوف وعدّوا فى المراكب إلى برّ الجيزة. فلمّا عاد السلطان إلى القلعة لم يجد أحدا فى طريقه، وأحضر إليه الوالى من قبض عليه، وهم نحو المائتين فرسم السلطان بجماعة منهم للصّلب، وأفرد جماعة للشّنق، وجماعة للتوسيط، وجماعة لقطع الأيدى، فصاحوا:
ياخوند، ما يحلّ لك، ما نحن الغرماء فرقّ لهم بكتمر الساقى وقام ومعه الأمراء، وما زالوا به حتى أمر بصلب جماعة منهم على الخشب من باب زويلة إلى قلعة الجبل، وأن يعلّقوا بأيديهم، ففعل بهم ذلك وأصبحوا يوم الأحد صفّا واحدا من باب(9/69)
زريلة إلى تحت القلعة، فتوجّع لهم الناس وكان منهم كثير من بياض الناس ولم تفتح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسه ولم يسلك من باب زويلة وطلع القلعة من خارج السّور، وإذا بالسلطان قد قدّم الكلابزية وأخذ فى قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسه وقبّل الأرض وباس رجل السلطان وسأل السلطان العفو عن هؤلاء، فأجابه بمساعدة الأمير بكتمر، وأمر بهم فقيّدوا وأخرجوا للعمل فى الحفر بالجيزة، ومات ممن قطع [يده «1» ] رجلان وأمر بحفظ من علّق على الخشب.
وفى الحال وقع الصوت بحريق أماكن بجوار جامع أحد ابن طولون وبوقوع الحريق فى القلعة وفى بيت بيبرس الأحمدىّ بحارة «2» بهاء الدين قراقوش وبفندق «3» طرنطاى خارج باب البحر فدهش السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجّار الزّيت فعمّت النار كلّ ما فيه، حتى العمد الرّخام وكانت ستة عشر عمودا، طول كلّ عمود ست أذرع بالعمل، ودوره نحو ذراعين فصارت كلّها جيرا، وتلف فيه لتاجر واحد ما قيمته تسعون ألف درهم، وقبض فيه على ثلاثة نصارى ومعهم فتائل النّفط اعترفوا أنهم فعلوا ذلك. فلمّا كان يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور ركب السلطان إلى الميدان فوجد نحو العشرين ألفا من العامّة فى طريقه قد صبغوا خروقا بالأزرق والأصفر «4» وعملوا فى الأزرق صلبانا بيضاء ورفعوها(9/70)
على الجريد وصاحوا عليه صيحة واحدة: لا دين إلّا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام، انصرنا على أهل الكفر ولا تنصر النصارى، فخشع السلطان والأمراء وتوجه إلى الميدان وقد اشتغل سرّه، وركبت العامة أسوار الميدان «1» ورفعوا الخروق الزّرق وهم يصيحون لا دين إلا دين الإسلام، فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم وتقدّم إلى الحاجب أن يخرج فينادى من وجد نصرانيا فدمه وماله حلال، فلما سمعوا النّداء صرخوا صوتا واحدا: نصرك الله، فارتجّت الأرض. ثم نودى عقيب ذلك [بالقاهرة «2» ومصر] من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء حلّ دمه، وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزّرق، وألّا يركبوا فرسا ولا بغلا ولا يدخلوا الحمّام إلا بجرس فى أعناقهم، ولا يتزيّوا بزىّ المسلمين، هم ونساؤهم وأولادهم، ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ودواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال.
وغلّقت الكنائس والأديرة وتجرّأت العامّة على النصارى حيث وجدوهم ضربوهم وعرّوهم، فلم يتجاسر نصرانىّ أن يخرج من بيته، فكان النصرانىّ إذا عنّ له أمر يتزيّا بزىّ اليهود فيلبس عمامة صفراء يكتريها من يهودىّ ليخرج فى حاجته. واتفق أنّ بعض كتّاب النصارى حضر إلى يهودىّ له عليه مبلغ كبير ليأخذ منه شيئا، فأمسكه اليهودىّ وصاح: أنا بالله وبالمسلمين، فخاف النصرانى وقال له: أبرأت ذمّتك وكتب له خطه بالبراءة وفرّ. واحتاج عدّة من النصارى إلى إظهارهم الإسلام، فأسلم السّنّى [ابن ست «3» بهجة] الكاتب وغيره، واعترف بعضهم على راهب دير «4»(9/71)
الخندق أنه كان ينفق المال فى عمل النّفط للحريق ومعه أربعة، فأخذوا وسمّروا وانبسطت عند ذلك ألسنة الأمراء فى كريم الدين أكرم الصغير، وحصلت مفاوضة بين الأمير قطلوبغا «1» الفخرىّ وبين بكتمر الساقى بسبب كريم الدين [الكبير «2» ] ، لأن بكتمر كان يعتنى به وبالدواوين، وكان الفخرىّ يضع منه «3» .
قلت: ولأجل هذا راح كريم «4» الدين من الدنيا على أقبح وجه! وأخرب الله دياره بعد ذلك بقليل.
واستمرّ الفخرىّ على رتبته بعد سنين عديدة. قال: وصار مع كلّ من الأميرين جماعة وبلغ السلطان ذلك، وأنّ الأمراء تترقّب وقوع فتنة، وصار السلطان إذا ركب إلى الميدان لا يرى فى طريقه أحدا من العامّة لكثرة خوفهم أن يبطش السلطان بهم فلم يعجبه ذلك، ونادى بحروج الناس للفرجة على الميدان ولهم الأمان والاطمئنان فخرجوا على عادتهم. ثم وقع الحريق بالقاهرة «5» واشتدّ أمره إلى أن طفئ، وسافر كريم الذين الكبير إلى الإسكندرية وشدّد على النصارى فى لبسهم(9/72)
وركوبهم حتى يتقرّب بذلك إلى خواطر العامّة. ثم تنكّرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير لتأخّر جوامكهم شهرين، وتجمّعوا يوم الخميس ثامن عشرين صفر قبل الظهر ووقفوا بباب القصر، وكان السلطان فى الحريم، فلمّا بلغه ذلك خشى منهم، وبعث إليهم بكتمر الساقى فلم يلفتوا إليه، فخرج السلطان إليهم وقد صاروا نحو ألف وخمسمائة، فعند ما رآهم السلطان سبّهم وأهانهم وأخذ العصاة من مقدّم المماليك وضرب بها رءوسهم وأكتافهم، وصاح فيهم: اطلعوا مكانكم فعادوا بأجمعهم إلى الطّباق، وعدّت سلامة السلطان فى هذه الواقعة من العجائب، فإنّه خرج إليهم فى جماعة يسيرة من الخدّام، وهم غوغاء لا رأس لهم ولا عقل ومعهم السّلاح. انتهى.
ثمّ أمر السلطان للنائب بعرضهم (أعنى المماليك) فعرضهم فى يوم السبت آخر صفر وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشاميّة فرّقهم على الأمراء، وأخرج بعد ذلك جماعة منهم من الطّباق إلى خرائب «1» التتار بقلعة الجبل، وضرب بعضهم «2» بالمقارع هو وغلامه لكونه شرب الخمر ضربا مبرّحا مات منه المملوك بعد يومين.
قلت: لا شلّت يداه، هذا وأبيك العمل! ثم أنقص السلطان جوامك من بقى من مماليك الطّباق، ثم أخرج جماعة من خدّام الطّباق الطواشيّة (أعنى مقدّمى الطّباق) وقطع جوامكهم وأنزلهم من القلعة لكونهم فرّطوا فى تربية المماليك.(9/73)
ثم غيّر السلطان موضع دار العدل «1» التى أنشأها الملك الظاهر «2» بيبرس وهدمها وجعلها موضع الطبلخاناه الآن، وذلك فى شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، ولمّا هدم الموضع المذكور وجد فى أساسه أربعة قبور، فنبشت فوجد بها رمم أناس طوال عراض وأحدها مغطّاة بملاءة ديبقىّ ملوّنة، إذا مسّ منها شىء تطاير لطول مكثه، وعليهم عدّة القتال وبهم جراحات، وفى وجه أحدهم ضربة سيف بين عينيه عليها قطن، فعندما رفع القطن نبع الدّم من تحته وشوهد الجرح كأنّه جديد، فنقلوا إلى بين العروستين وجعل عليهم مسجد.
وفى شعبان زوّج الملك الناصر ابنته للأمير أبى بكر بن أرغون النائب الناصرىّ، وتولّى العقد قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرىّ «3» الحنفىّ على أربعة آلاف دينار. ثم قدم الملك المؤيّد صاحب حماة على السلطان بالديار المصريّة وتوجّه فى خدمة الملك الناصر إلى قوص بالوجه القبلىّ للصيد، وعاد السلطان من قوص إلى جهة القاهرة فى أوّل محرّم سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الموافق لرابع عشر طوبة، ونزل بالجيزة، وخلع على الملك المؤيّد خلعة السفر. ثم استدعى السلطان الحريم السلطانىّ إلى برّ الجيزة، فطرد سائر الناس من الطّرقات، وغلّقت الحوانيت، ونزلت خوند طغاى زوجة السلطان وأمّ ولده آنوك، والأمير أيدعمش الأمير آخور كبير(9/74)
ماش يقود عنان فرسها بيده وحولها سائر الخدّام مشاة منذ ركبت من القلعة إلى أن وصلت إلى النيل فعدّت فى الحرّاقة «1» . ثم استدعى السلطان الأمير بكتمر الساقى وغيره من الأمراء الخاصّكيّة وحريمهم وأقام السلطان بالجيزة أيّاما إلى أن عاد إلى القلعة فى خامس عشره، وقد توعك كريم الدين الكبير. ثم قدم الحاجّ فى سادس عشرين المحرّم. ثم عوفى كريم الدين فخلع السلطان عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصة ذهب فاستعظم الناس ذلك، وبالغ السلطان فى الإنعام على الحكماء. ثم بعد أيام قبض السلطان على كريم الدين المذكور فى يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر. وهو كريم الدين عبد الكريم ابن المعلّم هبة الله بن السّديد ناظر الخواصّ ووكيل السلطان وعظيم دولته، وأحيط بداره وصودر فوجد له شىء كثير جدّا، ولا زال فى المصادرة إلى أن أفرج عنه فى يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الآخرة، وألزمه السلطان بإقامته بتربته «2» بالقرافة. ثم إنّ السلطان أخرجه إلى الشّوبك ثم نقله إلى القدس ثم طلب إلى مصر وجهّز إلى أسوان، وبعد قليل أصبح مشنوقا بعمامته (يعنى أنه شنق نفسه) ، وليس الأمر كذلك؛ وقيل إنه لما أحسّ بقتله صلّى ركعتين وقال «3» : هاتوا عشنا سعداء ومتنا شهداء، وكان الناس يقولون: ما عمل أحد مع أحد ما عمله الملك الناصر مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة، ومعنى هذا أنّه كان حكّمه فى الدولة، ثم قتله، والمقتول ظلما فى الجنة. وأصل كريم الدين هذا كان من كتبة النصارى ثم أسلم كهلا فى أيّام بيبرس الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان(9/75)
الجاشنكير لا يصرف على الملك الناصر إلّا بقلم كريم الدين، وكان الناصر إذ ذاك تحت حجر الجاشنكير؛ ولمّا قتل بيبرس الجاشنكير اختفى كريم الدين هذا مدّة ثم طلع مع الأمير طغاى [الكبير «1» ] فأوقفه طغاى ثم دخل إلى السلطان وهو يضحك، وقال له: إن حضر كريم الدين إيش تعطينى؟ ففرح السلطان وقال: أعندك هو؟
أحضره، فخرج وأحضره وقال له: مهما قال لك قل له: السمع والطاعة، ودعنى أدبّر أمرك، فلمّا مثل بين يدى السلطان قال له بعد أن استشاط غضبا: اخرج واحمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وأراد الخروج، فقال له السلطان: لا، كثير، احمل خمسمائة ألف دينار فقال له: كما قال أوّلا، ولا زال السلطان ينقصه من نفسه إلى أن ألزمه بمائة ألف دينار، فلمّا خرج على أن يحمل ذلك، قال له طغاى المذكور: لا تصقع «2» ذقنك وتحضر الجميع الآن، ولكن هات منها عشرة آلاف دينار ففعل ذلك، ودخل بها إلى السلطان وصار يأتيه بالنقدة «3» من ثلاثة آلاف دينار إلى ما دونها، ولما بقى عليه بعضها أخذ طغاى والقاضى فخر الدين ناظر الجيش فى إصلاح أمره، ولا زالا بالسلطان حتّى أنعم عليه بما بقى، واستخدمه ناظر الخاص، وهو أوّل من باشر هذه الوظيفة بتجمّل ولم تكن تعرف أولا، ثم تقدّم عند السلطان حتى صار أعزّ الناس عليه، وحجّ مع خوند طغاى زوجة السلطان بتجمّل زائد، ذكرناه فى ترجمته فى المنهل الصافى، وكان يخدم كلّ أحد من الأمراء «4» الكبار المشايخ والخاصّكيّة وأرباب الوظائف والجمدارية الصّغار وكلّ أحد حتى الأوجاقيّة، وكان يركب فى خدمته سبعون مملوكا بكنابيش «5» عمل الدار وطرز ذهب والأمراء تركب(9/76)
فى خدمته. ومن جملة ما ناله من السعادة والوجاهة عند الملك الناصر أنّه مرّة طلبه السلطان إلى الدور، فدخل عليه وبقيت خازندارة خوند طغاى تروح إليه وتجىء مرّات فيما تطلبه خوند طغاى من كريم الدين هذا وطال الأمر، فقال السلطان [له «1» ] :
يا قاضى إيش حاجة لهذا التطويل، بنتك ما تختبئ منك! ادخل إليها أبصر ما تريده افعله لها، فقام كريم الدين دخل إليها، وقال لها السلطان: أبوك هنا أبصرى له ما يأكل؛ فأخرجت له طعاما وقام السلطان إلى كرمة فى الدار وقطع منها عنبا وأحضره بيده وهو ينفخه من الغبار، وقال: يا قاضى كل من عنب دارنا. وهذا شىء لم يقع لأحد غيره مثله مع الملك الناصر وأشياء كثيرة من ذلك. وكان حسن الإسلام كريم النّفس؛ قيل إنه كان فى كلّ قليل يحاسب صيرفيه فيجد فى الوصولات وصولات زور. ثم بعد حين وقع بالمزوّر فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال:
الحاجة، فأطلقه، وقال [له «2» ] : كلما احتجت إلى شىء اكتب به خطّك على عادتك على هذا الصّيرفى ولكن ارفق، فإنّ علينا كلفا كثيرة. وكان إذا قال: نعم، كانت نعم، وإذا قال: لا، فهى لا. ولما قبض السلطان عليه خلع على الأمير آقوش نائب الكرك باستقراره فى نظر البيمارستان «3» المنصورىّ عوضا عن كريم الدين المذكور. فوجد آقوش حاصله أربعمائة ألف درهم.
ثم أمر السلطان فنودى فى يوم الأربعاء سادس المحرّم سنة أربع وعشرين وسبعمائة على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرّطل، على أنّ كل رطل منها بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم [وثمن «4» ] ، فضرب منها نحو مائتى ألف درهم فرقت على الناس. ثم رسم السلطان بأن يكتب له كل يوم أوراق بالحاصل(9/77)
من تعلّقات السلطنة والمصروف منها فى كل يوم، فصارت تعرض عليه كل يوم ويباشر ذلك بنفسه فتوفّر مال كثير وشقّ ذلك على الدواوين.
ثم سافر السلطان إلى الوجه القبلى للصيد وعاد فى ثالث عشر المحرّم سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وفى هذه السنة قدم على الملك الناصر رسل صاحب اليمن، ورسل صاحب اسطنبول، ورسل الأشكرى، ورسل متملّك سيس، ورسل إلقان بو سعيد، ورسل صاحب ماردين، ورسل ابن قرمان، ورسل متملّك النوبة، وكلهم يبذلون الطاعة. وسأل رسل صاحب اليمن الملك المجاهد «1» إنجاده بعسكر من مصر وأكثر من ترغيب السلطان فى المال الذي باليمن، فرسم السلطان بتجهيز العسكر إلى اليمن صحبة الأمير بيبرس الحاجب ومعه من أمراء الطبلخاناه خمسة، وهم: آقول الجاجب، وقجماس «2» الجوكندار، وبلبان الصّرخدىّ، وبكتمر العلائى الأستادار، وألجاى الناصرىّ الساقىّ، ومن العشرات: عزّ الدين أيدمر الكوندكىّ «3» وشمس الدين إبراهيم التّركمانىّ، وأربعه من مقدّمى الحلقة، وهؤلاء العسكر لهم مقدّمة أخرى كالجاليش عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب، ومعه خمسة من أمراء الطبلخاناه وهم: الأمير ططقرا الناصرى وعلاء الدين علىّ بن طغريل الإيغانىّ وجرباش أمير علم، وأيبك الكوندكى «4» وكوكاى طاز، وأربعة من مقدّمى الحلقة، ومن العشرات بلبان الدّوادارى وطرنطاى الإسماعيلىّ والى باب القلعة، ومن مماليك السلطان ثلثمائة فارس، ومن أجناد الحلقة تتمّة(9/78)
الألف فارس؛ وفرّقت فيهم أوراق السّفر، وكتب بحضور العربان من الشرقيّة والغربية لأجل الجمال.
ثم خرج السلطان إلى سرياقوس «1» على العادة فى كل سنة وقبض على الأمير بكتمر الحاجب بها، وعلى أمير آخر فى يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل. ثم قدم على السلطان الأمير تنكز الناصرىّ نائب الشام وأقام إلى عاشره وعاد إلى الشام، ثم أنفق السلطان على الأمراء المتوجّهين إلى اليمن فقط، فحمل إلى بيبرس ألف دينار وإلى طينال ثمانمائة دينار، ولكل أمير طبلخاناه عشرة آلاف درهم «2» ، ولكل من العشرات مبلغ ألفى درهم، ولمقدّمى الحلقة ألف درهم، وحضر العربان. وباعوا الأجناد موجودهم واكتروا الجمال، فانحطّ سعر الدينار من خمسة وعشرين درهما إلى عشرين درهما من كثرة ما باعوا من الحلل «3» والمصاغ. ثم برزوا من القاهرة إلى بركة الحاج «4» فى يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين، وسافروا من البركة فى يوم الخميس ثانى عشره. ثم خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدّة من المهندسين، وعيّن موضعا على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبنى فيه خانقاه «5» ، فيها مائة خلوة لمائة صوفىّ وبجانبها جامع تقام فيه الخطبة، ومكان برسم ضيافة الواردين وحمّام ومطبخ، وندب آق سنقر شادّ العمائر لجمع الصّنّاع، ورتّب أيضا قصور سرياقوس برسم الأمراء والخاصّكيّة، وعاد فوقع الاهتمام(9/79)
فى العمل حتى كملت فى أربعين يوما. ثم اقتضى رأى السلطان حفر خليج «1» خارج القاهرة ينتهى إلى سرياقوس، ويرتّب عليه السواقى والزراعات وتسير فيه المراكب فى أيّام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور «2» بسرياقوس.
قلت: وقد أدركت أنا بواقى هذه القصور التى كانت بسرياقوس، وخرّبت فى دولة الملك الأشرف برسباى فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة، وأخذ الأمير سودون(9/80)
ابن عبد الرحمن أنقاضها وبنى بها جامعه «1» الذي بخانقاه سرياقوس، فكان ذلك سببا لمحو آثارها، وكانت من محاسن الدنيا. انتهى.
ثمّ إن الملك الناصر فوّض عمل الخليج إلى الأمير أرغون النائب، فنزل أرغون بالمهندسين إلى النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة «2» البلاط من أراضى بستان «3» الخشّاب، ويقع الحفر فى الميدان الظاهرىّ الذي جعله الملك الناصر هذا بستانا من سنيّات وغرم عليه أموالا جمّة، ثم يمرّ الخليج المذكور على بركة «4» قرموط(9/81)
إلى باب البحر «1» ثم إلى أرض الطبّالة «2» ويرمى فى الخليج الكبير، وكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفر، وعيّن لكلّ واحد من الأمراء أقصابا يحفرها، وابتدئ بالحفر من أوّل جمادى الأولى من سنة خمس وعشرين إلى أن تمّ فى سلخ جمادى الآخرة من السنة، وأخرب فيه أملاك كثيرة، وأخذت قطعة من بستان «3» الأمير أرغون النائب، وأعطى السلطان ثمن ما خرّب من الأملاك لأربابها، والتزم فخر الدين ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه.
قلت: وهى القنطرة المعروفة بقنطرة «4» الفخر. والتزم قديدار «5» والى القاهرة بعمارة «6» قنطرة تجاه البستان الذي كان ميدانا للظاهر بيبرس البندقدارىّ، وأنّ قديدار(9/82)
أيضا يتمّ قناطر «1» الإوزّ وقناطر «2» الأميريّة فعمل ذلك كلّه. فلمّا كان أيّام النيل جرت السفن فيه وعمّرت عليه السواقى وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك. ثم توجه السلطان فى يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة إلى حانقاته التى أنشأها بسرياقوس، وخرجت القضاة والمشايخ والصوفيّة إليها وعمل لهم سماط عظيم فى يوم الخميس تاسعه(9/83)
بالخانقاه المذكورة. واستقرّ الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد «1» بن محمود الأقصرائى «2» الّذى كان شيخ خانقاه «3» كريم الدين الكبير بالقرافة فى مشيخة هذه الخانقاه.
ورتّب عنده مائة صوفىّ، ورسم للشيخ مجد الدين المذكور بخلعة وأن يلقّب بشيخ الشيوخ.
وأمّا العسكر الذي توجّه إلى اليمن فإنّ السلطان كتب إلى أمراء الحجاز بالقيام فى خدمة العسكر، وتقدّم كافور الشّبلى «4» خادم الملك المجاهد الذي كان قدم فى الرّسلية إلى زبيد «5» ليعلم أستاذه الملك المجاهد بقدوم العسكر، وكتب لأهل حلى «6» بنى يعقوب الأمان وأن يجلبوا البضائع للعسكر، ورحل العسكر فى خامس جمادى الآخرة من مكّة، فوصل إلى حلى بنى يعقوب فى اثنى عشر يوما بعد عشرين مرحلة، فتلقّاهم أهلها ودهشوا لرؤية العساكر وقد طلّبت ولبست السّلاح، وهمّوا بالفرار. فنودى(9/84)
فيهم بالأمان وألّا يتعرّض أحد من العسكر لشىء إلّا بثمنه، فأطمأنّوا وحملوا إلى كلّ من بيبرس وطينال من مقدّمى العسكر مائة رأس من الغنم وخمسمائة اردبّ ذرة، فردّاها ولم يقبلا لأحد شيئا، ورحلوا بعد ثلاثة أيام فى العشرين منه. فقدمت الأخبار على العسكر باجتماع رأى أهل زبيد على الدخول فى طاعة الملك المجاهد خوفا من العسكر، وأنّهم ثاروا بالمتملّك عليهم ونهبوا أمواله ففرّ عنهم، فكتبوا للمجاهد بذلك فقوى ونزل من قلعة تعز «1» يريد زبيد، فكتب الأمراء إليه أن يكون على أهبة اللّقاء فنزل العسكر زبيد، ووافاهم المجاهد بجنده فسخر منهم العسكر المصرىّ، من كونهم غزاة «2» وسلاحهم الجريد والخشب، وسيوفهم مشدودة على أذرعهم؟ ويقاد للأمير فرس واحد مجلّل، وعلى رأس المجاهد عصابة ملوّنة فوق العمامة، فعندما عاين المجاهد العساكر وهى لابسة آلة الحرب رعب، وهمّ أن يترجّل فمنعه الأمير بيبرس واقول من ذلك. ومشى العسكر صفّين والأمراء فى الوسط حتّى قربوا منه فألقى المجاهد نفسه هو ومن معه إلى الأرض. فترجّل له الامراء أيضا وأركبوه وأكرموه وأركبوه فى الوسط، وسارو إلى المخيّم وألبسوه تشريفا سلطانيّا بكلفتاة زركش وحياصة ذهب، وركب والأمراء فى خدمته والعساكر إلى داخل زبيد، ففرح أهلها فرحا شديدا، ومد المجاهد لهم سماطا جليلا فامتنع الأمراء والعساكر من أكله خوفا من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته، واعتذروا إليه بأنّ هذا لا يكفى العساكر، ولكن فى غد يعمل السّماط، فأحضر لهم المجاهد ما يحتاجون إليه، وأصبح حضر المجاهد وأمراؤه وقد مدّ السّماط بين يديهم، وأحضر كرسىّ جلس عليه المجاهد، فوقف السّقاة والنّقباء والحجّاب والجاشنكيريّة على العادة، ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة والأمير طينال رأس الميسرة.(9/85)
فلمّا فرغ السّماط صاحت الجاوشية على أمراء المجاهد وأهل دولته وأحضروهم وقرئ عليهم كتاب السلطان فباسوا بأجمعهم الأرض وقالوا: سمعا وطاعة، وكتب الأمير بيبرس لممالك اليمن بالحضور فحضروا. ثم كتب لهم المجاهد بغنم وذرة واعتذر للأمراء والعساكر المصرية بعدم عمل الإقامة لهم بخراب البلاد؛ فتوجّه قصّاد العسكر لأخذ الغنم والذرة وأقامت العساكر بزبيد، فعادت قصّادهم بغير غنم ولا ذرة، فرحلوا من زبيد فى نصف رجب يريدون تعزّ، فتلقّاهم المجاهد ونزلوا خارج البلد وشكوا ما هم فيه من قلّة الإقامات فوعدهم بالإنجاز. ثم إنّ الأمراء كتبوا للملك الظاهر «1» المقيم بدملوه «2» ، وبعثوا له الشريف عطيفة أمير مكّة وعزّ الدين الكوندكى «3» وكتب إليه المجاهد أيضا يحثّه على الطاعة، وأقام العسكر فى جهد فأغاروا على الضّياع وأخذوا ما قدروا عليه، فارتفع الذّرة من ثلاثين درهما الإردب إلى تسعين، وفقد الأكل من الفاكهة فقط لقلّة الجالب؛ واتّهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفا من العسكر أن تملك منه البلاد، ثم إنّ أهل جبل «4» صبر قطعوا الماء عن العسكر وتخطّفوا الجمال والغلمان وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر فى أثرهم، فامتنعوا بالجبل ورموا بالمقاليع على العسكر فرموهم بالنّشّاب، وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود(9/86)
إلى الجبل، فلم يلتفتوا إلى كلامه ونازلوا الجبل يومهم وقتل من العسكر أربعة [وثمانية «1» ] من الغلمان، وبات العسكر تحت الجبل. فبلغ بيبرس أنّ المجاهد قرّر مع أصحابه أنّ العسكر إذا صعدوا الجبل يضرمون النار فى الوطاق وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس، وقبض [على «2» ] بهاء الدين «3» بهادر الصّقرى وأخذ موجوده ووسّطه قطعتين وعلّقه على الطريق؛ ففرح أهل تعزّ بقتله وكان قد تغلّب على زبيد، حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر، وعاد الشريف عطيفة والكوندكى من دملوه بأنّ الظاهر فى طاعة السلطان ثم طلب العسكر من المجاهد ما وعد به السلطان الملك الناصر فأجاب بأنه لا قدرة له إلّا بما فى دملوه، فأشهد عليه بيبرس «4» قضاة تعزّ بذلك، وارتحل العسكر إلى حلى بنى يعقوب، فقدمها فى تاسع شعبان ورحلوا منها أوّل شهر رمضان إلى مكة فدخلوها فى حادى عشره فى مشقّة زائدة، وساروا من مكّة يوم عيد الفطر إلى جهة مصر، فقدموا بركة الحجّاج أوّل يوم من ذى القعدة، وطلع الأمراء إلى القلعة فخلع السلطان عليهم فى يوم السبت ثالثه، وقدّم الأمير بيبرس هديّة فأغرى الأمير طينال السلطان على الأمير بيبرس بأنّه أخذ مالا من المجاهد وغيره وقصّر فى أخذ مملكة اليمن. فلما كان يوم الاثنين تاسع عشره رسم السلطان بخروج بيبرس إلى نيابة غزّة فامتنع لأنّه كان بلغه ما قيل عنه، وأنّ السلطان قد تغيّر عليه، فقبض عليه السلطان وسجنه بالبرج من القلعة وقبض على حواشيه وصادرهم وعوقبوا على المال فلم يظهر شىء، وسكت السلطان عن أحوال اليمن.(9/87)
ثم فى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة استأذن الأمير أرغون النائب السلطان فى الحجّ فأذن له فحج هو وولده ناصر الدين محمد، وعادا من الحجاز إلى سرياقوس فى يوم الأحد حادى عشر المحرّم سنة سبع وعشرين وسبعمائة، فقبض السلطان عليهما وعلى الأمير طيبغا المجدى «1» ، فأخذهم الأمير بكتمر الساقى عنده وسعى فى أمرهم حتّى أخرج فى يوم الاثنين ثانى عشره (يعنى من الغد) الأمير أرغون إلى نيابة حلب عوضا عن الأمير ألطنبغا، وأخرج معه الأمير أيتمش [المحمّدى «2» ] مسفّره، وتوجّه الأمير ألحاى الدوّادار إلى حلب لإحضار الأمير ألطنبغا نائبها، وقرّر السلطان مع كلّ من أيتمش وألجاى أن يكونا بمن معهما فى دمشق يوم الجمعة ثالث عشرينه، ولم يعلم أحد بما توجّه فيه الآخر حتى توافيا بدمشق فى يوم الجمعة المذكور. وقد خرج الأمير تنكز نائب الشام إلى ميدان الحصى لتلقّى الأمير أرغون، فترجّل كلّ منهما لصاحبه وسارا إلى جامع بنى أميّة، فلمّا توسّطاه إذا بألجاى ومعه الأمير ألطنبغا نائب حلب فسلّم أرغون عليه بالإيماء، فلما انقضت صلاة الجمعة عمل لهما الأمير تنكز سماطا جليلا فحضرا السّماط. ثم سار أرغون إلى حلب فوصلها فى سلخ الشهر، وسار ألطنبغا حتى دخل مصر فى مستهلّ صفر، فأكرمه السلطان وخلع عليه وأسكنه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف من جملة إقطاع أرغون النائب، وكمل السلطان من إقطاع أرغون أيضا لطايربغا على إقطاعه إمرة مائة وتقدمة ألف، فزادت التقادم تقدمة، فصارت أمراء الألوف خمسة وعشرين مقدم ألف بالديار المصرية.(9/88)
وفى مستهل جمادى الأولى قبض السلطان على الأمير بهاء الدين أصلم [القبجاقىّ «1» ] وعلى أخيه قرمجى وجماعة من القبجاقية، وسبب ذلك أنّ أصلم عرض سلاح خاناته وجلس بإسطبله وألبس خيله ورتّبها للركوب، فوشى به بعض أعدائه وكتب بواقعة أمره ورقة وألقاها إلى السلطان؛ فلمّا وقف عليها السلطان تغيّر تغيّرا زائدا وكانت عادته ألا يكذّب خبرا، وبعث من فوره فسأل أصلم مع ألماس الحاجب عمّا كان يفعله أمس فى إسطبله، فذكر أنه اشترى عدّة أسلحة فعرضها على خيله لينظر ما يناسب كلّ فرس منها فصدّق السلطان ما نقل عنه، وقبض السلطان عليه وعلى أخيه وعلى أهل جنسه وعلى الأمير قيران صهر قرمجى وعلى الأمير إتكان «2» أخى آقول الحاجب، وسفّروا إلى الإسكندرية مع الأمير صلاح»
الدين طرخان بن بيسرى، وبرلغى «4» قريب السلطان وأفرد أصلم ببرج فى القلعة.
ثم قدم الأمير حسين بن جندر من الشام الذي كان نفاه السلطان لمّا عمّر جامعه وفتح بابا من سور القاهرة، فلما مثل بين يدى السلطان خلع عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصه مكوبجة «5» ، وأنعم عليه بإقطاع أصلم «6» فى يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة.
وفيها عقد على الأمير قوصون الناصرىّ عقد ابنة السلطان الملك الناصر بقلعة الجبل، وتولّى عقد النكاح قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرىّ الحنفىّ. ثم بعد مدّة فى سنة ثمان وعشرين عقد نكاح ابنة السلطان الأخرى على الأمير طغاى تمر(9/89)
العمرى الناصرىّ، وأعفى السلطان فى هذه المرّة الأمراء من حمل الشموع وغيرها إلى طغاى تمر كما كان فعلوه مع قوصون، وأنعم السلطان على طغاى تمر من خزانته عوضا عن ذلك بأربعة آلاف دينار.
ثم أفرج السلطان عن الأمير علم الدين سنجر الجاولى بعد أن اعتقل ثمانى سنين وثلاثة أشهر وأحد «1» عشر يوما، فكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث.
وفى سنة ثمان وعشرين أيضا عزم السلطان على أن يجرى النيل تحت قلعة الجبل ويشقّ له من ناحية حلوان «2» ، فبعث الصّنّاع صحبة شادّ العمائر إلى حلوان، وقاسوا منها إلى الجبل الأحمر المطلّ على القاهرة، وقدّروا العمل فى بناء الواطى حتى يرتفع وحفر العالى ليجرى الماء إلى تحت قلعة الجبل من غير نقل ولا كلفة.
ثم عادوا وعرّفوا السلطان ذلك فركب وقاسوا الأرض بين يديه، فكان قياس ما يحفر اثنتين وأربعين ألف قصبة «3» حاكمية لتبقى خليجا يجرى فيه ماء النيل شتاء وصيفا(9/90)
بسفح الجبل، فعاد السّلطان وقد أعجبه ذلك وشاور الأمراء فيه فلم يعارضه فيه أحد إلّا الفخر ناظر الجيش، فإنه قال: بمن يحفر السلطان هذا الخليج؟ قال: بالعسكر، قال: والله لو اجتمع عسكر آخر فوق العسكر السلطانى وأقام سنين ما قدروا على حفر هذا العمل، فإنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال، ثم هل يصح أولا! فالسلطان لا يسمع كلام كل أحد ويتعب الناس ويستجلب دعاءهم ونحو ذلك من القول، فرجع السلطان عن عمله.(9/91)
وفيها أفرج السلطان عن الشيخ تقىّ الدين أحمد بن تيميّة بشفاعة الأمير جنكلى بن البابا. وفى يوم الاثنين سابع [عشر «1» ] جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة رسم السلطان بردم الجبّ «2» الذي كان بقلعة الجبل لما بلغ السلطان أنه شنيع المنظر شديد الظلمة كره الرائحة وأنه يمرّ بالمحابيس فيه شدائد عظيمة، فردم وعمّر فوقه طباق «3» للمماليك السلطانية. وكان هذا الجبّ عمل فى سنة إحدى وثمانين وستمائة فى أيام الملك المنصور قلاوون. ثم فى السنة المذكورة رسم السلطان للحاجب أن ينادى بألّا يباع مملوك تركى لكاتب ولا عامى، ومن كان عنده مملوك فليبعه، ومن عثر عليه بعد ذلك [أنّ عنده «4» مملوكا] فلا يلوم إلّا نفسه.
وفيها عرض السلطان مماليك الطّباق وقطع منهم مائة وخمسين، وأخرجهم من يومهم ففرّقوا بقلاع الشام.(9/92)
وفيها قتل الأمير تنكز نائب الشام الكلاب ببلاد الشام فتجاوز عدّتها خمسة آلاف كلب. ثمّ خرج السلطان إلى سرياقوس فى سابع عشرين من ذى الحجّة على العادة فى كلّ سنة، وقدم عليه الأمير تنكز نائب الشام فى أوّل المحرّم سنة ثلاثين وسبعمائة وبالغ السلطان فى إكرامه ورفع منزلته، وقد تكرّر قدوم تنكز هذا إلى القاهرة قبل تاريخه غير مرة، ثم عاد إلى نيابته بدمشق فى رابع عشر المحرّم. ثم فى عشرين المحرّم المذكور وصل إلى القاهرة الملك المؤيّد إسماعيل صاحب حماة، فبالغ السلطان أيضا فى إكرمه ورفع منزلته وخلع عليه. ثم سافر السلطان فى تاسع صفر إلى بلاد الصعيد للصيد على عادته، ومعه المؤيّد صاحب حماة، ثم عاد بعد أيام قليلة لتوعك بدنه من رمد «1» طلع فيه، وأقام بالأهرام بالجيزة أياما، ثم عاد وسافر إلى الصعيد حتى وصل الى هو «2» ، ثم عاد إلى مصر فى خامس شهر ربيع الآخر، وسافر فى ثامنه المؤيد صاحب حماة إلى محلّ ولايته بعد أن غاب مع السلطان هذه الأيام الكثيرة.
ثم نزل السلطان من القلعة فى خامس عشرين شهر ربيع الاخر المذكور، وتوجّه إلى نواحى قليوب «3» يريد الصيد، فبينما هو فى الصّيد تقنطر عن فرسه فانكسرت يده وغشى عليه ساعة وهو ملقى على الأرض، ثم أفاق وقد نزل إليه الأميران: أيدغمش أمير آخور وقمارى أمير شكار وأركباه، فأقبل الأمراء بأجمعهم إلى خدمته وعاد إلى قلعة الجبل فى عشيّة الأحد ثامن عشرينه، فجمع الأطبّاء والمجبّرين «4» لمداواته فتقدم رجل من المجبّرين يعرف بابن بوسقة «5» وتكلّم بجفاء وعامّية طباع، وقال: له تريد تفيق(9/93)
سريعا؟ اسمع منى، فقال له السلطان: قل ما عندك، فقال: لا تخلّ يداويك غيرى بمفردى وإلّا فسدت حال يدك مثلما سلّمت رجلك «1» لابن السّيسى فأفسدها، وأنا ما أخلّى شهرا يمضى حتى تركب وتلعب بيدك الأكرة، فسكت السلطان عن جوابه وسلّم إليه يده فتولّى علاجه بمفرده، وبطلت الخدمة مدّة سبعة وثلاثين يوما وعوفى، فزيّنت له القاهرة فى يوم الأحد رابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وتفاخر الناس فى الزينة بحيث إنه لم يعهد زينة مثلها، وأقامت سبعة أيام، هذا والأفراح عمّالة بالقلعة وسائر بيوت الأمراء مدّة الأسبوع، فإنّ كلّ أمير متزوّج إمّا بإحدى جوارى السلطان أو ببناته وأكثرهم أيضا مماليكه، وكذلك البشائر والكوسات تضرب، وأنعم السلطان على الأمراء وخلع عليهم، ثم خرج السلطان إلى القصر وفرّق عدّة مثالات على الأيتام وعمل سماطا جليلا وخلع على جميع أرباب الوظائف، وأنعم على المجبّر بعشرة آلاف درهم، ورسم له أن يدور على جميع الأمراء فلم يتأخّر أحد من الأمراء عن إفاضة الخلع عليه، وإعطائه المال فحصل له ما يجلّ وصفه.
وتوجّه الأمير آقبغا عبد الواحد «2» إلى البلاد الشامية مبشّرا بعافية السلطان.
وفيها اشترى الأمير قوصون الناصرىّ دار الأمير «3» آقوش الموصلىّ الحاجب المعروف بآقوش نميلة، ثم عرفت ثانيا بدار الأمير آقوش قتّال السبع- من(9/94)
أربابها، واشترى أيضا ما حولها وهدم ذلك كلّه، وشرع فى بناء جامع «1» ، فبعث السلطان إليه بشادّ «2» العمائر والأسرى لنقل الحجارة ونحوها، فنجزت عمارته فى مدّة يسيرة، وجاء الجامع المذكور من أحسن المبانى، وهو خارج بابى زويلة على الشارع «3»(9/95)
الأعظم بالقرب من بركة الفيل «1» ، وتولّى عمارة منارته «2» رجل من أهل تبريز «3» أحضره الأمير أيتمش المحمّدى معه فعملها على منوال موادن تبريز، ولمّا كمل بناء الجامع أقيمت الجمعة فيه فى يوم الجمعة حادى عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة، وخطب به يومئذ قاضى القضاة جلال الدين محمد القزوينىّ وخلع عليه الأمير قوصون بعد فراغه وأركبه بغلة هائلة.
وفى هذه السنة أيضا ابتدأ علاء الدين مغلطاى [الجمالىّ «4» ] أحد المماليك السلطانيّة فى عمارة جامع «5» بين السّورين من القاهرة، وسمّى جامع التّوبة لكثرة ما كان هناك(9/96)
من الفساد وأقام به الخطبة، ثمّ عاد السلطان الملك الناصر على ما كان عليه من أوّل سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من التوجّه إلى الصّيد على عادته، وقدم عليه موت الأمير أرغون الدّوادار نائب حلب كان وهو بالصيد، فخلع على الأمير ألطنبغا الصالحىّ بنيابة حلب عوضه.
ثمّ فى يوم السبت [سابع عشر ذى لحجّة «1» ] ركب السلطان من القلعة إلى الميدان «2» الذي استجدّه، وقد كملت عمارته، وكان السلطان قد رسم فى أوّل هذه السنة بهدم مناظر «3» الميدان الظاهرىّ الذي كان بباب اللّوق وتجديد عمارة هذا الميدان(9/97)
الذي استجدّه، وفوض ذلك للأمير ناصر الدين [محمد «1» ] بن المحسنى، فهدم تلك المناظر وباع أخشابها بمائة ألف درهم وألفى درهم، واهتم فى عمارة جديدة فكمل فى مدّة شهرين، وجاء من أحسن ما يكون، فخلع السلطان عليه وفرّق على الأمراء الخيول المسرجة الملجمه.
وفى أوّل محرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة قدم مبشّر الحاجّ، وأخبر بسلامه الحاجّ وأن الأمير مغلطاى الجمالى الأستادار على خطه «2» فعيّن السلطان عوضه فى الأستادارية الأمير اقبغا عبد الواحد. ومات مغلطاى فى العقبة وصبّر وحمل إلى أن دفن بمدرسته «3» قريبا من درب ملوخبا «4» بالقاهرة بالقرب من رحبة «5» باب العيد.
ولبس آقبغا عبد الواحد الأستادارية فى يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرّم. ثم بعد أيام خلع عليه السلطان بتقدمة المماليك السلطانية مضافا على الأستادارية، من أجل أنّ السلطان وجد بعض المماليك قد نزل من القلعة إلى القاهرة وسكر، فضرب(9/98)
السلطان كثيرا من الطّواشيّة وطرد كثيرا منهم، وأنكر على الطواشى مقدّم المماليك وصرّفه عن التقدمة بآقبغا هذا، فضبط آقبغا المذكور طباق المماليك بالقلعة وضرب عدّة منهم ضربا مبرّحا أشرف منهم جماعة على الموت، فلم يجسر بعد ذلك أحد أن يتجاوز طبقته إلى غيرها.
وفى يوم الاثنين ثالث عشرين صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة والخليفة ليعهد بالسلطنة لابنه آنوك ويركب ولده آنوك بشعار السلطنة، ثم انثنى عزمه عن ذلك فى المجلس، وأمر أن يلبس آنوك شعار الأمراء ولا يطلق عليه اسم السلطنة، فركب وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز زركش وشربوش «1» مكلّل مزركش، وخرج من باب القرافة والأمراء فى خدمته حتّى مرّ من سوق «2» الخيل تحت القلعة ونزل عن فرسه وباس الأرض، وطلع من باب الإسطبل «3» إلى باب السّرّ وصعد منه إلى القلعة، ونثرت عليه الدنانير والدراهم، وخلع السلطان على الأمير ألماس الحاجب والأمير بيبرس الأحمدى، وكان السلطان أفرج عن بيبرس المذكور قبل ذلك بمدّة من السجن،(9/99)
وخلع على الأمير أيدغمش أمير آخور الجميع خلع أطلس، وخلع السلطان على جميع أرباب الوظائف ومدّ لهم سماط عظيم وعملت الأفراح الجليلة، وعظم المهمّ لعقد آنوك المذكور على بنت بكتمر الساقى، فعقد العقد بالقصر على صداق مبلغه من الذهب اثنا عشر ألف دينار، المقبوض منه عشرة آلاف دينار، وأنعم السلطان على ولده آنوك المذكور بإقطاع الأمير مغلطاى المتوفّى بالعقبة.
ثم فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة المذكورة قدم الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيّد إسماعيل الأيّوبىّ صاحب حماة بعد وفاة أبيه الملك المؤيّد بها، وله من العمر نحو من عشرين سنة، فأكرمه السلطان وأقبل عليه، وكان والده لما توفّى بحماة أخفى أهله موته، وسارت زوجته أمّ الأفضل هذا إلى دمشق وترامت على الأمير تنكز نائب الشام، وقدّمت له جوهرا باهرا وسألته فى إقامة ولدها الأفضل فى سلطنة أبيه المؤيّد بحماة فقبل تنكز هديّتها، وكتب فى الحال إلى الملك الناصر بوفاة الملك المؤيّد، وتضرّع إليه فى إقامة ولده الأفضل مكانه، فلمّا قدم البريد بذلك تأسّف السلطان على الملك المؤيّد وكتب للأمير تنكز بولايته وبتجهيز الأفضل المذكور إلى مصر، فأمره تنكز فى الحال بالتوجّه إلى مصر، فركب وسار حتى دخلها ومثل بين يدى السلطان، وخلع عليه الملك الناصر فى يوم الخميس خامس «1» عشرين شهر ربيع الآخر بسلطنة حماة، وركب الأفضل من المدرسة المنصوريّة ببين القصرين وهو بشعار السلطنة وبين يديه الغاشية، وقد نشرت على رأسه العصائب الثلاث، منها واحد خليفتى أسود واثنان سلطانيّان أصفران، وعليه خلعة أطلسين بطراز ذهب، وعلى رأسه شربوش ذهب،(9/100)
وفى وسطه حياصة ذهب بثلاث بيكاريّات «1» وسار فى موكب جليل وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض بين يدى السلطان بالقصر، ثم جلس وخلع السلطان على الأمراء الذين مشوا بخدمته، وهم: الأمير ألماس الحاجب وبيبرس الأحمدىّ وأيدغمش أمير آخور وطغجى أمير سلاح وتمر رأس نوبة، ألبس كلّا منهم أطلسين بطراز ذهب. ثم خلع على جماعة أخر وكان يوما مشهودا، ولقّبه السلطان بالملك الأفضل، ثم جهّزه إلى بلاده.
ثم حضر بعد ذلك تنكز نائب الشام إلى القاهرة ليحضر عرس ابن السلطان الأمير آنوك، وشرع السلطان فى عمل المهمّ من أوائل شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وجمع السلطان من بالقاهرة ومصر من أرباب الملاهى واستمرّ المهمّ سبعة أيام بلياليها. واستدعى حريم الأمراء للمهمّ، فلمّا كانت ليلة السابع منه حضر السلطان على باب القصر، وتقدّم الأمراء على قدر مراتبهم واحدا بعد واحد ومعهم الشموع، فكان إذا قدّم الواحد ما أحضره من الشمع قبّل الأرض وتأخّر حتى انقضت تقادمهم، فكان عدّتها ثلاثة آلاف وثلاثين شمعة، زنتها ثلاثة آلاف وستون قنطارا، فيها ما عنى به ونقش نقشا بديعا تنوّع فى تحسينه؛ وأحسنها شمع الأمير سنجر الجاولى، فإنّه اعتنى بأمره وبعث إلى عملها إلى دمشق فجاءت من أبدع شىء.
وجلس الأمير آنوك تجاه السلطان فأقبل الأمراء جميعا وكلّ أمير يحمل بنفسه شمعة وخلفه مماليكه تحمل الشمع، فيتقدمون على قدر رتبهم ويقبّلون الأرض واحدا بعد واحد طول ليلهم، حتى كان آخر الليل نهض السلطان وعبر حيث مجتمع النساء، فقامت نساء الأمراء بأسرهنّ وقبّلن الأرض واحدة بعد أخرى وهى تقدّم(9/101)
ما أحضرت من التّحف الفاخرة، حتى انقضت تقادمهنّ جميعا؛ رسم السلطان برقصهنّ فرقصن عن آخرهن واحدة بعد واحدة، والمغانى تضر بن بالدّفوف، والأموال من الذهب والفضة والشّقق الحرير تلقى على المغنيّات، فحصل لهنّ ما يجلّ وصفه. ثم زفّت العروس، وجلس السلطان من بكرة الغد وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف بأسرها، ورسم لكلّ امرأة أمير بتعبية قماش على قدر منزلة وجها، وخلع على الأمير تنكز نائب الشام وجهّز صحبته الخلع لأمراء دمشق. فكان هذا العرس من الأعراس المذكورة، ذبح فيه من الغنم والبقر والخيل والإوزّ والدّجاج ما يزيد على عشرين ألفا، وعمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار، وبلغت قيمة ما حمله الأمير بكتمر الساقى مع ابنته من الشورة «1» ألف ألف دينار؛ قاله جماعة من المؤرّحين.
ثمّ استهمّ السلطان إلى سفر الحجاز الشريف وسافر الأمير ايدمر الخطيرىّ أمير حاج المحمل فى عشرين شوّال من السنة، ونزل السلطان من القلعة فى ثانى عشر شوّال وأقام بسرياقوس، حتّى سار منه إلى الحجاز فى خامس عشرينه، بعد ما قدّم حرمه صحبة الأمير طغيتمر فى عدّة من الأمراء. واستناب السلطان على ديار مصر الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ورسم أن يقيم بداره، وجعل الأمير آقبغا عبد الواحد داخل باب القلعة من قلعة اجل لحفظ القلعة، وجعل الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بالقلعة وأمره ألّا ينزل منها حتّى يحضر، وأخرج كلّ أمير من الأمراء المقيمين إلى إقضاعه، ورسم لهم ألّا يعودوا منها حتى يرجع السلطان من الحجاز.
وتوجّه مع السلطان إلى الحجاز الملك الأفضل صاحب حماة، ومن الأمراء چنكلى ابن البابا والحاج آل ملك وبيبرس الاحمدى وبهادر المعزّى وأيدغمش أمير آخور(9/102)
وبكتمر الساقى وطقزدمر وسنجر الجاولى وقوصون وطايربغا وطغاى تمر وبشتاك وأرنبغا وطغجى وأحمد بن بكتمر الساقى وجركتمر بن «1» بهادر وطيدمر الساقى وآقبغا آص الجاشنكير وطوغان الساقى وطقتمر الخازن وسوسون السّلاح دار وتلك «2» وبيبغا الشمسى وبيغرا وقمارى وتمر الموسوىّ وأيدمر أمير جاندار وبيدمر البدرى وطقبغا الناصرىّ وأيتمش الساقى، وإياز الساقى، وألطنقش «3» ، وأنس، وأيدمر «4» دقماق، وطيبغا «5» المجدى، وخير بك «6» ، وقطز «7» أمير آخور، وبيدمر، وأينبك «8» ، وأيدمر العمرى، ويحيى بن طايربغا، ومسعود الحاجب، ونوروز وكجلى، «9» وبرلغى، وبكجا، ويوسف الدّوادار، وقطلقتمر السلاح دار، وآناق «10» ، وساطلمش، وبغاتمر، ومحمد بن چنكلى، وعلى بن أيدغمش، وألاجا، وآق سنقر، وقرا، وعلاء الدين علىّ بن هلال الدولة، وتمربغا العقيلى، وقمارى الحسنى «11» ، وعلىّ بن أيدمر الخطيرىّ، وطقتمر اليوسفى، وهؤلاء مقدّمون وطلبخاناه. ومن العشرات على بن السعيدى، وصاروجا النقيب، وآق سنقر الرومى، وإياجى الساقى، وسنقر الخازن، وأحمد بن كجكن، وأرغون العلائى، وأرغون الإسماعيلى، وتكا «12» ، وقبجق «13» ، ومحمد بن الخطيرىّ، وأحمد بن أيدغمش،(9/103)
وطشبغا، وقلنجى «1» . وحجّ مع السلطان أيضا قاضى القضاة جلال الدين القزوينىّ «2» الشافعىّ، وابن الفرات الحنفىّ وفخر الدين النّويرىّ المالكى، وموفّق «3» الدين الحنبلىّ، وكانوا أربعتهم ينزلون فى خيمة واحدة، فإذا قدّمت لهم فتوى كتبوا عليها الأربعة؛ وقدّم السلطان الأمير أيتمش إلى عقبة أيلة ومعه مائة رجل من اجازيّين حتى وسّعوا طريق العقبة وأزالوا وعرها، ومن يومئذ سهل صعودها.
ولما قرب السلطان من عقبة أيلة بلغه اتفاق الأمير بكتمر الساقى على الفتك به مع عدّة من المماليك السلطانية، فتمارض السلطان وعزم على الرجوع إلى مصر ووافقه الأمراء على ذلك إلّا بكتمر الساقى، فإنّه أشار بإتمام السفر وشنّع عوده قبل الحجّ. فعند ذلك عزم السلطان على السّفر، وسيّر ابنه آنوك وأمّه خوند طغاى إلى الكرك صحبة الأمير ملكتمر السّرجوانىّ «4» نائب الكرك، فإنّه كان قدم إلى العقبة ومعه ابنا السلطان الملك الناصر: أبو بكر وأحمد اللّذان كان والدهما الناصر أرسلهما إلى الكرك قبل تاريخه بسنين ليسكنا بها. ثم مضى السلطان إلى سفره وهو محترز غاية التحرّز، بحيث إنّه ينتقل فى اللّيل عدّة مرار من مكان إلى مكان؛ ويحفى موضع مبيته من غير أن يظهر أحدا على ما فى نفسه ممّا بلغه عن بكتمر الساقى إلى أن وصل إلى ينبع، فتلقّاه الأشراف من أهل المدينة، وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قوّاده وحريمه فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وساروا معه إلى(9/104)
أن نزل على خليص»
فرّ منه نحو ثلاثين مملوكا إلى جهة العراق فلم يتكلّم السلطان، وسار حتّى قدم مكّة ودخلها فأنعم على الأمراء، وأنفق فى جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهبا كثيرا، وأفاض على أهل مكة بالصدقات والإنعام.
فلمّا قضى النّسك عاد يريد مصر، وعرّج إلى زيارة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بالمدينة فسار حتّى وصلها فلمّا دخلها هبّت بها ريح شديدة فى اللّيل ألقت الخيم كلّها وتزايد اضطراب الناس واشتدّت ظلمة الجوّ فكان أمرا مهولا؛ فلمّا كان النهار سكن الريح فظفر أمير المدينة بمن فرّ من المماليك السلطانية فخلع السلطان عليه، وأنعم عليه بجميع ما كان مع المماليك من مال وغيره، وبعث بالمماليك إلى الكرك، فكان ذلك آخر العهد بهم.
ثم مرض الأمير بكتمر الساقى وولده أحمد، فمات أحمد فى ليلة الثلاثاء سابع المحرّم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، ومات أبوه الأمير بكتمر الساقى فى ليلة الجمعة عاشر المحرّم بعد ابنه أحمد بيومين وحمل بكتمر إلى عيون «2» القصب فدفن بها، واتّهم السلطان أنّه سمّهما. و [ذلك أنه «3» ] كان قد عظم أمر بكتمر، بحيث إنّ السلطان كان معه فى هذه السّفرة ثلاثة آلاف ومائة عليقة، ومع بكتمر الساقى ثلاثة آلاف عليقة، وبلغت عدّة خيوله الخاصّة مائة طوالة [بمائة سايس بمائة سطل «4» ] ، وكان عليق خيول إسطبله دائما ألفا ومائة عليقة كلّ يوم، ومع هذا لم يقنعه ذلك.(9/105)
وأخذ يدبّر فى قتل السلطان، وبلغ السلطان ذلك بعد أن خرج من القاهرة فتحرّز على نفسه بدربة وعقل ومعرفة ودهاء ومكر، حتّى صار فى أعظم حجاب من بكتمر وغيره. ثم أخذ هو أيضا يدبّر على بكتمر، وأخذ يلازمه فى الليل والنهار، بحيث إنّ بكتمر عجز فى الطريق أن ينظر إلى زوجته، فإنّه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه ويكالمه من غير جفاء، وإذا نزل جلس معه، فإن مضى إلى خيامه «1» أرسل السلطان فى الحال خلفه، بحيث إنّه استدعاه- مرّة وهو يتوضّأ- بواحد بعد آخر حتّى كمل عنده اثنا عشر جمدار. فلمّا ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان قتل بكتمر وولده أحمد تلك الليلة وهجموا على ولده أحمد فلم يتمكّنوا منه، واعتذروا بأنّهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعا فمرّوا فى طلبهم، فداخل الصبىّ منهم الفزع، ثم زاد احتراز السلطان على نفسه، ورسم للأمراء أن يناموا بمماليكهم على بابه، ولمّا سار من المدينة عظم عنده أمر بكتمر، فلمّا كان فى أثناء الطريق سقى أحمد بن بكتمر ماء باردا فى مسيره، كانت فيه منيّته، ثم سقى بكتمر بعد موت ولده مشروبا فلحق بابنه، واشتهر ذلك، حتّى إنّ زوجة بكتمر لمّا مات صاحت وقالت للسلطان بصوت سمعها كلّ أحد:
يا ظالم، أين تروح من الله! ولدى وزوجى، فأمّا زوجى كان مملوك، وولدى، إيش كان بينك وبينه! وكرّرت ذلك مرارا فلم يجبها.
قلت: ولولا أنّ الملك الناصر سقى ولده أحمد قبله، وإلّا كانت حيلة الناصر لا تتمّ، فإنّ بكتمر أيضا كان احترز على نفسه وأعلم أصحابه بذلك. فلما اشتغل بمصاب ابنه أحمد انتهز الملك الناصر الفرصة وسقاه فى الحال. وأيضا لو بقى ولده ربما وثب حواشى بكتمر به على السلطان، وهذا الذي قلته على الظنّ منّى. والله أعلم. ويأتى أيضا بعض ذكر بكتمر الساقى فى الوفيات. انتهى.(9/106)
ثم وصل إلى القاهرة مبشّر الحاج فى ثامن المحرّم سنة ثلاث وثلاثين تلك «1» المظفّرى الجمدار وأخبر بسلامة السلطان، فدقّت البشائر وخلع عليه خلع كثيرة واطمأنّ الناس بعد ما كان بينهم أراجيف. ثم وصل السلطان إلى الديار المصريّة فى يوم السبت ثامن عشر المحرّم بعد ما خرج معظم الناس إلى لقائه، ومدّ شرف الدين النّشو «2» شقاق الحرير والزّربفت «3» من بين العروستين «4» إلى باب الإسطبل، فلمّا توسّط بين الناس صاحت العوامّ: هو إيّاه ما هو إيّاه! بالله اكشف لنا لثامك، وأرنا وجهك! وكان قد تلثّم، فعند ذلك حسر اللثام عن وجهه فصاحوا بأجمعهم:
الحمد الله على السلامة، ثمّ بالغوا فى إظهار الفرح به والدعاء له وأمعنوا فى ذلك، فسّر السلطان بهذا الأمر؛ ودخل القلعة ودقّت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام.
وهذه حجّة السلطان الملك الناصر الثالثة، وهى التى يضرب بها المثل. وجلس السلطان على كرسىّ الملك وخلع على الأمراء قاطبة. وكان بلغ السلطان أنّ ألماس الحاجب كان اتّفق مع بكتمر الساقى على الفتك بالسلطان.
قلت: وبكتمر وألماس كلاهما مملوكه ومشتراه. انتهى.
ثم أخذ السلطان يدبّر على ألماس حتّى قبض عليه وعلى أخيه قرا فى العشرين من ذى الحجّة سنة ثلاث وثلاثين، وحمل قرا من يومه إلى الإسكندرية. وسبب معرفة السلطان اتّفاق ألماس مع بكتمر أنّ الملك الناصر لمّا مات بكتمر الساقى(9/107)
صحبته بطريق الحجاز احتاط على موجوده، فكان من جملة الموجود جمدان «1» ففتحه السلطان فوجد فيه جوابا من الأمير ألماس إلى بكتمر الساقى يقول فيه: إنّنى حافظ القاهرة والقلعة إلى أن يرد علىّ منك ما أعتمده، فتحقّق السلطان أمره وقبض عليه، ولمّا قبض السلطان على ألماس أخذ جميع أمواله وكان مالا جزيلا إلى الغاية، فإنّه كان ولى الحجوبيّة وباشرها وليس بالديار المصرية نائب سلطنة، فإن الملك الناصر لم يولّ أحدا معه بعد الأمير أرغون، فعظم أمر ألماس فى الحجوبيّة لذلك فصار هو فى محلّ النيابة، ويركبون الأمراء وينزلون فى خدمته ويجلس فى باب القلعة فى منزلة النائب، والحجّاب والأمراء وقوف بين يديه. وكان ألماس رجلا طوالا غتميّا لا يفهم بالعربية، يفعل ذلك عامدا لإقامة الحرمة ويظهر البخل ولم يكن كذلك، بل كان يفعل ذلك خوفا من الملك الناصر، فإنّه كان يطلق لمماليكه الأرباع والأملاك المثمّنة وليس البخيل كذلك. ويأتى أيضا من ذكره شىء فى الوفيات.
ثم فى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة قدم تنكز إلى القاهرة وأقام بها أيّاما ثم عاد إلى محلّ ولايته فى يوم الخميس ثالث شهر رجب من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
وفى هذه السنة أفرج السلطان عن الأمير بهاء الدين أصلم وعن أخيه قرمچى وعن بكتوت القرمانى، فكانت مدّة اعتقال أصلم وقرمچى ست سنين وثمانية أشهر.
ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفى المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس بعد موت قرطاى.
قلت: وإخراج آقوش نائب الكرك المذكور من مصر لأمور، منها: صحبته مع ألماس، ومنها ثقله على السلطان، فإنّ السلطان كان يجلّه ويحترمه ويقوم له(9/108)
كلّما دخل عليه لكبر سنه. ومنها معارضته للسلطان فيما يرومه، فأخرجه وبعث له بألف دينار وخرج معه برسبغا «1» مسفّرا له، فلمّا أوصله إلى طرابلس وعاد خلع عليه السلطان، واستقرّ به حاجبا صغيرا. وخلع على الأمير مسعود [بن أوحد «2» ] بن الخطير [بدر الدين «3» ] واستقرّ حاجبا كبيرا عوضا عن ألماس. وورد الخبر على السلطان من بغداد بأنّ صاحبها أمر النصارى بلبس العمائم الزّرق واليهود الصّفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السّنّة الحسنة.
وفى يوم الأحد رابع المحرّم سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قبض السلطان على الطواشى شجاع الدين عنبر السّحرتى مقدّم المماليك بسعاية النّشو ناظر الخاصّ، وأنعم بإقطاعه «4» وهى إمرة طبلخاناه على الطواشى سنبل، واستقرّ نائب مقدّم المماليك وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد واستقرّ مقدّم المماليك السلطانية مضافا للأستاداريّة عوضا عن عنبر السّحرتى كما كان أوّلا. فلمّا تولّى آقبغا تقدمة المماليك عرض الطباق ووضع «5» فيهم وضرب جماعة من السّلاح داريّة والجمدارية لامتناعهم «6» عنه ونفاهم إلى صفد فأعجب السلطان ذلك. وفى شهر رجب من سنة خمس وثلاثين أفرج السلطان عن الأمير بيبرس الحاجب، وكان له فى السجن من سنة خمس وعشرين، وأفرج أيضا عن الأمير طغلق «7» التّتارى، وهو أحد الأمراء الأشرفيّة وكان له فى السجن ثلاث وعشرون سنة فمات بعد أسبوع من قدومه.(9/109)
قلت: لعلّه مات من شدّة الفرح.
ثم أفرج السلطان عن الأمير غانم «1» بن أطلس خان، وكان له فى السجن خمس وعشرون سنة، وأفرج عن الأمير برلغى «2» الصغير وله فى السجن ثلاث وعشرون سنة، وأفرج عن جماعة أخر، وهم: أيدمر اليونسىّ أحد أمراء البرجيّة المظفّريّة والأمير لاچين العمرى والأمير طشتمر أخو بتخاص والأمير بيبرس العلمى، وكان من أكابر الأمراء البرجيّة من حواشى المظفّر بيبرس، والأمير قطلوبك الأوجاقىّ «3» والشيخ على مملوك سلّار والأمير تمر السّاقى نائب طرابلس أحد المنصوريّة، وكان قبض عليه سنة أربع عشرة، والجميع كان حبسهم فى ابتداء سلطنة الملك الناصر الثالثة بعد سنة عشر وسبعمائة، وأنعم السلطان على تمر الساقى بطبلخانات بالشام، وأنعم على بيبرس الحاجب بإمرة فى حلب، وأنعم على طشتمر بإمرة بدمشق وعلى أيدمر اليونسىّ وبلاط بإمرة فى طرابلس.
ثم فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الأوّل أنعم السلطان على ولده أبى بكر بإمرة، وركب بشربوش من إسطبل «4» الأمير قوصون، وسار من(9/110)
الرّميلة «1» الى باب «2» القرافة، فطلع إلى القلعة، والأمراء والخاصّكيّة فى خدمته، وعمل لهم الأمير قوصون مهمّا عظيما فى إسطبله. ثم إنّ السلطان قبض على الأمير جمال الدين(9/111)
آقوش الأشرفىّ المعروف بنائب الكرك، وهو يوم ذاك نائب طرابلس فى نصف جمادى الآخرة وحبس بقلعة صرخد، ثم نقل منها فى مستهلّ شوّال إلى الإسكندرية، ونزل النّشو إلى بيته «1» [بالقاهرة «2» ] وأخذ موجوده وموجود حريمه وعاقب أستاداره، واستقرّ عوضه فى نيابة طرابلس الأمير طينال. ثم اشتغل الملك الناصر بضعف مملوكه ومحبوبه ألطنبغا الماردانىّ، وتولّى تمريضه بنفسه إلى أن عوفى فأحبّ ألطنبغا أن ينشئ له جامعا «3» تجاه ربع الأمير طغجى خارج باب زويلة، واشترى عدّة دور من أربابها «4» بغير رضاهم، فندب السلطان النّشو لعمارة الجامع المذكور، فطلب النشو أرباب الأملاك وقال لهم: الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء، ولا زال بهم حتّى ابتاعها منهم بنصف ما فى مكاتيبهم من الثمن، وكانوا قد أنفقوا فى عمارتها بعد مشتراها جملة، فلم يعتدّ لهم النّشو منها بشىء، وأقام النشو فى عمارته حتّى تمّ فى أحسن هندام، فجاء مصروفه ثلثمائة ألف درهم ونيّف، سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرّخام(9/112)
وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين [عمر «1» بن إبراهيم] الجعبرىّ من غير أن يتناول له معلوما.
ثمّ جلس السلطان بدار العدل فوجد به رقعة تتضمّن الوقيعة فى النّشو وكثرة ظلمه وتسلّط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم وتعشّق صهره ولىّ الدولة لشابّ تركىّ، فكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميرا الذي كان شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النّشو وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة، فلم يقبل السلطان فيه قول الأمراء لمعرفته لكراهتهم له، فلمّا قرئت عليه القصة قال: أنا أعرف من كتبها، واستدعى النّشو ودفعها [إليه «2» ] وأعاد له ما رماه به الأمير قوصون، فحلف النّشو على براءتهم من هذا الشاب، وإنّما هذا ومثله ممّا يفعله حواشى الأمير قوصون، وقصد قوصون تغيّر خاطر السلطان علىّ وبكى وانصرف.
فطلب السلطان قوصون وأنكر عليه إصغاءه لحواشيه فى حقّ النشو وأخبره بحلف النّشو، فحلف قوصون أنّ النّشو يكذب فى حلفه ولئن قبض السلطان على الشاب وعوقب ليصدقنّ السلطان فيمن يعاشره من أقارب النّشو، فغضب السلطان وطلب أمير مسعود الحاجب وأمره بطلب الشابّ وضربه بالمقارع حتّى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم وألزمه ألّا يكتم عنه شيئا، فطلبه وأحضر المعاصير فأملى عليه الشابّ عدّة كثيرة من الأعيان، منهم: ولىّ الدولة فخشى مسعود على الناس من الفضيحة، وقال للسلطان: هذا الكذّاب ما ترك أحدا فى المدينة حتّى اعترف عليه، وأنا أعتقد أنّه يكذب عليهم، وكان السلطان حشيم النفس يكره الفحش، فقال لمسعود: يا بدر الدين، من ذكر من الدواوين؟ فقال: والله يا خوند ما خلّى أحدا من خوفه حتّى ذكره، فرسم السلطان بإخراج عمير المذكور ووالده إلى غزّة،(9/113)
ورسم لنائبها أن يقطعهما خبزا بها. وكان ذلك أوّل انحطاط قدر النّشو عند السلطان.
ثم اتّفق بعد ذلك أن طيبغا «1» القاسمى الناصرىّ، وكان يسكن بجوار النّشو وله مملوك جميل الصورة فآعتشر به ولىّ الدولة وغيره من إخوة النّشو، فترصد أستاذه طيبغا حتّى هجم يوما عليهم وهو معهم فأخذه منهم وخرج وبلغ النّشو ذلك، فبادره بالشّكوى إلى السلطان بأنّ طيبغا القاسمىّ يتعشّق مملوكه ويتلف عليه ماله، وأنّه هجم وهو سكران على بيتى وحريمى وقد شهر سيفه وبالغ فى السبّ، وكان السلطان يمقت على السكر فأمر فى الحال بإخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام. وكان السلطان مشغولا فى هذه الأيام بعمارة قناطر «2» شبين القصر على بحر أبى المنجّا «3» فأنشئت تسع قناطر.
ثم توجّه السلطان فى شهر ربيع الآخر من سنة ستّ وثلاثين وسبعمائة إلى الوجه القبلى للصّيد، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن غاب خمسة وأربعين يوما. كلّ ذلك وأمر النّشو فى إدبار بالنسبة لما كان عليه. ثم جلس السلطان يوما بالميدان فسقط عليه طائر حمام وعلى جناحه ورقة تتضمن الوقيعة فى النّشو وأقاربه والقدح فى السلطان بأنه قد أخرب دولته، فغضب السلطان غضبا شديدا وطلب النّشو(9/114)
وأوقفه على الورقة وتنّمر عليه لكثرة ما شكى منه، فقال النّشو: يا خوند، الناس معذورون وحقّ رأسك! لقد جاءنى خبر هذه الورقة ليلة كتبت، وهى فعل المعلم أبى شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت، كتبها فى بيت الصّفىّ كاتب الأمير قوصون، وقد اجتمع هذا وأقاربه فى التدبير علىّ، ثم أخذ النّشو يعرّف السلطان ما كان من أمر سعيد الدولة فى أيّام المظفّر بيبرس الجاشنكير وأغراه به حتّى طلبه وسلّمه إلى الوالى علاء الدين علىّ بن المروانىّ «1» ، فعاقبه الوالى عقوبة مؤلمة. ثم طلب السلطان الأمير قوصون وعنّفه بفعل الصّفىّ كاتبه، ثم تتّبع النّشو حواشى أبى شاكر وقبض عليهم وسلّمهم إلى الوالى وخرّب بيوتهم وحرثها بالمحراث، واشتدّت وطأة النّشو على الناس واستوحش الناس منه قاطبة، وصار النّشو يدافع عن نفسه بكلّ ما يمكن والمقادير تمهله.
ثم بدا للسلطان أن ينقل الخليفة من مناظر الكبش إلى قلعة الجبل فنقل فى ثالث عشرين ذى القعدة من سنة ستّ وثلاثين. والخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، وسكن الخليفة بالقلعة حيث كان أبوه الحاكم نازلا ببرج السّباع «2» بعياله، ورسم على الباب جاندار بالنّوبة، وسكن ابن عمّه إبراهيم فى برج بجواره بعياله، ورسم عليه جاندار آخر ومنعا عن الاجتماع بالناس، كلّ ذلك لأمر قيل.
ثمّ إن السلطان فى سابع عشر محرّم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة عقد عقد ابنه أبى بكر على ابنة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ الناصرى أمير مجلس بدار الأمير قوصون. ثم قدم الأمير تنكز نائب الشام ثانى شهر رجب من سبع وثلاثين المذكورة(9/115)
على السلطان وهو بسرياقوس فخلع عليه وسافر فى ثانى عشرينه إلى محلّ ولايته.
ثم فى هذه السنة زاد ظلم النّشو على التّجّار، وزمى على التّجّار الخشب بأضعاف ثمنه، فكثرت الشّكوى منه إلى أن توصّل بعض التجار لزوجة السلطان خوند طغاى أمّ آنوك، وقال لها: رمى علىّ النّشو خشبا يساوى ألفى درهم بألفى دينار، فعرّفت أمّ آنوك السلطان بذلك، فأمر السلطان بطلب التاجر وقد اشتدّ غضبه على النّشو وبلغ النّشو الخبر، ففى الحال أرسل النّشو رجلا إلى التاجر وسأله فى قرض مبلغ من المال، فعرّفه التاجر أمر الخشب وما هو فيه من الغرامة، فقال له الرجل: أرنى الخشب فإنى محتاج إليه، فلما رآه قال: هذا غرضى واشتراه منه بفائدة ألف درهم إلى شهر، وفرح التاجر بخلاصه من الخشب وأشهد عليه بذلك، وأخذ الخشب وأتى بالمعاقدة إلى النّشو، فأخذها النّشو وطلع إلى السلطان من فوره، وقال للسلطان: يا مولانا السلطان، نزلت آخذ الخشب من التاجر وجدته قد باعه بفائدة ألف درهم، قلم يصدّقه السلطان وعوّق النّشو وقد امتلأ عليه غضبا، فطلب التاجر وسأله عمّا رماه عليه النّشو من الخشب فاغترّ التاجر بأمّ آنوك وأخذ يقول: ظلمنى النّشو وأعطانى خشبا بألفى دينار يساوى ألفى درهم، فقال له السلطان: وأين الخشب: فقال: بعته بالدّين، فقال النّشو: قل الصحيح، فهذه معاقدتك معه، فلم يجد التاجر بدّا من الاعتراف، فحنق عليه السلطان وقال له: ويلك! تقيم علينا القالة، وأنت تبيع بضاعتنا بفائدة؛ وسلّمه إلى النشو وأمره بضربه، وأخذ الألفى دينار منه مع مثلها، وعظم عنده النّشو وتحقّق صدق ما يقوله، وأن الذي يحمل الناس على التكلّم فيه الحسد. ثم عبر السلطان إلى الحريم وسّبهنّ وعرّفهنّ بما جرى من كذب التاجر وصدق النّشو، وقال: مسكين النشو، ما وجدت أحدا يحبّه.
ثم أفرج السلطان عن الأمير طرنطاى المحمّدى بعد ما أقام فى السجن سبعا وعشرين(9/116)
سنة وأخرج إلى الشام. ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر رمضان ركب النّشو على عادته فى السّحر إلى الخدمة فاعترضه فى طريقه عبد المؤمن «1» بن عبد الوهاب السلامى المعزول عن ولاية قوص، فضربه بالسيف فأخطأ رأس النشو وسقطت عمامته عن رأسه، وقد جرح كتفه وسقط على الأرض وبحا الفارس بنفسه، وفى ظنّه أن رأس النّشو قد طاح عن بدنه لعظم ضربه، وبلغ السلطان ذلك فغضب ولم يحضر السّماط، وبعث إلى النّشو بعدّة من الجمدارية والجرايحية فقطّبت ذراعه بستّ إبر وجبينه باثنتى عشرة إبرة، وألزم والى القاهرة ومصر بإحضار غريم النشو. وأغلظ السلطان على الأمراء بالكلام، وما زال يشتدّ ويحتدّ حتّى عادت القصّاد بسلامة النّشو فسكن ما به؛ ثم بعث النّشو مع أخيه رزق «2» الله إلى السلطان يعلمه بأنّ هذا من فعل الكتّاب بموافقة لؤلؤ «3» ، فطلب السلطان الوالى وأمره بمعاقبة الكتّاب الذين هم فى المصادرة مع لؤلؤ حتى يعترفوا بغريم النّشو. وكان السلطان قد قبض على لؤلؤ وكتّابه وصادره قبل تاريخه بموافقة «4» النّشو، فنزل الوالى وعاقب لؤلؤا وضربه ضربا مبرّحا، وعاقب المعلّم أبا شاكر وقرموطا عقابا شديدا، فلم يعترفوا بشىء.
وعوفى النّشو وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه، ونزل من القلعة بعد أن رتّب(9/117)
السلطان المقدّم إبراهيم «1» بن أبى بكر بن شدّاد بن صابر أن يمشى فى ركابه ومعه عشرة من رجاله فى ذهابه وإيابه، ثم قبض النّشو بعد ذلك على [تاج الدين «2» ] ابن الأزرق وصادره حتّى باع أملاكه، وكان من جملة أملاكه ملك بشاطئ النيل، فاشتراه منه الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، وكان بجانبه ساقية فهدم الخطيرى الدار والساقية وعمرهما جامعا «3» بخطّ بولاق على شاطئ النيل.
قلت: وكان أصل موضع هذا الجامع المذكور أنّه لمّا أنشئت العمائر ببولاق عمّر الحاج محمد بن عزّ الفراش بجوار الساقية المذكورة دارا على النيل، ثم انتقلت بعد موته إلى ابن الأزرق هذا فكانت تعرف بدار الفاسقين، من كثرة اجتماع النصارى بها على ما لا يرضى الله تعالى، فلمّا صادره النّشو باعها فيما باعه فاشتراها الخطيرى بثمانية آلاف درهم، وهدمها وبنى مكانها ومكان الساقية جامعا أنفق فيه أموالا جزيلة فى أساساته مخافة من زيادة النيل، وأخذ أراضى حوله من بيت المال، وأنشأ عليها الحوانيت والرّباع والفنادق. فلمّا تمّ بناؤه قوى عليه ماء النيل فهدم جانبا منه فأنشأ تجاهه زريبة رمى فيها ألف مركب موسوقة بالحجارة، قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله وهو حجة فيما ينقله. لكن أقول لعله وهم فى هذا وأراد أن يقول: وسق ألف مركب بالحجارة فسبق قلمه بما ذكرناه، قال:
وسمّى هذا الجامع بجامع التوبة، وجاء فى غاية الحسن، فلما أفرج عن ابن الأزرق من المصادرة ادّعى أنّه كان مكرها فى بيع داره، فأعطاه الأمير أيدمر الخطيرىّ(9/118)
ثمانية آلاف درهم أخرى حتى استرضاه، ولا يكون جامعه بنى فى أرض مكرهة انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى أمر الملك الناصر.
وأمّا النشو فإنّه لا زال على ابن الأزرق هذا حتّى قبض عليه ثانيا وعاقبه حتى مات، وذلك فى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
ثمّ فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة أنعم السلطان الملك الناصر فى يوم واحد على أربعة من مماليكه بمائتى ألف دينار مصريّة، وهم: قوصون وألطنبغا الماردانىّ وملكتمر الحجازىّ وبشتك. وفى هذه السنة ولد للسلطان ابنه صالح من بنت الأمير تنكز نائب الشام، فعمل لها السلطان بشخاناه «1» ودائر بيت زركش، وتكملة البذلة من المخدّات والمقاعد بمائتى «2» ألف دينار وأربعين ألف دينار، وعمل لها الفرخ سبعة أيام. وفى هذه السنة وقع للملك الناصر غريبة، وهو أنّه استدعى من بلاد الصعيد بألفى رأس من الضّأن، واستدعى من الوجه البحرىّ بمثلها لتتمّة أربعة آلاف رأس. وشرع السلطان فى عمل حوش «3» برسمها وبرسم الأبقار البلق، فوقع اختياره على موضع بقلعة الجبل مساحته أربعة أفدنة، قد قطعت منه الحجارة لعمارة القاعات(9/119)
التى بالقلعة حتّى صار غورا عظيما، فطلب كاتب الجيش ورتّب على كلّ من الأمراء المقدّمين مائة رجل ومائة دابّة لنقل التّراب، وعلى كلّ من أمراء الطبلخاناه بحسب حاله. وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شادا وأن يقيم معه من جهة كلّ أمير أستاداره بعدّة من جنده. وألزم الأسرى بالعمل. ورسم لوالى القاهرة بتسخير العامّة، فنصب الأمير آقبغا خيمته على جانب الموضع، واستدعى استاداريّة الأمراء واشتدّ عليهم، فلم يمض ثلاثة أيام حتّى حضرت إليه رجال الأمراء من نواحيهم، ونزل كلّ أستادار بخيمته، ومعه دوابّه ورجاله فقسمت عليهم الأرض قطعا معيّنة لكلّ واحد منهم، فجدّوا فى العمل ليلا ونهارا واستحثهم آقبغا المذكور بالضرب، وكان ظالما غشوما، فعسف بالرجال وكلّفهم السّرعة فى أعمالهم من غير رخصة ولا مكّنهم [من «1» ] الاستراحة، وكان الوقت صيفا حارّا فهلك جماعة كثيرة منهم فى العمل لعجز قدرتهم عمّا كلّفوه. ومع ذلك كلّه والولاة تسخّر من تظفر به من العامّة وتسوقه إلى العمل، فكان «2» أحدهم إذا عجز ألقى بنفسه إلى الأرض، رمى أصحابه عليه التّراب فيموت لوقته. هذا والسلطان يحضر كلّ يوم حتّى ينظر العمل، وكان الأمير ألطنبغا الماردانى قد مرض وأقام أياما بالميدان «3» على النيل حتّى عوفى وطلع إلى القلعة من باب القرافة، فاستغاث به الناس وسألوه أن يخلّصهم من هذا العمل، فتوسّط لهم عند السلطان، حتى أعفى الناس من السّخر وأفرج عمّن قبض عليه منهم، فأقام العمل ستة وثلاثين يوما إلى أن فرغ منه، وأجريت إليه المياه، وأقيمت به الأغنام المذكورة والأبقار البلق وبنيت به بيوت للإوز وغيرها.(9/120)
قلت: لعلّ هذا الموضع يكون هو الحوش الذي يلعب فيه السلطان بالكرة تحت قاعة الدهيشة «1» . والله أعلم. وعند فراغ هذا الحوش استدعى السلطان الأمراء وعمل لهم سماطا جليلا، وخلع على جماعة ممّن باشر العمل وغيرهم.
ثمّ أنشأ السلطان لمملوكيه: الأمير يلبغا اليحياوىّ ولأمير ألطنبغا الماردانىّ لكلّ منهما قصرا «2» تجاه حمّام الملك السعيد قريبا من الرّميلة تجاه القلعة، وأخذ من إسطبل الأمير أيدغمش أمير آخور قطعة، ومن إصطبل الأمير «3» قوصون قطعة، ومن إصطبل طشتمر الساقى قطعة، ونزل السلطان بنفسه حتّى قرّر أمره، ورسم السلطان للأمير قوصون أن يشترى الأملاك الّتى حول إصطبله ويضيفها فيه. ثمّ أمر السلطان أن يكون بابا الإصطبلين اللذين أمر بإنشائهما ليلبغا وألطنبغا تجاه حمّام الملك السعيد، وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد شادّ عمارة القصرين والإصطبلين المذكورين.
قلت: أمّا إصطبل قوصون فهو البيت المعدّ لسكن كلّ من صار أتابك العساكر فى زماننا هذا، الذي بابه الواحد تجاه باب السلسلة «4» . وأمّا(9/121)
بيت «1» طشتمر الساقى حمّص أخضر، هو البيت الذي الآن على ملك الأمير جرباش المحمّدى الأتابك «2» ، الذي بابه الواحد من حدرة البقر، وبيت «3» أيدغمش أمير آخور لعلّه يكون بيت منجك اليوسفىّ الذي هو الآن على ملك تمربغا الظاهرىّ رأس نوبة «4» النّوب.(9/122)
وأمّا القصران والإسطبلان اللّذان عمّرهما السلطان ليلبغا اليحياوىّ وألطنبغا الماردانّى أخذهما السلطان حسن، وجعل مكانهما مدرسته المعروفة بمدرسة «1» السلطان حسن تجاه قلعة الجبل. والله أعلم.(9/123)
وفى هذه السنة (أعنى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة) عمل السلطان جسرا «1» بالنيل على جسر «2» ابن الأثير، وحفر الخليج الكبير المعروف بخليج الخور «3» . وسببه أنّ(9/124)
النيل قوى على ناحية بولاق وهدم جامع الخطيرىّ حتّى احتاج أيدمر الخطيرىّ لتجديده، فرسم السلطان للسكّان على شاطئ النيل بعمل زرابىّ لجميع ملّاك «1» الدور بالقرب من فم الخور، وألّا يؤخذ منهم عليها حكر، فبنى صاحب كلّ دار زريبة تجاه داره فلم يفد ذلك شيئا، فكتب السلطان بإحضار مهندسى البلاد القبليّة والبحريّة، فلمّا تكاملوا ركب السلطان إلى النيل وهم معه وكشف البحر فاتّفق(9/125)
الرأى على أن يحفر الرمل «1» الذي بالجزيرة المعروفة بجزيرة أروى «2» (أعنى الجزيرة الوسطى) حتّى يصير خليجا يجرى فيه الماء، ويعمل جسر «3» وسط النيل يكون سدا يتصل(9/126)
بالجزيرة (يعنى من الروضة «1» ) إلى الجزيرة الوسطانية، فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء فى الخليج الذي حفر وكان قدّامه سدّ عال يرد الماء إليه، حتّى يتراجع النيل عن برّ بولاق والقاهرة إلى برّ ناحية منبابه «2» . وعاد السلطان إلى القلعة وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال [للعمل «3» ] صحبة المشدّين وطلبت الحجارون بأجمعهم لقطع الحجارة من الجبل، ثم تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب وتغرّق وهى ملأنة بالحجارة حيث يعمل [الجسر «4» ] ، فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواحى وتسلّمهم آقبغا عبد الواحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم السلطان لوالى القاهرة ولوالى مصر بتسخير العامّة للعمل فركبا وقبضا على عدّة كثيرة منهم، وزادوا فى ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع والأسواق، فتستّر الناس ببيوتهم خوفا من السخرة، ووقع الاجتهاد فى العمل واشتدّ الاستحثاث حتّى إنّ الرجل كان يخرّ الى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم رفقته عليه الرمل فيموت من ساعته. واتّفق هذا لخلائق كثيرة؛ وآقبغا عبد الواحد راكب فى حرّاقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة، والسلطان ينزل إليهم فى كلّ قليل ويباشرهم ويغلظ على آقبغا ويحرّضه على السّرعة واستنهاض(9/127)
العمال «1» حتّى كمل فى مدّة شهر بعد أن غرق فيه اثنتا عشرة مركبا بالحجارة، وسق كلّ مركب ألف إردب. وكانت عدّة المراكب التى أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل ورميت فى البحر حتّى صار جسرا يمشى عليه، ثلاثا وعشرين ألف مركب حجر سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسّرياقات «2» والحلفاء ونحو ذلك. وحفر الخليج بالجزيرة؛ فلمّا زاد النيل جرى فى الخليج المذكور وتراجع الماء حتّى قوى على برّ منبابة وبرّ بولاق التّكرورىّ «3» ، فسرّ السلطان والناس قاطبة بذلك، فإنّ الناس كانوا على تخوّف كبير من النيل على القاهرة. وأنفق السلطان على هذا العمل من خزانته أموالا كثيرة. كلّ ذلك فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة المذكورة.(9/128)
فلمّا استهلّت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة حضر فيها الأمير تنكز نائب الشام ورسم بسكناه فى داره «1» بالكافورى «2» على عادته، وخلع عليه خلعة الاستمرار على نيابة دمشق. وبعد أيّام تكلّم تنكز فى يلبغا نائب حلب فعزله السلطان عن نيابة حلب وأنعم عليه بنيابة غزّة. وقدّم تنكز فى هذه المرّة للسلطان تقدمة عظيمة تجلّ عن الوصف، فيها من صنف الجوهر فقط ما قيمته ثلاثون ألف دينار، ومن الزّركش عشرون ألف دينار، ومن أوانى البلّور وتعابى القماش والخيل والسّروج والجمال البخاتى ما قيمته مائتان وعشرون ألف دينار مصريّة، فلمّا انقضت التّقدمة أخذ السلطان تنكز وأدخله إلى الدور السلطانية حتى رأى ابنته زوجة السلطان، فقامت اليه وقبّلت يده، ثم أخرج السلطان إليه جميع بناته وأمرهنّ بتقبيل يد تنكز المذكور وهو يقول لهنّ واحدة بعد واحدة: بوسى يد عمّك، ثم عيّن منهنّ بنتين لولدى الأمير تنكز فقبّل تنكز الأرض وخرج من الدور، والسلطان يحادثه.
وأمر السلطان بالاهتمام إلى سفر الصعيد للصّيد على عادته وتنكز صحبته؛ وكان من إكرامه له فى هذه السّفرة ما لا عهد من ملك مثله، فلمّا عاد السلطان من الصعيد أمر النّشو بتجهيز كلفة عقد ابنى تنكز على ابنتيه، وكلفة سفر تنكز إلى الشام،(9/129)
فجهّز النّشو ذلك كلّه، وعقد لابنى تنكز على ابنتى السلطان فى بيت الامير قوصون، لكون قوصون أيضا متزوّجا بإحدى بنات السلطان، بحضرة القضاة والأمراء.
ثمّ ولدت بنت الأمير تنكز من السلطان بنتا فسجد شكرا لله بحضرة السلطان، وقال:
ياخوند، كنت أتمنى أن يكون المولود بنتا فإنها لو وضعت ذكرا كنت أخشى من تمام السعادة، فإنّ السلطان قد تصدّق علىّ بما غمرنى به من السعادة فخشيت من كمالها.
ثم جهّز السلطان الأمير تنكز وأنعم عليه من الخيل والتعابى القماش ما قيمته مائة وعشرون «1» ألف دينار. وأقام تنكز فى هذه المرّة بالقاهرة مدّة شهرين، فلما وادع «2» السلطان سأله إعفاء الأمير كجكن من الخدمة وأشياء غير ذلك فأجابه إلى جميع ما سأله. وكتب له تقليدا بتفويض الحكم فى جميع الممالك الشامية بأسرها، وأن جميع نوّابها تكاتبه بأحوالها، وأن تكون مكاتبته: «أعزّ الله أنصار المقرّ الشريف» ، بعد ما كانت. «أعزّ الله أنصار الجناب» وأن يزاد فى ألقابه:
«الزاهدىّ العابدىّ العالمىّ كافل الإسلام أتابك الجيوش» . وأنعم السلطان على مغنّية قدمت معه من دمشق من جملة مغانيه بعشرة آلاف درهم، ووصل لها من الدّور ثلاث بذلات زركش وثلاثون تعبية قماش وأربع بذلات مقانع وخمسمائة دينار. ثم آخر ما قال السلطان لتنكز: إيش بقى لك حاجة؟ بقى فى نفسك شىء، أقضيه لك قبل سفرك؟ فقبّل الأرض وقال: والله ياخوند، ما بقى فى نفسى شىء أطلبه إلّا أن أموت فى أيّامك، فقال السلطان: لا، إن شاء الله تعيش أنت وأكون أنا فداءك، أو أكون بعدك بقليل، فقبّل الأرض وانصرف، وقد حسده سائر الأمراء، [وكثر «3» حديثهم] فيما حصل له من الإكرام الزائد، فاتّفق ما قال السلطان، فإنّه لم يقم بعد موت تنكز إلّا مدّة قليلة.(9/130)
وأمّا أمر النّشو فإنّه لم يزل على الظلم والعسف فى الرّعية والأقدار تساعده إلى أن قبض عليه السلطان الملك الناصر فى يوم الاثنين ثانى صفر سنة أربعين وسبعمائة، وعلى أخيه مجد «1» الدين رزق الله، وعلى [أخيه «2» ] المخلص وعلى مقدّم الخاصّ ورفيقه.
وسبب ذلك أنّه زاد فى الظلم حتى قلّ الجالب إلى مصر وذهب أكثر أموال التجّار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان الزيادة فخاف العجز، فرجع عن ظلم العامّ إلى الخاصّ، ورتّب مع أصحابه ذلك، وكانت عادته فى كلّ ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق به فى النظر فيما يحدثه من المظالم، يقترح كلّ منهم ما يقترحه من لمظالم ثم يتفرقون، فرتّبوا فى ليلة من الليالى أو راقا تشتمل على فصول يتحصّل منها ألف ألف دينار عينا وقرأها على السلطان: منها التقاوى السلطانية المخلّدة بالنواحى من الدولة الظاهريّة بيبرس والمنصوريّة قلاوون فى إقطاعات الأمراء والأجناد، وجملتها مائة ألف إردب وستون ألف إردب سوى ما فى بلاد السلطان من التقاوى، ومنها الرّزق الأحباسية الموقوفة على المساجد والجوامع والزوايا وغير ذلك، وهى مائة ألف فدان وثلاثون ألف فدان. وقرّر مع السلطان أن يأخذ التقاوى المذكورة، وأن يلزم كلّ متولى إقليم باستخراجها وحملها، وأن يقيم شادّا يختاره لكشف الرّزق الأحباسية، فما كان منها على موضع عامر [بذكر الله «3» ] يعطيه نصف ما يحصل ويأخذ من مزارعيه فى النصف الآخر عن كلّ فدان مائة درهم.
قلت: ولم يصحّ ذلك للنّشو وصحّ مع أستادار زماننا هذا زين الدين «4» يحيى الأشقر قريب ابن أبى الفرج لمّا كان ناظر «5» المفرد فى أستادارية قزطوغان فإنّه أحدث(9/131)
هذه المظلمة فى دولة الملك الظاهر «1» ، ودامت فى صحيفته إلى يوم القيامة، فأقول:
كم ترك الأول للآخر. انتهى.
قال: ويلزم المزارع بخراج ثلاث سنين، وما كان من الرّزق على موضع خراب «2» ، أو على أهل الأرياف من الفقهاء والخطباء ونحوهم أخذوا «3» ، واستخرج من مزارعيه خراج ثلاث سنين. وممّا أحدثه أيضا أرض [جزيرة] الرّوضة تجاه مدينة مصر، فإنها بيد أولاد الملوك، فيستأجرها منهم الدواوين وينشوا بها سواقى الأقصاب وغيرها. ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس الأثمان، وقرّر مع السلطان أخذ أراضى الرّوضة للخاصّ. ومنها أرباب الرواتب السلطانية فإنّ أكثرهم عبيد الدواوين، ونساؤهم وغلمانهم يكتبونها باسم زيد وعمرو؛ وذكر أشياء كثيرة من هذه المقولة إلى أن تعرض للأمير آقبغا عبد الواحد ولأمواله وحواصله، وحسّن للسلطان القبض عليه وشرع فى عمل ما قاله، فعظم ذلك على الناس وتراموا على خواصّ السلطان من الأمراء وغيرهم، فكلّموا السلطان فى ذلك وعرّفوه قبح سيرة النّشو، وما قصده إلّا خراب مملكة السلطان. ثم رميت للسلطان عدّة أوراق فى حقّ النّشو، فيها مكتوب:
أمعنت فى الظلم وأكثرته ... وزدت يا نشو على العالم
ترى من الظالم فيكم لنا ... فلعنة الله على الظالم
وأبيات أخر. وكان السلطان أرسل قرمحى إلى تنكز لكشف أخبار النّشو بالبلاد الشامية، فعاد بمكاتبات تنكز بالحطّ عليه، وذكر قبح سيرته وظلمه وعسفه(9/132)
وكان النّشو قد حصل له قولنج انقطع منه أياما، ثم طلع إلى القلعة وأثر المرض فى وجهه، وقرّر مع السلطان إيقاع الحوطه على آقبغا عبد الواحد من الغد، وكان ذلك فى أوّل يوم من صفر. وتقرّر الحال على أنه يجلس النّشو على باب الخزانة، فإذا خرج الأمير بشتك من الخدمة جلس معه، ثم يتوجّهان إلى بيت آقبغا ويقبضان عليه. فلما عاد النّشو إلى داره عبر الحمّام ليلة الاثنين ومعه [شمس الدين محمد «1» ] بن الأكفانىّ، وقد قال له ابن الأكفانىّ: بأنّ على النشو فى هذا الشهر قطعا «2» عظيما فأمر النّشو بعض عبيده السودان أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدّم على جسده ليكون ذلك حظّه من القطع، ففعل به ذلك، وتباشروا بما دفع الله عنه من السوء. ثمّ خرج النّشو من الحمّام، وكان الأمير يلبغا اليحياوىّ أحد خواصّ السلطان ومماليكه قد توعّك جسده توعّكا صعبا فقلق السلطان عليه وأقام عنده لكثرة شغفه به، فقال له يلبغا فيما قال: ياخوند، قد عظم إحسانك لى ووجب نصحك علىّ والمصلحة القبض على النّشو، وإلّا دخل عليك الدخيل، فإنّه ما عندك أحد من مماليكك إلّا وهو يترقّب غفلة منك، وقد عرّفتك ونصحتك قبل أن أموت، وبكى وبكى السلطان لبكائه، وقام السلطان وهو لا يعقل لكثرة ما داخله من الوهم لثقته بمحبّة يلبغا له، وطلب بشتك فى الحال وعرّفه أنّ الناس قد كرهوا هذا النشو، وأنه عزم على الإيقاع به، فخاف بشتك أن يكون ذلك امتحانا من السلطان، ثم وجد عزمه قويّا فى القبض عليه، فاقتضى الحال إحضار الأمير قوصون أيضا فحضر وقوّى عزم السلطان على ذلك، وما زالا به حتى قرّر معهما أخذه والقبض عليه. وأصبح النشو وفى ذهنه أنّ القطع(9/133)
الذي تخوّف منه قد زال عنه بما دبّره ابن الأكفانى من إسالة دمه. ثم علّق عليه عدّة من العقود والطّلّسمات والحروز وركب إلى القلعة وجلس بين يدى السلطان على عادته، وأخذ معه فى الكلام على القبض على آقبغا عبد الواحد. ثم نهض النّشو وتوجّه إلى باب الخزانة، وجلس عليها ينتظر مواعدة بشتك، فعند ما قام النّشو طلب السلطان المقدّم ابن صابر «1» ، وأسرّ إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وعلى باب القرافة، ولا يدع أحدا به من حواشى النّشو وجماعته وأقار به وإخوته أن ينزلوا ويقبضوا عليهم الجميع. وأمر السلطان بشتك وبرسبغا الحاجب أن يمضيا إلى النّشو ويقبضا عليه وعلى أقاربه، فخرج بشتك وجلس بباب الخزانة فطلب النّشو من داخلها فظنّ النشو أنه جاء لميعاده مع السلطان حتّى يحتاطا على موجود آقبغا، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه فأخذوه إلى بيته بالقلعة، وبعث إلى بيت الأمير ملكتمر الحجازىّ فقبض على أخيه رزق الله، ثم أخذ أخاه المخلص وسائر أقار به. وطار الخبر فى القاهرة ومصر، فخرج الناس كلّهم كأنّهم جراد منشر، وركب الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير طيبغا المجدى «2» والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيوت النّشو وأقاربه وحواشيه، ومعهم عدوّه [القاضى جمال الدين إبراهيم «3» المعروف ب] جمال الكفاة كاتب الأمير بشتك وشهود الخزانة، وأخذ السلطان يقول للأمراء: كم تقولون، النّشو ينهب مال الناس! الساعة ننظر المال الذي عنده! وكان السلطان يظنّ أنّه يؤدّيه الأمانة، وأنّه لا مال له، فندم الأمراء على تحسينهم مسك النّشو خوفا من ألّا يظهر له مال، لا سيما(9/134)
قوصون وبشتك من اجل أنّهما كانا بالغا فى الحطّ عليه، فكثر قلقهما ولم يأكلا طعاما نهارهما وبعثا فى الكشف على الخبر. فلما أوقع الأمراء الحوطة على دور الممسوكين بلغهم أنّ حريم النّشو فى بستان فى جزيرة «1» الفيل، فساروا إليه وهجموا عليه فوجدوا ستين جارية وأمّ النّشو وامرأته وإخوته وولديه وسائر أهله، وعندهم مائتا قنطار عنب وقند «2» كثير ومعصار وهم فى عصر العنب، فختموا على الدّور والحواصل، ولم يتهيّأ لهم نقل شىء [منها «3» ] . هذا وقد غلّقت الأسواق بمصر والقاهرة، واجتمع الناس بالرّميلة تحت القلعة ومعهم النساء والأطفال وقد أشعلوا الشموع ورفعوا على رءوسهم المصاحف ونشروا الأعلام وهم يصيحون استبشارا وفرحا بقبض النّشو، والأمراء تشير إليهم أن يكثروا ممّا هم فيه، واستمرّوا ليلة الثلاثاء على ذلك، فلمّا أصبحوا وقع الصوت من داخل القلعة بأنّ رزق الله أخا النّشو قد قتل نفسه، وهو أنّه لما قبض عليه قوصون وكّل به أمير شكاره، فسجنه ببعض الخزائن، فلمّا طلع الفجر قام الأمير شكار إلى صلاة الصبح فقام رزق الله وأخذ من حياصته سكينا ووضعها فى نحره حتّى نفذت منه وقطعت ورائده «4» ، فلم يشعر أمير شكار إلّا وهو يشخّر وقد تلف، فصاح حتّى بلغ قوصون فانزعج لذلك وضرب أمير شكاره «5» ضربا مبرّحا إلى أن علم السلطان الخبر، فلم يكترث به.(9/135)
وفى يوم الاثنين المذكور أفرج السلطان عن الصاحب شمس الدين موسى «1» ابن التاج إسحاق وأخيه «2» ونزلا من القلعة إلى الجامع «3» الجديد بمصر. وكان شمس الدين هذا قد وشى به النّشو حتّى قبض عليه السلطان، وأجرى عليه العقوبة أشهر إلى أن أشيع موته غير مرّة، وقد ذكرنا أمر عقوبة شمس الدين هذا وما وقع له فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، فإنّ فى سيرته عجائب فلينظر هناك. قال الشيخ كمال الدين جعفر [بن «4» ثعلب] الأدفوىّ فى يوم الاثنين هذا، وفى معنى مسك النّشو وغيره هذه الأبيات:
إنّ «5» يوم الاثنين يوم سعيد ... فيه لا شكّ للبرية عيد
أخذ الله فيه فرعون مصر «6» ... وغدا النّيل فى رباه يزيد
وقال الشيخ شمس الدين محمد [بن عبد «7» الرحمن بن على الشهيربا] بن الصائغ الحنفى فى معنى مسك النّشو والإفراج عن شمس الدين موسى وزيادة النيل هذه الأبيات:
لقد ظهرت فى يوم الاثنين آية ... أزالت بنعماها عن العالم البوسا
تزايد بحمر النيل فيه وأغرقت ... به آل فرعون وفيه نجا موسى(9/136)
وفى المعنى يقول أيضا القاضى علاء الدين على [بن يحيى «1» ] بن فضل الله كاتب السّرّ:
فى يوم الاثنين ثانى الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا
يا أهل مصر نجا موسى ونيلكمو ... طغى وفرعون وهو النّشو قد هلكا
ثم فى يوم الثلاثاء نودى بالقاهرة ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله تعالى على خلاصكم من النّشو. ثم أخرج رزق الله أخو النّشو ميّتا فى تابوت امرأة حتى دفن فى مقابر النصارى خوفا عليه من العامة أن تحرقه. ثم دخل الأمير بشتك على السلطان واستعفى من تسليم النشو خشية ممّا جرى من أخيه، فأمر السلطان أن يهدّده على إخراج المال، ثم يسلّمه لابن صابر فأوقفه بشتك وأهانه فالتزم إن أفرج عنه جمع للسلطان من أقاربه خزانة مال ثم تسلّمه ابن صابر فأخذه ليمضى به إلى قاعة الصاحب «2» ، فتكاثرت العامة لرجمه حتى طردهم نقيب الجيش وأخرجه والجنزير «3» فى عنقه حتى أدخله قاعة الصاحب، والعامة تحمل عليه حملة بعد حملة والنقباء تطردهم. ثم طلب السلطان فى اليوم المذكور جمال الكفاة إبراهيم كاتب الأمير بشتك وخلع عليه واستقرّ فى وظيفة نظر الخاصّ عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله المعروف بالنّشو بعد تمنّعه، ورسم له أن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه، ومعه الأمير آقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب وشهود الخزانة، فنزل بتشريفه وركب بغلة النّشو حتى أخرج حواصله، وقد أغلق الناس الأسواق وتجمّعوا ومعهم الطبول والشموع وأنواع الملاهى وأرباب الخيال، بحيث لم يبق(9/137)
خانوت بالقاهرة مفتوح نهارهم كلّه، ثم ساروا مع الأمراء على حالهم إلى تحت القلعة وصاحوا صيحة واحدة، حتى انزعج السلطان وأمر الأمير أيدغمش بطردهم، ودخلوا الأمراء على السلطان بما وجدوه للنشو، وهو من العين خمسة عشر ألف دينار مصرية. وألفان وخمسمائة حبة لؤلؤ، قيمة كلّ حبّة ما بين ألفى درهم إلى ألف درهم. وسبعون فص بلخش قيمة كل فص [ما بين] «1» خمسة آلاف درهم إلى ألف درهم. وقطعة «2» زمرّد فاخر زنتها رطل. ونيّف وستون حبلا من لؤلؤ كبار، زنة ذلك أربعمائة مثقال. ومائة وسبعون خاتم ذهب وفضّة بفصوص مثمنة.
وكفّ مريم مرصّع بجوهر. وصليب ذهب مرصّع. وعدّة قطع زركش؛ سوى حواصل لم تفتح. فخجل السلطان لمّا رأى ذلك، وقال للامراء: لعن الله الأقباط ومن يأمنهم أو يصدّقهم! وذلك أنّ النّشو كان يظهر له الفاقة بحيث إنّه كان يقترض الخمسين درهما والثلاثين درهما حتى ينفقها. وبعث فى بعض اللّيالى إلى جمال الدين إبراهيم [بن أحمد «3» ] بن المغربى رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم، ويذكر له أنه طرقه ضيف ولم يجد له ما يعشّيه به، وقصد بذلك أن يكون له شاهد عند السلطان بما يدّعيه من الفقر. فلما كان فى بعض الأيام شكا النّشو الفاقة للسلطان وابن المغربىّ حاضر، فذكر للسلطان أنه اقترض منه فى ليلة كذا مائة درهم، فمشى ذلك على السلطان وتقرر فى ذهنه أنّه فقير لا مال له. انتهى.
واستمر الأمراء تنزل كلّ يوم لإخراج حواصل النّشو فوجدوا فى بعض الأيام من الصّينىّ والبلّور والتّحف السنيّة شيئا كثيرا. وفى يوم الخميس [خامسه «4» ] زيّنت القاهرة ومصر بسبب قبض النشو. زينة هائلة دامت سبعة أيام، وعملت أفراح(9/138)
كثيرة. وعملت العامّة فيه عدّة أزجال وبلاليق «1» ، وأظهروا من الفرح واللهو والخيال ما يجلّ وصفه، ووجدت مآكل كثيرة فى حواصل النّشو، منها: نحو مائتى مطر «2» ملوحة وثمانين مطر جبن وأحمال كثيرة من سوّاقة الشام. ووجد له أربعمائة بذلة قماش جديدة وثمانون بذلة قماش مستعمل، ووجد له ستّون بغلطاق «3» نشاوىّ «4» مزركش ومناديل زركش عدّة كثيرة. ووجد له صناديق كثيرة فيها قماش سكندرىّ ممّا عمل برسم الحرّة جهة ملك المغرب قد اختلسه النّشو، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا والذين قبض عليهم. ووجد له مملوك تركىّ قد خصاه هو واثنين معه ماتا، وخصى أيضا أربعة عبيد فماتوا، فطلب السلطان الذي خصاهم وضربه بالمقارع، وجرّس وتتبّعت أصحابه وضرب منهم جماعة. ثم وجد بعد ذلك بمدّة لإخوة النشو ذخائر نفيسة، منها لصهره ولىّ الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فصّ بلخش. وستّ وثلاثون مرسلة «5» مكللة بالجوهر. وإحدى عشرة عنبرينة «6» مكلّلة بلؤلؤ كبار. وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ منظوم وزمرّد وكوافى زركش، قوّموا بأربعة وعشرين ألف دينار. وضرب المخلص أخو النّشو ومفلح عبده بالمقارع، فأظهر المخلص الإسلام. ثم فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين(9/139)
شهر ربيع الأوّل وجدت ورقة بين فرش السلطان فيها: المملوك بيرم ناصح السلطان يقبّل الأرض وينهى: إنّنى أكلت رزقك وأنت قوام المسلمين، ويجب على كلّ أحد نصحك، وإنّ بشتك وآقبغا عبد الواحد اتّفقا على قتلك مع جماعة من المماليك فآحترس على نفسك، وكان بشتك فى ذلك اليوم قد توجّه بكرة النهار إلى جهة الصعيد، فطلب السلطان الأمير قوصون والأمير آقبغا عبد الواحد وأوقفهما على الورقة، فكاد عقل آقبغا أن يختلط من شدّة الرّعب، وأخذ الأمير قوصون يعرّف السلطان أن هذا فعل من يريد التشويش على السلطان وتغيير خاطره على مماليكه.
فأخرج السلطان البريد فى الحال لردّ الأمير بشتك فأدركه بإطفيح وقد مدّ سماطه، فلمّا بلغه الخبر قام ولم يمدّ يده إلى شىء منه. وجدّ فى سيره حتى دخل على السلطان، فأوقفه السلطان على الورقة فتنصّل ممّا رمى به كما تنصّل آقبغا واستسلم، وقال:
هذه نفسى ومالى بين يدى السلطان. وإنما حمل من رمانى بذلك الحسد على قربى من السلطان، وعظم إحسانه إلىّ ونحو هذا، حتى رقّ له السلطان وأمره أن يعود إلى الصيد إلى جهة قصده.
ثم طلب السلطان [ناظر] ديوان الجيش، ورسم له أن يكتب كلّ من اسمه بيرم ويحضره إلى آقبغا عبد الواحد، فارتجّت القلعة والمدينة، فطلب ناظر الجيش المذكورين وعرضهم وأخذ خطوطهم ليقابل بها كتابة الورقة فلم يجده. فلمّا أعيا آقبغا الظّفر بالغريم اتّهم النّشو أنّها من مكايده، واشتدّ قلق السلطان وكثر انزعاجه بحيث إنه لم يستطع أن يقرّ بمكان واحد، وطلب والى القاهرة وأمره بهدم ما بالقاهرة من حوانيت صنّاع النّشّاب ويناى من عمل نشّابا شنق، فامتثل ذلك. وخرّب جميع مرامى النّشّاب، وغلّقت حوانيت القوّاسين، ونزل الأمير برسبغا إلى الأمراء جميعهم، وعرّفهم عن السلطان أنّ من رمى من مماليكم بالنّشاب أو حمل(9/140)
قوسا كان أستاذه عوضا عنه فى التلاف، وألّا يركب أحد من الأمراء بسلاح ولا تركاش «1» ، وبينما الناس فى هذا الهول الشديد إذ دخل رجل يعرف بابن الأزرق- كان أبوه ممن مات فى عقوبة النّشو لما صادره، وقد تقدّم ذكر ابن الأزرق فى أمر بناء جامع الخطيرى- على جمال الكفاة وطلب الورقة ليعرّفهم من كتبها، فقام جمال الكفاة إلى السلطان ومعه الرجل، فلما وقف عليها قال: يا خوند، هذه خطّ أحمد الخطائى «2» ، وهو رجل عند ولىّ الدولة صهر النّشو يلعب معه النّرد ويعاقره الخمر، فطلب المذكور وحاققه الرجل محاققة طويلة فلم يعترف، فعوقب عقوبات مؤلمة إلى أن أقرّ بأنّ ولىّ الدولة أمره بكتابتها، فجمع بينه وبين ولىّ الدولة فأنكر ولىّ الدولة ذلك، فطلب أن يرى الورقة فلما رآها حلف جهد أيمانه أنها خطّ ابن الأزرق الشاكى، لينال منه غرضه، من أجل أنّ النّشو قتل أباه، وحاققه على ذلك، فاقتضى الحال عقوبة ابن الأزرق فاعترف أنّها كتابته وأنه أراد أن يأخذ بثأر أبيه من النّشو وأهله، فعفا السلطان عن ابن الأزرق ورسم بحبس ابن الخطائى «3» . ورسم لبرسبغا الخاجب وابن صابر المقدم أن يعاقبا النّشو وأهله حتى يموتوا. وأذن السلطان للأجناد فى حمل النّشّاب فى السّفر دون الحضر، فصارت هذه عادة إلى اليوم.
ويقال إنّ سبب عقوبة النّشو أنّ أمراء المشورة تحدّثوا مع السلطان، وكان الذي ابتدأ بالكلام سنجر الجاولى وقبّل الأرض، وقال: حاشى مولانا السلطان من شغل الخاطر وضيق الصدر، فقال السلطان: يا أمراء، هؤلاء مماليكى أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغنى عنهم ما لا يليق، فقال الجاولى:(9/141)
حاشى لله أنّ يبدو من مماليك السلطان شىء من هذا، غير أنّ علم مولانا السلطان محيط بأنّ ملك الخلفاء ما زال إلّا بسبب الكتّاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدّخيل إلّا من جهة الوزراء، ومولانا السلطان ما يحتاج فى هذا إلى أن يعرّفه أحد بما جرى لهم، ومن المصلحة قتل هذا الكلب وإراحة الناس منه، فوافقه الجميع على ذلك، فضرب المخلص أخو النّشو فى هذا اليوم بالمقارع، وكان ذلك فى يوم الخميس رابع عشرين شهر ربيع الأوّل حتّى هلك يوم الجمعة العصر، ودفن بمقابر اليهود. ثمّ ماتت أمّه عقيبه. ثم مات ولىّ الدولة عامل المتجر تحت العقوبة ورمى للكلاب؛ هذا والعقوبة تتنوّع على النّشو حتّى هلك يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الآخر من سنة أربعين وسبعمائة فوجد النّشو بغير ختان، وكتب به محضر ودفن بمقابر اليهود بكفن قيمته أربعة دراهم ووكّل بقبره من يحرسه مدّة أسبوع خوفا من العامّة أن تنبشه وتحرقه. وكان مدّة ولايته وجوره سبع سنين وسبعة أشهر، ثم أحضر ولىّ الدولة صهر النّشو، وهذا بخلاف ولىّ الدولة عامل المتجر الذي تقدّم، وأمر السلطان بعقوبته، فدلّ على ذخائر النّشو ما بين ذهب وأوان، فطلبت جماعة بسبب ودائع النّشو، وشمل الضرر غير واحد. وكان موجود النّشو سوى الصندوق الذي أخذه السلطان شيئا كثيرا جدّا، عمل لبيعه تسع وعشرون حلقة، بلغت قيمته خمسة وسبعين ألف درهم. وكان جملة ما أخذ منه سوى الصندوق نحو مائتى ألف دينار. ووجد لولىّ الدولة عامل المتجر ما قيمته خمسون ألف دينار. ووجد لولىّ الدولة صهر النّشو زيادة على مائتى ألف دينار. وبيعت للنشو دور بمائتى ألف درهم. وركب الأمير آقبغا عبد الواحد إلى دور آل النّشو فخرّبها كلّها، حتى ساوى بها الأرض وحرثها بالمحاريث فى طلب الخبايا، فلم يجد بها من الخبايا إلا القليل. انتهى.(9/142)
وأمّا أصل النشو هذا أنه كان هو ووالده وإخوته يخدمون الأمير بكتمر الحاجب، فلمّا انفصلوا من عنده أقاموا بطّالين مدّة، ثم خدم النّشو هذا عند الأمير أيدغمش أمير آخور فأقام بخدمته إلى أن جمع السلطان فى بعض الأيام كتّاب الأمراء لأمر ما، فرآه السلطان وهو واقف من وراء الجماعة وهو شاب طويل نصرانىّ حلو الوجه، فآستدعاه وقال له: إيش اسمك؟ قال: النّشو، فقال: أنا أجعلك نشوى ورتّبه مستوفيا فى الجيزة، وأقبلت سعادته فيما ندبه إليه وملا عينه، ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدّة حتى استسلمه الأمير بكتمر الساقى وسلّم إليه ديوان سيدى آنوك، ثم نقله بعد ذلك إلى نظر الخاصّ بعد موت القاضى فخر الدين ناظر الجيش، فإنّ شمس الدين موسى ابن التاج ولى الجيش، والنّشو هذا ولى عوضه الخاص. انتهى.
وفى آخر شهر ربيع الآخر نودى على الذهب أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهما، وكان بعشرين درهما. وفى هذه السنة فرغت مدرسة «1» الأمير آقبغا عبد الواحد بجوار الجامع الأزهر، وأبلى الناس فى عمارتها ببلايا كثيرة، منها:
أنّ الصّنّاع كان قرّر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يوما فى الأسبوع بغير(9/143)
أجرة، ثم حمل إليها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية، فكانت عمارتها ما بين نهب وسرقة، ومع هذا فإنّه ما نزل إليها قطّ إلا وضرب بها أحدا زيادة على شدّة عسف مملوكه الذي أقامه شادّا بها، فلمّا تمّت جمع بها القضاة والفقهاء ولم يولّ بها أحد، وكان الشريف المحتسب قدّم بها سماطا بنحو ستة آلاف درهم على أن يلى تدريسها فلم يتمّ له ذلك.
ثم إنّ السلطان نزل إلى خانقاه «1» سرياقوس التى أنشأها فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة أربعين وسبعمائة، وقد تقدّمه إليها الشيخ شمس الدين محمد [بن «2» ] الأصفهانى وقوام الدين الكرمانىّ وجماعة من صوفية سعيد السعداء، فوقف السلطان على باب خانقاه «3» سعيد السعداء بفرسه، وخرج إليه جميع صوفيّتها ووقفوا بين يديه، فسألهم من يختارونه شيخا لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى(9/144)
ابن أحمد بن محمد الأقصرائىّ فلم يعيّنوا أحدا، فولّى السلطان بها الركن الملطىّ خادم المجد الأقصرائى المتوفّى. وانقطع السلطان فى هذه الأيام عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يوما بسبب شغل خاطره لمرض مملوكه يلبغا اليحياوىّ وملازمته له إلى أن تعافى، وعمل السلطان لعافيته سماطا عظيما هائلا بالميدان «1» وأحضر الأمراء، ثم استدعى بعدهم جميع صوفية الخوانق والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف، ومدّ لهم الأسمطة الهائلة، وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم، أفرج بها عن المسجونين على دين، وأخرج للأمير يلبغا المذكور ثلاث حجورة «2» بمائتى ألف درهم، وحياصة ذهب مرصّعة بالجوهر، كلّ ذلك لعافية يلبغا المذكور.
ثمّ فى هذه السنة تغيّر خاطر السلطان على مملوكه الأمير تنكز نائب الشام، وبلغ تنكز تغيّر خاطر السلطان عليه، فجهّز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر «3» ويحرج هو إليها بعد ذلك بحجّة أنّه يتصيّد، فقدم إليه الأمير طاجار الدّوادار قبل ذلك فى يوم الأحد رابع عشر ذى الحجة «4» وعتبه وبلّغه عن السلطان ما حمله من الرسالة، فتغيّر الأمير(9/145)
تنكز وبدأت الوحشة بينه وبين السلطان، وعاد طاجار إلى السلطان فى يوم الجمعة تاسع «1» عشر ذى الحجة فأغرى السلطان على تنكز وقال: إنه عزم على الخروج من دمشق، فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتك والأمير بيبرس الأحمدى والأمير چنكلى بن البابا والأمير أرقطاى والأمير طقز دمر فى آخرين، وعرّفهم أنّ تنكز قد خرج عن الطاعة، وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير چنكلى والأمير بشتك والأمير أرقطاى والأمير أرنبغا أمير جاندار والأمير قمارى أمير شكار والأمير قمارى أخو بكتمر الساقى والأمير برسبغا الحاجب، ومع هذه الأمراء السبعة «2» ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة وخمسون نفرا من مقدّمى الخلقة وأربعمائة من المماليك السلطانية وجلس وعرضهم. ثم جمع السلطان فى يوم السبت عشرين ذى الحجّة الأمراء جميعهم وحلّف المجرّدين والمقيمين له ولولده الأمير أبى بكر من بعده، وطلبت الأجناد من النواحى للحلف، فكانت بالقاهرة حركات عظيمة، وحمل السلطان لكلّ مقدّم ألف مبلغ ألف دينار، ولكلّ طبلخاناه أربعمائة دينار، ولكل مقدم حلقة ألف درهم، ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرسا، وقرقلا «3» وخوذة «4» ، فاتّفق قدوم الأمير موسى بن مهنّا فقرّر مع السلطان القبض على الأمير تنكز، وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كلّ جهة على تنكز. ثم بعث السلطان بهادر «5» حلاوة من طائفة الأوجاقيّة على البريد إلى غزّة وصفد وإلى أمراء دمشق بملطّفات كثيرة.
ثم أخرج موسى بن مهنّا لتجهيز العربان وإقامته على حمص، واهتمّ السلطان بأمر تنكز اهتماما زائدا جدّا.(9/146)
قلت: على قدر الصعود يكون الهبوط، ما لتلك «1» الإحسان؟ والعظمة والمحبة الزائدة لتنكز قبل تاريخه إلا هذه الهمّة العظيمة فى أخذه والقبض عليه، ولكن هذا شأن الدنيا مع المغرمين بها!.
ثم إنّ الملك الناصر كثر قلقه من أمر تنكز وتنغّص عيشه وخرج العسكر المعيّن من القاهرة لقتال تنكز فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين ذى الحجّة من سنة أربعين وسبعمائة. وكان حلاوة الأوجاقى قدم على الأمير ألطنبغا «2» الصالحىّ نائب غرّة بملطّف. وفيه أنّه استقرّ فى نيابة الشام عوضا عن تنكز، وأنّ العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق.
قلت: وألطنبغا نائب غزّة هو عدوّ تنكز الذي كان تنكز سعى فى أمره حتى عزله السلطان من نيابة حلب وولاه نيابة غزّة قبل تاريخه.
ثمّ سار حلاوة الأوجاقى إلى صفد وإلى الشام وأوصل الملطّفات إلى أمراء دمشق. ثم وصلت كتب ألطنبغا الصالحىّ إلى أمراء دمشق بولايته نيابة الشام.
ثم ركب الأمير طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر نائب صفد إلى دمشق فى ثمانين فارسا، واجتمع بالأمير قطلوبغا الفخرىّ وسنجر البشمقدار «3» وبيبرس السّلاح دار واتّفق ركوب الأمير تنكز فى ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصى فى خواصه للنزهة، وبينما هو فى ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد، فعاد إلى دار السعادة «4» وألبس مماليكه السلاح، فأحاط به فى الوقت أمراء دمشق،(9/147)
ووقع الصوت بوصول نائب صفد، فخرج عسكر دمشق إلى لقائه وقد نزل بمسجد «1» القدم، فأمر نائب صفد جماعة من المماليك الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه، فدخل عليه جماعة منهم تمر الساقى والأمير طرنطاى البشمقدار وبيبرس السلاح دار وعرّفوه مرسوم السلطان فأذعن لقلّة أهبته للركوب، فإنّ نائب صفد طرقه على حين غفلة باتّفاق أمراء دمشق، ولم يجتمع على تنكز إلا عدّة يسيرة من مماليكه، فلذلك سلّم نفسه فأخذوه وأركبوه إكديشا وساروا به إلى نائب صفد، وهو واقف بالعسكر على ميدان الحصى فقبض عليه وعلى مملوكيه: جنغاى «2» وطغاى «3» وسجنا بقلعة دمشق، وأنزل تنكز عن فرسه على ثوب سرج وقيّده وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار وتوجّه به إلى الكسوة «4» ، فحصل لتنكز إسهال ورعدة خيف عليه الموت، فأقام بالكسوة يوما وليلة ثم مضى به بيبرس، ونزل طشتمر حمّص أخضر نائب صفد بالمدرسة النّجيبيّة «5» ، فتقدّم بهادر حلاوة عند ما قبض على تنكز ليبشّر السلطان بمسك تنكز، فوصل إلى بلبيس ليلا والعسكر نازل بها وعرّف الأمير بشتك. ثم سار حتى دخل القاهرة، وأعلم السلطان الخبر فسرّ سرورا زائدا، وكتب بعود العسكر من بلبيس إلى القاهرة ما خلا بشتك وأرقطاى وبرسبغا الحاجب، فإنهم يتوجّهون إلى دمشق للحوطة(9/148)
على مال تنكز وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جاندار والأمير قمارى أمير شكار بالصالحية «1» إلى أن يقدم عليهما الأمير تنكز. وعاد جميع العسكر إلى الديار المصرية، وسار بشتك ورفيقاه إلى غزة فركب معهم الأمير ألطنبغا الصالحىّ إلى نحو دمشق فلقوا الأمير تنكز على حسبان «2» فسلّموا عليه وأكرموه، وكان بشتك لما سافر من القاهرة صحبة العسكر كان فى ذلك اليوم فراغ بناء قصره «3» الذي بناه ببين القصرين فلم يدخله برجله، واشتغل بما هو فيه من أمر السفر، فشرع السلطان فى غيبته فى تحسين القصر المذكور. وكان سبب عمارة بشتك لهذا القصر أنّ الأمير قوصون لمّا أخذ قصر بيسرى وجدّده أحبّ الأمير بشتك أن يعمل له قصرا تجاه قصر «4» بيسرى ببين القصرين، فدلّ على دار الأمير بكتاش الفخرى أمير سلاح. وكانت «5» أحد قصور الخلفاء(9/149)
الفاطميين التى اشتراها من ذريتهم وأنشأ بها الفخرى دورا وإسطبلات، وأبقى ما كان بها من المساجد، فشاور بشتك السلطان على أخذها فرسم له بذلك، فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم وأنعم عليهم، وأنعم السلطان عليه بأرض كانت داخلها برسم الفراشخاناه «1» السلطانية. ثم أخذ بشتك دار أقطوان الساقى بجوارها، وهدم الجميع وأنشأه قصرا مطلّا على الطريق وارتفاعه أربعون ذراعا، وأجرى إليه الماء ينزل إلى شاذروان «2» إلى بركة به. وأخرب فى عمله أحد عشر مسجدا وأربعة معابد أدخلها فيه، فلم يجدّد منها سوى مسجد «3» رفعه وعمله معلّقا «4» على الشارع.(9/150)
وفى هذه الأيام ورد الخبر على السلطان من بلاد الصعيد بموت الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بقوص فى مستهلّ شعبان، وأنّه قد عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلا، وأثبت قاضى قوص ذلك، فلم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم بن محمد المستمسك ابن أحمد الحاكم بأمر الله فى يوم الاثنين ثالث [عشر «1» ] شهر رمضان، واجتمع القضاة بدار العدل على العادة، فعرّفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم فى الخلافة وأمرهم بمبايعته، فأجابوا بعدم أهليّته، وأنّ المستكفى عهد إلى ولده، واحتجّوا بما حكم به قاضى قوص، فكتب السلطان بقدوم أحمد المذكور. وأقام الخطباء بالقاهرة ومصر نحو أربعة أشهر لا يذكرون فى خطبتهم الخليفة. فلمّا قدم أحمد المذكور من قوص لم يمض السلطان عهده وطلب إبراهيم وعرّفه قبح سيرته فأظهر التّوبة منها، والتزم سلوك طريق الخير، فاستدعى السلطان القضاة وعرّفهم أنه قد أقام إبراهيم فى الخلافة، فأخذ قاضى القضاة عز الدين [عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله «2» ] بن جماعة يعرّف السلطان عدم أهليّته، فلم يلتفت السلطان اليه، وقال: إنّه قد ثاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ فبايعوه ولقّب بالواثق، وكانت العامة تسمّيه المستعطى، فإنه كان يستغطى من الناس ما ينفقه.
ثمّ وصل الأمير تنكز إلى الديار المصرية فى يوم الثلاثاء ثامن «3» المحرّم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وهو متضعّف صحبة الأمير بيبرس السّلاح دار، وأنزل بالقلعة فى مكان ضيّق، وقصد السلطان ضربه بالمقارع، فقام الأمير قوصون فى شفاعته حتّى أجيب إلى ذلك. ثم بعث السلطان إليه يهدّده حتّى يعترف بما له(9/151)
من المال ويذكر له من كان موافقا له من الأمراء على العصيان، فأجاب بأنّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقى، وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة، فأمر به السلطان فى اللّيل فأخرج مع المقدّم ابن صابر وأمير جاندار فى حرّاقة إلى الإسكندرية، فقتله بها المقدّم ابن صابر فى يوم الثلاثاء نصف المحرّم من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتأتى بقيّة أحواله. ثم لمّا وصل الأمير بشتك إلى دمشق قبض على الأمير صاروجا «1» والجيبغا «2» [بن عبد الله «3» ] العادلى وسلّما إلى الأمير برسبغا فعاقبهما أشدّ عقوبة على المال، وأوقع الحوطة على موجودهما. ثم وسّط بشتك جنغاى وطغاى مملوكى تنكز وخواصّه بسوق خيل دمشق، وكان جنغاى المذكور يضاهى أستاذه تنكز فى موكبه وبركه، ثمّ أكحل صاروجا وتتبّع أموال تنكز فوجد له ما يجلّ وصفه، وعملت لبيع حواصله عدّة حلق، وتولّى البيع فيها الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب دمشق والأمير أرقطاى وهما أعدى عدوّ لتنكز. وكان تنكز أميرا جليلا محترما مهابا عفيفا عن أموال الرعيّة حسن المباشرة والطريقة، إلّا أنّه كان صعب المراس ذا سطوة عظيمة وحرمة وافرة على الأعيان من أرباب الدولة، متواضعا للفقراء وأهل الخير، وأوقف عدّة أوقاف على وجوه البرّ والصدقة.
وقال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: جلب تنكز إلى مصر وهو حدث فنشأ بها، وكان أبيض إلى السّمرة أقرب، رشيق القدّ مليح الشعر خفيف اللّحية قليل الشيب حسن الشكل ظريفه. جلبه الخواجا علاء الدين السّيواسىّ فاشتراه الأمير(9/152)
لاچين، فلمّا قتل لاچين فى سلطنته صار من خاصّكيّة الملك الناصر وشهد معه وقعة وادى الخازندار ثم وقعة شقحب.
قلت: ولهذا كان يعرف تنكز بالحسامىّ.
قال: وسمع تنكز صحيح البخارى غير مرّة من ابن الشّحنة «1» وسمع كتاب [معانى «2» ] الآثار للطّحاوىّ، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى «3» المطعّم وأبى بكر «4» بن عبد الدائم، وحدّث «5» وقرأ عليه بعض المحدّثين ثلاثّيات البخارى بالمدينة النبويّة. قال: وكان الملك الناصر أمّره إمرة عشرة قبل توجّهه إلى الكرك، ثم ساق توجّهه مع الملك الناصر إلى الكرك وخروجه من الكرك إلى مصر وغيرهما إلى أن قال: وولاه السلطان نيابة دمشق فى سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فأقام بدمشق نائبا ثمانيا وعشرين سنة، وهو الذي عمّر بلاد دمشق ومهّد نواحيها، وأقام شعائر المساجد بها بعد التتار.
قلت: وأمّا ما ظهر له من الأموال وجد له من التّحف السنيّة ومن الأقمشة مائتا منديل زركش. وأربعمائة حياصة ذهب. وستمائة كلفتاه زركش. ومائة حياصة ذهب مرصّعة بالجوهر. وثمان وستون بقجة بدلات ثياب زركش. وألفا ثوب(9/153)
أطلس. ومائتا تخفيفة زركش. وذهب مختوم أربعمائة ألف دينار مصرية. ووجد له من الخيل والهجن والجمال البخاتىّ وغيرها نحو أربعة آلاف ومائتى رأس؛ وذلك غير ما أخذه الأمراء ومماليكهم، فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهبا. ووجد له من الثياب الصوف ومن النّصافى «1» ما لا ينحصر. وظفر الأمير بشتك بجوهر له ثمين اختصّ به. وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا، بعد ما أخذ لهم من الجوهر واللؤلؤ والزّركش شىء كثير.
وأمّا أملاكه التى أنشأها فشىء كثير. وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدىّ فى تاريخه- وهو معاصره- قال: ورد مرسوم شريف إلى دمشق بتقويم أملاك تنكز فعمل ذلك بالعدول وأرباب الخبرة وشهود القيمة، وحضرت بذلك محاضر إلى ديوان الإنشاء لتجهّز إلى السلطان، فنقلت منها ما صورته:
«دار الذهب بمجموعها وإسطبلاتها ستمائة ألف درهم. دار الزّمرّد مائتا ألف وسبعون ألف درهم. دار الزّردكاش [وما معها «2» ] مائتا ألف وعشرون ألف درهم.
الدار التى بجوار جامعه «3» بدمشق مائة ألف درهم. الحمّام التى بجوار جامعه مائة ألف درهم.
خان العرصة مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم. إسطبل حكر السماق عشرون ألف درهم. الطبقة التى بجوار حمّام ابن يمن أربعة آلاف وخمسمائة درهم. قيسارية المرحّلين «4» مائتا ألف وخمسون ألف درهم. الفرن والحوض بالقنوات من غير أرض عشرة آلاف درهم. حوانيت التعديل ثمانية «5» آلاف درهم. الأهراء من(9/154)
إسطبل بهادر ص عشرون «1» ألف درهم. خان البيض وحوانيته مائة ألف وعشرة آلاف درهم. حوانيت باب الفرج خمسة وأربعون ألف درهم. حمّام القابون عشرة «2» آلاف درهم. حمّام العمرىّ ستة آلاف درهم. الدهشة «3» والحمّام مائتا ألف وخمسون ألف درهم. بستان العادل مائة ألف وثلاثون «4» ألف درهم. بستان النّجيبىّ والحمّام والفرن مائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم. [بستان «5» الحلبى بحرستا «6» أربعون ألف درهم] . الحدائق بها مائة ألف وخمسة «7» وستون ألف درهم. بستان القوصىّ «8» بها ستون ألف درهم. بستان الدردوزية «9» خمسون ألف درهم. الجنينة المعروفة بالحمّام سبعة آلاف درهم. بستان الرزاز «10» خمسة وثمانون «11» ألف درهم. الجنينة وبستان غيث ثمانية «12» آلاف درهم. المزرعة المعروفة بتهامة بها (يعنى دمشق) ستون ألف درهم. مزرعة الركن النوبىّ «13» والعبرى مائة ألف درهم. الحصّة بالدفوف القبلية بكفر بطنا «14» ، ثلثاها ثلاثون ألف درهم. بستان السفلاطونى «15» خمسة وسبعون ألف درهم. الفاتكيات والرشيدى والكروم بزملكا «16» مائة ألف درهم وثمانون ألف(9/155)
درهم. مزرعة «1» المربع بقابون «2» مائة ألف وعشرة آلاف درهم. الحصّة من غراس غيضة «3» الأعجام عشرون ألف درهم. نصف الضيعة «4» المعروفة بزرنية «5» خمسة آلاف درهم. غراس قائم فى جوار دار الجالق ألفا درهم. النصف من خراج «6» الهامة ثلاثون ألف درهم. الحوانيت التى قبالة الحمّام «7» مائة ألف درهم. بيدر تبدين «8» ثلاثة وأربعون ألف درهم. الإصطبلات التى عند الجامع ثلاثون ألف درهم.
أرض خارج باب الفرج ستة عشر ألف درهم. القصر وما معه خمسمائة ألف درهم وخمسون ألف درهم. ربع ضيعة القصرين «9» ثمانية «10» وعشرون ألف درهم. نصف بوّابة مائة وثمانون ألف درهم. العلانية بعيون الفارسنا «11» ثمانون ألف درهم. حصّة دير ابن عصرون خمسة وسبعون ألف درهم. حصّة دويرة الكسوة «12» ألف وخمسمائة درهم. الدّير الأبيض خمسون ألف درهم. العديل «13» مائة ألف وثلاثون ألف درهم.
حوانيت أيضا داخل باب الفرج أربعون ألف درهم. التنورية اثنان وعشرون ألف درهم.(9/156)
الأملاك التى له بحمص: الحمّام خمسة وعشرون ألف درهم. الحوانيت سبعة آلاف درهم. السريع «1» ستون ألف درهم. الطاحون الراكبة على العاصى ثلاثون ألف درهم. دور قبحق «2» خمسة وعشرون ألف درهم. الخان مائة ألف درهم.
الحمّام الملاصقة للخان ستون ألف درهم. الحوش الملاصق له ألف «3» وخمسمائة درهم.
المناح ثلاثة آلاف درهم. الحوش الملاصق للخندق ثلاثة آلاف درهم. حوانيت العريضة «4» ثلاثة آلاف درهم. الأراضى المحتكرة سبعة آلاف درهم.
والتى فى بيروت: الخان مائة وخمسة وثلاثون ألف درهم. الحوانيت والفرن مائة وعشرون ألف درهم. المصبنة «5» بآلاتها عشرة آلاف درهم. الحمّام عشرون ألف درهم. المسلخ عشرة آلاف درهم. الطاحون خمسة آلاف درهم. قرية زلايا «6» خمسة وأربعون ألف درهم.
القرى التى بالبقاع: مرج الصفا سبعون «7» ألف درهم. التلّ الأخضر مائة ألف وثمانون ألف درهم. المباركة خمسة وسبعون ألف درهم. المسعودية «8» مائة «9» ألف درهم.
الضّياع [الثلاث «10» ] المعروفة بالجوهرى أربعمائة ألف وسبعون ألف درهم.
السعادة أربعمائة ألف درهم. أبروطيا ستون ألف درهم. نصف بيرود «11» والصالحية(9/157)
والحوانيت أربعمائة ألف درهم. المباركة والناصرية مائة ألف درهم. رأس «1» الماء سبعة وخمسون ألف درهم. حصّة من خربة روق «2» اثنان وعشرون ألف درهم.
رأس الماء والدلى بمزارعها خمسمائة «3» ألف درهم. حمام صرخد خمسة «4» وسبعون ألف درهم. طاحون الغور «5» ثلاثون ألف درهم. السالمية ثلاثة «6» آلاف درهم.
الأملاك بقارا «7» : الحمام خمسة وعشرون ألف درهم. الهرى «8» ستمائة ألف درهم.
الصالحية والطاحون والأراضى مائتا «9» ألف درهم وخمسة وعشرون ألف درهم.
راسليها «10» ومزارعها مائة وخمسة وعشرون ألف درهم. القضيبة «11» أربعون ألف درهم.
القريتان المعروفة إحداهما بالمزرعة، والأخرى بالبينسية «12» تسعون ألف درهم؛ هذا جميعه خارج عما له من الأملاك على وجوه البر والأوقاف فى صفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة «13» والديار المصرية. وعمّر بصفد بيمارستانا مليحا. وعمّر بالقدس رباطا وحمامين وقياسر. وله بجلجولية «14» خان مليح، وله بالقاهرة دار «15» عظيمة بالكافورى» .(9/158)
قلت: هى دار عبد الباسط بن خليل الآن. وحمّام وغير ذلك من الأملاك.
انتهى كلام الشيخ صلاح الدين باختصار.
قلت: وكان لتغيّر السلطان الملك الناصر على تنكز هذا أسباب، منها: أنه كتب يستأذنه فى سفره إلى ناحية جعبر «1» فمنعه السلطان من ذلك لما بتلك البلاد من الغلاء، فألحّ فى الطلب، والجواب يرد عليه [بمنعه «2» ] حتى حنق تنكز وقال: والله لقد تغيّر عقل أستاذنا وصار يسمع من الصبيان الذين حوله، والله لو سمع منى لكنت أشرت عليه بأن يقيم أحدا من أولاده فى السلطنة وأقوم أنا بتدبير ملكه، ويبقى هو مستريحا، فكتب بذلك جركتمر إلى السلطان، وكان السلطان يتخيّل بدون هذا فأثّر «3» هذا فى نفسه، ثم اتفق أن أرتنا «4» نائب بلاد الروم بعث رسولا إلى السلطان بكتابه، ولم يكتب معه كتابا لتنكز، فحنق تنكز لعدم مكاتبته وردّ رسوله من دمشق، فكتب أرتنا يعرّف السلطان بذلك، وسأل ألّا يطّلع تنكز على ما بينه وبين السلطان. ورماه بأمور أوجبت شدّة تغيّر السلطان على تنكز، ثم اتفق أيضا غضب تنكز على جماعة من مماليكه، فضربهم وسجنهم بالكرك [والشّوبك «5» ] فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه إلى الأمير قوصون يتشفع به فى الإفراج عنهم من سجن الكرك، فكلّم قوصون السلطان فى ذلك فكتب السلطان إلى تنكز يشفع فى جوبان فلم يجب عن أمره بشىء، فكتب إليه ثانيا وثالثا فلم يجبه، فاشتدّ غضب السلطان حتّى قال للأمراء: ما تقولون فى هذا الرجل؟ هو يشفع عندى فى قاتل أخى فقبلت شفاعته،(9/159)
وأخرجته من السجن وسيّرته إليه يعنى (طشتمر أخا بتخاص) ، وأنا أشفع فى مملوكه ما يقبل شفاعتى! وكتب السلطان لنائب الشّوبك بالإفراج عن جوبان المذكور فأفرج عنه فكان هذا وما أشبهه الذي غيّر خاطر السلطان الملك الناصر على مملوكه تنكز. انتهى.
ثم اشتغل السلطان بموت أعزّ أولاده الأمير آنوك فى يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الآخر بعد مرض طويل، ودفن بتربة «1» الناصرية ببين القصرين، وكان لموته يوم مهول، نزل فى جنازتة جميع الأمراء، وفعلت والدته خوند طغاى خيرات كثيرة وباعت ثيابه وتصدّقت بجميع ما تحصّل منها.
ثم إنّ السلطان ركب فى هذه السنة، وهى سنة إحدى وأربعين إلى بركة «2» الحبش خارج القاهرة، وصحبته عدّة من المهندسين وأمر أن يحفر خليج «3» من البحر إلى حائط «4» الرّصد، ويحفر فى وسط الشرف المعروف بالرصد عشر آبار،(9/160)
كلّ بئر نحو أربعين ذراعا تركّب عليها السواقى، حتى يجرى الماء من النيل إلى القناطر التى تحمل الماء إلى القلعة ليكثر بها الماء، وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل، فشقّ الخليج من بحرى رباط «1» الآثار ومرّوا به فى وسط بستان «2» الصاحب تاج الدين ابن حنّا المعروف بالمعشوق، وهدمت عدّة بيوت كانت هناك، وجعل عمق الخليج أربع قصبات، وجمعت عدّة من الحجّارين للعمل، وكان مهمّا عظيما. ثم أمر السلطان بتجديد جامع «3» راشدة فجدّد وكان قد تهدّم غالب جدره.
ثم ابتدأ توعّك السلطان ومرص مرض موته، فلمّا كان يوم الأربعاء سادس ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة قوى عليه الإسهال، ومنع الأمراء من الدخول عليه فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج إليهم السلام مع أمير چاندار عن(9/161)
السلطان فانصرفوا. وقد كثر الكلام، ثم فى يوم الجمعة ثامنه «1» خفّ عن السلطان الإسهال، فجلس للخدمة وطلع الأمراء إلى الخدمة ووجه السلطان متغيّر، فلما انقضت الخدمة نودى بزينة القاهرة ومصر، وجمعت أصحاب الملاهى بالقلعة وجمع الخبز الذي بالأسواق وعمل ألف قميص وتصدّق بذلك كلّه مع جملة من المال، وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سرورا بعافية السلطان، وعمل الأمير ملكتمر الحجازىّ الناصرىّ نفطا كثيرا بسوق الخيل تحت القلعة والسلطان ينظره، واجتمع [الناس «2» ] لرؤيته من كلّ جهة وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال ولعبوا بالرماح تحت القلعة، وخرجت الركابة والكلابزيّة وطائفة الحجارين والعتّالين إلى سوق الخيل للعب واللهو، وداروا [على «3» ] بيوت الأمراء وأخذوا الخلع منهم، وكذلك الطبلكية «4» فحصل لهم شىء كثير جدّا، بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه «5» ثمانين ألف درهم. ولما كان ليلة العيد وهى ليلة الأحد عاشر ذى الحجة، وأصبح نهار الأحد اجتمع الأمراء بالقلعة وجلسوا ينتظرون السلطان حتى يخرج لصلاة العيد، وقد أجمع رأى السلطان على عدم صلاة العيد لعود الإسهال عليه، فإنه كان انتكس فى الليلة المذكورة، فما زال به الأمير قوصون والأمير بشتك حتى ركب ونزل إلى الميدان، وأمر قاضى القضاة عز الدين [عبد العزيز «6» ] ابن جماعة أن يوجز فى خطبته، فعند ما صلّى السلطان وجلس لسماع الخطبة محرّك باطنه، فقام وركب وطلع إلى القصر وأقام يومه به، وبينا هو فى ذلك قدم الخبر من حلب بصحّة صلح الشيخ حسن صاحب العراق مع أولاد صاحب الروم، فانزعج السلطان لذلك انزعاجا شديدا واضطرب مزاجه فحصل له إسهال دموىّ،(9/162)
وأصبح يوم الاثنين وقد امتنع الناس من الاجتماع به، فأشاع الأمير قوصون والأمير بشتك أنّ السلطان قد أعفى أجناد الحلقة من التجريد إلى تبريز ونودى بذلك، وفرح الناس بذلك فرحا زائدا، إلا أنه انتشر بين الناس أنّ السلطان قد انتكس فساءهم ذلك.
ثم أخذ الأمراء فى إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة [حيث سكنهم «1» ] إلى القاهرة، فارتجّت القاهرة ومادت بأهلها واستعدّ الأمراء لا سيما قوصون وبشتك، فإن كلّا منهما احترز من الآخر وجمع عليه أصحابه. وأكثروا من شراء الأزيار والدّنان وملئوها ماء، وأخرجوا القرب والرّوايا والأحواض وحملوا إليهم «2» البقسماط «3» والرقاق والدقيق والقمح والشعير خوفا من وقوع الفتنة، ومحاصرة القلعة، فكان يوما مهولا، ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق ونهبوا الحوانيت التى تحت الفلعة والتى بالصليبة «4» .
هذا وقد تنكّر ما بين قوصون وبشتك واختلفا حتى كادت الفتنة تقوم بينهما، وبلغ ذلك السلطان فازداد مرضا على مرضه، وكثر تأوّهه وتقلّبه من جنب إلى جنب، وتهوّس بذكر قوصون وبشتك نهاره. ثم استدعى بهما فتناقشا «5» بين يديه(9/163)
فى الكلام فأغمى عليه وقاما من عنده على ما هما عليه، فاجتمع يوم الاثنين ثامن عشره الأمير چنكلى والأمير آل ملك والأمير سنجر الجاولى وبيبرس الأحمدى، وهم أكابر أمراء المشورة فيما يدبرونه، حتى اجتمعوا على أن يبعث كلّ منهم مملوكه إلى قوصون وبشتك ليأخذا لهم الإذن فى الدخول على السلطان، فأخذا لهم الإذن فدخلوا وجلسوا عند السلطان، فقال الجاولى وآل ملك للسلطان كلاما، حاصله أن يعهد بالملك إلى أحد أولاده فأجاب إلى ذلك، وطلب ولده أبا بكر وطلب قوصون وبشتك وأصلح بينهما، ثم جعل ابنه أبا بكر سلطانا بعده وأوصاه بالأمراء وأوصى الأمراء به، وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك، وحذّرهم من إقامته سلطانا. وجعل قوصون وبشتك وصييه، وإليهما تدبير أمر ابنه أبى بكر وحلّفهما، ثم حلّف الأمراء والخاصّكيّة وأكّد على ولده فى الوصية بالأمراء، وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام، وهم: طيبغا حاجى والجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء عن السلطان فبات السلطان ليلة الثلاثاء وقد نحلت قوته، وأخذ فى النزع يوم الأربعاء فاشتدّ عليه كرب الموت، حتى فارق الدنيا فى أوّل ليلة الخميس حادى عشرين ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام، فإنّ مولده كان فى الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرّم سنة أربع وثمانين وستمائة.
وأمه بنت سكتاى «1» بن قرا لاچين «2» بن جفتاى «3» التّتارىّ. وكان قدوم سكتاى مع أخيه قرمچى من بلاد التتار إلى مصر فى سنة خمس وسبعين وستمائة. ثم حمل السلطان(9/164)
الملك الناصر ميّتا فى محفّة من القلعة بعد أن رسم بغلق الأسواق، ونزلوا به من وراء السور إلى باب النصر، ومعه من أكابر الأمراء بشتك وملكتمر الحجازىّ وأيدغمش أمير آخور، ودخلوا به من باب النصر إلى المدرسة «1» المنصوريّة ببين القصرين، فغسّل وحنّط وكفّن من البيمارستان «2» المنصورىّ، وقد اجتمع الفقهاء والقرّاء والأعيان ودام القرّاء على قبره أيّاما.
وأمّا مدّة سلطنته على مصر فقد تقدّم أنّه تسلطن ثلاث مرار، فأوّل سلطنته كانت بعد قتل أخيه الأشرف خليل بن قلاوون فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة فى المحرّم، وعمره تسع سنين وخلع بالملك العادل كتبغا المنصورىّ فى المحرّم سنة أربع وتسعين، فكانت سلطنته هذه المرّة دون السنة، ثم توجّه إلى الكرك إلى أن أعيد إلى السلطنة بعد قتل المنصور حسام الدّين لاچين فى سنة ثمان «3» وتسعين وستمائة، فأقام فى الملك، والأمر إلى سلّار وبيبرس الجاشنكير إلى سنة ثمان وسبعمائة، وخلع نفسه وتوجّه إلى الكرك وتسلطن بيبرس الجاشنكير، وكانت مدته فى هذه المرّة الثانية نحو التسع سنين، ثم خلع بيبرس وعاد الملك الناصر إلى السلطنة ثالث مرّة فى شوّال سنة تسع وسبعمائة، واستبدّ من يوم ذاك بالأمر من غير معارض إلى أن مات فى التاريخ المذكور. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أصل ترجمته من هذا الكتاب مفصّلا.
فكانت مدّة تحكّمه فى هذه المرّة الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة «4» وعشرين يوما، وهو أطول ملوك الترك مدّة فى السلطنة، فإنّ أوّل سلطنته من سنة ثلاث(9/165)
وتسعين وستمائة إلى أن مات نحوا من ثمان وأربعين سنة، بما فيها من أيام خلعه، ولم يقع ذلك لأحد من ملوك الترك بالديار المصريّة، فهو أطول الملوك زمانا وأعظمهم مهابة وأغزرهم عقلا وأحسنهم سياسة وأكثرهم دهاء وأجودهم تدبيرا وأقواهم بطشا وشجاعة وأحذقهم تنفيذا؛ مرّت به التجارب، وقاسى الخطوب، وباشر الحروب، وتقلّب مع الدهر ألوانا؛ نشأ فى الملك والسعادة، وله فى ذلك الفخر والسّيادة خليقا للملك والسلطنة، فهو سلطان وابن سلطان وأخو سلطان ووالد ثمانى سلاطين من صلبه، والملك فى ذرّيته وأحفاده وعقبه ومماليكه ومماليك مماليكه إلى يومنا هذا، بل إلى أن تنقرض الدولة التركيّة، فهو أجلّ ملوك الترك وأعظمها بلا مدافعة، ومن ولى السلطنة من بعده بالنسبة إليه كآحاد أعيان أمرائه.
وكان متجمّلا يقتنى من كلّ شىء أحسنه. أكثر فى سلطنته من شراء المماليك والجوارى، وطلب التجّار وبذل لهم الأموال، ووصف لهم حلى المماليك والجوارى.
وسيّرهم إلى بلاد أزبك خان وبلاد الجاركس «1» والروم، وكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له أغلى القيم فيهم، فكان يأخذهم «2» ويحسن تربيتهم وينعم عليهم بالملابس، الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم، فأكثر التجار من جلب المماليك، وشاع فى الأقطار إحسان السلطان إليهم. فأعطى المغل أولادهم وأقاربهم للتجّار رغبة فى السعادة، فبلغ ثمن المملوك على التاجر أربعين ألف درهم، وهذا المبلغ جملة كثيرة بحساب يومنا هذا. وكان الملك الناصر يدفع للتاجر فى المملوك الواحد مائة ألف درهم وما دونها.(9/166)
وكان مشغوفا أيضا بالخيل فجلبت له من البلاد، لا سيّما خيول العرب آل مهنّا وآل فضل، فإنه كان يقدّمها على غيرها، ولهذا كان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب فى خيولهم، فكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوىّ أخذوها منه بأغلى القيمة، وأخذوا من السلطان مثلى ما دفعوا فيها. وكان له فى كلّ طائفة من طوائف العرب عين يدلّه على ما عندهم من الخيل من الفرس السابق أو الأصيل، بل ربّما ذكروا له أصل بعضها لعدّة جدود، حتّى يأخذها بأكثر مما كان فى نفس صاحبها من الثمن، فتمكّنت منه بذلك العربان، ونالوا المنزلة العظيمة والسعادات الكثيرة. وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية فى الجودة، وما عدا ذلك إذا جلبت إليه فرّقها. وكان له معرفة تامّة بالخيل وأنسابها، ويذكر من أحضرها له فى وقتها، وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير آخور: الفرس الفلانية التى أحضرها فلان واشتريتها منه بكذا وكذا. وكان إذا جاءه شىء منها عرضها وقلّبها بنفسه، فإن أعجبته دفع فيها من العشرة آلاف إلى أن اشترى بنت الكرماء بمائتى «1» ألف درهم، وهذا شىء لم يقع لأحد من قبله ولا من بعده، فإنّ المائتى ألف درهم كانت يوم ذاك بعشرة آلاف دينار. وأمّا ما اشتراه بمائة ألف وسبعين ألفا وستين ألفا وما دونها فكثير. وأقطع آل مهنّا وآل فضل بسبب ذلك عدّة إقطاعات، فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئا قدم عليه فى معنى أنه يدلّه على فرس عند فلان ويعظّم أمره، فيكتب من فوره بطلب تلك الفرس فيشتدّ صاحبها ويمتنع [من قودها «2» ] ثم يقترح ما شاء، ولا يزال حتى يبلغ غرضه من السلطان فى ثمن فرسه.(9/167)
وهو أوّل من اتّخذ من ملوك مصر ديوانا للإسطبل السلطانىّ وعمل له ناظرا وشهودا وكتّابا لضبط أسماء الخيل، وأوقات ورودها وأسماء أربابها، ومبلغ أثمانها ومعرفة سوّاسها وغير ذلك من أحوالها، وكان لا يزال يتفقّد الخيول، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنّه بعث به مع أحد الأوجاقية الى الجشّار «1» بعد ما يحمل عليها حصانا يختاره، ويأمر بضبط تاريخه، فتوالدت عنده خيول كثيرة، حتى أعنته عن جلب ما سواها. ومع هذا كان يرغب فى الفرس المجلوب إليه أكثر ممّا توالد عنده، فعظم العرب فى أيامه لجلب الخيل وشمل الغنى عامّتهم، وكانوا إذا دخلوا إلى مشاتيهم أو إلى مصايفهم يخرجون بالحلى والحلل والأموال الكثيرة، ولبسوا فى أيامه الحرير الأطلس المعدنىّ بالطّرز الزّركش والشاشات المرقومة، ولبسوا الخلع البابلىّ والإسكندرىّ المطرّز بالذهب، وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصّع وعمل لهم العناتر «2» بالأكر الذهب والأساور المرصّعة بالجوهر واللؤلؤ، وبعث لهنّ بالقماش السكندرى وعمل لهنّ البراقع الزّركش، ولم يكن لبسهم قبل ذلك إلا الخشن من الثياب على عادة العرب. وأجلّ ما لبس مهنّا أميرهم أيام الملك المنصور لاچين طرد وحش، لمودّة كانت بين لاچين وبين مهنّا بن عيسى، فأنكر الأمراء ذلك على الملك المنصور لاچين فاعتذر لهم بتقدّم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أن يكافئه على ذلك.
وكان الملك الناصر فى جشاره «3» ثلاثة آلاف فرس، يعرض فى كلّ سنة نتاجها عليه فيسلّمها للرّكّابين من العربان [لرياضتها «4» ] ثم يفرّق أكثرها على الأمراء(9/168)
الخاصّكيّة، ويفرح بذلك ويقول: هذه فلانة بنت فلانة أو فلان بن فلان، عمرها كذا، وشراء أمّها بكذا وشراء أبيها بكذا.
وكان يرسم للأمراء فى كلّ سنة أن يضمّروا الخيول، ويرتّب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس يضمّرها. ثم يرسم لأمير آخور أن يضمّر خيلا من غير أن يفهم الأمراء أنّها للسلطان، بل يشيع أنّها له، ويرسلها للسّباق مع خيل الأمراء فى كلّ سنة. وكان للأمير قطلوبغا الفخرىّ حصان أدهم، سبق خيل مصر كلّها ثلاث سنين متوالية، فأرسل السلطان إلى مهنّا وأولاده أن يحضروا له الخيل للسّباق، فأحضروا له عدّة وضمّروا، فسبقهم حصان الفخرىّ الأدهم.
ثم بعد ذلك ركب السلطان إلى ميدان «1» القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبّة النصر، وهو أماكن الترب الآن، وأرسل الخيل للسّبق، وعدّتها دائما فى كلّ سنة ما ينيف على مائة وخمسين فرسا. وكان مهنّا بعث للسلطان حجرة شهباء للسّباق على أنها إن سبقت كانت للسلطان وإن سبقت ردّت إليه بشرط ألّا يركبها للسّباق إلا بدويّها الذي قادها إلى مصر. فلمّا ركب السلطان والأمراء على العادة ووقفوا ومعهم أولاد مهنا [بالميدان «2» ] وأرسلت الخيول من بركة الحاج كما جرت به العادة، وركب البدوىّ حجرة مهنّا الشهباء عريا بغير سرج، ولبس قميصا ولاطئة «3» فوق رأسه.
وأقبلت الخيول يتبع بعضها بعضا والشهباء قدّام الجميع، وبعدها على القرب منها حصان الأمير أيدغمشى أمير آخور يعرف بهلال، فلمّا وقف البدوىّ بالشهباء بين يدى السلطان، صاح بصوت ملأ الخافقين: السعادة لك اليوم يا مهنّا، لاشقيت! وألقى بنفسه إلى الأرض من شدّة التعب فقدّمها مهنّا للسلطان، فكان هذا دأب الملك الناصر فى كلّ سنة من هذا الشأن وغيره.(9/169)
قلت: وترك الملك الناصر فى جشاره ثلاثة آلاف فرس، وترك بالإسطبلات السلطانية أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس، ما بين حجورة ومهارة وكحولة «1» وأكاديش، وترك من الهجن الأصائل والنّياق نيّفا على خمسة آلاف سوى أتباعها.
وأما الجمال النّفر والبغال فكثير.
وكان الملك الناصر أيضا شغوفا بالصيد، فلم يدع أرضا تعرف بالصيد إلّا وأقام بها صيّادين مقيمين بالبريّة أوان الصيد، وجلب طيور الجوارح من الصّقورة والشواهين والسّناقر والبزاة، حتى كثرت السناقر فى أيامه. وصار كلّ أمير عنده منها عشرة سناقر وأقلّ وأكثر. وجعل [له «2» ] البازداريّة «3» والحونداريّة «4» وحرّاس الطير، وما هو موجود بعضه الآن، وأقطعهم الإقطاعات الجليلة، وأجرى لهم الرواتب من اللّحم والعليق والكساوى وغير ذلك، ولم يكن ذلك قبله لملك، فترك بعد موته مائة وعشرين سنقرا، ولم يعهد بمثل هذا لملك قبله، بل كان لوالده الملك المنصور قلاوون سنقر واحد، وكان المنصور إذا ركب فى المركب للصيد كان بازداره أيضا راكبا والسنقر على يده. وترك الملك الناصر من الصّقورة والشواهين ونحوها مالا ينحصر كثرة. وترك ثمانين جوقة كلاب بكلا بزيّتها، وكان أخلى لها موضعا بالجبل.
وعنى أيضا بجمع الأغنام وأقام لها خولة، وكان يبعث فى كلّ سنة الأمير آقبغا عبد الواحد فى عدّة من المماليك لكشفها، فيكشف المراحات من قوص إلى الجيزة،(9/170)
ويأخذ منها ما يختاره من الأغنام، وجرّده مرّة إلى عيذاب «1» والنّوبة لجلب الأغنام.
ثم عمل لها حوشا بقلعة الجبل؛ وقد ذكرنا ذلك فى وقته، وأقام لها خولة نصارى من الأسرى.
وعنى أيضا بالإوزّ وأقام لها عدّة من الخدّام وجعل لها جانبا بحوش الغنم.
ولما مات ترك ثلاثين ألف رأس من الغنم سوى أتباعها، فاقتدى به الأمراء وصارت لهم الأغنام العظيمة فى غالب أرض مصر. وكان كثير العناية بأرباب وظائفه وحواشيه من أمراء آخوريّة والأوجاقية وغلمان الإسطبل والبازدارية والفرّاشين والخولة والطبّاخين. فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مما رتبه له فى كلّ سنة مع أمير اخور وأوجاقى وسايس وركبدار، ويترقّب عودهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم، فإن شحّ الأمير فى عطاياتهم تنكّر عليه وبكّته بين الأمراء ووبّخه، وكان قرّر أن يكون الأمير آخور بينهم بقسمين ومن عداه بقسم واحد. وكان أيضا إذا بعث لأمير بطير مع أمير شكار أو واحد من البازداريّة يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كاملة بحياصة ذهب وكلفتاه زركش، فيعود بها ويقبّل الأرض بين يديه فيستدنيه ويفتّش خلعته.
وكانت عادته أن يبعث فى يوم النحر أغنام الضحايا مع الأبقار والنّوق إلى الأمراء، فبعث مرّة مع بعض خولة النصارى إلى الأمير يلبغا «2» حارس طيره ثلاثة كباش فأعطاه عشرة «3» دراهم فلوسا وعاد إلى السلطان، فقال له: وأين خلعتك؟ فطرح الفلوس بين يديه وعرّفه بقدرها، فغضب وأمر بعض الخدّام أن يسير بالخولىّ إلى عنده ويوبّخه ويأمره أن يلبسه خلعة طرد وحش. وكانت حرمته ومهابته وافرة قد(9/171)
تجاوزت الحدّ، حتّى إنّ الأمراء كانوا إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدّث مع رفيقه، ولا يلتفت نحوه خوفا من مراقبة السلطان لهم، وكان لا يجسر أحد أن يجتمع مع خشداشه فى نزهة ولا غيرها. وكان له المواقف المشهودة، منها:
لمّا لقى غازان على فرسخ من حمص «1» ، وقد تقدّم ذكر ذلك. ثم كانت له الوقعة العظيمة مع التتار أيضا بشقحب «2» ، وأعزّ الله تعالى فيها الإسلام وأهله؛ ودخلت عساكره بلاد سيس «3» ، وقرّر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم فى السنة بعد ما غزاها ثلاث مرار. وغزا ملطية «4» وأخذها وجعل عليها الخراج، ومنعوه مرّة فبعث العساكر إليها حتى أطاعوه. وأخذ مدينة آياس «5» وخرّب البرج الأطلس وسبعة حصون وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد. وأخذ جزيرة أرواد «6» من الفرنج. وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة «7» وحديثة «8» فى طلب مهنّا. وجرّد إلى مكّة والمدينة العساكر لتمهيدها «9» غير مرّة، ومنع أهلها من حمل السلاح بها. وعمّر قلعة جعبر «10» بعد خرابها، وأجرى(9/172)
نهر حلب إلى المدينة. وخطب له بماردين «1» وجبال الأكراد وحصن «2» كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق، وهو بكرسىّ مصر. وأتته هدية ملوك الغرب والهند والصين والحبشة والتّكرور «3» والروم والفرنج والتّرك.
وكان، رحمه الله، على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنّه أطلق لسانه بكلام فاحش فى شدّة غضبه ولا فى انبساطه، مع عظيم ملكه وطول مدّته فى السلطنة وكثرة حواشيه وخدمه. وكان يدعو الأمراء والأعيان وأرباب الوظائف بأحسن أسمائهم وأجلّ ألقابهم، وكان إذا غضب على أحد لا يظهر له ذلك، وكان مع هذه الشهامة وحبّ التجمّل مقتصدا فى ملبسه، يلبس كثيرا «4» البعلبكىّ والنّصافى المتوسط، ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر. ويركب بسرج مسقّط بفضة التى زنتها دون المائة درهم، وعباءة فرسه إمّا تدمرىّ أو شامىّ، ليس فيها حرير.
وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، ويعرّف بهم الأمراء خشداشيتهم فيتعجبون الأمراء من ذلك، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم واحد منهم ولا وظيفته عنده، ولا مبلغ جامكيّته، هذا مع كثرتهم. وكان أيضا يعرف غلمانه وحاشيته على كثرة عددهم، ولا يفوته معرفة أحد من الكتّاب، فكان إذا أراد أن يولّى أحدا مكانا أو يرتّبه فى وظيفة استدعى جميع الكتّاب بين يديه(9/173)
واختار منهم واحدا أو أكثر من واحد من غير أن يراجع فيهم، ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف. وكان إذا تغيّر على أحد من أمرائه أو كتّابه أسرّ ذلك فى نفسه، وتروّى فى ذلك مدة طويلة وهو ينتظر له ذنبا يأخذه به، كما وقع له فى أمر كريم الدين الكبير وأرغون النائب وغيرهم، وهو يتأنّى ولا يعجّل، حتى لا ينسب إلى ظلم، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر، أو وقع فى أيامه خراب أو خلل، ويحرص على حسن القالة فيه.
وكان يستبدّ بأمور مملكته وينفرد بالأحكام، حتى إنه أبطل نيابة السلطنة من ديار مصر ليستقلّ هو بأعباء الدولة وحده، وكان يكره أن يقتدى بمن تقدّمه من الملوك، فمن أنشأه «1» من الملوك كائنا من كان، ولا يدخلهم المشورة حتى ولا بكتمر الساقى ولا قوصون ولا بشتك وغيرهم، بل كان لا يقتدى إلّا بالقدماء من الأمراء.
وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه ويبعد من يشربه من الأمراء عنه.
وكان فى الجود والكرم والإفضال غاية لا تدرك خارجة عن الحدّ، وهب فى يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهبا، وأعطى فى يوم واحد لأربعة من مماليكه وهم الأمير ألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وملكتمر الحجازىّ وقوصون مائتى ألف دينار، ولم يزل مستمرّ العطاء لخاصّكيّته ومماليكه ما بين عشرة آلاف دينار وأكثر منها وأقلّ، ونحوها من الجوهر واللآلئ. وبذل فى أثمان الخيل والمماليك ما لم يسمع بمثله. وجمع من المال والجوهر والأحجار ما لم يجمعه ملك من ملوك الدولة التركيّة قبله مع فرط كرمه.(9/174)
قلت: كلّ ذلك لحسن تدبيره وعظم معرفته، فإنّه كان يدرى مواطن استجناء المال فيستجنيه منها، ويعرف كيف يصرفه فى محلّه وأغراضه فيصرفه. ولم يشهر عنه أنه ولى قاض فى أيامه برشوة، ولا محتسب ولا وال، بل كان هو يبذل لهم الأموال ويحرّضهم على عمل الحق، وتعظيم الشرع الشريف، وهذا بخلاف من جاء بعده، فإن غالب ملوك مصر ممن ملك مصر بعده يقتدى بشخص من أرباب وظائفه، فيصير ذلك الرجل هو السلطان حقيقة والسلطان من بعض من يتصرّف بأوامره، وكلّ ذلك لقصر الإدراك وعدم المعرفة، فلذلك يتركون الأموال الجليلة والأسباب التى يحصل منها الألوف المؤلّفة، ويلتفتون إلى هذا النّزر اليسير القبيح الشنيع الذي لا يرتضيه من له أدنى همّة ومروءة، وهو الأخذ من قضاة الشرع عند ولايتهم المناصب وولاة الحسبة والشّرطة، وذلك كلّه وإن تكرر فى السنة فهو شىء قليل جدّا، يتعوّض من أدنى الجهات التى لا يؤبه إليها من أعمال مصر، فلو وقع ذلك لكان أحسن فى حقّ الرعيّة وأبرأ لذمّة السلطان والمسلمين من ولاية قضاة الشرع بالرشوة، وما يقع بسبب ذلك فى الأنكحة والعقود والأحكام وما أشبه ذلك. انتهى.
وكان الملك الناصر يرغب فى أصناف الجوهر، فجلبتها إليه التّجار من الأقطار.
وشغف بالجوارى السّرارى، فحاز منهن كلّ بديعة الجمال، وجهّز له إحدى عشرة ابنة بالجهاز العظيم، فكان أولهنّ «1» جهازا بثمانماثة ألف دينار، [منها «2» ] قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلّق به مائة ألف دينار، وبقيّة ذلك ما بين جواهر ولآلئ وأوانى ونحو ذلك، وزوّجهنّ «3» لمماليكه مثل الأمير قوصون وبشتك وألطنبغا الماردانىّ(9/175)
وطغاى تمر وعمر بن أرغون النائب وغيرهم. وجهز جماعة من سراريه وجواريه ومن تحسن بخاطره، كلّ واحدة بقريب ذلك وبمثله وأكثر منه. واستجدّ النساء فى زمانه الطّرحة، كلّ طرحة بعشرة آلاف دينار وما دون ذلك إلى خمسة آلاف دينار، والفرجيّات بمثل ذلك. واستجدّ النساء فى زمانه الخلاخيل الذهب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذهب المرصّعة والأزر الحرير وغير ذلك.
وكان الملك الناصر كثير الدهاء مع ملوك الأطراف يهاديهم ويستجلبهم إلى طاعته بالهدايا والتّحف، حتى يذعنوا له فيستعملهم فى حوائجه ويأخذ بعضهم ببعض، وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداويّة «1» لكثرة بذله لهم الأموال. وكان يحبّ العمارة فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمرّ العمارة، فحسب تقدير مصروفه فجاء فى كلّ يوم مدّة هذه السنين ثمانية آلاف درهم، قوّمّ ذلك بطالة على عمل والسفر والحضر والعيد والجمعة. وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم،(9/176)
فإذا رأى منها ما لا يعجبه هدمها كلّها وجدّدها على ما يختاره. ولم يكن من قبله من الملوك فى الإنفاق على العمائر كذلك. وقد حكى عن والده الملك المنصور قلاوون أنه أراد أن يبنى مصطبة عليها رفرف تقيه حرّ الشمس إذا جلس عليها، فكتب له الشجاعىّ تقدير مصروفها أربعة آلاف درهم، فتناول المنصور الورقة من يد الشجاعىّ ومزّقها وقال: أقعد فى مقعد بأربعة آلاف درهم، انصبوا لى صيوانا إذا نزلت على المصطبة. ومع هذا كلّه خلّف الملك الناصر فى بيت المال من الذهب والقماش أضعاف ما خلّفه المنصور قلاوون. وكانت المظالم أيام الملك المنصور قلاوون أكثر مما كانت فى أيام الناصر هذا.
قلت: عود وانعطاف إلى ما كنّا فيه من أنّ الأصل فى تدبير الملك وتحصيل الأموال المعرفة والذكاء وجودة التنفيذ. انتهى.
قلت: والملك المنصور قلاوون كان أسمح من الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ وأقلّ ظلما. والحقّ يقال ليس الظاهر والمنصور من خيل هذا الميدان، ولا بينهما وبين الملك الناصر هذا نسبة فى أمر من الأمور. انتهى.
هذا على أن الملك الناصر لمّا عمل الرّوك الناصرىّ أبطل مظالم كثيرة من الضمانات والمكوس وغيرها حسب ما ذكرناه فى وقته، ومع هذا لم يحسن عليه محسن. وكان الملك الناصر واسع النفس على الطعام يعمل فى سماطه فى كلّ يوم الحلاوات والمآكل المفتخرة وأنواع الطير، وبلغ راتب سماطه فى كلّ يوم وراتب مماليكه من اللحم ستة وثلاثين ألف رطل لحم فى اليوم، سوى الدجاج والإوزّ والرّمسان «1» والجدى المشوى والمهارة وأنواع الوحوش كالغزلان والأرانب وغيره.(9/177)
واستجدّ فى أيامه عمائر كثيرة منها: حفر خليج الإسكندرية «1» ، حفروه فى مدّة أربعين يوما، عمل فيه نحو المائة ألف رجل من النواحى. واستجدّ عليه عدّة سواقى وبساتين فى أراض كانت سباخا فصارت مزارع قصب سكر وسمسم وغيره. وعمّرت هناك الناصرية «2» ،(9/178)
ونقل إليها المقداد «1» بن شمّاس وأولاده، وعدّة أولاده مائة ولد ذكر.
واستمرّ الماء فى خليج الإسكندرية طول السنة، وفرح الناس بهذا الخليج فرحا زائدا، وعظمت المنافع به. وأنشأ الميدان «2» تحت قلعة الجبل وأجرى له المياه وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة فى كلّ يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصّكيّة وأولاد الملوك. وكان الملك الناصر يجيد لعب الكرة إلى الغاية بحيث إنه كان لا يدانيه فيها أحد فى زمانه إلّا إن كان ابن أرغون النائب. ثم عمّر فوق الميدان هذا القصر الأبلق «3» وأخرب البرج الذي كان عمّره أخوه الأشرف خليل على(9/179)
الإسطبل وجعل مكانه القصر المذكور. وعمّر فوقه رفرفا وعمّر بجانبه برجا «1» نقل إليه المماليك، وغيّر باب «2» النحاس من قلعة الجبل ووسّع دهليزه، وعمّر فى الساحة تجاه الإيوان طباقا»
للأمراء الخاصّكيّة، وغيّر عمارة الإيوان «4» مرّتين، ثم فى الثالثة أقرّه على ما هو عليه الآن، وحمل إليه العمد الكبار من بلاد الصعيد، فجاء من أعظم المبانى الملوكيّة، ورتّب خدمته بالإيوان بأنواع مهولة عجيبة مزعجة لمن يقدم من رسل الملوك، يطول الشرح فى ذكر ترتيب ذلك. ثم رتّب خدم القصر ومشدّيه، وما كان يفرش فيه من أنواع البسط والستائر، وكيفية حركة أرباب الوظائف فيه.
ثم عمّر بالقلعة أيضا دورا للأمراء الذين زوّجهم لبناته، وأجرى إليها المياه وعمل بها الحمّامات وزاد فى باب القلّة «5» من القلعة بابا ثانيا. وعمّر جامع «6» القلعة(9/180)
والقاعات «1» السبع التى تشرف على الميدان لأجل سراريه. وعمّر باب «2» القرافة. وكان غالب عمائره بالحجارة خوفا من الحريق. وعزم على أن يغيّر باب المدرّج «3» ويعمل له(9/181)
دركاه «1» فمات قبل ذلك. وعمّر بالقلعة حوش «2» الغنم وحوش البقر وحوش المعزى فأوسع فيها نحو خمسين فدانا. وعمّر الخانقاة «3» بناحية سرياقوس ورتّب فيها مائة صوفىّ لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه.
قلت: وقد صارت الخانقاة الآن مدينة عظيمة. انتهى.
قال: وعمّر القصور بسرياقوس، وعمل لها بستانا حمل إليه الأشجار من دمشق وغيرها، فصار بها عامّة فواكه الشام. وحفر الخليج «4» الناصرىّ خارج القاهرة حتى أوصله بسرياقوس، وعمّر على هذا الخليج أيضا عدّة قناطر «5» ، وصار(9/182)
بجانبى هذا الخليج عدّة بساتين وأملاك. وعمّرت به أرض الطبّالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا. وعمّرت جزيرة الفيل، وناحية بولاق بعد ما كانت رمالا، يرمى بها المماليك النّشّاب، وتلعب الأمراء بها الكرة، فصارت كلّها دورا وقصورا وجوامع وأسواقا وبساتين، وبلغت البساتين بجزيرة الفيل فى أيامه مائة وخمسين بستانا بعد ما كانت نحو العشرين بستانا. واتّصنت العمائر من ناحية منية «1» الشّيرج على النيل(9/183)
إلى جامع الخطيرىّ إلى حكر «1» ابن الأثير وزريبة «2» قوصون وإلى منشأة المهرانى «3» إلى بركة(9/184)
الحبش، حتّى كان الإنسان يتعجّب لذلك، فإنه كان قبل ذلك بمدّة يسيرة تلالا ورمالا وحلفاء، فصار لا يرى قدر ذراع إلّا وفيه بناء. كلّ ذلك من محبّة السلطان للتعمير. فصار كلّ أحد فى أيامه يفعل ذلك ويتقرّب إلى خاطره بهذا الشأن.
وصار لهم أيضا غيّة فى ذلك، كما قيل: الناس على دين مليكهم، بل قيل إنه كان إذا سمع بأحد قد أنشأ عمارة بمكان شكره فى الملأ وأمدّه فى الباطن بالمال والآلات، وغيرها، فعمّرت مصر فى أيامه وصارت أضعاف ما كانت، كما سيأتى ذكره من الحارات والحكورة والأماكن. فممّا عمّر فى أيامه أيضا القطعة «1» التى فيما بين قبّة الإمام الشافعىّ، رضى الله عنه، إلى باب القرافة طولا وعرضا بعد ما كانت فضاء «2» لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدّام، فكان يحصل هناك أيّام السّباق اجتماعات جليلة للتفرّج على السّباق إلى أن أنشأ الأمير بيبغا «3» التّركمانىّ تربته «4» بها، وشكره السلطان. فأنشأ الناس فيه تربا حتى صارت كما ترى.
قلت: وكذا وقع أيضا فى زماننا هذا بالساحة التى كانت تجاه تربة «5» الملك الظاهر برقوق (أعنى المدرسة الناصرية بالصحراء) فإنها كانت فى أوائل الدولة(9/185)
الأشرفية برسباى ساحة كبيرة يلعب فيها المماليك السلطانية بالرّمح، وهى الآن كما ترى من العمائر. وكذا وقع أيضا بالساحة «1» التى كانت من جامع أيدمر الخطيرىّ على ساحل بولاق إلى بيت المقرّ الكمال «2» ابن البارزىّ، فإنّ الملك المؤيّد شيخ جلس فى حدود سنة عشرين وثمانمائة ببيت القاضى ناصر «3» الدين ابن البارزى والد كمال الدين المذكور بساحة بولاق، وساقت الرّمّاحة المحمل قدّامه بالساحة المذكورة، وهى الآن كما هى من الأملاك. وكذلك وقع أيضا بخانقاه سرياقوس وأنّها كانت ساحة عظيمة من قدّام خانقاه الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة إلى الفضاء، حتى عمّر بها الأمير سودون بن عبد الرحمن مدرسته «4» فى حدود سنة ست وعشرين(9/186)
وثمانمائة، فكان ما بين المدرسة العبد الرحمانية المذكورة وبين باب الخانقاه الناصرية ميدان كبير. انتهى. وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر الملك الناصر محمد فنقول أيضا:
وعمّر أيضا فى أيامه الصحراء التى ما بين قلعة الجبل وخارج باب «1» المحروق إلى تربة الظاهر برقوق المقدّم ذكرها. وأوّل من عمّر فيها الأمير قراسنقر تربته «2» ، وعمّر بها حوض السبيل يعلوه مسجد. ثم اقتدى به جماعة من الأمراء والخوندات والأعيان مثل خوند طغاى، عمّرت بها تربتها «3» العظيمة، ومثل طشتمر «4» حمّص أخضر(9/187)
الناصرىّ، ومثل طشتمر «1» طلليه الناصرىّ وغيرهم. وكان هذا الموضع ساحة عظيمة، وبه ميدان «2» القبق من عهد الملك الظاهر بيبرس برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به برسم سباق الخيل، فلما عمّر قراسنقر تربته عمّر الناس بعده حتى صارت الصحراء مدينة عظيمة. وعمر الملك الناصر أيضا لمماليكه عدّة قصور خارج القاهرة، وبها منها قصر «3» الأمير طقتمر الدّمشقى بحدرة البقر، وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم.
فلمّا مات طقتمر أنعم به على الأمير طشتمر حمّص أخضر فزاد فى عمارته. ومنها قصر «4» الأمير بكتمر الساقى على بركة الفيل بالقرب من الكبش، فعمل أساسه أربعين ذراعا وارتفاعه أربعين ذراعا فزاد مصروفه على «5» ألف ألف درهم. ومنها(9/188)
الكبش «1» ، حيث كان عمارة الملك الصالح نجم الدين أيّوب فعمله الملك الناصر سبع قاعات برسم بناته ينزلون فيه للفرجة على ركوب السلطان للميدان «2» الكبير. لم ينحصر ما أنفقه فيها لكثرته. ومنها إسطبل «3» الأمير قوصون بسوق «4» الخيل تحت القلعة تجاه باب «5» السلسلة، وكان أصله إصطبل الأمير سنجر البشمقدار وسنقر الطويل. ومنها قصر «6» بهادر الجوبانىّ بجوار زاوية «7» البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش. ومنها(9/189)
قصر قطلوبغا «1» الفخرىّ وقصر ألطنبغا «2» الماردانىّ وقصر يلبغا «3» اليحياوىّ، وهؤلاء أجلّ ما عمّر من القصور وهم موضع المدرسة الناصريّة «4» الحسنيّة، أخذهم الملك الناصر حسن وهدمهم وعمّر مكان ذلك مدرسته المشهورة به. وعمّر فى أيامه الأمراء عدّة دور وقصور، منها: دار الأمير «5» أيدغمش أمير آخور وقصر بشتك «6» وغيره.
وكان الملك الناصر له عناية كبيرة ببلاد «7» الجيزة، حتى إنه عمل على كلّ بلد جسرا وقنطرة، وكانت قبل ذلك أكثر بلادها تشرق لعلوّها، فعمل جسر أمّ دينار «8» ، فى ارتفاع اثنتى عشرة قصبة. أقام العمل فيه مدّة شهرين، وهو الذي اقترحه فحبس الماء حتى ردّه «9» على تلك الأراضى، وعمّ النفع بها جميع أهل الجيزة. ومن يومئذ قوى «10» بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحرا يتّصل بالجيزة «11» . وخرج فى أراضى الجيزة عدّة مواضع وزرعت بعد ما كانت شاسعة، وأخذ من هذه(9/190)
الأراضى قوصون وبشتك وغيرهما عدّة أراض عمّروها ووقفوها. واستجدّ السلطان على بقية الأراضى ثلثمائة جندىّ.
قلت: هذا وأبيك العمل! وأين هذا من فعل غيره! ينظر إلى أحسن البلاد فيأخذها ويوقفها فيخربها النّظار بعد سنين؛ فالفرق واضح لا يحتاج إلى بيان.
وهذا الذي أشرنا إليه من أن الملك إذا كان له معرفة حصل له أغراضه من جمع المال من هذا الوجه وغيره، ولا يحتاج لأخذ الرشوة من الحكّام والإفحاش فى أخذ المكوس وغيرها ومثل ذلك فكثير.
واستجدّت فى ايام الملك الناصر عدّة أراضى أيضا بالشرقية «1» ونواحى فوّة «2» وغيرها أقطعت للأجناد، وكانت قبل ذلك لسنين كثيرة خرابا لا ينتفع بها. وعمل أيضا سدّ «3»(9/191)
شبين القصر فزاد بسببه خراج الشرقية زيادة كثيرة. وعمل جسرا «1» خارج القاهرة حتى ردّ النيل عن منية الشّيرج وغيرها، فعمّر بذلك عدّة بساتين بجزيره الفيل، وأحكم عامّة أراضى مصر قبليّها وبحريّها بالتراع والجسور حتى أتقن أمرها، وكان يركب إليها برسم الصّيد كلّ قليل، ويتفقّد أحوالها بنفسه، وينظر فى جسورها وتراعها وقناطرها، بحيث إنه لم يدع فى أيّامه موضعا منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه. وكان له سعد فى جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قبله، بعد أن كان يزهّده فيما يأمر به حذّاق المهندسين، ويقول بعضهم: ياخوند، الذين جاءوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصحّ فعلوه، فلا يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد، فتأتيه أغراضه على ما يحبّ وزيادة، فزاد فى أيّامه خراج مصر زيادة هائلة فى سائر الأقاليم. وكان إذا سمع بشراقى بلد أو قرية من القرى أهمّه ذلك وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرّة، بل كلّما وقع بصره عليه، ولا يزال يفحص عن ذلك حتّى يتوصّل إلى ريّها بكل ما تصل قدرته إليه.
كلّ ذلك وصاحبها لا يسأله فى شىء من أمرها فيكلّمه بعض الأمراء فى ذلك فيقول: هذه قريتى، وأنا الملزوم بها والمسئول عنها، فكان هذا دأبه. وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد فى عمل مصلحة بلده بسبب عمل جسر أو تقاوى أو غير ذلك، وينبل ذلك الرجل فى عينه، ويفعل له ما طلبه من غير توقّف ولا ملل فى إخراج المال، فإن كلّمه أحد فى ذلك فيقول: فلم نجمع المال فى بيت مال(9/192)
المسلمين إلّا لهذا المعنى وغيره! فهذه كانت عوائده، وكذلك فعل بالبلاد الشاميّة، حتى إنّ مدينة غزّة هو الذي مصّرها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشاميّة، وجعل لها نائبا، وسمّى بملك الأمراء، ولم تكن قبل ذلك إلّا ضيعة من ضياع الرملة، ومثلها فكثير من قرى الشام وحلب والساحل يطول الشرح فى ذكر ذلك.
وأنشأ الملك الناصر بالديار المصريّة الميدان «1» الكبير على النيل، وخرّب ميدان «2» اللّوق الذي كان عمّره الظاهر بيبرس وعمله بستانا، وقد تقدّم ذكره. ثم أنعم السلطان بالبستان المذكور على الأمير قوصون، فبنى قوصون تجاهه زريبته المعروفة بزريبة قوصون بنيانا ووقفه، واقتدى الأمراء بقوصون فى العمارة. ثم أخذ(9/193)
قوصون بستان «1» الأمير بهادر رأس نوبة، وحكره للناس، ومساحته خمسة عشر فدّانا، فبنوه دورا على الخليج، فعرف بحكر قوصون، وحكر السلطان حول البركة «2» الناصريّة أراضى البستان فعمّروها الناس وسكنوا فيه، ثم حكر الأمير طقز دمر(9/194)
الحموىّ الناصرى بستانا «1» بجوار الخليج، مساحته ثلاثون فدانا، وبنى له قنطرة «2» عرفت به، وعمل هناك حمّاما وحوانيت أيضا، فصار حكرا عظيم المساكن.
قلت: وطقز دمر هذا هو الذي جدّد الخطبة بالمدرسة «3» المعزّيّة الأيبكيّة على النيل بمصر القديمة.(9/195)
ثم حكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستانا «1» بجوار بركة قارون «2» ظاهر القاهرة، فعمره عمارة كبيرة، وأخذ بقيّة الأمراء جميع ما كان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها، وحكرت دادة السلطان الملك الناصر الستّ «3» حدق والستّ(9/196)
مسكة القهرمانة حكرين عرفا بهما. وأنشأت كلّ واحدة منهما فى حكرها جامعا «1»(9/197)
تقام به الجمعة، فزادت الأحكار فى أيام الملك الناصر على ستين حكرا، وبهذا اتّصلت العمائر من باب زويلة إلى سدّ «1» مصر، بعد ما كانت ساحة مخيفة. كلّ ذلك لما علم الناس من حبّ السلطان للعمر.
قلت: وعلى هذا زادت الديار المصرية فى أيامه مقدار النصف. قال: وعمرت فى أيامه بالديار المصرية عدّة جوامع تقام فيها الخطب زيادة على ثلاثين جامعا، منها: الجامع الناصرىّ «2» بقلعة الجبل، جدّده وأوسعه. ومنها الجامع «3» الجديد الناصرىّ أيضا على نيل مصر. ومنها جامع «4» الأمير طيبرس الناصرىّ «5» نقيب الجيش على النيل(9/198)
بجوار خانقاته، وقد ذهب أثر هذا الجامع المذكور من سنين. ثم عمّر طيبرس المذكور مدرسته «1» المشهورة به بجوار الجامع الأزهر، ولمّا خرب جامعه المذكور الذي كان على النيل نقل الصوفيّة الذين كانوا به إلى المدرسة المذكورة. انتهى. ومنها جامع «2» المشهد النفيسىّ لا أعلم من بناه، ومنها جامع «3» الأمير بدر الدين محمد التّركمانىّ بالقرب(9/199)
من باب البحر. ثم جامع «1» الأمير كراى المنصورى بآخر الحسينية. وجامع «2» كريم الدين خلف الميدان. وجامع «3» شرف الدين الجاكى(9/200)
بسويقة «1» الرّيش. وجامع «2» الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة(9/201)
الفيل. وجامعا «1» آخر خلف خصّ «2» الكيّالة ببولاق. وجامعا «3» ثالثا بالروضة.
وجامع «4» أمير حسين بالحكر «5» ، وبنى له قنطرة «6» على الخليج بالقرب منه.(9/202)
وجامع «1» الأمير قيدان الرومىّ بقناطر «2» الإوزّ. وجامع «3» دولة شاه مملوك العلائى بكوم «4» الرّيش. وجامع «5» الأمير ناصر الدين الشّرابيشىّ الحرّانىّ بالقرافة.(9/203)
وجامع «1» الأمير آقوش نائب الكرك بطرف الحسينية بالقرب من الخليج. وجامع «2» الأمير آق سنقر شادّ العمائر قريبا من الميدان «3» . وجامعا «4» خارج باب القرافة، عمّره(9/204)
جماعة من العجم. وجامع «1» التّوبة بباب «2» البرقيّة، عمّره مغلطاى أخو(9/205)
الأمير ألماس. وجامع «1» بنت الملك الظاهر بالجزيرة المستجدّة المعروفة بالوسطانية «2» . وجامع «3» الأمير ألماس الناصرىّ الحاجب بالقرب من حوض «4»(9/206)
ابن هنس بالشارع الأعظم خارج القاهرة. وجامع «1» الأمير قوصون الناصرىّ بالقرب منه أيضا على الشارع خارج القاهرة، وله أيضا جامع «2» وخانقاه «3» خارج باب القرافة.
وجامع «4» الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ بساحل بولاق، وجامع «5» أخى صاروجا بشون «6»(9/207)
القصب. وجامع «1» الأمير بشتك الناصرىّ على بركة الفيل تجاه خانقاته «2» . وجامع «3» الأمير(9/208)
آل ملك بالحسينية. وجامع «1» الست حدق الدّادة فيما بين السّدّ وقناطر «2» السّباع. وجامع «3» السّتّ مسكة قريبا من قنطرة «4» آق سنقر. وجامع «5» الأمير ألطنبغا الماردانىّ خارج باب زويلة. وجامع «6» المظفّر بسويقة الجمّيزة «7» من الحسينية. وجامع «8» جوهر السّحرتى قريبا(9/209)
من باب «1» الشعرية، وجامع «2» فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بالقرافة. وغير ذلك من المدارس والمساجد، وهذا كله بديار مصر.
وأما ما بنى بالبلاد الشامية فى أيامه فكثير جدّا. وآخر ما بناه الملك الناصر السواقى التى بالرّصد «3» ، ومات قبل أن يكملها. وكان الملك الناصر فى آخر أيامه شغف بحبّ الجوارى المولّدات وحملن إليه، فزادت عدّتهنّ عنده على ألف ومائتى وصيفة.
وخلّف من الأولاد الذكور أبا بكر ومحمدا وإبراهيم وعليّا وأحمد وكجك ويوسف وشعبان وإسماعيل ورمضان وحاجى وحسينا وحسنا وصالحا. وتسلطن من ولده لصلبه ثمانية: أبو بكر وكجك وأحمد وإسماعيل وشعبان وحاجى وحسن وصالح ثم حسن ثانيا حسب ما يأتى ذكر ذلك كله فى محلّه إن شاء الله تعالى. وخلّف من البنات سبعا.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى تاريخه: وكان الملك الناصر ملكا عظيما محظوظا مطاعا مهيبا ذا بطش ودهاء وحزم شديد وكيد مديد، قلّما حاول أمرا فانخرم عليه فيه شىء يحاوله، إلّا أنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط.(9/210)
أمسك إلى أن مات مائة وخمسين أميرا. وكان يصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه. تحدّث مع الأمير أرغون الدّوادار فى إمساك كريم الدين الكبير قبل القبض عليه بأربع سنين، وهمّ بإمساك تنكز لمّا ورد من الحجاز فى سنة ثلاث وثلاثين بعد موت بكتمر الساقى. ثم إنه أمهله ثمانى سنين بعد ذلك. وكان ملوك البلاد الكبار يهابونه ويراسلونه. وكان يتردّد إليه رسل صاحب الهند وبلاد أزبك خان وملوك الحبشة وملوك الغرب وملوك الفرنج وبلاد الأشكرى وصاحب اليمن. وأمّا بو سعيد ملك التّتار فكانت الرسل لا تنقطع بينهما، ويسمّى كلّ منهما الآخر أخا. وكانت الكلمتان واحدة «1» ، ومراسيم الملك الناصر تنفذ فى بلاد بو سعيد، ورسله يتوجهون إليه بأطلابهم وطبلخاناتهم بأعلامهم المنشورة. وكان كلما بعد الإنسان من بلاده وجد مهابته ومكانته فى القلوب أعظم. وكان سمحا جوادا على من يقرّبه، لا يبخل عليه بشىء كائنا من كان. سألت القاضى شرف الدين النّشو أطلق «2» يوما ألف ألف درهم؟ قال: نعم [كثير «3» . وفى يوم واحد أنعم على الأمير بشتك بألف ألف درهم] فى ثمن قرية يبنى «4» التى بها قبر أبى هريرة على ساحل الرملة. وأنعم على موسى بن مهنّا بألف ألف درهم، وقال لى (يعنى عن النّشو) : هذه ورقة فيها ما ابتاعه من الرقيق فى أيام مباشرتى، وكان ذلك من شعبان سنة اثنتين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، فكان جملته أربعمائة ألف وسبعين ألف دينار مصرية. وكان ينعم على الأمير تنكز فى كل سنة يتوجّه إليه إلى مصر، وهو بالباب ما يزيد على ألف ألف درهم. ولمّا تزوّج الأمير سيف الدين(9/211)
قوصون بابنة السلطان وعمل عرسه حمل الأمراء إليه شيئا كثيرا، فلمّا تزوّج الأمير سيف الدين طغاى تمر بابنته الأخرى. قال السلطان: ما نعمل [له «1» ] عرسا، لأن الأمراء يقولون: هذه مصادرة. ونظر إلى طغاى تمر وقد تغيّر وجهه، فقال للقاضى تاج الدين إسحاق يا قاضى: اعمل ورقة بمكارمة الأمراء لقوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال السلطان: كم الجملة؟ قال: خمسون ألف دينار، فقال:
أعطها لطغاى تمر من الخزانة. وذلك خارج عما دخل مع الزوجة من الجهاز.
وأمّا عطاؤه للعرب فأمر مشهور زائد عن الحدّ. انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدىّ باختصار. وهو أجدر بأحوال الملك الناصر، لأنه يعاصره وفى أيامه، غير أننا ذكرنا من أحوال الملك الناصر ما خفى عن صلاح الدين المذكور نبذة كبيرة من أقوال جماعة كثيرة من المؤرّخين. والله تعالى أعلم.
*** السنة الأولى من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة عشر وسبعمائة على أنّه حكم فى السنة الماضية من شهر شوّال «2» إلى آخرها.
فيها (أعنى سنة عشر وسبعمائة) قبض الملك الناصر على الأمير سلّار وقتله فى السجن حسب ما تقدّم ذكره فى أصل الترجمة، ويأتى أيضا ذكر وفاته فى هذه السنة.
وفيها توفّى العلّامة قاضى القضاة شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغنى السّروجىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصرية فى يوم الخميس الثانى والعشرين(9/212)
من شهر ربيع الآخر بالمدرسة «1» السيوفيّة بالقاهرة. وكان بارعا فى علوم شتّى، وله اعتراضات على ابن تيميّة فى علم الكلام، وصنّف شرحا على الهداية وسمّاه «الغاية» ولم يكمله.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة نجم الدين أحمد بن محمد [بن علىّ»
بن مرتفع بن حازم بن إبراهيم بن العبّاس] بن الرّفعة الشافعى المصرى. كان فقيها مفتنّا مفتيا، وكان يلى حسبة مصر القديمة. وشرح التنبيه «3» والوسيط «4» فى الفقه فى أربعين مجلدا.
ومات فى ثامن «5» عشر رجب ودفن بالقرافة. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ رضىّ الدين أبو بكر بن محمود بن أبى بكر الرّقّىّ الحنفىّ المعروف بالمقصوص. مات بدمشق ودفن بالباب الصغير. وكان فقيها فاضلا عالما بعدّة فنون، ودرّس وأفتى سنين كثيرة.
وتوفى الشيخ الإمام العلّامة قطب الدّين محمود بن مسعود [بن مصلح «6» ] الشّيرازىّ، كان عالما بالفلسفة والمنطق والأصول والحكمة، وله فيهم مصنّفات تدلّ على فضله. وتولّى قضاء بلاد الروم، ولم يباشر القضاء، ولكن كانت نوّابه تحكم فى البلاد. وكان معظّما عند ملوك التّتار [وكان «7» ] من تلامذة «8» النّصير الطّوسىّ، وبه تخرّج فى علم الأوائل. وبنى له تربة بتبريز، وبها دفن.(9/213)
وتوفّى الشيخ الأديب الشاعر شهاب الدين أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم ابن عبد العزيز العزازىّ «1» التاجر بقيساريّة «2» جهاركس «3» بالقاهرة. مات فى هذه السنه ودفن [بسفح] المقطّم. وكان له النظم الرائق، وله ديوان «4» شعر مشهور. ومن شعره فى مليح بدوىّ:
بدوىّ كم حدّثت مقلتاه ... عاشقا عن مقاتل الفرسان
بمحيّا يقول يا لهلال ... ولحاظ تقول يا لسنان
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول الشيخ علاء الدين الوداعىّ، وهو:
أقبل من حيّه وحيّا ... فأشرقت سائر النّواحى
فقلت يا وجه من بنى من ... فقال لى من بنى صباح
قلت: والعزازىّ هذا هو صاحب الموشّحات الظريفة المشهورة، ذكرنا منها عدّة فى ترجمته فى تاريخيا «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم.(9/214)
وتوفّى الحكيم الأديب البارع شمس الدين محمد بن دانيال [بن يوسف «1» ] الموصلى، صاحب النّكت الغريبة، والنوادر العجيبة، وهو مصنّف «كتاب طيف الخيال «2» » وكان كثير المجون والدّعابة، وكانت دكّانه داخل باب الفتوح من القاهرة. ومولده بالموصل سنة ستّ وأربعين وستمائة. ومات فى الثامن «3» والعشرين من جمادى الآخرة.
ومن شعره فى صنعته:
ما عاينت عيناى فى عطلتى ... أقلّ من حظّى ولا بختى
قد بعت عبدى وحصانى وقد ... أصبحت لا فوقى ولا تحتى
وله فى المعنى أيضا:
يا سائلى عن حرفتى فى الورى ... وضيعتى فيهم وإفلاسى
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
ومن نوادره الظريفة أنّه كان يلازم خدمة الملك الأشرف خليل بن قلاوون قبل سلطنته فأعطاه الأشرف فرسا ليركبه، فلمّا كان بعد أيّام رآه الأشرف وهو على حمار زمن، فقال له: يا حكيم، ما أعطيناك فرسا لتركبه؟ فقال: نعم يا خوند، بعته وزدت عليه واشتريت هذا الحمار، فضحك الأشرف وأعطاه غيره. وله فى أقطع «4» .
وأقطع «5» قلت له ... هل أنت لصّ أوحد
فقال هذى صنعة ... لم يبق لى فيها يد(9/215)
وتوفّى الأمير سيف الدين الحاجّ بهادر المنصورىّ نائب طرابلس بها، وفرح «1» الملك الناصر بموته، فإنّه كان من كبار المنصورية.
وتوفّى الأمير جمال الدين آقوش [المنصورىّ «2» ] الموصلىّ المعروف بقتّال السّبع أمير علم. مات بالديار المصريّة، وكان من أكابر أمرائها فى شهر رجب، ودفن بالقرافة.
وتوفّى الأمير سيف الدين برلغى الأشرفىّ فى ليلة الأربعاء ثانى شهر رجب قتيلا بقلعة الجبل. قيل: إنه منع الطعام والشراب حتّى مات، ودفن بالحسينية خارج باب النصر بجوار تربة «3» علاء الدين الساقى «4» الأستادار. وكان برلغى صهر المظفّر بيبرس الجاشنكير زوج ابنته ومن ألزامه. وقد تقدّم ذكره فيما مضى فى أوّل ترجمة الملك الناصر، وفى ترجمة بيبرس أيضا ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.
وتوفّى الأمير سيف الدين قبجق المنصورىّ نائب حلب بها فى جمادى الأولى وحمل إلى حماة، ودفن بتربته التى أنشأها بعد مرض طويل. وقد تقدّم ذكر قبجق فى عدّة مواطن، فإنّه كان ولى نيابة دمشق، وخرج منها فى سلطنة لاچين إلى بلاد التّتار، وأقدم غازان إلى دمشق، ثم عاد إلى طاعة الملك الناصر فى سلطنته الثانية، ثم كان هو القائم فى أمر الملك الناصر لمّا خلع بالجاشنكير حتى ردّه إلى ملكه.(9/216)
وتوفّى الأمير الكبير سلّار المنصورىّ نائب السلطنة بديار مصر فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع «1» الآخر. وقد تقدّم ذكره فى أوّل ترجمة الناصر هذه الثالثة، وما وجد له من الأموال وغير ذلك، فلينظر هناك.
وتوفّى الأمير نوغاى بن عبد الله المنصورىّ القبجاقىّ المقدّم ذكره فى ترجمة الملك المظفّر بيبرس لمّا فارقه وتوجّه إلى الكرك إلى عند الملك الناصر محمد. مات بقلعة دمشق محبوسا، ودفن بمقابر الباب الصغير، وكان من الشّجعان، غير أنه كان يحبّ الفتن والحروب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع. وكان الوفاء يوم النّوروز. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 711]
السنة الثانية من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير بكتوت الخازندار، ثم أمير شكار، ثم نائب السلطنة بثغر الإسكندريّة؛ ومات بعد عزله عنها فى ثامن شهر «2» رجب. وأصله من مماليك بيليك «3» الخازندار نائب السلطنة بمصر فى الدولة الظاهريّة بيبرس. ثم صار أمير شكار فى أيام كتبغا، ثم ولى الإسكندريّة، وكثر ماله واختصّ عند بيبرس الجاشنكير وسلّار. فلمّا عاد الملك الناصر إلى ملكه حسّن له بكتوت هذا حفر خليج «4» الإسكندرية ليستمرّ(9/217)
الماء فيها صيفا وشتاء، فندب السلطان معه محمد بن كندغدى المعروف بابن الوزيرىّ «1» ، وفرض العمل على سائر الأمراء فأخرج كلّ منهم أستاداره ورجاله، وركب ولاة الأقاليم، ووقع العمل فيه من شهر رجب سنة عشر وسبعمائة، وكان فيه نحو الأربعين ألف رجل تعمل. وكان قياس العمل من فم البحر إلى شنبار «2» ثمانى آلاف قصبة، ومثلها إلى الإسكندرية. وكان الخليج الأصلىّ من حدّ شنبار «3» يدخل الماء إليه فجعل فم هذا البحر يرمى إليه، وعمل عمقه ستّ قصبات فى عرض ثمانى قصبات. فلمّا وصل الحفر إلى حدّ الخليج الأوّل حفر بمقدار الخليج المستجدّ وجعلا «4» بحرا واحدا، وركّب عليه القناطر، ووجد فى الخليج من الرّصاص المبنىّ تحت الصهاريج شىء كثير، فأنعم به على الأمير بكتوت. فلما فرغ ابتنى الناس عليه سواقى واستجدّت عليه قرية عرفت بالناصريّة «5» ؛ فبلغ ما أنشئ عليه زيادة على مائة ألف فدّان ونحو ستمائة ساقية وأربعين «6» قرية، وسارت فيه المراكب الكبار، واستغنى أهل التغر عن جرى الماء فى الصهاريج. وعمّر عليه نحو الألف غيط، وعمّرت به عدّة بلاد.
وتحوّلت الناس إلى الأراضى التى عمّرت وسكنوها بعد ما كانت سباخا. فلمّا فرغ ذلك ائتنى بكتوت هذا من ماله جسرا أقام فيه ثلاثة أشهر حتّى بناه رصيفا، وأحدث عليه نحو ثلاثين قنطرة بناها بالحجارة والكلس، وعمل أساسه رصاصا، وأنشأ بجانبه(9/218)
خانا وحانوتا، وعمل فيه خفرا «1» وأجرى لهم»
الماء؛ فبلغت النفقة على هذا الجسر ستين ألف دينار. وأعانه على ذلك أنّه هدم قصرا قديما خارج الإسكندريّة وأخذ حجره، ووجد فى أساسه سربا من رصاص مشوا فيه إلى قرب البحر المالح، فحصّل منه جملة عظيمة من الرصّاص. ثم إنه شجر «3» ما بينه وبين صهره، فسعى به إلى السلطان وأغراه بأمواله وكتب مستوفى الدولة أمين الملك عبد الله بن الغنّام عليه أوراقّا بمبلغ أربعمائة ألف دينار فعزل وطلب إلى القاهرة، فلمّا قرئت عليه الأوراق قال: قبّلوا الأرض بين يدى مولانا السلطان، وعرّفوه عن مملوكه إن كان راضيا عنه فكلّ ما كتب كذب، وإن كان غير راض فكلّ ما كتب صحيح.
وكان قد وعك فى سفره من الإسكندرية فمات بعد ليال فى ثانى عشر شهر «4» رجب فأخذ له مال عظيم جدّا. وكان من أعيان الأمراء وأجلّهم وكرمائهم وشجعانهم مع الذكاء والعقل والمروءة، وله مسجد «5» خارج باب زويلة وله أيضا عدة أوقاف على جهات البرّ.(9/219)
وتوفّى الشيخ المجوّد المنشئ الفاضل شرف الدين محمد بن شريف بن يوسف الزرعىّ المعروف بابن الوحيد. كان حسن الخطّ فاضلا مقداما شجاعا يعرف عدّة علوم وألسن وخدم عند جماعة من أعيان الأمراء، وكتب فى الإنشاء بالقاهرة، ثم تعطّل بعد ذلك، ونزل صوفيّا بخانقاه سعيد السعداء. فلمّا كانت سنة إحدى وسبعمائة قدم رسل التّتار إلى مصر ومعهم كتاب غازان، فلم يكن فى الموقّعين من يحلّه فطلب فحلّه؛ فرتّبه السلطان فى ديوان الإنشاء إلى أن مات بالبيمارستان المنصورىّ يوم الثلاثاء سادس «1» عشرين شعبان، وله ثلاث وستون سنة. ومن شعره فى تفضيل الحشيش على الخمر:
وخضراء «2» لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات فى الحشى وثبات
تأجّج نارا فى الحشى وهى جنّة ... وتبدى مرير الطّعم «3» وهى نبات
وتوفّى الصاحب الوزير فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الحسن بن الحسين الخليلىّ التّميمىّ الدّارىّ بالقاهرة فى يوم عيد الفطر، ودفن بالقرافة الصغرى. وكان مولده سنة أربعين وستمائة. وتولّى الوزارة فى دولة الملك السعيد ابن الظاهر بيبرس تمّ بعدها غير مرّة إلى أن عزله الملك الناصر، ومات معزولا. وكان فاضلا خيّرا ديّنا كثير الصدقات، عفيفا عن أموال الرعيّة.
رحمه الله.(9/220)
وتوفّى القاضى العلّامة الحافظ سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثىّ «1» الحنبلىّ. مات بالمدرسة «2» الصالحيّة بالقاهرة ودفن بالقرافة. وكان من أعيان العلماء المحدّثين. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ فخر الدين إسماعيل بن نصر [الله «3» ] بن أحمد بن محمد بن الحسن بن عساكر الدّمشقىّ. مات بدمشق ودفن بالباب الصغير. روى عن جماعة من المشايخ، وكانت نفسه قويّة.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الخطيب بجامع أحمد بن طولون شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله بن «4» الجزرىّ الشافعىّ. مات بالمدرسة «5» المعزّيّة بمصر فى أوائل ذى الحجّة ودفن بالقرافة. ومولده سنة سبع وثلاثين وستمائة بالجزيرة، وقدم دمشق وبرع فى عدّة علوم، وعرض عليه قضاء دمشق فامتنع.
وتوفّى الشيخ الاديب سراج الدين عمر بن مسعود الحلبى المعروف بالمحّار. وكان أوّلا صانعا يمحر الكتّان، ثم اشتغل بالأدب ومهر فيه، واتّصل بخدمة الملك المنصور صاحب حماة إلى أن مات بدمشق فى هذه السنة. وهو صاحب الموشّحات المشهورة. ومن شعره:
لمّا تألّق بارق من ثغره ... جادت جفونى بالسّحاب الممطر
فكأنّ عقد الدّمع حلّ قلائد ال ... عقيان منه على صحاح الجوهرى
وله فى مليح نجّار:
قالوا المعرّة قد غدت من فضلها ... يسعى إلى أبوابها ويزار
وجبت زيارتها علينا عند ما ... شغف القلوب بحبّها النّجّار(9/221)
ومن موشّحاته:
ما ناحت الورق فى الغصون، إلّا ... هاجت على، تغريدها لوعة الحزين
هل ما مضى لى مع الحبايب ... آئب، بعد الصدود
أو هل لأيّامنا الذّواهب ... واهب، بأن تعود
بكلّ مصقولة الترائب ... كاعب، هيفاء رود
تفترّ عن جوهر ثمين، جلّا ... أن يجتلى، يحمى بقضب «1» من الجفون
أحببته «2» ناعم الشمائل ... مائل، فى برده
فى أنفس العاشقين عامل ... عامل، من قدّه
يرنو «3» بطرف إلى المقاتل ... قاتل، فى غمده
أسطى من الأسد فى العرين، فعلا ... وأقتلا، لعاشقيه من المنون
علقته كامل المعانى ... عانى، قلبى به
مبلبل البال مذ جفانى ... فانى، فى حبّه
كم بتّ من حيث لا يرانى ... رانى، لقربه
وبات من صدغه يربنى، نملا ... يسعى إلى، رضابه العاطر المصون
قاسوه بالبدر وهو أحلى ... شكلا، من القمر
وراش هدب الجفون نبلا ... أبلى، بها البشر
وقال لى وقد تجلّى ... جلّا، بارئ الصّور
ينتصف البدر من جبينى، أصلا ... فقلت لا، قال ولا السّحر من عيونى «4»(9/222)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 712]
السنة الثالثة من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم [بن إبراهيم «1» ] ابن داود بن حازم الأذرعىّ الحنفىّ بالقاهرة فى شهر رجب: ومولده بأذرعات فى سنة اربعين وستمائة. وكان إماما بارعا مفتنّا عارفا بالفقه واللغة والعربية والأصول، وأفتى ودرّس بالشّبلية «2» التى على جسر تورا بدمشق، وولى القضاء بها فباشر سنة. وقدم القاهرة فمات بها فى التاريخ المذكور.
وتوفى الشيخ شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن خليل المقدسىّ الكاتب المنشئ فى خامس عشر شعبان بالقاهرة. وكان فاضلا أديبا شاعرا، إلّا أنّه كان كثير الهجاء. وكان يعرف بكاتب أمير سلاح. ومن شعره:
اليوم يوم سرور لا شرور به ... فزوج ابن سحاب بابنة العنب
ما أنصف الكأس «3» من أبدى القطوب لها ... وثغرها باسم عن لؤلؤ الحبب
وتوفّى الشيخ مجد الدين أحمد بن ديلم بن محمد الشّيبىّ المكىّ شيخ الحجبة وفاتح الكعبة بمكّة ودفن بالمعلاة. وروى عن ابن مسدى «4» والمرسى وغيرهما.(9/223)
وتوفّى الملك المظفّر شهاب الدين غازى ابن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل أبى بكر [محمد «1» ] بن أيوب.
مات بالقاهرة فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر رجب. ومولده بالكرك فى سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وتوفّى الملك المنصور نجم الدين أبو الفتح غازى ابن الملك المظفّر فخر «2» الدين قرا أرسلان ابن الملك السعيد نجم الدين غازى الأرتقىّ صاحب ماردين وابن صاحبها وبها كانت وفاته فى تاسع شهر ربيع الآخر، ودفن بمدرسته تحت قلعة ماردين، وعمره فوق السبعين، وكانت مدّته على ماردين نحو العشرين سنة. وكان ملكا مهيبا كامل الخلقة سمينا بدينا عارفا مدبّرا. وتولّى سلطنة ماردين من بعده ولده الملك العادل علىّ «3» سبعة عشر يوما ثم خلع «4» وولّى أخوه صالح «5» .
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك «6» الشّيخىّ، كان من أعيان أمراء دمشق، وبها كانت وفاته.
وتوفّى الأمير سيف الدين مغلطاى البهائىّ بطرابلس، كان قد رسم السلطان بالقبض عليه فوصل «7» البريدىّ بذلك بعد موته بيوم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. وكان الوفاء ثالث أيام النسىء.(9/224)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 713]
السنة الرابعة «1» من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى القاضى عماد الدين أبو الحسن على ابن القاضى فخر الدين عبد العزيز ابن القاضى عماد الدين عبد الرحمن بن السّكّرىّ فى يوم الجمعة السادس والعشرين من صفر، وكان فاضلا فقيها، توجّه رسولا من قبل الملك الناصر إلى غازان، وولى تدريس مشهد الحسين بالقاهرة وعدّة وظائف دينية، وولى خطابة جامع الحاكم.
وتوفى الأمير المسند علاء الدين أبو سعيد بيبرس التّركىّ العديمىّ الحنفىّ بحلب، ودفن بتربة ابن العديم، وقد قارب التسعين سنة. وانفرد بالرواية قبل موته، وقصد من الأقطار ورحل إليه من حدّث بالكثير.
وتوفى صاحب «2» مرّاكش من بلاد الغرب الأمير سليمان بن عبد الله [بن يوسف «3» ] بن يعقوب المرينىّ «4» ، وولى بعده عمّه أبو سعيد عثمان بن يعقوب واستوسق أمره.(9/225)
وتوفّى الخان طقطاى بن منكوتمر بن طغاى «1» بن باطو بن چنكزخان ملك التتار بالبلاد الشمالية بمكان يسمّى كرنا «2» على مسافة من مدينة صراى «3» عشرة أيام. وذكره ابن كثير فى السنة الخالية، والصحيح ما قلناه. وكانت مملكته ثلاثا وعشرين سنة، ومات وله ثلاثون سنة. وكان شهما شجاعا مقداما، وكان على دين التتار فى عبادة الأصنام والكواكب، يعظّم الحكماء والأطباء والفلاسفة، ويعظّم المسلمين أكثر من الجميع، غير أنه لم يسلم؛ وكانت عساكره كثيرة جدّا؛ يقال إنه جرّد مرة من كلّ عشرة واحدا، فبلغت التجريدة مائة ألف وخمسين ألفا.
وكانت وفاته فى شهر رمضان، ومات ولم يخلّف ولدا، فجلس على تخت الملك من بعده أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغاى [بن باطو] بن چنكزخان.
وكان الذي أعان أزبك خان على السلطنة شخص من أمرائهم من المسلمين يقال له قطلقتمر كان على تدبير ممالكهم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وسبع أصابع. وكان الوفاء قبل النّوروز بيوم واحد.(9/226)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 714]
السنة الخامسة من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة أربع عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ المعمّر بقيّة السّلف محمد بن محمود بن الحسين بن الحسن الموصلىّ المعروف بحيّاك الله. مات بزاويته «1» بسويقة «2» الرّيش خارج القاهرة فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل ودفن بالقرافة. وكان شيخا صالحا بلغ عمره نحوا من مائة سنة وستين سنة، وكان حاضر الحسّ جيّد القوة، وكان يقصد للزيارة للتبرّك به، وكان كثير الذّكر والعبادة وله محاضرة حسنة وشعر. ومن شعره من أوّل قصيدة:
إذا الحبّ لم يشغلك عن كلّ شاغل ... فما ظفرت كفاك منه بطائل «3»
وتوفّى القاضى شرف الدين يعقوب بن مجد «4» الدين مظفّر بن شرف الدين أحمد ابن مزهر بحلب وهو ناظرها. كان يخدم عند الأكابر وتنقّل فى خدم كثيرة، حتى إنّه لم تبق مملكة بالشام إلّا باشرها.(9/227)
وتوفّى القاضى بهاء الدين علىّ بن أبى سوادة الحلبىّ صاحب ديوان الإنشاء بحلب، وبها كانت وفاته فى نصف شهر رجب. وكان من الصّدور الأماثل وعنده فضيلة. وله نظم ونثر. ومن شعره:
جد لى بأيسر وصل منك يا أملى ... فالصبر «1» قد عاد عنكم غير محتمل
مالى رميت بأمر لا أطيق له ... حملا وبدّلت بعد الأمن بالوجل
وتوفّى القاضى فخر الدين سليمان بن عثمان ابن الشيخ الإمام صفىّ الدّين أبى القاسم محمد بن عثمان البصروىّ الحنفىّ محتسب دمشق بها فى ذى القعدة. وكان فاضلا طيّب العشرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر «2» النّاصرىّ المعروف بالدّم الأسود. كان أمير ستين فارسا بدمشق. وكان من الظّلمة المسرفين على أنفسهم.
قلت: ولا بأس بهذا اللّقب الذي لقب به على هذه الصفات التى غير محمودة.
وتوفّى الأمير فخر «3» الدين آقجبا الظّاهرىّ أحد أمراء دمشق؛ وبها كانت وفاته.
وكان خيّرا ديّنا. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين كهرداش بن عبد الله الزّرّاق، مات أيضا بدمشق.
وكان بها أمير خمسين فارسا. وكان سافر مع السلطان إلى الحجاز، فلمّا زار النبي صلّى الله عليه وسلّم تاب عن شرب الخمر، فلمّا عاد إلى دمشق شربه فضربه الفالج لوقته، وبطل نصفه وتعطّل إلى أن مات.(9/228)
وتوفّى الأمير سيف الدين سودى «1» بن عبد الله النّاصرىّ نائب حلب. وبها كانت وفاته فى نصف شهر رجب. وكان مشكور السّيرة فى ولايته محمود الطريقة.
وهو ممّن أنشأه الملك الناصر محمد من مماليكه، وتولّى «2» حلب بعده الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب.
وتوفّى التاجر «3» عزّ الدين عبد العزيز بن منصور «4» الكولمى «5» أحد تجّار الإسكندرية فى شهر رمضان. وكان أبوه يهوديّا من أهل حلب يعرف بالحموى، فأسلم وتعلّق ابنه هذا على المتجر وفتح الله عليه إلى أن قدم إلى مصر ومعه بضاعة بأربعمائة «6» ألف دينار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. وكان الوفاء قبل النّوروز بأربعة أيام. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 715]
السنة السادسة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة خمس عشرة وسبعمائة.(9/229)
فيها توفّى الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن الحسين بن عبد الرحمن الأرمنتىّ «1» المعروف بابن الأسعد فى يوم الجمعة رابع عشرين شهر رمضان. وكان فقيها شافعيا وتولّى القضاء وحسنت سيرته.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل ابن برتق «2» بن برغش بن هارون أبو طاهر «3» القوصىّ الفقيه الحنفىّ، كان فقيها إماما بارعا، تصدّر بجامع أحمد بن طولون، وأقرأ الفقه والقراءات والعربية سنين، وانتفع به الناس وصنّف وحدّث ونظم ونثر. ومن شعره وهو فى غاية الحسن:
أقول له ودمعى ليس يرقا ... ولى من عبرتى إحدى الوسائل
حرمت الطّيف منك بفيض دمعى ... فطرفى فيك محروم وسائل
وله أيضا:
أقول ومدمعى قد حال بينى ... وبين أحبّتى يوم العتاب
رددتم سائل الأجفان نهرا ... تعثّر وهو يجرى فى الثّياب(9/230)
وتوفى قاضى القضاة تقىّ الدين أبو الفضل سليمان «1» بن حمزة بن أحمد بن عمر بن قدامة المقدسىّ الحنبلىّ بقاسيون فى عشر «2» ذى القعدة ودفن بتربة جدّه شيخ الإسلام أبى عمر. وكان إماما عالما عاملا جمع بين العلم والعبادة، وسمع الحديث بنفسه وحدّث بمسموعاته.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة السيد ركن الدين حسن بن محمد بن شرف شاه الحسينىّ الأسترآباديّ، كان إماما مصنفا عالما بالمعقول، اشتغل على النّصير الطّوسىّ وحصّل منه علوما كثيرة، وصار معيدا فى درس أصحابه، وقدم الموصل وولى تدريس المدرسة النّورية «3» ، وبها صنّف غالب مصنّفاته، مثل: شرح «4» مختصر ابن الحاجب.
وشرح مقدّمة ابن الحاجب فى النحو وهى التى تسمّى بالكافية، وعمل عليها ثلاثة شروح: كبير «5» ومتوسط «6» وصغير «7» . وشرح الحاوى فى الفقه. وشرح التصريف لابن الحاجب أيضا، وهو الذي يسمّى بالشافية، وشرح المطالع فى المنطق، وشرح كتاب قواعد العقائد؛ وعدّة تصانيف أخر، ذكرناها فى غير هذا الكتاب. وكانت وفاته بالموصل فى صفر.(9/231)
وتوفّى الشيخ أصيل الدين الحسن ابن الإمام العلّامة نصير الدين محمد بن محمد ابن الحسن «1» الطّوسى البغدادىّ. كان عالى الهمّة كبير القدر فى دولة قازان، وقدم إلى الشام ورجع معه إلى بلاده. ولما تولّى خربندا الملك ووزر تاج الدين على شاه قرّب أصيل الدين هذا إلى خربندا؛ حتى ولّاه نيابة السلطنة ببغداد. ثم عزل وصودر. وكان كريما رئيسا عارفا بعلم النجوم، لكنه لم يبلغ فيه رتبة أبيه نصير الدين الطّوسىّ، على أنه كان له نظر فى الأدبيات والأشعار، وصنّف كتبا كثيرة.
وكان فيه خير وشرّ وعدل وجور. ومات ببغداد.
وتوفّى الشيخ الصالح القدوة أبو الحسن علىّ ابن الشيخ الكبير علىّ الحريرىّ شيخ الفقراء الحريريّة. كان للناس فيه اعتقاد وله حرمة عند أرباب الدولة، وكان فيه تواضع وكرم، وكانت وفاته ببصرى من عمل دمشق فى السابع والعشرين من جمادى الأولى، وله اثنتان وسبعون سنة.
وتوفّى الأمير بدر الدين موسى ابن الأمير سيف الدين أبى بكر محمد الأزكشىّ، كان من أكابر الأمراء وشجعانهم. مات بدمشق فى ثامن شعبان ودفن عند القبيبات «2» ، وكان شهما شجاعا. ظهر فى نوبة غزو مرج الصّفّر مع التّتار عن شجاعة عظيمة.
وتوفّى الأمير حسام الدين قرالاچين بن عبد الله المنصورىّ الأستادار فى الثامن «3» والعشرين من شعبان، وأنعم الملك الناصر بإقطاعه على الأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك لمّا أفرج عنه، والإقطاع إمرة مائة وعشرين فارسا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. والوفاء تاسع عشرين مسرى. والله أعلم.(9/232)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 716]
السنة السابعة من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة ست عشرة وسبعمائة.
فيها حجّ بالناس من مصر الأمير بهادر الإبراهيمىّ، وأمير الرّكب الشامىّ أرغون السّلاح دار. وحجّ فى هذه السنة من أعيان أمراء مصر الأمير أرغون الناصرىّ نائب السلطنة بديار مصر، وعزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، وعز الدين أيدمر أمير جاندار. وسيف الدين أركتمر السّلاح دار. وناصر الدين محمد بن طرنطاى.
وفيها توفّى الشيخ الكاتب المجوّد نجم الدين موسى بن علىّ بن محمد الحلبىّ ثم الدّمشقىّ المعروف بابن بصيص (بضمّ الباء ثانية الحروف) شيخ الكتّاب بدمشق فى زمانه. وابتدع صنائع بديعة، وكتب فى آخر عمره ختمة بالذهب عوضا عن الحبر. وكان مولده سنة إحدى وخمسين «1» وستمائة، ومات ليلة الثلاثاء عاشر ذى القعدة. وله شعر على طريق الصوفيّة، من ذلك:
وحقّك لو خيّرت فيما أريده ... من الخير فى الدنيا أو الحظّ فى الأخرى
لما اخترت إلّا حسن نظم يروقنى ... معانيه أبدى فيه أوصافك الكبرى
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة صدر الدين أبو عبد الله محمد بن زين الدين عمر بن مكّى بن عبد الصمد العثمانى الشهير بابن المرحّل وبابن الوكيل، المصرىّ الأصل الشافعىّ الفقيه الأديب، كان فريد عصره ووحيد دهره، كان أعجوبة فى الذّكاء والحفظ.
ومولده فى شوّال سنة خمس وستين وستمائة بدمياط وكان بارعا مدرسا مفتنّا، درّس بدمشق والقاهرة وأفتى، وعمره اثنتان وعشرون سنة، وكان يشتغل فى الفقه(9/233)
والتفسير والأصلين والنحو، واشتغل فى آخر عمره فى الطبّ، وسمع الحديث الكتب الستة ومسند الإمام أحمد، وصنّف «الأشباه «1» والنظائر» قبل أن يسبقه إليها أحد، وكان حسن الشكل حلو المجالسة وعنده كرم مفرط، وله الشّعر الرائق الفائق فى كلّ فنّ من ضروب الشّعر. وكانت وفاته فى رابع عشرين ذى الحجّة ودفن بالقرافة فى تربة «2» الفخر ناظر الجيش. وهو أحد من قام على الملك الناصر وانضمّ على المظفّر بيبرس الجاشنكير. وقد تقدّم ذكر «3» ذلك كلّه فى أوائل ترجمة الملك الناصر. ومن شعره:
أقصى مناى أن أمرّ على الحمى ... ويلوح نور رياضه فيفوح
حتّى أرى سحب الحمى كيف البكا ... وأعلّم الورقاء كيف تنوح
وله [دو بيت «4» ] :
كم قال: معاطفى حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل
الآن أوامرى عليهم حكمت ... البيض تحدّ والقنا تعتقل
وله:
عيّرتنى بالسّقم طرفك مشبهى ... وكذاك خصرك مثل جسمى ناحلا «5»
وأراك تشمت إذ أتيتك سائلا ... لا بدّ أن يأتى عذارك سائلا
قلت: وله ديوان موشّحات وأحسنهم موشحته التى عارض بها السّراج المجّار التى أوّلها:
ما أخجل قدّه غصون البان، بين الورق ... إلّا سلب المها «6» مع الغزلان، سود الحدق(9/234)
وقد ذكرناها «1» بتمامها فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» وقطعة جيّدة من شعره.
وتوفّى الشيخ الأديب البارع المفتنّ أعجوبة زمانه علاء الدين علىّ بن المظفّر بن إبراهيم [بن عمر «2» ] الكندى الوداعىّ المعروف بكاتب ابن وداعة الشاعر المشهور، أحد من اقتدى به الشيخ جمال الدين ابن نباتة فى ملح أشعاره. مولده سنة أربعين وستمائة، ومات ببستانه فى سابع عشر شهر رجب بدمشق ودفن بالمزّة «3» ، وكان فاضلا أديبا شاعرا عالى الهمة فى تحصيل العلوم. سمع الحديث وكتب الخطّ المنسوب ونظم ونثر وتولى عدّة ولايات، وكتب بديوان الإنشاء بدمشق وتولّى مشيخة دار الحديث [النّفيسية «4» ] وجمع التذكرة «5» الكنديّة تزيد على خمسين مجلّدا. وله ديوان شعر فى ثلاثة مجلّدات. ومن شعره:
قال لى العاذل المفنّد فيها ... يوم زارت فسلّمت مختاله
قم بنا ندّع النبوّة فى العش ... ق فقد سلّمت علينا الغزاله(9/235)
وله أيضا:
أثخنت عينها الجراح ولا إث ... م عليها لأنّها نعساء
زاد فى عشقها جنونى فقالوا ... ما بهذا فقلت بى سوداء
وله وهو أحسن ما قيل فى نوع التوجيه «1» :
من زار «2» بابك لم تبرح جوارحه «3» ... تروى أحاديث ما أوليت من منن
فالعين «4» عن قرّة والكفّ عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن
وله أيضا:
قيل إن شئت أن تكون غنيّا ... فتزوّج وكن من المحصنينا
قلت ما يقطع الإله بحرّ ... لم يضع بين أظهر المسلمينا
وقد ذكرنا من مقطّعاته عدّة كثيرة فى «المنهل الصافى» ، ولولا خشية الملل لذكرناها هنا.
وتوفّى «5» الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله المنصورىّ المعروف بالأفرم الصغير نائب الشام ببلاد مراغة «6» عند ملك التّتار. وقد تقدّم خروجه «7» مع الأمير قراسنقر المنصورىّ من البلاد الشاميّة إلى غازان ملك التتار فى أوائل دولة الملك الناصر الثالثة فلا حاجة فى ذكرها هنا ثانيا. وكان ملك التتار أقطعه مراغة وقيل همذان «8»(9/236)
فأقام بها سنتين «1» ، ومات بالفالج فى ثالث عشر المحرّم. وكان أميرا جليلا عارفا مدبّرا عالى الهمّة شجاعا مقداما. تقدّم من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة المظفّر بيبرس الجاشنكير. وكانت ولايته على دمشق إحدى عشرة سنة متوالية إلى أن عزله الملك الناصر لمّا خرج من الكرك.
وتوفّى الأمير سيف الدين كستاى «2» بن عبد الله نائب طرابلس بها. وتولّى نيابة طرابلس من بعده الأمير قرطاى نائب حمص. وولى حمص بعد قرطاى المذكور أرقطاى الجمدار.
وتوفّى الأمير سيف الدين طقتمر الدمشقىّ بالقاهرة بمرض السلّ. وكان من خواصّ الملك الناصر وأحد من أنشأه من مماليكه.
وتوفّى الطواشى ظهير الدين مختار المنصورىّ المعروف بالبلبيسىّ الخازندار فى عاشر شعبان بدمشق. وكان شهما شجاعا ديّنا، فرّق جميع أمواله قبل موته على عتقائه ووقف أملاكه على تربته.
وتوفّيت السيّدة المعمّرة أمّ محمد «3» ستّ الوزراء المعروفة بالوزيرة ابنة الشيخ عمر ابن أسعد بن المنجّا التّنوخيّة فى ثامن «4» عشر شعبان بدمشق، ومولدها سنة أربع وعشرين وستمائة، روت صحيح البخارىّ عن [أبى عبد الله «5» ] بن الزّبيدىّ وصارت رحلة زمانها، ورحل إليها من الأقطار.(9/237)
وتوفّى ملك «1» التتار خربندا (بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وسكون النون) بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن چنكزخان السلطان غياث الدين، ومن الناس من يسمّيه خدابندا (بضم الخاء المعجمة والدال «2» المهملة) والأصح ما قلناه. وخدابندا: معناه عبد الله بالفارسىّ «3» ، غير أن أباه لم يسمّه إلّا خربندا، وهو اسم مهمل «4» معناه «5» : عبد الحمار. وسبب تسميته بذلك أنّ أباه كان مهما ولد له ولد يموت صغيرا، فقال له بعض الأتراك: إذا جاءك ولد سمّه اسما قبيحا يعيش، فلما ولد له هذا سمّاه خربندا فى الظاهر واسمه الأصلى أبحيتو «6» ؛ فلما كبر خربندا وملك البلاد كره هذا الاسم واستقبحه فجعله خدابندا ومشى ذلك بمماليكه وهدّد من قال غيره ولم يفده ذلك إلا من حواشيه خاصّة. ولما ملك خربندا أسلم وتسمّى بمحمد، واقتدى بالكتاب والسّنة وصار يحب أهل الدين والصلاح، وضرب على الدرهم والدينار اسم الصحابة الأربعة الخلفاء، حتى اجتمع بالسيد تاج الدين الآوى «7» الرافضىّ، وكان خبيث المذهب، فما زال بخربندا، حتى جعله رافضيّا وكتب إلى سائر ممالكه يأمرهم بالسبّ والرّفض، ووقع له بسبب ذلك أمور. قال النّويرىّ:
كان خربندا قبل موته بسبعة أيام قد أمر بإشهار النداء ألّا يذكر أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وعزم على تجريد ثلاثة آلاف فارس إلى المدينة النبوية لينقل(9/238)
أبا بكر وعمر رضى الله عنهما من مدفنهما، فعجّل الله بهلاكه إلى جهنّم وبئس المصير هو ومن يعتقد معتقده كائنا من كان. وكان موته فى السابع والعشرين من شهر رمضان بمدينته التى أنشأها وسمّاها السلطانيّة «1» فى أرض قنغرلان «2» بالقرب من قزوين، وتسلطن بعده ولده بو سعيد فى الثالث عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة سبع عشرة وسبعمائة، لأنه كان فى مدينة أخرى وأحضر منها وتسلطن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 717]
السنة الثامنة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة سبع عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبى الربيع سليمان بن سويد «3» الزّواوىّ المالكى قاضى دمشق بها، فى التاسع من جمادى الأولى.
وكان فقيها عالما عالى الهمّة محدّثا بارعا مشكور السّيرة فى أحكامه.(9/239)
وتوفّى القاضى الرئيس شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب بن جمال الدين فضل الله ابن المجلّى القرشىّ العدوى العمرىّ، كاتب السر الشريف بدمشق فى ثالث رمضان ودفن بسفح قاسيون. ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وكان إماما فى كتابة الإنشاء عارفا بتدبير الممالك مليح الخطّ غزير العقل وخدم عدة سلاطين، وكان كاملا فى فنّه لم يكن فى عصره من يدانيه ولا يقاربه. ومن شعره ما كتبه للشهاب محمود فى صدر كتاب:
كتبت والقلب «1» يدنينى إلى أمل ... من اللّقاء ويقصينى عن الدار
والوجد «2» يضرم فيما بين ذاك وذا ... من الجوانح «3» أجزاء من النار
وتوفّى الأديب الفاضل شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى المحاسن يعقوب «4» ابن إبراهيم بن أبى نصر الطّيبى الأسدىّ بطرابلس فى سادس «5» رمضان. ومولده فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وكان كاتب الدّرج بطرابلس وكان فاضلا ناظما ناثرا.
ومن شعره:
ما مسّنى الضّيم إلّا من أحبّائى ... فليتنى كنت قد صاحبت أعدائى
ظننتهم لى دواء الهمّ فانقلبوا ... داء يزيد بهم همّى وأدوائى
من كان يشكو من الأعداء جفوتهم ... فإنّنى أنا شاك من أودّائى(9/240)
وتوفّى الأمير أرسلان الناصرىّ الدّوادار فى الثالث والعشرين من شهر رمضان، وكان هو وعلاء الدين ابن عبد الظاهر صديقين فمرضا فى وقت واحد بعلّة واحدة وماتا فى شهر واحد. وخلّف أرسلان جملة كثيرة من المال استكثرها الملك الناصر على مثله. وكان من جملة أمراء الطبلخاناه واستقرّ عوضه دوادارا الأمير ألجاى الدوادار الناصرىّ. وفى أرسلان هذا عمل علاء الدين ابن عبد الظاهر كتابه المسمّى «بمراتع الغزلان «1» » .
وتوفّى الأمير سيف الدين قلّى السّلاح دار بالقاهرة. وكان من أعيان أمراء الديار المصرية، وأنعم السلطان بإقطاعه ومنزلته [فى المجلس «2» ] على الأمير چنكلى ابن البابا.
وتوفّى الأمير سيف «3» الدين ألدكز بن عبد الله السّلاح دار صهر الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ ومات فى الحبس.
وتوفّى الأمير سيف الدين ألكتمر بن عبد الله صهر الأمير بكتمر الجوكندار أيضا فى الحبس حتف أنفه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء. وكان نيلا عظيما غرقت منه عدّة أماكن. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 718]
السنة التاسعة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة ثمانى عشرة وسبعمائة.(9/241)
فيها توفّى قاضى القضاه زين الدين أبو الحسن علىّ ابن الشيخ رضىّ الدين أبى القاسم مخلوف ابن تاج الدين ناهض المالكى النّويرىّ فى يوم الأربعاء ثامن «1» عشر جمادى الآخرة بمصر، ودفن بسفح المقطّم. ومولده فى سنة عشرين «2» وستمائة. وكان فقيها ديّنا خيّرا حسن الأخلاق. وولى القضاء بديار مصر فى سنة خمس وثمانين وستمائة، فكانت مدّة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة تقريبا، وعرضت عليه الوزارة فى الدولة المنصورية لاچين فأباها خوفا من علم الدين [سنجر] الشّجاعىّ، وتولّى بعده القضاء نائبه تقىّ الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى [بن بدران «3» بن رحمة الإخنائى المالكىّ] .
وتوفّى الشيخ الإمام الزاهد بقيّة السّلف. أبو بكر ابن الشيخ المسند المعمّر زين الدين أبى العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد ابن أبى بكر المقدسىّ الحنبلىّ. سمع الكثير وحدّث. وكان شيخا كثير التّلاوة والصلاة على النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وحدّث فى حياة والده. ومولده سنة ست وعشرين وستمائة؛ وقيل سنة خمس وعشرين. ومات ليلة الجمعة التاسع والعشرين من رمضان.
وتوفّى الأمير علاء الدين أقطوان الساقى الظاهرى فى عاشر شهر رمضان بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة. وكان رجلا صالحا مواظب الجماعات، ويقوم اللّيل.
وتوفّى الامير عز الدين طقطاى الناصرىّ، كان نائب الكرك فتمرّض فعزل عن الكرك، وتوجّه إلى دمشق ليتداوى بها فمات فى رابع عشر شعبان.(9/242)
وتوفّى الأمير سيف الدين منكبرس «1» نائب عجلون. كان من قدماء المماليك المنصوريّة، وكان معظّما فى الدول وله حرمة وافرة.
وتوفى الشيخ كمال الدين [أبو العبّاس «2» ] أحمد ابن [الشيخ جمال الدين «3» ] أبى بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سجمان «4» البكرىّ الوائلىّ الشّريشىّ «5» الفقيه الشافعى، مات بطريق الحجاز، وكان فقيها عالما فاضلا.
وتوفّى الشيخ جمال الدين أبو بكر إبراهيم [بن حيدرة «6» بن علىّ بن عقيل] الفقيه الشافعى المعروف بابن القمّاح فى سابع عشر ذى الحجّة. وكان معدودا من فضلاء الشافعيّة.
وتوفى الشيخ المقرئ مجد الدين أبو بكر ابن الشيخ شمس الدين محمد بن قاسم التّونسىّ المقرئ النحوىّ المالكىّ فى ذى القعدة بدمشق. وكان من فضلاء المالكية.
وتوفى الأمير سيف الدين وقيل شمس الدين سنقر بن عبد الله الكمالى الحاجب فى حبس الملك الناصر بقلعة الجبل فى شهر ربيع الآخر. وكان أوّلا معتقلا بالكرك فأحضر هو والأمير كراى إلى القاهرة فحبسا بقلعة الجبل إلى أن مات بها. وكان من عظماء الدولة ومن أكابر الأمراء، وتولّى الحجوبيّة بالديار المصرية فى عدّة دول.(9/243)
وكان أحد الأعيان بالديار المصريّة إلى أن قبض عليه الملك الناصر وحبسه فى سلطنته الثالثة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر الشّمسىّ بقلعة دمشق، وكان أحد من قبض عليه الملك الناصر وحبسه. وكان مشهورا بالشجاعة والإقدام.
وتوفّى الأمير سيف الدين منكوتمر الطّبّاخى، والأمير سيف الدين أركتمر كلاهما بالجبّ من قلعة الجبل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان ونصف. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. وكان الوفاء بعد النّوروز بأيّام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 719]
السنة العاشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة تسع عشرة وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الصالح المعتقد أبو الفتح نصر بن سليمان «1» بن عمر المنبجىّ «2» لحنفىّ بزاويته «3» بالقاهرة فى جمادى الآخرة، ودفن بجوار الزاوية. ومولده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان عالما زاهدا متقشفا، سمع الحديث وبرع فى الفقه(9/244)
والتصوّف، وأقبل عليه ملوك عصره. ذكر ابن «1» أخيه الشيخ قطب الدين قال:
سألنى الشيخ يوما هل قرب وقت العصر؟ فقلت: لا، وبقى يسألنى عن ذلك ساعة فساعة وهو مسرور مستبشر بوقت العصر، فلما دخل وقت العصر مات.
رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أبو عبد الله الحسين بن سليمان بن فزارة الكفرى (بفتح الكاف «2» ) البصروىّ الحنفى فى ثالث عشر جمادى الأولى ودفن بقاسيون، وكان فقيها محدّثا ناب «3» فى الحكم، وحمدت سيرته، وسمع الكثير وبرع فى الفقه وغيره.
وتوفّى الأمير سيف الدين كراى المنصورىّ معتقلا بقلعة الجبل، وكان من أكابر مماليك المنصور قلاوون، وولى نيابة القدس، ثمّ ولّاه الملك الناصر محمد فى سلطنته هذه الثالثة نيابة الشام بعد قراسنقر، ثم قبض عليه وحبسه بالكرك مدّة، ثمّ نقله إلى القاهرة وحبسه بقلعة الجبل إلى أن مات فى هذا التاريخ.
وتوفّى الأمير سيف الدين إغزلو العادلى بدمشق، وكان من أكابر أمرائها، وكان ولى نيابة دمشق فى أواخر دولة أستاذه الملك العادل زين الدين كتبغا فعزله الملك المنصور حسام الدين لاچين عن نيابة دمشق، ثم صار بعد ذلك من أمراء دمشق إلى أن مات. وكانت ولايته على نيابة دمشق نحوا من ثلاثة أشهر، وكان موصوفا بالشجاعة والإقدام.
وتوفّى الأمير سيف الدين قيران الشمسىّ بدمشق ودفن بقاسيون بتربة ابن مصعب، وكان من جملة أمراء دمشق، وكان ديّنا خيّرا عفيفا مع كرم وشجاعة.(9/245)
وتوفّى الأمير علاء الدين طيبرس بن عبد الله الخازندارىّ نقيب الجيوش المنصورة وأحد أمراء الطبلخاناه فى العشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بقبّته التى أنشأها بمدرسته على باب جامع الأزهر. واستقرّ عوضه فى نقابة الجيش الأمير شهاب الدين أحمد بن آقوش العزيزى المهمندار «1» . وطيبرس هذا هو الذي كان أنشأ الجامع والخانقاه على النيل، وعرف ذلك المكان بالطّيبرسىّ، وقد تهدّم الجامع»
والخانقاه، ونقل صوفيّتها إلى مدرسته «3» التى أنشأها على باب الجامع الأزهر على يمنة الداخل إلى الجامع. وكان من أجلّ الأمراء وأقدمهم، وطالت أيامه فى وظيفته، أقام فيها أربعا وعشرين سنة، لم يقبل لأحد هديّة، وإنما كان شأنه عمارة إقطاعه والزراعة، ومن ذلك نالته السعادة وعمّر الأملاك. وكان ديّنا خيّرا بخلاف آقبغا عبد الواحد الذي عمّر مدرسته «4» أيضا على باب الجامع الأزهر فى مقابلة طيبرس هذا.
وتوفّى الشيخ بدر الدين أبو عبد الله محمد بن منصور بن إبراهيم بن منصور بن رشيد الربعى الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن الجوهرىّ. ولد بحلب فى ثالث عشر صفر سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وكان فاضلا ديّنا أثنى عليه الحافظ البرزالىّ فى معجمه.
وكانت وفاته فى يوم السبت سابع عشر «5» جمادى الآخرة من السنة. رحمه الله.(9/246)
وتوفّى الأمير سيف الدين أركتمر «1» بن عبد الله السّليمانى الجمدار فجأة. وكان من أعيان الأمراء وأماثلهم.
وتوفّى القاضى فخر الدين أبو عمرو عثمان بن علىّ [بن يحيى «2» بن هبة الله بن إبراهيم ابن المسلم] الأنصارىّ الشافعىّ المعروف بابن بنت أبى سعد «3» فى جمادى الآخرة من السنة.
وتوفّى بدمشق الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد ابن الملك الأمجد [مجد «4» الدين] حسن ابن الملك الناصر داود ابن الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب أحد أمراء دمشق فى شهر رجب.
وتوفى الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه ابن الملك القاهر ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شير كوه الكبير ابن شادى أحد أمراء دمشق بالقاهرة فى ثانى ذى «5» القعدة.
كان قدمها فى طلب الإمرة فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق، فأدركته المنيّة قبل عوده إلى وطنه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 720]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة عشرين وسبعمائة.(9/247)
فيها توفّى قاضى القضاة كمال الدين أبو حفص عمر ابن قاضى القضاة عزّ الدين أبى البركات عبد العزيز ابن الصاحب محيى الدين أبى عبد الله محمد ابن قاضى القضاة نجم الدين أبى الحسن أحمد ابن قاضى القضاة جمال الدين أبى الفضل هبة «1» الله ابن قاضى القضاة مجد «2» الدين أبى غانم محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبى جرادة العقيلى الحلبىّ الحنفىّ الشهير بابن العديم قاضى قضاة حلب وغيرها. كان فقيها عالما مشكور السّيرة. وكمال الدين هذا غير ابن العديم «3» المتقدّم صاحب «تاريخ «4» حلب» وغيرها من التصانيف وقد مرّ ذكره.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة النحوىّ اللغوىّ شمس الدين محمد بن حسن بن سباع ابن أبى بكر الجذامىّ المصرىّ الأصل الدّمشقىّ المولد المعروف بابن الصائغ. مات بدمشق فى ثالث شعبان. ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة بدمشق. كان أديبا فاضلا فى فنّ الأدب، وله النظم والنثر ومعرفة بالعروض والقوافى والبديع واللّغة والنحو وشرح «مقصورة ابن دريد» فى مجلدين. واختصر «صحاح «5» الجوهرى» وجرّده من الشواهد، وصنّف قصيدة عدّتها ألفا بيت، فيها العلوم والصنائع، وله «مقامات» وأشياء كثيرة. ومن شعره من قصيدة أوّلها «6» :(9/248)
لى نحو ربعك دائما يا جلّق ... شوق أكاد به جوى أتمزّق
وهمول دمع من جوى بأضالعى ... ذا مغرق طرفى وهذا محرق
أشتاق منك منازلا لم أنسها ... إنّى وقلبى فى ربوعك موثق
ومنها:
والريح «1» يكتب فى الجداول أسطرا ... خطّ له نسج النّسيم محقّق
والطير يقرأ والنسيم مردّد ... والغصن يرقص والغدير يصفق
وتوفّى الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن يوسف بن قاسم الكنانىّ «2» الشّارمساحىّ «3» الشاعر المطبوع صاحب النوادر الظّريفة المضحكة. والعامّة يسمونه الشّارمساحىّ. وكان شاعرا مطبوعا، غير أنه كان مغرى بالهجاء وثلب الأعراض، وكان يحضره الملك الناصر مجلسه فى بعض الأحيان. ومات بالقاهرة.
ومن شعره من آخر «4» قصيدة:
لا آخذ الله عينيه فقد نشطت ... إلى تلافى وفيها غاية الكسل
وقد مرّ من هجوه فى ابن المرحّل وابن عدلان فى أوّل «5» ترجمة الناصر فى سلطنته الثالثة.
وكان عارفا بعلوم.
وتوفّى الشيخ إسماعيل [بن سعيد «6» ] الكردىّ قتيلا على الزّندقة فى يوم الاثنين ثانى «7» عشرين صفر. وكان عارفا بعلوم كثيرة، حتّى إنّه كان يحفظ من التوراة(9/249)
والإنجيل، غير أنّه حفظت عنه عظائم فى حقّ الأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك كان يتجاهر بالمعاصى فاجتمع القضاة بسببه غير مرّة، حتى أفتى بعضهم بضرب عنقه، فضربت عنقه ببين القصرين.
وتوفّى الشيخ المعمّر الفقيه زين الدين أبو القاسم محمد بن علم الدين محمد بن الحسين ابن عتيق بن رشيق الإسكندرى المالكىّ بمصر فى المحرّم. وكان ولى قضاء الإسكندرية مدّة طويلة. وكان له نظم.
وتوفّى قتيلا سيف الدين آقجبا مملوك الأمير ركن الدين بيبرس التّاجى «1» بدمشق فى خامس عشرين «2» شهر ربيع الأوّل. وكان عنده فضيلة، إلّا أنّه لم يقنع بذلك، حتى ادّعى النبوّة وشاع عنه ذلك حتّى قتل.
وتوفّى السلطان الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر «3» صاحب غرناطة «4» والأندلس من بلاد المغرب فى ذى القعدة وأقيم بعده ابنه أبو عبد الله محمد. وكان من أجلّ ملوك المغرب. وكان مولده سنة ثمانين وستمائة. واستولى على الأندلس ثلاث عشرة سنة، وملك البلاد فى حياة(9/250)
أبيه الفرج، وكان أبوه متولّيا إذ ذاك لمالقة «1» ، فلمّا أراد إسماعيل هذا «2» الخروج لامه أبوه، فقبض إسماعيل على أبيه، وعاش أبوه فى سلطنته بعد ذلك عزيزا مبجّلا إلى أن مات فى ربيع الأوّل سنة عشرين وسبعمائة. وقد شاخ، ثم قتل ابنه صاحب الترجمة وقتل قاتله. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. وهبط النيل بسرعة فشرقت الأراضى.
والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 721]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ عفيف الدين عبد الله بن عبد الحقّ بن عبد الله ابن عبد الأحد القرشىّ المخزومىّ الدّلاصىّ «3» المصرىّ. مات بمكة المشرّفة فى رابع «4» عشر(9/251)
المحرّم، ومولده فى شهر رجب سنة ثلاثين وستمائة، وكان إماما مقرئا زاهدا أقام أكثر من ستين سنة يقرئ القرآن تجاه الكعبة.
وتوفى الشيخ شمس الدين محمد بن علىّ بن عمر المازنىّ الأديب المعروف بالدهّان بدمشق. وكان شاعرا مجيدا يعرف الأنغام والموسيقى وصناعة الدّهان «1» ، وكان يعمل الشعر ويلحّنه موسيقى ويغنّى به فيكون من شعره وصناعته. ومن شعره موشّحة أوّلها:
بأبى غصن بانة حملا ... بدر دجى بالجمال قد كملا، أهيف
فريد حسن ما ماس أو سفرا
إلا أغار «2» القضيب والقمرا
يبدى لنا بابتسامه دررا
فى شهد لذّ طعمه وحلا ... كأنّ أنفاسه نسيم طلا، قرقف «3»
وتوفّى الطواشى صفىّ الدين جوهر مقدّم المماليك السلطانية. كان رجلا صالحا ديّنا خيّرا وله حرمة وصولة عظيمة على المماليك وغيرهم. ولى التّقدمة فى أيام المظفر بيبرس الجاشنكير، فلمّا عاد الملك الناصر إلى ملكه عزله بصواب الرّكنى، واستمر بطّالا إلى أن مات.
وتوفى الشيخ حميد الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود بن نصر النّيسابورىّ شيخ الخانقاه الرّكنية بيبرس فى تاسع عشر جمادى الآخرة. ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة.(9/252)
وتوفّى الملك المؤيّد هزبر الدّين داود ابن الملك المظفّر يوسف بن عمر بن رسول التّركمانىّ الأصل اليمنىّ المولد والمنشأ والوفاة صاحب ممالك اليمن، تسلطن بعد أخيه فى المحرّم سنة ست وتسعين وستمائة فملك نيّفا وعشرين سنة، وكان قبل سلطنته تفقّه وحفظ كفاية المتحفّظ [ونهاية «1» المتلفّظ فى اللغة] ومقدّمة «2» ابن بابشاذ.
وبحث التنبيه «3» وطالع وفضل وسمع الحديث، وجمع الكتب النفيسة فى سلطنته، حتى قيل إنّ خزانة كتبه اشتملت على مائة ألف مجلّد. وكان مشكور السّيرة محبّا لأهل الخير. ولمّا أنشأ قصره بظاهر زبيد قال فيه الأديب تاج الدين «4» عبد الباقى اليمنى أبياتا، منها:
أنسى بإيوانه كسرى فلا خبر ... من بعد ذلك عن كسرى لإيوان
وفى الملك المؤيد يقول أيضا عبد الباقى المذكور وقد ركب المؤيّد فيلا:
الله ولّاك يا داود مكرمة ... ورتبة ما أتاها قبل سلطان
ركبت فيلا وظل الفيل ذا رهج ... مستبشرا وهو بالسلطان فرحان
لك الإله أذلّ الوحش أجمعه ... هل أنت داود فيه أم سليمان(9/253)
وكانت وفاته فى ذى الحجّة، وتولى بعده ابنه الملك المجاهد علىّ، واضطربت ممالك اليمن بعد موته. وتولّى عدّة سلاطين يأتى ذكر كلّ واحد منهم فى محلّه إن شاء الله تعالى.
وتوفّى مجد الدين أحمد بن معين الدين أبى بكر الهمدانىّ «1» المالكى خطيب الفيّوم، وكان يضرب به المثل فى المكارم والسؤدد وكان فصيحا خطيبا بليغا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ أصابع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس أصابع. وكان الوفاء ثانى أيام النسىء.
والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 722]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الشيخ أبى البركات محمد ابن الشيخ أبى العزّ بن صالح بن أبى العزّ بن وهيب «2» بن عطاء الأذرعىّ الحنفىّ بدمشق فى سابع المحرّم عقيب قدومه من الحجاز. ومولده سنة ثلاث وستين «3» وستمائة. وكان إماما فاضلا فقيها بصيرا بالأحكام، حكم بدمشق نحو عشرين سنة، وخطب بجامع «4»(9/254)
الأفرم مدّة، ودرّس بالظاهرية «1» والنّجيبيّة «2» والمعظّميّة «3» ، وأفتى وانتفع به غالب طلبة دمشق.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الزاهد الفقيه المفتى الحافظ المسند المعمّر بقيّة السّلف رضىّ الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن محمد بن إبراهيم ابن الطّبرىّ الكىّ الشافعىّ إمام المقام بالحرم الشريف، أمّ به أكثر من خمسين سنة. وكان فقيها صالحا عابدا. ومولده بمكّة فى سنة ست «4» وثلاثين وستمائة.
ومات فى شهر ربيع الأوّل.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه الصوفىّ علاء الدين أبو الحسن علىّ [بن الحسن «5» ] ابن محمد الهروىّ الحنفىّ. كان فقيها فاضلا وسلك طريق التصوّف، وطاف البلاد وأقام بحلب مدّة وتصدّى للإفتاء والتدريس سنين. ومن إنشاده «6» رحمه الله:(9/255)
كم حسرات فى الحشى ... من ولد قد انتشا
كنّا نشاء رشده ... فما نشا كما نشا
وتوفّى الأديب الشاعر جمال الدين أبو الفتح محمد بن يحيى بن محمد الأموىّ المصرىّ الشاعر المشهور. وكانت لديه فضيلة، وكان رحّالا طاف البلاد، ثم رجع إلى العراق فمات به. ومن شعره:
وافى الربيع ولى سبع ألازمها ... لزوم مرء له فى الدهر تجريب
ملك ومال ومملوك ومطربة ... مع المدام ومحبوب ومركوب
وتوفّى الأديب الشاعر أبو على الحسن «1» بن محمود بن عبد الكبير «2» اليمانى العدنىّ.
كان فاضلا ناظما ناثرا، وله ديوان شعر مشهور باليمن وغيره. ومن شعره:
برق تألّق من تلقاء كاظمة ... ما باله خطف الأبصار فى إضم
قد خطّ منه على آفاقها خطط ... كأنهنّ ولوع البيض فى اللّمم
وتوفّى الشيخ حسن العجمى الجواليقى «3» القلندرى بدمشق، وكان أوّلا يسكن بالقاهرة، وعمّر له بها زاوية خارج باب النصر، وهى إلى الآن تعرف بزاوية «4» القلندرية، ثم سافر إلى دمشق فمات بها. قال الشيخ عماد الدين إسماعيل بن كثير فى تاريخه: وكان قريبا من خواطر الملوك، لا سيما أهل بيت الملك المنصور قلاوون. وكان كثيرا ما ينشد أبياتا أوّلها:(9/256)
سلام على ربع به نعم البال ... وعيش مضى ما فيه قيل ولا قال
لقد كان طيب العيش فيه مجرّدا ... من الهم والقوم اللوائم غفّال «1»
وتوفّى الأمير عزّ الدين أيدمر بن عبد الله الساقى المعروف بوجه الخشب بدمشق. وكان من أعيان الأمراء، وفيه شجاعة وإقدام، وهو أحد من أخرجه الملك الناصر من مصر.
وتوفّى القاضى قطب الدين محمد بن عبد الصمد [بن عبد القادر «2» ] السّنباطىّ «3» الشافعى، خليفة الحكم ووكيل بيت المال فى ذى الحجّة. وكان معدودا من الفقهاء وله وجاهة.(9/257)
وتوفّيت المسندة المعمّرة أمّ محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن أبى بكر بن شكر فى ذى الحجّة بالقدس عن أربع وتسعين سنة. وكانت رحلة زمانها، رحل إليها من الأقطار وصارت مسندة عصرها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. وكان الوفاء أوّل أيام النسىء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 723]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالتة على مصر، وهى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة نجم الدين أبو العبّاس أحمد ابن عماد الدين محمد ابن أمين الدين سالم ابن الحافظ المحدّث بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى الثّعلبى «1» الدّمشقىّ الشافعىّ فى سادس عشر شهر «2» ربيع الأوّل بدمشق، ودفن بتربتهم بالقرب من الرّكنيّة: ومولده سنة خمس وخمسين وستمائة. وكان إماما عالما بارعا مدرّسا مفتيا كاتبا مجوّدا، ولى عدّة تداريس، وباشر قضاء الشام استقلالا فى سنة اثنتين وسبعمائة مع عدّة تداريس. وكان له نظم ونثر وخطب.
ومن شعره رحمه الله:
ومهفف بالوصل جاد تكرّما ... فأعاد ليل الهجر صبحا أبلجا
ما زلت ألثم ما حواه لثامه ... حتى أعدت الورد فيه بنفسجا
وتوفّى الشيخ الأديب الفاضل صلاح الدين صالح بن أحمد بن عثمان البعلبكىّ «3» الشاعر المشهور بالقوّاس. كان رجلا خيّرا صحب الفقراء وسافر البلاد، وكان(9/258)
أصله من مدينة خلاط «1» ، وكان يدخل الزوايا ويتواجد فى سماعات الفقراء، وله شعر كثير، من ذلك ما قاله فى ناعورة حماة:
وناعورة رقّت لعظم خطيئتى ... وقد لمحت شخصى من المنزل القاضى
بكت رحمة لى ثم ناحت لشجوها ... ويكفيك أن الخشب تبكى على العاصى
وهو صاحب القصيدة ذات الأوزان «2» التى أوّلها:
داء ثوى بفؤاد شفّه سقم ... لمحنتى من دواعى الهمّ والكمد
وتوفّى الشيخ الأديب الفاضل العدل شهاب الدين محمد بن محمد بن محمود ابن مكّى المعروف بابن دمرداش الدّمشقىّ، وبها مات ودفن بقاسيون. ومولده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان شاعرا مجيدا، وكان فى شبابه جنديّا، فلمّا شاخ ترك ذلك وصار شاهدا. وشعره سلك فيه مسلك مجير الدين «3» بن تميم، لأنّه صحبه وأقام معه بحماة مدّة عشرين سنة. ومن شعره:
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفى أحشائه حرق «4» الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق
تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى ... أعلّله بين العذيب وبارق
قلت: ومثل هذا قول القائل:
هنّئت يا عود الأراك بثغره ... إذ أنت فى الأوطان غير مفارق
إن كنت فارقت العذيب وبارقا ... هأنت ما بين العذيب وبارق(9/259)
ومثله لابن قرناص «1» :
سألتك يا عود الأراكة أن تعد ... إلى ثغر من أهوى فقبّله مشفقا
ورد من ثنيّات العذيب منيهلا ... يسلسل ما بين الأبيرق والنّقا
وقد ذكرنا مثل هذا عدّة كثيرة فى كتابنا «حلية الصفات فى الأسماء والصناعات» .
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلّامة الحافظ المؤرّخ الأخبارى الأديب كمال الدين عبد الرزّاق بن أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن الفوطىّ «2» صاحب التصانيف المفيدة، من جملتها: تاريخ كبير جدّا، وآخر دونه وسمّاه بمجمع الآداب فى معجم الأسماء على معجم الألقاب فى خمسين مجلّدا. والتاريخ الكبير على الحوادث من آدم إلى خراب بغداد وغير ذلك. وله شعر كثير ومجموع أدبيات سمّاه الدّرر الناصعة فى شعر المائة السابعة وصنف كتاب درر «3» الاصداف فى غرر الأوصاف مرتّب على وضع الوجود من المبدأ إلى المعاد، يكوّن عشرين مجلّدا. وكتاب «تلقيح «4» الأفهام فى المختلف والمؤتلف «5» » مجدولا. وكان له يد طولى فى ترصيع التراجم، وذهن سيّال وقلم سريع وخطّ بديع إلى الغاية. قيل: إنّه كتب من ذلك الخطّ الفائق الرائق أربع كراريس فى يوم، وكتب وهو نائم على ظهره. وكان له نظر فى فنون الحكمة كالمنطق وغيره.(9/260)
وتوفّى الملك المجاهد سيف الدين أنص «1» ابن السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ؛ بعد ما كفّ بصره من سهم أصابه، وكانت وفاته فى المحرّم.
وتوفّى الأمير طيدمر سيف الدين الجمدار أحد أعيان الأمراء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 724]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن وون الثالثة على مصر، وهى سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الصالح المعتقد أيوب المسعودىّ «2» بزاوية «3» الشيخ أبى السعود بالقرافة، وقد قارب المائة سنة، وضعف فى آخر عمره، فكان يحمل إلى حضور الجمعة، وكان يذكر أنّه رأى الشيخ أبا السعود.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ المحدث علاء الدين أبو الحسن علىّ بن إبراهيم بن داود بن سليمان الدّمشقىّ الشافعىّ الشهير بابن العطّار. كان فقيها محدّثا، وكانوا يسمونه مختصر النووى، ودرّس وأفتى سنين وانتفع به الناس.
وتوفّى الأمير شمس الدين محمد بن عيسى بن مهنّا أمير العرب وملك آل فضل، وكان حسن الهيئة عاقلا حازما عارفا بالأمور. مات بسلمية «4» .(9/261)
وتوفّى الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن ظافر فى جمادى الآخرة. وكان فقيها شافعيّا معدودا من أعيان الشافعيّة.
وتوفّى الشيخ تقىّ الدين «1» محمد بن عبد الرحيم «2» بن [عمر «3» ] الباجربقىّ «4» النحوىّ الشافعىّ فى شهر ربيع الآخر واتّهم بالزندقة فى تصانيفه ووقع له بسبب ذلك أمور، وهو صاحب «الملحمة الباجربقيّة، وله غيرها عدّة تصانيف أخر.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح فى جمادى الآخرة، وكان ناصر الدين هذا من جملة مقدّمى الألوف بالديار المصريّة، وكان معظّما فى الدولة موصوفا من الشّجعان.
وتوفّى الأمير الطّواشى زين الدين عنبر الأكبر زمام «5» الدور السلطانيّة فى جمادى الأولى وكان من أعيان الخدّام وأماثلهم.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح محمود الحيدرى العجمىّ خارج القاهرة، وكان من محاسن أبناء جنسه.
وتوفّى خطيب جامع عمرو بن العاص الشيخ نور الدين أبو الحسن علىّ بن محمد «6» ابن حسن بن علىّ القسطلانيّ فى شهر ربيع الآخر، وكان ديّنا خيّرا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم.(9/262)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 725]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة خمس وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورىّ الدّوادار صاحب التاريخ فى ليلة الخميس خامس عشرين شهر رمضان. كان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، أنشأه ورقّاه إلى أن ولّاه نيابة الكرك إلى أن عزله الملك الأشرف خليل بالأمير آقوش الأشرفىّ نائب الكرك، ثم صار بعد ذلك دوادارا وناظر الأحباس مدّة طويلة، ثم ولى نيابة السلطنة فى أيام الملك الناصر محمد الثالثة فدام مدّة، ثم قبض عليه الملك الناصر وحبسه إلى أن مات. وقيل أطلقه بعد حبسه بمدّة. وكان أميرا عاقلا فاضلا معظّما فى الدول، وكان إذا دخل على الملك الناصر يقوم له إجلالا.
وكان له أوقاف على وجوه البرّ، وهو صاحب المدرسة «1» الدّوادارية بخط سويقة «2» العزّى خارج القاهرة. وله تاريخ «زبدة «3» الفكرة فى تاريخ الهجرة» فى أحد «4» عشر(9/263)
مجلدا، أعانه على تأليفه كاتبه ابن كبر «1» النصرانى. وكان يجلس عند السلطان رأس «2» الميمنة عوضه.
قلت: كانت قاعدة قديم، أنه من كان قديم هجرة من الأمراء يجلس فوق الجميع، ولم يكن يوم ذاك أمير كبير أتابك العساكر كما هى عادة أيامنا هذه، وإنما استجدّت هذه الوظيفة فى أيام السلطان حسن، وأوّل من وليها بخلعة الأمير شيخون، وصارت من يومئذ وظيفة إلى يومنا هذا.
وتوفّى أمير المدينة النبوية الشريف منصور بن جمّاز بن شيحة الحسينىّ فى حرب كان بينه وبين حديثة ابن «3» أخيه فقتله حديثة المذكور فى رابع عشرين شهر رمضان، فكانت مدّة ولايته على المدينة ثلاثا وعشرين سنة وأيّاما، واستقرّ عوضه فى إمرة المدينة ابنه كبيش بن منصور.
وتوفّى الإمام العلّامة البليغ الكاتب المنشئ الأديب شهاب الدين أبو الثّناء محمود بن سليمان «4» بن فهد الحلبىّ ثم الدّمشقىّ الحنبلىّ صاحب ديوان الإنشاء بدمشق فى ليلة السبت ثانى عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة، ونشأ بدمشق وسمع الحديث وكتب المنسوب، ونسخ الكثير وتفقّه على أبى المنجا وغيره، وتأدّب بابن مالك ولازم مجد «5» الدين بن الظّهير وحذا حذوه وسلك طريقه فى النظم والكتابة. وولى كتابة سرّ دمشق بعد موت(9/264)
القاضى «1» شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمرىّ إلى أن مات. وفيه يقول الأديب البليغ ألطنبغا «2» الجاولى:
قال النّحاة بأنّ الاسم عندهم ... غير المسمّى وهذا القول مردود
الاسم عين المسمّى والدليل على ... ما قلت أنّ شهاب الدين محمود
ومن شعر شهاب الدين المذكور:
رأتنى وقد نال منى النّحول ... وفاضت دموعى على الخدّ فيضا
فقالت بعينى هذا السّقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا
قلت: وقد مرّ من ذكر الشهاب محمود هذا وشعره قطعة كبيرة فى فتوحات الملك المنصور قلاوون وغيره.
وتوفّى الخطيب جمال الدين محمد بن تقىّ الدين محمد بن الحسن بن علىّ بن أحمد بن علىّ ابن محمد «3» القسطلانيّ فى ليلة السبت مستهلّ شهر ربيع الأول. كان يخطب بجامع القلعة ويصلّى بالسلطان الجمعة، واستمرّ على ذلك سنين. وبعض الناس يحسب أنّ العادة لا يخطب ويصلّى بالسلطان إلّا القاضى الشافعىّ، وليس الأمر كذلك.
وما استجدّ هذا إلا الملك الظاهر برقوق فى سلطنته الثانية، وإنما كانت العادة قبل ذلك من ندبه السلطان أن يخطب ويصلّى به فعل ذلك كائنا من كان.
وتوفّى الشيخ شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح «4» القلقشندىّ «5» الفقيه الشافعىّ فى خامس عشرين شهر ربيع الآخر. وكان عالما فاضلا.(9/265)
وتوفّى الشيخ المقرئ تقىّ الدين محمد بن أحمد ابن الصّفىّ [عبد الخالق «1» ] الشهير بالتّقىّ الصائغ فى صفر؛ كان فاضلا مقرئا مجوّدا.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله التّتارىّ المنصورىّ فى ذى القعدة.
وكان من أعيان مماليك المنصور قلاوون، وصار من أعيان أمراء الديار المصريّة.
وتوفّيت الشّيخة حجّاب «2» شيخة رباط «3» البغداديّة فى المحرّم. وكانت خيّرة ديّنة، ولها قدم فى الفقر والتصوّف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. وكان الوفاء أوّل أيام النسىء.
والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 726]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة.(9/266)
فيها توفّى شيخ الرافضة جمال الدين الحسين «1» بن يوسف [بن «2» ] المطهّر الحلّى «3» المعتزلىّ شارح «مختصر ابن الحاجب» فى المحرّم. كان عالما بالمعقولات، وكان رضىّ الخلق حليما، وله وجاهة عند خربندا ملك التّتار. وله عدّة مصنّفات، غير أنّه كان رافضيّا خبيثا على مذهب القوم، ولابن «4» تيميّة عليه ردّ فى أربعة «5» مجلّدات، وكان يسمّيه ابن المنجّس يعنى عكس شهرته كونه كان يعرف بابن المطهّر.
وتوفّى الشيخ شرف الدين أبو الفتح أحمد ابن عزّ الدين أبى البركات عيسى ابن مظفّر بن محمد بن الياس المعروف بابن الشّيرجىّ الأنصارىّ الدّمشقىّ محتسب دمشق. ومولده سنة سبع وأربعين وستمائة.
وتوفّى الشيخ الإمام سراج الدين عمر «6» بن أحمد بن خضر بن ظافر بن طرّاد الخزرجىّ المصرىّ الأنصارىّ الشافعىّ خطيب المدينة النبويّة، كان خطيبا فصيحا مفوّها ديّنا.
وتوفّى الأمير بدر الدين حسن ابن الملك الأفضل [علىّ بن محمود «7» ] صاحب حماة. كان من أهل العلم، وكان أحد أمراء دمشق، وهو من بيت سلطنة ورياسة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.(9/267)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 727]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى السلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد ابن أحمد بن محمد اللّحيانىّ «1» المغربىّ ملك تونس بالإسكندرية بعد أن خرج من بلاده لأمر أوجب ذلك، وترك ملكه ونزل بالإسكندرية وسكنها بعد أن قدم القاهرة، ثم عاد إلى الإسكندرية، فمات بها.
وتوفى الشيخ الإمام شمس الدين محمد ابن العلّامة الشهاب محمود المقدّم ذكره فى عاشر شوّال. وكان شمس الدين أيضا كأبيه فاضلا كاتبا بارعا، وتولّى كتابة سرّ دمشق وهو من بيت رياسة وفضل وكتابة.
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو الحسن علىّ بن صفىّ الدين أبى القاسم بن «2» محمد بن عثمان البصراوىّ الحنفىّ قاضى قضاة دمشق فى شعبان، بعد ما حكم بدمشق عشرين سنة وحمدت سيرته، وكان إماما عالما ديّنا عفيفا مشكور السّيرة.
وتوفى الطّواشى ناصر الدين نصر الشّمسىّ شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ. وكان خيّرا ديّنا يحفظ القرآن ويكثر من التلاوة بصوت حسن.
وتوفّى الأمير سيف الدين كوجرى بن عبد الله أمير شكار بالقاهرة فى تاسع «3» عشرين ذى الحجّة. وكان أصله من مماليك عزّ الدين «4» أيدمر نائب الشام فى الأيام الظاهرية، وكان هو من أعيان الأمراء بمصر.(9/268)
وتوفّى الأمير شمس الدين إبراهيم ابن الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التّركمانىّ فى ثالث جمادى الآخرة بداره بجوار باب البحر، وكان فيه مكارم وله مروءة وعصبيّة مع حشمة ورياسة، وهو ابن صاحب جامع «1» التّركمانىّ المقدّم ذكره الذي بالقرب من باب البحر.
وتوفّى الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك «2» ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر [محمد «3» بن نجم الدين أيّوب] بن شادى بدمشق فى حادى عشرين جمادى الآخرة عن أربع وسبعين سنة، وكان من جملة أمراء دمشق معظّما فى الدّول من بيت سلطنة ورياسة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله البدرىّ نائب حمص فى ليلة عيد الفطر. كان من أكابر الأمراء، وفيه شجاعة وإقدام مع كرم وحشمة.
وتوفى لأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير الكبير أرغون بن عبد الله الدّوادار الناصرىّ نائب «4» السلطنة بالديار المصرية، ثم نائب حلب فى ثالث عشر شعبان.
وكان ناصر الدين هذا من جملة أمراء الديار المصرية معظّما فى الدولة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله المغربى «5» الحاجب بالديار المصرية فى ثامن شهر رمضان «6» وكان مقرّبا عند الملك الناصر، ومن أعيان أمرائه.(9/269)
وتوفّى العلّامة قاضى القضاة ذو الفنون جمال الإسلام كمال الدين أبو المعالى محمد بن علىّ بن عبد الواحد [بن عبد الكريم «1» ] الزّملكانىّ «2» الأنصارىّ السّماكىّ «3» الدّمشقىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق بمدينة بلبيس «4» فى سادس «5» عشر رمضان. ومولده سنة سبع «6» وستين وستمائة فى شوّال. وكان إماما علّامة بصيرا بمذهبه وأصوله، قوىّ العربية صحيح الذهن فصيحا أديبا ناظما ناثرا، أفتى وله نيّف وعشرون سنة، وصنّف وكتب؛ ومن مصنّفاته رسالة فى الردّ على الشيخ تقي الدين فى مسألة الطلاق، ورسالة فى الردّ عليه فى مسألة الزيارة، وشرح قطعة من المنهاج «7» ، ونظم ونثر وتولّى قضاء دمشق بعد القاضى جلال الدين القزوينىّ لمّا نقل إلى قضاء الديار المصريّة، فتوجّه إلى مصر فمات ببلبيس. ومن شعره قصيدته التى مدح بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التى أوّلها «8» :
أهواك يا ربّة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناى مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدنى ... عسى يشاهد معناك معنّاك
تهوى بها البيد «9» لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغرّ مضناك
تشوقها نسمات الصبح سارية ... تسوقها نحو رؤياك بريّاك(9/270)
ومنها:
إنّى قصدتك لا ألوى على بشر ... ترمى النوى بى سراعا نحو مسراك
وقد حططت رحالى فى حماك عسى ... تحطّ أثقال أو زارى بلقياك
كما حططت بباب المصطفى أملى ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك
محمد خير خلق الله كلّهم ... وفاتح الخير ماحى كلّ إشراك
قلت: وهى أطول من ذلك وكلها على هذا المنوال، وهو نظم فقيه لا بأس به.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 728]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى شيخ الإسلام تقىّ الدين أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم [الخضر «1» ] بن محمد بن تيميّة الحرّانىّ الدّمشقىّ الحنبلىّ بدمشق فى ليلة الاثنين العشرين من ذى القعدة فى سجنه بقلعة دمشق. ومولده فى يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل سنة إحدى وستين وستمائة.
وكان سجن بقلعة دمشق لأمور «2» حكيناها فى غير هذا المكان. وكان إمام عصره بلا(9/271)
مدافعة فى الفقه والحديث والأصول والنحو واللّغة وغير ذلك. وله عدّة مصنّفات «1» مفيدة يضيق هذا المحلّ عن ذكر شىء منها. أثنى عليه جماعة من العلماء مثل الشيخ تقىّ «2» الدين بن دقيق العيد والقاضى شهاب الدين الجوينى والقاضى شهاب الدّين ابن النّحاس. وقال القاضى كمال الدين بن الزّملكانىّ المقدّم ذكره: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، ثمّ جرت له محن فى مسألة الطلاق الثلاث، وشدّ الرّحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وحبّب للناس القيام عليه. وحبس مرات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق، وعقد له مجالس بالقاهرة ودمشق مع أنّه حصل له فى بعضها تعظيم من الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأطلق وتوجّه إلى دمشق وأقام بها إلى أن ورد مرسوم شريف فى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة بأن يجعل فى قلعة دمشق فى قاعة، فجعل فى قاعة حسنة وأقام بها مشغولا بالتصنيف والكتابة.
ثم بعد مدّة منع من الكتابة والمطالعة وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة ولا قلما ولا ورقة، ثم ساق ابن الزّملكانى كلاما طويلا الأليق الإضراب عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين جوبان بن تلك بن ندوان «3» نائب القان بو سعيد ملك التّتار، وكان جوبان هذا قد ثقل على بو سعيد فأسرّ إلى خاله ايرنجى «4» قتله(9/272)
فلم يمكنه ذلك، فأخذ ابنه دمشق «1» خجا وقتله «2» ، ففرّ جوبان إلى هراة فلم يسلم وقتل بها. وكان شجاعا عالى الهمّة حسن الإسلام. أجرى العين إلى مكّة فى جمادى الأولى سنة ستّ وعشرين وسبعمائة، وأنشأ مدرسة بالمدينة النبويّة، ولمّا مات حمل إلى مكّة مع الرّكب العراقىّ وطيف به الكعبة ووقف به عرفة وهو ميّت، ثم مضى به إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فدفن بالبقيع.
وتوفّى أمير المدينة النبويّة الشريف كبيش بن منصور بن جمّاز الحسينىّ المدنىّ فى أوّل «3» شعبان قتيلا. وكانت ولايته على المدينة بعد قتل أبيه منصور فى رابع «4» عشر رمضان سنة خمس وعشرين وسبعمائة، قتله أولاد ودّى «5» ، وكان ودّى قد حبس بقلعة الجبل، فولى بعده إمرة المدينة أخوه طفيل.
وتوفّى الأمير الكبير شمس الدين قراسنقر بن عبد الله المنصورىّ بمدينة مراغة «6» من عمل أذربيجان «7» فى يوم السبت سابع عشرين شوّال، وكان من كبار المماليك المنصوريّة وأجلّ أمرائهم، وقد ولى نيابة حلب والشام ثم حلب، وهو أحد من كان سببا فى قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وأحد من كان السبب لعود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملكه فى هذه المرّة الثالثة، وقد مرّ من ذكره فى ترجمة المظفّر بيبرس الجاشنكير، وفى أوّل سلطنة الملك الناصر الثالثة، وحكينا(9/273)
كيفية خروجه من البلاد الحلبية إلى التتار، فلا حاجة إلى ذكر ذلك ثانيا، وما ذكرناه هنا إلّا بسبب وفاته والتعريف به. انتهى.
وتوفّى ببغداد مفتى العراق وعالمه الشيخ جمال «1» الدين عبد الله بن محمد بن علىّ ابن حمّاد بن ثابت الواسطى مدرّس المستنصريّة «2» فى ذى القعدة. ومولده فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وتوفّى الأمير سيف الدين جوبان بن عبد الله المنصورىّ أحد أكابر أمراء دمشق بها فى العشرين من صفر سنة ثمان وعشرين، وكان شجاعا مقداما.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر البوبكرىّ «3» فى سجنه بقلعة الجبل يوم الخميس النصف من شعبان. وكان من أكابر الأمراء من أصحاب بيبرس الجاشنكير وسلّار، فلمّا تسلطن الملك الناصر ثالث مرّة قبض عليه فى جملة من قبض عليهم وحبسه بقلعة الجبل إلى أن مات.
وتوفّى الشيخ عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن الواعظ الشهير بابن الخرّاط البغدادى الدّوالينىّ الحنبلىّ فى هذه السنة. ومولده فى سنة بضع «4» وثلاثين وستمائة. وكان إماما واعظا بليغا، ولوعظه موقع فى القلوب وعليه قابليّة.(9/274)
وتوفّى الأمير جمال الدين خضر بن نوكاى «1» التتارى أخو خوند أردوكين «2» الأشرفية المتوفية فى سنه أربع وعشرين. وكان خضر هذا من أعيان أمراء الديار المصرية، وله حرمة وثروة وحشم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 729]
سنة عشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير غرس الدين خليل بن الإربلىّ أحد أمراء العشرات بديار مصر فى سادس صفر، وأنعم السلطان بإمرته على إياجى الساقى. وكان خليل المذكور شجاه اصلا وجيها فى الدولة.
وتوفى الأمير سعد الدين سعيد ابن الأمير الكبير حسام الدين حسين فى ثامن عشر المحرم وأنعم بإمرته على تكا «3» الناصرىّ.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد «4» الواسطىّ الأشمومىّ «5» الشافعىّ المعروف بالوجيزى لكثرة قراءته «كتاب الوجيز «6» »(9/275)
فى الفقه فى ثامن «1» عشر المحرّم. وكان فقيها عالما معدودا من فقهاء الشافعية، وتولّى قضاء قليوب والجيزة.
وتوفّى الأمير الكبير شرف الدين حسين بن أبى بكر بن أسعد «2» بن جندرباك الرومىّ فى سادس «3» المحرّم. وكان قدم صحبة أبيه إلى الديار المصرية فى سنة خمس وسبعين وستمائة فى أيام الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ فى جملة من قدم من أهل الروم.
وكان أبوه أمير جاندار متملّك بلاد الروم معظّما فى بلاده. وكان أمير حسين هذا رأس مدرج لحسام الدين لاچين لما كان نائب الشام، لأنه كان رأسا فى الصيد ولعب الطين، فلمّا تسلطن لاچين أمّره عشرة بمصر، ثم وقع له أمور وصار من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، ونادم الأفرم نائب الشام إلى أن فرّ [الأفرم «4» إلى بلاد التّتار] . توجّه الأمير حسين هذا إلى الملك الناصر محمد إلى الكرك، ثم توجه معه إلى الديار المصرية وصار مقرّبا عنده. وكان يجيد لعب الصيد والرّمى بالنّشّاب، فأنعم عليه الملك الناصر بتقدمة ألف بالديار المصرية، وأفرد له زاوية من الطيور الخاص، وجعله أمير شكار رفيقا للأمير الكوجرى، وصار له حرمة وافرة بالقاهرة.
ووقع له أمور ذكرناها فى ترجمته فى «المنهل الصافى» مستوفاة. وطالت أيام الأمير حسين هذا فى السعادة. وعمر جامعه «5» قريبا من بستان العدّة والقنطرة «6» التى على الخليج بحكر «7» جوهر النّوبىّ ولمّا فرغ من عمارة الجامع المذكور أحضر إليه المشدّ والكاتب حساب المصروف فرمى به إلى الخليج، وقال: أنا خرجت عن هذا لله تعالى، فإن(9/276)
خنتما فعليكما، وإن وفّيتما فلكما. وكان خفيف الرّوح دائم البشر لطيف العبارة، وكانت فى عبارته عجمة لكنة، كان إذا قال الحكاية أو النادرة يظهر لكلامه حلاوة فى القلب والسمع.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر «1» بن عبد الله الحسامىّ الحاجب فى يوم الأربعاء حادى عشرين شهر ربيع الآخر «2» بداره «3» خارج باب النصر. وأنعم السلطان على ولده ناصر الدين محمد بإمرة عشرة وسنّه يومئذ ثلاث عشرة سنة. وفرّق الملك الناصر إقطاعه على جماعة، فكمل للأمير طرغاى «4» الجاشنكير تقدمة ألف، وأنعم على الأمير قوصون الناصرىّ بمنية «5» زفتة. وكان أصل بكتمر هذا من جملة مماليك الأمير حسام الدين طرنطاى نائب السلطنة للملك المنصور قلاوون، وكان أخذ من بلاد الروم سنة خمس وسبعين «6» وستمائة فيما أخذ «7» من مماليك السلطان غياث الدين كيخسرو(9/277)
متملّك بلاد الروم عندما دخل الملك الظاهر بيبرس إلى مدينة قيسريّة «1» ، وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة «2» الظاهر. فصار بكتمر هذا إلى طرنطاى، وطرنطاى يوم ذاك مملوك الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ قبل سلطنته فربّاه وأعتقه. فلمّا قتل طرنطاى صار بكتمر هذا للأشرف خليل، فرتّبه فى جملة الأوجاقيّة فى الإسطبل السلطانىّ.
ثم نقله [المنصور «3» لاچين] وجعله أمير آخور صغيرا، ثم أنعم عليه بإمرة عشرة بعد وفاة الفاخرىّ «4» . وما زال يترقّى حتّى ولى الوزارة، ثم الحجوبيّة بدمشق ثم نيابة غزّة ثم نيابة صفد ثم حجوبيّة الحجّاب بديار مصر إلى أن مات. وهو صاحب المدرسة والدار «5» خارج باب النصر من القاهرة. وخلّف أموالا كثيرة، وكان معروفا بالشّحّ وجمع المال.
قلت: وعلى هذا كان غالب أولاده وذريّته ممّن أدركنا. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ فى تاريخه: «وكان له حرص عظيم على جمع المال إلى الغاية، وكان له الأملاك الكثيرة فى كلّ مدينة، وكان له قدور يطبخ فيها الحمّص والفول وغير ذلك من الأوانى تكرى، وكان بخيلا جدّا. حكى لى الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس قال: كنت عنده يوما وبين يديه صغير من أولاده وهو يبكى ويتعلّق فى رقبته ويبوس صدره، فلمّا طال ذلك من الصغير قلت له: ياخوند، ماله؟
قال: شيطان يريد قصب مصّ. فقلت: يا خوند اقض شهوته. فقال: يا بخشى «6»(9/278)
سيّر إلى السّوق أربع فلوس هات له عودّا. فلمّا حضر العود القصب وجدوا الصغير قد نام ممّا تعنّى وتعب فى طلب القصب. فقال الأمير بكتمر: هذا قد نام، ردّوا العود وهاتوا الفلوس!» . انتهى كلام الصّفدىّ.
قلت: ولأجل هذا كانت له تلك الأملاك الكثيرة والأموال الجمّة. وإلّا من هو بكتمر بالنسبة إلى غيره من الأتابكيّة ونوّاب البلاد الشاميّة وغيرهم من عظماء الأمراء! ولكن هذا من ذاك. انتهى.
وتوفّى الشيخ الإمام جلال الدين أبو بكر عبد الله بن يوسف بن إسحاق بن يوسف الأنصارىّ الدّلاصىّ «1» إمام الجامع الأزهر بالقاهرة عن بضع وثمانين سنة.
وكان يعتقد فيه الخير، وله شهرة بالدّين والصلاح.
وتوفّى قاضى قضاة دمشق علاء الدين أبو الحسن علىّ بن إسماعيل بن يوسف القونوىّ الشافعىّ فى يوم السبت رابع عشر ذى القعدة. وكان عالما مصنّفا بارعا فى فنون من العلوم.
وتوفّى الأمير عزّ الدين أيبك الخطيرىّ أمير آخور فى العشرين «2» من ذى القعدة.
وتوفّى الأمير سيف الدين ساطلمش بن عبد الله الفاخرىّ فى ثالث ذى الحجّة، وأنعم بإقطاعه على الأمير كوجبا الساقىّ. وكان قديم هجرة فى الأمراء، وله وجاهة عند السلطان وغيره.
وتوفى الأمير ناصر الدين نصر الطّواشى شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ، ومقدّم المماليك السلطانية معا فى يوم الخميس عاشر شهر رجب. واستقرّ عوضه فى مشيخة الخدّام وتقدمة المماليك السلطانية الطّواشىّ عنبر السّحرتى. [ومات عزّ الدين «3» ] القيمرىّ.(9/279)
وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن الكافرى والى قوص. كان ولى عدّة أعمال، وكان من الظّلمة.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الأيدمرىّ فى شهر ربيع الأول.
وتوفّى الشيخ عزّ الدين أبو يعلى حمزة ابن المؤيّد أبى المعالى [أسعد «1» ] بن المظفّر بن أسعد بن حمزة القلانسىّ الشافعىّ بدمشق.
وتوفّى الشيخ الإمام نجم «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبى الحسن بن عقيل البالسىّ الشافعىّ بمصر. كان إماما فقيها مدرّسا مصنّفا، شرح التنبيه فى الفقه.
وتوفّى القاضى معين الدين هبة الله ابن علم الدين مسعود بن عبد الله «3» بن حشيش، صاحب ديوان الجيش بمصر، ثم ناظر جيش دمشق فى جمادى الآخرة. كان إماما فاضلا أديبا نحويّا كاتبا، وله فضائل، وتنقّل فى عدّة خدم.
وتوفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله الصغير بقلعة البيرة «4» .
وتوفّى شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم بن أبى المعالى الحلبىّ «5» بحماة. كان فاضلا كاتبا تنقّل فى عدّة خدم بالبلاد الشاميّة وغيرها، وتولّى كتابة السّرّ بحلب غير مرّة، وكان فيه رياسة وحشمة. «6» وفيه يقول الشيخ جمال الدين بن نباته:
قالت العليا لمن حاولها ... سبق الصاحب واحتلّ ذارها
فدعوا كسب المعالى إنّها ... حاجة فى نفس يعقوب قضاها(9/280)
وتوفّى الامير سيف الدين أغزلو «1» بن عبد الله الرّكنى منفيّا بقوص فى ربيع الآخر، وكان من أعيان الأمراء أصحاب بيبرس وسلّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 730]
سنة إحدى وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة ثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى المسند المعمّر الرّحلة أحمد بن أبى طالب بن أبى النّعم بن نعمة بن الحسن بن علىّ المعروف بابن الشّحنة وبالحجّار الصالحىّ الدمشقىّ فى خامس عشرين صفر. ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ومات وهو مسند الدنيا وتفرّد بالرواية عن ابن الزّبيدىّ «2» وابن اللّتّى «3» مدّة سنين لا يشاركه فيها أحد، وسمع الناس عليه صحيح البخارىّ أكثر من سبعين مرّة لعلوّ سنده. وقدم القاهرة مرتين، وحدّث بها ورحل إليه من الأقطار.
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر آص المنصورىّ أحد أمراء الألوف بدمشق فى تاسع عشر صفر الخير، وأنعم بإقطاعه على الأمير سنجر البشمقدار «4» . وكان بهادر شجاعا مقداما فى الحرب، وتولّى نيابة صفد. وكان له أربعة أولاد منهم اثنان(9/281)
أمراء، فكان يضرب على بابه ثلاث طبلخانات. وقد تقدّم ذكره فى أواخر ترجمة «1» المظفّر بيبرس الجاشنكير لمّا قدم مملوك الملك الناصر على الأفرم نائب الشام ونحوه.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله الدّوادارى المهمندار بدمشق فى نصف جمادى الأولى، وكان من جملة أكابر أمراء دمشق.
وتوفّى الأمير سيف الدين قلبرس «2» بن الأمير سيف الدين طيبرس الوزيرىّ بدمشق فى ليلة الجمعة ثامن ذى القعدة. وكان من جملة أمراء دمشق، وكان فيه مكارم وحشمة.
وتوفّى الأمير عزّ الدين ألدمر «3» بن عبد الله أمير جاندار مقتولا بمكّة المشرّفة فى يوم الجمعة رابع عشر ذى الحجة. وسبب قتله أنه توجّه إلى الحج فى هذه السنة، فقتله بعض عبيد أمير مكّة محمد «4» بن عقبة بن إدريس بن قتادة الحسنىّ. وسببه أن بعض عبيد مكّة عبثوا على بعض حجّاج العراق وتخطّفوا أموالهم، فاستصرخ الناس به، وكان قد تأخّر عن الحاج مع أمير الركب لصلاة الجمعة بمكة، فنهض والخطيب على المنبر، فمنعهم من الفساد ومعه ولده، فتقدّم الولد فضرب بعض عبيد مكّة فضربه العبد بحربة فقتله. فلمّا رأى أبوه ذلك اشتدّ حنقه وحمل ليأخذ بثأر ابنه، فرمى الآخر بحربة فمات. وتفرّق الناس وركب بعضهم بعضا ونهبت الأسواق، وقتل خلق من الحجّاج وغيرهم. وصلّى بعض الناس والسيوف تعمل، وقتل مع ألدمر(9/282)
مملوكه وأمير عشرة يعرف بابن التّاجى «1» . وتراجع الأمراء المصريون إلى مكّة لطلب بعض الثأر فلم ينتج أمرهم وعادوا فارّين. ثم أمر أمير المصريين بالرحيل، وعادوا إلى القاهرة وأخبروا الملك الناصر محمد بن قلاوون، فجهّز إلى مكة عسكرا كثيفا وعليه عدّة من الأمراء، فتوجّهوا وأخذوا بثأر ألدمر وابنه، وقتلوا جماعة كثيرة من العبيد وغيرهم وأسرفوا فى ذلك وخرجوا عن الحدّ إلى الغاية، وتشتّت أشراف مكة والعبيد عن أوطانهم وأخذت أموالهم، وحكمت الترك مكّة من تلك السنة إلى يومنا هذا، وزال منها سطوة أشراف مكّة الرافضة والعبيد إلى يومنا هذا. وانقمع أهلها وارتدعوا، وكرههم الملك الناصر ومقتهم وأقصاهم «2» ، حتى إنه لمّا حجّ بعد ذلك كان إذا أتاه صاحب مكّة لا يقوم له مع تواضع الملك الناصر للفقهاء والأشراف والصلحاء وغيرهم. وكان ألدمر المذكور معظّما عند الناصر وجيها فى دولته، وله الأملاك الكثيرة والأموال الجزيلة، وكان خيّرا ديّنا صالحا.
وتوفّى القاضى الرئيس علاء الدين أبو الحسن علىّ ابن القاضى تاج الدين أحمد ابن سعيد بن محمد بن سعيد المعروف بابن الأثير كاتب سرّ مصر، فى يوم الأربعاء خامس عشر المحرم بعد ما تعطّل وأصابه مرض الفالج مدّة سنين. وكان ذا سعادات جليلة وحرمة وافرة وجاه عريض، يضرب به المثل فى الحشمة والرياسة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قدادار بن عبد الله والى القاهرة وصاحب القنطرة «3» على خليج «4» الناصرىّ خارج القاهرة فى سادس عشر صفر. وأنعم بإمرته على الأمير ما جار القبجاقىّ. وأصل قدادار هذا من مماليك الأمير برلغى «5» الأشرفىّ المقدّم ذكره،(9/283)
وترقّى إلى أن ولى كشف الغربيّة وولاية البحيرة من أعمال الديار المصريّة، ثم ولاية القاهرة وتمكّن منها تمكّنا زائدا، وكان جريئا على الدنيا، ثم صرف عن ولاية القاهرة بناصر الدين محمد [بن «1» ] المحسنى، وأقام فى داره إلى أن خرج للحجّ ثم عاد وهو مريض، فلزم الفراش إلى أن مات فى التاريخ المذكور.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد [بن محمد «2» ] الرّومىّ شيخ خانقاه «3» بكتمر الساقى فى يوم الأحد ثالث عشرين «4» ذى الحجة، وولّى عوضه الشيخ زاده الدّوقاتى «5» . رحمه الله.
وتوفى الوزير شمس الدين أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن أحمد «6» بن سهل [الأزدىّ «7» ] الغرناطىّ الأندلسىّ بالقاهرة قافلا من الحجّ.
وتوفّى الأمير سيف «8» الدين كجكن بن عبد الله الساقى الناصرىّ فى سادس صفر.
وكان من خواصّ الملك الناصر محمد وأكبر مماليكه.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب ناصر الدين شافع «9» بن علىّ بن عباس بن إسماعيل بن عساكر الكنانىّ «10» العسقلانىّ ثم المصرىّ سبط الشيخ محيى الدين بن عبد الظاهر.(9/284)
ومولده فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وكان يباشر الإنشاء بمصر ودام على ذلك سنين إلى أن أصابه سهم فى نوبة «1» حمص الكبرى سنة ثمانين وستمائة فى صدغه فعمى منه، وبقى ملازم بيته إلى أن مات. وكان إماما أديبا فاضلا ناظما ناثرا جمّاعا للكتب، خلّف ثمانى عشرة «2» خزانة كتب نفائس أدبيّة وغيرها. ومن شعره بعد عماه:
أضحى وجودى برغمى فى الورى عدما ... وليس لى فيهم ورد ولا صدر
عدمت عينى ومالى فيهم أثر ... فهل وجود ولا عين ولا أثر
وله أيضا:
قال لى من رأى صباح مشيبى ... عن شمالى ولمّتى ويمينى
أىّ شىء هذا فقلت مجيبا ... ليل شكّ محاه صبح يقين
وله فى شبّابة «3» :
سلبتنا شبّابة بهواها ... كلّ ما ينسب اللبيب إليه
كيف لا والمحسّن القول فيها ... آخذ أمرها بكلتا يديه
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 731]
سنة اثنتين وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.(9/285)
فيها توفّى الأمير شهاب الدين صمغار «1» ابن الأمير شمس الدين «2» سنقر الأشقر فى ثالث عشر «3» المحرّم. وكان من جملة أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وأنعم الملك الناصر بإقطاعه على بهادر [بن أوليا «4» ] بن قرمان. وكان صمغار المذكور بطلا شجاعا يخافه الملك الناصر، وفرح بموته.
وتوفّى الأمير علاء الدين «5» علىّ ابن الأمير قطلوبك الفخرىّ أحد أمراء العشرات فى سابع عشرين المحرّم، وأنعم بإقطاعه على الزّينى أمير حاجّ ابن الأمير طقزدمر الحموىّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين منكلى بغا السلاح دار فى يوم الأحد سادس «6» صفر ودفن خارج باب النصر من القاهرة. وكان أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وأنعم السلطان بإمرته على الأمير تمربغا السّعدىّ. وكان منكلى بغا المذكور كثير الأكل كثير النكاح، وله فيهما حكايات عجيبة مضحكة.
وتوفّى قاضى القضاة بدمشق عزّ الدين أبو عبد الله محمد ابن تقىّ الدين سليمان ابن حمزة بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبى عمر محمد بن أحمد بن قدامة الحنبلىّ الدّمشقىّ بها فى يوم الأربعاء تاسع صفر. وكان ولى قضاء الحنابلة بدمشق بعد القاضى شرف الدين أبى محمد «7» عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن عبد الغنىّ المقدسىّ إلى أن مات فى هذا التاريخ. وكان عالما فاضلا مشكور السّيرة.(9/286)
وتوفّى الأمير قجليس بن عبد الله أمير سلاح فى يوم الثلاثاء خامس عشر صفر، وأنعم السلطان بإقطاعه وهو إمرة مائة على الأمير ساطلمش الجلالى. وكان قجليس المذكور من أعيان أمراء الديار المصرية وأماثلهم.
قلت: ولم يكن» أمير سلاح» تلك الأيام فى رتبة أيّامنا هذه. وإنّما كان أمره أنه يحمل سلاح السلطان ويناوله إيّاه فى يوم الحرب وفى عيد النّحر، وكان يجلس حيث كانت منزلته، واستمرّ ذلك إلى أوائل سلطنة الملك الظاهر برقوق حسب ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى فى محلّه.
وتوفّى الأمير سيف الدين طرجى «1» بن عبد الله الساقى أمير مجلس فى يوم الأربعاء سادس شهر ربيع الآخر. وكانت وظيفة أمير مجلس يوم ذاك أكبر من وظيفة أمير سلاح، وكان هو الذي يحكم على الجرايحية والحكماء وغيرهم.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن عمر بن حسّان «2» ابن أبى بكر بن علىّ الحنفى فى يوم الثلاثاء خامس عشر صفر بالقاهرة، وهو آخر من حدّث عن سبط «3» السّلفىّ، وكان صار رحلة الناس فى ذلك.
وتوفّى الأمير سيف الدين بيغجار «4» بن عبد الله الساقى أحد أمراء الطبلخاناه بديار مصر، وأنعم الملك الناصر بإقطاعه على الأمير عمر بن أرغون النائب.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين طرنطاى المنصورىّ فى يوم الأربعاء ثامن شهر رجب، وهو أحد أمراء الألوف بالديار المصرية. وكان أميرا شجاعا كريما وجيها فى الدّول.(9/287)
وتوفّى الأمير الكبير أرغون بن عبد الله الناصرىّ نائب السلطنة الشريفة ثم نائب حلب، وبها مات فى ليلة السبت ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وقيل ربيع الآخر.
وأصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة. اشتراه وربّاه وأدّبه وتبنّى به وأمره بملازمة الاشتغال، فاشتغل ودأب وبرع وكتب الخطّ المنسوب، وسمع صحيح البخارىّ بقراءة الشيخ أثير الدّين «1» أبى حيّان، وكتب بخطّه صحيح البخارىّ، وبرع فى الفقه وأصوله، وأذن له فى الإفتاء والتدريس. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ قال لى الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، كان أرغون يعرف مذهب أبى حنيفة ودقائقه ويقصر فهمه فى الحساب إلى الغاية.
قلت: كان قصور فهمه فى الحساب إذ ليس هو بصدده، ولو صرف همّته إلى ذلك لفهمه وعلمه على أحسن وجه. انتهى. ورقّاه أستاذه الملك الناصر لمّا رأى فيه مخايل النّجابة، وجعله دوادارا بعد الأمير بيبرس الدّوادار، ثمّ ولّاه نيابة السلطنة بديار مصر وجعل أمورها كلّها إليه. فدام فى نيابة السلطنة نحو ست عشرة سنة، ثم أخرجه لنيابة حلب. وقد ذكرنا «2» سبب إخراجه لحلب فى أصل هذه الترجمة. وتولى نيابة حلب بعد عزل الأمير ألطنبغا الصالحىّ، فباشر نيابتها نحو أربع سنين. وهو الذي أمر بحفر نهر الساجور، وأجراه إلى حلب فى سنة إحدى وثلاثين. وكان ليوم وصوله يوم مشهود. وفى هذا المعنى يقول الرئيس شرف الدين أبو عبد الله الحسين [بن سليمان «3» ] بن ريّان «4» رحمه الله:(9/288)
لمّا أتى نهر الساجور قلت له ... ماذا التأخّر من حين إلى حين
فقال أخّرنى ربّى ليجعلنى ... من بعض معروف سيف الدّين أرغون
وقال الشيخ بدر الدين الحسن [بن عمر بن «1» الحسن] بن حبيب فى المعنى أيضا:
قد أصبحت الشّهباء تثنى على ... أرغون فى صبح وديجور
من نهر الساجور أجرى بها ... للناس بحرا غير مسجور
وقد استوعبنا أمر أرغون هذا فى المنهل الصانى أكثر من هذا، إذ هو محلّ الإطناب فى التراجم.
وتوفّى تاج الدين إسحاق [بن عبد الكريم «2» ] ، وكان أوّلا يدعى عبد الوهاب، ناظر الخاصّ الشريف فى يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة. وكان أصله من أقباط مصر يخدم فى الدواوين، ثم صار ناظر الدولة، ثم باشر نظر الخاصّ بعد كريم الدين الكبير، فباشر بسكون وحشمة وانجماع «3» عن الناس مع حسن سياسة إلى أن مات. وتولّى الخاصّ بعده ابنه شمس الدين موسى الذي وقع له مع النّشو ما وقع من العقوبات والمصادرات، ومدّ الله فى عمره إلى أن رأى نكبة النّشو وقتله، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى فى محله من هذا الكتاب على سبيل الاختصار. وقد استوعبنا أمر موسى المذكور فى المنهل الصافى بما فيه عجائب وغرائب، فلينظر هناك.
وتوفّى التاجر تاج الدين أبو بكر بن معين الدين محمد بن الدّمامينىّ رئيس تجار الكارم «4» فى ثالث عشرين جمادى الآخرة، وقد قارب ثمانين سنة، وترك مائة ألف دينار عينا.(9/289)
قلت: ولعله يكون والد الدمامينيّة الشاعر والقاضى وغيرهما الآتى ذكرهما.
وتوفّى ملك الغرب صاحب فاس [ومرّاكش «1» ] أبو سعيد عثمان بن يعقوب ابن عبد الحق فى ذى الحجة «2» ، وقام من بعده ابنه السلطان أبو الحسن علىّ. وكانت مدّة عثمان هذا على فاس وغيرها من بلاد الغرب إحدى «3» وعشرين سنة.
وتوفّى الشيخ المسند شرف الدين أبو الحسين أحمد بن فخر الدين عبد المحسن ابن الرّفعة بن أبى المجد العدوىّ. وأبوه عبد المحسن إليه ينسب جامع «4» ابن الرّفعة بين مصر والقاهرة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فخر الدين أبو عمرو عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان الماردينىّ الحنفى الشهير بالتّركمانىّ فى ليلة السبت حادى عشر رجب. وكان إماما عالما بارعا مفتنّا، تصدّر للإفتاء والتدريس سنين عديدة. وكان معظّما عند الملوك، درّس بالمنصورية «5» من القاهرة، وشرح «6» الجامع الكبير، وسمع الكثير، وكان مقدّما على أقرانه فصيح العبارة عالما باللغة والعربية، والمعانى والبيان، شيخ(9/290)
السادة الحنفية فى زمانه. وهو والد قاضى القضاة علاء الدين «1» ، والعلّامة تاج الدين «2» أحمد، وجدّ جمال الدين «3» عبد الله بن علىّ، وعبد العزيز «4» بن علىّ. وتخرّج عليه حلائق كثيرة وانتفع به الناس.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 732]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير «5» الوزير علاء الدين مغلطاى بن عبد الله الجمالىّ. كان يلقّب بخرز «6» ، عند نزوله من العقبة «7» عائدا إلى الديار المصرية فى يوم الأحد سابع عشر المحرّم، فحمل ميّتا إلى القاهرة؛ ودفن بخانقاته «8» فى يوم الخميس حادى عشرين المحرّم.
وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة، وكان من خواصه وخاصّكيّته، ثم أنعم عليه بإمرة، ثم نقله على إمرة بهادر الإبراهيمى دفعة واحدة وندبه لمهمّاته، ثم ولّاه أستادارا فعظم أمره، ثم نقله إلى الوزارة وحكّمه فى جميع(9/291)
المملكة، فحسنت سيرته وساس الناس وأبطل مظالم. وكان جوادا عاقلا عارفا حشما يميل لفعل الخير، انتفع به جماعة كثيرة فى ولايته؛ لأنه كان يأخذ على ولاية المباشرات المال على أيديهم، فقصدهم الناس لذلك. وكان شأنه إذا ولّى أحدا وجاء من يزيد عليه عزله وولّى من زاد بعد أن يعلم أن المعزول قد استوفى ما قام به، ومن لم يستوف ذلك لم يعزله. ولم يصادر أحدا فى مدّة ولايته، وهذا من العجب! ولا ظلم أحدا، بل كانت أيامه مشكورة. وكان المستولى عليه مجد الدين «1» إبراهيم بن لفيتة «2» . وخلّف الأمير مغلطاى المذكور عدّة أولاد من زوجته بنت الأمير أسندمر كرجى نائب طرابلس. وإليه تنسب المدرسة الجماليّة «3» بالقرب من درب ملوخيّا داخل القاهرة بالقرب من داره «4» .
وتوفى الملك المؤيّد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل صاحب حماة ابن الملك الأفضل علىّ ابن الملك المظفّر «5» محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المنصور عمر ابن شاهنشاه بن أيّوب الأيّوبى فى ثالث «6» عشرين المحرّم. وتولّى حماة بعده ابنه الملك الأفضل، وقد تقدّم «7» ذكر قدومه على الملك الناصر وولايته لحماة بعد وفاة أبيه المؤيّد هذا. انتهى. وكان مولد الملك المؤيّد فى جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وحفظ القرآن العزيز وعدّة كتب، وبرع فى الفقه والأصول والعربية(9/292)
والتاريخ والأدب والطّبّ والتفسير والميقات والمنطق والفلسفة مع الاعتقاد الصحيح.
وكان جامعا للفضائل، وصار من جملة أمراء دمشق، إلى أن خدم الملك الناصر محمدا عند خروجه من الكرك فى سلطنته الثالثة. فلما تمّ أمره أنعم عليه بسلطنة حماة بعد الأمير أسندمر كرجى- وقد تقدّم ذلك كله فى صدر ترجمة الملك الناصر- وجعله صاحب حماة وسلطانها. وقدم على الناصر القاهرة غير مرّة وحجّ معه وحظى عنده إلى الغاية، حتى إنّ الملك الناصر رسم إلى نوّاب البلاد الشامية بأن يكتبوا له:» يقبّل الأرض» . فصار تنكز مع جلالة قدره يكتب له:» يقبّل الأرض» ، و» بالمقام الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ العمادىّ الملكىّ المؤيّدىّ» . وفى العنوان:» صاحب حماة» .
ويكتب السلطان الملك الناصر له:» أخوه محمد بن قلاوون، أعزّ الله أنصار المقام الشريف العالى السلطانىّ الملكىّ المؤيّدىّ العمادىّ» بلا مولوىّ. وكان الملك المؤيّد مع هذه الفضائل عاقلا متواضعا جوادا. وكان للشعراء به سوق نافق، وهو ممدوح الشيخ جمال الدين «1» بن نباتة، مدحه بغرر القصائد ثم رثاه بعد موته. ومن جملة مدائحه له:
أقسمت «2» ما الملك المؤيّد فى الورى ... إلّا الحقيقة والكرام مجاز
هو كعبة «3» للفضل ما بين النّدى ... منها وبين الطالبين حجاز
ولما مات رثاه بالقصيدة المشهورة التى أوّلها:
ما للنّدى ما يلبّى صوت داعيه ... أظنّ أنّ ابن شاد قام ناعيه
ما للرّجاء قد اشتدّت مذاهبه ... ما للزمان قد اسودّت نواحيه(9/293)
مالى أرى الملك قد فضّت مواقفه ... مالى أرى الوفد قد فاضت مآقيه
نعى المؤيّد ناعيه فوا أسفا ... للغيث كيف غدت عنّا غواديه
وا روعتا لصباح من رزيّته «1» ... أظنّ أنّ صباح الحشر ثانيه
وا حسرتاه لنظمى فى مدائحه ... كيف استحال «2» لنظمى فى مراثيه
أبكيه بالدّرّ من دمعى «3» ومن كلمى ... والبحر أحسن ما بالدّرّ أبكيه
أروى بدمعى ثرى ملك له شيم ... قد كان يذكرها الصّادى فترويه
أذيل ماء جفونى بعده أسفا ... لماء وجهى الذي قد كان يحميه
جار من الدّمع لا ينفكّ يطلقه ... من كان يطلق بالإنعام جاديه «4»
ومهجة كلّما فاهت بلوعتها ... قالت رزيّة مولاها لها إيه
ليت المؤيد لا زادت «5» عوارفه ... فزاد قلبى المعنّى من تلظّيه
[ليت الحمام «6» حبا الأيام موهبة ... فكان يفنى بنى الدنيا ويبقيه] .
ليت الأصاغر يفدى الأكبرون بها ... فكانت الشّهب فى الآفاق تفديه
والقصيدة أطول من هذا، تزيد على خمسين بيتا. وله فيه غير ذلك. وقد «7» تقدّم من ذكره فى المنهل الصافى أشياء أخر لم نذكرها هنا، فلتنظر هناك. ومن شعر الملك المؤيّد فى مليح اسمه حمزة:
اسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... ومن أعوّذ قلبى من تجنّيه
تصحيفه فى فؤادى لم يزل أبدا ... وفوق وجنته أيضا وفى فيه(9/294)
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد ياقوت بن عبد الله الحبشىّ الشاذلىّ تلميذ الشيخ العارف بالله تعالى أبى العباس «1» المرسى فى ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة بثغر الإسكندرية وبها دفن. وكان شيخا صالحا مباركا ذا هيبة ووقار وسمت وصلاح، وله أحوال وكرامات. وقبره «2» بالإسكندرية يقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ الصالح عبد العال خليفة الشيخ أحمد البدوىّ وخادمه بقرية طنتتا «3» بالغربية من أعمال القاهرة فى ذى الحجة. فكان له شهرة بالصلاح، ويقصد للزيارة والتبرك به؛ ودفن بالقرب من الشيخ «4» أحمد البدوىّ، الجميع فى موضع واحد، غير أن كلّ مدفن فى محلّ واحد على حدته. وخلفاء مقام الشيخ أحمد البدوىّ من ذريّة أخيه، لم يبلغنا من كراماته شىء.
وتوفّى القاضى الرئيس فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية فى يوم الأحد سادس عشر شهر رجب. قال الشيخ صلاح الدين:
كان متأهّلا عمره لما كان نصرانيّا، لما أسلم حكى الشيخ فتح الدين بن سيد الناس عن خاله القاضى شرف الدين بن زنبور قال: [هذا «5» ] ابن أختى، عمره متعبّدا، لأننا لما كنا نجتمع على الشّراب فى ذلك الدّين يتركنا وينصرف، فنتفقّده(9/295)
إذا طالت غيبته فنجده واقفا يصلّى. ولما ألزموه بالإسلام همّ بقتل نفسه بالسيف وتغيّب أيّاما. ثم أسلم وحسن إسلامه إلى الغاية، ولم يقرب نصرانيّا بعد ذلك ولا آواه ولا اجتمع به، وحجّ غير مرّة، وزار القدس غير مرّة. وقيل إنه فى آخر عمره كان يتصدّق فى كلّ شهر بثلاثة آلاف درهم. وبنى مساجد كثيرة بالقاهرة، وعمر أحواضا كثيرة فى الطّرقات، وبنى بنابلس مدرسة وبالرملة بيمارستانا. قال:
وأخبرنى القاضى شهاب الدين بن فضل الله أنه كان حنفىّ المذهب، ثم قال:
وكان فيه عصبيّة شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثير فى الدولة الناصرية لوجاهته عند أستاذه وإقدامه عليه. قال الصلاح: أمّا أنا فسمعت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يقول يوما فى خانقاة سرياقوس لجندى واقف بين يديه يطلب إقطاعا:
لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاوون ما أعطاك القاضى فخر الدين خبزا يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم. وقد ذكرنا من أحواله أكثر من هذا فى المنهل الصافى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سوتاى «1» صاحب ديار بكر بالموصل فى هذه السنه.
وكان ملكا جليلا ذا رياسة ووقار، وعمّر طويلا، وكان من أجلّ ملوك ديار بكر.
وتوفّى شيخ القرّاء فى زمانه برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربعى الجعبرىّ فى شهر رمضان. وكان من أعيان القرّاء فى زمانه.
وتوفى شيخ القراءات أيضا صدر الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الدندرىّ «2» الشافعىّ فى جمادى الآخرة.(9/296)
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجاى بن عبد الله النّاصرى الدّوادار. كان من مماليك الملك الناصر محمد وجعله دوادارا صغيرا جنديّا مع الأمير أرسلان «1» الدّوادار، فلما توفّى أرسلان استقلّ ألجاى المذكور بالدّواداريّة الكبرى عوضه على إمرة عشرة مدّة سنين، ثم أعطاه إمرة طبلخاناه. قال الإمام خليل بن أيبك فى تاريخه:
وأمّا اسمه فى العلامة فما كتب «2» أحد أحسن منه. وكان خبيرا عارفا عفيفا خيّرا طويل الروح. وكان يحبّ الفضلاء ويميل إليهم ويقضى حوائجهم وينامون عنده ويبحثون ويسمع كلامهم، ويتعاطى معرفة علوم كثيرة. ومع هذا كان لا بدّ فى خطّه أن يؤنّث المذكّر. وعمر له دارا «3» على الشارع خارج بابى زويلة، غرم على بوّابها مائة ألف درهم، فلم تستكمل حتّى مرض ونزل إليها من القلعة مريضا، فأقام بها إلى أن مات. وولى الدّواداريّة من بعده الأمير صلاح الدين يوسف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. والله أعلم.(9/297)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 733]
سنة اربع وعشرين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفى القاضى قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين ناظر جيش دمشق ورئيسها، المعروف بابن شيخ السّلّاميّة «1» عن اثنتين وسبعين «2» سنة، وكان نبيلا فاضلا وفور الحرمة.
وتوفّى القاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموىّ الشافعى فى حادى «3» عشر جمادى الأولى وهو معزول بعد ما عمى. مولده بحماة فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وهو والد قاضى قضاة الديار المصريّة عزّ الدين عبد العزيز بن جماعة. وكان إماما عالما مصنّفا، أخذ النحو عن ابن مالك «4» ، وأفتى قديما، وعرضت فتواه على الشيخ محيى «5» الدين النّووىّ فاستحسن ما أجاب به.
وتولّى قضاء القدس والخطابة بها. ثم نقل إلى مصر فولّى قضاءها بعد عزل تقىّ الدين ابن بنت «6» الأعزّ فى أوائل سنة تسعين وستمائة. ثم وقع له أمور حكيناها فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» . ومن شعره:
ارض من الله ما يقدّره ... أراد منك المقام أو نقلك
وحيثما كنت ذا رفاهية ... فاسكن فخير البلاد ما حملك(9/298)
وتمّم هذه الأبيات الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، فقال رحمه الله:
وحسّن الخلق واستقم فمتى ... أسأت أحسن ولا تطل أملك
من يتّق الله يؤته فرجا ... ومن عصاه ولا يتوب هلك
قلت: والبيت الثانى من قول ابن جماعة مأخوذ من قول المتنبّى، ولكن فاته الشّنب، وهو:
وكلّ امرئ يبدى «1» الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
وتوفّى الشيخ الإمام المؤرّخ الفقيه شهاب الدين أبو العبّاس «2» أحمد بن عبد الوهّاب ابن أحمد بن عبد الوهاب بن عبادة البكرىّ النّويرىّ «3» الشافعىّ، صاحب التاريخ المعروف «بتاريخ النّويرى» فى يوم الحادى والعشرين من شهر رمضان. كان فقيها فاضلا مؤرّخا بارعا، وله مشاركة جيّدة فى علوم كثيرة وكتب الخطّ المنسوب. قيل إنه كتب صحيح البخارى ثمانى مرّات، وكان يبيع كلّ نسخة من البخارى بخطّه بألف درهم، وكان يكتب فى كل يوم ثلاث كراريس، وتاريخه سمّاه: «منتهى «4» الأرب، فى علم الأدب» فى ثلاثين مجلدا. رأيته وانتقيته ونقلت منه بعض شىء فى هذا التاريخ وغيره. ومات وهو من أبناء الخمسين. رحمه الله.(9/299)
وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر «1» بن عبد الله الرّكنىّ الساقى الناصرىّ بعد ابنه أحمد بثلاثة أيام فى عاشر «2» المحرّم وحمل «3» إلى نخل «4» فدفن بها، واتّهم الملك الناصر أنّه اغتالهما بالسمّ. وقد تقدّم ذكر ذلك كله مفصلا فى ترجمة «5» الملك الناصر، غير أنّنا نذكره هنا تنبيها على ما تقدّم ذكره. كان أصل بكتمر من مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، ثم انتقل إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، لعلّه بالخدم، فإنّ أستاذه المظفر بيبرس كان أمّره عشرة فى أواخر دولته، ولولا [أنه] أعتقه ما أمّره، فعلى هذا يكون عتيق المظفّر. والله أعلم. ويقوّى ما قلته ما سنذكره، وهو أن بكتمر هذا حظى عند الملك الناصر لجمال صورته وجعله ساقيا. وكان غريبا فى بيت السلطان: لأنه لم يكن له خشدش، فكان هو وحده، وسائر لخاصكيّة حربا عليه.
وعظمت مكانته عند السلطان حتى تجاوزت الحدّ. قال الصلاح الصّفدىّ: كان يقال: إنّ السلطان وبكتمر لا يفترقان، إما أن يكون بكتمر عند السلطان، وإما أن يكون السلطان عند بكتمر. انتهى كلام الصّفدىّ باختصار.(9/300)
قلت: ووقع لبكتمر هذا من العظمة والقرب من السلطان ما لم يقع لغيره من أبناء جنسه. وقد استوعبنا أمره فى «المنهل الصافى» مستوفى، حيث هو كتاب تراجم الأعيان، وليس لذكره هنا إلا الاختصار؛ إذ هذا الكتاب موضوع للإطناب فى تراجم ملوك مصر لا غير، ومهما كان غير ذلك يكون على سبيل الاستطراد والضميمة لحوادث الملك المذكور لا غير، فيكون الاختصار فيما عدا ملوك مصر أرشق، وإلا يطل الشرح فى ذلك حتى تزيد عدّة هذا الكتاب على مائة مجلّد وأكثر. وقد سقنا أيضا من ذكر بكتمر فى أصل ترجمة الملك الناصر قطعة جيّدة فيها كفاية فى هذا الكتاب، فلتنظر هناك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 734]
سنة خمس وعشرين من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين ألماس «1» بن عبد الله الناصرىّ حاجب الحجّاب بالديار المصريّة فى محبسه خنقا فى ليلة ثانى عشر صفر، وحمل من الغد حتّى دفن بجامعه»
بالشارع خارج بابى زويلة. وكان من مماليك الناصر محمد، اشتراه ورقّاه وأمّره وجعله جاشنكيره، ثم ولّاه الحجوبيّة، فصار فى محلّ النيابة لشغور منصب النيابة فى أيامه، فكان أكابر الأمراء يركبون فى خدمته ويجلس فى باب القلعة(9/301)
وتقف الحجّاب فى خدمته، ولا زال مقرّبا عند السلطان حتّى قبض عليه لأمور بلغته عنه: منها، أنه كان اتّفق مع بكتمر الساقى على قتل السلطان، ومنها محبّته لصبىّ من أولاد الحسينيّة وتهتّكه بسببه، وغير ذلك. ولمّا حبسه السلطان منعه الطعام والشراب ثلاثة أيام ثم خنقه. وقد تقدّم من ذكره فى أصل ترجمة الملك الناصر بعد عوده من الحجاز نبذة أخرى يعرف منها أحواله. وكان ألماس غتميّا لا يعرف بالعربيّة شيئا. وكان كريما ويتباخل خوفا من الملك الناصر.
ولمّا مات وجد له أشياء كثيرة.
وتوفّى الأمير علم الدين «1» سليمان بن مهنّا بن عيسى ملك العرب وأمير آل فضل فى خامس عشرين ربيع الأوّل، وتولّى الإمرة بعده سيف بن فضل [بن عيسى ابن مهنا «2» ] .
وتوفّى السلطان الملك الظاهر أسد الدّين عبد الله ابن الملك المنصور نجم الدين أيّوب ابن الملك المظفّر يوسف بن عمر [بن علىّ «3» ] بن رسول متملّك اليمن، بعد ما قبض عليه الملك المجاهد «4» بقلعة دملوه «5» ، وصار الظاهر هذا يركب فى خدمة المجاهد، ثم سجنه المجاهد مدّة شهرين وخنقه بقلعة تعزّ «6» .
وتوفّى قاضى حماة نجم الدين عمر بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد ابن هبة الله بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبى الأصل الحنفىّ عن خمس وأربعين سنة، وهو من بيت علم ورياسة وفضل.(9/302)
وتوفّى الأمير طغاى تمر بن عبد الله [العمرىّ «1» ] الناصرىّ أحد مماليك الملك الناصر وزوج ابنته فى ليلة الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان من أجلّ مماليك الناصر وأمرائه وأحد خواصه.
وتوفّى الأمير سوسون «2» بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف بديار مصر وأخو الأمير قوصون فى ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الأولى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الحافظ ذو الفنون فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد ابن محمد [بن أحمد «3» ] بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمرىّ الإشبيلىّ فى شعبان. كان إماما حافظا مصنّفا، صنّف السّيرة النبويّة وسمّاه «كتاب عيون الأثر «4» ، فى فنون المغازى والشمائل والسّير» ، ومختصر ذلك سمّاه «نور العيون» «5» ، وكتاب «تحصيل الإصابة، فى تفضيل الصحابة» و «النّفح «6» الشّذى، فى شرح جامع التّرمذى» وكتاب «بشرى اللّبيب، بذكرى الحبيب» . وكان له نظم ونثر علامة فيهما حافظا متقنا. ومن شعره قصيدته التى أوّلها:
عهدى به والبين ليس يروعه ... صبّا براه نحوله ودموعه
لا تطلبوا فى الحبّ ثأر متيّم ... فالموت من شرع الغرام شروعه
عن ساكن الوادى- سقته مدامعى- ... حدّث حديثا طاب لى مسموعه(9/303)
أفدى الذي عنت البدور لوجهه ... إذ حلّ معنى الحسن فيه جميعه
البدر من كلف به كلف «1» به ... والغصن من عطف عليه خضوعه
لله «2» حلوىّ المراشف واللّمى ... حلو الحديث ظريفه مطبوعه
دارت رحيق لحاظه «3» فلنا بها ... سكر يحلّ عن المدام صنيعه
يجنى فأضمر عتبه فإذا بدا ... فجماله ممّا جناه شفيعه
وتوفّى الأمير قرطاى «4» بن عبد الله الأشرفىّ نائب طرابلس، وقد جاوز ستين سنة فى ثامن عشرين صفر، وكان مطّبا عند الملك، أمّره وولّاه نيابة طرابلس إلى أن مات بها.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله المعروف بطرنا «5» نائب صفد فى حادى عشرين ربيع الأوّل. وكان أميرا شجاعا مقداما.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان ابن الخطيب مجد الدين عمر ابن عثمان الأذرعى الشافعى المعروف بالزّرعىّ، فى سادس صفر بالقاهرة وهو قاضى العسكر بها. وكان فقيها عالما.
وتوفّى الأمير سيف الدين خاص «6» ترك بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف بالديار المصريّة فى شهر رجب بدمشق، وكان من خواصّ مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون.(9/304)
وتوفّى الشيخ مجد الدين حرمى بن قاسم «1» بن يوسف العامرىّ الفاقوسىّ «2» الفقيه الشافعىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 735]
السنة السادسة والعشرون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر وهى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن والى القاهرة وهو معزول فى يوم السبت ثامن جمادى الآخرة عن نحو تسعين سنة. وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون وترقّى حتى صار خازنا ثم شادّ الدواوين، ثم ولى الكشف بالبهنسا «3» بالوجه القبلى، ثمّ ولى القاهرة وشدّ الجهات وأقام عدّة سنين. وكان حسن السّيرة، وإليه ينسب حكر «4» الخازن خارج القاهرة(9/305)
على بركة الفيل، وتربته «1» بالقرب من قبة الإمام الشافعىّ بالقرافة.
وتوفّى الأمير صلاح الدين طرخان «2» ابن الأمير بدر الدين بيسرى بسجنه بالإسكندرية فى جمادى الأولى بعد ما أقام بالسجن أربع عشرة سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرخ قطب الدين أبو علىّ عبد الكريم بن عبد النّور ابن منير الحلبىّ ثم المصرىّ الحنفىّ. ومولده فى سنة أربع وستين وستمائة. وكان بارعا فى فنون صاحب مصنفات، منها «شرحه لشطر صحيح البخارى» ، و «تاريخ مصر» فى عدّة مجلدات، بيّض أوائله ولم اقف عليه إلى الآن، وخرّج لنفسه أربعين تساعيّات. وهو ابن أخت الشيخ نصر «3» المنبجىّ، وبخاله كان يعرف وانتفع بصحبته.(9/306)
وتوفّى الشيخ الإمام المجوّد العلّامة محمد بن بكتوت الظاهرىّ القلندرىّ «1» الحنفىّ بطرابلس فى خامس عشر ربيع الأوّل، وكان كاتبا مجوّدا. ذكر أنّه كتب على ابن الوحيد «2» . وكان يضع المحبرة على يده اليسرى والمجلّدة فى يده «3» من كتاب الكشّاف للزّمخشرىّ ويكتب منه ما شاء وهو يغنّى «4» فلا يغلط. وكان أوّلا خصيصا عند الملك المؤيّد صاحب حمّاة، وأقام عنده مدّة ثم طرده عنه.
وتوفّى الشيخ الواعظ شمس الدين الحسين «5» بن أسد بن المبارك بن الأثير بمصر فى جمادى «6» الآخرة. وكان فقيها يعظ الناس وعليه قابليّة.
وتوفى القاضى زين الدّين عبد الكافى ابن ضياء الدين علىّ بن تمّام الأنصارىّ الخزرجىّ السّبكىّ «7» بالمحلّة «8» وهو على قضائها. وكان فقيها بارعا.(9/307)
وتوفّى الشّيخ بهاء الدين محمود ابن الخطيب محيى الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهّاب بن علىّ بن أحمد بن عقيل السّلمىّ «1» شيخ الكتّاب فى زمانه، المعروف بابن خطيب بعلبكّ بدمشق فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرر. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. والله تعالى أعلم.(9/308)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 736]
السنة السابعة والعشرون من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى القان «1» بو سعيد «2» بن القان محمد خربندا بن القان أرغون بن القان أبغا بن القان الطاغية هولاكو ملك التّتار وصاحب العراق والجزيرة وأذربيجان «3» وخراسان والروم وأطراف ممالك ما وراء النهر فى شهر ربيع الآخر، وقد أناف على ثلاثين سنة. وكانت دولته عشرين سنة، لأنّ جلوسه على تخت الملك كان فى أوّل جمادى «4» الأولى سنة سبع عشرة وسبعمائة بمدينة السلطانية «5» ، وعمره إحدى عشرة سنة. وبو سعيد اسم غير كنية (بضم الباء ثانية الحروف وسكون الواو) .
وسعيد معروف لا حاجة لتعريفه، ومن الناس من يقول بو صعيد (بالصاد المهملة) .
وكان بو سعيد المذكور ملكا جليلا مهابا كريما عاقلا، ولديه فضيلة، ويكتب الخط المنسوب، ويجيد ضرب العود والموسيقى، وصنّف فى ذلك قطعا جيّدة فى أنغام غريبة من مذاهب النّغم. وكان مشكور السّيرة، أبطل فى سلطنته عدّة مكوس، وأراق الخمور من بلاده ومنع الناس من شربها، وهدم الكنائس، وورّث ذوى الأرحام؛ فإنه كان حنفيّا، وهو آخر ملوك التتار من بنى چنكزخان، ولم يقم للتتار بعد موته قائمة إلى يومنا هذا.(9/309)
وتوفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الأشرفىّ المعروف بنائب الكرك محبوسا بثغر الإسكندرية فى يوم الأحد سابع جمادى الأولى. وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، وأضافه قلاوون إلى ولده الأشرف خليل وجعله أستاداره فعرف بالأشرفىّ، واستمر بخدمة الملك الأشرف إلى أن تسلطن، أمّره ثم ولّاه نيابة الكرك. وقيل: إنه ما ولّى نيابة الكرك إلا فى سلطنة الملك الناصر الثانية، وهو الأقوى. وقد مرّ من ذكر آقوش هذا أشياء كثيرة فى ترجمة المظفّر بيبرس، وعند قدوم الملك الناصر إلى الكرك لمّا خلع نفسه وغير ذلك. وكان آقوش أميرا جليلا معظّما، وكان يقوم له الملك الناصر لمّا يدخل عليه وهو جالس على تخت الملك أمام الخدم. وطالت أيامه فى السعادة، وله مآثر كثيرة. وهو صاحب الجامع «1» الذي بآخر الحسينيّة بالقرب من كوم «2» الرّيش، وهو إلى الآن عامر وما حوله خراب.
وتوفّى الأمير «3» أيتمش بن عبد الله المحمدىّ نائب صفد فى ليلة الجمعة سادس «4» عشرين ذى الحجة. وكان من مماليك الملك الناصر محمد ومن خواصه، وهو أحد من كان يندبه الناصر وهو بالكرك لمهماته؛ ولمّا تسلطن أمّره ثم ولّاه نيابة صفد وغيرها إلى أن مات. وكان أميرا عارفا كاتبا فاضلا عاقلا مدبّرا متواضعا كريما.
وتوفّى الأمير سيف الدين إيناق «5» بن عبد الله الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف فى ثامن عشرين شعبان «6» ، وكان أيضا من خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن أكابر مماليكه.(9/310)
وتوفّى شيخ الكتّاب عماد الدين محمد بن العفيف محمد بن الحسن «1» الأنصارىّ الشافعىّ المعروف بابن العفيف، صاحب الخط المنسوب. كتب عدّة مصاحف بخطه. وكان إماما فى معرفة الخط، وعنده فضائل، وله نظم ونثر وخطب، تصدّى للكتابة مدّة طويلة، وانتفع به عامة الناس. وكان صالحا ديّنا خيّرا فقيها حسن الأخلاق. مات بالقاهرة ودفن بالقرافة وله إحدى وثمانون سنة.
وتوفّى القاضى عماد الدين إسماعيل بن محمد بن الصاحب فتح الدين عبد الله ابن محمد القيسرانىّ كاتب حلب فى ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ تقىّ الدين سليمان بن موسى بن بهرام السّمهودىّ «2» الفقيه الشافعىّ الفرضىّ العروضىّ الأديب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا. والوفاء يوم النوروز.(9/311)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 737]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية الملك الناصر محمد الثالثة على مصر، وهى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير عزّ الدين «1» أيدمر الخطيرىّ المنصورىّ أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب بالقاهرة. وأصله من مماليك الخطير الرومىّ والد أمير مسعود، ثم انتقل إلى ملك المنصور قلاوون، فرقّاه حتى صار من أجلّ الأمراء البرجيّة. ثم ترقّى فى الدولة الناصريّة وولى الأستادارية. ثم وقع له أمور، وقبض عليه السلطان الملك الناصر محمد فى سلطنته الثالثة، ثم أطلقه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة [ألف «2» ] وزيادة إمرة عشرين فارسا، وصار معظّما عند الناصر، ويجلس رأس الميسرة، وبقى أكبر أمراء المشورة. وكان لا يلبس قباء مطرّزا ولا يدع عنده أحدا يلبس ذلك. وكان أحمر الوجه منوّر الشيبة كريما جدّا واسع النّفس على الطعام. حكى أن أستاداره قال له يوما: يا خوند، هذا السّكّر الذي يعمل فى الطعام ما يضرّ أن نعمله غير مكرر؟ فقال: لا، فإنه يبقى فى نفسى أنه غير مكرر فلا تطيب. ولمّا مات خلّف ولدين أميرين: أمير علىّ وأمير محمد. وهو من الأمراء المشهورين بالشجاعة والدين والكرم، وهو الذي عمر الجامع «3» برملة بولاق على شاطئ النيل والرّبع المشهور، وغرم عليه جملة مستكثرة، فلمّا تم أكله البحر ورماه، فأصلحه وأعاده فى حياته. وقد تقدّم ذكر بنائه لهذا الجامع فى أصل ترجمة الملك الناصر، وسبب مشتراه لموضع الجامع المذكور وتاريخ بنائه.(9/312)
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الحموىّ فى يوم الأربعاء «1» خامس عشرين شعبان على مدينة آياس «2» ، وقد بلغ مائة سنة، فحمل إلى حماة ودفن بها. وكان مهابا كثير العطاء، طالت أيّامه فى الإمرة والسعادة. وهو ممن تأمّر فى دولة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح محمد بن عبد الله «3» بن المجد إبراهيم المرشدىّ، صاحب الأحوال والكرامات والمكاشفات بناحية منية «4» مرشد فى ثامن شهر رمضان.
وكان للناس فيه اعتقاد حسن، ويقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ قطب الدين إبراهيم بن محمد بن علىّ بن مطهّر بن نوفل الثعلبىّ الأدفوىّ فى يوم عرفة بأدفو. وكان فقيها فاضلا بارعا ناظما ناثرا.
وتوفّى الشيخ المحدّث تقىّ الدين أبو عبد الله محمد بن علىّ بن محمد بن أحمد اليونينىّ البعلبكىّ الحنبلىّ. ومولده سنة سبع وستين وستمائة؛ ذكره الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى معجمه وأثنى عليه.
وتوفّى الشيخ ناصر الدين محمد ابن الشيخ المعتقد إبراهيم بن معضاد الجعبرىّ الواعظ بالقاهرة فى يوم الاثنين رابع «5» عشرين المحرّم. وكان يعظ الناس، وجلس مكان والده الشيخ إبراهيم الجعبرىّ، وكان لوعظه رونق، وهو من بيت صلاح ووعظ.(9/313)
وتوفّى المسند المعمّر مسند الديار المصرية شرف الدين يحيى بن يوسف المقدسىّ المعروف بابن المصرىّ بالقاهرة عن نيّف وتسعين سنة «1» .
وتوفّى الشيخ كمال الدين «2» أبو الحسن علىّ [بن «3» الحسن بن علىّ] الحويزانىّ شيخ خانقاه سعيد السّعداء فى صفر بالقاهرة. وكانت لديه فضيلة، وعنده صلاح وخير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 738]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى قضاة دمشق شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله بن الحسين ابن علىّ الإربلىّ الزرزارىّ «4» الشافعىّ، وقع عن بغلته فلزم الفراش أسبوعا ومات فى جمادى الأولى بدمشق. ومولده سنة اثنتين وستين وستمائة. وكان بارعا فى الفقه والفروع والشروط، وأفتى ودرّس وكتب الطباق وسمع الكثير، وولّى قضاء دمشق بعد القاضى جمال الدين بن»
جملة، وعزل بالقاضى جلال الدين القزوينىّ. ولمّا تولّى القاضى شهاب الدين ابن القيسرانىّ كتابة سرّ دمشق توجّه القاضى شهاب الدين هذا إليه لتهنئته، فنفرت به البغلة فى الطريق فوقع فشجّ دماغه، فحمل فى محفّة(9/314)
إلى بيته ومات بعد أسبوع. ولمّا وقع عن بغلته قال فيه الشيخ شمس الدين محمد ابن الخيّاط الدمشقىّ رحمه الله:
بغلة قاضينا إذا زلزلت ... كانت له من فوقها الواقعه
تكاثر ألهاه من عجبه ... حتى غدا ملقّى على القارعه
فأظهرت زوجته عندها «1» ... تضايقا بالرحمة الواسعه
وتوفى الشيخ الإمام العلّامة النحوىّ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن ابن يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الجليل المعروف بابن القوبع «2» القرشىّ التونسىّ المالكىّ النحوىّ، صاحب الفنون الكثيرة بالقاهرة عن أربع وسبعين سنة.
وتوفّى شيخ الإسلام شرف الدين هبة الله ابن قاضى حماة نجم الدين عبد الرحيم ابن أبى الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور بن أحمد الشافعىّ الجهنى المعروف بابن البارزىّ قاضى حماة فى نصف ذى القعدة. ومولده فى خامس «3» شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان إماما علّامة فى الفقه والأصول والنحو واللغة، وأفتى ودرّس سنين وانتفع الطلبة به وتخرّج به خلائق، وحكم بحماة دهرا، ثم ترك الحكم وذهب بصره. وصنّف كتبا كثيرة، وحجّ مرّات، وحدّث بأماكن. ولمّا مات غلّقت [أبواب «4» ] جماة لمشهده. ومن مصنّفاته:
تفسيران، و «كتاب بديع القرآن» ، و «وشرح الشاطبية» ، و «الشرعة «5» فى السبعة» و «كتاب الناسخ والمنسوخ» ، و «كتاب مختصر جامع الأصول» ، مجلدين و «الوفا(9/315)
فى شرح [أحاديث «1» ] المصطفى» ، و «الأحكام على أبواب التنبيه» . و «غريب الحديث» ، و «شرح «2» الحاوى فى الفقه» أربع مجلدات، و «مختصر التنبيه فى الفقه» ، و «الزبدة فى الفقه» ، والمناسك. [وكتاب «3» فى] العروض، وغير ذلك.
وتوفى القاضى الرئيس محيى الدين يحيى بن فضل الله بن مجلّى العمرىّ القرشىّ كاتب السّر الشريف بالشام أوّلا ثم بمصر آخرا، وهو أخو القاضى شرف الدين عبد الوهاب «4» ، وأخو القاضى بدر الدين «5» محمد، ووالد القاضى العلّامة شهاب الدين أحمد «6» ، وبدر الدين محمد «7» ، وعلاء الدين «8» علىّ، وجدّ القاضى بدر الدين محمد «9» بن علىّ آخر من ولى من بنى فضل الله كتابة السرّ بديار مصر الآتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك: لم أر فى عمرى من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشى أحلى وأظرف ولا ألطف منه، بل الشيخ فتح الدين بن سيد الناس معه والقاضى جمال الدين «10» إبراهيم ابن شيخنا شهاب الدين محمود؛ فإن هؤلاء الثلاثة غاية فى حسن الكتابة. لكن القاضى محيى الدين هذا رعشت يده وارتجّت كتابته أخيرا. قال: ولم أر عمرى من نال سعادته فى مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره. وكان السلطان قد بالغ أخيرا فى احترامه وتعظيمه، وكتب له فى أيام الأمير سيف الدين ألجاى الداودار توقيعا بالجناب العالى يقبّل الأرض، واستعفى من(9/316)
ذلك وكشطها وقال: ما يصلح لمتعمم أن يعدّى به «المجلس العالى» . انتهى كلام الشيخ صلاح الدين.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة الدمشقىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق بها. وكان فقيها بارعا، ولى قضاء دمشق إلى أن عزل بقاضى القضاة شهاب الدين بن المجد.
وتوفى الأمير سيف الدين طغجى بن عبد الله المنصورىّ فى الحبس. وكان من أعيان الأمراء البرجية معدودا من الشجعان.
وتوفّى الأمير سيف الدين صلديه «1» بن عبد الله كاشف الوجه القبلىّ، وكان من الظّلمة، مهّد البلاد فى ولايته.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقول بن عبد الله المنصورىّ ثم الناصرىّ الحاجب بديار مصر. وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أحمد بن يوسف بن هلال الصّفدىّ الطبيب، ومولده فى سنة إحدى وستين وستمائة. كان من جملة أطبّاء السلطان، وكان بارعا فى الطب، وله قدرة على وضع «2» المشجّرات، ويبرز أمداح الناس فى أشكال أطيار وعمائر وأشجار وعقد وأخياط وغير ذلك، وله نظم ونثر. ومن شعره ما يكتب على سيف:(9/317)
أنا أبيض كم جئت يوما أسودا ... فأعدته بالنصر يوما أبيضا
ذكر إذا ما استلّ يوم كريهة ... جعل الذكور من الأعادى حيّضا
أختال ما بين المنايا والمنى ... وأجول فى وسط القضايا والقضا
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا. وكان الوفاء يوم النوروز.
والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 739]
السنة [المتمّة] الثلاثين من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.
فيها توفّى خطيب القدس زين الدين عبد الرحيم «1» ابن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعىّ الحموىّ الأصل المعروف بابن جماعة
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المعزّىّ «2» الناصرىّ أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى ليلة الجمعة تاسع شعبان. وكان أميرا جليلا معظّما فى دولة أستاذه، بلغت تركته مائة ألف دينار، أخذها النّشو ناظر الخاصّ.
وتوفّى قاضى القضاة العلّامة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد ابن محمد بن عبد الكريم القزوينىّ الشافعىّ بدمشق فى خامس عشر جمادى الآخرة.
وكان ولى قضاء مصر والشام، وكان عالما بارعا مفتنّا فى علوم كثيرة، وله مصنّفات فى عدّة فنون. وكان مولده بالموصل فى سنة ست «3» وستين وستمائة.(9/318)
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرخ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد [ابن يوسف «1» ] البرزالىّ الشافعى بخليص «2» ، وهو محرم فى رابع ذى الحجة عن أربع وسبعين سنة. وبرزالة: قبيلة قليلة جدّا. وكان أبوه شهاب الدين «3» محمد من كبار عدول دمشق. وأما جدّ أبيه محمد «4» بن يوسف فهو الإمام الحافظ زكىّ الدين الرحّال محدّث الشام أحد الحفّاظ المشهورين. وقد تقدّم ذكره. انتهى. وكان الحافظ علم الدين هذا محدّثا حافظا فاضلا، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وحصّل ودأب وسمع خلائق كثيرة، تزيد عدّتهم على ألفى شيخ، وحدّث وخرّج وأفاد وأفتى وصنّف تاريخا على السنين.
وتوفّى الشيخ الأديب أبو المعالى زين الدين خضر بن إبراهيم بن عمر بن محمد ابن يحيى الرفّاء الخفاجىّ المصرىّ عن تسع وسبعين سنة. ومن شعره فى ساق:
لله ساق له ردف فتنت به ... لمّا تبدّى بساق منه برّاق
فلا تسل فيه عن وجدى وعن ولهى ... فأصل ما بى من ردف ومن ساق
قلت: وأحسن من هذا قول القيراطىّ: «5»
وأغيد يسقى الطّلا ... بديع حسن قد بهر
فى كفّه شمس فما ... له لرائيه قمر
وأحسن منهما قول القائل فى هذا المعنى:
قد زمزم الساقى الذي لم يزل ... يدير للأحباب كأس المدام
وقد فهمناه وهمنا به ... بأحسن ما زمزم وسط المقام(9/319)
وتوفّى الشيخ جمال الدين أحمد بن هبة الله بن المكين الإسنانى «1» الفقيه الشافعىّ بإسنا، وقد جاوز السبعين سنة فى شوّال.
وتوفّى الأمير علاء الدين على ابن أمير حاجب والى مصر وأحد الأمراء العشرات وهو معزول، وكان عنده فضيلة، وعنى بجمع القصائد النبويّة، حتى كمل عنده منها خمسة وسبعون «2» مجلدا.
وتوفّى قاضى القضاة فخر الدين أبو عمرو عثمان «3» بن علىّ بن عثمان بن علىّ بن عثمان ابن إسماعيل بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب بن علىّ بن هبة الله بن ناجية الشافعىّ المعروف بابن خطيب جبرين «4» بالقاهرة بالمدرسة المنصورية ليلة السبت السابع والعشرين من المحرّم ودفن بمقابر الصوفيّة. ومولده فى العشر الأخير من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين وستمائة بالحسنية ظاهر القاهرة. وكان بارعا فى الفقه والأصول والنحو والأدب والحديث والقراءات، وتولّى قضاء حلب سنة ست وثلاثين وسبعمائة فتكلّم فيه، فطلبه الملك الناصر وطلب ولده، فروّعهما الحضور قدّامه لكلام أغلظه لهما، فنزلا مرعوبين ومرضا بالبيمارستان المنصورىّ، فمات ولده قبله، وتوفّى هو بعده بيوم أو يومين. وكان عالما، وله عدّة مصنّفات، شرح الشامل(9/320)
الصغير، وشرح التعجيز «1» ، و [شرح «2» ] مختصر ابن الحاجب و [شرح «3» ] البديع لابن الساعاتى. وقد استوعبنا ترجمته فى المنهل الصافى بأوسع من هذا.
وتوفّى الأمير الفقيه علاء الدين أبو الحسن علىّ بن بلبان بن عبد الله الفارسىّ الحنفىّ بمنزله على شاطئ النيل فى تاسع شوّال. ومولده فى سنة خمس وسبعين وستمائة.
كان إماما فقيها بارعا محدّثا، أفتى ودرّس وحصّل من الكتب جملة مستكثرة، وصنّف عدّة مصنّفات، ورتّب التقاسيم «4» والأنواع لابن حبّان «5» ، ورتّب الطبرانى ترتيبا جيّدا إلى الغاية، وألف سيرة لطيفة للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكتابا فى المناسك جامعا لفروع كثيرة فى المذهب.
وتوفّى القاضى فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبد الله بن أحمد [بن علىّ «6» ] المعروف بابن الحلّى بالقدس الشريف. وكان رئيسا، ولى نظر جيش دمشق عدّة سنين.
وتوفّى علاء الدين علىّ بن هلال الدولة بقلعة شيزر «7» بعد ما ولى بالقاهرة عدّة وظائف.
وتوفّى الأمير سيف «8» الدين بيليك بن عبد الله المحسنىّ بطرابلس. وكان من جملة أمرائها «9» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشر أصابع. والله تعالى أعلم.(9/321)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 740]
السنة الحادية والثلاثون من ولاية الملك الناصر الثالثة على مصر، وهى سنة أربعين وسبعمائة.
فيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستكفى بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العبّاس أحمد بن الحسن بن أبى بكر الهاشمىّ العباسىّ بمدينة قوص فى خامس شعبان عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوما. وكانت خلافته تسعا وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يوما. وكان حشما كريما فاضلا.
كان أخرجه الملك الناصر إلى قوص لما كان فى نفسه منه لما كان منه فى القيام بنصرة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، وتولّى الخلافة من بعده ولده أبو العباس أحمد ولقّب بالحاكم على لقب جدّه بعهد منه إليه. وكان الناصر منع الحاكم من الخلافة وولّى غيره، حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك «1» الناصر، فلم يتم له ذلك وولّى الحاكم هذا.
وتوفّى الأمير شمس الدين آق سنقر بن عبد الله شادّ العمائر المنسوبة إليه قنطرة «2» سنقر على الخليج خارج القاهرة والجامع «3» بسويقة السبّاعين «4» على البركة «5» الناصرية فيما بين القاهرة ومصر. وكانت وفاته بدمشق.(9/322)
وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن حسن المروانىّ «1» والى القاهرة فى ثانى عشرين «2» رجب بعد ما قاسى أمراضا شنيعة مدّة سنة، وكان ظالما غشوما سفّاكا للدماء، اقترح فى أيام ولايته عقوبات مهولة، منها أنه كان ينعل الرجل فى رجليه بالحديد كما تنعل الخيل. ومنها تعليق الرجل بيديه وتعلّق مقايرات «3» العلاج فى رجليه فتنخلع أعضاؤه فيموت، وقتل خلقا كثيرا من الكتّاب وغيرهم فى أيام النّشو. ولمّا حملت جنازته وقف عالم كثير لرجمه، فركب الوالى وابن صابر المقدّم حتّى طردوهم ومنعوهم ودفنوه.
وتوفّى شرف الدين عبد الوهاب ابن التاج فضل الله المعروف بالنّشو ناظر الخاص الشريف تحت العقوبة فى يوم الأربعاء ثانى «4» شهر ربيع الآخر. وقد تقدم التعريف بأحواله وكيفية قتله والقبض عليه فى ترجمة «5» الملك الناصر هذه مفصّلا مستوفى. كان هو وأبوه وإخوته يخدمون الأمير بكتمر الحاجب، ثم خدم النّشو هذا عند الأمير أيدغمش أمير آخور. فلما جمع السلطان فى بعض الأيام كتّاب الأمراء رأى النّشو وهو واقف وراء الجماعة وهو شابّ نصرانىّ طويل حلو الوجه، فاستدعاه وقال له:
إيش اسمك؟ قال: النّشو. فقال السلطان: أنا أجعلك نشوى، ورتّبه، مستوفيا، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما ندبه إليه وملأ عينه، واستمر على ذلك حتى استسلمه الأمير بكتمر الساقى وسلّم إليه ديوان سيّدى آنوك ابن الملك الناصر إلى أن توفّى القاضى فخر الدين ناظر الجيش، نقل الملك الناصر شمس الدين موسى ناظر الخاصّ إلى نظر الجيش عوضه، وولّى النشو هذا نظر الخاصّ على ما بيده من ديوان ابن(9/323)
السلطان. ووقع له ما حكيناه فى ترجمة الملك الناصر كل شىء فى محلّه. قال الصلاح الصّفدىّ: ولمّا كان فى الاستيفاء وهو نصرانىّ كانت أخلاقه حسنة وفيه بشر وطلاقة وجه وتسرّع لقضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبّونه. فلمّا تولّى الخاصّ وكثر الطلب عليه وزاد السلطان فى الإنعامات والعمائر وبالغ فى أثمان المماليك وزوّج بناته واحتاج الى الكلف العظيمة، ساءت أخلاق النّشو وأنكر من يعرفه، وفتح أبواب المصادرات. انتهى كلام الصفدىّ باختصار.
وتوفّى الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز السّنكلونىّ «1» الشافعىّ فى شهر ربيع الأول، وكان فقيها فاضلا، شرح التنبيه فى الفقه، وتولّى مشيخة خانقاه الملك المظفّر بيبرس ودرّس وأفتى.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأوحدىّ المنصورىّ والى قلعة الجبل فى شهر ربيع الأول.
وتوفّى الأمير سيف الدين «2» أيدمر بن عبد الله الدّوادار بدمشق. وكان أميرا جليلا خيّرا ديّنا.
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله البدرىّ الناصرىّ نائب الكرك، بعد ما عزل عن الكرك ونفى إلى طرابلس فمات بها.
وتوفّى شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس العلّامة مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن «3» محمود الأقصرائى الحنفىّ فى شهر ربيع «4» الآخر. وكان إماما فقيها بارعا مفتيا.(9/324)
وتوفّى الشيخ جمال الدين عبد القاهر بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم التبريزى الحرّانىّ الشافعىّ. كان فقيها عالما أديبا شاعرا. ومن شعره [قوله دو بيت «1» ] :
وجدى وتصبّرى قليل وكثير ... والقلب ومدمعى طليق وأسير
والكون وحسنكم جليل وحقير ... والعبد وأنتم غنىّ وفقير
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس الرّكنىّ كاشف الوجه البحرى ونائب الإسكندرية.
وكان أصله من مماليك الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 741]
سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة من ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر، وهى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وهى التى مات فيها الملك الناصر حسب ما تقدّم ذكره.
فيها (أعنى سنة إحدى وأربعين) توفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين چنكلى بن البابا فى يوم الرابع والعشرين «2» من رجب. وكان من أعيان الأمراء، وكان فقيها أديبا شاعرا.
وتوفّى الوزير الصاحب أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرّياسة ابن الغنّام تحت العقوبة مخنوقا فى يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، ووزر ثلاث مرّات بالديار المصريّة، وباشر نظر الدولة واستيفاء «3» الصحبة، وخدم(9/325)
فى بيت السلطان من الأيام الأشرفيّة، وتنقّل فى عدّة خدم بمصر ودمشق وطرابلس نصرانيّا ومسلما. ولمّا أسلم حسن إسلامه وتجنّب النصارى، وكان رضىّ الخلق.
وتوفّى العلّامة افتخار الدين جابر بن محمد بن محمد الخوارزمىّ الحنفىّ شيخ الجاولية «1» بالكبش «2» خارج القاهرة فى يوم الخميس سادس عشر المحرم، وكان إماما عالما بارعا فى النحو واللغة شاعرا أديبا مفوّها.
وتوفّى القاضى عزّ الدين عبد الرحيم بن نور الدين علىّ بن الحسن «3» بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات أحد نوّاب الحكم الحنفيّة فى ليلة الجمعة ثانى عشرين ذى الحجة، وكان فقيها محدثا.
وتوفّى الأمير الكبير شمس الدين قراسنقر «4» المنصورىّ ببلاد مراغة «5» ، وقد أقطعه إيّاها بو سعيد بن خربندا ملك التتار بمرض الإسهال. وقد أعيا الملك الناصر قتله، وبعث إليه كثيرا من الفداوية «6» بحيث قتل بسببه نحو مائة وأربعة وعشرين فداويّا ممن كان يتوجّه لقتله فيمسك ويقتل. فلما بلغ السلطان موته قال: والله ما كنت أشتهى موته إلّا من تحت سيفى، وأكون قد قدرت عليه.
قلت: وقد مرّ ذكر موت قراسنقر قبل هذا التاريخ «7» . ولكن الظاهر لى أن الأصحّ المذكور هنا الآن من قرائن ظهرت.(9/326)
وتوفّى الأمير سيف الدين بن الحاج قطز بن عبد الله الظاهرىّ أحد أمراء الطّبلخاناه بالديار المصرية، وهو آخر من بقى من مماليك الظاهر بيبرس البندقدارىّ من الأمراء.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن يوسف المزّىّ «1» الشافعىّ أخو الحافظ «2» جمال الدين المزّى لأبيه فى يوم الثلاثاء ثالث شهر رمضان «3» .
وتوفّى الشيخ المعتقد عزّ الدين عبد المؤمن بن قطب الدين أبى طالب عبد الرحمن بن محمد بن الكمال أبى القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن المعروف بابن العجمىّ الحلبىّ الشافعىّ بمصر. كان تزهّد بعد الرياسة، وحج ماشيا من دمشق وجاور بمكة، وكان لا يقبل لأحد شيئا، بل كان يقتات من وقف أبيه بحلب، وكان له مكارم وصدقات وشعر جيّد.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله الحسامىّ الناصرىّ نائب الشام.
كان أصله من مماليك الملك المنصور حسام الدين لاچين. فلمّا قتل لاچين صار من خاصّكيّة الناصر، وشهد معه وقعة وادى الخازندار ثم وقعة شقحب «4» ، ثم توجّه مع الناصر إلى الكرك. فلما تسلطن الملك الناصر ثالث مرة رقّاه حتى ولّاه نيابة الشام، فطالت مدّته إلى أن قبض عليه السلطان الملك الناصر فى هذه السنة، وقتله بثغر الإسكندرية. وقد مرّ من ذكر تنكز فى ترجمة الملك الناصر الثالثة ما فيه كفاية عن الإعادة هنا؛ لأنّ غالب ترجمة الملك الناصر وأفعاله كانت مختلطة مع أفعال تنكز لكثرة قدومه إلى القاهرة وخصوصيّته عند الناصر من أوّل ترجمته إلى آخرها إلى جين قبض عليه وحبسه. كل ذلك ذكرناه مفصّلا فى اليوم والشهر، وما وجد له(9/327)
من الأموال والأملاك. كلّ ذلك فى أواخر ترجمة الملك الناصر. ولمّا ولى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نيابة الشام بعد تنكز قال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى تنكز المذكور أبياتا منها:
ألا هل لييلات تقضّت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجّز
ليال إذا رام المبالغ وصفها ... يشبّهها حسنا بأيام تنكز
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع إحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم «1» .
*** انتهى الجزء التاسع من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء العاشر، وأوّله: ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر(9/328)
*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تحديد مواضعها من وضع حضرة الأستاذ العالم الجليل محمد رمزى بك المفتش السابق بوزارة المالية وعضو المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية. كالتعليقات السابقة فى الأجزاء الماضية. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.
*** ملاحظة: ورد فى ص 281 س 8 من الجزء الثامن من هذه الطبعة- قول ابن نباتة المصرى فى الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة-:
«
أفديه من ملك يكاتب عبده ...
الخ» بفتح الهمزة وسكون الفاء من كلمة «أفديه» . وبكسر اللام من كلمة «ملك» .
وهذا الضبط قد صرف البيت من بحر الطويل إلى بحر الكامل. وصوابه:
«أفدّيه من ملك يكاتب عبده» . ورواية ديوان ابن نباتة:
«فديتك من ملك يكاتب عبده»(9/329)
استدراكات
لحضرة الأستاذ الجليل محمد رمزى بك، مع ملاحظة أن الاستدراكات الخاصة بالأجزاء الثالث والرابع والخامس الواردة فى آخر الجزء السادس فى صفحة 380 وما بعدها من وضع حضرته أيضا.
باب سعادة
سبق أن ذكرت فى تعليقاتى بصفحة 280 من الجزء السابع من هذه الطبعة ما يفيد أن باب سعادة أحد أبواب القاهرة القديمة من سورها الغربى كان واقعا فى مكان الباب الغربى للطرقة الفاصلة بين محكمة الاستئناف وبين محافظة مصر بميدان باب الخلق. والصحيح أن باب سعادة كان واقعا فى نفس الوجهة الغربية لمبنى محكمة الاستئناف على بعد عشرة أمتار من شمال الباب الغربى للمحكمة المذكورة.
وكانت الطريق التى توصل من هذا الباب إلى داخل المدينة تسير إلى الشرق فى القسم البحرى من مبنى محكمة الاستئناف حتى تتلاقى بمدخل شارع المنجلة، وهو امتداد الطريق التى لا تزال توصل إلى داخل مدينة القاهرة القديمة. وباقى الشرح الوارد بالجزء السابع صحيح.
حوض ابن هنس
ذكرت فى الحاشية رقم 4 ص 206 من هذا الجزء أن حوض ابن هنس كان واقعا بشارع الحلمية على رأس شارع الهامى باشا، بناء على ما ورد فى كتاب الخطط التوفيقية. وبعد طبع هذه الحاشية رأيت فى خطط المقريزى عند كلامه على حمام الأمير سيف الدين ألدود الجاشنكيرى (ص 85 ج 2) أن هذا الحمام فى الشارع(9/330)
المسلوك خارج باب زويلة تجاه زقاق خان حلب بجوار حوض سعد الدين مسعود ابن هنس. ومن هذا يتضح أن هذا الحوض كان بجوار الحمام المذكور.
وبالبحث تبين لى: أوّلا- أن حمام الأمير سيف الدين ألدود لا يزال قائما ويعرف اليوم بحمام الدّود بشارع محمد على عند تقابله بشارع السروجية، وكان باب الحمام يفتح قديما على الشارع المسلوك خارج باب زويلة، وكان بجواره حوض ابن هنس يقع على نفس الشارع فيما بين مدخلى شارع السروجية وشارع الحلمية الآن. ثانيا- أنه لما اختطت الحكومة شارع محمد على وفتحته فى سنة 1873 دخل فى طريقه القسم الغربى من الحمام بما فيه الباب الأصلى، ودخلت فيه أيضا الأرض التى كان عليها الحوض، وبذلك زال أثره، ثم فتح للحمام باب جديد هو بابه الحالى الذي فى شارع محمد على.
ومن هذا يعلم أن حوض ابن هنس كان واقعا فى محور شارع محمد على غربى المنزل المجاور لحمام ألدود من الجهة البحرية وفى تجاه مدخل شارع على باشا إبراهيم بالقاهرة.
مسجد الأمير بكتوت الخازندار
ذكرت فى الحاشية رقم 5 ص 219 من هذا الجزء أن هذا المسجد هو الذي يعرف اليوم بجامع البلك ببولاق، اعتمادا على الرخامة التى أخرجتها إدارة حفظ الآثار العربية من بين أنقاض هذا الجامع الخرب، ونقش على تلك الرخامة إنشاء الأمير بكتوت لمسجده فى سنة 709 هـ. وبعد طبع هذه الحاشية تصادف أن اطلعت على كتاب وقف رضوان بك الفقارى المحرر فى 8 ربيع الأوّل سنة 1053 هـ فعلمت منه أن وقف البدرى بكتوت وهو الأمير بكتوت المذكور كان واقعا خارج باب زويلة بالخضريين على يسار السالك طالبا سوق سفل الربع الظاهرى.(9/331)
وبما أن المؤلف ذكر أن المسجد الذي أنشأه بكتوت يقع خارج باب رويلة فلا بدّ أن يكون قريبا من وقف رضوان بك المذكور. وبالبحث عن هذا المسجد خارج باب زويلة تبين لى أنه قد زال وليس له أثر اليوم، بدليل أن اللوحة الرخام التى كانت على بابه نقلت من عهد قديم إلى جامع البلك ببولاق ثم إلى دار الآثار العربية بميدان باب الخلق بالقاهرة.
دار الأمير آقوش الموصلى
ذكر المؤلف فى صفحة 94 من هذا الجزء كما ذكر المقريزى فى (ص 307 ج 2) أن هذه الدار هدمت ودخلت فى جامع الأمير قوصون الناصرى. وقد كتبنا على تلك الحاشية رقم 3 من هذه الصفحة. وهذه الحاشية ملغاة ولا لزوم لها.
مدارس وجوامع أخرى
يلاحظ القارئ أن مؤلف هذا الكتاب قد خص الملك الناصر محمد بن قلاوون بذكر ما أنشئ فى عصره من العمارات والمنافع العامة على اختلاف أنواعها، سواء أكانت من إنشائه خاصة أم من إنشاء رجال دولته، ومع ذلك فإن المؤلف ترك بعض المساجد مما لا يقل شأنا عما ذكره. لهذا رأيت إتماما للفائدة من هذا الحصر أن أذكر طائفة مما تركه المؤلف من الجوامع والمدارس التى هى من منشآت عصر الملك الناصر فى القاهرة. وهى:
(1) المدرسة القراسنقرية. أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة سنة 700 هـ (المقريزى ص 388 ج 2) . ومكانها اليوم مدرسة الجمالية الابتدائية بشارع الجمالية بقسم الجمالية.(9/332)
(2) المدرسة السعدية. أنشأها الأمير شمس الدين سنقر السعدى نقيب المماليك السلطانية فى سنة 715 هـ (المقريزى ص 397 ج 2) . ولا تزال قائمة إلى اليوم بشارع السيوفية، وكانت مستعملة أخيرا تكية للمولوية بقسم الخليفة.
(3) المدرسة المهمندارية. أنشأها الأمير شهاب الدين أحمد بن آقوش العزيزى المهمندار ونقيب الجيوش فى سنة 725 هـ (المقريزى ص 399 ج 2) .
ولا تزال قائمة إلى اليوم باسم جامع المهمندار بشارع التبانة بقسم الدرب الأحمر.
(4) المدرسة الملكية. أنشأها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار الناصرى فى سنة 719 هـ، كما هو ثابت بالنقش على بابها، وذكرها المقريزى فى خططه (ص 392 ج 2) . ولا تزال قائمة إلى اليوم باسم جامع الجوكندار بشارع أم الغلام بقسم الجمالية بالقاهرة. وتسميه العامة زاوية حالومة، وهو رجل مغربى طالت خدمته لهذا المسجد فعرف به.
(5) جامع ابن غازى. أنشأه نجم الدين بن غازى دلال المماليك فى سنة 741 هـ (المقريزى ص 313 ج 2) . ومكانه اليوم الجامع المعروف بجامع الشيخ نصر بشارع درب نصر ببولاق.
(6) جامع ابن صارم. أنشأه محمد بن صارم شيخ بولاق. ذكره المقريزى (ص 325 ج 2) ، ولم يذكر تاريخ إنشائه، ولكن إبراهيم بن مغلطاى ذكره فى منشآت عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون. ومكانه اليوم الجامع المعروف بجامع الشيخ عطية بدرب نصر ببولاق.(9/333)
(7) جامع الشيخ مسعود. ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على سويقة العياطين (ص 107 ج 2) فقال: إن الذي أنشأه هو الشيخ مسعود بن محمد بن سالم العياط فى سنة 728 هـ. ولا يزال هذا المسجد قائما إلى اليوم باسم جامع الشيخ مسعود بعطفة الشيخ مسعود بدرب الأقماعية بقسم باب الشعرية.
(8) جامع فلك الدين فلك شاه. يستفاد مما هو منقوش فى لوح من الرخام مثبت بأعلى محراب هذا المسجد أن الذي أنشأه هو الأمير فلك الدين فلك شاه بن دادا البغدادى فى سنة 720 هـ. ومن هذا التاريخ يتبين أنه من منشآت عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون. ولا يزال هذا الجامع موجودا، ويعرف بجامع الجنيد بشارع الدوب الجديد بقسم السيدة زينب، وينسب إلى الشيخ على الجنيد المدفون فيه.(9/334)
[الجزء العاشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحابته والمسلمين الجزء العاشر من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 742]
ذكر ولاية الملك المنصور أبى بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر
هو السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن السلطان الملك الناصر أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. جلس على تخت الملك بالإيوان «1» من قلعة الجبل بعهد من أبيه إليه صبيحة توفّى والده، وهو يوم الخميس حادى عشرين ذى الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ولقّبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور على لقب جدّه. والمنصور هذا هو الثالث عشر من ملوك الترك بديار مصر، والأوّل من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، واتّفق الأمراء على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ، حمو الملك المنصور هذا فى نيابة السلطنة بديار مصر كونه من أكابر الأمراء، وأيضا صهر السلطان، ويكون الأمير قوصون الناصرىّ مدبّر المملكة، ورأس المشورة، ويشاركه فى الرأى الأمير بشتك الناصرىّ، وتمّ ذلك ورسم بتجهيز التشاريف والخلع إلى نوّاب البلاد الشاميّة على يد الأمير قطلوبغا الفخرىّ، ورسم له بتحليف الأمراء والنوّاب بالبلاد الشاميّة على(10/3)
العادة. ونودى بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضّة والذهب بسعر الله تعالى، فسّر الناس بذلك، فإنهم كانوا قد امتنعوا من التعامل بالفضة وألّا تكون معاملتهم إلّا بالذهب. ثم أفرج عن بركة الحبش «1» ، وكان النشو قد أخذها من الأشراف، وصار ينفق فيهم من بيت المال. ثم كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم وألّا يرمى على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
ثم فى يوم الخميس ثامن عشرين «2» ذى الحجّة أنعم الملك المنصور على عشرة أمراء بإمرة طبلخاناه. ثم جمع القضاة فى يوم السبت سلخه فى جامع «3» القلعة للنظر فى أمر الخليفة الحاكم بامر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدّوادار فاتّفقوا على إعادته لعهد أبيه إليه بالخلافة بمقتضى مكتوب ثابت على قاضى قوص «4» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة خلع السلطان على جميع الأمراء المقدّمين فى الموكب بدار العدل «5» ، وطلع القضاة وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد على الدرجة الثالثة من تخت السلطان، وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته طرحة سوداء مرقومة بالذهب، ثم خرج السلطان من باب السرّ «6» على العادة إلى الإيوان فقام له الخليفة والقضاة ومن كان جالسا من الأمراء، وجلس على(10/4)
الدرجة الأولى دون الخليفة، وقام الخليفة وافتتح الخطبة بقوله عزّ وجلّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
. ثم أوصى الأمراء بالرفق بالرعية وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: فوّضت إليك جميع أحكام المسلمين، وقلّدتك ما تقلّدته من أمور الدين.
ثم تلا قوله تعالى: [إِنَّ «1» الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
] (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وجلس فجىء فى الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة السلطان بيده، ثم قلّده سيفا عربيّا، وأخذ القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السرّ فى قراءة عهد الخليفة للسلطان حتّى فرغ منه، ثم قدّمه إلى الخليفة فكتب عليه، ثم كتب بعده قضاة القضاة بالشهادة عليه، ثم قدّم السّماط فأكلوا وانقضت الخدمة.
ثم قدم الأمير بيغرا فى يوم الخميس خامس المحرّم من عند الأمير أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وقد حلّفه بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور هذا، ففرح الناس بذلك.
ثم فى يوم الأحد ثامن المحرّم قبض على الأمير بشتك الناصرىّ، وذلك أنه طلب أن يستقرّ فى نيابة الشام، ودخل على الأمير قوصون وسأله فى ذلك وأعلمه أنّ السلطان كان قبل موته وعده بها وألحّ فى سؤاله، وقوصون يدافعه ويحتّج عليه بأنه قد كتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب دمشق تقليدا باستمراره فى نيابة(10/5)
دمشق على عادته ولا يليق عزله سريعا، فقام عنه بشتك وهو غير راض، فإنه كان قد توهّم من قوصون وخشى منه على نفسه وطلب الخروج من ديار مصر لما كان بينهما قديما من المنافرة، ولأنّ قوصون صار الآن متحكّما فى الدولة، فلمّا خرج بشتك من عند قوصون وهو غير راض سعى بخاصّكيّة السلطان وحمل إليهم مالا كثيرا فى السرّ، وبعث إلى الأمراء الكبار وطلب منهم المساعدة، فما زالوا بالسلطان حتى أنعم عليه بنيابة الشام وطلب الأمير قوصون وأعلمه بذلك فلم يوافقه، وقرّر مع السلطان أنه يحدّث الأمراء فى ذلك ويعدهم بأنه يولّى بشتك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخرىّ من تحليف نائب الشام وبنسخة اليمين، فلمّا دخل الأمراء عرّفهم السلطان طلب بشتك بنيابة الشام فأخذوا فى الثناء عليه والشكر منه، فاستدعاه وطيّب خاطره ووعده بها عند قدوم الفخرىّ، ورسم له بأن يتجهز للسفر، فظن بشتك أن ذلك صحيح، وقام مع الأمراء من الخدمة، وأخذ فى عرض خيوله وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدّمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين بالقماش المذهب الفاخر، وبعث معها أيضا الهجن، ثم بعث إلى الأمراء الخاصّكيّة مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ شيئا كثيرا من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف. وفرّق عدّة من الجوارى فى الأمراء بحيث إنه لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه. ثم فرّق على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جارية بعد ما شوّرهنّ بالأقمشة والزراكش وزوجهنّ. وفرّق من شونته على الأمراء اثنى عشر ألف إردب غلة. وزاد بشتك فى العطاء حتى وقع الإنكار عليه واتّهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد الوثوب على السلطان وعملوا هذا من فعله حجّة [للقبض «1» ] عليه، وكان ما خصّ الأمير قوصون من تفرقة بشتك فى هذه النّوبة حجرين من حجارة معاصير(10/6)
القصب بما فيهما «1» من القنود «2» والسكر والأعسال والأبقار والغلال والآلات، وخمسمائة فدّان من القصب مزروعة فى أراض ملك له، وغير ذلك، فأدهش الأمراء كثرة عطائه، واستغنى منه جماعة من مماليكه وحواشيه. ولما كثرت القالة فيه بأنّه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصّه وعرّفه ذلك وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء، فقال: هم إذا قبضوا علىّ أخذوا مالى وأنا أحقّ بتفرقته منهم، وإذا سلمت فالمال كثير. هذا وقد قام قوصون فى أمر بشتك المذكور قياما حتّى وافقه السلطان على القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخرىّ، فأشاع قوصون أنّ بشتك يريد القبض على الفخرىّ إذا حضر فبلغ ذلك بعض خواصّ قطلوبغا، فبعث إليه من تلقّاه وعرّفه بما وقع من تجهيز بشتك وأنّه على عزم من أن يلقاك فى طريقك ويقتلك، فكن على حذر، فأخذ قطلوبغا من الصالحيّة «3» يحترز على نفسه حتّى نزل سرياقوس «4» واتّفق من الأمر العجيب أنّ بشتك خرج إلى حوشه بالرّيدانيّة «5» خارج(10/7)
القاهرة ليعرض هجنه وجماله فطار الخبر إلى قطلوبغا أنّ بشتك قد خرج إلى الرّيدانيّة فى انتظارك، فاستعدّ قطلوبغا ولبس السلاح من تحت ثيابه وسار حتّى تلقّاه عدّة كثيرة من مماليكه وحواشيه وهو على أهبة الخروج للحرب، وخرج عن الطريق وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتك وقد قوى عنده صحّة ما بلغه، وكان عند بشتك علم من قدومه، فلمّا قرب من الموضع الذي فيه بشتك لاحت له غبرة خيل فحدس بشتك أنّه قطلوبغا الفخرى قد قدم، فبعث إليه أحد مماليكه يبلّغه سلامه وأنّه يقف حتّى يأتيه فيجتمع به، فلمّا بلغ الفخرىّ ذلك زاد خوفه من بشتك، فقال له: سلّم على الأمير وقل له: لا يمكن اجتماعه بى قبل أن أقف قدّام السلطان. ثم بعد ذلك اجتمع به وبغيره، فمضى مملوك بشتك وفى ظن قطلوبغا أنّه إذا بلّغه مملوكه الجواب ركب إليه، فأمر قطلوبغا مماليكه بأن يسيروا قليلا قليلا، وساق هو بمفرده مشوارا واحدا إلى القلعة، ودخل إلى السلطان وبلّغه طاعة النوّاب وفرحهم بأيّامه. ثم أخذ يعرّف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء بما اتّفق له مع بشتك، وأنّه كان يريد معارضته فى طريقه وقتله فأعلمه السلطان وقوصون بما اتّفقا عليه من القبض على بشتك. فلما كان عصر اليوم المذكور، ودخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر وفيهم الأمير بشتك، وأكلوا السّماط تقدّم الأمير قطلوبغا الفخرىّ والأمير طقزدمر إلى بشتك وأخذا سيفه وكتّفاه وقبض معه على أخيه «1» إيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانيّة كانا يلوذان ببشتك، وقيّدوا جميعا وسفّروا إلى الإسكندريّة فى اللّيل صحبة الأمير أسندمر العمرىّ وقبض على جميع مماليكه ووقعت الحوطة على موجوده ودوره وتتبّعت غلمانه وحواشيه. وأنعم السلطان من إقطاع بشتك(10/8)
على الأمير قوصون بخصوص «1» الشّرق زيادة على ما بيده، وأخذ السلطان المطريّة «2» ومنية ابن خصيب «3» وشبرا «4» ، وفرّق بقيّة الإقطاع على ملكتمر الحجازىّ وغيره من الأمراء.
فلمّا أصبحوا يوم الاثنين تاسع المحرّم حملت حواصل بشتك، وهى «5» من الذهب العين مائتا ألف دينار مصريّة. ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزّركش شىء كثير جدّا، هذا بعد أن فرّق غالب موجوده حسب ما تقدّم ذكره على الأمراء والمماليك. ثم أخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشّر بخاناه منفيّا إلى طرابلس لميله مع بشتك.(10/9)
وفى يوم الخميس أنعم السلطان على أخويه: شعبان ورمضان كلّ واحد بإمرة.
وفيه قبض السلطان على الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب لشىء أوجب ذلك. وفى يوم الاثنين ثالث عشرين المحرّم خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر على الأمير طقزدمر الحموىّ بنيابة السلطنة بالديار المصريّة، وكان رشّح لها قبل تاريخه، فلبس الخلعة وجلس فى دست النيابة وحكم وصرّف الأمور. وفى يوم الاثنين سلخه قبض السلطان على الأمير آقبغا عبد الواحد وعلى أولاده، وخلع على الأمير طقتمر «1» الأحمدىّ واستقرّ أستادارا عوضا عن آقبغا المذكور، ورسم للأمير طيبغا المجدىّ والى القاهرة بإيقاع الحوطة على موجود آقبغا، وسلّم ولده الكبير إلى المقدّم إبراهيم بن صابر. وأصبح يوم الثلاثاء أوّل صفر فتحدّث الأمراء أن ينزل فى ترسيم «2» المجدىّ ليتصرّف فى أمره، فنزل فى صحبة المجدىّ وأخذ فى بيع موجوده، وكان السلطان قد حلف قديما أنّه متى تسلطن قبض عليه وصادره وضربه بالمقارع لأمور صدرت منه فى حقّه أيام والده الملك الناصر. فكان ممّا أبيع لآقبغا عبد الواحد سراويل لزوجته بمائتى ألف درهم فضّة وقبقاب وخفّ وسرموجة «3» بخمسة وسبعين ألف درهم، وثار به جماعة كثيرة من الناس ممن كان ظلمهم فى أيام تحكّمه وطلبوا حقوقهم منه وشكوه، فأقسم السلطان لئن لم يرضهم ليسمرنّه على جمل ويشهّره بالقاهرة ففرّق فيهم مائتى ألف درهم حتى سكتوا، وكادت العامة تقتله لولا المجدىّ لسوء سيرته وكثرة ظلمه أيّام ولايته. وفى يوم الأربعاء تاسع صفر قبض السلطان(10/10)
على المقدّم إبراهيم بن صابر وسلّمه لمحمد بن شمس [الدين «1» ] المقدّم وأحيط بأمواله، فوجد له نحو سبعين حجرة «2» فى الجشار «3» ومائة وعشرين بقرة فى الزرايب ومائتى كبش وجوقتين كلاب سلوقيّة «4» وعدّة طيور جوارح مع البازداريّة «5» . ووجد له من الغلال وغيرها شىء كثير.
ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير طشتمر حمّص أخضر الساقى نائب حلب بخروج ابن دلغادر عن الطاعة وموافقته لأرتنا متملّك الروم على المسير لأخذ حلب، وأنّه قد جمع بأبلستين «6» جمعا كثيرا، وسأل طشتمر أن ينجده بعسكر من مصر، فتشوّش السلطان لذلك وعوّق الجواب. وفيه رسم السلطان بضرب آقبغا عبد الواحد بالمقارع فلم يمكّنه الأمير قوصون من ذلك فآشتدّ حنق السلطان وأطلق لسانه بحضرة خاصّكيّته فى حقّ قوصون وغيره، وفى ذلك اليوم عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولّدات اللّاتى فى بيت السلطان، وكتب القاضى علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ صداقهما، فخلع عليه السلطان وأعطاه عشرة آلاف درهم، ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظر الخاصّ أن يجهّزهما بمائة ألف دينار، فشرع جمال الكفاة فى عمل الجهاز، وبينما هو فى ذلك ركب الأمير قوصون على السلطان بجماعة من الأمراء فى يوم السبت تاسع عشر صفر وخلعوه من الملك فى يوم الأحد عشرينه، وأخرج هو وإخوته إلى قوص «7» صحبة الأمير بهادر بن «8» جركتمر.(10/11)
وكان سبب خلع الملك المنصور هذا أنّ المنصور كان قرّب الأمير يلبغا اليحياوىّ وشغف به شغفا كثيرا، ونادم الأمير ملكتمر الحجازىّ واختصّ به وبالأمير طاجار الدّوادار وبالأمير قطليجا الحموى وجماعة من الخاصّكيّة، وعكف على اللهو وشرب الخمر وسماع الملاهى فشقّ ذلك على الأمير قوصون وغيره لأنّه لم يعهد من ملك قبله شرب خمر فيما روى، فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته فى ذلك وكفّه عنه فزاده لومه إغراء وأفحش فى التّجاهر باللهو، حتى تكلّم به كلّ أحد من الأمراء والأجناد والعامّة، فصار فى الليل يطلب الغلمان لإحضار المغانى، فغلب عليه السّكر فى بعض الليالى فصاح من الشّباك على الأمير أيدغمش أمير آخور:
هات لى قطقط «1» ، فقال أيدغمش: ياخوند، ما عندى فرس بهذا الاسم، فتكلّم بذلك السّلاخوريّة «2» والركابيّة «3» وتداولته الألسنة.
قلت: وأظن قطقط كانت امرأة مغنّية. والله أعلم.
فلمّا زاد أمره طلب الأمير قوصون طاجار الدّوادار والشّهابىّ شادّ العمائر، وعنّفهما ووبّخهما وقال لهما: سلطان مصر يليق به أن يعمل مقامات ويحضر إليه البغايا والمغانى! أهكذا كان يفعل والده؟ وعرّفهم أن الأمراء قد بلغهم ذلك وتشوّش خواطرهم، فدخلوا وعرّفوا السلطان كلامه، وزادوا فى القول، فأخذ جلساء الملك المنصور فى الوقيعة فى قوصون والتحدث فى القبض عليه وعلى الأمير(10/12)
قطلوبغا الفخرىّ والأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير طقزدمر النائب، فنمّ عليهم الأمير يلبغا اليحياوىّ لقوصون، وكان قد استماله قوصون بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانيّة. وعرّفه أن الاتّفاق قد تقرّر على القبض عليه فى يوم الجمعة وقت الصلاة، فانقطع قوصون عن الصلاة وأظهر أنّ برجله وجعا، وبعث فى ليلة السبت يعرّف بيبرس الأحمدىّ بالخبر ويحثّه على الركوب معه، وطلب المماليك السلطانيّة وواعدهم على الركوب وملأهم بكثرة المواعيد، ثمّ بعث إلى الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا وهؤلاء أكابر الأمراء فلم يطلع الفجر حتّى ركب الأمير قوصون من باب سرّ «1» القلعة بمماليكه ومماليك السلطان وسار نحو الصحراء «2» ، وبعث مماليكه فى طلب الأمراء فأتاه جركتمر وبهادر وبرسبغا وقطلوبغا الفخرىّ والأحمدىّ وأخذوا آقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدىّ، فسار معه المجدىّ أيضا، ووقفوا بأجمعهم عند قبّة «3» النصر ودقّت طبلخاناتهم، فلم يبق أحد من الأمراء حتّى أتى قوصون، هذا والسلطان وندماؤه وخاصّكيّته فى غفلة لهوهم وغيبة سكرهم إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف، وأيقظوهم من نومهم وعرّفوهم مادهوا به، فبعث السلطان طاجار الدوادار إلى الأمير طقزدمر النائب يسأله عن الخبر ويستدعيه، فوجد عنده چنكلى بن البابا والوزير وعدّة من الأمراء المقيمين بالقلعة، فامتنع طقزدمر من الدخول على السلطان، وقال: أنا مع الأمراء حتّى أنظر ما عاقبة هذا الأمر، ثم قال لطاجار: أنت وغيرك سبب هذا، حتى أفسدتم السلطان «4» بفسادكم ولعبكم، قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله، فرجع طاجار وبلّغ السلطان ذلك، فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك، فصارت(10/13)
كلّ طائفة تخرج على أنّها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلّة «1» حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك، وساروا يدا واحدة من باب القلّة إلى باب القلعة «2» ، فوجدوه مغلقا فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعد ما أخرقوا بوالى باب القلعة وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء (أعنى عن الأمير طقزدمر) ، فقال لهم طقزدمر:
السلطان ابن أستاذكم جالس على كرسىّ الملك وأنتم تطلبون غيره. فقالوا: ما لنا ابن أستاذ، وما لنا أستاذ إلّا قوصون، ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا ومضوا إلى باب القرافة «3» وهدموا منه جانبا وخرجوا فإذا خيول بعضهم واقفة فركب بعضهم وأردف عدّة منهم ومشى باقيهم إلى قبّة النصر ففرح بهم قوصون والأمراء وأركبوهم الخيول وأعطوهم الأسلحة وأوقفوهم بين أصحابهم، ثم أرسل قوصون الأمير مسعود [بن «4» خطير] الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهما من أمراء الألوف الخاصّكيّة وطاجار الدّوادار وغيرهم، ويعرّفه أنه أستاذه وأستاذ جميع الأمراء وابن أستاذهم وأنهم على طاعته وإنما يريدون هؤلاء لما صدر منهم من الفساد ورمى الفتن، فطلع الأمير مسعود فوجد السلطان بالإيوان من القلعة، وهم حوله فى طائفة من المماليك فقبّل الأرض وبلّغه الرسالة، فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم. وما أسّير مماليكى ومماليك أبى لهم، وقد كذبوا فيما نقلوا عنهم ومهما قدروا عليه يفعلوه، فما هو إلّا أن خرج عنه الأمير مسعود حتى اقتضى رأيه بأن يركب بمن معه وينزل من القلعة ويطلب(10/14)
النائب طقزدمر ومن عنده من الأمراء والمماليك ويدقّ كوساته، فتوجه إلى الشّباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشدّ الخيل للحرب، فأخبره أنه لم يبق فى الإسطبل غلام ولا سايس ولا سلاخورىّ «1» يشدّ فرسا واحدا، فبعث إلى النائب يستدعيه فامتنع عليه، وبعث الأمير قوصون بلك الجمدار وبرسبغا إلى طقزدمر النائب يعلماه «2» بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبا، فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإرسالهم، فعلم السلطان أنّ النائب وأمير آخور قد خذلاه، فقام ودخل على أمّه فلم يجد الغرماء بدّا من الإذعان، وخرجوا إلى النائب، وهم الأمير ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ، وهؤلاء مقدمو الألوف، وأحد خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون- رحمه الله- وطاجار الدّوادار والشهابىّ شادّ العمائر وبكلمش الماردينىّ وقطليجا الحموىّ، فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصون صحبة بلك الجمدار وبرسبغا، فلمّا رآهم قوصون صاح فى الحاجب أن يرجّلهم عن خيولهم من بعيد فأنزلوا إنزالا قبيحا وأخذوا حتى أوقفوا بين يدى قوصون، فعنّفهم ووبّخهم وأمر بهم فقيّدوا وعملت الزناجير «3» فى رقابهم، والخشب فى أيديهم ثم تركهم فى خيم ضربت لهم عند قبّة النصر. واستدعى طقزدمر النائب والأمير چنكلى بن البابا والوزير والأمراء المقيمين بالقلعة والأمير أيدغمش أمير آخور فنزلوا اليه واتّفقوا على خلع الملك المنصور وإخراجه، فتوجّه الأمير برسبغا فى جماعة إلى القلعة وأخرج الملك المنصور وإخوته وهم سبعة نفر، ومع كلّ منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش، وأركبهم إلى شاطئ النيل وأنزلهم فى حرّاقة «4» وسار بهم إلى قوص،(10/15)
ولم يترك بالقلعة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلّا كچك، ثم سلّم قوصون الأمراء المقيّدين إلى والى القاهرة، فمضى بهم إلى خزانة «1» شمائل وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوىّ، فإنّه أفرج عنه، وكان يوما عظيما بالديار المصريّة من إخراج أولاد السلطان الملك الناصر على هذه الصورة، وحبس هؤلاء الأمراء الملوك فى خزانة شمائل وتهتّك حرم السلطان على إخراج أولاد الناصر، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة، فكان هذا اليوم من أشنع الأيام. وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم فى قبّة النصر خارج القاهرة، وركبوا بكرة يوم الأحد العشرين من صفر إلى قلعة الجبل واتّفقوا على إقامة كچك ابن الملك الناصر محمد فى السلطنة، فاقيم وجلس على كرسىّ الملك حسب ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمته. وخلع الملك المنصور فى يوم السبت تاسع عشر صفر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة ملكه على مصر تسعة وخمسين يوما، ومن حين قلّده الخليفة [ثمانية «2» و] أربعين يوما، لأنّه لمّا تسلطن كان الخليفة [الحاكم «3» بأمر الله أحمد بن أبى الربيع سليمان] المستكفى لم يتمّ أمره فى الخلافة، ثم انتظم أمره بعد ذلك فبايع الملك المنصور حسب ما ذكرناه، وخلع الملك المنصور أبو بكر من السلطنة وسلم القلعة بغير قتال مع كثرة من كان معه من خواصّ أمراء أبيه ومماليكه، خذلان من الله تعالى!(10/16)
وفى خلعه من السلطنة وإخراجه إلى قوص مع إخوته عبرة لمن اعتبر، فإن والده الملك الناصر محمد بن قلاوون كان أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان المستكفى بأولاده وحواشيه إلى قوص منفيّا مرسّما عليه فقوصص الملك الناصر عن قريب فى ذرّيته بمثل ذلك، وأخرج أولاده أعزّ مماليكه وزوج ابنته، وهو قوصون الناصرىّ، فتوجّه الملك المنصور مع إخوته إلى قوص وصحبته بهادر «1» بن جركتمر مثل الترسيم عليه وعلى إخوته، وأقام بها نحو الشهرين، ودسّ عليه قوصون عبد المؤمن متولىّ قوص فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سرّا فى أواخر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وكتموا ذلك عن الناس. فلمّا أمسك قوصون تحقّق الناس ذلك، وجاء من حاقق بهادر أنّه غرّق طاجار الدوادار واستحسّ على قتل المنصور، فطلب عبد المؤمن وقرّر فاعترف فسمّره السلطان الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد تسلطن بعد أخيه كچك آخذا بدم أخيه الملك المنصور هذا.
وكان الملك المنصور سلطانا كريما شابا حمل اليه مال بشتك ومال آقبغا عبد الواحد ومال برسبغا فوهب ذلك جميعه إلى الخاصّكيّة الأمراء من مماليك والده مثل ملكتمر الحجازىّ وألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وطاجار الدّوادار، وهؤلاء كانوا عظماء أمراء الألوف من الخاصّكيّة وأعيان مماليك الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأصهاره وأحبّهم وأحبّوه، فالتهى بهم عن قوصون وقوى بهم بأسه، فخاف قوصون عاقبة أمره وتقرّب خشداشيته إليه فدبّر عليه وعليهم حتّى تمّ له ذلك، وكانت الناس تباشرت بيمن سلطنته، فإنه لمّا تسلص انفعلت الأمور على أحسن(10/17)
ما يكون ولم يقع بين الناس خلاف ولا وقع سيف حتّى خالف قوصون، فرموه بأمور وقبائح ودواهى، وادّعوا أنّه كان ينزل هو والمذكورون من مماليك أبيه إلى بحر النيل ويركب معهم فى المراكب وأشياء من ذلك، الله أعلم بصحّتها. ولم يكن مسك بشتك بخاطره ولا عن أمره إلّا مراعاة لخاطر قوصون لما كان بينهما من أيام أستاذهما الملك الناصر محمد من المنافرة. وكان الملك المنصور شابّا حلو الوجه، فيه سمرة وهيف قوام، وكان تقدير عمره ما حول العشرين سنة، وكان أفحل الإخوة وأشجعهم. زوّجه أبوه بنت الأمير سيف الدين طقزدمر الحموىّ.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ فى تاريخه: وعمل الناس عزاءه ودار جواره «1» فى الليل بالدّرارك «2» فى شوارع القاهرة أيّاما، وأبكين الناس وتأسّفوا عليه لأنّه خذل، وعمل عليه وأخذ بغتة، وقتل غضّا طريّا، ولو استمرّ لجاء منه ملك عظيم، كان فى عزمه ألّا يغيّر قاعدة من قواعد جدّه الملك المنصور قلاوون، ويبطل ما كان أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم، وغير ذلك. انتهى كلام الصلاح الصّفدىّ باختصار.
وأمّا أمر بشتك وحبسه فإنه كان من أجلّ مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان ثقل عليه فى أواخر أمره، فإنه لمّا مات بكتمر الساقى ورثه فى جميع أمواله «3» ، فى داره وإسطبله. وتزوّج بامرأته أمّ أحمد بن بكتمر الساقى واشترى جاريته(10/18)
خوبى «1» بستة آلاف دينار، وكان معها من القماش ما قيمته عشرة آلاف دينار، وأخذ ابن بكتمر عنده. وكانت الشرقية «2» تحمى لبكتمر الساقى فحماها هو بعده، فعظم ذلك على قوصون ولم يسعه إلّا السّكات لميل السلطان إليه. وكان مع هذه الرياسة الضخمة غير عفيف الذّيل عن المليح والقبيح، وبالغ فى ذلك وأفرط حتّى فى نساء الفلّاحين وغيرهم. وكان سبب قربه من أستاذه الملك الناصر أنّ الملك الناصر قال يوما فى مبدأ أمره لمجد»
الدين السّلّامىّ: أريد أن أشترى لى مملوكا يشبه بو سعيد ابن خربندا ملك التّتار، فقال مجد الدين: دع ذلك، فهذا بشتك يشبهه لا فرق بينهما فحظى عنده لذلك. ولمّا ندبه السلطان لمسك تنكز وتوجّه إلى الشام للحوطة على مال تنكز، ورأى أمر مشق طمع فى نيابتها ولم يجسر يفاتح السلطان فى ذلك، وبقى فى نفسه منها حزازة، فلمّا مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس بشتك مماليكه، فإنّه كان بلغه عن قوصون أنّه ألبس مماليكه، ثم انتظم الأمر على أن السلطان جعل ابنه أبا بكر ولىّ عهده، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى أواخر ترجمة الملك الناصر. فلمّا وقع ذلك قال بشتك: لا أوافق على سلطنة أبى بكر، ما أريد إلّا سيّدى أحمد الذي بالكرك. فلمّا مات السلطان وسجّى قام قوصون إلى الشّباك وطلب بشتك وقال له: يا أمير تعال، أنا ما يجيء منّى سلطان، لأنّى كنت أبيع(10/19)
الطّسما «1» والكشاتوين «2» فى البلاد وأنت اشتريت منّى، وأهل البلاد يعرفون ذلك منّى، وأنت ما يجيء منك سلطان، لأنّك كنت تبيع البوزا «3» ، وأنا اشتريت ذلك منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك كلّه، فما يكون سلطانا من عرف ببيع الطسما والبرغالى «4» ، ولا من عرف ببيع البوزا، وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبر به من أولاده، وهذا فى ذمّته وما يسعنا إلّا امتثال أمره حيّا وميّتا، وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت أن تعمل كلّ يوم سلطانا ما خالفتك؛ فقال بشتك:
كلّ هذا صحيح، والأمر أمرك، وأحضرا المصحف وحلف كلّ للآخر وتعانقا، ثم قاما إلى رجلى السلطان فقبّلاهما وبكيا، ووضعا ابن السلطان على كرسىّ الملك. وقد تقدم ذكر ذلك كلّه، وتمّ الأمر بينهما على ذلك، حتى بدا لبشتك أن يلى نيابة الشام فعاكسه قوصون فثارت الكمائن والضغائن القديمة بينهما حتى وقع ما حكيناه، وأمسك بشتك واعتقل بالإسكندريّة إلى أن قتل فى محبسه بالإسكندرية بعد أيام فى سلطنة الملك الأشرف كچك ابن الملك النّاصر محمد بن قلاوون فى شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين المذكورة، حسب ما يأتى ذكره. وبشتك هذا أوّل من أمسك من أمراء الدولة الناصريّة. وكان كريما مهابا، كان يذبح فى سماطه فى كل يوم خمسين رأسا من الغنم وفرهما لا بدّ منه، خارجا عن الدجاج والإوز والحلوى. انتهى ترجمة الملك المنصور أبى بكر بن محمد بن قلاوون. رحمه الله تعالى.(10/20)
ذكر ولاية الملك الأشرف علاء الدين كچك «1» على مصر
هو السلطان الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن السلطان الملك الناصر، ناصر ناصر الدين أبى المعالى محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ. جلس على تخت الملك باتّفاق الأمراء بعد خلع أخيه أبى بكر ابن الملك الناصر محمد فى يوم الاثنين حادى عشرين صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وركب بشعار السلطنة ولقّب بالملك الأشرف ولم يكمل له من العمر خمس سنين، وقيل كان عمره دون سبع سنين. وأمّه أمّ ولد تسمّى أردو تركيّة الجنس وهو السلطان الرابع عشر من ملوك الترك بديار مصر، والثانى من أولاد الملك الناصر محمد ابن قلاوون. ولمّا تمّ أمره فى السلطنة جلس الأمراء واشتوروا فيمن يقيموه «2» فى نيابة السلطنة فرشّح الأمير أيدغمش أمير آخور فامتنع أيدغمش من ذلك فوقع الاتفاق على الأمير قوصون الناصرىّ فأجاب وشرط على الأمراء أن يقيم على حاله فى الأشرفية «3» من القلعة ولا يخرج منها إلى دار النيابة «4» خارج باب القلّة من القلعة، فأجابوه الأمراء(10/21)
إلى ذلك، فاستقرّ من يومه فى النيابة، وتصرّف فى أمور المملكة، والسلطان آلة فى السلطنة، فقال فى ذلك بعض شعراء العصر:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر فى ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من تغشيه «1» مظلمة ... أن يبلغ السّؤل والسلطان ما بلغا
ثم اتّفقت الأمراء على إخراج الأمير ألطنبغا الماردانىّ من الحبس فأخرج من يومه. وفى ليلة الأربعاء ثالث عشرين صفر أخرج الأمير قطلوبغا الحموىّ وطاجار الدّوادار وملكتمر الحجازىّ والشّهابىّ شادّ العمائر من حبس خزانة شمائل بالقاهرة، وحملوا إلى ثغر الإسكندريّة فسجنوا بها. وتوجّه الأمير بلك الجمدار على البريد إلى حلب لتحليف النائب طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر والأمراء، وتوجّه الأمير بيغر إلى دمشق بمثل ذلك إلى نائبها الأمير ألطنبغا الصالحىّ، وتوجّه الأمير جركتمر بن بهادر إلى طرابلس وحماة لتحليف نوّابها والأمراء، وكتب إلى الأعمال بإعفاء الجند عن المغارم. ثم ركب الأمير قوصون فى يوم الخميس رابع عشرينه فى دست النيابة، وترجّل له الأمراء ومشوا فى خدمته، وأخذ وأعطى وأنفق على(10/22)
الأمراء لكلّ أمير مائة ومقدّم ألف: ألف دينار، ولكلّ أمير طبلخاناه خمسمائة دينار؛ ولكلّ أمير عشرة مائتى دينار، ولكلّ مقدّم حلقة خمسين دينارا، ولكلّ جندى خمسة عشر دينارا.
ثم فى يوم [السبت «1» ] سادس عشرينه سمّر قوصون ولىّ الدولة أبا الفرج ابن خطير صهر النّشو، وكان قد توصّل إلى الملك المنصور بسفارة أستاذه ملكتمر الحجازىّ، ووقع منه أمور حقدها عليه قوصون لوقتها، ولمّا سمّر أشهر على جمل بمصر والقاهرة وقد أشعلت الشموع بالحوانيت والشوارع ودقّت الطبول وفرح الناس بتشهيره فرحا زائدا لأنّه كان ممّن بقى من حواشى النّشو وأصهاره، وفيه يقول الأديب جمال الدين إبراهيم «2» المعمار:
قد أخلف النّشو صهر سوء ... قبيح فعل كما تروه
أراد للشرّ فتح باب ... فأغلقوه وسمّروه
ولمّا كان يوم الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة أنعم قوصون على أحد وعشرين مملوكا من المماليك السلطانية بإمريات: منهم ستة طبلخاناه والبقيّة عشرات. وفى رابع عشر شهر ربيع الأوّل توجّه الأمير طوغان لإحضار الشهابىّ أحمد ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك محتفظا به لينفى إلى أسوان «3» . وسبب ذلك أنّه ورد كتاب ملكتمر السّرجوانى نائب الكرك يتضمن أنّ أحمد المذكور خرج عن طوعه وكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه فى معاقرة الخمر، وأنّه يخاف على نفسه منه أن يوافق الكركيين على قتله وطلب الإعفاء(10/23)
من نيابة الكرك. ثمّ فى يوم السبت سابع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور خلع على الأمير طقزدمر الحموىّ نائب السلطنة بديار مصر بنيابة حماة عوضا عن الملك الأفضل ابن الملك المؤيّد الأيّوبى، وأنعم على الملك الأفضل بتقدمة ألف بدمشق، وأنعم على الأمير آقبغا عبد الواحد بإمرة بدمشق، ورسم لسفره [إليها «2» ] . وفى يوم الخميس ثانى عشرينه جلس السلطان الملك الأشرف كچك على تخت الملك وخلع على جميع الأمراء وأرباب الدولة بدار العدل. وقبّل الأمراء الأرض بين يديه ثم تقدّموا إليه على قدر مراتبهم وقبّلوا يده فكان عدّة الخلع فى هذا اليوم ألفا ومائتى خلعة.
ثم فى تاسع عشرينه ورد كتاب الشهابىّ أحمد ابن الملك الناصر محمد من الكرك بأنه لا يحضر إلى القاهرة حتى يأتيه أكابر الأمراء إلى الكرك ويحلّفهم، ثم يحضر إخوته من بلاد الصعيد إلى قلعة الكرك، ويحضر بعد ذلك، وينتصب سلطانا فأجيب بأنه لم يطلب إلّا لشكوى النائب منه، وجهّزت له هدّية سنّية، وأنّه يحضر حتى تعمل المصلحة، فلم يكن بعد أيّام إلّا وحضر الأمير ملكتمر السّرجوانىّ نائب الكرك إلى القاهرة فى يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر، وأخبر الأمير قوصون وغيره بامتناع الشهابىّ أحمد من الحضور، وأنّه أقام على الخلاف، فاجتمع الأمراء بالقصر فى يوم الجمعة خامس عشرة للمشورة فى أمر أحمد المذكور، حتّى تقرّر الأمر على تجريد العساكر لأخذه.
ثم فى يوم السبت سادس عشره ابتدأت الفتنة بين الأمير قوصون وبين المماليك السلطانية، وذلك أنّ قوصون أرسل يطلب من مقدّم المماليك مملوكا(10/24)
من طبقة الزّمرّذيّة «1» جميل الصورة، فمنعه خشداشيته أن يخرج من عندهم، فتلطّف بهم المقدّم حتّى أخذه ومضى به إلى قوصون فبات عنده، ثم طلب من الغد نحو أربعة مماليك أخر أو خمسة، منهم شيخون «2» وصرغتمش وأيتمش عبد الغنى، فامتنع خشداشيتهم من ذلك، وقام منهم نحو المائة مملوك، وقالوا: نحن مماليك السلطان، ما نحن مماليك قوصون، وأخرجوا الطواشى المقدّم من عندهم على أقبح وجه، فمضى المقدّم إلى قوصون وعرّفه الحال، فأخرج إليهم قوصون الأمير برسبغا الحاجب وشاورشى دواداره فى عدّة من مماليكه ليأتوه بهم، فإذا بالمماليك قد تعصّبوا مع كبارهم وخرجوا على حميّة يريدون الأمير بيبرس الأحمدىّ، فإذا به راكب، فمضوا إلى بيت «3» الأمير چنكلى بن البابا فلقوه فى طريقهم؛ فقالوا له:
نحن مماليك السلطان مشترى ماله، فكيف نترك ابن أستاذنا ونخدم غيره، من هو مملوك مثلنا فينال غرضه منّا ويفضحنا بين الناس وجهروا له بالكلام الفاحش، فتلطّف بهم چنكلى فلم يرجعوا عما هم عليه فحنق منهم، وقال: أنتم الظالمون بالأمس ولمّا خرجتم قلت لكم: طقزدمر نائب السلطنة: ارجعوا إلى خدمة(10/25)
[ابن «1» ] أستاذكم قلتم: ما لنا ابن أستاذ غير قوصون، والآن تشكوا منه! فاعتذروا له ومضوا به؛ وقد حضر الأحمدىّ فاجتمعوا به، وتوجّهوا إلى منكلى بغا الفخرىّ فإذا قد وافاه برسبغا من عند قوصون، فأرادوا أن يوقعوا به فكفّهم الفخرىّ عنه، هذا وقوصون قد بلغه خبرهم، فأراد أن يخرج ويجمع الأمراء فما زال به من عنده حتّى سكن إلى بكرة النهار، فكانت تلك الليلة ليلة مهولة.
ثمّ طلب الأمير قوصون چنكلى والأحمدىّ والفخرىّ وبقيّة الأمراء إليه، وأغراهم بالمماليك السلطانيّة وخوّفهم عاقبة أمرهم من استخفافهم بالأمراء، فبعثوا بالأمير مسعود الحاجب إليهم ليحضرهم فإذا جمعهم قد كثف وكثر، فلم يلتفتوا إليه فعاد فخرج إليهم ألطنبغا الماردانىّ وقطلوبغا الفخرىّ وهما أكبر الأمراء الخاصّكيّة من خشداشيتهم، وما زالا بهم حتّى أخذا من وقع عليه الطلب، ودخلوا بهم إلى قوصون، فقبّلوا يده فقام لهم وقبّل رأسهم وطيّب خواطرهم ووعدهم بكلّ خير وانصرفوا، وفى ذهن قوصون أنّه قد حصل الصلح، وذلك فى يوم السبت. فلمّا كان [ليلة «2» ] الاثنين وقت الغروب تحالف المماليك الناصريّة على قتل قوصون وبعثوا إلى من بالقاهرة منهم، فبات قوصون- وقد بلغه ذلك- على حذر، وركب يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر الموكب مع الأمراء تحت القلعة، وطلب أيدغمش أمير آخور، وأخذ قوصون يلوم الأمراء فى إقامته فى نيابة السلطنة، وهم يترضّوه ويعدوه بالقيام معه، فأدركه الأمير بيبرس الأحمدىّ وأعلمه بأنّ المماليك السلطانيّة قد اتفقوا على قتله، فمضى بهم (أعنى الأمراء) إلى جهة قبّة النصر فآرتجّت القلعة وقفلت أبوابها، ولبست(10/26)
المماليك السلطانيّة السلاح بالقلعة وكسرو الزّردخاناه «1» السلطانيّة، هذا وقد امتلأت الرّميلة «2» بالعامّة، وصاحوا يا ناصريّة! نحن معكم، فأجابوهم من القلعة، فأشاروا لهم بالتوجّه إلى بيت «3» قوصون فتوجّهوا نحوه وكسروا بابه وهجموا عليه، وكسروا من كان يرمى عليهم من أعلى البيت، وبلغ ذلك قوصون، فعاد بمن كان معه، وأوقعوا بالعامّة(10/27)
حتّى وصلوا إلى سور القلعة فرماهم المماليك من أعلى القلعة بالنّشّاب وأحموا العامّة، فقتل فى المعركة الأمير محمود صهر الأمير چنكلى بن البابا بسهم نشّاب من القلعة، وقتل معه آخر، ووصلوا حاشية قوصون إلى إسطبل «1» قوصون، فقد بدأ النهب فيه، فقتلوا من العامّة جماعة كثيرة وقبضوا على جماعة، فلم تطق المماليك السلطانيّة مقاومة الأمراء فكفّوا عن القتال وفتحوا باب القلعة لهم، فطلع إليهم الأمير برسبغا الحاجب وأنزل ثمانية من أعيان المماليك السلطانيّة إلى قوصون. وقد وقف قوصون بجانب زاوية «2» تقىّ الدين رجب تحت القلعة، فوسط قوصون منهم واحدا اسمه صربغا، فإنّه الذي فتح خزائن السلاح وألبس المماليك، وأمر به قوصون فعلّق على باب زويلة، وأراد أن يوسّط البقيّة فشفع فيهم الأمراء، فحبسوا بخزانة شمائل مقيّدين. ثم رسم(10/28)
قوصون بتسمير عدّة من العوامّ فسمّر منهم تسعة على باب زويلة، ثم أمر بالركوب على العامّة وقبضهم ففرّوا حتّى إنهم لم يقدروا منهم على حرفوش «1» واحد، ثم طلع قوصون إلى القلعة قريب العصر، ومدّ للأمراء سماطا فأكلوا وبقيت الأطلاب «2» والأجناد واقفة تحت القلعة إلى آخر النهار، فكان ذلك اليوم من الأيام المشهودة، وكان جملة من قتل فيه من الفئتين ثمانية وخمسين رجلا وانصرف الناس.
ثم فى ليلة الثلاثاء طلع الأمير برسبغا الحاجب إلى طباق «3» المماليك بالقلعة ومعه عدّة من المماليك وقبضوا على مائة مملوك منهم وعملوا فى الحديد وحبسوا بخزانة شمائل، فمنهم من قتل ومنهم من نفى من مصر. ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر سمّر قوصون تسعة من العوام. ثم فى يوم الأربعاء عشرينه سمّر قوصون أيضا ثلاثة من الطواشيّة فى عدّة من الحرافيش على باب زويلة، وسبب ذلك أنّ قوصون لما نزل من القلعة ومضى إلى قبّة النصر وقابلته المماليك السلطانيّة أخذت الطواشيّة فى الصياح على نسائه وأفحشوا فى سبّهنّ، واستمر الطواشيّة فى التسمير حتى مات أحدهم وشفع فى الاثنين. ثم عرض قوصون مماليك الأطباق، وأنعم على مائتين منهم بإقطاعات كبيرة، وعيّن جماعة منهم بإمريات. ثم أكثر قوصون من الإحسان إليهم وبينما قوصون فى ذلك قدم عليه كتب نائب الشام وأمراء الشام.
وفيها كتب أحمد ابن السلطان الملك الناصر لهم مختومة لم تفكّ ففتحها قوصون فإذا فيها لنائب الشام أنه كاتب لنائب حلب الأمير طشتمر الساقى حمص أخضر وغيره(10/29)
وأنهم اتفقوا معه وأكثر من الشكوى من قوصون، فأوقف قوصون الأمراء عليها وما زال بهم حتى وافقوه على تجريد العسكر إلى الكرك.
وفى هذه الأيام ظهرت المماليك التى كانت الفتنة بسببهم عند خشداشيّتهم، فسلّم صرغتمش إلى الأمير ألطنبغا الماردانىّ، وسلّم أيتمش إلى الأمير أيدغمش أمير آخور، وسلّم شيخون إلى الأمير أرنبغا السّلاح دار، وهؤلاء الأمراء الثلاثة ناصريّة.
ثم أشيع بالقاهرة أنّ أحمد ابن الملك الناصر قد تحرّك من الكرك فى طلب المجىء إلى الديار المصريّة، فكثر الاضطراب ووقع الشروع فى تجهيز العساكر صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ، واستحلفه قوصون، وبعث إليه بعشرة آلاف دينار، وعيّن معه أيضا الأمير قمارى أخا بكتمر الساقى ومعهما أربعة وعشرون أميرا، ما بين طبلخانات وعشرات، وأنفق على الجميع. ثم بعث قوصون إلى قطلوبغا الفخرىّ بخمسة آلاف دينار أخرى عند سفره وركب لوداعه صحبة الأمراء، حتى نزل بالرّيدانيّة «1» فى يوم الثلاثاء «2» خامس عشرين ربيع الآخر، وكلّ ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
هذا والأمراء لم يكن منهم أحد راضيا بسفر هذه التجريدة، بل أشار الأمير الحاج آل ملك والأمير چنكلى بن البابا على قوصون بأنه لا يحرّك ساكنا فلم يقبل قوصون، وكانا أشارا عليه بأنّه يكتب إلى أحمد بن الناصر يعتبه على مكاتبته لنائب الشام وغيره، فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ طوغان أسمعه كلاما فاحشا وأغلظ عليه فى القول فحمله الحنق على مكاتبة نائب الشام، وأنّ قوصون والده بعد والده ونحو ذلك، فلم يقنع قوصون ذلك، وجهّز العساكر لأخذه، وبعد خروج العساكر ركب الأمير قوصون فى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأولى إلى سرياقوس وصحبته الأمراء على عادتهم [توجه(10/30)
السلطان «1» ثم عاد] . وبعد مدّة يسيره ظهر للأمير قوصون مخالفة الأمير طشتمر الساقىّ نائب حلب المعروف بحمّص أخضر، وسبب مخالفته أنّه شقّ عليه إخراج أولاد استاذه الملك الناصر إلى الصعيد، وأيضا تجهيز العساكر لقتال أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وكان قد بعث إليه أيضا أحمد ابن الملك الناصر يشكو من قوصون، وأنه يريد القبض عليه ويطلب منه النّصرة عليه، فكتب طشتمر إلى أمراء الديار المصريّة وإلى قوصون بالعتب، فقبض على قاصده بقطيا «2» وسجن، وكتب قوصون إلى الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام بأن الأمير طشتمر حمّص أخضر نائب حلب شرع يتكلم فى إقامة الفتنة وأنه لا يصغى إلى قوله، وبعث إليه بأشياء كثيرة من الهدايا والتحف فأجاب ألطنبغا نائب الشام بالسمع والطاعة والشكر والثناء.
ولما تمّ لقوصون ذلك وقع بينه وبين الأمير أيدغمش أمير آخور، وكادت الفتنة تقوم بينهما وأغلظ أيدغمش لقوصون فى الكلام، وسببه أن بعض مماليك أمير على بن أيدغمش وشى إليه بأنّ قوصون قرر مع برسبغا الحاجب أن يبيت بالقاهرة ويركب فى عدّة من مماليك قوصون ويكبس على أيدغمش، فأخذ أيدغمش فى الاحتراز، وامتنع من طلوع القلعة أياما بحجة أنه متوعّك، وكان ذلك بعد أن تصالحا بعد تفاوضهما بمدّة يسيرة، وصار أيدغمش إذا سيّر قوصون النائب بالرّميلة «3»(10/31)
فى أيام المواكب يغلق أيدغمش باب الإسطبل السلطانى، ويوقف طائفة من الأوجاقية عليه، فاشتهر الخبر بين الناس وكثرت الفالة، وبلغ قوصون تغير خاطر أيدغمش عليه، فخلف للأمراء أنه ما يعرف لتغيره سببا، فما زالت الأمراء بآيدغمش حتى طلع القلعة، وعرّف قوصون بحضرة الأمراء ما بلغه، فخلف قوصون على المصحف أن هذا لم يقع منه، ولا عنده منه خبر وتصالحا. وبعث إليه أيدغمش بعد نزوله إلى الإسطبل الناقل إليه فردّه قوصون إليه ولم يعاقبه.
ثم قدم الخبر بوفاة الأمير بشتك الناصرىّ المقدم ذكره بمحبسه بثغر الإسكندريّة، فاتّهم قوصون بقتله، وكان الأمير قوصون قد أنشأ قاعة لجلوسه مع الأمراء من داخل باب القلّة «1» ، وفتح فيها شبّاكا يطلّ على الدّركاه، وجلس فيه مع الأمراء، ومدّ سماطا بالقاعة المذكورة وزاد فى سماطه من الحلوى والدّجاج والإوزّ ونحو ذلك، وأكثر من الخلع والإنعامات، وصار يجلس مع الأمراء بالقاعة المذكورة، فلمّا قدم الخبر بموت بشتك تغيّر خاطر جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم لموته، فما زال بهم قوصون حتّى صالحهم وحلف لهم.
ثم قدم الخبر من عبد المؤمن والى قوص بأن الملك المنصور أبا بكر وجد فى نفسه تغيّرا، وفى جسده توعّكا لزم الفراش منه أياما ومات، واتّهم قوصون أيضا بأنّه أمر عبد المؤمن بقتله، فتغيّر لذلك خاطر الأمراء والمماليك الناصرية قاطبة وهم يوم ذاك عساكر الإسلام ومن سواهم فقليل.(10/32)
ثم قدم الخبر على قوصون بنزول العسكر الذي صحبة الأمير قطلوبغا الفخرىّ على مدينة الكرك وقد امتنعت منه واستعدّ أهلها للقتال، وكان الوقت شتاء فأقام العسكر نحو عشرين يوما فى شدّة من البرد والأمطار والثلوج وموت الدواب، وتسلط أهل الكرك عليهم بالسب واللّعن والتّوبيخ وشنّوا الغارات عليهم وصاروا يقطعون قربهم ورواياهم؛ هذا وقوصون يمد الفخرىّ بالأموال ويحضّه على لزوم الحصار.
ثم قدم الخبر من دمشق بأن تمر الموسوىّ قدم من حلب واستمال جماعة من الأمراء إلى طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، فكتب قوصون بالقبض عليه. ثم حمل قوصون تشريفا إلى نائب حلب المذكور فلم يرض نائب حلب بالتشريف وردّه، وكتب إلى قوصون يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى الصعيد، فأجابه قوصون بأعذار غير مقبولة.
ثم قدم الخبر على قوصون أيضا من شطّى أمير العرب بأنّ قطلوبغا الفخرى قد خامر على قوصون، وحلف لأحمد بن الناصر هو ومن معه من الأمراء وأنّهم أقاموا أحمد سلطانا ولقّبوه بالملك الناصر؛ وذلك بمكاتبة الأمير طشتمر الساقى نائب حلب له يعتبه على موافقة قوصون وقد فعل بأولاد أستاذه ما فعل، ويعزم عليه أنّه يدخل فى طاعة أحمد، ويقوم بنصرته، فصادف ذلك من الفخرى ضجره من الإقامة على حصار الكرك وشدّة البرد وعظم الغلاء، فجمع من معه وكتب إلى أحمد يخاطبه بالسلطنة وقرّر الصلح معه، وكتب لنائب حلب بذلك فأعاد جوابه بالشكر، وأعلمه بأن الأمير طقزدمر نائب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على القيام بنصرة أحمد. وكان الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام قد أحسّ بشىء من هذا فاحترس على الطّرقات، حتّى ظفر بقاصد طشتمر نائب حلب على طريق بعلبك ومعه كتب فأخذها منه، وبعث بها إلى قوصون، فقدمت ثانى يوم ورود كتاب شطّى بمخابرة(10/33)
الفخرى، فإذا فيها: «الملكى الناصرىّ» فاضطرب قوصون وجمع الأمراء وعرّفهم ما وقع وأوقفهم على الكتب، وذكر لهم أنّه وصل منه إلى قطلوبغا الفخرى فى هذه السّفرة مبلغ أربعين ألف دينار سوى الخيل والقماش والتّحف. ورسم بإيقاع الحوطة على دور الأمراء المجرّدين مع الفخرى إلى الكرك، فما زال به الأمراء حتى كفّ عن ذلك.
وألزم مباشريهم بحمل ما وصل إليهم وبجميع حواصلهم، وصار قوصون فى أمر مريج مما بلغه، وكتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحى نائب الشام بخروجه لقتال طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب، ومعه نائب حمص ونائب صفد ونائب طرابلس، وكتب إليهم قوصون بالسمع والطاعة إلى طاعة نائب الشام، وحمل إليهم النفقات؛ فلما بلغ ألطنبغا الصالحى نائب الشام ذلك تجهّز وخرج من دمشق بعساكرها فى جمادى الآخرة فتلقّاه الأمير أرقطاى نائب طرابلس على حمص وصار من جملة عساكره، وأخبره بكتاب نائب حلب إليه يدعوه لموافقته وأنه ابى عليه. ثم بعث ألطنبغا نائب الشام إلى الأمير طقزدمر نائب جماة من استماله وحلّفه على طاعة الملك الأشرف كچك. ولما بلغ طشتمر حمص أخضر مجىء ألطنبغا نائب الشام إليه أرسل استدعى ابن دلغادر فقدم عليه فاتّفق معه على المسير إلى أبلستين، وسار به ومعه ما خفّ من أمواله وأخذ أولاده ومماليكه فأدركه عسكر حلب، وقد وصل إليهم كتاب نائب الشام بالاحتراس عليه ومنعه من الخروج من حلب، فقاتلوه عدّة وجوه فلم ينالوا منه غرضا، وقتل من الفريقين خمسة نفر وعادوا وأكثرهم جرحى. فلما وصل طشتمر إلى أبلستين كتب إلى أرتنا يستأذنه فى العبور إلى الروم فبعث إليه أرتنا بقاضيه وعدّة من ألزامه، وجهّز له الإقامات، فمضى طشتمر إلى قيصريّة «1» ، وقد توجّه أرتنا لمحاربة ابن دمرداش بعد أن رتب لطشتمر كلّ يوم ألفى درهم.(10/34)
وأما ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام فإنّه قدم إلى حلب وكتب إلى قوصون يعلمه بتسحّب طشتمر نائب حلب إلى جهة الروم، وأنّه استولى على مدينة حلب، فقدم كتابه على قوصون فى يوم الأربعاء ثانى شهر رجب. ثم فى يوم الاثنين سابع رجب فرّق الأمير قوصون إقطاعات الأمراء المجرّدين مع قطلوبغا الفخرى الخارجين عن طاعة قوصون؛ وعدّتهم اثنان وثلاثون أميرا، منهم أمراء طبلخانات ستة عشر، وأمراء عشرات ستة عشر، وأميران مقدمان: الفخرى وقمارى.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين رجب قدم الأمير الشيخ على بن دلنجى القازانىّ أحد أمراء العشرات المجردين، وأخبر بمسير قطلوبغا الفخرىّ من الكرك إلى دمشق، وأنّه يريد مواقعته مع ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان من خبره أنّ الأمير ألطنبغا لما دخل حلب أخذ موجود طشتمر حمص أخضر وباعه، وبينما هو فى ذلك بلغه دخول قطلوبغا الفخرى بمن معه إلى دمشق، وأنّه دعا للناصر أحمد، وقد وافقه آق سنقر السّلّارى نائب غزة وأصلم نائب صفد ومن تأخر من أمراء دمشق بها، مثل سنجر الجمقدار وتمر الساقى وأن آق سنقر نائب غزة وقف لحفظ الطرقات حتى لا يصل أحد من مصر إلى ألطنبغا الصالحى، وأن قطلوبغا أخذ فى تحصيل الأموال من دمشق للنفقة على الأمراء والجند، وأن الأمير طقزدمر نائب حماة قدم عليه فى غد دخوله، وركب الفخرى وتلقّاه وقوى بهم واستخدم جندا كثيرة ونادى بدمشق من أراد الإقطاع والنفقة فليحضر، وأخذ مالا كثيرا من التجّار، وأكره قاضى القضاة تقي الدين بن السبكى حتى أخذ مال الأيتام وأخذ أجر الأملاك والأوقاف لثلاث سنين فجمع مالا عظيما، وأتته جماعات من الأجناد والتّركمان، وكتب أوراقا من ديوان الجيش بأسماء الأجناد البطالين، وأنعم على البطّالين بالخيل والقماش والسلاح، وحلّف الجميع للسلطان الملك الناصر أحمد بن الناصر محمد بن(10/35)
قلاوون، وعمل برسمه العصائب السلطانيّة والسناجق الخليفتية والكنابيش والسروج والغاشية والقبّة والطّير وسائر أبّهة السلطنة، وكتب إلى الملك الناصر أحمد يعرّفه بذلك فأجابه الناصر بالشكر والثناء، فلما سمع قوصون ذلك جمع الأمراء للمشورة فاتّفق الرأى على تجريد أمراء إلى غزة فتوجه برسبغا الحاجب وأمير محمود الحاجب وعلاء الدين علىّ بن طغريل فى جماعة.
ثم كتب قوصون إلى ألطنبغا نائب الشام على يد أطلمش الكريمىّ بأن يسير من حلب إلى قتال الفخرى بدمشق، فتوجّه أطلمش الكريمى من البريّة لانقطاع الطريق حتّى وصل إلى حلب، وعرّف ألطنبغا الخبر، فخرج ألطنبغا بمن معه من العساكر وسار حتى قدم حمص، وقد خرج الفخرى من دمشق ونزل على خان لاچين وأمسك المضيق، وأقام الجبليّة والعشير على الجبلين ووقف هو بالعسكر فى وسط الطريق.
وأما ألطنبغا فإنّه جلّف من معه من العساكر وسار من حمص يريد الفخرى حتى قرب منه. وعدد الجمعين نحو ثلاثة عشر ألف فارس، فتمهّل ألطنبغا كراهية لسفك الدماء، وأرسل إلى الفخرى رسلا، ودام على ذلك ثلاثة أيام فلم يتمّ بينهما أمر، وبعث قطلوبغا الفخرى إلى جماعة من أصحاب ألطنبغا يعدهم [ويستميلهم «1» ] حتى وافقوه. فلمّا تعبت الرسل بينهم ومات «2» العسكر من شدّة البرد بعث ألطنبغا فى الليل جماعة من أصحابه ليهجموا على الفحرى من ورائه، ويلقاهم هو من قدّامه، وركب من الغد، فمال كلّ أمير بمن معه من أصحابه إلى جهة الفخرى، وصاروا من جملته، فلم يبق معه سوى أرقطاى نائب طرابلس وأسنبغا بن [بكتمر «3» البوبكرى](10/36)
وأيدمر المرقبىّ من أمراء دمشق فانهزموا على طريق صفد إلى جهة غزة، والقوم فى أثرهم بعد أن كانت بينهم وقعة هائلة؛ انهزم فيها ألطنبغا نائب الشام.
ثم التفت الفخرى إلى جهة دمشق وترك السير حلف ألطنبغا حتّى دخل دمشق مؤيّدا منصورا، وكتب فى الحال مع البريد إلى الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر نائب حلب يعرّفه بنصرته ويدعوه إلى الحضور من بلاد الروم، وأنّه فى انتظاره بدمشق. ثم حلف الفخرى ومن معه للملك الناصر أحمد وأمر الخطباء فدعوا له على منابر دمشق وضرب السّكّة باسمه.
وأمّا ألطنبغا الصالحى نائب دمشق فإنّه وصل إلى غزّة بمن معه فتلقّاهم الأمير برسبغا الحاجب ورفقته، وكتب ألطنبغا إلى قوصون بما وقع فلمّا بلغ قوصون الخبر قامت قيامته وقبض «1» على أحمد شادّ الشرابخاناه وعلى قرطاى أستادار الفخرى.
ثم قدم على قوصون كتاب الفخرى يعتبه على إخراج أولاد أستاذه إلى قوص وقتل الملك المنصور أبى بكر، وأنّ الاتفاق وقع على سلطنة الملك الناصر أحمد، ويشير عليه بأن يختار بلدا يقيم بها حتى يسأل له السلطان الملك الناصر أحمد فى تقليده نيابتها، فقام قوصون وقعد لمّا سمع ذلك، وجمع الأمراء فوقع الاتفاق على تجهيز التّقادم للأمراء بغزة، فجهز قوصون لكل من ألطنبغا نائب الشام وأرقطاى نائب طرابلس ثلاثين بذلة قماش وثلاثين قباء مسنجبة بطرازات زركش ومائتى خف ومائتى كلفتاه وكسوة لجميع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما، وجهز لكل من الأمراء الذين معهما ثلاث بذلات وأقبية بسنجاب وكسوة لمماليكهم وحواشيهم، وأخذ قوصون فى الإنعام على المماليك السلطانيّة، وأخرج ثلثمائة ألف دينار من الذخيرة لتجهيز أمره، حتى(10/37)
يخرّج بالعساكر إلى الشام، وأخرج أربعمائة قرقل «1» وعدة زرديّات وخوذ وغيرها.
وأنعم على جماعة من المماليك السلطانية بإمريات، وغير إقطاعات جماعة منهم.
ثم كتب قوصون إلى الأمراء بمسيرهم من غزّة إلى جهة القاهرة، وهيّأ لهم الإقامات والخيول، وبعث إليهم بالحلاوات والفواكه وسائر ما يليق بهم.
وبينما قوصون فى ذلك إذ ركب الأمراء عليه فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين رجب وقت العشاء الآخرة، وسبب ركوبهم عليه تنكّر قلوب الأكابر عليه لأمور بدت منه، منها: قتل الأمير بشتك الناصرىّ بغير ذنب، وهو أعزّ خشداشيته، ولم يكفه ذلك حتّى قتل الملك المنصور أبا بكر وهو ابن أستاذه، وكان يكفيه الخلع من الملك.
ومنها قوّة الوحشة بينه وبين الأمير أيدغمش الناصرىّ أمير آخور وهو أكبر خشداشيته، فأخذ أيدغمش يدبّر عليه. وغيّر خواطر جماعة كثيرة عليه، إلى أن كان من انتصار قطلوبغا الفخرى على ألطنبغا الصالحى نائب الشام، وكان قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا نائب الشام ومن معه احتفالا زائدا، وفتح ذخيرة السلطان وأكثر من النفقات والإنعامات حتى بلغت إنعاماته على الأمراء والخاصّكيّة ستمائة ألف دينار، فشاع بأنه يريد يتسلطن فخاف أيدغمش وغيره من تحكّمه فى السلطنة، وحرّض الأمراء الخاصّكيّة حتى وافقه الأمير علاء الدين ألطنبغا الماردانىّ والأمير يلبغا اليحياوىّ فى عدّة من المماليك السلطانيّة، وجمع كثير من أكابر الأمراء، منهم: الأمير الحاجّ آل ملك والأمير بدر الدين چنكلى بن البابا واتفقوا الجميع أنهم يسيروا جميعا إلى الكرك عند قدوم ألطنبغا نائب الشام وخروجهم إلى لقائه.(10/38)
فلما كان يوم الاثنين «1» ركب الأمير قوصون فى الموكب تحت القلعة على العادة وطلب الأمير تلجك «2» ابن أخته وأخرجه إلى لقاء الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام، وقد ورد الخبر بنزوله على بلبيس «3» ليأتى به سريعا، فوافاه ومن معه إلى بلبيس، فسأله فى القدوم إلى القاهرة بسرعة، فلم يوافقه على السرعة وقصد أن يكون حضوره فى يوم الخميس أوّل شعبان، وبات «4» ليلة الثلاثاء على بلبيس وركب من الغد ونزل سرياقوس، فبلغه ركوب الأمراء على قوصون، وأنه محصور بالقلعة، فركب بمن معه الى بركة «5» الحاج، وإذا بطلب قوصون وسنجقه قد وافوه فى نحو مائة مملوك، وأعلموه أنّ فى نصف الليل ركبت الأمراء واحتاطت بإسطبل قوصون، ثم حصروه فى قلعة الجبل، فخرجوا هم على حميّة حتى وصلوا إليهم؛ هذا ما كان من أمر ألطنبغا نائب الشام.
وأمّا أمر قوصون فإنّه لما بعث تلجك ليأتيه «6» بالأمير ألطنبغا نائب الشام سريعا تحقّق أيدغمش وأصحابه أنّ قوصون فهم عنهم ما دبّروه فتواعد الأمير أيدغمش مع من وافقه على أن يركبوا فى الليل إلى الكرك، فجهّز كلّ منهم حاله، حتى كان ثلث الليل فتح الأمراء باب السور من قلعة الجبل ونزلوا إلى الأمير أيدغمش بالإسطبل(10/39)
السلطانىّ، ثم مضى كلّ واحد إلى إسطبله فلم ينتصف الليل إلا وعامة الأمراء بأطلابهم فى سوق الخيل تحت القلعة، وهم: الأمير ألطنبغا الماردانىّ ويلبغا اليحياوىّ وبهادر الدّمرداشى والحاج آل ملك والجاولى وقمارى الحسنىّ «1» أمير شكار وأرنبغا وآق سنقر السّلّارىّ، وبعثوا إلى إسطبلات الأمراء مثل چنكلى بن [محمد بن «2» ] البابا وبيبرس الأحمدى وطرغاى «3» وقياتمر «4» والوزير ولبست مماليكهم وأخرجت أطلابهم، ثم خرج إليهم الأمير أيدغمش بمماليكه ومن عنده من الأوجاقيّة، ووقفوا جميعا ينتظرون نزول قوصون إليهم فأحسّ قوصون بهم وقد انتبه فطلب الأمراء المقيمين بالقلعة فأتاه منهم اثنا عشر أميرا، منهم چنكلى بن البابا وقياتمر والوزير، ولبست مماليك قوصون التى كانت عنده بالقلعة وسألته أن ينزل ويدرك إسطبله ويجتمع بمن فيه من مماليكه، وكانوا سبعمائة مملوك، وكان قوصون يغترّ بهم ويقول: إيش أبالى بالأمراء وغيرهم، عندى سبعمائة مملوك ألقى بهم كلّ من فى الأرض، فلم يوافقهم قوصون على النزول لما سبق فى القدم. وأقام قوصون بالقلعة إلى أن طلع النهار، فلمّا لم يظهر له حركة طمع أيدغمش فيه، وأمر الأوجاقية أن تطلع إلى الطبلخاناه «5» السلطانية(10/40)
وأخرج لهم الكوسات «1» ، فذقّوا حربيّا. ثم نادى أيدغمش. معاشر أجناد الحلقة ومماليك السلطان والأجناد [و] البطّالين يحضروا، ومن ليس له فرس وليس له سلاح يحضر ويأخذ له الفرس والسلاح ويركب معنا، ويقاتل قوصون، فأتاه جماعة كثيرة من أجناد الحلقة والمماليك ما بين لابس سلاح وراكب وبين ماش وعلى حمار. وأقبلت العامّة كالجراد المنتشر لما فى نفوسهم من قوصون، فنادى لهم أيدغمش يا كسابة «2» :
عليكم بإسطبل قوصون انهبوه فأحاطوا به ومماليك قوصون من أعلاه ترميهم بالنشاب حتى أتلفوا منهم عدّة كثيرة، فركب مماليك يلبغا اليحياوىّ من أعلى بيت «3» يلبغا.
والبيت المذكور هو الآن موضع مدرسة السلطان حسن. وكان بيت يلبغا يشرف على بيت قوصون، فلمّا طلعوا مماليك يلبغا اليحياوى تسلّطوا على مماليك قوصون(10/41)
ورموا عليهم بالنّشّاب مساعدة للعوام، وخرجوا منهم جماعة كثيرة وحالوا بينهم وبين العامة، فهجمت العامّة عند ذلك إسطبل قوصون ونهبوا زردخاناته وحواصله وأمواله وكسروا باب قصره بالفئوس بعد مكابدة شديدة وطلعوا إلى القصر ونهبوا ما فيه، وقوصون ينظر ذلك من شباك القلعة ويقول: يا مسلمين! ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لى أو يكون للسلطان، فقال أيدغمش: هذا شكرانه للناس، والذي عندك فوق من الجوهر والتّحف يكفى السلطان. وصار قوصون كلّما همّ للركوب بمماليكه كسّروا عليه الخاصكيّة وقالوا له: ياخوند غدا نركب ونقتل هؤلاء، وصاروا يهوّنوا عليه أمر أيدغمش وأصحابه لباطن كان لهم مع أيدغمش، حتى كان من أمره ما كان.
ولمّا هجمت العامة بيت قوصون خرجوا مماليكه منه على حميّة وشقّوا القاهرة وتوجّهوا إلى عند الأمير ألطنبغا الصالحى نائب السام، فبعث أيدغمش فى أثرهم إلى ألطنبغا نائب الشام ومن معه بالسلام عليهم، وأن يمنعوا مماليك قوصون من الاختلاط بهم، فإنّ الأمير يلبغا اليحياوى والأمير آق سنقر قادمان فى جمع كبير لأخذ مماليك قوصون وحواشيه. فأمر ألطنبغا نائب الشام مماليك قوصون وتلجك وبرسبغا الحاجب أن يكونوا على حدة، ولبسوا الجميع وأخذ الأمير برسبغا مماليك قوصون وجماعته إلى جهة الجبل، فلقيهم الأمير يلبغا اليحياوى بمن معه على بعد، وكان ذلك بعد ما امسك قوصون، فسار خلفهم إلى قرب إطفيح «1» . وقيل فى أمر مماليك قوصون غير ذلك على ما سنذكره بعد القبض على قوصون.
وأمّا قوصون فإنه بقى واقفا بشبّاك القلعة والعامّة تنهب فى بيته فلم يمض إلا ساعات من النهار حتى نهب جميع ما فى إسطبله، وقوصون يضرب يدا على يد(10/42)
ويقول: يا أمراء! هذا تصرف جيّد، ينهب هذا المال جميعه، وكان أيدغمش قصد بذلك أن يقطع قلب قوصون. ثم بعث قوصون إلى أيدغمش يقول. إنّ هذا المال عظيم وينفع المسلمين والسلطان، فكيف تفعل هذا وتنادى بنهبه؟ فردّ جوابه:
نحن قصدنا أنت ولو راح هذا المال وأضعافه، هذا كلّه والقلعة مغلّقة الأبواب، وجماعة قوصون يرمون من الأشرفيّة «1» بالنّشّاب إلى أن قرب العصر، والعامّة تجمع نشّابهم وتعطيه لمن هو من جهة أيدغمش. فلما رأى قوصون أمره فى إدبار سلّم نفسه، ودخل عليه الأمير بلك الجمدار وملكتمر السّرجوانى يأمراه «2» أن يقيم فى موضع حتى يحضر ابن أستاذه من الكرك فيتصرّف فيه كما يختار، فلم يجد بدّا من الإذعان، وأخذ يوصى الأمير چنكلى بن البابا وأمير مسعود حاجب الحجّاب على أولاده، فأخذ وقيّد ومضوا به إلى البرج «3» الذي كان بشتك فيه، ورسم عليه جماعة من الأمراء.
وكان الذي تولّى مسكه وحبسه چنكلى بن البابا وأمير مسعود الحاجب وأرنبغا أمير جاندار.
وأمّا الأمير ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام ومن معه فإن برسبغا وتلجك والقوصونيّة لمّا فارقوا ألطنبغا المذكور سار ألطنبغا وأرقطاى والأمراء يريدون(10/43)
القاهرة، وأشار ألطنبغا نائب الشام على أرقطاى نائب طرابلس أن يرد برسبغا وتلجك والقوصونية ويقاتل بهم أيدغمش، فإنّه ينضم إليه جميع حواشى قوصون ويأخذوا أيدغمش ويحرجوا قوصون ويقيموه كبيرا لهم أو يخرجوه إلى حيث يختار، ويقيموا سلطانا أو ينتظروا أحمد فلم يوافقه أرقطاى على ذلك لعفّته عن سفك الدماء. فلمّا أعبا ألطنبغا أمره سارا «1» نحو القاهرة حتى وافيا أيدغمش وهو واقف تحت القلعة بأصحابه فأقبل أيدغمش عليهما وعانقهما وأمرهما أن يطلعا إلى القلعة فطلعا.
ثم أرسل أيدغمش الأمير قازان والأمير آق سنقر خلف برسبغا وتلجك ومن معهما.
وجلس أيدغمش مع ثقمانه من الأمراء وقرّر معهم تسفير قوصون فى الليل إلى الإسكندريّة، والقبض على ألطنبغا الصالحى نائب الشام وعلى أرقطاى نائب طرابلس ومن يلوذ بهما من الغد، فكان كذلك وقبض عليهم، وتسفير الأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير چنكلى بن البابا لإحضار السلطان الملك الناصر أحمد من الكرك.
ثم أخرج بالأمير قوصون من سجنه بقلعة الجبل فى ليلة الخميس مع مائة فارس حتّى أوصلوه إلى النيل وركب البحر ومضى به إلى الإسكندرية فسجن بها على ما سيأتى ذكره.
وأمّا ما نهب لقوصون فى هذه الحركة فشىء كثير، فإنه كان فى حواصله من الذهب النّقد أربعمائة ألف دينار عين فى أكياس، ومن الحوائص الذهب والكلفتات الزركش والأوانى فشىء لا ينحصر، وثلاثة أكياس أطلس فيها فصوص وجواهر مثمّنة بما ينيف على مائة الف دينار، ومائة وثمانون زوج بسط، منها ما طوله أربعون ذراعا وثلاثون ذراعا، كلّها من عمل الروم وآمد وشيراز، وستة عشر زوجا(10/44)
من عمل الشريف «1» بمصر. وأربعة أزواج بسط حرير لا يقوم عليها لحسنها، فانحطّ سعر الذهب من كثرة ما نهب لقوصون، حتّى صرف بأحد عشر درهما الدينار ممّا صار وكثر فى أيدى الناس بعد ما كان الدينار بعشرين درهما، ولأنّ أيدغمش نادى بعد ذلك بالقاهرة ومصر أنّ من أحضر من العامة ذهبا لتاجر أو صيرفى أو متعيّش يقبض عليه ويحضر به إلى أيدغمش، فكان من معه منهم ذهب «2» يأخذ فيه ما يدفع إليه من غير توقّف، فرخص سعر الذهب لذلك، وكثرت مرافعات الناس بعضهم لبعض فيما نهب، فجمع أيدغمش شيئا كثيرا من ذلك، فإن العامة يوم نهب إسطبل قوصون أخذوا من قصره حتّى سقوفه وأبوابه ورخامه وتركوه خرابا ثم مضوا إلى خانقاته «3» بباب القرافة فمنعهم صوفيتها من النهب فما زالت العامّة تقاتلهم حتّى فتحوها، ونهبوا جميع ما فيها حتى سلبوا الرجال والنساء ثيابهم، فلم يدعوا لأحد شيئا، وقطعوا بسطها وكسروا رخامها وأخربوا بركتها، وأخذوا الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعّثوا الجدر، ثم مضوا إلى بيوت مماليك قوصون وهم فى حشد «4» عظيم فنهبوها وخرّبوها وما حولها، وتتبعوا حواشى قوصون بالقاهرة والحكورة وبولاق والزّريبة «5» وبركة «6» قرموط وباعت العامة السقوف والأوانى بأخسّ(10/45)
الأثمان وصارت العامة إذا أرادوا نهب أحد قالوا: هذا قوصونىّ!. فيذهب فى الحال جميع ماله، وزادت الأوباش فى ذلك حتى خرجوا عن الحدّ وشمل الخوف كلّ أحد، فقام الأمراء على أيدغمش وأنكروا عليه تمكين العامّة من النهب، فأمر لسبعة من الأمراء، فنزلوا إلى القاهرة، والعامّة مجتمعة على باب الصالحيّة «1» فى نهب بيت «2» القاضى الغورىّ الحنفىّ، فقبضوا على عدّة منهم وضربوهم بالمقارع وشهّروهم فآنكفّوا عن نهب الناس. انتهى.
وأمّا أصل قوصون واتصاله بالملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار ساقيه أعظم مماليكه هو وبكتمر الساقى، لأن قوصون كان ممن حضر إلى الديار المصريّة من بلاد التّرك صحبة [خوند «3» ] بنت أزبك خان التى تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو غير مملوك، فلمّا كان فى بعض الأيام طلع قوصون إلى القلعة فى خدمة بعض التّجار فرآه السلطان الملك الناصر فأعجبه، فقال للتاجر: لأىّ شىء ما تبيعنى هذا المملوك؟ فقال التاجر: هذا ما هو مملوك، فقال الملك الناصر: لا بدّ أن أشتريه، ووزن ثمنه مبلغ ثمانية آلاف درهم، وجهّز الثمن إلى أخيه صوصون إلى البلاد «4» .
ثم أنشأه الملك الناصر وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى جعله أمير مائة ومقدّم ألف، وعظم(10/46)
عند الملك الناصر وحظى عنده وزوّجه بابنته وهى ثانية بنت زوّجها الملك الناصر لمماليكه فى سنة سبع «1» وعشرين وسبعماية، وكان له عرس حفل، احتفل به الملك الناصر، وحمل الأمراء التقادم إليه فكان جملة التقادم خمسين ألف دينار. ولما كان يقع بينه وبين بكتمر الساقى منافسة يقول قوصون: أنا ما تنقّلت من الإسطبلات إلى الطّباق، بل اشترانى السلطان وجعلنى خاصّكيّا مقرّبا عنده دفعة واحدة، فكان الملك الناصر يتنوّع فى الإنعام على قوصون حتى قيل إنه دفع إليه مرة مفتاح ذردخانات الأمير بكتمر الساقى بعد موته، وقيمتها ستمائة ألف دينار، قاله الشيخ صلاح الدين الصفدىّ فى «تاريخه» . ثم تزايد أمر قوصون حتى وقع له ما حكيناه. واستمرّ قوصون بسجن الإسكندرية هو وألطنبغا الصالحى نائب الشام وغيرهما حتى حضر الملك الناصر أحمد من الكرك وجلس على كرسى الملك بقلعة الجبل حسب ما يأتى ذكره، اتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون وألطنبغا نائب الشام وغيرهما فى شوّال سنة اثنتين وأربعين، وقيل فى ذى القعدة على ما يأتى بيان ذلك فى وقته.
وخلّف قوصون عدّة أولاد من بنت أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وكان أميرا جليلا كريما خيّرا شجاعا، وكان يعطى العطايا الهائلة، وكان إذا ركب للصيد فى أيام أستاذه يركب فى خدمته ثلث عسكر مصر، وكان يركب قدّامه بالقاهرة مائة نقيب، وكان أخوه صوصون أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، وقيل أمير طلبخاناه. وكان وقع بين قوصون وبين تنكز نائب الشام، فلمّا قبض على تنكز وحمل إلى القاهرة ما عامله قوصون إلا بكل خير. ولما أمسك قوصون وقتل قال فيه الصلاح الصفدى:(10/47)
قوصون قد كانت له رتبة ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطّه فى القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذلّه حاجبا «1» ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيبا أمره كلّه ... فى أوّل الأمر وفى الآخر
وقال فى قوصون وفى واقعته عدّة من الشعراء من الشعر والبلاليق «2» والأزجال، وعملت الحلوانيّة مثاله فى حلاوة العلاليق «3» ، فقال فى ذلك جمال الدين إبراهيم «4» الأديب المعمار:
شخص قوصون رأينا ... فى العلاليق مسمّر
فعجبنا منه لمّا ... جاء فى التسمير سكر
ولبعض عوامّ مصر قصيدة «كان وكان» أوّلها:
من الكرك جانا الناصر ... وجب معه أسد الغابه
ووقعتك يأمير قوصون ... ما كانت الّا كدّابه
وأشياء غير ذلك، وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع إلى ذكر أيدغمش وما فعله بمصر.
وأما أيدغمش فإنه استمرّ مدبّر الديار المصريّة وقام بأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاوون وجمع الأمراء وخلع الملك الأشرف علاء الدين كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك فى يوم الخميس أوّل شعبان من سنة(10/48)
اثنتين وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّة سلطنته على مصر خمسة أشهر وعشرة أيام، ولم يكن له فيها من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، فقط وليس له من الأمر شىء، وذلك لصغر سنّه، وكان المتصرّف فى المملكة فى سلطنته الأمير قوصون. وكانت إذا حضرت العلامة أعطى قوصون الأشرف كچك فى يده قلما، وجاء الفقيه الذي يقرئه القرآن فيكتب العلامة والقلم فى يد الأشرف كچك، واستمر الأشرف كچك بعد خلعه من السلطنة فى الدور السلطانية تحت كنف والدته وهو ووالدته فى ذلّ وصغار وهوان مع من تسلطن من إخوته، لا سيّما مع أمّ الملك الصالح إسماعيل، فكانت فى كلّ قليل إذا توعّك ولدها الملك الصالح إسماعيل، وكان كثير الضعف تتّهم المذكورة أنها تتعمّد له بالسّحر وتأخذ جواريها وحواشيها وتعاقبهم، وأخذت منها جملة مستكثرة فدامت على هذا مدّة سلطنة الملك الصالح، حتى نزل مرّة إلى سرحة سرياقوس وبعث دسّ عليه أربعة خدّام طواشيّة فقتلوه على فراشه فى سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة، وعظم مصابه على والدته، بل على الناس قاطبة. رحمه الله تعالى.(10/49)
ذكر ولاية الملك الناصر أحمد على مصر
السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. تسلطن بعد خلع أخيه الأشرف كچك، وكان بويع بالسلطنة قبل خلع كچك أيضا وهو بقلعة الكرك حسب ما ذكرناه فى واقعة قطلوبغا الفخرى مع ألطنبغا الصالحىّ نائب الشام. وأمّ الملك الناصر هذا كان اسمها بياض، كانت تجيد الغناء وكانت من عتقاء الأمير بهادر آص رأس نوبة، وكانت تعرف بقومة «1» ، وكان للناس بها اجتماعات فى مجالس أنسهم، فلمّا بلغ السلطان الملك الناصر خبرها طلبها واختصّ بها وحظيت عنده فولدت أحمد هذا على فراشه. ثم تزوّجها بعد ذلك الأمير ملكتمر السّرجوانىّ فى حياة الملك الناصر محمد. انتهى.
قلت: والملك الناصر أحمد هذا هو الخامس عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة والثالث من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. والآن نذكر ما وقع بالديار المصريّة بعد خلع الأشرف كچك إلى حين دخول الملك الناصر هذا إليها من الكرك. ولمّا قبض أيدغمش على قوصون وخلع الملك الأشرف كچك من السلطنة حسب ما تقدّم ذكره بعث بالأمير چنكلى بن البابا والأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير قمارى أمير شكار إلى الملك الناصر أحمد بالكرك وعلى يدهم كتب الأمراء يخبرونه بما وقع ويستدعونه إلى تخت ملكه. ثم جلس الأمير سيف الدين أيدغمش والأمير ألطنبغا الماردانى والأمير بهادر الدمرداشى والأمير يلبغا اليحياوىّ واستدعوا الأمراء فلما حضروا أمر أيدغمش بالقبض على ألطنبغا الصالحى الناصرى نائب الشام وعلى الأمير(10/50)
أرقطاى نائب طرابلس وسجنا بقلعة الجبل وأمسكوا بعدهما سبعة «1» أمراء أخر من أمراء الطبلخاناه والأمير قياتمر أحد مقدمى الألوف وجركتمر بن بهادر أيضا من مقدّمى الألوف وعدّة أمراء أخر، حتى كانت عدّة من قبض عليه من الأمراء فى هذا اليوم خمسة وعشرين أميرا. ثم كتب الأمير أيدغمش إلى الأمير قطلوبغا الفخرى يعرفه بما وقع ويحرضه على الحضور صحبة السلطان الملك الناصر. ثم طلب أيدغمش جمال الدين يوسف والى الجيزة وخلع عليه بولاية القاهرة، فنزل إلى القاهرة فإذا بالعامّة فى نهب بيوت مماليك قوصون فقبض على عشرين منهم وضربهم بالمقارع وسجنهم بعد ما شهّرهم، فاجتمعت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش وصاحوا عليه: ولّيت على الناس واحد قوصونى ما يخلّى منا واحدا! وعرفوه ما وقع فبعث الأوجاقية فى طلبه فوجدوه بالصّليبة «2» يريد القلعة فصاحت عليه الغوغاء: قوصونى! يا غيريّة «3» على الملك الناصر، ورجموه من كلّ جهة، فقامت الجبليّة والأوجاقية فى ردّهم فلم يطيقوا ذلك، وجرت بينهم الدماء، فهرب الوالى إلى إسطبل «4» ألطنبغا الماردانى، وحمته مماليك ألطنبغا من العامّة، فطلب أيدغمش الغوغاء وخيّرهم فيمن يلى فقالوا: نجم الدين الذي كان ولى قبل ابن المحسنى، فطلبه وخلع عليه فصاحوا بحياة الملك الصالح الناصر:(10/51)
اعزل عنا ابن رخيمة المقدّم وحمامص رفيقه، فأذن لهم فى نهبهما فتسارع نحو الألف منهم إلى دار «1» ابن رخيمة بجانب بيت الأمير كوكاى فنهبوه ونهبوا بيت رفيقه ثم انكفّوا عن الناس.
وفى يوم الجمعة ثانى شعبان دعى على منابر مصر والقاهرة للسلطان الملك الناصر أحمد. وفى يوم الاثنين خامسه تجمّعت العامّة بسوق «2» الخيل ومعهم رايات صفر وتصايحوا بالأمير أيدغمش: زوّدنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر ونجىء صحبته، فكتب لهم مرسوما بالإقامة والرواتب فى كلّ منزلة. وتوجهوا مسافرين من الغد.
وفى يوم الأربعاء سابع شعبان وصل الأمراء من سجن الإسكندريّة الذين كان سجنهم قوصون حتى أفرج عنهم أيدغمش، وهم الأمير ملكتمر الحجازىّ وقطليجا الحموىّ وأربعة وخمسون نفرا من المماليك الناصريّة. وكان قوصون لمّا دخل إلى الإسكندرية مقيّدا وافوه هؤلاء بعد أن أطلقوا فسلموا عليه سلام شامت فبكى قوصون واعتذر لهم بما صدر منه فى حقّهم. وعند ما قدموا إلى ساحل مصر ركب الأمراء إلى لقائهم، وخرجت الناس لرؤيتهم فكان لقدومهم يوم مشهود، حتى طلعوا إلى القلعة فتلقّت خوند الحجازية بنت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون(10/52)
زوّجها ملكتمر الحجازىّ بخدّامها وجواريها، ومغانيها تضرب بالدفوف والشّبّابات «1» فرحّابه، ومعها أختها زوجة بشتك تساعدها بالفرح وهى شامتة بقوصون لكونه قتل زوجها بشتك الناصرىّ قبل تاريخه هذا. وأختها بنت الملك الناصر الأخرى زوجة قوصون بجانبها فى عويل وبكاء وصياح ولطم على قوصون. وقد افترق جوارى الملك الناصر وأولاده فرقتين، فرقة مع الحجازية وفرقة مع القوصونيّة، والعجب أن هذا الفرح والعزاء كان قبل ذلك بالعكس، فكان العزاء إذ ذاك فى بيت الحجازىّ، والفرح فى بيت قوصون، والآن العزاء فى بيت قوصون والفرح فى بيت الحجازى وزوجة بشتك وإن كان فرط فى زوجها الفرط، فهى تساعد أختها الحجازيّة شماتة بقوصون، فحالها كقول من قال:
وما من حبّه أحنو عليه ... ولكن بغض قوم آخرين
فآنظر إلى هذا الدهر وتقلباته بأسرع وقت من حال إلى حال، فنعوذ بالله من زوال النّعم.
ثم قدم بعد ذلك كتب الأمراء المتوجّهين إلى الكرك لإحضار الملك الناصر، أنهم لمّا قربوا من الكرك بعث كلّ منهم مملوكه يعرّف السلطان الملك الناصر بحضورهم إلى الكرك فبعث إليهم الملك الناصر رجلا نصرانيّا من نصارى الكرك يقول: يا أمراء، السلطان يقول لكم: إن كان معكم كتب فهاتوها أو مشافهة فقولوها، فدفعت الكتب إلى النصرانىّ فمضى بها ثم عاد من آخر النهار بكتاب مختوم وقال عن السلطان: سلّم على الأمراء وعرّفهم أن يقيموا بغزّة حتّى يرد عليهم ما يعتمدوه. وحضر مملوك من قبله يأمر الأمير قمارى بالإقامة على ناحية(10/53)
صافيثا «1» ، ثم بعث إلى الأمراء بخاتم وكتاب يتضمّن إقامتهم على غزّة والاعتذار عن لقائهم، فعاد چنكلى والأحمدى إلى غزّة وتوجّه قمارى إلى ناحية صافيثا، فلمّا وقف الأمير أيدغمش على ذلك كتب من فوره إلى الأمير قطلوبغا الفخرىّ يسأله أن يصحب السلطان الملك الناصر فى قدومه إلى مصر ليجلس على تخت ملكه. ثم كتب أيدغمش للامراء بغزّة بالإقامة بها فى انتظار السلطان، وعرّفهم بمكاتبة الفخرىّ وأخذ أيدغمش فى تجهيز أمور السلطنة، وأشاع قدوم السلطان خوفا من إشاعة ما عامل الناصر أحمد به الأمراء فيفسد عليه ما دبّره، فلما قدم البريد بكتاب أيدغمش إلى دمشق وافى قدوم كتاب السلطان أيضا من الكرك يتضمّن القبض على طرنطاى البچمقدار «2» والأمير طينال، وحمل مالهم إلى الكرك. وكان قطلوبغا الفخرى قد ولّى طينال نيابة طرابلس وطرنطاى نيابة حمص فاعتذر الفخرى بأنّ طينال فى شغل(10/54)
بحركة الفرنج، وأشار عليه بألّا يحرّك ساكنا فى هذا الوقت، وسأله سرمة حضور السلطان ليسير بالعساكر فى ركابه إلى مصر، وأكثر الفخرى من مصادرة الناس بدمشق. ثم قدم الأمير طشتمر الساقى المعروف بحمّص أخضر نائب حلب كان من بلاد الروم إلى الشام فتلقاه الفخرى وأنزله فى مكان يليق به، وكان فى كتاب الناصر أنه لا يخرج من الكرك حتّى يحضر الأمير طشتمر من بلاد الروم، فكتب الفخرى بحضوره إلى الناصر وأنّه يسرع فى مجيئه إلى دمشق. وأخذ الفخرى أيضا فى تجهيز ما يحتاج السلطان إليه، وفى ظنه أنّ السلطان يسير إليه بدمشق فيركب فى خدمته بالعساكر إلى مصر، فلم يشعر الفخرى إلّا وكتاب السلطان قد ورد عليه مع بعض الكركيّين يتضمّن أنّه يركب من دمشق ليجتمع مع السلطان على غزّة فشقّ ذلك عليه وسار من دمشق بعساكرها وبمن استخدمه حتّى قدم غزة فى عدّة كبيرة فتلقّاه الأمير چنكلى والأحمدى وقمارى أمير شكار.
وأمّا أمر الديار المصريّة فإنّ الأميرين يلبغا اليحياوى وملكتمر الحجازىّ تفاوضا فى الكلام حتّى بلغا إلى المخاصمة، وصار لكل منهما طائفة ولبسوا آلة الحرب فتجمّعت الغوغاء تحت القلعة لنهب بيوت من عساه ينكسر من الأمراء، فلم يزل الأمير أيدغمش بالأمراء حتّى انكفوا عن القتال، وبعث إلى العامة عدّة من الأوجاقيّة فقبضوا على جماعة منهم وأودعهم بالسجن.
ثم فى يوم الخميس سابع شهر رمضان قدم أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون من قوص إلى القاهرة، وعدّتهم ستة فركب الأمراء إلى لقائهم وهرعت العامّة إليهم فخرجوا من الحرّاقة وركبوا الخيول إلى القرافة حتى جاءوا تربة «1» جركتمر صاحت(10/55)
العامّة هذه تربة الذي قتل أستاذنا الملك المنصور وهجموها وأخذوا ما فيها وأخربوها حتى صارت كوم تراب، فلمّا وصل أولاد السلطان تحت القلعة وافاهم الأمير جمال الدين يوسف والى القاهرة كان، فنزل وقبّل ركبة رمضان ابن الملك الناصر فرفسه برجله وسبّه وقال له: أتنسى ونحن فى الحرّاقة عند توجّهنا إلى قوص وقد طلبنا مأكلا من الجيزة فقلت خذوهم وروحوا إلى لعنة الله ما عندنا شىء! فصاحت بهم العامّة: بالله مكّنا من نهبه، هذا قوصونىّ! فأشار بيده أن انهبوا بيته فتسارعوا فى الحال إلى بيته «1» المجاور لجامع الظاهر بالحسينيّة، حتّى صاروا منه إلى باب الفتوح، فقامت إخوته ومن يلوذ به فى دفع العامة بالسلاح، وبعث الأمير أيدغمش أيضا لجماعة ليردّوهم عن النهب، وخرج إليهم نجم الدين والى القاهرة، وقد تقاتل القوم حتّى كفّهم عن القتال فكان يوما، مهولا، قتل فيه من العامّة «2» عشرة رجال، وجرح خلق كثير ولم ينتهب شىء.
ثم قدم الخبر من غزّة بقدوم الفخرى وطقزدمر إلى غزّة واجتماعهم «3» مع چنكلى والأحمدى وقمارى، وهم فى انتظار السلطان، وأنّ الأمير أيدغمش يحلّف جميع أمراء مصر وعساكرها للملك الناصر على العادة، فجمعوا بالميدان «4» . فأخرجت نسخة اليمين المحضّرة، فإذا هى تتضمّن الحلف للسلطان ثم للأمير قطلوبغا الفخرى فتوقّف(10/56)
الأمراء عن الحلف لقطلوبغا الفخرى، حتى ابتدأ الأمير أيدغمش فحلف فتبعه الجميع خوفا من وقوع الفتنة.
وأمّا أمر الفخرى والأمراء فإنّهم لما وصلوا إلى غزّة جمع لهم نائبها آق سنقر الإقامات من الشعير والغنم. ثم كتب الأمراء جميعا إلى الملك الناصر بقدومهم إلى غزّة وعرّفوه بذلك واستحثوه على سرعة الحضور صحبة مماليكهم والأمير قمارى أمير شكار، فساروا إلى الكرك، وكان قد سبقهم إلى الكرك الأمير يحيى بن طايربغا صهر الأمير أيدغمش يستحثّ الملك الناصر أيضا على المسير الى مصر، فأقاموا جميعا ثلاثة أيام لم يؤذن لهم فى دخول المدينة. ثم أتاهم كاتب نصرانىّ وبازدار يقال له أبو بكر ويوسف بن النصّال وهؤلاء الثلاثة هم خاصّة الملك الناصر أحمد من أهل الكرك، فسلّموا عليهم وطلبوا ما معهم من الكتب، فشقّ ذلك على الأمير قمارى وقال لهم: معنا مشافهات من الأمراء للسلطان، لا بدّ من الاجتماع به، فقالوا:
لا يمكن الاجتماع به، وقد رسم إن كان معكم كتاب أو مشافهة فأعلمونا بها، فلم يجدوا بدّا من دفع الكتب إليهم، وأقاموا إلى غد فجاءتهم كتب مختومة وقيل للأمير يحيى بن طايربغا: اذهب إلى عند الأمراء بغزّة فساروا عائدين إلى غزة، فإذا فى الكتب الثناء على الأمراء وأن يتوجهوا إلى مصر، فإن السلطان يقصد مصر بمفرده، فتغيّرت خواطر الأمراء وقالوا وطالوا، وخرج الفخرىّ عن الحدّ وأفرط به الغضب، وعزم على الخلاف، فركب إليه طشتمر حمّص أخضر والأمير چنكلى ابن البابا والأمير بيبرس الأحمدى، وما زالوا به حتّى كفّ عمّا عزم عليه، ووافق على المسير، وكتبوا بما كان من ذلك إلى الأمير أيدغمش، وتوجّهوا جميعا من غزّة يريدون مصر. وكان أيدغمش قد بعث ابنه بالخيل الخاصّ إلى السلطان، فلمّا وصل إلى الكرك أرسل السلطان من أخذ منه الخيل، ورسم بعوده إلى أبيه،(10/57)
وأخرج رجلا من الكرك يعرف بأبى بكر البازدار ومعه رجلان ليبشّروا بقدومه، فوصلوا إلى الأمير أيدغمش فى يوم الاثنين خامس عشرينه «1» ، وبلّغوه سلام السلطان وعرّفوه أنّه كان قد ركب الهجن وسار على البريّة صحبة العرب، وأنه يصابح أو يماسى، فخلع عليهم وبعث بهم إلى الأمراء، فأعطاهم كلّ أمير من الأمراء المقدّمين خمسة آلاف درهم، وأعطاهم بقيّة الأمراء على قدر حالهم، وخرج العامّة إلى لقائه.
فلمّا كان يوم الأربعاء سابع عشرين شهر رمضان قدم قاصد السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنّ السلطان يأتى ليلا من باب القرافة، وأمر أن يفتح له باب السرّ حتى يعبر منه، ففتحه وجلس أيدغمش وألطنبغا الماردانىّ حتى مضى جانب من ليلة الخميس ثامن عشرينه أقبل السلطان فى الليل فى نحو العشرة رجال من أهل الكرك، وقد تلثّم وعليه ثياب مفرّجة فتلقوه وسلّموا عليه، فلم يقف معهم، وأخذ جماعته ودخل بهم، ورجع الأمراء وهم يعجبون من أمره، وأصبحوا وقد دقّت البشائر بالقلعة وزيّنت القاهرة ومصر، واستدعى السلطان أيدغمش فى بكرة يوم الجمعة، فدخل عليه وقبّل له الأرض فاستدناه وطيّب خاطره، وقال له: أنا ما كنت أتطلع إلى الملك وكنت قانعا بذلك المكان، فلمّا سيّرتم فى طلبى ما أمكننى إلا أن أحضر كما رسمتم، فقام أيدغمش وقبّل الأرض ثانيا، ثم كتب عن السلطان إلى الأمراء الشاميّين يعرّفهم بقدومه إلى مصر وأنه فى انتظارهم، وكتب علامته بين الأسطر: «المملوك أحمد بن محمد» . وكتب إليهم أيدغمش كتابا، وخرج مملوكه بذلك على البريد فلقيهم على الورّادة»
فلم يعجبهم هيئة عبور السلطان إلى مصر، وكتبوا(10/58)
إلى أيدغمش أن يخرج إليهم هو والأمراء إلى سرياقوس ليتفقوا على ما يفعلوه.
فلمّا كان يوم عيد الفطر منع السلطان الأمراء من طلوع القلعة، ورسم لكلّ أمير أن يعمل سماطه فى داره، ولم ينزل السلطان لصلاة العيد، وأمر الطواشى عنبر السّحرتى مقدّم المماليك ونائبه الطواشى الإسماعيلى أن يجلسا على باب القلعة ويمنعا من يدخل عليه، وخلا بنفسه مع الكركيين. وكان الحاج علىّ «إخوان «1» سلّار» إذا أتى بطعام للسلطان على عادته خرج إليه يوسف وأبو بكر البازدار وأطعماه ششنى الطعام وتسلّما السّماط منه وعبرا به إلى السلطان، ويقف الحاجّ على «إخوان سلّار» بمن معه حتى يخرج إليهم الماعون.
وحكى الرئيس جمال الدين بن المغربى رئيس الأطباء أنّ السلطان استدعاه وقد عرض له وجع فى رأسه فوجده جالسا وبجانبه شابّ من أهل الكرك جالس، وبقية الكركيّين قيام فوصف له ما يلائمه وتردّد إليه يومين وهو على هذه الهيئة. انتهى.
ثم فى يوم الأحد تاسع شوّال قدم الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخرى والأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر وجميع أمراء الشام وقضاتها والوزراء ونوّاب القلاع فى عالم كبير حتى سدّوا الأفق ونزل كثير منهم تحت القلعة فى الخيم، وكان خرج إلى لقائهم الأمير أيدغمش والحاجّ آل ملك والجاولى وألطنبغا الماردانى وغيرهم، وأخذ(10/59)
الفخرى يتحدّث مع أيدغمش فيما عمله «1» السلطان من قدومه فى زىّ العربان واختصاصه بالكركيّين، وإقامة أبى بكر البازدار حاجبه، وأنكر عليه ذلك غاية الإنكار، وطلب من الأمراء موافقته على خلعه وردّه إلى مكانه، فلم يمكّنه طشتمر حمص أخضر من ذلك، وساعده الأمراء أيضا، وما زالوا به حتى أعرض عمّا همّ به، ووافق الأمراء على طاعته. فلما كان يوم الاثنين عاشره لبس السلطان شعار السلطنة وجلس على تخت الملك، وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد وقضاة مصر الأربعة وقضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين وبايعه الخليفة بالسلطنة وقبّلوا الأرض بين يديه على العادة. ثم قام السلطان على قدميه فتقدّم الأمراء وباسوا يده واحدا بعد واحد على قدر مراتبهم، وجاء الخليفة بعدهم وقضاة القضاة ما عدا القاضى حسام الدين الغورىّ الحنفىّ، فإنه لمّا طلع مع القضاة وجلسوا بجامع القلعة حتّى يؤذن لهم على العادة جمع عليه [طبّاخ المطبخ «2» السلطانىّ] بعض صبيان المطبخ جمعا من الأوباش لحقد كان فى نفسه منه عند ما تحاكم هو وزوجته عنده قبل ذلك، فأهانه القاضى المذكور، فلمّا وجد الطباخ الفرصة هجم عليه بأوباشه ومدّ يده إلى الغورىّ من بين القضاة وأقاموه وحرقوا عمامته فى حلقه وقطعوا ثيابه وهم يصيحون: يا قوصونىّ! ثم ضربوه بالنعال ضربا مبرّحا، وقالوا له: يا كافر يا فاسق! فارتجّت القلعة، وأقبل علم «3» دار حتى خلّصه منهم وهو يستغيث يا مسلمين! كيف يجرى هذا على قاض من قضاة المسلمين؟ فأخذ المماليك جماعة من تلك الأوباش وجروهم إلى الأمير أيدغمش فضربهم وبعث طائفة من(10/60)
الأوجاقية، ساروا بالغورى إلى منزله ولم يحضر الموكب وثارت العامّة على بيته بالمدرسة الصالحية «1» ونهبوه، فكان يوما شنيعا.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشره عمل السلطان موكبا آخر وخلع على سائر الأمراء قاطبة، وأنعم على الأمير طشتمر حمّص أخضر بعشرة آلاف دينار وعلى الأمير قطلوبغا الفخرى بما «2» حضر معه من البلاد الشامية وهو أربعة آلاف دينار ومائة ألف درهم فضّة، ونزل فى موكب عظيم بمن حضر صحبته من أمراء البلاد الشامية وهم الأمير سنجر الجمقدار «3» وتمر الساقى وطرنطاى البچمقدار «4» وآقبغا عبد الواحد وتمر الموسوى وابن قراسنقر وأسنبغا بن البوبكرى وبكنمر العلائى وأصلم نائب صفد. ثم طلب السلطان الوزير نجم الدين، ورسم له أن يكون يوسف البازدار ورفيقه مقدمى البازداريّة، ومقدمى الدولة، وخلع السلطان عليهما كلفتاه زركش وأقبية طردوحش بحوائص ذهب، فحكما مصر فى الدولة وتكبّرا على الناس وسارا بحمق زائد.
ثم فى يوم السبت خامس عشره خلع على الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر باستقراره فى نيابة السلطنة بالديار المصريّة فتوّجه بخلعته وباشر النيابة، وجلس والحجاب قيام بين يديه والأمراء فى خدمته. وفى يوم الاثنين سابع عشره أخرج(10/61)
السلطان عبد المؤمن بن عبد الوهاب السّلامى والى قوص من السجن، ورسم بتسميره فسمّر على باب البيمارستان «1» المنصورىّ بمسامير جافية شنيعة، وطيف به مدّة ستة أيام وهو يحادث الناس فى الليل بأخباره، ومما حدّثهم به أنه هو الذي كان وثب على النشو ناظر الخاصّ وضربه بالسيف، حسب ما ذكرناه فى ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون من أمر النشو، وأنّه لما سقطت عمامته عن رأسه ظنّها رأسه.
وكان إذا قيل له: اصبر يا عبد المؤمن، فيقول: أسأل الله الصبر، وينشد كثيرا قوله
يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وكان السبب لقتله ومثلته هذه أنه قتل الملك المنصور أبا بكر بن الناصر محمد بقوص بأمر قوصون، ثم شنق بعد ذلك فى يوم السبت ثانى عشرين شوّال على قنطرة «2» السدّ وأكلته الكلاب. ثم قبض السلطان على أحد وعشرين أميرا وأخرجهم إلى الإسكندريّة صحبة الأمير طشتمر طلليه «3» .
ثم فى يوم الخميس سابع عشرينه خلع على الأمير الحاجّ آل ملك بنيابة حماة عوضا عن طقزدمر الحموىّ وعلى بيبرس الأحمدى واستقرّ فى نيابة صفد عوضا عن أصلم الناصرى وعلى آق سنقر، واستقر نائب غزّة على عادته. وفى مستهلّ ذى القعدة خلع على الأمير قطلوبغا الفخرى بنيابة دمشق وعلى الأمير أيدغمش أمير آخور بنيابة حلب. ثم فى يوم الثلاثاء ثانيه استقرّ قمارى أمير شكار أمير آخور عوضا عن أيدغمش؛ واستقرّ أحمد شادّ الشّربخاناه أمير شكار، واستقرّ آقبغا عبد الواحد فى نيابة حمص. ثم أنعم السلطان على الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر بإنعامات(10/62)
كثيرة وكتب له بالإمرة على التّركمان ونيابة أبلستين. وفى يوم الأحد سابع ذى القعدة خرج الأمير أيدغمش متوجّها إلى نيابة حلب. وفى يوم الاثنين خامس عشره خرج الأمير قطلوبغا الفخرى متوجّها إلى نيابة دمشق ومعه من تأخّر من عساكر الشام، وخرج الأمير نائب السلطنة بالقاهرة لوداعه وجميع الأمراء ومدّ له سماطا عظيما.
ولما توجّه الفخرى وأيدغمش وغيرهما من الديار المصرية وبقى الأمير طشتمر الساقى حمص أخضر نائب السلطنة بالقاهرة قبض عليه السلطان بعد خروج الفخرى بخمسة أيام، وذلك فى يوم السبت العشرين من ذى القعدة.
وسبب القبض على طشتمر أنه بقى يعارض السلطان بحيث إنه كان يردّ مراسيمه ويتعاظم على الأمراء والأجناد تعاظما زائدا، وكان إذا شفع عنده أحد من الأمراء فى شفاعة لا يقبلها، وكان لا يقف لأمير إذا دخل عليه، وإذا أتته قصّة عليها علامة السلطان بإقطاع أو غيره أخذ ذلك منه وطرد من هى باسمه، وأخرق «1» به، وقرّر مع السلطان أنه لا يمضى من المراسيم إلّا ما يختاره، ورسم للحاجب بألّا يقدّم أحد قصّة للسلطان إلّا أن يكون حاضرا، فلم يتجاسر أحد أن يقدّم قصّة للسلطان فى غيبته. وأخذ إقطاع الأمير بيبرس الأحمدى وتقدمته لولده، فكرهته الناس، وصارت أرباب الدولة وأصحاب الأشغال كلّها فى بابه، وتقرّبوا إليه بالهدايا والتّحف، وانفرد بتدبير الملك، وحطّ على الكركيّين ومنعهم من الدخول على السلطان، فلم يتهيّأ له ذلك. وكان ناصر الدين المعروف بفار السّقوف قد توصّل إلى الكركيين حتى استقرّ إمام السلطان يصلّى به الخمس وناظر المشهد النّفيسىّ عوضا عن تقىّ الدّين على بن القسطلانيّ خطيب جامع عمرو وجامع القلعة، وخلع عليه(10/63)
السلطان بغير علم طشتمر النائب، فبعث إليه طشتمر عدّة نقباء ونزع الخلعة من عليه وسلّمه إلى المقدّم إبراهيم بن صابر، وأمر بضربه وإلزامه بحمل مائة ألف درهم، فضربه ابن صابر ضربا مبرّحا واستخرج منه أربعين ألف درهم. ثم أفرج عنه بشفاعة أيدغمش والفخرى فيه بعد ما أشهد عليه أنه لا يطلع القلعة. ثم أخذ قصير معين «1» من مباشرى قوصون وأحاط بما فيه من القنود والأعسال والسكّر وغير ذلك، فعظم ما فعله على السلطان وعلى الأمراء، فإنه خرج عن الحدّ، إلى أن قرر السلطان مع مقدّم المماليك عنبر السّحرتى والأمير آق سنقر السّلّارى فى القبض على طشتمر وعلى قطلوبغا الفخرى، وأن ستدعى مماليك بشتك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة ويعطيهم إقطاعات بالحلقة ليصيروا من جملة مماليك السلطان خوفا من حركة طشتمر النائب.
ثم رتّب السلطان عنده مماليك بداخل القصر للقبض على طشتمر أيضا. وكان مما جدّد طشتمر فى نيابته أن منع الأمراء أن تدخل مماليكها إلى القصر، وبسط من باب القصر بساطا إلى داخله كما كان فى الأيام الناصريّة فصار الأمير لا يدخل إلى القصر إلّا بمفرده، فكان ما دبّره عليه. ثم دخل هو أيضا بمفرده ومعه ولداه إلى القصر، وجلس على السّماط على العادة، فعند ما رفع السماط قبض كشلى «2» السلاح دار أحد المماليك السلطانية وكان معروفا بالقوّة على كتفيه من خلف ظهره قبضا عنيفا.
ثم بدر إليه جماعة من المماليك وأخذوا سيفه وقيّدوه وقيدوا ولديه، ونزل أمير مسعود الحاجب فى عدّة من المماليك السلطانية فأوقع الحوطة على بيته «3» وأخذ(10/64)
مماليكه فسجنهم. ثم خرج فى الحال ساعة القبض على طشتمر الأمير ألطنبغا الماردانى والأمير أرنبغا أمير سلاح ومعهما من أمراء الطبلخاناه والعشرات نحو خمسة عشر أميرا ومعهم أيضا من المماليك السلطانية وغيرهم ألف فارس، وتوجّهوا ليقبضوا على الأمير قطلوبغا الفخرى، وكتب للأمير آق سنقر الناصرى نائب غزّة بالركوب معهم بعسكره وجميع من عنده ومن هو فى معاملته، وكان الفخرى قد ركب من الصالحية «1» ، فبلغه مسك طشتمر ومسير العسكر إليه من هجّان بعث به إليه بعض ثقاته، فساق إلى قطّبا «2» وأكل بها شيئا، ثم رحل مسرعا حتى دخل العريش «3» فإذا آق سنقر بعسكره فى انتظاره على الزعقة «4» ، وكان ذلك وقت الغروب فوقف كلّ منهما تجاه صاحبه. حتى أظلم الليل سار الفخرى بمن معه وهم ستون فارسا على البريّة، فلمّا أصبح آق سنقر علم أن الفخرى فاته، ومال أصحابه على أثقال الفخرى فنهبوها وعادوا إلى غزّة. واستمرّ الفخرى سائرا ليلته، ومن الغد حتّى انتصف النهار وهو سائق فلم يتأخّر معه إلا سبعة فرسان، ومبلغ أربعة آلاف وخمسمائة دينار، وقد وصل يبنى «5» وعليها الأمير أيدغمش وهو نازل فترامى عليه، وعرّفه بما جرى وأنه قطع خمسة عشر بريدا فى مسير يوم واحد، فطيّب أيدغمش خاطره وأنزله فى خيمة وقام له بما يليق به، فلمّا جنّه الليل أمر به فقيّد وهو نائم وكتب بذلك إلى السلطان مع بكا الخضرى، وكان السلطان لمّا بلغه هروب الفخرى تنكّر على الأمراء(10/65)
واتّهمهم بالمخامرة عليه، وهمّ فى يوم الاثنين أن يمسكهم، فتأخّر عن الخدمة الجاولى فى يوم الاثنين المذكور، وهو تاسع عشرين ذى القعدة وتأخّر معه جماعة كبيرة. فلمّا كان وقت الظهر بعث لكل أمير طائر إوزّ مشوىّ وسأل عنهم؛ ثم بعث إليهم آخر النهار أن يطلعوا من الغد. فجاء بكا الخضرى عشيّة يوم الثلاثاء مستهلّ ذى الحجّة، ومعه البشارة بالقبض على سيف الدين قطلوبغا الفخرى، فسرّ السلطان بذلك، وكتب بحمله إلى الكرك. فلمّا طلع الأمراء إلى الخدمة فى يوم الثلاثاء ترضّاهم السلطان وبشّرهم بمسك الفخرى، ثم أخبرهم أنه عزم على التوجّه إلى الكرك، وتجهّز وأخذ الأموال صحبته، وأخرج الأمير طشتمر حمّص أخضر مقيّدا فى محارة «1» فى ليلة الأربعاء ومعه جماعة من المماليك السلطانيّة موكّلون به.
ثم تقدّم السلطان إلى الخليفة بعد ما ولّاه نظر المشهد النّفيسىّ عوضا عن ابن القسطلانيّ أن يسافر معه إلى الكرك، ورسم لجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ، وللقاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السّر أن يتوجّها معه إلى الكرك. ثم ركب السلطان ومعه الأمراء من قلعة الجبل فى يوم الأربعاء ثانيه بعد ما أمّر ثمانية من المماليك السلطانية وخلع عليهم على باب الخزانة، وخلع على الأمير شمس الدين آق سنقر السّلّارى وقرّره نائب الغيبة، وخلع على شمس الدين محمد بن عدلان باستقراره قاضى العسكر، وخلع على زين الدين عمر بن كمال الدين عبد الرحمن ابن أبى بكر البسطامىّ واستقرّ به قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصرية عوضا عن حسام الدين الغورى. فلمّا سار السلطان حتى قرب قبّة النصر «2» خارج القاهرة وقف حتى قبل الأمراء يده على مراتبهم ورجعوا عنه، فنزل فى الحال عن فرسه، ولبس(10/66)
ثياب العربان وهى كامليّة مفرّجة وعمامة بلثامين، وسائر الكركيّين فى طريقه، وترك الأمراء الذين معه وهم قمارى وملكتمر الحجازى وأبو بكر وعمر ابنا أرغون النائب مع المماليك السلطانية والطّلب، وتوجّه على البريّة إلى الكرك [وليس «1» معه إلّا الكركيون ومملوكان] وهم فى أثره فقاسوا مشقّة عظيمة من العطش وغيره حتى وصلوا ظاهر الكرك وقد سبقهم السلطان إليها، وقدمها فى يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجّة، وكتب للأمراء بالديار المصرية يعرّفهم بذلك ويسلّم عليهم، فقدم كتابه القاهرة فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجّة.
ولمّا دخل الملك الناصر أحمد إلى الكرك لم يمكنّ أحدا من العسكر أن يدخل المدينة سوى كاتب السرّ وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ فقط. ورسم أن يسير الأمير المقدّم عنبر السّحرتى بالمماليك السلطانية إلى قرية «2» الخليل عليه السلام، وأن يسير قمارى وعمر ابن النائب أرغون والخليفة إلى القدس الشريف «3» . ثم رسم(10/67)
السلطان لمقدّم المماليك عنبر السّحرتى أن ينتقل بالمماليك السلطانية من الخليل إلى غزّة لغلاء الأسعار بالخليل، وفى أثناء ذلك وصل أمير علىّ بن أيدغمش بالفخرى مقيّدا إلى غزة وبها العساكر، فبعث السلطان إليه من تسلّم منه الفخرى وأعاد ابن أيدغمش إلى أبيه ولم يجتمع به، فسجن السلطان قطلوبغا الفخرى وطشتمر حمص أخضر بقلعة الكرك بعد ما نكّل بالفخرى وأهين من العامّة إهانة «1» زائدة.
ثم كتب السلطان لآق سنقر السّلّارى نائب الغيبة «2» بإرسال حريم الفخرى إلى الكرك، وكانوا قد ساروا من القاهرة بعد مسير الفخرى بيوم، فجهزهنّ إليه، فأخذ أهل الكرك جميع ما معهنّ حتى ثيابهنّ، وبالغوا فى الفحش بهنّ والإساءة. ثم كتب السلطان لآق سنقر السلارى نائب الغيبة بالديار المصرية أن يوقع الحوطة على موجود طشتمر حمص أخضر وقطلوبغا الفخرى، ويحمل ذلك إليه بالكرك. وكان شأن الملك الناصر أحمد أنه إذا رسم بشىء جاء كاتب كركىّ لكاتب السرّ وعرّفه عن السلطان بما يريد، فيكتب كاتب السرّ ذلك ويناوله للكاتب الكركى حتى يأخذ عليه علامة السلطان، ويبعثه حيث يرسم به، هذا ما كان من أمر الملك الناصر.
أما العسكر المتوجّه من القاهرة إلى غزة فإن ابن أيدغمش لمّا قدم عليهم بمدينة غزة ومعه الفخرى أراد الأمير علاء الدين ألطنبغا الماردانىّ أن يؤخّره عنده بغزة حتّى يراجع فيه السلطان فلم يوافقه ابن أيدغمش، وتوجّه به إلى الكرك، فرحل ألطنبغا الماردانى وبقيّة العساكر عند ذلك إلى جهة الديار المصريّة فقدموها يوم السبت سادس عشرين ذى الحجّة وانعكف السلطان على اللهو واحتجب عن الناس(10/68)
إلّا الكركيّين. ثم بلغه تغيّر خواطر الأمراء فأخذ فى تحصين قلعة الكرك ومدينتها وأشحنها بالغلال والأقوات والأسلحة.
وأمّا أمر الديار المصرية فإنه شقّ عليهم غيبة السلطان منها، واضطربت أحوال القاهرة وصارت غوغاء، وصار عند أكابر الأمراء تشويش كثير لمّا بلغهم من مصاب حريم الأمير قطلوبغا الفخرى. وبقى الأمير آق سنقر السّلّارى فى تخوّف عظيم فإنه بلغه بأن جماعة من المماليك الذين قبض «1» على أستاذهم قد باطنوا بعض الأمراء على الركوب عليه، فترك آق سنقر الركوب فى أيام المواكب أياما حتى اجتمع الأمراء عنده وحلفوا له. ثم اتّفق رأى الأمراء على أن كتبوا للسلطان الملك الناصر أحمد كتابا فى خامس محرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بأنّ الأمور واقفة لغيبة السلطان، وقد نافق غالب عربان الصعيد وغيره وطمع أرباب الفساد، وخيفت السّبل وفسدت الأحوال، وسألوا حضوره إلى الديار المصرية وأرسلوا الكتاب على يد الأمير طقتمر «2» الصلاحىّ فتوجّه طقتمر إليه، ثم عاد إلى الديار المصرية بجوابه فى حادى عشره: بأننى قاعد فى موضع أشتهى، وأىّ وقت أردت حضرت إليكم؛ وذكر طقتمر أنّ السلطان لم يمكّنه الاجتماع به، وأنه بعث من أخذ منه الكتاب، ثم أرسل إليه الجواب.
وقدم الخبر بأنه قتل الأمير طشتمر الساقى حمّص أخضر، والأمير قطلوبغا الفحرى، وكان قصد قتلهما بالجوع، فأقاما يومين بلياليهما لا يطعمان طعاما، فكسبرا قيدهما- وكان السلطان قد ركب للصيد- وخلعا باب السجن ليلا وخرجا إلى(10/69)
الحارس فأخذا سيفه وهو نائم فأحسّ بهما، وقام يصيح حتى لحقه أصحابه فأخذوهما وبعثوا إلى السلطان بخبرهما، فقدم فى زىّ العربان ووقف على الخندق وأحضرهما وقد كثرت بهما الجراحات، فأمر يوسف ورفيقه بضرب أعناقهما، وأخذ يسبّهما فردّا عليه السبّ ردّا قبيحا، وضربت رقابهما، فلمّا بلغ الأمراء ذلك اشتدّ قلقهم.
ثم قدم كتاب السلطان للأمراء يطيّب خواطرهم ويعرّفهم أن مصر والشام والكرك له، وأنه حيثما شاء أقام، ورسم أن تجهّز له الأغنام من بلاد الصعيد، فتنكرت قلوب الأمراء «1» ، ونفرت خواطرهم وتكلّموا فيما بينهم فى خلعه، حتى اتّفق الأمراء على خلعه من السلطنة، وإقامة أخيه إسماعيل ابن الملك الناصر محمد، فخلع فى يوم الأربعاء حادى عشرين المحرّم من سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما، منها مدّة إقامته بمدينة الكرك، ومراسيمه نافذة بمصر أحد وخمسين يوما. وإقامته بمصر شهران «2» إلا أياما.
وكان لمّا خرج من الديار المصرية متوجّها إلى الكرك جمع الأغنام التى كانت لأبيه وأغنام قوصون، وعدّتها أربعة آلاف رأس وأربعمائة رأس من البقر التى كان استحسنها أبوه، وأخذ الطيور التى كانت بالأحواش على اختلاف أنواعها، وحملها على رءوس الحمّالين إلى الكرك، وساق الأغنام والأبقار إليها، ومعهم عدّة سقّايين، وعرض الخيول والهجن، وأخذ ما اختاره منها ومن البخاتى وحمر الوحش والزراريف والسّباع، وسيّرها إلى الكرك. ثم فتح الذخيرة وأخذ منها جميع ما فيها من الذهب والفضة وهو ستمائة ألف دينار وصندوق فيه الجواهر التى جمعها أبوه(10/70)
فى مدة سلطنته. وتتبّع جوارى أبيه حتى عرف المتموّلات منهنّ، فصار يبعث إلى الواحدة منهنّ يعرّفها أنه يدخل عليها الليلة فإذا تجمّلت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إليه، فإذا خرجت من موضعها ندب من يأخذ جميع ما عندها، ثم يأخذ جميع ما عليها، حتى سلب أكثرهنّ. ثم عرض الرّكبخاناه، وأخذ ما فيها من السروج واللّجم والسلاسل الذهب والفضة. وأخذ الطائر الذهب الذي كان على القبّة، وأخذ الغاشية الذهب وطلعات السناجق؛ وما ترك بالقلعة مالا إلّا أخذه، واستمرّ بالكرك.
فلمّا تسلطن أخوه الملك الصالح إسماعيل حسب ما يأتى ذكره أرسل إلى الكرك يطلب من أخيه الناصر أحمد هذا شعائر الملك، وما كان أخذه من الخزائن وغيرها، فلم يلتفت الناصر إلى كلامه، فندب السلطان الملك الصالح تجريدة لحصاره بالكرك، واستمرّ يبعث إليه تجريدة بعد أخرى سبع تجاريد، حتى إنّه لم يبق بمصر والشام أمير إلا تجرّد إلى الكرك مرّة ومرّتين إلى أن ظفروا به حسب ما يأتى ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة الملك الصالح إسماعيل. ولمّا ظفروا بالملك الناصر أحمد قيدوه وحبسوه بالكرك بعد أن حاصروه بها مدّة سنتين وشهر وثلاثة أيام، ختى قبض عليه، اتلف فيها أموالا كثيرة فى النفقات على المقاتلة، وأخذ أمره يتلاشى وهلك من عنده بالجوع. وضرب الذهب وخلط به الفضّة والنحاس ونفق ذلك فى الناس، فكان الدينار الذي ضربه يساوى خمسة دراهم.
وكان القبض على الملك الناصر من الكرك فى يوم الاثنين الظهر ثانى عشرين صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكتب بذلك إلى السلطان، فأرسل السلطان الملك الصالح الأمير منجك اليوسفىّ الناصرىّ السلاح دار الى الكرك فقتله وحزّ رأسه وتوجه بها إلى القاهرة(10/71)
وكان الملك الناصر أحمد هذا قد أخرجه أبوه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية إلى الكرك وهو صغير، لعلّه لم يبلغ العشر سنين، فربّى بالكرك وأحبّ أهلها وصارت له وطنا، وكان نائب الكرك إذ ذاك ملكتمر السّرجوانىّ زوج أمّه.
ثم أرسل إليه أبوه أخويه: إبراهيم وأبا بكر المنصور فأقاموا الجميع بالكرك إلى أن طلبهم والدهم، وأعاد الناصر هذا إلى الكرك ثم طلبه ثانيا وزوّجه ببنت الأمير طايربغا من أقارب الملك الناصر، ثم أعاده إلى الكرك.
وكان الناصر هذا احسن إخوته وجها وشكلا، وكان صاحب لحية كبيرة وشعر غزير، وكان ضخما شجاعا صاحب بأس وقوّة مفرطة، وعنده شهامة مع ظلم وجبروت، وهو أسوأ أولاد الملك الناصر سيرة مع خفّة وطيش.
*** السنة التى حكم فى أوّلها المنصور أبو بكر إلى حادى عشرين صفر على أنه حكم من السنة الماضية تسعة ايام. ثم حكم فيها من صفر إلى يوم الخميس أوّل شعبان الملك الأشرف كچك. ثم حكم فيما بقى منها الملك الناصر أحمد هذا، والثلاثة أولا الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدّم ذكره، والسنة المذكورة سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
فيها وقعت حادثة غريبة وهى»
أن رجلا بوارديا «2» يقال له محمد بن خلف بخطّ السّيوفيّين «3» من القاهرة قبض عليه فى يوم السبت سادس عشر رمضان، واحضر(10/72)
إلى محتسب القاهرة فوجد بمخزنه من فراخ الحمام والزرازير المملوحة عدّة أربعة وثلاثين ألف ومائة وستة وتسعين، من ذلك أفراخ حمام ألف ومائة وستة وتسعون، فرخا. وزرازير عدّة ثلاثة وثلاثين ألف زرزور، وجميعها قد نتنت وتغيّرت أحوالها، فأدّب وشهّر.
وفيها توفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحىّ الناصرىّ نائب الشام مقتولا بسجن الإسكندرية. كان أصله من صغار مماليك المنصور قلاوون، وربّى عند الملك الناصر محمد بن قلاوون، وتوجه معه إلى الكرك، فلما عاد الملك الناصر إلى ملكه أنعم عليه بإمره عشرة وجعله جاشنكيره، ثم ولّاه حاجبا. ثم نقله من الحجوبيّة إلى نيابة حلب بعد موت أرغون النائب، فسار فيها سيرة مشكورة وغزا بلاد سيس، حتّى أخذها بالأمان؛ وقال فى ذلك العلّامة زين الدين عمر بن الوردى قصيدة طنّانة أوّلها:
جهادك مقبول وعامك قابل ... ألا فى سبيل المجد ما أنت فاعل
وعمّر الأمير ألطنبغا المذكور فى نيابته بحلب جامعا «1» فى شرقيّها، ولم يكن إذ ذاك داخل سور حلب جامع تقام فيه الخطبة سوى الجامع الكبير الأموىّ، وأقام بحلب حتى وقع بينه وبين تنكز نائب الشام، فشكاه تنكز إلى الملك الناصر فعزله عن نيابة حلب، وولّاه نيابة غزّة إلى أن غضب السلطان على تنكز ولّاه عوضه نيابة الشام الى أن مات الملك الناصر وتسلطن أولاده انضمّ ألطنبغا هذا إلى قوصون، فكان(10/73)
ذلك سببا لهلاكه؛ وقد تقدم ذكر ذلك كلّه مفصلا. وكان أميرا جليلا شجاعا مشكور السيرة ومات وقد جاوز الخمسين سنة من العمر.
وفيها توفّى ملك التتار أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو «1» ابن دوشى خان بن چنكز خان. ومات أزبك خان بعد أن ملك نحوا من ثلاثين سنة، وكان أسلم وحسن إسلامه وحرّض رعيته على الإسلام فأسلم بعضهم، ولم يلبس أزبك خان بعد أن أسلم السّراقوجات «2» ، وكان يلبس حياصة من فولاذ ويقول: لبس الذهب حرام على الرجال، وكان يميل إلى دين وخبر، ويتردّد إلى الفقراء، وكان عنده عدل فى رعيته، وتزوّج الملك الناصر محمد بابنته. وكان أزبك شجاعا كريما مليح الصورة ذا هيبة وحرمة. ومملكته متسعة، وهى من بحر قسطنطينيّة «3» إلى نهر أرتش «4» مسيرة ثمانمائة فرسخ، لكن أكثر ذلك قرى ومراع.
وولى الملك بعده جانى «5» بك خان.
وتوفّى الأمير سيف الدين بشتك بن عبد الله الناصرى مقتولا بسجن الإسكندرية فى شهر ربيع الآخر. وكان إقطاعه يعمل بمائتى ألف دينار فى كلّ سنة، وأنعم عليه أستاذه الملك الناصر محمد فى يوم واحد بألف ألف درهم. وكان راتبه لسماطه فى كلّ يوم خمسين رأسا من الغنم وفرسا، لابدّ من ذلك. وكان كثير التّيه لا يحدّث(10/74)
مباشريه إلا بترجمان. وهو صاحب القصر بين «1» القصرين والحمام «2» بالقرب من سويقة «3» العزّى والجامع «4» عند قنطرة طقزدمر «5» خارج القاهرة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدى: «وكان بشتك أهيف القامة، حلو الوجه. قربه السلطان وادناه، وكان يسمّيه فى غيبته بالأمير، وكان إقطاعه سبعة عشرة [إمرة «6» ] طبلخاناه أكبر من إقطاع قوصون، وما يعلم قوصون بذلك» .
وتوفّى الأمير سيف الدين طاجار بن عبد الله الناصرى الدّوادار قتيلا بثغر الإسكندرية. وكان من خواصّ الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن أكابر مماليكه، ورقّاه حتى ولّاه الدّواداريّة، وكان ممّن انضم إلى الملك المنصور أبى بكر فقبض عليه عند خلعه وقتل.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين جركتمر بن عبد الله الناصرىّ قتيلا.
وتوفّى الأمير قوصون بن عبد الله الناصرىّ الساقى قتيلا بثغر الإسكندرية فى شوّال، وقد مرّ من ذكره ما فيه كفاية عن تكراره ثانيا.
وتوفّى الملك الأفضل علاء الدين على ابن الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل [ابن «7» الملك الأفضل على] ابن الملك المظفّر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان(10/75)
الأيّوبى صاحب حماة وابن صاحبها. مات بدمشق، وهو من جملة أمرائها بعد ما باشر سلطنة حماة عشرين سنة إلى أن نقله قوصون إلى إمرة الشام، وولى نيابة حماة بعده الأمير طقزدمر الحموى. وكانت وفاته فى ليلة الثلاثاء حادى عشر ربيع الآخر عن ثلاثين سنة.
وتوفّى الأمير شرف الدين، وقيل مظفّر الدين موسى بن مهنّا بن عيسى بن مهنا ابن مانع «1» بن حديثة بن عصيّة «2» بن فضل بن ربيعة أمير آل فضل بمدينة تدمر «3» .
وكان من أجلّ ملوك العرب، مات فجأة فى العشر الأخير من جمادى الأولى.
وتوفّى الحافظ الحجّة جمال الدين أبو الحجّاج يوسف بن الزّكى عبد الرحمن بن يوسف بن علىّ بن عبد الملك بن أبى الزّهر القضاعىّ الكلبى المزّى الحلبى المولد، ولد بظاهر حلب فى عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة، ومات بدمشق فى ثانى «4» عشر صفر، وكان إمام عصره أحد الحفّاظ المشهورين. سمع الكثير ورحل وكتب وصنّف. وقد ذكرنا عدّة كبيرة من مشايخه وسماعاته فى ترجمته(10/76)
فى «المنهل الصافى» ونبذة كبيرة من أخباره. ومن مصنفاته «كتاب «1» تهذيب الكمال» وهو فى غاية الحسن فى معناه.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمر بن عبد الله الساقىّ الناصرىّ أحد أمراء الألوف فى يوم الأحد ثامن «2» عشرين ذى الحجة. وكان من أكابر الأمراء ومن أعيان خاصكيّة الملك الناصر محمد بن قلاوون ومماليكه.
وتوفّى القاضى برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن فخر الدين خليل بن إبراهيم الرسعنى «3» الشافعى قاضى حلب بها. وكان فقيها فاضلا، ولى القضاء بحلب وغيرها وأفتى ودرّس.
وتوفى الأمير علاء الدين على ابن الأمير الكبير سيف الدين سلّار فى شهر ربيع الآخر. وكان من أعيان الأمراء بالديار المضرية.
وتوفّى خطيب جامع دمشق الأموىّ الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة جلال الدين محمد القزوينى الشافعىّ. وكان فاضلا خطيبا فصيحا.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الناصرىّ السلاح دار نائب الفتوحات بآياس «4» وغيرها. وكان من أجلّ الأمراء الناصريّة. كان شجاعا كريما، وله المواقف المشهودة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وتسع أصابع. والله تعالى أعلم.(10/77)
[ما وقع من الحوادث سنة 743]
ذكر ولاية الملك الصالح إسماعيل على مصر
السلطان الملك الصالح عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون وهو السلطان السادس عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والرابع من بنى محمد بن قلاوون. جلس على تحت الملك فى يوم الخميس «1» ثانى عشرين المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بعد خلع أخيه الملك الناصر أحمد باتّفاق الأمراء على ذلك لما بلغهم عن حسن سيرته، فإنّه قيل للأمراء لمّا أخرج قوصون أولاد الملك الناصر إلى قوص كان إسماعيل هذا يصوم يومى الاثنين والخميس، ويشغل أوقاته بالصلاة وقراءة القرآن مع العفّة والصّيانة عمّا يرمى به الشّباب من اللهو واللّعب، فلمّا بلغهم ذلك اتّفقوا على إقامته فى الملك وسلطنوه وحلّفوا له الأمراء والعساكر وحلف لهم أيضا السلطان الملك الصالح إسماعيل المذكور ألّا يؤذى أحدا وألا يقبض على أمير بغير ذنب، فتمّ أمره، ولقّب بالملك الصالح، ودقّت البشائر، ونودى بزينة القاهرة ومصر، ورسم بالإفراج عن المسجونين بثغر الإسكندرية، وكتب بالإفراج أيضا إلى الوجه القبلى «2» والبحرى وألّا يترك بالسجون إلّا من استحقّ عليه القتل. واستقرّ الأمير(10/78)
أرغون العلائى زوج أمّ الملك الصالح رأس «1» نوبة، ويكون رأس المشورة ومدبر السلطنة وكافل السلطان. واستقرّ الأمير آق سنقر السّلّارى نائب السلطنة بالديار المصرية. وكتب للأمراء ببلاد الشام والنوّاب باستمرارهم وأرسل إليهم الخلع على يد الأمير طقتمر الصلاحىّ، وكتب بتقليد الأمير أيدغمش نائب حلب بنيابة الشام، واستقرّ عوضه فى نيابة حلب الأمير طقزدمر الحموى نائب حماة.
واستقرّ فى نيابة حماة عوضا عن طقزدمر الأمير علم الدين سنجر الجاولى.
ثم كتب السلطان الملك الصالح إسماعيل إلى أخيه الملك الناصر أحمد بالسلام وإعلامه أنّ الأمراء أقاموه فى السلطنة لمّا علموا أنه ليس له رغبة فى ملك مصر، وأنّه يحب بلاد الكرك والشّوبك وهى تحكّمك وملكك، وسأله أن يرسل القبّة والطّير والغاشية والنّمجاة وتوجّه بالكتاب الأمير قبلاى، وخرج الأمير بيغرا ومعه عدّة من الأوجاقية لجرّ الخيول السلطانية من الكرك الذي كان الملك الناصر أخذهم من الإسطبل السلطانى، وتوجّه الجميع إلى جهة الكرك. ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشرين المحرم قدم الأمراء المسجونون بثغر الإسكندرية إلى القاهرة، وعدّتهم ستة وعشرون أميرا، منهم الأمير قياتمر وطيبغا المجدىّ وابن طوغان چق وأسنبغا ابن البوبكرى وابن سوسون وناصر الدين محمد بن المحسنى والحاجّ أرقطاى نائب طرابلس فى آخرين، وطلعوا إلى القلعة وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان. ثم رسم السلطان أن يجلس أرقطاى مكان الأمير علم الدين سنجر الجاولى المنتقل إلى نيابة حماة، وأن يتوجّه البقية على إمريات ببلاد الشام.(10/79)
وفى يوم السبت أوّل صفر قدم من غزّة الأمير قمارى أمير شكار والأمير أبو بكر بن أرغون النائب والأمير ملكتمر الحجازىّ وصحبتهم الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، ومقدّم المماليك الطّواشى عنبر السّحرتى والمماليك السلطانية مفارقين الملك الناصر أحمد. وفيه خرج الأمير طقردمر الحموى من القاهرة لنيابة حلب.
وفى يوم الاثنين ثالثه خلع على الأمير سنجر الجاولى نائب حماة خلعة السفر، وخلع فيه أيضا على الأمير مسعود بن خطير الحاجب خلعة السفر لنيابة غزّة، وخلع على القاضى بدر الدين محمد بن محيى الدين يحيى بن فضل الله، واستقرّ فى كتابة السرّ بدمشق عوضا عن أخيه شهاب الدين أحمد. ورسم بسفر مماليك قوصون والأمير بشتك إلى البلاد الشامية متفرّقين، وكتب إلى النوّاب بذلك. وفيه استقرّ الأمير چنكلى بن البابا فى نظر البيمارستان المنصورىّ بين القصرين عوضا عن سنجر الجاولى. وجلس الأمير آق سقر السّلّارى بدار النيابة «1» بعد ما عمّرها وفتح شباكا.
ورسم له أن يعطى الأجناد «2» الإقطاعات من ثلثمائة دينار إلى أربعمائة دينار ويشاور فيما فوق ذلك. واستقرّ المكين «3» إبراهيم بن قروينة فى نظر الجيش. وعيّن ابن التاج إسحاق لنظر الخاصّ كلاهما عوضا عن جمال الكفاة بحكم غيبته بالكرك عند الملك الناصر أحمد. وفيه أنعم السلطان على أخيه شعبان بإمرة طبلخاناه.
وفى يوم الاثنين رابع عشرين صفر خلع السلطان على جميع الأمراء كبيرهم وصغيرهم الخلع السنيّة. وفى يوم الثلاثاء خامس عشرينه قدم القاضى علاء الدين على بن فضل الله كاتب السرّ وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصّ من الكرك إلى(10/80)
الديار المصرية مفارقين الملك الناصر بحيلة دبرها جمال الكفاة، وقد بلغه عن الناصر أنه يريد قتلهم «1» خوفا من حضورهم الى مصر ونقلهم لما هو عليه من سوء السيرة.
فبذل جمال الكفاة ليوسف البازدار مالا جزيلا حتى مكّنهم من الخروج، فأقبل عليهم الأمراء والسلطان، وخلع عليهم باستمرارهم على وظائفهم.
ثم فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الأوّل رسم السلطان للأمير ألطنبغا الماردانىّ الناصرىّ بنيابة حماة عوضا عن الأمير سنجر الجاولى وكتب بحضور سنجر الجاولى الى نيابة غزّة عوضا عن أمير مسعود ونقل أمير مسعود الى إمرة طبلخاناه بدمشق.
وقدم الخبر من شطّى أمير العرب بأن الملك الناصر أحمد قرّر مع بعض الكركيّين أنه يدخل الى مصر ويقتل السلطان فتشوّش الأمراء لذلك فوقع الاتفاق على تجريد العساكر لقتال الملك الناصر وأخذه من الكرك. وفى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر توجّهت التجريدة الى الكرك صحبة الأمير بيغرا، وهذه أوّل التجاريد الى الكرك لقتال الملك الناصر أحمد، وفى عقيب ذلك حدث للسلطان رعاف مستمرّ فاتهمت أمّه أمّ السلطان الأشرف كچك خوند أردو بأنّها سحرته، وهجمت عليها وأوقعت الحوطة على موجودها وضربت عدّة من جواريها ليعترفن «2» عليها، فلم يكن غير قليل حتّى عوفى السلطان، ورسم بزينة القاهرة، وحملت أمّ السلطان الى المشهد النفيسىّ «3» قنديل ذهب، زنته رطلان وسبع أواق ونصف أوقية.(10/81)
ثم قدم الخبر على يد إياز الساقى بموت الأمير أيدغمش نائب الشام فجأة، فوقع الاختيار على استقرار الأمير طقزدمر الحموىّ نائب حلب مكانه فى نيابة الشام واستقرّ الأمير ألطنبغا الماردانىّ عوضا عن طقزدمر فى نيابة حلب، واستقرّ الأمير يلبغا اليحياوىّ فى نيابة حماة عوضا عن الماردانى.
ثم أنعم السلطان على أرغون العلائىّ بإقطاع الأمير قمارى بعد موته، وكتب السلطان لنائب صفد وغزّة بالنّجدة للأمير بيغرا لحصار الملك الناصر بالكرك.
ثم قدم الخبر من شطّى أنه ركب مع العسكر على مدينة الكرك وقاتلوا أهل الكرك وهزموهم إلى القلعة، وأنّ الملك الناصر أذعن وسأل أن يمهل حتّى يكتب إلى السلطان ليرسل من يتسلّم منه قلعة الكرك، فرجعوا عنه فلم يكن غير قليل حتى استعدّ الملك الناصر وقاتلهم.
وفى يوم الأربعاء رابع شهر رجب كانت فتنة الأمير رمضان أخى السلطان، وسبب ذلك أنّ السلطان كان أنعم عليه بتقدمة ألف، فلمّا خرج السلطان إلى سرياقوس «1» تأخّر رمضان عنه بالقلعة وتحدّث مع طائفة من المماليك فى إقامته سلطانا واتّفقوا على ذلك، فلمّا مرض السلطان الملك الصالح هذا واسترخى قوى أمره، وشاع ذلك بين الناس وراسل تكا الخضرىّ ومن خرج معه من الأمراء، وواعد من وافقه على الركوب بقبّة «2» النصر، فبلغ ذلك السلطان ومدبّر دولته الأمير أرغون العلائى، فلم يعبأ بالخبر إلى أن أهلّ شهر رجب، جهّز الأمير رمضان خيوله وهجنه بناحية بركة «3» الحبش، وواعد أصحابه على يوم الأربعاء، فبلغ الأمير آق سنقر أمير(10/82)
آخور عند الغروب بما هو فيه من الحركة، فندب عدّة من العربان ليأتوه بخبر القوم، فلمّا أتاه خبرهم سار إليهم وأخذ جميع الخيل والهجن عن آخرهم من خلف القلعة وساقهم إلى الإسطبل «1» السلطانى وعرّف السلطان والعلائى أرغون من باب السرّ بما فعله فطلباه إليهما فصعد بما ظفر به من أسلحة القوم، فاتّفقوا على طلب إخوة السلطان إلى عنده والاحتفاظ بهم، فلمّا طلع الفجر خرج أرغون العلائى من بين يدى السلطان وطلب إخوة السلطان ووكّل بهم ووكّل ببيت رمضان جماعة حتى طلعت الشمس، وصعد الأمراء الأكابر إلى القلعة فاستدعى السلطان لهم وأعلموه بما وقع، فطلبوا سيدى رمضان إليهم فآمتنع من الحضور وهم يلحّون فى طلبه إلى أن خرجت أمّه وصاحت عليهم، فعادوا عنه إلى أرغون العلائى، فبعث أرغون بعدة من المماليك والخدّام لإحضاره فخرج فى عشرين مملوكا إلى باب «2» القلّة وسأل عن النائب، فقيل له عند السلطان مع الأمراء فمضى إلى باب القلعة وسيوف أصحابه مصلتة، وركب على خيول الأمراء، ومرّ بمن معه إلى سوق «3» الخيل تحت القلعة فلم يجد أحدا من الأمراء، فتوجّه إلى جهة قبّة النصر خارج القاهرة ووقف هناك ومعه الأمير تكا الخضرى وقد اجتمع الناس عليهم، وبلغ السلطان والأمراء خبره فأخرج السلطان محمولا بين أربعة لما به من الاسترخاء، وركب النائب وآق سنقر أمير آخور وقمارى أخو بكتمر الساقى وجماعة أخر، وأقام أكابر الأمراء عند السلطان وصفّت أطلابهم تحت القلعة، وضربت الكوسات حربيا، ونزلت النقباء(10/83)
فى طلب الأجناد، وتوجّه النائب إلى قبة النصر، ووقف بمن معه تجاه رمضان، وقد كثر جمع رمضان من أجناد الحسينيّة ومن مماليك تكا والعامّة، وبعث النائب يخبر السلطان بذلك، فمن شدّة ما انزعج نهضت قوّته، وقام قائما على قدميه بعد ما كان يئس من نفسه من عظم استرخاء أعضائه، وأراد الركوب فقام الأمراء وهنّوه بالعافية وقبّلوا له الأرض وهوّنوا عليه أمر أخيه رمضان، ولا زالوا به حتّى جلس مكانه، فأقام إلى بعد الظهر والنائب يراسل رمضان ويعده بالجميل ويخوّفه العاقبة، وهو لا يلتفت إلى قوله، فعزم النائب على الحملة عليه هو ومن معه ودقّ طبله فلم يثبت العامّة المجتمعة على رمضان وانفلّوا عنه وانهزم هو وتكا الخضرى فى عدّة من المماليك إلى البريّة، والأمراء فى طلبه فعاد النائب إلى السلطان، فلمّا كان بعد العشاء الآخرة من ليلة الخميس أحضر رمضان وتكا الخضرى وقد أدركوهما بعد المغرب، ورموا تكا بالنّشاب، حتى ألقوه عن فرسه وقد وقف فرس رمضان من شدّة السّوق فوكّل برمضان من يحفظه، وأذن للأمراء بنزولهم إلى بيوتهم، وطلعوا من بكرة يوم الخميس إلى الخدمة على العادة، وجلس السلطان وطلب مماليك رمضان، فأحضروا فأمر بحبسهم فحبسوا أياما، ثم فرّقهم السلطان على الأمراء، ثم خلع السلطان على الأمراء وفرّق عليهم الأموال.
وفى يوم الاثنين سادس عشره وصل قاصد الأمير بيغرا المتوجّه إلى الكرك بمن معه من العساكر بعد ما حاربوا الملك الناصر أحمد بالكرك وقاتلوه قتالا شديدا، وجرح منهم جماعة وقلّت أزوادهم، فكتب السلطان بإحضارهم إلى الديار المصريّة. وفيه خلع السلطان على طرنطاى البشمقدار بنيابة غزّة عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الجاولى، وكتب بقدوم الجاولى إلى مصر. وفى يوم الثلاثاء(10/84)
رابع عشرينه «1» وسّط السلطان تكا الخضرى بسوق الخيل تحت القلعة ووسّط معه مملوكين من المماليك السلطانية. وفى هذا الشهر وقف السلطان الملك الصالح صاحب الترجمة ثلثى ناحية سندبيس «2» من القليوبيّة على ستة عشر خادما لخدمة الضريح الشريف النبوىّ عليه الصلاة والسلام، فتمّت عدّة خدّام الضريح الشريف النبوى بذلك أربعين خادما.
قلت لله دره فيما فعل! وعلى هذا تحسد الملوك لا على غيره.
ثم اتّفق الأمراء مع السلطان على إخراج تجريدة ثانية لقتال الملك الناصر بالكرك، فلمّا كان عاشر شعبان خرج الأمير بيبرس الأحمدى والأمير كوكاى فى ألفى فارس تجريدة للكرك، وكتب السلطان أيضا بخروج تجريدة من الشام مضافا إلى من خرج من الأمراء والعساكر من الديار المصريّة، وتوجّه الجميع ونصبت المناجيق على الكرك وجدّوا فى حصارها.
وأما الملك الصالح فإنّه بعد خروج التجريدة خلع على جمال الكفاة بعد ما عزل وصودر باستقراره مشير الدولة بسؤال وزير بغداد فى ذلك بعد أن أعيد إلى الوزارة ونزلا معا [بتشاريفهما «3» ] .(10/85)
وفى ذى القعدة رتّب السلطان دروسا للمذاهب «1» الأربعة بالقبة «2» المنصوريّة ووقف عليهم وعلى قرّاء وخدّام وغير ذلك ناحية دهمشا «3» بالشرقيّة فاستمرّ ذلك وعرف بوقف الصالح.
ثم فى يوم الأربعاء عاشر المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة قبض السلطان على أربعة أمراء، وهم الأمير آق سنقر السّلّارى نائب السلطنة والأمير بيغرا أمير جاندار صهر آق سنقر المذكور والأمير قراجا الحاجب وأخيه أولاجا، وقيّدوا ورسم بحبسهم فى الإسكندرية، وخرج الأمير بلك على البريد إلى المجرّدين إلى الكرك فأدركهم على السّعيدية «4» ، وطيّب خواطرهم وأعلمهم بالقبض على الأمراء وعاد سريعا، فقدّم قلعة الجبل طلوع الشمس من يوم الخميس حادى عشره، وبعد وصوله قبض السلطان على طيبغا الدّوادار الصغير، وكان سبب قبض السلطان على هؤلاء الأمراء أن الأمير آق سنقر كان فى نيابته لا يردّ قاصدا ولا قصّة ترفع إليه، فقصده الناس من الأقطار وسألوه الرّزق والأراضى التى أنهوا أنّها لم تكن بيد أحد، وكذلك نيابة القلاع والأعمال والرواتب وإقطاعات الحلقة، فلم يردّ أحدا سأله شيئا من ذلك سواء أكان ما أنهاه صحيحا أم باطلا، فإذا قيل له: هذا الذي سأله يحتاج أن يكشف عنه تغيّر وجهه وقال: ليش تقطع رزق الناس؛ وكان إذا كتب الإقطاع لأحد فيحضر صاحبه من سفره أو تعافى من مرضه وسأله فى إعادة إقطاعه(10/86)
قال له: هذا أخذ إقطاعك ونحن نعوّضك، ففسدت الأحوال لا سيمّا البلاد الشاميّة، فكتب النوّاب بذلك للسلطان، فكلّمه السلطان فلم يرجع وقال: كلّ من طلب منى شيئا أعطيته، وما أردّ قلمى عن أحد، بحيث إنه كان تقدّم إليه القصّة وهو يأكل فيترك أكله، ويكتب عليها من غير أن يعلم ما فيها، فأغلظ له بسبب ذلك الأمير شمس الدين آق سنقر الناصرىّ أمير آخور؛ واتّفق مع ذلك أنّه وشى به أنّه مباطن مع الملك الناصر أحمد، وأنّ كتبه تصل إليه فقرّر أرغون العلائىّ مسكه مع السلطان، فأمسك هو وحاشيته، هذا ما كان من أمره.
وفى يوم الجمعة ثانى عشر المحرم من سنة أربع وأربعين المذكورة خلع السلطان على الأمير الحاجّ آل ملك، واستقر فى نيابة السلطنة عوضا عن آق سنقر السّلّارى المذكور. ثم فى ثانى عشر صفر قدم الخبر بوفاة الأمير ألطنبغا الماردانىّ الناصرىّ نائب حلب، فرسم السلطان للأمير يلبغا اليحياوىّ نائب حماة باستقراره فى نيابة حلب عوضه، واستقر فى نيابة حماة الأمير طقتمر الأحمدى نائب صفد واستقر بلك الجمدار فى نيابة صفد. وتوجه الأمير أرغون شاه بتقليد يلبغا اليحياوى وتوجه الأمير ألطنبغا البرناق بتقليد نائب حماة.
وفى يوم السبت خامس عشرين صفر قدم الأمير بيبرس الأحمدى والأمير كوكاى بمن معهما من المجرّدين إلى الكرك، فركب الأمراء إلى لقائهم، واستمرّ الأمير أصلم على حصار الكرك وهى التجريدة الثانية للكرك، وعرّفوا الأمراء السلطان أنّه لا بدّ من خروج تجريدة ثالثة سريعا تقوية لأصلم لئلّا يتنفس الناصر ويدوم الحصار عليه، فعيّن السلطان جماعة من أعيان الأمراء وتجهّزوا وخرجوا فى يوم الاثنين رابع شهر ربيع الآخر «1» ، وهم الأمير چنكلى بن البابا والأمير آق سنقر الناصرى(10/87)
الأمير آخور والأمير ملكتمر السّرجوانىّ والأمير عمر بن أرغون النائب فى أربعة آلاف فارس تقوية لأصلم، وهذه التجريدة الثالثة «1» إلى الكرك، وتوجّه صحبتهم عدّة حجّارين ونجّارين ونقّابين ونفطيّة، وخرج السلطان أيضا فى يوم سفرهم إلى سرياقوس على العادة كالمودّع لهم.
وفى هذه الأيام اشتدّ نائب السلطنة الحاجّ آل ملك على والى القاهرة ومصر فى بيع الخمور وغيره من المحرّمات، وعاقب جماعة كثيرة على ذلك وكان هذا دأب النائب من يوم أخرب خزانة «2» البنود فى العام الماضى وأراق خمورها وبناها مسجدا، وحكّرها للناس فعمروها دورا. وكان الذي يفعل فى خزانة البنود من المعاصى والفسق يستحى من ذكره فعفّ الناس فى أيام نيابة آل ملك المذكور عن كثير من المعاصى خوفا منه، واستمرّ على ما هو عليه من تتبّع الفواحش والخواطئ وغير ذلك حتّى إنه نادى: من أحضر سكرانا واحدا معه جرّة خمر خلع عليه فقعد العامّة لشربة الخمر بكلّ طريق، وأتوه مرّة بجندىّ قد سكر فضربه وقطع خبزه وخلع على من قبض عليه، ووقع له أمور مع بيعة الخمر يطول الشرح فى ذكرها.
وكان يجلس فى شبّاك النيابة طول النهار لا يملّ من الحكم ولا يسأم، وتروح أصحاب الوظائف ولا يبقى عنده إلّا النقباء البطالة حتى لا يفوته أحد، وصار له مهابة(10/88)
عظيمة وحرمة كفّت الناس عن أشياء كثيرة حتى أعيان الأمراء، حتى قال فيه بعض شعراء عصره:
ال ملك الحجّ غدا سعده ... يملأ ظهر الأرض مهما سلك
فالأمرا من دونه سوقة ... والملك الظاهر هوّ الملك
وفى يوم الثلاثاء «1» سابع عشر جمادى الأولى قدم الأمير أصلم و [أبو بكر «2» ] بن أرغون النائب وأرنبغا من تجريدة الكرك بغير إذن واعتذروا بضعف أبدانهم وكثرة الجراحات فى أصحابهم وقلّة الزاد عندهم، فقبل السلطان عذرهم، ورسم بسفر طقتمر الصلاحىّ وتمر الموساوىّ فى عشرين مقدّما من الحلقة وألفى فارس نجدة لمن بقى من الأمراء على حصار الكرك فساروا فى سلخه، وهذه التجريدة الرابعة بل الخامسة؛ فإنّه تكرر رواح الأمراء فى تلك التجريدة مرّتين.
ثم بعد مدّة رسم السلطان بتجهيز الأمير علم الدين سنجر الحاولىّ والأمير أرقطاى والأمير قمارى الأستادار وعشرين أمير طبلخاناه وثلاثين مقدّم حلقة فساروا يوم الثلاثاء خامس عشر شوال فى ألفى فارس إلى الكرك وهى التجريدة السادسة وتوجّه معهم أيضا عدّة حجّارين ونقّابين ونفطبة وغير ذلك.
وفى مستهلّ شهر رمضان «3» فرغت عمارة السلطان الملك الصالح إسماعيل صاحب الترجمة من القاعة التى أنشأها المعروفة الآن بالدهيشة «4» الملاصقة للدور السلطانية المطلّة على الحوش وفرشت بأنواع البسط والمقاعد الزّركش.(10/89)
قلت: هى الآن مجاز لأوباش الرعيّة لمن له حاجة عند السلطان من التّركمان والأعراب والأوغاد والأتباع. ولله درّ القائل:
وإذا تأمّلت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وجلس السلطان الملك الصالح فيها، وبين يديه جواريه وخدمه وحرمه، وأكثر السلطان فى ذلك اليوم من الخلع والعطاء، وكان السلطان قد اختصّ ببيبغا الصالحىّ وأمّره وخوّله فى النّعم وزوّجه بابنة الأمير أرغون العلائىّ مدبّر مملكة السلطان وزوج أمّه، والبنت المذكورة أخت السلطان لأمّه. وكثر فى هذه الأيام استيلاء الجوارى والخدّام على الدولة وعارضوا النائب فى أمور كثيرة حتّى صار النائب يقول لمن يسأله شيئا: روح إلى الطواشى فلان فينقضى شغلك. واستمرّ السلطان يكثر من الجلوس فى الدهيشة بأبّهة عظيمة إلى الغاية.
ثم رسم السلطان بإحضار المجرّدين إلى الكرك وعيّن عوصهم تجريدة أخرى إلى الكرك وهى التجريدة السابعة، فيها الأمير بيبرس الأحمدىّ والأمير كوكاى وعشرون أمير طبلخاناه وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكر أيضا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحّافات، وحمل إلى الأحمدى مبلغ ألفى دينار، وكذلك «1»(10/90)
لكوكاى، ولكلّ أمير طبلخاناه خمسمائه «1» دينار، ولكل أمير عشرة مائتى دينار، وأرسل أيضا مع الأحمدى أربعة آلاف دينار لمن عساه ينزل إليه من قلعة الكرك طائعا، وجهّز معه تشاريف كثيرة، وعيّنت لهم الإقامات، وكان الوقت شتاء فقاسوا من الأمطار مشقّات كثيرة، وأقاموا نحو شهرين وخرّج معهم ستة آلاف رأس من البقر ومائتى رأس جاموس ونحو ألفى راجل فاستعدّ لهم الملك الناصر، وجمع الرجال وأنفق فيهم مالا كثيرا، وفرّق فيهم الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك.
وركّب المنجنيق الذي بها، ووقع بينهم القتال والحصار إلى ما سيأتى ذكره.
ثم رسم السلطان بالقبض على الأمير آقبغا عبد الواحد فقبض عليه بدمشق فى عدّة من أمرائها وسجنوا بها لميلهم للملك الناصر أحمد، واشتدّ الحصار على الملك الناصر بالكرك وضاقت عليه هو ومن معه لقلّة القوت، وتخلّى عنه أهل الكرك، وضجروا من طول الحصار، ووعدوا الأمراء بالمساعدة عليه، فحملت إليهم الخلع ومبلغ ثمانين ألف درهم. هذا وقد استهمّ السلطان فى أوّل سنة خمس وأربعين وسبعمائة بتجريدة ثامنة إلى الكرك، وعيّن فيها الأمير منكلى بغا الفخرىّ والأمير قمارى والأمير طشتمر طلليه، ولم يجد السلطان فى بيت المال ما ينفقه عليهم فأخذ مالا من تجّار العجم ومن بنت الأمير بكتمر الساقى على سبيل القرض وأنفق فيهم، وخرج المجرّدون فى يوم الثلاثاء حادى عشر المحرم سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وهؤلاء نجدة لمن توجّه قبلهم خوفا أن يملّ من كان توجّه من القتال، فيجد الناصر فرجا بعودهم عنه، وقطعت الميرة عن الملك الناصر، ونفدت أمواله من كثرة نفقاته فوقع الطمع فيه وأخذ بالغ، وكان أجلّ ثقاته فى العمل عليه وكاتب الأمراء ووعدهم بأنّه يسلّم إليهم الكرك وسأل الأمان فكتب اليه من السلطان أمان وقدم إلى القاهرة(10/91)
ومعه مسعود «1» وابن أبى الليث وهما أعيان مشايخ الكرك فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشير بجميع ما طلبوه من الإقطاعات والأراضى، وكان من جملة ما طلبه بالغ وحده [نحو «2» ] أربعمائة وخمسين ألف درهم فى السنة، وكذلك أصحابه.
ثم ركب العسكر للحرب وخرج الكركيّون فلم يكن غير ساعة حتّى انهزموا منهم إلى داخل المدينة، فدخل العسكر أفواجا واستوطنوها، وجدّوا فى قتال أهل القلعة عدّة أيام، والناس تنزل اليهم منها شيئا بعد شىء حتّى لم يبق عند الملك الناصر أحمد بقلعة الكرك سوى عشرة أنفس فأقام يرمى بهم على العسكر وهو يجدّ فى القتال ويرمى بنفسه وكان قوىّ الرّمى شجاعا إلى أن جرح فى ثلاثة مواضع وتمكّنت النقابة من البرج وعلقوه وأضرموا النار تحته، حتّى وقع. وكان الأمير سنجر الجاولى قد بالغ أشدّ مبالغة فى الحصار وبذل فيه مالا كثيرا.
ثم هجم العسكر على القلعة فى يوم الاثنين ثانى عشرين صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة فوجدوا الناصر قد خرج من موضع وعليه زردية وقد تنكّب قوسه وشهر سيفه فوقفوا، وسلّموا عليه فردّ عليهم وهو متجهّم «3» وفى وجهه جرح، وكتفه أيضا يسيل دما، فتقدّم إليه الأمير أرقطاى والأمير قمارى فى آخرين، وأخذوه ومضوا به إلى دهليز الموضع الذي كان به وأجلسوه، وطيّبوا قلبه وهو ساكت لا يحييهم، فقيّدوه ووكّلوا به جماعة، ورتّبوا له طعاما، فأقام يومه وليلته، ومن باكر الغد يقدّم إليه الطعام فلا يتناول منه شيئا إلى أن سألوه أن يأكل فأبى أن يأكل، حتّى يأتوه بشابّ يقال له: عثمان، كان يهواه فأتوه به فأكل(10/92)
عند ذلك، وخرج الأمير ابن بيبغا حارس طير بالبشارة إلى السلطان الملك الصالح وعلى يده كتب الأمراء فقدم قلعة الجبل فى يوم السبت سابع «1» من عشرين صفر، فدقّت البشائر سبعة أيام. وأخرج السلطان منجك اليوسفىّ الناصرىّ السلاح دار ليلا من القاهرة على البخت لقتل الملك الناصر أحمد من غير مشاورة الأمراء فى ذلك، فوصل إلى الكرك وأدخل عليه من أخرج الشاب من عنده، ثم خنفه فى ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقطع رأسه وسار من ليلته ولم يعلم الأمراء ولا العسكر بشىء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدة، وقدم بعد ثلاثة أيام قلعة الجبل ليلا، وقدّم الرأس بين يدى السلطان، وكان ضخما مهولا، له شعر طويل، فاقشعر السلطان عند رؤيته وبات مرجوفا، وطلب الأمير قبلاى الحاجب، ورسم له أن يتوجّه لحفظ الكرك إلى أن يأتيه نائب لها، وكتب السلطان بعود الأمراء والعساكر المجرّدين إلى الكرك، فكانت مدّة حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشهرا وثلاثة «2» أيام. ثم قدم الأمراء المجردون إلى الكرك فخلع السلطان على الجميع وشكرهم وأكثر من الثناء عليهم. ثم خلع على الأمير ملكتمر السّرجوانىّ باستقراره فى نيابة الكرك على ما كان عليه قديما، وجهّز معه عدّة صناع لعمارة ما تهدّم من قلعة الكرك وإعادة البرج على ما كان عليه، ورسم بأن يخرج مائة مملوك معه من مماليك قوصون وبشتك الذين كان الملك الناصر قد أسكنهم بالقلعة، ورتّب لهم الرواتب ويخرج منهم مائتان إلى دمشق وحماة وحمص وطرابلس وصفد وحلب فأخرجوا جميعا فى يوم واحد، ونساؤهم وأولادهم فى بكاء وعويل، وسخّروا لهم خيول الطواحين ليركبوا عليها.(10/93)
ثم وقعت الوحشة بين الأمير أرغون العلائى والأمير ملكتمر الحجازىّ وبين الحاج آل ملك نائب السلطنة وصار الحجازى والعلائى معا على آل ملك النائب، ووقع بين آل ملك والحجازى أمور يطول شرحها، وكان الحجازى مولعا بالخمر وآل الملك ينهى عن شربها، فكان كلّما ظفر بأحد من حواشى الحجازى مثّل به فتقوم قيامة الحجازىّ لذلك، وتفاوضا غير مرّة بسبب هذا فى مجلس السلطان، وأرغون العلائى يميل مع الحجازى لما فى نفسه من آل ملك وداما على ذلك مدّة.
وأما السلطان فإنه بعد مدّة نزل إلى سرياقوس بتجمّل زائد على العادة فى كل سنة. ثم عاد إلى القلعة بعد أيام، فورد عليه قصّاد صاحب الروم وقصّاد صاحب الغرب. ثم بدا للسلطان الحجّ فتهيّأ لذلك وأرسل يطلب العربان وأعطاهم الأموال بسبب كراء الجمال، فتغيّر مزاجه فى مستهلّ شهر ربيع الأول ولزم الفراش ولم يخرج إلى الخدمة أياما، وكثرت القالة بسبب ضعفه، وتحسّنت الأسعار. ثم أرجف بموت السلطان فى بعض الأيام، فأغلقت الأسواق حتّى ركب الوالى والمحتسب وضربوا جماعة وشهّروهم، ثم اجتمعوا الأمراء ودخلوا على السلطان وتلطّفوا به حتّى أبطل حركة الحجّ، وكتب بعود طقتمر من الشام، واستعادة الأموال من العربان، وما زال السلطان يتعلّل إلى أن تحرك أخوه شعبان واتفق مع عدّة مماليك وقد انقطع خبر السلطان عن الأمراء، وكتب السلطان بالإفراج عن المسجونين من الأمراء وغيرهم بالأعمال، وفرّقت صدقات كثيرة، ورتّبت جماعة لقراءة «صحيح البخارى» فقوى أمر شعبان، وعزم أن يقبض على النائب فاحترز النائب منه، وأخذ أكابر الأمراء فى توزيع أموالهم وحرمهم فى الأماكن، ودخلوا على السلطان وسألوه أن يعهد لأحد من إخوته، فطلب النائب وبقيّة الأمراء فلم يحضر إليه أحد منهم، وقد اتّفق الأمير أرغون العلائى مع جماعة على إقامة شعبان فى الملك، وفرّق فيهم(10/94)
مالا كبيرا، فإنه كان أيضا ابن زوجته شقيق الملك الصالح إسماعيل لأبيه وأمه، وأقام مع أرغون غرلو وتمر الموساوى وامتنع النائب من إقامته وصاروا حزبين، فقام النائب آل ملك فى الإنكار على سلطنة شعبان، وقد اجتمع مع الأمراء بباب القلّة وقبض على غرلو وسجنه وتحالف هو وأرغون العلائى وبقيّة الأمراء على عمل مصالح المسلمين.
ومات السلطان الملك الصالح إسماعيل فى ليلة الخميس «1» رابع شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، وقد بلغ من العمر نحو عشرين سنة، فكتم موته، وقام شعبان إلى أمّه ومنع من إشاعة موت أخيه، وخرج إلى أصحابه وقرّر معهم أمره، فخرج طشتمر ورسلان بصل إلى منكلى بغا ليستعطفوا الأمير أرقطاى والأمير أصلم، وكان النائب والأمراء علموا من العصر أن السلطان فى النزع واتّفقوا على النزول من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فدخل الجماعة على أرقطاى ليستميلوه لشعبان فوعدهم بذلك، ثم دخلوا على أصلم فأجابهم وعادوا إلى شعبان، وقد ظنوا أنّ أمرهم تمّ، فلمّا أصبحوا نهار الخميس خرج الأمير أرغون العلائى والأمير ملكتمر الحجازى وتمر الموساوى وطشتمر طلليه ومنكلى بغا الفخرى وأسندمر وجلسوا بباب القلّة فأتاهم الأمير أرقطاى والأمير أصلم والوزير نجم الدين محمود والأمير قمارى الأستادار وطلبوا النائب فلم يحضر إليهم، فمضوا كلّهم إلى عنده واستدعوا الأمير چنكلى بن البابا واشتوروا فيمن يولوه السلطنة فأشار چنكلى أن يرسل إلى المماليك السلطانية ويسألهم من يحتاروه فإنّ من اختاروه رضيناه سلطانا، فعاد جوابهم مع الحاجب أنهم رضوا بشعبان سلطانا، فقاموا جميعا ومعهم النائب إلى داخل باب القلّة. وكان(10/95)
شعبان تخيّل من دخولهم عليه وجمع المماليك وقال. من دخل علىّ وجلس على الكرسىّ قتلته بسيفى هذا! وأنا أجلس على الكرسى حتى أبصر من يقيمنى عنه.
فسيّر أرغون العلائى [إليه «1» ] وبشّره وطيّب خاطره، ودخل الأمراء إليه وسلطنوه ولقّب بالملك الكامل سيف الدين شعبان حسب ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمته.
ولنرجع إلى بقية ترجمة الملك الصالح إسماعيل.
وكان الملك الصالح سلطانا ساكنا عاقلا قليل الشّرّ كثير الخير، هيّنا ليّنا بشوشا، وكان شكلا حسنا حلو الوجه أبيض بصفرة وعلى خدّه شامة. ولم يكن فى أولاد الملك الناصر خيرا منه. رتّب دروسا بمدرسة جدّه المنصور قلاوون. وجدّد جماعة من الخدّام بالحرم النّبوىّ، حسب ما ذكرناه فى وقته. وله مآثر كثيرة بمكّة واسمه مكتوب على رباط «2» السّدرة بحرم مكّة، ولم يزل مثابرا على فعل الخير حتّى توفّى.
ولما مات رثاه الشيخ صلاح الدين الصفدىّ بقوله
مضى الصالح المرجوّ للبأس والنّدى ... ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح»
فيا ملك مصر كيف حالك بعده ... إذا نحن أثينا عليك بصالح
وكان الملك الصالح محبّبا للرعية على مشقّة كانت فى أيامه من كثرة التجاريد إلى قتال أخيه الملك الناصر أحمد بالكرك وكانت السّبل مخيفة. وشغف مع ذلك بالجوارى السّود، وأفرط فى محبة اتّفاق «4» العوّادة وفى العطاء لها، وقرّب أرباب الملاهى، وأعرض(10/96)
عن تدبير الملك بإقباله على النساء والمطربين، حتّى كان إذا ركب إلى سرحة سرياقوس أو سرحة الأهرام «1» ركبت أمّه فى مائتى امرأة الأكاديش بثياب الأطلس الملوّن وعلى رءوسهن الطراطير الجلد البرغالى «2» المرصّعة بالجوهر واللآلئ وبين أيديهنّ الخدّام الطواشية من القلعة إلى السّرحة. ثم تركب حظاياه الخيول العربية ويتسابقن ويركبن تارة بالكامليّات الحرير ويلعبن بالكرة، وكانت لهنّ فى المواسم والأعياد وأوقات النّزهة أمور من هذا النّموذج. واستولى الخدّام والطواشيّة فى أيامه على أحوال الدولة، وعظم أمرهم بتحكّم كبيرهم عنبر السّحرتى لالاة «3» السلطان، واقتنى عنبر السحرتى البزاة والسناقر، وصار يركب إلى المطعم «4» ويتصيّد بثياب الحرير المزركشة، واتّخذ له كفّا للصيد مرصّعا بالجوهر. وعمل له خاصكيّة وخدّاما ومماليك تركب فى خدمته، حتى ثقل أمره على أكابر أمراء الدولة، فإنه أكثر من شراء الأملاك والتجارة فى البضائع، كلّ ذلك لكونه لالا السلطان. وأفرد له ميدانا «5» يلعب فيه بالكرة، وتصدّى لقضاء الأشغال وقصده الناس فصارت الإقطاعات والرّزق والوظائف لا تقضى إلا بالخدّام والنساء.
وكان متحصّل الدولة فى أيام الملك الصالح قليلا ومصروف العمارة كثيرا.
وكان مغرما بالجلوس بقاعة الدهيشة، لا سيما لمّا ولدت منه اتّفاق العوّادة ولدا ذكرا، عمل لها فيه مهمّا بلغ الغاية التى لا توصف، ومع هذا كانت حياته منغّصة وعيشته منكّدة لم يتمّ سروره بالدهيشة سوى ساعة واحدة.(10/97)
ثم قدم عليه منجك السلاح دار برأس أخيه الملك الناصر أحمد من الكرك، فلمّا قدم بين يديه ورآه بعد غسله اهتزّ وتغيّر لونه وذعر، حتّى إنه بات تلك الليلة يراه فى نومه ويفزع فزعا شديدا، وتعلّل من رؤيته، وما برح يعتريه الأرق ورؤية الأحلام المزعجة، وتمادى مرضه وكثر إرجافه، حتى اعتراه القولنج، وقوى عليه حتّى مات منه فى يوم الخميس «1» المذكور، ودفن عند أبيه وجدّه الملك المنصور قلاوون بالقبّة المنصورية «2» فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر، فكانت مدّة ملكه بالديار المصرية ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يوما. وقال الصفدى:
ثلاث سنين وشهرا وثمانية عشر يوما. وتسلطن من بعده أخوه شقيقه شعبان ولقّب بالكامل. وعمل للملك الصالح العزاء بالديار المصرية أياما كثيرة، ودارت الجوارى بالملاهى يضربن بالدفوف، والمخدّرات حواسر يبكين ويلطمن، وكثر حزن الناس عليه ووجدوا عليه وجدا عظيما.
*** السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ «3» الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السّفاقسىّ المالكىّ فى ذى الحجّة. وكان إماما فقيها بارعا أفتى ودرّس سنين، وله مصنّفات مفيدة، منها: «إعراب «4» القرآن» «وشرح ابن الحاجب فى الفقه» وغير ذلك.
وكان معدودا من علماء المالكية.(10/98)
وتوفّى الأمير سيف الدين أرنبغا «1» بن عبد الله الناصرى ناظر طرابلس بها.
وكان من أجلّ أمراء الدولة ومن أعيان مماليك الناصر محمد وخاصكيّته وتنقّل فى عدّة ولايات. وكان معدودا من الشّجعان.
وتوفّى الأمير الكبير علاء الدين أيدغمش بن عبد الله الناصرىّ الأمير آخور، ثم نائب حلب ثم نائب الشام فجأة فى بكرة يوم الأربعاء «2» رابع جمادى الآخرة، ودفن فى آخر ميدان الحصى فى تربة عمّرت له هناك. وكانت مدّة نيابته بحلب والشام نصف سنة، وكانت موتته غريبة وهو أنه ركب فى بكرة ثالث جمادى الآخرة وخرج ظاهر دمشق وأطعم طيور الصيد وعاد إلى دار «3» السعادة وقرئت عليه قصص يسيرة، ثم أكل السّماط. ثم عرض طلبه والمضافين إليه، وقدّم جماعة وأخّر جماعة ثم دخل إليه ديوانه وقرأ عليه مخازيم «4» وحساب ومصروف ديوانه. ثم قال أيدغمش: هؤلاء الذين تزوّجوا من مماليكى اقطعوا مرتّبهم. ثم أكل الطّارى «5» ، وقعد هو وابن جمّاز يتحدّثان فسمع حسّ جماعة من جواريه يتخاصمن، فقام وأخذ عصاه ودخل إليهن وضرب واحدة منهن ضربتين وسقط ميتا لم يتنفّس، فتحيّر الناس فى أمره فأمهلوه إلى بكرة يوم الأربعاء فلم يتحرك، فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه.(10/99)
وكان أصل أيدغمش هذا من مماليك الأمير بلبان الطّباخى، ثم اتّصل إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون فجعله من جملة خاصكيّته. ثم رقّاه حتى جعله أمير آخور كبير بعد بيبرس الحاجب فدام فى وظيفة الأمير آخورية نحو عشرين سنة. وقد استوعبنا من حاله مع قوصون وغيره قطعة جيدة فى ترجمة الملك الناصر أحمد وغيره.
وكان أميرا جليلا عاقلا مهابا شجاعا مدبّرا مقداما كريما «1» ، قلّ من دخل إليه للسلام إلا وأعطاه شيئا. وكان مكينا عند أستاذه الملك الناصر، على أنه أنعم على أولاده الثلاثة بإمرة، وهم أمير حاج ملك وأمير أحمد وأمير على. وكان أيدغمش يميل إلى فعل الخير، وله مآثر حميدة. وهو صاحب الحمّام «2» والخوخة خارج بابى زويلة. رحمه الله.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الناصرىّ الحاجب بدمشق فى شهر رجب وهو أيضا من المماليك الناصرية، رقّاه أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف. ثم ولّاه أمير آخور مدّة سنين. ثم عزله بالأمير أيدغمش المقدّم ذكره، وولّاه الحجوبيّة ثم جرّده إلى اليمن فبلغه عنه أنه أخذ برطيل «3»(10/100)
صاحب اليمن وتراخى فى أمر السلطان، فلمّا عاد قبض عليه وحبسه تسع سنين وثمانية أشهر إلى أن أفرج عنه فى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وأخرجه إلى حلب أميرا بها. ثم نقل إلى إمرة بدمشق، فما زال بها حتّى مات فى التاريخ المذكور.
وكان له ثروة كبيرة وأملاك كثيرة وله دار «1» عند باب الزّهومة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى بن عبد الله الناصرىّ أمير شكار فى يوم الأحد خامس جمادى الأولى «2» . وكان خصيصا عند أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهو أحد من زوّجه الملك الناصر بإحدى بناته، بعد ما أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وجعله أمير شكار.
وتوفّى سيف الدين طشتمر بن عبد الله الساقىّ الناصرىّ المعروف بحمص أخضر مقتولا بسيف الملك الناصر أحمد بالكرك، وكان أيضا أحد مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخواصّه، رقّاه وأمّره وولّاه نيابة صفد وهو الذي توجّه من(10/101)
صفد وقبض على تنكز نائب الشام حسب ما تقدّم ذكره. ثم نقله إلى نيابة حلب عوضا عن طوغان الناصرى فى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فدام بحلب حتى خرج منها إلى الروم، وقد مرّ ذكر ذلك كلّه إلى أن قدم الديار المصرية صحبة الأمراء الشاميّين، وولّاه الملك الناصر أحمد نيابة السلطنة. ثم قبض عليه بعد أن باشر النيابة خمسة وثلاثين يوما وأخرجه معه إلى الكرك، فقتله هناك وقتل الأمير قطلوبغا الفخرى الآتى ذكره. ولمّا قتل طشتمر قال فيه الصلاح الصفدى:
طوى الرّدى طشتمرا بعد ما ... بالغ فى دفع الأذى واحترس
عهدى به كان شديد القوى ... أشجع من يركب ظهر الفرس
ألم يقولوا حمّصا أخضرا ... فاعجب له يا صاح كيف اندرس
قلت: وهو صاحب الدار «1» العظيمة والربع الذي بجانبها بحدرة البقر خارج القاهرة «2» والجامع بالصحراء والمئذنة الحلزون والجامعين بالزريبه «3» والربع الذي بالحريريّين «4» داخل القاهرة. وكان شجاعا كريما كثير الإنعام والصدقات(10/102)
وتوفّى الأمير «1» سليمان بن مهنّا بن عيسى بن مهنا ملك العرب وأمير آل فضل بظاهر سلمية «2» ، وكان من أجلّ ملوك العرب.
وتوفّى الأمير سيف الدين طينال بن عبد الله الناصرىّ نائب غزة ونائب صفد ثم نائب طرابلس، ومات وهو على نيابة صفد فى يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول.
وكان من أعيان الأمراء الناصريّة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الفخرىّ الساقى الناصرىّ نائب الشام، مقتولا بسيف الملك الناصر أحمد بالكرك، وكان من أكابر مماليك الناصر محمد بن قلاوون من طبقة أرغون الدّوادار. قال الصفدى: لم يكن لأحد من الخاصكيّة ولا غيرهم إدلاله على الملك الناصر محمد ولا من يكلّمه بكلامه، وكان يفحش فى كلامه له ويردّ عليه الأجوبة الحادّة المرّة وهو يحتمله، ولم يزل عند السلطان أثيرا إلى أن أمسكه فى نوبة إخراج أرغون إلى حلب نائبا، فلمّا دخل تنكز عقيب ذلك إلى القاهرة أخرجه السلطان معه إلى الشام. انتهى
قلت: وقد سقنا من ذكره فى ترجمة الملك الناصر أحمد وغيره ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.
ولمّا أمسك وقتل قال الأديب البارع خليل بن أيبك الصفدىّ شعرا:
سمت همّة الفخرىّ حتّى ترفّعت ... على هامة الجوزاء والنّسر بالنّصر
وكان به للملك فخر فخانه الزّمان فأضحى ملك مصر بلا فخر(10/103)
وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الجوبانىّ رأس نوبة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بكا الخضرىّ «1» الناصرى موسّطا بسوق الخيل فى رابع «2» شهر رجب، وقد مرّ من ذكره نبذة فى ترجمة الملك الصالح إسماعيل.
وتوفّى الشيخ الإمام تاج الدين أبو المحاسن عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ المخزومىّ الشافعى الأديب الكاتب بالقدس الشريف فى هذه السنة عن ثلاث وستين سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام الخطيب محيى الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهّاب ابن على بن أحمد أبو المعالى السّلمى الشافعى خطيب بعلبك فى ليلة الأربعاء تاسع شهر رمضان. ومولده فى شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة. وكان فاضلا عالما خطيبا فصيحا، وكتب الخطّ المنسوب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 744]
السنة الثانية من ولاية الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علىّ بن أحمد بن علىّ ابن عبد الحقّ قاضى القضاة الحنفيّة بالديار المصريّة وهو مقيم بدمشق. وكان إماما عالما بارعا أفتى ودرّس سنين وناب فى الحكم، ثم استقلّ بقضاء القضاة بالديار المصرية وحسنت سيرته.(10/104)
وتوفّى الأمير سيف الدين وقيل شمس الدين آق سنقر بن عبد الله السّلّارى نائب السلطنة بالديار المصريّة قتيلا بثغر الإسكندرية فى السجن. وكان أصله من مماليك الأمير سلّار واتّصل بعده بخدمة الملك الناصر محمد بن قلاوون فرقّاه إلى أن ولّاه نيابة غزّة ثم صفد. ثم ولى بعد موت الملك الناصر نيابة السلطنة بالديار المصرية. وقد تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الصالح هذا والتعريف بأحواله وكرمه إلى أن قبض عليه وسجن، ثم قتل. وكان من الكرماء الشّجعان.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الماردانى الناصرىّ الساقىّ نائب حلب بها. وكان ألطنبغا أحد مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخاصّكيّته وأحد من شغف بمحبته ورقّاه فى مدّة يسيرة، حتّى جعله أمير مائة ومقدّم ألف، وزوّجه بابنته. ثم وقع له أمور بعد موته ذكرناها فى تراجم: المنصور والأشرف والناصر والصالح أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن ولى نيابة حماة، ثم حلب بعد الأمير طقزدمر فباشر نيابة حلب نصف سنة، وتوفّى ولم يبلغ من العمر خمسا وعشرين سنة. وكان أميرا شابّا لطيف الذات، حسن «1» الشكل، كريم الأخلاق مشهورا بالشجاعة والكرم. وهو صاحب الجامع «2» المعروف به خارج باب زويلة.
وقد تقدّم ذكر بنائه فى ترجمة أستاذه الملك الناصر محمد.
وتوفّى الأمير الأديب الشاعر علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الجاولى. أصله من مماليك بن باخل «3» . ثم صار إلى الأمير علم الدين سنجر الجاولى فجعله دواداره لمّا كان نائب غزّة فعرف به، ثم تنقّلت به الأحوال حتى صار من جملة أمراء دمشق إلى أن مات بها فى شهر ربيع الأول.(10/105)
قلت: وهو أحد فحول الشعراء من الأتراك لا أعلم أحدا من أبناء جنسه فى رتبته فى نظم القريض، اللهم إلا إن كان أيدمر المحيوى فيمكن. ومن شعر ألطنبغا المذكور:
ردفه زاد فى الثّقالة حتّى ... أقعد الخصر والقوام سويّا
نهض الخصر والقوام وقاما ... وضعيفان يغلبان قويّا
وله:
وبارد الثغر حلو ... بمرشف فيه حوّه
وخصره فى انتحال ... يبدى من الضعف قوّه
وله:
وصالك والثريّا فى قران ... وهجرك والجفا فرسا رهان
فديتك ما حفظت لشؤم بختى «1» ... من القرآن إلّا لن ترانى
وله:
يقول لى العاذل فى لومه ... وقوله زور وبهتان
ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن
وقد سقنا من شعره قطعة جيّدة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» .
وتوفّى القاضى شرف الدين أبو بكر بن محمد ابن الشهاب محمود كاتب سرّ مصر ثم دمشق فى شهر ربيع الأوّل. وكان فاضلا بارعا فى صناعته، وهو من بيت علم وفضل ورياسة وإنشاء. وكان فاضلا مترسّلا رئيسا نبيلا، وله نظم رائق ونثر فائق. ومن شعره.(10/106)
بعثت رسولا للحبيب لعلّه ... يبرهن عن وجدى له ويترجم
فلمّا رآه حار من فرط حسنه ... وما عاد إلّا وهو فيه متيّم
وتوفّى الأمير سيف الدين طرغاى «1» الجاشنكير الناصرىّ نائب حلب وطرابلس فى شهر رمضان. وكان من أعيان مماليك الملك الناصر وأمرائه. وكان شجاعا مقداما سيوسا. ولى الولايات والأعمال الجليلة.
وتوفّى الأمير علاء الدين آقبغا عبد الواحد الناصرىّ بحبسه بثغر الإسكندرية، وقد تكرّر ذكره فى ترجمة أستاذه الملك الناصر فى مواطن كثيرة، وفى أوّل ترجمة الملك المنصور أبى بكر أيضا، وكيف كان القبض عليه، وما وقع له من المصادرة وغير ذلك إلى أن ولى نيابة حمص ثم عزل وقبض عليه وحبس إلى أن مات.
وكان أصله من مماليك الناصر محمد وأخا زوجته خوند طغاى، وتولّى فى أيام أستاذه عدّة وظائف وولايات، منها أنه كان من جملة مقدّمى الألوف ثم أستادار.
ثم مقدّم المماليك السلطانية، وشادّ العمائر وكان يندبه لكلّ أمر مهمّ فيه العجلة لمعرفته بشدّة بأسه وقساوة قلبه، وكثرة ظلمه. وكان من أقبح المماليك الناصرية سيرة.
وهو صاحب المدرسة «2» على يسار الداخل إلى الجامع الأزهر والدار بالقرب من الجامع المذكور.
وتوفّى الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان متملّك تبريز والعراق فى شهر رجب.
وكان من أعظم الملوك، وكان داهية صاحب حيل ومكر وخديعة. وكان كثير العساكر من التّرك وغيرها.(10/107)
وتوفّى القاضى زين الدين إبراهيم بن عرفات بن صالح بن أبى المنى القنائىّ الشافعى قاضى قنا. كان فقيها رئيسا كثير الأموال. كان يتصدّق فى كلّ سنة بألف دينار فى يوم واحد مع مكارم وإنعام.
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن على بن أيبك السّروجىّ. مولده بمصر فى ذى الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة، ومات بحلب فى الثامن من شهر ربيع الأوّل.
وتوفّى المحدّث شهاب الدين أحمد بن أبى الفرج الحلبى بمصر بعد أن حدث عن النّجيب «1» والأبرقوهىّ «2» والرّشيد «3» بن علّان وغيرهم «4» . ومولده فى شهر رمضان سنة خمسين وستمائة.
وتوفّى القاضى علم الدين سليمان بن إبراهيم بن سليمان المعروف بابن المستوفى المصرى ناظر الخاصّ بدمشق فى جمادى الآخرة. وله فضيلة وشعر جيّد، وكان يعرف بكاتب قراسنقر، فإنه كان بخدمته. وباشر عدّة وظائف بدمشق: نظر البيوت ثم نظر الخاصّ ثم صحابة الديوان. وكان بارعا فى صناعة الحساب ويكتب الخط المليح. وله يد فى النظم وقدرة على الارتجال، وكان يتكلّم فصيحا باللغة التركية.
ومن شعره:
غرامى فيك قد أضحى غريمى ... وهجرك والتّجنّى مستطاب
وبلواى ملالك لا لذنب ... وقولك ساعة التسليم طابوا(10/108)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. والله تعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 745]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الصالح إسماعيل على مصر، وهى سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة العلّامة جلال الدين [أحمد «1» ] ابن القاضى حسام الدين أبى الفضائل حسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان «2» الأنكورىّ الحنفى قاضى قضاة دمشق وعالمها فى يوم الجمعة تاسع عشر رجب، ومولده بمدينة أنكورية «3» ببلاد الروم فى سنة إحدى وخمسين وستمائة. وكان إماما عالما ديّنا عارفا بالمذهب وأصوله، محقّقا إماما فى العلوم العقليّة، وأفتى ودرّس وتصدّر للإقراء فى حياة والده. وولى قضاء خرتبرت «4» وعمره سبع عشرة سنة، وحمدت سيرته. ثم انتقل إلى البلاد الشامية حتى كان من أمره ما كان.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر الجاولى، أحد أعيان أمراء بالديار المصرية فى يوم الخميس «5» ثامن شهر رمضان، ودفن بمدرسته «6» فوق جبل الكبش. وكان أصله من(10/109)
مماليك جاول أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس. ثم اتّصل بعده إلى بيت السلطان، وأخرج أيام الأشرف خليل بن قلاوون إلى الكرك، واستقرّ فى جملة بحريّتها. ثم قدم فى أيام العادل كتبغا إلى مصر بحال زرىّ، فقدّمه الأمير سلّار ونوّه بذكره إلى أن ولى نيابة غزّة، ثم عدة ولايات بعد ذلك بمصر والبلاد الشامية، وطالت أيامه فى السعادة وعمّر. وقد مرّ من ذكره أشياء فيما تقدّم. وهو صاحب الجامع «1» ، بغزّة والخليل «2» عليه السلام وخان بيسان «3» وخان قاقون «4» . وكان فاضلا فقيها، وله مصنّفات فى الفقه وغيره.(10/110)
وتوفّى الأمير سيف الدين طقصبا بن عبد الله الظاهرىّ، وقد أناف على مائة [وعشرين «1» ] سنة. وكان أصله من مماليك الظاهر بيبرس البندقدارىّ.
وتوفّى [إبراهيم «2» القاضى] جمال الكفاة الرئيس جمال الدين ناظر الخاصّ ثم الجيش ثم المشدّ تحت العقوبة فى ليلة الأحد سادس شهر ربيع «3» الأول. وكان ابن خالة النّشو ناظر الخاصّ، وهو الذي استسلمه واستخدمه مستوفيا فى الدولة، ثم عند بشتك ثم وقع بينهما المعاداة الصعبة على سوء ظنّ من النّشو، ولم يزالا على ذلك حتّى مات النشو تحت العقوبة، وولى جمال الكفاة هذا مكانه، وطالت أيامه ونالته السعادة. قال الصفدى: وكان شكلا حسنا ظريفا مليحا يكتب خطّا قويّا جيدا، ويتحدث بالتّركى، وفيه ذوق للمعانى الأدبية ومحبة للفضلاء ولطف عشرة وكرم أخلاق ومروءة. وكان أوّلا عند الأمير طيبغا القاسمىّ. ومدّة مباشرته الخاصّ ست سنين تقريبا. انتهى كلام الصفدىّ باختصار. وقال غيره: وكان أوّلا يباشر فى بعض البساتين على بيع ثمرته، وتنقّل فى خدمة ابن هلال الدولة، ثم خدم بيدمر البدرىّ وهو خاصّكىّ خبزه بمحلّة «4» منوف، فكتب على بابه إلى أن تأمّر.
ثم انتقل بعد ذلك حتّى كان من أمره ما ذكرناه. ولمّا صودر أخذ منه أموال كثيرة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فريد عصره أثير الدّين أبو حيّان محمد بن يوسف ابن علىّ [بن يوسف «5» ] بن حيّان الغرناطىّ المغربىّ المالكىّ ثم الشافعىّ. مولده(10/111)
بغرناطة «1» فى أخريات شوّال سنة أربع وخمسين وستمائة، وقرأ القرآن بالروايات، واشتغل وسمع الحديث بالأندلس وإفريقية وإسكندرية والقاهرة والحجاز، وحصّل الإجازات من الشام والعراق، واجتهد فى طلب العلم، حتى برع فى النحو والتصريف وصار فيهما إمام عصره، وشارك فى علوم كثيرة. وكان له اليد الطّولى فى التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم خصوصا المغاربة، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك، ورغّبهم فى قراءتها، وشرح لهم غوامضها، وقد سقنا من أخباره وسماعاته ومشايخه ومصنّفاته وشعره فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» ما يطول الشرح فى ذكره هنا؛ ومن أراد ذلك فلينظره هناك. ولنذكر هنا من شعره نبذة يسيرة بسندنا إليه: أنشدنا القاضى عبد الرحيم بن الفرات إجازة، أنشدنا الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدىّ إجازة، قال: أنشدنى العلّامة أثير الدين أبو حيّان من لفظه لنفسه:
سبق الدمع بالمسير المطايا ... إذ نوى من أحبّ عنّى نقله
وأجاد السّطور «2» فى صفحة الخد ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله
وله بالسند:
راض حبيبى عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض
فظنّ قوم أنّ قلبى سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض
وله موشّحة، أوّلها:
إن كان ليل داج، وخاننا الإصباح «3» ، فنورها الوهّاج، يغنى عن المصباح «4»(10/112)
سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهر
مزاجها شهد ... وعرفها عنبر
يا حبّذا الورد ... منها وإن أسكر
قلبى بها قد هاج، فما ترانى صاح، عن ذلك المنهاج، وعن هوى يا صاح
وبى رشا أهيف ... قد لجّ فى بعدى
بدر فلا يخسف ... منه سنا الخدّ
بلحظه المرهف ... يسطو على الأسد
كسطوة الحجّاج، فى الناس والسّفّاح، فما ترى من ناج، من لحظه السّفّاح
علّل بالمسك ... قلبى «1» رشا أحور
منعم المسك ... ذو «2» مبسم أعطر
ريّاه كالمسك ... وريقه كوثر
غصن على رجراج، طاعت له الأرواح، فحبّذا الآراج، إن هبّت الأرواح
مهلا أبا القاسم ... على أبى حيّان
ما إن له عاصم ... من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان
قدمعه أمواج، وسرّه قد باح «3» ، لكنّه ما عاج، ولا أطاع اللّاح(10/113)
يا ربّ ذى بهتان ... يعذلنى» فى الرّاح
وفى هوى الغزلان ... دافعت «2» بالرّاح
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يالاحى
سبع «3» الوجوه والتّاج، هى منية الأرواح «4» ، فآختر لى يا زجّاج، قمصال «5» وزوج أقداح قلت: ومذهبى فى أبى حيّان أنّه عالم لا شاعر.
ولم أذكر هذه الموشّحة هنا لحسنها؛ بل قصدت التعريف بنظمه بذكر هذه الموشّحة، لأنّه أفحل شعراء المغاربة فى هذا الشأن، وأما الشاعر العالم هو الأرّجانىّ «6»(10/114)
وأبو العلاء «1» المعرّى وابن سناء «2» الملك. انتهى. وكانت وفاته بالقاهرة فى ثامن عشرين صفر.
وتوفّى الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد الدّوادار الناصرى بطرابلس وكان من أكابر الأمراء، ولى الدواداريّة الكبرى فى أيام الناصر محمد، ثم ولى نيابة الإسكندريّة، ثم أخرج إلى البلاد الشامية إلى أن مات بطرابلس. وكان كاتبا شاعرا.
وتوفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله البشمقدار «3» المنصورىّ، كان من مماليك المنصور قلاوون.
وتوفى الأمير سيف الدين طرنطاى المنصورىّ المحمّدىّ بدمشق، وكان من جملة من وافق على قتل الأشرف خليل، فسجنه الملك الناصر سبعا وعشرين سنة، ثم أفرج عنه وأخرجه إلى طرابلس أمير عشرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان المنصورىّ الشمسىّ بمدينة حلب. وكان الناصر أيضا حبسه سنين ثم أخرجه إلى حلب.
وتوفّى سيف الدين كندغدى «4» بن عبد الله المنصورى بحلب أيضا وهو رأس الميسرة ومقدّم العساكر المجرّدة إلى سيس «5» . وكان من كبار الأمراء بالديار المصريّة.(10/115)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا «1» .
[ما وقع من الحوادث سنة 746]
ذكر سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر
السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النّجمى.
والكامل هذا هو السابع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والخامس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. جلس على تخت الملك بعد موت أخيه وشقيقه الملك الصالح إسماعيل فى يوم الخميس الرابع «2» من شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، ولقّب بالملك الكامل. وفيه يقول الأديب البارع جمال الدين «3» بن نباتة.
رحمه الله تعالى. [مخلّع البسيط]
جبين «4» سلطاننا المرجّى ... مبارك الطالع البديع(10/116)
يا بهجة الدهر إذ تبدّى ... هلال شعبان فى ربيع
وكان سبب سلطنة الملك الكامل هذا أنه لمّا اشتدّ مرض أخيه الملك الصالح إسماعيل دخل عليه زوج أمّه ومدبّر مملكته الأمير أرغون العلائىّ فى عدّة من الأمراء ليعهد الملك الصالح إسماعيل بالملك لأحد من إخوته. وكان أرغون العلائى المذكور غرضه عند شعبان كونه أيضا ربيبه ابن زوجته، فعارضه فى شعبان الأمير آل ملك نائب السلطنة حسب ما ذكرنا طرفا من ذلك فى مرض الملك الصالح المذكور. ثم وقع ما ذكرناه إلى أن اتّفق المماليك والأمراء على توليته، وحضروا إلى باب القلّة «1» واستدعوا شعبان المذكور، وألبسوه أبّهة السلطنة وأركبوه بشعار الملك ومشت الأمراء بخدمته، والجاوشيّة تصيح بين يديه على العادة، حتى قرب من الإيوان لعب الفرس تحته وجفل من صياح الناس، فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع إلى الإيوان «2» فتفاءل الناس بنزوله عن فرسه أنّه لا يقيم فى السلطنة إلّا يسيرا. ولمّا طلع الى الإيوان وجلس على الكرسىّ وباسوا الأمراء له الأرض وأحضروا المصحف ليحلفوا له، فحلف هو أوّلا أنّه لا يؤذيهم، ثم حلفوا له بعد ذلك على العادة. ودقّت البشائر بسلطنته بمصر والقاهرة، وخطب له من الغد على منابر مصر والقاهرة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر المذكور جلس الملك الكامل بدار العدل «3» ، وجدّد له العهد من الخليفة بحضرة القضاة والأمراء، وخلع على الخليفة وعلى القضاة والأمراء، وكتب بطلب الأمير آق سنقر الناصرى من طرابلس وسأل(10/117)
الأمير قمارى الأستادار أن يستقرّ عوضه فى نيابة طرابلس، فتشفّع قمارى المذكور بأرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فأجيب إلى ذلك؛ ثم تغيّر ذلك وخلع عليه فى يوم الخميس حادى عشرة بنيابة طرابلس فخرج من فوره على البريد. وخلع على الأمير أرقطاى «1» واستقرّ فى نيابة حلب عوضا عن يلبغا اليحياوى، وخرج أيضا على البريد، وكتب يطلب اليحياوى، ثم طلب الأمير آل ملك نائب السلطنة الإعفاء من النيابة وقبل الأرض، وسأل فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر الحموىّ وأن ينتقل طقزدمر إلى مصر فاجيب إلى ذلك، وكتب بعزل طقزدمر عن نيابة الشام وإحضاره الى الديار المصريّة.
وفى يوم السبت ثالث عشرة خلع السلطان الملك الكامل على الأمير الحاج آل ملك نائب السلطنة باستقراره فى نيابة الشام عوضا عن طقزدمر، وأخرج من يومه على البريد، فلم يدخل مدينة غزّة لسرعة توجّهه، وبينما هو سائر إلى دمشق لحقه البريد بتقليده نيابة صفد، وسبب ذلك أنّ أرغون العلائى لمّا قام فى أمر الملك الكامل شعبان هذا وفى سلطنته قال له الحاج آل ملك: بشرط ألّا يلعب بالحمام، فلمّا بلغ ذلك شعبان نقم عليه، فلمّا ولى دمشق استكثرها عليه وحوّله إلى نيابة صفد. ورسم للأمير يلبغا اليحياوى نائب حلب كان، باستقراره فى نيابة الشام.
ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تدبير مملكته والنظر فى أمور الدولة فأنعم بإقطاع أرقطاى على الأمير أرغون «2» شاه، واستقرّ أستادارا عوضا عن قمارى المستقرّ فى نيابة طرابلس. وأخرج السلطان الأمير أحمد شادّ الشرابخاناه هو وإخوته من(10/118)
أجل أنهم كانوا ممّن قام مع الأمير آل ملك هم وقمارى الأستادار فى منع سلطنة الملك الكامل هذا. ثم خلع السلطان على علم الدين «1» عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن زنبور باستقراره ناظر الخواصّ عوضا عن الموفّق عبد الله «2» بن إبراهيم، وعنى الأمير أرغون العلائى بالموفّق حتّى نزل إلى داره بغير مصادرة.
ثم قدم الأمير آق سنقر الناصرىّ المعزول عن نيابة طرابلس فخلع السلطان عليه، وسأله بنيابة السلطنة بالديار المصرية فامتنع أشدّ امتناع، وحلف أيمانا مغلّظة أنه لا يليها فأعفاه السلطان فى ذلك اليوم.
ثم بدا للسلطان أن يخطب بنت بكتمر الساقى فامتنعت أمّها من إجابته واحتجّت عليه بأنّ ابنتها تحته ولا يجمع بين أختين وأنّه بتقدير أن يفارق أختها، فإنّه أيضا قد شغف باتّفاق العوّادة جارية أخيه الملك الصالح شغفا زائدا، ثم قالت: ومع ذلك فقد ضعف حال المخطوبة من شدّة الحزن، فإنّه أوّل من أعرس عليها آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان لها ذلك المهمّ العظيم، ومات آنوك عنها وهى بكر فتزوّجها من بعده أخوه الملك المنصور أبو بكر، فقتل فتزوّجها بعد الملك المنصور أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل ومات عنها أيضا، فحصل لها حزن شديد من كونه تغيّر عليها عدّة أزواج فى هذه المدّة اليسيرة، فلم يلفت الملك الكامل إلى كلامها وطلّق أختها، وأخرج جميع قماشها من عنده فى ليلته، ثم عقد عليها ودخل بها.
ثم أنعم السلطان على ابن طشتمر حمّص أخضر بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصريّة، وعلى ابن أصلم بإمرة طبلخاناه.(10/119)
ثم فى مستهلّ جمادى الأولى خلع السلطان الملك الكامل على جميع الأمراء المقدّمين «1» والطبلخانات، وأنعم على ستين مملوكا بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب، وفرّق الخيول على الأمراء برسم نزول الميدان «2» .
ثم رسم السلطان ان يتوفّر إقطاع النيابة للخاصّ، وخلع على الأمير بيغرا واستقرّ حاجبا كبيرا. ثم نزل السلطان إلى الميدان على العادة، فكان لنزوله يوم مشهود.
وخلع على الشريف عجلان بن رميثة بن أبى نمىّ الحسنىّ «3» باستقراره أمير مكّة. ثم عاد السلطان إلى القلعة «4» .
وفى يوم السبت خامس عشرين جمادى الأولى قدم الأمير طقزدمر من الشام إلى القاهرة مريضا فى محفّة بعد أن خرج الأمير أرغون العلائى وصحبته الأمراء إلى لقائه، فوجدوه غير واع، ودخل عليه الأمراء وقد أشفى على الموت، ولمّا دخل طقزدمر إلى القاهرة على تلك الحالة أخذ أولاده فى تجهيز تقدمة جليلة للسلطان تشتمل على خيول، تحف وجواهر فقبلها السلطان منهم ووعدهم بكلّ خير.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرغون الصالحىّ بتقدمة ألف، ورسم أن يقال له: أرغون الكاملى، ووهب له فى أسبوع ثلثمائة ألف درهم وعشرة آلاف اردبّ من الأهراء؛ ورسم له بدار «5» أحمد شادّ الشّربخاناه، وأن يعمّر له(10/120)
بجواره من مال السلطان قصر على بركة الفيل «1» ، ويطل على الشارع فعمل له ذلك.
قلت: والبيت المذكور هو الذي كان يسكنه الملك الظاهر جقمق وتسلطن منه، ثم سكنه الملك الأشرف إينال وتسلطن منه وهو تجاه الكبش «2» . انتهى.
وفى يوم الخميس مستهلّ جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الكامل لسرحة سرياقوس «3» ومعه عساكره على العادة وأخذ حريمه صحبته، فنصب لهنّ أحسن الخيم فى البساتين.
ثم فى يوم الجمعة قدم أولاد طقزدمر على السلطان بسرياقوس بخبر وفاة أبيهم طقزدمر، فلم يمكّن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه، ورسم بإخراجه فأخرج ودفن بخانقاته «4» بالقرافة، وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإسطبل «5» السلطانىّ.(10/121)
ثم خلع السلطان على الأمير أرسلان بصل، واستقرّ حاجبا ثانيا مع بيغرا، ورسم له أن يحكم بين الناس، ولم تكن العادة جرت بذلك أن يحكم الحجّاب بين الناس غير حاجب الحجّاب.
قلت: كان الحجّاب يوم ذاك كهيئة رءوس النّوب الصّغار الآن. انتهى.
وخلع على الأمير ملكتمر السّرجوانىّ باستقراره فى نيابة الكرك وأنعم بتقدمته «1» على الأمير طشتمر طلليه وأنعم بطبلخانات «2» طشتمر طلليه على الأمير قبلاى.
ثم قدم على السلطان الخبر بموت أخيه الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عن اثنتى عشرة سنة، واتّهم السلطان أنّه بعث من سرياقوس من قتله فى مضجعه على يد أربعة خدّام طواشيّة، فعظم ذلك على الناس قاطبة.
ثم عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة بعد ما تهتّكت المماليك السلطانية من شرب الخمور والإعلان بالفواحش وركبوا فى الليل وقطعوا الطريق على المسافرين واغتصبوا حريم الناس. ثم أخذ السلطان الملك الكامل فى تجديد المظالم والمصادرات.
ثم قدم البريد على السلطان بأنّ الشيخ حسنا صاحب بغداد واقع سلطان شاه وأولاد تمرداش وانتصر الشيخ حسن وحصر سلطان شاه بماردين «3» وأخذ ضياعها.
ثم إن السلطان الملك الكامل بدا له أن ينشئ مدرسته موضع خان «4» الزكاة، ونزل الأمير أرغون العلابى والوزير لنظره، وكان أبوه الملك الناصر محمد قد وقفه فلم يوافق القضاة على حلّه.(10/122)
وفى مستهلّ شعبان عمل السلطان مهمّه على بنت الأمير طقزدمر الحموى سبعة أيام. وفى مستهلّ شوّال رسم السلطان للأمير أرغون الكامليّ بزيارة القدس وأنعم عليه بمائة ألف درهم، وكتب إلى نوّاب الشام بالركوب لخدمته، وحمل التقادم وتجهير الإقامات له فى المنازل إلى حين عوده؛ ورسم له أن ينادى بمدينة بلبيس «1» وأعمالها أنّه من قال عنه: أرغون الصغير شنق، وألّا يقال له إلّا أرغون الكاملى، فشهر النّداء بذلك فى الأعمال.
وفى هذه الأيام كثر لعب الناس بالحمام وكثر جرى السّعاة، وتزايد شلّاق «2» الزّعر وتسلّط عبيد الطواشيّة على الناس، وصاروا كلّ يوم يقفون للضراب فتسفك بينهم دماء كثيرة. ونهبت الحوانيت بالصّليبة «3» خارج القاهرة، وإذا ركب إليهم الوالى لا يعبئون به، وإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعا، فاشتد قلق الناس من ذلك.
ثم اخترع السلطان شيئا لم يسبق إليه، وهو أنّه أعرس السلطان بعض الطواشيّة ببعض سراريه بعد عقده عليها، وعمل له السلطان مهمّا حضره جميع جوارى بيت السلطان، وجليت العروس على الطواشى، ونثر السلطان عليها وقت(10/123)
الجلاء الذهب بيده، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما يكون، وعظم ذلك على سائر أعيان الدولة.
وفى ذى الحجّة كثرت الإشاعة «1» باتفاق الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام لورود بعض مماليك آل ملك هاربا منه كونه شرب الخمر وأشاع هذا الخبر فرسم السلطان بإخراج منجك «2» اليوسفى السلاح دار على البريد لكشف الخبر فلمّا توجه منجك إلى الشام حلف له نائب الشام أنه برىء ممّا قيل عنه، وأنعم على منجك بألفى دينار سوى الخيل والقماش.
ثم نودى بالقاهرة بألّا يعارض أحد من لعّاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة، فتزايد الفساد وشنع الأمر، كلّ ذلك لمحبّة السلطان فى هذه الأمور.
ثم ندب السلطان الأمير طقتمر الصالحىّ للتوجّه إلى الشام على البريد ليوقّع الحوطة على جميع أرباب المعاملات، وأصحاب الرّزق «3» والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزّة وألّا يصرف لأحد منهم شيئا وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم برسم سفر السلطان إلى الحجاز، ويشترى بذلك الجمال ونحوها، فكثر الدعاء على السلطان من أجل ذلك، وتغيّرت الخواطر.(10/124)
وفى هذه الأيام كتب بإحضار الأمير آل ملك نائب صفد إلى القاهرة ليستقرّ على إقطاع الأمير چنكلى بن البابا بعد موته وتوجّه لإحضاره الأمير منجك السلاح دار.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرين ذى الحجة أمسك أينبك أخو قمارى ثم عفى عنه من يومه. ثم كتب باستقرار الأمير أراق «1» الفتّاح نائب غزّة فى نيابة صفد بعد عزل آل ملك. وأمّا الأمير منجك فإنّه وصل إلى صفد فى أوّل المحرم من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، واستدعى آل ملك فخرج معه إلى غزّة، فقبض عليه بها فى اليوم المذكور، وقيل بل فى سادس عشرين ذى الحجة من سنة ست وأربعين. انتهى.
ثم فى أول المحرّم المذكور قدم إلى جهة القاهرة الأمير ملكتمر السّرجوانىّ من نيابة الكرك فمات بمسجد التّبن «2» خارج القاهرة ودفن بتربته «3» . ثم قدم إلى القاهرة الأمير أحمد بن آل ملك فقبض عليه وسجن من ساعته. وخلع السلطان على الأمير أسندمر العمرىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قمارى.
وفى يوم الاثنين سادس المحرّم قدم الأمير آل ملك والأمير قمارى نائب طرابلس مقيّدين إلى قليوب «4» وركبا النيل إلى الإسكندريّة فاعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصّلاحىّ قبض على قمارى لمّا توجّه للحوطه على أملاك الشام، وقيّده وبعثه على البريد. ثم ندب السلطان الأمير مغلطاى الأستادار لإيقاع الحوطة على موجود آل ملك، وندب الطواشى مقبلا التّقوىّ لإيقاع الحوطة على موجود قمارى نائب طرابلس، وألزم مباشريهما بحمل جميع أموالهما، فوجد لآل ملك قريب ثلاثين(10/125)
ألف إردب غلّة، وألزم مولده بمائة ألف درهم، وأخذ لزوجته خبيّة فيها أشياء جليلة، وأخذ أيضا لزوجة قمارى صندوقا فيه مال جليل.
ثم خلع «1» السلطان على الأمير أرسلان «2» بصل الحاجب الثانى فى نيابة حماة عوضا عن أرقّطاى وكتب بقدوم أرقطاى، فقدم أرقطاى إلى القاهرة فأنعم عليه السلطان بإقطاع چنكلى بن البابا بعد وفاته، واستقرّ رأس الميمنة مكان چنكلى. ثم خلع السلطان على زوح أمّه الأمير أرغون العلائى واستقرّ فى نظر البيمارستان «3» المنصورىّ عوضا عن الأمير چنكلى بن البابا فنزل إليه أرغون العلائى وأصلح أموره، وأنشأ بجوار باب البيمارستان المذكور سبيل «4» ماء ومكتب سبيل لقراءة الأيتام، ووقف عليه وقفا.(10/126)
ثم خلع السلطان على الأمير نجم الدين محمود [بن علىّ «1» ] بن شروين وزير بغداد وأعيد إلى الوزارة بالديار المصريّة، وكان لها مدّة شاغرة، وخلع على علم الدين عبد الله ابن زنبور واستقرّ ناظر الدولة عوضا عن ابن مراجل «2» .
وفى هذه الأيام انتهت عمارة قصر «3» الأمير أرغون الكامليّ بالجسر الأعظم تجاه الكبش «4» ، بعد أن صرف عليه مالا عظيما، وأخذ فيه من بركة «5» الفيل نحو العشرين ذراعا، فلمّا عزم أرغون إلى النزول إليه مرض فقلق السلطان لمرضه وبعث إليه بفرس وثلاثين ألف درهم يصدّق بها عنه. وأفرج عن أهل السجون، وركب السلطان لعيادته بالميدان «6» .(10/127)
ثم اهتمّ السلطان بسفره إلى الحجاز وأخذ فى تجهيز أحواله. وفى يوم الجمعة رابع عشر صفر ولد للسلطان ولد ذكر من بنت الأمير بكتمر الساقى.
ثم فى يوم السبت ثانى عشرين صفر أفرج السلطان عن الأمير أحمد بن آل ملك وعن أخى قمارى وأمرهما بلزوم بيتهما.
وفى أوّل شهر ربيع الأوّل توجّه السلطان إلى سرياقوس وأحضر الأوباش فلعبوا قدّامه باللّبخة «1» وهى عصىّ كبار، حدث اللعب بها فى هذه الأيام، ولمّا لعبوا بها بين يديه قتل رجل رفيقه، فخلع السلطان على بعضهم وأنعم على كبيرهم بخبز فى الحلقة، واستمرّ السلطان يلعب بالكرة فى كلّ يوم وأعرض عن تدبير الأمور، فتمرّدت المماليك وأخذوا حرم الناس وقطعوا الطريق وفسدت عدّة من الجوارى، وكثرت الفتن حتّى بلغ السلطان فلم يعبأ بما قيل له، بل قال: خلّوا كلّ أحد يعمل ما يريد. فلمّا فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائى فيه مع السلطان حتّى عاد إلى القلعة وقد تظاهر الناس بكلّ قبيح ونصبوا أخصاصا بالجزيرة «2» الوسطانيّة وجزيرة(10/128)
بولاق سمّوها حليمة «1» ، بلغ مصروف كلّ حصّ منها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم، وكان هذا المبلغ يوم ذاك بحقّ ملك هائل. وعمل فى الأخصاص الرّخام والدّهان البديع، وزرع حوله المقاثئ والرياحين وأقام بالأخصاص المذكورة معظم الناس من الباعة والتّجّار وغيرهم، وكشفوا سترا لحياء، وما كفّوا فى التهتّك فى حليمة والطمية»
وتنافسوا فى أرضها، حتّى كان كلّ قصبة قياس تؤجّر بعشرين درهما،(10/129)
فبلغ أجرة الفدّان الواحد ثمانية آلاف درهم، فأقاموا على ذلك ستة أشهر، حتى زاد الماء وغرقت الجزيرة، وقبل مجىء الماء بقليل قام الأمير أرعون العلائى فى هدمها قياما عظيما، وحرق الأخصاص على حين غفلة وضرب جماعة وشهّرهم فتلف بها مال عظيم جدا.
وفى هذه الأيام قلّ ماء النيل حتى صار ما بين المقياس «1» ومصر يخاض، وصار من بولاق «2» إلى منشأة «3» المهرانىّ طريقا يمشى فيه، ومن بولاق الى جزيرة «4» الفيل وإلى المنية «5» طريقا واحدا. وبعد الماء على السقّايين وصاروا يأخذون الماء من تجاه قرية منبابة «6» ، وبلغت راوية الماء إلى درهمين بعد ما كانت بنصف درهم وربع درهم. فشكا الناس ذلك إلى أرغون العلائى فبلّغ السلطان غلاء الماء بالمدينة وانكشاف ما تحت بيوت البحر، فركب السلطان ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة، حتّى كشف ذلك، فوجدوا الوقت فيه قد فات لزيادة النيل، واقتضى(10/130)
الرأى أن ينقل التراب والشقاف من مطابخ السّكّر بمدينة مصر وترمى من برّ الجيزة إلى المقياس «1» حتى يصير جسرا «2» يعمل عليه العمل، حتى يدفع الماء إلى الجهة التى يحسر عنها، فنقلت الأتربة فى المراكب وألقيت هناك إلى أن بقى جسرا ظاهرا وتراجع الماء قليلا إلى برّ مصر، فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر وأخذه ومحا أثره.(10/131)
وفى هذه الأيام لعب السلطان الكرة مع الأمراء فى الميدان من القلعة فاصطدم الأمير يلبغا «1» الصالحى مع آخر سقطا معا عن فرسيهما إلى الأرض، ووقع فرس يلبغا على صدره فانقطع نخاعه ومات لوقته فأنعم السلطان بإقطاعه على قطلوبغا الكركىّ.
ثم فى هذه الأيام اشتدّت المطالبة على أهل النواحى بالجمال والشعير والأعدال والأخراج لسبب سفر السلطان إلى الحجاز وكثرت مغارمهم إلى الولاة وشكا أرباب الإقطاعات ضررهم للسلطان فلم يلتفت لهم، فقام فى ذلك الأمير أرغون شاه الأستادار مع الأمير أرغون العلائى فى التحدّث مع السلطان فى إبطال حركة السفر فلم يصغ لقولهم، وكتب باستعجال العربان بالجمال واستحثاث طقتمر الصّلاحىّ فيما هو فيه بصدد السفر.
ثم أوقع السلطان الحوطة على أموال الطّواشى عرفات وأخرج عرفات إلى الشام منفيّا. ثم قصد السلطان أخذ أموال الطواشى كافور الهندىّ، فشفعت فيه خوند طغاى زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ وكان كافور المذكور من خواصّ خدّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فأخرج كافور إلى القدس، وكافور المذكور هو صاحب التّربة «2» بقرافة مصر، ثم نفى السلطان أيضا ياقوتا الكبير الخادم، وكافورا المحرم «3» وسرورا الدّمامينىّ، ثم نفى دينارا الصوّاف ومختصّا الخطائى.
ثم فى أوّل شهر ربيع الآخر مات ولد السلطان من بنت «4» بكتمر الساقى وولد له من اتّفاق العوّادة حظيّة أخيه ولد سمّاه شاهنشاه وسرّ به سرورا عظيما زائدا، وعمل(10/132)
مهمّا عظيما مدة سبعة أيام. ثم مات أخوه يوسف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون واتّهم السلطان أيضا بقتله.
ثم قدم طقتمر الصلاحىّ من الشام بالقماش المستعمل برسم الحجاز. ثم قدم كتاب يلبغا اليحياوىّ نائب الشام يتضمّن خراب بلاد الشام مما أنفق «1» بها من أخذ الأموال وانقطاع الجالب إليها، والرأى تأخير سفر السلطان إلى الحجاز الشريف فى هذه السنة، فقام الأمير أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى تصويب رأى نائب الشام وذكرا للسلطان أيضا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان وضرر الزروع وكثرة مغارم البلاد، وما زالا به حتى رجع عن سفر الحجاز فى هذه السنة، وكتب إلى نائب الشام بقبول رأيه، وكتب للأعمال باسترجاع ما قبضته العرب من كراء الأحمال وغير ذلك، فلم يوافق هذا غرض نساء السلطان ووالدته، وأخذت فى تقوية عزمه على السفر للحجاز حتى مال اليهم «2» ، وكتب لنائب الشام وحلب وغيرها أنّه لا بدّ من سفر السلطان إلى الحجاز فى هذه السنة، وأمرهم بحمل ما يحتاج اليه، ووقع الاهتمام، وتجدّد الطّلب على الناس وغلاء الأسعار، وتوقّفت الأحوال وقلّ الواصل من كل شىء. وأخذ الأمراء فى أهبة السفر صحبة السلطان إلى الحجاز، وقلقوا لذلك، وسألوا أرغون العلائى وملكتمر الحجازىّ فى الكلام مع السلطان فى إبطال السفر ومعرفته «3» رقّة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك فى نوبة الملك الناصر أحمد، فكلّما السلطان فى ذلك فاشتدّ غضبه وأطلق لسانه، فما زالا به حتى سكن غضبه. ورسم من الغد لجميع الأمراء بالسفر، ومن عجز عن السفر يقيم(10/133)
بالقاهرة، فاشتدّ الأمر على الناس بمصر والشام من كثرة السّخر، وكثر دعاؤهم على السلطان، وتنكّرت قلوب الأمراء، وكثرت الإشاعة بتنكّر السلطان على نائب الشام، وأنّه يريد مسكه حتّى بلغه ذلك، فاحترز على نفسه، وبلغه قتل يوسف ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقوّة عزم السلطان على سفر الحجاز موافقة لأغراض نسائه، فجمع أمراء دمشق، وحلّفهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهر دمشق فى نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحضر إليه الأمير طرنطاى البشمقدار نائب حمص والأمير أراق الفتّاح نائب صفد والأمير أسندمر نائب حماة والأمير بيدمر البدرى نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعا بظاهر دمشق مع عسكر دمشق لخلع الملك الكامل شعبان هذا، وظاهروا بالخروج عن طاعته، وكتب الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام إلى السلطان: بأنى أحد الأوصياء عليك، وأنّ مما قاله السلطان السعيد الشهيد، رحمه الله تعالى، (يعنى عن الملك الناصر) لى وللأمراء فى وصيّته: إذا أقمتم أحدا من أولادى ولم ترضوا بسيرته جرّوا برجله وأخرجوه وأقيموا غيره أحدا «1» ، وأنت أفسدت المملكة وأفقرت الأمراء والأجناد، وقتلت أخاك وقبضت على أكابر أمراء السلطان واشتغلت عن الملك والتهيت بالنساء وشرب الخمر، وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضّة، وذكر له أمورا فاحشة عملها، فقدم كتابه إلى القاهرة فى يوم الجمعة «2» العشرين من جمادى الأولى فلما قرأه السلطان تغيّر تغيّرا كبيرا، وأوقف أرغون العلائى عليه بمفرده، فقال له أرغون العلائى: والله لقد كنت أحسب هذا! وقلت لك فلم تسمع قولى، وأشار عليه بكتمان هذا، وكتب الجواب يتضمّن التلطّف فى القول: وأخرج الأمير منجك اليوسفى على البريد(10/134)
إليه فى ثانى عشرينه، ليرجعه عما عزم عليه، ويكشف أحوال الأمراء. وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإبطال السلطان سفر الحجاز فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة، حتى بلغ ذلك الأمراء والمماليك، فأشار أرغون العلائى على السلطان بإعلام الأمراء الخبر، فطلبوا إلى القلعة، وأخذ رأيهم فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاى، ومعه من الأمراء «1» [منكلى بغا] الفخرى أمير جاندار وآق سنقر الناصرىّ وطيبغا المجدىّ وأرغون الكاملى وأمير علىّ ابن طغريل الطّوغانىّ وابن طقزدمر وابن طشتمر وأربعون أمير طبلخاناه، وأربعون أمير عشرة وأربعون مقدّم حلقة، وحملت النفقة إليهم لكلّ مقدّم ألف ألف دينار، ما عدا ثلاثة مقدّمين، لكل مقدّم ثلاثة آلاف دينار. وكتب بإحضار الأجناد من البلاد، فقدم كتاب منجك من الغور «2» بموافقة نوّاب «3» الشام إلى نائب الشام، وأن التجريدة إليه لا تفيد، فإنّه يقول: إن أمراء مصر معه.
ثم قدم كتاب نائب الشام ثانيا، وفيه خطّ الأمير مسعود بن خطير وأمير علىّ بن قراسنقر وقلاوون وحسام الدين البشمقدار يتضمّن أنّك لا تصلح للملك، وإنما أخذته(10/135)
بالغلبة من غير رضا الأمراء- ثم عدّد ما فعله- ونحن «1» ما بقينا نصغى لك وأنت ما تصغى لنا، والمصلحة أن تعزل نفسك من الملك ليتولّى غيرك، فلمّا سمع السلطان ذلك استدعى الأمراء وحلفهم على طاعته ثم أمرهم بالسفر فخرجوا من الغد وخرج طلب «2» منكلى بغا وبعده أرغون الكاملىّ، فعند ما وصل طلب أرغون إلى تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليش «3» أرغون الكاملىّ على الأرض، فصاحت العامّة: راحت عليكم يا كامليّة وتطيّروا بأنّهم غير منصورين. ثم أخذ الأمراء المجرّدون فى الخروج شيئا بعد شىء. وقدم حلاوة «4» الأوجاقى يخبر بأنّ منجك ساعة وصوله إلى دمشق قبض عليه الأمير يلبغا نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق، فبعث السلطان بالطواشى سرور الزّبنىّ لإحضار أخوى «5» السلطان، وهما أمير حاجّ وأمير حسين فاعتذرا بوعكهما وبعثت أمهاتهما إلى العلائىّ والحجازىّ تسألانهما فى التلطّف مع السلطان فى أمرهما، وبلّغت العلائىّ بعض جوارى زوجته أمّ السلطان بأنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وهو يقول: «يا إلهى أعطيتنى الملك وملّكتنى آل ملك(10/136)
وقمارى، وبقى من أعدائى أرغون العلائى وملكتمر الحجازى فمكّنّى منهما حتى أبلغ غرضى منهما» ، فأقلق أرغون العلائى هذا الكلام. ثم دخل على السلطان فى خلوة فإذا هو متغيّر الوجه مفكّر، فبدره بأن قال له: من جاءك من جهة إخوتى، أنت والحجازى؟ فعرّفه أن النساء دخلن عليهما [وطلبن «1» ] أن يكون السلطان طيّب الخاطر عليهما ويؤمّنهما، فإنّهما خائفان، فرد عليه السلطان جوابا جافيا، ووضع يده فى السيف ليضربه به، فقام أرغون عنه لينجو بنفسه، وعرّف الحجازىّ ما جرى له مع السلطان وشكا من فساد السلطنة، فتوحّش خاطرهما، وانقطع أرغون العلائى عن الخدمة وتعلّل، وأخذت الماليك أيضا فى التنكّر على السلطان، وكاتب بعضهم نائب الشام، واتّفقوا بأجمعهم، حتى اشتهر أمرهم، وتحدّث به العامّة وألحّ السلطان فى طلب أخويه «2» ، وبعث قطلوبغا الكركىّ «3» فى جماعة حتى هجموا عليهما ليلا، فقامت النساء ومنعنهم «4» منهما «5» فهمّ أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما «6» ، فجىء بهما إليه وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى فأدخلهما إلى موضع ووكّل بهما، وقام العزاء فى الدور السلطانى عليهما، واجتمعت جوارى الملك الناصر محمد بن قلاوون وأولاده، فلما سمع المماليك صياحهنّ هموا بالثورة والركوب للحرب وتعبّوا.
فلمّا كان يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة خرج طلب أرقطاى مقدّم العساكر المجرّدين إلى الشام حتّى وصل إلى باب زويلة «7» ووقف هو مع الأمراء(10/137)
فى الموكب تحت القلعة، وإذا بالناس قد اضطربوا، ونزل الحجازى سائقا يريد إسطبله «1» ، وسبب ذلك أنّ السلطان الملك الكامل جلس بالإيوان على العادة، وقد ثبّت مع ثقاته القبض على الحجازى وأرغون شاه إذا دخلا، وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة، فخرج طغيتمر الدوّادار فى الإذن لهما فأشار لهما بعينه أن اذهبا، وكانا قد بلغهما أنّ السلطان قد تنكّر عليهما، فقاما من فورهما ونزلا إلى إسطبلهما ولبسا بمماليكهما وحواشيهما وركبا وتوجّها إلى قبّة النصر، وبعث لحجازىّ يستدعى آق سنقر من سرياقوس، فما تضحّى النهار حتى اجتمعت أطلاب الأمراء بقبّة النصر، فطلب السلطان عند ذلك أرغون العلائى واستشاره فيما يعمل، فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم، فركب السلطان بمماليكه وخاصّكيّته ومعه زوج أمّه الأمير(10/138)
أرغون العلانى المذكور وتمر الموساوىّ وعدّة أخر من الأمراء، والقلوب متغيّرة، ودقّت الكوسات حربيا، ودارت النقباء على أجناد الحلقة والمماليك ليركبوا فركب بعضهم وتخاذل بعضهم؛ وسار السلطان فى جمع كبير من العامّة وهو يسألهم الدعاء فأسمعوه مالا يليق، ودعوا عليه، وسار فى نحو ألف فارس لا غير حتى قابل ملكتمر الحجازىّ وأصحابه من الأمراء والمماليك، فعند المواجهة انسلّ عن السلطان أصحابه، وبقى فى أربعمائة فارس، فبرز له آق سنقر، وساق حتى قارب السلطان وتحدّث معه وأشار عليه بأن ينخلع من السلطنة فأجابه إلى ذلك وبكى، فتركه آق سنقر وعاد إلى الأمراء وعرّفهم بأنه أجاب أن يخلع نفسه، فلم يرض أرغون شاه، وبدر ومعه الأمير قرابغا والأمير صمغار والأمير بزلار والأمير غرلو فى أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان وسيّروا إلى «1» أرغون العلائى ليأتيهم ليأخذوه إلى عند الأمراء فلم يوافق العلائى على ذلك، فهجموا عليه ومزّقوا من كان معه من مماليكه وأصحابه. ثم ضرب واحد منهم أرغون العلائى بدبّوس حتى أرماه عن فرسه إلى الأرض، فضربه الأمير بيبغا أروس «2» بسيف قطع خدّه، فانهزم عند ذلك عسكر السلطان، وفرّ الملك الكامل شعبان إلى القلعة واختفى عند امه روجة الأمير أرغون العلائى، فسار الأمراء إلى القلعة فى جمع هائل وأخرجوا أمير حاج وأمير حسين من سجنهما، وقبّلوا يد أمير حاجّ وخاطبوه بالسلطنة. ثم طلبوا الملك الكامل شعبان من عند أمّه فلم يجدوه فحرّضوا فى طلبه حتى وجدوه مختفيا بين الأزيار، وقد اتّسخت ثيابه من وسخ الأزيار، فأخرجوه بهيئته إلى الرّحبة ثم أدخلوه إلى الدهيشة «3» فقيّدوه وسجنوه حيث كان أخواه «4» مسجونين ووكّل به قرابغا القاسمىّ والأمير صمغار.(10/139)
ومن غريب الاتفاق أنه كان عمل طعاما لأخويه: أمير حاجّ وحسين حتى يكون غداءهما فى السجن، وعمل سماط السلطان على العادة فوقعت الضّجة، وقد مدّ السّماط، فركب السلطان من غير أكل، فلمّا انهزم وقبض عليه، وأقيم بدله أخوه أمير حاج مدّ السّماط [بعينه «1» له] فأكل منه، وأدخل بطعامه وطعام أخيه أمير حسين إلى الملك الكامل فأكله فى السجن. واستمرّ الملك الكامل المذكور فى السجن إلى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة قتل وقت الظهر ودفن «2» عند أخيه يوسف ليلة الخميس، فكانت مدّة سلطنته على مصر سنة واحدة وثمانية وخمسين يوما؛ وقال الصّفدىّ: سنة وسبعة عشر يوما «3» .
وكان من أشرّ الملوك ظلما وعسفا وفسقا. وفى أيامه- مع قصر مدّته- خربت بلاد كثيرة لشغفه باللهو وعكوفه على معاقرة الخمور، وسمع الأغانى وبيع الإقطاعات بالبذل «4» ، وكذلك الولايات، حتى إنّ الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حىّ بمال لآخر، فإذا وقف من خرج إقطاعه قيل له نعوّض عليك قد أخرجناه لفلان الفلانى. وكان مع هذا كله سفّاكا للدماء، ولو طالت يده لأتلف خلائق كثيرة، وكان سيئ التدبير، يمكّن النساء والطواشيّة من التصرّف فى المملكة والتهتّك(10/140)
فى النّزه والصيد ولعب الكرة بالهيئات الجميلة وركوب الخيول المسوّمة، مع عدم الاحتشام من غير حجاب من الأمير آخورية والغلمان، ويعجبه ذلك من تهتّكهنّ على الرجال، فشغف لذلك جماعة كثيرة من الجند بحرمه بما يفعلن من ركوب الخيول وغيرها. وكان حريمه إذا نزلن إلى نزهة بلغت الجرّة الخمر إلى ثلاثين «1» درهما، وهذا كلّه مع شرهه وشره حواشيه ونسائه إلى ما فى أيدى الناس من البساتين والرّزق والدواليب ونحوها، فأخذت أمّه معصرة وزير بغداد ومنظرته على بركة الفيل، وأشياء غير ذلك. وحدث فى أيامه أخذ خراج الرّزق وزيادة القانون ونقص الأجائر، وأعيدت فى أيامه ضمان أرباب الملاعيب وعدّة مكوس، وكان يحب لعب الحمام، فلما تسلطن تغالى فى ذلك وقرّب من يكون من أرباب هذا الشأن، ومع هذا الظلم والطمع لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار وخمسمائة ألف درهم، إلا أنه كان مهابا شجاعا سيوسا متفقّدا لأحوال مملكته، لا يشغله لهوه عن الجلوس فى المواكب والحكم بين الناس. ولما أمسك وقتل قال فيه الصفدى:
بيت قلاوون سعاداته ... فى عاجل كانت وفى آجل «2» [السريع]
حلّ على أملاكه للرّدى ... دين قد استوفاه بالكامل
*** السنة الأولى من سلطنة الملك الكامل شعبان على مصر وهى سنة ستّ وأربعين وسبعمائة، على أن أخاه الملك الصالح إسماعيل حكم منها إلى رابع(10/141)
شهر ربيع الآخر، ثم حكم الملك الكامل هذا فى باقيها وفى أشهر من سنة سبع كما سيأتى ذكره.
فيها (أعنى سنة ست وأربعين) توفّى السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته. وفيها أيضا توفّى السلطان الملك الأشرف كچك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من السلطنة بسنين، وقد تقدّم ذكر سلطنته أيضا ووفاته فى ترجمته.
وتوفّى الأمير سيف الدين طقزدمر بن عبد الله الحموىّ الناصرىّ الساقى بالقاهرة فى مستهل جمادى الآخرة، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل الأيّوبىّ صاحب حماة، ثم انتقل إلى ملك الملك الناصر محمد بن قلاوون وحظى عنده وجعله ساقيا، ثم رقّاه حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، ثم جعله أمير مجلس وزوّجه بإحدى بناته، وصار من عظماء أمرائه الى أن مات.
و [لمّا «1» ] تسلطن ابنه الملك المنصور أبو بكر استقرّ طقزدمر هذا نائب السلطنة بديار مصر، ووقع له أمور حكيناها فى تراجم السلاطين من بنى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن أخرج إلى نيابة حماة. ثم نقل إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام، ثم طلب إلى القاهرة فى سلطنة الملك الكامل هذا فحضر اليها مريضا فى محفّة ومات بعد أيام حسب ما تقدّم. وكان من أجلّ الأمراء «2» وأحسنهم سيرة. كان عاقلا ديّنا سيوسا، عارفا، وهو صاحب الخانقاه «3» بالقرافة والقنطرة «4» خارج القاهرة على الخليج وغير ذلك مما هو مشهور به.(10/142)
وتوفّى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى محيى الدين [يحيى «1» ] بن فضل الله العمرى الدّمشّقى، كاتب سرّ دمشق فى سادس عشرين شهر رجب بدمشق. وكان كاتبا فاضلا من بيت فضل ورياسة، وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه، ويأتى ذكر جماعة أخر من أقاربه فى محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأحمدىّ المنصورىّ أمير جاندار فى يوم الثلاثاء ثالث «2» عشر المحرّم، وهو فى عشر الثمانين. وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، وأحد أعيان أمراء الديار المصرية، وهو الذي قوّى عزم قوصون على سلطنة الملك المنصور أبى بكر، وكان جار كسىّ الجنس، تنقّل إلى أن صار من أعيان الأمراء بمصر، ثم ولى نيابة صفد وطرابلس، ثم قدم القاهرة وتولّى أمير جاندار. وكان كريما شجاعا ديّنا قوىّ النفس، لم يركب قطّ إلّا فحلا، ولم يركب حجرة «3» ولا إكديشا فى عمره. وكان له ثروة كبيرة، وطالت أيّامه فى السعادة، وخلّف أملاكا كثيرة، أذهب غالبها جماعة من أوباش ذرّيته بالاستبدال والبيع إلى يومنا هذا.
وتوفّى الأمير بدر الدين چنكلى [بن محمد بن البابا بن چنكلى «4» ] بن خليل ابن عبد الله المعروف بابن البابا العجلىّ أتابك العساكر بالديار المصريّة فى عصر يوم الاثنين سابع [عشر «5» ] ذى الحجّة. وكان أصله من بلاد الروم، طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكتب له منشورا بالإقطاع الذي عيّنه إليه فلم يتّفق حضوره إلّا فى أيّام الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة أربع وسبعمائة فأمّره وأكرمه،(10/143)
ولا زال يرقّيه حتى صار يجلس ثانى آقوش نائب الكرك. ثم بعد آقوش جلس چنكلى هذا رأس الميمنة.
قال الشيخ صلاح الدين: وهو من الحشمة والدّين والوقار وعفّة الفرج فى المحلّ الأقصى، ولم يزل معظّما من حين ورد إلى أن مات. وكان ركنا من أركان المسلمين ينفع العلماء والصلحاء والفقراء بماله وجاهه، وكان يتفقّه، ويحفظ ربع العبادات. ويقال: إنّ نسبه يتّصل بإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه، قال: وقلت فيه ولم أكتب به إليه:
[السريع]
لا تنس لى يا قاتلى فى الهوى ... حشاشة من حرقى تنسلى
لا ترس لى ألقى به فى الهوى ... سهام عينيك متى ترسلى
لا تخت لى يشرف قدرى به ... إلّا إذا ما كنت بى تختلى
لا چنك «1» لى تضرب أوتاره ... إلّا ثنا يملى على چنكلى
وتوفّى رميثة «2» واسمه منجد بن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة ابن أبى غرير إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علىّ ابن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن موسى [بن عبد الله «3» ] بن الحسن «4» ابن الحسن بن علىّ بن أبى طالب الحسنىّ المكىّ أمير مكة بها فى يوم الجمعة ثامن ذى القعدة.(10/144)
وتوفّى الشيخ الإمام فخر الدين أحمد بن الحسين الجاربردى «1» شارح «البيضاوىّ «2» » .
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة تاج الدين أبو الحسن على بن عبد الله [ابن أبى «3» الحسن] ابن أبى بكر الأردبيلىّ الشافعى، مدرّس مدرسة «4» الأمير حسام الدّين طرنطاى المنصورى بالقاهرة. كان فقيها عالما بارعا أفتى ودرّس سنين.(10/145)
وتوفّى الشيخ المقرئ تقىّ الدين محمد «1» [بن محمد بن على] بن همام ابن راجى الشافعى إمام جامع «2» الصالح خارج باب زويلة ومصنّف «كتاب(10/146)
سلاح المؤمن «1» » . رحمه الله.
- أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.(10/147)
[ما وقع من الحوادث سنة 747]
ذكر سلطنة الملك المظفر حاجّى على مصر
السلطان الملك المظفّر زين الدين حاجّى المعروف بأمير حاج ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهو السلطان الثامن عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة والسادس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. جلس على سرير الملك بعد خلع أخيه الملك الكامل شعبان والقبض عليه فى يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة. وكان سجنه أخوه الملك الكامل شعبان كما تقدّم ذكره. فلمّا انهزم الملك الكامل من الأمراء بقبّة النصر ساق فى أربعة مماليك إلى باب السرّ من القلعة، فوجده مغلقا والمماليك بأعلاه، فتلطّف بهم حتّى فتحوه له، ودخل إلى القلعة لقتل أخويه حاجّى هذا ومعه حسين، لأنهما كانا حبسا معا، فلم يفتح له الخدّام الباب فمضى إلى أمّه فاختفى عندها وصعد الأمراء فى أثره إلى القلعة بعد أن قبضوا على الأمير أرغون العلائىّ وعلى الطواشى جوهر السّحرتى اللالا وأسندمر الكاملىّ وقطلوبغا الكركىّ وجماعة أخر، ودخل بزلار وصمغار راكبين إلى باب الستارة «1» وطلبا أمير حاج المذكور، فأدخلهما الخدّام إلى الدهيشة حتى أخرجوه وأخاه من سجنهما، وخاطبا أمير حاجّ فى الوقت بالملك المظفّر. ثم دخل إليه الأمير أرغون شاه، وقبّل له الأرض وقال له: بسم الله اخرج أنت سلطاننا، وسار به وبأخيه حسين إلى الرحبة وأجلسوه على باب الستارة.(10/148)
ثم طلب شعبان حتّى وجد بين الأزيار وحبسوه حيث كان أخواه، وطلبوا الخليفة والقضاة وفوّض عليه الخلعة الخليفتى، وركب من باب الستارة بأبّهة السلطنة وشعار الملك من باب الستارة إلى الإيوان. وجلس على تخت الملك وحمل المماليك أخاه أمير حسين على أكتافهم إلى الإيوان. ولقّب بالملك المظفّر وقبل الأمراء الأرض بين يديه وحلف لهم أنه لا يؤذى أحدا منهم، ثم حلفوا له على طاعته، وركب الأمير بيغرا البريد وخرج إلى الشام ليبشّر الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام ويحلّفه ويحلّف أيضا أمراء الشام للملك المظفّر.
ثم كتب إلى ولاة الأعمال بإعفاء النواحى من المغارم ورماية الشعير والبرسيم.
ثم حمل الأمير أرغون العلائى إلى الإسكندرية. وفى يوم الأربعاء ثالثه قتل الملك الكامل شعبان وقبض على الشيخ علىّ الدوادار، وعلى عشرة من الخدّام الكامليّة، وسلّموا إلى شادّ الدواوين، وسلّم أيضا جوهر السّحرتى وقطلوبغا الكركىّ، وألزموا بحمل الأموال التى أخذوها من الناس فعذّبوا بأنواع العذاب، ووقعت الحوطة على موجودهم. ثم قبض على الأمير تمر الموساوى، وأخرج إلى الشام.
وأمر بأمّ الملك الكامل وزوجاته فأنزلن من القلعة إلى القاهرة، وعرضت جوارى دار السلطان فبلغت عدّتهن خمسمائة جارية ففرّقن على الأمراء، وأحيط بموجود حظيّة الملك الكامل التى كانت أولا حظيّة أخيه الملك الصالح إسماعيل المدعوّة اتفاق وأنزلت من القلعة، وكانت جارية سوداء حالكة السواد، اشترتها ضامنة المغانى بدون الأربعمائة درهم من ضامنة المغانى بمدينة بلبيس، وعلّمتها الضرب بالعود على الأستاذ «1» عبد علىّ العوّاد، فمهرت فيه وكانت حسنة الصوت جيّدة الغناء فقدّمتها لبيت السلطان، فاشتهرت فيه حتى شغف بها الملك الصالح(10/149)
إسماعيل، فإنه كان يهوى الجوارى السودان وتزوّج بها. ثم لما تسلطن أخوه الملك الكامل شعبان باتت عنده من ليلته، لما كان فى نفسه منها أيام أخيه، ونالت عندهما من الحظّ والسعادة ما لا عرف فى زمانها لامرأة، حتّى إن الكامل عمل لها دائر بيت طوله اثنتان وأربعون ذراعا وعرضه ست أذرع، دخل فيه خمسة «1» وتسعون ألف دينار مصرية، وذلك خارج عن البشخاناه «2» والمخادّ والمساند، وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصّعة بالجواهر، وستة عشر «3» مقعد زركش، وثمانون مقنعة، فيها ما قيمته عشرون ألف درهم وأشياء غير ذلك، استولوا على الجميع.
ثم استرجع السلطان جميع الأملاك التى أخذتها حريم الكامل لأربابها. ثم نودى بالقاهرة ومصر برفع الظلامات، ومنع أرباب الملاعيب جميعهم.
وخلع السلطان على علم الدين عبد الله [بن أحمد «4» بن إبراهيم] بن زنبور بانتقاله من وظيفة نظر الدولة «5» إلى نظر الخاصّ «6» عوضا عن فخر الدين «7» بن السعيد، وقبض على(10/150)
ابن السعيد وخلع على موفّق الدين عبد الله بن إبراهيم باستقراره ناظر الدولة عوضا عن ابن زنبور، وخلع على سعد الدين حربا، واستقر فى استيفاء الدولة عوضا عن ابن الرّيشة «1» .
ثم قدم الأمير بيغرا من دمشق بعد أن لقى الأمير يلبغا اليحياوى نائب الشام، وقد برز إلى ظاهر دمشق يريد السير إلى مصر بالعساكر لقتال الملك الكامل شعبان، فلما بلغه ما وقع سرّ سرورا عظيما زائدا بزوال دولة الملك الكامل، وإقامة أخيه المظفّر حاجّى فى الملك، وعاد يلبغا إلى دمشق وحلف للملك المظفر وحلّف الأمراء على العادة، وأقام له الخطبة بدمشق، وضرب السّكة باسمه، وسير إلى السلطان دنانير ودراهم، وكتب يهنّئ السلطان بجلوسه على تخت الملك، وشكا من نائب حلب ونائب غزة ونائب قلعة دمشق مغلطاى ومن نائب قلعة صفد قرمجى، من أجل أنهم لم يوافقوه على خروجه عن طاعة الملك الكامل شعبان، فرسم السلطان بعزل الأمير طقتمر الأحمدى نائب حلب وقدومه إلى مصر، وكتب باستقرار الأمير بيدمر «2» البدرى نائب طرابلس عوضه فى نيابة حلب، واستقرّ الأمير أسندمر العمرىّ نائب حماة فى نيابة طرابلس، وهذا أوّل نائب انتقل من حماة إلى طرابلس، وكانت قديما حماة أكبر من طرابلس، فلما اتّسع أعمالها صارت أكبر من حماة.
ثم كتب السلطان بالقبض على الأمير مغلطاى نائب قلعة دمشق وعلى قرمجى نائب قلعة صفد. ثم كتب بعزل نائب غزّة، وكان الأمير يلبغا اليحياوىّ لما عاد إلى دمشق بغير قتال عمّر- موضع «3» كانت خيمته عند مسجد القدم- قبّة سمّاها قبّة النصر(10/151)
التى تعرف الآن بقبّة يلبغا. ثم خلع السلطان على الطواشى عنبر السّحرتى باستقراره مقدّم المماليك السلطانية، كما كان أولا فى دولة الملك الصالح عوضا عن محسن الشّهابى. وخلع على مختصّ الرسولى باستقراره زمام دار، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
ثم أنعم السلطان بإقطاع الأمير أرغون العلائى على الأمير أرغون شاه، وأنعم على كلّ من أصلم وأرقطاى بزيادة على إقطاعه، وأنعم على ابن تنكز بإمرة طبلخاناه، وعلى أخيه الصغير بإمرة عشرة.
ثم فى يوم الاثنين خامس [عشر «1» ] جمادى الآخرة أمّر السلطان ثمانية عشر أميرا ونزلوا إلى قبّة المنصوريّة «2» ولبسوا الخلع، وشقّوا القاهرة حتى طلعوا إلى القلعة فكان لهم بالقاهرة يوم مشهود. ثم فى يوم الخميس ثالث شهر رجب خلع السلطان على الأمير أرقطاى باستقراره نائب السلطنة بديار مصر باتفاق الأمراء على ذلك بعد ما امتنع من ذلك تمنعا زائدا، حتى قام الحجازى بنفسه وأخذ السيف، وأخذ أرغون شاه الخلعة ودارت الأمراء حوله، وألبسوه الخلعة على كره منه، فخرج فى موكب عظيم، حتى جلس فى شبّاك دار النيابة، وحكم بين الناس، وأنعم السلطان عليه- بزبادة على إقطاعه- ناحيتى المطريّة «3» والخصوص «4» ، لأجل سماط النيابة. ثم ركب السلطان بعد ذلك ونزل إلى سرياقوس على العادة كلّ سنة، وخلع على الأمير تمربغا العقيلى باستقراره فى نيابة الكرك عوضا عن الأمير قبلاى. ثم عاد السلطان(10/152)
إلى القلعة، وبعد عوده فى أوّل شهر «1» رمضان مرض السلطان عدّة أيام. ثم فى يوم الاثنين خامس «2» عشرين شهر رمضان خرج الأمير أرغون شاه الأستادار على البريد إلى نيابة صفد، وسبب ذلك تكبّره على السلطان، وتعاظمه عليه وتحكّمه فى الدولة، ومعارضته السلطان فيما يرسم به، وفحشه فى مخاطبة السلطان والأمراء حتّى كرهته النفوس، وعزم السلطان على مسكه فتلطّف به النائب حتّى تركه، وخلع عليه باستقراره فى نيابة صفد، وأخرجه من وقته خشية من فتنة يثيرها، فإنّه كان قد اتفق مع عدّة من المماليك على المخامرة، وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير ملكتمر الحجازى وأعطى ناحية بوتيج «3» زيادة عليه.
ثم فى يوم الأحد أوّل شوّال تزوّج السلطان ببنت الأمير تنكز زوجة أخيه الكامل. وفى آخر شوّال طلبت اتفاق العوّادة إلى القلعة فطلعت بجواريها مع الخدّام وتزوّجها السلطان خفية، وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجرى «4»(10/153)
شاهد «1» الخزانة، وبنى عليها من ليلته، بعد ما جليت عليه، وفرش تحت رجليها ستون شقّة أطلس، ونثر عليها الذهب. ثم ضربت بعودها وغنّت فأنعم السلطان عليها بأربعة فصوص وستّ لؤلؤات، ثمنها أربعة «2» آلاف دينار.
قلت: وهذا ثالث سلطان من أولاد ابن قلاوون تزوّج بهذه الجارية السوداء، وحظيت عنده، فهذا من الغرائب، على أنها كانت سوداء حالكة لا مولّدة، فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها فيمكن من تكون أعلى منها رتبة فى ذلك وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلى هذه. فسبحان المسخّر.
وفى ثانى شوّال «3» أنعم السلطان على الأمير طنيرق مملوك أخيه يوسف بتقدمة ألف بالديار المصريّة دفعة واحدة، نقله من الجنديّة إلى التقدمة لجمال صورته، وكثر كلام المماليك بسبب ذلك. ثم رسم السلطان بإعادة ما كان أخرج عن اتّفاق العوّادة من خدّامها وجواريها، وغير ذلك من الرواتب، وطلب السلطان عبد علىّ العوّاد المغنّى معلّم اتفاق إلى القلعة وغنّى السلطان فأنعم عليه بإقطاع فى الحلقة زيادة على ما كان بيده وأعطاه مائتى دينار وكامليّة حرير بفرو سمّور. وانهمك أيضا الملك المظفّر فى اللذات، وشغف باتفاق حتى شغلته عن غيرها وملكت قلبه، وأفرط فى حبّها، فشقّ ذلك على الأمراء والمماليك وأكثروا من الكلام، حتّى بلغ السلطان، وعزم على مسك جماعة منهم، فما زال به النائب حتى رجع عن ذلك.(10/154)
ثم خلع السلطان على قطليجا الحموىّ واستقرّ فى نيابة حماة عوضا عن طيبغا المجدى وخلع أيضا على أيتمش عبد الغنى واستقرّ فى نيابة غزّة، وخرجا من وقتهما على البريد، وكتب بإحضار المجدى، فقدم بعد ذلك إلى القاهرة، وخلع عليه باستقراره «1» أستادار عوضا عن أرغون شاه المنتقل إلى نيابة صفد.
وفى يوم أوّل «2» محرم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ركب السلطان فى أمرائه الخاصّكيّة ونزل إلى الميدان «3» ولعب بالكرة فغلب الأمير ملكتمر الحجازىّ فى الكرة، فلزم الحجازىّ عمل وليمة فعملها فى سرياقوس، ذبح فيها خمسمائة رأس من الغنم وعشرة أفراس، وعمل أحواضا مملوءة بالسكر المذاب، وجمع سائر أرباب الملاهى وحضرها السلطان والأمراء، فكان يوما مشهودا. ثم ركب السلطان وعاد، وبعد عوده قدم كتاب الأمير أسندمر نائب طرابلس يسأل الإعفاء فأعفى. وخلع على الأمير منكلى بغا أمير جاندار واستقرّ فى نيابة طرابلس.
وفى هذا الشهر شكا الناس للسلطان من بعد الماء عن برّ مصر والقاهرة، حتى غلت روايا الماء، فرسم السلطان بنزول المهندسين لكشف ذلك، فكتب تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة وعشرين ألف درهم، جبيت من أرباب الأملاك المطلّة على النيل، حسابا عن كل ذراع خمسة عشر درهما، فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع، وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين [يوسف «4» بن أبى بكر محمد الشهيربا] بن خطيب بيت «5» الأبّار.(10/155)
وفى هذه الأيام توقّفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدّام والعجائز والجوارى، وأخذهم الرّزق بأرض بهتيم «1» من الضواحى وبأراضى الجيزة وغيرها، بحيث إنه أخذ مقبل الرومى عشرة آلاف فدان.
وفى هذه الأيام رسم السلطان للطواشى مقبل الرومى أن يخرج اتّفاق العوّادة وسلمى والكركيّة حظايا السلطان من القلعة بما عليهن من الثياب، من غير أن يحملن شيئا من الجوهر والزّركش، وأن تقلع عصبة اتفاق عن رأسها ويدعها عنده، وكانت هذه العصبة قد اشتهرت عند الأمراء، وشنعت قالتها، فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك الإخوة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون: الملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان والملك المظفّر حاجّى هذا، وتنافسوا فيها واعتنوا بجواهرها حتّى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصريّة.
وسبب إخراج اتّفاق وهؤلاء من الدور السلطانيّة أن الأمراء الخاصّكيّة:
قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهما إنكار الأمراء الكبار والمماليك السلطانية شدّة شغف السلطان بالنسوة الثلاث المذكورات وانهماكه على اللهو بهنّ، وانقطاعه إليهن بقاعة الدهيشة عن الأمراء وإتلافه الأموال العظيمة فى العطاء لهنّ ولأمثالهن، وإعراضه عن تدبير الملك، وخوّفوه عاقبة ذلك، فتلطّف بهم وصوّب ما أشاروا(10/156)
به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء، وأخرجهنّ السلطان وفى نفسه حزازات لفراقهنّ، تمنعه من الهدوء والصبر عنهنّ، فأحب أن يتعوض عنهن بما يلهيه ويسليه، فاختار صنف الحمام، وأنشأ حضيرا «1» على الدهيشة ركّبه على صوارى وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام، فبلغ مصروف الحضير خاصّة سبعة «2» آلاف درهم، وبينا السلطان فى ذلك قدم جماعة من أعيان الحلبيين وشكوا من الأمير بيدمر البدرى نائب حلب فعزله السلطان بأرغون شاه نائب صفد، ورسم ألّا يكون لنائب الشام عليه حكم، وأن تكون مكاتباته للسلطان، حمل إليه التقليد الأمير طنيرق.
ثم ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام، فأخذ من كل أمير مقدّم ألف أربعة أفراس، ومن كل طبلخاناه فرسان، ومن كلّ أمير عشرة فرس واحد، وكشف عن البلاد المرصدة للبريد فوجد ثلاث بلاد منها وقف الملك الصالح إسماعيل، وقف بعضها وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى «3» بن حسن الهجّان بلدا تعمل فى كل سنة عشرين الف درهم، وثلاثة آلاف إردب غلّة، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
واستمرّ خاطر السلطان موغرا على الجماعة من الأمراء بسبب اتفاق وغيرها، إلى أن كان يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، كانت الفتنة العظيمة التى قتل فيها ملكتمر الحجازىّ وآق سنقر وأمسك بزلار(10/157)
وصمغار وأيتمش عبد الغنى؛ وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج اتّفاق وغيرها، وتشاغل بلعب الحمام صار يحضر إلى الدهيشة الأوباش، ويلعب بالعصا لعب صباح «1» ، ويحضر الشيخ على بن الكسيح مع حظاياه يسخر له وينقل إليه أخبار الناس، فشقّ ذلك على الأمراء وحدّثوا ألجيبغا «2» وطنيرق بأن الحال قد فسد، فعرّفا السلطان ذلك، فاشتدّ حنقه، وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بيده بحضرتهما، وقال لهما: والله لأذبحنّكم كما ذبحت هذه الطيور، وأغلق باب الدهيشة، وأقام غضبان يومه وليلته، وكان الأمير غرلو «3» قد تمكّن من السلطان فأعلمه السلطان بما وقع، فنال غرلو من الأمراء وهوّن أمرهم عليه، وجسّره على الفتك بهم والقبض على آق سنقر، فأخذ السلطان فى تدبير ما يفعله، وقرّر ذلك مع غرلو. ثم بعث طنيرق فى يوم الأربعاء خامس عشر شهر ربيع الآخر إلى النائب يعرّفه أن قرابغا القاسمىّ وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغنى قد اتّفقوا على عمل فتنة، وعزمى أن أقبض عليهم قبل ذلك، فوعده النائب بردّ الجواب غدا على السلطان فى الخدمة، فلمّا اجتمع النائب بالسلطان أشار عليه النائب بالتثبّت فى أمرهم حتّى يصحّ له ما قيل عنهم.
ثم أصبح فعرّفه السلطان فى يوم الجمعة بأنه صح عنده ما قيل بإخبار بيبغا أرس أنهم تحالفوا على قتله، فأشار عليه النائب أن يجمع بينهم وبين بيبغا أرس، حتى يحاققهم بحضرة(10/158)
الأمراء يوم الأحد، وكان الأمر على خلاف هذا، فإنّ السلطان كان اتّفق مع غرلو وعنبر السّحرتى مقدّم المماليك على مسك آق سنقر وملكتمر الحجازى فى يوم الأحد.
فلمّا كان يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر «1» المذكور حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة على العادة بعد العصر ومدّ السماط؛ وإذا بالقصر قد ملئ بالسيوف المسلّلة من خلف آق سنقر والحجازى، وأحيط بهما وبقرابغا، وأخذوا إلى قاعة هناك، فضرب ملكتمر الحجازىّ بالسيوف وقطّع «2» هو وآق سنقر قطعا، وهرب صمغار وأيتمش عبد الغنى، فركب صمغار فرسه من باب القلعة، وفرّ إلى القاهرة، واختفى أيتمش عند زوجته، وخرجت الخيل وراء صمغار حتى أدركوه خارج القاهرة؛ وأخذ أيتمش من داره فارتجّت القاهرة، وغلّقت الأسواق وأبواب القلعة، وكثر «3» الإرجاف إلى أن خرج النائب والوزير قريب المغرب، وطلبا الوالى ونودى بالقاهرة، فاشتهر ما جرى بين الناس، وخاف كلّ أحد من الأمراء على نفسه.
ثمّ أمر «4» السلطان بالقبض على مرزة علىّ وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه وعلى أولاد أيدغمش [وأولاد «5» قمارى، وأخرجوا الجميع إلى الإسكندرية هم وبزلار وأيتمش] وصمغار، لأنهم كانوا من ألزام الحجازى ومعاشريه، فسجنوا بها، وأخرج آق سنقر وملكتمر الحجازى فى ليلة الاثنين العشرين من شهر ربيع الآخر على جنويّات «6» فدفنا «7» بالقرافة. وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وجلس فى دست عظيم، ثم ركب(10/159)
وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وعلى أموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإسطبل السلطانىّ، وضرب عبد العزيز الجوهرى صاحب آق سنقر وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالا جزيلا، فخلع السلطان على الأمير غرلو قباء من ملابسه بطرز زركش عريض، وأركبه فرسا من خاصّ خيل الحجازى بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم خلا به يأخذ رأيه فيما يفعل فأشار عليه بأن يكتب إلى نوّاب الشام بما جرى، ويعدّد لهم ذنوبا كثيرة، حتى قبض عليهم، فكتب إلى الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام على يد الأمير آق سنقر المظفّرى أمير جاندار، فلما بلغ يلبغا الخبر كتب الجواب يستصوب ما فعله فى الظاهر، وهو فى الباطن غير ذلك، وعظم عليه قتل الحجازى وآق سنقر إلى الغاية. ثم جمع يلبغا أمراء دمشق بعد يومين بدار السعادة «1» وأعلمهم الخبر، وكتب إلى النّوّاب بذلك، وبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحماة وحلب، وبعث الأمير طيبغا القاسمىّ إلى طرابلس.
ثم انتقل فى يوم الجمعة «2» مستهلّ جمادى الأولى إلى القصر بالميدان فنزل به، ونزل ألزامه حوله بالميدان، وشرع فى الاستعداد للخروج عن طاعة الملك المظفّر هذا.(10/160)
وأما السلطان الملك المظفّر فإنه أخذ بعد ذلك يستميل المماليك السلطانيّة بتفرقة المال فيهم، وأمّر منهم جماعة، وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغنى وأصبح غرلو هو المشار إليه فى المملكة، فعظمت نفسه إلى الغاية.
ثم أخرج السلطان ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب وأنعم بتقدمته على الأمير طاز، وتولّى غرلو بيع قماش الأمراء وخيولهم، وصار السلطان يتخوّف من النوّاب بالبلاد الشامية إلى أن حضرت أجوبتهم بتصويب ما فعله، فلم يطمئنّ بذلك، ورسم بخروج تجريدة إلى البلاد الشامية، فرسم فى عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء من المقدّمين بالديار المصريّة، وهم الأمير طيبغا المجدىّ وبلك الجمدار والوزير نجم الدين محمود بن شروين وطنغرا وأيتمش الناصرى الحاجب وكوكاى والزّرّاق ومعهم مضافوهم من الأجناد، وطلب الأجناد من النواحى، وكان وقت إدراك المغلّ، فصعب ذلك على الأمراء، وارتجّت القاهرة بأسرها لطلب السلاح وآلات السفر.
ثم كتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطّفات على أيدى النّجّابة بالتيقّظ بحركات الأمير يلبغا اليحياوىّ نائب الشام. ثم أشار النائب على السلطان بطلب يلبغا ليكون بمصر نائبا أو رأس مشورة فإن أجاب وإلّا أعلم «1» بأنه قد عزل عن نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب، فكتب السلطان فى الحال يطلبه على يد أراى أمير آخور، وعند سفر أراى قدمت كتب نائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد على السلطان بأنّ يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتل الأمراء، وبعثوا بكتبه إليه فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدّم لعرب آل مهنّا بمنسك الطرقات على يلبغا وأعلمه أنّه ولّاه نيابة الشام عوضه، فقام أرغون شاه فى ذلك أتمّ قيام،(10/161)
وأظهر ليلبغا أنه معه، ولما وصل إلى يلبغا أراى أمير آخور فى يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى ودعاه إلى مصر ليكون رأس أمراء المشورة، وأن نيابة الشام أنعم بها السلطان على الأمير أرغون شاه نائب حلب، ظنّ يلبغا أن استدعاءه حقيقة، وقرأ كتاب السلطان فأجاب بالسمع والطاعة، وأنّه إذا وصل أرغون شاه إلى دمشق توجّه هو إلى مصر، وكتب الجواب بذلك، وأعاده سريعا، فتحلّلت عند ذلك عزائم أمراء دمشق وغيرها عن يلبغا، وتجهّز يلبغا وخرج إلى الكسوة «1» ظاهر دمشق فى خامس عشره، وكانت ملطّفات السلطان قد وردت إلى أمراء دمشق بإمساكه، فركبوا على حين غفلة وقصدوه ففرّ منهم بمماليكه وأهله وهم فى أثره إلى خلف ضمير «2» . ثم سار فى البرّيّة يريد أولاد تمرداش ببلاد الشرق، حتى نزل على حماة بعد أربعة أيام وخمس ليال، فركب الأمير قطيلجا نائب حماة بعسكره فتلقّاه ودخل به إلى المدينة وقبض عليه وعلى من كان معه من الأمراء، وهم الأمير قلاوون والأمير سيفة والأمير محمد بك بن جمق وأعيان مماليكه وكتب للسلطان بذلك، فقدم الخبر بذلك على السلطان فى جمادى الأولى أيضا، فسرّ سرورا زائدا، ورسم فى الوقت بإبطال التجريدة. ثم كتب بحمل يلبغا اليحياوى المذكور إلى مصر.
ثم بدا للسلطان غير ذلك وهو أنه أخرج الأمير منجك اليوسفىّ السّلاح دار بقتله، فسار منجك حتى لقى آقجبا [الحموى «3» ] ومعه يلبغا اليحياوى وأبوه «4» بقاقون فنزل منجك بقاقون، وصعد بيلبغا اليحياوى إلى قلعة قاقون وقتله بها فى يوم الجمعة(10/162)
عشرين جمادى الأولى، وحزّ رأسه وحمله إلى السلطان. قال الشيخ صلاح الدين الصفدى: «وكان يلبغا حسن الوجه مليح الثغر «1» أبيض اللّون، طويل القامة من أحسن الأشكال، قلّ أن ترى العيون مثله، كان ساقيا، وكانت الإنعامات التى تصل إليه من السلطان لم يفرح بها أحد قبله. كان يطلق له الخيل بسروجها وعددها وآلاتها الزّركش والذهب المصوغ خمسة عشر فرسا والأكاديش ما بين مائتى رأس فينعم بها عليه، وتجهّز إليه الخلع والحوائص وغير ذلك من التشاريف التى يرسم له بها خارجة عن الحدّ. وبنى له الإسطبل الذي فى سوق الخيل تجاه القلعة» .
قلت: والإسطبل المذكور كان مكان مدرسة السلطان حسن الآن، اشتراه السلطان حسن وهدمه وبنى مكانه مدرسته المعروفة به. وقد سقنا ترجمته أى يلبغا اليحياوىّ بأوسع من هذا فى تاريخنا «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم. انتهى.
وفى يوم الأحد خامس عشرين جمادى الأولى المذكور أخرج السلطان الوزير نجم الدين محمودا والأمير بيدمر البدرى نائب حلب كان، والأمير طغيتمر النجمى الدوادار إلى الشام؛ وسببه أن الأمير شجاع الدين غرلو لمّا كان شادّ الدواوين قبل تاريخه حقد على الوزير نجم الدين المذكور وعلى طغيتمر الدوادار، فحسّن للسلطان أحذ أموالهما، فقال السلطان للنائب عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا فأشار عليه النائب بإبعادهم، وأن يكون الوزير نجم الدين نائب غزّة وبيدمر نائب حمص وطغيتمر نائب طرابلس، فأخرجهم السلطان على البريد، فلم يعجب غرلو ذلك، وأكثر عند السلطان من الوقيعة فى الأمير أرقطاى النائب حتّى غيّر السلطان عليه، وما زال به حتّى بعث السلطان بأرغون الإسماعيلى إلى نائب غزّة بقتلهم(10/163)
فدخل أرغون معهم إلى غزّة بعد العصر وعرّف النائب ما جاء بسببه، فقبض عليهم نائب غزّة وقتلهم فى ليلته، وعاد أرغون وعرّف السلطان الخبر، فتغيّر قلب الأمراء ونفر خواطرهم فى الباطن من السلطان وميله إلى غرلو، وتمكّن غرلو من السلطان وأخذ أموال من قتل، وتزايد أمره واشتدّت وطأته، وكثر إنعام السلطان عليه حتّى إنه لم يكن يوم إلا وينعم عليه فيه بشىء. ثم أخذ غرلو فى العمل على علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاصّ «1» ؛ وعلى القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله العمرى كاتب السّر. وصار يحسّن للسلطان القبض عليهما «2» وأخذ أموالهما، فتلطّف النائب بالسلطان فى أمرهما حتى كفّ عنهما، فلم يبق بعد ذلك أحد من أهل الدولة حتّى خاف «3» من غرلو وصار يصانعه بالمال حتى يسترضيه «4» . ثم حسّن غرلو للسلطان قتل الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، فتوجّه الطواشى مقبل الرومى بقتلهم فقتل الأمير أرغون العلائى وقرابغا القاسمى وتمر الموساوىّ وصمغار وأيتمش عبد الغنى، وأفرج عن أولاد قمارى وأولاد أيدغمش وأخرجوا إلى الشام. واستمرّ السلطان على الانهماك فى لهوه، فصار يلعب فى الميدان تحت القلعة بالكرة فى يومى الأحد والثلاثاء، ويركب إلى الميدان «5» الذي على النيل فى يوم السبت.
فلمّا كان آخر ركوبه إلى الميدان رسم السلطان بركوب الأمراء المقدّمين بمضافيهم «6» ووقوفهم صفّين من الصّليبة إلى فوق القلعة «7» ليرى السلطان عسكره، فضاق الموضع، فوقف كلّ مقدّم بخمسة من مضافيه، وجمعت أرباب الملاهى، ورتّبت(10/164)
فى عدّة أماكن من القلعة إلى الميدان. ثم ركبت أمّ السلطان فى جمعها، وأقبل الناس من كلّ جهة، فبلغ كراء كلّ طبقة مائة درهم، وكلّ بيت كبير لنساء الأمراء مائتى درهم، وكلّ حانوت خمسين درهما، وكلّ موضع إنسان بدرهمين. فكان يوم لم يعهد فى ركوب الميدان مثله.
ثم فى يوم الخميس خامس عشره «1» قبض السلطان الملك المظفّر هذا على أعظم أمرائه ومدبّر مملكته الأمير شجاع الدين غرلو وقتله، وسبب ذلك أمور: منها شدّة كراهية الأمراء له لسوء سيرته، فإنه كان يخلو بالسلطان، ويشير عليه بما يشتهيه، فما كان السلطان يخالفه فى شىء، وكان عمله أمير سلاح فخرج عن الحدّ فى التعاظم، وجسّر السلطان على قتل الأمراء، وقام فى حقّ النائب أرقطاى يريد القبض عليه وقتله، واستمال المماليك الناصريّة والصالحيّة والمظفّريّة بكمالهم، وأخذ يقرّر مع السلطان، أن يفوّض إليه أمور المملكة بأسرها ليقوم عنه بتدبيرها، ويتوفّر السلطان على لذاته.
ثم لم يكفه ذلك، حتّى أخذ يغرى السلطان بألجيبغا وطنيرق وكانا أخصّ الناس بالسلطان، ولا زال يمعن فى ذلك حتى تغيّر السلطان عليهما، وبلغ ذلك ألجيبغا، وتناقلته المماليك فتعصّبوا عليه وأرسلوا إلى الأمراء الكبار، حتى حدّثوا السلطان فى أمره، وخوّفوه عاقبته، فلم يعبأ السلطان بقولهم، فتنكّروا بأجمعهم على السلطان بسبب غرلو إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته، فاستشار النائب فى أمر غرلو المذكور، فلم يشر عليه فى أمره بشىء، وقال للسلطان: لعلّ الرجل قد كثرت حسّاده على تقريب السلطان له، والمصلحة التثبّت فى أمره. وكان أرقطاى النائب عاقلا سيوسا، يخشى من معارضته غرض السلطان فيه، فاجتهد ألجيبغا وعدّة من الخاصّكيّة فى التدبير عليه وتخويف السلطان منه ومن سوء عاقبته، حتى أثّر قولهم فى نفس(10/165)
السلطان، وأقاموا الأمير أحمد شادّ الشرابخاناه، وكان مزّاحا للوقيعة فيه، فأخذ أحمد شاق الشرابخاناه فى خلوته مع السلطان يذكر كراهية الأمراء لغرلو وموافقة المماليك له، وأنه يريد أن يدبّر المملكة ويكون نائب السلطنة ليتوثّب بذلك على المملكة «1» ويصير سلطانا، ويخرج له قوله هذا فى وجه المسخريه «2» والضحك، وصار أحمد المذكور يبالغ فى ذلك على عدة فنون من الهزل، إلى أن قال السلطان: أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور، فمضى أحمد شادّ الشربخاناه إلى النائب وعرّفه مما وقع فى السّر، وأنه جسّر السلطان على الوقيعة فى غرلو، فبعث السلطان وراء النائب أرقطاى واستشاره فى أمر غرلو ثانيا فأثنى عليه النائب وشكره، فعرف السلطان كثرة وقيعة الخاصّكيّة فيه، وأنه قصد أن يعمله أمير آخور، فقال النائب: غزلو رجل شجاع جسور «3» لا يليق أن يعمل أمير آخور، فكأنّه أيقظ السلطان من رقدته بحسن عبارة وألطف إشارة، فأخذ السلطان فى الكلام معه بعد ذلك فيما يوليه! فأشار عليه النائب بتوليته نيابة غزّة، فقبل السلطان ذلك، وقام عنه النائب، فأصبح السلطان بكرة يوم الجمعة وبعث الأمير طنيرق إلى النائب أن يخرج غرلو إلى نيابة غزّة، فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة وجلس على باب القلّة، فبعث النائب يطلبه، فقال: مالى عند النائب شغل وما لأحد معى حديث غير أستاذى، فأرسل النائب يعرّف السلطان جواب غرلو فأمر السلطان مغلطاى أمير شكار وجماعة من الأمراء أن يعرّفوا غرلو عن السلطان أن يتوجّه إلى غزّة، وإن امتنع يمسكوه، فلما صار غرلو بداخل القصر لم يحدّثوه بشىء، وقبضوا عليه وقيّدوه وسلّموه لألجيبغا فأدخله إلى بيته(10/166)
بالأشرفية «1» ، فلمّا خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو وهو فى الصلاة، وأخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه، فنقلوا عنه أنه قال: أنا ما أروح مكانا، وأراد سلّ سيفه وضرب الأمراء به فتكاثروا عليه فما سلّم نفسه حتى قتل، فعزّ قتله على السلطان، وحقد عليهم لأجل قتله، ولم يظهر لهم ذلك، ورسم بإيقاع الحوطة على حواصله. وكان لموته يوم مشهود.
ثم أخرج بغرلو المذكور ودفن بباب القرافة، فأصبح وقد خرجت يده من القبر «2» ، فأتاه الناس أفواجا ليروه ونبشوا عليه وجرّوه بحبل فى رجله إلى تحت القلعة، وأتوا بنار ليحرقوه وصار لهم ضجيج عظيم، فبعث السلطان عدّة من الأوجاقية قبضوا على كثير من العامة، فضربهم الوالى بالمقارع وأخذ منهم غرلو المذكور ودفنه. ولم يظهر لغرلو المذكور كثير مال.
قلت: ومن الناس من يسمّيه «أغزلو» بألف مهموزة وبعدها غين معجمة مكسورة وزاى ساكنة ولام مضمونة وواو ساكنة. ومعنى أغزلو باللغة التركية: «له فم» وقد ذكرناه نحن أيضا فى المنهل الصافى فى حرف الهمزة، غير أن جماعة كثيرة ذكروه «غرلو» فاقتدينا بهم هنا وخالفناهم هناك، وكلاهما اسم باللغة التركية. انتهى.
وكان غرلو هذا أصله من مماليك الحاجّ بهادر العزّى، وخدم بعده عند بكتمر السّاقى وصار أمير آخوره، ثم خدم بعد بكتمر عند بشتك، وصار أمير آخوره أيضا.
ثم ولى بعد ذلك ناحية (أشمون «3» ) ، ثم ولى نيابة الشّوبك «4» . ثم ولى القاهرة، وأظهر العفّة(10/167)
والأمانة، وحسنت سيرته، ثم تقرّب عند الملك الكامل شعبان، وفتح له باب الأخذ فى الولايات والإقطاعات، وعمل لذلك ديوانا قائم الذات، سمّى ديوان البدل «1» ، فلما تولّى الصاحب تقىّ الدين بن مراحل الوزر شاححه فى الجلوس والعلامة، فترجّح الصاحب تقي الدين وعزل غرلو هذا عن شدّ الدواوين، ودام على ذلك إلى أن كانت نوبة السلطان الملك المظفّر كان غرلو هذا ممن قام معه، لما كان فى نفسه من الكامل من عزله عن شد الدواوين، وضرب فى الوقعة أرغون العلائى بالسيف فى وجهه، وتقرّب من يوم ذاك إلى الملك المظفّر، حتى كان من أمره ما حكيناه.
ثم خرج السلطان الملك المظفّر بعد قتله إلى سرياقوس على العادة وأقام بها أياما، ثم عاد وخلع على الأمير منجك اليوسفى السلاح دار باستقراره حاجبا بدمشق عوضا عن أمير على بن طغريل. وأنعم السلطان على اثنى عشر من المماليك السلطانية بإمريات ما بين طبلخاناه وعشرة وأنعم بتقدمة الأمير منجك السّلاح دار على بعض خواصّه.
وفى يوم مستهلّ شعبان خرج الأمير طيبغا المجدى والأمير أسندمر العمرىّ والأمير بيغرا والأمير أرغون الكاملى والأمير بيبغا أرس والأمير بيبغا ططر إلى الصيد. ثم خرج الأمير أرقطاى النائب بعدهم إلى الوجه القبلىّ بطيور السلطان، ورسم السلطان لهم ألّا يحضروا إلى العشر الأخير من شهر رمضان، فخلا الجو للسلطان، وأعاد حضير الحمام وأعاد أرباب الملاعيب من الصّراع والثقاف والشباك، وجرى السّعاة، ونطاح الكباش، ومناقرة الدّيوك، والقمار، وغير ذلك من أنواع الفساد. ونودى بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة [ومصر «2» ] وصار للسلطان(10/168)
اجتماع بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية «1» ومطيّرى الحمام، فكان السلطان يقف معهم ويراهن على الطير الفلانى والطيرة الفلانيّة؛ وبينما هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام، وقد سيّبها إذ أذّن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام عن مقاصيرها وتطايرت فغضب وبعث إلى المؤذّنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم. ويلعب مع العوامّ بالعصىّ وكان السلطان إذا لعب مع الأوباش يتعرّى ويلبس تبّان «2» جلد ويصارع معهم ويلعب بالرّمح والكرة، فيظلّ نهاره مع الغلمان والعبيد فى الدهيشة، وصار يتجاهر بما لا يليق به أن يفعله.
ثم أخذ مع ذلك كلّه فى التدبير على قتل أخيه حسين، وأرصد له عدّة خدّام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه، فبلغ حسينا ذلك فتمارص واحترس على نفسه فلم يجدوا منه غفلة.
ثم فى سابع عشر شعبان توفّى الخليفة أبو الربيع سليمان، وبويع بالخلافة ابنه أبو بكر ولقّب بالمعتصم بالله أبى الفتح. وفى آخر شعبان قدم الأمراء من الصيد شيئا بعد شىء وقد بلغهم ما فعله السلطان فى غيبتهم، وقدم ابن الحرّانى من دمشق بمال يلبغا اليحياوى فتسلّمه الخدّام، وأنعم السلطان من ليلته على حظيّته «كيدا» من المال بعشرين ألف دينار، سوى الجواهر واللآلئ ونثر الذهب على الخدّام والجوارى، فاختطفوه وهو يضحك، وفرّق على لعّاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ، وهو يحذفه عليهم وهم يترامون عليه ويأخذوه بحيث إنه لم يدع من مال يلبغا سوى(10/169)
القماش، فكان جملة التى فرّقها ثلاثين ألف دينار وثلثمائة ألف درهم، وجواهر وحليّا ولؤلؤا وزركشا ومصاغا، قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار، فعظم ذلك على الأمراء، وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرّفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من لعب الحمام وتقريب الأوباش، وخوّفاه فساد الأمر، فغضب وأمر آقجباشاد والعمائر بخراب حضير الحمام، ثم أحضر الحمام وذبحهم واحدا بعد واحد بيده وقال لألجيبغا وطنيرق:
والله لأذبحنّكم كلّكم كما ذبحت هذا الحمام وتركهم وقام، وفرق جماعة من خشداشيّة ألجيبغا طنيرق فى البلاد الشامية، واستمرّ على إغراضه عن الجميع، ثم قال لحظاياه وعنده معهن الشيخ على بن الكسيح: والله ما بقى يهنأ لى عيش وهذان الكذّابان بالحياة (يعنى بذلك عن ألجيبغا وطنيرق) فقد فسدا علىّ جميع ما كان لى فيه سرور، واتّفقا علىّ، ولابدّ لى من ذبحهما، فنقل ذلك ابن الكسيح لألجيبغا فإن ألجيبغا هو الذي أوصله إلى السلطان، وقال: مع ذلك خذ لنفسك فو الله لا يرجع عنك وعن طنيرق، فطلب ألجيبغا طنيرق وعرّفه ذلك، فأخذا فى التدبير عليه فى الباطن [وأخذ فى التدبير عليهما «1» ] ، وخرج الأمير بيبغا أرس للصيد بالعبّاسة «2» ، فإنه كان صديقا لألجيبغا وتنمّر السلطان على طنيرق واشتدّ عليه وبالغ فى تهديده، فبعث طنيرق وألجيبغا إلى الأمير طشتمر طلليه «3» ، وما زالا به حتّى وافقهما ودارا على الأمراء، وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان الملك المظفّر، وتوقّع به أنه يفتك به، فصاروا معهما يدا واحدة لما فى نفوسهم. ثم كلّموا النائب فى موافقتهم وأعلموه(10/170)
أنه يريد القبض عليه، وكان عنده أيضا حسّ من ذلك، وأكثروا من تشجيعه.
حتى وافقهم وأجابهم، وتواعدوا جميعا فى يوم الخميس تاسع شهر رمضان على الركوب على السلطان فى يوم الأحد ثانى عشر شهر رمضان
فبعث السلطان فى يوم السبت يطلب بيبغا أرس من العبّاسة، وقد قرّر مع الطواشى عنبر مقدّم المماليك أن يعرّف المماليك السلاح دارّية أن يقفوا خلفه فإذا دخل بيبغا أرس، وقبّل الأرض ضربوه بالسيوف وقطعوه قطعا، فعلم بذلك ألجيبغا، وبعث إليه يعلمه مما دبّره السلطان عليه من قتله ويعرّفه بما وقع اتفاق الأمراء عليه، وأنه يوافيهم بكرة يوم الأحد على قبّة النصر، فاستعدوا ليلتهم ونزل ألجيبغا من القلعة، وتلاه بقيّة الأمراء، حتى كان آخرهم ركوبا الأمير أرقطاى نائب السلطنة، وتوافوا بأجمعهم عند مطعم «1» الطير، وإذا ببيبغا أرس قد وصل إليهم، فعبّوا «2» أطلابهم ومماليكهم ميمنة وميسرة، وبعثوا فى طلب بقية الأمراء، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم ملبسين «3» عند قبّة النصر، وبلغ السلطان ذلك، فأمر بضرب الكوسات فدقّت، وبعث الأوجاقية فى طلب الأمراء فجاءه طنيرق وشيخون وأرغون الكاملى وطاز ونحوهم من الأمراء الخاصّكيّة. ثم بعث المقدّمين فى طلب أجناد الحلقة فحضروا.(10/171)
ثم أرسل السلطان يعتب النائب على ركوبه فردّ جوابه بأن مملوكك الذي ربّيته ركب عليك (يعنى عن ألجيبغا) وأعلمنا فساد نيّتك لنا، وقد قتلت مماليك أبيك وأخذت أموالهم، وهتكت حريمهم بغير موجب، وعزمت على الفتك بمن بقى، وأنت أوّل من حلف أنك لا تخون الأمراء ولا تخرّب بيت أحد، فردّ الرسول إليه يستخبره عمّا يريدوه الأمراء من السلطان حتّى يفعله لهم، فعاد جوابهم أنه لا بدّ أن يسلطنوا غيره، فقال: ما أموت إلّا على ظهر فرسى، فقبضوا على رسوله وهمّوا بالزّحف عليه، فمنعهم النائب أرقطاى من ذلك حتى يكون القتال أوّلا من السلطان، فبادر السلطان بالركوب إليهم وأقام أرغون الكاملى وشيخون فى الميمنة، ثم أقام عدّة أمراء أخر فى الميسرة، وسار بمماليكه حتّى وصل إلى قريب قبّة النصر، فكان أول من تركه ومضى إلى القوم الأمير طاز ثم الأمير أرغون الكاملى ثم الأمير ملكتمر السعدى ثم الأمير شيخون وانضافوا الجميع إلى النائب أرقطاى والأمراء، وتلاهم بقيّتهم حتى جاء الأمير طنيرق والأمير لاچين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم، وبقى السلطان فى نحو عشرين فارسا، فبرز له الأمير بيبغا أرس والأمير ألجيبغا فولّى السلطان فرسه وانهزم عنهم فتبعوه وأدركوه وأحاطوا به، فتقدّم إليه بيبغا أرس فضربه السلطان بالطّبر، فأخذ بيبغا الضربة بترسه. ثم حمل عليه بالرّمح وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه وضربه طنيرق بالسيف جرح وجهه وأصابعه. ثم ساروا به على فرس غير فرسه محتفظين به إلى تربة «1» آق سنقر الرومى تحت الجبل وذبحوه من ساعته قبيل عصر يوم الأحد ثانى عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ودفن بتربة أمّه،(10/172)
ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه قال لهم: بالله لا تستعجلوا علىّ، خلونى ساعة، فقالوا:
كيف استعجلت أنت على قتل الناس! لو صبرت عليهم صبرنا عليك فذبحوه.
وقيل: إنّهم لما أنزلوه عن فرسه كتّفوه وأحضروه بين يدى النائب أرقطاى ليقتله، فلما رآه النائب نزل عن فرسه وترجّل ورمى عليه قباءه وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان ابن سلطان ما أقتله! فأخذوه ومضوا إلى الموضع الذي ذبحوه فيه، وفيه يقول الشيخ صلاح الدين الصفدى: [الخفيف]
أيها العاقل اللبيب تفكّر ... فى المليك المظفّر الضّرغام
كم تمادى فى البغى والغىّ حتى ... كان لعب الحمام جدّ الحمام
وفيه يقول: [المجتث]
حان الرّدى للمظفّر ... وفى التراب تعفّر
كم قد أباد أميرا ... على المعالى توفّر
وقاتل النفس ظلما ... ذنوبه ما تكفّر
ثم صعد الأمراء القلعة من يومهم، ونادوا فى القاهرة بالأمان والاطمئنان وباتوا بالقلعة ليلة الاثنين، وقد اتّفقوا على مكاتبة نائب الشام والأمير أرغون شاه بما وقع، وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيموه سلطانا فأصبحوا وقد اجتمع المماليك على إقامة حسين ابن الملك الناصر محمد عوضا عن أخيه المظفّر فى السلطنة ووقعت بين حسين وبينهم مراسلات فقام المماليك فى أمره فقبضوا الأمراء على عدّة منهم ووكّلوا الأمير طاز بباب حسين، حتّى لا يجتمع به أحد من جهة المماليك، وأغلقوا باب القلعة، واستمرّوا بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء «1» ، وقصد المماليك إقامة الفتنة، فحاف الأمراء تأخير السلطنة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك مالا يدرك فارطه، فوقع اتّفاقهم عند ذلك على حسن فسلطنوه فتمّ أمره.(10/173)
وكانت مدّة سلطنة الملك المظفّر هذا على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان المظفّر أهوج سريع الحركة، عديم المداراة، سيّئ التدبير، يؤثر صحبة الأوباش على أرباب الفضائل والأعيان، وكان فيه ظلم وجبروت وسفك للدماء، قتل فى مدة سلطنته مع قصرها خلائق كثيرة من الأمراء وغيرهم وكان مسرفا على نفسه، يحبّ لعب الحمام وغيره، ويحسن فنونا كثيرة من الملاعيب، كالرمح والكرة والصّراع والثّقاف وضرب السيف، مع شجاعة وإقدام من غير تثبّت فى أموره.
قلت: وبالجملة هو أسوأ سيرة من جميع إخوته ممن تسلطن قبله من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، على أن الجميع غير نجباء وحالهم كقول القائل:
«عجيب نجيب من نجيب» ؛ اللهم إن كان السلطان حسن الآتى ذكره، فهو لا بأس به. انتهى.
*** السنة التى حكم فى أوّلها الملك الكامل شعبان إلى سلخ جمادى الأولى، ثم حكم فى باقيها الملك المظفّر حاجى صاحب الترجمة وهى سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
فيها توفى الأمير بهاء الدين أصلم بن عبد الله الناصرى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم السبت عاشر شعبان؛ وإليه ينسب جامع «1» أصلم خارج القاهرة(10/174)
بسوق الغنم. وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون «1» وكان من خواصّ الملك الناصر محمد وقبض عليه وحبسه سنين، ثم أطلقه، وكان من أعيان الأمراء، وتولّى عدّة ولايات بالبلاد الشامية وغيرها حسب ما تقدّم ذكره فيما مضى، طالت أيامه فى السعادة والإمرة حتى صار من أمراء المشورة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار، ثم نائب السلطنة بالديار المصرية مقتولا بالإسكندرية فى أيام الملك الكامل شعبان، وأحضر ميتا إلى القاهرة فى يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة. وأصله من كسب الأبلستين فى الأيام الظاهريّة بيبرس فى سنة ست وسبعين وستمائة، واشتراه قلاوون وهو أمير ومعه سلّار النائب، فأنعم بسلار على ولده علىّ، وأنعم بآل ملك هذا على ولده الآخر.
وقيل قدّمه لصهره الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس، فأعطاه الملك السعيد لكوندك «2» وقيل غير ذلك. وترقّى آل ملك فى الخدم إلى أن صار من جملة(10/175)
أمراء الديار المصرية. وتردّد للملك الناصر محمد بن قلاوون فى الرسليّة لمّا كان بالكرك من جهة الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، فأعجب الملك الناصر عقله وكلامه.
فلمّا أن عاد الملك الناصر إلى ملكه رقّاه وولّاه الأعمال الجليلة إلى أن ولى نيابة السلطنة بديار مصر فى دولة الملك الصالح إسماعيل. فلمّا ولى الملك الكامل شعبان أخرجه لنيابة صفد. ثم طلبه وقبض عليه وقتله بالإسكندرية، وقد ذكرنا من أحواله نبذة كبيرة فى عدّة تراجم فلا حاجة لتكرار ذلك، إذ ليس هذا المحلّ محلّ الإطناب إلا فى تراجم ملوك مصر فقط، ومن عداهم يكون على سبيل الاختصار.
وآل ملك هذا هو صاحب الدار «1» العظيمة بالقرب من باب مشهد الحسين- رضى الله عنه- وله هناك مدرسة «2» أيضا تعرف به، وهو صاحب الجامع «3» بالحسينية. وكان(10/176)
خيرا ديّنا عفيفا مثريا، كان يقول: كلّ أمير لا يقيم رمحه ويسكب الذهب حتى يساوى السّنان ما هو أمير.
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى بن عبد الله الناصرى أخو بكتمر الساقى مقتولا، وقد ولى نيابة طرابلس والأستادارية بديار مصر، وكان من أعيان الأمراء الناصرية مشهورا بالشجاعة والإقدام، وهو غير قمارى أمير شكار، وكلاهما «1» من الأمراء الناصرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله السّرجوانىّ نائب الكرك فى يوم الاثنين مستهلّ المحرّم خارج القاهرة، وقد قدمها من الكرك مريضا، وكان من أعيان الأمراء، وتولّى عدّة ولايات، لا سيما نيابة الكرك، فإنّه وليها غير مرّة.
قلت: وغالب هؤلاء الأمراء ذكرنا من أحوالهم فى عدّة مواطن من تراجم ملوك مصر ما يستغنى عن ذكره ثانيا هنا.
وتوفّى ملك تونس من بلاد الغرب أبو بكر «2» بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى ابن عبد الواحد فى ليلة الأربعاء ثامن شهر رجب، بعد ما ملك تونس نحوا من ثلاثين سنة، وتولّى بعده ابنه أبو حفص عمر، وكان أبو بكر هذا من أجلّ ملوك الغرب، وطالت أيامه فى السلطنة، وله مواقف فى العدوّ «3» مشهودة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى تاج الدين «4» محمد بن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان المصرى كاتب سرّ دمشق فى ليلة الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر. وكان كاتبا فاضلا باشر عدّة وظائف.(10/177)
وتوفى الأمير سيف الدين طقتمر «1» بن عبد الله الصلاحىّ نائب حمص بها. وكان من أعيان أمراء مصر. وقد مرّ ذكره أيضا فى تراجم أولاد الملك الناصر محمد ابن قلاوون.
وتوفى الشيخ شمس الدين محمد «2» بن محمد بن محمد [بن نمير] بن السراج بن نمير بن السراج فى شعبان؛ وكان كاتبا فاضلا مقرئا، وعنده مشاركة فى فنون.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 748]
السنة الثانية من ولاية الملك المظفّر حاجّى على مصر، وهى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، على أنه قتل فى شهر رمضان منها، وحكم فى باقيها أخوه السلطان الملك الناصر حسن.
فيها توفى الأمير شمس الدين آق سنقر بن عبد الله الناصرى مقتولا بقلعة الجبل، وقد تقدّم ذكر قتله أن الملك المظفّر حاجّيّا أمر بالقبض على آق سنقر وعلى الحجازى بالقصر، ثم قتلا من ساعتهما تهبيرا بالسيوف فى يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وكان آق سنقر هذا اختصّ به أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوّجه إحدى بناته وجعله أمير شكار، ثم أمير آخور، ثم نائب غزّة، وأعيد بعد موت الناصر فى أيام الملك الصالح إسماعيل ثانيا واستقرّ أمير آخور على عادته، ثم ولى نيابة طرابلس مدّة، ثم أحضر إلى مصر فى أيام الملك الكامل(10/178)
شعبان، وعظم قدره، ودبّر الدولة فى أيام الملك المظفّر حاجىّ. ثم ثقل عليه وعلى حواشيه فوشوا به وبملكتمر حتى قبض عليهما وقتلهما فى يوم واحد.
وكان آق سنقر أميرا جليلا كريما شجاعا عارفا مدبّرا. وإليه ينسب جامع «1» آق سنقر(10/179)
بخط التّبانة «1» خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين بيدمر «3» البدرى مقتولا بغزة فى أوّل جمادى الآخرة، وهو أيضا أحد المماليك الناصرية وترقى إلى أن ولى نيابة حلب. وقد تقدّم ذكر مقتله فى ترجمة الملك المظفر حاجى. وإليه تنسب المدرسة «4» البيدمرية قريبا من مشهد الحسين رضى الله عنه.(10/180)
وتوفّى قاضى القضاة «1» عماد الدين علىّ بن محيى الدين أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد الطّرسوسىّ الحنفى الدمشقى قاضى قضاة دمشق بها، عن تسع وسبعين سنة تقريبا، بعد ما ترك القضاء لولده وانقطع بداره للعبادة، إلى أن مات فى يوم الاثنين ثامن عشرين ذى الحجة. وكان منشؤه بدمشق، وقرأ الخلاف على الشيخ بهاء الدين «2» بن النحّاس، والفرائض على أبى العلاء «3» ، وتفقّه على جماعة من علماء عصره، وبرع فى عدّة علوم وأفتى ودرّس بعدّة مدارس. وكان كثيرة التلاوة سريع القراءة، قيل إنه كان يقرأ القرآن فى التروايح كاملا فى أقلّ من ثلاث ساعات بحضور جماعة من القرّاء. وتولّى قضاء دمشق بعد قاضى القضاة صدر «4» الدين على الحنفىّ فى سنة سبع وعشرين وسبعمائة وحمدت سيرته. وكان أوّلا ينوب عنه فى الحكم. رحمه الله تعالى.(10/181)
وتوفّى قاضى قضاة المالكية وشيخ الشيوخ بدمشق شرف الدين محمد بن أبى بكر ابن ظافر بن عبد الوهاب الهمدانىّ «1» فى ثالث المحرّم عن ثلاث وسبعين سنة. وكان فقيها عالما صوفيّا.
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ المؤرّخ صاحب التصانيف المفيدة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز [بن عبد الله «2» التّركمانىّ الأصل الفارقىّ] الذهبىّ الشافعىّ- رحمه الله تعالى- أحد الحفّاظ المشهورة فى ثالث ذى القعدة.
ومولده فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائه، وسمع الكثير ورحل البلاد، وكتب وألّف وصنّف وأرّخ وصحّح وبرع فى الحديث وعلومه، وحصّل الأصول وانتقى، وقرأ القراءات السبع على جماعة من مشايخ القراءات. استوعبنا مشايخه ومصنّفاته فى تاريخنا «المنهل الصافى» مستوفاة. ومن مصنفاته: «تاريخ الإسلام» وهو أجل كتاب نقلت عنه فى هذا التاريخ. وقال الشيخ صلاح الدين الصفدىّ- بعد ما أثنى عليه- قال: «وأخذت عنه وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمودة المحدّثين، ولا كودنة «3» النّقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبنى منه ما يعنيه فى تصانيفه، ثم إنه لا يتعدّى حديثا يورده حتى يبيّن ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن فى روايته، وهذا لم أر غيره يراعى هذه الفائدة» . وأنشدنى من لفظه لنفسه مضمّنا، وهو تخيّل جيّد إلى الغاية: [وافر](10/182)
إذا قرأ الحديث علىّ شخص ... وأخلى موضعا لوفاة مثلى
فما جازى بإحسان لأنّى ... أريد حياته ويريد قتلى
وتوفى الأمير الوزير نجم الدين محمود [بن على «1» ] بن شروين المعروف بوزير بغداد مقتولا بغزّة مع الأمير بيدمر البدرىّ فى جمادى الآخرة. وكان قدم من بغداد إلى القاهرة فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فلمّا سلّم على السلطان وقبّل الأرض ثم قبّل يده حطّ فى يد السلطان حجر «2» بلخش، زنته أربعون درهما، قوّم بمائتى ألف درهم، فأمّره السلطان وأعطاه تقدمة ألف بديار مصر. ثم ولى الوزر غير مرّة إلى أن أخرجه الملك المظفّر حاجّىّ إلى غزّة، وقتله بها هو وبيدمر البدرىّ وطغيتمر الدوادار، وكان- رحمه الله- عاقلا سيوسا كريما محسنا مدبّرا، محمود الاسم والسيرة فى ولاياته، وهو ممّن ولى الوزر شرقا وغربا، وهو صاحب الخانقاه بالقرافة بجوار تربة كافور الهندىّ.
وتوفى الشيخ الإمام البارع المفتّن قوام الدين مسعود بن محمد «3» بن محمد بن سهل الكرمانى الحنفى بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة. وكان إماما بارعا فى الفقه والنحو(10/183)
والأصلين واللغة، وله شعر وتصانيف، وسماه الحافظ عبد القادر فى الطبقات مسعود بن إبراهيم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله الحجازىّ الناصرىّ قتيلا فى تاسع عشر شهر ربيع الآخر مع الأمير آق سنقر المقدّم ذكره. وكان أصل الحجازى من مماليك شمس الدين «1» أحمد بن يحيى بن محمد بن عمر الشّهرزورىّ البغدادى، فبذل فيه الملك الناصر محمد زيادة على مائة ألف درهم، حتى ابتاعه له منه المجد السلامىّ بمكة لمّا حجّ الشهرزورىّ، وقدم به على الناصر، فلم ير بمصر أحسن منه ولا أظرف فعرف بالحجازى، وحظى عند الملك الناصر، حتى جعله من أكابر الأمراء وزوّجه بإحدى بناته «2» . وكان فيه كلّ الخصال الحسنة، غير أنه كان مسرفا على نفسه منهمكا فى اللذّات، مدمنا على شرب الخمر، فكان مرتّبه منه فى كل يوم خمسين رطلا.
ولم يسمع منه فى سكره وصحوه كلمة فحش، ولا توسّط بسوء أبدا، هذا مع سماحة النفس والتواضع والشجاعة والكرم المفرط، والتجمّل فى ملبسه ومركبه وحواشيه.
وقد تقدّم كيفية قتله فى ترجمة الملك المظفّر هذا.
وتوفى الأمير طغيتمر بن «3» عبد الله النجمى الدوادار، صاحب الخانقاة «4» النجمية خارج باب المحروق من القاهرة مقتولا بغزّة مع بيدمر البدرىّ ووزير بغداد المقدّم(10/184)
ذكرهما. وكان طغتمر من أجل أمراء مصر، وكان عارفا عاقلا كاتبا وعنده فضيلة ومشاركة. وكان مليح الشكل.
وتوفى الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوىّ الناصرىّ نائب الشام مقتولا بقلعة قاقون، تقدّم ذكر قتله فى ترجمة الملك المظفّر هذا. وكان يلبغا هذا أحد من شغف به أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمّر له الدار «1» العظيمة التى موضعها الآن مدرسة «2» السلطان حسن تجاه القلعة. ثم جعله أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية. ثم ولى بعد موت الملك الناصر حماة وحلب والشام. وعمّر بالشام الجامع المعروف بجامع يلبغا بسوق الخيل، ولم يكمّله، فكمّل بعد موته. وكان حسن الشكالة، شجاعا كريما، بلغ إنعامه فى كلّ سنة على مماليكه فقط مائة وعشرين فرسا وثمانين حياصة ذهب. وعاش أبوه بعده، وكان تركىّ الجنس، وتقلب فى هذه السعادة، ومات وسنه نيّف «3» على عشرين سنة.
وتوفى الأمير أرغون بن عبد الله العلائىّ قتيلا بالإسكندرية، وكان أرغون أحد المماليك الناصرية، رقّاه الملك الناصر محمد فى خدمته، وزوّجه أمّ ولديه:
الصالح «4» إسماعيل والكامل شعبان، وعمله لا لا لأولاده، فدبّر الدولة فى أيام ربيبه(10/185)
الملك الصالح إسماعيل أحسن تدبير. ثم قام بتدبير ربيبه أيضا الملك الكامل شعبان، حتى قتل شعبان لسوء سيرته وأرغون ملازمه، فقبض على أرغون المذكور بعد الهزيمة وسجن بالإسكندرية إلى أن قتله الملك المظفّر حاجّىّ فيمن قتل، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى وقته. وأرغون هذا هو صاحب الخانقاه بالقرافة.
وكان عاقلا عارفا مدبرا سيوسا كريما، ينعم فى كل سنة بمائتين وثلاثين فرسا، ومبلغ أربعين ألف دينار. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدى: وعظمت حرمته لما دبّر المملكة وكثرت أرزاقه وأملاكه، وصار أكبر «1» من النوّاب بالديار المصرية، وهو باق على وظيفته رأس نوبة الجمدارية، وجنديته إلى آخر وقت.
قلت: وهذا الذي ذكره صلاح الدين من العجب، كونه يكون مدبّر مملكتى الصالح والكامل، وهو غير أمير. انتهى.
وتوفّى جماعة من الأمراء بسيف السلطان الملك المظفّر حاجّىّ، منهم: الأمير أيتمش عبد الغنىّ والأمير تمر الموساوى الساقى والأمير قرابغا والأمير صمغار، الجميع بسجن الإسكندريّة، وهم من المماليك الناصرية محمد بن قلاوون، وقتل أيضا بقلعة الجبل الأمير غرلو فى خامس «2» عشرين جمادى الاخرة، وقد تقدّم التعريف بحاله عند قتله فى ترجمة الملك المظفّر حاجّىّ. وكان جركسىّ الجنس، ولهذا كان جمع الجراكسة على الملك المظفر حاجّىّ، لأنهم من جنسه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.(10/186)
ذكر سلطنة الملك الناصر حسن الأولى على مصر
السلطان الملك الناصر بدر الدين وقيل ناصر الدين أبو المعالى حسن. واللّقب الثانى أصحّ، لأنه أخذ كنية أبيه، ولقبه وشهرته، ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وأمّه أمّ ولد ماتت عنه وهو صغير، فتولّى تربيته خوند أردو، وكان أوّلا يدعى قمارى واستمرّ بالدور السلطانيّة إلى أن كان من أمر أخيه الملك المظفّر حاجّىّ ما كان. وطلبت المماليك أخاه حسينا للسلطنة، فقام الأمراء بسلطنة حسن هذا، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان فى يوم الثلاثاء، رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعماية، وركب بشعار السلطنة وأبّهة الملك. ولمّا جلس على تخت الملك لقّبوه بالملك الناصر سيف الدين قمارى، فقال السلطان حسن للنائب أرقطاى: يا أبت ما اسمى قمارى، إنما اسمى حسن، فاستلطفه الناس لصغر سنّه ولذكائه، فقال له:
النائب: يا خوند- والله- إن هذا اسم حسن، حسن على خيرة الله تعالى.
فصاحت الجاووشيّة فى الحال باسمه وشهرته وتمّ مره، وحلف له الأمراء على العادة. وعمره يوم سلطنته إحدى عشرة سنة، وهو السلطان التاسع عشر من ملوك الترك بالديار المصريّة، والسابع من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وفى يوم الأربعاء خامس عشره اجتمع الأمراء بالقلعة وأخرج لهم الطواشى دينار الشّبلىّ المال من الخزانة، ثم طلب الأمراء خدّام الملك المظفّر وعبيده، ومن كان يعاشره من الفرّاشين ولعاب الحمام، وسلّموا لشادّ الدواوين على حمل ما أخذوه من الملك المظفّر من الأموال، فأظهر بعض الخدّام حاصلا تحت يده من الجوهر واللؤلؤ، ما قيمته زيادة على مائة ألف دينار، وتفاصيل حرير، وبذلات زركش بمائة ألف دينار أخرى.(10/187)
وفى يوم الخميس قبض على الأمير أيدمر الزرّاق والأمير قطز أمير آخور والأمير بلك الجمدار، وأخرج قطز لنيابة صفد، وقطعت أخباز عشرين خادما وخبز عبد علىّ العوّاد المغنى وخبز إسكندر بن بدر الدين كتيلة الجنكىّ، ثم قبض ايضا على الطواشى عنبر السّحرتى مقدّم المماليك، وعلى الأمير آق سنقر أمير جندار، ثم عرضت المماليك أرباب الوظائف وأخرج منهم جماعة، وأحيط بمال «كيدا» حظيّة الملك المظفر التى أخذها بعد اتّفاق السوداء العوّادة وأموال بقية الحظايا وأنزلن من القلعة، وكتبت أوراق بمرتبات الخدّام والعبيد والجوارى فقطعت كلّها.
وكان أمر المشورة فى الدولة والتدبير لتسعة أمراء: بيبغا أرس القاسمىّ وألجيبغا المظفّرى وشيخون العمرىّ وطاز الناصرىّ وأحمد شادّ الشراب خاناه وأرغون الاسماعيلىّ وثلاثة أخر، فاستقر الأمير شيخون رأس نوبة كبيرا وشارك فى تدبير المملكة، واستقر الأمير مغلطاى أمير آخور عوضا عن الأمير قطز، ثم رسم بالإفراج عن الأمير بزلار من سجن الإسكندريّة، ثمّ جهّزت التشاريف لنوّاب البلاد الشامية، وكتب لهم بما وقع من أمر الملك المظفّر وقتله، وسلطنة الملك الناصر حسن وجلوسه على تخت الملك.
ثمّ اتّفقوا الأمراء على تخفيف الكلف السلطانيّة، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق بما على الدولة من الكلف، وأخذ الأمراء فى بيع طائفة الجراكسة من المماليك السلطانية، وقد كان الملك المظفّر حاجّىّ قرّبهم إليه بواسطة غرلو وجلبهم من كلّ مكان، وأراد أنّ ينشئهم على الأتراك، وأدناهم إليه حتى عرفوا بين الأمراء بكبر عمائمهم، وقوى أمرهم وعملوا كلفتات خارجة عن الحدّ فى الكبر، فطلبوا الجميع وأخرجوهم منفيّين خروجا فاحشا وقالوا: هؤلاء جيعة النفوس كثيرو الفتن.(10/188)
ثم قدم كتاب نائب الشام الأمير أرغون شاه يتضمن موافقته للأمراء ورضاءه بما وقع، وغضّ من الأمير فخر الدين إياس نائب حلب، وكان الأمير أرقطاى النائب قد طلب من الأمراء أن يعفوه من النيابة ويولّوه بلدا من البلاد فلم يوافقوه الأمراء على ذلك، فلمّا ورد كتاب نائب الشام يذكر فيه أنّ إياس يصغر عن نيابة حلب، فإنّه لا يصلح لها إلّا رجل شيخ كبير القدر، له ذكر بين الناس وشهرة، فعند ذلك طلب الأمير أرقطاى النائب نيابة حلب، فخلع عليه بنيابة حلب فى يوم الخميس خامس شوّال، واستقرّ عوضه فى نيابة السلطنة بالديار المصرية الأمير بيبغا أرس أمير مجلس وخلع عليهما معا، وجلس بيبغا أرس فى دست النيابة وجلس أرقطاى دونه بعد ما كان قبل ذلك أرقطاى فى دست النيابة وبيبغا دونه.
وفى يوم السبت سابعه قدم الأمير منجك اليوسفىّ السلاح دار حاجب دمشق وأخو بيبغا أرس من الشام، فرسم له بتقدّمه ألف بديار مصر وخلع عليه واستقرّ وزيرا وأستادارا، وخرج فى موكب عظيم والأمراء بين يديه، فصار حكم مصر للأخوين: بيبغا أرس ومنجك السلاح دار.
ثمّ فى يوم الثلاثاء عاشر شوّال خرج الأمير أرقطاى الى نيابة حلب، وصحبته الأمير كشلى «1» الإدريسىّ مسفّرا.
ثم إنّ الأمير منجك اشتدّ على الدواوين، وتكلّم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم هائلة، فلم يمض شهر حتّى أنس بهم، واعتمد عليهم فى أموره كلّها، وتحدّث منجك فى جميع أقاليم مصر ومهدّ أمورها.
ثم قدم سيف الأمير فخر الدين إياس نائب حلب بعد القبض عليه فخرج مقيّدا وحبس بالإسكندرية «2» .(10/189)
ثم تراسل المماليك الجراكسة مع الأمير حسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على أن يقيموه سلطانا فقبض على أربعين منهم، وأخرجوا على الهجن مفرّقين الى البلاد الشاميّة. ثم قبض على ستّة منهم وضربوا تجاه الإيوان من القلعة ضربا مبرّحا، وقيّدوا وحبسوا بخزانة شمائل.
ثم عملت الخدمة بالإيوان، واتفقوا على أنّ الأمراء إذا انفضّوا من خدمة الإيوان، دخل أمراء المشورة والتدبير إلى القصر دون غيرهم من بقيّة الأمراء، ونفذوا الأمور على اختيارهم من غير أن يشاركهم أحد من الأمراء فى ذلك، فكانوا إذا حضروا الخدمة بالإيوان خرج الأمير منكلى بغا الفخرىّ والأمير بيغرا والأمير بيبغا ططر والأمير طيبغا المجدىّ والأمير أرلان وسائر الأمراء فيمضوا على حالهم، إلا أمراء المشورة وهم، الأمير بيبغا أرس النائب والأمير شيخون العمرىّ رأس نوبة النّوب «1» والأمير طاز «2» والأمير الوزير منجك اليوسفىّ السلاح دار والأمير ألجيبغا المظفّرىّ والأمير طنيرق فإنهم يدخلون القصر، وينفّذون أحوال المملكة بين يدى السلطان بمقتضى علمهم وحسب اختيارهم.
وفى هذه السنة استجدّ بمدينة حلب قاض مالكىّ وقاض حنبلىّ، فولى قضاء المالكية بها شهاب الدين أحمد بن ياسين الربّاحىّ «3» ، وتولى قضاء الحنابلة بها شرف الدين أبو البركات «4» موسى بن فيّاض، ولم يكن بها قبل ذلك مالكىّ ولا حنبلىّ، وذلك فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.(10/190)
وفى يوم الثلاثاء أوّل المحرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة، قبض على الشيخ علىّ الكسيح نديم الملك المظفّر حاجّىّ، وضرب بالمقارع والكسّارات ضربا عظيما، وقلعت أسنانه وأضراسه شيئا بعد شىء فى عدّة أيام، ونوّع له العذاب أنواعا حتى هلك، وكان بشع المنظر، له حدبة فى ظهره وحدبة فى صدره، كسيحا لا يستطيع القيام، وإنما يحمل على ظهر غلامه، وكان يلوذ بألجيبغا المظفّرىّ، فعرّف به ألجيبغا الملك المظفّر حاجّيّا فصار يضحّكه، وأخرج المظفر حرمه عليه، وعاقره الشّراب، فوهبته الحظايا شيئا كثيرا. ثم زوّجه الملك المظفر بإحدى حظاياه، وصار يسأله عن الناس فنقل له أخبارهم على ما يريد، وداخله فى قضاء الأشغال، فخافه الأمراء وغيرهم خشية لسانه، وصانعوه بالمال حتى كثرت أمواله، بحيث إنه كان إذا دخل خزانة الخاصّ، لا بدّ أن يعطيه ناظر الخاصّ منها له شيئا له قدر، ويدخل عليه ناظر الخاصّ حتى يقبله منه، وإنه إذا دخل الى النائب أرقطاى استعاذ أرقطاى من شرّه، ثمّ قام له وترحّب به وسقاه مشروبا، وقضى شغله الذي جاء بسببه وأعطاه ألف درهم من يده واعتذر له، فيقول للنائب: هأنا داخل الى ابنى السلطان وأعرّفه إحسانك الىّ، فلما دالت دولة الملك المظفّر عنى به ألجيبغا، الى أن شكاه عبد العزيز العجمىّ أحد أصحاب الأمير آق سنقر على مال أخذه منه، لمّا قبض عليه غرلو بعد قتل آق سنقر حتى خلّصه منه، فتذكّره أهل الدولة وسلّموه الى الوالى، فعاقبه واشتدّ عليه الوزير منجك حتى أهلكه.
وفى المحرّم هذا وقعت الوحشة ما بين النائب بيبغا أرس وبين شيخون، ثمّ دخل بينهما منجك الوزير حتى أصلح ما بينهما.
ثمّ فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأوّل عزل الأمير منجك عن الوزارة، وسببه أنّ ابن زنبور قدم من الإسكندرية بالحمل على العادة، فوقع الاتّفاق على(10/191)
تفرقنه على الأمراء، فحمل الى النائب منه ثلاثة آلاف دينار، وإلى شيخون ثلاثة آلاف دينار، وللجماعة من الأمراء كلّ واحد ألفا دينار، وهم بقيّة أمراء المشورة، ولجماعة الأمراء المقدّمين كلّ واحد ألف دينار، فامتنع شيخون من الأخذ وقال:
أنا ما يحلّ لى أن آخذ من هذا شيئا. ثم قدم حمل قطيا وهو مبلغ سبعين ألف درهم، وكانت قطيا قد أرصدت لنفقة المماليك، فأخذ الوزير منجك منها أربعين ألف درهم، وزعم أنّها كانت له قرضا فى نفقة المماليك، فوقفت المماليك الى الأمير شيخون وشكوا الوزير بسببها، فحدّث الوزير فى ردّ ما أخذه فلم يفعل، وأخذ فى الحطّ على ابن زنبور ناظر الخواصّ، وأنه يأكل المال جميعه، وطلب إضافة نظر الخاصّ له مع الوزارة والأستادارية وألحّ فى ذلك عدّة أيّام، فمنعه شيخون من ذلك، وشدّ من ابن زنبور وقام بالمحاققة عنه، وغضب بحضرة الأمراء فى الخدمة، فمنع النائب منجك من التحدّث فى الخاصّ وانفضّ المجلس، وقد تنكّر كلّ منهما [على «1» الاخر] وكثرت القالة بالركوب على النائب ومنجك حتى بلغهما ذلك، فطلب النائب الإعفاء من النيابة وإخراج أخيه منجك من الوزارة، وأبدأ وأعاد حتى كثر الكلام ووقع الاتفاق على عزل منجك من الوزارة، واستقراره أستادارا على حاله وشادّا على عمل الجسور فى النيل. وطلب أسندمر العمرىّ المعروف برسلان بصل من كشف الجسور ليتولّى الوزارة، فحضر وخلع عليه فى يوم الاثنين رابع عشرينه.
[وفيه «2» أخرج] الأمير أحمد شادّ الشراب خاناه الى نيابة صفد؛ وسبب ذلك أنه كان كبر فى نفسه وقام مع المماليك على الملك المظفّر حاجّىّ حتى قتل، ثم أخذ(10/192)
فى تحريك الفتنة واتفق مع ألجيبغا وطنيرق على الركوب فبلغ بيبغا أرس النائب الخبر فطلب الإعفاء، وذكر ما بلغه وقال: إنّ أحمد صاحب فتن ولا بدّ من إخراجه من بيننا فطلب أحمد وخلع عليه وأخرج من يومه.
ثمّ فى يوم الأربعاء سادس عشرين ربيع الأوّل أنعم على الأمير منجك اليوسفى بتقدمة أحمد شادّ الشراب خاناه. ثمّ فى الغد يوم الخميس امتنع النائب من الركوب فى الموكب وأجاب بأنه ترك النيابة، فطلب إلى الخدمة وسئل عن سبب ذلك فذكر أنّ الأمراء المظفّرية تريد إقامة الفتنة وتبيّت خيولهم فى كل ليلة مشدودة، وقد اتفقوا على مسكه، وأشار لألجيبغا وطنيرق فأنكرا ما ذكر النائب عنهما، فحاققهما الأمير أرغون الكاملىّ أنّ ألجيبغا واعده بالأمس على الركوب فى غد وقت الموكب ومسك النائب ومنجك، فعتب عليهما الأمراء فاعتذرا بعذر غير مقبول، وظهر صدق ما نقله النائب، فخلع على ألجيبغا بنيابة طرابلس وعلى طنيرق بإمرة فى دمشق وأخرجا من يومهما، فقام فى أمر طنيرق صهره الأمير طشتمر طلليه حتى أعفى من السفر وتوجّه ألجيبغا إلى طرابلس فى ثامن شهر ربيع الآخر من السنة بعد ما أمهل أياما، واستمرّ منجك معزولا إلى أن أعيد إلى الوزر فى يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الآخر «1» باستعفاء أسندمر العمرى لتوقّف أحوال الوزارة.
وفيه أيضا أخرج من الأمراء المظفّرية لاچين العلائىّ وطيبغا المظفّرىّ ومنكلى بغا المظفّرىّ وفرّقوا ببلاد الشام.
ثم قدمت تقدمة الأمير أرغون شاه نائب الشام زيادة عما جرت به العادة، وهى مائة وأربعون فرسا بعبىّ تدمرية «2» فوقها أجلّة «3» أطلس، ومقاود سلاسلها فضة،(10/193)
ولواوين «1» بحلق فضّة، وأربعة قطر هجن بمقاود حرير، وسلاسل فضّة وذهب، وأكوارها «2» مغشّاة بذهب، وأربعة كنابيش «3» ذهب عليها ألقاب السلطان، وتعابى قماش مبقّجة «4» من كلّ صنف؛ ولم يدع أحدا من الأمراء المقدّمين ولا من أرباب الوظائف حتى الفرّاش ومقدّم الإسطبل ومقدّم الطبلخاناة والطبّاخ، حتى بعث إليهم هديّة، فخلع على مملوكه عدّة خلع وكتب إليه بزيادة على إقطاعه، ورسم له بتفويض حكم الشام جميعه إليه، يعزل ويولّى من يختار.
وفيه أنعم على خليل بن قوصون بإمرة طبلخاناه، وأنعم أيضا على ابن المجدى بإمرة طبلخاناه، وأنعم على أحد أولاد منجك الوزير بإمرة مائة وتقدمة ألف
ثم فى ثالث ذى الحجة أخرج طشبغا الدّوادار إلى الشام، وسببه مفاوضة جرت بينه وبين القاضى علاء الدين علىّ بن فضل الله كاتب السرّ، أفضت به إلى أن أخذ طشبغا بأطواق كاتب السرّ ودخلا على الأمير شيخون كذلك، فأنكر شيخون على طشبغا، ورسم بإخراجه، وعمل مكانه قطليجا الأرغونىّ دوادارا. ثم رسم للأمير بيغرا أمير جاندار أن يجلس رأس ميسرة، واستقرّ الأمير أيتمش الناصرى حاجب الحجاب أمير جاندار عوضه، واستقرّ الأمير قبلّاى «5» حاجب الحجّاب عوضا عن أيتمش.(10/194)
وكانت هذه السنة (أعنى سنة تسع وأربعين وسبعمائة) كثيرة الوباء والفساد بمصر والشام من كثرة قطع الطريق لولاية الأمير منجك جميع أعمال المملكة بالمال، وانفراده وأخيه بيبغا أرس بتدبير المملكة.
ومع هذا كان فيها أيضا الوباء الذي لم يقع مثله فى سالف الأعصار، فإنه كان ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير فى فصل الخريف فى أثناء سنة ثمان وأربعين، فما أهلّ المحرّم سنة تسع وأربعين حتى اشتهر واشتدّ بديار مصر فى شعبان ورمضان وشوّال، وارتفع فى نصف ذى القعدة، فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس [إلى عشرين «1» ألف نفس] فى كلّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحفرت الحفائر وألقيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموت بالطّاعون، يبصق الإنسان دما ثمّ يصيح ويموت؛ ومع هذا عمّ الغلاء الدنيا جميعها، ولم يكن هذا الوباء كما عهد فى إقليم دون إقليم، بل عم أقاليم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا جميع أجناس بنى آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البرّ.
وكان أوّل ابتدائه من بلاد القان «2» الكبير حيث الإقليم الأوّل، وبعدها من تبريز «3» إلى آخرها ستّة أشهر وهى بلاد الخطا «4» والمغل وأهلها يعبدون النار والشمس(10/195)
والقمر، وتزيد عدّتهم على ثلثمائة جنس فهلكوا بأجمهم من غير علّة، فى مشاتيهم ومصايفهم وعلى ظهور خيلهم، وماتت خيولهم وصاروا جيفة مرمية فوق الأرض؛ وكان ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. ثم حملت الريح نتنهم إلى البلاد، فما مرّت على بلد إلّا وساعة شمّها إنسان أو حيوان مات لوقتة فهلك من أجناد القان خلائق لا يحصيها إلا الله تعالى. ثمّ هلك القان وأولاده الستّة ولم يبق بذلك الإقليم من يحكمه.
ثم اتّصل الوباء ببلاد الشرق جميعها: بلاد أزبك «1» وبلاد إسطنبول «2» وقيصرية «3» الروم، ثم دخل أنطاكية حتى أفنى من بها، وخرج جماعة من بلاد «4» أنطاكية فارّين من الموت فماتوا بأجمهم فى طريقهم، ثم عمّ جبال «5» ابن قرمان وقيصرية، ففنى أهلها ودوابّهم ومواشيهم، فرحلت الأكراد خوفا من الموت فلم يجدوا أرضا إلا وفيها الموت، فعادوا إلى أرضهم وماتوا جميعا. ثم وقع ذلك ببلاد سيس فمات لصاحبها تكفور فى يوم واحد بموضع مائة وثمانون نفسا وخلت سيس.
ثمّ وقع فى بلاد الخطا مطر عظيم لم يعهد مثله فى غير أوانه، فماتت دوابّهم ومواشيهم(10/196)
عقيب ذلك المطر حتى فنيت. ثمّ مات الناس والوحوش والطيور حتى خلت بلاد الخطا وهلك ستّة عشر ملكا فى مدّة ثلاث أشهر، وأفنى أهل الصّين حتى لم يبق منهم إلا القليل، وكذلك بالهند.
ثمّ وقع ببغداد أيضا فكان الإنسان يصبح وقد وجد بوجهه طلوعا، فما هو إلا أن يمدّ يده على موضع الطلوع فيموت فى الوقت. وكان أولاد دمرداش قد حصروا الشيخ حسنا صاحب بغداد، ففجأهم الموت فى عسكرهم من وقت المغرب إلى باكر النهار إلى الغد، فمات منهم عدد كثير نحو الألف ومائتى رجل وستة أمراء ودوابّ كثيرة «1» ، فكتب الشيخ صاحب بغداد بذلك إلى سلطان مصر.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى ابتدأ الوباء بمدينة حلب ثمّ بالبلاد الشاميّة كلّها وبلاد ماردين «2» وجبالها، وجميع ديار بكر، وأفنى بلاد صفد والقدس والكرك ونابلس والسواحل وعربان البوادى حتى إنه لم يبق ببلد جينين «3» غير عجوز واحدة خرجت منها فارّة، وكذلك وقع بالرّملة «4» وغيرها، وصارت الخانات ملآنة بجيف الموتى، ولم يدخل الوباء معرّة النّعمان «5» من بلاد الشام ولا بلد شيزر «6» ولا حارما.(10/197)
وأول ما بدأ بدمشق، كان يخرّج خلف أذن الإنسان بثرة فيخرّ صريعا، ثمّ صار يخرج للإنسان كبّة «1» فيموت أيضا سريعا، ثمّ خرجت بالناس خيارة فقتلت خلقا كثيرا، ثم صار الآدمىّ يبصق دما ويموت من وقته، فاشتدّ الهول من كثرة الموت، حتّى إنه»
أكثر من كان يعيش ممن يصيبه ذلك خمسين ساعة. وبلغ عدّة من يموت فى كلّ يوم بمدينة حلب خمسمائة إنسان، ومات بمدينة غزّة فى ثانى المحرم الى رابع صفر- على ما ورد فى كتاب نائبها- زيادة على اثنين وعشرين ألف إنسان، حتى غلقت أسواقها، وشمل الموت أهل الضّياع بها، وكان آخر زمان الحرث، فكان الرجل يوجد ميتا خلف محراثه، ويوجد آخر قد مات وفى يده ما يبذره. ثمّ ماتت أبقارهم؛ وخرج رجل بعشرين رأس بقر، لإصلاح أرضه فماتوا واحدا بعد واحد، وهو يراهم يتساقطون قدّامه، فعاد إلى غزّة.
ودخل ستّة نفر لسرقة دار بغزّة فأخذوا ما فى الدار ليخرجوا به فماتوا بأجمعهم، وفرّ نائبها الى ناحية بدّعرش «3» ، وترك غزّة خالية، ومات أهل قطيا وصارت جثثهم تحت النخل وعلى الحوانيت، حتى لم يبق بها سوى الوالى وغلامين وجارية عجوز، وبعث يستعفى، فولّى عوضه مبارك، أستادار طغجى.
ثمّ عمّ الوباء بلاد الفرنج، وابتدأ فى الدوابّ ثمّ فى الأطفال والشباب، فلمّا شنع الموت فيهم جمع أهل قبرس من فى أيديهم من أسرى المسلمين وقتلوهم جميعا من بعد العصر إلى المغرب، خوفا من أن تفرغ الفرنج فتملك المسلمون قبرس، فلما كان بعد العشاء الأخيرة هبّت ريح شديدة، وحدثت زلزلة عظيمة، وامتدّ البحر(10/198)
فى المينة نحو مائة قصبة، فغرق كثير من مراكبهم وتكسّرت، فظنّ أهل قبرس أنّ الساعة قامت، فخرجوا حيارى لا يدرون ما يصنعون. ثمّ عادوا إلى منازلهم، فإذا أهاليهم قد ماتوا، وهلك لهم فى هذا الوباء ثلاثة ملوك، واستمرّ الوباء فيهم مدّة أسبوع، فركب منهم ملكهم الذي ملّكوه رابعا، فى جماعة فى المراكب يريدون جزيرة بالقرب منهم، فلم يمض عليهم فى البحر إلا يوم وليلة ومات أكثرهم فى المراكب، ووصل باقيهم الى الجزيرة فماتوا بها عن آخرهم، ووافى هذه الجزيرة بعد موتهم مركب فيها تجّار فماتوا كلّهم وبحّارتهم إلا ثلاثة عشر رجلا، فمرّوا إلى قبرس فوصلوها، وقد بقوا أربعة نفر فلم يجدوا بها أحدا فساروا إلى طرابلس، وحدّثوا بذلك فلم تطل مدّتهم بها وماتوا
وكانت المراكب إذا مرّت بجزائر الفرنج لا تجد ركّابها بها أحدا، وفى بعضها جماعة يدعونهم أن يأخذوا من أصناف البضائع ما أحبّوا بغير ثمن لكثرة من كان يموت عندهم، وصاروا يلقون الأموات فى البحر، وكان سبب الموت عندهم ريح تمرّ «1» على البحر فساعة يشمّها الإنسان سقط، ولا يزال يضرب برأسه إلى الأرض حتى يموت.
وقدمت مراكب الى الإسكندرية، وكان فيها اثنان وثلاثون تاجرا وثلثمائة رجل ما بين بحّار وعبيد، فماتوا كلّهم ولم يصل منهم غير أربعة من التجّار وعبد واحد، ونحو أربعين من البحّارة.
وعمّ الموت جزيرة الأندلس بكمالها إلا جزيرة غرناطة «2» ، فإنهم نجوا، ومات من عداهم حتى إنه لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم، فأتتهم العرب من إفريقية(10/199)
تريد أخذ الأموال إلى ان صاروا على نصف يوم منها، فمرّت بهم ريح فمات منهم على ظهور الخيل «1» جماعة كثيرة ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى، فنجا من بقى منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم وقد هلك أكثرهم، والموت قد فشا بأرضهم أيضا بحيث إنه مات منهم فى ليلة واحدة عدد كثير، وبقيت أموال العربان ساتبة لا تجد من يرعاها، ثمّ أصاب الغنم داء، فكانت الشاة إذا ذبحت وجد لحمها منتنا قد اسودّ وتغيّر، وماتت المواشى بأسرها.
ثم وقع الوباء بأرض برقة «2» إلى الإسكندرية، فصار يموت فى كلّ يوم مائة.
ثمّ صار يموت مائتان، وعظم عندهم حتى إنه صلّى فى اليوم الواحد بالجامع دفعة واحدة على سبعمائة جنازة، وصاروا يحملون الموتى على الجنويّات «3» والألواح، وغلّقت دار الطّراز لعدم الصّنّاع، وغلّقت دار الوكالة، وغلّقت الأسواق وأريق ما بها من الخمور. وقدمها مركب فيه إفرنج فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركبا عليه طير تحوم فى غاية الكثرة، فقصدوه فإذا جميع من فيها ميّت والطير يأكلهم، وقد مات من الطير أيضا شىء كثير، فتركوهم ومروا فما وصلوا الى الإسكندرية حتى مات منهم «4» زيادة على ثلثهم. ثمّ وصل إلى مدينة دمهور «5»(10/200)
وتروجة «1» بالبحيرة كلها حتى عمّ أهلها، وماتت دوابهم ومواشيهم وبطل «2» من البحيرة سائر الضمانات، وشمل الموت أهل «3» البرلّس ونستراوة «4» وتعطل الصيد من البحيرة بموت الصيادين فكان يخرج فى المركب عدّة صيادين فيموت أكثرهم ويعود من(10/201)
بقى منهم فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد فى حيتان البطارخ شىء منتن، وفيه على رأس البطارخة «1» كبّه «2» منتنة قدر البندقة قد اسودّت.
ووجد فى جميع زراعات البرلّس وبلحها دود، وتلف أكثر تمر النّخل عندهم، وصارت الأموات على الأرض فى جميع الوجه البحرىّ لا يوجد من يدفنها.
ثمّ عظم الوباء بالمحلّة «3» حتى إنّ الوالى كان لا يجد من يشكو إليه؛ وكان القاضى إذا أتاه من يريد الإشهاد على شخص لا يجد من العدول أحدا إلا بعد عناء لقلّتهم.
وصارت الفنادق لا تجد من يحفظها، وماتت الفلّاحون بأسرهم إلا القليل، فلم يوجد من يضمّ الزرع، وزهد أرباب الأموال فى أموالهم وبذلوها للفقراء، فبعث الوزير منجك إلى الغربية، كريم الدين ابن الشيخ مستوفى الدولة ومحمد بن يوسف مقدّم الدولة، فدخلوا على سنباط «4» وسمنّود «5» وبوصير «6» وسنهور «7» ونحوها من البلاد، وأخذوا مالا كثيرا، لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.(10/202)
وعجز أهل بلبيس وسائر الشرقية عن ضمّ الزرع لكثرة موت الفلّاحين. وكان ابتداء الوباء عندهم من أوّل فصل الصيف الموافق لأثناء شهر ربيع الآخر من سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ففاحت الطّرقات بالموتى، ومات سكان بيوت الشّعر ودوابّهم ومواشيهم، وامتلأت مساجد بلبيس وفنادقها وحوانيتها بالموتى، ولم يبق مؤذّن، وطرحت الموتى بجامعها، وصارت الكلاب فيه تأكل الموتى.
ثم قدم الخبر من دمشق أنّ الوباء كان بها آخر ما كان بطرابلس وحماة وحلب، فلمّا دخل شهر رجب والشمس فى برج الميزان أوائل فصل الخريف، هبّت فى نصف اللّيل ريح شديدة جدّا، واستمرّت حتّى مضى من النهار قدر ساعتين، فاشتدت الظّلمة حتى كان الرجل لا يرى من بجانبه. ثم انجلت وقد علت وجوه الناس صفرة ظاهرة فى وادى دمشق كلّه، وأخذ فيهم الموت مدّة شهر رجب فبلغ فى اليوم ألفا ومائتى إنسان، وبطل إطلاق الموتى من الديوان، وصارت الأموات مطروحة فى البساتين على الطّرقات، فقدم على قاضى القضاة تقىّ الدين السّبكىّ «1» قاضى دمشق رجل من جبال الرّوم، وأخبر أنّه لمّا وقع الوباء ببلاد الروم رأى فى نومه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكا إليه ما نزل بالناس من الفناء فأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: «اقرءوا سورة نوح ثلاثة آلاف وثلثمائة وستين مرّة، واسألوا الله فى رفع ما أنتم فيه» فعرّفهم ذلك فاجتمع الناس فى المساجد، وفعلوا ما ذكر لهم، وتضرّعوا إلى الله تعالى وتابوا إليه من ذنوبهم، وذبحوا أبقارا وأغناما كثيرة للفقراء مدّة سبعة أيام، والفناء يتناقص كلّ يوم حتى زال. فلمّا سمع القاضى والنائب ذلك نودى بدمشق باجتماع الناس بالجامع لأموىّ، فصاروا به جمعا كبيرا وقرءوا «صحيح البخارىّ» فى ثلاثة أيام وثلاث(10/203)
ليال. ثم خرج الناس كافّة بصبيانهم إلى المصلّى وكشفوا رءوسهم وضجّوا بالدعاء، وما زالوا على ذلك ثلاثة أيام فتناقص الوباء حتّى ذهب بالجملة.
وكان ابتداؤه بالقاهرة ومصر فى النساء والأطفال ثم بالباعة حتى كثر عدد الأموات، فركب السلطان إلى سرياقوس، وأقام بها من أوّل شهر رجب إلى العشرين منه، وقصد العود إلى القلعة فأشير عليه بالإقامة فى سرياقوس وصوم رمضان بها.
ثم قدم كتاب نائب حلب بأنّ بعض أكابر الصلحاء رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فى نومه فشكا إليه ما نزل بالناس من الوباء، فأمره صلى الله عليه وسلم بالتّوبة، والدعاء بهذا الدعاء المبارك وهو: «اللهمّ سكن «1» هيبة صدمة «2» قهرمان الجبروت بألطافك النازلة الواردة من فيضان الملكوت، حتى نتشبّث بأذيال لطفك، ونعتصم بك عن إنزال قهرك، يا ذا القوّة والعظمة الشاملة، والقدرة الكاملة، ياذا الجلال والإكرام «3» » . وأنه كتب بها عدّة نسخ بعث بها إلى حماة وطرابلس ودمشق.
وفى شعبان تزايد الوباء بديار مصر، وعظم فى شهر رمضان وقد دخل فصل الشتاء فرسم بالاجتماع فى الجوامع للدعاء، فى يوم الجمعة سادس شهر رمضان، فنودى أن يجتمع الناس بالصّناجق الخليفتية والمصاحف، إلى قبّة النصر خارج القاهرة، فاجتمع الناس بعامّة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريّون إلى مصلّى(10/204)
خولان بالقرافة «1» ، واستمرّت قراءة البخارىّ بالجامع الأزهر وغيره عدّة أيام، والناس يدعون إلى الله تعالى ويقنتون فى صلواتهم. ثم خرجوا إلى قبة النصر وفيهم الأمير شيخون والوزير منجك اليوسفىّ والأمراء بملابسهم الفاخرة من الذهب وغيره، فى يوم الأحد «2» ثامن شهر رمضان.
ومات فى ذلك اليوم الرجل الصالح سيّدى عبد الله «3» المنوفىّ، تغمده الله برحمتة، وأعاد علينا من بركاته، فصلّى عليه ذلك الجمع العظيم، وعاد الأمراء إلى سرياقوس وانفضّ الجمع، واشتد الوباء بعد ذلك حتى عجز الناس عن حصر «4» الموتى.
فلما انقضى شهر رمضان حضر السلطان من سرياقوس، وحدث فى الناس فى شوّال نفث الدّم، فكان الإنسان يحسّ فى نفسه بحرارة ويجد غثيانا فيبصق دما ويموت عقيبه، ويتبعه أهل داره واحدا بعد واحد حتى يفنوا جميعا بعد ليلة(10/205)
أو ليلتين، فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء، واستعدّ الناس جميعا وأكثروا من الصّدقات، وتحاللوا وأقبلوا على العبادة، ولم يحتج أحد فى هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطبّاء لسرعة الموت، فما انتصف شوّال إلا والطرقات والأسواق قد امتلأت بالأموات، فانتدب جماعة لمواراتهم وانقطع جماعة للصلاة عليهم، وخرج الأمر عن الحدّ، ووقع العجز عن العدد، وهلك أكثر أجناد الحلقة وخلت الطّباق بالقلعة من المماليك السلطانية لموتهم.
فما أهلّ ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة، لا يوجد بشوارعها مارّ، بحيث إنه يمرّ الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر «1» فلا يرى من يزاحمه، لاشتغال الناس بالموتى، وعلت الأتربة على الطّرقات، وتنكّرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصّياح، فلا تجد بيتا إلا وفيه صيحة، ولا تمرّ بشارع إلا وترى فيه عدّة أموات.
وصلّى فى يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات بالجامع «2» الحاكمىّ فصفّت التوابيت اثنين اثنين من باب مقصورة الخطابة إلى باب الجامع، ووقف الإمام على العتبة والناس خلفه خارج الجامع. وخلت أزقّة كثيرة وحارات عديدة من الناس، وصار بحارة برجوان»
اثنتان وأربعون دارا خالية، وبقيت الأزّتمة والدّروب المتعدّدة(10/206)
جالية، وصار أمتعة أهلها لا تجد من يأخذها، وإذا ورث إنسان شيئا انتقل فى يوم واحد [عنه «1» ] لرابع وخامس.
وحصرت عدّة من صلّى عليه بالمصلّيات التى خارج باب النصر وباب زويلة وباب المحروق وتحت القلعة، ومصلّى قتّال «2» السبع تجاه باب جامع قوصون «3» فى يومين فبلغت ثلاث عشرة ألفا وثمانمائة، سوى من مات فى الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر «4» وعلى الدكاكين وفى الحسينية «5» وجامع ابن طولون «6» ، ومن يتأخر دفنه فى البيوت.
ويقال: بلغت عدّة الأموات فى يوم واحد عشرين ألفا، وحصرت الجنائز بالقاهرة فقط فى مدّة شعبان ورمضان فكانت تسعمائة «7» ألف، سوى من مات(10/207)
بالأحكار والحسينية والصّليبة وباقى الخطط خارج القاهرة وهم أضعاف ذلك، وعدّت النّعوش وكانت عدّتها ألفا وأربعمائة نعش، فحملت الأموات على الأقفاص ودراريب «1» الحوانيت، وصار يحمل الاثنان والثلاثة فى نعش واحد وعلى لوح واحد، وطلبت القرّاء على الأموات فأبطل كثير من الناس صناعاتهم «2» ، وانتدبوا للقراءة على «3» الجنائز، وعمل جماعة مدراء «4» وجماعة غسّالا وجماعة تصدّوا لحمل الأموات، فنالوا بذلك جملا مستكثرة، وصار المقرئ يأخذ عشرة دراهم، وإذا وصل إلى المصلّاة تركه وانصرف لآخر، ويأخذ الحمّال ستّة دراهم بعد الدّخلة [عليه «5» ] ، وصار الحفّار يأخذ أجرة حفر كلّ قبر خمسين درهما، فلم يمتّع اكثرهم بذلك وماتوا.
ودخلت امرأة غاسلة لتغسّل امرأة فلمّا جرّدتها من ثيابها، ومرّت بيدها على موصع الكبّة صاحت الغاسلة وسقطت ميّتة، فوجدوا فى بعض أصابعها التى لمست بها الكبّة كبّة قدر الفولة، وصار الناس يبيتون بموتاهم فى التّرب لعجزهم عن تواريهم، وكان أهل البيت يموتون جميعا وهم عشرات، فلا يوجد لهم سوى نعش واحد ينقلون فيه شيئا بعد شىء، وأخذ كثير من الناس دورا وأموالا بغير استحقاق لموت مستحقيها فلم يتمّل «6» أكثرهم بما أخذ حتى مات بعدهم بسرعة، ومن عاش منهم استغنى [به «7» ] ، وأخذ كثير من العامة «8» إقطاعات حلقة.(10/208)
وقام الأمير شيخون العمرىّ والأمير مغلطاى أمير آخور بتغسيل الأموات وتكفينهم ودفنهم. وبطل الأذان من عدّة مواضع، وبقى فى المواضع المشهورة يؤذّن مؤذّن واحد، وبطلت أكثر طبلخاناة الأمراء،؟؟؟ ار فى طبلخانة الأمير شيخون ثلاثة نفر بعد خمسة عشر نفرا. وغلّقت أكثر المساجد والزوايا. وقيل إنه ما ولد لأحد فى هذا الوباء إلا ومات الولد «1» بعد يوم أو يومين ولحقته أمّه.
ثمّ شمل فى آخر السنة الوباء بلاد الصعيد بأسرها ولم يدخل الوباء أرض أسوان «2» ، ولم يمت به سوى أحد عشر إنسانا. ووجدت طيور كثيرة ميّتة فى الزروع ما بين غربان وحدأة وغيرها من سائر أصناف الطيور، فكانت إذا أنتفت وجد فيها أثر الكبة.
وتواترت الأخبار من الغور «3» وبيسان وغير ذلك أنهم كانوا يجدون الأسود والذئاب وحمر الوحش، وغيرها من الوحوش ميّتة وفيها أثر الكبّة.
وكان ابتداء الوباء أوّل «4» أيام التّخضير، فما جاء أوان الحصاد حتى فنوا الفلّاحون ولم يبق منهم إلا القليل، فخرج الأجناد بغلمانهم للحصاد ونادوا: من يحصد يأخذ نصف ما حصد، فلم يجدوا واحدا، ودرسوا غلالهم على خيولهم وذرّوها بأيديهم، وعجزوا عن غالب الزرع فتركوه، وكان الإقطاع الواحد يصير من واحد إلى واحد حتى إلى السابع والثامن، فأخذ إقطاعات الأجناد أرباب الصنائع من الخياطين والأساكفة، وركبوا الخيول ولبسوا الكلفتاه والقباء. وكثير من الناس لم يتناول فى هذه السنة من إقطاعه شيئا، فلمّا جاء النيل ووقع أوان التخضير(10/209)
تعذر وجود الرجال فلم يخضّر إلا نصف الأراضى، ولم يوجد أحد ليشترى القرط «1» الأخضر ولا من يربط عليه خيوله، وترك ألف وخمسمائة فدان بناحية ناى «2» وطنان «3» ، وانكسرت البلاد التى بالضواحى وخربت. وخلت بلاد الصعيد مع اتساع أرضها، بحيث كانت مكلفة مساحة أرض أسيوط تشتمل على ستة آلاف نفر يؤخذ منها الخراج، فصارت فى سنة الوباء هذه تشتمل على مائة وستة عشر نفرا.
ومع ذلك كان الرّخاء موجودا وانحطّ سعر القماش حتى أبيع بخمس ثمنه وأقلّ، ولم يوجد من يشتريه، وصارت كتب العلم ينادى عليها بالأحمال، فيباع الحمل منها بأرخص ثمن. وانحطّ قدر الذهب والفضة حتى صار الدينار بخمسة عشر درهما، بعد ما كان بعشرين. وعدمت جميع الصّناع «4» ، فلم يوجد سقاء ولا بابا «5» ولا غلام.
وبلغت جامكيّة الغلام ثمانين درهما، عنها خمس «6» دنانير وثلث دينار، فنودى بالقاهرة: من كانت له صنعة فليرجع إلى صنعته، وضرب جماعة منهم، وبلغ ثمن راوية الماء ثمانية دراهم لقلّة الرجال والحمال، وبلغت أجرة طحن الإردب القمح دينارا «7» .(10/210)
ويقال: إنّ هذا الوباء أقام يدور على أهل الأرض مدّة خمسة عشرة سنة.
قلت: ورأيت أنا من رأى هذا الوباء، فكان يسمّونه الفصل الكبير، ويسمّونه أيضا بسنة الفناء، ويتحاكون عنه أضعاف ما حكيناه، يطول الشرح فى ذكره.
وقد أكثر الناس من ذكر هذا الوباء فى أشعارهم فممّا قاله شاعر ذلك العصر الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: [الخفيف]
سر بنا عن دمشق يا طالب العي ... ش فما فى المقام للمرء رغبه
رخصت أنفس الخلائق بالطّا ... عون فيها فكلّ نفس بحبّه
وقال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ وأكثر فى هذا المعنى على عادة إكثاره، فممّا قاله فى ذلك: [الوافر]
رعى الرحمن دهرا قد تولّى ... يجازى بالسّلامة كلّ شرط
وكان الناس فى غفلات أمر ... فجاطاعونهم من تحت إبط
وقال أيضا: [الكامل]
قد قلت للطّاعون وهو بغزّة ... قد جال «1» من قطيا إلى بيروت
أخليت أرض الشام من سكّانها ... وأتيت «2» يا طاعون بالطاغوت
وقال الشيخ بدر الدين حسن [بن عمر بن الحسن «3» ] بن حبيب فى المعنى من قصيدة أوّلها: [الخفيف](10/211)
إنّ هذا الطاعون يفتك فى العا ... لم فتك امرئ ظلوم حسود»
ويطوف البلاد شرقا وغربا ... ويسوق الخلوق «2» نحو اللّحود
ولابن الوردىّ «3» فى المعنى: [البسيط]
قالوا فساد الهواء يردى ... فقلت يردى هوى الفساد
كم سيّئات وكم خطايا ... نادى عليكم بها المنادى
وقال أيضا: [الرّمل]
حلب- والله يكفى ... شرّها- أرض مشقّه
أصبحت حيّة سوء ... تقتل الناس ببزقه
ولابن الوردىّ أيضا: [الرجز]
إنّ الوبا قد غلبا ... وقد بدا فى حلبا
قالوا له على الورى ... كاف ورا قلت وبا
وقال أيضا: [الكامل]
سكّان سيس يسرّهم ما ساءنا ... وكذا العوائد من عدوّ الدّين
الله ينفذه إليهم عاجلا ... ليمزّق الطاغوت بالطاعون
وقال الأديب جمال الدين «4» إبراهيم المعمار فى المعنى: [الرمل]
قبح الطاعون داء ... فقدت فيه الأحبّه
بيعت الأنفس فيه ... كلّ إنسان بحبّه(10/212)
وله أيضا فى المعنى: [السريع]
يا طالب الموت أفق وانتبه ... هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخص الموت على أهله ... ومات من لا عمره ماتا
ثم أخذ الوباء يتناقص فى أوّل المحرّم من سنة خمسين وسبعمائة.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع «1» عشر من ربيع الأوّل، ورد الخبر بقتل الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام، وأمره غريب، وهو أنه لما كان نصف ليلة الخميس ثالث عشرينه وهو بالقصر «2» الأبلق بالميدان خارج مدينة دمشق ومعه عياله، وإذا بصوت قد وقع فى الناس بدخول العسكر، فثاروا بأجمعهم ودارت النّقباء على الأمراء بالركوب ليقفوا على مرسوم السلطان، فركبوا جميعا إلى سوق «3» الخيل تحت القلعة، فوجدوا الأمير ألجيبغا المظفّرى نائب طرابلس وإذا بالأمير أرغون شاه نائب الشام مكتّف بين مماليك الأمير إياس؛ وخبر ذلك أن ألجيبغا لما ركب من طرابلس سار حتى طرق دمشق على حين غفلة، وركب معه الأمير فخر الدين إياس السّلاح دار، وأحاط إياس بالقصر الأبلق وطرق بابه، وعلم الخدّام بأنه قد حدث أمر مهم فأيقظوا الأمير أرغون شاه، فقام من فرشه وخرج إليهم فقبضوا عليه، وقالوا له: حضر مرسوم السلطان بالقبض عليك، والعسكر واقف، فلم يجسر أحد أن يدفع عنه، وأخذه الأمير إياس وأتى به ألجيبغا فسلّم أمراء دمشق على ألجيبغا، وسألوه الخبر، فذكر لهم أن مرسوم السلطان ورد عليه بركوبه إلى دمشق بعسكر طرابلس، والقبض على أرغون شاه المذكور وقتله، والحوطة على(10/213)
ماله وموجوده، وأخرج لهم كتاب السلطان بذلك، فأجابوا بالسمع والطاعة، وعادوا الى منازلهم ونزل ألجيبغا إلى الميدان، وأصبح يوم الخميس فأوقع الحوطة على موجود أرغون شاه وأصبح يوم الجمعة رابع عشرين ربيع «1» الأوّل أرغون شاه المذكور مذبوحا، فكتب ألجيبغا محضرا أنه وجده مذبوحا والسّكين فى يده، (يعنى أنه ذبح نفسه) فأنكر عليه كونه لمّا قبض أموال أرغون شاه، لم يرفعها إلى قلعة دمشق على العادة، واتّهموه فيما فعل، وركبوا جميعا لقتاله فى يوم الثلاثاء ثامن عشرينه فقاتلهم ألجيبغا المذكور وجرح الأمير مسعود بن خطير، وقطعت يد الأمير ألجيبغا العادلى أحد أمراء دمشق، وقد جاوز تسعين سنة، فعند ذلك ولّى ألجيبغا المظفّرى نائب طرابلس، ومعه خيول أرغون شاه وأمواله، وتوجّه إلى نحو المزّة «2» ومعه الأمير إياس نائب حلب كان، ومضى إلى طرابلس.
وسبب هذه الواقعة أنّ إياسا لما عزل عن نيابة حلب وأخذت أمواله وسجن، ثم أفرج عنه واستقرّ فى جملة أمراء دمشق، وعدّوه أرغون شاه الذي كان سعى فى عزله عن نيابة حلب نائبها، فصار أرغون شاه يهينه ويخرق به، واتفق أيضا إخراج ألجيبغا من الديار المصرية إلى دمشق أميرا بها، فترفّع عليه أيضا أرغون شاه المذكور وأذلّه، فاتّفق ألجيبغا وإياس على مكيدة، فأخذ ألجيبغا فى السعى على خروجه من دمشق عند أمراء مصر، وبعث إلى الأمير بيبغا أرس نائب السلطنة بالديار المصرية، وإلى أخيه الأمير منجك الوزير هديّة سنيّة فولّاه نيابة طرابلس، وأقام بها الى أن كتب يعرّف السلطان والأمراء أنّ أكثر عسكر طرابلس مقيم بدمشق.
وطلب أنّ نائب الشام يردّهم إلى طرابلس، فكتب له بذلك فشقّ على أرغون شاه(10/214)
نائب الشام كون ألجيبغا لم يكتب إليه، وأرسل كاتب السلطان فى ذلك فكتب إلى ألجيبغا بالإنكار عليه فيما فعل، وأغلظ له فى القول، وحمل البريدىّ إليه مشافهة شنيعة، فقامت قيامة ألجيبغا لمّا سمعها، وفعل ما فعل، بعد أن أوسع الحيلة فى ذلك، فاتفق مع إياس فوافقه إياس أيضا، لما كان فى نفسه من أرغون شاه حتى وقع ما ذكرناه.
وأما أمراء الديار المصرية فإنهم لما سمعوا بقتل الأمير أرغون شاه ارتاعوا، واتّهم بعضهم بعضا، فحلف كلّ من شيخون والنائب بيبغا أرس على البراءة من قتله، وكتبوا إلى ألجيبغا بأنّه قتل أرغون شاه بمرسوم من! وإعلامهم بمستنده فى ذلك، وكتب إلى أمراء دمشق بالفحص عن هذه الواقعة، وكان ألجيبغا وإياس قد وصلا إلى طرابلس، وخيّما بظاهرها، فقدم فى غد وصولهما كتب أمراء دمشق إلى أمراء طرابلس بالاحتراس على ألجيبغا حتى يرد مرسوم السلطان، فإنه فعل فعلته بغير مرسوم السلطان، ومشت حيلته علينا. ثم كتبوا إلى نائب حماة ونائب حلب وإلى العربان بمسك الطّرقات عليه، فركب عسكر طرابلس بالسلاح وأحاطوا به، ثم وافاهم كتاب السلطان بمسكه، وقد سار عن طرابلس وساروا خلفه إلى نهر الكلب «1» عند بيروت فوقف قدّامهم نهاره، ثم كر راجعا عليهم، فقاتله عسكر(10/215)
طرابلس، حتى قبضوا عليه، وفرّ إياس، ووقعت الحوطة على مماليك ألجيبغا وأمواله، ومسك الذي كتب الكتاب بقتل أرغون شاه، فاعتذر أنه مكره، وأنه غيّر ألقاب أرغون شاه، وكتب أوصال الكتب مقلوبة حتى يعرف أنه زوّر، وحمل ألجيبغا المذكور مقيّدا إلى دمشق. ثم قبض نائب بعلبكّ على الأمير إياس، وقد حلق لحيته ورأسه، واختفى عند بعض النصارى، وبعث به إلى دمشق، فحبسا معا بقلعتها، وكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فندب الأمير قجا الساقى على البريد إلى دمشق بقتل ألجيبغا وإياس، فأخرجهما من حبس قلعة دمشق ووسّطهما بسوق الخيل بدمشق، وعلّق إياس على خشب وقدّامه ألجيبغا على خشبة أخرى، وذلك فى يوم الخميس حادى عشرين شهر ربيع الآخر. وكان عمر ألجيبغا المذكور يوم قتل نحو تسع عشرة سنة وهو ما طرّ شاربه.
ثمّ كتب السلطان باستقرار الأمير أرقطاى نائب حلب، فى نيابة الشام عوضا عن أرغون شاه المذكور، واستقرّ الأمير قطليجا الحموىّ نائب حماة فى نيابة حلب عوضا عن أرقطاى، واستقرّ أمير مسعود بن خطير فى نيابة طرابلس عوضا عن ألجيبغا المظفّرى المقدّم ذكره. ثمّ قدم إلى مصر طلب أرغون شاه ومماليكه وأمواله وموجود ألجيبغا أيضا، فتصرّف الوزير منجك فى الجميع.
وبعد مدّة يسيرة ورد الخبر أيضا بموت الأمير أرقطاى نائب دمشق، فكتب باستقرار قطليجا الحموىّ نائب حلب فى نيابة دمشق، وتوجّه الأمير ملكتمر «1» المحمدى بتقليده بنيابة الشام، وسار حتى وصل إليه فوجده قد أخرج طلبه إلى جهة دمشق وهو ملازم الفراش، فمات قطليجا أيضا بعد أسبوع، ولما وصل الخبر إلى مصر بموت قطليجا، أراد النائب بيبغا ارس والوزير منجك إحراج طاز لنيابة الشام،(10/216)
والأمير مغلطاى أمير آخور إلى نيابة حلب، فلم يوافقاهما «1» على ذلك، وكادت الفتنة أن تقع، فخلع على الأمير أيتمش الناصرىّ بنيابة الشام، واستقرّ بعد مدّة الأمير أرغون الكاملىّ فى نيابة حلب.
وفى محرّم سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ابتدأت الوحشة بين الأمير مغلطاى أمير آخور وبين الوزير منجك اليوسفى، بسبب الفار الضامن، وقد شكا منه، فطلبه مغلطاى من الوزير وقد احتمى به، فلم يمكّنه منه. وكان منجك لما فرغ صهريجه «2» الذي عمّره تجاه القلعة عند باب الوزير، اشترى له من بيت المال ناحية بلقينة «3» بالغربية بخمسة وعشرين ألف دينار، وأنعم عليه بها، فوقفها منجك على صهريجه المذكور، فأخذ مغلطاى يعدّد لمنجك تصرّفه فى المملكة، وسكن الأمر فيما بينهما.
ثم توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة فى كل سنة وأنعم على الأمير قطلوبغا «4» الذهبىّ بإقطاع الأمير لاچين أمير آخور بعد موته، وأنعم بإمرته وتقدمته على الأمير عمر بن أرغون النائب. ثمّ استقرّ بكلمش أمير شكار فى نيابة طرابلس،(10/217)
عوضا عن أمير مسعود بن خطير، وكتب بإحضار أمير مسعود إلى القاهرة. ثم عاد السلطان من سرحة سرياقوس، وكتب بعود أمير مسعود إلى دمشق بطّالا، حتى ينحلّ له ما يليق به، وخلع على الأمير فارس الدين ألبكى باستقراره فى نيابة غزّة بعد موت الأمير دلنجى، ودلنجى باللغة التركية هو المكدّى (وهو بكسر الدال المهملة وفتح اللام وسكون النون وكسر الجيم) .
وفى هذه الأيام توجّه الأمير طاز إلى سرحة البحيرة، وأنعم السلطان عليه بعشرة آلاف اردبّ شعير وخمسين ألف درهم وناحية طمّوه «1» زيادة على إقطاعة.
وفى خامس عشر شوّال خرج أمير حاجّ المحمل الأمير بزلار أمير سلاح.
ثم خرج بعده طلب الأمير بيبغا أرس النائب بتجمّل زائد، وفيه مائة وخمسون مملوكا معدّة بالسلاح «2» . ثم خرج طلب الأمير طاز وفيه ستون فارسا، فرحل بيبغا أرس قبل طاز بيومين. ثمّ رحل طاز بعده. ثمّ رحل بزلار بالحاجّ ركبا ثالثا فى عشرين شوّال من بركة «3» الحاجّ.
وفى يوم السبت رابع عشرينه عزل الأمير منجك اليوسفىّ عن الوزر، وقبض عليه، وكان الأمير شيخون خرج إلى العبّاسة؛ وسبب عزله أن السلطان بعد توجّه شيخون طلب القضاة والأمراء، فلما اجتمعوا بالخدمة، قال لهم: يا أمراء(10/218)
هل لأحد علىّ ولاية حجر، أو أنا حاكم نفسى! فقال الجميع يا خوند: ما ثمّ أحد يحكم على «1» مولانا السلطان، وهو مالك رقابنا، فقال: إذا قلت لكم شيئا ترجعوا إليه؛ قالوا جميعهم: نحن تحت طاعة السلطان «2» وممتثلون ما يرسم به، فالتفت إلى الحاجب وقال له: خذ سيف هذا، وأشار إلى منجك الوزير، فأخذ سيفه وأخرج وقيّد، ونزلت الحوطة على أمواله مع الأمير كشلى «3» السلاح دار، فوجد له خمسون حمل زردخاناه، ولم يوجد له كبير مال، فرسم بعقوبته، ثمّ أخرج إلى الإسكندرية فسجن بها، وساعة القبض عليه رسم بإحضار الأمير شيخون من العباسة وإعلامه بمسك منجك الوزير، فقام الأمير مغلطاى أمير آخور والأمير منكلى بغا فى منعه من الحضور، وما زالا يخيّلان السلطان منه حتى كتب له مرسوم بنيابة طرابلس، على يد طينال الجاشنكير، فتوجّه إليه فلقبه قريب بلبيس، وقد عاد صحبة الجمدار الذي توجه بإحضاره من عند السلطان، وأوقفه على المرسوم فأجاب بالسمع والطاعة، وبعث يسأل فى الإقامة بدمشق، فكتب له بخبز الأمير تلك بدمشق، وحضور تلك إلى مصر فتوجّه شيخون إليها.
ثمّ قبض السلطان على الأمير عمر شاه «4» الحاجب واخرج إلى الإسكندرية، واستقرّ الأمير طنيرق رأس نوبة كبيرا عوضا عن شيخون. ثمّ قبض على حواشى منجك وعلى عبده عنبر البابا وصودر، وكان عنبر قد أفحش فى سيرته مع الناس، فى قطع المصانعات، وترفّع على الناس ترفّعا زائدا، فضرب ضربا مبرحا: ثمّ(10/219)
ضرب بكتمر شادّ الأهراء فاعترف للوزير منجك باثنى عشر ألف اردبّ غلّة، اشتراها من أرباب الرواتب.
وفى مستهلّ ذى القعدة قبض على ناظر الدولة والمستوفين، وألزموا بخمسمائة ألف دينار، فترفّق فى أمرهم الأمير طنيرق، حتى استقرّت خمسمائة ألف درهم «1» ، ووزّعها الموفّق ناظر الدولة على جميع الكتّاب، والتزم علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاصّ والجيش بتكفية جميع الأمراء المقدّمين بالخلع من ماله، وقيمتها خمسمائة ألف درهم، وفصّلها وعرضها على السلطان، فركبوا الأمراء بها الموكب، وقبّلوا الأرض وكان موكبا جليلا.
وفى يوم السبت ثامن ذى القعدة خلع السلطان على الأمير بيبغا ططر حارس طير، واستقرّ فى السلطنة بالديار المصرية عوضا عن بيبغا أرس المتوجّه إلى الحجاز، بعد أن عرضت النيابة على أكابر الأمراء فلم يقبلها أحد، وتمنّع بيبغا ططر أيضا منها تمنّعا كبيرا، ثم قبلها. واستقرّ الأمير مغلطاى أمير آخور رأس نوبة كبيرا، عوضا عن طنيرق، الذي كان وليها عن شيخون، وأطلق له التحدّث فى أمر الدولة كلّها عوضا عن الأمير شيخون، مضافا لما بيده من الأميرا خورية «2» . واستقرّ الأمير منكلى بغا الفخرى رأس مشورة وأتابك العساكر، وأنعم على ولده بإمرة، ودقّت الكوسات وطبلخانات الأمراء بأجمعها، وزيّنت القاهرة ومصر، فى يوم الأحد تاسع ذى القعدة واستمرّت ثمانية أيام.(10/220)
وأما شيخون فإنه لما وصل إلى دمشق، قدم بعده الأمير أرغون التاجى بإمساكه، فقبض عليه وقيّد وأخرج من دمشق فى البحر وتوجه إلى الطّينة «1» ، ثم أوصله إلى الإسكندرية فسجن بها.
وخلع على طشبغا الدّوادار على عادته دوادارا، وتصالح هو والقاضى علاء الدين ابن فضل الله كاتب السرّ، فإنه كان نفى بسببه حسب ما تقدّم ذكره، وأرسل كلّ منهما إلى صاحبه هديّة.
وكان السلطان لمّا أمسك منجك، كتب إلى الأمير طاز وإلى الأمير بزلار على يد قردم، وأخبرهما بما وقع، وأنهما يحترسان على النائب بيبغا أرس، وقد نزل سطح العقبة «2» ، فلمّا قرأ بيبغا الكتاب وجم وقال: كلّنا مماليك السلطان. وخلع عليه، وكتب أنه ماض لقضاء الحج.
ثم إنّ السلطان عزل الأمير صرغتمش والأمير عليّا من وظيفتى الجمدارية، وكانا من جملة حاشية شيخون، ورسم لصرغتمش أن يدخل الخدمة مع الأمراء، ثم أخرج أمير على إلى الشام، وأخرج صرغتمش لكشف الجسور بالوجه القبلى، وألزم أستادار بيبغا أرس بكتب حواصل بيبغا، وندب السلطان الأمير آقجبا الحموى لبيع حواصل منجك، وأخذت جوارى بيبغا أرس ومماليكه وجوارى منجك(10/221)
ومماليكه، الى القلعة، فطلع لمنجك خمسة وسبعون مملوكا صغارا، وطلع لبيبغا أرس خمس وأربعون جارية، فلما وصلن تجاه دار النيابة، صحن صيحة واحدة وبكين، فأبكين من كان هناك.
ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ الأمير أحمد الساقى نائب صفد، خرج عن طاعة السلطان، وسببه أنه لما قبض على منجك، خرج الأمير قمارى الحموىّ وعلى يده ملطّفات لأمراء صفد بالقبض عليه، فبلغه ذلك من هجّان جهزه له أخوه، فندب طائفة من مماليكه لتلقّى قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأ عليه: كم له بالقلعة من الغلة، فأمر لمماليكه منها بشىء فرّقه عليهم إعانة لهم على ما حصل من المحل فى البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعند ما طلعوا القلعة شهروا سيوفهم وملكوها من نائب قلعة صفد، وقبضوا على عدّة من الأمراء، وطلع بحريمه الى القلعة وحصّنها، وأخذ مماليكه قمارى وأتوا به، فأخذ ما معه من الملطّفات وحبسه. فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى نائب غزّة ونائب الشام بتجريد العسكر إليه.
هذا والأراجيف كثيرة، بأنّ طاز تحالف هو وبيبغا أرس بعقبة أيلة فخرج الأمير فيّاض «1» والأمير عيسى بن حسن أمير العائذ، فتفرّقا على عقبة أيلة بسبب بيبغا أرس، وكتب لعرب شطّى «2» وبنى عقبة وبنى «3» مهدى، بالقيام مع الأمير فضل «4» ، وكتب لنائب غزّة فأرسل السوقة الى العقبة.
ثم خلع «5» السلطان على الأمير شهاب الدين أحمد بن قزمان «6» بنيابة الإسكندرية عوضا عن بكتمر المؤمنى.(10/222)
ثم فى يوم الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة قدم سيف الأمير بيبغا أرس، وقد قبض عليه، وسبب ذلك، أنه لمّا ورد عليه كتاب السلطان بمسك أخيه منجك، اشتدّ خوفه وطلع الى العقبة ونزل الى المنزلة «1» ، فبلغه أنّ الأمير طاز والأمير بزلار ركبا للقبض عليه، فركب بيبغا أرس بمن معه من الأمراء والمماليك بآلة الحرب، فقام الأمير عز الدين أزدمر الكاشف بملاطفته، وأشار عليه ألا يعجّل ويكشف الخبر،(10/223)
فبعث نجّابا فى الليل لذلك، فعاد وأخبر أنّ الأمير طاز مقيم بركبه، وأنه سار بهم وليس فيهم أحد ملبس «1» ، فقلع بيبغا السلاح هو ومن معه، وتلقّى طاز وسأله عما تخوّف منه، فأوقفه على كتاب السلطان إليه، فلم ير فيه ما يكره. ثم رحل كلّ منهما بركبه من العقبة، وأنت الأخبار للأمراء بمصر باتفاق طاز وبيبغا أرس فكتب السلطان للأمير طاز وللأمير بزلار عند ذلك القبض على بيبغا أرس قبل دخوله مكة، وتوجه إليهما بذلك طيلان «2» الجاشنكير، وقد رسم [له «3» ] أن يتوجه بيبغا الى الكرك، فلما قدم طيلان على طاز وبزلار، ركبا الى أزدمر الكاشف فأعلماه بما رسم به إليهما من مسك بيبغا أرس ووكّدا عليه فى استمالة الأمير فاضل «4» ، والأمير محمد بن بكتمر الحاجب، وبقية من مع بيبغا أرس، فأخذ أزدمر فى ذلك. ثم كتب لبيبغا أرس أن يتأخر حتى يسمع مرسوم السلطان، [و «5» ] حتى يكون دخولهم لمكة جميعا، فأحسّ بيبغا بالشرّ، وهمّ أن يتوجه إلى الشام، فما زال أزدمر الكاشف به حتى رجّعه عن ذلك. وعند نزول بيبغا أرس إلى منزلة المويلحة «6» ، قدم طاز وبزلار فتلقاهما «7» ، وأسلم نفسه من غير ممانعة فأخذا سيفه، وأرادا تسليمه لطينال حتى يحمله إلى الكرك، فرغب إلى طاز أن يحج معه، فأخذه طاز محتفظا به، وكتب طاز بذلك إلى السلطان، فتوهّم مغلطاى والسلطان أنّ طاز وبزلار قد مالا إلى بيبغا أرس وتشوّشا تشويشا زائدا، ثم أكّد ذلك ورود الخبر بعصيان أحمد(10/224)
الساقى نائب صفد، وظنّوا أنه مباطن لبيبغا أرس، وأخرج طينال ليقيم بالصفراء «1» حتى يرد الحاجّ إليها، فيمضى بيبغا أرس إلى الكرك.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرين ذى القعدة خلع على الأمير علم الدين عبد الله ابن زنبور خلعة الوزارة، مضافا لما بيده من نظر الخاصّ ونظر الجيش بعد ما امتنع وشرط شروطا كثيرة.
وفيه أيضا خلع السلطان على الأمير طنيرق باستقراره فى نيابة حماة، عوضا عن أسندمر العمرىّ. ثمّ كتب القاضى علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ تقليد ابن زنبور الوزير، ونعته فيه بالجناب العالى. وكان جمال الكفاة سعى أن يكتب له ذلك، فلم يرض كاتب السرّ، وشحّ عليه بذلك، فخرج الوزير وتلقّى كاتب السرّ، وبالغ فى إكرامه، وبعث إليه بتقدمة سنية.
ثمّ قدّم الخبر على السلطان بنزول عسكر الشام على محاصرة أحمد نائب صفد، وزحفهم على قلعة صفد عدّة أيام، جرح فيها كثير من الناس والأجناد، ولم ينالوا من القلعة غرضا، إلى أن بلغهم القبض على بيبغا أرس، وعلم أحمد بذلك وانحلّ عزمه، فبعث إليه الأمير بكلمش نائب طرابلس يرغّبه فى الطاعة، ودسّ على من معه بالقلعة، حتى خامروا عليه وهمّوا بمسكه، فوافق على الطاعة، وحلف له نائب طرابلس، فنزل إليه بمن معه، فسرّ السلطان بذلك، وكتب بإهانته وحمله إلى السجن.(10/225)
وفى عاشر ذى الحجة كانت الواقعة بمنى، وقبض على الملك المجاهد صاحب اليمن، واسمه علىّ بن داود ابن المظفر يوسف ابن المنصور عمر بن علىّ بن رسول، وكان من خبره أنّ ثقبة لمّا بلغه استقرار أخيه عجلان عوضه فى إمرة مكة، توجه إلى اليمن، وأغرى صاحب اليمن بأخذ مكة وكسوة الكعبة، فتجهّز الملك المجاهد صاحب اليمن، وسار يريد الحج فى حفل كبير بأولاده وأمّه، حتى قرب من مكة وقد سبقه حاجّ مصر، فلبس عجلان آلة الحرب، وعرّف أمراء مصر ما عزم عليه صاحب اليمن، وحذّرهم غائلته، فبعثوا إليه بأنّ من يريد الحج إنما يدخل مكة بذلّة ومسكنة، وقد ابتدعت من ركوبك بالسلاح بدعة، لا تمكّنك أن تدخل بها، وابعث إلينا ثقبة ليكون عندنا، حتى تنقضى أيام الحج فنرسله إليك، فأجاب لذلك، وبعث ثقبة رهينة، فأكرمه الأمراء. وركبوا الأمراء «1» فى جماعة إلى لقاء الملك المجاهد، فتوجهوا إليه ومنعوا سلاح داريّته بالمشى معه بالسلاح، ولم يمكّنوه من حمل الغاشية، ودخلوا به مكة فطاف وسعى، وسلّم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزله، وصار كلّ منهم على حذر حتى وقفوا بعرفة، وعادوا إلى الخيف من منى، وقد تقرّر الحال بين الأمير ثقبة وبين الملك المجاهد على أنّ الأمير طاز إذا سار من مكة أوقعا بأمير الحاج ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسلّم ثقبة مكة.
فاتفق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكة إلى منى خادم الملك المجاهد سائرا، فبعث يستدعيه فلم يأته، وضرب مملوكه، بعد مفاوضة جرت بينهما وجرحه فى كتفه، فماج الحاجّ، وركب الأمير بزلار وقت الظهر إلى الأمير طاز، فلم يصل إليه حتى أقبلت الناس جافلة، تخبر بركوب الملك المجاهد بعسكره للحرب،(10/226)
وظهرت لوامع أسلحتهم، فركب طاز وبزلار وأكثر العسكر المصرى بمكة، فكان أوّل من صدم أهل اليمن بزلار وهو فى ثلاثين فارسا، فأخذوه فى صدرهم إلى أن أرموه قريب خيمته، ومضت فرقة إلى جهة طاز فأوسع لهم طاز، ثمّ عاد عليهم. وركب الشريف عجلان والناس، فبعث الأمير طاز لعجلان: أن احفظ الحاجّ ولا تدخل بيننا فى حرب، ودعنا مع غريمنا. واستمرّ القتال بينهم إلى بعد العصر، فركب أهل اليمن مع كثرة عددهم واستعدادهم الذّلّة، والتجأ الملك المجاهد إلى دهليزه، وقد أحاط به العسكر وقطعوا أطنابه وألقوه إلى الأرض، فمرّ الملك المجاهد على وجهه منهزما، ومعه أولاده، فلم يجد طريقا، فسلّم المجاهد ولديه لبعض الأعراب، وعاد بمن معه من عسكره، وهم فى أقبح حال، يصيحون الأمان يا مسلمون! فأخذوا وزيره، وتمزّقت عساكره فى تلك الجبال، وقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم وخيولهم عن آخرها، وانفصل الحال عند غروب الشمس، وفرّ ثقبة بعبيده وعربه، فأخذ عبيد عجلان جماعة من الحاج فيما بين مكّة ومنى، وقتلوا جماعة.
قلت: هذا شأن عرب مكة وعبيدها، وهذه فروسيتّهم لا فى لقاء العدوّ، وكان حقّهم يوم ذاك خفر الحاجّ، كون التّرك قاموا عنهم بدفع عدوّهم، وإلا كان المجاهد يستولى عليهم، وعلى أموالهم وذراريهم فى أسرع وقت. انتهى.
ولما أراد طاز الرحيل من منى، سلّم أمراء «1» المجاهد وحريمه إلى الشريف عجلان، وأوصاه بهم، وركب الأمير طاز ومعه المجاهد محتفظا به، وبالغ فى إكرامه يريد الديار المصرية، وصحب معه أيضا الأمير بيبغا أرس مقيّدا، وبعث(10/227)
بالأمير طقطاى إلى السلطان يبشّره بما وقع، ولمّا قدم الأمير طاز إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والرحمة، قبض بها على الشريف طفيل.
وأما الديار المصرية، فإنه فى يوم الجمعة خامس المحرّم من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، قدم الأمير أرغون الكاملىّ نائب حلب إلى الديار المصرية بغير إذن، فخلع عليه وأنزل بالقلعة؛ وسبب حضوره أنه أشيع عنه بحلب القبض عليه، ثمّ أشيع فى مصر أنه خامر، فكره تمكّن موسى حاجب حلب منه، لما كان بينهما من العداوة. ورأى وقوع المكروه به فى غير حلب أخفّ عليه، فلما قدم مصر فرح السلطان به، لما كان عنده من إشاعة عصيانه.
ثم قدم الخبر على السلطان، بأنّ طيلان تسلّم بيبغا أرس من الأمير طاز، وتوجّه به إلى الكرك من بدر، فسرّ السلطان أيضا بذلك.
ثمّ فى يوم السبت عشرين المحرّم قدم الأمير طاز بمن معه من الحجاز، وصحبته الملك المجاهد، والشريف طفيل «1» أمير المدينة، فخرج الأمير مغلطاى إلى لقائه إلى البركة، ومعه الأمراء، ومدّ له سماطا جليلا، وقبض على من كان معه من الأمراء من أصحاب بيبغا أرس وقيّدهم وهم: الأمير فاصل أخو بيبغا أرس، وناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب.
وأما الأمير أزدمر الكاشف فإنه أخرج السلطان إقطاعه ولزم داره.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشرينه طلع الأمير طاز بالملك المجاهد إلى نحو القلعة، حتى وصل إلى باب القلّة قيّده، ومشى الملك المجاهد بقيده حتى وقف- عند العمود بالدّركاه تجاه الإيوان، والأمراء جلوس- وقوفا طويلا. إلى أن خرج أمير جاندار(10/228)
يطلب الأمراء على العادة، فدخل المجاهد على تلك الهيئة معهم، وخلع السلطان على الأمير طاز، ثمّ تقدّم الملك المجاهد وقبّل الأرض ثلاث مرات، وطلب السلطان الأمير طاز وسأل عنه، فما زال طاز يشفع فى المجاهد، إلى أن أمر السلطان بقيده ففكّ عنه، وأنزل بالأشرفية من القلعة عند الأمير مغلطاى، وأجرى له الرواتب السنية، واقيم له من يخدمه، ثم أنعم السلطان على الأمير طاز بمائتى ألف درهم.
ثم خلع السلطان أيضا على الأمير أرغون الكاملىّ باستمراره على نيابة حلب، ورسم أن يكون موسى حاجب حلب فى نيابة قلعة الروم.
وفى يوم تاسع عشرين المحرّم حضر الملك المجاهد الخدمة، وأجلس تحت الأمراء، بعد أن ألزم بحمل أربعمائة ألف دينار يقترضه من تجّار الكارم، حتى ينعم له السلطان بالسفر إلى بلاده.
ثم أحضر الأمير أحمد الساقى نائب صفد مقيّدا إلى بين يدى السلطان، فأرسل إلى سجن الاسكندرية.
ثمّ فى آخر المحرّم خلع السلطان على الأمراء المقدّمين، وعلى الملك المجاهد صاحب اليمن بالإيوان، وقبّل المجاهد الأرض غير مرة، وكان الأمير طاز والأمير مغلطاى تلطّفا فى أمره، حتى أعفى من أجل المال، وقرّبه السلطان، ووعده بالسفر إلى بلاده مكرّما، فقبّل الأرض وسرّ بذلك، وأذن له أن ينزل من القلعة إلى إسطبل الأمير مغلطاى ويتجهز للسّفر، وأفرج عن وزيره وخادمه وحواشيه، وأنعم عليه بمال، وبعث له الأمراء مالا جزيلا، وشرع فى القرض من [تجار «1» ] الكارم اليمن ومصر، فبعثوا له عدّة هدايا، وصار يركب حيث يشاء.(10/229)
ثمّ فى يوم الخميس ثانى صفر، ركب الملك المجاهد فى الموكب بسوق الخيل تحت القلعة، وطلع مع النائب بيبغا ططر إلى القلعة، ودخل الى الخدمة السلطانية بالإيوان مع الأمراء والنائب، وكان موكبا عظيما، ركب فيه جماعة من أجناد الحلقة مع مقدّميهم، وخلع على المقدّمين وطلعوا إلى القلعة، واستمرّ المجاهد يركب فى الخدم مع النائب بسوق الخيل، ويطلع إلى القلعة ويحضر الخدمة.
ثمّ خلع السلطان على الأمير صرغتمش، واستقرّ رأس نوبة على ما كان عليه أوّلا، بعناية الأمير طاز والأمير مغلطاى.
وفى يوم السبت ثامن عشر من صفر برز المجاهد صاحب اليمن بثقله من القاهرة إلى الرّيدانية متوجّها إلى بلاده، وصحبته الأمير قشتمر شادّ الدواوين، وكتب للشريف عجّلان أمير مكة بتجهيزه إلى بلاده، وكتب لبنى شعبة وغيرهم من العربان بالقيام فى خدمته، وخلع عليه، وقرّر المجاهد على نفسه مالا «1» يحمله فى كلّ سنة، وأسرّ السلطان إلى قشتمر، إن رأى منه ما يريبه يمنعه من السفر، ويطالع السلطان فى أمره، فرحل المجاهد من الريدانية فى يوم الخميس ثالث عشرينه، ومعه عدّة مماليك اشتراها وكثير من الخيل والجمال.
ثمّ فى أوائل جمادى الآخرة توعّك السلطان ولزم الفراش أياما، فبلغ طاز ومنكلى بغا ومغلطاى أنه أراد بإظهار توعّكه القبض عليهم إذا دخلوا عليه، وكان قد اتفق مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر الماردينى وتنكزبغا على ذلك، وأنه ينعم عليهم بإقطاعاتهم وإمرياتهم، فواعدوا الأمراء أصحابهم، واتفقوا مع الأمير بيبغا ططر النائب والأمير طيبغا المجدىّ والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحد(10/230)
سابع عشرين جمادى الآخرة بأطلابهم، ووقفوا عند قبّة النصر خارج القاهرة، فخرج السلطان إلى القصر، وبعث يسألهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: أنت اتّفقت مع مماليكك على مسكنا، ولا بدّ من إرسالهم إلينا، فبعث تنكزبغا وقشتمر «1» وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قيّدوهم وبعثوهم إلى خزانة شمائل، فسجنوا بها، فشقّ ذلك على السلطان، وبكى وقال: قد نزلت عن السلطنة، وسيّر إليهم النّمجاة «2» ؛ فسلموها للأمير طيبغا المجدىّ. وقام السلطان حسن إلى حريمه، فبعثوا الأمراء الأمير صرغتمش ومعه الأمير قطلوبغا الذّهبىّ، ومعهم جماعة ليأخذوه ويحبسوه، فطلعوا إلى القلعة راكبين إلى باب القصر «3» الأبلق، ودخلوا إلى الملك الناصر حسن، وأخذوه من بين حرمه، فصرخ النساء صراخا عظيما، وصاحت الستّ حدق «4» على صرغتمش صياحا منكرا، وقالت له: هذا جزاؤه منك. وسبّته سبّا فاحشا، فلم يلتفت صرغتمش إلى كلامها، وأخرجه وقد غطّى وجهه إلى الرّحبة، فلما رآه لخدّام والمماليك تباكوا عليه بكاء كثيرا، وطلع به إلى رواق فوق الإيوان، ووكّل به من يحفظه، وعاد إلى الأمراء، فاتّفق الأمراء على خلعه من السلطنة، وسلطنة أخيه الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون وتسلطن حسب ما يأتى ذكره.
ولمّا تسلطن الملك الصالح صالح، نقل أخاه الملك الناصر حسنا هذا إلى حيث كان هو ساكنا، ورتّب فى خدمته جماعة، وأجرى عليه من الرواتب ما يكفيه. ثم طلب الملك الصالح أخاه حسنا، ووعده أيضا بزيادة على إقطاعه، وزاد راتبه. وزالت دولة الملك الناصر حسن.(10/231)
فكانت مدّة سلطنته هذه الأولى ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يوما، منها مدّة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدّة استبداده بالأمر نحو تسعة أشهر وأربعة عشر يوما، وكان القائم بدولته فى أيام الحجر عليه الأمير شيخون العمرىّ رأس نوبة النّوب، وإليه كان أمر خزانة الخاصّ، ومرجعه لعلم الدين ابن زنبور ناظر الخاصّ. وكان الأمير منجك اليوسفىّ الوزير والأستادار ومقدّم المماليك، إليه التصرّف فى [أموال «1» ] الدولة. والأمير بيبغا أرس نائب السلطنة وإليه حكم العسكر وتدبيره، والحكم بين الناس. وكان المتولّى لتربية السلطان حسن خوند طغاى زوجة أبيه، ربّته وتبنّت به. وكانت الستّ حدق الناصريّة دادته.
وكان الأمراء المذكورون رتّبوا له فى أيام سلطنته، فى كلّ يوم مائة درهم، يأخذها خادمه من خزانة الخاصّ، وليس ينوبه سواها، وذلك خارج عن سماطه وكلفة حريمه، فكان ما ينعم به السلطان حسن فى أيام سلطنته ويتصدّق به من هذه المائة درهما لا غير، إلى أن ضجر من الحجر، وسافر النائب بيبغا أرس والأمير طاز إلى الحجاز، وخرج شيخون، إلى العبّاسة «2» للصيد، واتفق السلطان حسن مع مغلطاى الأمير آخور وغيره على ترشيده، فترشّد حسب ما ذكرناه. واستبدّ بالدار المصرية. ثم قبض على منجك وشيخون وبيبعا أرس، إلى أن كان من أمره ما كان، على أنه سار فى سلطنته بعد استبداده بالأمور مع الأمراء أحسن سيرة، فإنه اختصّ بالأمير طاز بعد حضوره من الحجاز، وبالغ فى الإنعام عليه.
وكانت أيّامه شديدة، كثرت فيها المغارم، بما أحدثه الوزير «3» منجك بالنواحى، وخربت عدّة أملاك على النيل، واحترقت مواضع كثيرة بالقاهرة ومصر، وخرجت(10/232)
عربان العائذ وثعلبة وعرب الشام «1» وعرب الصعيد عن الطاعة، واشتدّ فسادهم لاختلاف كلمة مدبّرى المملكة.
وكان فى أيامه الفناء العظيم المقدّم ذكره، الذي لم يعهد فى الإسلام مثله. وتوالى فى أيامه شراقى البلاد وتلاف «2» الجسور، وقيام ابن واصل الأحدب ببلاد الصعيد، فاختلّت أرض مصر وبلاد الشام بسبب ذلك خللا فاحشا، كل ذلك من اضطراب المملكة واختلاف الكلمة، وظلم الأمير منجك وعسفه.
وأمّا الملك الناصر حسن المذكور كان فى نفسه مفرط الذكاء عاقلا، وفيه رفق بالرعيّة، ضابطا لما يدخل إليه وما يصرّفه كلّ يوم، متديّنا شهما، لو وجد ناصرا أو معينا، لكان أجلّ الملوك، يأتى بيان ذلك فى سلطنته الثانية، إن شاء الله تعالى.
وأما سلطنته هذه المرّة فلم يكن له من السلطنة إلا مجرّد الاسم فقط، وذلك لصغر سنه وعدم من يؤيّده. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 749]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن قلاوون الأولى على مصر وهى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، على أنه حكم من الخالية من رابع عشر شهر رمضان.
فيها أعنى (سنة تسع وأربعين) كان الوباء العظيم المقدّم ذكره فى هذه الترجمه، وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى.(10/233)
فممّن مات فيه من الأعيان الشيخ المحدّث برهان الدين إبراهيم بن لاچين بن عبد الله الرشيدىّ الشافعىّ فى يوم الثلاثاء تاسع «1» عشرين شوّال. ومولده فى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وكان أخذ القراءات عن التقىّ الصائغ «2» ، وسمع من الأبرقوهىّ «3» وأخذ الفقه عن العلم «4» العراقىّ، وبرع فى الفقه والأصول والنحو وغيره، ودرّس وأقرأ وخطب بجامع «5» أمير حسين خارج القاهرة سنين.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن مسعد بن أحمد بن ممدود السّنهورىّ المادح الضرير. وكانت له قدرة زائدة على النظم؛ ومدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدّة قصائد. وشعره كثير إلى الغاية، لا سيما قصائده النبوية وهى مشهورة فى حفظ المدّاح «6» .
وتوفّى القاضى الإمام البارع الكاتب المؤرّخ المفتنّ شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن المجلّى بن دعجان القرشىّ العدوىّ العمرىّ الدّمشقى الشافعىّ فى تاسع ذى الحجة بدمشق. ومولده فى ثالث شوّال سنة سبعمائة «7» . وكان إماما بارعا وكاتبا فقيها نظم كثيرا من القصائد والأراجيز(10/234)
والمقطّعات، ودو بيت. وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع، وكتب فى الإنشاء لمّا ولى والده كتابة سرّ دمشق، ثمّ لمّا ولى والده كتابة السرّ بمصر أيضا، صار ولده أحمد هذا هو الذي يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفّذ المهمّات واستمرّ كذلك فى ولاية والده الأولى والثانية، حتى تغيّر السلطان عليه وصرفه فى سنة ثمان وثلاثين، وأقام أخاه علاء الدين عليّا، وكلاهما كانا يكتبان بحضرة والدهما ووجوده، نيابة عنه لكبر سنّه؛ وتوجه شهاب الدين إلى دمشق، حتى مات بها فى التاريخ المذكور. وكان بارعا فى فنون، وله مصنّفات كثيرة، منها تاريخه:
«مسالك الأبصار «1» ، فى ممالك الأمصار» فى أكثر من عشرين مجلدا. وكتاب «فواصل «2» السّمر، فى فضائل آل عمر» فى أربع مجلدات. «والدعوة المستجابة» ، «وصبابة المشتاق» فى مجلّد، فى مدح النّبىّ صلّى الله وسلم و [دمعة «3» الباكى] «ويقظة السّاهى «4» » و «نفحة الرّوض» .
قال الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ: وأنشدنى القاضى شهاب الدين ابن فضل الله لنفسه، ونحن على العاصى هذين البيتين: [البسيط]
لقد نزلنا على العاصى بمنزلة ... زانت محاسن شطّيه حدائقها
تبكى نواعيرها العبرى بأدمعها ... لكونه بعد لقياها يفارقها
قال: فأنشدته لنفسى: [الطويل]
وناعورة فى جانب النّهر قد غدت ... تعبّر عن شوق الشّجىّ وتعرب
فيرقص عطف الغصن تيها لأنّها ... تغنّى «5» له طول الزمان ويشرب(10/235)
وتوفّى الأمير سيف الدين أطلمش «1» الجمدار؛ كان أوّلا من أمراء مصر، ثم حجوبية دمشق إلى أن مات، وكان مشكور السّيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلك بن عبد الله المظفّرىّ الجمدار، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية فى يوم الخميس رابع عشرين شوّال. وكان من أعيان الأمراء، وقد تقدّم ذكره فيما مرّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين برلغى بن عبد الله الصغير، قريب السلطان الملك الناصر «2» محمد بن قلاوون، قدم إلى القاهرة صحبة القازانيّة سنة أربع وسبعمائة، فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة بديار مصر، وتزوّج بابنة الأمير بيبرس الجاشنكير قبل سلطنته، وعمل له مهمّا عظيما، أشعل فيه ثلاثة آلاف شمعة، ثم قبض عليه الملك الناصر بعد زوال دولة الملك المظفّر، وامتحن بسبب صهره، وحبسه الملك الناصر عشرين «3» سنة، ثمّ أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة الف، فدام على ذلك إلى أن مات. وبرلغى هذا يلتبس ببرلغى الأشرفى، كلاهما كان عضدا للملك المظفّر بيبرس الجاشنكير وكانا فى عصر واحد.(10/236)
وتوفّى الأمير سيف الدين بلبان بن عبد الله الحسينىّ «1» المنصورىّ أمير جاندار، وقد أناف على ثمانين سنة، فإنه كان من مماليك الملك المنصور قلاوون.
وتوفى الأمير سيف الدين بكتوت بن عبد الله القرمانىّ المنصورىّ، أحد المماليك المنصوريّة قلاوون أيضا، وكان أحد البرجيّة. ثمّ ولى شدّ الدواوين بدمشق وحبسه الملك الناصر محمد بن قلاوون مدّة، لأنه كان من أصحاب المظفّر بيبرس، ثمّ أطلقه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بمصر. وكانت به حدبة فاحشة وولع، ويتتبّع المطالب والكيمياء، وضاع عمره فى البطّال.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمربغا بن عبد الله العقيلىّ نائب الكرك فى جمادى الآخرة، وكان عاقلا شجاعا مشكور السيرة.
وتوفّى الشيخ الإمام «2» كمال الدين جعفر [بن ثعلب «3» بن جعفر] بن علىّ الأدفوىّ الفقيه الأديب الشافعىّ. كان فقيها بارعا أديبا مصنفا؛ ومن مصنفاته تاريخ الصعيد المسمّى «بالطالع السعيد فى تاريخ الصعيد «4» » وله مصنّفات أخر وشعر كثير.
وتوفى الأمير سيف الدين طشتمر بن عبد الله الناصرىّ، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، المعروف بطلليه فى شوّال بالقاهرة، وقيل له: طلليه، لأنه كان إذا تكلّم قال فى آخر كلامه: طلليه. وهو من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخاصّكيته، وصار من بعده من أعيان الأمراء بالديار المصرية، وله تربة «5» بالصحراء معروفة به، وكان شجاعا مقداما.(10/237)
وتوفّيت خوند طغاى أمّ آنوك زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وتركت مالا كثيرا جدّا، من ذلك ألف جارية، وثمانون طواشيا أعتقت الجميع وهى صاحبة التّربة «1» بالصحراء معروفة بها. وهى التى تولّت تربية السلطان الملك الناصر حسن بعد موت أمّه من أيام الملك الناصر محمد. وكانت من أعظم نساء وقتها وأحشمهنّ «2» وأسعدهنّ.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البارع صفىّ الدين عبد العزيز بن سرايا بن على بن [أبى «3» ] القاسم بن أحمد بن نصر بن أبى العزّ بن سرايا بن باقى «4» بن عبد الله السّنبسىّ «5» الحلّىّ الشاعر المشهور فى سلخ «6» ذى الحجة. ومولده فى خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وستمائة، وقدم القاهرة مرتين، ومدح الملك المؤيّد صاحب حماة، ومدح ملوك ماردين بنى أرتق، وله فيهم غرر القصائد، وتقدّم فى نظم الشعر.
ومدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصيدة المعروفة. ب «البديعيّة» وله «ديوان شعر كبير» ، وشعره سار شرقا وغربا. وهو أحد فحول الشعراء. وفيه يقول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة: [الكامل]
يا سائلى عن رتبة الحلّىّ فى ... نظم القريض راضيا بى أحكم
للشعر حلّيان ذلك راجح ... ذهب الزمان به وهذا قيّم
ومن شعر الصفىّ الحلّىّ: [السريع]
أستطلع الأخبار من نحوكم ... وأسأل الأرواح حمل السّلام
وكلّما جاء غلام لكم ... أقول يا بشراى هذا غلام(10/238)
ومن شعره قصيدته «1» التى أوّلها: [الكامل]
كيف الضلال وصبح وجهك مشرق ... وشذاك فى الأكوان مسك يعبق
يا من إذا سفرت محاسن وجهه ... ظلّت به حدق الخلائق تحدق
أوضحت عذرى فى هواك بواصح ... ماء الحيا بأديمه يترقرق
فإذا العذول رأى جمالك قال لى ... عجبا لقلبك كيف لا يتمزّق
يا آسرا قلب المحبّ فدمعه ... والنوم منه مطلق ومطلّق
أغنيتنى بالفكر فيك عن الكرى ... يا آسرى فأنا الغنىّ المملق
ومنها أيضا:
لم أنس ليلة زارنى ورقيبه ... يبدى الرّضا وهو المغيظ المحنق
حتى إذا عبث الكرى بجفونه ... كان الوسادة ساعدى والمرفق
عاتقته وضممته فكأنه ... من ساعدىّ ممنطق «2» ومطوّق
حتى «3» بدا فلق الصباح فراعه ... إنّ الصّباح هو العدو الأزرق
وقد استوعبنا من شعره وأحواله قطعة جيّدة فى تاريخنا «المنهل الصافى» .
رحمه الله تعالى إن كان مسيئا.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد عبد الله المنوفىّ الفقيه المالكىّ، فى يوم الأحد ثامن شهر رمضان ودفن بالصحراء، وقبره «4» بها معروف يقصد للزيارة والتبرّك.(10/239)
وتوفّى الإمام العلّامة شيخ الشيوخ بدمشق علاء الدين علىّ بن محمود بن حميد القونوىّ الحنفىّ فى رابع شهر رمضان، وكان إماما فقيها بارعا صوفيا صالحا.
رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام البارع المفتنّ الأديب الفقيه، زين الدين عمر بن المظفّر بن عمر بن محمد بن أبى الفوارس بن علىّ المعرّىّ الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن الوردىّ «1» ناظم «الحاوى فى الفقه» رحمه الله؛ وقد جاوز الستين سنة بحلب، فى سابع عشرين ذى الحجّة. وقد استوعبنا من شعره ومشايخه نبذة كبيرة فى «المنهل الصافى» إذ هو كتاب تراجم، محلّه الإطناب فى مثل هؤلاء. ومن شعره ما قاله فى مقرئ «2» . [الكامل] :(10/240)
ووعدت أمس بأن تزور فلم تزر ... فغدوت «1» مسلوب «2» الفؤاد مشتتا
لى مهجة «3» فى النازعات وعبرة ... فى المرسلات وفكرة فى هل اتى
وله عفا الله عنه: [الوافر]
تجادلنا: أماء الزّهر أذكى ... ام الخلّاف أم ورد القطاف
وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف
وتوفّى الأمير الطّواشى عنبر السّحرتىّ لالاة السلطان الملك الكامل شعبان، ومقدّم المماليك السلطانيّة منفيّا فى القدس، بعد أن امتحن وصودر. وكان رأى من العزّ والجاه والحرمة، فى أيام الكامل شعبان ما لا مزيد عليه، حسب ما ذكرنا منه نبذة فى ترجمة الملك الكامل المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين كوكاى بن عبد الله المنصور السّلاح دار، أحد أعيان الأمراء الألوف بالديار المصريّة، وكان من أجلّ الأمراء وأسعدهم، خلّف أكثر من أربعمائة ألف دينار عينا. وهو صاحب التّربة «4» والمئذنة التى بالصحراء، على رأس الهدفة، تجاه تربة «5» الملك الظاهر برقوق. وكان شجاعا مقداما. طالت ايامه فى السعادة.
وتوفى الأمير سيف الدين قطز بن عبد الله الأمير آخور، ثم نائب صفد بدمشق، وهو أحد أمرائها، فى يوم الثلاثاء رابع ذى القعدة. وكان من أعيان أمراء مصر، ولى عدّة ولايات جليلة.(10/241)
وتوفّى الأمير سيف الدّين نكباى بن عبد الله البريدىّ المنصورىّ. كان أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، ولى قطيا والاسكندرية، ثم أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، واستقرّ مهمندارا. وإليه تنسب دار «1» نكباى خارج مدينة مصر على النيل، وعنى بعمارتها فلم يتمتع بها.
وتوفّى الأمير شرف الدين محمود [بن أوحد «2» ] بن خطير أخو الأمير مسعود.
وأظنه صاحب الجامع «3» بالحسينية خارج القاهرة.
وتوفّى الشيخ المحدّث الواعظ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن ميلق الشاذلىّ.
كان يجلس ويذكّر الناس ويعظ، وكان لوعظه تأثير فى النفوس.
وتوفّى الشيخ المعتقد زين الدين أبو بكر بن النّشاشيبى «4» . كان له قدم وللناس فيه محبّة واعتقاد. رحمه الله.
وتوفّى الرئيس شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عمر الأسيوطىّ ناظر بيت المال، كان مغدودا من أعيان الديار المصرية، وله ثروة. وإليه ينسب جامع «5» الأسيوطىّ بخطّ جزيرة الفيل.(10/242)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. وحوّلت هذه السنة إلى سنة خمسين. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 750]
السنة الثانية من ولاية السلطان الملك الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة خمسين وسبعمائة.
فيها توفّى مكين الدين إبراهيم بن قروينة بطالا، بعد ما ولى استيفاء الصّحبة، ونظر البيوت، ثم نظر الجيش مرتين ثمّ تعطّل إلى أن مات. وكان من أعيان الكتّاب ورؤسائهم.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الناصرىّ، نائب الشام مذبوحا فى ليلة الجمعة رابع عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان من أعيان مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخواصّه، ربّاه وجعله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية.
ثم استقرّ بعد وفاته أستادارا أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر، فتحكّم على الملك الكامل شعبان، حتى أخرجه لنيابة صفد، وولى بعدها نيابة حلب. ثمّ نيابة الشام.
وكان خفيفا قوىّ النفس شرس الأخلاق، مهابا جبّارا فى أحكامه، سفّاكا للدماء غليظا فاحشا، كثير المال والحشم.(10/243)
وكان أصله من بلاد الصّين حمل إلى بو سعيد بن خربندا ملك التّتار، فأخذه دمشق خجا بن جوبان. ثم ارتجعه بو سعيد بعد قتل «1» [دمشق خجا بن] جوبان، وبعث به إلى الناصر هديّة ومعه ملكتمر السّعيدىّ «2» . وقد تقدّم من ذكر أرغون شاه هذا نبذة كبيرة فى عدّة تراجم من هذا الكتاب، من أوّل ابتداء أمره حتى كيفية قتله، فى ترجمة الملك الناصر حسن هذا، فلينظر هناك.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين أرقطاى بن عبد الله المنصورى، نائب السلطنة بالديار المصرية، ثم نائب حلب ثم ولى نيابة دمشق، فلما خرج منها متوجّها إلى دمشق، مات بظاهرها عن نحو ثمانين سنة، فى يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى.
وأصله من مماليك الملك المنصور قلاوون، ربّاه الطواشى فاخر «3» أحسن تربية إلى أن توجّه الملك الناصر إلى الكرك توجه معه، فلما عاد الملك الناصر إلى ملكه جعله من جملة الأمراء. ثم سيّره صحبة الأمير تنكز إلى الشام، وأوصى تنكز ألا يخرج عن رأيه، فأقام عنده مدّة، ثم ولّاه نيابة حمص سنتين ونصفا. ثم نقله إلى نيابة صفد، فأقام بها ثمانى عشرة سنة. ثم قدم مصر، فأقام بها خمس «4» سنين وجرّد إلى آياس «5» . ثم ولى نيابة طرابلس، ومات الملك الناصر محمد، فقدم مصر بعد موته(10/244)
فقبض عليه. ثمّ أفرج عنه، وبعد مدّة ولى نيابة حلب. ثمّ عزل وطلب الى مصر فصار يجلس رأس المبمنة. ثمّ ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية نحو سنتين.
ثم أخرج لنيابة حلب ثانيا، بحسب سؤاله فى ذلك، فأقام بها مدّة. ثم نقل إلى نيابة الشام بعد قتل أرغون شاه، فمات خارج حلب قبل أن يباشر دمشق، ودفن بحلب. وكان أميرا جليلا عظيما مهابا عاقلا سيوسا، مشكور السّيرة محبّبا للرعية.
وقد تقدّم من أخباره ما يغنى عن الاعادة هنا.
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجيبغا بن عبد الله المظفّرى نائب طرابلس، موسّطا بسوق خيل دمشق، فى يوم الاثنين ثانى «1» شهر ربيع الآخر، بمقتضى قتله الأمير أرغون شاه نائب الشام، وقد تقدّم كيفيّة قتله أرغون شاه فى ترجمة السلطان حسنى هذا، وأيضا واقعة توسيطه مفصّلا هناك. وكان ألجيبغا من مماليك المظفّر حاجّى ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن خواصّه. وقتل ألجيبغا وسنّه دون العشرين سنة، بعد أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بمصر والشام ونائب طرابلس، ووسّط معه إياس الآتى ذكره.
وتوفّى الأمير فخر الدين إياس «2» بن عبد الله الناصرى، موسّطا أيضا بسوق خيل دمشق لموافقته ألجيبغا المقدّم ذكره على قتل أرغون شاه فى التاريخ المذكور أعلاه.
وكان أصل إياس هذا من الأرمن، وأسلم على يد الملك الناصر محمد بن قلاوون، فرقّاه حتّى عمله شادّ العمائر. ثم أخرجه الى الشام شادّ الدواوين. ثم صار حاجبا بدمشق. ثم نائبا بصفد. ثم نائبا بحلب. ثم عزل بسعى أرغون شاه به، وقدم(10/245)
دمشق أميرا فى نيابة أرغون شاه لدمشق، فصار أرغون شاه يهينه، وإياس يومئذ تحت حكمه، فحقد عليه، واتّفق مع ألجيبغا نائب طرابلس حتّى قتلاه ذبحا، حسب ما ذكرناه مفصلا، فى ترجمة السلطان الملك الناصر حسن.
وتوفّى الإمام العلّامة قاضى القضاة علاء الدين علىّ ابن القاضى فخر الدين عثمان ابن إبراهيم بن مصطفى الماردينىّ الحنفىّ المعروف بالتّركمانى- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء عاشر المحرّم بالقاهرة. ومولده فى سنة ثلاث وثمانين وستّمائة، وهو أخو العلّامة تاج الدين أحمد «1» ، ووالد الإمامين العالمين: عزّ «2» الدين عبد العزيز وجمال «3» الدين عبد الله، وعمّ العلّامة محمد بن أحمد، يأتى ذكر كلّ واحد من هؤلاء فى محلّه إن شاء الله تعالى. وكان قاضى القضاة علاء الدين إماما فقيها بارعا نحويّا أصوليّا لغويّا، أفتى ودرّس وأشغل وألّف وصنّف، وكان له معرفة تامّة بالأدب وأنواعه، وله نظم ونثر: كان إمام عصره بلا مدافعة، لا سيّما فى العلوم العقلية والفقه أيضا والحديث، وتصدّى للإقرار عدّة سنين. وتولّى قضاء الحنفية بالديار المصرية فى شوّال سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، عوضا عن قاضى القضاة زين الدين البسطامىّ «4» ، وحسنت سيرته، ودام قاضيا إلى أن مات. وتولّى عوضه ولده جمال الدين عبد الله.(10/246)
ومن مصنّفاته- رحمه الله- كتاب «بهجة «1» الأريب فى بيان ما فى كتاب الله العزيز من الغريب» و «المنتخب فى علوم الحديث» و «المؤتلف والمختلف» و «الضعفاء «2» والمتروكون» و «الدرّ النّقىّ فى الردّ على البيهقىّ» وهو جليل فى معناه، يدلّ على علم غزير، واطّلاع كثير، و «مختصر المحصّل فى الكلام» و «مقدّمة فى أصول الفقه» و «الكفاية «3» فى مختصر الهداية» و «مختصر رسالة القشيرىّ» وغير ذلك.
وتوفّى قاضى القضاة تقىّ الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران السّعدىّ الإخنائىّ المالكىّ «4» ، فى ليلة الثالث من صفر. ومولده فى شهر رجب سنة أربع وستّين وستّمائة، وكان فقيها فاضلا محدّثا بارعا. ولى شهادة الخزانة. ثم تولّى قضاء الإسكندرية. ثم نقل لقضاء دمشق بعد علاء الدين «5» القونوىّ. وحسنت سيرته.
وتولى بعده جمال الدّين يوسف [بن «6» إبراهيم] بن جملة.
وتوفّيت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون زوجة الأمير طاز، وخلّفت أموالا كثيرة، أبيع موجودها بباب القلّة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملة ذلك قبقاب مرصّع بأربعين ألف درهم، عنها يوم داك ألفا دينار مصريّة.(10/247)
وتوفّى شيخ القرّاء شهاب الدين أحمد بن أحمد بن الحسين المعروف بالهكّارى، بالقاهرة فى جمادى الأولى. وكان إماما فى القراءات، تصدّى للإقرار عدّة سنين وانتفع به الناس.
وتوفّى الأمير طقتمر بن عبد الله الشّريفىّ، بعد ما عمى ولزم داره «1» وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى الشيخ الإمام نجم الدين عبد الرحمن «2» بن يوسف بن إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم بن علىّ القرشىّ الأصفونىّ «3» الشافعى، بمنى، فى ثالث عشر ذى الحجّة.
وكان فقيها عالما مصنّفا، ومن مصنّفاته: «مختصر «4» الرّوضة فى الفقه» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 751]
السنة الثالثة من سلطنة الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.(10/248)
فيها توفّى الأمير سيف الدين دلنجى «1» بن عبد الله (ودلنجى هو المكدى باللّغة التركيّة) . كان أصله من الأتراك وقدم إلى الديار المصريّة سنة ثلاثين وسبعمائة، فأنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بإمرة عشرة. ثمّ إمرة طبلخاناة.
ثمّ ولى نيابة غزّة بعد الأمير تلجك، فأوقع بالمفسدين ببلاد غزّة وأبادهم، وقويت حرمته. وكان شجاعا مهابا
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شمس الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب الزّرعىّ الدّمشقىّ الحنبلى، المعروف بابن قيّم الجوزيّة بدمشق، فى ثالث عشر شهر رجب.
ومولده سنة إحدى وتسعين وستّمائة. وكان بارعا فى عدّة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربيّة ونحو وحديث وأصول وفروع، ولزم شيخ الإسلام تقىّ «2» الدين بن تيميّة بعد عوده من القاهرة فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وأخذ منه علما كثيرا، حتّى صار أحد أفراد زمانه، وتصدّى للإقراء والإفتاء سنين، وانتفع به الناس قاطبة، وصنّف وألّف وكتب. وقد استوعبنا أحواله ومصنّفاته وبعض مشايخه فى ترجمته فى «المنهل الصافى» كما ذكرنا أمثاله.
وتوفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله العلائىّ الناصرىّ. أصله من مماليك الناصر محمد. ثم صار أمير جاندار فى ولة الملك المظفّر حاجّىّ، فإنه كان روج أمّه. ثمّ ولى أمير آخور، فلمّا قتل الملك المظفر فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، عزل وأخرج إلى حلب، على إقطاع الأمير حسام الدين محمود بن داود الشّيبانىّ، فدام بحلب إلى أن مات بها، وقيل بغيرها.(10/249)
وتوفّى الشيخ فخر الدين أبو عبد الله محمد بن علىّ بن إبراهيم بن عبد الكريم المصرى، الفقيه الشافعىّ بدمشق، فى سادس «1» عشرين ذى القعدة، ومولده سنة إحدى وتسعين وستّمائة. وكان فقيها عالما فاضلا بارعا فى فنون.
وتوفّى ابن قرمان صاحب جبال الروم بعد مرض طويل.
قلت: وبنو قرمان «2» هؤلاء هم من ذريّة السلطان علاء الدين كيقباد السّلجوقىّ، وهم ملوك تلك البلاد إلى يومنا هذا، وقد تقدّم من ذكرهم جماعة كثيرة فى هذا الكتاب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف، وقيل خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة دراعا. ونزل فى خامس توت وشرقت البلاد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 752]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وهى التى خلع فيها السلطان حسن المذكور فى سابع وعشرين جمادى الآخرة، وحكم فى باقيها أخوه الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون.
فيها توفّى السيّد الشريف أدّى «3» أمير المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فى السجن.(10/250)
وتوفّى الأمير سيف الدين طشبغا «1» بن عبد الله الناصرىّ الدّوادار. كان من جملة الأمراء فى الديار المصريّة، فلمّا أخرج الأمير جرجى الدوادار من القاهرة، فى أوّل دولة الملك الناصر حسن، استقرّ طشبغا هذا دوادارا عوضه، فى شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، واستمرّ على ذلك إلى أن توفّى. وكان خيّرا ديّنا فاضلا عاقلا.
وتوفّى قاضى القضاة الحنفيّة بحلب ناصر الدين محمد بن عمر بن عبد العزيز ابن محمد بن أبى الحسن «2» بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله [بن أحمد «3» ] بن يحيى بن أبى جرادة، المعروف بابن العديم الحلبى بحلب، عن ثلاث وستّين سنة.
وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه فى هذا الكتاب، وسيأتى ذكر جماعة أخر من أقاربه، كلّ واحد فى محلّه. إن شاء الله تعالى.
وتوفّى ملك الغرب أبو الحسن علىّ بن ابى سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحقّ ابن محيو بن أبى بكر بن حمامة «4» فى ليلة «5» الثلاثاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وقام فى الملك من بعده ابنه أبو عنان فارس. وكانت مدّة ملكه إحدى وعشرين سنة.(10/251)
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد ابن محمد بن خالد بن محمد بن نصر المعروف بابن القيسرانىّ، موقّع الدّست وصاحب المدرسة «1» بسويقة الصاحب داخل القاهرة وبها دفن، وكان معدودا من الرؤساء الأماثل.(10/252)
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ، أحد أمراء الطبلخاناة بالديار المصرية، وهو مجرّد ببلاد الصعيد، فحمل إلى القاهرة ميّتا فى يوم الأحد ثانى عشرين شهر رمضان.
وتوفّى الشيخ الإمام تاج الدين أبو الفضل «1» محمد بن إبراهيم بن يوسف المرّاكشىّ الأصل الشافعىّ بدمشق فى جمادى الآخرة. وكان فقيها فاضلا بارعا معدودا من فقهاء الشافعية.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن محمد بن مقاتل الحرّانىّ ثم الدّمشقىّ ناظر دمشق بالقدس الشريف، فى عاشر شهر رمضان.
قلت: لعلّ علاء الدين هذا غير الأديب علاء الدين بن مقاتل الزّجّال الحموىّ.
لأنى أحفظ وفاة هاذاك، فى سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهكذا أرّخناه فى «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» .
أمر النيل فى هذه السنة. المآن القديم ستّ أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة. والله أعلم.(10/253)
ذكر سلطنة الملك الصالح صالح ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون
هو العشرون من ملوك التّرك بديار مصر، والثامن من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون. وأمّه خوند قطلو ملك بنت الأمير تنكز الناصرىّ نائب الشام، تسلطن بعد خلع أخيه الملك الناصر حسن فى يوم الاثنين ثامن «1» عشرين جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، باتفاق الأمراء على ذلك، وأمره أنّ الأمراء لما حملت لهم نمجاة الملك، وأخبروا بأن الناصر حسنا خلع نفسه، وهم وقوف بقبّة النصر خارج القاهرة، توجّهوا الى بيوتهم، وباتوا تلك الليلة وهى ليلة الاثنين بإسطبلاتهم، وأصبحوا بكرة يوم الاثنين طلعوا إلى القلعة، واجتمعوا بالرّحبة داخل باب النحاس «2» ، وطلبوا الخليفة والقضاة وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعوا بالصالح هذا من الدور السلطانية؛ فأخرج لهم فقاموا له وأجلسوه وبايعوه بالسلطنة، وألبسوه شعار الملك وأبّهة السلطنة، وأركبوه فرس النّوبة من داخل باب السّتارة، ورفعت الغاشية بين يديه ومشت الأمراء والأعيان بين يديه والأمير طاز والأمير منكلى بغا آخذان بشكيمة فرسه، وسار على ذلك حتى نزل وجلس على تخت الملك بالقصر، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وحلفوا له [وحلّفوه «3» ] على العادة، ولقّبوه بالملك الصالح، ونودى بسلطنته بمصر(10/254)
والقاهرة ودقّت الكوسات وزيّنت القاهرة وسائر بيوت الأمراء. وقبل سلطنته كان النيل نقص عند ما كسر عليه، فردّ نقصه ونودى عليه بزيادة ثلاث أصابع من سبع عشرة ذراعا، فتباشر الناس بسلطنته.
ثم توجّه الأمير بزلار أمير سلاح إلى الشام، ومعه التشاريف والبشارة بولاية السلطان الملك الصالح، وتحليف العساكر الشامية له على العادة. ثم طلب الأمير طاز والأمير مغلطاى مفاتيح الذخيرة ليعتبرا «1» ما فيها فوجدا شيئا يسيرا. ثم رسم للصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور، بتجهيز تشاريف الأمراء وأرباب الوظائف على العادة، فجهّزها فى أسرع وقت، ووقف الأمير طاز سأل السلطان والأمراء الإفراج عن الأمير شيخون العمرى، فرسم بذلك، وكتب كلّ من مغلطاى وطاز كتابا، وبعث مغلطاى أخاه قطليجا «2» رأس نوبة، وبعث طاز الأمير طقطاى صهره، وجهزت له الحرّاقة «3» لإحضاره من الإسكندرية فى يوم الثلاثاء تاسع «4» عشرين جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة المذكورة، وكان ذلك بغير اختيار الأمير مغلطاى، إلّا أنّ الأمير طاز دخل عليه وألحّ عليه فى ذلك، حتى وافقه على مجيئه، بعد أن قال «5» له: أخشى على نفسى من مجىء شيخون إلى مصر، فحلف له طاز أيمانا مغلّظة أنه معه على كلّ ما يريد، ولا يصيبه من شيخون ما يكره، وأنّ شيخون إذا حضر لا يعارضه فى شىء من أمر المملكة، وإنى ضامن له فى هذا، وما زال به حتى أذعن، وكتب له مع أخيه، فشقّ ذلك على الأمير منكلى بغا الفخرىّ، وعتب مغلطاى على موافقة طاز، وعرّفه أنّ بحضور شيخون إلى مصر يزول عنهم(10/255)
ما هم فيه، فتقرّر فى ذهن مغلطاى ذلك، وندم على ما كان منه، إلى أن كان يوم الخميس أوّل شهر رجب، وركب الأمراء فى الموكب على العادة، أخذ منكلى بغا يعرّف النائب والأمراء بإنكار «1» ما دار بينه وبين مغلطاى، وحذّرهم من حضور شيخون إلى أن وافقوه، وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الخدمة، فابتدأ النائب بحضور «2» شيخون وقال: إنه رجل كبير ويحتاج إلى إقطاع كبير وكلف كثيرة، فتكلّم مغلطاى ومنكلى بغا والأمراء وطاز ساكت، قد اختبط لتغيّر مغلطاى ورجوعه على ما وافقه عليه، وأخذ طاز يتلطّف بهم، فصمّم مغلطاى على ما هو عليه وقال: مالى وجه أنظر به شيخون، وقد أخذت منصبه ووظيفته وسكنت فى بيته، فوافقه النائب، وقال لناظر الجيش: اكتب له مثالا «3» بنيابة حماة، فكتب ناظر الجيش ذلك فى الوقت، وتوجه به أيدمر الدوادار فى الحال فى حرّاقة، وعيّن لسفر شيخون عشرون هجينا ليركبها ويسير عليها إلى حماة.
وانفضّوا وفى نفس طاز ما لا يعبّر عنه من القهر، ونزل واتّفق هو والأمير صرغتمش وملكتمر وجماعة، واتفقوا جميعا، وبعثوا إلى مغلطاى، بأنّ منكلى بغا رجل فتنىّ، وما دام بيننا لا نتّفق أبدا، فلم يصغ مغلطاى إلى قولهم، واحتجّ بأنه إن وافقهم لا يأمن على نفسه، فدخل عليه طاز ليلا بالأشرفية «4» من قلعة الجبل، حيث هى مسكن مغلطاى وخادعه، حتى أجابه إلى إخراج منكلى بغا وتحالفا على ذلك؛ فما هو إلا أن خرج عنه طاز، أخذ دوادار مغلطاى يقبّح على مغلطاى(10/256)
ما صدر منه، ويهوّل عليه الأمر، بأنه متى ابعد منكلى بغا وحضر شيخون أخذ لا محالة، فمال إليه، وبلغ الخبر منكلى بغا بكرة يوم الجمعة ثانيه. فواعد النائب والأمراء على الاجتماع فى صلاة الجمعة، ليقع الاتفاق على ما يكون، فلم يخف عن طاز وصرغتمش رجوع مغلطاى عما تقرّر بينه وبين طاز ليلا، فاستعدّا للحرب، وواعدا الأمير ملكتمر «1» المحمدىّ، والأمير قردم «2» الحموىّ، ومن يهوى هواهم، واستمالوا مماليك بيبغا أرس ومماليك منجك حتى صاروا معهم رجاء لخلاص أستاذيهم، وشدّ الجميع خيولهم، فلمّا دخل الأمراء لصلاة الجمعة، اجتمع منكلى بغا بالنائب وجماعته، وقرّر معهم أن يطلبوا طاز وصرغتمش الى عندهم فى دار النيابة، ويقبضوا عليهما، فلمّا أتاهما الرسول من النائب يطلبهما، أحسّا بالشرّ وقاما ليتهيأ للحضور، وصرفا الرسول على أنهما يكونان فى أثره، وبادرا الى باب الدوّر ونحوه من الأبواب فأغلقاها، واستدعوا من معهم من المماليك السلطانية وغيرها، ولبسوا السلاح، ونزل صرغتمش بمن معه من باب السرّ، ليمنع من يخرج من اسطبلات الأمراء، ودخل طاز على السلطان الملك الصالح، حتى يركب به للحرب، فلقى الأمير صرغتمش فى نزوله الأمير أيدغدى أمير آخور، فلم يطق منعه، وأخذ بعض الخيول من الاسطبل وخرج منه، فوجد خيله وخيل من معه فى انتظارهم، فركبوا الى الطبلخاناه، فاذا طلب منكلى بغا مع ولده ومماليكه يريدون قبّة النصر، فألقوا ابن منكلى بغا عن فرسه، وجرحوه فى وجهه، وقتلوا حامل الصّنجق وشتّتوا شمل الجميع، فما استتم هذا، حتى ظهر طلب مغلطاى مع مماليكه، ولم يكن لهم علم بما وقع على طلب منكلى بغا، فصدمهم صرغتمش أيضا بمن معه صدمة بدّدتهم،(10/257)
وجرح جماعة منهم وهزم بقيّتهم. ثم عاد صرغتمش ليدرك الأمراء قبل نزولهم من القلعة، وكانت خيولهم واقفة على باب السّلسلة تنتظرهم، فمال عليها صرغتمش ليأخذها، وامتدّت أيدى أصحابه إليها وقتلوا الغلمان، فعظم الصّياح وانعقد الغبار، واذا بالنائب ومنكلى بغا ومغلطاى وبيغرا ومن معهم قد نزلوا وركبوا خيولهم، وكانوا لمّا أبطأ عليهم حضور طاز وصرغتمش بعثوا فى استحثاثهم، فاذا الأبواب مغلقة، والضجّة داخل باب القلعة، فقاموا من دار النيابة يريدون الركوب فلمّا توسّطوا بالقلعة حتى سمعوا ضجّة الغلمان وصياحهم، فأسرعوا إليهم وركبوا، فشهر مغلطاى سيفه وهجم بمن معه على صرغتمش، ومرّ النائب وبيغرا ورسلان بصل، يريد كلّ منهم إسطبله، فلم يكن غير ساعة حتى انكسر مغلطاى من صرغتمش كسرة قبيحة، وجرح كثير من أصحابه، وفرّ الى جهة قبّة النصر وهم فى أثره، وانهزم منكلى بغا أيضا.
وكان طاز لمّا دخل على السلطان عرّفه، أن النائب والأمراء اتّفقوا على إعادة الملك الناصر حسن الى السلطنة، فمال السلطان الملك الصالح الى كلامه، فقام معه فى مماليكه، ونزل الى الإسطبل واستدعى بالخيول ليركب، فقعد «1» به أيدغدى أمير آخور واحتجّ بقلّة «2» السّروج، فانه كان من حزب مغلطاى، فأخذوا المماليك ما وجدوه من الخيول وركبوا بالسلطان، ودقت الكوسات فاجتمع إليه الأمراء والمماليك والأجناد من كلّ جهة، حتى عظم جمعه، فلم تغرب الشمس إلا والمدينة قد أغلقت، وامتلأت الرّميلة بالعامة، وسار طاز بالسلطان يريد قبّة النصر، حتى يعرف خبر صرغتمش، فوافى قبّة النصر بعد المغرب، فوجد صرغتمش(10/258)
قد تمادى فى طلب مغلطاى ومنكلى بغا حتى أظلم الليل، فلم يشعر إلا بمملوك النائب قد أتاه برسالة النائب أن مغلطاى عنده فى بيت «1» آل ملك بالحسينيّة، فبعث صرغتمش جماعة لأخذه، ومرّ فى طلب منكلى بغا، فلقيه الأمير محمد بن بكتمر «2» الحاجب وعرّفه أن منكلى بغا نزل قريبا من قناطر «3» الأميرية، ووقف يصلّى، وأنّ طلب الأمير مجد الدين موسى بن الهذبانىّ، قد جاء من جهة كوم الرّيش «4» ، ولحقه الأمير أرغون ألبكى فى جماعة، فقبض عليه وهو قائم يصلّى، وكتّفوه بعمامته، وأركبوه بعد ما نكلّوا به، فلم يكن غير قليل حتى أتوا بهما فقيّدا وحبسا بخزانة شمائل، ثم أخرجا إلى الإسكندرية، ومعهما ابنا منكلى بغا فسجنوا بها.
وأمّا صرغتمش فإنه لمّا فرغ من أمر مغلطاى ومنكلى بغا وقبض عليهما، أقبل على السلطان بمن معه بقبة النصر، وعرّفه بمسك الأميرين، فسرّ السلطان سرورا كبيرا، ونزل هو والأمراء وباتوا بقبّة النصر، وركب السلطان بكرة يوم السبت ثالث شهر رجب إلى قلعة الجبل، وجلس بالإيوان وهنّئوه بالسلامة والظفر، وفى الحال كتب بإحضار الأمير شيخون، وخرج جماعة من الأمراء بمماليكهم «5» إلى لقائه، ونزلت البشائر إلى بيت شيخون، وبيت بيبغا أرس وبيت منجك اليوسفىّ الوزير، فكان يوما عظيما، وبات الأمراء تلك الليلة على تخوّف.
وأمّا شيخون لمّا ورد عليه الرسول بإطلاقه أوّلا، خرج من الإسكندريّة وهو ضعيف، وركب الحرّاقة، وفرح أهل الإسكندرية لخلاصه، وسافر فوافاه كتاب(10/259)
الأمير صرغتمش بأنه إذا أتاك أيدمر بنيابة حماة، لا ترجع وأقبل إلى القاهرة فأنا وطاز معك؛ فلمّا قرأ شيخون الكتاب تغير وجهه، وعلم أنه قد حدث فى أمره شىء، فلم يكن غير ساعة «1» ، حتى لاحت له حرّاقة أيدمر، فمرّ شيخون وهو مقلع وأيدمر منحدر إلى أن تجاوزه، وأيدمر يصيح ويشير بمنديله إليه فلا يلتفتون إليه، فأمر أيدمر بأن تجهّز مركبه بالقلع، وترجع خلف شيخون، فما تجهّز قلع مركب أيدمر حتى قطع شيخون بلادا كثيرة، وصارت حرّاقته تسير وأيدمر فى أثرهم فلم يدركوه إلا بكرة يوم السبت، فعند ما طلع إليه أيدمر وعرّفه ما رسم به، من عوده إلى حماة، وقرأ المرسوم الذي على يد أيدمر برجوعه إلى نيابة حماة، وإذا بالخيل يتبع بعضها بعضا، والمراكب قد ملأت وجه الماء تبادر لبشارته وإعلامه بما وقع من الركوب ومسك مغلطاى ومنكلى بغا، فسرّ شيخون بذلك سرورا عظيما «2» ، وسار إلى أن أرسى بساحل «3» بولاق فى يوم الأحد رابع شهر رجب، بعد أن مشت له الناس إلى منية الشيرج، فلما رأوه صاحوا ودعوا له وتلقّته المراكب، وخرج الناس إلى الفرجة عليه، حتى بلغ كراء المركب إلى مائة درهم، وما وصلت الحرّاقة إلا وحولها فوق ألف مركب، وركبت الأمراء إلى لقائة وزيّنت الصليبة وأشعلت الشموع، وخرجت مشايخ الصوفية بصوفيّتهم إلى لقائه، فسار فى موكب لم ير مثله لأمير قبله، وسار حتى طلع القلعة وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك الصالح، فأقبل عليه السلطان وخلع»
عليه تشريفا جليلا، وقلع عنه ثياب السجن، وهى(10/260)
ملّوطة «1» طرح محرّر. ثم نزل إلى منزله والتهانى تتلقاه. ودام الأمر على ذلك إلى يوم الأربعاء سابع شهر رجب رسم، بإخراج الأمير بيبغا أرس حارس طير نائب السلطنة بالديار المصرية فالأمير بيغرا، فنزل الحاجب إلى بيت آل ملك بالحسينية وبه كان سكن بيبغا المذكور، وأخرج منه ليسير من مصر إلى نيابة غزّة، وأخرج(10/261)
بيغرا من الحمّام إخراجا عنيفا ليتوجّه إلى حلب، فركبا من فورهما وسارا. ثم رسم بإخراج الأمير أيدغدى الأمير آخور إلى طرابلس بطّالا، وكتب بالإفراج عن المسجونين بالإسكندرية والكرك.
وفى يوم السبت عاشره ركب السلطان والأمراء إلى الميدان على العادة، ولعب فيه بالكرة، فكان يوما مشهودا.
ووقف الناس للسلطان، فى الفار الضامن، ورفعوا فيه مائة قصّة فقبض عليه، وضربه الوزير بالمقارع ضربا مبرّحا وصادره، وأخذ منه مالا كثيرا.
وفيه قبض على الأمير بيبغا «1» ططر المعروف بحارس طير نائب السلطنة المتوجّه إلى نيابة غزّة فى طريقه، وسجن بالإسكندرية.
وفى يوم الأحد حادى عشره وصل الأمراء من سجن الإسكندرية وهم سبعة نفر: منجك اليوسفىّ الوزير وفاضل أخو بيبغا أرس وأحمد الساقى نائب صفد وعمر شاه الحاجب وأمير حسين التّترىّ وولده، والأمير محمد بن بكتمر الحاجب. فركب الأمراء ومقدّمهم الأمير طاز، ومعه الخيول المجهّزة لركوبهم، حتى لقيهم وطلع بهم إلى القلعة، فقبّلوا الأرض وخلع السلطان عليهم، ونزلوا إلى بيوتهم فامتلأت الزاهرة بالأفراح والتهانى، ونزل الأمير شيخون والأمير طاز والأمير صرغمتش إلى الطبلاتهم، وبعثوا إلى الأمراء القادمين من السّجن التقادم السّنية من الخيول والتّعابى القماش والبسط وغيرها، فكان الذي بعثه شيخون لمنجك خمسة أفراس ومبلغ ألفى دينار، وقس على هذا.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر رجب خلع على الأمير قبلاى الحاجب واستقرّ فى نيابة السلطنة بالديار المصريّة، عوضا عن بيبغا ططر حارس طير.(10/262)
وفى يوم الخميس خامس عشر شهر رجب قدم الأمير بيبغا أرس من سجن الكرك، فركب الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى السلطان وقبّل الأرض وخلع عليه ونزل إلى ببته، فلم يبق أحد من الأمراء حتّى قدّم له تقدمة تليق به.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشره خلع على الأمير بيبغا أرس واستقرّ فى نيابة حلب عوضا عن أرغون الكاملى واستقرّ أرغون الكاملى فى نيابة الشام، عوضا عن أيتمش الناصرىّ، وخلع على أحمد الساقى شادّ الشراب خاناه كان، بنيابة حماة عوضا عن طنيرق، ورسم لطنيرق أن يتوجّه إلى حلب أمير طبلخاناة بها. ثم رسم بأن يكون بطّالا بدمشق، وسافر بيبغا أرس وأحمد الساقى بعد أيام إلى محلّ «1» كفالتهما ثم سأل الأمير منجك الإعفاء عن أخذ الإمرة، وأن يقعد بطّالا بجامعه «2» ، فأجيب إلى ذلك(10/263)
بسفارة الأمير شيخون، واستردّ أملاكه التى كان أنعم بها السلطان على المماليك والخدّام والجوارى، ورمّم ما تشعّث من صهريجه واستجدّ به خطبة. ثم خلع السلطان على عمر شاه واستقر حاجب الحجاب عوضا عن قبلاى المنتقل إلى نيابة السلطنة بديار مصر، وأنعم على طشتمر القاسمىّ بتقدمة ألف، واستقر حاجبا ثانيا وهى تقدمة بيغرا.
وفيها أخرج جماعة من الأمراء وفرّقوا بالبلاد الشامية، وهم: الأمير طينال الجاشنكير وآقجبا الحموىّ الحاجب وملكتمر السعدى «1» وقطلوبغا أخو مغلطاى وطشبغا الدوادار.
وفى يوم السبت تاسع شعبان وصل الملك المجاهد «2» صاحب اليمن من سجن الكرك، فخلع عليه من الغد ورسم له بالعود الى بلاده من جهة عيذاب «3» ، وبعث إليه الأمراء بتقادم كثيرة وتوجّه الى بلاده. وكانت أمّه قد رجعت من مكة الى اليمن بعد مسكه وأقامت فى مملكة اليمن الصالح وكتبت الى تجّار الكارم توصّيهم بابنها المجاهد وأن يقرضوه ما يحتاج إليه، وختمت على أموالهم من صنف المتجر بعدن وتعزّ وزبيد «4» ، فقدم قاصدها، بعد أن قبض على المجاهد ثانيا وسجن بالكرك، بعد أن كان رسم له الملك الناصر حسن بالتوجّه إلى بلاده، لأمر بدا منه فى حقّ السلطان فى الطريق، فكتب مسفّره يعرّف السلطان بذلك. انتهى.
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر شعبان، وصل إلى القاهرة الأمير أيتمش الناصرىّ المعزول عن نيابة الشام، فقبض عليه من الغد.
ثم قدم الشريف ثقبة صاحب مكّة فى مستهلّ شهر رمضان بعد ما قدم قوده وقود أخيه عجلان، فخلع السلطان عليه بإمرة مكّة بمفرده، واقترض من الأمير(10/264)
طاز ألف دينار، ومن الأمير شيخون عشرة آلاف درهم، واقترض من التجار مالا كثيرا، واشترى الخيل والمماليك والسلاح واستخدم عدّة أجناد، ورسم بسفر الأمير حسام الدين لاجين العلائىّ مملوك آقبغا الجاشنكير صحبته ليقلّده إمرة مكّة. ثم سافر الأمير طيبغا المجدىّ فى خامس شوّال بالحج والمحمل على العادة، وسار الجميع إلى مكّة، ولم يعلم أحد خبر المجاهد صاحب اليمن حتّى قدم مبشّرا الحاجّ فى مستهلّ المحرّم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وأخبر بوصول الملك المجاهد إلى ممالك اليمن فى ثامن عشر ذى الحجة من السنة الماضية، وأنه استولى على ممالكه.
وفى شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وخمسين، وسبعمائة شرع الأمير طاز فى عمارة قصره «1»(10/265)
وإصطبله، تجاه حمّام الفارقانىّ «1» بجوار المدرسة البندقدارية «2» على الشارع. وأدخل فيه عدّة أملاك، وتولّى عمارته الأمير منجك، وحمل إليه الأمراء وغيرهم من(10/266)
الرّخام وآلات العمارة شيئا كثيرا، وشرع الأمير صرغتمش أيضا فى عمارة إسطبل «1» الأمير بدرجك، بجوار بئر «2» الوطاويط قريبا من الجامع(10/267)
الطّولونى «1» وحمل إليه الناس أيضا شيئا كثيرا من آلات العمارة. ثم خلع السلطان على الأمير صرغتمش المذكور، واستقرّ رأس نوبة كبيرا، فى رتبة الأمير شيخون باختيار شيخون، وجعل إليه التصرّف فى أمور الدولة كلّها من الولاية والعزل والحكم، ما عدا مال الخاصّ، فإن الأمير شيخون يتحدّث فيه، فقصد الناس صرغتمش لفضاء أشغالهم، وكثرت مهابته، وعارض الأمراء فى جميع أفعالهم، وأراد ألا يعمل شىء إلّا من بابه وبإشارته، فإن تحدّث غيره غضب وأبطل ما تحدّث فيه وأخرق بصاحبه، فأجمع الأمراء باستبداد السلطان بالتصرّف، وأن يكون ما يرسم به على لسان الأمير صرغتمش رأس نوبة، فطال صرغتمش واستطال وعظم ترفّعه على الناس، فتنكّرت له الأمراء وكثرت الأراجيف بوقوع فتنة، وإعادة الملك الناصر حسن ومسك شيخون، وصاروا الأمراء على تحرّز واستعداد، فأخذ صرغتمش فى التبرؤ مما رمى به، وحلف للأمير شيخون وللأمير طاز، فلم يصدّقه طاز وهمّ به، فقام شيخون بينهما قياما كبيرا، حتى أصلح بينهما، وأشار على طاز بالركوب إلى عمارة صرغتمش فركب إليه وتصافيا.(10/268)
وفى هذه الأيام من سنة ثلاث وخمسين رتّب الأمير شيخون فى الجامع «1» الذي أنشأه العلامة أكمل الدين محمد الرومىّ الحنفىّ مدرّسا، وجعل خطيبه جمال الدين خليل بن عثمان الرومىّ الحنفىّ، وجعل به درسا للمالكيّة أيضا وولّى تدريسه نور الدين السّخاوىّ المالكىّ، وقرّر له ثلثمائة درهم كلّ شهر ورتّب به قرّاء ومؤذنين وغير ذلك من أرباب الوظائف، وقرّر لهم معاليم بلغت فى الشهر ثلاثة آلاف درهم.
قلت: ذلك قبل أن تبنى الخانقاه تجاه الجامع المذكور.
وفى عاشر جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير شيخون العمرىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا عوضا عن صرغتمش لأمر اقتضى ذلك، وعند لبس شيخون الخلعة قدم عليه الخبر بولادة بعض سراريه ولدا ذكرا، فسرّ به سرورا زائدا، فإنه لم يكن له ولد ذكر.
وفى هذه الأيام ادّعى رجل النبوّة، وأنّ معجزته أن ينكح امرأة فتلد من وقتها ولدا ذكرا يخبر بصحّة نبوّته، فقال بعض من حضر: إنك لبئس النّبيّ، فقال:(10/269)
لكونكم بئس الأمة، فضحك الناس من قوله، فحبس وكشف عن أمره، فوجدوا له نحو اثنى عشر يوما من حين خرج من عند المجانين.
وفى يوم الأربعاء عاشر شهر رجب قدم كتاب الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام يتضمن أنه قبض على قاصد الأمير منجك الوزير بكتابه إلى أخيه ببيغا أرس نائب حلب يحسّن، له الحركة والعصيان، وأرسل الكتاب وإذا فيه أنه اتفق مع سائر الأمراء، وما بقى إلا أن يركب ويتحرّك، فاقتضى الرأى التأنّى حتى يحضر الأمراء والنائب إلى الخدمة من الغد ويقرأ الكتاب عليهم ليدبّروا الأمر على ما يقع عليه الاتفاق، فلمّا طلع الجماعة من الغد، إلى الخدمة لم يحضر منجك، فطلب فلم يوجد، وذكر حواشيه أنهم من عشاء الآخرة لم يعرفوا «1» خبره، فركب الأمير صرغتمش فى عدّة من الأمراء وكبس بيوت جماعته فلم يقع له على خبر، وتفقدوا مماليكه ففقد منهم اثنان، فنودى عليه من القاهرة، وهدّد من أخفاه وأخرج عيسى ابن حسن الهجان فى جماعة من عرب العائذ على النّجب لأخذ الطرقات عليه، وكتب إلى العربان ونوّاب الشام وولاة الأعمال على أجنحة الطيور بتحصيله فلم يقدروا عليه، وكبست بيوت كثيرة.
ثمّ فى يوم الأربعاء رابع عشرين شهر رجب قدم الخبر بعصيان الأمير أحمد الساقى نائب حماة وبعصيان الأمير بكلمش نائب طرابلس.
وفى يوم السبت سابع عشرينه، كتب بإحضار الأمير بيبغا أرس نائب حلب الى الديار المصرية، وكتب ملطّفات لأمراء حلب تتضمّن أنّه: إن امتنع من الحضور فهو معزول، ورسم لحامل الكتاب أن يعلم بيبغا أرس بذلك مشافهة بحضرة أمراء حلب.(10/270)
فقدم البريد من الشام بموافقة ابن دلغادر الى بيبغا أرس وأنّه تسلطن بحلب، وتلقّب بالملك العادل وأنه يريد مصر لأخذ غرمائه، وهم طاز وشيخون وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملىّ نائب الشام، فلمّا بلغ ذلك السلطان والأمراء رسم للنائب بعرض أجناد الحلقة، وتعيين مضافيهم من عبرة أربعمائة دينار الإقطاع فما فوقها ليسافروا.
ثم قدم البريد بأنّ قراجا بن دلغادر، قدم حلب فى جمع كبير من التّركمان، فركب بيبغا أرس وتلقّاه، وقد واعد نائب حماة وطرابلس على مسيره أوّل شعبان الى نحو الديار المصرية، وأنهم يلقوه على الرّستن «1» ، فأمر السلطان الأمير طقطاى الدّوادار بالخروج الى الشام على البريد وعلى يده ملطّفات لجميع أمراء حلب وحماة وطرابلس، فسار طقطاى حتّى وصل دمشق وبعث بالملطّفات الى أصحابها، فوجد أمر بيبغا أرس قد قوى، ووافقه النوّاب والعساكر وابن دلغارر بتركمانه، وحيّار «2» بن مهنّا بعربانه، فكتب نائب الشام بأن سفر السلطان لا بد منه، وإلا خرج عنكم الشام جميعه، فاتّفق رأى أمراء مصر على ذلك، وطلب الوزير ورسم له بتهيئة بيوت السلطان، وتجهيز الإقامات فى المنازل، فذكر أنّه ما عنده مال لذلك، فرسم له بقرض ما يحتاج إليه من التجّار، فطلب تجّار الكارم وباعهم غلالا من الأهراء بالسعر الحاضر، وعدّة أصناف أخر، وكتب لمغلطاى بالإسكندريّة، وأخذ منه أربعمائة(10/271)
ألف درهم، وأخذ من النائب مائة ألف درهم قرضا، ومن الأمير بلبان الأستادار مائة ألف درهم، فلم يمض أسبوع حتّى جهّز الوزير جميع ما يحتاج إليه السلطان.
وخرج الأمير طاز فى يوم الخميس ثالث شعبان، ومعه الأمير بزلار والأمير كلتا والأمير فارس الدين ألبكى. ثم خرج الأمير طيبغا المجدىّ وابن أرغون النائب وكلاهما مقدّم ألف فى يوم السبت خامس شعبان وخرج الأمير شيخون العمرى فى يوم الأحد سادسه بتجمّل عظيم، فبينما الناس فى التفرّج على طلبه إذ قيل قبض على منجك اليوسفى، وهو «1» أن الأمير طاز لمّا رحل ووصل الى بلبيس قيل له: إنّ بعض أصحاب منجك صحبة شاورشى مملوك قوصون، فطلبهما الأمير طاز وفحص عن أمرهما فرابه أمرهما، فأمر بالرجل ففتّش فإذا معه كتاب منجك لأخيه بيبغا أرس، يتضمّن أنه قد فعل كلّ ما يختاره، وجهّز أمره مع الأمراء كلّهم، وأنه أخفى نفسه وأقام عند شاورشى أيّاما ثم خرج من عنده الى بيت الحسام الصّقرى أستاداره وهو مقيم حتّى يعرف خبره، وهو يستحثه على الخروج من حلب، فبعث به طاز الى الأمير شيخون، فوافى الاطلاب خارجة، فطلب شيخون الحسام الصّقرى وسأله فأنكر، فأخذه الأمير صرغتمش وعاقبه. ثمّ ركب الى بيته بجوار الجامع الأزهر وهجمه فاذا منجك ومملوكه، فأخذه صرغتمش وأركبه مكتوف اليدين الى القلعة، فسيّر من وقته الى الاسكندرية فحبس بها.
ثمّ ركب السلطان الملك الصالح من قلعة الجبل فى يوم الاثنين سابع شعبان فى بقية الأمراء والخاصكية ونزل الى الرّيدانية «2» خارج القاهرة وخلع على الأمير قبلاى نائب الغيبنة باستقراره نائب الغيبة ورتّب أمير على الماردينى أن يقيم(10/272)
بالقلعة ومعه الأمير كشلى السّلاح دار ليقيما داخل باب القلّة، ويكون على باب القلعة الأمير أرنان والأمير قطلوبغا الذهبى ورتّب الأمير مجد الدين موسى الهذبانى مع والى مصر لحفظ مصر. ثم استقلّ السلطان بالمسير من الريدانية فى يوم الثلاثاء بعد الظهر.
فقدم البريد بأنّ الأمير مغلطاى الدوادار خرج من دمشق يريد مصر وأنّ الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام لمّا بلغه خروج بيبغا أرس بمن اجتمع معه من العساكر، عزم على لقائه فبلغه مخامرة أكثر أمراء دمشق فاحترس على نفسه وصار يجلس بالميدان وهو لابس آلة الحرب. ثم اقتضى رأى الأمير مسعود بن خطير أنّ النائب لا يلقى القوم، وأنه ينادى بالعرض للنفقة بالكسوة فاذا خرج العسكر إليه بمنزلة الكسوة، منعهم من عبورهم الى دمشق وسار بهم الى الرّملة «1» فى انتظار قدوم السلطان، وأنه استصوب ذلك وفعله، وأنه مقيم بعسكر دمشق على الرملة، وأن الأمير ألطنبغا برناق نائب صفد سار الى بيبغا أرس وأن بيبغا أرس سار من حلب الى حماة واجتمع مع نائبها أحمد الساقى وبكلمش نائب طرابلس، وسار بهم الى حمص، وعند نزوله على حمص وصل إليه مملوكا «2» الأمير أرقطاى بكتاب السلطان ليحضر فقبض عليهما وقيّدهما وسار يريد دمشق فبلغه مسير السلطان واشتهر ذلك فى عسكره وأنه عزل عن نيابة حلب فانحلت عزائم كثير ممن معه من المقاتلة، وأخذ بيبغا أرس فى الاحتفاظ بهم والتحرز منهم الى أن قدم دمشق يوم الخميس «3» خامس عشرين شهر رجب، فاذا أبواب المدينة مغلّقة والقلعة محصّنة، فبعث الى(10/273)
الأمير إياجى نائب قلعتها يأمره بالإفراج عن قردم وأن بفتح أبواب المدينة، ففتح أبواب المدينة ولم يفرج عن قردم فركب الأمير أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس من الغد ليغيرا على الضّياع فوافى بعض عسكر بيبغا أرس نجّابا يخبر بمسك منجك ومسير السلطان من خارج القاهرة، وعاد أحمد وبكلمش فى يوم الاثنين رابع عشر شعبان وقد نزل طاز بمن معه المزيرب فارتجّ عسكر بيبغا أرس وتواعد قراجا بن دلغادر وحيّار بن مهنا على الرحيل، فما غربت الشمس إلا وقد خرجا بأثقالهما وأصحابهما وسارا، فخرج بيبغا أرس فى أثرهما فلم يدركهما، وعاد بكرة يوم الثلاثاء فلم يستقرّ قراره، حتى دقّت البشائر بقلعة دمشق، بأن الأمير طاز والأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام وافيا دمشق وأن الأمير شيخون والسلطان ساقة؛ فبهت بيبغا أرس وتفرّق عنه من كان معه، فركب عائدا إلى حلب فى تاسع عشر شعبان، فكانت إقامته بدمشق أربعة وعشرين يوما، أفسد أصحابه بدمشق فيها مفاسد وقبائح من النهب والسّبى والحريق والغارات على الضّياع من حلب إلى دمشق وفعلوا كما فعل التتار أصحاب قازان وغيره، فبعث السلطان الأمير أسندمر العلائى إلى القاهرة بالبشارة فقدمها يوم الجمعة خامس عشرين شعبان، ودقّت البشائر لذلك وزيّنت القاهرة
وأمّا السلطان الملك الصالح فإنه التقى مع الأمير أرغون شاه الكاملىّ نائب الشام على بدّعرش من عمل غزّة، وقد تأخّر معه الأمير طاز بمن معه فدخلوا غزّة، وخلع السلطان على أرغون المذكور باستمراره فى نيابة دمشق، وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم وأنعم على أمير مسعود بن خطير بألف دينار، وعلى كل أمراء دمشق كل واحد قدر رتبته، فكان جملة ما أنفق السلطان فيهم ستمائة ألف درهم، وتقدّم الأمير شيخون والأمير طاز والأمير أرغون نائب الشام إلى دمشق وتأخر الأمير صرغتمش(10/274)
صحبة السلطان ليدبّر العسكر، ثم تبعهم السلطان إلى دمشق فدخلها فى يوم الخميس مستهلّ شهر رمضان، وخرج الناس إلى لقائه وزيّنت مدينة دمشق، فكان لدخوله يوم مشهود، ونزل السلطان بقلعة دمشق، ثم ركب منها فى الغد يوم الجمعة ثانية إلى الجامع الأموى فى موكب جليل حتى صلى به الجمعة وكان الأمراء قد مضوا فى طلب بيبغا أرس.
وأما بيبغا أرس فانه قدم إلى حلب فى تاسع عشرين شعبان، وقد حفرت خنادق تجاه أبواب حلب وغلّقت وامتنعت القلعة عليه ورمته بالحجارة والمجانيق، وتبعهم الرجال من فوق الأسوار بالرّمى عليه، وصاحوا عليه فبات تلك الليلة بمن معه وركب فى يوم الخميس مستهل شهر رمضان للزحف على مدينة حلب، وإذا بصياح عظيم والبشائر تدقّ فى القلعة وهم يصيحون: يا منافقون، العسكر وصل، فالتفت بمن معه فاذا صناجق على جبل جوشن «1» فانهزموا عند ذلك بأجمعهم إلى نحو البرية، ولم يكن ما رأوه على جبل جوشن عسكر السلطان، ولكنه جماعة من جند حلب وعسكر طرابلس كانوا مختفين من عسكر بيبغا أرس عند خروجه من دمشق فساروا فى أعقابه يريدون الكبسة على بيبغا أرس وتعبّوا على جبل جوشن فعند ما رآهم بيبغا لم يشكّ أنهم عسكر السلطان فانهزم. وكان أهل بانقوسا «2» قد وافقوهم(10/275)
وتقدّموا عنهم فمسكوا المضايق على بيبغا وأدركهم العسكر المذكور من خلفهم فتمزق عسكر بيبغا أرس وقد انعقد عليهم الغبار، حتى لم يمكن أحد أن ينظر رفيقه فأخذهم العرب وأهل حلب قبضا باليد، ونهبوا الخزائن والأثقال وسلبوهم ما عليهم من آلة الحرب وغيره ونجا بيبغا أرس بنفسه بعد أن امتلأت الأيدى بنهب ما كان معه وهو شىء يجلّ عن الوصف، وتتبّع أهل حلب أمراءه ومماليكه وأخرجوهم من عدّة مواضع فظفروا بكثير منهم، فيهم أخوه الأمير فاضل والأمير ألطنبغا العلائىّ شادّ الشراب خاناه وألطنبغا برناق نائب صفد وملكتمر السعيدى وشادى أخو نائب حماة وطيبغا حلاوة الأوجاقىّ وابن أيدغدى الزرّاق ومهدى شاد الدواوين بحلب وأسنباى قريب ابن دلغادر وبهادر الحاموس وقليج أرسلان أستادار بيبغا أرس ومائة مملوك من مماليك الأمراء، فقيّدو الجميع وسجنوا، وتوجّه مع الأمير بيبغا أرس أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس وطشتمر القاسمىّ نائب الرّحبة وآقبغا البالسىّ وطيدمر وجماعة أخر، تبلغ عدّتهم نحو مائة وستة عشر نفرا.
ثم دخل الأمراء حلب وأخذوا أموال بيبغا أرس، وكتبوا إلى قراجا بن دلغادر بالعفو عنه والقبض على بيبغا أرس ومن معه، فأجاب بأنّه ينتظر فى القبض عليه مرسوم السلطان، وقد نزل بيبغا أرس عنده، وسأل إرسال أمان لبيبغا أرس وأنّه مستمرّ على إمرته، فجهّز له ذلك فامتنع من تسليمه، فطلب الأمراء رمضان من أمراء التّركمان، وخلع عليه بإمرة قراجا بن دلغادر وإقطاعه، وعاد الأمراء من حلب واستقرّ بها الأمير أرغون الكاملىّ نائب الشام، وعاد الجميع إلى دمشق ومعهم الأمراء المقبوض عليهم فى يوم الجمعة سلخ شهر رمضان، وصلّوا العيد بدمشق مع السلطان الملك الصالح صالح، وأقاموا إلى يوم الاثنين ثالث شوّال، جلس السلطان بطارمة قلعة دمشق وأخرجوا الأمراء فى الحديد ونودى عليهم: هذا جزاء من يجامر على(10/276)
السلطان ويخون الأيمان. ووسّطوهم واحدا بعد واحد، وقد تقدّم ذكر أسمائهم عند القبض عليهم فوسّط الجميع، ما خلا ملكتمر السّعيدى «1» فإنه أعيد إلى السجن، وخلع السلطان على أيتمش الناصرىّ واستقرّ فى نيابة طرابلس «2» عوضا عن بكلمش السّلاح دار، وخلع على طنيرق بنيابة حماة عوضا عن أحمد الساقى، وعلى الأمير شهاب الدين أحمد بن صبيح «3» بنيابة صفد عوضا عن ألطنبغا برناق.
ثم صلّى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموىّ وهو سابع شوّال وخرج من دمشق يريد الديار المصريّة بأمرائه وعساكره، فكانت مدّة إقامته بدمشق سبعة وثلاثين يوما وسار حتّى وصل القاهرة فى يوم الثلاثاء خامس عشرين شوّال من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، ومشى بفرسه على الشّقق الحرير التى فرشت له بعد أن خرج الناس إلى لقائه والتفرّج عليه، فكان لدخوله القاهرة أمر عظيم لم يتّفق ذلك لأحد من إخوته، وعند ما طلع إلى القلعة تلقّته أمّه وجواريه ونثروا على رأسه الذهب والفضّة، بعد أن فرشت له طريقه أيضا بالشّقاق الأطلس الملوّنة، والتهانى تزفّه، ولم يبق بيت من بيوت الأمراء إلا وفيه الأفراح والتهانى.
وفى قدوم السلطان الملك الصالح يقول العلّامة شهاب الدين أحمد بن أبى حجلة التّلمسانى الحنفىّ تغمده الله برحمته: [الكامل]
الصالح الملك المعظّم قدره ... تطوى له أرض البعيد النازح
لا تعجبوا من طيّها فى سيره ... فالأرض تطوى دائما للصالح
ثم عمل السلطان عدّة مهمّات بالقلعة والقصر السلطانىّ، وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف.(10/277)
ثم قبض على الوزير علم الدين عبد الله بن أحمد بن زنبور وهو بخلعته قريب المغرب، وسبب ذلك أنّه لمّا فرّقت التشاريف على الأمراء، غلط الذي أخذ تشريف الأمير صرغتمش، ودخل إليه بتشريف الأمير بلبان السّنانىّ الأستادار، فلمّا رآه صرغتمش تحرّك ما عنده من الأحقاد على ابن زنبور المذكور، وتنمّر «1» غضبا، وقام من فوره ودخل إلى الأمير شيخون وألقى البقجة قدّامه وقال: انظر فعل الوزير معى، وحلّ الشاش وكشف التشريف. فقال شيخون: هذا وقع فيه الغلط فقام صرغتمش وقد أخذه من الغضب شبه الجنون وقال: أنا ما أرضى بالهوان، ولا بدّ من القبض عليه، ومهما شئت فأفعل، وخرج فصادف ابن زنبور داخلا إلى شيخون وعليه الخلعة، فصاح فى مماليكه خذوه. ففى الحال نزعوا عنه الخلعة، وجرّوه إلى بيت صرغتمش، فسجنه فى موضع مظلم من داره، وعزل عنه ابنه رزق الله فى موضع آخر. وكان قبل دخوله إلى شيخون رتّب عدّة مماليك على باب خزانة الخاص، وباب النجاس «2» وباب القلعة وباب «3» القرافة وغيره من المواضع وأوصاهم بالقبض على حاشية ابن زنبور وجميع الكتّاب، بحيث لا يدعو أحدا منهم يخرج من القلعة، فعند ما قبض على ابن زنبور ارتجّت القلعة وخرجت الكتّاب، فقبضت مماليك صرغتمش عليهم كلّهم، حتى على شهود الخزانة وكتّابها، وكتّاب الأمراء الذين بالقلعة، واختلطت الطمّاعة بمماليك صرغتمش وصاروا يقبضون على الكاتب، ويمضون به إلى مكان ليعرّوه ثيابه، فإن احترموه أخذوا مهمازه من رجله، وخاتمه(10/278)
من إصبعه، أو يفتدى نفسه منهم بمال يدفعه لهم، حتى يطلقوه، وفيهم من اختفى عند الغلمان، فقرّروا عليه مالا، واسترهنوا دواته، بحيث إنّ بعض غلمان أمير حسين أخى السلطان، جمع ستّ عشرة دواة من ستة عشر كاتبا، وأصبح يجبيهم ويدفع لهم أدويتهم. وذهب من الفرجيات والعمائم والمناديل شىء كثير. وساعة القبص على ابن زنبور، بعث الأمير صرغتمش الأمير جرچى والأمير قشتمر فى عدّة من المماليك إلى دور ابن زنبور بالصناعة «1» بمدينة مصر. وأوقعوا الحوطة على حريمه، وختموا بيوته وبيوت أصهاره وكانت حرمهم فى الفرح وعليهنّ الحلىّ والحلل، وعندهنّ معارفهنّ، فسلب المماليك كثيرا من النساء اللّاتى كنّ فى الفرح، حتّى مكّنوهنّ من الخروج إلى دورهنّ، فخرج عامّة نساء ابن زنبور وبناته ولم تبق إلّا زوجته فوكّل بها؛ وكتب إلى ولاة الأعمال بالوجه القبلىّ والوجه البحرىّ بالحوطة على ماله وزراعته، وماله من القنود والدّواليب وغيرها، وخرج لذلك عدّة من مقدّمى الحلقة، وتوجّه الحسام العلائىّ إلى بلاد الشام ليوقّع الحوطة على أمواله، وأصبح الأمير صرغتمش يوم السبت ثامن عشرين شوّال، فأخرج ابن الوزير ابن زنبور رزق الله بكرة، وهدّده ونزل به من داره من القلعة إلى بيته، وأخذ زوجة ابن زنبور أيضا وهدّدها، وألقى ابنها رزق الله إلى الأرض ليضربه فلم تصبر، ودلته على موضع المال فأخذ منه خمسه عشر ألف دينار وخمسين ألف درهم.
وأخرج من بئر صندوقا فيه ستّة آلاف دينار ومصاغ. ووجد له عند الصارم مشدّ العمائر ستّة آلاف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، سوى التّحف والتفاصيل(10/279)
وثياب الصوف وغير ذلك. وألزم محمد [بن «1» ] الكورانىّ والى مصر بتحصيل بنات ابن زنبور، فنودى عليهنّ؛ ونقل ما فى دور صهرى ابن زنبور وسلّما لشادّ الدواوين، وعاد صرغتمش إلى القلعة، فطلب السلطان جميع الكتّاب وعرضهم، فعيّن موفّق الدين هبة الله [بن إبراهيم «2» ] للوزارة وبدر الدين [كاتب يلبغا «3» لنظر الخاصّ] و [تاج الدين «4» أحمد بن الصاحب] أمين الملك عبد الله بن الغنّام لنظر الجيش، وأخاه كريم الدين لنظر البيوت [وابن السعيد لنظر «5» الدولة] وقشتمر مملوك طقزدمر لشدّ الدواوين.
وفى يوم الأحد تاسع عشرين شوّال خلع على الجميع، وأقبل الناس إلى باب صرغتمش للسعى فى الوظائف فولّى الأسعد حربة استيفاء الدولة، وولّى كريم الدين أكرم ابن شيخ ديوان الجيش. وسلم المقبوض عليهم لشادّ الدواوين وهم: الفخر [ابن «6» ] قروينة ناظر البيوت، والفخر بن مليحة ناظر الجيزة والفخر مستوفى الصّحبة، والفخر بن الرضىّ كاتب الإسطبل، وابن معتوق كاتب الجهات، وطلب التاج بن لفيتة ناظر المتجر وناظر المطبخ وهو خال ابن زنبور فلم يوجد، وكبست بسببه عدّة بيوت، حتى أخذ وصار الأمير صرغتمش ينزل ومعه ناظر الخاصّ وشهود الخزانة وينقل حواصل ابن زنبور من مصر «7» إلى حارة زويلة فأعياهم كثرة ما وجدوه له، وتتبّعت حواشى ابن زنبور، وهجمت دور كثيرة بسببهم.(10/280)
ثم فى مستهلّ ذى القعدة نزل الأمير صرغتمش إلى بيت «1» ابن زنبور بالصناعة، وهدم منه ركنا فوجد فيه خمسة وستّين ألف دينار، حملها إلى القلعة، وطلب ابن زنبور وضربه عريانا فلم يعترف بشىء، فنزل إلى بيته وضرب ابنه الصغير وأمّه تراه فى عدّة أيام حتى أسمعته كلاما جافيا فأمر بها فعصرت، وأخذ ناظر الخاصّ فى كشف حواصل ابن زنبور بمصر، فوجد له من الزيت والشّيرج والنّحاس والرّصاص والكبريت والعكر «2» والبقّم «3» والقند «4» والعسل وسائر أصناف المتجر ما أذهله، فشرع فى بيع ذلك كلّه.
هذا والأمير صرغتمش ينزل بنفسه وينقل قماش ابن زنبور وأثاثه إلى حارة زويلة ليكون ذخيرة للسلطان، فبلغت عدة الحمّالين الذين حملوا النّصافى والأوانى الذهب والفضّة والبلّور والصّينىّ والكتب والملابس الرجالية والنسائية والزراكش واللآلئ والبسط الحرير والمقاعد ثمانمائة حمّال، سوى ما حمل على البغال. وكان ما وجد له من أوانى الذهب والفضّة ستّين قنطارا، ومن الجواهر ستين رطلا، ومن اللؤلؤ الكبار إردبين، ومن الذهب الهرجة «5» مائتى ألف دينار وأربعة آلاف دينار وقيل ألف ألف(10/281)
دينار، ومن الحوائص الذهب ستة آلاف حياصة، ومن الكلفتاة الزّركش ستة آلاف كلفتاه، ومن ملابسه عدّة ألفين وستمائة فرجية، ومن البسط ستة آلاف بساط، ومن الشاشات ثلثمائة شاش، ووجد له من الخيل والبغال ألف رأس، ودواب حلّابة ستة آلاف رأس، ومن معاصر السكر خمس وعشرون معصرة، ومن الإقطاعات سبعمائة إقطاع، كلّ إقطاع متحصله خمسة وعشرون ألف درهم فى السنة. ووجد له مائة عبد وستون طواشيّا وسبعمائة جارية، وسبعمائة مركب فى النيل، وأملاك قوّمت بثلاثمائة ألف دينار، ورخام بمائتى ألف درهم، ونحاس بأربعة آلاف دينار، وسروج وبدلات عدّة خمسمائة، ووجد له اثنان وثلاثون مخزنا، فيها من أصناف المتجر ما قيمته أربعمائة ألف دينار؛ ووجد له سعة «1» آلاف نطع وخمسمائة حمار ومائتا بستان وألف وأربعمائة ساقية، وذلك سوى ما نهب وما اختلس، على أنّ موجوده أبيع بنصف قيمته. ووجد فى حاصل بيت المال مبلغ مائة ألف وستون ألف درهم؛ وبالأهراء نحو عشرين ألف إردب: وهذا الذي ذكرناه محرّر عن الثقات.
وأما غيرنا فذكر له أشياء كثيرة حدا، أضربنا عن ذكرها خوف المجازفة.
وكان ابتداء ابن زنبورانه ناشر فى استيفاء الوجه القبلى، فنهض فيه وشكرت سيرته إلى أن عرض الملك الناصر محمد بن قلاوون الكتّاب ليختار منهم من يولّيه كاتب الإسطبل، وكان ابن زنبور هذا من جملتهم وهو شاب فأثنى عليه الفخر ناظر الجيش وساعده الأكوز والنّشو، فولّى كاتب الإسطبل عوضا عن ابن الجيعان فنالته فيها السعادة، وأعجب به السلطان لفطنتة فدام على ذلك حتى مات الناصر فاستقرّ مستوفى الصّحبة ثم انتقل عنها إلى نظر الدولة ثم ولى نظر الخاصّ بعناية الأمير أرغون العلائى ثم أضيف إليه نظر الجيش، وجمع بعد مدّة إليهما الوزارة ولم تتفق لأحد قبله هذه الوظائف.(10/282)
قلت: ولا بعده إلى يومنا هذا، (أعنى لواحد فى وقت واحد) .
وعظم فى الدولة ونالته السعادة، حتى إنه كان يخلع عليه فى ساعة واحدة ثلاث خلع ويخرج له ثلاث أفراس، ونفذت كلمته وقويت مهابته، واتّجر فى جميع الأصناف حتى فى الملح والكبريت، ولمّا صار فى هذه الرتبة كثرت حسّاده وسعوا فيه عند صرغتمش وأغروه به، حتى كان من أمره ما كان. وكان يقوم بكلف شيخون جميعها من ماله وصار صرغتمش يسمع شيخون بسببه الكلام، ويقول: لو مكنتنى منه أخذت منه للسلطان ما هو كيت وكيت، وشيخون يعتذر له ويقول:
لا يوجد من يسدّ مسدّه، وإن كان ولا بدّ يقرّر عليه مال ويستمرّ على وظائفه، وبينما هم فى ذلك قدم الخبر بعصيان بيبغا أرس، فاشتغل صرغتمش عنه حتى سافروا وعادوا إلى القاهرة، ووقع من أمر الخلعة ما حكيناه
ثم انتدب جماعة بعد مسكه للسعى فى هلاكه وأشاعوا أنه باق على دين النّصرانية، أثبتوا فى ذهن صرغتمش ذلك، وأنه لمّا دخل إلى القدس فى سفرته هذه بدأ فى زيارته بالقمامة «1» فقبّل عتبتها وتعبّد فيها ثم خرج إلى المسجد الأقصى فأراق الماء فى بابه ولم يصلّ فيه وتصدّق على النصارى ولم يتصدّق على غيرهم، ورتّبوا فتاوى أنه ارتدّ عن دين الإسلام.
وكان أجلّ من قام عليه الشريف شرف الدين نقيب الأشراف والشريف أبو العباس الصّفراوىّ وبدر الدين ناظر الخاصّ والصوّاف تاجر الأمير صرغتمش، وأشهد «2» عليه أنّ جميع ما يملكه للسلطان من مال بيت المال دون ماله. ثم(10/283)
حسّنوا لصرغتمش ضربه، فأمر به فأخرج وفى عنقه باشة وجنزير وضرب عريانا قدّام باب قاعة الصاحب من القلعة. ثم أعيد إلى موضعه وعصر وسقى الماء والملح.
ثم سلّم لشدّ الدواوين وأمر بقتله، فنوّع عليه أنواع العذاب فتكلّم الأمير شيخون فى عدم قتله فأمسك عنه ورتّب له الأكل والشرب وغيّرت عنه ثيابه ونقل من قاعة الصاحب إلى بيت صرغتمش واستمرّ على ذلك إلى أن أخرج إلى قوص منفيا، ومات بها بعد أن أخذ سائر موجوده وأخذ منه ومن حواشيه فوق الألفى ألف دينار. انتهى.
وأما أمر الديار المصرية فإنه لمّا كان يوم الاثنين ثامن عشرين ذى الحجّة قدم البريد من حلب بأخذ أحمد الساقى نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس من عند بن دلغادر وسجنا بقلعة حلب فأمر السلطان إلى نائب حلب بخلعه.
وفى هذه الأيام توفّى الخليفة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بعد أن عهد لأخيه أبى بكر، فطلب أبو بكر وخلع عليه خلعة الخلافة بحضرة السلطان والأمير شيخون ولقّب بالمعتضد بالله أبى بكر. يأتى ذكره فى الوفيات على عادة هذا الكتاب. وقد ذكرناه فى المنهل الصافى بأوسع مما يأتى ذكره فيه. وأيضا فى مختصرنا المنعوت: «بمورد اللّطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة» .
وأما أمر بيبغا أرس فانه لمّا أرسل قراجا بن دلغادر أحمد الساقى نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس إلى حلب فى القيود واعتقلا بقلعة حلب حسب ما ذكرناه، فكان ذلك آخر العهد بهما. ثم أرسل قراجا المذكور بيبغا أرس بعد أيام فى محرّم سنة أربع وخمسين وسبعمائة فاعتقل بقلعة حلب، وكان ذلك آخر العهد به أيضا. رحمه الله. وقيل: إنه ما حضر إلى حلب إلا رءوسهم. والله أعلم.
وفى بيبغا أرس يقول الأديب زين الدين عبد الرحمن بن الخضر السنجارىّ الحلبىّ- رحمه الله- أبيانا منها: [الطويل](10/284)
بغى بيبغا بغى الممالك عنوة ... وما كان فى الأمر المراد موفّقا
أغار على الشقراء فى قيد جهله ... لكى يركب الشهباء فى الملك مطلقا
فلمّا علا فى ظهرها كان راكبا ... على أدهم لكنّه كان موثقا
ثم رسم السلطان الملك الصالح صالح أن يقرّ أهل الذمّة على ما أقرهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- عليه من ترك تشبّههم بالمسلمين فى أمر من الأمور، وترك ركوب الخيل وحمل السلاح، ورفع أصواتهم على أصوات المسلمين وأشباه ذلك.
ثم رسم بنفى الأمير منجك اليوسفى الوزير كان إلى صفد بطّالا. وفى هذه السنة (أعنى سنة أربع وخمسين وسبعمائة) انتهت عمارة الأمير سيف الدين طاز التى تجاه حمّام الفارقانى، فعمل طاز وليمة وعزم على السلطان والأمراء، ومدّ سماطا عظيما.
ولمّا انتهى السّماط وعزم السلطان على الركوب، قدّم له أربعة أرؤس من الخيل بسروج ذهب وكنابيش زركش، وقدّم للامير سيف الدين شيخون فرسين، ولصرغتمش فرسين ولسائر الأمراء المقدّمين كل واحد فرسا، ولم يعهد قبل ذلك أن سلطانا نزل إلى بيت بعض الأمراء، بعد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلا هذا.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الأمير ركن الدين عمر شاه الحاجب، صاحب القنطرة «1» خارج القاهرة.(10/285)
ثم استهلّت سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكان فيها الواقعة والفتنة بين حاشية طاز وبين صرعتمش، والسبب لهذه الحركة أن الأمير صرغتمش كان يخاف من طاز ويغضّ منه وكذلك كان طاز يغضّ من صرغتمش، وكان طاز يدخل على شيخون مرارا عديدة بمسك صرغتمش، وكان شيخون يكره الفتن والفساد، وقصده الصلاح للأمور بكلّ ما يمكن فكان شيخون يعده ويصبّره، وكان صرغتمش أيضا يخاف شرّ طاز ويقول لشيخون: هذا ما يريد الّا هلاكى، فكان شيخون يطمّنه على نفسه ويعده بكلّ خير، وكان إخوة طاز وحواشيه تحرّضه على صرغتمش وعلى إثارة الفتنة وقوى أمر طاز وإخوته وخرج عن الحدّ، وهم الأمير جنتمر وكلناى وصهره طقطاى، فهؤلاء الذين كانوا يحرّكون طاز على قيام الفتنة، ومسك صرغتمش ليستبدّ طاز بالأمر وحده، ويكونوا هم عظماء الدولة، وشيخون يعلم بذلك ويسكّنهم ويرجعهم عن قصدهم، وطاز يستحى من شيخون، وطال الأمر إلى أن اتفق طاز مع إخوته المذكورين وغيرهم من مماليكه وأصحابه أنه يخرج هو إلى الصيد، فاذا غاب عن المدينة يركب هؤلاء على صرغتمش ومن يلوذ به ويمسكونه فى غيبته، فيكون بغيبة طاز له عذر عند شيخون من حيائه منه، فلمّا خرج طاز الى الصيد بالبحيرة بإذن الأمير شيخون له وما عند شيخون علم من هذا الاتّفاق، رتّب حاشية طاز وإخوته ومن يلوذ به أمرهم واجتمعوا ولبسوا السلاح وركبوا على صرغتمش فلمّا سمع شيخون بذلك أمر مماليكه أن يركبوا بالسلاح وكانوا مقدار سبعمائة مملوك فركبوا. وركب الأمير صرغتمش ومن يلوذ به، ووقع الحرب بينهم وبين إخوة طاز، وتقاتلا فانكسر إخوة طاز وقبض عليهم، وعلى أكابر مماليك طاز وحواشيه، فهربت البقية، فدخل صرغتمش هو ومن بقى من أكابر الأمراء إلى شيخون وقالوا: لا بدّ من خلع الملك الصالح صالح وإعادة الملك الناصر حسن إلى السلطنة،(10/286)
لكون الصالح كان يميل إلى طاز، فاعتذر شيخون بأعذار غير مقبولة، وأراد إبقاء الصالح. فلم يوافقوه وما زالوا به حتى أذعن واتفقوا على خلعه فخلع، وأعيد الملك الناصر حسب ما يأتى ذكره فى ترجمته.
وكان خلع الملك الصالح صالح فى يوم الاثنين ثانى شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدّة سلطنته بالديار المصرية ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، وحبس بالقلعة فى بعض دورها إلى أن توفّى بها فى ذى الحجة سنة إحدى وستين وسبعمائة، وله نحو سبع وعشرين سنة. ودفن بتربة «1» عمّه الملك الصالح علىّ بن قلاوون [الخاتونية] بالقرب من المشهد النفيسى خارج القاهرة.
وكان- رحمه الله- ملكا جليلا مليح الشكل عاقلا لم تشكر سيرته ولم تذم، لأنه لم يكن له فى سلطنته إلا مجرّد الاسم فقط، لغلبة شيخون وطاز وصرغتمش على الأمر، لأنهم كانوا هم حلّ المملكة وعقدها واليهم أمورها لا لغيرهم.
وأمّا أمر طاز فانه يأتى- إن شاء الله تعالى- فى أوّل سلطنة الملك الناصر حسن، بعد ذكر حوادث سنى الملك الصالح هذا، كما هى عادة هذا الكتاب انتهى والله سبحانه أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 753]
السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، على أنه حكم من السنة الماضية من سابع عشر جمادى الآخرة إلى آخرها.(10/287)
وفيها (أعنى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة) : توفّى قاضى القضاة نجم الدين محمد الأذرعى الشافعى بدمشق على قضائها، وتولى بعده قضاء دمشق قاضى القضاة كمال الدين المعرّى قاضى قضاة حلب.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة فريد دهره ووحيد عصره، زين الدين المعروف بالعضد العجمى «1» الحنفى رحمه الله تعالى، كان إما بارعا مفتنّا فقيها مصنّفا، وله اليد الطّولى فى علم المعقول والمنقول، وتولى قضاء القضاة بممالك القان بو سعيد ملك التتار بل كان هو المشار اليه بتلك الممالك، والمعوّل على فتواه وحكمه، وتصدّى للإقراء والإفتاء والتصنيف عدّة سنين. ومن مصنفاته «شرح المختصر لابن الحاجب» و «المواقف» و «الجواهر» وغير ذلك فى عدّة فنون «2» ، وكان رحمه الله كريما عفيفا جواد احسن السّيرة مشكور الطريقة.
وتوفّى الأديب الفاضل الشاعر بدر الدين أبو على الحسن بن على المغربى المعروف بالزّغارى الشاعر المشهور، مات عن نيف وخمسين سنة. ومن شعره قوله: [الرجز]
أعجب ما فى مجلس اللهو جرى ... من أدمع الرّاووق لما انسكبت
لم تزل البطّة فى قهقهة ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت
قال وله أيضا: [البسيط]
قالت وقد أنكرت سقامى ... لم أر ذا «3» السّقم يوم بينك
لئن أصابتك عين غيرى ... فقلت لا عين بعد عينك(10/288)
قال وله أيضا: [المتقارب]
فتنت بأسمر جلو اللّمى ... لسلوانه الصّبّ لم يستطع
تقطّع قلبى وما رقّ لى ... ودمعى يرقّ ولا ينقطع
وتوفّى النّوين أرتنا «1» ، وقيل: أرطنا سلطان بلاد الروم، كان نائبا عن السلطان بو سعيد بن خربندا ملك التتار بجميع ممالك الروم، ودام على ذلك سنين، فلمّا مات بو سعيد كاتب أرتنا هذا السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وقال له: أريد أن أكون نائبك بممالك الروم، فأجابه الملك الناصر محمد وكتب له بذلك، وأرسل اليه الخلع السنيّة وكتب له: «نائب السلطنة الشريفة بالبلاد الرومية «2» » ولم تزل رسله تتردّد إلى الديار المصرية إلى أن مات فى أوائل المحرّم من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
وكان ملكا عارفا عاقلا سيوسا مدبّرا، طالت أيامه فى السعادة.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلك «3» بن عبد الله الناصرى الأمير آخور بغزّة فى عوده إلى الديار المصرية، وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن من هذا الكتاب.(10/289)
وتوفّى الشيخ بهاء الدين محمد بن على بن سعيد الفقيه الشافعى بدمشق فى شهر رمضان وكان فقيها فاضلا يعرف بابن إمام المشهد» .
وتوفّى القاضى شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر الشافعى الدّمشقى المعروف بابن القيسرانى كاتب سرّ دمشق بطّالا كانت لديه فضيلة وهو من بيت كتابة وفضل «2» .
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن بيليك «3» المحسنىّ، كان أميرا فقيها شافعيا أديبا نظم كتاب «التنبيه فى الفقه» وكتب عدّة مصنفات، وكان معدودا من الفضلاء العلماء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 754]
السنة الثانية من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر وهى سنة أربع وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد الهاشمى العباسى، كان بويع بالخلافة بعد وفاة والده بقوص فى العشرين من شعبان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فلم يمض له ما عهده أبوه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما كان(10/290)
فى نفسه من والده المستكفى بالله من ميله للملك المظفر بيبرس الجاشنكير، وأراد أن يولّى الخلافة لبعض أقاربه بل أحضره وخلع عليه ثم مات الملك الناصر بعد ذلك بمدّة يسيرة، فتمّت بموته خلافة الحاكم هذا الى أن مات فى هذه السنة «1» . والمتولّى يومئذ لأمور الديار المصرية الأمير شيخون والأمير طازو والأمير صرغتمش ونائب السلطنة الأمير قبلاى، والسلطان الملك الصالح صالح وكان الحاكم مات ولم يعهد بالخلافة لأحد، فجمع الأمراء القضاة، وطلب جماعة من بنى العباس، حتى وقع الاختيار على أبى بكر بن المستكفى بالله أبى الربيع سليمان فبايعوه ولقّبوه بالمعتضد «2» .
وتوفّى قاضى القضاة علاء الدين أبو الحسن على ابن الشيخ جمال الدين [يحيى «3» ] الحنفى المعروف بابن الفويرة فى العشر الأوسط من شوّال. كان فقيها بارعا باشر توقيع الدّست الشريف وكتب وصنّف وولى القضاء سنين.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر صدر الدين محمد بن شرف الدين محمد بن إبراهيم الميدومى المصرى «4» فى شهر رمضان ودفن بالقرافة عن تسعين سنة. وكان مولده سنة أربع وستين وستمائة وهو آخر من حدّث عن النّجيب عبد اللطيف وابن علّان وسمع منه السّراجان: البلقينى وابن الملقّن.(10/291)
وتوفّى القاضى الرئيس زين الدين أبو حفص عمر بن شرف الدين يوسف ابن عبد الله بن يوسف بن أبى السفاح الحلبى الشافعى الكاتب، كاتب الإنشاء بحلب، ثم ولى صحابة «1» الإنشاء بها ووكالة بيت المال الى أن مات بحلب عن نيّف وستين سنة.
وتوفّى الأمير سيف الدين ألجيبغا بن عبد الله العادلى، كان من أكابر الأمراء أقام أميرا نحو ستين سنة، وكان قد أصابته ضربة سيف فى وقعة أرغون شاه بدمشق بانت منها يده اليمنى، واستمرّ على إمرته وتقدمته الى أن مات فى السابع من شهر ربيع الآخر، ودفن بتربته بدمشق خارج باب الجابية وقد أناف على تسعين سنة «2» .
وتوفّى الأمير الجليل بدر الدين مسعود بن أوحد بن مسعود بن الخطير بدمشق فى سابع شوّال، بعد ما تنقّل فى عدّة ولايات وأعمال: مثل حجوبية الحجّاب بديار مصر ونيابة غزّة وغير ذلك. وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدمشق ونشأ بها وولى الحجوبية بها، وأرسله تنكز الى مصر صحبة أسندمر رسول جوبان، فلمّا رآه الملك الناصر أعجبه شكله فرسم له بإمرة طبلخاناه بمصر وجعله من جملة الحجّاب، فأقام على ذلك الى أن قبض السلطان على مملوكه ألماس الحاجب ولّاه عوضه حاجب الحجّاب، ولم يكن بمصر يوم ذلك نائب سلطنة، فعظم أمره إلى أن مسك تنكز رسم له بنيابة غزّة، ثم بعد موت الملك الناصر أعطى إمرة بدمشق، ثم طلب إلى مصر وأعيد إلى حجوبيّة الحجّاب ثانيا، فلم تطل مدّته لاختلاف الكلمة(10/292)
وأخرج إلى نيابة غزّة ثانيا، ثم عزل ونقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ثم ولى نيابة غزّة ثالث مرّة وأقام بها سنين، ثم عزل وتوجّه إلى دمشق أميرا بها.
ثم ولى نيابة طرابلس فلم تطل مدّته بها وعزل، وتوجّه أيضا إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات. رحمه الله «1» .
وتوفّى فى هذه السنة جماعة ممن تقدّم ذكرهم من الأمراء قتلوا بقلعة حلب وهم:
الأمير أحمد الساقى نائب حماة «2» وبكلمش نائب طرابلس «3» وبيبغا أرس نائب حلب وغيرهم.
فأما الأمير بيبغا أرس القاسمىّ، فإن أصله من مماليك الملك الناصر محمد ابن قلاوون ومن أعيان خاصكيّته، ثم ولى بعد موته نيابة السلطنة بالديار المصرية فى أوّل سلطنة الملك الناصر حسن، ثم قبض عليه بطريق الحجاز وحبس ثم أطلق فى أوّل دولة الملك الصالح صالح، وتولّى نيابة حلب بعد أرغون الكاملى، ولمّا ولى نيابة حلب شدّد على من يشرب الخمر بها إلى الغاية، وظلم وحكم فى ذلك بغير أحكام الله تعالى، حتى إنه سمّر من سكر وطيف به بشوارع حلب، وفى هذا المعنى يقول ابن حبيب: [الرجز]
أهل الطّلا توبوا وكلّ منكم ... يعود عن ساق التّقى مشمّرا
فمن يبت راووقه معلّقا ... أصبح ما بين الورى مسمّرا
وفيه أيضا يقول القاضى شرف الدين حسين بن ريان «4» : [الخفيف]
تب عن الخمر فى حلب ... والزم العقل والأدب
حدّها عند بيبغا ... بالمسامير والخشب(10/293)
ثم خرج بيبغا عن طاعة السلطان، ووقع له ما حكينا فى ترجمة الملك الصالح إلى أن ظفر به وقتل فى قلعة حلب، وفيه يقول بعض الأدباء: [البسيط]
لمّا اعتدى بيبغا العادى ومن معه ... على الورى فارقوا كرها مواطنهم
خوف الهلاك سروا ليلا على عجل ... فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم «1»
وتوفّى الرئيس أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر، كان من أعيان الكتّاب وتولّى نظر الجيش بالديار المصرية مدّة، ثم عزل وأخرج الى القدس فأقام به مدّة، ثم أعيد الى القاهرة فأقام بها الى أن مات «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين بيغرا بن عبد الله الناصرى ثم المنصورى، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وهو بطّال بحلب، وكان شجاعا مقداما من أعيان أمراء مصر وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن «3» .
وتوفّى الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر صاحب أبلستين فى رابع عشر ذى القعدة، وقد تقدّم ذكره فى واقعة الأمير بيبغا أرس «4» .
وتوفّى مستوفى الصحبة أسعد حربة أحد الكتّاب المسالمة فى ذى القعدة من السنة.
وتوفى الشيخ جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الإمام شمس الدين أبى محمد عبد الله بن العفيف محمد بن يوسف بن عبد المنعم المقدسى النابلسى ثم الدمشقى الحنبلى فى شهر رجب ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة «5» .(10/294)
وتوفّى الشيخ إمام الدين محمد بن زين الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن على بن محمد بن الحسن القيسى القسطلانيّ الشافعى بالقاهرة فى عشرين المحرّم، ومولده بمكّة المشرّفة فى سنة إحدى وسبعين وستمائة «1» .
وتوفّى حاكم الموصل وسنجار الأمير بدر الدين حسن بن هندوا. كان من أعيان الملوك وكان بينه وبين صاحب ماردين عداوة، ووقع بينهما حروب قتل فى بعضها حسن هذا بعد القبض عليه «2» .
وتوفّى القاضى شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب [بن الشهاب «3» أحمد بن محيى الدين يحيى] بن فضل الله بن المجلّى بن دعجان بن خلف القرشىّ العمرى، نسبته الى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. [مات فى شوّال «4» من هذه السنة] .
[مولده «5» فى ثالث ذى الحجّة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بدمشق، ومات بها فى شهر رمضان وكان إماما بارعا كاتبا بليغا أديبا مترسّلا، كتب المنسوب الفائق وتنقّل فى الخدم حتى ولى ناظر ديوان الإنشاء بالديار المصرية مدّة طويلة، وهو أوّل كاتب سرّ ولى بمصر من بنى فضل الله، ولّاه الأشرف خليل بن قلاوون بعد عزل عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن الأثير، فدام فى كتابة السرّ سنين، الى أن نقله الملك الناصر محمد بن قلاوون الى كتابة سرّ دمشق، عوضا عن أخيه محيى الدين(10/295)
يحيى بن فضل الله، وولى عوضه القاضى علاء الدين بن الأثير، ولمّا مات رثاه الشعراء والعلماء ورثاه العلّامة شهاب الدين محمود بقصيدته التى أوّلها: [الطويل]
لتبك المعالى والنّهى الشرف الأعلى ... وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا «1»
ومن شعر القاضى شرف الدين المذكور يمدح الملك المنصور قلاوون الألفى الصالحى: [الكامل]
تهب الألوف ولا تهاب لهم ... ألفا إذا لاقيت فى الصّفّ
ألف وألف فى ندى ووغى ... فلاجل ذا سمّوك بالألفى «2»
وله أيضا لمّا ختن الملك الناصر محمد بن قلاوون. [الخفيف]
لم يروّع له الختان جنانا ... قد أصاب الحديد منه حديدا «3»
مثلما تنقص المصابيح بالقطّ ... فتزداد فى الضياء وقودا
أمر النيل فى هذه، السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا. والله سبحانه أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 755]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الصالح صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر وهى سنة خمس وخمسين وسبعمائة وفيها خلع الملك الصالح المذكور فى ثانى شوّال.(10/296)
وفيها توفّى العلّامة زين الدين أبو الحسن علىّ بن الحسين بن القاسم بن منصور ابن علىّ الموصلىّ الشافعىّ الشهير بابن شيخ العوينة بالموصل «1» عن أربع وسبعين سنة، وكان إماما فقيها بارعا مصنّفا ناظما ناثرا، نظم كتاب «الحاوى» فى الفقه، وشرح «المختصر» و «المفتاح» ، وقدم الى الشام متوجّها الى الحجاز الشريف وهو القائل:
[الطويل]
وما اخترت بعد الدار عمّن أحبّه ... صدودا وحاشى أن يقال صدود
ولكنّ أسباب الضرورة لم تزل ... الى غير ما تهوى النفوس تقود «2»
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد ابن القاضى شمس الدين إبراهيم بن المسلم ابن هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور الجهنىّ الشافعى الشهير بابن البارزىّ، ناظر أوقاف دمشق وبها مات عن نيّف وثمانين سنة «3» .
وتوفّى الشيخ الإمام سراج الدين أبو حفص عمر ابن القدوة نجم الدّين عبد الرحمن بن الحسين بن يحيى بن عبد المحسن القبّانى الحنبلى، كان إماما زاهدا عابدا أفتى ودرّس وحدّث وباشر مشيخة المالكيّة بالقدس الى مات «4» .
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة فخر الدين أبو طالب أحمد بن علىّ بن أحمد الكوفى البغدادىّ الحنفىّ الشهير بابن الفصيح، مات بدمشق وقد قارب الثمانين سنة.
وكان إماما عالما بارعا فى فنون، ناظما ناثرا، نظم «الكنز فى الفقه» و «السراجية(10/297)
فى الفرائض» وقدم إلى دمشق وتصدّى للافتاء والتدريس والإقراء الى أن مات بها ومن «1» شعره وهو فى غاية الحسن: [الوافر]
أمرّ سواكه من فوق درّ ... وناولنيه وهو أحبّ عندى
فذقت رضابه ما بين ندّ ... وخمر أمزجا منه بشهدى «2»
وله أيضا: [الرجز]
زار الحبيب فحيّا ... يا حسن ذاك المحبّا
من صدّه كنت ميتا ... من وصله عدت» حيّا
وتوفّى الشيخ الامام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الظاهرى الدمشقى الشافعى مدرّس الفرّوخشاهيّة «4» ، كان فقيها فاضلا. مات بدمشق عن نيّف وثمانين سنة. وكان «5» له نظم وينشئ المقامات، وله القصيدة الحجازية التى أولها:
[الطويل]
سرت نسمة الوادى فأذكرت الصّبّا ... ليالى منى فانصبّ مدمعه صبّا
وتوفّى الشيخ الإمام جمّال الدين محمد بن علاء الدين علىّ بن الحسن الهروى الحلبىّ الحنفىّ المعروف بالشيخ زاده. كان فقيها متصوّفا زاهدا. قال ابن حبيب أنشدنى بيتين بالفارسى وذكر لى معناهما واقترح علىّ نظمهما بالعربى فقلت:
[الكامل](10/298)
ألحاظه شهدت بأنّى مخطئ ... وأتت بخطّ عذاره تذكارا
يا حاكم الحبّ اتّئد فى قصّتى ... فالخطّ زور والشّهود سكارى
ومن إنشاء الشيخ زاده المذكور قوله: [الطويل]
وما العيش إلّا والشّبيبة غضّة ... ولا الحبّ إلّا والمحبّون أطفال
وهم زعموا أنّ الجنون أخو الصّبا ... فليت جنونا دام والناس غفّال
وكانت وفاته بحلب عن نيّف وخمسين سنة «1» .
وتوفّى الشريف علاء الدين أبو الحسن علىّ ابن الشريف عز الدين حمزة بن علىّ ابن حسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة بن الحسين الحلبى نقيب الأشراف بحلب، وبها مات عن نيّف وسبعين سنة، وكان رئيسا كاتبا مجيدا عارفا مثريا «2» .
وتوفّى الصاحب الوزير علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم الشهير بابن زنبور المصرىّ القبطىّ المقدّم ذكره ولى الوزارة ونظر الجيش والخاصّ ولم تجتمع لأحد قبله. ثم نكب وصودر وأخذت أمواله وذخائره التى وصفناها فى ترجمة الملك الصالح ومات بقوص معتقلا «3» .
وتوفّى الوزير الصاحب موفّق الدين أبو الفضل هبة الله بن سعيد الدّولة القبطىّ المصرىّ، ولى نظر الدولة ثم الخاص ثم الوزارة إلى أن مات، وكان مشكور السّيرة حسن الأخلاق، وعنده تواضع وكرم ومعرفة وعقل «4» .(10/299)
وتوفّى الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى الناصرى، نائب طرابلس. مات بها وتولّى عوضه منجك اليوسفىّ الوزير أخو بيبغا أرس، وكان أيتمش وافر الحشمة ليّن الجانب بعيد الشرّ قريب الخير، وعنده عقل وسكون ووقار، ولى الحجوبيّة والوزارة بالديار المصرية، ثم ولى نيابة دمشق مدّة سنين، إلى أن قبض عليه وسجن بثغر الإسكندرية، ثم أطلق وولى نيابة طرابلس بعد بكلمش الناصرىّ فدام على نيابتها إلى أن مات «1» .
وتوفّى السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج صاحب الأندلس وما والاها، طعن بخنجر فى جبينه فى يوم عيد الفطر، فمات منه وتسلطن بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن يوسف «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين إياجى بن عبد الله الناصرى، نائب قلعة دمشق، كان شجاعا مقداما أظهر فى فتنة الأمير بيبغا أرس أمرا عظيما من حفظ قلعة دمشق وقاتل بيبغا أرس قتالا عظيما وقام فى ذلك أتمّ قيام.
وتوفّى الأمير سيف الدين مغلطاى بن عبد الله الناصرىّ، بطّالا فى عاشر شهر رمضان، وكان من أعيان ممالك الملك الناصر محمد بن قلاوون وخاصّكيّته وتولّى رأس نوبة ثم صار أمير شكار ثم ولى الأمير آخورية الكبرى، ثم أمسك وحبس بعد أمور وقعت له ثم أطلق وأخرج الى الشام بطّالا، فدام به إلى أن مات رحمه الله تعالى «3» .(10/300)
وتوفّى تاج الدين أبو الفضائل أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنّام القبطىّ المصرىّ فى شوّال تحت العقوبة، وهو أحد الكتّاب المعدودة وتولّى عدّة وظائف وباشر عدّة مباشرات، وكان مشكور السّيرة. رحمه «1» الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وخمس أصابع.(10/301)
سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر
قد تقدّم ذكره فى سلطنته الأولى من هذا الكتاب وذكرنا أيضا سبب خلعه من السلطنة بأخيه الملك الصالح صالح ثم ذكرنا فى ترجمة أخيه الصالح سبب خلع الصالح وإعادة الناصر هذا فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا. والمقصود هنا الآن ذكر عود الملك الناصر حسن الى ملكه فنقول: ولمّا قبض على أصحاب الأمير طاز اتّفق صرغتمش مع الأمير شيخون على خلع الملك الصالح من السلطنة وسلطنة الملك الناصر حسن ثانيا وأبرموا ذلك حتى تمّ لهم فقاموا ودخلوا الى القلعة وأرسلوا طلبوا الملك الصالح، فلمّا توجّه اليهم أخذ من الطريق وحبس فى بيت من قلعة الجبل وأرسلوا أشهدوا عليه بأنه خلع نفسه من السلطنة، ثم طلبوا الملك الناصر حسنا من محبسه بالقلعة، وكلّموه فى عوده، وأشرطوا عليه شروطا قبلها. فاخذوه إلى موضع بالقلعة، فيه الخليفة والقضاة، وبايعوه ثانيا بالسلطنة، ولبّسوه تشريف السلطنة وأبّهة الملك، وركب فرس النّوبة ومشت الأمراء بين يديه الى الإيوان، فنزل وجلس على تخت الملك، وقبّلوا الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وكان ذلك فى يوم الاثنين ثانى شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، ولم يغيّر لقبه بل نعت بالناصر كما كان أوّلا على لقب أبيه، ونودى باسمه بمصر والقاهرة، ودقّت البشائر وتمّ أمره وحالما قلع الملك الناصر خلعة السلطنة عنه، أمر فى الحال بمسك الأمير طاز، فشفع فيه الأمير شيخون لأنه كان أمّنه وهو نزيله، فرسم له السلطان بالتوجّه إلى نيابة حلب، فخرج من يومه وأخذ فى إصلاح أمره، إلى أن سافر يوم الجمعة سادس شوّال وسار حتى وصل حلب، فى الخامس من ذى القعدة، وكانت ولايته لنيابة حلب عوضا عن الأمير أرغون الكاملىّ، وطلب أرغون إلى مصر، فحضر أرغون الى للقاهرة وأقام بها مدّة يسيرة ثم أمسك، وأقام طاز فى نياية حلب، ومعه أخوه كلتاى وجنتمر وكلاهما مقدّمان بها.(10/302)
ودام الملك الناصر حسن فى الملك إلى أن دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة والخليفة يوم ذاك المعتضد بالله أبو بكر، ونائب السلطنة بمصر الأمير آقتمر عبد الغنى وأتابك العساكر الأمير شيخون العمرىّ، وهو أوّل أتابك سمى بالأمير الكبير، وصارت من بعده الأتابكية وظيفة إلى يومنا هذا، ولبسها بخلعة وإنما كانت العادة فى تلك الأيام من كان قديم هجرة من الأمراء سمّى بالأمير الكبير [من غير «1» خلعة فكان فى عصر واحد جماعة كلّ واحد منهم يسمّى بالأمير الكبير] حتى ولّى شيخون هذا أتابكيّة العساكر- وسمّى بالأمير الكبير- بطلب تلك العادة القديمة وصارت من أجلّ وظائف الأمراء، تمّ ذلك. انتهى.
وكان نائب الشام يوم ذاك أمير علىّ الماردينى، ونائب حلب طاز، وصاحب بغداد وما والاها الشيخ حسن ابن الشيخ حسين سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو.
وفى هذه السنة أيضا كملت خانقاة «2» الأمير الكبير شيخون العمرى بالصّليبة والربع «3»(10/303)
والحمّامان «1» وفرغت هذه العمارة ولم يتشوّش أحد بسبيها، ورتّب فى مشيختها العلّامة أكمل الدين «2» محمد البابرتى «3» الحنفىّ، وأشركه فى النظر.
ودام السلطان حسن فى السلطنة ولم يحرّك ساكنا إلى أن استهلّت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة قبض على أربعة من الأمراء وسجنوا بثغر الإسكندرية، وهم:
الأمير قجا السلاح دار، وطقطاى الدّوادار، وقطلوبغا الذهبى، وخليل بن قوصون وخلع على الأمير علم دار باستقراره فى الدوادارية، وخلع على الأمير قشتمر باستقراره حاجبا ووزيرا، وكان القبض على هؤلاء الأمراء بعد أن ضرب الأمير شيخون بالسيف، وحمل إلى داره «4» جريحا ولزم الفراش الى أن مات، حسب ما يأتى ذكره.(10/304)
وأمر ضرب شيخون كان فى يوم الاثنين من شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وهو أن السلطان الملك الناصر حسنا جلس فى اليوم المذكور على كرسى الملك بدار العدل «1» للخدمة، والأمراء جلوس فى الخدمة والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة، وبينما السلطان جالس على كرسى الملك وثب مملوك من المماليك السلطانية يسمّى قطلو خجا السلاح دار على الأمير الكبير شيخون، وضربه بالسيف ثلاث ضربات أصابت وجهه ورأسه وذراعه، فوقع شيخون مغشيّا عليه، وأرجف بموته، وقام السلطان من على الكرسى ودخل الى القصر، ووقعت الهجّة، فلمّا سمعت مماليك شيخون بذلك، طلعوا القلعة راكبين صحبة أمير خليل بن قوصون أحد الأربعة المقبوض عليهم بعد ذلك، فحملوا شيخون على جنويّة «2» وبه رمق، ونزلوا به الى داره، وأحضروا الجرائحية فأصلحوا جراحاته، وبات شيخون تلك الليلة، وأصبح السلطان الملك الناصر حسن نزل لعيادته من الغد، فدخل عليه وحلف له أن الذي وقع لم يكن بخاطره ولا له علم به، وكان الناس ظنوا أن السلطان هو الذي سلّطه على شيخون، فتحقّق الناس براءة السلطان، وطلع السلطان الى القلعة وقد قبض على قطلو خجا المذكور، فرسم السلطان بتسميره فسمّر.
ثم وسّط فى اليوم المذكور، بعد أن سأل السلطان قطلوخجا السلاح دار المذكور عن سبب ضرب شيخون بالسيف، فقال: طلبت منه خبزا فمنعنى منه وأعطاه لغيرى. ولزم شيخون الفراش من جراحه الى أن مات فى ذى القعدة من السنة، وبموته خفّ عن السلطان أشياء كثيرة، فإنه كان ثقيل الوطأة على السلطان الى الغاية، بحيث إن السلطان كان لا يفعل شيئا حتى يشاوره حقيرها وجليلها، فلما مات التفت السلطان حسن الى إنشاء مماليكه، فأمّر منهم جماعة كثيرة على ما سيأتى ذكره.(10/305)
ثم أخذ السلطان حسن فى شراء دار ألطنبغا الماردانى ويلبغا اليحياوى بالرّميلة وهدمهما وأضاف اليهما عدّة دور وإسطبلات أخر، وشرع فى بناية مدرسته «1» المعروفة به تجاه قلعة الجبل، التى لم يبن فى الإسلام نظيرها، ولا حكاها معمار فى حسن عملها، وذلك فى سنة ثمان وخمسين المذكورة.
ولما شرع فى عمارتها جعل عليها مشدّين ومهندسين واجتهد فى عملها. وأما مصروفها وما اجتمع بها من الصّنّاع والمعلّمين فكثير جدا لا يدخل تحت حصر، وقيل: إن إيوانها يعادل إيوان كسرى فى الطول.
قلت: وفى الجملة إنها أحسن ما بنى فى الدنيا شرقا وغربا فى معناها بلا مدافعة.
وفى هذه السنة وقع أمر عجيب، قال ابن كثير فى تاريخه: «وفى هذه السنة «2» حملت جارية من عتقاء الأمير الهيدبانى «3» قريبا من تسعين يوما، ثم شرعت تطرح ما فى بطنها، فوضعت قريبا من أربعين ولدا، منهم أربع عشرة بنتا. وقد تشكل الجميع، وتميّز الذكر من الأنثى، فسبحان القادر على كل شىء.
قلت: وابن كثير ثقة حجّة فيما يرويه وينقله. انتهى.(10/306)
ولما مات شيخون انفرد صرغتمش بتدبير المملكة، وعظم أمره واستطال فى الدولة، وأخذ وأعطى وزادت حرمته وأثرى وكثرت أمواله، الى أن قبض عليه الملك الناصر حسن حسب ما يأتى ذكره فى محلّه، إن شاء الله تعالى.
ثم إنّ السلطان قبض على الأمير طاز نائب حلب، فى أوائل سنة ثمان وخمسين المذكورة بسفارة صرغتمش، وقيّده وحمله إلى الإسكندرية فحبسه بها، وولّى عوضه فى نيابة حلب الأمير منجك اليوسفىّ الوزير، نقل إليها من نيابة طرابلس.
ثم عزل السلطان عزّ الدين بن جماعة «1» عن قضاء الشافعية بديار مصر، وولّى عوضه بهاء الدين «2» بن عقيل، فأقام ابن عقيل فى القضاء ثمانين يوما وعزل، وأعيد ابن جماعة ثم نقل السلطان منجك اليوسفىّ المذكور من نيابة حلب إلى الشام عوضا عن أمير على الماردينى، ونقل الماردينى إلى نيابة حلب، كلّ ذلك فى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة المقدّم ذكرها، وخلع السلطان على تاج الدين بن ريشة واستقرّ فى الوزارة ثم نفى السلطان جماعة من الأمراء، منها الأمير چرچى الإدريسىّ، وأنعم بإقطاعه وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر على مملوكه يلبغا العمرى صاحب الكبش «3» وهو الذي قتل أستاذه الملك الناصر حسنا المذكور، حسب ما يأتى ذكره فى وقته من هذا الكتاب فى هذه الترجمة، ثم خلع عليه وجعله أمير مجلس عوضا عن الأمير تنكز بغا الماردينى. ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان سنة(10/307)
تسع وخمسين وسبعمائة، أمسك السلطان الأمير صرغتمش الناصرىّ، بعد ما أقعد له قواعد مع الأمير طيبغا الطويل ويلبغا العمرى وغيرهما، وأمسك معه جماعة من الأمراء، وهم طشتمر القاسمى حاجب الحجاب، وطيبغا الماجارى وأزدمر وقمارى وأرغون الطّرخانى وآقجبا الحموىّ، وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات، وكان سبب مسكه أنّ صرغتمش كان قد عظم أمره بعد موت شيخون، واستبدّ بأمور الدولة وتدبير الملك، فلما تمّ له ذلك، ندب الملك الناصر حسنا لمسك طاز ووغّر خاطره عليه، حتى كان من أمره ما كان، فلمّا صفا له الوقت بغير منازع، لم يقنع بذلك، حتى رام الوثوب على الملك الناصر حسن ومسكه واستقلاله بالملك، فبلغ الناصر ذلك فاتّفق مع جماعة من الأمراء على مسكه عند دخوله على السلطان فى خلوة، فلمّا كان وقت دخوله وقفوا له فى مكان رتّبهم السلطان فيه، فلما دخل صرغتمش احتاطوا به وقبضوا عليه، ثم خرجوا لمن عيّن لهم من الأمراء المقدّم ذكرهم، فقبضوا عليهم أيضا فى الحال، وحبسوا الجميع بقلعة الجبل، فلما بلغ مماليك صرغتمش وحواشيه من المماليك، ركبوا بالسلاح وطلعوا الى الرميلة، فنزل إليهم المماليك السلطانية من القلعة، وقاتلوهم من بكرة النهار الى العصر عدّة وجوه، إلى أن كانت الكسرة على مماليك صرغتمش. وأخذتهم السيوف السلطانية، ونهبت دار صرغتمش عند بئر الوطاويط «1» ، ونهبت دكاكين الصليبة، ومسك من الأعجام صوفية المدرسة «2» الصّرغتمشية جماعة لأنهم ساعدوا الصّرغتمشية وأحموهم عند(10/308)
كسرتهم؛ وما أذّن المغرب حتى سكن الأمر وزالت الفتنة، ونودى بالأمان والبيع والشراء.
وأصبح الملك الناصر حسن فى بكرة يوم الثلاثاء وهو سلطان مصر بلا منازع، وصفا له الوقت، وأخذ وأعطى، وقرّب من اختار وأبعد من أبعد، وخلع على الأمير ألجاى اليوسفىّ واستقرّ به حاجب الحجاب عوضا عن طشتمر القاسمىّ، وخلع على جماعة أخر بعدّة وظائف، ثم أخذ فى ترقية مماليكه والإنعام عليهم. وأعيان مماليكه: يلبغا العمرىّ وطيبغا الطويل وجماعة من أولاد الأمراء.
وكان يميل لإنشاء أولاد «1» الناس وترقّيهم الى الرتب السنية، لا لحبّه لهم، بل كان يقول: هؤلاء مأمونو العاقبة، وهم فى طىّ علمى، وحيث وجّهتهم إليه توجّهوا، ومتى(10/309)
أحببت عزلهم أمكننى ذلك بسهولة، وفيهم أيضا رفق بالرعية ومعرفة بالأحكام، حتى إنه كان فى أيامه منهم عدّة كثيرة، منهم أمراء مقدّمون، يأتى ذكر أسمائهم فى آخر ترجمته، إن شاء الله تعالى.
ثمّ أخرج السلطان صرغتمش ورفقته فى القيود الى الإسكندرية، فسجن صرغتمش بها إلى أن مات فى ذى الحجة من السنة، على ما سيأتى ذكر صرغتمش فى الوفيات من حوادث سنين الملك الناصر حسن.
ثم إن السلطان عزل الأمير منجك اليوسفى عن نيابة دمشق فى سنة ستين وسبعمائة، وطلبه الى الديار المصرية، فلما وصل منجك الى غزّة بلغه أن السلطان يريد القبض عليه، فتسحّب ولم يوقف له على خبر، وعظم ذلك على السلطان وأكثر من الفحص عليه، وعاقب بسببه خلائق فلم يفده ذلك.
ثم خلع السلطان على الأمير علىّ الماردينىّ نائب حلب، بإعادته إلى نيابة دمشق كما كان أوّلا، واستقرّ بكتمر المؤمنىّ فى نيابة حلب عوضا عن علىّ الماردينى، فلم تطل مدّته بحلب وعزل عنها بعد أشهر بالأمير أسندمر الزينى، أخى يلبغا اليحياوىّ نائب الشام كان.
ثم خلع السلطان على فخر الدين بن قروينة باستقراره فى نظر الجيش والخاص معا، ثم ظهر الأمير منجك اليوسفىّ من اختفائه فى بيت بالشّرف الأعلى بدمشق، فى سنة إحدى وستين وسبعمائة، بعد أن اختفى به نحو السنة، فأخذ وأحضر الى القاهرة، فلمّا مثل بين يدى السلطان وعليه بشت عسلى «1» وعلى رأسه مئزر صفح(10/310)
عنه لكونه لم يخرج من بلاده، ورسم له بإمرة طبلخاناة بدمشق، وأن يكون طرخانا «1» يقيم حيث شاء، وكتب له بذلك توقيع شريف.
ثم فى هذه السنة وقع الوباء بالديار المصرية، الى أوائل سنة اثنتين وستين وسبعمائة، ومات فى هذا الوباء جماعة كثيرة من الأعيان وغيرهم، وأكثرهم كان لا يتجاوز مرضه أربعة أيام الى خمسة، ومن جاوز ذلك يطول مرضه، وهذا الوباء يقال له: الوباء الوسطىّ (أعنى بين وباءين) .
وفى هذه الأيام عظم يلبغا العمرى فى الدولة حتى صار هو المشار اليه، وثقلت وطأته على أستاذه الملك الناصر حسن، مع تمكّن الملك الناصر فى ملكه، وكان يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمرهم أعظم أمرائه وخاصّكيّته من مماليكه.
فلمّا أن استهلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة بلغ الملك الناصر أنّ يلبغا ينكر عليه من كونه يعطى الى النساء الإقطاعات الهائلة، وكونه يختص بالطواشية ويحكّمهم فى المملكة وأشياء غير ذلك، وصارت الخاصكيّة ينقلون للسلطان عن يلبغا أمورا قبيحة فى حقّه فى مثل هذا المعنى وأشباهه، فتكلّم الملك الناصر حسن مع خواصّه بما معناه: إنه قبض على أكابر أمرائه من مماليك أبيه، حتى استبدّ بالأمر من غير منازع، وأنشأ مماليكه مثل يلبغا المذكور وغيره، حتى يسلم من معارض، فصار يلبغا يعترض عليه فيما يفعله، فعظم عليه ذلك وندم على ترقيه، وأخذ يترقّب وقتا يمسك يلبغا فيه.(10/311)
واتّفق بعد ذلك أن السلطان حسنا خرج الى الصيد ببرّ الجيزة بالقرب من الهرمين «1» ، وخرجت معه غالب أمرائه يلبغا وغيره على العادة، فلمّا كان يوم الثلاثاء ثامن «2» جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة، أراد السلطان القبض على يلبغا لما بلغه عن يلبغا أنه يريد الركوب عليه هناك، فصبر السلطان حسن حتى دخل الليل، فركب ببعض خاصّكيّته من غير استعداد ولا اكتراث بيلبغا، وسار يريد يكبس على يلبغا بمخيّمه فنمّ بعض خاصّكيّة السلطان بذلك الى يلبغا، فاستعدّ يلبغا بمماليكه وحاشيته لقتاله، وطلب خشداشيته وواعدهم بالإمريات والإقطاعات، وخوّفهم عاقبة أستاذهم الملك الناصر حسن المذكور، حتى وافقه كثير منهم، كلّ ذلك والملك الناصر فى غفلة استخفافا بمملوكه يلبغا المذكور، حتى قارب السلطان خيمة يلبغا، خرج اليه يلبغا بمن معه وقاتله، فلم يثبت السلطان لقلّة من كان معه من مماليكه، وانكسر وهرب وعدّى النيل وطلع الى قلعة الجبل فى الليل، هى ليلة الأربعاء «3» التاسع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة، وتبعه يلبغا ومن معه يريد القلعة، فاعترضه ابن المحسنى أحد أمراء الألوف بمماليكه، ومعه الأمير قشتمر المنصورى، وواقعا يلبغا ببولاق وقعة هائلة، انكسر فيها يلبغا مرتين، وابن المحسنىّ يتقدّم عليه، كلّ ذلك وابن المحسنىّ ليس له علم من السلطان أين ذهب، بل بلغه أنه توجه إلى جهة القلعة، فأخذ فى قتال يلبغا وتعويقه عن المسير إلى جهة القلعة، واشتدّ القتال بين يلبغا وابن المحسنىّ حتى أردف يلبغا الأمير ألجاى اليوسفىّ حاجب الحجّاب وغيره، فانكسر عند ذلك ابن المحسنى وقشتمر،(10/312)
وقيل: إنّ يلبغا لمّا رأى شدّة ابن المحسنى فى القتال دسّ عليه من رجّعه عن قتاله وأوعده بأوعاد كثيرة، منها أنه لا يغير عليه ما هو فيه فى شىء من الأشياء خوفا «1» من طلوع النهار قبل أن يدرك القلعة، وأخذ السلطان الملك الناصر حسن، لأنّ الناصر كان طلع إلى قلعة الجبل فى الليل، ولم يشعر به أحد من أمرائه ومماليكه وخواصّه، وصاروا فى حيرة من عدم معرفتهم أين توجّه السلطان، حتى يكونوا معه على قتال يلبغا، وعلم يلبغا أنه متى تعوّق فى قتال ابن المحسنى إلى أن يطلع النهار، أتت العساكر الملك الناصر من كل فجّ، وذهبت روحه، فلما ولّى ابن المحسنى عنه انتهز يلبغا الفرصة بمن معه وحرّك فرسه وصحبته من وافقه إلى جهة القلعة، حتى وصل إليها فى الليل. والله أعلم.
وأمّا أمر السلطان حسن، فإنه لمّا انكسر من مملوكه يلبغا وتوجّه إلى قلعة الجبل، حتى وصل إليها فى الليل، ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة، فلم يجد لهم خيلا لأنّ الخيول كانت فى الربيع، وبينما هو فى ذلك طرقه يلبغا قبل أن يطلع النهار وتجتمع العساكر عليه، فلم يجد الملك الناصر قوّة للقائه، فلبس هو وأيدمر الدوادارى زى الأعراب ليتوجّها إلى الشام ونزلا من القلعة وقت التسبيح، فلقيهما بعض المماليك فأنكروا عليهما وأمسكوهما فى الحال، وأحضروهما إلى بيت الأمير شرف الدين [موسى «2» ] بن الأزكشى أستادار العالية، فحملهما فى الوقت إلى يلبغا حال طلوع يلبغا إلى القلعة، فقتلهما يلبغا فى الحال قبل طلوع الشمس.
وكان عمر السلطان حسن يوم قتل نيّفا على ثلاثين سنة تخمينا، وكانت مدّة ملكه فى سلطنته هذه الثانية ستّ سنين وسبعة أشهر [وسبعة «3» أيام] وكان قتله وذهاب(10/313)
ملكه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه وخواصّه، وهم: يلبغا العمرى وطيبغا الطويل وتمان تمر وغيرهم وهم من مشترواته، اشتراهم ورباهم وخوّلهم فى النعم ورقاهم إلى أعلى المراتب، خوفا من أكابر الأمراء من مماليك أبيه، فكان ذهاب روحه على أيديهم، وكانوا عليه أشدّ من تلك الأمراء، فإنّ أولئك لما خلعوه من السلطنة بأخيه الملك الصالح، حبسوه بالدور من القلعة مكرما مبجّلا، وأجروا عليه الرواتب السنيّة، إلى أن أعادوه إلى ملكه ثانيا، وهم مثل شيخون وصرغتمش وقبلاى النائب وغيرهم، فصار يتذكّر ما قاساه منهم فى خلعه من السلطنة وتحكّمهم عليه، فأخذ فى التدبير عليهم حتى قبض على جماعة كثيرة منهم وأبادهم. ثم رأى أنه ينشئ مماليكه ليكونوا له حزبا وعضدا، فكانوا بعكس ما أمّله منهم، ووثبوا عليه، وكبيرهم يلبغا المقدّم ذكره، وعندما قبضوا عليه لم يمهلوه ساعة واحدة، وعندما وقع نظرهم عليه قتلوه من غير مشاورة بعضهم لبعض، موافاة لحقوق تربيته لهم وإحسانه إليهم، فكان بين فعل مماليك أبيه به وبين فعل مماليكه له فرق كبير، ولله در القائل:
معاداة العاقل، ولا مصاحبة الجاهل.
قلت: لا جرم أنّ الله تعالى عزّ وجلّ عامل يلبغا المذكور من مماليكه بجنس ما فعله مع أستاذه، ووثبوا عليه وقتلوه أشرّ قتلة، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
واستولى يلبغا العمرى الخاصكىّ على القلعة والخزائن والسلاح والخيول والجمال، وعلى جميع ما خلفه أستاذه الملك الناصر حسن، وأقام فى المملكة بعده ابن أخيه الملك المنصور محمد ابن الملك المظفّر حاجّى ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتى ذكره بعد حوادث سنين الملك الناصر حسن، كما هى عادة هذا الكتاب.(10/314)
وكان الملك الناصر حسن سلطانا شجاعا مقداما كريما عاقلا حازما مدبّرا سيوسا، ذا شهامة وصرامة وهيبة ووقار، عالى الهمة كثير الصدقات والبرّ، ومما يدلّ على علوّ همته مدرسته «1» التى أنشأها بالرميلة تجاه قلعة الجبل فى مدّة يسيرة، مع قصر مدّته فى السلطنة والحجر عليه فى تصرفه فى سنين من سلطنته الثانية أيضا، وكان صفته للطول أقرب، أشقر وبوجهه نمش، مع كيس وحلاوة، وكان متجملا فى ملبسه ومركبه ومماليكه وبركه، اصطنع مرّة خيمة عظيمة، فلمّا نجّزت ضربت له بالحوش السلطانى من قلعة الجبل، فلم ير مثلها فى الكبر والحسن، وفيها يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى حجلة التّلمسانىّ المغربى. رحمه الله تعالى:
[الطويل]
حوت خيمة السلطان كلّ عجيبة ... فأمسيت منها باهتا أتعجّب
لسانى بالتقصير فيها مقصّر ... وإن كان فى أطنابها بات يطنب
وكان السلطان الملك الناصر حسن مغرما بالنساء والخدّام، واقتنى فى سلطنته من الخدّام ما لم يقتنه غيره من ملوك التّرك قبله، وكان إذا سافر يستصحب النساء معه فى سفره لكونه ما كان له ميل للشّباب كعادة الملوك من قبله، كان يعفّ عن ذلك، وفى محبته إلى النساء وواقعته مع يلبغا يقول «2» بعض أصحاب يلبغا فيه شعرا:
[الكامل](10/315)
لمّا أتى للعاديات وزلزلت ... حفظ النساء وما قرا للواقعه
فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن ... وأتى القتال وفصّلت بالقارعه
لو عامل الرحمن فاز بكهفه ... وبنصره فى عصره فى السابعه
من كانت القينات من أحزابه ... عطعط به الدّخان «1» نار لامعه
تبت يدا من لا يخاف من الدعا ... فى الليل إذ يغشى يقع فى النازعه
وخلّف السلطان الملك الناصر حسن، تغمّده الله برحمته، من الأولاد الذكور عشرة: وهم أحمد وقاسم وعلىّ وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى وموسى ويوسف ومحمد، وستّا من البنات، وخلّف من الأموال والقماش والذهب العين والسلاح والخيول وغيرها شيئا كثيرا. استولى يلبغا على الجميع، وتصرّف فيه حسب ما أراده.
وكان السلطان حسن محبا للرعية، وفيه لين جانب، حمدت سائر خصاله، لم يعب عليه فى ملكه سوى ترقّيه لمماليكه فى أسرع وقت، فإنه كان كريما بارّا بإخوته وأهله، يميل الى فعل الخير والصدقات، وله مآثر بمكة المشرّفة، واسمه مكتوب فى الجانب الشرقىّ من الحرم، وعمل فى زمنه باب الكعبة الذي هو بابها الآن «2» ، وكسا الكعبة الكسوة التى هى الى الآن فى باطن البيت العتيق، وكان كثير البرّ لأهل مكة والمدينة، الى أن كانت الواقعة لعسكره بمكة فى أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة التى كان مقدّم عسكرها «3» الأمير قندس وابن قراسنقر وحصل لهم الكسرة والنهب والقتل من أهل مكة واخراجهما من مكة على أقبح وجه،(10/316)
غضب بعد ذلك على أهل مكة وأمر بتجهيز عسكر كبير الى الحجاز للانتقام من أهل مكة، وعزم على أنه ينزعها من أيدى الأشراف الى الأبد، وكاد «1» يتمّ له ذلك بسهولة وسرعة، وبينما هو فى ذلك وقع بينه وبين مملوكه يلبغا وكان من أمره ما كان.
وكان السلطان حسن يميل الى تقدمة أولاد الناس الى «2» المناصب والولايات حتى إنه كان غالب نوّاب القلاع بالبلاد الشامية فى زمانه أولاد ناس، ولهذا لم يخرج عليه منذ سلطنته بالبلاد الشامية خارجىّ، وكان فى أيامه من أولاد الناس ثمانية من مقدّمى الألوف بالديار المصرية. ثم أنعم على ولديه بتقدمتى ألف فصارت الجملة عشرة، فأما الثمانية فهم: الأمير عمر بن أرغون النائب وأسنبغا بن الأبى بكرى ومحمد ابن طوغاى ومحمد بن بهادر رأس نوبة ومحمد بن المحسنىّ الذي قاتل يلبغا وموسى بن أرقطاى وأحمد بن آل ملك وشرف الدين موسى بن الأزكشى الأستادار، فهؤلاء من مقدّمى الألوف. وأما الطبلخانات والعشرات فكثير، وكان بالبلاد الشامية جماعة أخر فكان ابن القشتمرى نائب حلب وأمير علىّ الماردينىّ نائب الشام وابن صبيح «3» نائب صفد وأمّا من كان منهم من المقدّمين. والطبلخانات نوّاب القلاع فكثير. وقيل:
إن سبب تغيير خاطر يلبغا من أستاذه الملك الناصر حسن- على ما قيل- إنه لما عمل ابن مولاهم «4» البليقة «5» التى أوّلها:(10/317)
من قال أنا: جندى خلق، لقد صدق. عندى قبا، من عهد نوح، على الفتوح لو صادفوا شمس السطوح، كان احترق
ورقصوا بها بين يدى السلطان حسن، أشاروا «بالجندى خلق» إلى يلبغا وهو واقف بين يدى السلطان حسن والسلطان حسن يضحك ويستعيدها منهم فغضب من ذلك يلبغا وحقد على أستاذه السلطان وهذا يبعد وقوعه لكنّه قد قيل.
قلت: وقد أثبتنا هذه البلّيقة- والتى عملها الشيخ زين الدين عبد الرحمن ابن الخرّاط فى الفقيه التى أوّلها:
من قال أنا ... فقيه بشر
لقد فشر
- فى تاريخنا المنهل الصافى فى ترجمة ابن الخرّاط المذكور بتمامها وكمالها وهما من أظرف البلاليق فى معناهما. والله أعلم. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 756]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ست وخمسين وسبعمائة على أنه حكم- فى السنة الخالية بعد خلع أخيه الملك الصالح صالح- من شوّال إلى آخرها.
وفيها (أعنى سنة ست وخمسين) توفّى قاضى القضاة شيخ الإسلام «1» تقىّ الدين أبو الحسن على بن زين الدين عبد الكافى بن علىّ بن تمّام بن يوسف بن موسى ابن تمّام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علىّ بن سوار بن سليم الأنصارى(10/318)
السّبكى الشافعى- رحمه الله تعالى- بشاطئ النيل فى ليلة «1» الاثنين رابع جمادى الآخرة، ومولده فى [أول يوم من «2» ] شهر صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة بسبك الثلاث «3» وهى قرية بالمنوفية من أعمال الديار المصرية بالوجه البحرى، وكان- رحمه الله- إماما عالما بالفقه والأصلين والحديث والتفسير والنحو والأدب وفى شهرته ما يغنى عن الإطناب فى ذكره. وقد استوعبنا ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» بأوسع من هذا فلينظر هناك لمن أراد ذلك. ومن شعره: [الكامل]
إنّ الولاية ليس فيها راحة ... إلّا ثلاث يتّبعها «4» العاقل
حكم بحقّ أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل
وتوفّى قاضى القضاة نور الدين أبو الحسن على بن عبد النصير «5» بن على السّخاوىّ «6»(10/319)
المصرى المالكى قاضى قصاة الديار المصرية بها وقد قارب الثمانين سنة فى ليلة الاثنين ثانى «1» جمادى الأولى ودفن بالقرافة.
وتوفّى الشيخ الأديب «2» شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الدّمشقى الشاعر المشهور المعروف بالخيّاط بطريق الحجاز. ومن شعره قوله. [السريع]
خلّفت بالشام حبيبى وقد ... يمّمت مصرا لغنى طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدى ... بالله يا مصر على عاشق
وتوفّى القاضى تاج الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد المنعم بن عبد «3» الرحمن ابن عبد الحق السّعدىّ البارنبارى «4» المصرىّ كاتب سرّ طرابلس وكان فاضلا كاتبا(10/320)
خدم الملوك وباشر كتابة سر طرابلس. وكان له شعر جيّد وكتابة حسنة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن يوسف [بن عبد «1» الدائم] بن محمد الحلبى النحوى المقرئ الفقيه الشافعى المعروف بابن السّمين- رحمه الله- فى جمادى»
الآخرة، وكان إماما عالما أفتى ودرّس وأقرأ عدّة سنين.
وتوفّى الأمير سيف الدين قبلاى بن عبد الله الناصرى فى يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول، وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون، وولى نيابة الكرك ثم الحجوبية الثانية بمصر، ثم نقل الى الحجوبية الكبرى بها، ثم ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية. وقد تقدّم من ذكره نبذة جيدة فى عدّة تراجم.
وتوفّى القاضى زين الدين خضر ابن القاضى تاج الدين محمد بن زين الدين خضر بن جمال الدين عبد الرحمن بن علم الدين سليمان بن نور الدين علىّ كاتب الإنشاء بالديار المصرية. ومولده ليلة الأحد رابع ذى الحجة سنة عشر وسبعمائة.
كان فاضلا قادرا على الكتابة سريعها، يكتب من رأس القلم التواقيع والمناشير واعتمد القاضى علاء الدين على بن فضل الله عليه. وكان له نظم ونثر. رحمه الله تعالى. ومن شعره فى مقصّ قوله: [الطويل]
يحرّكنى مولاى فى طوع أمره ... ويسكننى [شانيه «3» ] وسط فؤاده
ويقطع بى إن رام قطعا وإن يصل ... يشقّ بحدّى الوصل عند اعتماده(10/321)
وتوفّى الأمير سيف الدين آص ملك بن عبد الله بطالا «1» بدمشق فى شهر رمضان.
وكان من أعيان الأمراء، وتنقّل فى عدّة وظائف وأعمال، وكان مشهورا بالشجاعة.
رحمه الله.
وتوفّى الأمير سيف الدين قردم بن عبد الله الناصرى الأمير آخور بطّالا بدمشق فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان، وقد تقدّم ذكره فى عدّة أماكن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 757]
السنة الثانية من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة سبع وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى السيد الشريف شرف الدين أبو الحسن على بن الحسين بن محمد الحسينى نقيب الأشراف بالديار المصرية، وفيها توفّى عن سبعين سنة- وكان رحمه الله- إماما عالما فاضلا، درّس بالقاهرة بمشهد «2» الحسين والفخرية «3» ، وولى حسبة القاهرة ووكالة بيت المال، وكان معدودا من الرؤساء العلماء.
وتوفّى قاضى القضاة نجم الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى فخر الدين عثمان ابن أحمد بن عمرو بن محمد الزّرعىّ الشافعىّ قاضى قضاة حلب فى صفر، وكان- رحمه الله- إماما عالما فاضلا وافتى ودرّس وولى الحكم بعدّة بلاد.(10/322)
وتوفّى صاحب بغداد وما والاها الشيخ حسن «1» بن الحسين بن آقبغا بن أيلكان «2» ببغداد، وملك بعده بغداد ابنه الشيخ أويس. والشيخ حسن هذا هو سبط الملك أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولون بن چنكزخان ملك التتار صاحب «اليسق «3» » والاحكام التركية. وكان فى أيام الشيخ حسن الغلاء العظيم ببغداد حتى أبيع بها الخبز بسنج «4» الدراهم وبرح الناس عنها، وكان مشكور السّيرة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام شرف الدين إبراهيم «5» بن إسحاق بن إبراهيم المناوى الشافعى فى يوم الثلاثاء خامس شهر «6» رجب، وكان- رحمه الله- فقيها عالما، ناب فى الحكم بالقاهرة، وأفتى ودرّس وشرح الفرائض «من الوسيط» وغيره.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم كمال الدين أحمد بن [عمر «7» بن أحمد بن] مهدى النّشائى «8» الشافعى فى يوم الأحد «9» حادى عشر صفر ومولده فى أوائل ذى القعدة سنة إحدى(10/323)
وتسعين وستمائة. وكان- رحمه الله- إماما عالما خطيبا فصيحا مصنّفا ولى خطابة جامع «1» الأمير أيدمر الخطيرى ببولاق وإمامته ودرّس به وهو أوّل من ولى خطابته وإمامته. ومن مصنّفاته: كتاب «جامع المختصرات «2» » وكتاب «المنتقى «3» » وعلّق على «التنبيه «4» » استدراكات، وله غير ذلك. والله أعلم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 758]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير الكبير أتابك العساكر شيخون بن عبد الله العمرى الناصرى اللالا مدبّر الممالك الإسلامية بالديار المصرية فى السابع من ذى الحجة بالقاهرة من جرح أصابه لمّا ضربه قطلوخجا السلاح دار فى موكب السلطان حسن حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة السلطان حسن هذه الثانية. وقيل: كانت وفاته فى أواخر ذى القعدة «5» وسنّه نيّف على خمسين سنة. وكان أصله من كتابية الملك الناصر محمد ابن قلاوون وكان تركىّ الجنس، جلبه خواجا «6» عمر من بلاده وباعه للملك الناصر(10/324)
وترقّى بعد موت الملك الناصر حتى صار أتابك العساكر بالديار المصرية، وهو أوّل من سمّى بالأمير الكبير، وليها بخلعة، وصارت من بعده وظيفة. وهو صاحب الجامع «1» والخانقاه «2» بخطّ صليبة أحمد بن طولون. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الناصر حسن والملك الصالح صالح وغيرهما ما يستغنى عن ذكره هنا ثانيا. ودفن بخانقاته المذكورة. وفى شيخون يقول بعض شعراء عصره مضمّنا: [البسيط]
شيخو الأمير المفدّى كلّه حسن ... حوى المحاسن والحسنى ولا عجب
دع الذين يلومونى عليه سدى ... ليذهبوا فى ملامى أيّة ذهبوا
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قوام الدين أبو حنيفة أمير كاتب بن أمير عمر ابن أمير غازى «3» الفارابى الإتقانى الحنفى بالقاهرة، ودفن بالصحراء خارج القاهرة- وكان رحمه الله- إماما عالما مفتنّا بارعا فى الفقه واللغة العربية والحديث وأسماء الرجال وغير ذلك من العلوم، وله تصانيف كثيرة منها: «شرح الهداية «4» » فى عشرين مجلّدا «وشرح «5» الأخسيكتي» «وشرح «6» البزدوى» ولم يكمّله، وولى التدريس بمشهد أبى حنيفة ببغداد. ثم قدم دمشق فأفتى بها ودرّس واشتغل وصنّف بدمشق كتابا فى منع رفع اليدين فى الصلاة فاضلا عن تكبيرة الافتتاح. ثم طلب الى القاهرة(10/325)
مكرّما معظّما حتى حضرها وصار بها من أعيان العلماء لا سيّما عند الأمير صرغتمش الناصرى، فإنه لأجله بنى مدرسته «1» بالصليبة حتى ولّاه تدريسها. ولما مات- رحمه الله تعالى- ولى تدريس الصّرغتمشية العلّامة أرشد الدين السرائى الحنفى.
وتوفّى قاضى القضاة نجم الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن القاضى عماد الدين أبى الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد الطّرسوسى ثم الدمشقى الحنفى قاضى قضاة الحنفية بدمشق بها عن نحو أربعين سنة وكان- رحمه الله- إماما عالما علّامة أفتى ودرّس وناب فى الحكم عن والده بدمشق ثم استقل بالوظيفة من بعده عدّة سنين وحمدت سيرته. وله مصنّفات كثيرة منها: كتاب «رفع الكلفة عن الإخوان فى ذكر ما قدّم القياس على الاستحسان» وكتاب «مناسك الحج» مطوّل وكتاب «الاختلافات الواقعة فى المصنّفات» وكتاب «محظورات الإحرام» وكتاب «الإرشادات فى ضبط المشكلات» عدّة مجلدات وكتاب «الفتاوى فى الفقه» وكتاب «الإعلام فى مصطلح الشهود والأحكام «2» » وكتاب «الفوائد «3» المنظومة فى الفقه» .
وتوفّى الأمير سيف «4» الدين أرغون بن عبد الله الكاملى المعروف بأرغون الصّغير بالقدس بطّالا قبل أن يبلغ الثلاثين سنة من العمر وكان أرغون خصيصا عند الملك الكامل ثم عند أخيه الملك الصالح إسماعيل وترقّى حتى صار أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر. ثم ولى نيابة حلب ثم نيابة الشام ثم أعيد الى نيابة حلب ثانيا الى أن طلب الى القاهرة وقبض عليه واعتقل بالإسكندرية مدّة ثم أخرج الى القدس(10/326)
بطّالا، فمات به. وكان أميرا جليلا عارفا شجاعا كريما وفيه بر ومعروف وله مآثر، من ذلك بيمارستان «1» بحلب وغيره. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن عبد المحسن العسجدىّ الشافعىّ. كان معدودا من فقهاء الشافعية. رحمه الله.
وتوفّى القاضى علاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن الأطروش الحنفىّ محتسب القاهرة وقاضى العسكر بها كان من بياض الناس وله وجاهة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة محبّ الدين أبو عبد الله محمود ابن الشيخ الإمام علاء الدين أبى الحسن على بن إسماعيل بن يوسف القونوىّ الشافعىّ فى يوم الأربعاء ثامن عشرين شهر ربيع الآخر وكان فقيها مصنّفا ومن مصنّفاته: «شرح ابن الحاجب فى الأصول» وكتاب «اعتراضات على شرح الحاوى» فى الفقه لأبيه.
وله غير ذلك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست أصابع. والله أعلم.(10/327)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 759]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة تسع وخمسين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين صرغتمش بن عبد الله الناصرىّ فى سجنه بثغر الإسكندرية فى ذى الحجّة. وكان أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون وترقّى حتى صار من أكابر الأمراء ومدبّرى الديار المصرية مع الأمير شيخون وبعده وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الصالح والملك الناصر حسن ما يكتفى بذكره هناك: ولمّا حبسه الملك الناصر حسن بثغر الإسكندرية كتب إليه صرغتمش كتابا يتخضّع إليه فيه وفى أوّله: [الكامل]
قلبى يحدّثنى بأنّك متلفى ... روحى فداك عرفت ألم تعرف «1»
فلم يلتفت الملك الناصر لكتابه وفعل به ما قدّر عليه وكان صرغتمش عظيما فى الدولة فاضلا مشاركا فى فنون يذاكر بالفقه والعربيه ويحبّ العلماء وأرباب الفضائل ويكثر من الجلوس معهم وهو صاحب المدرسة «2» بخطّ الصليبة وله برّ وصدقات، إلا أنه كان فيه ظلم وعسف مع جبروت.
وتوفّى القاضى «3» شرف الدين أبو البقاء خالد بن عماد الدين إسماعيل بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر المخزومى الشافعىّ المعروف بابن القيسرانىّ الحلبى ثم الدّمشقى بدمشق عن نيّف وخمسين سنة وكان كاتبا فاضلا مصنفا باشر كتابة الإنشاء بدمشق ووكالة بيت المال وسمع الكثير.(10/328)
وتوفّى قاضى الإسكندرية فخر الدين «1» أبو العبّاس محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن المخلّطة فى يوم الجمعة سابع شهر رجب، ولى قضاء الإسكندرية أشهرا، بعد أن كان درّس بالقاهره بمدرسة الصّرغتمشية: درس الحديث. وكان فاضلا عارفا بالأصول وله سماع وتولى بعده قضاء الإسكندرية ابن التّنسىّ «2» .
وتوفّى ملك الغرب أبو عنان «3» فارس ابن السلطان أبى الحسن علىّ ابن السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيوبن حمامة المرينىّ المغربى بمدينة فاس «4» بعد أن حكم خمس سنين وكان مشكور السّيرة. رحمه الله.(10/329)
وتوفّى الشريف مانع بن على بن مسعود بن جمّاز بن شيحة الحسينى أمير المدينة بها وتولّى المدينة الشريفة بعده ابن عمّه فضل «1» بن القاسم فى ذى القعدة.
وتوفّى الأمير سيف بن فضل بن مهنّا بن عيسى بن مهنّا بن مانع بن حديثة ابن غضيّة فى ذى القعدة وكان جوادا شجاعا، ولى إمرة آل فضل غير مرة. وقيل إنه قتل سنة ستين وهو الأصحّ
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن عيسى بن حسن بن كر «2» الحنبلى إمام أهل الموسيقى، وله فيها تآليف حسنة ويتصل نسبه إلى الخليفة مروان بن محمد الحمار. وكان صوفيّا فقيها وله زاوية «3» عند مشهد الحسين بالقاهرة. ومولده فى شهر(10/330)
ربيع «1» الأوّل سنة إحدى وثمانين وستمائة بالقاهرة، وكان فاضلا قرأ القرآن على الشّطنوفى «2» وحفظ الأحكام «3» لعبد الغنى [بن «4» عبد الواحد] «والعمدة فى الفقه» للشيخ موفّق «5» الدين والملّحة للحريرى وسمع على أشياخ عصره مثل الدّمياطىّ «6» والأبرقوهىّ «7» وغيرهما وصنف كتابا فى الموسيقى سماه: «غاية المطلوب، فى الأنغام والضروب» وقد أوضحنا أمره وما يتعلّق بفنّه الموسيقى فى المنهل الصافى إذ هو محلّ الاستيعاب.
وتوفّى الأمير الطّواشى صفى الدين جوهر بن عبد الله الجناحى البتخاصى مقدّم المماليك السلطانية، وقد قارب المائة سنة من العمر. وكان من أعيان الخدّام وأمائلهم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ننكزبغا بن عبد الله الماردين أمير مجلس وزوج أخت السلطان حسن، كان من أكابر الأمراء بالديار المصرية، لا سيما فى دولة الناصر حسن. وكان عاقلا مدبّرا سيوسا.
وتوفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن الهكّارى الكردى الشافعى بدمشق فى ذى القعدة. ومولده سنة خمس وثمانين وستمائة وكان فقيها فاضلا.(10/331)
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله السّعدى «1» فى ذى القعدة «2» بحماة بطّالا بعد أن ولى عدّة وظائف وتنقّل فى عدّة ولايات. رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 760]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة ستين وسبعمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة تقىّ الدين أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين أحمد ابن شأس المالكىّ قاضى قضاة الديار المصرية فى يوم الأربعاء رابع شوّال ودفن بالقرافة. وكان إماما بارعا فى مذهبه أفتى ودرس وناب فى الحكم، ثم استقل بالقضاء، وكان مشكور السّيرة، من علم وفضل. رحمه الله.
وتوفّى قاض قضاة حماة تقىّ الدين أبو المظفّر محمود بن بدر الدين محمد بن عبد السلام بن عثمان القيسى الحنفىّ الحموى الشهير بابن الحكيم «3» ، باشر قضاء حماة تسع عشرة سنة، وحمدت سيرته ومات بمنزلة ذات الحج «4» من الحجاز، وقد جاوز ستين سنة وكان عالما زاهدا ورعا.(10/332)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة شيخ الإسلام وقطب الوجود أبو البقاء وقيل أبو الوفاء خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر المالكى المالقى «1» ثم المكىّ العالم المشهور، صاحب التصانيف فى مذهبه بمكة المشرفة بعد أن انتهت إليه رياسة مذهبه ولم يخلّف بعده مثله.
وتوفّى القاضى جمال الدين إبراهيم ابن العلّامة شهاب الدين محمود بن سليمان ابن فهد الحلبى الحنبلى بحلب عن أربع وثمانين سنة وكان فاضلا كاتبا ماهرا فى صناعته، كتب فى ديوان الإنشاء بمصر وولى كتابة سرّ حلب ثلاث مرات نيّفا وعشرين سنة وحدّث عن جماعة من حفّاظ الديار المصرية والإسكندرية. وكان عارفا بالاصطلاح والكتابة، وله نظم ونثر. ومن شعره ما كتبه لوالده متشوّقا بقوله: [السريع] .
هل زمن ولّى بكم عائد ... أم هل ترى يرجع عيش مضى
فارقتكم بالرغم منى ولم ... أختره لكنّى أطلعت القضا
قلت: لو كانت وظيفته قضاء حلب كان فى قوله: «أطعت القضا» تورية.
وكان جوادا ممدّحا وفيه يقول البارع جمال الدين محمد بن نباتة المصرى قصيدته المشهورة التى أوّلها: [الطويل]
أجيراننا حيّا الربيع دياركم ... [وإن لم يكن فيها لطرفى مربع «2» ] . انتهى
وتوفّى القاضى تاج الدين أحمد بن يحيى بن محمد بن على بن أبى القاسم بن على ابن أبى الفضل العذرى الدمشقى الحنفى المعروف بابن السّكاكرى. كان «3» عارفا بعلل(10/333)
المكاتيب الحكيمة خبيرا بسلوك طرائقها العلمية والعملية وكتب الحكم والإنشاء بحلب ومات عن خمس وستين سنة. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير عز «1» الدين طقطاى بن عبد الله الصالحىّ الدّوادار بطرابلس عن بضع وأربعين سنة معتقلا. وكان أميرا فاضلا جليلا رئيسا وفيه يقول الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفذىّ تغمّده الله برحمته: [الكامل]
هذا الدّوادار الذي أقلامه ... تذر المهارق مثل روض نافح «2»
تجرى بأرزاق الورى فمدادها ... وبل تحدّر من غمام سافح «3»
أستغفر الله العظيم غلطت بل ... نهر جرى من لجّ بحر طافح
وإذا تكون كريهة فيمينه ... تسطو بحدّ أسنّة وصفائح
يا فخر دهر قد حواه [فإنّه «4» ] ... عزّ لمولانا المليك الصالح
وتوفّى الخان جانبك خان بن أزبك خان صاحب كرسىّ سراى «5» وبلاد(10/334)
الدّشت «1» بها، بعد أن حكم ثمانى عشرة سنة. ونسبه يتّصل لجنكزخان وتولى بعده الملك ابنه بردبك. خان والله أعلم بالصواب.
أمر النيل فى هذه السنة- المياء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وثلاث أصابع. وقيل أربعة أصابع من غير زيادة والله سبحانه أعلم بالصواب.(10/335)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 761]
السنة السادسة من سلطنة الملك الناصر حسن الثانية على مصر وهى سنة إحدى وستين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصارى الحنبلى النحوى فى ليلة الجمعة الخامس من ذى القعدة ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر «1» الصوفيّة خارج باب النصر من القاهرة. وكان بارعا فى عدّة علوم، لا سيما العربية فإنه كان فارسها ومالك زمامها وهو صاحب الشرح على ألفية ابن مالك فى النحو المسمّى «بالتوضيح» «وشرح أيضا البردة» [وشرح «2» ] «بانت سعاد» وكتاب «المغنى» وغير ذلك ومات عن بضع وخمسين سنة وكان أوّلا حنفيّا ثم استقرّ حنبليّا وتنزّل فى دروس الحنابلة «3» .
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن سليمان [بن داود] ابن محمد بن عبد الحق الدمشقى الحنفى باليمن «4» عن ثلاث وستين سنة. وكان إماما بارعا مفتنا، أفتى ودرّس بدمشق وباشر بها عدّة وظائف، منها: كتابة الإنشاء والنظر فى الأحكام ورحل إلى العراق وخراسان ومصر والحجاز واليمن. وكان له شعر جيّد من ذلك قوله: [السريع](10/336)
لما بدا فى خدّه عارض ... وشاق قلبى نبته الأخضر
أمطر أجفانى مستمطر ... فقلت هذا عارض ممطر
وتوفّى الشيخ الإمام الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدى العلائى الدمشقى الشافعى، كان إماما حافظا رحّالا عارفا بمذهبه، سمع بالشام ومصر والحجاز وتقدّم فى علم الحديث وجمع وألّف وصنّف ودرّس بالصلاحيّة «1» والتّنكزية «2» بالقدس، [وبها توفى «3» ] وكانت وفاته فى المحرّم من هذه السنة. وقال الإسنوىّ: سنة ستين.
ومولده بدمشق فى سنة أربع وتسعين وستمائة.
وتوفّى القاضى ضياء الدين أبو المحاسن يوسف بن أبى بكر بن محمد الشهير بابن خطيب بيت الآبار الدّمشقى. مات بالقاهرة عن نيف وسبعين سنة. وكان مقدّما فى الدولة الناصرية وباشر الحسبة ونظر الأوقاف وغيرهما، [وكان لأهل الشام نعم الذخيرة «4» ] .(10/337)
وتوفّى الشيخ تقىّ الدين إبراهيم ابن الشيخ بدر الدين محمد بن ناهض بن سالم ابن نصر الله الحلبى الشهير بابن الضّرير بحلب عن بضع وستين سنة. وكان فقيها بارعا سمع الحديث وجمع وحصّل وكتب كثيرا من الإنشاء والعلم والأدب.
وتوفّى الشريف زين الدين أبو الحسن على بن محمد بن أحمد بن على محمد بن على الحسينى الحلبى نقيب الأشراف بحلب. كان رئيسا نبيلا من بيت رياسة وشرف. رحمه الله تعالى «1» .
وتوفّى الشيخ شرف الدين موسى بن كجك الإسرائيلى الطبيب فى شوّال. وكان بارعا فى الطب مشاركا فى غيره.
وتوفّى الشيخ الإمام الخطيب شهاب الدين أبو العباس أحمد [بن «2» ] القسطلانى خطيب جامع عمرو- رحمه الله- بمصر القديمة فى ذى الحجة، وكان ديّنا خيّرا من بيت فضل وخطابة، وقد تقدّم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم اثنتا عشرة ذراعا سواء. مبلغ الزيادة أربع وعشرون ذراعا، قاله غير واحد، وخربت أماكن كثيرة من عظم زيادة النيل. والله أعلم.
*** انتهى الجزء العاشر من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الحادى عشر وأوّله: ذكر سلطنة الملك المنصور محمد على مصر(10/338)
*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية والمدن والقرى المصرية القديمة وغيرها مع تحديد أماكنها من وضع العلامة المحقق المرحوم محمد رمزى بك الذي كان مفتشا بوزارة المالية وعضوا فى المجلس الأعلى لإدارة حفظ الآثار العربية، كالتعليقات السابقة فى الأجزاء الماضية ابتداء من الجزء الرابع. ولا يسعنا إلا أن نسأل الله جلت قدرته أن ينزل على قبره شآبيب رحمته، وأن يجزيه الجزاء الأوفى على خدمته للعلم وأهله. وكانت وفاته- رحمه الله- يوم الاثنين 13 ربيع الأول سنة 1364 هـ (26 فبراير سنة 1945 م) .(10/339)
استدراكات
كان العلامة المحقق المرحوم محمد رمزى بك قد وصّى أحد أفراد الأسرة قبل وفاته بهذه الاستدراكات ليرسلها إلى دار الكتب المصرية فجاءتنا بطريق البريد بعد وفاته.
باب الصفا
ورد فى الحاشية رقم 3 صفحة 91 من الجزء الرابع من هذه الطبعة أن باب الصفا كان واقعا تقريبا فى النقطة التى يتقابل فيها شارع سوق المواشى بشارع الفسطاط بمصر القديمة.
وبإعادة البحث تبيّن لى أن هذا الوصف خطأ. والصواب أن هذا الباب كان واقعا فى السور البحرى لمدينة الفسطاط على رأس الطريق التى كانت تمر فى المنطقة التى بها اليوم جبانة السيدة نفيسة الجديدة فيما بين باب الصفا المذكور وامتداد شوارع الأشرف والخليفة والركبية حيث كانت تسير الطريق قديما بين الفسطاط والقاهرة. وقد بيّنا هذا الوصف فيما كتبناه عن هذا الباب فى صفحة 654 بالعدد الخامس من مجلة العلوم الصادرة فى سنة 1942 وعلى الخريطة المرفقة بالعدد المذكور.
شارع نجم الدين
ورد فى الحاشية رقم 1 ص 67 بالجزء السادس من هذه الطبعة ما يفيد أن شارع نجم الدين الممتدّ من جبانة باب النصر من الجنوب إلى الشمال منسوب إلى الأمير نجم الدين أيوب بن شادى الذي أنشأ مسجدا ظاهر باب النصر سنة 566 هـ على ما جاء فى المقريزى ص 412 ج 2 ثم جدّدت هذه التسمية نسبة إلى الشيخ صالح المحدّث نجم الدين أبى الغنائم محمد بن أبى بكر الشافعى المشهور بغنائم السعودى صاحب الزاوية التى فى نهاية هذا الشارع من الجهة البحرية.(10/340)
العش
ورد بالحاشية رقم 3 ص 261 بالجزء السابع من هذه الطبعة أن ناحية العش التى ولد بها الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى بضواحى القاهرة هى الناحية التى تعرف اليوم باسم منية شبين إحدى قرى مركز شبين القناطر بمديرية القليوبية بمصر.
وبإعادة البحث تبين لى أن هذا الإرجاع خطأ، والصواب أنه من الاطلاع على كتاب الانتصار لابن دقماق ظهر لى أن ناحية العش هى ناحية أخرى كانت واقعة غربى البركة المعروفة بالعكرشة، وبما أن حوض العكرشة لا يزال موجودا ومعروفا تحت رقم 47 بأراضى ناحية أبى زعبل وشرقى سكنها تبين لى من ذلك أن ناحية العش التى ولد بها الملك السعيد بركة خان بضواحى القاهرة هى التى تسمى اليوم كفر الشيخ سعيد بجوار سكن ناحية أبى زعبل بمركز شبين القناطر ومن توابعها.
حلوان
ورد فى الحاشية رقم 2 صفحة 90 بالجزء التاسع من هذه الطبعة ما يفيد أن حلوان البلد أنشأها عبد العزيز بن مروان على النيل فى سنة 67 هجرية والصواب أنه أنشأها فى سنة 70 هجرية بعد أن اشترى أرضها من أهلها فى تلك السنة.
وورد فى الحاشية المذكورة أن مدينة حلوان الحمامات أنشأها الخديوى إسماعيل فى سنة 1282 هجرية- 1871 ميلادية. والصواب أن هذا التاريخ هو تاريخ إنشاء الحمامات لأنها كانت أنشئت هى والفندق ونقطة البوليس فى السنة المذكورة فى الخلاء، قبل أن تبنى مدينة حلوان الحمامات التى فى الجبل بمدة أربع سنوات.
وأما مدينة حلوان الحمامات ذاتها فقد أنشأها الخديوى إسماعيل فى سنة 1285 هجرية- 1874 ميلادية وقد تكلمنا على ذلك فى الرسالة التى طبعناها عن مدينة حلوان فى مجلة العلوم سنة 1944.(10/341)
فهرس الولاة «1» الذين تولوا مصر من سنة 690 هـ- إلى سنة 709 هـ
(ا) الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمىّ 3- 40 من سنة 690- 692 هـ
(خ) خليل- الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون.
(ع) العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصورى التركى المغلى سلطان الديار المصرية 55- 84 من سنة 694- 695 هـ
(م) المظفر ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورى الجاشنكير 232- 282 سنة 709 هـ
المنصور حسام الدين لاچين بن عبد الله المنصورى سلطان الديار المصرية 85- 114 من سنة 696- 697 هـ
(ن) الناصر أبو الفتوح وأبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحى النجمى الألفى- ولايته الأولى 41- 54 سنة 693 هـ ولايته الثانية 115- 231 من سنة 698- 708 هـ(10/343)
[الجزء الحادى عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين.
[ما وقع من الحوادث سنة 762]
ذكر سلطنة الملك المنصور محمد على مصر
«1» السلطان الملك المنصور أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المظفّر حاجىّ ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون المنصورى الحادى والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية. جلس على تخت الملك صبيحة قبض على عمّه الملك الناصر حسن وهو يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان عمره يومئذ نحوا من أربع عشرة سنة، بعد أن اجتمع الخليفة المعتضد بالله والقضاة والأعيان. ثم فوّض عليه خلعة السلطنة وهو التشريف الخليفتى في يوم الخميس عاشر الشهر المذكور، ولقّبوه الملك المنصور وحلفت له الأمراء على العادة، وركب من باب الستارة «2» من قلعة الجبل إلى الإيوان «3» وعمره ستّ عشرة سنة. قاله العينى. «4» والأصحّ ما قلناه.(11/3)
ثم خلع على الأمير يلبغا العمرىّ الناصرىّ الخاصّكى وصار مدبر مملكة، ويشاركه فى ذلك خشداشه الأمير طيبغا الطويل، على أن كلّا منهما لا يخالف الآخر في أمر من الأمور؛ ثم خلع على الأمير قطلوبغا الأحمدى واستقر رأس نوبة النّوب، وخلع على قشتمر المنصورى بنيابة السلطنة بالديار المصرية وناظر البيمارستان المنصورىّ عوضا عن الأمير آقتمر عبد الغنى، وخلع على الشريف عز الدين عجلان بإمرة مكة على عادته. ثم كتب بالإفراج عن جماعة من الأمراء من الحبوس «1» وهم الأمير حركتمر الماردينىّ وطشتمر القاسمى وقطلوبغا المنصورى وخلع على طشتمر القاسمى بنيابة الكرك من يومه وعلى ملكتمرا المحمدى بنيابة صفد، ونفى اطقتمر المؤمنى إلى أسوان وخلع على الأمير ألجاى اليوسفى حاجب الحجّاب واستقرّ أمير جاندار، وأفرج عن الأمير طاز اليوسفى الناصرى من اعتقاله بثغر الإسكندرية بعد أن حبس بها ثلاث سنين وزيادة، وكان السلطان الملك الناصر حسن قد أكحله وأفرج أيضا عن أخوىّ طاز: الأمير جنتمر وكلتاى؛ وقرابغا وحضروا الجمع إلى بين يدى السلطان، وحضر طاز وعلى عينيه شعرية «2» فأخلع عليه وسأل أن يقيم بالقدس فأجيب وسافر إلى القدس وأقام به إلى أن مات على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ولمّا بلغ خبر قتل الملك الناصر حسن إلى الشأم عظم ذلك على بيدمر نائب الشأم وخرج عن الطاعة في شعبان من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وعصى معه أسند مر الزينىّ ومنجك اليوسفى وحصّنوا قلعة دمشق، فلمّا بلغ ذلك يلبغا العمرى استشار الأمراء في أمرهم فاتّفقوا على خروج السلطان إلى البلاد الشامية وتجهّز يلبغا وجهّز(11/4)
السلطان الملك المنصور إلى السفر وأنفق فى الأمراء والعساكر وخرج السلطان ويلبغا بالعساكر المصرية إلى الرّيدانية «1» فى أواخر شعبان.
ثم رحّل الأمير يلبغا جاليش العسكر في يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان ورحّل السلطان الملك المنصور في يوم الثلاثاء الثانى منه ببقية العساكر وساروا حتى وصلوا دمشق في السابع والعشرين من شهر رمضان المذكور، فتحصّن الأمراء المذكورون بمن معهم في قلعة دمشق، فلم يقاتلهم يلبغا وسيّر إليهم في الصلح وتردّدت الرسل إليهم، وكان الرسل قضاة الشام، حتى حلف لهم يلبغا أنه لا يؤذيهم وأمّنهم فنزلوا حينئذ إليه، فحال وقع بصره عليهم أمر بهم فقبضوا وقيّدوا وحملهم «2» إلى الإسكندرية الى الاعتقال بها وخلع يلبغا على أمير علىّ الماردينى بنيابة دمشق على عادته أوّلا، وهذه ولاية أمير علىّ الثالثة على دمشق وتولّى الأمير قطلوبغا الأحمدى رأس نوبة نيابة جلب عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمرى.
وأقام السلطان ويلبغا مدّة أيام، ومهّد يلبغا أمور البلاد الشامية حتى استوثق له الأمر. ثم عاد إلى جهة الديار المصرية وصحبته الملك المنصور والعساكر حتى وصل إليها في ذى القعدة من سنة اثنتين وستين وسبعمائة. وصار الأمر جميعه ليلبغا وأخذ يلبغا في عزل من اختار عزله وتولية من اختاره، فأخلع على الطواشى سابق الدين مثقال الآنوكى زمام الدار واستقرّ في تقدمة المماليك السلطانية عوضا عن الطواشى شرف الدين مخلص الموفّقى.
ثم في شهر رجب استقرّ الأمير طغيتمر النّظامى حاجب الحجاب بالديار المصرية، وكانت شاغرة منذ ولّى ألجاى اليوسفى الأمير جاندار، ثم في شعبان استقرّ الأمير قطلقتمر العلائى الجاشنكير أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر.(11/5)