إلى نساء الظافر فأقمن يضربنه بالقباقيب والزّرابيل «1» أياما، وقطّعن لحمه وأطعمنه إيّاه، إلى أن مات ثم صلب.
وتكفّل الصالح طلائع بن رزّيك أمر الصبىّ (أعنى الفائز) وساس الأمور وتلقّب بالملك الصالح، وسار فى الناس أحسن سيرة. وفخم أمره وكان طلائع أديبا كاتبا. ولمّا ولى الوزر وتلقّب بالملك الصالح خلع عليه مثل الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالىّ من الطيلسان المقوّر، وأنشئ له السّجلّ؛ فتناهى فيه كتّاب الإنشاء. فمما قيل فيه:
«واختصّك أمير المؤمنين بطيلسان غدا للسيف توءما، ليكون كلّ ما أسند إليك من أمور الدولة معلما. ولم يسمع بذلك إلّا ما أكرم به الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين أمير الجيوش أبا النجم بدرا وولده أبا القاسم شاهنشاه، وأنت أيّها السيد الأجلّ الملك الصالح. وأين سعيهما من سعيك، ورعيهما الذّمام من رعيك؛ لأنّك كشفت الغمّة، وانتصرت للأئمة، وبيّضت غياهب الظلمة، وشفيت قلوب الأمة» .
وأشياء غير ذلك. وعظم أمر الصالح طلائع إلى أن وقع له ما سنذكره. كلّ ذلك والفائز ليس له من الخلافة إلّا مجرّد الاسم فقط، وذلك لصغر سنّه.
ولمّا استفحل أمر الصالح طلائع أخذ فى جمع المال، فإنّه كان شرها حريصا على التحصيل. وكان مائلا إلى مذهب الإماميّة «2» (أعنى أنّه كان متغاليا فى الرّفض) فمال على المستخدمين فى الأموال، وأخذ يعمل على الأمراء المقدّمين فى الدولة، مثل ناصر «3» الدولة ياقوت، وكان صاحب الباب، وناب عن الحافظ فى مرضة مرضها(5/311)
مدّة ثلاثة أشهر؛ وطلب أن يوزّره فأبى ياقوت المذكور. ومثل الأوحد بن تميم، فإنّه كان من أعيان الأمراء. ولمّا سمع بقصّة عبّاس من قتله الظافر، وكان واليا على دمياط «1» وتنّيس «2» ، تحرّك لطلب دم الظافر وقصد القاهرة، فسبقه طلائع بن رزيك بيوم واحد، فخاب قصده؛ فردّه طلائع بن رزّيك إلى ولايته، وأضاف إليه الدّقهليّة «3» والمرتاحيّة. وبقى تاج الملوك قايماز بالقاهرة، وهو من كبار الأمراء، وابن غالب لاحق به؛ فحمل الأجناد عليهما يطلبونهما، فخرجا فى جماعتهما، فتكاثر عليهما الأجناد فقتلا ونهبت دورهما بأطماع الصالح طلائع بن رزيك فى ذلك.(5/312)
ثم إنّ طلائع ما اتّسع له قرب الأوحد بن تميم بدمياط، فقلّده أسيوط «1» وإخميم «2» .
وكان ناصر الدولة بقوص من وزارة عباس؛ وكان ابن رزّيك لمّا استدعى لأخذ الثأر وهو بالأشمونين لم يجسر على الحركة إلّا بعد مكاتبة ناصر الدولة بذلك، واستدعاه ابن رزّيك ليكون الأمر له. فكاتبه ناصر الدولة بإزهاده فى ذلك، وأنّه سئل به وتركه فى أيام الحافظ عن قدرة، واعتقد أنّه لا يفلح لأنّه لم يتحقق ما كان من عبّاس.
فعند ذلك خلت القاهرة لطلائع بن رزّيك من مماثل. وأظهر مذهب الإماميّة، وباع الولايات للأمراء، وجعل لها أسعارا، ومدّتها ستة أشهر؛ فتضرّر الناس من تردّد الولاة عليهم فى كلّ ستة أشهر. وصايق الفصر طمعا فى صغر سنّ الخليفة، فتعب الناس معه. وجعل له مجلسا فى أكثر الليالى يحضره أهل الأدب، ونظم هو شعرا ودوّنه، وصار الناس يهرعون إلى نقل شعره؛ وربّما أصلحه له شاعر كان يصحبه يقال له ابن الزّبير «3» . وممّا نسب إليه من الشعر.(5/313)
قوله
[الكامل]
كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبرا وفينا الصّدّ والإعراض
ننسى الممات وليس نجرى ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض
وله من قصيدة:
[الوافر]
مشيبك قد رمى «1» صبغ الشباب ... وحلّ الباز فى وكر الغراب
ومنها:
فكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب
فلمّا ثقلت وطأته على القصر، وكان الخليفة الفائز فى تدبير عمته، شرعت «2» فى قتل طلائع بن رزّيك المذكور، وفرّقت فى ذلك مالا يقرب من خمسين ألف دينار. فعلم ابن رزّيك بذلك، فأوقع بها وقتلها بالأستاذين والصقالبة سرّا، والخليفة فى واد آخر من الاضطراب. ثم نقل ابن رزّيك كفالة الفائز إلى عمّته الصغرى، وطيّب قلبها وراسلها. فما حماه ذلك منها بل رتّبت قتله. وسعى لها فى ذلك أصحاب أختها المقتولة؛ فرتّبت قوما من السودان الأقوياء فى باب السّرداب فى الدّهليز المظلم الذي يدخل منه إلى القاعة، وقوم أخر فى خزانة هناك وفيهم واحد من الأجناد يقال له ابن الراعى «3» . فدخل يوم خمسة من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة؛ فلمّا انفصل من السلام على الخليفة، وكان صاحب الباب فى ذلك اليوم أميرا يقال له ابن قوّام الدولة، وكان إماميّا، فيقال: إنّه أخلى الدّهليز من الناس حتّى لم يبق فيه أحد، وإنّه استوقفه أستاذ يقال له عنبر الربعىّ بحديث طويل.
وتقدّم طلائع بن رزّيك ومعه ولده رزّيك، فأرادت الجماعة المخبّأة أن تخرج،(5/314)
فوجدوا الباب مغلقا، وخافوا من خلعه التشغيب «1» ؛ فخرجت عليه الجماعة الأخرى فضربوا رزّيك بن الصالح طلائع ضربة أوقعت عضده الأيمن، وجرح أبوه الصالح طلائع بن رزّيك من ابن الراعى المذكور. وقيل: إنّ طلائع كان متخوما فاستفرغ بالدّم، فأكبّ على وجهه وأخذ «2» منديله من على رأسه؛ فعاد إليه رجل يقال له ابن «3» الزّبد، فألبسه المنديل، وخرج به محمولا على الدّابة لا يفيق. فقيل: إنّه كان يقول إذا أفاق: رحمك الله يا عبّاس (يعنى بذلك عبّاسا الوزير الذي قتل الخليفة الظافر) .
وكان الفائز قد مات، وتولّى الخلافة العاضد، وهو أيضا تحت حجر طلائع المذكور. فمات طلائع سحرا. وكان طلائع قد ولّى شاور «4» قوص «5» وندم على ولايته، فأراد استعادته من الطريق؛ فسبقه شاور حتّى حصل بها، وطلب منه كلّ شهر أربعمائة دينار، وقال: لا بدّ لقوص من وال، وأنا ذلك؛ والله لا أدخل القاهرة، ومتى صرفنى دخلت النّوبة. ولمّا مات الصالح طلائع بن رزّيك وطاب ولده رزّيك، طلبت عمّة الفائز رزّيك، وأحضرت له الذي ضربه فى عضده الأيمن، وأحضرت أيضا سيف الدين حسين ابن أخى طلائع، وحلفت لهما أنّها لم تدر بما جرى على أبيه الصالح، وأنّ فاعل ذلك أصحاب أختها المقتولة؛ وخلعت على رزّيك بالوزارة عوضا عن أبيه طلائع بن رزّيك، وفسحت له فى أخذ من ارتاب به فى قتل أبيه.
فأخذ ابن قوّام الدولة فقتله وولده، والأستاذ الذي شغله. وأقام رزّيك المذكور(5/315)
فى الوزارة سنة وكسرا، فما رأى الناس أحسن من أيامه، وسامح الناس بما عليهم من الأموال البواقى الثابتة فى الدواوين، ولم يسبق إلى ذلك. ودام فى الوزارة حتى قيل: اصرف شاور من قوص يتمّ الأمر لك. فأشار عليه سيف الدين حسين بإبقائه؛ فقال رزّيك: مالى طمع فيما آخذه منه، ولكن أريده يطأ بساطى. فقيل له:
ما يدخل أبدا، فما قبل. وخلع على أمير يقال له ابن الرفعة بولاية قوص عوضا عن شاور؛ فخرج شاور من قوص فى جماعة قليلة إلى الواحات «1» .
وأما رزّيك الوزير فإنّه رأى مناما أخبر به ابن عمّه سيف «2» الدين حسين؛ فقال له حسين: إنّ بمصر رجلا يقال له ابن الإيتاخى حاذقا فى التعبير، فأحضره رزّيك وقال له: رأيت كأنّ القمر قد أحاط به حنش، وكأنّنى روّاس فى حانوت.
فغالطه المعبّر فى التفسير؛ وظهر ذلك لسيف الدين حسين، فأمسك إلى أن خرج المعبّر فقال له: ما أعجبنى كلامك، والله لا بدّ أن تصدقنى ولا بأس عليك. فقال:
يا مولاى، القمر عندنا هو الوزير، كما أنّ الشمس خليفة؛ والحنش المستدير عليه هو جيش مصحف؛ وكونه روّاسا اقلبها تجدها شاور مصحّفا أيضا. فقال له حسين: اكتم هذا عن الناس. واهتمّ حسين فى أمره، ووطّأ له التوجّه إلى مدينة النّبيّ عليه السّلام، وكان أحسن إلى المقيمين بها، وحمل إليها مالا وأودعه عند من يثق به. وصار أمر شاور يزداد ويقوى حتى قرب من القاهرة، وصاح(5/316)
الصائح فى بنى رزيك وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف فارس. فأوّل من نجا بنفسه حسين. فلمّا بلغ رزّيك توجّه حسين انقطع قلبه، وأخذ أمواله على البغال وخرج فى خاصّته إلى إطفيح «1» ، فأخذه مقدّم إطفيح بعد أمور وكلّ من معه، وأتى بهم إلى شاور فى الحديد؛ فاعتقله شاور وأخاه جلال الإسلام؛ فطلب رزّيك من بعض غلمان أبيه مبردا فبرد قيده؛ فعلم أخوه جلال الإسلام فأعلم شاور بذلك، فقتل شاور رزّيك وأبقى على أخيه جلال الإسلام لهذه النصيحة. واستمر شاور فى الوزر أشهرا حتى وقع له مع الضّرغام أحد أمراء بنى رزّيك ما وقع، واستنجد عليه بتوجّهه إلى دمشق إلى نور الدين محمود بن زنكى؛ فأرسل معه نور الدين أسد الدين شيركوه بن شادى «2» . وشاور هو صاحب القصّة مع أسد الدين شيركوه وابن أخيه السلطان صلاح الدين. يأتى ذكر ذلك فى ترجمة العاضد مفصّلا، إن شاء الله.
وكانت وفاة الفائز صاحب الترجمة فى شهر رجب سنة خمس وخمسين وهو ابن عشر سنين أو نحوها. وبايعوا العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن يوسف(5/317)
ابن الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المستنصر ابن عم الفائز هذا. وأجلسه الملك الصالح طلائع بن رزّيك على سرير الخلافة. وأزوجه ابنته. ثم بعد ذلك استعمل طلائع شاور على بلاد الصعيد. وهو شاور البدرىّ الذي استولى على ديار مصر فى خلافة العاضد آخر خلفاء بنى عبيد، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 549]
السنة التى حكم فى أوّلها الظافر وفى آخرها الفائز، وكلاهما ليس له فى الخلافة إلّا مجرّد الاسم فقط، وهى سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
فيها حنقت الترك على سنجرشاه السلجوقىّ وتركوه فى قيد من حديد فى خيمة، ووكّل به جماعة وأجروا عليه ما لا يجرى على الكفرة، وكاد يموت خوفا، وصار يبكى ليلا ونهارا على نفسه، ويتمّنى الموت.
وفيها ملك نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد دمشق من الأمير مجير الدّين. وساعده فى ذلك بعض أهل دمشق على مجير «1» الدين المذكور لزيادة ظلمه ومصادراته الناس؛ فلمّا تحرك نور الدين لطلب دمشق وافقه أهلها لما فى نفوسهم من مجير الدين.
وفيها توفى المظفّر بن علىّ [بن «2» محمد بن محمد] بن جهير الوزير أبو نصر ابن الوزير فخر الدولة، وجدّه كان أيضا وزيرا. وهو من بيت وزارة وفضل، وزر للمقتفى سبع سنين، وعزل عن الوزارة فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وكان الخليفة المقنفى نقله من الأستاداريّة إلى الوزر. وكانت وفاته فى ذى الحجة. وكان فاضلا نبيلا، سمع الحديث وحجّ وتصدّق.(5/318)
وفيها توفى محمد بن أحمد بن إبراهيم العلّامة أبو بكر البغدادىّ الحنفىّ. كان فقيها عالما نحويّا. مات فى ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الظافر بالله إسماعيل ابن الحافظ العبيدىّ، اغتاله عبّاس فى المحرّم وله اثنتان وعشرون سنة، وأجلس مكانه ولده الفائز طفلا. وأبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوىّ، مات جوعا فى ذى القعدة فى كائنة الغزّ. وأبو منصور عبد الخالق بن زاهر بن طاهر الشّحّامىّ، هلك فى شوّال بنيسابور. وأبو سعد محمد بن جامع الصّيرفىّ خيّاط الصوف، توفّى فى [شهر] ربيع الآخر. وأبو العشائر محمد بن خليل بن فارس القيسىّ بدمشق فى ذى الحجّة. والحافظ أبو المعمّر المبارك بن أحمد الأنصارى الأزجىّ «1» فى رمضان. والوزير أبو نصر المظفّر بن علىّ ابن الوزير فخر الدولة بن جهير، وزر للمقتفى سبع سنين، ومات فى ذى الحجة. وأبو المحاسن نصر بن المظفّر البرمكىّ بهمذان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 550]
السنة الثانية من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة خمسين وخمسمائة.
فيها دخلت الترك «2» نيسابور بعد أن كان بينهم وبين أهلها قتال عظيم ونهبوا وسبوا وقتلوا بها نحوا من ثلاثين ألف نسمة، منهم محمد بن يحيى شيخ الشافعيّة،(5/319)
وكان الملك سنجر شاه السلجوقىّ معهم فى الأسر، وعليه اسم السلطنة وهو مقيّد معتقل على أقبح وجه يخدم نفسه ويجلس وحده فى أضيق مكان.
وفيها توفّى محمد بن ناصر بن محمد بن علىّ بن عمر السّلامىّ «1» الدار الفارسىّ الأصل. سمع الحديث ورحل إلى البلاد، وكان حافظا متقنا عالما بالأسانيد والمتون، ضابطا ثقة من أهل السنّة. ومات فى شعبان. وأنشد لغيره:
[البسيط]
دع المقادير تجرى فى أعنّتها ... واصبر فليس لها صبر على حال
ما بين رقدة عين وانتباهتها ... يقلّب الدهر من حال إلى حال
وفيها توفّى هبة الله بن علىّ أبو محمد بن عرام، كان فاضلا شاعرا. ومن شعره فى ذمّ إنسان:
[البسيط]
جميع أقواله دعاوى ... وكلّ أفعاله مساوى
ما زال فى وقته «2» غريبا ... ليس له فى الورى مساوى
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو بكر القيسىّ المغربىّ المالكىّ، مات بفاس فى ذى القعدة. وكان فقيها أديبا مترسّلا شاعرا.
ومن شعره:
[الخفيف]
أطيب الطّيبات قتل الأعادى ... واختيالى على متون الجياد
ورسول يأتى بوعد حبيب ... وحبيب يأتى بلا ميعاد
قلت: وقد تغالى الناس فى رسول الحبيب وقالوا فيه أحسن الأقوال.
فمن ذلك قول بهاء الدين زهير فى أول قصيدة «3» :
[الطويل]
رسول الرضا أهلا وسهلا ومرحبا ... حديثك ما أحلاه عندى وأطيبا(5/320)
وأحسن ما سمعت فى هذا المعنى قول صفىّ الدين الحلّىّ:
[الكامل]
من كنت أنت رسوله ... كان الجواب قبوله
هو طلعة الشمس الذي ... جاء الصباح دليله
وفى المعنى للسّراج «1» الورّاق:
[الكامل]
إن كانت العشّاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا
فأنا الذي أتلو لهم: يا ليتنى ... كنت اتّخذت مع الرسول سبيلا
ومما يقارب هذا المعنى ما أنشدنى الحافظ شهاب الدّين بن حجر لنفسه إجازة إن لم يكن سماعا:
[الطويل]
أتى من أحبّائى رسول فقال لى ... ترفّق وهن واخضع تفز؟؟؟ برضانا
فكم عاشق قاسى الهوان بحبّنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا
وقد خرجنا عن المقصود.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن معدّ التّجيبىّ الأقليشىّ «2» . وأبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن العصائدىّ «3» النّيسابورىّ. وأبو القاسم سعيد بن أحمد بن الحسن «4» [بن عبد الله «5» ] بن أحمد بن البنّاء فى ذى الحجّة. وأبو الفتح محمد بن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب. والحافظ(5/321)
أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علىّ السّلامىّ فى شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
وأبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزورىّ المقرئ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 551]
السنة الثالثة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
فيها خلع الخليفة المقتفى بالله على سليمان شاه بن محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ بعد عمّه سنجرشاه خلعة السلطنة: التاج والطوق والسّوار والمركب الذهب، واستحلفه الخليفة أن يكون العراق للخليفة ولا يكون لسليمان شاه المذكور إلّا ما يفتحه بسيفه من غير العراق، وخطب له على منابر العراق بالسلطنة، وتمّ أمره إلى ما سيأتى ذكره.
وفيها خلص السلطان سنجر شاه من أسر الترك «1» بحيلة، وهرب إلى قلعة ترمذ «2» بعد أن أقام عندهم أربع سنين فى الذلّ والهوان حتى ضرب بحاله عندهم الأمثال.
وفيها توفّى عبد القاهر بن عبد الله بن الحسين أبو الفرج المعروف بالواوا الشاعر المشهور. كان أصله من بزاعة ونشأ بحلب (وبزاعة بضم الباء الموحدة وفتح الزاى وبعد الألف عين مهملة مفتوحة وهاء، وهى قرية من أعمال حلب) وتأدّب(5/322)
بحلب وبرع فى الأدب وقول الشعر، وشرح ديوان المتنّبىّ. ومما ينسب إليه من الخمريات- وقيل هما لغيره- قوله:
[الوافر]
مجرّة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس ورد
ورعد مثلّث وسحاب كأس ... وبرق مدامة وضباب ندّ
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول يزيد بن معاوية:
[الكامل]
ومدامة حمراء فى قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء
وما أظرف قول ديك الجنّ عبد السلام بن رغبان:
[الوافر]
شربنا فى غروب الشمس شمسا ... لها وصف يجلّ عن الصفات
عجبت لعاصريها كيف ماتوا ... وقد صنعوا لنا ماء الحياة
ومما قيل فى هذا المعنى- دو بيت-:
يا ساقى خصّنى بما تهواه ... لا تمزج اقداحى رعاك الله
دعها صرفا فإنّنى أمزجها ... إذ أشربها بذكر من أهواه
وفيها توفّى علىّ بن الحسين الشيخ الإمام الواعظ أبو الحسن «1» الغزنوىّ الملقّب بالبرهان. قدم بغداد وسمع الحديث ووعظ، وكان فصيحا مفوّها. كان السلطان مسعود السّلجوقىّ يزوره. ولمّا أقام ببغداد أمرت الخاتون زوجة الخليفة المستظهر أن يبنى له رباط ووقفت عليه قرية اشترتها من الخليفة المسترشد. وانتفع الناس بجاهه وماله. وكان له أدب ونظم. فمن شعره قوله:
[السريع]
كم حسرة لى فى الحشا ... من ولد إذا نشا «2»
وكم أردت رشده ... فما نشا كما نشا(5/323)
وله فى غير هذا المعنى وأجاد:
[السريع]
يحسدنى قومى على صنعتى ... لأنّنى فى صنعتى فارس
سهرت فى ليلى واستنعسوا ... هل يستوى الساهر والناعس
وفيها توفّى السلطان مسعود بن محمد ملك الروم «1» . وتولّى ممالك الروم بعده ابنه قليج «2» أرسلان بن مسعود.
وفيها توفّى الشيخ أبو العزّ بن أبى الدنيا القرشىّ الصوفىّ البصرىّ. كان أبوه محتسب البصرة، وكان شاعرا مجيدا (أعنى أباه «3» ) . ومن شعره:
[الرجز]
ما بال قلبى زائدا غرامه ... ودمع عينى هاطلا غمامه
وذلك الجمر الذي خلفتم ... على الحشا لا ينطفى ضرامه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم إسماعيل ابن علىّ النيسابورىّ ثم الأصبهانىّ الحمّامىّ الصوفى فى صفر وقد شارف المائة.
وأبو القاسم الحسين بن الحسن بن البنّ الأسدىّ بدمشق فى ربيع الآخر. وأبو الحسن علىّ بن أحمد [بن الحسين بن أحمد «4» بن الحسين] بن محمويه اليزدىّ «5» الشافعىّ المصرىّ.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله «6» بن سلامة الكرخىّ فى شوّال. والشيخ أبو البيان [نبا «7» ] ابن محمد بن محفوظ القرشىّ بن الحورانىّ الدمشقىّ اللغوىّ الشافعىّ الزاهد القدوة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.(5/324)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 552]
السنة الرابعة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
فيها جمع الملك محمد شاه بن محمود شاه بن محمد شاه بن ملك شاه السّلجوقىّ التركمان والأكراد وسار حتّى قارب بغداد، وبعث إلى الخليفة المقتفى يطلب منه الخطبة والسلطنة، فقيل له: السلطان هو سنجر شاه بن ملكشاه عمّ أبيك، وأنتم مختلفون.
فلم يلتفت محمد شاه حتّى قدم بغداد وحصرها، ووقع له بها أمور؛ وطال الأمر بينهم إلى أن رحل منها إلى جهة همذان.
وفيها كانت زلازل عظيمة بالشأم وحلب وحماة وشيزر وغالب بلاد الشام والشرق، وهلك خلق كثير، حتّى حكى أن معلّما كان بحماة فى كتّاب، فقام من المكتب يقضى حاجة ثم عاد وقد وقع المكتب على الصبيان فماتوا بأسرهم. والعجب أنه لم يأت أحد يسأل عن صبىّ منهم بل جميع آبائهم ماتوا أيضا تحت الهدم فى دورهم. ووقعت أبراج قلعة حلب وغيرها، وهلك جميع من كان فى شيزر إلا امرأة واحدة وخادما. وساخت قلعة فامية، وانشقّ تلّ حرّان نصفين، وظهر فيه بيوت وعمائر قديمة. وانشقّ فى اللّاذقيّة موضع ظهر فيه صنم قائم فى الماء، وخربت صيداء وبيروت وطرابلس وعكّا وصور وجميع قلاع الفرنج. وعمل شعراء ذلك العصر فى هذه الزلزلة أشعارا كثيرة.
وفيها ملك الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد حصن شيزر، وزال ملك بنى منقذ عنها بعد أن ملكوها سنين كثيرة.(5/325)
وفيها توفّى أحمد بن عمر «1» الشيخ الإمام العلّامة أبو اللّيث السّمرقندىّ الحنفىّ.
كان إماما فقيها حسن الهيئة كثير الصّمت غزير العلم واسع الحفظ. حجّ وعاد إلى بغداد، وصنّف التصانيف المفيدة النافعة، وتفقّه به جماعة كبيرة. ولمّا خرج من بغداد خرج الناس لوداعه، فلمّا ودّعهم أنشد:
[البسيط]
يا عالم الغيب والشّهادة ... إنّ «2» بتوحيدك الشهاده
أسأل فى غربتى وكربى ... منك وفاة على الشهاده
وخرج فى قافلة؛ فلما ساروا قطع قوم الطريق على القافلة المذكورة وقتلوا منهم جماعة كبيرة من العلماء، فيهم صاحب الترجمة، فقتل الجميع شهداء.
وفيها توفّى أحمد بن المبارك بن محمد بن عبد الله. ولد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. كان أديبا شاعرا فاضلا. ومن شعره:
[دو بيت]
ساروا وأقام فى فؤادى الكمد ... لم يلق كما لقيت منهم أحد
شوق وجوى ونار وجد تقد ... مالى جلد ضعفت مالى جلد
وفيها توفّى السلطان سنجر شاه ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق، السلطان أبو الحارث- وقيل:
اسمه أحمد. وسمّى بسنجر لأنّه ولد بسنجار فى شهر رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة حين توجّه أبوه إلى غزو الروم- ونشأ ببلاد الخوز «3» ، وسكن خراسان واستوطن مدينة مرو. وكان دخل بغداد مع أخيه محمد شاه على الخليفة المستظهر.
قال سنجر شاه: فلمّا وقفنا بين يدى الخليفة المذكور ظنّ أنى أنا السلطان، فافتتح(5/326)
كلامه معى؛ فخدمت وقلت: يا مولانا أمير المؤمنين، السلطان هو أخى، وأشرت إلى أخى محمد شاه؛ ففوّض إليه السلطنة وجعلنى ولىّ عهده.
قلت: ولمّا مات محمد شاه خوطب سنجر شاه هذا بالسلطنة، وكان قبلها فى ملك ضخم نحوا من عشرين سنة، وخطب له على عامّة منابر الإسلام؛ وأسره الترك أربع سنين، حسب ما ذكرناه فى وقته. ثم خلص وكاد ملكه أن يرجع إليه، فأدركته المنيّة فمات فى يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأوّل. ودفن بمرو فى قبّة بناها بها. وكان روى الحديث وعنده فضيلة. وأصابه صمم فى آخر عمره. واستقرّ الملك بعده لابن أخيه «1» أبى القاسم محمود بن محمد شاه بن ملكشاه السّلجوقىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى السلطان معزّ الدين أبو الحارث سنجر بن ملكشاه السّلجوقىّ فى [شهر] ربيع الأوّل، وبقى فى الملك نحوا من خمسين سنة. وأبو صابر عبد الصّبور بن عبد السلام الهروىّ. وأبو عمرو عثمان ابن علىّ البيكندىّ «2» الزاهد ببخارى. وأبو حفص عمر بن عبد الله الحربىّ المقرئ.
وأبو بكر محمد بن عبيد «3» الله بن نصر بن الزّاغونىّ «4» . وشيخ الشافعيّة أبو الحسن محمد بن المبارك بن الخلّ. وأبو القاسم نصر بن نصر العكبرىّ الواعظ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.(5/327)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 553]
السنة الخامسة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.
فيها اتّفق السلطان محمد شاه السّلجوقىّ مع أخيه ملكشاه وأمدّه بعساكر، فسار إلى خوزستان وفتحها.
وفيها توفّى عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم أبو الوقت الهروىّ المنشأ السّجزىّ «1» الأصل. ومولده فى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وحمله أبوه من هراة إلى بوشنج على عنقه، فسمع صحيح البخارى، وقدم بغداد وطال عمره وحدّث وسمع منه خلائق وألحق الصّغار بالكبار. وكان كثير التعبّد والتهجّد. ومات ببغداد ودفن بالشّونيزيّة عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها توفّى يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد الشيخ أبو الفضل الحصكفىّ «2» ولد بطنزة (مدينة صغيرة بديار بكر) ونشأ بحصن كيفا وانتقل إلى ميّافارقين.
وكان إماما فى كلّ فنّ، وله أدب وترسّل وشعر. ومن شعره:
[البسيط]
والله ولو كانت الدّنيا بأجمعها ... تبقى علينا ويأتى رزقها رغدا
ما كان من حقّ حرّ أن يذلّ لها ... فكيف وهى متاع يضمحلّ غدا(5/328)
قلت: وهذا الشعر تكلّم [به] الحصكفىّ المذكور عن خاطرى. وكثيرا ما كنت ألهج بهذا المعنى نثرا قبل أن أقف على هذين البيتين، فطابقا ما كان يخطر ببالى، فلله درّه!. ومن شعره أيضا قوله:
[البسيط]
على ذوى الحبّ آيات مترجمة ... تبين من أجله عن كلّ مشتبه
عرف يلوح وآثار تلوح وأس ... رار تبوح وأحشاء تنوح به
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى السّجزىّ الصوفىّ فى ذى القعدة، وله ستّ وتسعون سنة.
وأبو مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه الحافظ بأصبهان فى شعبان. وعلىّ بن عساكر ابن سرور المقدسىّ الكيّال «1» بدمشق فى شوّال عن ست وتسعين سنة. والعلّامة أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور النّيسابورىّ الصّفّار يوم النحر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 554]
السنة السادسة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
فيها غرقت بغداد وصارت تلالا لا يعرف أحد موضع داره.
وفيها توفّى عبد الواحد بن حميد «2» بن مفرّج الدمشقىّ. كان أديبا شاعرا فصيحا.(5/329)
ومن شعره قوله من أوّل قصيدة:
[الرمل]
ظالمى فى الحبّ أضحى حكمى ... كيف لا يأثم فى سفك دمى
كم كتمت الحبّ عن عاذلتى ... حذر البين فلم ينكتم
وكانت وفاته بدمشق فى ذى القعدة.
وفيها توفّى السلطان محمد شاه بن محمود شاه [بن محمد شاه «1» ] بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن دقماق بن سلجوق، أبو نصر السلجوقىّ. قد تقدّم نبذة كبيرة من ذكره فى الحوادث. ولمّا حاصر بغداد كان مريضا، وبلغه موت عمّه سنجر شاه فزاد به المرض إلى أن مات على باب همذان فى ذى الحجّة.
واختلف الأمراء بعد موته؛ فمنهم من مال إلى أخيه ملكشاه، ومنهم من مال إلى سليمان شاه، ومنهم من مال إلى أرسلان شاه؛ ثم اتّفقوا على سليمان شاه.
وكان محبوسا بالموصل؛ فجهّزه زين «2» الدين صاحب الموصل بإشارة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد؛ فأجلسوه على سرير الملك بهمذان.
وكان قصدهم أن يأكلوا به البلاد، لأنّه كان مشغولا باللهو إلّا أنّه كان فاضلا جوادا مشفقا أمينا. وأما محمد شاه صاحب الترجمة فإنه كان شابّا وعنده شجاعة وإقدام وكرم.
وفيها توفّى محمد بن أبى عقامة أبو عبد الله قاضى زبيد «3» . كان حاكما على اليمن، ولمّا تغلّب ابن مهدى «4» على اليمن قتله وقتل ولده، وكانا فاضلين.(5/330)
ومن شعر محمد هذا من أوّل قصيدة قوله:
[البسيط]
للوجد عنكم روايات وأخبار ... وللعلا نحوكم حاج وأوطار
وحيث كنتم فثغر الرّوض مبتسم ... وأين سرتم فدمع العين مدرار
لله قوم إذا حلّوا بمنزلة ... حلّ النّدى ويسير الجود إن ساروا
تشتاقكم كلّ أرض تنزلون بها ... كأنّكم لبقاع الأرض أمطار
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم أحمد بن المبارك بن عبد الباقى الذهبىّ القطّان. وأبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز العبّاسىّ المكىّ النقيب فى شعبان. وأبو زيد جعفر بن زيد بن جامع الحموىّ صاحب «الرسالة «1» » . وأبو علىّ الحسن بن جعفر [بن عبد الصمد «2» ] بن المتوكّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 555]
السنة السابعة من ولاية الفائز بنصر الله على مصر وهى سنة خمس وخمسين وخمسمائة على أنّ الفائز مات فيها فى شهر رجب، وحكم فى باقيها العاضد بالله عبد الله.
فيها فى يوم الجمعة سلخ صفر أرجف ببغداد بموت الخليفة المقتفى بالله العباسىّ، فلمّا كان ثانى شهر ربيع الأوّل تحقّق الناس موته، ودعى الناس إلى بيعة ولىّ العهد المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن محمد المقتفى، وتمّ ذلك وبويع بالخلافة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن عبد الله بن أبى جرادة أبو علىّ ثقة الملك الحلبىّ الحنفىّ. نشأ بحلب ثم سافر إلى مصر، فتقدّم عند وزيرها الملك الصالح طلائع(5/331)
ابن رزّيك، وكان طلائع المذكور يحترمه لفضله وبيته. ومات بمصر فى هذه السنة- وقيل: فى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة- وكان إماما بارعا فصيحا شاعرا.
ومن شعره:
[البسيط]
يا صاحبىّ أطيلا فى مؤانستى ... وذكّرانى بخلّانى وعشّاقى
وحدّثانى حديث الخيف إنّ به ... روحا لروحى وتسهيلا لآماقى
وفيها توفّى حمزة بن أسد بن علىّ بن محمد أبو يعلى التميمىّ العميد الدمشقىّ، ويعرف بآبن القلانسىّ. كان فاضلا أديبا مترسلا، جمع تاريخ دمشق وسماه الذيل، وذكر فى أوّله طرفا من أخبار المصريّين وبعض حوادث السنين. وقد نقلنا عنه نبذة فى هذا الكتاب. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الجمعة سابع شهر ربيع الأوّل، ودفن يوم السبت بقاسيون. ومن شعره:
[الكامل]
إياك تقنط عند كلّ شديدة ... فشدائد الأيّام سوف تهون
وانظر أوائل كلّ أمر حادث ... أبدا فما هو كائن سيكون
وفيها توفّى الأمير قايماز الأرجوانىّ أمير الحاج حجّ غير مرّة بالناس. وكان شجاعا عادلا رفيقا بالحاجّ محسنا إليهم. دخل ميدان دار الخلافة يلعب بالكرة فسقط من الفرس فمات، فحزن الخليفة عليه والناس، ثم أمر الخليفة أمراء الدولة أن يمشوا فى جنازته. وكان حجّ بالناس مدّة سنين.
وفيها توفّى الخليفة المقتفى بالله أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد بن المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد بالله أحمد ابن الأمير الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدى محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد(5/332)
ابن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد قتل ابن أخيه الراشد بالله فى شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. ومولده فى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وأمّه أمّ ولد تدعى بغية النفوس- وقيل: نسيم- ومات فى يوم الأحد ثانى شهر ربيع الأوّل ودفن بداره بعد أن صلّى عليه بالمسجد.
وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وواحدا وعشرين يوما. وولى الخلافة من بعده ابنه المستنجد يوسف. وكان إماما عالما أديبا شجاعا حليما دمث الأخلاق كامل السّودد، خليقا بالخلافة قليل المثل فى الأئمة. رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العميد أبو يعلى حمزة ابن أسد التميمىّ ابن القلانسىّ رئيس دمشق فى عشر التسعين. وأبو يعلى حمزة ابن علىّ بن هبة الله بن الحبوبىّ «1» الثعلبىّ «2» البزّاز فى جمادى الأولى. وصاحب غزنة خسروشاه «3» بن مسعود السّبكتكينىّ. والفائز عيسى بن الظافر بن الحافظ العبيدىّ، أقاموه فى الخلافة بمصر وله خمس سنين أو دونها، وكان يصرع، فمات فى رجب وبايعوا العاضد. وتوفّى المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين محمد بن المستظهر بالله ابن المقتدى فى شهر ربيع الأوّل وله ستّ وستون سنة، وكانت دولته خمسا وعشرين سنة، وأمه حبشيّة. وأبو المظفّر محمد بن أحمد بن التّريكىّ «4» الهاشمىّ.
وأبو الفتوح محمد بن محمد بن علىّ الطائىّ الهمذانىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.(5/333)
ذكر ولاية العاضد بالله على مصر
الخليفة أبو محمد عبد الله العاضد بالله ابن الأمير يوسف ابن الخليفة الحافظ بالله عبد المجيد ابن الأمير محمد ابن الخليفة المستنصر بالله معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدىّ عبيد الله، الفاطمىّ العبيدىّ، المغربىّ الأصل المصرىّ، الحادى عشر من خلفاء بنى عبيد بمصر، والرابع عشر بالثلاثة الذين ولوا بالمغرب: المهدىّ والقائم والمنصور. ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل سنة أربعين.
وقال قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان- رحمه الله-: «ولد يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرّم سنة «1» سبع وأربعين وخمسمائة، وبويع فى رجب بعد موت ابن عمّه الفائز بنصر الله سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور. وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عبّاس الوزير بعد قتل الظافر» . انتهى.
وقال أبو المظفّر بن قزأوغلى فى تاريخه: «وتوفّى (يعنى العاضد) يوم عاشوراء وعمره ثلاث وعشرون سنة، فكانت أيّامه إحدى عشرة سنة. واختلفوا فى سبب وفاته على أقوال. أحدها أنّه تفكّر فى أموره فرآها فى إدبار فأصابه ذرب عظيم فمات منه. والثانى أنّه لمّا خطب لبنى العباس بلغه فاغتمّ ومات؛ وقيل: إنّ أهله أخفوا عنه ذلك، وقالوا: إن سلم فهو يعلم، وإن مات فلا ينبغى أن ننغّص عليه هذه الأيام التى بقيت من عمره. والثالث أنّه لمّا أيقن بزوال دولته كان(5/334)
فى يده خاتم، له فصّ مسموم فمصّه فمات منه. وجلس صلاح الدين فى عزائه ومشى فى جنازته وتولّى غسله وتكفينه، ودفنه عند أهله. واستولى السلطان صلاح الدين على ما فى القصر من الأموال والذخائر والتّحف والجواهر والعبيد والخدم والخيل والمتاع وغيره. وكان فى القصر من الجواهر النفيسة ما لم يكن عند خليفة ولا ملك، مما كان قد جمع فى طول السنين. فمنه: القضيب الزّمرّد وطوله قبضة ونصف، والجبل «1» الياقوت الأحمر، والدرّة اليتيمة مثل بيض الحمام، والياقوتة الحمراء وتسمّى الحافر، وزنتها أربعة عشر مثقالا. ومن الكتب المنتخبة بالخطوط النفيسة «2» مائة ألف مجلد. ووجد عمامة القائم وطيلسانه، كان البساسيرىّ بعث بهما إلى المستنصر» (يعنى لمّا استولى البساسيرىّ على بغداد، وأسر الخليفة القائم العباسىّ، وخطب ببغداد للمستنصر من بنى عبيد، ثم بعث بعمامة القائم وطيلسانه، فأخذوهما خلفاء مصر فاحتفظوا عليهما، نوعا من النكاية فى بنى العبّاس، فهذا شرح قول أبى المظفّر من عمامة القائم والطيلسان) . قال: «ووجدوا أموالا لا تحدّ ولا تحصى. وأفرد صلاح الدين أهل العاضد ناحية عن القصر، وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه، وسلّمهم إلى الخادم قراقوش؛ فعزل الرجال عن النساء واحتاط عليهم.
وممّا وجد فى خزانة العاضد طبل القولنج الذي صنع للظافر، وكان من ضربه خرج منه ريح واستراح من القولنج- قلت: قد تقدّم الكلام قبل ذلك على هذا الطبل فى محلّه-. قال: «فوقع الطبل إلى بعض الأكراد فلم يدر ما هو فكسره، لأنّه ضرب عليه فخرج منه ريح فحنق وضربه وكسره.(5/335)
قال: «وفرّق صلاح الدين الأموال التى أخذها من القصر فى العساكر، وباع بعض الجوارى والعبيد، وأعطى للقاضى الفاضل من الكتب ما أراد، وبعث إلى نور الدين بعمامة القائم وطيلسانه وهدايا وتحف وطيب ومائة ألف دينار. وكان نور الدين بحلب فلمّا حضرت بين يديه قال: والله ما كان لى حاجة إلى هذا، ما وصل إلينا عشر معشار ما أنفقناه على العساكر التى جهّزناها إلى مصر، وما قصدنا بفتحها إلّا فتح الساحل، [وقلع الكفّار منه «1» ] . وانقضت أيام الخلفاء المصرييّن بوفاة العاضد، وعدّتهم أربعة عشر على عدد بنى أمية، إلّا أنّ أيّامهم طالت فملكوا مائتين وثمانى سنين، وبنو أمية ملكوا نيّفا وتسعين سنة. قال: وأوّل المصرييّن عبيد الله الملقّب بالمهدىّ» .
قلت: ليس هو كما قال: إنّ عبيد الله أوّل خلفاء المصرييّن، وإنما أوّلهم المعزّ لدين الله معدّ. نعم إن كان قصد بأن يكون أوّلهم ممّن دعى له على المنابر بالمغرب وأطلق عليه اسم الخليفة فيكون، وأمّا أنّه ملك مصر فلا. ويأتى بيان ذلك.
وقد تقدّم أيضا فى ترجمة المعزّ وغيره.
قال أبو المظفّر: «قال ابن عبد البرّ: هو عبيد الله بن محمد بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق- عليه السلام-. والثانى ابنه أبو القاسم محمد ويلقّب بالقائم بأمر الله، والثالث ابنه إسماعيل ويلقّب بالمنصور، والرابع ابنه معدّ ويلقّب بالمعزّ لدين الله» .
- قلت: وهذا المعز هو الذي تقدّم ذكره أنّه أوّل من ولى مصر من بنى عبيد، وبنى له جوهر القائد القاهرة، وهو أوّل خليفة سكن مصر من بنى عبيد؛ ولهذا(5/336)
كنا نقول فى تراجمهم الأوّل من خلفاء مصر والرابع ممّن ولى من آبائه بالمغرب، وعلى هذا سلكنا فى تراجمهم-.
قال: والخامس ابنه نزار ويلقّب بالعزيز بالله، والسادس ابنه منصور ويلقب بالحاكم بأمر الله، والسابع ابنه علىّ ويلقّب بالظاهر لدين الله، والثامن ابنه معدّ ويلقّب بالمستنصر بالله وقد ولى ستين سنة، والتاسع أبو القاسم أحمد ويلقّب بالمستعلى، والعاشر ابنه منصور ويلقّب بالآمر بأحكام الله، وانقطع نسله، وولى ابن عمّه أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم بن المستنصر [ويلقّب «1» بالحافظ لدين الله] وهو الحادى عشر، والثانى عشر ولده إسماعيل ويلقّب بالظافر، والثالث عشر أبو القاسم عيسى ويلقّب بالفائز بنصر الله، والرابع عشر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ويلقّب بالعاضد» . انتهى كلام صاحب مرآة الزمان وغيره.
قلت-: فائدة جليلة- لم يل الخلافة أحد من الفاطميّين بعد أخيه، وهذا لم يقع لغيرهم. وأمّا عدد خلفاء بنى أمية فهم كما قال: أربعة عشر، لكنه ما عدّهم، فنقول: هم معاوية بن أبى سفيان، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد ابن عبد الملك، ثم أخوه سليمان بن عبد الملك، ثم ابن عمّه عمر بن عبد العزيز بن مروان، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم أخوه هشام بن غبد الملك ثم الوليد الفاسق ابن يزيد بن عبد الملك، ثم ابن عمّه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، المعروف بالناقص، ثم أخوه إبراهيم، ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم المعروف بالحمار؛ وهو آخرهم، قتل بسيف بنى العباس. وقد خرجنا عن المقصود ولنعد إلى ترجمة العاضد وما يتعلّق به.(5/337)
قلت: وكان وزير العاضد شاور. وشاور هذا هو الذي وقع له مع الأمير أسد الدين شيركوه الآتى ذكره ما وقع. يأتى ذلك كلّه فى ترجمة ابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب مفصّلا؛ لكن نذكر هنا من أحوال شاور المذكور نبذة كبيرة ليكون الناظر بعد ذلك فيما يأتى على بصيرة بترجمة شاور المذكور.
وكان شاور قد وزر للعاضد بعد قتل رزّيك ابن الملك الصالح طلائع بن رزّيك.
وكان دخوله إلى القاهرة من قوص فى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لمّا ملكها رزّيك، ودخل معه خلق كثير ونزل بدار سعيد السعداء، ودخل معه أولاده طيىء وشجاع. فلما وزر زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرّات. وكان يجلس والأبواب مغلّقة عليه خيفة من حواشى رزّيك. وكان رزّيك أنشأ أمراء يقال لهم البرقية، ويقال لكبيرهم ضرغام. فولّى شاور ضرغاما المذكور الباب، وكان فارسا شجاعا، جمع على شاور حتى أخرجه من القاهرة وقتل ولده الأكبر المسمى بطيّئ، وبقى ابنه شجاع المنعوت بالكامل. فسار شاور إلى الشام، واستنجد بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد؛ فأرسل معه الملك العادل أحد أمرائه وهو الأمير أسد الدين شيركوه بن شادى. يأتى ذكر ذلك كلّه فى آخر هذه الترجمة، وأيضا فى ترجمة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بأوسع من هذا، بعد أن نذكر أقوال جماعة من المؤرّخين فى حقّ العاضد هذا وأحواله.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام- بعد ما ساق نسبته إلى أن قال-: العبيدىّ الرافضىّ الذي زعم هو وبيته أنّهم فاطميّون، وهو آخر خلفاء مصر.
ولد سنة ستّ وأربعين وخمسمائة فى أوّلها. فلمّا هلك الفائز ابن عمّه واستولى الملك الصالح طلائع بن رزّيك الديار المصريّة، بايع العاضد وأقامه صورة، وكان كالمحجور عليه لا يتصرّف فى كلّ ما يريد، ومع هذا كان رافضيّا سبّابا خبيثا.(5/338)
قال ابن خلّكان: كان إذا رأى سنّيّا استحلّ دمه. وسار وزيره الملك الصالح طلائع بن رزّيك بسيرة مذمومة، واحتكر الغلّات فغلت الأسعار، وقتل أمراء الدولة خيفة منهم، وأضعف أحوال دولتهم، فقتل ذوى الرأى والبأس وصادر أولى الثروة. وفى أيام العاضد ورد حسين بن نزار بن المستنصر العبيدىّ من المغرب وقد جمع وحشد؛ فلمّا قارب مصر غدر به أصحابه وقبضوا عليه وأتوا به إلى العاضد فذبحه صبرا فى سنة سبع وخمسين. ثم قتل العاضد طلائع بن رزّيك ووزر له شاور؛ فكان سبب خراب دياره؛ ودخل أسد الدين إلى ديار مصر وقتل شاور، ومات أسد الدين شيركوه وقام فى الأمر ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن أيوب، وتمكّن فى المملكة. انتهى.
وقال القاضى «1» جمال الدين بن واصل: حكى لى الأمير حسام الدين بن أبى علىّ قال: كان جدّى فى خدمة صلاح الدّين، فحكى أنّه لمّا وقعت هذه الواقعة (يعنى وقعة السودان بالقاهرة) التى زالت دولتهم فيها، وزالت آل عبيد من مصر (يأتى ذكر هذه الواقعة فى آخر ترجمة العاضد إن شاء الله تعالى) قال: وشرع «2» صلاح الدين يطلب من العاضد أشياء من الخيل والرقيق والأموال ليتقوّى بذلك. قال: فسيرّنى يوما إلى العاضد أطلب منه فرسا ولم يبق عنده إلّا فرس واحد، فأتيته وهو راكب فى البستان «3» المعروف بالكافورىّ الذي يلى القصر، فقلت: السلطان صلاح الدين يسلّم عليك ويطلب منك فرسا؛ فقال: ما عندى إلّا الفرس الذي أنا راكبه، ونزل عنه وشقّ خفّيه ورمى بهما وسلّم إلىّ الفرس، فأتيت به صلاح الدين، ولزم العاضد بيته.(5/339)
واشتغل صلاح الدين بالأمر وبقى العاضد معه صورة إلى أن خلعه وخطب فى حياته لأمير المؤمنين المستضىء بأمر الله العبّاسىّ، وأزال الله تلك الدولة المخذولة.
انتهى.
وقال الشيخ شهاب «1» الدين أبو شامة: اجتمعت بالأمير أبى الفتوح بن العاضد وهو مسجون مقيد فى سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحكى لى أن أباه فى مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، فأحضرونا (يعنى أولاده) ونحن صغار فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا. ثم قال أبو شامة: وهم أربعة عشر خليفة وعدّهم نحوا ممّا ذكرناه، إلى أن قال: ويدّعون الشرف، ونسبتهم إلى مجوسىّ أو يهودىّ، حتّى اشتهر لهم ذلك بين العوامّ، فصاروا يقولون الدولة الفاطميّة والدولة العلويّة، وإنما هى الدولة اليهودية والمجوسية الملحدة الباطنيّة. قال: وقد ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر [و] أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم بنو عبيد، وكان والد عبيد هذا من نسل القدّاح الملحد المجوسىّ. قال: وقيل إن والد عبيد هذا كان يهوديّا من أهل سلمية «2» وكان جوادا. وعبيد كان اسمه سعيدا، فلمّا دخل المغرب تسمّى بعبيد الله وادّعى نسبا ليس بصحيح؛ قال ذلك جماعة من علماء الأنساب. ثم ترقّت به الحال إلى أن ملك المغرب وبنى المهديّة «3» وتلقّب بالمهدىّ، وكان زنديقا خبيثا عدوّا للإسلام، من أوّل دولتهم إلى آخرها، وذلك من ذى الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة. وقد بيّن نسبهم جماعة مثل القاضى أبى بكر الباقلانى، فإنّه كشف فى أوّل كتابه المسمّى(5/340)
«كشف أسرار الباطنيّة» عن بطلانى نسب هؤلاء إلى علىّ- رضى الله عنه-، وكذلك القاضى عبد «1» الجبار بن أحمد استقصى الكلام فى أصولهم. انتهى.
قلت. وقد ذكرنا نوعا من ذلك فى عدّة تراجم من هذا الكتاب من بنى عبيد المذكورين، وفى المحضر المكتتب من جهة الخليفة القائم بأمر الله العبّاسىّ وغيره وقال بعضهم: كانت وفاة العاضد فى يوم عاشوراء بعد إقامة الخطبة بيويمات قليلة فى أوّل جمعة من المحرّم لأمير المؤمنين المستضىء بالله، والعاضد آخر خلفاء مصر؛ فلمّا كانت الجمعة الثانية خطب بالقاهرة أيضا للمستضىء بسائر الجوامع، ورجعت الدعوة العبّاسيّة بعد أن كانت قد قطعت بها (أعنى الديار المصريّة وأعمالها) أكثر من مائتى سنة. وتسلّم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب قصر الخلافة، واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر، وكانت عظيمة الوصف، وقبض على أولاد العاضد وحبسهم فى مكان واحد بالقصر، وأجرى عليهم ما يموّنهم وعفّى آثارهم، وقمع مواليهم وسائر نسائهم «2» . قال: وكانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله، فلنعم ما فعل؛ فإنّ هؤلاء كانوا باطنييّن زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقاد حلول الجزء الإلهى فى أشباحهم. وقد قال الحاكم لداعيه: كم فى جريدتك؟ قال ستة عشر ألفا يعتقدون أنّك الإله. وقال قائلهم- وأظنّه فى الحاكم «3» بأمر الله-:
[الكامل]
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهّار(5/341)
قال: فلعن الله المدّاح والممدوح؛ فليس هذا فى القبح إلّا كقول فرعون: أنا ربّكم الأعلى. وقال الحافظ شمس الدين الذهبىّ: وقال بعض شعرائهم فى المهدىّ- وهو غاية فى الكفر-:
[البسيط]
حلّ برقّادة المسيح ... حلّ بها آدم ونوح
حلّ بها الله فى «1» علاه ... وما سوى الله فهو ريح
قال: وهذا أعظم كفرا من النصارى؛ لأنّ النصارى يزعمون أن الجزء الإلهى حلّ بناسوت «2» عيسى فقط، وهؤلاء يعتقدون «3» حلوله فى جسد آدم ونوح والأنبياء وجميع الأمة. هذا اعتقادهم. لعنهم الله!.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان- رحمه الله-: سمعت جماعة من المصريّين يقولون: هؤلاء القوم فى أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: اكتب لنا ألقابا فى ورقة تصلح للخلفاء، حتى إذا تولّى واحد لقّبوه ببعض تلك الألقاب.
فكتب لهم ألقابا كثيرة، وآخر ما كتب فى الورقة العاضد؛ فاتّفق أنّ آخر من ولى منهم تلقّب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتّفاق. وأخبرنى أحد علماء المصريّين أيضا: أنّ العاضد المذكور فى آخر دولته رأى فى منامه أنّه بمدينة مصر، وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها، فلدغته. فلما استيقظ ارتاع لذلك فطلب بعض معبّرى الرؤيا وقصّ عليه المنام؛ فقال: ينالك مكروه من شخص هو مقيم بالمسجد. فطلب والى مصر وقال له: اكشف عمّن هو مقيم بالمسجد الفلانىّ- وكان العاضد قد رأى ذلك المسجد- فإذا رأيت به أحدا أحضره إلىّ. فمضى الوالى(5/342)
إلى المسجد فوجد به رجلا صوفيّا، فأخذه ودخل به إلى العاضد. فلمّا رآه سأله من أين هو، ومتى قدم البلاد، وفى أىّ شىء قدم؟ [وهو يجاو «1» به عن كلّ سؤال] .
فلمّا ظهر منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئا وقال له: يا شيخ، ادع لنا وخلّى سبيله، وخرج من عنده وعاد إلى المسجد. فلمّا استولى السلطان صلاح الدّين على الديار المصريّة وعزم على قبض العاضد [وأشياعه «2» ] واستفتى الفقهاء [وأفتوه «3» ] بجواز ذلك لما كان عليه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع فى الصحابة والاشتهار بذلك، فكان أكثرهم مبالغة فى الفتيا الصوفىّ المقيم بالمسجد، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ «4» . انتهى كلام ابن خلّكان.
ولمّا استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، كتب إلى الوزير ببغداد على يد شمس الدين محمد بن المحسّن بن الحسين بن أبى المضاء «5» البعلبكّىّ الذي خطب أوّل شىء بمصر لبنى العبّاس بإشارة السلطان صلاح الدين، وكان الكتاب من إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ، وكان ممّا فيه:
«وقد توالت الفتوح غربا «6» ويمنا وشاما، وصارت البلاد [بل «7» الدنيا] والشهر بل الدهر حرما حراما، وأضحى الدّين واحدا بعد ما كان أديانا، والخلافة إذا ذكّر بها أهل الخلاف لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا؛ والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلّة فى شيع الضلال شائعة؛ وذلك بأنّهم اتّخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسمّوا(5/343)
أعداء الله أصفياء؛ وتقطّعوا أمرهم [بينهم] شيعا، وفرّقوا أمر الأمة وكان مجتمعا؛ وكذّبوا بالنار فعجّلت لهم نار الجتوف، ونثرت أقلام الظّبا حروف رءوسهم نثر الأقلام للحروف؛ ومزّقوا كلّ ممزّق، وأخذ منهم كلّ مخنّق، وقطع دابرهم، ووعظ آئبهم غابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم؛ وحقّت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمّت كلمات ربّك صدقا وعدلا. وليس السيف عمّن سواهم من [كفّار «1» ] الفرنح بصائم، ولا اللّيل عن السير إليهم بنائم. ولا خفاء عن المجلس الصاحبىّ أنّ من شدّ عقد خلافة وحلّ [عقد «2» ] خلاف، وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف؛ فإنّه مفتقر إلى أن يشكر ما نصح، ويقلّد ما فتح، ويبلّغ ما اقترح، ويقدّم حقّه ولا يطّرح، ويقرّب مكانه وإن نزح؛ وتأتيه التشريفات الشريفة.
- ثم قال بعد كلام آخر-: وقد أنهض لإيصال ملطّفاته، وتنجيز تشريفاته «3» ؛ خطيب الخطباء بمصر، وهو الذي اختاره بمصر لصعود المنبر، وقام بالأمر قيام من برّ.
واستفتح بلبس السواد الأعظم، الذي جمع الله عليه السواد الأعظم» .
ثم كتب السلطان صلاح الدّين إلى الملك العادل نور الدين يطلب منه أباه وأقاربه. ويأتى ذلك كلّه فى ترجمة صلاح الدين مفصّلا، إن شاء الله تعالى.
وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء والمؤرّخين فى أحوال العاضد وتوليته ووفاته ونسبه.
والآن نذكر الأسباب التى كانت سببا لذهاب ملك العاضد وزوال دولة الفاطميّين بنى عبيد من ديار مصر، وابتداء ملك بنى أيّوب على سبيل الاختصار مجملا.
وقد ذكرنا ذلك كلّه فى التراجم والحوادث على عادة سياق هذا الكتاب من أوّله(5/344)
إلى آخره؛ غير أنّ الذي نذكره هنا متعلّق بالوزراء وكيفيّة انفصال الدولة الفاطمية واتّصال الدولة الأيّوبيّة.
فأوّل الأمر قتل العاضد وزيره الملك الصالح طلائع بن رزّيك، وكنيته أبو الغارات الأرمنىّ الأصل. أقام وزيرا بمصر سبع سنين، وقد ذكرنا ابتداء أمره فى آخر ترجمة الظافر وأوّل ترجمة الفائز، وكان الفائز معه كالمحجور عليه. ولمّا مات الفائز أقام العاضد هذا فى الخلافة، وتولّى تدبير ملكه على عادته، وولّى شاور بن مجير «1» السعدىّ الصعيد. ثم ثقل طلائع هذا على العاضد فدبّر فى قتله. فلمّا كان عاشر شهر رجب سنة ستّ وخمسين وخمسمائة حضر الصالح طلائع إلى قصر الخلافة، فوثب عليه باطنىّ فضر به بسكّين فى رأسه، ثم فى ترقوته فحمل إلى داره، وقتل الباطنىّ.
ومات الملك الصالح طلائع بن رزّيك من الغد، فحزن الناس عليه لحسن سيرته، وأقيم المأتم عليه بالقصر وبالقاهرة ومصر. وكان جوادا ممدّحا فاضلا شاعرا كثير الصدقات حسن الآثار، بنى جامعا خارج بابى زويلة يعرف بجامع «2» الصالح، وآخر بالقرافة «3» وتربة «4» إلى جانبه، وهو مدفون بها. وقام بعده فى الوزر أبنه رزّيك بن طلائع(5/345)
ابن رزيك، ولقّب بمجد الإسلام. وفرح العاضد بقتل طلائع المذكور إلى الغاية، وكان فى ذلك عكسه؛ على ما يأتى: وهو أن رزّيك لمّا وزر مكان والده طلائع سار على سيرة أبيه، فلم يحسن ذلك ببال العاضد، فأحبّ ذهابه أيضا ليستبدّ بالأمور من غير وزير؛ فدسّ إلى شاور، فتحرّك شاور بن مجير السعدىّ من بلاد الصعيد وجمع أوباش الصعيد من العبيد والأوغاد، وقدم إلى القاهرة تحرابا لرزّيك.
فخرج إليه رزيك بن طلائع وقاتله والعاضد فى الباطن مع شاور، فانهزم رزّيك.
ودخل شاور إلى القاهرة وملكها وأخرب دور الوزارة ودور بنى رزّيك؛ واختفى الوزير رزّيك المذكور إلى أن ظفر به شاور وقتله. يأتى بعض ذكر ذلك فى الحوادث كلّ واحد على حدته.
وتولّى شاور الوزارة، فعلمل العاضد بأفعال قبيحة وأساء السّيرة فى الرعيّة، وأخذ أمر مصر فى وزارته فى إدبار. ولمّا كثر ظلمه خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر «1» من الصعيد- وقيل من مصر- وحشد. فخرج إليه شاور بدسته فهزمه ضرغام، وقتل ولده الأكبر طيىء؛ وخذل أهل القاهرة شاور لبغضهم له.
فهرب شاور إلى الشام ودخل إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد؛ فالتقاه نور الدين وأكرمه. فطلب شاور منه النجدة والعساكر وأطمعه فى الديار المصرية، وقال له: أكون نائبك بها، وأقنع بما تعيّن لى من الضّياع والباقى لك. فأجّابه نور الدين لذلك وجهّز له العساكر مع الأمير أسد الدين شيركوه بن شادى الكردىّ، أحد أمراء نور الدين. وخرجوا من دمشق فى العشرين(5/346)
من جمادى سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وكان مع أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب فى خدمته. فلمّا وصلوا إلى القاهرة خرج إليهم أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار «1» ، فحار بهم أيّاما ووقع بينهم حروب وأمور يطول شرحها، إلى أن التقوا على باب القاهرة؛ فحمل ضرغام بنفسه فى أوائل الناس فطعن وقتل، واستقام أمر شاور. فكانت وزارة ضرغام تسعة أشهر. واستولى شاور ثانيا على القاهرة. وكان خبيثا سفّا كاللدماء. ولمّا ثبت أمره ظهر منه أمارات الغدر بأسد الدّين شيركوه. فأشار صلاح الدين يوسف بن أيّوب على عمّه أسد الدين شيركوه بالتأخّر إلى بلبيس «2» . وكان أسد الدين لا يقطع أمرا دون صلاح الدين، ففعل ذلك وخرج إلى بلبيس، وبعث أسد الدين يطلب من شاور رزق الجند (أعنى النفقة) فاعتذر وتعلّل عليه. فكتب أسد الدين إلى نور الدين يخبره بما جرى، ودسّ شاور إلى الفرنج رسلا يدعوهم إلى مصر ويبذل لهم الأموال، فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا من الدّاروم «3» متّفقين مع شاور على أسد الدين شيركوه. فتهيّأ أسد الدين لحربهم وحاربهم فقوى الفرنج عليه وحاصروه بمدينة بلبيس نحو شهرين حتّى صالحهم أسد الدين على مال. وكان حصارهم له من أوّل شهر رمضان إلى ذى القعدة. ووقع بينهم حروب وأمور حتى بلغهم أنّ نور الدين(5/347)
الشهيد قصد بلادهم من الشام؛ فعند ذلك رجعت الفرنج وصالحوا أسد الدين شيركوه، فعاد أسد الدين إلى الشام وهو فى غاية من القهر.
وأقام شاور بالقاهرة على عادته يظلم ويقتل ويصادر الناس، ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهى. وأقام أسد الدين بدمشق فى خدمة نور الدين إلى سنة اثنتين وستين، فعاد بعساكر الشام إلى مصر ثانيا. وسببه أنّ العاضد لمّا غلب عليه شاور كتب إلى نور الدين يستنجده على شاور وأنّه قد استبدّ بالأمر وظلم وسفك الدم. وكان فى قلب نور الدين من شاور حرازة لكونه غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد عليه بالفرنج. فخرج أسد الدين بعساكر الشام من دمشق فى منتصف شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وستين المذكورة، وسار أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب حتّى نزل برّ الجيزة «1» غربىّ مصر على بحر النيل. وكان شاور قد أعطى الفرنج الأموال وأقطعهم الإقطاعات وأنزلهم دور القاهرة وبنى لهم أسواقا تخصّهم. وكان مقدّم الفرنج الملك مرّى وابن نيرزان.
فأقام أسد الدين على الجيزة شهرين، وعدّى إلى برّ مصر والقاهرة فى خامس عشرين جمادى الآخرة، وخرج إليه شاور والفرنج. ورتّب شاور عساكره، فجعل الفرنج على الميمنة مع ابن نيرزان، وعسكر مصر فى الميسرة، وأقام الملك مرّى الفرنجىّ فى القلب فى عسكره من الفرنج. ورتّب أسد الدين عساكره فجعل(5/348)
صلاح الدين فى الميمنة؛ وفى الميسرة الأكراد، وأسد الدين فى القلب «1» ، فحمل الملك مرّى على القلب فتعتعه، وكانت أثقال المسلمين خلفه فاشتغل الفرنج بالنهب؛ وحمل صلاح الدين على شاور فكسره وفرّق جمعه. وعاد أسد الدين إلى ابن أخيه صلاح الدين وحملا على الفرنج فانهزموا، فقتلا منهم ألوفا وأسرا مائة وسبعين فارسا.
وطلبوا القاهرة، فلو ساق أسد الدين خلفهم فى الحال ملك القاهرة، وإنّما عدل إلى الإسكندرية فتلقّاه أهلها طائعين، فدخلها وولّى عليها صلاح الدين.
فأقام صلاح الدين بها وسار أسد الدين إلى الصعيد فاستولى عليه، وأقام يجمع أمواله. وخرج شاور والفرنج من القاهرة فحصروا الإسكندرية أربعة أشهر، وأهلها يقاتلون مع صلاح الدين ويقوّونه بالمال. وبلغ أسد الدين فجمع عرب البلاد وسار إلى الإسكندرية، فعاد شاور إلى القاهرة وراسل أسد الدين حتّى تمّ الصلح بينهم، وأعطى شاور أسد الدين إقطاعا بمصر وعجّل له مالا. فعاد أسد الدين إلى الشام ومعه صلاح الدين. واعتذر أسد الدين إلى الملك العادل نور الدين محمود بكثرة الفرنج والمال. ورأى صلاح الدين لأهل الإسكندرية ما فعلوا، فلمّا ملك مصر بعد ذلك أحسن إليهم.
ثم إنّ الفرنج طلبوا من شاور أن يكون لهم شحنة بالقاهرة ويكون أبوابها بأيدى فرسانهم وتحمل إليهم فى كلّ سنة مائة ألف دينار، ومن سكن منهم بالقاهرة يبقى على حاله ويعود بعض ملوكهم إلى الساحل؛ فأجابهم شاور إلى ما طلبوا منه.(5/349)
كل ذلك تقرّر بين شاور والفرنج والعاضد لا يعلم بشىء منه. وسار بعض الفرنج إلى الساحل. وكان الملك العادل نور الدين محمود يخاف على مصر من غلبة الفرنج عليها، فسار بعساكره من دمشق وفتح المنيطرة «1» وقلاعا كثيرة؛ فخاف من كان بمصر من الفرنج. وبيناهم فى ذلك عاد الفرنج من الساحل إلى نحو مصر فى سنة أربع وستين، وطمعوا فى أخذها. وكان خروجهم من عسقلان والساحل إلى نحو مصر فى أوائل السنة، وساروا حتّى نزلوا بلبيس، وأغاروا على الريف وأسروا وقتلوا.
هذا وقد تلاشى أمر الديار المصرية من الظلم ولم يبق للعاضد من الخلافة سوى الاسم والخطبة لا غير.
فلمّا بلغ شاور فعل الفرنج بالأرياف، أخرج من كان بمصر من الفرنج بعد أن أساء فى حقّهم قبل ذلك، وقتل منهم جماعة كبيرة وهرب الباقون. ثم أمر شاور أهل مصر بأن ينتقلوا إلى القاهرة ففعلوا، وأحرق شاور مصر. وسار الفرنج من بلبيس حتّى نزلوا على القاهرة فى سابع صفر، وضايقوها وضربوها بالمجانيق. فلم يجد شاور بدّا أن كاتب الملك العادل نور الدين محمودا بأمر العاضد. وكان الفرنج لمّا وصلوا إلى مصر فى المرّتين الأوليين اطّلعوا على عوراتها وطمعوا فيها؛ وعلم نور الدين بذلك فأسرع بتجهيز العساكر خوفا على مصر. ثم جاءته كتب شاور والعاضد؛ فقال نور الدين لأسد الدين شيركوه: خذ العساكر وتوجّه إليها؛ وقال لصلاح الدين: اخرج مع عمّك أسد الدين؛ فامتنع وقال: يا مولاى، يكفى ما لقينا من الشدائد فى تلك المرّة.
فقال نور الدين: لا بدّ من خروجك؛ فما أمكنه مخالفة مخدومه نور الدين المذكور؛ فخرج مع عمّه، وساروا إلى مصر. وبلغ الفرنج ذلك فرجعوا عن مصر إلى الساحل.
وقيل: إن شاور أعطاهم مائة ألف دينار. وجاء أسد الدين بمن معه من العساكر(5/350)
ونزل على باب القاهرة. فاستدعاه العاضد إلى القصر وخلع عليه فى الإيوان خلعة الوزارة ولقّبه بالمنصور، وسرّ أهل مصر بذلك. وقيل: إنّه لم يستدعه، وإنّما بعث إليه بالخلع والأموال والإقامات؛ وكذلك إلى الأمراء الذين كانوا معه. وأقام أسد الدين مكانه وأرباب الدولة يتردّدون إلى خدمته فى كلّ يوم، ولم يقدر شاور على منعهم لكثرة العساكر ولكون العاضد مائلا إلى أسد الدين المذكور. فكاتب شاور أيضا الفرنج واستدعاهم وقال لهم: يكون مجيئكم إلى دمياط «1» فى البحر والبرّ. فبلغ ذلك أعيان الدولة بمصر، فاجتمعوا عند الملك المنصور أسد الدين شيركوه وقالوا له:
شاور فساد العباد والبلاد، وقد كاتب الفرنج، وهو يكون سبب هلاك الإسلام. ثم إنّ شاور خاف لما تأخّر وصول الفرنج، فعمل فى عمل دعوة لأسد الدين المذكور ولأمرائه ويقبض عليهم. فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرّفنّ أسد الدين. فقال له أبوه شاور: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلنّ كلّنا. فقال له ابنه الكامل: لأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج.
وكان شاور قد شرط لأسد الدين شيركوه ثلث أموال البلاد؛ فأرسل أسد الدين يطلب منه المال؛ فجعل شاور يتعلّل ويماطل وينتظر وصول الفرنج؛ فابتدره أسد الدين وقتله.
واختلفوا فى قتله على أقوال، أحدها أنّ الأمراء اتّفقوا على قتله لمّا علموا مكاتبته للفرنج، وأنّ أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرج إليه فى كلّ يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادة وزراء مصر.- قلت: وعلى هذا القول يكون قول من قال: إنّ الغاضد خلع على أسد الدين شيركوه بالوزارة ولقّبه بالمنصور فى أوّل قدومه إلى مصر ليس بالقوىّ، ولعلّ ذلك يكون بعد قتل شاور، على ما سيأتى(5/351)
ذكره.- فجاء شاور ليعود أسد الدين فقبض عليه وقتله. والثانى أنّ صلاح الدين وجرديك اتّفقا على قتله وأخبرا أسد الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن فى بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا عن ذلك إلى أن اتّفق أنّ أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وأقام عنده، فجاء شاور على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو فى الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى الأرض فقتلاه. والثالث أنّهما لمّا جذباه لم يمكنهما قتله بغير أمر أسد الدين فسحبه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليجيّشوا عليهم.
وعلم أسد الدين فعاد مسرعا، وجاء رسول من العاضد برقعة يطلب من أسد الدين رأس شاور، وتتابعت الرّسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع الفقيه عيسى «1» يقول: لك فى رقبتى أيمان، وأنا خائف عليك من الذي عندى فلا تجىء. فلم يلتفت وجاء على العادة فوقع ما ذكرناه. ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجزر رأسه، وبعث أسد الدين برأسه إلى العاضد فسرّبه. ثم طلب العاضد ولد شاور الملك الكامل وقتله فى الدّهليز وقتل أخاه، واستوزر أسد الدين شيركوه، وذلك فى شهر ربيع الأوّل. وهذا الذي أشرنا إليه من أنّ ولاية أسد الدين للوزر كانت بعد قتل شاور.
ولما قتل شاور وابنه الكامل، بعث العاضد منشورا بالوزارة لأسد الدين بخطّ القاضى الفاضل وعليه خطّ العاضد بما صورته:(5/352)
«هذا «1» عهد لم يعهد إلى وزير بمثله، فتقلّد ما أراك الله أهلا بحمله؛ وخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة، واسحب ذيل الافتخار بخدمتك بيت النبوّة؛ والزم حقّ الإمامة تجد إلى الفوز سبيلا، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا» . ثم أرسل العاضد نسخة الأيمان إلى أسد الدين، وحلف كلّ واحد منهما لصاحبه على الوفاء والطاعة والصفاء. فتصرّف أسد الدين شهرين ومات. ولمّا احتضر أوصى إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب، فولّى صلاح الدين الوزارة ولقّب بالملك الناصر، على ما يأتى ذكر ذلك كلّه فى ترجمتهما بأوضح من ذلك.
ولمّا وزر صلاح الدين اختلف عليه جماعة من الأمراء عقيب وفاة أسد الدين.
وبلغ الملك العادل نور الدين اتّفاق الأمراء عليه بمصر؛ فقال له توران «2» شاه بن أيّوب الذي لقّب بعد ذلك بالملك المعظّم، وكان أسنّ من صلاح الدين: يا مولانا، أريد أن أسير إلى أخى (يعنى إلى صلاح الدين) فقال له نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وترى يوسف أخاك بعين أنّه كان يقف فى خدمتك وأنت قاعد فلا تسر، فإنّك تفسد العباد والبلاد فتحوجنى إلى عقوبتك بما تستحقّه، وإن كنت تسير إليه وترى أنّه قائم مقامى وتخدمه كما تخدمنى، وإلّا فلا «3» تذهب إليه. فقال:(5/353)
يا مولانا، سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة والطاعة. وسار إلى مصر فتلقّاه صلاح الدين من بلبيس وخدمه وقدّم له المال والخيل والتّحف، وأقام عنده على أحسن حال، وفعل ما ضمن لنور الدين من خدمة أخيه صلاح الدين، وقوى أمر صلاح الدين به واستقام أمره. كلّ ذلك والخطبة باسم العاضد فى هذه السنين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، على ما يأتى ذكره فى ترجمة السلطان صلاح الدين.
ولمّا تمّ أمر صلاح الدين بمصر خاف العاضد عاقبة أمره. وكان للعاضد خادم يقال له مؤتمن الخلافة، وكان مقدّم السودان والخدم والمشار إليه بالقصر.
فأمره العاضد بقتال الترك والغزّ. واتّفق العسكر المصرىّ مع الخادم وثاروا على الترك فقتلوا منهم جماعة. فركب صلاح الدين وشمس الدولة ودخلا إلى باب القصر، وتقاتلا مع مؤتمن الخلافة، وأبلى شمس الدولة بلاء حسنا، وقتل الخادم مؤتمن الخلافة وجماعة كبيرة من السودان بعد حروب وقتال عظيم. فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتّب عليه ويقول له: فأين أيماناتكم! هذا الخادم جاهل فعل ما فعل بغير أمرنا فقال صلاح الدين: نحن على الأيمان والعهود ما نتغيّر، وما قتلنا إلّا من قصد قتلنا. وقول العاضد: أين الأيمان والعهود يعنى بذلك أنّه لمّا مات أسد الدين شيركوه وأوصى لابن أخيه صلاح الدين المذكور اختلف جماعة من أمراء نور الدين الذين كانوا قدموا مع أسد الدين على صلاح الدين، ورام كلّ واحد منهم الأمر لنفسه استصغارا بصلاح الدين، وهم: عين «1» الدين الياروقى رأس الأتراك، وسيف «2» الدين المشطوب ملك الأكراد، وشهاب الدين محمود صاحب(5/354)
حارم «1» وهو خال صلاح الدين، وجماعة أخر؛ فبادر العاضد واستدعى صلاح الدين وخلع عليه فى الإيوان خلعة الوزارة وكتب عهده ولقّبه الملك الناصر. وقيل:
الذي لقّبه بالملك الناصر إنّما هو الخليفة المستضىء العباسىّ بعد ذلك.
ولمّا ولى الوزارة شرع الفقيه عيسى فى تفريق البعض عن بعض، وأصلح الأمور لصلاح الدين، على ما يأتى فى ترجمة صلاح الدين بعد ذلك. وبذل صلاح الدين الأموال وأحسن لجميع العسكر الشامىّ والمصرىّ فأحبّوه وأطاعوه، وأقام نائبا عن نور الدين، يدعى لنور الدين على منابر مصر بعد الخليفة العاضد، ولصلاح الدين بعدهما. واستمرّ صلاح الدين على ذلك والخطبة للعاضد، وقد ضعف أمره وقوى أمر صلاح الدين، حتّى كانت أوّل سنة سبع وستين وخمسمائة، فكتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة لبنى عبيد، وأن يخطب بمصر لبنى العبّاس. فخاف صلاح الدين من أهل مصر ألّا يجيبوه ولم يسعه مخالفة أمر نور الدين، وقال: ربّما وقعت فتنة لا تتدارك؛ فكتب الجواب إلى نور الدين يخبره بذلك، فلم يسمع منه نور الدين وخشّن عليه فى القول، وألزمه إلزاما لا محيد عنه.
ومرض العاضد، فجمع صلاح الدين الأمراء والأعيان واستشارهم فى أمر نور الدين بقطع الخطبة للعاضد والدعاء لبنى العبّاس، فمنهم من أجاب ومنهم من امتنع؛ وقالوا: هذا باب فتنة وما يفوت ذلك، والجميع أمراء نور الدين، فعاودوا نور الدين فلم يلتفت وأرسل إلى صلاح الدين يستحثّه فى ذلك؛ فأقامها والعاضد مريض. واختلفوا فى الخطيب فقيل: إنّه رجل من الأعاجم يسمّى الأمير العالم، وقيل: هو رجل من أهل بعلبكّ يقال له محمد بن المحسّن بن أبى المضاء «2» البعلبكّىّ(5/355)
المقدّم ذكره الذي توجّه فى الرسلية من قبل صلاح الدين إلى بغداد، وقيل: إنّه كان رجلا شريفا عجميا، ورد من العراق أيام الوزير الملك الصالح طلائع بن رزّيك.
قلت: فأشبه أمر الفاطميّين فى هذا الأمر أمر العباسيين لمّا انتقلت الدعوة منهم إلى الفاطميّين بنى عبيد؛ فإنّه أوّل من خطب للمعزّ معدّ أوّل خلفاء مصر من بنى عبيد الخطيب عمر بن عبد السميع العبّاسىّ الخطيب بجامع عمرو وجامع أحمد ابن طولون، وهذا من باب المكافأة والمجازاة (أعنى أنّ الذي خطب لبنى عبيد كان عبّاسيا والذي خطب لبنى العبّاس الآن علوىّ) . انتهى أمر الفاطميّين. وأقيمت الخطبة لبنى العبّاس فى أوّل المحرّم، والعاضد مريض، فأخفى عنه أهله ذلك؛ وقيل:
بلغه، فأرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فخاف أن يكون خديعة فلم يتوجّه إليه.
ومات العاضد فى يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، وانقضت دولة الفاطميّين من مصر بموته. وندم صلاح الدين على قطع خطبته، وقال: ليتنى صبرت حتّى يموت. ثمّ كتب صلاح الدين يخبر الملك العادل نور الدين بإقامة الدعوة العبّاسيّة بمصر. فكتب نور الدين كتابا إلى بغداد من إنشاء العماد الكاتب الأصبهانىّ، وفيه:
[الخفيف]
قد خطبنا للمستضىء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
ولدينا تضاعفت نعم اللّ ... هـ وجلّت عن كلّ عدّ وحصر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الهمام الأغرّ
هو فتح بكر ودون البرايا ... خصّنا الله بافتراع «1» البكر(5/356)
وهى أطول من ذلك. وصفا الوقت لصلاح الدين وسمى السلطان، وصار يخطب باسمه على منابر مصر بعد الخليفة العبّاسىّ والملك العادل نور الدين محمود.
وكان ابتداء مرض العاضد من أواخر ذى الحجة سنة ست وستين وخمسمائة. فلمّا كان رابع المحرّم سنة سبع وستين جلس العاضد فى قصره بعد الإرجاف بأنّه أثخن فى مرضه، فشوهد وهو على ما حقّق الإرجاف من ضعف القوى وتخاذل الأعضاء وظهور الحمّى. وقيل: إنّ الحمّى فشت بأعضائه، وأمسك طبيبه المعروف بابن السديد «1» عن الحضور إليه، وامتنع من مداواته وخدله، مساعدة عليه للزمان وميلا مع الأيام. ثم خطب فى سابع المحرّم باسم الخليفة المستضىء بالله العبّاسىّ وصرّح باسمه ولقبه وكنيته بمصر، حسب ما تقدم ذكره. فمات العاضد بعد ذلك بثلاثة أيام فى يوم الاثنين يوم عاشوراء. وكان لموته بمصر يوم عظيم إلى الغاية، وعظم مصابه على المصريّين إلى الغاية، ووجدوا عليه وجدا عظيما لا سيّما الرافضة؛ فإنّ نفوسهم كادت تزهق حزنا لانقضاء دولة الرافضة من ديار مصر وأعمالها. وقد تقدّم التعريف بأحوال العاضد فى أوّل ترجمته من عدة أقوال، فلا حاجة لتكرار ذلك فى هذا المحل.(5/357)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 556]
السنة الأولى من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ستّ وخمسين وخمسمائة.
فيها توفى محمود بن نعمة الشيخ أبو الثناء الشّيرازىّ الشاعر المشهور. كان أديبا فاضلا بارعا. ومن شعره يعارض قول ابن سكّرة فى قوله:
[البسيط]
جاء الشتاء وعندى من حوائجه ... سبع إذا القطر «1» عن حاجاتنا حبسا
كيس وكنّ وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكسّ ناعم وكسا
فقال الشّيرازىّ:
[الطويل]
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هى إلّا فرد كاف بلا مرا
إذا صحّ كاف الكيس فالكلّ حاصل ... لديك «2» وكلّ الصيد يوجد فى الفرا
ولغيره فى المعنى:
[الوافر]
وكافات الشتاء تعدّ سبعا ... وما لى طاقة بلقاء سبع
إذا ظفرت بكاف الكيس كفى ... ظفرت بمفرد يأتى بجمع
وأمّا ما يشبه قول ابن سكّرة فكثير. من ذلك ما قاله ابن قزل:
[البسيط]
عجّل إلىّ فعندى سبعة كملت ... وليس فيها من اللّذات إعواز
طار وطبل وطنبور وطاس طلا ... وطفلة وطباهيج «3» وطنّاز «4»(5/358)
قلت: لم يحك وفاته «1» الشنب. وأكثر الصّفدىّ فى المعنى فقال:
[البسيط]
إن قدّر الله لى بالعمر واجتمعت ... سبع فما أنا فى اللّذات مغبون
قصر وقدر وقوّاد وقحبته ... وقهوة وقناديل وقانون
وله أيضا:
[الطويل]
ثمانية إن يسمح الدهر لى بها ... فمالى عليه بعد ذلك مطلوب
مقام ومشروب ومزج ومأكل ... وملهى ومشموم ومال ومحبوب
وللّسراج «2» الورّاق فى هذا المعنى أيضا- وهو عندى أقربهم لقول ابن سكّرة-:
[البسيط]
عندى فديتك لذّات ثمانية ... أنفى بها الحزن إن وافى وإن وردا
راح وروح وريحان وريق رشا ... ورفرف ورياض ناعم وردا
ولغيره فى المعنى:
[البسيط]
إذا بلغت من الدّنيا ولذّتها ... سبعا فإنّى فى اللذات سلطان
خمر وخود وخاتون وخاتمها ... وخضرة وخلاعات وخلّان
وقد خرجنا عن المقصود فى الاستطراد فى معنى هذين البيتين. ولنعد لما نحن بصدده.
وفيها كانت مقتلة وزير العاضد الملك الصالح طلائع بن رزّيك الأرمنىّ أبى الغارات، أقام وزيرا سبع سنين. وقد تقدّم ذكر طلائع هذا فى ترجمة جماعة من خلفاء مصر: الحافظ والفائز والعاضد، وكيف كان قدومه إلى مصر وكيف قتل.(5/359)
وكان ملكا جوادا ممدّحا شاعرا بليغا. ومن شعره من جملة أبيات، وكان قد خرج من الحمّام فقال:
[الخفيف]
نحن فى غفلة ونوّم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد «1» دخلنا الحمّام عاما ودهرا ... ليت شعرى متى يكون الحمام
فقتل بعد قوله بثلاثة أيام. ومن شعره أيضا إلى صديق له بالشام:
[البسيط]
أحباب قلبى إن شطّ المزار بكم ... فأنتم فى صميم القلب سكّان
وإن رجعتم إلى الأوطان إنّ لكم ... صدورنا عوض الأوطان أوطان
جاورتم غيرنا لمّا نأت بكم ... دار وأنتم لنا بالودّ جيران
فكيف ننساكم يوما لبعدكم ... عنا وأشخصكم للعين إنسان
وفيها توفّى القاضى الأعزّ أبو البركات بن أبى جرادة، أخو القاضى ثقة الملك الحسن بن علىّ بن أبى جرادة. كان أبو البركات هذا أمينا على خزانة الملك العادل نور الدين الشهيد، وكان فاضلا بليغا. كتب إلى أخيه بمصر قصيدة منها:
[الطويل]
أحباب قلبى والذين أودّهم ... وأشتاقهم فى كلّ صبح وغيهب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى الإشارة «2» ، قال: وفيها توفّى أبو حكيم إبراهيم بن دينار النّهروانىّ الحنبلىّ الزاهد. والملك الصالح طلائع بن رزّيك الأرمنىّ الرافضىّ.(5/360)
وأبو الفتح عبد الوهاب بن محمد بن الحسين بن الصابونىّ الخفّاف. وأبو محمد محمد ابن أحمد بن عبد الكريم التميمىّ بن المادح «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 557]
السنة الثانية من ولاية العاضد على مصر وهى سنة سبع وخمسين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسين بن علىّ بن القاسم بن المظفّر قاضى القضاة أبو علىّ الشّهرزورىّ قاضى الموصل. كان عظيم الشأن عالما فاضلا عفيفا، رحمه الله.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد عدىّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان ابن الحسن بن مروان بن الحكم بن مروان، القدوة شرف الدين أبو الفضائل الأموىّ الهكّارىّ، استوطن ليلش «2» من جبل الهكّاريّة «3» إلى أن مات بها فى سنة ثمان «4» ، وقيل سنة سبع وخمسين وخمسمائة، ودفن بزاويته؛ وقبره بها ظاهر يزار. وكان فقيها عالما عابدا فصيحا متواضعا حسن الأخلاق مع كثرة الهيبة والوقار، وهو أحد كبار(5/361)
مشايخ الطريقة، وأحد العلماء الأعلام فيها. سلك فى المجاهدة طريقا صعبا بعيدا.
وكان القطب محيى الدين عبد القادر ينوّه بذكره ويثنى عليه كثيرا، وشهد له بالسلطنة (يعنى على الأولياء) ، وقال: لو كانت النبوّة تنال بالمجاهدة لنا لها الشيخ عدىّ ابن مسافر. وكان فى أوّل أمره فى الجبال والصحارى مجرّدا يأخذ نفسه بأنواع المجاهدات مدّة سنين، وكانت الحيّات والسباع تألفه، ثم عاد وسكن بزاويته.
وتلمذ له خلق كثير من الأولياء، وتخرّج بصحبته غير واحد من ذوى الأحوال.
وكان له كلام على لسان أهل الطريقة فى توحيد البارئ عظيم. ومناقبه كثيرة يضيق هذا المحلّ عن استيعابها، رحمه الله.
الذي ذكرهم الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو يعلى حمزة بن أحمد [بن فارس «1» ] بن كروّس السلمىّ الدمشقىّ. والشيخ عدىّ بن مسافر الهكّارىّ الزاهد العارف، يوم عاشوراء. وأبو المظفّر هبة الله بن أحمد الشّبلىّ القصّار فى سلخ العام.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 558]
السنة الثالثة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد إلى قتال قليج «2» أرسلان ابن السلطان مسعود صاحب بلاد الروم، ووقع له معه أمور وحروب.(5/362)
وفيها ظهر شاور بن مجير السعدىّ وجمع جمعا كثيرا وقتل وزير العاضد صاحب الترجمة رزّيك بن طلائع بن رزّيك، وتولّى الوزارة عوضه.
وفيها توفّى عبد المؤمن بن علىّ أبو محمد القيسىّ الكومىّ الذي قام بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدىّ. قال ابن خلّكان: رأيت فى بعض تواريخ الغرب أن ابن تومرت كان قد ظفر بكتاب يقال له الجفر، وفيه ما يكون على يده. فأقام ابن تومرت مدّه يتطلّبه حتى وجده وصحبه وهو إذ ذاك غلام، وكان يتفرّس فيه النجابة، وينشد إذا أبصره:
[البسيط]
تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلّنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة ... والنفس واسعة والوجه منبسط
وكان يقول ابن تومرت لأصحابه: صاحبكم هذا غلّاب الدّول. ولم يصح عنه أنّه استخلفه، بل راعى أصحابه فى تقديمه [إشارته «1» ] ، فتمّ له الأمر. وأوّل ما أخذ من البلاد وهران ثم تلمسان ثم فاس ثم مرّاكش بعد أن حاصرها أحد عشر شهرا، وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، واستوثق له الأمر وامتدّ ملكه إلى الغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقيّة، وتسمّى أمير المؤمنين. وقصدته الشعراء وامتدحته.
ذكر العماد الكاتب الأصبهانىّ فى «كتاب الخريدة» أنّ الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبى العبّاس لمّا أنشده:
[البسيط]
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على
أشار إليه بأن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار. وكانت وفاة عبد المؤمن المذكور فى العشر الأخير من جمادى الآخرة، وكانت مدّة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة(5/363)
وأشهرا. والكومىّ المنسوب إليها هى كومية «1» قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان.
وفيها توفّى محمد بن عبد الكريم أبو عبد الله سديد الدولة بن الأنبارى كاتب الإنشاء بديوان الخليفة. أقام كاتبا به نيّفا وخمسين سنة، وناب فى الوزارة. وكان بينه وبين الحريرىّ صاحب المقامات مكاتبات ومراسلات.
وفيها توفّى يحيى بن سعيد النصرانىّ البغدادىّ أوحد زمانه فى الطّبّ والأدب، له ستون مقامة ضاهى بها مقامات الحريرىّ، وله شعر جيّد. من ذلك فى الشيب:
[الخفيف]
نفرت هند من طلائع شيبى ... واعترتها سآمة من وجوم
هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت رجوم النجوم
الذين ذكرهم الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة؛ قال: وفيها توفّى الزاهد أبو العبّاس أحمد بن محمد بن قدامة. وأبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمىّ بهمذان. وصاحب الغرب عبد المؤمن بن علىّ بن علوىّ القيسىّ التلمسانىّ فى جمادى الآخرة بمدينة سلا «2» .
والصاحب جمال الدين محمد بن علىّ الأصبهانىّ الملقّب بالجواد وزير الموصل.
أمر النيل فى هذه السنة الماء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.(5/364)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 559]
السنة الرابعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسن بن محمد بن الحسن الشيخ أبو المعالى الوزكانىّ الفقيه الشافعىّ- ووركان: بلد بنواحى قاشان- كان إماما فى فنون العلوم، عاش نيّفا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محمد «1» بن علىّ بن [أبى «2» ] المنصور الوزير أبو جعفر جمال الدين الأصبهانىّ وزير الأتابك زنكى وسيف الدين غازى وقطب الدين مودود، وكان هو الحاكم على الدولة. وكان بينه وبين زين الدين كوجك مصافاة وعهود ومواثيق.
وكانت الموصل فى أيامه ملجأ لكلّ ملهوف. ولم يكن فى زمانه من يضاهيه ولا يقاربه فى الجود والنّوال؛ وكان كثير الصّلات والصدقات، بنى مسجد الخيف بمنى وغرم عليه أموالا عظيمة، وجدّد الحجر إلى جانب الكعبة، وزخرف البيت بالذهب، وبنى أبواب الحرم وشيّدها ورفع أعتابها صيانة للحرم؛ وبنى المسجد الذي على عرفة والدرج الذي فيها، وأجرى الماء إلى عرفات، وعمل البرك والمصانع؛ وبنى على مدينة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سورا، وكانت الأعراب تنهبها، وكان الخطيب يقول على المنبر: اللهمّ «3» صن من صان حرم حريم نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت صدقاته تسير إلى المشرق والمغرب، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علىّ بن عيسى الموصلىّ المعروف بابن الدهّان وبالحمصىّ أيضا، الفقيه الشافعى المنعوت بالمهذّب الشاعر المشهور.(5/365)
كان فصيحا فقيها فاضلا أديبا شاعرا، غلب عليه الشعر واشتهر به، وله ديوان صغير وكلّه جيّد، ورحل البلاد ومدح بمصر الوزير الصالح طلائع بن رزّيك وغيره. ومن شعره فى غلام لسبته نحلة فى شفته:
[الرمل]
بأبى من لسبته نحلة ... آلمت أكرم شىء وأجلّ
أثّرت لسبتها فى شفة ... ما براها الله إلّا للقبل
حسبت أنّ بفيه بيتها ... إذ رأت ريقته مثل العسل
ومن شعره أيضا:
[الكامل]
قالوا سلا، صدقوا، عن السّ ... لّوان ليس عن الحبيب
قالوا فلم ترك الزيا ... رة قلت من خوف الرقيب
قالوا فكيف يعيش مع ... هذا فقلت من العجيب
الذين ذكرهم الذهبىّ [وفاتهم] فى هذه السنة، قال: فيها توفّى أبو سعد «1» عبد الوهاب بن الحسن الكرمانىّ آخر من روى عن ابن خلف وغيره. والسيد أبو الحسن علىّ بن حمزة العلوىّ الموسوىّ بهراة، وكان مسندها وله إحدى وتسعون سنة. وأبو الخير محمد بن أحمد بن محمد الباغبان «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع. وزاد بعد طلوع السّماك «3» بعدّة أيام.(5/366)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 560]
السنة الخامسة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ستين وخمسمائة.
فيها فتح الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى الشهيد بانياس عنوة، وكان معه أخوه نصرة «1» الدين، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه؛ فقال له أخوه نور الدين:
لو كشف عما أعدّ لك من الأجر لتمنّيت ذهاب الأخرى، فحمد الله على ذلك.
وفيها فوّض الملك العادل شحنجية «2» دمشق إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأظهر صلاح الدين السياسة وهذّب الأمور، وذلك فى حياة والده وعمّه أسد الدين شيركوه.
وفيها توفّى أمير أميران نصرة الدين بن زنكى بن آق سنقر التركىّ أخو الملك العادل نور الدين المقدّم ذكره فى ذهاب عينه فى فتح بانياس. وكان أميرا شجاعا مقداما عزيزا على أخيه نور الدين محمود، وعظم مصابه عليه؛ رحمه الله.
وفيها توفّى حسّان بن تميم بن نصر الشيخ أبو الندى الدمشقىّ المحدّث، سمع الحديث وحجّ ومات فى شهر رجب، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد محمد بن إبراهيم الكيزانىّ «3» أبو عبد الله الواعظ المصرىّ.
قيل إنه كان يقول: إنّ أفعال العباد قديمة. ولمّا مات دفن عند قبر الإمام الشافعىّ بالقرافة الصغرى، واستمرّ هناك إلى أن نبشه الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ فى أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وأخرجه، فدفن بمكان آخر فى القرافة.(5/367)
وقبره معروف يقصد للزيارة. قيل إنّ الخبوشانىّ لمّا أراد نبشه قال: لا يتّفق مجاورة زنديق إلى صدّيق. ثم نبشه قال صاحب المرآة وغيره: كان (يعنى الكيزانىّ) زاهدا عابدا قنوعا من الدنيا باليسير. وله شعر جيّد، وديوانه مشهور. ومن شعره:
[الرمل]
اصرفوا عنّى طبيبى ... ودعونى وحبيبى
عللّوا قلبى بذكرا ... هـ فقد زاد لهيبى
طاب هتكى فى هواه ... بين واش ورقيب
ما أبالى بفوات النّ ... فس ما دام نصيبى
ليس من لام وإن أط ... نب فيه بمصيب (1)
جسدى راض بسقمى ... وجفونى بنحيبى
ومن شعره أيضا قوله من أبيات:
[الكامل]
يا من يتيه على الزمان بحسنه ... اعطف على الصّبّ المشوق التائه
أضحى يخاف على احتراق فؤاده ... أسفا لأنّك منه فى سودائه
قلت: وللكيزانىّ كلام فى علم الطريق ولسان حلو فى الوعظ، وكان للناس فيه محبّة ولكلامه تأثير فى القلوب؛ ولا يلتفت لقول الخبوشانىّ فيه؛ لأنّهما أهل عصر واحد، وتهوّر الخبوشانىّ معروف، كما سيأتى ذكره فى وفاته إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن عبّاس الشيخ أبو عبد الله الحرّانىّ. كان شهد عند القاضى أبى الحسن الدامغانىّ الحنفىّ، وعاش حتّى لم يبق من شهوده غيره. وسمع الحديث، وصنّف كتابا سمّاه «روض الأدباء» . قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن(5/368)
ابن الجوزىّ فى تاريخه: زرته يوما وأطلت الجلوس عنده؛ فقلت له: ثقّلت عليك. فأنشدتى- رحمه الله-:
[الوافر]
لئن سمّيت «1» إبراما وثقلا ... زيارات رفعت بهنّ قدرى
فما أبرمت إلّا حبل ودّى ... ولا ثقّلت إلّا ظهر شكرى
وكانت وفاته فى جمادى الاخرة.
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد «2» بن حسن الشيبانىّ- قد رفع نسبه صاحب مرآة الزمان إلى عدنان- هو الوزير عون الدين أبو المظفّر بن هبيرة.
ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة بقرية الدّور «3» من أعمال العراق، وقرأ بالروايات وسمع الحديث الكثير، وقرأ النحو واللغة والعروض، وتفقّه على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل رضى الله عنه، وصنّف الكتب الحسان. وكان قبل وزارته فقيرا؛ فلما أضرّ الفقر بحاله تعرّض للخدمة، فجعله الخليفة المقتفى مشرفا فى المخزن، ثم صار صاحب الديوان ثم استوزره، فسار فى الوزارة أجمل سيرة. وكان دينّا جوادا كريما. دخل عليه الحيص بيص الشاعر مرّة؛ فقال له ابن هبيرة: قد نظمت بيتين، تقدر أن تعزّزهما بثالث؟ قال: وما هما؟ قال:
[البسيط]
زار الخيال بخيلا مثل مرسله ... ما شاقنى منه إلّا الضّمّ والقبل
ما زارنى قطّ إلّا كى يوافقنى ... على الرّقاد فينفيه ويرتحل
فقال الحيص بيص من غير رويّة:
وما درى أنّ نومى حيلة نصبت ... لوصله حين أعيا اليقظة الحيل(5/369)
فأعجبه وأجازه. وكانت وفاة ابن هبيرة فى جمادى الأولى فجأة، وله إحدى وستون سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس أحمد ابن عبد الله [بن أحمد «1» بن هشام] بن الحطيئة الفاسىّ الناسخ المقرئ بمصر.
وأبو النّدى حسّان بن تميم الزيّات. والوزير أبو المظفّر سعيد بن سهل الفلكىّ فى شوّال. وأبو الحسن «2» علىّ بن أحمد اللّبّاد بأصبهان. وعلىّ بن أحمد بن مقاتل السّوسىّ الشّاغورىّ «3» . وأبو القاسم عمر بن محمد بن البزرىّ الشافعىّ فقيه الجزيرة.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن العبّاس الحرّانىّ العدل ببغداد. والقاضى أبو يعلى الصغير شيخ الحنابلة محمد بن أبى خازم ابن القاضى أبى يعلى بن الفرّاء. والشريف أبو طالب «4» محمد بن محمد بن أبى زيد العلوىّ البصرىّ النقيب. والوزير عون الدّين يحيى بن محمد بن هبيرة الشيبانىّ فى جمادى الأولى فجأة وله إحدى وستون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 561]
السنة السادسة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة إحدى وستين وخمسمائة.(5/370)
فيها هرب عزّ الدين محمد بن الوزير عون الدّين بن هبيرة من دار الخلافة، وكان صودر بعد موت والده.
وفيها توفّى عبد العزيز بن الحسين بن الحبّاب أبو المعالى القاضى الجليس السعدىّ، كان يجالس خلفاء مصر من بنى عبيد فسمّى الجليس. وكان أديبا مترسّلا شاعرا. ومن شعره وأبدع:
[الطويل]
ومن عجيب أنّ الصوارم فى الوغى ... تحيض بأيدى القوم وهى ذكور
وأعجب من ذا أنّها فى أكفّهم ... تأجّج نارا والأكفّ بحور
وفيها توفّى شيخ الإسلام تاج العارفين محيى الدين أبو محمد عبد القادر بن أبى صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله ابن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن أبى محمد المثنّى بن الحسن بن علىّ ابن أبى طالب الهاشمىّ القرشىّ العلوىّ الجيلىّ الحنبلىّ السيد الشريف الصالح المشهور المعروف بسبط أبى عبد الله الصّومعىّ الزاهد. وكان يعرف بجيلان «1» . وأمّه أمّ الخير أمة الجبّار فاطمة بنت أبى عبد الله الصّومعىّ. مولده بجيلان فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. كان شيخ العراق صاحب حال ومقال، عالما عاملا قطب الوجود، إمام أهل الطريقة، قدوة المشايخ فى زمانه بلا مدافعة. ومناقبه وشهرته أشهر من أن تذكر. كان ممّن جمع بين العلم والعمل، أفتى ودرّس ووعظ سنين، ونظم ونثر؛ وكان محقّقا، صاحب لسان فى التحقيق، وبيان فى الطريق. وهو أحد المشايخ الذين طنّ ذكرهم فى الشرق والغرب. أعاد الله علينا من بركاته وبركات أسلافه الطاهرين.(5/371)
وفيها توفّى محمد بن حيدر بن عبد الله الشيخ أبو طاهر البغدادىّ الأديب الشاعر المعروف بابن شعبان. ومن شعره من أوّل قصيدة:
[الطويل]
خليلىّ هذا آخر العهد منكما ... ومنّى فهل من موعذ نستجدّه
وفيها توفّى محمد بن يحيى بن محمد بن هبيرة أبو عبد الله عزّ الدّين ابن الوزير عون الدين. كان فاضلا كبير الشأن عظيم القدر. ناب عن أبيه فى الوزارة مدّة، ثم قبض عليه بعد موت أبيه وصودر وحبس، ثم هرب من محبسه خوفا على نفسه فلم يستتر أمره؛ وأخذ وقتل خنقا. وكان من بيت علم وفضل ورياسة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو طاهر إبراهيم ابن الحسن بن الحصين الشافعىّ بدمشق. وأبو عبد الله الحسن بن العبّاس الرّستمىّ الشافعىّ فى صفر وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو محمد عبد الله بن رفاعة بن غدير السّعدىّ الفرضىّ فى ذى القعدة وله أربع وتسعون سنة. والحافظ أبو محمد عبد الله ابن محمد الأشيرىّ- وأشير «1» : بين حمص وبعلبكّ- وأبو طالب عبد الرحمن بن الحسن بن العجمىّ بحلب. والقدوة الشيخ عبد القادر الجيلى شيخ العراق وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإحدى عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.(5/372)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 562]
السنة السابعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
فيها تزوّج الخليفة المستنجد بالله بابنة عمّه أبى نصر بن المستظهر، ودخل بها فى شهر رجب ليلة الدعوة التى كان يعملها فى كلّ سنة للصوفيّة وغيرهم؛ وغنّى المغنّى:
[الطويل]
يقول رجال الحىّ تطمع أن ترى ... محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهّرتها بالمدامع
وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها فى خروق المسامع
وكان مع الصوفية رجل من أهل أصبهان، فقام قائما وجعل يقول للمغنّى:
«أى خواجا كفت «1» » وهو يكرّر ذلك، والمغنّى يعيد الأبيات حتى وقع الرجل ميتا؛ فصار ذلك الفرح مأتما؛ وبكى الخليفة والصوفيّة ولا زالوا يتراقصون حوله إلى الصباح، فحملوه إلى الشّونيزيّة فدفنوه بها، وكان له مشهد عظيم.
وفيها عاد الأمير أسد الدين شيركوه بعساكر دمشق إلى مصر، وهى المرّة الثانية. وقد تقدّم ذلك كلّه فى ترجمة العاضد.
وفيها احترقت اللّبّادون «2» وباب الساعات بدمشق حريقا عظيما صار تاريخا.
وسببه أنّ بعض الطبّاخين أو قد نارا عظيمة تحت قدر هريسة ونام، فاحترقت دكّانه ولعبت النار فى اللّبّادين وغيرها إلى أن عظم الأمر.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن الزّبير القاضى الرشيد. كان أصله من أسوان وسكن مصر، وكان من شعراء شاور بن مجير السّعدىّ، وله فيه مدائح، إلّا أنّه لم ينج من شرّ(5/373)
شاور، اتّهمه بمكاتبة أسد الدين شيركوه فقتله. وكان فاضلا شاعرا، وله التصانيف المفيدة، من ذلك كتاب «جنّات «1» الحنان ورياض الأذهان» ذيّل به على اليتيمة.
ومن شعره:
[الطويل]
تواطا على ظلمى الأنام بأسرهم ... وأظلم من لاقيت أهلى وجيرانى
لكل امرئ شيطان جنّ يكيده ... بسوء ولى دون الورى ألف شيطان
وفيها توفّى يحيى بن عبد الله بن القاسم القاضى تاج الدين الشّهرز ورىّ. كان إماما فاضلا شاعرا فصيحا، مات بالموصل. ومن شعره يوازن «2» قصيدة مهيار التى يقول فيها:
[المتقارب]
وعطّل «3» كئوسك إلّا الكبار ... تجد للصغار أناسا صغارا
وفيها توفّى محمد بن الحسن [بن محمد «4» ] بن على العلّامة أبو المعالى بن حمدون الكاتب، الملقّب كافى الكفاة، بهاء الدين البغدادىّ. كان فاضلا ذا معرفة تامّة بالأدب والكتابة من بيت مشهور بالرياسة والفضل هو وأبوه وأخواه أبو نصر وأبو المظفّر. وأبو المعالى هذا هو مصنّف كتاب «التذكرة «5» » وهو من أحسن التصانيف، يشتمل على التاريخ(5/374)
والأدب والأشعار، وقفت عليه وهو فى غاية الحسن. وكان ابن حمدون المذكور صاحب ديوان الخليفة المستنجد العباسىّ، وروى عن المستنجد قول أبى حفص «1» الشّطرنجىّ فى جارية حولاء، وهو:
[الطويل]
حمدت إلهى إذ بليت بحبّها ... وبى «2» حول يغنى عن النظر الشّزر
نظرت إليها والرقيب يخالنى ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
وقال ابن خلّكان: إنّه توفّى ببغداد فى يوم الأربعاء من شهر رجب سنة خمس «3» وسبعين وخمسمائة، بخلاف ما ذكرناه من قول أبى المظفّر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: فيها توفّى أبو البركات الخضر ابن شبل بن الحسين «4» بن عبد الواحد خطيب دمشق. والحافظ أبو سعد «5» عبد الكريم [بن محمد «6» ] بن منصور التميمىّ السّمعانىّ تاج»
الإسلام محدّث خراسان فى شهر ربيع الأوّل وله ست وخمسون سنة. وأبو عروبة عبد الهادى بن محمد بن عبد الله بن عمر بن مأمون السجستانىّ الزاهد. وجمال الأئمة بن الماسح أبو القاسم علىّ بن الحسن الكلابىّ الدمشقىّ فى ذى الحجّة. وأبو الحسن علىّ بن مهدىّ بن(5/375)
الهلال الطبيب. والعلّامة أبو شجاع عمر بن محمد البسطامىّ ثم البلخىّ. وأبو عاصم قيس بن محمد السّويقىّ المؤذّن. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت المصرىّ الكيزانىّ «1» الواعظ فى المحرّم. وأبو المعالى محمد بن محمد بن محمد فى شهر ربيع الآخر.
والمبارك بن المبارك بن صدقة السمسار. وأبو طالب المبارك بن خضير الصيرفىّ.
وأبو الفرج مسعود بن الحسن الثقفىّ فى رجب وله مائة سنة. وأبو القاسم هبة الله ابن الحسن الدقّاق «2» فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 563]
السنة الثامنة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
فيها أبيع الورد ببغداد مائة رطل بقيراط وحبّة.
وفيها زاد ظلم أبى جعفر بن البلدىّ وزير الخليفة، واستغاث أهل بغداد منه.
وفيها توفّى ظافر بن القاسم الأديب أبو منصور الجذامىّ الإسكندرىّ المعروف بالحدّاد الشاعر المشهور. كان فصيحا فاضلا بليغا. وشعره فى غاية الحسن. وهو صاحب القصيدة الذالية التى أوّلها:
[الكامل]
لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما سحّ وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحبّ يغزو قلبه ... حتّى وهى وتقطّعت أفلاذه
لم يبق فيه من الغرام بقيّة ... إلّا رسيس يحتويه جذاذه(5/376)
من كان يرغب فى السلامة فليكن ... أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنّك بالفتور فإنّه ... نظر يضرّ بقلبك استلذاذه
يأيّها الرّشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حبّ القلوب نفاذه
درّ يلوح بفيك من نظّامه ... خمر يجول عليه من نبّاذه
وقناة ذاك القدّ كيف تقوّمت ... وسنان ذاك اللّحظ ما فولاذه
رفقا بجسمك لا يذوب فإنّنى ... أخشى بأن يجفو عليه لاذه «1»
هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى أستاذه
تالله ما علقت محاسنك امرأ ... إلّا وعزّ على الورى استنقاذه
أغربت حبّك بالقلوب فأذعنت ... طوعا وقد أودى بها استحواذه
مالى أتيت الحبّ «2» من أبوابه ... جهدى فدام نفاره ولواذه
إيّاك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله وغنّيه شحّاذه
ومنها:
دالّية ابن دربد استهوى بها ... قوما غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرّقت ... طمعا بهم صرعاه أو جذاذه
ويحكى أنّ ابن ظفر أمير الإسكندريّة أحضره مرّة ليبرد له خاتما قد ضاق فى خنصره؛ فقال ظافر المذكور:
[السريع]
قصّر عن أوصافك العالم ... فاعترف «3» الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصره الخاتم(5/377)
وكانت وفاته فى هذه السنة. وقال ابن خلّكان: فى سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وفيها توفّى عبد الكريم «1» بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبّار الإمام الحافظ أبو سعيد بن السّمعانىّ «2» التميمىّ، مولده بمرو. وكان إماما فاضلا محدّثا فقيها. ذيّل على تاريخ أبى بكر الخطيب، ورحل إلى دمشق. قال ابن عساكر: ثمّ عاد من دمشق إلى بغداد فسمّع تاريخ الخطيب وذيّله، وعاد إلى خراسان وعبر النهر «3» ، وحدّث ببلخ وهراة. وصنّف كتابا سماه «فرط الغرام إلى ساكنى الشام» وأرسل به إلى دمشق وهو بخطّه فى ثمانية أجزاء تشتمل على أخبار وحكايات. ومات بمرو فى شهر ربيع الأوّل.
وفيها توفّى الأمير زين الدّين علىّ بن بكتكين بن مظفّر الدّين كوكبورى «4» ، المعروف كوجك «5» ، التركىّ. كان حاكما على الموصل وغيرها، وكان حسن السّيرة عادلا فى الرعيّة.
وكان أوّلا بخيلا مسيكا، ثمّ إنّه جاد فى آخر عمره، وبنى المدارس والقناطر والجسور.
وحكى أنّ بعض الجند جاءه بذنب فرس وقال له: مات فرسى، فأغطاه عوضه؛ وأخذ ذلك الذنب آخر وجاءه به وقال له: مات فرسى، فأعطاه عوضه؛ ولا زال يتداول الذنب اثنا عشر رجلا، وهو يعلم أنّه الأوّل ويعطيهم الخيل. فلمّا أعجزوه أنشد:
[الكامل]
ليس الغبىّ بسيّد فى قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابى
فعلموا أنّه علم فتركوه. ولما كبر سنّه سلّم البلاد إلى قطب الدين مودود، وقال له:.
إنّك لا تنتفع بى، فقد كبرت وضعفت قوّتى وخاننى سمعى وبصرى. وكان الأتابك(5/378)
زنكى قد أعطاه إربل «1» ، فمضى إليها وأقام بها حتّى مات فى ذى الحجّة. وكانت أيّامه على الموصل إحدى وعشرين سنة ونصفا. وملك بعده ابنه زين الدّين يوسف ابن علىّ بن مظفّر الدّين كوكبورى.
وفيها توفّى محمد بن عبد «2» الحميد أبو الفتح علاء الدّين الرازىّ «3» السّمرقندىّ صاحب «التعليقة» و «المعترض والمختلف» على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، رضى الله عنه. وكان إماما بارعا مفتنّا، كان من فرسان الكلام؛ قدم بغداد وناظر وبرع وفاق أهلها. وكان شحيحا بكلامه؛ فكانوا يوردون عليه أسئلة وهو عالم بأخوبتها، فيكاد ينقطع ولا يذكرها لشحّه ولئلّا تستفاد منه؛ وعلم ذلك منه علماء عصره. وقيل: إنّه تنسّك وترك المناظرة مع شهادة أهل عصره من العلماء له بالسّبق والفضيلة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى أحمد ابن عبد الغنى الباجسرائىّ «4» . والقاضى الرشيد أبو الحسين «5» [أحمد بن] علىّ بن الزّبير الأسوانى الكاتب بمصر. وأبو المظفّر أحمد بن محمد بن علىّ الكاغدىّ فى رجب ببغداد. وأبو بكر أحمد بن المقرّب الكرخىّ فى ذى الحجّة. وأبو المناقب حيدرة بن عمر بن إبراهيم العلوىّ الزّيدىّ فى ذى الحجّة بالكوفة. وأبو طاهر الخضر بن الفضل(5/379)
الصّفّار، ويعرف بزحل، فى جمادى الأولى، وله إجازة عالية. وأبو الفضل شاكر ابن علىّ الأسوارىّ «1» . وأبو محمد عبد الله بن علىّ الطّامذىّ «2» المقرئ بأصبهان فى شعبان. والشيخ العلّامة أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله السهروردىّ «3» عن ثلاث وسبعين سنة. وأبو الحسن علىّ بن عبد الرحمن الطّوسىّ بن تاج القرّاء.
وعمرو بن سمّان البغدادىّ. وأبو الحسن محمد بن إسحاق بن محمد بن الصابئ.
والشريف الخطيب أبو الفتوح ناصر بن الحسن «4» الحسينىّ المقرئ بمصر. وأبو بكر محمد ابن علىّ [بن عبد الله «5» ] بن ياسر الجيّانىّ «6» الأندلسىّ. ونفيسة بنت محمد بن علىّ البزّازة «7» .
والصائن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عساكر فى شعبان وله خمس وسبعون سنة. وأبو المظفّر هبة الله بن عبد الله بن أحمد بن السّمرقندىّ. وأبو الغنائم هبة الله بن محفوظ بن صصرى. ومدرّس النّظاميّة أبو الحسن يوسف بن عبد الله ابن بندار الدمشقىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.(5/380)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 564]
السنة التاسعة من ولاية العاضد على مصر وهى سنة أربع وستين وخمسمائة.
فيها ملك السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى الشّهيد قلعة جعبر «1» من صاحبها «2» ابن مالك العقيلىّ.
وفيها قدم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصريّة ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب لقتال الفرنج. وهذه قدمته إلى مصر الثالثة التى ملك فيها مصر، حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة العاضد: من قتله لشاور، وتوليته الوزر للعاضد، ووفاته بديار مصر، وتولية صلاح الدين يوسف بعده.
وفيها توفّى حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ الأمير أبو الغنائم الكنانىّ.
مولده بشيزر «3» ، ثمّ انتقل منها وسكن دمشق، ثم رحل إلى حلب ومات بها فى شعبان.
وكان أديبا فاضلا شاعرا.
وفيها توفّى عبد الخالق بن أسد بن ثابت الإمام أبو محمد الدّمشقىّ الحنفىّ. كان فقيها مفتنّا عارفا بالحديث وفنون العلوم، ودرس بالصادريّة «4» بدمشق ومات بها.
ومن شعره:
[الكامل]
قال العواذل ما اسم من ... أضنى فؤادك قلت أحمد
قالوا أتحمده وقد ... أضنى فؤادك قلت أحمد
الذي ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير مجير الدّين [آبق «5» بن محمد] بن بورى بن طغتكين الذي أخذ منه نور الدين دمشق، ثم صار(5/381)
أميرا ببغداد. والملك أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار السعدىّ، وزير العاضد، قتله جرديك النّورىّ. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى فجأة بعد شاور بشهرين. وأبو محمد عبد الخالق بن أسد الحنفىّ الحافظ فى المحرّم. وأبو الحسن علىّ ابن محمد بن علىّ البلنسىّ «1» المقرئ فى رجب وله أربع وتسعون سنة. وقاضى القضاة زكىّ الدّين علىّ بن المنتخب [محمد بن «2» ] يحيى القرشىّ الدمشقىّ فى شوّال غريبا ببغداد وله سبع وخمسون سنة. وأبو الفتح محمد بن عبد الباقى بن البطّىّ الحاجب مسند العراق فى جمادى الأولى وله سبع وثمانون سنة. والحافظ أبو أحمد معمر ابن عبد الواحد القرشىّ بن الفاخر الأصبهانىّ فى ذى القعدة بطريق الحجاز وله سبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 565]
السنة العاشرة من ولاية العاضد على مصر، وقد وزر له الملك الناصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، ولم يكن له مع صلاح الدين إلّا مجرّد الاسم فقط، وهى سنة خمس وستين وخمسمائة.
فيها نزل الفرنج على دمياط يوم الجمعة فى ثالث صفر، وجدّوا فى القتال، وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يوما يحاصرونها ليلا ونهارا. ونذكر هذه الواقعة بأوسع من هذا فى أوّل ترجمة صلاح الدّين إن شاء الله.(5/382)
وفيها توفّى حمّاد بن منصور البزاعىّ «1» الحلبىّ ويعرف بالخرّاط. كان أديبا شاعرا فصيحا. ومن شعره فى كريم:
[الخفيف]
ما «2» نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير وقت سخاء
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء
قلت: ومن الغاية فى هذا المعنى قول الشيخ علاء الدين علىّ الوداعىّ «3» .
[البسيط]
من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروى أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرّة والكفّ عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن هانىء أبو القاسم المغربىّ. كان من شعراء الخلفاء الفاطميّين. ومن شعره من أوّل قصيدة مدح بها بعض خلفاء مصر:
[الرمل]
امسحوا عن ناظرى كخل السّهاد ... وانفضوا عن مضجعى شوك القتاد
أو خذوا منّى الذي أبقيتم ... ما أحبّ الجسم مسلوب الفؤاد
وفيها توفّى مودود بن زنكى بن آق سنقر الملك قطب الدّين صاحب الموصل وأخو السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد. ولمّا احتضر مودود هذا(5/383)
أوصى بالملك لولده عماد الدين زنكى، وكان أكبرهم «1» وأعزّهم عليه. وكان الحاكم على الموصل فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدّين زنكى هذا؛ وكان عماد الدين قد أقام عند عمّه نور الدين محمود بحلب مدّة وتزوّج بابنته، فلا زال فخر الدين المذكور بقطب الدين مودود حتّى جعل العهد من بعده لولده سيف الدين غازى وعزل عماد الدين زنكى؛ فعزّ ذلك على نور الدين وقصد الموصل وقال: أنا أحقّ بتدبير ملك أولاد أخى.
الذين ذكرهم الذهبىّ فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر عبد الله ابن محمد بن أحمد بن النّقور البزّاز فى شعبان عن إحدى وثمانين سنة. وأبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلّم بن الحسن بن هلال الأزدىّ العدل فى جمادى الآخرة.
وأبو القاسم محمود بن عبد الكريم الأصبهانىّ التاجر. وصاحب الموصل قطب الدين مودود ابن أتابك زنكى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 566]
السنة الحادية عشرة من ولاية العاضد على مصر، وتحكّم وزيره الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وهى سنة ست وستين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود من دمشق إلى الموصل وسلّمها لابن أخيه عماد الدين زنكى بعد أمور وقعت بينه وبين فخر الدين عبد المسيح المقدّم ذكره فى الماضية.(5/384)
وفيها بنى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب مدرسة للشافعيّة «1» ، وكان موضعها حبس المعونة، وبنى بها أيضا مدرسة للمالكيّة تعرف بدار الغزل «2» . وولّى صدر الدّين عبد الملك بن درباس «3» الكردىّ القضاء بالقاهرة.
وفيها فى جمادى الآخرة خرج صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بعساكر العاضد إلى الشام فأغار على غزّة وعسقلان والرملة ومضى إلى أيلة، وكان بها قلعة فيها(5/385)
جماعة من الفرنج، والتقاه الأسطول فى البحر؛ فافتتحها وقتل من فيها وشحنها بالرجال والعدد؛ وكان على درب الحجاز منها خطر عظيم. ثم عاد صلاح الدين إلى مضر فى جمادى الآخرة.
وفيها فى شعبان اشترى تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه منازل «1» العزّ بمصر، وعملها مدرسة للشافعيّة.
وفيها توفّى الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين أبو المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدى بأمر الله عبد الله الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. استخلف يوم مات أبوه فى شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ومولده فى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة. وأمّه أمّ ولد تسمى «طاوس» كرجيّة، أدركت خلافته. وكان المستنجد أسمر طويل اللّحية معتدل القامة شجاعا مهيبا عادلا فى الرعيّة ذكيّا فصيحا فطنا، أزال المظالم والمكوس. وكانت وفاته فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر، ودفن بداره. وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.(5/386)
ذكر ولاية أسد الدين شيركوه على مصر
وقد اختلف المؤرّخون فى أمر ولايته على مصر، فمنهم من عدّه من الأمراء، ومنهم من ذكره من الوزراء. ولهذا أخّرنا ترجمته إلى هذه السنة، ولم نسلك فيها طريق أمراء مصر. وقد ذكرنا من تردّده إلى مصر وقتله لشاور وتوليته الوزارة من قبل العاضد نبذة كبيرة فى ترجمة العاضد المذكور. ونذكر ترجمته الآن على هيئة تراجم أمراء مصر؛ ففى مساق هذه الترجمة وفى سياق تلك الترجمة جمع بين القولين، وللناظر فيهما الاختيار، فمن شاء يجعله وزيرا، ومن شاء يجعله أميرا.
هو الملك المنصور أسد الدّين شيركوه بن شادى بن مروان عمّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب. يأتى بقيّة نسبه وما قيل فى أصله فى ترجمة ابن أخيه صلاح الدين المذكور، من أقوال كثيرة. وقد تقدّم من حديثه نبذة كبيرة. ونسوق ذلك كلّه هنا على سبيل الاختصار، فنقول:
كان شاور قد توجّه إلى الشام يستنجد نور الدين فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة؛ فنجده بأسد الدين شيركوه هذا بالعساكر، ووصلوا إلى مصر فى الثانى من جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين، وغدر بهم شاور ولم يف بما وعدهم به؛ فعادوا إلى دمشق وعرّفوا نور الدين بذلك. ثم إنّ شاور ألجأته الضرورة لطلبهم ثانيا «1» خوفا من الفرنج؛ فعاد أسد الدين ثانيا إلى مصر فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين؛ وسلك(5/387)
طريق وادى الغزلان «1» وخرج عند وادى إطفيح، فكانت بينه وبينهم وقعة هائلة.
وتوجّه صلاح الدين إلى الإسكندرية واحتمى بها وحاصره شاور؛ لأنّه كان قد وقّع بينهم وبينه أيضا، واصطلح عليهم مع الفرنج. ثم رجع أسد الدين من الصعيد نجدة لابن أخيه صلاح الدين، وأخذه وسار إلى بلبيس حتّى وقع الصلح بينه وبين المصريّين؛ وعاد إلى الشام. فحنق نور الدين لذلك ولم يمكنه الكلام لاشتغاله بفتح السواحل، ودام ذلك إلى أن وصل الفرنج إلى مصر وملكوها فى سنة أربع وستين وقتلوا أهلها. أرسل العاضد يطلب النجدة من نور الدين فنجدهم بأسد الدين شيركوه، وهى ثالث مرّة، فمضى إليهم أسد الدين وطرد الفرنج عنهم، وملك مصر فى شهر ربيع الأوّل من سنة أربع وستين وخمسمائة. وعزم شاور على قتل أسد الدين وقتل أصحابه أكابر أمراء نور الدين معه؛ ففطن أسد الدين لذلك فاحترز على نفسه. وعلم ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب أيضا، فاتّفق صلاح الدين يوسف مع الأمير جرديك النّورىّ على مسك شاور وقتله؛ واتّفق ركوب أسد الدين إلى زيارة قبر الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وكان شاور يركب فى كلّ يوم إلى أسد الدين؛ فلمّا توجّه إليه فى هذا اليوم المذكور قيل له: إنّه توجّه إلى الزيارة.
فطلب العود؛ فلم يمكنه صلاح الدين وقال: انزل، الساعة يحضر عمّى. فامتنع فجذبه هو وجرديك فأنزلوه عن فرسه وقبضوا عليه وقتلوه بعد حضور أسد الدين. وقد تقدم ذكر ذلك كلّه مفصلا فى ترجمة العاضد.
وخلع العاضد على الأمير أسد الدين شيركوه المذكور بالوزارة، ولقّبه بالملك المنصور. فلم تطل مدّته ومات بعد شهرين فجأة فى يوم السبت ثانى عشر جمادى(5/388)
الآخرة- وقيل: يوم الأحد ثالث عشرينه- سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن بالقاهرة ثم نقل إلى المدينة. وقال ابن شدّاد «1» : «كان أسد الدين شيركوه كثير الأكل، كثير المواظبة على أكل اللحوم الغليظة، فتواتر عليه التّخم والخوانيق وهو ينجو منها بعد مقاساة شدّة عظيمة، ثم اعترضه بعد ذلك مرض شديد واعتراه خانوق فقتله فى التاريخ المقدّم ذكره» .
قلت: ولمّا مات تولّى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب الوزارة من بعده. وكان أسد الدين أميرا عاقلا شجاعا مدبّرا عارفا فطنا وقورا. كان هو وأخوه أيّوب من أكابر أمراء نور الدين محمود الشهيد، وهو الذي أنشأهم حتى صار منهم ما صار. رحمهم الله تعالى.
*** انتهى الجزء الخامس من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء السادس، وأوّله:
ذكر ولاية السلطان الناصر صلاح الدين على مصر(5/389)
[الجزء السادس]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 566]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء السادس من النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية السلطان صلاح الدين على مصر
هو السلطان الملك الناصر أبو المظفّر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان، ويقال: إنّ مروان من أولاد خلفاء بنى أميّة، وقال ابن القادسى «1» : كان شادى مملوك بهروز الخادم. قال صاحب مرآة الزمان:
«وهذا من غلطات «2» ابن القادسى، ما كان شادى مملوكا قطّ، ولا جرى على أحد من بنى أيّوب رقّ، وإنّما شادى خدم بهروز الخادم، فاستنابه بقلعة تكريت» . انتهى.
قلت: كان بداية أمر بنى أيّوب أنّ نجم الدين أيّوب والد صلاح الدين هذا، وأخاه أسد الدين شيركوه- ونجم الدين هو الأكبر- كان أصلهم من(6/3)
دوين: بلدة صغيرة فى العجم، وقيل: هو من الأكراد الرّواديّة، وهو الأصحّ.
فقدم نجم الدين أيّوب وأخوه أسد الدين شيركوه إلى العراق وخدما مجاهد الدين بهروز الخادم شحنة بغداد، فرأى بهروز من نجم الدين رأيا وعقلا، فولّاه دزدارا بتكريت «1» ، وكانت تكريت لبهروز، أعطاها له السلطان مسعود بن غياث الدين محمد ابن ملكشاه- المقدّم ذكره- السّلجوقىّ. وبهروز كان يلقّب مجاهد الدين.
وكان خادما روميّا أبيض، ولّاه السلطان مسعود شحنة العراق. وبهروز (بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاى) ، وهو لفظ عجمىّ معناه: يوم جيّد. فأقام نجم الدين بتكريت ومعه أخوه أسد الدين إلى أن انهزم الأتابك زنكى بن آق سنقر من الخليفة المسترشد فى سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، ووصل إلى تكريت وبه نجم الدين أيّوب، فأقام له المعابر فعبر زنكى بن آق سنقر [دجلة «2» ] من هناك، وبالغ نجم الدين فى إكرامه؛ فرأى له زنكى ذلك. وأقام نجم الدين بعد ذلك بتكريت إلى أن خرج منها بغير إذن بهروز. وسببه أنّ نجم الدين كان يرمى يوما بالنشاب فوقعت نشّابة فى مملوك بهروز فقتلته من غير قصد، فاستحى نجم الدين من بهروز فخرج هو وأخوه إلى الموصل. وقيل غير ذلك: إنّ بهروز أخرجهما لمعنى من المعانى، وقيل فى خروجهما غير ذلك أيضا.
ولمّا خرجا من تكريت قصدا الأتابك زنكى بن آق سنقر- المقدّم ذكره- وهو والد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشّهيد، فأحسن إليهما زنكى وأقطعهما إقطاعات كثيرة، وصارا من جملة أجناده إلى أن فتح زنكى مدينة(6/4)
بعلبكّ «1» ، وولّى نجم الدين أيّوب دزدارا بقلعتها، والدّزدار (بضمّ الدال المهملة وسكون الزاى وفتح الدال المهملة وبعدها ألف وراء مهملة) ومعناها بالعجمى: ماسك القلعة. ودام نجم الدين ببعلبكّ إلى أن قتل زنكى على قلعة «2» جعبر. وتوجّه صاحب دمشق [يومئذ مجير الدين «3» ] وحصر نجم الدين المذكور فى بعلبكّ وضايقه، فكتب نجم الدين إلى نور الدين الشهيد بن زنكى وسيف الدين غازى يطلب منهما نجدة، فاشتغلا عنه بملك جديد «4» ؛ واشتدّ الحصار على بعلبكّ، فخاف نجم الدين من فتحها عنوة وتسليم أهلها، فصالح مجير الدّين صاحب دمشق على مال؛ وانتقل هو وأخوه أسد الدين شيركوه إلى دمشق وصارا من كبار أمرائها. ولا زال بها أسد الدين شيركوه حتّى اتّصل بخدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى [صاحب حلب «5» ] وصار من أكابر دولته. فرأى منه محمود نجابة وشجاعة فأعطاه حمص والرّحبة، وجعله مقدّم عساكره. فلمّا صرف نور الدين همّته لأخذ دمشق أمر أسد الدين أن يكاتب أخاه نجم الدين أيّوب على المساعدة على فتحها، فكتب أسد الدين إلى أخيه، وقال له: هذا يجب عليك؛ فإنّ مجير الدين قد أعطى الفرنج بانياس «6» وربما سلّم إليهم دمشق بعد ذلك؛ فأجابه نجم الدين، وطلبا من نور الدين إقطاعا وأملاكا فأعطاهما، وحلف لهما ووفّى بيمينه. وأمّا مجير الدين المذكور صاحب دمشق، فكان(6/5)
اسمه ابق بن محمد بن بورى بن الأتابك ظهير الدين طغتكين. وطغتكين مولى تتش ابن ألب أرسلان أخى ملكشاه السّلجوقىّ.
ولمّا ملك نور الدين محمود دمشق وفّى لهما بما وعدهما، وصارا من أكابر أمرائه خصوصا نجم الدين؛ فإنّ جميع الأمراء كانوا إذا دخلوا على نور الدين لا يقعد أحد حتّى يأمره نور الدين بالقعود إلّا نجم الدين هذا، فإنّه كان إذا دخل قعد من غير إذن. وداما عند نور الدين فى أعلى المنازل إلى أن وقع من أمر شاور وزير مصر ما وقع- وقد حكيناه فى ترجمة العاضد العبيدىّ- ودخول أسد الدين شيركوه إلى الديار المصريّة ثلاث مرّات، ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف هذا، حتّى ملك أسد الدين الديار المصريّة فى الثالثة، وقتل شاور؛ وولى أسد الدين وزارة مصر، ولقّب بالمنصور، ومات بعد شهرين؛ فولّى العاضد الخليفة صلاح الدين هذا الوزارة، ولقّبه الملك الناصر؛ وذلك فى العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة. واستولى على الديار المصريّة ومهّد أمورها. وصار يدعى للعاضد، ثمّ من بعده للملك العادل نور الدين محمود، ثمّ من بعدهما لصلاح الدين هذا. ونذكر ولايته إن شاء الله بأوسع من هذا من كلام ابن خلّكان، بعد أن نذكر نبذة من أموره.
واستمرّ صلاح الدين بمصر وأرسل يطلب أباه نجم الدين أيّوب من الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، فأرسله إليه معظّما مبجّلا؛ وكان وصوله (أعنى نجم الدين) إلى القاهرة فى شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة؛ فلمّا قرب نجم الدين إلى الديار المصريّة خرج ابنه السلطان صلاح الدين بجميع أمراء مصر إلى ملاقاته، وترجّل صلاح الدين وجميع الأمراء ومشوا فى ركابه؛ ثمّ قال له ابنه صلاح الدين: هذا الأمر لك (يعنى الوزارة) وهى السلطنة الآن، وتدبير ملك مصر، ونحن بين يديك؛(6/6)
فقال له نجم الدين: يا بنىّ، ما اختارك الله لهذا الأمر إلّا وأنت أهل له، وأبى نجم الدين عن قبول السلطنة، غير أنّه حكّمه ابنه صلاح الدين فى الخزائن، فكان يطلق منها ما يختار من غير مراجعة صلاح الدين. وكانت الفرنج تولّت على دمياط فى ثالث صفر من السنة المذكورة وجدّوا فى قتالها، وأقاموا عليها نحو الشهرين يحاصرونها بالمجانيق ويزحفون عليها ليلا ونهارا، وصلاح الدين يوجّه إليها العساكر مع خاله شهاب الدين وتقىّ الدين، وطلب من العاضد مالا فبعث إليه شيئا كثيرا، حتّى قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد! جهّز إلىّ فى حصار الفرنج لدمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها.
ولمّا سمع نور الدين بما وقع لدمياط أخذ فى غزو الفرنج بالغارات عليهم.
ثم وقع فيهم الوباء والفناء فرحلوا عن دمياط بعد أن مات منهم خلق كثير. كلّ ذلك فى حياة العاضد فى أوائل أمر صلاح الدين، ثمّ أخذ السلطان صلاح الدين فى إصلاح أحوال مصر وعمارة البلاد وبينا هو فى ذلك ورد عليه كتاب الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى من دمشق، فأمره فيه بقطع خطبة العاضد وإقامتها لبنى العبّاس خلفاء بغداد، فخاف صلاح الدين من أهل مصر ألّا يجيبوه إلى ذلك، وربّما وقعت فتنة؛ فعاد الجواب لنور الدين يخبره بذلك، فلم يسمع له نور الدين؛ وأرسل إليه وخشّن له فى القول، وألزمه بذلك إلزاما كلّيّا إلى أن وقع ذلك؛ وقطعت خطبة العاضد فى أوّل المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان العاضد مريضا فأخفى عنه أهله ذلك حتّى مات يوم عاشوراء، فندم صلاح الدين على قطع خطبته، وقال:
ليتنى صبرت حتّى مات. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة العاضد السابقة لهذه الترجمة. ومن هنا نذكر- إن شاء الله تعالى- أقوال المؤرّخين فى أحوال السلطان صلاح الدين هذا وغزواته وأموره، كلّ مؤرّخ على حدته. ومن يوم مات العاضد(6/7)
عظم أمر صلاح الدين واستولى على خزائن مصر واستبدّ بأمورها من غير منازع.
غير أنّه كان من تحت أوامر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد صاحب دمشق على ما سنّبينه فى هذا المحلّ. وكان يدعو له الخطيب بمصر وأعمالها بعد نور الدين المذكور ويدعو لنور الدين بعد الخليفة.
وكان مولد صلاح الدين بتكريت فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ونشأ فى حجر أبيه نجم الدين أيّوب فى الدولة النّوريّة، وترقّى فيها؛ وكان ولّاه نور الدين قبل خروجه مع عمّه أسد الدين شيركوه الثالثة إلى ديار مصر، شحنجية «1» دمشق، فخرج عنها غضبا على ما سنذكره إن شاء الله.
قال العلّامة أبو المظفّر شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان:
«كان السلطان صلاح الدين شجاعا شهما مجاهدا فى سبيل الله، وكان مغرما بالإنفاق فى سبيل الله، وحسب ما أطلقه ووهبه مدّة مقامه على عكّا مرابطا للفرنج، من شهر رجب سنة خمس وثمانين، إلى يوم انفصاله عنها فى شعبان سنة ثمان وثمانين، فكان اثنى عشر ألف رأس من الخيل العراب «2» والأكاديش الجياد للحاضرين معه للجهاد، غير ما أطلقه من الأموال. قال العماد الكاتب: لم يكن له فرس يركب إلّا وهو موهوب، ولا جاءه «3» قود إلّا وهو مطلوب؛ وما كان يلبس إلّا ما يحلّ لبسه، كالكتّان والقطن والصوف؛ وكانت مجالسه منزّهة عن الهزء والهزل؛ ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل؛ ويؤثر سماع الحديث وكان من جالسه لا يعلم(6/8)
أنه جالس سلطانا لتواضعه. قال: ورأى معى يوما دواة محلّاة بفضّة فأنكر علىّ وقال: ما هذا! فلم أكتب بها عنده بعدها. وكان محافظا على الصلوات فى أوقاتها لا يصلّى إلّا فى جماعة، وكان لا يلتفت إلى قول منجّم، وإذا عزم على أمر توكّل على الله. انتهى كلام العماد باختصار.
وذكره القاضى ابن شدّاد فى السّيرة فقال: كان حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى؛ وإذا جاء وقت صلاة وهو راكب نزل فصلّى، وما قطعها إلّا فى مرضه الذي مات فيه ثلاثة أيّام اختلط ذهنه فيها. وكان قد قرأ عقيدة القطب «1» النّيسابورىّ.
وعلّمها أولاده الصغار لترسخ فى أذهانهم، وكان يأخذها عليهم. وأمّا الزكاة فإنّه مات ولم تجب عليه قطّ. وأمّا صدقة النوافل فاستنفدت أمواله كلّها فيها. وكان يحبّ سماع القرآن؛ واجتاز يوما على صبىّ صغير بين يدى أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته، فوقف عليه وعلى أبيه مزرعة. وكان شديد الحياء خاشع الطّرف، رقيق القلب، سريع الدمعة، شديد الرغبة فى سماع الحديث. وإذا بلغه عن شيخ رواية عالية وكان ممّن يحضر عنده، استحضره «2» وسمع عليه وأسمع أولاده ومماليكه، ويأمرهم بالقعود عند سماع الحديث إجلالا له، وإن لم يكن ممن يحضر عنده، ولا يطرق أبواب الملوك سعى إليه. وكان مبغضا لكتب الفلاسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة. ولمّا بلغه عن السّهروردىّ «3» ما بلغه أمر ولده الملك(6/9)
الظاهر بقتله. وكان محبّا للعدل يجلس فى كلّ يوم اثنين وخميس [فى «1» ] مجلس عام يحضره القضاة والفقهاء، ويصل إليه الكبير والصغير والشيخ والعجوز، وما استغاث إليه أحد إلّا أجابه وكشف ظلامته؛ واستغاث اليه ابن زهير الدّمشقىّ على تقىّ الدين عمر [ابن أخيه «2» ] وقال: ما يحضر معى مجلس الشرع، فأمر تقىّ الدين بالحضور معه.
وادّعى رجل على السلطان صلاح الدين المذكور بأنّ سنقر الخلاطىّ مملوكه ومات على ملكه. قال ابن شدّاد: فأخبرته فأحضر الرجل، وقد خرج عن طرّاحته وساواه فى الجلوس، فادّعى الرجل؛ فرفع السلطان رأسه إلى جماعة الأمراء والشيوخ الأخيار، وهم وقوف على رأسه، فقال: أتعرفون سنقر الخلاطىّ؟ قالوا: نشهد أنّه مملوكك، وأنّه مات على ملكك. ولم يكن للرجل المدّعىّ بيّنة، فأسقط فى يده.
فقلت: يا مولانا، رجل غريب، وقد جاء من خلاط فى طمع، ونفدت نفقته، وما يحسن أن يرجع خائبا؛ فقال: يا قاضى، هذا إنّما يكون على غير هذا الوجه، ووهب له نفقة وخلعة وبغلة وأحسن إليه.
قال: وفتح آمد، ووهبها لابن قرا أرسلان. واجتمع عنده وفود بالقدس ولم يكن عنده مال، فباع ضيعة وفرّق ثمنها فيهم. قال ابن شدّاد: وسألت باليان بن بارزان «3» يوم انعقاد الصلح عن عدّة الفرنج الذين كانوا على عكّا، وهو جالس بين يدى السلطان، فقال للتّركمان: قل له كانوا من خمسمائة ألف إلى ستّمائة ألف، قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم. قال: وكان يوم المضاف يدور على الأطلاب ويقول: وهل أنا إلا واحد منكم! وكان(6/10)
فى الشتاء يعطى العساكر دستورا وهو نازل على برج عكّا، ويقيم طول الشتاء فى نفر يسير. وكان على الرّملة «1» فجاءه كتاب بوفاة تقىّ الدين [ابن أخيه «2» ] ، فقال وقد خنقته العبرة: مات تقىّ الدين! اكتموا خبره مخافة العدوّ. قال: ولقد واجهه الجناح «3» على يافا بذلك الكلام القبيح «4» ، فما قال له كلمة، واستدعاه فأيقن بالهلاك؛ وارتقب الناس أن يضرب رقبته فأطعمه فاكهة قدمت من دمشق وسقاه ماء وثلجا. قال: وكان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج بالليل ويسرقونهم، فسرقوا ليلة صبيّا رضيعا فباتت أمّه تبكى طول الليل، فقال لها الفرنج: إنّ سلطانهم رحيم القلب فاذهبى إليه، فجاءته وهو على تلّ الخرّوبة «5» راكب، فعفرت وجهها وبكت، فسأل عنها فأخبر بقصّتها، فرقّ لها ودمعت عيناه، وتقدّم إلى مقدّم اللصوص بإحضار الطفل، ولم يزل واقفا حتّى أحضروه؛ فلمّا رأته بكت وشهقت وأخذته وأرضعته ساعة وضمّته إليها، وأشارت إلى ناحية الفرنج؛ فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا. قال ابن شدّاد: وكان حسن العشرة طيّب الخلق حافظا لأنساب العرب، عارفا بخيولهم، طاهر اللسان والقلم، فما شتم أحدا قطّ ولا كتب بيده ما فيه أذى مسلم. وما حضر بين يديه يتيم إلّا وترحّم على من خلّفه، وجبر قلبه وأعطاه ما يكفيه؛ فإن كان له كافل [سلّمه إليه «6» ] وإلّا كفله. وسرق «7» يوما من خزائنه ألفا دينار وجعل فى الكيس فلوس فما قال شيئا. انتهى كلام ابن شدّاد باختصار.(6/11)
قال أبو المظفّر: وحكى لى المبارز «1» سنقر الحلبىّ- رحمه الله تعالى- قال: كان الحجّاب يزدحمون على طرّاحته فجاء سنقر الخلاطىّ ومعه قصص فقدّم إليه قصّة، وكان السلطان مدّ يده اليمنى على الأرض ليستريح، فداسها سنقر الخلاطىّ ولم يعلم؛ وقال له: علّم عليها، فلم يجبه، فكرّر عليه القول؛ فقال له: يا طواشى، أعلّم بيدى أم برجلى! فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل، وتعجّب الحاضرون من هذا الحلم؛ ثم قال السلطان: هات القصّة فعلّم عليها» .
وقال القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان- رحمه الله- فى تاريخه:
«وصلاح الدين كان واسطة العقد، وشهرته أكبر من أن يحتاج إلى التنبيه عليه.
اتّفق أهل التاريخ على أنّ أباه وأهله من دوين (بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون) ، وهى بلدة فى آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج، وأنّهم أكراد رواديّة (بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة [مكسورة «2» ] ثم ياء مثنّاة من تحتها مشدّدة ثم هاء) . والرّواديّة: بطن من الهذانيّة «3» (بفتح الهاء والذال المعجمة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثنّاة مشدّدة من تحتها وبعدها هاء) وهى قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لى رجل عارف بما يقول، وهو من أهل دوين: إنّ على باب دوين قرية يقال لها:
أجدانقان (بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة ثم قاف وبعد الألف الثانية نون أخرى) وجميع أهلها أكراد رواديّة؛ ومولد أيّوب والد صلاح الدين بها، وشادى أخذ ولديه، [منها «4» ] : أسد الدين شيركوه،(6/12)
ونجم الدين أيّوب، وخرج بهما إلى بغداد؛ ومن هناك إلى تكريت. ومات شادى بها، وعلى قبره قبة داخل البلد. ولقد تتبّعت نسبهم كثيرا فلم أجد أحدا [ذكر] «1» بعد شادى أبا آخر، حتّى إنى وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيّوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادى [وأيّوب «2» ] بن شادى لا غير. وقال لى بعض أعوانهم: هو شادى بن مروان، وقد ذكرته فى ترجمة أيوب وشيركوه.
قال: ورأيت مدرجا رتّبه الحسن بن غريب «3» بن عمران الحرسى يتضمّن أن أيّوب ابن شادى بن مروان بن [أبى «4» ] على بن عنترة «5» بن الحسن بن علىّ بن أحمد ابن علىّ «6» بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس «7» بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبى حارثة بن مرّة بن نشبة «8» بن غيظ بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض ابن ريث بن غطفان [بن سعد «9» ] بن قيس بن عيلان بن الياس بن مضر بن نزار ابن معدّ «10» بن عدنان، ثم رفع هذا النسب إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام. ثم ذكر بعد ذلك أن علىّ بن أحمد بن أبى علىّ فقال: هو ممدوح المتنبىّ، ويعرف بالخراسانىّ.
وفيه يقول من جملة قصيدة:
شرق الجوّ بالغبار إذا سا ... ر علىّ بن أحمد القمقام(6/13)
وأمّا الحارث بن عوف بن أبى حارثة صاحب الحمالة فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان، وشاركه فى الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان.
وفيهما قال زهير بن أبى سلمى المزنىّ قصائد كثيرة، منها قوله:
وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا فى منابتها النخل
هذا آخر ما ذكره فى المدرّج وكان قد قدّمه إلى الملك المعظّم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود بن الملك المعظّم، وكتب لهما بسماعهما عليه فى آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة. والله أعلم. انتهى ما ذكرته من المدرّج. ثم قال:
«وأقول ذكر المؤرّخون أنّ أسد الدين شيركوه لمّا مات استقرّت الأمور بعده لصلاح الدين يوسف بن أيّوب وتمهّدت القواعد، ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمّص بقميص الجدّ والاجتهاد، ولا زال على قدم الخير وما يقرّبه إلى الله تعالى إلى أن مات» . قال: «وقال شيخنا ابن شدّاد- رحمه الله-: [سمعته «1» ] يقول قال صلاح الدين- رحمه الله-: لمّا يسّر الله تعالى بملك الديار المصرية علمت أنّ الله أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك فى نفسى. قال:
ومن حين استقام له الأمر ما زال صلاح الدين يشنّ الغارات على الفرنج إلى أن ملك الكرك «2» والشّوبك «3» وغيرهما من البلاد «4» ، وغشى الناس من سحائب الإفضال والإنعام [ما لم «5» يؤرّخ غير تلك الأيام. و] هذا كلّه وهو وزير متابع للقوم، ولكنّه يقول(6/14)
بمذهب أهل السّنة؛ [مارس «1» فى البلاد أهل الفقه والعلم والتصوّف والدين، والناس يهرعون إليه من كلّ صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيّب قاصدا، ولا يعدم وافدا] إلى سنة خمس وستين وخمسمائة. فلمّا عرف نور الدين استقرار «2» أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نوّاب أسد الدين شيركوه، وذلك فى رجب سنة أربع وستين. ولمّا علم الفرنج ما جرى من «3» المسلمين وعساكرهم، وما تمّ للسلطان من استقامة الأمر له بالبلاد المصرية علموا أنه يملك بلادهم، ويخرّب ديارهم، ويقطع آثارهم؛ فاجتمع الفرنج والروم جميعا وقصدوا الديار المصريّة، ونزلوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاج إليه» .
قلت: وهذه الواقعة التى ذكرناها فى أوّل هذه الترجمة. غير أنّنا نذكرها أيضا من قول ابن خلّكان لزيادات تأتى فيها.
قال: «ولمّا سمع فرنج الشام ذلك اشتدّ أمرهم، فسرقوا حصن عكّا من المسلمين وأسروا صاحبها، وكان مملوكا لنور الدين محمود، يقال له: «خطلخ العلم دار» .
وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين. ولمّا رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك فحاصرها فى شعبان من السنة المذكورة، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها، وقصد لقاءهم فلم يقووا له. ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الدّاية، وكانت وفاته بحلب فى [شهر «4» ] رمضان سنة خمس وستين، فاشتغل قلبه، فإنّه كان صاحب أمره. وعاد يطلب الشام فبلغه أمر الزلازل بحلب التى أخربت البلاد، وكانت فى ثانى عشر شوّال فسار يطلب حلب، فبلغه موت أخيه(6/15)
قطب الدين مودود بالموصل، وبلغه خبر موته وهو بتلّ باشر «1» ، فسار من ليلته طالبا لبلاد الموصل. ودام صلاح الدين فى قتال الفرنج بدمياط إلى ان رحلوا عنها خائبين» .
قال ابن خلّكان: «والذي ذكره شيخنا عزّ الدين بن الأثير: [أمّا «2» ] كيفيّة ولاية صلاح الدين فإنّ جماعة من الأمراء النّوريّة الذين كانوا بمصر طلبوا التقدّم على العساكر و [ولاية «3» ] الوزارة (يعنى بعد موت أسد الدين شيركوه) : منهم الأمير عين الدولة الياروقى؛ وقطب الدين خسرو بن تليل «4» ، وهو ابن أخى أبى الهيجاء الهدبانىّ «5» الذي كان صاحب إربل. قلت: [وهو «6» ] صاحب المدرسة «7» القطبيّة بالقاهرة؛ ومنهم سيف الدين علىّ بن أحمد الهكّارىّ، وجدّه كان صاحب القلاع الهكاريّة «8» . قلت: هو المعروف بالمشطوب- ولوالده أحمد ترجمة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» - ومنهم شهاب الدين محمود الحارمىّ، وهو خال صلاح الدين؛ وكلّ واحد من هؤلاء قد خطبها «9» لنفسه؛ فأرسل العاضد صاحب مصر إلى صلاح الدين يأمره بالحضور إلى قصره ليخلع عليه خلعة الوزارة(6/16)
ويولّيه الأمر بعد عمّه. وكان الذي حمل العاضد على تولية صلاح الدين ضعف صلاح الدين، فإنّه ظنّ أنّه إذا ولّى صلاح الدين، وليس له عسكر ولا رجال، كان فى ولايته مستضعفا، يحكم عليه ولا يقدر على المخالفة، وأنّه يضع على العسكر الشامىّ من يستميلهم، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد إليه؛ وعنده من العساكر الكتاميّة «1» من يحميها من الفرنج ونور الدين. والقصّة مشهورة «أردت عمرا وأراد الله خارجة» . فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا «2» المقام، فألزمه العاضد وأخذ كارها؛ إنّ الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنّة بالسلاسل.
فلمّا حضر فى القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبّة والعمامة وغيرهما، ولقّب بالملك الناصر، وعاد إلى دار عمّه أسد الدين شيركوه وأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه. وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكّارىّ معه، فسعى مع سيف الدين علىّ بن أحمد حتّى أماله إليه، وقال له:
إنّ هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمىّ وابن تليل، فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمىّ، وقال له: إنّ هذا صلاح الدين هو ابن أختك وملكه «3» لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أوّل من يسعى فى إخراجه عنه [ولا يصل إليك «4» ] ، ولم يزل به حتى أحضره أيضا عنده وحلّفه له.
ثم عدل إلى قطب الدين وقال له: إنّ صلاح الدين قد أطاعه الناس ولم يبق غيرك وغير الياروقىّ، وعلى كلّ حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أنّ أصله من الأكراد، ووعده وزاد فى إقطاعه «5» فأطاع صلاح الدين. ثم عدل إلى عين الدولة(6/17)
الياروقىّ، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعا، فاجتمع به فلم ينفع فيه رقاه ولا نفذ فيه سحره، وقال: أنا لا أخدم يوسف أبدا! وعاد إلى نور الدين محمود ومعه غيره.
فأنكر عليهم نور الدين فراقه «1» ، وقد فات الأمر، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
وثبتت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين فى البلاد كلّها، ولا يتصرّفون إلّا عن أمره. وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الإسفهسالار «2» ، ويكتب علامته فى الكتب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بمكاتبة، بل يكتب الأمير الإسفهسالار صلاح الدين، وكافّة الأمراء بالديار المصريّة يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال ممّا كان أسد الدين قد جمعه، فمال الناس إليه وأحبّوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه؛ وضعف أمر العاضد، وكان العاضد كالباحث عن حتفه بظلقه» .
قال ابن الأثير فى تاريخه الكبير: قد اعتبرت التواريخ فرأيت كثيرا من التواريخ الإسلاميّة، ورأيت كثيرا ممّن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه: منهم فى أوّل الإسلام معاوية بن أبى سفيان، أوّل من ملك من أهل بيته، تنقّل الملك عن أعقابه إلى بنى مروان من بنى عمّه. ثم من بعده السفّاح أوّل من ملك من ملوك بنى العبّاس، انتقل الملك عن أعقابه إلى أخيه أبى جعفر المنصور. ثم السامانيّة أوّل من ملك منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه. ثم يعقوب الصّفّار أوّل من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عنه إلى أخيه عمرو وأعقابه. ثم عماد الدولة بن بويه أوّل من ملك(6/18)
من أهل بيته ثم انتقل الملك عنه إلى أخويه: ركن الدولة ومعزّ الدولة. ثم السّلجوقيّة أوّل من ملك منهم طغرلبك. ثم انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود. ثم هذا شيركوه كما ذكرنا انتقل الملك عنه إلى ولد أخيه نجم الدين أيّوب. ولولا خوف الإطالة لذكرنا أكثر من هذا. والذي أظنّه السبب فى ذلك أن الذي يكوّن أوّل دولة يكثر القتل، فيأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلّقة به؛ فلهذا يحرم الله تعالى أعقابه ويفعل ذلك لأجلهم عقوبة [له «1» ] . انتهى.
قلت: وما ذكره ابن الأثير من انتقال الملك من عقب من يلى الملك أوّلا إلى أقاربه، هو بعكس ما وقع لخلفاء مصر بنى عبيد، فإنّه لم يل الخلافة منهم أحد بعد أخيه من أوّلهم المعزّ إلى آخرهم العاضد. قلت: ونادرة أخرى وقعت لخليفة زماننا هذا، فإنّه خامس أخ ولى الخلافة بعد إخوته، وهو أمير المؤمنين المستنجد «2» بالله يوسف، وهم خمسة إخوة من أولاد المتوكّل، «3» كلّ منهم ولى الخلافة:
وأوّلهم المستعين «4» بالله العباسىّ، الذي تسلطن بعد خلع الملك الناصر فرج بن برقوق، فى سنة خمس عشرة [وثمانمائة] ؛ ثم من بعده المعتضد «5» داود؛ ثمّ من بعده المستكفى «6» سليمان؛ ثم من بعده القائم حمزة «7» ؛ ثم يوسف هذا خليفة زماننا.(6/19)
وأكثر من ولى من بنى أميّة أربعة من أولاد عبد الملك بن مروان: وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام؛ قيل: إنّ عبد الملك رأى فى نومه أنّه بال فى محراب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربع بولات، فأوّله المعبّرون بأنّه يلى الخلافة من ولده لصلبه أربعة، فكان كذلك. وأمّا ثلاثة الإخوة: فالأمين محمد والمأمون عبد الله والمعتصم محمد أولاد الرشيد هارون. ثم وقع ذلك أيضا لبنى العبّاس فى أولاد المتوكّل جعفر، ولى من أولاده ثلاثة: المنتصر والمعتزّ والمعتمد. ثمّ وقع ذلك أيضا للمعتضد ولى من أولاده ثلاثة: وهم المكتفى «1» علىّ والمقتدر جعفر والقاهر محمد. ثم وقع ذلك للمقتدر جعفر ولى من أولاده ثلاثة: الراضى والمتّقى والمطيع. ونادرة أخرى، قيل: إنّ المستنجد بن المقتفى رأى فى حياة والده فى منامه كأنّ ملكا نزل من السماء فكتب فى كفه أربع خاءات معجمات، فعبّروه أنّه يلى الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك. وقد خرجنا عن المقصود، ونعود إلى ذكر صلاح الدين.
ثم ذكر ابن الأثير شيئا عن أحوال صلاح الدين إلى أن قال: وتوفّى العاضد وجلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما فيه؛ فكان قد رتّب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصىّ يحفظه، فحفظ ما فيه حتّى تسلّمه صلاح الدين، ونقل صلاح الدين أهله إلى مكان منفرد، ووكّل بهم من يحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءه فى إيوان بالقصر، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وأخلى القصر من سكّانه وأهله. فسبحان؟؟؟
من لا يزول ملكه! قال: ولمّا استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب أهله وأمراءه، وباع منه كثيرا، وكان فيه من(6/20)
الجواهر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك. قال ابن «1» الأثير: ولمّا وصل الخبر إلى الإمام المستضىء بأمر الله أبى محمد الحسن بن الإمام المستنجد، وهو والد الإمام الناصر لدين الله، بما تجدّد من أمر مصر، وعود الخطبة والسكّة بها باسمه بعد انقطاعها بمصر هذه المدّة الطويلة عمل أبو الفتح محمد سبط [ابن «2» ] التعاويذىّ قصيدة «3»
طنّانة مدح بها المستضىء، وذكر هذا الفتوح المتجدّد له، وفتوح بلاد ايمن، وهلاك الخارجىّ «4» بها الذي سمّى نفسه المهدىّ. نذكر فى آخر ترجمته أمر القصيدة التى نظمها ابن التّعاويذىّ من كلام ابن خلّكان وغيرها إن شاء الله تعالى. وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر وأسلاب المصريّين شيئا كثيرا.
ثم ذكر ابن الأثير فصلا فى سنة سبع وستين وخمسمائة يتضمّن حصول الوحشة بين نور الدين الشهيد وبين صلاح الدين باطنا؛ فقال: «فى هذه السنة جرت أمور أوجبت تأثّر نور الدين من صلاح الدين، ولم يظهر ذلك. وكان سببه أنّ صلاح الدين سار [عن مصر «5» ] فى صفر منها إلى بلاد الفرنج، ونازل حصن الشّوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره وضيّق على من به من الفرنج، وأدام القتال؛ فطلبوا(6/21)
الأمان واستمهلوه عشرة أيّام، فأجابهم إلى ذلك. فلمّا سمع نور الدين ما فعله صلاح الدين سار من دمشق قاصدا بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين إلى بلاد الفرنج وهم على هذه الحال- أنت من جانب ونور الدين من جانب- ملكها، ومتى زال ملك الفرنج عن الطريق لم يبق لك بديار مصر مقام مع نور الدين؛ ومتى جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا فلا بدّ لك من الاجتماع به؛ وحينئذ يكون هو المتحكّم فيك «1» ، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، ولا تقدر على الامتناع عليه؛ وحينئذ المصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشّوبك عائدا إلى مصر [ولم «2» يأخذه من الفرنج] . وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصريّة لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويّين، وأنّهم عازمون على الوثوب بها، وأنّه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلّف بها.
فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغيّر عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها. وظهر ذلك لصلاح الدين فجمع أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيّوب، وخاله شهاب الدين الحارمىّ وسائر الأمراء، وأعلمهم بما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه، فاستشارهم فلم يجبه أحد منهم بكلمة؛ فقام تقىّ الدين عمر ابن أخيه وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله؛ فشتمهم نجم الدين أيّوب وأنكر ذلك واستعظمه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، ونحن أكثر محبّة لك من جميع من ترى، والله لو رأيت أنا وخالك نور الدين لم يمكّنا إلّا أن نقبّل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك لفعلنا، فإذا كنّا نحن هكذا فما ظنّك بغيرنا! وكلّ من ترى من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا من الثبات على سروجهم. ثم قال: وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوّابه فيها،(6/22)
فإن اراد غير ذلك سمعنا وأطعنا؛ والرأى أن تكتب إليه وتقول: بلغنى أنّك تريد الحركة لأجل البلاد، فأىّ حاجة إلى هذا! يرسل المولى نجّابا يضع فى رقبتى منديلا ويأخذنى إليك، فما هاهنا من يمتنع عليك؛ وقام الأمراء وتفرّقوا. فلمّا خلا نجم الدين أيّوب بابنه صلاح الدين قال له: يا بنىّ، بأىّ عقل قلت هذا! أمّا علمت أنّ نور الدين متى سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهمّ الوجوه عنده؛ وحينئذ لا نقوى به؛ وإذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا، والأقدار تعمل عملها؛ والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السّكّر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده عليه؛ فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره؛ فكان الأمر كما ظنّه أيّوب. وتوفّى نور الدين ولم يقصده. وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أصوب الآراء وأحسنها» . انتهى كلام ابن الأثير باختصار.
قال ابن شدّاد: «ولم يزل صلاح الدين فى نشر الإحسان وإفاضة النعم على الناس إلى سنة ثمان وستّين وخمسمائة، فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشّوبك، وإنّما بدأ بها لأنّها كانت أقرب إليه، وكانت على الطريق تمنع من يقصد الديار المصريّة، وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتّى يخرج هو بنفسه يعبرها، فأراد توسيع الطريق وتسهيلها، فحاصرها فى هذه السنة، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد إلى مصر ولم يظفر منها بشىء. ولمّا عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين قبل وصوله إليه. قال: ولمّا كانت سنة تسع وستين رأى قوّة عسكره وكثرة عدده، وكان بلغه أنّ باليمن إنسانا استولى عليها وملك حصونها، وكان يسمّى عبد النّبيّ «1» ابن مهدىّ، فأرسل أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه. ثم مات الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق فى سنة تسع وستين وخمسمائة. على(6/23)
ما سيأتى ذكره فى الوفيات. ثم بلغ صلاح الدين أنّ إنسانا جمع بأسوان خلقا كثيرا من السودان، وزعم أنّه يعيد الدولة العبيديّة المصريّة. وكان أهل مصر يؤثرون عودهم وانضافوا إليه، فسيّر صلاح الدين إليه جيشا كثيفا وجعل مقدّمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوا به، وكسروه فى السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة.
ثم بعد ذلك استقرّت له قواعد الملك. وكان نور الدين محمود قد خلّف ولده الملك الصالح إسماعيل، وكان بدمشق عند وفاة أبيه. وكان بحلب شمس الدين علىّ بن الدّاية، وكان ابن الداية حدّث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل إلى ظاهرها فى المحرّم سنة سبعين ومعه سابق الدّين «1» ، فخرج بدر الدين حسن «2» بن الدّاية فقبض على سابق الدين. ولمّا دخل الملك الصالح قلعة حلب قبض على شمس الدين علىّ بن الداية، وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور، وأودع الثلاثة السجن. وفى ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشّاب «3» لفتنة جرت [بحلب «4» ] ، وقيل: بل قتل قبل القبض على أولاد الدّاية.
ثم إنّ صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أنّ ولده الملك الصالح صبىّ لا يستقلّ بالأمر، ولا ينهض بأعباء الملك، واختلفت الأحوال بالشام. وكاتب شمس الدين [محمد «5» بن عبد الملك] بن المقدّم صلاح الدين، فتجهّز صلاح الدين من مصر فى جيش كثيف، وترك بالقاهرة من يحفظها، وقصد دمشق مظهرا أنّه يتولى مصالح الملك الصالح؛ فدخلها بالتسليم فى يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة، وتسلّم قلعتها واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق فى ذلك اليوم مالا(6/24)
جزيلا، وأظهر السرور بالدّمشقيّين وصعد القلعة؛ ثم سار إلى حلب ونازل حمص وأخذ مدينتها فى أوّل جمادى الأولى، ولم يشتغل بقلعتها وتوجّه إلى حلب، ونازلها فى يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من السنة، وهى الوقعة الأولى.
ثم إنّ سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل لمّا أحسّ بما جرى علم أنّ الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، فخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّت قدمه فى الملك وتعدّى الأمر إليه، فأرسل عسكرا وافرا، وجيشا عظيما، وقدّم عليه أخاه عزّ الدين مسعود بن قطب الدين مودود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين نجدة لابن عمّه الملك الصالح ابن نور الدين، ليردّوا صلاح الدين عن البلاد. فلمّا علم صلاح الدين ذلك رحل من حلب فى مستهلّ رجب من السنة عائدا إلى حماة، ثم رجع إلى حمص وأخذ قلعتها. ووصل عزّ الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمّه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود، وهو صاحب حلب يومئذ، وخرجوا فى جمع عظيم؛ وما علم صلاح الدين بخروجهم حتّى وافاهم على قرون حماة، فراسلهم وراسلوه، واجتهد صلاح الدين على أن يصالحوه فلم يصالحوه؛ ورأى أن ضرب المصافّ معهم ربّما نالوا به غرضهم، والقضاء يجرى إلى أموره وهم لا يشعرون، فتلاقوا فقضى الله تعالى أنهم انكسروا بين يديه، وأسر جماعة منهم فمنّ عليهم وأطلقهم، وذلك فى تاسع غشر شهر رمضان من السنة عند قرون حماة. ثم سار صلاح الدين عقيب انكسارهم «1» ونزل على حلب، وهى الدفعة الثانية فصالحوه على المعرّة وكفر طاب وبارين «2» . ولمّا جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازى محاصرا أخاه عماد الدين زنكى صاحب سنجار، وعزم على أخذها(6/25)
منه، لأنّه كان قد انتمى إلى صلاح الدين؛ وكان قد قارب أخذها، فلمّا بلغه خبر هذه الواقعة، وأنّ عسكره انكسر من صلاح الدين على قرون حماة خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتدّ أمره ويقوى جأشه، فراسله وصالحه. ثم سار غازى من وقته إلى نصيبين واهتمّ بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار إلى الفرات وعبر البيرة «1» وخيّم على الجانب الشامىّ، وراسل ابن عمّه الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين صاحب حلب حتّى تستقرّ له قاعدة يصل إليها. ثم إنّه وصل إلى حلب وخرج ابن عمّه الملك الصالح صاحب حلب إلى لقائه، وأقام غازى على حلب مدّة، وصعد قلعتها جريدة؛ ثم نزل وسار إلى تلّ السلطان، وهى منزلة بين حلب وحماة ومعه جمع كبير. وأرسل صلاح الدين إلى مصر وطلب عسكرها، فوصل إليه منها جمع كبير؛ فسار بهم صلاح الدين حتّى نزل قرون حماة ثانيا، وتصافّوا بكرة يوم الخميس العاشر من شوّال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة صلاح الدين من مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل؛ فإنّه كان على ميمنة سيف الدين غازى، فحمل صلاح الدين بنفسه على عسكر سيف الدين غازى حملة شديدة فانكسر القوم، وأسر منهم جماعة من كبار الأمراء، فمنّ عليهم صلاح الدين وأطلقهم. وعاد سيف الدّين غازى إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتّى عبر الفرات، وترك ابن عمّه الملك الصالح صاحب حلب بها وعاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين من تتبّع القوم، ونزل فى بقيّة اليوم فى خيامهم، فإنّهم تركوا أثقالهم وانهزموا؛ وفرّق صلاح الدين الأطلاب ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين غازى لابن أخيه عزّ الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب أخى تقىّ الدين عمر صاحب(6/26)
حماة، وكان فرخشاه صاحب بعلبكّ. ثم سار صلاح الدين إلى منبج «1» فتسلّمها، ثم سار إلى قلعة عزاز «2» وحاصرها فى رابع ذى القعدة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
وبينما صلاح الدين بها وثب عليه جماعة من الإسماعيليّة (أعنى الفداوية) فنجّاه الله منهم وظفر بهم. وأقام عليها حتّى أخذها فى رابع عشر ذى الحجّة من السنة. ثم سار فنزل على حلب فى سادس عشر ذى الحجّة وأقام عليها مدّة. ثم رحل عنها بعد أن أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين محمود فسألته عزاز فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقّد أحوالها، وكان مسيره إليها فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ وكان أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيّوب قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق. ثم بعد ذلك تأهّب صلاح الدين للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرّملة، وذلك فى أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكانت الكسرة على المسلمين فى ذلك الوقت، ولمّا انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصريّة وضلّوا فى الطريق وتبدّدوا، وأسر منهم جماعة: منهم الفقيه عيسى الهكّارىّ، وكان ذلك وهنا عظيما، جبره الله تعالى بوقعة حطّين المشهورة.
ووصل صلاح الدين إلى مصر ولمّ شعثه وشعث أصحابه من أثر «3» كسرة الرّملة ثم بلغه تخبّط الشام فعاد إليه واهتم بالغزاة، فوصله رسول صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرّر من الأرمن، يقصد بلاد «4» ابن لاون (يعنى بلادسيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل) ؛ فتوجّه صلاح الدين إليه، واستدعى عسكر(6/27)
حلب، لأنّه كان فى الصلح متى استدعاه حضر إليه؛ (يعنى صلح صلاح الدين مع الملك الصالح صاحب حلب) . ثم دخل صلاح الدين بلاد ابن لاون وأخذ فى طريقه حصنا وأخربه، ورغبوا إليه فى الصلح فصالحهم ورجع عنهم. ثم سأله قليج أرسلان [صاحب «1» الروم] فى صلح الشرقيّين أسرهم (يعنى سيف الدين غازى وإخوته) فأجاب ذلك صلاح الدين وحلف فى عاشر جمادى الأولى سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، ودخل فى الصلح قليج أرسلان والمواصلة. ثم عاد صلاح الدين بعد تمام الصلح إلى دمشق؛ ثم منها إلى مصر. فورد عليه الخبر بموت الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد بعد أن استحلف أمراء حلب وأجنادها قبل موته لابن عمّه عز الدين مسعود صاحب الموصل، وهو ابن عم قطب الدين مودود. ولمّا بلغ عزّ الدين مسعودا خبر موت ابن عمّه الملك الصالح المذكور، وأنّه أوصى له بحلب بادر إلى التوجّه إليها خوفا أن يسبقه صلاح الدين إليها فأخذها. وكان أوّل قادم إليها مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل، وكان إذ ذاك صاحب حرّان، وهو مضاف إلى الموصل، ووصلها مظفّر الدين المذكور فى ثالث شعبان من سنة سبع وسبعين.
وفى العشرين منه وصلها عزّ الدين مسعود وطلع إلى القلعة واستولى على ما فيها من الحواصل، وتزوّج بأم الملك الصالح فى الخامس من شوّال من السنة. قال:
وحاصل الأمر أنّ عزّ الدين مسعودا قايض عماد الدين زنكى صاحب سنجار عن حلب بسنجار، وخرج عزّ الدين من حلب ودخلها عماد الدين زنكى، فلمّا بلغ صلاح الدين ذلك توجّه إليه وحاصره فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب، وكان نزول صلاح الدين على حلب فى السادس والعشرين من المحرّم سنة سبع وسبعين وخمسمائة. فتحدّث عماد الدين زنكى مع الأمير حسام الدين طمان بن غازى فى السرّ(6/28)
بما يفعله، فأشار عليه أن يطلب من صلاح الدين بلادا وينزل له عن حلب، بشرط أن يكون له جميع ما فى القلعة من الأموال؛ فقال له عماد الدين: وهذا كان فى نفسى.
ثم اجتمع حسام الدين طمان بن غازى مع صلاح الدين فى السرّ على تقرير القاعدة لذلك، فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب ووقّع له بسنجار وخابور ونصيبين وسروج، ووقّع لطمان المذكور بالرّقّة لسفارته بينهما، وحلف صلاح الدين على ذلك فى سابع «1» صفر من السنة؛ وكان صلاح الدين قد نزل قبل تاريخه على سنجار وأخذها فى ثانى «2» شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين وأعطاها لابن أخيه تقىّ الدين عمر؛ فلمّا جرى الصلح على هذا أخذها من عمر وأعطاها لعماد الدين المذكور. وتسلّم صلاح الدين قلعة حلب وصعد إليها فى يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر [سنة «3» تسع وسبعين وخمسمائة] ، وأقام بها حتّى رتّب أمورها ثم رحل عنها فى الثانى والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبيّا، وولّى القلعة لسيف الدين يازكوج «4» الأسدىّ وجعله يرتّب مصالح ولده.
ثم سار صلاح الدين إلى دمشق وتوجّه من دمشق لقصد محاصرة الكرك فى الثالث من رجب من السنة، وسيّر إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر، يستدعيه ليجتمع به على الكرك، فسار إليه الملك العادل أبو بكر بجمع عظيم وجيش كبير، واجتمع به على الكرك فى رابع شعبان. فلمّا بلغ الفرنج نزوله على الكرك حشدوا خلقا عظيما وجاءوا إلى الكرك ليكونوا من خارج قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصريّة، فسيرّ اليها ابن أخيه تقىّ الدين عمر، ثم تزحزح «5»(6/29)
صلاح الدين عن الكرك فى سادس عشر شعبان من السنة (واستصحب أخاه الملك العادل معه ودخل دمشق فى الرابع والعشرين من شعبان من السنة، وأعطى أخاه العادل حلب، فتوجّه إليها العادل ودخلها يوم الجمعة الثانى والعشرين من شهر رمضان من السنة. وخرج الملك الظاهر ويازكوج من حلب ودخلا دمشق يوم الاثنين الثامن والعشرين من شوّال من السنة. وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال الحميدة، ولم يأخذ منه حلب إلّا لمصلحة رآها أبوه صلاح الدين فى ذلك الوقت. وقيل: إنّ الملك العادل أعطاه على أخذ حلب ثلثمائة ألف دينار يستعين بها على الجهاد. ثم إنّ صلاح الدين رأى أنّ عود الملك العادل إلى مصر، وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح. قيل: إنّ علم الدين سليمان بن جندر «1» كان هو السبب لذلك، فإنّه قال لصلاح الدين، وكانت بينهما مؤانسة قبل أن يتملّك البلاد، وقد سايره يوما، وكان من أمراء حلب، والملك العادل لا ينصفه، وقدّم عليه غيره؛ وكان صلاح الدين قد مرض على حصار الموصل! وعمل الى حرّان وأشفى على الهلاك، ولمّا عوفى ورجع إلى الشام واجتمعا فى المسير، قال له: وكان صلاح الدين قد أوصى لكلّ واحد من أولاده بشىء من البلاد-: بأىّ رأى كنت تظنّ أنّ وصيّتك تنفذ! كأنّك كنت خارجا إلى الصيد ثم تعود فلا يخالفونك! أما تستحى [أن «2» ] يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة! قال صلاح الدين: وكيف ذلك؟ وهو يضحك؛ قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشّا لفراخه قصد أعالى الشجر ليحمى فراخه، وأنت سلّمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض؛ هذه حلب- وهى أمّ البلاد- بيد أخيك،(6/30)
وحماة بيد ابن أخيك «1» ، وحمص بيد ابن عمك أسد الدين؛ وابنك الأفضل مع تقىّ الدين بمصر يخرجه متى شاء، وابنك الآخر مع أخيك فى خيمة يفعل به ما أراد؛ فقال له صلاح الدين: صدقت، فاكتم هذا الأمر؛ ثم أخذ حلب من أخيه العادل وأعادها إلى ابنه الملك الظاهر، وأعطى العادل بعد ذلك حرّان والرّها وميّافارقين ليخرجه من الشام. وفرق الشام على أولاده، فكان ما كان. وزوّج السلطان صلاح الدين ولده الملك الظاهر بغازية خاتون ابنة أخيه الملك العادل المذكور.
ثم كانت وقعة حطّين المباركة على المسلمين، وكانت فى يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فى وسط نهار الجمعة. وكان صلاح الدين كثيرا ما يقصد لقاء العدوّ فى يوم الجمعة عند الصلاة تبرّكا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، فسار فى ذلك الوقت واجتمع له من العساكر الإسلاميّة عدد يفوت الحصر، وكان قد بلغه أنّ العدوّ اجتمع فى عدّة كثيرة بمرج «2» صفّورية بأرض عكّا عند ما بلغهم اجتماع العساكر الإسلامية، فسار صلاح الدين ونزل على طبريّة «3» على سطح الجبل ينظر قصد الفرنج، فلمّا بلغهم نزوله فى الموضع المذكور لم يتحرّكوا ولا خرجوا من منزلتهم، وكان نزولهم فى الموضع المذكور يوم الأربعاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر؛ فلمّا رآهم لا يتحرّكون ترك جريدة على طبريّة، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدوّ، ونزل طبريّة وهجمها وأخذها فى ساعة واحدة، وانتهب الناس ما فيها، وأخذوا فى القتل والسّبى والحريق؛ وبقيت القلعة ممتنعة(6/31)
بمن فيها. ولمّا بلغ العدوّ ما جرى فى طبريّة قلقوا لذلك ورحلوا نحوها، فبلغ السلطان صلاح الدين ذلك فترك على طبريّة من يحاصرها ولحق بالعسكر، والتقى بالعدوّ على سطح جبل طبريّة الغربىّ منها، وذلك فى يوم الخمس الثانى والعشرين من شهر ربيع الآخر، فحال الليل بين العسكرين «1» ، فناما على المصافّ إلى بكرة يوم الجمعة الثالث والعشرين منه، فركب العسكران وتصادما والتحم القتال واشتدّ الأمر؛ ودام القتال حتّى لم يبق إلّا الظّفر، فحال الليل بينهم، وناما على المصافّ، وتحقّق المسلمون أنّ من ورائهم الأردنّ، ومن بين أيديهم بلاد العدوّ، وأنّهم لا ينجيهم إلّا القتال والجهاد، وأصبحوا من الغد فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب، وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل واحد: [الله أكبر «2» ] وألقى الله الرّعب فى قلوب الكافرين، وكان حقّا عليه نصر المؤمنين.
ولما أحسّ الملك القومص بالخذلان هرب فى أوائل الأمر، فتبعه جماعة من المسلمين، فنجا منهم، وأحاط المسلمون بالكافرين من كلّ جانب، وأطلقوا عليهم السهام، وحملوا عليهم بالسيوف، وسقوهم كأس الحمام، وانهزمت طائفة منهم فتبعهم المسلمون يقتلونهم؛ واعتصمت طائفة منهم بتلّ يقال [له «3» ] : تلّ حطّين، وهى قرية عندها قبر النّبيّ شعيب عليه السلام، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران، واشتدّ بهم العطش فاستسلموا [للأسر «4» خوفا من] القتل، فأسر مقدّمتهم، وقتل الباقون، وكان ممّن أسر من مقدميهم الملك جفرى وأخوه الملك، [والبرنس «5» أرناط] صاحب الكرك والشوبك، وابن الهنفرى وابن صاحب طبريّة.(6/32)
قال ابن شدّاد: لقد حكى لى من أثق به أنّه رأى بحوران «1» شخصا واحدا ومعه نيّف وثلاثون أسيرا ربطهم بطنب خيمة، لما وقع عليهم من الخذلان؛ ثم إنّ الملك القومص الذي هرب فى أوّل الوقعة وصل إلى طرابلس، وأصابه ذات الجنب فهلك. وأمّا مقدّم الأسبتار «2» والدّيويّة «3» فإنّه قتلهما السلطان صلاح الدين، وقتل من بقى من أصحابهما حيّا، وأمّا البرنس أرناط فإنّ السلطان كان نذر أنّه إن ظفر به قتله، وذلك أنّه كان عبر إليه بالشّوبك قوم من الديار المصريّة فى حال الصلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين السلطان، فقال: ما يتضمّن الاستخفاف بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ وبلغ ذلك السلطان، فحملته حميّة دينه على أن أهدر دمه.
ولمّا فتح الله عليه بالنصر جلس بالدّهليز (يعنى الخيمة) فإنّها لم تكن نصبت بعد لشغل السلطان بالجهاد، وعرضت عليه الأسارى، وصار الناس يتقرّبون إليه بما فى أيديهم منهم، وهو فرح بما فتح الله عليه؛ واستحضر «4» الملك جفرى وأخاه، والبرنس أرناط، وناول السلطان الملك جفرى شربة من جلّاب وثلج فشرب منها، وكان على أشدّ حال من العطش ثم ناولها للبرنس، ثم قال السلطان للتّرجمان:
قل للملك أنت الذي سقيته وإلّا أنا فما سقيته، فإنّه كان من جميل عادة العرب(6/33)
وكريم أخلاقهم أنّ الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن؛ فلذا قال السلطان للتّرجمان: أنت الذي سقيته. ثمّ أمر السلطان بمسيرهم إلى موضع عيّنه لهم فأكلوا شيئا، ثم عادوا بهم ولم يبق عند السلطان سوى بعض الخدم؛ فآستحضرهم وأقعد الملك فى دهليز الخيمة، فطلب البرنس أرناط وأوقفه بين يديه، وقال [له «1» ] : هأنا أنتصر لمخمد منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل، فسلّ النّيمجاه «2» فضربه بها فحلّ كتفه، وتمّم قتله من حضر، وأخرجت جثّته ورميت على باب الخيمة؛ فلما رآها الملك جفرى لم يشكّ أنه يلحقه به، فاستحضره السلطان وطيّب قلبه، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك إلّا أنّ هذا تجاوز الحدّ وتجرّأ على الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم أمره بالانصراف. وبات الناس تلك الليلة على أتمّ سرور. وفى هذه الواقعة يقول العماد الكاتب قصيدة طنّانة منها:
حططت «3» على حطّين قدر ملوكهم ... ولم تبق من أجناس كفرهم جنسا
بطون ذئاب الأرض صارت قبورهم ... ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا
وقد طاب ريّانا على طبريّة ... فياطيبها ريّا ويا حسنها مرسى
وقال ابن «4» السّاعاتىّ قصيدة أخرى عظيمة فى هذا الفتح، أوّلها:
جلت «5» عزماتك الفتح المبينا ... فقد قرّت عيون المؤمنينا(6/34)
ثمّ رحل السلطان بعد أن تسلم طبريّة ونزل على عكّا فى يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها بكرة يوم الخميس مستهلّ جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ وأخذها واستنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين، وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير، واستولى على ما كان فيها من الأموال والذخائر والبضائع، لأنّها كانت مظنّة التجّار؛ وتفرّقت العساكر فى بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع.
ثم سار السلطان من عكّا ونزل على تبنين «1» يوم الأحد حادى عشر جمادى الأولى، وهى قلعة منيعة، فحاصرها حتّى أخذها فى يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، المذكور عنوة. ثمّ رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلّمها فى غد يوم نزوله عليها.
ثم رحل عنها وأتى بيروت فنازلها يوم الخميس الثانى والعشرين من جمادى الأولى، حتى أخذها فى يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى. ولمّا فرغ باله من هذا رأى قصد عسقلان، ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها؛ ثم رأى أنّ العسكر قد تفرّق فى الساحل وكانوا قد ضرسوا من القتال؛ وكان قد اجتمع بصور من بقى من الفرنج فرأى أنّ قصده عسقلان أولى، لأنّها أيسر من صور؛ فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة. وأقام عليها إلى أن تسلّم أصحابه مدينة غزّة وبيت «2» جبريل والماطرون «3» من غير قتال، وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها ثانيا من المسلمين خمس وثلاثون سنة؛ فإنّ أخذها كان فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ولمّا تسلّم السلطان عسقلان والبلاد المحيطة(6/35)
بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد فى قصد القدس المبارك، واجتمع عليه العساكر التى كانت متفرّقة فى الساحل، فسار بهم نحو القدس معتمدا على الله تعالى مفوّضا أمره إليه منتهزا الفرصة فى فتح باب الخير الذي حثّ على انتهازه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من فتح له باب خير فلينتهزه فإنّه لا يعلم متى يغلق دونه» .
وكان نزول السلطان على القدس فى يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين المذكورة، ونزل بالجانب الغربىّ، وكان مشحونا بالمقاتلة من الخيّالة والرّجّالة حتّى إنّه حزر أهل الخبرة، ممّن كان مع السلطان، من كان «1» فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصّبيان؛ ثم انتقل السلطان لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالى فى يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب عليها المجانيق وضايق البلد بالزّحف والقتال حتّى أخذ النّقب فى السور ممّا يلى وادى جهنّم «2» ؛ ولمّا رأى العدوّ ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع لهم عنه، وظهرت لهم أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتدّ روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى «3» ، فاستكانوا إلى طلب الأمان، وسلّموا المدينة فى يوم الجمعة السابع والعشرين «4» من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها فى القرآن الكريم. فآنظر إلى هذا الاتفاق العظيم، كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين فى مثل زمان الإسراء بنبيّهم صلّى الله عليه وسلّم.(6/36)
قال: وكان فتحا عظيما شهده من العلماء خلق، ومن أرباب الحرب «1» والزّهد عالم كثير، وارتفعت الأصوات بالضّجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصلّيت فيه الجمعة يوم فتحه، ونكّس الصليب الذي كان على قبّة الصخرة، وكان الصليب شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام. وكان الفرنج قد استولوا على القدس- بعد فتحه الأوّل فى زمن عمر- فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة؛ وقيل: فى ثانى شعبان وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة (أعنى سنة اثنتين وتسعين) ، وذلك كان فى خلافة المستعلى أبى القاسم أحد خلفاء مصر من بنى عبيد، وكان فى وزراة بدر الجمالى بديار مصر.
وقد حكينا طرفا من ذلك فى ترجمة المستعلى فى هذا الكتاب. قلت: وعلى هذا الحساب يكون القدس أقام بيد الفرنج نيّفا وتسعين سنة من يوم أخذوه فى خلافة المستعلي إلى أن فتحه السلطان صلاح الدين فى هذه المرّة ثانيا. ولله الحمد. قال ابن شدّاد: «وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كلّ رجل عشرين «2» دينارا، وعن كلّ امرأة خمسة دنانير صوريّة، وعن كلّ صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلّا أخذ أسيرا، وأفرج عمّن كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقا عظيما؛ وأقام السلطان بالقدس يجمع الأموال ويفرّقها على الأمراء والرجال، ثم رسم «3» بإيصال من قام بقطيعته من الفرنج إلى مأمنه، وهى مدينة صور، فلم يرحل السلطان من القدس ومعه من المال الذي جى شىء، وكان يقارب مائتى ألف دينار [وعشرين «4» ألف دينار] .(6/37)
ولمّا فتح القدس حسن عنده فتح صور، وعلم أنّه متى أخّره عسر عليه فتحه، فسار نحوها حتى أتى عكّا فنزل عليها ونظر فى أمورها؛ ثم رحل عنها متوجّها إلى صور فى يوم الجمعة خامس شهر رمضان من سنة ثلاث وثمانين المذكورة، فنزل قريبا منها، وأرسل لإحضار آلات القتال حتّى تكاملت عنده، نزل عليها فى ثانى «1» عشر الشهر المذكور، وقاتل أهلها قتالا شديدا وضايقها، واستدعى أسطول مصر، وكان السلطان يضايقها فى البرّ والبحر؛ وخرج أسطول صور فى الليل فكبس أسطول المسلمين فى البحر، وأخذوا المقدّم والرئيس وخمس قطع للمسلمين، وقتلوا خلقا كثيرا من الرجال، وذلك فى السابع والعشرين من شهر «2» شوّال؛ وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره؛ وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار، فجمع السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بالرحيل لنستريح الرجال، فرحل عنها فى يوم الأحد ثانى ذى القعدة وتفرّقت العساكر، وأعطى كلّ طائفة منها دستورا؛ فسار كلّ قوم إلى بلادهم، وأقام هو فى جماعة من خواصّه بمدينة عكّا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فرحل ونزل على كوكب «3» فى أوّل المحرّم، ولم يبق معه من العسكر إلّا القليل؛ وكان كوكب حصنا حصينا فيه الرجال [والأقوات «4» ] ، فعلم السلطان أنّه لا يؤخذ إلّا بقتال شديد. فرحل إلى دمشق فدخلها فى سادس «5» عشرين شهر ربيع الأوّل من السنة؛ وأقام بدمشق خمسة أيّام.
وبلغه أنّ الفرنج قصدوا جبلة «6» واغتالوها، فخرج مسرعا وقد سيّر يستدعى العساكر(6/38)
من جميع البلاد، وسار يطلب جبلة؛ فلمّا علم الفرنج بخروجه كفّوا عن ذلك.
وكان السلطان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفّر الدين [بن] زين الدين صاحب إربل وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه؛ فسار السلطان نحو حصن «1» الأكراد حتى اجتمع بالمذكورين [و] تقوّى بهم للغاية» . انتهى كلام ابن شدّاد.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان: «وفى يوم الجمعة رابع جمادى الأولى دخل السلطان (يعنى صلاح الدين) بلاد العدوّ على تعبئة حسنة ورتّب الأطلاب، وسارت الميمنة أوّلا ومقدّمها عماد الدين زنكى، والقلب فى الوسط، والميسرة فى الأخير ومقدّم الميسرة مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل، فوصل إلى أنطرطوس «2» يوم الأحد سادس جمادى الأولى، فوقف قبالتها ينظر إليها فإنّ قصده مجبلة، فاستهان أمرها وعزم على قنالها فسيّر من ردّ الميمنة، وأمرها بالنزول إلى جانب البحر، والميسرة على الجانب الآخر، ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهى مدينة راكبة على البحر ولها برجان، فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا عليها، واشتدّ القتال فما استتمّ نصب الخيام حتّى صعد المسلمون سورها وأخذوها بالسيف، وغنم المسلمون جميع ما فيها، وأحرق البلد وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى، وسلّم أحد البرجين إلى مظفّر الدين، فما زال يحار به حتىّ أخربه. وحضر إلى السلطان ولده الملك الظاهر بعساكر حلب، لإنّه كان طلبه فجاء بعساكر عظيمة. ثم سار السلطان يريد جبلة فوصلها فى ثانى عشر جمادى الأولى،(6/39)
وما استتمّ نزول العسكر عليها حتّى أخذت البلد؛ وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم، وقوتلت القلعة قتالا شديدا ثم سلّمت بالأمان. ثم سار السلطان عنها إلى اللّاذقيّة فنزل عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان (يعنى اللّاذقيّة) متّصلتان على تلّ مشرف على البلد، واشتدّ القتال إلى آخر النهار، فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم المسلمون منه غنيمة عظيمة لأنّه كان بلد التجّار؛ ثم جدّوا فى أمر القلعتين بالنّقوب حتّى بلغ طول النّقب ستين ذراعا وعرضه أربع أذرع. فلمّا رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان، وذلك فى عشيّة يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر، والتمسوا الصلح على سلامة أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجاب السلطان إلى ذلك، ورفع العلم الإسلامىّ عليها فى يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر. ثم رحل عنها ونزل صهيون «1» وقاتلهم أشدّ قتال حتّى أخذ البلد يوم الجمعة ثانى عشر جمادى الآخرة؛ ثم تقدّموا إلى القلعة وصدقوا القتال، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير، ومن المرأة خمسة دنانير، ومن كل صغير ديناران، الذكر والأنثى سواء.
وأقام السلطان صلاح الدين بهذه الجهات حتّى أخذ عدّة قلاع منها بلاطنس «2» وغيرها من الحصون المتعلّقة بصهيون. ثم رحل عنها وأتى بكاس، وهى قلعة حصينة على العاصى «3» ولها نهر يخرج من تحتها، وكان النزول عليها فى يوم الثلاثاء(6/40)
سادس «1» جمادى الاخرة، وقاتلوها قتالا شديدا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ففتحها عنوة، فقتل أكثر من بها وأسر الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ولها قلعة تسمّى الشّغر «2» ، وهى فى غاية المنعة يعبر إليها بجسر وليس عليها طريق، فسلّطت المجانيق عليها من جميع الجوانب، فرأوا أن لا ناصر لهم فطلبوا الأمان فى يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر. ثم سار السلطان الى برزيه «3» ، وهى أيضا من الحصون المنيعة فى غاية القوّة يضرب بها المثل، ويحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوّها خمسمائة ونيّف وسبعون ذراعا، وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر، فقاتلوها حتّى أخذوها عنوة فى يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه. ثم سار السلطان إلى دربساك «4» فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب، وهى قلعة منيعة فقاتلها قتالا شديدا حتى أخذها وترقّى العلم الإسلامىّ عليها يوم الجمعة الثانى والعشرين من رجب، وأعطاها للأمير علم الدين سليمان بن جندر، وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من رجب ونزل على بغراس، وهى قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية، وقاتلها قتالا شديدا حتّى صعد العلم الإسلامى عليها فى ثانى شعبان؛ وراسله أهل أنطاكية فى طلب الصلح فصالحهم لشدّة ضجر العسكر؛ فكان الصلح بينهم على أن يطلقوا كلّ أسير عندهم لا غير، والصلح إلى سبعة أشهر؛ فإن جاءهم من ينصرهم وإلّا سلّموا البلد.(6/41)
ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك، فوصل إلى حلب فى حادى عشر شعبان، وأقام بالقلعة ثلاثة أيام، وولده يقوم بالضّيافة حقّ القيام. ثم سار من حلب فاعترضه تقىّ الدين عمر ابن أخيه، وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاما وأحضر له سماعا من جنس ما يعمل الصّوفيّة، وبات فيها ليلة واحدة، وأعطاه السلطان جبلة واللّاذقيّة. ثم سار السلطان على طريق بعلبكّ، ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيّام يسيرة. ثم سار فى أوائل شهر رمضان يريد صفد «1» ، فنزل عليها ولم يزل القتال عمّالا فى كلّ يوم حتّى تسلّمها بالأمان فى رابع عشر شوّال؛ وفى شهر رمضان المذكور سلّمت الكرك، سلّمها نوّاب صاحبها وخلّصوا صاحبها بذلك، فإنّه كان فى الأسر من نوبة حطّين. ثم نزل السلطان بالغور «2» ، وأقام بقيّة الشهر، فأعطى الجماعة دستورا. وسار السلطان مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه العادل المذكور، لأنّ العادل المذكور كان متوجّها إلى مصر، فدخل السلطان القدس فى ثامن ذى الحجّة وصلّى به العيد. وتوجّه فى حادى عشر ذى الحجّة إلى عسقلان لينظر فى أمورها، فتوجّه إليها وأخذها من أخيه، وعوّضه عنها الكرك. ثم مرّ على بلاد الساحل يتفقّد أحوالها. ثم سار فدخل عكّا وأقام بها معظم المحرّم من سنة خمس وثمانين وخمسمائة يصلح أحوالها، ورتّب فيها الأمير بهاء الدين قراقوش، وأمره بعمارتها وعمارة سورها.
ودخل السلطان دمشق فى مستهل صفر من السنة، وأقام بها إلى شهر ربيع الأوّل من السنة. ثم خرج إلى شقيف «3» أرنون، وهو موضع حصين، فخيّم فى مرج عيون(6/42)
بالقرب من الشّقيف فى سابع عشر «1» شهر ربيع الأوّل فأقام أيّاما على قتاله، والعسكر تتواصل إليه؛ فلمّا تحقّق صاحب الشّقيف أنّه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلّا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له فى الدخول وأكرمه السلطان واحترمه، وكان من أكبر الفرنج قدرا، وكان يعرف بالعربية، وعنده اطّلاع على بعض التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأتّى؛ لمّا خضر بين يدى السلطان وأكل معه الطعام، ثم خلا به وذكر أنّه مملوكه وتحت طاعته، وأنّه يسلّم إليه المكان من غير تعب، واشترط عليه أن يعطى موضعا يسكنه بدمشق، فإنّه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج، وإقطاعا بدمشق يقوم به وبأهله، وشروطا غير ذلك، فأجابه إلى ذلك. وفى أثناء شهر ربيع الأوّل وصل إلى السلطان [الخبر «2» ] بتسليم الشّوبك، وكان قد أقام عليه جمعا يحاصرونه مدّة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه فسلّموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أنّ جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فرسم عليه. ثم بلغه أنّ الفرنج قصدوا عكّا ونزلوا عليها فى ثالث عشر شهر رجب من سنة خمس وثمانين المذكورة. وفى ذلك اليوم سيّر السلطان صاحب الشّقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة. ثم سار السلطان وأتى عكّا ودخلها بغتة ليقوّى قلوب من بها، واستدعى العساكر من كلّ ناحية؛ وكان العدوّ مقدار ألفى فارس وثلاثين ألف راجل، وتكاثر الفرنج واستفحل أمرهم، وأحاطوا بعكّا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، وذلك فى يوم الخميس سلخ رجب، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهد فى فتح الطريق إليها لتستمرّ السابلة بالميرة والنّجدة، وشاور الأمراء فاتّفقوا على مضايقة العدوّ لفتح الطريق،(6/43)
ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون؛ ودخل السلطان عكّا فأشرف على أمورها؛ ثم جرى بين الفريقين مناوشات فى عدّة أيام، وتأخّر الناس إلى تلّ العياضيّة وهو مشرف على عكّا. وفى هذه المنزلة توفّى الأمير حسام الدين طمان المقدّم ذكره، وذلك فى نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكان من الشّجعان» .
قال ابن خلّكان: «قال شيخنا ابن شدّاد: وسمعت السلطان ينشد- وقد قيل له: إنّ الوخم قد عظم بعكّا، وإنّ الموت قد فشا بين الطائفتين-:
اقتلانى «1» ومالكّا ... واقتلا مالكّا معى
- قلت: وهذا الشعر له سبب ذكرناه فى ترجمة الأشتر النّخعىّ، اسمه مالك، فى أوائل هذا الكتاب فإنّه ملك مصر، وكان الأشتر من أصحاب علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- والحكاية مطوّلة تنظر فى ترجمة مالك (أعنى الأشتر النّخعىّ من هذا الكتاب-.
قال ابن شدّاد: ثم إنّ الفرنج جاءهم الإمداد من البحر، واستظهروا على الجماعة الإسلاميّة بعكّا، وكان فيهم الأمير سيف الدين علىّ بن أحمد الهكّارىّ المعروف بالمشطوب، والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصّلاحىّ، وضايقوهم أشدّ مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد. فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة [سنة «2» سبع وثمانين وخمسمائة] خرج من عكّا رجل عوّام فى البحر، ومعه كتب إلى السلطان من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه، وأنّهم تيقّنوا(6/44)
الهلاك، ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت رقابهم، وأنّهم صالحوا على أن يسلّموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والأسلحة والمراكب، ومائتى ألف دينار وخمسمائة «1» أسير مجاهيل ومائة أسير معيّنين من جماعتهم، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصّة بهم وذراريهم ونسائهم، وصمنوا «2» للمركيس- لأنه كان الواسطة فى هذا الأمر- أربعة آلاف دينار. فلمّا وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارا عظيما، وعظم عليه هذا الأمر، وجمع «3» أهل الرأى من أكابر دولته، وشاورهم فيما يصنع، واضطربت آراؤه، وتقسّم فكره وتشوّش حاله، وعزم أن تكتب فى تلك الليلة كتب مع الرجل العوّام الذي قدم عليه بهذا الخبر ينكر المصالحة على هذا الوجه، وبينما هو يتردّد فى هذا فلم يشعر إلّا وقد ارتفعت أعلام العدوّ وصلبانه «4» وناره على سور البلد؛ وذلك فى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة؛ وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين، واشتدّ حزنهم، ووقع من الصباح والعويل والبكاء ما لا بذكر.
ثم خرجت الفرنج بعد أن ملكوا عكّا قاصدين عسقلان ليأخذوها أيضا من المسلمين، وساروا على الساحل والسلطان وعساكره قبالتهم إلى أن وصلوا إلى أرسوف «5» ، فكان بينهما قتال عظيم، ونال المسلمين وهن شديد. ثم ساروا على تلك الهيئة تتمّة عشر منازل من سيرهم من عكّا، فأتى السلطان الرّملة، فأتاه من أخبر بأنّ القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات، فأحضر السلطان أرباب(6/45)
مشورته، وشاورهم فى أمر عسقلان، وهل الصواب خرابها أو بقاؤها؟ فاتّفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل فى قبالة العدوّ، ويتوجّه السلطان بنفسه ويخربها خوفا من أن يصل العدوّ إليها ويستولى عليها وهى عامرة ويأخذ بها القدس، وينقطع بها طريق مصر، وامتنع العسكر من الدخول «1» وخافوا ممّا جرى على المسلمين بعكّا. فلا قوّة إلّا بالله. ورأوا أنّ حفظ القدس أولى، فتعيّن خرابها من عدّة جهات؛ وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فسار إليها السلطان فى سحر يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان المذكور. قال ابن شدّاد: وتحدّث معى فى معنى خرابها (يعنى عسقلان) بعد أن تحدّث مع ولده الملك الأفضل أيضا فى أمرها، ثم قال السلطان: لأن أفقد ولدى جميعهم أحبّ إلىّ من أهدم منها حجرا واحدا، ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك، وكان فيه مصلحة للمسلمين، فما الحيلة فى ذلك! فلمّا اتّفق الرأى على خرابها أوقع الله ذلك فى نفسه، وأنّ المصلحة فيه لعجز المسلمين عن حفظها. وشرع فى إخرابها فى سحر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة المذكورة، وقسّم السور على الناس وجعل لكلّ أمير وطائفة من العسكر بدنه معلومة وبرجا معلوما يخربه، ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضّجيج والبكاء لفرقة بلدهم وأوطانهم، وكان بلدا خفيفا على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا فى سكنه، فلحق الناس على خرابه حزن عظيم. وشرع أهل البلد فى بيع ما لا يقدرون على حمله، فباعوا ما يساوى عشرة دراهم بدرهم واحد، حتّى باعوا اثنى عشر طير دجاج بدرهم، واختبط أهل البلد وخرجوا بأولادهم وأهليهم إلى الخيم وتشتّتوا، فذهب منهم قوم إلى مصر وقوم إلى الشام، وجرت عليهم أمور عظيمة، واجتهد السلطان وأولاده فى خراب البلد كى لا يسمع العدوّ فيسرع إليها؛(6/46)
فلا يمكن إخرابه، وكانت الناس على أصعب حال، واشتد تعب الناس مما قاسوه فى خرابها.
وفى تلك الليلة وصل للملك العادل من حلب من أخبره أنّ الفرنج تحدّثوا معه فى الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحليّة، فرأى السلطان أنّ ذلك مصلحة لما علم من نفوس الناس والعساكر من الضّجر من القتال وكثرة ما عليه من الديون؛ فكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل يأذن له فى ذلك، وفوّض الأمر إلى رأيه، وأصبح السلطان يوم الجمعة وهو مصرّ على الخراب، ويستعجل الناس عليه ويحثّهم على العجلة فيه؛ وأباحهم ما فى الهرى «1» الذي كان مدخرا للميرة خوفا من أن يهجم العدوّ والعجز عن نقله. ثمّ أمر السلطان بإحراق البلد فأضرمت النيران فى بيوته، ولم يزل الخراب يعمل فى البلد الى سلخ شعبان المذكور؛ ثم أصبح السلطان يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان، أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر خراب البلد بنفسه وخواصّه.
قال ابن شدّاد، ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه (يعنى الملك الأفضل) .
وفى يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى السلطان الرّملة وأشرف عليها، وأمر أيضا بإحراقها وإخراب قلعتها (يعنى الرملة) فأحرقت وأخربت قلعتها خوفا أيضا من الفرنج.
وفى يوم السبت ثالث عشر رمضان تأخّر السلطان والعسكر إلى جهة الجبل ليتمكّن الناس من تسيير دوابّهم لإحضار ما يحتاجون إليه. ثم شرع السلطان أيضا فى خراب قلعة الماطرون «2» ، وكانت قلعة منيعة فشرع الناس فى ذلك. ثم ذكر ابن شدّاد فصلا طويلا يتضمّن الصلح بين الأنكلتير «3» ملك الفرنج وبين السلطان صلاح الدين المذكور إلى أن قال: وحاصل الأمر أنه تمّ الصلح بينهم، وكانت الأيمان يوم(6/47)
الأربعاء الثانى والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة؛ ونادى المنادى بانتظام الصلح، وأنّ البلاد الإسلامية والنّصرانية واحدة فى الأمن والمسالمة «1» ، فمن شاء «2» من كلّ طائفة أن يتردّد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور.
وكان يوما مشهودا نال الطائفتين فيه من السرور ما لا يعلمه إلّا الله تعالى؛ وقد علم الله تعالى أنّ الصلح لم يكن عن مرضاة السلطان، لكنّه رأى المصلحة فى الصلح لسآمة العسكر من القتال، ومظاهرتهم للمخالة. وكان مصلحة فى علم الله تعالى، فإنّه اتّفقت وفاته بعد الصلح، فلو اتّفق ذلك فى أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر ثم إنّ السلطان أعطى العساكر الوافدة عليه من البلاد البعيدة برسم الغزاة والنّجدة دستورا، فساروا عنه «3» . وعزم السلطان على الحجّ لمّا فرغ باله من هذه الجهة، وأمن الناس وتردّد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاءوا هم أيضا إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد؛ وتوجّه السلطان إلى القدس ليتفقّد أحواله، وتوجّه أخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق. ثم تأهّب السلطان إلى المسير إلى الديار المصريّة، ولم يزل كذلك إلى أن صحّ عنده سير مركب الأنكلتير ملك الفرنج إلى بلاده فى مستهلّ شوّال، فعند ذلك قوى عزمه على أن يدخل الساحل جريدة يتفقّد أحواله وأحوال القلاع البحريّة إلى بانياس. ثم يدخل دمشق فيقيم بها قليلا، ثم يعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصريّة.(6/48)
قال ابن شدّاد: وأمرنى بالمقام بالقدس إلى حين عوده إليه لعمارة بيمارستان أنشأه به، وتكميل المدرسة التى أنشأها به، وسار ضحوة «1» نهار الخميس السادس من شوّال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. فلمّا فرغ السلطان من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة يوم الأربعاء سادس «2» عشرين شوّال، وفيها أولاده:
الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر مظفّر الدّين الخضر المعروف بالمشمّر «3» وأولاده الصغار؛ وكان السلطان يحبّ البلد (يعنى دمشق) ويؤثر الإقامة به على سائر البلاد، وجلس للناس فى بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه، وحضروا عنده وبلّوا أشواقهم منه، وأنشده الشعراء، ولم يتخلّف عنه أحد من الخاصّ والعامّ، وأقام ينشر جناح عدله بدمشق إلى أن كان يوم الاثنين «4» مستهلّ ذى القعدة، عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر أخيه لأنّه لمّا وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها [حتّى «5» يتملّى بالنظر إليه ثانيا] ، ولمّا عمل الأفضل الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمّته، وكان أراد بذلك مجازاته لما خدمه [به «6» ] حين وصوله إلى بلده، وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة، وسأل الأفضل والده السلطان فى الحضور فحضر، وكان يوما مشهودا على ما بلغنى. قال: ولمّا أصلح الملك العادل الكرك سار قاصدا الديار الفراتيّة «7» ، وأحبّ أن يدخل دمشق،(6/49)
فوصل إليها وخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيّد «1» حول غباغب إلى الكسوة حتّى لقى أخاه الملك العادل وسارا جميعا «2» يتصيّدان، ثم عادا إلى دمشق؛ فكان دخولهما دمشق آخر نهار يوم الأحد حادى عشرين «3» ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وأقام السلطان بدمشق يتصيّد هو وأخوه الملك العادل وأولاده ويتفرّجون فى أراضى دمشق، وكأنه وجد راحة ممّا كان فيه من ملازمة التعب والنّصب وسهر الليل، فكان ذلك كالوداع لأولاده، ونسى عزمه إلى مصر، وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدّم.
قال ابن شدّاد: ووصلنى كتابه إلى القدس يستدعينى لخدمته، فخرجت من القدس فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرّم سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثانى عشر صفر من السنة. وركب السلطان ليتلقى الحاج فى يوم الجمعة خامس عشر صفر، وكان ذلك آخر ركوبه. ولمّا كانت ليلة السبت وجد كسلا عظيما وما انتصف الليل حتّى غشيته حمّى صفراوية، وكانت فى باطنه أكثر ممّا فى ظاهره، وأصبح يوم السبت متكسّلا، عليه أثر الحمّى، ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضرت عنده أنا والقاضى الفاضل، فدخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه بالليل، وطاب له الحديث إلى وقت الظهر، ثم انصرفنا وقلوبنا عنده، فتقدّم إلينا بالحضور على الطعام فى خدمة(6/50)
ولده الأفضل، ولم يكن للقاضى الفاضل فى ذلك عادة فآنصرف، ودخلت إلى الإيوان القبلىّ وقد مدّ السّماط، وابنه الملك الأفضل قد جلس موضعه، فانصرفت وما كانت لى قوّة للجلوس استيحاشا له، وبكى فى ذلك اليوم جماعة تفاؤلا بجلوس ولده الأفضل موضعه. ثمّ أخذ المرض يترايد به من حينئذ، ونحن نلازم التردّد له طرفى النهار، وكان مرضه فى رأسه. وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرا وحضرا، ورأى الأطباء فصده ففصدوه فى الرابع، فاشتدّ مرضه وحلّت «1» رطوبات بدنه، وكان يغلب على مزاجه اليبس، فلم يزل المرض يتزايد به حتّى انتهى إلى غاية الضعف، واشتدّ مرضه فى السادس والسابع والثامن، ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه؛ ولمّا كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب، واشتدّ الخوف فى البلد؛ وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق، وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولمّا كان اليوم العاشر من مرضه أيس منه الأطبّاء. ثم شرع ولده الملك الأفضل فى تحليف الناس له. ثم إنّه توفّى- إلى رحمة الله تعالى- بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد الخلفاء الراشدين- رضى الله عنهم- وغشى القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلّا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنّهم يتمنّون فداء من يعزّ عليهم بنفوسهم، وكنت أتوهّم أنّ هذا على ضرب من التجوّز والترخّص إلى ذلك اليوم، فإنّى علمت من نفسى ومن غيرى أنّه لو قبل الفداء لفدى(6/51)
بالأنفس. تم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسّله أبو القاسم ضياء الدّين عبد الملك بن زيد الدّولعىّ «1» خطيب دمشق، وأخرج تابوت السلطان- رحمه الله تعالى- بعد صلاة الظهر مسجّى بثوب فوط، فارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضّجيج وأخذ الناس فى البكاء والعويل، وصلّوا عليه أرسالا، ثم أعيد إلى داره التى فى البستان، وهى التى كان متمرضا بها، ودفن فى الضّفّة الغربيّة منها. وكان نزوله فى حفرته قريبا من صلاة العصر. ثم أطال ابن شدّاد القول فى هذا المعنى إلى أن أنشد فى آخر السيرة بيت أبى تمّام الطائىّ، وهو قوله:
ثمّ انقضت تلك السّنون وأهلها ... فكأنّها وكأنّهم أحلام
ولقد كان- رحمه الله تعالى-. من محاسن الدنيا وغرائبها.
ثم ذكر ابن شدّاد أنّه مات ولم يخلّف فى خزائنه من الذهب والفضّة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريّة ودينارا «2» واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة. وفى ساعة موته كتب القاضى الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها:
«لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة. إنّ زلزلة الساعة شىء عظيم.
كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر، أحسن الله عزاءه وجبر مصابه؛ وجعل(6/52)
فيه الخلف لمماليك المرحوم «1» وأصحابه، وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا؛ [وقد حفرت «2» الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر؛ وقد ودّعت أباك ومخدومى وداعا لا تلافىّ بعده] ؛ وقد قبلّت وجهه عنّى وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة، ضعيف القوّة، راضيا عن الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله؛ وبالباب من الجنود المجنّدة، والأسلحة المغمدة؛ ما لا يدفع البلاء، ولا يردّ القضاء «3» ؛ وتدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلّا ما يرضى الربّ؛ وإنّا عليك يا يوسف لمحزونون.
وأمّا الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلنى المصاب عنها؛ وأمّا لائح الأمر فإنّه إن وقع اتّفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو الهول العظيم والسلام» . انتهى كلام القاضى الفاضل بما كتبه للملك الظاهر.
قال ابن خلّكان: «واستمرّ السلطان صلاح الدين مدفونا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبّة شمالىّ الكلّاسة «4» التى هى شمالىّ جامع دمشق، ولها بابان، أحدهما إلى الكلّاسة والآخر زقاق غير نافذ؛ وهو مجاور المدرسة العزيزيّة. ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبّة فى يوم عاشوراء فى يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. ثم إنّ ولده الملك العزيز عثمان لمّا ملك دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبّة المدرسة العزيزيّة» . قلت: فى أيّامه بنى الخصىّ(6/53)
بهاء الدين قراقوش قلعة الجبل «1» ثم قلعة «2» المقس ثم سور القاهرة، وذرع السور المذكور سبعة «3» وعشرون ألف ذراع وثلثمائة ذراع.
قال ابن خلّكان: «وكان السلطان صلاح لمّا ملك الديار المصرية لم يكن بها شىء من المدارس، فإنّ الدولة المصريّة كان مذهبها مذهب الإماميّة «4» ، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمّر السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة «5»(6/54)
المجاورة للإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وبنى مدرسة «1» مجاورة للمشهد المنسوب للحسين ابن علىّ- رضى الله عنهما- بالقاهرة. وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريّين خانقاه «2» ، ووقف عليها وقفا هائلا؛ وكذلك وقف على كلّ مدرسة عمّرها وقفا جيّدا، وجعل دار عبّاس الوزير العبيدى مدرسة «3» للحنفيّة، وأوقف عليها وقفا جيّدا أيضا وهى بالقاهرة، وبنى المدرسة التى بمصر المعروفة [بابن «4» ] زين التجّار للشافعيّة، ووقف عليها وقفا جيّدا، وبنى بالقصر داخل القاهرة بيمارستانا «5» ، وأوقف له وقفا جيدا؛ وله بالقدس مدرسة وخانقاه.
قال ابن خلّكان: «ولقد فكّرت فى نفسى فى أمور هذا الرجل، وقلت: إنه سعيد فى الدنيا والآخرة، فإنّه فعل فى الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتّب هذه الأوقاف العظيمة، وليس شىء منسوبا إليه فى الظاهر،(6/55)
فإنّ المدرسة التى بالقرافة ما يسمّونها الناس إلّا بالشافعىّ، والمجاورة للمشهد لا يقولون إلّا المشهد، والخانقاه لا يقولون إلّا سعيد السعداء، والمدرسة الحنفيّة لا يقولون إلا السيوفيّة، والتى بمصر لا يقولون إلّا مدرسة زين التّجّار، والتى بمصر أيضا مدرسة المالكيّة، وهذه صدقة السّرّ على الحقيقة. والعجب أنّ له بدمشق فى جانب البيمارستان النّورىّ مدرسة أيضا، ويقال لها: الصلاحيّة، وهى منسوبة إليه وليس لها وقف.
قال: وكان مع هذه المملكة المتّسعة والسلطنة العظيمة كثير التواضع واللّطف قريبا من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحبّ العلماء وأهل الخير ويقرّبهم ويحسن إليهم؛ وكان يميل إلى الفضائل، ويستحسن الأشعار الجيّدة ويردّدها فى مجالسه، حتّى قيل: إنّه كان كثيرا ما ينشد قول أبى المنصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق الحميرىّ، وهو قوله:
وزارنى طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعى الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولى به فرحا ... وكاد يهتك سترا لحبّ بى شفغا
ثم انتبهت وآمالى تخيّل لى ... نيل المنى فاستحالت غبطتى أسفا
وقيل: إنّه كان يعجبه قول نشو الملك أبى الحسن علىّ بن مفرّج المعروف بابن المنجّم المغربىّ «1» الأصل المصرىّ الدار والوفاة، وهو فى خضاب الشّيب وأجاد:
وما خضب الناس البياض لفبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنّه مات الشباب فسوّدت ... على الرسم من حزن عليه منازله
قالوا: فكان [إذا قال «2» : مات الشباب] يمسك كريمته وينظر إليها ويقول:
إى والله مات الشباب!. وذكر العماد الكاتب الأصبهانىّ فى كتابه الخريدة أنّ السلطان صلاح الدين فى أوّل ملكه كتب إلى بعض أصحابه بدمشق:(6/56)
أيّها الغائبون عنّا وإن كن ... تم لقلبى بذكركم جيرانا
إنّنى مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندى عيانا
قال ابن خلّكان: وأمّا القصيدتان اللتان ذكرت أنّ سبط بن التّعاويذىّ أنفذهما إليه من بغداد، وأنّ إحداهما وازن بها قصيدة صرّدرّ «1» الشاعر، وقد ذكرت منها أبياتا فى ترجمة الكندرىّ «2» وأوّلها:
أكذا يجازى ودّ كلّ قرين ... أم هذه شيم الظّباء العين
ثم ذكر قصيدة سبط [بن] التّعاويذىّ. وهى على هذا الوزن أضربت عن ذكرها لطولها. ثم قال ابن خلّكان: وأمّا القصيدة الثانية (يعنى التى كتبها إليه الخليفة فى أوائل أمر صلاح الدين) قال: فمنها قوله:
حتّام أرضى فى هواك وتغضب ... وإلى متى تجنى علىّ وتعتب
ما كان لى لولا ملالك زلّة ... لمّا مللت زعمت أنّى مذنب
خذ فى أفانين الصدود فإنّ لى ... قلبا على العلّات لا يتقلّب
أتظنّنى أضمرت بعدك سلوة ... هيهات عطفك من سلوّى أقرب
لى فيك نار جوانح ما تنطفى ... حزنا وماء مدامع ما ينضب
أنسيت أيّاما لنا ولياليا ... للهو فيها والبطالة ملعب
أيام لا الواشى يعدّ ضلالة ... ولهى عليك ولا العذول يؤنّب
قد كنت تنصفنى المودّة راكبا ... فى الحبّ من أخطاره ما أركب(6/57)
واليوم أفنع أن يمرّ بمضجعى ... فى النوم طيف خيالك المتأوّب
ما خلت «1» أنّ جديد أيّام الصّبا ... يبلى ولا ثوب الشّبيبة يسلب
حتّى انجلى ليل الغواية واهتدى ... سارى الدجى وانجاب «2» ذاك الغيهب
وتنافر البيض الحسان فأعرضت ... عنّى سعاد وأنكرتنى زينب
قالت وريعت من بياض مفارقى ... ونحول جسمى بان منك الأطيب
إن تنكرى سقمى فخصرك ناحل ... أو تنكرى شيبى فثغرك أشنب
يا طالبا بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب
أتروم بعد الأربعين تعدّها ... وصل الدّمى هيهات عزّ المطلب
والقصيدة طويلة ذكرها ابن خلّكان، وقد نقلتها من خط عسر. ثم قال ابن خلّكان: وقد مدحه جميع شعراء عصره، فمنهم العلم الشّاتانىّ «3» واسمه الحسن- رحمه الله- مدحه بقصيدة أوّلها:
أرى النصر مقرونا برايتك الصّفرا ... فسرو املك الدنيا فأنت بها أحرى
ومدحه المهذّب أبو حفص عمر بن محمد بن علىّ بن أبى نصر المعروف بابن الشّحنة الموصلىّ الشاعر المشهور بقصيدته التى أوّلها:
سلام مشوق قد براه التشوّق ... على جيرة الحىّ الذين تفرّقوا
وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتا، وفيها البيتان السائران أحدهما:
وإنّى امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق(6/58)
وقد أخذ هذا المعنى من قول بشّار بن برد، وهو:
يا قوم أذنى لبعض الحى عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
والبيت الثانى من قول ابن الشّحنة المذكور.
وقالت لى الآمال إن كنت لا حقا ... بأبناء أيّوب فأنت الموفّق
قال: ومدحه ابن قلاقس «1» وابن الذّروىّ «2» وابن «3» المنجّم وابن سناء «4» الملك وابن الساعاتى «5» والإربلىّ «6» ومحمد بن إسماعيل بن حمدان. انتهى ما أوردته من كلام ابن خلّكان ومن كلام ابن شدّاد وابن الأثير وابن الجوزىّ وغيرهم باختصار.
وقال العلّامة أبو المظفّر فى تاريخه مرآة الزمان: «ولمّا كان فى سادس عشر صفر وجد السلطان كسلا وحمّ حمّى صفراويّة، ثم ذكر نحوا ممّا ذكره ابن شدّاد إلى أن قال: وأحضر الأفضل (يعنى ولده) الأمراء: سعد الدين مسعودا أخا بدر الدين مودود شحنة دمشق، وناصر الدّين صاحب صهيون، وسابق الدين عثمان صاحب شيزر ابن الداية، وميمونا «7» القصرىّ، والبكى الفارسى، وأيبك فطيس، وحسام الدين(6/59)
بشارة، وأسامة الحلبىّ»
وغيرهم، فاستحلفهم لنفسه. وكان عند السلطان أبو جعفر إمام الكلّاسة يقرأ القرآن، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
، وكان قد غاب ذهنه فتح عينيه، وقال: صحيح. ثم قال أبو المظفّر: وغسّله ابن الدّولعىّ، وصلّى عليه القاضى محيى الدّين بن الزّكىّ. وبعث القاضى الفاضل له الأكفان والحنوط من أجلّ الجهات. ثم قال: «وقال العماد الكاتب: دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة، ومرضه فى زيادة؛ وفى كلّ يوم تضعف القلوب، وتتضاعف الكروب؛ ثم انتقل من دار الفناء، إلى دار البقاء، سحر يوم الأربعاء؛ ومات بموته رجاء الرجال، وأظلم «2» بغروب شمسه فضاء الإفضال. ورثاه الشعراء؛ فمن ذلك قول بعضهم «3» :
شمل «4» الهدى والملك عمّ شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته
بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نيّاته
أين الذي [مذ «5» ] لم يزل مخشيّة ... مرجوّة رهباته وهباته
أين الذي كانت له طاعاتنا ... مبذولة ولربّه طاعاته
أين الذي ما زال سلطانا لنا ... يرجى نداه وتتّقى سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته(6/60)
لا تحسبوه مات شخصا واحدا ... قد عمّ «1» كلّ العالمين مماته
ملك عن الإسلام كان محاميّا ... أبدا لماذا أسلمته حماته
قد أظلمت مذ غاب عنّا دوره ... لمّا خلت من بدره داراته
دفن السماح فليس تنشر بعدما ... أودى إلى يوم النشور رفاته
الدين بعد أبى المظفّر يوسف ... أقوت «2» قراه وأقفرت ساحاته
بحر خلا من وارديه ولم تزل ... محفوفة بوروده حافاته
من لليتامى والأرامل راحم ... متعطّف مفضوضة صدقاته
لو كان فى عصر النّبيّ لأنزلت ... فى ذكره من ذكره آياته
بكت الصوارم والصواهل إذ خلت ... من سلّها «3» وركوبها عزماته
يا وحشة الإسلام حين تمكّنت ... من كلّ قلب مؤمن روعاته
يا راعيا للدين حين تمكنت ... منه الذئاب وأسلمته رعاته
ما كان ضرّك لو أقمت مراعيا ... دينا تولّى مذ رحلت ولاته
فارقت ملكا غير باق متعبا ... ووصلت ملكا باقيا راحاته
فعلى صلاح الدين يوسف دائما ... رضوان ربّ العرش بل صلواته «4»(6/61)
ذكر أولا السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه الله- كانوا ستة «1» عشر ذكرا وابنة واحدة، أكبرهم الأفضل علىّ، ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر. وأخوه لأبيه وأمّه الملك الظافر خضر، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوهما أيضا لأبيهما وأمّهما قطب الدين موسى، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. فهؤلاء الثلاثة أشقّاء. ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه، ولد بها سنة سبع «2» وستين. وأخوه لأبيه وأمّه الأعز يعقوب، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين. والملك الظاهر غازى صاحب حلب، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوه لأبيه وأمّه الملك الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. والملك المعز إسحاق، ولد سنة سبعين. والملك المؤيّد مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين. والملك الأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمّه الملك المحسن أحمد، ولد بمصر سنة سبع وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمّه الملك الغالب ملكشاه، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين. وأخوهم أيضا لأبيهم وأمّهم أبو بكر النصر «3» ، ولد بحرّان بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين. والبنت مؤنسة خاتون تزوّجها ابن عمّها الملك الكامل- الآتى ذكره- ابن الملك العادل وماتت عنده.
وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان الآتى ذكره إن شاء الله تعالى وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علىّ، وملك حلب ابنه(6/62)
الظاهر غازى كما كانوا أيام أبيهم. ثم وقع بين الملك العزيز والأفضل أمور نذكرها فيما يأتى إن شاء الله تعالى. انتهت ترجمة السلطان صلاح الدين- رحمه الله-. ونذكر الآن ما وقع فى أيامه من الحوادث، ومن توفّى من الأعيان فى زمانه على سبيل الاختصار على عادة هذا الكتاب. وبالله المستعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 567]
السنة الأولى من ولاية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وستين وخمسمائة. (أعنى سلطنته بعد موت العاضد العبيدىّ آخر خلفاء الفاطميّين بمصر) . وأمّا وزارته فكانت قبل ذلك بمدّة من يوم مات عمّه الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن أيّوب فى يوم السبت ثانى عشر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة. وقد ذكرنا حوادث وزارته فيما مضى، ونذكر الآن من يوم سلطنته بعد الخليفة العاضد (أعنى حوادث سنة سبع وستين وخمسمائة) .
فيها خطب لبنى العباس بمصر وأبطل الخطبة لبنى عبيد حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة العاضد، وفى ترجمة صلاح الدين أيضا؛ ولمّا وقع ذلك كتب العماد الكاتب عن السلطان صلاح الدين لنور الدين الشهيد يخبره بذلك:
قد خطبنا للمستضىء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
ولدينا تضاعفت نعم اللّ ... هـ وجلّت عن كلّ عدّ وحصر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الهمام الأغرّ
وفيها بعث الملك العادل نور الدين محمود المذكور بالبشارة للخليفة المستضىء على يد الشيخ شهاب الدين المطهّر بن شرف الدين بن أبى عصرون، فلمّا وصل(6/63)
شهاب الدين المذكور للخليفة قال فى المعنى ابن الحرستانىّ «1» الشاعر المشهور قصيدة أوّلها:
جاء البشير فسرّ الناس وابتهجوا ... فما على ذى سرور بعدها حرج
وخلع الخليفة على شهاب الدين المذكور. ثم بعث جواب الملك العادل على يد الخادم صندل «2» وعلى يديه الخلع والتقاليد له، وفى الخلعة الطّوق وفيه ألف دينار والفرجيّة والعمامة، ثم أرسل مع الخادم المذكور لصلاح الدين صاحب الترجمة خلعا دون خلع نور الدين. وبعث أيضا لنور الدين سيفا قلّده للشام «3» ، ثم سيفا آخر قلّده بمصر، ويكون صلاح الدين نائبه بمصر. وزيّنت بغداد وضربت القباب لذلك.
وفيها وقعت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين. هذا لأمر ذكرناه فى أوائل ترجمة صلاح الدين، ثم سكن ذلك.
وفيها توفّى حسّان بن نمير الكلبىّ أبو النّدى الشاعر المشهور المعروف بعرقلة الدمشقىّ، ويقال له عرقلة من حاضرة دمشق، كان شيخا خليعا أعور مطبوعا لطيفا ظريفا، كان اختصّ بالسلطان صلاح الدين وله فيه مدائح، وله شعر رائق كثير. من ذلك قصيدته المشهورة:
كتم الهوى فوشت عليه دموعه ... من حرّ نار تحتويه ضلوعه
صبّ تشاغل بالربيع وزهره ... زمنا «4» وفى وجه الحبيب ربيعه(6/64)
يا لائمى فيمن تمتّع وصله ... عن صبّه «1» أحلى الهوى ممنوعه
كيف التخلّص إن تجنّى أو جنى ... والحسن شىء ما يردّ شفيعه
شمس ولكن فى فؤادى حرّها ... بدر ولكن فى القباء «2» طلوعه
قال العواذل ما الذي استحسنته ... منه وما يسبيك قلت جميعه
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد العلّامة أبو محمد المعروف بابن الخشّاب النحوىّ اللغوىّ حجّة العرب، برع فى فنون العلوم وانفرد بعلم النحو والعربيّة حتّى فاق أهل عصره.
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن الحسين [بن أحمد «3» بن الحسين] بن إسحاق أبو محمد الحميرىّ «4» ويعرف بابن النّقّار «5» الكاتب. ولد بطرابلس سنة تسع وسبعين وأربعمائة. ولمّا استولى الفرنج على طرابلس انتقل منها إلى دمشق؛ وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره- رحمه الله- القصيدة المشهورة التى أوّلها:
بادر إلى اللّذات فى أزمانها ... واركض خيول اللهو فى ميدانها
واستقبل الدنيا بصدر واسع ... ما أوسعت لك من رحيب مكانها
وله:
الله يعلم أنّنى ما خلته ... يصبو إلى الهجران حين وصلته
من منصفى من ظالم متعنّت «6» ... يزداد ظلما كلّما حكّمته(6/65)
ملّكته روحى ليحفظ ملكه ... فأضاعنى وأضاع ما ملّكته
لا ذنب لى إلّا هواه لأنّه «1» ... لمّا دعانى للسّقام أجبته
وفيها توفّى العاضد خليفة مصر، حسب ما ذكرناه فى ترجمته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ أحمد بن محمد ابن علىّ الرّحبىّ الحرمىّ «2» فى صفر. وأبو محمد عبد الله بن منصور بن الموصلىّ.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد [بن أحمد «3» ] بن الخشّاب النحوىّ. والعاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ العبيدىّ فى المحرّم، وانقضت دولة الرّفض عن مصر.
وأبو الحسن علىّ بن عبد الله بن خلف بن النّعمة الأندلسىّ بسبتة «4» فى رمضان.
وأبو المطهّر القاسم بن الفضل بن عبد الواحد الصّيدلانىّ بأصبهان فى جمادى الأولى، وقد نيّف على التسعين. وأبو المظفّر محمد بن أسعد [بن محمد بن نصر «5» ] بن حكيم العراقىّ الواعظ شيخ الحنفيّة بدمشق. وأبو المكارم المبارك بن محمد بن المعمّر البادرايىّ «6» .
وأبو العلاء وجيه بن عبد الله السّقطىّ. وأبو بكر يحيى بن سعدون القرطبىّ الأزدىّ «7» ونزيل الموصل يوم الفطر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.(6/66)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 568]
السنة الثانية من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وستين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق إلى الموصل، وصلّى بالجامع الذي بناه وسط الموصل وتصدّق بمال عظيم. ولمّا علم صلاح الدين صاحب الترجمة بتوجّهه إلى الموصل خرج بعساكره من مصر إلى الشام، وحصر الكرك والشّوبك ونهب أعمالهما؛ ثم عاد لمّا بلغه عود نور الدين إلى الشام. وهذه أوّل غزوات صلاح الدين.
وفيها توفّى الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان والد صلاح الدين المذكور. كان أميرا عاقلا حازما شجاعا جوادا عاطفا على الفقراء والمساكين محبّا للصالحين، قليل الكلام جدّا لا يتكلّم إلّا لضرورة. ولمّا قدم مصر سأله ولده السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة أن يكون هو السلطان، فقال: أنت أولى. وكان سبب موته أنّه ركب يوما وخرج من باب النّصر يريد الميدان «1» ، فشبّ به فرسه فوقع على رأسه، فأقام ثمانية أيام ومات فى ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من ذى الحجّة، ودفن إلى جانب أخيه أسد الدين شيركوه بن أيوب فى الدار(6/67)
السلطانية «1» ثم نقلا بعد سنتين «2» إلى مدينة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم. وكان ابنه السلطان، صلاح الدين قد عاد من الكرك فبلغه خبر موته فى الطريق، فوجد عليه وتأسّف حيث لم يحضره. وخلّف من الذكور ستة: السلطان صلاح الدين يوسف، وأبا بكر العادل الآتى ذكره فى ملوك مصر، وشمس الدولة توران شاه وهو أكبر الجميع، وشاهنشاه، وسيف الإسلام طغتكين، وتاج الملوك بورى وهو الأصغر.
وفيها توفّى الحسن بن أبى الحسن صافى ملك النحاة مولى الحسين بن الأرموىّ التاجر البغدادىّ، قرأ النحو وأصول الدين والفقه والخلاف والحديث وبرع فى النحو وفاق أهل زمانه، وسافر البلاد وصنّف الكتب فى فنون العلوم، من ذلك «المقامات» التى من جنس «مقامات الحريرىّ» ؛ وكان يقول: مقاماتى جدّ وصدق، ومقامات الحريرىّ هزل وكذب. قلت: ولكن بين ذلك أهوال.
ومن مصنّفاته كتاب أربعمائة كراسة، سمّاها «التذكرة السفريّة «3» » .
وفيها توفى سعد الدين بن علىّ بن القاسم بن علىّ أبو المعالى الكتبىّ الحظيرىّ الحنفىّ، كان شاعرا فاضلا. والحظيرة: قرية فوق بغداد وهى (بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء) وإلى هذه القرية ينسب كثير من العلماء. ومن شعر الحظيرىّ- رحمه الله تعالى وعفا عنه-:
صبح مشيبى بدا وفارقنى ... ليل شبابى فصحت وا قلقى
وصرت أبكى دما عليه ولا ... بدّ لصبح المشيب من شفق(6/68)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى نجم الدين أيّوب بن شادى والد الملوك. وملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافى البغدادىّ بدمشق.
وأبو جعفر محمد بن الحسن الصّيدلانىّ بأصبهان، وله خمس وتسعون سنة. وصالح ابن إسماعيل أبو طالب ابن بنت معافى المالكىّ مفتى الإسكندريّة- رحمه الله-.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 569]
السنة الثالثة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وستّين وخمسمائة.
فيها كتب صلاح الدين صاحب الترجمة لنور الدين يستأذنه فى إنفاذ جيش إلى اليمن فأذن له، فبعث صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيّوب، فسار إليها، وكان فيها عبد النّبيّ بن مهدىّ من أصحاب المصريّين «1» ، وكان ظالما فاتكا، فحصره شمس الدولة توران شاه فى قصره بزبيد «2» مدّة، حتّى طلب الأمان فأمّنه؛ فلمّا نزل إليه قيّده ووكّل به، وفتح صنعاء وحصون اليمن والمدائن، يقال:
إنّه فتح ثمانين حصنا ومدينة واستولى على أموالها وذخائرها، وقتل عبد النّبيّ المذكور. وولّى على زبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ «3» ، وعزّ الدّين عثمان بن الزّنجيلىّ «4» على باقى «5» البلاد.(6/69)
وفيها قبض صلاح الدين على جماعة من أعيان الدولة العبيديّة: مثل داعى الدّعاة «1» ، وعمارة اليمنىّ وغيرهما، بلغه أنّهم يجتمعون على إثارة الفتن، واتّفقوا مع السّودان وكاتبوا الفرنج، فقتل داعى الدعاة، وصلب عمارة اليمنىّ. قال القاضى شمس الدين ابن خلّكان: هو أبو محمد عمارة بن أبى الحسن على بن زيدان «2» ابن أحمد بن محمد الحكمىّ اليمنىّ، الملقّب نجم الدين الشاعر؛ وهو من جبال «3» اليمن من مدينة مرطان «4» ، بينها وبين مكّة من جهة الجنوب أحد عشر يوما. وكان فقيها فصيحا، أقام بزبيد مدّة يقرأ عليه مذهب الشافعىّ، وله فى الفرائض مصنّف مشهور باليمن، ومدح خلفاء مصر، فقرّبوه وأعطوه الأموال، فكان عندهم بمنزلة الوزير، وكان أيضا معظّما قبل ذلك فى اليمن؛ ثم ظهرت أمور اقتضت خروجه منها، فقدم إلى مصر فى سنة خمسين وخمسمائة. وقيل: إنّ سبب قتله أنّه مدح توران شاه، وحرّضه على أخذ اليمن بقصيدة أوّلها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغنى عن القلم
إلى أن قال:
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان أوّل هذا الدّين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
قال العماد الكاتب: اتّفقت لعمارة اتّفاقات: منها أنّه نسب إليه قول هذا البيت فكان أحد أسباب قتله؛ وأفتى قضاة مصر بقتله، وقيل: إنّه لمّا أمر صلاح الدين(6/70)
بصلبه، مرّوا به على دار القاضى الفاضل، فرمى بنفسه على بابه وطلب الدخول إليه ليستجير به فلم يؤذن له، فقال:
عبد الرحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص من العجب
فصلب وهو صائم فى شهر رمضان.
وفيها توفّى السلطان الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكى بن آق سنقر صاحب الشام ومصر المعروف بنور الدين الشهيد. قال ابن عساكر: «ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان معتدل القامة أسمر اللّون واسع الجبهة حسن الصورة، لحيته شعرات خفيفة فى حنكه، ونشأ على الخير والصلاح. وكان زنكى يقدّمه على أولاده، ويرى فيه مخايل النّجابة. وفتح فى أيام سلطنته نيّفا وخمسين حصنا» .
قلت: ومصر أيضا من جملة فتوحاته، وأيضا ما فتحه صلاح الدين من البلاد والحصون هو شريكه فى الأجر والثواب، ولولاه إيش كان صلاح الدين! حتّى ملك مصر من أيدى تلك الرافضة من بنى عبيد خلفاء مصر وقوّة بأسهم!. قلت:
وترجمة الملك العادل طويلة، يضيق هذا المحلّ عن ذكرها، وأحواله أشهر من أن تذكر. غير أنّنا نذكر مرض موته ووفاته. وكان ابتداء مرضه أنّه ختن ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، فهنّىء بالعيد والطهور، فقال العماد الكاتب- رحمه الله-:
عيدان فطر وطهر ... فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه ... حقّا هناء وأجر
فمرض بعد عوده من صلاة العيد بالخوانيق، وما كان يرى الطبّ؛ على قاعدة الأتراك، فأشير عليه بالفصد فى أوّل مرضه فامتنع؛ وكان مهيبا فما روجع؛ فمات يوم الأربعاء حادى عشر شوّال، ودفن بالقلعة، ثم نقل إلى مدرسته التى أنشأها مجاورة(6/71)
الخوّاصين بدمشق. وعاش ثمانيا وخمسين سنة. وكانت سلطنته ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر. ورثاه العماد الكاتب بعدّة مراث؛ من ذلك قوله:
يا ملكا أيّامه لم تزل ... لفضله فاضلة فاخره
ملكت دنياك وخلّفتها ... وسرت حتّى تملك الآخره
قال أبو اليسر «1» شاكر بن عبد الله [التّنوخىّ «2» المعرّىّ] : تعدّى بعض أمراء صلاح الدين بن أيّوب [على رجل «3» ] وأخذ ماله، فجاء إلى صلاح الدين فلم يأخذ له بيد؛ فجاء إلى قبر نور الدين وشقّ ثيابه، وحثا التراب على رأسه، وجعل يستغيث:
يا نور الدين أين أيّامك! ويبكى. فبلغ صلاح الدين فاستدعاه وأعطاه ماله، فازداد بكاؤه؛ فقال له صلاح الدين: ما يبكيك وقد أنصفناك؟ فقال: إنّما أبكى على ملك أنصفت ببركاته وبعد موته، كيف يأكله التراب ويفقده المسلمون!.
وتسلطن بعده ولده الملك الصالح إسماعيل ولم يبلغ الحلم. وقد مرّ من أخباره نبذة كبيرة فى ترجمة صلاح الدين.
الذي ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى النقيب أبو عبد الله أحمد [بن علىّ «4» ] بن المعمّر العلوىّ ببغداد فى جمادى الأولى. والحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذانىّ العطّار المقرئ فى جمادى الأولى، وله إحدى وثمانون سنة.
ودهبل بن علىّ [بن «5» منصور بن إبراهيم بن عبد الله المعروف با] بن كارة الحنبلىّ.
وناصح الدين سعيد بن المبارك بن الدهّان النحوىّ ببغداد، وله خمس وسبعون سنة.
وأبو تميم سلمان بن علىّ الرّحبىّ الخبّاز بدمشق. وعبد النبي بن المهدىّ صاحب اليمن،(6/72)
وكان باطنيّا استأصله أخو صلاح الدين. وأبو الحسن علىّ بن أحمد الكنانىّ القرطبىّ بفاس، وله ثلاث وتسعون سنة. والفقيه عمارة بن علىّ بن زيدان اليمنىّ الشاعر؛ شنق فى جماعة سعوا فى إعادة الدولة العبيديّة. والسلطان نور الدين محمود بن زنكى الأتابكىّ بن آق سنقر التركىّ الملكشاهىّ فى شوّال، وله ثمان وخمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 570]
السنة الرابعة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبعين وخمسمائة.
فيها ملك السلطان صلاح الدين دمشق من الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود، حسب ما ذكرناه فى ترجمته. وكان أخذه لدمشق بمكاتبة القاضى كمال الدين الشّهرزورىّ و [صدّيق «1» ] بن الجاولىّ والأعيان، وكان بالقلعة ريحان الخادم، فعزم على قتاله، فجهّز إليه عسكر دمشق، وركب صلاح الدين من الجسور، فالتقاه أهل دمشق بأسرهم وأحدقوا به، فنثر عليهم الدراهم والدنانير، ودخل دمشق فلم يغلق فى وجهه باب ولا منعه مانع، فملكها عناية لا عنوة.
وفيها استخدم صلاح الدين العماد الكاتب الأصبهانىّ، وسببه أنه التقى بالقاضى الفاضل ومدحه بأبيات منها:
عاينت طود سكينة ورأيت شم ... س فضيلة ووردت بحر فواضل «2»
ورأيت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لوائل(6/73)
حلف [الحصافة «1» ] والفصاحة والسما ... حة والحماسة والتّقى والنّائل
بحر من الفضل «2» الغزير خضمّه ... طامى العباب وماله من ساحل
فى كفّه قلم يعجّل جريه ... ما كان من أجل ورزق آجل
أبصرت قسّا فى الفصاحة معجزا ... فعرفت أنّى فى فهاهة باقل
فدخل القاضى الفاضل على السلطان صلاح الدين وقال: غدا تأتيك تراجم الأعاجم، وما يحلّها مثل العماد الكاتب. فقال: [مالى «3» ] عنك مندوحة، أنت كاتبى ووزيرى، وقد رأيت على وجهك البركة، فإذا استكبت غيرك تحدّث الناس؛ فقال الفاضل: هذا يحلّ التراجم، وربّما أغيب «4» أنا ولا أقدر على ملازمتك، فإذا غبت قام العماد الكاتب مقامى، وقد عرفت فضل العماد، وخدمته للدولة النورية، فاستكنبه.
وفيها توفّى السلطان أرسلان «5» شاه بن طغرل [بن محمد «6» ] بن ملكشاه بن ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السّلجوقىّ. وقام بعده فى الملك ابنه طغرل شاه، وكان صغير السّن، فتولّى تدبير ملكه محمد بن إيلدكز الأتابك وكان يلقّب بالبهلوان.
وفهيا توفّى يحيى بن جعفر أبو الفضل زعيم الدّين، صاحب مخزن الخلفاء:
المقتفى والمستنجد والمستضىء، وناب فى الوزارة، وتقلّب فى الأعمال نيّفا(6/74)
وعشرين سنة، وكان حافظا للقرآن فاضلا عارفا منصفا، محبّا للعلماء والصالحين؛ ومات فى شهر ربيع الأوّل، وكانت جنازته مشهودة. قال العماد الكاتب: جلس يوما فى ديوان الوزارة فقام شهاب «1» الدين بن الصّيفىّ فأنشده:
لكلّ زمان من أمائل أهله ... برامكة يمتارهم كلّ معسر «2»
أبو الفضل يحيى مثل يحيى بن خالد ... يدا «3» وأبوه جعفر مثل جعفر
ثم قام ثابت «4» الواعظ- رحمه الله- فأنشد بديها:
وفى الجانب الشرقىّ يحيى بن جعفر ... وفى الجانب الغربىّ موسى بن جعفر
فذاك «5» إلى الله الكريم شفيعنا ... وهذا إلى المولى الإمام المطهّر
(يعنى ساكن الجانب الشرقىّ صاحب الترجمة، وبالجانب الغربىّ موسى بن جعفر الصادق) .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى قاضى القضاة أبو طالب روح بن أحمد الحديثىّ «6» ، وله ثمان وستّون سنة. وفخر النساء خديجة بنت أحمد النّهروانيّة فى شهر رمضان. وعبد الله [بن عبد الصمد «7» ] بن عبد الرّزاق السّلمىّ العطّار. وأبو بكر محمد بن علىّ بن محمد الطّوسىّ. وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسىّ مسند المغرب.(6/75)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 571]
السنة الخامسة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
فيها عزل الخليفة المستضىء بالله الحسن صندل الخادم «1» عن الأسناداريّة، وضيّق على ولده الأمير أبى العبّاس أحمد، لأمر بلغه عنهما، وولّى [ابن «2» ] الصاحب الأستادارية عوضا عن صندل المذكور.
وفيها وثبت الإسماعيليّة على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب وهو على اعزاز، جاءه ثلاثة فى زىّ الأجناد، فضربه واحد بسكّين فى رأسه فلم يجرحه وخدشت السكّين خدّه وقتل الثلاثة، فرحل صلاح الدين إلى حلب، فلمّا نزل عليها بعث إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين محمود أخته خاتون بنت نور الدين فى اللّيل، فدخلت عليه فقام قائما وقبّل الأرض لها وبكى على نور الدين؛ فسألته أن يردّ عليهم اعزاز، فأعطاها إيّاها، وقدّم لها من الجواهر والتّحف شيئا كثيرا؛ واتّفق مع الملك الصالح أنّ من حماة وما فتحه إلى مصر له، وباقى البلاد الحلبيّة للصالح.
وفيها قدم شمس الدولة توران شاه بن أيّوب أخو صلاح الدين من اليمن إلى دمشق فى سلخ ذى الحجّة.
وفيها فوّض سيف الدولة غازى أمر الموصل إلى مجاهد الدين قيماز الخادم.(6/76)
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الحافظ أبو القاسم الدمشقى المعروف بابن عساكر، مولده فى أوّل المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. كان أحد أئمة الحديث المشهورين، والعلماء المذكورين، سمع الكثير وسافر، وصنّف تاريخا لدمشق، وصنّف كتبا كثيرة، وكان إماما فى الفنون، فقيها محدّثا حافظا مؤرّخا.
قال العماد الكاتب: أنشدنى لنفسه بالمزّة «1» :
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التّصابى وماذا الغزل
تولّى شبابى كأن لم يكن ... وجاء مشيبى كأن لم يزل
[كأنّى «2» بنفسى على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل]
فياليت شعرى ممّن أكون ... وما قدّر الله لى فى الأزل
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ ثقة الدّين أبو القاسم علىّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر فى رجب، وله ثلاث وسبعون سنة إلا شهرا. ومجد الدين أبو منصور محمد بن أسعد بن [محمد «3» المعروف ب] حفدة الطّوسىّ العطّارىّ الشافعىّ الواعظ. وأبو حنيفة محمد بن عبيد «4» الله الأصبهانىّ الخطيبىّ فى صفر. وأبو جعفر هبة الله بن يحيى بن البوقىّ «5» الشافعىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.(6/77)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 572]
السنة السادسة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
فيها تزوّج السلطان صلاح الدين يوسف بالخاتون عصمة الدّين بنت الأمير معين الدين أنر «1» زوجة الملك العادل نور الدين محمود، وكانت بقلعة دمشق.
وفيها كانت فتنة مقدّم السّودان من صعيد مصر، سار من الصعيد إلى مصر فى مائة ألف أسود، ليعيد الدولة المصريّة الفاطميّة، فخرج إليه أخو صلاح الدين الملك العادل أبو بكر، وأبو الهيجاء الهكّارىّ، وعزّ الدين موسك بمن معهم من عساكر مصر؛ والتقوا مع السّودان، فكانت بينهم وقعة هائلة، قتل كبير السودان المذكور ومن معه. قال الشيخ شمس الدين يوسف فى مرآة الزمان: «يقال إنهم قتلوا منهم ثمانين ألفا وعادوا إلى القاهرة» .
وفيها خرج السلطان صلاح من دمشق إلى مصر، واستناب أخاه شمس الدولة توران شاه على الشام. وجاءت الفرنج إلى داريّا «2» ، فأحرقوا ونهبوا وعادوا.
وفيها أمر السلطان صلاح الدين قراقوش الخادم بعمارة سور القاهرة ومصر، وضيّع فيه أموالا كثيرة ولم ينتفع به أحد.
وفيها أبطل صلاح الدين المكوس التى كانت تؤخذ من الحاج بجدّة، ممّا يحمل فى البحر؛ وعوّض صاحب مكّة عنها فى كلّ سنة ثمانية آلاف اردبّ قمحا تحمل إليه فى البحر، [ويحمل «3» مثلها] فتفرّق فى أهل الحرمين.(6/78)
وفيها عمّر صلاح الدين مدرسة الشافعىّ «1» بالقرافة، وتولّى الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ عمارتها. وعمّر البيمارستان «2» فى القصر، ووقف عليه الأوقاف.
وفيها حجّ بالناس من الشام قيماز النّجمىّ.
وفيها توفّى علىّ بن منصور أبو الحسن السّروجىّ الأديب، مؤدّب أولاد الأتابك زنكى بن آق سنقر، كان يأخذ الماء بفيه ويكتب به على الحائط كتابة حسنة كأنّها كتبت بقلم الطومار، وينقط ما يكتب ويشكله. ومن شعره فى فصل الربيع وفضل دمشق، ومدح نور الدين قصيدة طنّانة أوّلها:
فصل الربيع زمان نوره نور ... أنفاس «3» أشجاره مسك وكافور
وفيها توفّى محمد بن مسعود أبو المعالى، خرج إلى الحجّ فى هذه السنة فتوفّى يفند «4» ، كان أديبا فاضلا. ومن شعره هجو فى قاض ولى القضاء:
ولمّا [أن «5» ] تولّيت القضايا ... وفاض الجور من كفّيك فيضا
ذبحت بغير سكّين وإنّى ... لأرجو الذبح بالسّكّين أيضا
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن القاسم أبو الفضل كمال الدين الشهرزورىّ قاضى دمشق. مولده فى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، كان إماما فاضلا فقيها مفتنّا، كان إليه فى أيّام نور الدين الشهيد مع القضاء أمر المساجد والمدارس والأوقاف والحسبة، والأمور الدينيّة والشرعيّة. وكان صاحب القلم والسيف، وكانت شحنجية دمشق إليه، ولّى فيها بعض غلمانه؛ ثم ولّاها نور الدين بعد ذلك(6/79)
لصلاح الدين يوسف بن أيّوب قبل قدومه إلى مصر. وكان مع فضله ودينه له الشعر الجيّد، وكان بينه وبين صلاح الدين يوسف بن أيّوب، صاحب الترجمة فى أيام نور الدين مضاغنة. ومن شعره:
وجاءوا عشاء يهرعون وقد بدا ... بجسمى من داء الصبابة ألوان
فقالوا وكلّ معظم بعض ما رأى ... أصابتك عين قلت عين وأجفان
قلت: وهذا شبه قول القائل ولم أدر من السابق:
ولمّا رأونى العاذلون متيّما ... كئيبا بمن أهوى وعقلى ذاهب
رثوا لى وقالوا كنت بالأمس عاقلا ... أصابتك عين قلت عين وحاجب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو [محمد «1» ] صالح ابن المبارك بن الرّخلة القزّاز. والمحدّث أبو [محمد «2» ] عبد الله بن عبد الرحمن الأموىّ الدّيباجىّ الأصبهانىّ العثمانىّ الإسكندرانىّ. وأبو الحسن «3» علىّ بن عساكر. وأبو بكر محمد بن أحمد بن ماه «4» شاده الأصبهانىّ المقرئ، آخر من روى عن سليمان الحافظ.
وقاضى الشام كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم بن المظفّر الشّهرزورىّ فى المحرّم. والقاضى أبو الفتح نصر بن سيّار بن صاعد الكتّانىّ الهروىّ الحنفىّ مسند خراسان يوم عاشوراء، وله سبع وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.(6/80)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 573]
السنة السابعة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
فيها توفّى صدقة بن الحسين بن الحسن أبو الفرج «1» الناسخ الحنبلىّ، كان يعرف بابن الحدّد، كان فقيها مفتنّا مناظرا. قال أبو المظفّر: لكنّه قرأ «الشفاء» «2» وكتب الفلاسفة، فتغيّر اعتقاده، وكان يبدو من فلتات لسانه ما يدلّ على ذلك. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
لا توطّنها فليست بمقام ... واجتنبها فهى دار الانتقام
أتراها صنعة من صانع ... أم تراها رمية من غير رام
وفيها توفّى كمشتكين خادم السلطان نور الدين الشهيد. كان من أكابر خدّامه (أعنى مماليكه) ، وكان ولّاه الموصل نيابة عنه. فلمّا مات نور الدين هرب إلى حلب، وخدم شمس الدين ابن الداية، ثم جاء إلى الملك الصالح ابن نور الدين الشهيد فأعطاه حارم، ثم غضب عليه لأمر وطلب منه قلعة حارم بعد أن قبض عليه، فامتنعوا أصحابه من تسليمها، فعلّقه الملك الصالح منكّسا، ودخّن تحت أنفه حتّى مات.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفّر، الوزير أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء، ولقبه عضد الدولة. وكان أبوه أستادار المقتفى وأقرّه المستنجد. فلمّا ولى المستضىء استوزره، فشرع ظهير الدين [بن العطّار «3» ] أبو بكر صاحب المخزن فى عداوته،(6/81)
حتّى غيّر قلب الخليفة عليه، فطلب الحجّ فأذن له، فتجهّز جهازا عظيما واشترى ستّمائة جمل لحمل المنقطعين وزادهم، وحمل معه جماعة من العلماء والزهّاد، وأخذ معه بيمارستانا فيه جميع ما يحتاج إليه، وسافر بتجمّل زائد. فلمّا وصل إلى باب قطفتا «1» خرج إليه رجل صوفىّ بيده قصّة، فقال: مظلوم! فقال الغلمان: هات قصّتك. فقال: ما أسلّمها إلّا للوزير. فلمّا دنا منه ضربه بسكّين فى خاصرته، فصاح: قتلتنى، وسقط من دابّته، وبقى على قارعة الطريق ملقى، وتفرّق من كان معه إلّا حاجب الباب، فإنّه رمى بنفسه عليه، فضربه الباطنىّ بسكّين فجرحه، وظهر للباطنىّ رفيقان فقتلوا وأحرقوا. ثم حمل الوزير إلى داره فمات بها. وكان مشكور السّيرة محببّا إلى الرعيّة، غير أنّ القاضى الفاضل لمّا بلغه خبر قتله، أنشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حياة تريه مصرع الوزراء
وما ربّك بظلّام للعبيد. كان- عفا الله عنه- قد قتل ولدى الوزير ابن هبيرة وخلقا كثيرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الوزير أبو الفرج محمد بن عبد الله ابن رئيس الرؤساء، وثبت عليه الإسماعليّة فى ذى القعدة. وهارون ابن العبّاس أبو محمد بن المأمونىّ صاحب التاريخ. وأبو شاكر يحيى بن يوسف السّقلاطونىّ «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.(6/82)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 574]
السنة الثامنة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
فيها جرى بحث فى مجلس ظهير الدين بن العطّار [صاحب المخزن «1» ] ، فى قتال «2» عائشة لعلىّ. فقال ابن البغدادىّ الحنفىّ: كانت عائشة باغية على علىّ، فصاح عليه ابن العطّار وأقامه من مكانه وأخبر الخليفة، فجمع الفقهاء وسأل: ما يجب عليه؟ فقالوا: يعزّر. فقال ابن الجوزىّ: لا يجب عليه التعزير، لأنّه رجل ليس له علم بالنّقل، وقد سمع أنّه جرى قتال ولم يعلم أنّ السفهاء أثاروه بغير رضا الفريقين، وتأديبه «3» العفو عنه، فأطلق.
وفيها توفّى سعد بن محمد بن سعد أبو الفوارس شهاب الدين [بن «4» ] الصّيفىّ التّميمىّ، المعروف بالحيص بيص، كان شاعرا فاضلا، مدح الخلفاء والوزراء والأكابر، وله ديوان شعر، وكانت وفاته ببغداد فى شعبان. وسبب تسميته بالحيص بيص أنّه رأى الناس فى يوم حركة فقال: ما للناس فى حيص بيص! فغلب عليه هذا اللّقب. ومعنى هاتين الكلمتين: الشدّة والاختلاط. تقول العرب: وقع الناس فى حيص بيص [أى «5» فى شدّة واختلاط] . ومن شعر الحيص بيص- رحمه الله وعفا عنه-:
لم ألق مستكبرا إلّا تحوّل لى ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه
ولا حلا لى من الدنيا ولذّتها ... إلّا مقابلتى للتّيه بالتّيه(6/83)
وكان الحيص بيص يلبس زىّ العرب، ويتقلّد سيفا، فعمل فيه أبو القاسم «1» ابن الفضل:
كم تنادى «2» وكم تطوّل طرطو ... رك ما فيك شعرة من تميم
فكل الضّبّ واقرض الحنظل [اليا «3» ... بس] واشرب ما شئت بول الظليم
ليس ذا وجه من يضيف ولا ... يقرى ولا يدفع الأذى عن حريم
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو أحمد أسعد بن بلدرك «4» الجبريلىّ البوّاب. والحيص بيص الشاعر شهاب الدين أبو الفوارس سعد ابن محمد بن سعد بن صيفىّ التّميمىّ فى شوّال. وفخر النساء شهدة بنت أحمد ابن الفرج الإبرىّ فى المحرّم، وقد جاوزت التسعين. وأبو رشيد عبد الله بن عمر الأصبهانىّ فى شهر ربيع الآخر. وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفىّ.
وأبو الخطّاب عمر بن محمد التاجر بدمشق. وأبو عبد الله محمد بن نسيم العيشونىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 575]
السنة التاسعة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وسبعين وخمسمائة.(6/84)
فيها ختن السلطان صلاح الدين ولده الملك العزيز عثمان.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفى محمد العباسىّ الهاشمىّ البغدادىّ. كان أحسن الخلفاء سيرة، كان إماما عادلا شريف النفس حسن السيرة ليس للمال عنده قدر، حليما شفيقا على الرعيّة، أسقط المكوس والضرائب فى أيّام خلافته، وكانت وفاته ببغداد فى ثانى ذى القعدة عن ستّ «1» وثلاثين سنة، وكانت خلافته تسع سنين. وهو الذي عادت الخطبة باسمه فى الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والثغور، واجتمعت الأمّة على خليفة واحد، وانقطع فى أيّامه دولة بنى عبيد الفاطميّين الرافضة من مصر وأعمالها.
ولله الحمد. وأمّه أمّ ولد مولّدة.
وفيها توفّيت الزاهدة العابدة علم بنت عبد الله بن المبارك. كانت تضاهى رابعة العدويّة فى زمانها، مرض ولدها أحمد بن الزّبيدىّ فاحتضر، وجاء وقت الصلاة، فقالت: يا بنى، ادخل فى الصلاة، فدخل وكبر ومات، فخرجت إلى النساء وقالت: هنّيننى! قلن ماذا؟ قالت: ولدى مات فى الصلاة. فتعجّب الناس من ذلك. وكانت وفاتها ببغداد، وعمرها مائة سنة وستّ سنين، ولم يتغيّر لها شىء من حواسّها.
وفيها توفّى منصور بن نصر بن الحسين الرئيس ظهير الدين صاحب المخزن للخلفاء، ونائب الوزارة. نال من الوجاهة والرياسة ما لم ينله غيره من أطباقه، إلى أن قبض عليه الخليفة الناصر لدين الله، وعلى أصحابه وحواشيه، وصادره وأجرى عليه العقوبة إلى أن مات.(6/85)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة قال: وفيها توفّى أبو الفتح أحمد بن أبى الوفاء الحنبلىّ بحرّان. والمستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن بن المستنجد يوسف ابن المقتفى فى شوّال. وأبو الحسين عبد الحقّ بن عبد الخالق اليوسفىّ فى جمادى الأولى. وأبو الفضل عبد الحسن بن تريك «1» الأزجىّ. وأبو الحسن علىّ بن أحمد الزّيدىّ المحدّث الزاهد. وأبو المعالى علىّ بن هبة الله [بن علىّ «2» ] بن خلدون. والقاضى أبو المحاسن عمر بن علىّ القرشى عمّ كريمة. وأبو هاشم عيسى بن أحمد الهاشمىّ الدّوشابىّ «3» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 576]
السنة العاشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وسبعين وخمسمائة.
فيها قدمت امرأة إلى القاهرة عديمة اليدين، وكانت تكتب برجليها كتابة حسنة، فحصل لها القبول التام، ونالها مال جزيل.
وفيها حجّ من العراق الأمير طاشتكين «4» ، ومن الشام الأمير سيف الدين علىّ بن المشطوب.(6/86)
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ أبو طاهر السّلفىّ «1» الأصبهانىّ، ولد سنة سبعين وأربعمائة، وكان طاف الدنيا ولقى المشايخ، وكان يمشى حافيا لطلب العلم والحديث، وقدم دمشق وغيرها، وسمع بعدّة بلاد، ثم دخل مصر وسمع بها، واستوطن الإسكندريّة حتى مات بها فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر، ودفن داخل الإسكندرية وقد جاوز المائة بخمس سنين. ومن شعره فى معنى كبر سنّه:
أنا إن بان شبابى ومضى ... فلربّى الحمد ذهنى حاضر
ولئن خفّت وجفّت أعظمى ... كبرا غصن علومى ناضر
وفيها توفّى الملك المعظّم فخر الدين شمس الدولة توران شاه بن أيّوب أخو السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة لأبيه. كان أكبر من صلاح الدين فى السنّ، وكان يرى فى نفسه أنّه أحقّ بالملك من صلاح الدين يوسف المذكور، وكان تبدو منه كلمات فى سكره فى حقّ صلاح الدين، ويبلغ صلاح الدين، فأبعده وبعثه إلى اليمن، فسفك الدماء وقتل الأمائل وأخذ الأموال. ولم يطب له اليمن فعاد إلى الشام على مضض من صلاح الدين، فأعطاه بعلبكّ فبلغه عنه أشياء فأبعده إلى الإسكندريّة، فتوجّه إليها وأقام بها معتكفا على اللهو، ولم يحضر حروب أخيه صلاح الدين ولا غزواته؛ ومات بالإسكندريّة، فأرسلت أخته شقيقته ستّ الشام، فحملته فى تابوت إلى دمشق فدفنته فى تربتها التى أنشأتها بدمشق. وكان توران شاه المذكور جوادا ممدّحا حسن الأخلاق؛ إلّا أنّه كان أسوأ بنى أيّوب سيرة وأقبحهم طريقة.(6/87)
وفيها توفّى الملك غازى بن مودود بن زنكى بن آق سنقر التركىّ سيف الدين صاحب الموصل وابن أخى السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد. كان غازى من أحسن الناس صورة، وكان وقورا عاقلا غيورا، ما يدع خادما بالغا يدخل داره على حرمه، وكان طاهر اللّسان عفيفا عن أموال الناس، قليل السفك للدماء، مع شحّ كان فيه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السّلفىّ فى شهر ربيع الآخر، وقد جاوز المائة بيقين. وشمس الدولة توران شاه بن أيّوب بن شادى صاحب اليمن بالإسكندرية فى صفر. وأبو المعالى عبد الله بن عبد الرحمن [بن أحمد «1» بن علىّ] بن صابر السلمىّ فى رجب. وأبو المفاخر سعيد بن الحسين المأمونىّ. وأبو الفهم عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد الأزدىّ ابن أبى العجائز فى جمادى الآخرة. وأبو الحسن «2» علىّ بن عبد الرحيم بن العصّار السّلمىّ البغدادىّ اللغوىّ فى المحرّم. وصاحب الموصل سيف الدين غازى بن مودود ابن اتابك فى صفر، وله ثلاثون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 577]
السنة الحادية عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وسبعين وخمسمائة.(6/88)
فيها عاد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب صاحب الترجمة من دمشق إلى القاهرة، واستناب على الشام [ابن «1» ] أخيه عزّ الدين فرخشاه.
وفيها أمر السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بالمسير إلى اليمن، فأخذ يتجهّز للمسير.
وفيها بعث السلطان صلاح الدين الخادم بهاء الدين قراقوش إلى «2» اليمن، فتوجّه وقبض على سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، وطلب منه المال؛ وكان نائب أخيه توران شاه.
وفيها بنيت قلعة «3» الجبل بالقاهرة.
وفيها توفّى الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى ابن آق سنقر صاحب حلب بمرض القولنج، وكان لمّا اشتدّ به مرض القولنج وصف له الحكماء قليل خمر، فقال: لا أفعل حتّى أسأل الفقهاء. فسأل الشافعيّة «4» فأفتوه بالجواز فلم يقبل، وقال: إن الله تعالى قرّب أجلى، أيؤخّره شرب الخمر! قالوا: لا. قال: فو الله لا لقيت الله وقد فعلت ما حرّم علىّ، فمات ولم يشر به.
ولمّا أشرف على الموت أحضر الأمراء واستحلفهم لابن عمّه عزّ الدين [مسعود «5» ابن مودود] صاحب الموصل؛ فقيل له: لو أوصيت لابن عمك عماد الدين صاحب سنجار! فإنّه صعلوك ليس له غير سنجار، وهو تربية أبيك وزوج أختك،(6/89)
وشجاع كريم، وعزّ الدين له من الفرات إلى همذان؛ فقال: هذا لم يخف عنىّ، ولكن قد علمتم استيلاء صلاح الدين على الشام، [سوى «1» ما بيدى] ، ومصر واليمن، وعماد الدين لا يثبت له إذا أراد أخذ البلاد؛ وعزّ الدين له العساكر والأموال فهو أقدر على حفظ حلب وأثبت من عماد الدين، ومتى ذهبت حلب ذهب الجميع؛ فاستحسنوا قوله.
قلت: ولم يخطر ببال أحد أخذ صلاح الدين بن أيّوب الشام من الملك الصالح هذا قبل تاريخه، فإنّه كان غرس نعمة أبيه الملك العادل، فلم يلتفت صلاح الدين للأيادى السالفة، وانتهز الفرصة حيث أمكنته، وقاتل الملك الصالح هذا حتّى أخذ منه دمشق، فلهذا صار عند الصالح كمين من صلاح الدين.
وفيها توفّى عبد الرحمن «2» بن محمد [بن «3» عبيد الله] بن أبى سعيد أبو البركات الأنبارىّ النحوىّ، مصنّف كتاب «الأسرار «4» فى علم العربيّة» وكتاب «هداية الذاهب فى معرفة المذاهب» . كان إماما فى فنون كثيرة مع الزهد والورع والعبادة، وكانت وفاته فى شعبان.
وفيها توفّى عمر «5» بن حموّيه عماد الدين والد شيخ الشيوخ صدر الدين وتاج الدين، وهو من ولد حموّيه بن علىّ الحاكم على خراسان إمام السامانيّة.(6/90)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة فى كتاب الإشارة «1» ، قال: وفيها توفّى الملك الصالح إسماعيل ابن السلطان نور الدين بحلب فى رجب، وله ثمانى عشرة سنة.
والكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنبارىّ النحوىّ العبد الصالح. وشيخ الشيوخ أبو الفتوح «2» عمر بن علىّ الجوينىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 578]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
فيها سار سيف الإسلام طغتكين أخو صلاح الدين من مصر إلى اليمن إلى أن نزل زبيد، وبها حطّان [بن منقذ «3» الكنانىّ] ، فأمره أن يسير إلى الشام، فجمع أمواله وذخائره ونزل بظاهر زبيد فقبض عليه سيف الإسلام، وأخذ جميع ما كان معه، وقيمته ألف ألف دينار، ثم قتله بعد ذلك. وكان عثمان الزنجبيلىّ بعدن، فلمّا بلغه ذلك سافر إلى الشام بعد أن أثّر باليمن آثارا كبيرة ووقف الأوقاف؛ وله مدرسة أيضا بمكّة، ورباط بالمدينة وغيرها.
وفيها فى خامس المحرّم خرج صلاح الدين من مصر فنزل البركة «4» قاصدا الشام، وخرج أعيان الدولة لوداعه، وأنشده الشعراء أبياتا فى الوداع، فسمع قائلا يقول فى ظاهر المخيّم:(6/91)
تمتّع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشيّة من عرار
فطلب القائل فلم يجده. فوجم الناس وتطيّر الحاضرون، فكان كما قال.
قلت: وقول من قال، فكان كما قال، ليس بشىء، فإنّ صلاح الدين عاش بعد ذلك نحو العشر سنين، غير أنّه ما دخل مصر بعدها فيما أظنّ، فإنّه اشتغل بفتح الساحل وقتال الفرنج، كما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفهيا توفّى أحمد بن علىّ بن أحمد الشيخ أبو العبّاس المعروف بابن الرّفاعىّ، إمام وقته فى الزهد والصلاح والعلم والعبادة. كان من الأفراد الذين أجمع الناس على علمه وفضله وصلاحه. كان يسكن أمّ عبيدة بالعراق، وكان شيخ البطائحة «1» ، وكان له كرامات ومقامات، وأصحابه يركبون السّباع ويلعبون بالحيّات، ويتعلّق أحدهم فى أطول النخل ثم يلقى نفسه إلى الأرض ولا يتألّم، وكان يجتمع عنده كلّ سنة فى المواسم خلق عظيم. قال الشيخ شمس الدين يوسف فى تاريخه مرآة الزمان:
«حكى لى بعض أشياخنا قال: حضرت عنده ليلة نصف شعبان، وعنده نحو من مائة ألف إنسان قال: فقلت له: هذا جمع عظيم، فقال لى: حشرت محشر هامان إن خطر ببالى أنّى مقدّم هذا الجمع. قال: وكان متواضعا سليم الصدر مجرّدا من الدنيا ما ادّخر شيئا قطّ» . انتهى.
قلت: وعلم الشيخ أحمد بن الرفاعىّ وفضله وورعه أشهر من أن يذكر، وهو أكثر الفقراء أتباعا شرقا وغربا، والأعاجم يسمّونه: سيّدى أحمد الكبير، وقيل:(6/92)
إنّ سبب مرضه الذي مات منه، أنّ عبد الغنىّ بن محمد بن نقطة الزاهد مضى إلى زيارته، فأنشد «1» أبياتا منها:
إذا جنّ ليلى هام قلبى ذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقى سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتى بحار بالأسى تتدفّق
سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها ... تفكّ الأسارى دونه وهو موثق
فلا هو مقتول ففى القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيعتق «2»
وكانت وفاة الشيخ أحمد فى يوم الخميس ثانى عشر «3» جمادى الأولى، وقد جاوز سبعين «4» سنة.
وفيها توفّى الأمير فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب أبو سعد عزّ الدين. كان من الأماثل الأفاضل، كان متواضعا سخيّا جوادا شجاعا مقداما، وكان عمّه صلاح الدين قد استنابه بالشام، وكان فصيحا شاعرا. مات بدمشق فى جمادى الأولى. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
أقرضونى زمنا قرّبهم ... واستعادوا بالنّوى ما أقرضوا
أنا راض بالذى يرضيهم ... ليت شعرى بالتلاقى هل رضوا؟
وفيها توفّى الأمير يوسف بن عبد المؤمن بن علىّ أبو يعقوب صاحب المغرب، أمير الموحّدين. كان حسن السيرة عادلا ديّنا ملازما للصلوات الخمس، لا بسا للصوف، مجاهدا فى سبيل الله تعالى.(6/93)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ الكبير أبو العبّاس أحمد بن علىّ بن أحمد الرفاعىّ بالبطائح. وأبو طالب الخضر بن هبة الله بن أحمد بن طاوس فى شوّال. والحافظ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى ابن بشكوال الأنصارىّ القرطبىّ فى شهر رمضان، وله أربع وثمانون سنة. وأبو طالب أحمد بن المسلم بن رجاء اللّخمىّ التّنوخىّ فى شهر رمضان بالإسكندريّة. وخطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد الطّوسىّ فى شهر رمضان عن اثنتين وتسعين سنة. وعزّ الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب نائب دمشق فى جمادى الأولى. والقطب النّيسابورىّ أبو المعالى مسعود بن محمد بن مسعود شيخ الشافعيّة فى آخر شهر رمضان. وأبو محمد هبة الله بن محمد بن هبة الله الشّيرازىّ بدمشق فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 579]
السنة الثالثة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
فيها فى يوم الأحد عاشر المحرّم تسلّم السلطان صلاح الدين آمد من ديار بكر، ودخل إليها وجلس فى دار الإمارة، ثم سلّمها وأعمالها إلى نور الدين محمد»
بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وكان قد وعده بها لمّا جاء إلى خدمته. ثم عاد(6/94)
إلى حلب وحاصرها حتى أخذها من عماد الدين زنكى ابن أخى نور الدين الشهيد، وبذل له عوضها سنجار، وعمل الناس فى ذلك أشعارا كثيرة، منها:
وبعت بسنجار خير القلاع ... ثكلتك من بائع مشترى
وكان فى أيّام حصار حلب أصاب تاج الملوك بورى بن أيّوب سهم فى عينه فمات بعد أيّام، فحزن أخوه السلطان صلاح الدين عليه حزنا شديدا، وكان يبكى ويقول:
ما وفت حلب بشعرة من أخى تاج الملوك بورى. وخرج عماد الدين من حلب وسار إلى سنجار. ولمّا طلع صلاح الدين إلى قلعة حلب فى سلخ صفر [أنشدنا «1» ] القاضى [محيى الدين «2» بن] زكىّ الدين محمد بن علىّ القرشىّ قاضى دمشق أبياتا منها:
وفتحه «3» حلبا بالسيف فى صفر ... مبشّر بفتوح القدس فى رجب
فكان كما قال، لكن بعد سنين؛ وهو الذي [خطب «4» ] بالقدس لمّا فتحه صلاح الدين فى رجب.
وفيها توفّى محمد بن بختيار الأديب، أبو عبد الله المولّد «5» المعروف بالأبله البغدادىّ الشاعر المشهور، كان شاعرا ماهرا جمع فى شعره بين الصناعة والرقّة.
ومن شعره:
زار من أحيا بزورته ... والدّجى فى لون طرّته
قمر يثنى معاطفه ... بانة فى ثنى بردته(6/95)
بتّ أستجلى المدام على ... غرّة الواشى وغرّته
يا لها من زورة قصرت ... فأماتت طول جفوته
يا له فى الحسن من صنم ... كلّنا فى جاهليّته
وله قصيدة طنّانة أولها:
دعنى أكابد لوعتى وأعانى ... أين الطّليق من الأسير العانى
وفيها توفّى الملك تاج الملوك بورى بن أيّوب بن شادى أبو سعيد أخو السلطان صلاح الدين من سهم أصابه فى حصار حلب كما تقدّم ذكره. كان مولد تاج الملوك فى ذى الحجّة سنة ستّ وخمسين وخمسمائة، وكان قد جمع فيه محاسن الأخلاق: من مكارم وشيم ولطف طباع، مع شجاعة «1» وفضل وفصاحة، وكان شاعرا بليغا. ومن شعره:
رمضان بل مرضان إلّا أنّهم ... غلطوا إذا فى قولهم وأساءوا
مرضان فيه تخالفا ... فنهاره سلّ وأما ليله استسقاء
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى إسماعيل بن قاسم الزّيات بمصر. وتقيّة بنت [غيث «2» بن] علىّ الأرمنازيّة «3» الشاعرة. وأبو الفتح عبد الله بن أحمد الأصبهانىّ الخرقىّ فى رجب، وله تسع وثمانون سنة. ومحمد بن بختيار البغدادىّ الشاعر المعروف بالأبله. وأبو العلاء محمد بن جعفر بن عقيل، وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو طالب محمد بن علىّ الكتّانىّ المحتسب. والعلّامة رضىّ الدين يونس بن محمد بن منعة فقيه الموصل.(6/96)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 580]
السنة الرابعة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمانين وخمسمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق طاشتكين.
وفيها توفّى إيلغازى بن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق قطب الدين صاحب ماردين، كانت وفاته فى جمادى الآخرة. وخلّف ولدين صغيرين. وكان ملكا شجاعا عادلا منصفا عاقلا.
وفيها توفّى عبد الرحيم «1» بن إسماعيل بن أبى «2» سعد شيخ الشيوخ صدر الدين وابن شيخ الشيوخ النّيسابورىّ. ولد سنة ثمان وخمسمائة، وكان فاضلا رسولا «3» بين الخليفة وصلاح الدين، وكان يلبس الثياب الفاخرة، ويتخصّص بالأطعمة الطّيبة، فكان أهل بغداد يعيبون عليه حيث لم يسلك طريق المشايخ فى التعفّف عن الدنيا، ولمّا مات رثاه ابن «4» المنجّم المصرىّ:
يا أخلّائى وحقّكم ... ما بقى من بعدكم فرح
أىّ صدر فى الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرح(6/97)
وتولّى مشيخة الرّباط بعده الشيخ صفىّ الدين إسماعيل.
وفيها توفّى محمد بن قرا أرسلان نور الدين صاحب حصن كيفا؛ الذي كان أعطاه السلطان صلاح الدين آمد. وترك ابنه ظهير الدين سكمان صغيرا، عمره عشر سنين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعد شيخ الشيوخ فى رجب بالرّحبة راجعا فى الرسليّة «1» .
وأبو عبد الله محمد بن حمزة بن أبى الصّقر القرشىّ. وأبو الوفا محمود بن أبى القاسم [عمر «2» ] الأصبهانىّ فى شهر ربيع الآخر، وله إحدى وسبعون سنة. أجاز له طرّاد [الزّينبى «3» النّقيب] وسمع من أبى الفتح [أحمد «4» بن محمد] البيود رحانىّ «5» . وصاحب المغرب أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن «6» شهيدا على حصار شنترين «7» بالأندلس فى رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 581]
السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.(6/98)
فيها قطع السلطان صلاح الدين الفرات ونزل على الموصل وافتتح عدّة بلاد.
وفيها توفّى عبد السلام بن يوسف بن محمد الأديب أبو الفتوح «1» الجماهرىّ «2» .
كان فاضلا شاعرا. ومن شعره من قصيدة:
على ساكنى بطن العقيق سلام ... وإن أسهرونى بالفراق وناموا
حرمتم «3» علىّ النوم وهو محلّل ... وحلّلتم التعذيب وهو حرام
ألا يا حمامات الأراك إليكم ... فمالى فى تغريدكّنّ مرام
فوجدى وشوقى مسعد ومؤانس ... ونوحى ودمعى مطرب ومدام
وفيها توفّيت عصمة الدين خاتون بنت معين الدين أنر زوجة السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة، تزوّجها بعد زوجها الملك العادل نور الدين الشهيد.
كانت من أعفّ الناس وأكرمهنّ، كان لها صدقات كثيرة وبرّ عظيم؛ بنت بدمشق مدرسة للحنفيّة فى حجر «4» الذهب، ورباطا للصوفيّة، وبنت تربة بقاسيون على نهر «5» بردى، وبها دفنت؛ وأوقفت على هذه الأماكن أوقافا كثيرة. وماتت فى رجب، فبلغ صلاح الدين موتها وهو مريض بحرّان فتزايد مرضه لموتها ولحزنه عليها. ثم مات بعدها أخوها سعد الدين مسعود بن أنر في هذه السنة، وكان من أكابر الأمراء، زوّجه صلاح الدين أخته ربيعة خاتون. فلمّا توفّى تزوّجها بعده الأمير مظفّر الدين بن زين الدين.
وفيها توفّى محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى الأمير ناصر الدين ابن عمّ السلطان صلاح الدين. كان السلطان صلاح الدين يخافه لأنّه(6/99)
كان يدّعى أنّه أحقّ بالملك منه. وكان السلطان صلاح الدين يبلغه عنه هذا، وكان زوج أخت السلطان صلاح الدين ستّ الشام بنت أيّوب. ومات بحمص فى يوم عرفة، وتناثر لحمه حتّى قيل إنّه سمّ، وقيل: مات فجأة، فنقلته زوجته ستّ الشام إلى تربتها، ودفنته عند أخيها الملك المعظّم توران شاه بن أيّوب المقدّم ذكره. ولمّا بلغ صلاح الدين موته أبقى على ولده أسد الدين شيركوه بن محمد المذكور ما كان بيد والده: حمص وتدمر والرّحبة وسلمية، وخلع عليه وكتب منشورا بذلك.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن فتح الدين البغدادىّ الحنفىّ، كان فقيها شاعرا أديبا.
ومن شعره فى مليح عليه قباء كمّه مطرّز:
ضممت معذّبى لمّا أتانى ... ورقم طرازه قد راق عينى
فياطرزيه هل يدنى زمانى ... ليالى وصلنا بالرّقمتين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الطاهر إسماعيل ابن مكّىّ [بن «1» إسماعيل بن عيسى] بن عوف الزّهرىّ شيخ المالكيّة بالثغر فى شعبان.
وصاحب أذربيجان البهلوان [محمد «2» ] بن إيلدكز. والشيخ حياة بن قيس الحرّانىّ العابد فى جمادى الأولى. وأبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد التّنوخىّ كاتب نور الدين. والمهذّب عبد الله بن أسعد [بن علىّ «3» ] بن الدهّان الموصلىّ الشافعىّ النحوىّ الشاعر فى شعبان بحمص. والحافظ أبو محمد عبد الحقّ بن عبد الرحمن الأزدىّ الإشبيلىّ فى شهر ربيع الآخر بيجاية «4» ، وله سبعون سنة. والحافظ أبو زيد «5» عبد الرحمن(6/100)
ابن عبد الله السّهيلىّ المالقىّ «1» الأديب فى شعبان. وعبد الرازق بن نصر بن المسلم النجّار الدمشقىّ. وأبو الفتح [عبيد الله»
بن] عبد الله [بن محمد «3» بن نجا] بن شاتيل «4» الدبّاس فى رجب، وله تسعون سنة. وأبو الجيوش عساكر بن علىّ المقرئ بمصر. وأبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانشىّ «5» بمكّة. وأبو المجد الفضل بن الحسين البانياسىّ فى شوّال.
وصاحب حمص ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه. والحافظ أبو سعد «6» محمد بن عبد الواحد الصائغ بأصبهان فى ذى القعدة. والحافظ العلّامة أبو موسى محمد بن أبى بكر عمر بن أبى عيسى المدينىّ فى جمادى الأولى، وله ثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 582]
السنة السادسة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
فيها حكم المنجّمون فى الآفاق بخراب العالم فى جمادى الآخرة، وقالوا: تقترن الكواكب السيّارة: الشمس والقمر وزحل والمرّيخ [والزّهرة «7» ] وعطارد والمشترى فى برج الميزان أو السّرطان، فتؤثّر تأثيرا يضمحلّ به العالم، وتهبّ سموم محرقة تحمل(6/101)
وملا أحمر، فاستعدّ الناس وحفروا السراديب وجمعوا فيها الزاد. وانقضت المدّة المعيّنة، وظهر كذب المنجّمين. فقال [أبو الغنائم «1» محمد] بن المعلّم فى أبى الفضل «2» المنجّم قصيدة طنّانة:
قل لأبى الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب
وما جرت «3» زعزع كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب
ومنها:
مدبّر الأمر واحد ليس للسب ... عة فى كلّ حادث سبب
لا المشترى سالم ولا زحل ... باق ولا زهرة ولا قطب
ومنها:
فليبطل المدّعون ما وضعوا ... فى كتبهم ولتحرق الكتب
قلت: وهذا الكذب متداول بين القوم إلى زماننا هذا، حتّى إنّه لا يمضى شهر إلّا وقد أوعدوا الناس بشىء لا حقيقة له. والعجب أنّ الشخص من العامّة إذا كذب مرّة على رجل يستحى ولا يعود إلى مثلها، وهؤلاء القوم لا عرض لهم ولا دين ولا مروءة. ولله درّ القائل ولم أدر لمن هو:
دع النجوم لصوفىّ يعيش بها ... وبالعزائم فانهض أيّها الملك
إنّ النّبيّ وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا(6/102)
وفيها عاد السلطان صلاح الدين إلى الشام وتلقّاه شيركوه بن محمد بن شيركوه وأخته سفرى خاتون أولاد ابن عمّه محمد بن أسد الدين شيركوه وزوجته ستّ الشام، وهى أخت السلطان صلاح الدين؛ فقال السلطان لأخيه العادل أبى بكر بن أيّوب: اقسم التركة بينهم على فرائض الله تعالى. وكان محمد قد خلّف أموالا عظيمة، فكان مبلغ التركة ألف ألف دينار.
وفهيا دخل سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى مكّة، ومنع من الأذان فى الحرم ب «حىّ على خير العمل» .
وفيها قسّم السلطان صلاح الدين يوسف البلاد بين أهله وولده برأى القاضى الفاضل، فأعطى مصر لولده العزيز عثمان؛ والشام لولده الأفضل؛ وحلب لولده الظاهر؛ وأعطى أخاه العادل أبا بكر إقطاعات كثيرة بمصر، وجعله أتابك العزيز؛ وأعطى لابن أخيه تقىّ الدين حماة والمعرّة ومنبج وأضاف إليه ميّافارقين.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن بركة أبو محمد المقرئ النحوىّ، كان إماما فاضلا انتفع بعلمه خلائق كثيرة، وكان أديبا بارعا ومات فى شوّال. ومن شعره:
وما شنآن الشّيب من أجل لونه ... ولكنّه حاد «1» إلى الموت مسرع
إذا ما بدت منه الطّليعة آذنت ... بأنّ المنايا بعدها تتطلّع
وفيها توفّى عبد الله [بن برّىّ «2» ] بن عبد الجبّار المعروف بآبن برّىّ النحوىّ بمصر، كان إماما أديبا فاضلا بارعا فى علم النحو والعربيّة، وانتفع به خلق كثير، ومات بمصر فى شوّال. وكان حجّة ثقة. ومن شعره- رحمه الله-:(6/103)
خدّ وثغر فجلّ ربّ ... بمبدع الحسن قد تفرّد
فذا عن الواقدىّ يروى ... وذاك يروى عن المبرّد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو محمد عبد الله ابن برّى النحوىّ بمصر فى شوّال، وله ثلاث وثمانون سنة. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن جرير القرشىّ الناسخ ببغداد. وأبو محمد الحسن بن علىّ [بن بركة «1» ] بن عبيدة الكوفىّ النحوىّ المقرئ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 583]
السنة السابعة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
فيها فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس وعكّا وحصونا كثيرة بالساحل، بعد أمور وحروب ذكرناها فى ترجمته.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن علىّ بن محمد قاضى القضاة أبو الحسن بن الدامغانىّ الحنفىّ قاضى قضاة بغداد. قال أبو المظفّر: قاضى ابن قاضى ابن قاضى ابن قاضى ابن قاضى ابن قاضى. ولد سنة ثلاث عشرة «2» وخمسمائة، وولّاه الخليفة المقتفى القضاء بمدينة السلام وسائر البلاد مشرقا ومغربا، وأقرّه المستنجد ثم عزله؛ ثم أعاده(6/104)
المستضىء سنة سبعين وخمسمائة؛ ثم أقرّه الناصر لدين الله تعالى إلى أن توفّى ببغداد فى ذى القعدة ودفن بالشّونيزيّة عند جدّه لأمّه أبى الفتح الشاوى «1» . وكان إماما فقيها عالما نزها عفيفا معدودا من كبار فقهاء السادة الحنفية- رحمه الله تعالى-.
وفيها توفّى محمد بن عبد الملك «2» بن المقدّم الأمير شمس الدين، كان من أكابر أمراء الملك العادل نور الدين، ثم صلاح الدين يوسف بن أيّوب. وله المواقف المشهودة، وحضر جميع فتوحات السلطان صلاح الدين، ثم إنّه استأذن صلاح الدين فى الحجّ فأذن له على كره من مفارقته؛ فلمّا وصل إلى عرفات أراد أن يرفع علم صلاح الدين ويضرب الطّبل، فمنعه طاشتكين وقال: لا يرفع هنا سوى علم الخليفة.
فقال ابن المقدّم هذا: والسلطان مملوك الخليفة. فمنعه طاشتكين، فأمر ابن المقدّم غلمانه فرفع العلم فنكّسوه، فركب ابن المقدّم ومن معه، وركب طاشتكين له، واقتتلوا فقتل من الفريقين، ورمى مملوك طاشتكين ابن المقدّم بسهم فوقع فى عينه فخرّ صريعا، وجاء طاشتكين وحمله إلى خيمته فتوفّى فى يوم الخميس يوم النحر ودفن بالمعلى. ثم أرسل الخليفة يعتذر لصلاح الدين أنّ ابن المقدّم كان الباغى، فلم يقبل صلاح الدين، وقال: أنا الجواب عن الكتاب. ولولا اشتغاله بالجهاد لكان له وللخليفة شأن.
وفيها توفّى محمد بن عبيد الله الأديب أبو الفتح البغدادىّ، المعروف بسبط [ابن] التّعاويذىّ. الشاعر المشهور. وله ديوان شعر كبير، الموجود غالبه فى المديح.
ومن شعره- رحمه الله- فى غير المديح، فى الزهد:(6/105)
اجعل همومك واحدا ... وتخلّ عن كلّ الهموم
فعساك أن تحظى بما ... يغنيك عن كلّ الهموم
وله:
فكم ليلة قد بتّ أرشف ريقه ... وجرت على ذاك الشّنيب المنضّد
وبات كما شاء الغرام معانقى ... وبتّ وإيّاه كحرف مشدّد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى شيخ الفتوى عبد الجبّار بن يوسف ببغداد. والمحدّث أبو العزّ «1» عبد المغيث بن زهير الحربىّ.
وقاضى القضاة أبو الحسن علىّ بن أحمد ابن قاضى القضاة علىّ بن محمد بن الدامغانىّ الحنفىّ. وأبو الفتح محمد بن يحيى بن محمد بن مواهب البردانىّ «2» . والأمير الكبير شمس الدين محمد [بن عبد «3» الملك] بن المقدّم النّورىّ، قتل بعرفات. وأبو السعادات نصر الله بن عبد الرحمن بن محمد [يعرف «4» ] بابن زريق القزّاز فى شهر ربيع الآخر، وله اثنتان وتسعون سنة. وشيخ الحنابلة ناصح «5» الدين أبو الفتح نصر بن فتيان [بن «6» مطرّف المعروف با] بن المنّى فى رمضان عن إحدى وثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 584]
السنة الثامنة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وثمانين وخمسمائة.(6/106)
فيها توفّى الأمير أسامة بن مرشد بن علىّ بن المقلّد بن نصر بن منقذ الأمير أبو الحارث «1» مؤيّد الدولة مجد الدين الكنانىّ. مولده بشيزر فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكانت له اليد الطّولى فى الأدب والكتابة والشعر، وكان فارسا شجاعا عاقلا مدبّرا، كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب الجاهليّة، وطاف البلاد ثم استوطن حماة فتوفّى فيها «2» فى شهر رمضان، وقد بلغ ستا وتسعين سنة.
وله ديوان شعر مشهور، وكان السلطان صلاح الدين مغرى بشعره. ومن شعره فى قلع الضّرس:
وصاحب لا «3» أملّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعى ويسعى سعى مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ «4» وقعت ... عينى عليه افترقنا فرقة الأبد
وقال فى أيّام الملك العادل نور الدين الشهيد:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له فكلّ على الخيرات منكمش
أيّامه مثل شهر الصّوم طاهرة ... من المعاصى وفيها الجوع والعطش
وفيها توفّى مجاهد الدين خالص بن عبد الله الناصرىّ خادم الخليفة الناصر لدين الله، كان قريبا من الخليفة سلّم إليه مماليكه الخواص؛ وكان سليم الباطن ديّنا، صلى به إمامه صلاة الفجر فقرأ الإمام فيها: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ
فلمّا سمع خالص ذلك رفع صوته وهو فى الصلاة وقال: صلّى الله عليك يا رسول الله.(6/107)
فضحك القوم وقطعوا الصلاة. فقال لهم خالص المذكور: مجانين أنتم! يقول الله:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
وأسكت أنا!
وفيها توفّى محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن المظفّر بن علىّ؛ أبو حامد محيى الدين «1» الشّهرزورىّ الإمام الفقيه؛ ولى القضاء بالموصل، وقدم بغداد رسولا من صاحب الموصل، فأكرمه الخليفة وخلع عليه. ثم عاد فمات فى جمادى الأولى.
ومن شعره:
ولمّا شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام
أقام «2» يميط عنه الشيب عمدا ... وينشر ما أماط على الأنام
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير مؤيّد الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علىّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكنانىّ فى شهر رمضان عن سبع «3» وتسعين سنة. وظاعن بن محمد الزّبيرىّ الخيّاط. وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله «4» [بن يوسف بن أبى عيسى «5» القاضى] بن حبيش الأنصارىّ بمرسية «6» ، وكان خطيبها وقاضيها ومحدّثها ومسندها، توفّى فى صفر. وأبو»
القبائل ابن علىّ عن مائة سنة وزيادة. والعلّامة شمس الأئمّة عماد الدين عمر بن شمس الأئمّة بكر بن محمد الزّرنجرىّ «8» البخارىّ شيخ الحنفيّة فى شوّال، وله خمس وستون سنة.(6/108)
وأبو عبد الله محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن صدقة الحرّانىّ التاجر، وله سبع وتسعون سنة. والحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمىّ الهمذانىّ فى جمادى الأولى شابّا، وله خمس وثلاثون سنة. وأبو الفرج يحيى بن محمود الثّقفىّ الصّوفىّ فى نواحى همذان غريبا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 585]
السنة التاسعة عشرة من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
فيها ولّى السلطان صلاح الدين على عكّة حسام الدين بشارة، وولّى على عمارة سورها الخادم بهاء الدين قراقوش.
وفيها توفّى الأمير طمان بن عبد الله النّورىّ صاحب الرّقّة، كان شجاعا جوادا محبّا للخير كثير الصدقات يحبّ الفقهاء والعلماء، بنى مدرسة بحلب للحنفيّة. وكانت وفاته فى ليلة نصف شعبان؛ وحزن السلطان صلاح الدين عليه والمسلمون لحرصه على الجهاد ولمواقفة المشهودة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهّر «1» بن علىّ أبو سعد بن أبى السّرىّ التّميمىّ الموصلىّ القاضى شرف الدين بن أبى عصرون. كان إماما فاضلا مصنّفا، وكان خصيصا بالملك العادل نور الدين، ثم اقتضى «2» به السلطان صلاح الدين، وولى القضاء بعدّة بلاد وضرّ قبل وفاته بعشر سنين. ومن شعره قوله:(6/109)
كلّ جمع إلى الشتات يصير ... أىّ صفو ما شانه التكدير
أنت فى اللهو والأمانى مقيم ... والمنايا فى كلّ وقت تسير
وفيها توفّى الفقيه عيسى «1» الهكّارىّ ضياء الدين، حضر فتح مصر مع أسد الدين شيركوه، وهو الذي مشى بين الأمراء وبين السلطان صلاح الدين لمّا ولى وزارة العاضد بعد موت عمّه أسد الدين شيركوه، حسب ما تقدّم ذكره حتّى تمّ أمره.
ثمّ حضر مع السلطان صلاح الدين فتح القدس والغزوات، وكان صلاح الدين يميل إليه ويستشيره، وكأنّ الله قد أقامه لقضاء حوائج الناس والتفريج عن المكروبين مع الورع والعفّة والدين- رحمه الله-.
وفيها توفّى الأمير موسك بن جكو [ابن «2» ] خال صلاح الدين. كان حافظا للقرآن سامعا للحديث، وكان محسنا إلى الناس ملازما للسلطان فى غزواته، وكان ديّنا صالحا جوادا، مرض بمرج عكّا فأمره السلطان أن يمضى إلى دمشق ليتطبّب بها، فتوجّه إلى دمشق ومات بها- رحمه الله-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس التّرك أحمد بن أحمد بن محمد بن ينّال شيخ الصوفيّة بأصبهان ومسندها فى شعبان. وأبو الحسين «3» أحمد بن حمزة الموازينىّ فى المحرّم. وقاضى القضاة شرف الدين أبو سعد عبد الله ابن محمد بن أبى عصرون التّميمىّ الموصلىّ فى رمضان. وأبو الفضل عبد المجيد بن [الحصينىّ «4» بن يوسف بن الحسن بن أحمد بن] دليل الإسكندرانىّ المعدّل. وشيخ(6/110)
الشافعيّة أبو طالب المبارك بن المبارك [بن المبارك «1» ] الكرخىّ «2» صاحب ابن الخلّ.
وأبو المعالى [وأبو «3» النجاح] منجب بن عبد الله المرشدىّ الخادم فى المحرّم. والحافظ يوسف بن أحمد الشّيرازىّ ثم البغدادىّ الصوفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 586]
السنة العشرون من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة.
فيها ملك سيف الإسلام أخو السلطان صلاح الدين صنعاء من بلاد اليمن.
وفيها حجّ بالناس من العراق طاشتكين المذكور فى السنة الماضية.
وفيها توفّى مسعود [بن «4» علىّ] بن عبيد الله أبو الفضل بن النادر الصفّار الأديب الشاعر، كان بارعا فى الأدب، وكتب خطّا حسنا نحوا من مائة ربعة. ومن شعره قوله:
تولّوا فأولوا الجسم من بعدهم ضنا ... وحراّ شديدا فى الحشا يتزايد
وزاد بلائى بالذين أحبّهم ... وللناس فيما يذهبون مقاصد
وفيها توفّى يوسف بن علىّ بن بكتكين الأمير زين الدين صاحب إربل.
كان قدم إلى السلطان صلاح الدين نجدة فمرض ومات، وفرح بموته أخوه مظفّر(6/111)
الدين، وتولّى إربل مكانه من قبل السلطان صلاح الدين. وكان زين الدين أميرا كبيرا شجاعا مقداما مدبرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو المواهب الحسن «1» بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التّغلبىّ الدمشقىّ، وله تسع واربعون سنة.
وأبو الطيّب عبد المنعم بن يحيى [بن خلف «2» بن نفيس] بن الخلوف الغرناطىّ المقرئ.
وأبو عبد الله محمد بن سعيد [بن أحمد «3» بن عبد العزيز بن عبد البرّ بن مجاهد المعروف ب] ابن زرقون الإشبيلىّ المالكىّ المسند. وأبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن الفرح بن الجدّ الفهرىّ الحافظ بإشبيلية. وقاضى القضاة محيى «4» الدين أبو حامد محمد ابن قاضى القضاة كمال الدين بن الشّهرزورىّ، وله اثنتان وستون سنة. ولى حلب ثم الموصل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 587]
السنة الحادية والعشرون من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
فيها كان استيلاء الفرنج على عكّا، كما تقدّم فى ترجمة السلطان صلاح الدين من هذا الكتاب.(6/112)
وفيها توفّى الموفّق أسعد بن [إلياس «1» بن جرجس] المطران الطبيب. كان نصرانيّا فأسلم على يد السلطان، وكان غزير المروءة حسن الأخلاق كريم العشرة. وكان يصحبه صبىّ حسن الصورة اسمه عمر. وكان الموفّق يحبّ أهل البيت ويبغض ابن عنين «2» الشاعر لخبث لسانه، وكان يحرّض السلطان صلاح الدين عليه ويقول له:
أليس هذا هو القائل:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... أعمش والوزير منحدب
فهجاه ابن عنين بقوله:
قالوا الموفّق شيعىّ فقلت لهم ... هذا خلاف الذي للناس منه ظهر
فكيف يجعل دين الرّفض مذهبه ... وما دعاه إلى الإسلام غير عمر
وفيها توفّى سليمان بن جندر. كان من أكابر أمراء حلب، ومشايخ الدولتين:
النّوريّة والصلاحيّة، شهد مع السلطان صلاح الدين حروبه كلّها، وهو الذي أشار بخراب عسقلان مصلحة للمسلمين. ومات فى أواخر ذى الحجّة.
وفيها توفّى عمر بن شاهنشاه بن أيّوب الملك المظفّر تقىّ الدين. قد ذكرنا من أمره: أنّ عمّه السلطان صلاح الدين كان أعطاه حماة، وعدّة بلاد من حماة إلى دياربكر، فطمع فى ملكة الشرق فنفرت عنه وعن عمّه صلاح الدين القلوب لعظم طمعهما. ووقع لتقىّ الدين هذا مع بكتمر [بن عبد الله «3» مملوك شاه أرمن] صاحب خلاط وقائع وحروب، فمات تقىّ الدين بتلك البلاد، فكتم محمد ولده موته، وحمله(6/113)
إلى ميّافارقين، فدفن بها. وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر شهر رمضان، ثم بنيت له مدرسة بظاهر حماة، فنقل إليها. وكان السلطان صلاح الدين يكره ابنه محمدا فأخذ منه بلاد أبيه، وأبقى معه حماة لا غير. ولقّب محمد هذا بالملك المنصور. وهو أبو ملوك حماة من بنى أيّوب الآتى ذكرهم. وكان تقىّ الدين شجاعا مقداما شاعرا فاضلا، عاشر العلماء والأدباء وتخلّق بأخلاقهم، وله ديوان شعر. ومن شعره:
يا ناظريه ترفّقا ... ما فى الورى لكما مبارز
هبكم حجبتم أن أرا ... هـ فهل لقلب الصّب حاجز
وفيها توفّى يحيى «1» السّهروردىّ المقتول بحلب، كان يعانى علوم الأوائل والمنطق والسيمياء وأبواب النّيرنجيّات «2» ، فاستمال بذلك خلقا كثيرا وتبعوه، وله تصانيف فى هذه العلوم. واجتمع بالملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، فأعجب الظاهر كلامه ومال إليه. فكتب أهل حلب إلى السلطان صلاح الدين:
أدرك ولدك وإلّا تتلف عقيدته؛ فكتب إليه أبوه صلاح الدين بإبعاده فلم يبعده، فكتب بمناظرته، فناظره العلماء فظهر عليهم بعبارته، فقالوا: إنّك قلت فى بعض تصانيفك: إنّ الله قادر على أن يخلق نبيّا، وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟
فإنّ الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شىء. فتعصّبوا عليه، فحبسه الظاهر وجرت بسببه خطوب وشناعات. وكان السّهروردىّ ردىء الهيئة، زرىّ الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبا ولا جسما، ولا يقصّ ظفرا ولا شعرا، فكان القمل يتناثر على وجهه، وكان من رآه يهرب منه لسوء منظره، وقبح زيّه.(6/114)
وطال أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فقتل فى يوم الجمعة منسلخ ذى الحجّة من هذه السنة، أخرج من الحبس ميّتا. وممّا ينسب إليه من الشعر القصيدة «1» التى أوّلها:
أبدا تحنّ إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح
وقال السيف «2» الآمدىّ: اجتمعت بالسّهروردىّ بحلب، فقال لى: لا بدّ أن أملك الأرض. فقلت: من أين لك هذا؟ فقال رأيت فى المنام أنّى شربت ماء البحر؛ فقلت: لعلّ ذلك يكون اشتهار العلم فلم يرجع؛ فرأيته كثير العلم قليل العقل. ويقال: إنّه لمّا تحقّق القتل كان كثيرا ما ينشد:
أرى قدمى أراق دمى ... وهان دمى فهاندمى
والأوّل قول أبى الفتح «3» البستى وهو قوله:
إلى حتفى سعى قدمى ... أرى قدمى أراق دمى
فلا أنفك من ندم ... وليس بنافعى ندمى
وفيها توفّى الشيخ نجم الدين الخبوشانىّ «4» . قال صاحب المرآة: «قدم إلى الديار المصريّة وأظهر الناموس وتزهّد، وكان يركب الحمار فيقف على السلطان صلاح الدين وأهله. وأعطاه السلطان مالا فبنى به المدرسة «5» التى بجانب الشافعىّ- رحمة الله عليه-. وكان كثير الفتن- منذ دخل مصر إلى أن مات- ما زالت الفتنة قائمة(6/115)
بينه وبين الحنابلة [و] ابن الصابونىّ وزين الدين بن نجيّة «1» ، يكفّرونه ويكفرهم؛ وكان طائشا متهوّرا، نبش على ابن الكيزانىّ «2» وأخرج عظامه من عند الشافعىّ، وقد تقدّم ذلك. وكان يصوم ويفطر على خبز الشعير، فلمّا مات وجد له ألوف الدنانير، وبلغ صلاح الدين فقال: يا خيبة المسعى! ومات فى صفر. وتولّى بعده- تدريس مدرسة الشافعىّ التى بناها- شيخ الشيوخ صدر الدين ابن حمّويه «3» » . انتهى كلام صاحب المرآة باختصار بعد أن ثلب الخبوشانىّ المذكور بمساوئ أضربت عن ذكرها- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن علىّ الحرقىّ اللّحمىّ فى ذى القعدة، وله ثمان وثمانون سنة. وأبو المعالى عبد المنعم بن عبد الله بن محمد الفراوىّ «4» فى شعبان. وصاحب حماة المظفّر عمر بن شاهنشاه بن أيّوب. ونجم الدين محمد بن الموفّق الخبوشانىّ الشافعى الزاهد. والشهاب السّهروردىّ الفيلسوف. ويعقوب بن يوسف الحربىّ «5» المقرئ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.(6/116)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 588]
السنة الثانية والعشرون من ولاية صلاح الدين يوسف بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
فيها توفّى سنان بن سليمان «1» ، صاحب الدعوة «2» بقلاع الشام. كان أصله من البصرة من حصن ألموت «3» ، فرأى منه صاحب الأمر بتلك البلاد نجابة وشهامة وعقلا وتدبيرا، فسيّره إلى حصون الشام، فسار حتّى وصل إلى البلاد الشاميّة، وكان فيه معرفة وسياسة. وجدّ فى إقامة الدعوة واستجلاب القلوب، وكان مجيئه إلى الشام فى أيّام السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد. فجرت له معه حروب وخطوب، واستولى سنان هذا على عدّة قلاع وأقام واليا ثلاثين سنة والبعوث ترد عليه فى كلّ قليل من قبل نور الدين. ثم إنّ السلطان نور الدين عزم على قصده فتوفّى. وأقام سنان على ذلك إلى أن توفّى ببلاد الشام فى هذه السنة.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد الأمير سيف الدين بن المشطوب ملك الهكّاريّة «4» .
وكان أميرا شجاعا صابرا فى الحروب مطاعا فى قبيلته، دخل مع أسد الدين شيركوه إلى مصر فى مرّاته الثلاث، ثم عاد بعد سلطنة صلاح الدين إلى البلاد الشاميّة، فدام بها إلى أن مات فى آخر شوّال. وقال ابن شدّاد: مات بالقدس وصلّى عليه بالجامع الأقصى.
وفيها توفّى السلطان قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، الملك عزّ الدين السلجوقىّ صاحب بلاد الروم.(6/117)
طالت أيّامه واتّسعت ممالكه. ولمّا أسنّ أصابه الفالج فتعطّلت حركته، وتنافس أولاده فى الملك، وحكم عليه ولده قطب الدين ملكشاه، وقتل كثيرا من خواصّه فى حياة أبيه. وكان قطب الدين مقيما بسيواس «1» وأبوه بقونية «2» . ثم جاء إلى أبيه يقاتله فأخرج إليه العساكر، فالتقاهم قطب الدين وكسرهم وبدّد شمل أصحاب أبيه، ثم ظفر بأبيه فأخذه مكرها وحمله إلى قيساريّة «3» ، ووقع له معه أمور أخر. وآخر الأمر أنّه عهد إلى ولده غياث الدين بالملك ولم يعهد لقطب الدين. وكانت وفاته فى نصف شعبان.
وفيها توفّى نصر بن منصور أبو المرهف النّميرىّ الشاعر المشهور، منسوب إلى نمير بن عامر بن صعصعة «4» . ولد برقّة الشام، وأمّه بنت سالم بن مالك صاحب الرّحبة، وربّى بالشام وعاشر الأدباء وقال الشعر وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وقلّ بصره بالجدرىّ وله أربع عشرة سنة. وقدم بغداد ليداوى عينيه فآيسه الأطبّاء، فحفظ القرآن وتفقّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل- رضى الله عنه- وكان طاهر اللسان عفيفا ديّنا. وله مدائح فى صلاح الدين وغيره. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
ترى يتألّف الشمل الصديع ... وآمن من زمان ما يروع
وتأنس بعد وحشتنا بنجد ... منازلنا القديمة والرّبوع
ذكرت بأيمن العلمين عصرا ... مضى والشمل «5» ملتئم جميع(6/118)
فلم أملك لدمعى ردّ غرب ... وعند الشوق تعصيك الدموع
ينازعنى إلى خنساء قلبى ... ودون لقائها بلد شسوع
وأخوف ما أخاف على فؤادى ... إذا ما أنجد البرق اللّموع
لقد حملّت من طول التنائى ... عن الأحباب ما لا أستطيع
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الفقيه أحمد ابن الحسين بن علىّ العراقىّ الحنبلىّ بدمشق. والمحدّث أبو الفضل إسماعيل بن علىّ الجنزوىّ «1» الشّروطىّ «2» بدمشق فى سلخ جمادى الأولى. وأبو ياسر عبد الوهاب [بن «3» هبة الله بن عبد الوهاب] بن أبى حبّة الدقاق بحرّان فى شهر ربيع الأول. وأبو جعفر عبيد الله بن أحمد [بن «4» علىّ بن علىّ] بن السّمين. والأمير الكبير سيف الدين علىّ بن أحمد الهكّارىّ المشطوب فى شوّال بالقدس. وصاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود السلجوقىّ. والنّسابة أبو علىّ محمد بن أسعد الحسينىّ الجوّانىّ بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.(6/119)
ذكر ولاية الملك العزيز عثمان على مصر
هو الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى ابن مروان الأيّوبىّ الكردىّ الأصل المصرىّ. ولى سلطنة مصر فى حياة والده صورة؛ ثم تسلطن بعد وفاته استقلالا باتّفاق الأمراء وأعيان الدولة بديار مصر، لأنه كان نائبا عن أبيه صلاح الدين بها لمّا كان أبوه مشتغلا بفتح السواحل بالبلاد الشاميّة وتمّ أمره. وكان مولده بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان الملك العزيز هذا أصغر من أخيه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، وأصغر من أخيه الأفضل صاحب دمشق. وكان الأفضل هو أكبر الإخوة، وهو المشار إليه فى أيّام أبيه صلاح الدين ومن بعده، وهو الذي جلس للعزاء بعد موت صلاح الدين، وصار هو السلطان الأكبر إلى أن ظهر منه أمور، منها: أنّه كان استوزر ضياء الدين «1» الجزرىّ، فأساء ضياء الدين السّيرة؛ وشغّف قلوب الجند إلى مصر، وساروا إليها فالتقاهم الملك العزيز وأكرمهم، وكانوا معظم الصلاحيّة. واشتغل الأفضل بلهوه. وكان القدس فى يده فعجز عنه وسلّمه إلى نوّاب الملك العزيز هذا؛ فبان للناس عجز الأفضل. ثم وقعت الوحشة بين العزيز هذا وبين أخيه الأفضل المذكور. وبلغ الفرنج ذلك، فطمعوا فى البلاد وحاصروا جبلة، وكان بها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج. وبرز الملك العزيز من مصر يريد قتال الفرنج فى الظاهر، وفى الباطن أخذ دمشق من أخيه الأفضل؛(6/120)
وعلم الأفضل بذلك فكتب إلى عمّه العادل أبى بكر بن أيّوب، وللمشارقة «1» بالنجدة، فأجابوه إلى ما يريد؛ وكان مع العادل عدّة بلاد بالشرق، وكان لمّا توفّى أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بالكرك قدم دمشق معزّيا للأفضل وأقام عنده أيّاما؛ ثم رحل إلى محلّ ولايته بالجزيرة والرّها «2» وسميساط «3» والرّقّة «4» وقلعة «5» جعبر وديار «6» بكر وميّافارقين «7» . وهى البلاد التى كان أعطاها له أخوه صلاح الدين فى حياته، وكان له أيضا مع ذلك بالبلاد الشاميّة الكرك والشّوبك.
والمقصود أنّ الملك العزيز هذا لمّا رحل من مصر إلى نحو دمشق، سار حتى نزل بظاهر دمشق، وقيل بعقبة الشّحورة «8» ؛ وجاء العادل بعساكر الشرق ونزل بمرج «9» عدواء. فأرسل إليه العزيز يقول: أريد الاجتماع بالعادل؛ فاجتمعا على ظهور خيلهما وتفاوضا؛ فقال له العادل: لا تخرّب البيت وتدخل عليه الآفة! والعدوّ وراءنا من كلّ جانب، وقد أخذوا جبلة؛ فارجع إلى مصر واحفظ عهد أبيك. وأيضا فلا تكسر حرمة دمشق، وتطمع فيها كل أحد! وعاد الملك العادل عنه إلى دمشق، واقام العزيز فى منزلته. وقدمت العساكر على الأفضل وبعث العادل إلى العزيز يقول له: ارحل إلى مرج الصّفّر؛ فرحل وهو مريض. وكان(6/121)
قصد العادل أن يبعده عن البلد. فوصل الملك الظاهر غازى من حلب، والملك المنصور من حماة، وشيركوه بن محمد بن شيركوه من حمص، والأمجد من بعلبكّ، والجميع نجدة للأفضل. فقال لهم العادل: قد تقرّر أنّه يرحل إلى مصر. واشتدّ مرض العزيز فاحتاج إلى المصالحة، ولولا المرض ما صالح؛ فأرسل الملك العزيز كبراء دولته فخر الدين اياز جهاركس «1» وغيره يحلّف الملوك، وطلب مصاهرة عمّه العادل فزوّجه ابنته الخاتون. ورجع كلّ واحد إلى بلده، وذلك فى شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وقال العماد الكاتب الأصفهانىّ: خرج الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصّفّر واحدا بعد واحد. وأوّل من خرج إليه أخوه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، فبات عنده ليلة وعاد، فخرج إليه أخوه الأفضل صاحب الواقعة، فقام إليه واعتنقا وبكيا، وأقام عنده أيضا يوما، وكان قد فارقه منذ تسع سنين، فلمّا عاد كتب إلى العزيز من إنشائه من عدّة أبيات:
نظرتك «2» نظرة من بعد تسع ... تقضّت بالتفرّق من سنين
ولمّا انفصل العساكر عن دمشق شرع الأفضل على عادته فى اللهو واللّعب، فاحتجب عن الرعيّة فسمّى «الملك النوّام» وفوّض الأمر إلى وزيره ضياء الدين الجزرىّ، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمىّ، فأفسدا «3» عليه الأحوال، وكانا سببا لزوال دولته. واستمرّ الملك العزيز هذا بمصر وأمره ينمو ويزداد إلى سنة تسعين.
وفيها عاد الاختلاف ثانيا بين العزيز والأفضل؛ وسببه إغراء الجند والوسائط.
وكان أكبر المحرّضين للعزيز على أخيه الأفضل أسامة، حتّى قال له: إنّ الله يسألك عن(6/122)
الرعيّة، هذا الرجل قد غرق فى اللهو وشربه، واستولى عليه الجزرىّ وابن العجمىّ.
ثم قال له القاضى ابن أبى عصرون: لا تسلم يوم القيامة. وبلغ الأفضل قول أسامة وابن أبى عصرون فأقلع عمّا كان عليه، وتاب وندم على تفريطه، وعاشر العلماء والصلحاء، وشرع يكتب مصحفا بخطّه، وكان خطّه فى النهاية، فلم يغن عنه ذلك. وتحرّك العزيز يقصده، فسار الأفضل إلى عمّه العادل يستنجد به، فالتقاه العادل على صفّين «1» ، فسار معه بعساكر الشرق إلى دمشق؛ وكان الأفضل لمّا اجتاز بحلب اتّفق مع أخيه الظاهر غازى وتحالفا، وجاء إلى حماة ففعل كذلك مع ابن عمّه المنصور.
وصار العادل يشير عليه بعزل الجزرىّ عن الوزارة، ويقول له: هذا يخرّب بيتك.
فصار لا يلتفت إليه فحنق منه. ثم إنّ العادل سأل الملك الظاهر غازى فى شىء فلم يجبه، فغضب لذلك العادل وانفرد عنهم، وكتب إلى العزيز يخبره أنّه معه، ويستحثّه على القدوم إلى دمشق؛ فخرج العزيز من مصر مسرعا، ثم علم العادل أنّه لا طاقة له بالعزيز ولا بالظاهر؛ فراسل الأسديّة الذين كانوا بمصر، وأوعدهم بالأموال والإقطاعات. وكان الملك العزيز قد قدّم عليهم الصلاحيّة مماليك أبيه. والأسديّة هم مماليك عمّه أسد الدين شيركوه وحواشيه الأكراد؛ ثم دسّ العادل للأسديّة الأموال، وكان مقدّم الأكراد الأسديّة أبو الهيجاء السّمين؛ وكان العزيز قد عزله عن ولاية القدس، وتقدّمت الأسديّة بسيف الدين جرديك؛ فركب أبو الهيجاء بجموعه، ومعه أزكش فى الليل، وقصدوا دمشق، فأصبح العزيز فلم يرفى الخيام من الأسديّة أحدا، فرجع إلى مصر. وشرع أزكش وأبو الهيجاء والأسديّة يحرّضون العادل على أخذ مصر؛ وكانت الأسديّة والأكراد يكرهون العادل، وإنّما دعتهم(6/123)
الضرورة إليه. واتّفق العادل مع ابن أخيه الأفضل وسارا إلى جهة العزيز نحو مصر.
فلمّا وصلوا إلى القدس ولّوا أبا الهيجاء كما كان، وعزلوا جرديك عنها؛ ثم ساروا حتّى نزلوا بلبيس وبها جماعة من الصلاحيّة. فتوقّف العادل عن القتال ولم ير انتزاع مصر من يد العزيز، وظهرت منه قرائن تدلّ على أنّه لا يؤثر السلطنة للأفضل، ولا يرى بتقدمته على العزيز. فأرسل العادل إلى العزيز يطلب منه القاضى الفاضل، وكان الفاضل قد اعتزلهم وانقطع إلى داره، فأرسل إليه العزيز يسأله فامتنع، فتضرّع إليه وأقسم عليه، فخرج إلى العادل، فاحترمه العادل وأكرمه وتحدّث معه بما قرّره، وعاد الفاضل إلى العزيز وتحدّث معه، فأرسل العزيز ولديه الصغيرين مع خادم له برسالة ظاهرة، مضمونها: «لا تقاتلوا المسلمين ولا تسفكوا دماءهم، وقد أنفذت ولدىّ يكونان تحت كفالة عمّى العادل، وأنا أنزل لكم عن البلاد وأمضى إلى الغرب» .
وكان ذلك بمشهد من الأمراء، فرقّ العادل وبكى من حضر. فقال العادل:
معاذ الله! ما وصل الأمر إلى هذا الحدّ.
وكان العادل قد قرّر مع القاضى الفاضل ردّ خير الأسديّة وإقطاعاتهم وأملاكهم، وأن يبقى أبو الهيجاء على ولاية القدس. ثم قال العادل للأفضل:
المصلحة أن تمضى إلى أخيك وتصالحه، ما عذرنا عند الله وعند الناس إذا فعلنا بابن أخينا ما لا يليق!. وكان العزيز أرسل يقول للعادل مع الخادم المقدّم ذكره: «البلاد بلادك وأنت السلطان ونحن رعيّتك» . ففهم الأفضل أنّ العادل رجع عن يمينه، وأنّه اتّفق مع العزيز على أخذ البلاد منه، لكنّه لم يمكنه الكلام، ومضى إلى أخيه الملك العزيز واصطلحا، وعاد إلى دمشق. ودخل العزيز والعادل والأسديّة إلى القاهرة يوم الخميس رابع ذى الحجّة. وسلطن العادل العزيز ومشى بين يديه بالغاشية «1» .(6/124)
ولو أراد العادل مصر فى هذه المرّة لأخذها؛ وإنّما كان قصده الإصلاح بين الإخوة.
ثم وقع بين العزيز هذا والأفضل ثالثا، وهو أنّه لمّا عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزرىّ من الأفعال القبيحة، والأفضل يسمع منه ولا يخالفه، فكتب قيماز النّجمىّ وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل:
«ارفع يد هذا الأحمق السيّئ التدبير القليل التوفيق» ، فلم يلتفت. فاتّفق العادل مع ابن أخيه العزيز هذا على التوجّه إلى الشام فسارا. واستشار الأفضل أصحابه، فكلّ أشار عليه بأن يلتقى عمّه العادل وأخاه العزيز ولا يخالفهما إلّا الجزرىّ، فإنّه أشار بالعصيان، فاستعد الأفضل للقتال والحصار وحلّف الأمراء والمقدّمين، وفرّقهم فى الأبراج والأسوار، فراسلوا العزيز والعادل وأصلحوا أمرهم فى الباطن؛ واتّفق العادل مع عزّ الدين الحمصى على فتح الباب الشرقىّ؛ وكان مسلّما إليه، فلمّا كان يوم الأربعاء سادس عشرين شهر رجب ركب العادل والعزيز وجاءا إلى الباب الشرقىّ ففتحه ابن الحمصى فدخلا إلى البلد من غير قتال؛ فنزل العزيز دار عمّته ستّ الشام، ونزل العادل دار العقيقىّ، ونزل الأفضل إليهما وهما بدار العقيقى؛ فدخل عليهما وبكى بكاء شديدا، فأمره العزيز بالانتقال من دمشق إلى صرخد، فأخرج وزيره الجزرىّ فى الليل فى جملة الصناديق خوفا عليه من القتل، فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلاده.
وكان العزيز قد قرّر مع عمّه العادل أن يكون نائبه بمصر، ويقيم العزيز بدمشق.
ثم ندم فأرسل إلى أخيه الأفضل رسالة فيها صلاح حاله. ثم وقعت أمور إلى أن سلّم العزيز بصرى إلى العادل، وكان بها الظافر. وأقام العزيز بعد ذلك بدمشق مدّة، وصلّى الجمعة عند قبر والده بالكلّاسة وأمر ببناء القبّة والمدرسة إلى جانبها،(6/125)
ثم أمر محيى الدين بن الزّكىّ بعمارة المدرسة العزيزيّة، ونقل السلطان صلاح الدين إلى الكلّاسة فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وكان الأفضل قد شرع فى بناء تربة عند مشهد «1» القدم بوصيّة من السلطان صلاح الدين. وكان الملك العزيز إذا جلس فى مجالس لهوه يجلس العادل على بابه، كأنّه برد [هـ «2» ] داره. فلمّا كان آخر ليلة من مقام العزيز بدمشق، وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان، قال العادل لولده المعظم عيسى:
ادخل إلى العزيز فقبّل يده واطلب منه دمشق، وكان المعظّم قد راهق الحلم، فدخل إلى ابن عمّه العزيز وقبّل يده وطلب منه دمشق، فدفعها إليه وأعطاه مستحقّه، وقيل: بل استناب العادل فيها، ثم أعطاها للمعظّم فى سنة أربع وتسعين. وكان خروج الملك العزيز من دمشق فى يوم تاسع شعبان المذكور. وسار إلى مصر ومضى الأفضل إلى صرخد، واجتاز العزيز بالقدس فعزل أبا الهيجاء السمين عن نيابتها، وولّاها لسنقر الكبير، ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد.
واستمرّ الملك العزيز بمصر، واستقامت الأمور فى أيّامه، وعدل فى الرعيّة، وعفّ عن أموالها حتّى قيل: إنّ ابن البيسانىّ أخا القاضى الفاضل بذل على قضاء المحلّة «3» أربعين ألف دينار، فعجّل منها عشرين ألفا، وكان رسوله فى ذلك الملك العادل عمّ العزيز المقدّم ذكره، وبذل له عن ترسّله خمسة آلاف دينار، وللحاجب(6/126)
أبى بكر ألف دينار، ولجهاركس ألف دينار. فاجتمعوا على العزيز جميعا وخاطبوه فى ذلك، وألحّ عليه الملك العادل. فقال له العزيز: والله يا عمّ، هذا الرجل بذل لنا هذا البذل [لا «1» ] عن محبّة لنا، والله إنّه ليأخذ من أموال الرعيّة أضعاف ذلك، لا ولّيته أبدا! فرجع العادل عن مساعدته، فلمّا آل الأمر إلى العادل صادر ابن البيسانىّ المذكور، وأخذ منه أموالا كثيرة. انتهى.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان فى ترجمة الملك العزيز هذا بعد أن ذكر اسمه ولقبه قال: «وكان ملكا مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا إلى الناس معتقدا فى أرباب الخير والصلاح، وسمع بالإسكندرية الحديث من [الحافظ «2» ] السّلفىّ، والفقيه أبى طاهر بن عوف الزّهرىّ، وسمع [بمصر «3» ] من العلّامة أبى محمد بن برّىّ النحوىّ وغيرهم. ويقال: إنّ والده لمّا كان بالشام والقاضى الفاضل عبد الرحيم بالقاهرة عند العزيز ولد للعزيز المذكور ولد، فكتب القاضى الفاضل يهنّئ والده السلطان صلاح الدين بولد ولده، فقال: «المملوك يقبّل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر، دام «4» رشده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثر أولياؤه وعبيده وأحفاده، واشتدّ بأعضاده فيهم اعتضاده، وأنمى الله عدده حتّى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده؛ وينهى أنّ الله تعالى- وله الحمد- رزق الملك العزيز- عزّ نصره- ولدا مباركا عليّا، ذكرا سريّا، [برّا «5» ] زكيّا، نقيّا تقيّا؛ من ورثة كريمة بعضها من بعض، وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة فى السماء، ومماليكه ملوكا فى الأرض» . انتهى ما كتبه القاضى الفاضل فى التهنئة.(6/127)
قال ابن خلّكان- رحمه الله-: «وكانت ولادة العزيز بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان قد توجّه إلى الفيّوم، فطرد فرسه وراء، صيد فتقنطر به فرسه، فأصابته الحمّى من ذلك، وحمل إلى القاهرة فتوفّى بها فى الساعة السابعة من ليلة الأربعاء «1» الحادى والعشرين من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة- رحمه الله تعالى- قال: ولمّا مات كتب القاضى الفاضل إلى عمّه العادل رسالة يعزّيه، من جملتها:
«فنقول فى توديع النّعمة بالملك العزيز: لا حول ولا قوّة إلا بالله قول الصابرين، ونقول فى استقبالها بالملك العادل؛ الحمد لله ربّ العالمين قول الشاكرين؛ وقد [كان «2» ] من أمر هذه الحادثة «3» ما قطّع «4» كلّ قلب وجلب كلّ كرب ومثّل وقوع هذه الواقعة لكلّ أحد ولا سيما لأمثال المملوك، ومواعظ الموت بليغة، وأبلغها ما كان فى شباب الملوك؛ فرحم الله ذلك الوجه ونضّره، ثمّ السبيل إلى الجنة يسّره.
وإذا محاسن أوجه بليت ... فعفا الثرى عن وجهه الحسن
والمملوك فى حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد؛ فقد فجع المملوك بهذا المولى، والعهد بوالده غير بعيد، والأسى فى كلّ يوم جديد؛ وما كان ليندمل ذلك القرح، حتّى أعقبه هذا الجرح؛ والله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل [السلوة «5» ، كما لم يعدمهم بنبيّهم صلّى الله عليه وسلم الأسوة]- وأخذ فى نعت الملك العادل إلى أن قال-: ودفن بالقرافة(6/128)
الصغرى (يعنى العزيز) فى قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه-. وقبره معروف هناك» انتهى كلام ابن خلّكان برمّته، ولم يتعوّض لشىء من أحواله، ولا إلى ما كان فى بداية أمره.
وقال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: «وفيها (يعنى سنة خمس وتسعين) توفّى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين صاحب مصر. كان صلاح الدين يحبّه، وكان جوادا شجاعا عادلا منصفا لطيفا كثير الخير رفيقا بالرعيّة حليما. حكى لى المبارز سنقر الحلبىّ- رحمه الله- قال: ضاق ما بيده بمصر (يعنى عن العزيز) ولم يبق فى الخزانة درهم ولا دينار، فجاء رجل من أهل الصعيد إلى أزكش سيف الدين، قال: عندى للسلطان عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار، وتولينى قضاء الصعيد؛ فدخل أزكش إلى العزيز فأخبره؛ فقال: والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم «1» بملك الأرض! وكتب ورقة لأزكش بألف دينار. وقال: اخرج فاطرد هذا الدبر «2» ، ولولاك لأدّبته.
وقد ذكرنا أنّه وهب دمشق [للملك «3» ] المعظّم، وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألفا. وكان سبب وفاته أنّه خرج إلى الفيّوم يتصيّد، فلاح له ظبى فركض الفرس خلفه فكبا به الفرس، فدخل قربوس [السرج «4» ] فى فؤاده، فحمل إلى القاهرة فمات فى العشرين من المحرّم، ودفن عند الشافعى- رحمه الله- عن سبع وعشرين سنة وشهور؛ وقيل: عن ثمان وعشرين سنة. ولمّا مات نصّ على ولده ناصر الدين محمد، وهو أكبر أولاده، وكان له عشرة أولاد، ولم يذكر عمّه العادل فى الوصيّة.(6/129)
وأوصى للأمير أزكش، وكان مقدّم الأسديّة وكبيرهم، وعاش بعد العزيز مدّة طويلة» . انتهى كلام أبى المظفّر.
وقال ابن القادسىّ- خلاف ما نقل أبو المظفّر وابن خلّكان وغيرهما- قال:
«كان قد ركب وتبع غزالة فوقع فاندقّت عنقه، وبقى أربعة أيّام ومات. ونصّ على ولده الأكبر محمد إن أمضى العادل ذلك. وكانت الوصيّة إلى أمير كبير اسمه أزكش فوثبت الأسديّة عليه فقتلته» . انتهى.
وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه: «ولمّا مات العزيز كان لابنه محمد عشر سنين، وكان مقدّم الصّلاحيّة فخر الدين جهاركس، وأسد الدين سرا سنقر، وزين الدّين قراجا؛ فاتّفقوا على ناصر الدين محمد (يعنى ابن العزيز) ، وحلّفوا له الأمراء. وكان سيف الدين أزكش مقدّم الأسدية غائبا بأسوان، فقدم فصوّب رأيهم وما فعلوه، إلّا أنّه قال: هو صغير السّن لا ينهض بأعباء الملك، ولا بدّ من تدبير كبير يحسم الموادّ ويقيم الأمور؛ والعادل مشغول فى الشرق بماردين «1» ، وما ثمّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر. فلم يمكن الصّلاحيّة مخالفته.
وقالوا: افعل، فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد «2» ، وكتبت الصلاحيّة إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون: قد اتّفقت الأسديّة على الأفضل، وإن ملكوا حكموا علينا، فامنعوه من المجىء؛ فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم؛ وكان الأفضل قد التقى نجّابا من جهاركس إلى من بدمشق بهذا المعنى، ومعه كتب فأخذها منه وقال: ارجع فرجع إلى مصر. ولمّا وصل الأفضل إلى مصر التقاه(6/130)
الأسديّة- نحكى ذلك كلّه فى أوّل ترجمة الملك المنصور بن العزيز هذا، إن شاء الله-
وكان الملك العزيز قوّيّا ذا بطش وخفّة حركة، كريما محسنا «1» عفيفا لم يردّ سائلا؛ وبلغ من كرمه أنّه لم يبق له خزانة ولا خاصّ ولا ترك ولا فرش. وأمّا عفته فإنّه كان له غلام تركىّ اشتراه بألف دينار يقال له: أبو شامة، فوقف يوما على رأسه فى خلوة ليس معهما ثالث، فنظر العزيز إلى جماله، وأمره أن ينزع ثيابه، وقعد العزيز منه مكان الفاحشة؛ فأدركه التوفيق ونهض مسرعا إلى بعض سراريه فقضى وطره، وخرج إلى الغلام وأمره بالخروج عنه» . انتهى.
ويحكى عن عفّته عن الأموال: أنّ عرب المحلّة قتلوا بعض أمرائه، وكان والى المحلة ابن بهرام، فجباهم عشرة آلاف دينار، وجاء بها إلى القاهرة؛ فصادف فى الدّهليز غلاما خارجا من عند السلطان؛ فقال ابن بهرام: ارجع إلى السلطان واستأذنه لى؛ فقال الغلام: دعنى، أنا فى أمر مهمّ للسلطان، قد وهب لشيخ صيّاد دينارين، وقد سيّرنى إلى الجهات كلّها فلم أجد فيها شيئا، وقد تعذّر عليه هذا المبلغ اليسير؛ فقال: ارجع إليه، معى مال عظيم. فلمّا دخل ابن بهرام إلى العزيز فضّ المال بين يديه وقال: هذا دية فلان؛ فقال: أخذتها من القاتل؟ قال: لا، بل من القبيلة؛ فقال العزيز: لا أستجيز أخذه، ردّه على أربابه، فراجعه فاكفهرّ؛ فخرج ابن بهرام بالمال وهو يقول: ما يردّ هذا مع شدّة الحاجة إلّا مجنون!. فرحم الله هذه الشّيم.
انتهت ترجمة الملك العزيز من عدّة أقوال. رحمه الله تعالى وعفا عنه وعن جميع المسلمين والحمد لله رب العالمين.(6/131)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 589]
السنة الأولى من ولاية السلطان العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة تسع وثمانين وخمسمائة، على أنّ والده السلطان صلاح الدين يوسف حكم منها المحرّم وصفرا.
فيها كانت وفاة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفيها توفّى الأمير بكتمر [بن عبد الله مملوك «1» ] شاه أرمن. وعزّ الدين صاحب الموصل كما سيأتى.
وفيها بنى الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ دار الكتب بالمدرسة النظاميّة ببغداد، ونقل إليها عشرة آلاف مجلد، فيها الخطوط المنسوبة وغيرها.
وفيها توفّى أسعد بن نصر بن أسعد النحوىّ، كان إماما فاضلا أديبا شاعرا.
ومن شعره قوله:
يجمع المرء ثم يترك ما جمّ ... ع من كسبه لغير شكور
ليس يحظى إلّا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور
وفيها توفّى الأمير بكتمر بن عبد الله مملوك شاه أرمن بن سكمان صاحب خلاط، مات شاه أرمن ولم يخلّف ولدا، فاتّفق خواصّه على بكتمر فولّى، وضبط الأمور وأحسن للرعيّة، وصاحب العلماء، وكان حسن السّيرة متصدّقا ديّنا صالحا؛ جاءه أربعة على زىّ الصوفيّة فتقدّم إليه واحد منهم فمنعه الجانداريّة «2» . فقال:(6/132)
دعوه، فتقدّم وبيده قصّة فأخذها منه، فضربه بسكّين فى جوفه فمات فى ساعته.
فأخذوا الأربعة وقرّروا، فقالوا: نحن إسماعيليّة «1» ؛ فقتلوا وأحرقوا؛ وذلك فى جمادى الأولى.
وفيها توفّى السلطان مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر عزّ الدّين صاحب الموصل وابن أخى السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد. كان خفيف العارضين أسمر مليح اللّون، عادلا عاقلا محسنا إلى الرعية شجاعا، صبر على حصار السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب له بالموصل ثلاث مرّات، وحفظ البلد وفرّق الأموال العظيمة. وكان ديّنا صالحا، خرج من الموصل لقتال الملك العادل أبى بكر ابن أيّوب، وكان العادل على حرّان «2» بعد موت صلاح الدين. فعاد مريضا ومات فى شهر رمضان، وكانت أيّامه ثلاث عشرة «3» سنة وستّة أشهر. وأوصى بالملك من بعده لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وكان أخوه شرف الدين مودود يروم السلطنة، فصرفت عنه لنور الدين هذا فعزّ ذلك عليه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ سنان «4» بن سليمان البصرىّ زعيم الإسماعيليّة. وأبو منصور عبد الله بن محمد [بن علىّ «5» بن هبة الله] ابن عبد السلام الكاتب. والقاضى أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحضرمىّ بالإسكندريّة. وصاحب الموصل عزّ الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكى.(6/133)
والمكرم بن هبة الله بن المكرم الصّوفىّ. والسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيّوب فى صفر بقلعة دمشق، وله سبع وخمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 590]
السنة الثانية من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة تسعين وخمسمائة.
فيها توفّى أحمد بن إسماعيل بن يوسف الشيخ الإمام أبو الخير القزوينىّ الشافعىّ.
كان إماما عالما بالتفسير والفقه، وكان متعبّدا يختم القرآن فى كلّ يوم وليلة.
ومولده بقزوين «1» فى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. وقدم بغداد ووعظ ومال إلى الأشعرىّ، فوقعت الفتن. وجلس يوم عاشوراء فى النظاميّة فقيل له: العن يزيد بن معاوية؛ فقال: ذاك إمام مجتهد «2» ، فجاءه الرّجم حتّى كاد يقتل، وسقط عن المنبر فأدخل إلى بيت فى النظاميّة، وأخذت فتاوى الفقهاء بتعزيره؛ فقال بعضهم يضرب عشرين سوطا: قيل له: من أين لك هذا. فقال: عن عمر ابن عبد العزيز، سمع قائلا يقول: أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فضربه عشرين سوطا. ثم خلّص القزوينىّ بعد ذلك وأخرج من بغداد إلى قزوين.
وفيها توفى السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان شاه بن طغرل شاه بن محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق السّلجوقىّ آخر ملوك(6/134)
السّلجوقيّة بالعراق سوى «1» صاحب الروم. وكان مبدأ أمره- عند وفاة والده- سنة ثلاث «2» وسبعين وخمسمائة، وكان صغير السّنّ فكفله البهلوان «3» إلى أن مات فى سنة اثنتين وثمانين، فكفله بعده أخو «4» البهلوان لأبيه حتّى أنف من الحجر وخرج عن يده، وانضاف إليه جماعة من الأمراء، وكسر عسكر الخليفة وأسر ابن يونس «5» وهابته الملوك. وكان طغرلبك هذا سفّا كاللدماء، قتل وزيره رضىّ الدين الغزنوىّ «6» ، وفخر الدين العلوىّ رئيس همذان. ثم وقع له أمور ومحن وأخذ وحبس. وقد تقدّم أن طغرلبك هذا آخر ملوك السّلجوقيّة، وعدّتهم نيّف وعشرون ملكا، ومدّة ملكهم مائة وستون سنة. وأوّل من ملك منهم طغرلبك فى سنة اثنتين وثلاثين «7» وأربعمائة؛ ثم ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق «8» ، وهو ابن أخى طغرلبك؛ ثم بعده ولده ملكشاه؛ ثم ولده محمود؛ ثم أخوه بركياروق؛ ثم أخوه محمد شاه؛ ثم ولده محمود؛ ثم واحد بعد واحد. حسب ما ذكرناهم فى هذا الكتاب كلّ واحد فى محلّه. وطغر يلبك (بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وكسر «9» الراء(6/135)
المهملة وبعدها ياء ولام ساكنتان) . وهو اسم باللغة التركيّة لطائر معروف عندهم.
وبك: هو الأمير، واضح لا يحتاج إلى تفسير.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة رضىّ الدّين أبو الخير أحمد بن إسماعيل الطّالقانىّ القزوينىّ الشافعىّ الواعظ فى المحرّم، وله ثمان وثمانون سنة. وطغرلبك شاه السلطان ابن «1» أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه السّلجوقىّ، قتله [فى] المصاف خوارزم شاه تكش. وأبو المظفّر عبد الخالق بن فيروز الجوهرىّ. والإمام أبو محمد القاسم بن فيّره «2» الرّعينىّ «3» الشّاطبىّ «4» المقرئ فى جمادى الآخرة، وله اثنتان وخمسون سنة. والحافظ محمد بن إبراهيم بن خلف المالقىّ «5» أبو عبد الله بن الفخّار بمرّاكش. والفخر محمد بن علىّ بن شعيب بن الدّهّان الأديب المؤرّخ فجأة بالحلّة «6» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 591]
السنة الثالثة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.(6/136)
فيها اقطع الملك العزيز فارس الدين ميمون القصرىّ نابلس «1» فى سعمائة فارس من مقاتلة «2» الفرنج.
وفيها كانت وقعة الزّلّاقة «3» بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ألفنش «4» الفرنجىّ ملك طليطلة «5» ، وكان قد استولى على جزيرة الأندلس وقهر ولاتها، ويعقوب المذكور مشغول بقتال الخارجين عليه، وبينه وبين الأندلس زقاق سبتة «6» ، وعرضه ثلاث فراسخ، فجمع يعقوب العساكر وعرض جنده، وكانوا مائتى ألف [مقاتل «7» : مائة ألف] يأكلون الأرزاق، ومائة ألف مطّوّعة، وعبر الزّفاق إلى مكان يقال له الزّلّاقة؛ والتقوا فجرى بينهم قتال لم يجر فى جاهلية ولا إسلام حتّى أنزل الله نصره على المسلمين. فولّى ألفنش هاربا فى نفر يسير إلى طليطلة، وغيم المسلمون ما كان فى عسكره. وكان عدّة من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا، وعدّة الأسارى ثلاثين ألفا؛ ومن الخيام: مائة ألف خيمة وخمسين ألفا؛ ومن الخيل ثمانين ألفا؛ ومن البغال والأموال والجواهر والثياب ما لا يحدّ ولا يحصى.
ويبع الأسير من الفرنج بدرهم؛ والسيف بنصف درهم، والحضان بخمسة دراهم، والحمار بدرهم. وقسم الملك يعقوب هذه الغنائم بين المسلمين على مقتضى الشريعة،(6/137)
فاستغنوا إلى الأبد. ووصل ألفنش إلى طليطلة على أقبح وجه، فحلق رأسه ولحيته، ونكّس صليبه وآلى أنّه لا ينام على فراش ولا يقرّب النساء ولا يركب فرسا حتّى يأخذ بالثأر.
وفيها اعتنى الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر أنّه من ولد الطير الفلانىّ؛ وقيل: إنّه باع طيرا بألف دينار.
وفيها حجّ بالناس من بغداد سنجر «1» الناصرىّ، ومن الشام سرا سنقر وأيبك فطيس الصلاحيّان، ومن مصر الشريف إسماعيل بن ثعلب الجعفرىّ «2» الطالبىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال. وفيها توفّى أبو القاسم ذاكر بن كامل الخفّاف. والفقيه أبو محمد عبد الله الزاهد ابن محمد بن على الأندلسىّ فى المحرّم عن بضع وثمانين سنة. وأبو الحسن «3» نجبة بن يحيى [بن خلف «4» ] بن نجبة الإشبيلىّ المقرئ النحوىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 592]
السنة الرابعة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.(6/138)
فيها بعد خروج الحاجّ من مكّة هبّت ريح سوداء عمّت الدنيا، ووقع على الناس رمل أحمر، ووقع من الركن اليمانىّ قطعة، وتحرّك البيت الحرام مرارا. وهذا شىء لم يعهد منذ بناه عبد الله بن الزّبير- رضى الله عنهما-.
وفيها أيضا كانت الوقعة الثانية بين السلطان يعقوب وبين ألفنش ملك الفرنج بعد أن حشد ألفنش جمعا كبيرا والتقوا، فكان بينهم قتلة عظيمة؛ ونصر الله المسلمين. وهزمه يعقوب وتبعه وحصره على الزّلّاقة وبطليطلة ونصب عليها المجانيق وضيّق عليها، ولم يبق إلّا أخذها. فخرجت «1» إليه والدة ألفنش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه، وسألته إبقاء البلد عليهنّ، فرقّ لهنّ «2» ومنّ عليهنّ بها؛ ولو فتح طليطلة لفتح إلى مدينة النّحاس «3» . ثم عاد يعقوب إلى قرطبة فأقام بها شهرا يقسم الغنائم، وجاءته رسل ألفنش أيضا تسأل الصلح، فصالحه على مدّة معيّنة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن أحمد «4» ، الوزير أبو الفضل مؤيّد الدّين بن القصّاب.
أصله من شيراز، وقدم بغداد واستخدم فى الديوان، ثم ترقّى إلى أن ولى الوزارة؛ وقرأ الأدب والنحو. وكان داهية ردىء الاعتقاد إلّا أنّه كان له خبرة بالأمور والحروب وفتح البلاد، وكان الخليفة الناصر لدين الله يثنى عليه ويقول: لو قبلوا من رأيه ما جرى ما جرى، ولقد أتعب الوزراء من بعده.
وفيها توفّى محمد «5» بن علىّ بن شعيب، الشيخ أبو شجاع الفرضىّ الحاسب البغدادىّ المعروف بابن الدّهان. كان فاضلا عالما وصنّف تاريخا من عشر وخمسمائة إلى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.(6/139)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن فارس الشيخ أبو الغنائم [المعروف «1» ب] ابن المعلّم الهرثىّ الشاعر المشهور. وهرث: قرية تحت واسط. كان رقيق الشعر، لطيف المعانى، وله ديوان شعر. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
لو قضى من أهل نجد أربه ... لم يهج نشر الخزامى طربه
علّلوا الصبّ بأنفاس الصّبا ... إنّها تشفى النفوس الوصبه
فهى إن مرّت عليه نشرت ... ما انطوى عنه وجلّت كربه
كلفى فيكم قديم عهده ... ما صباباتى بكم مكتسبه
أين ورق الجزع من لى أن أرى ... عجمه إن لم أشاهد عربه
ومنها:
عن جفونى النوم من بعّده ... وإلى جسمى الضّنا من قرّبه
وصلوا الطّيف إذا لم تصلوا ... مستهاما قد قطعتم سببه
وإلى أن تحسنوا صنعابنا ... قد أساء الحبّ فينا أدبه
وهى أطول من هذا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو الرّضا أحمد بن طارق الكركىّ «2» فى ذى الحجّة ببغداد. وعبد الخالق بن عبد الوهّاب بن محمد المالكىّ «3» الصابونىّ الخفّاف. وأبو الغنائم محمد بن علىّ بن فارس [المعروف ب] ابن المعلّم الواسطىّ شاعر العراق عن إحدى وتسعين سنة. والوزير مؤيّد الدّين محمد بن علىّ بن القصّاب. والعلّامة مجير الدين محمود بن المبارك البغدادىّ الشافعىّ عن خمس وسبعين سنة. ويوسف بن معالى الكتّانىّ المقرئ بدمشق.(6/140)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 593]
السنة الخامسة من ولاية الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
فيها قدم حسام الدّين أبو الهيجاء السّمين بغداد وخرج الموكب للقائه، ودخل أبو الهيجاء فى زىّ عظيم [و] رتّب الأطلاب على ترتيب أهل الشام، وكان فى خدمته عدّة من الأمراء؛ وأوّل «1» ما تقدّم من الأمراء طلب ابن أخيه المعروف بكور الغرس ثم أمير أمير؛ وجاء هو بعد الكلّ فى العدّة الكاملة والسلاح التامّ، وخرج أيضا أهل بغداد للقائه، وكان رأسه صغيرا وبطنه كبيرا جدّا، بحيث كان بطنه على رقبة البغلة؛ فرآه رجل كوّاز فعمل فى الساعة كوزا من طين على هيئته، وسبقه فعلّقه فى السوق؛ فلمّا اجتاز به ضحك. ثم عمل بعد ذلك أهل بغداد كيزانا سمّوها:
أبا الهيجاء. وأكرمه الخليفة وأقام له بالضّيافات.
قلت: أبو الهيجاء هذا هو الذي عزله الملك العزيز هذا عن نيابة القدس بجرديك فى أوائل أمره. حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة العزيز.
وفيها توفّى الأمير طغتكين بن أيّوب أخو السلطان صلاح الدين بن أيوب، ولقبه سيف الإسلام. كان والى اليمن، ملكها من زبيد إلى حضر موت «2» ، وكان(6/141)
شجاعا مقداما شهما. وتوفّى بزبيد. وولى اليمن بعده ولده شمس الملوك إسماعيل وادّعى الخلافة.
وفيها توفّى عبد الله بن منصور بن عمران الشيخ أبو بكر الباقلانىّ. ومولده فى سنة خمسمائة. وانفرد بالرّواية فى القراءات العشر، وكان حسن التلاوة. وقدم بغداد ومات بواسط فى سلخ شهر ربيع الآخر.
وفيها توفّى عبيد الله «1» بن يونس بن أحمد الوزير جلال الدين أبو المظفّر الحنبلىّ، ولى حجابة الديوان ثم استوزره الخليفة؛ وكان إماما عالما فى الأصلين والحساب والهندسة والجبر والمقابلة، غير أنّه شان أمره بأمور فعلها، منها: أنّه أخرب بيت الشيخ عبد القادر [الجيلانىّ»
] وشتّت أولاده، ويقال: إنّه بعث فى الليل من نبش على الشيخ عبد القادر ورمى بعظامه فى اللّجّة، وقال: هذا وقف ما يحلّ أن يدفن فيه أحد.
قلت: وما فعله هو بعظام الشيخ أقبح من أن يدفن بعض المسلمين فى بعض أوقاف المسلمين، وما ذاك إلّا الحسد داخله من الشيخ عبد القادر وعظم شهرته حتّى وقع منه ما وقع؛ ولهذا كان موته على أقبح وجه، بعد أن قاسى خطوبا ومحنّا وحبس سنين، حتى أخرج من الحبس ميّتا؛ وهذا ما وقع له فى الدنيا، وأمّا الأخرى فأمره إلى الله تعالى. وبالجملة فإنّه كان من مساوىء الدهر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى سيف الإسلام طغتكين بن أيّوب بن شادى صاحب اليمن فى شوّال، وولى بعده ابنه إسماعيل.
ومقرئ العراق أبو بكر عبد الله بن منصور الرّبعىّ الباقلانىّ بواسط فى شهر ربيع(6/142)
الأول عن ثلاث وتسعين سنة. والوزير جلال الدين عبيد الله بن يونس، مات فى المطمورة «1» . وعذراء بنت شاهنشاه بن أيّوب ودفنت بالعذراويّة «2» . وقاضى القضاة أبو طالب علىّ بن علىّ بن أبى البركات البخارىّ الشافعىّ ببغداد. وأبو المعمّر محمد ابن حيدرة بن عمر بن إبراهيم العلوىّ الزّيدىّ الرافضىّ. وأبو «3» الفتح الأصبهانىّ ناصر الدين بن محمد الوترح فى ذى الحجّة. وأبو القاسم يحيى بن أسعد بن [يحيى «4» ] بن بوش الخبّاز فى ذى القعدة، غصّ بلقمة، وعاش بضعا وثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 594]
السنة السادسة من ولاية العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف على مصر، وهى سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
فيها توفّى الأمير جرديك بن عبد الله النّورىّ. كان من أكابر أمراء الملك العادل نور الدين محمود الشهيد؛ ثم خدم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فى جميع غزواته وحروبه من يوم قتل شاور بمصر وابن الخشّاب بحلب. وكان أميرا شجاعا مهيبا جوادا، ولّاه صلاح الدين نيابة القدس إلى أن أخذها منه الأفضل.(6/143)
وفيها توفى زنكى بن مودود بن زنكى بن آق سنقر عماد الدين صاحب سنجار، وابن أخى نور الدين الشهيد. كان عاقلا جوادا لم يزل مع السلطان صلاح الدين؛ وكان السلطان صلاح الدين يحترمه مثل ما كان يحترم نور الدين، ويعطيه الأموال والهدايا، وكانت وفاته بسنجار. ولمّا احتضر أوصى إلى أكبر أولاده قطب الدين محمد، ولقّب بالملك المنصور.
وفيها توفّى قيماز بن عبد الله مجاهد الدين الخادم الرومىّ الحاكم على الموصل، وهو الذي بنى الجامع المجاهدىّ والمدرسة والرّباط والبيمارستان بظاهر الموصل على دجلة ووقف عليها الأوقاف. وكان عليه رواتب بحيث إنّه لم يدع [بالموصل «1» بيت] فقير إلّا أغنى أهله، وكان ديّنا صالحا عابدا عادلا كريما، يتصدّق كلّ يوم خارجا عن الرواتب بمائة دينار. ولمّا مات عزّ الدّين مسعود «2» وولى ابنه أرسلان «3» شاه حبس قيماز هذا وضيّق عليه وآذاه إلى أن مات فى حبسه.
وفيها توفّى يحيى بن سعيد بن هبة الله العلّامة أبو طالب قوام الدّين الشّيبانىّ المنشئ الكاتب الواسطىّ الأصل، البغدادىّ المولد والدار والوفاة. مولده فى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. واشتغل بالأدب وبرع فى الإنشاء وفنون من العلوم كالفقه وعلم الكلام والأصول والحساب والشعر، وجالس أبا منصور بن الجواليقىّ وقرأ عليه، وسمع أبا القاسم بن الصائغ وغيره؛ وولى للخليفة عدّة خدم: حجبة الباب، ثم الأستادارية، ثم كتابة الإنشاء آخر عمره ومات فى ذى الحجّة. ومن شعره- وأحسن فيما قال-:(6/144)
باضطراب الزمان ترتفع الأن ... ذال فيه حتّى يعم البلاء
وكذا الماء ساكنا فإذا ... حرّك ثارت من قعره الأقذاء
قلت: وفى هذين البيتين شرح حال زماننا هذا لكثرة من ترقّى فيه من الأوباش إلى الرّتب السنيّة من كلّ طائفة، وقد أذكرنى ذلك واقعة جرت فى أوّل سلطنة الملك الأشرف إينال «1» ، وهى أنّ بعض أوباش الخاصكيّة ممّن ليس له ذات ولا أدوات وقف إلى السلطان وطلب منه إمرة عشرة، وقال له: يا مولانا السلطان، إمّا أن تنعم علىّ بإمرة عشرة وإلّا وسّطنى هنا؛ وقيل: إنّه تمدّد ونام بين يديه حتّى أخذ إمرة عشرة؛ وهو معروف لا يحتاج إلى تسميته. ومن هذه المقولة شىء كثير، ومع ذلك خرج الزمان وللدولة أعيان، فلا قوّة إلّا بالله.
وفيها توفّى أبو الهيجاء السّمين الأمير حسام الدين الكردىّ المقدّم ذكره فى عدّة أماكن، وذكرنا أيضا دخوله إلى بغداد، وأنّه صار من جملة أمراء الخليفة حتى سيّره إلى همذان، فلم يتمّ له أمر، واختلف أصحابه عليه فاستحيا أن يعود إلى بغداد، فسار إلى الشام ومرض بها ومات بعد أيّام. وكان أميرا شجاعا مقداما عارفا متجمّلا سيوسا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.(6/145)
ذكر ولاية الملك المنصور محمد على مصر
اختلف المؤرّخون فيمن ولى ملك مصر بعد موت الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب. فمن الناس من قال: أخوه الأفضل نور الدين علىّ بن صلاح الدين يوسف بن أيّوب؛ ومنهم من قال: ولده الملك المنصور محمد هذا. والصواب المقالة الثانية، فإنّه كان ولّاه والده العزيز من بعده، وإليه أوصى العزيز بالملك، وأيضا ممّا يقوّى المقالة الثانية أنّ المنصور كان تحت كنف والده العزيز بمصر، وكان الأفضل بصرخد «1» ، ولم يحضر إلى مصر، حتّى تمّ أمر المنصور وتسلطن بعد موت أبيه. وبيان ذلك أيضا يأتى فيما نذكره الآن فى سياق ترجمة الملك المنصور، فيعرف بهذا السياق من كان فى هذه المدّة السلطان بمصر إلى حين ملك الملك العادل أبو بكر بن أيّوب؛ فنقول:
لمّا مات الملك العزيز عثمان بديار مصر فى العشرين من المحرّم أوصى بالملك لأكبر أولاده وهو ناصر الدين محمد المذكور، ونصّ عليه فى الوصيّة؛ وكان للعزيز عشرة أولاد، ولم يذكر فى الوصيّة عمّه العادل؛ وجعل وصيّه الأمير أزكش مقدّم الأسديّة.
قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: «كان لابنه محمد عشر سنين وكان مقدّم الصلاحيّة فخر الدين جهاركس، وأسد الدين سرا سنقر، وزين الدين قراجا؛ فاتّفقوا على ناصر الدين محمد وحلّفوا له الأمراء؛ وكان سيف الدين أزكش مقدّم الأسديّة غائبا بأسوان، فقدم وصوّب رأيهم وما فعلوه، إلّا أنّه قال: هو صغير السن لا ينهض بأعباء الملك، ولا بدّ من تدبير كبير يحسم الموادّ ويقيم الأمور، والعادل مشغول فى الشرق بماردين، وما ثمّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر، فلم يمكن(6/146)
الصلاحيّة مخالفة الأسديّة وقالوا: افعلوا ففعلوا. فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد. وكتبت الصلاحيّة إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون: قد اتّفقت الأسديّة على الأفضل، وإن ملك الأفضل الديار المصريّة حكموا علينا، فامنعوا الأفضل من المجىء؛ فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم؛ وكان الأفضل قد التقى النّجّاب المتوجّه إلى دمشق ثانيا من قبل الصلاحيّة، وعلى يده الكتب التى تتضمّن ما ذكرناه من منع الأفضل من المجىء إلى الديار المصريّة، فأخذ الأفضل النّجّاب وعاد به إلى مصر، ولمّا وصل الأفضل إلى مصر التقاه الأسديّة والصلاحيّة، ورأى جهاركس النّجّاب الذي أرسله، فقال له: ما أسرع ما عدت! فأخبره الخبر، فساق هو وقراجا بمن معهما من وقتهما إلى القدس وتحصّنا به. فلمّا وقع ذلك أشارت الأسديّة على الأفضل بقصد دمشق، وأنّ العادل مشغول بماردين.
فكتب الأفضل إلى أخيه الملك الظاهر غازى صاحب حلب يستنجده، فأجابه وقال: اقدم حتّى أساعدك. فسار الأفضل بالعساكر المصريّة إلى الشام واستناب بمصر سيف الدين أزكش، ووصل الأفضل إلى دمشق فى شعبان من السنة فأحدق بها. وبلغ هذا الخبر الملك العادل وهو على ماردين، وقد أقام عليها عشرة أشهر، ولم يبق إلّا تسليمها وصعدت أعلامه على «1» القلعة؛ فلمّا سمعوا بوفاة العزيز توقّفوا عن تسليمها؛ فرحل الملك العادل أبو بكر عنها، وترك على حصارها ولده الكامل محمدا الآتى ذكره فى سلاطين مصر- إن شاء الله تعالى- وسار العادل إلى نحو الشام فوصلها ومعه جماعة من الأمراء؛ وكان الأفضل نازلا فى الميدان الأخضر فأشار عليه جماعة من الأمراء أن يتأخّر إلى مشهد «2» القدم [حتّى «3» يصل الظاهر وصاحب(6/147)
حمص والأمراء] . ودخل العادل ومن معه إلى دمشق، وجاء الظاهر بعسكر حلب، وجاء عسكر حماة وحمص، وبشارة من بانياس، وعسكر الحصون، وسعد الدين مسعود صاحب صفد «1» ، وضايقوا دمشق وبها العادل، وكسروا باب «2» السلامة؛ وجاء آخرون إلى باب الفراديس «3» وكان العادل فى القلعة وقد استأمن إليه جماعة من المصريين مثل ابن كهدان «4» ومثقال الخادم وغيرهما. فلمّا بلغه أنّ ابن الحنبلىّ وأخاه شهاب الدين وأصحابهما قد كسروا باب الفراديس ركب من وقته وخرج إليهم وجاء إلى جيرون «5» والمجد أخو الفقيه عيسى قائم «6» على فرسه يشرب الفقّاع، ثم صاح العادل: يا فعلة يا صنعة إلى هاهنا! فلمّا سمعوا كلامه انهزموا وخرجوا؛ فأغلق العادل باب السلامة، وجاء إلى باب الفراديس فوجدهم قد كسروا الأقفال بالمرزبّات؛ فقال من فعل هذا؟ قالوا: الحنابلة؛ فسكت ولم يقل شيئا. وقال أبو المظفّر:
وحكى لى المعظّم عيسى- رحمه الله- قال: [لمّا «7» ] رجعنا من باب الفراديس [و «8» ] وصلنا إلى باب مدرسة الحنابلة رمى على رأس أبى (يعنى العادل) حبّ «9» الزّيت فأخطأه، فوقع فى رقبة الفرس فوقع ميتا، فنزل أبى وركب غيره ولم ينطق بكلمة،(6/148)
وجاء جهاركس وقراجا فى اللّيل من جبل سنير «1» فدخلا دمشق. وأمّا المواصلة فساقوا على الكامل محمد فرحّلوه عن ماردين، فجاء أيضا يقصد دمشق، وجمع النّركمان «2» وغيرهم.
وأمّا أمر دمشق فإنّه لمّا اشتدّ الحصار عليها، وقطعوا أشجارها ومياهها الداخلة إليها، انقطعت عن أهلها الميرة وضجّوا، فبعث العادل إلى ابن أخيه الظاهر غازى صاحب حلب يقول له: أنا أسلّم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان، وتكون دمشق لك لا للأفضل، فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرنى بدمشق، فقال الأفضل: دمشق لى من أبى، وإنّما أخذت منّى غصبا.
فلا أعطيها لأحد، فوقع الخلف بينهما ووقع التقاعد، وخرجت السّنة على هذا.
ثمّ دخلت السنة السادسة والتسعون، والحصار على دمشق. وكان أتابك أرسلان شاه صاحب الموصل قد رحّل الكامل من ماردين كما تقدّم ذكره. فقدم الكامل دمشق ومعه خلق كثير من التّركمان وعسكر حرّان «3» والرّها «4» ، فتأخّر الأفضل بالعساكر إلى عقبة «5» الشّحورة فى سابع عشر صفر. ووصل الكامل فى تاسع عشره فنزل بجوسق «6» أبيه على الشرف «7» ، ثم رحل الأفضل إلى مرج الصّفّر «8» ، ورحل الظاهر إلى حلب، وأحرقوا ما عجزوا عن حمله. وسار الأفضل إلى مصر. وأحضر العادل(6/149)
بنى الحنبلىّ: الناصح وأخاه شهاب الدين وغيرهما، وكان الأفضل قد وعد الناصح بقضاء دمشق، والشهاب بالحسبة، فقال لهم العادل: ما الذي دعاكم إلى كسر باب الفراديس، ومظاهرة أعدائى علىّ، وسفك دمى؟ فقال له الناصح: أخطأنا وما ثمّ إلّا عفو السلطان.
- ثم ساق أبو المظفّر كلاما طويلا محصوله العفو عن الحنابلة، إلى أن قال-:
وأمّا الأفضل فإنّه سار إلى مصر، فأرسل العادل وراءه «1» [أبا محمد] نجيب الدين إليه بالزّبدانىّ «2» يقول [له] : ترفّق، فأنا لك مثل الوالد، وعندى كلّ ما تريد. فقال الأفضل: قل له: إن صحّت مقالتك فأبعد عنك أعدائى الصّلاحيّة. وبلغ ذلك الصلاحيّة، فقالوا للعادل: إيش قعودنا هنا؟ قم بنا، وساروا خلف الأفضل مرحلة مرحلة؛ فنزل الأفضل بلبيس ونزل العادل السائح «3» ؛ فرجع الأفضل وضرب معهم المصافّ، وتقاتلوا فانكسر الأفضل وتفرّق عنه أصحابه؛ ورحل إلى القاهرة وأغلق أبوابها. وجاء العادل فنزل البركة «4» ، ودخل سيف الدين أزكش بين العادل والأفضل، واتّفقوا أن يعطيه العادل ميّافارقين وجبل «5» جور وديار بكر، ويأخذ منه مصر؛ فاتّفق الأمر على ذلك.
ورحل الأفضل من مصر فى شهر ربيع الآخر، ودخل العادل إلى القاهرة، وأحسن إلى أزكش، وقال للأفضل: جميع من كان معك كاتبنى إلّا سيف الدين أزكش. ثمّ قدّم العادل أزكش المذكور وحكّمه فى البلاد، وردّ القضاء(6/150)
إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس الكردىّ، وولىّ شيخ الشيوخ ابن حمّويه «1» التدريس بالشافعىّ ومشهد الحسين والنّظر فى خانقاه «2» الصّوفيّة، وجلس الوزير صفىّ الدين عبد الله بن علىّ بن شكر فى دار السلطنة فى حجرة القاضى الفاضل، ونظر فى الدواوين. وسار الأفضل إلى ميّافارقين. واستدعى العادل ولده الكامل إلى مصر فخرج من دمشق فى ثالث «3» عشرين شعبان وودّعه أخوه الملك المعظّم عيسى إلى رأس الماء «4» . قال العماد الكاتب: وسرت معه إلى مصر وأنشدته:
دعتك مصر إلى سلطانها فأجب ... دعاءها فهو حقّ غير مكذوب
قد كان يهضمنى «5» دهرى فأدركنى ... محمد بن أبى بكر بن أيّوب
ووصل الكامل إلى مصر فى عاشر شهر رمضان، والتقاه أبوه العادل من العبّاسة «6» ، وأنزله فى دار الوزارة. وكان قد زوّجه بنت أخيه صلاح الدين فدخل بها.
ولم يقطع العادل الخطبة لولد العزيز.
قلت: وهذا ممّا يدلّ أيضا على أنّ الأفضل كان عند الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان بمنزلة الأتابك. والظاهر أنّه كان ظنّ الأفضل إذا تمّ أمره مع عمّه العادل هذا استقلّ بالملك، فلم يقع له ذلك؛ ولهذا لم نذكره فى ملوك مصر، وما «7» ذكرناه هنا إلّا فى ضمن ترجمة المنصور صاحب الترجمة.(6/151)
قال: ثم إنّه جمع الفقهاء (يعنى الملك العادل) وقال لهم: هل يجوز ولاية الصغير على الكبير؟ فقالوا: الصغير «1» مولّى عليه. قال: فهل يجوز للكبير أن ينوب عن الصغير؟ قالوا: لا، لأنّ الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصحّ النيابة! فعند ذلك قطع خطبة ابن العزيز (يعنى عن المنصور صاحب الترجمة) وخطب لنفسه ولولده الكامل من بعده. ونقص النيل فى هذه السنة ولم يبلغ ثلاث عشرة ذراعا. ووقع الغلاء بديار مصر» .
قلت: وعلى هذا يكون أوّل سلطنة العادل على مصر فى يوم خطب له بمصر؛ وهو يوم الجمعة الحادى والعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وخمسمائة.
قال ابن المستوفى «2» فى تاريخ إربل «3» : فتكون أوّل سلطنة الملك العادل من هذا اليوم، ولا عبرة باستيلائه على مصر قبل ذلك. وعلى هذا أيضا تكون مدّة الملك المنصور محمد صاحب الترجمة على سلطنة مصر سنة واحدة وتسعة أشهر سواء، فإنّ والده العزيز عثمان مات فى عشرين المحرّم من سنة خمس وتسعين وخمسمائة فتسلطن من يوم موت أبيه، وخلع فى العشرين من شوّال سنة ست وتسعين وخمسمائة.
انتهى. ولم أقف على وفاته الآن.(6/152)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 595]
السنة الأولى من ولاية الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك الناصر يوسف على مصر، وهى سنة خمس وتسعين وخمسمائة، على أنّ الملك العزيز والده حكم منها نحو العشرين يوما من المحرّم كما تقدّم ذكره.
فيها حجّ بالناس من بغداد مظفّر الدين وجه السّبع.
وفيها كانت وفاة الملك العزيز عثمان حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفيها توفّى يحيى بن علىّ بن الفضل أبو القاسم بن فضلان مدرّس النّظاميّة، كان فقيها بارعا، قدم بغداد وناظر وأفتى ودرّس، وكان مقطوع اليد، وقع من الجمل فعملت عليه يده فحيف عليه فقطعت. وكانت وفاته فى شعبان. ومن شعره:
- رحمه الله تعالى-:
وإذا أردت منازل الأشراف ... فعليك بالإسعاف والإنصاف
وإذا بغى باغ عليك فخلّه ... والدهر فهو له مكاف كاف
وفيها توفّى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملك المنصور أبو يوسف صاحب المغرب. كان ملكا مغازيا مجاهدا، وهو الذي كسر ألفنش ملك الفرنج المقدّم ذكره على الزّلّاقة، وهو أعظم ملوك المغرب وأحسنهم سيرة لما كان جمع من المحاسن: الدّين والصلاح والشجاعة والكرم والحزم والعزم، ودام فى ملكه إلى أن مات فى شهر ربيع «1» الأوّل بعد أن أوصى بالملك إلى ولده أبى عبد الله محمد.
وكانت مدّة أيامه خمس عشرة سنة. وفيه يقول شاعره أبو بكر «2» يحيى بن عبد الجليل(6/153)
ابن عبد الرحمن بن مجير الأندلسىّ المرسىّ قصيدته المطوّلة، وعدّة أبياتها مائة وسبعة أبيات. أوّلها:
أتراه يترك الغزلا ... وعليه شبّ واكتهلا
ومدحه أيضا «1» إبراهيم بن يعقوب الشاعر المشهور بقصيدة طنّانة أوّلها:
أزال حجابه عنى وعينى ... تراه من المهابة فى حجاب
وقرّ بنى تفضّله ولكن ... بعدت مهابة عند اقترابى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الملك العزيز عثمان ابن صلاح الدين يوسف بن أيّوب صاحب مصر فى المحرّم، وله ثمان وعشرون سنة.
والحفيد ابن رشد العلّامة أبو الوليد «2» محمد بن أحمد بن أبى الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبىّ المتكلّم. وأبو جعفر محمد بن إسماعيل الطّرسوسىّ بأصبهان فى جمادى الآخرة. وأبو الحسن مسعود بن أبى مسعود «3» الأصبهانىّ الخيّاط الجمّال فى شوّال.
وأبو الفضل منصور بن أبى الحسن الطّبرىّ الصوفىّ الواعظ. والعلّامة جمال الدّين يحيى بن علىّ بن فضلان البغدادىّ الشافعىّ فى شعبان. وصاحب المغرب المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.(6/154)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 596]
السنة الثانية من ولاية الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان على مصر، على أنّه حكم فى آخرها من شهر رمضان إلى آخر السنة عمّ أبيه الملك العادل أبو بكر ابن أيّوب، وهى سنة ستّ وتسعين وخمسمائة.
فيها توفّى تكش بن أرسلان شاه بن أتسز «1» الملك علاء الدّين خوارزم شاه، هو من ولد طاهر بن الحسين. كان شجاعا مقداما جودا، ملك الدنيا من الصّين والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى باب بغداد، وكان نوّابه فى حلوان «2» ، وكان فى ديوانه مائة ألف مقاتل، وهو الذي أزال دولة بنى سلجوق، وكان عارفا بعلم الموسيقى؛ ولم يكن فى زمانه أعرف منه بضرب العود، وكان يباشر الحروب بنفسه حتّى ذهبت إحدى عينيه فى الحرب، وكان قد عزم على أخذ بغداد وسار إليها؛ فلمّا وصل إلى دهستان «3» توفّى بها فى شهر رمضان. ووقع له فى مسيره إلى أخذ بغداد فى هذه المرّة طريفة: وهو أنّ الباطنيّة جهّزوا إليه رجلا ليقتله، وكان قوىّ الاحتراس، فجلس تلك الليلة يلعب بالعود، وقد شرّع الخيمة وغنّى بيتا بالعجميّة، وفيه «ببيتم» ومعناه بالعجمىّ: أبصرتك «4» ؛ وكرّر هذه اللفظة؛ فلمّا سمع الباطنىّ ذلك خاف وظنّ أنه رآه فهرب، فأخذ وحمل إليه فعزّره وأمر بقتله. فكان ذلك من الطرائف.(6/155)
وفيها توفّى إمام عصره ووحيد دهره، القاضى الفاضل عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف أبى المجد «1» علىّ [ابن «2» القاضى السعيد أبى محمد محمد] بن الحسن بن الحسين ابن أحمد [بن المفرّج «3» بن أحمد] اللّخمىّ العسقلانىّ المولد، المصعرىّ [الدار «4» ] ، المعروف بالقاضى الفاضل الملقّب محيى الدين «5» ؛ وزير السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
قال ابن خلّكان- رحمه الله-: [و «6» ] تمكّن منه غاية التمكّن (يعنى من صلاح الدين) وبرز فى صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرنى أحد الفضلاء الثّقات المطّلعين على حقيقة أمره: أنّ مسودات رسائله فى المجلّدات، والتعليقات فى الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد فى أكثرها.
قال العماد الكاتب الأصبهانىّ فى كتاب الخريدة فى حقّه: «ربّ القلم والبيان، واللّسن واللّسان؛ والقريحة الوقّادة، والبصيرة النقّادة؛ والبديهة المعجزة، والبديعة المطرّزة؛ والفضل الذي ما سمع فى الأوائل ممّن «7» لو عاش فى زمانه لتعلّق فى غباره، أو جرى فى مضماره؛ فهو كالشريعة المحمديّة التى نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع؛ يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار؛ وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بلألائه «8» ؛ إن شاء أنشأ فى اليوم الواحد بل فى الساعة، ما لو دوّن لكان لأهل الصناعة، [خير] بضاعة «9» » انتهى كلام العماد باختصار.(6/156)
وقال غيره: وكان مع فضله كثير العبادة تاليا للقرآن العزيز دينّا خيّرا، وكان السلطان صلاح الدين يقول: لا تظنّوا أنّى ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل. وكان بين الفاضل وبين الملك العادل أبى بكر بن أيّوب وحشة «1» ، فلمّا بلغ الفاضل مجىء العادل إلى مصر دعا الله على نفسه بالموت، فمات قبل دخوله.
وقيل: إنّ العادل كان داخلا من باب النصر، وجنازة الفاضل خارجة من باب زويلة «2» . انتهى.
قلت: وفضل الفاضل وبلاغته وفصاحته أشهر من أن يذكر. ومن شعره:
قوله:
وإذا السعادة لاحظتك «3» عيونها ... نم فالمخاوف كلّهنّ أمان
واصطد «4» بها العنقاء فهى حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهى عنان
وقد استشهد علماء البديع بكثير من شعره فى أنواع كثيرة، فممّا ذكره الشيخ تقىّ «5» الدين أبو بكر [بن علىّ «6» ] بن حجّة فى شرح بديعيّته فى نوع «تجاهل العارف» قوله من قصيدة:
أهذى كفّه أم غوث غيث ... ولا بلغ السحاب ولا كرامه
وهذا بشره أم لمع برق ... ومن للبرق فينا بالإقامه
وهذا الجيش أم صرف اللّيالى ... ولا سبقت حوادثها زحامه(6/157)
وهذا الدهر أم عبد لديه ... يصرّف عن عزيمته زمامه
وهذا «1» نصل غمد أم هلال ... إذا أمسى كنون أم قلامه
وهذا التّرب أم خدّ لثمنا ... فآثار الشّفاه عليه شامه
ومنها وهو غير تجاهل العارف [ولكنّه من «2» المرقص والمطرب] :
وهذا الدرّ منثور ولكن ... أرونى غير أقلامى نظامه
وهذى روضة تندى وسطرى ... بها غصن وقافيتى حمامه
وهذا الكأس روّق من بنانى ... وذكرك كان من مسك ختامه
وذكر أيضا فى «تجاهل العارف» قوله من قصيدة:
أهذه سير فى المجد أم سور ... وهذه أنجم فى السعد أم غرر
وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وإفرندها فى لجّها درر
وأنت فى الأرض أم فوق السماء وفى ... يمينك البحر أم فى وجهك القمر
وفيها توفّى علىّ بن نصر بن عقيل المعروف بالهمام البغدادىّ العبدىّ الشاعر المشهور، قدم الشام ومدح الملك العادل، والملك الأمجد صاحب بعلبك. ومن شعره:
وما الناس إلّا كامل الحظّ ناقص ... وآخر منهم ناقص الحظّ كامل
وإنّى لمثر من حياء وعفّة ... وإن لم يكن عندى من المال طائل
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر أحمد ابن علىّ القرطبىّ المقرئ إمام الكلّاسة. وإسماعيل بن صالح بن يس بمصر فى ذى الحجّة. وأبو سعيد خليل بن أبى الرجاء الرّارانىّ «3» الصوفىّ فى شهر ربيع الآخر،(6/158)
وله ست وتسعون سنة. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه تكش بن خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد فى رمضان بالخوانيق، وتملّك بعده ابنه علاء الدين محمد. والقاضى الفاضل أبو علىّ عبد الرحيم بن علىّ [بن محمد «1» ] بن حسن اللّخمىّ البيسانىّ «2» الوزير فى شهر ربيع الآخر، وله سبع وستون سنة. وأبو الحسن عبد اللطيف بن إسماعيل ابن [أبى «3» ] سعد الصّوفىّ فى ذى الحجّة بدمشق. وأبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب [بن سعد «4» بن صدقة بن الحضر] بن كليب فى شهر ربيع الأول، وله ست وتسعون سنة وشهر. والأثير أبو الفضل «5» محمد بن محمد بن بيان الأنبارىّ ثم المصرىّ الكاتب فى شهر ربيع الآخر. والعلّامة شهاب الدين محمد بن محمود الطّوسىّ بمصر.
وأبو جعفر المبارك بن المبارك بن أحمد بن زريق الواسطىّ الحدّاد «6» المقرئ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يذكر لقلّته. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة اثنتى عشرة ذراعا وإحدى وعشرين إصبعا. وشرقت الأراضى، وعمّ البلاء والغلاء الديار المصريّة وأعمالها.(6/159)
ذكر ولاية الملك العادل على مصر
هو السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد ابن الأمير أبى الشكر نجم الدين أيّوب بن شادى بن مروان الدّوينىّ التّكريتىّ ثم الدمشقىّ. وقد تقدّم ذكر نسبه وأصله فى ترجمة أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب. وقد ذكرنا أيضا من أحوال العادل هذا نبذة كبيرة فى ترجمة أخيه صلاح الدين المذكور، وأيضا فى ترجمة أولاده، ثم فى ترجمة حفيده الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، الذي خلعه العادل هذا وتسلطن مكانه فى العشرين من شوّال سنة ستّ وتسعين وخمسمائة. وقد تقدّم ذلك كلّه فى ترجمة المنصور محمد المخلوع عن السلطنة. ولا بدّ من ذكر شىء من أحوال العادل هنا على حدته، وإيراد قطعة جيّدة من أقوال الناس فى ترجمته- إن شاء الله تعالى-.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخة: «ولد ببعلبكّ فى سنة أربع «1» وثلاثين، وأبوه نائب عليها للأتابك زنكى والد نور الدين محمود، وهو أصغر من أخيه صلاح الدين بسنتين؛ وقيل: ولد فى سنة ثمان «2» وثلاثين؛ وقيل:
ولد فى أوائل سنة أربعين. قال أبو شامة: توفّىّ الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد، وهو بكنيته أشهر. ومولده ببعلبكّ، وعاش ستّا وسبعين سنة.
ونشأ فى خدمة نور الدين مع أبيه وإخوته؛ [وحضر «3» مع أخيه صلاح الدين فتوحاته وقام أحسن قيام فى الهدنة مع الأنكلتير ملك الفرنج بعد أخذهم عكّا] ، وكان(6/160)
صلاح الدين يعوّل عليه كثيرا، واستنابه بمصر مدّة، ثم أعطاه حلب، ثم أخذها منه وأعطاها لولده الظاهر، وأعطاه الكرك عوضها، ثم حرّان» . انتهى كلام الذهبىّ.
وقال الشيخ شمس الدين أحمد بن خلّكان- رحمه الله- فى وفيات الأعيان:
«كان الملك العادل قد وصل إلى مصر صحبة أخيه وعمّه أسد الدين شيركوه المقدّم ذكره. وكان يقول: لمّا عزمنا على المسير إلى مصر احتجت الى چرمدان «1» فطلبته من والدى فأعطانى، وقال يا أبا بكر: إذا ملكتم مصر أعطونى ملأه ذهبا.
فلمّا جاء إلى مصر، قال يا أبا بكر: [أين «2» ] الجرمدان؟ فرحت وملأته له من الدّراهم السّود، وجعلت على أعلاها شيئا من الذهب وأحضرته إليه، فلمّا رآه اعتقده ذهبا، فقلبه فظهرت الفضّة السوداء، فقال يا أبا بكر: تعلمت زغل المصريّين! قال: ولمّا ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب مصر كان ينوب عنه فى حال غيبته بالشام، ويستدعى منه الأموال للإنفاق فى الجند وغيرهم. قال:
ورأيت فى بعض رسائل القاضى الفاضل أنّ الحمول تأخّرت مدّة فتقدّم السلطان صلاح الدين إلى العماد الأصبهانىّ أن يكتب إلى أخيه العادل يستحثّه على إنفاذها حتّى قال: يسير [لنا «3» ] الحمل من مالنا أو من ماله! فلمّا وصل الكتاب إليه، ووقف على هذا الفصل شقّ عليه، وكتب إلى القاضى الفاضل يشكو من السلطان لأجل ذلك. فكتب القاضى الفاضل جوابه، وفى جملته: «وأمّا ما ذكره المولى من قوله: يسير لنا الحمل من مالنا أو من ماله، فتلك لفظة ما المقصود منها من الملك النّجعة، وإنّما المقصود من الكاتب السّجعة. وكم من لفظة فظّة، وكلمة فيها غلظة؛ حيّرت عيىّ الأقلام، فسدّت خلل الكلام. وعلى المملوك الضمان فى هذه(6/161)
النّكتة، وقد فات لسان القلم منها أىّ سكتة» . قال: ولمّا ملك السلطان (يعنى صلاح الدين) مدينة حلب فى صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة كما تقدّم ذكره، [أعطاها «1» لولده الملك الظاهر غازى ثم أخذها منه و] أعطاها للملك العادل فانتقل إليها [وقصد «2» قلعتها يوم الجمعة الثانى والعشرين] من شهر رمضان من السنة المذكورة؛ ثم نزل عنها للملك الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين؛ ثم أعطاه السلطان قلعة الكرك، وتنقّل فى الممالك فى حياة السلطان صلاح الدين وبعد وفاته. وقضاياه مشهورة مع الملك الأفضل والملك العزيز والملك المنصور فلا حاجة إلى الإطالة فى شرحها. وآخر الأمر أنّه استقلّ بملكة الديار المصريّة. وكان دخوله إلى القاهرة لثلاث عشرة ليلة خلت «3» من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، واستقرّت له القواعد. وقال أبو البركات بن المستوفى فى تاريخ إربل: فى ترجمة ضياء الدين أبى الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير [الوزير «4» ] الجزرىّ ما مثاله- وجدت بخطّه-: خطب للملك العادل أبى بكر بن أيّوب بالقاهرة ومصر يوم الجمعة الحادى والعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وخمسمائة، وخطب له بحلب يوم الجمعة حادى عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة- والله أعلم بالصواب- هذا ما ذكره ابن خلّكان وهو بخلاف ما ذكرناه من أنّه خطب «5» له فى عاشر شهر رمضان من السنة، ويمكن الجمع بين القولين، لأنّنا قلنا فى شهر رمضان تخمينا، لأنّ الاتّفاق كان فى شهر رمضان، ولعلّ الخطبة كانت فى شوّال- انتهى.
قال: «وملك مع ذلك البلاد الشاميّة والمشرقيّة، وصفت له الدنيا، ثم ملك بلاد اليمن فى سنة اثنتى عشرة وستمائة [و «6» ] سيّر إليها ولد ولده الملك المسعود صلاح الدين(6/162)
أبا المظفر يوسف ابن الملك الكامل محمد الآتى ذكره. وكان ولده الملك الأوحد نجم الدين أيّوب ينوب عنه فى ميّافارقين وتلك النواحى، فاستولى «1» على مدينة خلاط و [بلاد «2» ] أرمينية، واتّسعت مملكته، وذلك فى سنة أربع وستمائة.
ولمّا تمهدت له البلاد قسمها بين أولاده، فأعطى الملك الكامل محمدا الديار المصريّة، وأعطى الملك المعظّم عيسى البلاد الشاميّة، وأعطى الملك الأشرف موسى البلاد الشرقية، والأوحد فى المواضع التى ذكرناها. وكان ملكا عظيما ذا رأى ومعرفة تأمّة قد حنّكته التجارب، حسن السّيرة جميل الطويّة وافر العقل، حازما فى الأمور صالحا محافظا على الصلوات فى أوقاتها، متتبّعا لأرباب السّنّة مائلا إلى العلماء.
صنّف له فخر الدين «3» الرازىّ «كتاب تأسيس التقديس» ، وذكر اسمه فى خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان. وبالجملة فإنّه كان رجلا مسعودا، ومن سعادته أنّه كان خلّف أولادا لم يخلّف أحد من الملوك أمثالهم؛ فى نجابتهم [وبسالتهم «4» ] ومعرفتهم وعلوّ همّتهم، ودان لهم العباد وملكوا البلاد. ولمّا مدحه ابن عنين «5» بقصيدته الرائية ذكر منها فى مديح أولاده المذكورين، فقال:
وله البنون بكلّ أرض منهم ... ملك يقود إلى الأعادى عسكرا
من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا وإن شهد الوغى فغضنفرا(6/163)
متقدّم حتّى إذا النّقع انجلى ... بالبيض عن سبى الحريم تأخّرا
قوم زكوا أصلا وطابوا محتدا ... وتدفّقوا جودا وراقوا منظرا
قال ومن جملة هذه القصيدة فى مدح الملك العادل هذا قوله، ولقد أحسن فيها،
[العادل «1» الملك الذي أسماؤه ... فى كلّ ناحية تشرّف منبرا]
وبكلّ أرض جنّة من عدله الصّ ... افى أسال [نداه «2» ] فيها كوثرا
عدل يبيت الذئب منه على الطّوى ... غرثان وهو يرى الغزال الأعفرا
ما فى أبى بكر لمعتقد الهدى ... شكّ مريب أنّه خير الورى
سيف صقال المتن أخلص متنه ... وأبان طيب الأصل منه الجوهرا
ما مدحه بالمستعار له ولا ... آيات سؤدده حديث يفترى
بين الملوك الغابرين وبينه ... فى الفضل ما بين الثّريّا والثّرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... فى الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا «3»
ملك إذا خفّت حلوم ذوى النّهى ... فى الرّوع زاد رصانة وتوقّرا
ثبت الجنان تراع من وثباته ... وثباته يوم الوغى أسد الشّرى
يقظ يكاد يقول عمّا فى غد ... ببديهة أغنته أن يتفكّرا
حلم تخفّ له الحلوم وراءه ... رأى وعزم يخفر الإسكندرا
يعفو عن الذنب العظيم تكرّما ... ويصدّ عن قيل الخنا متكبّرا
لا تسمعنّ حديث ملك غيره ... يروى فكلّ الصّيد فى جوف الفرا
قال: ولمّا قسم البلاد بين أولاده كان يتردّد بينهم، ويتنقّل من مملكة إلى أخرى، وكان يصيف بالشام لأجل الفواكه والمياه الباردة، ويشتّى بالديار المصريّة لاعتدال(6/164)
الوقت فيها وقلّة البرودة؛ وعاش فى أرغد عيش. وكان يأكل كثيرا خارجا عن المعتاد، حتّى يقال إنّه كان يأكل وحده خروفا لطيفا مشويّا، وكان له فى النكاح نصيب وافر. وحاصل الأمر أنّه كان ممتّعا فى دنياه. وكانت ولادته بدمشق فى المحرّم سنة أربعين؛ وقيل: ثمان وثلاثين وخمسمائة.
قلت: وافق الذهبىّ فى مولده فى السنة، مع خلاف ذكره الذهبىّ فيه، وخالفه فى المكان الذي ولد فيه، فإنّ الذهبىّ قال: كانت ولادته ببعلبكّ كما تقدّم ذكره.
قال: وتوفّى فى سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة بعالقين. ونقل إلى دمشق، ودفن بالقلعة ثانى يوم وفاته، ثمّ نقل إلى مدرسته المعروفة به، ودفن بالتّربة التى بها؛ [وقبره «1» ] على الطريق يراه المجتاز من الشّبّاك المركّب هناك. وعالقين (بفتح العين المهملة وبعد الألف لام مكسورة وقاف مكسورة أيضا وياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها نون) وهى قرية بظاهر دمشق» . انتهى كلام ابن خلّكان- رحمه الله تعالى- بتمامه.
وقال غيره: ولمّا افتتح ولده الكامل إقليم أرمينية فرح العادل فرحا شديدا، وسيّر أستاداره [شمس الدين «2» ] إيلدكز وقاضى العسكر نجم الدين خليل إلى الخليفة يطلب التقليد بمصر والشام وخلاط وبلاد الجزيرة، فأكرمهما الخليفة وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين أبا حفص عمر بن محمد السّهروردىّ بالتشريف، ومرّ بحلب ووعظ بها؛ واحترمه الظاهر غازى صاحب حلب، وبعث معه بهاء الدّين ابن شدّاد بثلاثة آلاف دينار لينثرها على عمّه العادل، إذا لبس خلعة الخليفة. ولمّا وصل السّهروردىّ إلى دمشق «3» فرح العادل وتلقّاه من القصير «4» ، وكان يوما مشهودا،(6/165)
ثمّ من الغد أفيضت عليه الخلع؛ وهى: جبّة سوداء بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب فيه جوهر، وقلّد سيفا محلّى جميع قرابه بالذهب، وحصان أشهب بمركب ذهب، وعلم أسود مكتوب فيه بالبياض ألقاب الناصر لدين الله. ثمّ خلع السّهروردىّ على ولدى العادل: المعظّم عيسى والأشرف موسى، لكلّ واحد عمامة سوداء، وثوبا أسود واسع الكمّ؛ وخلع على الصاحب ابن شكر كذلك. ونثر الذهب على رأس العادل من رسل صاحب حلب وحماة وحمص وغيرهم.
وركب الأربعة (أعنى العادل وولديه وابن شكر الوزير) بالخلع، ثمّ عادوا إلى القلعة؛ وقرأ ابن شكر التقليد على كرسىّ، وخوطب العادل: بشاهنشاه «1» ملك الملوك خليل أمير المؤمنين. ثمّ قدم السّهروردىّ إلى مصر وخلع على الملك الكامل بن العادل.
وهو يوم ذاك صاحب مصر نيابة عن أبيه العادل كما تقدّم ذكره.
وقال الموفّق «2» عبد اللّطيف فى سيرة الملك العادل: «كان أصغر الإخوة وأطولهم عمرا وأعمقهم فكرا وأبصرهم فى العواقب وأشدّهم إمساكا وأحبّهم للدرهم؛ وكان فيه حلم «3» وأناة وصبر على الشدائد، وكان سعيد الجدّ عالى الكعب مظفّرا بالأعداء من قبل السماء، وكان نهمّا أكولا يحبّ الطعام واختلاف ألوانه، وكان أكثر أكله باللّيل كالخيل، وله عند ما ينام رضيع، ويأكل رطلا بالدّمشقىّ خبيص السّكّر، يجعل هذا كالجوارش «4» ؛ وكان كثير الصلاة ويصوم الخميس؛ وله صدقات فى كثير من الأوقات، وخاصّة عندما تنزل به الآفات، وكان كريما على الطعام يحب من يؤاكله، وكان قليل الأمراض. قال لى طبيبه بمصر: إنّى آكل خير هذا السلطان(6/166)
سنين كثيرة ولم يحتج إلىّ سوى يوم واحد، أحضر إليه من البطّيخ أربعون حملا فكسر الجميع بيده، وبالغ فى الأكل منه ومن الفواكه والأطعمة، فعرض له تخمة فأصبح، فأشرت عليه بشرب الماء الحارّ، وأن يركب طويلا ففعل، وآخر النهار تعشّى وعاد إلى صحّته. وكان نكّاحا يكثر من اقتناء السّرارىّ، وكان غيورا لا يدخل فى داره خصىّ إلّا دون البلوغ، وكان يحبّ أن يطبخ لنفسه مع أنّ فى كلّ دار من دور حظاياه مطبخا [دائرا «1» ] ، وكان عفيف الفرج لا يعرف له نظر إلى غير حلائله.
نجب له أولاد من الذكور والإناث، سلطن الذكور وزوّج البنات بملوك الأطراف.
وكان العادل قد أوقع الله تعالى بغضته فى قلوب رعاياه، والمخامرة عليه فى قلوب جنده؛ وعملوا فى قتله أصنافا من الحيل الدقيقة مرّات كثيرة، وعند ما يقال إنّ الحيلة تمّت تنفسخ وتنكشف وتحسم موادّها، ولولا أولاده يتولّون بلاده لما ثبت ملكه؛ بخلاف أخيه صلاح الدين فإنّه إنّما «2» حفظ ملكه بالمحبّة له وحسن الطاعة، ولم يكن- رحمه الله- بالمنزلة المكروهة؛ وإنّما كان الناس قد ألفوا دولة صلاح الدين وأولاده، فتغيرت عليهم العادة دفعة واحدة. ثم إن وزيره ابن شكر بالغ فى الظّلم. قال: وكان العادل يواظب على خدمة أخيه صلاح الدين، يكون أوّل داخل وآخر خارج، وبهذا جلبه، وكان يشاوره فى أمور الدولة، لما جرّب من نفوذ رأيه. ولمّا تسلطن الأفضل بدمشق والعزيز بمصر قصد العزيز دمشق، ووقع له ما حكيناه إلى أن ملكها. قال: ثم أخذ العادل يدبّر الحيلة حتى يستنيبه «3» العزيز على مصر، ويقيم العزيز بدمشق، ففطن بعض أصحاب العزيز فرمى قلنسوتا(6/167)
بين يديه، وقال: ألم يكفك أنّك أعطيته دمشق حتّى تعطيه مصر! فنهض العزيز لوقته على غرّة ولحق بمصر.
قال الموفّق: ومات الملك الظاهر غازى قبله بسنتين فلم يتهنّ العادل بالملك من بعده، وكان كلّ واحد منهما ينتظر موت الآخر، فلم يصف للعادل العيش بعد موته، لأمراض لزمته بعد طول الصّحّة، والخوف من الفرنج بعد طول الأمن.
وخرجوا (يعنى الفرنج) إلى عكّا وتجمّعوا على الغور «1» ، فنزل العادل قبالتهم على بيسان «2» ، وخفى عليه أن ينزل على عقبة أفيق «3» ، وكانوا قد هدموا قلعة كوكب، وكانت ظهرهم، ولم يقبل من الجواسيس ما أخبروه بما عزم عليه الفرنج من الغارة، فاغترّ بما عوّدته المقادير من طول السلامة، فغشيت الفرنج عسكره على غرّة، وكان قد آوى إليه خلق من البلاد يعتصمون به، فركب مجدّا؛ وماج الفرنج فى أثره حتّى وصل دمشق على شفا وهمّ؛ فدخل إليها فمنعه المعتمد وشجّعه، وقال له: المصلحة أن تقيم بظاهر دمشق. وأمّا الفرنج فاعتقدوا أنّ هزيمته مكيدة فرجعوا من قرب دمشق بعد ما عاثوا فى البلاد قتلا وأسرا وعادوا إلى بلادهم، وقصدوا دمياط فى البحر فنازلوها.
وكان قد عرض له قبل ذلك ضعف وصار يعتريه ورم الأنثيين. فلمّا هزّته «4» الحيل على خلاف العادة ودخله الرّعب، لم يبق إلّا مدّة يسيرة ومات بظاهر دمشق.
وكان مع حرصه يهين المال عند الشدائد غاية الإهانة ببذله. وشرع فى بناء قلعة(6/168)
دمشق فقسم أرضها على أمرائه وأولاده، وكان الحفّارون يحفرون الخندق ويقطعون الحجارة، فخرج من تحته خرزة بئر فيها ماء معين. قال: ودعا مرة فقال: اللهمّ حاسبنى حسابا يسيرا؛ فقال له رجل ماجن من خواصّة: يا مولانا، إنّ الله قد يسّر حسابك؛ قال: ويلك! وكيف ذلك؟ قال: إذا حاسبك قل له: المال كلّه فى قلعة جعبر لم أفرّط فيه فى قليل ولا كثير. وكانت خزائنه بالكرك ثمّ نقلها إلى قلعة جعبر وبها ولده الملك الحافظ، فسوّل له بعض أصحابه الطمع فيها، فأتاها الملك العادل ونقل ما فيها إلى قلعة دمشق، فحصلت فى قبضة ولده الملك المعظّم عيسى، فلم ينازعه فيها إخوته؛ وقيل: إنّ الذي سوّل للحافظ الطمع والعصيان هو المعظّم ففعل ذلك الحافظ، وكانت مكيدة من المعظّم حتّى رجع إليه المال» . انتهى كلام الموفّق باختصار.
وقال أبو المظفّر شمس الدين يوسف بن قزاوغلى فى تاريخه: «سألته عن مولده فقال: فتوح الرّها (يعنى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة) - وهذا نقل آخر فى مولده- قال: وقد ذكرنا أحواله «1» فى السنين إلى أن استقرّ له الملك وامتدّ من بلاد الكرخ «2» إلى همذان والجزيرة والشام ومصر والحجاز ومكّة والمدينة واليمن إلى حضر موت، وكان ثبتا خليقا بالملك حسن «3» التدبير، حليما صفوحا مدبّرا للملك على وجه الرضا، عادلا مجاهدا دينا عفيفا متصدّقا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، طهّر جميع ولاياته من الخمور والخواطىء والقمار والمكوس والمظالم. وكان الحاصل من هذه الجهات بدمشق على الخصوص مائة ألف دينار، فأبطل الجميع لله تعالى.(6/169)
وكان واليه على دمشق المبارز والمعتمد «1» ، أعانه المبارز على ذلك، أقام رجالا على عقاب قاسيون «2» وجبل الثّلج وحوالى دمشق بالجامكيّة «3» والجراية يحرمون أحدا يدخل دمشق بمنكر. بلغنى أنّ بعض المغانى دخلت على العادل فى عرس فقال لها:
أين كنت؟ فقالت: ما قدرت أجىء حتّى وفيت ما علىّ للضامن. فقال:
وأىّ ضامن؟ قالت ضامن القيان، فقامت عليه القيامة، وطلب المعتمد [وعمل «4» به ما لا يليق] ، وقال: والله لئن عاد بلغنى مثل هذا لأفعلنّ ولأصنعنّ.
ولقد فعل العادل فى غلاء مصر عقيب موت العزيز ما لم يفعله غيره؛ كان يخرج فى الليل بنفسه ويفرّق الأموال فى ذوى البيوتات والمساكين، وكفّن تلك الأيام من ماله ثلثمائة ألف من الغرباء، وكان إذا مرض أو تشوّش مزاجه خلع جميع ما عليه وباعه حتى فرسه وتصدّق به.
قال أبو المظفّر: وقد ذكرنا وصول شيخ الشيوخ إليه بخبر برج دمياط «5» ، وأنّه انزعج وأقام مريضا إلى يوم الجمعة سابع أو ثامن جمادى الآخرة وتوفّى بعالقين.
وكان المعظّم قد كسر الفرنج على القيمون «6» يوم الخميس خامس جمادى الآخرة، وقيل يوم الأربعاء. ولمّا توفّى العادل لم يعلم بموته غير كريم الدّين الخلاطىّ، فأرسل الطير إلى نابلس إلى المعظم، فجاء يوم السبت إلى عالقين فاحتاط على الخزائن،(6/170)
وصبّر العادل وجعله فى محفّة وعنده خادم يروّح عليه وقد رفع طرف سجافها وأظهر أنّه مريض، ودخلوا به دمشق يوم الأحد والناس يسلّمون على الخادم، وهو يومئ إلى ناحية العادل ويردّ السلام؛ ودخلوا به القلعة وكتموا موته؛ و [من «1» العجائب أنهم] طلبوا له كفنا فلم يقدروا عليه، فأخذوا عمامة الفقيه ابن فارس فكفّنوه بها، وأخرجوا قطنا من مخدّة فلفّوه به، وصلّى عليه [وزيره «2» ] ابن فارس ودفنوه فى القلعة.
قال أبو المظفّر: وكنت قاعدا إلى جانب المعظّم عند باب الدار التى فيها الإيوان وهو واجم ولم أعلم بحاله؛ فلمّا دفن أبوه قام قائما وشقّ ثيابه ولطم رأسه ووجهه، وكان يوما عظيما، وعمل له العزاء ثلاثة أيام بالإيوان الشمالى، وعمل له العزاء فى الدنيا كلّها، ونودى ببغداد من أراد الصلاة على الملك العادل الغازى المجاهد فى سبيل الله فليحضر إلى جامع القصر، فحضر الناس ولم يتخلّف سوى الخليفة، وصلّوا عليه صلاة الغائب وترحّموا عليه، وتقدّموا إلى خطباء الجوامع بأسرهم، ففعلوا ذلك بعد صلاة الجمعة. وبقى العادل بالقلعة إلى سنة تسع عشرة وستمائة، [ثم] نقل إلى تربته التى أنشأها عند دار العقيقىّ «3» ومدرسته.
- قلت: لا أعلم ما كان السبب فى عدم وجود الكفن القطن للملك العادل مع همة ولده الملك المعظّم عيسى وأخذه من عالقين ميتا فى محفّة ولم يفطن به أحد.
وهذا أعظم وأكثر كلفة وأصعب من شراء ثوب بعلبكّىّ، وما يحتاج إليه الميت من الحنوط والقطن وغيره فلعلّ لها «4» عذرا وأنت تلوم-.(6/171)
قال: وكان له عدّة أولاد: منهم شمس الدين مودود «1» والد الملك الجواد [يونس «2» ] .
والكامل «3» محمد. والأشرف «4» موسى. والمعظّم «5» عيسى. والأوحد «6» أيّوب. والفائز إبراهيم [ويلقّب «7» بسابق الدين] . وشهاب «8» الدّين غازى. والعزيز «9» عثمان. والأمجد «10» حسن.
والحافظ «11» أرسلان. والصالح «12» إسماعيل. والمغيث «13» عمر. ومجير «14» الدين يعقوب.
وتقىّ «15» الدين عبّاس. وقطب «16» الدين أحمد. والقاهر «17» إسحاق. وخليل «18» أصغرهم «19» .(6/172)
وكان له عدّة بنات أفضلهنّ صفيّة خاتون صاحبة حلب أم الملك العزيز «1» » . انتهت ترجمة الملك العادل- رحمه الله تعالى-.
ولمّا مات العادل استقرّ كلّ واحد من أولاده فى مملكته، فإنه كان قسم ممالكه فى أولاده حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه فى صدر هذه الترجمة، فالذى كان بمصر الملك الكامل محمد، وبالشام المعظّم عيسى، وبالشرق الأشرف شاه أرمن، وباقى أولاده كلّ واحد فى مملكة، أو فى خدمة أخ من إخوته. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 597]
السنة الأولى من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
فيها كان هبوط النيل، ولم يعهد ذلك فى الإسلام إلّا مرّة واحدة فى دولة الفاطميّين، ولم يبق منه إلّا شىء يسير؛ واشتدّ الغلاء والوباء بمصر، فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام وتفرّقوا وتمزّقوا كلّ ممزّق.
قال أبو المظفّر: «كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمّه على طبخه وشيّه؛ وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا. وكان الرجل يدعو صديقه وأحبّ الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطبّاء كذلك، [فكانوا «2» يدعونهم ليبصروا المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم] وفقدت الميتات والجيف [من كثرة «3» ما أكلوها] . وكانوا يختطفون الصّبيان من الشوارع فيأكلونهم. وكفّن السلطان فى مدّة يسيرة مائتى ألف وعشرين ألفا؛ وامتلأت طرقات المغرب والمشرق والحجاز(6/173)
والشام برمم الناس، وصلّى إمام جامع الإسكندريّة فى يوم على سبعمائة جنازة.
وقال العماد الكاتب الأصبهانىّ: « [و «1» ] فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة: اشتدّ الغلاء، وامتدّ البلاء؛ وتحقّقت المجاعة، وتفرّقت الجماعة؛ وهلك القوىّ فكيف الضعيف! ونحف السمين فكيف العجيف! وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرّق فريق مصر فى الأمصار؛ ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللّقم «2» ، تسترقّ الجياع باللّقم» . انتهى.
قال: وجاءت [فى شعبان «3» ] زلزلة هائلة من الصّعيد هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير، ثم امتدّت إلى الشام والساحل فهدمت مدينة نابلس، فلم تبق فيها جدارا قائما إلّا حارة السّمرة «4» ؛ ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا، وهدمت عكّا وصور وجميع قلاع الساحل؛ وامتدّت إلى دمشق فرمت بعض المنارة الشرقيّة بجامع دمشق، وأكثر الكلّاسة والبيمارستان النّورىّ، وعامّة دور دمشق إلّا القليل؛ فهرب الناس إلى الميادين، وسقط من الجامع ستّ عشرة شرفة، وتشقّقت قبّة النّسر «5» » . انتهى كلام صاحب المرآة باختصار، فإنّه أمعن وذكر أشياء مهولة من هذا النّموذج.
وفيها توفّى عبد الرحمن بن علىّ بن محمد بن علىّ بن عبيد الله بن عبد الله بن حمّادى ابن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزىّ بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم(6/174)
ابن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق عبد الله ابن أبى قحافة، الشيخ الإمام الحافظ الواعظ المفسّر العلّامة جمال الدين أبو الفرج القرشى «1» التّيمى البكرىّ البغدادىّ الحنبلىّ المعروف بابن الجوزىّ «2» ؛ صاحب التصانيف المشهورة فى أنواع العلوم: كالتفسير والحديث والفقه والوعظ والزّهد والتاريخ والطبّ وغير ذلك. مولده ببغداد سنة عشر وخمسمائة تقريبا بدرب حبيب. وتوفى أبوه وله ثلاث سنين.
قلت: وفضل الشيخ جمال الدين وحفظه وغزير علمه أشهر من أن يذكر هنا، والمقصود أنّ وفاته كانت فى ليلة الجمعة بين العشاءين فى داره «3» بقطفتا»
ودفن من الغد، وكانت جنازته مشهودة، وكثر أسف الناس عليه، ولم يخلّف بعده مثله.
قال ابن خلّكان: «وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعدّ، وكتب بخطّه كثيرا، والناس يغالون فى ذلك حتّى يقولوا إنّه جمعت الكراريس الّتى كتبها، وحسبت مدّة عمره وقسمت الكراريس على المدّة، فكان ما خصّ كلّ يوم تسع كراريس؛ وهذا شىء عظيم لا يكاد يقبله العقل. ويقال: إنّه جمعت براية أقلامه التى كتب بها حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحصل منها شىء كثير، وأوصى أن يسخّن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك [فكفت «5» ] » . انتهى كلام ابن خلّكان باختصار.(6/175)
ومن شعره:
يا صاحبى إن كنت لى أو معى ... فعج إلى وادى الحمى «1» نرتع
وسل عن الوادى وسكّانه ... وانشد فؤادى فى ربا المجمع
حىّ كثيب الرّمل رمل الحمى ... وقف وسلّم لى على لعلع «2»
واسمع حديثا قد روته الصّبا ... تسنده عن بانة الأجرع
وابك فما فى العين من فضلة ... ونب فدتك النفس عن مدمعى
وله:
رأيت خيال الظّلّ أعظم عبرة ... لمن كان فى أوج الحقيقة راق
شخوص وأشكال تمرّ وتنقضى ... وتفنى جميعا والمحرّك باق
وفيها توفّى الأمير بهاء الدين قراقوش «3» [بن عبد الله «4» ] الأسدىّ الخادم الخصىّ المنسوب إليه حارة «5» بهاء الدّين بالقاهرة داخل باب الفتوح، وهو الذي بنى قلعة «6» الجبل بالقاهرة، والسّور [على «7» مصر والقاهرة](6/176)
والقنطرة «1» التى عند الأهرام وغير ذلك؛ وكان من أكابر الخدّام، من خدّام القصر، وقيل إنّ أصله من خدّام العاضد، وقيل إنّه من خدّام أسد الدين شيركوه وهو الأصحّ. واتّصل بخدمة السلطان صلاح الدين، وكان صلاح الدّين يثق به ويعوّل(6/177)
عليه فى مهمّاته. ولمّا افتتح عكّا من الفرنج سلّمها إليه؛ ثم لمّا استولوا عليها أخذ أسيرا، ففداه صلاح الدين بعشرة آلاف دينار؛ وقيل: بستين ألف دينار.
قال ابن خلّكان: «والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة فى ولايته نيابة مصر عن صلاح الدين، حتّى إنّ الأسعد «1» بن ممّاتى له فيه كتاب لطيف سماه: «الفاشوش فى أحكام قراقوش» . وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنّها موضوعة؛ فإنّ صلاح الدين كان يعتمد فى أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوّضها إليه. وكانت وفاته فى مستهلّ رجب» .
وفيها توفّى محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علىّ بن محمود بن هبة الله أبو عبد الله الإمام العلّامة عماد الدّين الأصبهانىّ المنشئ المعروف بالعماد الكاتب، وبآبن أخى العزيز. ولد بأصبهان سنة تسع عشرة وخمسمائة وبها نشأ.
وقدم بغداد مع أبيه وبها تفقّه، واشتغل بالأدب وبرع فى الإنشاء، وخدم الوزير يحيى [بن محمد «2» ] بن هبيرة، وكان أحد كتّابه. ثم قدم دمشق أيّام نور الدين الشهيد واتّصل به وخدمه. وكان فاضلا حافظا لدواوين العرب، وله عدّة مصنّفات، منها:
«خريدة القصر فى شعراء «3» العصر» وغير ذلك وكان القاضى الفاضل يقول: العماد الكاتب. كالزناد الوقّاد (يعنى أنّ النّار فى باطنه كامنة، وظاهره فيه فترة) . وكانت وفاة العماد بدمشق فى يوم الاثنين غرّة شهر رمضان. ودفن عند مقابر الصوفية(6/178)
عند المنيبع «1» . وقيل إنّ العماد اجتمع بالقاضى الفاضل يوما فى موكب السلطان فسارا جميعا، وقد انتشر الغبار لكثرة الفرسان ما سدّ الفضاء فتعجّبا من ذلك، فأنشد العماد فى الحال:
أمّا الغبار فإنّه ... ممّا أثارته السّنابك
والجوّ منه مظلم ... لكن أنار به السّنابك
يا دهر لى عبد الرح ... يم فلست أخشى مسّ نابك
ومن شعره:
دار غير اللّبيب إن كنت ذا لبّ ... ولا طفه حين يأتى بحذق
فأخو السّكر لا يخاطبه الصّا ... حى إلى أن يفيق إلّا برفق
وفيها توفّى محمد «2» بن المبارك بن محمد الطّهير أبو غالب المصرىّ، كان فاضلا أديبا. ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة؛ ومن شعره- رحمه الله تعالى- قوله:
تقنّع بالقليل وعش عزيزا ... خفيف الظّهر من كلف وإثم
وإلّا هىّ نفسك للبلايا ... وهمّ وارد فى إثر همّ
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى القاضى أبو المكارم أحمد بن محمد بن محمد التّميمىّ «3» الأصبهانىّ المعروف بابن اللّبان العدل فى ذى الحجّة.(6/179)
ومفيد بغداد تميم بن أحمد البندنيجىّ «1» فى جمادى الآخرة، أدرك ابن الزّاغونىّ «2» . والإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن الجوزىّ، وقد ناهز التسعين. وأبو محمد عبد المنعم ابن محمد المالكىّ فقيه الأندلس. والأمير بهاء الدين قراقوش الأسدىّ الخادم الأبيض. ومحمد بن أبى زيد الكرّانىّ «3» الخبّاز بأصبهان فى شوّال، وقد كمّل المائة.
والعماد الكاتب العلّامة محمد بن محمد بن حامد الأصبهانىّ فى [شهر] رمضان، وله سبع وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 598]
السنة الثانية من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
فيها برز العادل المذكور من ديار مصر طالبا حلب، وكان الملك الأفضل بحمص عند شيركوه، فجاء إلى العادل فأكرمه العادل وعوّضه عن ميّافارقين سميساط «4» وسروج «5» ، ثم سار العادل ونزل على حماة، وصالحه الملك الظاهر صاحب حلب، وعاد الملك العادل إلى حمص.(6/180)
وفيها توفّى عبد الملك بن زيد بن يس التّغلبىّ الدّولعىّ خطيب دمشق؛ والدّولعيّة: قرية من قرى الموصل. قدم دمشق واستوطنها وصار خطيبها، ودرّس بالزاوية «1» الغربيّة من جامع دمشق؛ وكان منزّها حسن الأثر حميد الطريقة.
مات فى شهر ربيع الأوّل.
وفيها توفّى هبة الله بن الحسن بن المظفّر الهمذانىّ، محدّث ابن محدّث ابن محدّث. كانت وفاته بباب المراتب «2» ببغداد فى المحرّم. قال أبو المظفّر أنشدنا لغيره:
إذا الفتى ذمّ عيشا فى شبيبته ... فما يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوّضت عن كلّ بمشبهه ... فما وجدت لأيّام الصّبا عوضا
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك المعزّ إسماعيل ابن سيف الإسلام [طغتكين «3» ] صاحب اليمن. وأبو طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعىّ.
والمحدّث حمّاد بن هبة الله الحرّانىّ التاجر فى ذى الحجّة. وعبد الله [بن أحمد «4» ] بن أبى المجد الحربىّ الإسكاف فى المحرّم بالموصل. وزين القضاة أبو بكر عبد الرحمن بن سلطان ابن يحيى القرشىّ الزّكوىّ «5» فى ذى الحجّة، سمع من جدّه. وأبو الحسن عبد الرحيم ابن أبى القاسم [عبد الرحمن «6» ] الشّعرى، أخو زينب «7» فى المحرّم. وخطيب دمشق الضّياء عبد الملك بن زيد بن يس الدّولعىّ فى شهر ربيع الأول، وله إحدى وتسعون سنة. وقاضى القضاة محيى الدين أبو المعالى محمد ابن القاضى الزّكى علىّ بن محمد القرشىّ «8» ،(6/181)
وله ثمان وأربعون سنة، توفّى فى شعبان. وأبو القاسم «1» هبة الله بن علىّ بن مسعود الأنصارىّ البوصيرىّ فى صفر، وله اثنتان وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 599]
السنة الثالثة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
فيها فى ليلة السبت سلخ المحرّم ماجت النجوم فى السماء شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا؛ ولم ير هذا إلّا عند مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ وفى سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكانت هذه السنة أعظم.
وفيها توفّى إبراهيم بن أحمد «2» بن محمد أبو إسحاق الموفّق الفقيه بن الصّقال الحنبلى.
ولد سنة خمس وعشرين وخمسمائة. وتفقّه على أبى يعلى «3» الفرّاء، وسمع الحديث الكثير، وكان شيخا ظريفا صالحا زاهدا. مات فى ذى الحجّة، ودفن بباب حرب ببغداد.
وفيها توفّيت زمرّد خاتون امّ الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ ببغداد. كانت صالحة كثيرة البرّ والصدقات، وحجّت مرّة فأنفقت ثلثمائة ألف دينار، وكان معها نحو ألفى جمل، وتصدّقت على أهل الحرمين، وأصلحت البرك والمصانع؛ وعمرّت التّربة عند قبر معروف الكرخىّ والمدرسة إلى جانبها. وماتت فى جمادى الأولى.(6/182)
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن إسماعيل أبو الحسن [العبدىّ «1» ] من عبد القيس، كان فاضلا بارعا فى الأذب وغيره، وله شعر جيّد؛ من ذلك قوله- رحمه الله تعالى-:
لا تسلك الطّرق إذا أخطرت ... لو أنها تفضى إلى المملكه
قد أنزل الله تعالى ولا ... تلقوا بأيديكم إلى التّهلكه
وفيها توفّى القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم أبو الفضائل ضياء الدين الشّهرزورىّ، وهو ابن أخى القاضى كمال الدين [محمد «2» ] الشّهرزورىّ. كان فقيها فاضلا جوادا كريما أديبا شاعرا. ومن شعره أوّل قصيدة:
فى كلّ يوم ترى للبين آثار ... وماله فى التئام الشّمل آثار
يسطو علينا بتفريق فواعجبا ... هل كان للبين فيما بيننا ثار
وفيها توفّى «3» يحيى بن طاهر بن محمد أبو زكرياء الواعظ، ويعرف بابن النجار البغدادىّ. كان فاضلا فصيحا. وكان ينشد فى مجلسه- رحمه الله تعالى-
عاشر من الناس من تبقى مودّته ... فأكثر الناس جمع غير مؤتلف
منهم صديق بلا قاف ومعرفة ... بغير فاء وإخوان بلا ألف
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم عبد الرحمن ابن مكّىّ بن حمزة بن «4» موقا الأنصارىّ الإسكندرانىّ التاجر فى شهر ربيع الآخر، وله أربع وتسعون سنة. وزين الدين أبو الحسن علىّ بن إبراهيم بن نجا «5» الدمشقىّ(6/183)
الحنبلىّ الواعظ بمصر فى رمضان، وله إحدى وتسعون سنة. وأبو الحسن علىّ بن حمزة بن علىّ بن طلحة البغدادىّ الكاتب بمصر فى شعبان. وسلطان غزنة غياث «1» الدين.
وقاضى القضاة ضياء الدين القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشّهرزورى [أبو الفضائل «2» ] الشافعىّ، وله خمس وستون سنة، ولى القضاء بدمشق بعد عمّه «3» ، ثم استعفى لأمر ما، ثمّ بعد مدّة ولى قضاء العراق، ثم استعفى وخاف [العواقب «4» ] ثمّ سكن حماة؛ وولى قضاءها؛ وبها مات فى رجب. والزاهد أبو عبد الله محمد بن أحمد القرشىّ الهاشمىّ الأندلسىّ ببيت المقدس. والشهاب أبو الفضل محمد بن يوسف الغزنوىّ الحنفىّ المقرئ بمصر. وأبو طاهر المبارك بن المبارك [بن هبة الله «5» ] ابن المعطوش فى جمادى الأولى عن اثنتين وتسعين سنة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وست وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 600]
السنة الرابعة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستمائة.
فيها وصل إلى بغداد أبو الفتح «6» بن أبى نصر الغزنوىّ رسولا من صاحب غزنة وجلس بباب بدر «7» ، وقال: هنيئا لكم يأهل بغداد، أنتم تحظون بأمير المؤمنين، ونحن محرومون! وأنشد- رحمه الله-:(6/184)
ألا قل لسكّان وادى العقيق ... هنيئا لكم [فى «1» ] الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش وأنتم ورود
وفيها توفّى الحافظ عبد الغنىّ بن عبد الواحد [بن «2» علىّ] بن سرور أبو محمد المقدسىّ. ولد بجمّاعيل، وهى قرية من أعمال نابلس فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وكان أكبر من الشيخ موفّق «3» الدين بأربعة أشهر [وهما «4» ابنا خالة] وكان إماما حافظا متقنا مصنّفا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حفّاظهم، ووقع له محن ذكرها صاحب مرآة الزمان، ونجّاه الله منها. ومات فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل، ودفن بالقرافة «5» عند الشيخ أبى عمرو بن مرزوق، وكان إماما عابدا زاهدا ورعا.
قال تاج الدين الكندىّ: هو أعلم من الدّارقطنىّ «6» والحافظ أبى «7» موسى.
قال أبو المظفّر: وفى هذه السنة سافرت من بغداد إلى الشام، وهى أوّل رحلتى، فاجتزت بدقوقا «8» وجلست بها (يعنى للموعظة) ثم قدمت إربل واجتمعت بمحيى الدين الساعاتىّ «9» ، وأنشدنى مقطعات لغيره. منها- رحمه الله-:(6/185)
رحمت أسود هذا الخال حين بدا ... فى جمرة الخدّ مرميّا بأبصار
كأنّه بعض عبّاد المجوس وقد ... ألقى بمهجته فى لجّة النار
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى منتخب «1» الدين أبو الفتح «2» أسعد بن أبى الفضائل محمود بن خلف العجلىّ الأصبهانىّ شيخ الشافعيّة ببلده فى صفر، وله خمس وثمانون سنة. وأبو سعد عبد الله بن عمر بن أحمد النيسابورىّ الصفّار فى رمضان، وله اثنتان وتسعون سنة. والحافظ تقىّ الدين عبد الغنى بن عبد الواحد بن علىّ الجمّاعيلىّ المقدسىّ فى شهر ربيع الأوّل، وله تسع وخمسون سنة. وفاطمة بنت سعد الخير الأنصاريّة فى شهر ربيع الأوّل، ولها ثمان وسبعون سنة. وبهاء الدين أبو محمد القاسم ابن الحافظ علىّ بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر فى صفر، وله ثلاث وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 601]
السنة الخامسة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وستمائة.
فيها جاءت الفرنج حماة بغتة وأخذوا النساء الغسّالات من باب البلد على العاصى «3» ، وخرج إليهم الملك المنصور «4» بن تقىّ الدين وقاتلهم وثبت وأبلى بلاء حسناء(6/186)
وكسر الفرنج عسكره، فوقف على الساقة «1» ، ولولا وقوفه ما أبقوا من المسلمين أحدا.
وفيها حجّ بالناس من العراق وجه السبع، ومن الشام صارم الدين برغش العادلى وزين الدين قراجا صاحب صرخد.
وفيها توفّى عبد المنعم بن علىّ [بن نصر «2» ] بن الصّيقلىّ أبو محمد نجم الدين الحرّانىّ، قدم بغداد وتفقّه بها؛ وسمع الحديث؛ ثم عاد إلى حرّان ووعظ بها وحصل له القبول التام، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها. قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: سمعته ينشد:
وأشتاقكم يا أهل ودّى وبيننا ... كما زعم «3» البين المشتّ فراسخ
فأمّا الكرى عن ناظرى فمشرّد ... وأما هواكم فى فؤادى فراسخ
وفيها توفّى محمد بن سعد «4» الله بن نصر أبو نصر بن الدّجاجىّ الواعظ الحنبلىّ.
ولد سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ومات فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بباب حرب.
ومن شعره- رحمه الله-:
نفس الفتى إن أصلحت أحوالها ... كان إلى نيل المنى «5» أحوى لها
وإن تراها سدّدت أقوالها ... كان على حمل العلا أقوى لها(6/187)
وفيها توفّى ملك خلاط سيف الدين بكتمر «1» . كان من أحسن الشباب؛ ولم يبلغ عشرين سنة من العمر، قتله الهزار «2» دينارى؛ قيل: إنّه غرّقه فى بحر خلاط، وقتل الهزار دينارى بعده بمدّة يسيرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أحمد بن سليمان «3» الحربىّ الملقب بالسّكّر. وأبو الفضل «4» محمد بن الحسين «5» بن الخصيب «6» بدمشق.
ويوسف بن المبارك بن كامل الخفّاف. وعبد الله بن عبد الرحمن بن أيّوب الحربى البقلىّ. وشميم الحلّىّ أبو الحسن علىّ بن الحسن بن عنتر «7» الأديب. ومحمد بن أحمد بن حامد أبو عبد الله الأرتاحىّ «8» الحنبلىّ بمصر، وله بضع وتسعون سنة.(6/188)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 602]
السنة السادسة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنه اثنتين وستمائة.
فيها توجّه ناصر «1» الدين صاحب ماردين إلى خلاط بمكاتبة أهلها وملكها «2» ، فجاء الملك الأشرف موسى شاه أرمن ابن الملك العادل هذا فنزل على دنيسر، وأقطع بلاد ماردين؛ فلمّا بلغ ذلك ناصر الدين عاد إلى ماردين بعد أن غرم مائة ألف دينار، ولم تسلّم له خلاط.
وفيها أغار [ابن «3» ] لاون على حلب وأخذ الجشار «4» من نواحى حارم، فبعث إليه الملك الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- وهو يوم ذاك صاحب حلب- فارس الدين ميمونا القصرىّ، وأيبك فطيس، والأمير حسام الدين [بن أمير تركمان «5» ] فتقاتلا قتالا شديدا، وكان ميمون تقدّم ولولا هما لأخذ ميمون؛ فلمّا بلغ ذلك الملك الظاهر خرج من حلب ونزل مرج «6» دابق، ثمّ جاء إلى حارم،(6/189)
فهرب ابن لاون إلى بلاده. وكان ابن لاون قد بنى قلعة فوق دربساك، فأخذها الظاهر وأخربها، ثم عاد الملك الظاهر إلى حلب.
وفيها حجّ بالناس من العراق وجه السّبع، ومن الشام الشّجاع علىّ بن السّلّار.
وفيها توفّى الأمير طاشتكين بن عبد الله المقتفوىّ «1» مجير الدين أمير الحاجّ، حجّ بالناس ستّا وعشرين حجّة، وكان يسير فى طريق الحجّ مثل الملوك. شكاه ابن يونس [الوزير «2» ] إلى الخليفة أنّه يكاتب السلطان صلاح الدين صاحب مصر [وزوّر «3» عليه كتابة] ، فحبسه الخليفة مدّة، ثم تبيّن له أنّه برىء، فأطلقه وأعطاه خوزستان «4» ؛ ثم أعاده إلى إمرة الحاجّ؛ وكانت الحلّة «5» إقطاعه. وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام يمضى عليه الأسبوع ولا يتكلّم. استغاث إليه رجل يوما فلم يكلّمه، فقال الرجل: الله كلّم موسى، فقال: وأنت موسى! [فقال «6» الرجل: وأنت الله! فقضى حاجته. وكان حليما، التقاه رجل فآستغاث إليه من نوّابه فلم يجبه] فقال الرجل: أنت حمار؟ فقال طاشتكين: لا. وفى قلّة كلامه يقول ابن التّعاويذىّ «7» الشاعر المشهور:
وأمير على البلاد مولّى ... لا يجيب الشاكى بغير السكوت
كلّما زاد رفعة حطّنا اللّ ... هـ بتغفيله إلى البهموت
وفيها توفّى مسعود بن سعد الدين صاحب صفد. وأخوه «8» بدر الدين ممدود شحنة دمشق، وهما ابنا الحاجب مبارك بن عبد الله، وأمّهما أمّ فرخشاه(6/190)
ابن «1» شاهنشاه بن أيّوب [ففرخشاه «2» أخوهما لأمّهما] ، وأختهما لأمّهما أيضا الستّ عذراء صاحبة المدرسة العذراويّة المجاورة لقلعة دمشق. وكانا أميرين كبيرين (أعنى ممدودا ومسعودا) صاحبى الترجمة، ولهما مواقف مع السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وتقدّمت وفاة ممدود على أخيه مسعود، فإنّه مات بدمشق فى يوم الأحد خامس شهر رمضان من هذه السنة. وتوفّى مسعود هذا بصفد فى يوم الاثنين خامس شوّال- رحمهما الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى سلطان غزنة شهاب الدين [أبو المظفر «3» محمد بن سام] الغورى قتلته الباطنيّة. وأبو علىّ ضياء الدين ابن أبى القاسم [أحمد «4» بن الحسن أبى علىّ] بن الخريف. والمفتى أبو المفاخر خلف بن أحمد الأصبهانىّ الفرّاء، وله أربع وثمانون سنة. وأبو يعلى حمزة بن علىّ [بن «5» حمزة بن فارس] بن القبّيطىّ، قرأ القرآن على سبط الخيّاط وجماعة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 603]
السنة السابعة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وستمائة.
فيها فارق وجه السّبع الحاجّ، وقصد الشام مغضبا، وكان فى الحجّ جماعة من الأعيان، فبكوا وسألوه العود معهم على العادة، فقال: مولاى أمير المؤمنين محسن(6/191)
إلىّ، وما أشكو إلّا من الوزير ابن مهدى «1» ، وما عن التوجّه بدّ؛ ففارقهم وسار إلى الشام، فتلقّاه الملك العادل صاحب الترجمة وأولاده، وأحسن العادل إليه وأكرم نزله، وحزن الخليفة على فراقه.
وفيها ولّى الخليفة عماد الدين أبا القاسم عبد الله بن الدّامغانىّ الحنفىّ قاضى قضاة بغداد.
وفيها قبض الخليفة على عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلىّ، واستأصله حتّى احتاج إلى الطلب من الناس.
وفيها نزلت الفرنج على حمص، وكان الملك الظاهر غازى صاحب حلب قد بعث المبارز يوسف بن خطلخ الحلبىّ إليها نجدة لأسد الدين صاحبها، وحصل القتال بينهم وبين الفرنج وأسر الصّمصام بن العلائىّ، وخادم صاحب حمص.
ورجع الفرنج إلى بلادهم.
وفيها توفّى عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ المعروف بالكيلانى- رضى الله عنه- وكان عبد الرزاق هذا زاهدا ورعا عابدا مقتنعا من الدنيا باليسير صالحا ثقة، لم يدخل فى الدنيا كما دخل فيها غيره من إخوته. وكان مولده سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ومات فى شوّال ببغداد ودفن بباب حرب.
وفيها توفّى أبو القاسم [أحمد «2» ] ابن المقرئ صاحب ديوان الخليفة ببغداد، كان شابا حسنا يعاشر ابن الأمير أصبه، وكان ابن أصبه شابّا جميلا، جلسا يوما فداعب ابن المقرئ ابن أصبه فرماه بسكّين صغيرة، فوقعت فى فؤاده فقتلته، فسلّم الخليفة ابن المقرئ إلى أولاد أصبه، فلمّا خرجوا به ليقتلوه أنشد.(6/192)
قدمت على الإله بغير زاد ... من الأعمال بالقلب السليم
وسوء الظن أن تعتدّ زادا ... إذا كان القدوم على كريم
فقتلوه- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصّيدلانىّ، وله أربع وتسعون سنة. وأبو عبد الله محمد بن معمّر [بن عبد الواحد «1» بن رجاء] بن الفاخر القرشىّ. وأبو بكر عبد الرزّاق بن عبد القادر ابن أبى صالح الجيلىّ الحافظ فى شوّال، وله خمس وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة، الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 604]
السنة الثامنة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وستمائة.
فيها ملك الأوحد ابن الملك العادل صاحب الترجمة خلاط بمكاتبة أهلها بعد قتل ابن بكتمر «2» والهزار دينارى المقدّم ذكرهما؛ وكانت بنت بكتمر مع صاحب «3» أرزن «4» الروم،- فقالت بعد قتل أخيها-: لا أرضى حتّى تقتل قاتل أخى، وهو الهزار(6/193)
دينارى وتأخذ بثأره؛ فسار صاحب أرزن إلى خلاط، وخرج الهزار دينارى للقائه، فضربه صاحب أرزن فأبان رأسه، وعاد إلى أرزن الروم. وبقيت خلاط بغير ملك، وكان الأوحد بن العادل صاحب ميّافارقين، فكاتبوه أهل خلاط فجاء إليهم واستولى عليها.
وفيها حجّ بالناس من العراق ياقوت «1» .
وفيها توفّى محمود «2» بن هبة الله بن أبى القاسم الحلبىّ أبو الثناء البزّاز. كان فاضلا قرأ القرآن، وسمع الحديث على إسماعيل بن موهوب بن الجواليقىّ، وحكى عنه قال:
كنت فى حلقة والدى بجامع القصر، فوقف عليه شابّ وقال: ما معنى قول القائل:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصلينى به النارا
فالشمس بالقوس أضحت «3» وهى نازلة ... إن لم يزرنى وبالجوزاء إن زارا
فقال له والدى: يا بنىّ، هذا شىء يتعلّق بعلم النجوم لا بعلم الأدب. ثم قام والدى وآلى على نفسه ألّا يعود إلى مكانه حتّى ينظر فى علم النجوم، ويعرف مسير الشمس والقمر، فنظر فيه وعلمه. ومعنى الشعر: أنّ الشمس إذا نزلت القوس يكون الليل فى غاية الطول، وإذا كانت فى الجوزاء كان فى غاية القصر.
قلت: ومحصول البيتين: أنّه إذا لم يزره محبوبه كان الليل عليه أطول الليالى، وإذا زاره كان عليه أقصر الليالى، فقصد القوس للطّول، والجوزاء للقصر.
وهذا يشبه قول القائل، وقد تقدّم ذلك فى غير هذا المحلّ من هذا الكتاب،:(6/194)
ليلى «1» وليلى نفى نومى اختلافهما ... بالطّول والطّول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطّول ليلى كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا
ومثل هذا قول شرف الدين أحمد بن نصر بن كامل- وقيل هما لغيره-:
عهدى بهم ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر
فاليوم ليلى مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحى غير منتظر
ويعجبنى قول من قال- وهو قريب من هذا المعنى إن لم يكن هو بعينه-:
هجم السّهاد على عيونى فى الدّجى ... سرق الرقاد ودمع عينى سافح
وغدا يسامح للدجى فى بيعه ... واللّصّ كيف يبيع فهو الرابح
وقد استوعبنا هذا النوع (أعنى ما قيل فى طول الليل وقصره فى كتابنا المسمّى:
ب «حلية الصفات فى الأسماء والصناعات» ) فلينظر هناك فى حرف الطاء المهملة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة أبو «2» علىّ الرّصافىّ المكبّر [بجامع المهدى «3» ] الدلّال فى المحرّم.
وعبد المجيب بن عبد الله بن زهير الحربىّ بحماة. وأبو الفضل عبد الواحد ابن عبد السلام بن سلطان المقرئ. وستّ الكتبة نعمة بنت علىّ بن يحيى [بن «4» محمد] ابن الطراح بدمشق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.(6/195)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 605]
السنة التاسعة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وستمائة.
فيها زلزلت نيسابور زلزلة عظيمة دامت عشرة أيام، فمات تحت الردم خلق كثير.
وفيها اتّفق الفرنج من طرابلس وحصن «1» الأكراد على الإغارة على أعمال حمص، فتوجّهوا إليها وحاصروها، فعجز صاحب حمص أسد الدين شيركوه عنهم، ونجده ابن عمّه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، فعاد الفرنج إلى طرابلس. وبلغ السلطان الملك العادل صاحب الترجمة، فخرج إليهم من مصر بالجيوش وقصد عكّا، فصالحه صاحبها، فسار حتّى نزل على بحيرة قدس «2» ، وأغار على بلاد طرابلس وأخذ من أعمالها حصنا صغيرا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال وفيها توفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس بمصر عن تسع وثمانين سنة.
والقاضى أبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار بواسط فى شعبان، وله ثمان وثمانون سنة. وأبو الجود غياث بن فارس اللّخمىّ مقرئ ديار مصر. وأبو بكر محمد بن المبارك [بن «3» محمد بن أحمد بن الحسين] بن مشّق محدّث بغداد، وله اثنتان وسبعون سنة.
والحسين بن أبى نصر [بن «4» الحسين بن هبة الله بن أبى حنيفة] بن القارص «5» الحريمىّ(6/196)
الضرير آخر من روى شيئا عن المسند، توفّى فى شعبان. وخطيب القدس علىّ بن محمد بن علىّ بن جميل المعافرى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 606]
السنة العاشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وستمائة.
فيها توفّى الحسن بن أحمد [بن «1» محمد] بن جكينا من أهل الحرم الطاهرىّ، كان فاضلا رئيسا شاعرا. ومن شعره:
قد بان لى عذر الكرام وصدّهم ... عن أكثر الشعراء ليس بعار
لم يسأموا بذل النوال وإنّما ... جمد النّدى لبرودة الأشعار
وفيها توفّى محمد بن عمر بن الحسين العلّامة أبو المعالى «2» فخر الدين الرازىّ المتكلّم صاحب التصانيف فى علم الكلام والمنطق والتفسير. كان إماما بارعا فى فنون من العلوم، صنّف «التفسير «3» » و «المحصّل «4» » و «الأربعين «5» » و «نهاية «6» العقول» وغير ذلك. قال صاحب المرآة: «واختصّ بكتب ابن سينا فى المنطق وشرحها، وكان(6/197)
يعظ وينال من الكرّاميّة «1» وينالون منه، ويكفّرهم ويكفّرونه، وقيل: إنّهم دسّوا عليه من سقاه السم فمات ففرحوا بموته؛ وكانوا يرمونه بالكبائر، وكانت وفاته فى ذى الحجّة. ثم ذكر عنه صاحب المرآة أشياء، الأليق الإضراب عنها والسّكات عن ذكرها.
وفيها توفّى المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم أبو السعادات مجد الدين ابن الأثير الموصلىّ الجزرىّ الكاتب، ولد سنة أربعين «2» وخمسمائة بجزيرة ابن عمر، ثم انتقل إلى الموصل وكتب لأمرائها، وكانوا يحترمونه، وكان عندهم بمنزلة الوزير الناصح إلّا أنّه كان منقطعا إلى العلم قليل الملازمة لهم. صنّف الكتب الحسان، منها: «جامع الأصول فى أحاديث الرسول» ، جمع فيه «3» بين الصّحاح الستة. وكتاب «النهاية فى غريب الحديث» فى خمسة مجلدات. وكتاب «الإنصاف فى الجمع بين الكشف «4» والكشّاف» فى تفسير القرآن، أخذه من تفسير الثّعلبىّ «5» والزمخشرىّ «6» ، وله كتاب «المصطفى والمختار فى الأدعية والأذكار» وله كتاب لطيف فى صناعة الكتابة، وكتاب «البديع فى شرح الفصول فى النحو لابن الدّهان «7» » وله «ديوان رسائل» ، وكتاب «الشافى فى شرح مسند الإمام الشافعىّ» - رضى الله عنه-. ومن شعره(6/198)
- رحمه الله- ما أنشده لصاحب الموصل، وقد زلّت به بغلته وألقته إلى الأرض:
إن زلّت البغلة من تحته ... فإنّ فى زلّتها عذرا
حمّلها من علمه شاهقا ... أو من ندى راحته بحرا
وكانت وفاته بالموصل فى يوم الخميس سلخ ذى الحجّة، ودفن برباطه بدرب درّاج «1» ، وهو أخو أبى الحسن «2» علىّ بن الجزرىّ الكاتب.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى وجيه الدين أسعد بن المنجّا التّنوخىّ فى المحرّم، وله سبع وثمانون سنة. وأبو مسلم المؤيّد [هشام «3» ] بن عبد الرحيم [بن «4» أحمد بن محمد] بن الإخوة العدل بأصبهان فى جمادى الآخرة. وأبو عبد الله محمود بن أحمد المضرىّ «5» الأصبهانىّ إمام جامع أصبهان عن تسع وثمانين سنة. وأبو القاسم إدريس بن محمد العطّار بأصبهان، وله نحو مائة سنة.
وفخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازىّ المصنّف ابن خطيب الرىّ يوم عيد الفطر، وله اثنتان وستون سنة. ومجد الدين يحيى بن الربيع الواسطىّ مدرس النظاميّة عن ثمان وسبعين «6» سنة. ومجد الدين أبو السعادات المبارك بن الأثير الجزرىّ الكاتب صاحب «جامع الأصول» و «النهاية» فى سلخ العام، وله ثلاث(6/199)
وستون سنة. وأمّ هانىء عفيفة بنت أحمد الفارفانيّة «1» مسندة أصبهان، ولها ستّ وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 607]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وستمائة.
فيها حجّ بالناس من الشام سيف الدّين [علىّ «2» ] بن علم الدين سليمان بن جندر.
وفيها توفّى أرسلان [شاه «3» ] بن عزّ الدين مسعود الأمير نور الدين الأتابك صاحب الموصل، كان متكبّرا جبّارا بخيلا فاتكا سفّا كاللدماء، حبس أخاه علاء «4» الدين سنين حتّى مات فى حبسه، وولّى الموصل لرجل ظالم يقال له السراج فأهلك الحرث والنّسل، وكانت وفاة أرسلان هذا فى صفر. وخلّف ولدين: القاهر «5» مسعودا وزنكى «6» ، وأوصى إلى بدر الدين لؤلؤ «7» أن يكون مسعود السلطان ويكون زنكى فى شهرزور «8» .(6/200)
وفيها توفّى عبد الوهّاب بن علىّ الشيخ أبو محمد «1» الصّوفىّ ضياء الدين المعروف بابن سكينة سبط شيخ الشيوخ إسماعيل بن أحمد النّيسابورىّ. وكان فاضلا محدّثا عابدا زاهدا، وكان ينشد لمحمد الفارقىّ «2» - رحمه الله-:
تحمّل أخاك على خلقه ... فما فى استقامته مطمع
وأنّى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وفيها توفّى عمر بن محمد بن معمّر بن أحمد بن يحيى بن حسّان المسند الكبير رحلة الآفاق أبو حفص بن أبى بكر البغدادىّ الدّارقزّىّ «3» المؤدّب المعروف بآبن طبرزذ، والطّبرزذ: هو السّكر. ولد فى ذى الحجّة سنة ست عشرة وخمسمائة، وسمع الكثير بإفادة أخيه المحدّث أبى البقاء محمد ثم بنفسه، وحصّل الأصول وحفظها إلى وقت الحاجة إليه، فلمّا كبرت سنّه حدّث بالكثير، وصار رحلة الزمان إلى أن مات فى تاسع شهر رجب ببغداد؛ ودفن بباب حرب.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام الإمام القدوة الزاهد أبو عمر المقدسىّ الجمّاعيلىّ. قال ابن أخته الحافظ ضياء الدين: مولده فى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بجمّاعيل، وسمع الكثير بدمشق من والده وخلق كثير سواه، وروى عنه أخوه الشيخ الموفّق «4» وولداه شرف الدين عبد الله وشمس الدين عبد الرحمن وجماعة كثيرة، وكان إماما عالما زاهدا ورعا متقنا متعبّدا: قال أبو المظفّر: وكان معتدل القامة حسن الوجه، عليه أنوار العبادة لا يزال مبتسما،(6/201)
نحيل الجسم من كثرة الصيام والقيام. ثم قال- بعد كلام طويل وبعد أن أورد أشعارا كثيرة- وأنشدنى لغيره:
لى حيلة فيمن ينمّ ... وليس فى الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله
وفيها توفّى الوجيه بن النّورىّ المصرىّ الفقيه المقرئ الحنفىّ إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع دمشق، كان صالحا ديّنا فقيرا قارئا للقرآن بالسبع. قال أبو المظفّر وأنشد لغيره:
ومن عادة السادات أن يتفقّدوا ... أصاغرهم والمكرمات مصايد
سليمان ذو ملك تفقد هدهدا ... وإنّ أقلّ الطائرات الهداهد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو محمد جعفر بن محمد [بن «1» أبى محمد] بن آموسان «2» الأصبهانىّ بعد حجّه بالمدينة فى المحرّم، وله خمس وسبعون سنة. وأبو محمد «3» عبد الوهّاب ابن الأمين علىّ بن سكينة الصوفىّ مسند العراق وشيخها، وله ثمان وثمانون سنة. مات فى شهر ربيع الآخر. والشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الزاهد شيخ المقادسة فى شهر ربيع الآخر، وله تسع وسبعون سنة. وعائشة بنت معمّر بن الفاخر عن بضع وثمانين سنة. وأبو الفرج محمد بن هبة الله بن كامل الوكيل ببغداد عن خمس وثمانين سنة. وأبو حفص عمر ابن محمد بن معمّر بن طبرزذ عن إحدى وتسعين سنة، كلاهما فى رجب.
وأبو المجد زاهر «4» بن أحمد بن أبى غانم الثّقفىّ الأصبهانىّ وقد قارب التسعين(6/202)
فى ذى القعدة. وأسعد بن سعيد [بن محمود «1» بن محمد بن أحمد بن جعفر] بن روح التاجر بأصبهان فى ذى الحجّة، وله تسعون سنة، وختم به حديث الطّبرانىّ فى الدنيا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يوجد له قاع فى هذه السنة.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا «2» وأربع أصابع، بعد ما توقّف عن الزيادة أيّاما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 608]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وستمائة.
فيها قدم بغداد رسول جلال الدين حسن صاحب ألموت «3» ، يخبر الخليفة بأنّهم تبرّءوا من الباطنيّة، وبنوا الجوامع والمساجد، وأقيمت الجمعة والجماعات عندهم، وصلّوا التراويح فى شهر رمضان؛ فسرّ الخليفة والناس بذلك. وقدمت الخاتون أمّ جلال الدين حاجّة، واحتفل «4» بها الخليفة، وجهّز لها ما يليق بها.
وفيها بعث الخليفة الناصر لدين الله خاتمه للأمير وجه السّبع بالشام، وقد تقدّم ذكره فيما مضى، فتوجّه وجه السبع إلى الخليفة ومعه رسول الملك العادل صاحب الترجمة، فأكرم الخليفة وجه السبع، وأعطاه الكوفة إقطاعا.
وفيها توفّى عبد الواحد بن عبد الوهّاب بن علىّ بن سكينة ويلقّب بالمعين.
ولد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وسافر إلى الشام فى أيام الأفضل، وبسط(6/203)
لسانه فى الدولة، ثم عاد إلى بغداد بأمان من الخليفة؛ وولى مشيخة الشيوخ.
ومات غريقا فى البحر، وكان سمع جدّه لأمّه شيخ الشيوخ عبد الرحيم «1» وغيره.
وأنشد لجدّه المذكور قوله فى الخضاب:
ولم أخضب مشيبى وهو زين ... لإيثارى جهالات الشبّاب
ولكن كى يرانى من أعادى ... فأرهبه بوثبات التّصابى
وفيها توفّى مظفر «2» الماسكى البغدادىّ، كان ظريفا أديبا، وكان يقول من الشعر «كان وكان «3» » وغيره. ومن شعره فى «كان وكان» قوله:
ذى زوجها ما شطها وكل من جا حفّها ... قصده يرى النقش عنده فى كفّها ألوان
إن شندرت فلوجهه تصيب قبل كفوفها ... ما صحّ ذاك النشادر إلّا من الدّخان
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى «4» محمد ابن صالح آخر من حدّث عن الميورقىّ. ويحيى بن البنّاء، وله تسعون سنة.
وأبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن [محمد «5» ] الفراوىّ العدل بنيسابور، وله ستّ وثمانون سنة فى شعبان. والقاضى أبو القاسم هبة الله بن جعفر بن سناء الملك بمصر. وأبو عبد الله محمد بن أيّوب بن محمد بن [وهب بن محمد «6» بن وهب] بن نوح(6/204)
الغافقىّ «1» ببلنسية، وله ثمان وسبعون سنة. والخضر بن كامل [بن سالم «2» ] بن سبيع الدلّال بدمشق. وأبو العبّاس أحمد بن الحسن بن أبى البقاء العاقولىّ»
فى ذى الحجّة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 609]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر.
وهى سنة تسع وستمائة.
فيها اجتمع الملك العادل المذكور وأولاده: الكامل والفائز والمعظّم على دمياط لقتال الفرنج، وكان الأمير أسامة بالقاهرة، فاتّهم بمكاتبة الملك الظاهر غازى صاحب حلب، ووجدوا كتبا إليه وأجوبة؛ فخرج أسامة المذكور من القاهرة كأنّه يتصيّد وساق إلى الشام فى مماليكه يطلب قلعة كوكب وعجلون. وكان ذلك فى يوم الاثنين سلخ جمادى الآخرة. فأرسل والى بلبيس الحمام إلى دمياط بالخبر؛ فقال العادل: من ساق خلفه فله أمواله وقلاعه؛ فقال ولده الملك المعظم عيسى: أنا، وركب من دمياط يوم الثلاثاء غرّة رجب. قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ:
«وكنت معه، فقال لى: أنا أريد أن أسوق فآبق أنت مع قماشى ودفع لى بغلة، وساق ومعه نفر يسير وعلى يده حصان، فكان صباح يوم الجمعة بغزّة، [ساق «4» مسيرة ثمانية أيام فى ثلاثة أيّام] فسبق أسامة. [وأمّا أسامة «5» ] فتقطّع عنه مماليكه وبقى(6/205)
وحده؛ وكان به مرض النّقرس (يعنى بأسامة) ، فجاء إلى بلد الدّاروم «1» ؛ وكان المعظّم أمسك عليه من البحر إلى الزّرقاء «2» ، فرآه بعض الصيّادين فى برّية الدّاروم فعرفه، فقال له: انزل، فقال: هذه ألف دينار وأوصلنى إلى الشام، فأخذها الصيّاد وجاء إلى رفاقه [فعرفوه «3» أيضا] ، فأخذوه على طريق الخليل «4» ليحملوه إلى عجلون، فدخلوا به إلى القدس فى يوم الأحد فى سادس رجب بعد وصول المعظّم بثلاثة أيام، فتسلّمه المعظّم وأنزله بصهيون، وبعث إليه بثياب وطعام ولا طفه [وراسله «5» ] وقال له:
أنت شيخ كبير وبك نقرس وما تصلح لك قلعة، سلّم إلىّ كوكب وعجلون، وأنا أحلف لك على مالك وجميع أسبابك، وتعيش بيننا مثل الوالد. فامتنع وشتم المعظّم، فبعث به المعظّم إلى الكرك فاعتقله بها، واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره [وخيله «6» ] ، فكان قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار.
وفيها حجّ بالناس من العراق حسام الدين بن أبى «7» فراس نيابة عن محمد بن ياقوت، وكان معه مال وخلع لقتادة «8» صاحب مكّة. وحجّ بالناس من الشام شجاع الدين بن «9» محارب، من على أيلة «10» .(6/206)
وفيها توفّى الملك الأوحد نجم الدين أيّوب ابن السلطان الملك العادل أبى بكر صاحب الترجمة. كان صاحب خلاط وغيرها فى أيام أبيه الملك العادل، وقد تقدّم ذكر أخذه خلاط وغيرها؛ وكان قد ابتلى بأمراض مزمنة، وكان يتمنّى الموت وكان قد استزار أخاه الملك الأشرف موسى من حرّان، فأقام عنده أياما، واشتدّ مرضه فطلب الأشرف الرجوع إلى حرّان لئلا يتخيّل منه الأوحد، فقال له الأوحد: يا أخى، لم تلحّ فى الرّواح! والله إنّى ميّت وأنت تأخذ البلاد من بعدى، فكان كذلك. وملك الأشرف بعد موته خلاط وأحبّه أهلها. كلّ ذلك فى حياة أبيهما الملك العادل هذا. فكانت مدّة تملّك الأوحد خلاط أقلّ من خمس سنين، ووجد عليه الملك العادل كثيرا.
وفيها توفّى محمود بنعثمان بن مكارم أبو الثناء الحنبلىّ، كان شيخا زاهدا عابدا صاحب رياضات ومجاهدات يصوم الدهر، وانتفع بصحبته خلق كثير، وكان من الأبدال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر أحمد ابن علىّ الأنصارىّ الدّانىّ «1» الحصّار المقرئ ببلنسية، استشهد فى وقعة «2» العقاب هو وخلق من المسلمين. وأبو الفرج محمد بن علىّ بن حمزة بن القبّيطىّ، وله نيّف وثمانون سنة. والحافظ أبو نزار ربيعة بن الحسن الحضرمىّ اليمنىّ بمصر عن اثنتين «3» وثمانين سنة. وأبو [شجاع «4» ] زاهر بن رستم المقرئ بمكّة.(6/207)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 610]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة عشر وستمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس نيابة عن ابن ياقوت. وحجّ بالناس من الشام الغرز «1» صديق بن تمرداش التّركمانىّ من على عقبة أيلة «2» بحجّاح الكرك والقدس.
وحجّ فى هذه السنة الملك الظافر «3» خضر ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب من على تيماء «4» ، ومعه حجّ الشام بأذن عمّه السلطان الملك العادل- فيما قيل-، فلمّا بلغ الملك الكامل محمّد بن العادل أنّه توجّه إلى الحجاز خاف على بلاد اليمن منه، فوجّه إليه عسكرا من مصر فلحقوه، وقالوا له: ارجع؛ فقال: قد بقى بينى وبين مكّة مسافة يسيرة، والله ما قصدى اليمن، وإنّما قصدى الحجّ، فقيّدونى واحتاطوا بى حتّى أقضى المناسك وأعود إلى الشام؛ فلم يلتفتوا لكلامه؛ فأراد أن يقاتلهم فلم يكن له بهم طاقة، فرجع إلى الشام ولم يحجّ.
وفيها توفّى الأمير أيدغمش صاحب همذان، أرسله الخليفة إلى همذان فسار وانتظر العسكر وطال عليه الأمر فرحل عن همذان. فالتقاه عسكر منكلى بغا ملك(6/208)
التتار، وقاتلوه «1» فقتلوه، وحملوا رأسه إلى منكلى بغا المذكور. وكان أميرا صالحا كثير الصدقات ديّنا صائما عادلا كثير المحاسن- رحمه الله-.
وفيها توفّى الوزير الرئيس سعيد بن علىّ بن أحمد أبو المعالى بن حديدة من ولد قطبة «2» بن عامر بن حديدة الأنصارىّ الصحابىّ. وكان مولده بكرخ سامرّا سنة ست وثلاثين وخمسمائة؛ وكان له مال كثير، واستوزره الخليفة الناصر لدين الله، ووقع له بعد ذلك محن، فهرت واختفى إلى أن توفّى.
وفيها توفّى الأمير سنجر [بن عبد «3» الله] الناصرىّ صهر طاشتكين، وكان ذليلا بخيلا ساقط النفس مع كثرة المال. وتولّى مرّة إمرة الحاجّ [سنة «4» تسع وثمانين وخمسمائة] فاعترض الحاجّ رجل «5» بدوىّ فى نفر يسير جدّا، وكان مع سنجر هذا خمسمائة نفس، فذلّ وجبن عن ملاقاتة، وجبى له مالا من الحجّ؛ فلمّا دخل بغداد رسم عليه الخليفة حتّى أخذ منه المال وردّه إلى أصحابه، ثمّ عزله وأخذ إقطاعه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن مهذّب الدين علىّ بن أحمد بن علىّ [المعروف «6» بابن هبل] البغدادىّ الطبيب بالموصل.
وأبو عبد الله الحسين «7» بن سعيد بن الحسين بن شنيف الدّارقزّىّ الأمين ببغداد، كلاهما فى المحرّم. وأمّ النور عين الشمس بنت أحمد بن أبى الفرج الثّقفيّة، ولها ستّ وثمانون سنة. وأبو مسعود عبد الجليل بن أبى غالب [بن «8» أبى المعالى بن محمد بن الحسين](6/209)
ابن مندويه الصوفىّ بدمشق عن ثمان وثمانين سنة، وإنّما سمع فى كبره. وتاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقىّ. والفخر إسماعيل بن علىّ الحنبلىّ المتكلّم غلام بن المنّى «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 611]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى عشرة وستمائة.
قلت: وفى مدّة هذه السنين كلّها [كان «2» ] صاحب مصر ولده الكامل محمد بن العادل، والملك العادل يتنقّل فى البلاد، غير أنّه هو الأصل فى السلطنة وعليه المعوّل؛ ولا تحسب سلطنة الكامل على مصر إلّا بعد موت أبيه العادل هذا.
كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
فيها ملك اليمن أضيس «3» بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر صاحب الترجمة. ولقب أضيس المذكور بالملك المسعود، والعامّة يسمّونه «أقسيس» وغلب عليه مقالة العامّة، والصواب ما قلناه لأنّ والده الملك الكامل ما كان يعيش له ولد، فلمّا ولد له هذا أضسيس قال له بعض الأتراك: فى بلادنا إذا كان «4» الإنسان(6/210)
لا يعيش له ولد يسمّونه أضسيس. ومعناه باللغة التركية: ماله اسم؛ فسمّاه والده الملك الكامل بذلك؛ فلمّا كبر ثقل على العامّة لفظ أضسيس؛ فسمّوه «أقسيس» .
انتهى.
وكان أقسيس المذكور شابّا جبّارا فاتكا قتل باليمن نحو ثمانمائة شريف.
ودخل إلى مكّة إلى حاشية الطواف راكبا. وقيل إنه: كان يسكر وينام بدار على المسعى، فتخرج أعوانه تمنع الناس من الصّياح والضّجيج فى المسعى، ويقولون:
الأمير سكران نائم! لا ترفعوا أصواتكم بالذكر والتّلبية! وقتل أقسيس هذا خلقا كثيرا من الأكابر والعظماء. ولو لم يحجّ عمّه الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق ما قدر أقتسيس هذا على أخذ اليمن. كلّ ذلك فى حياة جدّه الملك العادل صاحب الترجمة.
وفيها أخذ الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل هذا قلعة صرخد من الأمير [ابن «1» ] قراجا، وعوّضه مالا وإقطاعا.
وفيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس بن ورّام نائبا عن محمد بن ياقوت.
وفيها حجّ الملك المعظّم عيسى المقدّم ذكره من دمشق، وحجّ معه عدّة أمراء من أعيان دمشق، وحجّ على مذهب أبى حنيفة واستمرّ على المذهب، وكلّمه والده الملك العادل صاحب الترجمة فى العود إلى مذهب الشافعىّ فلم يقبل، وجاو به بكلام السّكات عنه أليق.
وفيها توفّى عبد العزيز بن محمود بن المبارك [بن «2» محمود بن الأخضر] الشيخ أبو محمد البزاز، سمع الحديث وأكثر وصنّف وكتب، وكان فاضلا ديّنا صالحا.
مات فى شوّال.(6/211)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ شرف الدين أبو الحسن علىّ بن المفضّل بن [علىّ «1» ] المقدسىّ الإسكندرانىّ المالكىّ، وله سبع وستون سنة. وفقيه بغداد أبو بكر محمد بن معالى بن غنيمة بن الحلاوى الحنبلىّ، وكان من أبناء السبعين «2» . والحافظ عبد العزيز بن محمود [بن المبارك «3» بن محمود] بن الأخضر، وله سبع وثمانون سنة فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 612]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتى عشرة وستمائة.
فيها خرج وجه السّبع من بغداد بالعساكر إلى همذان للقاء منكلى مملوك السلطان أزبك «4» خان، وكان قد عصى على مولاه وعلى الخليفة وقطع الطريق، فكتب الخليفة إلى ابن زين الدين «5» ، وإلى الملك الظاهر غازى صاحب حلب، وإلى الملك العادل هذا يطلب العساكر، فجاءته العساكر من كلّ مكان؛ وتوجّه ابن زين الدين مقدّم العساكر، وجاء أزبك وجلال الدين مقدّم الإسماعيليّة. وجمع أيضا منكلى جموعا كثيرة والتقوا قريبا من همذان، واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة على منكلى، وقتل من أصحابه ستة آلاف، ونهبوا أثقاله، فحال بينهم اللّيل فصعد(6/212)
منكلى على جبل، وابن زين الدين والعساكر أسفل، وأوقد منكلى نارا عظيمة وهرب فى اللّيل، فأصبح الناس وليس لمنكلى أثر؛ ثم قتل منكلى بعد ذلك. وأزبك خان هذا هو غير أزبك خان النّترىّ المتأخّر.
وفيها أخذ خوارزم شاه محمد [بن تكش «1» ] مدينة غزنة من يلدز تاج الدين مملوك شهاب الدين [أحمد «2» ] الغورىّ بغير قتال.
وفيها أخذ ابن لاون الإفرنجىّ أنطاكية فى يوم الأحد رابع عشرين شوّال.
وفيها حجّ بالناس ابن أبى فراس من العراق نيابة عن محمد بن ياقوت.
وفيها توفّى علىّ ابن الخليفة الناصر لدين الله العباسىّ وكنيته أبو الحسن. وكان لقّبه أبوه الخليفة بالملك المعظّم، وكان جليلا نبيلا. مات فى ذى القعدة وأخرج تابوته وبين يديه أرباب الدولة. ومن الاتّفاق الغريب أنّه يوم الجمعة دخل بغداد رأس منكلى على رمح، وزيّنت بغداد وأظهر الخليفة السرور والفرح، ووافق تلك الساعة وفاة ابن الخليفة علىّ هذا، ووقع صراخ عظيم فى دار الخلافة، فانقلب ذلك الفرح بحزن. وخرجت المخدّرات من خدورهنّ ونشرن شعورهنّ.
قال أبو المظفّر: «ولطمن وقام النوائح فى كلّ ناحية، وعظم حزن الخليفة بحيث إنه امتنع من الطعام والشراب، وغلّقت الأسواق، وعطّلت الحمّامات، وبطل البيع والشّراء، وجرى ما لم يجر قبله. وكان الخليفة قد رشّحه للخلافة، ففعل الله فى ملكه ما أراد. وخلّف ولدين: أبا عبد الله الحسين ولقّبه جدّه «المؤيد» ويحيى ولقّبه ب «الموفّق» .(6/213)
وفيها توفّى المبارك بن المبارك أبو بكر الواسطىّ النحوىّ. ولد سنة أربع «1» وثلاثين وخمسمائة، وكان حنبليّا، ثم صار حنفيّا، ثم صار شافعيّا لأسباب وقعت له، وكان قرأ الأدب على ابن الخشّاب «2» وغيره، وكان أديبا فاضلا شاعرا.
ومن شعره- رحمه الله- قوله:
لا خير فى الخمر فمن شأنها ... إفقادها العقل وجلب الجنون
أو أن ترى الأقبح مستحسنا ... وتظهر السرّ الخفىّ المصون
قلت: ويعجبنى قول القائل، وهو قريب ممّا نحن فيه:
على قدر عقل المرء فى حال صحوه ... تؤثّر فيه الخمر فى حال سكره
فتأخذ من عقل كبير أقلّه ... وتأتى على العقل اليسير بأسره
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الفقيه سليمان بن محمد بن علىّ الموصلىّ فى صفر، وله أربع وثمانون سنة. وأبو العبّاس أحمد بن يحيى ابن بركة الدّبيقىّ «3» البزّاز فى شهر ربيع الأول، وله أربع وثمانون سنة أيضا.
والحافظ عبد القادر [بن «4» عبد الله أبو محمد] الرّهاوى «5» بحرّان، وله ست وسبعون سنة فى جمادى الأولى. وأبو الفرج [يحيى «6» ] بن ياقوت الفرّاش «7» فى جمادى الاخرة. والقدوة(6/214)
الزاهد أبو الحسن «1» علىّ بن الصّبّاغ بن حميد الصّعيدىّ ببلدة قنا «2» . وأبو الفتوح «3» محمد بن علىّ الجلاجلىّ التاجر بالقدس عن إحدى وسبعين سنة. ومحمد «4» بن أبى المعالى [عبد الله «5» ] بن موهوب الصوفىّ ابن البنّاء فى ذى القعدة. وأبو محمد عبد العزيز بن معالى [بن غنيمة «6» بن الحسن المعروف ب] ابن منينا الاشنانىّ، وله سبع وثمانون سنة.
مات فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 613]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث عشرة وستمائة.
فيها جهّز الخليفة الناصر لدين الله ولدى ولده المقدّم ذكرهما إلى تستر، وضمّهما إلى بدر الدين محمد سبط «7» العقاب، وخرج أرباب الدولة بين يديهما، وضرب لهما خيمة الأطلس بأطناب خضر إبريسم، وعلى رءوسهما الشمسيّة والبنود والأعلام،(6/215)
وخلفهما الكوسات، وسار معهما نجاح «1» الشرّابىّ والمكين «2» القمّىّ بالعساكر فى سابع المحرّم، فأقاما بتستر شهرين فلم تطب لهما، فعادا إلى بغداد عند جدّهما الخليفة فى شهر ربيع الآخر.
وفيها توفّى الملك الظاهر غازى- على ما يأتى ذكره- فى هذه السنة. وتوجّه الشيخ أبو العبّاس عبد السلام بن [أبى «3» ] عصرون رسولا من الملك العزيز محمد بن الظاهر غازى المذكور إلى الخليفة الناصر لدين الله يطلب تقريره بسلطنة حلب على ما كان أبوه عليها.
وفيها قصد الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق الاجتماع بأخيه الملك الأشرف موسى، فاجتمعا بنواحى الرّقة، وفاوض المعظّم الأشرف فى أمر حلب.
وفيها حجّ بالناس من العراق ابن أبى فراس، ومن الشام الشيخ علم الدين الجعبرىّ.
وفيها توفّى زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن [بن زيد «4» بن الحسن] بن سعيد بن عصمة بن حمير «5» العلامة تاج الدين أبو اليمن الكندى البغدادىّ المقرئ النحوىّ اللغوىّ. مولده فى شعبان سنة عشرين وخمسمائة، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكمّل القراءات العشر وله عشر سنين.(6/216)
قال الذهبىّ: «وكان أعلى أهل الأرض إسنادا فى القراءات، فإنّى لا أعلم أحدا من الأئمة عاش بعد ما قرأ القراءات [ثلاثا «1» و] ثمانين سنة غيره. هذا مع أنّه قرأ على أسنّ شيوخ العصر بالعراق، ولم يبق أحد ممّن قرأ عليه مثل بقائه ولا قريبا منه، بل آخر من قرأ عليه الكمال [بن «2» ] فارس، وعاش بعده نيّفا وستين سنة. ثم إنّه سمع الحديث على الكبار، وبقى مسند الزمان فى القراءات والحديث» . انتهى كلام الذهبىّ باختصار. وكان فاضلا أديبا ومات فى شوّال. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
دع المنجّم يكبو فى ضلالته ... إن ادّعى علم ما يجرى به الفلك
تفرّد الله بالعلم القديم فلا ال ... إنسان يشركه فيه ولا الملك
وفيها توفّى سعيد بن حمزة بن أحمد أبو الغنائم بن شاروخ «3» الكاتب العراقىّ.
كان فاضلا بارعا فى الأدب، وله رسائل ومكاتبات وشعر. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
يا شائم البرق من نجدىّ «4» كاظمة ... يبدو مرارا وتخفيه الدياجير
وفيها توفّى السلطان الملك الظاهر أبو منصور غازى صاحب حلب ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب. ولد بالقاهرة فى سنة ثمان وستين وخمسمائة فى سلطنة والده. ونشأ تحت كنف والده، وولّاه أبوه سلطنة حلب فى حياته. وكان ملكا مهيبا وله سياسة وفطنة، ودولة معمورة بالعلماء والأمراء والفضلاء. وكان محسنا للرعيّة والوافدين عليه. وحضر معظم غزوات والده(6/217)
السلطان صلاح الدين، وكان فى دولة الظاهر هذا من الأمراء: ميمون القصرىّ، والمبارز «1» ابن يوسف بن خطلخ، وسنقر الحلبىّ، وسرا سنقر، وأيبك فطيس وغيرهم من الصلاحيّة. ومن أرباب العمائم القاضى بهاء الدين بن شدّاد، والشريف الافتخارىّ الهاشمىّ، والشريف النّسّابة، وبنو العجمىّ والقيسرانىّ، وبنو الخشّاب [وغيرهم «2»
] .
وكان ملجأ للغرباء وكهفا للفقراء، يزور الصالحين ويتفقّدهم، ودام على ذلك إلى أن توفّى ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة بعلّة الذّرب. ودفن بقلعة حلب، ثم نقل بعد ذلك إلى مدرسته التى أنشأها. وقام بعده ولده الملك العزيز محمد بوصيّته، وولّاه الخليفة حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ عزّ الدين محمد بن الحافظ عبد الغنى المقدسىّ، ولد سنة ستّ وستين وخمسمائة، وسمع الحديث ورحل البلاد، وكان حافظا ديّنا ورعا زاهدا.
ودفن بقاسيون «3» .
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن محمد بن محمد [بن محمد «4» ] أبو جعفر الشريف الحسينىّ.
ولى نقابة الطالبيّين بالبصرة بعد أبيه؛ وقرأ الأدب، وسمع الحديث، ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
هذا العقيق وهذا الجزع والبان ... فاحبس فلى فيه أوطار وأوطان
آليت والحرّ لا يلوى أليّته ... ألّا تلذّ بطيب النوم أجفان
حتّى تعود ليالينا التى سلفت ... بالأجرعين وجيرانى كما كانوا(6/218)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندىّ فى شوّال، وله ثلاث وتسعون سنة وشهران.
والملك الظاهر أبو منصور غازى ابن السلطان صلاح الدين بحلب فى جمادى الآخرة.
والمحدّث عزّ الدين محمد ابن الحافظ عبد الغنى المقدسىّ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 614]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع عشرة وستمائة.
فيها قدم الملك خوارزم شاه واسمه محمد [بن تكش «1» ] إلى همذان بقصد «2» بغداد فى أربعمائة ألف مقاتل، وقيل فى ستمائة ألف، فأستعدّ له الخليفة الناصر لدين الله، وفرّق المال والسلاح، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدّين السّهروردىّ «3» فى رسالة فأهانه واستدعاه وأوقفه إلى جانب تخته، ولم يأذن له بالقعود.
قال أبو المظفّر:- «حكى الشهاب قال- استدعانى فأتيت إلى خيمة عظيمة لها دهليز لم أر فى الدنيا مثله، والدّهليز والشقة أطلس والأطناب حرير، وفى الدّهليز ملوك العجم على اختلاف طبقاتهم: صاحب همذان وأصبهان والرّى وغيرهم، فدخلنا إلى خيمة أخرى إبريسم؛ وفى دهليزها ملوك خراسان: مرو ونيسابور وبلخ وغيرهم؛ ثم دخلنا خيمة أخرى، وملوك ما وراء النهر فى دهليزها، كذلك ثلاث خيام.(6/219)
ثم دخلنا عليه وهو فى خركاة عظيمة من ذهب؛ وعليها سجاف مرصّع بالجواهر.
وهو صبىّ له شعرات قاعد على تخت ساذج وعليه قباء بخارىّ يساوى خمسة دراهم، وعلى رأسه قطعة من جلد تساوى درهما، فسلّمت عليه فلم يردّ، ولا أمرنى بالجلوس؛ فشرعت فخطبت خطبة بليغة، ذكرت فيها فضل بنى العبّاس ووصفت الخليفة بالزّهد والورع والتّقى والدين؛ والتّرجمان يعيد عليه قولى. [فلمّا فرغت «1» ] قال للترجمان: قل له هذا الذي وصفته ما هو فى بغداد؟.: قلت: نعم. قال [أنا «2» ] أجىء وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف. ثم ردّنا بغير جواب. فنزل الثّلج عليهم فهلكت دوابّهم وركب خوارزم شاه يوما فعثر به فرسه فتطيّر، ووقع الفساد فى عسكره وقلّت الميرة. وكان معه سبعون ألفا من الخطا فردّه الله ونكب تلك النكبة العظيمة» . وسنذكرها- إن شاء الله تعالى- فى محلّها.
وفيها توفّى إبراهيم [بن «3» عبد الواحد] بن علىّ بن سرور الشيخ العماد المقدسىّ الزاهد القدوة الحنبلىّ أخو الحافظ عبد الغنى، ولد بجمّاعيل فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، فهو أصغر من الحافظ عبد الغنى «4» بسنتين وسمع الكثير، وكان إماما حافظا عالما محدّثا زاهدا عابدا فقيها. مات فجأة فى ليلة الأربعاء سادس عشر ذى القعدة.
وفيها توفّى عبد الصمد بن محمد بن أبى الفضل بن علىّ بن عبد الواحد أبو القاسم القاضى جمال الدين الحرستانىّ «5» الأنصارىّ شيخ القضاة. ولد بدمشق فى سنة عشرين وخمسمائة، ورحل وسمع الحديث وتفقّه، وكان إماما عفيفا خطيبا ديّنا صالحا. له حكايات مع الملك المعظّم عيسى فى أحكامه- رحمه الله تعالى-.(6/220)
وفيها توفّى محمد بن أبى القاسم بن محمد أبو عبد الله الهكّارىّ الأمير بدر الدين، استشهد على الطور «1» ، وأبلى بلاء حسنا ذلك اليوم وكان من المجاهدين، له المواقف المشهودة فى قتال الفرنج، وكان من أكابر أمراء الملك المعظّم، كان يستشيره ويصدر عن رأيه ويثق به لصلاحه ودينه وكان سمحا جوادا.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو الخطّاب أحمد بن محمد البلنسىّ بمرّاكش. وأبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الموصلىّ أخو سليمان «2» . وأبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكنانىّ البلنسىّ الأديب الإسكندرانىّ بها، وله أربع وسبعون سنة. وقاضى القضاة أبو القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستانىّ فى ذى الحجّة، وله أربع وتسعون سنة وأشهر. والإمام عماد الدين إبراهيم ابن عبد الواحد المقدسىّ فجأة فى ذى القعدة، وله سبعون سنة. والمحدّث أبو محمد عبد الله «3» بن عبد الجبّار العثمانىّ الإسكندرانىّ الكارمىّ بمكّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 615]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى التى مات فيها العادل فى جمادى الآخرة حسب ما تقدّم ذكره، وهى سنة خمس عشرة وستمائة.(6/221)
وفيها نزلت الفرنح على دمياط فى شهر ربيع الأوّل، وكان العادل بمرج الصّفّر، فبعث بالعساكر التى كانت معه إلى مصر إلى ولده الكامل، وأقام المعظّم بالساحل بعسكر الشام فى مقابلة الفرنج ليشغلهم عن دمياط.
وفيها استدعى الملك العادل صاحب الترجمة ابنه الملك المعظّم المقدّم ذكره وقال له: قد بنيت هذا الطّور «1» ، وهو يكون سببا لخراب الشام، وقد سلّم الله من كان فيه من أبطال المسلمين، وسلاح الدنيا والذخائر؛ وأرى من المصلحة خرابه ليتوفّر من فيه من المسلمين والعدد على حفظ دمياط، وأنا أعوّضك عنه؛ فتوقّف المعظّم وبقى أيّاما لا يدخل إلى أبيه العادل، فبعث إليه العادل ثانيا وأرضاه بالمال، ووعده فى مصر ببلاد، فأجاب المعظّم وبعث ونقل ما كان فيه.
وفيها فى يوم الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر كسر الملك الأشرف موسى صاحب خلاط وديار بكر وحلب ابن الملك العادل هذا ملك الروم كيكاوس.
وفيها أيضا بعث الأشرف المذكور بالأمير سيف الدين بن كهدان والمبارز ابن خطلخ بجماعة من العساكر نجدة إلى أخيه الملك الكامل بدمياط، كلّ ذلك والقتال عمّال بين الملك الكامل والفرنج على ثغر دمياط.
وفيها فى آخر جمادى الأولى أخذ الفرنج برج السّلسلة «2» من الكامل، فأرسل الكامل شيخ الشيوخ صدر الدين إلى أبيه العادل وأخبره، فدقّ العادل بيده على صدره، ومرض من قهره مرض الموت.(6/222)
وفيها فى جمادى الآخرة التقى الملك المعظّم الفرنج بساحل الشام وقاتلهم فنصره الله عليهم، وقتل منهم مقتلة، وأسر من الدّاويّة «1» مائة فارس، وأدخلهم القدس منكّسى الأعلام.
وفيها وصل رسول خوارزم شاه إلى الملك العادل هذا وهو بمرج الصّفّر، فبعث بالجواب الخطيب «2» الدّولعىّ ونجم الدين خليل [بن «3» علىّ الحنفى] قاضى العسكر، فوصلا همذان فوجدا الخوارزمىّ قد اندفع بين يدى الخطا [والتتار «4» ] ، وقد خامر عليه عسكره، فسارا إلى حدّ بخارى؛ فاجتمعا بولده الملك جلال الدين فأخبرهما بوفاة العادل صاحب الترجمة مرسلهما، فرجعا إلى دمشق.
وفيها حجّ بالناس من بغداد أقباش «5» الناصرى.
وفيها توفّى عبد الله بن الحسين أبو القاسم عماد الدين الدّامغانىّ الحنفىّ قاضى القضاة ببغداد؛ ومولده فى شهر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة. وكان له صمت ووقار ودين وعصمة وعفّة وسيرة حسنة مع العلم والفضل، وكانت وفاته فى ذى القعدة ودفن بالشّونيزيّة.
وفيها توفّى كيكاوس «6» الأمير عزّ الدين صاحب الروم، كان جبّارا ظالما سفّاكا للدماء، ولمّا عاد إلى بلده من كسرة الأشرف موسى اتّهم أقواما من أمراء دولته(6/223)
أنهم قصّروا فى قتال الحلبيّين، وسلق منهم جماعة فى القدور، وجعل آخرين فى بيت وأحرقه؛ فأخذه الله بغتة. ومات سكران فجأة؛ وقيل: بل ابتلى فى بدنه، وتقطّعت أوصاله. وكان أخوه علاء الدين كيقباد محبوسا فى قلعة، وقد أمر كيكاوس بقتله، فبادروا وأخرجوه، وأقاموه فى الملك. وكانت وفاة كيكاوس فى شوّال، وهو الذي أطمع الفرنج فى دمياط.
وفيها توفّى خوارزم شاه واسمه محمد بن تكش بن إيل أرسلان بن أتسر ابن محمد بن أنوشتكين السلطان علاء الدين المعروف بخوارزم شاه.
قال ابن واصل «1» : نسبه ينتهى إلى إيلتكين أحد مماليك السلطان ألب أرسلان ابن طغرلبك السّلجوقىّ، وكانت سلطنة خوارزم شاه المذكور فى سنة ست وتسعين وخمسمائة عند موت والده السلطان علاء الدين تكش.
وقال عز الدين بن الأثير: كان صبورا على التعب وإدمان السّير غير متنعّم ولا مقبل على اللّذات، إنّما همّته فى الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعيّته، وكان فاضلا عالما بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرما للعلماء محبّا لهم محسنا إليهم يحبّ مناظرتهم بين يديه ويعظم أهل الدين ويتبرّك بهم.
- قلت: وهذا بخلاف ما ذكره أبو المظفّر ممّا حكاه عن الشيخ شهاب الدين السّهروردىّ، لمّا توجه إلى خوارزم شاه هذا رسولا من قبل الخليفة الناصر لدين الله فإنّه ذكر عنه أشياء من التكبّر والتعاظم عليه، وعدم الالتفات له، وإنّه صار لا يفهم كلام السّهروردىّ إلّا بالتّرجمان؛ ولعلّه كان فعل ذلك لإظهار العظمة، وهو نوع من تجاهل العارف- قال: وكان أعظم ملوك الدنيا واتّسعت ممالكه شرقا وغربا(6/224)
وهابته الملوك حتّى لم يبق إلّا من دخل تحت طاعته وصار من عسكره. ومحق أبوه التّتار بالسيف وملك منهم البلاد. ووقع له أمور طويلة حتّى إنّه نزل همذان، وكان فى عسكره سبعون ألفا من الخطا؛ فكاتب القمّىّ «1» عساكره ووعدهم بالبلاد، فآتّفقوا مع الخطا على قتله. وكان خاله من الخطا وحلّفوه ألّا يطلعه على ما دبّروا عليه، فجاء إليه فى الليل وكتب فى يده صورة الحال «2» ، فقام وخرج من وقته ومعه ولداه: جلال الدين وآخر؛ ولمّا خرج من الخيمة دخل الخطا والعساكر من بابها ظنّا منهم أنّه فيها، فلم يجدوه فنهبوا الخزائن، يقال: إنّه كان فى خزائنه عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل قماش أطلس، وعشرون ألف فرس وبغل، وكان له عشرة آلاف مملوك، فتمزّق الجميع وهرب ولداه إلى الهند، وهرب خوارزم شاه إلى الجزيرة، وفيها قلعة ليتحصّن بها، فمات دون طلوع القلحة المذكورة فى هذه السنة، وقيل: فى سنة سبع «3» عشرة وستمائة. والله أعلم.
وفيها توفّى الملك القاهر عزّ الدّين مسعود [بن أرسلان «4» بن مسعود بن مودود ابن زنكى أبو الفتح] صاحب الموصل، وترك ولدا صغيرا اسمه محمود، فأخرج الأمير بدر الدين لؤلؤ زنكىّ أخا «5» القاهر من الموصل واستولى عليها، ودبّر مملكة محمود المذكور.(6/225)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشهاب فتيان بن علىّ الشاغورىّ»
الأديب. وصاحب الروم السلطان عزّ الدين كيكاوس، وولى بعده علاء الدين أخوه. وصاحب الموصل عزّ الدين مسعود بن أرسلان شاه الاتابكىّ.
وصاحب مصر وغيرها السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيّوب فى جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة. وأبو الفتوح محمد بن محمد [بن «2» محمد] بن عمروك البكرىّ النّيسابورىّ الصّوفىّ فى جمادى الآخرة، وهو فى عشر المائة.
والشمس أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السلمىّ العطّار فى شعبان.
والحافظ أبو العبّاس أحمد بن أحمد بن أحمد بن كرم البندنيجىّ «3» فى رمضان عن أربع وسبعين سنة، سمع ابن الزّاغونىّ «4» . وأمّ المؤيّد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشّعريّة، ولها إحدى وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع.(6/226)
ذكر سلطنة الملك الكامل على مصر
أعنى بذلك استقلالا بعد وفاة أبيه العادل، لأنّ الكامل هذا كان متولّى سلطنة مصر فى حياة والده العادل، لمّا قسم العادل الممالك فى أولاده من سنين عديدة؛ أعطى المعظّم عيسى دمشق، وأعطى الأشرف موسى الشرق، وأعطى الملك الكامل محمدا هذا مصر، وصار هو يتنقّل فى ممالك أولاده، والعمدة فى كلّ الممالك عليه إلى أن مات الملك العادل تفرّد الملك الكامل محمد بالخطبة فى ديار مصر وأعمالها، واستقلّ بأمورها وتدبير أحوالها، وذلك من يوم وفاة والده الملك العادل المذكور، وهو من يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة.
قلت: وقد تقدّم نسب الملك الكامل هذا فى ترجمة عمه السلطان صلاح الدين، واستوعبنا ذلك من عدّة أقوال وحررناه، فلينظر هناك.
قال أبو المظفّر: «ولد الكامل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود «1» ، وكان العادل قد عهد إليه لما رأى من ثباته وعقله وسداده.
وكان شجاعا ذكيّا فطنا يحبّ العلماء والأمائل ويلقى عليهم المشكلات، ويتكلّم على صحيح مسلم بكلام مليح، ويثبت بين يدى العدوّ. وأمّا عدله فإليه المنتهى» انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: «الملك الكامل محمد السلطان ناصر الدين أبو المعالى وأبو المظفّر ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيّوب بن شادى صاحب مصر. ولد بمصر سنة ست وسبعين وخمسمائة.(6/227)
- قلت: وهذا بخلاف ما نقله أبو المظفّر فى سنة مولده، وعندى أنّ أبا المظفر أثبت لصحبته بأخيه المعظم عيسى، وكونه أيضا عصرى الملك الكامل هذا-.
والله أعلم.
قال (أعنى الذهبىّ) : وأجاز له العلّامة عبد الله «1» بن برّى، وأبو عبد الله ابن صدقه «2» الحرّانىّ، وعبد الرحمن بن الخرقىّ، قرأت بخطّ ابن مسدىّ «3» فى معجمه. كان الكامل محبّا للحديث وأهله، حريصا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف؛ خرّج له أبو القاسم «4» بن الصّفراوىّ أربعين حديثا، وسمعها جماعة.
وحكى لى عنه مكرم الكاتب أنّ أباه العادل استجاز له السّلفىّ قبل موت السّلفىّ بأيّام، قال ابن المسدىّ: ثم وقفت أنا على ذلك وأجاز لى [و] لابنى. قال الذهبىّ:
وتملّك الديار المصريّة أربعين سنة، شطرها فى أيّام والده. وقيل: بل ولد فى ذى القعدة سنة خمس وسبعين. قلت: وهذا قول ثالث فى مولده.(6/228)
وقال الحافظ عبد العظيم «1» المنذرىّ استادار الحديث بالقاهرة (يعنى بذلك المدرسة «2» الكامليّة ببين القصرين) . قال: وعمّر القبّة «3» على ضريح الشافعىّ، وأجرى الماء من بركة الحبش «4» إلى حوض السّبيل «5» والسّقاية، وهما على باب القبّة المذكورة،(6/229)
ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع من أعمال البر بمصر وغيرها. وله المواقف المشهودة فى الجهاد بدمياط المدّة الطويلة، وأنفق الأموال الكثيرة، وكافح العدوّ المخذول برّا وبحرا ليلا ونهارا. يعرف ذلك من مشاهده. ولم يزل على ذلك حتّى أعزّ الله الإسلام وأهله، وخذل الكفر وأهله. وكان معظّما للسّنّة النبويّة وأهلها، راغبا فى نشرها والتمسّك بها، مؤثّرا الاجتماع مع العلماء والكلام معهم حضرا وسفرا.
انتهى كلام المنذرى باختصار.
وقال القاضى شمس الدين ابن خلّكان فى تاريخه بعد ما ساق نسبه وذكره نحوا ممّا ذكرناه حتّى قال: «ولمّا وصل الفرنج إلى دمياط كما تقدّم ذكره، كان الملك الكامل فى مبدأ استقلاله بالسلطنة، وكان عنده جماعة كثيرة من أكابر الأمراء:
منهم: عماد الدين أحمد بن المشطوب، فاتّفقوا مع أخيه الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل، وانضموا إليه، فظهر للملك الكامل منهم أمور تدلّ على أنّهم عازمون على تفويض الملك إليه وخلع الكامل، واشتهر ذلك بين الناس؛ وكان الملك الكامل يداريهم لكونه فى قبالة العدوّ ولا يمكنه المقاهرة «1» ، وطوّل روحه معهم، ولم يزل على ذلك حتّى وصل إليه أخوه الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق يوم الخميس تاسع عشر ذى القعدة من سنة خمس عشرة وستمائة، فأطلعه الكامل فى الباطن على صورة الحال، وأنّ رأس هذه الطائفة ابن المشطوب، فجاءه يوما على غفلة فى خيمته واستدعاه فخرج إليه، فقال [له «2» ] : أريد أن أتحدّث [معك «3» ] سرّا فى خلوة، فركب فرسه (يعنى [ابن] المشطوب) . وسار معه جريدة، وقد جرّد المعظّم جماعة ممّن يعتمد عليهم ويثق إليهم، وقال لهم: اتّبعونا، ولم يزل المعظّم يشغله(6/230)
بالحديث ويخرج معه من شىء إلى شىء حتّى أبعد عن المخيّم، ثم قال له: يا عماد الدين هذه البلاد لك، [و «1» ] نشتهى أن تهبها لنا، ثم أعطاه شيئا من النفقة، وقال لأولئك المجرّدين: تسلّموه حتّى تخرجوه من الرمل، فلم يسعه إلا الامتثال لانفراده وعدم القدرة على الممانعة فى تلك الحال؛ ثم عاد المعظّم إلى أخيه الملك الكامل وعرّفه صورة ما جرى. ثم جهّز أخاه الملك الفائز المذكور إلى الموصل لإحضار النجدة منها [و «2» ] من بلاد الشرق فمات بسنجار «3» . وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد. فلمّا خرج هذان الشخصان من العسكر تحلّلت عزائم من بقى من الأمراء الموافقين لهما، ودخلوا فى طاعة الملك الكامل كرها لا طوعا. وجرى فى قصّة دمياط ما هو مشهور فلا حاجة للإطالة فى ذكره.
ولمّا ملك الفرنج دمياط وصارت فى أيديهم خرجوا منها قاصدين القاهرة ومصر [و «4» ] نزلوا فى رأس الجزيرة «5» التى دمياط فى برّها، وكان المسلمون قبالتهم فى القرية المعروفة بالمنصورة «6» ، والبحر حائل بينهم، وهو بحر «7» أشموم، ونصر الله- سبحانه وتعالى- بمنّه(6/231)
وجميل لطفه المسلمين عليهم كما هو مشهور؛ ورحل الفرنج عن منزلتهم ليلة الجمعة سابع رجب سنة ثمانى عشرة وستمائة، وتمّ الصلح بينهم وبين المسلمين فى حادى عشر الشهر المذكور، ورحل الفرنج عن البلاد فى شعبان من السنة المذكورة، وكانت مدّة إقامتهم فى بلاد الإسلام «1» ما بين الشام والديار المصريّة أربعين شهرا وأربعة عشر يوما؛ وكفى الله- تعالى- المسلمين شرّهم والحمد لله على ذلك.
- قلت ونذكر أمر دمياط من كلام أبى المظفّر فى آخر هذه الترجمة بأوسع من ذلك، لأنّه معاصر الكامل وصاحب المعظّم، فهو أجدر بهذه الواقعة-.
فلمّا استراح خاطر الملك الكامل من جهة هذا العدوّ تفرّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين «2» عليه فنفاهم عن البلاد وبدّد شملهم وشرّدهم، ودخل القاهرة وشرع فى عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها، وكان سلطانا عظيم القدر جميل الذكر محبّا للعلماء متمسّكا بالسّنة، حسن الاعتقاد معاشرا لأرباب الفضائل حازما فى أموره لا يضع الشيء إلّا فى مواضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكان يبيت عنده كلّ ليلة [جمعة «3» ] جماعة من الفضلاء يشاركهم فى مباحثهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة فى كلّ فنّ، وهو معهم كواحد منهم، وكان- رحمه الله- يعجبه هذان البيتان وينشدهما كثيرا وهما:(6/232)
ما كنت [من] قبل ملك قلبى ... تصدّ عن مدنف حزين
وإنّما قد طمعت لمّا ... حللت فى موضع حصين
قال: ولمّا مات أخوه الملك المعظّم عيسى صاحب الشام، وقام ابنه الملك الناصر صلاح الدين دواد مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصريّة قاصدا أخذ دمشق منه؛ وجاءه أخوه الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، واجتمعا على أخذ دمشق بعد فصول يطول شرحها. وملك الكامل دمشق فى أوّل شعبان سنة ست وعشرين وستمائة، وكان يوم الاثنين؛ فلمّا ملكها دفعها لأخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلاد الأشرف: حرّان والرّها وسروج والرّقّة ورأس «1» العين؛ وتوجّه إليها بنفسه فى تاسع شهر رمضان من السنة. قال ابن خلّكان: واجتزت بحرّان فى شوّال سنة ستّ وعشرين وستمائة والملك الكامل مقيم به بعساكر الديار المصريّة؛ وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك محاصر لخلاط، وكانت لأخيه الملك الأشرف. ثم رجع إلى الديار المصريّة؛ ثم تجهّز فى جيش عظيم، وقصد آمد فى سنة تسع وعشرين وستمائة فأخذها مع حصن كيفا والبلاد من الملك المسعود بن الملك الصالح أبى الفتح «2» محمود بن نور الدين محمد بن فخر الدين قرا أرسلان بن ركن الدولة داود بن قطب «3» الدين سقمان؛ ويقال سكمان بن أرتق، قال: ثمّ مات أخوه الملك الأشرف وجعل ولىّ عهد أخاه الملك الصالح إسماعيل بن العادل، فقصده الملك الكامل أيضا، وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما فى التاسع من جمادى(6/233)
الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأبقى له بعلبكّ وأعمالها، وبصرى وأرض السّواد «1» وتلك البلاد. ولمّا ملك البلاد المشرقيّة: آمد وتلك النواحى استخلف فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيّوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل سيف الدين أبا بكر بالديار المصريّة. وقد تقدّم فى ترجمة الملك العادل أنّه سيّر ولده الملك المسعود أقسيس «2» إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل. وملك الملك المسعود مكّة- حرسها الله تعالى- وبلاد الحجاز مضافة إلى اليمن، وكان رحيل الملك المسعود من الديار المصريّة متوجّها إلى اليمن فى يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة، ودخل مكّة فى ثالث ذى القعدة من السنة، وخطب له بها وحجّ؛ ودخل زبيد وملكها مستهلّ المحرّم سنة اثنتى عشرة وستمائة. ثم ملك مكّة فى شهر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، أخذها من الشريف حسن بن قتادة الحسبنىّ.
قلت: وقد ذكرنا خروج الملك المسعود إلى اليمن من وقته فى ترجمة جدّه الملك العادل. وتوفّى الملك المسعود فى حياة والده الملك الكامل بمكّة فى ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة. وكان مولده فى سنة سبع «3» وتسعين وخمسمائة وأظنّه أكبر أولاد الكامل. والله أعلم.
قال ابن خلّكان: واتّسعت المملكة للملك الكامل، ولقد حكى لى من حضر الخطبة يوم الجمعة بمكّة أنّه لمّا وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: سلطان مكّة وعبيدها، واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين وربّ العلامتين وخادم الحرمين الشريفين الملك الكامل(6/234)
أبو المعالى ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين. قال: ولقد رأيته بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد المشرق، واستنقاذه إيّاها من الأمير علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود [بن قليج أرسلان «1» ] بن سليمان [بن قتلمش «2» ] بن إسرائيل بن سلجوق بن دقماق السّلجوقىّ صاحب الروم.
وهى وقعة مشهورة يطول شرحها؛ وفى خدمته يومئذ بضعة عشر ملكا، منهم:
[أخوه «3» ] الملك الأشرف، ولم يزل فى علوّ شأنه وعظيم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذه دمشق ولم يركب، وكان ينشد فى مرضه كثيرا:
يا خليلىّ خبّرانى بصدق ... كيف طعم الكرى فإنّى نسيته
ولم يزل كذلك إلى أن توفّى يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن بالقلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثانى والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأنا بدمشق يومئذ، وحضرت الصّيحة يوم السبت فى جامع دمشق، لأنّهم أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلمّا دنت الصلاة قام «4» بعض الدّعاة [على العريش الذي] بين يدى المنبر وترحّم على الملك الكامل، ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر، وكنت حاضرا فى ذلك الوقت، فضجّ الناس ضجّة واحدة، وكانوا قد أحسّوا بذلك، لكنهم لم يتحقّقوا إلّا ذلك الوقت، وترتّب ابن أخيه الملك الجواد مظفّر الدين يونس ابن شمس الدين مودود بن الملك العادل فى نيابة السلطنة بدمشق عن الملك العادل بن الكامل صاحب مصر باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك الوقت بدمشق؛ ثم بنى له تربة مجاورة للجامع، ولها شبّاك إلى الجامع، ونقل إليها. قال: وأمّا ولده الملك العادل [فإنه «5» ] أقام فى المملكة إلى يوم الجمعة ثامن ذى الحجة من سنة سبع وثلاثين وستمائة،(6/235)
فقبض عليه أمراء دولته بظاهر بلبيس» . انتهى كلام ابن خلّكان على جليّته.
ونذكر أيضا من أحوال الكامل نبذة جيّدة من أقوال غيره من المؤرّخين. إن شاء الله تعالى.
قال بعضهم: كان الملك الكامل فاضلا عالما شهما مهيبا عاقلا محبّا للعلماء، وله شعر حسن، واشتغال فى العلم. قيل: إنّه شكا إليه ركبدار أستاذه بأنّه استخدمه ستة أشهر بلا جامكيّة، فأنزل أستاذه من فرسه وألبسه ثياب الركبدار، وألبس الركبدار ثيابه، وأمره بخدمة الركبدار وحمل مداسه ستة أشهر حتّى شفع فيه.
وكانت الطرق آمنة فى زمانه. ولمّا بعث ابنه الملك المسعود أقسيس وافتتح اليمن والحجاز ثم مات قبله كما ذكرناه ورث منه أموالا عظيمة، ففرّق غالبها فى وجوه البرّ والصدقات. وكانت راية الملك الكامل صفراء. وفيه يقول البهاء زهير:
- رحمه الله تعالى-.
بك «1» اهتزّ عطف الدّين فى حلل النّصر ... وردّت على أعقابها ملّة الكفر
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى ... لما حلمت إلّا بأعلامك الصفر
ثلاثة أعوام أقمت وأشهرا ... تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو
وليلة غزو «2» للعدوّ كأنّها ... بكثرة من أرديته ليلة النّحر
فياليلة قد شرّف الله قدرها ... فلا غرو إن سمّيتها ليلة القدر
وقال: وكان فيه جبروت مع سفك الدماء.
وذكر الشيخ شمس «3» الدين محمد بن إبراهيم الجزرىّ: أنّ عماد الدين يحيى البيضاوىّ الشريف قال: حكى لى الخادم الذي للكامل قال: طلب منّى الكامل(6/236)
طستا حتّى يتقيّأ فيه فأحضرته، وكان الملك الناصر داود على الباب، جاء ليعود عمّه الكامل؛ فقلت: داود على الباب، فقال: ينتظر موتى! فانزعج، فخرجت وقلت: ما ذاك وقتك السلطان منزعج، فنزل إلى داره؛ ودخلت إلى السلطان فوجدته قد قضى والطست بين يديه وهو مكبوب على المخدّة.
وقال ابن واصل: حكى لى طبيبه قال: أصابه لمّا دخل قلعة دمشق زكام، فدخل الحمّام وصبّ على رأسه ماء شديد الحرارة، اتّباعا لقول محمد «1» بن زكريّا الرازىّ فى كتاب سمّاه «طبّ ساعة «2» » ؛ قال فيه: من أصابه زكام يصبّ على رأسه ماء شديد الحرارة انحلّ زكامه لوقته، وهو لا ينبغى أن يعمل على إطلاقه؛ قال الطبيب: فانصبّ من «3» دماغه إلى فم معدته فتورّمت، وعرضت له حمّى شديدة، وأراد القىء فنهاه الأطبّاء، وقالوا: إن تقيّأ هلك، فخالفهم وتقيّأ فهلك لوقته.
قال ابن واصل: وحكى لى الحكم رضىّ الدين قال: عرضت له خوانيق، وتقيّأ دما كثيرا ومدّة؛ فأراد القىء أيضا فنهاه موفّق الدين إبراهيم، وأشار عليه بعض الأطباء بالقىء فتقيّأ، فانصبّت بقيّة المادة إلى قصبة الرئة وسدّتها فمات.
وقال ابن واصل: وكان ملكا جليلا حازما، سديد الآراء حسن التدبير لممالكه عفيفا حليما؛ عمّرت فى أيّامه الديار المصريّة عمارة كبيرة، وكان عنده مسائل غريبة من الفقه والنحو يوردها، فمن أجابه حظى عنده.(6/237)
ذكر أخذ دمياط
قال أبو المظفّر فى تاريخه: «فى شعبان أخذ الفرنج دمياط، وكان المعظّم قد جهّز إليها الناهض بن الجرخى «1» فى خمسمائة راجل، فهجموا على الخنادق فقتل ابن الجرخى ومن كان معه، وصفّوا رءوس القتلى على الخنادق، وكان الفرنج قد طمّوها (يعنى الخنادق) وضعف أهل دمياط وأكلوا الميتات، وعجز الملك الكامل عن نصرتهم، ووقع فيهم الوباء والفناء، فراسلوا الفرنج على أن يسلّموا إليهم البلد ويخرخوا منه بأموالهم وأهلهم، واجتمعوا؟؟؟ وحلّفوهم على ذلك، فركبوا فى المراكب وزحفوا فى البرّ والبحر، وفتح لهم أهل دمياط الأبواب، فدخلوا ورفعوا أعلامهم على السّور، وغدروا بأهل دمياط، ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا، وباتوا تلك الليلة بالجامع يفجرون بالنساء، ويفتضّون البنات، وأخذوا المنبر والمصاحف ورءوس القتلى، وبعثوا بها إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة؛ وكان أبو الحسن ابن قفل «2» بدمياط، فسألوا عنه، فقيل لهم: هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين يأوى اليه الفقراء، فما تعرّضوا له. ووقع على المسلمين «3» كآبة عظيمة. وبكى الكامل والمعظّم بكاء شديدا، ثم تأخّرت العساكر عن تلك المنزلة. ثم قال الكامل لأخيه المعظّم:
قد فات المطلوب، وجرى المقدر بما هو كائن، وما فى مقامك هاهنا فائدة؛ والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج، وتستجلب العساكر من بلاد الشرق.
قال أبو المظفّر: فكتب المعظّم إلىّ وأنا بدمشق كتابا بخطّه، يقول- فى أوّله «4» -(6/238)
قد علم الأخ العزيز بأن قد جرى على دمياط ما جرى، وأريد أن تحرّض الناس على الجهاد، ونعرّفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط من الكفرة أهل العناد.
وإنّى كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفى قرية، منها ألف وستّمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانيّة، وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر؟ وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبّوا عن أملاكهم الأصاغر «1» منهم والأكابر. ويكون لقاؤنا وهم صحبتك إلى نابلس فى وقت سمّاه. قال: فجلست بجامع دمشق وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، [وقالوا «2» : نمتثل أمره بحسب الاستطاعة] . وتجهّزوا؛ فلمّا حلّ ركابه بالساحل وقع التقاعد، وكان تقاعدهم سببا لأخذه الثمن والخمس من أموالهم «3» . وكتب إلىّ يقول: إذا لم يخرجوا فسر أنت إلينا، فخرجت إلى الساحل وهو نازل على قيسارية، فأقمنا حتّى فتحها عنوة، ثم سرنا إلى النفر «4» ففتحه وهدمه؛ وعاد إلى دمشق بعد أن أخرج «5» العساكر إلى السواحل. واستمرّ الملك الكامل على مقاتلة الفرنج إلى أن فتح الله عليه فى سنة ثمانى عشرة وستمائة، وطلب من إخوته النجدة، وتوجّه المعظّم فى أوّل السنة إلى أخيه الأشرف موسى، واجتمعا على حرّان.
وكتب صاحب ماردين إلى الأشرف يسأله أن يصعد المعظّم إليه، فسأله فسار إلى ماردين، فتلقّاه صاحب ماردين من دنيسر، وأصعده إلى القلعة وخدمه خدمة(6/239)
عظيمة، وقدّم له التّحف والجواهر «1» وتحالفا واتّفقا على ما أرادا، ثم عاد المعظّم إلى أخيه الأشرف. وجاء خبر دمياط. وكان المعظّم أحرص الناس على خلاص دمياط والغزاة، وكان مصافيا لأخيه الكامل، وكان الأشرف مقصّرا فى حقّ الكامل مباينا له فى الباطن؛ فلمّا اجتمعت العساكر على حرّان قطع بهم المعظّم الفرات، وسار الأشرف فى آثاره، ونزل المعظّم حمص والأشرف سلمية. قال: وكنت قد خرجت من دمشق إلى حمص لطلب الغزاة، فإنّهم كانوا «2» على عزم الدخول إلى طرابلس، فاجتمعت بالمعظّم فى شهر ربيع الآخر فقال لى: قد سحبت الأشرف إلى هاهنا وهو كاره، وكلّ يوم أعتبه فى تأخّره وهو يكاسر «3» وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مصر، وهو صديقك؛ وأشتهى أن تقوم تروح إليه فقد سألنى عنك [مرارا «4» ] ؛ ثم كتب إلى [أخيه «5» ] كتابا بخطّه نحو ثمانين سطرا، فأخذته ومضيت إلى سلمية؛ وبلغ الأشرف وصولى فخرج من الخيمة وتلقّانى وعاتبنى على انقطاعى، [عنه «6» ] وجرى بينى وبينه فصول؛ وقلت له: المسلمون فى ضائقة، وإذا أخذ الفرنج الديار المصريّة ملكوا إلى حضرموت، وعفّوا آثار مكّة والمدينة والشام [وأنت «7» تلعب] ، قم الساعة وارحل؛ فقال: ارموا الخيام [والدهليز «8» ] ، وسبقته إلى حمص فتلقّانى المعظّم؛ وقال: ما نمت البارحة ولا أكلت اليوم شيئا، فقلت: غدا يصبّح أخوك الأشرف حمص.
فلمّا كان من الغد أقبلت الأطلاب «9» وجاء طلب الأشرف، والله ما رأيت أجمل منه ولا أحسن رجالا ولا أكمل عدّة، وسرّ المعظّم سرورا عظيما؛ وجلسوا تلك الليلة(6/240)
يتشاورون، فاتّفقوا على الدخول فى السحر إلى طرابلس، وكانوا على حال، فأنطق الله الملك الأشرف من غير قصد وقال للمعظّم: ياخوند «1» ، عوض ما ندخل الساحل وتضعف خيلنا وعساكرنا ويضيع الزمان ما نروج إلى دمياط ونستريح؟ فقال له المعظّم- قول رماة البندق قال-: نعم، فقبّل المعظّم قدمه ونام الأشرف، فخرج المعظّم من الخيمة كالأسد الضارى يصيح: الرحيل الرحيل إلى دمياط؛ وما كان يظنّ أنّ الأشرف يسمح بذلك، وساق المعظّم إلى دمشق وتبعته العساكر، ونام الأشرف فى خيمته إلى قرب الظهر، وانتبه فدخل الحمّام فلم ير [حول «2» ] خيمته أحدا، فقال: وأين العساكر؟ فأخبروه الخبر فسكت، وساق إلى دمشق فنزل القصير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، فأقام إلى سلخه، وعرض العساكر تحت قلعة دمشق، وكان هو وأخوه المعظّم فى الطّيارة بقلعة دمشق، وساروا إلى مصر.
وأمّا الفرنج فإنّهم خرجوا بالفارس والراجل، وكان البحر زائدا جدّا، فجاءوا إلى ترعة فأرسوا عليها، وفتح المسلمون عليهم الترع من كلّ مكان، وأحدق بهم عساكر الكامل، فلم يبق [لهم «3» ] وصول إلى دمياط؛ وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم، ومنعوهم أن تصل إليهم الميرة من دمياط، وكانوا خلقا عظيما، وانقطعت أخبارهم عن دمياط، وكان فيهم مائة كند «4» وثمانمائة من الخيّالة المعروفين وملك عكّا والدوك؟ «5» واللوكان نائب البابا؛ ومن الرجّالة مالا يحصى، فلمّا عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصلح والرهائن، ويسلّمون دمياط؛ فمن حرص «6» الكامل على(6/241)
خلاص دمياط أجابهم، ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم؛ فبعث إليهم الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وابن أخيه شمس الملوك؛ وجاء ملوكهم إلى الكامل ممّن سمّينا، فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام. ووصل المعظّم والأشرف فى تلك الحال إلى المنصورة فى ثالث رجب، فجلس الكامل مجلسا عظيما فى خيمة كبيرة عالية، وقد مدّ سماطا عظيما، وأحضر ملوك الفرنج [والخيّالة «1» ] ، ووقف المعظّم والأشرف والملوك فى خدمته، وقام الحلّى «2» الشاعر- رحمه الله تعالى- فأنشد:
هنيئا فإنّ السعد راح مخلّدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ... مبينا وإنعاما وعزّا مؤبّدا
تهلّل وجه الدهر «3» بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولمّا طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدّين من سلّ سيفه ... صقيلا كما سلّ الحسام مجرّدا
فلم ينج إلّا كلّ شلو مجدّل ... ثوى منهم أو من تراه مقيّدا
ونادى لسان الكون فى الأرض رافعا ... عقيرته فى الخافقين ومنشدا
أعبّاد عيسى إنّ عيسى وحزبه ... وموسى جميعا يخدمون محمّدا
وهذا من أبيات كثيرة.
قلت: صحّ للشاعر فيما قصد من التورية فى المعظّم عيسى والأشرف موسى، لمّا وقفا فى خدمة الكامل محمد، فلله دره! لقد أجاد فيما قال.(6/242)
ووقع الصلح بين الملك الكامل وبين الفرنج فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثمانى عشرة وستمائة، وسار بعض الفرنج فى البرّ وبعضهم فى البحر إلى عكّا، وتسلّم الكامل دمياط.
قلت: ويعجبنى قول البارع كمال الدين «1» علىّ بن النّبيه فى مدح مخدومه الملك الأشرف موسى لمّا حضر مع أخيه المعظّم إلى دمياط فى هذه الكائنة قصيدته التى أوّلها:
للذّة العيش والأفراح «2» أوقات ... فانشر لواء له بالنصر عادات
إلى أن قال منها:
دمياط طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقّف كلّ ما صنعوا ... ولا تخف ما حبال القوم حيّات
وهى قصيدة طويلة مثبتة فى ديوان ابن النبيه.
قال أبو المظفّر قال فخر الدين ابن «3» شيخ الشيوخ: «4» لمّا حضر الفرنج دمياط صعد الكامل على مكان عال، وقال لى: ما ترى ما أكثر الفرنج! ما لنا بهم طاقة؛ [قال «5» ] فقلت [له «6» ] : أعوذ بالله من هذا الكلام؛ قال: ولم؟ قلت لأنّ السعد [موكّل «7» ] بالمنطق، قال: فأخذت الفرنج دمياط بعد قليل، فلمّا طال الحصار صعد يوما على مكان عال، وقال: يا فلان، ترى الفرنج ما أقلّهم! والله ما هم شىء؛(6/243)
فقلت: أخذتهم والله؛ قال: وكيف؟ قلت: قلت فى يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فأخذوا دمياط، وقد قلت اليوم: كذا، والملوك منطّقون بخير وشرّ؛ فأخذ دمياط بعد قليل» . انتهى. وقد تقدّم ذكر الكامل فى أوائل الترجمة من قول جماعة من المؤرّخين، ويأتى أيضا- من ذكره فى السنين المتعلّقة به- نبذة كبيرة. إن شاء الله تعالى. والله الموفّق لذلك بمنّه وكرمه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 616]
السنة الأولى من ولاية الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ عشرة وستّمائة، وقد تقدّم أنّ الكامل كان ولى مصر فى حياة والده العادل سنين عديدة فلا عمدة بولايته تلك الأيام، فإنّه كان كالنائب بمصر لأبيه العادل، ولا عبرة إلّا بعد استقلاله بسلطنة مصر بعد وفاة أبيه.
فيها (أعنى سنة ستّ عشرة وستمائة) أخرب الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق القدس، لأنّه كان توجّه إلى أخيه الملك الكامل صاحب الترجمة فى نوبة دمياط فى المرّة الأولى، فبلغه أنّ الفرنج على عزم أخذ القدس، فاتّفق الأمراء على خرابه؛ وقالوا: قد خلا الشام من العساكر، فلو أخذ الفرنج القدس حكموا على الشام جميعه. وكان بالقدس [أخوه] العزيز عثمان، وعزّ الدين أيبك أستادار، فكتب إليهما المعظّم بخرابه، فتوقّفا وقالا: نحن نحفظه، فكتب إليهما المعظّم ثانيا:
لو أخذوه لقتلوا كلّ من فيه وحكموا على الشام وبلاد الإسلام، فألجأت الضرورة إلى خرابه. فشرعوا فى خراب السور أوّل يوم من المحرّم، ووقع فى البلد ضجّة عظيمة. وخرج النساء المخدّرات والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة «1» والأقصى(6/244)
وقطعوا شعورهم ومزّقوا ثيابهم، وفعلوا أشياء من هذه الفعال؛ ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهاليهم، وما شكّوا أنّ الفرنج تصبّحهم، وامتلأت بهم الطّرقات؛ فتوجّه بعضهم إلى مصر، [وبعضهم «1» الى الكرك] ، وبعضهم إلى دمشق، وكانت البنات المخدّرات يمزّقن ثيابهنّ ويربطنها على أرجلهن من الحفا؛ ومات خلق كثير من الجوع والعطش، ونهبت الأموال التى كانت لهم بالقدس، وبلغ ثمن القنطار الزيت عشرة دراهم، والرّطل النّحاس نصف درهم؛ وذمّ الناس المعظّم؛ فقال بعض أهل العلم فى ذلك:
فى رجب حلّل الحميّا «2» ... وأخرب القدس فى المحرّم
وقال القاضى مجد الدين محمد بن عبد الله الحنفىّ قاضى الطّور «3» فى خراب القدس:
مررت على القدس الشريف مسلّما ... على ما تبقّى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين منّى صبابة ... على ما مضى من عصرنا «4» المتقدّم
وقد رام علج أن يعفّى رسومه ... وشمّر عن كفّى لئيم مذمّم
فقلت له شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو سائل أو مسلّم
فلو كان يفدى بالنفوس فديته ... بنفسى وهذا الظنّ فى كلّ مسلم
وفيها حجّ بالناس من العراق أقباش [بن عبد الله «5» ] الناصرىّ، ومن الشام مملوك الملك المعظّم عيسى.(6/245)
وفيها توفّيت ستّ الشام بنت الأمير نجم الدّين أيّوب أخت السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، كانت سيّدة الخواتين فى زمنها، كانت كثيرة البرّ والصدقات، كانت تعمل فى دارها الأشربة والمعاجين والعقاقير كلّ سنة بألوف دنانير وتفرّقها على الناس، وكان بابها ملجأ للقاصدين؛ وكان زوجها ابن عمّها الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه صاحب حمص، وهى أمّ حسام الدّين [محمد بن عمر «1» بن] لاچين، وصاحبة الأوقاف والأربطة بدمشق وغيرها- رحمها الله تعالى-.
وفيها توفّى محمد بن زنكى الملك المنصور صاحب سنجار، كان ملكا عادلا عاقلا جوادا، خلّف عدّة أولاد: سلطان شاه وزنكى ومظفّر الدّين، وعدّة بنات.
وكان من بيت ملك وسلطنة.
وفيها توفّى علىّ بن القاسم بن علىّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر ابن صاحب تاريخ دمشق. كان فاضلا سمع الحديث وتفقّه وسافر إلى بغداد، فلمّا عاد قطع عليه الطريق، فأصابه جراح فمات منه بعد أيّام.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العدل أبو منصور سعيد بن محمد بن سعيد الرزّاز فجأة فى المحرّم. وأبو منصور عتيق «2» بن أحمد فى صفر.
والعلّامة أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن أبى البقاء العكبرىّ الضّرير فى شهر ربيع الآخر. وقد قارب الثمانين. وأبو البركات داود بن أحمد بن محمد [بن «3» منصور ابن ثابت] بن ملاعب الأزجىّ الوكيل فى رجب، ولد فى أوّل سنة اثنتين وأربعين.
وأبو الفضل أحمد بن محمد بن سيّدهم الأنصارىّ بن الهرّاس الجابى «4» فى شعبان،(6/246)
وله أربع وثمانون سنة. وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن علىّ الأنبارىّ الكاتب سبط قاضى القضاة أبى الحسن «1» بن الدّامغانىّ، وله تسعون سنة. وأبو يعلى حمزة ابن السيّد [المعروف «2» با] بن أبى لقمة الصفّار فى شهر رمضان، وهو أصغر من أخيه «3» .
وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن مسعود [بن سعد «4» بن علىّ] بن الناقد المقرئ، ويقال: كان آخر من قرأ المصباح «5» على مؤلّفه الشّهرزورىّ «6» ، مات فى شوّال عن ستّ وثمانين سنة. والخاتون ستّ الشام أخت الملك العادل فى ذى القعدة. والعلّامة افتخار الدين أبو هاشم عبد المطّلب بن الفضل الهاشمىّ الحنفىّ بحلب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 617]
السنة الثانية من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع عشرة وستمائة.
فيها قتل صاحب سنجار أخاه، فسار الملك الأشرف موسى أخو الملك الكامل هذا إليها، فأخذها وعوّض صاحبها الرّقّة.
وفيها نزل الملك الأشرف المذكور على الموصل نجدة لبدر الدين على بن زين الدين، وعزم على قصد إربل، فبعث الخليفة من ردّه عن إربل وأصلح بينهما.(6/247)
وفيها فى شهر رجب كانت واقعة البرلّس «1» بين الكامل صاحب الترجمة وبين الفرنج، ونصر الله الكامل وقتل منهم عشرة آلاف وغنم خيولهم وسلاحهم ورجعوا إلى دمياط مهزومين.
وفيها عزل الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق [المبارز «2» ] المعتمد عن ولاية دمشق، وولّى عوضه عليها العزيز خليلا.
وفيها كان أوّل ظهور التّتار وعبورهم جيحون، وكان أوّل ظهورهم من [ما] وراء النهر سنة خمس عشرة وستمائة، وقبل عبورهم «3» جيحون قصدوا بخارى وسمرقند، وقتلوا أهلها وسبوهم، وحصروا خوارزم شاه، فآنضمّ إليهم «4» الخطا، وصاروا تبعا لهم.
وكان خوارزم شاه قد أخلى البلاد من الملوك، فلم يجدوا أحدا يردّهم، ووصلوا فى هذه السنة إلى الرّىّ وقزوين وهمذان، وقتلوا أهلها وأحرقوا مساجدها، ثم فعلوا بأذربيجان كذلك.
وفيها حجّ بالناس من العراق أقباش الناصرىّ وقتل بمكّة، ولم يحجّ أحد من العجم [بسبب «5» التّتار] ، وعاد الحجّ البغدادىّ من على الشام. وحجّ بالناس من الشام [المبارز «6»
] المعتمد.(6/248)
وفيها توفّى الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب أخو الملك الكامل صاحب الترجمة. وقد تقدّم أنّه كان يريد الوثوب على أخيه الملك الكامل، واتّفق مع ابن المشطوب حتّى أخرجهما أخوه الملك المعظّم عيسى من مصر؛ فمات الفائز بين سنجار والموصل، فحمل إلى سنجار ودفن بتربة عماد الدّين زنكى والد السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، ومات وهو فى عنفوان شبيبته.
وفيها توفّى الأمير أقباش بن عبد الله الناصرى. قال أبو المظفّر: «اشتراه الخليفة (يعنى الناصر لدين الله) وهو ابن خمس عشرة سنة بخمسة آلاف دينار، ولم يكن بالعراق أجمل صورة منه، ثم قرّبه إليه ولم يكن يفارقه؛ فلمّا ترعرع ولّاه إمرة الحاجّ والحرمين، وكان متواضعا محبوبا إلى القلوب. قتل بمكّة المشرّفة فى واقعة بين أشراف مكّة، خرج ليصلح بينهم فقتل. وكان قتله فى سادس «1» عشر ذى الحجّة.
وفيها توفّى الشيخ عبد الله «2» بن عثمان بن جعفر بن محمد اليونينىّ «3» ، أصله من قرية من قرى بعلبك يقال لها «يونين» . كان صاحب رياضات وكرامات ومجاهدات ومكاشفات، وكان من الأبدال. وكانت وفاته يوم السبت فى العشر الأوّل من ذى الحجّة- رحمه الله-.
وفيها توفّى الشريف قتادة بن إدريس أبو عزيز «4» الحسينىّ المكىّ أمير مكّة.
كان شيخا عارفا منصفا نقمة على عبيد مكّة المفسدين، وكان الحاجّ فى أيّامه فى أمان(6/249)
على أموالهم ونفوسهم، وكان يؤذّن فى الحرم ب «حىّ على خير العمل» على قاعدة الرافضة، وما كان يلتفت إلى أحد من خلق الله تعالى، ولا وطئ بساط الخليفة ولا غيره، وكان يحمل إليه من بغداد فى كلّ سنة الذهب والخلع وهو بداره فى مكّة، وهو يقول: أنا أحقّ بالخلافة [من الناصر «1» لدين الله] ، ولم يرتكب كبيرة فيما قيل.
قلت: وأىّ كبيرة أعظم من الرّفض وسبّ الصحابة! - رضى الله عنهم-.
وفيها توفّى محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب الملك المنصور صاحب حماة.
كان شجاعا محبّا للعلماء والفضلاء، مات بحماة ودفن بها. وقام بعده ولده الأكبر الملك الصالح الناصر قليج أرسلان. وجرى له مع الملك الكامل صاحب الترجمة أمور وفصول.
وفيها توفّى محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق الملك الصالح ناصر الدين صاحب آمد، كان شجاعا عاقلا جوادا محبّا للعلماء، وكان الأشرف يحبّه، وجاء إلى الأشرف وخدمه غير مرّة؛ ومات بآمد فى صفر. وقام بعده ولده مسعود، وكان مسعود ضدّ اسمه بخيلا فاسقا، حصره الملك الكامل هذا وظفر به وأخذه إلى مصر وأحسن إليه؛ فكاتب الروم وسعى فى هلاك الكامل، فحبسه الكامل- لمّا سمع ذلك- فى الجبّ «2» مدّة ثم أطلقه، فمضى إلى التتار، وكان معه الجواهر والأموال فقتلته التتار، وأخذوا جميع ما كان معه.(6/250)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى عبد الرحمن بن أحمد ابن هديّة «1» الورّاق فى شهر ربيع الأوّل، وقد جاوز التسعين، وهو آخر من روى عن عبد الوهّاب الأنماطىّ «2» . وشيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن أبى الفتح عمر بن علىّ بن محمد بن حمّويه فى جمادى الأولى ذاهبا فى الرسليّة من الكامل بالموصل، وله أربع وسبعون سنة. وصاحب حماة الملك المنصور محمد ابن تقىّ الدّين عمر بن شاهنشاه. والزاهد الكبير الشيخ عبد الله اليونينىّ فى ذى الحجّة ببعلبك. وصاحب مكّة قتادة بن إدريس الحسينىّ. وأبو الحسن المؤيّد بن محمد ابن على الطّوسى المقرئ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 618]
السنة الثالثة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب على مصر، وهى سنة ثمانى عشرة وستمائة.
فيها توفّى إسماعيل «3» بن عبد الله أبو طاهر الأنماطىّ المحدّث، كان إماما فاضلا سمع الكثير ولقى الشيوخ وحدّث، وتوفّى بدمشق فى شهر رجب وكان ثقة.
وفيها توفّى محمد بن خلف بن راجح المقدسىّ ويلقّب بالشهاب والد القاضى نجم الدين «4» ، كان زاهدا عابدا فاضلا فى فنون العلوم.(6/251)
وفيها توفّى محمد بن محمد الشيخ الإمام النحوى التّكريتىّ، كان بارعا فى النحو والأدب والشعر. ومن شعره قوله:
من كان ذمّ الرّقيب يوما ... فإنّنى للرقيب شاكر
لم أروجه الرقيب وقتا ... إلّا ووجه الحبيب حاضر
وله فى مجنونة:
أمسيت «1» مجنونا بمجنونة ... يغار من قامتها الغصن
فمن عذيرى من هوى ظبية ... قد عشقتها الإنس والجنّ
قلت: وطريف قول الشيخ زين الدّين عمر بن الوردىّ «2» - رحمه الله- فى هذا المعنى «3» :
زاد «4» جنونى بذى جنون ... معذّر والعذار زين
قالوا به عارض وعين ... قلت وبى عارض وعين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى شهابّ الدين محمد ابن خلف بن راجح المقدسىّ فى صفر، وله ثمان وستون سنة. وأبو محمد هبة الله ابن الخضر بن هبة الله [بن أحمد بن عبد الله «5» ] بن طاوس فى جمادى الأولى، وله إحدى وثمانون سنة. وأبو نصر موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ فى جمادى الآخرة.
واستشهد بهمذان خلق بأيدى التتار، منهم: الإمام تقىّ الدين أبو جعفر محمد بن(6/252)
محمود بن إبراهيم الحمّامىّ الواعظ. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن هبة الله الرّوذراورىّ «1» .
وبهراة أبو روح [عبد المعزّ «2» ] بن محمد الهروىّ. وبنيسابور أبو بكر القاسم بن عبد الله ابن عمر بن الصّفّار. وأبو النّجيب إسماعيل «3» بن عثمان بن إسماعيل بن أبى القاسم القارئ الصوفى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 619]
السنة الرابعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع عشرة وستمائة.
فيها ظهر جراد بالشام أكل الشجر والزروع والثمر ولم ير مثله.
وفيها نقلت رمّة الملك العادل أبى بكر من قلعة دمشق إلى مدرسته التى عند دار العقيقىّ «4» ، فدفن بها.
وفيها توفّى مسمار بن عمر «5» بن محمد الشيخ أبو بكر بن العويس البغدادىّ فى شعبان بالموصل، وكان. فاضلا ثقة.
وفيها توفّى نصر بن أبى الفرج الفقيه الحنبلىّ، كان إمام الحنابلة بمكّة، جاور بمكّة سنين، ثم خرج إلى اليمن فمات بالمهجّم «6» ودفن به، وكان صالحا متعبّدا لا يفتر عن الطّواف.(6/253)
وفيها توفّى الأمير قطب الدين أحمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب أخو الملك الكامل محمد هذا. مات بالفيّوم «1» فنقل إلى القاهر ودفن بها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو الفتوح نصر بن أبى الفرج البغدادىّ ابن الحصرىّ المقرئ الحنبلىّ فى المحرّم، وله ثلاث وثمانون سنة. والحافظ أبو الطاهر تقىّ الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن المصرىّ «2» ابن الأنماطىّ فى رجب كهلا. وأبو بكر مسمار بن عمر بن محمد بن العويس النّيّار «3» بالموصل فى شعبان. والقدوة الشيخ علىّ [بن أبى بكر محمد «4» بن عبد الله] بن إدريس اليعقوبىّ فى ذى القعدة. وأبو سعد ثابت بن مشرف المعمار فى ذى الحجّة.(6/254)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 620]
السنة الخامسة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة عشرين وستمائة.
قال أبو شامة: ففيها عاد الملك الأشرف موسى من مصر [إلى الشام قاصدا «1» بلاده بالشرق] ، فالتقاه أخوه المعظّم عيسى وعرض عليه النزول [بالقلعة «2» ] فامتنع، ونزل بجوسق والده العادل، وبدت الوحشة بين الإخوة الثلاثة (يعنى الكامل «3» محمدا صاحب الترجمة، والمعظّم عيسى صاحب دمشق، والأشرف موسى صاحب خلاط وغيرها) . قال: ثم رحل الأشرف سحرا على ضمير «4» ثم سار إلى حرّان، وكان [الأشرف «5» ] قد استناب أخاه شهاب الدين غاز يا صاحب ميّافارقين على خلاط، [لمّا سافر «6» إلى مصر] وجعله ولىّ عهده، ومكّنه من بلاده؛ فسوّلت له نفسه العصيان، وحسّن له ذلك الملك المعظّم وكاتبه وأعانه، وكذا كاتبه صاحب إربل [والمشارقة «7» ] ، فأرسل الأشرف إلى غازى المذكور يطلبه فامتنع، فأرسل إليه: يا أخى لا تفعل، أنت ولىّ عهدى والبلاد فى حكمك فأبى؛ فجمع الأشرف عساكره وقصده، ووقع له معه أمور حتّى هزمه، ثم رضى عنه الأشرف حسب ما نذكره فى السنة الآتية.
وفيها كانت بين التّتار الذين جاءوا إلى الدّربند «8» وبين القبجاق «9» والروس «10» وقعة هائلة، وصبر الفريقان أيّاما، ثم انهزم القبجاق والروس، ولم يسلم منهم إلّا اليسير.(6/255)
وفيها توفّىّ عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر شيخ الإسلام موفّق الدين أبو محمد المقدسىّ الجمّاعيلىّ الدمشقىّ الصالحىّ الحنبلى صاحب التصانيف.
ولد بجمّاعيل فى شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل فى صغره وسمع من أبيه سنة نيّف وخمسين، ورحل إلى البلاد وسمع الكثير، وكتب وصنّف وبرع فى الفقه والحديث، وأفتى ودرّس وشاع ذكره وبعد صيته.
وكانت وفاته فى يوم عيد الفطر، وله ثمانون سنة.
وفيها توفّى عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الإمام المفتى فخر الدين أبو منصور الدّمشقىّ الشافعىّ المعروف بابن عساكر شيخ الشافعيّة بالشام. ولد فى سنة خمسين وخمسمائة، وسمع من عميّه: [الصائن «1» ] هبة الله، والحافظ أبى القاسم وجماعة أخر، وتفقّه على حميه قطب الدين «2» النّيسابورىّ، وكان بارعا مفتنّا مدرّسا فقيها عالما محدّثا، وكانت وفاته فى شهر رجب.
وفيها توفّى ملك الغرب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ابن علىّ السلطان المستنصر بالله الملقّب بأمير المؤمنين المكنى أبا يعقوب القيسىّ المغربىّ صاحب بلاد المغرب، لم يكن فى بنى عبد المؤمن أحسن صورة منه، ولا أبلغ خطابا، ولكنّه كان مشغولا باللّذات؛ ومات وهو شابّ فى هذه السنة، ولم يخلّف ولدا؛ فاتفق أهل دولته على تولية الأمر لأبى محمد عبد الواحد بن يوسف ابن عبد المؤمن بن علىّ، فولى ولم يحسن التدبير ولا المداراة. وكان مولد يوسف صاحب الترجمة فى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وأمّه أم ولد روميّة اسمها قمر، وكانت دولته عشر «3» سنين وشهرين.(6/256)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو سعد عبد السلام ابن المبارك [بن «1» عبد الجبّار بن محمد بن عبد السلام] بن البرد «2» عول فى المحرّم، وله تسع وثمانون سنة. والعلّامة فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن ابن عساكر الشافعىّ فى رجب، وله سبعون سنة. والعلامة موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسىّ شيخ الحنابلة فى يوم الفطر، وله ثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 621]
السنة السادسة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وعشرين وستمائة.
فيها استردّ الملك الأشرف موسى مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازى، وأبقى عليه ميّافارقين، ورضى عنه بعد أمور وقعت بينهما، وقد تقدّم ذكر ذلك أيضا.
وفيها ظهر السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه بعد ما انفصل عن بلاد الهند وكرمان، واستولى على أذربيجان وحكم عليها. وراسله الملك المعظّم عيسى ليعينه على قتال أخيه الملك الأشرف موسى؛ ثم كتب المعظّم أيضا لصاحب إربل فى هذا المعنى، وبعث ولده الملك الناصر داود إليه رهينة.
وفيها استولى بدر الدين لؤلؤ على الموصل وأظهر أنّ الملك محمود «3» بن القاهر قد توفّى، وكان قد أمر بخنقه.(6/257)
وفيها بنى الملك الكامل صاحب الترجمة دار «1» الحديث الكامليّة بالقاهرة فى بين القصرين، وجعل أبا «2» الخطّاب بن دحية شيخها.
وفيها قدم الملك مسعود أضسيس «3» (المشهور بأقسيس) على أبيه الملك الكامل من اليمن طائعك، وعزمه أخذ الشام من عمّه الملك المعظّم عيسى، وقدّم لأبيه أشياء «4» عظيمة، منها مائتا خادم.
قال ابن الأثير: وفيها عادت التتار من بلاد القبجاق ووصلت إلى الرّىّ، وكان من سلم من أهلها قد عمّروها، فلم يشعروا إلّا بقدوم التتار بغتة، فوضعوا فيهم السيف، ثم فعلوا بعدّة بلاد أخر كذلك، فما شاء الله كان.
وفيها حدثت واقعه قبيحة من الكرج، وهو أنّ الكرج- لعنهم الله- لم يبق فيهم من بيت الملك أحد سوى امرأة فملّكوها عليهم. قال ابن الأثير: ثم طلبوا لها زوجا يتزوّجها وينوب عنها فى الملك، ويكون من بيت مملكة. وكان صاحب أرزن الروم مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان وهو من الملوك السّلجوقيّة وله ولد، فأرسل إلى الكرج يخطب الملكة لولده فامتنعوا، وقالوا: لا يملكنا مسلم، فقال لهم: إنّ ابنى يتنصّر ويتزوّجها، فأجابوه فتنصّر وتزوّج بها، وأقام عندها حاكما فى بلادهم، فنعوذ بالله من الخذلان! وكانت الملكة تهوى مملوكا، فكان هذا الزوج يسمع عنها من القبائح أشياء ولا يمكنه الكلام لعجزه، فدخل يوما فرآها مع المملوك، فأنكر ذلك، فقالت: إن رضيت بذا وإلّا(6/258)
أنت أخبر بما أفعله معك!. [فقال: إنّنى لا «1» أرضى بهذا] فنقلته إلى بلد [آخر «2» ] ووكّلت به من يحفظه وحجرت عليه؛ وأحضرت لها رجلين وصفا لها بحسن الصورة فتزوّجت بأحدهما، وبقى معها ذاك يسيرا، ثمّ فارقته وأحضرت آخر من كنجة «3» وهو مسلم، فطلبت منه أن يتنصّر ويتزوّجها فلم يفعل، فأرادت أن تتزوّجه [وهو مسلم «4» ] فقام عليها الأمراء ومعهم إبوانى «5» مقدّمهم؛ وقالوا لها: فضحتينا بين الملوك بما تفعلين! [ثم «6» تريد بن أن يتزوّجك مسلم، وهذا لا نمكّنك منه أبدا] ، والأمر بينهم متردّد، والرجل الكنجىّ عندهم [لم يجبهم إلى «7» الدخول فى النّصرانيّة] ، وهى تهواه. انتهى كلام ابن الأثير.
وفيها توفّى فخر الدين أبو المعالى محمد بن أبى الفرج الموصلىّ المقرئ ببغداد فى شهر رمضان. وكان إماما فاضلا بارعا فى فنون. ومن شعره «مواليا» :
ساق قمر بكفّه شمس ضحا ... قد أسكرنى من راحتيه وصحا
لو أمكننى والراح فى راحته ... فى الحان شربت كفّه والقدحا
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول أبى الحسن علىّ بن عبد الغنىّ الفهرىّ القيروانىّ الضّرير المعروف بالحصرىّ الشاعر المشهور، ووفاته سنة ثمان [وثمانين «8» ] وأربعمائة، وهما:
أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مسك ريقته ختام
أمن خدّيك يعصر قال كلّا ... متى عصرت من الورد المدام
وفيها توفّى القاضى أبو البركات عبد القوىّ بن عبد العزيز بن الجبّاب السّعدىّ فى شوّال، وله خمس وثمانون سنة. وكان عالما بارعا ديّنا عفيفا أفتى ودرّس سنين.(6/259)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفىّ أبو جعفر محمد بن هبة الله بن مكرّم الصوفىّ ببغداد فى المحرّم. وأبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمىّ المقرئ بواسط. وأبو العبّاس أحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن صرمى «1» الأزجىّ فى شعبان. وفخر الدين أبو المعالى محمد بن أبى الفرج الموصلىّ البغدادىّ المقرئ فى رمضان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 622]
السنة السابعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
فيها فى شهر ربيع الأول وصل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه إلى دقوقا «2» فافتتحها بالسيف، وأحرق البلد ونهب أهلها، وفعل فيها ما لا تفعله الكفّار لكونهم شتموه ولعنوه على الأسوار؛ ثم عزم على قصد بغداد، فانزعج الخليفة الناصر لدين الله واستعدّ لقتاله وأنفق ألف ألف دينار فى هذا المعنى.
قال أبو المظفّر: «قال لى الملك المعظّم عيسى: كتب إلىّ جلال الدين يقول:
تحضر أنت ومن عاهدنى فنتّفق حتّى نقصد الخليفة، فإنّه كان السبب فى هلاك المسلمين، وفى هلاك أبى، وفى مجىء الكفّار إلى البلاد؛ ووجدنا كتبه إلى الخطا(6/260)
وتواقيعه لهم بالبلاد والخلع والخيل؛ فقال المعظّم: فكتبت إليه: أنا معك على كلّ أحد»
إلّا على الخليفة فإنّه إمام المسلمين!» . انتهى.
قلت: ثم وقع لجلال الدين المذكور فى هذه السنة أمور ووقائع مع غير الخليفة من الملوك يطول شرحها. يأتى ذكر بعضها إن شاء الله.
وفيها توفّى الخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المستضىء بالله أبى محمد الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبى المظفر يوسف ابن الخليفة المقتفى بأمر الله أبى عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. ولد يوم الاثنين عاشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع بالخلافة بعد موت أبيه المستضىء فى أوّل ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وأمّه أمّ ولد تركيّة.
قال الشيخ شمس الدين: «وكان أبيض اللّون تركىّ الوجه مليح العينين، أنور الجبهة، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر اللّحية رقيق المحاسن. كان نقش خاتمه: «رجائى من الله عفوه» . لم يل الخلافة قبله أحد من بنى العبّاس أطول مدّة منه، إلّا ما ذكرنا من خلفاء العبيديّة المستنصر معدّ» انتهى. وفى أيّام الناصر لدين الله ظهرت الفتوّة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام [المناسيب «2» ] ، وافتنّ الناس فى ذلك، ودخل فيه الأجلّاء ثم الملوك؛ فألبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوّة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزنة والهند من الخليفة الناصر لدين الله، ولبسها جماعة أخر من الملوك. وأمّا لعب الحمام فخرج فيه عن الحدّ، يحكى عنه أنّه لمّا دخلت التّتار البلاد وملكوا من [ما] وراء النهر إلى العراق، وقتلوا تلك المقتلة(6/261)
من المسلمين، التى ما نكب المسلمون بأعظم منها، دخل عليه الوزير فقال له: آه يا مولانا، إنّ التّتار قد ملكت البلاد وقتلت المسلمين! فقال له الناصر لدين الله:
دعنى أنا فى شىء أهمّ من ذلك! طيرتى البلقاء، لى ثلاثة أيام ما رأيتها! وفى هذه الحكاية كفاية إن صحّت عنه. وكانت وفاته فى سلخ شهر رمضان «1» ، وكانت خلافته سبعا وأربعين سنة. وبويع بعده لولده أبى نصر ولقّب بالظاهر بأمر الله، فكانت خلافة الظاهر المذكور تسعة أشهر ومات. حسب ما يأتى ذكره.
وفيها توفّى السلطان الملك الأفضل علىّ ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب فى يوم الجمعة من شهر ربيع الأوّل من السنة، وهو الذي كان ملك الشام فى حياة أبيه ثمّ من بعده، ووقع له تلك الأمور مع أخيه وعمّه العادل، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه؛ وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار صاحب سميساط، وبقى بها إلى أن مات فى هذه السنة. وكان مولده بمصر فى سلطنة والده سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان فاضلا شاعرا حسن الخطّ قليل الحظّ غير مسعود فى حركاته- رحمه الله تعالى- ومن شعره- ممّا كتبه إلى الخليفة لمّا خرج من دمشق، واتّفق عليه الملك العادل عمّه والعزيز أخوه-:
مولاى إنّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حقّ على
فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الأول
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الواعظ أبو إسحاق إبراهيم بن المظفّر [بن إبراهيم «2» ] بن البرنىّ «3» بالموصل فى المحرّم. والخطيب المفسّر فخر(6/262)
الدين محمد بن الخضر بن محمد [بن الخضر بن علىّ «1» بن عبد الله] بن تيميّة الحرّانى فى صفر.
والملك الأفضل علىّ بن السلطان صلاح الدين بسميساط فى صفر، وله سبع وخمسون سنة. وأبو الحسن علىّ بن أبى الكرم [نصر بن «2» المبارك] الجلال بن البنّاء بمكّة فى شهر ربيع الأوّل. وعبد المحسن خطيب الموصل ابن عبد الله بن أحمد الطّوسى فى شهر ربيع الأوّل. وقاضى القضاة بالقاهرة زين الدين علىّ ابن العلّامة يوسف بن عبد الله بن بندار الدّمشقىّ. والوزير الكبير صفىّ الدين عبد الله بن علىّ الشّيبىّ «3» ابن شكر بالقاهرة فى شعبان. ومجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين القزوينى الصوفىّ بالموصل فى شعبان. والناصر لدين الله أبو العبّاس أحمد بن المستضىء بالله حسن بن المستنجد فى سلخ شهر رمضان، وله سبعون سنة، وكانت خلافته سبعا وأربعين سنة.
وفخر الدين محمد بن إبراهيم بن أحمد الفارسىّ الخبرىّ «4» الصوفىّ بمصر فى ذى الحجّة، وله أربع وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 623]
السنة الثامنة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
فيها قدم الشيخ محيى الدين «5» بن الجوزىّ إلى دمشق رسولا إلى الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق، ومعه الخلع له ولإخوته أولاد العادل من الخليفة الظاهر(6/263)
بأمر الله أبى نصر محمد العبّاسىّ المتولّى الخلافة بعد وفاة والده الناصر لدين الله.
[ومضمون «1» رسالته طلب رجوع المعظّم عن موالاة ابن الخوارزمىّ] .
قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ، قال لى الملك المعظّم، قال خالك:
المصلحة رجوعك عن هذا الخارجىّ (يعنى جلال الدين [بن] الخوارزمىّ وترجع إلى إخوتك ونصلح بينكم؛ قال: فقلت لخالك: إذا رجعت عن [ابن] الخوارزمىّ وقصدنى إخوتى تنجدوننى؟ قال: نعم؛ فقلت: مالكم عادة تنجدون أحدا! هذه كتب الخليفة الناصر لدين الله عندنا، ونحن على دمياط نكتب ونستصرخ به، فيجىء الجواب بأنّا قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة ولم يفعلوا. قال: قلت: مثلى معكم كمثل رجل كان يخرج إلى الصلاة وبيده عكّاز خوفا من الكلاب، فقال له بعض أصدقائه: أنت شيخ كبير، وهذا العكّاز يثقلك، وأنا أدلك على شىء يغنيك عن حمله، قال: وما هو؟ قال: تقرأ سورة يس عند خروجك من الدار، وما يقربك كلب، وأقام مدّة فرأى الشيخ حامل العكّاز، فقال له: أما قد علّمتك ما يغنيك عن حمله؟ فقال: هذا العكّاز لكلب لا يعرف القرآن. وقد اتّفق إخوتى علىّ، وقد أنزلت [ابن] الخوارزمىّ على خلاط، إن قصدنى أخى الأشرف «2» منعه؛ وإن قصدنى أخى الكامل (يعنى صاحب الترجمة) فأنا له. ثم اصطلح الإخوة بعد ذلك فى السنة.
وفيها توفّى كافور بن عبد الله شبل الدولة الحسامىّ «3» خادم ستّ الشام بنت أيّوب. كان عاقلا ديّنا صالحا، بنى مدرسته على نهر ثورا بدمشق لأصحاب أبى حنيفة- رضى الله عنه- والخانقاه إلى جانب مدرسته. وكانت وفاته بدمشق فى شهر رجب.(6/264)
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. ولى الخلافة بعد وفاة أبيه فى السنة الماضية فلم تطل مدّته فيها، ووقع له شدائد إلى أن مات فى شهر رجب؛ وامّه أمّ ولد. وكانت خلافته تسعة أشهر وأيّاما، وكان مولده فى المحرّم سنة «1» سبعين وخمسمائة، وكان جميل الصورة أبيض مشربا بحمرة حلو الشمائل شديد القوى.
أفضت الخلافة إليه، وله اثنتان وخمسون سنة إلا أشهرا، فقيل له: ألا تنفسح؟
فقال: قد فات الزرع! فقيل له: يبارك الله فى عمرك، فقال: من فتح دكّانا بعد العصر إيش يكسب!. وكان خيّرا عادلا قطع الظّلامات والمكوس، حتّى قيل:
إنّ جملة ما قطع من الظّلامات والمكوس ثمانية آلاف دينار فى كلّ سنة، وتصدّق فى ليلة العبد بمائة ألف دينار. وسببه أنّه لمّا ولى الخلافة ولّى الشيخ عماد «2» الدين ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ القضاء، فما قبل عماد الدين إلّا بشرط أن يورّث ذوى الأرحام، فقال له الخليفة: أعط كلّ ذى حقّ حقّه واتّق الله ولا لتثق بسواه؛ فكلّمه القاضى أيضا فى الأوراق التى ترفع إلى الخليفة؛ وهو أنّ حرّاس الدروب كانت ترفع إلى الخليفة فى صبيحة كلّ يوم ما يكون عندهم من أحوال الناس الصالحة والطالحة، فأمر الظاهر بتبطيل ذلك، وقال: أىّ فائدة فى كشف أحوال الناس! فقيل له: إن تركت ذلك فسدت أحوال الرعيّة، فقال: نحن ندعو لهم بالإصلاح.
ثم أعطى القاضى المذكور عشرة آلاف دينار يفى بها ديون من فى السجون من الفقراء، ثم فرّق بقيّة المائة الألف الدينار فى العلماء والفقراء. ولمّا مات الظاهر تولّى الخلافة بعده ولده المستنصر بالله أبو جعفر.(6/265)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المحاسن محمد بن السيد بن أبى لقمة الأنصارىّ الصفّار فى شهر ربيع الأوّل عن أربع وتسعين سنة.
وقاضى الشام جمال الدين يونس بن بدران القرشىّ المصرىّ الشافعىّ فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بقرب الصليحيّة «1» . وشمس الدين أحمد بن عبد الواحد المقدسىّ الملقّب بالبخارىّ الفقيه المناظر فى جمادى الآخرة، وله تسع وخمسون سنة. والتقىّ خزعل «2» ابن عسكر المصرىّ النحوىّ اللغوىّ بدمشق. والمحارى «3» الزاهد أبو محمد عبد الرحمن ابن عبد الله بن علوان بحلب فى جمادى الآخرة، وله تسعون سنة. والعلّامة إمام الدين عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل الرافعىّ القزوينىّ صاحب الشرح «4» . والظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله فى رجب، وله ثلاث وخمسون سنة، وكانت خلافته عشرة أشهر. وبويع بعده ابنه المستنصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 624]
السنة التاسعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وعشرين وستمائة.
فيها عاد الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل إلى بلاده بعد أن صالح أخاه الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل، وكلاهما أخو الملك الكامل هذا.(6/266)
وفيها حجّ بالناس من الشام الشجاع [علىّ «1» ] بن السلّار، ومن ميافارقين الشهاب غازى ابن الملك العادل.
وفيها توفّى السلطان الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل أبى بكر ابن أيّوب بن شادى الأيّوبىّ صاحب الشام. قال أبو المظفّر: وفيها توفّى الملك المعظّم العالم الفقيه المجاهد فى سبيل الله الغازى النحوىّ اللغوىّ. ولد بالقاهرة سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالشام وقرأ القرآن وتفقّه على مذهب أبى حنيفة بجمال «2» الدين الحصيرىّ، وحفظ المسعودىّ، واعتنى «بالجامع «3» الكبير» ، وقرأ الأدب [والنحو «4» ] على تاج الدين «5» الكندىّ، فأخذ عنه «كتاب سيبويه» وشرحه الكبير للسيرافىّ، «والحجّة فى القراءات» لأبى علىّ الفارسىّ «والحماسة» ، وقرأ عليه «الإيضاح» لأبى علىّ حفظا؛ ثمّ ذكر مسموعاته فى الحديث وغيره إلى أن قال:
وشرح الجامع الكبير، وصنّف الردّ «6» على الخطيب، والعروض، وله «ديوان شعر» .
قال: وكان شجاعا مقداما كثيرا لحياء متواضعا مليح الصورة ضحوكا غيورا جوادا حسن السّيرة. وأطلق أبو المظفّر عنان القلم فى ميدان محاسنه حتّى إنّه ساق ترجمته فى عدّة أوراق فى مرآة الزمان.(6/267)
قلت: ويحقّ له ذلك، فإنّ المعظّم كان فى غاية ما يكون من الكمال فى عدّة علوم وفنون، وهو رجل بنى أيّوب وعالمهم بلا مدافعة، ومحاسنه أشهر من أن تذكر.
وكانت وفاته- رحمه الله- فى ثالث ساعة من نهار الجمعة أوّل يوم من ذى الحجّة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل بعد ذلك من قلعة دمشق ودفن مع والدته «1» فى القبّة عند «2» الباب. وخلّف عدّة أولاد: الملك الناصر داود، والملك المغيث عبد العزيز، والملك القاهر عبد الملك؛ ومن البنات تسعا، وقيل إحدى عشرة. وتولّى ابنه الناصر داود دمشق بعده إلى أن أخذها منه عمّه الملك الكامل صاحب الترجمة.
وفيها توفّى الملك چنكز خان التركىّ، طاغية التّتار وملكهم الأوّل الذي خرّب البلاد وأباد العباد، وليس للتتار ذكر قبله.
قلت: هو صاحب «التورا» «واليسق» ، وقد أوضحنا أمره فى غير هذا الكتاب، وذكرنا أصله واعتقاد التتار فيه وأشياء كثيرة. والتورا باللغة التركية هو المذهب، واليسق هو الترتيب، وأصل كلمة اليسق سى يسا، وهو لفظ مركّب من أعجمىّ وتركىّ، ومعناه: التراتيب الثلاث، لأنّ سى بالعجمى فى العدد ثلاثة، ويسا بالتركى: الترتيب؛ وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا، وانتشر ذلك فى سائر الممالك حتّى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: «سى يسا» فثقلت عليهم فقالوا: «سياسة «3» » على تحاريف أولاد العرب فى اللغات الأعجمية. ولمّا أن تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قدارىّ أحبّ أن يسلك فى ملكه بالديار المصريّة طريقة چنكزخان هذا وأموره، ففعل ما أمكنه، ورتّب فى سلطنته(6/268)
أشياء كثيرة؛ لم تكن قبله بديار مصر: مثل ضرب البوقات، وتجديد الوظائف، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى ترجمته. واستمرّ أولاد چنكزخان فى ممالكه التى قسمها عليهم فى حياته، ولم يختلف منهم واحد على واحد، ومشوا على ما أوصاهم به، وعلى طريقته «التورا» و «اليسق» إلى يومنا هذا. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى داود بن معمّر بن عبد الواحد بن الفاخر القرشىّ فى رجب أو فى شعبان، وله تسعون سنة. وطاغية التتار چنكزخان فى شهر رمضان. وقاضى القضاة بحرّان أبو بكر عبد الله بن نصر الحنبلىّ، وله خمس وسبعون سنة. وأبو محمد عبد البرّ «1» ابن الحافظ ابن العلاء الهمذانىّ بروذراور «2» فى شعبان. والبهاء عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسىّ الحنبلىّ الفقيه المحدّث فى ذى الحجّة، وله تسع وستون سنة. والملك المعظّم شرف الدين عيسى بن العادل فى ذى القعدة، وله ثمان وأربعون سنة. وأبو الفرج الفتح بن عبد الله [بن محمد «3» ابن علىّ بن هبة الله] بن عبد السلام الكاتب فى المحرّم، وله سبع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع أذرع «4» واثنتا عشرة إصبعا. هكذا وجدته مكتوبا، ولعلّه وهم من الكاتب.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 625]
السنة العاشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وعشرين وستمائة.(6/269)
فيها نزل جلال الدين بن خوارزم شاه على خلاط مرّة ثانية، وهجم عليه الشتاء فرحل عنها إلى أذربيجان، وخرج الحاجب «1» علىّ من خلاط بالعسكر، فاستولى على خوىّ «2» وسلماس «3» وتلك النواحى، وأخذ خزائن جلال الدين المذكور وعاد إلى خلاط، فقيل له: بئس ما فعلت! وهذا يكون سببا لهلاك العباد والبلاد، فلم يلتفت.
وفيها كان فراغ مدرسة ركن الدين الفلكى بقاسيون دمشق.
وفيها توفّى عبد الرحيم بن علىّ بن إسحاق سبط القاضى جمال الدين القرشىّ.
كان إماما عالما فاضلا غزير المروءة كثير الإحسان شاعرا مترسّلا، وكانت وفاته بدمشق فى سابع المحرّم. ومن شعره قوله فى مليح بالحمّام:
تجرّد للحمّام عن قشر لؤلؤ ... وألبس من ثوب المحاسن ملبوسا
وقد زيّن الموسى لتزيين رأسه ... فقلت لقد أوتيت سؤلك يا موسى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى أحمد ابن الخضر بن هبة الله بن طاوس الصوفىّ فى رمضان. والمحدّث محبّ «4» الدين أحمد ابن تميم اللّبلىّ «5» . وأبو منصور أحمد بن يحيى بن البرّاج «6» الصوفىّ الوكيل فى المحرّم.
والعلامة أبو القاسم أحمد بن يزيد القرطبىّ آخر من روى بالإجازة عن شريح(6/270)
فى رمضان. وأبو علىّ الحسن بن إسحاق بن موهوب بن [أحمد «1» ] الجواليقىّ فى شعبان، وله إحدى وثمانون سنة. ونفيس الدين الحسن بن علىّ [بن أبى القاسم الحسين «2» ] بن الحسن بن البنّ الأسدىّ فى شعبان، وله ثمان وثمانون سنة.
والرئيس المنشئ جمال الدين عبد الرحيم بن علىّ «3» بن إسحاق بن شيث القرشىّ الفرضىّ بدمشق فى المحرّم، وكان كاتب المعظّم. وأبو منصور محمد بن عبد الله بن المبارك البندنيجىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 626]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وستمائة.
فيها أعطى الملك الكامل صاحب الترجمة بيت المقدس لملك الفرنج الأنبرور «4» .
وفيها خرج الملك الكامل فى صفر من مصر، ونزل تل العجول «5» ، وكان الملك الناصر داود ابن الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق كاتب عمّه الملك الأشرف موسى بالحضور إلى دمشق، فوصل إليها ونزل بالنّيرب «6» ؛ وكان عزّ الدين أيبك قد أشار على الملك الناصر داود بمداراة عمّه الملك الكامل محمد صاحب مصر(6/271)
فخالفه؛ وقال الناصر «1» لعمّه الأشرف فى قتال عمّه الكامل، فلم يلتفت الأشرف إلى كلامه؛ واجتمع الأشرف مع أخيه الملك الكامل واتّفقا على حصار دمشق.
ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الأنبرور، فقامت قيامة الناس لذلك ووقع أمور، وتسلّم الأنبرور القدس؛ والكامل والأشرف على حصار دمشق، فلم يقم الأنبرور بالقدس سوى ليلتين، وعاد إلى يافا بعد أن أحسن إلى أهل القدس، ولم يغيّر من شعائر الإسلام شيئا.
وفيها سلّم الملك الناصر داود إلى عمّه الملك الكامل دمشق وعوّضه عمّه الكامل الشّوبك، وذلك فى شهر ربيع الآخر من السنة.
وفيها توفى أضسيس المعروف بأقسيس المنعوت بالملك المسعود بن الملك الكامل صاحب الترجمة، مرض بعد خروجه من اليمن مرضا مزمنا، ومات بمكّة ودفن بالمعلى فى حياة والده الملك الكامل، وكان معه من الأموال شىء كثير. وكان ظالما جبّارا سفّا كاللدماء قتل باليمن خلائق لا تدخل تحت حصر، واستولى على أموالهم.
وكان أبوه الملك الكامل يكرهه ويخافه. ودام باليمن حتى سمع بموت عمّه الملك المعظّم عيسى، فخرج من اليمن بطمع دمشق، فمرض ومات. فلمّا سمع أبوه الملك الكامل بموته سرّ بذلك، واستولى على جميع أمواله.
وفيها توفّى الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرّى الشيخ الإمام أبو القاسم الدمشقىّ التّغلبىّ. سمع الحافظ ابن عساكر وغيره، وروى الكثير، وكان صالحا ثقة- رحمه الله-.(6/272)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم [الحسن «1» ] ابن هبة الله بن محفوظ بن صصرّى التّغلبىّ فى المحرّم، وقد قارب التسعين. وتوفّيت أمة الله بنت أحمد بن عبد الله بن علىّ الآبنوسىّ. وأبو الحسن محمد بن محمد بن أبى حرب النّرسىّ الشاعر. والمهذّب بن علىّ بن قنيدة «2» أبو نصر الأزجىّ. والملك المسعود أقسيس صاحب اليمن ابن الملك الكامل فى جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 627]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وعشرين وستمائة.
فيها أخذ السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط بعد حصار طويل «3» أقام عليها عشرة أشهر، ولمّا بلغ صاحبها الملك الأشرف ذلك استنجد بملك الروم وغيره من الملوك، وواقع جلال الدين الخوارزمىّ المذكور وكسره بعد أمور، وقتل معظم عسكره، وامتلأت الجبال والأودية منهم، وشبعت الوحوش والطيور من رممهم، وعظم الملك الأشرف فى النفوس.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الشيخ أبو البركات زين الأمناء المعروف بابن عساكر فى ليلة الجمعة سابع عشر صفر، ودفن عند أخيه «4» فخر الدين، وكان فاضلا محدّثا، سمع الكثير وروى تاريخ الحافظ ابن عساكر.(6/273)
وفيها توفّى فتيان بن علىّ بن فتيان الأسدىّ الحريمىّ «1» المعروف بالشّاغورىّ المعلّم الشاعر المشهور، كان فاضلا شاعرا خدم الملوك ومدحهم وعلّم أولادهم، وله ديوان شعر مشهور. قال الإسعردىّ «2» : إنّه مات فى هذه السنة. وقال ابن خلّكان:
إنّه توفّى سحر الثانى والعشرين من المحرّم سنة خمس «3» عشرة وستمائة بالشّاغور، «4» ودفن [بمقابر «5» ] الباب الصغير، وقول ابن خلّكان هو الأرجح. انتهى. ومن شعر الشاغورىّ فى مدح أرض الزّبدانى «6» من دمشق:
قد أجمد الخمر كانون بكلّ قدح ... وأخمد الجمر فى الكانون حين قدح
يا جنّة الزّبدانى أنت مسفرة ... بحسن وجه إذا وجه الزمان كلح
فالثلج قطن عليه السحب تندفه ... والجو يحلجه والقوس قوس قزح
وله وقد دخل الحمّام وماؤها شديد الحرارة، وكان قد شاخ، فقال:
أرى ماء حمّامكم كالحميم ... نكابد منه عناء وبوسا
وعهدى بكم تسمطون الجداء ... فما بالكم تسمطون التّيوسا
ومثل هذا قول بعضهم:
حمّامكم هذه حمام ... وقودها الناس والحجاره
أعجب شىء رأيت فيها ... طهورها ينقض الطّهاره
ومن أحسن لغز سمعناه فى الحمّام:(6/274)
وما ليل يخالطه نهار ... وأقمار تصدّ عن الشموس
وأنهار على النّيران تجرى ... وأسلحة تسلّ على الرءوس
الذين ذكر الذّهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى زين الأمناء الحسن ابن محمد بن الحسن بن عساكر فى صفر، وله ثلاث وثمانون سنة. والشرف راجح ابن إسماعيل الحلىّ الشاعر. وعبد الرحمن بن عتيق [بن عبد العزيز «1» ] بن صيلا المؤدّب. وعبد السلام بن عبد الرحمن [ابن الأمين «2» ] علىّ [بن علىّ «3» ] بن سكينة.
وأبو المعالى محمد [بن أحمد «4» ] بن صالح الحنبلىّ ببغداد. وفخر الدين محمد بن عبد الوهاب الأنصارىّ يوم عيد الأضحى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 628]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وستمائة.
فيها ساق التّتار خلف السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه بعد أن واقعهم عدّة وقائع من بلاد تبريز، فانهزم بين أيديهم إلى ديار بكر، فقتل فى قرية من أعمال ميّافارقين.
وفيها توفى بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب، الملك الأمجد صاحب بعلبكّ. كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب أعطاه بعلبكّ عند وفاة أبيه(6/275)
سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فأقام فيها خمسين سنة حتّى حصره الملك الأشرف موسى بن العادل أبى بكر بن أيّوب وأخرجه منها، وساعده عليه ابن عمّه أسد الدين شيركوه صاحب حمص؛ فانتقل الملك الأمجد إلى الشام وسكنها حتّى قتله بعض مماليكه غيلة؛ وكان فاضلا شاعرا فصيحا كاتبا، وله ديوان شعر كبير. ومن شعره «دو بيت» :
كم يذهب هذا العمر فى الخسران ... يا غفلتى فيه وما أنسانى
ضيّعت زمانى كلّه فى لعب ... يا عمر فهل بعدك عمر ثان
قلت: وما أحسن قول قاضى القضاة شهاب «1» الدين أحمد بن حجر- رحمه الله- فى هذا المعنى، وهو ممّا أنشدنى من لفظه لنفسه- عفا الله عنه-:
خليلىّ ولىّ العمر منا ولم نتب ... وننوى فعال الصالحات ولكنّا
فحتّى متى نبنى بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهدّ وما تبنى
وما ألطف قول السّراج «2» الورّاق- رحمه الله- وهو قريب ممّا نحن فيه:
يا خجلتى وصحائفى سودا غدت ... وصحائف الأبرار فى إشراق
وفضيحتى «3» لمعنّف لى قائل ... أكذا تكون صحائف الورّاق
وفيها قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، واسمه تكش «4» ، وقيل محمود ابن السلطان علاء الدين خوارزم شاه؛ واسمه محمد بن تكش، وهو من نسل(6/276)
عبد الله بن طاهر بن الحسين، وجدّه تكش هو الذي أزال ملك السّلجوقيّة. قتل بديار بكر، كما ذكرناه فى أوّل هذه السنة. ولمّا قتل دخل جماعة على الملك الأشرف موسى فهنّئوه بموته؛ فقال: تهنّونى به وتفرحون! سوف ترون غبّه! والله لتكوننّ هذه الكسرة سببا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام، ما كان الخوارزمىّ إلّا مثل [السدّ «1» ] الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج؛ فكان كما قال الأشرف. كان الخوارزمىّ يقاتل التتار عشرة أيّام بلياليها بعساكره، يترجّلون عن خيولهم ويلتقون بالسيوف، ويبقى الرجل منهم يأكل ويبول وهو يقاتل.
وفيها توفّى المهذّب بن الدّخوار الطبيب، كان فاضلا حاذقا بعلم الطبّ أستاذ عصره، تقدّم على جميع أطبّاء زمانه، ومع هذا مات بستة أمراض مختلفة، ووقف داره وكتبه على الأطبّاء.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو نصر أحمد بن الحسين بن عبد الله بن النّرسىّ البيّع فى رجب، وله ثلاث وثمانون سنة. والملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبكّ. ومحمد بن عمر بن حسين «2» المقرئ الكردىّ بدمشق. والمهذّب عبد الرجيم بن علىّ رئيس الطبّ، ويعرف بالدّخوار فى صفر. وأبو الفضل عبد السلام بن عبد الله «3» الدّاهرىّ الخفّاف فى شهر ربيع الأوّل عن ثنتين وثمانين سنة. وأبو الرضا محمد بن أبى الفتح المبارك [ابن عبد الرحمن «4» ] ابن عصيّة الحربىّ فى المحرّم، وله ثلاث وثمانون سنة.(6/277)
والعلّامة زين الدين يحيى «1» بن عبد المعطى بن عبد النّور الزّواوىّ النحوىّ فى ذى القعدة بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 629]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وعشرين وستمائة.
فيها عاد التّتار إلى الجزيرة وحرّان وقتلوا وأسروا وسبوا، وخرج الملك الكامل صاحب الترجمة من مصر إلى أن وصل إلى ديار بكر واجتمع مع أخيه الأشرف موسى، واجتمعوا على دفع التّتار؛ وكان أهل حرّان قد خرجوا لقتال التّتار، فما رجع منهم إلّا القليل. وعاد التّتار إلى بلادهم بعد أمور صدرت منهم فى حقّ المسلمين.
فلمّا بلغ الكامل عود التّتار نزل على مدينة آمد ومعه أخوه الأشرف، وحاصرها حتّى استولى عليها وعلى عدّة قلاع.
وفيها توفّى إسماعيل بن إبراهيم الشيخ شرف الدين الفقيه الحنفىّ وهو ابن خالة شمس الدين ابن الشّيرازىّ. كان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا وله تصانيف حسان، منها «مقدمة فى الفرائض» ، وكان بعث إليه الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق يقول: أفت بإباحة الأنبذة، وما يعمل من ماء الرمّان ونحوه، فقال: لا أفتح هذا الباب على أبى حنيفة! إنّما هى رواية النوادر، وقد صحّ عن أبى حنيفة أنّه(6/278)
ما شربه قطّ، وحديث ابن مسعود لا يصحّ، وكذا ما يروى عن «1» عمر فى إباحة شربه لا يثبت عنه. فغضب المعظّم وأخرجه من مدرسة طرخان.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم أحمد بن أحمد بن السّمّذىّ «2» الكاتب. والحافظ أبو موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسىّ فى رمضان، وله ثمان وأربعون سنة. وعبد اللطيف بن عبد الوهاب بن الطّبرىّ فى شعبان. والعلّامة موفّق الدين عبد اللطيف بن يوسف ابن محمد البغدادىّ النحوىّ الطبيب فى المحرّم عن اثنتين وسبعين سنة. والزاهد الشيخ عمر بن عبد الملك الدّينورىّ بقاسيون. وأبو حفص عمر بن كرم بن أبى الحسن الدّينورىّ الحمّامى فى رجب، وله تسعون سنة. وأبو القاسم عيسى بن عبد العزيز بن عيسى المقرئ بالإسكندريّة. والحافظ معين الدين أبو بكر محمد بن عبد الغنى بن نقطة الحنبلىّ فى صفر كهلا.
*** أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 630]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاثين وستمائة.
فيها فتح الملك الكامل محمد صاحب الترجمة آمد، وأخرج منها صاحبها الملك المسعود بن مودود بعد حصار طويل؛ وتسلّم منه جميع القلاع التى كانت بيده،(6/279)
وبقى حصن كيفا عاصيا؛ فبعث الكامل أخاه الأشرف، وأخاه شهاب الدين غازيا، ومعهما صاحب آمد تحت الحوطة؛ فسألهم صاحب آمد فى تسليم الحصن فلم يسلّموا البلد، فعذّبه الأشرف عذابا عظيما، وكان يبغضه؛ ولا زال الأشرف يحاصر حصن كيفا حتّى تسلّمها بعد أمور فى صفر من السنة، ووجد عند مسعود المذكور خمسمائة بنت من بنات الناس للفراش.
وفيها فتحت دار الحديث الأشرفيّة المجاورة لقلعة دمشق التى بناها الملك الأشرف موسى، وأملى بها ابن الصلاح «1» الحديث، وذلك فى ليلة النصف من شعبان، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وجعل بها نعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وفيها توفّى الوزير «2» صفىّ الدين عبد الله بن علىّ بن شكر، وزير الملك العادل؛ وأصله من الدّميرة «3» ، وهى قرية بالوجه البحرى من أعمال مصر. وكان صفىّ الدين المذكور وزيرا مهيبا عالما فاضلا له معرفة بقوانين الوزارة، وكانت عنايته مصروفة إلى العلماء والفقهاء والادباء، وكان مالكىّ المذهب. ومات بالقاهرة وهو على حرمته، وله بالقاهرة مدرسة «4» معروفة به.(6/280)
وفيها توفّى الملك العزيز عثمان ابن السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيّوب أخو الملك الكامل هذا، وكان شقيق المعظّم عيسى، وهو صاحب بانياس وتبنين «1» والحصون، وهو الذي بنى الصّبيبة «2» ؛ ودام مالكا لهذه القلاع إلى أن مات فى يوم الاثنين عاشر شهر رمضان ببستانه ببيت «3» لهيا، وحمل تابوته فدفن بقاسيون عند أخيه الملك المعظّم عيسى، وقد تقدّم أنّه كان شقيقه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى بهاء الدين إبراهيم ابن أبى اليسر شاكر بن عبد الله التّنوخىّ الشافعىّ فى المحرّم، ولى قضاء المعرّة خمسة أعوام. وأبو الحسن علىّ بن أحمد بن يوسف الأزجىّ بالقدس فى صفر. وأبو محمد الحسن ابن الأمير السيد علىّ بن المرتضى العلوىّ الحسينىّ فى شعبان. وصفىّ الدين أبو بكر «4» عبد العزيز بن أحمد [بن عمر بن سالم «5» بن محمد] بن باقا التاجر فى رمضان، وله خمس وسبعون سنة. وصاحب الصّبيبة الملك العزيز عثمان بن العادل- رحمه الله- والعلّامة عزّ الدين أبو الحسن علىّ بن الأثير بن محمد بن محمد بن عبد الكريم(6/281)
الشّيبانىّ الجزرىّ المؤرّخ فى شعبان، وقد قارب ستّا وسبعين «1» سنة. وصاحب إربل مظفّر الدّين كوكبورى «2» ابن صاحب إربل أيضا زين الدين «3» علىّ بن بكتكين التّركمانىّ فى رمضان. والوزير «4» مؤيّد الدّين محمد بن محمد بن القمّىّ ببغداد. وشرف «5» الدين محمد بن نصر الله بن مكارم الدّمشقىّ الشاعر الكاتب فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وستّ أصابع، وطال مكثه على الأراضى. والله أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 631]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
فيها اجتمع الملك الكامل صاحب الترجمة وإخوته وأسد الدين شيركوه صاحب حمص، وساروا ليدخلوا بلاد الروم من عند النهر الأزرق «6» ، فوجدوا الروم قد حفظوا الدّربند، ووقفوا على رءوس الجبال وسدّوا الطرق، فامتنعت العساكر من الدخول؛ وكان الملك الأشرف صاحب دمشق يومئذ ضيّق الصدر من أخيه الملك الكامل هذا، لأنّه طلب منه الرّقّة فامتنع؛ وقال له: ما يكفيك كرسىّ بنى أميّة! فاجتمع أسد الدين شيركوه صاحب حمص بالأشرف وقال له: إن(6/282)
حكم الكامل على الروم أخذ جميع ما بأيدينا فوقع التقاعد، فلمّا رأى الكامل ذلك عبر الفرات ونزل السّويداء «1» ، وجاءه صاحب خرتبرت «2» ، وهو من بنى أرتق، وقال له: عندنا طريق سهلة تدخل منها إلى الروم. فجهّر الملك الكامل بين يديه ولده الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وابن أخيه الملك الناصر داود بن المعظّم، والخادم صوابا، فجاءتهم عساكر الروم؛ وكان الناصر تأخّر وتقدّم صواب فى خمسة آلاف فارس، ومعه الملك المظفّر صاحب حماة، وقاتلوا الروم وانهزموا؛ فعاد الملك الكامل إلى آمد. وكان أسر صواب وجماعة من الأمراء فأطلقهم الروم بعد أن أحسنوا إليهم.
وفيها قدم رسول الأنبرور الفرنجىّ على الملك الكامل «3» بهدايا فيها دبّ أبيض، وشعره مثل شعر السّبع، ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله ومعه أيضا طاوس أبيض.
وفيها توفّى الشيخ العارف المسلّك الزاهد شهاب الدين أبو حفص- وقيل أبو عبد الله- عمر بن محمد بن عبد الله بن [محمد بن عبد الله «4» ] بن عمّويه القرشىّ التّيمىّ البكرىّ السّهروردىّ الصّوفىّ. وذكر الذهبىّ وفاته فى سنة اثنتين وثلاثين وهو الأشهر.
قلت: ومولده فى شهر رجب سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بسهرورد، وقدم بغداد وهو أمرد، فصحب عمّه الشيخ أبا النّجيب «5» عبد القاهر وأخذ عنه التصوّف والوعظ(6/283)
وصحب أيضا الشيخ عبد القادر «1» الجيلى، وسمع الحديث من عمّه المذكور وغيره، وروى عنه البرزالى «2» وجماعة كثيرة؛ وكان له فى الطريقة قدم ثابتة ولسان ناطق، وولى عدّة ربط للصّوفيّة، ونفّذه الخليفة إلى عدّة جهات رسولا؛ وكان فقيها عالما واعظا مفتنّا مصنّفا، وهو صاحب التصانيف المشهورة، واشتهر اسمه وقصد من الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه على خلق من العصاة فتابوا، ووصل به خلق إلى الله تعالى، وكفّ بصره قبل موته.
قال أبو المظفّر سبط بن الجوزىّ: رأيته فى سنة تسعين وخمسمائة يعظ برباط درب المقير «3» على منبر طين، وعلى رأسه مئزر صوف؛ قال: وصنّف كتابا للصوفيّة وسمّاه «عوارف المعارف» . قال: وجلس يوما ببغداد وذكر أحوال القوم وأنشد- رحمه الله تعالى وعفا عنه-:
ما فى الصّحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا صبّ نجاريه
وجعل يردّد البيت ويطرب، فصاح به شابّ من أطراف المجلس، وعليه قباء وكلوتة «4» ؛ وقال: يا شيخ، لم تسطح وتنتقص القوم! والله إنّ فيهم من لا يرضى أن يجاريك، ولا يصل فهمك إلى ما يقول، هلّا أنشدت:
ما فى الصّحاب وقد سارت حمولهم ... إلّا محبّ له فى الرّكب محبوب
كأنّه يوسف فى كلّ راحلة ... والحىّ فى كلّ بيت منه يعقوب!(6/284)
فصاح الشيخ ونزل من على المنبر وقصده فلم يجده، ووجد موضعه حفرة بها دم ممّا فحص برجلية عند إنشاد الشيخ البيت. انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وفيها توفّى الشيخ طىّ «1» المصرىّ مويد الشيخ محمد الفزارىّ، قدم الشام وأقام مدّة بزاويته، وكان يغشاه الأكابر، وانتفع بصحبته جماعة، وكان زاهدا عابدا، ودفن بزاويته بدمشق.
وفيها توفّى الشيخ عبد الله الارمنى الزاهد العابد الورع، كان رحّالا سافر إلى البلاد ولقى الأبدال وأخذ عنهم، وكان له مجاهدات ورياضات وعبادات وسياحات، وكان فى بداية أمره لا يأوى إلّا البرارى القفار ويتناول المباحات؛ قرأ القرآن وكتاب القدورى فى الفقه، وصحب رجالا من الأولياء، وكان معدودا من فقهاء الحنفية؛ وله حكايات ومناقب كثيرة. ومات فى يوم الجمعة تاسع عشرين ذى القعدة، ودفن بسفح قاسيون، وقد جاوز سبعين سنة.
وفيها توفّى العلّامة سيف الدّين علىّ بن أبى علىّ بن محمد بن سالم المعروف بالسيف الآمدىّ، كان إماما بارعا لم يكن فى زمانه من يجاريه فى علم الكلام.
قال أبو المظفّر: وكان يرمى بأشياء ظاهرها أنّه كان بريئا منها، لأنّه كان سريع الدّمعة، رقيق القلب سليم الصدر، وكان مقيما بحماة وسكن دمشق، وكان بنو العادل:
المعظّم والأشرف والكامل يكرهونه لما اشتهر عنه من الاشتغال بالمنطق وعلوم الأوائل. ثم قال أبو المظفّر بعد كلام آخر: وأقام السيف خاملا فى بيته إلى أن توفّى فى صفر، ودفن بقاسيون فى تربته.(6/285)
وفيها توفّى كريم الدين الخلاطىّ الأمير، كان أديبا لطيفا حسن اللّقاء ذا مروءة خدم الأشرف والمعظّم والكامل، وحجّ بالناس أميرا من الشام، وتوفّى بدمشق ودفن بقاسيون عند مغارة الجوع.
وفيها توفّى الصلاح «1» الإربلىّ، كان أديبا فاضلا شاعرا، خدم مظفّر الدّين صاحب إربل، ثمّ انتقل إلى خدمة الملك المغيث بن العادل، ثمّ خدم الكامل وتقدّم فى دولته وصار نديمه؛ ثم سخط عليه، لأنّه بعثه رسولا إلى أخيه المعظّم فنقل عنه أنّ المعظّم استماله، فحبسه الكامل فى الجبّ «2» مدّة سنتين، ثم رضى عنه وأخرجه. ومن شعره من قصيدة:
من يوم فراقنا على التحقيق ... هذى كبدى أحقّ بالتمزيق
لو دام لنا الوصال ألفى سنة ... ما كان يفى بساعة التفريق
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسماعيل بن علىّ بن إسماعيل ابن ماتكين الجوهرىّ فى ذى القعدة، وله ثمانون سنة. ونجم الدين ثابت بن بادان «3» التّفليسى الصّوفىّ شيخ الأسديّة. وسراج الدين الحسين بن أبى بكر المبارك بن محمد الزّبيدىّ الحنبلىّ فى صفر، وله خمس وثمانون سنة. وزكريّا بن علىّ بن حسّان العلبىّ فى شهر ربيع الأوّل. والخادم طغريل أتابك الملك العزيز «4» ومدبّر دولته.
والشيخ القدوة عبد الله بن يونس الأرمنىّ «5» . والسيف الآمدىّ علىّ بن أبى علىّ بن محمد بن سالم الثّعلبى فى صفر، وله ثمانون سنة. والمحدّث أبو رشيد محمد بن أبى بكر(6/286)
الأصبهانىّ الغزالىّ المقرئ. وأبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبىّ فى صفر بالمدينة. وأبو الغنائم المسلم بن أحمد المازنى النّصيبىّ فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 632]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
فيها خرجت عساكر الروم نحو آمد وحاصروها وأقامو عليها أياما، ثم نازلوا السّويداء «1» فأخذوها.
وفيها كان الوباء العظيم بمصر حيث إنّه مات فى شهر نيّف وثلاثون ألف إنسان.
وفيها توفّى عبد السلام بن المطهّر بن عبد الله بن محمد بن [أبى «2» ] عصرون. كان فقيها فاضلا زاهدا إلّا أنّه كان مغزى بالنكاح، كان عنده نيّف وعشرون جارية للفراش. ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب «3» الدين وتاج «4» الدين.
وفيها توفّى صواب العادلى مقدّم عسكر الملك الكامل الذي كانت الروم أسرته فى عام أوّل، وكان خادما عاقلا شجاعا، وكان العادل والكامل يعتمدان عليه، وكان حاكما على الشرق كلّه من قبل الكامل.(6/287)
وفيها توفّى الشيخ شرف الدين أبو حفص «1» عمر بن أبى الحسن علىّ بن المرشد ابن علىّ المعروف بابن الفارض الحموىّ الأصل، المصرىّ [المولد و «2» ] الدار والوفاة الصالح الشاعر المشهور، أحد البلغاء الفصحاء الأدباء. مولده فى رابع ذى القعدة سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، وتوفّى بالقاهرة فى يوم الثلاثاء الثانى من جمادى الأولى «3» ، ودفن من الغد بسفح المقطم، وقبره معروف به يقصد للزيارة. والفارض (بفتح الفاء وبعدها ألف وراء مكسورة «4» وضاد معجمة) . وهو الذي مكتب الفروض على النساء والرجال. وهو صاحب النظم الرائق والشعر الفائق الغرامىّ. وديوان شعره مشهور كثير الوجود بأيدى الناس، وشعره أشهر من أن يذكر. فمن مقطّعات شعره قوله:
وحياة أشواقى إلي ... ك وحرمة «5» الصبر الجميل
لا أبصرت «6» عينى سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل
ومن قصائده المشهورة- رحمه الله وعفا عنه-:
سائق الأظعان يطوى البيد طىّ ... منعما عرّج على كثبان طىّ
وبذات الشّيح عنّى إن مرر ... ت بحىّ من عريب الجزع حىّ
وتلطّف واجر ذكرى عندهم ... علّهم أن ينظروا عطفا إلىّ
قل تركت الصّبّ فيكم شبحا ... ماله ممّا براه الشّوق فىّ(6/288)
خافيا عن عائد لاح كما ... لاح فى برديه بعد النّشر طىّ
صار وصف الضّرّ ذاتيّا له ... عن عناء والكلام الحىّ لىّ
كهلال الشّكّ لولا أنّه ... أنّ عينى عينه لم تتأىّ
مثل مسلوب حياة مثلا ... صار فى حبّكم ملسوب حىّ
مسبلا للنّأى طرفا جاد إن ... ضنّ نوء الطّرف إذ يسقط خىّ
بين أهليه غريبا نازحا ... وعلى الأوطان لم يعطفه لىّ
جامحا إن سيم صبرا عنكم ... وعليكم جانحا لم يتأىّ
نشر الكاشح ما كان له ... طاوى الكشح قبيل النأى طىّ
فى هواكم رمضان عمره ... ينقضى ما بين إحياء وطىّ
صاديا شوقا لصدّى طيفكم ... جدّ ملتاح إلى رؤيا ورىّ
حائرا فيما إليه أمره ... حائر والمرء فى المحنة عىّ
فكأيّن من أسى أعيا الأسى ... نال لو يغنيه قولى وكأىّ
رائيا إنكار ضرّ مسّه ... حذر التعنيف فى تعريف رىّ
والذي أرويه عن ظاهر ما ... باطنى يزويه عن علمى زىّ
يا أهيل الودّ أنّى تنكرو ... نى كهلا بعد عرفانى فتىّ
وهوى الغادة عمرى عادة ... يجلب الشّيب إلى الشابّ الأحىّ
نصبا أكسبنى الشوق كما ... تكسب الأفعال نصبا لام كئّ
[ومتى أشكو جراحا بالحشى ... زيد بالشّكوى إليها الجرح كىّ]
عين حسّادى عليها لى كوت ... لا تعدّاها أليم الكىّ كىّ
عجبا فى الحرب أدعى باسلا ... ولها مستبسلا فى الحبّ كىّ
هل سمعتم أو رأيتم أسدا ... صاده لحظ مهاة أو ظبىّ(6/289)
سهم شهم القوم أشوى وشوى ... سهم ألحاظكم أحشايى شىّ
وضع الآسى بصدرى كفّه ... قال مالى حيلة فى ذا الهوىّ
أىّ شىء مبرد حرّا شوى ... للشّوى حشو حشاى أىّ شىّ
سقمى من سقم أجفانكم ... وبمعسول الثّنايا لى دوىّ
أوعدونى أوعدونى وامطلوا ... حكم دين الحبّ دين الحبّ لىّ
رجع اللّاحى عليكم آيسا ... من رشادى وكذاك العشق غىّ
أبعينيه عمّى عنكم كما ... صمم عن عذله فى أذنىّ
أو لم ينه النّهى عن عذله ... زوايا وجه قبول النّصح زى
ظلّ يهدى لى هدى فى زعمه ... ضلّ كم يهذى ولا أصغى لغىّ
ولما يعذل عن لمياء طو ... ع هوى فى العذل أعصى من عصىّ
لومه صبّا لدى الحجر صبا ... بكم دلّ على حجر صبىّ
عاذلى عن صبوة عذريّة ... هى بى لا فتئت هىّ بن بىّ
ذابت الرّوح اشتياقا فهى بع ... د نفاد الدمع أجرى عبرتىّ
فهبوا عينىّ ما أجدى البكا ... عين ماء فهى إحدى منيتىّ
أو حشا سال ولا أختارها ... إن تروا ذاك بها منّا علىّ
بل أسيئوا فى الهوى أو أحسنوا ... كلّ شىء حسن منكم لدىّ
وفيها توفّى عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين «1» الشيخ الإمام الأديب البارع حسام الدين أبو يحيى- وقيل: أبو الفضل- الإربلىّ المعروف بالحاجرىّ الشاعر المشهور. كان جنديّا من أولاد الأتراك. وكان أديبا فاضلا ظريفا فصيحا، وله ديوان شعر مشهور، يغلب على شعره الرّقة والانسجام.(6/290)
قال ابن خلّكان- رحمه الله-: وكان صاحبى وأنشدنى كثيرا من شعره، فمن ذلك وهو معنى جيّد فى نهاية الجودة:
ما زال يحلف لى بكلّ أليّة ... ألّا يزال مدى الزمان مصاحبى
لمّا جفا نزل العذار بخدّه ... فتعجّبوا لسواد وجه الكاذب
قال وأنشدنى لنفسه أيضا:
لك خال من فوق عر ... ش شقيق قد استوى
بعث الصّدع مرسلا ... يأمر الناس بالهوى
انتهى.
قلت: ومن شعره أيضا:
لك «1» أن تشوّقنى إلى الأوطان ... وعلىّ أن أبكى بدمعى القانى
إنّ الألى «2» رحلوا غداة محجّر ... ملئوا القلوب لواعج الأحزان
فلأبعثنّ مع النسيم إليهم ... شكوى تميل لها غصون البان
نزلوا برامة قاطنين فلا تسل ... ما حلّ بالأغصان والغزلان
وكانت وفاته فى يوم الخميس ثانى شوّال، وتقدير عمره خمسون سنة. والحاجرىّ (بفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مكسورة وبعدها راء) وهذه النسبة إلى حاجر، وكانت بليدة بالحجاز. وسبب تسميته بذلك لأنّه كان يكثر من ذكر الحاجر فى شعره فسمّى بذلك.(6/291)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن «1» بن صباح بن حسام المخزومىّ الكاتب فى رجب، وله إحدى وتسعون سنة، وتقي الدين علىّ بن أبى الفتح [المبارك بن «2» الحسن بن أحمد] بن ماسويه الواسطىّ فى شعبان، وله ست وسبعون سنة. والأديب شرف الدّين عمر بن علىّ بن المرشد الحموىّ بن الفارض بمصر فى جمادى الأولى. والزاهد العارف أبو حفص «3» عمر بن محمد بن عبد الله التّيمىّ السّهروردىّ فى أوّل السنة، وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو عبد الله محمد بن عماد ابن محمد الحرّانىّ التاجر فى صفر بالإسكندرية، وله تسعون سنة. والقدوة الزاهد غانم بن علىّ [بن «4» إبراهيم بن عساكر] المقدسىّ. والقاضى العلّامة بهاء «5» الدين يوسف ابن رافع بن تميم الشافعىّ ابن شدّاد بحلب فى صفر. وسيف الدولة محمد بن غسّان الحمصى فى شعبان. وأبو الوفا محمود [بن إبراهيم «6» بن سفيان] بن مندة التاجر بأصفهان شهيدا فى خلق لا يحصون بسيف التتار فى شوّال. وأبو سعد «7» محمد بن عبد الواحد المدينى. وحسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام الإربلىّ المعروف بالحاجرىّ الشاعر المشهور، قتله شخص فى شوّال، وله خمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.(6/292)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 633]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب، على مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
فيها استعاد الكامل من الروم حرّان والرّها وغيرهما، وأخرب قلعة الرّها ونزل على دنيسر فأخربها ومعه أخوه الأشرف، وبينما هم فى ذلك جاء كتاب بدر الدين لؤلؤ إلى الأشرف يقول: قد قطع التّتار دجلة فى مائة طلب كلّ طلب خمسمائة فارس، ووصلوا إلى سنجار، فخرج إليهم معين الدين بن كمال الدين بن مهاجر فقتلوه على باب سنجار، ثم رجع التتار ثم عادت. فأمّنهم الأشرف للتوجّه إلى جهة الشرق.
وفى هذه السنة كان الطاعون العظيم بمصر وقراها، مات فيه خلق كثير من أهلها وغيرها حتى تجاوز الحدّ.
وفيها جاءت الخوارزميّة إلى صاحب ماردين فنزل إليهم وقاتلهم، ثم نزلوا نصيبين وأحرقوها، وفعلوا فيها أعظم ما فعل الكامل بدنيسر.
وفيها توفّى الحسن بن محمد القاضى القيلوىّ «1» ، وقيلويّة: قرية من قرى بغداد.
كان فاضلا كاتبا، ولد بالعراق سنة أربع وستين وخمسمائة، وكان كثير الأدب مليح الخطّ عارفا بالتواريخ حسن العبارة متواضعا، وكانت وفاته فى ذى القعدة ودفن بمقابر الصوفيّة عند المنيبع.
وفيها توفّى أبو المحاسن «2» محمد بن نصر [الدين بن نصر بن «3» الحسين] بن عتين الزرعى، أصله من حوران.(6/293)
قال أبو المظفّر: «كان خبيث اللّسان هجّاء فاسقا متهتّكا، عمل قصيدة سمّاها:
«مقراض الأعراض» خمسمائة بيت، لم يفلت أحد من أهل دمشق منها بأقبح هجو. ونفاه السلطان صلاح الدين إلى الهند، فمضى ومدح ملوكها واكتسب مالا، وعاد إلى دمشق. ومن هجوه فى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه الله تعالى- قوله:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب
وصاحب الأمر خلقه شرس ... وعارض الجيش داؤه عجب
والدّولعىّ الخطيب معتكف ... وهو على قشر بيضة يثب
ولابن باقا وعظ يغرّ به الن ... اس وعبد اللطيف محتسب
ولمّا نفى كتب من الهند إلى دمشق:
فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يجترم ذنبا ولا سرقا
انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفى كلّ من صدقا
ولمّا عاد إلى دمشق هجا الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيّوب بقوله:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيّق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرّسوم والأرزاق
قال: واستكتبه الملك المعظّم، وكان من أكبر سيّئات المعظّم. ومات عن إحدى وثمانين سنة» . انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وقال ابن خلّكان: «كان خاتمة الشعراء، لم يأت بعده مثله، ولا كان فى أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصورا على أسلوب واحد. ثم نعته بأشياء إلى أن قال: ولمّا ملك الملك العادل دمشق كتب إليه قصيدته الرائيّة(6/294)
يستأذنه فى الدخول إليها، ويصف دمشق ويذكر ما قاساه فى الغربة؛ وقد أحسن فيها كلّ الإحسان واستعطفه كلّ الاستعطاف، وأوّلها:
ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو سامحونى فى الكرى
ثم وصف دمشق وقال:
فارفتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلّى ورحلت لا متخيّرا
أسعى لرزق فى البلاد مشتّت ... ومن العجائب أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحى متقنّعا ... وأكفّ ذيل مطامعى متستّرا
ومنها يشكو الغربة:
أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حتّى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشتى تصفو ولا رسم «1» الهوى ... يعفو ولا جفنى يصافحه الكرى
أضحى عن الأحوى المريع محلّأ ... وأبيت عن ورد النّمير منفّرا
ومن «2» العجائب أن يقيل بظلّكم ... كلّ الورى وأبيت وحدى بالعرا
فلمّا وقف عليها العادل أذن له فى الدخول إلى دمشق، فلمّا دخلها قال:
هجوت الأكابر فى جلّق «3» ... ورعت الوضيع بسبّ الرّفيع
وأخرجت منها ولكنّنى ... رجعت على رغم أنف الجميع
وفيها توفّى أبو الخطّاب بن دحية المغربىّ. قال أبو المظفّر: كان فى المحدّثين مثل ابن عنين فى الشعراء، يثلب علماء المسلمين ويقع فيهم، ويتزيّد فى كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذّبوه. وكان الكامل مقبلا عليه، فلمّا انكشف له حاله(6/295)
أعرض عنه، وأخذ منه دار الحديث وأهانه، فمات فى شهر ربيع الأوّل بالقاهرة ودفن بقرافة مصر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الجمال أبو حمزة أحمد ابن عمر بن الشيخ أبى عمر المقدسى. وعفيف الدين علىّ بن عبد الصمد [بن محمد «1» بن مفرج] بن الرمّاح المصرىّ المقرئ النحوى. وأبو الحسن [علىّ «2» ] بن أبى بكر بن روزبة القلانسىّ الصّوفىّ فى شهر ربيع الآخر، وقد جاوز التسعين. والعلّامة أبو الخطّاب عمر [بن الحسن «3» ] بن علىّ البلنسىّ المعروف بابن دحية فى شهر ربيع الأوّل عن سبع وثمانين سنة. والفخر محمد بن إبراهيم بن مسلم الإربلىّ الصّوفى بإربل فى شوّال أو شهر رمضان. وقاضى القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ الحنبلىّ فى شوّال.
امر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 634]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وثلاثين وستمائة.
فيها نزلت التّتار على إربل وحاصرتها مدّة حتّى أخذوها عنوة، وقتلوا كلّ من فيها وسبوا وفضحوا البنات، وصارت الابار والدّور قبورا للناس. وكان أيدكين «4»(6/296)
مملوك الخليفة بالقلعة فقاتلهم، فنقبوا القلعة وجعلوا لها سردابا وطرقا، وقلّت عندهم المياه حتّى مات بعضهم عطشا، فلم يبق سوى أخذها؛ فرحلوا عنها فى ذى الحجّة، وقد عجزوا عن حمل ما أخذوا من الأموال والغنائم.
وفيها استخدم الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن الملك الكامل- صاحب الترجمة- الخوارزميّة أصحاب جلال الدين، فانضمّوا عليه وانفصلوا من الروم؛ وسرّ والده الملك الكامل بذلك.
وفيها بدت الوحشة بين الأخوين، وسببها أنّ الأشرف طلب من الكامل الرّقّة وقال: الشرق كلّه صار له، وأنا أركب كلّ يوم فى خدمته، فتكون الرّقّة برسم عليق دوابّى، فأبى الكامل وأغلظ فى الجواب، فوقعت الوحشه بينهم بسبب ذلك.
وفيها توفى الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهّاب الحنبلىّ، ولد بدمشق ونشأ بها، وتفقّه ووعظ وصنّف ودرّس بمدرسة ربيعة خاتون. ومات فى غرّة المحرّم.
وفيها توفّى السلطان الملك العزيز محمد ابن السلطان الملك الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. كان صاحب حلب، وليها بعد وفاة أبيه الظاهر.
ومولده فى ذى الحجّة سنة تسع أو عشر وستمائة. وتوفّى والده وهو طفل، فنشأ تحت حجر شهاب الدين الخادم، فرتّب شهاب الدين أموره أحسنى ترتيب إلى سنة تسع وعشرين وستمائة. استقلّ الملك العزيز هذا بالأمر إلى أن توفّى بحلب فى شهر ربيع الأوّل. وكان حسن الصورة كريما عفيفا، ولم يبلغ أربعا وعشرين سنة. ودفن بقلعة حلب، وإليه تنسب المماليك العزيزية الآتى ذكرهم فى عدّة أماكن.
وفيها توفّى كيقباذ السلطان علاء الدين صاحب الروم. كان عاقلا شجاعا مقداما جوادا، وهو الذي كسر الخوارزمىّ وكسر الكامل واستولى على بلاد الشرق.(6/297)
وكان الملك العادل زوّجه ابنته فأولدها أولادا؛ وكان عادلا منصفا مهيبا، ما وقف له مظلوم إلّا وكشف ظلامته، وكانت وفاته فى شوّال.
قلت: وبنو قرمان «1» ملوك الروم فى زماننا هذا يزعمون أنّهم من نسل السلطان علاء الدين هذا- والله أعلم-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين فى المحرّم، وله سبع وخمسون سنة. والخطيب أبو طاهر الخليل أحمد الجوسقىّ فى شهر ربيع الأوّل. وأبو منصور سعيد بن محمد بن يس السفّار، وقد حجّ تسعا وأربعين حجّة، فى صفر. والحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعىّ «2» البلنسىّ فى ذى الحجّة، وله سبعون سنة. والإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الحنبلىّ فى المحرّم، وقد نيّف على الثمانين. ومفتى حرّان ناصر «3» الدّين عبد القادر بن عبد القاهر بن أبى الفهم الحنبلىّ فى شهر ربيع الأوّل عن اثنتين وسبعين سنة. وعلىّ بن محمد بن جعفر بن كب «4» المؤدّب. وكمال الدين علىّ بن أبى الفتح بن الكبارى الطبيب بحلب فى المحرّم. وسلطان الروم علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان السّلجوقىّ فى شوّال. والحافظ أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعىّ «5» فى شهر ربيع الآخر عن تسع وثمانين سنة. والملك العزيز(6/298)
محمد ابن الملك الظاهر غازى بن [صلاح الدين] يوسف صاحب حلب بها فى شهر ربيع الأوّل. ومحتسب دمشق الفخر محمود بن عبد اللطيف. وأبو الحسن مرتضى ابن أبى الجود حاتم بن المسلم الحارثىّ المصرىّ فى شوّال. وأبو بكر هبة «1» الله بن عمر ابن الحسن القطّان، وكان آخر من روى عن أمّه كمال بنت عبد الله بن السّمرقندىّ، وعن هبة الله الشّبلىّ، عاش نيفا وثمانين سنة. وياسمين بنت سالم [بن «2» علىّ] بن البيطار يوم عاشوراء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 635]
السنة العشرون من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وثلاثين وستمائة، وهى السنة التى مات الكامل المذكور فى رجبها، وحكم ابنه العادل فى باقيها حسب ما تقدّم [فى] وفاة الكامل فى ترجمة.
وفيها أيضا توفّى الملك الأشرف موسى، ثم بعده أخوه الملك الكامل. وملك دمشق بعد موت الأشرف الملك الجواد بن الأشرف. على ما سيأتى ذكره [فى] وفاة الأشرف فى هذه السنة.
وفيها اختلفت الخوارزميّة على الملك الصالح أيّوب بن الكامل، وأرادوا القبض عليه فهرب إلى سنجار، وترك خزائنه وأثقاله، فنهبوا الجميع. ولمّا قدم الصالح سنجار سار إليه بدر الدين لؤلؤ فى ذى القعدة وحصره بها، فأرسل إليه الصالح يسأله الصلح؛ فقال: لا بدّ من حمله فى قفص إلى بغداد، وكان لؤلؤ [و] المشارقة(6/299)
يكرهونه وينسبونه إلى التكبّر والظلم؛ فاحتاج الصالح أن يبعث إلى الخوارزميّة، وهم على حرّان يستنجدهم، فساقوا جريدة من حرّان، وكبسوا لؤلؤا، فنجا وحده، ونهبوا أمواله وخرائنه وجميع ما كان فى عسكره.
وفيها توفّى الملك الأشرف أبو الفتح مظفر الدين موسى شاه أرمن ابن السلطان الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب، أخو الملك الكامل محمد صاحب الترجمة. وأوّل شىء ملكه الأشرف هذا من القلاع والبلاد الرّها فى أيّام أبيه، وآخر شىء دمشق. ومات بها بعد أن ملك قلاع ديار بكر سنين. وقد تقدّم من ذكره نبذة كبيرة فى حوادث دولة أخيه الكامل، وفى غزوة دمياط وغير ذلك.
ومولده سنة ثمان «1» وسبعين وخمسمائة بقصر «2» الزّمرّد بالقاهرة قبل أخيه المعظّم عيسى بليلة واحدة، وكان مولدهما بموضع واحد- وقيل: كان بقلعة الكرك- والأول أشهر. وكان الملك الأشرف ملكا كريما حليما واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطايا، لا يوجد فى خزائنه شىء من المال مع اتّساع مملكته؛ ولا تزال عليه الديون؛ ونظر يوما فى دواة كاتبه وشاعره كمال «3» الدين علىّ بن النّبيه المصرىّ فرأى بها قلما واحدا فأنكر عليه، فأنشد الكمال بديها دو بيت:(6/300)
قال الملك الأشرف قولا رشدا ... أقلامك يا كمال قلّت عددا
جاوبت لعظم كتب ما تطلقه ... تحفى فتقطّ فهى تفنى أبدا
ولكمال الدين ابن النبيه المذكور فيه غرر المدائح معروفة بمخالص قصائده فى ديوانه، وتسمّى الأشرفيّات. وكانت وفاة الأشرف فى يوم الخميس رابع المحرّم بدمشق، ودفن بقلعتها؛ ثم نقل بعد مدّة إلى التربة التى أنشئت له بالكلّاسة فى الجانب الشمالى من جامع دمشق.
وفيها توفّى يحيى بن هبة الله بن الحسن القاضى شمس الدين أبو البركات بن سناء الدولة، كان إماما فقيها فاضلا حافظا للقوانين الشرعيّة، ولى القضاء بالبيت المقدّس ثمّ بدمشق، وكان الملك الأشرف موسى يحبّه ويثنى عليه. ومات فى ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأنجب بن أبى السعادات الحمّامى فى شهر ربيع الآخر، وله نيّف وثمانون سنة. وأبو محمد «1» الحسين بن علىّ بن الحسين بن رئيس الرؤساء فى رجب. وقاضى حلب زين الدّين أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدىّ ابن الأستاذ. وأبو المنجّا عبد الله بن عمر بن علىّ بن اللّتّى القزّاز فى جمادى الأولى، وله تسعون سنة.
وأبو طالب علىّ «2» بن عبد الله بن مظفّر ابن الوزير علىّ بن طرّاد الزّينبىّ فى رمضان.
والرّضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبّار المقدسىّ المقرئ. وشيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرزّاق بن عبد الوهّاب [بن «3» علىّ بن علىّ] بن سكينة فى جمادى الأولى. والسلطان(6/301)
الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل فى رجب بدمشق، وله ستون سنة. وأبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز الطبيب فى شهر رمضان، وقد نيّف على التسعين، وهو آخر من حدّث ببغداد عن أبى الوقت. وشرف الدين محمد بن نصر المقدسىّ ابن أخى الشيخ أبى البيان «1» فى رجب. والقاضى شمس الدين أبو نصر محمد «2» بن هبة الله بن محمد ابن الشّيرازىّ فى جمادى الآخرة، وله ستّ وثمانون سنة. وخطيب دمشق جمال الدين محمد بن أبى الفضل الدّولعىّ فى جمادى الأولى، ودفن بمدرسته بجيرون «3» ، وله ثمانون سنة. ونجم الدين مكرّم بن محمد بن حمزة بن أبى الصّقر القرشىّ السفّار فى رجب، وله سبع وثمانون سنة. والسلطان الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن العادل فى المحرّم، وله تسع وخمسون سنة. وقاضى القضاة شمس الدين يحيى بن هبة الله بن سناء الدولة فى ذى القعدة، وله ثلاث وثمانون سنة، وهو من تلامذة القطب النّيسابورىّ. والشهاب «4» يوسف بن إسماعيل الحلبىّ بن الشّوّاء الشاعر المشهور.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.(6/302)
ذكر سلطنة الملك العادل الصغير على مصر
هو السلطان الملك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب الأيوبىّ المصرىّ. وسبب تسلطنه وتقدّمه على أخيه الأكبر نجم الدين أيّوب أنّه لمّا مات أبوه الملك الكامل محمد بقلعة دمشق فى رجب- حسب ما ذكرناه فى أواخر ترجمته- كان ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب- وهو الأكبر- نائب أبيه الملك الكامل على الشرق وإقليم ديار بكر، وكان ابنه الملك العادل أبو بكر هذا- وهو الأصغر- نائب أبيه بديار مصر؛ فلمّا مات الكامل قعد الأمراء يشتورون فيمن يولّون من أولاده فوقع الاتفاق بعد اختلاف كبير- نذكره من قول صاحب المرآة- على إقامة العادل هذا فى سلطنة مصر والشام، وأن يكون نائبه بدمشق ابن عمّه الملك الجواد يونس، وأن يكون أخوه الملك الصالح نجم الدين أيّوب على ممالك الشرق على حاله، فتم ذلك وتسلطن الملك العادل هذا فى أواخر سنة خمس وثلاثين وستمائة، وتمّ أمره ونعت بالعادل سيف الدين على لقب جدّه. ومولد العادل هذا بالمنصورة، ووالده الملك الكامل على قتال الفرنج بدمياط فى ذى الحجّة سنة سبع عشرة وستمائة.
وقال العلّامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى مرآة الزمان: «ذكر ما جرى بعد وفاة الملك الكامل، اجتمع الأمراء وفيهم سيف الدين [علىّ «1» ] بن قليج، وعزّ الدّين أيبك، والركن الهيجاوى، وعماد الدين وفخر الدين ابنا الشيخ، وتشاوروا وانفصلوا على غير شىء؛ وكان الناصر داود (يعنى ابن الملك المعظّم عيسى) بدار «2» أسامة، [فجاءه «3» ] الهيجاوىّ؛ وأرسل إليه عزّ الدين أيبك يقول: أخرج(6/303)
المال وفرّقه فى مماليك أبيك المعظّم والعوامّ معك، وتملّك البلد ويبقوا فى القلعة محصورين فما اتّفق ذلك؛ وأصبحوا يوم الجمعة فى القلعة فحضر من سمّينا [بالأمس «1» ] ، وذكروا الناصر والجواد- قلت: والناصر داود هو ابن المعظم عيسى، والجواد مظفّر الدين يونس هو ابن شمس الدين مودود بن العادل (أعنى هما أولاد عمّ) .
انتهى- قال: وكان أضرّ ما على الناصر عماد الدين ابن الشيخ، لأنّه كان يجرى فى مجالس الكامل مباحثات فيخطئه فيها ويستجهله فبقى فى قلبه، وكان أخوه فخر الدين يميل إلى الناصر؛ فأشار عماد الدين بالجواد، ووافقوا أمره، وأرسلوا الهيجاوىّ فى يوم الجمعة إلى الناصر، وهو فى دار أسامة، فدخل عليه وقال له: إيش قعودك فى بلد القوم؟ قم فاخرج، فقام وركب [وجميع من فى دمشق «2» من دار أسامة إلى القلعة] وما شكّ أحد أنّ الناصر لمّا ركب من دار أسامة إلّا أنّه طالع إلى القلعة، فلمّا تعدّى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الدّرب عرج إلى باب الفرج، فصاحت العامّة لا لا [لا «3» ] ؛ وانقلبت دمشق وخرج الناصر من باب الفرج إلى القابون «4» ، فوقع بهاء الدين بن ملكيشوا «5» وغلمانه فى الناس بالدبابيس، فأنكوا فيهم فهربوا.
وأمّا الجواد فإنّه فتح الخزائن وأخرج المال وفرّق ستة آلاف ألف دينار، وخلع خمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى الخواطىء. وأقام الناصر بالقابون أيّاما، فعزموا على قبضه، فرحل وبات بقصر «6» أمّ حكيم، وخرج خلفه أيبك الأشرفىّ ليمسكه، وعرف عماد الدّين بن موسك فبعث إليه فى السرّ، فسار فى الليل إلى عجلون»
، ووصل أيبك إلى قصر أمّ حكيم، وعاد إلى دمشق.(6/304)
وسار الناصر إلى غزّة، فاستولى على الساحل؛ فخرج إليه الجواد فى عسكر مصر والشام، وقال للأشرفيّة: كاتبوه وأطمعوه فكاتبوه وأطمعوه فاغترّ بهم، وساق من غزّة فى سبعمائة فارس إلى نابلس بأثقاله وخزائنه وأمواله، وكانت على سبعمائة جمل، وترك العساكر منقطعة خلفه، وضرب دهليزه على سبسطية «1» ، والجواد على جيتين «2» فساقوا عليه وأحاطوا به، فساق فى نفر قليل إلى نابلس، وأخذوا الجمال بأحمالها والخزائن والجواهر والجنائب واستغنوا غنى الأبد، وافتقر هو فقرا ما افتقره أحد؛ ووقع عماد الدين بسفط صغير فيه اثنتا عشرة قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة؛ فدخل على الجواد فطلبه منه فأعطاه إيّاه. وسار الناصر لا يلوى على شىء إلى الكرك. ثم وقع له أمور نذكر بعضها فى حوادث العادل والصالح وغيرهما» . انتهى.
ولمّا تمّ أمر العادل وتسلطن بمصر واستقرّ الجواد بدمشق على أنّه نائب العادل، وبلغ هذا الخبر الملك الصالح نجم الدين أيّوب عظم عليه ذلك، كونه كان هو الأكبر، فقصد الشام بعد أمور وقعت له مع الخوارزميّة ومع لؤلؤ صاحب الموصل؛ ثم سار الملك الصالح بعساكر الشرق حتّى وافى دمشق ودخلها فى جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستمائة، فخرج إليه الملك الجواد والتقاه؛ واتّفق معه على مقايضة دمشق بسنجار وعانة «3» ، وسببه [ضيق «4» ] عطن الجواد، [وعجزه عن «5» القيام بمملكة الشام] فإنّه كان يظهر أنّه نائب العادل بدمشق فى مدّة إقامته، ثم خاف الجواد أيضا من العادل، وظنّ أنّه يأخذ دمشق منه، فخرج الجواد إلى البرّيّة وكاتب الملك الصالح(6/305)
المذكور حتّى حضر، فلمّا حضر استانس به وقايضه ودخلا دمشق، ومشى الجواد بين يدى الصالح وحمل الغاشية من تحت «1» القلعة، ثمّ حملها بعده الملك المظفّر صاحب حماة من باب «2» الحديد، ونزل الملك الصالح أيّوب بقلعة دمشق، والجواد فى دار فرخشاه؛ ثم ندم الجواد على مقايضة دمشق بسنجار، واستدعى المقدّمين والجند واستحلفهم، وجمع الصالح أصحابه عنده فى القلعة، وأراد الصالح أن يرحق دار فرخشاه، فدخل ابن «3» جرير فى الوسط وأصلح الحال. ثم خرج الجواد إلى النّيرب «4» ، واجتمع الخلق عند باب النصر «5» يدعون عليه ويسبّونه فى وجهه، وكان قد أساء السّيرة فى أهل دمشق. ثم خرج الصالح من دمشق وتوجّه إلى خربة «6» اللّصوص على عزم الديار المصريّة، فكاتب عمّه صاحب بعلبكّ الملك الصالح إسماعيل بن العادل، وسار الملك الصالح نجم الدين إلى نابلس فاستولى عليها وعلى بلاد الناصر داود؛ فتوجّه الناصر داود إلى مصر داخلا فى طاعة الملك العادل، فأكرمه العادل وأقام الصالح بنابلس ينتظر مجىء عمّه الصالح إسماعيل، فلم يلتفت الملك الصالح إسماعيل إلى ابن أخيه الصالح نجم الدين أيّوب هذا؛ وتوجّه نحو دمشق وهجم عليها ومعه أسد الدين شيركوه صاحب حمص فدخلوها يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر من سنة سبع وثلاثين؛ كلّ ذلك والصالح نجم الدين مقيم بنابلس؛ واتّفق الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبكّ، وأسد الدين شيركوه صاحب حمص على أن تكون البلاد بينهما مناصفة.
ونزل الصالح إسماعيل فى دمشق بداره بدرب الشعّارين، ونزل صاحب جمص بداره(6/306)
أيضا، وأصبحوا يوم الأربعاء فزحفوا على القلعة ونقبوها من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها، وبها الملك المغيث عمر بن الملك الصالح أيّوب، فآعتقله الصالح إسماعيل فى برج، واستولى على جميع ما فى القلعة. وبلغ الملك الصالح نجم الدين أيّوب ما جرى، وقيل له فى العود إلى دمشق، فخلع الصالح أيّوب على عمّيه مجير «1» الدين وتقىّ «2» الدين وعلى غيرهم، وأعطاهم الأموال وقال لهم: ما الرأى؟
قالوا: نسوق إلى دمشق قبل أن تؤخذ القلعة. فخرجوا من نابلس فنزلوا القصير «3» فبلغهم أخذ القلعة، فنفر بنو أيّوب بأسرهم وخافوا على أولادهم وأهليهم بدمشق، وكان الفساد قد لعب فيهم، فتركوا الصالح أيّوب وتوجّهوا إلى دمشق؛ وبقى الصالح فى مماليكه وغلمانه لا غير، ومعه جاريته شجرة الدّرّ أمّ خليل؛ فرحل من القصير يريد نابلس فطمع فيه أهل الغور «4» والقبائل، وكان مقدّمهم شيخا جاهلا يقال له مسبل «5» من أهل بيسان قد سفك الدماء، فتقاتل عسكر الصالح معه حتّى كسروه؛ ثم اتّفق بعد ذلك مجىء الملك الناصر داود من مصر بغير رضا من الملك العادل صاحب مصر ووصل إلى الكرك؛ وكتب الوزيرىّ «6» إلى الناصر يخبره الخبر، فلمّا بلغ الناصر ذلك أرسل عماد الدين بن موسك والظّهير بن سنقر الحلبىّ فى ثلثمائة فارس إلى نابلس. فركب الصالح أيّوب والتقاهم فخدموه وسلّموا عليه بالسلطنة، وقالوا له:
طيّب قلبك، إلى بيتك جئت، فقال الصالح: لا ينظر ابن عمّى فيما فعلت، فلا زال الملوك على هذا؛ وقد جئت إليه أستجير به، فقالوا: قد أجارك وما عليك بأس؛(6/307)
وأقاموا عنده أيّاما حول الدار. فلمّا كان فى بعض الليالى ضربوا بوق النّفير وقالوا: جاءت الفرنج، فركب الناس ومماليك الصالح ووصلوا إلى سبسطية، وجاء عماد الدين والظهير بالعسكر إلى الدار، وقالوا للصالح: تطلع إلى الكرك، فإنّ ابن عمّك له بك اجتماع، وأخذ سيفه. وكانت شجرة الدّرّ حاملا فسقطت، وأخذوه وتوجّهوا به إلى الكرك. واستفحل أمر أخيه الملك العادل صاحب مصر بالقبض على الصالح هذا، وأخذ وأعطى وأمر ونهى، فتغيّر عليه بعض أمراء مصر، ولكن ما أمكنهم يومئذ إلّا السّكات.
وأمّا الصالح، قال أبو المظفّر: ولمّا اجتمعت به (يعنى الصالح) فى سنة تسع وثلاثين وستمائة بالقاهرة حكى لى صورة الحال قال: أركبونى بغلة بغير مهماز ولا مقرعة، وساروا إلى الموتة «1» فى ثلاثة أيام، والله ما كلّمت أحدا منهم كلمة، ولا أكلت لهم طعاما حتى جاءنى خطيب الموتة ومعه بردة عليها دجاجة، فأكلت منها وأقاموا بى فى الموتة يومين وما أعلم إيش كان المقصود، فإذا بهم يريدون [أن] يأخذوا طالعا نحسا «2» يقتضى ألّا أخرج من حبس الكرك، ثم أدخلونى إلى الكرك ليلا على الطالع الذي كان سبب سعادتى ونحوسهم.
قلت: وأنا ممّن ينكر على أرباب التقاويم أفعالهم وأقوالهم لأنّى من عمرى أصحب أعيانهم فلم أر لما يقولونه صحّة، بل الكذب الصريح المحض، ويعجبنى قول الإمام الرّبانىّ عبد المؤمن بن هبة الله الجرجانى فى كتابه «أطباق الذهب» الذي يشتمل على مائة مقالة [واثنتين] ، والذي أعجبنى من ذلك هى المقالة الثالثة والعشرون،(6/308)
وهى ممّا نحن فيه من علم الفلك والنجوم، قال: «أهل التسبيح والتقديس، لا يؤمنون بالتربيع والتسديس؛ والإنسان بعد علوّ النفس، يجلّ عن ملاحظة السعد والنحس؛ وإنّ فى الدين القويم، استغناء عن الزيج والتقويم؛ والإيمان بالكهانة، باب من أبواب المهانة؛ فأعرض عن الفلاسفة، وغضّ بصرك عن تلك الوجوه الكاسفة، فأكثرهم عبدة الطبع، وحرسة الكواكب السبع؛ ما للمنجم الغبىّ، والعلم الغيبىّ، [وما للكاهن «1» الأجنبىّ] ، وسرّ حجب عن النّبيّ؛ وهل ينخدع بالفال، إلّا قلوب الأطفال؛ وإنّ امرأ جهل حال قومه، وما الذي يجرى عليه فى يومه؛ كيف يعرف علم الغد وبعده، ونحس الفلك وسعده! وإنّ قوما يأكلون من قرصة الشمس لمهزولون، وإنهم عن السمع لمعزولون؛ ما السماوات إلّا مجاهل خالية، والكواكب صواها «2»
، والنجوم إلّا هياكل عالية، ومن الله قواها؛ سبعة سيّرة نيّرة، خمسة منها متحيّرة، شرّارة وخيّرة طباعها متغايرة؛ كلّ يسرى لأمر معمّى، وكلّ يجرى لأجل مسمّى!» انتهت المقالة بتمامها وكمالها. وقد خرجنا بذكرها عن المقصود، ولنرجع إلى ما نحن فيه من ترجمة العادل وأخبار أخيه الصالح.
قال: ووكّلوا بى مملوكا لهم، [فظّا غليظا «3»
] يقال له: زريق، وكان أضرّ علىّ من كلّ ما جرى، فأقمت عندهم إلى شهر رمضان سبعة أشهر، ولقد كان عندى خادم صغير فاتّفق أن أكل ليلة كثيرا فاتّخم وبال على البساط، فأخذت البساط بيدى والخادم، وقمت من الإيوان إلى قرب الدّهليز، وفى الدهليز ثمانون رجلا يحفظوننى، وقلت: يا مقدّمون، هذا الخادم قد أتلف هذا البساط، فاذهبوا به إلى الوادى(6/309)
واغسلوه فنفر فىّ زريق، وقال: إيش جاء بك إلى هاهنا! وصاحوا علىّ فعدت إلى موضعى. انتهى.
قلت: وأمّا مماليكه وخزائنه فإنّ الوزيرىّ توجّه بهم إلى قلعة الصّلت «1»
. وأقام مماليكه بنابلس، واستمرّ الحال على ذلك إلى أن بلغ الملك العادل صاحب الترجمة ما جرى على أخيه الصالح، فأظهر الفرح ودقّت الكوسات وزيّنت القاهرة؛ ثم أرسل الملك العادل المذكور العلاء بن النّابلسىّ إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك، يطلب الملك الصالح نجم الدين المذكور منه، ويعطيه مائة ألف دينار فما أجاب «2»
. ثم كاتبه الملك الصالح صاحب بعلبك، وصاحب حمص أسد الدين شيركوه فى إرساله إلى الملك العادل إلى مصر؛ كلّ ذلك والعادل فى قلق من جهة الصالح، فلم يلتفت الملك الناصر داود لكلامهم؛ وأقام الصالح مدّة فى الحبس حتّى أشار عماد الدين وابن قليج والظّهير على الملك الناصر بالاتّفاق مع الصالح نجم الدين أيّوب وإخراجه، فأخرجه الناصر وتحالفا واتّفقا، وذلك فى آخر شهر رمضان، وكان تحليف الناصر داود للصالح أيّوب على شىء ما يقوم به أحد من الملوك، وهو أنّه يأخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر ونصف ديار مصر ونصف ما فى الخزائن من المال والجواهر والخيل والثياب وغيرها، فحلف الصالح على هذا كلّه وهو تحت القهر واليف. ولمّا علم الملك العادل صاحب الترجمة بخلاص أخيه الصالح اتّفق مع عمّه الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبكّ الذي ملك دمشق؛ فسار الملك العادل من مصر والملك الصالح من(6/310)
دمشق ومعه أسد الدين صاحب حمص، ثم عزموا على قصد الناصر والصالح؛ فأوّل من برز لهم الملك العادل صاحب الترجمة بعساكر مصر، وخرج وسار حتى وصل إلى بلبيس؛ وكان قد أساء السّيرة فى أمرائه وحواشيه، فوقع الخلف بينهم وتزايد الأمر حتى قبضوا عليه، وأرسلوا إلى الصالح نجم الدين أيّوب يعرّفونه ويسألونه الإسراع فى المجىء إلى الديار المصريّة. فسار ومعه الملك الناصر داود صاحب الكرك وجماعة من أمرائه ابن موسك وغيره، فكان وصول الصالح إلى بلبيس فى يوم الأحد رابع عشرين ذى القعدة، فنزل فى خيمة العادل، والعادل معتقل فى خركاه. قال أبو المظفّر: حكى لى الصالح واقعات جرت له فى مسيره إلى مصر [منها «1»
] أنّه قال: ما قصدت بمجيء الناصر معى إلّا خوفا أن تكون معمولة علىّ، ومنذ فارقنا غزّة تغيّر علىّ، ولا شكّ أنّ بعض أعدائى أطمعه فى الملك، فذكر لى جماعة من مماليكى أنّه تحدّث معهم فى قتلى. قال: ومنها أنّه لما أخرجنى (يعنى الناصر) ندم وعزم على حبسى، فرميت روحى على ابن قليج، فقال «2»
:
ما كان قصده إلّا أن يتوجّه إلى دمشق أوّلا فإذا أخذنا دمشق عدنا إلى مصر.
قال: ومنها أنّه ليلة وصل إلى بلبيس شرب وشطح إلى العادل، فخرج له من الخركاه فقبّل الأرض بين يديه، فقال له: كيف رأيت ما أشرت عليك ولم تقبل منى! فقال: يا خوند، التوبة، فقال: طيّب قلبك، الساعة أطلقك، وجاء فدخل علينا الخيمة ووقف، فقلت: باسم الله اجلس، فقال: ما أجلس حتى تطلق العادل، فقلت: اقعد، وهو يكرّر الحديث؛ ثم سكت ونام فما صدّقت بنومه وقمت فى باقى اللّيل، فأخذت العادل فى محفة ورحلت به إلى القاهرة. ولمّا دخلنا القاهرة(6/311)
بعثت إليه بعشرين ألف دينار، فعادت إلىّ مع غلمانى، وغضب وأرد نصف ما فى خزائن مصر.
قلت: واستولى الصالح على ملك مصر وقبض على أخيه العادل صاحب الترجمة فى يوم الاثنين خامس عشرين ذى الحجّة وحبسه عنده بالقلعة سنين.
قال سعد الدين مسعود بن حمّويه: وفى خامس شوّال سنة ستّ وأربعين وستمائة جهّز الصالح أخاه أبا بكر العادل ونفاه إلى الشّوبك، وبعث إليه الخادم محسنا يكلّمه فى السفر، فدخل عليه الحبس «1»
وقال له: السلطان يقول لك: لا بدّ من رواحك إلى الشّوبك، فقال: إن أردتم أن تقتلونى فى الشوبك فهاهنا أولى ولا أروح أبدا، فعذله محسن، فرماه بدواة كانت عنده، فخرج وعرّف الصالح أيّوب بقوله، فقال: دبّر أمره، فأخذ المحسن ثلاث مماليك ودخلوا عليه ليلة الاثنين ثانى عشر شوّال فخنقوه بشاش وعلّقوه به، وأظهروا أنه شنق نفسه وأخرجوا جنازته مثل بعض الغرباء، ولم يتجاسر أحد أن يترحّم عليه أو يبكى حول نعشه، وعاش بعده الملك الصالح عشرة أشهر رأى فى نفسه العبر من مرض تمادى به وما نفعه الاحتراز كما سيأتى ذكره فى ترجمته. إن شاء الله تعالى. وزاد ابن خلّكان «2»
فى وفاته بأن قال: ودفن فى تربة شمس الدولة خارج باب النصر- رحمه الله تعالى-.
وكان للعادل المذكور ولد صغير يقال له الملك المغيث مقيم بالقلعة فلا زال بها إلى أن وصل ابن عمّه الملك المعظم توران شاه بعد موت أبيه الصالح نجم الدين إلى المنصورة، وسيّر المغيث المذكور من هناك ونقله إلى الشّوبك؛ فلمّا جرت الكائنة على المعظّم ملك المغيث الكرك وتلك النواحى. قلت: وكانت ولاية الملك العادل(6/312)
على مصر سنة واحدة ونحو شهرين وأيّاما مع ما وقع له فيها من الفتن والأنكاد، ولم يعرف حاله فيها لصغر سنه وقصر مدّته- رحمه الله تعالى- والعادل هذا يعرف بالعادل الصغير، والعادل الكبير هو جدّه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 636]
السنة الأولى من ولاية الملك العادل الصغير أبى بكر ابن الملك الكامل محمد على مصر، وهى سنة ست وثلاثين وستمائة. على أنّه ولى السلطنة فى شهر رجب منها.
فيها توفّى محمود بن أحمد الشيخ الإمام العلّامة جمال الدين الحصيرىّ الحنفىّ، أصله من بخارى من قرية يقال لها حصير «1»
، وتفقّه فى بلده وسمع الحديث وبرع فى علوم كثيرة، وقدم الشام ودرّس بالنوريّة؛ وانتهت إليه رياسة الحنفيّة فى زمانه، وصنّف الكتب الحسان، وشرح «الجامع «2»
الكبير» ، وقرأ عليه الملك المعظّم عيسى الجامع الكبير وغيره. وكان كثير الصدقات غزير الدّمعة، عاقلا ديّنا نزها عفيفا وقورا، وكان المعظّم يحترمه ويجلّه. وكانت وفاته فى يوم الأحد ثامن صفر، ودفن بمقابر الصوفيّة عند المنيبع، ومات وله تسعون سنة.
وفيها توفّى عماد الدين عمر ابن شيخ الشيوخ محمد المنعوت بالصاحب، وهو الذي كان السبب فى عطاء دمشق الجواد، فلمّا مضى إلى مصر لامه العادل على ذلك وتهدّده، فقال: أنا أمضى إلى دمشق، وأنزل بالقلعة وأبعث بالجواد إليك، وإن امتنع قمنا عليه؛ فسار إلى دمشق فوصلها قبل مجىء الملك الصالح نجم الدين أيّوب، ونزل بقلعة دمشق وأمر ونهى، وقال: أنا نائب العادل، وأمر الجواد بالمسير(6/313)
إلى مصر. وكان أسد الدين صاحب حمص بدمشق، فاتّفق مع الجواد على قتل عماد الدين، فآستدعى صاحب حمص بعض نصارى قارة «1»
وأمره بقتله، فركب ابن الشيخ يوما من القلعة بعد العصر فوثب عليه النّصرانىّ وضربه بالسكاكين حتّى قتله؛ وذلك فى جمادى الأولى. ودخل الصالح أيّوب دمشق فحبس النّصرانىّ أياما ثم أطلقه، ومات عماد الدين وله ستّ وخمسون سنة.
وفيها توفّى الحافظ زكىّ الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالىّ «2»
الإشبيلىّ بحماة فى رابع عشرين «3»
شهر رمضان ودفن بها، وكان إماما فقيها محدّثا فاضلا ديّنا- رحمه الله-
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد بن علىّ القسطلانيّ «4»
المالكىّ بمكّة. وصاحب ماردين ناصر الدين أرتق الأرتقىّ.
وأبو المعالى أسعد بن المسلم بن مكّىّ بن علّان القيسىّ فى رجب، وله ست وتسعون سنة. والمحدّث بدل «5»
بن أبى المعمّر التّبريزىّ فى جمادى الأولى. وأبو الفضل جعفر بن علىّ بن هبة الله الهمذانىّ المالكىّ المقرئ فى صفر، وله تسعون سنة.
والعلّامة جمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن إسماعيل [بن عثمان «6»
ابن يوسف بن حسين] بن حفص الصّفراوىّ «7»
المالكىّ مفتى الإسكندرية ومقرئها فى شهر ربيع الآخر، وله اثنتان وتسعون سنة. والشيخ عثمان القصير الزاهد. وشيخ(6/314)
نصيبين عسكر بن عبد الرحيم بن عسكر بن نيّف وسبعين سنة. والصاحب عماد الدين عمر ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجوينىّ قتيلا بقلعة دمشق.
وأبو الفضل محمد بن محمد بن الحسن «1»
بن السّبّاك فى شهر ربيع الآخر. والحافظ زكىّ الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن البرزالىّ الإشبيلىّ بحماة فى رمضان، وله ستون سنة. والعلّامة جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السيد البخارىّ الحصيرىّ شيخ الحنفية بدمشق فى صفر، وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 637]
السنة الثانية من ولاية الملك العادل الصغير ابن الملك الكامل على مصر، وهى سنة سبع وثلاثين وستمائة.
فيها خلع الملك العادل المذكور من ملك مصر بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيّوب حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها هجم الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبكّ على دمشق، ومعه أسد الدين شيركوه صاحب حمص وملكها فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر.
وفيها توفّى الملك ناصر «2»
الدين أرتق صاحب ماردين الأرتقى، كان الملك المعظّم عيسى بن العادل تزوّج أخته، وهى التى بنت المدرسة والتربة عند الجسر الأبيض بقاسيون، ولم تدفن فيها لأنّها نقلت بعد موت زوجها المعظم إلى عند أبيها بماردين(6/315)
فماتت هناك. وكان ناصر الدين المذكور شيخا شجاعا شهما جوادا ما قصده أحد وخيّبه. قتله ولده بماردين خنقا وهو سكران.
وفيها توفّى الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن أسد الدين شيركوه ابن شادى الأيّوبى صاحب حمص، أعطاه ابن عمّ أبيه السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيّوب حمص بعد وفاة أبيه محمد بن شيركوه فى سنة إحدى وثمانين، فأقام بها إلى هذه السنة، وحفظ المسلمين من الفرنج والعرب، ومات بحمص فى يوم الثلاثاء العشرين من شهر رجب ودفن بها.
وفيها توفّى يعقوب الخيّاط كان يسكن مغارة الجوع بقاسيون. وكان شيخا صالحا لقى المشايخ وعاصر الرجال ومات بقاسيون- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخويّىّ «1»
فى شعبان، وله أربع وخمسون سنة.
وأبو البقاء إسماعيل بن محمد بن يحيى المؤدّب راوى مسند إسحاق، فى المحرّم. والصدر علاء الدين أبو سعد ثابت بن محمد [بن أبى بكر «2»
] الخجندي بشيراز، وله تسع وثمانون سنة. وأمين الدين سالم ابن الحافظ «3»
ابن صصرّى فى جمادى الآخرة، وله ستون «4»
سنة.
وصاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن شادى فى رجب، وكانت(6/316)
دولته ستّا وخمسين سنة. والقاضى أبو بكر عبد المجيد «1»
بن عبد الرشيد بن علىّ بن سمّان الهمذانى سبط الحافظ أبى العلّاء «2»
فى شوّال عن ثلاث وسبعين سنة.
وأبو القاسم عبد الرحيم بن يوسف بن هبة الله بن الطّفيل فى ذى الحجّة. وإمام الرّبوة «3»
عبد العزيز بن دلف المقرئ الناسخ فى صفر. وأبو الحسن علىّ بن أحمد الأندلسىّ الحرّانىّ الصوفىّ المفسّر بحماة. وشمس الدين محمد بن الحسن بن محمد بن عبد «4»
الكريم الكاتب بدمشق فى رجب. والحافظ أبو عبد الله «5»
محمد بن سعيد بن يحيى فى شهر ربيع الآخر، وله تسع وسبعون سنة. وتقىّ الدين محمد بن طرخان السلمىّ الصالحىّ فى المحرّم، وله ستّ وسبعون سنة. وأبو طالب محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن [بن أحمد «6»
ابن علىّ] بن صابر السلمىّ الزاهد فى المحرّم. والمحتسب رشيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن الهادى التّنسىّ «7»
فى جمادى الآخرة، وله ثمان وثمانون سنة.(6/317)
والصاحب شرف الدّين أبو البركات «1»
المبارك بن أحمد المستوفىّ بالموصل فى المحرّم.
والصاحب ضياء الدّين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم [بن عبد الواحد «2» المعروف با] بن الأثير الشّيبانىّ الجزرىّ الكاتب مؤلّف كتاب «المثل السائر» فى شهر ربيع الآخر، وله نحو من ثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.(6/318)
ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر
هو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى الأيّوبىّ سلطان الديار المصريّة. وقد تقدّم أنّ الملك الصالح هذا ولى الشرق وديار بكر فى أيّام والده الملك الكامل سنين، وذكرنا أيضا ما وقع له بعد موت الكامل مع أخيه العادل، ومع ابن عمّه الملك الناصر داود وغيرهما فى ترجمة أخيه العادل مفصّلا إلى أن ملك الديار المصريّة فى يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذى الحجّة سنة سبع وثلاثين وستمائة. ومولده بالقاهرة فى سنة ثلاث وستّمائة وبها نشأ، واستخلفه أبوه على مصر لمّا توجه إلى الشرق فأقام الصالح هذا بمصر مع صواب الخادم لا أمر له ولا نهى إلى أن عاد أبوه الكامل إلى الديار المصريّة، وأعطاه حصن كيفا فتوجّه إليها، ووقع له بها أمور ووقائع مع ملوك الشرق بتلك البلاد فى حياة والده حتّى مات أبوه، ووقع له ما حكيناه إلى أن ملك مصر؛ ولمّا تمّ أمره بمصر أصلح أمورها ومهّد قواعدها.
قلت: والملك الصالح هذا هو الذي أنشأ المماليك الأتراك وأمّرهم بديار مصر، وفى هذا المعنى يقول بعضهم:
الصالح المرتضى أيّوب أكثر من ... ترك بدولته يا شرّ مجلوب
قد «1» آخذ الله أيّوبا بفعلته ... فالناس كلّهم فى ضرّ أيّوب
وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبىّ فى تاريخه- بعد أن ذكر من مبدأ أمره نبذة إلى أن قال-: «ثم ملك مصر بلا كلفة واعتقل أخاه، ثم جهّز من أوهم(6/319)
الناصر بأنّ الصالح فى نيّة القبض عليه، فخاف وغضب فأسرع إلى الكرك. ثم تحقّق الصالح [فساد «1» ] نيّات الأشرفيّة، وأنّهم يريدون الوثوب عليه؛ فأخذ فى تفريقهم والقبض عليهم، فبعث مقدّم الأشرفيّة وكبيرهم أيبك الأشقر «2» نائبا على جهة، ثم سيّر من قبض عليه، ثم مسكهم عن بكرة أبيهم وسجنهم؛ وأقبل على شراء المماليك الترك والخطائيّة، واستخدم الأجناد؛ ثم قبض على أكبر الخدّام: شمس الدّين الخاصّ وجوهر النّوبىّ وعلى جماعة من الأمراء الكامليّة وسجنهم بقلعة صدر بالقرب من ايلة؛ وأخرج فخر الدين ابن الشيخ من سجن العادل فركب ركبة عظيمة، ودعت له الرعيّة لكرمه وحسن سيرته، فلم يعجب الصالح ذلك وتخيّل، فأمره بلزوم بيته.
واستوزر أخاه معين الدين. ثم شرع يؤمّر غلمانه (يعنى مماليكه) فأكثر من ذلك، وأخذ فى بناء قلعة الجزيرة «3» واتّخذها سكنا، وأنفق عليها أموالا عظيمة، وكانت الجزيرة قبلا متنّزها لوالده، فشيّدها فى ثلاثة أعوام وتحوّل إليها. وأمّا الناصر داود فإنّه اتّفق مع عمّه الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص فاتّفقوا على الصالح.(6/320)
وأمّا الخوارزميّة فإنّهم تغلّبوا على عدّة «1» قلاع وعاثوا وخرّبوا البلاد، وكانوا شرّا من التّتار، لا يعفون عن قتل ولا [عن] سبى ولا فى قلوبهم رحمة. وفى سنة إحدى وأربعين وقع الصلح بين الصالحين «2» وصاحب حمص على أن تكون دمشق للصالح إسماعيل؛ وأن يقيم هو والحلبيّون والحمصيّون الخطبة فى بلادهم لصاحب مصر، وأن يخرج ولده الملك المغيث من اعتقال الملك الصالح إسماعيل.- والملك المغيث هو ابن الملك الصالح نجم الدين، كان معتقلا قبل سلطنته فى واقعة جرت.
قلت: (يعنى أنّ الصالح قبض عليه لمّا ملك دمشق بعد خروج الصالح من دمشق قاصدا الديار المصريّة قبل أن يقبض عليه الناصر داود) وقد ذكرنا ذلك كلّه فى ترجمة العادل مفصّلا. قلت: وكذلك أطلق أصحاب الصالح، مثل حسام الدين ابن أبى علىّ، ومجير الدين بن أبى ذكرى، فأطلقهم الملك الصالح إسماعيل-.
وركب الملك المغيث وبقى يسير ويرجع إلى القلعة، وردّ على حسام الدين ما أخذ منه.
ثم ساروا إلى مصر، واتّفق الملوك على عداوة الناصر داود وجهّز الصالح إسماعيل عسكرا يحاصرون عجلون «3» وهى للناصر، وخطب لصاحب مصر فى بلاده، [وبقى عنده المغيث حتّى تأتيه نسخ الأيمان، ثم بطل ذلك كلّه «4» ] . وقال ابن «5» واصل:
فحدّثنى جلال الدين الخلاطىّ قال:(6/321)
كنت رسولا من جهة الصالح إسماعيل، فورد علىّ منه كتاب وفى طيّه: كتاب من الصالح نجم الدين إلى الخوارزمية يحثّهم على الحركة ويعلمهم [أنّه «1» ] إنّما صالح عمّه الصالح ليخلّص ابنه المغيث من يده، وأنّه باق على عداوته، ولا بدّ له من أخذ دمشق منه، فمضيت بهذا الكتاب إلى الصاحب معين [الدين»
] فأوقفته عليه، فما أبدى عنه عذرا يسوغ. وردّ الصالح إسماعيل المغيث بن الصالح نجم الدين إلى الاعتقال، وقطع الخطبة وردّ عسكره عن عجلون وأرسل إلى الناصر داود واتّفق معه على عداوة صاحب مصر؛ وكذلك رجع صاحب حلب وصاحب حمص عنه، وصاروا كلمة واحدة عليه، واعتقلت رسلهم بمصر؛ واعتضد صاحب دمشق بالفرنج، وسلّم إليهم القدس وطبريّة وعسقلان، وتجهّز صاحب [مصر «3» ] الملك الصالح هذا لقتالهم، وجهّز البعوث وجاءته الخوارزمية فساقوا إلى غزّة واجتمعوا بالمصريّين، وعليهم ركن الدين بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ. قلت: وبيبرس هذا هو غير بيبرس البندقدارىّ الظاهرىّ، وإنّما هذا أيضا على اسمه وشهرته، وهذا أكبر من الظاهر بيبرس [وأقدم «4» ] ، وقبض «5» عليه الملك الصالح بعد ذلك وأعدمه. انتهى.
قال ابن واصل: وتسلّم الفرنج حرم القدس وغيره، وعمّروا قلعتى طبريّة وعسقلان وحصّنوهما، ووعدهم الصالح إسماعيل بأنّه إذا ملك مصر أعطاهم بعضها، فتجمّعوا وحشدوا وسارت عساكر الشام إلى غزة، ومضى المنصور صاحب حمص بنفسه إلى عكّا وطلبها فأجابوه. قال: وسافرت أنا إلى مصر ودخلت القدس، فرأيت الرّهبان على الصخرة وعليها قنانى الخمر، ورأيت الجرس(6/322)
فى المسجد الأقصى، وأبطل الأذان بالحرم وأعلن الكفر. وقدم- وأنا بالقدس- الناصر داود إلى القدس فنزل بغربيّه.
وفيها ولّى الصالح نجم الدين قضاء مصر للأفضل «1» بعد أن عزل ابن عبد السلام «2» نفسه بمديدة. ولمّا عدّت الخوارزميّة الفرات، وكانوا أكثر من عشرة آلاف ما مرّوا بشىء إلّا نهبوه وتقهقر الذين بغزّة منهم، وطلع الناصر إلى الكرك وهربت الفرنج من القدس، فهجمت الخوارزميّة القدس وقتلوا من به من النصارى، وهدموا مقبرة القمامة «3» ، وجمعوا بها عظام الموتى فحرقوها، ونزلوا بغزّة وراسلوا صاحب مصر (يعنى الملك الصالح هذا) فبعث إليهم بالخلع والأموال وجاءتهم العساكر، وسار الأمير حسام الدين بن أبى علىّ بعسكر ليكون مركزا بنابلس، وتقدّم المنصور إبراهيم على الشاميّين (يعنى لقتال المصريّين) وكان شهما شجاعا قد انتصر على الخوارزميّة غير مرّة، وسار بهم ورافقته الفرنج من عكّا وغيرها بالفارس والراجل، ونفّذ الناصر داود عسكرا فوقع المصافّ بظاهر غزّة، فانكسر المنصور إبراهيم شرّ كسرة. وأخذت سيوف المسلمين الفرنج فأفنوهم قتلا وأسرا، ولم يفلت منهم إلّا الشارد، وأسر أيضا من عسكر دمشق والكرك جماعة من المقدّمين.
قال ابن واصل: حكى لى عن المنصور أنّه قال: والله لقد قصّرت ذلك اليوم(6/323)
ووقع فى قلبى أنّه لا ننتصر لانتصارنا بالفرنج- قلت: عليه من الله ما يستحقّه من الخزى. وإيش يفيد تقصيره بعد أن صار هو والفرنج يدا واحدة على المسلمين! - قال: ووصلت عسكر دمشق معه فى أسوأ حال.
وأمّا مصر فزيّنت زينة لم ير مثلها، وضربت البشائر ودخلت أسارى الشام الفرنج والأمراء، وكان يوما مشهودا بالقاهرة. ثم عطف حسام الدين بن أبى علىّ، وركن الدين بيبرس فنازلوا عسقلان وحاصروها وبها الفرنج الذين تسلّموها فجرح حسام الدين، ثم ترحّلوا إلى نابلس، وحكموا على فلسطين والأغوار إلا عجلون فهى بيد سيف الدين [بن] قليج نيابة عن الناصر داود. ثم بعث السلطان الملك الصالح نجم الدين وزيره معين الدين ابن الشيخ على جيشه وأقامه مقام نفسه، وأنفذ معه الخزائن وحكّمه فى الأمور، وسار إلى الشام ومعه الخوارزميّة، فنازلوا دمشق وبها الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص؛ فذلّ الصالح إسماعيل، وبعث وزيره أمين الدولة مستشفعا بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين، فلم يظفر بطائل، ورجع واشتدّ الحصار على دمشق، وأخذت بالأمان لقلّة من مع صاحبها، ولعدم الميرة بالقلعة، ولتخلّى الحلبيّين عنه، فترحّل الصالح إسماعيل إلى بعلبكّ، والمنصور إلى حمص، وتسلّم الصاحب معين الدين القلعة والبلد.
ولمّا رأت الخوارزميّة أنّ السلطان قد تملّك الشام بهم وهزم أعداءه صار لهم عليه إدلال كثير، مع ما تقدّم من نصرهم له على صاحب الموصل قبل سلطنته وهو بسنجار، فطمعوا فى الأخباز العظيمة؛ فلمّا لم يحصلوا على شىء فسدت نيتهم له وخرجوا عليه، وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، وهو أكبر أمراء الصالح نجم الدين أيّوب، وكان بغزّة، فأصغى إليهم- فيما قيل- وراسلوا صاحب(6/324)
الكرك فنزل إليهم [ووافقهم «1» ] . وكانت أمّه [أيضا «2» ] خوارزميّة وتزوّج منهم، ثم طلع إلى الكرك واستولى حينئذ على القدس ونابلس [وتلك «3» الناحية] ، وهرب منه نوّاب صاحب مصر، ثم راسلت الخوارزمية الملك الصالح إسماعيل وهو فى بعلبكّ وحلفوا له فسار إليهم، واتّفقت كلمة الجميع على حرب الصالح صاحب مصر، فقلق الصالح لذلك وطلب ركن الدين بيبرس فقدم مصر فاعتقله. وكان آخر العهد به، ثم خرج بعساكره فخيم بالعبّاسة «4» وكان قد نفذّ رسوله إلى الخليفة المستعصم يطلب تقليدا بمصر والشام [والشرق «5» ] ، فجاءه التشريف والطّوق الذهب والمركوب، فلبس التشريف الأسود والعمامة والجبّة، وركب الفرس بالحلية الكاملة، وكان يوما مشهودا؛ ثم جاء الصالح إسماعيل والخوارزميّة ونازلوا دمشق وليس بها كبير عسكر، وبالقلعة الطّواشى رشيد، وبالبلد نائبها حسام الدين بن أبى علىّ الهذبانى، فضبطها وقام بحفظها بنفسه ليلا ونهارا، واشتدّ بها الغلاء وهلك أهلها جوعا ووباء.
قال: وبلغنى أنّ رجلا مات فى الحبس فأكلوه؛ كذلك حدّثنى حسام الدين بن أبى علىّ، فعند ذلك اتّفق عسكر حلب والمنصور صاحب حمص على حرب الخوارزميّة وقصدوهم، فتركوا حصار دمشق وساقوا أيضا يقصدونهم فالتقى الجمعان، ووقع المصافّ فى أوّل سنة أربع وأربعين على القصب «6» ، وهى منزلة بريد من حمص من قبليها، فاشتدّ القتال والصالح إسماعيل مع الخوارزميّة فانكسروا عند ما قتل مقدّمهم حسام الدين بركة خان، وانهزموا ولم تقم لهم بعدها قائمة، وقتل بركة خان مملوك من الحلبيّين وتشتّتت الخوارزميّة، وخدم طائفة منهم بالشام وطائفة بمصر(6/325)
وطائفة مع كشلو خان ذهبوا إلى التّتار وخدموا معهم؛ وكفى الله شرّهم. وعلّق رأس بركة خان على قلعة حلب. ووصل الخبر إلى القاهرة فزيّنت، وحصل الصلح التامّ بين السلطان (يعنى الصالح نجم الدين أيّوب) وبين صاحب حمص والحلبيّين.
وأمّا الصالح إسماعيل [فإنّه] التجأ إلى ابن أخته «1» الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب. وأما نائب دمشق حسام الدين فإنّه سار إلى بعلبك وحاصرها وبها أولاد الصالح إسماعيل فسلّموها بالأمان؛ ثم أرسلوا إلى مصر تحت الحوطة هم والوزير أمين الدولة والأستادار ناصر الدين بن يغمور فاعتقلوا بمصر. وصفت البلاد للملك الصالح. وبقى الملك الناصر داود بالكرك فى حكم المحصور، ثم رضى السلطان على فخر الدين ابن الشيخ وأخرجه من الحبس بعد موت أخيه الوزير معين الدين، وسيّره إلى الشام واستولى على جميع بلاد الناصر داود، وخرّب ضياع الكرك ثم نازلها أياما، وقلّ ما عند الناصر من المال والذخائر وقلّ ناصره، فعمل قصيدة يعاتب فيها السلطان فيما له عنده من اليد من الذبّ عنه وتمليكه ديار مصر، وهى:
قل للذى قاسمته ملك اليد ... ونهضت فيه نهضة المستأسد
عاصيت فيه ذوى الحجى من أسرتى ... وأطعت فيه مكارمى وتودّدى
يا قاطع الرّحم التى صلتى بها ... كتبت على الفلك الأثير بعسجد
إن كنت تقدح فى صريح مناسبى ... فأصبر بعزمك للهيب المرصد
عمّى أبوك ووالدى عمّ به ... يعلو انتسابك كلّ ملك أصيد
صالا وجالا كالأسود ضواريا ... فارتدّ تيّار الفرات المزيد(6/326)
دع سيف مقولى البليغ يدبّ عن ... أعراضكم بفرنده المتوقّد
فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم ... بمفصّل من لؤلؤ وزبرجد
ثم أخذ يصف نفسه [وجوده ومحاسنه «1» وسؤدده] إلى أن قال:
يا محرجى بالقول والله الذي ... خضعت لعزّته جباه السّجّد
لولا مقال الهجر منك لما بدا ... منّى افتخار بالقريض المنشد
إن [كنت] قلت خلاف ما هو شيمتى ... فالحاكمون بمسمع وبمشهد
والله يا بن العمّ لولا خيفتى ... لرميت ثغرك بالعداة المرّد
لكننى ممّن يخاف حرامه ... ندما يجرّعنى سمام الأسود
فأراك ربّك بالهدى ما ترتجى ... لنراك تفعل كلّ فعل مرشد
لتعيد وجه الملك طلقا ضاحكا ... وتردّ شمل البيت غير مبدّد
كى لا ترى الأيام فينا فرصة ... للخارجين وضحكة للحسّد
قال: ثم إنّ السلطان طلب الأمير حسام الدين بن أبى علىّ وولّاه نيابة الديار المصريّة، واستناب على دمشق الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح، ثم قدم الشام وجاء إلى خدمته صاحب حماة الملك المنصور وهو ابن اثنتى عشرة سنة وصاحب حمص [وهو صغير «2» ] ، فأكرمهما وقرّبهما، ووصل إلى بعلبكّ، ثم ردّ إلى الشام، ثم رجع السلطان ومرض فى الطريق.
قال ابن واصل: حكى لى الأمير حسام الدين قال: لمّا ودّعنى السلطان قال:
إنّى مسافر وأخاف أن يعرض لى موت وأخى العادل بقلعة مصر، فيأخذ البلاد وما يجرى عليكم منه خير، فإن مرضت ولو أنّه حمّى يوم فأعدمه، فإنّه لا خير فيه؛(6/327)
وولدى توران شاه لا يصلح للملك، فإن بلغك موتى فلا تسلّم البلاد لأحد من أهلى، بل سلّمها للخليفة. انتهى.
قال: ودخل السلطان مصر، وصرف حسام الدين عن نيابة مصر بجمال الدين ابن يغمور، وبعث الحسام بالمصريّين إلى الشام، فأقاموا [بالصالحيّة «1» ] أربعة أشهر.
قال ابن واصل: وأقمت مع حسام الدين هذه المدّة، وكان السلطان فى هذه المدّة وقبلها مقيما بأشمون «2» طنّاح، ثم «3» فى السنة خرج الحلبيّون وعليهم شمس الدين لؤلؤ الأمينىّ، فنازلوا حمص، ومعهم الملك الصالح إسماعيل يرجعون إلى رأيه، فحاصرها شهرين ولم ينجدها صاحب مصر؛ وكان السلطان مشغولا بمرض عرض له فى بيضه ثم فتح، وحصل منه ناسور بعسر بول «4» ، وحصلت له فى رئته بعض قرحة متلفة، لكنّه عازم على إنجاد صاحب حمص. ولمّا اشتدّ الحصار بالأشرف صاحب حمص اضطرّ إلى أن أذعن بالصلح، وطلب العوض عن حمص تلّ باشر مضافا إلى ما بيده، وهو الرّحبة «5» وتدمر، فتسلمها الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينىّ، وأقام بها نوّابا لصاحب(6/328)
حلب. فلمّا بلغ السلطان أخذ حمص، وهو مريض، غضب وعظم عليه، وترحّل إلى القاهرة فاستناب بها ابن يغمور وبعث الجيوش إلى الشام لاستنقاذ حمص، وسار السلطان فى محفّة، وذلك فى سنة ستّ وأربعين وستمائة؛ فنزل بقلعة دمشق وبعث جيشه فنازلوا حمص ونصبوا عليها المجانيق، منها منجنيق مغربىّ. ذكر الأمير حسام الدين أنّه كان يرمى حجرا زنته مائة وأربعون رطلا بالدمشقىّ؛ ونصب عليها قرابغا اثنى عشر منجنيقا سلطانيّة، وذلك فى الشتاء. وخرج صاحب حلب بعسكره فنزل بأرض كفر طاب، ودام الحصار إلى أن قدم البادرانىّ «1» للصلح بين صاحب حلب والسلطان، على أن تقرّ حمص بيد صاحب حلب، فوقع الاتّفاق على ذلك؛ وترحّل السلطان عن حمص لمرض السلطان ولأنّ الفرنج تحرّكوا [وقصدوا «2» مصر] ، وترخّل السلطان إلى الديار المصريّة كذلك وهو فى محفّة.
وكان الناصر صاحب الكرك قد بعث شمس الدين الخسرو شاهى إلى السلطان وهو بدمشق يطلب خبزا بمصر والشّوبك وينزل له عن الكرك، فبعث السلطان تاج الدين [بن «3» ] مهاجر فى إبرام ذلك إلى الناصر، فرجع عن ذلك لمّا سمع حركة الفرنج؛ وطلب السلطان نائب مصر جمال الدين بن يغمور فاستنابه بدمشق وبعث على نيابة مصر حسام الدين بن أبى علىّ فدخلها فى المحرّم سنة سبع وأربعين؛ وسار السلطان فنزل بأشموم طنّاح ليكون فى مقابلة الفرنج إن قصدوا دمياط، وتواترت الأخبار بأنّ ريدا فرنس مقدّم الأفرنسيسيّة قد خرج من بلاده فى جموع عظيمة وشتّى بجزيرة قبرص؛ وكان من أعظم ملوك الفرنج وأشدّهم بأسا. وريدا(6/329)
بلسانهم: الملك، فشحنت دمياط بالذخائر وأحكمت الشوانى، ونزل فخر الدين ابن الشيخ بالعساكر على جزيرة دمياط، فأقبلت مراكب الفرنج فأرست فى البحر بازاء المسلمين فى صفر من الستة، ثم شرعوا من الغد فى النزول إلى البرّ الذي فيه المسلمون وضربت خيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم [المسلمون «1» ] القتال، فقتل يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام، والأمير الوزيرىّ- رحمهما الله تعالى- فترحّل فخر الدين ابن الشيخ بالناس، وقطع بهم الجسر إلى البرّ الشرقى الذي فيه دمياط، وتقهقر إلى أشمون طنّاح، ووقع الخذلان على أهل دمياط، فخرجوا منها طول الليل على وجوههم حتّى لم يبق بها أحد؛ وكان هذا من قبيح رأى فخر الدين، فإنّ دمياط كانت فى نوبة سنة خمس عشرة وستمائة أقلّ ذخائر وعددا، وما قدر عليها الفرنج إلّا بعد سنة، وإنّما هرب أهلها لمّا رأوا هرب العسكر وضعف السلطان؛ فلمّا أصبحت الفرنج ملكوها صفوا بما حوت من العدد والأسلحة والذخائر والغلال والمجانيق، وهذه مصيبة لم يجر مثلها! فلمّا وصلت العساكر وأهل دمياط إلى السلطان حنق على الشجعان الذين كانوا بها، [وأمر «2» بهم] فشنقوا جميعا ثم رحل بالجيش، وسار إلى المنصورة فنزل بها فى المنزلة التى كان أبوه نزلها، وبها قصر بناه أبوه الكامل، ووقع النّفير العامّ فى المسلمين، فاجتمع بالمنصورة أمم لا يحصون من المطّوّعة والعربان؛ وشرعوا فى الإغارة على الفرنج ومناوشتهم وتخطّفهم، واستمرّ ذلك أشهرا، والسلطان يتزايد والأطباء قد آيسته لاستحكام المرض به.
وأمّا صاحب الكرك (يعنى الملك الناصر داود) فإنّه سافر إلى بغداد فاختلف أولاده، فسار أحدهم إلى الملك الصالح نجم الدين أيّوب وسلّم إليه الكرك، ففرح [بها] مع ما فيه من الأمراض، وزيّنت بلاده وبعث إليها بالطواشى بدر الدين الصّوابى(6/330)
نائبا، وقدم عليه أولاد الناصر داود، فبالغ الملك الصالح فى إكرامهم وأقطعهم أخبازا جليلة. ولم يزل يتزايد به المرض إلى أن مات، وأخفى موته على ما سيأتى ذكره. إن شاء الله تعالى.
قال ابن واصل فى سيرة الملك الصالح نجم الدين أيّوب هذا: وكان مهيبا عزيز النفس عفيفا طاهر اللّسان والذّيل، لا يرى الهزل ولا العبث، شديد الوقار كثير الصّمت، اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظم عسكره، ورجّحهم على الأكراد [وأمّرهم «1» ] ، واشترى وهو بمصر خلقا منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم «البحرية» . حكى لى حسام الدين ابن أبى علىّ: أن هؤلاء المماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم كانوا أبلغ من يعظّم هيبته، كان إذا خرج وشاهدوا صورته يرعدون خوفا منه، وأنّه لم يقع منه فى حال غضبه كلمة قبيحة قطّ، أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلّف، وكان كثير الباه بجواريه فقط، ولم يكن عنده فى آخر وقت غير زوجتين: إحداهما شجرة الدّر، والأخرى بنت العالمة، تزوّجها بعد مملوكه الجوكندار «2» ؛ وكان إذا سمع الغناء لا يتزعزع ولا يتحرّك، وكذلك الحاضرون يلتزمون حالته كأنّما على رءوسهم الطير؛ وكان لا يستقلّ أحدا من أرباب دولته بأمر بل يراجعون القصص مع الخدّام، فيوقّع عليها بما يعتمده كتّاب الإنشاء؛ وكان يحبّ أهل الفضل والدّين، وما كان له ميل لمطالعة الكتب؛ وكان كثير العزلة والانفراد، وله نهمة باللّعب بالصّوالجة، وفى إنشاء الأبنية العظيمة الفاخرة. انتهى كلام ابن واصل.(6/331)
وقال غيره: وكان ملكا مهيبا جبّارا ذا سطوة وجلالة، وكان فصيحا حسن المحاورة عفيفا عن الفواحش، أمّر مماليكه الترك؛ وجرى بينه وبين عمّه الملك الصالح أمور وحروب إلى أن أخذ «1» نقابة دمشق عام ثلاثة وأربعين؛ وذهب إسماعيل إلى بعلبكّ، ثم أخذت من إسماعيل بعلبك، وتعثّر والتجأ إلى ابن أخته الناصر صاحب حلب. ولمّا خرج الملك الصالح هذا من مصر إلى الشام خاف من بقاء أخيه الملك العادل فقتله سرّا ولم يتمتع بعده؛ ووقعت الأكلة فى خدّه «2» بدمشق.
ونزل الأفرنس ملك الفرنج بجيوشه على دمياط فأخذها، فسار إليه الملك الصالح فى محفّة حتى نزل المنصورة عليلا، ثم عرض له إسهال إلى أن مات فى ليلة النصف من شعبان بالمنصورة، وأخفى موته حتى أحضروا ولده الملك المعظم توران شاه من حصن كيفا وملّكوه.
وقال سعد الدين: إنّ ابن عمّه فخر الدين نائب السلطنة أمر بتحليف الناس لولده الملك المعظم توران شاه، ولولىّ عهده فخر الدين فتقرّر ذلك، وطلبوا الناس فحضروا وحلفوا إلّا أولاد الناصر داود صاحب الكرك توقّفوا، وقالوا: نشتهى [أن] نبصر السلطان، فدخل خادم وخرج وقال: السلطان يسلّم عليكم، وقال: ما يشتهى أن تروه فى هذه الحالة، وقد رسم لكم أن تحلفوا.
فحلفوا؛ وكان للسلطان مدّة من وفاته ولا يعلم به أحد، وزوجته شجرة الدرّ توقّع مثل خطّه على التواقيع- على ما يأتى ذكره- ولمّا حلف أولاد الناصر صاحب الكرك جاءتهم المصيبة من كلّ ناحية، لأنّ الكرك راحت من يدهم، واسودّت وجوههم عند أبيهم، ومات الملك الصالح الذي أمّلوه وأعطوه الكرك؛(6/332)
ثم عقيب ذلك نفوهم من مصر. ثم إنّ الأمير فخر الدين نفذ نسخة الأيمان إلى البلاد [ليحلفوا للمعظّم «1» ] ثم كلّ ذلك والسلطان لم يظهر موته. قال: وكانت أمّ ولده شجرة الدرّ ذات رأى وشهامة، فدبّرت أمر الملك الصالح وأخفت موته. وهى التى وليت الملك مدّة شهرين بعد ذلك، وخطب لها على المنابر بمصر وغيرها- على ما يأتى ذكر ذلك فى محلّه إن شاء الله تعالى. ثم ملك بعدها الأتراك إلى يومنا هذا. انتهى.
وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان- بعد ما ذكر اسم الملك الصالح ومولده قال-: «ولما ملك مصر اجتهد فى خلاص ولده المغيث فلم يقدر. قلت (يعنى المغيث الذي كان حبسه الملك الصالح إسماعيل بقلعة دمشق فى مبادئ أمر الملك الصالح) . قال: وكان مهيبا، هيبته عظيمة، جبّارا أباد الأشرفيّة وغيرهم. وقال جماعة من أمرائه: والله ما نقعد على بابه إلّا ونقول من هاهنا نحمل إلى الحبوس، وكان إذا حبس إنسانا نسيه، ولا يتجاسر أحد أن يخاطبه فيه، وكان يحلف أنّه ما قتل نفسا بغير حقّ. قال صاحب المرآة: وهذه مكابرة ظاهرة؛ فإنّ خواص أصحابه حكوا أنّه لا يمكن إحصاء من قتل من الأشرفية وغيرهم، ولو لم يكن إلّا قتل أخيه العادل [لكفى «2» ] . قال:
وكانت عتيقته شجرة الدرّ تكتب خطّا يشبه خطّه، فكانت تعلّم على التواقيع، وكان قد نسر مخرج السلطان وامتدّ إلى فخذه اليمنى ورجله ونحل جسمه وعملت له محفّة يركب فيها، وكان يتجلّد، ولا يطّلع أحد على حاله؛ ولمّا مات حمل تابوته إلى الجزيرة فعلّق بسلاسل حتّى قبر فى تربته إلى جانب مدرسته بالقاهرة» .(6/333)
قلت: وذكر القطب «1» اليونينىّ فى كتابه الذيل على مرآة الزمان، قال فى ترجمة البهاء «2» زهير كاتب الملك الصالح قال:
فلمّا خرج الملك الصالح بالكرك من الاعتقال وسار إلى الديار المصرية، كان بهاء الدين زهير المذكور فى صحبته، وأقام عنده فى أعلى المنازل وأجلّ المراتب، وهو المشار إليه فى كتّاب الدرج والمقدّم عليهم، وأكثرهم اختصاصا بالملك الصالح واجتماعا به، وسيّره رسولا فى سنة خمس وأربعين وستمائة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب يطلب منه إنفاذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل إليه فلم يجب إلى ذلك، وأنكر الناصر هذه الرسالة غاية الإنكار، وأعظمها واستصعبها، وقال: كيف يسعنى أن أسيّر عمّه إليه، وهو خال أبى وكبير البيت الأيّوبىّ حتى يقتله، وقد استجار بى! والله هذا شىء لا أفعله أبدا. ورجع البهاء زهير إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب، فعظم عليه وسكت على ما فى نفسه من الحنق.
وقبل موت الملك الصالح نجم الدين أيّوب بمديدة يسيرة- وهو نازل على المنصورة- تغيّر على بهاء الدين زهير وأبعده لأمر لم يطّلع عليه أحد. قال: حكى لى البهاء أن سبب تغيّره عليه أنّه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليعلّم عليه على العادة، فلمّا وقف عليه الملك الصالح كتب بخطّه بين الأسطر: «أنت تعرف قلّة عقل ابن عمّى، وأنّه(6/334)
يحبّ من يعظّمه ويعطيه من يده فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه» ، وسيّر الكتاب إلى البهاء زهير ليغيّره، والبهاء زهير مشغول، فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمره بختمه، فختمه وجهّزه إلى الناصر على يد نجّاب، ولم يتأمّله فسافر به النجّاب لوقته؛ واستبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليعلّم عليه؛ ثم سأل عنه بهاء الدين زهير بعد ذلك، وقال له: ما وقفت على ما كتبته بخطّى بين الأسطر؟
قال البهاء زهير: ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمّه! وأخبره أنّه سيّر الكتاب مع النجّاب، فقامت قيامة السلطان، وسيّروا فى طلب النجّاب فلم يدركوه؛ ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك فعظم عليه وتألّم له، ثم كتب جوابه إلى الملك الصالح، وهو يعتب فيه العتب المؤلم، ويقول له فيه: والله ما بى ما يصدر منك فى حقّى، وإنما بى اطلاع كتّابك على مثل هذا! فعزّ ذلك على الملك الصالح، وغضب على بهاء الدين زهير، وبهاء الدين لكثرة مروءته نسب ذلك إلى نفسه ولم ينسبه لكاتب الكتاب، وهو فخر الدين بن لقمان- رحمه الله تعالى-.
قال: وكان الملك الصالح كثير التخيّل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم، لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة، والسيئة عنده لا تغفر، والتوسّل إليه لا يقبل، والشفائع لديه لا تؤثّر، فلا يزداد بهذه الأمور التى تسلّ سخائم الصدور إلا انتقاما. وكان ملكا جبّارا متكبّرا شديد السطوة كثير التجبّر والتعاظم على أصحابه وندمائه وخواصه، ثقيل الوطأة؛ لا جرم أن الله تعالى قصّر مدّة ملكه وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره. وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده؛ لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدر فى إعطاء العساكر والإنفاق فى مهمّات الدولة، لا يتوقّف فيما يخرجه فى هذا الوجه؛ وكانت همّته عالية جدا، وآماله بعيدة، ونفسه تحدّثه بالاستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلّب(6/335)
عليها، وانتزاعها من يد ملوكها، حتّى لقد حدّثته نفسه بالاستيلاء على بغداد والعراق؛ وكان لا يمكّن القوىّ من الضعيف، وينصف المشروف من الشريف؛ وهو أوّل من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيّوبىّ، ثم اقتدوا به لمّا آل الملك إليهم.
قلت: ومن ولى مصر بعد الصالح من بنى أيّوب حتى اقتنى المماليك! هو آخر ملوك مصر، ولا عبرة بولاية ولده الملك المعظم توران شاه، اللهم إن كان الذي بالبلاد الشاميّة فيمكن، وأمّا بمصر فلا.
وكانت ولايته بمصر تسع سنين وسعة أشهر وعشرين يوما لأنّه ولى السلطنة فى عشرين ذى الحجّة سنة سبع وثلاثين، ومات فى نصف شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة. انتهى.
قال: ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلّا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قلعة منها، ومع هذا سرّ معظم الناس بموته حتّى خواصّه، فإنّهم لم يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز منه. قال: ولم يكن فى خلقه الميل لأحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم ولا الحنوّ عليهم على ما جرت به العادة. وكان يلازم فى خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا فى دست السلطنة.
وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش فى حال غضبه، ينتقم بالفعل لا بالقول- رحمه الله تعالى-. انتهى ما أوردناه فى ترجمة الملك الصالح من أقوال جماعة كثيرة من المؤرّخين ممّن عاصره وبعدهم، فمنهم من شكر ومنهم من أنكر.
قلت: وهذا شأن الناس فى أفعال ملوكهم، والحاكم أحد الخصمين غضبان منه إذا حكم بالحقّ، فكيف السلطان! وفى الجملة هو عندى أعظم ملوك بنى أيّوب(6/336)
وأجلّهم وأحسنهم رأيا وتدبيرا ومهابة وشجاعة وسؤددا بعد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وهو أخو جدّه الملك العادل أبى بكر بن أيّوب؛ ولو لم يكن من محاسنه إلّا تجلّده على مقابلة العدوّ بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة المذكورة وموته على الجهاد، والذبّ عن المسلمين.- والله يرحمه- ما كان أصبره وأغزر مروءته.
ولمّا مات رثاه الشعراء بعدّة مراث. وأمّا مدائحه فكثيرة من ذلك ما قاله فيه كاتبه وشاعره بهاء الدين زهير من قصيدته التى أوّلها:
وعد الزيارة طرفه المتملّق ... وبلاء قلبى من جفون تنطق
إنّى لأهوى الحسن حيث وجدته ... وأهيم بالقدّ الرشيق وأعشق
يا عاذلى أنا من سمعت حديثه ... فعساك تحنو أو لعلّك ترفق
لو كنت منّا حيث تسمع أو ترى ... لرأيت ثوب الصبر كيف يمزّق
ورأيت ألطف عاشقين تشاكيا ... وعجبت ممّن لا يحبّ ويعشق
أيسومنى العذّال عنه تصبّرا ... وحياته قلبى أرقّ وأشفق
إن عنّفوا أو سوّفوا أو خوّفوا ... لا انتهى لا أنثنى لا أفرق
أبدا أزيد مع الوصال تلهّفا ... كالعقد فى جيد المليحة يقلق
يا قاتلى إنّى عليك لمشفق ... يا هاجرى إنّى اليك لشيّق
وأذاع أنّى قد سلوتك معشر ... يا ربّ لا عاشوا لذاك ولا بقوا
ما أطمع العذّال إلّا أنّنى ... خوفا عليك إليهم أتملّق
وإذا وعدت الطيف منك بهجعة ... فاشهد علىّ بأنّنى لا أصدق
فعلام قلبك ليس بالقلب الذي ... قد كان لى منه المحبّ المشفق
وأظنّ قدّك شامتا لفراقنا ... فلقد نظرت إليه وهو مخلّق(6/337)
ولقد سعيت إلى العلا بعزيمة ... فقضى لسعيى أنّه لا يحقق
وسريت فى ليل كأنّ نجومه ... من فرط غيرتها إلىّ تحدّق
حتّى وصلت سرادق الملك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق
ووقفت من ملك الزمان بموقف ... ألفيت قلب الدهر منه يخفق
فإليك يا نجم السماء فإنّنى ... قد لاح نجم الدين لى يتألّق
الصالح الملك الذي لزمانه ... حسن يتيه به الزمان ورونق
ملك تحدّث عن أبيه وجدّه ... نسب لعمرى فى العلا لا يلحق
سجدت له حتّى العيون مهابة ... أو ما تراها حين يقبل تطرق
والقصيدة أطول من هذا تركتها خوف الإطالة والملل.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 638]
السنة الأولى من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل محمد على مصر، وهى سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
فيها سلّم الملك الصالح إسماعيل الشّقيف «1» لصاحب صيداء الفرنجىّ. وعزل عزّ الدين بن عبد السلام عن الخطابة وحبسه، وحبس أيضا أبا «2» عمرو بن الحاجب لأنّهما أنكرا عليه فعله، فحبسهما مدّة ثم أطلقهما؛ وولّى العماد «3» ابن خطيب بيت الأبّار الخطابة عوضا عن ابن عبد السلام.(6/338)
وفيها ظهر بالروم رجل تركمانىّ يقال له البابا وادّعى النبوّة، وكان يقول قولوا:
لا إله إلا الله البابا ولىّ الله، واجتمع إليه خلق كثير؛ فجهّز إليه صاحب الروم جيشا فالتقوا، فقتل بينهم أربعة آلاف، وقتل البابا المذكور. قال أبو المظفّر:
«وفيها ذكر أنّ بمازندران «1» - وهى مدينة العجم- عين ماء يطلع منها فى كلّ ستّ وثلاثين سنة حيّة عظيمة مثل المنارة، فتقيم طول النهار، فإذا غربت الشمس غاصت الحيّة فى العين فلا ترى إلّا مثل ذلك الوقت؛ وقيل: إنّ بعض ملوك العجم جاء بنفسه إليها فى مثل ذلك اليوم، وربطها بسلاسل حتّى يعوقها، فلمّا غربت الشمس غاصت فى العين، وهى إلى الآن إذا طلعت رأوا السلاسل فى وسطها» .
قلت: ولعلّها لم تتعرّض لأحد بسوء، وإلّا فكان الناس تحيّلوا فى قتلها وقتلوها بأنواع المكايد. وأمر هذه الحيّة مشهور ذكره غير واحد من المؤرّخين.
وفيها وصل الملك الناصر داود من مصر إلى غزّة، وكان بينه وبين الفرنج وقعة، وكسرهم فيها وغنم منهم أشياء كثيرة.
وفيها توفّى أبو بكر «2» محمد بن علىّ بن محمد الشيخ الإمام محى الدين العالم المشهور بابن عربى الطائىّ [الأندلسىّ «3» ] الحاتمىّ فى شهر ربيع الآخر «4» ، وله بمان وسبعون سنة.
وكان إماما فى علوم الحقائق، وله المصنّفات الكثيرة. وقد اختلف الناس فى تصانيفه وأقواله اختلافا كبيرا. قال «5» : وكان يقول: أعرف الاسم الأعظم، وأعرف الكيمياء(6/339)
بطريق المنازلة لا بطريق الكسب «1» ، وكانت وفاته بدمشق ودفن بقاسيون بتربة القاضى محيى الدين [بن الزكىّ «2» ] . ومن شعره فى جزار:
ناديت جزّارا تروق صفاته ... قد أخجلت سمر القنا حركاته
يا واضع السّكين فى فمه وقد ... أهدى بها ماء الحياة لهاته
ضعها على المذبوح ثانى كرّة ... وأنا الضمين بأن تعود حياته
قلت: وأحسن من هذا قول البرهان القيراطىّ «3» - رحمه الله- فى المعنى:
ربّ جزّار هواه ... صار لى دما ولحما
فزت بالألية منه ... وامتلا قلبى شحما
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ أحمد بن محمّد بن محمود الحرّانىّ ثم البغدادىّ فى المحرّم. والعلّامة القاضى نجم الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسىّ الشافعىّ مدرس العذراويّة فى شوّال.
وخطيب داريّا «4» سمح بن ثابت. وجمال الملك علىّ بن مختار العامرىّ ابن الجمل فى شعبان، وله تسعون سنة. ومحيى الدين أبو بكر محمد بن علىّ بن محمد بن العربىّ الطائى الحاتمىّ المرسىّ، وله ثمان وسبعون سنة. مات فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع أصابع.(6/340)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 639]
السنة الثانية من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وثلاثين وستمائة.
فيها شرع الملك الصالح المذكور فى عمارة المدارس «1» ببين القصرين من القاهرة، وشرع أيضا فى بناء قلعة «2» الجزيرة، وأخذ أملاك الناس، وأخرب نيّفا وثلاثين مسجدا، وقطع ألف نخلة، وغرم عليها خراج مصر سنين كثيرة؛ فلم تقم بعد وفاته، وأخر بها مماليكه الأتراك سنة إحدى وخمسين وستمائة.(6/341)
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن أحمد الشيخ الإمام العالم شمس الدين النحوى الإربلىّ ثم الموصلىّ الضّرير [المعروف «1» بابن الخبّاز] صاحب التصانيف. كان إماما بارعا مفتنّا عالما بالنحو واللغة والأدب. ومن شعره فى العناق:
كأنّنى عانقت ريحانة ... تنفّست فى ليلها البارد
فلو ترانا فى قميص الدّجى ... حسبتنا فى جسد واحد
قلت: ومثل هذا قول العلّامة أبى الحسن علىّ «2» بن الجهم- رحمه الله تعالى-:
سقى الله ليلا ضمّنا بعد هجعة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معدّب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرّب
ومثل هذا قول القائل:
لا والمنازل من نجد وليلتنا ... بالخيف إذ جسدانا بيننا جسد
كم رام منّا الكرى من لطف مسلكه ... نوما فما انفكّ لا خد ولا عضد
ومثل هذا أيضا قول [ابن] النّعاويذىّ «3» - رحمه الله تعالى-:
فكم ليلة قد بتّ أرشف ريقه ... وجرت على ذاك الشّنيب المنضّد
وبات كما شاء الغرام معانقى ... وبتّ وإيّاه كحرف مشدّد
وقد خرجنا عن المقصود ولنرجع لما نحن بصدده.
وفيها توفى موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العلّامة كمال الدين أبو الفتح الموصلىّ الشافعىّ. مولده فى صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل، وتفقّه على والده وغيره، وبرع فى عدّة علوم.(6/342)
قال ابن خلّكان- رحمه الله-: وكان الشيخ يعرف الفقه والأصلين والخلاف والمنطق والطبيعى والإلهى والمجسطى «1» وأقليدس «2» والهيئة والحساب والجبر والمقابلة والمساحة والموسيقى معرفة لا يشاركه فيها غيره. ثم قال بعد ثناء زائد إلّا أنّه كان يتّهم فى دينه لكون العلوم العقليّة غالبة عليه.
وعمل فيه العماد المغربىّ وهو عمر بن «3» عبد النور الصّنهاجى النحوىّ هجوا- رحمه الله تعالى-
أجدّك أن قد جاد بعد التعبّس ... غزال بوصل لى وأصبح مؤنسى
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقّة شعرى أو كدين ابن يونس
وكان العماد المذكور قد مدحه قبل ذلك بأبيات منها:
كمال كمال الدين للعلم والعلا ... فهيهات ساع فى مساعيك يطمع
إذا اجتمع النّظّار فى كلّ موطن ... فغاية كلّ أن تقول ويسمعوا
فلا تحسبوهم من عناد تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافا تقنّعوا
ومن شعر ابن يونس ما كتبه لصاحب الموصل يشفع عنده شفاعة، وهو:
لئن شرّفت أرض بمالك قدرها «4» ... فمملكة الدنيا بكم تتشرّف(6/343)
بقيت بقا نوح «1» وأمرك نافذ ... وسعيك مشكور وظلّك منصف
ومكّنت فى حفظ البسيطة مثل ما ... تمكّن فى أمصار فرعون يوسف
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة شمس الدين أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلىّ ثم الموصلىّ الضّرير النحوىّ صاحب التصانيف.
وأحمد بن يعقوب أبو العيناء «2» المارستانىّ الصّوفىّ فى ذى الحجّة. والفقيه إسحاق ابن طرخان الشّاغورىّ «3» فى رمضان، وله نحو تسعين سنة. وأبو الطاهر إسماعيل ابن ظفر النابلسىّ فى شوّال، وله خمس «4» وستّون سنة. وأبو علىّ الحسن بن إبراهيم ابن هبة الله بن دينار الصائغ فى جمادى الآخرة. وخطيب بيت لهيا «5» أبو الرّبيع سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الإسعردىّ الحنبلىّ فى شهر ربيع الآخر.
والفقيه عبد الحميد بن محمد بن أبى بكر بن ماض. والعلّامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس الموصلىّ، ذو الفنون فى شعبان عن تسع وثمانين سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 640]
السنة الثالثة من ولاية الملك، الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة أربعين وستّمائة.(6/344)
فيها كان الوباء ببغداد وتزايدت الأمراض. وتوفّى الخليفة المستنصر وبويع ابنه المستعصم.
وفيها عزم الملك الصالح المذكور على التوجّه إلى الشام، فقيل له: البلاد مختلّة والعساكر مختلفة، فجهّز إليها العساكر وأقام هو بمصر.
وفيها توفّى كمال الدين أحمد ابن صدر الدين شيخ الشيوخ بمدينة غزّة فى صفر عن ستّ وخمسين سنة، وبنى عليه أخوه معين الدين قبّة على جانب الطريق، وكان قد كسره الجواد بعسكر الملك الناصر داود صاحب الكرك؛ وقيل: إنّه مات مسموما.
ومن شعره ما كتبه لابن عمّه «1» سعد الدين:
لو أنّ فى الأرض جنّات مزخرفة ... تحفّ أركانها الولدان والخدم
ولم تكن رأى عينى فالوجود بها ... إذ لا أراك وجود كلّه عدم
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو جعفر منصور ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد ابن الخليفة المستضىء بأمر الله حسن ابن الخليفة المستنجد بالله يوسف العباسىّ الهاشمىّ البغدادىّ.
مولده فى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ببغداد، وأمّه أمّ ولد تركيّة، بويع بالخلافة بعد موت أبيه الظاهر بأمر الله فى شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة؛ ولمّا ولى الخلافة نشر العدل فى الرعايا وبذل الإنصاف، وقرّب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والرّبط والمدارس، وأقام منار الدين وقمع المتمرّدة، ونشر السنن وكفّ الفتن. وكان أبيض أشقر الشعر ضخما قصيرا، وخطه الشيب فخضب بالحنّاء، ثم ترك الخضاب. ومات فى العشرين من جمادى، وقيل: فى يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة عن إحدى وخمسين سنة وأربعة أشهر وتسعة أيام وكتم موته،(6/345)
وخطب له يومئذ بالجامع حتى أقبل شرف الدين «1» إقبال الشّرابىّ ومعه جمع من الخدّام، وسلّم على ولده المستعصم بالله أمير المؤمنين، واستدعاه إلى سدّة الخلافة، ثم عرّف الوزير وأستاذ الدار، ثم طلبوا الناس، وبايعوه بالخلافة وتمّ أمره.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى زين الدين أحمد بن عبد الملك بن عثمان المقدسىّ المحدّث الشّروطىّ. وإبراهيم بن بركات بن إبراهيم الخشوعىّ فى رجب. وعبد العزيز بن محمد بن الحسن بن عبد الله ويعرف بابن الدجاجيّة. وعلم الدين علىّ بن محمود ابن الصابونىّ الصّوفى فى شوّال، وله أربع وثمانون سنة. وأبو الكرم محمد بن عبد الواحد بن أحمد المتوكّلىّ، المعروف بابن شفنين فى رجب، وله إحدى وتسعون سنة. والمستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر، وله اثنتان وخمسون سنة، توفّى فى جمادى الآخرة، وكانت خلافته ثلاث عشرة سنة.
قلت: لعل الذهبىّ وهم فى مدّة خلافته، والصحيح أنّه ولى فى سنة ثلاث وعشر بن وستمائة، وتوفّى سنة أربعين.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 641]
السنة الرابعة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وأربعين وستمائة.
فيها تردّدت الرسل بين السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب المذكور وبين عمّه الملك الصالح إسماعيل صاحب الشام [فى الصلح «2» ] ، وكان الملك المغيث بن الصالح(6/346)
نجم الدين هذا فى حبس الصالح إسماعيل صاحب الشام بدمشق، فأطلقه الصالح إسماعيل وخطب للصالح هذا ببلاده، ثم تغيّر ذلك كلّه وقبض الصالح إسماعيل ثانيا على الملك المغيث بن الصالح نجم الدين وحبسه.
قال أبو المظفر- رحمه الله-: «وفيها قدمت القاهرة وسافرت إلى الإسكندريّة فى هذه السنة، فوجدتها كما قال الله تعالى: ذات قرار ومعين معمورة بالعلماء، مغمورة بالأولياء، [الذين «1» هم فى الدنيا شامة] : كالشيخ محمد القبّارىّ «2» والشاطبىّ وابن أبى أسامة «3» . وهى أولى بقول القيسرانىّ «4» رحمه الله فى وصف دمشق:
أرض تحلّ الأمانى من أماكنها ... بحيث تجتمع الدنيا وتفترق
إذا شدا الطير فى أغصانها وقفت ... على حدائقها الأسماع والحدق
قلت: وأين [قول «5» ] أبى المظفّر من قول مجير الدين «6» بن تميم فى وصف الإسكندريّة!:
لمّا قصدت سكندريّة زائرا ... ملأت فؤادى بهجة وسرورا
ما زرت فيها جانبا إلّا رأت ... عيناى فيها جنّة وحريرا
وفيها صالح صاحب الروم التتار على أن يدفع إليهم فى كلّ يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا وجارية وكلب صيد؛ وكان صاحب الروم يومئذ ابن علاء الدين كيقباذ، وهو شابّ لعّاب ظالم قليل العقل، يلعب بالكلاب والسباع ويسلّطها على الناس فعضّه بعد ذلك سبع فمات، فأقام التّتار شحنة على الروم.(6/347)
وفيها توفّى الشيخ نجم الذين خليل بن علىّ بن الحسين الحموىّ الحنفىّ الفقيه [قاضى العسكر «1» ] ، قدم دمشق وتفقّه بها وخدم المعظّم ودرس فى الرّيحانيّة بدمشق، وناب فى القضاء بها عن الرّفيع «2» . ومات فى شهر ربيع الأوّل ودفن بقاسيون.
وفيها توفّى مظفّر الدين الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب. وقد تقدّم من ذكره نبذة كبيرة عند وفاة الملك الكامل محمد بدمشق.
انتهى. وكان مظفّر الدين هذا قد جاء إلى ابن عمّه الملك المعظّم لمّا وقع بينه وبين الملك الكامل صاحب مصر [ما وقع «3» ] فأحسن إليه المعظّم، ثم عاد إلى مصر لمّا مات الملك الأشرف موسى شاه أرمن، فأقام بها عند الكامل إلى أن عاد.
صحبته إلى دمشق وأقام بها إلى أن مات الكامل فملّكوه دمشق، حسب ما حكيناه فى ترجمة الكامل والعادل ابنه؛ ووقع له بعد ذلك أمور. وكان جوادا كما اسمه، ويحبّ الصالحين والفقراء.
قال أبو المظفّر: «إلّا أنّه كان حوله من ينهب الناس ويظلم وينسب ذلك إليه» . قلت: ثمّ قبض عليه عمّه الملك الصالح إسماعيل واعتقله، فطلبه منه الفرنج لصحبة كانت بينهم، فحنقه ابن يغمور وقال: إنّه مات، وكان ذلك فى شوّال، ودفن بقاسيون دمشق فى تربة المعظّم. وأمّا ابن يغمور فإنّه حبس بأذن الصالح بقلعة دمشق، ثم شنقه الملك الصالح أيّوب لما ملك دمشق بعث به ابن شيخ(6/348)
الشيوخ إلى مصر، فحبسه الصالح بالجبّ، ثم شنقه بعد مدّة هو وأمين «1» الدولة على قلعة القاهرة.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد أبو بكر [الشّعيبى «2» ] ، كان من أهل ميّافارقين وكان من الأبدال، بعث إليه غازى صاحب ميّافارقين «3» مرارا يسأله الإذن فى الزيارة، فلم يأذن له، فقيل له: هل يطرق البلاد التتار؟ فرفع رأسه إلى السماء وأنشد:
وما كلّ أسرار القلوب مباحة ... ولا كلّ ما حلّ الفؤاد يقال
ثم خرج إلى الشّعيبة «4» وهى قرية هناك وقال: احفروا لى ها هنا، فبعد يومين اموت، فمات بعد يومين- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو تمّام علىّ ابن أبى الفخار هبة الله بن محمد الهاشمىّ خطيب جامع ابن المطّلب [ببغداد «5» ] ، وله تسعون سنة. وأبو الوفاء عبد الملك بن عبد الحقّ [بن «6» عبد الوهّاب بن عبد الواحد] ابن الحنبلى. وأمّ الفضل كريمة بنت عبد الوهاب القرشيّة فى جمادى الآخرة.
والعدل أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد [بن محمد «7» ] بن هلال فى رجب. وأبو طالب عبد اللطيف بن محمد بن علىّ بن القبّيطىّ «8» التاجر، وله ستّ وثمانون سنة. وأبو محمد عبد الحقّ بن خلف الحنبلىّ. وأبو الرضا علىّ بن زيد التّسارسىّ «9» الخيّاط بالثغر. والأعزّ بن كرم بن «10» محمد الإسكاف. والقاضى شمس الدين عمر بن أسعد بن المنجّا الحنبلى، وله أربع وثمانون سنة. والحافظ تقىّ الدين إبراهيم(6/349)
ابن محمد بن الأزهر بدمشق، وله ستون سنة. وقيصر «1» بن فيروز المقرئ البوّاب فى رجب. وقاضى القضاة الرّفيع الحنبلىّ فى آخر السنة.
أمر النيل فى هذه السنة الماء القديم ثلاث أذرع، وقيل أكثر. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 642]
السنة الخامسة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
فيها توفّى شهاب «2» الدين أحمد [بن «3» محمد بن علىّ بن أحمد] بن الناقد وزير الخليفة. كان أبوه وكيل أمّ الخليفة الناصر لدين الله، ونشأ ابنه هذا وتنقّل فى الخدم حتّى ولى الوزارة للخليفة المستنصر، ولقّب مؤيّد الدين، وحسنت سيرته. وكان رجلا صالحا فاضلا عفيفا ديّنا صار فى وزارته أحسن سيرة- رحمه الله تعالى-.
وفيها توفّى شيخ الشيوخ تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر [بن علىّ «4» ] بن محمد ابن حمّويه. كان فاضلا نزها شريف النفس عالى الهمّة، صنّف التاريخ وغيره، وكان معدودا من العلماء الفضلاء. ومات فى صفر.
وفيها قتل القاضى الرّفيع عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل أبو حامد الملقّب بالرّفيع. قال أبو المظفّر فى تاريخه: قيل إنّه كان فاسد العقيدة دهريّا مستهترا بأمور الشريعة، يخرج إلى الجمعة سكران، وكذلك كان يجلس فى مجلس الحكم، وكانت داره مثل الحانات، قبض عليه أمين الدولة وبعث به فى الليل إلى بعلبكّ،(6/350)
وصودر هناك، وباع أملاكه؛ وبعد ذلك جاءه داود النصرانىّ [سيف «1» النّقمة] فقال: قد أمرنا بحملك إلى بعلبكّ، فأيقن بالهلاك؛ فقال: دعونى أصلى ركعتين! فقال له داود: صلّ، فقام يصلّى فأطال، فرفسه داود من رأس شقيف مطلّ على نهر إبراهيم فوقع، فما وصل إلى الماء إلا وقد تقطّع- وقيل: إنّه تعلّق بذيله بسنّ الجبل فما زال داود يضربه بالحجارة حتّى قتله-. قلت: لا شلّت يداه! فإنّه كان من مساوىء الدنيا!.
وفيها توفّى الملك المغيث عمر بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب صاحب الترجمة، مات فى حياة والده الملك الصالح فى حبس دمشق- بعد أن عجز والده فى خلاصه- فى يوم الجمعة ثانى عشرين شهر ربيع الآخر، وحمل إلى تربة جدّه الملك الكامل محمد فدفن بها، وكان شابّا حسنا عاقلا ديّنا. وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة فى عدّة مواضع من هذا الكتاب.
وفيها توفّى شمس الأئمة محمد بن عبد الستّار بن محمد الإمام العلّامة فريد دهره ووحيد عصره المعروف بشمس الأئمة الكردرىّ «2» البراتقينىّ الحنفىّ. وبراتقين: قصبة من قصبات كردر من أعمال جرجانيّة «3» . قال الذهبىّ: كان أستاذ الأئمة على الإطلاق والموفود إليه من الآفاق؛ برع فى علوم، وأقرأ فى فنون؛ وانتهت إليه رياسة الحنفيّة فى زمانه. انتهى. قلت: وشمس الأئمة أحد العلماء الأعلام وأحد من سار ذكره شرقا وغربا، وانتشرت تصانيفه فى الدنيا- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى شيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله بن عمر بن علىّ الجوينىّ فى صفر، وله سبعون «4» سنة. وأبو المنصور(6/351)
ظافر بن طاهر [بن ظافر بن «1» إسماعيل] بن سحم الأزدى المطرّز بالإسكندريّة فى شهر ربيع الأوّل. وأبو الفضل يوسف بن عبد المعطى بن منصور بن نجا العسالىّ «2» ابن المخيلىّ «3» أحد رءوس الثغر فى جمادى الآخرة، وله أربع وسبعون سنة. وأبو الضوء قمر بن هلال بن بطّاح «4» القطيعىّ فى رجب. وتاج الدين أحمد بن محمد بن هبة الله بن محمد بن الشّيرازىّ فى رمضان، وقد نيّف على السبعين.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 643]
السنة السادسة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
فيها كان الحصار على دمشق [من المصريين «5» و] من الخوارزميّة.
وفيها كان الغلاء العظيم بدمشق، وبلغت الغرارة القمح ألفا وستمائة درهم، وأبيعت الأملاك والأمتعة بالهوان.
وفيها أيضا كان الغلاء بمصر، وقاسى أهلها شدائد.
وفيها توفّى الوزير معين الدين الحسن ابن شيخ الشيوخ أبو علىّ وزير الملك الصالح أيّوب، وهو الذي حصر دمشق فيما مضى. كان استوزره الملك الصالح بعد أخيه(6/352)
عماد الدين، وكانت وفاته بدمشق فى شهر رمضان، ودفن إلى جانب أخيه عماد الدين المذكور بقاسيون.
وفيها توفّى عبد المحسن بن حمّود بن [عبد «1» ] المحسن أبو الفضل أمين الدين الحلبىّ، كان كاتبا لعزّ «2» الدين أيبك المعظّمىّ، وكان فاضلا ديّنا بارعا حسن الخط.
ومن شعره فى إجازة- رحمه الله تعالى-:
قد أجزت الذي فيها ... إلى ما التمسوه منى
فلهم بعدها رواية ما صح ... لديهم من الرواية عنّى «3»
وكانت وفاته فى شهر رجب، ودفن بباب «4» توما.
وفيها توفّيت ربيعة خاتون بنت أيّوب أخت السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيّوب، وأخت الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، كان تزوّجها أوّلا سعد الدين مسعود بن معين [الدين «5» ] أنر، وبعد موته تزوّجها صلاح الدين بن مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل، ثم قدمت دمشق، وهى صاحبة الأوقاف، وماتت بدمشق ودفنت بقاسيون، وقد جاوزت ثمانين سنة.
وفيها توفّى أحمد بن عيسى ابن العلّامة موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الإمام الحافظ الزاهد سيف الدين بن المجد الحنبلىّ. ولد سنة خمس وستمائة.
وسمع الحديث الكثير، وكتب وصنّف وجمع وخرّج، وكان ثقة حجّة بصيرا بالحديث ورجاله، ومات فى أوّل شعبان.(6/353)
وفيها توفى عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى أبى نصر الإمام المفتى تقىّ الدين أبو عمرو ابن الإمام البارع صالح الدين النّصرى الكردىّ الشّهرزورىّ الشافعىّ المعروف بابن الصلاح. ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة وتفقّه على والده الصلاح بشهرزور وغيره، وبرع فى الفقه والحديث والعربيّة وشارك فى فنون.
ومات فى شهر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفيّة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن عبد الصمد العلّامة شيخ القرّاء بدمشق علم الدين أبو الحسن الهمذانىّ السّخاوىّ المصرىّ. ولد سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمسمائة، وكان إماما علّامة مقرئا محققا مجوّدا بصيرا بالقراءات، ماهرا فى النحو واللغة إماما فى التفسير، مات بدمشق فى جمادى الآخرة.
وفيها توفى محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله المقدسىّ السّعدىّ ثم الدّمشقىّ الصالحىّ صاحب التصانيف المشهورة. ولد سنة تسع وستين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل البلاد، وكتب وصنّف وحصّل شيئا كثيرا من الأجزاء والأسانيد. ومات يوم الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وله أربع وسبعون سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن مقرّب التّجيبى الإسكندرىّ فى صفر. والحافظ أبو العبّاس أحمد ابن محمود بن إبراهيم بن نبهان بن الجوهرىّ بدمشق فى صفر. والحافظ العلّامة تقىّ الدين عثمان بن الصلاح عبد الرحمن بن عثمان الكردىّ فى شهر ربيع الآخر، وله ست وستون سنة. والحافظ سيف الدين أحمد بن المجد عيسى بن الموفّق فى شعبان. والحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسىّ فى جمادى الآخرة، وله أربع وسبعون سنة. والحافظ الفقيه تقىّ الدين أحمد بن المعزّ محمد بن عبد الغنى(6/354)
ابن عبد الواحد المقدسىّ فى شهر ربيع الآخر، وله اثنتان وخمسون سنة. والحافظ المفيد تاج الدين محمد بن أبى جعفر [أحمد بن «1» علىّ] القرطبىّ إمام الكلّاسة فى جمادى الأولى. والرئيس عزّ الدين ابن النّسابة محمد بن أحمد بن محمد [بن الحسن «2» ] ابن عساكر فى رجب، وله ثمان وسبعون سنة. والعلّامة موفّق الدين يعيش بن علىّ بن يعيش النحوىّ بحلب فى جمادى الأولى، وله تسعون سنة. والعلّامة علم الدين علىّ بن محمد بن عبد الصمد الهمذانىّ السّخاوىّ المقرئ المفسّر؛ وله خمس وثمانون سنة فى جمادى الآخرة. وأبو غالب منصور بن أحمد بن أبى غالب [محمد بن «3» محمد] المراتبىّ «4» ابن المعوج فيه، وله ثمان وثمانون سنة. وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله ابن الشيخ أبى عمر [محمد «5» ] المقدسىّ فيه أيضا. والحافظ مجد الدين محمد بن محمود بن حسن [بن هبة الله «6» بن محاسن] بن النجّار محدث العراق فى شعبان، وله خمس وتسعون سنة. والصاحب معين الدين حسن ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجوينىّ بدمشق فى رمضان. والشيخ أبو الحسن علىّ بن الحسين بن المقيّر «7» النجّار بمصر فى ذى القعدة، وله ثمان وتسعون سنة. وأبو بكر محمد بن سعد «8» بن الموفّق الصّوفىّ بن الخازن ببغداد فى ذى الحجّة، وله سبع وثمانون سنة. والأمير سيف الدين علىّ بن قليج، ودفن بتربته داخل دمشق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.(6/355)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 644]
السنة السابعة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وأربعين وستمائة.
فيها توفّى الملك المنصور صاحب حمص واسمه إبراهيم بن شيركوه بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير أخو أيّوب. كان المنصور هذا شجاعا متواضعا موافقا للملك الصالح إسماعيل ومصاهرا له. ومات بدمشق فى يوم الأربعاء حادى عشر صفر، وحمل فى تابوت إلى حمص، ومات وله عشرون سنة. وقام بعده على حمص ولده الأشرف موسى، فأقام بها سنتين وشهورا وأخذت منه.
وفيها تسلّم السلطان الملك الصالح أيّوب قلعة الصّبيبة «1» من ابن عمّه الملك السعيد ابن الملك العزيز، ثم أخذ السلطان أيضا حصن الصّلت «2» من الملك الناصر داود صاحب الكرك.
وفيها قدم رسولان من التّتار إلى بغداد، أحدهما من بركة خان، والآخر من ناخو، فاجتمعا بالوزير مؤيّد الدين ابن العلقمىّ، فتغمّت على الناس بواطن الأمور.
وفيها أخذت الفرنج مدينة شاطبة من بلاد المغرب صلحا، ثم أجلوا أهلها بعد سنة عنها. فما شاء الله كان.
وفيها توفّى بركة خان الخوارزمىّ أحد الخانات الأربعة، كان أصلحهم فى الميل إلى الخير، وكان الملك الصالح نجم الدين- صاحب الترجمة- قد صاهره وأحسن إليه، وجرى منه [عليه «3» ] ما جرى فى حياة والده الملك الكامل. ولمّا(6/356)
قتل انحلّ نظام الخوارزميّة من بعده، وكان قتله بالقرب من حلب فى قتال كان بينه وبين صاحب حلب وحمص. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أوّل ترجمة الصالح هذا.
قال الأمير شمس الدين لؤلؤ: لمّا التقينا على حمص رأيت الخوارزمية خلقا عظيما، وكتا بالنسبة إليهم كالشّامة السوداء فى الثور الأبيض، فقال لى غلمانى (يعنى مماليكه) : أيّما أحبّ إليك، نأخذ بركة خان أسيرا، أو نحمل رأسه إليك؟
فقلت: رأسه، كأنّ الله أنطقنى والتقينا. فلمّا كان بعد ساعة وإذا بواحد من أصحابنا يحمل رأسا مليح الصّورة وليس فى وجهه سوى شعرات يسيرة، ولم يعرفه أحد ولا نحن عرفناه، وانهزموا، وجىء بطائفة منهم أسارى، فلمّا رأوا الرأسّ رموا نفوسهم من خيولهم وحثوا التراب على رءوسهم، فعلمنا حينئذ أنّه رأسه، وبعثنا به إلى حلب.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عبد الله محمد بن حسّان بن رافع العامرىّ خطيب الموصل. وعبد المنعم بن محمد [بن محمد «1» ] بن أبى الضياء «2» الدّمشقىّ بحماة. والزاهد إسماعيل بن علىّ الكورانىّ «3» ، ودفن بمقابر الصّوفيّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 645]
السنة الثامنة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة خمس وأربعين وستّمائة.(6/357)
فيها نزل الوزير فخر الدين ابن الشيخ بعسكر الصالح نجم الدين المذكور على طبريّة ففتحها عنوة، وحاصر عسقلان وقاتل عليها قتالا عظيما [وأخذها المسلمون «1» ] .
وفيها وجّه الملك الصالح نجم الدين تاج الدين بن مهاجر من مصر إلى دمشق ومعه المبارز نسيبه ومعهما تذكرة فيها أسماء جماعة من أعيان الدّماشقة بأن يحملوا إلى مصر فحملوا، وهم: [القاضى «2» ] محيى الدين بن الزّكىّ وابن الحصيرىّ وابن العماد الكاتب وبنو صصرّى الأربعة، وشرف الدين بن المعتمد وابن الخطيب العقربانىّ والتاج [الإسكندرانىّ «3» ] الملقّب بالشّحرور وأبو الشامات والحكيمىّ «4» مملوك إسماعيل وغازى والى بصرى وابن الهادى المحتسب؛ وأخرج العماد «5» ابن خطيب بيت الأبّار من جامع دمشق، وولّى العماد «6» الحرستانىّ الخطابة عوضه. وسبب حمل هؤلاء الجماعة إلى مصر، أنّه نقل إلى الملك الصالح أيّوب أنّهم خواصّ الصالح إسماعيل، فخاف أن يجرى ما جرى فى النوبة الأولى من أخذ دمشق. ولمّا وصلوا إلى مصر حبس منهم السلطان الملك الصالح جماعة فأقاموا فى الحبس إلى أن مات الملك الصالح، فأخرجوا وعادوا إلى دمشق.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى العلّامة أبو علىّ عمر بن محمد الأزدىّ الإشبيلىّ النحوىّ الشّلوبينى «7» فى صفر، وله ثلاث وثمانون سنة.(6/358)
وأبو مدين شعيب بن يحيى الإسكندرانىّ الزّعفرانىّ التاجر بمكّة- شرّفها الله تعالى- والشيخ علىّ الحريرىّ فى رمضان عن سنّ عالية.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 646]
السنة التاسعة من ولاية الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وأربعين وستمائة.
فيها قايض الملك الأشرف موسى صاحب حمص تلّ باشر بحمص مع الملك الناصر يوسف [بن العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين «1» ] صاحب حلب، ولذلك خرج الملك الصالح نجم الدين أيّوب هذا من مصر بالعساكر حسب ما ذكرناه فى ترجمته، ثم عاد مريضا لمّا بلغه مجىء الفرنج إلى دمياط.
وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين المذكور من الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ بيبرس البندقدارىّ الذي تسلطن، اشتراه منه ورقّاه إلى أن صار من أمره ما صار.
وفيها زار الملك الصالح فى عوده إلى مصر القدس الشريف، وأمر أن يذرع سوره، فجاء ستة آلاف ذراع، فأمر بأن يصرف مغلّ القدس فى عمارته. وتصدّق السلطان الملك الصالح بألفى دينار فى الحرم، وزار الخليل- عليه السلام- ثم عاد إلى مصر.(6/359)
وفيها توفّى علىّ «1» بن أبى الجنّ بن منصور الشيخ أبو الجنّ. وأبو محمد «2» الحريرىّ، مقدّم الطائفة الفقراء الحريريّة، ولد بقرية بسر «3» وقدم دمشق صبيّا فنشأ بها.
وفى أحوال الحريرىّ هذا أقوال كثيرة، أثنى «4» عليه أبو شامة وغيره، وتكلّم فيه جماعة منهم الذهبىّ وغيره. والله أعلم بحاله. وقال ابن إسرائيل: وتوفّى فى الساعة التاسعة من يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان سنة خمس وأربعين من عير مرض، وكان أخبر بذلك قبل موته بمدّة.
وفيها توفّى عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو عمرو المعروف بابن الحاجب الكردىّ المالكىّ النحوىّ الأصولىّ صاحب التصانيف فى النحو وغيره. مولده فى سنة سبعين وخمسمائة بإسنا «5» من بلاد الصعيد، ومات فى شوّال، وفى شهرته ما يغنى عن الإطناب فى ذكره- رحمه الله تعالى-.(6/360)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ منصور ابن سند «1» [بن منصور المعروف با «2» ] بن الدبّاغ بالإسكندريّة فى شهر ربيع الأوّل.
وأبو القاسم عبد الله بن الحسين بن عبد الله [بن الحسين «3» بن عبد الله] بن رواحة الأنصارىّ فى جمادى الآخرة. وله ستّ وثمانون سنة. وأمّ حمزة صفيّة بنت عبد الوهّاب بن علىّ القرشيّة أخت كريمة فى رجب. والعلّامة أبو الحسن علىّ بن جابر بن الدّبّاح الإشبيلىّ بها عند استيلاء الفرنج عليها. والوزير الأكرم علىّ بن يوسف جمال الدين القفطى «4» بحلب. والعلّامة جمال الدين أبو عمرو عثمان بن الحاجب. وعمرو بن عبد الله بن أبى بكر الإشبيلىّ فى شوّال بالإسكندريّة، وله ستّ وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 647]
السنة العاشرة من ولاية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر، وهى سنة سبع وأربعين وستمائة، وفهيا كانت وفاته فى شعبان، حسب ما تقدّم ذكره.
فيها فى أوّلها كان عود السلطان الملك الصالح المذكور من دمشق- حسب ما ذكرناه فى العام الماضى- قال الذهبىّ: وفيها فى أوّلها عاد الملك الصالح إلى(6/361)
الديار المصريّة مريضا فى محفّة، وكان قد قتل أخاه الملك العادل قبل خروجه من مصر فما هنّأه الله. واستعمل على نيابة دمشق الأمير جمال الدين [موسى «1» ] ابن يغمور. قال: وفيها ولدت امرأة ببغداد ابنين وبنتين فى جوف، وشاع ذلك فطلبوا إلى دار الخلافة وأحضروا، وقد مات واحد، فأحضر ميّتا فتعجّبوا، وأعطيت الأمّ من الثياب والحلىّ ما يبلغ ألف دينار.
وفيها توجّه الملك الناصر داود صاحب الكرك إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب، وبلغ السلطان الملك الصالح نجم الدين ذلك، فأرسل إلى نائبه ابن يغمور بدمشق بخراب دار أسامة وقطع شجر بستان القصر الذي للنّاصر داود بالقابون «2» وخراب القصر، ففعل ذلك.
وفيها سار الملك الظاهر [شادى «3» ] والملك الأمجد «4» ابنا الملك الناصر داود المقدّم ذكره من الكرك إلى مصر، وسلّما الكرك إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين بغير رضا أبيهما الناصر، فأعطى الملك الصالح للظاهر بن الناصر داود عوضّا عن الكرك خبز مائتى فارس بمصر، وخمسين ألف دينار، وثلثمائة قطعة قماش، والذخائر التى بالكرك؛ وأعطى لأخيه الأمجد إخميم «5» ، وخبزمائة وخمسين فارسا بمصر؛ فلم تطل مدّتهم بمصر ومات الملك الصالح وزال ذلك كلّه من أيديهم حسب ما تقدّم ذكره، وحسب ما يأتى ذكره أيضا.
وفيها هجمت الفرنج دمياط وأحاطت بها فى شهر ربيع الأوّل، وقد ذكر ذلك كلّه.(6/362)
وفيها توفّى الصّاحب فخر الدين يوسف بن صدر الدين شيخ الشيوخ [أبى «1» الحسن محمد بن عمر بن على بن محمد بن حمّويه الجوينىّ] . كان عاقلا جوادا ممدّحا مدبّرا خليقا بالملك محبوبا إلى الناس. ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب على دمياط ندب إلى الملك فامتنع، ولو أجاب لما خالفوه، واستشهد على دمياط بعد أخذها.
ومن شعره قوله:
عصيت هوى نفسى صغيرا فعند ما ... رمتنى الليالى بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى عكس القضيّة ليتنى ... خلقت كبيرا وانتقلت إلى الصّغر
قلت: ويذكر هذا الشعر أيضا لغيره فيما يأتى- إن شاء الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو يعقوب يوسف ابن محمود بن الحسين الساوىّ «2» فى رجب بالقاهرة، وولد بدمشق فى سنة ثمان وستّين. والسلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل بن العادل بالمنصورة فى شعبان، وله أربع وأربعون سنة. والأمير مقدّم الجيوش فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين الجوينىّ فى ذى القعدة شهيدا يوم وقعة المنصورة.
وأبو جعفر محمد بن عبد الكريم بن محمد ببغداد. وصفىّ الدين عمر بن عبد الوهّاب ابن البرادعىّ فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.(6/363)
[ما وقع من الحوادث سنة 648]
ذكر سلطنة الملك المعظّم توران شاه على مصر
هو السلطان الملك المعظّم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين محمد أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى، سلطان الديار المصريّة الأيّوبىّ الكردىّ، آخر ملوك بنى أيّوب بمصر، ولا عبرة بولاية الأشرف فى سلطنة الملك المعزّ أيبك. تسلطن الملك المعظّم هذا بعد موت أبيه الملك الصالح بنحو شهرين ونصف، وقيل: أربعة أشهر ونصف وهو الأصحّ؛ لأنّ الملك الصالح أيّوب كانت وفاته فى ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة، والفرنج محدقة بعساكر الإسلام، فأخفت زوجته أمّ ولده خليل شجرة الدّرّ موته مخافة على المسلمين، وبايعوا لابنه المعظّم هذا بالسلطنة فى غيبته، وصارت شجرة الدّرّ تدبرّ الأمور وتخفى موت السلطان الملك الصالح إلى أن حضر المعظّم توران شاه هذا من حصن كيفا إلى المنصورة فى أوّل المحرّم من سنة ثمان وأربعين وستمائة. وكان المعظّم هذا نائبا لأبيه الملك الصالح على حصن كيفا وغيرها من ديار بكر. ولمّا وصل المعظّم إلى المنصورة فتح الله على يديه، ونصر الله الإسلام فى يوم دخوله فتيمّن الناس بطلعته. وسبب النصر أنّه لمّا استهلّت سنة ثمان وأربعين والفرنج على المنصورة والجيوش الإسلاميّة بإزائهم، وقد طال القتال بين الفريقين أشهرا ضعف حال الفرنج لانقطاع الميرة عنهم، ووقع فى خيلهم وباء وموت، وعزم ملكهم الفرنسيس على أن يركب فى أوّل اللّيل ويسير إلى دمياط، فعلم المسلمون بذلك. وكان الفرنج قد عملوا جسرا عظيما من الصّنوبر على النيل، فسهوا عن قطعه، فعبر منه المسلمون فى الليل إلى برّهم، وخيامهم على حالها وثقلهم، وأحدق المسلمون بهم يتخطّفونهم طول الليل قتلا وأسرا، فالتجئوا(6/364)
إلى قرية تسمّى منية «1» أبى عبد الله وتحصّنوا بها، ودار المسلمون حولها، وظفر أسطول المسلمين بأسطولهم، فغنموا جميع المراكب بمن فيها. واجتمع إلى الفرنسيس خمسمائة فارس من أبطال الفرنج، وقعد فى حوش منية أبى عبد الله؛ وطلب الطّواشى رشيد [الدين «2» ] ، والأمير سيف الدين القيمرىّ «3» فحضرا إليه؛ فطلب منهما، الأمان على نفسه ومن معه؛ فأجاباه وأمّناه فلم يرض الفرنج وحملوا «4» على حميّة؛ وأحدق المسلمون بهم؛ وبقوا يحملون عليهم حملة بعد حملة، حتّى أبيدت الفرنج، ولم يبق منهم سوى فارسين، فرموا نفوسهم بخيولهم إلى البحر فغرقوا [ولم يصل إلى دمياط من يخبر «5» بحالهم] وغنم المسلمون منهم ما لا يوصف واستغنى خلق؛ وأنزل الفرنسيس فى حرّاقة، وأحدقت به مراكب المسلمين تضرب فيها الكوسات «6» والطّبول. وفى البرّ الشرقىّ العسكر سائر منصور مؤيّد، والبرّ الغربىّ فيه العربان والعامّة فى لهو وتهان وسرور بهذا الفتح العظيم، والأسرى تقاد فى الحبال؛ فكان يوما من الأيّام العظيمة المشهودة. وقال سعد «7» الدين فى تاريخه: لو أراد الفرنسيس أن ينجو بنفسه لخلص على خيل سبق أو فى حرّاقة، لكنّه أقام فى الساقة يحمى أصحابه. وكان فى الأسر ملوك وكنود «8» من الفرنج.
وأحصى عدّة الأسرى فكانوا نيّفا وعشرين ألف آدمىّ، والذي غرق وقتل سبعة(6/365)
آلاف نفس. قال: فرأيت القتلى وقد ستروا وجه الأرض من كثرتهم، وكان الفارس العظيم يأتيه وسائق يسوقه وراءه كأذلّ ما يكون، وكان يوما لم يشاهد المسلمون مثله؛ ولم يقتل فى ذلك اليوم من المسلمين مائة نفس، ونفّذ السلطان الملك المعظّم توران شاه للفرنسيس والملوك الذين معه والكنود خلعا. وكانوا نيّفا وخمسين، فلبس الكلّ سواه. وقال: إنّ بلادى بقدر بلاد صاحب مصر، كيف ألبس خلعته! وعمل السلطان من الغد دعوة عظيمة فامتنع الملعون أيضا من حضورها؛ وقال: أنا ما آكل طعامه وما يحضرنى إلا ليهزأ بى عسكره ولا سبيل إلى هذا! وكان عنده عقل وثبات ودين، فالنصارى كانوا يعتقدون فيه بسبب ذلك. وكان حسن الخلقة. وأبقى الملك المعظّم الأسرى، وأخذ أصحاب الصنائع، ثم أمر بضرب رقاب الجميع. انتهى. وقال غيره: وحبسوا الفرنسيس بالمنصورة بدار «1» ابن لقمان يحفظه الطواشى [جمال الدين «2» ] صبيح [المعظّمىّ «3» ] مكرما غاية الكرامة. وقال آخر: بمصر بدار ابن لقمان وهو الأصحّ، وزاد بعضهم فقال:
دار ابن لقمان هى الدار الكبيرة بالقرب من باب الخرق (يعنى دار ابن قطينة) انتهى.(6/366)
وقال أبو المظفّر فى تاريخه مرآة الزمان: «وفى أوّل ليلة منها (يعنى سنة ثمان وأربعين) كان المصافّ بين الفرنج والمسلمين على المنصورة بعد وصول المعظّم توران شاه إلى المخيّم، ومسك الفرنسيس وقتل من الفرنج مائة [ألف «1» ] ، ووصل كتاب المعظّم توران شاه إلى جمال الدين بن يغمور (يعنى إلى نائب الشام) يقول: «الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن. وما النصر إلّا من عند الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وأمّا بنعمة ربّك فحدّث. وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. نبشّر المجلس السامى الجمالىّ، بل نبشّر الإسلام كافّة بما منّ الله به على المسلمين، من الظّفر بعدوّ الدين، فإنّه كان قد استفحل أمره واستحكم شرّه؛ ويئس العباد من البلاد، [والأهل «2» ] والأولاد؛ فنودوا: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
الآية. ولمّا كان يوم الأربعاء «3» مستهلّ السنة المباركة تممّ الله على الإسلام بركتها؛ فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرّقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطّوّعة واجتمع خلق لا يحصيهم إلّا الله تعالى، فجاءوا من كلّ فجّ عميق، ومن كلّ مكان بعيد سحيق؛ ولمّا رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الاتّفاق بينهم وبين الملك العادل أبى بكر فأبينا. ولمّا كان فى الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا فى آثارهم طالبين؛ وما زال السيف يعمل فيهم عامّة الليل، ويدخل فيهم الخزى والويل. فلمّا أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه فى اللّجج. وأمّا الأسرى فحدّث عن البحر ولا حرج؛ والتجأ الفرنسيس إلى المنية «4» وطلب الأمان فأمّناه، وأخذناه وأكرمناه؛ وتسلّمنا دمياط بعونه وقوته، وجلاله وعظمته» .(6/367)
وأرسل الملك المعظّم مع الكتاب إلى ابن يغمور المذكور بغفارة «1» الفرنسيس فلبسها ابن يغمور فى دست مملكته بدمشق، وكانت سقرلاط «2» أحمر بفرو سنجاب.
فكتب ابن يغمور فى الجواب إلى السلطان الملك المعظّم المذكور بيتين لابن إسرائيل «3» ، وهما:
أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجّزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده
انتهى كلام أبى المظفّر بعد أن ساق كلاما طويلا من هذا النموذج بنحو ما حكيناه.
وقال غيره: وبقى الفرنسيس فى الاعتقال إلى أن قتل الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب (يعنى صاحب الترجمة) ، فدخل حسام الدين ابن أبى علىّ فى قضيّته، على أن يسلّم للمسلمين دمياط ويحمل خمسمائة ألف دينار.
فأركبوه بغلة وساقت معه الجيوش إلى دمياط، فما وصلوا إلّا والمسلمون على أعلاها بالتكبير والتهليل، والفرنج الذين كانوا بها قد هربوا إلى المراكب وأخلوها، فخاف الفرنسيس واصفرّ لونه. فقال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ [للملك «4» المعزّ] : هذه دمياط قد حصلت لنا، وهذا الرجل فى أسرنا وهو عظيم النصرانيّة، وقد اطّلع على عوراتنا، والمصلحة ألّا نطلقه؛ وكان قد تسلطن أيبك التّركمانىّ الصالحىّ أو صار حاكما عن الملكة شجرة الدّر؛ فقال أيبك وغيره من المماليك الصالحيّة: ما نرى(6/368)
الغدر! وكانت المصلحة ما قاله حسام الدين. فقووا عليه وأطلقوه طمعا فى المال! فركب فى البحر الرومىّ فى شينىّ «1» . وذكر حسام الدين أنّه سأل الفرنسيس عن عدّة العسكر الذي كان معه لمّا قدم لأخذ دمياط؛ فقال: كان معى تسعة آلاف وخمسمائة فارس، ومائة ألف وثلاثون ألف طبسىّ «2» سوى الغلمان والسّوقة والبحّارة. انتهى.
قال سعد الدين فى تاريخه: اتّفقوا على أن يسلّم الفرنسيس دمياط، وأن يعطى هو والكنود ثمانمائة ألف دينار عوضا عما كان بدمياط من الحواصل، ويطلقوا أسرى المسلمين، فحلفوا على هذا؛ وركبت العساكر ثانى صفر إلى دمياط قرب الظهر، وساروا حتّى دخلوها، ونهبوا وقتلوا من بقى من الفرنج حتّى ضربتهم الأمراء وأخرجوهم، وقوّموا الحواصل التى بقيت فى دمياط بأربعمائة ألف دينار؛ وأخذوا من الملك الفرنسيس أربعمائة ألف دينار، وأطلقوه العصر هو وجماعته؛ فانحدروا فى شينى إلى البطس «3» ، وأنفذ رسولا إلى الأمراء الصالحيّة يقول: ما رأيت أقلّ عقلا ولا دينا منكم! أمّا قلّة الدين فقتلتم سلطانكم بغير ذنب (يعنى لمّا قتلوا ابن أستاذهم الملك المعظّم توران شاه بعد أخذ دمياط بأيّام) على ما سنذكره هنا إن شاء الله تعالى. قال: وأمّا قلّة العقل فكذا، مثلى ملك البحر وقع فى أيديكم بعتموه بأربعمائة ألف دينار، ولو طلبتم مملكتى دفعتها لكم حتّى أخلص. ثم لمّا سار إلى بلاده أخذ فى الاستعداد والعود إلى دمياط فأهلكه الله تعالى. وندمت الأمراء على إطلاقه. ولمّا أراد الفرنسيس العود إلى دمياط قال فى ذلك الصاحب جمال الدين «4» يحيى بن مطروح قصيدته المشهورة، وكتب بها إليه يعنى إلى الفرنسيس، وهى:(6/369)
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق «1» من قؤول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عبّاد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغى ملكها ... تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكلّ أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون «2» ألفا لا ترى منهم ... إلّا قتيلا أو أسيرا جريح
وفّقك الله لأمثالها ... لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا ... فربّ غشّ قد أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لعقد «3» صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشى صبيح
قلت: لله درّه! فيما أجاب عن المسلمين مع اللطف والبلاغة وحسن التركيب، رحمه الله.
وأمّا أمر الملك المعظّم توران شاه صاحب الترجمة، قال العلّامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه فى سبب قتله، قال: «ذكرنا مجيئه إلى الشام وذهابه إلى مصر، واتّفق كسرة الفرنج عند قدومه فتيمّن الناس بطلعته، [واستبشروا «4» بمشاهدته] ؛ غير أنّه بدت منه أسباب نفّرت القلوب عنه فاتّفقوا على قتله وكان فيه نوع خفّة، فكان يجلس على السماط، فإذا سمع فقيها يذكر مسألة وهو بعيد عنه، يصيح: لا نسلّم!. ثمّ احتجب عن الناس أكثر من أبيه؛ وكان(6/370)
إذا سكر يجمع الشموع ويضرب رءوسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا أفعل بالبحريّة! يعنى مماليك أبيه الذين كان جعلهم بقلعة البحر بجزيرة الرّوضة «1» ، ثم يسمّى مماليك أبيه بأسمائهم؛ وأهانهم وقدّم الأرذال وأبعد الأماثل. ووعد [الفارس] أقطاى «2» أن يؤمّره ولم يف له، فاستوحش منه. وكانت أمّ خليل (يعنى شجرة الدرّ) زوجة والده الملك الصالح لمّا وصل إلى القاهرة مضت هى إلى القدس، فبعث يهدّدها ويطلب المال والجواهر منها فخافت منه، فكاتبت فيه، فاتّفق الجميع عند ذلك على قتله. فلمّا كان يوم الاثنين سابع عشرين المحرّم جلس المعظّم على السّماط فضربه بعض مماليك أبيه البحريّة بالسيف فتلقّاه بيده فقطع بعض أصابعه؛ وقام من وقته ودخل البرج [الخشب «3» الذي كان قد عمل هناك بفارسكور] وصاح: من جرحنى؟ قالوا: الحشيشيّة. فقال: لا والله إلّا البحريّة، والله لا أبقيت منهم بقيّة.
واستدعى المزيّن فخيّط يده وهو يتوعّدهم، فقال بعضهم لبعض: تمّموه وإلّا أبادكم! فدخلوا عليه فانهزم إلى أعلى البرج، فأوقدوا النّيران حول البرج ورموه بالنّشّاب، فرمى بنفسه وهرب نحو البرج، وهو يقول: ما أريد ملكا! دعونى أرجع إلى الحصن «4» يا مسلمون! ما فيكم من يصطنعنى ويجيرنى! والعساكر واقفة فما أجابه أحد، والنّشّاب تأخذه، فتعلق بذيل [الفارس] أقطاى فما أجاره «5» ، فقطّعوه قطعا وبقى على جانب البحر ثلاثة أيّام منتفخا لا يجسر أحد أن يدفنه حتّى شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب فدفن به. ولمّا قتلوه دخلوا على(6/371)
الفرنسيس الخيمة بالسيوف، فقالوا: نريد المال، فقال: نعم، فأطلقوه وسار إلى عكّا على ما اتّفقوا عليه معه. قال: وكان الذي باشر قتله أربعة؛ وكان أبوه الملك الصالح أيّوب قال لمحسن الخادم «1» : اذهب إلى أخى العادل إلى الحبس، وخذ معك من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جميع المماليك فامتنعوا إلّا هؤلاء الأربعة فإنّهم مضوا معه وخنقوه، فسلّطهم الله على ولده فقتلوه أقبح قتلة، ومثّلوا به أعظم مثلة لما فعل بأخيه!
قال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ: كان توران شاه لا يصلح للملك؛ كتا نقول لأبيه الملك الصالح نجم الدين أيّوب: ما تنفذ تحضره إلى هاهنا، فيقول: دعونى من هذا، فألححنا عليه يوما، فقال: أجيبه إلى ها هنا أقتله!
وقال عماد الدين بن درباس: رأى بعض أصحابنا الملك الصالح أيّوب فى المنام وهو يقول:
قتلوه شرّ قتله ... صار للعالم مثله
لم يراعوا [فيه «2» ] إلّا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قليل ... لأقلّ الناس أكله
وكانوا قد جمعوا فى قتله ثلاثة أشياء: السيف والنار والماء!
وتسلطن بعده زوجة والده أمّ خليل شجرة الدرّ باتّفاق الأمراء وخشدا شينها المماليك الصالحيّة، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة. وكانت ولاية توران شاه هذا على مصر دون الشهر، وقتل فى يوم الاثنين سابع عشرين المحرّم من سنة ثمان وأربعين وستّمائة، وكان قدومه من حصن كيفا إلى المنصورة فى ليلة مستهلّ المحرّم من السنة المذكورة حسب ما تقدّم ذكره.(6/372)
ذكر ولاية الملكة شجرة الدّر على مصر
هى الملكة شجرة الدرّ بنت عبد الله جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب وزوجته وأمّ ولده خليل، وكانت حظيّة عنده إلى الغاية، وكانت فى صحبته وهو ببلاد المشرق فى حياة أبيه الملك الكامل، ثم سارت معه لمّا حبسه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالكرك، ومعها ولدها خليل أيضا، وقاست مع الصالح تلك الأهوال والمحن، ثم قدمت معه مصر لمّا تسلطن؛ وعاش ابنها خليل بعد ذلك وتوفّى صغيرا. ولا زالت فى عظمتها من الحشم والخدم وإليها غالب تدبير الديار المصريّة فى حياة سيّدها الملك الصالح وفى مرضه وبعد موته، والأمور تدبّرها على أكمل وجه إلى أن قدم ولد زوجها الملك المعظّم توران شاه، فلم يشكر لها توران شاه ما فعلته من الإخفاء لموت والده وقيامها بالتدبير أتمّ قيام، حتّى حضر إلى المنصورة وجلس فى دست السلطنة. ولم تدع أحدا يطمع فى الملك لعظمتها فى النفوس، فترك توران شاه ذلك كلّه وأخذ فى تهديدها، وطلب الأموال منها سرعة، فلم يحسن ذلك ببال أحد. واتّفقوا على ولايتها لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها، وجعلوا المعزّ أيبك التركمانىّ أتابكا لها، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة لكنّها لم تلبس خلعة السلطنة الخليفتى على العادة، غير أنّهم بايعوها بالسلطنة فى أيّام أرسالا وتمّ أمرها.
قال الشيخ صلاح «1» الدين خليل بن أيبك الصفدىّ فى تاريخه: «شجرة الدر أمّ خليل الصالحيّة وجارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وأمّ ولده خليل؛(6/373)
كان الملك الصالح يحبّها حبّا عظيما، ويعتمد عليها فى أموره ومهمّاته، وكانت بديعة الجمال ذات رأى وتدبير ودهاء وعقل، ونالت من السعادة ما لم ينله أحد فى زمانها.
ولمّا مات الملك الصالح فى شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة على دمياط فى حصار الفرنج، أخفت موته وصارت تعلّم بخطّها مثل علامة الملك الصالح، وتقول:
السلطان ما هو طيّب. وتمنع الناس من الدخول إليه؛ وكان أرباب الدولة يحترمونها.
ولمّا علموا بموت السلطان ملّكوها عليهم أيّاما. وتسلطنت بعد قتل السلطان الملك المعظّم ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وخطب لها على المنابر، وكان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة: «واحفظ اللهمّ الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أمّ خليل المستعصميّة صاحبة السلطان الملك الصالح» .
انتهى كلام الصّفدىّ.
وقال غيره: وكانت تعلّم على المناشير وغيرها «والدة خليل» ، وبقيت على ذلك مدّة ثلاثة أشهر إلى أن خلعت نفسها، واستقرّ زوجها الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ الصالحىّ الآتى ذكره [مدّة «1» ، إلى أن اتّفقت المماليك البحريّة وقالوا: لا بدّ لنا من واحد من بنى أيّوب يجتمع الكلّ على طاعته، وكان القائم بهذا الأمر الأمير الفارس أقطاى الجمدار، وبيبرس «2» البندقدارىّ، وبلبان الرشيدىّ وسنقر الرّومىّ؛ فأقاموا فى السلطنة] الملك الأشرف «3» الأيّوبىّ. وقيل: إنه تزوّجها أيبك بعد سلطنته، وكانت مستولية على أيبك فى جميع أحواله ليس له معها كلام، وكانت تركيّة ذات(6/374)
شهامة ونفس قويّة وسيرة حسنة، شديدة الغيرة. فلمّا بلغها أنّ زوجها الملك المعزّ أيبك يريد أن يتزوّج ببنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ «1» صاحب الموصل، وقد عزم على ذلك، فتخيّلت منه [أنه «2» ] ربّما عزم على إبعادها أو إعدامها [بالكليّة «3» ] لأنّه سئم من حجرها عليه واستطالتها، فعاجلته وعزمت على الفتك به وإقامة غيره فى الملك.
قال الشيخ قطب الدين: «وطلبت صفىّ الدين [إبراهيم «4» ] بن مرزوق وكان بمصر فاستشارته ووعدته بالوزارة، فأنكر عليها ونهاها عن ذلك فلم تصغ إلى قوله، وطلبت مملوكا للطّواشى محسن [الجوهرىّ «5» ] الصالحى وعرضت عليه أمرها ووعدته ومنّته إن قتل المعزّ! ثم استدعت جماعة من الخدّام واتّفقت معهم. فلمّا كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرون من شهر ربيع الأوّل «6» لعب المعزّ بالكرة ومن معه، وصعد إلى القلعة آخر النهار، وأتى الحمّام ليغتسل، فلمّا قلع ثيابه وثب عليه سنجر الجوهرىّ «7» والخدم فرموه وخنقوه؛ وطلبت شجرة الدر ابن مرزوق على لسان الملك المعزّ، فركب حماره وبادر وطلع القلعة من باب السرّ، فرآها جالسة والمعزّ بين يديها ميّت، فأخبرته الأمر فعظم عليه جدّا، واستشارته فقال: ما أعرف ما أقول، وقد وقعت فى أمر عظيم مالك منه مخلص! ثم طلبت الأمير جمال الدين بن أيدغدى [بن عبد الله «8» ] العزيزىّ وعزّ الدين أيبك الحلبىّ، وعرضت عليهما السلطنة فامتنعا؛ فلمّا ارتفع النهار شاع الخبر واضطربت الناس» . انتهى كلام قطب الدين.(6/375)
وقيل فى قتله وجه آخر: وهو أنّ شجرة الدرّ لمّا غارت رتّبت للمعزّ سنجر الجوهرىّ مملوك الفارس أقطاى، فدخل عليه الحمّام [و] لكمه ورماه، وألزم الخدّام معاونته، وبقيت هى تضربه بالقبقاب وهو يستغيث ويتضرّع إليها إلى أن مات، وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة. فلمّا كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول ركب الأمراء الأكابر إلى القلعة على عادتهم، وليس عندهم خبر بما جرى، ولم يركب الفائزىّ «1» فى ذلك اليوم؛ وتحيّرت شجرة الدرّ فيما تفعل، فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علىّ ابن الملك المعزّ تقول له عن أبيه: إنه ينزل إلى البحر فى جمع من الأمراء لإصلاح الشوانى التى تجهّزت للمضى إلى دمياط ففعل، وقصدت بذلك لتقلّ الناس من على الباب لتتمكن ممّا تريد، فلم يتمّ مرادها.
ولمّا تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعزّ، واضطربت الناس فى البلد واختلفت أقاويلهم ولم يقفوا على حقيقة الأمر، وركب العسكر إلى جهة القلعة، وأحدقوا بها ودخلها مماليك الملك المعزّ أيبك والأمير بهاء الدين بغدى «2» الأشرفىّ مقدّم الحلقة؛ وطمع الأمير عزّ الدين الحلبىّ فى التقدّم، وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحيّة، فلم يتمّ له ذلك. ثم استحضر الذين فى القلعة الوزير شرف الدين الفائزىّ واتّفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علىّ بن الملك المعزّ أيبك، وعمره يومئذ نحو خمس عشرة سنة، فرتّبوه فى الملك ونودى فى البلد بشعاره، وسكن الناس وتفرّقوا إلى دورهم، ونزل الأمراء الصالحيّة إلى دورهم. فلمّا كان يوم الخميس خامس عشرين الشهر وقع فى البلد خبطة عظيمة وركب العسكر إلى القلعة.
واتّفق رأى الذين بالقلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ فى السلطنة، وكان أتابك الملك المعزّ ويعرف بالمشدّ، واستحلفوا العسكر له، وحلف له الأمراء الصالحيّة(6/376)
على كره من أكثرهم، وامتنع الأمير عزّ الدين ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور، ثم انتقض بعد ذلك. وفى يوم الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأوّل خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة.
وأمّا شجرة الدر صاحبة الترجمة فإنّها امتنعت بدار السلطنة، هى والذين قتلوا الملك المعزّ أيبك، وطلب المماليك المعزيّة هجوم الدار عليهم، فحالت الأمراء الصالحيّة بينهم وبينها، حمية لشجرة الدر لأنّها خشداشتهم؛ فلمّا غلبوا مماليك المعزّ منهم ومنها أمّنوها وحلفوا لها أنّهم لا يتعرّضون لها بسوء. فلمّا كان يوم الاثنين التاسع والعشرون منه أخرجت من دار السلطنة إلى البرج «1» الأحمر فحبست به وعندها بعض جواريها، وقبض على الخدّام واقتسمت الأمراء جواريها؛ وكان نصر العزيزىّ الصالحىّ، وهو أحد الخدّام القتلة، قد تسرّب إلى الشام يوم ظهور الواقعة، وأحاطت المماليك المعزيّة بالدار السلطانيّة وجميع ما فيها؛ ويوم «2» ظهور الواقعة أحضر الصفىّ بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجرة الدر لمّا طلبته بعد قتل المعزّ واستشارته، فعرّفهم صورة الحال فصدّقوه وأطلقوه. وحضر الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ، وكان الناس قد قطعوا بموت المعزّ، فعند حضور أيدغدى العزيزىّ المذكور أمر باعتقاله بالقلعة، ثم نقل إلى الإسكندريّة، فاعتقل بها، ثمّ صلب الخدّام الذين اتّفقوا على قتل المعزّ، وهرب سنجر غلام الجوهرىّ ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن، فمات سنجر من يوم الاثنين المذكور وقت العصر على(6/377)
الخشبة، وتأخّر موت الباقين إلى تمام يومين. واستمرّت شجرة الدرّ بالبرج الأحمر بقلعة الجبل، والملك المنصور علىّ ابن الملك المعز أيبك ووالدته يحرّضان المعزية على قتلها، والمماليك الصالحيّة تمنعهم عنها، لكونها جارية أستاذهم، ولا زالوا على ذلك إلى يوم السبت حادى عشر شهر ربيع الآخر وجدت مقتولة مسلوبة خارج القلعة، فحملت إلى التّربة «1» التى كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة «2» - رحمها الله تعالى- فدفنت بها. ولشجرة الدرّ أوقاف على التربة المذكورة وغيرها. وكان الصاحب «3» بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم المعروف بابن حنّا وزيرها، ووزارته لها أوّل درجة ترقّاها من المناصب الجليلة. ولما تيقّنت شجرة الدرّ أنّها مقتولة أودعت جملة من المال والجواهر، وأعدّت أيضا جملة من الجواهر النفيسة فسحقتها فى الهاون لئلا يأخذها الملك المنصور ابن المعزّ أيبك وأمّه، فإنّها كانت تكره المنصور ووالدته،(6/378)
وكانت غير متجمّلة فى أمرها لمّا تزوّجها أيبك حتّى منعته الدخول إليهما بالكليّة، فلهذا كان المنصور وأمّه يحرّضان المماليك المعزيّة على قتلها. وكانت خيّرة ديّنة رئيسة عظيمة فى النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البرّ معروفة بها. والذي وقع لها من تملّكها الديار المصريّة لم يقع ذلك لأمرأة قبلها ولا بعدها فى الإسلام.
*** انتهى الجزء السادس من النجوم الزاهرة، ويليه الجزء السابع، وأوّله: ذكر ولاية المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر(6/379)
استدراكات
على بعض تعليقات وردت فى الأجزاء الثالث والرابع والخامس من هذا الكتاب
منبوبة
ورد فى الحاشية رقم 3 ص 99 بالجزء الثالث (من هذه الطبعة) أن منبوبة هى المعروفة اليوم باسم انبابه التى يقال لها أيضا أنبوبة. والصواب أن منبوبة وانبابه ناحيتان إحداهما منفصلة عن الأخرى:
فأما منبوبة ويقال لها أنبوبة فهذه تعرف اليوم باسم أمبوبة وقد أضيفت إلى ناحيتى وراق الحضر وميت النصارى وأصبح يتكوّن من هذه النواحى الثلاث قرية واحدة مشتركة فى الزمام والادارة باسم «وراق الحضر وأمبوبة وميت النصارى بمركز امبابة بمديرية الجيزة» .
وأما انبابة وتعرف اليوم باسم امبابة فقد وردت فى نزهة المشتاق للإدريسىّ ثم حدث أن قسمت هذه البلدة إلى خمس نواح: وهى منية تاج الدولة التى تعرف اليوم باسم تاج الدول، ومنية كرداك التى تعرف اليوم باسم ميت كردك، ومنية أبو على التى تعرف اليوم باسم كفر الشوام، وكفر الشيخ إسماعيل، وجزيرة امبابة.
وهذه النواحى مدرجة فى جدول أسماء البلاد الحالية بأسمائها المذكورة كلّ ناحية قائمة بذاتها إلّا أنّه بسبب تجاورها فى السكن لا يزال يطلق على مجموعها اسم «امبابة» وإليها ينسب مركز امبابة أحد مراكز مديرية الجيزة.
خليج القاهرة
ورد فى التعليق الخاص بهذا الخليج فى صفحة 43 من الجزء الرابع أن الخليج المصرى ردم فى سنة 1896. والصواب أنه بدئ فى ردمه من جهة قنطرة غمرة فى أول ابريل سنة 1897 وأتم ردمه من جهة فم الخليج فى يونية سنة 1899(6/380)
قنطرة السدّ
بما أنّ الشرح الخاصّ بهذه القنطرة المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
يستفاد مما ورد فى الجزء الثانى من الخطط المقريزية ص 146: أن هذه القنطرة أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى سنة 643 هـ على الخليج المصرى (خليج القاهرة) بالقرب من فمه وكانت واقعة فى شارع الخليج المصرى تجاه النقطة التى يتلاقى فيها هذا الشارع بشارع مدرسة الطب.
وكانت هذه القنطرة موجودة ومعروفة كما شاهدتها باسم قنطرة الماوردى إلى منتصف سنة 1899 التى تم فيها ردم هذا الخليج، وبردمه اختفت هذه القنطرة من تلك السنة.
وذكر المقريزى أنها عرفت بقنطرة السد بسبب السدّ الذي كان يقام سنويا من التراب بجوار هذه القنطرة عند ما يبدأ ماء النيل فى الزيادة وقت الفيضان لكى يصد الماء، ومتى وصلت الزيادة إلى ست عشرة ذراعا يفتح السدّ حينئذ باحتفال رسمى عظيم ويمرّ الماء فى الخليج فتملأ منه صهاريج مدينة القاهرة وبركها وتروى منه بساتينها كما تروى الأراضى الزراعية الواقعة على جانبى الخليج حتى نهايته الشمالية فى مديرية الشرقية.
بركة الحبش
بما أنّ الشرح الخاصّ بهذه البركة المدرج فى صفحة 14 بالجزء الخامس جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
هذه البركة كانت واقعة جنوبى مدينة مصر فيما بين النيل والجبل. وذكر المقريزى فى الجزء الثانى من خططه عند الكلام على البرك ص 152: بأن هذه البركة كانت تعرف ببركة المغافر وبركة حمير وباصطبل قرة وباصطبل قامش وبركة الأشراف وبركة الحبش وهو الاسم الذي اشتهرت به.(6/381)
وهذه البركة لم تكن بركة عميقة فيها ماء راكد بالمعنى المفهوم الآن من لفظ بركة وإنّما كانت تطلق على حوض من الأراضى الزراعيّة التى يغمرها ماء النيل وقت فيضانه سنويا بواسطة خليج بنى وائل الذي كان يأخذ ماءه من النيل جنوبى مصر القديمة، فكانت الأرض وقت أن يغمرها الماء تشبه البرك ولهذا سميت بركة. وبعد أن ينتهى فيضان النيل ويصرف الماء عنها تنكشف أرضها ولا تحتاج إلى الحرث للينها بل تلاق لوقا وتزرع أصنافا شتوية أسوة بأراضى الملق التى فى حياض الوجه القبلى.
وأمّا اليوم فقد بطلت طريقة الرىّ الحوضى لهذه الأرض وأصبحت تروى ريّا صيفيا وشتويّا من ترعة الخشاب التى تأخذ مياهها من النيل بواسطة طلمبات الليثى ببلدة الصف فى أيام الصيف، وبواسطة طلمبات بلدة الكريمات فى أيام فيضان النيل.
ويتّضح ممّا ذكر المقريزى أنّها سمّيت بركة الحبش لأنّه كان يوجد بجوارها من الجهة الجنوبية جنان تعرف بالحبش فنسبت إليها البركة. ويستفاد مما ذكره أبو صالح الأرمنى فى كتاب الديارات أن هذه الجنان عرفت بالحبش لأنها كانت لطائفة من الرهبان الحبش، يؤيّد ذلك ما ذكره المقريزى أيضا عند الكلام على هذه البركة حيث قال: «وفى تواريخ النصارى أن الأمير أحمد بن طولون صادر البطريق ميخائيل بطرك اليعاقبة على عشرين ألف دينار قباع النصارى رباع الكنائس بالإسكندرية وأرض الحبش بظاهر مصر» .
ومن تطبيق الحدود التى ذكرها المقريزى لهذه البركة على موضعها اليوم يتبين أنها كانت تشغل من الأرض مساحة قدرها نحو 1500 فدان: منها 213 فدانا وهو مجموع الزمام المنزرع من أرأضى قرية دير الطين، والباقى من زمام ناحية البساتين، وتحدّ هذه المنطقة اليوم من الشمال بصحراء جبانة مصر وجبل الرصد الذي يعرف اليوم بجبل اصطبل عنتر وأرض قرية أثر النبي فى الحدّ الفاصل بينها وبين دير الطين،(6/382)
ومن الغرب جسر النيل بين قرية دير الطين ومعادى الخبيرى، ومن الجنوب والشرق باقى أراضى ناحية البساتين التابعة لمركز الجيزة بمدرية الجيزة.
قوص
يضاف إلى ما ورد فى شرحها المدرج بصفحة 292 بالجزء الخامس ما يأتى:
وكانت مدينة قوص قاعدة لإقليم يعرف بالأعمال القوصية نسبة إلى قوص من عهد الدولة الفاطمية إلى آخر أيام حكم المماليك. وفى أيام الحكم العثمانى اندمجت الأعمال القوصية كلها بما فيها مدينة قوص فى ولاية جرجا التى كانت تمتدّ فى ذاك الوقت على جانبى النيل من مدينة أسيوط شمالا إلى وادى حلفا عند الشلال الثانى جنوبا.
ولمّا أنشئت مديرية قنا فى سنة 1833 تتبعت لها مدينة قوص وجعلت قاعدة لأحد أقسام هذه المديرية ولا تزال قوص قاعدة لمركز قوص بمديرية قنا إلى اليوم.
منية ابن خصيب
ذكر سهوا فى صفحة 309 بالجزء الخامس أن منية ابن خصيب واقعة على الشاطئ الشرقى للنيل. والصواب أنها واقعة على الشاطئ الغربى للنيل كما هو معلوم.
*** تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية على اختلاف أنواعها والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا. فنسدى إليه حزيل الشكر ونسأل الله جلت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.(6/383)
فهرس الولاة «1» الذين تولوا مصر من سنة 567 هـ الى سنة 648 هـ
(ا) ابن العزيز- المنصور محمد بن العزيز عثمان.
أبو بكر- العادل سيف الدين بن أيوب.
أبو المظفر- صلاح الدين يوسف بن أيوب.
أبو المظفر- الكامل محمد بن العادل.
أبو المعالى ناصر الدين- الكامل محمد بن العادل.
أم خليل المستعصمية- شجرة الدر.
(ش) شاهنشا ملك الملوك- العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب.
شجرة الدر بنت عبد الله جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته وأم ولده خليل 373- 379
(ص) الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن أيوب بن شادى بن مروان 319- 363
صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادى ابن مروان الملك الناصر أبو المظفر 1- 119
(ع) العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شادى ابن مروان 160- 226
العادل الصغير أبو بكر بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب ابن شادى بن مروان 303- 318
العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب 120- 145
(ك) الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى بن مروان 227- 302
(م) محمد بن أبى بكر بن أيوب- الكامل محمد بن العادل.
محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب 146- 159
المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل ابن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى بن مروان 364- 372
المنصور- محمد بن العزين عثمان.
(ن) الناصر- صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ناصر الدين- محمد بن العزيز عثمان.(6/384)
[الجزء السابع]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 648]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء السابع «1» من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر
هو السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك بن عبد الله الصالحىّ النّجمىّ المعروف بالتّركمانىّ، أوّل ملوك الترك بالديار المصرية. وقد ذكرهم بعض الناس فى أبيات مواليّا إلى يومنا هذا، وهم الملوك الذين مسّهم الرّق، غير أولادهم، فقال:
أيبك قطز يعقبو بيبرس «2» يا ذا الدين ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا لاچين
بيبرس برقوق بعدو شيخ ذو التبيين ... ططربرسباى جقمق صاحب التمكين
قلت: هذا قبل أن يتسلطن الملك الأشرف إينال العلائى، فلمّا ملك إينال قلت أنا:(7/3)
أيبك قطز يعقبو بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتغا المفضال
لاچين بيبرس برقوق شيخ ذو الإفضال ... ططر برسباى جقمق ذو العلا إينال
وقد خرجنا عن المقصود، ولنعد إلى ذكر الملك المعزّ أيبك المذكور، فنقول:
أصله من مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب، اشتراه فى حياة والده الملك الكامل محمد، وتنقّلت به الأحوال عنده، ولازم أستاذه الملك الصالح فى الشرق حتّى جعله جاشنكيره «1» ، ولهذا لمّا أمّره كان عمل رنكه «2» صورة خوانجا.
واستمرّ على ذلك إلى أن قتل المعظّم توران شاه وملكت شجرة الدّرّ بعده، اتّفق الأمراء على سلطنة الملك المعزّ أيبك هذا وسلطنوه بعد أن بقيت الديار المصريّة بلا سلطان مدّة، وتشوّف إلى السلطنة عدّة أمراء، فحيف من شرّهم؛ ومال الناس إلى أيبك المذكور، وهو من أوسط الأمراء، [و] لم يكن من أعيانهم؛ غير أنّه كان معروفا بالسّداد وملازمة الصلاة، ولا يشرب الخمر؛ وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب. وقالوا أيضا: هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته. وكونه من أوسط الأمراء. فبايعوه وسلطنوه وأجلسوه فى دست الملك فى أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستّمائة. وحملت «3» الغاشية بين يديه، وركب(7/4)
بشعائر «1» السلطنة، وأوّل من حمل الغاشية بين يديه الأمير حسام «2» الدّين بن أبى علىّ، ثمّ تداولها أكابر الأمراء واحدا بعد واحد. وتمّ أمره فى السلطنة وخطب له على المنابر، ونودى فى القاهرة ومصر بسلطنته، إلى أن كان الخامس من جمادى الأولى بعد سلطنته بخمسة أيّام ثارت المماليك البحريّة الصالحيّة وقالوا: لابدّ لنا من سلطان يكون من بنى أيّوب يجتمع الكلّ على طاعته؛ وكان الذي قام بهذا الأمر الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار «3» ، والأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، والأمير سيف الدين بلبان «4» الرشيدىّ، والأمير شمس الدين سنقر الرّومىّ، واتّفقوا على أن يكون الملك المعزّ أيبك هذا أتابكا «5» عليهم، واختاروا أن يقيموا صبيّا عليهم من بنى أيّوب يكون له اسم السلطنة، وهم يدبّرونه كيفما شاءوا ويأكلون الدنيا به!
كلّ ذلك والملك المعزّ سامع مطيع. فوقع الاتّفاق على الملك الأشرف مظفّر الدين موسى ابن الملك الناصر يوسف ابن الملك المسعود أقسيس ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب؛ وكان هذا الصبىّ عند عمّاته القطبيّات «6» ، وتقدير عمره عشر «7» سنين، فأحضروه(7/5)
وسلطنوه وخطبوا له، وجعلوا الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ أتابكه، وتمّ ذلك. فكان التوقيع يخرج وصورته: «رسم بالأمر العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الأشرفىّ والملكىّ المعزّىّ» . واستمرّ الحال على ذلك مدّة، والمعزّ هو المستولى بالتدبير ويعلّم على التواقيع، والأشرف المذكور صورة
وبينما هم فى ذلك ورد الخبر عليهم بخروج السلطان الملك الناصر «1» صلاح الدّين يوسف صاحب الشام وحلب، خرج من دمشق إلى المزّة «2» يريد الديار المصريّة ليملكها لمّا بلغه قتل ابن عمّه الملك المعظم توران شاه. فاجتمع الامراء عند الملك المعزّ أيبك وأجمعوا على قتاله وتأهّبوا لذلك، وجهّزوا العساكر وتهيّئوا للخروج من مصر.
وأمّا الملك الناصر فإنّه سار من دمشق نحو الديار المصرية بإشارة الأمير شمس الدين لؤلؤ [الأمينىّ] «3» ، فإنّه ألحّ عليه فى ذلك إلحاحا كان فيه سببا لحضور منيّته، وكان لؤلؤ المذكور يستهزئ بالعساكر المصريّة، ويستخفّ بالمماليك، ويقول: آخذها بمائتى قناع «4» ، وكانت تأتيه كتب من مصر من الأصاغر فيظنّها من الأعيان، ودخلوا الرّمل ودنوا من البلاد؛ وتقدّم عسكر الشام ومعهم الأمير «5» جمال الدين بن يغمور نائب الشام وسيف الدين المشدّ وجماعة؛ وانفرد شمس الدين لؤلؤ، والأمير ضياء الدين القيمرىّ؛ وخرجت العساكر المصريّة إليهم، والتقوا معهم وتقاتلوا فانهزم المصريّون ونهبت أثقالهم، ووصلت طائفة منهم من البحريّة على وجوههم إلى الصعيد،(7/6)
وكانوا قد أساءوا إلى المصريّين ونهبوهم وارتكبوا معهم كلّ قبيح، فخافوا منهم فتوجّهوا إلى الصعيد. وخطب فى ذلك النهار بالقاهرة «1» ومصر والقلعة للملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور وفى جميع البلاد. وأيقن كلّ أحد بزوال دولة الملك المعزّ أيبك. وبات «2» فى تلك الليلة جمال الدين بن يغمور بالعبّاسة «3» ، وأحمى الحمّام للملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهيّأ له الإقامة. كلّ ذلك والملك الناصر ما عنده خبر بما وقع من القتال والكسرة، وهو واقف بسناجقه «4» وأصحابه ينتظر ما يرد عليه من أمر جيشه.
وأمّا أمر المصريّين فإنّه لمّا وقعت الهزيمة عليهم ساق الملك المعزّ أيبك وأقطاى الجمدار المعروف ب «أقطيا» فى ثلثمائة فارس طالبين الشام هاربين، فعثروا فى طريقهم بشمس الدين لؤلؤ المقدّم ذكره والضّياء القيمرىّ، فساق شمس الدين لؤلؤ عليهم فحملوا عليه فكسروه وأسّروه وقتلوا ضياء الدين القيمرىّ، وجىء بشمس الدين لؤلؤ إلى بين يدى الملك المعزّ أيبك، فقال الأمير حسام الدين بن أبى علىّ: لا تقتلوه لنأخذ به الشام، فقال أقطاى الجمدار: هذا الذي يأخذ مصر منّا بمائتى قناع! وجعلنا مخانيث، كيف نتركه! وضربوا عنقه، وساقوا على حميّة إلى جهة، فاعترضوا طلب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف فوقع المصافّ بينهم،(7/7)
فخامر على الملك الناصر جماعة من المماليك العزيزيّة من مماليك أبيه، وجاءوا إلى الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ، وقالوا له: إلى أين تتوجّه؟ هذا السلطان واقف فى طلبه ليس له علم بكسرتهم، فعطفوا على الطّلب، وتقدمتهم العزيزيّة فكسروا سناجق السلطان وصناديقه ونهبوا ماله، ورموه بالنّشّاب، فأخذه نوفل الزّبيدىّ «1» وجماعة من مماليكه وأصحابه وعادوا به إلى الشام، وأسر المصريّون الملك المعظّم [توران شاه «2» ] ابن السلطان صلاح الدين بعد أن جرحوه وجرحوا ولده تاج الملوك، وأخذوا الملك الأشرف «3» صاحب حمص، والملك الزاهر عمّه، والملك الصالح إسماعيل صاحب الوقائع مع الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وجماعة كثيرة من أعيان الحلبيّين؛ ومات تاج الملوك من جراحته «4» فحمل إلى بيت المقدس ودفن به؛ وضرب الشريف المرتضى فى وجهه بالسيف ضربة هائلة عرضا وأرادوا قتله، فقال: أنا رجل شريف وابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتركوه؛ وتمزّق عساكر دمشق كلّ ممزّق، ومشوا فى الرمل أيّاما.
وأمّا المصريّون فإنّهم لمّا وقعت لهم هذه النّصرة عادوا إلى القاهرة بالأسارى، وسناجق الناصر مقلوبة وطبوله مشقّقة، ومعهم الخيول والأموال والعدد وشقّوا القاهرة، فلمّا وصلت المماليك الصالحيّة النّجميّة إلى تربة أستاذهم الملك الصالح نجم الدين أيّوب ببين القصرين أخذوا الملك الصالح إسماعيل الذي أسروه فى الوقعة،(7/8)
وكان عدوّ أستاذهم الملك الصالح المذكور، ووقفوا به عند التّربة، وقالوا: يا خوند، أين عينك ترى عدوّك أسيرا بأيدينا! ثمّ سحبوه ومضوا به إلى الحبس، فحبسوه هو وأولاده أيّاما ثم غيّبوه إلى يومنا هذا، ولم يسمع عنه خبر إلّا ما تحدّث به العوامّ بإتلافه.
وأمّا عساكر الناضر الذين كانوا بالعبّاسة (أعنى الذين كسروا الملك المعزّ أيبك أوّلا) فإنّ المعزّ لمّا تمّ له النصر وهزم الناصر ردّ إلى المذكورين فى عوده إلى القاهرة، ومال عليهم بمن معه قتلا وأسرا حتى بدّد شملهم، ورحل إلى القاهرة بمن معه من الأسارى وغيرهم. ولمّا دخل الملك المعزّ أيبك هذا إلى القاهرة ومعه المماليك الصالحيّة مالوا على المصريّين قتلا ونهبا ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم وفعلوا بهم ما لم يفعله الفرنج بالمسلمين.
قلت: وسبب ذلك أنّه لمّا بلغهم كسرة المعزّ فرحوا وتباشروا بزوال المماليك من الديار المصريّة، وأسرعوا أيضا بالخطبة للملك «1» صلاح الدّين يوسف صاحب الشام المقدّم ذكره. وكان وزير «2» الملك الصالح إسماعيل المقدّم ذكره معتقلا بقلعة»
الجبل هو وناصر الدين [إسماعيل] «4» بن يغمور نائب الشام وسيف الدين القيمرىّ والخوارزمىّ صهر الملك الناصر يوسف، فخرجوا من الجبّ «5» وعصوا بقلعة الجبل، فلم يوافقهم سيف الدين القيمرىّ بل جاء وقعد على باب الدار التى فيها أعيان الملك المعزّ أيبك وحماها من النهب، ولم يدع أحدا يقربها؛ وأمّا الباقون فصاحوا:(7/9)
«الملك الناصر يا منصور!» . فلما جاء الترك فتحوا باب القلعة ودخلوها، وأخذوا من كان عصى فيها، وشنقوا وزير الصالح وابن يغمور والخوارزمىّ متقابلين، وشنقوا أيضا مجير الدين بن حمدان، وكان شابّا حسنا، وكان تعدّى على بعض المماليك وأخذ خيله.
وأمّا الملك الناصر يوسف فإنّه سار حتّى وصل إلى غزّة وأقام ينتظر اصحابه، فوصل إليه منهم من سلم من عسكر الشام وعسكر الموصل ومضوا إلى الشام.
وأمّا العساكر المصريّة فإنّ الملك المعزّ أيبك المذكور لمّا دخل إلى مصر بعد هذه الوقعة عظم أمره وثبتت قواعد ملكه ورسخت قدمه. ثمّ وقع له فصول مع الملك الناصر يوسف المذكور يطول شرحها. محصول ذلك: أنّه لمّا كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة وقع الاتّفاق بينه وبين الملك الناصر المذكور على أن يكون للعزّ وخشداشيته «1» المماليك الصالحيّة البحريّة الديار المصريّة وغزّة والقدس، وما بقى بعد ذلك من البلاد الشاميّة تكون للملك الناصر صلاح الدين يوسف. وأفرج الملك المعزّ عن الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور وعن أخيه نصرة الدين وعن الملك الأشرف صاحب حمص وغيرهم من الاعتقال، وتوجّهوا إلى الشام.
ولمّا فرغ الملك المعزّ من ذلك أخذ ينظر فى أمره مع فارس الدّين أقطاى الجمدار فإنّه كان أمره قد زاد فى العظمة والتفّت عليه المماليك البحريّة، وصار أقطاى المذكور(7/10)
يركب بالشاويش «1» وغيره من شعار الملك، وحدّثته نفسه بالملك، وكان أصحابه يسمّونه «الملك الجواد» فيما بينهم. كلّ ذلك والمعزّ سامع مطيع، حتّى خطب أقطاى بنت الملك المظفّر تقىّ الدين محمود صاحب حماة وكان أخوها الملك المنصور «2» هو يومئذ صاحب حماة بعد موت أبيه. وتحدّث أقطاى مع الملك المعزّ أيبك أنّه يريد يسكنها فى قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك، ولا يليق سكناها بالبلد، فاستشعر الملك المعزّ منه بما عزم عليه، وأخذ يدبّر أمره وعمل على قتله فلم يقدر على ذلك.
فكاتب الملك المعزّ السلطان صلاح الدين يوسف واستشاره فى الفتك به، فلم يجبه فى ذلك بشىء، مع أنّه كان يؤثر ذلك، لكنّه علم أنّه مقتول على كلّ حال، فترك الجواب. ثم سيّر فارس الدّين أقطاى الجمدار المذكور جماعة لإحضار بنت صاحب حماة إليه، فخرجت من حماة ووصلت إلى دمشق بتجمّل عظيم فى عدّة محفّات «3» مغشّاة بالأطلس وغيره من فاخر الثياب وعليها الحليّ والجواهر، ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجّهة إلى الديار المصريّة.
وأمّا الملك المعزّ فإنّه لمّا أبطأ عليه جواب الملك الناصر صلاح الدين فى أمر أقطاى وتحقّق أن بنت صاحب حماة فى الطريق بقى متحيّرا، إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكليّة، وإن سكّنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكّن من إخراجه، ويترتّب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين أقطاى بالملك فعمل على معاجلته؛(7/11)
فدخل أقطاى عليه على عادته، وقد رتّب له الملك المعزّ جماعة للفتك به، منهم:
الأمير سيف الدين قطز المعزى (أعنى الذي تسلطن بعد ذلك) ، فلمّا دخل أقطاى وثبوا عليه وقتلوه فى دار السلطنة بقلعة الجبل فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة؛ فتحرّك لقتله جماعة من خشداشيته البحريّة، ثم سكن الحال ولم ينتطح فى ذلك شاتان!.
ولمّا وقع ذلك التفت الملك المعزّ إلى خلع الملك الأشرف مظفّر الدين موسى الأيّوبىّ فخلعه وأنزله من قلعة الجبل إلى حيث كان أوّلا عند عمّاته «1» القطبيّات.
وركب الملك المعزّ بالسناجق السلطانيّة وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقلّ على الملك بمفرده استقلالا تامّا إلى أن قصدت المماليك العزيزيّة القبض عليه فى سنة ثلاث وخمسين، فشعر بذلك قبل وقوعه فقبض على بعضهم وهرب بعضهم. م وقعت الوحشة ثانيا بين الملك المعزّ هذا وبين الملك الناصر صلاح الدين يوسف، فمشى الشيخ نجم الدين البادرائىّ «2» بينهما حتّى قرّر الصلح بين المعزّ وبين الناصر، على أن تكون الشام جملة للملك الناصر، وديار مصر للملك المعزّ؛ وحدّ ما بينهما بئر القاضى «3» ،(7/12)
وهو فيما بين الورّادة «1» والعريش «2» ؛ واستمرّ الحال على ذلك. ثم إنّ الملك المعزّ تزوّج بالملكة شجرة الدّرّ أمّ خليل فى هذه السنة ودخل بها، وكان زواجه بها سببا لقتله على ما تقدّم فى ترجمتها، وعلى ما يأتى فى هذه الترجمة أيضا.
ولمّا تزوّجها وأقام معها مدّة أراد أن يتزوّج ببنت الملك الرحيم صاحب الموصل، وكانت شجرة الدرّ شديدة الغيرة، فعملت عليه وقتلته فى الحمّام، وأعانها على ذلك جماعة من الخدّام. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة شجرة الدرّ فيما مضى. وكان قتل الملك المعزّ فى يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستّمائة. وكان ملكا شجاعا كريما عاقلا سيوسا كثير البذل للاموال، أطلق فى مدّة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة حتّى رضى الناس بسلطان مسّه الرّقّ. وأمّا أهل مصر فلم يرضوا بذلك إلى أن مات، وهم يسمعونه ما يكره، حتّى فى وجهه إذا ركب ومرّ بالطرقات، ويقولون: لا نريد إلّا سلطانا رئيسا مولودا على الفطرة. على أنّ الملك المعزّ كان عفيفا طاهر الذّيل بعيدا عن الظلم والعسف كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنّيهم عليه وشرّ أخلاقهم، وكذلك مع الناس. وخلّف عدّة أولاد منهم الملك المنصور علىّ الذي تسلطن بعده، وناصر الدين قان.(7/13)
قال الشيخ قطب «1» الدين اليونينىّ فى الذيل على مرآة الزمان: «ورأيت له ولدا آخر بالديار المصريّة فى سنة تسع وثمانين وستمائة، وهو فى زىّ الفقراء الحريريّة «2» » .
انتهى. وكان للمعزّ برّ ومعروف وعمائر، من ذلك: المدرسة المعزّيّة «3» على النيل بمصر القديمة ووقف عليها أوقافا. ودهليز المدرسة متّسع طويل مفرط؛ قيل: إنّ بعض الأكابر دخل إلى هذه المدرسة المذكورة فرآها صغيرة بالنسبة إلى دهليزها، فقال:
هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة! انتهى. وكان مدرّسها القاضى برهان «4» الدين الخضر ابن الحسن السّنجارىّ إلى أن مات. وكانت مدّة سلطنة الملك المعزّ على مصر سبع سنين. ومات وقد ناهز الستّين سنة- رحمه الله تعالى-.
قلت: وقد تقدّم أنّ الملك المعزّ أيبك هذا هو أوّل من ملك الديار المصريّة من الأتراك الذين مسّهم الرّقّ. وقد ذكرنا مبدأ أمره وما وقع له من الحروب(7/14)
وغيرها على سبيل الاختصار. ولنذكر هنا أيضا من عاصره من ملوك الأقطار ليعلم الناظر فى هذه الترجمة بأصل جماعة كبيرة من الملوك الآتى ذكرهم فى الحوادث، وأيضا بحدّ مملكة الملك المعزّ يوم ذاك، وحد تحكّمه من البلاد؛ ومع هذا كان له من المماليك والحشم والعساكر أضعاف ما لملوك زماننا هذا مع اتّساع ممالكهم. انتهى.
ونذكر أيضا من أمر النار التى كانت بأرض الحجاز فى أيّام سلطنته فى سنة أربع وخمسين وستمائة، فنقول:
استهلّت سنة أربع وخمسين المذكورة والخليفة المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله العباسىّ ببغداد، وسلطان مصر الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ هذا، وسلطان الشام إلى الفرات الملك الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبىّ ما خلا حماة وحمص والكرك وبلادا أخر نذكر ملوكها فيما يأتى- إن شاء الله تعالى- وهم: صاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب. وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبى بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب. وصاحب صهيون «1» وبرزيه «2» وبلاطنس «3» الأمير مظفّر الدين عثمان ابن الأمير ناصر الدين منكورس. وصاحب تلّ «4» باشر والرّحبة «5» وتدمر الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن إبراهيم بن شير كوه بن محمد بن شير كوه بن شادى.
وصاحب الموصل وأعمالها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكىّ. وصاحب ميّافارقين(7/15)
وديار بكر وتلك الأعمال الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر شهاب الدين غازى بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب. وصاحب ماردين الملك السعيد إيلغازى الأرتقىّ. وصاحب إربل «1» وأعمالها الصاحب تاج الدين «2» بن صلايا العلوىّ من جهة الخليفة. والنائب فى حصون الإسماعيليّة الثمانية «3» بالشام رضىّ الدين أبو المعالى. وصاحب المدينة الشريفة- صلوات الله وسلامه على ساكنها- الأمير عزّ «4» الدين أبو ملك منيف بن شيحة بن قاسم الحسينىّ. وصاحب مكّة المشرّفة- شرفّها الله تعالى- الشريف قتادة الحسينىّ. وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن عمر.
وأمّا ملوك الشرق: فسلطان ما وراء النهر وخوارزم السلطان «5» ركن الدين وأخوه «6» عزّ الدين والبلاد بينهما مناصفة، وهما فى طاعة هولاكو ملك التّتار.
وأمّا أمر النار التى ظهرت بالحجاز قال قاضى المدينة سنان «7» الحسينىّ: «لمّا كان ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستّمائة، ظهر بالمدينة الشريفة(7/16)
دوىّ عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت «1» منها المدينة والحيطان والسّقوف ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة خامس الشهر المذكور ظهرت نار عظيمة، وقد سالت أودية منها بالنّار إلى وادى «2» شظا حيث يسيل الماء، وقد سدّت مسيل شظا وما عاد يسيل.
ثم قال: والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدّت الحرّة طريق الحاجّ العراقىّ، وسارت إلى أن وصلت إلى الحرّة «3» فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجىء إلينا؛ ورجعت تسير فى الشرق، يخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة»
، كما أخبر الله فى كتابه العزيز فقال عزّ من قائل: (إنّها ترمى بشرر كالقصر. كأنّه جمالت صفر) . قال: وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين والنار فى زيادة ما تغيّرت؛ وقد عادت إلى الحرّة وفى قريظة طريق الحاجّ العراقىّ.
وأمّا أمر النار الكبيرة فهى جبال نيران حمر، والأمّ الكبيرة النار التى سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت، وما عاد الناس يدرون أىّ شىء يتمّ بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير؛ وما أقدر أصف هذه النار» . انتهى كلام القاضى فى كتابه.
وقال غيره بعد ما ساق من أمر النار المذكورة عجائب نحوا ممّا ذكرناه وأعظم إلى أن قال: «وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه(7/17)
أربعة أميال وعمقه قامة ونصفا، وهى تجرى على وجه الأرض، وتخرج منها أمهاد وجبال صغار تسير على الأرض، وهو صخر يذوب حتّى يبقى مثل الآنك «1» ، فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر؛ وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصى والتقرّب إلى الله تعالى بالطاعات؛ وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة» .
ثم قال قطب الدين فى الذّيل: «ومن كتاب شمس الدين سنان بن نميلة الحسينىّ قاضى المدينة إلى بعض أصحابه يصف الزّلزلة إلى أن ذكر قصّة النار وحكى منها شيئا إلى أن قال: وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الأمير وكلّمته وقلت:
قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله! فاعتق كلّ مماليكه، وردّ على جماعة أموالهم، فلمّا فعل هذا قلت له: اهبط الساعة معنا إلى النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- فهبط، وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقى أحد لا فى النخيل ولا فى المدينة إلّا عند رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأشفقنا منها وظهر ضوءها إلى أن أبصرت من مكّة، ومن الفلاة جميعها. ثم سال من ذلك نهر من نار وأخذ فى وادى أحيلين «2» وسدّ الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاجّ، وهو بحر نار يجرى وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادى: وادى الشّظا، وما عاد يجرى سيل قطّ لأنّها حفرته نحو قامتين. والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقى يسمع فيها رباب ولا دفّ. ثمّ ذكر أشياء مهولة من هذا الجنس إلى أن قال: والشمس والقمر من يوم طلعت النار ما يطلعان إلّا كاسفين! قال: وأقامت هذه النار أكثر من شهرين» . وفيها يقول بعضهم:(7/18)
يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق «1» لها ... حملا ونحن بها حقّا أحقّاء
زلازلا تخشع الصمّ الصّلاب لها ... وكيف يقوى على الزّلزال شمّاء
أقام سبعا يرجّ الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء «2»
والقصيدة طويلة جدّا كلّها على هذا المنوال. ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمر هذه النار وما وقع منها، فرأينا أنّ الشرح يطول، والمقصود هنا بقيّة ترجمة السلطان الملك المعزّ أيبك.
ولمّا مات المعزّ رثاه سراج «3» الدّين الورّاق بقصيدة أوّلها:
نقيم عليه مأتما بعد مأتم ... ونسفح دمعا دون سفح المقطّم
ولو أنّنا نبكى على قدر فقده ... لدمنا عليه نتبع الدّمع بالدم
وسل طرفى ينبيك عنّى أنّنى ... دعوت الكرى من بعده بالمحرّم
ومنها فى ذكر ولده الملك المنصور علىّ- رحمه الله-:
بنى الله بالمنصور ما هدّم الرّدى ... وإنّ بناء الله غير مهدّم
مليك الورى بشرى لمضمر طاعة ... وبؤسى لطاغ فى زمانك مجرم
فما للذى قدّمت من متأخّر ... ولا للذى أخّرت من متقدّم
وأيبك صوابه كما هو مكتوب، وهو لفظ تركىّ مركّب من كلمتين. فأى هو القمر، وبك أمير، فمعنى الاسم باللغة العربية أمير قمر، ولا عبرة بالتقديم والتأخير فى اللفظ، وأيبك (بفتح الهمزة وسكون الياء المثناة من تحت وتفخيمهما معا) وبك معروف لا حاجة إلى التعريف به. انتهى.(7/19)
السنة التى حكم فى محرّمها الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين، ثم فى صفر والربيعين منها الملكة شجرة الدّرّ أمّ خليل الصالحيّة، ثمّ فى باقيها الملك المعزّ أيبك صاحب الترجمة، ومعه الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، والعمدة فى ذلك على المعزّ هذا، وهى سنة ثمان وأربعين وستّمائة.
فيها كانت كسرة الفرنج على دمياط وقبض على الفرنسيس كما تقدّم.
وفيها قتل الملك المعظّم توران شاه، وقد مرّ أيضا.
وفيها كانت الوقعة بين الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبين الملك المعزّ هذا.
وفيها حجّ طائفة من العراق، ولم يحجّ أحد من الشام ولا مصر فى هذه السنة.
وفيها ثارت الجند ببغداد لقطع أرزاقهم. وكلّ ذلك كان من عمل الوزير «1» ابن العلقمىّ الرافضىّ، فإنّه كان حريصا على زوال دولة بنى العبّاس ونقلها إلى العلوييّن، وكان يرسل إلى التّتار فى السرّ والخليفة المستعصم لا يطّلع على باطن الأمور.
وفيها لمّا فرغوا من حرب دمياط وتفرّق أهلها نقلوا أخشاب بيوتهم وأبوابهم منها وتركوها خاوية على عروشها، ثم بنيت بعد ذلك بليدة بالقرب منها تسمّى المنشيّة «2» .
وكان سور دمياط من أحسن الأسوار.(7/20)
وفيها توفّيت أرغوان «1» الحافظية عتيقة الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، سمّيت الحافظيّة لأنّها ربّت الملك الحافظ صاحب [قلعة] «2» جعبر، وكانت امرأة عاقلة صالحة، وكانت مدّة حبس الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين أيّوب بدمشق تهيّي له الأطعمة والأشربة وتبعث له النياب، فحقد عليها الملك الصالح إسماعيل فصادرها وأخذ منها أموالا عظيمة، يقال: إنّه أخذ منها أربعمائة صندوق. ولها تربة ومسجد ووقفت عليهما أوقافا.
وفيها قتل الأمير شمس الدين لؤلؤ بن عبد الله مقدّم عسكر حلب، وهو الذي قتلته المماليك الصالحيّة فى الوقعة التى كانت بين الناصر والمعزّ صاحب الترجمة. وكان أميرا شجاعا مقداما زاهدا مدبّرا عظيم الشأن، وكان فيه قوّة وبأس غير أنّه كان مستخفّا بالمماليك، ويقول: كلّ عشرة من المماليك فى مقابلة كرىّ، ولا زال يمعن فى ذلك حتى كانت منيته بأيدى المماليك الصالحيّة كما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى ابو «3» الحسن المتطبّب وزير الملك الصالح إسماعيل، وهو الذي كان السبب زوال ملك مخدومه، فإنّه كان سيىء السّيرة كثير الظلم قليل الخير، وكان يتستّر بالإسلام، وكان يرمى فى دينه بعظائم؛ وقيل: إنّه كان أوّلا سامريّا فلم يحسن إسلامه؛ وظهر له بعد موته من الأموال والجواهر والتّحف والذخائر ما لا يوجد فى خزائن الخلفاء، وأقاموا ينقلونه مدّة سنين. وقيمة ما ظهر له غير ما ذهب عند الناس ثلاثة آلاف ألف دينار؛ ووجد له عشرة آلاف مجلّد من الكتب النفيسة والخطوط المنسوبة. قال الشيخ إسماعيل [بن علىّ «4» ] الكورانىّ يوما وقد زاره الوزير(7/21)
المذكور: لو بقيت على دينك كان أصلح لأنّك تتمسّك بدين فى الجملة؛ وأمّا الآن فأنت مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام أبو محمد إبراهيم بن محمود بن سالم بن الخيّر «1» فى شهر ربيع الاخر، وله خمس وثمانون سنة. والحافظ شمس الدين يوسف بن خليل الدّمشقىّ الأدمىّ بحلب فى جمادى الاخرة، وله ثلاث وتسعون سنة. والقاضى أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحبّاب «2» التّميمىّ السّعدىّ، وله سبع وثمانون سنة فى شهر رمضان. والمحدّث أبو محمد عبد الوهاب ابن رواح «3» ، واسمه ظافر بن علىّ بن فتوح القرشىّ المالكىّ، وله أربع وتسعون سنة.
وأبو المنصور مظفّر بن عبد الملك بن الفوّىّ المالكىّ. ونائب الملك الناصر الأمير شمس الدين لؤلؤ قتل فى جماعة فى الوقعة الكائنة بين المصريّين والشامييّن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 649]
السنة الثانية من ولاية السلطان الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة تسع وأربعين وستمائة.(7/22)
فيها عاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف من غزّة إلى دمشق، وأرسل المعزّ عسكر مصر فنزل إلى غزّة والساحل، ثم عادوا إلى القاهرة «1» .
وفيها أيضا أخذ الملك المغيث ابن الملك العادل بن الملك الكامل الكرك والشّوبك، أعطاه إيّاهما الخادم «2» . ولمّا سمع الملك المعزّ بذلك جهّز الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار فى ألف فارس إلى غزّة.
وفيها نقلوا تابوت الملك الصالح نجم الدين أيّوب إلى تربته بالقاهرة ببين القصرين، ولبس الأمراء ثياب العزاء وناحوا عليه ببين القصرين، وتصدّقت جاريته شجرة الدّرّ فى ذلك اليوم بمال عظيم.
وفيها أخرب الترك دمياط «3» وحملوا «4» آلاتها إلى مصر وأخربوا الجزيرة «5» (أعنى الروضة) وأخلوها.
وفيها كثر الظلم بالديار المصريّة وعظم الجور والمصادرات لكلّ أحد حتى أخذوا مال الأوقاف ومال الأيتام على نيّة القرض، ومن أرباب الصنائع كالأطباء والشهود «6» .(7/23)
وفيها توفّى الفقيه بهاء الدين علىّ بن هبة الله بن سلامة بن الجميزىّ، كان إماما فاضلا عارفا بمذهب الشافعىّ ديّنا، وكان يخالط الملوك. ولمّا حجّ قبل هدية صاحب اليمن فأعرض عنه الملك الصالح نجم الدين أيّوب لذلك. وكانت وفاته فى ذى الحجة بمصر، ودفن بالقرافة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الإمام عبد الظاهر ابن نشوان السّعدىّ «1» المقرئ النحوىّ الضرير فى جمادى الأولى. وأبو نصر عبد العزيز ابن يحيى بن الزبيدىّ، وله تسع وثمانون سنة. والإمام أبو المظفّر محمد بن مقبل ابن فتيان النّهروانىّ بن المنّىّ فى جمادى الآخرة. وأبو نصر الأعزّ بن فضائل ببغداد فى رجب. والأمير الصاحب جمال الدين يحيى بن عيسى المصرى ابن مطروح الأديب. وأبو القاسم عيسى بن أبى الحرم «2» مكّىّ بن حسين العامرىّ المصرىّ المقرئ فى شوّال. والإمام أبو محمد عبد الخالق بن الأنجب بن المعمّر النّشتبرىّ «3» بماردين فى ذى الحجة. والإمام العلّامة بهاء الدين أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن سلامة بن الجمّيزىّ فى ذى الحجّة، وله تسعون سنة وأسبوعان. والفقيه عبيد «4» الله بن عاصم خطيب رندة «5» ، وله سبع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.(7/24)
[ما وقع من الحوادث سنة 650]
السنة الثالثة من ولاية الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر، وهى سنة خمسين وستّمائة.
فيها وصلت التّتار إلى الجزيرة ونهبوا ديار بكر وميّافارقين، وجاءوا إلى رأس «1» عين وسروج «2» وغيرها، وقتلوا زيادة على عشرة آلاف إنسان، وصادفوا قافلة خرجت من حرّان «3» تقصد بغداد، فأخذوا منها أموالا عظيمة: منها ستّمائة حمل سكّر مصرىّ وستّمائة ألف دينار، قاله أبو المظفّر فى مرآة الزمان، قال: وقتلوا الشيوخ والعجائز وساقوا من النساء والصّبيان ما أرادوا، ثم رجعوا إلى خلاط «4» . وقطع أهل الشرق الفرات وخاض الناس فى القتلى من دنيسر «5» إلى الفرات. قال بعض التّجار:
عددت على جسر بين حرّان ورأس عين فى مكان واحد ثلثمائة وثمانين قتيلا من المسلمين؛ ثم قتل ملك التّتار كشلوخان.
وفيها حجّ بالناس من بغداد بعد أن كان بطل الحجّ منذ عشر سنين من سنة مات الخليفة المستنصر.
وفيها قدم الشيخ نجم «6» الدين البادرانىّ رسولا من الخليفة وأصلح بين المعزّ أيبك صاحب الترجمة وبين الناصر يوسف، وقد تقدّم ذلك، وكان كلّ واحد من الطائفتين قد سئم وضرس «7» من الحرب، وسكنت الفتنة بين الملوك واستراح الناس.(7/25)
وفيها توفّى العلّامة رضىّ الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علىّ القرشىّ العدوىّ العمرىّ الصاغانىّ «1» الأصل الهندىّ اللاهورىّ «2» المولد البغدادىّ الوفاة المحدّث الفقيه الحنفىّ اللغوىّ الإمام صاحب التصانيف، ولد بمنية لاهور فى عاشر صفر سنة سبع وسبعين وخمسمائة ونشأ بغزنة «3» ، ودخل بغداد فسمع الكثير فى عدّة بلاد ورحل. وكان إليه المنتهى فى علم العربية واللغة، وصنّف كتاب «مجمع البحرين» فى اللغة، اثنا عشر مجلّدا، وكتاب «العباب الزاخر» فى اللّغة أيضا عشرون مجلدا، وأشياء غير ذلك. قال الحافظ «4» الدّمياطى: وكان شيخا صدوقا صالحا صموتا عن فضول الكلام إماما فى اللّغة والفقه والحديث؛ قرأت عليه يوم الأربعاء وتوفّى ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان، وحضرت دفنه بداره بالحريم «5» الطاهرىّ ببغداد. ثم ترجمه الدمياطى ترجمة طويلة وأثنى على علمه وفضله ودينه.
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين محمد بن سعد [ «6» بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله] الكاتب المقدسىّ نشأ بقاسيون على الخير والصلاح وقرأ النحو والعربيّة وسمع الحديث الكثير، وبرع فى الأدب. وكان ديّنا حسن الخط وكتب للملك الصالح إسماعيل وللملك الناصر داود. ومن شعره:(7/26)
لنا بقدوم طلعتك الهناء ... وللأعداء ويحهم الفناء
قدمت فكنت شبه الغيث وافى ... بلادا قد أحلّ بها الظّماء
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول القائل ولم أدر لمن هو:
قدومك أشهى من زلال على ظما ... وأحسن من نيل المنى فى المآرب
حكى الغيث وافى الأرض من بعد جدبها ... وأطلع فيها النبت من كلّ جانب
وفيها توفّى الأمير الصاحب «1» جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم ابن الحسين بن علىّ بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين «2» بن مطروح. كان أصله من صعيد «3» مصر، وولد به ونشأ هناك، ثم قدم القاهرة واشتغل وبرع فى الأدب والكتابة واتّصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيّوب. قال أبو المظفّر: كان فاضلا كيّسا شاعرا. ومن شعره لمّا فتح الناصر داود برج داود بالقدس، قال:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت «4» مثلا سائرا
إذا غدا للكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهّره أوّلا ... وناصر طهّره آخرا
قال: وتوفى فى شعبان ودفن بسارية «5» بالقرافة وكانت له أخبار عظيمة، وكان قد دخل بين الخوارزميّة والصالح أيّوب، واستنابه أيّوب بالشام ولبس ثياب الجند وما كانت تليق به. ثمّ غضب عليه الصالح وأعرض عنه إلى أن مات، فأقام خاملا(7/27)
إلى أن مات. وقد كان جوادا ذا مروءة متعصّبا سمحا حليما حسن الظنّ «1» بالفقراء عارفا فاضلا. انتهى كلام أبى المظفّر. قلت: وديوان شعره مشهور. ومن شعره القصيدة المشهورة:
هى رامة فخذوا يمين الوادى ... وذروا السيوف تقرّ فى الأغماد
وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الاساد
من كان منكم واثقا بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادى
يا صاحبىّ ولى بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادى
سلبته منّى يوم بانوا مقلّة ... مكحولة أجفانها بسواد
وبحىّ «2» من أنا فى هواه ميّت ... عين على العشّاق بالمرصاد
وأغنّ مسكىّ اللّمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادى
كيف السبيل إلى وصال محجّب ... ما بين بيض ظبا وسمر صعاد
فى بيت شعر نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف فى بادى
حرسوا مهفهف قدّه بمثقّف ... فتشابه الميّاس بالميّاد
قالت لنا ألف العذار بخدّه ... فى ميم مبسمه شفاء الصادى
وهى أطول من ذلك اختصرتها خوف الإطالة. ويعجبنى قصيدة الجزّار «3» فى مدح ابن مطروح هذا. أذكر غزلها:
هو ذا الرّبع ولى نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى «4» أقضى حقوقه
فقبيح بى فى شرع الهوى ... بعد ذاك البرّ أن أرضى «5» عقوقه(7/28)
لست أنسى فيه ليلات مضت ... مع من أهوى وساعات أنيقة
ولئن أضحى مجازا بعدهم ... فغرامى فيه ما زال حقيقة
يا صديقي والكريم الحرّ فى ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه
ضع يدا منك على قلبى عسى ... أن تهدّى بين جنبىّ خفوقه
فاض دمعى مذ رأى ربع الهوى ... ولكم فاض وقد شام بروقه
نفد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر فى التّرب عقيقه
قف [معى «1» ] واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضى «2» وطريقه
فهى أرض قلّما يلحقها ... آمل والرّكب لم أعدم لحوقه
طالما استجليت فى أرجائها ... من يتيه البدر إذ يدعى شقيقه
يفضح الورد احمرارا خدّه ... وتودّ الخمر لو تشبه ريقه
فبه الحسن خليق لم يزل ... والمعالى بابن مطروح خليقه
وله بيتان ضمّنهما بيت المتنبّى الذي هو أوّل قصيدته، وهو:
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
فقال ابن مطروح مضمّنا:
إذا ما سقانى ريقه وهو باسم ... تذكّرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرنى من قدّه ومدامعى ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البركات هبة الله ابن محمد بن الحسين [المعروف «3» بآ] بن الواعظ المقدسىّ ثم الإسكندرانىّ عن إحدى(7/29)
وثمانين سنة. وأبو القاسم يحيى بن أبى السعود [نصر «1» ] بن قميرة «2» التاجر فى جمادى الأولى، وله خمس وثمانون سنة. والعلّامة أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن العدوى العمرىّ الصّغانىّ النحوىّ اللغوىّ. والأديب شمس الدين محمد بن سعد بن عبد الله المقدسىّ الكاتب فى شوّال. والمسند رشيد الدين أحمد بن المفرّج «3» بن علىّ [بن عبد «4» العزيز] بن مسلمة العدل فى ذى القعدة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 651]
السنة الرابعة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة إحدى وخمسين وستمائة.
فيها كانت الوقفة الجمعة.
وفيها عظم بمصر أمر الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار ورشّح للسلطنة، وكان من حزبه من خشداشيته بيبرس البندقدارىّ، وبلبان الرّشيدىّ، وسنقر الرّومىّ، وسنقر الأشقر «5» . وصار الملك المعزّ فى خوف. وقد تقدّم ذكر هذه الحكاية فى ترجمة المعزّ.
وفيها كان الغلاء بمكّة المشرّفة، وأبيع فيها الشّربة الماء بدرهم، والشاة بأربعين درهما.(7/30)
وفيها توفّى الشيخ الإمام سعد الدين محمد بن المؤيّد [بن عبد «1» الله بن علىّ] بن حمّويه ابن عمّ شيخ الشيوخ صدر «2» الدين. مات بخراسان، وكان زاهدا عابدا ديّنا متكلّما فى الحقيقة، وله مجاهدات ورياضات، وقدم الشام «3» وحجّ وسكن بدمشق، ثمّ عاد إلى الشرق بعد أن افتقر بالشام، واجتمع بملك التّتار فأحسن به الظنّ وأعطاه مالا كثيرا، وأسلم على يده خلق كثير من التّتار، وبنى هناك خانقاه وتربة إلى جانبها، وأقام يتعبّد، وكان له قبول عظيم هناك- رحمه الله تعالى-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البقاء صالح بن شجاع بن محمد بن سيّدهم المدلجىّ الخيّاط فى المحرّم. وسبط السّلفىّ «4» أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى الحرم مكّىّ بن عبد الرحمن الطّرابلسىّ الإسكندرانىّ فى شوّال عن إحدى وثمانين سنة. وأبو محمد عبد القادر بن حسين [بن محمد «5» بن جميل] البندنيجىّ البوّاب آخر من روى عن عبد الحق «6» اليوسفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 652]
السنة الخامسة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر؛ وهى سنة اثنتين وخمسين وستمائة.(7/31)
فيها وصلت الأخبار من مكّة بأنّ نارا ظهرت فى أرض عدن «1» فى بعض جبالها، بحيث يطير شررها إلى البحر فى الليل، ويصعد منها دخان عظيم فى النهار، فما شكّوا أنّها النار التى ذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها تظهر فى آخر الزمان. فتاب الناس وأقلعوا عمّا كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا فى أفعال الخير والصدقات.
قلت: وقد تقدّم «2» ذكر هذه النار بأوسع من هذا فى ترجمة الملك المعزّ هذا.
وفيها وصلت الأخبار من الغرب باستيلاء إنسان على إفريقيّة وادّعى أنّه خليفة، وتلقّب بالمستنصر «3» ، وخطب له فى تلك النواحى، وأظهر العدل وبنى برجا وأجلس الوزير والقاضى والمحتسب بين يديه يحكمون بين الناس، وأحبّته الرعيّة وتمّ أمره.
وفيها توفّى الإمام عبد الحميد بن عيسى الخسرو «4» شاهىّ. كان إماما فاضلا فى فنون، وصحب الفخر الرازىّ ابن خطيب الرّىّ، وأقام عند الملك الناصر داود سنين كثيرة بدمشق والكرك، وكان متواضعا كبير القدر كثير الإحسان. مات بدمشق ودفن بقاسيون فى تربة المعظّم عيسى.(7/32)
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله [ابن «1» أبى القاسم الخضر بن محمد بن علىّ] بن تيميّة الحرّانىّ الحنبلىّ جدّ الشيخ تقىّ الدين «2» ابن تيميّة. ولد فى حدود سنة تسعين «3» وخمسمائة وتفقّه فى صغره على عمّه الخطيب فخر الدين «4» ؛ وسمع الكثير ورحل البلاد وبرع فى الحديث والفقه وغيره، ودرّس وأفتى وانتفع به الطلبة، ومات يوم الفطر بحرّان.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى سديد [الدين «5» ] أبو محمد مكّى [بن أبى الغنائم «6» ] ابن المسلم [بن مكّى «7» ] بن علّان القيسى فى صفر، وله تسع وثمانون سنة. والرشيد إسماعيل بن أحمد بن الحسين العراقىّ الحنبلىّ عن نيّف وثمانين سنة فى جمادى الأولى. والمفتى كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة النّصيبىّ بحلب عن سبعين سنة. وأبو البقاء محمد بن على بن بقاء [بن «8» ] السبّاك. والعلّامة مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن تيميّة بحرّان يوم الفطر عن اثنتين وستين سنة. وأبو الغيث فرج [بن عبد الله «9» ] الحبشىّ فتى أبى جعفر «10» القرطبى فى شوّال. والإمام شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسرو شاهىّ بدمشق. وأبو العزائم عيسى بن سلامة بن سالم الخيّاط بحرّان فى أواخر «11» السنة، وله مائة وسنة. والفارس أقطاى مقدّم البحريّة، قتله المعزّ بمصر.(7/33)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 653]
السنة السادسة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
فيها عزمت المماليك العزيزيّة على القبض على الملك المعزّ وكاتبوا الملك الناصر فلم يوافقهم أيدغدىّ العزيزىّ، واستشعر الملك المعزّ منهم بذلك وعلم الخبر، وعلموا هم أيضا فهربوا على حميّة، وكبيرهم آقوش البرنلى، ولم يهرب أيدغدى وأقام بمخيّمه، فجاء الملك المعزّ راكبا إلى قرب خيمته فخرج إليه أيدغدى فأمر المعزّ بحمله، وقبض أيضا على الأمير الأتابكى ونهبت خيام العزيزيّة وكانوا بالعبّاسة، والأعيان الذين هربوا: هم بلبان الرّشيدىّ، وعزّ الدين أزدمر، وبيبرس البندقدارىّ، وسنقر الأشقر، وسيف الدين قلاوون الألفى، وبدر الدين بيسرى، وسنقر الرّومى، وبلبان المستنصرىّ. «1»
وفيها عاد الملك الناصر داود من الأنبار إلى دمشق بعد أن حبسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بقلعة حمص ثلاث سنين وبعث به إلى بغداد، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، ثم عاد فى سنة ثلاث وخمسين إلى العراق، وحجّ وأقام بالحلّة «2» ، وكان قد جرى بين الحجّ العراقىّ وأصحاب أمير مكّة فتنة، فأصلح بينهم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المفتى ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم الحلبىّ فى صفر عن نيّف وتسعين سنة. والمحدّث(7/34)
شهاب الدين أبو العرب إسماعيل بن حامد الأنصارى القوصىّ فى شهر ربيع الأوّل عن ثمانين سنة. والنور محمد بن أبى بكر بن أحمد بن خلف البلخىّ ثم الدّمشقىّ، فى شهر ربيع الآخر، وقد رأى السّلفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 654]
السنة السابعة من ولاية الملك المعزّ أيبك الصالحىّ النّجمىّ التّركمانىّ على مصر، وهى سنة أربع وخمسين وستمائة.
فيها فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف مدرسته التى أنشأها بدمشق بباب الفراديس.
وفيها غرقت بغداد الغرق العظيم الذي لم يعهد مثله بحيث انتقل الخليفة، ودخل الماء إلى دار الوزير وغرقت خزائن الخليفة، وجرى شىء لم يجر مثله، وكان ذلك فى شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى.
وفيها توفّى الشيخ الزاهد العابد الورع المجاهد عماد الدين عبد الله [بن «1» أبى المجد الحسن بن الحسين بن علىّ الأنصارىّ] ابن النحّاس، خدم فى مبادئ أمره الملوك، وولى الوزارة لبعضهم، ثم انقطع فى آخر عمره بقاسيون بزاويته، فأقام بها ثلاثين سنة صائما قائما مشغولا بالله تعالى ويقضى حوائج الناس بنفسه وماله، ودفن بقاسيون، وكان له مشهد هائل.(7/35)
وفيها كان ظهور النار العظيمة بالمدينة الشريفة وهى غير التى ذكرناها فى السنة الماضية «1» ، وهذه النار التى تقدّم ذكرها فى ترجمة الملك المعزّ هذا.
وفيها احترق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان، وهذا غير النار التى ظهرت بنواحى المدينة، فإن هذا الحريق له سبب «2» ، ابتدأ من زاوية الحرم النبوىّ [الغربية «3» من الشمال] ، فعلقت فى آلات الحرم ثم دبّت فى السّقوف، فما كان إلّا ساعة حتّى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقع بعض أساطينه، وكان ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق أيضا سقف الحجرة، وأصبح الناس فى يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة. ونظم فى حريق المسجد غير واحد من الشعراء، فقال معين الدين بن تولو المغربىّ:
قل للرّوافض بالمدينة مالكم ... يقتادكم للذّمّ كلّ سفيه
ما أصبح الحرم الشريف محرّقا ... إلّا لسبّكم الصحابة فيه
وقال غيره:
لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار
لكنها أيدى الرّوافض لامست ... ذاك الجناب فطهّرته النار
قال: وعدّ ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات.
وقال أبو شامة: فى ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أوّل الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس فى غده، احمرّت وقت طلوعها(7/36)
و [قريب «1» ] غروبها، واتّضح بذلك ما صوّره الإمام الشافعىّ من اجتماع الخسوف والكسوف، واستبعده أهل النّجامة.
وفيها تواترت الأخبار بوصول هولاكو إلى أذربيجان قاصدا بلاد الشام، فتصالح العسكر المصرىّ والشامىّ على قتاله وتهيّأ كلّ منهم للقاء التّتار.
وفيها توفّى الأمير مجاهد الدين إبراهيم بن أونبا [بن عبد الله] «2» الصّوابى نائب دمشق، وليها بعد حسام الدّين بن أبى علىّ، وكان فى أوّل أمره أمير جاندار الملك الصالح نجم «3» الدين أيّوب، وكان أميرا كبيرا عاقلا فاضلا شاعرا. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
أشبهك الغصن فى خصال ... القدّ واللّين والتثنّى
لكن [تجنّيك «4» ] ما حكاه ... الغصن يجنى وأنت تجنى
وفيها توفّى الإمام العلّامة عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن الحسن زكىّ الدين أبو محمد البغدادىّ ثم المصرىّ المعروف بابن أبى الإصبع. كان أحد الشعراء المجيدين، وهو صاحب التصانيف المفيدة فى الأدب وغيره. ومولده فى سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفّى بها.
ومن شعره فى نوع «التصدير» وسمّاه الأوائل «ردّ العجز على الصدر» على خلاف وقع فى ذلك:
اصبر على خلق من تصاحبه «5» ... واصحب صبورا على أذى خلقك(7/37)
وذكر أيضا فى نوع «المدح فى معرض الذم» أبياتا يعارض بها القاضى السعيد ابن سناء الملك فى قوّاد. فقال هو فيمن ادّعى الفقه والكرم:
إنّ فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه «1»
وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نصّ على التقليد فى درسه
فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدّخل على نفسه
وأمّا قول ابن سناء الملك فى قوّاد:
لى صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأتّى حسن الاحتيال
لو شاء من رقّة ألفاظه ... ألّف [ما «2» ] بين الهدى والضلال
يكفيك منه أنّه ربّما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال
قلت: ويعجبنى قول من قال فى هذا المعنى- أعنى فى قوّاد-:
إذا كان الذي تهواه غصنا ... وأقسم لا يرقّ لمن يهيم «3»
فدونك والنّسيم له رسولا ... فإنّ الغصن يعطفه النسيم
وأحسن من هذا قول من قال:
لى صاحب ما زلت أشكر فعله ... قد عمّنى بلطائف الإحسان
لو لم يكن مثل النسيم لطافة ... ما كان يعطف لى غصون البان(7/38)
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه الواعظ المؤرّخ العلّامة شمس الدين أبو المظفّر يوسف بن قزأوغلى بن عبد الله البغدادىّ ثم الدّمشقىّ الحنفىّ سبط الحافظ أبى الفرج ابن الجوزىّ. كان والده حسام الدين قزأوغلى من مماليك الوزير «1» عون الدين يحيى ابن هبيرة، وكان عنده بمنزلة الولد، ربّاه وأعتقه وأدّبه. ومولد الشيخ شمس الدين هذا فى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ببغداد، وبها نشأ تحت كنف جدّه لأمّه الحافظ أبى الفرج ابن الجوزىّ إلى أن مات فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، واشتغل وبرع فى عدّة علوم، ووعظ ببغداد وغيرها، وقدم دمشق واستوطنها، ونالته السعادة والوجاهة عند الملوك، لا سيّما الملك المعظّم عيسى، فإنّه كان عنده بالمنزلة العظمى؛ ورحل البلاد وسمع الحديث وجلس للوعظ فى الأقطار، وكان له لسان حلو فى الوعظ والتّذكار، ولكلامه موقع فى القلوب، وعليه قابليّة من الخاص والعام؛ وله مصنّفات مفيدة: تاريخه المسمّى «مرآة الزمان» وهو من أجلّ الكتب فى معناها. ونقلت منه فى هذا الكتاب معظم حوادثه. وكانت وفاته فى ذى الحجّة. رحمه الله تعالى.
وقد استوعبنا ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» بأوسع من هذا إذ هو كتاب تراجم وليس للإطناب فى ذكره هنا محلّ، كون أننا شرطنا فى هذا الكتاب ألّا نطنب إلّا فى تراجم ملوك مصر الذين تأليف هذا الكتاب بصددهم، وما عداهم يكون على سبيل الاختصار فى ضمن الحوادث المتعلقة بالمترجم من ملوك مصر. انتهى.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبى الفوارس بن موسك القيمرىّ واقف المارستان بجبل الصالحيّة «2» ، كان أكبر الأمراء فى آخر عمره وأعظمهم(7/39)
مكانة، وجميع أمراء الأكراد القيمريّة «1» وغيرهم كانوا يتأدّبون ويقفون فى خدمته إلى أن مات فى شعبان، وهو أجلّ الأمراء مرتبة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العماد أبو بكر عبد الله بن أبى المجد الحسن بن الحسين الأنصارىّ ابن النحّاس الأصمّ فى المحرّم، وله اثنتان وثمانون سنة. والإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد [بن عبد الرحمن «2» ] بن وثيق الإشبيلىّ المقرئ بالإسكندريّة، وله سبع وثمانون سنة، توفّى فى شهر ربيع الآخر.
والقاضى أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد السلام بن المقدسيّة السّفاقسىّ «3» ، آخر من حضر على السّلفىّ فى جمادى الأولى. والمفتى شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسىّ. والواعظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى سبط ابن الجوزىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع.(7/40)
[ما وقع من الحوادث سنة 655]
ذكر سلطنة الملك المنصور علىّ بن أيبك التّركمانى على مصر
السلطان الملك المنصور نور الدين علىّ ابن السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التّركمانىّ الصالحىّ النجمىّ، ملك الديار المصريّة بعد قتل أبيه المعزّ أيبك فى يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستمائة، وتمّ أمره وخطب له من الغد فى يوم الجمعة سادس عشرينه على منابر مصر وأعمالها. والمنصور هذا هو الثانى من ملوك مصر من الترك بالديار المصريّة.
وتسلطن المنصور هذا وعمره خمس عشرة سنة، وركب فى يوم الخميس ثانى شهر ربيع الآخر بشعار السلطنة من القلعة إلى قبة «1» النصر فى موكب هائل، ثم عاد ودخل القاهرة من باب النصر، وترجّل الأمراء ومشوا بين يديه ما خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبىّ، ثم صعد المنصور إلى القلعة وجلس بدار السلطنة ومدّ السّماط للأمراء فأكلوا، ووزر له وزير أبيه شرف الدين «2» الفائزىّ وانفضّ الموكب.
وفى يوم الجمعة ثالث «3» شهر ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه(7/41)
علم الدين «1» سنجر الحلبىّ المذكور. وفوّض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضى بدر الدين «2» السّنجارىّ، وعزل تاج الدين «3» ابن بنت الأعزّ وأبقى عليه قضاء مصر القديمة وأعمالها.
وفى عاشر شهر ربيع الآخر قبض الأمير قطز وسنجر [الغتمى «4» ] وبهادر وغيرهم من الأمراء المعزّيّة على الأتابك سنجر الحلبىّ، وأنزلوه إلى الجبّ «5» بالقلعة، وكان القبض عليه لأمور: أحدها أنّه كان طمع فى السلطنة بعد قتل الملك المعزّ أيبك لمّا طلبته شجرة الدّرّ وعرضت عليه الملك، والثانى أنه بلغهم أنه ندم على ترك الملك وهو فى عزم الوثوب؛ فعاجلوه وقبضوا عليه. ولمّا قبض عليه اضطربت خشداشيته من المماليك الصالحيّة النّجميّة وخاف كلّ أحد على نفسه، فهرب أكثرهم إلى جهة الشام، فخرج فى إثرهم جماعة من الأمراء المعزّيّة وغيرهم، وتقنطر بالأمير عزّ الدين أيبك «6» الحلبىّ الكبير فرسه، وكذلك الأمير خاصّ ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وأدخلا ميتين، وكانوا ركبوا فى جماعة من المماليك الصالحيّة فى قصد الشام أيضا. واتّبع العسكر المهزومين إلى الشام، فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها. وقبض أيضا على الوزير شرف الدين الفائزى. وفوّض أمر الوزارة إلى القاضى بدر الدين يوسف السّنجارىّ مضافا إلى القضاء، وأخذ موجود الفائزى(7/42)
وكان له مال كثير. ثم قبض على بهاء الدين علىّ [بن محمد بن سليم «1» ] بن حنّا وزير شجرة الدّرّ، وأخذ خطّه بستّين ألف دينار. ثم خلع الملك المنصور على الأمير أقطاى «2» المستعرب باستقراره أتابكا عوضا عن سنجر الحلبىّ. ثم فى شهر رجب رفعت يد القاضى بدر الدين السّنجارىّ من الوزارة وأضيف إليه قضاء مصر القديمة، فكمل له قضاء الإقليم بكماله، وولى القاضى تاج الدين ابن بنت الأعزّ الوزارة.
ثم فى شعبان كثرت الأراجيف بين الناس بأنّ الأمراء والأجناد اتّفقوا على إزالة حكم مماليك الملك المعزّ من الدولة، وأنّ الملك المنصور تغيّر على الأمير سيف الدين قطز المعزّى، واجتمع الأمراء فى بيت الأمير بهاء الدين بغدى «3» مقدّم الحلقة، وتكلّموا إلى أن صلح الأمر بين الملك المنصور وبين مملوك أبيه الأمير قطز. وخلع عليه وطيّب قلبه؛ ثم وقع الكلام أيضا من المعزّيّة وغيرهم. فلمّا كان رابع شهر رمضان ركب الأمير بغدى وبدر الدين «4» بلغان وانضاف إليهما جماعة ووقفوا بآله الحرب، فخرج إليهم حاشية السلطان فقاتلوهم وهزموهم وقبضوا على بغدى بعد أن جرح وعلى بلغان وحملا إلى القلعة؛ ودخلت المعزّية إلى القاهرة، فقبضوا على الأمير عزّ الدين أيبك الأسمر وأرزن الرّومىّ وسابق الدين بوزنا الصّيرفىّ وغيرهم من المماليك الأشرفيّة ونهبت دورهم، فاضطربت القاهرة حتّى نودى بالأمان لمن دخل فى الطاعة وسكن الناس، وركب السلطان الملك المنصور فى خامس(7/43)
شهر رمضان وشقّ القاهرة وفى خدمته الأمير قطز وباقى مماليك أبيه، ثم نزل أيضا فى عيد الفطر وصلّى بالمصلّى. وركب وعاد إلى القلعة ومدّ السّماط.
ثم ورد كتاب الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام وحلب على الملك المنصور بمفارقة البحريّة والصالحيّة له (أعنى الأمراء والمماليك الذين خرجوا من القاهرة بعد القبض على علم الدين سنجر الحلبىّ المقدّم ذكره) . فلمّا وقف المصريّون على الكتاب ظنّوا أن ذلك خديعة من الملك الناصر فآحترزوا لأنفسهم.
ثم جهّز الملك المنصور عسكرا من المماليك والأمراء ومقدّمهم الدّمياطىّ «1» إلى الشام، فتوجّهوا ونزلوا بالعبّاسة؛ فوردت الأخبار على السلطان الملك المنصور بأنّ عساكر الملك الناصر وصلت إلى نابلس لقتال البحريّة الذين قدموا عليه من مصر ثم فارقوه، وكان البحرية نازلين بغزّة، ثم وردت الأخبار بأنّ البحريّة، وكان مقدّم البحريّة بلبان الرّشيدىّ وبيبرس البندقدارىّ، خرجوا من غزّة وكبسوا عسكر الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة كثيرة ليلا. ثم ورد الخبر ثانيا بأنّ عسكر الملك الناصر كسروا البحريّة وأنّ البحريّة انحازوا إلى ناحية زغر «2» من الغور. ثم ورد الخبر أيضا بمجيء البحريّة إلى جهة القاهرة طائعين للسلطنة، فقدم منهم الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم ومعه جماعة، فتلقّوا بالإكرام، وأفرج عن أملاك الأفرم وأرزاقه ونزل بداره بمصر. ثم بلغ السلطان أنّ البحرية (أعنى الذي بقى منهم) رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات، فاتّضح من أمرهم أنّهم خرجوا من دمشق على حميّة وأنّهم قصدوا القدس الشريف، ومقطع القدس يوم ذاك سيف الدين كبك من جهة الملك الناصر(7/44)
يوسف صاحب الشام وحلب، فطلبوا منه البحريّة أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه، وخطبوا بالقدس للملك المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيّوب.
ثم جاءوا إلى غزّة وقبضوا على واليها (أعنى نائبها) وأخذوا حواصل الملك الناصر من غزّة والقدس وغيرهما «1» . ثم إنّهم أطمعوا الملك المغيث صاحب الكرك فى ملك مصر، وقالوا له: هذا ملك أبيك وجدّك وعمّك، ثم عزموا على قصد الديار المصريّة، فجاء الخبر إلى مصر بذلك فخرج إليهم العسكر المصرىّ، واجتمعوا بالصالحيّة «2» وأقاموا بها، فلمّا كان سحر ليلة السبت منتصف ذى القعدة وصلت البحريّة بمن معهم من عسكر الملك المغيث، ووقعت «3» الحرب بين الفريقين واشتدّ القتال بينهم وجرح جماعة، والمصريّون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس، فرأت البحريّة كثرة المصريّين فانهزموا وأسر منهم بلبان الرّشيدىّ وبه جراحات وهو من كبار القوم، وهرب بيبرس البندقدارىّ وبدر «4» الصّوابى إلى الكرك، وبعض البحريّة دخل فى العسكر المصرىّ، ودخل العسكر المصرىّ القاهرة، وزيّن البلد لهذا النصر وفرح الملك المنصور والأمير قطز بذلك.
وأمّا البحريّة فإنّهم توجّهوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك وحسنّوا له أن يركب ويجيء معهم لأخذ مصر فأصغى لهم وتجهّز وخرج بعساكره من الكرك فى أوّل سنة ستّ وخمسين وستّمائة، وسار حتّى قدم غزّة، وأمر البحريّة راجع إلى بيبرس البندقدارىّ. فلمّا بلغ ذلك المصريّين خرج الأمير سيف الدين قطز بعساكر(7/45)
مصر ونزل بالعبّاسة، فلمّا تكامل عسكره سار منه قاصدا الشاميّين، وخرج الملك المغيث من غزّة إلى الرمل فالتقى بالعسكر المصرىّ وتقاتلا قتالا شديدا فى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر، فانكسر الملك المغيث بمن معه من البحريّة، وقبض على جماعة كثيرة من المماليك البحرية الصالحيّة، وهم: الأمير عزّ الدين أيبك الرّومى وعزّ الدين أيبك الحموىّ وركن الدين الصّيرفىّ «1» وابن أطلس خان الخوارزمىّ وجماعة كثيرة، فأحضروا بين يدى الأمير سيف الدين قطز والأمير الغتمىّ والأمير بهادر المعزّيّة فأمروا بضرب أعناقهم فضربت، وحملت رءوسهم إلى القاهرة وعلّقت بباب زويلة، ثم أنزلت من يومها لمّا أنكر قتلهم على المعزّية بعض أمراء مصر واستشنع ذلك.
وأمّا الملك المغيث فإنّه هرب هو والطواشى بدر الصّوابىّ وبيبرس البندقدارىّ ومن معهم، ووصلوا إلى الكرك فى أسوأ حال بعد أن نهب ما كان معهم من الثّقل والخيام والسلاح وغير ذلك وأقاموا بالكرك؛ وبينما هم فى ذلك أرسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام جيشا مقدّمه الأمير «2» مجير الدين إبراهيم [بن «3» أبى بكر] بن أبى زكرى والأمير نور الدين علىّ بن الشجاع الأكتع فى طلب البحريّة، وخرجت البحريّة لمّا بلغهم ذلك إلى غزّة، والتقوا مع العسكر الشامىّ وتقاتلوا فآنكسر العسكر الشامىّ، وقبض على مجير الدين ونور الدين وحملوها البحريّة إلى الكرك، وقوى أمر البحريّة بهذه الكسرة واشتدّوا.
وأمّا الملك الناصر لمّا بلغه كسر عسكره تجهّز وخرج بنفسه لقتال البحريّة، وضرب دهليزه قبلى دمشق، فلمّا بلغ البحريّة ذلك توجّهوا نحو دمشق وضربوا(7/46)
أطراف عساكر الملك الناصر، وخفّ بيبرس البندقدارىّ حتّى إنّه أتى فى بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة، وذلك قبل خروج الناصر من دمشق. وبينما الناس فى ذلك ورد الخبر بأخذ التّتار لبغداد وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله وإخراب بغداد.
قلت: نذكر سبب أخذ هولاكو لبغداد ثم نعود إلى أمر المصريّين والشاميّين والبحريّة.
فأمّا أمر هولاكو فإنّه هولاكو: وقيل: هولاو [وقيل هلاوون «1» ] بن تولى خان ابن چنكز خان المغليّ، ولى الملك بعد موت أبيه تولى قان، واتّسعت ممالكه وعظم أمره وكثرت جيوشه من المغل والتّتار، ولا زال أمره فى زيادة حتى ملك مدينة ألموت «2» وقتل متولّيها شمس «3» الشموس وأخذ بلاده، ثم أخذ الروم وأبقى بها ركن الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو صورة بلا معنى والحكم والتصرّف لغيره؛ وكان وزير الخليفة المستعصم بالله مؤيّد الدّين بن العلقمىّ ببغداد، وكان رافضيّا خبيثا حريصا على زوال الدولة العباسيّة ونقل الخلافة إلى العلويّين، يدبّر ذلك فى الباطن ويظهر للخليفة المستعصم خلاف ذلك، ولا زال يثير الفتن بين أهل السّنّة والرافضة حتّى تجالدوا بالسيوف، وقتل جماعة من الرافضة ونهبوا، فاشتكى أهل باب البصرة إلى الأمير مجاهد «4» الدين الدّوادار وللأمير أبى بكر ابن الخليفة فتقدّما إلى الجند بنهب(7/47)
الكرخ فركبوا من وقتهم وهجموا على الرافضة بالكرخ وقتلوا منهم جماعة وارتكبوا معهم «1» العظائم فحنق الوزير ابن العلقمى ونوى الشرّ فى الباطن وأمر أهل الكرخ الرافضة بالصّبر والكفّ عن القتال، وقال لهم: أنا أكفيكم «2» فيهم وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند قبل موته حتّى بلغ عدد عسكره مائة ألف، وكان الوزير ابن العلقمىّ مع ذلك يصانع التّتار فى الباطن ويكاتبهم ويهاديهم، فلمّا استخلف المستعصم بعد موت أبيه المستنصر، وكان المستعصم خليّا من الرأى والتدبير، فأشار عليه ابن العلقمىّ المذكور بقطع أرزاق أكثر الجند، وأنّه بمصانعة التتار وإكرامهم يحصل بذلك المقصود، ولا حاجة لكثرة الجند ففعل الخليفة ذلك! قلت: وكلمة الشيخ مطاعة!
ثم إنّ الوزير بعد ذلك كاتب التّتار وأطمعهم فى البلاد سرّا، وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهّل عليهم فتح العراق وأخذ بغداد، وطلب منهم أن يكون نائبهم بالبلاد فوعدوه بذلك، وتأهّبوا لقصد بغداد وكاتبوا لؤلؤا «3» صاحب الموصل فى تهيئة الإقامات والسلاح، فكاتب لؤلؤ الخليفة سرّا وحذّره، ثم هيّأ لهم الآلات والإقامات.
وكان الوزير ابن العلقمىّ المذكور ليس لأحد معه كلام فى تدبير أمر الخليفة، فصار لا يوصّل مكاتبات لؤلؤ ولا غيره للخليفة، وعمّى عنه الأخبار والنصائح، فكان يقرؤها هو ويجيب عنها بما يختار، فنتج أمر التّتار بذلك غاية النّتاج وأخذ أمر الخليفة والمسلمين فى إدبار! وكان تاج الدين بن صلايا نائب الخليفة بإربل «4»(7/48)
حذّر الخليفة وحرّك عزمه، والخليفة لا يتحرّك ولا يستيقظ! فلمّا «1» تحقّق الخليفة حركة التّتار نحوه سيّر إليهم شرف «2» الدين بن محيى الدين ابن الجوزى رسولا يعدهم بأموال عظيمة، ثم سيّر مائة رجل إلى الدّربند يكونون فيه يطالعون الخليفة بالأخبار، فمضوا فلم يطلع لهم خبر، لأنّ الأكراد الذين كانوا هناك دلّوا التّتار عليهم، فهجموا عليهم وقتلوهم أجمعين.
ثم ركب هولاكو بن تولى خان بن چنكز خان فى جيوشه من المغل والتّتار وقصدوا العراق، وكان على مقدّمته الأمير بايجونوين «3» ، وفى جيشه خلق من أهل الكرخ الرافضة ومن عسكر بركة خان ابن عمّ هولاكو، ومدد من صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل، فوصلوا قرب بغداد واقتتلوا من جهة البرّ الغربىّ عن دجلة، فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدّوادار، فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد، فانكسر البغداديّون وأخذتهم السيوف، وغرق بعضهم فى الماء وهرب الباقون. ثم ساق بايجونوين مقدّمة هولاكو فنزل القرية «4» مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة لا غير. وقصد هولاكو بغداد من البرّ الشرقىّ، وضرب سورا وخندقا على عسكره وأحاط ببغداد، فأشار الوزير ابن العلقمىّ على الخليفة المستعصم بالله بمصانعتهم. وقال له: أخرج إليهم أنا فى تقرير الصلح فخرج إليهم، واجتمع بهولاكو وتوثّق لنفسه وردّ إلى الخليفة، وقال: إنّ الملك قد رغب(7/49)
فى أن يزوّج بنته بآبنك الأمير أبى بكر، ويبقيك على منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم فى سلطنته، ولا يطلب إلّا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السّلجوقيّة، وينصرف هو عنك بجيوشه! فتجيبه يا مولانا أمير المؤمنين لهذا، فإنّ فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن أن تفعل بعد ذلك ما تريد! والرأى أن تخرج إليه؛ فسمع له الخليفة وخرج إليه فى جمع من الأعيان من أقاربه وحواشيه وغيرهم.
فلمّا توجّه إلى هولاكو لم يجتمع به هولاكو وأنزل فى خيمة؛ ثم ركب الوزير وعاد إلى بغداد بإذن هولاكو، واستدعى الفقهاء والأعيان والأماثل ليحضروا عقد بنت هولاكو على ابن الخليفة، فخرجوا من بغداد إلى هولاكو، فأمر هولاكو بضرب أعناقهم! ثم مدّ الجسر ودخل بايجونوين «1» بمن معه إلى بغداد وبذلوا السيف فيها واستمرّ القتل والنهب والسّبى فى بغداد بضعة وثلاثين يوما، فلم ينج منهم إلّا من اختفى. ثمّ أمر هولاكو بعدّ القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسرا.
وقال الذهبىّ- رحمه الله- فى تاريخ الإسلام: والأصحّ أنّهم بلغوا ثمانمائة ألف.
ثم نودى بعد ذلك بالأمان، فظهر من كان اختفى وهم قليل من كثير.
وأمّا الوزير ابن العلقمىّ فلم يتمّ له ما أراد، وما اعتقد أنّ التّتار يبذلون السيف مطلقا فى أهل السّنّة والرافضة معا، وراح مع الطائفتين أيضا أمم لا يحصون كثرة، وذاق ابن العلقمىّ الهوان والذّلّ من التّتار! ولم تطل أيامه بعد ذلك كما سيأتى ذكره. ثم ضرب هولاكو عنق مقدّم جيشه بايجونوين لأنّه بلغه عنه من الوزير ابن العلقمىّ أنّه كاتب الخليفة المستعصم لمّا كان بالجانب الغربىّ.
وأمّا الخليفة فيأتى ذكره فى الحوادث على عادة هذا الكتاب فى محلّه غير أنّنا نذكره هنا على سبيل الاستطراد. ولمّا تمّ أمر هولاكو طلب الخليفة وقتله خنقا. وقيل(7/50)
غمّ فى بساط، وقيل جعله هو وولده فى عدلين وأمر برفسهما حتّى ماتا. ثم قتل الأمير مجاهد الدين الدّوادار، والخادم إقبال «1» الشّرابى صاحب الرّباط بحرم مكّة، والأستادار محيى «2» الدين ابن الجوزىّ وولداه «3» وسائر الأمراء الأكابر والحجّاب والأعيان، وانقضت الخلافة من بغداد وزالت أيامهم من تلك البلاد، وخربت بغداد الخراب العظيم، وأحرقت كتب العلم التى كانت بها من سائر العلوم والفنون التى ما كانت فى الدنيا؛ قيل: إنّهم بنوا بها جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجرّ، وقيل غير ذلك. وكانت كسرة الخليفة يوم عاشوراء من سنة ستّ وخمسين وستّمائة المذكورة، ونزل هولاكو بظاهر بغداد فى عاشر المحرّم، وبقى السيف يعمل فيها أربعة وثلاثين يوما وآخر جمعة خطب الخطيب ببغداد، كانت الخطبة: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيّد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، إلى أن قال:
اللهمّ أجرنا فى مصيبتنا التى لم يصب الإسلام وأهله بمثلها، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم عمل الشعراء والعلماء قصائد فى مراثى بغداد وأهلها، وعمل الشيخ تقي الدين إسماعيل [بن إبراهيم «4» ] بن أبى اليسر [شاكر بن عبد الله «5» التّنوخىّ] قصيدته المشهورة، وهى:
لسائل الدّمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزّوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى والدار ديّار
تاج الخلافة والرّبع الذي شرفت ... به المعالم قد عفّاه إقفار(7/51)
أضحى لعطف البلى فى ربعه أثر ... وللدّموع على الآثار آثار
يا نار قلبى من نار لحرب وغى ... شبّت عليه ووافى الرّبع إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنّار
ومنها:
وكم بدور على البدريّة «1» انخسفت ... ولم يعد لبدور منه إبدار
وكم ذخائر أضحت وهى شائعة ... من النّهاب وقد حازته كفّار
وكم حدود أقيمت من سيوفهم ... على الرّقاب وحطّت فيه أوزار
ناديت والسّبى مهتوك يجرّهم ... إلى السّفاح من الأعداء دعّار
ومنها:
وهم يساقون للموت الذي شهدوا ... النار يا ربّ...... «2» ...... ولا العار
يا للرّجال لأحداث «3» تحدّثنا ... بما غدا فيه إعذار وإنذار
من بعد أسر بنى العبّاس كلّهم ... فلا أنار لوجه الصّبح إسفار
ما راق لى قطّ شىء بعده بينهم ... إلّا أحاديث أرويها وآثار
لم يبق للدّين والدنيا وقد ذهبوا ... شوق لمجد وقد بانوا وقد باروا
إنّ القيامة فى بغداد قد وجدت ... وحدّها حين للإقبال إدبار
آل النّبىّ وأهل العلم قد سبيوا «4» ... فمن ترى بعدهم تحويه أمصار.
ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا ... لكن أبى دون ما أختار أقدار(7/52)
وهى أطول من ذلك. وجملة القصيدة ستة وستون بيتا. وقال غيره فى فقد الخلافة من بغداد بيتا مفردا وأجاد:
خلت المنابر والأسرّة منهم ... فعليهم حتّى الممات سلام
انتهى ذكر بغداد هنا، ولا بدّ من ذكر شىء منها أيضا فى الحوادث.
وأمّا أمر البحريّة فإنّه لمّا دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة رحل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعساكر فى أثر البحريّة، فاندفعوا البحريّة أمامه إلى الكرك، فسار الناصر حتى نزل بركة «1» زيزاء ليحاصر الكرك، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة؛ فأرسل الملك المغيث عمر «2» بن العادل بن الكامل صاحب الكرك رسله إلى الملك الناصر يطلب الصلح، وكان مع رسله الدار «3» القطبيّة ابنة الملك المفضّل «4» قطب الدّين بن العادل، وهى من عمّات الناصر والمغيث يتضرّعون إلى الناصر ويطلبون الصلح ورضاه على ابن عمه المغيث، فشرط عليه الناصر أن يقبض على من عنده من البحريّة، فأجاب إلى ذلك وقبض عليهم وجهّزهم إلى الملك الناصر على الجمال، وهو نازل ببركة زيزاء. فحملهم الملك الناصر إلى حلب واعتقلهم بقلعتها ما خلا الأمير بيبرس البندقدارىّ، فإنّه لمّا أحسّ بما وقع عليه الصلح هرب من الكرك فى جماعة من البحريّة وأتى إلى الملك الناصر صلاح الدين المذكور داخلا تحت طاعته، فأكرمه الملك الناصر وأكرم رفقته إكراما زائدا؛ وعاد الناصر إلى دمشق وفى خدمته الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ وغيره من البحريّة.(7/53)
وأمّا المصريّون فإنّه لمّا بلغ الملك المنصور عليّا والأمير قطز المعزّىّ ما وقع للبحريّة فرحا فرحا زائدا، وزيّنت مصر أيّاما لذلك؛ وصفا الوقت للأمير قطز.
وبينما هو فى ذلك ورد الخبر عليه بنزول هولاكو على مدينة آمد من ديار بكر، وأنّه فى قصد البلاد الشاميّة، وأنّ هولاكو بعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين إيلغازى صاحب ماردين يستدعيه إلى طاعته وحضرته، فسيّر إليه الملك السعيد ولده الملك المظفّر «1» قرا أرسلان وقاضى القضاة مهذّب الدين محمد [بن «2» مجلّى] والأمير سابق الدين بلبان وعلى أيديهم هديّة، وحمّلهم رسالة تتضمّن الاعتذار عن الحضور بمرض منعه الحركة، ووافق وصولهم إلى هولاكو أخذه لقلعة اليمانيّة وإنزاله من بها من حريم صاحب ميّافارقين وأولاده وأقاربه، وهم: ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاى، والملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وتاج الدين على ابن الملك العادل، فأدّوا الرسالة؛ فقال هولاكو: ليس مرضه بصحيح، وإنّما هو يتمارض مخافة الملك الناصر صاحب الشام، فإن انتصرت عليه اعتذر لى بزيادة المرض، وإن انتصر علىّ كانت له اليد البيضاء عنده، ثم قال: ولو كان للملك الناصر قوّة يدفعنى لم يمكّنى من دخول هذه البلاد؛ وقد بلغنى أنّه بعث حريمه إلى مصر؛ ثم أمر بردّ القاضى وحده فردّ القاضى وأخبر الملك السعيد بالجواب.
وأمّا هولاكو فإنّه لا زال يأخذ بلدا بعد أخرى إلى أن استولى على حلب والشام، واضمحلّ أمر الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أمور ووقائع وقعت له، وانفلّ عنه أصحابه. فلمّا وقع ذلك فارقه الأمير بيبرس البندقدارىّ وقدم إلى مصر ومعه جماعة من البحريّة طائعا للملك المنصور هذا فأكرمه قطز(7/54)
وأكرم رفقته وصاروا الجميع من عساكر مصر على العادة أوّلا. يأتى تفصيل ذلك فى ترجمة الملك المظفّر قطز. إن شاء الله تعالى.
ولمّا استفحل أمر قطز بديار مصر وصار هو المشار إليه فيها لصغر السلطان الملك المنصور علىّ، ولكثرة حواشى قطز المذكور، ثم تحقّق قطز مجىء التّتار إلى البلاد الشاميّة، وعلم أنّه لا بدّ من خروجه من الديار المصريّة بالعساكر للذّبّ عن المسلمين، فرأى أنّه لا يقع له ذلك، فإنّ الآراء مغلولة لصغر السلطان ولاختلاف الكلمة، فجمع قطز كمال الدّين بن العديم الحنفىّ وغيره من الأعيان والأمراء بالديار المصريّة، وعرّفهم أنّ الملك المنصور هذا صبّى لا يحسن التدبير فى مثل هذا الوقت الصّعب، ولا بدّ أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كلّ أحد، وينتصب للجهاد فى التّتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك! وكان قطز قبل ذلك قد قبض على الملك المنصور علىّ هذا وعوّقه بالدور السلطانيّة، فخلع الملك المنصور فى الحال من الملك وبويع الأمير قطز ولقّب بالملك المظفّر سيف الدين قطز، واعتقل الملك المنصور ووالدته بالدور السلطانيّة من قلعة الجبل، وحلّف قطز الناس لنفسه وتمّ أمره، وذلك فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. وكانت مدّة الملك المنصور فى السلطنة بالديار المصريّة سنتين وسبعة «1» أشهر واثنين وعشرين يوما، وبقى معتقلا سنين «2» كثيرة إلى أن تولّى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، فنفاه هو ووالدته وأخاه ناصر الدين قاقان «3» إلى بلاد الأشكرى «4» فى ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.(7/55)
قلت: والملك المظفر قطز هذا هو أوّل مملوك خلع ابن أستاذه من الملك وتسلطن عوضه، ولم يقع ذلك قبله من أحد من الملوك. وتمّت هذه السّنّة السيّئة فى حاصد إلى يوم القيامة. وبهذه الواقعة فسدت أحوال مصر.
السنة الأولى من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر، وهى سنة خمس وخمسين وستمائة، على أنّ والده الملك المعزّ حكم فيها نحوا من ثلاثة أشهر.
فيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب الشام ولده الملك العزيز بهديّة إلى هولاكو ملك التّتار وطاغيتهم.
وفيها قتلت الملكة شجرة الدرّ الملك المعزّ أيبك، ثم قتلت هى أيضا. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّ واحد على حدته فى ترجمته من هذا الكتاب، فلا حاجة إلى الإعادة.
وفيها توفّى الأمير «1» عزّ الدين أيبك بن عبد الله الحلبىّ الكبير، كان من أعيان المماليك الصالحيّة النجميّة، وممّن يضاهى الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ فى موكبه، وكانت له المكانة العظمى فى الدولة، كان الأمراء يعترفون له بالتقدّم عليهم، وكان له عدّة مماليك نجباء صاروا من بعده أمراء، منهم: ركن «2» الدين إياجى الحاجب، وبدر الدين بيليك الجاشنكير، وصارم «3» الدين أزبك الحلبىّ وغيرهم. ولما قتل الملك(7/56)
المعزّ أيبك التركمانىّ حدّثته نفسه بالسلطنة، فلمّا قبض قطز على الأمير سنجر الحلبى، ركب أيبك هذا ومعه الأمراء الصالحيّة فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وأدخل إليها ميتا؛ وكذلك وقع للامير خاصّ ترك. وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة الملك المنصور.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة نجم الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن ابن عبد الله البغدادىّ البادرائىّ، ولد فى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وسمع الكثير وتفقّه وبرع وأفتى ودرّس، وترسّل عن الخليفة إلى ملوك الشام ومصر غير مرّة إلى هذه السنة، ولى قضاء القضاة ببغداد. ومات فى سلخ ذى القعدة.
وفيها توفّى الشيخ الأديب أبو الحسن علىّ بن محمد بن الرضا الموسوىّ الحسينىّ الشريف المعروف بابن دفتر خوان. ولد سنة تسع وثمانين بحماة، وكان فاضلا وله تصانيف وشعر جيّد، من ذلك قوله:
إذا لمت قلبى قال عيناك أبصرت ... وإن لمت عينى قالت الذنب للقلب
فعينى وقلبى قد تشاركن فى دمى ... فيا ربّ كن عونى على العين والقلب
وفيها توفّيت الصاحبيّة غازيّة خاتون بنت الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن أيّوب، والدة الملك المنصور «1» صاحب حماة. كانت صالحة ديّنة دبّرت ملك ولدها المنصور بعد وفاة زوجها الملك المظفّر أحسن تدبير، وهى والدة الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن علىّ أيضا. وكانت وفاتها فى أواخر ذى القعدة أو فى ذى الحجّة من السنة.(7/57)
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة المقرئ أبو عبد الله محمد بن أبى القاسم [قاسم «1» ] بن فيّره «2» بن خلف الرّعينىّ «3» الشاطبىّ الأصل المصرىّ المولد والدار الضّرير راوى «4» القصيدة المشهورة فى القراءات التى لم يسبق إلى مثلها التى سمّاها «حرز الأمانى ووجه التهانى» . ومولده فى حادى عشر ذى الحجّة سنة ست أو سبع وسبعين وخمسمائة بمصر، وتوفّى بها فى حادى عشر شوّال ودفن من يومه بسفح المقطّم، ولم يخلف بعده مثله. وكان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا اللّغز وهو «نعش الموتى» واللّغز المذكور للخطيب أبى زكريّا يحيى بن سلامة الحصكفىّ، وهو:
أتعرف شيئا فى السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حين يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكلّ أمير يعتليه أسير
يحضّ على التّقوى وتكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
وفيها توفّى الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزىّ، كان أوّلا نصرانيّا يلقّب بالأسعد، وهو منسوب بالفائزىّ إلى الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، ثم أسلم وتنقّل فى الخدم حتّى ولى الوزارة. وكان عنده رياسة ومكارم وعقل وحسن تدبير، وخدم عدّة ملوك وكان محفوظا عندهم، وهو الذي هجاه الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح، وقيل بهاء الدين زهير بقوله:
لعن الله صاعدا ... وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا ... واحدا ثم واحدا(7/58)
وفيها توفّى أبو الحسن المغربىّ المورقىّ «1» الشيخ نور الدين، كان من أقارب المورقى الملك المشهور ببلاد الغرب، مات بدمشق ودفن بقاسيون، وكان فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره من أبيات:
القضب راقصة والطير صادحة ... والستر مرتفع والماء منحدر
وقد تجلّت من اللذات أوجهها ... لكنّها بظلال الدّوح تستتر
فكلّ واد به موسى يفجّره ... وكلّ روض على حافاته الخضر
قلت: وهذا يشبه قول من قال فى مليح حليق:
مرّت الموسى على عارضه ... فكأنّ الماء بالآس غمر
مجمع البحرين أضحى خدّه ... إذ تلاقى فيه موسى والخضر
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو محمد عبد الرحمن بن أبى الفهم اليلدانىّ «2» فى شهر ربيع الأوّل، وله سبع وثمانون سنة.
والإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبى الفضل السّلمىّ المرسىّ فى نصف شهر ربيع الأوّل، وله ست وثمانون سنة. والإمام نجم الدين أبو محمد عبد الله بن أبى الوفاء البادرانىّ الشافعىّ فى ذى القعدة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 656]
السنة الثانية من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك على مصر، وهى سنة ست وخمسين وستمائة.(7/59)
فيها استولى الطاغية هولاكو على بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله ومعظم أهل بغداد؛ وقد تقدّم ذلك.
وفيها كان الوباء العظيم بدمشق وغيرها.
وفيها توفّى الأديب البارع شرف الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن أبى الوفا الربعىّ الموصلىّ المعروف بابن الحلاوى الشاعر المشهور، كان من أحسن الناس صورة وألطفهم أخلاقا مع الفضيلة التامة، ورحل البلاد ومدح الخلفاء والملوك وخدم الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤا صاحب الموصل ولبس زىّ الجند. وشعره فى نهاية الرّقّة والجزالة «1» ، وهو صاحب القصيدة التى أوّلها:
حكاه من الغصن الرّطيب وريقه ... وما الخمر إلّا وجنتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبى محلّه ... غزال ولكن سفح عينى عقيقه
وأسمر يحكى الأسمر اللّدن قدّه ... غدا راشقا قلب المحبّ رشيقه
على خدّه جمر من الحسن مضرم ... يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه
أقرّ له من كلّ حسن جليله ... ووافقه من كلّ معنى دقيقه
بديع التّثنّى راح قلبى أسيره ... على أنّ دمعى فى العرام طليقه
على سالفيه للعذار جريرة ... وفى شفتيه للسّلاف عتيقه
يهدّد منه الطّرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الرّيق من لا يذوقه
على مثله يستحسن الصّبّ هتكه ... وفى حبّه يجفو الصديق صديقه
من التّرك لا يصبيه وجد إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير تشوقه
ولا حلّ فى حىّ تلوح قبابه ... ولا سار فى ركب يساق وسوقه(7/60)
ولا بات صبّا بالفريق «1» وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوّار الأقاحى بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده ... فأضرم من ذاك الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليمانىّ موهنا ... تذكّرته فاعتاد قلبى خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
رآنى خيالا حين وافى خياله ... فأطرق من فرط الحياء طروقه
فأشبهت منه الخصر سقما فقد غدا ... يحمّلنى كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبى كلّ حبّ يهيجه ... وحتّام طرفى كلّ حسن يروقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا لبعد الدار ما جفّ موقد
ولله قلبى ما أشدّ عفافه ... وإن كان طرفى مستمرّا فسوقه
فما فاز إلّا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
وفيها توفّى الأمير بكتوت بن عبد الله سيف الدين العزيزىّ أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، كان من أكابر الأمراء فى الدولة الناصريّة، وكان حسن السّيرة مليح الشكل متجمّلا، كان موكبه يضاهى مواكب الملوك.
وفيها توفّى الملك الناصر أبو المظفّر وقيل أبو المفاخر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظّم عيسى صاحب الشام ابن الملك العادل أبى بكر صاحب مصر ابن الأمير نجم الدين أيّوب. مولده فى جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة؛ ووقع له أمور وحوادث ومحن تكرّر ذكرها فى عدّة تراجم من هذا الكتاب. وكان تغلّب على الشام بعد موت عمّه الملك الكامل محمد، وقدم مصر بعد ذلك غير مرّة وتوجّه إلى الشّرق، ووقع له أمور يطول شرحها إلى أن مات فى جمادى الأولى. وكان ملكا شجاعا(7/61)
مقداما فاضلا أديبا شاعرا، وقد تقدّم من شعره عدّة أبيات يستعطف بها الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى ترجمة الملك الصالح المذكور. ومن شعره أيضا:
لئن عاينت عيناى أعلام جلّق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقّنت أنّ البين قد بان والنّوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه «1»
وفيها توفّى العلّامة المفتن أبو الفضل وقيل أبو العلاء بهاء الدين زهير بن محمد ابن على بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن المنصور بن عاصم الأزدى المكّىّ القوصىّ المنشأ المصرىّ الدار، الكاتب الشاعر المشهور المعروف بالبهاء زهير صاحب الديوان المشهور. مولده بوادى نخلة بقرب مكّة فى خامس ذى الحجّة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة؛ وربّى بصعيد مصر بقوص «2» ، وقرأ الأدب وسمع الحديث وبرع فى النّظم والنّثر والترسّل، وله الشعر الرائق الفائق، وكان رئيسا فاضلا حسن الأخلاق، اتّصل بخدمه الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى حياة أبيه الملك الكامل، ودام فى خدمته إلى أن توفّى. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الصالح نبذة جيّدة. وكانت وفاة البهاء زهير هذا فى يوم الأحد قبل المغرب رابع ذى القعدة وقيل خامسه. ومن شعره- رحمه الله-:
ولمّا جفانى «3» من أحبّ وخاننى ... حفظت له الودّ الذي كان ضيّعا
ولو شئت قابلت الصدود بمثله ... ولكنى أبقيت للصلح موضعا
وقد كان ما قد كان بينى وبينه ... أكيدا ولكنّى رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشى ففرّق بيننا ... لك الذنب يا من خاننى لا لمن سعى(7/62)
ومن شعره أيضا قصيدته التى أوّلها:
رويدك قد أفنيت يا بين أدمعى ... وحسبك قد أحرقت يا شوق أضلعى
إلى كم أقاسى لوعة بعد لوعة ... وحتّى متى يا بين أنت معى معى
وقالوا علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلمونى ما جرى غير أدمعى
وفيها توفّى الإمام الحافظ الحجّة أبو محمد زكىّ الدين عبد العظيم بن عبد القوىّ ابن عبد الله بن سلامة «1» بن سعد بن سعيد المنذرىّ الدّمشقىّ الأصل المصرىّ المولد والدار والوفاة. ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وكتب وصنّف وخرّج وأملى وحدّث بالكثير، وتخرّج به جماعة، وهو أحد الحفّاظ المشهورين.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله ابن الخليفة المستنصر بالله منصور ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد ابن الخليفة المستضىء بالله أبى محمد الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبى المظفّر يوسف ابن الخليفة المقتفى بالله أبى عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أبى العبّاس أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله أبى القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذّخيرة، وهو غير خليفة، ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير إسحاق، وإسحاق غير خليفة، ابن الخليفة المقتدر بالله أبى الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق، وطلحة غير خليفة أيضا، ابن الخليفة المتوكّل على الله أبى الفضل جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة(7/63)
المهدىّ بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العبّاس بن عبد المطلب الهاشمىّ البغدادىّ، آخر خلفاء بنى العباس ببغداد، وبموته انقرضت الخلافة من بغداد. ولى الخلافة بعد وفاة والده المستنصر بالله فى العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة، ومات قتيلا بيد هولاكو طاغية التّتار فى هذه السنة. وقد تقدّم كيفية قتله فى ترجمة الملك المنصور علىّ هذا، وكانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيّاما. وتقدير عمره سبع وأربعون سنة. وكان قليل المعرفة بتدبير الملك نازل الهمة مهملا للأمور المهمّة محبّا لجمع الأموال يقدم على فعل ما يستقبح، أهمل أمر هولاكو حتّى كان فى ذلك هلاكه.
وشغرت الخلافة بعده سنين، وبقيت الدّنيا بلا خليفة حتّى أقام الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ بعض بنى العبّاس فى الخلافة. على ما يأتى ذكر ذلك فى ترجمة الظاهر بيبرس البندقدارىّ إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى الأمير الأديب الشاعر سيف الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن قزل المعروف بالمشدّ الشاعر المشهور. مولده بمصر فى شوّال سنة اثنتين وستمائة، وتولّى شدّ «1» الدواوين بمصر «2» مدّة سنين، وكان من أكابر الأمراء الفضلاء وهو قريب «3» الأمير جمال الدين بن يغمور، وله ديوان شعر مشهور بأيدى الناس، وتوفّى بدمشق فى يوم عاشوراء. ورثاه «4» بعض الفضلاء، فقال:(7/64)
عاشور يوم قد تعاظم ذنبه ... إذ حلّ فيه كلّ خطب مشكل
لم يكفه قتل الحسين وما جرى ... حتّى تعدّى بالمصاب على على
ومن شعره- رحمه الله- بيت مفرد كلّ كلمة منه قلب نفسها وهو:
ليل أضاء هلاله ... أنّى يضيء بكوكب
ومن شعره أيضا، قوله:
وشادن أو ردنى جبّه ... لهيب حرّ الشوق والفرقه
أصبحت حرّانا إلى ريقه ... فليت لى من قلبه الرّقّه
وله أيضا مضمّنا مقتبسا:
وافى إلىّ وكأس الراج فى يده ... فخلت من لطفه أنّ النسيم سرى
لا تدرك الراح معنى من شمائله ... والشمس لا ينبغى أن تدرك القمرا
وله فى خود عمياء:
علقتها نجلاء مثل المها ... فخان فيها الزمن الغادر
أذهب عينيها فإنسانها ... فى ظلمة لا يهتدى حائر
تجرح قلبى وهى مكفوفة ... وهكذا قد يفعل الباتر
ونرجس اللحظ غدا ذابلا ... وا حسرتا لو أنّه ناظر
وله فى لاعب شطرنج:
لعبت بالشّطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قدّه
أحلّ عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خدّه «1»(7/65)
وفيها توفّى الشيخ الإمام الأديب الرّبانىّ جمال الدين أبو زكريّا يحيى بن يوسف ابن يحيى بن منصور بن المعمّر بن عبد السلام الصّرصرىّ «1» الضّرير الشاعر المشهور.
كان من العلماء الفضلاء الزّهّاد العبّاد، وكان له اليد الطّولى فى النظم، وشعره فى غاية الجودة، ومدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقصائد لا تدخل تحت الحصر كثرة؛ قيل: إنّ مدائحه فى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقارب عشرين مجلّدا. ومن شعره من المدائح النبويّة قوله:
زار وهنّا ونحن بالزّوراء ... فى مقام خلا من الرّقباء
من حبيب القلوب طيف خيال ... فجلا نوره دجى الظّلماء
يا لها زورة على غير وعد ... بتّ منها فى ليلة سرّاء
نعمت عيشتى وطابت حياتى ... فى دجاها يا طلعة الغرّاء
ومنها:
يا هلال السرور يا قمر الأذ ... س ونجم الهدى وشمس البهاء
يا ربيع القلوب يا قرّة العي ... ن وباب الإحسان والنّعماء
ومنها:
سيّد حبّه فخار وتشري ... ف وعزّ باق لأهل الصّفاء
أحمد المصطفى السّراج المنير ال ... خير خاتم الأنبياء «2»
ومن شعره فى عدد الخلفاء بنى العبّاس إلى المستعصم آخر خلفاء بنى العبّاس ببغداد، قال(7/66)
لكرب بنى العبّاس سفّاحهم جلا ... وجرّ لمنصور ومهدىّ الولا
وهاد وهارون الرشيد تلاهما ... أمين ومأمون ومعتصم الملا
وواثقهم من بعده متوكّل ... ومنتصر والمستعين بنو العلا
وطاب بمعتزّ جنى مهتد كما ... بمعتضد عيش لمعتمد حلا
قلت: لعله ما قال إلا:
... ... ... ... كما ... بمعتضد عيش لمعتضد حلا
لأن المعتمد عمّ المعتضد وتولى المعتضد الخلافة بعده. انتهى.
ومكتفيا فاعدد ومقتدرا وقد ... تلا قاهرا راض لمتّقى تلا
ومستكفيا ثم المطيع وطائعا ... وقادرهم والقائم أعدد محصّلا
وبالمقتدى مستظهر ساد مثلما ... بمسترشد والراشد المقتفى علا
بمستنجد والمستضىء وناصر ... وظاهر والمستنصر اجل مقفّلا
ومستعصم لا زال بالنصر قاهرا ... لأعدائه ما حنّت العيس فى الفلا
قال الذهبىّ: «حكى لنا شيخنا ابن الدّباهىّ «1» - وكان خال أمّه (يعنى الصّرصرىّ) - قال: بلغنا أنّه دخل عليه التّتار وكان ضريرا، فطعن بعكّازه بطن واحد فقتله، ثم قتل شهيدا بيد التّتار» . انتهى.
قلت: كلّ ذلك فى واقعة هولاكو المقدّم ذكرها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير سيف الدين المشدّ الشاعر صاحب الديوان، واسمه علىّ بن عمر بن قزل فى المحرّم، والشيخ يحيى ابن يوسف بن يحيى الصّرصرىّ الزاهد صاحب «الديوان» ، استشهد ببغداد(7/67)
فى صفر فى أمم لا يحصون: منهم المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر، وله سبع وأربعون سنة، وكانت خلافته ستّ عشرة سنة. ومنهم أستاداره محيى الدين يوسف بن الشيخ أبى الفرج بن الجوزىّ. ومدرّس المستنصريّة الإمام أبو المناقب محمود بن أحمد بن محمود الزّنجانىّ «1» الشافعىّ، وله ثلاث وثمانون سنة. والمحدّث شمس الدين علىّ بن المظفّر بن القاسم النّشبىّ «2» فى شهر ربيع الأوّل. وأبو عمرو عثمان ابن علىّ القرشىّ بن خطيب القرافة فى شهر ربيع الآخر، وله أربع وثمانون سنة.
وأبو العزّ عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن محمد بن صديق المؤدّب الحرّانىّ بدمشق.
والملك الناصر أبو المظفّر داود بن الملك المعظّم بن العادل فى جمادى الأولى، وله ثلاث وخمسون سنة. والمحدّث نجيب الدين نصر الله [ «3» بن المظفّر بن عقيل بن حمزة أبو الفتح] بن أبى العزّ الشّيبانىّ بن شقيشقة فى جمادى الآخرة، وقد جاوز السبعين.
وأبو الفضل عبد العزيز بن عبد الوهاب بن بنان «4» الكفر طابىّ فى شوّال، وله تسع وسبعون سنة. والأديب شرف الدين الحسين «5» بن إبراهيم الإربلىّ اللغوىّ فى ذى القعدة، وله ثمان وثمانون سنة. والحافظ زكىّ الدين عبد العظيم ابن عبد القوىّ المنذرىّ فى ذى القعدة، وله ستّ وسبعون سنة. والبهاء زهير بن محمد ابن علىّ المهلّبى الكاتب الشاعر. والعارف أبو الحسن علىّ بن عبد الله بن عبد الجبّار «6»(7/68)
الشّاذلىّ الضّرير [بصحراء «1» ] عيذاب «2» فى ذى القعدة. وأبو العبّاس القرطبى أحمد بن عمر بن إبراهيم العدل بالإسكندريّة، وله ثمان وسبعون سنة. وخطيب مردا «3» أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد الحنبلىّ فى ذى الحجّة. والحافظ صدر الدين أبو على الحسن بن محمد بن محمد بن محمد البكرىّ بالقاهرة فى ذى الحجّة، وله اثنتان وثمانون سنة. والشيخ أبو عبد الله الفاسىّ محمد بن حسن شيخ الإقراء بحلب فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 657]
السنة الثالثة من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك على مصر، وهى سنة سبع وخمسين وستمائة.(7/69)
فيها خلع الملك المنصور علىّ المذكور بمملوك ابيه الملك المظفّر قطز المعزّىّ.
وقد تقدّم ذلك.
وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصدا حلب. يأتى ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المظفّر قطز إن شاء الله تعالى.
وفيها توفى الملك «1» الرحيم أبو الفضائل بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله الأتابكىّ صاحب الموصل، كان من أجلّ الملوك. وطالت أيّامه بالموصل لأنّه أقام بتدبير أستاذه نور الدين أرسلان شاه بن عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر التّركيّ، فلمّا توفّى نور الدين قام بتدبير ولده الملك القاهر عزّ الدين مسعود، فلما توفّى الملك القاهر سنة أربع عشرة وستمائة أقام صبّيين من ولده هما ابنا بنت مظفّر «2» الدين صاحب إربل [ثم إنّه أخنى على أولاد أستاذه فقتلهم غيلة «3» ] واحدا بعد واحد، ثم بعد ذلك استبدّ بمملكة الموصل وأعمالها سبعا وأربعين سنة. وكان كثير التجمّل بالرّسل والوافدين عليه، وكان له همّة عالية ومعرفة تامّة، وكان شديد البحث عن أخبار رعاياه ما يخفى عنه من أحوالهم إلّا ما قلّ، وكان يغرم على القصّاد والجواسيس فى كلّ سنة مالا عظيما، وكان إذا عدم من بلاده ما قيمته مائة درهم هان عليه أن يبذل عشرة آلاف دينار ليبلغ غرضه فى عوده، ولا يذهب مال رعيّته.
قلت: لله درّ هذا الملك! ما أحوج الناس إلى ملك مثل هذا يملك الدنيا بأسرها.
وكانت وفاته بالموصل وهو فى عشر التسعين سنة.(7/70)
وفيها توفّى الأديب الفاضل أبو عبد الله بهاء الدين محمد بن مكّى بن محمد بن الحسن القرشىّ الدمشقىّ العدل المعروف بابن الدّجاجيّة، كان فاضلا شاعرا مطبوعا. ومن شعره قوله:
كم تكتم الوجد يا معنّى ... منّا وما يختفى اللهيب
سل عرب الواديين عمّن ... بانوا فما بيننا غريب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال وفيها توفّى أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد الأنصارىّ الإشبيلىّ بن السّرّاج مسند الغرب ببجاية «1» فى صفر، وله سبع وتسعون سنة، وكانت الرّحلة إليه من الأقطار. وصدر الدين أسعد بن عثمان [بن أسعد «2» ] بن المنجّى، ودفن بمدرسته الصّدريّة «3» فى شهر رمضان، والمقرئ شمس الدين أبو الفتح محمد [بن علىّ «4» ] بن موسى الأنصارىّ بدمشق فى المحرّم.
والملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فى شعبان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.(7/71)
ذكر سلطنة الملك المظفّر قطز على مصر
السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزّى الثالث من ملوك الترك بالديار المصريّة. وقطز (بضم القاف والطاء المهملة وسكون الزاى) ، وهو لفظ مغلىّ. تسلطن بعد خلع ابن أستاذه الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، وذلك بعد أن عظمت الأراجيف بتحريك التّتار نحو البلاد الشاميّة وقطعهم الفرات وهجمهم بالغارات على البلاد الحلبيّة، وكان وصل إليه بسبب ذلك الصاحب كمال الدّين «1» عمر بن العديم رسولا من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب منه النّجدة على قتال التّتار، فأنزله قطز بالكبش «2» وجمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه فى أمر التّتار وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا فى دار السّلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام والقاضى بدر الدين السّنجارىّ قاضى الديار المصرية وغيرهما من العلماء، وجلس الملك المنصور علىّ فى دست السلطنة، وأفاضوا فى الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السّلام، وخلاصة ما قال: إنّه إذا طرق العدوّ بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تاخذوا من الرعيّة ما تستعينون به(7/72)
على جهادكم، بشرط ألّا يبقى فى بيت المال شىء، وتبيعوا مالكم من الحوائص «1» المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كلّ الجند على مركوبه وسلاحه ويتساووا هم والعامّة. وأمّا أخذ الأموال من العامّة مع بقايا فى أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، وانفضّ المجلس على ذلك، ولم يتكلّم السلطان بكلمة فى المجلس لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنّه؛ فلهج الناس بخلع المنصور وسلطنة قطز حتّى يقوم بهذا الأمر المهمّ، واتّفق ذلك بعد أيّام، وقبض قطز هذا على الملك المنصور علىّ، واحتجّ لكمال الدّين بن العديم وغيره بأنّه صبىّ لا يحسن تدبير الملك، وفى مثل هذا الوقت الصّعب لا بدّ أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه الناس وينتصب للجهاد. وكان الأميران: علم الدين سنجر [الغتمىّ المعظّمىّ «2» ] وسيف الدين بهادر حين جرى هذا الأمر غائبين فى الصيد، فاغتنم قطز لغيبتهما الفرصة، فلمّا حضرا قبض عليهما واعتقلهما، وتسلطن. وركب بشعار الملك، وجلس على كرسىّ السلطنة وتمّ أمره. ولمّا وقع ذلك تقدّم قطز إلى برهان الدين الخضر «3» أن يتوجّه فى جواب رسالة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام صحبة الصاحب كمال الدين ابن العديم، ويعد الملك الناصر بالنّجدة وإنفاذ العساكر إليه؛ فتوجّها ووصلا إلى دمشق وأدّيا الرسالة؛ ولم يزل البرهان بدمشق إلى أن رحل الملك الناصر من دمشق إلى جهة الديار المصريّة جافلا من التّتار.(7/73)
وكان الناصر لمّا تحقّق بحركة التّتار رحل إلى برزة شمالى دمشق، ونزل بها بعساكره واجتمع إليه أمم عظيمة من العرب والعجم والتّركمان والأتراك والمطوّعة؛ فلم يعجب الناصر حاله لما رأى من تخاذل عسكره، وعلم انّه إذا لاقى التّتار لم يثبت عسكره لهم لكثرتهم ولقوّتهم، فإنّ هولاكو فى خلق لا يحصيهم إلّا الله تعالى من المغل والكرج والعجم وغيرهم، ولم يكن من حين قدومهم على بلاد المسلمين من سنة ستّ عشرة وستمائة إلى هذه السنة يلقاهم عسكر إلّا فلّوه سوى وقائع كانت بينهم وبين جلال الدين «1» بن خوارزم شاه، انتصف جلال الدين فى بعضها، ثمّ كبسوه على باب آمد وبدّدوا جمعه، وأعقب ذلك موت جلال الدين بالقرب من ميّافارقين.
وأمّا أمر هلاكو فإنّه فى جمادى الأولى من هذه السنّة نزل حرّان واستولى عليها وملك بلاد الجزيرة، ثمّ سيّر ولده أشموط «2» بن هولاكو إلى الشام وأمره بقطع الفرات وأخذ البلاد الشاميّة، وسيّره فى جمع كثيف من التّتار فوصل أشموط إلى نهر الجوز «3» وتلّ باشر «4» ، ووصل الخبر إلى حلب من البيرة «5» بذلك. وكان نائب السلطان صلاح الدين يوسف بحلب ابنه الملك المعظّم توران شاه، فجفل الناس بين يدى(7/74)
التّتار إلى جهة دمشق وعظم الخطب، واجتمع الناس من كلّ فجّ عند الملك الناصر بدمشق، واحترز الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الناصر بحلب غاية الاحتراز. وكذلك جميع نوّاب البلاد الحلبيّة؛ وصارت حلب فى غاية الحصانة بأسوارها المحكمة البناء وكثرة الآلات. فلمّا كان العشر الأخير من ذى الحجّة [سنة «1» سبع وخمسين وستمائة] قصد التّتار حلب ونزلوا على قرية يقال لها سلمية «2» وامتدوا إلى حيلان «3» والحارى «4» ، وسيّروا جماعة من عسكرهم أشرفوا على المدينة. فخرج عسكر حلب ومعهم خلق عظيم من العوام والسّوقة، وأشرفوا على التّتار وهم نازلون على هذه الأماكن، وقد ركبوا جميعهم لانتظار المسلمين، فلمّا تحقّق المسلمون كثرتهم كرّوا راجعين إلى المدينة؛ فرسم الملك المعظّم بعد ذلك ألّا يخرج أحد من المدينة.
ولمّا كان غد هذا اليوم رحلت التّتار من منازلهم طالبين مدينة حلب، واجتمع عسكر المسلمين بالنّواشير وميدان «5» الحصا وأخذوا فى المشورة فيما يعتمدونه، فأشار عليهم الملك المعظّم أنّهم لا يخرجون أصلا لكثرة التّتار ولقوّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافقه جماعة من العسكر وأبوا إلّا الخروج إلى ظاهر البلد لئلّا يطمع العدوّ فيهم؛ فخرج العسكر إلى ظاهر حلب وخرج معهم العوامّ والسّوقة واجتمعوا الجميع بجبل بانقوسا «6» ؛ ووصل جمع التّتار إلى أسفل الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتلوهم؛ فلما رآهم التّتار اندفعوا بين أيديهم مكرا منهم وخديعة،(7/75)
فتبعهم عسكر حلب ساعة من النهار؛ ثم كرّ التّتار عليهم فولّوا منهزمين إلى جهة البلد والتّتار فى أثرهم. فلما حاذوا جبل بانقوسا وعليه بقيّة عسكر المسلمين والعوامّ اندفعوا كلّهم نحو البلد والتّتار فى أعقابهم، فقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا من الجند والعوامّ.
وممّن استشهد فى ذلك اليوم الأمير علم الدين زريق العزيزىّ- رحمه الله- وكان من أعيان الأمراء. ونازل التّتار المدينة فى ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبين أعزاز فتسلّموها بالأمان.
ثم عادوا إلى حلب فى ثانى صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة وحاصروها حتّى استولوا عليها فى تاسع صفر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم. وبلغ الملك الناصر يوسف أخذ حلب فى منتصف صفر، فخرج الناصر من الشام بأمرائه نحو القبلة. وكان رسل التّتار بقرية حرستا «1» فأدخلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صفر. وقرئ بعد صلاة الظهر فرمان (أعنى مرسوما) جاء من عند ملك التّتار يتضمّن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر فى تدبير أمرهم. ثم وصلت التّتار إلى دمشق فى سابع عشر شهر ربيع الأوّل، فلقيهم أعيان البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكسوة «2» وأهلكوا فى ممرّهم جماعة كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا «3» .
وفى السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضى كمال الدين عمر بن بندار «4»(7/76)
التّفايسىّ بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام إلى الموصل وميّافارقين وغير ذلك، وكان القاضى قبله صدر «1» الدين أحمد بن سنىّ الدولة. وتوجّه الملك الناصر نحو الديار المصريّة ونزل العريش ثم قطيا «2» بعد أن تفرّق عسكره عنه وتوجّه معظم عسكره إلى مصر قبله مع الأثقال. فلمّا وصل الناصر إلى قطيا عاد منها إلى جهة الشام لشىء بلغه عن الملك المظفّر صاحب مصر، ونزل بوادى «3» موسى ثم نزل بركة زيزاء «4» ، فكبسه التّتار بها وهو فى خواصّه وقليل من مماليكه، فاستأمن الناصر من التّتار وتوجّه إليهم، فلمّا وصل إليهم احتفظوا به وبقى معهم فى ذلّ وهوان إلى أن قتل على ما يأتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.
وأمّا التّتار فإنّه بلغت غارتهم إلى غزّة وبلد الخليل «5» - عليه السلام- فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصّبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشى شيئا كثيرا. كلّ ذلك والسلطان الملك المظفّر قطز سلطان مصر يتهيّأ للقاء التّتار.(7/77)
فلمّا اجتمعت العساكر الإسلاميّة بالديار المصريّة ألقى الله تعالى فى قلب الملك المظفّر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من النّصرة على التّتار، وأجمعوا على حفظ مصر لا غير لكثرة عددهم واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، وأنّهم ما قصدوا إقليما إلّا فتحوه ولا عسكرا إلّا هزموه، ولم يبق خارج عن حكمهم فى الجانب الشرقىّ إلّا الديار المصريّة والحجاز واليمن، وهرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى الغرب، وهرب جماعة من الناس إلى اليمن والحجاز، والباقون بقوا فى وجل عظيم وخوف شديد يتوقّعون دخول العدوّ وأخذ البلاد؛ وصمّم الملك المظفّر- رحمه الله- على لقاء التّتار، وخرج من مصر فى الجحافل»
الشاميّة والمصريّة فى شهر رمضان، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة؛ وكان الأتابك فارس الدين أقطاى المستعرب، الأمور كلّها مفوّضة إليه؛ وسيّر الملك المظفّر قطز إلى صاحب حماة، وهو بالصالحيّة، يقول: له لا تحتفل فى مدّ سماط، بل كلّ واحد من أصحابك يفطر على قطعة لحم فى صولقه «2» . وسافر الملك المظفّر بالعساكر من الصالحيّة ووصل غزّة والقلوب وجلة.
وأما كتبغانوين «3» مقدّم التّتار على عسكر هولاكو لمّا بلغه خروج الملك المظفّر قطز كان بالبقاع؛ فاستدعى الملك الأشرف [موسى «4» ابن المنصور صاحب حمص] وقاضى القضاة محيى «5» الدين واستشارهم فى ذلك، فمنهم من أشار بعدم الملتقى(7/78)
والاندفاع بين يدى الملك المظفّر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العسكر المصرىّ، ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرّقت الآراء، فاقتضى رأى كتبغانوين الملتقى، وتوجّه من فوره لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشّرك وحزبه، بعد أن جمع كتبغانوين من فى الشام من التّتار وغيرهم، وقصد محاربة المسلمين، وصحبته الملك السعيد [حسن «1» ] ابن الملك العزيز عثمان. ثم رحل الملك المظفّر قطز بعساكره من غزّة ونزل الغور بعين جالوت «2» ، وفيه جموع التّتار فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان، ووقع المصافّ بينهم فى اليوم المذكور، وتقاتلا قتالا شديدا لم ير مثله حتّى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة، فحمل الملك المظفّر- رحمه الله- بنفسه فى طائفة من عساكره وأردف الميسرة حتّى تحايوا وتراجعوا، واقتحم الملك المظفّر القتال وباشر ذلك بنفسه وأبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا، وعظم الحرب وثبت كلّ من الفريقين مع كثرة التتار. والمظفّر مع ذلك يشجّع أصحابه ويحسّن إليهم الموت، وهو يكرّ بهم كرّة بعد كرّة حتّى نصر الله الإسلام وأعزّه، وانكسرت التّتار وولّوا الأدبار على أقبح وجه بعد أن قتل معظم أعيانهم وأصيب مقدّم العساكر التّتاريّة كتبغانوين، فإنّه أيضا لمّا عظم الخطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله تعالى وقتل شرّ قتلة. وكان الذي حمل عليه وقتله الأمير جمال الدين آقوش الشّمسىّ- رحمه الله تعالى- وولّوا التّتار الأدبار لا يلوون على شىء، واعتصم منهم طائفة بالتلّ المجاور لمكان الوقعة، فأحدقت بهم العساكر وصابروهم على القتال حتّى أفنوهم قتلا، ونجا من نجا. وتبعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ فى جماعة من الشّجعان إلى أطراف البلاد؛(7/79)
واستوفى أهل البلاد والضّياع من التّتار آثارهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتّى إنّه لم يسلم منهم إلّا القليل جدّا.
وفى حال الفراغ من المصافّ حضر الملك السعيد [حسن] ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل بين يدى السلطان الملك المظفّر قطز؛ وكان التّتار لمّا ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلا فأطلقوه وأعطوه باياس وقلعة الصّبيبة «1» فانضمّ على التّتار وبقى منهم، وقاتل يوم المصافّ «2» المسلمين قتالا شديدا، فلما أيّد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفّر فحضر الملك السعيد هذا من جملتهم على رغم أنفه، فلم يقبل المظفّر عذره، وأمر بضرب عنقه فضربت فى الحال. ثم كتب الملك المظفّر كتابا إلى أهل دمشق يخبرهم فيه بالفتح وكسر العدوّ المخذول ويعدهم بوصوله إليهم ونشر العدل فيهم، فسرّ عوامّ دمشق وأهلها بذلك سرورا زائدا، وقتلوا فخر الدين محمد بن يوسف بن محمد الكنجىّ «3» فى جامع دمشق، وكان المذكور من أهل العلم، لكنّه كان فيه شرّ، وكان رافضيّا خبيثا وانضم على التّتار. وقتلوا أيضا بدمشق من أعوان التّتار ابن الماسكينى «4» ، وابن النّفيل «5» وغيرهما. وكان النّصارى بدمشق قد شمخوا وتجرّءوا على المسلمين واستطالوا بتردّد التّتار إلى كنائسهم.
وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاءوا من عنده بفرمان يتضمّن الوصيّة بهم والاعتناء بأمرهم، ودخلوا بالفرمان من باب توما «6» وصلبانهم مرتفعة، وهم ينادون بارتفاع دينهم واتّضاع دين المسلمين، ويرشّون الخمر على الناس وفى أبواب المساجد، فحصل(7/80)
عند «1» المسلمين من ذلك همّ عظيم. فلمّا هرب نوّاب التّتار حين بلغتهم الكسرة أصبح الناس وتوجّهوا إلى دور النّصارى ينهبونها ويأخذون ما استطاعوا منها، وأخربوا كنيسة اليعاقبة «2» وأحرقوا كنيسة مريم «3» حتّى بقيت كوما، وقتلوا منهم جماعة واختفى الباقون. وكانت النصارى فى تلك الأيام ألزموا المسلمين بالقيام فى دكاكينهم للصّليب، ومن لم يقم أخرقوا «4» به وأهانوه، وشقّوا السّوق على هذا الوجه إلى عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم؛ فقام بعضهم على الدّكّان الوسطى من الصف الغربىّ بين القناطر وخطب وفضّل دين النّصارى ووضع من دين الإسلام، وكان ذلك فى ثانى عشرين شهر رمضان. ثم من الغد طلع المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى قلعة دمشق وبها التّتار فأهانوهم التتار، ورفعوا قسّيس النّصارى عليهم، ثم أخرجوهم بالضرب؛ فصار ذلك كلّه فى قلوب المسلمين. انتهى.
ثمّ إنّ أهل دمشق هموا أيضا بنهب اليهود فنهبوا منهم يسيرا، ثم كفّوا عنهم.
ثمّ وصل الملك المظفّر قطز إلى دمشق مؤيّدا منصورا فانجبرت بذلك قلوب الرّعايا وتضاعف شكرهم لله تعالى. والتقاه أهل دمشق بعد أن عفّوا آثار النصارى وخرّبوا كنائسهم جزاء لما كانوا سلفوه من ضرب النواقيس على رءوس المسلمين، ودخولهم بالخمر إلى الجامع. وفى هذا المعنى يقول بعض شعراء دمشق:(7/81)
هلك الكفر فى الشآم جميعا ... واستجدّ الإسلام بعد دحوضه
بالمليك المظفّر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
ملك [جاءنا «1» ] بعزم وحزم ... فآعتززنا بسمره وبيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه
وفى نصرة الملك المظفّر هذا يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة:
غلب التّتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركى يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدّد شملهم ... ولكلّ شىء آفة من جنسه
ثم قدم الخبر على السلطان بدمشق فى شوّال بأنّ المنهزمين من رجال التّتار ونسائهم لحقهم الطّلب من الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، فإنّ بيبرس كان تقدّم قبل السلطان إلى دمشق يتتبّع آثار التّتار إلى قرب حلب، فلمّا قرب منهم بيبرس سيّبوا ما كان فى أيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم فتخطّفهم النّاس، وقاسوا من البلاء ما يستحقّونه.
وكان الملك المظّفر قطز قد وعد الأمير بيبرس بحلب وأعمالها، فلمّا انتصر على التّتار انثنى عزمه عن إعطائه حلب، وولّاها لعلاء الدّين [علىّ ابن «2» بدر الدين لؤلؤ] صاحب الموصل، فكان ذلك سبب الوحشة بين بيبرس وبين الملك المظفّر قطز.
على ما يأتى ذكره.
ولمّا قدم الملك المظفّر إلى دمشق أحسن إلى الناس وأجراهم على عوائدهم وقواعدهم إلى آخر أيّام الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وسيّر الملك الأشرف صاحب حمص يطلب منه أمانا على نفسه وبلاده، وكان الأشرف أيضا ممّن انضاف(7/82)
إلى التّتار فأمّنه وأعطاه بلاده وأقرّه عليها؛ فحضر الأشرف إلى خدمة الملك المظفّر ثم عاد إلى بلده. ثم توجّه الملك المظفّر صاحب حماة إلى حماة على ما كان عليه، وكان حضر مع الملك المظفّر قطز من مصر.
قلت: والملك المظفّر قطز هو أوّل من ملك البلاد الشاميّة واستناب بها من ملوك الترك.
ثمّ إنّ الملك المظفّر قطز رتّب أمور الشام واستناب بدمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير. ثم خرج المظفّر من دمشق عائدا إلى مصر إلى أن وصل إلى القصير «1» ، وبقى بينه وبين الصالحيّة مرحلة واحدة، ورحلت العساكر إلى جهة الصالحيّة وضرب الدهليز السلطانىّ بها وبقى المظفّر مع بعض خواصّه وأمرائه؛ وكان جماعة قد اتّفقوا مع الأمير بيبرس البندقدارىّ على قتل الملك المظفّر: منهم الأمير سيف الدين أنص «2» من مماليك [نجم الدين «3» ] الرومى الصالحى، وعلم الدين صنغلى «4» ، و [سيف «5» الدين بلبان] الهارونىّ وغيرهم؛ كلّ ذلك لكمين كان فى نفس بيبرس، لأجل نيابة حلب. واتّفق عند القصير بعد توجّه العساكر إلى الصالحيّة أن ثارت أرنب فساق الملك المظفّر قطز عليها، وساق هؤلاء المتّفقون على قتله معه، فلمّا أبعدوا ولم يبق معه غيرهم، تقدّم إليه الأمير بيبرس البندقدارىّ وشفع عنده(7/83)
شفاعة فى إنسان فأجابه، فأهوى بيبرس ليقبّل يده فقبض عليها؛ وحمل أنص «1» عليه، وقد أشغل بيبرس يده، وضربه بالسيف، ثمّ حمل الباقون عليه ورموه عن فرسه، ورشقوه بالنّشّاب فقتلوه، ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتّى وصلوا إلى الدّهليز السلطانىّ بالصالحيّة؛ فنزلوا ودخلوا والأتابك «2» على باب الدّهليز فأخبروه بما فعلوا؛ فقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا، فقال: يا خوند، اجلس على مرتبة السلطان! يأتى بقية ذلك فى أوّل ترجمة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ المذكور. إن شاء الله تعالى.
ولمّا وقع ذلك وبلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير نائب دمشق عزّ عليه قتل الملك المظفّر، ثم دعا الناس لنفسه واستحلفهم وتلقّب بالملك المجاهد.
على ما يأتى ذكره أيضا. أمّا الملك المظفّر قطز فإنّه دفن موضع قتله- رحمه الله تعالى- وكثر أسف الناس وحزنهم عليه. قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخه- رحمه الله تعالى- بعد ما سمّاه ونعته قال:
وكان المظفّر أكبر مماليك الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ، وكان بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء فى جهاد التّتار، فعوّض الله شبابه بالجنّة ورضى عنه. وحكى الشيخ شمس «3» الدين الجزرىّ فى تاريخه(7/84)
عن أبيه، قال: كان قطز فى رقّ ابن الزعيم «1» بدمشق فى القصّاعين «2» ، فضربه أستاذه فبكى ولم يأكل شيئا يومه، ثم ركب أستاذه للخدمه وأمر الفرّاش أن يترضّاه ويطعمه، قال: فحدّثنى الحاجّ علىّ الفراش قال: فجئته وقلت: ما هذا البكاء من لطشة؟ فقال: إنّما بكائى من لعنة أبى وجدّى وهم خير منه، فقلت: من أبوك؟ واحد كافر! فقال: والله ما أنا إلّا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود «3» ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكّتّه وترضّيته. وتنقّلت به الأحوال إلى أن تملّك مصر، ولمّا تملك أحسن إلى الحاج علىّ الفراش المذكور، وأعطاه خمسمائة دينار وعمل له راتبا. قال الذهبىّ أيضا: ولمّا تسلطن لم يبلغ ريقه ولا تهنّى بالسلطنة حتى امتلأت الشامات المباركة بالتّتار؛ ثم ساق الذهبىّ أمره مع التّتار بنحو ما حكيناه.
وقال الشيخ قطب الدين: حكى عن الملك المظفّر قطز أنّه قتل جواده يوم القتال مع التّتار، ولم يصادف المظفّر أحد من الأوشاقية «4» فبقى راجلا، فرآه بعض الأمراء الشجعان فترجّل له وقدّم له حصانه، فامتنع المظفّر من ركوبه وقال:
ما كنت لأمنع المسلمين الانتفاع بك فى هذا الوقت! ثم تلاحقت الأوشاقيّة إليه.
وقال ابن الجزرىّ فى تاريخه: حدّثنى أبى قال حدّثنى أبو بكر بن الدّريهم الإسعردىّ والزكىّ إبراهيم أستاذ الفارس أقطاى قالا: كنّا عند سيف الدين قطز لمّا تسلطن أستاذه الملك المعزّ أيبك التركمانىّ، فأمرنا قطز بالقعود، ثم أمر المنجّم فضرب الرّمل،(7/85)
ثم قال له قطز: اضرب لمن يملك بعد أستاذى الملك المعزّ أيبك، ومن يكسر التّتار، فضرب وبقى زمانا يحسب، فقال: يطلع معى خمس حروف بلا نقط. فقال له قطز: لم لا تقول محمود بن ممدود، فقال: يا خوند لا ينفع غير هذا الاسم، فقال:
أنا هو، أنا محمود بن ممدود، وأنا أكسر التّتار وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه، فتعجّبنا من كلامه، وقلنا: إن شاء الله يكون هذا يا خوند، فقال: اكتموا ذلك، وأعضى المنجّم ثلثمائة درهم.
قلت: ونقل الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى تاريخه الذي ذيلّه على مرآة الزمان، فقال فى أمر المنجّم غير هذه الصورة. وسنذكرها فى سياق كلام قطب الدين المذكور. قال (أعنى قطب الدين) : كان المظفّر أخصّ مماليك الملك المعزّ وأقربهم إليه وأوثقهم عنده. وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار.
قال: وكان الملك المظفّر بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير لم يكن يوصف بكرم ولا شحّ بل كان متوسّطا فى ذلك، وذكر حكايته لمّا أن قتل جواده يوم الوقعة بنحو ممّا حكيناه، لكنّه زاد بأن قال: فلام المظفّر بعض خواصّه على عدم ركوبه، وقال: يا خوند- لو صادفك، والعياذ بالله تعالى- بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام! فقال: أما أنا فكنت رحت إلى الجنّة- إن شاء الله تعالى- وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه؛ فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وقتل بعده ابنه الملك المعظّم توران شاه، وقتل الأمير فخر الدين ابن الشيخ مقدّم العساكر يوم ذاك، ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره! (يعنى عن نوبة أخذ الفرنج دمياط) . ثم قال قطب الدين، بعد ما ساق توجّهه إلى دمشق وإصلاح أمرها إلى أن قال: وقتل الملك المظفّر قطز مظلوما بالقرب من القضير وهى المنزلة التى بقرب الصالحية، وبقى ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان فى خدمته(7/86)
بالقصير، وكان قبره يقصد للزيارة دائما. قال: واجتزت به فى شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة، وترحّمت عليه وزرته. وكان كثير الترحّم عليه والدعاء على من قتله. فلمّا بلغ بيبرس ذلك أمر بنبشه ونقله إلى غير»
ذلك المكان وعفّى أثره، ولم يعفّ خبره- رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيرا- قال: ولم يخلّف ولدا ذكرا، وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.
قلت: فعلى هذا تكون مدّة سلطنة الملك المظفّر قطز سنة إلّا يومنا واحدا، فإنّه تسلطن فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة من سنة سبع وخمسين وستمائة، وقتل فيما نقله الشيخ قطب الدين فى يوم السبت سادس عشر ذى القعدة من سنة ثمان وخمسين وستمائة: انتهى. قال: حكى لى المولى علاء الدين بن غانم فى غرّة شوّال سنة إحدى وتسعين وستّمائة ببعلبكّ، قال: حدّثنى المولى تاج «2» الدين أحمد ابن الأثير- تغمده الله برحمته- ما معناه: أنّ الملك الناصر صلاح الدين يوسف- رحمه الله- لمّا كان على برزة فى أواخر سنة سبع وخمسين وصله قصّاد من الديار المصريّة بكتب يخبرونه فيها أنّ قطز تسلطن وملك الديار المصريّة وقبض على ابن أستاذه، قال المولى تاج الدين- رحمه الله-: فطلبنى السلطان الملك الناصر قرأت عليه الكتب، وقال لى: خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر «3» الدين القيمرىّ، والأمير جمال «4» الدين بن يغمور أوقف كلّا منهما عليها، قال: فأخذتها(7/87)
وخرجت فلما بعدت عن الدّهليز لقينى حسام الدين البركة خانى «1» وسلّم علىّ، وقال:
جاءكم بريدىّ أو قصّاد من الديار المصريّة؟ فورّيت وقلت: ما عندى علم بشىء من هذا، قال: قطز تسلطن وتملّك الديار المصريّة ويكسر التّتار؛ قال تاج الدين:
فبقيت متعجّبا من حديثه، وقلت له: إيش هذا القول، ومن أين لك هذا؟
قال: والله هذا قطز خشداشى، كنت أنا وإيّاه عند الهيجاوى «2» من أمراء مصر ونحن صبيان، وكان عليه قمل كثير، فكنت أسرّح رأسه على أنّنى كلّما أخذت منه قملة أخذت منه فلسا أو صفعته، ثم قلت فى غضون ذلك: والله ما أشتهى إلا أنّ الله يرزقنى إمرة خمسين فارسا، فقال لى: طيّب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارسا، فصفعته وقلت: أنت تعطينى إمرة خمسين! قال: نعم فصفّعته، فقال لى: وأ لك علّة! إيش يلزم لك إلّا إمرة خمسين فارسا؟ أنا والله أعطيك، قلت: ويلك «3» ! كيف تعطينى؟ قال: أنا أملك الديار المصريّة، وأكسر التّتار وأعطيك الذي طلبت، قلت: ويلك أنت مجنون! أنت بقملك تملك الديار المصرية؟ قال: نعم، رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فى المنام وقال لى: أنت تملك الديار المصريّة وتكسر التّتار، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حقّ لا شكّ فيه، قال: فسكتّ وكنت أعرف منه الصدق فى حديثه وعدم الكذب. قال تاج الدين:
فلمّا قال لى هذا، قلت له: قد وردت الأخبار بأنّه تسلطن، قال لى: والله وهو يكسر التّتار. قال تاج الدين: فرأيت حسام الدين البركة خانى- الحاكى ذلك- بالديار المصريّة بعد كسر التّتار فسلّم علىّ، وقال: يا مولاى تاج الدين،(7/88)
تذكر ما قلت لك فى الوقت الفلانىّ؟ قلت: نعم، قال: والله حالما عاد الملك الناصر من قطيا دخلت الديار المصريّة أعطانى إمرة خمسين فارسا كما قال، لا زائد على ذلك. قال: وحكى لى عزّ «1» الدين محمد بن أبى الهيجاء ما معناه: أنّ سيف الدين بلغاق حدّثه أنّ الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكىّ، حكى لى قال: كنت أنا والملك المظفّر قطز والملك الظاهر بيبرس- رحمهما الله تعالى- فى حال الصّبا كثيرا ما نكون مجتمعين فى ركوبنا وغير ذلك، فاتّفق أن رأينا منجّما فى بعض الطريق بالديار المصريّة، فقال له الملك المظفّر قطز: أبصر نجمى، فضرب بالرّمل وحسب وقال: أنت تملك هذه البلاد وتكسر التّتار، فشرعنا نهزأ به. ثم قال له الملك الظاهر بيبرس: أبصر نجمى، فقال: وأنت أيضا تملك الديار المصريّة وغيرها، فتزايد استهزاؤنا به، ثم قالا لى، لا بدّ أن تبصر نجمك، فقلت له: أبصر لى نجمى، فحسب وقال: أنت تخلص لك إمرة مائة فارس، يعطيك هذا، وأشار إلى الملك الظاهر، فاتّفق أن وقع الأمر كما قال، ولم يخرم منه شىء. وهذا من عجيب الاتّفاق. انتهت ترجمة الملك المظفّر قطز. ويأتى ذكر حوادثه على عادة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[ما وقع من الحوادث سنة 658]
السنة التى حكم فيها الملك المظفّر قطز على الديار المصريّة، وهى سنة ثمان وخمسين وستمائة على أنّه حكم من سنة سبع شهرين وقتل قبل انقضاء السنة أيضا بشهرين.
فيها كانت كاثنة التّتار مع الملك المظفّر قطز وغيره، حسب ما تقدّم ذكره من أنّهم ملكوا حلب والشام ثم رحلوا عنها.(7/89)
وفيها غلت الأسعار بالبلاد الشاميّة.
وفيها توفّى الملك السعيد نجم الدين إيلغازى ابن الملك المنصور ناصر الدين أبى المظفّر أرتق بن أرسلان «1» بن نجم الدين إيلغازى ابن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى ابن أرتق، السلطان أبو الفتح صاحب ماردين. كان ملكا جليلا كبير القدر شجاعا جوادا حازما ممدّحا. مات فى ذى الحجّة، وملك ماردين بعده ابنه الملك المظفّر رحمه الله.
وفيها توفّى الملك المعظّم فخر الدين أبو المفاخر توران شاه ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، كان قد كبرت سنّه وصار كبير البيت الأيّوبىّ، وكانت نفسه لا تحدّثه بالوثوب على الأمر، فلذلك عاش عيشا رغدا وطال عمره. وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام يعظّمه ويحترمه ويثق به. وهو غير الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب. وقد تقدّم قتل هذاك فى كائنة دمياط، وعدّ أيضا من ملوك مصر. وتوران شاه هذا هو ابن عم الملك الكامل محمد جدّ توران شاه هذاك. وهو أيضا غير توران شاه ابن الملك الكامل محمد المعروف بأقسيس «2» . انتهى. ومولد توران شاه هذا بالقاهرة فى سنة سبع وسبعين وخمسمائة ومات فى شهر ربيع الأوّل من هذه السنة بحلب.
وفيها قتل الأمير كتبغانوين مقدّم عساكر التّتار الذي قتل فى الوقعة التى كانت بينه وبين المظفّر قطز بعين جالوت المقدّم ذكرها. كان كتبغانوين عظيما عند(7/90)
التّتار يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره، وكان بطلا شجاعا مقداما خبيرا بالحروب وافتتاح الحصون والاستيلاء على الممالك، وهو الذي فتح معظم بلاد العجم والعراق.
وكان هولاكو ملك التتار يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرّك برأيه. يحكى عنه عجائب فى حروبه، وكانت مقتلته فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان فى المصافّ على عين جالوت.
قلت: إلى سقر وبئس المصير، ولقد استراح الإسلام منه، فإنّه شرّ عصابة على الإسلام وأهله. ولله الحمد على هلاكه.
وفيها توفّى الملك المظفّر أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر غازى بن أبى بكر «1» محمد العادل بن أيّوب صاحب ميّافارقين وتلك البلاد. ملكها فى سنة «2» خمس وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده، [و] دام فى الملك سنين إلى أن جفل من التّتار بعد أن كان يداريهم سنين، وقدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف بدمشق واستنجده على التّتار فوعده الناصر بالنّجدة، وآخر الأمر أنّه رجع إلى بلاده، وحصره التّتار بها نحو سنتين حتّى استشهد بأيديهم- رحمه الله تعالى وعفا عنه-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى واستشهد بحلب خلائق لا يحصون؛ منهم، إبراهيم بن خليل الأدمىّ. والرئيس أبو طالب عبد الرحمن ابن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن العجمىّ، تحت عذاب التّتار. وبدمشق عبد الله ابن بركات بن إبراهيم [المعروف «3» بابن] الخشوعىّ فى صفر. والعماد عبد الحميد بن عبد الهادى المقدسىّ فى شهر ربيع الأوّل عن خمس وثمانين سنة. والملك المعظّم(7/91)
توران شاه ابن السلطان صلاح الدين فى شهر ربيع الأوّل، وله إحدى وثمانون سنة.
والشمس محمد بن عبد الهادى أخو العماد بقرية ساوية «1» [من عمل نابلس] شهيدا. وقاضى القضاة صدر الدين أحمد ابن شمس «2» الدين أبى البركات يحيى بن هبة الله بن سنىّ الدولة ببعلبكّ، وقد قارب السبعين «3» فى جمادى الآخرة. وأبو الكرم لاحق بن عبد المنعم الأرتاحىّ «4» بالقاهرة، وله خمس وثمانون سنة. والحافظ المفيد محبّ الدين عبد الله بن أحمد المقدسىّ. والفقيه الكبير أبو عبد الله محمد بن أبى الحسين [أحمد «5» ] بن عبد الله اليونينىّ «6» فى رمضان، وله سبع وثمانون سنة فى المحرّم «7» . والحافظ البليغ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبى بكر القضاعىّ البلنسىّ «8» الكاتب المعروف بالأبّار بتونس مقتولا. والملك الكامل الشهيد ناصر الدين محمد ابن المظفّر شهاب الدين غازى بن العادل. والملك المظفّر الشهيد سيف الدين فطز فى ذى القعدة، فتكوا به فى الرمل. وصاحب الصّبيبة الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل، قتل صبرا يوم عين جالوت بأمر الملك المظفّر. وفى آخرها صاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازى بن أرتق. والملك كتبغانوين رأس التّتار يوم عين(7/92)
جالوت، قتله آقوش «1» الشّمسىّ. وحسام «2» الدين محمد بن أبى علىّ الهذبانىّ نائب السلطنة بمصر. والأمير مجير الدين إبراهيم [بن أبى «3» بكر] بن أبى زكرى بنابلس شهيدا بعد أن قتل جماعة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.(7/93)
ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ «1» على مصر
السلطان الملك القاهر ثم الظاهر ركن الدين أبو الفتوح «2» بيبرس بن عبد الله البندقدارىّ الصالحىّ النّجمىّ الأيّوبىّ التّركىّ، سلطان الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والأقطار الحجازيّة، وهو الرابع من ملوك الترك. مولده فى حدود العشرين وستمائة بصحراء القبجاق «3» تخمينا والقبجاق قبيلة عظيمة فى التّرك، وهو (بكسر القاف «4» وسكون الباء ثانية الحروف وفتح الجيم ثم ألف وقاف ساكنة) ، وبيبرس (بكسر الباء الموحدة ثانية الحروف وسكون الياء المثناة من تحتها ثم فتح الباء الموحدة وسكون الراء والسين المهملتين) ومعناه باللغة التركيّة: أمير فهد. انتهى.
قلت: أخذ بيبرس المذكور من بلاده وأبيع بدمشق للعماد الصائغ. ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحى البندقدارىّ وبه سمّى البندقدارىّ.
قلت: والعجيب أن علاء الدين أيدكين البندقدارىّ المذكور عاش حتّى صار من جملة أمراء الظاهر بيبرس هذا. على ما سيأتى ذكره مفصّلا- إن شاء الله تعالى- حكى شيخ الشيوخ شرف الدين عبد «5» العزيز الأنصارىّ الحموىّ قال:(7/94)
كان الأمير علاء الدين البندقدارىّ الصالحىّ لمّا قبض عليه وأحضر إلى حماة واعتقل بجامع قلعتها اتّفق حضور ركن الدين بيبرس مع تاجر، وكان الملك «1» المنصور (يعنى «2» صاحب حماة) إذ ذاك صبيا وكان إذا أراد شراء رقيق تبصره الصاحبة والدته، فأحضر بيبرس هذا مع آخر فرأتهما من وراء السّتر فأمرت بشراء خشداشه، وقالت: هذا الأسمر لا يكون بينك وبينه معاملة فإنّ فى عينيه شرّا لائحا فردّتهما جميعا؛ فطلب البندقدارىّ الغلامين يعنى بيبرس ورفيقه فاشتراهما وهو معتقل، ثم أفرج عنه فسار إلى مصر؛ وآل أمر ركن الدين إلى ما آل.
وقال الذهبىّ: اشتراه الأمير علاء الدين البندقدارىّ الصالحىّ فطلع بطلا شجاعا نجيبا لا ينبغى [أن] يكون إلّا عند ملك، فأخذه الملك الصالح منه. وقيل: بقى بيبرس المذكور فى ملك البندقدارىّ حتى صادره أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخذ بيبرس هذا فيما أخذه منه فى المصادرة فى شهر شوّال سنة أربع وأربعين وستمائة.
قلت: وهذا القول هو المشهور.
ولمّا اشتراه الملك الصالح أعتقه وجعله من جملة مماليكه، وقدّمه على طائفة الجمداريّة لما رأى من فطنته وذكائه؛ وحضر مع أستاذه الملك الصالح واقعة دمياط.
وقال الشيخ عزّ الدين عمر بن علىّ بن إبراهيم بن شدّاد: أخبرنى الأمير بدر الدين بيسرى «3» الشّمسىّ أنّ مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وستمائة(7/95)
تقريبا. وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أنّ التّتار لمّا أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وستمائة، وبلغهم ذلك، كاتبوا أنس خان ملك أولاق «1» أن يعبروا بحر صوداق «2» إليه ليجيرهم من التّتار، فأجابهم إلى ذلك وأنزلهم واديا بين جبلين، وكان عبورهم إليه فى سنة أربعين وستمائة؛ فلما اطمأنّ بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، فقتل منهم وسبى. قال بيسرى: وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر؛ قال: وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديرا، فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس «3» ثمّ افترقنا واجتمعنا فى حلب فى خان ابن قليج ثم افترقنا؛ فاتّفق أن حمل إلى القاهرة فبيع على الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ وبقى فى يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه فى جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيّوب منه، وذلك فى شوّال سنة أربع وأربعين وستمائة.
قلت: وهذا القول مطابق «4» لقولنا الذي ذكرناه. قال: ثم قدّمه الملك الصالح على طائفة الجمداريّة. انتهى.
وقال غيره: ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب وملك بعده ابنه الملك المعظّم توران شاه وقتل «5» وأجمعوا على الأمير عزّ الدين أيبك التّركمانىّ وولّوه الأتابكيّة،(7/96)
ثم استقلّ بالملك وقتل الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار، ركب الملك الظاهر بيبرس هذا والبحريّة وقصدوا قلعة الجبل؛ فلمّا لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للملك المعزّ أيبك التّركمانى ومهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف [ابن الملك «1» العزيز محمد بن الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب] صاحب الشام. وهم: الملك الظاهر بيبرس هذا، وسيف الدين بلبان الرّشيدىّ، وعزّ الدين أزدمر السّيفىّ، وشمس الدين سنقر الرّومى، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشّمسىّ، وسيف الدين قلاوون الألفى، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم؛ فلمّا شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيّب قلوبهم، فبعثوا فخر «2» الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فخلف الناصر لهم ودخلوا دمشق فى العشر الأخير من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فأكرمهم الملك الناصر صلاح الدين وأطلق للملك الظاهر بيبرس ثلاثين ألف درهم، وثلاثة قطر بغال وثلاثة قطر جمال وملبوسا، وفرّق فى بقيّة الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم. وكتب الملك المعزّ أيبك إلى الملك الناصر يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه الناصر، ودام على إحسانه إليهم. وكان عيّن الناصر لبيبرس إقطاعا بحلب، فطلب الملك الظاهر بيبرس من الملك الناصر أن يعوّضه عمّا كان له بحلب من الإقطاع بجينين «3» وزرعين «4» فأجابه الملك الناصر إلى(7/97)
ذلك؛ فتوجّه بيبرس إليها وعاد، فاستشعر بيبرس من الملك الناصر بالغدر فتوجّه بمن معه ومن تبعه من خشداشيته إلى الكرك، واجتمعوا بصاحب الكرك الملك المغيث «1» عمر بن العادل أبى بكر بن الكامل محمد، فجهّز الملك المغيث عسكره مع بيبرس المذكور، وعدّة من كان جهّزه معه ستّمائة فارس، وخرج من عسكر مصر جماعة لملتقاه؛ فأراد بيبرس كبسهم فوجدهم على أهبة، ثم واقع المصريّين فانكسر ولم ينج منهم إلّا القليل، فالذى نجا من الأعيان: بيبرس وبيليك «2» الخازندار، وأسر بلبان الرّشيدى. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة المعزّ مجملا، ولكن نذكره هنا مفصّلا.
وعاد بيبرس هذا إلى الكرك وأقام بها، فتواترت عليه كتب المصريّين يحرّضونه على قصد الديار المصريّة، وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر. فأخذ بيبرس يطمع الملك المغيث صاحب الكرك فى ملك مصر، ولا زال به حتّى ركب معه بعسكره ونزل غزّة، وندب الملك المعزّ أيبك عسكرا لقتالهم، وقدّم على العسكر المصرىّ مملوكه الأمير قطز والأمير أقطاى المستعرب، وساروا وهرب من عسكر مصر إلى بيبرس والمغيث الأمير عزّ الدين أيبك الرومىّ، والأمير بلبان الكافورىّ «3» والأمير سنقر شاه العزيرى، والأمير أيبك الخواشى «4» ، والأمير بدر الدين برخان «5» ، والأمير بغدى، وأيبك الحموىّ، وجمال الدين هارون القيمرىّ والجميع أمراء، واجتمعوا الجميع مع بيبرس والملك المغيث بعزّة، فقويت شوكتهما بهؤلاء، وساروا الجميع إلى الصالحيّة،(7/98)
ولقوا عسكر مصر يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكر بيبرس والمغيث أوّلا، ثم عادت الكسرة عليهم لثبات قطز المعزّىّ، وهرب الملك المغيث ولحقه بيبرس، وأسر من عسكر بيبرس عزّ الدين أيبك الرومىّ، وركن الدين منكورس «1» الصّيرفىّ، وبلبان الكافورىّ وعزّ الدين أيبك الحموىّ، وبدر الدين بلغان الأشرفى، وجمال الدين هارون القيمرىّ، وسنقر شاه العزيزىّ، وبهاء «2» الدين أيدغدى الإسكندرانىّ، وبدر الدين برخان، وبغدى، وبيليك الخازندار «3» الظاهرىّ فضربت [أعناق «4» ] الجميع صبرا، ما خلا الخازندار [فإنّ جمال «5» الدين] الجوكندارى «6» شفع فيه، وخيّروه بين المقام والذّهاب فاختار الذّهاب إلى أستاذه، فأطلق وتوجّه إلى أستاذه، ولمّا أن وصل الملك المغيث إلى الكرك حصل بينه وبين ركن الدين بيبرس هذا وحشة؛ وأراد المغيث القبض عليه بعد أمور صدرت، فأحسّ بيبرس بذلك وهرب وعاد إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، بعد أن استحلفه على أن يعطيه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس، وجينين «7» وزرعين «8» فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الناصر فى شهر رجب سنة سبع وخمسين وستّمائة، ومعه الجماعة الذين(7/99)
حلف لهم الملك الناصر أيضا وهم: بيسرى الشّمسىّ وأيتمش «1» السّعدىّ وطيبرس «2» الوزيرىّ وآقوش الرومىّ الدّوادار «3» ، وكشتغدى «4» الشّمسىّ ولاجين الدّرفيل، وأيدغمش الحلبىّ «5» وكشتغدىّ الشرقى «6» وأيبك السيخى «7» وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهرانىّ، وسنجر الباشقردى «8» وسنجر الهمامىّ، وأرسلان الناصرىّ ويكنى الخوارزمىّ، وسيف الدين طمان [الشّقيرى «9» ] ، وأيبك العلائىّ، ولاچين الشّقيرىّ، وبلبان الأقسيسىّ، وعلم الدين سلطان الإلدكزىّ، فأكرمهم الملك الناصر، ووفّى لهم بما حلف، وداموا على ذلك حتّى قبض الأمير قطز على ابن أستاذه الملك المنصور علىّ، وتسلطن وتلقّب بالملك المظفّر قطز، شرع بيبرس يحرّض الملك الناصر على التوجّه إلى الديار المصريّة ليملكها، فلم يجبه، فكلّمه بيبرس فى أن يقدّمه على أربعة آلاف فارس، أو يقدّم عليهم غيره، ويتوجّه بها إلى شطّ الفرات يمنع التّتار من العبور إلى الشام، فلم يمكّنه ابن «10» عمّه الملك الصالح إسماعيل لباطن كان له مع التّتار، قاتله الله! فاستمرّ بيبرس عند الناصر إلى سنة ثمان وخمسين فارقه بمن معه(7/100)
وقصد الشّهرزوريّة «1» وتزوّج منهم؛ ثم أرسل إلى الملك المظّفر قطز من استحلفه له، فحلف قطز. ودخل بيبرس إلى القاهرة فى يوم السبت الثانى والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفّر قطز للقائه وأنزله فى دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب «2» ، فلم تطل مدّته بالقاهرة وتهيّأ الملك المظفّر قطز لقتال التّتار، وسيّر بيبرس هذا فى عسكر أمامه كالجاليش «3» ليتجسّس أخبار التّتار؛ فكان أوّل ما وقعت عينه عليهم ناوشهم بالقتال، فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم بيبرس هذا، يقتل من وجده منهم، إلى حمص؛ ثم عاد فوافى الملك المظفّر قطز بدمشق، وكان وعده بنيابة حلب، فأعطاها قطز لصاحب الموصل، فحقد عليه بيبرس فى الباطن، واتّفق على قتله مع جماعة لمّا عاد الملك المظّفر إلى نحو الديار المصريّة. والذين اتّفقوا معه: بلبان الرّشيدىّ، وبهادر المعزّى، وبكتوت الجوكندار المعزىّ، وبيدغان الرّكنىّ، وبلبان الهارونىّ، وأنص الأصبهانىّ، واتّفقوا الجميع مع بيبرس على قتل الملك المظفّر قطز؛ وساروا معه نحو الديار المصريّة إلى أن وصل الملك المظفّر قطز إلى القصير «4» ، وبقى بينه وبين الصالحيّة مرحلة، ورحل العسكر طالبا الصالحيّة، وضرب دهليز السلطان بها، واتّفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق المظفّر قطز، وساق هؤلاء المتّفقون على(7/101)
قتله معه، فلمّا أبعدوا ولم يبق مع المظفّر غيرهم، تقدّم إليه ركن الدين بيبرس وشفع عنده فى إنسان فأجابه المظفّر، فأهوى بيبرس ليقبّل يده فقبض عليها، وحمل أنص «1» عليه وقد أشغل بيبرس يده وضربه أنص بالسيف، وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنّشّاب إلى أن مات، ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتّى وصلوا إلى الدّهليز السلطانىّ، فنزلوا ودخلوه والأتابك على باب الدهليز فأحبروه بما فعلوا، فقال فارس الدين الأتابك: من قتله منكم؟
فقال بيبرس: أنا؛ فقال: ياخوند، اجلس فى مرتبة السلطنة فجلس؛ واستدعيت العساكر للحلف، وكان القاضى برهان الدين قد وصل إلى العسكر متلقّيا للملك المظفّر قطز، فاستدعى وحلّف العسكر للملك الظاهر بيبرس، وتمّ أمره فى السلطنة وأطاعته العساكر؛ ثم ركب وساق فى جماعة من أصحابه حتّى وصل إلى قلعة الجبل فدخلها من غير ممانع، واستقرّ ملكه. وكانت البلد قد زيّنت للملك المظفّر فاستمرّت الزينة، وكان الذي ركب معه من الصالحيّة إلى القلعة وهم خواصّه من خشداشيته، وهم: فارس الدين الأتابك، وبيسرى، وقلاوون الألفىّ، وبيليك الخازندار، وبلبان الرشيدىّ؛ ثم فى يوم الأحد سابع عشر ذى القعدة وهو صبيحة قتل المظفّر قطز؛ وهو أوّل يوم من سلطنة الظاهر بيبرس جلس بالإيوان من قلعة الجبل.
قلت: ولم يذكر أحد من المؤرّخين لبسه خلعة السلطنة الخليفتى «2» ، ولعلّه اكتفى بالمبايعة والحلف. انتهى.
ولمّا جلس الظاهر بالإيوان رسم أن يكتب إلى الأقطار بسلطنته؛ فأوّل من بدأ به الملك الأشرف صاحب حمص، ثم الملك المنصور صاحب حماة؛ ثم الأمير(7/102)
مظفّر الدين «1» صاحب صهيون «2» ثم إلى الإسماعيليّة، ثم إلى [الملك السعيد المظفّر علاء «3» الدين علىّ بن لؤلؤ] صاحب الموصل الذي صار نائب السلطنة بحلب، ثم إلى من فى بلاد الشام يعرّفهم بما جرى ثم أفرج عمّن بالحبوس من أصحاب الجرائم؛ واقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزّبير «4» على الوزارة، وتقدّم بالإفراج عن الأجناد المحبوسين والإنعام عليهم، وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء وخلع عليهم، وسيّر الأمير جمال الدين آقوش المحمّدى بتواقيع للامير سنجر الحلبى نائب دمشق، فتوجّه إليه فوجده قد تسلطن بدمشق ودعا لنفسه، وحلّف الأمراء، وتلقّب بالملك المجاهد؛ فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس وأخذ فى إصلاح أمره معه والإحسان إلى خشداشيته البحريّة الصالحيّة؛ وأمّر أعيانهم. ثم إنّه أخرج الملك المنصور نور الدين عليّا ابن الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ وأمّه وأخاه ناصر الدين قاقان من مصر إلى بلاد الأشكرى «5» ، وكانوا معتقلين بقلعة الجبل.
وكان بيبرس لمّا تسلطن لقّب نفسه الملك القاهر، فقال الوزير زين الدين يعقوب بن الزّبير، وكان فاضلا فى الأدب والترسّل وعلم التاريخ، فأشار بتغيير هذا اللّقب، وقال: ما لقّب به أحد فأفلح: لقّب به القاهر «6» بن المعتضد، فلم تطل مدّته(7/103)
وخلع من الخلافة وسمل، ولقّب به القاهر «1» ابن صاحب الموصل فسمّ، فأبطل بيبرس اللّقب الأوّل، وتلقّب بالملك الظاهر.
وأمّا أمر دمشق ففى العشر الأخير من ذى القعدة أمر الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الذي تسلطن بدمشق بتجديد عمارة [قلعة «2» ] دمشق، وزفّت بالمغانى والطبول والبوقات، وفرحت أهل دمشق بذلك، وحضر كبراء الدولة وخلع على الصّناع والنقباء، وعمل «3» الناس فى البناء حتّى النساء؛ وكان يوم الشروع فى تجديدها يوما مشهودا، ثم فى اليوم الأوّل من العشر الأوّل من ذى الحجّة دعا الأمير علم الدين سنجر الحلبى الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه، وحضر الجند والأكابر وحلفو له ولقّب بالملك المجاهد، وخطب له على المنابر، وضربت السّكّة باسمه؛ وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع، وقال: أنا مع من يملك الديار المصريّة كائنا من كان.
ولمّا صحّ عند التّتار قتل الملك المظفّر قطز- رحمه الله تعالى- وكان النائب ابن صاحب الموصل أساء السيرة فى الجند والرعيّة، فاجتمع رأى الأمراء والجند بحلب على قبضه وإخراجه من حلب، وتحالفوا على ذلك، وعيّنوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندارىّ العزيزىّ، فبينا هم على ذلك وردت عليهم بطاقة نائب البيرة «4» يخبر أنّ التّتار قاربوا البيرة لمحاصرتها، واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر، وكان التّتار قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها، وهى مكشوفة من جميع(7/104)
جهاتها، فجرّد الملك السعيد ابن صاحب الموصل الذي هو نائب حلب عسكره إليها، وقدّم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصرىّ، فحضر الأمراء عنده، وقالوا له: هذا العسكر الذي جرّدته لا يمكنه ردّ العدوّ، ونخاف أن يحصل النّشوب بيننا وبين العدوّ، وعسكرنا قليل فيصل العدوّ إلى حلب، ويكون ذلك سببا لخروجنا منها فلم يقبل منهم، فخرجوا من عنده وهم غضبانون، وسار العسكر المذكور إلى البيرة فى قلّة. فلّما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتار بجموعهم، فاقتتلوا قتالا شديدا وقصد سابق الدين البيرة، فتبعه التّتار وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، وما سلم منهم إلّا القليل؛ وورد هذا الخبر لحلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلّا القليل، وندم الملك السعيد نائب حلب على مخالفة الأمراء، وقوى بذلك غضبهم عليه وقاطعوه، ووقعت بطاقة نائب البيرة، فيها: أنّ التّتار توجّهوا إلى ناحية منبج «1» ، فخرج نائب حلب وضرب دهليزه بباب إله «2» شرقىّ حلب، وبعد يومين وصل الأمير عزّ الدين أزدمر الدّاودار العزيزىّ، وكان قطز قد جعله نائبا باللّاذقيّة «3» وجبلة «4» ، فقصده خشداشيته بحلب؛ فلمّا قرب ركبت العزيزيّة والناصرية والتقوا به، فأخبرهم بأنّ الملك المظفّر قطز قتل، وأنّ ركن الدين بيبرس ملك الديار المصريّة، وأنّ سنجر الحلبىّ خطب لنفسه بدمشق، ونحن أيضا نعمل بعمل أولئك، ونقيم واحدا من الجماعة ونقبض على هذا (يعنى على(7/105)
نائب حلب) ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا وابن أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرّر بينهم: أنّه حال دخولهم إلى المخيّم يمضى إليه الأمراء: حسام الدين الجوكندارى، وبكتمر الساقى وأزدمر الدّوادار؛ وكان الملك السعيد نائب حلب نازلا بباب لا فى بيت القاضى، وهو فوق سطحه والعساكر حوله، فعند ما طلعوا إليه وحضروا عنده على السطح شرعت أعوانهم فى نهب وطاقه «1» فسمع الضّجة فاعتقد أنّ التّتار قد كبست العسكر، ثم شاهد نهب العزيزيّة والناصريّة لوطاقه، ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه، فطلب منهم الأمان على نفسه فأمّنوه وشرطوا عليه أن يسلّم إليهم جميع ما حصّله من الأموال، ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة، فما وجدوا فيها طائلا فهدّدوه، وقالوا له: أين الأموال التى حصّلتها؟ وطلبوا قتله، فقام إلى ساحة بستان فى الدار المذكورة وحفر وأخرج الأموال، وهى تزيد على أربعين ألف «2» دينار، ففرّقت على الأمراء على قدر منازلهم، ثمّ رسموا عليه جماعة من الجند وسيّروه إلى قلعة «3» حبسوه بها. ثمّ بعد أيّام قلائل دهم العدوّ حلب، فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندارى المقدّم على عسكر حلب بمن معه إلى جهة دمشق، ودخلت التّتار حلب وأخرجوا من كان فيها إلى ظاهر حلب، ووضعوا السيف فيهم، فقتل بعضهم وفرّ بعضهم، ونزل العسكر الحلبىّ بظاهر حماة، فقام الملك المنصور بضيافتهم، ثمّ تقدّم التّتار إلى حماة، فلمّا قاربوا منها رحل صاحبها الملك المنصور ومعه الجوكندارى بعساكر حلب إلى حمص، ونزل التّتار على حماة فامتنعت عليهم، فاندفعوا من حماة طالبين العسكر، وجفل(7/106)
الناس بين أيدهم، وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، وأقاموا الجميع على حمص حتّى قدم إليهم التّتار فى أوائل المحرّم من سنة تسع وخمسين وستمائة، وكانوا فى ستّة «1» آلاف فارس، فخرج إليهم الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص والجوكندارىّ العزيزىّ بعساكر حلب، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب الأمير بيدرا مقدّم التّتار فى نفر يسير، وكانت الوقعة عند قبر «2» خالد بن الوليد- رضى الله عنه- ثم عاد التتار إلى حلب وفعلوا بأهلها تلك الأفعال القبيحة على عادتهم.
وأمّا الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة فإنّه كاتب أمراء دمشق يستميلهم إليه ويحضّهم على منابذة الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ والقبض عليه، فأجابوه إلى ذلك وخرجوا من دمشق منابذين لسنجر، وفيهم: الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ (أعنى أستاذ الملك الظاهر بيبرس المذكور) الذي قدّمنا من ذكره أنّ الملك الصالح نجم الدين أيّوب اشتراه منه. انتهى. والأمير بهاء الدين بغدى فتبعهم الحلبىّ بمن بقى معه من أصحابه، فحاربوه فهزموه وألجئوه إلى قلعة دمشق فأغلقها دونهم؛ وذلك فى يوم السبت حادى عشر صفر من السنة. ثم خرج الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ تلك الليلة من القلعة وقصد بعلبك، فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفرا من مماليكه؛ فدخل الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ دمشق، واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر بيبرس؛ ثم جهّز عسكرا(7/107)
إلى بعلبكّ لحصار الحلبىّ وعليهم الأمير بدر الدين محمد بن «1» رحال وكان من الشّجعان، وأمير آخر، فحال وصولهما إلى بعلبكّ دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النّوريّة، وكان الحلبىّ لمّا وصلها جعل عنده طائفة كبيرة من أهل محلّه مقدّمهم على بن «2» عبور، فسيّر إليهم الأمير بدر الدين بن رحال وأفسدهم، فتدلّوا من القلعة ليلا ونزلوا إليه، فعند ذلك تردّدت المراسلات بين الحلبىّ وعلاء الدين البندقدارىّ حتّى استقرّ الحال على نزول الحلبىّ وتوجّهه إلى الملك الظاهر بيبرس بمصر، فخرج الحلبىّ من قلعة بعلبكّ راكبا [حصانه «3» و] فى وسطه عدّته وفى قرابه «4» قوسان وهو كالأسد، فجاء حتّى بعد عن القلعة، قدّم له بغلة فتحوّل إليها وقلع العدّة وركبها، وسار حتّى وصل إلى دمشق وسار منها إلى مصر، فأدخل على الملك ليلا بقلعة الجبل، فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه منه وعاتبه عتابا لطيفا؛ ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك.
ثم التفت الملك الظاهر إلى إصلاح مملكته فخلع «5» على الصاحب بهاء الدين على بن «6» حنّا وزير شجرة الدّرّ بالوزارة، وذلك فى شهر ربيع الاوّل من سنة تسع وخمسين، وهى أوّل ولايته للوزر. ثمّ حضر عند الظاهر شخص وأنهى إليه أنّ الأمير عزّ الدين الصّقلىّ «7» يريد الوثوب على السلطان، واتّفق معه الأمير علم الدين سنجر الغتمىّ وبهادر [المعزّىّ «8» ] والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم.(7/108)
ثم تسلّم الملك الظاهر الكرك من نوّاب الملك المغيث فى هذه السنة. ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدى الأشرفىّ بدمشق وحمل إلى القاهرة وحبس بقلعة الجبل إلى أن مات.
ثم جهّز الملك الظاهر عسكرا لخروج التّتار من حلب فساروا إليها وأخرجوهم منها على أقبح وجه، كلّ ذلك والدنيا بلا خليفة من سنة ستّ وخمسين وستمائة.
ففى هذه السنة كان وصول المستنصر بالله الخليفة إلى مصر وبايعه الملك الظاهر بيبرس، وهو أبو القاسم أحمد، كان محبوسا ببغداد مع جماعة من بنى العبّاس فى حبس الخليفة المستعصم، فلمّا ملكت التّتار بغداد أطلقوهم، فخرج المستنصر هذا إلى عرب العراق، واختلط بهم إلى أن سمع بسلطنة الملك الظاهر بيبرس، وفد عليه مع جماعة من بنى مهارش، وهم عشرة أمراء مقدّمهم ابن قسا وشرف «1» الدين ابن مهنّا، وكان وصول المستنصر إلى القاهرة فى ثامن شهر رجب من سنة تسع وخمسين وستمائة؛ فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين بن حنّا وقاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعزّ والشهود والرؤساء والقرّاء والمؤذّنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل فى يوم الخميس؛ فدخل من باب النّصر وشقّ القاهرة، وكان لدخوله يوم مشهود.
فلمّا كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان الملك الظاهر والخليفة بالإيوان وأعيان الدولة بأجمعهم وقرئ نسب الخليفة، وشهد عند القاضى(7/109)
بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع بالخلافة «1» ، وركب من يومه وشقّ القاهرة فى وجوه الدولة وأعيانها، وكان أوّل من بايعه قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ عند ما ثبت نسبه عنده، ثم السلطان، ثم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والوزراء على مراتبهم. والمستنصر هذا هو الثامن والثلاثون من خلفاء بنى العباس- رضى الله عنهم- وهو المستنصر بالله أبو القاسم أحمد الأسمر ابن الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد ابن المستضىء الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله يوسف ابن الخليفة المقتفى لأمر الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بأمر الله عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدى محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عبّاس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. وقد تقدم أنّ الناس كانوا بغير خليفة منذ قتل التّتار ابن أخيه الخليفة المستعصم بالله فى أوائل سنة ست وخمسين وستّمائة إلى يومنا هذا، فكانت مدة شغور الخلافة ثلاث سنين ونصفا والناس بلا خليفة. وكان المستنصر هذا جسيما وسيما شديد السّمرة عالى الهمّة(7/110)
شديد القوّة وعنده شجاعة وإقدام، وهو أخو الخليفة المستنصر ولقّب بلقبه، وهذا لم تجربه العادة من أنّ خليفة يلقّب بلقب خليفة تقدّمه من أهل بيته.
وفى يوم الجمعة سابع عشر الشهر خرج الخليفة المستنصر بالله وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بنى العبّاس، ثم صلّى على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ثم فى مستهلّ شعبان من سنة تسع وخمسين المذكورة تقدّم الخليفة بتفصيل خلعة سوداء وبعمل طوق ذهب وقيد ذهب «1» وبكتابة تقليد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس ونصب خيمة ظاهر القاهرة. فلمّا كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء ووجوه الدولة إلى الخيمة ظاهر القاهرة بقبّة النصر «2» ، فألبس الخليفة السلطان الملك الظاهر بيبرس خلعة السلطنة بيده وطوّقه وقيّده، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتّاب منبرا نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطّه. ثم ركب السلطان بالخلعة والطّوق والقيد ودخل من باب النّصر وقد زيّنت القاهرة له، وحمل الصاحب بهاء الدين التقليد على رأسه راكبا والأمراء يمشون بين يديه؛ فكان يوما يقصر اللسان عن وصفه. ونسخة التقليد:
«الحمد لله الذي أضفى «3» على الإسلام ملابس الشّرف، وأظهر بهجة درره، وكانت خافية، بما استحكم عليها من الصّدف، وشيّد ما وهى من علائه حتّى أنسى ذكر من(7/111)
سلف، وقيّض لنصره ملوكا اتّفق عليهم «1» من اختلف، أحمده على نعمته التى رتعت «2» الأعين منها فى الرّوض الأنف، وألطافه «3» التى وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف؛ وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهّل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أنّ محمّدا عبده الذي جبر من الدّين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنونا لا فنّا، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا فى الدّين فاستحقّوا الزيادة بالحسنى. وبعد: فإنّ أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقّهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبرّه، من سعى فأضحى سعيد «4» الجدّ متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد فى المكرمات إلّا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرم منه نارا وأجراه دما. ولمّا كانت هذه المناقب الشريفة مختصّة بالمقام العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الظاهرىّ الرّكنىّ- شرّفه الله وأعلاه- ذكرها الديوان العزيز النّبوىّ الإمامىّ المستنصرىّ- أعزّ الله سلطانه- تنويها بشريف «5» قدره، واعترافا بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره؛ وكيف لا وقد أقام الدولة العبّاسيّة بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت «6» ما كان لها من محاسن وإحسان؛ وعتب دهرها المسىء لها فأعتب، وأرضى عنها «7» زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب؛ فأعاده لها سلما بعد أن كان(7/112)
[عليها «1» ] حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كلّ متضايق من أمورها واسعا رحبا؛ ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة فى [ثواب «2» ] الله ما لا يخفى؛ وأبدى من الاهتمام بأمر البيعة أمرا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسّك بحبله متمسّك لانقطع به قبل الوصول إليه؛ ولكن الله ادّخر هذه الحسنة ليثقل بها [فى «3» ] الميزان ثوابه، ويخفّف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفّف حسابه! فهذه منقبة أبى الله إلّا أن يخلّدها فى صحيفة صنعه، ومكرمة قضت «4» لهذا البيت الشريف بجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنّه لولا اهتمامك لاتّسع الخرق على الراقع؛ وقد قلّدك الديار المصريّة والبلاد الشاميّة، والديار بكريّة، والحجازيّة واليمنيّة والفراتيّة؛ وما يتجدّد من الفتوحات غورا ونجدا؛ وفوّض أمر جندها ورعاياها إليك حين «5» أصبحت بالمكارم فردا» . ثم أخذ فى آخر التقليد «6» يذكر فضل الجهاد والرفق بالرعيّة وطوّل فى الكلام إلى الغاية. وهذا الذي ذكرناه من نسخة التقليد هو المراد.
ثم إنّ الملك الظاهر ولّى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ «7» نيابة حلب لمّا بلغه أن البرنلى «8» تغلّب على حلب، وسيّر معه عسكرا فسار إليها الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، ودخل إليها وملكها وخرج منها البرنلى وتوجّه إلى الرّقّة؛ ثم حشد وجمع العساكر وأخذ البيرة، ثمّ عاد إلى حلب وأخرج منها الحلبىّ بعد أمور ووقائع جرت بينهم.
فلمّا بلغ الملك الظاهر ذلك عزم على التوجّه إلى البلاد الشاميّة، وبرز من القاهرة(7/113)
ومعه الخليفة المستنصر وأولاد صاحب الموصل، وكان خروجهم الجميع من القاهرة فى تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتّب السلطان الأمير «1» عزّ الدين أيدمر الحلبى نائب السلطنة بقلعة الجبل؛ والصاحب بهاء الدين بن حنّا مدبر الأمور، وخرج مع السلطان العساكر المصريّة وأقام ببركة الجبّ «2» إلى عيد الفطر؛ ثم سافر فى ثالث شوّال بعد ما عزل قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ عن القضاء ببرهان الدين خضر السّنجارىّ، وسار السلطان حتّى دخل دمشق فى يوم الاثنين سابع ذى القعدة، وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف دينار وحملين ثيابا، وزاده على ما بيده من البلاد تلّ «3» باشر؛ ثم قدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثيابا، وكتب له توقيعا ببلاده التى بيده؛ ثم جهّز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته بتجمّل زائد وبرك «4» يضاهى برك السلطان من الأطلاب والخيول والجمال وأرباب الوظائف من الكبير إلى الصغير؛ قيل: إنّ الذي غرمه السلطان الملك الظاهر على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عينا.
ثم جهّز السلطان الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ لنيابة السلطنة بحلب، وأيدكين هذا هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة المقدّم ذكره، فسبحان من يعزّ ويذلّ! وبعث السلطان مع البندقدارىّ عسكر المحاربة البرنلى وصحبته أيضا الأمير بلبان الرّشيدىّ فخرجا من دمشق فى منتصف ذى القعدة؛ فلمّا وصلا حماة خرج البرنلى وقصد حرّان فتبعه الرشيدىّ بالعساكر، ودخل علاء الدّين البندقدارىّ(7/114)
إلى حلب؛ ثم عاد الرّشيدىّ إلى أنطاكية ثم رحل عنها بعد ما حاصرها مدّة لمّا بلغه عود الملك الظاهر إلى مصر.
وأمّا الخليفة فإنّه لمّا توجّه نحو العراق ومعه أولاد صاحب الموصل، وهم:
الملك «1» الصالح وولده علاء الدين «2» والملك «3» المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة، والملك المظفّر «4» علاء الدّين صاحب سنجار، والملك الكامل ناصر الدين محمد؛ فلمّا وصلوا صحبة الخليفة إلى الرّحبة وافوا عليها الأمير يزيد بن علىّ بن حديثة «5» أمير آل فضل وأخاه الأخرس فى أربعمائة فارس من العرب. وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرّحبة؛ وكان الخليفة طلب منهم المسير معه فأبوا، وقالوا: ما معنا مرسوم بذلك، وأرسلوا معه من مماليك والدهم نحو ستّين نفرا فانضافوا إليه، ولحقهم الأمير عز الدين أيدكين «6» من حماة ومعه ثلاثون فارسا. ورحل الخليفة بمن معه من الرّحبة بعد ما أقام بها ثلاثة أيّام، ونزل مشهد علىّ- رضى الله عنه- ثم رحل إلى قائم «7» عنقه، ثم إلى عانة «8» فوافوا الإمام الحاكم بأمر الله العبّاسىّ على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التّركمان. وكان البرنلى قد جهّزه من حلب، فبعث الخليقة المستنصر بالله إليهم واستمالهم؛ فلمّا جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث إليه المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمّنه على نفسه ويرغّب إليه فى اجتماع الكلمة،(7/115)
فأجاب ورحل إليه، فوفّى إليه المستنصر وأنزله معه فى الدّهليز. وكان الحاكم لمّا نزل على عانة امتنع أهلها منه، وقالوا: قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلّمها إلّا إليه؛ فلمّا وصل المستنصر بالله إليها نزل إليه نائبها وكريم الدين ناظرها وسلّماها إليه وحملا له إقامة، فأقطعها الخليفة للأمير ناصر الدين أغلمش «1» أخى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ. ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له، فجعلها خاصّا له، ثم رحل عنها ونزل على شطّ قرية الناووسة «2» ؛ ثم رحل عنها قاصدا هيت «3» ، ولمّا اتّصل مجىء الخليفة المستنصر بالله بقرابغا مقدّم عسكر التّتار بالعراق، وبهادر «4» علىّ الخوارزمىّ شحنة بغداد وخرج قرابغا بخمسة آلاف فارس من التّتار على الشطّ العراقى وقصد الأنبار، فدخلها إغارة؛ وقتل جميع من فيها، ثم ردفه الأمير بهادر علىّ الخوارزمىّ بمن بقى ببغداد من عساكر التّتار، وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوّقا لما يرد من أخبار المستنصر، وقرّر معه أنّه إذا اتّصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشطّ الآخر وأحرقها؛ فلمّا وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه، فنزل عليها وحاصرها حتّى فتحها، ودخلها فى التاسع والعشرين من ذى الحجّة، ونهب من فيها من اليهود والنّصارى؛ ثم رحل عنها ونزل الدور «5» وبعث طليعة من عسكره مقدّمها الأمير أسد الدين محمود ابن الملك المفضّل موسى، فبات تجاه الأنبار «6» تلك اللّيلة، وهى ليلة الأحد ثالث المحرّم من سنة ستين وستمائة؛ فلمّا رأى قرابغا(7/116)
الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها فى المخائض والمراكب ليلا، فلمّا أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد ناحية.
وأمّا الخليفة فإنّه رتّب اثنى عشر طلبا، وجعل التّركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقى العساكر قلبا؛ ثم حمل بنفسه مبادرا وحمل من كان معه فى القلب فآنكسر بهادر، ووقع معظم عسكره فى الفرات؛ ثم خرج كمين من التّتار، فلمّا رآه التّركمان والعرب هربوا، وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة، فأفرج لهم التّتار، فنجا الحاكم وشرف «1» الدين بن مهنّا وناصر الدين بن صيرم وبوزنا «2» وسيف الدين بلبان الشّمسى وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفرا، وقتل الشريف نجم الدين [جعفر «3» ] أستادار الخليفة، وفتح الدين بن الشهاب أحمد، وفارس الدين «4» [أحمد «5» ] بن أزدمر اليغمورىّ، ولم يوقع للخليفة المستنصر على خبر، فقيل إنّه: قتل فى الوقعة وعفّى أثره؛ وقيل: إنّه نجا مجروحا فى طائفة من العرب فمات عندهم؛ وقيل: سلم وأضمرته البلاد.
وأمّا السلطان الملك الظاهر بيبرس فإنّه لمّا عاد إلى مصر عاد بعده بلبان الرشيدىّ فى أثره وعاد البرنلى إلى حلب ودخلها وملكها، فجرّد إليه الملك الظاهر عسكرا ثانيا، عليهم الأمير شمس الدين سنقر الرومىّ، وأمره بالمسير إلى حلب؛ ثمّ إلى الموصل وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما حيث توجّه يتوجّه الجميع، فسار الجميع إلى جهة حلب، فخرج البرنلى من حلب وتسلّم نوّاب أيدكين(7/117)
البندقدارىّ حلب. ثم جاء مرسوم السلطان بتوجّه البندقدارىّ إلى حلب، ويعود طبيرس إلى دمشق ويعود سنقر الرومىّ إلى مصر، فعاد الرومىّ إلى القاهرة. فلمّا اجتمع بالسلطان أوغر خاطره على طبيرس، فكان ذلك سببا للقبض على طبيرس المذكور وحبسه بالقاهرة مدّة سنين.
ثم وصل إلى الديار المصريّة فى السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر «1» الإمام الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد ابن الأمير أبى علىّ الحسن ابن الأمير أبى بكر بن الحسن «2» بن علىّ القبّى «3» ابن الخليفة المسترشد بالله أبى منصور الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد العبّاسىّ.
قلت: ومن المستظهر يعرف نسبه من ترجمة المستنصر وغيره من أقاربه إلى العبّاس. ووصل صحبته شمس الدين صالح بن محمد بن أبى الرشيد الأسدىّ الحاكمىّ المعروف بابن البنّاء وأخوه محمد ونجم الدين محمد، واحتفل الملك الظاهر بيبرس بلقائه وأنزله بالبرج «4» الكبير داخل قلعة الجبل، ورتّب له ما يحتاج إليه، ووصل معه ولده. وبايعه بالخلافة فى يوم الخميس تاسع المحرّم من سنة إحدى وستين بقلعة الجبل. وكانت المسلمون بلا خليفة منذ استشهد الخليفة المستنصر بالله فى أوائل(7/118)
السنة الحالية «1» ، وجلس السلطان بالإيوان لبيعته وحضر القضاة والأعيان وارباب الدولة، وقرئ نسبه على قاضى القضاة وشهد عنده جماعة بذلك، فأثبته ومدّ يده وبايعه بالخلافة، ثم بايعه السلطان ثم الوزير ثم الأعيان على طبقاتهم، وخطب له على المنابر، وكتب السلطان إلى الأقطار بذلك وأن يخطبوا باسمه، وأنزل إلى مناظر «2» الكبش فسكن بها إلى أن مات فى ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن بجوار السيّدة نفيسة، وهو أوّل خليفة مات بالقاهرة من بنى العبّاس حسب ما يأتى ذكره- إن شاء الله تعالى- فى محلّه بأوسع من هذا.
وأمّا الملك الظاهر فإنّه تجهّز للسفر إلى البلاد الشاميّة، وخرج من الديار المصريّة فى يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وستين وستمائة.
وفى هذه السّفرة قبض على الملك المغيث صاحب الكرك الذي كان معه تلك الأيّام على قتال المصريين وغيرهم، ولما قبض عليه الظاهر بعث به إلى قلعة الجبل صحبة الأمير آق سنقر «3» الفارقانىّ، فوصل به إلى القاهرة فى يوم الأحد خامس عشر(7/119)
جمادى الآخرة، فكان ذلك آخر العهد به. ثمّ عاد الملك الظاهر إلى الديار المصريّة فى يوم السبت سادس عشر شهر رجب. ولمّا دخل إلى القاهرة قبض على الأمير بلبان الرشيدى وأيبك الدّمياطى وآقوش البرنلى.
ثم فى هذه السنة شرع الملك الظاهر فى عمارة المدرسة «1» الظاهريّة ببين القصرين، وتمّت فى أوائل سنة اثنتين وستين وستمائة. ورتّب فى تدريس الإيوان القبلىّ القاضى تقىّ الدين محمد بن الحسين «2» بن رزين الشافعى، وفى تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضى مجد الدين عبد «3» الرحمن بن العديم، والحافظ شرف «4» الدين الدّمياطى لتدريس الحديث فى الإيوان الشرقىّ، والشيخ كمال الدين المحلّى «5» فى الإيوان [الذي] يقابله(7/120)
لإقراء القرآن بالروايات والطرق؛ ثم رتّب جماعة يقرءون السبع بهذا الإيوان أيضا بعد صلاة الصبح، ووقف بها خزانة كتب، وبنى إلى جانبها مكتبا لتعلم الأيتام وأجرى عليهم الخبز فى كلّ يوم، وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطّهارة؛ وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد ثالث «1» عشر صفر من سنة اثنين وستين، وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنّا، والأمير جمال الدين بن يغمور؛ والأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ وغيرهم من الأعيان.
وفى سنة إحدى وستين أيضا تسلّم الأمير بيليك العلائىّ حمص بعد وفاة صاحبها الملك الأشرف الأيّوبى. ثم أمر الملك الظاهر أيضا بإنشاء خان فى القدس الشريف للسبيل، وفوّض بناءه ونظره إلى الأمير جمال الدين محمد بن نهار «2» ؛ ولمّا تمّ الخان المذكور أوقف عليه قيراطا ونصفا بالمطر «3» ، وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصرى «4» ، ونصف قرية لبنى «5» ، يصرف ريع ذلك فى خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين المشاة. وبنى له طاحونا وفرنا، واستمر ذلك كلّه.
ثم ولّى الملك الظاهر فى سنة ثلاث وستين وستمائة فى كلّ مذهب قاضيا مستقلّا بذاته، فصارت قضاة القضاة أربعة، وسبب «6» ذلك كثرة توقّف قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ فى تنفيذ الأحكام، وكثرة الشكاوى منه بسبب ذلك. فلمّا كان يوم الاثنين ثانى عشر ذى الحجّة شكا «7» القاضى المذكور الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ فى المجلس، وكان يكره القاضى تاج الدين(7/121)
المذكور؛ فقال أيدغدى بحضرة السلطان: يا تاج الدين، نترك مذهب الشافعىّ لك، ونولّى معك من كلّ مذهب قاضيا، فمال الملك الظاهر إلى كلامه، وكان لأيدغدى منه محلّ عظيم؛ فولّى السلطان الشيخ صدر «1» الدين سليمان الحنفى قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصريّة، وكان للقضاة الحنفيّة أزيد من ثلثمائة سنة من أوّل الدولة الفاطميّة قد بطل حكمهم من ديار مصر استقلالا عند ما أبطل الفاطميّون القضاة من سائر المذاهب، وأقاموا قضاة الشّيعة بمصر. انتهى. وولىّ القاضى شرف «2» الدين عمر السّبكىّ المالكىّ قاضى قضاة المالكيّة. وولّى الشيخ شمس «3» الدين محمد ابن الشيخ العماد الحنبلى قاضى القضاة الحنابلة، وفوّض لكلّ واحد منهم أن يستنيب بالأعمال وغيرها؛ وأبقى على تاج الدين النّظر فى مال الأيتام، وكتب لهم التقاليد وخلع عليهم؛ ثم فعل ذلك ببلاد الشام كلّه.
قلت: وقد جمعت أسماء من ولى القضاء من المذاهب الأربعة من يوم رتّب الملك الظاهر بيبرس القضاة (أعنى من سنة ثلاث وستين وستمائة) إلى يومنا هذا على الترتيب على سبيل الاختصار لتكثر الفائدة فى هذا الكتاب، وإن كان يأتى ذكر غالبهم فى الوفيات فى حوادث الملوك على عادة هذا الكتاب، فذكرهم هنا جملة أرشق وأهون على من أراد ذلك، والله المستعان. فنقول:(7/122)
[ذكر قضاة الشافعيّة]
كان قاضى قضاة الشافعيّة يوم ذاك القاضى تاج «1» الدين عبد الوهاب، وهى ولايته الثانية؛ وتوفّى سنة خمس وستين وستمائة. ثم القاضى تقىّ الدين محمد «2» بن رزين العامرىّ «3» سنة خمس وستين وستمائة، ومولده فى شعبان سنة ثلاث وستمائة، وتوفّى ثالث رجب سنة ثمانين وستمائة. ثم القاضى صدر «4» الدين عمر بن عبد الوهاب بن بنت الأعزّ سنة ثمان وسبعين وستمائة. ثم أعيد القاضى تقىّ الدين محمد بن رزين سنة تسع وسبعين وستمائة. ثمّ القاضى وجيه «5» الدين عبد الوهّاب البهنسىّ سنة ثمانين وستمائة. ثم القاضى تقىّ «6» الدين عبد الرحمن ابن القاضى تاج الدين عبد الوهّاب بن بنت الأعزّ سنة خمس وثمانين وستمائة. ثم القاضى بدر «7» الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموىّ الكنانىّ سنة تسعين وستمائة. ثم أعيد القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن بن بنت الأعزّ فى صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة. ثم ولى القاضى تقىّ «8» الدين محمد بن على بن دقيق العيد سنة خمس وتسعين وستمائة، ومولده فى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، وتوفّى سنة اثنتين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الحموىّ فى سنة أربع وسبعمائة. ثمّ ولى القاضى جمال «9» الدين(7/123)
سليمان بن عمر الزّرعىّ سنة عشر وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة سنة إحدى عشرة وسبعمائة. ثم ولى القاضى جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزوينىّ سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وتوفّى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى القاضى «1» عزّ الدين عبد العزيز ابن القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الحموىّ سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بهاء الدين عبد الله [بن عبد الرحمن «2» ] ابن عقيل سنة تسع وخمسين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى عزّ الدين عبد العزيز بن جماعة سنة تسع وخمسين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بهاء الدين «3» محمد أبو البقاء بن عبد البرّ السّبكىّ فى سنة ست وستين وسبعمائة. ثم ولى القاضى برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم [بن محمد «4» بن إبراهيم بن سعد الله] بن جماعة سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بدر الدين «5» محمد بن بهاء الدين محمد بن عبد البرّ السّبكىّ فى صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى برهان الدين إبراهيم بن جماعة سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء السّبكىّ فى صفر سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ثم ولى القاضى ناصر الدين محمد [بن عبد الدائم ابن «6» محمد بن سلامة] ابن بنت الميلق فى شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وامتحن وعزل. ثم ولى القاضى صدر الدين «7» محمد بن إبراهيم السلمىّ المناوىّ فى ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء(7/124)
السّبكىّ سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى عماد الدين أحمد «1» الكركىّ فى رجب [سنة «2» اثنتين وتسعين، ثم عزل فى ذى الحجّة] سنة أربع وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوىّ فى شعبان سنة خمس «3» وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء السّبكىّ فى شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين محمد ابن إبراهيم المناوىّ فى شعبان سنة سبع وتسعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى تقىّ «4» الدين الزّبيرىّ فى جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين المناوىّ فى شهر رجب سنة إحدى وثمانمائة. ثم ولى القاضى ناصر الدين «5» الصّالحىّ فى سلخ شعبان سنة ثلاث وثمانمائة. ثم ولى القاضى جلال الدين عبد الرحمن بن عمر ابن رسلان بن نصير البلقينىّ «6» فى جمادى الأولى سنة أربع وثمانمائة فى حياة والده.
ثم أعيد القاضى ناصر الدين الصالحى فى شوّال سنة خمس وثمانمائة، ومات فى المحرّم سنة ست وثمانمائة «7» . ثم ولى القاضى شمس الدين محمد الإخنائىّ «8» فى شهر الله المحرّم سنة ستّ وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وثمانمائة، ومولده سنة إحدى «9» وستين وسبعمائة؛ وهكذا حكى لى(7/125)
من لفظه،- رحمه الله- وتوفّى بالقاهرة فى شوّال سنة أربع وعشرين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى شمس الدين محمّد الإخنائىّ فى شهر شعبان سنة ستّ وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ فى ذى الحجّة من سنة ست وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى شمس الدين الإخنائى فى ثانى عشرين جمادى الأولى سنة سبع وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى ثالث عشر ذى القعدة سنة سبع وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شمس الدين محمد الإخنائى فى حادى عشر صفر سنة ثمان وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى خامس شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانمائة، وهى ولايته الخامسة، ولم يزل فى هذه المرة قاضيا إلى أن توجّه صحبة الملك الناصر فرج إلى الشام سنة أربع عشرة وثمانمائة. ثم عزل بالقاضى شهاب الدين أحمد الباعونىّ «1» بدمشق فى المحرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ المذكور فى أوّل صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة، فاستمرّ فى القضاء إلى آخر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. ثم عزل بالقاضى شمس الدين محمد الهروىّ «2» فى سلخ جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، واستمرّ إلى أن مات فى شوّال كما تقدّم ذكره.
قلت: وقاضى القضاة جلال الدين المذكور هو صهرى وزوج كريمتى، ومات عنها. رحمهما الله تعالى وعفا عنهما.(7/126)
ثم ولى القاضى ولىّ الدين أحمد «1» ابن الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقىّ فى شوّال سنة أربع وعشرين وثمانمائة. ثم ولى القاضى علم الدين «2» صالح بن عمر البلقينىّ فى يوم السبت سادس ذى الحجّة سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ثم ولى القاضى شهاب الدين «3» أحمد بن علىّ بن حجر فى سابع عشرين المحرّم سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شمس الدين الهروىّ فى سابع ذى القعدة سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى ثانى رجب سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى خامس عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى رابع عشرين جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى خامس شوّال سنة أربعين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى يوم الثلاثاء سادس شوّال سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
ثم ولى القاضى شمس «4» الدين محمد القاياتىّ فى يوم الخميس رابع عشر المحرّم سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ومات فى ثامن عشرين المحرّم سنة خمسين وثمانمائة- رحمه الله تعالى- ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى خامس صفر سنة خمسين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى يوم السبت مستهلّ سنة إحدى وخمسين(7/127)
وثمانمائة. ثم ولى القاضى ولىّ «1» الدين محمد السّفطىّ فى يوم الخميس خامس عشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى ثامن شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، ثم عزل نفسه ومات معزولا- رحمه الله تعالى-. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى سادس عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة. ثم ولى القاضى شرف «2» الدين يحيى المناوىّ فى يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى يوم السبت ثامن عشرين صفر سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
ذكر القضاة الحنفيّة
فالذى ولى أوّلا قاضى القضاة صدر «3» الدين سليمان. ثمّ من بعده قاضى القضاة معزّ الدين النّعمان بن الحسن [بن «4» يوسف] إلى أن توفّى فى سابع عشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وستمائة. ثم ولى قاضى القضاة شمس الدين أحمد «5» السّروجىّ فاستمرّ إلى أن تسلطن الملك المنصور لاچين عزله. ثم ولى قاضى القضاة «6» حسام الدين الرازىّ فاستمرّ إلى أن قتل لاچين، نقل إلى قضاء دمشق سنة(7/128)
ثمان وتسعين. ثم أعيد شمس الدين السّروجىّ، ثمّ عزل أوّل شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة شمس «1» الدين محمد الحريرىّ إلى أن مات يوم السبت رابع جمادى الآخرة- رحمه الله- سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم «2» بن عبد الحقّ إلى أن عزل يوم الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة حسام «3» الدين الغورىّ إلى أن كانت واقعة الأمير قوصون نهبوا الرسل والعامّة بيته وطلبوه ليقتلوه فهرب. ثم ولى بعده قاضى القضاة «4» زين الدين عمر البسطامىّ فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة إلى أن عزل فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة علاء «5» الدين التّركمانىّ فى جمادى منها إلى أن توفّى عاشر المحرّم سنة خمسين. فولى بعده ولده قاضى القضاة جمال الدين عبد الله ابن التّركمانىّ إلى أن مات فى شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة. فولى بعده قاضى القضاة سراج الدين عمر «6» الهندىّ إلى أن مات فى شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، ثم ولى بعده قاضى القضاة صدر «7» الدين بن جمال الدين التّركمانىّ إلى أن(7/129)
مات فى ذى القعدة سنة ست وسبعين. فوليها بعده قاضى القضاة «1» نجم الدين بن الكشك، طلب من دمشق فى المحرّم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، ثم عزل عنها.
وتولى من بعده قاضى القضاة صدر «2» الدين علىّ بن أبى العز الأذرعىّ، ثم اعتفى عنها.
فتولّاها قاضى القضاة شرف الدين أبو العبّاس أحمد [بن «3» علىّ] بن منصور فى سنة سبع وسبعين، فاستمرّ إلى سادس عشرين شهر رجب عزل. ثم تولّاها بعده قاضى «4» القضاة جلال الدين جار الله، فاستمر قاضيا إلى أن مات فى يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. فتولى بعده قاضى القضاة صدر الدين محمد بن علىّ بن منصور فى شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، فاستمرّ إلى أن مات فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وثمانين وسبعمائة. فتولّاها بعده قاضى القضاة شمس الدين محمد «5» بن أحمد بن أبى بكر الطّرابلسىّ، فاستمرّ إلى بعد فتنة الأتابك «6» يلبغا الناصرىّ ومنطاش «7» مع الظاهر برقوق سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة عزل عنها. ثم تولّاها قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم [بن محمد «8» بن علىّ بن موسى] الكنانىّ، أقام فيها قليلا ثمّ عزل. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة جمال الدين محمود [بن «9» محمد بن علىّ بن عبد الله] القيصرىّ العجمىّ مضافا لنظر(7/130)
الجيش، فاستمرّ إلى أن مات فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة شمس الدين الطّرابلسىّ ثانيا فى الشهر والسنة، فاستمرّ إلى أن مات فى آخر السنة المذكورة. وتولّى بعده قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى الملطىّ الحلبىّ فى يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر [سنة «1» ثمانمائة] ، طلب من حلب واستمرّ إلى أن مات فى ليلة الاثنين تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة. وتولّاها من بعده قاضى القضاة أمين «2» الدين عبد الوهّاب ابن القاضى شمس الدين الطرابلسىّ فى يوم الخميس ثانى عشر جمادى الآخرة من السنة، فاستمرّ إلى سادس عشرين شهر رجب سنة خمس وثمانمائة، عزل. فتولّاها من بعده قاضى «3» القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحلبى، واستمرّ إلى أن مات فى ليلة السبت ثانى عشر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثمانمائة، ومولده بحلب سنة إحدى «4» وسبعين وسبعمائة. فتولّاها من بعده ابنه القاضى ناصر الدين «5» محمد فى يوم الاثنين رابع عشر الشهر المذكور مضافا لمشيخة الشّيخونيّة «6» ، واستمرّ إلى أن صرف. وأعيد القاضى أمين الدين الطرابلسى ثانيا فى رابع عشرين(7/131)
شهر رجب من سنة إحدى عشرة وثمانمائة، فاستمرّ القاضى أمين الدين إلى سابع المحرّم من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة صرف. وأعيد قاضى القضاة ناصر الدين ابن العديم ثانيا؛ واستقرّ القاضى أمين الدين الطرابلسىّ فى مشيخة الشّيخونيّة عوضا عن ناصر الدين بن العديم المذكور.
قلت: وناصر الدين المذكور هو صهرى زوج كريمتى. انتهى.
واستمرّ ناصر الدين بن العديم إلى أن عزل، فتولّاها قاضى القضاة صدر الدين علىّ [بن محمد «1» بن محمد المعروف با] بن الأدمىّ الدّمشقىّ فى سنة خمس عشرة وثمانمائة، واستمرّ إلى أن مات فى يوم السبت ثامن شهر رمضان من سنة ست عشرة وثمانمائة.
ثم أعيد ناصر الدين بن العديم ثالثا، فاستمرّ إلى أن مات فى ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثمانمائة، وشغرت الوظيفة الى أن طلب الملك المؤيّد شيخ شمس الدين محمد «2» الدّيرىّ من القدس، وقدم القاهرة فى ثالث عشر جمادى الأولى من سنة تسع عشرة المذكورة، ونزل بقاعة الحنفيّة بالمدرسة الصالحيّة «3» إلى أن استقرّ فى القضاء يوم الاثنين سابع عشره، واستمرّ إلى أن عزل برغبة منه.(7/132)
وتولّاها من بعده قاضى القضاة «1» زين الدين عبد الرحمن التّفهنىّ فى يوم الجمعة سادس ذى القعدة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، واستمرّ إلى أن عزل. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة «2» بدر الدين محمود العينى فى يوم الخميس سابع عشرين شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة، واستقرّ التّفهنىّ المذكور فى مشيخة خانقاه شيخون، بعد موت شيخ الإسلام سراج «3» الدين عمر قارئ «الهداية» ، واستمرّ العينىّ إلى أن عزل.
ثم أعيد التّقهنىّ فى يوم الخميس سادس عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، فدام إلى أن صرف لطول مرضه. ثم أعيد قاضى القضاة العينى ثانيا فى سابع عشرين جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، فاستمرّ العينىّ إلى أن صرف فى دولة الملك العزيز «4» يوسف ابن الملك الأشرف برسباى بقاضى القضاة سعد الدين سعد «5» ابن القاضى شمس الدين محمد بن الدّيرىّ فى أوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة «6» ...
قلت: وهؤلاء القضاة الذين استجدّهم الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ.
حسب ما ذكرناه فى أوّل الترجمة. وذلك بعد انقضاء الدولة الأيّوبيّة. وأمّا قبل خراب الديار المصرية فى الدّولة العبيديّة فكانت قضاة الحنفيّة هم حكّام مصر بل حكّام المشرق والمغرب إلى حدود نيّف وأربعمائة، لمّا حمل المعزّ بن باديس الناس(7/133)
ببلاد المغرب على اتّباع مذهب الإمام مالك- رضى الله عنه- ثم ملكت العبيديّة مصر فمحوا آثار السّنّة وولّوا قضاة الشّيعة وبطل الأربعة مذاهب من مصر إلى أن زالت دولتهم وتولّى السلطان صلاح يوسف بن أيّوب- رحمه الله- فولّى قاضيا شافعيّا فقط كونه كان شافعيّا، وأذهب الرافضة، واستمرّ ذلك نحو تسعين سنة حتّى ولى الملك الظاهر بيبرس فجدّد المذاهب الثلاثة كما سقناه. انتهى.
ذكر القضاة المالكيّة
فالذى كان أوّلهم ولاية فى دولة الظاهر بيبرس هو القاضى شرف الدين «1» عمر السّبكىّ المالكىّ تغمّده الله برحمته وجميع المسلمين «2» ...
ذكر قضاة الحنابلة
فالذى ولّاه الملك الظاهر بيبرس هو قاضى القضاة شمس الدين أبو بكر «3» محمد الجمّاعيلىّ الحنبلىّ إلى أن امتحن وصرف فى ثانى شعبان سنة سبعين وستمائة، ولم يل بعد عزله بالقاهرة أحد من الحنابلة حتى توفّى شمس الدين المذكور فى يوم الخميس فى العشر الأوّل من المحرّم سنة ست وسبعين. ثم ولى بعده قاضى القضاة عزّ الدين(7/134)
عمر بن عبد الله [بن عمر «1» ] بن عوض فى النصف من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين، فاستمرّ حتى مات سنة ستّ وتسعين وستمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة شرف الدين أبو محمد «2» عبد الغنى الحرّانىّ إلى أن مات فى رابع عشرين شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثىّ «3» فى ثالث شهر ربيع الآخر من السنة، وعزل بعد سنتين ونصف بقاضى القضاة تقىّ الدين «4» ابن قاضى القضاة عزّ الدين عمر فى حادى عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، بعد ما شغر منصب القضاء ثلاثة أشهر، فلم تطل «5» أيّامه وعزل بقاضى القضاة موفّق الدين عبد الله بن محمد بن عبد الملك المقدسىّ فى نصف جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فدام فى المنصب إلى أن مات فى المحرّم سنة تسع وستين وسبعمائة. ثم تولّى عوضه قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد العسقلانىّ حتّى مات فى ليلة الحادى والعشرين من شهر شعبان سنة خمس وتسعين وسبعمائة. ثم تولّى بعده ابنه قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن نصر الله حتّى مات فى ثامن شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة. ثم تولّى عوضه أخوه قاضى القضاة موفّق الدين أحمد بن نصر الله، فدام حتّى صرف بقاضى القضاة نور الدين علىّ [بن خليل «6» بن علىّ بن أحمد بن عبد الله] الحكرىّ، فلم تطل مدّة الحكرىّ(7/135)
وصرف. ثم أعيد موفّق الدين فاستمرّ إلى أن مات فى سنة ثلاث وثمانمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة مجد الدين سالم [بن أحمد «1» ] فى ثالث عشرين شهر رمضان من سنة ثلاث فاستمرّ فى القضاء إلى أن صرف بقاضى القضاة علاء الدين علىّ [بن «2» محمود ابن أبى بكر] بن مغلى فى حدود سنة ست عشرة وثمانمائة، فاستمرّ علاء الدين بن مغلى فى القضاء إلى أن توفّى بالقاهرة فى العشرين من صفر سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
ثم تولّى بعده قاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله [بن أحمد بن «3» محمد بن عمر] البغدادىّ من التاريخ المذكور إلى أن صرفه الملك الأشرف بقاضى القضاة عزّ الدين عبد العزيز [بن علىّ بن العزّ بن «4» عبد العزيز] البغدادىّ فى ثالث عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، فدام القاضى عزّ الدين إلى أن صرف فى يوم الثلاثاء ثانى عشر صفر سنة ثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد قاضى القضاة محبّ الدين، واستمرّ إلى أن مات فى يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثمانمائة.
ثم تولى بعده قاضى القضاة بدر الدين محمد [بن «5» محمد] بن عبد المنعم البغدادىّ إلى أن مات فى ليلة الخميس سابع جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
ثم تولّى بعده قاضى القضاة عز الدين «6» أحمد فى يوم السبت تاسع جمادى الأولى المذكور.(7/136)
قلت: وقد خرجنا عن المقصود فى ترجمة الملك الظاهر بيبرس بالإطالة فيما ذكرناه، غير أنّ ذلك كلّه هو أيضا ممّا يضاف إلى ترجمته، ولا بأس بالإطالة مع تحصيل الفائدة، ولنعد إلى ذكر السلطان الملك الظاهر بيبرس.
ثم أمر الملك الظاهر بأن يعمل بدمشق أيضا كذلك فى سنة أربع وستين فوقع ذلك، وولّى بها قضاة أربعة. ولمّا وقّع ولايته القضاء من كلّ مذهب بدمشق اتّفق أنّه كان لقب ثلاثة قضاة منهم شمس الدين، وهم: قاضى القضاة شمس «1» الدين أحمد بن محمد بن خلّكان الشافعىّ. وقاضى القضاة شمس الدين عبد «2» الله بن محمد بن عطا الأذرعىّ الحنفى. وقاضى القضاة شمس «3» الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى «4» عمر الحنبلىّ «5» ؛ فقال بعض الشعراء رحمه الله فى هذا المعنى:
أهل الشآم استرابوا ... من كثرة الحكّام
إذ هم جميعا شموس ... وحالهم فى ظلام
وقال غيره:
بدمشق آية قد ... ظهرت للناس عاما
كلّما ولّى» شمس ... قاضيا زادت ظلاما(7/137)
فتوحاته رحمه الله
ثم سافر الملك الظاهر من مصر إلى البلاد الشامية فى هذه السنة (أعنى سنة أربع وستين) فخرج منها فى يوم السبت مستهلّ شعبان، وجعل نائبه بديار مصر ولده الملك السعيد، وجعل الجيش فى خدمته والوزير بهاء الدين بن حنّا؛ وسار الملك الظاهر حتّى نزل عين جالوت وبعث عسكرا مقدّمه الأمير جمال الدين أيدغدىّ العزيزىّ، ثم عسكرا آخر مقدّمه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى للإغارة على بلاد الساحل، فأغاروا على عكّا وصور وطرابلس وحصن الأكراد وسبوا وغنموا ما لا يحصى؛ ثم نزل الملك الظاهر بنفسه على صفد فى ثامن شهر رمضان، ونصب عليها المجانيق، ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربيّة إلى مستهلّ شوّال شرع فى الزّحف والحصار وأخذ النّقوب من جميع الجهات إلى أن ملكها بكرة يوم الثلاثاء خامس عشر شوّال؛ واستمرّ الزّحف والقتال ونصب السلالم على القلعة وتسلطت عليها النقوب، والسلطان يباشر ذلك بنفسه، حتّى طلب أهل القلعة الأمان على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك، فأجلس السلطان الملك الظاهر الأمير كرمون [أغا «1» ] التّتارىّ فى دست السلطنة، وحضرت رسلهم فاستحلفوه فخلف [لهم «2» كرمون التّتارىّ] وهم يظنونه الملك الظاهر، فإنه كان يشبه الملك الظاهر. وكان فى قلب الملك الظاهر منهم حزازة، ثم شرط عليهم ألّا يأخذوا معهم من أموالهم شيئا. فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شوّال طلعت السناجق على قلعة صفد، ووقف الملك الظاهر بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الخيّالة والرجّالة والفلاحين؛ ودخل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وتسلّمها، واطّلع على أنّهم أخذوا شيئا كثيرا من التّحف(7/138)
له قيمة، فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تلّ هناك، وكتبت البشائر بهذا النصر إلى مصر والأقطار، وزيّنت الديار المصريّة لذلك. ثم أمر الملك الظاهر بعمارة قلعة صفد وتحصينها ونقل الذخائر إليها والأسلحة، وأزال دولة الكفر، منها، ولله الحمد، وأقطع بلدها لمن رتّبه لحفظها من الأجناد، وجعل مقدّمهم الأمير علاء الدين الكبكى «1» ، وجعل فى نيابة السلطنة بالمدينة الأمير عزّ الدين العلائىّ، وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطّورىّ.
ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق فى تاسع «2» عشر شوّال. ولمّا كان الملك الظاهر نازلا بصفد وصل إليه رسول صاحب صهيون بهديّة جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخيره عن الحضور، فقبل الملك الظاهر الهديّة والعذر. ثمّ وصلت رسل صاحب سيس «3» أيضا بهديّة فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم. ثم وصلت البريديّة «4» من متولّى قوص ببلاد الصّعيد بخبر أنّه استولى على جزيرة سواكن «5» وأنّ صاحبها هرب، وأرسل يطلب من الملك الظاهر الدخول فى الطاعة وإبقاء سواكن عليه، فرسم(7/139)
له الملك الظاهر بذلك. ثم رحل الملك الظاهر من دمشق يوم السبت ثالث ذى القعدة وأمر العساكر بالتقدّم إلى بلاد سيس للإغارة عليها، وقدّم عليهم الملك المنصور «1» صاحب حماة وتدبير الأمور راجع إلى الأمير آق سنقر الفارقانىّ، فساروا حتّى وصلوا إلى الدّربند «2» الذي يدخلون منه إليها، وكان صاحبها قد بنى عليها أبرجة فيها المقاتلة؛ فلمّا رأوا العسكر تركوها ومضوا فأخذها المسلمون وهدموها، ودخلوا بلاد سيس فنهبوا وأسروا وقتلوا؛ وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم، ودخلوا المدينة يوم السبت ثانى عشر ذى القعدة وأخذوا منها ما لا يحصى كثرة، وعادوا نحو دمشق. فلمّا قاربوها خرج الملك الظاهر لتلقّيهم فى ثانى ذى الحجّة، واجتاز بقارة «3» فى سادسه، فأمر بنهبها وقتل من فيها من الفرنج، فإنّهم كانوا يخيفون «4» السبيل ويستأسرون المسلمين، فأراح الله منهم وجعلت كنيستها جامعا، ورتّب بقارة خطيبا وقاضيا، ونقل إليها الرعية من المسلمين؛ ثم التقى العساكر وخلع عليهم وعاد معهم، فدخل دمشق، والغنائم والأسرى بين يديه، فى يوم الاثنين خامس «5» عشر شهر ذى الحجّة فأقام بها مدّة. ثم خرج منها طالبا الكرك فى مستهلّ المحرّم سنة خمس وستين وستّمائة، وأمر الملك الظاهر بعد خروجه من دمشق بعمارة جسر «6»(7/140)
بالغور على [نهر «1» ] الشّريعة؛ وكان المتولّى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار «2» وبدر الدين محمد بن رحال وهما من أعيان الأمراء؛ ولمّا تكامل عمارته اضطرب بعض أركانه، فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذّر ذلك لزيادة الماء، فاتّفق وقوف الماء عن جريانه حتّى أمكن إصلاحه؛ فلمّا تمّ إصلاحه عاد الماء إلى حاله؛ قيل إنّه كان وقع فى النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسدّته من غير قصد. وهذا من عجيب الاتّفاق.
ثمّ عاد الملك الظاهر إلى ديار مصر وعند «3» عوده إليها وصل إليه رسل صاحب اليمن الملك المظفر «4» [شمس الدين] يوسف بن عمر ومعهم فيل وحمار وحش أبيض وأسود وخيول وصينى وتحف، وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط له أن يخطب له ببلاده. ثمّ خرج السلطان فى يوم السبت فى ثانى جمادى الآخرة إلى بركة الجب «5» عازما على قصد الشام على حين غفلة، وجعل نائب السلطنة على مصر الأمير بيليك(7/141)
الخازندار، ورحل فى سابع الشهر، فوردت عليه رسل صاحب يافا فى الطريق فاعتقلهم، وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ليلا وسار فأصبح يافا، وأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها، فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان، فأمّنهم وعوّضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا فى المراكب إلى عكّا؛ وكان أخذ قلعة يافا فى الثانى والعشرين من الشهر المذكور وأمر بهدمها؛ فلمّا فرغ السلطان من هدمها رحل عنها يوم الأربعاء ثانى عشر «1» شهر رجب طالبا للشّقيف «2» ، فنزل عليه يوم الثلاثاء وحاصرها حتّى تسلّمها يوم الأحد تاسع عشرين رجب؛ وكان الملك الظاهر أيضا ملك الباشورة «3» بالسيف فى السادس والعشرين منه؛ ثم رحل الملك الظاهر عنها بعد أن رتّب بها عسكرا فى عاشر شعبان، وبعث أكثر أثقاله إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشنّ عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغوّر أنهارها. ثم رحل «4» إلى حصن الأكراد ونزل بالمرج الذي تحته، فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة، فردّها عليه وطلب منهم دية رجل من أجناده، كانوا قتلوه، مائة ألف دينار فأرضوه. فرحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم(7/142)
إلى أفامية «1» ثم سار ونزل منزلة أخرى؛ ثم رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب، ونزل أنطاكية فى غرّة شهر رمضان، فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر؛ ورتّب على أبوابها جماعة من الأمراء لئلّا يخرج أحد من الحرافشة بشىء من النهب، ومن يوجد معه شىء يؤخذ منه، فجمع من ذلك ما أمكن جمعه وفرّقه على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم. وحصر من قتل بأنطاكية فكانوا فوق الأربعين ألفا، وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من الحلبيّين، وكتب البشائر بذلك إلى مصر وإلى سائر الأقطار. وأنطاكية: مدينة عظيمة مشهورة، مسافة سورها اثنا عشر ميلا، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفا. ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه الله- فيما فتح «2» .
قلت: كم ترك الأوّل للآخر!
ولمّا ملك الملك الظاهر أنطاكية وصل إليه قصّاد من أهل القصير «3» يطلبون تسليمها إليه، فسيّر السلطان الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ بالعساكر إليها فوصلها(7/143)
ووجد أكثر أهلها قد برح منها، فتسلّمها فى ثالث عشر شهر رمضان؛ وكان قد تسلّم دركوش «1» بواسطة فخر الدين الجناحىّ فى تاسع شهر رمضان وعاد إلى دمشق، فدخلها فى سابع عشرين شهر رمضان، وعيّد السلطان بقلعة دمشق. ثم عاد إلى القاهرة فدخلها آخر نهار الأربعاء حادى عشر ذى الحجّة. وبعد وصوله بمدّة جلس فى الإيوان بقلعة الجبل يوم الخميس تاسع «2» صفر، وأحضر القضاة والشهود والأعيان وأمر بتحليف الأمراء ومقدّمى الحلقة لولده الملك السعيد بركة خان [بولاية «3» عهده وخليفته من بعده] فحلفوا. ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبّهة السلطنة فى القلعة ومشى والده أمامه، وكتب تقليد «4» [له «5» ] وقرئ على الناس بحضور الملك الظاهر وسائر أرباب الدولة.
ثم فى يوم السبت ثانى عشر «6» جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من القاهرة متوجّها إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد، واستناب بالديار المصريّة فى خدمة ولده الأمير بدر الدين بيليك الخازندار. ومن هذا التاريخ علّم الملك السعيد على التواقيع وغيرها: ولمّا «7» صار الملك الظاهر بدمشق وصلت إليه كتب التّتار ورسلهم، والرسل: محبّ الدين دولة خان، وسيف الدين سعيد ترجمان وآخر، ومعهم جماعة من أصحاب سيس، فأنزلهم السلطان بالقلعة وأحضرهم من الغد وأدّوا الرسالة(7/144)
ومضمونها «1» : أنّ الملك أبغا «2» بن هولاكو لمّا خرج من الشرق ملك جميع البلاد ومن خالفه قتل وأنت (يعنى للملك الظاهر) لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منّا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحا، وأنت مملوك أبعت فى سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض وأولاد ملوكها! فأجابه فى وقته بأنّه فى طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفّرهم إليه بسرعة. ثم فى آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق ونزل خربة «3» اللّصوص فأقام بها أيّاما؛ ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجّه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرّف الفارقانىّ أنّه يغيب أيّاما معلومة، وقرّر معه أنه يحضر الأطبّاء كلّ يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعّك يشكو تغيير مزاجه، ليوهم الناس أنّ الملك الظاهر هو المتوعّك؛ فكان يدخل ما يصفونه «4» إلى الجيمة ليوهم العسكر صحّة ذلك، وسار الملك الظاهر حتّى وصل قلعة الجبل ليلة الخميس حادى عشرين شعبان، فأقام بالقاهرة أربعة أيّام؛ ثم توجّه ليلة الاثنين خامس عشرين الشهر على البريد، فوصل إلى العسكر يوم تاسع عشرين الشهر. وكان غرضه بهذا السّفر كشف أحوال ولده الملك السعيد وغير ذلك. ثم فى يوم الأحد سادس عشر «5» شهر رمضان(7/145)
تسلّم نوّاب الملك الظاهر قلعة بلاطنس «1» وقلعة كرابيل «2» من عزّ الدين أحمد بن مظفّر الدين عثمان «3» بن منكورس صاحب صهيون «4» ، وعوّضه غيرهما قرية تعرف بالخميلة «5» من أعمال شيزر «6» . ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان توجّه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شنّ الغارة على بلد صور، وأخذ منها شيئا كثيرا. ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق وعيّد «7» بها. ثم خرج منها فى خامس عشرين شوّال يريد الكرك فوصله فى أوائل ذى القعدة. ثم توجّه فى سادسه إلى الحجاز، وصحبته بيليك الخازندار والقاضى صدر الدين سليمان الحنفى وفخر الدين إبراهيم بن لقمان وتاج الدين ابن الأثير ونحو ثلثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة، فوصل المدينة الشريفة فى العشر الأخير من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام، وكان جمّاز «8» قد طرق المدينة وملكها، فلمّا قدم الظاهر هرب؛ فقال الملك الظاهر: لو كان جمّاز يستحقّ القتل ما قتلته! لأنه فى حرم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ ثم تصدّق فى المدينة بصدقات كثيرة، وخرج منها متوجّها إلى مكّة فوصلها فى ثامن ذى الحجّة، فخرج إليه أبو نمىّ وعمّه إدريس صاحبا مكّة، وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات، فوقف بها يوم الجمعة ثم عاد إلى منّى، ثم إلى مكّة وطاف بها طواف الإفاضة، وصعد الكعبة(7/146)
وغسلها بماء الورد وطيّبها بيده، وأقام يوم الاثنين ثم ركب وتوجّه إلى المدينة الشريفة، فزار بها قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثانيا. ثم توجّه إلى الكرك فوصله فى يوم الخميس تاسع عشرين ذى الحجة فصلّى به الجمعة. ثم توجّه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثانى المحرّم سنة ثمان وستين وستمائة فى السّحر، فحرج الأمير جمال الدين آقوش فصادفه فى سوق الخيل واجتمع به. ثم سار إلى حلب فوصلها فى سادس المحرّم؛ ثم خرج منها فى عاشره وسار «1» إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر، وصحبته الأمير عزّ الدين الأفرم فدخلها يوم الأربعاء رابع «2» صفر، واتّفق ذلك اليوم دخول ركب الحاجّ، وكانت العادة يوم ذاك بدخول الحاج إلى القاهرة بعد عاشر صفر، فأقام الملك الظاهر بالقاهرة أيّاما، وخرج منها فى صفر المذكور إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فصيّد أيّاما وعاد إلى نحو القاهرة فى يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأوّل، وخلع فى هذه السّفرة على الأمراء وفرّق فيهم الخيل والحوائص الذهب والسيوف المحلّاة والذهب والدراهم والقماش وغير ذلك، فلم يقم بالقاهرة إلا مدّة يسيرة، وخرج منها متوجّها إلى الشام فى يوم الاثنين حادى عشرين شهر ربيع الأوّل فى طائفة يسيرة من أمرائه وخواصّه، فوصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء سابع «3» شهر ربيع الآخر، ولقى أصحابه فى الطريق مشقّة شديدة من البرد. ثم خرج عقيب ذلك إلى الساحل «4» وأسر ملك عكّا؛ وقتل وأسر وسبى. ثم(7/147)
قصد الغارة على المرقب «1» فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه، فرجع إلى حمص فأقام بها نحو عشرين يوما. ثم خرج إلى جهة حصن «2» الأكراد ونزل تحتها، وأقام يركب كلّ يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب، فبلغه أنّ مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت «3» مركبين للمسلمين، فرحل من فوره إلى نحو الديار المصريّة فوصلها ثانى عشر شعبان، فحين دخوله إلى مصر امر بعمارة القناطر التى على بحر أبى المنجّا «4» ، وهى من المبانى العجيبة فى الحسن والإتقان؛ وبينما هو فى ذلك ورد عليه البريد من الشام أنّ الفرنج قاصدون الساحل، والمقدّم عليهم(7/148)
شارل «1» أخو ريدا «2» فرنس، وربّما كان محطّهم عكّا؛ فتقدّم الملك الظاهر إلى العسكر بالتوجّه إلى الشام. ثم ورد الخبر أيضا بأنّ اثنى عشر مركبا للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركبا للتّجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه، ولم يجسر والى الإسكندرية أن يخرج الشوانى من الصناعة لغيبة رئيسها فى مهمّ استدعاه الملك الظاهر بسببه. ولمّا بلغ الملك الظاهر ذلك بعث أمر بقتل الكلاب فى الإسكندرية وألّا يفتح أحد حانوتا بعد المغرب ولا يوقد نارا فى البلد ليلا، ثم تجهّز بسرعة وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذى القعدة فى البحر. وفى ذى الحجّة أمر السلطان بعمل جسرين: أحدهما من مصر إلى الجزيرة «3» (أعنى الروضة) ، والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليهما. ثم عاد الملك الظاهر من دمياط بسرعة ولم يلق حربا؛ وخرج من مصر إلى عسقلان فى يوم السبت عاشر صفر سنة تسع وستين وستمائة فى جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد، فوصل إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه فى أيّام الملك الصالح، ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهبا مقدار ألفى دينار ففرّقها على من صحبه، وورد عليه الخبر وهو بعسقلان بأنّ عسكر ابن أخى بركة خان المغلىّ كسر عسكر أبغا بن هولاكو، فسرّ الملك الظاهر بذلك سرورا زائدا. وعاد إلى مصر يوم السبت ثامن شهر ربيع الأوّل. وفى هذه السنة انتهى الجسر والقناطر الذي عمل على بحر أبى المنجا، ووقف عليه الملك الظاهر وقفا يعمر منه ما دثر منه على طول السنين. وفى هذه(7/149)
السنة أيضا بنى الملك الظاهر جامع المنشيّة «1» ، وأقيمت فيه الخطبة يوم «2» الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة تسع وستين وستمائة المذكورة. ثم فى السنة المذكورة أيضا خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة متوجّها إلى نحو حصن الأكراد فى ثانى عشر جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الخميس ثامن شهر رجب، وكان معه فى هذه السّفرة ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين بن حنّا، واستخلف بمصر الأمير شمس الدين اقسنقر الفارقانىّ، وفى الوزارة الصاحب تاج الدين ابن حنّا. ثمّ خرج الملك الظاهر من دمشق فى يوم السبت عاشره وتوجّه بطائفة من العسكر إلى جهة، وولده وبيليك الخازندار بطائفة أخرى إلى جهة، وتواعدوا الاجتماع فى يوم واحد بمكان معيّن ليشنّوا الغارة على جبلة «3» واللّاذقيّة «4» والمرقب»
وعرقة «6» ومرقيّة «7» والقليعات «8» وصافيثا «9» والمجدل وأنطرطوس «10» ، فلمّا اجتمعوا [على] أن يشنّوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل، ثم ساروا ونزلوا حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع «11» عشر شهر رجب من سنة تسع وستين وستمائة؛ وأخذوا فى نصب المجانيق وعمل(7/150)
الستاير «1» ، ولهذا الحصن ثلاثة أسوار؛ فاشتدّ عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادى عشرين الشهر، وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان، وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة فى يوم الأحد خامس عشره، وكان المحاصر لها الملك السعيد ابن الملك الظاهر ومعه بيليك الخازندار وبيسرى، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبليّة والفلّاحين ثم أطلقوهم. فلمّا رأى أهل القلعة ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان، فأمّنهم الملك الظاهر وتسلّم القلعة يوم الاثنين ثالث «2» عشرين شعبان، وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار، وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجّهوا إلى طرابلس. ثم رحل الملك الظاهر بعد أن رتّب الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم لعمارته، وأقيمت فيه الجمعة، ورتّب نائبا وقاضيا. ولمّا وقع ذلك بعث صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر يطلب المهادنة، وبعث إليه بمفاتيح أنطرطوس فصالحه على نصف ما يتحصّل من غلال بلده، وجعل عندهم نائبا من قبله. ثم صالح صاحب المرقب على المناصفة أيضا، وذلك فى يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان من سنة تسع وستين، وقرّرت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام.
ثم سار الملك الظاهر فى يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان فأشرف على حصن ابن «3» عكّار، وعاد إلى المرج «4» فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور ثانيا فى يوم الاثنين ثانى عشرين شهر رمضان، ونصب المجانيق عليه فى يوم الثلاثاء،(7/151)
وفى يوم الأحد ثامن «1» عشرينه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقىّ رميا كثيرا فخسف خسفا كبيرا إلى جانب البدنة، ودام ذلك إلى اللّيل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكّنهم من التوجّه إلى طرابلس فأجابهم، فخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر؛ وكتبت البشائر بالفتح والنصر إلى سائر الأقطار. ثم فى يوم السبت رابع شوّال خيّم السلطان الملك الظاهر بعساكر [هـ] على طرابلس فسيّر صاحبها «2» إليه يستعطفه فبعث إليه الملك الظاهر [فارس «3» الدين] الأتابك [و «4» ] سيف الدين [بلبان «5» ] الرومىّ على أن يكون له من أعمال طرابلس نصف بالسويّة، وأن يكون له دار وكالة فيها، وأن يعطى جبلة واللّاذقيّة بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه، وأن يعطى نفقات العساكر من يوم خروجه؛ فلمّا علم الرساله عزم على القتال وحصّن طرابلس، فنصب الملك الظاهر المجانيق؛ ثم تردّدت الرّسل ثانيا وتقرر الصلح أن تكون عرقة وجبلة «6» وأعمالها للبرنس صاحب طرابلس، وأن يكون ساحل «7» أنطرطوس والمرقب وبانياس وبلاد هذه النواحى بينه وبين الدّاويّة «8» ، والتى كانت خاصا لهم، وهى بارين «9» وحمص القديمة تعود خاصا للملك الظاهر، وشرط أن تكون عرقة وأعمالها، وهى ست وخمسون قرية، صديقة من الملك الظاهر عليه، فتوقّف صاحب طرابلس وأنف؛ فلمّا بلغ الملك الظاهر امتناعه صمّم على ما شرط عليه حتى أجابه، وعقد الصلح بينهما مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.(7/152)
وفى يوم السبت حادى عشر شوّال رحل الملك الظاهر عن مرج صافيثا، وأذن إلى صاحب حماة وصاحب حمص بالعود إلى بلادهم، وسار الظاهر حتى دخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوّال، وعزل القاضى شمس الدين أحمد بن خلّكان عن قضاء دمشق، وكانت مدّة ولايته عشر سنين، وولّى عوضه القاضى عزّ «1» الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ. ثم فى يوم الجمعة رابع «2» عشرين شوّال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصدا القرين «3» ، فنزل عليه يوم الاثنين سابع «4»
عشرين الشهر، ونصب عليه المجانيق، ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة، فقاتلوا قتالا شديدا، وأخذت النّقوب للحصن من كلّ جانب، فطلب من فيه الأمان، فأمّنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذى القعدة، وتسلّم السلطان الحصن بما فيه من السلاح ثمّ هدمه، وكان بناؤه من الحجر الصّلد وبين كلّ حجرين عود حديد ملزوم بالرصاص، فأقاموا فى هدمه اثنى عشر يوما وفى حصاره خمسة عشر يوما.
وفى يوم الاثنين سادس عشرين «5» الشهر نزل الملك الظاهر على كردانة قرية قريبة من عكّا، ولبس العسكر وسار إلى عكّا وأشرف عليها، ثم عاد إلى منزله. ثمّ رحل منها يوم الثلاثاء قاصدا مصر، فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجّة، وكان جملة ما صرفه الملك الظاهر فى هذه السّفرة من حين خروجه من مصر إلى حين عوده إليها ما ينيف على مائة «6» ألف دينار وثمانين ألف دينار عينا. وفى اليوم الثانى من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم: الأمير علم الدين سنجر(7/153)
الحلبىّ الكبير، الذي كان تسلطن بدمشق فى أوّل سلطنة الملك الظاهر بيبرس، والأمير جمال الدين آقوس المحمّدىّ، والأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبىّ الناصرىّ، والأمير شمس الدين سنقر المسّاح «1» والأمير سيف الدين بيدغان «2» الرّكنى والأمير علم الدين سنجر طرطح وغيرهم، وحبسوا الجميع بقلعة الجبل؛ وسبب ذلك أنّه بلغه أنّهم تآمروا على قبضه لمّا كان بالشّقيف، فأسّرها فى نفسه إلى وقتها. وكان بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أنّ صاحب قبرص خرج منها فى مراكبه إلى عكا، فأراد السلطان اغتنام خلوّها، فجّهز سبعة عشر شينيّا، فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام رئيس الإسكندرية، وشرف [الدين «3» ] علوى بن أبى المجد بن علوى العسقلانى رئيس دمياط، وجمال الدين مكّى بن حسّون مقدّما على الجميع؛ فوصلوا الجزيرة ليلا، فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسى، وألقت بعض الشّوانى على بعض، فتحطّم منها أكثر من أحد عشر شينيّا وأخذ من فيها من الرجال والصنّاع أسراء، وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفس، وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسّون فى الشّوانى السالمة، وعادت إلى مراكزها؛ فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس إلى الغاية.
وفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة أمر الملك الظاهر بإراقة الخمور فى سائر بلاده، وأوعد من يعصرها بالقتل، فأريق على الأجناد والعوامّ منها ما لا تحصى قيمته، وكان ضمان ذلك فى ديار مصر خاصّة ألف دينار فى كلّ يوم، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة. وفى العشر الأخير من ذى الحجّة اهتمّ الملك(7/154)
الظاهر بإنشاء شوان عوضا عمّا ذهب على قبرص، وانتهى العمل من الشوانى فى يوم الأحد رابع عشر المحرّم سنة سبعين، وركب السلطان إلى الصّناعة «1» لإلقاء الشّوانى فى بحر النيل، وركب السلطان فى شينىّ منها ومعه الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، فلمّا صار الشّينى فى الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر، فنهض بعض رجال الشّينى ورمى بنفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلّصه، وقد كاد يهلك، فخلع عليه الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفى ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة إلى الشام فى نفر يسير من خواصّه وأمرائه ودخل حصن الكرك، وخرج منه وصحب معه نائبه الأمير عزّ الدين أيدمر وسار إلى دمشق، فوصل إليه يوم الجمعة ثانى عشر صفر، فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النّجيبىّ، وولّى مكانه الأمير عزّ الدين أيدمر المعزول عن نيابة الكرك. ثم خرج منها إلى حماة فى سادس عشره ثم عاد منها فى السادس والعشرين.
وفيها أمر ملك التّتار أبغا بن هولاكو عساكره بقصد البلاد الشاميّة، فخرج عسكره فى عدّة عشرة آلاف فارس وعليهم الأمير صمغرا «2» والبرواناه «3» ، فلمّا بلغهم أنّ الملك الظاهر بالشام أرسلوا ألفا وخمسمائة من المغل ليتجسّسوا الأخبار ويغيروا(7/155)
على أطراف بلاد حلب، وكان مقدّمهم أمال «1» بن بيجونوين «2» ووصلت غارتهم إلى عينتاب «3» ثم إلى قسطون «4» ووقعوا على تركمان نازلين بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم؛ فتقدّم الملك الظاهر بتجفيل البلاد ليحمل التّتار الطمع فيدخلوا فيتمكّن منهم. وبعث إلى مصر بخروج العساكر فخرجت ومقدّمها الأمير بيسرى، فوصلوا إلى السلطان فى خامس «5» الشهر وخرج بهم فى السابع منه، فسبق إلى التّتار خبره، فولّوا على أعقابهم. وكان الظاهر لمّا مرّ بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحب حماة، ونزل الظاهر حلب يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر «6» من سنة سبعين وستمائة وخيّم بلليدان الأخضر، ثم جهّز الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ فى عسكر وأمره أن يمضى إلى بلاد حلب الشماليّة ولا يتعرّض ببلاد صاحب سيس، وجهّز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرىّ فى عسكر وأمره بالتوجّه إلى حرّان. فأمّا الفارقانىّ فإنه سار خلف التّتار إلى مرعش «7» فلم يجد منهم أحدا، تم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيما بها، وقد أمر بإنشاء دار شمالىّ القلعة كانت تعرف بدار الأمير بكتوت، أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب واضاف إليها دارا أخرى، ووكّل بعمارتها الأمير عزّ الدين آقوش الأفرم.
ولمّا عاد الفارقانىّ إلى حلب رحل الملك الظاهر منها نحو الديار المصريّة فى ثامن عشرين شهر ربيع الآخر، ودخل مصر فى الثالث والعشرين من جمادى الأولى.(7/156)
ولمّا وصل الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجرّدين على قاقون «1» بسبب الفرنج لمّا أغاروا على الساحل ما عدا آقوش الشّمسىّ ثم شفع فيهم فأطلقهم.
وفى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عدّى الملك الظاهر إلى برّ الجيزة فأخبر أن ببوصير «2» السّدر مغارة فيها مطلب، فجمع لها خلقا فحفروا مدى بعيدا، فوجدوا قطاطا ميتة وكلاب صيد وطيورا وغير ذلك من الحيوانات ملفوفا فى عصائب وخرق، فإذا حلّت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء منثورا؛ وأقام الناس ينقلون من ذلك مدّة ولم ينفد ما فيها، فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة.
وفى يوم السبت سابع عشرين جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الظاهر إلى الصّناعة «3» ليرى الشوانى التى عملت وهى أربعون شينيّا فسرّ بها. وعند عوده إلى القلعة ولدت زرافة بقلعة الجبل [وهذا «4» أمر لم يعهد] وأرضع ولدها لبن بقرة.
ثم سافر الملك الظاهر إلى الشام فى شعبان وسار حتى وصل الساحل وخيّم بين قيساريّة وأرسوف، وكان مركّزا بها الفارقانىّ فرحل الفارقانىّ عنها إلى مصر.
ثم إنّ الملك الظاهر شنّ الغارة على عكا، فطلب منه أهلها الصلح وتردّدوا فى ذلك حتى تقرّرت الهدنة بينهم مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام وعشر ساعات، أوّلها ثانى عشرين شهر رمضان سنة سبعين وستمائة.(7/157)
ثم رحل الملك الظاهر إلى خربة اللّصوص، ثم سار منها إلى دمشق فدخلها فى الثامن من شوّال؛ وبينما هو فى دمشق تردّدت الرسل بينه وبين التّتار وانفصل الأمر من غير اتّفاق. وفى ذى الحجّة توجّه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لينقل حجارة المجانيق إليها «1» ورؤية ما عمّر فيها ففعل «2» ذلك. ثم سار إلى حصن عكّار «3» فأشرف عليها. ثم عاد إلى دمشق فى خامس المحرّم من سنة إحدى وسبعين وستمائة، وفى ثانى عشر المحرّم المذكور أفرج «4» الملك الظاهر عن الأمير أيبك النّجيبى الصغير، وأيدمر الحلّىّ العزيزىّ وكانا محبوسين بالقاهرة. ثم خرج الملك الظاهر من دمشق فى المحرم أيضا عائدا إلى الديار المصريّة وصحبته الأمير بدر الدين بيسرىّ والأمير آقوش الرومىّ وجرمك «5» الناصرىّ، فوصل إليها فى يوم السبت ثالث عشرين المحرّم، فأقام بالقاهرة إلى ليلة الجمعة تاسع عشرينه، خرج من مصر وتوجّه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر، فأقام بدمشق إلى خامس جمادى الأولى اتّصل به أنّ فرقة من التّتار قصدت الرّحبة، فبرز إلى القصير «6» فبلغه أنّهم عادوا من الرّحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيّادين على الجمال ليجوز عليها، ثم سار حتّى وصل إلى الباب من أعمال حلب،(7/158)
وبعث جماعة من الأجناد والعربان لكشف أخبارهم، وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أنّ طائفة من التّتار مقدار ثلاثة آلاف فارس على شطّ الفرات ممّا يلى الجزيرة، فرحل «1» عن منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شطّ الفرات، وتقدّم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ والأمير بدر الدين بيسرى فى أوّل الناس، ثم تبعهما هو بنفسه وتبعته العساكر، فوقعوا على التّتار فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتى نفس ولم ينج منهم إلّا القليل، وتبعهم بيسزى إلى قريب «2» سروج ثم عاد. وكان على «3» البيرة جماعة كثيرة من عسكر التّتار، وكانوا قد أشرفوا على أخذها، فلمّا بلغهم الخبر رحلوا عن البيرة؛ ودخلها السلطان فى ثانى عشرين الشهر وخلع على نائبها وفرّق فى أهلها مائة ألف درهم، وأنعم عليهم ببعض ما تركه التّتار عندهم لمّا هربوا. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعساكره وعاد إلى دمشق. وفى هذه النّصرة قال العلّامة شهاب «4» الدين أبو الثناء محمود كاتب الإنشاء- رحمه الله- قصيدة طنانة؛ أوّلها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقدار
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادى ثار
لمّا تراقصت الرءوس وحرّكت ... من مطربات قسّيك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصّبا من نعله «5» آثار
حملتك أمواج الفرات ومن رأى ... بحرا سواك تقلّه الأنهار
وتقطّعت فرقا ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جشك الجرّار(7/159)
رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش السعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والتّرب والآساد والأطيار
هذى منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعمّ ذا الإيسار
فلأملأنّ الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وهى أطول من ذلك. وقال الشيخ ناصر الدين «1» حسن بن النّقيب الكنانىّ الشاعر- رحمه الله تعالى- قصيدة وكان حاضر الوقعة منها:
ولمّا ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه «2» منا بالقوى والقوائم
فأوقفت التيّار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وقال الموفّق «3» عبد الله بن عمر الأنصارى- رحمه الله- وأجاد:
الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفى به ... حرارة القلب من المغل
ثم توجّه الملك الظاهر إلى نحو الديار المصريّة، فخرج ولده الملك السعيد لتلقّيه فى يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به بين القصير «4» والصالحيّة فى يوم الجمعة ثانى «5» عشرينه، فترجلا واعتنقا طويلا؛ ثم ركبا وسارا جميعا إلى القلعة وبين يديهم أسارى التّتار ركّابا على الخيل، ثم فى سابع شهر رجب أفرج الملك الظاهر عن الأمير عز الدين أيبك الدّمياطى من الاعتقال، وكانت مدّة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، ثم خلع الملك الظاهر على أمراء الدولة ومقدّمى الحلقة وأعطى،(7/160)
كلّ واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثّياب والسيوف، وكان قيمة ما صرفه فيهم فوق ثلثمائة ألف دينار، وفى سادس عشرين شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر الحلبى الغتمى المعزّىّ. وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوّال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضرا إلى القلعة وأحضره بين يديه.
قلت: والشيخ خضر هذا هو صاحب الزاوية «1» بالحسينية بالقرب من جامع الظاهر «2» . انتهى. وأحضر معه جماعة من الفقراء حاققوه على أشياء كثيرة منكرة، وكثر(7/161)
بينه وبينهم فيها المقالة ورموه بفواحش كثيرة ونسبوه إلى قبائح عظيمة؛ فرسم الملك الظاهر باعتقاله، وكان للشيخ خضر المذكور منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بحيث إنّه كان ينزل عنده فى الجمعة المرّة والمرّتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعته ويستصحبه فى سائر سفراته، ومتى فتح مكانا أفرض له منه أوفر نصيب، فامتدّت يد الشيخ خضر بذلك فى سائر المملكة يفعل ما يختار لا يمنعه أحد من النوّاب، حتّى إنّه دخل إلى كنيسة قمامة «1» ذبح قسّيسها بيده، وانتهب ما كان فيها تلامذته، وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبّر من الأموال «2» ، وعمرها مسجدا وعمل بها سماعا ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الإسكندريّة وهى عظيمة عند النصارى فنهبها وصيّرها مسجدا، وسمّاها المدرسة «3» الخضراء وأنفق فى تعميرها مالا كثيرا(7/162)
من بيت المال. وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقف عليها وحبس عليها أرضا تجاورها تحتكر للبناء. وبنى لأجله جامع الحسينية.
وفى يوم الاثنين سابع المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بدار «1» العدل وحكّم بين الناس ونظر فى أمور الرعيّة، فأنصف المظلوم وخلّص الحقوق ومال على القوىّ ورفق بالضعيف. وفى العاشر منه هدمت غرفة على باب قصر من قصور الخلفاء الفاطميّين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب بباب «2» البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم بأمر الله منصور المقدّم ذكره، فوجد فى القصر الذي هدم امرأة فى صندوق منقوش عليها كتابة اسم الملك الظاهر «3» بيبرس هذا وصفته، وبقى منها ما لم يمكن قراءته.
وفيها قبض على ملك الكرج «4» وهو أنّه كان قد خرج من بلاده قاصدا زيارة القدس الشريف متنكّرا فى زىّ الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصّه، فسلك بلاد(7/163)
الروم إلى سيس فركب البحر إلى عكّا، ثم خرج منها إلى بيت المقدس فاطّلع الأمير بدر الدين الخازندار على أمره وهو على يافا، فبعث إليه من قبض عليه، فلمّا حضر بين يديه بعثه مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان؛ وكان السلطان قد توجّه إلى دمشق فوصل إلى دمشق فى رابع عشر جمادى الأولى، فأقبل عليه السلطان وسأله حتى اعترف، فحبسه فى برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرّفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشرين جمادى الآخرة، وقدم القاهرة يوم الخميس «1» سابع شهر رجب من سنة اثنتين وسبعين المذكورة. ثم فى يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر السلطان العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب فى الميدان تحت القلعة، فاستمرّ ذلك كلّ يوم إلى يوم عيد الفطر ختن السلطان الملك الظاهر ولده خضرا ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم، وكان الملك السعيد ابن الملك الظاهر فى يوم الأربعاء سابع «2» عشر شهر رمضان خرج من القاهرة وتوجّه إلى دمشق ومعه شمس الدين آقسنقر الفارقانىّ وأربعون نفرا من خواصّه على خيل البريد، وعاد إلى القاهرة فى يوم الخميس الرابع والعشرين من شوّال.
وفى يوم الأحد سابع صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة ركب الملك الظاهر الهجن وتوجّه إلى الكرك ومعه بيسرى وأتامش السّعدى، وسبب توجّهه أن وقع بالكرك برج فأحبّ أن يكون إصلاحه بحضوره. ثم عاد إلى مصر فدخلها فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل، فأقام بها مدّة يسيرة. ثم توجّه إلى دمشق وأقام به إلى أن أرسل فى رابع «3» عشرين المحرّم سنة أربع وسبعين وستمائة الأمير(7/164)
بدر الدين بيليك الخازندار على البريد إلى مصر لإحضار الملك السعيد، فعاد به إلى دمشق فى يوم الأربعاء سادس صفر من السنة. وفى الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير «1» وهو بين حارم وأنطاكية، وكان فيه قسّيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرّك به، وكان الملك الظاهر قد أمر التّركمان وبعض العرب بمحاصرته، وبعد أخذه عاد الملك الظاهر إلى مصر فلم تطل مدّته به وعاد إلى دمشق، فدخله يوم ثالث المحرّم من سنة خمس وسبعين، فأقام به مدة يسيرة أيضا، وعاد إلى الديار المصريّة فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع «2» الآخر؛ وأمر بعمل عرس ولده الملك السعيد، واهتمّ فى ذلك إلى يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان «3» الأسود تحت القلعة فى أحسن زىّ، وأقاموا يركبون كلّ يوم كذلك ويتراكضون فى الميدان، والناس تزدحم للفرجة عليهم خمسة أيام، وفى اليوم السادس افترق الجيش فرقتين، وحملت كلّ فرقة على الأخرى وجرى من اللعب والزينة ما لا يوصف، وفى اليوم السابع خلع على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتّاب والأطباء مقدار ألف وثلثمائة خلعة، وأرسل(7/165)
إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، وفى يوم الخميس مدّ السّماط فى الميدان المذكور فى أربعة خيم، وحضر السّماط من علا ومن دنا، ورسل التتار ورسل الفرنج، وعليهم الخلع أيضا، وجلس السلطان فى صدر الخيمة على تخت من آبنوس وعاج مصفّح بالذهب مسمّر بالفضّة غرم عليه ألف دينار؛ ولمّا انقضى السّماط قدّم الأمراء الهدايا من الخيل والسلاح والتّحف وسائر الملابس، فلم يقبل السلطان من أحد منهم سوى ثوب واحد جبرا له؛ فلمّا كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ فى تجهيز ما يليق بالزّفاف والدخول، ولم يمكّن أحد من نساء الأمراء على الإطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد إلى الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيّى له بأهله، وحملت العروس فدخل عليها. ولمّا بلغ الملك المنصور «1» صاحب حماة ذلك قدم القاهرة مهنّئا للسلطان ومعه هديّة سنيّة، فوصل القاهرة فى ثامن جمادى الآخرة، فركب الملك السعيد لتلقّيه ونزل بالكبش «2» ، وأقام مدّة يسيرة ثم عاد إلى بلده.
ثم خرج الملك الظاهر بعد ذلك من القاهرة فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن استناب الأمير آق سنقر الفارقانىّ الأستادار نائبا عنه فى خدمة ولده الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصريّة لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثانى عشر شوّال قاصدا بلاد الروم فدخل دمشق ثم خرج منها ودخل حلب يوم الأربعاء مستهلّ ذى القعدة، وخرج منها(7/166)
يوم الخميس إلى حيلان «1» ، فترك بها بعض الثّقل، وأمر الأمير نور الدين «2» علىّ بن جبل مجلىّ نائب حلب أن يتوجّه إلى الساجور «3» ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب ويحفظ معابر الفرات لئلا يعبر منها أحد من التّتار قاصدا الشام، ووصل إلى «4» الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا وأقام عنده، فبلغ نوّاب التّتار ذلك فجهّزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة «5» لكبسهم فحشدوا وتوجّهوا نحوهم. فاتّصل بالأمير علىّ نائب حلب الخبر وكان يقظا، فركب إليهم والتقاهم وكسرهم أقبح كسرة، وأخذ منهم ألفا ومائتى جمل.
وأمّا الملك الظاهر فإنّه ركب من حيلان يوم الجمعة ثالث الشهر، وسار إلى عينتاب، ثم إلى دلوك «6» ، ثم إلى منزلة «7» أخرى ثم إلى كينوك «8» ، ثم إلى كك صو (ومعناه الماء «9» الأزرق باللّغة التركيّة) . ثم رحل «10» عنه إلى أقجادر بند فقطعه فى نصف نهار؛(7/167)
فلمّا خرجت عساكره وملكت المفاوز، قدّم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة التّتار وعدّتهم ثلاثة آلاف فارس، ومقدّمهم كراى فهزمهم سنقر الأشقر وأسر منهم طائفة، وذلك فى يوم الخميس تاسع ذى القعدة.
ثم ورد الخبر على الملك الظاهر بأنّ عسكر الروم والتّتار مع البرواناه اجتمعوا على نهر جيحان «1» ، فلمّا صعد العسكر الجبل أشرف على صحراء «2» أبلستين فشاهد التّتار قد رتّبوا عساكرهم أحد عشر طلبا فى كلّ طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم خوفا من باطن يكون لهم مع المسلمين، وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا؛ فلمّا تراءى الجمعان حملت ميسرة التّتار حملة واحدة وصدموا سنجق الملك الظاهر، ودخلت طائفة منهم بينهم، وشقّوا الميسرة وساقوا إلى الميمنة؛ فلمّا رأى الملك الظاهر ذلك أردفهم بنفسه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد أتت عليها ميمنة التّتار، فأمر الملك الظاهر جماعة من أصحابه الشّجعان بإردافها، ثم حمل هو بنفسه- رحمه الله- فلمّا رأته العساكر حملت نحوه برمّتها حملة رجل واحد، فترجّل التّتار عن خيولهم وقاتلوا قتال الموت فلم يغن عنهم ذلك شيئا، وصبر لهم الملك الظاهر وعسكره وهو يكرّ فى القوم كالأسد الضّارى ويقتحم الأهوال بنفسه ويشجّع أصحابه ويطيّب لهم الموت فى الجهاد إلى أن أنزل الله تعالى نصره عليه، وانكسر التّتار أقبح كسرة وقتلوا وأسروا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال فقصدتهم العساكر الإسلاميّة وأحاطوا بهم، فترجّلوا عن خيولهم وقاتلوا فقتل منهم جماعة كثيرة، وقتل(7/168)
ممّن قاتلهم من عساكر المسلمين الأمير ضياء الدين [محمود «1» ] بن الخطير، وكان من الشّجعان الفرسان، والأمير شرف «2» الدين قيران العلائىّ، والأمير عزّ الدين أخو المحمّدىّ «3» ، وسيف الدين قفجاق «4» الجاشنكير، والأمير [عز الدين «5» ] أيبك الشّقيفىّ- رحمهم الله تعالى وأسكنهم الجنّة-. وأسر من كبار الروميّين مهذّب «6» الدين ابن معين الدين البرواناه، وابن بنت معين الدين المذكور، والأمير نور «7» الدين جبريل [بن جاجا] ، والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل [بن «8» جاجا] ، والأمير سيف الدين سنقر «9» جاه الزّوباشىّ، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوى (يعنى الصهر) صاحب سيواس «10» ، والأمير كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاوك «11» ، والأمير سيف الدين بن الجاويش «12» ، والأمير شهاب الدين غازى بن على شير التّركمانى،(7/169)
فوبّخهم السلطان الملك الظاهر من كونهم قاتلوه فى مساعدة التتار الكفرة، ثم سلّمهم لمن احتفظ بهم. وأسر من مقدّمى التّتار على الألوف والمئين بركة «1» صهر أبغا بن هولاكو ملك التّتار، وسرطق، وخيز كدوس «2» وسركده «3» وتماديه «4» . ولمّا أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناه وساق حتّى دخل قيصريّة «5» يوم الأحد ثانى عشر ذى القعدة «6» واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفى، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب فأخبرهم بالكسرة، وقال لهم: إنّ التّتار المنهزمين متى دخلوا قيصريّة فتكوا «7» بمن فيها حنقا على المسلمين، وأشار عليهم بالخروج منها فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى توقات «8» وبينها وبين قيصريّة أربعة أيام. وعملت شعراء الإسلام فى هذه الوقعة عدّة قصائد ومدائح، من ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثناء محمود كاتب الدّرج قصيدته التى أوّلها:
كذا فلتكن فى الله تمضى «9» العزائم ... وإلّا فلا تجفو الجفون الصّوارم(7/170)
عزائم حاذتها الرياح فأصبحت ... مخلّفة تبكى عليها الغمائم
سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت ... عليه [و «1» ] سوراه الظّبا واللهاذم
بجيش تظلّ الأرض منه كأنّها ... على سعة الأرجاء فى الضّيق خاتم
كتائب كالبحر الخضمّ جيادها ... إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللّواء مظفّر ... له النّصر والتأبيد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزمايه ... بركن له الفتح المبين دعائم
مليك لأبكار الأقاليم نحوه ... حنين كذا تهوى الكرام الكرائم
فكم وطئت طوعا وكرها جياده ... معاقل قرطاها «2» السّها والنعائم
مليك به للدين فى كلّ ساعة ... بسائر للكفّار منها مآتم
جلاحين أقذى «3» [ناظر] الكفر للهدى ... ثغورا بكى الشيطان وهى بواسم
إذا رام شيئا لم يعقه لبعدها ... وشقّتها عنه الإكام الطّواسم
فلو نازع النّسرين أمرا لناله ... وذا واقع عجزا وذا بعد حائم
ولمّا رمى الروم المنيع بخيله ... ومن دونه سدّ من الصخر عاصم
يروم عقاب الجوّ قطع عقابه ... إليه فلا تقوى عليها القوادم
ومنها:
وسالت عليهم «4» أرضهم بمواكب ... لها النّصر طوع والزمان مسالم
أدارت بهم سورا منيعا مشرّفا ... بسمر العوالى ما له الدهر هادم(7/171)
من التّرك أمّا فى المغانى فإنّهم ... شموس وأما فى الوغى فضراغم
غدا ظاهرا بالظاهر النصر فيهم ... تبيد الليالى والعدا وهو دائم
فأهووا إلى لئم الأسنّة فى الوغى ... كأنّهم العشّاق وهى المباسم
وصافحت البيض الصّفاح رقابهم ... وعانقت السّمر القدود النواعم
فكم حاكم منهم على ألف دارع ... غدا حاسرا والرمح [فى «1» ] فيه حاكم
وكم ملك منهم رأى وهو موثق ... خزائن ما يحويه وهى غنائم
ومنها:
فلا زلت منصور اللّواء مؤيّدا ... على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم
ثم جرّد الملك الظاهر الأمير سنقر الأشقر لإدراك ما فات من التّرك «2» والتوجّه إلى قيصريّة، وكتب معه كتابا بتأمين أهلها وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهريّة. ثم رحل الملك الظاهر بكرة السبت حادى عشر ذى القعدة قاصدا قيصريّة، فمرّ فى طريقه بقرية أهل الكهف «3» ثم إلى قلعة سمندو «4» فنزل إليه واليها مذعنا للطاعة، ثم سار إلى قلعة درندة «5» وقلعة فالو «6» ففعل متولّيها كذلك، ثم نزل بقرية من قرى قيصريّة فبات بها، فلمّا أصبح رتّب عساكره وخرج أهل(7/172)
قيصريّة بأجمعهم مستبشرين بلقائه، وكانوا لنزوله نصبوا الخيام بوطاة «1» ، فلمّا قرب الظاهر منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب السلطان للجمعة، فدخل قيصريّة ونزل دار السلطنة وجلس على التّخت وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفيّة والقرّاء وجلسوا فى مراتبهم على عادة ملوك السّلجوقيّة، فأقبل عليهم السلطان ومدّ لهم سماطا فأكلوا وانصرفوا، ثمّ حضر الجمعة بالجامع وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التى ضربت له باسمه. وكتب إليه البرواناه يهنّئه بالجلوس على تخت الملك بقيصريّة، فكتب الملك الظاهر إليه بعوده ليولّيه مكانه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوما، وكان مراد البرواناه أن يصل أبغا ويحثّه على المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون «2» بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناه فى ذلك، فكان ذلك سببا لرحيل الملك الظاهر عن قيصريّة مع ما انضاف إلى ذلك من قلق العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان على اليزك «3» عزّ الدين أيبك الشّيخىّ، وكان الملك الظاهر ضربه بسبب سبقه الناس فغضب وهرب إلى التّتار.
وكان أولاد قرمان «4» قد رهنوا أخاهم الصغير علىّ بك بقيصريّة، فأخرجه الملك الظاهر وأنعم عليه، وسأل السلطان فى تواقيع وسناجق له ولإخوته فأعطاه، وتوجّه نحو إخوته بجبل لارندة «5» .(7/173)
وعاد السلطان وأخذ فى عوده أيضا عدّة بلاد إلى أن وصل مكان المعركة يوم السبت، فرأى القتلى، فسأل عن عدّتهم فأخبر أنّ المغل خاصّة ستة آلاف وسبعمائة وسبعون نفسا؛ ثم رحل حتّى وصل أقجا دربند «1» ، بعث الخزائن والدّهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار ليعبر بها الدّربند، وأقام السلطان فى ساقة العسكر بقيّة اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدّربند.
ثم سار إلى أن وصل دمشق فى سابع المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر «2» الأبلق جوار الميدان الأخضر وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا ملك التّتار إلى مكان الوقعة، فجمع السلطان الأمراء وضرب مشورة، فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وتلقّيه حيث كان، فأمر الملك الظاهر بضرب الدّهليز على القصير، وفى أثناء ذلك وصل رجل من التّركمان وأخبر أنّ أبغا عاد إلى بلاده هاربا خائفا؛ ثمّ وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر صلاح الدين، وهو غير بيسرى الكبير، وأخبر بمثل ما أخبر التركمانىّ، فعند ذلك أمر الملك الظاهر بردّ الدّهليز إلى الشام. وكان عود أبغا من ألطاف الله تعالى بالمسلمين، فإنّ الملك الظاهر فى يوم الجمعة نصف المحرّم من سنة ست وسبعين ابتدأ به مرض الموت.(7/174)
ذكر مرض الملك الظاهر ووفاته
لمّا كان يوم الخميس رابع عشر المحرّم سنة ستّ وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرب القمزّ «1» وبات على هذه الحالة، فلمّا كان يوم الجمعة خامس عشره وجد فى نفسه فتورا وتوعّكا فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين «2» سنقر الألفىّ السلحدار فأشار عليه بالقىء، فاستدعاه فاستعصى عليه القىء، فلمّا كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى عليه، وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلمّا أصبح اشتكى حرارة فى باطنه فصنع له بعض خواصّه دواء، ولم يكن عن رأى طبيب فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضر الأطبّاء فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل فسقوه فلم ينجع، فحرّكوه بدواء آخر كان سبب الإفراط فى الإسهال ودفع دما، فتضاعفت حمّاه وضعفت قواه، فتخيّل خواصّه أنّ كبده يتقطّع وأنّ ذلك عن سمّ سقيه فعولج بالجوهر، وأخذ أمره فى انحطاط، وجهده المرض وتزايد به إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين «3» من المحرّم، فاتّفق رأى الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلّا تشعر العامّة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج ومن هو خارج منهم من الدخول. فلمّا كان آخر الليل حمله من كبار الأمراء سيف الدين قلاوون الألفىّ وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين بيليك الخازندار، وعزّ الدين آقوس الأفرم،(7/175)
وعزّ الدين أيبك الحموى، وشمس الدين سنقر الألفىّ الظاهرى، وعلم الدّين سنجر الحموىّ أبو خرص، وجماعة من أكابر خواصّه. وتولّى غسله وتحنيطه وتصبيره وتكفينه مهتاره «1» الشّجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الإسكندرى المعروف بابن المنبجىّ «2» ، والأمير عز الدين الأفرم؛ ثم جعل فى تابوت وعلّق فى بيت من بيوت البحريّة بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتّفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده وسيّرها إلى مصر على يد بدر الدين بكتوت الجوكندارىّ الحموىّ، وعلاء الدين أيدغمش الحكيمىّ الجاشنكير، فلمّا وصلا وأوصلاه المطالعة خلع عليهما وأعطى كلّ واحد منهما خمسين ألف درهم، على أنّ ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصريّة. ولمّا كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئا من زىّ الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السالكة قريبا من داريّا «3» وأن يبنى عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور، فابتاع دار العقيقىّ بثمانية «4» وأربعين ألف درهم نقرة «5» ، وأمر أن تغيّر معالمها وتبنى مدرسة [للشافعية «6» والحنفية] : انتهى.
وأمّا الملك السعيد فإنّه جهّز الأمير علم الدين سنجر الحموى المعروف بأبى خرص، والطواشى صفىّ الدين جوهر الهندىّ إلى دمشق لدفن والده الملك الظاهر، فلمّا وصلاها اجتمعا بالأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم(7/176)
فبادر إليه، وحمل الملك الظاهر من القلعة إلى التّربة ليلا على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد، وكان قد ظهر موته بدمشق فى يوم السبت رابع عشر صفر، وشرع العمل فى أعزيته بالبلاد الشاميّة والديار المصريّة.
قال الأمير بيبرس «1» الدّوادار فى تاريخه- وهو أعرف بأحواله من غيره- قال: وكان القمر قد كسف كسوفا كاملا أظلم له الجوّ وتأوّل ذلك المتأولّون بموت رجل جليل القدر؛ فقيل: إنّ الملك الظاهر لمّا بلغه ذلك حذر على نفسه وخاف وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره لعلّه يسلم من شرّه، وكان بدمشق شخص من أولاد الملوك الأيّوبيّة، وهو الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك ابن السلطان الملك المعظّم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، فأراد الظاهر، على ما قيل، اغتياله بالسمّ، فأحضره فى مجلس شرابه فأمر الساقى أن يسقيه قمزّا ممزوجا، فيما يقال، بسمّ، فسقاه الساقى تلك الكأس فأحسّ به وخرج من وقته، ثم غلط الساقى وملأ الكأس المذكورة وفيها أثر السمّ، ووقعت الكأس فى يد الملك الظاهر فشربه، فكان من أمره ما كان. انتهى كلام بيبرس الدّوادار باختصار.
قلت: وهذا القول مشهور وأظنّه هو الأصحّ فى علّة موته، والله أعلم.
وكانت مدّة ملكه تسع عشرة سنة وشهرين ونصفا، وملك بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد المعروف ببركة خان؛ وكان تسلطن فى حياته من مدّة سنين حسب ما تقدّم ذكره.
وكان الملك الظاهر رحمه الله ملكا شجاعا مقداما غازيا مجاهدا مرابطا خليقا بالملك خفيف الوطأة سريع الحركة يباشر الحروب بنفسه.(7/177)
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخه بعد ما أثنى عليه: «وكان خليقا بالملك لولا ما كان فيه من الظّلم، والله يرحمه ويغفر له، فإنّ له أياما بيضا فى الإسلام ومواقف مشهورة وفتوحات معدودة» . انتهى كلام الذهبى باختصار.
وقال الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى الذّيل على مرآة الزمان فى موت «1» الملك الظاهر هذا نوعا ممّا قاله الأمير بيبرس الدّاوادار لكنّه زاد أمورا نحكيها، قال:
حكى لى ابن شيخ «2» السلامية عن الأمير أزدمر العلائىّ نائب السلطنة بقلعة صفد قال: كان الملك الظاهر مولعا بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم، كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنّه يموت فى سنة ستّ وسبعين ملك بالسمّ، فحصل عنده من ذلك أثر كبير، وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة، واتّفق أنّ الملك القاهر عبد الملك بن المعظّم عيسى الآتى ذكره لمّا دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصافّ، فدام الملك القاهر فى القتال فتأثّر الظاهر منه، ثم انضاف إلى ذلك أنّ الملك الظاهر حصل منه فى ذلك اليوم فتور على خلاف العادة، وظهر عليه الخوف والنّدم على تورّطه فى بلاد الروم، فحدّثه الملك القاهر عبد الملك المذكور بما فيه نوع من الإنكار عليه والتّقبيح لأفعاله، فأثّر «3» ذلك عنده أثرا آخر.
فلمّا عاد الظاهر من غزوته سمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر، فزاد على ما فى نفسه وحقد عليه، فخيّل فى ذهنه أنّه إذا سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، فأحضره عنده ليشرب القمزّ معه، وجعل الذي أعدّه له من السمّ فى ورقة(7/178)
فى جيبه من غير أن يطّلع على ذلك أحد، وكان للسلطان هنّا بات «1» ثلاثة مختصّة به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها إلّا من يكرمه السلطان، فأخذ الملك الظاهر الكأس بيده وجعل فيه ما فى الورقة خفية، وأسقاه للملك القاهر وقام الملك الظاهر إلى الخلاء وعاد، فنسى الساقى وأسقى الملك الظاهر فيه وفيه بقايا السمّ. انتهى كلام قطب الدين.
وخلّف الملك الظاهر من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان.
ومولده فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بضواحى مصر، وأمّه بنت الأمير حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمىّ. والملك [نجم الدين «2» ] خضرا، أمّه أم ولد. والملك بدر الدين سلامش. وولد له من البنات سبع. وأما زوجاته فأمّ الملك السعيد بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاى «3» التّتارىّ، وبنت الأمير سيف الدين كراى التّتارىّ، وبنت الأمير سيف نوغاى التّتارىّ، وشهرزوريّة تزوّجها لمّا قدم غزّة وحالف الشّهرزوريّة قبل سلطنته، فلما تسلطن طلّقها.
وأمّا وزراؤه- لمّا تولى السلطنة استمرّ زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزّبير، ثم صرفه واستوزر الصاحب بهاء الدّين علىّ بن محمد بن سليم بن حنّا. وكان للملك الظاهر أربعة آلاف مملوك مشتريات أمراء وخاصّكيّة «4» وأصحاب وظائف.(7/179)
وأمّا سيرته وأحكامه وشرف نفسه حكى: أنّ الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه فى الحجّ، وفى ضمن الكتاب شهادة عليه أنّ جميع ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر، فلم يأذن له الملك الظاهر فى تلك السنة غضبا منه لكونه كتب ذلك، واتّفق أنّ الأشرف مات بعد ذلك فتسلّم الملك الظاهر حصونه التى كانت بيده ولم يتعرّض للتركة، ومكّن ورثته من الموجود والأملاك، وكان شيئا كثيرا إلى الغاية، ودفع الملك الظاهر إليهم الشهادة وقد تجنّبوا التّركة لعلمهم بالشهادة.
ومنها أن شعرا «1» بانياس وهى إقليم يشتمل على أرض «2» كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد، فلمّا افتتح صفد أفتاه بعض العلماء باستحقاق الشعرا فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدّم أمره أنّ من كان له فيها ملك قديم فليتسلّمه.
وأمّا صدقاته فكان يتصدّق فى كلّ سنة بعشرة آلاف إردب قمح فى الفقراء والمساكين وأرباب الزوايا، وكان يرتّب لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفا على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفا ليشترى به خبز ويفرّق فى فقراء المسلمين، وأصلح قبر خالد بن الوليد- رضى الله عنه- بحمص، ووقف وقفا على من هو راتب فيه من إمام ومؤذّن وغير ذلك، ووقف على قبر أبى عبيدة بن الجرّاح- رضى الله عنه- وقفا مثل ذلك، وأجرى على أهل الحرمين والحجاز وأهل بدر وغيرهم ما كان انقطع فى أيّام غيره من الملوك.(7/180)
وأمّا عمائره: المدارس والجوامع والأسبلة والأربطة فكثيرة، وغالبها معروفة به، وكان يخرج كلّ سنة جملة مستكثرة يستفكّ بها من حبسه القاضى من المقلّين، وكان يرتّب فى أوّل شهر رمضان بمصر والقاهرة مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين.
وأمّا حرمته ومهابته، منها: أنّ يهوديا دفن بقلعة جعبر عند قصد التّتار لها مصاغا وذهبا وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة، فلمّا أمن كتب إلى صاحب حماة يعرّفه ويسأله أن يسيّر معه من يحفظه ليأخذ خبيئته ويدفع لبيت المال نصفه، فطالع صاحب حماة الملك الظاهر بذلك، فردّ عليه الجواب أنّه يوجّهه مع رجلين ليقضى حاجته؛ فلّما توجهوا مع اليهودىّ ووصلوا إلى الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر اليهودىّ وحده، فلمّا وصل وأخذ فى الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله وأخذ المال، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقا إلى من عساه يقف عليه، فلمّا رأوا المرسوم كفّوا عنه وساعدوه حتّى استخلص ماله. ثم توجّهوا به إلى حماة وسلّموه إلى صاحب حماة، وأخذوا خطّه بذلك.
ومنها: أنّ جماعة من التّجّار خرجوا من بلاد العجم قاصدين مصر، فلمّا مرّوا بسيس منعهم صاحبها من العبور، وكتب إلى أبغا ملك التّتار، فأمره أبغا بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه، وبلغ الملك الظاهر خبرهم، فكتب إلى نائب حلب بأن يكتب إلى نائب سيس، إن هو تعرّض لهم بشىء يساوى درهما واحدا أخذت «1» عوضه مرارا، فكتب إليه نائب حلب بذلك فأطلقهم، وصانع أبغا بن هولاكو(7/181)
على ذلك بأموال جليلة حتّى لا يخالف مرسوم الظاهر، وهو تحت حكم غيره لا تحت حكم الظاهر.
ومنها: أن تواقيعه التى كانت بأيدى التّجار المتردّدين إلى بلاد القبجاق [بإعفائهم «1» من الصادر والوارد] كان يعمل بها حيث حلّوا من مملكة بركة خان ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنّه أعطى بعض التّجّار مالا ليشترى به مماليك وجوارى من التّرك فشرهت نفس التاجر فى المال فدخل به قراقوم «2» من بلاد التّرك واستوطنها، فوقع الملك الظاهر على خبره، فبعث إلى منكوتمر فى أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة إلى مصر. وله أشياء كثيرة من ذلك.
وكان الملك الظاهر يحبّ أن يطّلع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من أحوالهم شىء. وكان يقرّب أرباب الكمالات من كلّ فنّ وعلم. وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلا زائدا ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب.
وكانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدوّ، فيأمر العسكر بالخروج وهم زيادة على ثلاثين ألف فارس، فلا يبيت منهم فارس فى بيته، وإذا خرج من القاهرة لا يمكّن من العود «3» إليها ثانيا.
قلت: كان الملك الظاهر- رحمه الله- يسير على قاعدة ملوك التّتار وغالب أحكام چنكز خان من أمر «اليسق والتّورا» ، واليسق: هو الترتيب، والتّورا:(7/182)
المذهب باللغة التركية؛ وأصل لفظة اليسق: سى يسا، وهى لفظة مركبة من كلمتين صدر الكلمة: سى بالعجمى، وعجزها يسا بالتركىّ، لأنّ سى بالعجمى ثلاثة، ويسا بالمغلىّ الترتيب، فكأنّه قال: التراتيب الثلاثة. وسبب هذه الكلمة أنّ چنكز خان ملك المغل كان قسّم ممالكه فى أولاده الثلاثة، وجعلها ثلاثة أقسام، وأوصاهم بوصايا لم يخرجوا عنها التّرك إلى يومنا هذا، مع كثرتهم واختلاف أديانهم، فصاروا يقولون: سى يسا (يعنى التراتيب الثلاثة التى رتّبها چنكز خان) ، وقد أوضحنا هذا فى غير هذا الكتاب «1» بأوسع من هذا. انتهى. فصارت التّرك يقولون: «سى يسا» فثقل ذلك على العامّة فحرّفوها على عادة تحاريفهم، وقالوا: سياسة. ثم إنّ الترك أيضا حذفوا صدر الكلمة، فقالوا: يسا مدّة طويلة، ثم قالوا: يسق، واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. انتهى.
قلت: والملك الظاهر هذا هو الذي ابتدأ فى دولته بأرباب الوظائف من الأمراء والأجناد، وإن كان بعضها قبله فلم تكن على هذه الصّيغة أبدا؛ وأمثّل لذلك مثلا فيقاس عليه، وهو أنّ الدّوادار كان قديما لا يباشره إلا متعمّم يحمل الدّواة ويحفظها. وأمير مجلس «2» هو الذي كان يحرس مجلس قعود السلطان وفرشه.
والحاجب «3» هو البوّاب الآن، لكونه يحجب الناس عن الدخول؛ وقس على هذا.
فجاء الملك الظاهر جدّد جماعة كثيرة من الأمراء والجند ورتّبهم فى وظائف:(7/183)
كالدّوادار والخازندار «1» وأمير آخور والسّراخور «2» والسّقاة والجمداريّة «3» والحجّاب ورءوس النّوب «4» وأمير سلاح وأمير مجلس وأمير شكار «5» .
فأمّا موضوع أمير سلاح فى أيّام الملك الظاهر فهو الذي كان يتحدّث على السّلاح داريّة، ويناول السلطان آلة الحرب والسّلاح فى يوم القتال وغيره، مثل يوم الأضحى وما أشبهه. ولم يكن إذ ذاك فى هذه المرتبة (أعنى الجلوس رأس ميسرة السلطان) ، وإنّما هذا الجلوس كان إذ ذاك مختصّا بأطابك «6» . ثم بعده فى الدولة الناصريّة محمد بن قلاوون برأس نوبة الأمراء كما سيأتى ذكره فى محلّه. وتأييد ذلك يأتى فى أوّل ترجمة الملك الظاهر برقوق، فإنّ برقوق نقل أمير سلاح قطلوبغا «7»(7/184)
الكوكائىّ إلى حجوبيّة الحجّاب. وأمير مجلس كان موضوعها فى الدولة الظاهريّة بيبرس يتحدّث على الأطبّاء والكحّالين والمجبّرين، وكانت وظيفة جليلة أكبر قدرا من أمير سلاح.
وأمّا الدّواداريّة فكانت وظيفة سافلة. كان الذي يليها أوّلا غير جندى، وكانت نوعا من أنواع المباشرة، فجعلها الملك الظاهر بيبرس على هذه الهيئة، غير أنّه كان الذي يليها أمير عشرة. ومعنى دوادار باللغة العجمية: ماسك الدّواة، فإنّ لفظة «دار» بالعجمىّ: ماسك، لا ما يفهمه عوامّ المصرييّن أنّ دارا هى الدار التى يسكن فيها، كما يقولون فى حقّ الزّمام: زمام الآدر؛ وصوابه زمام دار. وأوّل من أحدث هذه الوظيفة ملوك السّلجوقيّة. والجمدار، الجمى هى البقجة باللغة العجمية، ودار تقدّم الكلام عليه، فكأنّه قال: ماسك البقجة التى للقماش. وقس على هذا فى كلّ لفظ يكون فيه دار من الوظائف.
وأمّا رأس نوبة فهى عظيمة عند التّتار، ويسمّون الذي يليها «يسوول» بتفخيم السين. والملك الظاهر أوّل من أحدثها فى مملكة مصر. والأمير آخور أيضا وظيفة عظيمة؛ والمغل تسمى الذي يليها «آق طشى» . وأمير آخور لفظ مركب من فارسى وعربى، فأمير معروف وآخور هو اسم المذود بالعجمىّ، فكأنّه يقول:
أمير المذود الذي يأكل فيه الفرس. وكذلك السلاخورى وغيره؛ مما أحدثها «1» الملك الظاهر أيضا.
وأمّا الحجوبيّة فوظيفة جليلة فى الدولة التركيّة، وليس هى الوظيفة التى كان يليها حجبة الخلفاء، فأولئك كانوا حجبة يحجبون الناس عن الدخول على الخليفة، ليس من شأنهم الحكم بين الناس والأمر والنهى؛ وهى ممّا جدده الملك(7/185)
الظاهر بيبرس، لكنها عظمت فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون حتّى عادلت النّيابة «1» .
وأمّا ما عدا ذلك من الوظائف فأحدثها الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتى بيانه فى تراجمه الثلاث من هذا الكتاب، بعد أن جدّد والده الملك المنصور قلاوون وظائف أخركما سيأتى ذكره أيضا فى ترجمته على ما شرطناه فى هذا الكتاب من أنّ كلّ من أحدث شيئا عزيناه له. وممّا أحدثه الملك الظاهر أيضا البريد فى سائر ممالكه، بحيث إنّه كان يصل إليه أخبار أطراف بلاده على اتّساع مملكته فى أقرب وقت.
وأمّا ما افتتحه من البلاد وصار إليه من أيدى المسلمين فعدّة بلاد وقلاع.
والذي افتتحه من أيدى الفرنج- خذلهم الله-: قيساريّة، وأرسوف، وصفد، وطبريّة، ويافا، والشّقيف، وأنطاكية، وبغراس، والقصير، وحصن الأكراد وعكّار «2» ، والقرين «3» ، وصافيثا، ومرقيّة. وناصفهم على المرقب وبانياس وبلاد أنطرطوس وعلى سائر ما بقى فى أيديهم من البلاد والحصون وغيرها. واستعاد من صاحب سيس دربساك، ودركوش، ورعبان «4» ، والمرزبان «5» وبلادا أخر. والذي(7/186)
صار إليه من أيدى المسلمين: دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصّلت، وكانت هذه البلاد التى تغلّب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبى بعد موت الملك المظفّر قطز، لما تسلطن بدمشق وتلقّب بالملك المجاهد. انتهى. وحمص، وتدمر، والرّحبة، ودلويا «1» ، وتلّ باشر، وهذه البلاد انتقلت إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص فى سنة اثنتين وستين «2» وستمائة. وصهيون وبلاطنس، وبرزيه، وهذه منتقلة إليه عن الأمير سابق الدين سليمان بن سيف الدين أحمد وعمّه عزّ الدين.
وحصون الإسماعيلّية «3» وهى: الكهف، والقدموس، والمينقة «4» ، والعلّيقة، والخوابى «5» ، والرّصافة، ومصياف «6» ، والقليعة «7» . وأمّا انتقل إليه عن الملك المغيث ابن الملك العادل أبى بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب: الشّوبك، والكرك. وما انتقل إليه عن التّتار: بلاد حلب الشماليّة بأسرها، وشيزر، والبيرة.(7/187)
وفتح الله على يديه بلاد «1» النّوبة، وفيها من البلاد ممّا يلى أسوان جزيرة بلاق «2» ؛ ويلى(7/188)
هذه البلاد بلاد «1» العلى وجزيرة «2» ميكائيل؛ وفيها بلاد وجزائر الجنادل «3» وهى(7/189)
أيضا بلاد، ولمّا فتحها أنعم بها على ابن عمّ المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها، ووضع عليه عبيدا وجوارى وهجنا وبقرا، وعن كلّ بالغ من رعيّته دينارا فى كلّ سنة.
وكانت حدود مملكة الملك الظاهر من أقصى بلاد النّوبة إلى قاطع الفرات. ووفد عليه من التّتار زهاء عن ثلاثة آلاف فارس، فمنهم من أمره طبلخاناه، ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السّقاة، ثم جعل منهم سلحداريّة وجمداريّة ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
وأمّا مبانيه فكثيرة منها ما هدمه التّتار من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دار الذهب، وبرحبة «1» الحبارج قبّة عظيمة محمولة على اثنى عشر عمودا من الرخام الملوّن، وصور فيها سائر حاشيته وأمرائه على هيئتهم، وعمّر بالقلعة أيضا طبقتين مطلّتين على رحبة الجامع «2» وأنشأ برج «3» الزاوية المجاورة لباب القلعة «4» ، وأخرج منه(7/190)
رواشن، وبنى عليه قبّة وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقا للمماليك أيضا.
وأنشأ «1» برحبة باب القلعة دارا كبيرة لولده الملك السعيد، وكان فى موضعها حفير فعقد عليه ستة عشر عقدا، وأنشأ دورا كثيرة بظاهر القاهرة [ممّا يلى القلعة «2» وإصطبلات] برسم الأمراء، فإنّه كان يكره سكنى الأمير بالقاهرة مخافة من حواشيه على الرعيّة.
وأنشأ حمّاما «3» بسوق الخيل لولده الملك السعيد، وأنشأ الجسر «4» الأعظم والقنطرة التى على الخليج، وأظنّها قنطرة «5» السّباع، وأنشأ الميدان بالبورجى «6» ونقل إليه النخيل بالثمن الزائد من الديار المصريّة، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به(7/191)
المناظر والقاعات والبيوتات. وجدّد جامع «1» الأنور (أعنى جامع الظافر العبيدىّ) المعروف الآن بجامع الفاكهيّين والجامع «2» الأزهر، وبنى جامع «3» العافية بالحسينيّة وأنفق عليه فوق الألف ألف درهم، وأنشأ قريبا منه زاوية «4» الشيخ خضر وحمّاما وطاحونا وفرنا وعمّر بالمقياس «5» قبّة رفيعة [مزخرفة «6» ] ، وأنشأ عدّة جوامع بالديار المصريّة؛ وجدّد قلعة الجزيرة «7» ، وقلعة العمودين «8» ببرقة، وقلعة «9» السّويس، وعمّر جسرا بالقليوبيّة، والقناطر على(7/192)
بحر «1» أبى المنجّا وقنطرة بمنية السّيرج «2» ، وقنطرتين «3» عند القصير على بحر إبراش بسبعة أبواب مثل قنطرة بحر أبى المنجّا، وأنشأ فى الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستّ عشرة قنطرة، وبنى على خليج الإسكندرية قريبا من قنطرتها [القديمة «4» ] قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الإسكندرية «5» وكان قد ارتدم بالطّين، وحفر بحر أشموم «6» ، وكان قد عمى، وحفر ترعة «7» الصلاح وخورسخا «8» وحفر المحامدى والكافورى، وحفر فى ترعة أبى الفضل ألف قصبة، وحفر بحر «9» الصّمصام بالقليوبيّة، وحفر بحر «10» سردوس.(7/193)
وتمّم عمارة حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمل منبره، وجعل بالضريح النّبوىّ درابزينا، وذهّب سقوفه وجدّدها وبيّض حيطانه؛ وجدّد البيمارستان بالمدينة النبويّة، ونقل إليه سائر المعاجين والأكحال والأشربة، وبعث إليه طبيبا [من الديار «1» المصريّة] .
وجدّد فى الخليل عليه السلام قبّته، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه [وميضأته «2» ] وبيّضه وزاد فى راتبه. وجدّد بالقدس الشريف ما كان قد تهدّم من [قبّة «3» ] الصخرة، وجدّد قبّة السلسلة وزخرفها وأنشأ بها خانا للسبيل، نقل بابه من دهليز كان للخلفاء المصريّين بالقاهرة، وبنى به مسجدا وطاحونا وفرنا وبستانا. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبّة ومسجدا، وهو عند الكثيب الأحمر قبلى أريحا «4» ووقف عليه وقفا. وجدّد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وغيّرهما «5» . ووسّع عمارة مشهد جعفر «6» الطيّار- رضى الله عنه- ووقف عليه وقفا زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمر جسرا بقرية دامية بالغور على نهر الشّريعة، ووقف عليه وقفا برسم ما عساه يتهدّم منه. وأنشأ جسورا كثيرة بالغور والساحل.(7/194)
وأنشأ قلعة قاقون «1» وبنى بها جامعا ووقف عليه وقفا، وبنى على طريقها حوضا للسبيل. وجدّد جامع مدينة الرملة، وأصلح جامعا لبنى أميّة «2» ووقف عليه وقفا.
وعدّة جوامع ومساجد بالساحل.
وجدّد باشورة لقلعة صفد وأنشأها بالحجر الهرقلىّ، وعمّر لها «3» أبراجا وبدنات، وصنع بغلات مصفّحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وأنشأ بالقلعة صهريجا كبيرا مدرّجا من أربع جهاته، وبنى عليه برجا زائد [الارتفاع «4» ] ، قيل إن ارتفاعه مائة ذراع، وبنى تحت البرج حمّاما، وصنع الكنيسة جامعا وأنشأ رباطا ثانيا، وبنى حمّاما ودارا لنائب السلطنة.
وكانت قلعة الصّبيبة قد أخربها التّتار، ولم يبقوا منها إلّا الآثار فجدّدها، وأنشأ لجامعها منارة، وبنى بها دارا لنائب السلطنة، وعمل جسرا يمشى عليه إلى القلعة.
وكان التّتار قد هدموا شراريف قلعة دمشق، ورءوس أبراجها، فجدّد ذلك كلّه، وبنى فوق برج الزاوية المطلّ على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة، وجدّد منظرة على قائمة مستجدّة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدّد دهان سقوفها: وبنى حمّاما «5» خارج باب النصر بدمشق، وجدّد ثلاثة إسطبلات على الشّرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان بدمشق وما حوله من العمائر. وجدّد مشهد زين العابدين رضى الله عنه بجامع دمشق، وأمر بترخيم الحائط الشمالى،(7/195)
وتجديد باب البريد «1» وفرشه بالبلاط. ورمّ شعث مغارة الدم «2» . وجدّد المبانى التى هدموها التّتار من قلعة صرخد. وجدّد قبر نوح عليه السلام بالكرك. وجدّد أسوار حصن الأكراد، وعمّر قلعتها. وعمّر جوامع ومساجد بالساحل يطول الشرح فى ذكرها حذفتها خوف الإطالة.
وبنى فى أيامه بالديار المصريّة ما لم يبن فى أيام الخلفاء المصريّين، ولا ملوك بنى أيّوب من الأبنية والرّباع والخانات والقواسير والدّور والمساجد والحمّمات، من قريب مسجد التّبن «3» إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض «4» الطّبّالة، واتّصلت العمائر إلى باب المقسم «5» إلى اللّوق «6» إلى البورجى «7» ؛ ومن الشارع إلى الكبش «8»(7/196)
وحدرة «1» ابن قميحة إلى تحت القلعة ومشهد «2» السيدة نفيسة رضى الله عنها إلى السّور القراقوشىّ «3» . وكلّ ذلك من كثرة عدله وإنصافه للرعيّة والنّظر فى أمورهم وإنصاف الضعيف من المستضعف والذّبّ عنهم من العدوّ المخذول رحمه الله وعفا عنه.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف- كانت عدّة العساكر بالديار المصريّة أيّام الملك الكامل محمد وولده الملك الصالح أيّوب عشرة آلاف فارس، فضاعفها أربعة أضعاف؛ وكان اولئك الذين كانوا قبله العشرة آلاف مقتصدين فى الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء (أعنى عسكر الظاهر الأربعين ألفا) ، كانوا بالضدّ من ذلك؛ وكانت كلف ما يلوذ بهم من إقطاعهم، وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ ولذلك تضاعفت الكلف فى أيّامه. فإنّه كان يصرف فى كلف مطبخ أستاذه الملك الصالح أيّوب ألّف رطل [لحم «4» ] بالمصرىّ خاصّة نفسه فى كلّ يوم؛(7/197)
والمصروف فى مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل كلّ يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم نقرة «1» ، ويصرف فى خزانة «2» الكسوة فى كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف فى الكلف الطارئة المتعلّقة بالرّسل والوفود فى كلّ يوم عشرون ألف درهم، ويصرف عن قرط دوابّه ودوابّ من يلوذ به فى كلّ سنة ثمانمائة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشرة ألف عليقة فى اليوم، عنها ستمائة إردب؛ وما كان «3» يقوم به لمن أوجب نفقته وألزمها عليه تطحن وتحمل إلى المخابز المعدّة لعمل الجرايات خلا ما يصرف على أرباب الرواتب فى كلّ شهر عشرون ألف إردب؛ وذلك بالديار المصريّة خاصة. وهذا خلاف «4» الطوارئ التى كانت تفد عليه فما يمكن حصرها. وكلف أسفاره وتجديد السلاح فى كلّ قليل؛ وما كان عليه من الجوامك «5» والجرايات لمماليكه ولأرباب الخدم؛ فكان ديوانه يفى بذلك كلّه؛ ويحمل لحاصله جملة كبيرة فى السنة من الذهب.
وكان سبب ذلك أنه رفع أيدى الأقباط من غالب تعلّقاته فافتقر أكثرهم فى أيّامه؛ وباشروا الصنائع كالتجارة والبناية؛ ولا زال أمرهم على ذلك حتى تراجع فى أواخر الدولة الناصريّة محمد بن قلاوون. انتهت ترجمة الملك الظاهر بيبرس، رحمه الله تعالى.(7/198)
ونذكر بعض أحواله، إن شاء الله تعالى، فى حوادث سنينه كما هو عادة هذا الكتاب على سبيل الاختصار. وقد أطلت فى ترجمته وهو مستحقّ لذلك، لأنّه فرع فاق أصله، كونه كان من جملة مماليك الملك الصالح نجم الدين أيّوب فزادت محاسنه عليه.
وأمّا من يأتى بعده فلا سبيل إليه. ويعجبنى فى هذا المعنى المقالة الثانية عشرة من قول الشيخ الإمام العالم العارف الرّبّانىّ شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانىّ المعروف بشوروة «1» رحمه الله فى كتابه الذي فى اللّغة وسمّاه «أطباق الذهب» يشتمل على مائة مقالة [واثنتين] أحسن فيها غاية الإحسان، وهى:
«ليس الشريف من تطاول وتكاثر «2» ، إنّما الشريف من تطوّل وآثر؛ وليس المحسن من روى القرآن، إنّما المحسن من أروى الظمآن؛ وليس البرّ إبانة الحروف بالإمالة والاشباع، لكنّ البرّ إغاثة الملهوف بالإنالة والإشباع؛ ولا خير فى زكأة «3» لا يسدى معروفا، ولا بركة فى لبنة «4» لا تروى «5» خروفا؛ فوا [ها] «6» لك، لمن تدّخر أموالك! أنفق ألفك، قبل أن يقسم خلفك؛ إنّ منازل الخلق سواسية، إلّا من له يد مواسية؛ فأرفعهم أنفعهم، وأسودهم أجودهم، وأفضلهم أبذلهم؛ وخير الناس من سقى ملواحا «7» ،(7/199)
ونصب للجنّة ملواحا «1» ؛ والكرم نوعان، أحسنهما إطعام الجوعان؛ والحازم من قدّم الزاد لعقبة العقبى، وآتى المال على حبّه ذوى القربى» . انتهت المقالة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[ما وقع من الحوادث سنة 659]
السنة الأولى من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ على مصر، وهى سنة تسع وخمسين وستمائة، على أنّه حكم فى آخر السنة الماضية نحو الشهر.
قلت: ودخلت سنة تسع وخمسين المذكورة وليس للمسلمين خليفة، وكان أوّلها يوم الاثنين لأيّام خلون من كانون أحد شهور الروم؛ وكانون بالقبطىّ كيهك. فدخلت السنة والسلطان بديار مصر الملك الظاهر بيبرس، وصاحب مكّة نجم الدين «2» أبو نمىّ بن أبى سعد الحسنىّ، وصاحب المدينة جمّاز بن شيحة الحسينىّ، وصاحب دمشق وبعلبكّ وبانياس والصّبيبة الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، تغلّب عليها وتسلطن وتلقّب بالملك المجاهد، ونائب حلب من قبل الملك الظاهر بيبرس الأمير حسام الدين لاچين الجوكندار العزيزىّ، وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم لؤلؤ، وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق بن لؤلؤ المذكور، وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازى الأرتقىّ، وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان ابن السلطان غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد السّلجوقىّ وأخوه عزّ الدين كيكاوس،(7/200)
والبلاد بينهما مناصفة، وصاحب الكرك والشّوبك الملك المغيث [فتح «1» الدين عمر] ابن الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيّوب، وصاحب حماة الملك المنصور «2» محمد الأيّوبىّ، وصاحب حمص وتدمر والرّحبة الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، وصاحب مرّاكش من بلاد المغرب أبو حفص «3» عمر الملقّب بالمرتضى، وصاحب تونس أبو «4» عبد الله محمد بن أبى زكريّا، وصاحب اليمن الملك المظفّر «5» شمس الدين يوسف بن عمر التّركمانىّ من بنى رسول.
وفيها كانت كسرة التّتار على حمص، وقد تقدّم ذكر ذلك.
وفيها ملك السلطان الملك الظاهر دمشق وأخرج منها علم الدّين سنجر الحلبىّ، وولّى نيابتها الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ، أستاذ الملك الظاهر بيبرس هذا، الذي أخذه الملك الصالح نجم الدين أيّوب منه، حسب ما ذكرنا ذلك أوّل ترجمة الملك الظاهر.
وفيها وصل الخليفة المستنصر بالله إلى القاهرة وبويع بالخلافة، وسافر صحبة الملك الظاهر إلى الشام، ثم فارقه وتوجّه إلى العراق فقتل، وقد مرّ ذكر ذلك كلّه أيضا.
وفيها توفّى الملك الصالح نور الدين إسماعيل ابن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد بن أسد الدين شير كوه الكبير، كان الملك الصالح هذا صاحب حمص(7/201)
ملكها بعد موت أبيه، وكان له اختصاص كبير بابن عمّه الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام، وكان الصالح هذا يدارى التّتار ولا يشاققهم، وآخر الأمر أنه قتل فى وقعة هولاكو بيد التّتار رحمه الله تعالى لمّا توجّه إليهم صبحبة الملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور، وكان عنده حزم وشجاعة.
وفيها توفّى الشيخ الأديب الفقيه مخلص الدين إسماعيل بن عمر [بن «1» يوسف] ابن قرناص الحموىّ الشاعر المشهور، كان فصيحا شاعرا من بيت علم وأدب.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
أمّا والله لو شقّت قلوب ... ليعلم ما بها من فرط حبّى
لأرضاك الذي لك فى فؤادى ... وأرضانى رضاك بشقّ قلبى
وفيها توفّى الملك السعيد إيلغازى نجم الدين [ابن «2» أبى الفتح أرتق بن إيلغازى ابن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى] الأرتقى صاحب ماردين، مات فى سادس صفر، وقيل فى ذى الحجّة سنة ثمان وخمسين.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ المحدّث أبو عمرو عثمان بن مكّى بن عثمان السّعدىّ الشّارعىّ الشّافعىّ، سمع الكثير واعتنى به والده فأسمعه من نفسه وغيره، وكان ينشد لأبى العتاهية:
اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور
فرح وحزن مرّة ... لا الحزن دام ولا السّرور
وفيها توفّى الأديب الفاضل نور الدين أبو الحسن علىّ بن يوسف بن أبى المكارم عبد الله الأنصارىّ المصرىّ المعروف بالعطّار، كان شاعرا فاضلا، مات قبل الأربعين سنة من عمره. ومن شعره ملغزا فى كوز الزّير:(7/202)
وذى أذن بلا سمع ... له قلب «1» بلا لبّ
مدى الأيّام فى خفض ... وفى رفع وفى نصب
إذا استولى على الحبّ ... فقل ما شئت فى الصّبّ «2»
وفيها كانت مقتلة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وكنيته أبو المظفّر، ابن السلطان الملك العزيز محمد ابن السلطان الملك الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب الأيّوبى الحلبىّ، وكان صاحب حلب ثم صاحب الشام. ولد بقلعة حلب فى شهر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وسلطنوه عند موت أبيه سنة أربع وثلاثين، وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينى، وعز الدين بن المحلى «3» ، والوزير الأكرم «4» جمال الدين القفطىّ، والطواشى جمال الدولة إقبال الخاتونىّ، والأمر كلّه راجع لأمّ [أبيه «5» ] الصاحبة صفيّة خاتون بنت الملك العادل أبى بكر بن أيّوب. وماتت سنة أربعين واستقلّ «6» الملك الناصر هذا وأمر ونهى. ووقع للملك الناصر هذا أمور ووقائع ومحن، وهو الذي كان الملك الظاهر بيبرس لمّا خرج من مصر فى نوبة البحريّة توجّه إليه وصار فى خدمته. وقد مرّ ذكره فى مواطن كثيرة من هذا الكتاب، من قدومه نحو القاهرة فى جفلة التّتار، ورجوعه من قطية «7» إلى البلاد الشاميّة، وغير ذلك، ثم آل أمره إلى أن توجّه إلى ملك التّتار هولاكو وتوجّه معه أخوه(7/203)
الملك الظاهر سيف الدين غازى، وكان رشّح للملك، والملك الصالح نور الدين إسماعيل صاحب حمص المقدّم ذكره فى هذه السنة؛ ولمّا وصل الملك الناصر إلى هولاكو أحسن إليه وأكرمه إلى أن بلغه كسرة عين جالوت غضب عليه وأمر بقتله، فاعتذر إليه فأمسك عن قتله، لكن أعرض عنه، فلمّا بلغه كسرة بيدرا «1» على حمص قتله وقتل أخاه سيف الدين غازيا «2» المذكور، وقتل الملك الصالح نور الدين صاحب حمص وجميع من كان معه سوى ولده الملك العزيز. وكان الملك الناصر مليح الشكل إلّا أنّه كان أحول؛ وكان عنده فصاحة ومعرفة بالأدب، وكان كريما عاقلا فاضلا جليلا متجمّلا فى مماليكه وملبسه ومركبه، وكان فصيحا شاعرا لطيفا.
قال ابن العديم «3» : أنشدنى لنفسه. (يعنى الملك الناصر هذا) .
البدر يجنح للغروب ومهجتى ... لفراق مشبهه أسى تتقطّع
والشّرب قد خاط النعاس جفونهم ... والصبح من جلبابه يتطلّع
قال وأنشدنى لنفسه رحمه الله تعالى:
اليوم يوم الأربعا ... فيه يطيب المرتعى
يا صاحبى أما ترى ... شمل المنى قد جمّعا
وقد حوى مجلسنا ... جلّ السرور أجمعا
فقم بنا نشربها ... ثلاثة وأربعا(7/204)
من كفّ ساق أهيف ... شبيه بدر طلعا
فى خدّه وثغره ... ورد ودرّ صنعا
يسطو ويرنو تارة ... والليث والظبى معا
وله لمّا مرّت به التّتار على حلب، وهى خاوية على عروشها وقد تهدّمت والنّيران بها تعمل، فقال:
يعزّ علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى
وله يشتاق إلى حلب ومنازلها:
سقى «1» حلب الشّهباء فى كل لزبة ... سحابة غيث نوءها ليس يقلع
فتلك ديارى لا العقيق ولا الغضا ... وتلك ربوعى لا زرود ولعلع
قلت: وقد ذكرنا من محاسنه وفضله نبذة كبيرة فى تاريخنا «المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى» إذ هو كتاب تراجم يحسن التطويل فيه. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الجمال عثمان بن مكىّ ابن السّعدىّ الشارعىّ الواعظ فى شهر ربيع الآخر، وله خمس وسبعون سنة.
وأبو الحسن محمد بن الأنجب «2» بن أبى عبد الله الصوفىّ فى رجب، وله ثلاث وثمانون سنة. وحافظ المغرب أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمرىّ بتونس فى رجب، وله واحد وستون عاما. وكمال الدين أبو حامد محمد ابن القاضى صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الصدر العدل فى شوّال، وله اثنتان وثمانون سنة. وصاحب الشام الملك الناصر يوسف بن العزيز قتل صبرا،(7/205)
وله اثنتان وثلاثون سنة، وقتل معه شقيقه الملك الظاهر غازى، والملك الصالح إسماعيل ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص. وتوفى بصهيون صاحبها مظفّر الدين عثمان بن منكورس فى شهر ربيع الأوّل عن سنّ عالية؛ تملّك بعد أبيه ثلاثا وثلاثين «1» سنة، وولى بعد ابنه محمد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 660]
السنة الثانية من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ستين وستمائة.
فيها استولى الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة على دمشق وبعلبكّ والصّبيبة وحلب وأعمالها خلا البيرة.
وفيها استولى التّتار على الموصل، وقتلوا الملك الصالح صاحبها الذي كان خرج مع الخليفة المستنصر من ديار مصر؛ على ما يأتى ذكرهما فى محلّه من هذه السنة.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد، الذي بويع بالقاهرة بالخلافة بعد شغور الخلافة نحو سنتين ونصف، وخرج الملك الظاهر بيبرس معه إلى البلاد الشاميّة، وقد مرّ ذكر قدومه القاهرة وبيعته وسفره وقتله ورفع نسبه إلى العبّاس رضى الله عنه فى ترجمة الملك الظاهر هذا، ولا حاجة للإعادة؛ ومن أراد ذلك فلينظره هناك.(7/206)
وفيها قتل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.
وقد ذكرنا وفوده على الملك وخروجه مع أخيه والخليفة المستنصر بالله المقدّم ذكره، فلا حاجة لذكره هنا ثانيا؛ قتل بأيدى التّتار فى ذى القعدة، وكان عارفا عادلا حسن السّيرة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بلبان «1» الزردكاش، كان من أعيان أمراء دمشق، وكان الأمير طيبرس «2» الوزيرى نائب الشام إذا خرج من الشام استنابه عليها، وكان ديّنا خيّرا. مات بدمشق فى ذى الحجّة.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الشيخ الأديب أبو محمد الغنوىّ النّصيبىّ الشافعىّ الإربلىّ المنشأ الضّرير الملقّب بالعزّ. قال صاحب الذّيل على مرآة الزمان: المشهور بعدم الدّين والزّندقة. كان فاضلا فى العربيّة والنحو والأدب وعلوم الأوائل، منقطعا فى منزله يتردّد إليه من يقرأ عليه تلك العلوم، وكان يتردّد إليه جماعة من المسلمين واليهود والنصارى والسامرة يقرئ الجميع؛ قال: وكان يصدر عنه من الأقوال ما يشعر بانحلال عقيدته. ومات فى شهر ربيع الاخر بدمشق. ومن شعره قوله:
توهّم واشينا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتّى اتحدنا تعانقا ... [فلمّا «3» ] أتانا ما رأى غير واحد
قال الشهاب «4» محمود: ولمّا أنشدت هذين البيتين يعنى قول العزّ.
توهم واشينا بليل مزاره(7/207)
بين يدى الملك الناصر صلاح الدين صاحب دمشق قال: لا تلمه فإنّه لزمه «1» لزوم أعمى؛ فلمّا بلغ العزّ قول الملك الناصر؛ قال: والله هذا الكلام أحلى من شعرى.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة شيخ الإسلام عزّ الدين أبو محمد عبد العزيز ابن عبد السلام بن أبى القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذّب السلمى الدّمشقىّ الشافعىّ المعروف بابن عبد السلام. مولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة.
قال الذهبىّ: وتفقّه على الإمام فخر «2» الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول والعربيّة، ودرّس وأفتى وصنّف وبرع فى المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من الآفاق وتخرّج به أئمة، وله التصانيف المفيدة والفتاوى السديدة، وكان إماما ناسكا عابدا، وتولّى قضاء مصر القديمة مدّة، ودرّس بعدّة بلاد. ومات فى عاشر جمادى الأولى.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ عزّ الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الشيخ الإمام العلّامة أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلى الدمشقىّ الحنفىّ هو ابن صاحب مرآة الزمان. كان عزّ الدين فقيها واعظا فصيحا مفتنّا درّس بعد أبيه فى المدرسة المعزّية ووعظ وكان لوعظه موقع فى القلوب، وكانت وفاته بدمشق فى شوّال ودفن عند أبيه بسفح قاسيون.
وفيها توفّى الإمام العلّامة كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد ابن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله(7/208)
ابن محمد بن أبى جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل العقيلىّ الحلبىّ الفقيه الحنفى الكاتب المعروف بابن العديم، ورفع نسبه بعض المؤرّخين إلى غيلان. مولده بحلب فى العشر الأوّل من ذى الحجّة سنة ستّ وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث من أبيه وعمّه أبى غانم «1» محمد ومن غيرهما، وحدّث بالكثير فى بلاد متعدّدة، ودرّس وأفتى وصنّف، وكان إماما عالما فاضلا مفتنّا فى علوم كثيرة، وهو أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين. وأمّا خطّه ففى غاية الحسن يضاهى ابن البوّاب «2» الكاتب؛ وقيل: إنّه هو الذي اخترع قلم الحواشى، وعرّض بهذا فى شعره القيسرانىّ رحمه الله تعالى بقوله:
بوجه معذّبى آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشى
ونسخة حسنة قرئت وصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشى
وجمع لحلب تاريخا كبيرا فى غاية الحسن، ومات وبعضه مسودّة.
قلت: وذيّل عليه القاضى علاء الدين «3» علىّ ابن خطيب الناصريّة قاضى قضاة الشافعية بحلب ذيلا «4» إلّا أنّه قصير إلى الرّكبة، وقفت عليه فلم أجده جال حول الحمى، ولا سلك فيه مسلك المذيّل عليه من الشروط، إلّا أنّه أخذ علم التاريخ بقوّة الفقه، على أنّه كان من الفضلاء العلماء ولكنّه ليس من خيل هذا الميدان، وكان يقال فى الأمثال: من مدح بما ليس فيه فقد تعرّض للضّحكة. انتهى.(7/209)
ومحاسن ابن العديم كثيرة وعلومه غزيرة، وهم بيت علم ورياسة وعراقة.
يأتى ذكر جماعة من ذرّيّته وأقاربه فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومن شعر الصاحب كمال الدين المذكور ممّا كتبه على ديوان الشيخ أيدمر «1» مولى وزير الجزيرة، وهو:
وكنت أظنّ التّرك تختصّ أعين ... لهم إن رنت بالسّحر منها وأجفان
إلى أن أتانى من بديع قريضهم ... قواف هى السحر الحلال وديوان
فأيقنت أنّ السحر أجمعه «2» لهم ... يقرّ لهم هاروت فيه وسحبان
ومن شعره أيضا رحمه الله وأجاد فيه إلى الغاية:
فواعجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أمسى علىّ محرّما
هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذّته مع أنّنى لم أذقهما
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال. وفيها توفّى العلّامة عزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمىّ الدّمشقى بالقاهرة فى جمادى الأولى عن ثلاث وثمانين سنة. والصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن العديم العقيلىّ بعد ابن عبد السلام بأيام، وكان له اثنتان وسبعون سنة. ونقيب الأشراف بهاء الدين علىّ بن محمد بن إبراهيم بن أبى الجنّ «3» الحسينىّ فى رجب عن إحدى وثمانين سنة.
وضياء الدين عيسى بن سليمان التّغلبىّ فى رمضان، وله تسعون سنة. واستشهد فى المصافّ المستنصر بالله أحمد ابن الظاهر محمد ابن الناصر فى أوائل المحرّم بالعراق،(7/210)
وتفرّق جمعه. وقتلت التّتار فى ذى القعدة الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل بعد الأمان. وفى شهر ربيع الآخر العزّ الضرير الفيلسوف حسن ابن محمد بن أحمد الإربلى، وله أربع وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 661]
السنة الثالثة من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة إحدى وستين وستمائة.
فيها بايع السلطان الملك الظاهر بيبرس المذكور الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن الأمير أبى علىّ الحسن؛ وقيل: ابن محمد بن الحسن بن علىّ القبّى ابن الخليفة الراشد، وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بنى العبّاس، وهو أوّل خليفة من بنى العبّاس سكن بمصر ومات بها؛ وبويع يوم الخميس تاسع المحرّم من سنة إحدى وستين وستمائة، وكان وصوله إلى الديار المصريّة فى السنة الحاليّة.
وفيها هلك ريدا «1» فرنس، واسمه بواش المعروف بالفرنسيس ملك الفرنج الذي كان ملك دمياط فى دولة الملك الصالح أيّوب.
وفيها توفّى المحدّث الفاضل عزّ الدين أبو محمد عبد الرّزاق [بن رزق «2» الله] ابن أبى بكر بن خلف الرّسعنىّ «3» ، كان إماما فاضلا شاعرا محدّثا. ومن شعره:
[و «4» ] لو أنّ إنسانا يبلّغ لوعتى ... وشوقى وأشجانى إلى ذلك الرّشا(7/211)
لأسكنته عينى ولم أرضها له ... فلولا لهيب القلب أسكنته الحشا
وفيها توفّى الأمير مجير الدين «1» أبو الهيجاء [بن «2» ] عيسى الأزكشىّ الكردىّ الأموىّ، كان عن أعيان الأمراء وشجعانهم، ولمّا ولى الملك المظفّر قطز السلطنة، وولّى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ نيابة الشام جعله مشاركا له فى الرأى والتدبير فى نيابة الشام، وكان الملك الأشرف موسى بن العادل سجنه «3» مدّة لأمر اقتضى ذلك. فلمّا كان فى السجن كتب بعض الأدباء يقول:
يا أحمد ما زلت عماد الدين ... يا أشجع من أمسك رمحا بيمين
لا تيئسنّ إن حصلت فى سجنهم ... ها يوسف قد أقام فى السجن سنين
وكان مولده بمصر فى سنة ثمان وستين وخمسمائة؛ ومات فى جمادى الأولى بمدينة إربل.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى عبد الغنى بن سليمان ابن بنين البنانىّ فى شهر ربيع الأوّل، وله ستّ وثمانون سنة، وهو آخر من روى عن عمر «4» . والعلّامة علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسىّ فى رجب بدمشق، وله ستّ وثمانون سنة. والإمام تقىّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن مرهف النّاشرىّ «5» المصرىّ المقرئ فى شعبان، وله إحدى وثمانون سنة. والإمام كمال الدين علىّ بن شجاع ابن سالم العبّاسىّ الضّرير فى ذى الحجّة، وله تسعون سنة إلّا شهرا.(7/212)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 662]
السنة الرابعة من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة اثنتين وستين وستمائة.
فيها انتهت عمارة مدرسة «1» السلطان الملك الظاهر بيبرس ببين القصرين من القاهرة. وقد تقدّم ذكرها فى ترجمته.
وفيها استدعى الملك الظاهر الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ إلى القاهرة؛ وأمره أن يجعل نائبه بحلب بعد خروجه الأمير نور الدين علىّ بن مجلّى ففعل ذلك، وقدم القاهرة؛ فلمّا وصل إليها عزله وأقام نور الدين عوضه فى نيابة حلب. وقد تقدّم أنّ علاء الدين أيدكين هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس الذي اشتراه منه الملك الصالح نجم الدين أيّوب.
وفيها كان الغلاء بديار مصر فبلغ الإردبّ القمح مائة «2» درهم وخمسة دراهم نقرة «3» ، والشّعير سبعين درهما الإردبّ، وثلاثة أرطال خبز بالمصرىّ بدرهم نقرة، ورطل اللحم بالمصرىّ وهو مائة وأربعة وأربعون درهما بدرهم «4» ؛ وكان هذا الغلاء عظيما بديار مصر. فلمّا وقع ذلك فرّق الملك الظاهر الفقراء على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم، ثم فرّق من شونه القمح على الزوايا والأربطة، ورتّب للفقراء(7/213)
كلّ يوم مائة اردبّ مخبوزة تفرّق بجامع ابن طولون. ودام على ذلك إلى أن دخلت السنة الجديدة والمغلّ الجديد؛ وأبيع القمح فى الإسكندريّة فى هذا الغلاء الإردبّ بثلاثمائة وعشرين درهما.
وفيها أحضر بين يدى السلطان طفل ميّت له رأسان «1» وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل، فأمر بدفنه.
وفيها توفّى القاضى كمال الدين أبو «2» العبّاس أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأسدىّ الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن الأستاذ قاضى حلب، مولده سنة إحدى عشرة وستمائة، سمع الكثير وحدّث ودرّس، وكان فاضلا عالما مشكور السّيرة مات فى شوّال.
وفيها توفّى شيخ الشيوخ الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن «3» بن منصور الأنصارىّ الأوسىّ الدمشقىّ المولد الحموىّ الدار والوفاة الإمام الأديب العلّامة، مولده يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى الفقه والحديث والأدب، وأفتى ودرّس وتقدّم عند الملوك، وترسّل عنهم غير مرّة. وكانت له الوجاهة التامّة وله اليد الطّولى فى الترسّل والنظم، وشعره فى غاية الحسن. ومن شعره- رحمه الله- قوله:
إنّ قوما يلحون فى حبّ سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا(7/214)
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيّبا وأعطوا خبيثا
وله رحمه الله:
قلت وقد عقرب صدغا له ... عن شقّة الحاجب لم يحجب
قدّست يا ربّ الجمال الذي ... ألّف بين النون والعقرب
وله عفا الله عنه:
مرضت ولى جيرة كلّهم ... عن الرّشد فى صحبتى حائد
فأصبحت فى النقص مثل الذي ... ولا صلة لى ولا عائد
وله غفر الله له:
ولقد عجبت لعاذلى فى حبّه ... لمّا دجى ليل العذار المظلم
أو ما درى من سنّتى وطريقتى ... أنّى أميل مع السواد الأعظم
قلت: وقد استوعبنا ترجمة شيخ الشيوخ بأوسع من ذلك فى تاريخنا «المنهل الصافى» وذكرنا من محاسنه وشعره نبذة كبيرة، وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن شهر رمضان بحماة رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح عمر صاحب الكرك ابن السلطان الملك العادل أبى بكر محمد ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر محمد ابن الأمير نجم الدين أيّوب الأيّوبىّ المصرىّ ثم الكركىّ. وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة فى ترجمة عمّه الملك الصالح ثم من بعده فى عدّة تراجم لا سيما لمّا توجّه إليه الملك الظاهر بيبرس مع جماعة البحريّة، وأقام عنده وحرّكه على ملك مصر حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه. انتهى.(7/215)
قلت: ومولد الملك المغيث هذا بالديار المصريّة وربّى يتيما عند عمّاته القطبيّات بنات الملك العادل، والقطبيات عرفن بالقطبيات لأنهنّ أشقّاء الملك المفضّل «1» قطب الدين ابن الملك العادل، وبقى المغيث هذا عندهنّ إلى أن أخرج إلى الكرك واعتقل بها ثم ملكها بعد موت عمّه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، ووقع له بها أمور، إلى أن قدم فى العام الماضى على الملك الظاهر بيبرس بمصر، فقبض عليه وقتله فى محبسه، رحمه الله تعالى، لما كان فى نفسه منه أيام كان بخدمته فى الكرك مع البحريّة.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله العزيزىّ [الجوكندار «2» ] ، كان من أكابر الأمراء وأعظمهم، وكان شجاعا جوادا ديّنا له اليد البيضاء فى غزو التّتار، وكان يجمع الفقراء ويصنع لهم الأوقات «3» والسماعات، وكان كبير القدر عظيم الشأن، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الشيخ محيى الدين أبو بكر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الأنصارىّ الأندلسىّ الشاطبىّ، كان فاضلا محدّثا، سمع الكثير وولى مشيخة دار الحديث بحلب، ثم ولى مشيخة الحديث بمصر بالمدرسة «4» الكامليّة وحدّث بها.
ومن شعره، رحمه الله تعالى:
وصاحب كالزّلال يمحو ... صفاؤه الشكّ باليقين
لم يحص إلّا الجميل منّى ... كأنّه كاتب اليمين(7/216)
قلت: وهذا بعكس قول الأديب شهاب «1» الدين المنازىّ، رحمه الله تعالى:
وصاحب خلته خليلا ... وما جرى غدره ببالى
لم يحص إلّا القبيح منّى ... كأنّه كاتب الشمال
وفيها توفّى الملك الأشرف مظفّر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شير كوه الكبير، ملك الأشرف هذا حمص بعد وفاة أبيه، وطالت مدّته به ووقع له أمور، وكان فيه مداراة، للتّتار واستمرّ على ذلك إلى أن توفى بحمص فى حادى عشر صفر قبل صلاة الجمعة، ودفن ليلا على جدّه الملك المجاهد أسد الدين شير كوه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى المحدّث ضياء الدين علىّ بن محمد البالسىّ «2» فى صفر، وله سبع وخمسون سنة. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصارىّ البابشرقىّ فى شهر ربيع الأوّل. والحافظ رشيد الدين أبو الحسين يحيى ابن علىّ الأموىّ العطّار المالكىّ فى جمادى الأولى، وله ثمان وسبعون سنة. وأبو الطاهر إسماعيل بن «3» صارم الخيّاط بعده بأيام. والخطيب عماد الدين عبد الكريم [ابن «4» جمال الدين أبى القاسم عبد الصمد] بن محمد الأنصارىّ بن الحرستانىّ «5» فى جمادى الأولى. والورع الزاهد أبو القاسم بن منصور «6» فى شعبان. والإمام محيى الدين(7/217)
أبو بكر محمد بن محمد بن سراقة الشاطبىّ بمصر، وله سبعون سنة. وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارىّ بحماة فى رمضان. والملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبى بكر بن الكامل محمد صاحب الكرك، أعدمه الملك الظاهر. والأمير الكبير حسام الدين لا چين الجوكندار العزيزىّ فى المحرّم، ودفن بقاسيون. وصاحب حمص الملك الأشرف موسى ابن المنصور إبراهيم بن أسد الدين بحمص فى صفر، وله خمس وثلاثون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 663]
السنة الخامسة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ثلاث وستين وستمائة.
فيها ولّى الملك الظاهر بيبرس من كلّ مذهب قاضيا وقد تقدّم ذكر ذلك.
وفيها توفّى الأديب البارع شرف الدين محاسن [الكتبىّ «1» ] الصّورىّ، كان عالما فاضلا أديبا شاعرا، ومات فى شهر رجب. ومن شعره، رحمه الله:
عتبت علىّ فقلت إن عاتبتها ... كان العتاب لوصلها استهلاكا
وأردت أن تبقى المودّة بيننا ... موقوفة فتركت ذاك لذاك
وفيها توفّى الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك بن بليمان «2» بن عبد الله أبو الفتح، مولده فى جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقوب «3» من أعمال(7/218)
قوص «1» بصعيد مصر وسمع الحديث، وتنقّل فى الولايات الجليلة مثل نيابة السلطنة بالقاهرة ونيابة دمشق، ولم يكن فى الأمراء من يضاهيه فى منزلته وشجاعته وقربه من الملوك، وكان أميرا جليلا خبيرا حازما سيوسا مدبّرا جوادا ممدّحا، وكان الملك الظاهر إذا عمل مشورة وتكلّم جمع خشداشيته من الأمراء فلا يصغى إلّا إلى قول ابن يغمور هذا ويفعل ما أشار به عليه. وكانت وفاته فى مستهلّ شعبان بالقصير «2» من أعمال الفاقوسيّة بين الغرابى والصالحيّة «3» . ومن شعره قوله:
ما أحسن ما جاء كتاب الحبّ ... يبدى حرقا كأنّه عن قلبى
فازددت بما قرأت شوقا وضمّا ... لا يبرّده إلا نسيم القرب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث معين الدين إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز القرشىّ الزّكوىّ. والحافظ زين الدين أبو البقاء خالد ابن يوسف بن سعد النابلسىّ بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة فى سلخ جمادى الأولى. والأمير الكبير جمال الدين موسى بن يغمور. والنجيب فراس بن علىّ بن زيد العسقلانىّ التاجر. وقاضى الديار المصريّة بدر الدين يوسف بن الحسن السّنجارىّ فى رجب. والشيخ أبو القاسم الحوّارىّ «4» الزاهد.(7/219)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 664]
السنة السادسة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة أربع وستين وستمائة.
فيها توفّى شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن صالح، كان فاضلا أديبا. ومن شعره، رحمه الله، فى مكار مليح:
علقته مكاريا ... شرّد عن عينى الكرى
قد أشبه البدر فلا ... يملّ من طول السّرى
وفيها توفّى طاغية التّتار وملكهم هولاكو وقيل هولاوون وقيل هولاو بن تولى خان بن چنكز خان المغلى التّركىّ، ملك مكان أبيه بعد موته وكان من أعظم ملوك التّتار، وكان حازما شجاعا مدبرا، استولى على الممالك والأقاليم فى أيسر مدّة، وفتح بلاد خراسان وأذربيجان وعراق العجم وعراق العرب والموصل والجزيرة وديار بكر والشام والروم والشرق وغير ذلك. وهو الذي قتل الخليفة المستعصم المقدّم ذكره، وكان على قاعدة المغل لا يتديّن بدين، وإنّما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصّرت، فكانت تعضد النصارى وتقيم شعائرهم فى تلك البلاد. وكان هولاكو سعيدا فى حروبه لا يروم أمرا إلّا ويسهل عليه، وكانت وفاته بعلّة الصّرع، وكان الصّرع يعتريه من عدّة سنين فى كلّ وقت، حتّى إنّه كان يعتريه فى اليوم الواحد المرّة والمرّتين والثلاث، ثم زاد به فمرض ولم يزل ضعيفا نحو شهرين وهلك، فأخفوا موته وصبّروه حتى حضر ولده أبغا وجلس مكانه فى الملك، وقيل: إنّه لم يدفن(7/220)
وعلّق بسلاسل، ومات وله ستّون سنة أو نحوها. وخلّف من الأولاد الذكور سبعة عشر ولدا: وهم أبغا الذي ملك بعده وأشموط وتمشين «1» وتكشى «2» وكان [تكشى «3» فاتكا] جبّارا، وأجاى وتستز «4» ومنكوتمر الذي التقى مع الملك المنصور قلاوون على حمص وانهزم جريحا، كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى، وباكودر وأرغون وتغاى «5» تمر والملك أحمد وجماعة أخر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الفضل إسماعيل ابن إبراهيم بن يحيى القرشى بن الدّرجىّ فى صفر «6» . والشيخ جمال الدين أحمد بن عبد الله بن شعيب التّميمىّ فى شهر ربيع «7» الاخر، وله اثنتان وسبعون سنة.
ورضىّ الدين إبراهيم بن البرهان عمر الواسطىّ التاجر بالإسكندرية فى رجب، وله إحدى وسبعون سنة، وخلّف أموالا عظيمة. والأمير الكبير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ. والشيخ أحمد بن سالم المصرىّ النحوىّ فى شوّال بدمشق.
والطاغية هولاكو بمراغة «8» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 665]
السنة السابعة من ولايه الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة خمس وستين وستمائة.(7/221)
فيها توفّى بركة خان [بن توشى «1» ] بن چنكز خان ملك التّتار، هو ابن عمّ هولاكو المقدّم ذكره، وكانت مملكته عظيمة متّسعة جدّا وهى بعيدة عن بلادنا وله عساكر وافرة العدد، وكان بركة هذا يميل إلى المسلمين ميلا زائدا ويعظّم أهل العلم ويقصد الصلحاء ويتبرّك بهم. ووقع بينه وبين ابن عمّه هولاكو، وقاتله بسبب قتله للخليفة المستعصم بالله وغيره من المسلمين؛ وكان بينه وبين الملك الظاهر مودّة ويعظّم رسله، وكان قد أسلم هو وكثير من جنده وبنى المساجد وأقيمت الجمعة ببلاده، وكان جوادا عادلا شجاعا، ومات ببلاده فى هذه السنة وهو فى عشر الستين، وقام مقامه منكوتمر.
وفيها توفّى الأمير ناصر الدين أبو المعالى حسين «2» بن عزيز بن أبى الفوارس القيمرىّ، كان من أكابر الأمراء وأجلّهم قدرا وأكبرهم شأنا، وكان شجاعا كريما عادلا، وكان الملك الظاهر قد جعله مقدّم العساكر بالساحل فتوجّه إليه فمات به مرابطا فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأوّل، وهو صاحب المدرسة القيمريّة «3» بدمشق، وكان عالى الهمة يضاهى السلاطين فى موكبه وخيله ومماليكه وحواشيه.
وفيها توفّى القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر أبو محمد العلامىّ «4» الفقيه الشافعىّ المعروف بابن بنت الأعزّ، كان إماما عالما فاضلا وولى(7/222)
المناصب الجليلة كنظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاة ودرس بالشافعىّ، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر، ومولده سنة أربع عشرة وستمائة، ومات ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ودفن من الغد بسفح المقطّم.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المحدّث تاج الدين أبو الحسين علىّ بن أحمد بن علىّ ابن محمد بن الحسن «1» بن عبد الله بن أحمد بن ميمون القيسى المصرىّ المالكىّ المعروف بابن القسطلانيّ، ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بمصر، وبها تفقّه وسمع الحديث من جماعة كثيرة وحدّث بالكثير ودرّس وأفتى وتولّى مشيخة دار الحديث «2» الكامليّة بالقاهرة إلى أن مات بكرة السابع «3» والعشرين من شوّال ودفن من يومه بسفح المقطّم.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه المحدّث شمس الدين ملكشاه بن عبد الملك ابن يوسف بن إبراهيم المقدسىّ الأصل المصرىّ المولد الدّمشقىّ الدار الحنفىّ المعروف بقاضى بيسان «4» ، كان فقيها عالما فاضلا مفتنّا فى علوم، ولد بحارة زويله «5» بالقاهرة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة ومات فى سادس عشر صفر بدمشق، رحمه الله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحجّاج يوسف ابن مكتوم السّويدىّ «6» الحبّال. والشيخ الصالح الأثرىّ محمود بن أبى القاسم [اسفنديار «7» ابن بدران بن أيّان] الدّشتىّ «8» بالقاهرة فى رجب. وقاضى القضاة تاج الدين(7/223)
عبد الوهاب بن خلف بن بنت الأعزّ فى رجب، وله إحدى وستون «1» سنة. والعلّامة شهاب الدين أبو شامة أبو القاسم «2» عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسىّ ثم الدّمشقىّ فى رمضان، وله ستّ وستون سنة. والإمام تاج الدين علىّ ابن الشيخ أبى العبّاس أحمد بن على القسطلانيّ بمصر، وله سبع وسبعون سنة. والسلطان بركة خان بن توشى «3» بن چنكز خان. والأمير الكبير ناصر الدين حسين بن عزيز بن أبى الفوارس القيمرىّ صاحب القيمريّة «4» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 666]
السنة الثامنة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ستّ وستين وستمائة.
فيها توفّى الرئيس كمال الدين أبو يوسف أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الله الحلبىّ المعروف بابن العجمىّ، كان شاعرا رئيسا عالما فاضلا حسن الخط والإنشاء، كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف، وكان من أعيان الكتّاب وأماثلهم، بلغ من العمر ستّا وأربعين سنة، ومات بظاهر صور من بلاد الساحل فى العشر «5» الأوّل من ذى الحجّة وحمل إلى ظاهر دمشق فدفن بها. ومن شعره فى خال مليح، قال:(7/224)
وما خاله ذاك الذي خاله الورى ... على خده نقطا من المسك فى ورد
ولكنّ نار الخدّ للقلب أحرقت ... فصار سواد القلب خالا على الخدّ
قلت: يعجبنى قول ابن صابر «1» المنجنيقىّ فى هذا المعنى:
أهلا بوجه كالبدر حسنا ... صيّرنى حبّه هلالا
قد رقّ حتّى لحظت فيه ... سواد عينى فخلت خالا
ومثل هذا أيضا قول القائل فى هذا المعنى، ولم أدر لمن هو غير أنّنى أحفظه قديما، وهو فى خال تحت العذار.
له خال تغشّاه هلال ... يفوت العين إن نظرت إليه
كشحرور تخبّأ فى سياج ... مخافة جارح من مقلتيه
وفى هذا المعنى للعزّ الموصلىّ «2» وأبدع إلى الغاية:
لحظت من وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالى
قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... قد هام عمّى الشيخ فى خالى
وفى هذا المعنى:
تفاخر الحسن فى انتساب «3» ... لمّا بدا خاله الأنيق
فقالت العين ذا ابن أختى ... وقال لى الخدّ ذا شقيق
وقد استوعبنا هذا النوع وغيره فى كتابنا «حلية الصفات فى الأسماء والصناعات» فلينظر هناك.(7/225)
وفيها توفّى عفيف الدين أبو الحسن على بن عدلان بن حمّاد «1» بن علىّ الموصلىّ النحوىّ المترجم، كان إماما عالما أديبا مفتنّا شاعرا، مات بمصر فى يوم الجمعة تاسع شوّال. ومن شعره، رحمه الله:
لا تعجبنّ إذا ما فاتك المطلب ... وعوّد النفس أن تشقى وأن تتعب
إن دام ذا الفقر فى الدنيا فلا تعجب ... مات الكرام وما فيهم فتى أعقب
وفيها توفّى السلطان ركن الدين كيقباد ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن أتسز «2» بن إسرائيل بن سلجوق بن دقماق السّلجوقىّ صاحب الروم، كان ملكا جليلا شجاعا لكنّه كان غير سديد الرأى، كان جعل أمره بيد البرواناه فاستفحل أمر البرواناه، فأراد ركن الدين هذا قتله فعاجله البرواناه وعمل على قتله حتى قتل (وكيقباد بفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وضم القاف وفتح الباء ثانية الحروف وبعد الألف دال مهملة ساكنة) . وكيخسرو مثل ذلك غير أن الخاء المعجمة مضمومة وبعدها سين مهملة ساكنة وراء مهملة مضمومة. وقليج أرسلان بكسر القاف واللام وسكون الياء والجيم معا.
وأرسلان معروف.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أيّوب بن أبى بكر عمر «3» الحمّامى ابن الفقّاعىّ. ومجد الدين أحمد بن عبد الله [بن أبى الغنائم «4» المسلم بن(7/226)
حمّاد بن محفوظ] بن ميسرة الأزدىّ ابن الحلوانيّة فى شهر ربيع الأوّل. والشيخ القدوة إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبى عمر [محمد «1» بن أحمد بن محمد بن قدامة] المقدسىّ فى شهر ربيع الأوّل، وله ستون سنة. وأبو بكر عبد الله بن أحمد بن ناصر النّحّاس فى ذى «2» القعدة. وفيها قتلت التّتار السلطان ركن الدين كيقباد ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباد صاحب الروم، وله ثمان وعشرون سنة وأجلسوا ولده كيخسرو على التخت وهو ابن عشر سنين.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 667]
السنة التاسعة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة سبع وستين وستمائة.
فيها توفّى الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله الحلىّ «3» الصالحىّ النجمىّ، كان من أكبر أمراء الدولة وأعظمهم محلّا عند الملك الظاهر، وكان نائب السلطنة عنه بالديار المصرية فى غيبته عنها لوثوقه به واعتماده عليه، وكان قليل الخبرة لكن رزق السعادة.
قلت: له أسوة بأمثاله. قال: وكان محظوظا «4» من الدنيا له الأموال الجمّة والمتاجر الكثيرة والأملاك الوافرة. وأمّا ما خلّفه من الأموال والخيول والجمال والبغال(7/227)
والعدد فيقصر الوصف عنه. ومات بقلعة دمشق فى يوم الخميس سابع شعبان ودفن بتربته بجوار مسجد الأمير موسى بن يغمور. ومات وقد نيّف على الستين.
وفيها توفّى الشيخ المحدّث عماد الدين محمد بن محمد بن علىّ أبو عبد الله، كان فاضلا سمع الكثير، ومات بدمشق فى شهر ربيع الأوّل؛ ولما كان بحلب كتب إليه أخوه سعد الدين سعد يقول:
ما للنّوى رقّة ترثى لمكتثب ... حرّان فى قلبه والدمع فى حلب
قد أصبحت حلب ذات العماد بكم ... وجلّق إرما هذا من العجب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى زين الدين إسماعيل ابن عبد القوىّ بن عزّون «1» الأنصارىّ فى المحرّم. والإمام مجد الدين علىّ بن وهب القشيرى [والد «2» ] ابن دقيق العيد. والحافظ زين الدين أبو الفتح محمد بن محمد [بن أبى بكر «3» ] الأبيوردىّ الصوفىّ فى جمادى الأولى. واللغوىّ مجد الدين عبد المجيد بن أبى الفرج [بن محمد «4» ] الرّوذراورىّ «5» بدمشق فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 668]
السنة العاشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ثمان وستين وستمائة.(7/228)
فيها توفّى الشيخ موفّق الدين أبو العبّاس أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجىّ المعروف بابن أبى أصيبعة الحكيم الفاضل صاحب المصنّفات منها «طبقات الأطباء» . مات بصرخد فى جمادى الأولى، وقد نيّف على سبعين سنة، وكان فاضلا عالما فى الطّبّ والأدب والتاريخ وله شعر كثير، من ذلك ما مدح به الصاحب أمين «1» الدولة، وهى قصيدة طنّانة أوّلها:
فؤادى فى محبّتهم أسير ... وأنّى «2» سار ركبهم يسير
يحنّ إلى العذيب وساكنيه ... حنينا قد تضمّنه سعير
ويهوى نسمة هبّت سحيرا ... بها من طيب نشرهم عبير
وإنّى قانع بعد التّدانى ... بطيف من خيالهم يزور
ومعسول اللّمى مرّ التجنّى ... يجور على المحبّ ولا يجير
تصدّى للصدود ففى فؤادى ... بوافر هجره أبدا هجير
وقد وصلت جفونى فيه سهدى ... فما هذى القطيعة والنفور
وهى طويلة «3» كلّها على هذا النّمط.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الظاهرىّ نائب حمص، كان فيه صرامه مفرطة، وكان موصوفا بالعسف والظلم وسيرة قبيحة، ومع هذه المساوئ كان أيضا فيه رفض. مات بحمص وفرح بموته أهل بلده.(7/229)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله المعروف بالزّرّاد، كان نائب قلعة دمشق، وكان من المماليك الصالحيّة النّجميّة، وكانت حرمته وافرة وسيرته جميلة. ومات فى ذى القعدة.
وفيها توفّى موسى «1» بن غانم بن علىّ بن إبراهيم بن عساكر بن حسين الأنصارىّ المقدسىّ، كان كبير القدر صدرا كبيرا شجاعا وافر لحرمة، تولّى مشيخة الحرم بالقدس الشريف، وكان كريما وله سمعة وصيت. مات بالقدس فى المحرّم وقد جاوز سبعين سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسى فى رجب، وله ثلاث وتسعون سنة. وقاضى القضاة محيى الدين يحيى بن محمد بن الزّكى القرشىّ فى رجب، وله اثنتان وسبعون سنة.
وأبو حفص عمر بن محمد بن أبى سعد «2» الكرمانىّ الواعظ فى شعبان، وله ثمان وتسعون سنة. وفيها قتل فى المصافّ صاحب المغرب الملك أبو دبّوس «3» أبو العلاء [الواثق بالله] إدريس بن «4» عبد الله بن محمد المؤمنى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع واثنتان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.(7/230)
[ما وقع من الحوادث سنة 669]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ على مصر، وهى سنة تسع وستين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن المسلم بن هبة الله [المعروف «1» با] بن البارزىّ الفقيه الحموىّ الشافعىّ، مولده سنة ثمانين وخمسمائة، وكان فقيها فاضلا ورعا، وله شعر جيّد وأفتى ودرّس بمعرّة «2» النّعمان وغيرها، ومات فى شعبان بحماة.
ومن شعره، رحمه الله، يصف دمشق:
دمشق لها منظر رائق ... وكلّ إلى وصلها «3» تائق
وأنّى يقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق
وفيها توفّى القاضى كمال الدين أبو السعادات أحمد بن مقدام بن أحمد بن شكر المعروف بابن القاضى الأعزّ، كان أحد الأكابر بالديار المصريّة متأهّلا للوزارة وغيرها، وتولّى المناصب الجليلة، وكان له يد فى النظم ومعرفة بالأدب ومشاركة فى غيره. ومات فى شهر رمضان بالقاهرة.
وفيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الصّيرفىّ، كان من أعيان الأمراء بالديار المصريّة وممّن يخشى جانبه، فلمّا تمكّن الملك الظّاهر بيبرس أخرجه إلى دمشق ليأمن غائلته وأقطعه بها خبزا جيّدا، فدام به إلى أن مات ببعلبكّ وهو فى عشر الستين.(7/231)
وفيها توفّى الأمير قطب الدين سنجر بن عبد الله المستنصرىّ البغدادىّ المعروف بالياغز «1» ، كان من مماليك الخليفة المستنصر بالله، وكان محترما فى الدولة الظاهريّة وعنده معرفة وحسن عشرة ومحاضرة بالأشعار والحكايات.
وفيها توفّى الملك الأمجد تقىّ الدين عبّاس ابن الملك العادل أبى بكر محمد بن أيّوب ابن شادى، وكنيته أبو الفضل «2» ، كان محترما عند الملك الظاهر لا يرتفع عليه أحد فى المجالس، وهو آخر من مات من أولاد الملك العادل لصلبه، وكان دمث الأخلاق حسن العشرة لا تملّ مجالسته. ومات بدمشق فى جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون.
وفيها توفّى قطب الدين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر ابن محمد بن سبعين أبو محمد المرسىّ الرّقوطىّ «3» الصوفىّ المعروف بابن سبعين.
قال الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: كان صوفيّا على قاعدة زهّاد الفلاسفة وتصوّفهم، وله كلام كثير فى العرفان على طريق الاتّحاد والزّندقة. وقد ذكرنا محطّ هؤلاء الجنس فى ترجمة ابن الفارض «4» وابن العربىّ «5» وغيرهما، فيا حسرة على العباد! كيف لا يغضبون لله تعالى ولا يقومون فى الذبّ عن معبودهم، تبارك الله وتقدّس فى ذاته عن أن يمتزج بخلقه أو يحلّ فيهم، وتعالى الله عن أن يكون هو عين السماوات والأرض وما بينهما، فإنّ هذا الكلام شرّ من مقالة من قال بقدم العالم.(7/232)
ومن عرف هؤلاء الباطنيّة عذرنى أو هو زنديق مبطن للاتّحاد يذبّ عن الاتّحاديّة والحلوليّة، ومن لم يعرفهم فالله يثيبه على حسن قصده. ثم قال بعد كلام طويل:
واشتهر عنه (يعنى عن ابن سبعين هذا) أنّه قال: لقد تحجّر ابن آمنة واسعا بقوله:
" لا نبىّ بعدى". ثم ساق الذهبىّ أيضا من جنس هذه المقولة أشياء أضربت عنها إجلالا فى حقّ الله ورسوله لا لأجل هذا النّجس.
قلت: إن صحّ عنه ما نقله الحافظ الذهبىّ وهو حجّة فى نقله فهو كافر زنديق مارق من الدين مطرود من رحمة الله تعالى. انتهى. والرّقوطىّ نسبة إلى حصن من عمل مرسية يقال له رقوطة.
وفيها توفى الأمير شرف الدين أبو محمد عيسى بن محمد بن أبى القاسم بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كامل الكردىّ الهكّارى، كان أحد أعيان الأمراء سمع الحديث وحدّث، ومولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالقدس، وكان أحد الأمراء المشهورين بالشجاعة والإقدام وله وقائع معدودة ومواقف مشهورة مع العدوّ بأرض الساحل؛ ولى الأعمال الجليلة وقدّمه الملك الظاهر بيبرس على العساكر فى الحروب غير مرّة، ومات بدمشق فى شهر ربيع الآخر. ومن شعره مما كتبه للوزير شرف الدين بن المبارك وزير إربل:
أأحبابنا إن غبت عنكم وكان لى ... إلى غير مغناكم مراح وإيسام
فما عن رضا كانت سليمى بديلة ... بليلى ولكن للضرورات أحكام
وفيها توفّى محمد بن عبد المنعم بن نصر [الله «1» ] بن جعفر بن أحمد بن حوارى الفقيه الأديب أبو المكارم تاج الدين التّنوخى المعرّىّ الأصل الحنفىّ الدّمشقى المولد(7/233)
والدار والوفاة المعروف بابن شقير. ولد سنة ست «1» وستمائة وسمع وحدّث بدمشق والقاهرة، وكان فقيها محدّثا فاضلا بارعا أديبا وعنده رياسة ومكارم ودماثة أخلاق وحسن محاضرة، وهو معدود من شعراء الملك الناصر [صلاح «2» الدين يوسف بن العزيز] ومات فى صفر. ومن شعره:
قد أقبل الصيف وولّى الشّتا ... وعن قريب نشتكى الحرّا
أما ترى البان بأغصانه ... قد قلب الفرو إلى برّا
وقال، رحمه الله:
وا حيرة القمرين منه إذا بدا ... وإذا انثنى وا خجلة الأغصان
كتب الجمال وياله من كاتب ... سطرين فى خدّيه بالرّيحان
قلت: ويعجبنى قول ابن «3» المعتزّ فى هذا المعنى وقد أبدع فى التشبيه فقال:
كأنّ خطّ عذار شقّ عارضه ... ميدان آس على ورد ونسرين
وخطّ فوق حجاب الدر شاربه ... بنصف صاد ودار الصّدغ كالنون
ولمحمد بن يوسف [بن عبد «4» الله المعروف با] لخيّاط الدّمشقى فى معنى العذار:
عدار حبّى دقيق معنى ... تجلّ عن حسنه الصفات
حلا لرائيه وهو نبت ... هذا هو السكّر النّبات(7/234)
ولابن نباتة «1» :
وبمهجتى رشأ يميس قوامه ... فكأنّه نشوان من شفتيه
شغف العذار بخدّه ورآه قد ... نعست لواحظه فدبّ عليه
وللصّفدىّ «2» :
عيناه قد شهدت بأنّى مخطئ ... وأتت تخطّ عذاره تذكارا
يا حاكم الحبّ اتّئد فى قتتى ... فالخطّ زور والشهود سكارى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ حسن ابن أبى عبد الله بن صدقة الصّقلّىّ المقرئ فى شهر ربيع الأوّل وقد نيّف على سبعين.
وشيخ السّبعينيّة «3» قطب الدين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين المرسىّ بمكّة فى شوّال، وله خمس وخمسون سنة. ومجد الدين محمد بن إسماعيل بن عثمان ابن مظفّر «4» بن هبة الله بن عساكر فى ذى القعدة. وقاضى حماة شمس الدين إبراهيم ابن المسلم بن البارزىّ فى شعبان، وله تسع «5» وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 670]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة سبعين وستمائة.(7/235)
فيها توفّى الملك الأمجد مجد الدين أبو محمد الحسن ابن الملك الناصر داود ابن الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، كان الملك الأمجد هذا من الفضلاء وعنده مشاركة جيّدة فى كثير من العلوم، وله معرفة تامّة بالأدب.
وفيها توفّى الشيخ عماد الدين عبد الرحيم بن عبد الرحيم «1» بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن العجمىّ، كان فاضلا سمع الحديث وتفقّه وحدّث ودرّس وتولّى الحكم بمدينة الفيّوم «2» من أعمال مصر وغيرها وناب فى الحكم بدمشق، وكان مشكور السّيرة.
ومات بحلب فى رابع «3» عشر شهر رمضان. ومولده فى سنة خمس وستمائة بحلب.
وفيها توفّى الأديب أمين الدين «4» علىّ بن عثمان «5» بن علىّ بن سليمان بن علىّ بن سليمان ابن علىّ أبو الحسن «6» المعروف بأمين الدين السّليمانىّ الصوفى الإربلىّ الشاعر المشهور، ولد سنة اثنتين «7» وستمائة. ومات بمدينة الفيّوم من أعمال مصر فى جمادى الأولى، وكان فاضلا مقتدرا على النظم، وهو من أعيان شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، وكان أوّلا جنديّا ثم ترك ذلك وتزهّد. ومن شعره وقد أرسل إلى بعض الرؤساء هديّة فقال:(7/236)
هديّة عبد مخلص فى ولائه ... لها شاهد منها على عدم المال
وليست على قدرى ولا قدر مالكى ... ولكنّها جاءت على قدر الحال
وقال رحمه الله:
ألا فاحفظ لسانك فهو خير ... وطرفك واستمع نصحى ووعظى
فربّ عداوة حصلت بلفظ ... وربّ صبابة حصلت بلحظ
وفيها توفّى الرئيس الصدر عماد الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد «1» بن الحسين بن صصرّى التّغلبىّ «2» ، البلدىّ «3» الأصل الدّمشقى المولد والدار والوفاة العدل الكبير، مولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير وحدّث، وكان شيخا جليلا من بيت العلم والحديث، وقد حدّث هو وأبوه وجدّه وجدّ أبيه وجدّ جدّه وغير واحد من بيته.
ومات فى ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة الكمال سلّار بن الحسن الإربلىّ الشافعىّ فى جمادى الآخرة، ومعين الدين أحمد ابن القاضى زين الدين علىّ بن يوسف الدمشقىّ العدل بمصر فى رجب. والإمام جمال «4» الدين عبد الرحمن بن سلمان «5» الحرّانىّ البغدادىّ «6» الحنبلىّ فى شعبان، وله خمس وثمانون سنة.
والقاضى عماد الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله الدّمشقى ابن(7/237)
صصرىّ فى ذى القعدة. والملك الأمجد السيد الجليل حسن ابن الناصر داود صاحب الكرك فى جمادى الأولى كهلا. والصدر وجيه الدين محمد بن علىّ [بن «1» أبى طالب] ابن سويد التّكريتىّ التاجر فى ذى القعدة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 671]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة إحدى وسبعين وستمائة.
فيها توفّى الأديب الفاضل مخلص الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هبة الله ابن أحمد بن قرناص الخزاعى «2» الحموىّ الشاعر المشهور، كان أديبا فاضلا وله اليد الطّولى فى النظم، ومات بحماة يوم الأحد رابع شوّال. ومن شعره:
ليلى وليلك يا سؤلى ويا أملى ... ضدان هذا به طول وذا قصر
وذاك أنّ جفونى لا يلمّ بها ... نوم وجفنك لا يحظى به السّهر
قلت: وهذا يشبه قول «3» القائل وما أدرى أيهما أسبق إلى هذا المعنى وهو:
ليلى وليلى نفى نومى اختلافهما ... بالطّول والطّول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطّول ليلى كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا(7/238)
وفيها توفّى الشريف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن رضوان بن علىّ بن أبى المظفّر بن أبى العتاهية المعروف بالشريف الناسخ. مات بدمشق فى شهر ربيع الآخر، وكان من الفضلاء وله مشاركة فى كثير من العلوم وله اليد الطّولى فى النظم والنثر. ومن شعره:
عانقته عند الوداع وقد جرت ... عينى دموعا كالنّجيع القانى
ورجعت عنه وطرفه فى فترة ... يملى علىّ مقاتل الفرسان
قلت: وما أحسن قول القاضى ناصح «1» الدين الأرّجانىّ فى هذا المعنى:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمّنك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإنّ قلب الوداع عادوا
وأجاد أيضا من قال فى هذا المعنى:
فإن سرت بالجثمان عنكم فإنّنى ... أخلّف قلبى عندكم وأسير
فكونوا عليه مشفقين فإنّه ... رهين لديكم فى الهوى وأسير
وفيها توفّى المحدّث شرف الدين أبو المظفّر يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن ابن مفرّج بن بكّار النّابلسى الأصل الدّمشقىّ المولد والدار والمنشأ والوفاة المحدّث المشهور، كان فاضلا وسمع الكثير وحدّث، وكانت لديه فضيلة ومشاركة ومعرفة بالأدب. ومن شعره:
عرّج بعيسك واحبس أيّها الحادى ... عند الكثيب وعرّس يمنة الوادى(7/239)
واقر السّلام على سكّان كاظمة ... منّى وعرّض بتهيامى وتسهادى
وقل محبّ بنار الشّوق محترق ... أودى به الوجد خلّفناه بالنّادى «1»
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ شرف الدين أبو المظفّر يوسف بن الحسن بن النابلسى الدّمشقىّ فى المحرّم. وخطيب المقياس «2» أبو الفتح عبد الهادى بن عبد الكريم القيسىّ المقرئ، وله أربع وتسعون سنة فى شعبان. والمحدّث شمس الدين محمد بن عبد المنعم بن عمّار بن هامل «3» الحرّانىّ فى رمضان. وأبو العبّاس أحمد بن هبة الله بن أحمد السّلمىّ الكهفى «4» فى رجب.
وصاحب «التعجيز «5» » الإمام تاج الدين أبو القاسم عبد الرحيم بن محمد بن محمد ابن يونس «6» الموصلىّ فى جمادى الأولى ببغداد، وله ثلاث وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 672]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة اثنتين وسبعين وستمائة.(7/240)
فيها ملك الملك الظاهر بيبرس برقة «1» بعد حروب كثيرة.
وفيها توفّى الصاحب محيى الدين أحمد بن علىّ بن محمد بن سليم الصاحب محيى الدين أبو العباس ابن الصاحب بهاء «2» الدين بن حنّا فى ثامن شعبان بمصر ودفن بسفح المقطّم، ووجد عليه والده وجدا شديدا، وعملت له الأعزية والختم، وكان فاضلا وسمع من جماعة وحدّث ودرّس بمدرسة «3» والده التى أنشأها بزقاق القناديل بمصر إلى حين وفاته.
وفيها توفى المحدّث مؤيّد الدين أبو المعالى أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علىّ بن محمد التّميمىّ المعروف بابن القلانسىّ، مولده بدمشق سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة، وسمع الكثير وحدّث بدمشق ومصر، وهو من البيوتات(7/241)
المشهورة بالحديث والعدالة والتقدّم. ومات فى ثالث [عشر «1» ] المحرّم ببستانه ظاهر دمشق، وكان وافر الحرمة متأهّلا للوزارة كثير الأملاك واسع الصدر
وفيها توفّى الأمير فارس الدين أقطاى بن عبد الله الأتابكىّ المعروف بالمستعرب الصالحىّ النجمىّ، كان من أكابر الأمراء وأعيانهم، وكان الملك المظفّر قطز قرّبه وجعله أتابكا وعلّق جميع أمور المملكة به. فلمّا تسلطن الملك الظاهر قام معه وحلف له وسلطنه فلم يسع الملك الظاهر إلّا أن أبقاه على حاله، وصار الظاهر فى الباطن يتبرّم منه ولا يسعه إلّا تعظيمه لعدم وجود من يقوم مقامه، فإنّه كان من رجال الدهر حزما وعزما ورأيا، فلمّا أنشأ الملك الظاهر بيليك الخازندار أمره بملازمته والاقتباس منه فلازمه مدّة، فلمّا علم الظاهر منه الاستقلال جعله مشاركا له فى الجيش، وقطع الرواتب التى كانت لأقطاى المذكور؛ فجمع أقطاى نفسه وتعلّل قريب السنة وصار يتداوى إلى أن مات، وكان أظهر أن به طرف «2» جذام ولم يكن به شىء من ذلك، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى مجاهد «3» بن سليمان بن مرهف بن أبى الفتح التّميمىّ المصرىّ الخياط الشاعر المشهور، وكان يعرف بابن أبى الربيع. مات فى جمادى الآخرة بالقرافة الكبرى، وكان بها سكنه وبها دفن، وكان فاضلا أديبا. ومن شعره فى أبى الحسين الجزّار وكان بينهما مهاجاة:(7/242)
أبا الحسين تأدّب ... ما الفخر بالشّعر فخر
وما ترشّحت «1» منه ... بقطرة وهو بحر
وفيه يقول أيضا:
إن تاه جزاركم عليكم ... بفطنة عنده وكيس
فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه عير تيس
ومن شعره قوله: لغز فى إبرة وكستبان:
ثلاثة فى أمر خصمين ... إلفين لكن غير إلفين
هما قريبان وإن فرّقت ... بينهما الأيام فرقين
فواحد يعضده «2» واحد ... ويعضد الآخر باثنين
تراهما بينهما وقعة ... إذ تقع العين على العين
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن سليمان [بن محمد «3» بن سليمان] بن عبد الملك بن علىّ المعافرىّ الشاطبىّ المقرئ الزاهد نزيل الإسكندرية، قرأ بالسّبع فى الأندلس وبرع فى القراءات والتفسير وله تفسير صغير. ومات فى العشرين من شهر رمضان، وله سبع وثمانون سنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة فريد عصره جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله [بن «4» عبد الله] بن مالك النحوىّ الجيّانىّ «5» الشافعىّ الطائىّ العالم المشهور(7/243)
صاحب التصانيف فى النحو والعربيّة نزيل دمشق مولده سنة إحدى وستمائة، وسمع الحديث وتصدّر بحلب لإقراء العربيّة، وصرف همّته إلى النحو حتى بلغ فيه الغاية، وصنّف التصانيف المفيدة، وكان إماما فى القراءات، وصنّف فيها أيضا قصيدة مرموزة فى مقدار الشاطبيّة، وكان إماما فى اللّغة.
قلت: وشهرته تغنى عن الإطناب فى ذكره. ومات فى ثانى عشر شعبان وقد نيّف على السبعين، رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى مؤيّد الدين أسعد ابن المظفّر التّميمىّ ابن القلانسىّ عن ثلاث وسبعين سنة فى المحرّم، والسيد تجيب الدين عبد اللطيف بن أبى محمد عبد المنعم [بن علىّ «1» بن نصر بن منصور بن هبة الله أبو الفرج ابن الإمام الواعظ أبى محمد] بن الصّيقل الحرانىّ فى صفر، وله خمس وثمانون سنة. والمسند تقىّ الدين إسماعيل بن إبراهيم بن أبى اليسر [شاكر «2» بن عبد الله] التّنوخىّ الكاتب فى صفر، وله ثلاث وثمانون سنة. وأبو عيسى عبد الله بن عبد الواحد ابن محمد [بن «3» عبد الواحد] بن علّاق الأنصارىّ الرزاز «4» فى شهر ربيع الأوّل عن ستّ وثمانين سنة. والقاضى كمال الدين عمر بن بندار التّفليسىّ بمصر فى شهر ربيع الأوّل وقد جاوز السبعين. والمحدّث نجم الدين علىّ بن عبد الكافى الرّبعىّ الشافعىّ فى شهر ربيع الآخر شابّا. والشيخ كمال الدين عبد العزيز بن عبد المنعم فى شعبان عن ثلاث وثمانين سنة. والعلّامة جمال الدين محمد بن عبد الله [بن عبد الله] بن مالك الطائى الجيّانىّ فى شعبان عن نحو سبعين سنة. والأمير الكبير أتابك المستعرب، واسمه(7/244)
فارس الدين أقطاى الصالحىّ، وقد ولى نيابة المظفر قطز؛ توفى فى جمادى الأولى، والزاهد الكبير الشيخ محمد بن سليمان [بن محمد بن سليمان] الشاطبىّ بالإسكندريّة وخواجا [محمد بن محمد بن الحسن «1» أبو عبد الله] نصير [الدين «2» ] الطّوسىّ فى ذى الحجة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 673]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
فيها كانت أعجوبة فى السابع والعشرين من شعبان وهو أنّه وقع رمل بمدينة الموصل ظهر من القبلة وانتشر يمينا وشمالا حتى ملأ الآفاق وعمّيت الطّرق، فخرج العالم إلى ظاهر البلد، ولم يزالوا يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى أن كشف الله ذلك عنهم.
وفيها توفّى الأمير شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك.
وقد تقدّم ذكر والده الأمير جمال الدين موسى، كان شهاب «3» الدين هذا، مروفا بالشجاعة والشهامة والصّرامة والحرمة، ولّاه الملك الطاهر المحلّة «4» وأعمالها من الغربيّة من إقليم مصر، فهذّبها ومهّد قواعدها وأباد المفسدين بها بحيث إنّه قطع من الأيدى والأرجل ما لا يحصى كثرة، وشنق ووسّط فخافه البرىء والسقيم. ومات بالمجلّة فى الرابع والعشرين «5»(7/245)
من جمادى الأولى، وكان عنده رياسة وحشمة وبرّ لمن يقصده؛ وله نظم وعنده فضيلة.
ومن شعره يخاطب الأمير «1» علم الدين الدّوادارى:
إن صددتم عن منزلى فلكم في ... هـ ثناء كنشر روض بهىّ
أو رددتم فأنا المحبّ الذي من ... آل موسى فى الجانب الغربىّ
وله:
خطب أتى مسرعا فآذى ... أصبح جسمى به جداذا
خضّد «2» قلبى وعمّ غيرى ... يا ليتنى متّ قبل هذا
وله فى مليح نحوىّ:
ومليح تعلّم النحو يحكى ... مشكلات له بلفظ وجيز
ما تميزت حسنه قطّ إلّا ... قام أيرى نصبا على التمييز
وفيها هلك بيمند الفرنجىّ متملّك طرابلس بها فى العشر الأوّل من شهر رمضان ودفن فى كنيسة بها، ونملّك بعده ابنه، وكان حسن الشكل مليح الصورة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو محمد شمس الدين عبد الله ابن شرف الدين محمد بن عطاء الأذرعىّ «3» الأصل الدّمشقىّ الوفاة الحنفىّ، كان إماما فقيها مفتيا عالما مفتّنا، أفتى ودرّس بعدّة مدارس، وهو أوّل قاض ولى القضاء استقلالا بدمشق من الحنفيّة فى العصر الثانى. وأمّا أوّل الزمان فوليها جماعة كثيرة من العلماء فى أوائل الدولة العبّاسيّة. وحسنت سيرته فى القضاء إلى الغاية؛ وقصّته مع الملك الظاهر بيبرس مشهورة لمّا أوقع الظاهر الحوطة على الأملاك والبساتين بدمشق، وقعد(7/246)
الظاهر فى دار العدل بدمشق وجرى الحديث فى هذا المعنى بحضور القضاة الأربعة والعلماء وغيرهم، فكلّ من القضاة ألان له القول وخشى سطوة الملك الظاهر إلّا شمس الدين هذا، فإنّه صدع بالحقّ وقال: ما يحلّ لمسلم أن يتعرّض لهذه الأملاك والبساتين! فإنّها بيد أربابها ويدهم ثابتة عليها. فغضب الملك الظاهر من هذا القول وقام من دار العدل وقال: إذا كنّا ما نحن مسلمون إيش قعودنا! فشرع الأمراء يتألّفوه ولا «1» زالوا به حتى سكن غضبه؛ فلمّا رأى الظاهر صلابة دينه حظى عنده وقال: أثبتوا كتبنا عند هذا القاضى الحنفىّ وعظم فى عينه وهابه.
وكان من العلماء الأعيان تامّ الفضيلة وافر الديانة كريم الأخلاق حسن العشرة كثير التواضع عديم النظير، وانتفع بعلمه جمّ غفير، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الشيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد ابن محمد التّكريتىّ الجدّ، الموصلىّ الأب، الدمشقىّ المولد، المحلىّ الوفاة المعروف- بابن الطحّان الشهير بالحافظ اليغمورىّ، كان فاضلا سمع الكثير بعدّة بلاد، وكان له مشاركة فى فنون، وكان أديبا شاعرا. ومن شعره:
رجع الودّ على رغم الأعادى ... وأتى الوصل على وفق مرادى
ما على الأيام ذنب بعد ما ... كفّر القرب إساءات البعاد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى الحافظ وجيه الدين أبو المظفّر منصور بن سليم الهمدانى «2» بالإسكندريّة فى شوّال. وقاضى القضاة(7/247)
شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفىّ فى جمادى الأولى وهو فى عشر الثمانين.
وأبو الفتح عمر بن يعقوب الإربلىّ الصوفىّ فى يوم النحر.
أمر النيل فى هذه السنة المباركة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 674]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة أربع وسبعين وستمائة.
فيها توفّى الأمير عزّ الدين أبو محمد أيبك بن عبد الله الإسكندرانىّ الصالحىّ النجمىّ، كان أستاذه الملك الصالح نجم أيّوب يبق به ويعتمد عليه وولّاه الشّوبك، وجعل عنده جماعة كثيرة من خواصّه: منهم الأمير عزّ الدين أيدمر الحلّىّ، والأمير سنجر الحصنىّ «1» ، والأمير أيبك الزرّاد؛ وكان عنده كفاية وخبرة تامّة وصرامة شديدة ومهابة عظيمة يقيم الحدود على ما تجب، ثم نقل فى عدّة وظائف إلى أن مات فى شهر رمضان بقلعة الرّحبة «2» ودفن بظاهرها.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن الحسن بن ماهك «3» بن طاهر أبو محمد فخر الدين الحسينى نقيب الأشراف وابن نقيبهم، مولده سنة ثمان وستمائة، ومات يوم الأحد تاسع شهر ربيع الأوّل ببعلبكّ، وكان عنده فضيلة ومعرفة بأنساب العلويّين ونظم نظما متوسّطا وكان مبذّرا للأموال.(7/248)
وفيها توفّى الأمير الكبير ركن الدين خاص ترك بن عبد الله الصالحىّ النجمىّ، وكان شجاعا مقداما مقدّما عند الملوك. مات فى شهر ربيع الأوّل بدمشق.
وفيها توفى الشيخ زين الدين أبو المظفّر عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن العجمىّ، مولده بحلب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وسمع الحديث وحدّث وكان شيخا فاضلا.
مات فى ذى القعدة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطّم وهو خال قاضى القضاة كمال الدين «1» أحمد بن الأستاذ.
وفيها توفّى الشيخ بهاء «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عبيد الله [بن جبريل] كان صدرا كبيرا عالما فاضلا شاعرا. مات بالقاهرة ودفن بالفرافة وهو فى عشر الستين، ومن شعره، رحمه الله تعالى: «3»
ولقد شكوت لمتلفى ... حالى ولطّفت العباره
فكأنّنى أشكو إلى ... حجر وإنّ من الحجارة
وله:
يا راحلا قد كدت أقضى بعده ... أسفا وأحشائى عليه تقطّع
شطّ المزار فما القلوب سواكن ... لكنّ دمع العين بعدك ينبع
وفيها توفّى الشيخ الإمام تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد «4» بن الحسين بن محمد [بن «5» ] الحسين بن جعفر بن عمارة بن عيسى بن علىّ بن عمارة التميمى الصّرخدىّ(7/249)
الحنفىّ، مولده سنة ثمان وسبعين «1» وخمسمائة بصرخد. ومات ليلة الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر بدمشق، ودفن بمقابر الصوفيّة عند قبر شيخه جمال الدين الحصيرىّ «2» ، كان من الصلحاء العلماء العاملين، كان كثير التواضع قنوعا من الدنيا معرضا عنها، وكانت له وجاهة عظيمة عند الملوك وانتفع به جم غفير من الطلبة، وكانت له اليد الطّولى فى النظم والنثر. ومن شعره قوله:
ما «3» نلت من حبّ من كلفت به ... إلّا غراما عليه أو ولها
و «4» محنتى فى هواه دائرة ... آخرها ما يزال أوّلها
قلت: وأرشق من هذا من قال:
محبّتى ما تنقضى ... لجفوة تبطلها
كأنّها دائرة ... آخرها أوّلها
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث مكين الدين أبو الحسن بن عبد العظيم الحصنىّ المصرىّ فى رجب، وله أربع وسبعون سنة.
وسعد الدين أبو الفضل محمد بن مهلهل بن بدران الأنصارىّ الجبتى «5» المصرى سمع الأرتاحىّ «6» . وتوفى تاج الدين محمود بن عابد التميمىّ الصّرخدى الحنفى الشاعر المشهور(7/250)
فى شهر ربيع الآخر عن نيّف وتسعين سنة. وسعد الدين الخضر «1» بن شيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله [بن شيخ الشيوخ أبى الفتح «2» عمر] بن حمّويه الجوينى فى ذى الحجّة عن ثلاث وثمانين سنة. وأبو الفتح عثمان بن هبة الله بن عبد الرحمن [بن مكّى ابن إسماعيل «3» ] بن عوف الزهرى آخر أصحاب ابن موقا «4» فى شهر ربيع الآخر بالإسكندرية.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم القاعدة «5» لم تحرّر لاختلاف المؤرّخين.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 675]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة خمس وسبعين وستمائة.
فيها توفّى إبراهيم بن سعد [الله «6» ] بن جماعة بن علىّ بن جماعة بن حازم بن صخر أبو إسحاق الحموىّ الكنانىّ المعروف بابن جماعة، سمع الفخر «7» بن عساكر وغيره وحدّث. ومولده يوم الاثنين منتصف رجب سنة ستّ «8» وتسعين وخمسمائة بحماة، وهو والد القاضى بدر «9» الدين بن جماعة. مات يوم عيد النّحر(7/251)
وفيها توفّى الأمير ناصر الدين محمد بن أيبك [بن «1» عبد الله بن] الإسكندرىّ، وكان ممّن جمع بين حسن الصورة وحسن السّيرة ووفور العقل والرياسة ومكارم الأخلاق. مات غريقا، مرّ بفرسه على جسر حجر فزلق الفرس ووقع به فى النهر وخرج الفرس سباحة ومات هو. فكأنّ «2» الجلال بن الصفّار الماردينىّ عناه بقوله:
يأيّها الرّشأ المكحول ناظره ... بالسّحر «3» حسبك قد أحرقت أحشائى
إنّ انغماسك فى التّيار حقّق أنّ ... الشمس تغرب فى عين من الماء
أو بقوله «4» أيضا. وقيل إنهما لأبى إسحاق «5» الشّيرازىّ، والله أعلم:
غريق كانّ الموت رقّ لحسنه ... فلان له فى صفحة الماء جانبه
أبى الله أن يسلوه قلبى فإنّه ... توفّاه فى الماء الذي أنا شاربه
وفيها توفّى الشيخ المعتقد الصالح أبو الفتيان أحمد بن علىّ بن إبراهيم [بن «6» محمد] ابن أبى بكر المقدسىّ «7» الأصل البدوىّ المعروف بأبى اللّثامين السطوحىّ «8» . مولده(7/252)
سنة ستّ وتسعين وخمسمائة، وتوفّى فى سنة خمس وسبعين فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بطندتا «1» وقبره يقصد للزيارة هناك، وكان من الأولياء المشهورين، وسمّى بأبى اللّثامين لملازمته اللّثامين صيفا وشتاء، وكان له كرامات ومناقب جمة، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته.
وفيها توفّى العلّامة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن حفّاظ «2» السّلمىّ الحنفىّ المعروف بابن الفويرة «3» . مات بدمشق فى يوم السبت حادى عشرين جمادى الأولى وقال الحافظ عبد القادر فى طبقاته «4» :
رأيت بخط الحافظ الدّمياطىّ فى مشيخته أنّه توفّى ليلة الجمعة فجأة منتصف شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وستمائة. وكان إماما عالما متبحّرا فى العلوم، درّس(7/253)
بالشّبليّة «1» [بجبل»
] الصالحيّة وأفتى سنين وبرع فى الفقه والعربيّة وسمع الكثير، وكان يكتب خطّا حسنا، وله معرفة أيضا بالأصول والأدب وله نظم رائق، وكان رئيسا وعنده ديانة ومروءة ومكارم أخلاق. ومن شعره [فى مليح شاعر «3» ] :
وشاعر يسحرنى طرفه ... ورقّة الألفاظ من شعره
أنشدنى نظما بديعا فما ... أحسن ذاك النظم من ثغره
وله فى معذّر:
عاينت حبّة «4» خاله ... فى روضة من جلّنار
فغدا فؤادى طائرا ... فاصطاده شرك العذار
وله:
كانت دموعى حمرا يوم بينهم ... فمذ نأوا قصّرتها لوعة الحرق
قطفت باللّحظ وردا من خدودهم ... فاستقطر البعد ماء الورد من حدقى
وقيل إنّه رئى فى المنام بعد موته فسئل عمّا لقى بعد موته فكان جوابه.
ما كان لى من شافع عنده ... إلّا اعتقادى أنّه واحد
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن منصور الحرّانىّ الحنبلىّ، كان فقيها إماما عالما عارفا بعلم الأصول والخلاف والفقه ودرّس(7/254)
وأفتى واشتغل [على الشيخ «1» علم الدين القاسم فى الأصول والعربيّة] ومات فى جمادى الأولى. ومن شعره قوله:
طار قلبى يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعى أورقا
حار فى سقمى من بعدهم ... كلّ من فى الحىّ داوى أورقى
بعدهم لاطلّ وادى المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا
وفيها توفى الأديب الشاعر شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود ابن بركة الشيبانى التّلعفرىّ «2» الشاعر المشهور، مولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالموصل، ومات بحماة فى شوّال. كان أديبا فاضلا حافظا للأشعار وأيّام العرب وأخبارها، وكان يتشيّع، وكان من شعراء الملك الأشرف موسى شاه أرمن، وكان التّلعفرىّ هذا مع تقدّمه فى الأدب وبراعته ابتلى بالقمار، ووقع له بسبب القمار أمور منها: أنه نودى بحلب من قبل السلطان: من فامر مع الشّهاب التلعفرىّ قطعنا يده، فضاقت عليه الأرض، فجاء إلى دمشق ولم يزل يستجدى ويقامر حتى بقى فى اتون من الفقر.
قلت: وديوان شعره لطيف فى غاية الحسن وهو موجود بأيدى الناس. ومن شعره قصيدته المشهورة:
أىّ دمع من الجفون أساله ... إذ أتته مع النسيم رساله
حمّلته الرياح أسرار عرف ... أودعتها السحائب الهطّاله
يا خليلى وللخليل حقوق ... واجبات الأداء «3» فى كلّ حاله(7/255)
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه ... خاليا من ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليّ ... ات وتلك المعاطف العسّاله
وليال قضيتها كلأل ... بغزال تغار منه الغزاله
بابلىّ الألحاظ والريق والأل ... فاظ كلّ مدامة سلساله
من بنى التّرك كلّما جذب القو ... س رأينا فى برجه «1» بدر هاله
أوقع «2» الوهم حين يرمى فلم ند ... ر يداه أم عينه النّبّاله
قلت لمّا لوى ديون وصالى ... وهو مثر وقادر لا محاله
بيننا الشرع قال سربى فعندى ... من صفاتى لكلّ دعوى دلاله
وشهودى من خال حدّى و [من «3» ] قد ... ى شهود معروفة بالعداله
أنا وكلت مقلتى فى دم الخل ... ق فقالت «4» قبلت هذى الوكاله
وله موشّحة مدح بها شهاب الدين «5» الأعزازىّ، ثم وقع بينهما وتهاجيا.
وأوّل الموشّحة:
ليس «6» يروى ما بقلبى من ظما ... غير برق لائح من إضم
إن تبدّى لك بان الأجرع ... وأثيلات النّقا من لعلع(7/256)
يا خليلى قف على الدّار معى ... وتأمّل كم بها من مصرع
واحترز واحذر فأحداق الدّمى ... كم أراقت فى رباها من دم
حظّ قلبى فى الغرام الوله ... فعذولى فيك «1» ما لى وله
حسبى «2» الليل فما أطوله ... لم يزل آخره أوّله
فى هوى أهيف معسول اللّمى ... ريقه كم قد شفى من ألم
«3» وله فى القمار:
ينشرح الصدر لمن لاعبنى ... والأرض بى ضيّقة فروجها
كم شوّشت شيوشها «4» عقلى وكم ... عهدا سقتنى عامدا بنوجها
ومن شعره وأجاد، عفا الله عنه:
أحبّ الصالحين ولست منهم ... رجاء أن أنال بهم شفاعه
وأبغض من به أثر المعاصى ... وإن كنّا سواء فى البضاعه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى شمس الدين علىّ بن محمود الشهرزورىّ مدرّس القيمريّة فى شوّال. والشيخ قطب الدين أحمد بن عبد السلام [بن المطهّر «5» بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علىّ] بن أبى عصرون بحلب(7/257)
فى جمادى الآخرة. والإمام شمس الدين محمد بن عبد الوهّاب بن منصور الحرّانىّ الحنبلىّ فى جمادى الأولى. والشهاب محمد بن يوسف بن مسعود التّلّعفرىّ الشاعر بحماة فى شوّال، وله ثلاث وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا «1» .(7/258)
[ما وقع من الحوادث سنة 676]
ذكر ولاية «1» السلطان الملك السعيد محمد ابن الملك الظاهر بيبرس على مصر
هو السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالى محمد المدعو بركة خان ابن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ النّجمىّ، الخامس من ملوك التّرك بمصر. سمّى بركة خان على اسم جدّه لأمّه بركة خان «2» بن دولة خان الخوارزمىّ.
تسلطن الملك السعيد هذا فى حياة والده حسب ما ذكرناه فى ترجمة والده فى يوم الخميس ثالث «3» عشر شوّال سنة اثنتين وستّين وستمائة. وأقام على ذلك سنين، وليس له من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، إلى أن توفّى أبوه الملك الظاهر بيبرس فى يوم الخميس بعد صلاة الظهر التاسع والعشرين من المحرّم من سنة ستّ وسبعين وستمائة بدمشق. اتفق رأى الأمراء [على «4» ] إخفاء موت الظاهر، وكتب الأمير بيليك الخازندار عرّف الملك السعيد هذا بذلك على يد الأمير بدر الدين بكتوت(7/259)
الجوكندار الحموىّ، وعلى يد الأمير علاء الدين أيدغمش الحكيمىّ «1» الجاشنكير.
فلمّا بلغ الملك السعيد موت والده الملك الظاهر أخفاه أيضا، وخلع عليهما وأعطى كلّ واحد منهما خمسين «2» ألف درهم، على أنّ ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصريّة. وسافرت العساكر من دمشق إلى جهة الديار المصريّة فدخلوها يوم الخميس سادس عشرين صفر من سنة ستّ وسبعين وستمائة، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار؛ ودخلوا مصر وهم يخفون موت الملك الظاهر فى الصورة الظاهرة، وفى صدر الموكب مكان تسيير السلطان تحت العصائب «3» ، محفّة وراءها السّلحدارية «4» والجمداريّة «5» وغيرهم من أرباب الوظائف توهم أنّ السلطان فى المحفّة مريض، هذا مع عمل جدّ فى إظهار ناموس السلطنة والحرمة للمحفّة والتأدّب مع من فيها حتى تمّ لهم ذلك.
قلت: لله درّهم من أمراء وحاشية! ولو كان ذلك فى عصرنا هذا ما قدر الأمراء على إخفاء ذلك من الظهر إلى العصر.
ولمّا وصلوا إلى قلعة الجبل، ترجّل الأمراء والعساكر بين يدى المحفّة، كما كانت العادة فى الطريق فى كل منزلة من حين خروجهم من دمشق إلى أن وصلوا إلى قلعة الجبل من باب السرّ، وعند دخولها إلى القلعة اجتمع الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالملك السعيد هذا، وكان الملك السعيد لم يركب لتلقّيهم، وقبّل الأرض ورمى بعمامته ثم صرخ، وقام العزاء فى جميع القلعة، ولوقتهم جمعوا الأمراء(7/260)
والمقدّمين والجند وحلّفوهم بالإيوان المجاور لجامع «1» القلعة للملك السعيد، واستثبت له الأمر على هذه الصورة، وخطب له يوم الجمعة [سابع «2» عشرين صفر] بجوامع القاهرة ومصر، وصلّى على والده صلاة الغائب.
ومولد الملك السعيد هذا فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة؛ وقيل: سنة سبع وخمسين بالعشّ «3» من ضواحى مصر، ونشأ بديار مصر تحت كنف والده إلى أن سلطنه فى حياته؛ كما تقدّم ذكره.
وأمّا الأمير بدر الدين بيليك الخازندار فإنّه لم تطل مدّته، ومات فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأوّل. وخلع الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ بنيابة السلطنة عوضا عن بيليك الخازندار المذكور.
وفى سادس عشر شهر ربيع الأوّل [يوم «4» الأربعاء] ركب السلطان الملك السعيد من القلعة تحت العصائب على عادة والده وسار إلى تحت الجبل «5» الأحمر، وهذا أوّل ركوبه بعد قدوم العسكر، ثم عاد وشقّ القاهرة وسرّ الناس به سرورا زائدا، وكان(7/261)
عمره يومئذ تسع عشرة سنة، وطلع القلعة وأقام إلى يوم الجمعة خامس «1» عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور قبض على الأمير سنقر الأشقر وعلى الأمير بدر الدين بيسرى وحبسهما بقلعة الجبل. ثم فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر قبض الملك السعيد على الأمير آق سنقر الفارقانىّ نائب السلطنة بديار مصر المقدّم ذكره.
ثم فى تاسع عشر الشهر المذكور أفرج الملك السعيد عن الأمير سنقر الأشقر وبيسرى وخلع عليهما وأعادهما إلى مكانتهما.
وفى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت المدرسة «2» التى أنشأها الأمير آق سنقر الفارقانىّ المجاورة للوزيريّة «3» بالقاهرة وجعل شيخها على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه.
وفى يوم الجمعة [رابع عشر «4» جمادى الآخرة] قبض الملك السعيد على خاله الأمير بدر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمىّ وحبسه بقلعة الجبل لأمر(7/262)
نقمه عليه، ثم أفرج عنه فى ليلة «1» خامس عشرينه، وخلع عليه وأعاده إلى منزلته.
وكان الملك السعيد هذا أمر ببناء مدرسة لدفن أبيه فيها، حسب ما أوصى «2» به والده، فنقل تابوت الملك الظاهر بيبرس فى ليلة الجمعة خامس شهر رجب من قلعة دمشق إلى التربة المذكورة بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة «3» العادليّة، والتربة المذكورة كانت دار الشريف العقيقى «4» فاشتريت وهدمت، وبنى موضع بابها قبّة الدفن وفتح لها شبابيك على الطريق وجعل بقيّة الدار مدرسة على فريقين:
حنفيّة وشافعيّة. وكان دفنه بها فى نصف الليل ولم يحضره سوى الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام، ومن الخواصّ دون العشرة لا غير.
ثم وقع الاهتمام إلى السّفر للبلاد الشامية وتجهّز السلطان والعساكر. فلمّا كان يوم السبت سابع ذى القعدة برز الملك السعيد بالعساكر من قلعة الجبل إلى مسجد(7/263)
التّبن «1» خارج القاهرة فأقام به إلى يوم السبت حادى عشرينه، انتقل بخواصّه إلى الميدان «2» الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلى منازلهم، وبطلت حركة السفر بعد أن أعاد قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان إلى قضاء دمشق وأعمالها من العريش الى سلمية، وتوجّه ابن خلكان إلى الشام، وطلع الملك السعيد إلى قلعة الجبل وأبطل حركة السفر بالكليّة إلى وقت يريده حسب ما وقع الاتفاق عليه، واستمرّ بالقلعة إلى أن أمر العساكر بالتأهب إلى السفر وتجهّز هو أيضا لأمر اقتضى ذلك.
وخرج من الديار المصريّة فى العشر الأوسط من ذى القعدة من سنة سبع وسبعين وستمائة وخرج من القاهرة بعساكره وأمرائه، وسار حتى وصل إلى الشام فى خامس ذى الحجّة، فخرج أهل دمشق إلى ملتقاه وزيّنوا له البلد وسرّوا بقدومه سرورا زائدا. وعمل عيد النّحر بقلعة دمشق وصلّى العيد بالميدان الأخضر.
وورد عليه الخبر بموت الصاحب بهاء الدين «3» على بن محمد بن سليم بن حنّا بالقاهرة، فقبض السلطان على حفيده الصاحب تاج الدين «4» محمد، وضرب الحوطة على موجوده بسبب موت جدّه الصاحب بهاء الدين المذكور.(7/264)
ثم أرسل السلطان الملك السعيد إلى برهان «1» الدين الخضر بن الحسن السّنجارىّ باستقراره وزيرا بالديار المصرية ثم خلع السلطان على الصاحب فتح الدين عبد الله [ابن محمد «2» بن أحمد بن خالد بن نصر] بن القيسرانىّ بوزارة دمشق، وبسط يده فى بلاد الشام وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه.
ثم جهّز السلطان العساكر إلى بلاد سيس للنّهب والإغارة «3» ، ومقدّمهم الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ. وأقام الملك السعيد بدمشق فى نفر يسير من الأمراء والخواصّ، فصار فى غيبة العسكر يكثر التردّد الى الربعية «4» من قرى المرج يقيم فيها أيّاما ثمّ يعود. ثم أسقط السلطان ما كان قرّره والده الملك الظاهر على بساتين دمشق فى كلّ سنة، فسرّ الناس بذلك وتضاعفت أدعيتهم له واستمرّ السلطان بدمشق إلى أن وقع الخلف فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين بين المماليك الخاصّكيّة الملازمين لخدمته وبين الأمراء لأمور «5» يطول شرحها.(7/265)
وعجز الملك السعيد عن تلافى ذلك، وخرج عن طاعته الأمير سيف الدين كوندك «1» الظاهرىّ نائب السلطنة ومقدّم العساكر مغاضبا للسلطان الملك السعيد، وخرج معه نحو أربعمائة مملوك من الظاهريّة: منهم جماعة كثيرة مشهورة بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيّفة «2» فى انتظار العساكر التى ببلاد سيس ففى العشر الأخير من شهر ربيع الأوّل عادت العساكر من بلاد سيس إلى جهة دمشق فنزلوا بمرج عذراء «3» إلى القصير «4» ؛ وكان قد اتّصل بهم سيف الدين كوندك ومن معه واستمالوهم فلم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد فى معنى الخلف الذي حصل بين الطائفتين، وكان كوندك مائلا إلى الأمير بيسرى. ولمّا اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الألفى والأمير بدر الدين بيسرى والأمراء الكبار أوحى إليهم عن السلطان ما غلّت صدورهم، وخوّفهم من الخاصّكيّة وعرّفهم أنّ نيّتهم لهم غير جميلة، وأنّ الملك السعيد موافق على ذلك وأكثر من القول المختلق؛ فوقع الكلام بين الأمراء الكبار وبين السلطان الملك السعيد، وتردّدت الرّسل بينهم، فكان من جملة ما اقترح الأمراء على الملك السعيد إبعاد الخاصّكيّة عنه، وألّا يكون لهم فى الدولة تدبير ولا حديث، بل يكونوا على أخبازهم ووظائفهم مقيمين؛ فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك؛ فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة الشّحورة «5» بأسرهم ولم يعبروا المدينة بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرّسل تتردّد بينهم وبين(7/266)
الملك السعيد؛ ثم رحلوا ونزلوا بمرج «1» الصّفّر وعند رحيلهم رجع الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام وأكثر عسكر دمشق، وقدموا مدينة دمشق ودخلوا فى طاعة السلطان. وفى يوم رحيلهم من مرج الصّفّر سيّر الملك السعيد والدته بنت بركة خان فى محفّة وفى خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر، وكان من الذين لم يتوجّهوا إلى بلاد سيس ولحقوا العسكر؛ فلمّا سمعوا بوصولها خرج الأمراء الأكابر المقدّمون لملتقاها، وترجّلوا بأجمعهم وقبّلوا الأرض أمام المحفّة، وبسطوا الحرير العتّابى «2» وغيره تحت حوافر بغال المحفّة ومشوا أمام المحفّة حتى نزلت فى المنزلة، فلمّا استقرّت بها تحدّثت معهم فى الصلح والانقياد واجتماع الكلمة، فذكروا ما بلغهم من تغيّر السلطان عليهم، وموافقته الخاصّكيّة على ما يرومونه من إمساكهم وإبعادهم؛ فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم، فاشترطوا شروطا كثيرة التزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها وعرّفته الصورة؛ فمنعه من حوله من الخاصّكيّة من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا: ما القصد إلّا إبعادنا عنك حتّى يتمكنوا منك وينزعوك من الملك، فمال إلى كلامهم وأبى قبول تلك الشروط.
فلمّا بلغ العسكر ذلك رحل من مرج الصّفّر قاصدا الديار المصريّة؛ فخرج السلطان الملك السعيد بنفسه فيمن معه من الخاصّكيّة جريدة، وساق فى طلبهم ليتلافى الأمر إلى أن بلغ رأس «3» الماء، فوجدهم قد عدوه وأبعدوا، فعاد من يومه ودخل قلعة دمشق فى الليل وهى ليلة الخميس سلخ شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وسبعين وستمائة. وأصبح فى يوم الجمعة مستهلّ شهر ربيع الآخر خرج السلطان(7/267)
الملك السعيد بجميع من تحلّف معه من العساكر المصريّة والشاميّة إلى جهة الديار المصريّة بعد أن صلّى الجمعة بها، وسار بمن معه فى طلب العساكر المقدّم ذكرهم، وجهّز والدته وخزائنه إلى الكرك؛ وسار حتّى وصل إلى بلبيس يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر المذكور، فوجد العسكر قد سبقه إلى القاهرة؛ فأمر بالرحيل من بلبيس؛ فلمّا أخذت العساكر فى الرحيل من بلبيس بعد العصر فارق الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام وصحبته أكثر أمراء دمشق السلطان الملك السعيد، وانضاف إلى المصريّين، وبلغ الملك السعيد ذلك فلم يكترث؛ وركب بمن بقى معه من خواصّه وعساكره وسار بهم حتّى وصل ظاهر القاهرة؛ وكان نائبه بالديار المصريّة الأمير عز الدين أيبك الأفرم، وهو بقلعة الجبل والعساكر محدقة بها، فتقدّم الملك السعيد بمن معه لقتال العساكر، وكان الذي بقى مع السلطان الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من يقاتلونه، ووقع المصافّ بينهم وتقاتلوا فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ من جهة الملك السعيد وشقّ الأطلاب ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل من الفريقين نفر يسير، وملك القلعة وشال علم السلطان، ثم نزل وفتح للملك السعيد طريقا وطلع به إلى القلعة.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه بقى فى المطريّة «1» وحده وصار لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ولمّا طلع السلطان إليها أحاطت العساكر بها وحاصروها وقاتلوا من بها قتالا شديدا(7/268)
وضايقوها وقطعوا الماء الذي يطلع إليها وزحفوا عليها فجدّوا فى القتال، ورأى الملك السعيد تخلّى من كان معه وتخاذل من بقى معه من الخاصّكيّة، وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه فى العسكر المخامر الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ، وهو حمو الملك السعيد فإنّ الملك السعيد كان تزوّج ابنته قبل ذلك بمدّة «1» ، فجرت المراسلات بينهم وكثر الكلام وتردّدت الرّسل غير مرّة، حتّى استقرّ الحال على أن الملك السعيد يخلع من السلطنة وينصّبون فى السلطنة أخاه بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس، ويقطعون الملك السعيد هذا وأخاه نجم الدين خضرا الكرك والشّوبك وأعمالهما؛ فسيّر الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ والقاضى تاج الدين محمد بن الأثير إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق لنفسه منهم، فحلفوا له على الوفاء بما التزموه من إعطاء الكرك والشّوبك له ولأخيه.
وخرج من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور ونزل إلى دار(7/269)
العدل «1» التى على باب القلعة، وكانت مركز الأمير قلاوون فى حال المصافّ والقتال، وكان الحصار ثلاثة أيام بيوم القدوم لا غير.
ولمّا حضر الملك السعيد إلى عند قلاوون أحضر أعيان القضاة والأمراء والمفتين وخلعوا الملك السعيد هذا من السلطنة وسلطنوا مكانه «2» أخاه بدر الدين سلامش ولقّبوه بالملك العادل سلامش، وعمره يومئذ سبع سنين وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى الصالحىّ النّجمىّ. واستمرّت بنت قلاوون عند زوجها الملك السعيد المذكور إلى ما سيأتى ذكره.
ثم أخذ قلاوون فى تحليف الأمراء للملك العادل فحلفوا له بأجمعهم على العادة، وضربت السّكّة فى أحد الوجهين: اسم الملك العادل والآخر اسم قلاوون، وخطب لهما أيضا معا على المنابر، واستمرّ الأمر على ذلك؛ وتصرّف قلاوون فى المملكة والخزائن، وعامله الأمراء والجيوش بما يعاملون به السلطان. ثم عمل قلاوون بخلع الملك السعيد محضرا شرعيّا ووضع الأمراء خطوطهم عليه وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتون والقضاة وأعطوا الملك السعيد الكرك وعملها، وأخاه نجم الدين خضرا الشّوبك وعملها. وخرج الملك السعيد من قلعة الجبل إلى بركة «3» الحجّاج متوجّها إلى الكرك فى يوم الاثنين ثامن عشر شهر ربيع الآخر المذكور من سنة ثمان وسبعين (أعنى ثانى يوم من خلعه) ومعه جماعة من العسكر صورة ترسيم، ومقدّمهم الأمير(7/270)
سيف الدين بيدغان الرّكنى، ثم بدا لهم أن يرجعوا به إلى القلعة فعادوا إليها فى نهار الاثنين لأمر أرادوه وقرّروه معه ثم أمروه بالتوجّه؛ فخرج وسافر ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلها يوم الاثنين خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور، وتسلّم أخوه نجم الدين خضر الشّوبك، وكان الأمير بيدغان ومن معه قد فارقوا الملك السعيد من غزّة ورجعوا إلى الديار المصريّة؛ وأقام الملك السعيد بالكرك وزال ملكه؛ فكانت مدّة حكمه وسلطنته بعد موت أبيه الملك الظاهر بيبرس إلى يوم خلعه سنتين وشهرين «1» وخمسة عشر يوما، واستمرّ بالكرك مع مماليكه وعياله، وقصده الناس والأجناد، فصار ينعم على من يقصده، واستكثر من استخدام المماليك.
ثم رسم الأمير سيف الدين قلاوون بانتقال الملك خضر من الشّوبك إلى عند أخيه الملك السعيد بالكرك، وتسلّم نوّاب قلاوون الشّوبك؛ ودام الملك السعيد على ذلك حتى خلع سلامش من السلطنة وتسلطن قلاوون حسب ما يأتى ذكر ذلك كلّه فى ترجمتهما.
فلمّا تسلطن قلاوون بلغه عن الملك السعيد أنّه استكثر من استخدام المماليك وأنّه ينعم على من يقصده فاستوحش منه، وتأثّر من ذلك. فمرض الملك السعيد بعد ذلك بمدّة يسيرة وتوفّى، رحمه الله تعالى، فى يوم الجمعة حادى عشر ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة بالكرك، ودفن من يومه بأرض «2» مؤتة عند جعفر بن أبى طالب، رضى الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق فى سنة «3» ثمانين وستمائة فدفن إلى جنب والده الملك الظاهر بيبرس بالتّربة التى أنشأها قبالة المدرسة العادليّة «4» السّيفيّة، وألحده(7/271)
قاضى القضاة عزّ الدين محمد «1» بن الصائغ. وكانت مدة إقامته بالكرك بعد أن خلع من السلطنة ستة أشهر وخمسة وعشرين يوما. ووجد الناس عليه كثيرا وعمل عزاؤه بسائر البلاد، وخرجت الخوندات حاسرات بجواريهنّ يلطمن بالملاهى والدّفوف أياما عديدة، ويسمعن الملك المنصور قلاوون الكلام الخشن وأنواع السبّ وهو لا يتكلّم، فإنّه نسب اليه أنه اغتاله بالسمّ لمّا سمع كثرة استخدامه للمماليك وغيرهم.
قلت: ولا يبعد ذلك عن الملك المنصور قلاوون لكثرة تخوّفه من عظم شوكته وكثرة مماليك والده وحواشيه. وأبغض الناس الملك المنصور قلاوون سنينا كثيرة إلى أن أرضاهم بكثرة الجهاد والفتوحات؛ وأبغض الملك المنصور قلاوون حتى ابنته زوجة الملك السعيد المذكور، فإنّها وجدت على زوجها الملك السعيد وجدا عظيما وتألّمت لفقده؛ ولم تزل باكية عليه حزينة لم تتزوّج بعده إلى أن توفّيت بعد زوجها الملك السعيد بمدّة طويلة فى مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثمانين وستمائة.
وكانت شقيقة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، ودفنت فى تربة «2» معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة.(7/272)
وصلّى على الملك السعيد بدمشق صلاة الغائب يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجّة. ثم أنعم الملك المنصور بالكرك بعد موته على أخيه خضر ولقّب بالملك المسعود خضر.
وكان الملك السعيد، رحمه الله، سلطانا جليلا كريما سخىّ الكفّ، كثير العدل فى الرعيّة، محسنا للخاصّ والعامّ، لا يردّ سائلا ولا يخيّب آملا، وكان متواضعا بشوشا، حسن الأخلاق ليس فى طبعه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة على الناس، ليّن الكلمة محبّا لفعل الخير، قليل الحجاب على الناس يتصدّى للأحكام بنفسه، وكان لا يميل لسفك الدماء مع قدرته على ذلك، وكان يوم دخوله إلى قلعة الجبل ولد له مولود ذكر من بعض حظاياه فى شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان يحبّ التجمّل ويكثر من الإنعام على الناس ويخلع حتّى فى الأعزية. ولمّا مات خاله الأمير بدر الدين محمد بن بركة خان بن دولة خان، وكان من أعيان الأمراء بالديار المصريّة فى الدولة الظاهريّة، وكان حصل له عند إفضاء الملك لابن أخته الملك السعيد تقدّم كبير ومكانة عالية، وتوجّه معه إلى دمشق فمرض بها إلى أن توفّى ليلة الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل، ودفن بسفح قاسيون بالتّربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف؛ ومقدار عمره خمسون سنة، عمل «1» له(7/273)
عدّة أعزية وقرئ بالتّربة عدّة ختمات، حضر إحداها ابن أخته الملك السعيد، ومدّ خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات، فأكل من حضر، وخلع الملك السعيد على والدته ومماليكه وخواصّه وهو فى العزاء فلبسوا الخلع وقبّلوا الأرض، وكانت الخلع خارجة عن الحدّ. فهذا أيضا ممّا يدلّ على كرمه ووسع نفسه وكثرة إنعامه حتّى فى الأعزية، رحمه الله تعالى. انتهت ترجمة الملك السعيد.
ويأتى ذكر حوادث سنين سلطنته على عادة هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى من ولاية الملك السعيد محمد بركة خان على مصر، وهى سنة ستّ وسبعين وستمائة.
فيها توفى الشيخ كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل [ «1» بن إبراهيم ابن فارس] الإسكندرى المقرئ، كان عارفا بالقراءات، وانتفع به خلق كثير، وتولّى نظر حبس دمشق، ونظر بيت المال بها مضافا إلى نظر الحبس، وباشر عدّة وظائف دينيّة. ومات فى صفر. وكان رئيسا فاضلا.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله المحمّدىّ الصالحىّ النّجمىّ، كان من أعيان الأمراء ومن أكابرهم، وكان الملك الظاهر بيبرس يخافه، فحبسه مدّة طويلة ثم أفرج عنه فمات فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بتربته «2» بالقرافة الصغرى.(7/274)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الموصلىّ الظاهرىّ نائب السلطنة بحمص، وكان ولى حمص مدّة ثم عزله الملك الظاهر عنها ونفاه إلى حصن «1» الأكراد، وكان شجاعا مقداما.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الدّمياطىّ الصالحىّ النّجمىّ أحد أكابر الأمراء المقدّمين على الجيوش، كان قديم الهجرة [بينهم «2» ] فى علوّ المنزلة وسموّ المكانة، وكان الملك الظاهر أيضا حبسه مدّة طويلة ثم أطلقه وأعاده إلى مكانته.
ومات بالقاهرة فى شعبان ودفن بتربته التى أنشأها بين القاهرة ومصر فى القبّة «3» المجاورة لحوض السبيل «4» المعروف به.(7/275)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيدمر بن عبد الله العلائىّ نائب قلعة صفد، حضر بعد موت الملك الظاهر إلى القاهرة ومات بها ودفن بالقرافة الصغرى، وكان ديّنا عفيفا أمينا، وهو أخو الأمير علاء الدين أيدكين الصالحىّ.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بيليك بن عبد الله الظاهرىّ الخازندار نائب السلطنة بالديار المصريّة بل بالممالك كلّها. قد تقدّم من ذكره نبذة جيّدة فى عدّة مواطن، وهو الذي أخفى موت الملك الظاهر حتى قدم به إلى مصر حسب ما تقدّم ذكره، وكانت وفاته بالقاهرة فى سادس شهر ربيع الأوّل بقلعة الجبل ودفن بتربته «1» التى أنشأها بالقرافة الصغرى، وحزن الناس عليه حزنا شديدا حتى شمل مصابه الخاصّ والعامّ، وعمل عزاؤه بالقاهرة ثلاثة أيام، فى الليل بالشّموع وأنواع الملاهى. وصدّع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنّه مات مسموما، وكان عمره خمسا وأربعين سنة، ومحاسنه كثيرة يطول الشرح فى ذكرها.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد خضر بن أبى بكر [محمد «2» ] بن موسى أبو العبّاس المهرانىّ العدوىّ، كان أصله من قرية المحمّديّة من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر بيبرس، وصاحب الزاوية «3» التى بناها له الملك الظاهر بالحسينيّة على الخليج «4» بالقرب من جامع «5» الظاهر. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الظاهر ما يغنى عن الإعادة هاهنا. وكان الشيخ خضر بشّر الملك الظاهر قبل سلطنته بالملك، فلمّا تسلطن صار له فيه العقيدة العظيمة حتّى إنّه كان ينزل إليه فى الجمعة المرّة والمرّتين،(7/276)
وكان يطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره فى أموره، ويستصحبه فى أسفاره، وفيه يقول الشريف محمد بن «1» رضوان الناسخ.
ما الظاهر السلطان إلا مالك الد ... نيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس فى ... وسط السماء بكلّ عين تنظر
لمّا رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنّه الإسكندر
وكان الشيخ يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبره، ثم تغيّر الملك الظاهر عليه لأمور بلغته عنه وأحضر السلطان من حاققه، وذكروا عنه من القبائح ما لم يصدر عن مسلم! والله أعلم بصحّة ذلك؛ فآستشار الملك الظاهر الأمراء فى أمره، فمنهم من أشار بقتله، ومنهم من أشار بحبسه، فمال الظاهر إلى قتله ففهم خضر؛ فقال للظاهر: اسمع ما أقول لك، إنّ أجلى قريب من أجلك، وبينى وبينك مدّة أيّام يسيرة، فمن مات منّا لحقه صاحبه عن قريب! فوجم الملك الظاهر وكفّ عن قتله، فحبسه فى مكان لا يسمع له فيه حديث، وكان حبسه فى شوّال سنة إحدى وسبعين وستمائة، وتوفّى يوم الخميس أو فى ليلة الجمعة سادس المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن بزوايته بالحسينيّة. وكان الملك الظاهر بدمشق، فلمّا بلغه موته اضطرب وخاف على نفسه من الموت لما كان قال له الشيخ خضر: إنّ أجله من أجله قريب، فمرض الظاهر بعد أيام يسيرة ومات، فكان بين الشيخ خضر وبين الملك الظاهر دون الشهر. انتهى.(7/277)
وفيها توفّى شيخ الإسلام محيى الدين أبو زكريّا يحيى بن شرف بن مرى «1» بن الحسن ابن الحسين النّووىّ «2» الفقيه الشافعىّ الحافظ الزاهد صاحب المصنّفات المشهورة.
ولد فى العشر الأوسط من المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ومات ليلة الأربعاء رابع عشرين شهر رجب بقرية نوى.
قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر. وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ؛ إذ هو كتاب تراجم يحسن الإطناب فيه. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك القاهر عبد الملك بن المعظّم [عيسى «3» ] بن العادل [أبى بكر «4» بن أيّوب] فى المحرّم مسموما.
والسلطان الملك الظاهر ركن الدين الصالحىّ بيبرس فى أواخر المحرّم بالقصر «5» الأبلق،(7/278)
وله بضع وخمسون سنة. وكمال الدين إبراهيم بن الوزيرى نجيب الدين [أحمد «1» ] بن إسماعيل [بن إبراهيم «2» ] بن فارس التّميمىّ الكاتب المقرئ فى صفر، وله ثمانون سنة.
والواعظ نجم الدين علىّ بن علىّ بن إسفنديار بدمشق فى رجب، وله خمس «3» وأربعون سنة وأشهر. وبيليك الظاهرىّ الخازندار نائب مصر. والصاحب معين الدين سليمان بن علىّ [بن محمد «4» بن حسن] البرواناه الرومىّ، قتله أبغا فى المحرّم. والشيخ خضر بن أبى بكر العدوىّ شيخ السلطان. والشيخ الإمام شمس الدين محمد [بن إبراهيم ابن «5» عبد الواحد بن علىّ بن سرور قاضى القضاة أبو بكر وأبو عبد الله المعروف ب] ابن العماد الحنبلىّ فى المحرّم بمصر. والقاضى تقىّ الدين محمد بن حياة الرّقّىّ قاضى حلب بتبوك «6» فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 677]
السنة الثانية من ولاية الملك السعيد على مصر، وهى سنة سبع وسبعين وستمائة.(7/279)
فيها توفّى الشيخ الإمام زين الدين أبو العباس إبراهيم بن أحمد بن أبى الفرج «1» الدّمشقىّ الحنفىّ المعروف بابن السّديد إمام مقصورة الحنفيّة «2» شمالى جامع دمشق وناظر وقفها. كان إماما فقيها ديّنا كثير الخير غزير المروءة. مات فى جمادى الأولى ببستانه بالمزّة «3» ودفن بسفح قاسيون.
وفيها توفّى الأمير شمس الدّين آق سنقر بن عبد الله الفارقانىّ، كان أصله من مماليك الأمير نجم الدين حاجب الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، ثم انتقل إلى ملك السلطان الملك الظاهر بيبرس، وتقدّم عنده وجعله أستادارا كبيرا. وكان للملك الظاهر عدّة أستادارية، وكان الملك الظاهر كثير الوثوق به فى أموره ويستنيبه فى غيبته ويقدّمه على عساكره، ولمّا صار الأمر إلى الملك السعيد جعله نائبه لسائر الممالك بعد بيليك الخازندار، فلمّا ثارت الخاصّكيّة قبضوا عليه وقتلوه، وقيل إنّه بقى فى هذه السنة، والأصحّ أنّهم قبضوا عليه وسجنوه إلى أن مات فى جمادى الأولى من هذه السنة. وكان أميرا كبيرا جسيما شجاعا مقداما مهابا ذا رأى وتدبير وعقل ودهاء، كثير البرّ والصدقات عالى الهمّة، وله مدرسة «4» عند داره داخل باب سعادة «5» بالقاهرة.(7/280)
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله النّجيبىّ الصالحىّ النّجمىّ الأيّوبىّ، كان مقرّبا عند أستاذه الملك الصالح وولّاه أستادارا، وكان كثير الاعتماد عليه. ثم ولّاه الملك الظاهر بيبرس نيابة دمشق فأقام بها تسع سنين، ثم عزله وتركه بطّالا بالقاهرة إلى أن مات بها فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بداره «1» بدرب ملوخيّا من القاهرة، ودفن يوم الجمعة بتربته «2» بالقرافة الصغرى.
وفيها توفّى الشيخ جمال الدين طه بن إبراهيم بن أبى بكر بن أحمد بن بختيار الهذبانى الإربلىّ، كان عنده فضيلة وأدب ورياسة، وله يد فى النظم. ومات فى جمادى الأولى. ومن شعره فى النهى عن النظر فى النجوم:
دع النجوم لطرقىّ «3» يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيّها الملك
إنّ النّبيّ وأصحاب النّبيّ نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
وفيها توفّى قاضى القضاة مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلىّ الحلبىّ الحنفىّ ابن الصاحب كمال الدين عمر «4» بن العديم. كان إماما(7/281)
عالما فاضلا كبير الديانة والورع، كان جمع بين العلم والعمل والرياسة، ولى قضاء دمشق مع عدّة تداريس، ولم يزل قاضيا إلى أن توفّى بظاهر دمشق بجوسقه «1» الذي على الشّرف [الأعلى «2» ] القبلى فى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الاخر، ودفن فى تربة أنشأها قبالة الجوسق المذكور. ومن شعره ما كتبه لخاله عون الدين سليمان «3» ابن العجمىّ بسبب ابن مالك، فقال:
أمولاى عون الدين يا راويا لنا ... حديث المعالى عن عطاء ونافع
بعيشك حدّثنى حديث ابن مالك ... فأنت له يا مالكى خير شافع
وفيها توفّى الشيخ موفّق الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصارىّ، كان أديبا فاضلا. قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى الذيل على المرآة: «صاحبنا [كان أديبا فاضلا «4» مقتدرا على النظم] ، وله مشاركة فى علوم كثيرة، منها: الكحل والطبّ، وغير ذلك من الفقه والنحو والأدب، ويعظ الناس، حلو النادرة حسن المحاضرة» . انتهى كلام قطب الدين. قلت ومن شعره:
قلبى وطرفى فى ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمى
رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجرى على الرسم
وفيها توفّى الأديب نجم الدين أبو المعالى محمد بن سوّار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل الشّيبانىّ الدمشقىّ المولد والدار والوفاة، كان أديبا فاضلا قادرا على النظم(7/282)
صوفيّا. وقد ذكرنا حكايته مع الشّهاب «1» الخيمىّ لمّا ادّعى كلّ منهما القصيدة البائية التى أوّلها:
يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب
وتداعيا عند الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض فأمر ابن الفارض أن يعمل كل منهما قصيدة على الوزن والقافية فعملا ذلك، فحكم ابن الفارض بالقصيدة للشهاب الخيمىّ. وقد ذكرنا القصائد الثلاث فى «المنهل الصافى» فى ترجمة شهاب الدين الخيمىّ. وابن إسرائيل هذا ممّن تكلّموا فيه ورموه بالاتّحاد.
والله أعلم بحاله. ومن شعر ابن إسرائيل هذا على مذهب القوم:
خلا منه طرفى وامتلا منه خاطرى ... فطرفى له شاك وقلبى شاكر
ولو أنّنى أنصفت لم تشك مقلتى ... بعادا ودارات الوجود مظاهر
وله أيضا:
يا من تناءى وفؤادى داره ... مضناك قد أقلقه تذكاره
صددت عنه قبل ما وصلته ... وكان قبل سكره خماره
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مجد الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر ابن أحمد بن أبى شاكر الإربلىّ الأديب الفقيه الحنفىّ المعروف بابن الظّهير. مولده بإربل فى ثانى صفر سنة اثنتين وستمائة ونشأ بها، وطلب العلم وتفقّه وبرع فى الفقه والأصول والعربيّة، وقدم دمشق وتصدّى بها للإقراء والتدريس ودرّس بالقايمازيّة «2»(7/283)
بدمشق؛ وهو من أعيان شيوخ الأدب وفحول المتأخرين وله ديوان شعر، وسمع الحديث ببغداد من أبى بكر بن الخازن «1» والكاشغرىّ «2» [و] بدمشق من السّخاوىّ «3» وكريمة «4» وتاج «5» الدين بن حمّويه؛ وروى عنه أبو شامة «6» والقوصىّ «7» والدّمياطى «8» والشهاب «9» محمود، وعليه تدرّب فى الأدب، و [أبو الحسين «10» ] اليونينىّ والحافظ «11» جمال الدين المزّىّ.
ولمّا مات رثاه تلميذه الشّهاب محمود بقصيدة أوّلها:
تمكّن «12» ليلى واطمأنّت كواكبه ... وسدّت على صبح «13» الغداة مذاهبه
بكته معاليه ولم ير قبله ... كريم مضى والمكرمات نوادبه «14»
ومن شعر ابن الظّهير:
قلبى «15» وطرفى ذا يسيل دما وذا ... دون «16» الورى أنت العليم بقرحه(7/284)
وهما بحبّك شاهدان وإنّما ... تعديل كلّ منهما فى جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحّه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأديب نجم الدين محمد [بن «1» سوّار] بن إسرائيل الحريرى «2» الشاعر المشهور فى شهر ربيع الآخر. والإمام مجد الدين محمد بن أحمد بن عمر بن الظّهير الحنفىّ الأديب فى شهر ربيع الآخر أيضا.
والأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ فى الحبس فى جمادى الأولى. والأمير جمال الدين آقوش النّجيبىّ بالقاهرة فى شهر ربيع الآخر. وشيخ الحنفية وقاضيهم الصّدر سليمان بن أبى العزّ بن وهيب «3» الحنفى فى شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
والصاحب مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن بن أبى القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلىّ قاضى الحنفية فى شهر ربيع الآخر، وله ثلاث وستون سنة. والوزير بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم «4» المصرىّ بن حنّا فى ذى القعدة. والمحدّث ناصر الدين محمد ابن عربشاه «5» الهمذانىّ فى جمادى الأولى. والمحدّث شهاب الدين أحمد بن محمد بن عيسى الجزرىّ. وأبو المرجىّ «6» المؤمّل بن محمد بن علىّ [بن محمد «7» بن علىّ بن منصور عزّ الدين] البالسىّ فى رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.(7/285)
ذكر سلطنة الملك العادل سلامش «1» على مصر
هو السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ النجمىّ السادس من ملوك الترك بمصر.
تسلطن بعد خلع أخيه الملك السعيد أبى المعالى ناصر الدين محمد بركة خان باتّفاق الأمراء على سلطنته، وجلس على سرير الملك فى يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة وعمره يوم تسلطن سبع سنين. وجعلوا أتابكه ومدبّر مملكته الأمير سيف الدين قلاوون الصالحى النّجمىّ. وضربت السّكّة على أحد الوجهين باسم الملك العادل سلامش هذا، وعلى الوجه الآخر اسم الأمير قلاوون؛ وخطب لهما أيضا على المنابر. واستمرّ الأمر على ذلك وصار الأمير قلاوون هو المتصرّف فى الممالك والعساكر والخزائن، ولم يكن لسلامش فى السلطنة مع قلاوون إلّا مجرّد الاسم فقط. وأخذ قلاوون فى الأمر لنفسه. فلمّا استقام له الأمر دخل إليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ووافقه على السلطنة وأخفى ذلك لكونه كان خشداشه، وكان الأمير عزّ الدين أيدمر نائب الشام عاد إلى الشام بمن معه بعد خلع الملك السعيد، فوصل إلى دمشق يوم الأحد مستهلّ جمادى الأولى، فخرج لتلقّيه من كان تخلّف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدّم عليهم الأمير جمال الدين آقوش الشمسىّ. وكان قلاوون قد كاتب آقوش فى أمر أيدمر هذا والقبض عليه، فلمّا وصلوا إلى مصلّى العيد بقصر حجّاج احتاط الأمير جمال الدين آقوش الشمسى والأمراء الذين معه على الأمير أيدمر نائب الشام وأخذوه بينهم، وفرّقوا بينه وبين عسكره الذين حضروا معه من الديار المصريّة، ودخلوا إلى(7/286)
دمشق من باب «1» الجابية، ورسموا عليه بدار فى دمشق؛ ثمّ نقلوه إلى قلعة دمشق واعتقلوه بها. وكان الملك السعيد قبل أن يخرج من الشام سلّم قلعة دمشق للأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ وجعله النائب عنه أيضا فى البلد. ثمّ أرسل قلاوون جمال الدين آقوش الباخلى وشمس الدين سنقر جاه [الكنجىّ «2» ] إلى البلاد الشاميّة وعلى يدهم نسخة الأيمان بالصورة التى استقرّ الحال عليها بمصر، وأحضروا الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان معهم نسخة بالمكتوب المتضمّن خلع الملك السعيد وتولية الملك العادل سلامش، فقرئ ذلك على الناس وحلفوا واستمرّ الحلف أيّاما. ثمّ إنّ الأمير قلاوون ولّى خشداشه الذي اتّفق معه على السلطنة، وهو الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، نيابة الشام وأعمالها فتوجّه سنقر الأشقر إليها، ودخلها يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة من سنة ثمان وسبعين المذكورة بتجمّل زائد، فكان موكبه يضاهى موكب السلطان، وعند وصوله إلى دمشق أمر الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ بالنزول من قلعة دمشق فنزل فى الحال. وصفا الوقت للأمير قلاوون بمسك أيدمر نائب الشام، وبخروج سنقر الأشقر من الديار المصريّة وانبرم أمره مع الأمراء والخاصّكيّة، واتّفقوا معه على خلع الملك العادل سلامش من السلطنة وتوليته إيّاها. فلمّا كان يوم الثلاثاء حادى عشرين شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة اجتمع الأمراء والقضاة والأعيان بقلعة الجبل وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش من السلطنة لصغر سنّه، وتسلطن عوضه أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى الصالحىّ النّجمىّ،(7/287)
ونعت بالملك المنصور، على أنّه كان هو المتصرّف فى المملكة منذ خلع الملك السعيد وتسلطن الملك العادل سلامش، ولم يكن لسلامش فى أيام سلطنته غير الاسم، وقلاوون هو الكلّ! وكان عدم سلطنة قلاوون قبل سلامش أنّه خاف ثورة المماليك الظاهريّة عليه، فإنّهم كانوا يوم ذاك هم معظم عسكر الديار المصريّة، وأيضا كانت بعض القلاع فى يد نوّاب الملك السعيد فلمّا مهّد أمره تسلطن. ولمّا بلغ سنقر الأشقر سلطنة قلاوون داخله الطّمع فى الملك وأظهر العصيان، على ما سيأتى ذكره فى ترجمة الملك المنصور قلاوون إن شاء الله تعالى.
وكانت مدّة سلطنة الملك العادل بدر الدين سلامش على مصر ثلاثة أشهر وستّة «1» أيام. ولزم الملك العادل سلامش داره عند أمّه إلى أن أرسله الملك المنصور قلاوون إلى الكرك، فأقام به عند أخيه الملك خضر «2» مدّة؛ ثم رسم الملك المنصور بإحضاره «3» إلى القاهرة فحضر إليها، وبقى خاملا إلى أن مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف خليل بن قلاوون، جهزه وأخاه الملك خضرا وأهله إلى مدينة اسطنبول بلاد الأشكرى، فأقام هناك إلى أن توفّى بها فى سنة تسعين وستمائة. وكان شابّا مليحا جميلا تامّ الشكل رشيق القدّ طويل الشّعر ذا حياء(7/288)
ووقار وعقل تامّ. مات وله من العمر قريب من عشرين سنة؛ قيل: إنّه كان أحسن أهل زمانه، وبه افتتن جماعة من الناس، وشبّب به الشعراء وصار يضرب به المثل فى الحسن حتى يقول القائل: «ثغر سلامسىّ» . انتهت ترجمة الملك العادل سلامش، رحمه الله.
ما وقع من الحوادث سنة السنة التى حكم فيها الملك السعيد إلى سابع عشر شهر ربيع الآخر، ثم حكم من سابع عشر شهر ربيع الآخر إلى حادى عشرين شهر رجب الملك العادل سلامش، ثم فى باقيها الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ، وهى سنة ثمان وسبعين وستمائة.
فيها كان خلع ولدى الملك الظاهر بيبرس من السلطنة: الملك السعيد محمد بركة خان، والملك العادل بدر الدين سلامش، وتسلطن بعد سلامش الأمير قلاوون.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
وفيها توفّى الفقيه المحدّث صفىّ الدين أبو [محمد «1» ] إسحاق [بن «2» ] إبراهيم بن يحيى الشّقراوىّ «3» الحنبلى، ولد بشقراء من ضياع برزة «4» من عمل دمشق سنة خمس وستمائة.
ومات بدمشق فى ذى الحجّة، وكان فاضلا فقيها سمع الكثير وحدّث.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرّكنىّ المعروف بالبطاح «5» أحد أكابر أمراء دمشق، عاد من تجريدة سيس مريضا ومات بحلب ونقل إلى حمص فدفن عند قبر خالد بن الوليد، رضى الله عنه. والركنى: نسبة الى أستاذه(7/289)
الأمير ركن الدين بيبرس الصالحىّ النّجمىّ الذي لقى الفرنج بأرض غزّة وكسرهم، وهو غير الملك الظاهر بيبرس.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الشّهابىّ السّلحدار، كان أيضا فى تجريدة سيس وعاد مريضا، وتوفّى بحماة ثم نقل إلى دمشق ودفن عند خشداشه أيدكين [بن عبد الله «1» ] الشهابى، نسبة إلى الطّواشى شهاب الدين رشيد الخادم الصالحىّ الكبير وهو أستاذهما.
وفيها توفّى الأمير نور الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن مجلّىّ الهكّارىّ، كان من أجل الأمراء وأعظمهم، ولى نيابة حلب، وكان حسن السيرة عالى الهمة كريم الأخلاق شجاعا مقداما عارفا مدبّرا معظّما فى الدّول. مات بعد عزله عن نيابة حلب فى مرض موته باستعفائه عنها بها فى شهر ربيع الآخر ودفن بها، وقد نيّف على السبعين سنة، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الشيخ جمال الدين أبو زكريّا يحيى بن أبى المنصور بن أبى الفتح ابن رافع بن علىّ الحرّانىّ الحنبلىّ المعروف بابن الصّيرفىّ، كان إماما فقيها عالما مفتنّا فى الفقه متبحّرا فيه كثير الإفادة، وأفتى ودرّس وانتفع به الطلبة، ومات فى صفر.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بن الظاهر بالكرك فى ذى القعدة، وله عشرون سنة وأشهر.
والمسند أبو العبّاس أحمد بن أبى الخير سلامة بن إبراهيم الحدّاد الحنبلىّ يوم عاشوراء.
والإمام جمال الدين يحيى بن أبى المنصور بن الصّيرفىّ الحرّانىّ فى صفر، وله خمس(7/290)
وتسعون سنة. وصفىّ الدين إسحاق بن إبراهيم الشّقراوىّ. وفاطمة بنت الملك المحسن «1» ببزاعة «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.(7/291)
ذكر سلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون على مصر
السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالى وأبو الفتح «1» قلاوون بن عبد الله الألفىّ التركىّ الصالحىّ النّجمىّ السابع من ملوك الترك بالديار المصرية، والرابع ممن مسّه الرّقّ.
ملك الديار المصرية بعد خلع الملك السعيد وصار مدبّر مملكة الملك العادل بدر الدين سلامش إلى أن خلع سلامش وتسلطن الملك المنصور قلاوون هذا من بعده فى حادى «2» عشرين، وقيل عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، وجلس على سرير الملك بأبّهة السلطنة وشعار الملك وتمّ أمره. ولمّا استقل بالمملكة أمسك جماعة كثيرة من المماليك والأمراء الظاهريّة وغيرهم، واستعمل مماليكه على البلاد والقلاع، فلم يبلع ريقه حتّى خرج عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائب دمشق، فإنّه لمّا وصل إليه البريد إلى دمشق بسلطنة المنصور قلاوون فى يوم الأحد سادس «3» عشرى رجب، وعلى يده نسخة يمين التّحليف للأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الناس، فأحضروا إلى دار «4» السعادة بدمشق وحلفوا إلّا الأمير سنقر الأشقر نائب الشام، فإنّه لم يحلف ولا رضى بما جرى من خلع سلامش وسلطنة قلاوون،(7/292)
فلم يلتفت أهل دمشق إلى كلامه. وخطب بجامع دمشق للملك المنصور قلاوون وجوامع الشام بأسرها خلا مواضع يسيرة توقّفوا، ثم خطبوا بعد ذلك.
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه فى شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السّنجارىّ «1» عن الوزارة بالديار المصريّة، وأمره بلزوم مدرسة «2» أخيه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارىّ بالقرافة الصغرى، واستقرّ مكانه فى الوزاره الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصريّة، وتولّى عوضه صحابة الديوان القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين [عبد «3» الله] بن عبد الظاهر، وهو أوّل كاتب سرّ كان فى الدولة التّركية وغيرها، وإنما كانت هذه الوظيفة فى ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرّف فى الديوان، وتحت يده جماعة من الكتاب الموقّعين، وفيهم رجل كبير كنائب كاتب السّر الآن، سمّى فى الآخر صاحب ديوان الإنشاء. ومن الناس من قال: إنّ هذه الوظيفة قديمة. واستدلّ بقول صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتب للنبىّ، صلى الله عليه وسلم، ومن بعده.
وردّ على من قال ذلك جماعة أخر، وقالوا: ليس فى ذكر من كتب للنبىّ، صلّى الله عليه وسلّم، وغيره من الخلفاء دلاله على وظيفة كتابة السّر، وإنّما هو دليل لكلّ كاتب كتب لملك أو سلطان أو غيرهما كائنا من كان، فكلّ كاتب كتب عند رجل يقول: هو أنا ذاك الكاتب، وإذا الأمر احتمل واحتمل سقط الاحتجاج به. ومن قال: إنّ هذه الوظيفة ما أحدثها إلّا الملك المنصور قلاوون فهو الأصح، ونبيّن ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أواخر هذه الترجمة، وتذكر من ذكره(7/293)
صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب من عهد النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، إلى يومنا هذا على سبيل الاختصار. انتهى. وقد خرجنا عن المقصود.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه فى يوم الجمعة رابع عشرى «1» ذى القعدة من السنة ركب من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجّالة وهو راكب وحده وقصد القلعة من الباب الذي يلى المدينة فهجمها بمن كان معه، وطلعها وجلس بها من ساعته وحلّف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن وتلقب «بالملك الكامل» ، ونادت المنادية فى المدينة بسلطنته واستقلاله بالممالك الشاميّة، وفى بكرة يوم السبت خامس عشرين ذى القعدة طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد وأكابره وأعيانه إلى مسجد أبى الدّرداء، رضى الله عنه، بقلعة دمشق وحلّفهم وحلّف بقيّة الناس على طاعته؛ ثم وجّه العساكر فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه إلى بلاد غزّة لحفظ البلاد ومغلّها ودفع من يأتى إليها من الديار المصريّة. وخرجت سنة ثمان وسبعين وليس للملك المنصور قلاوون حكم إلّا على الديار المصرية وأعمالها فقط.
ولمّا استهلت سنة تسع وسبعين والملك المنصور سلطان مصر، والملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر سلطان دمشق وما والاها، وصاحب الكرك الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، وصاحب حماة والمعرّة الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين محمود الأيّوبىّ؛ والعراق والجزيرة والموصل وإربل وأذربيجان وديابكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التّتار والروم؛ وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن عمر [بن علىّ بن»
رسول] ، وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ الحسنىّ، وصاحب المدينة الشريفة،(7/294)
على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، الأمير عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ؛ ذكرنا هؤلاء تنبيها للناظر فى الحوادث الآتية، ليكون فيما يأتى على بصيرة. انتهى.
ثم إنّ السلطان الملك المنصور قلاوون فى أوّل سنة تسع وسبعين وستّمائة المذكورة جهّز عسكرا لغزّة، فلمّا قاربوها لقيهم عسكر الملك الكامل سنقر الأشقر وقاتلوهم حتّى نزحوهم عنها، وانكسر العسكر المصرىّ وقصد الرّمل واطمأنّ الشاميّون بغزّة ونزلوا بها ساعة من النهار، وكانوا فى قلّة، فكرّ عليهم عساكر الديار المصريّة ثانيا وكبسوهم ونالوا منهم منالا كبيرا، ورجع عسكر الشام منهزما إلى مدينة الرّملة «1» .
وأمّا الملك الكامل سنقر الأشقر فإنّه قدم عليه بدمشق الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنّا ملك العرب بالبلاد الشرقيّة والشماليّة؛ ودخل على الكامل وهو على السّماط فقام له الكامل، فقبّل عيسى الأرض وجلس عن يمينه فوق من حضر.
ثم وصل إلى الملك الكامل أيضا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ بن بريد «2» ملك العرب بالبلاد الحجازيّة فأكرمه الملك الكامل غاية الإكرام.
وأمّا الملك المنصور لما بلغه ما وقع لعسكره بغزّة جهّز عسكرا آخر كثيفا إلى دمشق لقتال الملك الكامل سنقر الأشقر، ومقدّمهم الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، وخرجوا من مصر وساروا إلى جهة الشام، فصار عسكر دمشق الذي بالرّملة كلّما تقدّم العسكر المصرىّ منزلة تأخّر هو منزلة إلى أن وصل أوائلهم إلى دمشق فى أوائل صفر. وفى يوم الأربعاء ثانى عشر صفر المذكور خرج الملك الكامل من دمشق بنفسه بجميع من عنده من العساكر، وضرب دهليزه بالجسورة «3» وخيّم هناك(7/295)
بجميع الجيش، واستخدم المماليك وأنفق الأموال، وجمع خلقا عظيما وحضر عنده عرب الأميرين: ابن مهنّا وابن حجّىّ ونجدة حلب ونجدة حماة، مقدّمهما الملك الأفضل نور الدين علىّ أخو صاحب حماة؛ ورجّالة كثيرة من جبال بعلبكّ، ورتّب العساكر والأطلاب بنفسه وصفّ العساكر ميمنة وميسرة ووقف هو تحت عصائبه؛ وسار العسكر المصرى أيضا بترتيب هائل وعساكر كثيرة، والأطلاب أيضا مرتّبة، والتقى الجيشان فى يوم الأحد [سادس «1» عشر صفر] وقت طلوع الشمس فى المكان المذكور وتقاتلا أشدّ قتال، وثبت كلّ من الطائفتين ثباتا لم يسمع بمثله إلّا نادرا لا سيّما الملك الكامل سنقر الأشقر، فإنّه ثبت وقائل بنفسه قتالا شديدا، واستمرّ المصافّ بين الطائفتين إلى الرابعة من النهار ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جدّا، وأمّا الجراح فكثيرة. فلمّا كانت الساعة الرابعة من النهار خامر أكثر عسكر دمشق على الملك الكامل سنقر الأشقر وغدروا به وانضافوا إلى العسكر المصرىّ، وكان «2» لما وقع العين على العين قبل أن يلتحم القتال انهزم عساكر حماة وتخاذل عسكر الشام على الكامل، فمنهم: من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنهم من دخل دمشق راجعا، ومنهم من ذهب إلى طريق بعلبكّ، فلم يلتفت الملك الكامل لمن ذهب منه من العساكر وقاتل، فلمّا انهزم عنه من ذكرنا فى حال القتال ضعف أمره ومع هذا استمرّ يقاتل بنفسه ومماليكه إلى أن رأى الأمير عيسى بن مهنّا الهزيمة على الملك الكامل أخذه ومضى به إلى الرّحبة «3» ، وأنزله عنده ونصب له بيوت الشّعر.
وأمّا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ فإنّه دخل إلى دمشق بالأمان، ودخل وطاعة الملك المنصور قلاوون.(7/296)
وأمّا عساكر الشام فإنهم اجتمعوا على القصب من عمل حمص، ثم عاد أكثر الأمراء إلى جهة دمشق وطلبوا الأمان من مقدّم العساكر المصرية الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ.
وأمّا العساكر المصرية فإنّهم ساقوا من وقتهم إلى مدينة دمشق وأحاطوا بها، ونزلوا بخيامهم ولم يتعرّضوا للزحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار، وفتح من المدينة باب الفرج ودخل منه إلى دمشق بعض مقدّمى الجيش؛ ثم طلب من بالقلعة الأمان فأمّنهم سنجر الحلبى، ففتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة وتسلّموها بالأمان وأفرجوا عن جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم، كان اعتقلهم سنقر الأشقر، منهم: الأمير ركن الدين «1» بيبرس العجمىّ المعروف بالجالق، والجالق: اسم للفرس الحادّ المزاج باللغة التركية، والأمير حسام الدين لاچين «2» المنصورىّ، والقاضى تقىّ الدين توبة «3» التّكريتىّ وغيرهم.
وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ بالنصر إلى الملك المنصور قلاوون فسرّ المنصور بذلك، ودقّت البشائر لذلك أياما بالديار المصرية وزيّنت القاهرة ومصر.
وأما سنجر الحلبىّ فإنه لما ملك دمشق وقلعتها جهز فى الحال قطعة جيّدة من الجيش المصرىّ تقارب ثلاثة آلاف فارس فى طلب سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند. ثم حضر جواب الملك المنصور قلاوون بسرعة يتضمّن: بأننا قد عفونا عن جميع الناس الخاصّ والعام أرباب السيوف والأقلام، وأمّنّاهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم؛ وحضر التشريف للأمير حسام الدين لاچين المنصورى(7/297)
السّلحدار بنيابة دمشق، فلبس الخلعة وقبّل الأرض؛ ثم أردف الأمير سنجر الحلبىّ العسكر الذي كان توجّه لقتال سنقر الأشقر بعسكر آخر، مقدّمه الأمير عزّ الدين الأفرم، فلحق بمن كان توجّه قبله وسار الجميع فى طلب سنقر الأشقر. فلّما بلغ سنقر ذلك رحل عن عيسى بن مهنّا وتوجّه فى البريّة إلى الحصون التى كانت بقيت فى يد نوّابه، فتحصّن هو ومن معه بها فى أواخر الشهر المذكور وهى: صهيون، كان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضا، وبلاطنس وحصن برزيه وحصن عكّار «1» وجبلة واللّاذقيّة وغيرها؛ ثم عادت العساكر إلى دمشق وتردّدت الرسل بينهم وبين سنقر الأشقر.
وبينما هم فى ذلك وردت الأخبار فى أوائل جمادى الآخرة أنّ التّتار قصدوا البلاد الشاميّة، فخرج من كان بدمشق من العساكر الشاميّة والمصريّة، ومقدّمهم الأمير ركن الدين اياجى «2» ، ولحقهم العساكر الذين كانوا فى طلب سنقر الأشقر، ونزل الجميع بظاهر حماة؛ وكانوا كاتبوا الملك المنصور قلاوون بمجيء التّتار. فجهّز إليهم فى الحال عسكرا عليه الأمير بدر الدين بكتاش النّجمىّ، فلحق بهم الأمير بكتاش «3» المذكور بمن معه من العسكر المصرىّ، واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا كشّافة فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة إلى بلاد التّتار. هذا وقد جفل غالب من بالبلاد الشاميّة وخرجوا عن دورهم ومنازلهم ولم يبق هناك إلّا من عجز عن الحركة. وكان سبب حركة التّتار أنّهم لمّا سمعوا اختلاف الكلمة، وظنّوا أنّ(7/298)
سنقر الأشقر بمن معه يتّفق معهم على قتال الملك المنصور قلاوون. فأرسل أمراء العساكر المصريّة إلى سنقر الأشقر يقولون له: هذا العدوّ قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا! وما ينبغى هلاك الإسلام، والمصلحة أنّنا نجتمع على دفعه؛ فامتثل سنقر ذلك وأنزل عسكره من صهيون وأمر رفيقه الحاج أزدمر أن يفعل كذلك من شيزر، وخيّمت كلّ طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، غير أنهم اتّفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدوّ المخذول عن الشام؛ واستمرّوا على ذلك إلى يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الآخرة. وصل طائفة كبيرة من عساكر التّتار إلى حلب ودخلوها من غير مانع يمنعهم عنها، وأحرقوا الجوامع والمساجد والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء، وأفسدوا إفسادا كبيرا على عادة أفعالهم القبيحة، وأقاموا بها يومين على هذه الصورة؛ ثم رحلوا عنها فى يوم الأحد ثالث عشرينه راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدّمتهم الغنائم التى كسبوها وكان شيئا كثيرا. وكان سبب رجوعهم لمّا بلغهم اتّفاق الطائفتين على قتالهم؛ وقيل فى رجوعهم وجه آخر، وهو أن بعض من كان استتر بحلب يئس عن نفسه «1» من الحياة؛ فطلع منارة الجامع وكبّر بأعلى صوته على التّتار، وقال: جاء النّصر من عند الله وأشار بمنديل كان معه إلى ظاهر البلد، وأوهم أنّه أشار به إلى عسكر المسلمين، وجعل يقول فى خلال ذلك: اقبضوهم من البيوت مثل النّساء! فتوهّم التّتار من ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم وسلم الذي فعل ذلك.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّ جماعة من الأمراء والأعيان الذين كانوا معه فرّوا إلى العسكر المصرىّ ودخلوا تحت طاعة الملك المنصور قلاوون.(7/299)
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه لما طال عليه أمر سنقر الأشقر وأمر التّتار جمع أعيان مملكته فى هذا الشهر بقلعة الجبل، وجعل ولده الأمير علاء «1» الدين عليّا ولىّ عهده، ولقبه «الملك الصالح» ، وخطب له على المنابر. ثم تجهّز السلطان وخرج من الديار المصريّة بعساكره، وسار حتى وصل إلى غزّة بلغه رجوع العدو المخذول، فأقام بالرّملة وتوقّف عن التوجّه إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك، وقصد تخفيف الوطأة عن البلاد وأهلها. ثم رحل يوم الخميس عاشر شعبان راجعا من الرّملة إلى الديار المصريّة، فدخلها وأقام بها أقلّ من أربعة أشهر. ثم بدا له التوجّه إلى الشام ثانيا، فتجهّز وتجهّزت عساكره وخرج بهم من مصر فى يوم الأحد مستهلّ ذى الحجّة قاصدا الشام، وترك ولده الملك الصالح عليّا يباشر الأمور عنه بالديار المصريّة.
وسار الملك المنصور قلاوون حتى وصل إلى الرّوحاء من عمل الساحل، ونزل عليها فى يوم الثلاثاء سابع عشر ذى الحجّة، وأقام قبالة عكّا، فراسلته الفرنج من عكّا فى تجديد الهدنة، فإنّها كانت انقضت مدّتها، وأقام بهذه المنزلة حتى استهلّت سنة ثمانين وستّمائة رحل عنها يوم الخميس عاشر المحرّم. ونزل اللّجّون «2» ، وحضر رسل الفرنج بها بحضرة الأمراء، وسمعوا رسالة الفرنج، فآستشارهم السلطان فحصل الاتّفاق على الهدنة، وحلف لهم الملك المنصور على الصورة التى وقع الاتّفاق عليها، وانبرم الصلح وانعقدت الهدنة فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم. ثم قبض الملك المنصور على الأمير كوندك «3» الظاهرىّ وعلى جماعة من الأمراء الظاهريّة لمصلحة اقتضاها الحال، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين بلبان الهارونىّ ومعه(7/300)
جماعة وقصدوا صهيون إلى عند سنقر الأشقر، وركبت الخيل فى طلبهم فلم يدركوهم، ثم هرب الأمير أيتمش السّعدىّ أيضا ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة «1» اللّصوص.
ثم سار الملك المنصور إلى دمشق فدخلها فى يوم السبت تاسع عشره، وأقام بدمشق الى أن قدم عليه فى صفر الملك المنصور محمد صاحب حماة، فخرج الملك المنصور قلاوون لتلقّيه وأكرمه. ثم تردّدت الرسل بين السلطان الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الأشقر فى تقرير قواعد الصلح. فلمّا كان يوم الأحد رابع شهر ربيع الأوّل من سنة ثمانين وستمائة وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ «2» ومعه خازندار سنقر الأشقر فى معنى الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور قلاوون يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية فى دمشق بانتظام الصلح واجتماع الكلمة، فرجع رسل سنقر الأشقر ومعهم الأمير فخر «3» الدين اياز المقرئ ليحضر يمين سنقر الأشقر، فحلفه وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثانى عشره، فضربت البشائر بالقلعة وسرّ الناس بذلك غاية السرور. وصورة ما انتظم الصلح عليه أنّ سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر ويسلّمها إلى نوّاب الملك المنصور قلاوون، وعوّضه قلاوون عنها فامية وكفر طاب وأنطاكية والسّويديّة «4» وبكاس ودركوش بأعمالها كلّها وعدّة ضياع معروفة، وأن يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقرّ بيده عند الصلح، وهو صهيون وبلاطنس وحصن برزة وجبلة واللّاذقيّة(7/301)
بستمائة فارس، وأنه يسلّم الأمر إلى الملك المنصور قلاوون؛ وخوطب سنقر الأشقر فى مكاتباته «بالمقرّ العالى المولوى السّيّدىّ العالمىّ العادلىّ الشمسىّ» ولم يصرح فى مخاطباته بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك فى مكاتباته من الملك المنصور قلاوون إلى الجناب العالى الأميرى الشمسىّ. انتهى.
وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه مجىء التّتار إلى البلاد الشامية وهو بدمشق، فتهيّأ لقتالهم وأرسل يطلب العساكر المصرية، وبعد قليل حضرت عساكر مصر إلى دمشق واجتمعت العساكر عند السلطان، ولم يتأخر أحد من التّركمان والعربان وسائر الطوائف. ووصل الخبر بوصول التّتار إلى أطراف بلاد حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا الغلال والحواصل والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم؛ ثم ورد الخبر بوصول منكوتمر بن هولاكو ملك التّتار إلى عينتاب وما جاورها فى يوم الأحد سادس عشرين جمادى [الاخرة «1» ] فخرج الملك المنصور قلاوون بعساكره فى يوم الأحد المذكور وخيّم بالمرج، ووصل التتار الى بغراس، فقدّم الملك المنصور عسكره أمامه، ثم سافر هو بنفسه فى سلخ جمادى الآخرة المذكور، وسار حتى نزل السلطان بعساكره على حمص فى يوم الأحد ثالث «2» عشرين شهر رجب، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن معه من الأمراء والعساكر، وكذلك الأمير أيتمش السّعدىّ الذي كان هرب من عند السلطان لما قبض على الأمراء الظاهريّة؛ فامتثل سنقر الأشقر أمر السلطان بالسمع والطاعة وركب من وقته بجماعته، وحضر إلى عند الملك المنصور قلاوون، واستحلفه لأيتمش السّعدىّ يمينا ثانية ليزداد طمأنينة، ثم أحضره وتكامل حضورهم(7/302)
عند السلطان، وعامل السلطان سنقر الأشقر بالاحترام التامّ والخدمة البالغة والإقامات العظيمة والرّواتب الجليلة. وشرعت التّتار تتقدّم قليلا قليلا بخلاف عادتهم، فلمّا وصلوا حماة أفسدوا بنواحيها، وشعّثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحب حماة وجوسقه وما به من الأبنية. واستمرّ عسكر السلطان بظاهر حمص على حاله إلى أن وصلت التّتار إليه فى يوم الخميس رابع عشر شعبان، فركب الملك المنصور بعساكره وصافف العدوّ، والتقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان عدد التّتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على مقدار النّصف من ذلك أو أقلّ، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وعظم القتال بين الفريقين وثبت كلّ منهم.
قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: «وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها فى هذه الأزمان ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى فيما بين مشهد خالد بن الوليد، رضى الله عنه، إلى الرّستن «1» والعاصى، واضطربت ميمنة المسلمين، وحملت التّتار على ميسرة المسلمين فكسروها وانهزم من كان بها، وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون، رحمه الله تعالى، فى جمع قليل بالقلب ثباتا عظيما، ووصل جماعة كثيرة من التّتار خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق جماعة من التّتار بحمص، وهى مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم فيمن وجدوه من العوامّ والسّوقة والغلمان والرّجّالة المجاهدين بظاهرها، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الإسلام على خطّة صعبة! ثم إنّ أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم: مثل سنقر الأشقر المقدّم ذكره، وبدر الدين بيسرى،(7/303)
وعلم الدين سنجر الدّويدارىّ، وعلاء الدين طيبرس الوزيرى، وبدر الدين بيليك أمير سلاح، وسيف الدين أيتمش السّعدىّ، وحسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير حسام الدين طرنطاى «1» وأمثالهم لمّا رأوا ثبات السلطان ردّوا على التّتار وحملوا عليهم حملات حتّى كسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدّم التّتار، وجاءهم الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا فى عربه «2» عرضا فتّمت هزيمتهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتّفق أنّ ميسرة المسلمين كانت انكسرت كما ذكرنا، والميمنة ساقت على العدوّ ولم يبق مع السلطان إلّا النّفر اليسير، والأمير حسام الدّين طرنطاى قدّامه بالسناجق، فعادت الميمنة الذين كسروا ميسرة المسلمين فى خلق عظيم ومرّوا به، وهو فى ذلك النّفر تحت السناجق (يعنى الملك المنصور قلاوون) والكوسات تضرب. قال: ولقد مررت به فى ذلك الوقت وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا «3» دون ذلك، فلمّا مرّوا به (يعنى ميمنة التّتار التى كانت كسرت ميسرة المسلمين) ثبت لهم ثباتا عظيما، ثم ساق عليهم بنفسه فانهزموا أمامه لا يلوون على شىء، وكان ذلك تمام النّصر؛ وكان انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب، وافترقوا فرقتين: فرقة أخذت جهة سلمية والبرّيّة، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات.
ولمّا انقضى الحرب فى ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته، وأصبح بكرة يوم الجمعة سادس عشر رجب «4» جهّز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرىّ، وكان لمّا لاحت الكسرة على المسلمين(7/304)
نهب لهم من الأقمشة والأمتعة والخزائن والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كلّه أخذته الحرافشة «1» من المسلمين مثل الغلمان وغيرهم. وكتبت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد، وحصل للناس السرور الذي لا مزيد عليه، وعملت «2» القلاع وزيّنت المدن» .
وأمّا أهل دمشق فإنّه كان ورد عليهم الخبر أوّلا بكسرة المسلمين، ووصل إليهم جماعة ممّن كان انهزم؛ فلمّا بلغهم النصر كان سرورهم أضعاف سرور غيرهم.
وكان أهل البلاد الشامية من يوم خرج السلطان من عندهم إلى ملتقى التّتار وهم يدعون الله تعالى فى كلّ يوم ويبتهلون إليه، وخرج أهل البلاد بالنساء والأطفال إلى الصّحارى والجوامع والمساجد، وأكثروا من الابتهال إلى الله، عزّ وجلّ، فى تلك الأيام لا يفترون عن ذلك حتى ورد عليهم هذا النصر العظيم ولله الحمد، وطابت قلوب الناس، وردّ من كان نزح عن بلاده وأوطانه واطمأنّ كلّ أحد وتضاعف شكر الناس لذلك. وقتل فى هذه الوقعة من التّتار ما لا يحصى كثرة؛ وكان من استشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل؛ وممّن قتل الأمير الحاج أزدمر، وسيف الدين بلبان الرّومىّ، وشهاب الدين توتل «3» الشّهرزورىّ، [وناصر «4» الدين بن جمال الدين الكاملىّ] ، و [عزّ الدين بن النّصرة] من «5» بيت الأتابك صاحب الموصل وكان أحد الشّجعان المفرطين فى الشجاعة، رحمهم الله تعالى أجمعين.(7/305)
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التى بحمص ليبعد عن الجيف، ثم توجّه عائدا إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة الثانى والعشرين من شعبان قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه، فدخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التّتار وبأيديهم رماح عليها رءوس القتلى من التّتار، فكان يوما مشهودا. ودخل السلطان الشام وفى خدمته جماعة من الأعيان، منهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن وتلقّب بالملك الكامل، وأيتمش السعدىّ، و [الأمير علم الدين «1» سنجر] الدّويدارىّ، وبلبان الهارونىّ؛ ثم قدم بعد ذلك [الأمير «2» بدر الدين] الأيدمرىّ بمن معه من العسكر عائدا من تتبّع التّتار بعد ما أنكى فيهم نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها، وسيّر أكثر من معه يتبعونهم، فهلك من التّتار خلق كثير غرقوا بالفرات عند عبورهم. وعند ما عدوه نزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جمعا كثيرا، وتفرّق جمع التّتار وأخذت أموالهم.
وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شهر رمضان خرج منه عائدا إلى الديار المصريّة، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، وسار حتى دخل الديار المصريّة يوم ثانى عشرين الشهر بعد أن احتفل أهل مصر لملاقاته، وزيّنت الديار المصرية زينة لم ير مثلها من مدّة سنين، وعملت «3» بها القلاع، وشقّ القاهرة فى مروره إلى قلعة الجبل حتى طلع إليها؛ فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة، وتضاعف سرور الناس بسلامته وبنصر المسلمين على العدوّ المخذول.
ثمّ إنّ السلطان عقيب دخوله إلى مصر قبض على الأمير ركن الدين اياجى الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدّم الشّهرزوريّة بقلعة الجبل. واستمرّ السلطان(7/306)
بمصر إلى خامس ذى القعدة من السنة قبض على الأمير أيتمش السّعدىّ بقلعة الجبل وحبسه بها، ثم أرسل إلى نائب دمشق بالقبض على الأمير بلبان الهارونىّ بدمشق فقبض عليه.
وفى هذه السنة (أعنى سنة ثمانين وستمائة) تربت جزيرة «1» كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق «2»(7/307)
واللّوق «1» ، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المكس «2» وساحل(7/308)
باب «1» البحر، والرّملة «2» [و] بين جزيرة الفيل «3» وهو المار تحت منية السّيرج، وانسدّ هذا البحر ونشف بالكلّية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشى، ولم يعهد(7/309)
فيما تقدّم، وحصل لأهل القاهرة مشقّة من نقل الماء الحلو لبعد البحر، فأراد السلطان حفره فنهوه عن ذلك، وقالوا له: هذا ينشف إلى الأبد، فتأسّف السلطان وغيره على ذلك.
قلت: وكذا وقع، ونحن الآن لا نعرف أين كان جريان البحر المذكور إلّا بالحدس، لإنشاء الأملاك والبساتين والعمائر والحارات فى محلّ مجرى البحر المذكور، فسبحان القادر على كلّ شىء!
ثم فى أوّل سنة إحدى وثمانين وستمائة ورد الخبر على السلطان أنّه تسلطن فى مملكة التّتار مكان أبغا بن هولاكو أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو، وهو مسلم حسن الإسلام وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، وأنّه وصلت أوامره إلى بغداد تتضمّن إظهار شعائر الإسلام وإقامة مناره، وأنّه أعلى كلمة الدين، وبنى الجوامع والمساجد والأوقاف ورتّب القضاة، وأنه انقاد إلى الأحكام الشرعية، وأنّه ألزم أهل الذّمّة بلبس الغيار «1» ، وضرب الجزية عليهم، ويقال إنّ إسلامه كان فى حياة والده هولاكو، فسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما. وبعد مدّة قبض السلطان على(7/310)
الأمير بدر الدين بيسرى، وعلى علاء الدين كشتغدى الشّمسىّ واعتقلهما بقلعة الجبل، وذلك فى يوم الأحد مستهلّ صفر من السنة. واستمرّ السلطان على ذلك إلى يوم الأربعاء «1» ثانى عشرين شعبان طافوا بكسوة البيت العتيق التى عملت برسم الكعبة، عظّمها الله تعالى، بمصر والقاهرة على العادة، ولعبت مماليك السلطان الملك المنصور قلاوون أمام الكسوة بالرّماح والسلاح.
قلت: وأظنّ هذا هو أوّل ابتداء سوق المحمل المعهود الآن، فإنّنا لم نقف فيما مضى على شىء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى، ولهذا غلب على ظنّى من يوم ذاك بدأ السوق المعهود الآن، ولم يكن إذ ذاك على هيئة يومنا هذا، وإنّما ازداد بحسب اجتهاد المعلّمين، كما وقع ذلك فى غيره من الفنون والملاعيب والعلوم، فإن مبدأ كلّ أمر ليس كنهايته، وإنّما شرع كلّ معلّم فى اقتراح نوع من أنواع السّوق إلى أن انتهى إلى ما نحن عليه الآن، ولا سبيل إلى غير ذلك.
يعرف ما قلته من له إلمام بالفنون والعلوم إذا كان له ذوق وعقل. وعلى هذه الصيغة أيضا اللعب بالرمح فإنّ مماليك قلاوون هم أيضا أحدثوه، وإن كانت الأوائل كانت تلعبه، فليس كان لعبهم على هذه الطريقة؛ وأنا أضرب لك مثلا لمصداق قولى فى هذا الفنّ، وهو أنّ مماليك الملك الظاهر برقوق كان أكثرهم قد حاز من هذا الفنّ طرفا جيّدا، وصار فيهم من يضرب بلعبه المثل، وهم جماعة كثيرة يطول الشرح فى ذكرهم، ومع هذا أحدث معلّمو زماننا هذا أشياء لم يعهدوها أولئك من تغيير القبض على الرمح فى مواطن كثيرة فى اللّعب، حتى إنّ لعب زماننا هذا يكاد أنّه يخالف لعب أولئك فى غالب قبوضاتهم وحركاتهم. وهذا أكبر شاهد لى على ما نقلته من أمر المحمل، وتعداد فنونه، وكثرة ميادينه، واختلاف(7/311)
أسمائها لتغيير لعب الرمح فى هذه المدّة اليسيرة من صفة إلى أخرى، فكيف وهذا الذي ذكرناه من ابتداء السوق من سنة إحدى وثمانين وستمائة! فمن باب أولى تكون زيادات أنواع سوق المحمل أحقّ بهذا لطول السنين، ولكثرة من باشره من المعلّمين الأستاذين، ولتغير الدّول، ولمحبّة الملوك وتعظيمهم لهذا الفن، ولإنفاق سوق من كان حاذقا فى هذا الفن. وقد صنّفت أنا ثمانية ميادين كلّ واحد يخالف الآخر فى نوعه لم أسبق إلى مثلها قديما ولا حديثا، لكنّنى لم أظهرها لكساد هذا الفنّ وغيره فى زماننا هذا، ولعدم الإنصاف فيه وكثرة حسّاده ممّن يدّعى فيه المعرفة وهو أجنبىّ عنها، لا يعرف اسم نوع من أندابه «1» على جليّته بل يدّعيه جهلا، ويقوى على دعواه بالشّوكة والعصبيّة. ولله درّ القائل:
أيّها المدّعى سليمى كفاحا ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنّما أنت من سليمى كواو ... ألحقت فى الهجاء ظلما بعمرو
وشاهدى أيضا قول العلّامة جار «2» الله محمود الزّمخشرىّ وأجاد، رحمه الله تعالى:
وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا ... على «3» أنّهم لا يعلمون وأعلم
ومذ أفلح الجهّال أيقنت «4» أنّنى ... أنا الميم والأيام أفلح أعلم
قلت: وتفسير الأفلح هو مشقوق الشّفة العليا، والأعلم مشقوق الشّفة السّفلى، وفائدة ذلك أن مشقوق الشفتين العليا والسّفلى لا يقدر أن يتلفّظ بالميم ولا ينطق بها. فانظر إلى حسن هذا التخيّل والغوص على المعانى.(7/312)
وما أحسن قول الإمام العلّامة القاضى «1» الفاضل عبد الرحيم وزير السلطان صلاح الدّين، وهو:
ما ضرّ جهل الجاهلي ... ن ولا انتفعت أنا بحذقى
وزيادة فى الحذق فه ... ى زيادة فى نقص رزقى
وقول الشّريف «2» الرّضى فى المعنى:
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك من دهرى على حنق ... فزاد ما بك فى غيظى على الزمن
وفى المعنى:
كم فاضل فاضل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصيّر العالم النّحرير زنديقا
قلت: ويعجبنى المقالة السادسة عشرة من كتاب «أطباق الذهب» للعلّامة شرف الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «3» ، وهى:
«طبع الكريم لا يحتمل حمة «4» الضّيم، وهواء الصيف لا يقبل غمّة الغيم؛ والنّبيل يرضى النّبال والحسام، ويأبى أن يسام «5» ؛ ولأن يقتل صبرا، ويودع قبرا؛ أحبّ إليه من أن يصيبه نشّاب الجفاء، من جفير «6» الأكفاء؛ يهوى المنيّة، ولا يرضى الدّنيّة؛ يستقبل السيف، ولا يقبل الحيف؛ إن سيم أخذته الهزّة، وإن ضيم أخذته(7/313)
العزّة؛ إن عاشرته سال عذبا، وإن عاسرته سلّ عضبا «1» ؛ إن شاربته تخمّر، وإن حاربته تنمّر؛ يرى العزّ مغنما، والذّل مغرما، وكان كأنف اللّيث لا يشتمّ مرغما!.
فيا هذا كن فى الدنيا مىّ الأنف منيع الجناب، أبىّ النفس طرير «2» النّاب؛ ولا تصحب الدنيا صحبة بعال «3» ، ولا تنظر إلى أبنائها إلّا من عال؛ ولا تخفض جناحك لبنيها، ولا تضعضع ركنك لبانيها؛ ولا تمدّن عينيك إلى زخارفها، ولا تبسط يدك إلى مخارفها؛ وكن من الأكياس، واتل على اللّئام سورة الناس «4» ، ولا تصعّر خدّك للناس» . انتهى.
قلت: وقد خرجنا عن المقصود غير أنّنا وجدنا المقال فقلنا. ولنعد إلى ما نحن فيه من ترجمة الملك المنصور قلاوون.
ودام السلطان الملك المنصور بديار مصر إلى سنة ثلاث وثمانين وستمائة، توفّى صاحب حماة الملك المنصور محمد الأيّوبىّ، فأنعم السلطان الملك المنصور على ولده بسلطنة حماة، وولّاه مكان والده المنصور. ثم تجهّز السلطان فى السنة المذكورة وخرج من الديار المصريّة بعسكره متوجّها إلى الشام فى أواخر جمادى الأولى، وسار حتى دخل دمشق فى ثانى عشر جمادى الآخرة، وأقام بدمشق إلى أن عاد إلى جهة الديار المصريّة فى الثّلث الأخير من ليلة السبت ثالث عشرين شعبان، وسار حتى دخل مصر فى النصف من شهر رمضان، وأقام بديار مصر إلى أوّل سنة أربع وثمانين وستمائة تجهّز وخرج منها بعساكره إلى جهة الشام، وسافر حتى دخل دمشق يوم السبت ثانى عشرين المحرّم من السنة المذكورة، وعرض العسكر الشامى عدّة أيّام، وخرجوا جميعا قاصدين المرقب فى يوم الاثنين ثانى صفر. وكان(7/314)
قد بقى فى يد سنقر الأشقر قطعة من البلاد، منها: بلاطنس وصهيون وبرزيه وغير ذلك، وكان عمل السلطان فى الباطن انتزاع ما يمكن انتزاعه من يد سنقر الأشقر المذكور وإفساد نوّابه. فاتّفق الحال بين نوّاب السلطان وبين نوّاب سنقر الأشقر على تسليم بلاطنس فسلّمت فى أوّل صفر. ووافى السلطان البشرى بتسليمها وهو على عيون القصب فى توجّهه إلى حصار المرقب فسرّ بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب؛ وكان فى نفس السلطان من أهل المرقب لما فعلوا مع عسكره ما فعلوا فى السنين الماضية، فنازل السلطان حصن المرقب فى يوم الأربعاء عاشر صفر، وشرع العسكر فى عمل الستائر والمجانيق. فلمّا انتهت الستائر التى للمجانيق حملتها المقاتلة لباب الحصن، فسقطت السّتارة إلى بركة كبيرة كان عليها جماعة من أصحاب الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ، منهم شمس الدين سنقر أستاداره وعدّة من مماليكه فاستشهدوا جميعهم، رحمهم الله تعالى.
ثمّ فى يوم الأحد «1» رابع عشره، حضر رسل الفرنج من عند ملكهم الإسبتار، وسألوا السلطان الصّلح والأمان لأهل المرقب على نفوسهم وأموالهم ويسلّمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وكملّ نصب المجانيق ورمى بها وشعّث الحصن وهدم معظم أبراجه واستمرّ الحال إلى سادس عشر شهر ربيع الأوّل، زحف السلطان على الحصن فأذعن من فيه بالتسليم؛ وحصلت المراسلة فى معنى ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأوّل المذكور سلّم، ورفعت عليه الأعلام الإسلاميّة ونزل من به بالأمان على أرواحهم فركبوا، وجهّز معهم من أوصلهم إلى أنطرطوس. [و «2» ] بالقرب من هذا الحصن [مرقيّة «3» ] وهى بلدة صغيرة على البحر، وكان(7/315)
صاحبها قد بنى فى البحر برجا «1» عظيما لا يرام ولا تصله النّشّاب ولا حجر المنجنيق وحصّنه؛ واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان بطلب مراضيه، فآقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيرا من الجبيليّين «2» الذين كانوا مع صاحب جبيل «3» فأحضر من بقى منهم فى قيد الحياة واعتذر عن هدم البرج بأنّه ليس له، ولا هو تحت حكمه؛ فلم يقبل السلطان اعتذاره وصمّم على طلبه منه، فقيل: إنّه اشتراه من صاحبه(7/316)
بعدّة قرى وذهب كثير، ودفعه إلى السلطان، فأمر بهدمه فهدم واستراح الناس منه. وحصل الاستيلاء فى هذه الغزوة على المرقب وأعماله ومرقيّة. والمرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة وهو كبير جدا، ولم يفتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح، فأبقاه السلطان الملك المنصور بعد أن أشير عليه بهدمه، ورمّم شعثه واستناب فيه بعض أمرائه ورتّب أحواله. وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار.
ولمّا كان السلطان الملك المنصور على حصار المرقب جاءته البشرى بولادة ولده «الملك الناصر محمد بن قلاوون» ، فمولد الملك الناصر محمد هذه السنة، فيحفظ إلى ما يأتى ذكره فى ترجمته، إن شاء الله تعالى، فإنّه أعظم ملوك الترك بلا مدافعة.
ولمّا فتح السلطان الملك المنصور المرقب عملت الشعراء فى ذلك عدّة قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثّناء محمود، وهى قصيدة طنّانة أوّلها:
الله أكبر هذا النّصر والظّفر ... هذا هو الفتح لا ما تزعم السّير
هذا الذي كانت «1» الآمال إن طمحت ... إلى الكواكب ترجوه وتنتظر
فانهض وسر واملك الدّنيا فقد نحلت ... شوقا منابرها وارتاحت السّرر
كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ... فطال عنه وما فى باعه قصر
وكيف تمنحه الأيّام مملكة ... كانت لدولتك الغرّاء تدّخر
وكيف يسمو إليها من تأخّر عن ... إسعاده «2» منجداك القدر والقدر(7/317)
غرّ العدا منك حلم تحته همم ... لأشقر البرق من تحجيلها غرر
لها وإن أشبهت لطف النّسيم سرى ... معنى العواصف لا تبقى ولا تذر
أوردتها المرقب العالى وليس سوى ... ماء المجرّة فى أرجائها نهر
كأنّه وكأنّ الجوّ يكنفه ... وهم تمثّله فى طيّها الفكر
يختال كالغادة العذراء قد نظمت ... منه مكان اللآلى الأنجم الزّهر
له الهلال سوار والسّها شنف ... والقلب «1» قلب ومسودّ الدّجى طرر
تعلو الرياح إليه كى تحيط به «2» ... [خبرا] وتدنو وما فى ضمنها خبر
ويومض البرق يهفو نحوه ليرى ... أدنى رباه ويأتى وهو معتذر
وليس يروى بماء السّحب مصعدة ... إليه من فيه إلّا وهو منحدر
ومنها:
وأضرمت حوله نار لها لهب ... من السّيوف ومن نبل الوغى شرر
ومنها:
كأنّها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس الأسد فى أظفارها الظّفر
وكم شكا الحصن ما يلقى فما اكترثت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وللنقوب دبيب فى مفاصله ... تثير سقما ولا يبدو له أثر
أضحى به مثل صبّ لا تبين به ... نار الهوى وهى «3» فى الأحشاء تستعر
ومنها:
ركبت فى جندك الأولى إليه ضحا ... والنصر يتلوك منه جندك الأخر
قد زال تجلى قواه عن قواعده ... وخرّ أعلاه نحو الأرض يبتدر(7/318)
وساخ وانكشفت أقباؤه وبدا ... لديك من مضمرات النصر ما ستروا
فمال يهوى إليهم كلّ ليث وغى ... له من البيض ناب والقنا ظفر
ومنها بعد أبيات كثيرة براعة المقطع:
إن لم يوفّ الورى بالشكر ما فتحت ... يداك فالله والأملاك قد شكروا
ثم سار الملك المنصور قلاوون من المرقب إلى دمشق وأقام بها أياما، ثم خرج منها عائدا إلى نحو الديار المصريّة فى بكرة الاثنين ثانى عشر جمادى الأولى؛ فدخل الديار المصريّة فى أوائل شهر رجب.
ولمّا دخل القاهرة وأقام بها أخذ فى عمل أخذ الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ حتى أخذت، وورد عليه الخبر بأخذها فى ليلة الجمعة سابع صفر [سنة «1» خمس وثمانين وستمائة] ودقّت البشائر بالديار المصريّة ثلاثة أيام.
ثمّ فى سنة ستّ وثمانين وستمائة جهّز السلطان طائفة من العسكر بالديار المصريّة صحبة الأمير حسام الدين طرنطاى إلى الشام لحصار صهيون وبرزيه وانتزاعهما من يد سنقر الأشقر، فسار حسام الدين المذكور بمن معه حتى وصل دمشق فى أثناء المحرّم، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاچين نائب الشام، وتوجّه الجميع إلى صهيون بالمجانيق فوصلوها وشرعوا فى حصارها؛ وكان سنقر الأشقر قد استعدّ لهم وجمع إلى القلعة خلقا كثيرا؛ فحاصروه أيّاما، ثم بعد ذلك توجّه الأمير حسام الدين إلى برزيه وحصرها واستولى عليها، وهى ممّا يضرب المثل بحصانتها. ولمّا فتحها وجد فيها خيولا لسنقر الأشقر. ولمّا فتحت برزيه لانت عريكة سنقر الأشقر،(7/319)
وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها، فأجابه طرنطاى إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهرا واحدا، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وحضر بنفسه وأولاده وأثقاله وأتباعه إلى دمشق. ثم توجّه إلى الديار المصريّة صحبة طرنطاى المذكور ووفّى له بجميع ما حلف عليه؛ ولم يزل يذبّ عنه أيام حياته أشدّ ذبّ. وأعطى السلطان لسنقر الأشقر بالديار المصريّة خبز مائة فارس، وبقى وافر الحرمة إلى آخر أيام الملك المنصور قلاوون. وانتظمت صهيون وبرزيه فى سلك الممالك المنصورية.
ثم خرج الملك المنصور من الديار المصرية قاصدا الشام فى يوم سابع عشرين شهر رجب سنة ستّ وثمانين وسار حتى وصل غزّة أقام بتلّ العجول «1» أياما إلى شوّال، ثم رجع إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين ثالث عشرين شوّال، ولم يعلم أحد ما كان غرضه فى هذه السّفرة. وفى شوّال هذا سلطن الملك المنصور ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليلا وجعله مكان أخيه الملك الصالح علاء الدين علىّ بعد موته، ودقّت البشائر لذلك سبعة أيام بالديار المصرية وغيرها، وحلف الناس له والعساكر، وخطب له بولاية العهد.
ثمّ فى سنة ثمان وثمانين وستّمائة فتحت طرابلس، وهو أنّ صاحب طرابلس كان وقع بينه وبين سير تلميه «2» الفرنجىّ، وكان من أصحاب صاحب(7/320)
الحصن «1» الذي أخربه صاحب طرابلس رضاء للملك المنصور قلاوون حسب ما تقدّم ذكره.
فحصلت بينه وبين صاحب طرابلس وحشة بسبب ذلك، واتّفق موت صاحب الحصن، وسأل سير تلميه من السلطان الملك المنصور المساعدة، وأن يتقدّم للأمير «2» بلبان الطّبّاخى السّلحدار أن يساعده على تملّك طرابلس، على أن تكون مناصفة، وبذل فى ذلك بذولا كثيرة، فسوعد إلى أن تمّ له مراده، ورأى أنّ الذي بذله للسلطان لا يوافقه الفرنج عليه، فشرع فى باب التّسويف والمغالطة ومدافعة الأوقات؛ فلمّا علم السلطان باطن أمره عزم على قتاله قبل استحكام أمره، فتجهّز وخرج من الديار المصريّة بعساكره لحصار طرابلس، وسار حتّى وصل دمشق وأقام بها، ثم تهيّأ وخرج منها، ونازل طرابلس فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل، ونصب عليها المجانيق وضايقها مضايقة شديدة إلى أن ملكها بالسيف فى الرابعة من نهار الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، وشمل القتل والأسر لسائر من كان بها، وغرق منهم فى الماء جماعة كثيرة، ونهب من الأموال والذخائر والمتاجر وغير ذلك ما لا يوصف، ثم أحرقت وخرّب سورها، وكان من أعظم الأسوار وأمنعها. ثم تسلّم حصن أنفة «3» وكان أيضا لصاحب طرابلس(7/321)
فأمر السلطان بتخريبه، ثم تسلّم السلطان البترون وجميع ما هناك من الحصون.
وكان لطرابلس مدّة طويلة بأيدى الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن.
قلت: وكان فتح طرابلس الأوّل فى زمن معاوية بن أبى سفيان، رضى الله عنه، وتنّقلت فى أيدى الملوك، وعظمت فى زمن بنى عمّار قضاة طرابلس وحكّامها. فلمّا كان فى آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج فى الشام واستولوا على البلاد فامتنعت عليهم طرابلس مدّة حتّى ملكوها بعد أمور فى سنة ثلاث وخمسمائة، واستمرّت فى أيديهم إلى أن فتحها الملك المنصور قلاوون فى هذه السنة.
وقال شرف الدين محمد بن موسى المقدسىّ الكاتب فى «السّيرة المنصوريّة» :
إن طرابلس كانت عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومى، وكان فتحها على يد سفيان بن مجيب «1» الأزدىّ، بعثه لحصارها معاوية بن أبى سفيان فى خلافة عثمان بن عفّان، رضى الله عنه، انتهى كلام شرف الدين باختصار.
قلت: وأما طرابلس القديمة كانت من أحسن المدن وأطيبها، ثمّ بعد ذلك اتخذوا مكانا على ميل من البلدة وبنوه مدينة صغيرة بلا سور، فجاء مكانا ردىء الهوى والمزاج من الوخم. انتهى.
ولمّا فتحت طرابلس كتبت الشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم، ودقّت البشائر والتهانى وزيّنت المدن وعملت القلاع فى الشوارع وسرّ الناس بهذا النصر غاية السّرور. وأنشأ فى هذا المعنى القاضى تاج الدين ابن الأثير كتابا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرّفه بهذا الفتح العظيم وبالبشارة به. وأوّله:(7/322)
[بسم «1» الله الرحمن الرحيم أعزّ الله] نصر المقام العالىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الشمسىّ. ثم استطرد وحكى أمر الفتح وغيره إلى أن قال فأحسن فيما قال: وكانت الخلفاء والملوك فى ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكبّ على مجلس أنسه؛ يرى السلامة غنيمة، وإذا عنّ له وصف الحرب لم يسأل [منها «2» إلا] عن طرق الهزيمة؛ قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع [من «3» ملكه كما يقال با] لسكة والخطبة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب؛ لا يبالون «4» بما سلبوا، وهم كما قيل:
إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا ... أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا
إلى أن أوجد الله من نصر دينه، وأذلّ الكفر وشياطينه «5» . انتهى.
قلت: والكتاب هذا خلاصته والذي أعجبنى منه.
وعمل الشعراء فى هذا الفتح عدّة قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثّناء محمود كاتب الدّرج المقدّم ذكره يمدح الملك المنصور قلاوون ويذكر فتحه طرابلس، والقصيدة أولها:
علينا لمن أولاك نعمته الشكر ... لأنّك للإسلام يا سيفه ذخر
ومنّا لك الإخلاص فى صالح الدّعا ... إلى من له فى أمر نصرتك الأمر
ولله فى إعلاء ملكك فى الورى ... مراد وفى التأييد يوم الوغى سرّ
ألا هكذا يا وارث الملك فليكن ... جهاد العدا لا ما توالى به الدّهر(7/323)
ومنها:
نهضت إلى عليا طرابلس التى ... أقلّ عناها أنّ خندقها البحر
والقصيدة «1» طويلة كلّها على هذا المنوال، أضربت عنها خوف الإطالة. انتهى.
ثم عاد الملك المنصور إلى الديار المصريّة فى جمادى الآخرة من السنة، واستمرّ بالقاهرة إلى أوّل سنة تسع وثمانين وستمائة، جهّز الأمير حسام الدين طرنطاى كافل الممالك الشاميّة إلى بلاد الصّعيد، ومعه عسكر جيّد من الأمراء والجند، فسكّن تلك النواحى وأباد المفسدين وأخذ خلقا عظيما من أعيانهم رهائن، وأخذ جميع أسلحتهم وخيولهم، وكان معظم سلاحهم السيوف والحجف «2» والرماح، وأحضروا إلى السلطان من ذلك عدّة أحمال، ففرّق السلطان من الخيول والسلاح فيمن أراد من الأمراء والجند وأودع الرهائن الحبوس.
وفى هذه السنة أيضا عاد الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم من غزو بلاد السودان بمغانم كثيرة ورقيق كثير من النساء والرجال وفيل صغير.
ثم فى هذه السنة أيضا رسم السلطان ألّا يستخدم أحد من الأمراء وغيرهم فى دواوينهم أحدا من النصارى واليهود وحرّض على ذلك، فامتثل ذلك الأمراء جميعهم.
وفى هذه السنة عزم السلطان الملك المنصور على الحجّ فبلغه خبر فرنج عكّا، ففتر عزمه وتهيّأ للخروج إلى البلاد الشاميّة، ورأى أن يقدّم غزوهم والانتقام على الحجّ؛ وأخذ فى تجهيز العساكر والبعوث، وضرب دهليزه خارج القاهرة، وباب الدهليز إلى(7/324)
جهة عكّا. وخرج من القاهرة إلى مخيّمه وهو متوعّك لأيام خلت من شوّال، ولا زال متمرّضا بمخيّمه عند مسجد «1» التبن خارج القاهرة إلى أن توفّى به فى يوم السبت سادس ذى القعدة من سنة تسع وثمانين وستمائة، وحمل إلى القلعة ليلة الأحد.
وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل الذي كان عهد له بالسلطنة قبل تاريخه حسب ما ذكرناه. وكثر أسف الناس عليه.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى «تاريخ الإسلام» بعد ما سماه ولقّبه قال: اشترى بألف دينار، ولهذا كان فى حال إمرته يسمّى بالألفىّ، وكان من أحسن الناس صورة فى صباه، وأبهاهم وأهيبهم فى رجوليّته، كان تامّ الشكل مستدير اللّحية قد وخطه الشّيب، على وجهه هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار، رأيته مرات آخرها منصرفه من فتح طرابلس. وكان من أبناء الستين. ثم قال: وحدّثنى أبى أنه كان معجم اللسان لا يكاد يفصح بالعربية، وذلك لأنه أتى به من بلاد التّرك وهو كبير. ثم قال بعد كلام آخر:
وعمل بالقاهرة ببين القصرين تربة عظيمة ومدرسة كبيرة، قال: وبيمارستانا للمرضى «2» .(7/325)
قلت: ومن عمارته البيمارستان المذكور وعظم أوقافه تعرّف همّته، ونذكر عمارة البيمارستان إن شاء الله تعالى بعد ذلك. انتهى.
وقال غيره: وكان يعرف أيضا قلاوون الآقسنقرىّ الكاملىّ الصالحىّ النّجمىّ، لأن الأمير آق سنقر الكاملى كان اشتراه من تاجره بألف دينار، ثم مات الأمير آق سنقر المذكور بعد مدّة يسيرة، فارتجع هو وخشداشيته إلى الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى سنة سبع وأربعين وستمائة، وهى السنة التى مات فيها الملك الصالح أيّوب، وهذا القول هو الصحيح فى أصل مشتراه.
قلت: ولمّا طلع الملك المنصور قلاوون إلى قلعة الجبل ميّتا، أخذوا فى تجهيزه وغسله وتكفينه إلى أن تمّ أمره، وحملوه وأنزلوه إلى تربته ببين القصرين فدفن بها. وكانت مدّة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر، رحمه الله تعالى، وكان سلطانا كريما حليما شجاعا مقداما عادلا عفيفا عن سفك الدماء مائلا إلى فعل الخير والأمر بالمعرف، وله مآثر كثيرة:
منها البيمارستان الذي أنشأه ببين القصرين، وتمّم عمارته فى مدة يسيرة، وكان مشدّ عمارته الأمير علم الدين «1» سنجر الشّجاعىّ المنصورى وزير الديار المصرية ومشدّ(7/326)
دواوينها، ثمّ ولى نيابة دمشق ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قلائل، ولمّا كمل عمارة الجميع امتدحه معين الدين «1» بن تولوا بقصيدة أوّلها:
أنشأت مدرسة ومارستانا ... لتصحّح الأديان والأبدانا
قلت: وهذا البيمارستان وأوقافه وما شرطه فيه لم يسبقه إلى ذلك أحد قديما ولا حديثا شرقا ولا غربا. وجدّد عمارة قلعة حلب وقلعة كركر «2» وغير موضع.
وأمّا غزواته فقد ذكرناها فى وقتها. وجمع من المماليك خلقا عظيما لم يجمعهم أحد قبله، فبلغت عدّتهم اثنى عشر ألفا، وصار منهم الأمراء الكبار والنوّاب، ومنهم من تسلطن من بعده على ما يأتى ذكره. وتسلطن أيضا من ذريّته سلاطين كثيرة آخرهم الملك المنصور حاجّىّ الذي خلعه الملك الظاهر برقوق. وأعظم من هذا أنّه من تسلطن من بعده من يوم مات إلى يومنا هذا، إمّا من ذريته، وإمّا من مماليكه أو مماليك مماليك أولاده وذريّته، لأنّ يلبغا مملوك السلطان حسن، وحسن ابن محمد بن قلاوون، وبرقوق مملوك يلبغا، والسلاطين بأجمعهم مماليك برقوق وأولاده. انتهى. وكان من محاسن الملك المنصور قلاوون أنّه لا يميل إلى جنس بعينه بل كان ميله لمن يتخيّل فيه النّجابة كائنا من كان.
قلت: ولهذا طالت مدّة مماليكه وذرّيته باختلاف أجناس مماليكه، وكانت حرمته عظيمة على مماليكه لا يستطيع الواحد منهم أن ينهر غلامه ولا خادمه خوفا(7/327)
منه، ولا يتجاهر أحد منهم بفاحشة، ولا يتزوّج إلا إن زوّجه هو بعض جواريه؛ هذا مع كثرة عددهم.
قلت رحمه الله تعالى: لو لم يكن من محاسنه إلّا تربية مماليكه وكفّ شرّهم عن الناس لكفاه ذلك عند الله تعالى، فإنّه كان بهم منفعة للمسلمين، ومضرّة للمشركين وقيامهم فى الغزوات معروف، وشرّهم عن الرعيّة مكفوف؛ بخلاف زماننا هذا، فإنّه مع قلّتهم وضعف بنيتهم وعدم شجاعتهم، شرّهم فى الرّعية معروف، ونفعهم عن الناس مكفوف؛ هذا مع عدم التجاريد والتقاء الخوارج وقلّة الغزوات، فإنّه لم يقع فى هذا القرن، وهو القرن التاسع، لقاء مع خارجىّ غير وقعة تيمور، وافتضحوا منه غاية الفضيحة، وسلّموا البلاد والعباد وتسحّب أكثرهم من غير قتال.
وأمّا الغزوات فأعظم ما وقع فى هذا القرن «1» فتح قبرس «2» ، وكان النصر فيها من الله سبحانه وتعالى، انكسر صاحبها وأخذ من جماعة يسيرة، تلقّاهم بعض(7/328)
عساكره. خذلان من الله تعالى! وقع ذلك كلّه قبل وصول غالب عسكر المسلمين.
وأمّا غير ذلك من الغزوات فسفر فى البحر ذهابا وإيابا، فكيف لو كان هؤلاء أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب عند ما غزا الساحل، وغاب عن الديار المصريّة نحو العشر سنين، لا يفارق فيها الخيم والتّشتّت عن الأوطان واتّصال الغزوة بالغزوة! أو لو كانوا أيّام الملك الكامل محمد لمّا قاتل الفرنج على دمياط نحو الثلاث سنين لم يدخل فيها مصر إلى أن فتح الله عليه، أو لو كانوا أيّام الملك الظاهر بيبرس وهو يتجرّد ويغزو فى السنة الواحدة المرّة والمرّتين والثلاث وهلمّ جرّا! إلى أيّام الملك الأشرف شعبان بن حسين لمّا أخذت الإسكندرية. وهذا شىء معروف لا يشاحّ فيه أحد. وأعجب من هذا كلّه أنّ أولئك كانوا على حظّ وافر من الأدب والحشمة والتواضع مع الأكابر، وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن هو دونهم، وهؤلاء است فى الماء وأنف فى السماء، لا يهتدى أحدهم لمسك لجام الفرس، وإن تكلّم تكلّم بنفس؛ ليس لهم صناعة، إلّا نهب البضاعة؛ يتقوّون على الضعيف، ويشرهون حتّى فى الرّغيف؛ جهادهم الإخراق بالرئيس، وغزوهم فى التّبن والدريس؛ وحظّهم منقام، ولا مروءة لهم والسلام. انتهى.
قال ابن كثير فى حقّ الملك المنصور قلاوون المذكور: اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيّوب من الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب بألف دينار، فلذلك سمّى بالألفىّ.
قلت: وهذا بخلاف ما نقله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنّما هو الأمير آق سنقر الكاملىّ، والأرجح عندى ما قاله الصّفدىّ فى أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنما هو الأمير آق سنقر من وجوه عديدة.(7/329)
قال ابن كثير أيضا: وكان الملك المنصور قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك من الأمراء والجراكسة وجعلهم بالقلعة، وسمّاهم «البرجيّة» ، وأقام نوّابه فى البلدان من مماليكه، وهم الذين غيروا ملابس الدولة الماضية.
قال الصلاح الصّفدىّ: ولبسوا أحسن الملابس، لأنّ فى الدولة الماضية الصلاحيّة كان الجميع يلبسون كلّوتات «1» صفر مضرّبة بكلبندات «2» بغير شاشات «3» ،(7/330)
وشعورهم مضفورة ديابيق «1» فى أكياس حرير ملوّنة، وكان فى خواصرهم موضع الحوائص «2» بنود ملوّنة أو بعلبكّية، وأكمام أقبيتهم «3» ضيّقة على زى ملابس الفرنج، وأخفافهم برغالى «4» أو سقامين «5» ومن فوق قماشهم كمرات «6» بحلق وإبزيم «7» ، وصوالقهم «8» كبار يسع كلّ صولق نصف ويبة أو أكثر، ومنديلهم كبير طوله ثلاث أذرع، فأبطل المنصور ذلك كلّه بأحسن منه، وكانت الخلع للأمراء المقدّمين المروزىّ،(7/331)
فخصّص الملك المنصور من الأمراء بلبس الطّرد وحش «1» أربعة من خشداشيته، وهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن ولقّب بالملك الكامل والبيسرى والأيدمرىّ والأفرم. وباقى الأمراء والخاصّكيّة والبرّانيّة تلبس المروزىّ والطبلخانات بالملّون، والعشرات بالعتّابى «2» .
قلت: وهذا أيضا بخلاف زماننا فإنّه لبس فيه أوباش الناس الخلع السّنيّة، وأعجب من هذا أنّه لمّا لبس هؤلاء الخلع السّنيّة زالت تلك الأبّهة والحشمة عن الخلع المذكورة وصارت كمن دونها من الخلع فى أعين الناس لمعرفتهم بمقام اللابس. انتهى.
قلت: والآن نذكر ما وعدنا بذكره فى أوائل ترجمة الملك المنصور قلاوون من أمر كتّاب السّرّ، لأنّه هو الذي أحدث هذه الوظيفة وسمّى صاحبها بكاتب السّرّ على ما نبيّنه من أقوال كثيرة:
منها أنّه لمّا كان أيّام الملك الظاهر بيبرس كان الدّوادار يوم ذاك بلبان بن عبد الله الرومى. قال الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ: كان من أعيان الأمراء (يعنى عن بلبان المذكور) ومن نجبائهم، وكان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه ويحمّله أسراره إلى القصّاد. ولم يؤمّره إلا الملك السعيد ابن الملك الظاهر بيبرس.(7/332)
واستشهد بمصافّ حمص سنة ثمانين وستمائة، وكان يباشر وظيفة الدّواداريّة ولم يكن معه كاتب سرّ، فاتّفق أنّه قال يوما لمحيى الدين بن عبد الظاهر: اكتب إلى فلان مرسوما أن يطلق له من الخزانة العالية بدمشق عشرة آلاف درهم، نصفها عشرون ألفا، فكتب المرسوم كما قال له وجهّزه إلى دمشق، فأنكروه وأعادوه إلى السلطان، وقالوا: ما نعلم! هل هذا المرسوم بعشرين نصفها عشرة أو بعشرة نصفها خمسة؟ فطلب السلطان محيى الدين وأنكر عليه ذلك، فقال: يا خوند، هكذا قال لى الأمير سيف الدين بلبان الدّوادار؛ فقال السلطان: ينبغى أن يكون للملك كاتب سرّ يتلقّى المرسوم منه شفاها. وكان الملك المنصور قلاوون حاضرا من جملة الأمراء فسمع هذا الكلام. وخرج الملك الظاهر عقيب ذلك إلى نوبة أبلستين، فلمّا توفّى الملك الظاهر وملك الملك المنصور قلاوون اتّخذ كاتب سرّ. انتهى.
كلام الصّفدىّ باختصار.
قلت: وفى هذه الحكاية دلالة على أن وظيفة كتابة السرّ لم تكن قبل ذلك أبدا، لقوله: ينبغى للملك أن يكون له كاتب سرّ يتلقّى المرسوم منه شفاها. وأيضا تحقيق ما قلناه: أنّ وظيفة كتابة السرّ لم تكن قديما، وإنّما كانت الملوك لا يتلقّى الأمور عنهم إلّا الوزراء.
قضية فخر الدين بن لقمان مع القاضى فتح الدين محمد بن عبد الظاهر فى الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون، وهو أنه لمّا توزّر فخر الدين بن لقمان قال له الملك المنصور:
من يكون عوضك فى الإنشاء؟ قال: فتح الدين بن عبد الظاهر، فولّى فتح الدين وتمكّن عند السلطان وحظى عنده؛ وفتح الدين هذا هو الذي قلنا عنه فى أوّل الكتاب إنه أوّل كاتب سرّ كان، وظهر اسم هذه الوظيفة من ثمّ. انتهى. وحظى فتح الدين(7/333)
عند السلطان إلى الغاية. فلمّا كان بعض الأيام دخل فخر الدين بن لقمان على السلطان فأعطاه السلطان كتابا يقرؤه، فلمّا دخل فتح الدين أخذ السلطان الكتاب منه وأعطاه لفتح الدين، وقال لفخر الدين: تأخّر! فعظم ذلك على فخر الدين بن لقمان.
قلت: ولولا أنّ هذه الواقعة خرق العادة ما غضب ابن لقمان من ذلك، لأنّ العادة كانت يوم ذاك لا يقرأ أحد على السلطان كتابا بحضرة الوزير. انتهى.
ومنها واقعة القاضى فتح الدين المذكور مع شمس «1» الدين ابن السّلعوس لمّا ولى الوزارة للملك الأشرف خليل بن قلاوون، فإنّه قال لفتح الدين: اعرض علىّ كلّ ما تكتبه عن السلطان كما هى العادة، فقال فتح الدين: لا سبيل إلى ذلك، فلما بلغ الملك الأشرف هذا الخبر من الوزير المذكور، قال: صدق فتح الدين، فغضب من ذلك الوزير ابن السّلعوس.
قلت: وعندى دليل آخر أقوى من جميع ما ذكرته، أنّه لم أقف على ترجمة رجل فى الإسلام شرقا ولا غربا نعت بكاتب السرّ قبل فتح الدين هذا، وفى هذا كفاية. وما ذكره صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتبوا للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده ليس فى ذلك دليل على أنّهم كتّاب السّرّ؛ بل ذلك دليل لكلّ كاتب كتب عن مخدومه كائنا من كان. ونحن أيضا نذكر الذين ذكرهم صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب، ونذكر أيضا من ألحقناه بهم من كتّاب السّرّ إلى يومنا هذا، ليعلم بذلك صدق مقالتى بذكرهم وألقابهم وزمانهم. انتهى. قال: اعلم أنّ كتّاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، كانوا نيّفا على ستة وثلاثين كاتبا، لكن المشهور منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية بن أبى سفيان ومروان بن الحكم.(7/334)
قلت: وفى مروان خلاف، لأنّ الحافظ أبا عبد الله الذهبىّ قال فى ترجمة مروان بن الحكم: له رؤية إن شاء الله، ولم يعدّه من الصحابة، فكيف يكون من الكتّاب! وأيضا حذف جماعة من كبار الصحابة كتّاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأثبت مروان هذا، وفى صحبته خلاف. ولولا خشية الإطالة لذكرنا من ذكره الحافظ العلامة مغلطاى «1» ممّن كتب للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم ليعلم بذلك غلط من عدّ مروان من الكتّاب. انتهى. قال: ولمّا توفّى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم وصارت الخلافة إلى أبى بكر كتب عنه عمر بن الخطّاب وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم. فلمّا استخلف عمر كتب عنه عثمان وعلىّ ومعاوية وعبد «2» الله بن خلف الخزاعىّ، وكان زيد بن ثابت «3» وزيد بن أرقم «4» يكتبان على بيت المال. فلمّا استخلف عثمان كتب عنه مروان بن الحكم. فلمّا استخلف علىّ كتب عنه عبد الله بن رافع مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسعيد بن نمران «5» . فلمّا استخلف الحسن كتب عنه كتّاب أبيه. فلمّا بايعوا معاوية كتب عنه عبد الله بن أوس، وكتب عبد الله المذكور عن ابنه يزيد أيضا، وابن أبيه معاوية بن يزيد. فلمّا خلع معاوية ابن يزيد نفسه وتولّى مروان بن الحكم كتب عنه سفيان «6» الأحول وقيل عبيد الله بن أوس.
فلمّا استخلف عبد الملك بن مروان كتب عنه روح بن زنباع الجذامىّ. فلما استخلف الوليد كتب عنه قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحّاك ابن زمل «7» . فلما استخلف سليمان كتب عنه يزيد بن المهلّب، ثم عبد العزيز بن(7/335)
الحارث. فلما استخلف الإمام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه كتب عنه رجاء بن حيوة الكندىّ، ثم ابن أبى رقيّة «1» ؛ فلما استخلف يزيد بن عبد الملك كتب عنه سعيد بن الوليد الأبرش، ثم محمد بن عبد الله بن حارثة الأنصارىّ.
فلما استخلف هشام بن عبد الملك أبقاهما على عادتهما، واستكتب معهما سالما مولاه. فلما استخلف الوليد بن يزيد كتب عنه العباس بن مسلم. فلما استخلف يزيد بن الوليد كتب عنه ثابت بن سليمان. فلما استخلف «2» إبراهيم بن الوليد كتب عنه أيضا ثابت على عادته. فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد بن مروان كتب عنه عبد الحميد بن يحيى مولى بنى عامر إلى حين انقراض الدول الأمويّة. ثم صارت الخلافة لبنى العباس فاتخذوا كتّابهم وزراء، وكان أوّل خلفاء بنى العباس أبو العباس عبد الله ابن محمد السفّاح فاتخذ أبا سلمة [حفص بن سليمان «3» ] الخلّال، وهو أوّل وزير وزر فى الإسلام؛ ثم استوزر معه [خالد «4» بن] برمك وسليمان بن مخلد والربيع بن يونس، فتراكمت عليهم الأشغال، واتّسعت عليهم الأمور، فأفردوا للمكاتبات ديوانا، وكانوا يعبّرون عنه تارة بصاحب ديوان الرسائل، وتارة بصاحب ديوان المكاتبات، وتفرّقت دواوين الإنشاء فى الأقطار، فكان بكلّ مملكة ديوان إنشاء؛ وكانت الديار المصريّة من حين الفتح الإسلامى وإلى الدولة الطّولونية إمارة، ولم يكن لديوان الإنشاء فيها كبير أمر. فلما استولى أحمد بن طولون عظمت مملكتها وقوى أمرها فكتب عنه أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود. وكتب لولده خمارويه إسحاق بن نصر(7/336)
العبادىّ. وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى حين انقراض الدولة الإخشيدية.
ثم كانت الدولة الفاطمية فعظم ديوان الإنشاء بها، ووقع الاعتناء به واختيار بلغاء الكتّاب ما بين مسلم وذمّىّ، فكتب للعزير بن المعزّ فى الدولة الفاطمية أبو المنصور بن جورس «1» النّصرانىّ، ثم كتب لابنه الحاكم ومات فى أيامه، وكتب للحاكم بعده القاضى أبو الطاهر النهركىّ «2» . ثم تولى الظاهر بن الحاكم فكتب عنه أبو الطاهر المذكور. ثم تولى المستنصر فكتب عنه القاضى ولى الدين «3» بن خيران، وولىّ الدولة موسى بن الحسن بعد «4» انتقاله إلى الوزارة، وأبو «5» سعيد العميدىّ.
ثم تولى الآمر والحافظ فكتب عنهما الشيخ أبو الحسن علىّ بن أبى أسامة الحلبىّ إلى أن توفّى فى أيام الحافظ، فكتب بعده ولده أبو المكارم إلى أن توفّى، ومعه»
الشيخ أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علىّ بن سليمان بن منجب «7» المعروف بابن الصّيرفىّ، والقاضى كافى الكفاة محمود ابن القاضى الموفّق أسعد بن قادوس، وابن أبى الدّم اليهودىّ، ثم كتب بعد أبى المكارم «8» القاضى الموفّق بن الخلّال «9» بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد آخر خلفائهم، وبه تخرّج القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ.
ثم أشرك العاضد مع الموفّق بن الخلّال فى ديوان الإنشاء القاضى جلال الدين محمودا(7/337)
الأنصارىّ. ثم كتب القاضى الفاضل بين يدى الموفّق بن الخلّال فى وزارة صلاح الدين يوسف بن أيّوب. ثم كانت الدولة الأيّوبية، فكتب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القاضى الفاضل المذكور، ثم أضيفت اليه الوزارة. ثم كتب بعد الناصر لابنه العزيز ولأخيه العادل أبى بكر، ثم مات العادل والفاضل.
قلت: هنا مجازقة لم يكتب القاضى الفاضل للعادل وكان بينهما مشاحنة، ومات الفاضل قبل وصول العادل إلى مصر، وقيل وقت دخول العادل من باب النصر إلى القاهرة كانت جنازة القاضى الفاضل خارجة. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى هذا الكتاب «1» ، وإنما كتب الفاضل للعزيز عثمان ولولده الملك المنصور محمد، فالتبس المنصور على الناقل بالعادل. انتهى.
قال: ثم تولّى الكامل بن العادل فكتب له أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدّرج إلى أن توفّى، فكتب له بعده الشيخ أمين الدين عبد المحسن [بن حمود «2» ] الحلبى مدّة قليلة؛ ثم كتب للصالح نجم الدين أيّوب، ثم ولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير، ثم صرف وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردىّ، فبقى إلى انقراض الدولة الأيّوبية. فلما كانت الدولة التركية كتب للمعز أيبك الصاحب فخر الدين المذكور، ثم بعده للمظفر قطز، ثم للظاهر بيبرس، ثم للمنصور قلاوون، ثم نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة، وولى ديوان الإنشاء مكانه القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر فكتب عنه بقية أيامه؛ ثم كتب لابنه الأشرف خليل إلى أن توفّى، فولّى مكانه القاضى تاج الدين [أحمد «3» ] بن الأثير فكتب إلى أن(7/338)
توفّى؛ فكتب بعده القاضى شرف الدين عبد الوهاب «1» بن فضل الله فكتب بقية أيام الأشرف. فلما تولّى أخوه الناصر محمد كتب عنه القاضى شرف الدين المذكور فى سلطنته الأولى ثم فى أيام العادل كتبغا ثم أيام المنصور لاچين ثم فى أيام سلطنة الناصر محمد الثانية؛ ثم نقله إلى كتابة السّرّ بدمشق عوضا عن أخيه القاضى محيى الدين «2» ، وتولى مكانه بمصر القاضى علاء الدين [بن تاج الدين «3» ] بن الأثير فبقى حتى مرض بالفالج فاستدعى الملك الناصر محيى الدين بن فضل الله من دمشق وولده شهاب الدين [أحمد «4» ] وولّاهما «5» ديوان الإنشاء بمصر. ثم ولّى بعدهما القاضى شمس الدين «6» ابن الشهاب محمود فبقى إلى عود السلطان من الحجّ فأعاد القاضى محيى الدين وولده القاضى شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بمصر فبقيا مدّة. ثم تغيّر السلطان على القاضى شهاب الدين وصرفه عن المباشرة، وأقام أخاه القاضى علاء الدين «7» وكلاهما معين لوالده لكبر سنّه، ثم سأل القاضى محيى الدين السلطان فى العود إلى دمشق فأعاده وصحبته ولده شهاب الدين؛ واستمرّ ولده القاضى علاء الدين بالديار المصريّة فباشر بقيّة أيام الناصر، ثم أيّام ولده الملك المنصور «8» ، ثم أيام الأشرف كجك، ثم أيام الناصر أحمد إلى أن خلع نفسه وتوجّه إلى الكرك توجه معه القاضى علاء الدين؛ فلمّا تولّى الملك الصالح إسماعيل السلطنة(7/339)
بمصر بعد أخيه الناصر أحمد قرّر القاضى بدر الدين محمد «1» ابن القاضى محيى الدين بن فضل الله عوضا عن أخيه علاء الدين.
قلت: لم يل بدر الدين محمد بعد أخيه علاء الدين الوظيفة استقلالا وإنّما ناب عنه إلى حين حضوره. انتهى.
قال: ثم أعيد علاء الدين أيّام الصالح إسماعيل وأيام الكامل شعبان، ثم أيام المظفّر حاجّى ثم أيّام الناصر حسن فى سلطنته الأولى، ثم فى أيّام الصالح صالح، ثم فى أيّام الناصر حسن فى سلطنته الثانية، ثم أيام المنصور محمد ابن المظفر حاجّى، ثم فى أيّام الأشرف شعبان «2» وتوفّى فى أيّامه.
قلت: وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بعد أن باشر كتابة السر نيّفا وثلاثين سنة لأحد عشر سلطانا.
قال: ثم ولى الوظيفة بعده ولده بدر الدين «3» محمد ابن القاضى علاء الدين، فباشر بقيّة أيام الأشرف شعبان، ثم ولده المنصور علىّ، ثم أخيه الملك الصالح حاجّى بن شعبان إلى أن خلع بالظاهر برقوق، فاستقرّ برقوق بالقاضى أوحد الدين عبد الواحد ابن إسماعيل التّركمانىّ «4» إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى ذى الحجة سنة ستّ وثمانين وسبعمائة.(7/340)
قال: ثم أعيد بدر الدين فباشر حتى خلع الظاهر برقوق بالمنصور حاجّىّ، فاستمر بدر الدين إلى أن عاد برقوق إلى سلطنته الثانية، صرفه بالقاضى علاء الدين على بن عيسى الكركى، ثم صرف الكركىّ.
قلت: ومات معزولا فى شهر ربيع الأوّل فى سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد القاضى بدر الدين من بعد عزل القاضى علاء الدين فاستمرّ بدر الدين إلى أن عاد برقوق فتوفّى بدمشق.
قلت: ووفاته فى شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة.
قال: وولى بعده القاضى بدر الدين محمود الكلستانىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
قال: فتولى بعده القاضى فتح الدين فتح الله [التّبريزىّ «1» ] فباشر بقية أيام الظاهر، ومدّة من أيام الناصر إلى أن صرفه الناصر فرج بالقاضى سعد «2» الدين بن غراب مدّة يسيرة، ثم صرف ابن غراب وأعيد القاضى فتح الله ثانيا، فباشر إلى أن صرف بالقاضى فخر الدين بن المزوّق «3» ، فباشر مدة يسيرة، ثم صرف وأعيد فتح الله فباشر إلى أن صرفه الملك المؤيّد شيخ وقبض عليه وصادره.
قلت: ومات تحت العقوبة خنقا فى ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة وثمانمائة، وهو فتح الله بن مستعصم بن نفيس التّبريزى الحنفى الداوودى، يأتى ذكره هو وغيره من كتّاب السّرّ فى محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.(7/341)
قال: وتولّى بعده القاضى ناصر «1» الدين محمد البارزىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن شوّال سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ومولده بحماة فى يوم الاثنين رابع شوّال سنة تسع «2» وستين وسبعمائة. وتولى بعده ولده القاضى كمال الدين «3» محمد بن البارزى، فباشر إلى أن صرفه الملك الظاهر ططر وولّى علم الدين داود [بن عبد «4» الرحمن] بن الكويز، فباشر إلى أن توفّى سنة ست وعشرين وثمانمائة فى دولة الملك الأشرف برسباى. وولّى بعده جمال الدين يوسف «5» بن الصّفىّ الكركىّ فباشر قليلا إلى أن صرف بقاضى القضاة شمس «6» الدين محمد الهروىّ، ودام الكركىّ بعد ذلك وباشر عدّة وظائف بالبلاد الشامية إلى أن توفّى فى حدود سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وباشر الهروى إلى أن عزل بقاضى القضاة نجم الدين عمر ابن حجّى، فباشر ابن حجّى إلى أن عزل وتوجّه إلى دمشق على قضائها، ودام إلى أن قتل بها فى ذى القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة، وولّى بعده القاضى بدر الدين محمد [ابن محمد «7» بن أحمد] بن مزهر، واستمرّ إلى أن مات فى ليلة الأحد سابع عشرين جمادى الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة. وولى بعده ابنه جلال الدين؛ وقيل بدر الدين «8» محمد مدّة يسيرة. وصرف بالشريف شهاب الدين أحمد [بن علىّ «9» بن إبراهيم ابن عدنان] الحسينى الدمشقى، فباشر مدة يسيرة وتوفّى بالطاعون فى سنة ثلاث وثلاثين،(7/342)
وولى بعده أخوه نحو الجمعة بغير خلعة وتوفّى بالطاعون أيضا. وولى بعدهما شهاب الدين أحمد [بن صالح بن»
أحمد بن عمر المعروف با] بن السّفاح الحلبى فباشر إلى أن مات فى سنة خمس وثلاثين. وولى بعده الوزير كريم «2» الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ مضافا للوزارة، فباشر أشهرا وصرف؛ وأعيد القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ فى يوم السبت العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين، فباشر إلى أن صرف يوم الخميس سابع شهر رجب سنة تسع وثلاثين؛ وولى مكانه الشيخ محبّ الدين محمد ابن الأشقر فباشر إلى أن صرف، وولى صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، فباشر إلى أن توفّى بالطاعون فى سنة إحدى وأربعين، وولى مكانه والده الصاحب بدر الدين حسن فباشر إلى أن صرف، وأعيد القاضى كمال الدين بن البارزىّ فى يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، وهى ولايته الثالثة؛ فباشر إلى أن توفّى بكرة يوم الأحد سادس عشرين صفر سنة ستّ وخمسين وثمانمائة. ولم يخلّف بعده مثله، وولى بعده القاضى محب الدين محمد بن الأشقر المقدّم ذكره، وباشر إلى أن صرفه الملك الأشرف إينال بالقاضى محب الدين محمد بن الشّحنة الحلبىّ، فباشر ابن الشّحنة أشهرا ثم صرف، وأعيد القاضى محب الدين محمد بن الأشقر وهى ولايته الثالثة. انتهى.
قلت: وغالب من ذكرناه من هؤلاء الكتّاب قد تقدّم ذكر أكثرهم، ويأتى ذكر باقيهم فى محلّهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وقد استطردنا من ترجمة الملك المنصور إلى غيرها، ولكن لا بأس بالتطويل فى تحصيل الفوائد. انتهى.(7/343)
[ما وقع من الحوادث سنة 679]
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور قلاوون على مصر وقد تقدّم ذكرها فى ترجمة الملك السعيد، والملك العادل سلامش ولدى الملك الظاهر بيبرس، وهى سنة ثمان وسبعين وستمائة، فإنه حكم فيها من شهر رجب إلى آخرها.
وهذه السنة الثانية من ولاته الملك المنصور قلاوون المذكور، وهى سنة تسع وسبعين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ محيى الدين أبو العباس أحمد [بن علىّ «1» ] بن عبد الواحد بن السابق الحلبى العدل الكبير، كان من أكابر بيوت حلب، وكان عنده فضيلة ورياسة ومات بدمشق فى ذى الحجة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين، وقيل صارم الدين، أزبك بن عبد الله الحلبى العدل الكبير، كان من أعيان أمراء دمشق، وهو منسوب إلى أستاذه الأمير عزّ الدين أيبك الحلبى، وكان قد تجرّد إلى بعلبكّ فتمرّض بها، فحمل فى محفّة إلى دمشق، فمات بها فى شوّال.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الشّمسىّ، كان من أعيان الامراء وأماثلهم وشجعانهم، وهو الذي أمسك الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرى، وهو الذي باشر قتل كتبغا نوين مقدّم التّتار يوم عين جالوت، وكان ولى نيابة حلب فى السنة الخالية؛ ومات بها فى يوم الاثنين خامس المحرّم ودفن بحلب، وهو فى عشر الخمسين.(7/344)
وفيها توفّى الشيخ الإمام كمال الدين أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الحنفىّ الفقيه العدل، كان من أعيان الفقهاء العدول، وكان كثير الديانة والتعبّد، وهو أخو قاضى القضاة شمس «1» الدين الحنفىّ.
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد [بن أيّوب بن أبى رحلة «2» ] الحمصى المولد والدار البعلبكّى الوفاة، كان فاضلا ظريفا أديبا شاعرا، ومما ينسب إليه من الشعر قوله:
والدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم
لا تسأل الدهر فى البأساء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم
وفيها توفّى الأديب الفاضل الشاعر المفتنّ جمال الدين أبو الحسين يحيى ابن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علىّ المصرىّ المولد والوفاة، المعروف بالجزّار، الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء فى زمانه. مولده سنة إحدى «3» وستمائة. ومات يوم الثلاثاء ثانى عشر شوّال ودفن بالقرافة، وكان من محاسن الدنيا، وله نوادر مستظرفة ومداعبات ومفاوضات «4» مع شعراء عصره، وله ديوان شعر كبير.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: لم يكن فى عصره من يقاربه فى جودة النظم غير السّراج الورّاق «5» ، وهو كان فارس تلك الحلبة، ومنه أخذوا، [و] على نمطه نسجوا، ومن مادّته استمدّوا. انتهى كلام الصّفدىّ.(7/345)
قلت: ونذكر قطعة من شعره فمن ذلك قوله:
أكلّف نفسى كلّ يوم وليلة ... هموما «1» على من لا أفوز بخيره
كما سوّد القصار بالشمس وجهه ... ليجهد فى تبييض أثواب غيره
وقيل: إنه بات ليلة فى رمضان عند الصاحب بهاء الدين بن حنّا، فصلّى عنده التراويح وقرأ الإمام فى تلك الليلة سورة الأنعام فى ركعة واحدة؛ فقال أبو الحسين:
ما لى على الأنعام من قدرة ... لا سيّما فى ركعة واحده
فلا تسومونى حضورا سوى ... فى ليلة الأنفال والمائدة
ومن شعره:
طرف «2» المحبّ فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
تبكى الجفون على الكرى فاعجب لمن ... تبكى عليه إذا نأى الأوطان
وفيها توفّى الشيخ الإمام عماد الدين أبو بكر بن هلال بن عبّاد الجيلىّ «3» الحنفى معيد المدرسة الشّبليّة. كان إماما عالما صالحا منقطعا عن الناس مشتغلا بنفسه، وكان معدودا من العلماء، أفتى وأعاد ودرّس وانتفع به الناس ومات فى تاسع عشر شهر رجب، وقد كمل له مائة سنة وأربع سنين. وروى عنه ابن الزّبيدىّ «4» ؛ وروى بالإجازة العامّة عن السّلفىّ.(7/346)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الفقيه شمس الدين محمد بن عبد الله [بن محمد «1» بن عمر بن مسعود] بن النّنّ. والأديب البارع أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم الجزّار بمصر. وشيخ الرافضة النّجيب أبو القاسم بن الحسين ابن العود الحلّىّ بجزّين فى شعبان. والشيخ الزاهد يوسف [بن نجاح «2» بن موهوب] الفقّاعىّ بزاويته بقاسيون.
أمر فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 680]
السنة الثالثة من ولاية السلطان الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ثمانين وستمائة.
فيها تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق «3» واللّوق «4» ، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس «5» وساحل باب البحر والرّملة «6» وبين جزيرة «7» الفيل؛ ولم يعهد هذا فيما تقدّم، وحصل لأهل القاهرة مشقّة يسيرة من نقل الماء لبعد البحر عنهم؛ وأراد السلطان حفره فمنعوه، وقالوا له: هذا نشف إلى الأبد.
قلت: وكذا وقع، وغالب أملاك باب البحر والبساتين خارج باب البحر وداخله هى مكان البحر الذي نشف، والتصقت المبانى والبساتين بجزيرة الفيل وصارت غير جزيرة، فسبحان القادر على كل شىء!.(7/347)
وفيها توفّى الشيخ الصالح المولّه المعتقد إبراهيم بن سعيد الشّاغورىّ المعروف بجيعانة فى يوم الأحد سابع جمادى الأولى بدمشق، ودفن بمقبرة المولّهين بسفح قاسيون، وله من العمر نحو سبعين سنة، وكانت له جنازة عظيمة، وكان له أحوال ومكاشفات، رحمه الله.
وفيها توفّى ملك التّتار أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن چنكز خان ملك التّتار وطاغيتهم، كان ملكا جليل القدر على الهمّة شجاعا مقداما خبيرا بالحروب، لم يكن بعد والده مثله، وكان على مذهب التّتار واعتقادهم، ومملكته متّسعة جدّا وعساكره كثيرة، وكان مع ذلك كلمته مسموعة فى جنده مع كثرتهم. ولمّا توجّه أخوه منكوتمر بالعساكر إلى جهة الشام لم يكن ذلك عن رأيه بل أشير عليه فوافق، ونزل فى ذلك الوقت الرّحبة، أو بالقرب منها، فلما بلغ أبغا «1» كسرة منكوتمر رجع الى همذان فمات غمّا وكمدا ومات منكوتمر بعد أخيه أبغا بمدّة يسيرة بين العيدين، وله من العمر نحو خمسين سنة، وقيل: ثلاثين سنة والثانى أرجح. ومات بعده بيومين أخوه آجاى على ما يأتى ذكر منكوتمر فى القابلة.
وفيها توفّى التاجر نجم الدين أبو العبّاس أحمد بن علىّ بن المظفّر بن الحلّىّ، كان ذا نعمة ضخمة وثروة ظاهرة، وأمول جمّة، وله التقدّم فى الدولة.
وفيها توفّى الشيخ موفّق الدين أبو العباس أحمد بن يوسف المعروف بالكواشىّ «2» الإمام العالم المفسّر صاحب التفسير الكبير والتفسير الصغير وهما من أحسن التفاسير، وكانت له اليد الطّولى فى القراءات ومشاركة فى غير ذلك من العلوم، وكان مقيما(7/348)
بالجامع العتيق بالموصل منقطعا عن الناس مجتهدا فى العبادة لا يقبل لأحد شيئا، وكان يزوره الملك ومن دونه فلا يقوم لهم ولا يعبأ بهم، وكان له مجاهدات وكشوف وكرامات، ولأهل تلك البلاد فيه عقيدة. ومات وله تسعون سنة تقريبا، وكانت وفاته فى سابع «1» عشر جمادى الآخرة بالموصل ودفن بها.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين المعروف بالحاجّ أزدمر بن عبد الله الجمدار، كان من أعيان الأمراء، وكان ممن انضاف إلى سنقر الأشقر لمّا تسلطن، وكان سنقر جعله نائبا بدمشق، ووقع له أمور ذكرنا بعضها فى أوّل ترجمة الملك المنصور قلاوون إلى أن استشهد فى واقعة التّتار مع المنصور قلاوون بظاهر حمص مقبلا غير مدبر رحمه الله وتقبّل منه.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الشّجاعىّ الصالحى العمادى والى الولاة بالجهات «2» القبلية، كان ديّنا خيّرا ليّن الجانب شديدا على أهل الرّيب وجيها عند الملوك، وكان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه فى أموره؛ ثم إنه ترك الأمر باختياره ولزم داره إلى أن مات بدمشق فى جمادى الآخرة، وقد بلغ خمسا وثمانين سنة.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الخازندار، استشهد أيضا فى وقعة التّتار بحمص وكان أميرا جليلا.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بلبان الرّومى «3» الدّوادار المقدّم ذكره فى قضيّة كتّاب السرّ، كان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه وولّاه دوادارا، وكان المطّلع(7/349)
على أسراره، وتدبير أمور القصّاد والجواسيس والمكاتبات لا يشاركه فى ذلك وزير ولا نائب سلطنة، بل كان هو والأمير حسام الدين لاچين الأيدمرىّ المعروف بالدّرفيل، فلما توفّى لا چين المذكور انفرد بلبان بذلك وحده، وكان مع هذه الخصوصية عند الملك الظاهر أمير عشرة، وقيل جنديا.
قال الصّفدى: لم يؤمّره طبلخاناه إلى أن مات الملك الظاهر أنعم عليه ولده الملك السعيد بإمرة ستين فارسا بالشام، وبقى بعد ذلك إلى أن استشهد بظاهر حمص رحمه الله وقد نيّف على ستين «1» سنة.
وفيها توفّى الأمير شمس الدين سنقر بن عبد الله الألفى، كان من أعيان الأمراء الظاهريّة، وولى نيابة السلطنة بمصر للملك السعيد بعد موت الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، وباشر النّيابة أحسن مباشرة إلى أن استعفى فأعفى، وولى النيابة عوضه الأمير كوندك، فكان ذهاب الدولة على يده. ثم قبض الملك المنصور على سنقر هذا واعتقله بالإسكندرية، وقيل بقلعة الجبل، إلى أن مات، وله من العمر نحو أربعين سنة.
وفيها توفّى الشيخ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن محمود بن الحسن بن نبهان اليشكرى ثم الربعىّ، كان له اليد الطّولى فى علم الفلك، وتفرّد بحلّ الأزياج وعمل التقاويم، وغلب ذلك عليه مع فضلية تامة فى علم الأدب وجودة النظم. ومن شعره:
ولما أتانى العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأونى شاحبا ... وقالوا به عين فقلت وعارض
وله:
إنى أغار من النّسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق(7/350)
وأودّ «1» لو سهّرت لا من علّة ... حذرا عليك من الخيال الطارق
قلت: وأجاد الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح فى هذا المعنى حيث قال:
فلو أمسى على تلفى مصرّا ... لقلت معذّبى بالله زدنى
ولا تسمح بوصلك لى فإنّى ... أغار عليك منك فكيف منّى
ومثل هذا أيضا قول حفصة «2» المغربية، رحمها الله:
أغار «3» عليك من غيرى ومنّى ... ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أنّى خبأتك فى جفونى ... إلى يوم القيامة ما كفانى
وفيها توفّى الشيخ الإمام الأديب البارع بدر الدين يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله الذّهبىّ الشاعر المشهور، كان أبوه لؤلؤ عتيق الأمير بدر الدين صاحب تلّ باشر.
وكان بدر الدين هذا فاضلا شاعرا ماهرا. ومن شعره ممّا كتبه للشيخ نجم الدين [محمد «4» ] بن إسرائيل وله صاحب يميل إليه يسمّى بالجارح:
قلبك اليوم طائر ... عنك فى الجوائح
كيف يرجى خلاصه ... وهو فى كفّ جارح(7/351)
ومن شعره فى دولاب:
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
وله:
يا عاذلى فيه قل لى ... إذا «1» بدا كيف أسلو
يمرّ بى كلّ حين ... وكلما مرّ يحلو
وله:
حلا نبات الشّعر يا عاذلى ... لمّا بدا فى خدّه الأحمر
فشاقنى ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السّكّر
وله فى غلام على وجهه حبّ شباب:
تعشّقته لدن القوام مهفهفا ... شهىّ اللمّى أحوى المراشف أشنبا
وقالوا بدا حبّ الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلىّ محبّبا
وله:
رفقا بصبّ مغرم ... أبليته صدّا وهجرا
وافاك سائل دمعه ... فرددته فى الحال نهرا
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة الزاهد موفّق الدين أحمد بن يوسف الكواشىّ «2» المفسّر بالموصل فى جمادى الآخرة، وقد جاوز التسعين. والقاضى نجم «3» الدين محمد ابن القاضى صدر الدين بن سنىّ الدولة بدمشق(7/352)
فى المحرّم. والعلّامة قاضى القضاة تقىّ الدين محمد بن الحسين بن رزين العامرىّ بالقاهرة فى رجب، وله سبع وسبعون سنة. والحافظ المسند جمال الدين أبو حامد «1» محمد بن علىّ بن محمود بن الصابونىّ فى ذى القعدة. والمسند شمس الدين أبو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علّان فى ذى الحجّة، وله سبع وثمانون سنة. والعدل أمين الدين القاسم بن أبى بكر بن القاسم الإربلىّ فى جمادى الأولى. والعارف الزاهد ولىّ الدين علىّ بن أحمد بن بدر الجزرىّ «2» المقيم بجامع بيت لهيا «3» فى شوّال.
وأبغا بن هولاكو ملك التّتار ببلاد همذان. والحاج أزدمر الأمير بمصافّ حمص شهيدا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 681]
السنة الرابعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة إحدى وثمانين وستمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن خلّكان بن باول «4» بن عبد الله بن شاكل «5» بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكىّ الإربلىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق وعالمها ومؤرّخها.(7/353)
مولده فى ليلة الأحد «1» حادى عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستمائة بإربل وبها نشأ.
ذكره ابن العديم فى تاريخه فقال: من بيت معروف بالفقه والمناصب الدينية. وقال غيره: كان إماما عالما فقيها أديبا شاعرا مفتنّا مجموع الفضائل معدوم النظير فى علوم شتّى، حجّة فيما ينقله محقّقا لما يورده منفردا فى علم الأدب والتاريخ، وكانت وفاته فى شهر رجب وله ثلاث وسبعون سنة.
قلت: وهو صاحب التاريخ المشهور، وقد استوعبنا من حاله نبذة جيّدة فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» . انتهى.
وكان ولى قضاء دمشق مرّتين: الأولى فى حدود الستين وستمائة وعزل وقدم القاهرة، وناب فى الحكم بها عن قاضى القضاة بدر الدين السّنجارىّ، وأفتى بها ودرّس ودام بها نحو سبع سنين؛ ثم أعيد إلى قضاء دمشق بعد عزّ «2» الدين بن الصائغ، وسرّ الناس بعوده. ومدحته الشعراء بعدّة قصائد؛ من ذلك ما أنشده الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل [بن مسعود «3» بن سعد بن سعيد] الفارقىّ فقال:
أنت فى الشام مثل يوسف فى مص ... ر وعندى أنّ الكرام جناس
ولكلّ سبع شداد وبعد السّب ... ع عام فيه يغاث الناس
وقال فيه أيضا نور الدين علىّ بن مصعب.
رأيت أهل الشآم طرّا ... ما فيهم قطّ غير راض(7/354)
أتاهم الخير بعد شرّ ... فالوقت بسط بلا انقباض
وعوّضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر فى التقاضى
وسرّهم بعد طول غمّ ... قدوم قاض وعزل قاض
فكلّهم شاكر وشاك ... لحال مستقبل وماض
ومن شعر ابن خلّكان المذكور قوله:
تمثّلتم لى والبلاد بعيدة ... فخيّل لى أنّ الفؤاد لكم مغنى
وناجا كم قلبى على البعد والنّوى ... فآنستمو لفظا وأوحشتمو معنى
وله دو بيت:
قاسوك ببدر التّمّ قوم ظلموا ... لا ذنب لهم لأنّهم ما علموا
من أين لبدر التّمّ يا ويحهم ... جيد وعيون وقوام وفم
وله:
يا رب إنّ العبد يخفى عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه
قلت ويعجبنى فى هذا المعنى قول القائل:
إن كانت الأعضاء خالفت الّذى ... أمرت به فى سالف الأزمان
فسلوا الفؤاد عن الذي أودعتم ... فيه من التوحيد والإيمان
تجدوه قد أدّى الأمانة فيهما ... فهبوا له ما خلّ فى الأركان
وفيها توفّى ملك التّتار منكوتمر بن هولاكو خان بن تولى خان بن چنكز خان، هو أخو أبغا ملك التّتار؛ ومنكوتمر هذا هو الذي ضرب المصافّ مع السلطان الملك المنصور قلاوون على حمص حسب ما تقدّم ذكره وانكسرت عساكره، فلمّا وقع(7/355)
ذلك عظم عليه وحصل عنده غمّ شديد وكمد زائد، وحدّثته نفسه بجمع العساكر من سائر ممالك بيت هولاكو، واستنجد بأخيه أبغا على غزو الشام، فقدّر الله سبحانه وتعالى موت أبغا، ثم مات هو بعده فى محرّم هذه السنة، وأراح الله المسلمين من شرّهما. وكان منكوتمر شجاعا مقداما وعنده بطش «1» وجبروت وسفك للدّماء، وكان نصرانيّا، وكان جرح يوم مصافّ حمص، والذي جرحه الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام زين الدين عبد السلام بن علىّ الزّواوىّ المالكىّ شيخ القرّاء فى رجب، عن اثنتين وتسعين سنة.
وقاضى القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الإربلىّ فى رجب، وله ثلاث وسبعون سنة. ونجيب الدين المقداد بن هبة الله القيسىّ العدل فى شعبان.
وأبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجىّ «2» آخر من قرأ القرآن على أبى «3» الجود فى رمضان بالقرافة. والبرهان إبراهيم بن إسماعيل [بن إبراهيم «4» بن يحيى بن علوىّ المعروف ب] ابن الدّرجىّ إمام المدرسة المعزّيّة فى صفر، وله اثنتان وثمانون سنة.
والعماد إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين البعلبكّىّ. والعلّامة برهان الدين محمود ابن عبد الله المراغى فى شهر ربيع الآخر، وله ستّ وسبعون سنة. والإمام أمين الدين(7/356)
أحمد بن عبد الله [بن محمد «1» بن عبد الجبّار] بن الأشترىّ «2» الشافعى فى شهر ربيع الأوّل.
والشيخ الزاهد عبد الله [بن أبى بكر بن أبى البدر «3» البغدادىّ ويعرف] بكتيلة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 682]
السنة الخامسة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ بن بريد «4» البرمكىّ أمير آل مرى، كان من فرسان العرب المشهورين، كانت سراياه تغير إلى أقصى نجد وبلاد الحجاز ويؤدّون له الخفر، وكذلك صاحب المدينة الشريفة، وكانت له المنزلة العالية عند الظاهر والمنصور قلاوون وغيرهما من الملوك، كانوا يدارونه ويتّقون شرّه، وكان يزعم أنّه من نسل الوزير جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكىّ من أخت الخليفة هارون الرشيد الذي امتحن جعفر بسببها وقتل. وكان بين شهاب الدين هذا وبين عيسى بن مهنّا أمير آل فضل منافسة، فكتب إليه شهاب الدين هذا مرّة كتابا وأغلظ فيه، وكان عند عيسى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم «5» فسأله عيسى بن مهنّا المجاوبة، فكتب عنه يقول:(7/357)
زعموا «1» أنّا هجونا ... جمعهم بالافتراء
كذبوا فيما ادّعوه ... وافتروا بالادّعاء
إنّما قلنا مقالا ... لا كقول السّفهاء
آل فضل آل فضل ... وانتم آل مراء
وفيها توفّى شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد النّواوى والد الشيخ محيى «2» الدين النّواوىّ، كان مقتنعا بالحلال يزرع أرضا يقتات منها هو وأهله، وكان يموّن ولده الشيخ محيى الدين منها، ومات فى صفر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام شمس الدين أبو محمد «3» عبد الرحمن بن محمد بن أحمد ابن محمد بن قدامة الحنبلىّ المقدسىّ، كان إماما فقيها ورعا زاهدا كبير القدر جمّ الفضائل، انتهت إليه رياسة مذهب الإمام أحمد بن حنبل، رضى الله عنه، فى زمانه، وشرح كتاب «المقنع» فى الفقه تأليف عمّه شيخ الإسلام موفّق «4» الدين، رحمه الله:
وفيها توفّى الأمير علاء الدين كشتغدى «5» بن عبد الله الشرفىّ «6» الظاهرىّ المعروف بأمير مجلس، كان من أعيان الأمراء وأكابرهم بالديار المصريّة وكان بطلا شجاعا وله مواقف مشهورة ونكايات فى العدوّ المخذول. ومات بقلعة الجبل وقد نيّف على خمسين سنة، وحضر الملك المنصور قلاوون جنازته.(7/358)
وفيها توفّى الكاتب المجوّد عماد الدين أبو عبد الله، وقيل أبو الفضل، محمد ابن محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله الشّيرازىّ الدمشقىّ صاحب الخطّ المنسوب. انتهت إليه الرياسة فى براعة الخط لا سيّما فى [القلم «1» ] المحقّق و [قلم «2» ] النّسخ.
سمع الكثير وروى عنه الحافظ جمال الدين «3» المزّىّ وغيره، وتصدّى للكتابة وانتفع به الناس. وقدم القاهرة واتّفق أنّه ركب النيل مرّة مع الصاحب بهاء الدين بن حنّا، وكان معه جماعة من أصحابه وفيهم شخص معروف بابن الفقّاعى ممّن له عناية بالكتابة، فسأل الصاحب بهاء الدين، وقال: عندى لمولانا الصاحب وهؤلاء الجماعة يوم كامل الدّعوة، ومولانا يدعو المولى عماد الدين يفيدنى قطّة القلم، فقال الصاحب:
والله ما فى هذا شىء، مولانا يتفضّل عليه بذلك، فأطرق عماد الدين مغضبا، ثم رفع رأسه وقال: أو خير لك من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أحمل إليك ربعة بخطّى، ويعفينى من هذا، فقال الصاحب: لا والله، الرّبعة بخطّ مولانا تساوى ألفى درهم، وأنا ما آكل من هذه الضيافة شيئا يساوى عشرة دراهم.
وفيها توفّى الشيخ أبو محمد، وقيل أبو المحاسن، عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميّة الحرّانىّ أحد علماء الحنابلة ووالد الشيخ تقىّ «4» الدين بن تيميّة. مولده بحرّان فى ثانى عشر شوّال سنة سبع وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وتفقه وبرع فى الفقه وتميّز فى عدّة فنون، ودرّس ببلده وأفتى وخطب ووعظ وفسّر، ولى هذه الوظائف(7/359)
عقيب موت والده مجد الدين، وعمره خمس وعشرون سنة، وكان أبوه أيضا من العلماء. ومات فى سلخ ذى الحجّة ودفن بمقابر الصوفيّة بدمشق.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام عماد الدين علىّ بن يعقوب [بن شجاع بن «1» علىّ بن إبراهيم بن محمد] بن أبى زهران الموصليّ الشافعىّ شيخ القرّاء بدمشق فى صفر، وقد قارب الستين. وشيخ الإسلام الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبى عمر المقدسى [محمد بن أحمد «2» بن محمد بن قدامة] فى شهر ربيع الآخر، وله خمس وثمانون سنة. والإمام شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميّة الحرّانىّ والد شيخنا فى سلخ السنة، وله ستّ وخمسون سنة. والشيخ محيى الدين عمر بن محمد بن أبى سعد [عبد الله «3» بن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر] بن أبى عصرون التّميمىّ فى ذى القعدة عن ثلاث وثمانين سنة. والإمام شمس الدين محمد ابن أحمد بن نعمة المقدسىّ مدرّس الشاميّة «4» فى ذى القعدة. وخطيب دمشق محيى الدين محمد بن الخطيب عماد الدين عبد الكريم [ابن القاضى «5» أبى القاسم عبد الصمد] ابن الحرستانىّ فى جمادى الآخرة، وله ثمان وستون سنة. والحافظ شمس الدين محمد بن محمد بن عبّاس [بن أبى «6» بكر] بن جعوان الأديب فى جمادى الأولى.(7/360)
والرئيس محيى الدين يحيى بن على بن القلانسىّ فى شوّال. والرئيس عماد الدين أبو الفضل محمد [بن «1» محمد] ابن القاضى شمس الدين هبة الله بن الشّيرازى فى صفر.
وشرف الدين محمد بن عبد المنعم بن القوّاس فى شهر ربيع الآخر. والمحدّث جمال الدين عبد الله بن يحيى الجزائرى فى شوّال. والرشيد محمد بن أبى بكر بن محمد العامرىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 683]
السنة السادسة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة ناصر الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد «2» بن منصور الجذامىّ المالكىّ المعروف بابن المنيّر قاضى الإسكندرية، مولده فى ذى القعدة سنة عشرين وستمائة، ومات بالإسكندرية ليلة الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل، ودفن عند تربة والده عند الجامع المغربىّ «3» ، وكان إماما فاضلا متبحّرا فى العلوم وله اليد الطّولى فى علم الأدب والنظم والنثر. ومن شعره ما كتبه لقاضى القضاة شمس الدين ابن خلّكان فى صدر كتاب:(7/361)
ليس شمس الضّحا كأوصاف شمس الد ... ين قاضى القضاة حاشا وكلّا
تلك مهما علت محلّا ثنت ظلّا ... وهذا مهما علا مدّ ظلّا
وله يهجو القاضى زين الدين بن أبى الفرج لمّا نازعه فى الحكم:
قل لمن يدّعى المناصب بالجه ... ل تنحّ عنها لمن هو أعلم
إن تكن فى ربيع ولّيت يوما ... فعليك القضاء أمسى محرّم
وله فى صدر كتاب كتبه إلى الفائزى «1» يسأله رفع التصقيع عن ثغر الإسكندريّة:
إذا اعتلّ الزمان فمنك يرجو ... بنو الأيام عاقبة الشّفاء
وإن ينزل بساحتهم قضاء ... فأنت اللّطف فى ذاك القضاء
وفيها توفّى ملك التتار أحمد بن هولاكو قان بن تولى قان بن چنكز قان، كان ملكا شهما خبيرا بأمور الرعيّة سالكا أحسن المسالك، أسلم وحسن إسلامه وبنى بممالكه الجوامع والمساجد، وكان متّبعا دين الإسلام لا يصدر عنه إلّا ما يوافق الشريعة، وكان لمّا حسن إسلامه صالح السلطان الملك المنصور قلاوون، وفرح السلطان بذلك، فمات أحمد بعد مدّة يسيرة، وملك بعده أرغون بن أبغا.
وفيها توفّى القاضى نجم الدين أبو محمد عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم ابن «2» هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور بن أحمد الجهنىّ الشافعىّ المعروف بابن البارزىّ، ولد بحماة سنة ثمان وستمائة، وروى الحديث وبرع فى الفقه والحديث والنحو والأدب والكلام والحكمة، وصنّف فى كثير من العلوم، وتولّى القضاء بحماة نيابة عن والده، ثم استقلّ بعده ولم يأخذ على القضاء رزقا، وصرف قبل موته بسنين.
ومن شعره تضمينا لأوّل قصيدة البهاء زهير البائية:(7/362)
وكان الرّضا منى إليه ولم يكن ... رسول فأخشى أن ينم ويكذبا
وناديت أهلا بالحبيب ولم أقل ... رسول الرّضا أهلا وسهلا ومرحبا
وفيها توفّى الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا أمير آل فضل وملك العرب فى وقته؛ وكان له منزلة عظيمة عند الملوك لا سيّما عند الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ، ثم تضاعفت عند الملك المنصور قلاوون، وكان كريم الأخلاق حسن الجوار مكفوف الشر مبذول الخير، لم يكن فى العرب وملوكها من يضاهيه، وكان عنده ديانة وصدق. ولمّا مات ولّى الملك المنصور قلاوون ولده مهنّا عوضه، وكان بين وفاته ووفاة عدوّه الأمير أحمد بن حجّىّ أمير آل مرى دون السنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن موسى بن النّعمان التّلمسانىّ، سمع الكثير بعدّة بلاد وحدّث، ومولده بتلمسان فى سنة ستّ أو سبع وستمائة، ومات بمصر ودفن بالقرافة الكبرى، وهو غير «1» شمس الدين محمد بن العفيف التّلمسانىّ.
وفيها توفّى الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن الملك المظفّر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب صاحب حماة والمعرّة وابن صاحبهما، ملكهما بعد وفاة أبيه سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ووالدته الصاحبة غازية خاتون بنت الملك الكامل محمد صاحب مصر ابن الملك العادل أبى بكر ابن أيوب. وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وولّى الملك المنصور قلاوون ابنه بعد وفاته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى ناصر الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد «2» بن منصور الجذامىّ ابن المنيّر بالإسكندريّة فى شهر(7/363)
ربيع الأوّل «1» ، وله ثلاث وستون سنة. والملك أحمد بن هولاكو ملك التّتار.
وقاضى حماة نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم بن البارزىّ الشافعىّ فى ذى القعدة، وحمل ودفن بالبقيع، وله خمس وسبعون سنة. وقاضى دمشق عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق الأنصارى بن الصائغ فى شهر ربيع الآخر فى آخر الكهولية. وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن المظفّر محمود عن إحدى وخمسين سنة. والشيخ العارف أبو عبد الله محمد بن موسى بن النّعمان التّلمسانىّ بمصر فى رمضان، وله سبع وسبعون سنة. وملك العرب عيسى بن مهنّا فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعدّة أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 684]
السنة السابعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة أربع وثمانين وستمائة.
فيها كان فتوح المرقب وغيره من القلاع بالساحل حسب ما ذكرناه فى أوّل الترجمة.
وفيها ولد الملك الناصر محمد بن قلاوون، ووالده على حصار المرقب؛ وقد تقدّم ذكر ذلك أيضا.
وفيها توفّى الشيخ زين الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن أحمد الأندلسىّ الإشبيلىّ الأصل المعروف بكتاكت المصرى الواعظ المقرئ الأديب الشاعر، مولده سنة خمس وستمائة، وقيل غير ذلك، ومات بالقاهرة فى شهر ربيع الأوّل. وكان إماما فى الوعظ ولد به فضيلة ومشاركة. وله شعر جيّد. من ذلك قوله.(7/364)
من أنت محبوبه ماذا يغيّره ... ومن صفوت له ماذا يكدّره
هيهات عنك ملاح الكون تشغلنى ... والكلّ أعراض حسن أنت جوهره
وله القصيدة المشهورة عند الفقراء التى أوّلها:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكلّ مذ سمعوا خطابك طابوا
وفيها توفّى الأمير علاء الدين أيدكين بن عبد الله البندقدارىّ الصالحىّ النجمىّ أستاذ الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، كان أصل أيدكين هذا من مماليك الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، ثم انتقل عنه للملك الصالح نجم الدين أيّوب وجعله بندقداره وأمّره ثم نكبه، وأخذ منه الملك الظاهر بيبرس ثم أعاده. ثم ترقّى بعد موت أستاذه وولى نيابة الشام من قبل مملوكه الملك الظاهر بيبرس، وكان الملك الظاهر بيبرس يعظّمه ويقول له: أنت أستاذى ويعرف له حقّ التربية! وكان هو أيضا يبالغ فى خدمة الملك الظاهر والنّصح له؛ وهو الذي انتزع له دمشق من يد الأمير سنجر الحلبىّ كما تقدّم ذكره. وعاش أيدكين إلى دولة الملك المنصور قلاوون، وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم إلى أن مات فى القاهرة فى شهر ربيع الاخر «1» ، ودفن بتربته «2» قريب بركة «3» الفيل وقد ناهر السبعين.(7/365)
قلت: وما العجب أنّ أيدكين هذا كان من جملة أمراء مملوكه الملك الظاهر بيبرس، والعجب أن أستاذ أيدكين هذا الأمير جمال الدين بن يغمور كان أيضا من جملة أمراء الظاهر بيبرس فكان الظاهر أستاذ أستاذه فى خدمته ومن جملة أمرائه فانظر إلى تقلبات الدهر بالملوك وغيرها!
وفيها توفّى الشيخ الإمام رشيد الدين أبو محمد سعيد بن علىّ بن سعيد البصراوىّ الحنفىّ مدرّس الشّبليّة؛ كان إماما عالما فاضلا مدرّسا كثير الدّيانة والورع، عرض عليه القضاء غير مرّة فامتنع، وكانت له اليد الطّولى فى العربيّة والنظم، وكانت وفاته فى شعبان ودفن بقاسيون. ومن شعره:(7/366)
أرى عناصر طيب العيش أربعة ... ما زال منها فطيب العيش قد زالا
أمنّا وصحّة جسم لا يخالطها ... مغاير «1» والشّباب الغضّ والمالا
وله مواليا:
كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك ... أراك فلك تراها كيف تجرى بك
ما زالت الخادعه تدنو فتغرى بك ... حتى رمتك بإبعادك وتغريبك
وفيها توفّى الأديب البارع مجير الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن علىّ المعروف بابن تميم الشاعر المشهور، وهو سبط ابن تميم، كان أصله دمشقيّا وانتقل إلى حماة وخدم صاحبها الملك المنصور جنديّا، وكان له به اختصاص، وكان فاضلا شجاعا عاقلا، وكان من الشعراء المعدودين. ومن شعره فى الشجاعة والإقدام قوله:
دعنى أخاطر فى الحروب بمهجتى ... إمّا أموت بها وإمّا أرزق
فسواد عيشى لا أراه أبيضا ... إلّا إذا احمرّ السّنان الأزرق(7/367)
وله:
لم لا أهيم إلى الرّياض وزهرها ... وأقيم منها تحت ظل ضافى
والغصن يلقانى بثغر باسم ... والماء يلقانى بقلب صافى
وله:
عاينت ورد الرّوض يلطم خدّه ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوه وإن تضوّع نشره ... «1» ما بينكم فهوا العدوّ الأزرق
قلت: وقريب من هذا قول القائل:
بنفسج الروض تاه عجبا ... وقال طيبى للجوّ ضمّخ
فأقبل الزهر فى احتفال ... والبان من غيظه تنفّخ
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّيت أمّ الخير ستّ العرب بنت يحيى بن قيماز الكنديّة فى المحرّم. والمحدّث أبو القاسم علىّ بن بلبان الناصرىّ فى رمضان. وأبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله الأنماطىّ فى ذى الحجّة. والقدوة الشيخ محمد بن الحسن الإخميمىّ بقاسيون فى جمادى الأولى. والشيخ الزاهد شرف الدين محمد ابن الشيخ عثمان [بن علىّ «2» ] الرّومىّ. والإمام الرشيد سعيد بن علىّ [ابن «3» سعيد] الحنفىّ فى رمضان. والعلّامة رضىّ الدين محمد بن على بن يوسف الشاطبىّ اللغوى بمصر، وله نيّف وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.(7/368)
[ما وقع من الحوادث سنة 685]
السنة الثامنة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة خمس وثمانين وستمائة.
فيها استولى الملك المنصور قلاوون على الكرك وانتزعها من يد الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس.
وفيها توفّى الشيخ معين الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد «1» الرحمن بن أحمد ابن تولوا الفهرىّ، مولده بتنّيس «2» سنة خمس وستمائة، ومات بمصر فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بالقرافة الصغرى، وسمع الحديث وتفقّه وكان له معرفة بالأدب وله يد طولى فى النظم، وشعره فى غاية الجودة. ومن شعره وقد أمر قاضى مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى أبى الحسين «3» الجزّار. فقال:
تقدّم القاضى لنوّابه ... بقطع رزق البرّ والفاجر
ووفّر الجزّار من بينهم ... فاعجب للطف التّيس بالجازر
وفيها توفّى الشيخ شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد الأنصارىّ الصوفى الفقيه الشافعى، الشاعر المشهور المعروف بابن الخيمىّ، كان إمام عصره فى الأدب ونظم الشعر مع مشاركة فى كثير من العلوم. ومولده سنة اثنتين وستمائة، وتوفى بمشهد الحسين بالقاهرة فى شهر رجب، وقد أوضحنا أمره مع نجم الدين ابن إسرائيل لمّا تداعيا القصيدة التى أوّلها:(7/369)
يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب ... إليك آل التّقصّى وانتهى الطّلب
فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» وذكرنا أمرهما لمّا أمرهما ابن الفارض بنظم قصيدتين فى الرّوىّ والقافية وذكرنا القصيدتين أيضا بكمالهما، ثم حكم ابن الفارض بالقصيدة لشهاب الدين هذا. والقصيدة التى نظمها شهاب الدين ابن الخيمىّ هذا لمّا أمره ابن الفارض بالنظم أوّلها:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا علىّ ولمّا أن جنوا عتبوا
والتى نظمها ابن إسرائيل.
لم يقض من حبّكم بعض الذي يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المسند أبو العبّاس أحمد بن شيبان الصالحىّ فى صفر، وقد قارب التسعين. والعلّامة جمال الدين محمد ابن أحمد بن محمد البكرىّ. والشهاب محمد بن عبد المنعم بن محمد الأنصارىّ ابن الخيمىّ الشاعر فى رجب، وله ثلاث وثمانون سنة. والشيخ عبد الرحيم بن محمد ابن أحمد بن فارس العلثىّ «1» بن الزّجّاج فى المحرّم. وأمة الحقّ شاميّة ابنة صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد البكرىّ فى رمضان. والإمام صفىّ الدين خليل بن أبى بكر ابن محمد المراغىّ فى ذى القعدة. وقاضى القضاة بهاء الدين يوسف ابن القاضى محيى الدين [يحيى «2» ] بن الزكى فى ذى الحجّة، وله ستّ وأربعون سنة. والمقرئ «3» برهان الدين إبراهيم بن إسحاق بن المظفّر الوريرىّ فى ذى الحجّة قافلا من الحجّ. وخطيب كفر بطنا «4»(7/370)
جمال الدين محمد بن عمر الدّينورىّ فى رجب، وله اثنتان وسبعون سنة.
والمقرئ الشيخ حسن بن عبد الله بن ويحيان «1» الرّاشدىّ «2» فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع، وقيل خمس، وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 686]
السنة التاسعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ست وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العارف بالله تعالى قطب زمانه شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن عمر المرسىّ الأنصارىّ الإسكندرىّ المالكىّ الصالح المشهور، كان علّامة زمانه فى العلوم الإسلاميّة، وله القدم الراسخة فى علم التحقيق، وله الكرامات الباهرة، وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلىّ: أبو العبّاس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. انتهى.
قلت: وكان لديه فضيلة ومشاركة، وله كرامات وأحوال مشهورة عنه، وللناس فيه اعتقاد كبير لا سيّما أهل الإسكندرية، وقد شاع ذكره وبعد صيته بالصلاح والزّهد، وكان من جملة الشهود بالثّغر، وبها توفّى ودفن وقبره «3» يقصد للزيارة.(7/371)
وفيها توفّى الشيخ شرف الدين أبو الربيع سليمان بن بليمان بن أبى الجيش ابن عبد الجبّار بن بليمان الهمذانىّ الأصل الرّعبانىّ «1» المولد، الإربلىّ المنشأ، الشاعر المشهور صاحب النوادر، كان من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد صاحب الشام، وكان أبوه صائغا وتعانى هو أيضا الصّياغة، قيل إنّه جاء إليه مملوك مليح من مماليك الملك الأشرف موسى، وقال له: عندك خاتم لإصبعى؟ فقال له: لا، إلا عندى إصبع مليح لخاتمك. ومات بدمشق فى ليلة عاشر صفر. ومن شعره:
وما زالت الرّكبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذّكىّ بلامين
إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت «2» ... من القول أذنى دون ما أبصرت عينى
ولمّا قامر التّلعفرىّ «3» بثيابه وأخفافه قال فيه شرف الدين هذا قصيدة وأنشدها للملك الناصر بحضرة التّلعفرىّ. فلمّا فرغ من إنشادها قال له التّلعفرىّ: ما أنا جندىّ(7/372)
حتى أقامر بأخفافى. فقال له شرف الدين: بخفاف امرأتك. فقال: مالى امرأة، فقال له: لك مقامرة من بين الحجرين إمّا بالخفاف أو بالنّعال «1» . انتهى.
قلت: وأنا مسامح التّلعفرىّ على القمار، لحسن ما قاله من رائق الأشعار:
فمن كان ذا عذر قبلت اعتذاره ... ومن لاله عذر فعندى له عذر
وفيها توفّى الشيخ الإمام المحدّث قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن أحمد «2» بن عبد الله بن ميمون القيسىّ الشّاطبىّ المحدّث الإمام العلّامة، كان شيخ الكامليّة بالقاهرة المعروف بابن القسطلانيّ التّوزرىّ «3» الأصل المصرى المولد المكّىّ المنشأ الشافعىّ المذهب، مولده سنة أربع عشرة وستمائة، ومات يوم السبت ثامن عشر المحرّم، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان مجموع الفضائل، رحمه الله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام النّحوىّ بدر الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين بن «4» مالك فى المحرّم. والإمام قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علىّ القسطلانيّ بالقاهرة فى المحرّم. وقاضى القضاة برهان الدين الخضر بن الحسن بن علىّ السّنجارىّ بمصر فى صفر. والحكيم عماد الدين محمد بن عبّاس الرّبغىّ الدّنيسرىّ، وله إحدى وثمانون سنة. وشرف الدين سليمان ابن بليمان الإربلىّ الشاعر. والمحدث وجيه الدين عبد الرحمن بن حسن السّبتىّ فى جمادى الأولى. والمسند عزّ الدين أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم [بن «5» علىّ] ابن الصّيقل الحرّانىّ فى شهر رجب.(7/373)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 687]
السنة العاشرة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة سبع وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ المعتقد الصالح برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد بن شدّاد الجعبرىّ الأصل والمولد المصرىّ الدار والوفاة، الصالح المشهور، نشأ بجعبر ثم انتقل إلى الديار المصريّة واستوطنها ولزم مسجده، وكان يعظ به ويجتمع عنده خلق كثير، ولأصحابه فيه عقيدة حسنة، وله مقالات كثيرة، وكان زاهدا عابدا، سمع الحديث وروى عن السّخاوىّ «1» وغيره، وكان غزير الفضيلة حلو العبارة.
قال الصلاح الصّفدىّ: أخبرنى الشيخ الإمام العلّامة أثير «2» الدين أبو حيّان من لفظه قال: رأيت المذكور بالقاهرة، وحضرت مجلسه أنا والشيخ نجم الدين بن مكّىّ، وجرت لنا معه حكاية، وكان يجلس للعوامّ يذكّرهم ولهم فيه اعتقاد، وكان يدرى شيئا من الحديث، وله مشاركة فى أشياء من العلوم وفى الطب، وله شعر جيّد.
وأنشد له قصيدة أذكر منها القليل:
عشقوا الجمال مجرّدا بمجرّد الر ... وح الزكيّة عشق من زكّاها
متجرّدين عن الطّباع ولؤمها ... متلبّسين عفافها وتقاها
انتهى كلام الصّفدىّ.(7/374)
وقال القطب اليونينىّ: وأظنّه نيّف على الثمانين من العمر، ولمّا مرض مرض الموت أمر أن يخرج به إلى مكان مدفنه، فلما رآه قال له: «قبير جاك دبير» . ومات بعد ذلك بيوم فى يوم السبت رابع عشرين المحرّم بالقاهرة ودفن من يومه بالحسينيّة «1» خارج باب النّصر، وقبره «2» معروف هناك يقصد للزيارة.
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى المقالة السابعة الزّهديّة من مقالات الشيخ العارف الرّبانىّ شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانىّ المعروف بشوروة من كتابه «أطباق الذهب» وهى:
طوبى للتّقىّ الخامل، الذي سلم عن إشارة الأنامل؛ وتعسا لمن قعد فى الصوامع، ليعرف بالأصابع؛ خزائن الأمناء مكتومة، وكنوز الأولياء مختومة؛ والكامل كامن «3» بتضاءل، والناقص قصير يتطاول؛ والعاقل قبعة «4» ، والجاهل طلعة؛ فاقبع قبوع الحيّات، واكمن فى الظّلمات، كمون «5» ماء الحياة؛ وصن كنزك فى التّراب، وسيفك فى القراب؛ وعفّ آثارك بالذّيل المسحوب، واستر رواءك بسفعة «6» الشّحوب؛ فالنباهة فتنة، والوجاهة محنة؛ فكن كنزا مستورا، ولا تكن سيفا مشهورا؛ إنّ الظالم جدير أن يقبر ولا يحشر، والبالى خليق أن يطوى ولا ينشر؛ ولو عرف(7/375)
الجذل «1» صولة النّجار، وعضّة المنشار؛ لما تطاول شبرا، ولا تخايل كبرا، وسيقول البلبل المعتقل: يا ليتنى كنت غرابا، ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا» . انتهى.
وفيها توفّى الشيخ ناصر الدين أبو محمد حسن بن شاور بن طرخان الكنانىّ ويعرف بابن الفقيسىّ وبابن النّقيب الشاعر المشهور، كان من الفضلاء الأدباء، ومات ليلة الأحد منتصف شهر ربيع الأوّل ودفن بسفح المقطّم، وله تسع وسبعون «2» سنة؛ وكان بينه وبين العلّامة شهاب الدين محمود صحبة ومجالسة ومذاكرة فى القريض.
ومن شعره:
نهيناه عن فعل القبيح فما انتهى ... ولا ردّه ردع وعاد وعادى
وقلنا له دن بالصّلاح فقلّما ... رأينا فتى عانى الفساد فسادا
وله:
وجرّدت مع فقرى وشيخوختى التى ... تراها فنومى عن جفونى مشرّد
فلا يدّعى غيرى مقامى «3» فإنّنى ... أنا ذلك الشيخ الفقير المجرّد
وله:
حدّثت عن ثغره المحلّى ... فمل إلى خدّه المورّد
خدّ وثغر فجلّ ربّ ... بمبدع الحسن قد تفرّد
وله:
يا من أدار سلافة «4» من ريقه ... وحبابها الثّغر الشّنيب الأشنب
تفّاح خدّك بالعذار ممسّك ... لكنّه بدم القلوب مخضّب(7/376)
وله:
أنا العذرىّ فاعذرنى وسامح ... وجرّ علىّ بالإحسان ذيلا
ولمّا صرت كالمجنون عشقا ... كتمت زيارتى وأتيت ليلا
وفيها توفّى الملك الصالح على ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، كان والده المنصور قلاوون قد جعله ولىّ عهده وسلطنه فى حياته حسب ما تقدم ذكره فى سنة تسع وسبعين وستمائة، فدام فى ولاية العهد إلى هذه السنة مرض ومات بعد أيّام فى رابع شعبان بقلعة الجبل، ووجد عليه أبوه الملك المنصور قلاوون كثيرا، فإنّه كان نجيبا عاقلا خليقا للملك.
وفيها توفّى الشيخ الطبيب علاء الدين علىّ بن أبى الحرم «1» القرشى الدّمشقىّ المعروف بابن النّفيس الحكيم الفاضل العلّامة فى فنّه، لم يكن فى عصره من يضاهيه فى الطّبّ والعلاج والعلم، اشتغل على المهذّب «2» الدّخوار حتى برع، وانتهت إليه رياسة فنّه فى زمانه، وهو صاحب التصانيف المفيدة، منها: «الشامل فى الطب» ، و «المهذّب فى الكحل» ، و «الموجز «3» » ، و «شرح القانون لابن سينا» . ومات فى ذى القعدة بعد أن أوقف داره وأملاكه وجميع ما يتعلّق به على البيمارستان المنصورىّ بالقاهرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبرىّ بالقاهرة فى المحرّم عن نيّف وثمانين سنة. والإمام أبو العبّاس أحمد بن أحمد بن عبد الله [بن أحمد «4» بن محمد بن قدامة] المقدسىّ الفرضىّ. وخطيب(7/377)
القدس قطب الدين أبو الزّكاء «1» عبد المنعم بن يحيى الزّهرىّ فى رمضان. والجمال أحمد بن أبى بكر بن سليمان بن الحموىّ. والشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز اللّورى «2» شيخ المالكية فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 688]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين وستمائة.
فيها فتحت طرابلس وما أضيف إليها بعد أمور ووقائع حسب ما ذكرناه فى أصل هذه الترجمة مفصّلا.
وفيها توفّى الشيخ علم الدين أحمد ابن الصاحب صفىّ «3» الدين يوسف بن عبد الله ابن شكر المعروف بابن الصاحب، كان نادرة زمانه فى المجون والهزل وإنشاد الأشعار والبلّيقات «4» وكان بقى فى آخر عمره فقيرا مجرّدا، وكان اشتغل فى صباه وحصّل ودرس، وكان لديه فضيلة وذكاء وحسن تصور، إلّا أنه تمفقر فى آخر عمره وأطلق طباعه على التّكدى وصار يجارد «5» الرؤساء، ويركب فى قفص [على «6» رأس] حمّال ويتضارب الحمّالون على حمله، لأنّه كان مهما فتح له من الرؤساء كان للّذى يحمله،(7/378)
فكان يستمرّ راكبا فى القفص والحمّال يدور به فى أماكن الفرج والنّزه، وكان يتعمّم بشرطوط «1» طويل جدّا رقيق العرض ويعاشر الحرافيش، وكان له أولاد رؤساء، ويقال: إنّ الصاحب بهاء الدين بن حنّا هو الذي أحوجه إلى أن ظهر بذلك المظهر، وأخمله وجنّنه لكونه كان من بيت وزارة، فكان ابن الصاحب هذا إذا رأى الصاحب بهاء الدين بن حنّا ينشد:
اشرب «2» وكل وتهنّا ... لابدّ أن تتعنّى
محمد وعلىّ ... من أين لك يا بن حنا
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: «أخبرنى من لفظه الحافظ نجم الدين أبو محمد الحسن «3» خطيب صفد، قال: رأيته (يعنى ابن الصاحب) أشقر أزرق العينين عليه قميص أزرق، وبيده عكّاز حديد. قال: وأخبرنى من لفظه الحافظ فتح «4» الدين ابن سيّد الناس، قال: كان ابن الصاحب يعاشر الفارس أقطاى فاتّفق أنّهم كانوا يوما على ظهر النّيل فى شختور «5» ، وكان الملك الظاهر بيبرس مع الفارس أقطاى وجرى بينهم أمر، ثم ضرب الدهر ضربانه حتّى تسلطن الملك الظاهر بيبرس وركب يوما إلى الميدان، ولم يكن عمّر قنطرة «6» السّباع، وكان التوجه إلى الميدان من على باب زويلة على باب الخرق «7» ، وكان ابن الصاحب هذا نائما على قفص صيرفىّ(7/379)
من تلك الصّيارف برّا باب زويلة، ولم يكن أحد يتعرّض لابن الصاحب، فمرّ به الملك الظاهر فلم يشعر إلا وابن الصاحب يضرب بمفتاح فى يده على خشب الصيرفى قويّا، فالتفت الظاهر فرآه فقال: هاه! علم الدين؟ فقال: إيش علم الدين أنا جيعان! فقال: أعطوه ثلاثة آلاف درهم. وكان ابن الصاحب أشار بتلك الدّقّة إلى دقّة مثلها يوم المركب» . انتهى [كلام الصّفدى] .
قلت: ومن نوادره اللّطيفة أنّه كان بالقاهرة إنسان [كثيرا «1» ما] يجرّد الناس فسمّوه زحل، فلمّا كان فى بعض الأيام وقف ابن الصاحب على دكّان حلوى يزن دراهم يشترى بها حلوى، وإذا بزحل قد أقبل من بعيد، فقال ابن الصاحب للحلاوى «2» : أعطنى الدراهم، ما بقى لى حاجة بالحلوى، فقال: لم؟ قال: أما ترى زحل قارن المشترى فى الميزان! وله من هذا أشياء كثيرة ذكرنا منها نبذة فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» . ومن شعره:
يا نفس ميلى إلى التّصابى ... فاللهو منه الفتى يعيش
ولا تملّى من سكر يوم ... إن أعوز الخمر فالحشيش
وله فى المعنى:
فى خمار الحشيش معنى مرامى ... يا أهيل العقول والأفهام
حرّموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام
قلت: وأحسن ما قيل فى هذا المعنى قول القائل ولم أدر لمن هو:
وخضراء ما الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات فى الحشى وثبات
تؤجّج نارا فى الحشى وهى جنّة ... وتروى مرير الطّعم وهى نبات(7/380)
وفيها توفّى الشيخ الأديب البارع المفتّن شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان ابن على التّلمسانىّ الشاعر المشهور، كان شابّا فاضلا ظريفا، وشعره فى غاية الحسن والجودة. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس، ومن شعره:
ياسا كنّا قلبى المعنّى ... وليس فيه سواك ثانى
لأىّ معنى كسرت قلبى ... وما التقى فيه ساكنان
وله فى ذمّ الحشيش:
ما للحشيشة فضل عند آكلها ... لكنه غير مصروف إلى رشده
صفراء فى وجهه خضراء فى فمه ... حمراء فى عينه سوداء فى كبده
وله أيضا:
لى من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه
يا من أعيد جماله بجلاله ... حذرا عليه من العيون تصيبه
إن لم تكن عينى فإنّك نورها ... أو لم تكن قلبى فإنت حبيبه
هل رحمة أو حرمة لمتيّم ... قد قلّ منك نصيره ونصيبه
ألف القصائد فى هواك تغزّلا ... حتّى كأنّ بك النسيب نسيبه
لم تبق لى سرّا أقول تذيعه ... عنّى ولا قلب أقول تنيبه «1»
كم ليلة قضّيتها متسهّدا ... والدمع يجرح مقلتى مسكوبه
والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندى وأبعد من رضاك مغيبه
والجوّ «2» قد رقّت علىّ شماله ... وجفونه وشماله وجنوبه(7/381)
هى مقّلة سهم الفراق يصيبها ... ويسحّ وابل دمعها فيصوبه
وجوّى تضرّم جمره لولا ندى ... قاضى القضاة قضى علىّ لهيبه
وله:
أخجلت بالثّغر ثنايا الأقاح ... يا طرّة الليل ووجه الصّباح
وأعجمت أعينك السّحر مذ ... أعربت «1» منهن صفاحا فصاح
فيالها سودا مراضا غدت ... تسلّ للعاشق بيضا صحاح
يا للهوى من مسعد مغرما ... رأى حمام الأيك غنّى فناح «2»
يا بانة مالت بأعطافه ... علّمتنى كيف تهزّ الرّماح
وأنت يا أسهم ألحاظه ... أثخنت والله فؤادى جراح
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى كمال الدين أحمد ابن يوسف بن نصر الفاضلىّ. والمفتى فخر الدين عبد الرحمن بن يوسف البعلبكّىّ الحنبلى فى رجب. ورئيس الشهود زين الدين المهذب ابن أبى الغنائم التّنوخىّ.
والعلّامة شمس الدين الأصيهانىّ الأصولى محمد بن محمود بالقاهرة فى رجب. والمقرئ تقىّ الدين يعقوب «3» بن بدران الجرائدىّ بالقاهرة فى شعبان. والمسندة العابدة زينب بنت مكّىّ فى شوّال، ولها أربع وتسعون سنة. والعماد أحمد ابن الشيخ العماد إبراهيم ابن عبد الواحد المقدسىّ. والإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الكمال عبد الرحيم ابن عبد الواحد «4» المقدسىّ فى جمادى الأولى.(7/382)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 689]
السنة الثانية عشرة من ولاية السلطان الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة تسع وثمانين وستمائة.
فيها كانت وفاة صاحب الترجمة الملك المنصور قلاوون فى ذى القعدة حسب ما تقدّم ذكره، وتسلطن بعده ابنه الملك الأشرف خليل.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو المعالى برهان الدين أحمد بن ناصر بن طاهر الحسينىّ الحنفىّ إمام المقصورة الحنفية الشمالية بجامع دمشق، كان إماما عالما فاضلا زاهدا صالحا متعبّدا مفتنّا مشتغلا بما هو فيه من الاشتغال بالعلم والأوراد والقراءة إلى أن مات فى يوم السبت ثانى عشرين شوّال، وتولّى بعده الإمامة الشيخ نجم الدين يعقوب البروكارىّ «1» الحنفىّ، وسلك مسلكه.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين أبو سعيد طرنطاى بن عبد الله المنصورىّ الأمير الكبير، كان أوحد أهل عصره، كان عظيم دولة أستاذه الملك المنصور قلاوون؛ وكان المنصور قد جعله نائبه بسائر الممالك، وكان هو المتصرّف فى مملكته.
فلمّا مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن ولده الملك الأشرف خليل استنابه أيّاما إلى أن رتّب أموره ودبّره ودبّر أحواله، وكان عظيم التنفيذ سديد الرأى، مفرط الذكاء غزير العقل؛ فلمّا رسخت قدم الأشرف فى السلطنة أمسكه، وكان فى نفسه(7/383)
منه أيّام والده، وبسط عليه العذاب إلى أن مات شهيدا وصبر على العذاب صبرا لم يعهد مثله عصر إلى أن هلك، ولمّا غسّلوه وجدوه قد تهرّأ لحمه وتزايلت أعضاؤه، وأنّ جوفه كان مشقوقا، كلّ ذلك ولم يسمع منه كلمة. وكان بينه وبين الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ عداوة على الرّتبة، فسلّمه الأشرف إلى الشّجاعىّ وأمره بتعذيبه، فبسط الشجاعىّ عليه العذاب أنواعا إلى أن مات، فحمل إلى زاوية الشيخ عمر السّعودىّ «1» ، فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه بظاهر الزاوية. وكان له مواقف مع العدوّ، وغزوات مشهورة وفتوحات. وبنى مدرسة حسنة بقرب داره بخط البندقانيّين «2» بالقاهرة، وقبّة برسم الدفن، وله أوقاف على الأسرى وغيرها. وكان فيه محاسن لولا شحّه وبذاءة لسانه لكان أوحد أهل زمانه، وخلّف أموالا جمّة.(7/384)
قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ قال الشيخ تاج «1» الدين الفزارى: حدّثنى تاج «2» الدين بن الشّيرازى المحتسب: أنّهم وجدوا فى خزانة طرنطاى من الذهب العين ألفى ألف «3» دينار وأربعمائة ألف دينار وألفى حياصة ذهب وألف وسبعمائة كلّوته مزركشة، ومن الدراهم ما لا يحصى؛ فاستولى الأشرف خليل على ذلك كلّه، وفرّقه على الأمراء والمماليك فى أيسر مدّة؛ واحتاج أولاد طرنطاى هذا وعياله من بعده إلى الطلب من الناس من الفقر.
وقال غيره: وجد لطرنطاى ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. ثم ذكر أنواع الأقمشة والخيول والجمال والبغال والمتاجر ما يستحى من ذكره كثرة. ومات طرنطاى المذكور ولم يبلغ خمسين سنة من العمر.
وفيها توفّى الأمير علاء الدين طيبرس بن عبد الله الصالحىّ المعروف بالوزيرىّ، كان أحد الأمراء المشهورين بالشجاعة والإقدام، وكان من المبرّزين وله التقدّم فى الدول والوجاهة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقى خنق فى المحرّم وقد كمّل التسعين. والإمام نور الدين على ابن ظهير بن شهاب بن الكفتى المقرئ الزاهد فى شهر ربيع الآخر. وقاضى الحنابلة نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبى عمر فى جمادى الأولى،(7/385)
وله ثمان وثلاثون سنة. وخطيب دمشق جمال الدين عبد الكافى بن عبد الملك ابن عبد الكافى الربعى فى سلخ جمادى الأولى. والزاهد فخر الدين أبو طاهر إسماعيل عزّ القضاة بن علىّ بن محمد «1» الصوفىّ فى رمضان. والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الزّين أحمد بن عبد الملك المقدسى فى ذى القعدة. والسلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ فى ذى القعدة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا، ولم يوفّ فى هذه السنة.
انتهى الجزء السابع من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثامن، وأوّله: ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر(7/386)
استدراكات على بعض تعليقات وردت فى الجزءين الرابع والخامس من هذا الكتاب، لحضرة الأستاذ محمد رمزى بك
قنطرة عبد العزيز بن مروان
بما أن الشرح الخاص بتعيين موقع هذه القنطرة المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع من هذه الطبعة جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
لما تكلم المقريزى على ظواهر القاهرة المعزية (ص 108 ج 2) قال: كان أوّل الخليج الكبير عند وضع القاهرة بجانب خط السبع سقايات وكان ما بين هذا الخط وبين المعاريج بمدينة مصر (مصر القديمة) غامرا بماء النيل.
ولما تكلم على قناطر الخليج الكبير (ص 146 ج 2) قال: ان قنطرة ابن مروان كانت فى طرف الفسطاط بالحمراء القصوى بناها عبد العزيز بن مروان والى مصر فى سنة 69 هـ. وموضعها خلف السبع سقايات على فم الخليج الكبير وكان المرور على هذه القنطرة بين الحمراء القصوى وجنان الزهرى.
ولما تكلم على حكر أقبقا (ص 116 ج 2) قال: وفى هذا الحكر تقع قنطرة عبد العزيز بن مروان.
وقد تبيّن لى من البحث: (أوّلا) أن خط السبع سقايات هو الذي عرف فيما بعد بحكر أقبقا أى أن مكانهما واحد، وفقط اختلفت التسمية باختلاف الزمن والمناسبات. (ثانيا) أن حكر أقبقا مكانه اليوم المنطقة التى فيها حارة السيدة زينب وفروعها وجنينة لاظ وشوارعها. (ثالثا) أن النيل كان يجرى وقت فتح العرب لمصر فى الجهة الغربية من جنينة لاظ حيث الطريق المسماة شارع بنى الأزرق وما فى امتداده جنوبا وشمالا. (رابعا) أن فم الخليج المصرى كان فى ذاك الوقت واقعا حذاء مدخل الشارع المذكور من جهة شارع الخليج.(7/387)
ومما ذكر يتضح أن قنطرة عبد العزيز بن مروان التى كانت على فم الخليج الكبير مكانها اليوم النقطة الواقعة بشارع الخليج المصرى تجاه مدخل حارة حكر أقبقا بأرض جنينة لاظ التى هى جزء من حكر أقبقا، وهذا الخط هو الجزء الشمالى من الحمراء القصوى ويقابله على الشاطئ الأيسر للخليج أرض جنان الزهرى حيث خط الناصرية الآن وما فى امتداده إلى شارع غيط العدة.
بستان الخشاب
بما أن الشرح الخاص بتحديد هذا البستان المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع من هذه الطبعة جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
تكلم المقريزى على هذا البستان فى جملة مواضع بالجزء الثانى من خططه فذكره عند الكلام على ظواهر القاهرة المعزية (ص 108) وعلى بر الخليج الغربى (ص 113) وعلى الخليج الناصرى (ص 145) وعلى قنطرة السد (ص 146) وعلى قنطرة الفخر (ص 148) وعلى الميدان الناصرى (ص 200) وعلى حكر الست حدق (ص 116) ويستفاد مما ذكر فى المواضع المذكورة البيان الآتى:
(أوّلا) أن بستان الخشاب كان واقعا فى المنطقة التى تحدّ اليوم من الشمال بشوارع المبتديان ومضرب النشاب والبرجاس والجزء الغربى من شارع إسماعيل باشا إلى النيل. ومن الغرب نهر النيل. ومن الجنوب مستشفى قصر العينى وشارع بستان الفاضل وما فى امتداده من الجهة الشرقية إلى شارع الخليج المصرى. ومن الشرق شارع الخليج المصرى وشارع سعد الدين إلى أن يتقابل مع الحد البحرى.
(ثانيا) أن هذا البستان كان منقسما إلى قسمين الشرقى منهما وهو الواقع بين شارع المنيرة وشارع الخليج المصرى وكان يعرف بالمريس حيث كان يسكنه طائفة من السودان وبه يتخذون المزر وهو نوع من البوظة يسميه أهل السودان المريسة، والقسم الغربى وهو الواقع بين شارع المنيرة وشاطئ النيل كان يعرف(7/388)
بالميدان الناصرى، ومكانه اليوم خط القصر العالى المسمى «جاردن ستى» وكان بالجهة الجنوبية من هذا الميدان على شاطئ سيالة جزيرة الروضة عند كوبرى محمد على يوجد مواقع فم الخليج الناصرى وقنطرة الفخر وموردة الجبس وموردة البلاط.
أرض الطبّالة
بما أن الشرح الخاص بتحديد هذه الأرض المدرج فى صفحة 12 بالجزء الخامس من هذه الطبعة جاء غير واف بالنسبة للحد الغربى للأرض المذكورة فيستبدل به الشرح الآتى:
يستفاد مما ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على جزيرة الفيل (ص 185 ج 2) أن أرض الطبالة كانت ممتدّة إلى شاطئ النيل القديم تجاه جزيرة الفيل التى كانت وسط النيل. ومكانها اليوم منطقة شبرا بالقاهرة. ومن هذا يتضح أن أرض الطبالة كانت واقعة فى المنطقة التى تحدّ اليوم من الشرق بشارع الخليج المصرى. ومن الشمال بشارع الظاهر فشارع وقف الخربوطلى وما فى امتداده حتى يتقابل بشارع مهمشة. ومن الغرب بشارع غمرة إلى محطة كوبرى الليمون فميدان محطة مصر إلى ميدان باب الحديد حيث كان النيل يجرى قديما. ومن الجنوب بشارع الفجالة وسكة الفجالة ويدخل فيها الآن محطة كوبرى الليمون والفجالة وبركة الرطلى. وباقى الشرح الوارد بالجزء الخامس صحيح.
تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية على اختلاف أنواعها، والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.(7/389)
استدراكات على الجزء السادس من النجوم الزاهرة
نبّهنا إليها الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان من علماء دمشق قنسدى إليه جزيل الشكر (1) ورد فى ص 35 س 15: «تسلّم أصحابه مدينة غزة وبيت جبريل والماطرون» وذكرنا فى الحاشية رقم 3 أن تصويبه الماطرون عن شرح القاموس ومعجم البلدان لياقوت. والصواب أنه النطرون بالنون، لأن الماطرون اسم موضعين بالقرب من دمشق، وفتوحات صلاح الدين كانت فى فلسطين، كما فى سيرة صلاح الدين والروضتين وتاريخ أبى الفدا وتاريخ ابن الوردى فى حوادث سنة 583 هـ.
(2) ورد فى ص 99 س 11 و 12: «وبنت تربة بقاسيون على نهر بردى» .
وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 5 أن «بردى نهر بدمشق» . وصوابه: «وبنت تربة بقاسيون على نهر يزيد» ، لأنّ نهر بردى لا يمرّ بقاسيون، وإنما يمرّ به نهر يزيد.
ولا تزال هذه التربة حتى اليوم على حافة نهر يزيد (راجع شذرات الذهب فى حوادث سنة 581 هـ) .
(3) ورد فى ص 121 س 9: «بمرج عدواء» . وعلقنا عليها فى الحاشية رقم 9 نقلا عن ابن الأثير رواية أخرى: «أنه بمرج الريحان» . وصوابه:
«بمرج عذراء» وهو مرج مشهور خارج دمشق قرب قرية يقال لها عذراء، كما فى شرح القاموس مادّة «مرج» .
(4) ورد فى ص 150 س 5: «وأما الأفضل فإنه سار إلى مصر فأرسل العادل وراءه أبا محمد نجيب الدين إليه بالزبدائى» . وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 2 بأن الزبدانى: نهر بدمشق. وصوابه: الزبدانى: كورة مشهورة معروفة بين دمشق وبعلبك (راجع تقويم البلدان لأبى الفدا إسماعيل ومعجم البلدان لياقوت) .(7/390)
(5) ورد فى ص 218 س 11: «ودفن بقاسيون» . وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 3 بأن زواية الأصلين: «مات بقاسيون» وما أثبتناه عن شذرات الذهب وعقد الجمان. وتعتبر قاسيون مقبرة دمشق. والصواب فى ذلك أن قاسيون:
جبل شمالى دمشق يطل عليها. وفى عصر نور الدين الأتابكى هاجرت طائفة من المقادسة هربا من إرهاق الصليبين لهم فسكنوا هذا الجبل وبنوا فيه دورا ومساجد فأصبح إحدى ضواحى دمشق التى لها مقبرة لا أنه مقبرة فقط فعليه تكون عبارة الأصلين صحيحة.
(6) ورد فى ص 240 س 16: «فلما كان الغد أقبلت الأطلاب» وذكرنا فى الحاشية رقم 6 أن الأطلاب: العساكر. ونزيد عليه أن الأطلاب لفظة استعملت فى كتب التاريخ من عصر نور الدين الأتابكى إلى آخر أيام دولة المماليك الشراكسة، ويراد بها فرق الجيش وكتائبه، والظاهر أنه مشتق من طلب الشيء إذا حاول أخذه فهو طالب وجمعه طلب وجمع الطلب أطلاب، ويدلّ على ذلك ما جاء فى ص 293 من هذا الجزء: «قطع التتار دجلة فى مائة طلب، كل طلب فى خمسمائة فارس» .
(7) ورد فى ص 266 ص 4: «ودفن بقرب الصليحية» . وذكرنا فى الحاشية رقم 1 رواية أخرى نقلا عن شذرات الذهب: «بقرب القليجية» .
وصوابه ما ورد فى شذرات الذهب. والقليجية: مدرسة بدمشق معروفة، تنسب إلى قليج أرسلان.
(8) ورد فى ص 268 س 4 فى الكلام على ترجمة الملك المعظم عيسى:
«ودفن مع والدته فى القبة عند الباب» وعلقنا على ذلك فى الحاشية رقم 1 نقلا عن ابن خلكان بأنه: نقل إلى تربته فى مدرسته التى أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير» . وعلقنا أيضا فى الحاشية رقم 2 نقلا عن ابن خلكان وشذرات الذهب أنه: «دفن خارج باب النصر أحد(7/391)
أبواب دمشق فى مدرسة شمس الدولة» . وكلا التعليقين خطأ. وصوابه أن الملك المعظم عيسى دفن فى مدرسته التى أنشأها بصالحية دمشق. وبالرجوع إلى تاريخ ابن خلكان وجدناه بعد أن انتهى من ترجمة الملك المعظم عيسى يقول: «وتوفى عز الدين أيبك صاحب صرخد، إلى أن قال: ودفن خارج باب النصر فى مدرسة شمس الدولة وحضرت الصلاة عليه ودفنه ثم نقل إلى تربته فى مدرسته التى أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير» . ولا يخفى أن هذا الكلام الذي أدمجه ابن خلكان فى ترجمة الملك المعظم عيسى على عز الدين أيبك (راجع ابن خلكان فى ترجمة الملك المعظم عيسى وشذرات الذهب فى حوادث سنة 624 هـ) .
(9) ورد فى ص 317 س 3 «وإمام الربوة» وعلقنا على ذلك فى الحاشية رقم 3: «يريد ربوة دمشق وهى مغارة لطيفة الخ» . وصوابه: «وبالربوة مغارة لطيفة ... الخ» راجع نزهة الأنام فى محاسن الشام، نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1642 تاريخ) .
(10) ورد فى ص 329 س 7: «ودام الحصار إلى أن قدم البادرانى للصلح» وذكرنا فى الحاشية رقم 1 أن البادرانى، نسبه إلى بادران: قرية بأصبهان.
وهو عز الدين رسول الخليفة، قدم للصلح بين الملك الصالح نجم الدين والحلبيين.
وصوابه: «البادرائىّ» بالهمزة. وهو نجم الدين أبو محمد عبد الله بن أبى الوفا الشافعى الفرضى الذي قدم من عند المستنصر للصلح. وقال السيوطى فى لب اللباب فى تحرير الأنساب: «البادرائى» : نسبة إلى بادرايا،: قرية من عمل واسط» . وراجع شذرات الذهب ج 5 ص 269 فى حوادث سنة 655 هـ وتنبيه الطالب للعليمىّ.(7/392)
[الجزء الثامن]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء الثامن من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 690]
ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر
هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ، جلس على تخت الملك يوم وفاة أبيه فى يوم الأحد سابع «1» ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. وكان والده قلاوون قد سلطنه فى حياته بعد موت أخيه الملك «2» الصالح علىّ بن قلاوون فى سنة سبع وثمانين وستمائة، والمعتدّ به جلوسه الآن على تخت الملك بعد موت أبيه. وجدّد له الأمراء والجند الحلف فى يوم الاثنين ثامن ذى القعدة المذكور. وطلب من القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده «3» ، فأخرجه إليه مكتوبا بغير علامة الملك المنصور، وكان(8/3)
ابن عبد الظاهر قد قدّمه إليه ليعلّم عليه فلم يرض، وتقدّم طلب الأشرف وتكرّر؛ وابن عبد الظاهر يقدّمه إلى الملك المنصور، والمنصور يمتنع إلى أن قال له:
يا فتح الدين، أنا ما أولّى خليلا على المسلمين! ومعنى ذلك أنّ الملك المنصور قلاوون كان قد ندم على توليته السلطنة من بعده. فلمّا رأى الأشرف التقليد بلا علامة، قال: يا فتح الدين، السلطان امتنع أن يعطينى وقد أعطانى الله! ورمى التقليد من يده وتمّ أمره، ورتّب أمور الديار المصريّة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار، وأرسل الخلع إلى النوّاب بالبلاد الشامية.
وهو السلطان الثامن من ملوك الترك وأولادهم. ثم خلع على أرباب وظائفه بمصر، والذين خلع عليهم من الأعيان: الأمير بدر الدين بيدرا «1» المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة، ووزيره ومدبّر مملكته شمس الدين محمد بن السّلعوس الدّمشقىّ، وهو فى الحجاز الشريف. وعلى بقيّة أرباب وظائفه على العادة والنوّاب بالبلاد الشاميّة يوم ذاك. فكان نائبه بدمشق وما أضيف إليها من الشام الأمير حسام الدين لاچين «2» المنصورىّ. ونائب السلطنة بالممالك الحلبيّة وما أضيف إليها الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ. ونائب الفتوحات الساحليّة والأعمال الطرابلسيّة والقلاع الإسماعيليّة «3» الأمير سيف الدين بلبان «4» السّلحدار المعروف بالطبّاخى.
ونائبه بالكرك والشوبك وما أضيف إلى ذلك الأمير ركن الدين بيبرس «5» الدّوادار المنصورىّ، صاحب التاريخ المعروف «بتاريخ بيبرس الدوادار» . وصاحب حماة(8/4)
والمعرّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور محمد الأيّوبىّ. والذين هم تحت طاعته من الملوك صاحب مكّة المشرّفة الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد بن إدريس «1» بن علىّ بن قتادة الحسنىّ، وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس «2» الدين يوسف ابن عمر، فهؤلاء الذين أرسل إليهم بالخلع والتقاليد. انتهى.
ولمّا رسخت قدم الملك الأشرف هذا فى الملك أخذ وأعطى وأمر ونهى؛ وفرّق الأموال وقبض على جماعة من حواشى والده، وصادرهم على ما يأتى ذكره.
ولمّا استهلّت سنة تسعين وستّمائة أخذ الملك الأشرف فى تجهيزه «3» إلى السّفر للبلاد الشاميّة، وإتمام ما كان قصده والده من حصار عكّا، وأرسل إلى البلاد الشاميّة وجمع العساكر وعمل آلات الحصار، وجمع الصّنّاع إلى أن تمّ أمره، خرج بعساكره من الديار المصريّة فى ثالث شهر ربيع الأوّل من سنة تسعين المذكورة، وسار حتّى نازل عكّا فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر، ويوافقه خامس نيسان «4» ، فاجتمع عنده على عكّا من الأمم ما لا يحصى كثرة. وكان المطّوّعة أكثر من الجند ومن فى الخدمة. ونصب عليها المجانيق «5» الكبار الفرنجيّة خمسة عشر منجنيقا، منها ما يرمى بقنطار دمشقىّ وأكبر، ومنها دونه. وأمّا المجانيق الشيطانيّة(8/5)
وغيرها فكثيرة «1» ، ونقب عدّة نقوب. وأنجد أهل عكّا صاحب قبرس «2» بنفسه وفى ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانا عظيمة لم ير مثلها فرحا به، وأقام عندهم قريب ثلاثة أيام، ثم عاد عند ما شاهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم. ولم يزل الحصار عليها والجدّ فى أمر قتالها إلى أن انحلّت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم.
هذا والحصار عمّال فى كلّ يوم، واستشهد عليها جماعة من المسلمين.
فلمّا كان سحر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس، وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحسّ عظيم مزعج، فحال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف، ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلّا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها؛ وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلاميّة تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلّا القليل؛ ونهب ما وجد من الأموال والذخائر والسلاح وعمل الأسر والقتل فى جميع أهلها، وعصى الدّيويّة «3» والإسبتار «4» واستتر الأرمن فى أربعة أبراج شواهق فى وسط البلد فحصروا فيها.
فلمّا كان يوم السبت ثامن «5» عشر الشهر، وهو ثانى يوم فتح المدينة، قصد جماعة من الجند وغيرهم الدار والبرج الذي فيه الدّيويّة فطلبوا الأمان فأمّنهم السلطان وسيّر لهم صنجقا، فأخذوه ورفعوه على برجهم وفتحوا الباب، فطلع إليهم جماعة(8/6)
كثيرة من الجند وغيرهم، فلمّا صاروا عندهم تعرّض بعض الجند والعوامّ للنهيب، ومدّوا أيديهم إلى من عندهم من النساء والأصاغر، فغلّق الفرنج الأبواب ووضعوا فيهم السيف، فقتلوا جماعة من المسلمين، ورموا الصّنجق وتمسّكوا بالعصيان وعاد الحصار عليهم. وفى اليوم المذكور نزل من كان ببرج الإسبتار الأرمن بالأمان فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على يد الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ، وتمّ القتال على برج الدّيويّة ومن عنده إلى يوم الأحد التاسع عشر «1» من جمادى الأولى طلب الدّيويّة ومن بقى فى الأبراج «2» الأمان، فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على أن يتوجّهوا حيث شاءوا. فلما خرجوا قتلوا منهم فوق الألفين وأسروا مثلهم، وساقوا إلى باب الدّهليز النساء والصّبيان، وكان من جملة حنق السلطان عليهم مع ما صدر منهم أن الأمير آقبغا المنصورىّ أحد أمراء الشام كان طلع إليهم فى جملة من طلع فأمسكوه وقتلوه، وعرقبوا ما عندهم من الخيول، وأذهبوا ما أمكنهم إذهابه؛ فتزايد الحنق عليهم. وأخذ الجند وغيرهم من السّبى والمكاسب ما لا يحصى.
ولمّا علم من بقى منهم ما جرى على إخوانهم تمسّكوا بالعصيان، وامتنعوا من قبول الأمان وقاتلوا أشدّ قتال، واختطفوا خمسة نفر من المسلمين ورموهم من أعلى البرج فسلم منهم نفر واحد ومات الأربعة. ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين «3» جمادى المذكورة أخذ البرج الذي تأخّر بعكا، وأنزل من فيه بالأمان، وكان قد غلّق من سائر جهاته. فلمّا نزلوا منه وحوّلوا معظم ما فيه سقط على جماعة من المسلمين المتفرّجين وممّن قصد النّهب فهلكوا عن آخرهم. ثمّ بعد ذلك عزل السلطان النساء والصّبيان(8/7)
ناحية وضرب رقاب الرجال أجمعين وكانوا خلائق كثيرة. والعجب أن الله سبحانه وتعالى قدّر فتح عكّا فى مثل اليوم الذي أخذها الفرنج فيه، ومثل الساعة التى أخذوها فيها، فإنّ الفرنج كانوا استولوا على عكّا فى يوم الجمعة سابع عشر «1» جمادى الآخرة [سنة سبع «2» وثمانين وخمسمائة] فى الساعة الثالثة من النهار، وأمّنوا من كان بها من المسلمين ثم قتلوهم غدرا، وقدّر الله تعالى أنّ المسلمين استرجعوها منهم فى هذه المرّة يوم الجمعة فى الساعة الثالثة من النهار، ووافق السابع عشر «3» من جمادى الأولى، وأمّنهم السلطان ثمّ قتلهم كما فعل الفرنج بالمسلمين، فانتقم الله تعالى من عاقبتهم.
وكان السلطان عند منازلته عكّا قد جهّز جماعة من الجند مقدّمهم الأمير علم الدين سنجر الصّوابى الجاشنكير إلى صور لحفظ الطّرق وتعرّف الأخبار، وأمره بمضايقة صور. فبينما هو فى ذلك لم يشعر إلّا بمراكب المنهزمين من عكّا قد وافت الميناء التى لصور، فحال بينها وبين الميناء؛ فطلب أهل صور الأمان فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلّموا صور فأجيبوا إلى ذلك، فتسلّمها. وصور من أجلّ الأماكن ومن الحصون المنيعة، ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب فيما فتح من الساحل، بل كان صلاح الدين كلّما فتح مكانا وأمّنهم أوصلهم إلى صور هذه لحصانتها ومنعتها، فألقى الله تعالى فى قلوب أهلها الرّعب حتّى سلّموها من غير قتال ولا منازلة، ولا كان الملك الأشرف فى نفسه شىء من أمرها البتّة.
وعند ما تسلّمها جهّز إليها من أخربها وهدم أسوارها وأبنيتها، ونقل من رخامها وأنقاضها شىء كثير. ولمّا تيسر أخذ صور على هذه الصورة قوى عزم الملك(8/8)
الأشرف على أخذ غيرها. ولمّا كان الملك الأشرف محاصرا لعكّا استدعى الأمير حسام الدين لا چين المنصورىّ نائب الشام، وهو الذي تسلطن بعد ذلك حسب ما يأتى ذكره، والأمير ركن الدين بيبرس المعروف بطقصو فى ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى إلى المخيّم وأمسكهما وقيّدهما، وجهّزهما فى بكرة نهار الاثنين إلى قلعة صفد، ومنها إلى قلعة الجبل. وكان تقدّم قبل ذلك بستّة أيام مسك الأمير سنجر المعروف بأبى خرص وجهّزه إلى الديار المصريّة محتاطا عليه. ثم استقرّ الملك الأشرف بالأمير علم الدين سنجر «1» الشّجاعى المنصورىّ فى نيابة الشام عوضا عن الأمير لاچين المذكور.
وعند ما أمسك الأشرف هذين الأميرين الكبيرين حصل للناس قلق شديد وخشوا من حدوث أمر يكون سببا لتنفيس الخناق عن أهل عكّا، فكفى الله تعالى ذلك.
ثم أمسك الأشرف الأمير علم الدين «2» أيدغدى الإلدكزىّ نائب صفد وما معها لأمر نقمه عليه وصادره، وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدكين «3» الصالحىّ العمادىّ، وأضاف إليه مع ولاية صفد عكّا وما استجد من الفتوحات الأشرفيّة. ثم «4» لما فرغ الأشرف من مصادرة أيدكين المذكور ولّاه برّصفد عوضا عن علم الدين سنجر الصّوابىّ. ثم استدعى الملك الأشرف الأمير بيبرس الدّوادار المنصورى الخطائى المؤرّخ نائب الكرك وعزله، وولّى عوضه الأمير آقوش «5» الأشرفىّ. ثم رحل الملك الأشرف عن عكّا فى بكرة نهار الاثنين خامس جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الاثنين ثانى(8/9)
عشره بعد أن زيّنت له دمشق غاية الزينة، وعملت القباب بالشوارع من قريب المصلّى «1» إلى الباب «2» الجديد، وحصل من الاحتفال لقدومه ما لا يوصف، ودخل وبين يديه الأسرى من الفرنج تحتهم الخيول وفى أرجلهم القيود، ومنهم الحامل من سناجق الفرنج المنكّسة، وفيهم من حمل رمحا عليه من رءوس قتلى الفرنج؛ فكان لقدومه يوم عظيم. وأقام الأشرف بدمشق إلى فجر نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رجب. وعاد إلى الديار المصريّة فدخلها يوم الاثنين تاسع شعبان؛ فاحتفل أيضا أهل مصر لملاقاته احتفالا عظيما أضعاف احتفال أهل دمشق، وعند دخوله إلى مصر أطلق رسل صاحب عكّا الذين كانوا معوّقين بالقاهرة. ثم إنّ الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ نائب الشام فتح صيدا بعد حصار كبير بالأمان فى يوم السبت خامس عشر شهر رجب. ولمّا أخذت هذه البلاد فى هذه السنة أمر السلطان أن تخرّب قلعة جبيل وأسوارها بحيث يلحقها بالأرض فخرّبت أصلا؛ ثم أخذت عثليث «3» بعد شهر.
وأمّا أهل أنطرطوس لمّا بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب، فجرّد الأمير سيف الدين بلبان الطّباخى عسكرا، فلمّا أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان(8/10)
ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة أرواد «1» ، وهى بالقرب منها، فندب إليها السّعدىّ بما كان أحضره من المراكب والشوانى فأخلوها. وكان فتح هذه المدن الستّ فى ستة شهور.
ثم رسم الملك الأشرف بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادار؛ فقبض عليه فى شهر رمضان، وجهّز الى الديار المصريّة بعد أن أحيط على جميع موجوده، ثم أفرج الملك الأشرف على جماعة من الأمراء ممّن كان قبض عليهم وحبسهم.
وهم: الأمير لا چين المنصورىّ الذي تسلطن بعد ذلك، وبيبرس طقصو الناصرىّ، وسنقر الأشقر الصالحىّ، وبدر الدين بيسرى الشمسىّ، وسنقر الطويل المنصورىّ، وبدر الدين خضر بن جودى القيمرىّ. وفى شهر رمضان سنة تسعين وستمائة المذكورة أنعم السلطان الملك الأشرف على علم الدين سنجر المنصورىّ المعروف بأرجواش خبزا وخلع عليه وأعيد إلى ولاية قلعة دمشق. ثم طلب الملك الأشرف قاضى القدس بدر الدين «2» محمد بن إبراهيم بن جماعة إلى الديار المصرية وولّاه قضاءها بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين «3» ابن بنت الأعز. واستمرّ الملك الأشرف بالديار المصريّة إلى أن تجهّز وخرج منها قاصدا البلاد الشامية فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم السبت سادس جمادى الأولى. وفى ثامن جمادى الأولى أحضر السلطان الأموال وأنفق فى جميع العساكر المصريّة والشامية. ووصل الملك المظفر تقىّ الدين صاحب(8/11)
حماة لتلقّى الملك الأشرف فالتقاه فزاد السلطان فى إكرامه، واستعرض الجيوش عليه وأمر بتسفيرهم قدّام الملك المظفّر المذكور. ثم توجّه الملك الأشرف من دمشق بجميع العساكر قاصدا حلب، فوصلها فى ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم خرج منها ونزل على قلعة الروم بعساكره وحاصرها إلى أن افتتحها بالسيف عنوة فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب، وكتب البشائر إلى الأقطار بأخذها. ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك بقلعة الروم الشّجاعىّ وعساكر الشام ليعمّروا ما انهدم منها فى الحصار.
وكان دخول السلطان إلى دمشق فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان بعد أن عزل الأمير قرا سنقر المنصورىّ عن نيابة حلب بالأمير بلبان الطبّاخى، وولّى عوضا عن الطّباخى فى الفتوحات طغريل الإيغانى. ولمّا كان السلطان بدمشق عمل عسكره النّوروز كعادتهم بالديار المصريّة، وعظم ذلك على أهل دمشق لعدم عادتهم بذلك.
وفى يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وعلى الأمير ركن الدين طقصو، وهرب الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ ونادوا عليه بدمشق: من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق.
ثمّ ركب الملك الأشرف ومماليكه فى طلب لاچين المذكور، وأصبح يوم العيد والسلطان فى البرية مهجّج، وكانوا عملوا السّماط كجارى العادة فى الأعياد، وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر وطلع الخطيب موفّق «1» الدين فصلّى فى الميدان بالعوامّ، وعاد السلطان بعد صلاة العصر إلى دمشق، ولم يقع للاچين على خبر. ثم سيّر الملك الأشرف طقصو وسنقر الأشقر تحت الحوطة إلى الديار المصريّة. وأمّا لاچين فإنّ العرب أمسكوه وأحضروه إلى الملك الأشرف فأرسله الملك الأشرف مقيّدا(8/12)
إلى مصر. وفى سادس شوّال ولّى السلطان الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ نيابة دمشق عوضا عن الشّجاعىّ.
ثم خرج الأشرف من دمشق قاصدا الديار المصريّة فى ليلة الثلاثاء عاشر شوّال، وكان قد رسم الأشرف لأهل الأسواق بدمشق وظاهرها أنّ كلّ صاحب حانوت يأخذ بيده شمعة ويخرج إلى ظاهر البلد، وعند ركوب السلطان يشعلها؛ فبات أكثر أهل البلد بظاهر دمشق لأجل [الوقدو «1» ] الفرجة! فلمّا كان الثّلث الأخير من الليل ركب السلطان وأشعلت الناس الشموع، فكان أوّل الشمع من باب النصر وآخر الوقيد عند مسجد القدم «2» ، لأنّ والى دمشق كان قد رتّبهم من أوّل الليل، فكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها. وسافر السلطان حتّى دخل الديار المصريّة يوم الأربعاء ثانى ذى القعدة من باب النصر وخرج من باب زويلة، واحتفل أهل مصر لدخوله احتفالا عظيما، وكان يوم دخوله يوما مشهودا. ولمّا أن طلع السلطان إلى قلعة الجبل أنعم على الأمير قرا سنقر المنصورىّ المعزول عن نيابة حلب بإمرة مائة فارس بديار مصر. ثم أفرج عن الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ وأعطاه أيضا خبز مائة فارس بديار مصر، وسببه أنّ السلطان عاقب سنقر الأشقر وركن الدين طقصو فاعترفوا أنّهم كانوا يريدون قتله، وأنّ لا چين لم يكن معهم ولا كان له اطّلاع على الباطن فخنقهم وأفرج عن لاچين بعد ما كان وضع الوتر فى حلقه لخنقه، فضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا المنصورىّ نائب السلطان، وعلم الدين سنجر الشجاعىّ وغيرهما.(8/13)
قلت وسنقر الأشقر هو الذي كان تسلطن بدمشق فى أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون، ووقع له معه تلك الأمور المذكورة فى عدّة أماكن. وأمّا لاچين هذا فهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقّب بالملك المنصور حسب ما يأتى ذكره.
وكلّما ذكرنا من حينئذ لاچين فهو المنصور ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.
ثم إنهم أخرجوا الأمراء المخنّقين وسلّموهم إلى أهاليهم، وكان السلطان خنق معهما ثلاثة أمراء أخر فأخرجوا الجميع ودفنوا؛ ثم غرّق السلطان جماعة أخرى، وقيل إنّ ذلك كان فى مستهلّ سنة اثنتين وتسعين وستّمائة. واستمرّ السلطان بمصر إلى أن تجهّز وخرج منها إلى الشام فى جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة المذكورة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة؛ ونزل بالقصر «1» الأبلق من الميدان الأخضر.
ولمّا استقر ركابه بدمشق شرع فى تجهيز العساكر إلى بلاد سيس «2» والغارة عليها، فوصل رسل صاحب سيس بطلب الصلح ورضا السلطان عليه، ومهما طلب منه من القلاع والمال أعطاه وشفع الأمراء فى صاحب سيس، واتّفق الحال على أن يتسلّم نوّاب السلطان من صاحب سيس ثلاث قلاع، وهى:
بهسنا»
ومرعش «4» وتلّ حمدون «5» ففرح الناس بذلك، لأنه كان على المسلمين من بهسنا(8/14)
أذّى عظيم. وأقام السلطان بدمشق إلى مستهلّ شهر رجب توجّه منها، وصحبته عسكر الشام والأمراء وبعض عساكر مصر. وأمّا الضعفاء من عسكر مصر فأعطاهم السلطان دستورا بعودتهم إلى الديار المصريّة. وسار السلطان حتّى وصل إلى حمص، ثم توجّه منها إلى سلمية «1» مظهرا أنّه متوجّه إلى ضيافة الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى بن مهنّا أمير آل فضل، وكان خروج السلطان من دمشق فى ثانى شهر رجب، فلمّا كان بكرة يوم الأحد سابع شهر رجب وصل الأمير لاچين وصحبته مهنّا إلى دمشق وهو مقبوض عليه، أمسكه السلطان لمّا انقضت الضيافة وولّى غوضه شخصا من أولاد عمّه، وهو الأمير محمد بن علىّ بن حذيفة. وفى بقيّة النهار وصل السلطان إلى دمشق، ورسم للأمير بيدرا أن يأخذ بقيّة العساكر ويتوجّه إلى مصر، وأن يركب تحت الصناجق عوض السلطان وبقى السلطان مع خواصّه بدمشق بعدهم ثلاثة أيام؛ ثم خرج من دمشق [فى يوم السبت «2» ثالث عشر رجب] وعاد إلى جهة الديار المصريّة فى العشر الأخير من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين وستمائة؛ ثم إن السلطان أمر الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ الأفرم أمير جاندار «3» نائب الشام أن يسافر إلى الشوبك ويخرّب قلعتها، فكلّمه الأفرم فى بقائها فانتهره، وسافر من يومه، وتوجّه الأفرم إلى الشّوبك وأخربها غير القلعة. وكان ذلك غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير، وكان أخرب قبل ذلك أيضا عدّة أماكن بقلعة الجبل،(8/15)
وبقلعة دمشق أيضا أخرب عدّة قاعات ومبانى هائلة. وأمّا قلاع السواحل فأخرب غالبها، وكان يقصد ذلك لمعنى يخطر بباله.
ثم فى العشرين من ذى الحجّة نصب السلطان ظاهر القاهرة خارج باب النصر القبق، وصفة ذلك أن ينصب صار طويل ويعمل على رأسه قرعة من ذهب أو فضّة ويجعل فى القرعة طير حمام، ثمّ يأتى الرامى بالنّشّاب وهو سائق فرسه ويرمى عليه، فمن أصاب القرعة وطيّر الحمام خلع عليه خلعة تليق به، ثم يأخذ القرعة. وكان ذلك بسبب طهور أخى الملك الأشرف؛ وهو الملك الناصر محمد بن قلاوون، وطهور ابن أخيه الأمير مظفّر الدين موسى ابن الملك الصالح علاء الدين علىّ بن قلاوون، فآحتفل السلطان لطهورهما وعمل مهمّا عظيما. وكان الطهور فى يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجّة. وعند ما طهّروهم رموا الأمراء الذهب لأجل النّقوط؛ فإن كان الأمير أمير مائة فارس رمى مائة دينار، وإن كان أمير خمسين فارسا رمى خمسين دينارا، وقس على ذلك سائر الأمراء؛ ورمى حتى مقدّمو الحلقة والأجناد، فجمع من ذلك شىء كثير؛ وهو آخر فرح عمله الأشرف هذا.
ثم بعد فراغ المهمّ بمدّة يسيرة، نزل السلطان الملك الأشرف المذكور من قلعة الجبل متوجّها إلى الصّيد فى ثانى المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وصحبته وزيره الصاحب شمس الدين بن السّلعوس، ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا وجميع الأمراء، فلمّا وصل إلى الطّرّانة «1» فارقه وزيره ابن السّلعوس المذكور وتوجّه إلى الإسكندرية.(8/16)
وأمّا السلطان فإنّه نزل بالحمّامات «1» لأجل الصّيد، وأقام إلى يوم السبت ثانى عشر المحرّم. فلمّا كان قرب العصر وهو بأرض تروجة «2» حضر إليه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة ومعه جماعة كثيرة من الأمراء؛ وكان السلطان بكرة النهار قد أمره أن يأخذ العسكر والدّهليز ويمشى عوضه تحت الصناجق وأن يتقدّمه، ويبقى السلطان يتصيّد وحده بقيّة يومه ويعود العشيّة إلى الدّهليز، فتوجّه بيدرا على ذلك؛ وأخذ السلطان الملك الأشرف يتصيّد ومعه شخص واحد يقال له شهاب الدين [أحمد بن «3» ] الأشلّ أمير شكار «4» ، وبينما السلطان فى ذلك أتاه هؤلاء: بيدرا ورفقته، فأنكر السلطان مجيئهم، وكان فى وسط السلطان بند حرير وليس معه بمجة «5» لأجل الصيد، وكان أوّل من ابتدره الأمير بيدرا فضربه بالسيف ضربة قطع بها يده مع كتفه، فجاء الأمير حسام الدين لاچين، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة، وقال لبيدرا: يا نحس! من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته! ثمّ ضربه على كتفه فحلّها، ووقع السلطان على الأرض، فجاء بعدهما الأمير بهادر رأس نوبة «6» ، وأخذ السيف ودسّه فى دبره وأطلعه من حلقه، وبقى يجيء واحد من الأمراء بعد(8/17)
واحد ويظهرون ما فى أنفسهم منه، ثم تركوه فى مكانه وانضموا على الأمير بيدرا وحلفوا له، وأخذوه تحت الصناجق وركبوا سائرين بين يديه طالبين القاهرة.
وقيل فى قتله وجه آخر.
قال القطب اليونينىّ: «ومما حكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار:
كيف كان قتل السلطان الملك الأشرف خليل؟ قال: سألت الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشلّ أمير شكار السلطان، كيف كان قتل السلطان الأشرف؟ فقال [ابن] الأشلّ: بعد رحيل الدّهليز (يعنى مدورة السلطان والعساكر) جاء إليه الخبر أنّ بتروجة طيرا كثيرا، فقال السلطان: امش بنا حتى نسبق الخاصّكيّة «1» ، فركبنا وسرنا، فرأينا طيرا كثيرا فرماه السلطان بالبندق، فأصرع شيئا كثيرا، ثم إنّه التفت إلىّ وقال: أنا جيعان «2» ، فهل معك شىء تطعمنى؟ فقلت: والله ما معى سوى فرّوجة ورغيف خبز، قد ادّخرته لنفسى فى صولقى «3» ، فقال لى: ناولنى إيّاه، فأخذه وأكله جميعه، ثم قال لى: أمسك لى فرسى حتّى أنزل وأريق الماء، فقلت له:
ما فيها حيلة! أنت راكب حصانا وأنا راكب حجرة «4» وما يتفقوا، فقال لى: انزل أنت واركب خلفى وأركب أنا الحجرة التى لك، والحجرة مع الحصان تقف، قال:
فنزلت وناولته لجام الحجرة، ثم إنّى ركبت خلفه، ثمّ إنّ السلطان نزل وقعد يريق الماء، وشرع يولغ بذكره ويمازحنى، ثم قام وركب حصانه ومسك لى الحجرة، ثم إنّى ركبت. فبينما أنا وإيّاه نتحدّث وإذا بغبار عظيم قد ثار وهو قاصد نحونا، فقال لى السلطان: سق واكشف لى خبر هذا الغبار، قال: فسقت، وإذا الأمير(8/18)
بدر الدين بيدرا والأمراء معه، فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردّوا علىّ جوابا ولا التفتوا إلى كلامى، وساقوا على حالهم حتّى قربوا من السلطان، فكان أوّل من ابتدره بيدرا بالضّربة قطع بها يده وتمّم الباقى قتله» . انتهى.
وأمّا أمر بيدرا فإنّه لمّا قتل السلطان بايع الأمراء بيدرا بالسلطنة ولقّبوه بالملك الأوحد وبات تلك الليلة، فإنّ قتل الأشرف كان بين الظّهر والعصر.
وأصبح ثانى يومه سار بيدرا بالعساكر إلى نحو الديار المصريّة؛ وبينما بيدرا سائر بعساكره وإذا بغبار عظيم قد علا وملأ الجوّ وقرب منه، وإذا بطلب عظيم فيه نحو ألف وخمسمائة فارس من الخاصّكيّة الأشرفيّة، ومعهم الأمير زين الدين كتبغا، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة على ما يأتى ذكره. والأمير حسام الدين الأستادار طالبين بيدرا بدم أستاذهم السلطان الملك الأشرف خليل المذكور وأخذ الثّأر منه ومن أصحابه. وكان ذلك بالطرّانة فى يوم الأحد أوّل النهار، فما كان غير ساعة إلا والتقوا، وكان بيدرا لمّا رآهم صفّ من معه من أصحابه للقتال، فصدموه الأشرفيّة صدمة صادقة وحملوا عليه حملة واحدة فرّقوا شمله، وهرب أكثر من كان معه؛ فحينئذ أحاطوا ببيدرا وقبضوا عليه وحزّوا رأسه، وقيل: إنهم قطعوا يده قبل أن يحزّوا رأسه؛ كما قطعت يد أستاذهم الملك الأشرف بضربة السيف، ولمّا حزّوا رأسه حملوه على رمح وسيّروه إلى القاهرة، فطافوا به ثم عادوا نحو القاهرة حتى وصلوا برّ الجيزة، فلم يمكّنهم الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ من التعدية إلى برّ مصر، لأنّ السلطان الملك الأشرف كان قد تركه فى القلعة عند سفره نائب السلطنة بها، فلم يلتفتوا إليه وأرادوا التعدية؛ فأمر الشجاعىّ المراكب والشوانى فعدّت إلى برّ القاهرة، وبقى العسكر والأمراء على جانب البحر مقيمين حتى مشت بينهم الرّسل على أن يمكّنهم الشجاعىّ من العبور حتّى يقيموا عوض السلطان أخاه الملك(8/19)
الناصر محمد بن قلاوون وهو صغير، تسكينا لما وقع وإخمادا للفتنة، فأجلسوه على تخت الملك بقلعة الجبل فى رابع عشر المحرّم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة المذكورة، وأن يكون نائب السلطنة الأمير زين الدين كتبغا، والوزير الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ، وحسام الدين أستاذ الدار أتابك العساكر.
قلت: وساق الشيخ قطب الدين اليونينىّ واقعة الملك الأشرف هذا وقتله وقتل بيدرا بأطول من هذا؛ قال الشيخ قطب الدين:
«وحكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار أمير جاندار قال: كان السلطان الملك الأشرف قد أنفذنى فى أوّل النهار إلى الأمير بدر الدين بيدرا يأمره أن يأخذ العساكر ويسير بهم، فلمّا جئت إليه وقلت له: السلطان يأمرك أن تسير الساعة تحت الصناجق بالأمراء والعسكر، قال: فنفر فىّ بيدرا، ثم قال: السمع والطاعة؛ قال: ورأيت فى وجهه أثر الغيظ والحنق وقال: وكم يستعجلنى! فظهر فى وجهه شىء ما كنت أعهده منه؛ ثم إنّى تركته ومشيت حملت الزّردخاناه «1» والثّقل الذي لى وسرت، فبينما أنا سائر أنا ورفيقى الأمير صارم الدين الفخرىّ وركن الدين أمير جاندار عند المساء، وإذا بنجّاب سائر، فسألت عن السلطان أين تركته؟ فقال:
طوّل الله أعماركم فيه؛ فبينما نحن متحيّرون فى أمره، وإذا بالسناجق التى للسلطان قد لاحت وقربت والأمراء تحتها، والأمير بدر الدين بيدرا بينهم وهم محدقون به؛ قال: فجئنا وسلّمنا عليه، فقال له الأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ قال: نعم، إنّما قتلته بمشورتهم وحضورهم،(8/20)
وها هم كلّهم حاضرون، وكان من جملة من هو حاضر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، والأمير بدر الدين بيسرىّ، وأكثر الأمراء سائقون معه؛ قال: ثم إنّ بيدرا شرع يعدّد سيئّات السلطان ومخازيه ومناحسه وإهماله أمور المسلمين واستهزاءه بالأمراء ومماليك أبيه ووزارته لأبن السّلعوس، قال: ثم إنّه سألنا هل رأيتم الأمير زين الدين كتبغا؟ فقلنا له:
لا، فقال بعض الأمراء: يا خوند، هل كان عنده علم بالقضيّة؟ فقال: نعم، وهو أوّل من أشار بهذا الأمر.
فلمّا كان ثانى يوم وإذا بالأميرين «1» : زين الدين كتبغا وحسام الدين أستاذ الدار قد جاءوا فى طلب كبير فيه مماليك السلطان الملك الأشرف نحو من ألفى فارس وفيهم جماعة من العسكر والحلقة، فالتقوه بالطّرّانة يوم الأحد أوّل النهار. ثم ساق قطب الدين فى أمر الواقعة نحوا ممّا ذكرناه من أمر بيدرا وغيره، إلى أن قال:
وتفرّق جمع الأمير بيدرا. قال ابن المحفّدار: فلمّا رأينا مالنا بهم طاقة التجأنا إلى جبل هناك شمالىّ «2» ، واختلطنا بذلك الطّلب الذي فيه كتبغا، ورأينا بعض أصحابنا، فقال [لنا «3» ] : شدّوا بالعجلة مناديلكم فى رقابكم إلى تحت آباطكم، فهى الإشارة بيننا وإلّا قتلوكم أو شلحوكم، فعملنا «4» مناديلنا فى رقابنا إلى تحت آباطنا، وكان ذلك سبب سلامتنا، فحصل لنا به نفع كثير من جهة الأمير زين الدين كتبغا ومن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وسلمت بذلك أنفسنا وأثقالنا [وأهلونا «5» ] وأموالنا؛ ثم ظهر لهم أنّنا لم يكن لنا فى باطن القضيّة علم. قال: وسرنا إلى قلعة(8/21)
الجبل. وذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما نذكره فى ترجمته إن شاء الله تعالى فيما يأتى.
قال: ولمّا كان يوم خامس «1» عشرين المحرّم أحضر إلى قلعة الجبل أميران وهما سيف الدين بهادر رأس نوبة وجمال الدين آقوش الموصلىّ الحاجب، فحين حضروا اجتمعوا الأشرفيّة عليهم فضربوا رقابهم وعلّقوا رأس بهادر على باب «2» داره الملاصقة لمشهد الحسين «3» بالقاهرة. وبهارد هذا هو الذي حطّ السيف فى دبر الملك الأشرف بعد قتله وأخرجه من حلقه. ثم أخذوا جنّته وجثة آقوش وأحرقوهما فى قمين جير.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قرا سنقر فإنّهما اختفيا ولم يظهر لهما خبر، ولا وقع لهما على أثر. ثم أحضر المماليك الأشرفيّة سبعة أمراء، وهم: سيف الدين نوغيه، وسيف الدين ألناق، وعلاء الدين ألطنبغا الجمدار، وشمس الدين سنقر «4» مملوك لاچين، وحسام الدين طرنطاى السّاقى، ومحمد خواجا «5» ، وسيف الدين أروس فى يوم الاثنين خامس صفر إلى قلعة الجبل، فلمّا رآهم السلطان الملك الناصر محمد أمر بقطع أيديهم أوّلا، وبعد ذلك يسمّرون على الجمال وأن تعلّق أيديهم فى حلوقهم ففعل ذلك، ورأس بيدرا أيضا على رمح يطاف به معهم بمصر «6»(8/22)
والقاهرة، وبقوا على هذه الحالة إلى أن ماتوا، وكلّ من مات منهم سلّم إلى أهله والجميع دفنوهم بالقرافة.
قلت: وقريب ممّا وقع لبيدرا هذا وأصحابه أوائل ألفاظ المقالة الخامسة عشرة من «كتاب أطباق الذهب» للشيخ الإمام الربّانى شرف الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «1» ، وهى قوله:
«من الناس من يستطيب ركوب الأخطار، وورود التّيار، ولحوق العار والشّنار، ويستحبّ وقد النار، وعقد الزّنّار، لأجل الدينار؛ ويستلذّ سفّ الرّماد، ونقل السّماد، وطىّ البلاد، لأجل الأولاد؛ ويصبر على نسف الجبال، ونتف السّبال «2» ، لشهوة المبال؛ ويبدّل الإيمان»
بالكفر، ويحفر الجبال بالظّفر، للدنانير الصّفر؛ ويلج ما ضغى «4» الأسود، للدراهم السّود؛ لا يكره صداعا، [إذا نال كراعا «5» ] ؛ ويلقى النوائب بقلب صابر، فى هوى الشيخ أبى جابر «6» ؛ ويأبى العزّ طبيعة، ويرى الذّلّ شريعة؛ وإن رزق لعيعة «7» ، يراها صنيعة، يؤمّ راسه وترضّ أضراسه؛ وإن أعطى درهما، يراه مرهما.
ومن الناس من يختار العفاف، ويعاف الإسفاف؛ يدع الطعام طاويا، ويذر الشراب صاديا، ويرى المال رائحا غاديا؛ يترك الدنيا لطلّابها، ويطرح الجيفة لكلابها؛ لا يسترزق لئام الناس، ويقنع بالخبز الناس «8» ؛ يكره المنّ والأذى، ويعاف(8/23)
الماء على القذى؛ إن أثرى جعل موجوده معدوما، وإن أقوى «1» حسب قفاره مأدوما؛ جوف خال، وثوب «2» بال، ومجد عال؛ ووجه مصفرّ، عليه قرّ؛ وثوب أسمال، وراء عزّ [و] جمال؛ وعقب مشقوق، وذيل مفتوق، يجرّه فتى مغبوق. شعر:
لله تحت قباب العزّ طائفة ... أخفاهم فى رداء الفقر إجلالا
هم السلاطين فى أطمار مسكنة ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا
غبر ملابسهم شمّ معاطسهم ... جرّوا على فلك الخضراء أذيالا
هذى المناقب لا ثوبان من عدن «3» ... خيطا قميصا فصارا بعد أسمالا
هذى المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هم الذين جبلوا برآء من التّكلّف، «يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف» . انتهى ما ذكرناه من المقالة الخامسة عشرة وإن كنّا خرجنا عن المقصود من كون غالبها من غير ما نحن فيه، غير أنّنى لم أذكرها بتمامها هنا إلّا لغرابتها. انتهى.
ولمّا مات الملك الأشرف خليل هذا، وتمّ أمر أخيه الملك الناصر محمد فى السلطنة، استقرّ الأمير زين الدين كثبغا المنصورىّ نائب السلطنة، وسنجر الشّجاعىّ مدبّر المملكة وأتابك العساكر، وبقيّة الأمور تأتى فى أوّل سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون بأوضح من هذا
ولمّا قتل الملك الأشرف خليل المذكور بقى ملقى إلى أن خرج والى تروجة من بعد قتله بيومين، ومعه أهل تروجة، وأخذوه وغسّلوه وكفّنوه وجعلوه فى تابوت(8/24)
فى دار الوالى إلى أن سيّروا من القاهرة الأمير سعد الدين كوجبا الناصرىّ إلى مصرعه، فأخذه فى تابوت ووصل به إلى القاهرة سحر يوم الخميس ثانى عشرين صفر، فدفن فى تربة «1» والدته بجوار أخيه الملك الصالح علىّ بن قلاوون- رحمهما الله تعالى- ورثاه ابن حبيب بقصيدة، أوّلها:
تبّا لأقوام تمالك رقّهم ... فتكوا وما رقّوا لحالة مثرف
وافوه غدرا ثم صالوا جملة ... بالمشرفىّ على المليك الأشرف
وافى شهيدا نحو روضات الرّضا ... يختال بين مزهّر ومزخرف
ومضى يقول لقاتليه تربّصوا ... بينى وبينكم عراض الموقف(8/25)
وقال النّويرىّ فى تاريخه: كان ملكا مهيبا شجاعا مقداما جسورا جوادا كريما بالمال، أنفق على الجيش فى هذه الثلاث سنين ثلاث نفقات: الأولى فى أوّل جلوسه فى السلطنة من مال طرنطاى، والثانية عند توجّهه الى عكّا، والثالثة عند توجّهه الى قلعة الروم. انتهى كلام النّويرىّ باختصار.
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى تاريخه: «وكان قبل ولاية الملك الأشرف يؤخذ عند باب الجابية «1» بدمشق عن كلّ حمل خمسة دراهم مكسا، فأوّل ما تسلطن وردت إلى دمشق مسامحة بإسقاط هذا، وبين سطور المرسوم بقلم العلامة بخطه: لتسقط عن رعايانا هذه الظّلامة، ويستجلب لنا الدعاء من الخاصّة والعامّة» . انتهى كلام الصفدىّ.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذّهبىّ فى تاريخه، بعد أن ساق من أحواله قطعة جيّدة، فقال: «ولو طالت أيّامه أو حياته لأخذ العراق وغيرها، فإنّه كان بطلا شجاعا مقداما مهيبا عالى الهمّة يملأ العين ويرجف القلب، رأيته مرّات، وكان ضخما سمينا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللّحية، على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة، وكان إلى جوده وبذله الأموال فى أغراضه المنتهى. وكان مخوف السطوة، شديد الوطأة، قوىّ البطش؛ تخافه الملوك فى أمصارها، والوحوش العادية «2» فى آجامها. أباد جماعة من كبار الدولة. وكان منهمكا فى «3» اللذات، لا يعبأ بالتحرّز لنفسه لفرط شجاعته، ولم أحسبه بلغ ثلاثين سنة، ولعلّ الله عزّ وجلّ قد(8/26)
عفا عنه وأوجب له الجنّة لكثرة جهاده، وإنكائه فى الكفّار» . انتهى كلام الذهبى باختصار.
قلت: وكان الأشرف مفرط الشجاعة والإقدام، وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديما وحديثا بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما فى ذلك تغنى عن الإطناب فى ذكرهما.
وكانت مدّة مملكة الأشرف هذا على مصر ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيام، لأنّ وفاة والده كانت فى يوم السبت سادس ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة.
وجلس الأشرف المذكور على تخت الملك فى صبيحة دفن والده فى يوم الاثنين «1» ثامن ذى القعدة. وقتل فى يوم السبت «2» ثانى عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
انتهى.
وقال الشيخ قطب الدين البونينىّ: ومات (يعنى الملك الأشرف) شهيدا مظلوما فإنّ جميع من وافق على قتله كان قد أحسن إليه ومنّاه وأعطاه وخوّله، وأعطاهم ضياعا بالشام، ولم تتجدد فى زمانه مظلمة، ولا استجدّ ضمان مكس، وكان يحبّ الشأم وأهله، وكذلك أهل الشأم كانوا يحبونه- رحمه الله تعالى وعفا عنه-.
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين خليل على مصر وهى سنة تسعين وستمائة. على أنه حكم من الماضية من يوم الاثنين ثامن ذى القعدة إلى آخرها. انتهى.(8/27)
فيها (أعنى سنة تسعين وستمائة) توفّى الشيخ عزّ الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصارىّ السّويدىّ «1» الطبيب المشهور، وهو من ولد سعد بن معاذ الأوسىّ- رضى الله عنه- كان قد تفرّد فى آخر عمره بمعرفة الطبّ، وكان له مشاركة جيّدة فى العربيّة والتاريخ، واجتمع بأكابر الأطبّاء وأفاضل الحكماء، مثل المهذّب «2» عبد الرحيم بن علىّ الدّخوار وغيره، وقرأ علم الأدب على جماعة من العلماء، وكان له نظم جيّد. من ذلك قوله فى خضاب اللّحية:
لو أنّ تغيير لون شيبى ... يعيد ما فات من شبابى
لما وفى لى بما تلاقى ... روحى من كلفة الخضاب
قلت: ويعجبنى قول الشيخ صفىّ «3» الدين عبد العزيز الحلّى فى هذا المعنى:
قالوا اخضب الشيب فقلت اقصروا ... فإنّ قصد الصدق من شيمتى
فكيف أرضى بعد ذا أنّني ... أوّل ما أكذب فى لحيتى
غيره فى المعنى:
يا خاضب اللّحية ما تستحى ... تعاند الرحمن فى خلقته
أقبح شئ قيل بين الورى ... أن يكذب الإنسان فى لحيته
ومن شعر عزّ الدين صاحب الترجمة [مواليا «4» ] :
البدر والسعد ذا شبهك وذا نجمك ... والقدّ واللّحظ ذا رمحك وذا سهمك
والبغض والحبّ ذا قسمى وذا قسمك ... والمسك والحسن ذا خالك وذا عمّك(8/28)
وفيها توفّى ملك التّتار أرغون بن أبغا بن هولاكو عظيم التّتار وملكهم، قيل:
إنه اغتيل بالسمّ، وقيل: إنّه مات حتف أنفه، واتّهم الترك اليهود بقتله فمالوا عليهم بالسيوف فقتلوهم ونهبوا أموالهم، واختلفت كلمة التّتار فيمن يقيمونه بعده فى الملك، فمالت طائفة إلى بيدو «1» ولم يوافقوا [على] كيختو «2» ، فرحل كيختو إلى الروم.
وكان أرغون هذا قد عظم أمره عند التّتار بعد قتل عمّه أحمد «3» ، ورسخت قدمه فى الملك، وكان شهما شجاعا مقداما، حسن الصورة، سفّا كاللدماء، شديد الوطأة.
وفيها توفّى الشيخ عفيف الدين أبو الربيع سليمان بن علىّ بن عبد الله بن علىّ ابن يس العابدى ثم الكوفىّ ثم التّلمسانىّ «4» المعروف بالعفيف التّلمسانىّ، الصوفىّ الشاعر المشهور، كان فاضلا ويدّعى العرفان، ويتكلّم فى ذلك على اصطلاح القوم.
قال الشيخ قطب الدين: «ورأيت جماعة ينسبونه إلى رقّة الدّين، وتوفّى وقد جاوز الثمانين «5» سنة من العمر، وكان حسن العشرة كريم الأخلاق له حرمة ووجاهة، وخدم فى عدّة جهات.(8/29)
قلت: وقد تقدّم ذكر ولده الأديب الظريف «1» شمس الدين محمد أنّه مات فى حياة والده العفيف هذا. انتهى.
وكان العفيف المذكور من الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كبير. ومن شعره:
يشكو إلى أردافه خصره ... لو تسمع الأمواج شكوى الغريق
يا ردفه رقّ على خصره ... فإنّه حمّل ما لا يطيق
وله:
إن كان قتلى فى الهوى يتعيّن ... يا قاتلى فبسيف جفنك «2» أهون
حسبى وحسبك أن تكون مدامعى ... غسلى وفى ثوب السّقام أكفّن
عجبا لخدّك وردة فى بانة ... والبان «3» فوق الغصن ما لا يمكن
أدنته لى سنة الكرى فلثمته ... حتى تبدّل بالشّقيق السّوسن
ووردت كوثر ثغره فحسبتنى ... فى جنّة من وجنتيه أسكن
ما راعنى إلا بلال الخال فو ... ق الخدّ فى صبح الجبين يؤذّن
قلت: وهذا مأخوذ من قول الحاجرى «4» من قصيدة:
أقام بلال الخال فى صحن خدّه ... يراقب من لآلاء غرّته الفجرا
ومنه أيضا أخذ الشيخ جمال الدين «5» محمد بن نباتة المصرىّ قوله:
وانظر إلى الخال فوق الثغر دون لمى ... تجد بلالا يراعى الصبح فى السّحر(8/30)
قلت: وقد سبق إلى هذا المعنى أمير المؤمنين عبد الله «1» بن المعتزّ بقوله:
أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخدّ فيه بلال
كأنّما الخال على خدّه ... ساعة هجر فى زمان الوصال
قلت وقد استوعبنا من ذكر العفيف هذا فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفىّ بعد الوافى» نبذة كبيرة فلينظر هناك.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة فقيه الشام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزارىّ البدرىّ المصرىّ الأصل الدمشقى الشافعىّ المعروف بالفركاح «2» . ولد فى شهر ربيع الأوّل سنة أربع وعشرين وستّمائة.
قال الصّفدىّ: تفقّه فى صغره على الشيخ عزّ «3» الدين بن عبد السلام، والشيخ تقىّ «4» الدين بن الصّلاح، وبرع فى المذهب وهو شابّ، وجلس للاشتغال وله بضع وعشرون سنة، ودرّس فى سنة ثمان وأربعين، وكتب فى الفتاوى وقد أكمل الثلاثين.
ولمّا قدم النووىّ «5» من بلده أحضروه ليشتغل عليه، فحمل همّه وبعث به إلى مدرّس الرّواحيّة «6» ليصحّ له بها بيت ويرتفق بمعلومها. وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار.(8/31)
وإذا سافر لزيارة القدس يترامى أهل البرّ على ضيافته، وكان أكبر من الشيخ محيى الدين النّووىّ بسبع سنين، وهو أفقه نفسا وأذكى وأقوى مناظرة من الشيخ محيى الدين بكثير، وقيل إنه كان يقول: إيش قال النّووىّ فى مزبلته! (يعنى عن الروضة «1» ) ، قال: وكان الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام يسمّيه «الدّويك» لحسن بحثه. انتهى كلام الصّفدىّ باختصار.
ومن شعره ما كتبه لزين الدين «2» عبد الملك بن العجمى ملغزا فى اسم بيدرا.
يا سيّدا ملأ الآفاق قاطبة ... بكلّ فنّ من الألغاز مبتكر
ما اسم مسمّاه بدر وهو مشتمل ... عليه فى اللفظ إن حقّقت فى النظر
وإن تكن مسقطا ثانيه مقتصرا ... عليه فى الحذف أضحى واحد البدر
وله [أيضا دو بيت «3» ]
ما أطيب ما كنت من الوجد لقيت ... إذ أصبح بالحبيب صبّا وأبيت
واليوم صحا قلبى من سكرته ... ما أعرف فى الغرام «4» من أين أتيت
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى مسند العالم فخر الدين علىّ بن البخارىّ المقدسىّ فى ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة «5» . والمعمّر شهاب الدين غازى بن أبى الفضل [بن عبد الوهاب أبو محمد «6» ] الحلاوىّ فى صفر.(8/32)
وفخر الدين عمر بن يحيى الكرخىّ فى شهر ربيع الآخر، وله إحدى وتسعون سنة. والعلّامة تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزارىّ الشافعىّ فى جمادى الآخرة، وله ست وستون سنة «1» . والشيخ العفيف التّلمسانىّ الشاعر سليمان بن علىّ فى رجب، وله ثمانون سنة. والمقرئ شهاب الدين محمد بن عبد الخالق بن مزهر فى رجب. والقاضى شمس الدين عبد الواسع بن عبد الكافى الأبهرىّ «2» فى شوّال.
والمسند نجم الدين يوسف بن يعقوب بن محمد [بن علىّ «3» ] بن المجاور فى ذى القعدة والمسند شمس الدين محمد بن [عبد «4» ] المؤمن بن أبى الفتح الصالحىّ فى ذى الحجّة، وهو آخر من سمع من الكندىّ «5» . والإمام شمس الدين أحمد بن عبد الله بن الزّبير الخابورىّ خطيب حلب فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 691]
السنة الثانية من ولاية الملك الأشرف خليل على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين وستمائة.
فيها فى يوم الجمعة رابع عشرين صفر ظهر بقلعة الجبل حريق عظيم فى بعض خزائن الخاصّ، وأتلف شيئا عظيما من الذخائر والنفائس والكتب وغيرها.(8/33)