يدلّ عليه، وقال البيهقىّ: كان يرى رأى الكرّامية، وذكر عنه أشياء غير ذلك، وكان خبيث اللسان يقع في حقّ كبار العلماء. وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن عبد الله الحافظ أبو قلابة الرّقاشىّ، مولده بالبصرة سنة تسعين ومائة، وسمع يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه المحاملى وآخرون «1» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع أصابع، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 277]
السنة السابعة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة سبع وسبعين ومائتين- فيها اتفق يا زمان الخادم مع خمارويه صاحب الترجمة ودعا له على المنابر بطرسوس، وسببه أن خمارويه استماله وتلطّف به وبعث له بثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة دابّة وسلاح كثير. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد العباسىّ الهاشمىّ على العادة. وفيها توفى أحمد بن عيسى أبو سعيد الخرّاز الصّوفىّ البغدادىّ أحد المشايخ المذكورين «2» بالزهد، كان من أئمة القوم وجلّة «3» مشايخهم؛ قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخرّاز لهلكنا، قيل «4» له: وعلى أىّ شىء حاله؟ قال: أقام كذا وكذا سنة يخرز ما فاته [الحقّ «5» ] بين الخرزتين، يعنى ذكر الله تعالى. وفيها توفى إبراهيم ابن إسحاق بن أبى العنبس «6» أبو إسحاق الزّهرىّ الكوفىّ، ولى قضاء بغداد ثم صرفه(3/76)
الموفّق، أراد منه أن يدفع إليه أموال الأوقاف فامتنع، وكان عالما محدّثا حمل الناس عنه الحديث الكثير. وفيها توفى محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحافظ أبو حاتم الرّازى الحنظلىّ مولى بنى تميم بن حنظلة الغطفانىّ، وقيل: سمّى الحنظلىّ لأنه كان يسكن بالرّىّ بدرب حنظلة، كان أحد الأئمة الرحّالين عارفا بعلل الحديث والجرح [و] التعديل، رحل إلى خراسان والعراقين والحجاز واليمن والشأم ومصر، ومات بالرّىّ في شعبان. وفيها توفى يعقوب بن سفيان الحافظ أبو يوسف الفارسىّ الفسوىّ صاحب التاريخ والمصنّفات الحسان، كان إمام أهل الحديث، سافر [الى] البلاد ولقى الشيوخ، قال: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، وكلّهم ثقات، وقال أبو زرعة الدمشقىّ: قدم علينا يعقوب دمشق وتعجّب أهل العراق أن يروا مثله.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 278]
السنة الثامنة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ثمان وسبعين ومائتين- فيها في الثامن والعشرين من المحرّم ظهر في السماء كوكب ذو جمّة «1» . وفيها قال أبو المظفر بن قزأوغلى وغيره من المؤرّخين: غار نيل مصر حتى لم يبق منه شىء.
قال الذّهبىّ: ولم يتعرّض المسبّحىّ «2» في تاريخه إلى شىء من ذلك. وغلت الأسعار(3/77)
فى هذه السنة بمصر وقراها. وفيها ظهرت القرامطة «1» بسواد الكوفة، وقد اختلفوا فيهم وفي مبتدأ أمرهم على أقوال نذكر منها نبذة لما سيأتى من ذكر القرامطة واستيلائهم على البلاد وقتلهم للعباد، فأحد الأقوال: أن رجلا قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة وأظهر الزهد والتقشّف، وكان يسفّ «2» الخوص ويأكل من كسبه، ولا زال يظهر التديّن والزهد إلى أن مال إليه الناس فدرّجهم من شىء إلى شىء حتى صاروا معه حيث شاء، وقيل غير ذلك أقوال كثيرة؛ وهم من الذين أكثروا في الأرض الفساد وأخربوا البلاد. وفيها غزا يا زمان الخادم الصائفة فبلغ حصنا يقال له سلند «3» فنصب عليه المجانيق، وأشرف على فتحه فجاءه حجر من الحصن فقتله، فارتحلوا به وفيه رمق فمات في الطريق في رجب، فحمل على الأكتاف الى طرسوس فدفن بها، وكان شجاعا جوادا رضى الله عنه. وفيها توفى «4» ديك الجنّ الشاعر المشهور واسمه عبد السلام ابن رغبان بن عبد السلام، وسمّى ديك الجن لأن عينيه كانتا خضراوين، وكان قبيح المنظر [وكان شاعرا «5» ] فصيحا، عاصر أبا تمّام الطائىّ، وكان أبو تمام يعترف له بالفضل، وهو من شعراء الدولة العباسيّة، وكان يتشيّع، وكان له غلام كالبدر وجارية أحسن منه، وكان يهواهما جميعا، فدخل يوما منزله فوجدهما متعانقين والجارية تقبّل الغلام، فشدّ عليهما فقتلهما ثم رثاهما بعد ذلك وحزن عليهما حزنا شديدا، وتنغّص عيشه(3/78)
بعدهما الى أن مات. وشعر ديك الجنّ مشهور. وفيها توفى أبو أحمد طلحة، وقيل:
محمد ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة الرشيد هارون، كان لقبه الموفّق ثم لقّب بعد قتل الزّنجىّ الناصر لدين الله، كان يخطب له على المنابر بعد أخيه الخليفة المعتمد، وكان يقول الخطيب: اللهم أصلح «1» الأمير الناصر لدينك أبا أحمد الموفّق بالله ولىّ عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين، وكانت أمّ الموفق أمّ ولد يقال لها إسحاق؛ وكان الموفّق من أجلّ الملوك رأيا وأسمحهم نفسا وأحسنهم تدبيرا، كان أخوه المعتمد قد جعله ولىّ عهده بعد ولده جعفر المفوّض فغلب الموفّق على الأمر حتى صار أخوه الخليفة المعتمد معه كالمحجور عليه؛ ومات الموفّق في حياة أخيه المعتمد فبايع المعتمد ابن الموفّق أبا العباس ولقّبه بالمعتضد، وجعله ولىّ عهده بعد ابنه المفوّض كما كان أبوه الموفّق، وظنّ المعتمد أنه استراح من الموفّق فعظم أمر المعتضد أضعاف ما كان عليه الموفّق، حتى إنه خلع المفوّض من ولاية العهد وصار ولىّ عهد عمّه المعتمد؛ وتولّى الخلافة بعده، وكان الموفّق قد حبس ابنه أبا العباس المعتضد هذا لشدّة بأسه فلما احتضر الموفّق، أو في حال مرضه، أخرج الجند المعتضد المذكور من حبسه بغير رضا أبيه، ثم مات بعد أيام فى يوم الأربعاء ثانى عشر من صفر، وكان من أجلّ ملوك بنى العبّاس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.(3/79)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 279]
السنة التاسعة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة تسع وسبعين ومائتين- فيها عظم أمر المعتضد بتقديمه في ولاية العهد على جعفر المفوّض، فإن الخليفة المعتمد خلع ولده وقدّم ابن أخيه المعتضد هذا على ولده المفوّض المذكور؛ وأظنّ ذلك كان لقوّة شوكة المعتضد، ثم فوّض المعتمد لابن أخيه المعتضد ما كان لأبيه الموفّق من الأمر والنهى وكتب بذلك الى الآفاق؛ ثم أمر المعتضد ألّا يقعد على الطريق ببغداد ولا في المسجد الجامع قاصّ «1» ولا صاحب نجوم، وحلّف باعة الكتب ألّا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل ونحو ذلك، ولما قدّم الخليفة [المعتمد «2» ] المعتضد هذا على ولده قدّم له المعتضد ثيابا بمائتى ألف درهم وحمل الى ابن عمّه المفوّض ثيابا بمائة ألف درهم، وطابت نفوسهما فلم يكن بعد ذلك إلا أيام ومات الخليفة المعتمد؛ وتولّى المعتضد الخلافة بعد عمّه المعتمد في صبيحة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب. وفيها أرسل خمارويه الى المعتضد مع ابن الجصّاص هدايا «3» وتحفا وأموالا كثيرة وسأله أن يزوّج ابنه المكتفى ببنته قطر النّدى؛ فقال المعتضد: بل أنا أتزوّجها فتزوّجها. وقد سقنا حكاية زواجها في ترجمة أبيها خمارويه.
وفيها فتح أحمد بن عيسى بن الشّيخ قلعة ماردين «4» وكانت مع محمد بن إسحاق بن كنداج. وفيها صلّى المعتضد بالناس صلاة الأضحى فكبّر في الأولى ستّ تكبيرات(3/80)
وفي الثانية واحدة، ولم تسمع منه خطبة. وفيها توفّى محمد بن عيسى بن سورة الإمام الحافظ أبو عيسى التّرمذىّ مصنّف الجامع والعلل والشمائل وغيرها، وكانت وفاته فى شهر رجب، وقد روينا كتابه الجامع سماعا على الشيخين علاء الدين «1» علىّ بن بردس البعلبكّى وشهاب الدين أحمد [المشهور با] بن ناظر الصاحبيّة، بسماع الأوّل عن أبى حفص ابن أميلة «2» وإجازة الثانى من أحمد «3» بن محمد بن أحمد بن الجوخى؛ قالا أخبرنا أبو الحسن «4» علىّ بن البخارى [وا] «5» بن أميلة- الأوّل سماعا والثانى إجازة- أخبرنا أبو حفص ابن طبرزذ أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن أبى [القاسم «6» عبد الله بن أبى] سهل [القاسم «7» بن أبى منصور] الكروخىّ «8» أخبرنا أبو عامر محمود بن القاسم «9» الأزدى وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الغورجىّ «10» وأبو نصر عبد العزيز بن محمد التّرياقىّ سماعا عليهم سوى الترياقىّ، فمن أوّله الى مناقب ابن عباس قال الكروخىّ، وأخبرنا من مناقب ابن عباس الى آخر الكتاب عبد الله بن على بن يس الدهّان، قالوا أخبرنا(3/81)
أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجرّاحى أخبرنا أبو العبّاس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبى أخبرنا الإمام الحافظ أبو عيسى التّرمذىّ؛ وروينا أيضا كتابه الشمائل سماعا على الشيخين المذكورين بسماع الأوّل من المسند صلاح الدين محمد [بن أحمد «1» ] بن أبى عمر المقدسىّ وإجازة الثانى من ابن الجوخى، قالا أخبرنا ابن البخارىّ الأوّل سماعا والثانى إجازة أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندىّ أخبرنا أبو شجاع «2» البسطامىّ، أخبرنا أبو القاسم «3» البلخىّ أخبرنا أبو القاسم «4» الخزاعىّ أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشىّ أخبرنا أبو عيسى التّرمذىّ. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد الهاشمىّ وهى آخر حجّة حجّها بالناس، وكان قد حجّ بالناس ستّ عشرة حجّة أوّلها سنة أربع وستين ومائتين الى هذه السنة. وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتمد على الله أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العبّاس الهاشمىّ العباسىّ في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر رجب فجأة ببغداد، فحمل ودفن بسرّمن رأى؛ ومولده سنة تسع وعشرين ومائتين بسرّمن رأى، وأمّه أمّ ولد رومية اسمها فتيان، وفي موته أقوال كثيرة، منهم من قال: إنه اغتيل بالسمّ، ومنهم من قال: إنه خنق، وقيل غير ذلك؛ وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أيّام، وكان فيها كالمحجور عليه مع أخيه(3/82)
الموفّق، فإنه كان منهمكا في اللذّات، فولّى أخاه الموفّق أمر الناس فقوى عليه وانقهر المعتمد معه الى أن مات قهرا منه ومن ولده المعتضد؛ وتولّى الخلافة من بعده المعتضد ابن أخيه الموفّق المذكور. وفيها توفّى أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب ابن شدّاد النّسائىّ الأصل، كان عالما حافظا ذا فنون بصيرا بأيام الناس راوية للآداب؛ أخذ علم الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل وعن يحيى بن معين، وعلم النسب عن مصعب الزّبيرىّ، وأيام الناس عن أبى الحسن المدائنىّ؛ وصنّف التاريخ فأكثر فوائده ومات في جمادى الأولى. وفيها توفّى أحمد بن عبد الرّحمن بن مرزوق أبو عبد الله البزورىّ البغدادىّ ويعرف بابن أبى عوف، كان إماما عالما محدّثا ثقة نبيلا. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن جابر أبو بكر وقيل أبو جعفر وقيل أبو الحسن البلاذرىّ، الكاتب البغدادىّ صاحب التاريخ، وكان أديبا مدح المأمون وجالس المتوكّل وسمع هشام بن عمّار وغيره وروى عنه جمّ غفير. وفيها توفى نصر بن أحمد ابن أسد بن سامان، كان سامان مع أبى مسلم الخراسانىّ صاحب الدعوة وكان ينسب الى الأكاسرة، فمات سامان وبقى ابنه أسد «1» . وتوفّى أسد في خلافة الرشيد وخلّف ابنه نوحا وأحمد ويحيى وإلياس، فولى أحمد بن أسد فرغانة، ونوح سمرقند،(3/83)
ويحيى الشاش «1» وأشروسنة «2» ، وولى إلياس هراة؛ وكان أحمد والد نصر هذا أحسنهم سيرة، ومات في أيام عبد الله بن طاهر بن الحسين، وخلّف سبعة بنين، منهم نصر ابن أحمد هذا، فولّى نصر ولايات أبيه مثل سمرقند والشاش وفرغانة، وولّى أخوه إسماعيل بحارى وأعمالها؛ وهؤلاء يسمّون السامانيّة وهم عدّة ملوك، ولهذا أوضحنا أصلهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبع ونصف، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 280]
السنة العاشرة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ثمانين ومائتين- فيها فتح محمد بن أبى السّاج مراغة «3» بعد حصار طويل وأخذ منها مالا كثيرا. وفيها غزا إسماعيل بن أحمد بلاد الترك من وراء النهر وأسر ملكها وزوجته وأسر عشرة آلاف وقتل مثلهم. وفيها شكا الناس إلى الخليفة المعتضد ما يقاسون(3/84)
من عقبة حلوان «1» من المشقّة، فبعث عشرين ألف دينار فأصلحها. وفيها بنى المعتضد القصر الحسنىّ «2» الذي صار دار الخلافة ببغداد الى آخر وقت؛ وتحوّل إليه المعتضد وسكنه. وفيها حج بالناس محمد «3» بن عبد الله بن محمد العباسىّ. وفيها توفى جعفر المفوّض ابن الخليفة المعتمد على الله أحمد في شهر ربيع الآخر، وكان محبوسا في دار المعتضد لا يراه أحد، وقيل: إنّ المعتضد نادمه في خلوته وصار يكرمه. وفيها توفى عثمان بن سعيد بن خالد الحافظ أبو سعيد الدّارمىّ نزيل هراة، رحل الى الأمصار ولقى الشيوخ وجالس الإمام أحمد بن حنبل وابن معين والحفّاظ، حتى قالوا: ما رأينا مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وكان لا يحدّث من يقول بخلق القرآن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.(3/85)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 281]
السنة الحادية عشرة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة إحدى وثمانين ومائتين- فيها أرسل خمارويه طغج بن جفّ الى غزو الروم فتوجّه من طرسوس حتى بلغ طرابزون «1» وفتح ملورية «2» في جمادى الآخرة. وفيها غارت المياه بالرّىّ وطبرستان فصار الماء يباع ثلاثة أرطال بدرهم، وغلت الأسعار وقحط الناس وأكل بعضهم بعضا، حتى أكل رجل ابنته. وفيها توفى ابن أبى الدّنيا واسمه عبد الله بن محمد أبو بكر القرشىّ البغدادىّ مولى بنى أميّة، ولد سنة ثمان ومائتين، وكان مؤدّبا «3» لجماعة من أولاد الخلفاء منهم المعتضد وابنه المكتفى، وكان عالما زاهدا ورعا عابدا وله التصانيف الحسان، والناس بعده عيال عليه في الفنون التى جمعها، وروى عنه خلق كثير، واتفقوا على ثقته وصدقه وأمانته. وفيها توفى أبو بكر عبد الله بن محمد بن النعمان الأصبهانىّ الإمام المتقن.
وفيها توفى الإمام الفقيه محمد بن إبراهيم بن الموّاز المالكىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 282]
السنة الثانية عشرة من ولاية خمارويه على مصر- فيها مات- وهى سنة اثنتين وثمانين ومائتين- فيها في المحرّم أمر المعتضد بتغيير نوروز العجم الذي هو افتتاح الخراج(3/86)
وأخّره إلى حادى عشر حزيران وسمّاه النّوروز المعتضدىّ، وقصد بذلك الرّفق بالرعيّة، ومنع الناس ما كانوا يعملونه في كل سنة من إيقاد النّيران وصبّ الماء على الناس، فكان ذلك من أحسن أفعال المعتضد. وفيها لليلتين خلتا من المحرّم قدم ابن الجصّاص بقطر النّدى بنت خمارويه صاحب الترجمة إلى بغداد فأنزلت في دار صاعد، وكان المعتضد غائبا بالموصل، فلمّا سمع بقدومها عاد الى بغداد ودخل بها فى خامس شهر ربيع الأوّل بعد أن عمل لها مهمّا يتجاوز الوصف. وفيها قتل خمارويه صاحب الترجمة وقد نقدّم ذكر مقتله في ترجمته. وفيها توفى عبد الرّحمن ابن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو الحافظ أبو زرعة النّصرىّ «1» الدّمشقىّ، كان من أئمة الحفّاظ، رحل إلى البلاد وكتب الكثير حتى صار شيخ الشام وإمام وقته، وكتب عنه خلائق؛ وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة. وفيها توفى محمد «2» ابن الخليفة جعفر المتوكّل عمّ المعتضد، وكان فاضلا شاعرا وهو القائل لمّا أراد أخوه المعتمد الخروج إلى الشام والدنيا مضطربة:
أقول له عند توديعه ... وكلّ بعبرته مبلس
لئن بعدت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وفيها توفى محمد بن عبد الرّحمن بن محمد بن عمارة بن القعقاع أبو قبيصة الضّبّىّ كان صالحا عابدا مجتهدا سمع من سليمان وغيره، روى عنه جماعة كثيرة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء مثل الماضية، مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.(3/87)
ذكر ولاية أبى العساكر جيش على مصر
هو أبو العساكر جيش بن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون. ولى مصر والشام بعد قتل أبيه خمارويه بدمشق في يوم سابع عشر ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فأقام بدمشق أيّاما ثم عاد الى ديار مصر، ودام بها الى أن وقع منه أمور أنكرت عليه فاستوحش الناس منه؛ وكان لمّا مات أبوه تقاعد عن مبايعته جماعة من كبار القوّاد لقلّة المال وعجزه عن أن ينعم «1» عليهم لأن أبا الجيش خمارويه كان أنفق في جهاز ابنته قطر الندى لما زوّجها للخليفة المعتضد جميع ما كان فى خزائنه، ومات بعد ذلك بمدّة يسيرة. قال بعضهم: فمات حقّا حين حاجته إلى الموت، لأنه لو عاش أكثر من هذا حتى يلتمس ما كانت جرت عادته به لاستصعب ذلك عليه، ولو نزلت به ملمّة لافتضح. انتهى.
ولّما تقاعد كبار القوّاد عن بيعة جيش تلطّف بعض «2» القوّاد في أمره حتى تمّت البيعة، وبايعوه وهو صبىّ لم يؤدّبه الزمان، ولا محنه التجارب والعرفان؛ وقد قيل: «بعيد نجيب ابن نجيب من نجيب» .
فلما تمّ أمر جيش المذكور أقبل على الشّرب واللهو مع عامّة أوباش، منهم:
غلام رومىّ لا وزن له ولا قيمة يعرف ببندقوش، ورجلان من عامّة العيّارين «3» الذين يحملون الحجارة الثّقال والعمد الحديد ويعانون الصّراع، أحدهما يعرف بخضر، والثانى يعرف بابن البوّاش، وغير هؤلاء من غلمان لم يكن لهم حال، جعلهم بطانته؛ فأوّل شىء حسّنوه له أن وثّبوه على عمّه أبى العشائر «4» ، فقالوا له: هذا يرى نفسه أنه هو(3/88)
الذي ردّ الدولة يوم الطواحين «1» لمّا انهزم أبوك، وكان يقرّع أباك بهزيمته يومئذ ويذيع ذلك عند خاصّته. ويقولون «2» أيضا: إنه هو الذي همّ «3» بالوثوب حتى صنع أهل برقة فيه ما صنعوا، ويتلفّت الى أهل برقة ويرى أنهم أعداؤه، ويتربّص بهم أن تدول له دولة فيأخذ بثأره «4» منهم، فهو يتلمّظ «5» إلى الدولة والى ما في نفسه مما ذكرناه والمنايا تتلمّظ إليه كما قال الشاعر:
تلمّظ السيف من شوق إلى أنس ... والموت يلحظ والأقدار تنتظر
فعند ذلك قبض عليه جيش هذا ودسّ إليه من قتله، ثم قال عنه: إنه مات حتف أنفه؛ وتحقّق الناس قتله فنفرت القلوب عنه أيضا، لكونه قتله بغيا عليه وتعدّيا. ثم اشتغل بعد ذلك جيش بهذه الطائفة المذكورة عن حقوق قوّاد أبيه وعن أحوال الرعيّة، وكانت القوّاد أمراء شدادا يرون أنفسهم بعينها «6» فى التقديم والرياسة والشجاعة، وإنما كان قيّدهم «7» أبوه خمارويه بجميل أفعاله وكريم مقدّماته اليهم ولسعة الإفضال عليهم، وهم مثل خاقان المفلحى «8» ، ومحمد بن إسحاق بن كنداج «9» ،(3/89)
ووصيف بن سوار تكين «1» ، وبندقة بن لمجور «2» ، وأخيه محمد بن لمجور، وابن قراطغان «3» ، ومن أشبههم. ثم انتقل من هذا إلى أن صار إذا أخذ منه النبيذ يقول لطائفته التى ذكرناها واحدا بعد واحد: غدا أقلّدك موضع فلان وأهب لك داره وأسوّغك نعمته، فأنت أحقّ من هؤلاء الكلاب؛ كلّ ذلك ومجالسه تنقل إليهم. فعند ذلك بسط القوّاد ألسنتهم فيه، وشكا القوّاد بعضهم إلى بعض ما يلقونه منه، فقالوا:
نفتك به ولا نصبر له على مثل هذا، وبلغه الخبر فلم يكتمه ولم يتلاف القضيّة ولا شاور من يدلّه على مداواة «4» أمره، بل أعلن بما بلغه عنهم وتوعّدهم، وقال:
لأطلقنّ الرجّالة عليهم ولأفعلنّ بهم؛ فاتصلت بهم مقالته فاعتزل من عسكره كبار القوّاد من الذين سمّيناهم، مثل ابن كنداج وطبقته، وخرجوا في خاصّة غلمانهم وهى زهاء ثلثمائة غلام، وساروا على طريق أيلة «5» وركبوا جبل «6» الشّراة حتى وصلوا إلى الكوفة، بعد أن نالهم في طريقهم كدّ شديد ومشقّة، وكادوا أن يهلكوا عطشا، واتصلت أخبارهم بالخليفة المعتضد ببغداد فوجّه إليهم بالزاد والميرة والدوابّ، وبعث إليهم من يتلقّاهم وقبلهم أحسن قبول وأجزل جوائزهم وضاعف أرزاقهم، وخلع عليهم وصنع في أمرهم كلّ جميل. والمعتضد هذا هو صهر جيش صاحب(3/90)
الترجمة وزوج أخته قطر النّدى المقدّم ذكرها في ترجمة أبيها خمارويه. واستمرّ جيش هذا مع أوباشه بمصر، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بخروج طغج بن جفّ أمير دمشق عن طاعته، وخروج ابن طغان «1» أمير الثغور أيضا، وأنهما خلعاه جميعا وأسقطا اسمه من الدعوة والخطبة على منابر أعمالهم، فلم يكر به ذلك ولا استشنعه ولا رئى له على وجهه أثر. فلمّا رأى ذلك من بقى من غلمان أبيه بمصر مشى بعضهم إلى بعض وتشاوروا في أمره، فاجتمعوا على خلعه، وركب بعضهم وهجم عليه غلام لأبيه خزرىّ يقال له برمش «2» ، فقبض عليه وهمّ بقتله ثم كفّ عنه؛ فلمّا كان من الغد اجتمع القوّاد في مجلس من مجالس دار أبيه، وتذاكروا أفعاله وأحضروا معهم عدول البلد، وأعادوا لهم أخباره، وقالوا لهم: ما مثل هذا يقلّد شيئا من أمور المسلمين؛ وأحضروه لأن جماعة من غلمان أبيه- يعنى مماليكه- قالوا: لا نقلّد غيره حتى يحضر ونسمع قوله، فإن وعد برجوع وتاب من فعله أمهلناه وجرّبناه، وإن أقرّ بعجزه عن حمل ما حمل وجعلنا في حلّ من بيعته بايعنا غيره على يقين وعلى غير إثم؛ فأحضروه فاعترف أنه يعجز عن القيام بتدبير الدولة وأنه قد جعل من له فى عنقه بيعة في حلّ، وعمل بذلك محضر شهد فيه عدول البلد ووجوهه ومن حضر من القوّاد والغلمان- أعنى المماليك- وصرفوه؛ وكان قبل القبض عليه ركبوا إلى أبى جعفر ابن أبىّ «3» وقالوا له: أنت خليفة أبيه وكان ينبغى لك أن تؤدّبه وتسددّه؛ فقال لهم: قد تكلمت جهدى، ولكن لم يسمع منّى، وبعد فتقدّمونى إليه فتسمعون ما أخاطبه به،(3/91)
فتقدّموه وركب من داره فلما جاوز داره قليلا لقيه برمش فضرب بيده على شكيمة فرسه، وقال له: أنت خليفة أبيه وخليفته، ونصف ذنبه لك، وجرّه جرّا؛ وبينما هو في ذلك إذ أقبل علىّ بن أحمد فقبض على الآخر وقال له: أنت وزيره وكاتبه وعليك ذنبه، لأنه كان يجب عليك تقويمه وتعريفه ما يجب عليه، فصعد بالاثنين جميعا الى المنظر وقعد معهما كالملازم «1» ، وبينهما هو على ذلك إذ خطر على قلبه شىء، فقام الى دابته وتركهما ومضى نحو باب المدينة، فوثب من فوره ابن أبىّ «2» الى دابّته وركبها وقال لعلىّ ابن أحمد: اركب والحقنى، وحرّك دابّته فإنه كان أحسّ الموت، ثم جاءه الخلاص من الله؛ وركب بعده علىّ بن أحمد، فلم يتحاوز المنظر حتى لحقه طائفه من الرّجّالة فقتلوه؛ ومرّ ابن أبىّ إلى نحو المعافر «3» فتكمّن هناك واختفى؛ وعاد برمش فلم يجد ابن أبىّ، فمضى من فوره وهجم على جيش وقبض عليه، حسبما ذكرناه من خلعه وحبسه. وورّى جثّة علىّ بن أحمد؛ وسلم ابن أبىّ. فقال بعضهم في علىّ بن أحمد:
أحسن الى الناس طرّا ... فأنت فيهم معان
واعلم بأنك يوما ... كما تدين تدان
وقيل في أمر جيش المذكور وجه آخر، وهو أنه لمّا وقع من أمر القوّاد ما وقع خرج أبو العساكر جيش الى متنزّه له بمنية الأصبغ «4» غير مكترث بما وقع له، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بوثوب الجند عليه، وقالوا له: لا نرضى بك أبدا(3/92)
فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك نصر بن أحمد بن طولون؛ فخرج اليهم كاتبه علىّ بن أحمد الماذرائىّ، الذي تقدّم ذكر قتله، وسألهم «1» أن ينصرفوا عنه يومهم فانصرفوا؛ فقام جيش المذكور من وقته ودخل على عمّه نصر وكان في حبسه فضرب عنقه وعنق عمّه الآخر، ورمى برأسيهما «2» الى الجند، وقال: خذوا أميركم؛ فلما رأوا ذلك هجموا عليه وقتلوه وقتلوا أمّه معه ونهبوا داره وأحرقوها وأقعدوا أخاه هارون بن خمارويه فى الإمرة مكانه. ثم طلب علىّ بن أحمد الماذرائىّ كاتبه المقدّم ذكره وقتلوه، وقتلوا أيضا بندقوش وابن البواش، ونهبت دار جيش؛ قوقع في أيدى الجند من نهبها ما يملأ قلوبهم وعيونهم، حتى إنّ بعضهم من كثرة ما حصل له ترك الجنديّة وسكن الريف، وصار من مزارعيه وتجّاره. وقال العلامة شمس الدين يوسف ابن قزأوغلى في مرآة الزمان وجها آخر في قتل جيش هذا، فقال: ولى إمرة دمشق بعد موت أبيه بمدّة يسيرة، ثم خرج الى مصر في هذه السنة- يعنى سنة ثلاث «3» وثمانين ومائتين- واستعمل على دمشق طغج بن جفّ؛ فلما دخل الى مصر لم يرض به أهلها، وقالوا: نريد أبا العشائر هارون؛ فوثب عليه هارون فقتله في جمادى الآخرة، وكانت ولايته خمسة «4» أشهر، واستولى على مصر.
قال ربيعة بن أحمد بن طولون: لما قتل أخى خمارويه ودخل ابنه جيش مصر قبض علىّ وعلى عمّيه نصر وشيبان ابنى أحمد بن طولون، وحبسهما في حجرة معى في الميدان، وكان كلّ يوم تأتينا المائدة عليها الطعام فكنّا نجتمع عليها؛ فجاءنا(3/93)
يوما خادم، فأخذ أخانا نصرا فأدخله بيتا، فأقام خمسة أيام لا يطعم ولا يشرب والباب عليه مغلق؛ فدخل علينا ثلاثة من أصحاب جيش وقالوا: أمات أخوكما؟ فقلنا: لا ندرى، فدخلوا عليه البيت فرماه كلّ واحد منهم بسهم في مقتل فقتلوه، وكانت ليلة الجمعة [فأخرجوه «1» ] ثم أغلقوا علينا الباب، وبقينا يوم الجمعة ويوم السبت لم يقدّم «2» إلينا طعام، فظننا أنهم يسلكون بنا مسلك أخينا؛ فلما كان يوم الأحد سمعنا صراخا فى الدار، وفتح باب الحجرة علينا وأدخل علينا جيش بن خمارويه، فقلنا: ما حالك؟
فقال: غلبنى أخى هارون على البلد وتولّى الإمارة؛ فقلنا: الحمد لله [الذي «3» ] قبض يدك وأضرع خدّك! فقال: ما كان عزمى إلا أن ألحقكما [بأخيكما «4» ] . ثم جاء الرسول وقال: الأمير هارون قد بعث اليكما بهذه المائدة، وكان في عزم جيش أن يلحقكما بأخيكما نصر، فقوما إليه فاقتلاه وخذا بثأركما منه وانصرفا على أمان؛ قال: فلم نقتله وانصرفنا الى منازلنا، وبعث هارون خدما «5» فقتلوه وكفينا أمر عدوّنا. انتهى كلام أبى المظفّر.
قلت: وكان خلع جيش لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، وكانت ولايته ستة «6» أشهر واثنى عشر يوما، وقتل في السجن بعد خلعه بأيام يسيرة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 283]
السنة التى حكم في أوّلها جيش بن خمارويه على مصر، على أنه حكم من الماضية شهرا وأياما، وهذه السنة سنة ثلاث وثمانين ومائتين- فيها قدم رسول عمرو بن(3/94)
الليث الصفّار على الخليفة المعتضد العباسىّ من خراسان بالهدايا والتّحف؛ وفيها مائتا جمل «1» ومائتا حمارة؛ ومن الطرائف شىء كثير، منها: صنم على خلقة امرأة كان قوم من الهند في مدينة يقال لها" أيل شاه" كانوا يعبدونها. وفيها خرج جماعة من قوّاد مصر الى المعتضد، منهم محمد بن إسحاق وخاقان البلخىّ «2» وبدر بن جفّ؛ وسبب قدومهم الى المعتضد أنهم كانوا أرادوا أن يقتلوا جيش بن خمارويه المذكور فسعى بهم إليه وكان راكبا [وكانوا «3» ] فى موكبه، وعلموا أنه قد علم بهم، فخرجوا من وقتهم وسلكوا البرّيّة وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيّاما ومات منهم جماعة من العطش، ثم خرجوا على طريق الكوفة؛ فبلغ [أمرهم] الخليفة المعتضد فأرسل اليهم الأطعمة والدوابّ، ثم وصلوا بغداد فأكرمهم المعتضد وقرّبهم. وفيها توفّى إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم أبو إسحاق الثّقفىّ السّرّاج النيسابورىّ، كان الإمام أحمد بن حنبل يزوره في منزله «4» لزهده وورعه. وفيها توفّى سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التّسترىّ أحد المشايخ، ومن أكابر القوم والمتكلّم في علوم الإخلاص والرياضات «5» وكان كبير الشأن. وفيها توفّى صالح بن محمد بن عبد الله الشيخ أبو الفضل الشّيرازىّ «6» البغدادىّ، كان رجلا صالحا، ختم القرآن أربعة آلاف مرة. وفيها توفّى عبد الرّحمن ابن يوسف بن سعيد «7» بن خراش أبو محمد الحافظ البغدادى، أقام بنيسابور مدّة مستفيدا من محمد بن يحيى الذّهلىّ وغيره وسمع منه جماعة، وكان أوحد زمانه وفريد عصره.(3/95)
وفيها توفّى علىّ بن العبّاس بن جريح أبو الحسن الشاعر المشهور المعروف بابن الرومى مولى عبيد الله «1» بن عيسى بن جعفر؛ كان فصيحا بليغا، وهو أحد الشعراء المكثرين في الغزل والمدح والهجاء. قال صاحب المرآة: إنه مات في هذه السنة.
وقال ابن خلّكان: توفّى ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث «2» وثمانين، وقيل: أربع وثمانين، وقيل: سنة ستّ وسبعين. وهذه الأقوال أثبت من قول صاحب المرآة. انتهى. ومن شعره ولم يسبق إلى هذا المعنى:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدّجى والأخريات رجوم
وله من قصيدة:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
ويحكى أنّ لائما لامه وقال له: لم لا تشبّه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟
قال له: أنشدنى شيئا من شعره أعجز عن مثله؛ فأنشده صفة الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال ابن الرومى: زدنى، فأنشده:
كأنّ آذريونها «3» ... والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه(3/96)
فقال ابن الرّومى: وا غوثاه! لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، ذلك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرّف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرّة، وأهجو هذا كرّة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب الأموىّ البصرىّ قاضى القضاة أبو الحسن، كان ولى القضاء بسرّمن رأى، وكان عالما عفيفا ثقة. وفيها توفّى الوليد بن عبيد بن يحيى [بن عبيد «1» ] بن شملال، أبو عبادة الطائىّ البحترىّ الشاعر المشهور، أحد فحول الشعراء وصاحب الديوان المعروف به، كان حامل لواء الشعر فى عصره، مدح الخلفاء والوزراء والملوك، وأصله من أهل منبج «2» وقدم دمشق صحبة المتوكّل، ووصل الى مصر الى خمارويه. حكى أن المتوكّل قال له يوما: يا بحترىّ، قل في راح بيت شعر ولا تصرح باسمه؛ فقال:
جاز «3» بالودّ فتى أم ... سى رهينا بك مدنف
اسم من أهواه في ... شعرى مقلوب مصحّف
ومن شعره في المتوكّل أيضا من قصيدة:
فلو «4» انّ مشتاقا تكلّف غير ما ... فى وسعه لسعى اليك المنبر(3/97)
فلمّا تخلف المستعين قال: لا أقبل إلا ممّن قال مثل هذا؛ قال أبو جعفر أحمد بن يحيى البلاذرىّ «1» فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته «2» ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
وله:
شكرتك إنّ الشكر «3» للعبد نعمة ... ومن شكر المعروف فالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى سهل بن عبد الله التّسترىّ الزاهد، والعباس بن الفضل الأسفاطىّ، وعلى بن محمد بن عبد الملك ابن أبى الشوارب القاضى، ومحمد بن سليمان الباغندى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية هارون بن خمارويه على مصر
هو الأمير أبو موسى هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون التركىّ الأصل المصرىّ المولد. ولى مصر بعد قتل أخيه جيش بن خمارويه في اليوم العاشر من(3/98)
جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وتمّ أمره وكانت بيعته من غير عطاء للجند، وهو من الغرائب، وبايعوه طوعا أرسالا «1» ولم يمتنع عليه أحد، وجعلوا أبا جعفر ابن أبّى خليفته والمؤيّد لأمره ولتدبيره؛ وسكنت ثائرة الحرب وقرّ قرار الناس وقتل غالب أصحاب جيش ولم يسلم منهم إلا عبد الله بن الفتح، واستتر أبو عبد الله «2» القاضى خوفا من مثل مصرع على بن أحمد لأنه يعلم ما كان له في نفوس الناس، وما ظهر إلا في اليوم الذي دخل فيه محمد بن سليمان البلد، وقلّد القضاء بعده أبو زرعة محمد بن عثمان من أهل دمشق، وأخرج جيش بعد أيام ميّتا، ثم بعد أيام أمر أبو جعفر بن أبّى ربيعة بن أحمد بن طولون أن يخرج الى الإسكندرية فيسكنها هو وولده وحريمه ويبعد عن الحضرة، فتوجّه الى الإسكندرية وأقام بها على أجمل وجه الى أن حرّكه أجله، وكاتبه قوم ووثّبوه وقالوا له: أنت رجل كامل مكمّل التدبير، وقد تقلّدت البلدان وأحسنت سياستها، ولو كشفت وجهك لتبعك أكثر الجيش؛ فأطاعهم وأقبل ركضا فسبق من كان معه، فلم يشعر الناس به إلا وهو بالجبل المقطم «3» وحده ومعه غلام له نوبىّ وبيده مطرد «4» ينشد الناس لنفسنه «5» ويدعوهم إلى ما كاتبوه؛ واتّصل خبره بابن أبّى فبعث النقباء الى الناس وأمرهم بالركوب، فركب الناس وأقبلوا يهرعون من كلّ جانب. ونزل ربيعة مدلّا بنفسه وكان من(3/99)
الفرسان طمعا فيمن بقى له ممّن كاتبه، فلم يأته أحد وسار وحده وفرّ عنه من كان معه أيضا، وبقى كاللّيث يحمل على قطعة قطعة فينقضها وتنهزم منه، حتى برز له غلام أسود خصىّ يعرف بصندل المزاحمى- مولى مزاحم بن خاقان الذي كان أميرا على مصر، وقد تقدّم ذكره- فحمل عليه ربيعة فرمى صندل بنفسه الى الأرض وقال له:
بتربة «1» الماضى، فكفّ عنه وقال له: امض الى لعنة الله، ثم برز إليه غلام آخر يعرف بأحمد غلام الكفتىّ- والكفتىّ أيضا كان من جملة قوّادهم- فحمل عليه ربيعة فقتله، وأقبل ربيعة يحمل على الناس ميمنة وميسرة ويحملون عليه بأجمعهم فيكدّونه ويردّونه الى الصحراء ثم يرجع عليهم فيردّهم الى موضعهم؛ فلم يزل هذا دأبّة الى الزوال فتقطّر «2» عن فرسه فأكبّوا عليه ورموا بأنفسهم عليه حتى أخذوه مقانصة فاعتقل «3» يومه ذلك؛ فلما كان من الغد أمر أن يضرب مائة سوط ووكّل به الكفتىّ القائد ليأخذه بثأر غلامه، فكان الكفتىّ يحضّ الجلّادين ويصيح عليهم ويأمرهم بأن يوجعوا ضربه حتى استرخى، وقيل: إنه مات، فقال الكفتىّ: هيهات! لجم البقر لا ينضج سريعا! فضرب أسواطا بعد موته ثم أمر به فدفن في حجرة بقرب من بئر الجلودىّ ومنع أن يدفن مع أهله. فلما كان من غد يوم دفنه بلغ سودان أبيه أن الكفتىّ قال: لحم البقر لا ينضج سريعا، وأنه ضربه بعد أن مات أسواطا، فغاظهم ذلك وحرّكهم عليه وزحفوا الى داره، وبلغه الخبر فتنحّى عنها، فجاءوا داره فلم يجدوه فنهبوا داره ولم يكن له علم بذلك، فأخذوا منها شيئا كثيرا حتى تركت حرمته عريانة فى البيت لا يواريها شىء، ورجع الكفتىّ الى داره فرأى نعمته قد سلبت وحرمته قد هتكت، فدخل قلبه من ذلك حسرة فمات كمدا «4» بعد أيام.(3/100)
وثبت ملك هارون هذا وهو صبىّ يدبّر ولا يحسن [أن] يدبّر، والأمر كلّه مردود الى أبى جعفر بن أبىّ يدبّر كما يرى. فلما رأى غلمان أبيه الكبار الأمر كلّه لأبى جعفر، وهم بدر وفائق وصافى. قبض كلّ منهم على قطعة من الجيش وحازها لنفسه وجعلها مضافة له يطالب عنهم ما يستحقّونه من رزق وجراية وغيرها، وسأل أن يكون ما لهم محمولا الى داره يتولّى هو عطاءهم، فصار عطاء «1» كل طائفة من الجند الى دار الذي صارت في جملته وصاروا له كالغلمان. ثم خرج بدر القائد والحسن بن أحمد الماذرائىّ الى الشأم فأصلحوا أمرها، واستخلفوا على دمشق من قبل هارون المذكور الأمير طغج؛ ابن جفّ، وقرّروا جميع أعمال الشامات «2» ثم عادوا الى مصر. ثم حجّ بدر المذكور فى السنة وأظهر زيّا حسنا وأنفق نفقة كثيرة وأصلح من عقبة «3» أيلة جرفا كبيرا.
ولمّا كان في السنة المقبلة حجّ فائق فزاد في زيّه ونفقاته على كلّ ما فعله بدر؛ وكان دأبهم المنافسة في حسن الزّىّ وبسط اليد بالإنفاق في وجوه البرّ. وبنى بدر الميضأة المعروفة به على باب الجامع العتيق، ووقف عليها القيسارية الملاصقة لها، وجعل مع الميضأة ماء عذبا في كيزان توضع في حلقة من حلق المسجد؛ وكان صاحب صدقات بدر رجل يعرف بالليث بن داود، فكان الشخص يرى المساكين زمرا زمرا يتلو بعضهم بعضا ينادون في الطريق: دار الليث، دار الليث! فيعطيهم الليث الدراهم واللحم المطبوخ ويكسوهم في الشتاء الجباب الصوف ويفرّق فيهم الأكسية؛ وتمّ ذلك أيام حياة بدر كلّها؛ وكان لصافى وفائق أيضا أعمال مثل(3/101)
ذلك وأكثر. قال محمد بن عاصم العمرىّ- وكان من علماء الناس- قال:
صرت الى مصر فلم يحتف «1» بى أحد غير أبى موسى هارون بن محمد العباسىّ، فصار يحضر لى مائدة ويباسطنى في محادثته، وحملنى ذلك على أن استحييته، فقال لى:
أنا أعرف بصدقك فيما ذكرت وليس يرضينى لك ما ترى، لأن [هذه] أشياء تقصر عن مرادى، ولكنى سأقع «2» لك على موضع يرضيك ويرضينى فيك؛ ودام على ذلك مدّة لا يقطع عنّى عادته؛ الى أن توفّى لها رون صاحب مصر ولد صغير، فبادر هارون بإخراجه والصلاة عليه وصرنا به الى الصحراء، فما وضع عن أعناق حامليه حتى أقبل موكب عظيم فيه بدر وفائق وصافى موالى أبى الجيش خمارويه، ومحمد بن أبّى وجماعة، فقالوا: نصلّى عليه؛ فقال هارون: قد صلّيت عليه؛ فقالوا: لا بدّ أن نصلّى عليه؛ فقال هارون بن محمد العباسىّ: ادعوا الىّ محمد بن عاصم العمرىّ، وكنت فى أخريات الناس، فلم يزالوا قياما ينتظروننى حتى أتيت؛ فقال لى: صلّ بهم، فصلّيت بهم؛ وانصرفنا «3» ؛ فلمّا كان بعد يومين قال لى: قد عرّفت بك هؤلاء القوم فامض اليهم فإنّك تنال أجرا كبيرا؛ قال: فصرت الى أبوابهم وسلّمت عليهم، فلم يمض أقلّ من شهر حتى نالنى منهم مال كثير وحسنت حالى الى الغاية، ثم ذكر عن هؤلاء القوم من هذه الأشياء نبذا «4» كثيرة.
وأمّا أمر هارون صاحب الترجمة فانه لمّا تمّ أمره صار «5» أبو جعفر بن أبىّ هو مدبّر مملكته، وكان أبو جعفر عنده دهاء ومكر فبقى في قلبه [أثر «6» ] مما فعله برمش(3/102)
من يوم خلع جيش وقتل علىّ بن أحمد، وكان من القوّاد رجل يعرف بسمجور قد قلّد حجابة «1» هارون، فبسط لسانه في ابن أبّى المذكور وحرّك عليه القوّاد؛ وبلغ ذلك ابن أبّى فقال لهارون: احذر سمجور هذا، وهارون صبىّ فلم يتحمّل ذلك؛ ودخل القوّاد في شهر رمضان يفطرون عنده وكان سمجور فيهم؛ فلما نجز أمرهم وخرجوا استقعد سمجور وقال له: يا سمجور، أنت مدسوس إلىّ وأنا مدسوس اليك وتريد كيت وكيت، وغمز غلمانه عليه فقبضوا عليه واعتقله في خزانة من خزائنه فكان ذلك آخر العهد به. وأما برمش فانّ أبا جعفر بن أبىّ خلا به وقال له: ويحك! ألا ترى ما نحن فيه مع هؤلاء القوم! انقلبت الدولة روميّة ما لنا معهم أمر ولا نهى.
وكان برمش خزريّا أحمق، فبسط لسانه في بدر وغيره من الأروام، فنقل اليهم.
وكان بدر أخلاقه كريمة، وكان من أحسن خلقه أنّ الرجل إذا قبّل فخذه يقبّل هو رأس الرجل؛ فدسّ له برمش غلاما فوقف له على الباب، فلمّا خرج بدر أقبل عليه الغلام وقبّل فخذه فانكبّ بدر على رأسه، فضربه الغلام في رأسه فشجّه، وقبض على الغلام الأسود، فقال: دسّنى برمش؛ فغضب له الناس وركبوا قاصدين دار برمش، فعرف برمش الأمر فركب لحماقته وأمر غلمانه وحواشيه فركبوا وخرجوا الى الموضع المعروف ببئر برمش، وكان هو الذي احتفرها وبناها وصفّ هناك مماليكه؛ فركب في الحال ابن أبّى لما في نفسه من برمش قديما وقد تمّ له ما دبّره عليه، وقال لهارون: هذا غلامك برمش قد خرج عليك فأرسل بالقبض عليه، ثم قال:
الصواب أن تخرج بنفسك إليه في مماليكك وتبادر الأمر قبل أن يتّسع ويعسر أمره؛ فركب هارون في دسته فلم يبق أحد إلا ركب بركوبه؛ فلما رأى برمش ذلك تأهب لقتالهم وأخذ قوسه وبادر أن يرمى به؛ فقالوا له: مولاك، ويلك!(3/103)
مولاك الأمير! فقال: أرونى إن كان هو مولاى لم أقاتله، وإن كان هؤلاء «1» الأروام أقاتلهم كلّهم ونموت جميعا: فلما رأى الأمير هارون رمى بنفسه عن دابّته إلى الأرض، فغمز ابن أبىّ الرّجّالة عليه فتعاوروه «2» بأسيافهم حتى قتل، ونهبت داره؛ ورجع هارون إلى دار الإمارة. ثم بعد مدّة قدّم هارون القائد لحجا وكان من أصاغر القوّاد لأبى الجيش خمارويه، وبلّغه مراتب غلمان أبيه الكبار. فغاظ ذلك بدرا وصافيا وفائقا لأنهم كانوا يرون تفوسهم أحقّ بذلك منه، ثم بعد ذلك نفى هارون صافيا الى الرملة فتأكّدت الوحشة بينهم وبين هارون؛ وبينما هم في ذلك أتاهم الخبر أنّ رجلا «3» يزعم أنه علوىّ قد ظهر بالشأم في طائفة من الناس، فعاث أوّلا بنواحى الرّقّة ثم قدم الشأم، فاتصل خبره بطغج بن جفّ وهو يومئذ أمير دمشق، فتهاون به وركب إليه، وهو يظن أنه من بعض الأعراب، بغير أهبة ولا عدّة، ومعه البزاة والصّقورة كأنه خارج الى الصيد؛ فلما صافّه «4» لقيه رجلا متلهفا «5» على الشرّ لما تقدّم له من الظفر بجماعة من أعيان الملوك، فقاتله طغج فانهزم منه أقبح هزيمة ونهبت عساكره، وعاد طغج إلى دمشق مكسورا؛ فدخل قلوب الشاميّين منه فزع شديد؛ فكتب طغج إلى هارون هذا يستمدّه على قتاله؛ فأخرج إليه هارون بدرا الحمّامىّ وجماعة من القوّاد في جيش كثيف فساروا الى الشأم والتقوا مع الخارجىّ المذكور،(3/104)
وقد لقّب بالقرمطىّ، وكان من أصحاب بدر رجل يقال له زهير، فحلف زهير المذكور بالطلاق إنه متى وقع بصره على القرمطىّ ليرمينّ بنفسه عليه وليقصدنّه حيث كان؛ فلما تصافّ العسكران سأل زهير المذكور عن القرمطىّ، فقيل له: هو الراكب على الجمل، وله كمّان طويلان يشير بهما، فحيث أومأ بكمّة «1» حملت عساكره؛ فقال زهير:
أرى على الجمل اثنين، أهو المقدّم أم الرّديف؟ قالوا: بل هو الرديف؛ فجعل زهير يشقّ الصفوف حتى وصل إليه فطعنه طعنة وقطّره «2» عن جمله صريعا؛ فلما رآه أصحابه مصروعا حملوا على المصريّين والشاميّين حملة واحدة شديدة هزموهم فيها وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم أقاموا عليهم أخا القرمطىّ ورأّسوه عليهم. وأقبل زهير المذكور الى بدر الحمّامىّ فقال له: قد قتلت الرجل؛ فقال له بدر: فأين رأسه؟ فرجع ليأخذ رأسه فقتل زهير قبل ذلك؛ ثم كانت لهم بعد ذلك وقائع كثيرة والقرمطىّ فيها هو الظافر، فقتل من قوّاد المصريين وفرسانهم خلق كثير، وطالت مقاومته معهم حتى سمع بذلك المكتفى الخليفة العباسىّ وكان متيقّظا في هذا الحال يرى الإنفاق فيه سهلا ويقول: المبادرة في هذا أولى، فبادر بإرسال جيش كثيف نحوه، وجعل على الجيش محمد بن سليمان الذي كان كاتبا للؤلؤ غلام أحمد بن طولون الآتى ذكره في عدّة أماكن؛ وسار الجيش نحو البلاد الشاميّة؛ فلما أحسّ القرمطىّ بحركة محمد بن سليمان المذكور من العراق عدل عن دمشق الى نواحى حمص؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة وسبى النساء وعاث في تلك النواحى وعظم شأنه وكثر أعوانه ودعا لنفسه وخطب على المنابر باسمه وتسمّى بالمهدىّ؛ وكان له شامة «3» زعم(3/105)
أصحابه أنها آيته، وزعم أنّه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب. ومن شعره فى هذا المعنى قوله:
سبقت «1» يداى يديه ... قصرته هاشمىّ المجيد
وأنا ابن أحمد لم أقل ... كذبا ولم به أستزيد
ثم بثّ القرمطىّ عمّاله في البلاد والنواحى وكاتبهم وكاتبوه. فمن رسائله الى بعض عماله:
من «2» عبد الله المهدىّ المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بدين الله، الحاكم بحكم الله، الداعى لكتاب الله، الذابّ عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله (صلى الله(3/106)
عليه وسلم) أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، وخليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومهلك المفسدين، وسراج المستبصرين، وضياء المبصرين. ومشتّت المخالفين، والقيّم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيّين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين [الى «1» ] جعفر بن حميد «2» الكردىّ: سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلّى على محمد جدّى. أما بعد، ما هو كيت وكيت. فهذه صورة مكاتبته الى الأقطار. انتهى.
وأما محمد بن سليمان الكاتب فإنّ القاسم بن عبيد الله وزير المكتفى كتب إليه بطلب القرمطىّ المذكور والجدّ في أمره، فسار محمد بن سليمان بعساكره نحوه فالتقوا بموضع دون حماة، وكان القرمطىّ قد قدّم أصحابه أمامه وتخلّف هو في نفر ومعه المال الذي جمعه، فوقع بين محمد بن سليمان وبين أصحاب القرمطىّ وقعة انهزم فيها أصحاب القرمطىّ أقبح هزيمة، وكان ذلك في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائتين. فلما علم القرمطىّ [ب] هزيمة أصحابه أعطى أخاه أمواله وأمره بالنفوذ الى بعض النواحى التى يأمن على نفسه فيها إلى أن يتهيّأ له ما يحب «3» ، ثم مضى هو وابن عمه المدّثّر «4» وغلام له يسمّى المطوّق وغلام «5» آخر يسمّى دليلا، وطلب القرمطىّ بهم طريق الكوفة وسار حتى انتهى الى قرية تعرف بالداليّة «6» ، وعجزوا عن زادهم(3/107)
فدخل أحدهم الى القرية ليشترى لهم زادا «1» [فأنكروا زيّه وسئل عن أمره فمجمج «2» ، فأعلم المتولّى مسلحة هذه الناحية بخبره وهو رجل يعرف بأبى خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد] فأقبل عليه أبو خبزة المذكور مع أحداث ضيعته فقاتله وكسره وقبض عليه وعلى من معه: فانظر الى هذا الأمر الذي عجز عنه الملوك حتى كانت منيّته على يد هذا الضعيف. ولله درّ القائل:
وقد يسلم الإنسان ممّا يخافه ... ويؤتى الفتى من أمنه وهو غافل
فقبض عليه المذكور. وكان أمير «3» هذه النواحى القاسم بن سيما، فكتب بالخبر الى الخليفة المكتفى وهو بالرّقّة، وقد كان رحل في أثر محمد بن سليمان، واتّفق مع هذا موافاة كتاب محمد بن سليمان الى القاسم بن عبيد الله بالفتح والنّصرة على القرمطىّ، ثم أحضر القرمطىّ الى بين يدى الخليفة المكتفى، فأخذه الخليفة وعاد هو ووزيره القاسم بن عبيد الله من الرّقة الى بغداد، وهو على جمل يشهر به في كلّ بلد يمرّون به، ومعه أيضا أصحاب «4» القرمطىّ، ودخل بهم بغداد وقد زيّنت بغداد بأفخر الزينة، وكان لدخولهم يوم عظيم الى الغاية. فلما كان يوم الاثنين الثالث والعشرون من شهر ربيع الأوّل جلس الخليفة مجلسا عاما، وأحضر القرمطىّ وأصحابه فقطعت أيديهم وأرجلهم ثم رمى بهم من أعلى الدكّة الى أسفل، ولم يبق منهم إلّا ذو الشامة أعنى القرمطىّ، ثم قدّم القرمطىّ فضرب بالسّوط حتى استرخى، ثم قطعت يداه ورجلاه(3/108)
ونخس في جنبه «1» بخشب، فلمّا خافوا عليه الموت ضربوا عنقه؛ ثم حضر محمد بن سليمان وخلع عليه الخليفة المكتفى ثم خلع على القوّاد الذين كانوا معه، وهم محمد بن إسحاق بن كنداج وحسين بن حمدان وأحمد بن إبراهيم بن كيغلغ وأبو الأغرّ ووصيف، وأمرهم الجميع بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان. ثم أمر الخليفة محمد بن سليمان بالتوجّه الى مصر لقتال هارون بن خمارويه صاحب الترجمة، فسار محمد بن سليمان بمن معه في شهر رجب، وكتب الى دميانة غلام يا زمان وهو يومئذ أمير البحر أن يقفل بمراكبه الى مصر؛ وسار الجيش قاصدا دمشق، فلما قربوا منها تلقّاهم بدر وفائق في جميع جيشهما لما في نفوسهما من هارون حسبما قدّمناه من تقديم من تقدّم ذكره عليهما؛ وصاروا مع محمد بن سليمان جيشا واحدا؛ وساروا نحو مصر؛ فاتّصلت أخبارهم بهارون بن خمارويه هذا، فتهيأ لقتالهم وجمع العساكر وأمر بمضربه فضرب بباب المدينة بعد أن نعق «2» فى جنده وأمرهم بالتأهّب للرحيل، فاستعدّوا ثم رحلوا الى العبّاسة «3» يريدون الشأم؛ وتربّص هارون بالعبّاسة أيّاما، وكتب لبدر وفائق يستعطفهما ويذكر لهما الحرمة وما يجب عليهما من حفظ ذمام الماضين من أبيه وجدّه، وصارت كتبه صادرة اليهم والى القوّاد بذلك؛ فبينما هو [ذات] ليلة بالعباسة وقد شرب وثمل ونام آمنا في مضربه إذ وثب عليه بعض غلمانه فذبحه،(3/109)
وقيل: إن ذلك كان بمساعدة بعض عمومته في ذلك، وأصبح الناس وأميرهم مذبوح وقد تفرّقت الظنون في قاتله؛ فنهض عمّه شيبان بن أحمد بن طولون ودعا لنفسه، وضمن للناس حسن القيام بأمر الدولة والإحسان لمن ساعده، فبايعه الناس على ذلك. انتهى. وقد ذكر بعضهم قصّة هارون هذا بطريق آخر قال: واستمرّ هارون هذا في إمرة مصر من غير منازع؛ لكن أحوال مصر كانت في أيّامه مضطربة إلى أن ورد عليه الخبر بموت الخليفة المعتضد بالله في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وبويع لابنه محمد المكتفى بالخلافة. ثم خرج القرمطىّ بالشأم في سنة تسعين، فجهّز هارون لحربه القوّاد في جيش كبير فهزمهم القرمطىّ؛ ثم وقع بين هارون وبين الخليفة المكتفى وحشة وتزايدت الى أن أرسل المكتفى لحربه محمد بن سليمان الكاتب؛ فسار محمد بن سليمان من بغداد إلى أن نزل حمص وبعث بالمراكب من الثغور الى سواحل مصر وسار هو حتى نزل بفلسطين؛ فتجهّز هارون أيضا لقتال محمد ابن سليمان المذكور وسيّر المراكب في البحر لحربه وفيها المقاتلة، حتى التقوا بمراكب محمد بن سليمان وقاتلوهم فانهزموا؛ وكان القتال في تنّيس وملك أصحاب محمد بن سليمان تنّيس ودمياط؛ وكان هارون قد خرج من مصر يوم التّروية «1» لقتال محمد بن سليمان، فلما بلغه الخبر توجّه الى العبّاسة ومعه أهله وأعمامه في ضيق وجهد، فتفرّق عنه كثير من أصحابه وبقى في نفر يسير، وهو مع ذلك متشاغل باللهو والسكر؛ فاجتمع عمّاه شيبان وعدىّ ابنا أحمد بن طولون على قتله، فدخلا عليه وهو ثمل فقتلاه ليلة الأحد لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وسنّه يومئذ اثنتان وعشرون سنة؛(3/110)
وكانت ولايته على مصر ثمانى سنين وثمانية أشهر وأيّاما؛ وتولّى عمّه شيبان مصر بعده.
وقال سبط ابن الجوزىّ في تاريخه: وفيها- يعنى سنة اثنتين وتسعين ومائتين- فى صفر سار محمد بن سليمان إلى مصر لحرب هارون بن خمارويه، وخرج إليه هارون فى القوّاد فجرت بينهم وقعات؛ ثم وقع بين أصحاب هارون في بعض الأيام عصبيّة، فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكتهم فرماه بعض المغاربة بسهم فقتله وتفرّقوا؛ فدخل محمد بن سليمان مصر وملكها واحتوى على دور آل طولون وأسبابهم وأخذهم جميعا، وكانوا بضعة عشر رجلا، فقيّدهم وحبسهم واستصفى أموالهم وكتب بالفتح إلى المكتفى. وقيل: إن محمد بن سليمان لمّا قرب من مصر أرسل الى هارون يقول:
إن الخليفة قد ولّانى مصر ورسم أن تسير بأهلك وحشمك إلى بابه إن كنت مطيعا، وبعث بكتاب الخليفة إلى هارون؛ فعرضه هارون على القوّاد فأبوا عليه فخرج هارون؛ فلمّا وقع المصافّ صاح هارون: يا منصور؛ فقال القوّاد: هذا يريد هلا كنا، فدسّوا عليه خادما فقتله على فراشه وولّوا مكانه شيبان بن أحمد بن طولون؛ ثم خرج شيبان الى محمد مستأمنا. وكتب الخليفة إلى محمد بن سليمان في إشخاص آل طولون وأسبابهم والقوّاد وألّا يترك أحدا منهم بمصر والشأم؛ فبعث بهم إلى بغداد فحبسوا في دار صاعد. انتهى ما أوردناه من ترجمة هارون من عدّة أقوال بخلف وقع بينهم فى أشياء كثيرة.
وأما محمد بن سليمان المذكور فأصله كاتب الخادم لؤلؤ الطولونىّ. قال القضاعىّ:
يقال: إن أحمد بن طولون جلس يوما في بعض متنزّهاته ومعه كتاب ينظر فيه، وإذا بشابّ قد أقبل، فالتفت أحمد الى لؤلؤ الطولونىّ وقال. اذهب وأتنى برأس هذا الشابّ؛ فنزل إليه لؤلؤ وسأله من أىّ بلد هو وما صنعته؟ فقال: من العراق من أبناء الكتّاب؛ فقال له: وما أتيت تطلب؟ قال: رزقا؛ فعاد لؤلؤ إلى أحمد بن طولون؛(3/111)
فقال له: ضربت عنقه؟ فسكت، فأعاد عليه القول فسكت؛ فاستشاط أحمد ابن طولون غيظا ثم أمره بقتله؛ فقال لؤلؤ: يا مولاى بأىّ ذنب «1» تقتله؟ فقال:
إنى أرى في هذا الكتاب «2» من منذ سنين أن زوال ملك ولدى يكون على يد رجل هذه صفته فقال: يا مولاى، أو هذا صحيح؟ قال: هذا الذي رأيته وتفرّسته؛ فقال: يا مولاى، لا يخلو هذا الأمر من أن يكون حقّا أو كذبا، فإن كان كذبا فما لنا والدخول في دم مسلم! وإن كان حقّا فلعلّنا نفعل معه خيرا علّه يكافئ به يوما، وإن كان الله قدّر ذلك فإنا لا نقدر على قتله أبدا؛ فسكت أحمد بن طولون، فأضافه لؤلؤ إليه؛ وكان هذا الشابّ يسمى محمد بن سليمان الكاتب الحنيفىّ، منسوب إلى حنيفة السّمرقندىّ، فلم تزل الأيام تنتقل بمحمد المذكور والدّهر يتصرّف فيه إلى أن بقى ببغداد قائدا من جملة القوّاد، وجرى من أمره ما تقدّم ذكره من قتال القرامطة وهارون صاحب مصر، إلى أن ملك الديار المصريّة وأمسك الطولونيّة وخرّب منازلهم، وهدم القصر المسمّى بالميدان الذي كان سكن أحمد بن طولون، وتتبّع أساسه حتى أخرب الديار ومحا الآثار، ونقل ما كان بمصر من ذخائر بنى طولون إلى العراق. وقال صاحب كتاب الذخائر: إن محمد بن سليمان المذكور رجع إلى العراق فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين ومعه من ذخائر بنى طولون أموال عظيمة، يقال: إنّه كان معه أكثر من ألف ألف دينار عينا، وإنّه حمل إلى الخليفة الإمام المكتفى من الذخائر والحلىّ والفرش أربعة وعشرين ألف حمل جمل، وحمل آل طولون معه إلى بغداد؛ وأخذ محمد بن سليمان لنفسه وأصحابه غير ذلك ما لا يحصى كثرة. ولما وصل محمد بن سليمان إلى حلب متوجّها إلى العراق، كتب الخليفة المكتفى إلى وصيف مولى المعتضد أن يتوكّل بإشخاص محمد بن سليمان المذكور؛ فأشخصه(3/112)
وصيف المذكور إلى الحضرة؛ فأخذه المكتفى وقيّده وصادره وطالبه بالأموال التى أخذها من مصر. ولم يزل محمد بن سليمان معتقلا إلى أن تولّى ابن الفرات للخليفة المقتدر جعفر، فأخرجه إلى قزوين «1» واليا على الضّباع والأعشار بها. يأتى ذكر محمد ابن سليمان هذا ثانيا بعد ذلك في حوادث هارون على الترتيب المقدّم ذكره بعد فى ولاية شيبان إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 284]
السنة الأولى من ولاية هارون بن خمارويه على مصر، وهى سنة أربع وثمانين ومائتين- فيها كانت وقعة بين الأمير عيسى النّوشرىّ الآتى ذكره في أمراء مصر وبين بكر بن عبد العزيز بن أبى دلف، وكان قد أظهر العصيان فهزمه النّوشرىّ بقرب أصبهان واستباح عسكره. وفيها ظهرت بمصر حمرة عظيمة في الجوّ حتى إنه كان الرجل إذا نظر في وجه الرجل يراه أحمر وكذا الحيطان، فتضرّع الناس بالدعاء إلى الله، وكانت من العصر إلى الليل. وفيها بعث عمرو بن الليث بألف ألف درهم لتنفق على إصلاح درب مكّة من العراق، قاله ابن جرير الطبرىّ.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوّفه عبيد «2» الله الوزير باضطراب العامة، فلم يلتفت وتقدّم إلى العامة بلزوم أشغالهم وترك الاجتماع بالناس، ومنع القصّاص «3» من القعود في الأماكن، ثم منع من اجتماع الحلق في الجوامع، وكتب المعتضد(3/113)
كتابا «1» فى ذلك واجتمع الناس يوم الجمعة بناء «2» على أنّ الخطيب يقرؤه فما قرئ. وفيها ظهر في دار الخليفة المعتضد شخص في يده سيف مسلول، فقصده بعض الخدّام فضربه بالسيف فجرحه واختفى في البستان، فطلب فلم يوجد له أثر؛ فعظم ذلك على المعتضد واحترز على نفسه وساءت الظنون فيه فقيل هو من الجنّ، وقيل غير ذلك؛ وأقام الشخص يظهر مرارا ثم يختفى، ولم يظهر خبره حتى مات المعتضد والمكتفى، فاذا هو خادم كان يميل إلى بعض الجوارى التى في الدور، وكانت عادة المعتضد أنه من بلغ الحلم من الخدّام منعه من الدخول الى الحرم، وكان خارج دور الحرم بستان كبير، فاتخذ هذا الخادم لحية بيضاء وبقى تارة يظهر في صورة راهب وتارة يظهر بزىّ جندىّ بيده سيف، واتخذ عدّة لحّى مختلفة الهيئات والألوان؛ فاذا ظهر خرجت الجارية مع الجوارى لتراه فيخلو بها بين الشجر، فاذا طلب دخل بين الشجر ونزع اللحية والبرنس ونحو ذلك، وخبأها وترك السيف في يده مسلولا كأنه من جملة الطالبين لذلك الشخص؛ وبقى كذلك إلى أن ولى المقتدر الخلافة وأخرج الخادم إلى طرسوس «3» ، فتحدّثت الجارية بحديثه بعد ذلك. وفيها في يوم الخميس رابع المحرّم قدم [رسول «4» ] عمرو بن الليث الصفّار على المعتضد برأس رافع بن هرثمة؛ فخلع على الرسول ونصب الرأس في جانبى «5» بغداد. وفيها وعد المنجّمون الناس بغرق الأقاليم السبعة، ويكون ذلك من كثرة الأمطار وزيادة المياه في العيون والآبار، فانقطع الغيث وغارت العيون وقلّت المياه، حتى احتاج الناس إلى أن استسقوا ببغداد حتى(3/114)
أمطروا وكذّب الله المنجّمين. وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن ترنجة.
وفيها توفّى أحمد بن المبارك أبو عمرو المستملى النّيسابورىّ الزاهد العابد، كان يسمّى راهب عصره، يصوم النهار ويقوم الليل، وكانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن الحسن «1» الحربىّ «2» ، وأبو عمرو أحمد بن المبارك المستملى، وأبو خالد عبد العزيز بن معاوية القرشىّ [العتابىّ «3» ] ومحمود بن الفرج الأصبهانىّ الزاهد، وهشام بن على السّيرافىّ، ويزيد بن الهيثم أبو خالد البادىّ «4» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 285]
السنة الثانية من ولاية هارون على مصر، وهى سنة خمس وثمانين ومائتين- فيها في يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من المحرّم قطع صالح بن مدرك الطائىّ الطريق في جماعة من طيئ على الحجّاج [بالأجفر «5» ] ، فأخذوا من الأموال والمماليك(3/115)
والنساء ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها ولّى المعتضد ابن أبى الساج أرمينية وأذربيجان وكان قد غلب عليهما. وفيها غزا راغب الخادم مولى الموفّق بلاد الروم في البحر فأظفره الله بمراكب كبيرة وفتح حصونا كثيرة. وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن ترنجة. وفيها في شهر ربيع الأوّل هبّت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء ثم سوداء وامتدّت في الأمصار، ثم وقع عقيبها مطر وبرد وزن البردة مائة وخمسون درهما، وقطعت الريح نحو ستمائة نخلة، ومطرت قرية «1» من القرى حجارة سودء وبيضاء. وفيها في ذى الحجة منها قدم الأمير على ابن الخليفة المعتضد بالله بغداد، وكان قد جهّزه أبوه لقتال محمد بن زيد العلوىّ، فدفع محمد ابن زيد عن الجبال وتحيّز الى طبرستان، ففرح به أبوه المعتضد وقال: بعثناك ولدا فرجعت أخا، ثم أعطاه ألف ألف دينار. وفي ذى الحجة أيضا خرج الخليفة المعتضد وابنه علىّ يريد آمد «2» لمّا بلغه موت عيسى بن الشيخ بعد أن صلّى ابنه علىّ المذكور بالناس يوم الأضحى ببغداد، وركب كما يركب ولاة العهود. وفيها توفى إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله أبو إسحاق المروزىّ الحربىّ، كان إماما عالما فاضلا زاهدا مصنّفا، كان يقاس بالإمام أحمد بن حنبل في علمه وزهده. وفيها توفى الأمير أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد وديار بكر، كان ولّاه إيّاهما المعتزّ، فلما قتل المعتزّ استولى عليهما الى أن مات في هذه السنة، فاستولى عليهما ابنه محمد فسار المعتضد فأخذهما منه واستعمل عليهما نوّابه. وفيها(3/116)
توفّى إمام النحاة المبرّد «1» واسمه محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن حسّان بن سليمان الإمام العلّامة أبو العبّاس البصرىّ الأزدىّ المعروف بالمبرّد، انتهت إليه رياسة النحو واللغة بالبصرة، ولد سنة ستّ ومائتين وقيل: سنة عشر ومائتين.
وكان المبرّد وأبو العبّاس أحمد بن يحيى الملقّب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين متعاصرين؛ وفيهما يقول أبو بكر بن أبى الأزهر:
أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرّد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
وكان المبرّد يحبّ الاجتماع والمناظرة بثعلب وثعلب يكره ذلك ويمتنع منه. ومن شعر المبرّد:
يا من تلبّس أثوابا يتيه بها ... تيه الملوك على بعض المساكين
ما غيّر الجلّ «2» أخلاق الحمار ولا ... نقش البرادع أخلاق البراذين «3»(3/117)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم الحربىّ «1» ، وإسحاق بن إبراهيم الدّبرىّ»
، وعبيد [الله «3» ] بن عبد الواحد بن شريك، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرّد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وستّ عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 286]
السنة الثالثة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة ستّ وثمانين ومائتين- فيها أرسل هارون بن خمارويه صاحب الترجمة الى الخليفة المعتضد يعلمه أنه نزل عن أعمال قنّسرين والعواصم، وأنّه يحمل الى المعتضد في كلّ سنة أربعمائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وسأله تجديد الولاية له على مصر والشأم؛ فأجابه المعتضد الى ذلك وكتب له تقليدا بهما. وفيها في شهر ربيع الآخر نازل «4» المعتضد آمد وبها محمد بن أحمد ابن [عيسى «5» بن] الشيخ فحاصرها أربعين يوما حتى ضعف محمد وطلب «6» الأمان [لنفسه وأهل البلد فأجابه الى ذلك فخرج إليه محمد ومعه أصحابه وأولياؤه فوصلوا الى المعتضد «7» ] فخلع عليه المعتضد. وفيها قبض المعتضد على راغب الخادم أمير طرسوس واستأصل «8» أمواله فمات بعد أيّام. وفيها التقى جيش عمرو بن الليث الصفّار واسماعيل بن أحمد(3/118)
ابن أسد [السامانىّ «1» ] بما وراء «2» النهر فانكسر أصحاب عمرو، ثم التقى هو وعمرو ثانيا على بلخ، وكان أهل بلخ قد ملّوا عمرا وأصحابه ونجروا من نزولهم في دورهم وأخذهم أموالهم، فساعد أهل بلخ إسماعيل فانكسر عمرو وانهزم الى بلخ، فوجد أبوابها مغلقة ثم فتحوا له ولجماعة معه؛ فلما دخل وثب عليه أهل بلخ فأوثقوه وحملوه الى إسماعيل فأكرمه إسماعيل ثم بعث به الى المعتضد فخلع المعتضد على إسماعيل خلعة السلطنة، وأدخل عمرو بغداد على جمل ليشهّروه بها ثم حبسه المعتضد في مطمورة «3» ، فكان يقول: لو أردت أن أعمل على جيحون جسرا من ذهب لفعلت، وكان مطبخى يحمل على ستمائة جمل، وأركب في مائة ألف، أصارنى «4» الدهر إلى القيد والذلّ! وقيل: إنه خنق قبل موت المعتضد بيسير. وفيها ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنّابىّ «5» القرمطىّ «6» في أوّل السنة، وفي وسطها قويت شوكته وانضمّ إليه طائفة من الأعراب، فقتل «7» أهل تلك(3/119)
القرى وقصد البصرة، فبنى عليها المعتضد سورا؛ وكان أبو سعيد هذا كيّالا بالبصرة.
وجنّابة من قرى الأهواز، وقيل: من قرى البحرين «1» .
قلت: وهذا أوّل «2» من ظهر من القرامطة الآتى ذكرهم في هذا الكتاب في عدّة مواطن. وهذا القرمطىّ هو الذي قتل الحجيج واقتلع الحجر «3» الأسود حسبما يأتى ذكره.
وفيها حضر مجلس القاضى موسى بن إسحاق قاضى الرّىّ وكيل امرأة ادّعى على زوجها صداقها بخمسمائة دينار فأنكر الزوج؛ فقال القاضى: البيّنة، فأحضرها الوكيل فى الوقت، فقالوا: لا بدّ أن ننظر المرأة [وهى «4» مسفرة لتصحّ عندهم معرفتها] فتتحقّق الشهادة؛ فقال الزوج: ولا بدّ؟ فقالوا: ولا بدّ؛ فقال الزوج: أيها القاضى عندى الخمسمائة دينار ولا ينظر هؤلاء الى امرأتى [فأخبرت بما كان من زوجها «5» ] ؛ فقالت المرأة: إنى أشهد القاضى أنّنى قد وهبت له ذلك وأبرأته منه في الدنيا والآخرة! فقال القاضى: تكتب هذه الواقعة في مكارم الأخلاق. وفيها توفّى إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران أبو بكر السّراج النيسابورىّ مولى ثقيف، سمع الإمام أحمد وصحبه. وفيها توفى «6» الحسين بن سيّار أبو على البغدادىّ الخيّاط، كان إماما عارفا بتعبير الرؤيا، وكانت وفاته في صفر، أسند عن أبى بلال الأشعرىّ(3/120)
وغيره، وروى عنه جماعة كثيرة. وفيها توفى محمد بن يونس بن موسى بن سليمان ابن عبيد بن ربيعة بن كديم «1» أبو العباس الكديمىّ القرشىّ البصرىّ، حجّ أربعين حجّة، وكان حافظا متقنا ورعا، مات ببغداد في نصف جمادى الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن سلمة النّيسابورىّ الحافظ، وأحمد بن علىّ الخزّاز «2» ، وأبو سعيد الخرّاز «3» شيخ الصوفيّة، وأحمد ابن المعلّىّ [بن يزيد أبو بكر الأسدىّ القاضى «4» ] الدّمشقىّ، وابراهيم بن سويد الشامىّ، وإبراهيم [بن محمد «5» ] بن برّة الصّنعانىّ، والحسن بن عبد الأعلى البوسىّ أحد أصحاب عبد الرزّاق، وعبد الرّحيم بن عبد الله البرقىّ، وعلى بن عبد العزيز البغوىّ، ومحمد بن وضّاح القرطبىّ «6» ، ومحمد بن يوسف البنّاء الزاهد، ومحمد بن يونس الكديمىّ، وأبو عبادة البحترىّ الشاعر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 287]
السنة الرابعة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة سبع وثمانين ومائتين- فيها في المحرّم واقع صالح بن مدرك كبير عرب طيّئ الحاجّ العراقىّ كما فعل بهم(3/121)
فى العام الماضى، وكان في ثلاثة آلاف من عرب طيّئ وغيرهم ما بين فارس وراجل، وكان أمير الحاج أبا الأغرّ، فأقاموا يقاتلونهم يوما وليلة حتى هزم صالح بن مدرك وقتل معه أعيان طئّ، ودخل الرّكب بغداد بالرءوس على الرّماح وبالأسرى. وفيها عظم أمر القرامطة وأغاروا على البصرة ونواحيها، فسار لحربهم العبّاس بن عمرو الغنوىّ فالتقوا فأسر الغنوىّ وقتل خلق من جنده، ثم إنّ أبا سعيد القرمطىّ أطلقه، وقال له: بلّغ المعتضد عنّى رسالة ومضمونها: أنه يكفّ عنه ويحفظ حرمته، وقال: فأنا قنعت بالبرّيّة فلا يتعرّض لى. وفيها مات صاحب طبرستان محمد «1» بن زيد العلوىّ. وفيها أوقع بدر غلام الطائى بالقرامطة على غرّة، فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم تركهم خوفا على السواد «2» . وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن ترنجة. وفيها توفى أحمد بن عمرو بن [أبى عاصم «3» ] الضحاك القاضى أبو بكر الشّيبانىّ الفقيه المحدّث وابن محدّث، ولى القضاء بأصبهان وصنّف علوم الحديث وكان عالما بارعا. وفيها توفى يعقوب بن يوسف بن أيوب الشيخ(3/122)
أبو بكر المطّوّعىّ «1» الزاهد العابد، وعنه قال: كان وردى في شبيبتى كلّ يوم وليلة أربعين «2» ألف مرّة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن نبيط «3» ، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن أبى عاصم أبو علىّ «4» فى [شهر] ربيع الآخر وله نيّف وثمانون سنة، ومحمد بن عمرو الحوشىّ «5» ، وموسى بن الحسن الجلاجلىّ «6» ، وأبو سعد «7» يحيى بن منصور الهروىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 288]
السنة الخامسة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين ومائتين- فيها وقع وباء بأذربيجان فمات فيه خلق كثير وفقدت الأكفان فكفّن الناس فى الأكسية واللّبود ثم فقدت، وفقد من يدفن الموتى فكانوا يطرحون «8» على الطريق، ثم وقع الطاعون في أصحاب محمد بن أبى الساج فمات لمحمد مائتا ولد(3/123)
وغلام، ثم مات محمد بن أبى السّاج المذكور بمدينة أذربيجان، وكان يلقّب بالأفشين، فاجتمع غلمانه وأمّروا عليهم ابنه ديوداد فاعتزلهم أخوه يوسف بن أبى الساج وهو مخالف لهم. وفيها حجّ بالناس هارون «1» بن محمد بن العباس بن إبراهيم ابن عيسى بن أبى جعفر المنصور. وفيها كانت زلزلة. قال أبو الفرج بن الجوزىّ:
[ورد «2» الخبر بأنه مات تحت الهدم في يوم واحد أكثر من ثلاثين ألف إنسان ودام عليهم هذا أيّاما فبلغ من هلك خمسين ومائة ألف] وقيل: كان ذلك فى العام الماضى. وفيها قدم المعتضد العراق ومعه وصيف خادم محمد بن أبى السّاج، وكان قد عصى عليه بالثغور، فأسره وأدخل على جمل، ثم توفّى بالسجن بعد أيام فصلبت جئته على الجسر. وفيها ظهر أبو عبد «3» الله الشّيعىّ بالمغرب ونزل بكتامة «4» ودعاهم إلى المهدىّ عبيد الله- أعنى بعبيد الله جدّ الخلفاء الفاطميّة- وفيها توفى ثابت بن قرّة العلامة أبو الحسن المهندس صاحب التصانيف في الفلسفة والهندسة والطبّ وغيره، كان فاضلا بارعا في علوم كثيرة، ومولده في سنة إحدى وعشرين «5» ومائتين.(3/124)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إسحاق بن إسماعيل الرّملى «1» بأصبهان، وبشر بن موسى الأسدىّ، وجعفر بن محمد بن سوّار الحافظ، وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشّار «2» الأنماطىّ شيخ ابن سريج «3» ، ومعاذ بن المثنّى العنبرىّ، وخلق سواهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 289]
السنة السادسة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة تسع وثمانين ومائتين- فيها فاض البحر على الساحل فأخرب البلاد والحصون [التى عليه «4» ] . وفيها في [شهر] ربيع الآخر اعتلّ الخليفة المعتضد بالله علّة صعبة وهى العلة التى مات بها؛ فقال عبد الله بن المعتزّ في ذلك:
طار قلبى بجناح الوجيب «5» ... جزعا من حادثات الخطوب
وحذارا أن يشاك بسوء ... أسد الملك وسيف الحروب(3/125)
ثم انتكس ومات في الشهر، وتحلّف بعده ولده المكتفى بالله أبو محمد علىّ.
وليس في الخلفاء من اسمه على غير علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وهذا. وفيها فى شهر رجب زلزلت بغداد زلزلة عظيمة دامت أيّاما. وفيها هبّت ريح عظيمة بالبصرة قلعت عامّة نخلها ولم يسمع بمثل ذلك. وفيها انتشرت «1» القرامطة بسواد الكوفة، وكان رئيسهم يقال له ابن أبى الفوارس، فظفر به عسكر المعتضد- أعنى قبل موت المعتضد- فحمل هو وجماعة معه الى بغداد فعذّبوا بأنواع العذاب ثم صلوا وأحرقوا؛ وأمّا كبيرهم ابن أبى الفوارس المذكور فقلعت أضراسه ثم شدّ «2» فى إحدى يديه بكرة وفي الأخرى صخرة، ورفعت البكرة ثم لم يزل على حاله الى وقت «3» الظّهر؛ ثم قطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك ابن عبد الله العباسىّ. وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو العباس أحمد ابن الأمير ولىّ العهد أبى أحمد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، ومولده في سنة اثنتين وأربعين ومائتين في ذى القعدة في أيام جدّه المتوكّل؛ واستخلف بعده عمّه المعتمد أحمد في شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. قال ابراهيم [بن «4» محمد] بن عرفة: وتوفّى المعتضد في يوم الاثنين لثمان بقين من [شهر] ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين ودفن في حجرة «5» الرخام وصلّى عليه(3/126)
يوسف بن يعقوب القاضى، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر ونصفا.
قلت: وبويع بالخلافة بعده ولده علىّ بعهد منه، ولقّب بالمكتفى. وكان المعتضد شجاعا مهيبا أسمر نحيفا معتدل الخلق ظاهر الجبروت وافر العقل شديد الوطأة، من أفراد خلفاء «1» بنى العباس وشجعانهم، كان يتقدّم على الأسد وحده.
وقال المسعودىّ: كان «2» المعتضد قليل الرحمة، قيل: إنه كان إذا غضب على قائد أمر أن تحفر له حفيرة ويلقى فيها وتطمّ عليه، قال: شكّوا في موت المعتضد فتقدّم الطبيب فجسّ نبضه «3» ففتح عبنه ورفس الطبيب برجله فدحاه أذرعا فمات الطبيب، ثم مات المعتضد أيضا من ساعته. هكذا نقل المسعودىّ. ورثاه الأمير عبد الله بن المعتزّ العبّاسىّ فقال:
يا ساكن «4» القبر في غبراء مظلمة ... بالطاهريّة «5» مقصى الدار منفردا
أين الجيوش التى قد كنت تسحبها ... أين الكنوز التى لم تحصها «6» عددا
أين السرير الذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأته عينه ارتعدا(3/127)
أين الأعادى الألى ذلّلت مصعبهم ... أين الليوث التى صيّرتها بعدا «1»
أين الجياد التى حجّتها بدم ... وكنّ يحملن منك الضّيغم الأسدا
أين الرماح التى غذّيتها مهجا ... مذمت ما وردت قلبا ولا كبدا
أين الجنان التى تجرى جداولها ... وتستجيب اليها الطائر الغردا
أين الوصائف كالغزلان رائحة ... يسحبن من حلل موشيّة جددا
أين الملاهى وأين الراح تحسبها ... ياقوتة كسيت من فضّة زردا
أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ... صلاح ملك بنى العبّاس إذ فسدا
ما زلت تقسر منهم كلّ قسورة ... وتخيط «2» العالى الجبّار معتمدا
ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا
وفيها خرج يحيى بن زكرويه بن مهرويه داعية قرمط وجمع جموعا كثيرة من الأعراب، وكانت بينه وبين طغج بن جفّ تائب هارون بن خمارويه على الشام وقعات عديدة، تقدّم ذكر ذلك كله في أوّل ترجمة هارون المذكور. وفيها صلّى المكتفى بالناس يوم عيد النحر وكان بين يديه ألوية الملوك، وترجّل الملوك والأمراء بين يديه ما خلا وزيره القاسم بن عبيد الله فإنه ركب وسايره دون الناس؛ ولم ير قبل ذلك خليفة يسايره وزير غيره.
قلت: وهذا أوّل وهن وقع في حقّ الخلفاء. وأنا أقول: إنّ المعتضد هو آخر خليفة عقد ناموس الخلافة، ثم من بعده أخذ أمر الخلفاء في إدبار إلى يومنا هذا. وفيها(3/128)
توفّى بدر «1» المعتضدىّ، كان يخدم المعتضد والموفّق وأباه المتوكّل، وأصله من غلمان المتوكّل فرفعته السعادة. قال يحيى بن علىّ النّديم: كنت واقفا على رأس المعتضد وهو مقطّب فدخل بدر فأسفر وجهه لمّا رآه وضحك، ثم قال لى: يا يحيى، من القائل:
فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
فقلت: الحكم «2» بن قنبر المازنىّ؛ فقال: أنشدنى تمامه، فأنشدته:
ويلى على من أطار النوم فامتنعا» ... وزاد قلبى على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس من أعطافه لمعت ... حسنا أو البدر من أزراره طلعا «4»
مستقبل بالذى يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذور بما صنعا
فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
وكان بدر هذا شجاعا ممدّحا جوادا.(3/129)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 290]
السنة السابعة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة تسعين ومائتين- فيها فى المحترم قصد يحيى بن زكرويه القرمطىّ الرّقّة في جمع كثير؛ فخرج إليه أصحاب السلطان فقتل منهم جماعة وانهزم الباقون؛ فبعث طغج بن جفّ أمير دمشق من قبل هارون بن خمارويه صاحب الترجمة جيشا مع خادمه بشير إلى القرمطىّ، فواقعهم الفرمطىّ وقتل بشيرا وهزم الجيش. وفيها أيضا خلع الخليفة المكتفى على أبى الأغرّ وبعثه في عشرة آلاف لقتال القرمطىّ. وفيها حصر القرمطىّ دمشق وفيها أميرها طغج بن جفّ فعجز طغج عن مقاومته بعد أن واقعه غير مرّة؛ وقتل يحيى بن زكرويه كبير القرامطة؛ فأقاموا عليهم أخاه الحسين بن زكرويه؛ وبلغ المكتفى [ذلك] فاستحثّ العساكر المندوبة لقتال القرامطة بالخروج لقتالهم، فتوجه إليهم أبو الأغرّ وواقع القرامطة فانهزم أبو الأغرّ، وقتل غالب أصحابه؛ وتبعه القرمطىّ إلى حلب، فقاتله أهل حلب. وفيها توفّى عبد الله ابن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الرّحمن الشّيبانىّ، مولده سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يكن فى الدنيا أحد أروى عن أبيه منه، وسمع منه المسند وهو ثلاثون ألف حديث، والتفسير مائة وعشرين ألفا، والناسخ والمنسوخ [والمقدّم «1» والمؤخر في كتاب الله] ، وجوابات القرآن، والمناسك الكبير والصغير، وكان عالما بفنون [كثيرة] ؛ وكان أبوه يقول: لقد وعى عبد الله علما كثيرا. وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن أفلح بن عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن أبى بكر الصدّيق أبو الصدّيق محمد القاضى البكرىّ، كان(3/130)
إماما عالما بارعا. وفيها توفّى محمد بن عبد الله الشيخ أبو بكر الدّقاق، كان من كبار مشايخ القوم وكان صاحب أقوال «1» وكرامات.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن على الأبّار، والحسن بن سهل المجوّز «2» ، والحسين بن إسحاق التّسترىّ، وعبد الله بن أحمد بن محمد ابن حنبل، ومحمد بن زكريا الغلابىّ الإخبارى، ومحمد بن العباس المؤدّب، ومحمد ابن يحيى بن المنذر القزّاز «3» أحد شيوخ الطّبرانى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثلاث عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 291]
السنة الثامنة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين ومائتين- فيها قتل الحسين بن زكرويه القرمطىّ المعروف بصاحب الشامة. وفيها زوّج المكتفى ولده أبا أحمد «4» بابنة وزيره القاسم بن عبيد الله؛ وخطب أبو عمر «5» القاضى، وخلع على القاسم أربعمائة خلعة، وكان الصّداق مائة ألف دينار. وفيها خرجت الترك إلى بلاد المسلمين في جيوش عظيمة، يقال: كان معهم سبعمائة خركاة «6» تركيّة(3/131)
ولا تكون الخركاه إلا لأمير، فنادى إسماعيل بن أحمد في خراسان وسجستان وطبرستان بالنّفير وجهّز جيوشه فوافوا الترك على غرّة سحرا فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانهزم من بقى، وغنم المسلمون وسلموا وعادوا منصورين. وفيها بعث صاحب الروم جيشا مبلغه مائة ألف فوصلوا الى الحدث «1» فنهبوا وسبوا وأحرقوا. وفيها غزا غلام زرافة «2» من طرسوس الى الروم فوصل الى أنطاكية «3» وهى تعادل قسطنطينية، فنازلها الى أن افتتحها عنوة وقتل نحوا من خمسة آلاف وأسر أضعافهم واستنقذ من الأسر أربعة آلاف مسلم، وغنم من الأموال ما لا يحصى بحيث إنه أصاب سهم الفارس ألف دينار. وفيها خلع المكتفى على محمد بن سليمان الكاتب وعلى محمد بن إسحاق ابن كنداج وعلى أبى الأغرّ «4» وعلى جماعة من القوّاد، وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمد ابن سليمان المذكور، وندب الجميع بالمسير الى دمشق لقبض ما كان بيد هارون بن خمارويه صاحب الترجمة من الأعمال، لأنه كانت الوحشة قد وقعت بينهما.
وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ العباسىّ. وفيها توفّى إبراهيم بن أحمد ابن اسماعيل «5» ، الشيخ أبو إسحاق الخوّاص البغدادىّ، كان أوحد أهل «6» زمانه في التوكّل، صحب أبا عبد الله المغربىّ، وكان من أقران الجنيد، وله في الرياضات والسياحات(3/132)
مقامات. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن زيد بن سيّار «1» أبو العبّاس الشّيبانى مولاهم ثعلب «2» النحوىّ إمام أهل الكوفة، مولده في سنة مائتين. وفيها توفّى الوزير القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفى، كان «3» شابّا غرّا قليل الخبرة بالأمور مستهتكا للمحارم؛ وإنما استوزره المكتفى لأنه أخذ له البيعة وحفظ عليه الأموال.
وفيها توفّى هارون بن موسى بن شريك أبو عبد الله الثّعلبىّ الأخفش الشامى النحوىّ اللغوىّ، ولد سنة مائتين، سمع هشام بن عمّار وطبقته، وكان إماما فى فنون كثيرة بارعا مفنّنا؛ ولما مات جلس مكانه محمد بن نصير بن أبى حمزة.
وهذا هو الأخفش الشامىّ. وأما الأخفش البصرىّ فآسمه سعيد بن مسعدة.
قلت: وثمّ أخفش «4» ثالث وفاته سنة خمس عشرة وثلثمائة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس ثعلب، واسمه أحمد بن يحيى، فى جمادى الأولى وله إحدى وتسعون سنة. وهارون بن موسى ابن شريك الأخفش المقرئ. وعبد الرّحمن بن محمد بن مسلم «5» الرّازى. ومحمد بن أحمد ابن النّضر ابن بنت معاوية. ومحمد بن إبراهيم البوشنجىّ الفقيه. ومحمد بن على الصائغ «6» المكىّ.(3/133)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبع واحدة ونصف إصبع.
ذكر ولاية شيبان بن أحمد بن طولون على مصر
هو شيبان بن أحمد بن طولون الأمير أبو المقانب «1» التركىّ المصرى، ولى إمرة مصر بعد قتل ابن أخيه هارون بن خمارويه لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين. قال صاحب البغية: ولما تم أمره أقرّ شيبان المذكور موسى على شرطة مضرة وخرج من الفسطاط ليلة الخميس لليلة خلت من [شهر] ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فكانت ولايته اثنى عشر يوما. انتهى. قلت: ونذكر أمر شيبان هذا بأوسع مما ذكره صاحب البغية فنقول: ولما قتل هارون بن خمارويه ورجع الناس إلى مصر وهم بغير أمير، نهض شيبان هذا ودعا لنفسه وضمن للناس حسن القيام بأمر الدولة والإحسان إليهم، فبايعه الناس وهو لا يدرى بأن الدولة الطّولونية قد انتهى أمرها. وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
أصبحت تطلب أمرا عزّ مطلبه ... هيهات! صدع زجاج ليس ينجبر
وقام شيبان بالأمر ودخل المدينة وطاف بها حتى وصل إلى الموضع المعروف بمسجد الرّمح، فصدم الرمح الذي فيه لواؤه سقف الدّرب فانكسر، فتطيّر الناس من ذلك وقالوا: أمر لا يتمّ. وقيل: إن شيبان المذكور كان أسز في نفسه قتل ابن أخيه هارون المقدّم ذكره، فتهيّأ لذلك وواطأ عليه بعض خاصّة هارون، فكان شيبان ينتظر الفرصة؛ وبينما شيبان على ذلك إذ صار إليه بعض الخدم الذين واطأهم على أمر هارون، وبايعوه على قتله وأعلموه أن هارون قد غطّ في نومه من شدّة السّكر،(3/134)
وأنه لم ير في مثل حالته تلك قطّ من شدّة السكر الذي به، وقالوا له: إن أردت شيئا فقد أمكنك ما تريد؛ فقام شيبان ودخل من وقته على ابن أخيه هارون بن خمارويه، فوافاه في مرقده غاطّا مثقلا من سكره، فذبحه «1» بسكّين كان معه في مرقده بالعبّاسة، وكان ذلك في ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛ وعرف الناس بقتله في غد ليلته، واستولى شيبان على الملك كما ذكرناه؛ وبويع في يوم الاثنين لعشر ليال بقين من صفر من السنة المذكورة؛ وعلم أبو جعفر بن أبى ونجيح الرومىّ القائد ما كان من أمر هارون وقتله، فرحلا من موضعهما من العبّاسة مع نفر من خاصّة أصحابهما وتركا بقيّة عسكرهما، ولحقا بعسكر طغج بن جفّ الذي كان نائب دمشق؛ وقد وصل محمد بن سليمان الكاتب وقائق ويمن وغيرهم من موالى خمارويه وأخبروهم بذلك، ثم جاءهم الخبر بأن الحسين بن حمدان قد دخل الفرما «2» يريد جرجير «3» وكانوا بها فرحلوا بعساكرهم حتى نزلوا العبّاسة، وذلك بعد رحيل شيبان بن أحمد بن طولون المذكور عنها إلى مدينة مصر.
وأما شيبان فإنه لما دخل مصر مع جميع إخوته وبنى عمّه والعسكر الذي كان بقى من عسكر ابن أخيه هارون تهيّأ لقتال القوم، وكان شيبان أهوج جسورا جسيما جلدا شديد البدن في عنفوان شبابه، فصار يسرع في أموره وذلك بعد أن تمّ أمره،(3/135)
وخطب له يوم الجمعة على سائر منابر مصر، ثم أخذ في العطاء «1» للجند، فلم يجد من المال سعة فقلق، فسعى إليه ساع بأن أمّ هارون المقتول أودعت ودائع لها في بعض الدّور التى للتّجار بمدينة الفسطاط- أعنى مصر- فوجّه شيبان بأبى جيشون أحد إخوته إلى هذه الدّور حتى استخرج منها خبايا كانت لأمّ هارون، وحمل ذلك إلى أخيه شيبان فى أعدال محزومة لا يدرى ما فيها؛ وانتهى الخبر إلى الحسين بن حمدان بأن هارون صاحب مصر قد قتل، وكان على مقدّمة عسكر محمد بن سليمان الكاتب وهو بجرجير، فرحل عنها يريد العبّاسة، فلقيه في طريقه محمد بن أبىّ مع جميع الرؤساء الذين كانوا معه، فصار الحسين في عسكر كبير؛ وبلغ ذلك أيضا محمد بن سليمان الكاتب فحثّ فى مسيره حتى لحق بمقدّمة الحسين بن حمدان المذكور، وقد انضاف إليه غالب عسكر مصر الذي وصل مع أبى جعفر بن أبّى وغيره؛ وعند ما اجتمع الجميع وصل إليهم أيضا دميانة البحرىّ في ثمانية عشر مركبا حربيّا مشحونة «2» بالرجال والسّلاح وذلك فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين صفر، فضرب جسر مصر الشرقىّ بالنار وأحرقه عن آخره وأحرق بعض الجسر الغربىّ، ثم وافى محمد بن سليمان الكاتب بعسكره حتى نزل بباب مصر، فضرب خيامه بها في يوم الأربعاء. تاسع عشرين صفر، كل ذلك في سنة(3/136)
اثنتين وتسعين ومائتين. ولما بلغ ذلك شيبان خرج بعساكره من مدينة مصر، وقد اجتمع معه من الفرسان والرّجّالة عدّة كثيرة، ووقف بهم لممانعة محمد بن سليمان من دخول المدينة، وعبّأ أيضا محمد بن سليمان عسكره للمصافّ لمحاربة شيبان، والتقى الجمعان وكانت بينهم مناوشة ساعة؛ ثم كتب محمد بن سليمان إلى شيبان والحرب قائمة يؤمّنه على نفسه وجميع أهله وماله وولده وإخوته وبنى عمّه جميعا؛ ونظر شيبان عند وصول الكتاب «1» إليه قلّة من معه من الرجال وكثرة جيوش محمد بن سليمان مع ما ظنّ من وفاء محمد بن سليمان له، فاستأمن إلى محمد بن سليمان وجمع إخوته وبنى عمّه في الليل وتوجّهوا الى محمد بن سليمان وصاروا في قبضته ومصافّ شيبان على حاله، لكن الفرسان علموا بما فعل شيبان فكفّوا عن القتال، وبقيت الرجّالة على مصافّها ولم تعلم بما أحدثه شيبان، وأصبحت الرجّالة غداة يوم الخميس وليس معهم حام ولا رئيس، فالتقوا مع عسكر محمد بن سليمان فانكسروا، وانكبت خيل محمد بن سليمان على الرجّالة فأزالتهم عن مواقفهم، ثم انحرفت الفرسان الى قطائع السودان الطولونيّة وصاروا يأخذون من قدروا عليه منهم فيصيرون بهم الى محمد بن سليمان، وهو راكب على فرسه في مصافّه، فيأمر بذبحهم فيذبحون بين يديه كما تذبح الشاة. ثم دخل محمد بن سليمان بعساكره الى مدينة مصر من غير أن يمنعه عنها مانع، وكان ذلك في يوم الخميس سلخ صفر المذكور، فطاف محمد بن سليمان وهو راكب بمدينة مصر ومعه محمد بن أبّى وجماعة من جند المصريّين من الفرسان والرجّالة إلّا من هرب منهم، وصار كلّ من أخذ من المصريين ممّن هرب أو قاتل ضربت عنقه؛ وأحرقت القطائع التى كانت حول الميدان من مساكن السودان بعد أن قتل فيها(3/137)
منهم خلق كثير، حتى صارت خرابا يبابا «1» ، وزالت دولة بنى طولون كأنّها لم تكن.
وكانت مدّة تغلّب شيبان هذا على مصر تسعة أيّام، منها أربعة أيّام كان فيها أمره ونهيه؛ ثم دخلت الأعراب الخراسانيّة من عساكر محمد بن سليمان الكاتب الى مدينة مصر فكسروا جيوشها وأخرجوا من كان بها، ثم هجموا [على] دور الناس فنهبوها وأخذوا أموالهم واستباحوا حريمهم وفتكوا في الرعيّة وافتضّوا الأبكار وأسروا المماليك والأحرار من النساء والرجال، وفعلوا في مصر ما لا يحلّه الله من ارتكاب المآثم، ثم تعدّوا الى أرباب الدولة «2» وأخرجوهم من دورهم وسكنوها كرها، وهرب غالب أهل مصر منها، وفعلوا في المصرييّن مالا يفعلونه في الكفرة؛ وأقاموا على ذلك أيّاما كثيرة مصرّين على هذه الأفعال القبيحة. ثم ضربت خيام محمد بن سليمان على حافة النيل بالموضع المعروف بالمقس «3» ، ونزلت عساكره معه ومن انضم اليه من عساكر المصريّين بالعبّاسة. ثم أمر محمد بن سليمان أن تحمل الأسارى من المصريّين من الذين كان دميانة أسرهم في قدومه من دمياط على الجمال، فحملوا عليها وعليهم القلانس الطوال وشهرّهم وطيف بهم في عسكره من أوّله الى آخره.
ثم قلّد محمد بن سليمان أصحابه الأعمال بمصر، فكان الذي قلّده شرطة العسكر رجلا يقال له غليوس، وقلّد شرطة المدينة رجلا يقال له وصيف البكتمرىّ «4» ، وقلّد أبا عبد الله محمد بن عبدة قضاء مصر، كلّ ذلك في يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع(3/138)
الأول؛ ثم قبض أيضا على جماعة من أهل مصر من الكتّاب وغيرهم، فصادرهم وغرّمهم الأموال الجليلة بعد العذاب والتهديد والوعيد؛ ثم أمسك محمد بن أبّى خليفة هارون بن خمارويه على مصر- أعنى الذي كان توجّه إليه من العبّاسة- وصادره وأخذ منه خمسمائة ألف دينار من غير تجشيم. ومحمد بن أبّى هذا هو الذي قدّمنا ذكره في ترجمة جيش بن خمارويه وما وقع له مع برمش. وكان محمد بن سليمان هذا لا يسمّى باسمه «1» ولا بكنيته وما كان يدعى إلا بالأستاذ؛ وكان حكمه فى أهل مصر بضرب أعناقهم وبقطع أيديهم وأرجلهم جورا وتمزيق ظهورهم بالسياط وصلبهم على جذوع النخل ونحو ذلك من أصناف النّكال؛ ولا زال على ذلك حتى رحل عن مدينة مصر في يوم الخميس مستهلّ شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين ومائتين، واستصحب معه الأمير شيبان «2» بن أحمد بن طولون صاحب الترجمة وبنى عمّه وأولادهم وأعوانهم، حتى إنّه لم يدع من آل طولون أحدا، والجميع في الحديد الى العراق وهم عشرون إنسانا؛ ثم أخرج قوّادهم الى بغداد على أقبح وجه، فلم يبق بمصر منهم أحد يذكر؛ وخلت منهم الديار وعفت منهم الآثار، وحل بهم الذلّ بعد العزّ والتطريد والتشريد بعد اللّذ «3» ، ثم سيق جماعة من أصحاب شيبان الىّ محمد بن سليمان ممّن كان أمّنهم فذبحوا بين يديه. وزالت الدولة الطولونية وكانت من غرر الدول، وأيامهم من محاسن الأيام، وخرّب الميدان والقصور التى كانت به، التى مدحتها الشعراء. قال القاضى أبو عمرو عثمان النابلسىّ في كتاب(3/139)
" حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة": رأيت كتابا قدر اثنتى عشرة كرّاسة مضمونه فهرست شعراء الميدان الذي كان لأحمد بن طولون؛ قال: فاذا كان اسم الشعراء في اثنتى عشرة كرّاسة فكم «1» يكون شعرهم!. انتهى.
وقال ابن دحية في كتابه: وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدّة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدىّ أيّام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصريّة؛ قال: وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيّفا على مائة ألف دار. قلت: هذا الذي ذكره ابن دحية هو الذي بقى بعد إتلاف محمد بن سليمان المذكور.
ومما قيل في ميدان أحمد بن طولون وفي قصوره من الشعر من المراثى على سبيل الاقتصار؛ فمما قاله إسماعيل بن أبى هاشم:
قف وقفة بفناء باب السّاج «2» ... والقصر ذى الشّرفات «3» والأبراج
وربوع قوم أزعجوا عن دارهم ... بعد الإقامة. أيّما إزعاج
كانوا مصابيحا لدى ظلم الدجى ... يسرى بها السارون في الإدلاج
ومنها:
كانوا ليسوثا لا يرام حماهم ... فى كلّ ملحمة وكلّ هياج
فانظر الى آثارهم تلقى لهم ... علما بكلّ ثنيّة «4» وفجاج «5»(3/140)
وقال سعيد القاصّ «1» :
جرى دمعه ما بين سحر «2» الى نحر ... ولم يجر حتّى أسلمته يد الصبر
ومنها:
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى ... يبيت على جمر ويضحى على جمر
تتابع أحداث تحيّفن «3» صبره ... وغدر من الأيّام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها ... ذوى الدّين والدّنيا بقاصمة الظهر
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بنى طولون والأنجم الزّهر
ومنها:
وكان أبو العبّاس أحمد ماجدا ... جميل المحيّا لا يبيت على وتر
كأنّ ليالى الدّهر كانت لحسنها ... وإشراقها في عصره ليلة القدر
يدلّ على فضل ابن طولون همّة ... محلّقة بين السّماكين والغفر «4»
فإن كنت تبغى شاهدا ذا عدالة ... يخبّر عنه بالجلىّ من الأمر
فبالجبل الغربىّ خطّة يشكر «5» ... له مسجد يغنى عن المنطق الهذر
وهى طويلة جدّا كلّها على هذا المنوال. ولما أمر الحسين بن أحمد الماذرائىّ متولّى خراج مصر من قبل المكتفى بهدم الميدان ابتدأ «6» بهدمه في أوّل شهر رمضان(3/141)
من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وبيعت أنقاضه، حتّى دثروزال مكانه كأنّه لم يكن.
فقال فيه محمد بن طشويه «1» :
من لم ير الهدم للميدان لم يره ... تبارك الله ما أعلاه «2» واقدره
لو أنّ عين الذي أنشاه تبصره ... والحادثات تعاديه لأكبره
ومنها:
وأين من كان يحميه ويحرسه ... من كلّ ليث يهاب الليث منظره
صاح الزمان بمن فيه ففرّقهم ... وحطّ ريب البلى فيه فدعثره «3»
ومنها:
أين ابن طولون بانيه وساكنه ... أماته الملك الأعلى فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحّت لنا فكر ... طوبى لمن خصّه رشد فذكره
وقال أحمد «4» بن إسحاق:
وكانّ الميدان ثكلى أصيبت ... بحبيب صباح ليلة عرس
يتغشّى الرياح منه محلّا «5» ... كان للصون في ستور الدّمقس
ومنها:
ووجوه من الوجوه حسان ... وخدود مثل اللآلئ «6» ملس(3/142)
كلّ كحلاء كالغزال ونجلا ... ء «1» رداح من بين «2» حور ولعس «3»
آل طولون كنتم زينة الأر ... ض فأضحى الجديد «4» اهدام «5» لبس
وقال ابن أبى هاشم:
يا منزلا لبنى طولون قد دثرا ... سقاك صوب الغوادى القطر والمطرا
يا منزلا صرت أجفوه وأهجره ... وكان يعدل عندى السمع والبصرا
بالله عندك علم من أحبّتنا ... أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا(3/143)
ذكر أوّل من ولى مصر بعد بنى طولون وخراب القطائع إلى الدولة الفاطمية العبيديّة وبناء القاهرة على الترتيب المقدّم ذكره
فأوّل من حكمها محمد بن سليمان الكاتب المقدّم ذكره، أرسله الخليفة المكتفى بالله علىّ العباسىّ حسبما ذكرناه في غير موضع، وملك محمد بن سليمان الديار المصريّة، بعد قتل «1» شيبان بن أحمد بن طولون، فى يوم الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ودعا على منابر مصر للخليفة المكتفى بالله وحده؛ وولّى محمد ابن سليمان أبا علىّ الحسين بن أحمد الماذرائىّ على الخراج عوضا عن أحمد بن علىّ الماذرائىّ. فلم تطل مدّة محمد بن سليمان بمصر حتى قدم عليه كتاب الخليفة المكتفى بالله بولاية عيسى بن محمد النّوشرىّ؛ ودخل خليفة عيسى المذكور إلى مصر لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، فتسلّم من محمد بن سليمان المذكور الشّرطتين وسائر الأعمال؛ فكان مقام محمد بن سليمان المذكور الكاتب بمصر أربعة أشهر.
وفي ولايته أقوال كثيرة: فمن الناس من لا يعدّه «2» من الأمراء بمصر بل ذكر دخوله لفتح مصر وأنّه كان مقدّم العساكر لا غير؛ وقائلو هذه المقالة هم الأكثر، ووافقتهم أنا أيضا على ذلك، لأن المكتفى لما خلع عليه أمره بالتوجّه لقتال مصر وأمر أصحابه بالسمع والطاعة ولم يولّه عملها؛ وعند ما بلغ الخليفة المكتفى فتح مصر ولّى عليها في الحال عيسى النّوشرىّ؛ ولهذا لم نفتتح ترجمته بافتتاح تراجم ملوك مصر على عادة ترتيب هذا الكتاب؛ ومن الناس من عدّه من جملة أمراء مصر بواسطة تحكّمه وتصرّفه في الديار المصرية.(3/144)
ذكر ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر
هو عيسى بن محمد الأمير أبو موسى النوشرىّ، ولّاه الخليفة المكتفى من بغداد على مصر، فأرسل عيسى خليفته على مصر فاستولى عليها إلى حين قدمها لسبع خلون من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وكان محمد بن سليمان لما وصل الى مصر بالعساكر كان الأمير عيسى النوشرىّ المذكور من جملة القوّاد الذين قدموا معه، فلما افتتح محمد بن سليمان مصر أرسل عيسى هذا الى الخليفة رسولا يخبره بفتح مصر، لأنه كان من كبار القوّاد الشاخصين معه الى مصر، وتوجّه عيسى الى نحو العراق؛ فلما وصل الى دمشق وافاه كتاب الخليفة المكتفى بها بولايته على إمرة مصر، فعاد من وقته إلى أن دخل مصر في التاريخ المقدّم ذكره؛ فخلع عليه محمد ابن سليمان الكاتب وطاف به مدينة مصر وعليه الخلعة، واستمرّ على عمل معونة مصر وجندها؛ ثم ورد عليه أيضا كتاب الخليفة إلى جماعة من القوّاد ممن كان في عسكر محمد بن سليمان: منهم علىّ بن حسّان «1» بتقليده أعمال الإسكندريّة، والى مهاجر بن طليق بتقليده ثغر تنّيس «2» ودمياط، وإلى رجل يعرف بالكندىّ بتقليده الأحواف، وإلى رجل يقال له موسى بن أحمد بتقليده برقة وما والاها، وإلى رجل يعرف بمحمد بن ربيعة بتقليده الصعيد وأسوان، وإلى رجل يعرف بأبى زنبور الحسين ابن أحمد الماذرائىّ بتقليده أعمال الخراج بمصر، وجلس في ديوان الخراج لخمس بقين من جمادى الآخرة؛ ثم إلى دميانة البحرىّ»
بالانصراف عن مصر، فانصرف دميانة عنها لثمان بقين من جمادى الآخرة. ونزل عيسى النوشرىّ(3/145)
المذكور في الدار التى كانت سكنى بدر الحمّامىّ بمصر، وكانت بالموقف بسوق الطير، وهى الدار التى كان نزل بها محمد بن سليمان الكاتب لما افتتح مصر.
وكان خروج محمد بن سليمان من مصر في مستهلّ شهر رجب من السنة، وأخرج معه كلّ من بقى من الطّولونيّة بمصر، كما ذكرناه في ترجمة شيبان بن أحمد ابن طولون، واستصحب «1» معه أيضا جماعة بعد رحيله عنها، فخرج الجميع إلى الشام، وهم: أبو جعفر محمد بن أبىّ وابنه الحسن وطغج بن حفّ الذي كان نائب دمشق وولده وأخوه وبدر وفائق الرومىّ الخازن «2» وصافى الرومىّ وغيرهم من موالى أحمد وخمارويه، وخرج الجميع موكّلا بهم، وأخرج معهم أيضا جماعة كثيرة ممن هم أقلّ رتبة ممّن ذكر، غير أنّهم أيضا من أعيان الدولة وأكابر القوّاد، وهم: محمد ابن علىّ بن أحمد الماذرائىّ وزير هارون بن خمارويه وأبو زرعة «3» القاضى وأبو عبد الله محمد «4» بن زرعة القاضى وخلق كثير من آل طولون وغيرهم من الجند، وضمّهم إلى عسكره وقت خروجه من مصر؛ فتخلّف عنه جماعة بدمشق وغيرها وسار معه بعضهم إلى حلب في الحديد، وهم: موسى بن طرنيق «5» وأحمد بن أعجر- وكانا على شرطتى مصر كما «6» تقدّم ذكره- وابن با يخشى «7» الفرغانىّ- وكان عاملا على سيادة أسفل الأرض- ووصيف القاطرميز «8» وخصيف «9» البربرىّ مولى أحمد بن طولون:(3/146)
فلما استقرّ قرار محمد بن سليمان بحلب وافاه رسول الخليفة بأن يسلّم ما كان معه من الأموال والخيل والطّرز «1» والذهب وغير ذلك مما كان حمله من مصر إلى من أمر بتسليمه إليه، فقدّر المقدّرون فيه ما حمله من الأموال مع الذي أخذه من الناس ألفى ألف دينار؛ وتفرّق من كان معه من الجند من المصريّين، فمنهم من سار إلى العراق، ومنهم من رجع يريد مصر إلى من خلّفه من أهله بها؛ فممّن رجع إلى مصر شفيع اللؤلؤيّ الخادم ورجل شابّ يقال له محمد بن على الخلنجىّ «2» من الجند من المصريّين، ومحمد هذا ممن كان في قيادة صافىّ الرّومىّ- أعنى أنه كان مضافه- فرجع محمد هذا يريد أهله وولده، فخطر له خاطر ففكّر فيما حلّ بآل طولون وإزالة ملكهم وإخراجهم عن أوطانهم، فأظهر النّصرة لهم والقيام بدولتهم وأعلن ذلك وأبداه، وذكر الذي عزم عليه لجماعة من المصريّين فبايعوه على ذلك وعضدوه على عصيانه؛ وانضمّ عليه شرذمة من المصريّين، فسار على حميّة حتّى وافى الرّملة فى شعبان من سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فنزل محمد المذكور بمن معه بناحية باب الزيتون؛ وكان بالرملة وصيف بن صوارتكين «3» الأصغر فاستعدّ لقتاله، فقدّم وصيف جماعة مع محمد بن يزداد، ثم خرج وصيف ببقيّة جماعته فرأى محمد بن علىّ الخلنجىّ المذكور في نفر يسير من الفرسان، فزحف محمد بن علىّ الخلنجىّ بمن معه على وصيف بن صوارتكين فهزمه وقتل رجاله وهرب من بقى بين يديه.
وملك محمد الرملة ودعا على منابرها في يوم الجمعة للخليفة وبعده لإبراهيم بن خمارويه(3/147)
ثم بعدهما لنفسه؛ وتسامع الناس به فوافوه من كلّ فجّ لما في نفوسهم من تشتّتهم عن بلادهم وأولادهم وأوطانهم، وصار الجميع من حزب محمد المذكور من غير بذل دينار ولا درهم. وبلغ عيسى النّوشرىّ صاحب الترجمة وهو بمصر ما كان من أمر محمد بن علىّ الخلنجىّ، فجّهز عسكرا إلى العريش في أسرع وقت من البحر، وساروا حتى وافوا غزّة، فتقدّم إليهم محمد بن علىّ الخلنجىّ بمن معه، فلما سمعوا به رجعوا إلى العريش، فسار محمد الخلنجىّ بمن معه خلفهم الى العريش، فانهزموا أمامه إلى الفرما ثم ساروا من الفرما إلى العبّاسة «1» ، ونزل محمد الخلنجىّ الفرما مكانهم؛ فلما سمع عيسى النوشرىّ ذلك خرج من مصر بعسكر ضخم حتى نزل العبّاسة، ومعه أبو منصور الحسين بن أحمد الماذرائىّ عامل خراج مصر وشفيع اللؤلؤيّ صاحب البريد، ورحل محمد الخلنجىّ حتى نزل جرجير؛ فلما سمع عيسى النوشرىّ قدومه الى جرجير كرّ راجعا إلى مصر ونزل على باب مدينة مصر، فأتاه الخبر بقدوم محمد ابن على الخلنجىّ المذكور، فدخل إلى المدينة ثم خرج منها ومعه أبو زنبور وعدا جسر مصر في يوم الثلاثاء رابع عشر ذى القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛ ثم أحرق عيسى النوشرىّ جسرى «2» المدينة الشرقىّ والغربىّ جميعا حتّى لم يبق من مراكبهما مركبا واحدا- يعنى أنّ الجسر كان معقودا على المراكب- وهذه كانت عادة مصر تلك الأيّام. ونزل عيسى النوشرىّ وأقام ببرّ الجيزة، وبقيت مدينة مصر بلا وال عليها ولا حاكم فيها، وصارت مصر مأكلة للغوغاء يهجمون [على] البيوت ويأخذون الأموال من غير أن يردّهم أحد عن ذلك، فإنّ عيسى النوشرىّ ترك مصر وأقام ببرّ الجيزة خوفا من محمد المذكور؛ فقوى لذلك شوكة محمد الخلنجىّ واستفحل أمره، وسار من جرجير حتى دخل مدينة مصر في يوم سادس عشرين ذى القعدة من السنة من(3/148)
غير ممانع. وكان محمد المذكور شابّا شجاعا مقداما مكبّا على شرب الخمر واللهو عاصيا ظالما، ومولده بمدينة مصر ونشأ بها؛ فلما دخلها طاف بها ودخل الجامع وصلّى فيه يوم الجمعة، ودعا له الإمام على المنبر بعد الخليفة وإبراهيم بن خمارويه، ففرح به أهل مصر إلى الغاية وقاموا معه، فمهّد أمورها وقمع المفسدين وتخلّق «1» أهل مصر بالزعفران، وخلّقوا وجه دابّته ووجوه دوابّ أصحابه فرحا به. ولم يشتغل محمد الخلنجىّ المذكور بشاغل عن بعثه في أثر عيسى النوشرىّ وجهّز عسكرا عليه رجل من أصحابه يقال له خفيف النوبىّ- وخفيف من الخفة- وأمره باقتفاء أثر عيسى النوشرىّ حيث سلك؛ فخرج خفيف المذكور وتتابع مجىء العساكر إليه في البرّ والبحر. وبلغ عيسى النوشرىّ مسير خفيف إليه فرحل من مكانه حتى وافى الإسكندريّة وخفيف من ورائه يتبعه.
وأما محمد الخلنجىّ فإنّه قلّد وزارته ... بن موسى «2» النصرانىّ، وقلّد أخاه إبراهيم ابن موسى على خراج مصر، وقلّد شرطة المدينة لإبراهيم بن فيروز، وقلّد شرطة العسكر لعبد الجبّار بن أحمد بن أعجر؛ وأقبل الناس إليه من جميع البلدان حتّى بلغت عساكره زيادة على خمسين ألفا، وفرض لهم الأرزاق السنيّة، فاحتاج الى الأموال لإعطاء الرجال، وكان في البلد نحو تسعمائة ألف دينار، وكانت معبّأة فى الصناديق للحمل للخليفة، وهى عند أبى زنبور وعيسى النّوشرىّ صاحب الترجمة؛ فلما خرجا من البلد وزّعاها فلم يوجد لها أثر عند أحد بمصر، وعمد الحسين ابن أحمد الى جميع علوم دواوين الخراج فأخرجها عن الدواوين قبل خروجه من مصر لئلّا يوقف على معرفة أصول الأموال في الضياع فيطالب بها أهل الضّياع بما(3/149)
عليهم من الخراج؛ وحمل معه أيضا جماعة من المتقبّلين- أعنى المدركين والكتّاب- لئلا يطالبوا بما عليهم من الأموال، منهم: وهب بن عيّاش المعروف بابن هانئ، وابن بشر المعروف بابن الماشطة وإسحاق بن نصير النصرانىّ وأبو الحسن المعروف بالكاتب، وترك مصر بلا كتّاب. فلم يلتفت محمد الخلنجىّ الى ذلك وطلب المتقبّلين وأغلظ عليهم؛ ثم وجد من الكتّاب من أوقفه على أمور الخراج وأمر الدواوين؛ ثم قلّد لأحمد بن القوصىّ ديوان الإعطاء. وتحوّل من خيمته من ساحل النيل وسكن داخل المدينة في دار بدر الحمامىّ التى كان سكنها عيسى النوشرىّ بعد خروج محمد بن سليمان الكاتب من مصر، وهى بالحمراء «1» على شاطئ النيل. وأجرى محمد الخلنجىّ أعماله على الظلم والجور وصادر أعيان البلد فلقى الناس منه شدائد، إلا أنّه كان اذا أخذ من أحد شيئا أعطاه خطّه ويعده أن يردّ له ما أخذ منه أيّام الخراج.
وأما عيسى النوشرىّ صاحب الترجمة وأبو زنبور الحسين بن أحمد فإنّهما وصلا بعسكرهما قريب الإسكندرية وخفيف النوبىّ في أثرهما لا قريبا منهما؛ وكان أبو زنبور قد أرسل المتقبّلين والكتّاب الى الإسكندرية ليتحصنوا بها. وتابع محمد الخلنجىّ العساكر الى نحو خفيف النوبىّ نجدة له في البرّ والبحر؛ فكان ممن ندبه محمد الخلنجىّ محمد بن لمجور في ستّ مراكب بالسلاح والرجال، فسار حتى وافى الإسكندريّة في يوم الخميس نصف ذى الحجة، وكان بينه وبين أهل الاسكندرية مناوشة حتى دخلها وخلّص بعض أولئك المتقبّلين والكتّاب وحملهم الى مصر؛ وأخذ أيضا لعيسى النوشرىّ ولأبى زنبور ما وجده لهما بالاسكندريّة وفرّقه على عساكره؛ وأقام بعسكره مواقفا «2» عيسى النوشرىّ خارجا عن الإسكندريّة أياما، ثم انصرف(3/150)
الى مصر، وانصرف عيسى النوشرىّ الى ناحية تروجة «1» ، فوافاه هناك خفيف النوبى وواقعه، فكانت بينهما وقعة هائلة انهزم فيها خفيف النوبىّ وقتل جماعة من أصحابه، ولم يزل خفيف في هزيمته الى أن وصل الى مصر بمن بقى معه من أصحابه؛ فلم يكترث محمد الخلنجىّ بذلك وأخذ في إصلاح أموره؛ وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بمجيء العساكر إليه من العراق صحبة فاتك «2» وبدر الحمّامىّ وغيرهما؛ فجهّز محمد الخلنجىّ عسكرا لقتال النوشرىّ وقد توجّه النوشرىّ نحو الصعيد، ثم خرج هو فى عساكره الى أن وصل الى العريش، ثم وقع له مع عساكر العراق وجيوش النوشرىّ وقائع يطول شرحها، حتى أجدبت مصر وحصل بها الغلاء العظيم، وعدمت الأقوات من كثرة الفتن، وطال الأمر حتى ألجأ ذلك [إلى] عود محمد بن علىّ الخلنجىّ الى مصر عجزا عن مقاومة عساكر العراق وعساكر أبى الأغرّ بمنية الأصبغ بعد أن واقعهم غير مرّة وطال الأمر عليه؛ فلمّا رأى أمره في إدبار وعلم أنّ أمره يطول ثم يؤول الى انهزامه دبّر في أمره ما دام فيه قوّة فأطلع «3» عليه محمد بن لمجور المقدّم ذكره وهو أحد أصحابه وعرّفه سرّا بأشياء يعملها وأمره أن يركب بعض المراكب الحربيّة، وحمل معه ولده وما أمكنه من أمواله وواطأه على الركوب معه وأمره بانتظاره ليتوجّه صحبته في البحر الى أىّ وجه شاء هاربا؛ فشحن محمد بن لمجور مركبه بالسلاح والمال وصار ينتظر محمدا الخلنجىّ صاحب الواقعة، ومحمد الخلنجىّ يدافع عسكر عيسى النوشرىّ تارة وعسكر الخليفة مرّة الى أن عجز وخرج من مصر الى نحو محمد بن لمجور حتّى وصل إليه؛ فلما رآه محمد بن لمجور قد قرب منه رفع(3/151)
مراسيه وأوهمه أنه يريده، فلما دنا منه ناداه محمد بن علىّ الخلنجىّ ليصير إليه ويحمله معه في المركب، فلما رآه محمد بن لمجور وسمع نداءه سبّه وقال له: مت بغيظك قد أمكن الله منك! وتأخّر وضرب بمقاذيفه وانحدر في النيل، وذلك لما كان في نفس محمد بن لمجور من محمد بن علىّ الخلنجىّ ممّا أسمعه قديما من المكروه والكلام الغليظ؛ فلمّا رأى محمد الخلنجىّ خذلان محمد بن لمجور له ولم يتمّ له الهرب كرّ راجعا حتى دخل مدينة مصر وقد انفلّ «1» عنه عساكره فصار الى منزل رجل كان يعنى «2» بإخفائه ويأمنه على نفسه ليختفى عنده؛ فخافه «3» المذكور وتركه هاربا وتوجّه إلى السلطان فتنصّح «4» إليه وأعلمه أنّه عنده؛ فركب السلطان وأكابر الدولة والعساكر حتّى قبضوا عليه، وكان ذلك في صبيحة يوم الاثنين ثامن شهر رجب من سنة ثلاث وتسعين ومائتين؛ فكانت مدّة عصيانه منذ دخل إلى مصر الى أن قبض عليه سبعة أشهر واثنين وعشرين يوما. ودخل فاتك وبدر الحمامىّ بعساكرهما وعساكر العراق حتى نزلا بشاطئ النيل، ثم وافاهم الأمير عيسى النّوشرىّ من الفيّوم حسبما يأتى ذكره في ترجمته في ولايته الثانية على مصر- أعنى عوده إلى ملكه بعد الظفر بمحمد بن علىّ الخلنجىّ- ونزل عيسى بدار فائق، فإن بدرا كان قد قدم إلى مصر ونزل في داره التى كان النوشرىّ نزل فيها أوّلا، ودعا للخليفة على منابر مصر ثم من بعده لعيسى النوشرىّ. هذا وأمور مصر مضطربة الى غاية ما يكون. وقلّد عيسى شرطة العسكر لمحمد بن طاهر المغربىّ، وشرطة المدينة ليوسف بن إسرائيل، وتقلّد أبو زنبور الخراج على عادته. وأخذ النوشرىّ في إصلاح أمور مصر والضّياع وتتبّع أصحاب محمد الخلنجىّ من الكتّاب والجند وغيرهم، وقبض على جماعة كثيرة منهم، مثل:(3/152)
السّرىّ بن الحسين الكاتب وأبى العباس أحمد بن يوسف كاتب ابن الجصّاص- وكان على نفقات محمد الخلنجىّ- وجماعة أخر يطول الشرح في ذكرهم. وأما محمد بن لمجور وكيغلغ وبدر الكريمىّ وجماعة أخر من أصحاب محمد الخلنجىّ فإنهم تشتّتوا في البلاد. ثم دخل محمد بن لمجور مصر متنكّرا، فقبض عليه وطيف به ومعه غلام آخر لمحمد الخلنجىّ، ثم عوقب محمد بن لمجور حتى استخلص منه الأموال؛ ثم جهّز الأمير عيسى النوشرىّ محمدا الخلنجىّ في البحر إلى أنطاكية، فخرجوا منها ودخلوا العراق الى عند الخليفة، ثم بعد ذلك ورد كتاب الخليفة على عيسى النوشرىّ فى شهر رمضان باستقراره في أعمال مصر جميعا قبليّها وبحريّها حتى الإسكندريّة والى النّوبة والحجاز.
ذكر ولاية محمد بن علىّ الخلنجىّ على مصر
هو محمد بن علىّ الخلنجىّ الأمير أبو عبد الله المصرىّ الطّولونىّ، ملك الديار المصريّة بالسيف واستولى عليها عنوة من الأمير عيسى بن محمد النّوشرىّ. وقد مرّ من ذكره فى ترجمة عيسى النوشرىّ ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا، غير أنّنا نذكره على حدته لكونه ملك مصر؛ وذكره بعض أهل التاريخ في أمراء مصر، فلهذا جعلنا له ترجمة مستقلّة خوفا من الاعتراض والاستدراك علينا بعدم ذكره.
ولما ملك محمد بن علىّ الخلنجىّ الديار المصريّة، مهّد البلاد ووطّن الناس ووضع العطاء وفرض الفروض؛ فجهّز الخليفة المكتفى بالله جيشا لقتاله وعليهم أبو الأغرّ، وفي الجيش الأمير أحمد بن كيغلغ وغيره؛ فخرج اليهم محمد بن على الخلنجىّ هذا وقاتلهم في ثالث المحرّم من سنة ثلاث وتسعين ومائتين فهزمهم أقبح هزيمة وأسر من جماعة أبى الأغرّ خلقا كثيرا؛ وعاد أبو الأغرّ لثمان بقين من المحرّم حتى وصل(3/153)
الى العراق؛ فعظم ذلك على الخليفة المكتفى وجهّز إليه العساكر ثانيا صحبة فاتك المعتضدىّ في البرّ وجهّز دميانة في البحر؛ فقدم فاتك بجيوشه حتى نزل بالنّويرة «1» .
وقد عظم أمر الخلنجىّ هذا، وأخرج عيسى النّوشرىّ عن مصر وأعمالها بأمور وقعت له معه ذكرناها في ترجمة عيسى النوشرىّ، ليس لذكرها هنا ثانيا محلّ. ولما بلغ الخلنجىّ مجىء عسكر العراق ثانى مرّة صحبة فاتك، جمع عسكره وخرج إلى باب المدينة وعسكر به، وقام بالليل بأربعة آلاف من أصحابه ليبيّت «2» فاتكا وأصحابه، فضلّوا عن الطريق وأصبحوا قبل أن يصلوا الى النويرة؛ فعلم بهم فاتك فهضّ «3» أصحابه والتقى مع الخلنجىّ قبل أن يصلوا الى النويرة، فتقاتلا قتالا شديدا انهزم فيه الخلنجىّ بعد أن ثبت ساعة بعد فرار أصحابه عنه، ودخل إلى مصر واستتر بها لثلاث خلون من شهر رجب، ثم قبض عليه وحبس، حسبما ذكرناه في ترجمة النوشرىّ؛ ثم دخل دميانة بالمراكب إلى مصر وأقبل عيسى النوشرىّ من الصعيد ومعه الحسين الماذرائىّ ومن كان معهما من أصحابهما لخمس خلون من رجب المذكور؛ وعاد النوشرىّ إلى ما كان عليه من ولاية مصر، والحسين الماذرائىّ على الخراج؛ وزالت دولة محمد بن علىّ الخلنجىّ عن مصر بعد أن حكمها سبعة أشهر واثنين وعشرين يوما، كلّ ذلك ذكرناه في ترجمة النوشرىّ ولم نذكره هنا إلا لزيادة الفائدة؛ وأيضا لما قدّمناه في أوّل ترجمته. ثم إنّ عيسى النوشرىّ قيّد محمد بن علىّ الخلنجىّ هذا وجماعة من أصحابه، وحملهم في البحر إلى أنطاكية ثم منها في البرّ إلى العراق إلى حضرة الخليفة، فأوقف بين يديه فوبّخه ثم نكّل به، وطيف به وبأصحابه على الجمال، ثم قتل شرّ قتلة، وزالت دولته وروحه بعد أن أفسد أحوال الديار المصريّة(3/154)
وتركها خرابا يبابا من كثرة الفتن والمصادرات. قلت: وأمر محمد هذا من العجائب، فإنّه أراد أخذ ثأر بنى طولون والانتصار لهم غيرة على ما وقع من محمد بن سليمان الكاتب من إفساده الدّيار المصريّة، فوقع منه أيضا أضعاف ما فعله محمد بن سليمان الكاتب، وكان حاله كقول القائل:
رام نفعا وضرّ من غير قصد ... ومن البرّ ما يكون عقوقا
ذكر عود عيسى النوشرىّ إلى مصر
دخلها بعد اختفاء محمد بن علىّ الخلنجىّ بيومين، وذلك في خامس شهر رجب سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ثم دخل فاتك بعساكره إلى مصر في يوم عاشر رجب، وتسلّم الخلنجىّ وأرسله في البحر لست خلون من شعبان ووقع ما حيكناه في ترجمته من قتله وتشهيره «1» . وأما عيسى النوشرىّ فإنه ابتدأ في أوّل شهر رمضان بهدم ميدان أحمد بن طولون، وبيعت أنقاضه بأبخس ثمن، وكان هذا الميدان وقصوره من محاسن الدنيا. وقد تقدّم ذكر ذلك في عدّة أماكن في ترجمة ابن طولون وابنه خمارويه وغير ذلك. ودام فاتك بالديار المصريّة إلى النصف من جمادى الأولى سنة أربع وتسعين ومائتين [و] خرج منها إلى العراق. ثم أمر الأمير عيسى النوشرىّ بنفى المؤنّثين من مصر، ومنع النّوح والنداء على الجنائز، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلاتين، ثم أمر بفتحه بعد أيّام؛ ثم ورد عليه الخبر بموت الخليفة المكتفى بالله علىّ في ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين؛ فلما يمع الجند بموت الخليفة شغبوا على عيسى النوشرىّ وطلبوا منه مال البيعة بالخلافة للمقتدر جعفر، وظفر النوشرىّ بجماعة منهم؛ ولما استقرّ المقتدر في الخلافة أقرّ عيسى هذا على عمله بمصر.(3/155)
ثم قدم على عيسى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقيّة مهزوما من أبى عبد الله الشيعىّ في شهر رمضان سنة ست وتسعين ومائتين، ونزل بالجيزة وأراد الدخول إلى مصر فمنعه من الدخول إليها؛ فوقع بين أصحابه وبين جند مصر مناوشة وبعض قتال إلى أن وقع الصلح بينهم على أن يعبرها وحده من غير جند، فدخلها وأقام بها. ولم تطل أيام الأمير عيسى بعد ذلك، ومرض ولزم الفراش إلى أن مات، فى يوم سادس عشرين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وهو على إمرة مصر. وكانت ولايته على مصر خمس سنين وشهرين ونصف شهر؛ منها ولاية الخلنجىّ على مصر سبعة أشهر واثنان وعشرون يوما. وقام من بعده على مصر ابنه أبو الفتح محمد بن عيسى، إلى أن ولّى تكين الحربىّ، وحمل عيسى النوشرىّ إلى القدس ودفن به. وكان عيسى هذا أميرا جليلا شجاعا مقداما عارفا بالأمور، طالت أيامه في السعادة، وولى الأعمال مثل إمرة دمشق من قبل المنتصر والمستعين، وولى شرطة بغداد أيام المكتفى، ثم ولى أصبهان والجبال، إلى أن ولّاه المكتفى إمرة مصر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 292]
السنة التى حكم فيها أربعة أمراء على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين ومائتين، والأمراء الأربعة: شيبان بن أحمد بن طولون، ومحمد بن سليمان الكاتب، وعيسى النّوشرىّ، ومحمد بن علىّ الخلنجىّ- فيها (أعنى سنة اثنتين وتسعين ومائتين) قدم بدر الحمّامىّ الذي قتل القرمطىّ، فنلقّاه أرباب الدولة، وخلع عليه الخليفة وخلع على ابنه أيضا، وطوّق بدر المذكور وسوّر وقيّدت بين يديه خيل الخليفة جنائب وحمل إليه مائة ألف درهم. وفيها وافت هديّة إسماعيل بن أحمد أمير خراسان الى بغداد كان فيها ثلثمائة جمل عليها صناديق فيها المسك والعنبر والثياب من كلّ لون(3/156)
ومائة غلام وأشياء كثيرة غير ذلك. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى وفيها في ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب ولتسع عشرة خلت من أيّار،- وهو بشنس بالقبطىّ- طلع كوكب الذنب في الجوزاء. وفيها في جمادى الأولى زادت دجلة زيادة لم ير مثلها حتّى خربت «1» بغداد، وبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعا. وفيها توفّى إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الحافظ أبو مسلم الكجّىّ»
البصرىّ، ولد سنة مائتين، وقدم بغداد وكان يملى برحبة غسان، وكان يملى على سبعة، كلّ واحد منهم يبلّغ الذي يليه، وكتب الناس عنه قياما بأيديهم المحابر، ومسح المكان الذي كانوا قياما فيه، فحزروا «3» نيّفا وأربعين ألف محبرة؛ وكانت وفاته ببغداد لتسع خلون من المحرّم. وفيها توفى إدريس بن عبد الكريم أبو الحسن الحدّاد المقرئ، ولد سنة تسع وتسعين ومائة، ومات ببغداد يوم الأضحى وهو ابن تسعين «4» سنة؛ سئل عنه الدارقطنىّ فقال: هو ثقة وفوق الثقة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن الحسين المصرىّ الأيلىّ «5» ، وأبو بكر أحمد بن علىّ بن سعيد قاضى حمص، وأحمد بن(3/157)
عمرو أبو بكر البزّار «1» ، وأبو مسلم الكجّىّ «2» ، وإدريس بن عبد الكريم المقرئ؛ وأسلم ابن سهل الواسطىّ، وأبو حازم القاضى عبد الحميد بن عبد العزيز، وعلىّ بن محمد ابن عيسى الجكّانىّ «3» ، وعلى بن جبلة الأصبهانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبع واحدة ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 293]
السنة الثانية من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وتسعين ومائتين- فيها توجّه القرمطىّ الى دمشق وحارب أهلها، فغلب عليها ودخلها وقتل عامّة أهلها من الرجال والنساء، ونهبها وانصرف الى ناحية البادية. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها عمل على دجلة من جانبيها مقياس مثل مقياس مصر، طوله خمس وعشرون ذراعا، ولكلّ ذراع علامات يعرفون بها الزيادة، ثم خرب بعد ذلك. وفيها توفّى عبد الله بن محمد أبو العباس الأنبارىّ الناشى «4» الشاعر المشهور، كان فاضلا بارعا، وله تصانيف ردّ فيها على الشعراء وأهل المنطق، وعمل قصيدة واحدة في قافية واحدة وروىّ واحد أربعة آلاف بيت، ومات بمصر.
ومن شعره:(3/158)
عدلت «1» على ما لو علمت بقدره ... بسطت فكان العدل واللوم من عذرى
جهلت ولم تعلم بأنّك جاهل ... فمن لى بأن تدرى بأنّك لا تدرى
ومن شعره قوله:
وكان لنا أصدقاء حماة «2» ... وأعداء سوء فما خلّدوا
تساقوا جميعا بكأس الردى ... فمات الصديق ومات العدو
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن على الذّهلى، وداود بن الحسين البيهقىّ، وعبدان «3» المروزىّ، وعيسى بن محمد [بن عيسى «4» ] ابن طهمان المروزىّ، والفضل بن العبّاس بن صفوان الأصبهانىّ، ومحمد بن أسد المدنىّ «5» ، ومحمد بن عبدوس بن كامل السرّاج، وهميم بن همّام الطبرىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع أصابع ونصف، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 294]
السنة الثالثة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة أربع وتسعين ومائتين- فيها خرج زكرويه القرمطىّ من بلاد القطيف «6» يريد الحاجّ، فوافاهم وقاتلهم حتّى ظفر بهم، وواقع الحاجّ وأخذ جميع ما كان معهم، وكان قيمة ذلك(3/159)
ألفى ألف دينار بعد أن قتل من الحاجّ عشرين ألفا. وجاء الخبر إلى بغداد بذلك، فعظم ذلك على المكتفى وعلى المسلمين، ووقع النّوح والبكاء وانتدب جيش لقتاله فساروا، وسار زكرويه الى زبالة «1» فنزلها، وكانت قد تأخرت القافلة الثالثة وهى معظم الحاجّ، فسار زكرويه المذكور ينتظرها، وكان في القافلة أعين «2» أصحاب السلطان ومعهم الخزائن والأموال وشمسة «3» الخليفة، فوصلوا إلى فيد «4» وبلغهم الخبر فأقاموا ينتظرون عسكر السلطان فلم يرد عليهم الجند، فساروا فوافوا الملعون بالهبير «5» فقاتلهم يوما إلى الليل ثم عاودهم الحرب في اليوم الثانى، فعطشوا واستسلموا، فوضع فيهم السيف فلم يفلت منهم إلا اليسير، وأخذ الحريم والأموال؛ فندب المكتفى لقتاله القائد وصيفا ومعه الجيوش، وكتب إلى شيبان أن يوافوا فجاءوا فى ألفين ومائتى فارس، فلقيه وصيف يوم السبت رابع شهر ربيع الأوّل، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وأصبحوا على القتال فنصر الله وصيفا وقتل عامّة أصحاب زكرويه المذكور، الرجال والنساء، وخلّصوا من كان معه من النساء والأموال، وخلص بعض الجند إلى زكرويه فضربه وهو مولّ على قفاه، ثم أسره وأسروا خليفته وخواصّه وابنه وأقاربه وكاتبه وامرأته؛ فعاش زكرويه خمسة أيام ومات من الضربة، فشقّوا بطنه وحمل إلى بغداد، وقتل الأسارى وأحرقوا. وقيل: إن(3/160)
الذي جرح زكرويه هو وصيف بنفسه. قلت: لا شلّت يداه. وتفرّق أصحاب زكرويه في البرّيّة وماتوا عطشا. وفيها توفّى محمد بن نصر أبو عبد الله المروزىّ الفقيه أحد الأئمة الأعلام وصاحب التصانيف الكثيرة والكتب المشهورة؛ مولده ببغداد في سنة اثنتين ومائتين ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند، وكان أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام. وفيها توفّى صالح «1» بن محمد ابن عمرو بن حبيب بن حسان بن المنذر بن أبى الأبرش عمّار، مولى أسد بن خزيمة، الحافظ أبو علىّ الأسدىّ البغدادىّ المعروف بجزرة نزيل بخارى، ولد سنة خمس ومائتين ببغداد. قال أبو سعيد «2» الإدريسىّ الحافظ: صالح بن محمد جزرة ما أعلم فى عصره بالعراق وخراسان في الحفظ مثله. ولقّب جزرة «3» لأنه جاء في حديث عبد الله بن بشر أنه كانت عنده خرزة يرقى بها المرضى، وكانت لأبى أمامة الباهلىّ، فصحّفها جزرة (بجيم وزاى معجمتين) .
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن المثنّى العنبرىّ، وأبو على صالح بن محمد جزرة، وعبيد «4» العجلىّ، ومحمد بن إسحاق بن(3/161)
[مخلد المعروف «1» بابن] راهويه الفقيه، ومحمد بن أيوب بن الضّريس الرازىّ، ومحمد بن معاذ الحلبىّ «2» دران، ومحمد بن نصر المروزىّ الفقيه، وموسى بن هارون الحافظ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبع واحدة، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 295]
السنة الرابعة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة خمس وتسعين ومائتين- فيها كان الفداء بين المسلمين وبين الروم، فكانت عدّة من فودى من المسلمين ثلاثة آلاف إنسان. وفيها بعث الخليفة المكتفى خاقان البلخىّ الى إقليم أذربيجان لحرب يوسف بن أبى الساج فسار في أربعة آلاف. وفيها في ذى القعدة مات الخليفة المكتفى بالله أبو محمد علىّ بن المعتضد بالله أحمد ابن ولىّ العهد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدىّ محمد بن أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس العباسىّ الهاشمىّ أمير المؤمنين؛ ولد سنة أربع وستين ومائتين، وكان يضرب المثل بحسنه فى زمانه، كان معتدل القامة «3» درّىّ اللون أسود الشعر حسن اللحية جميل الصورة، وأمّه أمّ ولد تسمّى خاضع. بويع بالخلافة بعد موت والده المعتضد في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكانت خلافته ستة أعوام ونصفا، وبويع بالخلافة بعده أخوه جعفر المقتدر. وخلّف المكتفى في بيت المال خمسة عشر ألف ألف دينار،(3/162)
وهو الذي خلّفه المعتضد وزاد على ذلك المكتفى أمثالها. وفيها توفّى إبراهيم بن محمد ابن نوح بن عبد الله الحافظ أبو إسحاق النّيسابورىّ، كان إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والعلل والرجال والزهد والورع، وكان الإمام أحمد بن حنبل يثنى عليه. وفيها توفى أبو «1» الحسين أحمد بن محمد [بن الحسين «2» ] النّورىّ البغدادىّ المولد والمنشأ «3» ، وأصله من خراسان من قرية بين هراة ومرو الروذ. وإنما سمّى النّورىّ لأنه كان إذا حضر في مكان ينوّر «4» ، كان أعظم مشايخ الصوفيّة في وقته، كان صاحب لسان وبيان، كان من أقران الجنيد بل أعظم. وفيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان أحد ملوك السامانية، وهم أرباب الولايات بالشاش «5» وسمرقند وفرغانة وما وراء النهر، ولى إمرة خراسان بعد عمرو بن الليث الصفّار، وكان ملكا شجاعا صالحا بنى الرّبط «6» فى المفاوز وأوقف عليها الأوقاف، وكل رباط يسع ألف فارس، وهو الذي كسر الترك؛ ولمّا توفّى تمثّل الخليفة بقول أبى نواس:
لم يخلق «7» الدهر مثله أبدا ... هيهات هيهات شأنه عجب(3/163)
وفيها توفى أبو حمزة «1» الصّوفىّ الصالح الزاهد الورع، كان من أقران الجنيد وأبى تراب النّخشبىّ، كان من كبار مشايخ القوم وأزهدهم وأورعهم وأفتاهم «2» ، وله المجاهدات والرياضات المشهورة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسين النّورىّ شيخ الصوفيّة أحمد بن محمد، وإبراهيم بن أبى طالب الحافظ، وإبراهيم بن معقل قاضى نسف «3» ، والحسن بن على المعمرىّ «4» ، والحكم بن معبد «5» الخزاعىّ، وأبو شعيب «6» الحرّانىّ، والمكتفى بالله بن المعتضد، وأبو جعفر محمد بن أحمد التّرمذىّ الفقيه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 296]
السنة الخامسة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة ستّ وتسعين ومائتين- فيها خلع الخليفة جعفر المقتدر من الخلافة وبويع عبد الله بن المعتزّ بالخلافة، وسبب خلعه صغر سنّه وقصوره عن تدبير الخلافة واستيلاء أمّه والقهرمانة على الخلافة، وكانت أمّه أمّ ولد تسمّى شغب؛ فآتفق الجند على قتله وقتل وزيره(3/164)
العبّاس [بن الحسن «1» ] وقتل فاتك المعتضدىّ، وثبوا على هؤلاء وقتلوهم. وكان المقتدر بالحلبة يلعب بالصّوالجة «2» - أعنى بالكرة على عادة الملوك- فلما بلغه قتلهم نزل وأغلق باب القصر؛ فبايعوا عبد الله بن المعتزّ بشروط شرطها عبد الله عليهم، وكان عبد الله بن المعتزّ أشعر بنى العباس و [من] خيارهم؛ ولقّبوه بالمنصف بالله، وقيل: بالغالب بالله، وقيل: بالراضى بالله، وقيل: بالمرتضى؛ واستوزر محمد بن داود بن الجرّاح.
ولما بلّغ هذا الخبر الى أبى جعفر الطبرىّ قال: ومن رشّح للوزارة؟ قالوا: محمد بن داود؛ قال: ومن ذكر للقضاء؟ قالوا: أبو المثنّى أحمد بن يعقوب؛ ففكّر طويلا وقال:
هذا أمر لا يتمّ؛ قيل: ولم؟ قال: لأن كلّ واحد من هؤلاء الذين ذكرتم مقدّم فى نفسه عالى الهمة رفيع الرتبة في أبناء جنسه، والزمان مدبر والدولة مولّية. وكان كما قال.
وخلع عبد الله بن المعتزّ من يومه وقتل من الغد؛ وكانت خلافته يوما وليلة، وقيل:
بل نصف نهار وهو الأصحّ. وقتل ابن المعتزّ ووصيف بن صوارتكين ويمن الخادم وجماعة من القضاة والفقهاء الذين اتفقوا على خلع المقتدر، قتلهم مؤنس الخادم، وأعيد جعفر المقتدر الى الخلافة. وفيها استوزر المقتدر أبا الحسن علىّ بن محمد بن الفرات.
وفيها أمر المقتدر ألّا يستخدم أحد [من] اليهود والنصارى إلا في الطب والجهبذة فقط، وأن يطالبوا بلبس العسلىّ وتعليق الرّقاع المصبوغة بين أظهرهم «3» . وفيها وقع ببغداد ثلج في كانون في أوّل النّهار الى العصر وأقام أيّاما لم يذب. وفيها انصرف أبو عبد الله(3/165)
الداعى إلى سجلماسة «1» فافتتحها وأخرج المهدىّ عبيد الله «2» وولده من حبس اليسع [ابن مدرار «3» ] وأظهر أمره وأعلم أصحابه أنّه صاحب دعوته وسلّم عليه بأمير المؤمنين، وذلك في سابع ذى الحجة من سنة ستّ هذه. وعبيد الله هذا هو والد الخلفاء الفاطميّين وهو أوّل من ظهر منهم كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب فى ترجمة المعزّ وغيره. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الطائى الأثرم الحافظ، سمع الكثير ورحل [الى] البلاد وصنّف علل الحديث والناسخ والمنسوخ في الحديث، وكان حافظا ورعا متقنا. وفيها توفّى أمير المؤمنين أبو العبّاس عبد الله ابن الخليفة المعتزّ بالله محمد ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، الشاعر الأديب صاحب الشعر البديع والتشبيهات الرائقة والنثر الفائق، أخذ العربيّة والأدب عن المبرّد وثعلب وعن مؤدّبه أحمد بن سعيد الدمشقىّ، ومولده في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين، وأمّه أمّ ولد تسمّى خاين «4» ، بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر وكاد أمره أن يتمّ ثم تفرّق عنه جمعه فقبض عليه وقتل سرّا في شهر ربيع الآخر، كما ذكرناه في أوّل هذه السنة. ومن شعره:
انظر إلى اليوم ما أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد
كأنّه أنت يا من لا شبيه له ... وصل وهجر وتقريب وإبعاد(3/166)
وله في خال مليح:
أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخدّ فيه بلال
كأنّما الحال على خدّه ... ساعة هجر في رمان الوصال
قلت: ويعجبنى في هذا المعنى قول السروجىّ:
فى الجانب الأيمن من خدّها ... نقطة مسك أشتهى شمّها
حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمّها
وأخذ في هذا المعنى المعزّ الموصلىّ فقال:
لحظت من وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالى
قالت قفوا واسمعوا ما جرى ... قد هام عمّى الشيخ في خالى
ومن شعر ابن المعتزّ أيضا بيت مفرد:
فنون «1» والمدام ولون خدّى ... شقيق في شقيق في شقيق
قلت: ويشبه «2» هذا قول ابن الرومىّ حيث قال:
كأنّ الكأس في يده وفيه «3» ... عقيق في عقيق في عقيق
قلت: ومن تشابيه ابن المعتز البديعة قوله ينعت البنفسج:
ولا زورديّة «4» تزهو بزرقتها ... وسط الرياض على حمر اليواقيت
كأنّها وضعاف القضب تحملها ... أوائل النار في أطراف كبريت(3/167)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن نجدة الهروىّ، وأحمد بن يحيى الحلوانىّ، وخلف بن عمرو العكبرىّ، وعبد الله بن المعتزّ، وأبو الحصين الوادعىّ «1» محمد بن الحسين، ومحمد بن محمد بن شهاب البلخىّ، ويوسف ابن موسى القطّان الصغير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع اذرع وتسع عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 297]
السنة السادسة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة سبع وتسعين ومائتين- فيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها وصل الخبر إلى العراق بظهور عبيد الله المسمى بالمهدىّ- أعنى جدّ الخلفاء الفاطمييّن- وأخرج الأغلب من بلاده وبنى المهديّة «2» ، وخرجت بلاد المغرب عن حكم بنى العباس من هذا التاريخ، وهرب ابن الأغلب وقصد العراق؛ فكتب إليه الخليفة أن يصير إلى الرقّة ويقيم بها. وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمد بن عمرو بن الليث الصفّار بغداد أسيرين. وفيها توفّى الجنيد بن محمد بن الجنيد الشيخ الزاهد الورع المشهور أبو القاسم القواريرىّ الخزّاز «3» ، وكان أبوه يبيع الزجاج وكان هو يبيع الخزّ؛(3/168)
وأصله من نهاوند «1» إلا أنّ مولده ومنشأه ببغداد؛ وكان سيّد طائفة الصوفيّة من كبار القوم وساداتهم، مقبول القول على جميع الألسن، وكان يتفقّه على مذهب أبى ثور «2» الكلبىّ؛ أفتى في حلقته وهو ابن عشرين سنة؛ وأخذ الطريقة عن خاله سرىّ السّقطىّ، وكان سرىّ أخذها عن معروف الكرخىّ، ومعروف الكرخىّ أخذها عن علىّ بن موسى الرّضا. قال الجنيد: ما أخرج الله إلى الناس علما وجعل لهم إليه سبيلا إلّا وقد جعل لى فيه حظّا ونصيبا. وقيل: إنه كان اذا جلس بدكّانه كان ورده في اليوم ثلثمائة ركعة وكذا «3» وكذا ألف تسبيحة. وقيل: إنه كان يفتح دكّانه ويسبل الستر ويصلّى أربعمائة ركعة. وقال الجريرىّ «4» : سمعته يقول: ما أخذنا التصوّف عن القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات [والمستحسنات «5» ] . وذكر أبو جعفر الفرغانىّ أنه سمع الجنيد يقول: أقلّ ما في الكلام سقوط هيبة الرب سبحانه وتعالى من القلب، والقلب إذا عرى من الهيبة عرى من الإيمان. ويقال: إنّ نقش خاتم الجنيد:" إن كنت تأمله فلا تأمنه". وعن الخلدىّ «6» عن الجنيد قال: أعطى أهل بغداد الشطح والعبادة، وأهل خراسان القلب(3/169)
والسخاء، وأهل البصرة الزهد والقناعة، وأهل الشأم الحلم والسلامة، وأهل الحجاز الصبر والإنابة. وقال إسماعيل بن نجيد: هؤلاء الثلاثة لا رابع لهم: الجنيد ببغداد، وأبو عثمان «1» بنيسابور، وأبو عبد الله «2» بن الجلّى بالشأم. وقال أبو بكر العطوىّ:
كنت عند الجنيد حين احتضر فختم القرآن، قال: ثم ابتدأ فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات. وقال أبو نعيم: أخبرنا الخلدىّ كتابة قال: رأيت الجنيد في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعتان «3» كنا نركعهما فى الأسحار. قال أبو الحسين [بن «4» ] المنادى: مات الجنيد ليلة النّوروز «5» فى شوّال سنة ثمان وتسعين ومائتين، قال: فذكر لى أنهم حزروا «6» الجمع الذين صلّوا عليه نحو ستين ألف إنسان، ثم ما زالوا يتعاقبون قبره في كلّ يوم نحو الشهر. ودفن عند قبر سرىّ السّقطىّ. قال الذهبىّ: وورّخه بعضهم في سنة سبع فوهم. قلت:
ورّخه صاحب المرآة وغيره في سنة سبع. وفيها توفّى عمرو «7» بن عثمان أبو عبد الله المكىّ، سكن بغداد وكان شيخ القوم في وقته، صحب الجنيد وغيره. وفيها توفّى الشيخ أبو الحارث الفيض بن الخضر أحمد، وقيل: الفيض بن محمد الأولاسىّ «8»(3/170)
الطّرسوسىّ أحد الزهاد ومشايخ القوم، مات بطرسوس وكان صاحب حال وقال، وله إشارات ولسان حلو في علم التصوّف. وفيها توفّى محمد بن داود [بن علىّ «1» ] بن خلف الشيخ أبو بكر الأصبهانىّ الظاهرىّ صاحب كتاب الزهرة «2» ، كان عالما أديبا فصيحا، وكان يلقّب بعصفور الشوك لنحافته وصفرة لونه؛ ولما جلس محمد هذا بعد وفاة أبيه في مجلسه استصغروه عن ذلك، فسأله رجل عن حدّ السكر ما هو، ومتى يكون الرجل سكران؟ فقال محمد على البديهة: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسرّه المكتوم؛ فاستحسنوا منه ذلك.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن هاشم البغوىّ، وإسماعيل بن محمد بن قيراط، وعبد الرّحمن بن القاسم بن الروّاسىّ «3» الهاشمىّ، وعبيد بن غنّام «4» ، ومحمد بن عبد الله مطيّن، ومحمد بن عثمان بن [محمد بن «5» ] أبى شيبة، ومحمد بن داود الظاهرىّ، ويوسف بن يعقوب القاضى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع وإحدى عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا، وإحدى عشرة إصبعا.
ذكر ولاية تكين الأولى على مصر
هو تكين بن عبد الله الحربىّ، الأمير أبو منصور المعتضدىّ الخزرىّ «6» ، ولّاه الخليفة المقتدر بالله على صلاة مصر بعد موت عيسى النّوشرىّ، فدعى له بها في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال سنة سبع وتسعين ومائتين. ثم قدم خليفته(3/171)
إلى مصر يوم الأربعاء في ثالث عشرين شوّال، ودام خليفته بها إلى أن قدمها تكين المذكور في يوم ثانى ذى الحجّة من سنة سبع وتسعين ومائتين.
قال صاحب «البغية والاغتباط فيمن ولى الفسطاط» : قدم تكين يوم السبت لليلتين خلتا من ذى الحجّة موافقا لنا، لكنّه زاد في يوم السبت. وتكين هذا مولى المعتضد بالله، نشأ في دولته حتى صار من جملة القوّاد، ثم ولّاه المقتدر دمشق ومصر وأقرّه عليهما «1» القاهر. وكان تكين جبّارا مهيبا ولكنّه كانت لديه فضيلة. وحدّث عن القاضى يوسف وغيره. ودام تكين على إمرة مصر مدّة إلى أن بعث للخليفة في سنة تسع وتسعين ومائتين هدايا وتحفا، وفي جملة الهدايا ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض شبر، زعموا أنّه من قوم عاد؛ وفي جملة الهدايا أيضا تيس له ضرع يحلب لبنا، وخمسمائة ألف دينار، ذكر تكين أنه وجدها فى كنز بمصر. واستمر تكين بعد ذلك على إمرة مصر حتّى خرج عليها جماعة من الأعراب والأحواش «2» فجهّز تكين لحربهم جيشا إلى برقة، وجعل على الجيش المذكور أبا اليمنى «3» وخرج الجيش إلى برقة- وكان هؤلاء الأعراب من جملة عساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ الذي استولى على بلاد المغرب- فلما قارب الجيش برقة خرج إليهم حباسة «4» بن يوسف بعساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ المقدّم ذكره، وقاتل(3/172)
أبا اليمنى المذكور حتّى هزمه واستولى على برقة؛ ثم سار إلى الإسكندرية في زيادة على مائة ألف مقاتل. ولما عاد جيش تكين منهزما إلى مصر، أرسل تكين الى الخليفة يطلب منه المدد، فأمدّه الخليفة بالعساكر، وفي العسكر حسين [بن أحمد «1» ] الماذرائىّ وأحمد بن كيغلغ في جمع من القوّاد، وسار الجميع نحو مصر. وكان دخول عسكر المهدىّ الى الإسكندريّة في أوّل المحرم سنة اثنتين وثلثمائة. ووصلت عساكر الخليفة من العراق الى مصر في صفر ونزلت بها، فتلقّاهم تكين وأكرم نزلهم؛ ثم تهيّأ تكين بعساكره الى القتال، وخرج هو بعساكر مصر ومعه عساكر العراق وسار الجميع نحو الإسكندريّة، ونزلوا بالجيزة في جمادى الأولى، ثم سار الجميع حتى وافوا حباسة بعساكره وقاتلوه؛ فكانت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها آلاف من الناس من الطائفتين، وثبت كلّ من العسكرين حتى استظهر عسكر الخليفة على جيش حباسة العبيدىّ الفاطمىّ وكسره وأجلاه عن الإسكندريّة وبرقة؛ وعاد حباسة بمن بقى معه من عساكره الى المغرب في أسوإ حال. وهذا أوّل عسكر ورد الى الإسكندرية من جهة عبيد الله المهدىّ الفاطمىّ. ثم عاد تكين الى مصر بعساكره بعد أن مهّد البلاد. وعند ما قدم تكين الى مصر وصل اليها بعده مؤنس الخادم مع جمع من القوّاد- أعنى الذين قدموا معه من العراق- ونزلوا بالحمراء في النصف من شهر رمضان ولقى الناس منهم شدائد الى أن خرج الأمير أحمد بن كيغلغ الى الشأم فى شهر رمضان المذكور، فلم تطل مدّة تكين بعد ذلك على مصر وصرف عن إمرتها في يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، صرفه مؤنس الخادم المقدّم ذكره وأرسل الى الخليفة بذلك، فدام تكين بمصر الى أن خرج منها فى سابع ذى الحجة سنة اثنتين وثلثمائة؛ وأقام مؤنس الخادم بمصر يدعى له بها(3/173)
ويخاطب بالأستاذ «1» الى أن ولّى الخليفة المقتدر ذكا «2» الرومىّ إمرة مصر عوضا عن تكين المذكور. فكانت ولايته على مصر خمس سنين وأياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 298]
السنة الأولى من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة تمان وتسعين ومائتين- فيها قدم الحسين بن حمدان من قمّ «3» ، فولّاه المقتدر ديار بكر وربيعة. وفيها توفّى محمد ابن عمرويه صاحب الشّرطة، توفّى بآمد وحمل الى بغداد. وفيها توفّى صافى الحرمىّ «4» فقلّد المقتدر مكانه مؤنسا الخادم المقدّم ذكره. وفيها خرج على عبيد الله المهدىّ داعياه «5» أبو عبد الله الشّيعىّ وأخوه أبو العباس، وجرت لهما وقعة هائلة، وذلك في جمادى الآخرة، فقتل «6» الداعيان في جندهما، ثم خالف على المهدىّ أهل طرابلس المغرب، فجهّز اليهم ابنه أبا القاسم القائم بأمر الله فأخذها عنوة في سنة ثلثمائة، وتمهّد بأخذها بلاد المغرب(3/174)
للمهدىّ المذكور. وفيها قدم القاسم بن سيما من غزوة الصائفة بالروم ومعه خلق من الأسارى وخمسون علجا «1» قد شهّروا على الجمال وبأيديهم صلبان الذهب والفضة.
وفيها استخلف على الحرم بدار الخليفة نظير الحرمىّ. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن مسروق الشيخ أبو العباس الصوفىّ الطّوسىّ أحد مشايخ القوم وأصحاب الكرامات، قدم بغداد وحدّث بها. وفيها «2» توفّى أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين البغدادىّ المعروف بابن الرّاوندىّ «3» الماجن المنسوب الى الهزل والزندقة؛ كان أبوه يهوديا(3/175)
فأسلم [هو «1» ] ؛ فكانت اليهود تقول للمسلمين: احذروا أن يفسد هذا عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا كتابنا. وصنّف أحمد هذا في الزندقة كتبا كثيرة «2» ، منها: كتاب بعث «3» الحكمة، وكتاب الدامغ للقرآن وغير ذلك، وكان زنديقا، وكان يقول: إنا نجد في كلام أكثم بن صيفىّ أحسن من (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)
و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)
، وإنّ الأنبياء وقعوا بطلّسمات «4» كما أنّ المغناطيس يجذب الحديد؛ وقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار «5» :" تقتلك الفئة الباغية"، قال: فإنّ المنجّم يقول مثل هذا إذا عرف المولد و [أخذ «6» ] الطالع. ولهذا التعيس الضالّ أشياء كثيرة من هذا الكفر البارد الذي يسئم أسماع الزنادقة لعدم طلاوة كلامه. وأمره في الزندقة والمخرقة «7» أشهر من(3/176)
أن يذكر؛ عليه اللعنة والخزى. ولما تزايد أمره صلبه بعض السلاطين وهو ابن ستّ وثمانين سنة «1» . وفيها توفّى أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابورىّ الحيرىّ الواعظ الإمام، مولده بالرّىّ ثم قدم نيسابور وسكنها، وكان أوحد مشايخ عصره وعنه انتشرت طريقة التصوّف بنيسابور.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد بن مسروق، وبهلول بن إسحاق الأنبارىّ «2» ، والجنيد شيخ الطائفة، والحسن ابن علّويه القطّان، وأبو عثمان الحيرىّ الزاهد، ومحمد بن علىّ بن طرخان البلخىّ الحافظ، ومحمد بن سليمان المروزىّ، ومحمد بن طاهر الأمير، ويوسف بن عاصم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 299]
السنة الثانية من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة تسع وتسعين ومائتين- فيها قبض المقتدر على وزيره أبى الحسن علىّ بن الفرات ونهبت دوره وهتكت حرمه، بسبب أنه قيل للخليفة: إنه كاتب الأعراب أن يكبسوا بغداد، ونهبت بغداد عند القبض عليه؛ واستوزر المقتدر أبا علىّ محمد بن عبيد الله بن يحيى ابن خاقان. وفيها سار «3» عبيد الله المهدىّ الفاطمىّ الى المهديّة ببلاد المغرب ودعى له بالخلافة برقّادة والقيروان وتلك النواحى؛ وعظم ملكه فشقّ ذلك على الخليفة(3/177)
المقتدر العباسىّ. وفيها توفّى أحمد بن نصر بن إبراهيم «1» الحافظ أبو عمرو الخفّاف، رحل في طلب الحديث ولقى الشيوخ، وكان زاهدا متعبّدا صام نيّفا وثلاثين سنة وتصدّق سرّا وعلانية بأموال كثيرة. وفيها توفّى الحسين بن عبد الله بن أحمد الفقيه أبو على الخرقىّ «2» والد الإمام عمر مصنف كتاب" [مختصر «3» ] الخرقىّ" فى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، وكان زاهدا عابدا، مات يوم عيد الفطر. وفيها توفّى محمد بن أحمد بن كيسان الإمام أبو الحسن النحوىّ اللغوىّ أحد الأئمة النحاة، كان يحفظ مذاهب البصريّين والكوفيّين في النحو، لأنه أخذ عن المبرّد وثعلب. وفيها توفّى محمد بن إسماعيل الشيخ أبو عبد الله المغربىّ الزاهد أستاذ ابراهيم الخوّاص وابراهيم بن شيبان وغيرهما، كان كبير الشأن في علم المعاملات والمكاشفات، وحجّ على قدميه سبعا وتسعين حجّة. قال إبراهيم بن شيبان: توفّى أبو عبد الله على جبل الطور فدفنته إلى جانب أستاذه علىّ بن رزين بوصيّة منه، وعاش كلّ واحد منهما عشرين ومائة سنة.
قلت: ولهذا حجّ سبعا وتسعين حجّة. وفيها توفّى محمد بن يحيى بن محمد البغدادىّ المعروف ب «حامل كفنه» ، كان فاضلا، وقع له غريبة وهو أنّه مرض فأغمى عليه فغسّل وكفّن ودفن، فلمّا كان الليل جاءه نبّاش فنبش عنه، فلما حلّ أكفانه ليأخذها استوى قائما، فخرج النبّاش هاربا؛ فقام هو وحمل أكفانه وجاء إلى منزله وأهله وهم يبكون عليه، فدقّ الباب، فقالوا: من؟ قال: أنا فلان؛ فقالوا: يا هذا، لا يحلّ لك أن تزيدنا على ما نحن فيه! قال: افتحوا فو الله أنا فلان؛ فعرفوا صوته ففتحوا(3/178)
له وعاد حزنهم فرحا، ويسمّى من حينئذ" حامل كفنه"؛ سكن" حامل كفنه" دمشق وحدّث بها. قال أبو بكر الخطيب: ومثل هذا سعيد الكوفىّ فإنّه لمّا دلّى في قبره اضطرب فحلّت عنه أكفانه فقام ورجع الى منزله، ثم ولد له بعد ذلك ابنه مالك.
وفيها توفّى ممشاد الدّينورىّ الزاهد المشهور، كان من أولاد الملوك فتزهّد وترك الدنيا وصحب أبا تراب النّخشبىّ وأبا عبيد [البسرىّ «1» ] وغيرهما، وكان عظيم الشأن؛ يحكى عنه خوارق، قيل: إنه لما احتضر قالوا له: كيف تجدك؟ فقال: سلوا العلّة عنّى؛ فقيل له: قل لا إله إلا الله؛ فحوّل وجهه الى الحائط فقال:
أفنيت كلّى بكلّك ... هذا جزا من يحبّك
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن أنس «2» ابن مالك الدمشقىّ، وأبو عمرو الخفّاف الزاهد أحمد بن نصر الحافظ، والحسين بن عبد الله الخرقىّ والد مصنّف" [مختصر] الخرقىّ" وعلىّ بن سعيد بن بشير الرازىّ، ومحمد بن يزيد بن عبد الصمد، وممشاد الدينورىّ الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 300]
السنة الثالثة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة ثلثمائة- فيها تتبّع الخليفة أصحاب الوزير أبى الحسن بن الفرات وصودروا وخرّبت ديارهم وضربوا، وعذّب ابن الفرات حتى كاد يتلف؛ ثم رفقوا به بعد أن أخذت أمواله. ثم عزل(3/179)
الخاقانىّ عن الوزارة ورشّح لها علىّ بن عيسى. ويقال: فيها ولدت بغلة، فسبحان الله القادر على كلّ شىء!. وفيها ظهر محمد بن جعفر بن علىّ بن محمد بن موسى بن جعفر ابن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب في أعمال دمشق، فخرج إليه أمير دمشق أحمد بن كيغلغ، ثم اقتتلا فقتل محمد في المعركة وحمل «1» رأسه الى بغداد فنصب على الجسر. وفيها وقع ببغداد والبادية وباء عظيم وموت جارف، فمات الناس على الطريق. وفيها ساخ جبل بالدّينور في الأرض وخرج من تحته ماء كثير غرّق القرى. وفيها وقعت قطعة عظيمة من جبل لبنان في البحر، وتناثرت النجوم فى جمادى الآخرة تناثرا عجيبا وكلّه الى ناحية المشرق. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص ابن أميّة الأموىّ المغربى أمير الأندلس، وأمّه أمّ ولد يقال لها عشار؛ بويع بالإمرة فى صفر سنة خمس وسبعين ومائتين في السنة التى توفّى فيها أخوه المنذر في أيّام المعتمد؛ وكان زاهدا تاليا لكتاب الله تعالى؛ بنى الرّباط بقرطبة ولزم الصلوات الخمس بالجامع حتى مات في شهر ربيع الأوّل، وكانت أيّامه على الأندلس خمسا وعشرين سنة وستّة أشهر وأياما؛ وتولّى مكانه ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله في اليوم الذي مات فيه جدّه المذكور، وكنيته أبو المظفّر فلقّب نفسه بالناصر؛ وتوفّى عبد الرّحمن هذا في سنة خمسين وثلثمائة. وقد تقدّم الكلام في ترجمة جدّ هؤلاء الثلاثة عبد الرّحمن الداخل أنّه فرّ من الشأم جافلا من بنى العبّاس ودخل المغرب وملكها، فسمّى لذلك عبد الرّحمن الداخل. وفيها توفّى عبيد الله [بن عبد الله «2» ] بن طاهر بن الحسين(3/180)
الأمير أبو محمد الخزاعىّ، كان من أجلّ الأمراء، ولى إمرة بغداد ونيابتها عن الخليفة وعدّة ولايات جليلة، وكان أديبا فاضلا شاعرا فصيحا، وقد تقدّم ذكر والده فى أمراء مصر في هذا الكتاب، وأيضا نبذة من أخبار جدّه في عدّة حوادث؛ وفي الجملة هو من بيت رياسة وفضل وكرم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد البراثىّ «1» ، وأبو أميّة الأحوص «2» بن الفضل الغلّابىّ، والحسين بن عمر بن أبى الأحوص، وعلىّ بن سعيد العسكرىّ الحافظ، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الأمير، وعبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن الأموىّ صاحب الأندلس، ومحمد بن أحمد بن جعفر أبو العلاء الوكيعىّ، ومحمد بن الحسن بن سماعة، ومسدّد ابن قطن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبع واحدة. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 301]
السنة الرابعة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة إحدى وثلثمائة- فيها قبض المقتدر على وزيره الخاقانىّ «3» فى يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم، وكانت مدّة وزارته سنة واحدة وشهرا وخمسة أيام؛ وكان المقتدر قد أرسل يلبق «4» المؤنسىّ(3/181)
فى ثلثمائة غلام إلى مكّة لإحضار علىّ بن عيسى للوزارة، فقدم ابن عيسى المذكور في المحرّم وتولّى الوزارة. وفيها في شعبان ركب الخليفة المقتدر من داره الى الشماسيّة «1» ثم عاد فى دجلة، وهى أوّل ركبة ظهر فيها للعامّة منذ ولى الخلافة. وفيها في يوم الاثنين سادس شهر ربيع الأوّل أدخل الحسين بن منصور المعروف بالحلّاج مشهورا على جمل إلى بغداد وصلب وهو حىّ في الجانب الغربىّ وعليه جبّة عوديّة «2» ، ونودى عليه: هذا أحد دعاة القرامطة؛ ثم أنزلوه وحبس وحده في دار ورمى بعظائم، نسأل الله السلامة في الدين؛ فأحضره علىّ بن عيسى الوزير وناظره فلم يجد عنده شيئا من القرآن ولا من الفقه ولا من الحديث ولا من العربيّة؛ فقال له الوزير: تعلّمك الوضوء والفرائض أولى من رسائل ما تدرى ما فيها ثم تدّعى الإلهية! فردّه الى الحبس فدام به إلى ما يأتى ذكره فى محلّه. وفيها أفرج المقتدر عن الوزير الخاقانىّ فأطلق وتوجّه إلى داره. وفيها فى شعبان خلع المقتدر على ابنه أبى العبّاس وقلّده أعمال الحرب بمصر والغرب، وعمره أربع سنين، واستخلف له [على مصر «3» ] مؤنس الخادم. وفيها توفّى الحسن بن بهرام أبو سعيد القرمطىّ المتغلّب على هجر، كان أصله كيّالا فهرب واستغوى خلقا من القرامطة والأعراب وغلب على القطيف «4» وهجر، وشغل المعتضد عنه الموت، فاستفحل أمره ووقع له مع عساكر المكتفى وقائع وأمور، وقتل الحجيج وأفسد البلاد، وفعل مالا يفعله مسلم، حتّى قتله خادم صقلبىّ في الحمّام أراده على الفاحشة فخنقه الخادم وقتله وذهبت روحه الى سقر. وفيها توفّى حمدويه بن أسد الدمشقىّ المعلم، كان من(3/182)
الأبدال [و] كان مجاب الدعوة وله كرامات وأحوال، مات بدمشق. وفيها توفّى عبد الله بن على بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب القاضى، كان إماما فاضلا عالما، استقضاه الخليفة المكتفى على مدينة المنصور في سنة اثنتين وتسعين ومائتين الى أن نقله المقتدر الى الجانب الشرقىّ في سنة ست وتسعين ومائتين فأصابه فالج ومات منه. وتوفّى ابنه «1» بعده بثلاثة وسبعين يوما وكان يخلفه على القضاء. وفيها توفّى علىّ بن أحمد الراسبىّ الأمير أبو الحسن، كان متولّيا من حدود واسط الى جنديسابور «2» ومن السوس «3» الى شهرزور «4» ، وكان شجاعا مات بجنديسابور وخلّف ألف ألف دينار و [من «5» ] آنية الذهب والفضة [ما قيمته «6» ] مائة ألف دينار [ومن «7» الخزّ ألف ثوب] وألف فرس وألف بغل وألف جمل، وكان له ثمانون طرازا تنسج فيها الثياب التى لملبوسه. وفيها توفّى محمد بن عثمان «8» بن إبراهيم بن زرعة الثّقفىّ مولاهم، كان قاضى دمشق ثم ولى قضاء مصر؛ كان إماما عالما عفيفا؛ ولما أراد أحمد بن طولون خلع الموفّق من ولاية العهد أمره بخلعه، فوقف بإزاء منبر دمشق وقال: قد خلعت أبا أحمق (يعنى [أبا] «9» أحمد) كما خلعت خاتمى من إصبعى، ومضى سنون الى أن ولى المعتضد بن الموفّق الخلافة ودخل الشأم يطلب من كان يبغض أباه، فأحضر القاضى هذا وجماعة فحملوا في القيود معه وسافر؛ فلما كان(3/183)
فى بعض الأيام رآهم المعتضد في الطريق فطلبهم وأراد الفتك بهم، فقال: من الذي قال" أبا أحمق"؟ فخرس القوم؛ فقال له القاضى: يا أمير المؤمنين، نسائى طوالق وعبيدى أحرار ومالى في سبيل الله إن كان في هؤلاء القوم من قال هذه المقالة؛ فاستظرفه المعتضد وأطلق الجميع؛ ومشى له ذلك في باب المماجنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد ابن عبد العزيز بن الجعد الوشّاء، وأبو بكر أحمد بن هارون البرذعىّ «1» ، وإبراهيم بن يوسف الرازىّ، والحسين بن إدريس الأنصارىّ الهروىّ، وعبد الله بن محمد «2» بن ناجية في رمضان، وعمرو بن عثمان المكىّ الزاهد، ومحمد بن العبّاس بن الأخرم الأصبهانىّ، ومحمد بن يحيى بن مندة العبدىّ «3» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 302]
السنة الخامسة من ولاية تكين الأولى على مصر، وهى سنة اثنتين وثلثمائة- فيها عاد المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ من المغرب الى الإسكندريّة ومعه صاحبه حباسة المقدّم ذكره، فجرت. بينه وبين جيش الخليفة حروب قتل فيها حباسة، وعاد مولاه عبيد الله الى القيروان. وفيها في المحرّم ورد كتاب نصر بن أحمد السامانىّ أمير خراسان أنّه واقع عمّه إسحاق بن إسماعيل وأنّه أسره؛ فبعث إليه المقتدر بالخلع واللواء.(3/184)
وفيها صادر المقتدر أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن الجصّاص الجوهرىّ، وكبست داره وأخذ من المال والجوهر ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار. وقال أبو الفرج ابن الجوزىّ: أخذوا منه ما مقداره ستة عشر ألف ألف دينار عينا وورقا [وآنية «1» ] وقماشا وخيلا [وخدما «2» ] . قال أبو المظفّر في مرآة الزمان: وأكثر أموال ابن الجصّاص المذكور من قطر النّدى بنت خمارويه صاحب مصر، فإنّه لما حملها من مصر الى زوجها المعتضد كان معها أموال وجواهر عظيمة؛ فقال لها ابن الجصّاص: الزمان لا يدوم ولا يؤمن على حال، دعى عندى بعض هذه الجواهر تكن ذخيرة لك، فأودعته، ثم ماتت فأخذ الجميع. وفيها خرج الحسن بن علىّ العلوىّ الأطروش، ويلقّب بالداعى، ودعا الديلم إلى الله، وكانوا مجوسا، فأسلموا وبنى لهم المساجد، وكان فاضلا عاقلا أصلح الله الديلم به. وفيها قلّد المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان الموصل والجزيرة. وفيها صلّى العيد في جامع مصر، ولم يكن يصلّى فيه العيد قبل ذلك، فصلّى بالناس علىّ بن أبى شيخة، وخطب فغلط بأن قال: اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مشركون. نقلها علىّ «3» بن الطحّان عن أبيه وآخر.
وفيها في الرجعة قطع الطريق على الحاجّ العراقىّ الحسن بن عمر الحسينىّ مع عرب طيّئ وغيرهم، فاستباحوا الوفد وأسروا مائتين وثمانين امرأة، ومات الخلق بالعطش والجوع. وفيها توفّى العبّاس بن محمد أبو الهيثم كاتب المقتدر، كان كاتبا جليلا، كان يطمع في الوزارة، ولما ولى علىّ بن عيسى الوزارة اعتقله فمات يوم الأحد سلخ ذى الحجّة، وأوصى أن يصلّى عليه أبو عيسى البلخىّ وأن يكبّر عليه أربعا وأن يسمّ قبره.(3/185)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
ذكر ولاية ذكا الرومىّ على مصر
الأمير أبو الحسن ذكا الرومىّ الأعور، ولى إمرة مصر بعد عزل تكين الحربىّ عن مصر، ولّاه الخليفة المقتدر على الصلاة؛ فخرج من بغداد وسافر إلى أن قدم مصر في يوم السبت لاثنتى عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلثمائة؛ فجعل على الشّرطة محمد بن طاهر مدّة ثم عزله بيوسف «1» الكاتب؛ وقدم بعده الحسين ابن أحمد الماذرائىّ على الخراج؛ ثم ردّ محمد بن طاهر على الشرطة. ثم بعد قدوم ذكا إلى مصر خرج منها مؤنس الخادم بجميع جيوشه لثمان خلون من شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلثمائة؛ وكان ورد على مؤنس كتاب الخليفة المقتدر يعرّفه بخروج الحسين بن حمدان عن الطاعة وأن يعود إلى بغداد ويأخذ معه من مصر أعيان القوّاد: مثل أحمد بن كيغلغ وعلى بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو وغيرهم ممن يخاف منهم؛ ففعل مؤنس ذلك. واستمرّ ذكا بمصر على إمرتها من غير منازع إلى أن خرج إلى الاسكندريّة في أوّل المحرّم سنة أربع وثلثمائة؛ فلم تطل غيبته عنها وعاد إليها في ثامن شهر ربيع الأوّل؛ فبلغه أنّ جماعة من المصريّين يكاتبون المهدىّ، فتتبّع كلّ من اتّهم بذلك، فقبض على جماعة منهم وسجنهم وقطع أيدى أناس «2» وأرجلهم، فعظمت هيبته في قلوب الناس. ثم أجلى أهل لوبية «3» ومراقية من مصر الى(3/186)
الإسكندريّة. ثم فسد بعد ذلك ما بينه وبين جند مصر والرعيّة، بسبب ذكر الصحابة رضى الله عنهم بما لا يليق «1» ، ونسب القرآن الكريم إلى مقالة المعتزلة وغيرهم. وبينما الناس في ذلك قدمت عساكر المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ من إفريقيّة إلى لوبية ومراقية، وعلى العساكر أبو القاسم، فدخل الإسكندريّة في ثامن صفر سنة سبع وثلثمائة، وفرّ الناس من مصر إلى الشأم في البرّ والبحر فهلك أكثرهم؛ فلما رأى ذكا ذلك تجهّز لقتالهم، وجمع العساكر وخرج بهم وهم مخالفون عليه، فعسكر بالجيزة، وكان الحسين بن أحمد الماذرائىّ على حراج مصر فجدّد العطاء للجند وأرضاهم، وتهيّأ ذكا للحرب وجدّ في ذلك وحفر خندقا على عسكره بالجيزة؛ وبينما هو في ذلك مرض ولزم الفراش حتى مات بالجيزة في عشيّة الأربعاء لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل «2» سنة سبع وثلثمائة، فغسّل وصلّى عليه وحمل حتى دفن بالقرافة.
وكانت ولايته على مصر أربع سنين وشهرا واحدا. وتولّى تكين الحربىّ عوضه مصر إمرة ثانية. وكان ذكا أميرا شجاعا مقداما، وفيه ظلم وجور مع اعتقاد سيئ على معرفة كانت فيه وعقل وتدبير.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 303]
السنة الأولى من ولاية ذكاء الرومىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وثلثمائة- فيها ولد سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان. وفيها كاتب الوزير علىّ بن عيسى(3/187)
القرامطة وأطلق لهم ما أرادوا من البيع والشراء، فنسبه الناس الى موالاتهم، وليس هو كذلك، وإنما قصد أن يتألّفهم «1» خوفا على الحاجّ منهم. وفيها تواترت الأخبار أنّ الحسين بن حمدان قد خالف، وكان مؤنس الخادم مشغولا بحرب عسكر المهدىّ بمصر، فندب علىّ بن عيسى الوزير رائقا الكبير لمحاربته؛ فتوجّه إليه رائق بالعساكر وواقعه فهزمه ابن حمدان، فسار رائق إلى مؤنس الخادم وانضم عليه، وكان بين مؤنس وابن حمدان خطوب وحروب. وفيها توفى أحمد [بن علىّ] بن شعيب بن علىّ ابن سنان بن بحر الحافظ أبو عبد الرّحمن القاضى النّسائىّ «2» مصنّف السنن وغيرها من التصانيف، ولد سنة خمس عشرة ومائتين، وسمع الكثير، ورحل الى نيسابور والعراق والشأم ومصر والحجاز والجزيرة؛ وروى عنه خلق وكان فيه تشيّع حسن.
قال أبو عبد الله بن مندة عن حمزة العقبىّ المصرىّ وغيره: إن النّسّائىّ خرج من مصر في آخر عمره الى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما روى من فضائله؛ فقال:
أما «3» يرضى [معاوية أن يخرج «4» ] رأسا برأس حتّى يفضّل! انتهى. وقال الدّارقطنىّ:
إنّه خرج حاجّا فامتحن «5» بدمشق وأدرك الشهادة، فقال: احملونى الى مكّة، فحمل وتوفّى بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة؛ وكانت وفاته في شعبان، وقيل في وفاته غير ذلك: إنه مات بفلسطين في صفر. وفيها توفّى جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ أبو محمد النيسابورىّ الحصرىّ «6» أحد أركان الحديث، كان ثقة عابدا صالحا.(3/188)
وفيها توفّى الحسن «1» بن سفيان بن عامر بن عبد العزيز بن النعمان الشيبانىّ النّسوىّ الحافظ أبو العبّاس مصنّف المسند؛ تفقّه على أبى ثور إبراهيم بن خالد وكان يفتى على مذهبه، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن إبراهيم الحنظلىّ وغيرهم. وفيها توفّى محمد بن عبد الوهاب بن سلّام أبو علىّ الجبّائىّ «2» البصرىّ شيخ المعتزلة، كان رأسا في علم الكلام وأخذ هذا «3» العلم عن أبى يوسف يعقوب ابن عبد الله الشحّام البصرىّ، وله مقالات مشهورة وتصانيف، وأخذ عنه ابنه أبو هاشم «4» والشيخ أبو الحسن الأشعرىّ. قال الذهبىّ: وجدت على ظهر كتاب عتيق: سمعت أبا عمرو يقول سمعت عشرة من أصحاب الجبّائىّ يحكون عنه، قال:
الحديث لأحمد بن حنبل، والفقه لأصحاب أبى حنيفة، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة. وفيها توفى رويم بن أحمد- وقيل: ابن محمد بن رويم- الشيخ أبو محمد الصوفىّ، قرأ القرآن وكان عارفا بمعانيه، وتفقّه على مذهب داود الظاهرىّ، وكان مجرّدا من الدنيا مشهورا بالزهد والورع والدّين. وفيها توفى علىّ بن محمد بن منصور ابن نصر بن بسّام البغدادىّ الشاعر المشهور، وكان شاعرا مجيدا، إلا أن غالب شعره كان في الهجاء حتّى هجا نفسه وهجا أباه وإخوته وسائر أهل بيته، وكان يكنى أبا جعفر «5» ، فقال:
بنى أبو جعفر دارا فشيّدها ... ومثله لخيار الدّور بنّاء
فالجوع داخلها والذلّ خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضرّاء(3/189)
وله يهجو المتوكّل على الله لما هدم قبور العلوييّن:
تالله إن كانت أميّة قد أتت ... قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما
ومن شعره في الزهد:
أقصرت عن طلب البطالة والضّبا ... لمّا علانى للمشيب قناع
لله أيّام الشباب ولهوه ... لو أنّ أيّام الشباب تباع
فدع الصّبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر الى الدنيا بعين مودّع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
[والحادثات «1» موكّلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع]
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 304]
السنة الثانية من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة أربع وثلثمائة- فيها في المحرّم عاد نصر الحاجب من الحجّ ومعه العلوىّ «2» الذي قطع الطريق على ركب الحاجّ عام أوّل، فحبس في المطبق «3» . وفيها غزا مؤنس الخادم بلاد الروم من ناحية ملطية وفتح حصونا كثيرة وآثارا جميلة وعاد الى بغداد فخلع المقتدر عليه. وفيها وقع ببغداد حيوان يسمّى الزّبزب «4» ، وكان يرى في الليل على السطوح «5» ، وكان «6» يأكل أطفال(3/190)
الناس، وربّما قطع يد الإنسان وهو نائم وثدى «1» المرأة فيأكلهما، فكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويضربون الصوانىّ والهواوين ليفزعوه فيهرب، وارتجّت بغداد من الجانبين وصنع «2» الناس لاطفالهم مكابّ من السّعف يكبّونها عليهم بالليل، ودام ذلك عدّة ليال. وفيها عزل المقتدر الوزير علىّ بن عيسى، وكان قد ثقل عليه أمر الوزارة وضجر من سوء أدب الحاشية واستعفى غير مرّة؛ ولما عزله المقتدر لم يتعرّض له بسوء، وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما؛ وأعيد أبو الحسن بن الفرات الى الوزارة. وفيها توفّى زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب الأمير أبو نصر، وقيل: أبو منصور، صاحب الفيروان. قال الحميرىّ: يقال له زيادة الله الأصغر وجدّ جدّه زيادة الله الأكبر. وردّ زيادة الله الى مصر منهزما من عبيد الله المهدىّ الخارجىّ فأكرم، وقيل: إنه مات في «3» برقة، وقيل: بالرملة. وفيها توفّى يموت ابن «4» المزرّع بن يموت أبو بكر العبدى من عبد القيس، كان من البصرة ثم رحل عنها ونزل بغداد ثم قدم دمشق ثم سكن طبريّة «5» ، وكان حافظا ثقة محدّثا أخباريا. وفيها توفى يوسف بن الحسين بن علىّ الحافظ أبو يعقوب الرازىّ شيخ الرىّ والجبال «6» فى وقته، كان عالما زاهدا ورعا كبير الشأن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا مثل الماضية.(3/191)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 305]
السنة الثالثة من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة خمس وثلثمائة- فيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ وهى تمام ستّ عشرة حجّة حجّها بالناس.
وفيها خلع الخليفة المقتدر على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته خلعة الرضا.
وفيها قدمت رسل ملك الروم بهدايا تطلب عقد هدنة، فشحنت «1» رحبات دار الخلافة والدهاليز بالجند والسلاح، وفرشت سائر القصور بأحسن الفرش، ثم احضر الرسل والمقتدر على سريره والوزير ومؤنس الخادم قائمان بالقرب منه. وذكر الصّولىّ احتفال المقتدر بمجيء الرسل فقال: أقام المقتدر العساكر وصفّهم بالسلاح، وكانوا مائة وستين ألفا، وأقامهم من باب الشمّاسيّة الى دار الخلافة، وبعدهم الغلمان وكانوا سبعة آلاف خادم وسبعمائة حاجب؛ ثم وصف أمرا مهولا قال: كانت الستور ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج، ومن البسط اثنان وعشرون ألفا، وكان في الدار مائة سبع في السلاسل، ثم أدخلوا دار الشجرة وكان في وسطها بركة والشجرة فيها، ولها ثمانية عشر غصنا عليها الطيور المصوغة تصفر، ثم أدخلوا الى الفردوس وبها من الفرش ما لا يقوّم، وفي الدهاليز عشرة آلاف جوشن «2» مذهّبة معلّقة وأشياء كثيرة يطول الشرح في ذكرها. وفيها وردت هدايا صاحب «3» عمان، فيها طير أسود يتكلّم بالفارسيّة والهندية «4» أفصح من الببّغاء، وظباء سود. وفيها توفّى الأمير غريب خال الخليفة المقتدر بالله بعلّة الذّرب «5» ، كان محترما في الدولة، وهو قاتل عبد الله بن المعتزّ حتّى قرّر(3/192)
جعفرا المقتدر. وفيها توفّى سليمان بن محمد «1» بن أحمد أبو موسى النحوىّ كان يعرف بالحامض «2» ، وكان إماما في النحو وغيره وله تصانيف كثيرة، منها:" خلق الانسان"، و" كتاب الوحوش والنبات"، و" غريب الحديث" ومات في ذى الحجّة. وفيها توفّى عبد الصمد بن عبد الله القاضى أبو محمد القرشىّ قاضى دمشق، حدّث عن هشام ابن عمّار وغيره، وروى عنه أبو زرعة الدّمشقىّ وجماعة أخر. وفيها توفّى الفضل بن الحباب بن محمد بن شعيب أبو خليفة الجمحىّ البصرىّ، كان رحلة «3» الآفاق في زمانه، واسم أبيه عمرو ولقبه الحباب، ولد سنة ستّ ومائتين، وكان محدّثا ثقة راوية للأخبار فصيحا مفوها أديبا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 306]
السنة الرابعة من ولاية ذكا الرومىّ على مصر، وهى سنة ستّ وثلثمائة- فيها فتح بيمارستان «4» السيدة أمّ المقتدر «5» ببغداد، وكان طبيبه سنان بن ثابت، وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار. وفيها أمرت أمّ المقتدر ثمل القهرمانة «6» أن تجلس بالتّربة التى بنتها بالرّصافة للمظالم وتنظر في رقاع الناس في كلّ يوم «7» جمعة؛ فكانت(3/193)
ثمل المذكورة تجلس ويحضر الفقهاء والقضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطّها.
وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ؛ وقيل: أحمد بن العباس أخو أمّ موسى القهرمانة. وفيها توفّى أحمد بن عمر بن سريج القاضى أبو العبّاس البغدادىّ الفقيه العالم المشهور، قال الدارقطنىّ: كان فاضلا لولا ما أحدث في الإسلام مسألة الدور «1» فى الطلاق. وفيها توفّى أحمد بن يحيى الشيخ أبو عبد الله بن الجلّى «2» أحد مشايخ الصوفيّة الكبار، صحب أباه وذا النون المصرىّ وأبا تراب «3» النّخشبىّ؛ قال الرّقىّ «4» :
[لقيت نيّفا «5» وثلثمائة من المشايخ المشهورين فما لقيت أحدا بين يدى الله وهو يعلم أنه بين يدى الله أهيب من ابن الجلّى] . وفيها توفّى الأمير أبو عبد الله الحسين بن حمدان ابن حمدون التّغلبىّ «6» عمّ السلطان سيف الدولة بن حمدان، كان معظّما في الدول، ولّاه الخليفة المكتفى محاربة الطّولونيّة، ثم ولى حرب القرامطة في أيام المقتدر؛ ثم ولى ديار ربيعة فغزا وافتتح حصونا وقتل خلقا من الروم، ثم خالف وعصى على الخلافه فسار لحربه رائق الكبير فانكسر فتوجّه رائق إلى مؤنس الخادم وانضم إليه وعاد إليه(3/194)
وقاتله حتى ظفر به وأسره ووجّهه الى الخليفة فحبسه الى أن قتل في محبسه ببغداد؛ وكان من أجلّ الأمراء بأسا وشجاعة، وهو أوّل من ظهر أمره من ملوك بنى حمدان.
وفيها توفّى عبدان بن أحمد بن موسى بن زياد أبو محمد الأهوازىّ الجواليقىّ الحافظ، وكان اسمه عبد الله فخفّف بعبدان، وهو أحد من طاف البلاد في طلب الحديث وسمع الكثير وصنّف التصانيف ورحل الناس إليه، وكان أحد الحفّاظ الأثبات.
وفيها توفّى محمد بن خلف بن حيّان بن صدقة أبو بكر القاضى الضّبّىّ ويعرف بوكيع، كان عالما نبيلا فصيحا عارفا بالسّير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة في أخبار القضاء وعدد آيات القرآن وغير ذلك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية تكين الثانية على مصر
ولاية الأمير تكين الثانية على مصر- وليها من قبل المقتدر بعد موت ذكا الرومىّ في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلثمائة، وسار من بغداد الى مصر؛ وكان المقتدر قد جهّز جيشا الى مصر نجدة لذكا وعلى الجيش الأمير إبراهيم بن كيغلغ والأمير محمود ابن جمل «1» فدخلوا مصر قبل تكين في شهر ربيع الأوّل المذكور؛ ثم دخل تكين بعدهم بمدّة فى حادى عشرين من شعبان من السنة؛ فلما وصل تكين الى مصر أقرّ على شرطته ابن طاهر، ثم تجهّز بسرعة وخرج من الديار المصريّة بجيوش مصر والعراق ونزل بالجيزة وحفر بها خندقا ثانيا غير الذي حفره ذكا قبل موته.(3/195)
وأمّا عسكر المغاربة فإنّ مقدّمة القائم ابن المهدىّ عبيد الله الفاطمىّ دخلت الإسكندريّة في صفر هذه السنة، فاضطرب أهل مصر ولحق كثير منهم بالقلزم والحجاز لا سيما لمّا مات ذكا؛ فلما قدم تكين هذا تراجع الناس. ثم إنّ تكين بلغه أنّ القائم محمدا قد اعتلّ بالإسكندريّة علّة صعبة وكثر المرض في جنده فمات داود بن حباسة ووجوه من القوّاد؛ ثم تحاملوا ومشوا إلى جهة مصر، فاستمرّ تكين بمنزلته من الجيزة إلى أن أقبلت عساكر المهدىّ، فاستقبله المذكور فتقاتلا قتالا شديدا انتصر فيه تكين وظفر بالمراكب في شوّال من السنة؛ وتوجّهت عساكر المهدىّ إلى نحو الصعيد، وعاد تكين إلى مصر مؤيّدا منصورا، ودام بها إلى أن حضر إليها مؤنس الخادم فى نحو ثلاثة آلاف من عساكر العراق في المحرّم سنة ثمان وثلثمائة، وخرج تكين إلى الجيزة ثانيا وبعث ابن كيغلغ إلى الأشمونين «1» لقتال عساكر المهدىّ (أعنى المغاربة) فتوجّه إليه ابن كيغلغ المذكور فمات بالبهنسا في أوّل ذى القعدة. ثم بلغ تكين أنّ ابن المدينىّ القاضى وجماعة بمصر يدعون إلى المهدىّ، فأخذهم وضرب أعناقهم وحبس أصحابه. وملك أصحاب المهدىّ الفيّوم وجزيرة الأشمونين وعدّة بلاد، وضعف أمر تكين عنهم؛ فقدم عليه نجدة ثانية من العراق عليها جنّىّ الخادم «2» فى ذى الحجّة من السنة؛ خرج جنىّ أيضا بمن معه إلى الجزيرة؛ وتوجّه الجميع لقتال عساكر المهدىّ، فكانت بينهم حروب وخطوب بالفيوم والإسكندريّة، وطال ذلك بينهم أياما كثيرة إلى أن رجع أبو القاسم القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله بعساكره إلى برقة.
وأقام تكين بعد ذلك مدّة، وصرفه مؤنس الخادم عن إمرة مصر في يوم الأحد(3/196)
لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل من سنة تسع وثلثمائة، وولّى مكانه على مصر أبا قابوس محمود بن جمل؛ وكانت ولاية تكين هذه الثانية على مصر نحو السنة وسبعة أشهر تخمينا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 307]
السنة التى حكم فيها ذكا وفي آخرها تكين على مصر، وهى سنة سبع وثلثمائة- فيها اجدبت العراق فخرج أبو العباس أخو أمّ موسى القهرمانة والناس معه فاستقبوا. وفيها خلع المقتدر على نازوك الخادم وولّاه دمشق. وفيها خلع المقتدر على أبى منصور بن أبى دلف وولّاه «1» ديار بكر وسميساط. وفيها دخلت القرامطة البصرة فنهبوها وقتلوا وسبوا. وفيها توفّى الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ بها، وكان صاحب الصلاة بمدينة السلام وأمير مكّة والموسم، وقد تقدّم ذكر أنه حجّ بالناس نحو العشرين سنة، وتولّى ابنه عمر مكانه، وكانت وفاته في صفر.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن المثنّى بن يحيى بن عيسى بن هلال أبو يعلى التميمىّ الموصلىّ الحافظ صاحب المسند، ولد في شوّال سنة عشرين ومائتين، وكان إماما عالما محدّثا فاضلا؛ وثّقه ابن حبّان «2» ووصفه بالإتقان والدّين، وقال: بينه وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنفس. وقال الحاكم: هو ثقة مأمون، سمعت أبا علىّ الحافظ يقول:
كان أبو يعلى لا يخفى عليه من حديثه إلا اليسير. وفيها توفّى علىّ بن سهل بن الأزهر(3/197)
أبو الحسن الأصبهانىّ، كان أوّلا من أبناء الدنيا المترفين فتزهّد وخرج عما كان فيه، وكان يكاتب الجنيد فيقول الجنيد: «1» ما أشبه كلامه بكلام الملائكة!.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 308]
السنة الثانية من ولاية تكين الثانية على مصر، وهى سنة ثمان وثلثمائة- فيها غلت الأسعار ببغداد وشغبت العامّة ووقع النهب، فركبت الجند؛ وسبب ذلك ضمان «2» حامد بن العباس السواد وتجديد المظالم لمّا ولى الوزارة «3» ، وقصدوا دار حامد فخرج اليهم غلمانه فحاربوهم ودام القتال بينهم أياما وقتل منهم «4» خلائق، ثم اجتمع من العامّة نحو عشرة آلاف، فأحرقوا الجسر وفتحوا السجون ونهبوا الناس، فركب هارون [بن غريب «5» ] فى العساكر وركب حامد بن العباس في طيّار «6» فرجموه، واختلّت أحوال الدولة العبّاسية وغلبت الفتن ومحقت الخزائن. وفيها استولى عبيد الله الملقّب بالمهدىّ الداعى على بلاد المغرب وعظم أمره؛ ومن يومئذ أخذ أمر عبيد الله هذا في إقبال،(3/198)
وأخذت الدولة العباسيّة في إدبار. وفيها توفّى جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسن «1» ابن جعفر بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب العلوىّ، كان فاضلا ورعا، مات في ذى القعدة. وفيها توفّى عبد الله بن ثابت بن يعقوب الشيخ أبو عبد الله التّوّزىّ (بزاى معجمة) ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وسكن بغداد ومات غريبا بالرّملة، وكان فاضلا عالما. وفيها توفّى إمام جامع المنصور الشيخ محمد بن هارون بن العباس بن عيسى بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ، كان معرقا في النسب، أمّ بجامع المنصور خمسين سنة، وولى ابنه جعفر بعده فعاش تسعة أشهر ومات. وفيها توفّيت ميمونة بنت المعتضد «2» بالله الهاشميّة العباسيّة عمّة الخليفة المقتدر، كانت من عظماء نساء عصرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
ذكر ولاية أبى قابوس محمود على مصر
هو محمود بن جمل «3» أبو قابوس، ولّاه مؤنس الخادم إمرة مصر بعد عزل تكين عنها لأمر اقتضى ذلك في يوم الأحد ثالث «4» عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة، فلم ينجح أمره، وخالفت عليه جند مصر استصغارا له؛ فعزله مؤنس بعد ثلاثة أيّام في يوم الثلاثاء لستّ عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل المذكور؛ وعاد الأمير(3/199)
نكين على إمرة مصر لثالث مرّة. وكانت ولاية محمود هذا على مصر ثلاثة أيام، على أنه لم يبتّ فيها أمراء قلت: ومتى تفرّغ «1» للنظر في الأمور! فانه يوم لبس الخلعة جلس فيه للتهانىّ، ويوم عزل للتآسى؛ فإمرته على هذا يوم واحد وهو يوم الاثنين، فما عسى [أن] يصنع فيه!. وكان مؤنس الخادم حضر إلى مصر في عسكر من قبل الخليفة المقتدر في سنة ثمان وثلثمائة، فصار يدبّر أمرها ويراجع الخليفة.
ذكر ولاية تكين الثالثة على مصر
ولما عزل مؤنس الخادم تكين هذا بأبى قابوس في ثالث عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة بغير جنحة عظم ذلك على المصريين، فلم يلتفت مؤنس لذلك وولّى أبا قابوس على إمرة مصر عوضه، فكثر الكلام في عزل تكين المذكور وولاية أبى قابوس حتى أشيع بوقوع فتنة؛ وتكلّم الناس وأعيان مصر مع مؤنس الخادم في أمر تكين وخوّفوه عاقبة ذلك وألحّوا عليه في عوده، فأذعن لهم بذلك وأعاده فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر ربيع الأوّل على رغمه حتى أصلح من أمره ما دبّره من أمر المصريين، وقرّر مع القوّاد ما أراده من عزل تكين المذكور عن إمرة مصر، ولا زال بهم حتى وافقه الجميع؛ فلما رأى مؤنس أن الذي رامه تمّ له عزله بعد أربعة أيام من ولايته، وذلك في يوم تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل وهو يوم سلخه من سنة تسع وثلثمائة. ثم بدا لمؤنس إخراج تكين هذا من الديار المصريّة خوف الفتنة، فأخرجه منها إلى الشأم في أربعة آلاف من أهل الديوان؛ وبعث مؤنس إلى الخليفة يعرّفه بما فعل؛ فلما بلغ الخليفة ذلك ولّى على مصر الأمير هلال آبن بدر الآتى ذكره، وأرسله إلى الدّيار المصريه.(3/200)
ذكر ولاية هلال بن بدر على مصر
هو هلال بن بدر الأمير أبو الحسن؛ ولى إمرة مصر بعد عزل تكين عنها فى شهر ربيع الآخر- أعنى من دخوله إلى مصر؛ فإنه قدمها في يوم الاثنين لسّت خلون من شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثلثمائة، ولّاه الخليفة المقتدر على الصلاة.
ولما دخل إلى مصر أقرّ ابن طاهر على الشّرطة ثم صرفه بعد مدّة بعلىّ بن فارس.
وكان هلال هذا لما قدم إلى مصر جاء معه كتاب الخليفة المقتدر لمؤنس بخروجه من مصر وعوده إلى بغداد، فلما وقف مؤنس على كتاب الخليفة تجهّز وخرج من الديار المصريّة بعساكر العراق ومعه محمود بن جمل الذي كان ولى مصر. وكان خروج مؤنس من مصرفى يوم ثامن عشر شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثلثمائة المذكورة.
وأقام هلال بن بدر المذكور على إمرة مصر وأحوالها مضطربة إلى أن خرج عليه جماعة من المصريين وأجمعوا على قتاله، وتشغّبت الجند أيضا ووافقوهم على حربه، وانضمّ الجميع بمن معهم وخرجوا من الديار المصرية إلى منية الأصبغ ومعهم الأمير محمد بن طاهر صاحب الشرطة. ولمّا بلغ هلالا هذا أمرهم تهيّأ وتجهّز لقتالهم، وجمع من بقى من جند مصر وطلب المقاتلة وأنفق فيهم وضمّهم إليه وجهّزهم، ثم خرج بهم وحواشيه إلى أن وافاهم وقاتلهم أياما عديدة؛ وطال الأمر فيما بينه وبينهم، ووقع له معهم حروب، وكثر القتل والنهب بينهم، وفشا الفساد وقطع الطريق بالديار المصرية؛ فعظم ذلك على أهل مصر، لا سيما الرعيّة. وضعف ابن هلال هذا عن إصلاح أحوال مصر، فصار كلّما سدّ أمرا انخرق عليه آخر؛ فكانت أيامه على مصر شرّ أيام. ولما تفاقم الأمر عزله الخليفة المقتدر بالله جعفر عن إمرة مصر بالأمير(3/201)
أحمد بن كيغلغ. فكانت ولاية هلال المذكور على مصر سنتين وأياما، قاسى فيها خطوبا وحروبا ووقائع وفتنا، إلى أن خلص منها كفافا لا له ولا عليه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 309]
السنة التى حكم في أوّلها تكين إلى ثالث عشر شهر ربيع الأوّل، ثم أبو قابوس محمود ثلاثة أيام، ثم تكين المذكور أربعة أيام، ثم هلال بن بدر إلى آخرها، وهى سنة تسع وثلثمائة- فيها كانت مقتلة الحلّاج واسمه الحسين بن منصور بن محمّى أبو مغيث، وقيل: أبو عبد الله، الحلّاج. كان جدّه محمّى مجوسيّا فأسلم. ونشأ الحلّاج بواسط، وقيل: بتستر، وتلمذ لسهل بن عبد الله التسترىّ، ثم قدم بغداد وخالط الصوفيّة ولقى الجنيد والنّورىّ «1» وابن عطاء «2» وغيرهم. وكان في وقت يلبس المسوح وفي وقت الثياب المصبّغة وفي وقت الأقبية. واختلفوا في تسميته بالحلّاج، قيل: إن أباه كان حلّاجا، وقيل: إنه تكلّم على الناس [و «3» على ما في قلوبهم] فقالوا: هذا حلّاج الأسرار، وقيل: إنه مرّ على حلّاج فبعثه «4» في شغل له فلما عاد الرجل وجده قد حلّج كلّ قطن في الدكان. وقد دخل الحلّاج الهند وأكثر الأسفار وجاور بمكة سنين، ثم وقع له أمور يطول شرحها، وتكلّم في اعتقاده بأقوال كثيرة حتى اتفقوا على زندقته، والله أعلم بحاله. وكان قد حبس في سنة إحدى وثلثمائة فأخرج في هذه السنة من الحبس في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذى القعدة، وقيل: لستّ بقين منه، فضرب(3/202)
ألف سوط ثم قطعت أربعته ثم حزّ رأسه وأحرقت جثّته، ونصب رأسه على الجسر أياما، ثم أرسل إلى خراسان فطيف به. وفيها وقع بين أبى جعفر محمد بن جرير الطبرىّ وبين السادة الحنابلة كلام، فحضر أبو جعفر عند الوزير علىّ بن عيسى لمناظرتهم ولم يحضروا. وفيها قدم مؤذن؟؟؟ الخادم على الخليفة من مصر فخلع عليه ولقّبه بالمظفّر.
قلت: وهذا أوّل لقب سمعناه من ألقاب ملوك زماننا. وفيها توفى محمد بن خلف بن المرزبان بن بسّام أبو بكر المحوّلىّ- والمحوّل: قرية غربىّ بغداد- كان إماما عالما، وله التصانيف الحسان، وهو مصنّف كتاب" تفضيل «1» الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وحدّث عن الزبير بن بكّار وغيره، وروى عنه ابن الأنبارىّ وغيره، وكان صدوقا ثقة. وفيها توفى محمد بن [أحمد «2» بن] راشد بن معدان الحافظ أبو بكر الثقفىّ مولاهم، كان حفّاظا محدّثا، طاف البلاد ولقى الشيوخ وصنّف الكتب، ومات بشروان «3» .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن أنس «4» ابن مالك الدمشقىّ، وأبو عمرو أحمد بن «5» نصر الخفّاف الزاهد، وعلى بن «6» سعيد بن بشير(3/203)
الرازىّ، ومحمد بن حامد بن سرىّ يعرف «1» بخال السّنّىّ، ومحمد بن يزيد «2» بن عبد الصمد، وممشاد الدّينورىّ «3» الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 310]
السنة الثانية من ولاية هلال بن بدر على مصر، وهى سنة عشر وثلثمائة- فيها قبض الخليفة المقتدر على أمّ موسى القهرمانة وصادر أخاها وحواشيها وأهلها؛ وسبب ذلك أنّها زوّجت بنت أخيها أبى بكر «4» أحمد بن العباس من أبى العباس محمد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من سادة بنى العباس يترشّح للخلافة، فتمكّن أعداؤها من السعى عليها، وكانت قد أسرفت بالمال في جهازها، وبلغ المقتدر أنها تعمل له على الخلافة؛ فكاشفتها السيدة أمّ المقتدر وقالت: قد دبرّث على ولدى وصاهرت ابن المتوكّل حتى تقعديه في الخلافة؛ فسلّمتها الى ثمل القهرمانة ومعها أخوها وأختها، وكانت ثمل مشهورة بالشرّ وقساوة القلب، فبسطت عليهم العذاب واستخرجت منهم الأموال والجوهر؛ يقال: إنه حصّل من جهتهم ما مقداره ألف ألف دينار. وفيها قلّد الخليفة المقتدر نازوك الشّرطة بمدينة السلام مكان محمد بن(3/204)
عبد الله بن طاهر. وفيها توفّى بدر [بن عبد الله «1» ] الحمامىّ الكبير أبو النجم «2» المعتضدىّ، كان أوّلا مع ابن طولون فولّاه الأعمال الجليلة، ثم جهّزه خمارويه إلى الشأم لقتال القرمطىّ فواقعه وقتله، ثم ولى من قبل الخلفاء أصبهان وغيرها إلى أن مات على عمل مدينة «3» فارس، وكان أميرا ديّنا شجاعا وجوادا محبّا للعلماء والفقراء؛ وقيل: إنّه كان مستجاب الدعوة؛ ولما مات ولّى المقتدر مكانه ابنه محمّدا. وفيها توفّى محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير «4» بن غالب أبو جعفر الطبرىّ العالم المشهور صاحب التاريخ وغيره، مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين أو أوّل سنة خمس وعشرين ومائتين، وهو أحد أئمة العلم، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه، وكان متفنّنا في علوم كثيرة، وكان واحد عصره؛ وكانت وفاته في شوّال بخراسان، وأصله من مدينة طبرستان. قال أبو بكر الخطيب: «جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله، بصيرا بالمعانى، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، بصيرا بأيّام الناس وأخبارهم؛ له الكتاب المشهور في تاريخ الأمم، وكتاب التفسير، وكتاب تهذيب الآثار لكن لم يتمّه؛ وله في الأصول والفروع كتب كثيرة» . انتهى. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن زهير أبو جعفر التسترىّ الحافظ الزاهد، سمع الكثير وحدّث وروى عنه خلق كثير. قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى جعفر التسترىّ؛ وقال التسترىّ: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى زرعة الرازىّ؛ وقال أبو زرعة: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبى بكر بن أبى شيبة.(3/205)
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إسحاق بن إبراهيم ابن محمد بن حنبل «1» الأصبهانىّ، وأبو شيبة «2» داود بن إبراهيم، وعلى بن عبّاس المقانعىّ البجلىّ، ومحمد بن أحمد بن حمّاد أبو بشر الدّولابىّ في ذى القعدة، وأبو جعفر محمد ابن جرير الطبرىّ في شوّال، وله أربع وثمانون سنة، وأبو عمران موسى بن جرير الرّقّىّ، والوليد بن أبان أبو العباس الأصبهانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الأولى على مصر
هو أحمد بن كيغلغ الأمير أبو العبّاس؛ ولّاه المقتدر إمرة مصر بعد عزل هلال ابن بدر عنها في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ فلما وليها قدم ابنه العباس خليفته على مصر، فدخلها العباس المذكور في مستهلّ جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وثلثمائة، فأقرّ ابن منجور على الشرطة، ثم قدم أحمد بن كيغلغ إلى مصر ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب الماذرائىّ على الخراج؛ ولما دخلا إلى مصر أحضرا الجند ووضعا العطاء لهم، وأسقطا كثيرا من الرّجالة «3» ، وكان ذلك بمنية «4» الأصبغ، فثار الرجّالة، ففرّ أحمد بن كيغلغ منهم الى فاقوس، وهرب الماذرائىّ ودخل المدينة لثمان خلون من شوّال. وأما الأمير أحمد بن كيغلغ هذا فإنه أقام بفاقوس الى أن صرف عن إمرة مصر بتكين في ثالث ذى القعدة سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ فكانت ولايته على مصر نحوا من سبعة أشهر؛ وتولّى تكين مصر عوضه وهى ولايته الرابعة(3/206)
على مصر. وشقّ ذلك على الخليفة. غير أنه أطاع الجند وأرضاهم واستمالهم مخافة من عساكر المهدىّ الفاطمىّ؛ فإن عساكره تداول تحكّمهم الى نحو الديار المصريّة فى كلّ قليل؛ وصار أمير مصر في حصر من أجل ذلك وهو محتاج الى الجند وغيرهم، لأجل القتال والدفع عن الديار المصريّة. قلت: ويأتى بقيّة ترجمة أحمد بن كيغلغ هذا في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 311]
السنة التى حكم في غالبها الأمير أحمد بن كيغلغ على مصر، وهى سنة إحدى عشرة وثلثمائة- فيها صرف أبو عبيد «1» بن حربويه عن قضاء مصر وتأسّف الناس عليه وفرح هو بالعزل وانشرح له؛ وولى قضاء مصر بعده أبو يحيى عبد الله بن إبراهيم ابن مكرم. وفي هذه السنة ظهر شاكر الزاهد صاحب حسين الحلّاج وكان من أهل بغداد. قال السّلمىّ في تاريخ الصوفيّة: شاكر خادم الحلّاج كان متّهما مثل الحلّاج، ثم حكى عنه حكايات إلى أن قتل وضربت رقبته بباب الطاق «2» . وفيها صرف المقتدر حامد بن العبّاس عن الوزارة، وعلىّ بن عيسى عن الديوان؛ وكانت ولايتهما أربع سنين وعشرة أشهر وأربعة عشر يوما. واستوزر المقتدر أبا الحسن علىّ بن محمد بن الفرات الثالثة في يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الآخر؛ وهذه ولاية ابن الفرات الثالثة للوزارة. وفيها نكب الوزير أبو الحسن بن الفرات المذكور أبا علىّ بن مقلة كاتب حامد بن العبّاس وضيّق عليه. وابن مقلة هذا هو صاحب الخطّ المنسوب [إليه] ، يأتى ذكره إن شاء الله تعالى في محلّه. وفيها دخل أبو طاهر سليمان بن(3/207)
الحسن الجنّابىّ القرمطىّ الى البصرة ووضع السيف في أهلها وأحرق البلد والجامع ومسجد طلحة وهرب الناس وألقوا بأنفسهم في الماء فغرق معظمهم. وفيها توفّى ابراهيم بن السّرىّ بن سهل أبو إسحاق الزجّاج الإمام الفاضل مصنّف" كتاب معانى القرآن" و" الاشتقاق" و" القوافى والعروض" و" فعلت وأفعلت" ومختصرا فى النحو، وغير ذلك. وفيها توفّى الوزير الأمير حامد بن العبّاس، كان أوّلا على نظر فارس وأضيف إليها البصرة، ثم آل أمره إلى أن طلب وولّى الوزارة للمقتدر؛ وكان كثير الأموال والحشم بحيث إنه كان له أربعمائة مملوك يحملون السلاح وفيهم جماعة أمراء؛ كان جوادا ممدّحا كريما، غير أنه كان فيه شراسة خلق، وكان ينتصب في بيته كلّ يوم عدّة موائد ويطعم كلّ من حضر إلى بيته حتى العامة والغلمان، فيكون فى بعض الأيام أربعون مائدة. ورأى يوما في دهليزه قشر باقلاء، فأحضر وكيله وقال له: ويحك! يؤكل في دارى باقلاء! فقال: هذا فعل البوّابين؛ فقال: أو ليست لهم جراية لحم؟ قال: بلى؛ [فقال «1» : سلهم عن السبب؛ فسألهم] فقالوا: لا نتهنّا بأكل اللحم دون عيالنا فنحن نبعثه إليهم ونجوع بالغداة فنأكل الباقلاء؛ فأمر أن يجرى عليهم لحم لعيالهم. وقيل: إنه ركب قبل الوزارة بواسط إلى بستان له فرأى شيخا يولول وحوله نساء وصبيان يبكون، فسأل حامد عن خبرهم؛ فقيل له: احترق منزله وقماشه فافتقر؛ فرقّ له حامد وطلب وكيله وقال له: أريد منك أن تضمن لى ألّا أرجع عشيّة من النزهة إلّا وداره كما كانت مجصّصة، وبها المتاع والقماش والنّحاس كما «2» كانت، وتبتاع له ولعياله كسوة الشتاء والصيف مثل ما كانوا؛ فأسرع فى طلب الصّنّاع وبادروا فى العمل، وصبّ الدراهم وأضعف الأجر حتى فرغوا من(3/208)
الجميع بعد العصر، فلما ردّ حامد وقت العتمة شاهدها مفروغا «1» منها بآلاتها وأمتعتها الجدد، وازدحم الناس يتفرّجون وضجّوا لحامد بالدعاء؛ ونال «2» التاجر من المال فوق ما ذهب له، ثم زاده بعد ذلك كلّه خمسة آلاف درهم ليقوّى بها تجارته. وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السّلمىّ النيسابورىّ الحافظ أبو بكر، ولد في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين. قال الدارقطنى: كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير. توفّى ثانى ذى القعدة. وفيها توفّى محمد بن زكريا أبو بكر الرازىّ الطبيب العلّامة في علم الأوائل وصاحب المصنّفات المشهورة، مات ببغداد وقد انتهت إليه الرياسة في فنون من العلوم، وكان في صباه مغنيّا [يضرب] بالعود.
قيل: إنه لما ترك الضرب بالعود والغناء قيل له في ذلك؛ فقال: كل غناء يطلع بين شارب ولحية لا يستحسن.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد «3» بن هارون أبو بكر الخلّال الحنبلىّ، وإبراهيم بن السّرىّ أبو إسحاق الزجّاج في جمادى الآخرة، وحمّاد بن شاكر النسفىّ، وعبد الله بن إسحاق المدائنىّ، وأبو حفص عمر بن محمد ابن بجير «4» السّمرقندىّ، وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة السّلمىّ في ذى القعدة، ومحمد ابن زكريا الرازىّ الطبيب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.(3/209)
ذكر ولاية تكين الرابعة «1» على مصر
قد تقدّم ذكره في ولايته على مصر، وأنه صرف عن إمرة مصر في النّوبة الثالثة بهلال بن بدر، ثم ولى بعد هلال بن بدر الأمير ابن كيغلغ؛ فلما وقع لابن كيغلغ ما وقع من خروج جند مصر عليه واضطربت أحوال الديار المصرية وبلغ الخليفة المقتدر ذلك صرف ابن كيغلغ وأعاد تكين هذا على إمرة مصر رابع مرّة.
ووصل رسول تكين هذا إلى مصر بإمرته يوم الخميس لثلاث خلون من ذى القعدة سنة إحدى عشرة وثلثمائة؛ وخلفه ابن منجور على الصلاة إلى أن قدم مصر فى يوم عاشوراء من سنة اثنتى عشرة وثلثمائة، فأقرّ ابن منجور على الشّرطة ثم عزله، وولى قرا «2» تكين، ثم عزل قراتكين وولّى وصيفا الكاتب، ثم عزله أيضا وولّى بجكم الأعور؛ كلّ ذلك من اضطراب المصريّين، حتى مهّد أمور الديار المصريّة وتمكّن [و «3» ] أسقط كثيرا من الجند وكانوا أهل شرّ ونهب ونفاق؛ ثم نادى ببراءة الذمّة ممن أقام منهم بالديار المصريّة «4» بعد ذلك؛ فخرج الجميع على حميّة وأجمعوا على قتله؛ فتهيأ تكين أيضا لقتالهم وجمع العساكر؛ وصلّى الجمعة بدار الإمارة بالعسكر وترك حضور الجماعة خوفا من وقوع فتنة؛ ولم يصلّ قبله أحد من الأمراء بدار الإمارة الجمعة؛ وأنكر عليه أبو الحسن علىّ بن محمد الدّينورىّ ذلك وأشياء أخر؛ وبلغ تكين ذلك فأمر بإخراج الدينورىّ من مصر إلى القدس فخرج منها؛ ولم يقع له مع الجند ما راموا من القتال. وأخذ في تمهيد مصر إلى أن حسن حالها وتمكّنت(3/210)
قدمه فيها ورسخت، حتى ورد عليه الخبر بموت الخليفة المقتدر في شوّال سنة عشرين وثلثمائة، وبويع بالخلافة من بعده أخوه القاهر بالله محمد؛ فأقرّ القاهر تكين هذا على عمله بمصر وأرسل إليه بالخلع؛ ودام تكين على ذلك حتى مرض ومات بها فى يوم السبت لستّ عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وحمل في تابوت الى بيت المقدس فدفن به. وتولّى «1» مصر بعده محمد بن طغج.
وكانت ولاية تكين هذه المرّة على مصر تسع سنين وشهرين وخمسة أيام. وكان تكين المذكور يعرف بتكين الخاصّة وبالخزرىّ، وكان أميرا عاقلا شجاعا عارفا مدبّرا، ولى الأعمال الجليلة، وظالت أيّامه في السعادة، وكان عنده سياسة ودربة بالأمور ومعرفة بالحروب. رضى الله عنه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 312]
السنة الأولى من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة اثنتى عشرة وثلثمائة- فيها حجّ بالناس الحسن «2» بن عبد العزيز الهاشمىّ. وفيها عارض أبو طاهر بن أبى سعيد الجنّابىّ القرمطىّ الحاجّ وهو في ألف فارس وألف راجل، وكان من جملة الحجّاج أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن بدر عمّ السيدة أمّ المقتدر، وشقيق «3» خادمها وجماعة من الأعيان؛ فأسر القرمطىّ الجميع وأخذ جميع أموال الحاجّ، وسار بهم الى(3/211)
هجر «1» ؛ ثم بعد أشهر أطلق القرمطىّ أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان المذكور. وفيها أرسل القرمطىّ المقدّم ذكره يطلب من المقتدر البصرة والأهواز. وذكر ابن حمدان أنّ القرمطىّ قتل من الحاجّ من الرجال ألفين ومائتين ومن النساء ثلثمائة، وبقى عنده بهجر ألفان ومائتا رجل وخمسمائة امرأة. وفيها فتحت فرغانة «2» على يد أمير خراسان.
وفيها أطلق أبو نصر وأبو عبد الله ولدا أبى الحسن بن الفرات وخلع عليهما؛ وقد وزّر أبوهما ابن الفرات ثالث مرّة، وملك من المال ما يزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وأودع المال عند وجوه بغداد؛ وكان جبّارا فاتكا، وفيه كرم وسياسة، ومات «3» فى هذه السنة. وفيها توفّيت فاطمة بنت عبد الرّحمن ابن أبى صالح الشيخة أمّ محمد الصوفيّة، كانت من الصالحات المتعبّدات، طال عمرها حتى جاوزت الثمانين، ولقيت جماعة كثيرة من مشايخ القوم، وكان لها أحوال وكرامات. وفيها توفّى محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث الحافظ أبو بكر الواسطىّ المعروف بالباغندىّ «4» ، سمع علىّ بن المدينى «5» ومحمد بن عبد الله بن نمير وشيبان بن فرّوخ وغيرهم بمصر والشام والعراق، وعنى بشأن الحديث أتمّ عناية، وروى عنه دعلج ومحمد بن المظفّر وعمر بن شاهين وأبو بكر بن المقرىّ وخلق كثير. قال أبو بكر الأبهرىّ «6» وغيره سمعنا أبا بكر الباغندىّ يقول: أجبت في ثلثمائة ألف مسئلة في حديث(3/212)
النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الدارقطنى: كان كثير التدليس يحدّث بما لم يسمع.
ومات في ذى الحجّة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن علىّ ابن محمد بن موسى بن الفرات الوزير، وأبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندىّ، وأبو بكر محمد بن هارون بن المجدّر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 313]
السنة الثانية من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة- فيها سار الحاجّ من بغداد ومعهم جعفر بن ورقاء في ألف فارس، فلقيهم القرمطىّ فناوشهم بالحرب، فرجع الناس الى بغداد، ونزل القرمطىّ على الكوفة، فقاتلوه فغلبهم ودخل البلد ونهب ما لا يحصى؛ فندب المقتدر مؤنسا الخادم لحرب القرمطىّ، وجهّزه بألف ألف دينار. وفيها عزل المقتدر أبا القاسم الخاقانىّ الوزير عن الوزارة؛ فكانت وزارته [سنة و «1» ] ستة أشهر؛ واستوزر أحمد ابن عبيد الله بن أحمد بن الخصيب، فسلّم إليه الخاقانىّ، فصادره وكتّابه وأخذ أموالهم. وفيها كان الرّطب كثيرا ببغداد حتى أبيع كلّ ثمانية أرطال بحبّة. وفيها قدم مصر علىّ بن عيسى الوزير من مكّة ليكشفها وخرج بعد ثلاثة أشهر للرملة.
وفيها عزل عن قضاء مصر عبد الله بن ابراهيم [بن «2» محمد] بن مكرم بهارون [بن إبراهيم «3» ] بن حمّاد القاضى من قبل المقتدر. وفيها توفّى علىّ بن عبد الحميد [بن عبد «4» الله(3/213)
ابن سليمان] بن سليمان أبو الحسن الغضائرىّ «1» نزيل حلب، كان صالحا زاهدا، حجّ أربعين حجّة على أقدامه؛ قال: طرقت باب السّرىّ السّقطىّ فسمعته يقول:
«اللهمّ اشغل من شغلنى عنك بك» [قال فنالنى «2» بركة هذه الدعوة فحججت على قدمى من حلب الى مكّة أربعين سنة ذاهبا وآئبا] . وفيها توفّى علىّ بن محمد بن بشّار الشيخ أبو الحسن الزاهد العابد البغدادىّ صاحب الكرامات، كان من الأبدال، كان يتكلّم ويعظ الناس وكان لكلامه تأثير في القلوب؛ وكانت وفاته ببغداد ودفن غربيّها، وقبره هناك يقصد للزيارة. وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثّقفىّ مولاهم النّيسابورىّ الحافظ أبو العبّاس السّراج محدّث خراسان ومسندها. قال أبو إسحاق المزكّى «3» سمعته يقول: «ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة ألف ختمة، وضحّيت عنه اثنتى عشرة ألف ضحيّة» . قال محمد بن أحمد الدقّاق:
رأيت السّراج يضحّى في كل أسبوع أو أسبوعين أضحية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يصيح بأصحاب الحديث فيأكلون. وقال الحاكم «4» : سمعت أبى يقول: لمّا ورد الزعفرانىّ «5» وأظهر خلق القرآن سمعت السّراج غير مرّة إذا مرّ بالسوق يقول:
«العنوا الزعفرانىّ» ؛ فيصيح الناس بلعنه، حتى ضيّق عليه نيسابور وخرج الى بخارى. وكانت وفاة السّراج في شهر ربيع الآخر، وله سبع «6» وتسعون سنة.(3/214)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد الماسرجسىّ، وعبد الله بن زيدان بن يزيد البجلىّ، وعلى بن عبد الحميد الغضائرىّ، وأبو لبيد «1» محمد بن إدريس الشامىّ السّرخسىّ، ومحمد بن إسحاق أبو العباس السّراج في [شهر] ربيع الآخر وله سبع «2» وتسعون سنة، وأبو قريش محمد ابن جمعة القوهستانىّ «3» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 314]
السنة الثالثة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة أربع عشرة وثلثمائة- فيها جمدت دجلة بالموصل وعبرت عليها الدوابّ، وهذا لم يعهد مثله، وسقطت ثلوج كثيرة ببغداد. وفيها نزح أهل مكّة عنها خوفا من القرمطىّ، ولم يحجّ الرّكب العراقىّ في هذين العامين. وفيها دخلت الروم ملطية بالسيف فقتلوا وسبوا وبقوا فيها أيّاما. وفيها ردّ حجّاج خراسان خوفا من القرمطىّ. وفيها قبض المقتدر على الوزير ابن الخصيب لاشتغاله باللهو واختلال الدولة، فأحضر الوزير علىّ بن عيسى فأعيد الى الوزارة. وفيها في شهر رمضان هبّت ريح عظيمة فقلعت شجر نصيبين وهدمت دورها. وفيها توفّى الحسين «4» بن أحمد بن رستم أبو علىّ الكاتب، ويعرف بأبى زنبور الماذرائى، كان من كبار آل طولون، وكان من الفضلاء، أحضره(3/215)
المقتدر لمناظرة ابن الفرات، ثم قلّده خراج مصر، ثم سخط عليه وأحضره الى بغداد وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار؛ ثم أخرج الى مصر مع مؤنس الخادم فمات بدمشق؛ كان فاضلا كاتبا، حدّث عن أبى حفص العطّار وغيره وحدّث عنه الدارقطنىّ. وفيها توفّى نصر بن القاسم [بن نصر «1» ] بن زيد الشيخ الإمام أبو الليث الحنفىّ، كان عالما فقيها دينّا إماما في الفرائض جليلا نبيلا ثقة ثبتا، حدّث عن القواريرىّ وغيره، وروى عنه ابن شاهين وجماعة؛ وله مصنّفات كثيرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن محمد «2» بن عمر القرشىّ المنكدرىّ، ومحمد بن محمد بن [عبد الله] النفّاح «3» الباهلىّ، ومحمد ابن يحيى [بن «4» عمر] بن لبابة القرطبىّ، وأبو الليث نصر بن القاسم الفرائضىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبع واحدة.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 315]
السنة الرابعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة خمس عشرة وثلثمائة- فيها ظهرت الدّيلم على الرىّ والجبال؛ وأوّل من غلب منهم لنكى «5» بن النعمان، فقتل من أهل الجبال مقتلة عظيمة وذبح الأطفال في المهد؛ ثم غلب على قزوين أسفار بن(3/216)
شيرويه وألزم أهلها مالا؛ وكان له قائد يسمى مرداويج، فوثب على أسفار المذكور وقتله وملك البلاد مكانه، وأساء السيرة بأصبهان، وجلس على سرير من ذهب وقال:
أنا سليمان بن داود وهؤلاء الشياطين أعوانى. وكان مع هذا سيّئ السيرة في أصحابه؛ فدخل الحمّام يوما فدخل عليه أصحابه الأتراك فقتلوه ونهبوا خزائنه، ومشى الدّيلم بأجمعهم حفاة تحت تابوته أربعة فراسخ. وفيها جاء أبو طاهر القرمطىّ في ألف فارس وخمسة آلاف راجل؛ فجهّز المقتدر لحربه يوسف بن أبى الساج في عشرين ألف فارس وراجل. فلما رآه يوسف احتقره، ثم تقاتلا فكان بينهم مقتلة عظيمة لم يقع في هذه السنين مثلها، أسر فيها يوسف بن أبى الساج جريحا وقتل فيها جماعة كثيرة من أصحابه. وبلغ المقتدر فانزعج وعزم على النّقلة الى شرقىّ بغداد.
وخرج مؤنس بالعساكر الى الأنبار في أربعين ألفا، وانضم إليه أبو الهيجاء عبد الله ابن حمدان وإخوته: أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السّرايا في أصحابهم وأعوانهم «1» .
وتقدّم نصر الحاجب، فأشار أبو الهيجاء على مؤنس بقطع القنطرة، فتثاقل مؤنس عن قطعها؛ فقال له أبو الهيجاء: أيها الأستاذ، اقطعها واقطع لحيتى معها فقطعها.
ثم صبّحهم القرمطىّ في ثانى عشر ذى القعدة فأقام بإزائهم يومين. ثم سار القرمطىّ نحو الأنبار، فلم يتجاسر أحد أن يتبعه. ولولا قطع القنطرة لكان القرمطىّ عبر عليها وهزم عسكر الخليفة وملك «2» بغداد. فانظر الى هذا الخذلان؛ فإن القرمطىّ كان فى دون «3» الألف ومؤنس الخادم وحده في أربعين ألفا سوى من انضم إليه من بنى حمدان وغيرهم من الملوك مع شدّة بأس مؤنس في الحروب. فما شاء الله كان. ووقع في هذه السنة من القرمطىّ بالأقاليم من البلاء والقتل والسبى والنهب ما لا مزيد عليه.(3/217)
قلت: وكيف لا وهو الذي انزعج منه الخليفة بنفسه وانكسرت عساكره منه، وذهب من بغداد ولم يتبعه أحد؛ فحينئذ خلاله الجوّ وأخذ كلّ ما أراد ممّا لم يدفع كلّ واحد عن نفسه. وفيها تشغّبت الجند على الخليفة المقتدر ووقع أمور. وفيها فى صفر قدم علىّ بن عيسى الوزير على المقتدر، فزاد المقتدر في إكرامه وبعث إليه بالخلع وبعشرين ألف دينار. وركب من الغد في الدّست «1» ، ثم أنشد:
ما النّاس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهى وثبوا
وفيها توفّى الحسين بن عبد الله أبو عبد الله الجوهرىّ، ويعرف بابن الجصّاص، التاجر الجوهرىّ صاحب الأموال والجوهر، كان تاجرا يبيع الجوهر؛ وقد تقدّم أنّ المقتدر صادره وأخذ منه ستة آلاف ألف دينار غير المتاع والدوابّ والغلمان؛ ومع هذا المال كان فيه سلامة باطن، يحكى عنه منها أمور، من ذلك: أنه دخل يوما على الوزير ابن الفرات فقال: أيها الوزير عندنا كلاب ما تدعنا ننام؛ قال:
لعلهم جربى «2» ؛ قال: لا والله إلّا كلب كلب مثلى ومثلك. ونزل مرّة مع «3» الوزير الخاقانىّ فى المركب وبيده بطّيخة كافور، [فأراد أن يبصق في دجلة ويعطى الوزير البطّيخة] ، فبصق في وجه الوزير وألقى البطّيخة في دجلة؛ [فارتاع «4» الوزير وقال له: ويحك! ما هذا؟] ؛ ثم أخذ يعتذر للوزير فيقول: أردت أن أبصق في وجهك وألقى البطّيخة في الماء فغلطت؛ فقال: كذا فعلت يا جاهل!. [فغلط «5» فى الفعل وأخطأ فى الاعتذار!] . ومع هذه البليّة كان متجوّلا «6» محظوظا عند الخلفاء والملوك. وفيها(3/218)
توفّى عبد الله بن محمد بن جعفر أبو القاسم القزوينىّ الشافعىّ، ولى قضاء دمشق نيابة عن محمد بن العبّاس الجمحىّ وكان محمود السيرة فقيها، واختلط قبل موته. وفيها توفّى علىّ بن سليمان بن الفضل أبو الحسن البغدادىّ النحوىّ، ويعرف بالأخفش الصغير، كان متفنّنا يضاهى الأخفش الكبير في فضله وسعة علمه؛ ومات ببغداد. وفيها توفّى محمد بن إسماعيل بن ابراهيم طباطبا الحسنىّ العلوىّ. وإنما سمّى جدّه" طباطبا" لأن أمّه كانت ترقّصه وتقول: طباطبا (يعنى نم نم «1» ) . كان سيّدا فاضلا جوادا، يسكن مصر، وكان له بها جاه ومنزلة، وبها مات، وقبره يزار بالقرافة. وفيها توفّى محمد بن المسيّب بن إسحاق بن عبد الله النيسابورىّ ثم الأرغيانىّ «2» ، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين وطاف البلاد في طلب العلم، وكان زاهدا عابدا، بكى حتى ذهب بصره؛ وكان يقول: ما بقى من منابر الإسلام منبر إلا دخلته لسماع الحديث؛ وكان يعرف بالكوسج «3» .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن [على بن «4» ] الحسين الرازىّ الحافظ بنيسابور، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن جعفر القزوينىّ القاضى، وعلىّ بن سليمان النحوىّ الأخفش الصغير، وأبو حفص محمد ابن الحسين «5» الخثعمىّ الأشنانىّ، وأبو الحسن محمد بن الفيض الغسّانىّ، ومحمد بن المسيّب الأرغيانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.(3/219)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 316]
السنة الخامسة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ستّ عشرة وثلثمائة- فيها في المحرّم دخل أبو طاهر القرمطىّ الرّحبة «1» بعد حروب ووضع فيها السيف؛ فبعث إليه أهل قرقيسياء «2» يطلبون الأمان فأمّنهم؛ وبعث سراياه في الأعراب فقتلوا ونهبوا وسبوا؛ ثم دخل قرقيسياء ونادى: لا يظهر أحد من أهلها نهارا، فلم يظهر أحد. ثم توجّه الى الرّقّة فأخذها. ولما رأى الوزير علىّ بن عيسى أن الهجرىّ- أعنى القرمطىّ- استولى على البلاد استعفى من الوزارة. ولما رجع القرمطىّ من سفره بنى دارا وسمّاها دار الهجرة، ودعا الى المهدىّ العلوىّ، وتفاقم أمره وكثر أتباعه؛ فعند ذلك ندب الخليفة المقتدر هارون بن غريب وبعثه الى واسط وبعث صافيا الى الكوفة؛ فوقع هارون بجماعة من القرامطة فقتلهم، وبعث بجماعة منهم أسارى على الجمال الى بغداد ومعهم مائة وسبعون رأسا. وفيها وقع بين نازوك وهارون حرب فى ذى القعدة؛ وسببها أن سواس نازوك وهارون تغايروا على غلام أمرد، وقتل من الفريقين جماعة؛ فركب الوزير ابن مقلة برسالة الخليفة بالكفّ عن القتال فكفّا.
وفيها سار ملك الروم الدّمستق في ثلثمائة ألف، فقصد ناحية خلاط «3» وبدليس فقتل وسبى؛ ثم صالحه أهل خلاط على قطيعة وهى عشرة آلاف دينار؛ وأخرج المنبر من جامعها وجعل مكانه الصليب. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفيها توفّى بنان بن محمد ابن حمدان أبو الحسن الزاهد المشهور المعروف بالحمّال، أصله من واسط ونشأ ببغداد(3/220)
وسمع الحديث؛ ثم انتقل الى مصر وسكنها الى أن مات بها؛ وهو أحد الأبدال؛ كان صاحب مقامات وكرامات؛ وبزهده وعبادته يضرب المثل؛ صحب الجنيد وغيره؛ وهو أستاذ أبى الحسين النّورىّ. قال أبو عبد الرّحمن السّلمىّ في محن الصوفيّة: إنّ بنانا الحمّال قام الى وزير خمارويه فأنزله عن دابتّه، وكان نصرانيّا، وقال: لا تركب الخيل، ويلزمك «1» ما هو مأخوذ عليكم في ملّتكم؛ فأمر خمارويه «2» ببنان المذكور بأن يؤخذ ويطرح بين يدى سبع، فطرح وبقى ليلته ثم جاء السبع يلمسه «3» ؛ فلما أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسبع بين يديه؛ فأطلقه واعتذر إليه. وذكر إبراهيم بن عبد الرّحمن أنّ القاضى أبا عبيد احتال على بنان ثم ضربه سبع درر؛ فقال: حسبك الله بكل درّة سنة!؛ فحبسه ابن طولون سبع سنين. ويروى أنه كان لرجل على رجل دين مائة دينار بوثيقة، فطلبها الرجل- أعنى الوثيقة- فلم يجدها؛ فجاء الى بنان ليدعو له؛ فقال له بنان: أنا رجل قد كبرت وأحبّ الحلواء، اذهب الى عند دار قربج فاشتر رطل حلواء وأتنى به حتّى أدعو لك، ففعل الرجل وجاءه؛ فقال: بنان افتح ورقة الحلواء، ففتحها فإذا هى الوثيقة؛ فقال: هذه وثيقتى؛ فقال: خذها وأطعم الحلواء صبيانك.
وكانت وفاته في شهر رمضان، وخرج في جنازته أكثر أهل مصر. وفيها توفّى داود بن الهيثم بن إسحاق بن البهلول أبو سعد «4» التّنوخىّ، مولده بالأنبار وبها توفّى وله ثمان وثمانون سنة؛ كان إماما عارفا بالنحو واللغة والأدب، وصنّف كتبا في اللغة والنحو على مذهب الكوفيّين، وله كتاب كبير في خلق الإنسان. وفيها توفّى عبد الله بن سليمان بن الأشعث(3/221)
الحافظ أبو بكر بن الحافظ أبى داود السّجستانى محدّث العراق وابن محدّثها، ولد بسجستان سنة ثلاثين ومائتين، ورحل به أبوه وطوّف به البلاد شرقا وغربا، واستوطن بغداد، وصنّف السّنن والمسند والتفاسير والقراءات والناسخ والمنسوخ وغير ذلك. قال أبو بكر الخطيب: سمعت الحسن بن «1» محمد الخلّال يقول: كان أبو بكر بن أبى داود أحفظ من أبيه. قلت: وأبوه أبو داود هو صاحب السنن: أحد الكتب الستّة؛ وقد وقع لنا سماعه ثلاثا حسبما ذكرناه في ترجمة أبيه رضى الله عنه. وفيها توفّى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أبو عوانة الإسفراينىّ «2» النّيسابورىّ الحافظ المحدّث، كان إماما، طف البلاد وصنّف المسند الصحيح المخرّج على صحيح مسلم، حجّ عدّة حجّات، وكان زاهدا عابدا. رضى الله عنه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى بنان الحمّال أبو الحسن الزاهد، وأبو بكر عبد الله بن أبى داود السّجستانىّ وله ستّ وثمانون سنة، وأبو بكر محمد بن حريم «3» العقيلىّ، وأبو بكر محمد بن السّرىّ بن السرّاج صاحب المبرّد، ومحمد ابن عقيل البلخىّ، وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراينى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.(3/222)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 317]
السنة السادسة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة سبع عشرة وثلثمائة- فيها خلع أمير المؤمنين المقتدر بالله جعفر من الخلافة، خلعه مؤنس الخادم ونازوك الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وأحضروا من دار الخلافة «1» محمد ابن الخليفة المعتضد، وبايعوه بالخلافة ولقّبوه بالقاهر بالله؛ وذلك في الثّلث الأخير من ليلة السبت خامس عشر المحرّم من السنة المذكورة. وتولّى أبو علىّ بن مقله صاحب الخط المنسوب [اليه] الوزارة، وقلّد نازوك الحجبة مضافة الى شرطة بغداد، وأضيف الى أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان ولاية حلوان والدّينور ونهاوند وهمذان وغيرها مع ما كان بيده قبل ذلك من الولايات، مثل: الموصل والجزيرة وميّافارقين.
ووقع النهب في دار الخلافة؛ وكان لأمّ المقتدر سمّائة ألف دينار في الرصّافة فأخذت؛ واستتر المقتدر عند»
أمّه. وبعد ثلاثة أيّام حضرت الرّجّالة من الجند وامتلأت دار الخلافة وازدحم الناس ودخلوا الى المقتدر وحملوه على رقابهم، وصاحوا: يا مقتدر يا منصور، وخرجوا به وبايعوه ثانيا بالخلافة بعد أمور وقعت بين القوّاد والجند من وقائع وحروب؛ وقتل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ونازوك، وخلع القاهر محمد، وأمّنه أخوه المقتدر هذا؛ وسكنت الفتنة بعد حروب وقعت ببغداد وقتل فيها عدّة من الأعيان والجند. قلت: وهذه ثانى مرّة خلع فيها المقتدر من الخلافة؛ لأنه خلع أوّلا بعبد الله بن المعتزّ في شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين ومائتين، وهذه الثانية.
ثم استقر بعد هذه في الخلافة الى أن مات، حسبما يأتى ذكره في محلّة. وفيها ظهر(3/223)
هارون بن غريب ودخل الى مؤنس وسلّم عليه، وقلّد الجبل فخرج إليه. وقلّد المقتدر إبراهيم ومحمدا ابنى رائق شرطة بغداد، وقلّد مظفّر بن ياقوت الحجابة. وماتت ثمل القهرمانة وخلّفت أموالا كثيرة. وفيها سيّر المقتدر ركب الحاجّ مع منصور الديلمىّ فوصلوا الى مكّة سالمين؛ فوافاهم يوم التروية عدوّ الله أبو طاهر القرمطىّ فقتل الحجيج قتلا ذريعا في فجاج مكّة وفي داخل البيت الحرام- لعنه الله- وقتل ابن محارب أمير [مكة] «1» ، وعرّى البيت، وقلع باب البيت، واقتلع الحجر الأسود وأخذه، وطرح القتلى فى بئر زمزم، وفعل أفعالا لا يفعلها النصارى ولا اليهود بمكّة؛ ثم عاد الى هجر ومعه الحجر الأسود؛ فدام الحجر الأسود عندهم الى أن ردّ الى مكانه في خلافة المطيع، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. [وجلس «2» أبو طاهر على باب الكعبة والرجال تصرع حوله في المسجد الحرام يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول] :
أنا لله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا «3»
ودخل رجل من القرامطة الى حاشية الطواف وهو راكب سكران، فبال فرسه عند البيت، ثم ضرب الحجر الأسود بدبّوس فكسره ثم اقتلعه. وكانت إقامة القرمطىّ بمكّة أحد عشر يوما. فلما عاد القرمطىّ الى بلاده رماه الله تعالى في جسده حتى طال عذابه وتقطّعت أوصاله وأطرافه وهو ينظر اليها، وتناثر الدود من لحمه.
قلت: هذا ما عذّب به في الدنيا، وأما الأخرى فأشدّ إن شاء الله تعالى وأدوم عليه(3/224)
وأعوانه وذرّيته لعنة الله عليهم. وفيها وقعت الوحشة بين الأمير تكين أمير مصر صاحب الترجمة وبين محمد بن طغج أمير الحوف، فخرج محمد بن طغج من مصر سرّا «1» خوفا من تكين ولحق بالشام. وفيها هلك القرمطىّ أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابىّ القرمطىّ لعنه الله. ولى أبو طاهر هذا أمر القرامطة بعد موت أبيه- عليهما اللعنة- بوصيّة أبيه إليه، وغلط أبو القاسم السّمنانىّ «2» فى تاريخه، قال: الذي قلع الحجر الأسود أبو سعيد الجنّابىّ «3» ؛ وإنما هو ابنه أبو طاهر هذا، عليهما اللعنة. ولما ولى أبو طاهر هذا أمر القرامطة قوى أمره وحارب عساكر الخليفة، واتسع ملكه وكثرت جنوده ونال من الدنيا ما لم ينله أبوه ولا جدّه؛ وكان زنديقا ملحدا لا يصلّى ولا يصوم شهر رمضان، مع أنه كان يظهر الإسلام ويزعم أنه داعية المهدىّ عبيد الله. وقد تقدّم من أخباره ما فيه كفاية عن ذكره هنا: من قتله الحجّاج، وسفكه الدماء، وأخذه أموال الناس، وأشياء كثيرة من ذلك.
وقد كان هذا الملعون أشدّ ما يكون من البلاء على الإسلام وأهله، وطالت أيّامه.
ومنهم من يقول: إنه هلك عقيب أخذه الحجر الأسود- أعنى في هذه السنة- والظاهر «4» خلافه. وكان أبو طاهر المذكور مع قلّة دينه عنده فضيلة وفصاحة وأدب. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
أغرّكم منّى رجوعى الى هجر ... فعمّا قليل سوف يأتيكم الخبر
إذا طلع المرّيخ من أرض بابل ... وقارنه كيوان فالحذر الحذر
فمن مبلغ أهل العراق رسالة ... بأنّى أنا المرهوب «5» فى البدو والحضر(3/225)
ومنها:
فيا ويلهم من وقعة بعد وقعة ... يساقون سوق الشاء للذّبح والبقر
سأصرف «1» خيلى نحو مصر وبرقة ... الى قيروان الترك والروم والخزر
ومنها:
أكيلهم بالسيف حتّى أبيدهم ... فلا أبق منهم نسل أنثى ولا ذكر
أنا الدّاع للمهدىّ لا شكّ غيره ... أنا الصارم الضّرغام والفارس الذكر
أعمّر حتّى يأتى عيسى بن مريم ... فيحمد آثارى وأرضى بما أمر
ولكنّه حتم علينا مقدّر ... فنفنى ويبقى خالق الخلق والبشر
وفيها توفّى أحمد بن الحسين الإمام العلامة أبو سعيد البردعىّ الحنفىّ شيخ الحنفيّة في زمانه، استشهد بمكّة بيد القرامطة. وفيها توفّى أحمد بن مهدىّ بن رستم، كان شيخا صالحا ذا مال كثير أنفقه كلّه على العلم، ولم يعرف له فراش أربعين سنة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان بن شابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوىّ الأصل البغدادىّ، مسند الدنيا وبقيّة الحفّاظ، وهو ابن بنت أحمد بن منيع؛ ولد ببغداد في أوّل شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائتين، وسمع الكثير ورحل [الى] البلاد، وروى عنه خلائق لا يحصيهم إلا الله، لأنه طال عمره وتفرّد في الدنيا بعلوّ السند. رضى الله عنه. وفيها توفى نازوك الخادم قتيلا في هذه السنة في واقعة خلع المقتدر. كان نازوك المذكور شجاعا فاتكا، غلب على الأمر وتصرّف في الدولة، وعلم مؤنس الخادم أنه متى وافقه على خلع المقتدر لم يبق له فى الدولة أمر ولا نهى، فوافقه ظاهرا وواطأ الرّجالة على «2» قتله حتى تمّ له ذلك.
وكان لتازوك أكثر من ثلثمائة مملوك.(3/226)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 318]
السنة السابعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة ثمانى عشرة وثلثمائة- فيها حجّ بالناس عبد السميع بن أيّوب بن عبد العزيز الهاشمىّ، وقيل:
عمر بن الحسن بن عبد العزيز. قال أبو المظفّر في مرآة الزمان: «والظاهر أنه لم يحجّ أحد منذ سنة سبع عشرة وثلثمائة الى سنة ستّ وعشرين وثلثمائة خوفا من القرامطة» . وفيها في المحرّم صرف المقتدر ابنى رائق عن الشّرطة وقلّدها أبا بكر محمد بن ياقوت. وفيها في شهر ربيع الآخر هبّت ريح شديدة حملت رملا أحمر، قيل: إنه من جبل «1» ذرود فامتلأت به أزقّة بغداد وسطوحها. وفيها قبض المقتدر على الوزير ابن مقلة، وأحرقت داره وكانت عظيمة، وقد ظلم الناس فى عمارتها؛ وعزّ على مؤنس الخادم حتّى لم يشاوره المقتدر في القبض عليه.
ثم استوزر المقتدر سليمان بن الحسن، فكان لا يصدر عن أمر حتّى يشاور علىّ بن عيسى. وكانت وزارة ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيّام. وفيها توفّى جعفر «2» بن محمد بن يعقوب الشيخ أبو الفضل الصّندلىّ البغدادىّ، كان من الأبدال، سمع علىّ بن حرب وغيره، واتفقوا على ثقته وصدقه. وفيها توفّى سعيد بن عبد العزيز بن مروان الشيخ أبو عثمان الحلبىّ الزاهد، وهو من أكابر مشايخ الشام، صحب سريّا السّقطىّ، وروى عنه أبو الحسين الرازىّ وغيره، ومات بدمشق. وفيها(3/227)
توفّى عبد الواحد بن محمد بن المهتدىّ أبو أحمد الهاشمىّ، سمع يحيى بن أبى طالب، وروى عنه أبو الحسين الرازىّ وغيره. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الإسفراينىّ، ولد بقرية من أعمال أسفراين يقال لها «جوربذ» ، وسافر في طلب الحديث، وكان من الأثبات. وفيها توفّى محمد بن سعيد بن محمد أبو عبد الله الميورقىّ، قدم بغداد وحدّث بها، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة. وفيها توفّى يحيى بن محمد بن صاعد أبو محمد مولى أبى جعفر المنصور، كان محدّثا فاضلا.
قال الدارقطنىّ: بنو صاعد ثلاثة: يوسف وأحمد ويحيى. وكانت وفاة يحيى هذا ببغداد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول الأنبارىّ قاضى مدينة المنصور، وأبو عروبة الحسين بن محمد بن أبى معشر الحرّانىّ، وسعيد بن عبد العزيز الحلبىّ الزاهد، وأبو بكر عبد الله بن محمد ابن مسلم الإسفراينىّ، وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن فيروز «1» الأنماطىّ، ويحيى بن محمد ابن صاعد في ذى القعدة وله تسعون سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 319]
السنة الثامنة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة تسع عشرة وثلثمائة- فيها نزل القرامطة الكوفة فهرب أهلها الى بغداد. وفيها دخل الديلم(3/228)
الدّينور وقتلوا أهلها وسبوا؛ فورد بعض أهل دينور بغداد وقد سوّدوا وجوههم ورفعوا المصاحف على رءوس القصب، وحضروا يوم عيد النحر الى جامع بغداد واستغاثوا ومنعوا الخطيب من الخطبة والصلاة، وثار معهم عامّة بغداد، وأعلنوا بسبّ «1» المقتدر؛ ولازم الناس المساجد وأغلقوا الأسواق خوفا من القرمطىّ. وفيها ولد المعزّ أبو تميم معدّ العبيدىّ رابع خلفاء بنى عبيد وأوّل من ملك منهم ديار مصر الآتى ذكره في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفيها قبض المقتدر على الوزير سليمان بن الحسن وحبسه، وكانت وزارته سنة وشهرين، وكان المقتدر يميل الى وزارة الحسين بن القاسم فلا يمكّنه مؤنس، وأشار مؤنس بعبيد الله بن محمد الكلوذانىّ، فاستوزره المقتدر مع مشاورة علىّ بن عيسى في الأمور. وفيها كانت وقعة بين هارون بن غريب وبين مرداويج الديلمىّ بنواحى همذان، فانهزم هارون؛ وملك الديلمىّ الجبل بأسره الى حلوان. وفيها أيضا عزل المقتدر الكاوذانىّ، واستوزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله؛ لأنه كتب الى المقتدر وهو على حاجة:" أنا أقوم بالنففات وزيادة ألف ألف دينار في كلّ سنة". وكانت وزارة الكلوذانىّ شهرين. وفيها في ذى الحجّة استوحش مؤنس من الخليفة المقتدر لأنه بلغه اجتماع الوزير والقوّاد على العمل على مؤنس، فعزم خواصّ مؤنس على كبس «2» الوزير؛ فعلم الوزير فتغيّب «3» عن داره؛ وطلب من المقتدر عزل الوزير فعزله، فقال: انفه الى عمان، فامتنع المقتدر. وأوقع الوزير في ذهن المقتدر أنّ مؤنسا يريد أن يأخذ أبا العباس من داره ويذهب به الى الشأم ومصر ويبايعه بالخلافة هناك. ثم(3/229)
وقعت أمور ألجأت مؤنسا الى الخروج من بغداد الى الشمّاسيّة، وكتب الى المقتدر يطلب منه مفلحا «1» الأسود؛ فقويت الوحشة بين المقتدر وبين مؤنس حتى أرسل المقتدر الى قتاله ثلاثين ألفا، وكان مؤنس في ثمانمائة، فانتصر عليهم وهزمهم وملك الموصل. وفيها كان الوباء المفرط ببغداد حتى كان يدفن في القبر الواحد جماعة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن أحمد بن بشّار أبو بكر الشاعر المشهور الضرير النّهروانىّ «2» المعروف بابن العلّاف، أحد ندماء المعتضد، وكان من الشعراء المجيدين. قال: كنت فى دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتى الخادم ليلا فقال: أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة بعد انصرافكم، فقلت:
ولمّا انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدّار قفر والمزار بعيد
وقد أريج علىّ تمامه. فمن أجازه بما يوافق غرضى أمرت له بجائزة؛ قال: فأرتج على الجماعة، وكلّهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت:
فقلت لعينى عاودى النوم واهجعى ... لعلّ خيالا طارقا سيعود
ومن شعر ابن العلّاف هذا قصيدته التى رثى فيها [المحسن «3» بن أبى] الحسن ابن الفرات الوزير وكنى عنه بالهرّ خوفا من الخليفة، وعددها خمسة وستون بيتا، وأوّلها:
ياهرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد
فكيف ننفكّ عن هواك وقد ... كنت لنا عدّة من العدد(3/230)
تطرد عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حيّة ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها الى السّدد
وكلّها على هذا المنوال، وفيها حكم أضربت عن ذكرها لطولها. وفيها توفّى الحسن ابن علىّ بن زكريا بن صالح بن عاصم بن زفر أبو سعيد العدوىّ البصرىّ، روى عنه الدارقطنىّ «1» وغيره، وعاش مائة وثمانين «2» سنة. وفيها توفّى علىّ بن الحسين بن حرب أبو عبيد القاضىّ البغدادىّ، ويعرف بابن حربويه، ولى قضاء مصر وأقام بها دهرا طويلا. قال الرّقاشىّ: سألت عنه الدارقطنىّ فقال: ذلك الجليل الفاضل. وفيها توفّى محمد بن سعيد، وقيل: ابن سعد، أبو الحسين «3» الورّاق النّيسابورىّ صاحب أبى عثمان الحيرىّ، كان من كبار المشايخ، عالما بالشريعة والحقيقة. وفيها توفّى محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخىّ الزاهد، كان أحد الأبدال وله كرامات؛ قال: ما خطوت أربعين سنة خطوة لغير الله. وفيها توفّى المؤمّل.
ابن الحسن بن عيسى بن ماسرجس أبو الوفاء النّيسابورىّ الماسرجسىّ شيخ نيسابور فى عصره؛ وكان أبوه من بيت حشمة في النصارى فأسلم على يد ابن المبارك وهو شيخ.
سمع المؤمّل هذا الكثير ورحل [الى] البلاد، وروى عنه ابناه أبو بكر محمد وأبو القاسم علىّ وغيرهما. قال الحاكم: سمعت محمد بن المؤمّل يقول: حجّ جدّى وهو ابن نيّف وسبعين سنة فدعا الله تعالى أن يرزقه ولدا، فلمّا رجع رزق أبى فسمّاه المؤمّل، لتحقيق ما أمّله، وكنّاه أبا الوفاء ليفى لله بالنّذور، ووفّاها.(3/231)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الجهم أحمد بن الحسين [بن أحمد «1» ] بن طلّاب خطيب مشغرى «2» ، وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرّحمن ابن عبد الملك بن مروان في رجب، وأبو سعيد الحسن بن علىّ بن زكرياء العدوىّ الكذّاب، وأبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخىّ رأس المعتزلة، وأبو عبيد علىّ بن الحسين بن حربويه القاضى، وأبو الوفاء المؤمّل بن الحسن الماسرجسىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 320]
السنة التاسعة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة عشرين وثلثمائة- فيها عزل المقتدر الحسين بن القاسم من الوزارة، واستوزر أبا الفتح بن الفرات.
وفيها بعث المقتدر بالعهد واللواء لمرداويج الدّيلمىّ على إمرة أذربيجان وإرمينية وأرّان وقم ونهاوند وسجستان. وفيها نهب الجند دور الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، فهرب الوزير إلى طيّار له في الشطّ فأغرق الجند الطّيارات، وسخّم الهاشميّون وجوههم وصاحوا: الجوع الجوع!؛ وكان قد اشتدّ الغلاء لأن القرمطىّ ومؤنسا الخادم منعا الغلّات من النواحى أن تصل. ولم يحجّ ركب العراق فى هذه السنة. وفيها في صفر غلب مؤنس على الموصل، فتسلّل إليه الجند والفرسان من بغداد وأقام بالموصل أشهرا؛ ثم تهيّأ المقتدر لقتاله وأخرج مضربه الى باب «3»(3/232)
الشمّاسيّة، وبعث أبا العلاء سعيد بن حمدان الى سرّمن رأى في ألف فارس؛ فأقبل مؤنس في جمع كبير، فلمّا قارب [العكبرا «1» ] اجتهد المقتدر بهارون بن غريب أن يحارب مؤنسا فامتنع واحتجّ بأن أصحابه مع مؤنس في الباطن ولا يثق بهم. وقيل: إنه عسكر هارون وابن ياقوت وابنا رائق وصافى الحرمىّ ومفلح بباب الشمّاسيّة وانضمّوا الى المقتدر، وقالوا له: إنّ الرجال لا يقاتلون إلا بالمال، وإن أخرجت المال أسرع «2» اليك رجال مؤنس وتركوه؛ وسألوه مائتى ألف دينار فلم يرض، وأمر بجمع الطيّارات لينحدر فيها بأولاده وحرمه إلى واسط ويستنجد منها ومن البصرة وغيرها على مؤنس.
فقال له محمد بن ياقوت: اتّق الله في المسلمين ولا تسلّم بغداد بلا حرب، وأمعن فى ذلك؛ حتّى قال له المقتدر: أنت رسول إبليس وبنى عزمه وأصبح يقاتل مؤنسا وأبلى ابن ياقوت المذكور بلاء حسنا. وكان غالب عسكر مؤنس البربر؛ فلمّا انكشف عن المقتدر أصحابه جاءه واحد من البربر فضربه من خلفه ضربة سقط منها إلى الأرض؛ فقال له: ويلك! أنا الخليفة؛ فقال: أنت المطلوب وذبحه بالسيف وشال رأسه على رمح، ثم سلب ما عليه وتركه مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش وحفر له في الموضع ودفن فيه وعفّى أثره، وذلك في شوّال. وبات مؤنس [بالشمّاسيّة «3» ] ، ووقع له بعد قتل المقتدر أمور، حتّى أخرج القاهر وبايعه بالخلافة وتمّ أمره.
ذكر ترجمة المقتدر- اسمه جعفر، وكنيته أبو الفضل، ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن ولىّ العهد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس، أمير المؤمنين الهاشمىّ العباسىّ(3/233)
البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه المكتفى بالله علىّ في سنة خمس وتسعين ومائتين، وله ثلاث عشرة سنة، ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه. وخلع من الخلافة أوّل مرّة بعبد الله بن المعتزّ في شهر ربيع الأوّل في سنة ستّ وتسعين ومائتين، ثم أعيد وقتل ابن المعتزّ؛ ثم خلع في سنة سبع عشرة وثلثمائة بأخيه القاهر ثلاثة أيام؛ ثم أعيد إلى الخلافة إلى أن قتل في هذه السنة. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى الحوادث من هذا الكتاب كلّ واقعة في موضعها. واستخلف من بعده أخوه القاهر محمد، وكنيته أبو منصور، وعمره يوم ولى الخلافة ثلاث وثلاثون سنة. وكانت خلافة المقتدر خمسا وعشرين سنة إلّا بضعة عشر يوما؛ وكانت النساء «1» قد غلبن عليه، وكان سخيّا مبذّرا يصرف في السنة للحجّ أكثر من ثلثمائة ألف دينار، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصىّ غير الصّقالبة والروم؛ وأخرج جميع جواهر الخلافة ونفائسها على النساء وغيرهنّ «2» ؛ وأعطى الدّرّة اليتيمة لبعض حظاياه، وكان زنتها ثلاثة مثاقيل؛ وأخذت زيدان القهرمانة سبحة جوهر لم ير مثلها، [قيمتها ثلثمائة «3» ألف دينار] ؛ هذا مع ما ضيّع من الذهب والمسك والأشياء والتّحف. قيل: إنه فرّق ستين حبّا «4» من الصينىّ. وقال الصولىّ: كان المقتدر يفرّق يوم عرفة من الإبل والبقر أربعين ألف رأس، ومن الغنم خمسين ألفا. ويقال: إنه أتلف من المال في أيّام خلافته ثمانين ألف ألف دينار. وخلّف المقتدر عدّة أولاد ذكور وإناث. وفيها توفّى أحمد ابن عمير بن يوسف الحافظ أبو الحسين بن جوصى «5» ، كان حافظ الشام في وقته، كان إماما حافظا متقنا رحالا. قال الدارقطنىّ: تفرّد بأحاديث وليس بالقوىّ.(3/234)
وفيها توفّى الحسين بن صالح أبو علىّ بن خيران «1» الفقيه الشافعىّ القاضى، كان من أفاضل الشيوخ وأماثل الفقهاء. وفيها توفّى عبد الوهّاب بن عبد الرزّاق بن عمر بن مسلم أبو محمد القرشىّ مولاهم الدمشقىّ؛ حدّث عن هشام بن عمّار وطبقته، وروى عنه أبو الحسين الرازىّ وغيره. وفيها توفّى محمد بن يوسف بن إسماعيل أبو عمر «2» القاضى الأزدىّ مولى جرير بن حازم، ولى قضاء مدينة المنصور، وكان عالما عاقلا ديّنا متفننا.
وفيها توفّى أبو عمرو «3» الدمشقىّ أحد مشايخ الصوفيّة، صحب ابن الجلىّ وأصحاب ذى النون، وكان من عظماء مشايخ الفقه، وله مقالات وأحوال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن أحمد بن القاسم الفرائضىّ، والمقتدر بالله جعفر بن المعتضد، قتل في شوّال عن ثمان وثلاثين سنة، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن يوسف الفربرىّ، وأبو عمر محمد بن يوسف القاضى، وأبو علىّ بن خيران الشافعىّ الحسين بن صالح.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
ذكر ولاية محمد بن طغج الأولى على مصر
هو محمد بن طغج بن جفّ بن يلتكين «4» بن فوران بن فورى، الأمير أبو بكر الفرغانىّ التركىّ. مولده في يوم الاثنين منتصف شهر رجب سنة ثمان وستين ومائتين(3/235)
ببغداد بشارع باب الكوفة. ولى إمرة مصر بعد موت تكين، ولّاه أمير المؤمنين القاهر بالله على الصلاة بعد أن اضطربت أحوال الديار المصريّة؛ وخرج ابن تكين منها في سادس عشر [شهر] ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة؛ فأرسل محمد ابن طغج هذا كتابه بولايته على مصر في سابع شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين وثلثمائة المذكورة. ولم يدخل مصر في هذه الولاية، وما دخلها أميرا عليها إلا في ولايته الثانية من قبل الخليفة الراضى بالله. وقال ابن خلّكان بعد ما سمّاه وأباه الى أن قال:
" الفرغانىّ الأصل، صاحب سرير الذهب، المنعوث بالإخشيذ «1» صاحب مصر والشام والحجاز. أصله من أولاد ملوك فرغانة؛ وكان المعتصم بالله بن هارون الرشيد قد جلبوا اليه من فرغانة جماعة كثيرة، فوصفوا له جفّ وغيره بالشجاعة والتقدّم في الحروب، فوجّه اليهم المعتصم من أحضرهم؛ فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم وأقطعهم قطائع بسرّمن رأى. وقطائع جفّ الى الآن معروفة هناك؛ فلم «2» يزل جفّ بها الى أن مات ليلة قتل المتوكّل". انتهى كلام ابن خلكان. قلت: ودعى له على منابر مصر وهو مقيم بدمشق نحوا من ثلاثين يوما- وقال صاحب البغية: اثنين وثلاثين يوما- الى أن قدم رسول الأمير أحمد بن كيغلغ بولايته على مصر ثانى مرّة من قبل الخليفة القاهر بالله في تاسع شوّال من السنة. وأما الأيّام التى قبل ولاية محمد بن طغج على مصر فكان يحكم «3» فيها ابن تكين باستخلاف والده تكين له، ويشاركه في ذلك أيضا الماذرائىّ صاحب خراج مصر المقدّم ذكره. ووقع في هذه الأيّام بمصر أمور ووقائع، وكان الزمان مضطربا لقتل الخليفة المقتدر بالله جعفر واشتغال الناس بحرب القرمطى. وكان(3/236)
فى تلك الأيّام كلّ من غلب على أمر صار له. وفي ولاية محمد بن طغج هذا على مصر ثانيا- على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى- لقّب بالإخشيذ. والإخشيذ بلسان الفرغانة:
ملك الملوك. وطغج: عبد الرّحمن. والإخشيذ: لقب ملوك فرغانة، كما أن أصبهبذ: لقب ملوك طبرستان، وصول: لقب ملوك جرجان، وخاقان: لقب ملوك الترك، والأفشين: لقب ملوك أشروسنة، وسامان: لقب ملوك سمرقند، وقيصر:
لقب ملوك الروم، وكسرى: لقب ملوك العجم، والنجاشى والحطىّ: لقب ملوك الحبشة، وفرعون قديما: [لقب] ملوك مصر، وحديثا السلطان. ولما مات جدّه جفّ في سنة سبع وأربعين ومائتين اتصل ابنه طغج أبو محمد هذا بالأمير أحمد ابن طولون صاحب مصر، وكان من أكابر قوّاده؛ ودام على ذلك حتى قتل خمارويه ابن أحمد بن طولون: فسار طغج الى الخليفة المكتفى بالله علىّ؛ فأكرم الخليفة مورده.
ثم بدا من طغج المذكور تكبّر على الوزير، فحبس «1» هو وابنه محمد الى أن مات طغج المذكور في الحبس. وبعد مدّة أخرج محمد هذا من الحبس؛ وجرت له أمور يطول شرحها، إلى أن قدم مصر في دولة تكين، وولّى الأحواف بأعمال مصر وأقام على ذلك مدّة إلى أن وقّع بينه وبين تكين، وخرج من مصر مختفيا إلى الشام؛ ثم ولّى إمرة الشام، ثم أضيف إليه إمرة مصر فلم يدخلها، على ما تقدّم ذكره، وعزل بالأمير أحمد بن كيغلغ. وتأتى بقيّة ترجمته في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 321]
السنة التى حكم فيها عدّة أمراء على مصر، حكم في أوّلها تكين الى أن مات في شهر ربيع الأوّل، ثم ابنه من غير ولاية الخليفة بل باستخلاف أبيه، ثم الأمير محمد بن طغج من أواخر شعبان الى أواخر شهر رمضان، وكانت ولايته اثنين(3/237)
وثلاثين يوما ولم يدخلها، ثم الأمير أحمد بن كيغلغ من آخر [شهر] رمضان؛ ولم يصل رسوله إلا لسبع خلون من شوّال، وهى سنة إحدى وعشرين وثلثمائة- فيها شغب الجند على الخليفة القاهر بالله وهجموا [على] الدار، فنزل في طيّار إلى دار مؤنس الخادم فشكا إليه، فصبّرهم مؤنس عشرة أيام. وكان الوزير ابن مقلة منحرفا عن محمد بن ياقوت، فنقل الى مؤنس أن ابن ياقوت يدبّر عليهم؛ فاتفّق مؤنس وابن مقلة ويلبق «1» وابنه على الإيقاع بابن ياقوت، فعلم فاستتر. ثم جاء علىّ بن يلبق الى دار الخلافة فوكل بها أحمد بن زيرك «2» وأمره بالتضييق على القاهر. وطالب ابن يلبق [القاهر «3» ] بما كان عنده من أثاث أمّ المقتدر. وفيها استوحش المظفّر مؤنس وابن مقلة ويلبق من الخليفة القاهر. وفيها أشيع ببغداد أن يلبق والحسن بن هارون كاتبه عزما على سبّ معاوية بن أبى سفيان على المنابر، فاضطربت الناس، وقبض يلبق على جماعة من الحنابلة ونفاهم الى البصرة. وفيها تأكّدت الوحشة بين الخليفة القاهر وبين وزيره ابن مقلة ويلبق، وقبض على يلبق وعلى أحمد بن زيرك وعلى يمن المؤنسىّ صاحب شرطة بغداد وحبسوا، وصار الحبس كلّه في دار الخلافة. ثم طلب الخليفة مؤنسا فضر إليه، فقبض عليه أيضا. واختفى الوزير ابن مقلة؛ فاستوزر القاهر عوضه أبا جعفر [محمد «4» ] بن القاسم بن عبيد الله، وأحرقت دار ابن مقلة كما أحرقت قبل هذه المرّة.
ثم ظفر القاهر بعلىّ بن يلبق بعد جمعة فحبسه بعد الضرب؛ ثم ذبح القاهر يلبق وابنه عليّا ومؤنسا وخرج برءوسهم الى الناس وطيف بها. ووقع في هذه السنة أمور. وأطلق(3/238)
القاهر أرزاق الجند فسكنوا، واستقامت له الأمور وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه:
«المنتقم من أعداء دين الله» ، ونقش ذلك على السّكّة. وفيها أمر القاهر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنّين، ونفى المخنّثين، وكسر آلات اللهو، وأمر بتتبّع المغنّيات من الجوارى، وكان هو مع ذلك يشرب المطبوخ ولا يكاد يصحو من السكر. وفيها عزل القاهر الوزير محمدا، واستوزر أبا العباس بن الخصيب. وفيها حجّ بالناس مؤنس الورقانىّ. وفيها توفّيت السيدة شغب أمّ الخليفة المقتدر بالله جعفر، كان متحصّلها فى السنة ألف ألف دينار، فتتصدّق بها وتخرج من عندها مثلها؛ وكانت صالحة. ولما قتل ابنها كانت مريضة، فقوى مرضها وامتنعت من الأكل حتى كادت تهلك؛ ثم عذّبها القاهر حتى ماتت. ولم يظهر لها إلا ما قيمته مائة وثلاثون ألف دينار؛ وكان لها الأمر والنهى في دولة ابنها. وفيها قتل مؤنس الخادم، وكان لقّب بالمظفّر لمّا عظم أمره، وكان شجاعا مقداما فاتكا مهيبا، عاش تسعين سنة، منها ستون سنة أميرا، وكان كل ما له في علوّ ورفعة، وكان قد أبعده المعتضد الى مكة. ولما بويع المقتدر بالخلافة أحضره وقرّبه وفوّض إليه الأمور، فنال من السعادة والوجاهة ما لم ينله خادم قبله. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الأزدىّ الحجرىّ «1» المصرىّ الطّحاوىّ الفقيه الحنفى المحدّث الحافظ أحد الأعلام وشيخ الإسلام- وطحا «2» : قرية من قرى مصر من ضواحى القاهرة بالوجه البحرىّ- قال ابن يونس «3» : ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين. وسمع هارون بن سعيد(3/239)
الأيلىّ وعبد الغنىّ بن رفاعة ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وطائفة غيرهم؛ وروى عنه أبو الحسن «1» الإخميمىّ وأحمد بن القاسم الخشّاب وأبو بكر «2» ابن المقرئ وأحمد بن عبد الوارث الزجّاج والطبرانىّ وخلق سواهم، ورحل الى البلاد.
قال أبو اسحاق الشيرازىّ: انتهت الى أبى جعفر رياسة أصحاب أبى حنيفة بمصر.
أخذ العلم عن أبى جعفر أحمد بن أبى عمران وأبى حازم وغيرهم، وكان إمام عصره بلا مدافعة في الفقه والحديث واختلاف العلماء والأحكام واللغة والنحو، وصنّف المصنّفات الحسان، وصنّف" اختلاف العلماء" و" أحكام القرآن" و" معانى الآثار" و" الشروط"، وكان من كبار فقهاء الحنفيّة. والمزنىّ الشافعىّ هو خال الطحاوىّ، وقصّته «3» معه مشهورة في ابتداء أمره. وكانت وفاة الطحاوىّ في مستهل ذى القعدة. وفيها توفى محمد ابن الحسن بن دريد بن عتاهية، العلّامة أبو بكر الأزدىّ البصرىّ نزيل بغداد، تنقّل فى جزائر البحر وفارس، وطلب الأدب واللغة حتّى صار رأسا فيهما وفي أشعار العرب، وله شعر كثير وتصانيف؛ وكان أبوه من رؤساء زمانه. وحدّث ابن دريد عن أبى حاتم السّجستانىّ وأبى الفضل العبّاس الرّياشىّ وابن أخى «4» الأصمعى؛ وروى عنه أبو سعيد السّيرافىّ «5» وأبو بكر بن شاذان «6» وأبو الفرج «7» صاحب الأغانى وأبو عبد الله «8» المرزبانىّ.(3/240)
وعاش ابن دريد بضعا وتسعين سنة؛ فإنّ مولده في سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وقال أبو حفص «1» بن شاهين: كنّا ندخل على ابن دريد، فنستحى مما نرى من العيدان المعلّقة والشراب وقد جاوز التسعين. ولابن دريد من المصنّفات: كتاب: «الجمهرة» وكتاب «الأمالى» وكتاب «اشتقاق أسماء القبائل» وكتاب «المجتبى «2» » وهو صغير وكتاب «الخيل «3» » وكتاب «السلاح» وكتاب «غريب القرآن» ولم يتمّ، وكتاب «أدب الكاتب» وأشياء غير ذلك. وكان يقال: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء. ولما مات دفن هو وأبو هاشم الجبّائىّ في يوم واحد في مقبرة الخيزران لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان. ومن شعره قوله:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبى نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
وله:
ثوب الشباب علىّ اليوم بهجته ... فسوف ينزعه عنّى يدا الكبر
أنا ابن عشرين لا زادت ولا نقصت ... إنّ ابن عشرين من شيب على خطر
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد أحمد [ابن حماد «4» ] بن حمدون النّيسابورىّ الأعمشىّ «5» ، وأحمد بن عبد الوارث العسّال،(3/241)
وأبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوىّ في ذى القعدة عن اثنتين وثمانين سنة، وأبو هاشم عبد السلام بن أبى علىّ الجبّائىّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدىّ ببغداد، ومكحول البيروتىّ محمد [بن عبد الله «1» ] بن عبد السلام، ومحمد بن نوح الجنديسابورىّ، ومؤنس الخادم الملقّب بالمظفّر، وأبو حامد محمد بن هارون الحضرمىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا ونصف إصبع.
ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر
ولى أحمد بن كيغلغ المذكور مصر ثانيا من قبل القاهر محمد لمّا اضطربت أحوال الديار المصريّة بعد عزل الأمير محمد بن طغج بن جفّ في آخر شهر رمضان؛ وقدم رسوله إلى الديار المصريّة بولايته لتسع خلون من شوّال سنة إحدى وعشرين وثلثمائة. واستخلف ابن كيغلغ المذكور أبا الفتح [محمد «2» ] بن عيسى النّوشرىّ على مصر؛ فتشغّب عليه الجند في طلب أرزاقهم؛ وطلبوا ذلك من الماذرائىّ صاحب خراج مصر، فاستتر الماذرائىّ منهم، فأحرقوا داره ودور أهله. ووقعت فتنة عظيمة وحروب قتل فيها جماعة كثيرة من المصريّين. ودامت الفتنة إلى أن قدم محمد ابن تكين إلى مصر من فلسطين لثلاث عشرة خلت من شهر جمادى «3» الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة؛ فظهر الماذرائىّ صاحب الخراج وأنكر ولاية ابن تكين على مصر؛ فتعصّب لمحمد المذكور جماعة من المصريّين ودعى له بالإمارة على المنابر؛ ووقع(3/242)
بين الناس بسبب ذلك، وصاروا فرقتين: فرقة تنكر ولاية محمد بن تكين وتثبت ولاية أحمد بن كيغلغ، وفرقة تتعصّب لمحمد بن تكين وتنكر ولاية ابن كيغلغ. ووقع بسبب ذلك فتن، وخرج منهم قوم إلى الصعيد: فيهم ابن النّوشرىّ خليفة ابن كيغلغ وغيره، وأمّر ابن النّوشرىّ عليهم، وهم مستمرّون [فى] الدعاء لابن كيغلغ. فكانت حروب كثيرة بديار مصر بسبب هذا الاختلاف إلى أن أقبل الأمير أحمد بن كيغلغ ونزل بمنية الأصبع في يوم ثالث شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. فلما وصل ابن كيغلغ لحق به كثير من أصحاب محمد بن تكين، فقوى أمره بهم. فلما رأى محمد بن تكين أمره في إدبار فرّ ليلا من مصر، ودخلها من الغد الأمير أحمد بن كيغلغ، وذلك لستّ خلون من شهر رجب. فكان مقام ابن تكين على مصر في هذه الأيّام مائة يوم واثنى عشر يوما وهو غير وال بل متغلّب عليها؛ وكان المتولّى من الخليفة في هذه المرّة ابن كيغلغ المذكور؛ غير أنه كان قد تأخّر عن الحضور إلى الديار المصريّة لأمر ما. ولما دخل ابن كيغلغ إلى مصر وأقام بها أقرّ بجكم الأعور على شرطة مصر، ثم عزله بعد أيام بالحسين بن علىّ بن معقل مدّة ثم أعيد بجكم. وأخذ ابن كيغلغ في إصلاح أمر مصر والنظر في أحوالها وفي أرزاق الجند. ومع هذه الفتن التى مرّت كان بمصر في هذه السنة والماضية زلازل عظيمة خربت فيها عدّة بلاد ودور كثيرة وتساقطت عدّة كواكب. وبينما أحمد بن كيغلغ في إصلاح أمر مصر ورد عليه الخبر بخلع الخليفة القاهر بالله وتولية الراضى بالله محمد بن المقتدر جعفر. فلما بلغ محمّد بن تكين تولية الراضى بالله عاد إلى مصر بجموعه وأظهر أن الراضى ولّاه مصر؛ فخرج إليه عسكر مصر وأعوان أحمد بن كيغلغ وحاربوه فيما بين بلبيس وفاقوس شرقىّ مصر؛ فكانت بينهم مقتلة انكسر فيها محمد بن تكين وأسروجىء به إلى الأمير أحمد بن كيغلغ المذكور؛ فحمله ابن كيغلغ إلى الصعيد؛ واستقامت الأمور بمصر لأحمد بن كيغلغ. وبعد(3/243)
ذلك بمدّة يسيرة ورد كتاب الخليفة بخبر ولاية الأمير محمد بن طغج على مصر وعزل أحمد بن كيغلغ هذا عنها، وأن محمد بن طغج واصل اليها عن قريب. فأنكر ابن كيغلغ ذلك وتهيّأ لحربه وجهّز إليه عساكر مصر ليمنعوه من الدخول إلى الفرما. فأقبلت مراكب محمد بن طغج من البحر إلى تنّيس، وسارت مقدّمته في البر؛ والتقوا مع عساكر أحمد بن كيغلغ؛ فكانت بينهم وقعة هائلة وقتال شديد في سابع عشر شعبان سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة؛ فانكسر أصحاب ابن كيغلغ؛ وأقبلت مراكب محمد بن طغج الى ديار مصر في سلخ شعبان؛ فسلّم أحمد بن كيغلغ الأمر الى محمد بن طغج من غير قتال واعتذر أنه ما قاتله إلا جند مصر بغير إرادته. وملك محمد بن طغج ديار مصر وهى ولايته الثانية عليها. وكانت ولاية ابن كيغلغ على مصر في هذه المرّة الثانية سنة واحدة وأحد عشر شهرا تنقص أيّاما قليلة. وأحمد بن كيغلغ هذا غير منصور بن كيغلغ الشاعر الذي من جملة شعره هذه الأبيات الخمريّة «1» :
يدير «2» من كفّه مداما ... ألذّ من غفلة الرقيب
كأنّها إذ صفت ورقّت ... شكوى محبّ إلى حبيب
***
[ما وقع من الحوادث سنة 322]
السنة الثانية من ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر (أعنى بالثانية أنه حكم في الماضية أشهرا، وقد تقدّم ذكر ذلك فتكون هذه السنة هى الثانية) وهى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة- فيها ظهرت الدّيلم عند دخول أصحاب مرداويج إلى أصبهان، وكان علىّ بن بويه من جملة أصحاب مرداويج، فاقتطع مالا جزيلا وانفرد عن مرداويج، والتقى مع ابن ياقوت فهزمه واستولى على فارس وأعمالها.(3/244)
قلت: وهذا أوّل ظهور بنى بويه. قيل: إنّ بويه كان فقيرا؛ فرأى في منامه أنه بال فخرج من ذكره عمود من نار، ثم تشعّب «1» يمنة ويسرة وأماما وخلفا حتى ملأ الدنيا؛ فقصّ رؤياه على معبّر؛ فقال له المعبّر: ما أعبّرها إلا بألف درهم؛ فقال بويه: والله ما رأيتها قطّ ولا عشرها، وإنما أنا صيّاد أصطاد السمك؛ ثم اصطاد سمكة فأعطاها للمعبّر؛ فقال له المعبّر: ألك أولاد؟ قال نعم؛ قال: أبشر، فإنهم يملكون الأرض ويبلغ سلطانهم فيها على قدر ما احتوت عليه النار. وكان معه أولاده الثلاثة: علىّ أكبرهم وهو أوّل ما بقل عذاره، وثانيهم الحسن، وثالثهم أحمد. قلت: علىّ هو عماد الدولة، والحسن هو ركن الدولة، وأحمد هو معزّ الدولة.
وفيها دخل مؤنس الورقانىّ بالحجّاج سالمين من القرمطىّ إلى بغداد. وفيها قتل القاهر بالله الأمير أبا السّرايا نصر بن حمدان، وإسحاق بن إسماعيل بن يحيى، وهو الذي أشار على مؤنس بخلافة القاهر لما قتل المقتدر. وفيها مات مؤنس الورقانىّ الذي حجّ في هذه السنة بالناس. وفيها استوحش الناس من الخليفة القاهر بالله، ولا زالوا به حتّى خلعوه في يوم السبت ثالث جمادى الأولى وسملوا عينيه حتى سانتا على خدّيه فعمى؛ وهو أوّل خليفة سملت عيناه؛ وسملوه خوفا من شرّه. فكانت خلافته الى حين سمل سنة وستة أشهر وسبعة أيّام أو ثمانية أيّام. وبويع بالخلافة من بعده ابن أخيه الراضى بن المقتدر جعفر. والراضى المذكور اسمه محمد.
قال الصّولىّ: كان القاهر هرجا «2» سافكا للدماء محبّا للمال قبيح السيرة كثير التلوّن والاستحالة مدمنا على شرب الخمر، فإذا شربها تغيّرت أحواله وذهب عقله.
ويأتى بقيّة ترجمة القاهر بالله في وفاته. وفيها قتل مرداويج مقدّم الديلم بأصبهان(3/245)
وكان قد عظم أمره «1» وأساء السيرة في أصحابه، فقتله مماليكه الأتراك. وفيها بعث علىّ ابن بويه الى الخليفة الراضى يقاطعه على البلاد التى في حكمه في كلّ سنة ثمانية آلاف ألف درهم؛ فأجابه الى ذلك وبعث له [لواء و «2» ] خلعا مع حرب بن إبراهيم «3» المالكىّ.
وفيها تحكّم محمد بن ياقوت في الأمور واستقل بها، وبقى الوزير ابن مقلة معه كالعارية.
وفيها توفّى أحمد بن سليمان بن داود أبو عبد الله الطّوسىّ، مات وله ثلاث وثمانون سنة، روى عنه ابن شاذان وغيره. وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو جعفر الكاتب الدّينورىّ ابن صاحب" المعارف" و"" أدب الكاتب" وغيرهما، ولد ببغداد ثم قدم مصر وولى القضاء بها حتى مات في شهر ربيع الأوّل. وفيها توفّى عبيد الله بن «4» محمد بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وكنيته أبو محمد ويلقّب بالمهدىّ، جدّ الخلفاء الفاطميّين المصريّين الآتى ذكرهم باستيعاب.
وأمّ عبيد الله هذا أمّ ولد. وولد هو بسلمية «5» ، وقيل ببغداد، سنة ستين ومائتين.
ودخل مصر في زىّ التجّار، ثم مضى الى المغرب الى أن ظهر بسجلماسة «6» ببلاد، المغرب في يوم الأحد سابع ذى الحجّة في سنة ستّ وتسعين ومائتين، وسلّم عليه بأمير المؤمنين في أرض الجوّانيّة؛ ثم انتقل الى رقّادة «7» من أرض القيروان، وبنى المهديّة وسكنها. يأتى ذكر نسبهم وما قيل فيه من الطعن وغيره عند ذكر جماعة من أولاده ممن ملك الديار المصريّة بأوسع من هذا؛ لأنّ شرطنا في هذا الكتاب ألا نوسّع(3/246)
إلا في ترجمة من ولى مصر خاصّة، وما عدا ذلك يكون على سبيل الاختصار.
وقد ولى جماعة كبيرة من ذريّة المهدىّ هذا ديار مصر فينظر ذلك في ترجمة أوّل من ولى منهم، وهو المعزّ لدين الله معدّ. وفيها توفّى الأمير هارون بن غريب ابن «1» خال الخليفة المقتدر، كان يلى حلوان وغيرها؛ ولمّا زالت دولة ابن «2» عمته المقتدر عصى على الخلافة حتى حاربه جيش الخليفة الراضى وظفروا به وقتلوه وبعثوا برأسه الى بغداد. وفيها توفّى يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن عيسى الحافظ أبو بكر «3» البزّار البغدادىّ، كان زاهدا متعبّدا، روى عنه الدارقطنىّ وغيره، وكان ثقة صدوقا، مات وهو ساجد. وفيها توفّى أبو علىّ الرّوذبارىّ «4» ، واسمه محمد «5» بن أحمد بن القاسم بن المنصور بن شهريار من أولاد كسرى. أصله من بغداد من أبناء الوزراء، وصحب الجنيد ولزمه وأخذ عنه حتى صار أحد أئمّة الزمان؛ وأقام بمصر وصار شيخ الصوفيّة بها الى ان مات بها، وكان ثقة صدوقا، يقول: أستاذى في التصوف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم الحربىّ، وفي النحو ثعلب، وفي الفقه ابن سريج.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو «6» عمر أحمد بن خالد بن الجباب القرطبىّ الحافظ، وخير النسّاج «7» أبو الحسن الزاهد، والمهدىّ(3/247)
أبو محمد عبيد الله أوّل خلفاء الفاطميّة، وكانت دولته بضعا وعشرين سنة، ومحمد بن ابراهيم الدّيبلىّ «1» ، وأبو محمد بن عمرو العقيلىّ، والقاهر بالله محمد بن المعتضد خلع وسمل في جمادى الأولى ثم بقى خاملا سبع عشرة سنة، وهو الذي سأل يوم الجمعة.
- قلت: ومعنى قول الذهبىّ. «وهو الذي سأل يوم الجمعة» شرح ذلك أن القاهر لما طال خموله في عماه قلّ ما بيده ووقف في يوم من أيّام جمعة وسأل الناس، ليقيم بتلك الشناعة على خليفة الوقت- قال الذهبىّ: وأبو بكر محمد بن علىّ الكنانىّ الزاهد، وأبو على الرّوذبارىّ، يقال: اسمه محمد بن أحمد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 323]
السنة الثالثة من ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر، وهى سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة- فيها تمكّن الراضى بالله من الخلافة، وقلّد ابنيه المشرق والمغرب وهما أبو جعفر وأبو الفضل، واستكتب لهما أبا الحسين علىّ بن محمد بن مقلة. وفيها بلغ الوزير أبا [الحسين] علىّ بن مقلة أن ابن شنّبود المقرئ- وشنّبود بشين معجمة ونون مشدّدة وباء مضمومة ودال- بغيّر حروفا من القرآن ويقرأ بخلاف ما أنزل؛ فأحضره وأحضر عمر بن أبى عمر «2» محمد بن يوسف القاضى وأبا بكر «3» بن مجاهد وجماعة من القراء، ونوظر فأغلظ للوزير في الخطاب وللقاضى ولابن مجاهد ونسبهم الى الجهل وأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر؛ فأمر الوزير بضربه؛ فنصب بين يديه(3/248)
وضرب سبع درر وهو يدعو على الوزير بأن تقطع يده ويشتّت شمله. ثم وقف على الحروف التى قيل إنه كان يقرأ بها، من ذلك:" فامضوا الى ذكر الله في الجمعة".
" وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا"." وتكون الجبال كالصوف المنفوش"." تبّت يدا أبى لهب وقد تبّ"." فلما خرّ تيقّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين". ثم استتيب غصبا ونفى الى البصرة «1» . وكان إماما في القراءة. وفيها قبض الخليفة الراضى على محمد بن ياقوت وأخيه المظفّر وأبى إسحاق «2» القراريطىّ، وأخذ خطّ القراريطىّ بخمسمائة ألف دينار.
وعظم شأن الوزير ابن مقلة واستقلّ بتدبير الدولة. وفيها أخرج المنصور اسماعيل العبيدىّ يعقوب بن إسحاق في أسطول من المهديّة عدّته ثلاثون [مركبا] حربيا الى ناحية فرنجة، ففتح مدينة جنوة، ومرّوا بجزيرة سردانية فأوقعوا بأهلها وسبوا وأحرقوا عدّة مراكب وقتلوا رجالها، ثم عادوا بالغنائم الى المهديّة. وفيها في جمادى الأوّلى هبّت ريح عظيمة ببغداد واسودّت الدنيا وأظلمت من العصر الى المغرب برعد وبرق.
وفيها في ذى القعدة انقضّت النجوم سائر الليل انقضاضا عظيما ما رئى مثله. وفيها غلا السعر ببغداد حتى بيع كرّ القمح بمائة وعشرين دينارا والشعير بتسعين دينارا، وأقام الناس أيّاما لا يجدون القمح فأكلوا خبز الذرة والدّخن والعدس. وفيها توفّى إبراهيم بن حمّاد بن إسحاق، الشيخ أبو إسحاق الأزدىّ المحدّث الصوفىّ، سمع خلقا كثيرا وكان زاهدا عابدا. وفيها توفّى أبو عبد الله محمد بن «3» زيد الواسطىّ المتكلّم.
وفيها توفى إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلّب بن(3/249)
أبى صفرة، أبو عبد الله الأزدىّ العتكىّ الواسطىّ النحوىّ، ويعرف بنفطويه، ولد بواسط سنة أربعين ومائتين، وقيل: سنة خمسين ومائتين، وكان إمام عصره فى النحو والأدب وغيرهما. ومن شعره قوله:
أحبّ من الإخوان كلّ مواتى ... وكلّ غضيض الطرف عن عثراتى
يطاوعنى في كلّ أمر أريده ... ويحفظنى حيّا وبعد وفاتى
وهجاه أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطىّ المتكلّم فقال:
من سرّه ألّا يرى فاسقا ... فليجتهد ألّا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقى صراخا عليه
وفيها توفّى أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الحسن النديم الشاعر المشهور البرمكىّ، ويعرف بجحظة، ولد في شعبان سنة أربع وعشرين ومائتين، كان فاضلا صاحب فنون وأخبار ونوادر ومنادمة، وهو من ذرّية البرامكة.
وجحظة (بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء «1» المعجمة وبعدها هاء) هو لقب غلب عليه لقّبه به عبد الله بن المعتزّ؛ وكان كثير الأدب عارفا بالنحو واللغة، وأما صنعة الغناء فلم يلحقه [فيها] أحد في زمانه. ومن شعره:
فقلت لها بخلت علىّ يقظى ... فجودى في المنام لمستهام
فقالت لى: وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام
وكتب إليه الوزير ابن مقلة مرة بصلة، فمطله الجهبذ «2» ؛ فكتب إليه جحظ- المذكور يقول:(3/250)
اذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطّط بالأنامل و «1» الأكفّ
ولم تجد الرقاع علىّ نفعا ... فها خطّى خذوه بألف ألف
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن عبدويه «2» الشيخ أبو عبد الله الهذلىّ من ولد عبد الله «3» بن مسعود رضى الله عنه؛ ولد بنيسابور ورحل في طلب العلم وصنّف الكتب وخرج حاجّا فأصابه جراح في نوبة القرمطىّ وردّ الى الكوفة فمات بها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو طالب أحمد بن نصر البغدادىّ الحافظ، وإبراهيم بن محمد بن عرفة النحوىّ نفطويه، وإسماعيل بن العباس الورّاق، وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدىّ الأسترآباذيّ، وأبو عبيد القاسم بن إسماعيل المحاملىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية محمد بن طغج الإخشيذ ثانية على مصر
الإخشيذ محمد بن طغج بن جفّ الفرغانىّ، وليها ثانيا من قبل الخليفة الراضى بالله محمد على الصلاة والخراج بعد عزل الأمير أحمد بن كيغلغ عنها، بعد أمور وقعت تقدّم ذكر بعضها في ترجمة ابن كيغلغ. ودخل الإخشيذ هذا إلى مصر أميرا عليها، بعد أن سلّم الأمير أحمد بن كيغلغ في يوم الخميس لستّ بقين من شهر رمضان- وقال صاحب البغية: لخمس بقين من شهر رمضان- سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة. وأقرّ(3/251)
على شرطته سعيد بن عثمان. ثم ورد عليه بالديار المصريّة أبو الفتح الفضل بن جعفر ابن محمد بالخلع من الخليفة الراضى بالله بولايته على مصر، فلبسها وقبّل الأرض. ورسم الخليفة الراضى بالله بأن يزاد في ألقاب الأمير محمد هذا" الإخشيذ" فى شهر رمضان سنة سبع وعشرين وثلثمائة- وقد تقدّم ذكر ذلك في ولايته الأولى على مصر وما معنى الإخشيذ- فزيد في ألقابه ودعى له بذلك على منابر مصر وأعمالها. ثم وقع بين الإخشيذ هذا وبين أصحاب أحمد بن كيغلغ فتنة وكلام أدّى ذلك للقتال والحرب؛ ووقع بينهما قتال، فانكسر في آخره أصحاب ابن كيغلغ، وخرجوا من مصر على أقبح وجه وتوجّهوا الى برقة، ثم خرجوا من برقة وصاروا الى القائم بأمر الله ابن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ بالمغرب، وحرّضوه على أخذ مصر وهوّنوا عليه أمرها؛ وكان في نفسه من ذلك شىء، فجهّز إليها الجيوش لأخذها. وبلغ محمد بن طغج الإخشيذ ذلك، فتهيّأ لقتالهم وجمع العساكر وجهّز الجيوش الى الإسكندرية والصعيد.
وبينما هو في ذلك إذ ورد عليه كتاب الخليفة يعرّفه بخروج محمد بن رائق؛ ولمّا بلغه حركة محمد بن رائق ومجيئه الى الشامات، عرض الإخشيذ عساكره وجهّز جيشا فى المراكب لقتال ابن رائق؛ ثم خرج هو بعد ذلك بنفسه في المحرّم سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وسار من مصر، بعد أن استخلف أخاه الحسن «1» بن طغج على مصر، حتى نزل الإخشيذ بجيوشه الى الفرما؛ وكان محمد بن رائق بالقرب منه؛ فسعى بينهما الحسن «2» ابن طاهر بن يحيى العلوى في الصلح حتّى تمّ له ذلك واصطلحا؛ وعاد الإخشيذ الى مصر في مستهل جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين وثلثمائة. وبعد قدوم الإخشيذ الى مصر انتقض الصلح وسار محمد بن رائق من دمشق في شعبان من السنة(3/252)
الى نحو الديار المصرية. وبلغ ذلك الإخشيذ فتجهّز وعرض عساكره وأنفق فيهم وخرج بجيوشه من مصر لقتال محمد بن رائق في يوم سادس عشر «1» شعبان، وسار كل منهما بعساكره حتى التقيا بالعريش- وقال أبو المظفّر في مرآة الزمان: باللّجّون «2» - فكانت بينهما وقعة عظيمة انكسرت فيها ميمنة «3» الإخشيذ وثبت هو في القلب؛ ثم حمل هو بنفسه على أصحاب «4» محمد بن زائق حملة شديدة فأسر كثيرا منهم وأمعن في قتلهم وأسرهم؛ وقتل أخوه الحسين بن طغج في الحرب. وافترق العسكران وعاد كل واحد الى محل إقامته، فمضى ابن رائق نحو الشام وعاد الإخشيذ الى الرملة بخمسمائة أسير؛ ثم تداعيا الى الصلح. وكان لما قتل الحسين بن طغج أخو الإخشيذ في المعركة عزّ ذلك على محمد بن رائق، وأخذه وكفّنه وحنّطه وأنفذ معه ابنه مزاحما الى الإخشيذ، وكتب معه كتابا يعزّيه فيه ويعتذر إليه ويحلف له أنه ما أراد قتله، وأنه أرسل ابنه مزاحما إليه ليفتديه بالحسين بن طغج إن أحبّ الإخشيذ ذلك. فاستعاذ الإخشيذ بالله من ذلك واستقبل مزاحما بالرّحب والقبول وخلع عليه وعامله بكلّ جميل، وردّه الى أبيه. واصطلحا على أن يفرج محمد بن رائق للإخشيذ عن الرّملة، ويحمل إليه الإخشيذ في كلّ سنة مائة وأربعين ألف دينار، ويكون باقى الشام في يد ابن رائق، وأن كلّا منهما يفرج عن أسارى الآخر؛ فتمّ ذلك. وعاد الإخشيذ الى مصر فدخلها لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وعاد محمد بن رائق الى دمشق، فلم تطل مدّة الإخشيذ بمصر إلّا وورد عليه الخبر من بغداد بموت الخليفة الراضى بالله(3/253)
فى شهر ربيع الآخر من السنة، وأنه بويع أخوه المتقى بالله إبراهيم بن المقتدر جعفر بالخلافة، وكان ورود هذا الخبر على الإخشيذ بمصر في شعبان من السنة، وأن المتقى أقرّ الإخشيد هذا على عمله بمصر. فاستمرّ الإخشيذ على عمله بمصر بعد ذلك مدّة طويلة الى أن قتل محمد بن رائق في قتال كان بينه وبين بنى حمدان بالموصل في سنة ثلاثين وثلثمائة؛ فعند ذلك جهزّ الإخشيذ جيوشه الى الشام لمّا بلغه قتل محمد ابن رائق، ثم سار هو بنفسه لستّ خلون من شوّال سنة ثلاثين وثلثمائة المذكورة، واستخلف أخاه أبا المظفّر الحسن بن طغج على مصر؛ وسار الإخشيذ حتى دخل دمشق وأصلح أمورها وأقام بها مدّة. ثم خرج منها عائدا الى الديار المصريّة حتى وصلها في ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، ونزل البستان «1» الذي يعرف الآن بالكافورىّ داخل القاهرة؛ ثم انتقل بعد أيّام الى داره؛ وأخذ البيعة على المصريّين لابنه أبى القاسم أنوجور وعلى جميع القوّاد والجند، وذلك في آخر ذى القعدة. وبعد مدّة بلغ الإخشيذ مسير الخليفة المتقى بالله الى بلاد الشام ومعه بنو حمدان؛ فخرج الإخشيذ من مصر وسار نحو الشام لثمان خلون من شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، واستخلف أخاه أبا المظفّر الحسن بن طغج على مصر، ووصل دمشق ثم سار حتّى وافى المتقى بالرّقّة، فلم يمكن من دخولها لأجل سيف الدولة علىّ بن حمدان. ثم بان للخليفة المتّقى من بنى حمدان الملل والضجر منه، فراسل توزون «2» واستوثق منه. ثم اجتمع بالإخشيذ هذا وخلع عليه؛ وأهدى إليه الإخشيذ(3/254)
تحفا وهدايا وأموالا. وبلغ الإخشيذ مراسلة توزون، فقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أنا عبدك وابن عبدك، وقد عرفت الأتراك وغدرهم وفجورهم، فالله في نفسك! سر معى إلى الشام ومصر فهى لك، وتأمن على نفسك؛ فلم يقبل المتقى ذلك؛ فقال له الإخشيذ: فأقم هنا وأنا أمدّك بالأموال والرجال، فلم يقبل منه أيضا. ثم عدل الإخشيذ الى الوزير ابن مقلة وقال له: سر معى، فلم يقبل ابن مقلة أيضا مراعاة للخليفة المتقى. وكان ابن مقلة بعد ذلك يقول: يا ليتنى قبلت نصح الإخشيذ!.
ثم سلّم الإخشيذ على الخليفة ورجع الى نحو بلاده حتى وصل الى دمشق؛ فأمّر عليها الحسين بن لؤلؤ؛ فبقى ابن لؤلؤ على إمرة دمشق سنة وأشهرا؛ ثم نقله الإخشيذ الى نيابة حمص؛ وولّى على دمشق يأنس المؤنسىّ. وعاد الإخشيذ الى الديار المصريّة ودخلها لأربع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، ونزل بالبستان المعروف بالكافورىّ على عادته. فلم تكن مدّة إلا وورد عليه الخبر بخلع المتقى من الخلافة وتولية المستكفى، وذلك لسبع خلون من جمادى الآخرة من السنة؛ وأن الخليفة المستكفى أقرّ الإخشيد هذا على ولايته بمصر والشأم على عادته. ثم وقع بين الإخشيذ وبين سيف الدولة علىّ [بن عبد الله] بن حمدان وحشة وتأكدت الى أوّل سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ ثم اصطلحا على أن يكون لسيف الدولة حلب وأنطاكية وحمص، ويكون باقى بلاد الشام للإخشيذ. وتزوّج سيف الدولة ببنت أخى الإخشيذ.
ثم وقّع أيضا بين الإخشيذ وبين سيف الدولة ثانيا، وجهّز الإخشيذ الجيوش لحربه وعلى الجيوش خادمه كافور الإخشيذى وفاتك الإخشيذى؛ ثم خرج الإخشيذ بعدهما من مصر في خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، واستخلف أخاه أبا المظفّر الحسن ابن طغج على مصر، وسار الإخشيذ بعساكره حتّى لقى سيف الدولة علّى بن عبد الله ابن حمدان بقنّسرين، وحاربه فكسره وأخذ منه حلب. ثم بلغه خلع المستكفى من(3/255)
الخلافة وبيعة المطيع لله الفضل في شوّال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ وأرسل المطيع الى الإخشيذ باستقراره على عمله بمصر والشام. فعاد الإخشيذ الى دمشق، فمرض بها ومات في يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. وولى بعده ابنه أبو القاسم أنوجور باستخلاف أبيه له. فكانت مدّة ولاية الإخشيذ على مصر فى هذه المرّة الثانية إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر ويومين. والإخشيذ: بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وبعدها ياء ساكنة مثناة من تحتها ثم ذال معجمة، وتفسيره بالعربىّ ملك الملوك. وطغج: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وبعدها جيم. وجفّ: بضم الجيم وفتحها وبعدها فاء مشدّدة.
وكان الإخشيذ ملكا شجاعا مقداما حازما متيقّظا حسن التدبير عارفا بالحروب مكرما للجند شديد البطش ذا قوّة مفرطة لا يكاد أحد يجرّ قوسه، وله هيبة عظيمة في قلوب الرعيّة، وكان متجمّلا في مركبه وملبسه. وكان موكبه يضاهى موكب الخلافة. وبلغت عدة مماليكه ثمانية آلاف مملوك، وكان عدّة جيوشه أربعمائة ألف. وكان قوىّ التحرّز على نفسه، وكانت مماليكه تحرسه بالنّوبة عند ما ينام كلّ يوم ألف مملوك، ويوكّل الخدم بجوانب خيمته، ثم لا يثق بأحد حتّى يمضى الى خيمة الفراشين فينام فيها. وعاش ستين سنة. وخلّف أولادا ملوكا. وهو أستاذ كافور الإخشيذىّ الآتى ذكره. قال الذهبىّ: وتوفّى بدمشق في ذى الحجّة عن ستّ وستين سنة، ونقل فدفن ببيت المقدس الشريف، ومولده ببغداد. وقال ابن خلكان:" ولم يزل في مملكته وسعادته الى أن توفّى في الساعة الرابعة يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة". انتهى.(3/256)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 324]
السنة الثانية من ولاية الإخشيذ محمد بن طغج على مصر، وقد تقدّم أنه حكم فى السنة الماضية على مصر من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، فتكون سنة أربع وعشرين وثلثمائة هذه هى الثانية من ولايته، ولا عبرة بتكملة السنين- فيها (أعنى سنة أربع وعشرين وثلثمائة) قطع محمد بن رائق الحمل عن بغداد، واحتج بكثرة كلف الجيش عنده. وفيها توفّى هارون بن المقتدر أخو الخليفة المطيع لله وحزن عليه أخوه الخليفة واغتمّ له، وأمر بنفى الطبيب بختيشوع بن يحيى واتهمه بتعمّد الخطأ في علاجه. وفيها في شهر ربيع الأوّل أطلق من الحبس المظفّر بن ياقوت، وحلف للوزير على المصافاة، وفي نفسه الحقد عليه، لأنه نكبه ونكب أخاه محمدا؛ ثم أخذ يسعى في هلاكه، ولا زال يدبّر على الوزير ابن مقلة حتى قبض عليه وأحرقت داره، وهذه المرّة الثالثة؛ واستوزر عوضه عبد الرّحمن بن عيسى، وهو أخو الوزير علىّ بن عيسى برغبة أخيه عن الوزارة- وكان ابن مقلة قد أحرق دار سليمان ابن الحسن- وكتبوا على داره:
أحسنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يجرى به القدر
وسالمتك الليالى فاغتررت بها ... وعند صفو الليالى يحدث الكدر
ثم وقع بعد ذلك أمور يطول شرحها. وقبض الراضى على الوزير عبد الرّحمن ابن عيسى وعلى أخيه علىّ بن عيسى لعجزه عن القيام بالكلف؛ واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخىّ، وسلّم ابنى عيسى للكرخىّ، فصادرهما برفق، فأدّى كلّ واحد سبعين ألف دينار. ثم عجز الكرخىّ أيضا؛ فاستوزر الراضى عوضه أبا القاسم سليمان ابن الحسن؛ فكان سليمان في العجز بحال الكرخىّ وزيادة. فدعت الضرورة أن الراضى(3/257)
كاتب محمد بن رائق واستقدمه وقلّده جميع أمور الدولة؛ وبطل حينئذ أمر الوزارة والدواوين وبقى اسم الوزارة لا غير، وتولّى الجميع محمد بن رائق. وفيها كان الوباء العظيم بأصبهان وبغداد، وغلت الأسعار. وفيها سار الدّمستق بجيوش الروم إلى آمد وسميساط؛ فسار سيف الدولة بن حمدان [إلى آمد «1» ]- وهذا أوّل مغازيه- وحاربه ووقع له معه أمور حتّى ملك الدّمستق سميساط وأمّن أهلها؛ وكان الحسن أخو سيف الدولة قد غلب على الموصل واستفحل أمره. وفيها عاثت العرب من بنى نمير وقشير وملكوا ديار ربيعة ومضر وشنّوا الغارات وقطعوا السّبل؛ وخلت المدائن من الأقوات لضعف أمر الخلافة، لأن الخليفة الراضى صار مع ابن رائق كالمحجور عليه والأسير في يده، والأمر كلّه لابن رائق. وفيها توفّى أحمد بن موسى بن العباس الشيخ أبو بكر المقرئ البغدادىّ الإمام العلّامة. مولده في سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان إمام القرّاء في زمانه، وله مشاركة في فنون. وفيها توفّى الحسن بن محمد بن أحمد الشيخ أبو القاسم السّلمىّ الدّمشقىّ، ويعرف بابن برغوث. روى عن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل قصّة الشعر «2» . وفيها توفّى صالح بن محمد بن شاذان(3/258)
الشيخ أبو الفضل الأصبهانىّ الحافظ المحدّث، رحل الى البلاد وسمع الكثير ثم توجّه الى مكة فمات بها في شهر رجب من السنة. وفيها توفى عبد الله [بن أحمد «1» ] ابن محمد بن المغلّس أبو الحسن الفقيه الظاهرىّ؛ أخذ الفقه عن أبى بكر بن داود الظاهرىّ وبرع في علم الظاهر. وفيها توفّى محمد بن الفضل بن عبد الله الشيخ أبو ذرّ التّميمىّ الشافعىّ فقيه جرجان ورئيسها. وفيها توفّى عبد الله بن محمد ابن زياد بن واصل بن ميمون الحافظ أبو بكر النيسابورىّ الفقيه الشافعىّ مولى آل عثمان بن عفّان رضى الله عنه. قال الدارقطنىّ: ما رأيت أحفظ منه. ومولده فى سنة ثمان وثلاثين ومائتين، ومات في رابع شهر ربيع الآخر. وفيها توفّى على ابن إسماعيل بن أبى بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال ابن أبى بردة بن أبى موسى بن عبد الله بن قيس الأشعرىّ البصرىّ المتكلم أبو الحسن، صاحب التصانيف في الكلام والأصول والملل والنحو؛ ومولده سنة ستّين ومائتين؛ وكان معتزليا ثم تاب. وفيها كان الطاعون العظيم بأصبهان ومات فيه خلق كثير وتنقّل في عدّة بلاد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عمرو «2» أحمد ابن بقىّ بن مخلد، وجحظة النّديم أحمد بن جعفر بن موسى البرمكىّ، وأبو بكر أحمد ابن موسى بن العبّاس بن مجاهد المقرئ، وأبو الحسن عبد الله بن أحمد المغلّس البغدادىّ الداودىّ إمام أهل الظاهر في زمانه، وأبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النّيسابورىّ، وأبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الحمصىّ «3» ، وأبو الحسن علىّ بن إسماعيل(3/259)
الأشعرىّ المتكلّم، وعلىّ بن عبد الله بن المبشّر الواسطىّ، وأبو القاسم علىّ بن محمد ابن كاس «1» النّخعىّ الكوفىّ الحنفىّ قاضى دمشق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 325]
السنة الثالثة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة خمس وعشرين وثلثمائة- فيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرمطىّ. وفيها ظهرت الوحشة بين محمد بن رائق وبين أبى عبد الله البريدىّ. و [فيها] وافى أبو طاهر القرمطىّ الكوفة «2» فدخلها في شهر ربيع الآخر؛ فخرج ابن رائق في جمادى الأولى وعسكر بظاهر بغداد وسيّر رسالته الى القرمطىّ فلم تغن شيئا. وفيها استوزر الراضى أبا الفتح بن جعفر ابن الفرات بمشورة ابن رائق، وكان ابن الفرات بالشام فأحضروه. وفيها أسّس أمير الأندلس الناصر لدين «3» الله الأموىّ مدينة الزّهراء، وكان منتهى الإنفاق في بنائها كلّ يوم ما لا يحدّ؛ كان يدخل فيها كلّ يوم من الحجر المنحوت ستة آلاف صخرة سوى الآجرّ وغيره؛ وحمل إليها الرّخام من أقطار الغرب، ودخل فيها أربعة آلاف وثلثمائة سارية؛ وأهدى له ملك الفرنج أربعين سارية رخام؛ وأما الوردىّ والأخضر فمن إفريقيّة؛ والحوض المذهّب جلب من قسطنطينيّة، والحوض الصغير عليه صورة أسد وصورة غزال وصورة عقاب وصورة ثعبان وغير ذلك، والكلّ بالذهب(3/260)
المرصّع بالجوهر؛ وبقوا في بنائها ستّ عشرة سنة؛ وكان ينفق عليها ثلث دخل الأندلس، وكان دخل الأندلس يومئذ خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف درهم. وبين هذه المدينة (أعنى الزهراء) وبين قرطبة أربعة أميال. وأطوالها ألف وستمائة ذراع، وعرضها ألف وسبعون ذراعا. ولم يبن في الإسلام أحسن منها؛ لكنّها صغيرة بالنسبة إلى المدائن. وكان بسورها ثلثمائة برج. وعمل ثلثها قصورا للخلافة، وثلثها للخدم، وثلثها الثالث بساتين. وقيل: إنه عمل فيها بحرة ملأها بالزئبق. وقيل: إنه كان يعمل فيها ألف صانع مع كلّ صانع اثنا عشر أجيرا. وقد أحرقت هذه المدينة وهدمت في حدود سنة أربعمائة، وبقيت رسومها وسورها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن حسن أبو حامد الشّرقىّ «1» النّيسابورىّ الحافظ الحجة تلميذ مسلم، سمع الكثير، وصنّف الصحيح، وكان أوحد عصره، وروى عنه غير واحد، ومات في شهر رمضان، وصلّى عليه أخوه عبد الله. وفيها توفّى الأمير عدنان ابن الأمير أحمد بن طولون، قدم بغداد وحدّث بها عن الربيع بن سليمان المزنىّ، وقدم دمشق أيضا وحدّث بها، وكان ثقة صالحا. رضى الله عنه. وفيها توفّى موسى بن عبيد الله ابن يحيى بن خاقان أبو مزاحم، كان أبوه وزير المتوكّل، وكان موسى هذا ثقة خيّرا من أهل السّنّة.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد أحمد بن محمد بن [حسن] الشّرقىّ، وأبو إسحاق إبراهيم «2» بن عبد الصمد بن موسى الهاشمى، وأبو العبّاس محمد بن عبد الرّحمن، ومكّى بن عبدان التّميمىّ، وأبو مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقانىّ.(3/261)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 326]
السنة الرابعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وثلثمائة- فيها سار أبو عبد الله البريدىّ لمحاربة بجكم بعد أن استعان البريدىّ بالأمير علىّ ابن بويه؛ فبعث علىّ بن بويه معه أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه. وأما البريديّون فهم ثلاثة: أبو عبد الله، وأبو الحسين، وأبو يوسف، كانوا كتّابا على البريد. وفيها قطعت يد الوزير ابن مقلة الكاتب المشهور ثم قطع لسانه ومات «1» فى حبسه. وسببه أنّ ابن رائق لمّا وصل إليه التدبير كتب ابن مقلة الى بجكم يطمعه في الحضرة، وبلغ ابن رائق، وأظهر الخليفة أمره واستفتى القضاة، فيقال: إنهم أفتوا بقطع يده، ولم يصحّ ذلك؛ فأخرجه الراضى الى الدّهليز وقطع يده بحضرة الأمراء؛ وحبس ابن مقلة واعتلّ «2» ؛ فلما قرب بجكم من بغداد قطع ابن رائق لسانه أيضا؛ وبقى في الحبس الى أن مات، حسبما يأتى ذكره. وفيها ورد كتاب ملك الروم الى الراضى، وكانت الكتابة بالروميّة بالذهب والترجمة العربيّة بالفضّة، وعنوانه من رومانس وقسطنطين وإسطفانس عظماء ملوك الروم الى الشريف البهىّ ضابط سلطان المسلمين:
" باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد، الحمد لله ذى الفضل العظيم، الرءوف بعباده الجامع للمفترقات، والمؤلّف للأمم المختلفة في العداوة حتى يصيروا(3/262)
واحدا ... "، وحاصل الكتاب أنّه أرسل بطلب الهدنة. فكتب اليهم الراضى بإنشاء أحمد بن محمد بن جعفر بن ثوابة «1» بعد البسملة:
" من عبد «2» الله أبى العباس الإمام الراضى بالله أمير المؤمنين الى رومانس وقسطنطين وإسطفانس رؤساء الروم. سلام على من اتّبع الهدى، وتمسّك بالعروة الوثقى، وسلك سبيل النجاة والزّلفى ... » . ثم أجابهم الى ما طلبوا. وفيها قلّد الخليفة الراضى بجكم إمارة بغداد وخراسان، وابن رائق مستتر. وفيها كانت ملحمة عظيمة بين الحسن بن عبد الله بن حمدان وبين الدّمستق، ونصر الله الاسلام وهرب الدّمستق، وقتل من ناصريه «3» خلائق، وأخذ سرير الدمستق وصليبه، وفيها توفّى إبراهيم بن داود أبو إسحاق الرّقّىّ؛ كان من جلّة مشايخ دمشق وله كرامات وأحوال. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسين «4» الجرّار «5» النحوىّ، كان له التصانيف في علوم القرآن وغيرها.(3/263)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو ذرّ أحمد بن محمد ابن محمد بن سليمان بن الباغندىّ، وعبد الرّحمن بن أحمد بن محمد بن الحجّاج بن رشّد بن «1» ، ومحمد بن زكرياء بن القاسم المحاربىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 327]
السنة الخامسة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة سبع وعشرين وثلثمائة- فيها سافر الراضى وبجكم لمحاربة الحسن بن عبد الله بن حمدان، وكان قد أخّر الحمل عما ضمنه من الموصل والجزيرة؛ فأقام الراضى بتكريت، ثم التقى بجكم وابن حمدان، وانهزم أصحاب بجكم وأسر بعضهم «2» ؛ فحنق بجكم وحمل بنفسه فانهزم أصحاب ابن حمدان؛ وأتبعه بجكم الى أن بلغ نصيبين، وهرب ابن حمدان الى آمد. ثم صالحا بعد ذلك؛ وصاهر بجكم الحسن بن حمدان المذكور. وفيها مات الوزير أبو الفتح الفضل [بن جعفر] بن الفرات بالرّملة. وفيها استوزر الراضى أبا عبد الله أحمد بن محمد البريدىّ، أشار عليه بذلك ابن شيرزاد «3» ، وقال: نكفى شرّه؛ فبعث الراضى قاضى القضاة أبا الحسين عمر بن محمد بن يوسف إليه بالخلع والتقليد. وفيها كتب أبو علىّ عمر بن يحيى العلوىّ الى القرمطىّ- وكان يحبّه- أن يطلق طريق الحاجّ ويعطيه عن كلّ حمل خمسة دنانير، فأذن وحجّ بالناس؛ وهى أوّل سنة أخذ فيها المكس من الحجّاج. وفيها توفّى(3/264)
عبد الرّحمن [بن محمد «1» ] بن إدريس أبو محمد بن أبى حاتم الرازىّ الحافظ ابن الحافظ؛ كان إماما، صنّف" الجرح والتعديل". قال أحمد بن عبد الله النّيسابورىّ: كنا عنده وهو يقرأ علينا الجرح والتعديل الذي صنّفه؛ فدخل يوسف بن الحسين الرازىّ، فجلس وقال: يا أبا محمد، ما هذا؟ فقال: الجرح والتعديل؛ قال: وما معناه؟
قال: أظهر أحوال العلماء من كان ثقة ومن كان غير ثقة؛ فقال له يوسف:
أما استحييت من الله تعالى! تذكر أقواما قد حطّوا رواحلهم في الجنة، أو عند الله، منذ مائة سنة أو مائتى سنة تغتابهم!؛ فبكى عبد الرّحمن وقال: يا ابا يعقوب، والله لو طرق سمعى هذا الكلام قبل أن أصنّفه ما صنّفته؛ وارتعد وسقط الكتاب من يده، ولم يقرأ في ذلك المجلس. قلت: فلو رأى الشيخ يوسف كلام الخطيب في تاريخ بغداد، وهو يقع في حقّ العلماء الأعلام الزهّاد بكلام يخرجهم من الإسلام بذلك اللسان الخبيث، فما كان يفعل به!. وفيها توفّى محمد بن جعفر بن محمد أبو بكر الخرائطىّ من أهل سرّ من رأى، وكان عالما ثقة جيّد التصانيف متفنّنا. رضى الله عنه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو علىّ الحسين بن القاسم الكوفىّ، وعبد الرّحمن بن أبى حاتم الرازىّ في المحرّم، وأبو بكر محمد بن جعفر السّامرّىّ الخرائطىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.(3/265)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 328]
السنة السادسة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وثلثمائة- فيها ورد الخبر الى بغداد بأنّ سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان هزم الدّمستق.
وفيها خرج بجكم الى الجبل وعاد. وفيها غرقت بغداد غرقا عظيما، بلغت الزيادة تسع عشرة ذراعا، وانبثق بثق من نواحى الأنبار فاجتاح «1» القرى، وغرق من الناس والسباع والبهائم ما لا يحصى، ودخل الماء الى بغداد من الجانب الغربىّ، وتساقطت الدّور، وانقطعت القنطرتان: القنطرة العتيقة والجديدة عند باب البصرة. وفيها تزوّج بجكم بسارّة بنت الوزير أبى عبد الله البريدىّ. وفيها في شعبان توفّى قاضى القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف وقلّد مكانه ابنه القاضى أبو نصر يوسف.
وفيها فسد الحال بين بجكم وبين الوزير أبى عبد الله البريدىّ بعد المصاهرة لأمور صدرت؛ فعزل بجكم الوزير المذكور واستوزر مكانه أبا القاسم سليمان [بن الحسن «2» ] ابن مخلد، وخرج بجكم الى واسط. وفي شهر رمضان ملك محمد بن رائق حمص والشام إلى الرّملة وإلى العريش، ووقع بينه وبين الإخشيذ وقعة انهزم فيها الإخشيذ.
قلت: هى الوقعة التى ذكرناها في ترجمة الإخشيذ. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب أبو عمر الأموىّ مولى هشام بن عبد الرّحمن الداخل الأموىّ الأندلسىّ القرطبىّ صاحب كتاب العقد [الفريد] في الأخبار. ولد سنة ستّ وأربعين ومائتين؛ وكان أديب الأندلس وفصيحها، مدح ملوك الأندلس، وكان صدوقا ثقة. وهو القائل:(3/266)
الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لى يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهماك في كبدى
وله:
يا ليلة ليس في ظلمائها نور ... إلّا وجوها تضاهيها الدنانير
خود سقتنى كأس الموت أعينها ... ماذا سقتنيه تلك الأعين الحور
إذا ابتسمن فدرّ الثّغر منتظم ... وإن نطقن فدرّ اللفظ منثور
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الإصطخرىّ «1» شيخ الشافعيّة؛ سمع الكثير وحدّث وبرع في الفقه وغيره، ومات في جمادى الآخرة. وفيها توفّى محمد ابن أحمد بن أيّوب بن الصّلت أبو الحسين المقرئ المشهور المعروف بابن شنّبود، وقد تقدّم ذكر واقعته مع الوزير ابن مقلة في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة. قرأ ابن شنّبود على أبى حسّان محمد بن أحمد العنبرىّ وإسماعيل بن عبد الله النحّاس والزبير ابن محمد بن عبد الله العمرىّ المدنىّ صاحب «قالون «2» » وغيرهم؛ وسمع الحديث أيضا من جماعة، وقرأ القرآن ببغداد سنين، قرأ عليه خلائق؛ وكان قد تخيّر لنفسه شواذ قراءة كان يقرأ بها في المحراب حتى فحص أمره وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، ووقع له ما حكيناه مع ابن مقلة. وفيها توفّى محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الرّحمن بن عبد الوهاب أبو علىّ الثّقفىّ النّيسابورىّ الزاهد الواعظ الفقيه، هو من ولد الحجّاج بن يوسف الثّقفىّ، ولد بقوهستان سنة أربع وأربعين ومائتين، وسمع الحديث في كبره من جماعة، وروى عنه آخرون؛ وكان كبير الشأن أعجوبة(3/267)
زمانه في الوعظ والتصوّف والفقه والزهد. وفيها توفّى محمد بن علىّ بن الحسن «1» ابن مقلة أبو على الوزير صاحب الخطّ المنسوب [إليه] ، ولى بعض أعمال فارس ثم وزر للمقتدر سنة ستّ عشرة وثلثمائة، ثم قبض عليه وصادره وحبسه عامين، ثم وزر بعد ذلك ثانيا وثالثا لعدّة خلفاء؛ ووقع له حوادث ومحن حتّى قطعت يده ولسانه وحبس حتّى مات. قال الصّولى: ما رأيت وزيرا منذ توفّى القاسم بن عبيد الله أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطّا، ولا أكثر حفظا، ولا أسلط قلما، ولا أقصد بلاغة، ولا آخذ بقلوب الخلفاء، من محمد بن علىّ (يعنى ابن مقلة) . قال: وله بعد هذا كلّه علم بالإعراب وحفظ اللغة. وقال محمد بن إسماعيل الكاتب: لما نكب أبو الحسن بن الفرات أبا علىّ بن مقلة لم أدخل إليه في «2» حبسه ولا كاتبته، خوفا من ابن الفرات، فلما طال أمره كتب إلىّ يقول:
ترى حرّمت كتب الأخلّاء بينهم ... أبن لى أم القرطاس أصبح غاليا
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هى ما هيا
صديقك من راعاك عند شديدة ... وكلّ تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوّى لا صديقى فربّما ... تكاد الأعادى يرحمون الأعاديا
وأنفذ في طىّ الورقة ورقة الى الوزير، فيها:
" أمسكت- أطال الله بقاء الوزير- عن الشكوى، حتى تناهت البلوى؛ فى النفس والمال، والجسم والحال؛ الى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم؛ حتى أفضيت الى الحيرة والتبلّد، وعيالى الى الهتكة والتشرد. وما أبداه الوزير- أيّده الله- فى أمرى إلا بحقّ واجب، وظنّ غير كاذب. وعلى كل حال فلي ذمام وحرمة،(3/268)
وصحبة وخدمة؛ إن كانت الإساءة أضاعتها، فرعاية «1» الوزير أيده الله تعالى بحفظه، ولا مفزع إلا إلى الله بلطفه، وكنف الوزير وعطفه؛ فإن رأى- أطال الله بقاءه- أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، وتخليصها من العذاب الشديد، والجهد الجهيد؛ ويجعل له من معروفه نصيبا، ومن البلوى فرجا قريبا". وفيها توفّى محمد ابن القاسم بن محمد بن بشّار أبو بكر [بن «2» ] الأنبارىّ النحوىّ اللغوىّ العلّامة، ولد سنة إحدى وسبعين ومائتين، سمع الكثير وروى عنه جماعة كثيرة. وقال أبو علىّ القالىّ تلميذه: كان أبو بكر يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. وفيها توفّى أبو الحسن المزيّن أحد مشايخ الصوفيّة ببغداد، كان اسمه فيما قيل علىّ بن محمد. قال السّلمىّ «3» :
صحب الجنيد وسهل بن عبد الله؛ وأقام بمكّة مجاورا الى أن مات، وكان من أورع المشايخ وأحسنهم حالا. وهذا هو أبو الحسن المزيّن الصغير؛ وأما أبو الحسن المزين الكبير فبغدادىّ أيضا، وله ترجمة في تاريخ السّلمىّ مختصرة. وفيها توفّى المرتعش «4» الزاهد النّيسابورىّ، هو عبد الله بن محمد، أصله من محلة الحيرة، وصحب ابا حفص «5» والجنيد، وكان أحد مشايخ العراق. قال أبو عبد الله الرازىّ: كان مشايخ العراق يقولون: عجائب بغداد في التصوّف ثلاث: إشارات الشّبلىّ «6» ، ونكت أبى محمد المرتعش،(3/269)
وحكايات جعفر الخلدىّ «1» . وسئل المرتعش: بماذا ينال العبد المحبّة لمولاه؟ قال: بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه. وقيل له: إن فلانا يمشى على الماء؛ فقال: عندى أن من يمكّنه الله من مخالفة هواه أعظم من المشى على الماء.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 329]
السنة السابعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة تسع وعشرين وثلثمائة- فيها استكتب بجكم أبا عبد الله الكوفىّ، وعزل ابن شيرزاد عن كتابته وصادره. وفيها في صفر وصلت الروم الى كفرتوثا «2» من أعمال الجزيرة، فقتلوا وسبوا.
وفيها في شهر ربيع الأوّل اشتدّت علّة الراضى، وقاء في يومين أرطالا من الدم؛ فأرسل أبا عبد الله الكوفىّ المذكور الى بجكم يسأله «3» أن يولّى العهد ابنه أبا الفضل وهو الأصغر، وكان بجكم بواسط، ثم توفّى الراضى. وفيها في سابع جمادى الآخرة سقطت القبّة الخضراء بمدينة المنصور، وكانت تاج بغداد ومأثرة بنى العباس. قال الخطيب في تاريخه: إنّ المنصور بناها ارتفاع ثمانين ذراعا، وإن تحتها إيوانا طوله عشرون ذراعا في مثلها. وقيل: كان عليها مثال فارس في يده رمح، اذا استقبل به جهة علم أن خارجيّا يظهر من تلك الجهة؛ فسقط رأس هذه القبّة ليلة ذات مطر وبرد ورعد. وفيها كان غلاء مفرط ووباء عظيم ببغداد، وخرج الناس يستسقون وما في السماء غيم، فرجعوا يخوضون في الوحل، واستسقى بهم أحمد بن الفضل الهاشمىّ.(3/270)
وفيها عزل المتّقى الوزير سليمان، واستوزر أبا الحسين «1» أحمد بن محمد بن ميمون الكاتب؛ ثم قدم أبو عبد الله البريدىّ يطلب الوزارة فأجابه المتّقى. وكانت وزارة ابن ميمون شهرا. وفيها قلّد الخليفة المتّقى إمرة [الأمراء «2» ] الأمير كورتكين الديلمىّ، وقلّد بدرا الخرشنىّ «3» الحجابة. وفيها توفى أمير المؤمنين الراضى بالله أبو إسحاق محمد ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد أحمد ابن ولّى العهد الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل جعفر ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العباس الهاشمىّ البغدادىّ العباس؛ بويع بالخلافة بعد موت عمّه القاهر بالله، ومات في منتصف شهر ربيع الآخر وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وستّة أشهر.
وبويع بالخلافة أخوه إبراهيم، ولقّب بالمتّقى. وأم الراضى أم ولد روميّة. كان الراضى فاضلا سمحا جوادا شاعرا محبّا للعلماء؛ وهو آخر خليفة له شعر مدوّن، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجند، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء.
قال الصولىّ: سئل الراضى أن يخطب يوم جمعة، فصعد المنبر بسرّمن رأى، فحضرت أنا وإسحاق بن المعتمد؛ فلما خطب شنّف الأسماع وبالغ في الموعظة. انتهى.
قلت: ومن شعر الراضى رضى الله عنه:
كلّ صفو الى كدر ... كلّ أمن الى حذر
ومصير الشباب لل ... موت فيه أو الكبر
درّدرّ المشيب من ... واعظ ينذر البشر
أيّها الآمل الذي ... تاه في لجّة الغرر(3/271)
أين من كان قبلنا ... ذهب الشخص والأثر
ربّ فاغفر لى الخطي ... ئة يا خير من غفر
وفيها في شوّال اجتمعت العامّة وتظلّموا من الديلم ونزولهم في دورهم، فلم يقع لذلك إنكار؛ فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر، ومنعهم الديلم من ذلك، فقتل من «1» الفريقين جماعة كثيرة. وفيها استوزر المتّقى القراريطىّ «2» ، وخلع المتقى على بدر الخرشنىّ، وقلّده الحجابة وجعله حاجب الحجّاب. قلت: هذا أوّل ما سمعنا بمن سمّى حاجب الحجّاب؛ ولكن لا نعلم هل كان بهذه الكيفيّة أو غير هذه الصورة من أنه كبير الحجبة؛ ولعلّه ذلك. وفيها توفّى بجكم التركىّ الأمير أبو الخير، كان أمير الأمراء قبل بنى بويه، وكان عاقلا يفهم العربيّة «3» ، ولا يتكلّم بها بل يتكلّم بترجمانه، ويقول: [أخاف] «4» أن أتكلّم فأخطئ، والخطأ من الرئيس قبيح. وكان عاقلا سيوسا عارفا، يتولّى المظالم بنفسه. قال القاضى التّنوخىّ «5» : جاء رجل من الصوفيّة الى بجكم، فوعظه بالعربيّة وللفارسيّة حتى أبكاه؛ فلما خرج قال بجكم لرجل: احمل معك ألف درهم وادفعها إليه؛ فأخذها الرجل ولحقه؛ وأقبل بجكم يقول: ما أظنّه يقبلها؛ فلمّا عاد الغلام ويده فارغة قال بجكم: أخذها؟ قال: نعم؛ فقال بجكم بالفارسيّة:
كلّنا صيّادون ولكن الشباك تختلف. وفيها وقع الحرب بين محمد بن رائق وبين كورتكين وانكسر كورتكين واختفى. وفيها توفّى عبد الله بن طاهر بن حاتم أبو بكر الأبهرىّ، كان من أقران الشّبلىّ. سئل: ما بال الإنسان يحتمل من معلّمه مالا يحتمل(3/272)
من أبويّه؟ فقال: لأن أبويه سبب لحياته الفانية، ومعلّمه سبب لحياته الباقية. وفيها توفّى العباس بن الفضل بن العبّاس بن موسى الأمير أبو الفضل الهاشمى العباسىّ، كان فاضلا، سمع الحديث ورواه، ومات في جمادى الأولى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن علىّ أبو محمد البربهارىّ «1» شيخ الحنابلة، والقاضى أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر «2» ، وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزىّ الحامض، والراضى بالله أبو إسحاق محمد بن المقتدر في [شهر] ربيع الآخر عن اثنتين وثلاثين سنة، وأبو نصر محمد بن حمدويه المروزىّ القارئ، وأبو بكر يوسف بن يعقوب التّنوخىّ الأزرق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 330]
السنة الثامنة من ولاية الإخشيد على مصر، وهى سنة ثلاثين وثلثمائة- فيها استوزر الخليفة المتقى أبا عبد الله البريدىّ برأى ابن رائق لمّا رأى انضمام الأتراك إليه، فاحتاج إلى مداراته. وفيها في المحرّم وجد كورتكين الديلمىّ في درب، فأحضر الى دار [ابن] رائق فحبسه. وفيها كان الغلاء العظيم ببغداد، وأبيع كرّ القمح بمائتى دينار وعشرة دنانير، وأكلوا الميتة، وكثرت الأموات على الطرق، وعمّ البلاء؛ وخرج فى [شهر] ربيع الآخر الحرم من قصر الرّصافة يستغثن في الطرقات: الجوع الجوع!(3/273)
وخرج الأتراك وتوزون فساروا «1» الى البريدىّ بواسط. وفي هذه الأيام وصلت الروم إلى حموص من أعمال حلب- وهى على ستة فراسخ من حلب- فأخربوا وأحرقوا وسبوا عشرة آلاف نسمة. وفيها ولى قضاء الجانبين ومدينة أبى جعفر القاضى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقىّ «2» التاجر؛ وتعجّب الناس من تقليد مثله القضاء. وفيها عزل البريدىّ وقلّد القراريطىّ الوزارة. وفيها فى جمادى الأولى ركب المتّقى ومعه ابنه أبو منصور ومحمد بن رائق والوزير الفراريطىّ والجيش وساروا «3» بين أيديهم القرّاء في المصاحف لقتال البريدىّ، واجتمع الخلق على كرسى الجسر فثقل بهم وانخسف فغرق خلق؛ وأمر ابن رائق بلعن البريدىّ على المنابر. ثم أقبل أبو الحسين علىّ بن محمد أخو البريدىّ إلى بغداد وقارب المتقى وابن رائق وقاتلهما فهز مهما، وكان معه الترك والديلم والقرامطة؛ ودخلوا بغداد وكثر النهب بها؛ وتحصّن ابن رائق بها؛ فزحف أبو الحسين البريدىّ على الدار، واستفحل الشر، ودخل طائفة دار الخلافة وقتلوا جماعة؛ وخرج الخليفة المتقى وابنه هاربين الى الموصل ومعهما ابن رائق، واستتر الوزير القراريطىّ؛ ودخلوا على الحرم ونهبت دار الخلافة؛ ووجدوا في السجن كورتكين الديلمىّ وأبا الحسن «4» [سعيد بن عمرو «5» بن سنجلا] وعلىّ بن يعقوب، فجىء بهم إلى أبى الحسين؛ فقيّد كورتكين وبعث به الى أخيه بالبصرة؛ وكان آخر العهد به. ونزل أبو الحسين دار ابن رائق «6» ، وقلّد الشرطة [فى الجانب «7»(3/274)
الشرقى] لتوزون ولأبى منصور نوشتكين الشرطة في الجانب الغربىّ. واشتدّ القحط ببغداد، حتى أبيع كرّ القمح بثلاثمائة وستة عشر دينارا. ثم وقع بين البريدىّ وبين توزون ونوشتكين حرب، ووقع لهم أمور؛ وانصرف توزون إلى الموصل وانضم إلى ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان. وفيها كانت وقعة بين الأتراك والقرامطة فانهزمت القرامطة. وفيها انضم محمد بن رائق على الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور؛ ثم وقّع بينهما؛ وقتل ابن رائق، قتله أعوان الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور؛ وخلع المتقى على الحسن بن عبد الله بن حمدان المذكور ولقّبة بناصر الدولة، وعلى أخيه علىّ ولقّبه بسيف الدولة؛ وعاد الخليفة إلى بغداد. قلت: وهذا أول عظمة بنى حمدان، فهم على هذا الحكم أقدم الملوك. ولما قدم الخليفة المتقى إلى بغداد ومعه بنو حمدان هرب منها البريدىّ الى واسط بعد أن أقام ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. وفيها توفّى العارف بالله أبو يعقوب إسحاق بن محمد النّهر جورىّ «1» شيخ الصوفيّة، مات بمكّة؛ وكان صحب سهل بن عبد الله والجنيد وغيرهما، وكان من كبار المشايخ. وفيها توفّى المحامليّ الزاهد، [و] «2» أبو صالح مفلح بن عبد الله الدّمشقىّ صاحب الدعاء وغيره، وإليه ينسب مسجد أبى صالح خارج الباب الشرقىّ، وكان من الصلحاء الزهّاد. وفيها توفّى محمد بن رائق الأمير أبو بكر، وكان من أكابر القوّاد، ولى الأعمال الجليلة، ثم قدم دمشق وأخرج منها بدرا الإخشيذى، وأقام بها شهرا، ثم توجّه إلى مصر والتقى هو والإخشيذ- وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا في ترجمة الإخشيذ وغيره- ثم عاد إلى بغداد فدخلها، وخلع عليه المتقى خلعة الإمارة وألبسه(3/275)
الطّوق والسّوار وقلّده الأمور. ثم خرج مع المتقى «1» لجرب ناصر الدولة بن حمدان، وجرت له أمور طويلة حتى قتل بالموصل. قال الصولىّ أنشدنا الأمير محمد بن رائق فى فتاة مشرقيّة:
يصفرّ «2» اونى إذا بصرت به ... خوفا ويحمّر وجهه خجلا
حتّى كأنّ الذي بوجنته ... من دم قلبى إليه قد نقلا
وفيها توفّى نصر بن أحمد أبو القاسم البصرىّ الخبز أرزىّ الشاعر المشهور، قدم بغداد وكان يخبز خبز الأرز يتكسّب بذلك؛ وكان له نظم رائق، وكان أمّيّا لا يتهجّى ولا يكتب، وكان ينشد أشعاره وهو يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكّان، وكان الناس يزدحمون عليه لاسمّاع شعره، ويتعجبون من حاله؛ وكان أبو الحسين محمد بن محمد [بن لنكك «3» ] الشاعر المشهور ينتاب «4» دكانه ليستمع شعره، واعتنى به وجمع له ديوانا. ومن شعره قوله:
خليلىّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشّى الى عند
أتى زائرا من غير وعد وقال لى ... أحلّك «5» عن تعليق قلبك بالوعد(3/276)
فمازال نجم الكأس «1» بينى وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر ... وطورا على تعضيض تفّاحة الخدّ
وله:
كم أناس وفوا لناحين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضّار
عرّضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وجاوروا «2» ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّى فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار
وله:
وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان
فصار الصديق يزور الصديق ... لبثّ الهموم وشكوى الزمان
وله القصيدة للطنّانة التى أوّلها:
بات الحبيب منادمى ... والسكر يصبغ وجنتيه
ثم اغتدى وقد ابتدا ... صبغ الخمار بمقلتيه
وهى طويلة. ومن شعره قوله:
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر.
فلم أدر من حيرتى فيهما ... هلال الدّجى من هلال البشر
ولولا التورّد في الوجنتين ... وما راعنى من سواد الشّعر
لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى أصابع.(3/277)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 331]
السنة التاسعة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة- فيها تزوّج أبو منصور إسحاق ابن الخليفة المتّقى بالله ببنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ؛ والصداق مائتا ألف دينار، وقيل: مائة ألف دينار وخمسمائة ألف درهم. وفيها في صفر وصلت الروم أرزن «1» وميّافارقين ونصيبين فقتلوا وسبوا؛ ثم طلبوا منديلا من كنيسة الرّها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورته فيه، على أنهم يطلقون جميع من سبوا من المسلمين.
فاستفتى الخليفة الفقهاء فأفتوا بأنّ إرساله مصلحة للمسلمين؛ فأرسل الخليفة اليهم المنديل وأطلق الأسارى. وفيها ضيّق الأمير ناصر الدولة حسن بن عبد الله بن حمدان على الخليفة المتّقى في نفقاته، وأخذ ضياعه وصادر الدواوين وأخذ الأموال، فكرهه الناس. وفيها وافى الأمير أحمد بن بويه يقصد قتال البريدى، فاستأمن إليه جماعة من الديلم. وفيها هاج الأمراء على سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان بواسط، فهرب منهم في البرّيّة «2» يريد بغداد؛ ثم سار ناصر الدولة الى الموصل خائفا لهروب أخيه سيف الدولة، ونهبت داره؛ واستوزر المتقى أبا الحسين «3» على بن أبى علىّ محمد بن مقلة. وفيها سار توزون من واسط وقصد بغداد في شهر رمضان؛ فانهزم سيف الدولة الى الموصل أيضا؛ فخلع الخليفة المتقى على توزون ولقّبه أمير الأمراء. ثم وقعت الوحشة بين المتقى وتوزون، فعاد توزون الى واسط. وفيها نزح خلق كثير من بغداد مع الحجّاج الى الشام ومصر خوفا من الفتنة. وفيها ولد لأبى(3/278)
طاهر القرمطىّ ولد، فأهدى إليه أبو عبد الله البريدىّ هدايا عظيمة، فيها مهد ذهب مجوهر. وفيها استوزر المتّقى الخليفة غير وزير من هؤلاء الحاملين ويعزله «1» ، فاستوزر أبا العباس «2» الكاتب الأصبهانىّ. وكان أبو العباس المذكور ساقط الهمّة بحيث إنه كان يركب أيام وزارته وبين يديه اثنان، وما ذلك إلا لضعف دست الخلافة ووهن دولة بنى العباس. وفيها حجّ بالناس القرمطىّ على مال أخذه منهم. وفيها توفّى بدر الخرشنىّ، وكان قد جرت له أمور ببغداد، وكان من أكابر القوّاد؛ ثم سار الى الإخشيذ محمد بن طغج أمير مصر- أعنى صاحب الترجمة- فولّاه الإخشيذ إمرة دمشق، فوليها شهرين، ومات في ذى القعدة. وقد تقدّم ذكر بدر هذا في عدّة أماكن في الحوادث وغيرها. وفيها توفّى أبو سعيد سنان «3» بن ثابت المتطبّب، والد ثابت مصنّف التاريخ. وقد أسلم سنان على يد الخليفة القاهر بالله؛ وطبّب سنان المذكور جماعة من الخلفاء، وكان مفتنّا في علم الطبّ وغيره. وفيها توفّى محمد بن عبدوس مصنف" كتاب الوزراء" ببغداد، كان فاضلا رئيسا، وله مشاركة في فنون.
وفيها توفّى محمد بن إسماعيل أبو بكر الفرغانىّ الصوفىّ أستاذ أبى بكر الدقّاق، كان من المجتهدين في العبادة. قال الرّقّىّ: ما رأيت أحسن منه ممن يظهر الغنى في الفقر، كان يلبس قميصين ورداء وسراويل ونعلا نظيفا وعمامة، وفي يده مفتاح وليس له بيت، ينطرح في المساجد، ويطوى الخمس والستّ. وقال عبد الواحد بن بكر:
سمعت الرقىّ يقول سمعت الفرغانىّ محمد بن إسماعيل يقول:" دخلت الدّير الذي بطور سيناء، فأتانى مطرانهم بأقوام كأنهم نشروا من القبور، فقال: هؤلاء يأكل(3/279)
أحدهم في الأسبوع مرّة، يفخرون بذلك؛ فقلت لهم: كم صبر مسيحكم هذا؟
قالوا: ثلاثين يوما، وكنت قاعدا في وسط الدّير، فلم أزل جالسا أربعين يوما لم آكل ولم أشرب؛ فخرج إلىّ مطرانهم فقال: يا هذا قم، فقد أفسدت قلوب كلّ من في الدير؛ فقلت: حتى أتمّ ستين يوما؛ فألحّوا فخرجت.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى حسن بن سعد الكتامىّ القرطبىّ الحافظ، ومحمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة السّدوسىّ، ومحمد ابن مخلد بن حفص العطّار، ويعقوب بن عبد الرّحمن الجصّاص.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ أصابع. مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 332]
السنة العاشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- فيها قدم أبو جعفر بن شيرزاد من واسط من قبل توزون الى بغداد، فحكم على بغداد؛ فخرج الخليفة المتقى الى تكريت بأولاده ومعه الوزير؛ فقدم عليه سيف الدولة وأشار عليه بأن يصعد الى الموصل ليتّفقوا على رأى؛ فقال المتقى: ما على هذا عاهدتمونى.
ثم حضر ناصر الدولة بن حمدان والتقى مع توزون واقتتلوا أيّاما وأردفه أخوه، ثم انهزم بنو حمدان وفرّوا ومعهم المتّقى الى نصيبين. ثم أرسل المتقى لتوزون في الصلح فأجاب توزون الى الصلح. ورجع الخليفة الى بغداد بعد أمور صدرت له. وفيها قتل أبو عبد الله البريدىّ أخاه أبا يوسف، ثم مات بعده بيسير. وفيها ولىّ ناصر الدولة بن حمدان ابن عمّه الحسين بن سعيد بن حمدان قنّسرين والعواصم فسار الى حلب. وفيها كتب المتقى إلى الإخشيذ صاحب مصر أن يحضر إليه؛ فخرج من مصر(3/280)
وسار إلى الرقّة. وقد تقدّم ذكر ذلك في أوّل هذه الترجمة. وفيها قتل حمدى «1» اللص، وكان لصّا فاتكا، أمّنه «2» ابن شيرزاد وخلع عليه، وشرط معه أن يصله كلّ شهر بخمسة عشر ألف دينار، وكان يكبس بيوت الناس بالمشعل والشّمع ويأخذ الأموال، وكان أسكورج «3» الدّيلمىّ قد ولى شرطة بغداد فقبض عليه ووسّطه «4» . قلت: لعل حمدى هذا هو الذي يقال «5» له عند العامة في سالف الأعصار:" أحمد الدنف".
وفيها دخل أحمد بن بويه واسطا، وهرب أصحاب البريدىّ الى البصرة. وفيها فى شوّال عرض لتوزون صرع وهو على سرير الملك، فوثب ابن شيرزاد وأرخى عليه السّتر، وقال: قد حدثت للأمير حمّى. وفيها لم يحجّ أحد لموت القرمطىّ.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرّحمن مولى بنى هاشم أبو العباس الكوفىّ الحافظ المعروف بابن عقدة وهو لقب أبيه، سمع الكثير حتّى من أقرانه، وكان حافظا مفتنّا، جمع الأبواب والتراجم، وروى عنه الدارقطنىّ وغيره. وفيها هلك الخبيث الطريد من رحمة الله أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الجنّابى الهجرىّ القرمطىّ فى شهر رمضان بالجدرىّ، بعد أن رأى في نفسه العبر وتقطّعت أوصاله؛ وهو الذي قتل الحجيج واستباحهم غير مرّة، واقتلع الحجر الأسود. وتولّى مكانه أبو القاسم سعيد [بن الحسن أخوه «6» ] . وقد تقدّم ذكر أبى طاهر فيما مضى؛ غير أن صاحب المرآة أرّخ وفاته في هذه السنة. وقد ذكرناها ثانيا لهذا المنكر، عليه اللعنة والخزى.(3/281)
وفيها دخل الدّمستق إلى رأس العين «1» فى ثمانين ألفا من الروم، فقتل وسبى خلقا كثيرا؛ وقيل: كان ذلك في الماضية.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس أحمد ابن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ، وأبو بكر محمد بن الحسين النّيسابورىّ القطّان، وعبد الله بن أحمد بن إسحاق المصرىّ الجوهرى. رضى الله عنهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبع واحدة. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 333]
السنة الحادية عشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة- فيها خلع المتقى إبراهيم من الخلافة وسمل، فعل به ذلك توزون. قال المسعودىّ: لما التقى توزون بالمتقى ترجّل وقبّل الأرض، فأمره المتقى بالركوب فلم يفعل، ومشى بين يديه الى المخيّم الذي ضرب له؛ فلمّا نزل قبض عليه توزون وأكحله، فصاح المتقى وصاح النساء، فأمر توزون بضرب الدبادب «2» حول المخيّم، ثم دخل توزون بالمتّقى الى بغداد مسمول العينين؛ وأحضر توزون عبد الله بن المكتفى وبايعه بالخلافة ولقّبه بالمستكفى بالله. ولما بلغ القاهر بالله المخلوع عن الخلافة والمسمول أيضا قبل تاريخه أن المتقى خلع وسمل، قال: صرنا اثنين ونحتاج الى ثالث؛ يعرّض بالمستكفى الذي بويع بالخلافة؛ وكان كما قال على ما يأتى(3/282)
ذكره إن شاء الله تعالى. وكنية المستكفى أبو القاسم. وأمّه أمّ ولد «1» . وبويع بالخلافة وعمره إحدى وأربعون سنة. وعاش المتقى بعد خلعه وسمله خمسا وعشرين سنة أعمى. وكان خلعه في عشرين صفر؛ فلم يحل الحول على توزون حتى مات. وفيها كانت وقعات عديدة بين توزون وبين أحمد بن بويه وكلّها على توزون والصّرع يعتريه، حتّى كلّ الرجال من الطائفتين؛ ورجع ابن بويه الى الأهواز، ورجع توزون الى بغداد مشغولا بنفسه من العلّة بالصرع الى أن مات. وفيها سار سيف الدولة ابن حمدان الى حلب فملكها وهرب أميرها يأنس المؤنسى الى مصر؛ فجهّز الإخشيذ صاحب الترجمة جيشا لحربه، كما تقدّم في أول الترجمة. وفيها غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم وردّ سالما بعد أن بدّع بالعدوّ. وسبب هذه الغزوة أنه بلغ الدّمستق ما فيه سيف الدولة من الشغل بحرب أضداده، فسار في جيش عظيم وأوقع بأهل بغراس «2» ومرعش «3» وقتل وسبى؛ فأسرع سيف الدولة الى مضيق وشعاب وأوقع(3/283)
بجيش الدمستق وبيّتهم واستنقذ الأسارى والغنيمة من أيدى الروم، وانهزم الروم أقبح هزيمة. ثم بلغ سيف الدولة أنّ مدينة الروم قد تهذم بعض سورها، وكان ذلك في الشتاء، فاغتنم سيف الدولة الفرصة فأناخ عليهم وقتل وسبى؛ لكن أصيب بعض جيشه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الطيب أحمد ابن إبراهيم الشّيبانىّ، وأبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم «1» المدنىّ، والمتقى بالله إبراهيم بن المقتدر خلع وسمل في صفر، ثم بقى خاملا منسيّا الى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وأبو علىّ محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنتا عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 334]
السنة الثانية عشرة من ولاية الإخشيذ على مصر، وهى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة- فيها كانت وفاة الإخشيذ كما تقدّم ذكره. وفيها لقّب الخليفة المستكفى نفسه بإمام الحقّ وضرب ذلك على السّكّة. وفيها في المحرّم توفّى توزون التركى الأمير بهيت «2» ، وكان معه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد؛ فطمع «3» فى المملكة وحلّف العساكر لنفسه، وسار حتى نزل بباب حرب (أحد أبواب بغداد) ؛ فخرج إليه الديلم والجند؛ وبعث إليه المستكفى بالإقامات وبخلع بيض. ولم يكن مع ابن شيرزاد مال، فضاق(3/284)
ما بيده، فشرع في مصادرات التجّار والكتّاب وسلّط الجند على العامّة، وتفرّغ لأذى الخلق؛ فهرب أعين بغداد وانقطع الجلب، فخربت وتخلخل أمرها. وفيها قدم معزّ الدولة أحمد بن بويه الى بغداد بعد أمور صدرت، وخلع عليه المستكفى ولقّبه" معزّ الدولة"، ولقّب أخاه عليّا" عماد الدولة"، وأخاه الحسن" ركن الدولة"، وضربت ألقابهم على السّكّة. ثم ظهر ابن شيرزاد واجتمع بمعزّ الدولة. ومعزّ الدولة المذكور هو أوّل من ملك من الديلم من بنى بويه، وهو أوّل من وضع السّعاة ببغداد ليجعلهم رسلا بينه وبين أخيه ركن الدولة الى الرىّ. وكان له ساعيان: فضل ومرعوش، وكان كلّ واحد [منهما «1» ] يمشى في اليوم ستة وثلاثين فرسخا، فضرى «2» بذلك شباب بغداد وانهمكوا فيه، حتى نجب منهم عدّة سعاة. وفيها خلع المستكفى من الخلافة وسمل، خلعه معزّ الدولة أحمد بن بويه الديلمىّ. وسببه أنه لمّا كان أوّل جمادى الآخرة دخل معزّ الدولة على الخليفة المستكفى فوقف والناس وقوف على مراتبهم، فتقدّم اثنان من الديلم فطلبا من الخليفة الرزق، فمدّ يده إليهما ظنّا منه أنّهما يريدان تقبيلها؛ فجذباه من السرير وطرحاه الى الأرض وجرّاه بعمامته. ثم هجم الديلم على دار الخلافة، وعلى الحرم ونهبوا وقبضوا على القهرمانة «3» وخواصّ الخليفة. ومضى معزّ الدولة الى منزله. وساقوا المستكفى ماشيا إليه، ولم يبق بدار الخلافة شىء إلّا نهب.(3/285)
وخلع المستكفى وسملت عيناه. وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر ويومين. وتوفّى بعد ذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وعمره ستّ وأربعون سنة. على ما يأتى ذكره في محلّه.
وهذا ثالث خليفة خلع وسمل كما بشّر به القاهر لمّا خلع المتّقى وسمل؛ فإنّه قال:
بقينا اثنين ولا بدّ لنا من ثالث. وقد تقدّم ذكر ذلك عند خلع المتّقى. ثم أحضر معزّ الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر جعفر وبايعه بالخلافة ولقّبه بالمطيع لله، وسنّه يومئذ أربع وثلاثون سنة. ثم قدّموا ابن عمّه المستكفى المذكور فسلّم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع؛ وذلك قبل أن يسمل. ثم صادر المطيع خواصّ المستكفى وأخذ منهم أموالا كثيرة. وقرّر له معزّ الدولة في كلّ يوم مائة دينار. وفيها عظم الغلاء ببغداد في شعبان وأكلوا الجيف والرّوث وماتوا على الطّرق، وأكلت الأكلب لحومهم، وبيع العقار بالرّغفان، ووجدت الصغار مشويّة مع المساكين، وهرب الناس إلى البصرة وواسط فمات خلق في الطّرقات. وذكر ابن الجوزىّ أنّه اشترى لمعزّ الدولة كرّ دقيق بعشرين ألف درهم. قلت: والكرّ: سبعة «1» عشر قنطارا بالدّمشقىّ، لأن الكرّ: أربعة وثلاثون كارة، والكارة: خمسون رطلا بالدمشقىّ. وفيها وقّع بين معزّ الدولة أحمد بن بويه وبين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ؛ وجاء فنزل سامرّا؛ فخرج إليه معزّ الدولة ومعه الخليفة المطيع لله في شعبان، وابتدأت الحروب بينهم بعكبرا «2» . وكان معزّ الدولة قد تغيّر على «3» ابن شيرزاد واستخانه فى الأموال. فلما وقع القتال جاء ناصر الدولة فنزل بغداد من الجانب الشرقىّ وملكها؛ وجاء معزّ الدولة ومعه المطيع كالأسير فنزل في الجانب الغربىّ، ثم(3/286)
قوى أمر معزّ الدولة حتّى ملك بغداد، ونهبت عساكره الديلم أهل بغداد، وهرب ناصر الدولة من بغداد. وفيها توفّى القائم بأمر الله نزار، وقيل: محمد وهو الأشهر، وكنيته أبو القاسم بن المهدىّ عبيد الله الذي توثّب على الأمر وادّعى أنّه علوىّ فاطمىّ. يأتى ذكر أحوالهم في تراجم من ملك مصر من ذرّيتهم كالمعزّ وغيره.
ولى القائم هذا بعد موت أبيه المهدىّ بعهد منه إليه، وسار إلى مصر مرّتين، ووقع له مع أصحاب مصر حروب وخطوب؛ تقدّم ذكر بعضها في تراجم ملوك مصر يوم ذاك. وكانت وفاة القائم هذا بالمهديّة من بلاد المغرب في شوّال. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وكان القائم شرّا من أبيه المهدىّ زنديقا ملعونا. ذكر القاضى عبد الجبّار أنّه أظهر سبّ الأنبياء عليهم السلام؛ وكان مناديه ينادى العنوا الغار وما حوى. وقتل خلقا من العلماء. وكان يراسل أبا طاهر القرمطىّ «1» الى البحرين وهجر، وأمره بإحراق المساجد والمصاحف. فلما كثر فجوره خرج عليه رجل يقال له مخلد بن كيداد «2» . وساق الذهبىّ أمورا نذكر بعضها في تراجم أولاده الآتى ذكرهم في أخبار ملوك مصر؛ فحينئذ نطلق هناك عنان القلم في نسبهم وكيفيّة دخولهم الى مصر وأحوالهم مبسوطا مستوعبا. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن الحسن أبو بكر المعروف بالصّنوبرىّ الضبىّ الحلبىّ الشاعر المشهور. كان إماما بارعا(3/287)
فى الأدب فصيحا مفوّها. روى عنه من شعره أبو الحسن الأديب وأبو الحسن ابن جميع وغيرهما. ومن شعره:
لا النوم أدرى به ولا الأرق ... يدرى بهذين من به رمق
إنّ دموعى من طول ما استبقت ... كلّت فما تستطيع تستبق
ولى «1» مليك لم تبد صورته ... مذ كان إلّا صلّت له الحدق
نويت تقبيل نار وجنته ... وخفت ادنو منها فأحترق
وفيها توفّى علىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح أبو الحسن البغدادىّ الكاتب الوزير؛ وزر للمقتدر والقاهر، وحدّث عن أحمد بن شعيب النّسائىّ والحسن بن محمد الزعفرانىّ وحميد بن الرّبيع، وروى عنه ابنه عيسى والطبرانىّ وأبو طاهر الهذلىّ، وكان صدوقا ديّنا خيّرا صالحا عالما من خيار الوزراء ومن صلحاء الكبراء؛ وكان كبير البر والمعروف والصلاة والصيام ومجالسة العلماء. حكى أبو سهل بن زياد القطّان أنّه كان معه لما نفى إلى مكّة، قال: فطاف يوما [وسعى «2» ] وجاء فرمى بنفسه، وقال: أشتهى على الله شربة ماء مثلوج؛ فنشأت بعد ساعة سحابة فبرقت «3» ورعدت وجاءت بمطر يسير وبرد كثير، وجمع الغلمان منه جرارا، وكان الوزير صائما؛ فلمّا كان الإفطار جئته بأقداح مملوءة من أصناف الأشربة؛ فأقبل يسقى المجاورين، ثم شرب وحمد الله، وقال: ليتنى تمنّيت المغفرة. وقال أحمد بن كامل القاضى:
سمعت علىّ بن عيسى الوزير يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار أخرجت منها(3/288)
فى وجوه البرّ ستمائة وثمانين ألف دينار. وقال الصّولىّ: لا أعلم أنه وزر لبنى العباس وزير يشبهه في عفّته وزهده وحفظه للقرآن وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله؛ ولا أعلم أنّنى خاطبت أحدا أعرف [منه «1» ] بالشعر. ولما نكب وعزل عن الوزارة قال أبياتا منها:
ومن يك عنّى سائلا لشماتة ... لما نابنى أو شامتا غير سائل
فقد أبرزت منّى الخطوب ابن حرّة «2» ... صبورا على أهوال «3» تلك الزلازل
وفيها توفّى عمر بن الحسين بن عبد الله أبو القاسم الخرقىّ البغدادىّ الحنبلىّ صاحب «المختصر» فى الفقه. وقد مرّ ذكر أبيه في محلّه. قال أبو يعلى بن الفرّاء:
كانت لأبى القاسم مصنّفات كثيرة لم تظهر، لأنه خرج من بغداد لمّا ظهر بها سبّ أصحابه، وأودع كتبه في دار فاحترقت تلك الدار. وكانت وفاته بدمشق ودفن بباب الصغير «4» . وفيها توفّى أبو بكر الشّبلىّ الصوفىّ المشهور صاحب الأحوال، واسمه دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، وقيل: جعفر بن دلف، وقيل غير ذلك؛ أصله من الشّبليّة، وهى قرية بالعراق، ومولده بسرّمن رأى. ولى خاله إمرة الإسكندريّة، وولّى أبوه حجابة الحجّاب، وولّى هو حجابة الموفّق ولىّ العهد.
وسبب توبته أنه حضر مجلس خير النساج وتاب فيه، وصحب الجنيد ومن في عصره، وصار أحد مشايخ الوقت حالا وقالا في حال صحوه لا في حال غيبته؛ وكان فقيها مالكى المذهب، وسمع الحديث، وكان له كلام وعبارات، ومات في آخر هذه السنة(3/289)
وقد نيّف على الثمانين. قيل: إنّه سأله سائل: هل يتحقّق العارف بما يبدوله؟
فقال: كيف يتحقّق بما لا يثبت! وكيف يطمئن الى ما يظهر! وكيف يأنس بما لا يخفى! فهو الظاهر الباطن؛ ثم أنشأ:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإنّى من ليلى بها غير واثق
وأكثر شىء نلته من وصالها ... أمانىّ لم تصدق كلمحة بارق
وله:
تغنّى العود فاشتقنا ... الى الأحباب إذ غنّى
وكنّا حيثما كانوا ... وكانوا حيثما كنّا
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الفضل أحمد ابن عبد الله بن نصر بن هلال السّلمىّ، وأبو بكر الصّنوبرىّ الحلبىّ أحمد بن محمد، والحسين بن يحيى بن عبّاس القطّان، والمستكفى بالله عبد الله بن المكتفى خلع في جمادى الآخرة وسمل وسجن ثم مات بعد أربعة أعوام، وعلىّ بن إسحاق المادرانىّ «1» ، وأبو الحسن علىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح الوزير، وأبو القاسم عمر بن الحسين الخرقىّ الحنبلىّ صاحب «المختصر» ، وأبو علىّ محمد بن سعيد القشيرىّ الحرّانىّ الحافظ، والإخشيذ محمد بن طغج التركىّ في ذى الحجة بدمشق عن ستّ وستين سنة، والقائم بأمر الله نزار، ويقال: محمد بن المهدىّ عبيد الله، مات بالمهديّة في شوّال، وأبو بكر الشّبلىّ شيخ الصوفيّة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشر أصابع.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ أصابع.(3/290)
ذكر ولاية أنوجور بن الإخشيذ على مصر
هو أنوجور «1» بن الإخشيذ محمد بن جفّ الأمير أبو القاسم الفرغانىّ التركىّ.
وأنوجور اسم أعجمىّ غير كنية، معناه باللغة العربية محمود «2» . ولى مصر بعد وفاة أبيه الإخشيذ في يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة؛ ولّاه الخليفة المطيع لله على مصر والشام وعلى كلّ ما كان لأبيه من الولاية؛ فإنّه كان أبوه استخلفه وجعله ولىّ عهده؛ فأقرّه الخليفة على ما عهده له أبوه. ولما ثبت أمر أنوجور المذكور صار الخادم كافور الإخشيذىّ مدبّر مملكته، فكان كافور يطلق في كلّ سنة لابن أستاذه أنوجور هذا أربعمائة ألف دينار، ويتصرّف كافور فيما يبقى. ثم قبض كافور على أبى بكر محمد بن علىّ بن مقاتل صاحب خراج مصر فى يوم ثالث المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، وولّى مكانه على الخراج محمد بن علىّ الماذرائىّ «3» . ولما تمّ أمر أنوجور بدمشق خرج منها وصحبته الأستاذ كافور الإخشيذى الى مصر؛ فدخلها بعساكره في أوّل صفر؛ فأقام بها مدّة، ثم خرج منها بعساكره الى الشام أيضا لقتال سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان؛ فإنّ سيف الدولة كان بعد خروج أنوجور من دمشق ملكها. ولما خرج أنوجور من مصر الى الشام في هذه المرّة خرج معه عمّه الحسن بن طغج أخو الإخشيذ، ومدبّر دولته الخادم كافور الإخشيذىّ؛ فخرج سيف الدولة من دمشق وتوجّه نحو الديار المصريّة حتّى وصل الى الرّملة؛ فالتقى مع المصرييّن؛ فكان بينهم وقعة هائلة انكسر(3/291)
فيها سيف الدولة وانهزم الى السام، فسار المصريّون وراءه فانهزم الى حلب، فساروا خلفه فانهزم الى الرّقّة. وقال المسبّحىّ: كان بين سيف الدولة وبين أبى المظفّر الحسن بن طغج وهو أخو الإخشيذ- قلت: ذكر المسعودىّ الحسن هذا لصغر سنّ أنوجور- وقعة باللّجّون «1» ؛ فانكسر سيف الدولة ووصل الى دمشق بعد شدّة وتشتّت؛ وكانت أمّه بدمشق فنزل بالمرج «2» خائفا، وأخرج حواصله، وسار نحو حمص على طريق قارة «3» . وسار أخو الإخشيذ وكافور الإخشيذىّ الى دمشق.
واستقر أمرهم على الصلح، على أن يعود سيف الدولة الى ما كان بيده من حلب وغيرها. وأقرّ أنوجور يأنس المؤنسىّ على عادته في إمرة دمشق؛ فإنّه كان أولا انهزم من سيف الدولة وسلّمه دمشق بالأمان. وعاد أنوجور وعمّه الحسن بن طغج وكافور الإخشيذىّ الى الديار المصرية سالمين. ولما كان أنوجور بالشام خرج بمصر غلبون متولّى الريف في جموع ونهب مصر وتغلّب عليها؛ فقدم أنوجور فهرب غلبون من مصر، فتبعه أبو المظفر الحسن بن طغج أخو الإخشيذ حتى ظفر به وقتله.
ثم استوزر أنوجور أبا القاسم جعفر بن الفضل بن الفرات. ودام أنوجور على إمرة مصر سنين الى أن وقع بينه وبين كافور وحشة في سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة.
وسببها أنّ قوما كلّموا أنوجور وقالوا له: قد احتوى كافور على الأموال وانفرد بتدبير الجيوش، وأخذ أملاك أبيك وأنت معه مقهور، وحملوه على التنكّر؛ فلزم(3/292)
أنوجور الصيد والتباعد فيه الى المحلّة «1» وغيرها وانهمك في اللهو، ثمّ أجمع «2» على المسير الى الرملة. فأعلمت أمّه كافورا بما عزم عليه ولدها خوفا عليه من كافور. فلمّا علم كافور بذلك راسله، ثم بعثت أمّه إليه تخوّفه الفتنة؛ فاصطلحا ودام الأمر على حاله. ولم يزل أنوجور على إمرة مصر الى أن مات بها في يوم السبت سابع أو ثامن ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وحمل الى القدس فدفن عند أبيه الإخشيذ. وكانت مدّة ولايته على مصر أربع عشرة سنة وعشرة أيّام. ولمّا مات أنوجور أقام كافور الإخشيذى أخاه عليّا أبا الحسين بن الإخشيذ مكانه، وأقرّه الخليفة المطيع على إمرة مصر على الجند والخراج، وأضاف إليه الشام، كما كان لأبيه الإخشيذ ولأخيه أنوجور. وقويت شوكة كافور في ولاية علىّ هذا أكثر مما كانت في ولاية أخيه لوجوه عديدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 335]
السنة الأولى من ولاية أنوجور بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة خمس وثلاثين وثلثمائة- فيها جدّد معزّ الدولة أحمد بن بويه الأمان بينه وبين الخليفة المطيع لله بعد أن انهزم ناصر الدولة بن حمدان في السنة الماضية من معزّ الدولة المذكور؛ ثم وقع الصلح بينهما على أن يكون لناصر الدولة من تكريت الى الشام.
وفيها استولى ركن الدولة الحسن بن بويه على الرىّ. وفيها أقيمت الدعوة بطرسوس لسيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان، فنفّذ لهم الخلع والذهب ونفّذ لهم ثمانين(3/293)
ألف دينار للفداء. وفيها توفّى أحمد بن أبى أحمد [بن القاصّ «1» ] أبو العباس الطبرىّ القاضى الفقيه صاحب أبى العباس بن سريج؛ كان إماما فقيها، صنّف في مذهبه كتاب «المفتاح» و «أدب القاضى» و «المواقيت» و «التلخيص» ، وتفقّه عليه أهل طبرستان.
وكانت وفاته بطرسوس. وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة. وفيها توفّى محمد بن أحمد بن الرّبيع بن سليمان أبو رجاء الفقيه الشافعىّ الشاعر؛ كان فاضلا شاعرا، وله قصيدة ذكر فيها أخبار العالم وقصص الأنبياء؛ وسئل قبل موته: كم بلغت قصيدتك إلى الآن؟ فقال: ثلاثين ألفا ومائة «2» بيت. وفيها توفّى هارون ابن محمد بن هارون بن علىّ بن موسى أبو جعفر الضّبّىّ؛ كان أسلافه ملوك عمان، وكان معظّما عند السلطان، وانتشرت مكارمه وعطاياه، وقصده الشعراء من كلّ مكان، وأنفق أموالا عظيمة في [برّ «3» ] العلماء والأشراف و [اقتناء «4» ] الكتب النفيسة، وكان عارفا بالنحو واللغة والشعر ومعانى القرآن والكلام، وكانت داره مجمعا لأهل العلم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العباس القاضى صاحب ابن سريج، وأبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمىّ، وأبو بكر محمد بن جعفر [الصّيرفىّ «5» ] المطيرىّ «6» ، وأبو بكر محمد بن يحيى الصّولىّ [الشّطرنجىّ «7» ] ، والهيثم بن كليب الشّاشىّ «8» .(3/294)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 336]
السنة الثانية من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة- فيها خرج الخليفة المطيع ومعزّ الدولة أحمد بن بويه إلى البصرة لمحاربة أبى القاسم عبد الله بن البريدىّ وسلكوا البرّيّة «1» اليها؛ فلما قاربوها استأمن إلى معزّ الدولة جيش البريدىّ، وهرب هو إلى القرامطة؛ وملك معزّ الدولة البصرة، وأقطع المطيع فيها من ضياعها. وفيها قدم عماد الدولة علىّ بن بويه إلى الأهواز؛ فبادر أخوه معزّ الدولة أحمد إلى خدمته، وجاء فقبّل الأرض ووقف، وتأدّب معه معزّ الدولة؛ ثم بعد أيّام ودّعه؛ وعاد معزّ الدولة وقد أخذ واسطا والبصرة. وفيها ظفر المنصور العبيدىّ بمخلد بن كيداد وقتل قوّاده ومزّق جيشه. وفيها أغارت الروم على أطراف الشام فسبوا وأسروا، فساق وراءهم سيف الدولة بن حمدان، ولحقهم فقتل منهم مقتلة عظيمة واستردّ ما أخذوا من المسلمين؛ ثم أخذ حصن برزوية «2» من الأكراد بعد أن نازلهم مدّة.
وفيها وردت الأخبار أن نوحا صاحب خراسان أكحل أخويه وعمّه إبراهيم. وفيها توفّى أحمد بن جعفر بن محمد أبو الحسين المعروف بابن المنادىّ «3» البغدادىّ؛ كان إماما(3/295)
محدّثا، سمع الكثير وصنّف كتبا كثيرة. قال أبو يوسف القزوينىّ: صنّف في علوم القرآن أربعمائة ونيّفا وأربعين كتابا ليس فيها شىء من الحشو، وجمع فيها حسن العبارة وعلوّ الرواية. وفيها توفّى العلّامة أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس ابن محمد بن صول تكين الصّولىّ، الإمام المفتنّ المعروف بالصولىّ الشّطرنجىّ الكاتب، وكان صول من ملوك خراسان وجرجان؛ كان أحد علماء الفنون كالأدب وحسن المعرفة بأيّام الناس وطبقات الشعراء، واسع الرواية كثيرا لحفظ؛ صنّف كتاب" الأوراق" وكتاب" الوزراء" وغيرهما؛ وانتهى إليه علم الهندسة [و] الشّطرنج؛ ونادم جماعة من الخلفاء؛ وكان له نظم رائق؛ من ذلك قوله:
أحببت من أجله من كان يشبهه ... وكلّ شىء من المعشوق معشوق
حتّى حكيت بجسمى ما بمقلته ... كأنّ سقمى من جفنيه مسروق
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن إسماعيل أبو بكر الشاشىّ القفّال الكبير أحد أئمة الشافعيّة، كان إماما فاضلا، وهو أوّل من ضنّف في الجدل، مات في صفر؛ قاله العلامة يوسف بن قزأوغلى. وذكر الذهبىّ وفاته في سنة خمس وستين وثلثمائة، وهو المشهور.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسين أحمد ابن جعفر المنادىّ، وحاجب بن أحمد الطّوسىّ، وأبو العباس محمد بن أحمد «1» بن حمّاد الأثرم، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمىّ، وأبو علىّ محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميدانىّ «2» ، وأبو طاهر محمد بن الحسين المحمّداباذىّ «3» .(3/296)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 337]
السنة الثالثة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة سبع وثلاثين وثلثمائة- فيها كان الغرق ببغداد، وزادت دجلة إحدى وعشرين ذراعا، وهرب الناس ووقعت الدّور ومات تحت الرّدم خلق كثير. وفيها دخل بغداد أبو القاسم عبد الله ابن البريدىّ بأمان من معزّ الدولة، وأقطعه معزّ الدولة قرى بأعمال بغداد. وفيها اختلف معزّ الدولة أحمد بن بويه وناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ، وسار معزّ الدولة الى الموصل، فتأخّر ناصر الدولة الى نصيبين خائفا، ثم صالحه ناصر الدولة في كلّ سنة على ثمانية آلاف ألف درهم. وفيها خرجت الروم، فتلقّاهم سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ على مرعش، فهزموه وملكوا مرعش. وفيها لم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق. وفيها ولى إمرة دمشق أبو المظفّر الحسن بن طغج بن جفّ نيابة لابن أخيه أنوجور بن الإخشيذ؛ وقد وليها مرّة أخرى في أيّام القاهر من قبل أخيه الإخشيذ محمد بن طغج. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم أبو محمد المعروف بالبيّع والد الحاكم [أبى عبد الله «1» ] النّيسابورىّ، صاحب التصانيف. أذّن عبد الله هذا بمسجد ثلاثا وثلاثين سنة، وغزا اثنتين وعشرين غزوة، وأنفق على العلماء والزهّاد مائة ألف درهم، وكان كثير العبادة، وروى عن مسلم وغيره. وفيها توفّى قدامة(3/297)
ابن جعفر أبو الفرج «1» الكاتب صاحب المصنفات: مثل «كتاب البلدان» و «الخراج» و «صناعة الكتابة» وغيرها، وكان عالما، جالس المبرّد وثعلبا وغيرهما.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو إسحاق إبراهيم ابن شيبان القرميسينىّ «2» الزاهد، وأبو علىّ محمد بن علىّ بن عمر المذكّر «3» النّيسابورىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 338]
السنة الرابعة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة- فيها وصلت تقادم «4» أنوجور بن الإخشيذ عامل مصر صاحب الترجمة، وسأل معزّ الدولة أن يكون أخوه مشاركا له في إمرة مصر، ويكون من بعده، فأجابه.
وفيها تقلّد أبو السائب عتبة بن عبيد الله «5» الهمذانىّ قضاء القضاة ببغداد. وفيها تحرّكت القرامطة، ولم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق. وفيها عمّر المنصور «6» العبيدىّ صاحب بلاد المغرب مدينة المنصوريّة. وفيها ولى إمرة دمشق شعلة(3/298)
ابن بدر الإخشيذىّ من قبل صاحب الترجمة، وكان أحد الأبطال الموصوفين بالشجاعة، وفيه ظلم. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن علىّ أبو بكر المراغىّ؛ روى عن الربيع بن سليمان أبياتا سمعها من الشافعىّ رضى الله عنه، وهى «1» :
شهدت بأنّ الله لا ربّ «2» غيره ... وأشهد أنّ البعث حقّ وأخلص
وأنّ عرا الإيمان قول محسّن ... وفعل زكىّ قد يزيد وينقص
وأنّ أبا بكر خليفة ربّه ... وكان أبو حفص على الخير يحرص
وأشهد ربّى أنّ عثمان فاضل ... وأنّ عليّا فضله متخصّص «3»
[أئمة «4» قوم نهتدى بهداهم ... لحا الله من إيّاهم يتنقّص]
وفيها توفّى أمير المؤمنين المستكفى بالله عبد الله ابن الخليفة المكتفى بالله علىّ ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن ولىّ العهد طلحة الموفق ابن الخليفة جعفر المتوكّل الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، مات معتقلا بعد أن خلع من الخلافة وسمل قبل تاريخه بسنين في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، حسب ما تقدّم ذكره في محلّه.
ومات برمى الدم، وكان محبوسا بدار معزّ الدولة بن بويه. ومات وله ستّ وأربعون سنة؛ وكان بويع بالخلافة بعد خلع المتقى بالله وسمله في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وأمّ المستكفى بالله هذا أمّ ولد تسمّى غصن «5» . وفيها توفّى السلطان عماد الدولة أبو الحسن علىّ بن بويه بن فنّا خسرو الديلمىّ- وقد ذكرنا من أمر بنى بويه ومبدأ ملكهم نبذة في حوادث سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة- وكان قد ملك جميع بلاد(3/299)
فارس، وكان ملكا عاقلا شجاعا مهيبا، اعتلّ بقرحة في الكلى أنحلت جسمه، ومات بشيراز وله تسع وخمسون سنة. وأقام الخليفة المطيع لله مقامه أخاه أبا علىّ الحسن ركن الدولة والد السلطان عضد الدولة بن بويه. وكان معزّ الدولة أحمد بن بويه صاحب أمر الخلافة يومئذ يحبّ أخاه عماد الدولة المتوفّى ويحترمه ويكاتبه بالعبوديّة ويقبّل الأرض بين يديه اذا اجتمعا مع عظم سلطانه، لكونه «1» الأكبر سنّا. وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن دينار أبو عبد الله الفقيه الزاهد العدل النّيسابورىّ، وكان صالحا عابدا يحجّ دائما، ومات عند منصرفه من الحجّ في صفر؛ رضى الله عنه.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن إسماعيل العلّامة أبو جعفر النحاس المصرىّ النحوىّ، كان من نظراء ابن الأنبارىّ ونفطويه، وله كتاب «إعراب القرآن» وكتاب «المعانى» وكتاب «اشتقاق الأسماء الحسنى «2» » ، ومصنّفات كثيرة غير ذلك. وفيها توفّى إبراهيم بن عبد الرزاق بن الحسن أبو إسحاق الأنطاكىّ الفقيه المقرئ؛ قرأ على هارون بن موسى الأخفش وأحمد بن أبى رجاء وغيرهما، وصنّف كتابا في القراءات الثمان، وسمع الكثير وحدّث.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن سليمان ابن زبّان «3» الكندىّ الدّمشقىّ، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحّاس، وإبراهيم بن عبد الرزّاق الأنطاكىّ، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبى ثابت، وأبو علىّ الحسن بن حبيب الحضائرىّ «4» ، وعماد الدولة علىّ بن بويه الدّيلمىّ صاحب(3/300)
بلاد فارس، وكانت أيّامه ستّ عشرة سنة، وأبو الحسن علىّ بن محمد الواعظ المصرىّ، وعلى بن حمشاد «1» العدل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 339]
السنة الخامسة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة- فيها غزا سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان بلاد الروم في ثلاثين ألفا، ففتح حصونا وقتل وسبى وغنم؛ فأخذ الروم عليه الدرب عند خروجه فاستولوا على عسكره قتلا وأسرا، واستردّوا جميع ما أخذ لهم، وأخذوا جميع خزائن سيف الدولة، [ونجا «2» ] فى عدد يسير. وفيها استولى [منصور «3» بن] قرا تكين على الرّىّ والجبال ودفع عنها عسكر ركن الدولة. وفيها ردّ الحجر الأسود الى موضعه، بعث به القرمطىّ مع [أبى] محمد بن سنبر «4» الى الخليفة المطيع لله، وكان بجكم قد دفع فيه قبل تاريخه خمسين ألف دينار وما أجابوا، وقالوا: أخذناه بأمر وما نردّه إلا بأمر؛ فلما ردّوه في هذه السنة قالوا: رددناه بأمر من أخذناه بأمره. وكذبوا؛ فإن الله تعالى قال: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها)
. [فكذّبهم «5» الله تعالى بقوله] : (قُلْ إِنَ(3/301)
اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)
. وإن عنوا بالأمر القدر فليس ذلك حجّة لهم، فالله تعالى قدّر عليهم الضلال والمروق من الدين، وقدّر عليهم أن يدخلهم النار، فلا ينفعهم قولهم: «أخذناه بأمر» . ولما أتوا بالحجر الأسود أعطاهم المطيع مالا له جرم؛ وكان الحجر الأسود قد بقى اثنتين وعشرين سنة. وقال المسبّحىّ: وفيها وافى سنبر بن الحسن الى مكّة ومعه الحجر الأسود، وأمير مكّة معه. فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر، وعليه ضباب فضّة قد عملت من طوله وعرضه تضبط شقوقا قد حدثت عليه بعد انقلاعه، وأحضر له صانعا معه جصّ يشدّه [به] . فوضع سنبر بن الحسن ابن سنبر الحجر الأسود بيده وشدّه الصانع بالجصّ. وقال لمّا ردّه: أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئته. وفيها توفّى محمد بن أحمد الصّيمرىّ كاتب معزّ الدولة ووزيره، فقلّد مكانه أبا محمد الحسن بن محمد المهلّبىّ. وفيها في عيد الأضحى قتل الناصر لدين «1» الله عبد الرّحمن بن محمد الأموىّ صاحب الأندلس ولده عبد الله، وكان قد خاف من خروجه «2» عليه؛ وكان الناصر من كبار العلماء، روى عن محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وله تصانيف: منها مجلّد في" مناقب بقىّ بن مخلد" رواه عنه مسلمة «3» ابن قاسم. وفيها توفّى عبد الرّحمن بن إسحاق أبو القاسم الزّجّاجىّ النحوىّ من أهل(3/302)
بغداد، وسكن طبريّة وأيلة وحدّث بدمشق وصنّف في النحو" مختصرا". وفيها غزا سيف الدولة في شهر ربيع الأوّل ووافاه عسكر طرسوس في أربعة آلاف عليهم القاضى أبو الحصين، فسار إلى قيساريّة وفتح عدّة حصون وسبى وقتل، ثم سار إلى سمندو «1» ثم إلى خرشنة يقتل ويسبى، ثم الى صارخة «2» بينها وبين قسطنطينيّة سبعة أيّام. فلمّا نزل عليها واقع الدّمستق مقدّمته فظهرت عليه فلجأ إلى الحصن، وخاف على نفسه؛ ثم جمع والتقى بسيف الدولة، فهزمه الله أقبح هزيمة وأسرت بطارقته.
وكانت غزوة مشهورة، وغنم المسلمون مالا يوصف؛ وبقوا في الغزو أشهرا. وفيها توفّى الخليفة القاهر أبو منصور محمد ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن ولىّ العهد أبى أحمد طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل جعفر العباسى الهاشمىّ البغدادىّ.
استخلف أوّلا بعد خلع المقتدر بالله جعفر، ثم خلع بعد ثلاثة أيّام، ودام دهرا الى أن بويع ثانيا بالخلافة بعد قتل جعفر المقتدر سنة عشرين وثلثمائة؛ فأقام في الخلافة الى أن خلعوه من الخلافة في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالراضى بالله أبى العباس محمد «3» ، وسملت عيناه فسالتا على خدّه، وحبسوه مدّة ثم أهملوه وسيّبوه حتّى(3/303)
مات في هذه السنة في جمادى الأولى. وكان ربعة أسمر أصهب الشعر طويل الأنف؛ وكان قد افتقر وسأل قبل موته. وهو أوّل خليفة خلع وسمل. وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله الصّفّار الأصبهانىّ، كان محدّث عصره بخراسان، وكان مجاب الدعوة، أقام أربعين سنة لم يرفع رأسه الى السماء حياء من الله تعالى.
وكان يقول: اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كاسمى، واسم أبيه اسم أبى.
وكانت وفاته في ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في السنة، قال: وفيها توفّى علىّ بن عبد الله بن يزيد ابن أبى مطر الإسكندرىّ القاضى وله مائة سنة، وعمر بن الحسن أبو الحسين بن الأشنانىّ «1» القاضى، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار الأصبهانىّ، وأبو جعفر محمد بن عمر بن البخترىّ، وأبو نصر الفارابىّ صاحب الفلسفة محمد بن محمد بن طرخان. قلت: يأتى ذكر الفارابىّ أيضا في هذا الكتاب في غير هذه السنة على ما ورّخه صاحب المرآة وغيره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 340]
السنة السادسة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة أربعين وثلثمائة- فيها قصد صاحب عمان البصرة وساعده أبو يعقوب القرمطىّ، فسار اليهم أبو محمد [الحسن بن «2» محمد] المهلّبىّ في الدّيلم والجند، فالتقوا فهزمهم المهلّبىّ واستباح عسكرهم،(3/304)
وعاد إلى بغداد بالأسارى والغنائم. وفيها جمع سيف الدولة بن حمدان جيوش الموصل والجزيرة والشام والأعراب ووغل في بلاد الروم، وقتل وسبى شيئا كثيرا وعاد الى حلب سالما. وفيها قلعت حجبة الكعبة الحجر الأسود الذي نصبه سنبر ابن الحسن صاحب القرمطىّ وجعلوه في الكعبة، فأحبّوا أن يجعلوا له طوقا من فضّة فيشدّ به كما كان قديما، كما عمله عبد الله بن الزبير. وأخذ في إصلاحه صانعان حاذقان فأحكماه. قال أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعىّ: دخلت الكعبة فيمن دخلها فتأمّلت الحجر فإذا السواد في رأسه دون سائره وسائره أبيض، وكان طوله، فيما حزرت، مقدار عظم الذراع. قال: ومبلغ ما عليه من الفضّة، فيما قيل، ثلاثة آلاف وسبعمائة وسبعة وتسعون درهما ونصف. وفيها كثرت الزلازل بحلب والعواصم ودامت أربعين يوما وهلك خلق كثير تحت الردم؛ وتهدّم حصن رعبان «1» ودلوك «2» وتلّ حامد «3» ، وسقط من سور دلوك ثلاثة أبرجة. وفيها توفّى شيخ الحنفيّة(3/305)
بالعراق عبيد الله «1» بن الحسين «2» الشيخ أبو الحسن الكرخىّ، سمع ببغداد إسماعيل [بن إسحاق «3» ] القاضى ومحمد بن عبد الله الحضرمىّ مطيّنا، وروى عنه ابن شاهين «4» وعبد الله «5» ابن محمد الأكفانىّ القاضى، وكان علّامة كبير الشأن فقيها أديبا بارعا عارفا بالأصول والفروع، انتهت إليه رياسة السادة الحنفيّة في زمانه وانتشرت تلامذته في البلاد؛ وكان عظيم العبادة كثير الصلاة والصوم صبورا على الفقر والحاجة ورعا زاهدا صاحب جلالة. قال أبو بكر الخطيب: حدّثنى الصّيمرىّ «6» حدّثنى أبو القاسم بن علّان الواسطىّ، قال: لما أصاب أبا الحسن الكرخىّ الفالج في آخر عمره حضرته وحضر أصحابه أبو بكر [الرازىّ «7» وأبو عبد الله] الدامغانىّ وأبو علىّ الشاشىّ وأبو عبيد الله البصرىّ، فقالوا: هذا مريض يحتاج الى نفقة وعلاج، والشيخ مقلّ؛ فكتبوا الى سيف الدولة بن حمدان؛ فأحسّ أبو الحسن فيما هم فيه فبكى وقال: اللهم لا تجعل رزقى إلّا من حيث عوّدتنى، فمات قبل أن يحمل إليه شىء؛ ثم ورد من سيف الدولة عشرة آلاف درهم فتصدّق بها. توفّى وله ثمانون سنة، وأخذ عنه الفقه الذين ذكرناهم: الدّامغانىّ والشاشىّ والبصرىّ والإمام أبو بكر أحمد بن على الرازىّ وأبو القاسم علىّ بن محمد التّنوخىّ. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن زيّاد الغنوىّ «8» البصرىّ(3/306)
الإمام أبو سعيد بن الأعرابىّ نزيل مكّة، كان إماما حافظا ثبتا، سمع الكثير، وروى عنه عالم كثير، وكان كثير العبادة، شيخ الحرم في وقته علما وزهدا وتسليكا وكان صحب الجنيد وعمرو بن عثمان المكىّ وأبا أحمد القلانسىّ وغيرهم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو سعيد أحمد ابن محمد بن زياد بن بشر البصرىّ ابن الأعرابىّ، وإبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزىّ الشافعىّ، وأبو علىّ الحسين «1» بن صفوان البردعىّ، والكلاباذىّ المعروف بالأستاذ «2» أحد أئمة الخليفة، والزجاجىّ صاحب «الجمل» أبو القاسم عبد الرّحمن بن إسحاق، وأبو محمد قاسم بن أصبغ القرطبىّ، وأبو جعفر محمد بن يحيى بن عمر بن علىّ ابن حرب، وأبو الحسن الكرخىّ شيخ حنفيّة العراق عبيد الله بن الحسين.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 341]
السنة السابعة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة إحدى وأربعين وثلثمائة- فيها ظفر الوزير المهلّبىّ بقوم التناسخيّة، وفيهم شاب يزعم أن روح علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه انتقلت فيه، وفيهم امرأة تزعم أن روح فاطمة رضى الله عنها انتقلت اليها، وفيهم آخر يزعم أنّه جبريل؛ فضربوا، فتعزّوا «3» بالانتماء لأهل البيت؛ فأمر معزّ الدولة بإطلاقهم لتشيّع كان فيه. قلت: والمشهور عن بنى بويه(3/307)
التشيّع والرّفض. وفيها أخذت الروم سروج «1» فقتلوا وسبوا وأحرقوا البلد. وفيها حجّ بالناس أحمد بن عمر بن يحيى العلوىّ. وفيها في آخر شوال توفّى المنصور أبو طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله المهدىّ العبيدىّ الفاطمىّ صاحب المغرب، مات بالمنصورة التى بناها ومصرها، وصلّى عليه ابنه ولىّ عهده أبو تميم معذ الملقّب بالمعزّ لدين الله؛ وهو الذي تولّى الخلافة بعده. وكان ملكا حادّ الذهن سريع الجواب فصيحا مفوّها يخترع الخطب، عادلا في الرعيّة، أبطل كثيرا من المظالم مما أحدثه آباؤه؛ ومات وله أربعون سنة، وكانت مدّة مملكته سبعة أعوام وأيّاما؛ وخلّف خمسة بنين وخمس بنات. وقام بعده ابنه المعزّ لدين الله فأحسن السّيرة وصفت له المغرب. ثم افتتح المعزّ لدين الله مصر وبنى القاهرة؛ على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى بأطول من هذا في ترجمة المعزّ المذكور. وفيها توفّى أحمد بن محمد أبو العبّاس الدّينورىّ، كان من أجلّ المشايخ وأحسنهم طريقة، وكان يتكلّم على لسان أهل المعرفة بأحسن كلام. تكلّم يوما فصاحت عجوز في مجلسه؛ فقال لها: موتى؛ فقامت وخطت خطوات، ثم التفتت إليه وقالت: هأنا قد متّ، ووقعت ميّتة. وكان يقول:
مكاشفات الأعيان بالأبصار، ومكاشفات القلوب بالاتصال. وفيها توفّى الشيخ العابد القدوة أبو الخير التّيناتىّ «2» الأقطع صاحب الكرامات- وتينات «3» : قرية من قرى أنطاكية، وقيل: هى على أميال من المصّيصة- أقام بتينات مدّة سنين، وكان يسمّى الأقطع لأن يده كانت قطعت ظلما في واقعة جرت له يطول الشرح فى ذكرها. ومن كراماته [أن] كانت الوحوش تأنس به رضى الله عنه.(3/308)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو طاهر أحمد بن أحمد «1» بن عمرو المدينىّ، وأبو علىّ إسماعيل بن محمد الصفّار في المحرّم، والمنصور إسماعيل ابن القائم العبيدىّ الرافضىّ صاحب المغرب، وأبو الطيب محمد بن حميد الحورانىّ، وأبو الحسن محمد «2» بن النّضر الرّبعىّ المقرئ ابن الأخرم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 342]
السنة الثامنة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة- فيها جاء صاحب خراسان ابن محتاج إلى الرىّ محاربا لابن بويه وجرت بينهما حروب وعاد إلى خراسان. وفيها عاد سيف الدولة بن حمدان من الروم سالما غانما مؤيّدا، وقد أسر قسطنطين «3» بن الدّمستق ملك الروم، ودخل سيف الدولة حلب وابن الدمستق بين يديه، وكان مليح الصورة، فبقى عنده مكرما حتّى مات. وفيها توفّى القاسم بن [القاسم «4» بن] مهدىّ أبو العباس السيّارىّ «5» ، كان من أهل مرو، كتب الحديث وتفقّه، وكان شيخ أهل مرو وأوّل من تكلّم عندهم(3/309)
فى حقائق الأحوال. ومن كلامه: من حفظ قلبه مع الله بالصدق أجرى الله الحكمة على لسانه. وفيها توفّى أحمد بن إسحاق بن أيّوب بن يزيد أبو بكر النّيسابورىّ الفقيه الشافعىّ المعروف بالصّبغىّ، «1» سمع الحديث وروى عنه جماعة، وكان إماما فقيها عالما عابدا؛ ولد سنة ثمان وخمسين ومائتين، وله تصانيف كثيرة في عدّة علوم، منها: كتاب «الأسماء والصفات» وكتاب «الإيمان والقدر» وكتاب «فضائل الخلفاء الأربعة» وعدّة تصانيف أخر. وفيها توفّى الحسن بن طغج بن جفّ الأمير أبو المظفّر الفرغانىّ التركىّ أخو الإخشيذ. ولى إمرة دمشق من قبل أخيه الإخشيذ مدّة، ثم عزله أخوه الإخشيذ وولّى أخاه عبيد الله بن طغج مكانه. ثم ولى الحسن هذا إمرة دمشق مرّة أخرى من قبل ابن أخيه أنوجور صاحب الترجمة، ثم ردّ الى الرملة فمات بها ودفن بالقدس. وكان أميرا جليلا شجاعا مقداما، باشر الحروب وولى الأعمال الجليلة إلى أن مات. وفيها توفّى عثمان بن محمد بن علىّ أبو الحسين الذهبىّ البغدادىّ، سكن مصر وحدّث بها وبدمشق. وفيها توفّى علىّ بن محمد بن أبى الفهم داود بن إبراهيم بن تميم أبو القاسم التّنوخىّ، أصله من ملوك تنوخ الأقدمين من ولد قضاعة، ولد بأنطاكية في سنة ثمان وسبعين ومائتين، وهو صاحب كتاب «الفرج بعد الشدّة» ؛ كان فقيها حنفيّا بارعا في الفقه والأصول والنحو، وكان شاعرا فصيحا، وله ديوان شعر. وكانت وفاته بالبصرة في شهر ربيع الأول. ومن شعره فى مليح دخل الحمّام:
رأيت في الحمّام بدر الدّجى ... وشعره الأسود محلول
قد عمّموه بدجى شعره ... ونقّطوا الفضّة باللول «2»(3/310)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيّوب الصبغىّ الشافعىّ، وأحمد بن عبد الأسد الجذامىّ، وإبراهيم بن المولد «1» الزاهد، والحسن بن يعقوب أبو الفضل البخارىّ، وعبد الرّحمن بن حمدان الهمذانىّ الجلّاب، وأبو الحسن «2» محمد بن أحمد الأسوارىّ الأصبهانىّ، ومحمد بن داود بن سليمان النّيسابورىّ الحافظ الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 343]
السنة التاسعة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة- فيها خطب أبو علىّ بن محتاج الى المطيع بخراسان ولم يكن خطب له قبل ذلك، فبعث إليه المطيع بالخلع واللواء. وفيها مرض معزّ الدولة أحمد بن بويه بعلّة الإنطاظ «3» الدائم وأرجف بموته واضطربت بغداد، فركب معزّ الدولة بكلفة لتسكين الناس. وفيها كانت وقعة عظيمة بين سيف الدولة بن حمدان وبين الدّمستق، وكان الدمستق قد جمع أمما من الترك والروس والخزر، فكانت الدائرة عليه ولله الحمد، وقتل معظم بطارقته، وهرب هو وأسر صهره وجماعة من بطارقته؛ وأمّا القتلى فلا يحصون؛ وغنم سيف الدولة عسكرهم بما فيه. وفيها توفّى الأمير نوح بن نصر السامانىّ عامل بخارى في جمادى الأولى. وأظنّ أن نوحا هذا من ذريّة نوح عامل بخارى في زمن المأمون، الذي أهدى إليه طولون والد أحمد، وهذا أهداه(3/311)
الى الخليفة عبد الله المأمون. وفيها توفّى خيثمة بن سليمان بن حيدرة الحافظ أبو الحسن «1» القرشىّ الأطرابلسىّ أحد الحفّاظ الثّقات المشهورين، ومولده سنة خمسين ومائتين، وقيل غير ذلك؛ ومات في ذى القعدة من هذه السنة. وفيها توفّى محمد بن العبّاس بن الوليد القاضى أبو الحسين البغدادىّ، كان فاضلا بارعا، مات ببغداد في شوّال، وكان ثقة صدوقا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد ابن الزاهد أبى عثمان سعيد بن إسماعيل الحيرىّ، وخيثمة بن سليمان الأطرابلسىّ، وعلىّ بن الفضل [بن إدريس «2» ] السامرىّ، وأبو الحسن علىّ بن محمد [بن محمد «3» ] بن عقبة الشّيبانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 344]
السنة العاشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة أربع وأربعين وثلثمائة- فيها تحرّك ابن محتاج صاحب خراسان على ركن الدولة الحسن بن بويه، فنجده أخوه معزّ الدولة بجيش من العراق. وفيها في المحرّم عقد معزّ الدولة بن بويه إمرة الأمراء لابنه أبى منصور بختيار. وفيها دخل [محمد] بن ما كان «4» الديلمىّ أحد قوّاد صاحب خراسان الى أصبهان، فخرج عن أصبهان أبو منصور بن ركن الدولة، فتبعه ابن ما كان، فأخذ خزائنه؛ وعارضه أبو الفضل بن العميد وزير ركن الدولة ومعه(3/312)
القرامطة، فأوقعوا به وأثخنوه بالجراح وأسروا قوّاده، وسار ابن العميد الى أصبهان.
وفيها وقع وباء عظيم بالرّىّ، وكان الأمير أبو علىّ بن محتاج صاحب خراسان قد نزلها فمات في الوباء. وفيها فلج أبو الحسين علىّ بن أبى علىّ بن مقلة وأسكت وله تسع وثلاثون سنة. وفيها زلزلت مصر زلزلة عظيمة هدمت البيوت ودامت مقدار ثلاث ساعات زمانيّة، وفزع الناس الى الله تعالى بالدعاء. وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر أبو بكر بن الحدّاد الكنانىّ المصرىّ الفقيه الشافعىّ شيخ المصريّين، ولد يوم وفاة المزنىّ، وكان إماما فقيها له وجه في مذهب الشافعىّ رضى الله عنه. وفيها توفّى شعلة بن بدر الأمير أبو العباس الإخشيذىّ، ولى إمرة دمشق من قبل أبى القاسم أنوجو بن الإخشيذ، وكان شجاعا بطلا «1» قتل في طبريّة في حرب كان بينه وبين مهلهل العقيلى. وفيها توفى محمد «2» بن يعقوب بن يوسف الحافظ أبو عبد الله الشّيبانىّ النّيسابورىّ ابن الأخرم «3» ، ويعرف أبوه بابن الكرمانىّ. قال الحاكم: كان أبو عبد الله صدرا من أهل الحديث ببلادنا بعد أبى حامد بن الشّرقىّ، وكان يحفظ ويفهم، وصنّف على صحيح البخارىّ ومسلم، وصنّف المسند الكبير؛ وسأله أبو العباس بن السراج أن يخرّج له على صحيح مسلم ففعل ذلك. وفيها حجّ الناس من غير أمير. وفيها توفّى محمد بن محمد بن يوسف بن الحجّاج الشيخ أبو النّضر «4» الطّوسىّ الزاهد العابد، كان يصوم النهار ويقوم الليل ويتصدّق بالفاضل من قوته،(3/313)
ورحل [الى] البلاد في طلب الحديث وسمع الكثير، وكان يجزّئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءا لقراءة القرآن، وجزءا للتصنيف، وجزءا يستريح فيه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسين أحمد ابن عثمان بن بويان «1» المقرئ، وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن هاشم الأذرعىّ «2» ، وأبو عمرو عثمان بن أحمد الدقّاق بن السّماك في [شهر] ربيع الأول، وأبو بكر بن الحدّاد الكنانىّ محمد بن أحمد شيخ الشافعيّة بمصر وله نحو ثمانين سنة، وأبو النّضر محمد بن محمد بن يوسف الطّوسىّ الفقيه في شعبان، وأبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم الحافظ، وأبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبرىّ الحافظ المفسّر الأديب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 345]
السنة الحادية عشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة خمس وأربعين وثلثمائة- فيها أوقع الروم بأهل طرسوس وقتلوا وسبوا وأحرقوا قراها. وفيها زاد السلطان معزّ الدولة في إقطاع الوزير أبى محمد المهلّبىّ وعظم قدره عنده. وفيها خرج روزبهان «3» الدّيلمىّ على معز الدولة، فسيّر معزّ الدولة لقتاله الوزير المهلّبىّ؛ فلمّا كان(3/314)
المهلّبىّ بقرب الأهواز تسلّل «1» رجال المهلّبىّ إلى روزبهان؛ فانحاز المهلّبىّ بمن معه الى حصن. فخرج معزّ الدولة بنفسه لقتال روزبهان المذكور، وانحدر معه الخليفة المطيع لله، فقاتله حتى ظفر به في المصافّ وفيه ضربات، وأسر قوّاده. وقدم معزّ الدولة بغداد وروزبهان بين يديه على جمل، ثم غرّق. وفيها غزا سيف الدولة بلاد الروم وافتتح حصونا وسبى وغنم وعاد الى حلب؛ ثم أغارت «2» الروم على نواحى ميّافارقين. وفيها توفّيت أمّ المطيع بعلّة الاستسقاء، وخرج المطيع في جنازتها في وجوه دولته وعظم عليه مصابها؛ وكانت تسمّى مشعلة «3» . وفيها توفّى على بن إبراهيم بن سلمة «4» بن بحر أبو الحسن القزوينىّ الحافظ القطّان. قال الخليلىّ: كان عالما بجميع العلوم والتفسير والفقه والنحو واللغة، ارتحل وسمع أبا حاتم الرازىّ، وإبراهيم [بن الحسين «5» بن ديزيل بن سيفنّة] ، ومحمد بن الفرج الأزرق، وخلقا سواهم؛ وانتهت اليه رياسة العلم وعلوّ السند بتلك الديار. ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين، وروى عنه خلائق كثيرة. قال ابن فارس في بعض أماليه: سمعت أبا الحسن القطّان يقول: بعد ما علّمت سنة كنت حين رحلت أحفظ مائة ألف حديث، وأنا اليوم لا أقوم على حفظ مائة حديث. وفيها توفّى علىّ بن الحسين بن على الشيخ الإمام المؤرّخ العلامة أبو الحسن المسعودىّ صاحب التاريخ المسمّى «بمروج الذهب» قيل: إنه من ذريّة ابن مسعود، وكان أصله من بغداد ثم أقام بمصر الى أن مات بها في جمادى الآخرة. قاله المسبّحىّ في تاريخه: وكان أخباريا علّامة صاحب(3/315)
غرائب وملح ونوادر وله عدّة مصنّفات: التاريخ المقدّم ذكره وهو غاية في معناه، وكتاب «تحف الأشراف والملوك» وكتاب «ذخائر العلوم» و «كتاب الرسائل «1» » ، وكتاب «الاستذكار لما مرّ في سالف الأعصار» وكتاب «المقالات في أصول الديانات» وكتاب «أخبار الخوارج» وغير ذلك؛ ومات قبل أن يطول عمره. قال الذهبىّ وكان معتزليّا، فإنّه ذكر غير واحد من المعتزلة ويقول فيه: «كان من أهل العدل» . وله رحلة الى البصرة التى فيها أبو خليفة «2» . وفيها توفّى محمد بن عبد الواحد ابن أبى هاشم أبو عمر الزاهد الصالح، ولد سنة إحدى وستين ومائتين، وكان بارعا فى العربيّة والنحو واللغة عابدا غزير العلم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو بكر أحمد بن سليمان ابن أيّوب العبّادانىّ «3» وله سبع وتسعون سنة، وأبو [بكر «4» ] أحمد بن عثمان بن غلام السبّاك «5» المقرئ، وإسماعيل بن يعقوب بن الجراب البزّاز «6» بمصر، وأبو أحمد «7» بكر بن محمد بن حمدان المروزىّ الصّيرفىّ، وأبو على الحسن بن [الحسين بن «8» ] أبى هريرة شيخ الشافعيّة ببغداد، وأبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد السّمرقندىّ، وأبو الحسن على بن إبراهيم بن سلمة القزوينىّ القطّان الزاهد؛ وله إحدى وتسعون سنة، وأبو عمر(3/316)
الزاهد غلام ثعلب واسمه محمد بن عبد الواحد اللغوىّ، وأبو بكر محمد بن علىّ بن أحمد بن رستم الماذرائىّ بمصر، وله ثمان وثمانون سنة، وأبو بكر مكرم بن أحمد القاضى، والمسعودىّ صاحب مروج الذهب في جمادى الآخرة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 346]
السنة الثانية عشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة ستّ وأربعين وثلثمائة- فيها كان بالرىّ ونواحيها زلازل عظيمة خارجة عن الحدّ، ثم خسف ببلاد الطّالقان في ذى الحجّة فلم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين رجلا، وخسف بمائة وخمسين قرية من قرى الرّىّ؛ واتصل الخسف الى حلوان، فخسف بأكثرها.
وقذفت الأرض عظام الموتى وتفجّرت منها المياه، وتقطّع بالرّىّ جبل، وعلّقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف نهار ثم خسف بها؛ وانخرقت الأرض خروقا عظيمة وخرج منها مياه نتنة ودخان عظيم. هكذا نقل الحافظ أبو الفرج ابن الجوزىّ في تاريخه. وفيها نقص البحر ثمانين ذراعا «1» وظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعدّ. قلت: لعلّه البحر المالح، والله أعلم. وفيها توفّى محمد بن يعقوب ابن يوسف بن معقل بن سنان الحافظ أبو العبّاس الأموىّ النّيسابورىّ مولى بنى أمية المعروف بالأصمّ، صمّ بعد أن رحل الى البلاد وسمع الحديث، كان إماما محدّث عصره بلا مدافعة، حدّث ستّا وسبعين سنة، لأنّ مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، ومات في شهر ربيع الاخر وله تسع وتسعون سنة، وقد انتهت إليه رياسة أهل الحديث بخراسان.(3/317)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن أحمد ابن مهران «1» السّيرافىّ، وأحمد بن جعفر [بن أحمد «2» ] بن معبد السّمسار، وأحمد ابن محمد بن عبدوس، وسعيد بن فحلون «3» البيرىّ الأندلسىّ آخر أصحاب يوسف [بن يحيى «4» ] المغامىّ، وعبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، وأبو الحسين عبد الصمد ابن على الطّستىّ «5» ، وأبو يعلى عبد المؤمن بن خلف النّسفىّ، وأبو العبّاس محمد [بن أحمد «6» ] ابن محبوب المروزىّ، وأبو بكر محمد بن بكر بن محمد [بن عبد الرّزاق «7» ] بن داسة، وأبو منصور محمد بن القاسم العتكىّ، وأبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله بن خالد «8» البغدادىّ بما وراء النهر، وأبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف الأصمّ في شهر ربيع الآخر وله تسع وتسعون سنة، وأبو الحزم وهب بن مسرّة التّميمىّ الحجارىّ «9» الأندلسىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.(3/318)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 347]
السنة الثالثة عشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة سبع وأربعين وثلثمائة- فيها عادت الزّلازل بحلوان وقمّ والجبال فقتلت «1» خلقا عظيما وهدمت [حصونا «2» ] ، ثم جاء بعد ذلك جراد طبّق الدنيا، فأتى على جميع الغلّات والأشجار. وفيها فى شهر ربيع الأول خرجت الروم إلى آمد وأرزن وميّافارقين «3» ففتحوا حصونا كثيرة وقتلوا خلائق كثيرة وهدموا سميساط. وفيها في شهر ربيع الآخر شغبت الترك والدّيلم بالموصل على ناصر الدولة بن حمدان وأحاطوا بداره؛ فحاربهم بغلمانه والعامّة، فظفر بهم فقتل جماعة وأمسك جماعة، وهرب أكثرهم الى بغداد. وفيها في شعبان كانت وقعة عظيمة بنواحى حلب بين الروم وسيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان، وانكسر سيف الدولة وقتلوا معظم رجاله وغلمانه وأسروا أهله، وهرب في عدد يسير.
وفيها سار معزّ الدولة بن بويه إلى الموصل فدخلها، فنزح عنها ناصر الدولة بن حمدان المقدّم ذكره وتوجّه إلى نصيبين، فسار معزّ الدولة وراءه إلى نصيبين «4» ، وخلّف على الموصل سبكتكين الحاجب ونزل على نصيبين؛ فسار ناصر الدولة بن حمدان إلى ميّافارقين بعد أن استأمن معظم عسكره إلى معزّ الدولة؛ فهرب ناصر الدولة إلى حلب مستجيرا بأخيه سيف الدولة؛ فأكرم سيف الدولة مورده وبالغ في خدمته. وجرت فصول إلى أن قدم في الرسالة أبو محمد القاضى بكتاب سيف الدولة إلى الموصل وتقرّر الأمر على أن يكون الموصل وديار «5» ربيعة والرّحبة «6» لسيف الدولة على مال يحمله في كلّ سنة، لأن معزّ الدولة لم يثق بناصر الدولة، فإنّه غدر به مرارا ومنعه الحمل، فقال معزّ(3/319)
الدولة المذكور: أنت عندى ثقة، غير أنّه يقدّم لى ألف ألف درهم. ثم انحدر معز الدولة إلى بغداد، وتأخّر الوزير المهلّبىّ وسبكتكين الحاجب الموصل إلى أن يحمل ناصر الدولة مال التعجيل. وفيها توفّى قاضى دمشق أبو الحسن أحمد بن سليمان ابن أيّوب بن حذلم «1» الأسدىّ الأوزاعىّ المذهب، كان إماما عالما فقيها على مذهب الأوزاعىّ، وكان له حلقة بالجامع. وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن سهل، ويقال:
علىّ بن «2» إبراهيم، أبو الحسن البوشنجىّ الزاهد شيخ الصوفيّة، صحب أبا عمرو الدمشقى وأبا العبّاس «3» بن عطاء، وسمع بهراة من محمد بن عبد الرّحمن الشامىّ والحسين ابن إدريس، وروى عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو الحسن العلوىّ وعبد الله بن يوسف الأصبهانىّ. قال السّلمىّ: هو أحد أئمّة خراسان وله معرفة بعلوم عديدة. وكان أكثر الخراسانيّين تلامذته؛ وكان عارفا بعلوم القوم. قال الحاكم: وسمعته يقول وسئل ما التوحيد، قال: ألّا تشبّه «4» الذات، ولا تنفى الصفات. وفيها توفّى محمد بن الحسن «5» بن عبد الله [بن علىّ «6» ] بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب أبو الحسن القرشىّ الأموىّ القاضى، ولى القضاء بمدينة السلام، ثم ولى أعمالا كثيرة فى أيّام المطيع، ثم صرف عن الجميع؛ وكان جوادا واسع الأخلاق كريما مع قبح سيرة فى الأحكام. وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد أبو الحسين الرازىّ الحافظ، كان عالما فاضلا زاهدا ثقة صدوقا.(3/320)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى أبو الحسن أحمد بن سليمان بن أيّوب بن حذلم الأسدىّ الأوزاعىّ المذهب. قلت: وقد تقدّم ذكره. قال: وأبو أحمد حمزة [بن محمد «1» ] بن العبّاس، والزبير بن عبد الواحد الأسداباذىّ «2» ، وعبد الله بن جعفر درستويه النحوىّ، وأبو الميمون عبد الرّحمن ابن عبد الله بن عمر بن راشد البجلىّ، والحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرّحمن بن أحمد ابن يونس بن عبد الأعلى وله ستّ وستون سنة، وأبو الحسن «3» علىّ بن عبد الرّحمن ابن عيسى بن زيد بن مانى «4» الكوفى الكاتب، ومحمد بن أحمد بن الحسن الكسائىّ «5» الأصبهانىّ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر أبو الحسين الرازى بدمشق، وأبو علىّ محمد ابن القاسم بن معروف الدّمشقى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 348]
السنة الرابعة عشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة ثمان وأربعين وثلثمائة- فيها خلع الخليفة المطيع على بختيار بن معزّ الدولة خلعة السلطنة، وعقد له لواء ولقّبه «عزّ الدولة «6» أمير الأمراء» . وفيها خرج محمد بن ناصر الدولة بن حمدان(3/321)
فى سريّة نحو بلاد الروم، وكانت الروم قد وصلوا إلى الرّها وحران فأسروا أبا الهيثم ابن القاضى أبى الحصين، وسبوا وقتلوا. وفيها في سابع ذى القعدة غرق من الحجّاج الواردين من الموصل إلى بغداد في دجلة بضعة [عشر زورقا «1» ] فيها من الرجال والنساء نحو ستمائة نفس. وفيها مات ملك الروم وطاغيتهم الأكبر بالقسطنطينيّة وأقعد ابنه مكانه، ثم قتل ونصب في الملك غيره. وفيها وصلت الروم الى طرسوس، فقتلوا جماعة وفتحوا حصن الهارونيّة «2» وخرّبوا الحصن المذكور وقتلوا أهله، ثم كرّت الروم الى ديار بكر ووصلوا ميافارقين؛ فعمل في ذلك الخطيب عبد الرّحيم بن نباتة الخطب الجهاديّة. وفيها هرب عبد الواحد ابن الخليفة المطيع لله من بغداد الى دمشق. وفيها توفّى الوزير عبد الرّحمن بن عيسى بن داود بن الجرّاح. وفيها توفّى الشيخ أبو بكر أحمد ابن سليمان الفقيه النّجّاد شيخ الحنابلة؛ كان إماما عالما فقيها، مات في ذى الحجّة وله خمس وتسعون سنة. وفيها توفّى جعفر بن محمد بن نصير الخلدىّ «3» الزاهد المحدّث أبو محمد الخوّاص في شهر رمضان عن خمس وتسعين سنة وله ستّ وخمسون حجّة؛ صحب الجنيد وإليه كان منتميا وكان المرجع إليه في علوم القوم؛ حجّ قريبا من «4» ستّين حجة. قال: ما حججت إلّا على التوكّل «5» ، وكانت الأعطية حولى كثيرة. وفيها توفّى أبو بكر محمد بن جعفر الأدمىّ المحدّث القارئ كان فاضلا محدّثا مقرئا. وفيها توفّى جعفر بن حرب الوزير «6» ، كان جليل القدر يتقلّد كبار الأعمال؛ فاجتاز يوما بموكبه(3/322)
فسمع قارئا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
، فصاح: بلى! والله قد آن؛ ونزل عن دابّته ودخل الماء ولم يخرج منه حتّى فرّق جميع أمواله، وبقى في الماء حتّى أعطاه رجل قميصا فلبسه وخرج إلى المسجد ولزم العبادة حتى مات.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 349]
السنة الخامسة عشرة من ولاية أنوجور على مصر، وهى سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وهى السنة التى مات فيها أنوجور صاحب الترجمة كما تقدّم ذكره- فيها أوقع نجا غلام سيف الدولة بن حمدان بالروم فقتل وسبى وأسر. وفيها جرت وقعة هائلة ببغداد في شعبان بين السّنيّة والشّيعة، وتعطّلت الصلوات في الجوامع سوى جامع براثا «1» الذي يأوى إليه الرافضة. وكان جماعة بنى هاشم قد أثاروا الفتنة؛ فاعتقلهم معزّ الدولة بن بويه فسكنت الفتنة. وفيها ظهر ابن لعيسى بن المكتفى بالله بناحية أرمينية وتلقّب بالمستجير بالله، يدعو إلى الرّضى من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبس الصوف وأمر بالمعروف، ومضى إلى جبال الديلم فاستنصر بهم؛ فخرج معه جماعة منهم وساروا إلى أذربيجان، فاستولى المستجير بالله على عدّة بلدان؛ وبعض البلاد التى استولى عليها كانت في يد سلار الدّيلمىّ، فسار سلار فهزمه، ويقال: قتله، لأنه لم يظهر له حسّ بعد ذلك. وفيها في شوال عرض «2» للسلطان(3/323)
معزّ الدولة أحمد بن بويه مرض كلاه فبال الدم، ثم احتبس بوله، ثم رمى حصى صغارا ورملا وأرجفوا بموته. وفيها جمع سيف الدولة بن حمدان جموعا كثيرة وغزا بلاد الروم فقتل وأسر وسبى، فسارت الروم وكثروا عليه، فعاد في ثلثمائة من خواصّه، وذهب جميع ما كان معه وقتل أعيان قوّاده، وخرج من ناحية طرسوس. وفيها مات أحمد بن محمد بن ثوابة كاتب ديوان الرسائل لمعزّ الدولة؛ فقلّد معزّ الدولة مكانه أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ. وفيها أسلم من الترك مائتا الف خركاه «1» ، كذا ذكر أبو المظفّر سبط بن الجوزىّ. وفيها بذل القاضى الحسين بن محمد الهاشمىّ مائتى ألف درهم على أن يقلّد قضاء البصرة، فأخذ منه المال ولم يقلّد. قلت: يرحم الله من فعل معه ذلك وخاتله «2» ، ويرحم من يقتدى بفعله مع كلّ من يسعى في القضاء بالبذل والبرطيل «3» . وفيها توفّى الإمام أبو الوليد حسّان بن محمد الفقيه شيخ أهل الحديث والفقه بخراسان عن اثنتين وثمانين سنة. وفيها توفّى الحسين بن علىّ بن يزيد «4» ابن داود الحافظ أبو علىّ النيسابورىّ. قال الحاكم: هو واحد عصره في الحفظ والإتقان والورع والمذاكرة والتصنيف، ومولده في سنة سبع وسبعين ومائتين، وأوّل سماعه سنة أربع وتسعين ومائتين؛ ومات في جمادى الأولى. قال أبو عبد الرّحمن السّلمىّ: سألت الدارقطنىّ عن أبى علىّ النيسابورىّ فقال: إمام مهذّب. وفيها توفّى محمد بن جعفر [بن محمد] بن فضالة الأدمىّ القارئ صاحب الألحان، كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن يسمع صوته من فرسخ. قال محمد [بن عبد الله «5» ](3/324)
الأسدىّ، حججت أنا وأبو القاسم البغوىّ «1» وأبو بكر الأدمىّ، فلما صرنا بالمدينة وجدنا ضريرا قائما يروى أحاديث موضوعة؛ فقال بعضنا: ننكر عليه؛ فقال الأدمىّ: تثور علينا العامّة ولكن اصبروا وشرع يقرأ، فما هو إلّا أن أخذ يقرأ فانفضت العامة عن الضرير وجاءوا إليه، وسكت الضرير وكفى أمره.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسين أحمد ابن عثمان الأدمىّ [العطشىّ «2» ] . وأبو الفوارس الصابونىّ أحمد بن محمد بن الحسين فى شوال وله خمس ومائة سنة، وأبو الوليد حسّان بن محمد الفقيه شيخ خراسان، والحسين بن علىّ بن يزيد النّيسابورىّ الحافظ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراسانىّ، وعبد الله بن محمد بن موسى الكعبىّ النيسابورىّ، وأبو طاهر عبد الواحد ابن عمر [بن محمد «3» ] بن أبى هاشم «4» شيخ القرّاء ببغداد، والقاضى أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم العسّال في رمضان، وأبو بكر محمد «5» بن عبد الله بن عمرويه الصفّار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
ذكر ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر
هو علىّ بن الإخشيذ محمد بن طغج بن جفّ الأمير أبو الحسن الفرغانىّ التركىّ.
ولى سلطنة مصر بعد موت أخيه أنوجور بن الإخشيذ محمد في يوم السبت عشرين «6»(3/325)
ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة. أقامه خادمه كافور «1» الإخشيذىّ الخصىّ في مملكة مصر باتفاق حواشى والده والجند، وأقرّه الخليفة المطيع لله على ذلك. وصار كافور الإخشيذىّ هو القائم بتدبير مملكته والمتصرّف فيها كما كان أيّام أخيه أنوجور. وجمع له الخليفة جميع ما كان لأبيه وأخيه من أعمال الديار المصريّة والممالك الشاميّة والثغور والحرمين الشريفين. وأطلق كافور لعلىّ هذا في السنة ما كان يطلقه لأخيه أنوجور؛ وهو في كلّ سنة أربعمائة ألف دينار. وقويت شوكة كافور بعد موت أنوجور وتولية علىّ هذا أعظم مما كانت أيّام أنوجور. ومولد علىّ المذكور (أعنى صاحب الترجمة) لأربع بقين من صفر سنة ستّ وثلثمائة. ودام علىّ هذا في الملك، وله الاسم فقط والمعنى لكافور، إلى سنة إحدى وخمسين وثلثمائة. [و] وقع بمصر الغلاء واضطربت أمور الديار المصريّة والإسكندرية بسبب المغاربة أعوان الخلفاء الفاطميّين الواردين إليها من المغرب، وتزايد الغلاء [وعزّ «2» وجود القمح] . ثم قدم القرمطىّ الى الشام في سنة اثنتين «3» وخمسين وثلثمائة ووقع له بها أمور، وعجز المصريّون عن دفعه عنها لشغلهم بالغلاء والمغاربة الفاطميّين. ومع هذا قلّ ماء النيل في هذه السنين فارتفعت الأسعار أكثر مما كانت عليه؛ ووهنت ضياع مصر وقراها من عدم زيادة النيل، وعظم الغلاء وكثرت الفتن؛ وسار ملك النوبة إلى أسوان ووصل الى إخميم وقتل ونهب وسبى وأحرق. وعظم اضطراب أعمال الديار المصريّة قبليّها وبحريّها. ثم فسد ما بين علىّ بن الإخشيذ صاحب مصر وبين مدبّر مملكته كافور الإخشيذىّ، ومنع كافور الناس من الاجتماع به، حتّى اعتل علىّ المذكور بعلّة أخيه أنوجور ومات لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وحمل الى المقدس ودفن عند أبيه الإخشيذ وأخيه(3/326)
أنوجور. وبقيت مصر من بعده أيّاما بغير أمير، وكافور يدبّر أمرها على عادته في أيّام أولاد الإخشيذ ومعه أبو الفضل جعفر بن الفرات. ثم ولى كافور إمرة مصر باتفاق أعيان الديار المصريّة وجندها. وكانت مدّة سلطنة علىّ بن الإخشيذ المذكور على مصر خمس سنين وشهرين ويومين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 350]
السنة الأولى من ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة خمسين وثلثمائة.
أعنى بذلك أنّه ولى في ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة. وقد ذكرنا تلك السنة في أيّام أخيه أنوجور، فلذلك ذكرنا أن سنة خمسين وثلثمائة أوّل السنين لعلىّ هذا على مصر بهذا المقتضى- فيها (أعنى سنة خمسين وثلثمائة) دخل غلام «1» سيف الدولة بن حمدان الى بلاد الروم وسبى ألف نفس وغنم أموالا كثيرة.
وفيها أخذ ملك الروم أرمانوس «2» بن قسطنطين من المسلمين جزيرة أقريطش من بلاد المغرب. وكان الذي افتتح أقريطش عمر «3» بن شعيب، غزاها وافتتحها «4» فى حدود سنة ثلاثين ومائتين، وصارت في يد أولاده إلى هذا الوقت. وفيها شرع معزّ الدولة بن بويه في بناء دار هائلة عظيمة ببغداد وأخرب لأجلها دورا وقصورا، وقلع أبواب الحديد التى كانت على أبواب مدينة المنصور، وألزم الناس ببيع أملاكهم ليدخلها في البناء، ونزل في الأساسات ستّا وثلاثين ذراعا، فلزمه من الغرامات عليها الى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم، وصادر الدواوين وغيرها «5» ، وجعل كلّما حصّل له شىء أخرجه في بنائها. وقد درست هذه الدار من قبل سنة ستمائة،(3/327)
ولم يبق لها أثر، وبقى مكانها دحلة «1» تأوى اليها الوحوش، وبقي شىء من الأساس يعتبر به من يراه. قلت: دار الظالم خراب ولو بعد حين. وفيها قلّد قضاء القضاة أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبى الشوارب، وركب بالخلع من دار معزّ الدولة وبين يديه الدبادب والبوقات وفي خدمته الجيش؛ وشرط على نفسه أن يحمل كلّ سنة الى خزانة معزّ الدولة مائتى ألف درهم، وكتب عليه بذلك سجلّا. فانظر الى هذه المصيبة!. وامتنع المطيع من تقليده ومن دخوله عليه، وأمر ألا يمكّن من الدخول عليه أبدا. وفيها أيضا ضمّن معزّ الدولة الحسبة والشرطة ببغداد.
وفيها في شعبان توفّى بمصر متولّى خراجها أبو بكر محمد بن على بن مقاتل، فوجدوا فى داره ثلثمائة ألف دينار مدفونة. وفيها توفّى الحسين «2» بن القاسم الإمام أبو علىّ الطبرىّ الشافعىّ الفقيه مصنّف «المحرّر» ، وهو أوّل كتاب صنّف في الخلاف؛ كان إماما عالما بارعا في عدّة فنون. وفيها توفّى الأمير عبد الملك بن نوح السامانىّ صاحب بلاد خراسان وغيرها، تقطّر «3» به فرسه فحمل ميّتا، ونصبوا مكانه أخاه منصور ابن نوح السامانىّ، وأرسل إليه الخليفة المطيع لله بالخلع والتقليد. وفيها توفّى محدّث بغداد الحافظ أبو سهل أحمد بن محمد بن [عبد الله بن «4» ] زياد القطّان في شعبان، كان إماما ورعا صوّاما قوّاما، سمع الحديث وروى الكثير، ومات وله إحدى وتسعون سنة. وفيها توفّى إسماعيل «5» بن علىّ بن إسماعيل الشيخ أبو محمد الخطبىّ، كان إماما(3/328)
عالما أخباريّا محدّثا، كان يرتجل الخطب ويخطب بها. وفيها توفّى «1» محمد بن أحمد بن يوسف أبو الطيّب المقرئ، ويعرف بغلام ابن شنّبود- وقد تقدّم ذكر ابن شنبود في محلّه- كان إماما عارفا بالقراءات زاهدا. وفيها توفّى عبد الله «2» ابن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن الخليفة أبى جعفر المنصور الخطيب أبو جعفر الهاشمىّ العباسىّ خطيب جامع المنصور وابن خطيبه؛ كان عالى النسب من بنى العبّاس، كان في طبقة هارون الواثق في علوّ النسب. وفيها توفّى القاضى أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى الهمذانى، مولده بهمذان في سنة أربع وستين ومائتين، وكان أبوه تاجرا؛ ولى قضاء أذربيجان ثم قضاء همذان ثم آل به الأمر الى أن تقلّد قضاء القضاة؛ وكان إماما عالما، غلب عليه الزهد وسافر ولقى الجنيد في سفره وأخذ عنه؛ ثم تفقّه بجماعة من العلماء، وكان عالما فاضلا.
وفيها توفّى الأمير فاتك الإخشيذىّ المجنون أبو شجاع، وكان أكبر مماليك الإخشيذ، وولى إمرة دمشق، وكان فارسا شجاعا؛ كان رومىّ الجنس، وكان رفيقا للأستاذ كافور الإخشيذىّ. فلما صار كافور مدبّر مملكة أولاد الإخشيذ وعظم أمره، أنف فاتك هذا من المقام بمصر كيلا يكون كافور أعلى مرتبة منه، فانتقل من مصر الى إقطاعه وهو بلاد الفيّوم؛ وكان كافور يخافه ويكرهه؛ فلم يصحّ مزاج فاتك بالفيّوم ومرض وعاد إلى مصر فمات بها. وكان فاتك المذكور كريما جوادا. ولما قدم المتنبىّ إلى مصر سمع بعظمة فاتك وتكرّمه، فلم يجسر أن يمدحه خوفا من كافور.
وكان فاتك يراسله بالسلام ويسأل عنه. فاتفق اجتماعهما يوما بالصحراء، وجرت بينهما مفاوضات. فلما رجع فاتك إلى داره بعث إلى المتنبىّ هديّة قيمتها ألف دينار،(3/329)
ثم أتبعها بهدايا أخر. فاستأذن المتنبّى كافورا في مدحه فأذن له؛ فمدحه بقصيدته التى أوّلها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ويأتى شىء من ذكر فاتك أيضا في ترجمة كافور إن شاء الله تعالى. ولما مات فاتك رثاه المتنبى أيضا. وفيها توفّى أبو وهب «1» الزاهد أحد المشهورين بالأندلس.
قال أبو جعفر أحمد [بن «2» ] عون الله [بن حدير «3» ] : سمعت أبا وهب يقول: «والله لا عانق الأبكار في جنّات النعيم والناس في الحساب إلّا من عانق الذلّ، وضاجع الصّبر، وخرج منها كما دخل فيها» . وفيها توفّى الناصر لدين الله أبو المطرّف صاحب الأندلس الملقّب بأمير المؤمنين؛ واسمه عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرّحمن الداخل، المقدّم ذكره، ابن معاوية، الأموىّ المروانىّ ثم الأندلسىّ؛ ولى الأمر بعد جدّه؛ وكان ذلك من غرائب الوجود لأنّه كان شابّا وبالحضرة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه؛ وتقدّم هو وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. فاستقام له الأمر وبنى مدينة الزّهراء- وقد ذكرنا أمر بنائها في محلّه- ومات في هذه السنة. وكانت مدّة أيّامه خمسين سنة، وكان من أجلّ ملوك الأندلس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.(3/330)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 351]
السنة الثانية من ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة إحدى وخمسين وثلثمائة- فيها نقلت سنة خمسين وثلثمائة [من حيث الغلّات «1» ] إلى سنة إحدى وخمسين الخراجيّة، وكتب بذلك عن المطيع كتاب في هذا المعنى. فمنه أنّ السنة الشمسيّة خمسة وستون وثلثمائة يوم وربع بالتقريب؛ وأنّ السنة الهلاليّة أربعة وخمسون وثلثمائة وكسر؛ وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات «2» السنين على اختلاف مذاهبها، وفي كتاب الله تعالى شهادة «3» بذلك؛ قال الله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)
؛ فكانت هذه الزيادة هى المشار إليها.
وأما الفرس فإنّهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التى شهورها اثنا عشر شهرا وأيّامها ستون وثلثمائة يوم، ولقّبوا الشهور اثنى عشر لقبا، وسمّوا الأيّام بأسامىّ، وأفردوا الأيّام الخمسة الزائدة وسمّوها المشرقة، وكبسوا الرّبع في كلّ مائة وعشرين سنة شهرا؛ فلما انقرض ملكهم بطل ذلك. وفيها دخل الدّمستق ملك الروم عين «4» زربى في مائة وستّين ألفا- وعين زربى في سفح جبل مطلّ عليها- فصعد بعض جيشه الجبل، ونزل هو على بابها وأخذوا في نقب السور «5» ؛ فطلبوا الأمان فأمّنهم وفتحوا له فدخلها، وندم حيث أمّنهم؛ ونادى بأن يخرج جميع من في البلد إلى الجامع. فلمّا(3/331)
أصبح بثّ رجاله وكانوا مائة ألف «1» ، وكلّ من وجدوه في منزله قتلوه، فقتلوا عالما لا يحصى؛ ثم فعل في البلد تلك الأفاعيل القبيحة. وفيها عاد الدّمستق الى حلب؛ فخرج إليه سيف الدولة بغير استعداد وحاربه، فحاربه الدّمستق بمائتى ألف مقاتل، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير؛ وكانت داره بظاهر حلب، فنزلها الدّمستق وأخذ منها ثلثمائة وتسعين بدرة دراهم، وأخذ منها ألفا وأربعمائة بغل؛ ومن السلاح ما لا يحصى، ثم نهبها الدّمستق وأحرقها ثم أحرق بلاد حلب. وقاتله أهل حلب من وراء السور فقتلوا جماعة من الروم، فسقطت قائمة من السور على جماعة من أهل حلب فقتلتهم؛ فأكبّ الروم على تلك الثّلمة وقاتلوا حتى ملكوا حلب، ووضعوا فيها السيف حتّى كلّوا وملّوا، وأخربوا الجامع وأحرقوا ما عجزوا عن حمله؛ ولم ينج إلا من صعد القلعة؛ فألّح ابن أخت الملك في أخذ القلعة فقتل بحجر. وكان عند الدمستق ألف ومائتا أسير من أهل حلب فضرب أعناقهم. ثم عاد الى الروم ولم يعرض لأهل القرى، وقال لهم: ازرعوا فهذا بلدنا وعن قليل نعود إليكم. وفيها كتبت الشّيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية رضى الله عنه، ولعنة من غصب فاطمة رضى الله عنها حقّها من فدك «2» ، ولعنة من منع الحسن أن يدفن «3» مع جدّه(3/332)
صلّى الله عليه وسلم؛ ثم محى في الليل. فأراد معز الدّولة إعادته؛ فأشار عليه الوزير المهلّبىّ أن يكتب مكان ما محى: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وصرّحوا بلعنة معاوية رضى الله عنه فقط. وفيها أسرت الروم أبا فراس بن سعيد ابن حمدان من مدينة منبج «1» ، وكان واليها. وفيها وقع بالعراق برد وزن البعض منه رطل ونصف بالعراقىّ. وفيها توفّى الوزير أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلّبىّ، أصله من بنى المهلّب بن أبى صفرة، أقام [فى «2» ] وزارة معزّ الدولة ثلاث عشرة سنة.
وكان فاضلا شاعرا فصيحا نبيلا سمحا جوادا ذا مروءة وكرم، وعاش أربعا وستيّن سنة. واستوزر معزّ الدولة عوضه أبا الفضل العبّاس «3» بن الحسن الشّيرازىّ. ثم صادر معزّ الدولة أولاد المهلّبىّ من بعد موته. وفيها توفى دعلج بن أحمد بن دعلج أبو محمد السّجزىّ «4» الفقيه العدل؛ ولد سنة ستّين ومائتين أو قبلها، وسمع الكثير. قال الحاكم «5» :
أخذ عن ابن خزيمة «6» المصنّفات، وكان يفتى بمذهبه، وكان شيخ الحديث، له صدقات جارية على أهل الحديث بمكّة والعراق؛ مات في جمادى الآخرة وله نيّف وتسعون سنة.
وفيها توفّى عبد الباقى بن قانع بن مرزوق بن واثق أبو الحسين «7» الأموىّ مولاهم البغدادىّ الحافظ، سمع الكثير وروى عنه الدارقطنى وغيره، وصنّف معجم الصحابة، ومات في شوّال.(3/333)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن علىّ أبو إسحاق الهجيمى، والحسن بن محمد الوزير أبو محمد المهلّبىّ، ودعلج بن أحمد السّجزىّ، وعبد الله بن جعفر بن محمد بن الورد البغدادىّ بمصر، وعبد الباقى بن قانع أبو الحسين فى شوّال، وأبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقّاش في شوّال، وله خمس وثمانون سنة، وأبو جعفر محمد بن علىّ بن دحيم «1» الشّيبانىّ، وأبو محمد يحيى بن منصور قاضى نيسابور.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإحدى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 352]
السنة الثالثة من ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة- فيها في يوم عاشوراء ألزم معزّ الدولة الناس بغلق الأسواق ومنع الطبّاخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق وعلّقوا عليها المسوح، وأخرجوا النساء منشورات الشعور يقمن المأتم على الحسين بن علىّ رضى الله عنه. قلت: وهذا أوّل يوم وقع فيه هذه العادة القبيحة الشّيعيّة ببغداد. وكان ذلك في صحيفة معزّ الدولة بن بويه؛ ثم اقتدى به من جاء بعده من بنى بويه، وكلّ منهم رافضىّ خبيث.
نذكر ذلك كلّه فيما يأتى في الحوادث إن شاء الله تعالى. وفيها أصاب سيف الدولة علىّ بن عبد الله بن حمدان فالج في يده ورجله. وفيها قال ثابت بن سنان: أرسل بعض بطارقة الأرمن الى ناصر الدولة الحسن بن حمدان رجلين ملتصقين عمرهما(3/334)
خمس وعشرون سنة ومعهما أبوهما؛ والالتصاق كان في الجنب، ولهما بطنان وسرّتان ومعدتان، وتختلف أوقات جوعهما وعطشهما وبولهما، وكلّ واحد منهما يكمل الخلق، وكان أحدهما يميل الى النساء والآخر الى المرد. وقال القاضى [علىّ بن الحسن «1» التنوخىّ] : ومات أحدهما وبقى أيّاما وأنتن وأخوه حىّ. فجمع ناصر الدولة الأطباء على أن يقدروا على فصلهما فلم يقدروا؛ ومات الآخر من رائحة الميّت بعد أيّام. وفيها قتل ملك الروم وصار الدّمستق هو الملك واسمه تقفور. وفيها توفّيت خولة أخت سيف الدولة بن حمدان بحلب؛ وهى التى رثاها المتنبى بقوله:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النّسب
وفيها انتصرت الرّوم على الإسلام بكائنة «2» حلب وضعف أمر سيف الدولة بعد تلك الملاحم الكبار التى طيّر فيها لبّ العدوّ ومزّقهم. ولله الأمر.
وفيها خرج أيضا سيف الدولة غازيا، فسار الى حرّان «3» وعطف على ملطية، وقتل من الروم خلائق وملأ يده سبيا وغنائم، ولله الحمد. وفيها في شعبان ورد غزاة خراسان نحو ستمائة رجل الى الموصل يريدون الجهاد نجدة لأهل الموصل.
وفيها عبرت الروم الفرات لقصد الجزيرة؛ فتهيّأ ناصر الدولة بن حمدان لقتالهم. وفيها اجتمع أهل بغداد ووبّخوا الخليفة المطيع لله بكائنة حلب، وطلبوا منه أن يخرج بنفسه الى الغزو ويأخذ بثأر أهل حلب. وبينما هم في ذلك ورد الخبر بموت طاغية الرّوم وأن الخلف وقع بينهم فيمن يملّكونه عليهم، وأن أهل طرسوس غزوهم وانتصروا(3/335)
عليهم وعادوا بغنائم «1» لم يرفى دهر مثلها؛ فآنتدب المسلمون لغزو الروم من كلّ جانب.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد «2» [بن عبيد بن أحمد] أبو بكر الحمصّىّ الصفار، وأبو الحسين أحمد بن محمود البيهقىّ، وأبو بكر محمد [بن محمد «3» ] بن أحمد بن مالك الإسكافىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 353]
السنة الرابعة من ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة- فيها عمل يوم عاشوراء كعام أوّل من المأتم والنّوح الى الضّحا، فوقعت فتنة عظيمة بين أهل السنّة والرافضة، وجرح جماعة ونهب الناس. وفيها نزل ملك الروم الدّمستق المصّيصة في جيش ضخم، فأقام أسبوعا ونقب السور من أماكن؛ وقاتله أهلها الى أن رحل عنها بعد أن أهلك الضّياع. وكان رحيله لشدّة الغلاء؛ فإنّ القحط كان بالشام والثغور. وفيها بعث القرامطة الى سيف الدولة يستهدونه حديدا؛ فسيّر اليهم شيئا كثيرا، وحمل ذلك إليهم في الفرات ثم في البرّية الى هجر.
وفيها خرج معزّ الدولة ابن بويه إلى الموصل لقتال ناصر الدولة بن حمدان، فلحقه ذرب شديد؛ وسار ناصر الدولة أمامه الى ميّا فارقين ثم عاد الى الموصل، واقتتل مع أعوان معزّ الدولة فاستأمن إليه الدّيلم واستأسر جميع الترك، وأخذ(3/336)
حواصل معزّ الدولة وثقله. فعاد معزّ الدولة يريد الموصل فوقع له مع ناصر الدولة فصول ثم اصطلحوا؛ وعاد معزّ الدولة الى بغداد خائبا. وفيها عمل سيف الدولة ابن حمدان خيمة عظيمة ارتفاع عمودها خمسون ذراعا. وفيها ورد الخبر أنّ الروم يريدون [أذنة و «1» ] المصّيصة؛ فاستنجد أهل أذنة بأهل طرسوس فجاءوهم بخمسة عشر ألفا من فارس وراجل، فالتقوا واشتدّ القتال وانهزم المشركون، فركب المسلمون أقفية الروم واتبعوهم؛ فخرج للروم كمين نحو أربعة آلاف مقاتل، فتحيّز المسلمون الى تلّ هناك فقاتلوهم يومين؛ ثم كثر عليهم جموع الروم فاستأصلوهم، وحاصروا أهل المصّيصة ونقبوا سورها من مواضع، فقاتلهم المسلمون أشدّ قتال الى أن ترحّلوا عنها مخذولين. وفيها ملك المسلمون حصن «2» اليمانيّة وهو على ثلاثة فراسخ من آمد. وفيها جاء عسكر من الروم وكادوا أن يملكوا حصنا من نواحى حلب، فسار لحربهم عسكر سيف الدولة وقاتلوهم فلم يفلت من الروم أحد، وقتل منهم خمسمائة نفر، وتجرّح «3» المسلمون وخيولهم. ثم جاء الخبر بنزول الروم أيضا الى المصّيصة [والى طرسوس «4» ] مع تقفور ملك الروم، وأنهم في ثلثمائة ألف وعاثوا وأفسدوا؛ ثم ساروا لعظم القحط كما وقع لهم أوّلا؛ فتبعهم أهل المصّيصة وطرسوس فقتلوا وأسروا طائفة كثيرة من الروم. وفيها توفّى إبراهيم بن محمد بن حمزة بن عمارة الحافظ أبو إسحاق ابن حمزة الأصبهانىّ. قال أبو نعيم: كان أوحد زمانه في الحفظ لم ير بعد عبد الله ابن مظاهر «5» فى الحفظ مثله، جمع الشيوخ والسند؛ وتوفّى في سابع رمضان. وعمارة(3/337)
جدّهم، هو ابن «1» حمزة بن يسار بن عبد الرّحمن بن حفص؛ وحفص هو أخو أبى مسلم الخراسانىّ صاحب الدولة العباسيّة. وفيها توفّى سعيد بن عثمان بن سعيد بن السّكن الحافظ أبو علىّ البغدادىّ ثم المصرىّ البزّاز؛ ولد سنة أربع وتسعين ومائتين، وسمع بمصر والشام والجزيرة والعراق وخراسان وما وراء النهر، وكان كبير الشأن مكثرا متقنا مصنّفا بعيد الصيت، له تجارة في البريّة، ومات في المحرّم. وقد روى عنه صحيح البخارىّ [عبد الله «2» بن محمد] بن أسد الجهمىّ وأبو عبد الله محمد بن أحمد «3» ابن محمد بن يحيى بن مفرّج وأبو جعفر بن عون «4» الله. وفيها توفّى بندار «5» بن الحسين محمد بن المهلّب أبو الحسين الشّيرازىّ؛ كان يسكن بمدينة أرّجان، كان عالما بالأصول وله لسان في علوم الحقائق، وكان الشّبلىّ يعظّمه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو إسحاق إبراهيم ابن محمد بن حمزة الأصبهانىّ الحافظ في رمضان، وأبو عيسى بكّار بن أحمد [بن بكّار ابن بنان «6» ] المقرئ، وأبو علىّ سعيد بن عثمان [بن سعيد] بن السكن الحافظ بمصر،(3/338)
وابن أبى «1» الفوارس شجاع بن جعفر الورّاق الواعظ في عشر والمائة، وعبد الله بن الحسن بن بندار الأصبهانىّ، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن العبّاس الفاكهىّ، وأبو القاسم علىّ بن يعقوب الهمذانىّ بن أبى العقب «2» فى ذى الحجّة عن اثنتين وتسعين سنة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خروف بمصر، وأبو علىّ محمد بن هارون ابن شعيب الأنصارىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 354]
السنة الخامسة من ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر، وهى سنة أربع وخمسين وثلثمائة- فيها عمل في يوم عاشوراء المأتم ببغداد كالسنة الماضية، ولم يتحرّك لهم السّنيّة خوفا من معزّ الدولة بن بويه. وفيها وثب غلمان سيف الدولة بن حمدان على غلامه نجا الكبير وضربوه بالسيوف، وكان أكبر غلمانه [و] مقدّم جيشه وغلمانه (أعنى مماليكه) . وفيها توفّيت أخت معزّ الدولة بن بويه ببغداد، فنزل الخليفة المطيع في طيّارة الى دار معزّ الدولة يعزّيه؛ فخرج إليه معزّ الدولة ولم يكلّفه الصعود من الطيّارة وقبّل الأرض مرّات، ورجع الخليفة الى داره. وفيها حجّ الركب من بغداد. وفيها بنى تقفور ملك الروم قيساريّة قريبا من بلاد المسلمين وسكنها. وكان الناس في هذه السنة الماضية «3» فى شغل بالغلاء والقحط بسائر بلاد حلب وديار بكر.(3/339)
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب المتنبىّ الجعفىّ الكوفىّ الشاعر المشهور حامل لواء الشعر في عصره، ولد سنة ثلاث وثلثمائة وأكثر المقام بالبادية لاقتباس اللغة، ونظر في فنون الأدب، وتعاطى قول الشعر من صغره حتّى بلغ فيه الغاية، وفاق أهل زمانه؛ ومدح الملوك وسار شعره في الدنيا، ومدح سيف الدولة بن حمدان وكافورا الإخشيدىّ وغيرهما. وقال أبو القاسم التنوخىّ:
وقد كان خرج المتنبىّ الى كلب «1» وأقام فيهم وادّعى أنه علوىّ، ثم ادّعى بعد ذلك النبوّة، الى أن شهد عليه بالكذب في الدعويين وحبس دهرا وأشرف على القتل، ثم استتابوه وأطلقوه. وقال: وحدّثنى أبى الى أن قال: وكان المتنبّى قرأ على البوادى «2» كلاما ذكر أنّه قرآن أنزل عليه، نسخت منه سورة فصاحته، وبقى أوّلها فى حفظى، وهو:" والنجم السيّار، والفلك الدوّار، والليل والنهار، [إنّ «3» ] الكافر لفى أخطار؛ امض على سننك واقف أثر من كان قبلك من المسلمين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضلّ عن السبيل". قال: وكان المتنبىّ ينكر ذلك ويجحده.
وقال له ابن خالويه «4» النحوىّ يوما في مجلس سيف الدولة: لولا أن الآخر جاهل لما رضى أن يدعى المتنبّى، لأن المتنبّى معناه كاذب؛ [ومن رضى أن يدعى «5» بالكاذب فهو جاهل] . فقال: إنى لم أرض أن أدعى به. انتهى. ومن شعر المتنبىّ- وهو أشهر من أن يذكر- قوله:(3/340)
وما أنا بالباغى على الحبّ رشوة ... قبيح «1» هوى يرجى عليه ثواب
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التراب تراب
ومن [شعره «2» ]- وهو البيت الذي ذكروا أنه ادّعى النبوّة فيه-:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ
ومن [شعره «3» ] قصيدته التى أوّلها:
لك يا منازل في القلوب منازل
ومنها:
جمح الزمان فلا لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل
فإذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشهادة لى بأنّى فاضل
وهذا البيت الأخير الذي وقع لأبى العلاء المعرىّ مع الشريف المرتضى «4» الموسوىّ ما وقع بسببه.(3/341)
ومن شعر المتنبىّ قصيدته التى أولها:
أجاب دمعى وما الداعى سوى طلل ... [دعا فلبّاه قبل الركب «1» والإبل]
فمنها قوله:
والهجر أقتل لى ممّا «2» أراقبه ... أنا الغريق فما خوفى من البلل
ومنها:
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... فربّما صحّت الأجسام بالعلل
ويعجبنى قوله «3» من شعره:
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وما أحسن مطلع قصيدته:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
ومنها:
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
ومنها:
وكلّ شجاعة في المرء تغنى ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والعلوم
مات المتنبىّ قتيلا بالنّعمانيّة «4» . وفيها توفّى محمد بن حبّان بن أحمد بن حبّان الحافظ العلامة أبو حاتم التّميمى البستىّ صاحب التصانيف المشهورة، كان عالما بالفقه(3/342)
والحديث والطبّ والنجوم وفنون من العلوم، وألّف «المسند الصحيح» و «التاريخ» و «الضعفاء» . قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ. وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدويه «1» أبو بكر البزّاز «2» الشافعىّ المحدّث، ولد سنة ستين ومائتين وسكن بغداد، وسمع الكثير وحدّث، روى عنه الدارقطنىّ وجماعة.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفىّ المتنبّى وله إحدى وخمسون سنة، وأبو حاتم محمد بن حبّان ابن أحمد التّميمىّ البستىّ في شوّال، وأبو بكر محمد بن الحسن «3» بن يعقوب بن مقسّم العطّار المقرئ، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعىّ البزّاز في ذى الحجّة وله خمس وتسعون سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
انتهى الجزء الثالث من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الرابع وأوّله ذكر ولاية كافور الإخشيذى على مصر(3/343)
[الجزء الرابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء الرابع من كتاب النجوم الزاهرة
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 354]
ذكر ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر
الأستاذ أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيذىّ الخادم الأسود الخصىّ صاحب مصر والشام والثغور، اشتراه سيّده أبو بكر محمد الإخشيذ بثمانية عشر دينارا من الزيّاتين، وقيل: من بعض رؤساء مصر، وربّاه وأعتقه؛ ثم رقّاه حتّى جعله من كبار القوّاد لمّا رأى منه الحزم والعقل وحسن التدبير. ولمّا مات الإخشيذ فى سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، أقام كافور هذا أبناءه واحدا بعد واحد. وكان الذي ولّى أوّلا أبا القاسم أنوجور بن الإخشيذ- ومعنى أنوجور بالعربية محمود- وقد تقدّم ذلك كلّه. فدام أنوجور في الملك إلى أن مات في يوم السبت لثمان خلون من ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة. ثم بعد موت أنوجور أقام أخاه أبا الحسن علىّ بن الإخشيذ كما تقدّم ذكر ذلك كلّه في ترجمتهما. وكان كافور هذا هو مدبّر ملكهما. ودخل كافور في أيّام ولايتهما في ضمان البلاد مع الخليفة، ووفّى بما ضمنه.
ولمّا مات الإخشيذ اضطربت أحوال الديار المصريّة، فخرج كافور منها بآبنى الإخشيذ وتوجّه بهما إلى الخليفة المطيع لله، وأصلح أمرهما معه، والتزم كافور(4/1)
للخليفة بأمر الديار المصريّة، ثم عاد كافور بهما إلى الديار المصريّة. وكان غلبون قد تغلّب على مصر بعد موت الإخشيذ في غيبة كافور لمّا توجّه إلى العراق؛ فقدم كافور إلى مصر وتهيّأ لحرب غلبون المذكور وحاربه وظفر به وقتله، وأصلح أحوال الديار المصريّة؛ واستمر مدبّرها إلى أن مات أنوجور وتولّى أخوه علىّ؛ ثم مات علىّ أيضا في سنة خمس وخمسين وثلثمائة؛ واستقل كافور بالأمر وخطب له على المنابر وتمّ أمره.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخ الإسلام: كافور الإخشيذىّ الحبشىّ الأستاذ السلطان أبو المسك اشتراه الإخشيذ من بعض رؤساء مصر، كان أسود بصّاصا «1» . ثم ساق الذهبىّ نحو ما حكيناه، إلى أن قال: تقدّم عند الإخشيذ صاحب مصر لعقله ورأيه وسعده إلى أن صار من كبار القوّاد، وجهّزه الإخشيذ فيّ جيش لحرب سيف الدولة بن حمدان. ثم إنه لمّا مات أستاذه صار أتابك «2» ولده أبى القاسم أنوجور وكان صبيّا؛ فغلب كافور على الأمر، وبقى الاسم لأبى القاسم والدّست «3» لكافور، حتّى قال وكيله: خدمت كافورا وراتبه في اليوم ثلاث عشرة جراية، وتوفّى وقد بلغت جرايته على يدى في كلّ يوم ثلاثة عشر ألف جراية. قلت: وهو أتابك السلطان أنوجور، أمّا لمّا استقلّ بالملك فكان أكثر من ذلك.
وقال أبو المظفّر في تاريخه مرآة الزمان: كان كافور شجاعا مقداما جوادا يفضل على الفحول. وقصده المتنبىّ ومدحه فأعطاه أموالا كثيرة، ثم فارقه إلى(4/2)
العراق. وقال أبو الحسن بن أذين «1» النحوىّ: حضرت مع أبى مجلس كافور وهو غاصّ بالناس، فقام رجل «2» فدعا له، وقال في دعائه: أدام الله أيّام مولانا (بكسر الميم من أيّام) فأنكر كافور والحاضرون ذلك؛ فقام رجل «3» من أوساط الناس فقال:
لا غرو إن لحن الداعى لسيّدنا ... أو غصّ من دهش «4» بالريق أو بهر
ومثل سيّدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام من غلط ... فى موضع النصب لا من قلّة البصر
فقد تفاءلت من هذا لسيّدنا ... والفأل مأثورة عن سيّد البشر
بأنّ أيامه خفض بلا نصب ... وأنّ أوقاته صفو بلا كدر
فعجب الحاضرون من ذلك، وأمر له كافور بجائزة.
وقال أبو جعفر مسلم بن عبيد الله بن طاهر العلوىّ النّسابة: ما رأيت أكرم من كافور! كنت أسايره يوما وهو في موكب «5» خفيف يريد التنزّه وبين يديه عدّة جنائب بمراكب ذهب وفضة وخلفه بغال المراكب؛ فسقطت مقرعته من يده ولم يرها ركابيّته «6» ، فنزلت عن دابّتى وأخذتها من الأرض ودفعتها إليه؛ فقال:
أيّها الشريف، أعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت أن الزمان يبلّغنى حتى تفعل بى أنت هذا! وكاد يبكى؛ فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليّه. فلما بلغ باب داره ودّعنى؛ فلما سرت التفتّ فإذا بالجنائب والبغال كلّها خلفى؛ فقلت: ما هذا؟(4/3)
قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل مركبه كلّه إليك، فأدخلته دارى؛ وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار. وراوى هذه الحكاية مسلم بن عبيد الله المذكور من صالحى الأشراف.
ووقع له حكاية غريبة نذكرها في ضمن هذه الترجمة، ثمّ نعود إلى ما نحن فيه من ترجمة كافور، وهى «1» أنّه كان لمسلم بن عبيد الله المذكور غلام قد ربّاه من أحسن الغلمان، فرآه بعض القوّاد فبعث إليه ألف دينار مع رجل، وقال له: اشتر لى منه هذا الغلام؛ قال الرجل: فوافيته- يعنى الشريف مسلم ابن عبيد الله- فى الحمّام ورأيت الغلام عريانا فرأيت منظرا حسنا؛ فقلت فى نفسى: لا شكّ أنّ الشريف لا يفوته هذا الغلام، وأدّيت الرسالة؛ فقال الشريف ما دفع فيه «2» هذا الثمن إلّا وهو يريد [أن «3» ] يعصى الله فيه، ارجع إليه بماله فلا أبيعه.
فعدت إليه وأخبرته ونمت تلك الليلة، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فسلّمت عليه فما ردّ علىّ، وقال: ظننت في ولدى مسلم الخنا مع الغلام امض إليه واسأله أن يجعلك في حلّ. فلما طلع الفجر مضيت إليه وأخبرته وبكيت وقبّلت يديه ورجليه وسألته أن يجعلنى في حلّ؛ فبكى وقال: أنت في حلّ والغلام حرّ لوجه الله تعالى.
وأمّا كافور فإنّه لمّا صار قبل سلطنته مدبّر الممالك المصرية وعظم أمره أنف من ذلك خشداشه «4» الأمير أبو شجاع فاتك الرومىّ الإخشيذىّ المقدّم ذكره في سنة نيّف وخمسين وثلثمائة. وكان فاتك يعرف بالمجنون، وكان الإخشيذ قد اشترى(4/4)
فاتكا هذا من أستاذه بالرملة كرها وأعتقه، وحظى عند الإخشيذ، وكان رفيقا لكافور هذا، وهو الأعظم مع طيش وخفّة وحبورة، وكان كافور عاقلا سيوسا؛ فكان كلّما تزايد أمر كافور وعظم يزيد جنون فاتك وحسده، فلا يلتفت كافور إليه بل يدرّ عليه الإحسان ويراعيه إلى الغاية. وكان الفيّوم إقطاع فاتك المجنون، فاستأذن فاتك كافورا أن يتوجّه إلى إقطاعه بالفيّوم ويسكن هناك حتى لا يرى عظمة كافور؛ فأذن له كافور في ذلك وودّعه؛ فخرج فاتك إلى الفيّوم، فلم يصحّ مزاجه بها لو خامتها «1» فعاد بعد مدّة مريضا إلى مصر ليتداوى بها. وكان المتنبىّ الشاعر بمصر قد مدح كافورا بغرر القصائد، فسمع المتنبىّ بكرم المجنون فأحبّ أن يمدحه ولم يجسر خوفا من كافور. وكان كافور يكره فاتّكا في الباطن ويخافه، وصار فاتك يراسل المتنبىّ ويسأل عنه إلى أن اتّفق اجتماعهما يوما بالصحراء وجرت بينهما مفاوضات. فلمّا رجع فاتك إلى داره بعث إلى المتنبىّ بهديّة قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا أخر.
فاستأذن المتنبىّ كافورا في مدح فاتك فأذن له خوفا من فاتك وفي النفس شىء من ذلك؛ فمدحه المتنبىّ بقصيدته التى أوّلها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
إلى أن قال:
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال
فحقد كافور على المتنبّى لذلك، وفطن المتنبىّ بعدوانه. فخرج من مصر هاربا، وكان هذا سببا لهجو المتنبىّ كافورا بعد أن كان مدحه بعدّة مدائح، على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.(4/5)
قال الذهبىّ: وكان كافور يدنى الشعراء ويجيزهم، وكان تقرأ عنده في كلّ ليلة السّير وأخبار الدولة الأموية والعباسيّة وله ندماء، وكان عظيم الحرمة وله حجاب يمتنع «1» عن الأمراء، وله جوار مغنّيات، وله من الغلمان الروم والسّود ما يتجاوز الوصف؛ زاد ملكه على ملك مولاه الإخشيذ؛ وكان كريما كثير الخلع والهبات خبيرا بالسياسة فطنا ذكيّا جيّد العقل داهية؛ كان يهادى المعزّ صاحب المغرب ويظهر ميله إليه، وكذا يذعن بالطاعة لبنى العبّاس ويدارى ويخدع هؤلاء وهؤلاء وتمّ له الأمر.
وكان وزيره أبو الفضل جعفر بن الفرات راغبا في الخير وأهله. ولم يبلغ أحد من الخدّام ما بلغ كافور؛ وكان له نظر في العربيّة والأدب والعلم. وممّن كان في خدمته أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النّجيرمىّ «2» النحوىّ صاحب الزّجاج. وقال إبراهيم بن إسماعيل إمام مسجد الزبير: كان كافور شديد الساعد لا يكاد أحد يمدّ قوسه، فإذا جاءوه برام دعا بقوسه [وقال: ارم عليه «3» ] ؛ فإن أظهر الرجل العجز ضحك وقدّمه وأثبته؛ وإن قوى على مدّها واستهان بها عبس وسقطت منزلته من عنده. ثم ذكر له حكايات تدلّ على أنه كان مغرى بالرمى. قال: وكان يداوم الجلوس غدوة وعشيّة لقضاء حوائج الناس، وكان يتهجّد ويمرّغ وجهه ساجدا ويقول: اللهمّ لا تسلّط علىّ مخلوقا. انتهى.(4/6)
قلت: ونذكر حينئذ «1» أحوال المتنبىّ معه وما مدحه به من القصائد. لما فارق المتنبىّ سيف الدولة بن حمدان مغاضبا له، قصد كافورا الإخشيذىّ ودخل مصر ومدحه بقصيدته التى منها:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن ورد «2» البحر استقلّ السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا
وهو أوّل مديح قاله فيه، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلثمائة.
وقال ابن خلّكان: وأنشده أيضا في شوّال سنة سبع وأربعين وثلثمائة قصيدته البائية «3» التى يقول فيها:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى علىّ فأكتب «4»
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويممّ كافورا فما يتغرّب
ومنها أيضا:
فإن لم يكن إلّا أبو المسك أوهم ... فإنّك أحلى في فؤادى وأعذب
وكلّ امرئ يولى الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
وآخر شىء أنشده في شوّال سنة تسع وأربعين وثلثمائة- ولم يلقه بعدها- قصيدته البائيّة:
أرى لى بقربى منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب(4/7)
وهل نافعى أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أمّلت منك حجاب
أقلّ سلامى حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
ومنها:
وما أنا بالباغى على الحبّ رشوة ... ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
وما شئت ألا أن أدلّ عواذلى ... على أنّ رأيى في هواك صواب
وأعلم قوما خالفونى فشّرقوا ... وغرّبت أنى قد ظفرت وخابوا
ومنها:
وإنّ مديح الناس حقّ وباطل ... ومدحك حقّ ليس فيه كذاب
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التراب تراب
وما كنت لولا أنت إلّا مهاجرا ... له كلّ يوم بلدة وصحاب
ولكنّك الدنيا إلىّ حبيبة ... فما عنك لى إلّا إليك ذهاب
وأقام المتنبىّ بعد إنشاد هذه القصيدة سنة لا يلقى كافورا غضبا عليه، لكنه يركب في خدمته [خوفا منه «1» ] ولا يجتمع به؛ واستعدّ للرحيل في الباطن وجهّز جميع ما يحتاج إليه. وقال في يوم عرفة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدتّه الداليّة التى هجا كافورا فيها. وفي آخر هذه القصيدة المذكورة يقول:
من علّم الأسود المخصىّ مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصّيد
أم أذنه في يد النخّاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
ومنها:
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السّود(4/8)
وله فيه أهاج كثيرة تضمّنها ديوان شعره. ورحل المتنبىّ من مصر إلى عضد الدّولة بن بويه.
وقال ابن زولاق: أقام كافور الإخشيذىّ الأستاذ إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما- يعنى أقام مدبّر مملكة مصر- من قبل ولدى أستاذه، وهما أنوجور وعلىّ ابنا الإخشيذ محمد بن طغج، وأقام هو فيها سنتين وأربعة أشهر وسبعة أيّام ملكا مستقلّا بنفسه. قلت: ونذكر ذلك محرّرا بعد ذلك. قال ابن زولاق: وكان كافور ديّنا كريما. وسماطه، على ما ذكره صاحب كنز الدّرر «1» ، فى اليوم: مائتا خروف كبار، ومائة خروف رميس، ومائتان وخمسون إوزّة، وخمسمائة دجاجة، وألف طير من الحمام، ومائة صحن حلوى كلّ صحن عشرة أرطال، ومائتان وخمسون قرابة أقسما «2» .
قال: ولما توفّى كافور اجتمع الأولياء وتعاقدوا وتعاهدوا ألّا يختلفوا، وكتبوا بذلك كتابا ساعة توفّى كافور وعقدوا الولاية لأحمد بن علىّ الإخشيذ، وكان إذ ذاك صبيّا ابن إحدى عشرة سنة- وكافور بعد في داره لم يدفن- ودعى له على المنابر بمصر وأعمالها والشامات والحرمين، ثم من بعده للحسن(4/9)
ابن عبيد الله. ثم عقد للحسن بن عبيد الله المذكور على بنت عمّه فاطمة بنت الإخشيذ بوكيل سيّره من الشام؛ وجعل التدبير بمصر فيما يتعلّق بالأموال إلى الوزير أبى الفضل جعفر بن الفرات، وما يتعلّق بالرجال والعساكر لسمول «1» الإخشيذىّ صاحب الحمّام بمصر. وكلّ ذلك كان في يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة. انتهى كلام ابن زولاق رضى الله عنه.
وأمّا وفاة كافور المذكور فإنّه توفّى بمصر في جمادى الأولى سنة ستّ وخمسين وثلثمائة، وقيل: سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وقيل: سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، والأصحّ سنة سبع وخمسين وثلثمائة، قبل دخول القائد جوهر المعزّىّ إلى مصر. وقيل:
إنّه لمّا دخل جوهر القائد إلى مصر خرج منها كافور هذا؛ وليس بشىء، والأوّل أصحّ. وملك بعده أحمد بن علىّ بن الإخشيذ الآتى ذكره. وعاش كافور بضعا وستين سنة، وكانت إمارته على مصر اثنتين وعشرين سنة، منها استقلالا بالملك سنتان وأربعة أشهر، خطب له فيها على منابر مصر والشام والحجاز والثغور، مثل طرسوس والمصّيصة وغيرهما، وحمل تابوته إلى القدس فدفن به؛ وكتب على قبره:
ما بلل قبرك يا كافور منفردا ... بالصحصح المرت «2» بعد العسكر اللّجب
يدوس قبرك آحاد الرجال وقد ... كانت أسود الشّرى تخشاك في الكتب
وقال الوليد بن بكر العمرىّ وجدت على قبر كافور مكتوبا:
انظر إلى عبر الأيّام ما صنعت ... أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت «3»
دنياهم ضحكت أيّام دولتهم ... حتّى إذا فنيت ناخت لهم وبكت(4/10)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 355]
السنة الأولى من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة خمس وخمسين وثلثمائة.
فيها أقيم المأتم على الحسين رضى الله عنه في يوم عاشوراء ببغداد على العادة.
وفيها ورد الخبر بأنّ ركب الشام ومصر والمغرب من الحجّاج أخذوا وهلك أكثرهم ووصل الأقلّ إلى مصر، وتمزّق الناس كلّ ممزّق، وأخذتهم بنو سليم؛ وكان ركبا عظيما نحو عشرين ألف جمل، معهم الأمتعة والذهب؛ فما أخذ لقاضى طرسوس المعروف بالخواتيمى [مائة «1» ألف و] عشرون ألف دينار.
وفيها قدم أبو الفوارس محمد بن ناصر الدولة من الأسر إلى ميّافارقين؛ كانت أخت ملك الروم أخذته لتفادى به أخاها، فنفّذ سيف الدولة أخاها في ثلثمائة إلى حصن الهياج «2» ، فلما شاهد بعضهم بعضا سرّح المسلمون أسيرهم في خمسة فوارس وسرّح الروم أسيرهم أبا الفوارس في خمسة؛ فآلتقيا في وسط الطريق وتعانقا، ثم صار كلّ واحد إلى أصحابه فترجّلوا له وقبّلوا الأرض؛ واحتفل سيف الدولة بن حمدان لقدوم ابن أخيه وعمل الأسمطة الهائلة، وقدّم له الخيل والمماليك والعدد التامّة؛ فمن ذلك مائة مملوك بمناطقهم وسيوفهم وخيولهم.
وفيها جاء الخبر بأنّ نائب أنطاكية محمد بن موسى الصّلحىّ أخذ الأموال التى فى خزائن أنطاكية وخرج بها كأنّه متوجّه إلى سيف الدولة بن حمدان فدخل بلاد الروم مرتدّا. وقيل: إنه كان عزم على تسليم أنطاكية إلى الروم، فلم يمكنه ذلك(4/11)
لاجتماع أهل البلد على ضبطه، فخشى أن ينمّ خبره إلى سيف الدولة فيتلفه فهرب بالأموال.
وفيها قدم الغزاة الخراسانية من الغزو إلى ميّافارقين، فتلقّاهم أبو المعالى بن سيف الدولة وبالغ في إكرامهم بالأطعمة والعلوفات. وكان رئيس الغزاة المذكورين محمد بن عيسى.
وفيها سار طاغية الروم بجموعه إلى الشام، فعاث وأفسد وأقام به نحو خمسين يوما؛ فبعث سيف الدولة يستنجد أخاه ناصر الدولة لبعده؛ ووقع لسيف الدولة مع الروم حروب ووقائع كثيرة.
وفيها توفّى محمد بن عمر بن محمد بن سالم أبو بكر [بن «1» ] الجعابىّ التميمىّ البغدادىّ الحافظ قاضى الموصل، سمع الكثير ورحل وكان حافظ زمانه، يحب أبا العباس ابن عقدة، وصنّف الأبواب والشيوخ والتاريخ، وكان يتشيّع؛ وروى عنه الدارقطنىّ وأبو حفص بن شاهين والحاكم أبو عبد الله وآخرون آخرهم وفاة «2» أبو نعيم الحافظ.
ومولده في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين. قال أبو علىّ «3» الحافظ النيسابورىّ:
ما رأيت في المشايخ أحفظ من عبدان «4» ، ولا رأيت في أصحابنا أحفظ من أبى بكر [بن] الجعابىّ!.(4/12)
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن علىّ بن الحسن الأنبارىّ الشاعر المشهور، كان انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات بها في شهر رمضان. وكان من فحول الشعراء. ومن شعره وقد رأيته لغيره:
أبكى وتبكى الحمام لكن ... شتّان ما بينها وبينى
تبكى بعين بغير دمع ... وابكى بدمع «1» بغير عين
ويعجبنى في هذا قول أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز:
بكت عينى غداة البين حزنا ... وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التى بخلت بدمع ... بأن غمّضتها يوم التقينا
ومما يجيش ببالى أيضا في هذا المعنى قول القائل، ولم أدر لمن هو غير أننى أحفظه قديما:
قالت سعاد أتبكى ... بالدمع بعد الدماء
فقلت قد شاب دمعى ... من طول عمر بكائى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن «2» علىّ بن الحسن بن علّان الحرّانى الحافظ يوم النحر، وأبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمىّ [ابن] الجعابىّ، وأبو الحكم منذر بن سعيد البلّوطىّ قاضى الأندلس وعالمها ومفتيها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.(4/13)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 356]
السنة الثانية من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة ست وخمسين وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة المأتم في يوم عاشوراء ببغداد على العادة.
وفيها مات السلطان معزّ الدولة بن بويه الآتى ذكره، وتولّى مملكة العراق من بعده ابنه عزّ الدولة بختيار «1» بن أحمد بن بويه. وفيها قبض على الملك ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان ولده أبو تغلب، لأنّ أخلاقه ساءت وظلم وقتل جماعة وشتم أولاده وتزايد أمره؛ فقبص عليه ولده المذكور بمشورة [رجال] الدولة فى جمادى الأولى، وبعثه إلى القلعة ورتّب له كل ما يحتاج إليه ووسّع عليه.
وفيها توفى السلطان معزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه بن فنّا خسرو بن تمام بن كوهى؛ كان أبوه بويه يصطاد السمك وكان ولده هذا ربما احتطب.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في محلّه في هذا الكتاب؛ مآل أمره إلى الملك. وكان قدومه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، وكان موته بالبطن، فعهد إلى ولده عزّ الدولة أبى منصور بختيار، وكان الرّفص في أيّامه ظاهرا ببغداد؛ ويقال:
إنه تاب قبل موته وتصدّق وأعتق. قلت: وجميع بنى بويه على هذا المذهب القبيح غير أنهم لا يفشون ذلك خوفا على الملك. ومات معزّ الدولة في سابع عشر شهر ربيع الآخر عن ثلاث وخمسين سنة؛ وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة. وكان قد ردّ المواريث إلى ذوى الأرحام. ويقال: إنه من ذرّيّة سابور «2» ذى الأكتاف.(4/14)
وهو أخو ركن الدولة الحسن، وعماد الدّولة علىّ. وكان معزّ الدولة يعرف بالأقطع؛ كان أصابته جراح طارت بيده اليسرى وبعض أصابع اليمنى. وهو عمّ عضد الدولة الآتى ذكره أيضا.
وفيها توفى علىّ بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم الإمام العلّامة أبو الفرج الأصبهانىّ الكاتب، مصنّف كتاب الأغانى وغيره؛ سمع الحديث وتفقّه وبرع واستوطن بغداد من صباه، وكان من أعيان أدبائها؛ كان أخباريّا نسّابة شاعرا ظاهرا بالتشيّع. قال أبو علىّ التّنوخىّ: كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغانى والأخبار والمسندات والأنساب مالم أر قطّ مثله، ويحفظ سوى ذلك من علوم أخر، منها: اللغة والنحو والمغازى والسّير. قلت: وكتاب الأغانى في غاية الحسن.
وكان منقطعا إلى الوزير المهلّبىّ وله فيه غرر مديح، وله فيه من جملة قصيدة يهنّئه بمولود من سرّيّة:
اسعد بمولود أتاك مباركا ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر
سعد لوقت سعادة جاءت به ... أمّ حصان «1» من بنات الأصفر
متبحبح «2» فى ذروتى شرف العلا ... بين «3» المهلّب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدّجى ... حتى إذا اجتمعا «4» أتت بالمشترى(4/15)
وشعره كثير ومحاسنه مشهورة «1» . ولادته في سنة أربع وثمانين ومائتين، وهى السنة التى مات فيها البحترىّ الشاعر. ومات في يوم الأربعاء رابع عشر ذى الحجة.
وفيها توفّى سيف الدولة أبو الحسن علىّ بن عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنّى بن رافع بن الحارث بن غطيف بن محربة «2» بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدىّ بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو «3» ابن غنم بن تغلب التغلبىّ، ومولده في يوم الأحد سابع عشر ذى الحجة سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة. قال أبو منصور الثعالبى: «كان بنو حمدان ملوكا، و [أمراء «4» ] ؛ أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرّجاحة؛ وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم «5» . وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود؛ وقبلة الآمال، ومحطّ الرحال؛ وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء» . وكان سيف الدولة ملكا شجاعا مقداما كريما شاعرا فصيحا ممدّحا.
وقصده الشعراء من الآفاق، ومدحه المتنبىّ بغرر المدائح. ومن شعر سيف الدولة فى قوس قزح:
وساق صبيح للصّبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقضّ علينا ومنفضّ
وقد نشرت أيدى الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشى على الأرض(4/16)
يطرّزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر إثر «1» مبيضّ
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض
قال ابن خلّكان: وهذا من التشبيهات الملوكيّة التى لا يكاد يحضر مثلها السوقة. ويحكى أنّ ابن عمّه أبا فراس الأمير الشاعر كان يوما بين يدى سيف الدولة في نفر من ندمائه؛ فقال لهم سيف الدولة: أيّكم يجيز قولى؟ وليس له إلّا سيّدى (يعنى ابن عمّه أبا فراس المذكور) وقال:
لك جسمى تعلّه ... فدمى لم تحلّه
فارتجل أبو فراس وقال:
أنا إن كنت مالكا ... فلى الأمر كلّه
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج تغلّ ألفى دينار في كلّ سنة.
ومن شعر سيف الدولة أيضا:
تجنّى علىّ الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبنى ظلما وفي شقّه العتب
وأعرض لمّا صار قلبى بكفّه ... فهلّا جفانى حين كان لى القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنّى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
وله:
أقبّله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطمعه ... وخاف عواقب الطمع
فصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذّ بالجرع
وأما ما قيل في سيف الدولة من المديح فكثير يضيق هذا المحلّ عن ذكر شىء منه. وكانت وفاته يوم الجمعة في ثالث ساعة، وقيل: رابع ساعة، لخمس بقين من(4/17)
صفر بحلب. ونقل إلى ميّافارقين ودفن في تربة أمّه وهى داخل البلد. وكان مرضه بعسر البول. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا، وجعله لبنة بقدر الكفّ، وأوصى أن يوضع خدّه عليها في لحده، فنفّذت وصيّته فى ذلك. وكان ملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة؛ انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابىّ صاحب الإخشيذ، وكان قبل ذلك ملك واسط وتلك النواحى.
وفيها توفّى جعفر بن محمد بن الحارث الشيخ أبو محمد المراغى المحدّث المشهور؛ كان فاضلا رواية للشعر. قال: أنشدنى منصور بن إسماعيل الفقيه:
لى حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة اثنتا عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 357]
السنة الثالثة من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وهى التى مات فيها كافور المذكور حسب ما تقدّم ذكره.
فيها عملت الرافضة مأتم الحسين بن علىّ في بغداد على العادة في كلّ سنة في يوم عاشوراء.
وفيها لم يحجّ أحد من الشام ولا من مصر. وفيها في ذى القعدة أقبل تقفور عظيم الروم بجيوشه إلى الشام فخرج من دربند «1» ونازل أنطاكية فلم يلتفتوا إليه؛ فقال أرحل وأخرّب الشام ثم أعود إليكم من الساحل؛ ورحل ونازل معرّة(4/18)
مصرين «1» فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة آلاف وستمائة نسمة. ثم نزل على معرّة النّعمان «2» فأحرق جامعها؛ وكان الناس قد هربوا في كلّ وجه إلى الحصون والبرارىّ والجبال. ثم سار إلى كفرطاب «3» وشيزر «4» ، ثم إلى حماة وحمص وخرج من بقى بها فأمّنهم ودخلها وصلّى في البيعة وأخذ منها رأس يحيى بن زكريا، وأحرق الجامع. ثمّ سار إلى عرقة «5» فافتتحها، ثم سار إلى طرابلس فأخذ ربضها. وأقام فى الشام أكثر من شهرين ورجع؛ فأرضاه أهل أنطاكية بمال عظيم.
وفيها تزوّج عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أحمد بن بويه بابنة عسكر الرومىّ الكردىّ على صداق مائة ألف دينار.
وفيها قتل أبو فراس [الحارث «6» ] بن أبى العلاء سعيد بن حمدان التغلبىّ العدوىّ الأمير الشاعر الفصيح، تقدّم بقية نسبه في ترجمة ابن عمّه سيف الدولة بن حمدان، ومولده بمنبج في سنة عشرين وثلثمائة، وكان يتنقّل في بلاد الشام في دولة ابن عمّه سيف الدولة بن حمدان؛ وكان من الشّجعان والشعراء المفلقين؛ وديوان «7» شعره موجود. ومن شعره قصيدة:
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا ... وودّعت الغواية والشبابا
وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الأحبّة ما أشابا(4/19)
وله أيضا:
من يتمنّ العمر فليدّرع ... صبرا على فقد أحبّائه
ومن يؤجّل ير في نفسه ... ما يتمنّاه لأعدائه
وفيها توفّى حمزة بن محمد بن علىّ بن العبّاس الحافظ أبو القاسم الكنانىّ المصرىّ، سمع الكثير ورحل وطوّف وجمع وصنّف، وروى عنه ابن مندة والدارقطنىّ والحافظ عبد الغنى [بن سعيد «1» الأزدىّ] وغيرهم. وقال ابن مندة: سمعت حمزة ابن محمد الحافظ يقول: كنت أكتب الحديث فلا أكتب «وسلّم» ؛ فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال [لى «2» ] : أما تختم الصلاة علىّ في كتابك!
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن الحسن «3» ابن إسحاق بن عتبة الرّازى بمصر، وأبو سعيد أحمد بن محمد «4» بن رميح النّسوىّ، وحمزة بن محمد أبو القاسم الكنانىّ بمصر، وأبو العباس عبد الله بن الحسين النّضرىّ «5» المروزىّ في شعبان عن سبع وتسعين سنة، وعمر بن جعفر البصرىّ الحافظ، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن علىّ بن محرم المحتسب، وأبو سليمان محمد بن الحسين الحرّانىّ، وأبو علىّ محمد [بن محمد بن عبد الحميد «6» بن خالد بن إسحاق] ابن آدم الفزارىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.(4/20)
ذكر ولاية أحمد بن علىّ بن الإخشيذ على مصر
هو أحمد بن علىّ بن الإخشيذ محمد بن طغج بن جفّ الأمير أبو الحسن التّركىّ الفرغانىّ المصرىّ. ولى سلطنة مصر بعد موت مولى جدّه كافور الإخشيذىّ فى العشرين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة وهو يوم مات «1» كافور، وسنّه يوم ولى إحدى عشرة سنة؛ وصار الحسن «2» بن عبيد الله بن طغج- أعنى ابن عمّ أبيه-[خليفته «3» ] ، وأبو الفضل جعفر بن الفرات [وزيره «4» ] ، ومعهما أيضا سمول الإخشيذىّ مدبّر العساكر. فأساء أبو الفضل جعفر بن الفرات السيرة وقبض على جماعة وصادرهم، منهم يعقوب بن كلّس الآتى ذكره؛ فهرب يعقوب بن كلّس المذكور إلى المغرب، وهو من «5» أكبر أسباب حركة المعزّ، وإرسال جوهر القائد إلى الديار المصريّة. ولما زاد أمر ابن الفرات اختلف عليه الجند واضطربت أمور الديار المصريّة على ما سنذكره بعد أن نذكر مقالة ابن خلكان إن شاء الله تعالى.
قال ابن خلّكان:" وكان عمر أبى الفوارس أحمد بن علىّ بن الإخشيذ يوم ولى إحدى عشرة سنة، وجعل الجند «6» خليفته في تدبير أموره أبا محمد الحسن بن(4/21)
عبيد الله بن طغج بن جفّ، وهو ابن عمّ أبيه، وكان صاحب الرملة من بلاد الشام، وهو الذي مدحه المتنبىّ بقصيدته التى أوّلها:
أنا «1» لائمى إن كنت وقت اللوائم ... علمت بمابى بين تلك المعالم
وقال في مخلصها:
إذا صلت لم أترك مصالا «2» لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
وإلّا فخانتنى القوافى وعافنى ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
ومنها:
أرى دون ما بين الفرات وبرقة ... ضرابا يمشّى الخيل فوق الجماجم
وطعن غطاريف كأنّ أكفّهم ... عرفن الرّدينيات قبل المعاصم
حمته على الأعداء من كل جانب ... سيوف بنى طغج بن جفّ القماقم
هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم
وهم يحسنون العفو عن كلّ مذنب ... ويحتملون الغرم عن كلّ غارم
قال: ولمّا تقرّر الأمر على هذه القاعدة تزوّج الحسن بن عبيد الله فاطمة ابنة عمّه الإخشيذ، ودعوا له على المنابر بعد أبى الفوارس أحمد بن علىّ صاحب الترجمة.
قال: والحسن بالشام. واستمرّ الحال على ذلك إلى ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شعبان من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ودحل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر المعزّى، وانقرضت الدولة الإخشيذيّة من مصر. وكانت مدّتها أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما. وكان قد قدم الحسن بن(4/22)
عبيد الله من الشام منهزما من القرامطة لمّا استولوا على الشام. ودخل الحسن على ابنة عمّه التى تزوّجها وحكم بمصر وتصرّف وقبض على الوزير جعفر بن الفرات وصادره وعذّبه؛ ثم سار إلى الشام في مستهلّ شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. ولمّا سيّر القائد جوهر جعفر بن فلاح إلى الشام وملك البلاد أسر ابن فلاح المذكور أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج وسيّره إلى مصر مع جماعة من الأمراء إلى جوهر القائد، ودخلوا إلى مصر في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلثمائة. وكان الحسن بن عبيد الله قد أساء إلى أهل مصر في مدّة ولايته عليهم، فلمّا وصلوا إلى مصر تركوهم وقوفا مشهورين «1» مقدار خمس «2» ساعات والناس ينظرون إليهم وشمت بهم من في نفسه منهم شىء؛ ثم أنزلوا الى مضرب القائد جوهر وجعلوا مع المعتقلين من آل الإخشيذ. ثمّ في السابع عشر من جمادى الأولى أرسل القائد جوهر ولده جعفرا إلى مولاه المعزّ ومعه هدايا عظيمة تجلّ عن الوصف، وأرسل معه المأسورين الواصلين من الشام، وفيهم الحسن بن عبيد الله، وحملوا في مركب بالنيل وجوهر ينظرهم، وانقلب المركب، فصاح الحسن بن عبيد الله على القائد جوهر: يا أبا الحسن، أتريد أن تغرقنا! فاعتذر إليه وأظهر له التوجع، ثم نقلوا إلى مركب آخر» . انتهى كلام ابن خلّكان باختصار. ولم يذكر ابن خلّكان أمر أحمد بن علىّ بن الإخشيذ- أعنى صاحب الترجمة- وأظنّ ذلك لصغر سنّه.
وقال غير ابن خلكان في أمر انقراض دولة بنى الإخشيد وجها آخر، وهو أن الجند لمّا اختلفوا على الوزير أبى الفضل بن الفرات وطلب منه الأتراك الإخشيذيّة(4/23)
والكافوريّة مالا قدرة له به من المال، ولم تحمل إليه»
أموال الضمانات، قاتلوه «2» ونهبت داره ودور جماعة من حواشيه. ثم كتب جماعة منهم إلى المعزّ العبيدىّ بالمغرب يستدعونه ويطلبون منه إنفاذ العساكر إلى مصر؛ وفي أثناء ذلك قدم الحسن بن عبيد الله بن طغج من الشام منهزما من القرامطة، ودخل على ابنة عمّه، وقبض على الوزير أبى الفضل جعفر بن الفرات لسوء سيرته ولشكوى الجند منه «3» ؛ فعذّبه وصادره؛ وتولّى الحسن بن عبيد الله تدبير مصر بنفسه ثلاثة أشهر، واستوزر كاتبه الحسن بن جابر الرّياحىّ «4» ؛ ثم أطلق الوزير جعفر بن الفرات من محبسه بوساطة الشريف أبى [جعفر «5» ] مسلم الحسينى، وفوّض إليه أمر مصر ثانيا؛ كلّ ذلك وأحمد بن علىّ صاحب الترجمة ليس له من الأمر إلّا مجرّد الاسم فقط. ثم سافر الحسن بن عبيد الله بن طغج من مصر إلى الشام في مستهلّ شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وبعد مسيره بمدّة يسيرة في جمادى الآخرة من السنة وصل الخبر بمسير عسكر المعزّ صحبة جوهر القائد الرومىّ إلى مصر؛ فجمع الوزير جعفر بن الفرات [أنصاره «6» ] واستشارهم فيما يعتمد «7» ؛ فاتّفق الرأى على أمر فلم يتمّ. وقدم جوهر القائد إلى الديار المصريّة بعد أمور نذكرها في ترجمته إن شاء الله تعالى؛ وزالت دولة بنى الإخشيذ من مصر وانقطع الدعاء منها لبنى العباس. وكانت مدّة دولة(4/24)
الإخشيذ وبنيه بمصر أربعا وثلاثين سنة وأربعة وعشرين يوما «1» ؛ منها دولة أحمد بن علىّ هذا- أعنى أيام سلطنته بمصر- سنة واحدة وثلاثة أشهر إلّا ثلاثة أيام. وكانت مدّة الدعاء لبنى العباس بمصر منذ ابتدأت دولة بنى العبّاس إلى أن قدم القائد جوهر المعزّىّ وخطب باسم مولاه المعزّ معدّ العبيدىّ الفاطمىّ مائتى سنة وخمسا وعشرين سنة. ومنذ «2» افتتحت مصر إلى أن انتقل كرسى الإمارة منها إلى القائد جوهر ثلثمائة سنة وتسعا وثلاثين سنة. انتهت ترجمة أحمد بن علىّ ابن الإخشيذ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 358]
السنة التى حكم في بعضها أحمد بن علىّ بن الإخشيذ على مصر، وكانت ولايته فى جمادى الأولى من السنة الماضية، غير أننا ذكرنا تلك السنة في ترجمة كافور، ونذكر هذه السنة في ولاية أحمد هذا، على أنّ القائد جوهرا حكم في آخرها؛ وليس ما نحن فيه من ذكر السنين على التحرير، وإنّما المقصود ذكر الحوادث على أىّ وجه كان. وهذه السنة هى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة المأتم في يوم عاشورا ببغداد وزادوا في النّوح وتعليق المسوح، ثم عيّدوا يوم الغدير «3» .(4/25)
وفيها كان القحط ببغداد وأبيع الكرّ بتسعين دينارا.
وفيها ملك جوهر القائد العبيدىّ مصر وخطب لبنى عبيد المغاربة، وانقطع الدعاء لبنى العبّاس من مصر، حسب ما ذكرناه في ترجمة أحمد بن علىّ ابن الإخشيذ هذا.
وفيها حجّ بالناس من العراق الشريف أبو أحمد «1» الموسوىّ والد الرضىّ والمرتضى.
وفيها ولى إمرة دمشق الحسن بن عبيد الله بن طغج [ابن «2» ] أخى الإخشيذ فأقام بها شهورا ثم رحل في شعبان، واستناب بها سمول الكافورىّ؛ ثم سار الحسن إلى الرملة فالتقى مع ابن فلاح مقدّمة جوهر القائد في ذى الحجة بالرملة؛ فانهزم جيشه.
وأخذ أسيرا وحمل إلى المغرب، حسب ما ذكرناه في ترجمة أحمد بن علىّ الإخشيذ صاحب الترجمة.
وفيها عصى جند حلب على ابن سيف الدولة، فجاء من ميافارقين ونازل حلب، وبقى القتال عليها مدّة.
وفيها استولى الرّعيلىّ على أنطاكية، وهو رجل غير أمير وإنّما هو من الشّطّار «3» ، وانضم عليه جماعة فقوى أمره بهم؛ فجاءت الروم ونزلوا على أنطاكية وأخذوها في ليلة(4/26)
واحدة؛ وهرب الرعيلىّ من باب «1» البحر هو وخمسة آلاف إنسان ونجوا إلى الشام؛ وكان أخذها في ذى الحجة من هذه السنة، وأسر الروم أهلها وقتلوا جماعة كثيرة.
وفيها جاء القائد جعفر بن فلاح مقدّمة القائد جوهر العبيدى المعزّى إلى الشام؛ فحاربه أميرها الشريف ابن أبى يعلى، فانهزم الشريف وأسره جعفر بن فلاح وتملّك دمشق.
وفيها توفّى ناصر الدولة الحسن بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان- تقدّم بقيّة نسبه في ترجمة أخيه سيف الدولة- كان ناصر الدولة صاحب الموصل ونواحيها، وكان أخوه سيف الدولة يتأدّب معه، وكان هو أيضا شديد المحبة لسيف الدولة. فلما مات سيف الدولة تغيّرت أحواله لحزنه عليه، وساءت أخلاقه وضعف عقله؛ فقبض عليه ابنه أبو تغلب الغضنفر بمشورة الأمراء وحبسه مكرّما- حسب ما ذكرناه- فلم يزل محبوسا إلى أن مات في شهر ربيع الأوّل.
وقيل: إنّ ناصر الدولة هذا كان وقع بينه وبين أخيه سيف الدولة وحشة؛ فكتب إليه سيف الدولة، وكان هو الأصغر وناصر الدولة الأكبر، يقول:
رضيت لك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بينى وبين أخى فرق
ولم يك بى عنها نكول وإنّما ... تجافيت عن حقّى فتمّ لك الحقّ
ولا بدّ لى من أن أكون مصلّيا ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وفيها توفّى سابور بن أبى طاهر القرمطىّ في ذى الحجة، كان طالب قبل موته عمومته بتسليم الأمر إليه فحبسوه، فأقام في الحبس أيّاما ثم خرج من الحبس؛ وعمل فى ذى الحجة ببغداد «غدير خمّ» على ما جرت به العادة، ثم مات بعد مدّة يسيرة.(4/27)
وفيها توفّى أحمد بن الراضى بالله بعد أن طالت علّته بمرض البواسير.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن جعفر الشيخ أبو بكر البيهقىّ، كان من كبار مشايخ نيسابور في زمانه. سئل عن الفتوّة، فقال: هى حسن الخلق وبذل المعروف.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ صاحب الموصل وكان أسنّ من سيف الدولة.
والحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان الحربىّ. وأبو القاسم زيد بن علىّ بن أبى بلال الكوفىّ. ومحمد بن معاوية الأموىّ القرطبىّ في شهر رجب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
ذكر ولاية جوهر القائد الرومىّ المعزّىّ على مصر
هو أبو الحسن جوهر بن عبد الله القائد المعزّى المعروف بالكاتب، مولى المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ العبيدىّ الفاطمىّ. كان خصيصا عند أستاذه المعزّ، وكان من كبار قوّاده؛ ثم جهّزه أستاذه المعزّ إلى أخذ مصر بعد موت الأستاذ كافور الإخشيذى؛ وأرسل معه العساكر وهو المقدّم على الجميع؛ وكان رحيله من إفريقيّة في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة؛ وتسلّم مصر في يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان من السنة. على ما سنحكيه.
ولمّا دخل مصر صعد المنبر يوم الجمعة خطيبا وخطب ودعا لمولاه المعزّ بإفريقيّة؛ وذلك في نصف شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة المذكورة. وكان المعزّ لما ندب جوهرا هذا إلى التوجّه إلى الديار المصريّة أصحبه من الأموال والخزائن(4/28)
ما لا يحصى، وأطلق يده في جميع ذلك، وأفرغ الذهب في صور «1» الأرحاء، وحملها على الجمال لعظم ذلك في قلوب الناس. وقال في رحيله من القيروان شاعر الأندلس محمد بن هانئ قصيدته المشهورة في جوهر، وهى:
رأيت بعينى فوق ما كنت أسمع ... وقد راعنى يوم من الحشر أروع
غداة كأنّ الأفق سدّ بمثله «2» ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ «3» ودّعت كيف أودّع ... ولم أدر إذ شيّعت كيف أشيّع
ألا إنّ هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت «4» وهى بلقع
تحلّ بيوت المال حيث محلّه ... وجمّ العطايا والرّواق المرفّع
وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظلّ السلاح المنتضى يتقعقع
وعبّ عباب الموكب الفخم حوله ... وزفّ «5» كما زفّ الصباح الملمّع
رحلت «6» إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فال في الذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النّيل يهرع «7»
ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع(4/29)
ولما استولى على مصر أرسل جوهر هذا يهنّئ مولاه المعزّ بذلك؛ فقال ابن هانئ المذكور أيضا في ذلك:
يقول بنو العبّاس هل «1» فتحت مصر ... فقل لبنى العبّاس قد قضى الأمر
ومد جاوز الإسكندريّة جوهر ... تصاحبه «2» البشرى ويقدمه النصر
ذكر دخول جوهر إلى الديار المصريّة وكيف ملكها
قال غير واحد: كان قد انخرم نظام مصر بعد موت كافور الإخشيذىّ لمّا قام على مصر أحمد بن علىّ بن الإخشيذ وهو صغير؛ فصار ينوب عنه ابن عمّ أبيه الحسن ابن عبيد الله بن طغج، والوزير يومئذ جعفر بن الفرات؛ فقلّت الأموال على الجند، فكتب جماعة منهم إلى المعزّ لدين الله معدّ وهو بالمغرب يطلبون منه عسكرا ليسلّموا إليه مصر؛ فجهّز المعزّ جوهرا هذا بالجيوش والسلاح في نحو ألف فارس أو أكثر فسار جوهر حتّى نزل بجيوشه إلى تروجة «3» بقرب الإسكندريّة، وأرسل إلى أهل مصر فأجابوه بطلب الأمان وتقرير أملاكهم لهم؛ فأجابهم جوهر إلى ذلك وكتب لهم العهد. فعلم الإخشيذيّة بذلك، فتأهّبوا لقتال جوهر المذكور؛ فجاءتهم من عند جوهر الكتب والعهود بالأمان؛ فاختلفت كلمتهم؛ ثم اجتمعوا على قتاله وأمّروا عليهم ابن الشويزانى «4» ، وتوجّهوا لقتاله نحو الجيزة وحفظوا الجسور؛ فوصل جوهر إلى الجيزة، ووقع بينهم القتال في حادى عشر شعبان ودام القتال بينهم مدّة، ثم صار(4/30)
جوهر إلى منية الصيّادين «1» وأخذ مخاضة منية شلقان «2» ؛ ووصل إلى جوهر طائفة من العسكر في مراكب، فقال جوهر للأمير جعفر «3» بن فلاح: لهذا اليوم أرادك «4» المعزّ الدين الله! فعبر عريانا في سراويل وهو في موكب ومعه الرجال خوضا، والتقى مع المصريين ووقع القتال بينهم وثبت كلّ من الفريقين، فقتل كثير من الإخشيذيّة وانهزم الباقون بعد قتال شديد. ثم أرسلوا يطلبون الأمان من جوهر فأمّنهم، وحضر رسوله ومعه بند وطاف بالأمان ومنع من النهب؛ فسكن الناس وفتحت الأسواق ودخل جوهر من الغد إلى مصر في طبوله وبنوده وعليه ثوب ديباج مذهّب، ونزل بالمناخ، وهو موضع القاهرة اليوم؛ واختطّها وحفر أساس «5» القصر فى الليلة؛ وبات المصريّون في أمن؛ فلمّا أصبحوا حضروا للتهنئة»
فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل وكان فيه زورات غير معتدلة؛ فلمّا شاهد ذلك جوهر لم يعجبه؛ ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة، ثم تركه.(4/31)
ثم كتب جوهر إلى مولاه المعزّ يبشره بالفتح، وبعث إليه برءوس القتلى؛ وقطّع خطبة بنى العباس ولبس السواد، ولبس الخطباء البياض؛ وأمر أن يقال في الخطبة:
«اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وعلى علىّ المرتضى؛ و [على «1» ] فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول؛ [الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا «2» ] .
وصلّ على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين، المعزّ لدين الله» . ففعل ذلك؛ وانقطعت دعوة بنى العباس في هذه السنة من مصر والحجاز واليمن والشام. ولم تزل الدعوة لبنى عبيد في هذه الأقطار من هذه السنة إلى سنة خمس وستين وخمسمائة، مائتى سنة وثمانى سنين. على ما يأتى ذكره في خلافة المستضىء العباسىّ. وكان الخليفة فى هذه الأيّام عند انقطاع خطبة بنى العباس من مصر المطيع لله الفضل. ومات المطيع ومن بعده سبعة خلفاء من بنى العباس ببغداد حتى انقرضت دولة بنى عبيد من مصر على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، والخليفة يوم ذاك المستضىء العباسىّ، على ما يأتى ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى. ثمّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وثلثمائة أذّنوا بمصر ب «حىّ على خير العمل» . واستمرّ ذلك.
ثمّ شرع جوهر في بناء جامعه بالقاهرة المعروف بجامع الأزهر، وهو أوّل جامع بلته الرافضة بمصر؛ وفرغ من بنائه في شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلثمائة بعد أن كان ابتنى القاهرة؛ كما سيأتى ذكر بنائها في هذه الترجمة أيضا. ولمّا ملك جوهر مصر كان الحسن بن عبيد الله بن الإخشيذ المقدّم ذكره بالشام وهو بيده إلى الرملة؛ فبعث إليه جوهر بالقائد جعفر بن فلاح المقدّم ذكره أيضا، فقاتل ابن فلاح حسنا المذكور بالرملة حتى ظفر به، وبعث به إلى مصر، حسب ما تقدّم ذكره، وبعثه القائد جوهر إلى المغرب؛ فكان ذلك آخر العهد به. ثم سار جعفر(4/32)
ابن فلاح إلى دمشق وملكها بعد أمور، وخطب بها للمعزّ في المحرّم سنة تسع وخمسين وثلثمائة. ثم عاد ابن فلاح إلى الرملة؛ فقام الشريف أبو القاسم إسماعيل بن أبى يعلى بدمشق وقام معه العوامّ ولبس السّواد ودعا للمطيع، وأخرج إقبالا أمير دمشق الذي كان من قبل جوهر القائد، فعاد جعفر بن فلاح إلى دمشق في ذى الحجة ونازلها، فقاتله أهلها، فطاولهم حتّى ظفر بهم؛ وهرب الشريف أبو القاسم إلى بغداد على البرّيّة. فقال ابن فلاح: من أتى به فله مائة ألف درهم، فلقيه ابن غلبان العدوىّ فى البريّة فقبض عليه وجاء به إلى ابن فلاح؛ فشهّره على جمل وعلى رأسه قلنسوة من لبود، وفي لحيته ريش مغروز ومن ورائه رجل من المغاربة يوقع به، ثمّ حبسه؛ ثمّ طلبه ابن فلاح ليلا وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ وسأله من ندبه إلى ذلك؛ فقال: ما حدّثنى به أحد إنّما هو أمر قدّر؛ فرقّ له جعفر بن فلاح ووعده أنه يكاتب فيه القائد جوهرا، واسترجع المائة ألف درهم من الذين أتوا به، وقال لهم: لا جزاكم الله خيرا! غدرتم بالرجل. وكان ابن فلاح يحبّ العلويّين، فأحسن إليه وأكرمه.
واستمرّ جوهر حاكم الديار المصريّة إلى أن قدم إليها مولاه المعزّ لدين الله معدّ فى يوم الجمعة ثامن شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة؛ فصرف جوهر عن الديار المصريّة بأستاذه المعزّ، وصار من عظماء القوّاد في دولة المعزّ وغيره. ولا زال جوهر على ذلك إلى أن مات في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، ورثاه الشعراء. وكان جوهر حسن السيرة في الرّعية عادلا عاقلا شجاعا مدبّرا.
قال ابن خلّكان (رضى الله عنه) : توفّى يوم الخميس لعشر بقين من ذى القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة. وكان ولده الحسين بن جوهر قائد القوّاد للحاكم صاحب مصر، ثم نقم عليه فقتله في سنة إحدى وأربعمائة؛ وكان الحسين(4/33)
قد خاف على نفسه من الحاكم، فهرب هو وولده وصهره القاضى عبد العزيز ابن [محمد بن «1» ] النعمان، وكان زوج أخته؛ فأرسل الحاكم من ردّهم وطيّب قلوبهم وآنسهم مدّة، ثم حضروا إلى القصر بالقاهرة للخدمة، فتقدّم الحاكم إلى راشد وكان سيف النّقمة، فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك، فقتلوا الحسين ابن جوهر وصهّره القاضى وأحضروا رأسيهما إلى بين يدى الحاكم. وقد ذكرنا الحسين هنا حتى يعرف بذكره أن جوهرا المذكور فحل غير خصىّ، بخلاف الخادم بهاء الدين قراقوش والأستاذ كافور الإخشيذى والخادم ريدان «2» وغيرهم.
ذكر بناء جوهر القائد القاهرة وحاراتها
قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر في كتابه الروضة" [البهية «3» ] الزاهرة، فى الخطط المعزّية القاهرة"؛ قال: «اختطّ جوهر القصر وحفر أساسه في أوّل ليلة نزوله القاهرة، وأدخل فيه دير العظام، وهو المكان المعروف الآن بالركن «4» المخلّق قبالة حوض جامع الأقمر، قريب من بئر العظام، والمصريون يسمّونها بئر العظمة، ويزعمون أنّ طاسة وقعت من شخص في بئر زمزم وعليها اسمه، فطلعت من هذه البئر. ونقل جوهر القائد العظام «5» التى كانت في الدير المذكور والرمم إلى دير(4/34)
فى الخندق «1» فدفنها؛ لأنه يقال: إنّها عظام جماعة من الحواريّين، وبنى مكانها مسجدا «2» من داخل السور، وأدخل أيضا قصر الشوك في القصر المذكور، وكان منزلا تنزله «3» بنو عذرة، وجعل للقصر أبوابا: أحدها باب العيد «4» وإليه تنسب رحبة باب العيد، وإلى جانبه باب يعرف بباب الزّمرّذ «5» . وباب آخر «6» قبالة دار الحديث يعنى المدرسة الكامليّة. وباب آخر قبالة القطبيّة وهى البيمارستان الآن، يعرف الباب المذكور(4/35)
بباب الذهب «1» . وباب الزّهومة «2» . وباب آخر «3» من ناحية قصر الشوك. وباب آخر من عند مشهد الحسين، ويعرف بباب التّربة «4» . وباب آخر يعرف بباب الدّيلم «5» ، وهو باب مشهد الحسين الآن قبالة دار الفطرة «6» . قال: وأمّا أبواب القاهرة التى استقرّ عليها الحال الآن فيأتى ذكرها «7» .(4/36)
قال: وإنّ حدّ القاهرة «1» من مصر من السبع سقايات «2» إلى تلك الناحية عرضا. قال: ولمّا نزل جوهر القائد اختطت كلّ قبيلة خطّة عرفت بها، فزويلة «3» بنت البابين المعروفين ببابى زويلة، وهما البابان اللذان عند مسجد ابن البنّاء «4» وعند الحجّارين «5» ، وهما بابا «6» القاهرة. ومسجد ابن البنّاء المذكور بناه الحاكم. وذكر ابن القفطىّ: أنّ المعزّ لمّا وصل مصر دخل إلى القاهرة من الباب الأيمن، فالناس إلى اليوم يزدحمون فيه، وقليل من يدخل من الباب الأيسر، لأنّه أشيع في الناس أنّ من دخله لم تقض له حاجة، وهو الذي عند دكاكين الحجّارين [و] الذي يتوصّل(4/37)
منه إلى المحمودية «1» . قلت: وقد دثر رسوم هذا الباب الثانى المذكور، وهو مكان يمرّ منه الآن من باب سر الجامع المؤيّدىّ إلى الأنماطيين «2» .
قال: والباب الاخر من أبواب القاهرة القوس «3» الذي هو قريب من باب النصر، الذي يخرج منه إلى الرحبة «4» ، وهو عند باب سعيد السعداء، [و «5» ] دكاكين العطّارين الآن. وباب آخر يعرف بالقوس «6» أيضا وهو الذي يخرج منه إلى السوق الذي [هو «7» ] قريب [من] حارة «8» بهاء الدين قراقوش، على يسرة باب الجامع الحاكمىّ من ناحية الحوض، وتعرف قديما بالرّيحانيّة. وكلّ هذه الأبواب والسور كانت باللّبن.(4/38)
وأمّا باب زويلة الآن وباب النصر وباب الفتوح فبناها الوزير الأفضل بن أمير الجيوش، وكتب على باب زويلة تاريخه واسمه، وذلك في سنة ثمانين وأربعمائة «1» .
وقالت المهندسون: إنّ في باب زويلة عيبا لكونه ليست له باشورة «2» قدّامه ولا خلفه على عادة الأبواب. وأمّا باب القنطرة «3» فبناه القائد جوهر المذكور.
وأمّا السّور الحجر الذي على القاهرة ومصر والأبواب التى به فبناها الطواشى بهاء الدين قراقوش الرومىّ في أيّام أستاذه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فى سنة سبعين وخمسمائة؛ فبنى فيه [قلعة «4» ] المقس، وهو البرج الكبير الذي كان على(4/39)
النيل. قلت: وقد نسف «1» هذا البرج من تلك الأماكن في سنة سبعين وستمائة.
يأتى ذكر ذلك في ترجمة الملك المنصور قلاوون إن شاء الله تعالى من هذا الكتاب.
قال: وبنى باب الجامع والقلعة التى بالجبل والبرج الذي بمصر قريبا من باب القنطرة المسمى بقلعة يازكوچ «2» ، وجعل السور طائفا بمصر والقاهرة، ولم يتمّ بناؤه إلى الآن؛ وأعانه على عمله وحفر البئر التى بقلعة الجبل أسارى الفرنج، وكانوا ألوفا.
وهذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها وتنقل الماء من نقّالة في «3» في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها؛ ولها طريق إلى الماء تنزل البقر إلى معينها في مجاز؛ وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء؛ وقيل: إن أرض هذه البئر مسامتة لأرض بركة الفيل؛ وماؤها عذب. سمعت من يحكى عن «4» المشايخ أنّها لمّا حفرت جاء ماؤها حلوا، فأراد قراقوش الزيادة في مائها فوسعها، فخرجت منها عين مالحة غيّرت حلاوتها.
وطول هذا السور الذي بناه قراقوش على القاهرة ومصر والقلعة بما فيه من ساحل البحر تسعة وعشرون ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعان [بذراع العمل، وهو «5» الذراع الهاشمىّ] ، من ذلك ما بين قلعة المقسم «6» على شاطئ النيل والبرج بالكوم «7» الأحمر(4/40)
بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع. ومن قلعة المقسم إلى حائط القلعة بالجبل بمسجد سعد «1» الدولة ثمانية آلاف وثلثمائة [واثنتان «2» ] وتسعون ذراعا. ومن جانب حائط القلعة من جانب مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع. ودائر القلعة بالجبل بمسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشر أذرع؛ وذلك طول قوسه في ابتدائه، وأبراجه من النيل إلى النيل على التحقيق والتعديل» . انتهى كلام ابن عبد الظاهر. على أنه لم يسلم من الاعتراض عليه فى كثير مما نقله، وأيضا مما سكت عنه.
وقال غيره: دخل جوهر القائد مصر بعسكر عظيم ومعه ألف حمل مال، ومن السلاح والعدد «3» والخيل ما لا يوصف. فلمّا انتظم حاله وملك مصر ضاقت بالجند والرعية، واختط سور القاهرة وبنى بها القصور، وسمّاها المنصوريّة؛ وذلك فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. فلمّا قدم المعزّ العبيدى من القيروان غيّر اسمها وسمّاها القاهرة. والسبب في ذلك أنّ جوهرا لمّا قصد إقامة السور وبناء القاهرة جمع المنجّمين وأمرهم أن يختاروا طالعا لحفر الأساس وطالعا لرمى حجارته؛ فجعلوا [بدائر السور «4» ] قوائم من خشب، وبين القائمة والقائمة حبل فيه أجراس، وأفهموا البنّائين ساعة تحريك الأجراس [أن] يرموا ما في أيديهم من اللّبن والحجارة، ووقف المنجمون لتحرير هذه الساعة وأخذ الطالع؛ فاتّفق وقوف غراب على خشبة من(4/41)
تلك الخشب، فتحرّكت الأجراس، وظنّ الموكّلون بالبناء أنّ المنجّمين حرّكوها فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس؛ فصاح المنجّمون: لا لا، القاهر فى الطالع! ومضى ذلك وفاتهم ما قصدوه. وكان غرض جوهر أن يختاروا للبناء طالعا لا يخرج البلد عن نسلهم أبدا، فوقع أنّ المريخ كان في الطالع، وهو يسمى عند المنجّمين القاهر، فحكموا لذلك «1» أنّ القاهرة لا تزال تحت حكم الأتراك، وأنّهم لا بدّ أن يملكوا هذه البلد. فلمّا قدم المعزّ إليها وأخبر بهذه القصة وكان له خبرة بالنّجامة، وافقهم على ذلك، وأنّ الترك تكون لهم الغلبة على هذا البلد؛ فغيّر اسمها وسمّاها القاهرة. وقيل فيها وجه آخر، وهو أنّ بقصور القاهرة قبّة تسمّى القاهرة، فسميت على اسمها. والقول الأوّل هو المتواتر بين الناس والأقوى.
وقيل غير ذلك.
ثم بنيت حارات «2» القاهرة من يومئذ، فعمّر فيها:
حارة الروم- وهما حارتان، حارة الروم الآن المشهورة «3» ، وحارة الروم الجوّانيّة «4» ، وهى التى بقرب باب النصر على يسار الداخل إلى القاهرة، ثم استثقل الناس قول حارة الروم الجوّانية فحذفوا صدر الكلمة وقالوا «الجوّانية» ؛ والورّاقون يكتبون حارة الروم السفلى، وحارة الروم العليا المعروفة بالجوّانية.(4/42)
وقال القاضى زين الدين: إنّ الجوّانية منسوبة للأشراف الجوّانيين، منهم الشريف «1» النّسابة الجوّانى. وهاتان الحارتان اختطهما الروم، ونزلوا بهما فعرفتابهم.
وحارة الدّيلم «2» - هى منسوبة إلى الديلم الواصلين صحبة أفتكين المعزّى غلّام معز الدولة بن بويه حين قدم إلى القاهرة أولاد مولاه معزّ الدولة.
وفندق «3» مسرور- منسوب لمسرور خادم من خدّام القصر في الدولة العبيدية.
وخليج القاهرة «4» - حفره أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ويعرف بخليج أمير المؤمنين، وكان حفره عام الرّمادة، وهى سنة ست عشرة «5» من(4/43)
الهجرة فسافر إلى القلزم «1» ، فلم يأت عليه الحول حتى جرت فيه السفن وحمل فيها الزاد والأقوات إلى مكّة والمدينة، وانتفع بذلك أهل الحجاز. وقال الكندىّ: كان حفره فى سنة ثلاث وعشرين وفرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع؛ ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة «2» وكتب عليها اسمه، وقام ببنائها سعيد أبو عثمان «3» ؛ ذكره القضاعىّ صاحب الخطط. قال: ثمّ دثرت ثمّ أعيدت ثمّ عمّرت في أيّام العزيز بالله، وليس لها «4» أثر في هذا الزمان. وإنّما بنى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب قنطرة السّدّ «5» الآن التى عليها بستان «6» الخشّاب. وكان(4/44)
يخرج الماء من البحر بالمقس من البرانج، فوسّعه الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب وجعله خليجا، وهو خليج الذكر «1» . وأوّل من رتّب حفر الخليج على الناس الوزير المأمون بن البطائحى صاحب الجامع الأقمر بالقاهرة؛ وكذلك جعل على أصحاب البساتين، وجعل عليه واليا بمفرده؛ وهو أوّل من رتّب السقّائين عند معونة المأمون هذا؛ وكذلك القرّابة والفعلة.
الحسينيّة «2» - هى منسوبة لجماعة الأشراف الحسينيّين «3» ، كانوا في أيّام الملك الكامل محمد بن العادل، قدموا من الحجاز فنزلوا بها واستوطنوها، وبنوا بها المدابغ وصنعوا فيها الأديم المشبّه بالطائفىّ «4» ؛ ثمّ سكنها الأجناد بعد ذلك؛ وكانت برسم الرّيحانيّة الغزّاويّة والمولّدة والعجمان وعبيد الشراء؛ وكانت ثمانى «5» حارات: حارة(4/45)
حامد، والمنشيّة الكبرى، والمنشيّة الصغرى، والحارة الكبيرة، والحارة الوسطى، كانت هى لعبيد الشراء، والوزيريّة؛ كانت كلّها سكن الأرمن، فارسهم وراجلهم.
وخان السبيل «1» - بناه الخادم الأستاذ الخصىّ بهاء الدين قراقوش الذي بنى السور وأرصده لأبناء السبيل.
اللؤلؤة «2» - عند باب القنطرة بناها الظاهر لإعزاز دين الله الخليفة العبيدى، وكانت نزهة الخلفاء الفاطميّين، وبها كانت قصورهم. ويأتى ذكر شىء من ذلك في تراجمهم إن شاء الله تعالى.
حارة الباطليّة «3» - كان المعزّ لدين الله العبيدىّ لما قسم العطاء في الناس جاءت إليه طائفة فسألت العطاء، فقيل: فرغ المال؛ فقالوا: رحنا نحن في الباطل؛ فسمّوا الباطليّة، فعرفت الحارة بهم.
حارة كتامة «4» - هى قبيلة معروفة، عرفت بهم.(4/46)
البرقيّة «1» - هذه الحارة نزل فيها جماعة من أهل برقة واستوطنوها، فعرفت بهم. وكانوا جماعة كبيرة، حضروا صحبة المعزّ لدين الله لمّا قدم من بلاد المغرب.
خزانة البنود «2» - كانت هذه الخزانة خزانة السلاح في الدولة الفاطميّة.
دار القطبيّة- هى دار ستّ الملك بنت العزيز لدين الله نزار، وأخت الحاكم بأمر الله منصور. يأتى ذكرها في ترجمة أخيها الحاكم. وسكن هذه الدار فى دولة الأيّوبيّة مؤنسة «3» ، ثم الأمير فخر الدين جهاركس صاحب القيسارية بالقاهرة، ثمّ سكنها الملك الأفضل قطب الدين؛ واستمرّت ذرّيته بها حتّى أخرجهم الملك المنصور قلاوون منها، وبناها بيمارستانه «4» المعروف في القاهرة بين القصرين. ولسكن قطب الدين الأفضل هذا سمّيت القطبيّة، والأفضل المذكور من بنى أيّوب.
حارة الخرنشف «5» - كانت قديما ميدانا للخلفاء، فلمّا تسلطن المعزّ أيبك التركمانىّ بنوا به إصطبلات، وكذلك القصر الغربىّ «6» ؛ وكانت النساء اللاتى أخرجن(4/47)
منه سكنّ بالقصر النافعىّ «1» ؛ فامتدّت الأيدى إلى طوبه وأخشابه وحجارته، فتلاشى حاله وتهدّم وتشعّث، فسمّى بالخرنشف لهذا المقتضى، وإلّا فكان هذا الميدان من محاسن الدنيا.
حارة الكافورىّ «2» - هذه الحارة كانت بستانا للأستاذ الملك كافور الإخشيذىّ صاحب مصر؛ ثمّ من بعده صار للخلفاء المصريّين، ثم هدم البستان فى الدولة المعزيّة أيبك لما خرب الميدان والقصور، وبنى أيضا إصطبلات ودورا ومساكن.
حارة برجوان «3» - منسوبة إلى الخادم برجوان. كان برجوان من جملة خدّام القصر في أيام العزيز بالله نزار العبيدىّ الفاطمىّ، ثم كان برجوان هذا مدبّر مملكة الحاكم بأمر الله.(4/48)
حارة بهاء الدين «1» - منسوبة إلى الأستاذ بهاء الدين قرافوش الصلاحىّ الخادم الخصىّ الذي بنى السور وقلعة الجبل. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
قيسارية أمير الجيوش- المعروفة الآن بسوق مرجوش «2» . وأوّلها من باب حارة بهاء الدين قراقوش إلى قريب من الجامع الحاكمىّ، بناها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالىّ «3» الذي كان إليه تدبير الملك والوزارة في دولة الخليفة المستنصر معدّ العبيدىّ. وذكر ابن أبى منصور في كتابه المسمّى أساس السياسة أنه كان في موضعها دار تعرف بدار القبّانىّ، ودور قوم يعرفون ببنى هريسة.
درب ابن أسد- وهو خادم عرف به. وهو خلف إصطبل الطارمة «4» .
الرميلة «5» - تحت قلعة الجبل، كانت ميدان أحمد بن طولون، وبها كانت قصوره وبساتينه.
درب ملوخية «6» - هو منسوب لأمير اسمه ملوخية، كان صاحب ركاب الخليفة الحاكم بأمر الله العبيدىّ، وكان يعرف أيضا بملوخية الفرّاش.(4/49)
العطوف «1» - منسوبة إلى الخادم عطوف أحد خدّام القصر في دولة الفاطمية، وكان أصله من خدّام أم ستّ الملك بنت العزيز بالله أخت الحاكم المقدّم ذكرها.
رحبة باب العيد «2» -[كان «3» ] الخليفة لا يركب يوم العيد إلّا من باب القصر الذي من هذه الناحية خاصة. ويأتى ذكر ذلك كلّه في ترجمة المعزّ لدين الله العبيدىّ.
خانقاه «4» السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وهى دار سعيد السعداء خادم الخليفة المستنصر معدّ العبيدىّ أحد خلفاء مصر، ثمّ صارت في آخر الوقت سكن الوزير طلائع بن رزّيك «5» وولده رزّيك بن طلائع. وكان طلائع يلقب في أيام وزارته بالملك الصالح، وهو صاحب جامع الصالح خارج بابى زويلة. ولمّا سكنها طلائع المذكور فتح لها من دار الوزارة- أعنى التى هى الآن خانقاه بيبرس الجاشنكير «6» - سردابا تحت الأرض، وجمع بين دار سعيد(4/50)
السعداء ودار الوزارة في السكن لكثرة حشمه، وصار يمشى في السرداب من الدار الواحدة إلى الأخرى.
الحجر «1» - وهى قريبة من باب النصر قديما على يمين الخارج من القاهرة، وكان يأوى فيها جماعة من الشباب يسمّون صبيان الحجر يكونون في جهات متعددة.
الوزيرية «2» - منسوبة إلى الوزير أبى الفرج يعقوب بن كلّس وزير العزيز بالله نزار العبيدىّ، وكان الوزير هذا يهودىّ الأصل ثمّ إنّه أسلم وتنقّل في الخدم إلى أن ولى الوزارة.
الجودرية «3» - منسوبة إلى جماعة يعرفون بالجودريّة اختطوها، وكانوا أربعمائة رجل. منسوبون إلى جودر خادم المهدىّ.
سوق السّراجين- استجدّ في أيّام المعزّ أيبك التركمانىّ سنة ثلاث وخمسين وستمائة.(4/51)
سقيفة العدّاسين «1» - هى الآن معروفة بالأساكفة وبالبندقانيين، وكانت تلك الناحية كلّها تعرف بسقيفة العدّاسين.
حارة الأمراء- هى درب شمس الدولة «2» .
العدوية «3» - هى من أوّل باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة.
درب الصقالبة «4» - هو درب من جملة حارة زويلة.
حارة زويلة «5» - اخطتها امرأة تعرف بزويلة، وهى صاحبة البئر وبابى زويلة، لا أعرف من حالها شيئا.
باب الزهومة «6» - كان بابا من أبواب القصر أعنى [قصر] القاهرة.(4/52)
الصاغة بالقاهرة «1» - كانت مطبخا للقصر يخرج إليه من باب الزهومة.
درب السلسلة «2» - هو الملاصق للسيوفيين.
دار الضرب «3» - بنيت في أيام الوزير المأمون بن البطائحىّ المقدّم ذكره، وهى بالقشاشين «4» قبالة البيمارستان المنصورىّ «5» .
الصالحية «6» - هى منسوبة للوزير الملك الصالح طلائع بن رزّيك المقدّم ذكره لأنّ غلمانه- أعنى مماليكه- كانوا ينزلون بها.
المقس «7» - قال القضاعى: كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين، وإنّما سميّت المقس لأنّ العشّار وهو المكّاس كان فيها يستخرج الأموال، فقيل له المكس، ثم قيل المقس.(4/53)
المسجد المعلق- كان هناك مساجد ثلاثة «1» معلقة بناها الحاكم بأمر الله فى أيام خلافته.
وأمّا هذه المبانى التى هى الآن خارج القاهرة فكلّها تجدّدت في الدولة التركية، ومعظمها في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن بعده، من سدّ مصر إلى باب زويلة طولا وعرضا. يأتى ذكر ذلك كلّه إن شاء الله تعالى في تراجم من جدّد الكورة والقناطر والجوامع والمدارس وغيرهم من السلاطين والملوك، كلّ واحد على جدته بحسب ما يقتضيه الحال.
ترجمة القائد جوهر وما يتعلق به من بنيان القاهرة وغيرها
قد تقدّم الكلام أن جوهر القائد هذا غير خصىّ، وولده القائد الحسين بن جوهر كان من كبار قوّاد الحاكم بأمر الله، وجوهر هذا هو صاحب الجامع الأزهر.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه؛ غير أننا ذكرناه هنا ثانيا تنبيها لمن نظر في ترجمة جوهر القائد المذكور، لئلا يلتبس عليه بشىء آخر.(4/54)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 359]
السنة الأولى من ولاية جوهر الرومىّ المعزّى القائد على مصر، وهى سنة تسع وخمسين وثلثمائة.
فيها أقامت الرافضة المأتم على الحسين بن علىّ ببغداد في يوم عاشوراء على عادتهم وفعلهم القبيح في كلّ سنة.
وفيها ورد الخبر في المحرّم بأن تقفور ملك الروم خرج بالروم إلى جهة أنطاكية ونازلها وأحاط بها وقاتل أهلها حقى ملكها بالأمان؛ ثم أخرج أهلها منها وأطلق العجائز والشيوخ والأطفال، وقال لهم: امضوا حيث شئتم، ثم أخذ الشباب والصبيان والغلمان سيا؛ فكانوا أكثر من عشرين ألفا. وكان تقفور المذكور قد طغى وتجبّر وقهر العباد وملك البلاد وعظمت هيبته في قلوب الناس، واشتغل عنه الملوك بأضدادهم فاستفحل أمر تقفور بذلك. ثم تزوّج تقفور المذكور بامرأة الملك الذي كان قبله على كره منها؛ وكان لها ولدان، فأراد تقفور أن يخصيهما ويهديهما للبيعة ليستريح منهما لئلا يملكا الروم في أيامه أو بعده؛ فعلمت زوجته أمّهما بذلك، فأرسلت الى الدمستق ليأتى إليها في زىّ النساء ومعه جماعة «1» فى زى النساء؛ فجاءوا وباتوا عندها ليلة الميلاد، فوثبوا عليه وقتلوه؛ وأجلس فى الملك بعده ولدها الأكبر، وتّم لها ما أرادت. ولله الحمد على موت هذا الطاغية.
وفيها في ذى الحجة انقضّ بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنّه شعاع الشمس وسمع في انقضاضه صوت كالرعد الشديد، فهال «2» ذلك الناس وارتعجوا «3» له.(4/55)
وفيها حجّ بالناس من العراق الشريف النقيب أبو أحمد الموسوىّ والد الرضى والمرتضى والثلاثة رافضة، وهم محطّ رحال الشيعة في زمانهم.
وفيها توفّى الأمير صالح بن عمير العقيلىّ أمير دمشق، ولى إمرة دمشق خلافة عن الحسن بن عبيد الله بن طغج [ابن «1» ] أخى الإخشيذ في دولة أحمد بن على ابن الإخشيذ في سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ووقع له في ولايته على دمشق أمور وحروب. ولما انهزم الأستاذ فاتك الكافورىّ من القرمطىّ وغلب القرمطىّ على الشام خرج منها صالح هذا وغاب عنها مدّة أيّام، ثم عاد إليها بعد خروج القرمطىّ منها، ودام بها وأصلح أمورها؛ فلم تطل مدّته ومات بعد مدّة يسيرة. وكان شجاعا جوادا مقداما. وهو آخر من ولى دمشق من قبل الإخشيذ محمد وبنيه.
وفيها توفّى الأمير أبو شجاع فاتك الإخشيذىّ الخازن، ولى إمرة دمشق أيضا قبل تاريخه من قبل أنوجور الإخشيذىّ، وكان شجاعا مقداما جوادا، ولى عدّة بلاد، وطالت أيّامه في السعد. وهو غير فاتك المجنون الذي مدحه المتنبىّ ورثاه؛ لأنّ فاتكا المذكور كان بمصر في دولة خشداشه «2» كافور الإخشيذىّ؛ ووفاة هذا كانت بدمشق.
وفيها هلك تقفور طاغية الروم: لم يكن أصله من أولاد ملوك الروم بل قيل إنه كان ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقّاس «3» ، فتنصّر وغلب على الملك؛ وكان شجاعا مدبّرا سيوسا لم ير مثله من عهد إسكندر ذى القرنين؛ وهو الذي(4/56)
افتتح حلب وأخذها من سيف الدولة بن حمدان؛ ولم يأخذ حلب أحد قبله من ملوك الروم؛ فعظم بذلك في أعين ملوك الروم وملّكوه عليهم إلى أن قتل. وقد تقدّم قتله في حوادث هذه السنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن بندار ابن إسحاق الشعّار «1» . وأبو بكر أحمد بن يوسف بن خلّاد في صفر. وأبو القاسم حبيب بن الحسن القزّاز. ومحمد بن أحمد بن الحسن أبو علىّ الصوّاف. ومحمد بن على بن حبيش «2» الناقد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 360]
السنة الثانية من ولاية جوهر الرومىّ المعزىّ القائد على مصر، وهى سنة ستين وثلثمائة.
فيها عمل الرافضة المأتم ببغداد في يوم عاشوراء على العادة في كلّ سنة من النوح واللّطم والبكاء وتعليق المسوح وغلق الأسواق، وعملوا العيد والفرح يوم الغدير «3» وهو ثامن عشر ذى الحجة.
وفيها في أوّل المحرّم لحق الخليفة المطيع لله سكتة آل الأمر فيها إلى استرخاء جانبه الأيمن وثقل لسانه.(4/57)
وفيها في صفر أعلن المؤذّنون بدمشق: ب" حىّ على خير العمل" بأمر القائد جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعزّ لدين الله العبيدىّ، ولم يجسر أحد على مخالفته؛ ثمّ في جمادى الآخرة أمرهم ابن فلاح المذكور بذلك في الإقامة؛ فتألّم الناس لذلك، فهلك ابن فلاح في عامه.
وفيها في شهر ربيع الأوّل وقع الصلح بين أبى المعالى بن سيف الدولة بن حمدان وبين قرعويه «1» ، وكان بينهما حروب منذ مات سيف الدولة إلى اليوم، فأقاما الخطبة بحلب للمعزّ لدين الله العبيدىّ؛ وأرسل إليهما جوهر القائد من مصر بالأموال والخلع.
وفيها سار أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطىّ إلى الشام في قبائل العرب وحاصر دمشق؛ فخرج إليه من مصر القائد جعفر بن فلاح بعساكره من المغاربة واقتتلوا أيّاما إلى أن حمل القرمطىّ بنفسه على جعفر بن فلاح فقتله وقتل عامّة عسكره، وملك دمشق وولّى عليها ظالم بن موهوب «2» العقيلىّ، ثمّ عاد القرمطىّ إلى بلاد هجر؛ فلم يثبت ظالم بعده بدمشق، وخرج منها بعد مدّة يسيرة.
وفيها حجّ بالناس النقيب الشريف أبو أحمد الموسوىّ من بغداد.
وفيها توفّى الأمير جعفر بن فلاح أحد قوّاد المعزّ لدين الله العبيدىّ؛ كان مقدّم عساكر القائد جوهر، وبعثه جوهر إلى دمشق لمحاربة الحسن بن عبيد الله بن(4/58)
طغج؛ فحاربه وأسره «1» ومهّد البلاد، وولى دمشق وأصلح أمورها، إلى أن قدم عليه القرمطىّ وحاربه وظفر به وقتله. وهو أوّل أمير ولى إمرة دمشق لبنى عبيد المغربىّ.
والعجب أنّ القرمطىّ لمّا قتله بكى عليه ورثاه؛ لأنّهما يجمع التشيّع بينهما وإن كانا عدوّين. وكان جعفر بن فلاح المذكور أديبا شاعرا فصيحا. كتب مرّة إلى الوزير يعقوب يقول له:
ولى صديق ما مسّنى عدم ... مذ نظرت عينه إلى عدمى
أعطى وأقنى «2» ولم يكلّفنى ... تقبيل كفّ له ولا قدم
وفيها توفّى سليمان بن أحمد بن أيّوب الحافظ أبو القاسم الطّبرانىّ اللّخمىّ. ولخم:
قبيلة من العرب قدموا من اليمن إلى بيت المقدس ونزلوا بالمكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس فرسخان، والعامّة تسمّيه «بيت لحم» (بالحاء المهملة) وصوابه «بيت لخم» (بالخاء المعجمة) . وكان مولده بعكّا في سنة ستين ومائتين؛ وهو أحد الحفّاظ المكثرين الرحّالين، سمع الكثير وصنّف المصنّفات الحسان، منها «المعجم الكبير في أسامى الصحابة» و «المعجم الأوسط في غرائب شيوخه» ، و «المعجم الأصغر في أسامى شيوخه» ، و «كتاب الدعاء» و «كتاب عشرة النساء» و «كتاب حديث الشاميّين» و «كتاب المناسك» و «كتاب الأوائل» و «كتاب السنة» و «كتاب النوادر» و «مسند أبى هريرة» و «كتاب التفسير» و «كتاب دلائل النبوّة» وغير ذلك. ومات في ذى القعدة. وذكر الحافظ سليمان ابن إبراهيم الأصبهانىّ أن أبا أحمد العسّال قاضى أصبهان قال: أنا سمعت من(4/59)
الطّبرانىّ عشرين ألف حديث، وسمع منه إبراهيم بن محمد بن حمزة ثلاثين ألفا، وسمع منه أبو الشيخ أربعين ألفا.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن عبد الله الحافظ أبو بكر الآجرّىّ «1» البغدادىّ، كان محدّثا ديّنا صالحا ورعا مصنّفا، صنّف كتاب «العزلة» وغيره. ومات فى هذه السنة.
وفيها توفّى محمد بن أبى عبد الله الحسين «2» بن محمد الكاتب أبو الفضل المعروف بابن العميد- هو كان لقب والده- كان فيه فضل وأدب وترسّل؛ وزر لركن الدولة الحسن بن بويه بعد موت أبيه. ومن بعض أصحاب أبيه الصاحب بن عبّاد. قال الثعالبىّ في كتابه اليتيمة: «وكان «3» يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد» . وكان «4» الصاحب بن عبّاد قد سافر إلى بغداد؛ فلمّا عاد إليه قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ قال: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد.
وكان ابن العميد سيوسا مدبّرا قائما بحقوق المملكة، وقصده الشعراء من الآفاق، ومدحه المتنبىّ وابن نباتة السعدىّ وغيرهما. ومن شعر ابن العميد قوله:
آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب
إنّ الأقارب كالعقا ... رب بل أضرّ من العقارب(4/60)
وقيل: إنّ الصاحب بن عبّاد اجتاز بدار ابن العميد بعد وفاته فلم ير هناك أحدا بعد أن كان الدّهليز يغصّ من زحام الناس؛ فقال:
أيّها الرّبع «1» لم علاك اكتئاب ... أين «2» ذاك الحجاب والحجّاب
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب
وقال علىّ بن سليمان: رأيت بالرىّ دار قوم «3» لم يبق منها سوى بابها- يعنى دار ابن العميد- وعليها مكتوب:
اعجب لصرف الدهور معتبرا ... فهذه الدار من عجائبها
عهدى بها بالملوك زاهية ... قد سطع «4» النور من جوانبها
تبدّلت وحشة بساكنها ... ما أوحش الدار بعد صاحبها
وكان ابن العميد قبل أن يقتل بمدّة قد لهج بإنشاد هذين البيتين، وهما:
دخل الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلّوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخلّيها لقوم بعدنا
وكانت وفاته في صفر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى جعفر بن فلاح أوّل من حكم على الشام لبنى عبيد، قتله أبو علىّ «5» القرمطىّ. وسليمان بن أحمد بن أيّوب الطّبرانىّ في ذى القعدة وله مائة سنة وعشرة أشهر. وأبو علىّ عيسى بن محمد(4/61)
الطّومارىّ. وأبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن الهيثم الأنبارى. وأبو عمرو «1» محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النّيسابورىّ. وأبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه. وأبو بكر محمد بن الحسين الآجرّىّ في المحرّم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 361]
السنة الثالثة من ولاية جوهر القائد على مصر، وهى سنة إحدى وسنين وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة مأتم الحسين بن علىّ رضى الله عنهما ببغداد على العادة فى يوم عاشوراء.
وفيها عاد الهجرىّ كبير القرامطة من الموصل إلى الشام، وانصرفت المغاربة- أعنى عسكر العبيديّة- إلى مصر، ودخل القرمطىّ إلى دمشق وسار إلى الرملة.
وفيها وقع الصلح بين منصور بن نوح السامانىّ صاحب خراسان وبين ركن الدولة الحسن بن بويه وبين ولده عضد الدولة بن ركن الدولة المذكور بأن يحمل ركن الدولة إلى منصور بن نوح السامانىّ في كلّ سنة مائة ألف دينار، ويحمل ابنه عضد الدولة خمسين ألف دينار.
وفيها اعترض بنو هلال الحاج البصرىّ «2» والخراسانىّ ونهبوهم وقتلوا منهم خلقا، ولم يسلم منهم إلّا من مضى مع الشريف أبى أحمد الموسوىّ أمير الحاجّ، فإنّه مضى بهم على طريق المدينة، فحجّ وعاد.(4/62)
وفيها توفّى سعيد بن أبى سعيد أبو القاسم الجنّابىّ القرمطىّ الهجرىّ، عليه وعلى أقاربه اللعنة والخزى. ولم يبق من أولاد أبى سعيد غيره وغير أخيه يوسف، وقام بأمر القرامطة بعده مكانه أخوه يوسف المذكور. وعقد القرامطة بعد يوسف لستة نفر من أولادهم على وجه الشركة بينهم لا يستبدّ أحد منهم بشىء دون الآخر.
قلت: وهذا يدلّ على قطع أثرهم واضمحلال أمرهم وزوال ملكهم، إلى جهنم وبئس المصير؛ فإنّهم كانوا أشرّ خلق الله وأقبحهم سيرة وأظلمهم سطوة، هذا مع الفسق وقلّة الدين وسفك الدماء وانتهاك المحارم، وقتل الأشراف وأخذ الحجّاج ونهبهم، والاستخفاف بأمر الشرع والسنة وهتك حرمة البيت العتيق واقتلاع الحجر الأسود منه؛ حسب ما تقدّم ذكر ذلك كله في حوادث السنين «1» السابقة. وقد طال أمرهم وقاسى المسلمون منهم شدائد؛ وخرّب في أيّامهم ممالك وبلاد. ألا لعنة الله على الظالمين.
وفيها توفّى علىّ بن إسحاق بن خلف أبو القاسم «2» الزاهى الشاعر البغدادىّ، كان وصّافا محسنا كثير الملح حسن الشعر في التشبيهات، وكان قطّانا، وكانت دكّانه في قطيعة الربيع «3» الحاجب. ومن شعره وأجاد إلى الغاية من قصيدة:
وبيض بألحاظ العيون كأنّما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا
تصدّين لى يوما بمنعرج اللّوى ... فغادرن قلبى بالتصبّر غادرا(4/63)
سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا
هذا مثل قول المتنبى، ومذهب الزاهى زها عليه. وقول المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وذكر الثعالبىّ لبعض شعرا عصره على هذا الأسلوب في وصف مغنّ:
فديتك يا أتمّ الناس ظرفا ... وأصلحهم لمتّخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسنا ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا
رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائها ومشى قضيبا
ومات الزاهى ببغداد. ومن شعره أيضا قوله:
قم فهنئ عاشقين ... أصبحا مصطلحين
جمعا بعد فراق ... فجعا منه ببين
ثم عادا في سرور ... من صدود آمنين
فهما روح ولكن ... ركّبا في بدنين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن «1» بن الخضر الأسيوطى. وخلف بن محمد بن إسماعيل ببخارى. وعثمان بن عثمان «2» بن خفيف الدرّاج.
ومحمد بن الحارث بن أسد القيروانىّ أبو عبد الله «3» الفقيه الحافظ.(4/64)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 362]
السنة الرابعة من ولاية جوهر القائد على مصر، وهى سنة اثنتين وستين وثلثمائة.
فيها لم تعمل الرافضة المأتم ببغداد بسبب ما جرى على المسلمين من الروم، وكان عزّ الدولة بختيار بن بويه بواسط والحاجب سبكتكين ببغداد، وكان سبكتكين المذكور يميل إلى السّنّة فمنعهم من ذلك.
وفيها حشدت الروم وأخذوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا، وقدم بغداد من نجا منهم؛ واستنفروا الناس في الجوامع، وكسروا المنابر ومنعوا الخطيب، وحاولوا الهجوم على الخليفة المطيع لله، واقتلعوا بعض شبابيك دار الخلافة حتى غلقّت أبوابها، ورماهم الغلمان بالنّشّاب من الرّواشن، وخاطبوا الخليفة بالتعنيف وبأنّه عاجز عمّا أوجبه الله عليه من حماية حوزة الإسلام وأفحشوا القول. ووافق ذلك غيبة السلطان عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أحمد بن بويه في الكوفة؛ فخرج إليه أهل العقل والدين من بغداد، وفيهم الإمام أبو بكر الرازىّ الفقيه وأبو الحسن علىّ بن عيسى النّحوىّ وأبو القاسم «1» الدّاركىّ وابن الدّقاق «2» الفقيه، وشكوا إليه ما دهم الإسلام من هذه الحادثة العظمى؛ فوعدهم عزّ الدولة بالغزو، ونادى بالنفير في الناس؛ فخرج من العوامّ(4/65)
خلق مثل عدد الرمل ثمّ جهّز جيشا وغزوا، فهزموا الروم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا أميرهم وجماعة من بطارقته، وأنفذت رءوس القتلى إلى بغداد؛ وفرح المسلمون بنصر الله تعالى.
وفيها في شهر رمضان دخل المعزّ لدين الله أبو تميم معدّ العبيدى إلى مصر بعد أن بنيت له القاهرة ومعه توابيت آبائه، وكان قد مهّد له ملك الديار المصرية مولاه جوهر القائد، وبنى له القاهرة وأقام له بها دار الإمارة والقصر «1» .
وفيها وزر ببغداد أبو طاهر بن بقيّة ولقّب بالناصح، وكان سمحا كريما، له راتب كلّ يوم من الثلج ألف رطل، وراتبه من الشّمع في كلّ شهر ألف منّ؛ وكان أبو طاهر من صغار الكتّاب يكتب على المطبخ لمعزّ الدولة؛ فآل الأمر إلى الوزارة.
فقال الناس: من الغضارة إلى الوزارة! وكان كريما فغطّى كرمه عيوبه.
وفيها زلزلت بلاد الشام وهدمت الحصون ووقع من أبراج أنطاكية عدّة، ومات تحت الردم خلق كثير.
وفيها حجّ بالناس النقيب أبو أحمد الموسوىّ. وفيها ضاق الأمر على عزّ الدولة بختيار بن بويه، فبعث إلى الخليفة وطلب إسعافه على قتال الروم؛ فباع الخليفة المطيع ثيابه وأنقاض داره من ساج ورصاص، وجمع من ذلك أربعمائة ألف درهم وبعث بها إليه.(4/66)
وفيها توفّى السّرىّ بن أحمد بن السّرىّ أبو الحسن الكندىّ الرفّاء الشاعر المشهور، كان في صباه يرفو ويطرّز في دكّان بالموصل ومع ذلك يتولّع [بالأدب وينظم الشعر «1» ] ، ولم يزل على ذلك حتى جاد شعره ومهر فيه؛ وقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه وأقام عنده [مدّة «2» ] ، ثمّ بعد وفاته قدم بغداد ومدح الوزير المهلبىّ وغيره، وكان بينه وبين أبى بكر محمد وأبى عثمان سعيد ابنى هاشم الخالديّين الموصليّين الشاعرين المشهورين معاداة، فادّعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره.
وكان شاعرا مطبوعا عذب الألفاظ، كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف؛ وكان لا يحسن من العلوم شيئا غير قول الشعر. ومن شعره [أبيات «3» ] يذكر فيها صناعته:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهى وأشعارى
فأصبح الرزق بها ضيّقا ... كأنّه من ثقبها جارى
ومن محاسن شعره في المديح:
يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... فى جحفل ترك الفضاء مضيقا
ومن غرر شعره في النسيب قوله وهو في غاية الحسن:
بنفسى من أجود له بنفسى ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفى كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الجسام
وفيها توفّى محمد بن هانئ أبو القاسم، وقيل: أبو الحسن، الأزدىّ الأندلسىّ الشاعر المشهور؛ قيل: إنّه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبى صفرة؛ وقيل: بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم. وكان أبوه هانئ من قرية(4/67)
من قرى المهديّة بإفريقيّة. وكان شاعرا أديبا، كان ماهرا في الأدب، حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتّصل بصاحب إشبيلية وحظى عنده؛ وكان كثير الانهماك في اللذات متّهما بمذهب الفلاسفة؛ ولمّا اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية، واتّهم الملك بمذهبه، فأشار عليه الملك بالغيبة عن البلد مدّة [ينسى «1» فيها خبره] ؛ فانفصل وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة. وقصّته طويلة إلى أن قتل ببرقة في عوده إلى المغرب من مصر بعد أن مدح المعزّ العبيدىّ بغرر المدائح «2» . وكان عوده إلى المغرب لأخذ عياله وعوده بهم إلى مصر. وتأسّف المعزّ عليه كثيرا. ومن شعره قصيدته النونيّة في مدح المعزّ لدين الله المذكور، منها:
بيض وما ضحك الصباح وإنّها ... بالمسك من طرر الحسان لجون
أدمى لها المرجان صفحة خدّه ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
وكان ابن هانئ هذا في المغرب مثل المتنبىّ في المشرق، وكان موته في شهر رجب. وهو صاحب القصيدة المشهورة التى أوّلها:
فتقت لكم ريح الشّمال عبيرا وفيها توفّى الوزير عبّاس بن الحسين أبو الفضل الشيرازىّ، كان جبّارا ظالما، قتل بالكوفة بسقى الذّراريح «3» ، ودفن بمشهد علىّ عليه السلام. وممّا يحكى عن ظلمه أنّه قتل ببغداد رجل من أعوان الوالى، فبعث أبو الفضل الشيرازىّ هذا من طرح النار من النحّاسين الى السمّاكين، فاحترق ببغداد حريق عظيم لم يعهد مثله، وأحرقت أموال عظيمة وجماعة كثيرة من النساء والرجال والصبيان والأطفال، فأحصى(4/68)
ما أحرق ببغداد فكان سبعة عشر [ألف «1» إنسان] وثلثمائة دكان وثلثمائة وعشرين دارا؛ أجرة ذلك في الشهر ثلاثة وأربعون [ألف دينار «2» ] . فلمّا وقع ذلك قال له رجل:
أيّها الوزير أريتنا قدرتك ونحن نأمل من الله أن يرينا قدرته فيك! فبعد قليل قبض عليه عزّ الدولة وصادره وعاقبه، ثم سقى ذراريح فتقرّحت مثانته وهلك فى ذى الحجة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو إسحاق إبراهيم ابن محمد بن يحيى المزكّى. وأبو العباس. اسماعيل بن عبد الله «3» بن محمد بن ميكال.
وأبو بحر محمد بن الحسن بن كوثر «4» البربهارىّ، وأبو جعفر محمد بن عبد الله البلخىّ شيخ الحنفية ببخارى في ذى الحجة، كان إمام عصره بلا مدافعة. وأبو عمر «5» محمد بن موسى بن فضالة. وأبو الحسن محمّد بن هانئ شاعر الأندلس
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية المعزّ العبيدى على مصر
هو أبو تميم معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الملقّب بالمعزّ لدين الله، والذي تنسب إليه القاهرة(4/69)
المعزّيّة. مولده بالمهديّة في يوم الاثنين حادى عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة؛ وبويع بالخلافة في الغرب يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوّال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة بعد موت أبيه. يأتى ذكر نسبه وأقوال الناس فيه بعد أن نذكر قدومه إلى القاهرة وما وقع له مع أهلها ثم مع القرمطىّ.
وقال ابن خلكان: «وكان المعزّ قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور إسماعيل، ثم جدّدت له البيعة [بعد «1» وفاته] فى يوم الأحد سابع ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثلثمائة» . قلت: هو أوّل خليفة كان بمصر من بنى عبيد.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخ الإسلام: «وهو أوّل من تملّك ديار مصر من بنى عبيد [الرافضة «2» ] المدّعين أنهم علويّون. وكان ولىّ عهد أبيه إسماعيل، فاستقل بالأمر [فى آخر «3» ] سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، وسار في نواحى إفريقيّة ليمهّد مملكته، فأذلّ العصاة واستعمل على المدن غلمانه واستخدم الجند. ثم جهّز مولاه جوهرا القائد في جيش كثيف؛ فسار فافتتح سجلماسة، وسار حتى وصل إلى البحر المحيط وصيدله من سمكه، وافتتح مدينة فاس، وأرسل بصاحبها وصاحب سبتة «4» أسيرين إلى المعزّ؛ ووطّأ له جوهر من إفريقيّة إلى البحر سوى مدينة سبتة فإنّها بقيت لبنى أميّة أصحاب الأندلس» .
وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفّر في تاريخه مرآة الزمان: «وكان مغرّى بالنجوم (يعنى المعزّ) والنظر فيما يقتضيه الطالع؛ فنظر في مولده وطالعه فحكم له بقطع فيه، فاستشار منجّمه فيما يزيله عنه؛ فأشار عليه أن يعمل سردابا تحت(4/70)
الأرض ويتوارى فيه إلى حين جواز الوقت؛ فعمل [على «1» ] ذلك، وأحضر قوّاده وكتّابه وقال لهم: إن بينى وبين الله عهدا في وعد وعدنيه و [قد «2» ] قرب أوانه، وقد جعلت نزارا ولدى ولىّ عهدى بعدى، ولقّبته العزيز بالله، واستخلفته عليكم وعلى تدبير أموركم مدّة «3» غيبتى، فالزموا الطاعة له واتركوا المخالفة واسلكوا الطريق السديدة «4» ؛ فقالوا: الأمر أمرك، ونحن عبيدك وخدمك؛ ووصّى العزيز ولده بما أراد، وجعل القائد جوهرا مدبّره والقائم بأمره بين يديه؛ ثم نزل إلى سرداب اتخذه وأقام فيه سنة؛ وكانت المغاربة إذا راوا غماما سائرا ترجّل الفارس منهم إلى الأرض، وأومأ بالسلام يشير [إلى] أن المعزّ فيه؛ ثمّ خرج المعزّ بعد ذلك وجلس للناس، فدخلوا عليه على طبقاتهم ودعوا له، فأقام على ما كان عليه» . انتهى.
وقيل: إنّه دخل مصر ومعه خمسمائة جمل موسوقة ذهبا عينا وأشياء كثيرة غير ذلك.
وقال القفطىّ: «إنّ المعزّ كان قد عزم على تجهيز عسكر إلى مصر؛ فسألته أمّه تأخير ذلك لتحجّ خفية، فأجابها وحجّت. فلمّا وصلت إلى مصر أحسّ بها كافور الإخشيذىّ الأستاذ فحضر إليها وخدمها وحمل إليها هدايا وبعث في خدمتها أجنادا، فلمّا رجعت من حجّها منعت ولدها من غزو بلاده. فلمّا توفّى كافور بعث المعزّ جيوشه فأخذوا مصر» . انتهى.
ولمّا أرسل المعزّ القائد جوهرا إلى مصر وفتحها وبلغه ذلك سار بنفسه إلى المهديّة في الشتاء فأخرج من قصور آبائه من الأموال خمسمائة حمل، ثم سار نحو الديار المصريّة بعد أن مهّد له جوهر القائد وبنى له القاهرة. وكان صادف مجىء(4/71)
جوهر إلى مصر الغلاء والوباء، فلم يلتفت إلى ذلك وافتتحها؛ ثم افتتح الحجاز «1» والشام، وأرسل يعرّف المعزّ. وقد ذكرنا شيئا من ذلك في ترجمة جوهر القائد.
وخرج المعزّ من المغرب في سنة إحدى وستين وثلثمائة بعد أن استخلف على إفريقيّة [يوسف «2» ] بلكّين بن زيرى الصّنهاجى، وجدّ المعزّ في السير في خزائنه وجيوشه حتى دخل الإسكندريّة في شعبان سنة اثنتين وستين وثلثمائة؛ فتلقّاه قاضى مصر أبو طاهر «3» الذّهلى والأعيان، وطال حديثهم معه، وأعملهم بأنّ قصده القصد المبارك من إقامة الجهاد والحقّ وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، وأن يعمل بما أمره به جدّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ووعظهم وطوّل حتى أبكى بعضهم وخلع على جماعة. ثمّ نزل بالجيزة وأخذ جيشه في التعدية إلى مصر ثمّ ركب هو ودخل القاهرة؛ وقد بنيت له بها دور الإمارة، ولم يدخل مدينة مصر، وكانوا قد احتفلوا وزيّنوا مصر بأحسن زينة. فلمّا دخل القصر خرّ ساجدا وصلّى ركعتين.
وقال عبد الجبّار البصرىّ: «وكان السبب في مجيئه إلى مصر؛ أنّ الرّوم كانوا قد استولوا على الشام والثغور وطرسوس وأنطاكية وأذنة [وعين «4» زربة] والمصّيصة وغيرها وفرح بمصاب المسلمين؛ وبلغه أن بنى بويه قد غلبوا على بنى العباس وأنهم لا حكم لهم معهم؛ فاشتدّ طمعه في البلاد؛ وكان له بمصر شيعة فكاتبوه يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعزّ الدنيا كلّها، ويعنون بالحجر الأسود الأستاذ كافورا الإخشيذىّ الخصىّ، وكان كافور يومئذ أمير مصر(4/72)
نيابة عن ابن الإخشيذ وعن الحسن بن عبيد الله بن طغج أمير الشام، وكان الحسن قد دخل مع الشّيعة في الدعوة، وكان الحسن ضعيفا رخوا؛ ولذلك كان كافور هو المتكلّم عنه لأنّ الجند كانوا قد طمعوا فيه (أعنى الحسن) وكرهوه وكرههم؛ فقال له أبو جعفر بن نصر، وكان من دعاة المعزّ بالقاهرة: هؤلاء القوم قد طمعوا فيك، والمعزّ لك مثل الوالد، فإن شئت كاتبته ليشدّ منك ويكون من وراء ظهرك؛ فقال الحسن: إى والله قد أحرقوا قلبى!. فكتب إلى المعزّ يخبره؛ فبعث المعزّ القائد جوهرا، وهو عبد رومىّ غير خصىّ؛ فجاء جوهر إلى مصر في مائة ألف مقاتل، فدخل مصر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، حسب ما ذكرناه، وأخرج الحسن المذكور بعد أن قاتله؛ واستولى جوهر على الخزائن والأموال والذخائر. وتوجّه الحسن إلى الرملة ثم ظفر به جوهر وبعث به إلى المعزّ إلى الغرب؛ فلمّا دخل عليه الحسن قرّ به المعزّ و؟؟؟ بشّ «1» به، وقال: أنت ولدى؛ وكاتبتنى على دخول مصر وإنّما بعثت جوهرا لينصرك، ولقد لحقنى بتجهيز «2» الجيوش إلى مصر أربعة آلاف ألف [وخمسمائة «3» ألف] دينار. فظنّ الحسن أنّ الأمر كما قال المعزّ، ولم يدر أنه خدعه؛ فسعى إليه بجماعة من قوّاد مصر والأمراء وأرباب الأموال وعرّفه حال المصريّين، وكان كلّ واحد من هؤلاء الذين دلّ الحسن المعزّ عليهم مثل قارون في الغنى؛ فكتب المعزّ إلى جوهر باستئصالهم ومصادرتهم [وأن «4» يبعث بهم إليه] ثمّ حبسهم مع الحسن؛ فكان ذلك آخر العهد بهم» . فقال الذهبىّ: هذا قول منكر بل أخرج الحسن بن عبيد الله من مصر وبايع للمعزّ، ثم قدم بعد ذلك ووقعت الوحشة بينهم.(4/73)
ولمّا دخل المعزّ إلى القاهرة احتجب في القصر فبعث عيونه ينقلون إليه أخبار الناس وهو متوفّر في النعم والأغذية المسمنة والأطلية التى تنقّى البشرة وتحسّن اللّون. ثمّ ظهر للناس بعد مدّة وقد لبس الحرير الأخضر وجعل على وجهه اليواقيت والجواهر تلمع كالكواكب. وزعم أنّه كان غائبا في السماء وأنّ الله رفعه إليه؛ فامتلأت قلوب العامّة والجهّال منه رعبا وخوفا، وقطع ما كان على ابن الإخشيذ في كلّ سنة من الأتاوة للقرامطة، وهى ثلثمائة ألف دينار. ولمّا بلغ القرمطىّ ذلك عظم عليه؛ لأنّ المعزّ كان يصافيه لمّا كان بالمغرب ويهاديه، فلمّا وصل إلى مصر قطع ذلك عنه. وسار القرمطىّ، واسمه الحسن بن أحمد بن أبى سعيد الحسن بن بهرام القرمطىّ، إلى بغداد وسأل الخليفة المطيع بالله العباسىّ على لسان عزّ الدولة بختيار أن يمدّه بمال ورجال ويولّيه الشام ومصر ليخرج المعزّ منها؛ فامتنع الخليفة المطيع بالله من ذلك، وقال: كلّهم قرامطة وعلى دين واحد؛ فأمّا المصريون (يعنى بنى عبيد) فأماتوا السنن وقتلوا العلماء؛ وأمّا هؤلاء (يعنى القرامطة) فقتلوا الحاجّ، وقلعوا الحجر الأسود، وفعلوا ما فعلوا. فقال عزّ الدولة بختيار للقرمطىّ: اذهب فافعل ما بدالك. وقيل: إنّ بختيار أعطاه مالا وسلاحا. فسار القرمطىّ إلى الشام ومعه أعلام سود، وأظهر أنّ الخليفة المطيع ولّاه وكتب على الأعلام اسم المطيع عبد الكريم، وتحته مكتوب" السادة الراجعون إلى الحقّ" وملك القرمطىّ الشام ولعن المعزّ هذا على منبر دمشق وأباه؛ وقال: هؤلاء من ولد القدّاح كذّابون مخترقون أعداء الإسلام، ونحن أعلم بهم؛ ومن عندنا خرج جدّهم القدّاح. ثم أقام القرمطىّ الدعوة لبنى العباس وسار إلى مصر بعساكره. ولمّا بلغ المعزّ مجيئه تهيّأ لقتالهم؛ فنزل القرمطىّ بمشتول «1» الطواحين، وحصل(4/74)
بينه وبين المعزّ مناوشات، ثم تقهقر المعزّ ودخل القاهرة وانحصر بها إلى أن أرضى القرمطىّ بمال وخدعه، وانخدع القرمطىّ وعاد إلى نحو الشام، فمات بالرّملة في شهر رجب، وأراح الله المسلمين منه، وصفا الوقت للمعزّ فإنّ القرمطىّ كان أشدّ عليه من جميع الناس للرّعب الذي سكن في قلوب الناس منه؛ فكانت القرامطة إذا كانوا فى ألف حطّموا «1» مائة ألف وانتصفوا. خذلان من الله تعالى لأمر يريده.
ذكر ما قيل في نسب المعزّ وآبائه
قال القاضى عبد الجبّار البصرىّ: «اسم جدّ الخلفاء المصرييّن سعيد، ويلقّب بالمهدىّ، وكان أبوه يهوديّا حدّادا بسلمية؛ ثم زعم سعيد هذا أنّه ابن الحسين بن أحمد «2» بن عبد الله بن ميمون القدّاح. وأهل الدعوة أبو القاسم الأبيض العلوىّ وغيره يزعمون أنّ سعيدا إنّما هو من امرأة الحسين المذكور، وأنّ الحسين ربّاه وعلّمه أسرار الدعوة، وزوجته بنت أبى الشلغلغ «3» ، فجاءه ابن فسمّاه عبد الرّحمن. فلمّا دخل الغرب وأخذ سجلماسة تسمّى بعبيد الله ثمّ تكنّى بأبى محمد، وسمّى ابنه الحسن، وزعمت المغاربة أنّه يتيم ربّه وليس بابنه ولا بابن زوجته؛ وكناه أبا القاسم وجعله ولىّ عهده» . انتهى.
وقال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: «القدّاح جدّ عبيد الله كان مجوسيا، ودخل عبيد الله المغرب وادّعى أنه علوىّ ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وكان باطنيا(4/75)
خبيثا حريصا على إزالة ملّة الإسلام؛ أعدم الفقه والعلم ليتمكّن من إغراء الخلق؛ وجاء أولاده أسلوبه وأباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرّفض، وبثّوا دعاة فأفسدوا عقائد جبال الشام، كالنّصيرية «1» والدّروزيّة «2» . وكان القدّاح كاذبا مخترقا، وهو أصل دعاة القرامطة» . انتهى.
وقال ابن خلكان: «اختلف في نسبهم، فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبيد الله بن الحسن «3» بن علىّ بن محمد بن علىّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم» . انتهى. وقال غيره: هو عبيد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور في قول صاحب تاريخ القيروان. وقيل:
هو علىّ بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن علىّ بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم. وقيل: هو عبيد الله بن التقىّ بن الوفىّ بن الرضىّ، وهؤلاء الثلاثة يقال لهم المستورون في ذات الله. والرضىّ المذكور هو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر. واسم التقىّ الحسين. واسم الوفىّ أحمد. واسم الرضىّ عبد الله. وإنّما استتروا خوفا على أنفسهم لأنّهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء من بنى العباس، لأنّهم علموا أنّ فيهم من يروم الخلافة؛ [أسوة غيرهم من العلوييّن، وقضاياهم ووقائعهم في ذلك مشهورة «4» ] . وإنّما تسمّى المهدىّ عبيد الله استتارا.
هذا عند من يصحّح نسبه ففيه اختلاف كثير. وأهل العلم بالأنساب من المحقّقين ينكرون دعواه في النسب. وقيل: هو عبيد الله بن الحسين بن علىّ بن محمد بن على(4/76)
الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق. وقيل: هو علىّ بن الحسين بن أحمد ابن عبد الله بن الحسين بن محمد بن زين العابدين بن محمد بن الحسين، وإنّما سمّى نفسه [عبيد «1» الله] استتارا. وهذا أيضا على قول من يصحّح نسبهم. والذي ينكر نسبه يقول: اسمه سعيد، ولقبه عبيد الله، وزوج أمّه الحسين بن أحمد القدّاح، كان كحّالا يقدح العين إذا نزل فيها ماء.
وقال ابن خلكان: «وجاء المعزّ من إفريقيّة وكان يطعن في نسبه. فلمّا قرب من البلد (يعنى مصر) وخرج الناس للقائه، اجتمع به جماعة من الأشراف؛ فقال له من بينهم الشريف عبد الله بن طباطبا: إلى من ينتسب مولانا؟ فقال له المعزّ:
سنعقد مجلسا ونسرد عليكم نسبنا. فلمّا استقرّ المعزّ بالقصر جمع الناس في مجلس عامّ وجلس لهم وقال: هل بقى من رؤسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق معتبر، فسلّ [عند ذلك نصف «2» ] سيفه وقال: هذا نسبى! ونثر عليهم ذهبا كثيرا، وقال: هذا حسبى! فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا» . قلت: وفي نسب المعزّ أقوال كثيرة أخر أضربت عن ذكرها خوف الإطالة. والظاهر أنه ليس بشريف، وأنّه مدّع. والله أعلم.
واستمر بالقاهرة إلى أن مرض بها وتوفّى يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وستين وثلثمائة، وله ست وأربعون سنة؛ وقام ولده العزيز نزار بعده بالأمر «3» . وأقام المعزّ واليا ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، منها بمصر ثلاث سنين، وباقى ولايته كانت بالمغرب:
وخلّف عشرة أولاد: نزارا الذي ولى مصر بعده وعبد الله وعقيلا وسبع بنات.(4/77)
وأقام بتدبير مملكة ولده العزيز جوهرا القائد بانى القاهرة وصاحب جامع الأزهر المقدّم ذكره.
قال ابن خلّكان: إنّه توفّى يوم الجمعة الحادى عشر من شهر ربيع الآخر.
وقيل: الثالث عشر [وقيل لسبع «1» خلون] منه. فخالف ما قلنا «2» فى اليوم والشهر إلّا أنّه وافق في السنة. قال: و (معدّ بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الدال المهملة) .
انتهى. قلت: وكان المعزّ عاقلا حازما أديبا جوادا ممدّحا، فيه عدل وإنصاف للرعية، فمن عدله [ما] حكى عنه أنّ زوجة الإخشيذ الذي كان ملك مصر لمّا زالت دولتهم أودعت عند يهودىّ بغلطاقا «3» كلّه جوهر، ثمّ فيما بعد طالبته فأنكر؛ فقالت: خذكمّ البغلطاق وأعطنى ما فضل فأبى؛ فلم تزل به حتّى قالت: هات الكمّ وخذ الجميع فلم يفعل؛ وكان في البغلطاق بضع عشرة درّة؛ فأتت المرأة إلى قصر المعزّ فأذن لها فأخبرته بأمرها، فأحضره وقرّره فلم يقرّ؛ فبعث إلى داره من خرّب حيطانها فظهرت جرّة فيها البغلطاق؛ فلما رآه المعزّ تحيّر من حسنه، ووجد اليهودىّ قد أخذ من صدره درّتين، فآعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار؛ فسلّمه المعز بكماله للمرأة.
فاجتهدت أن يأخذه المعزّ هديّة أو بثمن فلم يفعل؛ فقالت: يا مولاى، هذا كان يصلح لى وأنا صاحبة مصر، وأمّا اليوم فلا؛ فلم يقبله المعزّ وأخذته وانصرفت.(4/78)
وكان المعزّ قد أتقن فنونا من العلم والأدب. ومن شعره قوله:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر»
أمضى وأقضى في النفو ... س من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم ... تعب المهاجر في الهواجر
ذكر ركوب الخلفاء الفاطميين في أوّل العام من كلّ سنة
والمعزّ هذا هو الذي استسنّ ذلك كلّه، فكان أمره إذا كان أواخر ذى الحجّة من كلّ سنة انتصب كلّ من المستخدمين في الأماكن الآتى ذكرها لإخراج آلات الركوب:
فيخرج من خزائن الأسلحة ما يحمله صبيان الرّكاب «2» حول الخليفة، وهو الصّماصم «3» المصقولة المذهّبة، [مكان «4» السيوف] ، والدبابيس الملبّسة الكيمخت «5» الأحمر والأسود مدوّرة الرأس مضرّسة؛ ولتوت «6» رءوسها مستطيلة؛ وآلات يقال لها المستوفيات، وهى عمد حديد طول ذراعين مربّعة الشكل، لها مقابض مدوّرة فى اليد، وعدد معلومة أيضا من كلّ صنف يتسلّمها نقباؤهم؛ وستّمائة حربة بأسنّة مصقولة تحتها جلب «7» فضّة، كل اثنتين في شرّابة تعطى لثلثمائة عبد [من] السودان الشباب يقال لهم أرباب السلاح الصغير «8» ويعطى لكل منهم درقة. هذا من خزائن السلاح.(4/79)
ثمّ يخرج من خزائن التجمّل، وهى من حقوق خزائن السلاح، القضب الفضة [برسم «1» ] تشريف الوزير وأرباب الرتب من الأمراء والعساكر من الرّجالة والمشاة، وهى رماح ملبّسة بأنابيب الفضة المنقوشة بالذهب سوى ذراعين منها، فإنّها مشدودة بالمعاجر الشرب «2» الملوّنة، وتبقى أطرفها المرقومة مسبلة كالسناجق «3» ، وبرأس كلّ رمح رمامين فضة منفوخة وأهلّة مجوّفة وفيها جلاجل لها حسّ إذا تحرّكت، وعدّتها مائة رمح.
ومن العماريّات «4» وهى شبه الكجاوات «5» مائة عماريّة ملبّسة بالديباج الأحمر والأصفر والسقلاطون «6» مبطّنة «7» مضبوطة بزنانير من حرير، وعلى دائر التربيع مناطق بكوامخ «8» فضّة مسمورة في جلد.
ويخرج للوزير لواءان على رمحين ملفوفين غير منشورين، فيسيران أمام الوزير.
ثمّ يسير للأمراء أرباب الرتب في الخدم، أوّلهم صاحب الباب «9» عشر «10» قصبات وعشر(4/80)
عماريّات. وللإسفهسالار «1» مثل ذلك عدّة عماريّات بألوان مختلفة؛ ومن سواهما من الأمراء خمس «2» .
ثمّ يخرج من البنود الخاصّ الدّبيقىّ «3» المرقوم الملوّن برماح ملبّسة بالأنابيب، على رءوسها الرمامين والأهلة للوزير أيضا خاصّة. ودون هذه البنود مما هو حرير على رماح غير ملبّسة، رءوسها ورمامينها نحاس مجوّف مذهّب، أمام الأمراء المذكورين.
ثمّ يخرج لقوم يقال لهم السبربرية «4» سلاح، كلّ قطعة طول ثلاث أدرع برأسها طلعة مصقولة وهى من خشب القنطارية داخلة في الطلعة، وفي عقبها حديد مدوّر السّفل، فهى في كفّ حاملها الأيمن، وهو يفتلها فتلا متدارك الدوران؛ وفي يده اليسرى نشّابة كبيرة يخطر بها.
ثمّ يخرج من النّقّارات حمل خمسين «5» بغلا على خمسين بغلا، على كلّ بغل خمس مثل الكوسات يقال لها طبول. قلت: ولها حسّ مستحسن. ويسيرون في المواكب ثلاثا «6» . ثمّ يخرج لقوم متطوّعين ليس لهم جراية ولا نفقة، وعدّتهم مائة رجل،(4/81)
لكل واحد درقة من درق اللّمط «1» واسعة وسيف؛ ويسيرون رجّالة. هذا ما يخرج من خزائن السلاح.
ثمّ يحضر حامى خزائن السروج، وهو من الأستاذين «2» المحنّكين، إليها مع مشارفها وهو من الشهود المعدّلين «3» ، فيخرج منها من «4» خاصّ الخليفة من الرّكاب المحلّى ما هو برسم ركوبه، وما يجنب في الموكب مائة سرج تشدّ على عدّة حصن. ويقال: كلّ مركب مصوغ من ذهب وفضّة، أو من ذهب منزّل فيه المينا، وروادفها وقرابيسها من نسبتها. ومنها مرصّع بحبّ اللؤلؤ الفائق. والخيل مطوّقة بأعناق الذهب وقلائد العنبر، وفي أيدى أكثرها خلاخل مسطّحة بالذهب، ومكان الجلد من السروج الديباج الأحمر والأصفر وغيرهما من الألوان المنقوشة؛ قيمة كلّ دابّة وما عليها ألف دينار. فيشرّف الوزير منها بعشرة لركوبه وأولاده ومن يشاء من أقاربه. ويتسلّم ذلك كلّه عرفاء الإصطبلات.(4/82)
ثمّ يخرج من الخزانة أيضا لأرباب الدواوين المرتّبين في الخدم مراكب على مقدارهم، عليها من العدّة دون «1» ما تقدّم ذكرهم، وعدّتهم ثلثمائة خيل وبغال. ثم ينتدب حاجب يفرّق لأرباب الخدم كلّ واحد سيفا وقلما؛ فيحضر سحر اليوم المذكور إلى منازل أرباب الخدم بالقاهرة ومصر، ولهم رسوم من الرّكاب من دينار إلى نصف دينار إلى ثلث دينار. فإذا تكمّل ما وصفنا وتسلّمه أربابه من العرفاء يجلس «2» الخليفة في الشبّاك لعرض الخيل الخاصّ المقدّم ذكرها، ويقال له يوم عرض الخيل، فيستدعى الوزير بصاحب الرسالة، وهو من كبار الأستاذين المحنّكين، فيمضى مسرعا على حصان دهراج «3» ، فيعود ويعلم باستدعاء الوزير؛ فيخرج الخليفة من مكانه راكبا في القصر والناس بين يديه مشاة، فينزل بمكان «4» لا بدهليز باب الملك الذي فيه الشباك، وعليه ستر؛ فيقف زمام «5» القصر من جانبه الأيمن وصاحب بيت المال «6» من جانبه الأيسر. فيركب الوزير من داره وبين يديه الأمراء. فيترجّل الأمراء من باب القصر والوزير راكب، ويدخل من باب العيد في هذا اليوم، وينزل عند أوّل الدّهاليز الطّوال، ويمشى وحوله حاشيته وأقاربه إلى الشبّاك، فيجلس على كرسىّ جيّد ورجلاه تطأ الأرض. فعند ما يجلس يرفع الأستاذان جانبى الستر الذي «7» على الخليفة. فإذا رأى الوزير الخليفة وقف وسلّم وخدم بيده إلى الأرض خمس «8» مرّات. ثم يؤذن له في الجلوس على كرسيّه،(4/83)
ويقرأ القرّاء آيات لائقة بذلك الحال نصف ساعة. ثم تعرض الخيول كالعرائس بأيدى شدّاديها، فيقرأ القرّاء عند تمام العرض ويرخى جنبات الستر. ويقوم الوزير فيدخل ويقبّل يد الخليفة ورجله؛ ثمّ ينصرف فيركب من مكان نزوله والأمراء فى ركابه ركبانا ومشاة إلى قريب من داره. فإذا صلّى الإمام الظهر جلس الخليفة لعرض ما يلبسه في الغد من خزائن الكسوة الخاصّة، ويكون لباسه البياض، فيعين منديلا خاصّا وبدلة. ويتسلّم المنديل شادّ التاج الشريف، ويقال له شدّ «1» الوقار، وهو من الأستاذين المحنّكين وله ميزة، فيشدّها شدّة غريبة لا يعرفها سواه، شكل الإهليلجة.
ثم يحضر إليه اليتيمة، وهى جوهرة عظيمة لا تعرف لها قيمة، فتنظم وحولها ما هو دونها من الجواهر؛ وهى موضوعة في هلال من ياقوت أحمر ليس له مثال في الدنيا، زنته أحد عشر مثقالا، وقيل أكثر، يقال له الحافر، فتنظم في خرقة حرير أحسن ما يمكن من الوضع، ويخاط على «2» التاج بخياطة خفيفة، فيكون ذلك بأعلى جبهة الخليفة، وبدائرها قصب الزّمرذ الذّبابىّ «3» العظيم القدر.
ثمّ يؤمر بشدّ المظلّة التى تشاكل تلك البدلة، وهى اثنا عشر شوزكا «4» ، عرض أسفل كلّ شوزك شبر وطوله ثلاث أذرع وثلث؛ وآخر الشوزك من فوق دقيق جدا. فيجتمع ما بين الشوازك في رأس عمودها دائرة «5» . والعمود من الزان ملبّس بأنابيب الذهب «6» . وفي آخر أنبوبة تلى الرأس فلكة بارزة قدر عرض إبهام. فيشدّ(4/84)
آخر الشوازك في حلقة ذهب. وللمظلة أضلاع من خشب الخلنج «1» مربّعات مكسوّة بالذهب على عدد الشوازك خفاف بطول الشوازك. وفيها خطاطيف لطاف، وحلق يمسك بعضها بعضا تنضمّ وتنفتح، ورأسها كالرمّانة، ويعلوه أيضا رمّانة صغيرة كلها ذهب مرصّع بجوهر، ولها رفرف دائر عرضه أكثر من شبر ونصف، وتحت الرّمانة عنق مقدار ستّ «2» أصابع. فاذا أدخلت الحلقة الذهب الجامعة لآخر الشوازك في رأس العمود ركّبت عليها الرمانة ولفّت في عرضى «3» دبيقىّ مذهب، فلا يكشفها منه إلّا حاملها عند تسليمها وقت الركوب.
ثمّ يؤمر بشدّ لواءى الحمد المحتصّين بالخليفة، وهما رمحان [طويلان «4» ملبّسان بمثل أنابيب عمود المظّلّة إلى حدّ نصفهما] برأسهما لواءان حريرا أبيض مرقوما بالذهب ملفوفين على رماحهما، ويخرجان بخروج المظّلة، فيحملهما أميران.
ثمّ يخرج إحدى وعشرون راية لطيفة من حرير مرقوم، ملوّنة بكتابة «5» فى كلّ واحدة بما يخالف لونها [ونص «6» كتابتها] : (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)
. طول كلّ راية ذراعان في ذراع ونصف، فتسلّم لواحد وعشرين رجلا.
ثمّ يخرج رمحان في رءوسهما أهلّة من ذهب في كلّ واحد سبع من ديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة «7» مستديرة، يدخل فيها الريح فينفتحان فيظهر شكلهما، ويتسلمهما فارسان يسيران أمام الرايات.(4/85)
ثمّ يخرج السيف الخاصّ، وجلبته [ذهب «1» ] مزصّعة بالجواهر، فى خريطة مرقومة بالذهب، لا يظهر سوى رأسه، فيخرج مع المظّلة، وحامله أمير، عظيم القدر، وهو أكبر حامل.
ثمّ يخرج الرمح، وهو رمح لطيف، فى غلاف منظوم من لؤلؤ، وله سنان مختصر بحلية ذهب [وله شخص مختص بحمله «2» ] . ودرقة بكوامخ ذهب وسيعة، تنسب إلى حمزة بن عبد المطّلب، في غشاء حرير، فيحملها «3» أمير مميّز له جلالة. ثمّ يعلم الناس سلوك الموكب. والموكب دورتين «4» ؛ إحداهما كبرى، وهى من باب القصر إلى باب النصر، مارّا إلى الحوض حوض «5» عزّ الملك. ثمّ ينعطف على اليسار إلى باب الفتوح إلى القصر. والأخرى هى الصغرى، إذا خرج من باب النصر سار حول السور ودخل من باب الفتوح إلى القصر. فكان إذا ركب ساروا بين يديه بغير اختلال ولا تبديل. فإذا أصبح الصبح يوم غرّة العام اجتمع أرباب الرتب من القاهرة ومصر وأرباب السيوف والأقلام، فصفّوا بين القصرين، ولم يكن فيه بناء كاليوم بل كان خلاء. ويبكّر الأمراء إلى دار الوزير؛ فيركب الوزير من غير استدعاء، ويسير أمامه تشريفه المقدّم ذكره «6» ، والأمراء بين يديه ركّابا ومشاة، وأمامه بنوه وإخوته، وكلّ منهم يرخى الذؤابة بغير حنك «7» ؛ وهو في أبّهة عظيمة من الثياب الفاخرة والمنديل(4/86)
بالحنك، متقلدا سيفا مذهّبا؛ فيدخل أهله عند القصر في أخصّ مكان لا يصل الأمراء إليه؛ ويدخل الوزير من باب القصر راكبا وحده إلى دهليز العمود، فينزل على مصطبة هناك ويمشى إلى القاعة ويجلس بها. فإذا دخلت الدّابة لركوب الخليفة وأسندت إلى الكرسىّ الذي يركب عليه الخليفة من باب المجلس أخرجت المظلّة إلى حاملها، فيكشفها بإعانة جماعة من الصقالبة «1» برسم خدمتها، فيركزها في آلة من حديد متّخذة شكل القرن المصطحب «2» ، وهو مشدود في ركاب حاملها الأيمن بقوّة وتأكيد بعقبها، فيمسك العمود بحاجز فوق يده فيبقى وهو منتصب لا يضطرب فى ريح عاصف.
ثمّ يخرج السيف فيتسلّمه حامله، ويرخى له ذؤابة «3» ما دام حاملا له.
ثمّ تخرج الدواة فيتسلّمها حاملها، وهو من الأستاذين المحنّكين، وهى الدواة التى كانت من أعاجيب الزمان، وهى من الذهب، وحليتها من المرجان، تلفّ في منديل شرب بياض مذهب. وفيها يقول بعض الشعراء:
ألين لداود الحديد كرامة ... فقدّره في السّرد كيف يريد
ولان «4» لك المرجان وهو حجارة ... على أنّه صعب المرام شديد
ثمّ يخرج الوزير ومن معه وينضمّ إليه الأمراء، فيقف إلى جانب الدّابة، فيرفع صاحب [المجلس «5» ] السّتر، فيخرج منه الخليفة بالهيئة المشروحة قبل تاريخه: من(4/87)
الثياب والمنديل الحامل لليتيمة بأعلى جبهته، وهو محنّك مرخى الذؤابة مما يلى جانبه الأيسر، متقلّد سيفا عربيا «1» وبيده قضيب الملك، وهو طول شبر ونصف، من عود مكسوّ بالذهب المرصّع بالجوهر؛ فيسلّم على الوزير قوم مرتّبون لذلك، ويسلّمون على أهله وعلى الأمراء بعدهم.
ثمّ يخرجون شيئا بعد شىء إلى أن يبقى الوزير فيخرج بعدهم، ويركب ويقف قبالة باب القصر إلى أن يخرج الخليفة وحوله الأستاذون، ودابّته تمشى على بسط مفروشة خيفة أن تزلق على الرّخام. فعند ما يقرب من الباب يضرب رجل ببوق من ذهب لطيف معوجّ الرأس، يقال له العربانة «2» ، بصوت عجيب يخالف أصوات البوقات، فتضرب أبواق الموكب وتنشر المظلّة، ويخرج الخليفة من الباب فيقف مقدار ما يركب الأستاذون المحنّكون وأرباب الرتب الذين كانوا بالقاعة.
ثمّ يسيرون والمظلّة على يسار الخليفة وصاحبها يبالغ ألّا يزول عنه ظلّها، وصبيان الركاب، منهم جماعة كبيرة من الشكيمتين، وجماعة أخرى في عنق الدّابة، وجماعة أخرى في ركابيه. فالأيمن مقدّم المقدّمين، وهو صاحب المقرعة التى يناولها [للخليفة ويتناولها منه «3» ] ، ويؤدّى عن الخليفة الأوامر والنواهى مدّة ركوبه.
ويسير «4» الموكب وبأوّله أخلاط بعض العسكر، ثمّ الأماثل، ثمّ أرباب المناصب، ثم أرباب الأطواق، ثمّ الأستاذون المحنّكون، ثمّ حاملا لواءى الحمد من الجانبين،(4/88)
ثمّ حامل الدّواة، وموضعها من حاملها بينه وبين قربوس السّرج، ثمّ صاحب السيف وهما في الجانب الأيسر. وكلّ ممّن تقدّم ذكره بين «1» العشرة والعشرين من أصحابه.
وأهل الوزير من الجانب الأيمن بعد الأستاذين المحنّكين؛ ثمّ الخليفة وحوله صبيان الرّكاب المذكورة تفرقة «2» السلاح [فيهم] ، وهم ما يزيد على ألف رجل، وعليهم المناديل الطبقيّات يتقلّدون بالسيوف، وأوساطهم مشدودة بمناديل، والسلاح مشهور بأيديهم، من جانبى الخليفة كالجناحين، وبينهم فرجة لوجه الدّابة ليس فيها أحد.
وبقرب من رأس الدّابة صقلبيّان محمّلان مذبّتين، كلّ واحدة، كالنخلتين، لما يسقط من طائر وغيره؛ وهو سائر على تؤدة ورفق. وبطول «3» الموكب والى القاهرة رائح وعائد يفسح الطرقات ويسيّر الفرسان، فيلقى في عوده الإسفهسالار كذلك «4» فى حثّ الأجناد في الحركة وينكر على المزاحمين. ويلقى أيضا في عوده صاحب الباب بمن في زمرة الخليفة إلى أن يصل إلى الإسفهسالار، فيعود لترتيب الموكب، وبيد كلّ منهم دبّوس. وخلف دابة الخليفة قوم من صبيان الركاب لحفظ أعقابه، وخلفهم أيضا أخر يحمل كلّ واحد سيفا في خريطة ديباج أحمر وأصفر بشراريب، يقال لها «سيوف الدم» لضرب الأعناق. ثمّ صبيان السلاح الصغير أرباب الفرنجيات [المقدّم ذكرهم «5» ] أوّلا.
ثمّ يأتى الوزير وفي ركابه قوم من أصحابه وقوم يقال لهم صبيان الزّرد من أقوياء الأجناد، يختارهم «6» لنفسه نحو من خمسمائة رجل من جانبيه، كأنّه على قلق من(4/89)
حراسة الخليفة، ويجتهد ألّا يغيب عن نظره «1» ، وخلفه الطّبول والصّنوج والصفافير، بحيث تدوّى منهم الدنيا في عدد كثير. ثمّ يأتى حامل الدّرقة والرمح. ثمّ طوائف «2» الراجل «3» من الركابيّة والجيوشيّة وقبلهما المصامدة، ثمّ الفرنجية، ثمّ الوزيريّة زمرة بعد زمرة في عدد وافر يزيد على أربعة آلاف نفر، ثمّ أصحاب الرايات، ثمّ طوائف العساكر من الامريّة والحافظيّة والحجريّة الكبار والحجريّة الصّغار والصّقلّيّة «4» ، ثمّ الأتراك المصطنعون «5» ، ثمّ الديلم، ثم الأكراد والغزّ المصطنعة وهم البحريّة. ويقدم هذه الفرسان عدّة وافرة من المترجّلة أرباب قسىّ اليد وقسىّ الرّجل في نيّف وخمسمائة نفر، وهم المعدّون للأساطيل، وجملتهم نحو ثلاثة آلاف وأكثر. وهؤلاء الذين ذكرناهم بعض من كلّ لا جميع عسكر الخليفة. ثمّ يدخلون من باب الفتوح ويقفون بين القصرين كما كانوا.
فإذا وصل الخليفة إلى موضع جامع الأقمر الآن وقف وقفة وانفرج الموكب، فيمرّ الموكب بالخليفة، ويسكع «6» الوزير ليظهر للناس خدمته، ويشير إليه الخليفة(4/90)
بالسلام إشارة خفيفة؛ وهذه أعظم مكارمة تصدر عن الخليفة، وهى للوزير صاحب السيف خاصّة؛ فيسبق إذا لدخول الباب بالقصر راكبا إلى موضعه على العادة، خاصّة له، والأمراء مشاة. فيصل الخليفة إلى الباب وقد ترجّل الوزير وقبله الأستاذون المحنّكون، فيحدقون به، والوزير أمام الدّابة إلى أن ينزل الخليفة؛ فيخرج الوزير ويركب من مكانه، والأمراء في خدمته وأقاربه بين يديه، فيسيرون إلى داره فيسلّمون وينصرفون إلى أماكنهم، فيجدون قد أحضر إليهم المقرر من الخليفة، يأمر بضرب دنانير ورباعيّة ودراهم في العشر الأخير من ذى الحجة، عليها تاريخ السنة التى ركب فيها؛ فيحمل للوزير منها شىء كثير وإلى أولاده وأقاربه، ثم إلى أرباب الرتب من أرباب السيوف والأقلام، من عشرة دنانير إلى رباعىّ إلى قيراط وإلى دينار واحد، فيقبلون ذلك تبرّكا.
ولا ينقطع «1» الركوب من أوّل العام إلّا متى شاء، ولا يتعدّى ما ذكرناه في يومى السبت والثلاثاء. فإذا عزم على الركوب في هذه الأيّام أعلم بذلك، وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزائن السلاح. وكان أكثر ركوبه إلى مصر. فإذا ركب ركب الوزير وراء الخليفة في أقلّ جمع مما تقدّم ذكره في ركوب أوّل العام. فيشقّ الخليفة القاهرة إلى جامع أحمد بن طولون إلى المشاهد «2» إلى درب «3»(4/91)
الصّفا، ويقال له الشارع، الأعظم إلى دار الأنماط «1» إلى جامع مصر، فيجد ببابه الشريف الخطيب واقفا على مصطبة فيها محراب مفروش بحصير معلّق عليه سجادة، وفي يده مصحف، يقال: إنه بخط علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وهو من خاصله «2» ، فيناول الشريف الخليفة المصحف فيأخذه ويقبّله ويتبارك به، ويعطيه صاحب الخريطة المقرّر «3» للصلاة ثلاثين دينارا، وهى رسمه كلّما مرّ به الخليفة، فيعطيها الشريف إلى مشارف الجامع، فيأخذ منها أربعة عشر دينارا، ويفرّق الباقى على «4» القامة والمؤذنين خاصّة.
ثمّ يسير الخليفة إلى دار «5» الملك، فينزلها والوزير معه؛ وكلّما مرّ من القصر إلى دار الملك بمسجد أعطى قيّمه دينارا. ثمّ تأتى المائدة من القصر وعدّتها خمسون(4/92)
شدّة «1» على رءوس الفرّاشين مع صاحب المائدة، وهو أستاذ جليل إلّا أنّه ليس بمجنّك؛ وفي كلّ شدّة طيفور «2» ، فيه الأوانى الخاصّ، فيها من الأطعمة الخاصّ من كلّ نوع شهىّ وكلّ صنف من المطاعم العالية، وله روائح عبقة مسك «3» أرخية وعلى كلّ شدّة طرحة حرير تعلو الشدّة. فيحمل الخليفة إلى الوزير منها جزءا وافرا، ويعطى الأمراء ومن حضر، ثم يوصل إلى أهل مصر من ذلك كثيرا من الفضلات.
ثمّ يصلّى الخليفة العصر ويتحرّك إلى العود، والناس في الطريق جلوس لنظره. وزيّه في هذه الأيام لبس الثياب البياض المذهّبة والملوّنة، وهى العمامة، والمنديل مشدود، وشدّته مفردة عن شدّات الرعيّة وذؤابته تقرب من الجانب الأيسر؛ ويتقلّد السيف العربىّ «4» المجوهر بغير حنك ولا مظلّة ولا يتيمة، ولذلك أوقات مخصوصة، فلا يمرّ بمسجد في طريقه إلّا ويعطى قيّمه دينارا، كما جرى فى الرّواح. وينعطف من [باب «5» ] الخرق، فيدخل من بابى زويلة، ويشقّ القاهرة إلى القصر. ويكون ذلك من المحرّم إلى شهر رمضان؛ كما مرّ في أوّل العام.(4/93)
وكان إذا ركب في أوّل العام يكتب إلى ولاة الأعمال والنوّاب سجلات مخلّقة يذكر فيها ركوب الخليفة. وهذا كلّه سوى ركوبه في شهر رمضان إلى الخطبة، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
ذكر ركوب الخليفة في يومى عيد الفطر والنّحر
إذا تكمّلت عدّة شهر رمضان، وهى عندهم أبدا ثلاثون يوما، وتهيّأت الأمور، كما تقدّم ذكره، ركب الخليفة بالمظلّة «1» واليتيمة «2» ، ولباسه في هذا اليوم الثّياب البياض الموشّحة، وهى أجلّ لباسهم؛ والمظلّة أبدا زيّها تابع لزىّ ثياب الخليفة. ويخرج الخليفة من باب العيد إلى المصلّى «3» ، وعساكره وأجناده من الفرسان والرجّالة زائدة على العادة موفورة العدد، فيقفون صفّين من باب العيد إلى المصلّى. [ويكون صاحب بيت المال قد تقدّم «4» على الرسم لفرش المصلّى، فيفرش الطرّاحات على رسمها فى المحراب مطابقة؛ ويعلّق سترين يمنة ويسرة] ، على الستر الأيمن الفاتحة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وعلى الأيسر الفاتحة وهل أتاك حديث الغاشية؛ ويركز(4/94)
فى جانبى المصلّى لواءين مشدودين على رمحين قد لبّست أنابيبهما من الفضّة، ويرخيهما. فيدخل الخليفة من شرقىّ المصلّى إلى مكان يستريح فيه قليلا، ثم يخرج محفوظا كما يخرج للجمعة، فيصلّى بالتكبيرات المسنونة والقوم من ورائه على ترتيبهم في صلاة الجمعة. ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة سبّح اسم ربّك الأعلى، وفي الأخرى الغاشية؛ ثم يصعد إلى ذروة المنبر وعليها طرّاحة سامان «1» أو دبيقىّ «2» ، وباقى درجه مستور بالأبيض. ويقف الوزير أسفل المنبر ومعه قاضى القضاة وصاحب الباب [و] إسفهسالار «3» العساكر وصاحب السيف وصاحب الرّسالة وزمام القصر «4» وصاحب دفتر المجلس وصاحب المظلّة وإمام «5» الأشراف الأقارب وصاحب بيت المال وحامل الرمح ونقيب الأشراف الطالبيين.
فيشير الخليفة إلى الوزير فيصعد ويقبّل رجله بحيث يراه الناس، ثمّ يقف على يمينه. ثمّ يشير إلى القاضى فيصعد إلى سابع «6» درجة، فيشير إليه الخليفة فيخرج من كمّه درجا «7» أحضر إليه أمس من ديوان الإنشاء قد عرض على الخليفة والوزير؛ فيقرؤه معلنا؛ وأوّله البسملة ويليها «ثبت «8» بمن شرّف بصعوده المنبر الشريف فى يوم كذا من سنة كذا من عبيد أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، بعد صعود السيّد الأجل ... » ويذكر الوزير بألقابه(4/95)
ونعوته. ومرّة يشرّف الخليفة أحدا «1» من أقارب الوزير، فيستدعيه القاضى.
ثمّ يتلو «2» ذلك ذكر القاضى [وهو القارئ «3» ] فلا يسع القاضى أن يقول نعوت نفسه بل يقول [المملوك «4» ] فلان [بن فلان «5» ] . وقرأه [مرّة «6» ] ابن [أبى «7» ] عقيل القاضى فقال «8» عن نفسه: العبد الذليل، المعترف بالصنع الجميل، فى المقام الجليل، أحمد بن عبد الرّحمن بن [أبى] عقيل. أو غير ذلك بحسب ما يكون اسم القاضى. ثمّ يستدعى من ذكرنا وقوفهم على باب المنبر، فيصعدون، وكّل له مقام يمنة أو يسرة؛ ثمّ يشير إليهم الوزير فيأخذ كلّ واحد نصيبا من اللواء الذي يحاذيه، فيسترون الخليفة ويستترون؛ ثمّ يخطب الخليفة خطبة بليغة. فإذا فرغ كشفوا ما بأيديهم من الألوية وينزلون أوّلا بأوّل القهقرى.
ثمّ ينزل الخليفة إلى مكانه الذي خرج منه، ويركب في زيّه المفخّم إلى قريب من القصر؛ فيتقدّمه الوزير، كما ذكرنا، ويدخل من باب العيد، فيجلس فى الشّباك، وقد نصب منه إلى فسقية كانت في وسط الإيوان سماط طوله عشرون قصبة، عليه من الخشكنان «9» والبستندود «10» والبرماورد «11» مثل الجبل الشاهق، وفيه «12» كلّ قطعة منها ربع قنطار فما دون ذلك إلى رطل؛ فيدخل الناس فيأكلون(4/96)
ولا منع ولا حجر، فيمرّ ذلك بأيدى الناس وليس هذا ممّا يعتدّ به، بل يفرّق إلى الناس، ويحمل إلى دورهم. ونذكر مصروفها في ترجمة العزيز؛ فإنّه أوّل من رتّبها فى عيد الفطر خاصّة.
*** وأمّا سماط الطعام [ففى يوم عيد «1» الفطر اثنتان] أولى وثانية، وفي عيد النحر مرّة واحدة. ويعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلثمائة ذراع في عرض سبع أذرع، وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة. فيحضر إليه الوزير أوّل صلاة الفجر والخليفة جالس في الشبّاك، ومكّنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه. وهذا قبل صلاة العيد. فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ يمدّ سماط ثان من فضّة، يقال له المدوّرة، عليها أوانى الفضّة والذهب والصّينى، فيها من الأطعمة الخاصّ ما يستحى من ذكره. والسّماط بطول القاعة؛ وهو خشب مدهون شبه الدكك اللاطية، عرضه عشر أذرع. ويحطّ في وسط السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج ثلثمائة وخمسون طائرا، ومن الفراريح مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها. وتتنوّع الحلوى أنواعا؛ ثم يمدّ بخلل تلك الأطباق أصحن خزفيّات في جنبات السّماط، فى كلّ صحن تسع دجاجات في ألوان فائقة من الحلوى، والطّباهجة «2» المفتقة بالمسك الكثير. وعدّة الصحون خمسمائة صحن، مرتّب كلّ ذلك أحسن ترتيب. ثم يؤتى بقصرين من حلوى قد عملا بدار الفطرة، زنة كلّ واحد سبعة عشر قنطارا؛ فيمضى بواحد من طريق(4/97)
قصر الشوك «1» إلى باب الذهب، ويشقّ بالآخر من الجانب «2» الآخر، فينصبان أوّل السّماط وآخره. ثمّ يخرج الخليفة راكبا فينزل على السرير الذي عليه المدوّرة الفضّة، وعلى رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنّكين، وأربعة من خواصّ الفرّاشين.
ثمّ يستدعى الوزير فيجلس عن يمينه، والأمراء ومن دونهم [فيجلسون «3» ] على السّماط؛ فيتداول الناس السّماط، ولا يردّ أحد عنه حتّى يذهب عن آخره؛ فلا يقوم الخليفة إلّا قريب «4» الظهر. ثم يخرج الوزير ويذهب إلى داره؛ ويعمل سماط يقارب سماط الخليفة. وهكذا يقع في عيد النحر في أوّل يوم منه. انتهى الركوب في عيد الفطر.
*** وأمّا ركوب الخليفة في عيد الأضحى، فهو أيضا بالزّىّ المقدّم ذكره والصلاة كذلك، إلّا أنّ الركوب يكون في أيّام متتابعة، أوّلها يوم العيد إلى المصلى، ثمّ يركب ثانى يوم ثم ثالث يوم من باب الرّيح، وهو في «5» ركن القصر، والباب مقابل سعيد السعداء؛ وكان الموضع المذكور فضاء لا عمارة فيه؛ فيخرج الخليفة من باب الريح «6» ، فيجد الوزير واقفا فيمشى بين يديه إلى المنحر «7» ، فينحر فيه ماشاء الله أن ينحر، ويعطى الرسوم. ورسوم الأضحية كرسوم ركوب الخليفة أوّل العام،(4/98)
ويفرّق الضحايا إلى المساجد وجوامع القاهرة وغيرها. فإذا انقضى ذلك خلع الخليفة على الوزير ثيابه الحمر التى كانت عليه، ومنديلا آخر بغير اليتيمة [و] العقد المنظوم عند ما يطلع من المنحر؛ فيشقّ الوزير بذلك القاهرة إلى باب زويلة، ويسلك على الخليج إلى باب القنطرة؛ ويدخل دار الوزارة؛ فلذلك يفضّل عيد النحر على عيد الفطر لكونه يخلع فيه على الوزير.
*** وأمّا الركوب لفتح خليج السدّ «1» عند وفاء النيل، فهو يضاهى ركوبّهم في أوّل العام. نذكر منه على سبيل الاختصار نبذة يسيرة. إذا كان ليالى الوفاء حمل إلى المقياس «2» من المطابخ نحو عشرة قناطير خبز، وعشرة خراف مشويّة، وعشر جامات حلوى، وعشر شمعات، وتوجّه القرّاء وأرباب الجوامع فيقرءون تلك الليلة بجامع المقياس «3» حتّى يكون الوفاء؛ فيهتم الخليفة لذلك ويركب ويستدعى الوزير على العادة، ويسير بالزىّ المقدّم من غير مظلّة، وينزل بالصناعة «4» ؛ ثمّ يركب(4/99)
العشارى، ويدخل البيت المذهّب في العشارى «1» ، ومعه من شاء من المحنّكين ولا تزيد عدّتهم على أربعة نفر. ويطلع إلى العشارى خواصّ الخليفة وخواصّ الوزير؛ وهم اثنان أو ثلاثة؛ والناس كلّهم فيه قيام إلّا الوزير فإنّه يجلس. ثمّ يمرّ العشارى إلى المقياس؛ ثم تساق أشياء من التجمّل يطول شرحها من جنس ركوبه أوّل العام «2» . ثمّ يخرج بعد فراغه من تخليق «3» المقياس ويركب العشارى ويعود إلى دار الملك بمصر وتارة إلى المقس، ومن أحدهما إلى القاهرة في زىّ مهول من كثرة ما يهتمّ له من العساكر والزينة والسلاح. ويكون هذا الركوب أولى وثانية؛ فالأولى في ليلة يتوجّه القرّاء، والثانية يوم فتح الخليج. وعند ما يفتح الخليج ينشده الشعراء في المعنى. فمن ذلك:
فتح الخليج فسال منه الماء ... وعلت عليه الراية البيضاء
فصفت موازده لنا فكأنّه ... كفّ الإمام فعرفها الإعطاء(4/100)
*** وأمّا ركوبهم في المواكب في يومى الاثنين والخميس وغير ذلك، فأمر عظيم. فأوّل الركوب ركوب [متولّى «1» ] دفتر المجلس بالقصر الباطن. ويتضمّن هذا الركوب الإنعام بالعطاء بأداء الرسوم والعطايا المفترقة في غرّة السنة، ثم يأتى ركوب وثالث ورابع وخامس.
*** وأمّا خزانة الكتب «2» ، فكانت في أحد مجالس البيمارستان «3» العتيق اليوم، كان فيها ما يزيد على مائة «4» ألف مجلد في سائر العلوم، يطول الأمر في عدّتها.(4/101)
وقد اختصرنا من أمور الفاطميين نبذة كثيرة خشية الإطالة والخروج عن المقصود، وفيما ذكرناه كفاية، ويعلم به أيضا أحوالهم بالقياس «1» . وربّما يأتى ذكرهم في عدة تراجم أيضا؛ فإنّهم ثلاثة عشر خليفة بمصر، نذكرهم إن شاء الله فى هذا الكتاب كلّ واحد على حدته.
*** وأمّا خطبة الخليفة في شهر رمضان، فنذكرها من قول ابن عبد الظاهر.
قال: «وأمّا عظم الخليفة في أيّامه وما كانت قاعدته وطريقته التى رتّبها ودامت من بعده عادة لكل خليفة فشىء كثير؛ من ذلك: أنّه كان يخطب في شهر رمضان ثلاث خطب ويستريح فيه جمعة، وكانوا يسمّونها جمعة الراحة «2» . وكان إذا أراد أن يخطب يتقدّم متولّى خزانة الفرش إلى الجامع ويغلق المقصورة التى برسم الخليفة والمنظرة وأبواب مقاصيرها وبادهنج «3» المنبر ثمّ يركب متولّى بيت المال، وعلى يد كلّ واحد منهما تعليقه «4» وفرشه، وهى عدّة سجّادات مفروزة «5» منطّقة وبأعلاها سجادة لطيفة، لا تكشف إلّا عند توجّه الخليفة إلى المحراب. ثم يفرش الجامع بالحصر المحاريب «6» المفروزة ممّا يلى المحراب- وكان ذلك بجامع الأزهر قبل أن يبنى الحاكم جامعه، ثمّ صار بعد ذلك بجامع الحاكم- ثم يهيّأ للداخل للجامع مثل ذلك، ثم يطلق البخور، وتغلق أبواب الجامع ويجعل عليها الحجّاب والبوّابون؛ ولا يمكّن(4/102)
أحد أن يدخله إلّا من هو معروف من الخواصّ والأعيان. فإذا كان حضور الخليفة إلى الجامع ضربت السلسلة من ركن الجامع إلى الوجه الذي قبالته، ولا يمكّن أحد من الترجّل «1» عندها. ثمّ يركب الخليفة، ويسلّم لكلّ واحد من مقدّمى الرّكاب فى الميمنة والميسرة أكياس الذهب والورق سوى الرسوم المستقرّة والهبات والصدقات في طول الطريق. ويخرج الخليفة من باب الذهب والمظلّة بمشدّة الجوهر على رأسه، وعلى الخليفة الطّيلسان «2» . فعند ذلك يستفتح المقرئون بالقراءة فى ركابه بغير رهجيّة «3» ، والدكاكين مزيّنة مملوءة بأوانى الذهب والفضّة؛ فيسير الخليفة إلى أن يصل إلى وجه الجامع، ووزيره بين يديه، فتحطّ السلسلة ويتمّ الخليفة راكبا إلى باب جامع الأزهر الذي تجاه درب الأتراك «4» ، فينزل ويدخل من باب الجامع إلى الدّهليز الأول الصغير ومنه إلى القاعة المعلّقة التى كانت برسم جلوسه، فيجلس فى مجلسه وترخى المقرمة «5» الحرير، ويقرأ المقرئون وتفتح أبواب الجامع حينئذ.
فإذا استحقّ الأذان أذّن مؤذنو القصر كلّهم على باب مجلس الخليفة ورئيس الجامع على باب المنبر وبقيّة المؤذّنين في المآذن. فعند ما يسمع قاضى القضاة الأذان يتوجّه إلى المنبر فيقبّل أوّل درجة، وبعده متولّى بيت المال ومعه المبخرة وهو يبخّر، ولم يزالا يقبّلان درجة بعد درجة إلى أن يصلا ذروة المنبر؛ فيفتح القاضى بيده التزرير ويرفع السّتر، ويتناول من متولّى بيت المال المبخرة ويبخّر هو أيضا، ثم يقبّلان الدّرج أيضا وهما نازلان. وبعد نزولهما يخرج الخليفة والمقرئون بين يديه بتلك الأصوات الشجيّة إلى أن يصل إلى المنبر ويصعد عليه. فإذا صار بأعلاه(4/103)
أشار للوزير بالطلوع فيطلع إليه وهو يقبّل الدرج حتّى يصلّ إليه فيزر عليه القبّة، ثمّ ينزل الوزير ويقف على الدرجة الأولى ويجهر المقرئون بالقراءة، ثم يكبّر المؤذّنون ثمّ يشرع المؤذّنون في الصمت، ويخطب الخليفة؛ حتّى إذا فرغ من الخطبة طلع إليه الوزير وحلّ الأزرار فينزل الخليفة، وعن يمينه الوزير وعن يساره القاضى والداعى بين يديه- والقاضى والداعى هما اللذان يوصّلان الأذان إلى المؤذّنين- حتّى يدخل المحراب ويصلّى بالناس ويسلّم. فإذا انقضت الصلاة أخذ لنفسه راحة بالجامع بمقدار ما تعرض عليه الرسوم وتفرّق؛ وهى للنائب في الخطابة ثلاثة دنانير، وللنائب فى صلوات الخمس ثلاثة دنانير، وللمؤذّنين أربعة دنانير، ولمشارف خزانة الفرش وفرّاشها ومتولّيها لكلّ ثلاثة دنانير، ولصبيان بيت المال ديناران، ولمعبّى الفاكهة ديناران. وأمّا القرّاء فكان لهم رسوم غير ذلك. ومن حين يركب الخليفة من القصر إلى الجامع حتى يعود، الصدقات تعمّ الناس» .
قلت: وأظنّ أنّ الدينار كان غير دينار زماننا هذا؛ فإنّه قال- بعد ما ذكر لمعبّى الفاكهة دينارين-: فأمّا الفواكه التى كانت تعبى بالجامع فإنّها كانت تباع بجملة كثيرة ويتزاحم الناس على شرائها لبركاتها ويقسم ثمنها بين الإمام والمؤذّنين.
قلت: ولعلّ هذا كان رسما للمعبىّ غير ثمن الفاكهة. والله أعلم.
ودام هذا الترتيب إلى آخر وقت، إلى أيّام العاضد آخر خلفاء مصر من بنى عبيد. ونذكر أيضا في ترجمة الامر بأحكام الله من العبيديين كيفية خروج الخليفة إلى الجامع بأزيد من هذا عند ما نحكى ما كان يقع له من الوجد في خطبته، إن شاء الله تعالى.
انتهى ترجمة المعز لدين الله، رحمه الله تعالى.(4/104)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 363]
السنة الاولى من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى سنة ثلاث وستين وثلثمائة.
فيها أعاد عزّ الدولة بختيار النّوح في يوم عاشوراء إلى ما كان عليه.
وفيها أظهر الخليفة المطيع ما كان يستره من علّته. وثقل لسانه وتعدّر الحركة عليه للفالج الذي كان ناله قديما، وانكشف ذلك لسبكتكين، فدعا الخليفة المطيع إلى خلع نفسه وتسليم الأمر إلى ولده الطائع لله عبد الكريم ففعل ذلك؛ وعقد له الأمر في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذى القعدة من السنة المذكورة.
فكانت خلافته إلى أن خلع نفسه تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة وعشرين يوما. وصورة ما كتب:
«هذا ما أشهد على متضمّنه أمير المؤمنين الفضل المطيع لله ابن المقتدر بالله، حين نظر لدينه ورعيّته وشغل بالعلّة الدائمة عمّا كان يراعيه من الأمور الدينية اللازمة، وانقطع إفصاحه عما يجب عليه لله في ذلك، فرأى اعتزال ما كان عليه من هذا الأمر وتسليمه إلى ناهض به قائم بحقّه [ممّن يرى له «1» الرأى] .
عقده له وأشهد بذلك طوعا» وذكر التاريخ المذكور. وفي آخره بخط القاضى أبى الحسن محمد بن صالح: «شهد عندى بذلك أحمد بن حامد «2» بن محمد، وعمر بن محمد ابن أحمد، وطلحة بن محمد بن جعفر» . قلت: وانقطع المطيع بداره، وكان يسمّى بعد ذلك الشيخ الصالح إلى أن مات في سنة أربع وستين وثلثمائة، على ما يأتى ذكره فى الآتية إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى عبد العزيز بن أحمد بن جعفر الفقيه الحنبلىّ العالم المشهور، مولده سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وصنّف المصنّفات الكبيرة؛ منها كتاب" المقنع" مائة(4/105)
جزء، وكتاب" الكافى" مائتى جزء، و" الشافى" ثمانين جزءا، وأشياء غير ذلك، ومات فى شوّال.
وفيها توفّى أبو الفتح على بن محمد بن أبى الفتح البستى الشاعر المشهور، وكان إماما فاضلا، يعانى الجناس. ومن شعره قوله:
يأيّها الذاهب في مكره ... مهلا «1» فما المكر من المكرمات
عليك بالصحة فهى المنى ... يحيا محيّاك إذا المكرمات
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن سهل أبو بكر الرّملىّ [المعروف «2» بابن] النابلسى الزاهد المشهور.
بعث إليه كافور الإخشيذىّ بمال؛ فردّه وقال للرسول: قل لكافور قال الله تعالى:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
فالاستعانة بالله وكفى. فردّ كافور الرسول بالمال وقال قل له: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)
فأين ذكر كافور ها هنا! الملك والمال لله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى جمح بن القاسم المؤذّن. وأبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن جعفر «3» صاحب الخلّال. وأبو بكر محمد ابن أحمد بن سهل الرملىّ ابن النابلسى الشهيد. وأبو العباس محمد بن موسى [ابن «4» ] السمسار. ومظفّر بن حاجب بن أرّكين «5» . والنّعمان بن محمد أبو حنيفة المغربىّ الباطنىّ «6»(4/106)
قاضى مملكة المعزّ، وكان حنفىّ المذهب لأنّ الغرب كان يوم ذاك غالبه حنفية، إلى أن حمل الناس على مذهب مالك فقط المعزّ بن باديس الآتى ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 364]
السنة الثانية من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى سنة أربع وستين وثلثمائة.
فيها في المحرّم أوقع العيّارون «1» ببغداد «2» حريقا من الخشّابين إلى باب «3» الصغير، فاحترق أكثر هذا السوق، وهلك شىء كثير. واستفحل أمر العيّارين ببغداد حتى ركبوا الجند وتلقّبوا بالقوّاد وغلبوا على الأمور، وأخذوا الحفارة عن الأسواق والدروب. وكان فيهم أسود يقال له الزّبد، كان يأوى" قنطرة الزّبد «4» " يشحذ وهو عريان. فلمّا كثر(4/107)
الفساد رأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ بالسيف، فطلب الأسود سيفا ونهب وأغار، وحفّ به طائفة وتقوّى وأخذ أموال الناس، وتموّل حتى اشترى جارية بألف دينار؛ فراودها فتمنعت؛ فقال: ما تكرهين منّى؟ قالت: أكرهك كلّك؛ قال: ما تحبّين؟ قالت: تبيعنى؛ قال: أو [أفعل «1» ] خيرا لك من ذلك؛ فحملها إلى القاضى وأعنقها ووهبها ألف دينار؛ فتعجّب الناس من سماحته.
ثمّ خرج إلى الشام فهلك هناك.
وفيها خرج الخليفة الطائع ومعه سبكتكين من بغداد في المحترم يريدان واسطا لقتال بختيار؛ فمات الخليفة المطيع الفضل في يوم الاثنين لثمان بقين من المحرّم، وكان المطيع قد خرج مع ولده الخليفة الطائع يريد واسطا، فردّه ولده في تابوت إلى بغداد فدفن بها، ثمّ مات سبكتكين بعده بيوم واحد، فحمل أيضا إلى بغداد. وكان أصل سبكتكين من مماليك عزّ الدولة الأتراك، وخلع عليه الخليفة الطائع بالإمارة عوضا عن أستاذه عزّ الدولة، وخرجا لقتاله فمات. وكانت مدّة إمارته شهرين وثلاثة عشر يوما. ولمّا مات سبكتكين عقد الأتراك لأفتكين «2» الرّامى مولى معزّ الدولة، وكان أعور، وأطاعوه. وعرض عليه الطائع اللّقب فامتنع واقتصر على الكنية. وعمل على لقاء عزّ الدولة؛ فاستنجد عزّ الدولة بابن عمّه عضد الدولة فنجده؛ وقاتل الأتراك وكسرهم بعد حروب كثيرة. ثمّ طمع عضد الدولة في الإمارة وعزله عزّ الدولة، وخلع عليه الخليفة الطائع مكانه؛ وعظم أمر عضد الدولة بعد ذلك.
وفيها توفّى الخليفة المطيع لله أبو القاسم الفضل أمير المؤمنين المقدّم ذكر وفاته لمّا خرج مع ولده الطائع. وهو ابن الخليفة المقتدر جعفر ابن الخليفة المعتضد(4/108)
أبى العباس أحمد الهاشمىّ العباسىّ. وأمّه أمّ ولد اسمها مشعلة «1» . بويع بالخلافة بعد المستكفى في سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده سنة إحدى وثلثمائة. وخلع نفسه من الخلافة غير مكره لذلك، حسب ما ذكرناه في السنة الماضية؛ ونزل عن الخلافة لولده الطائع، ومات في المحرّم في هذه السنة، كما تقدّم.
وفيها توفّى الأمير محمد بن بدر الحمّامى، وكنيته أبو بكر. كان والده بدر الحمّامىّ مولى أحمد بن طولون، وكان أميرا على فارس فمات؛ فقام ولده هذا بعده. قال أبو نعيم: وكان ثقة، مات ببغداد.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الدّينورىّ بن السّنّى. وأبو هاشم عبد الجبّار بن عبد الصمد السّلمىّ.
والمطيع لله الفضل بن المقتدر. ومحمد بن بدر الحمّامىّ أمير فارس. ومحمد بن عبد الله ابن إبراهيم السّليطىّ أبو الحسن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 365]
السنة الثالثة من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى السنة التى مات فيها، حسب ما تقدّم ذكره في ترجمته، وهى سنة خمس وستين وثلثمائة.
فيها كتب ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى ولده عضد الدولة أبى شجاع:
أنّه قد كبرت سنّه ويؤثر مشاهدته، فآجتمعا؛ فقسم ركن الدولة الملك بين أولاده،(4/109)
فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان [وأرّجان «1» ] ، ولمؤيّد الدولة الرّىّ وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدّينور، وجعل ولده الأصغر أبا العباس في كنف عضد الدولة.
وفيها عاد جواب ركن الدولة إلى عزّ الدولة بما يطيّب خاطره: وكان لمّا بلغ عزّ الدولة ما فعل ركن الدولة من قسمة البلاد بين أولاده كتب إليه يخبره ما عمله عضد الدولة ويسأله زجره عنه، وأن يؤمّنه ممّا يخاف؛ فخاطب ركن الدولة ولده عضد الدولة في الكفّ عنه؛ فشكا إليه عضد الدولة ما عامله عزّ الدولة به وانضمام وزيره ابن بقيّة «2» عليه؛ فلم يزل به ركن الدولة حتّى أجابه بالكفّ عنه.
وفيها خلع على أبى عبد الله «3» أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ لإمارة الحاجّ من دار عزّ الدولة، وركب معه أبو طاهر الوزير ابن بقية إلى داره وحجّ بالناس.
وفيها حجّ بالناس من مصر من جهة العزيز بن المعزّ، عند ما تخلّف بعد موت أبيه المعزّ، [رجل علوىّ «4» ] ؛ وأقيمت له الدعوة بمكّة والمدينة بعد أن منع أهل مكّة والمدينة من الميرة، ولاقوا من عدم ذلك شدائد حتى اذعنوا له.(4/110)
وفيها توفّى الأمير أبو صالح منصور بن نوح السامانىّ صاحب خراسان، وقام ولده أبو القاسم نوح مقامه وسنّه ثلاث عشرة سنة.
وفيها توفّى ثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة أبو الحسن صاحب التاريخ؛ كان طبيبا فاضلا، عاشر الخلفاء والملوك، وكان ثقة فريدا في وقته.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن أحمد بن ماسرجس الحافظ أبو علىّ الماسرجسىّ.
أسلم ماسرجس على يد عبد الله بن المبارك وكان نصرانيّا. أخذ «1» بدمشق عن أصحاب هشام بن عمّار، [و] ما صنّف في الإسلام أكبر من مسنده، وصنّف" المسند الكبير" مهذّبا معلّلا في ألف وثلثمائة جزء، وجمع حديث الزّهرىّ جمعا لم يسبقه إليه أحد [وكان يحفظه «2» مثل الماء] .
وفيها توفّى عبد الله بن عدىّ بن عبد الله بن محمد بن المبارك الحافظ أبو أحمد الجرجانىّ. ويعرف بابن القطّان. رحل إلى الشام ومصر رحلتين؛ أولاهما سنة سبع وتسعين «3» . قال الذهبىّ: كان لا يعرف العربية مع عجمة فيه، وأمّا في العلل والرّجال فحافظ لا يجارى.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن إسماعيل أبو بكر الشّاشىّ الفقيه الشافعىّ المعروف بالقفّال الكبير، كان إمام عصره بما وراء النهر، ولم يكن للشافعيّة بما وراء النهر مثله.(4/111)
وفيها توفّى عبد السلام بن محمد بن أبى موسى أبو القاسم الصوفىّ البغدادىّ، سافر ولقى الشيوخ من أهل الحديث والتصوّف، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة.
وفيها توفّى عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر أبو الأصبغ «1» الأموىّ الأندلسىّ.
ولد بقرطبة ثمّ رحل إلى بخارى واستوطن بها. قال الحاكم أبو عبد الله: سمعته ببخارى يروى أنّ مالك بن أنس كان يحدّث، فجاءت عقرب فلدغته ستّ عشرة مرّة فتغيّر لونه ولم يتحرّك؛ فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن أقطع حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ذكر ولاية العزيز نزار على مصر
هو نزار أبو منصور العزيز بالله بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ بن المنصور بالله أبى طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ أبى محمد عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ ثمّ المصرىّ، ثانى خلفاء مصر من بنى عبيد، والخامس من المهدىّ إليه ممّن ولى من آبائه الخلافة بالمغرب. مولده بالمهديّة من القيروان ببلاد المغرب فى يوم عاشوراء سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة. وخرج مع أبيه المعزّ من المغرب إلى القاهرة ودام بها إلى أن مات أبوه المعزّ معدّ بعد أن عهد إليه بالخلافة. فولى بعده في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين وثلثمائة وله اثنتان وعشرون سنة، وملك مصر وخطب له بها وبالشام وبالمغرب والحجاز،(4/112)
وحسنت أيّامه. وكان القائم بتدبير مملكته مولى أبيه جوهرا القائد. وكان العزيز كريما شجاعا سيوسا، وفيه رفق بالرعيّة.
قال المسبّحىّ: «وفي أيّامه بنى قصر البحر «1» بالقاهرة الذي لم يكن مثله لا في الشرق ولا في الغرب، وقصر الذهب «2» ، وجامع القرافة «3» . قلت: وفد محى آثار هؤلاء المبانى حتّى كأنها لم تكن. قال المسبّحىّ: وكان أسمر، أصهب الشعر، أعين أشهل [العين «4» ] ، بعيد ما بين المنكبين، حسن الخلق، قريبا من الناس، لا يؤثر سفك الدماء؛ وكان مغرى بالصيد، وكان يتصيّد السباع، وكان أديبا فاضلا» . انتهى.
وذكره أبو منصور الثعالبىّ في يتيمة الدهر، وذكر له هذه الأبيات وقد مات له ابن في العيد فقال: [المنسرح]
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أوّلنا مبتلى وخاتمنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طرّا وأعيادنا مآتمنا(4/113)
وأما بناؤه القصر بالبحر فكان في «1» .
وقال أبو منصور «2» أيضا: «سمعت الشيخ أبا الطيّب يحكى أن الأموىّ صاحب الأندلس كتب إليه نزار هذا (يعنى العزيز صاحب مصر) كتابا يسبّه فيه ويهجوه؛ فكتب إليه الأموىّ: «أمّا بعد، قد عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك» .
قال فاشتدّ ذلك على نزار المذكور وأفحمه عن الجواب. يعنى أنه غير شريف وأنّه لا يعرف له قبيلة حتّى كان يهجوه» . انتهى كلام أبى منصور.
ولمّا تمّ أمر العزيز بمصر واستفحل أمره وأخذ في تمهيد أمور بلاده، خرج عليه قسأم الحارثىّ وغلب على دمشق. وكان قسّام المذكور من الشّجعان، وكان أصله من قرية «تلفيتا» من قرى «3» جبل سنّير. كان ينقل التّراب على الحمير؛ وتنقّلت به الأحوال حتّى صار له ثروة وأتباع وغلب بهم على دمشق حتّى لم يبق لنوّابها معه أمر ولا نهى؛ ودام على ذلك سنين. فلمّا ملك العزيز وعظم أمره أراد زواله، فندب إليه جيشا مع تكين «4» ، فسار تكين إليه وحاربه أيّاما، وصار العزيز يمدّه بالعساكر إلى أن ضعف أمر قسّام واختفى أيّاما، ثم استأمن؛ فقيّدوه وحملوه إلى العزيز إلى مصر.(4/114)
وقال القفطىّ غير ذلك، قال: «فغلب على دمشق رجل من العيّارين يعزف بقسّام وتحصّن بها (يعنى دمشق) وخالف على صاحب مصر، فسار لحربه الأمير الفضل من مصر، فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال؛ فخرج قسّام متنكّرا فأخذته الحرس؛ فقال: أنا رسول، فأحضروه إلى الفضل؛ فقال له: أنا رسول قسّام إليك لتحلف له وتعوّضه عن دمشق بلدا يعيش به، وقد بعثنى إليك سرّا؛ فحلف الفضل له. فلمّا توثّق منه قام وقبّل يديه وقال: أنا قسّام؛ فأعجب الفضل ما فعله وزاد في إكرامه وردّه إلى البلد وسلّمه إليه؛ وقام الفضل بكلّ ما ضمنه وعوّضه موضعا عاش به. فلمّا بلغ ذلك العزيز أحسن صلته» . انتهى.
وقال الذهبىّ رواية أخرى في أمر قسّام، قال: «وهو الذي يتحدّث الناس أنّه ملك دمشق، وأنّه قسم البلاد، وقدم لقتاله سلمان بن جعفر بن فلاح إلى دمشق بجيش، فنزل بظاهرها ولم يمكنه دخولها؛ فبعث إليه قسّام بخطّه: أنا مقيم على الطاعة. وبلغ العزيز ذلك فبعث البريد إلى سلمان ليردّه؛ فترحّل سلمان من دمشق؛ وولّى العزيز عليها أبا «1» محمود المغربىّ؛ ولم يكن له أيضا مع قسّام أمر ولا حلّ ولا عقد» . انتهى كلام الذهبىّ.
قلت: ولعلّ الذي ذكره الذهبىّ كان قبل توجّه عسكرتكين والفضل؛ فإنّ الفضل لمّا سار بالجيوش أخذ دمشق من قسام وعوّضه بلدا، وهو المتواتر.
والله أعلم.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ: «كان العزيز قد ولّى عيسى بن نسطورس «2» النّصرانىّ ومنشا «3» اليهودىّ؛ فكتبت إليه امرأة: بالذى أعزّ اليهود بمنشا، والنصارى(4/115)
بابن نسطورس، وأذلّ المسلمين بك، إلّا نظرت في أمرى. فقبض العزيز على اليهودىّ والنصرانىّ، وأخذ من ابن نسطورس ثلثمائة ألف دينار» . انتهى.
وقال ابن خلكان: وأكثر أهل العلم لا يصحّحون نسب المهدىّ عبيد الله والد خلفاء مصر، حتّى إنّ العزيز في أوّل ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هناك ورقة فيها:
[السريع]
إنّا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدّعى صادقا ... فاذكر أبا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع
أو فدع «1» الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع
فإنّ أنساب بنى هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع
فقرأها العزيز ولم يتكلّم. ثمّ صعد العزيز المنبر يوما آخر فرأى ورقة فيها مكتوب:
[البسيط]
بالظّلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقه
قال: وذلك لأنّهم ادّعوا علم المغيّبات والنجوم. وأخبارهم في ذلك مشهورة.
انتهى كلام ابن خلكان باختصار.
وقال غيره: كان العزيز ناهضا، وفي أيّامه فتحت حمص وحماة وحلب، وخطب له صاحب الموصل أبو الذّوّاد «2» محمد بن المسيّب بالموصل، وخطب له باليمن. ثمّ(4/116)
انتقض ما بينه وبين صاحب حلب أبى الفضائل بن سعد الدولة ومدبّر ملكه لؤلؤ بعد وفاة سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب لمّا قتل بكجور وهرب كاتبه (أعنى كاتب بكجور، وهو علىّ بن الحسين المغربىّ) من حلب إلى مشهد الكوفة على البريّة؛ ثم اجتهد حتى وصل إلى مصر، واجتمع بالعزيز هذا وعظّم أمر حلب عنده وكثّرها، وهوّن عليه حصونها وأمر متولّيها أبى الفضائل.
قلت: ولؤلؤ وأبو الفضائل يأتى بيان ذكرهما فيما يقع بينهما وبين العزيز، وتأتى أيضا وفاتهما في الحوادث، فيظهر بذلك أمرهما على من لا يعرفهما.
فلمّا هوّن علىّ بن الحسين أمر حلب على العزيز، تشوّقت نفسه إلى أخذ حلب من أبى الفضائل. وكان للعزيز غلامان، أحدهما يسمى منجوتكين والآخر بازتكين «1» من الأتراك، وكانا أمر دين مشتدّين؛ فأشار على العزيز المغربىّ المذكور بإنفاذ أحدهما لقتال الحلبيّين لتنقاد إليه الأتراك مماليك سعد الدولة؛ فإنّه كان قبل ذلك قد استأمن إلى العزيز جماعة من أصحاب سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان بعد موت سعد الدولة، فأمّنهم العزيز وأحسن إليهم وقرّبهم؛ منهم وفيّ «2» الصّقلبىّ فى ثلثمائة غلام (يعنى مملوكا) وبشارة الإخشيذىّ في أربعمائة غلام، ورباح «3» السيفىّ؛ فولّى العزيز وفيّا الصقلبىّ عكّا، وولّى بشارة طبريّة، وولّى رباحا غزة. ثمّ إنّ العزيز ولّى مملوكه منجوتكين حرب حلب، وقدّمه على العساكر وولّاه الشأم، واستكتب له أحمد بن محمد النّشورىّ «4» ، ثمّ ضمّ إليه أيضا أبا الحسن علىّ بن الحسين المغربىّ المقدّم ذكره ليقوم المغربىّ بأمر منجوتكين وتدبيره مع الحلبيّين؛ فإنّه كان أصل(4/117)
هذه الحركة. وخرج العزيز حتّى شيّعهم بنفسه وودّعهم. فسار منجوتكين حتّى وصل دمشق، فتلقّاه أهلها والقوّاد وعساكر الشام والقبائل، فأقام منجوتكين بعساكره عليها مدّة، ثم رحل طالبا لحلب في ثلاثين ألفا. وكان بحلب أبو الفضائل بن سعد الدّولة ابن سيف الدولة بن حمدان ومعه لؤلؤ، فأغلقا أبوابها واستظهرا في القتال غاية الاستظهار على المصريّين. وكان لؤلؤ لمّا قدم عسكر مصر إلى الشام كاتب بسيل «1» ملك الرّوم فى النجدة على المصريّين ومتّ «2» له بما كان بينه وبين سعد الدولة من المعاهدة والمعاقدة، وأنّ هذا ولده قد حصر مع عساكر المصريّين؛ وحثّه على إنجاده؛ ثمّ بعث إليه بهدايا وتحف كثيرة، وسأله في المعونة والنّصرة على المصريّين، وبعث الكتاب والهدايا مع ملكون السريانىّ؛ فتوجّه ملكون السريانىّ إليه فوجد ملك الرّوم بقاتل ملك البلغر؛ فأعطاه الهديّة والكتاب، فقبل الهديّة وكتب إلى البرجىّ نائبه بأنطاكية أن يسير بالعساكر إلى حلب ويدفع المغاربة (أعنى عساكر العزيز) عن حلب. فسار البرجىّ فى خمسين ألفا؛ ونزل البرجىّ بعساكره الجسر الجديد «3» بين أنطاكية وحلب. فلمّا بلغ ذلك منجوتكين استشار علىّ بن الحسين المغربىّ والقوّاد في ذلك، فأشاروا عليه بالانصراف من حلب وقصد الروم والابتداء بهم قبل وصول الروم الى حلب، لئلا يحصلوا بين عدوّين. فساروا حتّى نزلوا تحت حصن «4» إعزاز وقاربوا الروم، وصار بينهم النهر(4/118)
المعروف بالمقلوب «1» . فلمّا وقع بصرهم على الروم رموهم بالنّشاب وبينهم النهر المذكور، ولم يكن لأحد الفريقين سبيل للعبور لكثرة الماء. وكان منجوتكين قد حفظ المواضع التى يقلّ الماء فيها، وأقام جماعة من أصحابه يمنعون عسكره من العبور لوقت يختاره المنجّم. فخرج من عسكره من الدّيلم رجل شيخ كبير في السن وبيده ترس وثلاث روسات «2» ؛ فوقف على جانب النهر وبإزائه قوم من الروم، فرموه بالنّشاب وهو يسبح حتّى قطع النهر، وصار على الأرض من ذلك البرّ والماء في النهر إلى صدره.
فلمّا رآه «3» عساكر منجوتكين رموا بأنفسهم في الماء فرسانا ورجّالة، ومنجوتكين يمنعهم فلا يمتنعون حتّى صاروا مع الروم في أرض واحدة وقاتلوا الروم؛ فأنزل الله نصره على المسلمين، فولّى الروم وأعطوهم ظهورهم، وركبهم المسلمون فاثخنوهم قتلا وأسرا، وأفلت كبير الروم البرجىّ في عدد يسير إلى أنطاكية، وغنم المسلمون من عساكرهم وأموالهم شيئا لا يعدّ ولا يحصى. وكان مع الروم ألفان من عسكر حلب المسلمين فقتل منجوتكين منهم ثلثمائة. وتبع منجوتكين الروم إلى أنطاكية فأحرق ضياعها ونهب رساتيقها، ثمّ كرّ راجعا إلى حلب، وكان وقت الغلّات؛ فعلم لؤلؤ أنّه لا له نجدة «4» وأنّه يضعف عن مقاومة المصريّين؛ فكاتب المغربىّ والنّشورىّ كاتب منجوتكين وأرغبهما في المال وبذل لهما ما أرضاهما، وسألهما أن يشيرا على منجوتكين بالانصراف عن حلب إلى دمشق وأن يعود في العام المقبل؛ فخاطباه فى ذلك، وصادف قولهما له شوق منجوتكين إلى دمشق؛ وكان منجوتكين أيضا(4/119)
قد ملّ الحرب فانخدع؛ وكتب هو والجماعة إلى العزيز يقولون: قد نفدت الميرة ولا طاقة للعساكر على المقام، ويستأذنونه في الرجوع إلى دمشق. وقبل أن يجيء جواب العزيز رحلوا عن حلب إلى دمشق. وبلغ العزيز ذلك فشقّ عليه رحيلهم، ووجد أعداء المغربىّ طريقا إلى الطعن فيه عند العزيز، فصرف العزيز المغربىّ وقلّد الأمر للأمير صالح بن علىّ الرّوذبارىّ وأقعده مكانه. ثمّ حمل العزيز من غلّات مصر في البحر إلى طرابلس شيئا كثيرا. ثمّ رجع منجوتكين إلى حلب فى السنة الآتية وبنى الدور والحمّامات والخانات والأسواق بظاهر حلب، وقاتل أهل حلب. واشتدّ الحصار على لؤلؤ وأبى الفضائل بحلب، وعدمت الأقوات عندهم بداخل حلب، فكاتبوا ملك الروم ثانيا وقالوا له: متى أخذت حلب أخذت أنطاكية؛ ومتى أخذت أنطاكية أخذت قسطنطينيّة. فلمّا سمع ملك الروم ذلك سار بنفسه في مائة ألف وتبعه من كلّ بلد من معاملته عسكره؛ فلمّا قرب من البلاد أرسل لؤلؤ إلى منجوتكين يقول: إنّ الإسلام جامع بينى وبينك، وأنا ناصح لكم، وقد وافاكم ملك الروم بجنوده فخذوا لأنفسكم؛ ثم جاءت جواسيس منجوتكين فأخبروه بمثل ذلك، فأحرق منجوتكين الخزائن والأسواق وولّى منهزما؛ وبعث أثقاله إلى دمشق، وأقام هو بمرج قنّسرين ثم سار إلى دمشق. ووصل بسيل ملك الروم بجنوده إلى حلب، ونزل موضع عسكر المصريّين، فهاله ما كان فعله منجوتكين، وعلم كثرة عساكر المصريّين وعظموا في عينه؛ وخرج إليه أبو الفضائل صاحب حلب ولؤلؤ وخدماه «1» . ثم سار ملك الرّوم في اليوم الثالث ونزل على [حصن «2» ] شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قوّاد العزيز، فقاتله يوما واحدا، ثم طلب منه(4/120)
الأمان فأمّنه؛ فخرج بنفسه إليه، فأهّل «1» به بسيل ملك الروم وأعطاه مالا وثيابا، وسلّم الحصن إليه؛ فرتّب ملك الروم [عليه] أحد ثقاته. ثمّ نازل حمص فافتتحها عنوة وسبى منها ومن أعمالها أكثر من عشرة آلاف نسمة. ثمّ نزل على طرابلس أربعين يوما، فقاتلها «2» فلم يقدر على فتحها، فرحل عائدا إلى الروم. ووصل خبره إلى العزيز فعظم عليه ذلك إلى الغاية، ونادى في الناس بالنفير، وفتح الخزائن وأنفق على جنده، ثمّ سار بجيوشه ومعه توابيت آبائه فنزل إلى الشام، ووصل إلى بانياس «3» ، فأخذه مرض القولنج وتزايد به حتّى مات منه وهو في الحمام في سنة ستّ وثمانين وثلثمائة.
وقيل في وفاته غير ذلك أقوال كثيرة، منها أنّه مات بمدينة بلبيس من ضواحى القاهرة، وقيل: إنّه مات في شهر رمضان قبل خروجه من القاهرة في الخمّام، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر. وكانت مدّة ولايته على مصر إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وأيّاما. وتولّى مصر بعده ابنه أبو علىّ منصور الملقّب بالحاكم الآتى ذكره إن شاء الله. وكان العزيز ملكا شجاعا مقداما حسن الأخلاق كثير الصّفح حليما لا يؤثر سفك الدماء، وكانت لديه فضيلة؛ وله شعر جيّد، وكان فيه عدل وإحسان للرعيّة. قلت: وهو أحسن الخلفاء الفاطميّين حالا بالنسبة لأبيه المعز ولابنه الحاكم؛ على ما يأتى ذكره إن شاء الله.
قال ابن خلكان: «وزادت مملكته على مملكة أبيه، وفتحت له حمص وحماة وشيزر وحلب؛ وخطب له المقلّد «4» العقيلىّ صاحب الموصل بالموصل [وأعمالها «5» ](4/121)
فى المحرم سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وضرب اسمه على السكة والبنود، وخطب له باليمن. ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجّها إلى الشام، فابتدأت به العلّة في العشر الأخير من رجب سنة ستّ وثمانين وثلثمائة. ولم يزل مرضه يزيد وينقص، حتّى ركب يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة إلى الحمّام بمدينة بلبيس، وخرج إلى منزل الأستاذ أبى الفتوح برجوان، وكان برجوان صاحب خزانته بالقصر، فأقام عنده وأصبح يوم الاثنين، وقد اشتدّ به الوجع يومه ذلك وصبيحة نهار الثّلاثاء، وكان مرضه من حصاة وقولنج، فاستدعى القاضى محمد بن النّعمان وأبا محمد الحسن بن عمّار الكتامىّ الملقّب أمين الدولة- وهو أوّل من تلقّب من المغاربة، وكان شيخ كتامة وسيّدها- ثمّ خاطبهما فى أمر ولده الملقّب بالحاكم، ثمّ استدعى ولده المذكور وخاطبه أيضا بذلك.
ولم يزل العزيز في الحمّام والأمر يشتدّ به إلى بين الصلاتين من ذلك النهار، وهو الثلاثاء الثامن والعشرون من شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثلثمائة، فتوفّى في مسلخ الحمّام. هكذا قال المسبّحىّ» .
قلت: والعزيز هذا هو الذي رتّب الفطرة «1» فى عيد شوّال، وكانت تعمل على غير هذه الهيئة. وكانت الفطرة تعمل وتفرّق بالإيوان، ثم نقلت في عدّة أماكن؛ وكان مصروفها في كلّ سنة عشرة آلاف دينار. وتفصيل الأنواع: دقيق ألف حملة، سكّر سبعمائة قنطار، قلب فستق ستة قناطير، لوز ثمانية قناطير، بندق أربعة قناطير، تمر أربعمائة إردب، زبيب ثلثمائة إردب، خلّ ثلاثة قناطير،(4/122)
عسل نحل خمسة قناطير «1» ، شيرج مائتا قنطار، حطب ألف ومائتا حملة، سمسم إردبان، آنيسون إردبان، زيت طيّب للوقود ثلاثون قنطارا، ماء ورد خمسون رطلا، مسك خمس نوافج «2» ، كافور عشرة مثاقيل، زعفران مائة وخمسون درهما.
ثمن مواعين وأجرة صنّاع وغيرها خمسمائة دينار. انتهى باختصار. ولنعد «3» إلى ذكر وفاة العزيز صاحب الترجمة.
وقال صاحب تاريخ القيروان: «إنّ الطّبيب وصف له دواء يشربه في حوض الحمّام، وغلط فيه فشربه فمات من ساعته؛ ولم ينكتم تاريخ موته ساعة واحدة.
وترتّب موضعه ولده الحاكم أبو علىّ منصور. وبلغ الخبر أهل القاهرة، فخرج الناس غداة الأربعاء لتلقى الحاكم؛ فدخل البلد وبين يديه البنود والرايات وعلى رأسه المظلّة «4» يحملها ريدان الصّقلبىّ، فدخل القصر عند اصفرار الشمس، ووالده العزيز بين يديه في عماريّة وقد خرجت رجلاه منها، وأدخلت العماريّة القصر؛ وتولى غسله القاضى محمد بن النّعمان، ودفن عند أبيه المعزّ في حجرة من القصر. وكان دفنه عند العشاء [الأخيرة «5» ] . وأصبح الناس يوم الخميس سلخ الشهر والأحوال مستقيمة، وقد نودى في البلدان: لا مؤونة ولا كلفة، وقد أمّنكم الله على أموالكم وأرواحكم؛ فمن نازعكم أو عارضكم فقد حلّ ماله ودمه. وكانت ولادة العزيز يوم الخميس رابع عشر المحرّم سنة أربع وأربعين وثلثمائة» . انتهى كلام ابن خلكان باختصار رحمه الله.(4/123)
وقال المختار المسبّحى صاحب التاريخ المشهور: «قال لى الحاكم، وقد جرى ذكر والده العزيز،: يا مختار، استدعانى والدى قبل موته وهو عارى الجسم، وعليه الخرق والضّماد (يعنى كونه كان في الحمام) قال: فاستدعانى وقبّلنى وضمّنى إليه، وقال: واغمّى عليك يا حبيب قلبى! ودمعت عيناه، ثمّ قال: امض يا سيّدى فآلعب فأنا في عافية. قال الحاكم: فمضيت والتهيت بما يلتهى به الصّبيان من اللعب إلى أن نقل الله تعالى العزيز إليه» . انتهى كلام المسبّحى.
وقد ذكرنا في وفاة العزيز عدّة وجوه من كلام المؤرّخين رحمهم الله تعالى.
وكان العزيز حازما فصيحا. وكتابه إلى عضد الدولة بحضرة الخليفة الطائع العباسىّ يدلّ على فضل وقوّة. وكان كتابه يتضمّن بعد البسملة:
«من عبد الله ووليّه نزار أبى منصور الإمام العزيز بالله أمير المؤمنين، إلى عضد الدولة الإمام نصير ملة الإسلام أبى شجاع بن أبى علىّ. سلام عليك؛ فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله الصّلاة على جدّه محمد رسول ربّ العالمين، وحجّة الله على الخلق أجمعين، صلاة باقية نامية متّصلة دائمة بعترته الهادية، وذرّيته الطيّبة الطاهرة. وبعد، فإنّ رسولك وصل إلى حضرة أمير المؤمنين، مع الرسول المنفذ اليك، فأدّى ما تحمله «1» من إخلاصك في ولاء أمير المؤمنين ومودّتك «2» ، ومعرفتك بحقّ إمامته، ومحبتك لآبائه الطائعين الهادين المهديّين. فسرّ أمير المؤمنين بما سمعه عنك، ووافق ما كان يتوسّمه فيك وأنّك لا تعدل عن الحقّ- ثم ذكر كلاما طويلا في المعنى إلى أن قال-: وقد علمت ما جرى على ثغور المسلمين من المشركين، وخراب الشام وضعف أهله، وغلاء الأسعار. ولولا ذلك لتوجّه(4/124)
أمير المؤمنين بنفسه إلى الثغور، وسوف يقدم إلى الحيرة، وكتابه يقدم عليك عن قريب، فتأهّب إلى الجهاد في سبيل الله» . وفي آخر الكتاب: «وكتبه يعقوب ابن يوسف بن كلّس عند مولانا أمير المؤمنين» . فكتب إليه عضد الدولة كتابا يعترف فيه بفضل أهل البيت، ويقرّ للعزيز أنّه من أهل تلك النّبعة الطاهرة، [وأنّه في طاعته «1» ] ويخاطبه بالحضرة الشريفة، وما هذا معناه. انتهى.
قلت: وأنا أتعجّب من كون عضد الدولة كان إليه أمر الخليفة العباسى ونهيه، ويقع في مثل هذا لخلفاء مصر، وقد علم كلّ أحد ما كان بين بنى العباس وخلفاء مصر من الشّنان. وما أظنّ عضد الدولة كتب له ذلك إلّا عجزا عن مقاومته، فإنّه قرأ كتابه في حضرة الخليفة الطائع، وأجاب بذلك أيضا بعلمه، فهذا من العجب.
قال الوزير يعقوب بن كلّس: «سمعت العزيز بالله يقول لعمّه حيدرة: يا عمّ، أحبّ أن أرى النّعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضّة والجوهر، ولهم الخيل واللّباس والضّياع والعقار، وأن يكون ذلك كلّه من عندى» . قال المسبّحى: وهذا لم يسمع بمثله قطّ من ملك. انتهت ترجمة العزيز. ولمّا مات رثاه الشعراء بعدّة قصائد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 366]
السنة الأولى من ولاية العزيز نزار العبيدىّ على مصر وهى سنة ست وستين وثلثمائة.
فيها في جمادى الأولى زفّت بنت عزّ الدولة إلى الخليفة الطائع لله العباسىّ.
وفيها جاء أبو بكر محمد بن علىّ بن شاهويه صاحب القرامطة، ومعه ألف رجل من القرامطة إلى الكوفة، وأقام الدعوة بها لعضد الدولة، وأسقط خطبة عزّ الدولة بختيار. وكان قدومه معونة لعضد الدولة.(4/125)
وفيها عمل في الدّيار المصرية المأتم في يوم عاشوراء على حسين بن علىّ رضى الله عنهما، وهو أوّل ما صنع ذلك بديار مصر. فدامت هذه السّنة القبيحة سنين إلى أن انقرضت دولتهم، على ما سيأتى ذكره.
وفيها كانت وقعة بين عزّ الدولة بن معزّ الدولة أحمد وبين ابن عمّه عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه، وقعة هائلة أسر فيها غلام تركىّ لعزّ الدولة؛ فاشتدّ حزنه عليه، وامتنع عزّ الدولة من الأكل والشرب وأخذ فى البكاء واحتجب عن الناس وحرّم على نفسه الجلوس في الدّست؛ وبذل لعضد الدولة في الغلام المذكور جاريتين عوّادتين كان قد بذل له في الواحدة مائة ألف درهم؛ فرّده عضد الدولة عليه.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله أحمد بن [أبى «1» ] الحسين العلوىّ. وحجّت في السنة جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان، ومعها أخواها «2» إبراهيم [وهبة الله] حجّة ضرب بها المثل، وفرّقت أموالا عظيمة؛ منها أنّها لمّا رأت الكعبة نثرت عليها عشرة آلاف دينار، وسقت جميع أهل الموسم السّويق بالسكر والثّلج. كذا قال أبو منصور الثعالبىّ. وقتل أخوها هبة «3» الله في الطريق. وأعتقت ثلثمائة عبد ومائتى جارية، وفرّقت المال في المجاورين حتى أغنتهم، وخلعت على كبار الناس خمسين ألف ثوب. وكان معها أربعمائة عماريّة. ثم ضرب الدهر ضربانه واستولى عضد الدولة(4/126)
ابن بويه على أموالها وحصونها؛ فإنّه كان خطبها فامتنعت، ولم يدع لها شيئا إلى أن احتاجت وافتقرت. فانظر إلى هذا الدهر كيف يرفع ويضع!.
وفيها توفّى المستنصر بالله صاحب الأندلس أبو العاصى الحكم بن الناصر لدين الله عبد الرّحمن الأموىّ. بقى في الملك ستة عشر عاما، وعاش ثلاثا وستين سنة.
وكان حسن السيرة، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف.
وفيها توفّى السلطان ركن الدولة أبو علىّ الحسن بن بويه بن فنّاخسرو بن تمام ابن كوهى بن شيرزيل الأصغر بن شيركوه بن شيرزيل [الأكبر «1» ] الدّيلمىّ، صاحب أصبهان والرّىّ وهمذان وعراق العجم كلّه. وهؤلاء الملوك الثلاثة: عضد الدولة وفخر الدولة ومؤيّد الدولة أولاده «2» . وكان ملكا جليلا سعيدا في أولاده، قسم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام. وملك ركن الدولة أربعا وأربعين سنة وأشهرا.
وكان أبو الفضل بن العميد وزيره، والصاحب إسماعيل بن عبّاد كان وزير ولديه مؤيد الدولة ثم فخر الدولة. ومات ركن الدولة المذكور في المحرّم. وبويه بضم الباء الموحّدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، وفنّاخسرو بفتح الفاء وتشديد النون وبعد الألف خاء معجمة مضمومة ثم سين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة وبعدها واو. وقد ضبطته لكى يعرف بعد ذلك اسم من يأتى من أولاده في هذا الكتاب.
وفيها توفّى إسماعيل الشيخ أبو عمر السلمىّ «3» ، كان من كبار المشايخ وله قدم صدق وحكايات مشهورة، رحمه الله.(4/127)
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن أبى سعيد الحسن بن بهرام أبو علىّ، وقيل: أبو محمد، القرمطىّ الجنّابى الخارجىّ. ولد بالأحساء في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين، وغلب على الشام لمّا قتل جعفر بن فلاح، وتوجّه إلى مصر لقتال المعزّ العبيدىّ، كما ذكرناه في ترجمة المعزّ، ثم مات بالرّملة في عوده إلى دمشق في شهر رجب.
وجدّه أبو سعيد هو أوّل القرامطة، وقد مرّ من أخبارهم القبيحة نبذة كبيرة في عدّة سنين. وكان الحسن هذا صاحب الترجمة فصيحا شاعرا، وكان يلقّب بالأعظم، وكان يلبس الثياب القصيرة، وهو أحد من قتل العباد، وأخرب البلاد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن أحمد «1» ابن أبى سعيد الجنّابى القرمطىّ، كان ملك الشام وحاصر مصر شهرا. وركن الدولة الحسن بن بويه صاحب عراق العجم، وكانت دولته خمسا وأربعين سنة، ووزر له أبو الفضل بن العميد. وتوفّى أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكرياء بن حيّويه «2» النّيسابورىّ بمصر. وأبو الحسن محمد بن الحسن النيسابورىّ السرّاج المقرئ الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة، ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 367]
السنة الثانية من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة سبع وستين وثلثمائة.
فيها دخل عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وخرج منها ابن عمه عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة بن بويه، ثم تقاتلا فانتصر عزّ الدولة ثم قتل، حسب ما سنذكره في هذه السنة.(4/128)
وفيها زادت دجلة في نيسان حتى بلغت إحدى وعشرين ذراعا، فهدمت الدور والشوارع، وهرب الناس في السفن، وهيّأ عضد الدولة الزبازب تحت داره (والزبازب هى المراكب الخفيفة) .
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ.
وفيها جاء الخبر بهلاك أبى يعقوب يوسف بن الحسن الجنّابىّ القرمطىّ صاحب هجر، وأغلقت الأسواق له بالكوفة ثلاثة أيّام، وكان قد توزّر لعضد الدولة.
وفيها توفّى أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد النّصرپادىّ النّيسابورىّ (ونصرپاد: محلّة من نيسابور. وكلّ پاد يأتى في اسم بلد من هؤلاء البلدان هو بالتفخيم حتى يصحّ معناه) . كان أبو القاسم حافظ خراسان وشيخها، وإليه يرجع فى علوم القوم والسّير والتواريخ، وكان صحب الشّبلىّ وغيره من المشايخ. مات بمكّة حاجّا، ودفن عند قبر الفضيل بن عياض.
وفيها توفّى السلطان أبو منصور بختيار عزّ الدولة بن معزّ الدولة أحمد بن بويه الدّيلمىّ. ولى ملك العراق بعد أبيه، وتزوّج الخليفة الطائع لله عبد الكريم بابنته شاه «1» زمان على صداق مائة ألف دينار. وكان عزّ الدولة شجاعا قويّا يمسك الثّور العظيم بقرنيه فلا يتحرّك «2» . وكان بينه وبين ابن عمّه عضد الدولة منافسات وحروب على الملك، وتقاتلا غير مرّة آخرها في شوّال، قتل فيها عزّ الدولة المذكور فى المعركة، وحمل رأسه إلى عضد الدولة، فوضع المنديل على وجهه وبكى. وتملّك عضد الدولة العراق بعده، واستقلّ بالممالك. وعاش عزّ الدولة ستّا وثلاثين سنة.(4/129)
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر أبو طاهر الذهلىّ البغدادىّ القاضى نزيل مصر وقاضيها. ولد ببغداد في ذى الحجة سنة تسع وسبعين ومائتين.
وفيها توفّى الوزير أبو طاهر محمد بن محمد بن بقيّة وزير عزّ الدولة، وكان عضد الدولة قد بعث إليه يميله عن عزّ الدولة؛ فقال: الخيانة والغدر ليستا من أخلاق الرجال. فلمّا قتل عزّ الدولة قبض عليه عضد الدولة وشهّره في بغداد من الجانبين وعلى رأسه برنس، ثم أمر به أن يطرح تحت أرجل الفيلة فقتلته الفيلة، ثم صلب فى طرف الجسر من الجانب الشرقىّ، ولم يشفع فيه الخليفة الطائع لأمر كان في نفسه منه أيّام مخدومه عزّ الدولة، وأقيم عليه الحرس. فاجتاز به أبو الحسن محمد ابن عمر الأنبارىّ الصوفىّ الواعظ، وكان صديقا لابن بقيّة المذكور، فرثاه بمرثيته المشهورة وهى: [وافر]
علوّ في الحياة وفي الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدّهما إليهم بالهبات
وتشعل عندك النّيران ليلا ... كذلك كنت أيّام الحياة
ركبت مطيّة من قبل زيد «1» ... علاها في السنين الماضيات
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكّن من عتاق المكرمات
وتلك فضيلة فيها تأسّ ... تباعد عنك تعبير العداة
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النّائبات(4/130)
وكنت تجير من جور «1» الليالى ... فعاد مطالبا لك بالتّراب
وصيّر دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السّيّئات
وكنت لمعشر سعدا فلمّا ... مضيت تفرّقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادى ... يخفّف بالدّموع الجاريات
ولو أنّى قدرت على قيام ... لفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافى ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكنّى أصبّر عنك نفسى ... مخافة أن أعدّ من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى ... لأنّك نصب هطل الهاطلات
ولمّا ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات «2»
عليك تحيّة الرّحمن تترى ... برحمات غواد رائحات
قلت: ولم أذكر هذه المرثية بتمامها هنا إلّا لغرابتها وحسن نظمها. واستمر ابن بقيّة مصلوبا إلى أن توفّى عضد الدولة.
وفيها توفّى الأمير الغضنفر بن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل وابن صاحبها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم إبراهيم ابن محمد النّصرپادىّ الواعظ العارف. وعزّ الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه ملك العراق، قتل في مصافّ بينه وبين ابن عمه عضد الدولة. والغضنفر بن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل وابن صاحبها. وأبو طاهر محمد بن أحمد بن(4/131)
عبد الله الذّهلىّ بمصر في ذى القعدة، وله ثمان وثمانون سنة. وأبو بكر محمد بن عمر القرطبىّ ابن القوطيّة اللغوىّ. والوزير أبو طاهر محمد بن محمد بن بقيّة نصير «1» الدولة، وزير عزّ الدولة، صلبه عضد الدولة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 368]
السنة الثالثة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثمان وستين وثلثمائة.
فيها أمر الخليفة الطائع أن تضرب على باب عضد الدولة الدبادب (أعنى الطبلخانات) فى وقت الصبح والمغرب والعشاء، وأن يخطب له على منابر الحضرة.
قلت: وهذا أوّل ملك دقّت الطبلخانة على بابه، وصار ذلك عادة من يومئذ. وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ: «وهذان أمران لم يكونا من قبله ولا أطلقا لولاة العهود، [ولا «2» خطب بحضرة السلطان إلّا له، ولا ضربت الدبادب إلّا على بابه] . وقد كان معزّ الدولة أحبّ أن تضرب له الدبادب بمدينة السلام، فسأل الخليفة المطيع لله فى ذلك فلم يأذن له» . قال الحافظ أبو عبد الله الذهبى: وما ذاك إلّا لضعف أمر الخلافة. انتهى.
وفيها توفّى أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك الحافظ أبو بكر القطيعىّ البغدادىّ، كان يسكن قطيعة الرقيق. ومولده في أوائل سنة أربع وسبعين ومائتين. وكان مسند العراق في زمانه وسمع الكثير، وروى عنه الدارقطنىّ وابن شاهين والحاكم وخلق سواهم.(4/132)
وفيها توفّى عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الحافظ أبو القاسم الجرجانى «1» الآبندونىّ، وآبندون: قرية من قرى جرجان. كان رفيق ابن عدىّ في الرحلة، سكن بغداد وحدّث بها عن جماعة، وروى عنه رفيقه الإمام أبو بكر الإسماعيلى «2» وغيره.
وفيها توفّى محمد بن عيسى بن عمرويه الشيخ أبو أحمد الجلودىّ الزاهد راوى صحيح مسلم، سمع الكثير، وروى عنه غير واحد. قال الحاكم: كان من أعيان الفقراء الزهّاد، وأصحاب المعاملات في التصوّف؛ ضاعت سماعاته من ابن سفيان، فنسخ البعض من نسخة لم يكن له فيها سماع.
وفيها توفّى هفتكين الأمير أبو منصور التركى الشرابى «3» . هرب من بغداد خوفا من عضد الدولة، ووقع له أمور مع العزيز هذا صاحب الترجمة بمصر، ثمّ أطلقه العزيز. وصار له موكب؛ فخافه الوزير يعقوب بن يوسف بن كلّس، فدسّ عليه من سقاه السمّ. وكان إليه المنتهى في الشجاعة.
وفيها توفّى تميم بن المعزّ معدّ العبيدىّ الفاطمىّ أخو العزيز هذا صاحب مصر.
وكان تميم أميز أولاد المعزّ، وكان فاضلا جوادا سمحا يقول الشعر. وشقّ موته على أخيه العزيز.
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السّيرافىّ النحوىّ القاضى.
كان أبوه مجوسيّا واسمه بهزاد فأسلم فسمىّ عبد الله. سكن الحسن بغداد، وولى القضاء بها، وكان مفتنّا في علوم القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والكلام(4/133)
والشعر والعروض والقوافى والحساب وسائر العلوم، وشرح كتاب سيبويه، مع الزهد والورع.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد [بن «1» ] ورقاء أبو أحمد الشيبانىّ، كان من أهل البيوتات، وأسرته من أهل الثغور، مات في ذى الحجة.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن يعقوب النيسابورىّ من ولد الحجاج بن الجرّاح؛ سمع الكثير، وكان عابدا صالحا حافظا ثقة صدوقا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعىّ في ذى الحجة عن خمس وتسعين سنة. وأبو سعيد الحسن بن عبد الله السّيرافىّ النحوىّ في رجب وله أربع وثمانون سنة. وأبو القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجانىّ الآبندونىّ الحافظ الزاهد ببغداد، وله خمس وتسعون سنة. وعيسى ابن حامد الرّخّجىّ «2» القاضى. وأبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودىّ في ذى الحجة وله ثمانون سنة. وأبو الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجّاجىّ الحافظ المفيد الصالح فى ذى الحجة بنيسابور عن ثلاث وثمانين سنة. وهفتكين التركى الذي هرب خوفا من عضد الدولة، وتملّك دمشق وحارب المصريّين مرات.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.(4/134)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 369]
السنة الرابعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة تسع وستين وثلثمائة.
فيها تزوّج الخليفة الطائع ببنت عضد الدولة؛ وقد مرّ «1» ذلك، ولكن الأصح فى هذه السنة. وعقد العقد بحضرة الخليفة الطائع على صداق مبلغه مائتا «2» ألف دينار.
وكان الوكيل عن عضد الدولة في العقد أبا على الحسن بن أحمد الفارسىّ النحوىّ.
والخطيب أبو على المحسّن بن على القاضى التّنوخىّ وكيلا عن الخليفة.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوىّ.
وفيها توفّى فارس بن زكريّا، والد ابن فارس أبى الحسين اللغوىّ صاحب كتاب المجمل في اللغة. كان عالما بفنون العلوم، وروى عنه الأئمة، ومات ببغداد.
وفيها توفّى أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء أبو عبد الله الرّوذبارىّ ابن أخت أبى علىّ الرّوذبارىّ. كان شيخ الشام في وقته، وكان ممّن جمع بين علم الشريعة والحقيقة، ومات بقرية بين عكّا وصور يقال لها منواث.
وفيها توفّى الحسين «3» بن على أبو عبد الله البصرىّ؛ ويعرف بالجعل، سكن بغداد.
وكان من شيوخ المعتزلة، وصنّف على مذاهب المعتزلة، ومات يوم الجمعة ثانى ذى الحجة.(4/135)
وفيها توفّى عبد الله بن محمد الراسبىّ، كان بغدادىّ الأصل وكان من كبار المشايخ وأرباب المعاملات. ومن كلامه قال: خلق الله الأنبياء للمجالسة، والعارفين للمواصلة، والمؤمنين للمجاهدة. ومن كلامه: أعظم حجاب بينك وبين الحق اشتغالك بتدبير نفسك، واعتمادك على عاجز مثلك في أسبابك. وتوفّى ببغداد.
وفيها توفّى أبو تغلب الغضنفر بن ناصر الدولة الحسن بن حمدان التغلبيّ، وقد تقدّم ذكر وفاته، والأصحّ أنّه في هذه السنة. كان ملك الموصل وديار ربيعة وقلاع ابن حمدان، ووقع له حروب مع بنى بويه وأقاربه بنى حمدان، إلى أن طرقه عضد الدولة وأخذ منه بلاده فانهزم إلى أخلاط «1» ؛ ثمّ توجّه نحو الديار المصريّة وحارب أعوان العزيز صاحب مصر فقتل في المعركة، وبعث برأسه إلى العزيز صاحب الترجمة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان «2» الحافظ أبو محمد الأصبهانىّ أبو الحافظ صاحب التصانيف؛ ولد سنة أربع وسبعين ومائتين، وسمع في صغره من جدّه لأمّه محمود بن الفرج الزاهد وغيره، وهو صاحب تاريخ بلده، والتاريخ على السنين، و" كتاب السنّة" و" كتاب العظمة" وغيرها.
وفيها توفّى أبو سهل محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون العجلىّ الصّعلوكىّ النّيسابورىّ الفقيه الشافعىّ. كان أديبا لغويّا مفسرا نحويّا شاعرا صوفيّا. ولد سنة ستّ وتسعين ومائتين، ومات في ذى القعدة. ومن شعره: [الطويل](4/136)
أنام على سهو وتبكى الحمائم ... وليس لها جرم ومنّى الجرائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا ... لما سبقتنى بالبكاء الحمائم
وفيها توفّى محمد بن صالح بن علىّ بن يحيى بن عبد الله أبو الحسن القاضى القرشىّ الهاشمى، ويعرف بابن أمّ شيبان؛ سمع الكثير، وتفقّه على مذهب مالك رضى الله عنه، وكان عاقلا متميّزا كثير التصانيف. ولم يل القضاء بمدينة السلام من بنى هاشم غيره.
وفيها توفّى محمد بن على بن الحسن أبو بكر التّنيّسىّ «1» ، سمع منه الدارقطنى؛ وراه وحده فقال له: يا أبا بكر، ما في بلدك مسلم؟ قال: بلى، ولكنّهم اشتغلوا بالدنيا عن الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى ابو عبد الله بن عطاء الروذپارىّ. وعبد الله بن إبراهيم، أيّوب بن ماسى «2» فى رجب وله خمس وتسعون سنة. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان أبو الشيخ في المحرّم وله خمس وتسعون سنة. وأبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكىّ ذو الفنون في آخر السنة وله ثمانون «3» سنة. وقاضى العراق ابن أمّ شيبان أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمىّ فجأة في جمادى الأولى عن ستّ وسبعين سنة. وأبو بكر محمد بن على بن الحسن المصرىّ بن النقاش في شعبان، وكان حافظا. وأبو عمرو «4» محمد بن صالح ببخارى.
وأبو علىّ مخلّد بن جعفر الباقرحىّ «5» .(4/137)
- أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 370]
السنة الخامسة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة سبعين وثلثمائة.
فيها خرج عضد الدولة للقاء الصاحب إسماعيل بن عبّاد؛ فقدم عليه ابن عبّاد، فقدم عليه ابن عباّد من الرىّ من عند أخيه مؤيّد الدولة، فبالغ عضد الدولة في إكرامه إلى الغاية لكونه وزير أخيه مؤيّد الدولة وصاحب أمره ونهيه. وتردّد إليه عضد الدولة في إقامته ببغداد غير مرّة إلى أن سافر إلى مخدومه مؤيّد الدولة في شهر ربيع الآخر.
وفيها توجّه عضد الدولة إلى همذان. فلمّا عاد إلى بغداد خرج الخليفة لتلقّيه؛ ولم يكن ذلك بعادة أنّ الخليفة يلاقى أحدا من الأمراء. قلت: وهذا كان أوّلا، وأمّا في الآخر فإنّ الطائع كان قد بقى تحت أوامر عضد الدولة كالأسير.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر العلوىّ وخطب بمكة والمدينة للعزيز هذا صاحب مصر.
وفيها غرقت بغداد من الجانبين وأشرف أهلها على الهلاك، ووقعت القنطرتان وغرم على بنائهما أموال كثيرة.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ الإمام العلّامة أبو بكر الرازىّ الحنفىّ العالم المشهور.
مولده في سنة خمس وثلثمائة، كان إمام الحنفية في زمانه، وكان مشهور! بالدّين والورع والزّهد. قال أبو المظفر في تاريخه: وحاله كان يزيد على حال الرهبان «1» من كثرة التقشّف، وهو صاحب التصانيف وتلميذ أبى الحسن الكرخىّ.(4/138)
وفيها توفّى محمد بن جعفر بن الحسين بن محمد بن زكرياء الحافظ أبو بكر الورّاق المعروف بغندر، كان حافظا متقنا، ورحل [إلى] البلاد وسمع الكثير، وكتب مالم يكتبه أحد، وكان حافظا ثقة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن علىّ الرازىّ عالم الحنفيّة في ذى الحجة وله خمس وستون سنة. وبشر بن أحمد أبو سهل الإسفراينى في شوّال عن نيّف وتسعين سنة. وأبو محمد الحسن بن أحمد السّبيعىّ «1» الحلبىّ الحافظ. وأبو محمد الحسن بن رشيق بمصر في جمادى الآخرة. وأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه النحوىّ. وأبو بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك فى ذى القعدة. وأبو منصور محمد بن أحمد الأزهرىّ صاحب [تهذيب «2» ] اللغة فى ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 371]
السنة السادسة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة إحدى وسبعين وثلثمائة.
فيها اتّفق فخر الدولة وقابوس بن وشمكير على عداوة أخيه عضد الدولة فى الباطن. قلت: وهذه أوّل فتنة بدت بين الإخوة أولاد ركن الدولة الثلاثة:
عضد الدولة، وفخر الدولة، ومؤيّد الدولة. وفطن عضد الدولة لذلك ولم يظهره،(4/139)
وجهّز العساكر لأخيه مؤيّد الدولة لقتال قابوس المذكور؛ فتوجّه إليه مؤيّد الدولة وحصره وأخذ بلاده، ولم ينفعه فخر الدولة. وكان لقابوس من البلاد طبرستان وغيرها.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ من العراق.
وفيها توفّى أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الحافظ أبو بكر الجرجانىّ، كان إماما، طاف البلاد، ولقى الشيوخ، و؟؟؟ سمع الكثير، وصنّف الكتب الحسان، منها:
" الصحيح" صنّفه على صحيح البخارىّ، و" الفرائد" و" العوالى" وغير ذلك، ومات في شهر رجب.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن صالح الحافظ أبو محمد السّبيعىّ الكوفىّ، كان حافظا مكثرا إلّا أنّه كان عسر الرواية، وكان الدارقطنىّ يجلس بين يديه جلوس الصبىّ بين يدى المعلّم هيبة له، ومات في ذى الحجة ببغداد.
وفيها توفّى عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الحسن التميمى الحنبلىّ، كان فقيها فاضلا، وله تصانيف في أصول الكلام وفي مذهبه والفرائض وغير ذلك.
وفيها توفّى علىّ بن إبراهيم أبو الحسن [الحصرىّ «1» ] البصرىّ الصوفىّ الواعظ، سكن بغداد وصحب الشّبلىّ وغيره، وكان صاحب خلوات ومجاهدات، وله كلام حسن في التوفيق.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن طالب الأخبارىّ، رحل وسمع الكثير، وكان فاضلا محدّثا أخباريّا.(4/140)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلىّ الجرجانىّ في رجب وله أربع وتسعون سنة. وأبو العباس الحسن ابن سعيد العبّادانىّ «1» المطّوّعىّ المقرئ وله مائة وسنتان. وأبو محمد عبد الله بن إسحاق القيروانىّ شيخ المالكية. وأبو زيد محمد بن أحمد المروزىّ الفقيه في رجب.
وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشّيرازى شيخ الصوفيّة بفارس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 372]
السنة السابعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة.
فيها وثب أبو الفرج بن عمران بن شاهين على أخيه أبى محمد الحسن «2» بن عمران صاحب البطيحة «3» ، فقتله واستولى على بلده.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر العلوىّ، وقيل: إنّه لم يحجّ أحد من العراق من هذه السنة إلى سنة ثمانين، بسبب الفتن والخلف بين خلفاء بنى العباس وبين خلفاء مصر بنى عبيد.
وفيها أنشأ عضد الدولة بيمارستانه ببغداد في الجانب الغربىّ، ورتّب فيه الأطباء والوكلاء والخزّان وكلّ ما يحتاج إليه.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: «وفي هذا الزمان كانت البدع والأهواء فاشية ببغداد ومصر من الرّفض والاعتزال والضلال فإنّا لله وإنا إليه راجعون!» .(4/141)
قلت: ومعنى قول الذهبىّ:" ومصر" فإنّه معلوم من كون خلفاء بنى عبيد كانوا يظهرون الرفض وسبّ الصحابة، وكذلك جميع أعوانهم وعمّالهم. وأمّا قوله:
" ببغداد" فإنّه كان بسبب عضد الدولة الآتى ذكره، فإنّه كان أيضا يتشيّع ويكرم جانب الرافضة.
وفيها توفّى السلطان عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو- وقيل بويه على اسم جدّه، وفنّاخسرو أشهر- ابن السلطان ركن الدولة الحسن بن بوية بن فنّاخسرو الدّيلمىّ.
ولى مملكة فارس بعد عمّه عماد الدولة، ثمّ قوى على ابن عمّه عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة بن بويه، وأخذ منه «1» العراق وبغداد. وقد تقدّم من ذلك نبذة يسيرة فى حوادث بعض السنين. وبلغ سلطانه من سعة المملكة والاستيلاء على الممالك ما لم يبلغه أحد من بنى بويه، ودانت له البلاد والعباد. وهو أوّل من خوطب بالملك شاهنشاه في الإسلام، وأوّل من خطب له على منابر بغداد بعد الخلفاء، وأوّل من ضربت الدبادب على باب داره. وكان فاضلا نحويّا، وله مشاركة في فنون كثيرة، وله صنّف أبو علىّ الفارسىّ" الإيضاح". قال أبو على الفارسىّ، منذ تلقّب شاهنشاه تضعضع أمره، وما كفاه ذلك حتّى مدح نفسه؛ فقال: [الرمل]
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلّاب القدر
ولمّا أحسّ بالموت تمثّل بشعر القاسم بن عبد الله الوزير، وهو قوله: [الطويل]
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة خلقا
وأخليت دور الملك من كلّ نازل ... وبدّدتهم غربا وشرّدتهم شرقا
ثمّ جعل يبكى ويقول:" ما أغنى عنّى ماليه! هلك عنى سلطانيه! " وصار يردّدها إلى أن مات في شوّال ببغداد وله سبع وأربعون سنة. وتولّى الملك من بعده ابنه(4/142)
صمصام الدولة، ولم يجلس للعزاء إلّا في أوّل السنة. أظنّ أنّهم كانوا أخفوا موت عضد الدولة لأمر، أو أنّه اشتغل بملك جديد حتّى فرغ منه.
وفيها توفّى محمد بن جعفر بن أحمد أبو بكر الحريرىّ المعدّل «1» البغدادىّ، وكان يعرف بزوج الحرّة، وكان جليل القدر، من الثّقات. مات ببغداد، ودفن عند قبر معروف الكرخىّ. رحمة الله عليهما.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 373]
السنة الثامنة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة.
فيها في ثانى عشر المحرّم أظهرت «2» وفاة عضد الدولة وحمل تابوته إلى المشهد، وجلس ابنه صمصام الدولة للعزاء، وجاءه الخليفة الطائع معزّيا، ولطم عليه الناس فى [دوره «3» وفي] الأسواق أيّاما عديدة. ثمّ ركب صمصام الدولة إلى دار الخلافة، وخلع عليه الخليفة الطائع عبد الكريم سبع خلع، وعقد له لواءين، ولقّب شمس الملّة «4» .
وفيها بعد مدّة يسيرة ورد الخبر على صمصام الدولة المذكور بموت عمّه مؤيّد الدولة أبى منصور بن ركن الدولة بجرجان، فجلس صمصام الدولة أيضا للتعزية؛ وجاءه الخليفة الطائع مرّة ثانية معزّيا في عمّه مؤيّد الدولة المذكور. ولمّا مات مؤيّد الدولة كتب وزيره الصاحب إسماعيل بن عبّاد إلى أخيه فخر الدولة علىّ بن ركن الدولة(4/143)
بالإسراع إليه وضبط ممالك أخيه مؤيّد الدولة؛ فقدم فحر الدولة إليه وملك بلاد أخيه، واستوزر الصاحب بن عباد المذكور. وعظم ابن عبّاد في أيام فخر الدولة إلى الغاية.
وفيها كان الغلاء المفرط بالعراق، وبلغ الكرّ القمح أربعة آلاف وثمانمائة درهم، ومات خلق كثير على الطريق جوعا، وعظم الخطب.
وفيها ولّى العزيز نزار صاحب الترجمة خطلخ «1» القائد إمرة دمشق.
وفيها توفّى السلطان مؤيّد الدولة أبو منصور بويه ابن السلطان ركن الدولة حسن بن بويه المقدّم ذكره. مات بجرجان وله ثلاث وأربعون سنة وشهر.
وكانت مدّة إمرته سبع سنين وشهرا. وكان قد تزوّج ببنت عمّه معزّ الدولة، فأنفق فى عرسها سبعمائة ألف دينار. وكان موته في ثالث عشر شعبان؛ فيكون بعد موت أخيه عضد الدولة بنحو عشرة أشهر. وصفا الوقت لأخيهما فخر الدولة.
وفيها توفّى سعيد بن سلّام أبو عثمان المغربىّ. مولده بقرية يقال لها كركنت «2» ، كان أوحد عصره في الزهد والورع والعزلة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عثمان «3» بن المختار أبو محمد المزنىّ الواسطىّ الحافظ، كان ثقة، مات بواسط. ومن كلامه قال: «الذين وقع عليهم اسم الخلافة ثلاثة:
آدم، وداود عليهما السلام، وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. قال الله تعالى في حقّ آدم: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
، وقال في حقّ داود: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ(4/144)
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)
. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثين ألف مسلم كلّهم يقول لأبى بكر: يا خليفة رسول الله» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 374]
السنة التاسعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة أربع وسبعين وثلثمائة.
فيها دخلت القرامطة البصرة لمّا علموا بموت عضد الدولة، ولم يكن لهم قوّة على حصارها، فجمع لهم مال فأخذوه وانصرفوا.
وفيها وقع الصلح بين صمصام الدولة وبين عمّه فخر الدولة بمكاتبة أبى عبد الله ابن سعدان إلى الصاحب بن عبّاد. فكان ابن سعدان يخاطب الصاحب بن عبّاد بالصاحب الجليل، والصاحب بن عباد يخاطب ابن سعدان بالأستاذ مولاى ورئيسى.
وفيها ملكت الأكراد ديار بكر بن ربيعة. وسببه. أنّه كان بجبال حيزان «1» رجل كردىّ يقطع الطريق، يقال له أبو عبد الله «2» الحسين بن دوستك، ولقبه پاد، واجتمع عليه خلق كثير، وجرت له مع بنى حمدان حروب إلى أن قتل. فلمّا قتل پاد، المذكور كان له صهر يقال له مروان بن كسرى وكان له أولاد ثلاثة، وكانوا(4/145)
من قرية يقال لها كرماس «1» بين إسعرذ «2» والمعدن، وكانوا رؤساءها. فلمّا خرج پاد خرج معه أولاد مروان المذكور وهم: الحسن «3» وسعيد وأحمد وأخ آخر. فلمّا قتل پاد انضمّ عسكره على ابن أخته الحسين، واستفحل أمره وتقاتل مع من بقى من بنى حمدان فهزمهم. ثمّ مات عضد الدولة بن بويه، فصفا له الوقت وملك ديار بكر وميّافارقين، وأحسن السيرة في الناس فأحبّته الرعيّة؛ ثم افتتح بعد ذلك عدّة حصون، يأتى ذكرها إن شاء الله تعالى في محلّها.
وفيها توفّى عبد الرّحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الخطيب الفارقىّ «4» صاحب الخطب، والذي من ذرّيته الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة الشاعر المتأخر، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى. وكان مولده بميّافارقين في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة.
وكان بارعا في الأدب، وكان يحفظ" نهج البلاغة" وعامّة خطبه بألفاظها ومعانيها، ومات بميافارقين عن تسع وثلاثين سنة. ولولده أبى طاهر محمد خطب أيضا.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن مكّىّ أبو أحمد «5» القاضى الجرجانى، رحل في طلب الحديث ولقى الشيوخ، وكان حافظا فاضلا أديبا. ومن شعره رحمة الله:
[الوافر]
مضى زمن وكان الناس فيه «6» ... كراما لا يخالطهم خسيس(4/146)
فقد دفع «1» إلى الكرام إلى زمان ... أخسّ رجالهم فيه رئيس
[تعطّلت «2» المكارم يا خليلى ... وصار الناس ليس لهم نفوس]
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 375]
السنة العاشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة خمس وسبعين وثلثمائة.
فيها توفّى أحمد بن الحسين بن علىّ الحافظ أبو زرعة الرازىّ الصغير، كان إماما طاف البلاد في طلب الحديث، وجالس الحفّاظ، وصنّف التراجم والأبواب، وكان متقنا صدوقا؛ فقد بطريق مكّة في هذه السنة.
وفيها توفّى الحسين بن علىّ بن محمد بن يحيى الحافظ أبو أحمد النيسابورىّ، ويقال له حسينك، مولده سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ومات بنيسابور في شهر ربيع الآخر، وكان ثقة جليلا مأمونا حجّة.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر التّميمىّ الأبهرىّ الفقيه المالكىّ، ولد سنة تسع وثمانين ومائتين، وصنّف التصانيف الحسان في مذهبه، وانتهت إليه رياسة المالكيّة في زمانه.
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران أبو مسلم البغدادىّ الحافظ الثقة العابد العارف، رحل الى البلاد وأقام بسمرقند وجمع المسند، وكان يعدّ من الزهّاد.(4/147)
وفيها توفّى عبد الله بن علىّ بن عبيد الله أبو القاسم الواردىّ البصرىّ القاضى شيخ أهل الظاهر في عصره، سمع الكثير وحدّث، وكان موصوفا بالفضل وحسن السيرة، وولى القضاء بعدّة بلاد وحسنت سيرته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو زرعة الرازىّ الصغير أحمد بن الحسين الحافظ. وأبو علىّ الحسين بن علىّ التميمىّ حسينك. والحسين ابن محمد بن عبيد أبو عبد الله العسكرىّ الدّقاق في شوّال. وأبو مسلم عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران البغدادىّ الحافظ الزاهد. وأبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الدّاركىّ «1» شيخ الشافعيّة ببغداد. وأبو القاسم عبد العزيز بن جعفر الخرقىّ.
وعمر بن محمد بن على أبو حفص الزيّات. ومحمد بن عبد الله بن محمد القاضى أبو بكر الأبهرىّ شيخ المالكيّة بالعراق. ويوسف بن القاسم القاضى أبو بكر الميانجىّ «2» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 376]
السنة الحادية عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ست وسبعين وثلثمائة.
فيها استقرّ الأمر على الطاعة لشرف الدّولة بن عضد الدّولة، وتحالف الإخوة الثلاثة أولاد عضد الدولة وتعاقدوا؛ ومضمون ما كتب بينهم:
«هذا ما اتّفق عليه وتعاهد وتعاقد شرف الدولة أبو الفوارس، وصمصام الدولة، وأبو النصر أبناء عضد الدولة بن ركن الدولة، اتفقوا على طاعة أمير المؤمنين الطائع(4/148)
لله ولشرف الدولة بن عضد الدولة» ، وذكر ما جرت به العادة؛ وكان ذلك بعد أمور وقعت بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة المذكور حتى أذعن «1» له صمصام الدولة.
وفيها توفّى أبو القاسم المظفّر بن علىّ الملقب بالموفّق أمير البطيحة، وولى بعده أبو الحسن علىّ بن نصر بعهد منه. فبعث ابن نصر هذا لشرف الدولة يبذل الطاعة وسأل الخلع والتقليد؛ فأجيب إلى ذلك ولقّب مهذّب الدولة؛ فسار بالناس أحسن سيرة.
وفيها توفّى الحكم «2» بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن محمد الأموىّ المغربىّ أمير الأندلس. ولى مملكة الأندلس بعد وفاة أبيه يوم مات سنة خمسين وثلثمائة.
وكنيته أبو العاصى، ولقبه المستنصر بالله؛ وأقام واليا على الأندلس خمسا وعشرين سنة، ومات في صفر. وأمّه أم ولد يقال لها مرجان. وتولّى بعده ولده هشام ابن الحكم، وكان مشكور السيرة. وهو الذي كتب إليه العزيز صاحب الترجمة من مصر يهجوه، وقد ذكرنا ذلك في أوّل ترجمة العزيز؛ فردّ المستنصر هذا جواب العزيز، وكتب في أوّل كتابه قصيدة أوّلها:
[الطويل]
ألسنا بنى مروان كيف تقلّبت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إلى أن قال:
إذا ولد المولود منّا تهلّلت ... له الأرض واهتزّت إليه المنابر
ثمّ قال: وبعد، فقد عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك. والسلام.(4/149)
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن حمدان بن علىّ بن عبد الله بن سنان أبو عمرو «1» الحيرىّ الزاهد، صحب جماعة من الزهّاد، وكان عالما بالقراءات والنحو، وكان متعبّدا، مات ببغداد في ذى القعدة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المستملى ببلخ، طوّف وخرّج المعجم. وأبو سعيد الحسن بن جعفر السمسار الخرقىّ. وأبو الحسن «2» علىّ بن الحسن بن علىّ القاضى الجرّاحىّ الضعيف.
وأبو الحسن على بن عبد الرّحمن البكّائىّ «3» . وأبو القاسم عمر بن محمد بن سبنك «4» . وقسّام الحارثىّ الغالب على دمشق قبض عليه في هذه السنة. وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيرىّ في ذى القعدة عن ثلاث وتسعين سنة. وأبو بكر محمد بن عبد الله ابن عبد العزيز الرازىّ الواعظ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 377]
السنة الثانية عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة سبع وسبعين وثلثمائة.
فيها توفّيت والدة شرف الدولة، فجاءه الخليفة الطائع لله معزّيّا.(4/150)
وفيها في شعبان ولد لشرف الدولة بن عضد الدولة ولدان توءمان؛ فكنّى أحدهما أبا حرب وسماه سلار، والثانى أبا منصور وسماه فنّاخسرو.
وفيها ولّى العزيز صاحب الترجمة بكتكين التركىّ إمرة دمشق، وندبه لقتال قسّام، حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علىّ الفارسىّ النحوىّ الإمام المشهور، ولد ببلدة فسا «1» ، وقدم بغداد، وسمع الحديث وبرع في علم النحو وانفرد به، وقصده الناس من الأقطار، وعلت منزلته في العربيّة، وصنّف فيها كتبا كثيرة لم يسبق إلى مثلها حتّى اشتهر ذكره في الآفاق؛ وتقدّم عند عضد الدولة حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبى علىّ في النحو. ومن تصانيف أبى علىّ:" الإيضاح" و" التكملة" وكتاب" الحجة في القراءات"؛ ومات ببغداد في شهر ربيع الأوّل عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها كان قد هيّأ «2» العزيز صاحب مصر عدّة شوانى «3» لغزو الروم، فاحترقت مراكبه فاتّهم بها أناسا. ثمّ بعد ذلك وصلت رسل الروم في البحر إلى ساحل القدس بتقادم «4» للعزيز، ودخلوا مصر يطلبون الصلح؛ فأجابهم العزيز واشترط شروطا شديدة التزموا بها كلّها؛ منها: أنّهم يحلفون أنّه لا يبقى في مملكتهم أسير(4/151)
إلّا أطلقوه، وأن يخطب للعزيز في جامع قسطنطينية كلّ جمعة، وأن يحمل إليه من أمتعة الروم كلّ ما افترضه «1» عليهم؛ ثمّ ردّهم بعقد الهدنة سبع سنين.
وفيها توفّيت ستيتة، وقيل آمنة، بنت القاضى أبى عبد الله الحسين المحاملىّ، وأمّ القاضى أبى الحسين محمد بن أحمد بن القاسم المحاملىّ، كنيتها أمة الواحد.
كانت فاضلة، من أعلم الناس وأحفظهم لفقه الشافعىّ، وتقرأ القراءات والفرائض والنحو وغير ذلك من العلوم مع الزهد والعبادة والصدقات، وكانت تفتى مع أبى على ابن أبى هريرة؛ وماتت في شهر رمضان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 378]
السنة الثالثة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثمان وسبعين وثلثمائة.
فيها في المحرّم أمر شرف الدولة بأن ترصد الكواكب السبعة في مسيرها وتنقّلها فى بروجها على مثال ما كان المأمون يفعل، وتولّى ذلك ابن رستم الكوهىّ «2» ، وكان له علم بالهيئة والهندسة، وبنى بيتا في دار المملكة بسبب ذلك في آخر البستان، وأقام الرصد لليلتين بقيتا من صفر.
وفيها كثرت العواصف وهبّت ريح بفم الصّلح «3» عظيمة جرفت «4» دجلة من غربيها إلى شرقيها، فأهلكت خلقا كثيرا وغرّقت كثيرا من السفن الكبار.(4/152)
وفيها بدأ المرض بشرف الدولة ولحقه سوء مزاج.
وفيها لحق الناس بالبصرة حرّ عظيم في نيّف وعشرين يوما من تموز، وهو «أبيب» بالقبطىّ، فكان الناس يتساقطون موتى بالعراق في الشوارع.
وفيها ولّى العزيز صاحب مصر على دمشق منيرا الخادم، وعزل عنها بكتكين التركىّ، لأنّه كان قيل عنه: إنّه خرج عن الطاعة.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن أحمد بن علىّ بن محمد العلوىّ الدّمشقىّ، ويعرف بالعقيقى، صاحب الدار المشهورة بدمشق، وكان من وجوه الأشراف جوادا ممدّحا، مات بدمشق في جمادى الأولى.
وفيها توفّى الخليل بن أحمد بن محمد بن الخليل أبو سعيد السّجزىّ القاضى الحنفىّ، وقيل: اسمه محمد، والخليل لقب له، ويعرف أيضا بابن جنك «1» . كان شيخ أهل الرأى في عصره، وكان مع كثرة علمه أحسن الناس كلاما في الوعظ والتذكير، وكان صاحب فنون من العلوم، وطاف الدنيا شرقا وغربا وسمع الحديث، وكان شاعرا فصيحا؛ مات قاضيا بسمرقند في جمادى الآخرة، ورثاه أبو بكر الخوارزمىّ.
وفيها توفّى عبد الله بن علىّ بن محمد أبو نصر السرّاج الصوفى الطوسىّ، كان من كبار مشايخ طوس وزهّادهم، مات بنيسابور في شهر رجب وهو ساجد.
ومن شعره: [البسيط]
ما ناصحتك خبايا الودّ من أحد ... ما لم تنلك بمكروه من العذل
مودّتى فيك «2» تأبى أن تسامحنى ... بأن أراك على شىء من الزلل(4/153)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق أبو أحمد الحافظ النيسابورىّ الكرابيسىّ الحاكم الكبير إمام عصره صاحب التصانيف، سمع الكثير وروى عنه خلق كثير، وصنّف على كتابى البخارىّ ومسلم وعلى جامع أبى عيسى التّرمذىّ، وصنّف كتابى الأسماء والكنى والعلل والمخرّج على كتاب المزنىّ وغير ذلك، وولى القضاء بمدن كثيرة، ومات في شهر ربيع الأوّل عن ثلاث وتسعين سنة.
وفيها توفّى [أبو «1» ] القاسم بن الجلّاب المالكى، وقيل اسمه عبد الرّحمن بن عبيد الله، وسمّاه القاضى عياض: محمد بن الحسين، تفقّه بالقاضى أبى بكر محمّد الأبهرىّ، وصنّف كتابا جليلا في مسائل الخلاف، وكتاب" التفريع" في مذهبه، وكان أحفظ أصحاب الأبهرىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 379]
السنة الرابعة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة تسع وسبعين وثلثمائة.
فيها مات شرف الدولة شيرزيل «2» بن عضد الدولة بويه، وقيل: فنّاخسرو، ابن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمىّ بعد أن عهد بالملك إلى أخيه أبى نصر.(4/154)
وجاء الطائع الخليفة لأبى نصر وعزّاه في أخيه شرف الدولة، ثمّ ركب أبو نصر إلى دار الخليفة وحضر الأعيان. وخلع الخليفة الطائع على أبى نصر المذكور سبع خلع أعلاها سوداء وعمامة سوداء، وفي عنقه طوق كبير، وفي يديه سواران، ومشى الحجّاب بين يديه بالسيوف. فلمّا حصل بين يدى الطائع قبّل الأرض، ثمّ أجلس على كرسىّ، وقرأ أبو الحسن «1» علىّ بن عبد العزيز «2» بن حاجب النّعمان كاتب الخليفة عهده، وقدّم إلى الطائع لواءه فعقده ولقبه بهاء الدولة وضياء الملة. قلت: وهذا الثالث من بنى عضد الدولة بن بويه؛ فإنّه ولى بعد عضد الدولة صمصام الدولة، ثمّ شرف الدولة، ثمّ بهاء الدولة هذا.
وكان بهاء الدولة المذكور من رجال بنى بويه. وبلغ الأتراك بفارس ولايته فوثبوا وأخرجوا صمصام الدولة من معتقله، وكان اعتقله أخوه شرف الدولة.
ولمّا خرج صمصام الدولة واستفحل أمره، وقّع بينه وبين الأتراك، فتركوه وأقاموا ابن أخيه أبا علىّ ولقّبوه شمس الدولة. ووقع لهم أمور يطول شرحها.
وفيها توفّى محمد بن المظفّر بن موسى بن عيسى أبو الحسين البزّاز البغدادىّ الحافظ المشهور، ولد سنة ستّ وثمانين ومائتين في المحرّم، ورحل وسمع الكثير، وروى عنه خلائق، كتب عنه الدارقطنىّ. وقد روينا مسنده الذي جمعه من حديث أبى حنيفة رضى الله عنه عن المسند المعمّر الحاكم عبد الرّحيم بن «3» الفرات الحنفى.(4/155)
أنبأنا ابن أبى «1» عمر وغير واحد قالوا أنبأنا أبو الحسن «2» بن البخارىّ أنبأنا الخشوعىّ «3» أنبأنا ابن خسرو البلخىّ عن المبارك بن عبد الجبّار الصّيرفىّ «4» عن أبى محمد الفارسىّ عن ابن المظفّر. وقال محمد بن أبى الفوارس: انتهى إليه علم الحديث مع الفقه والأمانة وحسن الخط.
وفيها توفّى شرف الدولة شيرزيل «5» بن عضد الدولة بويه بن ركن الدولة الحسن ابن بويه بن فناخسرو الديلمىّ سلطان بغداد وابن سلطانها. ظفر بأخيه صمصام الدولة بعد حروب وحبسه وملك العراق. وكان حسن السيرة، يميل إلى الخير، وأزال المصادرات. وكان مرضه بالاستسقاء، وامتنع من الحمية فمات منه في جمادى(4/156)
الآخرة عن تسع وعشرين سنة، وملك سنتين وثمانية أشهر. وتولّى السلطنة بعده أخوه أبو نصر «1» بهاء الدولة، حسب ما ذكرناه في أوّل هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 380]
السنة الخامسة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثمانين وثلثمائة.
فيها قلّد أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوىّ العلوىّ نقابة الطالبيين والنظر فى المظالم وإمرة الحاجّ، وكتب عهده على جميع ذلك؛ واستخلف ولديه المرتضى والرضىّ على النّقابة، وخلع عليهما من دار الخلافة ببغداد.
وفيها تغيّر بهاء الدولة على الخليفة الطائع لله عبد الكريم حتّى نكبه في السنة الآتية.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله نيابة عن الشريف أبى أحمد الموسوىّ.
وفيها توفّى حمزة «2» بن أحمد بن الحسين الشريف أبو الحسن العلوىّ الدمشقىّ، كان جوادا رئيسا، يسكن بباب الفراديس «3» . ولما قرئ نسب خلفاء مصر الفاطميّين على منبر دمشق استهزأ بهم ونال منهم، فبعث ابن كلّس وزير العزيز [من «4» ] قبض عليه، وحبسه بالإسكندريّة إلى أن مات بها.(4/157)
وفيها توفّى الوزير يعقوب بن يوسف بن كلّس أبو الفرج وزير العزيز صاحب مصر. كان يهوديّا من أهل بغداد ثم انتقل إلى الرملة وعمل سمسارا، فانكسر عليه مال فهرب إلى مصر. وتاجر لكافور الإخشيذىّ فرأى منه فطنة، فقال:
لو أسلم لصلح للوزارة، فأسلم؛ فقصده الوزير «1» يوم ذلك، فهرب ابن كلّس هذا إلى المغرب، وترقّى إلى أن وزّره العزيز صاحب الترجمة سنة خمس وستين وثلثمائة.
فاستقامت أمور العزيز بتدبيره إلى أن مات. فلما أشرف على الموت عاده العزيز وعمّه أمره. فقال له العزيز: ودت أنك تباع فاشتريك بملكى أو تفتدى فأفديك بولدى، فهل من حاجة [توصى «2» بها؟] فبكى ابن كلّس وقبّل يده وجعلها على عينيه، ثم أوصى العزيز بوصايا ومات. فصلّى عليه العزيز وألحده في قبره بيده فى قبّة في دار العزيز كان بناها العزيز لنفسه، وأغلق الدواوين بعده أيّاما. وقيل:
إنه كان حسن إسلامه وقرأ القرآن والنحو، وكان يجمع العلماء والفضلاء. ولمّا مات خلّف شيئا كثيرا. وقيل: إنه كفّن وحنّط بما قيمته عشرة آلاف دينار، قاله الذهبىّ وغيره من المؤرخين، ورثاه مائة شاعر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم طلحة ابن محمد بن جعفر الشاهد. وأبو عبد الله «3» محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرّج(4/158)
القرطبىّ قاضى الجماعة. ووزير مصر يعقوب بن يوسف بن كلّس. وأبو بكر محمد ابن عبد الرّحمن بن صبر «1» الحنفىّ المعتزلىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 381]
السنة السادسة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة إحدى وثمانين وثلثمائة.
فيها خلع الخليفة الطائع عبد الكريم في تاسع عشر شعبان، وتولّى القادر الخلافة.
وسببه أن أبا الحسين «2» بن المعلّم كان من خواصّ بهاء الدولة فحبسه الطائع؛ وجاء بهاء الدولة إلى دار الخلافة وقد جلس الطائع متقلّدا سيفا. فلمّا قرب [منه «3» ] بهاء الدولة قبّل الأرض وجلس على كرسىّ؛ وتقدّم أصحابه فجذبوا الطائع بحمائل سيفه وتكاثروا عليه ولفّوه في كساء، وحمل في زبزب «4» فى الدّجلة وأصعد الى دار الملك، واختلط «5» الناس وظنّ أكثرهم أنّ القبض على بهاء الدولة، ونهبت دار الخلافة؛ وماج الناس، إلى أن نودى بخلافة القادر. وكتب على الطائع كتاب بخلع نفسه، وأنه سلّم الأمر إلى القادر بالله؛ فتشغّبت الجند يطلبون رسم البيعة، وتردّدت الرسل بينهم وبين بهاء الدولة، [ومنعوا الخطبة «6» باسم القادر] ، ثم أرضوهم وسكنوا؛ وأقيمت الخطبة للقادر في الجمعة الآتية.(4/159)
والقادر هذا ابن عمّ الطائع المخلوع عن الخلافة به. واسمه أحمد، وكنيته أبو العباس ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر. والطائع الذي خلع اسمه عبد الكريم، وكنيته أبو بكر ابن الخليفة المطيع الفضل ابن الخليفة جعفر المقتدر المذكور؛ حبس وأقام سنين بعد ذلك إلى أن مات. على ما سيأتى ذكره في محلّه إن شاء الله تعالى.
وفيها حجّ بالناس «1» أبو الحسن محمد بن الحسن بن يحيى العلوىّ الشريف أمير الحجّ، [وكذلك «2» ] حجّ بالناس عدّة سنين.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن مهران أبو بكر النّيسابورىّ المقرئ العابد، مصنّف كتاب" الغاية في القراءات". قال الحاكم: كان إمام عصره في القراءات، وكان أعبد من رأينا من القرّاء، وكان مجاب الدعوة. مات في شوّال وله ستّ وثمانون سنة.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الجرّاح أبو بكر الخزّاز «3» ، كان أديبا فاضلا فارسا شجاعا.
وفيها توفى بكجور التركىّ، ولى إمرة دمشق لأستاذه العزيز صاحب الترجمة، نقل إليها من ولاية حمص. وكان ظالما جبّارا، ساءت سيرته في ولايته. ولما كثر ظلمه عزله العزيز صاحب مصر وولّى مكانه منيرا الخادم سنة ثمان وسبعين. فلم(4/160)
يسلّم بكجور المذكور البلد إلّا بعد قتال، وتوجّه إلى جهة حلب؛ ثم قتل بمكان يقال له الناعورة «1» . وكان أصل بكجور المذكور من موالى سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان.
وفيها توفّى سعد الدولة أبو المعالى شريف بن سيف الدولة علىّ بن عبد الله ابن حمدان التّغلبىّ الأمير صاحب حلب وابن صاحبها في شهر رمضان. وعهد إلى ولده أبى الفضائل، ووصّى لؤلؤا الكبير به وبولده الآخر أبى الهيجاء. ووقع بينهم وبين العزيز صاحب مصر وقائع وحروب، ذكرناها في أوّل ترجمة العزيز هذا، وما وقع له معهم إلى أن مات العزيز.
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن حمّويه بن يوسف بن أعين أبو محمد السّرخسىّ، مولده في سنة ثلاث وتسعين ومائتين. قال أبو ذرّ «2» : قرأت عليه. وهو صاحب أصول حسان.
وفيها توفّى عبيد الله بن عبد الرّحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم «3» ابن عبد الرّحمن بن عوف أبو الفضل الزّهرىّ العوفىّ «4» ، هو إمام مسند كبير القدر.
قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة. ولد سنة تسعين ومائتين.
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن علىّ بن عاصم بن زاذان الحافظ أبو بكر بن المقرئ مسند أصبهان، طاف البلاد وسمع الكثير وروى عنه خلق. قال ابن مردويه «5» :
هو ثقة مأمون صاحب أصول، مات في شوّال وله ستّ وتسعون سنة.(4/161)
وفيها توفّى عبيد الله بن أحمد بن معروف أبو محمد القاضى، ولى القضاء من الجانبين ببغداد، وكانت له منزلة عالية من الخلفاء والملوك خصوصا من الطائع، وكان من العلماء الثّقات الفضلاء العقلاء.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 382]
السنة السابعة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة.
فيها منع أبو الحسين علىّ بن محمد بن المعلّم الكوكبىّ صاحب أمر بغداد الرافضة من أهل الكرخ «1» وباب «2» الطاق من النّوح في يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح؛ وكان ذلك يعمل من نحو ثلاثين سنة.
وفيها جلس الخليفة القادر بالتاج وحضر القضاة والأشراف والأعيان، وأحضر رسول صاحب المولتان «3» ، فذكر الرسول رغبة مرسله في الإسلام والدخول فيه برعيّته، وسأل أن ينفذ إليه الخليفة من يعلّمهم السنن والفرائض والشرائع والحدود؛ فكتب على يده كتابا ووعد بكلّ جميل، وسرّ الناس بذلك غاية السرور.(4/162)
وفيها شغب الديلم والترك والجند على بهاء الدولة وطلبوا منه تسليم أبى الحسين ابن المعلّم، وكان ابن المعلّم قد استولى على بهاء الدولة وحكم عليه وقصّر في حقّ الجند؛ فامتنع بهاء الدولة من تسليمه؛ ثم غلب وسلّمه لخاله شيرزيل، فسقاه السمّ مرّتين فلم يعمل فيه، فخنقه بحبل الستارة حتى مات ودفنه.
وفيها غلت الأسعار ببغداد، فبيع رطل الخبز بأربعين درهما، والجوزة بدرهم.
وفيها حجّ بالناس محمد بن الحسن العلوىّ.
وفيها توفى أحمد بن علىّ بن عمر أبو الحسين الحريرىّ. ولد سنة اثنتين وثلثمائة، وهو غير صاحب المقامات. أخرج له الخطيب حديثا من حديث أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما". ومات أبو الحسين في شهر رمضان.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الوهّاب أبو سعيد الرازىّ القرشىّ الصوفىّ نزيل نيسابور، كان كالرّيحانة بين الصوفيّة، سيّدا ثقة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكرىّ في ذى الحجة. وأبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد بن يعقوب النّسائىّ الشافعىّ راوى مسند الحسن بن سفيان عنه. وأبو سعيد عبد الله ابن محمد بن عبد الوهّاب الرازىّ وله أربع وتسعون سنة. وأبو عمر محمد بن العباس ابن حيّويه «1» الخزّاز في [شهر] ربيع الآخر عن سبع وثمانين سنة.(4/163)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 383]
السنة الثامنة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
فيها تزوّج الخليفة القادر بالله سكينة «1» بنت بهاء الدولة على صداق مائة ألف دينار؛ فماتت قبل الدخول بها.
وفيها عظم الغلاء حتى بلغ ثمن كرّ القمح ببغداد ستة آلاف درهم وستمائة درهم غياثىّ «2» ، والكارة الدقيق مائتين وستّين درهما.
وفيها ابتنى الوزير أبو نصر سابور بن أردشير دارا بالكرخ سمّاها" دار العلم" ووقفها على العلماء ونقل إليها كتبا كثيرة.
وفيها توفّى أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان الحافظ أبو بكر البزّاز «3» ، ولد فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائتين، ومات في شوّال ببغداد.
وكان ثبتا ثقة صاحب أصول. قيل له: أسمعت من الباغندىّ «4» شيئا؟ قال:
لا أعلم؛ ثمّ وجد سماعه منه، فلم يحدّث به تورّعا.(4/164)
وفيها توفّى جعفر بن عبد الله بن يعقوب أبو القاسم الرازىّ. روى عن محمد ابن هارون الرّويانىّ «1» مسنده، وسمع عبد الرّحمن بن أبى حاتم وجماعة. قال أبو يعلى «2» الخليل: موصوف بالعدالة وحسن الديانة، وهو آخر من روى عن الرّويانىّ.
وفيها توفّى عبد الله بن عطيّة بن عبد الله بن حبيب أبو محمد المقرئ الدمشقىّ المفسّر العدل إمام مسجد عطيّة داخل باب الجابية «3» . كان يحفظ خمسين ألف بيت من شعر العرب في الاستشهادات على معانى القرآن واللغة. مات بدمشق فى شوال. ومن شعره قوله:
[الكامل]
احذر مودّة ماذق «4» ... مزج المرارة بالحلاوه
يحصى الذنوب عليك أيّام ... الصداقة للعداوه
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن [القاسم «5» بن] حزم أبو محمد الأندلسىّ القلعىّ من أهل قلعة أيّوب «6» . رحل إلى مصر والشام والعراق سنة خمسين وثلثمائة، وسمع الكثير وعاد إلى الأندلس، وصنّف الكتب. وكانوا يشبّهونه بسفيان الثورىّ فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ومات في شهر ربيع الآخر وله ثلاث وستون سنة.(4/165)
وفيها توفّى محمد بن صالح بن محمد بن سعد أبو عبد الله الأندلسىّ الفقيه المالكىّ، سمع بمصر والشام والجزيرة وبغداد، ثم أقام ببخارى حتّى مات بها في شهر رجب.
وكان فاضلا أديبا ثقة. ومن شعره:
[الكامل]
ودّعت قلبى ساعة التوديع ... وأطعت قلبى وهو غير مطيعى
إن لم أشيّعهم فقد شيّعتهم ... بمشيّعين: حشاشىّ ودموعى
وفيها توفّى نصر بن محمد بن أحمد بن يعقوب أبو الفضل الطوسىّ العطّار الصوفىّ الحافظ، أحد أركان الحديث بخراسان مع الدّين والزّهد والسخاء والعفّة.
وقد سافر إلى العراق ومصر والشام والحجاز، وجمع من الحديث ما لم يجمعه أحد، وصنّف الكتب. ومات وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 384]
السنة التاسعة عشرة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة أربع وثمانين وثلثمائة.
فيها تزوّج مهذّب الدولة علىّ بن نصر ببنت بهاء الدولة بن بويه، وعقد أيضا للأمير أبى منصور «1» بن بهاء الدولة على بنت مهذّب الدولة، كلّ صداق مائة ألف دينار.(4/166)
وفيها سار صمصام الدولة بن عضد الدولة من شيراز يريد الأهواز، فخرج بهاء الدولة من بغداد ونزل واسطا، وأرسل جيشا لقتال صمصام الدولة بن بويه، فالتقوا مع صمصام الدولة وانتصروا عليه.
وفيها عزل الشريف أبو أحمد الموسوىّ عن نقابة الطالبيّين، وصرف ولداه الرضى والمرتضى عن النيابة عنه، وتولّى عوضه الشريف الزينبىّ «1» .
وفيها رجع الحاجّ إلى بغداد، ولم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة.
وفيها توفّى إبراهيم بن هلال أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل؛ كان فاضلا شاعرا، نكب غير مرّة بسبب رسائله. ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وثلثمائة، ومات في هذه السنة، ودفن بالشّونيزيّة «2» . ورثاه الشريف الرضى الموسوىّ بقصيدته الدالية التى أوّلها: [الكامل]
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادى «3»
وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفا ورثى صابئا؛ فقال: إنما رثيت فضله.
قال ابن خلكان: وجهد فيه عزّ الدولة أن يسلم فلم يفعل. وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ.
وفيها توفّى عبد الله «4» بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستىّ الزاهد، كان ورث من آبائه أموالا عظيمة أنفقها على الفقهاء والفقراء، أقام سبعين سنة لا يستند إلى جدار ولا إلى غيره، ومات في المحرّم.(4/167)
وفيها توفّى علىّ بن عيسى بن علىّ الإمام أبو الحسن الرّمّانىّ النحوىّ. مولده سنة ستّ وتسعين ومائتين، وبرع في علم النحو واللغة والأصول والتفسير وغيرها.
وله كتاب" التفسير الكبير"، وهو كثير الفوائد إلا أنه صرّح فيه بالاعتزال؛ وسلك الزمخشرىّ سبيله وزاد عليه. مات ببغداد ودفن بالشّونيزيّة.
وفيها توفّى محمد بن العبّاس بن أحمد بن محمد الحافظ أبو الحسن بن الفرات، ولد سنة تسع عشرة وثلثمائة، وكتب الكثير، وجمع ما لم يجمعه أحد من أقرانه؛ وكان عنده عن علىّ بن محمد المصرىّ وحده ألف جزء، وكتب مائة تفسير ومائة تاريخ، وخلّف ثمانية عشر صندوقا مملوءة كتبا غير ما سرق «1» منه، وأكثرها بخطّه.
وكانت له جارية «2» تعارض معه بما يكتبه. ومات ببغداد في شوّال، وكان مأمونا ثقة. انتهى كلام صاحب مرآة الزمان.
وفيها توفّى محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله أبو عبد الله «3» الكاتب المرزبانى، كان صاحب أخبار وروايات للآداب، وصنّف كتبا في فنون العلوم. وكان أبو علىّ الفارسىّ يقول عنه: هو من محاسن الدنيا.
وفيها توفّى المحسّن بن علىّ بن محمد بن أبى الفهم القاضى أبو علىّ التّنوخىّ «4» مصنّف كتاب" الفرج بعد الشدّة". مولده سنة سبع وعشرين وثلثمائة بالبصرة.
وكان أديبا شاعرا. تقلّد القضاء بسرّمن رأى، ومات ببغداد في المحرّم.(4/168)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 385]
السنة العشرون من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
فيها تحرّكت القرامطة على البصرة، فجهّز بهاء الدولة إليهم جيشا فرجعوا عنها.
وفيها زلزلت الدنيا زلزلة عظيمة، مات فيها تحت الهدم خلق كثير.
وفيها أمر صمصام الدولة بقتل من كان بفارس من «1» الأتراك، كلّ ذلك ولم ينتج أمر صمصام الدولة.
وفيها توفّى طغان صاحب بهاء الدولة الذي كان ندبه لقتال صمصام الدولة بشيراز.
وفيها حجّ بالناس أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ من العراق، وبعث بدر «2» بن حسنويه الكردىّ خمسة «3» آلاف دينار إلى الأصفر الأعرابىّ الذي كان يقطع الطريق على الحاجّ عوضا عما كان يأخذه من الحاجّ، وجعل ذلك رسما عليه في كل سنة من ماله، رحمه الله.
وفيها توفّى الوزير الصاحب إسماعيل بن عبّاد بن العباس أبو القاسم وزير مؤيّد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه، ثمّ وزر لأخيه فخر الدولة. كان أصله(4/169)
من الطالقان، وكان نادرة زمانه وأعجوبة عصره في الفضائل والمكارم. أخذ الأدب عن الوزير أبى الفضل بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه، وسمع الحديث من أبيه ومن غير واحد، وحدّث باليسير. وهو أوّل وزير سمّى بالصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة من الصّبا فسمّاه الصاحب، فغلب عليه، ثمّ سمّى به كلّ من ولى الوزارة حتى حرافيش زماننا حملة اللحم وأخذة المكوس! وقيل: إنه كان يصحب ابن العميد فقيل له صاحب ابن العميد، ثم خفّف فقيل الصاحب. ولمّا ولى الوزارة قال فيه أبو سعيد الرّستمىّ «1» :
[الكامل]
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروى عن العباس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد
ولمّا مات مؤيّد الدولة تولّى السلطنة أخوه فخر الدولة، فأقرّ الصاحب هذا على وزارته؛ فعظم أمره أكثر ما كان؛ وبقى في الوزارة ثمانية عشر عاما، وفتح خمسين قلعة وسلّمها إلى فخر الدولة. وكان عالما بفنون كثيرة. وأما الشعر فإليه المنتهى فيه. ومن شعره:
[الكامل](4/170)
رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... وتشابها فتشا كل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنّما قدح ولا خمر
وله القصيدة التى أوّلها:
[الوافر]
تبسّم إذ تبسّم عن أقاحى ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وقيل: إنّ القاضى العميرىّ أرسل الى الصاحب كتبا كثيرة، وكتب معها يقول:
[الخفيف]
العميرىّ عبد كافى الكفاة «1» ... وإن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب ... مفعمات «2» من حسنها مترعات
فأخذ منها الصاحب بن عبّاد كتابا واحدا، وكتب معها:
قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعى ... قول «خذ» ليس مذهبى قول «هات»
ومات الصاحب بالرّىّ عشيّة ليلة الخميس خامس عشرين صفر، وأغلقت له مدينة الرّىّ، وحضر مخدومه فخر الدولة وجميع أعيان مملكته، وقد غيّروا لباسهم.
فلمّا خرج نعشه صاح الناس صيحة واحدة، وقبّلوا الأرض لنعشه، ومشى فخر الدولة أمام نعشه، وقعد للعزاء أيّاما، ورثاه الشعراء بعدّة قصائد.
قلت: وأخبار ابن عبّاد كثيرة، وقد استوعبنا أمره في كتاب «الوزراء» .
وليس هذا محلّ الإطناب في التراجم سوى تراجم ملوك مصر التى بسببها صنّف هذا الكتاب.(4/171)
وفيها توفّى علىّ بن عمر بن أحمد بن مهدىّ بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله أبو الحسن البغدادىّ الدّارقطنىّ، الحافظ المشهور صاحب التصانيف.
سمع من أبى القاسم البغوىّ وخلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط، ورحل فى كهولته الى الشام ومصر، فسمع القاضى أبا الطاهر «1» الذّهلىّ وطبقته؛ وروى عنه أبو حامد الإسفراينى وأبو عبد الله الحاكم وعبد الغنى بن سعيد المصرىّ وخلق سواهم قال الخطيب أبو بكر: كان الدارقطنىّ فريد عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته؛ انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال [وأحوال الرواة «2» ] ، مع الصّدق والثقة، وصحة الاعتقاد. وكانت وفاته في ثامن ذى القعدة.
وفيها توفّى عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن أيوب بن أزداد «3» الشيخ أبو حفص بن شاهين الحافظ الواعظ محدّث بغداد ومفيدها، سمع الكثير وحدّث؛ ومولده سنة سبع وتسعين ومائتين. قال ابن ماكولا: كان ثقة مأمونا، سمع بالشام والعراق والبصرة وفارس، وجمع الأبواب والتراجم، وصنّف كثيرا.
وفيها توفى أبو الحسن عبّاد بن العباس والد الصاحب بن عبّاد المقدّم ذكره، مات بعد ابنه بمدّة يسيرة. وكان فاضلا جليلا، سمع الحديث، وصنّف كتاب" أحكام القرآن". وقد تقدّم أن أصلهم من «الطّالقان» وهى قرية كبيرة بين قزوين وأبهر، وحولها عدّة قرى؛ وقيل: هو إقليم يقع عليه هذا الاسم. وبخراسان مدينة يقال لها «طالقان» غير هذه.(4/172)
وفيها توفّى بشر بن هارون أبو نصر النصرانىّ الكاتب، كان شاعرا هجّاء خبيث اللسان كتب مرّة إلى إبراهيم الصابئ:
[السريع]
حضرت بالجسم وقد كنت بالن ... فس وإن لم ترنى حاضرا «1»
أنطقنى بالشعر حبّى لكم ... ولم أكن من قبلها شاعرا
فكتب إليه الصابئ تحت خطّه: «ولا بعدها» .
وفيها توفّى الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد أبو محمد الأديب الشاعر، كان فاضلا يتّجر وله مال كثير. ولمّا قدم المتنبّى بغداد خدمه؛ فقال له المتنبى: لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك.
وفيها توفّى عقيل بن محمد «2» أبو الحسن الأحنف العكبرىّ الأديب الشاعر.
ومن شعره:
[الرمل]
من أراد الملك والرا ... حة من همّ طويل
فليكن فردا من النا ... س ويرضى بالقليل
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن سكّرة «3» أبو الحسن الهاشمىّ البغدادىّ الشاعر المشهور، ويعرف بابن رابطة «4» . هو من ولد علىّ بن المهدىّ من بنى العباس.
كان شاعرا ظريفا فصيحا؛ وشعره في غاية الجودة والرقّة. من ذلك قوله:(4/173)
[المنسرح]
فى وجه إنسانة «1» كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد
الوجه بدر والصّدغ غالية ... والرّيق خمر والثغر من برد
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 386]
السنة الحادية والعشرون من ولاية العزيز يزار على مصر- وفيها مات- وهى سنة ستّ وثمانين وثلثمائة.
فيها في المحرّم ادّعى أهل البصرة أنهم كشفوا عن قبر عتيق فوجدوا فيه ميتا [طريّا «2» ] بثيابه وسيفه، وأنه الزّبير بن العوّام؛ فأخرجوه وكفّنوه ودفنوه بالمربد؛ وبنى عليه أبو المسك عنبر بناء «3» وجعله مشهدا، وأوقف عليه أوقافا ونقل إليه القناديل والآلات. قال الذهبىّ: فالله أعلم من ذلك الميّت.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن أحمد أبو علىّ المدائنى، ويلقب بالهائم. روى عن السّرىّ الرفّاء ديوان شعره. وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره في كوسج «4» :
[المنسرج]
وجه اليمانىّ من تأمّله ... أبصر فيه الوجود والعدما
قد شاب عثنونه وشاربه ... وعارضاه لم يبلغا الحلما(4/174)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن عطيّة أبو طالب الحارثىّ، مصنّف كتاب" قوت القلوب «1» ". كان من أهل الجبل ونشأ بمكة وتزهّد، وكان له لسان حلو في الوعظ والتصوّف.
وفيها توفى محمد بن إبراهيم بن أحمد أبو بكر السّوسىّ شيخ الصوفيّة بدمشق، كان زاهدا عابدا، ما عقد على درهم ولا دينار، ولا اغتسل من حلال ولا حرام، حدّث عن أحمد بن عطاء الرّوذبارىّ «2» وأقرانه، ولقى المشايخ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد «3» أحمد بن عبد الله النّعيمىّ بهراة في شهر ربيع الأوّل. وأبو أحمد عبد الله بن الحسين بن حسنون السّامرّىّ. وأبو أحمد عبيد الله بن يعقوب بن إسحاق الأصبهانى، روى عن جدّه مسند أحمد بن منيع. وأبو الحسن علىّ بن عمر الحربىّ السّكّرى «4» فى شوّال وله تسعون سنة. وأبو عبد الله الختن «5» شيخ الشافعيّة محمد بن الحسن الأسترآباذي «6» .
وأبو طالب محمد بن علىّ بن عطيّة المكىّ صاحب" القوت" في جمادى الآخرة.
والعزيز نزار بن المعزّ العبيدىّ في رمضان عن ثلاث وأربعين سنة.(4/175)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر
هو أبو علىّ منصور الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله نزار بن المعزّ بالله معدّ بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والدار والمنشأ، الثالث من خلفاء مصر من بنى عبيد والسادس منهم ممن ولى من أجداده بالمغرب، وهم: المهدىّ والقائم والمنصور المقدّم ذكرهم.
مولده يوم الخميس لأربع ليال بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلثمائة بالقاهرة؛ وقيل: فى الثالث والعشرين منه. وولّاه أبوه العزيز عهد الخلافة فى شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، وبويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثلثمائة؛ فولى الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف، وقيل: عشر سنين ونصف وستّة أيام، وقيل غير ذلك.
قال العلّامة أبو المظفّر بن قزأوغلى في تاريخه: «وكانت خلافته متضادّة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل الى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء؛ وربّما بخل بما لم يبخل به أحد قطّ.
وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام؛ وأقام سنين يجلس فى الشمع ليلا ونهارا، ثمّ عنّ له أن يجلس في الظّلمة فجلس فيها مدّة. وقتل من العلماء والكتّاب والأماثل ما لا يحصى؛ وكتب على المساجد والجوامع سبّ أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزّبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضى الله عنهم(4/176)
فى سنة خمس وتسعين وثلثمائة، ثمّ محاه في سنة سبع وتسعين؛ وأمر بقتل الكلاب وبيع الفقّاع «1» ، ثم نهى عنه؛ ورفع المكوس عن البلاد وعمّا يباع فيها؛ ونهى عن النجوم، وكان ينظر فيها؛ ونفى المنجّمين وكان يرصدها «2» ؛ ويخدم زحل وطالعه المرّيخ، ولهذا كان يسفك الدّماء. وبنى جامع «3» القاهرة، وجامع راشدة «4» على النيل بمصر، ومساجد كثيرة، ونقل إليها المصاحف المفضّضة والستور الحرير وقناديل الذهب والفضّة؛ ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها؛ وقطع الكروم ومنع من بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرما؛ وأراق خمسة آلاف جرّة من عسل فى البحر خوفا من أن تعمل نبيذا؛ ومنع النساء من الخروج من بيوتهنّ ليلا ونهارا؛ وجعل لأهل الذمّة علامات يعرفون بها، وألبس اليهود العمائم السّود، وأمر ألّا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألّا يستخدموا غلاما مسلما، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حمّاما، وجعل لهم حمامات على حدة؛ ولم يبق فى ولايته ديرا ولا كنيسة إلّا هدمها؛ ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه والصلاة(4/177)
عليه في الخطب والمكاتبات؛ وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين، ثمّ رجع عن ذلك؛ وأسلم خلق من أهل الذّمّة خوفا منه ثم ارتدّوا؛ وأعاد الكنائس إلى «1» حالها» . انتهى كلام أبى المظفر.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخه: «كان جوادا سمحا، خبيثا ماكرا، ردىء الاعتقاد، سفّاكا للدّماء؛ قتل عددا كبيرا من كبراء دولته صبرا؛ وكان عجيب السيرة، يخترع كلّ وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعيّة عليها؛ فأمر بكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمّال بالسبّ في الأقطار في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وأمر بقتل الكلاب في مملكته وبطّل الفقّاع والملوخيّا؛ ونهى عن السمك، وظفر بمن باع ذلك فقتلهم؛ ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب ثمّ جمع منه شيئا عظيما فأحرق الكلّ؛ ومنع من بيع العنب وأباد كثيرا من الكروم؛ وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصّلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعا وزنته خمسة أرطال بالمصرىّ؛ وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامى الخشب في زنة الصلبان أيضا، وأن يلبسوا العمائم السّود، ولا يكتروا من مسلم بهيمة، وأن يدخلوا الحمّام بالصّلبان، ثمّ أفرد لهم حمّامات. وفي العام أمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة «2» . ولّما أرسل إليه ابن باديس «3» ينكر عليه أفعاله، أراد»
استمالته فأظهر التفقه وحمل في كمّه الدفاتر وطلب إليه فقيهين وأمر هما بتدريس مذهب مالك في الجامع؛ ثمّ بدا له فقتلهما صبرا؛ وأذن للنصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشّرك. وفي سنة أربع وأربعمائة منع النساء من الخروج(4/178)
فى الطريق، ومنع من عمل الخفاف لهنّ؛ فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتّى مات. ثمّ إنّه بعد مدّة أمر بيناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ بيناء جامعه الكبير بالقاهرة (يعنى الذي هو داخل باب النصر) فتممّه هو. وكان على بنائه ونظره الحافظ «1» عبد الغنى بن سعيد. وكان الحاكم يفعل الشيء ثمّ ينقضه. وخرج عليه أبو ركوة الوليد بن هشام العثمانىّ الأموىّ الأندلسىّ بنواحى برقة فمال إليه خلق عظيم؛ فجهّز الحاكم لحربه جيشا فانتصر عليهم أبو ركوة وملك؛ ثمّ تكاثروا عليه وأسروه؛ ويقال: إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفا.
وحمل أبو ركوة إلى الحاكم فذبحه في سنة سبع وتسعين» . انتهى كلام الذهبىّ باختصار.
قلت: ونذكر واقعته مع عسكر الحاكم وكيف ظفر به الحاكم وقتله مفصّلا فى سنة سبع وتسعين المذكورة في الحوادث بأوسع من هذا، إن شاء الله تعالى؛ لأن قصّته غريبة فتنظر هناك.
وقال ابن خلّكان: «وكان أبو الحسن علىّ المعروف بابن يونس المنجّم قد صنع له" الزّيج" المعروف بالحاكمىّ وهو زيج كبير مبسوط. قال: نقلت من خطّ الحافظ أبى طاهر أحمد بن محمد السّلفىّ رحمه الله تعالى أن الحاكم المذكور كان جالسا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأ بعض الحاضرين:
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
، والقارئ في أثناء ذلك كلّه يشير إلى الحاكم. فلمّا(4/179)
فرغ من القراءة قرأ شخص يعرف بابن المشجّر (والمشجّر بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشدّدة وبعدها راء مهملة) وكان ابن المشجّر رجلا صالحا فقرأ:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
. فلمّا انتهت قراءته تغيّر وجه الحاكم، ثمّ أمر لابن المشجّر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئا. ثمّ إنّ بعض أصحاب ابن المشجّر، قال له: أنت تعرف خلق الحاكم وكثرة استحالاته وما تأمن أن يحقد عليك [وأنّه «1» لا يؤاخذك في هذا الوقت] ثم يؤاخذك بعدها فالمصلحة عندى أن تغيب عنه. فتجهّز ابن المشجّر إلى الحجّ وركب فى البحر وغرق. فرآه صاحبه في النوم [فسأله عن «2» حاله] فقال: ما قصّر الرّبان معنا، أرسى بنا على باب الجنّة» . انتهى كلام ابن خلكّان رحمه الله.
وقال ابن الصابئ «3» : «كان الحاكم يواصل الركوب ليلا ونهارا، ويتصدّى له الناس على طبقاتهم، فيقف عليهم ويسمع منهم، فمن أراد قضاء حاجته قضاها فى وقته، ومن منعه سقطت المراجعة في أمره. وكان المصريّون موتورين منه؛(4/180)
فكانوا يدسّون إليه الرّقاع المختومة بالدعاء عليه والسبّ له ولأسلافه، والوقوع فيه وفي حرمه، حتى انتهى فعلهم الى أن عملوا تمثال امرأة من قراطيس بخفّ وإزار، ونصبوها في بعض الطّرق وتركوا في يدها رقعة كأنها ظلامة؛ فتقدّم الحاكم وأخذها من يدها. فلمّا فتحها رأى في أوّلها ما استعظمه، فقال: انظروا هذه المرأة من هى؟ فقيل له: إنها معمولة من قراطيس؛ فعلم أنهم قد سخروا منه، وكان في الرقعة كلّ قبيح. فعاد من وقته إلى القاهرة، ونزل في قصره واستدعى القوّاد والعرفاء، وأمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها، وقتل من ظفروا به من أهلها؛ فتوجّه إليها العبيد والروم والمغاربة وجميع «1» العساكر. وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسهم، وأوقعوا النار فى أطراف البلد؛ فاستمرّت الحرب بين العبيد والعامّة والرعيّة ثلاثة أيّام، والحاكم يركب في كلّ يوم إلى القرافة، ويطلع إلى الجبل ويشاهد النار ويسمع الصّياح ويسأل عن ذلك، فيقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيظهر التوجّع، ويقول: لعنهم الله! من أمرهم بهذا. فلمّا كان اليوم الرابع «2» اجتمع الأشراف [والشيوخ «3» ] إلى الجوامع ورفعوا المصاحف وضجّوا بالبكاء وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، فرحمهم الأتراك ورّقوا لهم وانحازوا اليهم وقاتلوا معهم، وكان أكثرهم مخالطا لهم ومداخلا ومصاهرا، وانفرد العبيد وصار القتال معهم؛ وعظمت القصّة وزادت الفتنة، واستظهرت كتامة والأتراك عليهم، وراسلوا الحاكم، وقالوا: نحن عبيد ومماليك، وهذا البلد بلدك وفيه حرمنا وأموالنا وأولادنا وعقارنا، وما علمنا أنّ أهله جنوا جناية تقتضى سوء المقابلة، وتدعو إلى مثل(4/181)
هذه المعاملة. فإن كان هناك باطن لا نعرفه فأخبرنا به، وانتظرنا حتّى نخرج بعيالنا وأموالنا منه. وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك فأطلقنا في معاملتهم بما يعامل به المفسدون والمخالفون. فأجابهم بأنه ما أراد ذلك، ولعن الفاعل له والآمر به، وقال: أنتم على الصواب في الذبّ عن المصرييّن، وقد أذنت لكم فى نصرتهم، والإيقاع بمن تعرّض لهم. وأرسل إلى العبيد سرّا يقول: كونوا على أمركم؛ وحمل إليهم سلاحا قوّاهم به. وكان غرضه في هذا أن يطرح بعضهم على بعض، وينتقم من فريق بفريق. وعلم القوم بما يفعل، فراسلته كتامة والأتراك:
قد عرفنا غرضك، وهذا هلاك هذه البلدة وأهلها وهلا كنا معهم؛ وما يجوز أن نسلّم نفوسنا والمسلمين «1» لفتك الحريم وذهاب المهج. ولئن لم تكفّهم لنحرقنّ القاهرة، ونستنفرنّ «2» العرب وغيرهم؟ فلمّا سمع الرسالة. وكانوا قد استظهروا على العبيد.
ركب حماره ووقف بين الصّفّين وأوما للعبيد بالانصراف فانصرفوا، واستدعى كتامة والأتراك ووجوه المصريّين واعتذر إليهم، وحلف أنه برىء مما فعله العبيد؛ وكذب في يمينه؛ فقبّلوا الأرض بين يديه وشكروه، وسألوه الأمان لأهل مصر، فكتب لهم، وقرئ الأمان على المنابر، وسكنت الفتنة وفتح الناس أسواقهم وراجعوا معايشهم. واحترق من مصر مقدار ثلثها، ونهب نصفها. وتتبّع المصريّون من أخذ أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وابتاعوهنّ من العبيد بعد أن فضحوهنّ، وقتل بعضهنّ نفوسهنّ خوفا من العار. واستغاث قوم من العلوييّن الأشراف إلى الحاكم، وذكروا أنّ بعض بناتهم في أيدى العبيد على أسوأ حال، وسألوه أن يستخلصهنّ؛ فقال الحاكم: [انظروا «3» ] ما يطالبونكم به عنهنّ لأطلقه لكم؛(4/182)
فقال له بعضهم: أراك الله في أهلك وولدك مثل ما رأينا في أهلنا وأولادنا، فقد اطّرحت الدّيانة والمروءة بأن رضيت لبنات عمّك بمثل هذه الفضيحة، ولم يلحقك منهنّ امتعاض «1» ولا غيرة. فحلم عنه الحاكم وقال له: أنت أيها الشريف محرج «2» ونحن حقيقون باحتمالك وإلا غضبنا عليك وزاد الأمر على الناس فيما يفجؤهم به حالا بعد حال من كلّ ما تنخرق به العادات وتفسد الطاعات.
ثم عنّ له أن يدّعى الرّبوبيّة، وقرّب رجلا يعرف بالأخرم ساعده على ذلك؛ وضمّ إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الدّيانة. فلمّا كان في بعض الأيام خرج الأخرم من القاهرة راكبا في خمسين رجلا من أصحابه، وقصد مصر ودخل الجامع راكبا دابّته، ومعه أصحابه على دوابّهم وقاضى القضاة ابن [أبى «3» ] العوّام جالس فيه ينظر في الحكم، فنهبوا الناس وسلبوهم ثيابهم وسلّموا للقاضى رقعة فيها فتوى، وقد صدّرت باسم الحاكم الرّحمن الرّحيم. فلمّا قرأها القاضى رفع صوته منكرا، واسترجع وثار الناس بالأخرم وقتلوا أصحابه وهرب هو. وشاع الحديث فى دعواه الرّبوبيّة، وتقرّب إليه جماعة من الجهّال، فكانوا إذا لقوه قالوا: السلام عليك يا واحد يا أحد يا محيى يا مميت، وصارت له دعاة يدعون أوباش الناس، ومن سخف عقله إلى اعتقاد ذلك، فمال إليه خلق [كثير «4» ] طمعا في الدنيا والتقرّب اليه. وكان اليهودىّ والنّصرانىّ إذا لقيه يقول: إلهى قد رغبت في شريعتى الأولى، فيقول الحاكم: افعل ما بدا لك، فيرتدّ عن الإسلام. وزاد هذا الأمر بالناس.(4/183)
وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه مرآة الزمان: «رأيت في بعض التواريخ بمصر أنّ رجلا يعرف بالدّرزىّ «1» قدم مصر، وكان من الباطنيّة القائلين بالتناسخ؛ فاجتمع بالحاكم وساعده على ادّعاء الربوبيّة وصنّف له كتابا ذكر فيه أنّ روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علىّ بن أبى طالب، وأن روح علىّ انتقلت الى أبى الحاكم، ثمّ انتقلت إلى الحاكم. فنفق «2» على الحاكم وقرّبه وفوّض الأمور إليه، وبلغ منه أعلى المراتب، بحيث إنّ الوزراء والقوّاد والعلماء «3» كانوا يقفون على بابه ولا ينقضى لهم شغل إلّا على يده. وكان قصد الحاكم الانقياد الى الدرزى المذكور فيطيعونه.
فأظهر الدّرزىّ الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة؛ فثار الناس عليه وقصدوا قتله، فهرب منهم؛ وأنكر الحاكم أمره خوفا من الرعيّة، وبعث إليه في السرّ مالا، وقال: اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال، فإنّ أهلها سريعو الانقياد.
فخرج الى الشام، ونزل بوادى تيم الله بن ثعلبة، غربىّ دمشق من أعمال بانياس «4» ، فقرأ الكتاب على أهله، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال، وقرّر في نفوسهم الدّرزىّ التناسخ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه؛ وأقام عندهم يبيح [لهم «5» ] المحظورات إلى أن انتهى «6» » .
وقال الذهبىّ: «وكان يحبّ العزلة- يعنى الحاكم- ويركب على بهيمة وحده في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه، وكان خبيث الاعتقاد، مضطرب العقل.
يقال: إنّه أراد أن يدّعى الإلهية وشرع في ذلك؛ فكلّمه أعيان دولته وخوّفوه،(4/184)
بخروج الناس كلّهم عليه فانتهى. [واتّفق «1» أنّه خرج ليلة في شوّال سنة إحدى عشرة] من القصر إلى ظاهر القاهرة، فطاف ليلته كلّها، ثم أصبح فتوجّه إلى شرقىّ حلوان ومعه ركابيّان «2» ، فردّ أحدهما مع تسعة من العرب السّويديين «3» ، ثم أمر الآخر بالانصراف. فذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعىّ «4» ، فكان آخر العهد به (يعنى الحاكم) » انتهى كلام الذهبىّ.
ونذكر أمر موته بأطول من هذا من طرق عديدة.
قال ابن الصابئ وغيره: «إنّ الحاكم لمّا بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه. وكان له أخت يقال لها ستّ الملك، من أعقل النساء وأحزمهنّ، فكانت تنهاه وتقول: يا أخى، احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك.
فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهدّدها بالقتل. وبعث إليها يقول: رفع إلىّ أصحاب الأخبار أنّك تدخلين الرجال إليك وتمكّنينهم من نفسك، وعمل «5» على إنفاذ القوابل لاستبرائها، فعلمت أنّها هالكة معه. وكان بمصر سيف الدولة بن دوّاس «6» من شيوخ كتامة، وكان شديد الحذر من الحاكم، وممتنعا من دخول قصره ولقائه إلّا في المواكب على ظهر فرسه، واستدعاه الحاكم مرّة إلى قصره فامتنع.(4/185)
فلمّا كان يوم الموكب عاتبه الحاكم على تأخّره، فقال له سيف الدولة المذكور: قد خدمت أباك ولى عليكم حقوق كثيرة يجب لمثلها المراعاة، وقد قام في نفسى أنّك قاتلى، فأنا مجتهد في دفعك بغاية جهدى، وليس لك حاجة إلى حضورى في قصرك، فإن كان باطن رأيك في مثل ظاهره فدعنى على حالى، فإنّه لا ضرر عليك في تأخّرى عن حضور قصرك. وإن كنت تريد بى سوءا فلأن تقتلنى في دارى بين أهلى وولدى يكفّنوننى ويتولّوننى أحبّ إلىّ من أن تقتلنى في قصرك وتطرحنى تأكل الكلاب لحمى؛ فضحك الحاكم وأمسك عنه. وراسلت ستّ الملك أخت الحاكم ابن دوّاس هذا مع بعض خدمها وخوّاصها، وهى تقول له: لى إليك أمر لا بدّ لى فيه من الاجتماع بك؛ فإمّا تنكّرت وجئتنى ليلا، أو فعلت أنا ذلك. فقال: أنا عبدك والأمر لك. فتوجّهت إليه ليلا في داره متنكرة؛ ولم تصحب معها أحدا.
فلمّا دخلت عليه قام وقبّل الأرض بين يديها دفعات ووقف في الخدمة، فأمرته بالجلوس، وأخلى المكان. فقالت: يا سيف الدولة. قد جئت في أمر أحرس به نفسى ونفسك والمسلمين، ولك فيه الحظّ الأوفر، وأريد مساعدتك فيه؛ فقال:
أنا عبدك. فاستحلفته واستوثقت منه، وقالت له: أنت تعلم ما يقصده أخى فيك، وأنّه متى تمكّن منك لم يبق عليك، وكذا أنا، ونحن على خطر عظيم. وقد انضاف [إلى «1» ] ذلك [تظاهره «2» ] بادّعائه الإلهية وهتكه ناموس الشريعة وناموس آبائه؛ وقد زاد جنونه. وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه، وتنقضى هذه الدولة أقبح انقضاء. فقال سيف الدولة: صدقت يا مولاتنا، فما الرأى؟
قالت: قتله ونستريح منه، فإذا تمّ لنا ذلك أقمنا ولده موضعه وبذلنا الأموال؛ وكنت أنت صاحب جيشه ومدبّره، وشيخ الدولة والقائم بأمره؛ وأنا امرأة من(4/186)
وراء حجاب، وليس غرضى إلّا السلامة منه، وأنى أعيش بينكم آمنة من الفضيحة.
ثم أقطعته إقطاعات كثيرة، ووعدته بالأموال والخلع والمراكب [السنية «1» ] . فقال لها عند ذلك: مرى بأمرك؛ قالت: أريد عبدين من عبيدك تثق بهما في سرّك، وتعتمد عليهما في مهمّاتك. فأحضر عبدين ووصفهما بالشهامة؛ فاستحلفتهما ووهبتهما ألف دينار، ووقّعت لهما بثياب وإقطاعات وخيل وغير ذلك، وقالت لهما: أريد منكما أن تصعدا غدا إلى الجبل، فإنّها نوبة الحاكم في الركوب، وهو ينفرد ولا يبقى معه غير القرافىّ الرّكابىّ، وربّما ردّه، ويدخل الشّعب وينفرد بنفسه؛ فاخرجا عليه فاقتلاه واقتلا القرافىّ والصبىّ إن كانا معه؛ وأعطتهما سكّينين من عمل المغاربة تسمى [الواحدة «2» منهما:] " يافورت" ولهما رأس كرأس المبضع الذي يفصد به الحجّام، ورجعت إلى القصر وقد أحكمت الأمر وأتقنته. وكان الحاكم [ينظر «3» فى النجوم فنظر مولده وكان] قد حكم عليه بالقطع في هذا الوقت، فإن تجاوزه عاش نيّفا وثمانين سنة. وكان الحاكم لا يترك الركوب بالليل وطوف القاهرة. فلما كان تلك الليلة قال لوالدته: علىّ في هذه الليلة وفي غد قطع عظيم، والدليل عليه علامة تظهر في السماء طلوع «4» نجم سمّاه، وكأنى بك وقد انتهكت وهلكت مع أختى، فإنّى ما أخاف عليك أضرّ منها. فتسلّمى هذا المفتاح فهو لهذه الخزانة، وفيها صناديق تشتمل على ثلثمائة ألف دينار، خذيها وحوّليها إلى قصرك تكون ذخيرة لك. فقبّلت الأرض وقالت: إذا كنت تتصور هذا فارحمنى واقض حقّى ودع ركوبك الليلة، وكان يحبّها، فقال: أفعل، ولم يزل يتشاغل حتّى مضى صدر(4/187)
من الليل، وكان له قوم ينتظرونه كلّ ليلة على باب القصر، فإذا ركب ركبوا معه ويتبعه أبو عروس صاحب العسس. ومن رسمه أن يطوف كلّ ليلة حول القصر في ألف رجل بالطبول الخفاف والبوقات البحرية. فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له: ارجع وأغلق الأبواب؛ فلا يفتحها حتّى يعود. وضجر الحاكم من تأخّره عن الركوب في تلك الليلة، ونازعته نفسه إليه؛ فسألته أمّه وقالت: نم ساعة، فنام ثمّ انتبه وقد بقى من الليل ثلثه، وهو ينفخ ويقول:
إن لم أركب الليلة وأتفرّج وإلّا خرجت روحى. ثمّ قام فركب حماره، وأخته تراعى ما يكون من أمره، وكان قصرها مقابل قصره، فإذا ركب علمت. ولمّا ركب سار في درب يقال له درب السباع «1» ، وردّ صاحب العسس ونسيما الخادم صاحب السّتر والسيف، وخرج إلى القرافة ومعه القرافىّ الرّكابىّ والصبىّ. فحكى أبو عروس صاحب العسس أنه لما صعد الجبل وقف على تلّ كبير ونظر إلى النجوم وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وضرب بيد على يد، وقال: ظهرت يا مشئوم «2» ! ثمّ سار في الجبل، فعارضه عشرة فوارس من بنى قرّة، وقالوا: قد طال مقامنا على الباب، وبنا من الفاقة والحاجة ما نسأل معه حسن النظر والإحسان؛ فأمر الحاكم القرافىّ أن يحملهم إلى صاحب بيت المال ويأمره أن يعطيهم عشرة آلاف درهم؛ فقالوا له: لعلّ مولانا ينكر تعرّضنا له في هذا المكان فيأمر بنا بمكروه، ونحن نريد الأمان قبل الإحسان، فما وقفنا إلّا من الحاجة؛ فأعطاهم الأمان وردّ القرافىّ معهم؛ وبقى هو والصبىّ، فسار إلى الشّعب الذي جرت عادته بدخوله،(4/188)
وقد كمن العبدان الأسودان له، وقد قرب الصّباح، فوثبا عليه وطرحاه إلى الأرض، فصاح: ويلكما! ما تريدان؟ فقطعا يديه من رأس كتفيه، وشقّا جوفه وأخرجا ما فيه، ولفاه في كساء، وقتلا الصبىّ، وحملا الحاكم إلى ابن دوّاس بعد أن عرقبا الحمار؛ فحمله ابن دوّاس مع العبدين إلى أخته ستّ الملك، فدفنته في مجلسها وكتمت أمره، وأطلقت لابن دوّاس والعبدين مالا كثيرا وثيابا. وأحضرت خطير «1» الملك الوزير وعرّفته الحال، واستكتمته واستحلفته على الطاعة والوفاء، ورسمت له بمكاتبة ولىّ العهد، وكان مقيما بدمشق نيابة عن الحاكم، بأن يحضر إلى الباب، فكتب إليه بذلك. وأنفذت علىّ بن داود أحد القوّاد إلى الفرما (وهى مدينة على ساحل البحر) فقالت له: إذا دخل ولىّ العهد فاقبض عليه، واحمله إلى تنيس، وقيل غير ذلك، كما سيأتى ذكره. ثمّ كتبت إلى عامل تنيّس عن الحاكم بإنفاذ ما عنده من المال، فأنفذه وهو ألف ألف دينار وألف ألف درهم، خراج ثلاث سنين.
وجاء ولىّ العهد إلى الفرما، فقبض عليه وحمل إلى تنّيس. وفقد الناس الحاكم فى اليوم الثانى، ومنع أبو عروس من فتح أبواب القاهرة انتظارا للحاكم، على حسب ما أمره به. ثمّ خرج الناس في اليوم الثالث إلى الصحراء وقصدوا الجبل فلم يقفوا له على أثر. وأرسل القوّاد إلى أخته وسألوها عنه؛ فقالت: ذكر لى أنّه يغيب سبعة أيام، وما هنا إلّا الخير، فأنصرفوا على سكون وطمانينة. ولم تزل أخته في هذه الأيّام ترتّب الأمور وتفرّق الأموال وتستحلف الجند؛ ثمّ بعثت إلى ابن دوّاس المذكور وأمرته أن يستحلف الناس لابن الحاكم كتامة وغيرها، ففعل ذلك. فلمّا كان(4/189)
فى اليوم السابع ألبست أبا الحسن علىّ بن الحاكم أفخر الملابس واستدعت ابن دوّاس وقالت له: المعوّل في قيام هذه الدولة عليك، وتدبيرها موكل إليك، وهذا الصبىّ ولدك، فابذل في خدمته وسعك؛ فقبّل الأرض ووعدها بالطاعة. ووضعت التاج على رأس الصبىّ، وهو تاج عظيم فيه من الجواهر مالا يوجد في خزانة خليفة، وهو تاج المعزّ جدّ أبيه، وأركبته مركبا من مراكب الخليفة، وخرج بين يديه الوزير وأرباب الدولة. فلمّا صار إلى باب القصر صاح خطير الملك الوزير: يا عبيد الدولة، مولاتنا السيدة تقول لكم هذا مولاكم فسلّموا عليه؛ فقبّلوا الأرض بأجمعهم، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، ولقّبوه الظاهر لإعزاز دين الله، وأقبل الناس أفواجا فبايعوه، وأطلق المال وفرح الناس وأقيم العزاء على الحاكم ثلاثة أيّام.
وقال القضاعىّ في قتله وجها آخر، قال: «خرج الحاكم إلى الجبل المعروف بالمقطم ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوّال هذه السنة (يعنى سنة إحدى عشرة وأربعمائة) فطاف ليلته كلّها، وأصبح عند قبر الفقّاعىّ، ثمّ توجه شرقىّ حلوان: موضع بالمقطم، ومعه ركابيّان؛ فردّ أحدهما مع تسعة نفر من العرب، كانت لهم رسوم، ويقال لهم السّويديّون، إلى بيت المال وأمر لهم بجائزة، ثمّ عاد الرّكابىّ الآخر؛ وذكر أنّه فارقه عند قبر الفقّاعىّ والقصبة «1» ، وأصبح الناس على وسمهم؛ فخرجوا ومعهم الموكب «2» والقضاة والأشراف والقوّاد فأقاموا عند الجبل إلى آخر النهار، ثمّ رجعوا إلى القاهرة ثمّ عادوا؛ ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلمّا كان يوم الخميس سلخ شوّال خرج مظفّر صاحب المظلّة ونسيم صاحب السّتر و [ابن «3» ](4/190)
مسكين صاحب الرّمح وجماعة من الأولياء الكتاميّين والأتراك والقضاة والعدول وأرباب الدولة، فبلغوا دير القصير «1» (المكان المعروف بحلوان) ، وأمعنوا في الجبل؛ فبينما هم كذلك بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرن الجبل قد ضربت يداه بسيف فقطعتا، وعليه سرجه ولجامه، فتتّبعوا الأثر فإذا أثر راجل خلف أثر الحمار، وأثر راجل قدّامه فقصّوا [الأثر «2» ] حتّى أتوا إلى البركة التى شرقىّ حلوان؛ فنزلها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهى سبع جباب مزرّرة لم تحلّ أزرارها، وفيها أثر السكاكين فتيقّنوا قتله. وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وولايته على مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا.
قال ابن خلكان بعد ما ذكر قتلته بنحو ما ذكرناه هنا: «مع أنّ جماعة من الغالين في حبّهم السّخيفى العقول يظنّون حياته، وأنه لا بدّ أن يظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم، وتلك خيالات هذيانية» . انتهى.
قال القضاعىّ بعد ما ساق سبب قتله بنحو ما ذكرناه إلى أن قال: «ثمّ أمرت ستّ الملك بخلع عظيمة ومال كثير ومراكب ذهب وفضة للأعيان، وأمرت ابن دوّاس أن يشاهدها في الخزانة، وقالت له: غدا نخلع عليك، فقبّل ابن دوّاس الأرض وفرح وأصبح من الغد، فجلس عند الستر ينتظر الإذن حتّى يأمر وينهى؛ وكان للحاكم مائة عبد يختصّون بركابه، ويحملون السيوف بين يديه، ويقتلون من(4/191)
يأمرهم بقتله، فبعثت بهم ستّ الملك إلى ابن دوّاس ليكونوا في خدمته، فجاءوا فى هذا اليوم ووقفوا بين يديه، فقالت ستّ الملك لنسيم صاحب السّتر: اخرج قف بين يدى ابن دوّاس، وقل للعبيد: يا عبيد، مولاتنا تقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم فاقتلوه، فخرج نسيم فقال لهم ذلك فمالوا على ابن دوّاس بالسيوف فقطّعوه، وقتلوا العبدين اللذين قتلا الحاكم؛ وكلّ من اطلع على سرّها قتلته، فقامت لها الهيبة فى قلوب الناس» . انتهى كلام القضاعى.
وقال ابن الصابئ: لما قتلت ستّ الملك ابن دوّاس قتلت الوزير الخطير ومن كانت تخاف منه ممّن عرف بأمرها.
وأمّا ما خلّفه الحاكم من المال فشىء كثير. قيل: إنّه ورد عليه أيّام خلافته رسول ملك الرّوم، فأمر الحاكم بزينة القصر. قالت السّيدة رشيدة عمّة الحاكم:
فأخرج أعدالا مكتوبا على بعضها: الحادى والثلاثون والثلاثمائة، وكان في الأعدال الديباج المغرّز بالذهب، فأخرج ذلك وفرش الإيوان وعلّق في حيطانه حتّى صار الإيوان يتلألأ بالذّهب، وعلّق في صدره العسجدة، وهى درقة من ذهب مكلّلة بفاخر الجوهر يضيء لها ما حولها، إذا وقعت عليها الشمس لا تطبق العيون النظر إليها. وأيضا ممّا يدلّ على كثرة ماله ما خلّفته ابنته ستّ مصر بعد موتها، فخلّفت شيئا كثيرا يطول الشرح في ذكره، من ذلك ثمانية آلاف جارية- قاله المقريزى وغيره- ونيّف وثمانون زيرا صينيّا مملوءة «1» جميعا مسكا؛ ووجد لها جوهر نفيس، من جملته قطعة ياقوت زنتها عشرة مثاقيل. وكان إقطاعها في السنة خمسين ألف دينار، وكانت مع ذلك كريمة سمحة، والشيء بالشيء يذكر.(4/192)
وماتت في أيّام الحاكم عمّته السيدة رشيدة بنت المعزّ؛ فخلّفت ما قيمته ألف ألف وسبعمائة ألف دينار؛ ومن جملة ما وجد لها في خزائن كسوتها ثلاثون ألف ثوب خزّ، واثنا عشر ألفا من للثياب المصمتة ألوانا «1» ، ومائة قطرميز «2» مملوءة كافورا، وكانت مع ذلك ديّنة تأكل من غزلها لا من مال السلطان. وماتت أختها عبدة بنت المعزّ بعدها بثلاثة أيّام، وكانتا قد ولدتا برقّادة من عمل القيروان.
وتركت أيضا عبدة المذكورة مالا يحصى، من ذلك: أنّه ختم على موجودها بأربعين رطل شمع مصريّة «3» ؛ ومن جملة «4» ما وجد لها ألف وثلثمائة [قطعة «5» ] مينا فضة، زنة كلّ مينا عشرة آلاف درهم، وأربعمائة سيف محلّى بذهب، وثلاثون ألف شقّة صقليّة، ومن الجوهر «6» اردبّ زمرّد؛ وكانت لا تأكل عمرها إلّا الثريد. وقد خرجنا عن المقصود ونعود إلى ما يتعلق بالحاكم وأسبابه.
وأمّا ولىّ العهد الذي كان بدمشق وكتبت بحضوره فاسمه الياس، وقيل:
عبد الرّحيم، وقيل: عبد الرّحمن بن أحمد؛ وكنيته أبو القاسم ويلقّب بالمهدىّ، ولّاه الحاكم العهد سنة أربع وأربعمائة. وقد قدّمنا من ذكره أنه كان وصل إلى تنّيس، وقبض عليه صاحب تنّيس، وبعث به إلى ستّ الملك، فحبسته في دار وأقامت له الإقامات، ووكلت بخدمته خواصّ خدمها، وواصلته بالملاطفات والافتقادات فلمّا مرضت ويئست من نفسها أحضرت الظاهر لإعزاز دين الله (أعنى ابن(4/193)
أخيها الحاكم) وقالت له: قد علمت ما عاملتك به، وأقلّه حراسة نفسك من أبيك، فإنّه لو تمكّن منك لقتلك، وما تركت لك أحدا تخافه إلّا ولىّ العهد؛ فبكى بين يديها هو ووالدته؛ وسلّمت إليهما مفاتيح الخزائن، وأوصتهما بما أرادت.
وقالت لمعضاد الخادم: امض إلى ولىّ العهد وتفقّد خدمته، فإذا دخلت عليه فانكبّ كأنّك تسائله بعد أن توافق الخدم على ضربه بالسكاكين؛ فمضى إليه معضاد فقتله ودفنه وعاد فأخبرها، فأقامت بعد ذلك ثلاثة أيام وماتت. وتولّى أمر الدولة معضاد الخادم المذكور ورجل آخر علوىّ من أهل قزوين وآخرون.
وذكر القضاعىّ في قصّة ولىّ العهد شيئا غير ذلك، قال: إن ستّ الملك لمّا كتبت إلى دمشق بحمل ولىّ العهد إلى مصر لم يلتفت إلى ذلك؛ واستولى على دمشق، ورخّص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم من شرب الخمر، وسماع الملاهى، فأحبّه أهل دمشق. وكان بخيلا ظالما، فشرع في جمع المال ومصادرة الناس، فأبغضه الجند وأهل البلد. فكتبت أخت الحاكم إلى الجند فتتبّعوه حتّى مسكوه وبعثوا به مقيّدا إلى مصر، فحبس في القصر مكرما، فأقام مدّة. وحمل إليه يوما بطّيخ ومعه سكّين فأدخلها «1» فى سرّته حتى غابت. وبلغ ابن عمّه الظاهر بن الحاكم فبعث إليه القضاة والشهود؛ فلمّا دخلوا عليه اعترف أنّه الذي فعل ذلك بنفسه. وحضر الطبيب فوجد طرف السكين ظاهرا، فقال لهم: لم تصادف مقتلا. فلمّا سمع ولىّ العهد ذلك وضع يده عليها، فغيّبها في جوفه فمات.
وقال ابن الصابئ: «وكان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدىّ، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدّث نفسه بالعصيان؛ فلاطفته(4/194)
ستّ الملك وراسلته وآنسته، وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه [الحيل «1» ] حتّى أفسدت غلاما له يقال له بدر، وكان مالك أمره، وغلمانه تحت يده، وبذلت له العطاء الجزيل، [على الفتك به، ووعدته أن تولّيه مكانه «2» ] . وكان لفاتك غلام هندىّ يهواه، فاستغواه بدر المذكور وقال:
قد عرفت من مولاك ملالك، وتغيّر نيّته فيك، وعزم على قتلك، ودافعته عنك دفعات، وأنا أخاف عليك. ثم تركه بدر أياما، ووهب له دنانير وثيابا؛ ثم أظهر له المحبّة وقال: إن علم بنا الأمير قتلنا؛ فقال الهندىّ: فما أفعل؟ فاستحلفه بدر واستوثق منه، وقال: إن قبلت ما أقول أعطيتك مالا وأغنيتك وعشنا جميعا فى أطيب عيش. قال: فما تريد؟ قال: تقتله ونستريح منه؛ فأجابه وقال: الليلة يشرب وأنا أسقيه وأميل عليه، فإذا سكر فأقتله. وجلس فاتك المذكور على الشّرب، فلمّا قام إلى مرقده حمل الهندىّ سيفه، وكان ماضيا، ثمّ دخل في اللّحاف وبدر على باب المجلس واقف. فلمّا ثقل فاتك في نومه غمز بدر الهندىّ فضربه بالسيف فقطع رأسه؛ فصاح بدر واستدعى الغلمان وأمرهم بقتل الهندىّ فقتلوه. واستولى بدر على القلعة وما فيها؛ وكتب إلى أخت الحاكم بما جرى؛ فأظهرت الوجد على فاتك فى الظاهر، وشكرت بدرا في الباطن على ما كان منه من حفظ الخزائن، وبعثت إليه بالخلع، ووهبت له جميع ما خلّفه مولاه، وقلّدته موضعه. ونظرت ستّ الملك في أمور الدولة بعد قتل الحاكم أربع سنين، أعادت الملك فيها الى غضارته، وعمّرت الخزائن بالأموال، واصطنعت الرجال. ثم اعتلّت علّة لحقها فيها ذرب فماتت منه.
وكانت عارفة مدبّرة غزيرة العقل» . وقد خرجنا عن المقصود على سبيل الاستطراد.(4/195)
وكانت وفاة الحاكم ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان فيه كسوف الشمس. وكانت مدّة عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وقيل: سبعا وثلاثين سنة. وكانت ولايته على مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا، قاله القضاعىّ. وتولّى الملك من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علىّ بن الحاكم، وقام بتدبير مملكته عمته ستّ الملك المقدّم ذكرها إلى أن ماتت، حسب ما ذكرناه.
انتهت ترجمة الحاكم. ونذكر أيضا من أحواله نبذة كبيرة في الحوادث المتعلّقة بأيّامه مرتبة على السنين، فيها عجائب وغرائب. وأمّا ما ينسب إليه من الشعر- وقيل: هو للآمر العبيدىّ الآتى ذكره- فهو قوله:
دع اللّوم عنّى لست منّى بموثق ... فلا بدّ لى من صدمة المتحنّق
وأسقى جيادى من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدّين بعد التفرّق
***
[ما وقع من الحوادث سنة 387]
السنة الأولى من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة سبع وثمانين وثلثمائة.
فيها استولى الحاكم صاحب الترجمة خليفة مصر على السواحل والشامات.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ.
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن سعيد أبو أحمد العسكرىّ العلّامة الرّاوية، صاحب التصانيف الحسان في اللغة والأدب والأمثال.
وفيها توفّى الحسن بن مروان أبو علىّ الكردىّ الأمير صاحب ميّافارقين.
قد ذكرنا مبدأ «1» أمره وكيف تغلّب على ديار بكر وملك حصونها. مات قتيلا على باب آمد.(4/196)
وفيها توفّى صندل الخادم مولى بهاء الدولة وصاحب خيله (أعنى أمير اخوره «1» ) وقام الأمير أبو المسك عنبر مقامه.
وفيها توفّى السلطان فخر الدولة أبو الحسن علىّ ابن السلطان ركن الدولة الحسن ابن بويه بن فنّاخسرو الديلمىّ، مات بالرىّ، وكان ابن أخيه بهاء الدولة بواسط، فجلس للعزاء وجلس ابنه أبو منصور ببغداد. وقيل: إنّ فخر الدولة سمّ وسمّ ولداه من بعده فمات الكلّ في هذه السنة؛ فملك أبو الحسن «2» قابوس بن وشمكير من بعده طبرستان وجرجان؛ فإنّهما كانا في مملكته، وأخذهما منه مؤيّد الدولة أخو فخر الدولة هذا المقدّم ذكره. وكان فخر الدولة شجاعا، لقّبه الخليفة الطائع ب" ملك الأمّة" أو ب" فلك الأمّة". وكانت وفاته في عاشر شعبان، وله ستّ وأربعون سنة وخمسة أيّام. وكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
وخلّف مالا كثيرا.
قال ابن الصابئ بعد ما عدّد ما خلّفه من المتاع وغيره، قال: «وخلّف ألفى ألف وثمانمائة ألف وخمسة وسبعين ألفا ومائتين وأربعة وثمانين دينارا، ومن الورق والنّقرة «3» والفضّة مائة ألف ألف وثمانمائة ألف وستين ألفا وسبعمائة وتسعين درهما، ومن الجواهر واليواقيت الحمر والصّفر والحلىّ واللؤلؤ والبلخش «4» والماس وغيره أربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرين قطعة، قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن أوانى الذهب «5» ما وزنه ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن البلّور والصينى ونحوه(4/197)
ثلاثة آلاف، ومن السلاح والثّياب والفرش ثلاثة آلاف حمل» . وقيل: إنّه خلّف من الخيل والبغال والجمال ثلاثين ألف رأس، ومن الغلمان والمماليك خمسة آلاف، ومن السّرارى خمسمائة؛ ومن الخيام عشرة آلاف خيمة. وكان شحيحا.
كانت مفاتيح خزائنه في الكيس الحديد مسمّرا بالمسامير لا يفارقه. وملك بعده آبنه أبو طالب رستم وعمره أربع سنين.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس أبو الحسين البغدادىّ الواعظ، ويعرف بابن سمعون «1» ، وكان يسمّى الناطق بالحكمة. قال أبو عبد الرّحمن السّلمىّ: هو من مشايخ بغداد، له لسان عال في العلوم، لا ينتمى إلى أستاذ، وهو لسان الوقت المرجوع إليه في آداب «2» المعاملات.
وفيها توفّى نوح بن منصور بن نوح أبو القاسم السّامانىّ. كان هو وآباؤه من ملوك ما وراء النهر وسمرقند. وولى نوح هذا وله ثلاث عشرة سنة، وتعصّب له عضد الدولة بن بويه، وأخذ له من الخليفة الطائع العهد على خراسان والخلع؛ فأقام على خراسان إحدى وعشرين سنة، ومات في شهر رجب.
وفيها توفّى صمصام الدولة المرزبان، وكنيته أبو كاليجار بن عضد الدولة بن بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمىّ. ولى المملكة بعد موت أبيه عضد الدولة، فلم ينجح أمره، وغلب عليه أخوه شرف الدولة وقهره وحبسه وأخذ بغداد منه وأكحله. فدام في الحبس إلى أن مات أخوه شرف الدولة، ونزل من الحبس وهو أعمى. وانضمّ إليه الناس، وسار إلى فارس وملك شيراز. ووقع له(4/198)
أمور مع أولاد أخيه وحروب. وأقام بشيراز إلى أن قتل بها في هذه السنة؛ وقيل:
فى السنة الآتية، وهو الأصحّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإصبع واحدة.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 388]
السنة الثانية من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثمان وثمانين وثلثمائة.
فيها توفّى محمد «1» بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج المقرئ الشّنّبوذىّ، مولده في سنة ثلثمائة. كان يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر من شواهد القرآن.
ومات ببغداد، وبها كان مولده.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب الإمام أبو سليمان الخطّابىّ البستىّ، الفقيه الأديب، مصنّف كتاب" معالم السنن" وكتاب" غريب الحديث" وكتاب" شرح أسماء الله الحسنى" وكتاب" الغنية" «2» عن الكلام وأهله" وكتاب" العزلة" وغير ذلك.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريّاء الحافظ أبو بكر الشّيبانىّ الجوزقى المعدّل، شيخ نيسابور ومحدّثها وابن أخت محدّثها أبى إسحاق إبراهيم بن محمد- وجوزق: من قرى نيسابور- كان حافظا إماما، صنّف" المسند الصحيح" على كتاب مسلم. ومات في شوّال عن اثنتين وثمانين سنة.(4/199)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 389]
السنة الثالثة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسع وثمانين وثلثمائة.
فيها حجّ بالناس محمد بن محمد بن عمر من العراق وكان في الحجّ الشريفان: الرضىّ والمرتضى؛ فاعترض ركب الحاجّ أبو الجرّاح الطائىّ، فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما حتى أطلق الحاجّ.
وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن هزم الأمير عبد «1» الملك بن نوح السّامانىّ، وأزال السامانيّة منها؛ وأقام الدعوة للخليفة القادر بعد أن كانت للطائع الذي خلع.
وفيها توفّى زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو علىّ السّرخسىّ الفقيه الشافعىّ المقرئ المحدّث. سمع الكثير وروى عنه غير واحد. ومات في شهر ربيع الآخر وله ستّ وتسعون سنة.
وفيها توفّى عبد الله بن أبى زيد عبد الرّحمن الفقيه أبو محمد القيروانىّ شيخ المالكيّة بالمغرب. جمع مذهب الإمام مالك رضى الله عنه وشرح أقواله. وكان واسع العلم كثير الحفظ ذا صلاح وعفّة وورع. قال القاضى عياض بن موسى بن عياض: حاز رياسة الدّين والدنيا، ورحل إليه من الأمصار.(4/200)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 390]
السنة الرابعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسعين وثلثمائة.
فيها ظهر بسجستان معدن الذهب، فكانوا يصفّون»
من التراب الذهب الأحمر.
وفيها ولّى الحاكم صاحب مصر على نيابة الشام فحل بن تميم، فمرض ومات بعد أشهر؛ فولّى الحاكم عوضه على دمشق علىّ بن جعفر بن فلاح.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث العلوىّ.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن خلف أبو عبد الله الفرّاء «2» والد القاضى أبى يعلى.
كان إماما فقيها على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، وسمع الحديث وتفقّه وبرع. ومات في شعبان ببغداد.
وفيها توفّى المعافى بن زكريّاء بن يحيى بن حميد بن حمّاد بن داود أبو الفرج النّهروانىّ «3» ، ويعرف بابن طرارى «4» . ولد سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل: سنة خمس وثلثمائة. وكان إماما في النحو واللغة وأصناف الآداب، وكان يتفقّه على مذهب محمد بن جرير الطبرىّ. وصنّف كتاب" الجليس والأنيس". قال المعافى المذكور:
حججت فكنت بمنّى فسمعت مناديا ينادى: يا أبا الفرج؛ فقلت: لعلّه غيرى.(4/201)
ثم نادى يا أبا الفرج المعافى؛ فهممت أن أجيبه. ثم إنه رجع فنادى: يا أبا الفرج المعافى بن زكريّاء النّهروانىّ؛ فقلت عند ذلك: هأنا: فما تريد؟ قال: لعلك من نهروان الشرق؟ قلت نعم؛ قال: نحن نريد نهروان الغرب. قال: فعجبت من هذا الاتفاق. قلت: وهذا من الغرائب كونه طابق اسمه واسم أبيه والكنية والشهرة ويكون هذا من نهروان الشرق، وذاك من نهروان الغرب. وكانت وفائه فى ذى الحجّة وله خمس وثمانون سنة.
وفيها توفّى ناجية بن محمد بن سليمان أبو الحسن الكاتب البغدادىّ، نادم الخلفاء والأكابر، وكان شجاعا شاعرا فصيحا. ومن شعره قوله:
[الطويل]
ولمّا رأيت الصبح قد سلّ سيفه ... وولّى انهزاما ليله وكواكبه
ولاح احمرار قلت قد ذبح الدجى ... وهذا دم قد ضمّخ الافق ساكبه
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 391]
السنة الخامسة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة إحدى وتسعين وثلثمائة.
فيها جلس الخليفة القادر بأبّهة الخلافة، ودخل عليه الحجّاج بعد عودهم من الحج والقضاة والأشراف؛ فأعلمهم أنه قد جعل الأمر في ولده أبى الفضل، ولقّبه الغالب بأمر الله، وعمره ثمانى سنين وأربعة أشهر وأيام.
وفيها حجّ من العراق بالناس أبو الحارس محمد بن محمد بن عمر العلوىّ.(4/202)
وفيها توفّى جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، الوزير المحدّث أبو الفضل المعروف بابن حنزابة «1» . كان أبوه قد وزر للمقتدر سنة خلع. وسافر هو إلى مصر، وتقلّد الوزارة لكافور الإخشيذىّ، وسمع الحديث بمصر ورواه، ومات بمصر.
وفيها توفّى المقلّد بن المسيّب بن رافع حسام الدولة أبو حسّان العقيلىّ صاحب الموصل. كان أخوه أبو الذّوّاد «2» أوّل من تغلّب على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلثمائة؛ وملك حسام الدولة هذا الموصل بعده؛ وكان حسن التدبير، واتسعت مملكته. وأرسل إليه الخليفة القادر اللّواء والخلع. وكان له شعر، وفيه رفض فاحش.
قتله غلام له تركىّ في صفر. قلت: لا شلّت يداه!. يقال: إنّه قتله لأنّه سمعه يوصى رجلا من الحاجّ أن يسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له:
لولا صاحباك لزرتك. وذكر الذهبىّ هذه الحكاية بإسناد إلى جماعة إلى أن قال عن الرجل الذي قال له المقلّد هذا «3» بالسلام إنّه قال: فأتيت المدينة ولم أقل ذلك إجلالا؛ فنمت فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في منامى، فقال: يا فلان لم لم تؤد الرسالة؟ فقلت: يا رسول الله أجللتك؛ فرفع رأسه إلى رجل قائم فقال له:
خذ هذا الموسى واذبحه به (يعنى المقلّد) . ثم رجعنا فوافينا العراق، فسمعت أنّ الأمير المقلّد ذبح على فراشه ووجد الموسى عند رأسه؛ فذكرت للناس الرؤيا فشاعت؛ فأحضرنى ابنه (يعنى ابن المقلد) الذي ولى بعده، واسمه قرواش «4» ، فحدّثته؛ فقال:
أتعرف الموسى؟ فقلت نعم؛ فأحضر طبقا مملوءا مواسى فأخرجته منها؛ فقال:(4/203)
صدقت، هذا وجدته عند رأسه وهو مذبوح. قلت: هذا ما جوزى به في الدنيا، وأمّا في الأخرى فجهنّم وبئس المصير، هو وكلّ من يعتقد معتقده إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى جيش بن محمد بن صمصامة أبو الفتوح القائد المغربىّ ابن أخت أبى محمود الكتامى «1» أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام، وتولّى نيابة دمشق غير مرّة، وكان ظالما سفّاكا للدماء؛ ظلم الناس فاجتمع الصلحاء والزّهاد ودعوا عليه، فسلّط الله عليه الجذام حتّى رأى في نفسه العبر، ولم ينته حتّى أخذه الله.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن الحجّاج أبو عبد الله الشاعر، كان من أولاد العمّال والكتّاب ببغداد، وتولّى حسبة بغداد لعز الدولة بختيار بن «2» بويه، فتشاغل بالشعر والسّخف والخلاعة عمّا هو بصدده. قلت: وابن الحجّاج هذا يضرب به المثل في السخف والمداعبة والأهاجى. وغالب شعره في الفحش والأهاجى والهزل؛ من ذلك قوله:
[المجتث]
المستعان بربّى ... من كسّ ستّى وزبّى
قد كلّفانى نيكا ... قد كاد يقصف صلبى
وقال ابن خلكان: الشاعر المشهور ذو المجون والخلاعة في شعره. كان فرد زمانه في فنّه، فإنه لم يسبق إلى تلك الطريقة مع عذوبة ألفاظه وسلامة شعره من التكلف؛ ومدح الملوك والأمراء والوزراء. وديوانه كبير أكثر ما يوجد في عشرة مجلدات. والغالب عليه الهزل، وله في الجدّ أيضا. ويقال: إنّه في الشعر [فى «3» ] درجة(4/204)
امرئ القيس وإنه لم يكن بينهما مثلهما، لأنّ كلّ واحد منهما مخترع طريقة. ولمّا مات رثاه الشريف الرضى. انتهى كلام ابن خلّكان باختصار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 392]
السنة السادسة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة.
فيها في المحرّم غزا السلطان محمود بن سبكتكين الهند؛ فالتقاه صاحبها الملك جيپال «1» ومعه ثلثمائة فيل؛ فنصر الله ابن سبكتكين وقتل من الكفّار خمسة آلاف ومن الفيلة خمسة عشر فيلا.
وفيها ولّى الحاكم على دمشق أبا منصور ختكين القائد، فظلم وأساء السّيرة.
وفيها توفّى عثمان بن جنّى العلّامة أبو الفتح النحوىّ اللغوىّ الموصلىّ صاحب المصنّفات، منها" اللمع" و" [الكافى «2» فى] شرح القوافى" و" المذكر والمؤنث" و" سرّ الصناعة" و" الخصائص" و" شرح المتنبّى" وغير ذلك. وكان أبوه جنّى مملوكا روميّا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدىّ الموصلىّ. وسكن ابن جنّى المذكور بغداد ودرّس بها وأقرأ حتّى مات في صفر.
وفيها توفّى علىّ بن عبد العزيز أبو الحسن الجرجانى قاضى الرّى. سمع «3» الحديث الكثير وترقّى في العلوم حتّى برع في الفقه والشعر والنحو وغير ذلك من العلوم.(4/205)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر القاضى الشافعىّ، ويعرف بابن الدّقّاق، صاحب الأصول، كان معدودا من الفضلاء، مات ببغداد.
وفيها توفّى الوليد بن بكر بن مخلد «1» بن أبى زياد أبو العباس الأندلسىّ، رحل فى طلب العلم إلى مصر والشام والعراق والحجاز وخراسان وما وراء النهر، وسمع الكثير. وكان إماما عالما بالفقه والنحو والحديث والأدب والشعر. ومن شعره قوله:
[المتقارب]
لأىّ بلائك لا تدّكر ... وماذا يضرّك لو تعتبر
فبان الشّباب وحلّ المشيب ... وحان الرحيل فما تنتظر
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 393]
السنة السابعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة.
فيها منع عميد الجيوش يوم عاشوراء من النّوح وتعليق المسوح ببغداد وغيرها، ثم منع أهل السنة ممّا كانوا ابتدعوه أيضا في مقابلة الرافضة من التوجّه إلى قبر مصعب بن الزّبير وغيره، وسكنت الفتنة لذلك.(4/206)
وفي [شهر] ربيع الآخر منها أمر نائب دمشق من قبل الحاكم صاحب مصر تمصولت «1» الأسود الحاكمىّ [بمغربى «2» ] فضرب وطيف به على حمار، ونودى عليه:
هذا جزاء من يحبّ أبا بكر وعمر؛ ثم أمر به فضربت عنقه. رحمه الله تعالى.
وفيها نازل السلطان محمود بن سبكتكين سجستان وأخذها من صاحبها خلف ابن أحمد بالأمان.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من الأصيفر الأعرابىّ.
وفيها زلزل الشام والعواصم والثغور، فمات تحت الهدم خلائق كثيرة.
وفيها توفّى إسماعيل بن حمّاد أبو نصر الجوهرىّ، مصنّف كتاب" الصّحاح" فى اللغة. كان أصله من فاراب أحد بلاد الترك، وكان يضرب المثل به في حفظ اللغة وحسن الكتابة؛ وخطّه يذكر مع خط ابن مقلة ومهلهل واليزيدىّ. وكان يؤثر الغربة على الوطن، دخل بلاد ربيعة ومضر في طلب العلم واللغة. وفي كتابه الصحاح يقول إسماعيل «3» بن محمد النيسابورىّ:(4/207)
[المنسرح]
هذا كتاب الصّحاح سيّد ما «1» ... صنّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أنواعه ويجمع ما ... فرّق في غيره من الكتب
مات الجوهرىّ متردّيا من سطح داره «2» بنيسابور.
وفيها توفّى أمير المؤمنين الطائع لله أبو بكر عبد الكريم ابن الخليفة المطيع لله الفضل ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد الهاشمىّ العباسى البغدادىّ. وأمّه أمّ ولد. ولى الخلافة بعد أن خلع والده المطيع نفسه لمرض تمادى به في ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلثمائة؛ فدام في الخلافة إلى أن خلع بعد القبض عليه في شعبان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وبويع القادر بالله بالخلافة.
واستمرّ الطائع محبوسا في دار عند القادر مكرّما إلى أن مات في هذه السنة في ليلة عيد الفطر؛ وصلّى عليه القادر وكبّر عليه خمسا. ومات الطائع وله ثلاث «3» وسبعون سنة.
وفيها توفّى محمد بن عبد الرّحمن بن العباس بن عبد الرّحمن بن زكرياء الحافظ أبو طاهر البغدادىّ الذهبىّ المخلّص محدّث العراق. قال الخطيب أبو بكر: كان ثقة. مولده في شوّال سنة خمس وثلثمائة، وسمع الكثير وروى عنه غير واحد.(4/208)
وفيها توفّى إبراهيم بن أحمد [بن محمد أبو إسحاق «1» ] الطبرىّ المقرئ شيخ الشهود ومقدّمهم ببغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة. قرأ القرآن وسمع الكثير، وكان مالكىّ المذهب، وحجّ فأمّ بالناس بالمسجد الحرام أيّام الموسم؛ وما تقدّم فيه إمام ليس بقرشىّ سواه. وقرأ عليه الرضىّ الموسوىّ القرآن. وسكن بغداد وحدّث بها إلى أن توفّى بها رحمه الله.
وفيها توفّى محمد بن عبد «2» الله [بن محمد بن محمد «3» ] بن حليس «4» السّلامىّ الشاعر المشهور، كان فصيحا بليغا. ومن شعره وهو في المكتب وهو أوّل قوله:
[المنسرح]
بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين «5» الناس فيه متّفقه
سهام ألحاظه مفوّقة ... فكلّ من رام وصله «6» رشقه
قال الثعالبىّ في حقّه: هو من أشعر أهل العراق قولا بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. ثم قال بعد ما أثنى عليه: وقال الشعر وهو ابن عشر «7» سنين.
وفيها توفّيت ميمونة بنت ساقولة الواعظة البغدادية، كان لها لسان حلو في الوعظ.
قالت: هذا قميصى له اليوم سبع وأربعون سنة ألبسه وما تخرّق، غزلته لى أمّى؛ الثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرّق.(4/209)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 394]
السنة الثامنة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربع وتسعين وثلثمائة.
فيها قلّد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوىّ قضاء القضاة والحجّ والمظالم ونقابة الطالبيين، ولقّبه [الطاهر «1» ] الأوحد ذا المناقب؛ فلم ينظر في القضاء لامتناع الخليفة القادر بالله من الإذن له في ذلك.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث محمد العلوىّ؛ فاعترض الركب الأصيفر الشّيعىّ الأعرابىّ، وعوّل على نهبهم؛ فقالوا: من يكلّمه ويقرّر له ما يأخذه من الحاجّ؟ فقدّموا أبا الحسين بن الرّفّاء «2» وأبا عبد الله بن الدّجاجىّ، وكانا من أحسن الناس قراءة؛ فدخلا عليه وقرأ بين يديه؛ فقال لهما: كيف عيشكما ببغداد؟
قالا: نعم العيش، تصلنا الخلّع والصّلات. فقال: هل وهبوا لكما ألف ألف دينار في مرّة واحدة؟ قالا: لا، ولا ألف دينار؛ فقال: قد وهبت لكما الحاجّ وأموالهم؛ فدعوا له وانصرفوا وفرح الناس. ولمّا قرأ بعرفات قال أهل مصر والشام: ما سمعنا عنكم تبذيرا «3» مثل هذا، يكون عندكم شخصان مثل هذين فتصحبوئهما معكم معا، فإن هلكا فبأىّ شىء تتجمّلون بعد ذلك!. ومن حسن قراءتهما وطيب(4/210)
صوتهما اخذهما أبو الحسن بن بويه مع أبى عبد الله بن البهلول «1» ، فكانوا يصلّون به بالنوبة التراويح، وهم أحداث السنّ.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن إسماعيل أبو علىّ الإسكافىّ الملقّب بالموفّق.
كان بهاء الدولة قد فوّض إليه أموره وقام بتدبير ملكه. وكان شجاعا مقداما، لا يتوجّه في أمر إلّا وينصر. وارتفع أمره حتّى قال رجل أبهاء الدولة: يا مولانا، زينّك الله في عين الموفّق. ولا زال الناس به حتّى قبض عليه بهاء الدولة وخنقه.
وفيها توفّى خلف بن القاسم بن سهل الحافظ أبو القاسم الأندلسىّ، كان يعرف بابن الدبّاغ، مولده سنة خمس وعشرين وثلثمائة، كان حافظا مكثرا جمع مسند الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه، وحديث شعبة بن الحجّاج، وأسامى «2» المعروفين بالكنى من الصحابة والتابعين وسائر المحدّثين، وكان أعلم الناس برجال الحديث والتواريخ والتفسير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 395]
السنة التاسعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة خمس وتسعين وثلثمائة.
فيها حجّ بالعراقيّين أبو جعفر [بن «3» ] شعيب، ولحقهم عطش كبير في طريقهم فهلك خلق كثير.(4/211)
وفيها قتل الحاكم صاحب مصر جماعة بمصر من أعيانها صبرا.
وفيها كانت وقعة بين بهاء الدولة «1» بن بويه وبين عميد الجيوش، انكسر فيها عميد الجيوش وانهزم أقبح هزيمة.
وفيها خرج أبو ركوة «2» على الحاكم، وتعاظم أمره حتّى عزم الحاكم على الخروج إلى الشام، وبرز إلى بلبيس بالعساكر والأموال، فأشير عليه بالعود إلى مصر فعاد وجهّز إليه جيشا فواقعوه غير مرّة حتّى هزموه، حسب ما ذكرناه في أصل ترجمة الحاكم من هذا المحلّ، ونذكره أيضا في السنة الآتية.
وفيها توفّى أحمد بن محمد البشرىّ «3» الصوفىّ المحدّث، رحل في طلب الحديث وجاور بمكة مدّة وصار شيخ الحرم، ثمّ عاد إلى مصر فتوفّى بالطريق بين مصر ومكّة، وكان صالحا ثقة.
وفيها توفّى أحمد بن فارس بن زكريّاء بن محمد بن حبيب أبو الحسين الرازىّ، وقيل: القزوينى المعروف بالرازىّ المالكىّ اللغوىّ نزيل همذان، وصاحب" المجمل" فى اللغة. سمع الحديث وروى عنه جماعة، وولد بقزوين ونشأ بهمذان، وكان أكثر مقامه بالرّىّ، وكان كاملا في الأدب فقيها مالكيا مناظرا في الكلام(4/212)
وينصر أهل السّنة، وطريقته في النحو طريقة الكوفيين. وله مصنّفات بديعة.
ومن شعره قوله:
[السريع]
مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركيّة تنمى لتركىّ
ترنو بطرف فاتن فاتر ... أضعف من حجّة نحوىّ
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الزاهد أبو الحسين بن أبى نصر النّيسابورىّ الخفّاف. قال الحاكم «1» : كان مجاب الدعوة، وسماعاته صحيحة بخطّ أبيه من أبى العباس «2» السرّاج وأقرانه، وبقى واحد عصره في علوّ الإسناد؛ ومات في شهر ربيع الأوّل. قال الحاكم: وصلّيت عليه وله ثلاث وتسعون سنة.
وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة- واسم مندة إبراهيم بن الوليد ابن سيدة- الحافظ الكبير أبو عبد الله العبدىّ الأصبهانىّ المعروف بابن مندة؛ رحل وطوّف الدنيا، وجمع وصنّف وكتب ما لا ينحصر. وحدّث عن أبيه وعمّ أبيه عبد الرّحمن بن يحيى وخلق كثير، وروى عنه جماعة. قال أبو نعيم «3» - وهو معاصره-:
ابن مندة حافظ من أولاد المحدّثين، توفّى في سلخ ذى القعدة، واختلط في آخر عمره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.(4/213)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 396]
السنة العاشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ستّ وتسعين وثلثمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق محمد بن محمد بن عمر العلوىّ، وخطب بالحرمين للحاكم صاحب مصر على العادة، وأمر الناس بالحرمين بالقيام عند ذكر الحاكم، وفعل مثل ذلك بمصر وغيرها؛ فكان إذا ذكر قاموا وسجدوا في السوق وفي مواضع الاجتماع.
وفيها جلس الخليفة القادر بالله العباسىّ لأبى المنيع قرواش بن أبى حسّان ولقّبه بمعتمد الدولة؛ وتفرّد قرواش المذكور بالإمارة وحده.
وفيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أبو سعد الجرجانىّ، كان عالما بفنون العلم «1» والحديث والفقه والعربية، ودخل بغداد وعقد مجلس المناظرة، وحضره أبو الطيّب الطّبرىّ وأبو حامد الإسفراينى.
وفيها توفّى عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد بن موسى الكلابىّ المحدّث أبو الحسين الدمشقىّ، يعرف بأخى تنوك، سمع الكثير وروى عنه الناس.
قال عبد العزيز الكتّانى «2» : كان ثقة نبيلا مأمونا. وكانت وفاته في شهر ربيع الأوّل، ومات وهو مسند وقته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن على بن الباجىّ «3» فى المحرّم. وأبو الحسن أحمد بن محمد بن(4/214)
عمران بن الجندىّ، وهو ضعيف. وأبو سعد إسماعيل بن أبى بكر الإسماعيلىّ شيخ الشافعية. وأبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن الكلابىّ في [شهر] ربيع الأول، وله تسعون سنة. والقاضى أبو الحسن على بن محمد بن إسحاق الحلبىّ بمصر. وأبو بكر محمد ابن [الحسن «1» بن] الفضل بن المأمون. وأبو بكر محمد بن على بن النضر «2» الدّيباجىّ.
وأبو بكر محمد بن عمر بن زنبور الورّاق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 397]
السنة الحادية عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة سبع وتسعين وثلثمائة.
فيها دخل بهاء الدولة البصرة وملكها واستولى على ذخائر ابن واصل «3» .
وفيها استفحل أمر أبى ركوة الذي خرج على الحاكم، وذكرنا أمره في الماضية، ودعا لعمّه هشام الأموىّ. وأبو ركوة المذكور اسمه الوليد، وهو من ذريّة هشام ابن عبد الملك بن مروان؛ وعظم أمره وانضم عليه الخلائق واستولى على برقة وغيرها، وكسر عسكر الحاكم، وضرب السّكّة، وصعد المنبر وخطب خطبة بليغة، ولعن الحاكم وآباءه، وصلّى بالناس وعاد إلى دار الإمارة، وقد استولى على جميع ما كان فيها.
وعرف الحاكم بما جرى فانزعج وكفّ عن القتل وانقطع عن الركوب الذي كان(4/215)
يواصله؛ ثم جهّز الحاكم إلى حرب أبى ركوة قائدا من الأتراك يقال له ينّال الطويل، وأرسل معه خمسة آلاف فارس- وكان معظم جيش ينّال [من] كتامه، وكانت مستوحشة من ينال فإنه قتل كبار كتامة بأمر الحاكم- فتوجّه ينّال وواقع أبا ركوة فهزمه أبو ركوة وأخذه أسيرا، وقال له: العن الحاكم، فبصق في وجه أبى ركوة؛ فأمر أبو ركوة به فقطّع إربا إربا. وأخذ أبو ركوة مائة ألف دينار كانت مع ينال وجميع ما كان معه، فقوى أمره أكثر ما كان. واشتدّ الأمر على الحاكم أكثر وأكثر بكسر ينال؛ وبعث إلى الشام واستدعى الغلمان الحمدانيّة والقبائل وأنفق عليهم الأموال وجهّزهم، وجعل عليهم الفضل بن عبد الله؛ فطرقهم أبو ركوة وكسرهم وساق خلفهم حتّى نزل عند الهرمين بالجيزة؛ وغلّق الحاكم أبواب القاهرة؛ ثمّ عاد أبو ركوة إلى عسكره. فندب الحاكم العساكر ثانيا، فسار بهم الفضل في جيوش كثيرة، والتقى مع أبى ركوة فهزمه وقتل من عسكره نحو ثلاثين ألفا. ثم ظفر الفضل بأبى ركوة وسار به مكرما إلى الحاكم. وسبب إكرامه له خوفه عليه من أن يقتل نفسه، وقصد الفضل أن يأتى به الحاكم حيّا. فأمر الحاكم أن يشهّر أبو ركوة على جمل ويطاف به. وكانت القاهرة قد زيّنت أحسن زينة، وكان بها شيخ يقال له الأبزارىّ، إذا خرج خارجىّ صنع له طرطورا وعمل فيه ألوان الخرق المصبوغة وأخذ قردا ويجعل في يده درّة ويعلّمه [أن] يضرب بها الخارجىّ من ورائه، ويعطى مائة دينار وعشر قطع قماش. فلمّا قطع أبو ركوة الجيزة أمر به الحاكم، فأركب جملا بسنامين وألبس الطّرّطور وأركب الأبزارىّ خلفه والقرد بيده الدّرّة وهو يضربه والعساكر حوله، وبين يديه خمسة عشر فيلا مزيّنة؛ ودخل القاهرة على هذا الوصف ورءوس أصحابه بين يديه على الخشب والقصب؛ وجلس الحاكم فى منظرة على باب الذهب، والترك والديلم عليهم السلاح وبأيديهم اللّتوت وتحتهم(4/216)
الخيول بالتّجافيف «1» حول أبى ركوة؛ وكان يوما عظيما، وأمر به الحاكم أن يخرج إلى ظاهر القاهرة ويضرب عنقه على تلّ بإزاء مسجد «2» ريدان خارج القاهرة. فلمّا حمل إلى هناك أنزل فإذا به ميّت فقطع رأسه وحمل به إلى الحاكم؛ فأمر بصلب جسده. وارتفعت منزلة الفضل عند الحاكم بحيث إنّه مرض فعاده مرّتين أو ثلاثا، وأقطعه إقطاعات كثيرة ثم عوفى من مرضه، وبعد أيام قبض عليه الحاكم وقتله شرّ قتلة.
وفيها كسا الحاكم الكعبة القباطىّ البيض، وبعث مالا لأهل الحرمين.
وفيها توفّى عبد الصمد بن عمر بن محمد بن إسحاق أبو القاسم الدّينورىّ الواعظ الزاهد، كان فقيها زاهدا عابدا محدّثا منقطعا عن الناس، وهو من كبار الشيوخ رحمه الله.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم الحافظ أبو الحسن على بن عمر القصّار «3» المالكىّ ببغداد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.(4/217)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 398]
السنة الثانية عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثمان وتسعين وثلثمائة.
فيها في يوم عاشوراء عمل أهل الكرخ [ما جرت به «1» ] العادة من النّوح وغيره.
واتفق يوم عاشوراء يوم المهرجان؛ فأخّره عميد الجيوش إلى اليوم الثانى مراعاة لأجل الرافضة، هذا ما كان «2» ببغداد. فأمّا مصر فإنه كان يفعل بها في يوم عاشوراء من النوح والبكاء والصّراخ وتعليق المسوح أضعاف ذلك لا سيّما أيّام خلفاء مصر بنى عبيد، فإنّهم كانوا أعلنوا الرّفض وسبّ الصحابة من غير تستّر ولا خيفة.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين أهل السّنة والرافضة ببغداد.
وفيها زلزلت الدّينور فهدمت المنازل وأهلكت ستة عشر ألف إنسان، وخرج من سلم إلى الصحراء وبنوا لهم أكواخا من القصب، وذهب من الأموال ما لا يعدّ ولا يخصى.
وفيها هدم الحاكم بيعة «3» قمامة التى ببيت المقدس وغيرها من الكنائس بمصر والشام، وألزم أهل الذمّة بما ذكرناه في ترجمة الحاكم.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد أبو الفضل الهمذانىّ الملقّب ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة، وصاحب المقامات [الفائقة «4» ] ؛ التى على منوالها نسج الحريرىّ مقاماته، واعترف له بالفضل عليه. وكان إمام وقته في المنثور(4/218)
والمنظوم. ومن كلامه النثر: الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه؛ وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه. و [له من «1» تعزية] : الموت خطب قد عظم حتّى هان، ومسّ [قد «2» ] خشن حتّى لان؛ والدنيا [قد «3» ] تنكّرت حتّى صار الموت أخفّ خطوبها، وجنّت حتّى صار أصغر ذنوبها. وله من هذا أشياء كثيرة. وأمّا شعره فجيّد إلى الغاية.
من ذلك قوله من جملة قصيدة: [البسيط]
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وكانت وفاته في هذه السنة بمدينة هراة.
وفيها توفّى عبد الواحد «4» بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومىّ النّصيبىّ الشاعر المشهور المعروف بالببّغاء والببّغاء هو الطير المعروف بالدّرّة، وقيل غيرها. خدم الببغاء المذكور سيف الدولة بن حمدان ومدحه؛ وكان شاعرا مجيدا وكاتبا مترسّلا، جيّد المعانى حسن القول في المدائح. ومن شعره: [الكامل]
وكأنّما نقشت حوافر خبله ... للناظرين أهلّة في الجلمد
وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
وفيها توفّى عبد الله بن محمد أبو محمد البخارىّ الخوارزمىّ الفقيه الشافعى، كان فقيها فصيحا أديبا يرتجل الخطب الطّوال ويقول الشعر على البديهة. ومن شعره:
[الخفيف]
كم حضرنا وليس يقضى التلاقى ... نسأل الله غير هذا الفراق
إن أغب لم تغب وإن لم تغب غبت ... كأنّ افتراقنا باتفاق(4/219)
وفيها توفّى أبو منصور بن بهاء الدولة، وقيل: إنّ اسمه بويه. كان أبوه بهاء الدولة يخافه، ومنع الخدم «1» من الكلام معه وضيّق عليه. ولمّا مات وجد عليه وجدا عظيما، وليس السواد، وواصل البكاء والحزن إلى أن اجتمع إليه وجوه الديلم وسألوه أن يرجع إلى عادته.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 399]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسع وتسعين وثلثمائة.
فيها لحق الحاجّ عند عودهم من مكة الأصيفر الأعرابىّ، وقرّر عليهم أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوىّ أمير الحاجّ مالا فأوردوه، ودخلوا الكوفة بعد أن لاقوا مشقّة شديدة، وأقاموا بها حتّى أرسل إليهم أبو الحسن على بن مزيد «2» أخاه حمّادا فحملهم إلى المدائن، ثمّ دخلوا بغداد.
وفيها صرف أبو عمر «3» عبد الواحد عن قضاء البصرة، ووليها أبو الحسن بن أبى الشّوارب. فقال العصفرىّ «4» الشاعر في هذه المعنى:
[المجتث]
عندى حديث ظريف ... بمثله يتغنّى
من قاضيين يعزّى ... هذا وهذا يهنّى(4/220)
فذا يقول اكرهونا ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان جميعا ... ومن يصدّق منّا
وفيها ولّى الحاكم القائد أبا الجيش حامد بن ملهم أميرا على دمشق بعد علىّ بن جعفر بن فلاح، فوليها سنة وأربعة أشهر، ثم عزل بمحمد «1» بن بزال.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من العطش والعرب، وخرجوا ثمّ عادوا.
وفيها توفّيت يمنى أمّ القادر. كانت مولاة عبد الواحد بن الخليفة المقتدر، وكانت من أهل الدين والصلاح. وصلّى عليها القادر في داره وكبّر أربعا، وحملت إلى الرّصافة في طيّار فدفنت بها.
وفيها توفّى الأمير لؤلؤ غلام سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب والذي كان واقع العزيز نزارا والد الحاكم؛ وقد تقدّم ذكر ذلك في ترجمة العزيز مفصّلا. كان لؤلؤ شجاعا مقداما. ولما مات لؤلؤ تولّى الملك بعده ابنه مرتضى الدولة، وهرب بعد ذلك إلى الروم.
وفيها توفّى هشام بن الحكم بن عبد الرّحمن الأموىّ صاحب الأندلس، ولقبه المؤيّد، وهو من ذرّية مروان بن الحكم الأموىّ وهو عمّ أبى ركوة الذي كان خرج على الحاكم المقدّم ذكره، وباسمه كان يخطب أبو ركوة المذكور. ولى هشام هذا الملك وله تسع سنين، وأقام واليا على الأندلس تسعا وثلاثين سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.(4/221)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 400]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربعمائة.
فيها أرجف بموت الخليفة القادر، فجلس للناس «1» بعد صلاة الجمعة ودخل عليه القضاة والأشراف، وعليه أبّهة الخلافة، وقبّل أبو حامد الإسفراينى يده.
وفيها أرسل الحاكم إلى المدينة إلى دار جعفر الصادق من فتحها وأخذ منها ما كان فيها، وكان فيها مصحف وسرير وآلات، وكان الذي فتحها ختكين العضدىّ الداعى، وحمل معه رسوم الأشراف، وعاد إلى مصر بما وجد في الدار؛ وخرج معه من شيوخ العلويّين جماعة؛ فلمّا وصلوا إلى الحاكم أطلق لهم نفقات قليلة [وردّ «2» عليهم السرير] وأخذ الباقى، وقال: أنا أحقّ به؛ فانصرفوا داعين عليه.
وشاع فعله «3» فى الأمور التى خرق العادات فيها، ودعى عليه في أعقاب الصلوات وظوهر بذلك، فأشفق فخاف؛ وأمر بعمارة دار العلم وفرشها، ونقل إليها الكتب العظيمة وأسكنها من شيوخ السنّة شيخين، يعرف أحدهما بأبى بكر الأنطاكىّ، وخلع عليهما وقرّبهما ورسم لهما بحضور مجلسه وملازمته «4» ، وجمع الفقهاء والمحدّثين إليها، وأمر أن يقرأ بها فضائل الصحابة، [ورفع عنهم «5» الاعتراض في ذلك] وأطلق صلاة التراويح والضحى، وغيّر الأذان وجعل مكان" حىّ على خير العمل"" الصلاة خير من النوم"؛ وركب بنفسه الى جامع عمرو بن العاص وصلّى فيه الضحى، وأظهر الميل الى مذهب الإمام مالك والقول به، ووضع للجامع تنّورا من فضة(4/222)
يوقد فيه ألف ومائتا فتيلة، واثنين آخرين من دونه. وزفّهم بالدبادب والبوقات والتهليل والتكبير، ونصبهم ليلة النصف من شعبان؛ وحضر أوّل يوم من رمضان الى الجامع الذي بالقاهرة، وحمل إليه الفرش الكثيرة وقناديل الذهب والفضة، فكثر الدعاء له؛ ولبس الصوف في هذه السنة يوم الجمعة عاشر شهر رمضان، وركب الحمار وأظهر النسك وملأ كمّه دفاتر، وخطب بالناس يوم الجمعة وصلّى بهم؛ ومنع من أن «1» يخاطب يا مولانا ومن تقبيل الأرض بين يديه؛ وأقام الرواتب لمن يأوى المساجد من الفقراء «2» والقرّاء والغرباء وأبناء السبيل، وأجرى لهم الأرزاق؛ وصاغ محرابا عظيما من فضة وعشرة قناديل؛ ورصّع المحراب بالجوهر ونصبه بالمسجد الجامع. وأقام على ذلك ثلاث سنين يحمل الطّيب والبخور والشموع إلى الجوامع، وفعل ما لم يفعله أحد. ثم بدا له بعد ذلك فقتل الفقيه أبا بكر الأنطاكى والشيخ الآخر وخلقا كثيرا أخر من أهل السنّة لا لأمر يقتضى ذلك؛ وفعل ذلك كلّه في يوم واحد. وأغلق دار العلم، ومنع من جميع ما كان فعله؛ وعاد إلى ما كان عليه أوّلا من قتل العلماء والفقهاء وأزيد؛ ودام على ذلك حتّى مات قتيلا حسب ما ذكرناه.
وفيها توفّى الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق الشريف أبو أحمد الموسوى، والد الشريف الرضى والمرتضى. مولده في سنة أربع وثلثمائة. وكان سيّدا عظيما مطاعا، كانت هيبته أشدّ من هيبة الخلفاء؛ خاف منه عضد الدولة فاستصفى أمواله. وكانت منزلته عند بهاء الدولة أرفع المنازل، ولقّبه بالطاهر والأوحد وذى المناقب، وكان فيه كلّ الخصال الحسنة إلا أنّه كان رافضيّا هو وأولاده على مذهب القوم. ومات ببغداد عن سبع وتسعين سنة، وصلى(4/223)
عليه ابنه المرتضى، ودفن في داره ثم نقل إلى مشهد الحسين، ورثاه ولده المرتضى.
وفيها توفّى أبو الحسين بن الرفّاء القارئ المجيد الطيّب الصوت الذي ذكرنا قصته مع الأصيفر الأعرابىّ عند ما اعترض الحاجّ في سنة أربع وتسعين؛ وكانت وفاته ببغداد.
وفيها توفّى أبو عبد الله القمّى التاجر المصرىّ، كان بزّاز خزانة الحاكم؛ مات فى ذى القعدة بين مصر ومكة، وحمل إلى البقيع «1» ودفن به، وكان ذا مال عظيم؛ خرج في هذه السنة مع حجّاج مصر بعد أن اشتملت وصيّته على ألف ألف دينار غير المتاع والقماش والجوهر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 401]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة إحدى وأربعمائة.
فيها خطب أبو المنيع قرواش بن المقلّد الملقّب بمعتمد الدولة للحاكم صاحب مصر بالموصل. وكان الحاكم قد استماله؛ فجمع معتمد الدولة أهل الموصل وأظهر طاعة الحاكم، فأجابوه وفي القلوب ما فيها؛ فأحضر الخطيب يوم الجمعة رابع المحرّم و [خلع «2» ] عليه قباء دبيقيّا وعمامة صفراء وسراويل ديباج أحمر وخفّين أحمرين، وقلّده سيفا، وأعطاه نسخة ما يخطب به وأوّلها:(4/224)
«الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدّت بقدرته أركان النصب، وأطلع بقدره شمس الحقّ من الغرب «1» ؛ الذي محا بعدله جور الظّلمة، وقصم بقوّته ظهر الغشمة «2» ؛ فعاد الأمر إلى نصابه، والحقّ إلى أربابه؛ البائن بذاته، المنفرد بصفاته، الظاهر بآياته، المتوحّد بدلالاته؛ لم تفنه الأوقات فتسبقه الأزمنة، ولم يشبه الصور فتحويه الأمكنة، ولم تره العيون فتصفه الألسنة؛ سبق كلّ موجود وجوده، وفات كلّ جود جوده؛ واستقرّ في كلّ عقل توحيده، وقام في كلّ مرأى شهيده.
أحمده كما يجب على أوليائه الشاكرين تحميده، وأستعينه على القيام بما يشاء ويريده، وأشهد له بما شهد أصفياؤه وشهوده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يشوبها دنس الشرك، ولا يعتريها «3» وهم الشكّ؛ خالصة من الإدهان، قائمة بالطاعة والإذعان.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، اصطفاه واختاره لهداية الخلق، وإقامة الحق؛ فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانه، وهدى من الضلاله؛ والناس حينئذ عن الهدى غافلون، وعن سبيل الحقّ ضالّون؛ فأنقذهم من عبادة الأوثان، وأمرهم بطاعة الرّحمن؛ حتى قامت حجج الله وآياته، وتمّت بالتبليغ كلماته؛ صلى الله عليه وعلى أوّل مستجيب إليه علىّ أمير المؤمنين، وسيّد الوصيّين؛ أساس الفضل والرحمة، وعماد العلم والحكمة؛ وأصل الشجرة الكرام البررة، النابتة [فى «4» ] الأرومة المقدّسة المطهّرة؛ وعلى خلفائه الأغصان البواسق [من تلك «5» الشجرة] ، وعلى ما خلص منها وزكا من الثمرة.(4/225)
أيّها الناس، اتقوا الله حقّ تقاته، وارغبوا في ثوابه واحذروا من عقابه، فقد تسمعون ما يتلى عليكم من كتابه؛ قال الله عزّ وجلّ: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)
. فالحذر ثمّ الحذر، فكأنّى وقد أفضت بكم الدنيا إلى الآخرة، وقد بان أشراطها، ولاح سراطها؛ ومناقشة حسابها، والعرض «1» على كتابها؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
. اركبوا سفينة نجاتكم قبل أن تغرقوا، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)
؛ وأنيبوا إليه خير الإنابة، وأجيبوا داعى الله على باب الإجابة؛ قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ...
- إلى قوله:- فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
. تيقّظوا من الغفلة والفترة، قبل الندامة والحسره؛ وتمنّى الكرّ والتماس الخلاص، ولات حين مناص؛ وأطيعوا إمامكم ترشدوا، وتمسّكوا بولاة العهود تهتدوا؛ فقد نصب الله لكم علما لتهتدوا به، وسبيلا لتقتدوا به؛ جعلنا الله وإياكم ممن تبع مراده، وجعل الإيمان زاده، والهمّة تقواه ورشاده؛ أستغفر الله العظيم لى ولكم ولجميع المؤمنين» . ثم جلس وقام وقال:
«الحمد لله ذى الجلال والإكرام، وخالق الأنام ومقدّر الأقسام، المنفرد بحقيقة البقاء والدوام؛ فالق الإصباح، وخالق الأشباح، وفاطر الأرواح؛ أحمده أوّلا وآخرا، وأشكره باطنا وظاهرا، وأستعين به إلها قادرا، و [أستنصره «2» ] وليّا ناصرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، شهادة من أقرّ بوحدانيته إيمانا، واعترف بربوبيته إيقانا؛ وعلم برهان ما يدعو إليه، وعرف حقيقة الدلالة عليه. اللهمّ وصلّ على وليّك الأزهر، وصديقك الأكبر؛ علىّ بن أبى طالب أبى الخلفاء الراشدين المهديّين. اللهمّ وصلّ على السّبطين الطاهرين(4/226)
الحسن والحسين؛ وعلى الأئمة الأبرار، والصفوة الأخيار؛ من أقام منهم وظهر، ومن خاف فاستتر. اللهمّ وصلّ على الإمام المهدىّ بك، والذي بلّغ «1» بأمرك، وأظهر حجّتك؛ ونهض بالعدل في بلادك، هاديا لعبادك. اللهمّ وصلّ على القائم بأمرك، والمنصور بنصرك، اللذين بذلا نفوسهما في رضائك، وجاهدا أعداءك. اللهمّ وصلّ على المعزّ لدينك، المجاهد في سبيلك؛ المظهر للآيات الخفيّه، والحجج الجلية. اللهمّ وصلّ على العزيز بك الذي مهّدت به البلاد، وهديت به العباد. اللهمّ واجعل نوامى صلواتك، وزواكى بركاتك؛ على سيّدنا ومولانا إمام الزمان، وحصن الإيمان؛ وصاحب الدعوة العلويّه، [و «2» ] الملّة النبويه؛ عبدك ووليّك المنصور أبى علىّ الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين؛ كما صلّيت على آبائه الراشدين، وأكرمت أجداده المهديّين.
اللهمّ وفّقنا لطاعته، واجمعنا على كلمته ودعوته؛ واحشرنا في حزبه وزمرته. اللهمّ وأعنه على ما ولّيته، واحفظه فيما استرعيته، وبارك له «3» فيما آتيته؛ وانصر جيوشه و [أعل] أعلامه في مشارق الأرض ومغاربها؛ إنك على كل شىء قدير» .
فلما سمع الخليفة القادر ذلك أزعجه وأرسل عميد الجيوش في تجهيز العساكر.
فلما بلغ قرواشا ذلك أرسل يعتذر للخليفة، وأبطل دعوة الحاكم من بلاده وأعادها للقادر على العادة.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من الأعراب، وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها ولّى الحاكم لؤلؤ بن عبد الله الشيرازىّ «4» دمشق، ولقّبه بمنتخب الدولة؛ فقدم إليها في جمادى الآخرة من الرقّة، ثم عزله عنها في يوم عيد الأضحى، وولّى عوضه(4/227)
أبا المطاع ذا القرنين «1» بن حمدان، وكان يوم الجمعة فصلّى لؤلؤ بالناس العيد وأبو المطاع الجمعة. وحمل لؤلؤ الى بعلبك، فقتل بها بأمر الحاكم.
وفيها توفّى أبو على الأمير عميد الجيوش واسمه الحسين بن [أبى «2» ] جعفر. كان أبوه من حجّاب عضد الدولة بن بويه؛ وجعل ابنه هذا برسم صمصام الدولة، فخدم المذكور صمصام الدولة وبهاء الدولة؛ فولّاه بهاء الدولة العراق، فقدمها والفتن قائمة، فقتل وصلب وغرّق حتى بلغ من هيبته أنه أعطى غلاما له صينيّة فضّة فيها دنانير، فقال: خذها على رأسك وسر من النجمى الى الماصر الأعلى، فإن اعترضك معترض فأعطه إياها واعرف المكان؛ فجاء الغلام وقد انتصف الليل، وقال مشيت الحدّ جميعه فلم يلقنى أحد.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الرّحمن أبو عبيد الهروىّ اللغوىّ المؤدّب، مصنّف الغريبين في اللغة، لغة القرآن ولغة الحديث، ومات في شهر رجب.
وفيها توفّى علىّ بن محمد أبو الفتح البستى «3» الكاتب الشاعر. قال الحاكم: «هو واحد عصره، وحدّثنى أنه سمع الكثير من أبى حاتم بن حبّان» . انتهى. قلت:
وهو صاحب النظم الرائق، والنثر الفائق. ومن كلامه النثر: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. عادات السادات، سادات العادات. ومن شعره رحمه الله تعالى:(4/228)
[الوافر]
أعلّل بالمنى روحى لعلّى ... أروّح بالأمانى الهمّ عنى
وأعلم أنّ وصلك لا يرجّى ... ولكن لا أقلّ من التمنّى
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 402]
السنة السادسة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة اثنتين وأربعمائة.
فيها في شهر ربيع الآخر كتب الخليفة القادر العباسىّ محضرا في معنى الخلفاء المصريّين والقدح في أنسابهم وعقائدهم، وقرئت النسخ ببغداد، وأخذت فيها خطوط القضاة والأئمة والأشراف بما عندهم من العلم بمعرفة نسب الديصانيّة؛ قالوا:" وهم منسوبون الى ديصان بن سعيد الخرّمى «1» إخوان الكافرين، ونطف الشياطين؛ شهادة يتقرّبون «2» بها الى الله، ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس؛ فشهدوا جميعا «3» أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم- حكم الله عليه بالبوار والخزى والنكال- ابن معدّ بن إسماعيل بن عبد الرّحمن بن سعيد- لا أسعده الله- فإنه لمّا صار الى المغرب تسمّى بعبيد الله وتلقّب بالمهدىّ، هو ومن تقدّمه «4» من سلفه الأرجاس الأنجاس- عليه وعليهم اللعنة- أدعياء(4/229)
خوارج لا نسب لهم في ولد علىّ بن أبى طالب، وأن ذلك باطل وزور، وأنهم لا يعلمون «1» أن أحدا من الطالبيّين توقّف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء. وقد كان هذا الإنكار شائعا بالحرمين في أوّل أمرهم بالمغرب، منتشرا انتشارا يمنع من أن يدلّس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم الى تصديقهم؛ وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه «2» كفّار وفسّاق فجّار زنادقة، ولمذهب الثنويّة «3» والمجوسيّة معتقدون؛ قد عطّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبيّة. وكتب في [شهر] ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة» . وكتب خلق كثير في المحضر المذكور منهم الشريف الرضى والمرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوىّ، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبى يعلى العلويّون، والقاضى أبو محمد عبد الله بن الأكفانىّ، والقاضى أبو القاسم الجزرىّ، والإمام أبو حامد «4» الإسفراينى، والفقيه أبو محمد الكشفلى «5» ، والفقيه أبو الحسين القدورىّ «6» الحنفىّ، والفقيه أبو على بن حمكان «7» وأبو القاسم «8» التنوخىّ، والقاضى أبو عبد الله(4/230)
الصّيمرىّ «1» . انتهى أمر المحضر باختصار. فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان فى أعين الناس لكتابة هؤلاء العلماء الأعلام في المحضر.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوىّ، وهبّت عليهم ريح سوداء وفقدوا الماء ولقوا شدائد.
وفيها توفّى أحمد بن مروان أبو نصر، وقيل: أبو منصور، ممهّد الدولة الكردىّ صاحب ميّافارقين. وقد ذكرنا مقتل الحسن «2» بن مروان على باب آمد، وأنهم من غير بيت في الرياسة، وأنهم وثبوا على ديار بكر وملكوها. ووقع لأحمد هذا أمور ووقائع وحروب.
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس بن أصبغ بن فطيس أبو المطرّف الإمام قاضى الجماعة بقرطبة، سمع الحديث وروى عنه جماعة، وكان من الحفّاظ وكبار العلماء، عارفا بعلل الحديث والرجال، وله مشاركة في سائر العلوم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن يحيى بن جميع أبو الحسين الصّيداوىّ الغسّانىّ. رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير، وروى عنه غير واحد. ولد سنة خمس وثلثمائة، وكان ثقة محدّثا كبير الشأن، ووفاته فى شهر رجب.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الحسين بن اللبّان البصرىّ العلامة صاحب الفرائض، سمع الحديث وبرع في الفرائض حتى إنه كان يقول:
ليس في الدنيا فرضىّ إلّا من أصحابى وأصحاب أصحابى «3» أو لا يحسن شيئا.(4/231)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 403]
السنة السابعة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثلاث وأربعمائة.
فيها في يوم الجمعة سادس عشر المحرّم قلّد الشريف الرضى نقابة الطالبييّن بسائر الممالك.
وفيها أرسل الحاكم صاحب الترجمة كتابا إلى السلطان محمود بن سبكتكين صاحب غزنة يدعوه الى طاعته، فبعث محمود بالكتاب إلى القادر بعد أن خرقه وبصق في وسطه.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق.
وفيها توفّى الحسن بن حامد بن على بن مروان أبو عبد الله الفقيه الحنبلىّ الورّاق، كان مدرّس الحنابلة وفقيههم، وله مصنّفات، منها كتاب" الجامع" أربعمائة جزء.
وهو شيخ القاضى أبى يعلى «1» الفرّاء، وكان معظّما في النفوس مقدّما عند السلطان، وكان زاهدا ورعا، ينسخ بالأجرة ويتقوّت منه.
وفيها توفّى السلطان فيروز أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه [بن] فنّاخسرو الديلمىّ، وقيل: اسمه خاشاد. وبهاء الدولة هذا هو الذي قبض على الخليفة الطائع وخلعه من الخلافة، وولّى القادر الخلافة(4/232)
عوضه، وقد ذكرنا ذلك في وقته. وكان بهاء الدولة ظالما غشوما سفّاكا للدماء، حتى إنه كان خواصّه يهربون من قربه. وجمع من المال ما لم يجمعه أحد من بنى بويه إلا إن كان عمه فخر الدولة المقدّم ذكره. ولم يكن في ملوك بنى بويه أظلم منه ولا أقبح سيرة. وكان به مرض الصرع يصرع في دست الملك؛ ورث ذلك عن أبيه، ومات به في أرّجان في يوم الاثنين خامس جمادى الاخرة. وكانت مدّة سلطنته أربعا وعشرين سنة وتسعة أشهر وأياما، ومات وله اثنتان وأربعون سنة وتسعة أشهر، وحمل من أرّجان إلى الكوفة. وتولّى الملك من بعده ولده أبو شجاع بعهد منه.
وفيها توفّى قابوس بن وشمكير أمير الجبال بنيسابور وغيرها. كان أيضا سيّئ السيرة، قتل جماعة من خواصّه وحجّابه ففسدت القلوب عليه، ودبّروا في قتله وقصدوا ابنه منوجهر، ولا زالوا به حتى قبض على أبيه قابوس هذا وقتله بالبرد «1» ، ثم قتل منوجهر جماعة ممن أشار عليه بقتل أبيه، وندم حين لا ينفع الندم.
وفيها توفّى الشريف محمد بن محمد بن عمر العلوىّ أبو الحارث نقيب الطالبيّين بالكوفة. كان شجاعا جوادا ديّنا رئيسا، كانت إليه النقابة مع تسييرا لحاجّ، حجّ بالناس عشر «2» سنوات، وكان ينفق عليهم [من ماله «3» ] ويحمل المنقطعين رحمه الله. ومات بالكوفة في جمادى الآخرة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن خلف الإمام أبو الحسن المعافرىّ القروىّ القابسىّ «4» الفقيه المالكىّ. كان عالم أهل إفريقيّة حجّ وسمع جماعة، وأخذ بإفريقيّة عن(4/233)
ابن مسرور «1» الدبّاغ وغيره، وكان حافظا للحديث وعلله، فقيها أصوليّا متكلّما مصنّفا صالحا، وكان أعمى لا يرى شيئا، وهو مع ذلك من أصحّ الناس كتبا وأجودهم تقييدا، يضبط كتبه ثقات أصحابه؛ والذي ضبط له صحيح البخارىّ بمكة رفيقه أبو محمد الأصيلىّ «2» .
وفيها توفّى محمد بن الطيّب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضى أبو بكر الباقلانى البصرىّ صاحب التصانيف في علم الكلام، سكن بغداد وكان في وقته أوحد زمانه، صنّف في الردّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهميّة «3» . وذكره القاضى عياض فى طبقات الفقهاء المالكية فقال: «هو الملقّب بسيف السنّة، ولسان الأمّة، المتكلّم على لسان أهل الحديث، وطريق أبى الحسن الأشعرىّ، وإليه انتهت رياسة المالكية» .
وفيها توفّى محمد بن موسى أبو بكر الخوارزمىّ الحنفىّ شيخ الحنفيّة وعالمهم ومفتيهم، انتهت إليه رياسة الحنفية في زمانه، وكان تفقّه على أبى بكر أحمد بن علىّ الرازىّ، وسمع الحديث من أبى بكر الشافعىّ، وروى عنه أبو بكر البرقانىّ «4» . قال القاضى أبو عبد الله الصّيمرىّ بعد ما أثنى عليه: «وما شاهد الناس مثله في حسن الفتوى [والإصابة فيها «5» ] وحسن التدريس. وقد دعى إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع تورّعا» . ومات في جمادى الأولى.(4/234)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاث وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 404]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربع وأربعمائة.
فيها قلّد فخر الملك الأمر، ولقّبه الخليفة القادر سلطان الدولة وعقد لواءه بيده، وقرئ تقليده، وكتب القادر خطّه عليه.
وفيها أبطل الحاكم المنجّمين من بلاده، وأعتق أكثر مماليكه، وجعل ولىّ عهده ابن عمه عبد الرّحيم بن إلياس وخطب له بذلك؛ وأمر بحبس النساء «1» فى البيوت، وصلحت سيرته.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو «2» الحسن محمد بن الحسن، وكذلك في سنة خمس «3» .
وفيها كانت الملحمة الهائلة بين ملك الترك طغان وبين ملك الصين، فقتل فيها من الكفّار نحو من مائة ألف، ودامت الحرب بينهم أياما، ثم انتصر المسلمون (أعنى الترك) ولله الحمد.
وفيها استولى الحاكم على حلب وزال ملك بنى حمدان منها.(4/235)
وفيها توفّى إبراهيم بن عبد الله بن حصن أبو إسحاق الغافقىّ محتسب دمشق من قبل الحاكم، وكان شهما في الحسبة؛ أدّب رجلا، فلما ضربه درّة، قال المضروب:
هذه في قفا أبى بكر؛ فلمّا ضربه أخرى قال: هذه في قفا عمر؛ فضربه أخرى فقال: هذه في قفا عثمان؛ ثم ضربه أخرى فسكت. فقال له الغافقىّ: أنت ما تعرف ترتيب الصحابة، أنا أعرّفك، وأفضلهم أهل بدر، لأصفعنّك على عددهم فصفعه ثلثمائة وستّ عشرة درّة؛ فحمل من بين يديه فمات بعد أيام. قلت: الى سقر. وبلغ الحاكم ذلك، فأرسل يشكره ويقول: هذا جزاء من ينتقص السلف الصالح. قلت: لعلّ هذه الواقعة كانت صادفت من الحاكم أيام صلاحه وإظهاره الزهد والتفقّه.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله، كان زاهدا عابدا لا ينام إلا عن غلبة، وكان لا يدخل الحمّام، ويأكل خبز الشعير؛ ومات في شعبان.
وفيها توفّى على بن سعيد الإصطخرىّ أحد شيوخ المعتزلة، صنّف للقادر" الردّ على الباطنية" وأجرى عليه القادر جراية سنيّة وحبسها من بعده على بنيه «1» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 405]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة خمس وأربعمائة.
فيها منع الحاكم النساء من الخروج من بيوتهنّ، وقتل بسبب ذلك عدّة نسوة.(4/236)
وفيها جلس الخليفة القادر ببغداد وأحضر العلويّين والعباسيّين والقضاة، وأحضر الخلع السلطانية ما عدا التاج ولواء واحدا، وقرئ عهد أبى طاهر ركن الدين بن بهاء الدولة، ولقّبه بجلال الدولة وجمال الملّة ركن الدين. قلت: وهذا أوّل لقب سمعناه في الإسلام (أعنى ركن الدين) . ولا أدرى متى لقّب به ابن بهاء الدولة المذكور، غير أننى سمعت من بعض علماء العجم أنّ ابن بهاء الدولة المذكور مشى بين يدى الخليفة القادر، فقال له الخليفة: اركب ركن الدين؛ فسمّى بذلك.
والله أعلم.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحسن محمد بن الحسن العلوىّ الأقساسىّ.
وفيها توفّى بدر بن حسنويه بن الحسين أبو النجم الكردىّ، كان من أهل الجبال، وولّاه عضد الدولة الجبال وهمذان ودينور ونهاوند وسابور وتلك النواحى بعد وفاة أبيه حسنويه. وكان شجاعا عادلا كثير الصدقات. والخليفة القادر كناه أبا النجم، ولقّبه ناصر الدولة، وعقد له لواء بيده.
وفيها توفّى بكر بن شاذان بن بكر أبو القاسم المقرئ الواعظ البغدادىّ، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وكان عابدا زاهدا، وكانت وفاته في شوّال.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو محمد بن الأكفانىّ الحنفىّ القاضى الأسدىّ، كان عالما ديّنا، ولد سنة ستّ عشرة وثلثمائة. قال أبو إسحاق الطبرىّ:
من قال: إن أحدا أنفق على العلم مائة ألف دينار غير أبى محمد [بن] الأكفانىّ فقد كذب. قلت: هذا هو العلم الخالص لوجه الله تعالى.
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحافظ أبو سعيد، كان أبوه من أستراباد وسكن سمرقند وصنّف" تاريخ سمرقند" وعرضه على الدارقطنىّ فاستحسنه، وكان ثقة.(4/237)
وفيها توفّى عبد السلام بن الحسين بن محمد أبو أحمد البصرىّ اللغوىّ، كان رجلا فاضلا عارفا «1» بالقرآن سمحا جوادا.
وفيها توفّى عبد العزيز بن عمرو «2» بن محمد بن يحيى بن حميد بن نباتة (ونباتة بضم النون «3» ) أبو نصر البغدادىّ، كان من الشعراء المجيدين، مات ببغداد في شوال. ومن شعره: [الكامل]
وإذا عجزت من العدوّ فداره ... وامزج «4» له إنّ المزاج وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدّها ... تعطى النّضاج وطبعها الإحراق
وفيها توفّى عبد «5» الغفار بن عبد الرّحمن أبو بكر الدينورىّ؛ لم يكن ببغداد مفت على مذهب سفيان الثورىّ غيره، وهو آخر من أفتى بجامع المنصور على مذهب الثورىّ.
قلت: لعلّ ذلك كان بالشرق، وأمّا بالغرب فدام مذهب الثورىّ بعد هذا التاريخ عدّة سنين. كان عبد العفار عالما فاضلا مناظرا، ومات في شوال.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابورىّ، ويعرف بابن البيّع، الضّبىّ، ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، كان أحد أركان الاسلام، وسيّد المحدّثين وإمامهم في وقته والمرجوع إليه في هذا الشأن؛ رحل [إلى] البلاد، وصنّف الكتب، وسمع الكثير، وروى عنه الجمّ الغفير، ومات في صفر.(4/238)
وفيها توفّى هبة الله بن عيسى، كاتب مهذّب «1» الدولة البطائحىّ ووزيره، كان فاضلا راوية للأخبار وشاعرا فصيحا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 406]
السنة العشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ستّ وأربعمائة.
فيها منع فخر الملك «2» يوم عاشوراء من النوح مخافة الفتنة؛ وكان الشريف الرضى قد توفّى في خامس المحرّم فاشتغلوا به؛ وكان قد وقع بالعراق وباء عظيم خصوصا بالبصرة. وفي صفر قلّد الشريف المرتضى نقابة الطالبيّين والحجّ والمظالم بعد موت أخيه الشريف الرضى بإشارة سلطان الدولة فخر الملك.
وفيها ولّى الحاكم ساتكين «3» سهم «4» الدولة دمشق، وعزله سنة ثمان.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق، وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الإسفراينى الفقيه الشافعىّ، كان إماما فقيها عالما، انتهت إليه رياسة مذهب الشافعىّ في زمانه. كان يقال: لو رآه الشافعىّ لفرح به. وكان يتوسّط بين الخليفة القادر وبين السلطان محمود بن سبكتكين. ومات ليلة السبت «5» لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوّال.(4/239)
وفيها توفى محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، الشريف أبو الحسن الرضى الموسوىّ؛ ولد سنة تسع وخمسين وثلثمائة. كان عارفا باللغة والفرائض والفقه والنحو، وكان شاعرا فصيحا، عالى الهمّة متديّنا، إلّا أنه كان على مذهب القوم إماما للشّيعة هو وأبوه وأخوه. ومن شعره من جملة أبيات:
[البسيط]
يا صاحبىّ قفالى واقضيا وطرا ... وحدّثانى عن نجد بأخبار
هل روّضت قاعة الوعساء أو مطرت ... خميلة الطّلح ذات البان والغار
تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار
وفيها توفّى محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الأصبهانىّ الفقيه المتكلّم، كان إماما عالما، استدعى الى نيسابور وتخرّج به جماعة في الأصول والكلام، وله فيهما تصانيف. وكان رجلا صالحا، سمع الحديث، وروى عنه أبو بكر البيهقىّ «1» وأبو القاسم القشيرىّ «2» وغيرهما. قتله محمود بن سبكتكين بالسمّ لكونه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا في حياته فقط، وإنّ روحه قد بطل وتلاشى، وليس هو في الجنة عند الله تعالى (يعنى روحه) صلى الله عليه وسلم.
وفيها كان الطاعون العظيم بالبصرة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.(4/240)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 407]
السنة الحادية والعشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة سبع وأربعمائة.
فيها وقعت القبّة الكبيرة التى على الصخرة ببيت المقدس.
وفيها كانت الفتنة بين الرافضة وأهل السنّة بواسط، ونهبت دور الشّيعة والعلويّين، وقصدوا علىّ بن مزيد «1» واستنصروا به.
وفيها احترق مشهد الحسين بن علىّ بكر بلاء من شمعتين غفلوا عنهما.
وفيها في أوّلها تشعّب الركن اليمانىّ من البيت الحرام.
وفيها كانت الوقعة بين سلطان الدولة وبين أخيه أبى الفوارس، وانهزم أبو الفوارس.
وفيها ملك السلطان محمود بن سبكتكين خوارزم.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن دوست أبو عبد الله، كان حافظا متقنا، مات في شهر رمضان.
وفيها توفّى سليمان بن الحكم الأموىّ المغربىّ صاحب الأندلس. وثب عليه رجلان ادّعيا أنهما من الأشراف وتغلّبا على الأندلس. وكانت مدّة ولاية سليمان هذا على الأندلس ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وانقطعت بموته ولاية بنى أميّة على الأندلس سبع سنين وثمانية أشهر وأيّاما، ثم عادت سنة أربع عشرة وأربعمائة.(4/241)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن خلف أبو غالب الوزير فخر الملك. أصله من واسط، وكان أبوه صيرفيّا؛ فتنقّلت به الأيام الى أن استوزره بهاء الدولة، وبعثه نائبا عنه إلى بغداد. وكان جوادا ممدّحا، أثّر ببغداد الآثار الجميلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 408]
السنة الثانية والعشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثمان وأربعمائة.
فيها عزل الحاكم ساتكين من إمرة دمشق، وكان ظالما غشوما، وهو الذي بنى جسر الحديد تحت قلعة دمشق، واتفق أنّ يوم فراغ الجسر [قال «1» ] :
لا يعبر غدا أحد عليه. فلما أصبح جلس على الباب ينظر إليه وقد عزم على أن يكون أوّل من يركب ويعبر عليه، واذا بفارس قد أقبل فعبر عليه؛ فأنكره وقال:
من أين؟ قال: من مصر؛ وناوله كتابا من الحاكم بعزله، فقال بعض أهل دمشق:
[الرمل]
عقد الجسر وقد حل عراه بيديه ... ما درى أنّ عليه يعبر العزل إليه
ولم يحجّ أحد في هذه السنين الى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة؛ أعنى من العراق.(4/242)
وفيها توفّى شباشى «1» المشطّب، ولقبه السعيد وكنيته أبو طاهر، مولى شرف الدولة بن عضد الدولة بن بويه. ولقّبه بهاء الدولة بالسعيد وذى الفضيلتين، ثم لقّب بهاء الدولة أبا الهيجاء بختكين «2» بالمناصح، وأشرك بينهما في أمور الأتراك ببغداد.
وكان السعيد هذا كثير الصدقات فائض المعروف والإحسان لأهل بغداد، كان يكسو الأيتام والضعفاء وينظر في حال الفقراء، وكان من محاسن الدنيا، وعاش بعد المناصح رفيقه ستّة أشهر ومات. وكان رفيقه المناصح أيضا من رجال الدهر وعقلائهم ومن أعلاهم همّة، ولم يخلف بعده مثله.
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن محمد أبو الفتح الطرسوسى المجاهد في سبيل الله، استوطن بيت المقدس بنية الرّباط، وتوفّى به.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 409]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسع وأربعمائة.
فيها توفّى عبد الله بن أبى علّان أبو محمد قاضى الأهواز وأحد شيوخ المعتزلة، كان فاضلا، صنّف الكتب الكثيرة في علم الكلام وغيره. ومن جملة تصانيفه:
كتاب جمع فيه فضائل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكر له فيه ألف معجزة؛ وكان له مال عظيم وضياع كثيرة.(4/243)
وفيها توفّى عبد الغنى بن سعيد بن على بن سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز ابن مروان الحافظ أبو محمد المصرىّ المحدّث المشهور، مولده في ثانى ذى القعدة سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وسمع الكثير، وبرع في علم الحديث، وصنّف الكتب:
منها كتاب «المؤتلف والمختلف «1» » ، وكان عالما بأسامى الرجال وعلل الحديث.
وكان الدار قطنىّ يعظّمه ويقول: ما رأيت في طريقى مثله، ما اجتمعت به وانفصلت منه إلا بفائدة. ومات بمصر في شوّال.
وفيها توفّى على بن نصر أبو الحسن مهذّب الدولة صاحب البطيحة، كان جوادا ممدّحا صاحب ذمّة ووفاء؛ وهو الذي استجار به القادر بالله قبل أن يتخلّف، فأجاره ومنع الطائع منه، وقام في خدمته أحسن قيام.
وفيها توفّى محمد بن الحسين أبو عبد الله العلوىّ؛ ولّاه الحاكم القضاء والنقابة والخطابة بدمشق، وكان في القضاء قبل ذلك نائبا عن مالك بن سعيد ابن أخت الفارقىّ قاضى قضاة الحاكم، وكانت وفاته بدمشق في شهر رمضان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 410]
السنة الرابعة والعشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة عشر وأربعمائة.
فيها جلس الخليفة القادر بالله ببغداد، وحضر القضاة والشهود وكتب عهد أبى الفوارس بن بهاء الدولة على كرمان وأعمالها، وبعث إليه بالخلع السلطانية على العادة.(4/244)
وفيها ورد كتاب السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين على الخليفة القادر بما فتحه من بلاد الهند وما وصل إليه من غنائمهم.
وفيها توفّى إبراهيم بن مخلد بن جعفر بن إسحاق أبو إسحاق الباقرحىّ، كان محدّثا صدوقا جيّد النقل حسن الضبط، من أهل الديانة والعلم والأدب، وكان يتفقّه على مذهب محمد بن جرير الطبرىّ.
وفيها توفى محمد بن المظفّر بن عبد الله أبو الحسن المعدّل «1» ، كان فاضلا شاعرا؛ مات ببغداد في جمادى الأولى.
وفيها توفّى هبة الله بن سلامة أبو القاسم الضرير البغدادىّ، كان من أحفظ الناس لتفسير القرآن، وسمع الحديث ورواه، وكان ثقة صالحا.
وفيها توفّى أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ أبو بكر الأصبهانىّ في شهر رمضان؛ قاله الذهبىّ. وكان إماما حافظا ثقة سمع الكثير، وروى عنه جماعة.
وفيها توفّى عبد الواحد بن محمد بن [عبد «2» الله بن محمد بن] مهدىّ الحافظ أبو «3» عمر الفارسىّ البزاز في شهر رجب عن إحدى وتسعين سنة وأشهر، وكان إماما فقيها محدّثا ثقة من كبار المشايخ.
وفيها توفّى عبد الصمد بن منصور بن الحسن بن بابك أبو القاسم الشاعر المشهور أحد الشعراء المجيدين المكثرين، وديوانه في ثلاثة مجلدات. ومن شعره بيت من جملة قصيدة في غاية الرقة:(4/245)
[الوافر]
ومرّ بى النسيم فرقّ حتّى ... كأنّى قد شكوت إليه مابى
ومات ببغداد. وبابك بفتح الباءين الموحدتين وبينهما ألف وفي الآخر كاف.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 411]
السنة الخامسة والعشرون من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى التى مات فيها الحاكم حسب ما ذكرناه في ترجمته. والسنة المذكورة سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
فيها توفّى محمد بن عبد الله بن أحمد أبو الفرج الدمشقىّ ويعرف بابن المعلّم، وهو الذي بنى الكهف بقاسيون «1» ، ويقال له كهف جبريل، وفيه المغارة التى يقال:
إنّ الملائكة عزّت آدم عليه السلام فيها لمّا قتل قابيل هابيل. وكان محمد هذا شيخا صالحا زاهدا عابدا، مات في شهر رجب، ودفن بمقبرة الكهف.
وفيها توفّى الحسن بن الحسن بن علىّ بن المنذر أبو القاسم، كان إماما فاضلا محدّثا؛ ومات ببغداد في هذه السنة.
وممن ذكر الذهبىّ وفاتهم، قال: وتوفّى أبو نصر أحمد بن محمد بن أحمد بن حسنون النّرسىّ «2» . والحاكم منصور بن العزيز العبيدىّ صاحب مصر (يعنى صاحب(4/246)
الترجمة) . وأبو القاسم الحسن بن الحسن بن علىّ بن المنذر ببغداد. وأبو القاسم علىّ بن أحمد الخزاعىّ ببلخ. انتهى.
- أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
ذكر ولاية الظاهر على مصر
هو الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم، وقيل: أبو الحسن، علىّ بن الحاكم بأمر الله أبى علىّ منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ والوفاة، الرابع من خلفاء مصر من بنى عبيد والسابع من المهدىّ. مولده بالقاهرة في ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلثمائة؛ وولى الخلافة بعد قتل أبيه الحاكم في شوّال من سنة إحدى عشرة وأربعمائة؛ حسب ما ذكرناه مفصّلا في أواخر ترجمة أبيه الحاكم، وقيام عمّته ستّ الملك في أمره.
وقال صاحب مرآة الزمان: «وولى الخلافة في يوم عيد النحر سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وله ستّ عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيّام وتمّ أمره» .
ووافقه على ذلك القاضى شمس الدين بن خلكان، لكنّه قال: «وكانت ولايته بعد أبيه بمدّة، لأنّ أباه فقد في السابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان الناس يرجون ظهوره، ويتّبعون آثاره إلى أن تحقّقوا [عدمه «1» ] ، فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر» . انتهى كلام ابن خلكان.(4/247)
وقال أبو المظفر في المرآة: وملك الظاهر لإعزاز دين الله سائر ممالك والده، مثل الشام والثغور وإفريقية، وقامت عمّته ستّ الملك بتدبير مملكته أحسن قيام، وبذلت العطاء في الجند وساست الناس أحسن سياسة. وكان الظاهر لإعزاز دين الله عاقلا سمحا جوادا يميل إلى دين وعفّة وحلم مع تواضع. أزال الرسوم التى جدّدها أبوه الحاكم الى خير، وعدل في الرعيّة وأحسن السيرة، وأعطى الجند والقوّاد الأموال، واستقام له الأمر مدّة؛ وولّى نوّابه بالبلاد الشامية، إلى أن خرج عليه صالح بن مرداس الكلابىّ وقصد حلب وبها مرتضى الدولة أبو [نصر بن «1» ] لؤلؤ الحمدانىّ نيابة عن الظاهر هذا؛ فحاصرها صالح المذكور إلى أن أخذها. ثم تغلّب حسّان بن المفرّج البدوىّ صاحب الرملة على أكثر الشأم؛ وتضعضعت دولة الظاهر، واستوزر الوزير نجيب الدولة علىّ بن أحمد الجرجرائىّ. وكان الوزير هذا من بيت حشمة ورياسة، وكان أقطع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم بأمر الله فى سنة أربع وأربعمائة؛ وكان يكتب عنه العلامة القاضى أبو عبد الله القضاعىّ، وكانت العلامة «2» «الحمد لله شكرا لنعمته» . ولم يظهر أمر هذا الوزير إلا بعد موت عمّة الظاهر ستّ الملك بعد سنة خمس عشرة وأربعمائة. وكان الظاهر لإعزاز دين الله كثير الصدقات منصفا من نفسه، لا يدّعى دعاوى والده وجدّه في معرفة النجوم وغيرها من الأشياء المنكرة، لا سيما لمّا وقع من بعض حجّاج المصريّين كسر الحجر الأسود بالبيت الحرام في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان أمر الحجر أنّه لمّا وصل الحاجّ المصرىّ الى مكة المشرّفة، وثب شخص من الحاجّ الى الحجر الأسود وهو مكانه من البيت الحرام، وضربه بدبّوس كان في يده حتى شعثه وكسر قطعا(4/248)
منه، وعاجله الناس فقتلوه؛ وثار المكيّون بالمصريّين فقتلوا منهم جماعة ونهبوهم، حتّى ركب أبو الفتوح الحسن بن جعفر فأطفأ الفتنة ودفع عن المصريّين. وقيل:
إنّ الرجل الذي فعل ذلك كان من الجهّال الذين استغواهم الحاكم وأفسد عقائدهم.
فلمّا بلغ الظاهر ذلك شقّ عليه وكتب كتابا في هذا المعنى.
قال هلال بن الصابئ:" وجدت كتابا كتب من مصر في سنة أربع عشرة وأربعمائة على لسان المصريّين، وهو كتاب طويل، فمنه:" وذهبت طائفة من النّصيريّة «1» الى الغلوّ «2» فى أبينا أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، رضوان الله عليه، غلت وادّعت فيه ما ادّعت النصارى في المسيح. ونجمت من هؤلاء الكفرة فرقة سخيفة العقول ضالّة بجهلها عن سواء السبيل؛ فغلوا فينا غلوّا كبيرا، وقالوا في آبائنا وأجدادنا منكرا من القول وزورا؛ ونسبونا بغلوّهم الأشنع، وجهلهم المستفظع، إلى ما لا يليق بنا ذكره. وإنا لنبرأ الى الله تعالى من هؤلاء الجهلة الكفرة الضّلّال «3» . ونسأل الله أن يحسن معونتنا على إعزاز دينه وتوطيد «4» قواعده وتمكينه، والعمل بما أمرنا به جدّنا المصطفى، وأبونا علىّ المرتضى، وأسلافنا البررة أعلام الهدى. وقد علمتم يا معشر أوليائنا ودعاتنا ما حكمنا به من قطع دابر هؤلاء الكفرة الفسّاق، والفجرة المرّاق؛ وتفريقنا لهم في البلاد كل مفرّق؛ فظعنوا في الآفاق هاربين، وشردوا مطرودين خائفين. وكان من جملة من دعاه الخوف منهم الى الانتزاح رجل من أهل البصرة أهوج أثول «5» ، ضالّ مضلّ، سار مع الحجيج الى مكّة- حرسها الله- فرقا «6» من وقع(4/249)
الحسام، وتستّرا بالحجّ الى بيت الله الحرام. فلمّا حصل في البيت المفضّل المعظّم، والمحل المقدّس «1» المكرّم؛ أعلن بالكفر وما كان يخفيه من المكر، وحمله [لمم في «2» عقله] على قصد الحجر الأسود حتّى قصده وضربه بدبّوس ضربات متواليات، أطارت منه شظابا وصلت بعد ذلك. ثم إنّ هذا الكافر عوجل بالقتل على أسوء حاله وأضلّ أعماله، وألحق بأمثاله من الكفرة الواردين موارد ضلاله؛ ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. ولعمرى إنّ هذه لمصيبة في الإسلام قادحة، ونكاية فادحة؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. لقد ارتقى هذا الملعون مرتقى عظيما ومقاما جسيما، أذكر به ما كان أقدم عليه غلام ثقيف المعروف بالحجّاج- لعنه الله- من إحراق البيت وهدمه، وإزالة بنيانه وردمه" ثم ذكر كلاما طويلا في هذا المعنى يطول الشرح في ذكره» . انتهى كلام ابن الصابئ.
وروى ابن ناصر بإسناد إلى أبى عبد الله محمد بن علىّ العلوىّ، قال:
" وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كسر الحجر الأسود لمّا صلّيت الجمعة يوم النّفر الأوّل بمنى، ولم يكن رجع الناس بعد من منى، قام رجل ممن ورد من ناحية مصر بيده سيف مسلول وبالأخرى دبّوس بعد ما قضى الإمام الصلاة، فقصد الحجر الأسود ليستلمه على الرسم، فضرب وجه الحجر ثلاث ضربات متواليات بالدبّوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر! ولا محمد ولا علىّ يقدران على منعى عما أفعله؛ إنى أريد أن أهدم هذا البيت وأرفعه. فاتّقاه الحاضرون وتراجعوا عنه، وكاد يفلت. وكان رجلا تامّ القامة أحمر اللون أشقر الشعر سمينا، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه؛ فاحتسب رجل من أهل اليمن أو من أهل مكّة أو غيرها نفسه،(4/250)
فوجأه بخنجر واحتوشه «1» الناس فقتلوه، وقطّعوه وأحرقوه بالنار، وثارت الفتنة؛ فكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين غير ما أخفى منهم. وتقشّر بعض وجه الحجر فى وسطه من تلك الضربات وتخشّن. وزعم بعض الحجّاج أنه سقط منه ثلاث قطع، وكأنه نقب ثلاثة نقوب، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار؛ وموضع الكسر أسمر يضرب إلى صفرة، محبّب مثل الخشخاش. فجمع بنو شيبة ما تفرّق منه وعجنوه بالمسك، وحشوا تلك المواضع وطلوها بطلاء من اللّك «2» فهو بيّن لمن تأمّله، وهو على حاله الى اليوم» . انتهى.
ثم بعد هذه الواقعة بلغ الظاهر هذا أنّ السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عظم أمره، فأحبّ أن يكتب إليه كتابا يدعوه إلى طاعته؛ فكتب إليه وارسل إليه بالخلع، وأن يخطب باسمه بتلك البلاد. وكان أبوه الحاكم بأمر الله أرسل إليه قبل ذلك، فخرق محمود بن سبكتكين كتاب الحاكم وبصق فيه؛ ومات الحاكم وفي قلبه من ذلك أمور، وقد ذكرنا ذلك في ترجمته. فلما علم الظاهر هذا بما كان والده الحاكم عزم عليه من أمر محمود المذكور أخذ هو أيضا في ذلك، وكاتب السلطان محمودا؛ فلم يلتفت محمود لكتابه، وبعث به وبالخلع الى الخليفة القادر العباسىّ، وتبرأ من الظاهر هذا. فجمع القادر القضاة والأشراف والجند وغيرهم ببغداد، وأخرج الخلع الى باب النوبىّ، وكانت سبع جبب وفرجّية ومركب ذهب، وأضرمت النار وألقيت الثياب فيها، وسبك المركب الذهب، فظهر منه أربعون ألف دينار وخمسائة، وقيل: أخرج منه دراهم هذا العدد؛ فتصدّق بها الخليفة القادر على ضعفاء بنى هاشم.
وبلغ الظاهر فقامت قيامته، وانكف عن مكاتبة محمود بعدها.(4/251)
وكان الظاهر ينظر في مصالح الرعيّة بنفسه وفي إصلاح البلاد. فلمّا وقع الفناء فى ذوات «1» الأربع في سنة سبع عشرة وأربعمائة، منع الظاهر من ذبح البقر السليمة من العيوب التى تصلح للحرث وغيره، وكتب على لسانه كتاب قرئ على الناس، فمنه:
«إن الله تعالى بتتابع نعمته وبالغ حكمته، خلق ضروب الأنعام، وعمل فيها منافع الأنام؛ فوجب أن تحمى البقر المخصوصة بعمارة الأرض، المذلّلة لمصالح الخلق؛ فإنّ فى ذبحها غاية الفساد، وإضرارا للعباد والبلاد» . وأباح ذبح مالا يصلح للعمل ولا يحصل به النفع. فمنع الناس ذبح البقر، وحصل بذلك النفع التام.
ومات في أيّام الظاهر المذكور مبارك الأنماطىّ البغدادىّ التاجر، وكان له مال عظيم، وكان قد خرج من بغداد الى مصر فتوفّى بها في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان معه ثلثمائة ألف دينار. فقال الظاهر: هل له وارث؟ فقيل: ماله سوى بنت ببغداد؛ فترك الظاهر المال كلّه للبنت ولم يأخذ منه شيئا.
وفي سنة عشرين وأربعمائة خرج على الظاهر بالبلاد الشاميّة صالح بن مرداس أسد الدولة وحسّان بن المفرّج بن الجرّاح، وجمعا الجموع واستوليا على الأعمال، وانتهيا الى غزّة. فجهز الظاهر لحربهما جيشا عليه القائد أنوشتكين منتخب الدولة التركىّ أمير الجيوش المعروف بالدّز برىّ «2» ، فالتقى معهما؛ فانهزم حسّان بن(4/252)
المفرّج، وقتل صالح وابنه الأصغر. وبعث الدّزبرىّ برأس صالح الى الظاهر بمصر، وأفلت نصر بن صالح الأكبر الى حلب. واستولى اللدزبرىّ على الشام ونزل على دمشق، وكتب الى الظاهر كتابا مضمونه النصر، ويعرّفه فيه بما جرى؛ وكان بينه وبينهما ملحمة هائلة. ولما فرغ الدزبرىّ من القتال مدحه مظفر «1» الدولة بن حيّوس بأبيات بسبب هذه الواقعة، أوّلها: [الكامل]
هل للخليط المستقلّ إياب ... أم هل لأيّام مضت أعقاب
يامىّ هل لدنوّ دارك رجعة ... أم للعتاب لديكم إعتاب
لا أرتجى يوما سلوّا عنكم ... هيهات سدّت دونه الأبواب
أوصاب جسمى من جناية بعدكم ... والصبر صبر بعدكم أو صاب
ولمصطفى الملك اعتزام المصطفى ... لمّا أحاط بيثرب الأحزاب
يومان للإسلام عزّ لديهما ... دين الإله وذلّت الأعراب
طلبوا العقاب ليسلموا بنفوسهم ... فابتزهم دون العقاب عقاب
واستشعروا نصرا فكان عليهم ... وتقطّعت دون المراد رقاب
كانوا حديدا في الوغى «2» لكنّهم ... لما اصطلوا نار المظفّر ذابوا
والقصيدة أطول من هذا، وكلّها على هذا النّموذج. ولمّا انهزم شبل الدولة نصر بن صالح المذكور الى حلب وملكها، طمع صاحب أنطاكية الرومىّ في حلب،(4/253)
وجمع الروم وسار اليها وأحاط بها وقاتل أهلها؛ فكبسه شبل الدولة نصر المذكور من داخلها ومعه أهل البلد فقتلوا معظم أصحابه؛ وانهزم ملكهم صاحب أنطاكية اليها في نفر يسير من أصحابه، وغنم نصر أموالهم وعساكرهم. وقيل: كبسه نصر المذكور على إعزاز «1» فغنم منه أموالا عظيمة. وسرّ الظاهر هذا بنصرة نصر لكون الإسلام يجمع بينهما. وكان المتغلّبون على البلاد في أيّام الظاهر كثيرين جدا، وذلك لصغر سنّه وضعف بدنه. ووقع له في أيّامه خطوب قاساها إلى أن توفّى بالقاهرة «2» فى يوم الأحد النصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وعمره إحدى وثلاثون سنة. وكانت ولايته على مصر ستّ عشرة سنة وتسعة أشهر.
وتولّى الملك بعده ابنه أبو تميم معدّ، ولقب بالمستنصر وسنه ثمانى سنين؛ وقام علىّ بن أحمد الجرجرائىّ الوزير بالأمر، وأخذ له البيعة، وقرّر للجند أرزاقهم، واستقامت الأحوال. وكانت وفاة الظاهر بعلّة الاستسقاء، طالت به نيّفا وعشرين سنة من عمره.
قلت: ولهذا أشرنا أنه كان كثرة من تغلب عليه لضعف بدنه وصغر سنه.
وكان الظاهر جوادا ممدّحا سمحا حليما محببا للرعيّة، ولا بأس به بالنسبة لآبائه وأجداده. وهو الذي بنى قصر اللؤلؤة عند باب القنطرة، وهو من القصور المعدودة بالقاهرة، وصار يتنزّه به هو ومن جاء بعده من خلفاء مصر من ذرّيته وأقاربه، وكان التوصل الى القصر من باب مراد «3» ، وصار الخلفاء يقيمون به في أيّام النيل.(4/254)
ودام أمر هذا القصر مستقيما إلى أن وقع الغلاه بالدّيار المصريّة في زمن المستنصر، وذهب من محاسن القاهرة شىء كثير من عظم الغلاء والوباء؛ كما سيأتى ذكره إن شاء الله في محلّه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 412]
السنة الأولى من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة.
فيها وقّع بين سلطان الدولة وبين مشرّف الدولة بن بويه، واستفحل في الآخر أمر مشرّف الدولة، وخطب له ببغداد في المحرّم، وخوطب بشاهنشاه مولى أمير المؤمنين، وقطعت الخطبة لسلطان الدولة من بغداد.
وفيها لم يحجّ أحد من العراقيّين ولا في الماضية. فقصد الناس يمين الدولة محمود بن سبكتكين وقالوا له: أنت سلطان الإسلام وأعظم ملوك الأرض، وفي كلّ سنة تفتح من بلاد الكفر ما تحبّه، والثواب في فتح طريق الحجّ أعظم، وقد كان الأمير بدر بن حسنويه، وما في أمرائك إلّا من هو أكبر منه [شأنا «1» ] ، يسيّر الحاجّ بماله وتدبيره عشرين سنة. فتقدّم ابن سبكتكين إلى قاضيه أبى محمد الناصحىّ بالتأهب للحجّ ونادى في أعمال خراسان بالحجّ، وأطلق للعرب ثلاثين ألف دينار سلّمها الى الناصحىّ المذكور غير ما للصدقات؛ فحجّ بالناس أبو الحسن الأقساسىّ. فلمّا بلغوا فيد «2» حاصرتهم العرب؛ فبذل لهم القاضى الناصحىّ خمسة آلاف دينار؛ فلم يقنعوا وصمّموا على أخذ الحاجّ؛ فركب رأسهم «3» جماز بن عدى وقد انضم عليه ألفا رجل من بنى نبهان،(4/255)
وأخذ بيده رمحا وجال حول الحاجّ، وكان في السّمرقندييّن غلام يعرف بابن عفّان، فرماه بسهم فسقط منه ميتا وهرب جمعه، وعاد الحاجّ في سلامة.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد أبو «1» سعيد المالينىّ «2» الصوفىّ الحافظ، سافر إلى الأقطار، وسمع خلقا كثيرا، وصنّف وصحب المشايخ، وكان يقال له طاوس الفقهاء.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ أبو علىّ الدقّاق النيسابورىّ أحد المشايخ، كان صاحب حال ومقال. قال القشيرىّ: سمعت الأستاذ أبا علىّ الدقّاق يقول في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:" من تواضع لغنىّ لأجل دنياه ذهب ثلثا دينه" قال:
لأنّ المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا خدمه بأركانه وتواضع له بلسانه ذهب ثلثا دينه، فإن خدمه بقلبه ذهب الكلّ.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد أبو الحسن بن رزقويه البغدادىّ البزّاز، ولد سنة خمس وعشرين وثلثمائة، ودرس الفقه، وسمع الحديث فأكثر؛ وكان ثقة صدوقا كثير السماع حسن الاعتقاد جميل المذهب.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن محمد بن موسى أبو عبد الرّحمن السّلمىّ النيسابورىّ الحافظ الكبير شيخ شيوخ الدنيا في زمانه، طاف الدنيا شرقا وغربا، ولقى الشيوخ الأبدال، وإليه المرجع في علوم الحقائق والسير وغيرها، وله المصنفات الحسان.
وفيها توفّى محمد بن عمر أبو بكر العنبرىّ الشاعر، مات يوم الخميس ثانى عشر جمادى الأولى ببغداد.(4/256)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 413]
السنة الثانية من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
فيها وقع الصلح بين سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن بويه وبين أخيه مشرّف الدولة على يد الأوحد أبى محمد وزير سلطان الدولة، وخطب لسلطان الدولة ببغداد كما كان أوّلا قبل الخلاف.
وفيها توفّى علىّ بن عيسى بن سليمان أبو الحسن القاضى المعروف بالسكرىّ الفارسىّ، مولده في صفر ببغداد سنة سبع وثلثمائة، كان فاضلا عالما مات في شعبان رحمه الله.
وفيها توفّى علىّ بن هلال الإمام الأستاذ أبو الحسن صاحب الخطّ المنسوب الفائق المعروف بابن البوّاب. كان أبوه بوّابا لبنى بويه، وقرأ هو القرآن وتفقّه وفاق أهل عصره في الخطّ المنسوب، حتى شاع ذكره شرقا وغربا. ومن شعر أبى العلاء المعرّى من قصيدة: [الطويل]
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بماء النّضار الكاتب ابن هلال
يعنى بابن هلال ابن البوّاب هذا. وقال هلال ابن الصابئ: دخل أبو الحسن البتّىّ «1» دار فخر الملك «2» ، فوجد ابن البوّاب هذا جالسا على عتبة الباب ينتظر خروج(4/257)
فخر الملك، فقال له: جلوس الأستاذ في العتب، رعاية للنسب «1» . فغضب ابن البواب وقال: لو كان لى الأمر ما مكنت مثلك من الدخول؛ فقال البتّىّ: حتى لا يترك الشيخ صنعته. انتهى. وقد قال فيه بعضهم: [البسيط]
هذا وأنت ابن بوّاب وذو عدم ... فكيف لو كنت ربّ الدار والمال
وفيها توفّى محمد بن [محمد «2» بن] النعمان أبو عبد الله فقيه الشيعة وشيخ الرافضة وعالمها ومصنّف الكتب في مذهبها. قرأ عليه الرضى والمرتضى وغيرهما من الرافضة، وكان له منزلة «3» عند بنى بويه وعند ملوك الأطراف الرافضة. قلت: كان ضالّا مضلّا هو ومن قرأ عليه ومن رفع منزلته؛ فإن الجميع كانوا يقعون في حقّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ عليهم من الله ما يستحقّونه. ورثاه الشريف المرتضى «4» ؛ ولو عاش أخوه لكان أمعن في ذلك، فإنّهما كانا أيضا من كبار الرافضة. وقد تكلّم أيضا في بنى بويه أنّهم كانوا يميلون إلى هذا المذهب الخبيث؛ ولهذا نفرت القلوب منهم، وزال ملكهم بعد تشييده.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 414]
السنة الثالثة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة أربع عشرة وأربعمائة.(4/258)
فيها دخل مشرّف الدولة بن بهاء الدولة إلى بغداد، وتلقّاه الخليفة في زبزب بأبّهة الخلافة؛ ولم يكن القادر لقى أحدا من الملوك قبله.
وفيها ورد كتاب السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين على الخليفة القادر أنه أوغل في بلاد الهند. وعنوان الكتاب:" عبد مولانا أمير المؤمنين وصنيعته محمود بن سبكتكين".
وفيها عادت دولة بنى أميّة إلى الأندلس بعد أن انقطعت سبع سنين.
وفيها توفّى الحسن «1» بن الفضل بن سهلان أبو محمد وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى [سور «2» ] الحائر بمشهد الحسين بكربلاء، وكان من كبار الشيعة، كان رافضيّا خبيثا، قبض عليه وصودر وسمل وحبس حتى مات.
وفيها توفّى محمد بن أحمد أبو جعفر النسفىّ الفقيه الحنفىّ العلّامة، صاحب التصانيف ومصنّف كتاب التعليقة «3» المشهورة وغيره. كان عالما فاضلا وورعا وزاهدا مفتنّا في علوم، وكانت وفاته في شعبان.
وفيها توفّى محمد بن الخضر بن عمر أبو الحسين الحمصىّ القاضى الفرضىّ، ولى القضاء بدمشق نيابة عن أبى عبد الله محمد بن الحسين النّصيبىّ، وكان نزها عفيفا.
مات بدمشق في جمادى الأولى.
وفيها توفّى تمّام بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد الحافظ أبو القاسم ابن الحافظ أبى الحسين الرازىّ ثم الدمشقىّ المحدّث. ولد بدمشق سنة(4/259)
ثلاثين وثلثمائة، وسمع الكثير وحدّث. قال أبو بكر الحدّاد: «ما لقينا مثل تمام فى الحفظ والخير» . مات في المحرّم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا:
*** [ما وقع من الحوادث سنة 415]
السنة الرابعة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة خمس عشرة وأربعمائة.
فيها حجّ من العراقيّين أبو الحسن الأقساسىّ ومعه حسنك صاحب محمود بن سبكتكين؛ فأرسل إليه الظاهر صاحب مصر خلعا وصلة، فقبلها حسنك ثم خاف من القادر فلم يدخل بغداد؛ وكاتب القادر ابن سبكتكين فيما فعل حسنك؛ فأرسل إليه حسنك بالخلع المصريّة، فأحرقها القادر. وكان حسنك أمير خراسان من قبل ابن سبكتكين.
وفيها ولى وزارة مصر للظاهر صاحب الترجمة نجيب الدولة علىّ بن أحمد الجرجرائىّ بعد موت ستّ الملك عمّة الظاهر.
وفيها منع الرافضة من النوح في يوم عاشوراء؛ ووقع بسبب ذلك فتنة بين الشيعة وأهل السنّة قتل فيها خلق كثير؛ ومنع الرافضة من النوح وعيد الغدير، وأيّد الله أهل السنة، ولله الحمد.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن أبو الفرج العدل البغدادىّ الفقيه الحنفىّ، ويعرف بابن المسلمة؛ مولده سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وسمع الحديث، وكان إماما عالما فاضلا صدوقا ثقة كثير المعروف، وداره مأوى لأهل العلم.(4/260)
وفيها توفّى سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة فيروز بن عضد الدولة بويه ابن ركن الدولة الحسن بن بويه بن فنّاخسرو الديلمىّ بشيراز. وكان مدّة ملكه اثنتى عشرة سنة وأشهرا، وتولّى الملك صبيّا؛ ومات وله ثلاث وعشرون سنة.
وقال صاحب مرآة الزمان: مات عن اثنتين وثلاثين سنة. انتهى. قلت:
وكان في مدّة ملكه وقع له حروب كثيرة مع أخيه مشرّف الدولة وخطب له ببغداد ثم اصطلحا، حسب ما ذكرناه؛ وخطب لمشرّف الدولة على عادته الى أن توفّى سلطان الدولة هذا.
وفيها توفّى عبد الله بن عبد الله بن الحسين أبو القاسم الخفّاف، كان يعرف بابن النقيب البغدادىّ، رأى الشّبلىّ وغيره، وسمع الكثير وكان سماعه صحيحا، وكان شديدا في السنة؛ ولما مات ابن المعلم فقيه الشيعة جلس رضى الله عنه للتهنئة؛ وقال: ما أبالى أىّ وقت متّ بعد أن شاهدت موته. وأقام عدّة سنين يصلّى الفجر بوضوء العشاء الآخرة. قلت: ومما يدلّ على دينه وحسن اعتقاده بغضه للشيعة عليهم الخزىّ. ولو لم يكن من حسناته إلّا ذلك لكفاة عند الله.
وفيها توفّى محمد بن الحسن الشريف أبو الحسن الأقساسىّ العلوىّ. هو من ولد زيد بن علىّ بن الحسين رضى الله عنه. حجّ بالناس من العراق سنين كثيرة نيابة عن المرتضى، وكان فاضلا شاعرا فصيحا، وهو أيضا من كبار الشيعة.
وفيها توفّى الأمير أبو طاهر بن دمنة صاحب آمد من ديار بكر. كان قتل ابن مروان صاحب ميّا فارقين وقتل عبد البر شيخ آمد واستولى عليهما من سنة سبع وثمانين وثلثمائة الى هذه السنة. وكان يصانع ممهد الدولة بن مروان، وأيضا يصانع شروة. فلمّا قتل شروة ممهد الدولة وولى أخوه أبو منصور، طمع هذا فى البلاد واستفحل أمره.(4/261)
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبىّ [أبو الحسن «1» ] المحاملىّ «2» الفقيه الشافعىّ، كان تفقّه بأبى حامد الإسفراينى وغيره، وكان إماما فقيها مصنّفا، مات في شهر ربيع الأول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 416]
السنة الخامسة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ستّ عشرة وأربعمائة.
فيها توفى في شهر ربيع الآخر السلطان مشرّف الدولة أبو على الحسن ابن السلطان أبى نصر فيروز بهاء الدولة ابن السلطان عضد الدولة بويه ابن السلطان ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمىّ. واستقر الأمر بعد موته على تولية جلال الدولة أبى طاهر، فخطب له على منابر بغداد وهو بالبصرة، وخلع على شرف الملك «3» أبى سعيد «4» بن ماكولا وزيره، ولقّبه علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك.
قلت: وهذا ثانى لقب سمعناه من اسم مضاف إلى الدين. وأوّل ما سمعنا من هذه الألقاب لقب بهاء الدولة بن بويه" ركن الدين". قلنا: لعل ذلك كان تعظيما في حقّه لكونه سلطانا، فيكون هذا على هذا الحكم هو أوّل لقب لقّب به في الإسلام؛ والله أعلم. ومن يومئذ ظهرت الألقاب وتغالت فيها الأعاجم، حتّى إنّهم لم يدعوا شيئا إلا وأضافوا الدين له، حتى اشتهر ذلك وشاع وسمّى به كلّ أحد حتى الأسالمة «5» ،(4/262)
فمنهم من يسمى جلال الدين، وسعد الدين، وجمال الدين، فلا قوة إلا بالله. وحقّ المغاربة في حنقهم ممن يلقّب بهذه الألقاب. وأنا بالله أحلف لو ملكت أمرى ما لقّبت بجمال الدين ولا غيره، وأكره من يسمينى بذلك ولا أقدر على تغيير الاصطلاح. وهذا لا يكون إلّا من ولىّ أمر أو حاكم بلدة. وقد خرجنا عن المقصود فنعود إلى ذكر مشرّف الدولة.
ومات مشرّف الدولة وله ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما.
وكانت مدّة ملكه خمس سنين وشهرا وخمسة وعشرين يوما. وكان شجاعا مقداما جوادا، إلا أنّه كان يميل إلى الشيعة على عادة آبائه وأجداده ميلا ليس بذاك، وينصر أهل السنة في بعض الأحيان. وكل ملوك بنى بويه كانوا على ذلك، غير أنهم كانوا يميلون في الباطن للشيعة. والله أعلم بحالهم.
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن عمر بن محمد بن سعيد أبو محمد التّجيبىّ المصرىّ البزّار، المعروف بابن النحاس، مسند ديار مصر في وقته. مولده ليلة النحر سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، ومات في عاشر صفر.
وفيها توفّى علىّ بن محمد أبو الحسن التّهامىّ الشاعر المشهور، كان من الشعراء المجيدين، وشعره في غاية الحسن. قدم القاهرة مستخفيا ومعه كتب كثيرة من حسّان بن المفرّج البدوىّ وهو متوجّه إلى بنى قرّة، فظفروا به فاعتقل بخزانة البنود في سادس عشرين شهر ربيع الآخر، ثم قتل سرّا في سجنه في تاسع جمادى الأولى. والتهامىّ بكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الهاء وبعد الألف ميم، هذه النسبة الى تهامة، وهى تطلق على مكّة حرسها الله. ومن شعر التهامىّ من جملة قصيدة: [السريع]
قلت لخلّى وثغور الرّبا ... مبتسمات وثغور الملاح
أيّهما أحلى ترى منظرا ... فقال لا أعلم كلّ أقاح(4/263)
وله بيت بديع من جملة قصيدة: [الكامل]
وإذا جفاك الدهر وهو أبو الورى ... طرّا فلا تعتب على أولاده
وفيها توفّى محمد بن يحيى بن أحمد بن الحذّاء أبو عبد الله القرطبىّ الحافظ المحدّث العلامة، سمع الكثير وروى الحديث، وكتب وصنّف، ومات في شهر رمضان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 417]
السنة السادسة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة سبع عشرة وأربعمائة.
فيها عاد جلال الدولة إلى البصرة، وقبض على وزيره أبى سعيد عبد الواحد بن أحمد بن جعفر بن ماكولا وعلى أبى «1» علىّ ابن عمه. ثمّ جرت أسباب استوجبت إطلاق ابن عمه؛ واستوزه جلال الدولة ولقّبه يمين الدولة وزير الوزراء، وخلع عليه.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الله بن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب أبو الحسن القرشىّ الأموىّ قاضى القضاة، كان عفيفا جليلا. قال القاضى أبو العلاء «2» : ما رأينا مثله جلالة وصيانة وشرفا.
وفيها توفّى محسّن بن عبد الله بن محمد أبو القاسم التنوخىّ اللغوىّ القاضى الحنفىّ، ولد يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وقدم دمشق مجتازا إلى الحجّ، فأدركه أجله في الطريق في ذى القعدة، فحمل إلى(4/264)
مدينة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودفن بالبقيع. وكان من أوعية العلم، وله مصنّفات كثيرة وشعر جيّد؛ من ذلك: [الطويل]
وكلّ أداريه على حسب حاله ... سوى حاسدى فهى التى لا أنالها
وكيف يدارى المرء حاسد نعمة ... إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد الإمام أبو بكر المروزىّ القفّال شيخ الشافعيّة بخراسان، كان يعمل الأقفال وحذق في عملها حتّى صنع قفلا بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبّات. فلما صار ابن ثلاثين سنة اشتغل بالعلم وتفقّه حتّى برع فيه وفاق أقرانه. ومات في جمادى الآخرة وله تسعون سنة.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن عمر بن حفص أبو الحسن بن الحمّامىّ، كان إماما محدّثا كبير الشأن، سمع وحدّث، ومات في شعبان عن تسع وثمانين سنة.
وفيها توفّى، فى قول الذهبىّ، عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه أبو حازم الهذلىّ العبدوىّ «1» الحافظ الكبير الرحّال، سمع الحديث وحدّث، وروى عنه غير واحد، ومات بنيسابور.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 418]
السنة السابعة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة.(4/265)
فيها خطب لجلال الدولة على المنابر ببغداد بعد أن منع الأتراك من ذلك وخطبوا لأبى كاليجار.
وفيها ورد كتاب للسلطان محمود بن سبكتكين على الخليفة القادر يخبر بما فتح من البلاد من أرض الهند، وكسره الصنم المعروف بسومنات «1» .
وفيها توفّى الحسين بن علىّ بن الحسين أبو القاسم الوزير المغربىّ، ولد بمصر فى ذى الحجّة سنة سبعين وثلثمائة، وهرب منها لمّا قتل الحاكم أباه عليّا وعمّه محمدا.
وقيل: إن أباه وزر للعزيز بمصر ثم للحاكم ابنه. وهرب الحسين هذا للعراق، وخدم بنى بويه، ووقع له بالشرق أمور، ووزر لغير واحد من ملوك الشرق.
وكان فاضلا عاقلا شاعرا شهما شجاعا كافيا في فنّه، حتى قيل: إنّه لم يل الوزارة لخليفة ولا ملك أكفى منه. ومن شعره قوله: [المجتث]
الدهر سهل وصعب ... والعيش مرّ وعذب
فاكسب بمالك حمدا ... فليس للحمد كسب
وما يدوم سرور ... فآختم وطينك رطب
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن هشام القرشىّ الأموىّ صاحب الأندلس، الذي كان لقّب نفسه في سنة أربع عشرة وأربعمائة بالمستظهر والمستكفى والمعتمد؛ وعاد ملك بنى أميّة إلى الأندلس بسببه؛ فلما كان في هذه السنة وثب الجند عليه فقتلوه؛ وانقطعت ولاية بنى أمية عن الأندلس إلى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.(4/266)
وكانت ولاة الأندلس من بنى أميّة أربعة عشر على عدد أسلافهم، ومدّة سنينهم مائتان وثمانون سنة، فأوّلهم عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو المطرّف الملقّب بالداخل، لكونه دخل المغرب؛ بويع سنة تسع وثلاثين ومائة في أيّام أبى جعفر المنصور العباسىّ. ثمّ ولى بعده ابنه هشام في سنة اثنتين وسبعين. ثم ولى بعده ابنه الحكم بن هشام بن عبد الرّحمن في سنة ثمانين ومائة. ثم ولى بعده ابنه عبد الرّحمن بن الحكم في سنة ستّ وثمانين ومائة. ثم ولى بعده ابنه محمد في سنة ثمان وثلاثين ومائتين. ثم ولى بعده ابنه المنذر بن «1» محمد سنة ثلاث وسبعين ومائتين ومات سنة خمس وسبعين، ولم يكن له ولد؛ فولى عبد الله ابن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرّحمن الداخل. ثم ولى بعده ابنه عبد الرّحمن سنة ثلثمائة. ثم ولى بعده الحكم بن عبد الرّحمن سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. ثم ولى بعده ابنه هشام سنة «2» سبعين وثلثمائة ومات سنة تسع وتسعين وثلثمائة بعد أن تغلّب عليه محمد بن هشام بن عبد الجبّار الملقّب بالناصر لدين الله؛ ثم غلب عليه سليمان بن الحكم. ثم ولى هشام بن الحكم بن عبد الرّحمن، ثم وقع خباط كبير؛ على ما يأتى ذكره في محلّه إن شاء الله.
وفيها توفّى الشريف أبو الحسن علىّ ابن طباطبا العلوىّ، كان فاضلا شاعرا فصيحا، مات ببغداد في ذى القعدة، وكان على مذهب القوم.
وفيها توفّى إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الإسفراينىّ الأصولىّ المتكلّم الفقيه الشافعىّ إمام أهل خراسان ركن الدين، وهو أوّل من لقّب من الفقهاء. كان(4/267)
إماما مفتنّا له التصانيف المشهورة، وكانت وفاته يوم عاشوراء بنيسابور. وقد تقدّم أن الألقاب ما تداول تسميتها إلّا من الأعاجم لحبّهم للرياسة «1» والتعظيم كما هى عادتهم.
وفيها توفّى معمر بن أحمد بن محمد بن زياد أبو منصور الأصبهانىّ الزاهد، كان من كبار المشايخ، وله قدم هائلة «2» فى الفقه والصلاح.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 419]
السنة الثامنة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة تسع عشرة وأربعمائة.
فيها ولّى الظاهر أمر دمشق لأمير الجيوش الدزبرىّ، وكان شجاعا شهما واسمه أبو منصور أنوشتكين التركىّ.
وفيها توفّى محمد بن عمر بن يوسف أبو عبد الله بن الفخّار القرطبىّ المالكىّ الحافظ عالم الأندلس في عصره، سمع الحديث وحدّث وحجّ وجاور بالمدينة وأفتى بها، وكان إماما عالما زاهدا ورعا متقشّفا عارفا بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء، يحفظ المدوّنة حفظا جيدا.
وفيها توفّى حمزة بن إبراهيم أبو الخطاب، كان بلغ من بهاء الدولة بن بويه منزلة عظيمة لم يبلغها غيره، كان يعلّمه النجوم. وكان حاكما على الدولة والوزراء، والقوّاد يخافونه، وما كان يقنع من الوزراء بالقليل. ولما فتح فخر الملك قلعة سابور حمل إليه مائة ألف دينار فاستقلّها؛ وما كان بهاء الدولة يخالفه أبدا.(4/268)
وفيها توفّى عبد المحسن بن محمد بن أحمد غالب بن غلبون أبو محمد الصورىّ الشاعر المشهور. كان أبو الفتيان بن حيّوس مغرى بشعره، ويفضّله على أبى تمّام والبحترىّ والمتنبى؛ فقال أبو العلاء المعرّى:" الأمراء لا يناظرون" (يعنى أنّه ليس فى هذا المقام) . وكان أبو الفتيان يقول: إن أغزل ما قيل قول جرير:
[البسيط]
إنّ العيون التى في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وقال الصورىّ أغزل منهما، وهو قوله: [الرمل]
بالذى ألهمّ تعذي ... بى ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبى فأجابا
قلت: وقال غير ابن حيّوس: إن أرقّ ما قيل قول القائل:
[الطويل]
عيون عن السحر المبين تبين ... لها عند تحريك القلوب سكون
إذا أبصرت قلبا خليّا من الهوى ... تقول له كن مغرما فيكون
ومن شعره أيضا: [المتقارب]
صددت فكنت مليح الصدود ... وأعرضت أفديك من معرض
ومن كان في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضى
وله أيضا: [الكامل]
[و «1» ] تريك نفسك في معاندة الورى ... رشدا ولست إذا فعلت براشد
شغلتك عن أفعالها أفعالهم ... هلّا اقتصرت على عدوّ واحد(4/269)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد الفقيه أبو الحسن البغدادىّ الحنفىّ، ولد سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وسمع الكثير ورواه، وكان يتّجر وله مال عظيم، صادره ملوك بنى بويه حتى افتقر، ومات فلم يكفّن حتّى بعث إليه الخليفة كفنا.
ومات ولم يكن في زمانه أعلى سندا منه. وكان صدوقا صالحا ثقة فقيها فاضلا عالما.
وفيها توفّى أبو الفوارس قوام الدولة بن بهاء الدولة فيروز بن عضد الدولة بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمىّ. كان عزم على نقض الصلح بينه وبين أخيه أبى كاليجار فعاجلته منيّته فمات في ذى القعدة، وحمل تابوته الى شيراز فدفن في تربة عماد الدولة بن بويه.
وفيها هلك قسطنطين أخو بسيل ملك الروم، وبعد موته انتقل الملك إلى بنت له وزوجها، وهو ابن خالها، يسمى أرمانوس، ولم يكن من بيت الملك، وجعلت ولاية العهد في أرمانوس المذكور، ولبس الخفّ الأحمر، وتسمّى قيصرا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 420]
السنة التاسعة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة عشرين وأربعمائة.
فيها وقع بالعراق برد في الواحدة مائة وخمسون رطلا كانت كالثور النائم، ونزلت فى الأرض مقدار ذراع؛ قاله أبو المظفر في مرآة الزمان.(4/270)
وفيها فسد الأمر بين قرواش صاحب الموصل وبين أبى «1» نصر بن مروان صاحب ميّافارقين. وسببه أن قرواشا كان تزوّج ببنت أبى نصر المذكور فأقامت عنده مدّة، ثمّ هجرها؛ فطلبها أبو نصر فنقلها إليه، وهذا أوّل الشر.
وفيها توفّى على بن عيسى بن الفرج «2» أبو الحسن الرّبعىّ صاحب أبى علىّ الفارسىّ، قرأ الأدب ببغداد على السّيرافىّ، وخرج الى شيراز ودرس بها النحو على الفارسىّ عشرين سنة، ثم عاد الى بغداد وأقام بها باقى عمره. خرج يوما يمشى على جانب الشطّ، فرأى الشريف الرضى والمرتضى في سفينة ومعهما عثمان بن جنىّ النحوىّ، فصاح أبو الحسن: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون «عثمان» جالسا فى صدر السفينة «وعلى» يمشى على الحافة؛ فضحكا وقالا: باسم الله. قلت:
وهذا مما يدل على أن الرضى والمرتضى كانا يصرّحان بالرفض.
وفيها توفّى الأستاذ الأمير المختار عزّ الملك محمد بن أبى القاسم عبد الله بن أحمد ابن إسماعيل بن عبد العزيز المعروف بالمسبّحىّ الكاتب، الحرانىّ الأصل المصرىّ المولد والمنشأ، صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنّفات. قال ابن خلكان:
«كانت فيه فضائل ولديه معارف، ورزق حظوة في التصانيف، واتصل بخدمة الحاكم العبيدىّ. قال: وتاريخه ثلاثة عشر ألف ورقة» انتهى. قلت: وله عدّة تصانيف أخر. مات في شهر ربيع الآخر. والمسبحى: بضم الميم وفتح «3» السين المهملة وكسر الباء الموحدة ثانية الحروف وفي آخرها حاء مهملة. قال السمعانىّ: هذه النسبة إلى الجدّ.(4/271)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 421]
السنة العاشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
فيها عملت الرافضة النّوح في يوم عاشوراء بالكرخ، ووقع بينهم وبين أهل السنّة وقعة قتل فيها جماعة من الفريقين.
وفيها خطب للأمير أبى سعيد مسعود بن محمود بن سبكتكين بعد موت أبيه بأرمينية والأطراف.
وفيها عاد جلال الدولة إلى بغداد من واسط. ولم يحجّ أحد من العراقيّين فى هذه السنة، وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن ويعرف بابن الدان «1» ، أصله من الجزيرة وسكن دمشق، وكان يعظ، وكان صاحب مقالات وكرامات، وهو معدود من المشايخ.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن العاص بن أحمد بن سليمان بن عيسى بن درّاج أبو عمر القسطلّىّ الشاعر المشهور. قال ابن حزم: كان عالما بنقد الشعر، لو قلت إنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن درّاج لم أبعد. وهو من مدينة قسطلّة درّاج،(4/272)
وقيل هو اسم ناحية. وكان من كتّاب الإنشاء في أيّام المنصور بن أبى عامر.
ومن شعره من جملة قصيدة طويلة: [الطويل]
أضاء لها فجر النّهى فنهاها ... عن المدنف المضنى بحرّ هواها
وضلّلها صبح جلا ليله الدجى «1» ... وقد كان يهديها إلىّ دجاها
وفيها توفى السلطان يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين [ابن «2» ] الأمير ناصر الدولة أبى منصور صاحب غزنة وغيرها. كان السلطان محمود هذا يلقّب قبل السلطنة بسيف الدولة، وكان من عظماء ملوك الدنيا، وفتح عدّة بلاد من الهند وغيرها، واتسعت مملكته [حتّى بلغت أوقافه «3» عشرة آلاف قرية، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال والجواهر] ؛ وكان ديّنا خيّرا متعبّدا فقيها على مذهب أبى حنيفة.
وما حكاه ابن خلكان من قصّة القفّال في صلاة الحنفيّة بين يدى ابن سبكتكين المذكور ليس لها صحّة؛ يعرف ذلك من له أدنى ذوق من وجوه عديدة؛ فإنّ محمودا المذكور كان قد قرأ في ابتداء أمره وبرع في الفقه والخلاف وصار معدودا من العلماء، وصنّف كتابا في فقه الحنفيّة قبل سلطنته بمدّة سنين، وذلك قبل أن يشتهر القفّال. فمن يكون بهذه المثابة لا يحتاج الى من يعرّفه الصلاة على المذاهب الأربعة بل ولا غيرها؛ وأصاغر الفقهاء من طلبة العلم يعرفون الخلاف في مثل هذه المسألة.
وأيضا حاشا القفّال من أن يقع في مثل هذه القبائح من كشف العورة والضراط فى الملأ وتحكيم رجل نصرانىّ في قراءة كتب المذهبيين والافتراء على مذهب الإمام(4/273)
الأعظم أبى حنيفة؛ وما ثمّ أمر يحتاج الى ذلك ولا ألجأت الضرورة الى أن يفعل بعض ما قيل عنه. وإنما محمود بن سبكتكين رجل من المسلمين لا يزيد في الحنفيّة ولا ينقص من الشافعيّة؛ ولعلّ بعض الفقراء يكون أفضل منه عند الله تعالى. وهأنا لم أكن مثل القفّال في كثرة علومه بل ولا أصاغر تلامذته، لو قيل لى: افعل بين يدى السلطان بعض ما قيل عن القفّال لا أرضى بذلك، ولا ألتفت الى السلطان ولا الى غيره، ولا أهزأ بصلاة مسلم كائن من كان. فهذا كله موضوع على القفّال من أهل التحامل والتعصّب. فنعوذ بالله من الاستخفاف بالعلماء والوقوع في حقّهم، ونسأل الله السلامة في الدين. وكانت وفاة السلطان محمود في جمادى الأولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى. وتولّى بعده الملك ابنه مسعود بن محمود الآتى ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 422]
السنة الحادية عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
فيها قتل أبو [علىّ «1» ] الحسن [بن «2» ] علىّ بن ماكولا بالأهواز، قتله غلام له يعرف بعدنان، كان يجتمع مع امرأة في داره، ففطن بهما، فعلما بذلك فخافا منه، وساعدهما فرّاش كان في داره، فغمّوه بشىء وعصروا خصاه حتّى مات، وأظهروا أنه مات فجأة؛ فأخذ الغلام والفرّاش وضربا فأقرّا بما وقع من أمره، فصلبا وحبست المرأة فى دار.(4/274)
وفيها أخذ ملك الروم مدينة الرّها.
وفيها ولد بمدينة إسكاف «1» ولد له رأس وبقيّة بدنه كالحيّة، فنطق ساعة مولده وقال: الناس تحت غضب منذ أربع سنين، والواجب أن يخرجوا فيستسقوا «2» ليكشف عنهم البلاء. فكتب قاضى «3» إسكاف للخليفة بذلك، فاجتمع الناس واستسقوا فلم يسقوا.
وفيها توفّى الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد ابن الأمير أبى أحمد إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد أحمد ابن الأمير أبى أحمد طلحة الموفق ابن الخليفة جعفر المتوكّل ابن الخليفة محمد المعتصم ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد القبض على الطائع عبد الكريم في حادى عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، ومولده في سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة. وأمّه أمّ ولد تسمى يمنى، ماتت في خلافته.
وتوفّى ليلة الاثنين حادى عشر ذى الحجّة، ودفن ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء.
وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر؛ وهو أطول الخلفاء العبّاسيّة مدّة، لا نعلم خليفة أقام في الخلافة هذه المدّة من بنى العبّاس ولا غيرهم إلا المستنصر معدّا العبيدىّ الآتى ذكره، فإنه أقام في خلافة مصر ستيّن سنة. وتخلّف بعد القادر ابنه أحمد ولقّب بالقائم بأمر الله. وكان القادر- رحمه الله- أبيض كثّ اللحية يخضب؛ وكان ديّنا خيّرا حسن الاعتقاد أمّارا بالمعروف فاضلا. صنّف(4/275)
كتبا كثيرة في فنون من العلم، منها كتاب في أصول الدين، وكتاب في فضائل الصحابة وعمر بن عبد العزيز، وكتاب كفّر فيه القائلين بخلق القرآن. وكان كثير الصيام والصدقات، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى عبد الوهاب بن علىّ بن نصر بن أحمد القاضى أبو محمد البغدادىّ المالكىّ الفقيه، سمع الحديث وروى عنه غير واحد، وكان شيخ المالكيّة فى عصره وعالمهم؛ وصنّف كتاب «التلقين» وشرح الرسالة وغير ذلك.
وفيها توفّى يحيى بن نجاح أبو الحسين بن القلّاس الأموىّ مولاهم القرطبىّ.
رحل الى البلاد وسمع الكثير وحجّ واستوطن مصر. وكان عالما ورعا ديّنا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 423]
السنة الثانية عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
فيها بعث الظاهر صاحب الترجمة بكسوة الكعبة فكسيت.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق ولا من خراسان وحجّ الناس من مصر.
وفيها رأى رجل من أهل أصبهان في النوم أن شخصا وقف على منارة أصبهان وقال:" سكت «1» نطق، نطق سكت". فآنتبه وجكى للناس، فما عرف أحد معناه؛ فقال رجل: يأهل أصبهان، احذروا فإن أبا العتاهية الشاعر يقول:
سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق(4/276)
فما كان بعد ذلك إلا قليل، ودخل عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكين ونهب البلد وقتل عالما لا يحصى.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن البصرىّ الحافظ الشاعر. قال محمد بن علىّ الصورىّ: لم أر ببغداد أكمل منه. وجمع بين معرفة الحديث وعلم الكلام والأدب والفقه والشعر. ومن شعره وأجاد: [المتقارب]
إذا عطّشتك أكفّ اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريّا
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهمّة هامته في الثريّا
وفيها توفّى محمد بن الطيب بن سعيد «1» بن موسى أبو بكر الصبّاغ البغدادىّ، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وسمع الكثير. قال أبو بكر الخطيب: كتبت عنه، وكان صدوقا ثقة. وقال رئيس الرؤساء أبو القاسم علىّ بن الحسن: تزوّج محمد بن الطيب زيادة على تسعمائة امرأة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم عبد الرّحمن ابن عبد الله الحربىّ الحرفىّ في شوّال وله سبع وثمانون سنة. وأبو الحسن علىّ بن أحمد النّعيمىّ المحدّث الأديب. وأبو الفضل منصور بن نصر بن عبد الرّحيم ابن بنت السّمرقندىّ الكاغدىّ في ذى القعدة، وقد قارب المائة. انتهى كلام الذهبى.
وفيها كان الطاعون ببلاد الهند والعجم وعظم الى الغاية، وكان أكثره بغزنة وخراسان وجرجان والرىّ وأصبهان ونواحى الجبل الى حلوان، وامتدّ الى الموصل والجزيرة وبغداد، حتى قيل: إنّه خرج من أصبهان وحدها أربعون ألف جنازة، ثم امتدّ الى شيراز.(4/277)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 424]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة أربع وعشرين وأربعمائة.
فيها عملت الرافضة المأتم ببغداد في يوم عاشورا على العادة، فأقام بذلك «1» العيّارون. أعنى عن الزعران «2» الذين كانوا غلبوا على بغداد، وعجزت الحكّام عنهم.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن أحمد أبو الحسين المعروف بابن السّماك الواعظ البغدادىّ، مولده سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، وكان يعظ بجامع المنصور والمهدىّ ويتكلم على طريق الصوفية، وكان لكلامه رونق، غير أنهم تكلموا فيه؛ وكانت وفاته ببغداد في ذى الحجة من السنة.
وفيها في المحرّم خرجوا ببغداد للاستسقاء بسبب القحط.
وفيها ثار أهل الكرخ بالعيّارين فهربوا، وكبسوا دورهم ونهبوا سلاحهم، وطلبوا من السلطان المعاونة. وسبب ذلك أن العيّارين نهبوا تاجرا فغضب له أهل سوقه، فرد العيّارون بعض ما أخذوا؛ ثم كبسوا دار ابن العلواء «3» الواعظ وأخذوا ماله، ثمّ فعلوا ذلك بجماعة كثيرة، حتّى قام عليهم أهل الكرخ، ووقع بينهم بسبب ذلك قتال وحروب يطول شرحها.(4/278)
وفيها توفى أبو بكر بن محمد بن إبراهيم الأردستانىّ «1» ، كان إماما زاهدا فاضلا معدودا من كبار المشايخ، وله كرامات وأحوال.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 425]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
فيها هبّت بنصيبين ريح سوداء قلعت معظم شجرها، وكان بين البساتين قصر عظيم فرمته من أصله.
وفيها زلزلت الرملة زلزلة هدمت ثلث مدينة الرملة، ونزل البحر مقدار ثلاثة فراسخ، فنزل الناس يصيدون السمك، فرجع عليهم فغرق من لم يحسن السباحة.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الرّحمن أبو العبّاس القاضى الأبيوردىّ، ولد سنة سبع وخمسين وثلثمائة، وتولّى القضاء بالجانبين ببغداد، وسمع الحديث ورواه؛ وكان عالما ورعا مفتنا، يصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح، وكان فقيرا ويظهر الثروة «2» ، ومات في جمادى الأولى، ودفن بباب «3» حرب.(4/279)
وفيها توفّى أحمد بن محمد [بن أحمد «1» ] بن غالب الحافظ أبو بكر الخوارزمىّ، ولد سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة، ورحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث، وكان إماما فى اللغة والفقه والحديث، ومات في يوم الاربعاء غرّة شهر رجب.
وفيها توفّى عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث أبو الفرج التميمىّ الفقيه الحنبلىّ الواعظ، ولد سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، وسمع الحديث ورواه، وكان فقيها محدّثا واعظا؛ وكانت وفاته في شهر ربيع الأوّل ببغداد، ودفن عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل رضى الله عنه.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله أبو عبد الله بن باكويه الشيرازىّ أحد مشايخ الصوفية، كان أوحد زمانه، وله كرامات وإشارات، ولقى خلقا من المشايخ وحكى عنهم، وسمع الحديث الكثير وروى عنه خلق كثير.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو بكر أحمد بن محمد ابن أحمد بن غالب البرقانىّ الحافظ في رجب وله تسع وثمانون سنة. وأبو علىّ الحسن «2» بن أبى بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز «3» فى آخر يوم من السنة، وولد فى ربيع الأوّل عام تسعة وثلاثين وثلثمائة. وأبو سعيد عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله ابن بندار بن شبانة «4» الهمذانىّ. وأبو الحسن عبد الرّحمن بن محمد بن يحيى الجوبرىّ «5»(4/280)
فى صفر. وأبو نصر عبد الوهّاب بن عبد الله بن عمر المرىّ الدمشقىّ. وأبو الفضل عمر بن أبى سعد ابراهيم بن إسماعيل الهروىّ الزاهد. وأبو بكر محمد بن علىّ بن إبراهيم ابن مصعب الأصبهانى التاجر. انتهى كلام الذهبىّ.
وفيها وقع الطاعون بشيراز، فكانت الأبواب تسدّ على الموتى؛ ثم انتقل إلى واسط وبغداد والبصرة والأهواز وغيرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 426]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة ست وعشرين وأربعمائة.
فيها استولى العيّارون على بغداد وملكوا الجانبين (أعنى الحراميّة) قال:
ولم يبق للخليفة ولا لجلال الدولة معهم حكم. وكان العيّارون في دور الأتراك والحواشى يقيمون نهارا ويخرجون ليلا، والأتراك والحواشى تقوم معهم في الباطن، فكانوا يخرجون ليلا ويعملون العملات، وأفسدوا وفعلوا أفعالا قبيحة، وأظهروا الإفطار في شهر رمضان نهارا، وكان ذلك كلّه بمواطأة الأتراك.
وفيها ورد كتاب مسعود بن محمود بن سبكتكين على الخليفة أنّه افتتح جرجان وطبرستان، وغزا الهند وافتتح بلادا كثيرة.
وفيها توفّى أحمد بن كليب الشاعر المغربىّ. قال أبو عبد الله محمد بن أبى نصر الحميدىّ «1» فى تاريخه: «كان أحمد هذا يهوى أسلم بن حمد بن سعيد قاضى قضاة(4/281)
الأندلس؛ وكان أسلم من أحسن أهل زمانه؛ فافتتن به وقال فيه الأشعار الرائقة» .
ثم سكت الحميدىّ ولم يذكر ما قاله في أسلم المذكور من الأشعار.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان أبو علىّ البزّاز «1» ، إمام محدّث مشهور من أهل بغداد، ولد سنة تسع وثلاثين وثلثمائة؛ سمع خلقا كثيرا، وكان صالحا ثقة صدوقا.
وفيها توفّى الحسن بن عثمان بن أحمد بن الحسين بن سورة أبو عمر الواعظ البغدادىّ، سمع الحديث وتفقه، وكان شيخا، له لسان حلو في الوعظ، وكان له شعر على طريق القوم؛ فمنه قوله: [الطويل]
دخلت على السلطان في دار عزّه ... بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل
فقلت انظروا ما بين فقرى وملككم ... بمقدار ما بين الولاية والعزل
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 427]
السنة السادسة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهى سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وفيها كانت وفاته، حسب ما تقدّم في ترجمته.
فيها (أعنى سنة سبع وعشرين) أرسل الظاهر قبل موته خمسة آلاف دينار، فصلّح بها نهر ينتهى الى الكوفة ويرد إليه ماء الفرات؛ وجاء أهل الكوفة يستأذنون القائم بأمر الله في ذلك، فثقل عليه وسأل الفقهاء؛ فقالوا: هذا مال تغلّب عليه من فيء المسلمين، فصرفه في هذا الوجه؛ فأذن لهم القائم في ذلك.(4/282)
وفيها لم يحجّ أحد من العراق، وحجّوا من الشام ومصر.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبىّ صاحب التفسير المشهور.
قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزىّ: «ليس فيه ما يعاب به إلا ما ضمّنه من الأحاديث الواهية التى هى في الضعف متناهية خصوصا في أوائل السور» .
وفيها توفّى الحسن بن وهب أبو علىّ الكاتب المجوّد، كان فاضلا إماما مجوّدا، وخطّه معروف مشهور بالحسن.
وفيها توفّى حمزة بن يوسف بن إبراهيم الجرجانىّ الحافظ، هو من ولد هشام ابن العاص بن وائل السهمىّ، وكان عالما فاضلا، رحل في طلب العلم، وسمع الحديث الكثير، وقال أنبأنا الحسين بن عمر الضرّاب، أنشدنا شعبان «1» الصّيرفىّ:
[البسيط]
أشدّ من فاقة الزمان ... وقوف حرّ على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنّه خير مستعان
وإن نأى منزل بحرّ «2» ... فمن مكان إلى مكان
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
انتهى الجزء الرابع من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الخامس وأوّله: ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر(4/283)
تنبيه- أشرنا أثناء تعليقات هذا الجزء إلى أن صاحب العزة العالم المحقق الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا هو الذي أفادنا بتعليقاته المفيدة القيمة الخاصة بتعيين الأماكن الأثرية والقرى القديمة التى وردت في هذا الجزء مع تحديد موقعها الآن بغاية الدقة، مما يدلّ على سعة اطلاعه وغزارة علمه وطول باعه في البحث والتحقيق، فنسدى إليه جزيل الشكر على هذه المعاونة التاريخية لخدمة الجمهور.
وكنا نبهنا القارئ إلى أن تعليقاته الخاصة بتحديد الأماكن الأثرية هى من صفحة 30- 54 من هذا الجزء ولكنه واصل شرحه الى نهاية هذا الجزء، عدا الحاشية رقم 1 ص 54 الخاصّة بالجوامع الثلاثة المعلقة فمنقولة من كتاب الخطط التوفيقية كما هى؛ فجزاه الله خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.(4/284)
فهرس الولاة الذين تولوا مصر من سنة 355 هـ- 427 هـ
(أ) أحمد بن على بن الإخشيذ محمد بن طغج بن جف أبو الفوارس ص 21- 28
(ج) جوهر بن عبد الله القائد المعزى أبو الحسن س 28- 69
(ح) الحاكم بأمر الله أبو على منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدى ص 176- 247
(ظ) الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم على بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل ابن القائم محمد بن المهدى ص 247- 283
(ع) العزيز بالله نزار أبو منصور بن المعز لدين الله أبى تميم معد بن المنصور بالله أبى طاهر إسماعيل ص 112- 176
(ك) كافور بن عبد الله الإخشيذى الخادم الأسود الخصى أبو المسك ص 1- 20
(م) المعز أبو تميم معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدى عبيد الله العبيدى ص 69- 112(4/285)
الجزء الخامس
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 427]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين
الجزء الخامس من كتاب النجوم الزاهرة
ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر
هو أبو تميم معدّ الملقّب بالمستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر ابن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ والدار والوفاة؛ وهو الخامس من خلفاء مصر من بنى عبيد، والثامن من المهدىّ عبيد الله. ولى الخلافة بعد موت أبيه الظاهر لإعزاز دين الله فى يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وكان عمره يوم ولى الخلافة سبع سنين وسبعة وعشرين يوما، وخيّن وهو ابن ستّ سنين.
قال الذهبىّ رحمه الله: «هو معدّ أبو تميم الملقّب بأمير المؤمنين المستنصر بالله ابن الظاهر بن الحاكم بأمر الله- وساق بقية نسبه بنحو ما سقناه إلى أن قال-:
بقي فى الخلافة ستّين سنة وأربعة أشهر؛ وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين(5/1)
على منابر العراق فى نوبة الأمير أبى «1» الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ فى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ولا أعلم أحدا فى الإسلام، لا خليفة ولا سلطانا، طالت مدّته مثل المستنصر هذا. وولى وهو ابن سبع سنين. ولمّا كان فى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع الخطبة له من المغرب الأمير المعزّ بن باديس- وقيل:
بل قطعها فى سنة خمس وثلاثين- وخطب لبنى العبّاس وخرج عن طاعة بنى عبيد الباطنيّة. وحدث فى أيّام المستنصر بمصر الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين حتّى أكل الناس بعضهم بعضا، حتّى قيل: إنّه بيع رغيف واحد بخمسين دينارا- فإنّا لله وإنّا اليه راجعون- وحتّى إنّ المستنصر هذا بقى يركب وحده، وخواصّه ليس لهم دوابّ يركبونها؛ وإذا مشوا سقطوا من الجوع؛ وآل الأمر إلى أن استعار المستنصر بغلة يركبها من صاحب «2» ديوان الإنشاء.
وآخر شىء نزحت أمّ المستنصر وبناته إلى بغداد خوفا من أن يمتن جوعا. وكان ذلك فى سنة «3» ستّين وأربعمائة. ولم يزل هذا الغلاء حتّى تحرّك الأمير بدر الجمالىّ والد الأفضل أمير الجيوش من عكّا وركب فى البحر وجاء إلى مصر وتولّى تدبير الأمور(5/2)
وشرع فى إصلاح الأمر «1» . وتوفّى المستنصر فى ذى الحجّة. وفى دولته كان الرّفض والسبّ فاشيا مجهرا، والسنّة والإسلام غريبا! فسبحان الحليم الخبير الذي يفعل فى ملكه ما يريد. وقام بعده ابنه المستعلى أحمد، أقامه أمير الجيوش الأفضل.
واستقامت الأحوال؛ فخرج أخوه نزار من مصر خفية، فسار إلى ناصر الدولة أمير الإسكندرية، فأعانه ودعا إليه، فتمّت بين أمير الجيوش وبينهم حروب وأمور إلى أن ظفر بهم» . انتهى كلام الذهبىّ فى أمر المستنصر.
ونشرع الآن فى ذكر المستنصر وأمر الغلاء بأوسع ممّا ذكره الذهبىّ من أقوال جماعة من المؤرّخين وغيرهم.
قال العلّامة أبو المظفّر فى تاريخه: «ولم يل أحد من الخلفاء الأمويّين ولا العباسيّين ولا المصريّين مثل هذه المدّة (يعنى مدّة إقامة المستنصر فى الخلافة ستّين سنة) قال: وعاش المستنصر سبعا وستّين سنة وخمسة أشهر فى الهزاهز «2» والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن. وكان القحط فى أيّامه سبع سنين مثل سنى يوسف الصدّيق صلوات الله وسلامه عليه، من سنة سبع «3» وخمسين إلى سنة أربع وستّين وأربعمائة. أقامت البلاد سبع سنين يطلع النيل فيها وينزل، ولا يوجد من يزرع لموت النّاس واختلاف الولاة والرعيّة، فاستولى الخراب على كلّ البلاد، ومات أهلها، وانقطعت السّبل برّا وبحرّا. وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستّين.(5/3)
وقال أبو يعلى «1» بن القلانسىّ: «فى أيّامه (يعنى المستنصر) ثارت الفتن فى «2» بنى حمدان وأكابر القوّاد، وغلت الأسعار، واضطربت الأحوال، واختلّت «3» الأعمال، وحصر فى قصره وطمع فيه. ولم يزل على ذلك حتّى استدعى أمير الجيوش بدرا الجمالىّ من عكّا إلى مصر فاستولى على التدبير، وقتل جماعة ممّن يطلب الفساد، فتمهّدت الأمور؛ ولم يبق للمستنصر أمر ولا نهى إلّا الركوب فى العيدين. ولم يزل كذلك حتّى مات بدر الجمالىّ وقام بعده ولده الأفضل. ولمّا مات المستنصر وقام المستعلي مقامه وتقرّرت الأمور، خرج عبد الله ونزار ابنا المستنصر من مصر خفية، وقصد نزار الإسكندريّة إلى ناصر «4» الدولة واليها، وجرت بينه وبين الأفضل حروب بسبب ذلك إلى أن ثبت أمر المستعلى» . انتهى كلام أبى يعلى باختصار.
قلت: وأمّا ما ذكره الذهبىّ- رحمه الله- من الخطبة للمستنصر «5» على منابر بغداد وبالعراق كلّه، وخلع القائم بأمر الله العبّاسىّ من الدعوة، فكان من قصّته أنّ السلطان(5/4)
طغرلبك «1» اشتغل بحصار تلك النّواحى ونازل الموصل، ثمّ توجّه إلى نصيبين لفتح الجزيرة وتمهيدها. وأرسل الأمير أبو الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ إلى إبراهيم ينّال أخى السلطان طغرلبك لينجده؛ فأخذ البساسيرىّ يعده ويمنّيه ويطمعه فى الملك حتّى أصغى إليه وخالف أخاه طغرلبك. وساق إبراهيم ينّال فى طائفة من العسكر إلى الرّىّ.
وبلغ السلطان طغرلبك خبر عصيان إبراهيم فانزعج، وسار وراءه وترك بعض عسكره فى ديار بكر مع زوجته الخاتون ووزيره عميد الملك «2» الكندرىّ، فتفرّقت العساكر.
وعادت زوجته الخاتون بالعسكر الذي صحبها إلى بغداد. وأمّا زوجها السلطان طغرلبك فإنّه التقى هو وأخوه إبراهيم ينّال وتقاتلا، فظفر عليه أخوه إبراهيم ينّال وانهزم السلطان طغرلبك إلى همذان؛ فساق أخوه إبراهيم خلفه وحاصره بها. فعزمت الخاتون على إنجاد زوجها. واختبطت بغداد وعظم البلاء بها، وقامت الفتنة على ساق. وتمّ للأمير أبى الحارث أرسلان البساسيرىّ ما دبّره من المكر. وأرجف النّاس ببغداد بمجيء البساسيرىّ. ونفر الوزير عميد الملك وزير طغرلبك والأمير أنوشروان إلى الجانب الغربىّ من بغداد وقطعا الجسر. ونهبت الغزّ دار خاتون. وأكل القوىّ الضعيف. ووقع ببغداد وأعمالها أمور هائلة شنعة. ثمّ دخل الأمير(5/5)
أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ بغداد فى ثامن ذى القعدة بالرّايات المستنصريّة وعليها ألقاب المستنصر هذا صاحب مصر؛ فمال إلى البساسيرىّ أهل باب الكرخ وفرحوا به لكونهم «1» رافضة، والبساسيرىّ وخلفاء مصر أيضا رافضة؛ فانضمّوا إلى البساسيرىّ وتشفّوا من أهل السّنّة، وشمخت أنوف المنافقين الرافضة، وأعلنوا بالأذان ب «حىّ على خير العمل» ببغداد. واجتمع خلق من أهل السنّة على الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ وقاتلوا معه، وفشت الحرب بين الفريقين فى السفن أربعة أيام. وخطب يوم الجمعة ثالث عشر ذى القعدة ببغداد للمستنصر هذا صاحب الترجمة بجامع المنصور وأذّنوا «2» ب «حىّ على خير العمل» . وعقد الجسر وعبرت عساكر البساسيرىّ إلى الجانب الشرقىّ؛ فحندق الخليفة القائم بأمر الله على نفسه حول داره وحول نهر المعلّى «3» ، فأحرقت الغوغاء نهر المعلّى ونهبت ما فيه، وقوى البساسيرىّ وتفلّل عن الخليفة القائم أكثر النّاس. فاستجار القائم بقريش «4» بن بدران أمير العرب، وكان مع البساسيرىّ، فأجاره ومن معه وأخرجه إلى مخيّمه. وقبض البساسيرىّ على وزير القائم بأمر الله رئيس الرؤساء «5» أبى القاسم بن المسلمة، وقيّده(5/6)
وشهّره على جمل وعليه طرطور وعباءة، وجعل فى رقبته «1» قلائد كالمسخرة وطيف به بالشوارع، وخلفه من يصفعه، ثم سلخ له ثور وألبس جلده وخيط عليه، وجعلت قرون الثور فى رأسه، ثمّ علّق على خشبة، وعمل فى فيه «2» كلّو بان، فلم يزل يضطرب حتّى مات رحمه الله. ونصب للقائم الخليفة خيمة صغيرة بالجانب الشرقىّ «3» فى المعسكر، ونهبت العامّة دار الخلافة، فأخذوا منها ما لا يحصى ولا يوصف كثرة. فلمّا كان يوم الجمعة رابع ذى الحجة لم تصلّ الجمعة بجامع الخليفة، وخطب بسائر الجوامع للمستنصر المذكور، وقطعت الخطبة العباسيّة بالعراق. وهذا شىء لم يفرح به أحد من آباء المستنصر.
ثم حمل القائم بأمر الله إلى حديثة «4» عانة فجلس بها، وسلّم إلى صاحبها مهارش «5» .
وذلك أن البساسيرىّ وقريشا اختلفا فى أمر القائم بأمر الله، ثمّ وقع اتفاقهما بعد أمور على أن يكون عند مهارش إلى أن يتّفقا على ما يتّفقان عليه فى أمره. ثمّ جمع أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ القضاة والأشراف ببغداد، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر العبيدىّ صاحب الترجمة فبايعوا قهرا على رغم الأنف.
وقال الشيخ عزّ الدّين ابن الأثير فى تاريخه: «إنّ إبراهيم ينّال كان أخوه السلطان طغرلبك قد ولّاه الموصل عام أوّل، وإنّه فى سنة خمسين فارق [الموصل] «6» ورحل نحو(5/7)
بلاد الجبل، فنسب السلطان رحيله إلى العصيان، فبعث وراءه رسولا معه الفرجيّة التى خلعها عليه الخليفة. ولمّا فارق الموصل قصدها البساسيرىّ وقريش بن بدران وحاصراها، وأخذا البلد ليومه، وبقيت القلعة، فحاصراها أربعة أشهر حتّى أكل أهلها دوابّهم ثمّ سلّموها بالأمان، فهدمها البساسيرىّ وعفّى أثرها. وسار طغرلبك بجريدة «1» فى ألفين إلى الموصل، فوجد البساسيرىّ وقريشا فارقاها فساق وراءهم، ففارقه أخوه وطلب همذان فوصلها فى رمضان. قال: وقد قيل إنّ المصريّين كاتبوه، وإن البساسيرىّ استماله وأطمعه فى السلطنة، فسار طغرلبك فى أثره (يعنى أثر أخيه إبراهيم ينّال) .
قال: وأمّا البساسيرىّ فوصل إلى بغداد فى ثامن ذى القعدة ومعه أربعمائة فارس على غاية الضّر والفقر، فنزل بمشرعة الروايا، ونزل قريش فى مائتى فارس عند مشرعة باب البصرة، ومالت العامّة للبساسيرىّ: أما الشّيعة فللمذهب، وأمّا أهل السنة فلما فعل بهم الأتراك. وكان رئيس الرؤساء لقلّة معرفته بالحرب ولما عنده من ضعف البساسيرىّ يرى المبادرة إلى الحرب؛ فاتّفق أنه فى بعض الأيام التى تحاربوا فيها حضر القاضى الهمذانىّ عند رئيس الرؤساء، ثمّ استأذن فى الحرب ونمن له قتل البساسيرىّ، فأذن له من غير أن يعلم عميد العراق، وكان رأى عميد العراق المطاولة رجاء أن ينجدهم طغرلبك، فخرج الهمذانىّ بالهاشميّين والخدم والعوامّ إلى الحلبة وأبعدوا؛ والبساسيرىّ يستجرّهم. فلمّا أبعدوا حمل عليهم فانهزموا، وقتل جماعة وهلك آخرون فى الزّحمة بباب «2» الأزج. وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب(5/8)
فدخل داره وهرب كلّ من فى الحريم؛ ولطم عميد العراق على وجهه كيف استبدّ رئيس الرؤساء بالأمر ولا معرفة له بالحرب. فاستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزّعقات؛ وقد نهب الحريم ودخلوا من باب النّوبى، فركب الخليفة لابسا للسّواد وعلى كتفه البردة وعلى رأسه اللّواء وبيده السيف وحوله زمرة من العباسيّين والخدم بالسيوف المسلّلة، فرأى النّهب إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد إلى المنظرة. وصاح رئيس الرؤساء: علم الدّين (يعنى قريشا) أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه؛ فقال: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذمّ منك على نفسه وأصحابه بذمام الله وذمام رسوله وذمام العربيّة؛ فقال: قد أذمّ الله تعالى له؛ قال: ولى ولمن معه؟ قال نعم؛ وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة، وأعطى رئيس الرؤساء بحضرته ذماما. فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه. فأرسل إليه البساسيرىّ يقول: أتخالف ما استقرّ بيننا؟ - وكانا قد تحالفا ألّا ينفرد أحدهما عن الآخر بشىء، ويكون العراق بينهما نصفين- فقال قريش: ما عدلت عمّا استقرّ بيننا، عدوّك ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) فخذه، وأنا آخذ الخليفة، فرضى البساسيرىّ بذلك. فبعث رئيس الرؤساء إليه مع منصور «1» بن مزيد، فحين رآه البساسيرىّ قال مرحبا بمدمّر الدولة، ومهلك الأمم، ومخرّب البلاد، ومبيد العباد. فقال له: أيّها الأجلّ، العفو عند المقدرة. فقال:
قد قدرت فما عفوت، وأنت تاجر صاحب طيلسان، ولم تبق على الحريم والأموال(5/9)
والأطفال، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف وقد أخذت أموالى وعاقبت أصحابى ودرست دورى وسببتنى وأبعدتنى!. واجتمع العوامّ على ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) وسبّوه ولعنوه وهمّوا به. فأخذه البساسيرىّ بيده وسيّره إلى جانبه خوفا عليه من العامّة. وحصل فى يد البساسيرىّ جميع من كان يطلبه مثل ابن المردرسىّ «1» ، وأبى عبد الله «2» الدّامغانىّ قاضى القضاة، وهبة الله بن المأمون، وأبى علىّ بن الشّيروانىّ، وأبى عبد الله بن عبد الملك؛ وكان من التّجار الكبار وبينه وبين البساسيرىّ عداوة، وكان قد سكن فى دار الخلافة خوفا منه على ماله ونعمته. وظفر بالسيدة خاتون بنت الأمير داود زوجة الخليفة، فأحسن معاملتها ولم يتعرّض لها.
وأمّا قريش فحصل فى يده الخليفة وعميد العراق وأبو منصور [بن «3» ] يوسف وولده؛ فحمل الحليفة إلى معسكره راكبا وعلى كنفه البردة وبيده سيف مسلول وعلى رأسه اللّواء. ولحق الخليفة ذرب عظيم قام منه فى اليوم مرارا، وامتنع من الطّعام والشراب؛ فسأله قريش وألحّ عليه حتّى أكل وشرب، وحمله فى هودج وسار به إلى حديثة عانة فنزل بها. وسار حاشية الخليفة على حامية إلى السلطان طغرلبك مستنفرين له.
ولمّا وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فبعث يطلب من متولّيها ما يلبس، فأرسل إليه جبّة ولحافا. وركب البساسيرىّ يوم الأضحى وعلى رأسه الألوية المصريّة وعبر إلى المصلّى بالجانب الشرقىّ، وأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على الفقهاء، ولم يتعصّب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة دارا وراتبا، وكانت قد قاربت التسعين(5/10)
سنة. ثمّ فى آخر ذى الحجّة أخرج رئيس الرؤساء مقيّدا وعلى رأسه طرطور، وفى رقبته مخنقة جلود، وهو يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ...
الآية.
فبصق أهل الكرخ فى وجهه، لأنّه كان متعصّبا لأهل السّنّة، رحمه الله، ثمّ صلب على صورة ما ذكرناه أوّلا.
وأمّا عميد العراق فقتله البساسيرى أيضا، وكان شجاعا شهما، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ. ثمّ بعث البساسيرىّ البشائر إلى مصر، وكان وزير المستنصر هناك «1» أبا الفرج «2» بن أخى أبى القاسم المغربىّ، وكان أبو الفرج ممّن هرب من البساسيرىّ، فذمّ للمستنصر فعله وخوّفه من سوء عاقبته؛ فتركت أجوبته مدّة، ثمّ عادت على البساسيرىّ بغير الذي أمّله، فسار البساسيرىّ إلى البصرة وواسط وخطب بهما أيضا للمستنصر. وأمّا طغرلبك فإنّه انتصر فى الآخر على أخيه إبراهيم ينّال وقتله، وكرّ راجعا إلى العراق، ليس له همّ إلّا إعادة الخليفة إلى رتبته.
وفى الجملة أنّ الذي حصل للمستنصر فى هذه الواقعة من الخطبة باسمه فى العراق وبغداد لم يحصل ذلك لأحد من آبائه وأجداده. ولولا تخوّف المستنصر من البساسيرىّ وترك تحريضه على ما هو بصدده وإلا «3» كانت دعوته تتمّ بالعراق زمانا طويلا، فإنّه كان أوّلا أمدّ البساسيرىّ بجمل مستكثرة. فلو دام المستنصر على ذلك لكان البساسيرىّ يفتتح له عدّة بلاد. قال الحسن بن محمد العلوىّ «4» : «إنّ الذي وصل إلى البساسيرىّ من المستنصر من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته(5/11)
مثل ذلك، وخمسمائة فرس، وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف، ومن الرماح والنّشّاب «1» شىء كثير» . يعنى قبل هذه الواقعة؛ ولهذا قلنا: لو دام المستنصر على عطائه للبساسيرىّ لكان افتتح له عدّة بلاد. قلت: ولله الحمد على ما فعله المستنصر من التقصير فى حقّ البساسيرىّ، وإلّا فكانت السّنّة تذهب بالعراق، وتملكها الرافضة بأجمعها كما كان وقع بمصر فى أيّام دولة الفاطميّين (أعنى صاحب الترجمة وآباءه) .
ولمّا خطب البساسيرىّ فى بغداد باسم المستنصر معدّ هذا غنّته مغنّية «2» بقولها:
[الرمل]
يا بنى العبّاس صدّوا «3» ... ملك الأمر معدّ
ملككم كان «4» معارا ... والعوارى تستردّ
فطرب المستنصر لذلك ووهبها أرضا بمصر رزقة لها جائزة لإنشادها هذا الشعر، وتلك الأرض الآن تعرف بأرض «5» الطّبّالة بالقرب من بركة الرّطلىّ لكونها غنّته بهذه الأبيات وهى تطبّل بدفّ كان فى يدها، فعرفت بأرض الطّبّالة، وحكرت الأرض(5/12)
المذكورة وبنيت. وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده. ومن حينئذ أخذ أمره فى إدبار من وقوع الغلاء والوباء بالديار المصريّة. وقاسى النّاس شدائد، واختلّ أمر مصر- على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فى وقته من هذه الترجمة- من استيلاء ناصر الدولة بن حمدان على ممالك الديار المصريّة، وزاد ابن حمدان فى عطاء الجند حتّى نفدت الخزائن، وقلّت الارتفاعات. واتّفق ابن حمدان مع الشريف أبى طاهر حيدرة بن الحسن الحسينىّ، وكان قد نفاه بدر الجمالىّ من دمشق، وكان محبّبا للناس، وتلقّبه العامّة بأمير المؤمنين، وكان لمّا نفاه بدر الجمالى من دمشق دخل إلى مصر شاكيا إلى ابن حمدان من بدر الجمالىّ- فاتّفق ابن حمدان والشريف وحازم «1» وحميد ابنا بحرّاح وهما من أمراء عرب الشام، وكان لهما فى حبس المستنصر نيّف وعشرون سنة، فأخرجهما ابن حمدان واتّفقوا على الفتك ببدر الجمالىّ، فأعطاهم ابن حمدان أربعين ألف دينار ينفقونها فى هذا الوجه. وتحدّث ابن حمدان بأن يرتّب الشريف إذا عاد مكان المستنصر فى الخلافة لنسبه الصحيح. وانقسم عسكر مصر قسمين:
قسما مع ابن حمدان، وقسما عليه؛ وزادت مطالبة ابن حمدان بالأموال «2» حتى استوعبها وأخرج جميع ما فى القصر من ثياب وأثاث وباعها بالثمن البخس. وحالف الأتراك سرّا على المستنصر. وعلم المستنصر بما فعله مضافا لما سمع عنه من أمر الشّريف، فقلق وأرسل لابن حمدان يقول: بأنّك قدمت علينا زائرا وجئتنا ضيفا؛ فقا بلناك بالإحسان وأكرمناك، فقابلتنا بما لا نستحقّه منك؛ ونحن عليك صابرون، وعنك مغضون. وقد انتهت بك الحال إلى محالفة العسكر علينا والسعى فى إتلافنا، وما ذاك مما يهمّك؛ ونحبّ أن تنصرف عنّا موفورا فى نفسك ومالك، وإلّا قابلناك على قبيح(5/13)
أفعالك. فأغلظ ابن حمدان فى الجواب واستهزأ بالرسول. فبعث المستنصر إلى «1» إلدكز الملقّب بأسد الدولة، وكان شيخ الأتراك والمقدّم عليهم، وكان من المخالفين على ابن حمدان؛ فاستحضره واستحلفه وتوثّق منه ومن جماعة ممّن جرى مجراه، وجمع الأتراك الذين معه والمغاربة وكتامة إلى باب القصر. وعرف ابن حمدان بذلك فبرز بخيمة إلى بركة الحبش «2» ، وأخرج المستنصر خيمته الحمراء، وتسمّى خيمة الدّم، فضربها بين القصرين من القاهرة. واجتمع الناس على المستنصر، وركب وسار إلى حرب ابن حمدان. والتقوا بمكان يعرف بالباب الجديد «3» ، فورد أكثر من كان مع ابن حمدان بالأمان إلى المستنصر. وكان فى جملة من ورد الأمير أبو علىّ ابن الملك أبى طاهر ابن بويه، ثمّ قتل المذكور بعد ذلك بمدّة. ووقع القتال فانكسر ابن حمدان وهرب(5/14)
بنفسه إلى الإسكندريّة، ونهبت دوره وأمواله ودور أصحابه. ومضى ابن حمدان إلى حىّ من العرب وتزوّج منهم وقوى بهم، فصار يشنّ الغارات على أعمال مصر؛ ويبعث إليه المستنصر فى كلّ وقت جيشا فيهزمه ابن حمدان. ولا زال على ذلك حتّى جمع ابن حمدان جمعا كبيرا ونزل الصالحيّة «1» ؛ فخرج إليه من كان يهواه من المشارقة، وامتدّت عسكره نحو عشرة فراسخ وحاصر مصر؛ فضعف المستنصر عن مقاومته وانحصر بالقاهرة. وطال الحصار وغلت الأسعار حتّى بلغت الرّاوية الماء ثلاثة عشر قيراطا، وكلّ ثلاثة عشر رطلا من الخبز دينارا، وعدمت الأقوات، فضجّ العوامّ، فخاف المستنصر أن يسلّموه إليه، فراسله وصالحه. واقترح عليه ابن حمدان إبعاد الدكز ومن يعاديه من المشارقة، وأن ينفرد ابن حمدان بالبلاد «2» وتدبير الأمور والعساكر، فرضى المستنصر بذلك كلّه؛ ورفع الحصار عن مصر، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.
فهرب غالب من كان مع المستنصر إلى الشام، ووفدوا على صاحبها بدر الجمالىّ. وكان بدر الجمالىّ يكره ابن حمدان والشريف المذكور. ثمّ ظفر الجمالىّ بالشريف المذكور وقتله خنقا. على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. وصار المستنصر فى قصره كالمحجور عليه ولا حكم له.
هذا والغلاء بمصر يتزايد، حتّى إنّه جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله فى الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأكلت الدوابّ بأسرها، فلم يبق(5/15)
لصاحب مصر- أعنى المستنصر- سوىّ ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير.
ونزل الوزير أبو المكارم «1» وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأخذوا وصلبوا، فأصبح الناس فلم يروا إلّا عظامهم، أكل الناس فى تلك الليلة لحومهم. ودخل رجل الحمّام فقال له الحمّامىّ: من تريد أن يخدمك سعد الدولة أو عزّ الدولة أو فخر الدولة؟ فقال له الرجل: أتهزأ بي! فقال: لا والله، انظر إليهم، فنظر فإذا أعيان الدّولة ورؤساؤها صاروا يخدمون الناس فى الحمّام لكونهم باعوا جميع موجودهم فى الغلاء واحتاجوا إلى الخدمة.
وأعظم من هذا أنّ المستنصر الخليفة صاحب الترجمة باع جميع موجوده وجميع ما كان فى قصره حتّى أخرج ثيابا كانت فى القصر من زمن الطائع الخليفة العباسىّ، لمّا نهب بهاء الدولة دار الخليفة فى إحدى وثمانين وثلثمائة، وأشياء أخر أخذت فى نوبة البساسيرىّ، وكانت هذه الثياب التى لخلفاء بنى العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبنى العبّاس، فكانت هذه الثياب عندهم بمصر بسبب المعيرة لبنى العبّاس. فلمّا ضاق الأمر على المستنصر أخرجها وباعها بأبخس «2» ثمن لشدّة الحاجة. وأخرج المستنصر أيضا طستا وإبريقا بلّورا يسع الإبريق رطلين ماء، والطّست أربعة أرطال، وأظنّه بالبغدادىّ، فبيعا باثنى عشر درهما فلوسا، ثمّ باع المستنصر من هذا البلور ثمانين ألف قطعة. وأمّا ما باع من الجواهر واليواقيت والخسروانىّ «3» فشىء لا يحصى. وأحصى من الثياب التى أبيعت فى هذا الغلاء من(5/16)
قصر الخليفة ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلّى؛ وباع المستنصر حتّى ثياب جواريه وتخوت المهود، وكان الجند يأخذون ذلك بأقلّ ثمن. وباع رجل دارا بالقاهرة كان اشتراها قبل ذلك بتسعمائة «1» دينار بعشرين رطل دقيق. وبيعت البيضة بدينار، والإردبّ القمح بمائة دينار فى الأوّل، ثمّ عدم وجود القمح أصلا. وكان السّودان يقفون فى الأزقّة يخطفون النساء بالكلاليب ويشرّحون لحومهنّ ويأكلونها، واجتازت امرأة بزقاق «2» القناديل بمصر وكانت سمينة، فعلّقها السّودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار واستغاثت، فجاء الوالى وكبس الدار فأخرج منها ألوفا من القتلى، وقتل السّودان. واحتاج المستنصر فى هذا الغلاء حتّى إنّه أرسل فأخذ قناديل الفضّة والستور من مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام. وخرجت امرأة من القاهرة فى هذا الغلاء ومعها مدّ جوهر، فقالت: من يأخذ هذا ويعطينى عوضه دقيقا أو قمحّا؟ فلم يلتفت إليها أحد؛ فألقته فى الطريق وقالت: هذا ما ينفعنى وقت حاجتى فلا حاجة لى به بعد اليوم؛ فلم يلتفت إليه أحد وهو مبدّد فى الطريق! فهذا أعجب من الأوّل.
وقيل: إنّ سبب ما حصل لمصر من الخلل فى أوّل الأمر «3» الفتنة التى كانت بمصر فى أيّام المستنصر هذا بين «4» الأتراك والعبيد، وهو أنّ المستنصر كان من عادته(5/17)
فى كلّ سنة أن يركب على النّجب مع النساء والحشم إلى جبّ عميرة «1» ، وهو موضع نزهة، فيخرج إليه بهيئة أنّه خارج إلى الحجّ على سبيل الهزء والمجانة، ومعه الخمر فى الرّوايا عوضا عن الماء ويسقيه الناس، كما يفعل بالماء فى طريق مكّة. فلمّا كان فى جمادى الآخرة خرج على عادته المذكورة، فاتّفق أنّ بعض الأتراك جرّد سيفا فى سكرته على بعض عبيد الشّراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد فقتلوه؛ فاجتمع الأتراك بالمستنصر هذا وقالوا له: إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة، وإن كان عن غير رضاك فلا نرضى بذلك، فأنكر المستنصر ذلك؛ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد أن حصل بينهم وبين العبيد قتال شديد على كوم شريك «2» وانهزم العبيد من الأتراك. وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد بالأموال والسّلاح؛ فظفر بعض الأيام أحد الأتراك بذلك، فجمع طائفة الأتراك ودخلوا على المستنصر وقاموا عليه وأغلظوا له فى القول، فحلف لهم أنّه لم يكن عنده خبر.
وصار السيف قائما بينهم. ثمّ دخل المستنصر على والدته وأنكر عليها. ودامت الفتنة بين الأتراك والعبيد إلى أن سعى وزير الجماعة أبو الفرج بن المغربىّ- وأبو الفرج هذا هو أوّل من ولى كتابة الإنشاء بمصر- ولا زال الوزير أبو الفرج هذا يسعى بينهم(5/18)
حتى اصطلحوا صلحا يسيرا، فآجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرى دمنهور «1» . فكانت هذه الواقعة أوّل الاختلاف بديار مصر؛ فإنّه قتل من «2» الأتراك والعبيد خلائق كثيرة، وفسدت الأمور فطمع كلّ أحد. وكان سبب كثرة السودان ميل أمّ المستنصر إليهم؛ فإنّها كانت جارية سوداء لأبى سعد «3» التّسترىّ اليهودىّ. فلمّا ولى المستنصر الخلافة ومات الوزير صفىّ «4» الدين الجرجرائيّ فى سنة ستّ وثلاثين «5» حكمت والدة المستنصر على الدولة، واستوزرت سيّدها أبا سعد المذكور، ووزر لابنها المستنصر الفلّاحىّ، فلم يمش له مع أبى سعد حال؛ فاستمال الأتراك وزاد فى واجباتهم حتّى قتلوا أبا سعد المذكور؛ فغضبت لذلك أمّ المستنصر وقتلت أبا منصور «6» الفلّاحىّ، وشرعت فى شراء العبيد السّود، وجعلتهم طائفة واستكثرت منهم. فلمّا وقع بينهم وبين الأتراك قامت فى نصرهم.
وقال الشيخ شمس الدين بن قزأوغلى فى المرآة: «وكلّ هذه الأشياء كان ابن حمدان سببها، ووافق ذلك انقطاع النيل؛ وضاقت يد أبى هاشم محمد أمير مكّة(5/19)
بانقطاع ما كان يأتيه من مصر، فأخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب والميزاب، وصادر أهل مكّة فهربوا. وكذا فعل أمير المدينة مهنأ، وقطعا الخطبة للمستنصر، وخطبا لبنى العبّاس الخليفة القائم بأمر الله، وبعثا إلى السلطان ألب أرسلان السّلجوقىّ حاكم بغداد بذلك، وأنهما أذّنا بمكّة والمدينة الأذان المعتاد، وتركا الأذان ب «حىّ على خير العمل» ؛ فأرسل ألب أرسلان إلى صاحب مكّة أبى هاشم المذكور بثلاثين ألف دينار، وإلى صاحب المدينة بعشرين ألف دينار. وبلغ الخبر بذلك المستنصر، فلم يلتفت إليه لشغله بنفسه ورعيّته من عظم الغلاء. وقد كاد الخراب أن يستولى على سائر الإقليم. ودخل ابن الفضل على القائم بأمر الله العبّاسىّ ببغداد، وأنشده فى معنى الغلاء الذي شمل مصر قصيدة، منها:
[الطويل]
وقد علم المصرىّ أنّ جنوده ... سنو يوسف منها وطاعون عمواس
أحاطت «1» به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أىّ إيجاس
قلت: وهذا شأن أرباب المناصب، إذا عزل أحدهم بآخر أراد هلاكه ولو هلك العالم معه. وهذا البلاء من تلك الأيّام إلى يومنا هذا.
ثمّ فى سنة ستّ وستين سار بدر الجمالىّ أمير الجيوش من عكّا إلى مصر، ومعه عبد الله بن المستنصر باستدعاء المستنصر بعد قتل ابن حمدان بمدّة. واسم ابن حمدان الحسن بن الحسين بن حمدان أبو محمد التغلبىّ الأمير ناصر الدولة ذو المجدين.(5/20)
ذكر سبب قتل ابن حمدان المذكور
وسببه أنّه كان ابن حمدان اتّفق مع إلدكز التركىّ، وكان إلدكز تزوّج بابنته؛ فاتّفقا اتفاقا كليّا وتحالفا وأمن أحدهما للآخر. ووصل ناصر الدولة إلى مصر- أعنى بعد توجهه إلى الإسكندرية حسب ما ذكرناه- على طمأنينة مرتّبا للمواكب والعساكر، فركب إلدكز يوم الجمعة مستهلّ شهر رمضان فى خمسين فارسا، وكان له غلام يقال له: أبو منصور كمشتكين ويلقّب حسام «1» الدولة؛ وكان يثق به. فقال له الدكز: أريد أن أطلعك على أمر لم أر له أهلا غيرك؛ قال: وما هو؟ قال: قد علمت ما فعل ابن حمدان بالمسلمين من سفك الدماء والغلاء والجلاء، وقد عزمت على قتله، فهل فيك موافقة ومشاركة وأريح الإسلام منه؟ فقال نعم، ولكن أخاف أن يفلت فتتبرّأ منّى؛ قال لا، وقصدوا ابن حمدان قبل أن يلحقه أصحابه واستأذنوا عليه، فأذن لهم فدخلوا والفرّاشون ينفّضون البسط ليقعد عليها ابن حمدان، وهو يتمشّى فى صحن الدار، ومشى الدكز معه، ثم تأخّر عنه وضربه ب «يافروت» كان معه، وهو سكّين مغربىّ فى خاصرته، وضربه كمشتكين فقطع رجليه، فصاح: فعلتموها! فحزّوا رأسه. وكان محمود بن ذبيان أمير بنى سنبس «2» فى خزانة الشّراب، فدخلوا عليه وقتلوه. ثم خرجوا إلى دار كان فيها فخر العرب ابن حمدان وقد شرب دواء وعنده الأمير شاور فقتلوهما. وخرجوا إلى خيمة الأمير تاج المعالى بن حمدان أخى ناصر الدولة، وكان على عزم المسير إلى الصعيد، فهرب إلى خراب مقابل خيمته، فكمن فيه فرآه بعض العبيد فأعطاه معضدة»
فيها مائة دينار، وقال له: اكتم علىّ؛(5/21)
فأخذها العبد وجاء إلى الدكز ونمّ عليه، فدخل وقتله. وانهزم ابن أخى ابن المدبر «1» فى زىّ المكدّين «2» فأخذ، وكان قد تزوّج بإحدى بنات نزار بن المستنصر الخليفة، فقطع ذكره وجعل فى فمه ثمّ قتل. وقطّع ابن حمدان قطعا، وأنفذ كلّ قطعة إلى بلد. وجاءوا إلى القصر إلى الخليفة المستنصر هذا ومعهم الرءوس، وأرسلوا إلى الخليفة وقالوا: قد قتلنا عدوّك وعدوّنا، من أخرب البلاد وقتل العباد، ونريد من المستنصر الأموال. فقال المستنصر: أمّا المال فما نزك ابن حمدان عندى مالا.
وأمّا ابن حمدان فما كان عدوّى، وإنّما كانت الشّحنة «3» بينك وبينه يا إلدكز، فهلكت الدنيا بينكما، وإنّى ما اخترت ما فعلت من قتله ولا رضيته، وستعلم غبّ الغدر، ونقض العهد. ووقع بينهما كلام كثير. وآل الأمر إلى بيع المستنصر قطع مرجان وعروضا وحمل إلى إلدكز ورفقته مالا من أثمان ذلك وغيره. ثمّ علم المستنصر أنّ أمره يؤول مع إلدكز إلى شرّ حال؛ فلذلك أرسل أحضر بدرا الجمالىّ المقدّم ذكره.
ولما حضر بدر الجمالىّ إلى مصر وجد إلدكز تغلّب عليها. ووصل إلى دمياط وبها ابن المدبّر، وكان قد هرب منه، فقتله وصلبه، وعاد «4» إلى مصر، واتفق مع بدر الجمالىّ وتحالفا وتعاهدا. فلم يكن إلّا مدّة يسيرة وقبض بدر الجمالىّ على إلدكز وأهانه وعذّبه وطالبه بالمال؛ فلم يظهر سوى اثنى عشر ألف دينار، وكان له من الأموال والجواهر شىء كثير إلّا أنّه لم يقرّبه، فقتله بدر الجمالىّ، وقيل: هرب إلى الشام.
وأخذ بدر الجمالىّ فى إصلاح امور الديار المصريّة: انتزع الشرقية من أيدى عرب لواتة «5» ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر أمراءهم، وأخذ منهم أموالا جمّة. وعمّر(5/22)
الريف فرخصت الأسعار ورجعت إلى عادتها القديمة. ثمّ أخذ الإسكندرية وسلّمها إلى القاضى ابن المحيرق. وأصلح أموال الصعيد واستدعى أكابرهم إليه، فجاءه منهم الكثير. وصلح الحال لهلاك الأضداد، ورفعت الفتن، وانفرد أمير الجيوش بدر الجمالىّ بالأمر إلى أن مات فى خلافة المستنصر. وتولّى بعده ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ المذكور. ويأتى ذكر ذلك وغيره مما ذكرنا من الغلاء والفناء والحروب فى الحوادث المتعلّقة بالمستنصر من سنين خلافته على سبيل الاختصار، كما هو عادة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ودام المستنصر فى الخلافة وهو كالمحجور عليه مع بدر الجمالىّ؛ ثم من بعده مع ولده الأفضل شاهنشاه إلى أن توفّى بالقاهرة فى يوم عيد الفطر، وهو يوم الخميس سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وبايع الناس ابنه أحمد من بعده، ولقّب بالمستعلى بالله. وقام الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى بتدبير ملكه. وقد تقدّم مدّة إقامة المستنصر فى الخلافة، وكم عاش من السنين فى أوّل ترجمته فيطلب هناك.
وممّا رثى به المستنصر قول حظّى الدولة أبى المناقب عبد الباقى بن علىّ التنوخىّ الشاعر:
[الطويل]
وليس ردى المستنصر اليوم كالرّدى ... ولا أمره أمر يقاس به أمر
لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحّى ... ففاجأه ليلا ولم يطلع الفجر
فأجرى عليه حين مات دموعنا ... سماء فقال الناس لا بل هو القطر
وقد بكت الخنساء صخرا وإنّه ... ليبكيه من فرط المصاب به الصخر
وقلّدها المستعلى الظّهر حسب ما ... عليه قديما نصّ والده الطّهر(5/23)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 428]
السنة الأولى من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
فيها فى المحرّم خلع الخليفة القائم بأمر الله على الأفضل أبى تمّام محمد بن محمد ابن علىّ الزينبىّ الحنفىّ العلوىّ وفوّض إليه نقابة الهاشميّين والصلاة، وأمره باستخلاف أبى منصور محمد على ذلك؛ وأحضر الخليفة القضاة والأعيان وقال لهم:
قد عوّلنا على محمد بن محمد بن علىّ الزينتى فى نقابة أهله من العباسيّين رعاية لحقوق سالفة. فقبّل أبو تمّام الأرض؛ وخلع عليه السّواد والطيلسان، ولقّب عميد الرؤساء.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان الإمام العلّامة أبو الحسين الحنفىّ الفقيه البغدادى المشهور بالقدورىّ- قال أبو بكر «1» الخطيب: لم يحدّث إلّا شيئا يسيرا؛ كتبت عنه، وكان صدوقا، انتهت إليه بالعراق رياسة أصحاب أبى حنيفة، وعظم [عندهم] «2» قدره وارتفع جاهه، وكان حسن العبارة فى النظر، جرىء اللسان مديما للتلاوة. قلت: والفضل ما شهدت به الأعداء، ولولا أنّ شأن هذا الرجل كان قد تجاوز الحدّ فى العلم والزّهد ما سلم من لسان الخطيب، بل مدحه مع عظم تعصّبه على السادة الحنفية وغيرهم؛ فإنّ عادته ثلم أعراض العلماء والزّهّاد بالأقوال الواهية، والروايات المنقطعة، حتّى أشحن تاريخه من هذه القبائح. وصاحب الترجمة هو مصنّف «مختصر القدّورىّ» فى فقه الحنفية، و «شرح مختصر الكرخىّ»(5/24)
فى عدّة مجلّدات، وأملى «التجريد فى الخلافيّات» أملاه فى سنة خمس وأربعمائة، وأبان فيه عن حفظه لما عند الدار قطنىّ من أحاديث الأحكام وعللها، وصنّف كتاب «التقريب الأوّل» فى الفقه فى خلاف أبى حنيفة وأصحابه فى مجلد، و «التقريب الثانى» فى عدّة مجلّدات. وكانت وفاته فى منتصف «1» رجب من السنة. ومولده سنة اثنتين وستين وثلثمائة. وقد روينا جزأه المشهور عن الشيخ رضوان بن محمد العقبىّ «2» عن أبى الطاهر بن الكويك «3» عن محمد بن «4» البلوىّ انا «5» عبد الله بن عبد الواحد بن علّاق انا فاطمة بنت سعد الخير الأنصارية انا أبو بكر بن أبى طاهر انا العلّامة أبو الحسين القدورىّ رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علىّ بن سينا الرئيس أبو علىّ صاحب الفلسفة والتصانيف الكثيرة. كان إمام عصره فى الحكمة وعلوم الأوائل، بل كان إماما فى سائر العلوم. وتصانيفه كثيرة فى فنون العلوم، حتّى قيل عنه: إنّه ليس فى الإسلام من هو فى رتبته. قال أبو عبد الله الذهبىّ: كان ابن سينا آية فى الذكاء، وهو رأس الفلاسفة الإسلاميّين الذين مشوا خلف العقول، وخالفوا الرسول- قلت-: لم يكن ابن سينا بهذه المثابة بل كان حنفىّ المذهب، تفقّه على(5/25)
الإمام أبى بكر بن أبى عبد الله الزاهد الحنفى- وتاب فى مرض موته، وتصدّق بما كان معه، وأعتق مماليكه، وردّ المظالم على من عرفه، وجعل يختم فى كلّ ثلاثة أيّام ختمة إلى أن توفّى يوم الجمعة فى شهر رمضان. قلت: ومن يمشى حلف العقول، ويخالف الرسول لا يقلّد الأحكام الشرعية، ولا يتقرّب بتلاوة القرآن العظيم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن أبى موسى أبو علىّ الهاشمىّ البغدادىّ شيخ الحنابلة وعالمهم، وصاحب التصانيف الكثيرة. مات فى شهر ربيع الاخر.
وفيها توفّى مهيار بن مرزويه الدّيلمىّ أبو الحسن «1» الكاتب الشاعر المشهور، كان مجوسيّا فأسلم على يد الشريف الرضىّ، وهو أستاذه فى الأدب والنّظم والتشيع. اشتغل حتّى مهر فى الأدب والكتابة والتشيّع حتّى صار من كبار الشعراء الروافض «2» . قال أبو القاسم «3» بن برهان النحوىّ: كان مجوسيّا فأسلم فى سنة أربع وتسعين وثلثمائة؛ فقلت له: يا أبا الحسن، انتقلت [بإسلامك «4» ] من زاوية إلى زاوية فى جهنّم؛ قال: وكيف؟
قلت: لأنّك كنت مجوسيّا ثمّ صرت تتعرّض لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمجوسىّ والرافضىّ فى النار. انتهى. قلت: وأمّا شعر مهيار ففى غاية الجودة. فمن ذلك قوله:
[البسيط]
أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب
وأبتغى عندكم قلبا سمحت به ... وكيف يرجع شىء وهو موهوب(5/26)
وله فى إنجاز وعد:
[الطويل]
أظلّت «1» علينا منك يوما غمامة ... أضاء لها برق وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلى فيبأس طامع ... ولا غيثها يأتى فيروى عطاشها
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة أبو المطاع التّغلبىّ ويعرف بدى القرنين ووجيه الدولة. ولى إمرة دمشق للحاكم بأمر الله ثمّ عزل عنها بلؤلؤ، ثمّ أعيد إليها سنة خمس عشرة وأربعمائة من قبل الظاهر بن الحاكم؛ ومات بها وقيل بمصر. وكان شاعرا أديبا شجاعا فصيحا. ومن شعره:
[الرمل]
موعدى بالبين ظنّا «2» ... أننى بالبين أشقى
ما أرى بين مماتى ... وفراقى لك فرقا
لا تهدّدنى ببين ... لست منه أنوقّى
إنّما يشقى ببين ... منك من بعدك يبقى
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 429]
السنة الثانية من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
فيها توفّى عبد الرحمن بن عبد الله بن علىّ أبو علىّ العدل، ويعرف بابن أبى العجائز، ولد سنة أربعين وثلثمائة بدمشق وبها مات فى المحرّم؛ وكان ثقة سمع الحديث ورواه،(5/27)
روى عنه غير واحد؛ قال: وحدّثنا محمد بن سليمان الرّبعىّ عن محمد بن تمّام الحرّانى «1» .
عن محمد بن قدامة قال: أتينا سفيان بن عيينة فحجبنا «2» ، فجاء خادم لهارون الرشيد يقال له حسين فى طلبه فأخرجه، فقمنا إليه فقلنا: أمّا أهل الدنيا فيصلون إليك، وأمّا نحن فلا نصل! فنظر إلينا وقال: لا أفلح صاحب عيال؛ ثم أنشد:
[البسيط]
اعمل بعلمى ولا تنظر إلى عملى ... ينفعك علمى ولا يضررك تقصيرى
ثم قال: بم تشبّهون قوله عليه [الصلاة «3» و] السلام إخبارا عن ربّه تعالى:
«ما أشغل عبدى ذكرى عن مسألتى إلّا أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» ؟ فقلنا:
قل يرحمك الله؛ فقال قول القائل:
[الكامل]
وفتى «4» خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السؤال
وفيها توفّى أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ الطّلمنكىّ «5» الحافظ، كان إماما حافظا محدّثا. مات فى ذى الحجة وله تسعون سنة.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن الصّقر «6» الإمام الكاتب المقرئ صاحب زيد بن أبى بلال الكوفىّ، كان فاضلا قرأ القراءات بالرّوايات وبرع فى فنون.(5/28)
وفيها توفّى أبو الوليد يونس بن «1» عبد الله بن محمد بن مغيث المقرئ القرطبىّ الفقيه المعروف بابن الصفّار قاضى الجماعة، كان من أوعية العلم، كان فقيها محدّثا عالما زاهدا. مات فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 430]
السنة الثالثة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاثين وأربعمائة.
فيها سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله أن يلقّب ابنه لقبا، فلقّبه «الملك العزيز» وكان مقيما بواسط. قلت: وهذا أوّل لقب سمعناه من ألقاب ملوك الأتراك وغيرهم من ملوك زماننا.
وفيها استولى بنو سلجوق «2» على خراسان والجبال، وهرب منهم السلطان مسعود ابن محمود بن سبكتكين إلى غزنة، واقتسموا البلاد. وهذا أوّل ظهور بنى سلجوق الآتى ذكرهم فى عدّة أماكن. وأصلهم أتراك من [ما] وراء النهر، فزوّج سلجوق ابنته من رجل يعرف بعلىّ تكين، فأفسدوا على محمود بن سبكتكين البلاد بالنهب والغارات، فقصدهم محمود بن سبكتكين فقبض على سلجوق المذكور وهرب علىّ تكين وطغرلبك، واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وبقى طغرلبك فى أربعة آلاف خركاه، إلى أن توفّى محمود بن سبكتكين، واشتغل ابنه مسعود بن محمود(5/29)
ابن سبكتكين باللهو. فصار أمر طغرلبك ينمو إلى أن واقع مسعودا وهزمه واستولى على خراسان، وولّى أخاه داود مرو وسرخس وبلخ، وولّى ابن عمّه الحسن بن موسى هراة وبوشنج وسجستان، وولّى أخاه لأمّه إبراهيم ينّال دهستان «1» . وعظم أمر طغرلبك إلى أن كان من أمره ما سنذكره فى عدّة أماكن إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الحافظ أبو نعيم الأصبهانىّ الصوفىّ والأحول سبط الزاهد محمد بن يوسف البنّاء؛ كان أحد الأعلام، جمع بين علوّ الرواية وكثرة الدّراية، ورحل إليه من الأقطار، وألحق الصغار بالكبار؛ وولد سنة ستّ وثلاثين وثلثمائة بأصبهان. واستجاز له أبوه طائفة من شيوخ العصر حتّى تفرّد فى آخر عمره فى الدنيا عنهم.
وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن عبد الله الشيخ أبو القاسم البغدادىّ الواعظ.
كان مسند العراق فى زمانه، سمع الحديث وروى الكثير. قال أبو بكر الخطيب:
كتبنا عنه وكان ثقة ثبتا صالحا؛ ولد فى شوّال سنة تسع وثلاثين وثلثمائة.
وفيها توفّى موسى بن عيسى بن أبى حاجّ الفاسىّ المقرئ الإمام أبو عمران، الفاسىّ الدار الغفجومىّ «2» النسب- وغفجوم: قبيلة من زناتة- البربرىّ الفقيه المالكىّ نزيل القيروان وإليه انتهت رياسة العلم بها. تفقّه على أبى الحسن «3» القابسىّ وهو أجل أصحابه؛ ودخل الأندلس فتفقّه على أبى محمد «4» الأصيلىّ، وسمع وحدّث وحجّ غير مرّة، وكان من كبار العلماء.(5/30)
وفيها توفّى الفضل بن منصور أبو الرضا البغدادىّ المعروف بابن الظّريف، كان شاعرا أديبا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 431]
السنة الرابعة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فيها توفّى محمد بن علىّ بن أحمد بن يعقوب بن مروان القاضى أبو العلاء الواسطىّ، أصله من فم الصّلح، ونشأ بمدينة واسط. وكان فقيها فاضلا محدّثا، سمع الحديث، وولى القضاء. ومات ببغداد فى جمادى الآخرة من السنة.
وفيها توفّى محمد بن الفضل بن نظيف أبو عبد الله المصرىّ الفرّاء مسند الديار المصريّة فى زمانه، سمع الكثير وتفرّد بأشياء، وروى عنه خلائق كثيرة. ومات فى شهر ربيع الآخر، وله تسعون سنة.
وفيها شغب الأتراك وخرجوا بالخيم [إلى شاطىء»
دجلة] وشكوا من تأخّر النفقة ووقوع الاستيلاء على إقطاعاتهم، [فعرف السلطان «2» هذا] ، فكاتب دبيس [بن علىّ «3» ] ابن مزيد [و «4» ] أبا الفتح [بن ورّام «5» ] وأبا الفوارس بن سعد «6» ؛ ثمّ كتب إلى الأتراك يلومهم. وحاصل الأمر أنّ الناس ماجوا وانزعجوا، ووقع النهب وغلت الأسعار وزاد الخوف، حتّى إنّ الخطيب صلّى صلاة الجمعة بجامع براثا «7» وليس وراءه إلا ثلاثة(5/31)
أنفس، ونودى فى الجمعة المقبلة من أراد الصلاة بجامع براثا فكلّ ثلاثة أنفس بدرهم خفارة.
وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد بن أحمد الفقيه الاستوائىّ «1» الحنفىّ قاضى نيسابور وفقيهها وعالمها، كان إماما فقيها عالما عفيفا ورعا كثير العلم، كان المعوّل على فتواه بنيسابور فى زمانه. ومات فى هذه السنة. قاله الذهبىّ رحمه الله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد بن أحمد الفقيه الاستوائىّ الحنفىّ قاضى نيسابور وفقيهها. والقاضى أبو العلاء محمد بن على الواسطى المقرئ. وأبو الحسن محمد بن عوف المزنىّ فى [شهر] ربيع الآخر. وأبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف المصرىّ الفرّاء فى [شهر] ربيع الآخر، وله تسعون سنة. وأبو المعمّر مسدّد بن علىّ الأملوكىّ «2» خطيب حمص.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 432]
السنة الخامسة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
فيها اتّفق جلال الدولة مع قرواش وتحالفا وسكنت الفتنة بينهما.(5/32)
وفيها توفّى القاضى أبو العلاء صاعد المقدّم ذكره فى السنة الماضية، فى قول صاحب مرآة الزمان.
وفيها توفّى أبو بكر محمد بن عمر بن بكير «1» بن النّجّار، كان إماما عالما محدّثا. مات فى هذه السنة.
وفيها توفّى عبد الباقى بن محمد الحافظ أبو القاسم الطحّان، كان إماما فاضلا فقيها محدّثا. مات ببغداد فى جمادى الأولى من هذه السنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو العبّاس جعفر بن محمد بن المعتزّ المستغفرىّ. وأبو القاسم عبد الباقى بن محمد الطحّان ببغداد فى جمادى الأولى. وأبو بكر محمد بن عمر بن بكير النحّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع مثل الخالية. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 433]
السنة السادسة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
فيها توفّى محمد بن جعفر أبو الحسين البغدادىّ المقرئ، كان فاضلا قارئا أديبا شاعرا محدّثا. ومن شعره:
[الكامل]
يا ويح قلبى من تقلّبه ... أبدا يحنّ إلى معذّبه
قالوا كتمت هواه عن جلد ... لو كان لى جلد لبحت به(5/33)
وفيها توفّى السلطان مسعود ابن السلطان محمود بن سبكتكين أبو سعيد صاحب خراسان وغزنة وغيرهما. كان ملكا عادلا حسن السّيرة فى الرعيّة، سلك طريق أبيه فى الغزو وفتح البلاد، إلّا أنّه كان عنده محبّة فى اللهو والطّرب. وكان ولى الملك بعد موت أبيه السلطان محمود فى ذى الحجّة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، فكانت مدّة حكمه «1» على بلاد الهند وغيرها اثنتى عشرة سنة إلّا أشهرا.
وفيها توفّى الأمير أنوشتكين الدّزبرىّ «2» قسيم الدولة نائب الشام للمستنصر صاحب الترجمة، كان خصيصا عند المستنصر يندبه إلى المهمّات، وكان شجاعا مقداما عظيم الهيبة حسن السياسة؛ طرد العرب من الشام وأباد المفسدين، ومهّد أمور الشام حتى أمنت السّبل فى أيّامه. وقد قدّمنا من ذكره نبذة فى ترجمة المستنصر فى هذا المحلّ. ولمّا مات ولى دمشق بعده الأمير ناصر الدولة الحسن بن الحسين ابن عبد الله بن حمدان.
وفيها توفّى الأمير أبو جعفر علاء الدولة بن كاكويه «3» صاحب أصبهان. ولى بعده منصور «4» ، وأقام الدعوة والسّكة للملك أبى كاليجار فى جميع بلاد أبيه.
وفيها توفّى سعيد بن العبّاس الحافظ أبو عثمان القرشىّ الهروىّ، كان إماما فاضلا محدّثا فقيها. مات فى المحترم من هذه السنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.(5/34)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 434]
السنة السابعة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
فيها ورد الخبر من تبريز «1» أنّ زلزلة عظيمة وقعت بها هدمت قلعتها وسورها وكثيرا من دورها ومساكنها، ونجا أميرها بنفسه. وأحصى من مات تحت الهدم فكانوا خمسين ألفا، ولبس الناس بها السّواد وجلسوا على المسوح لعظم هذه المصيبة.
ثمّ زلزلت تدمر «2» أيضا وبعلبك، فمات تحت الهدم معظم أهل تدمر.
وفيها توفّى حمزة بن الحسن بن العبّاس الشريف العلوىّ أبو يعلى فخر الدولة ولى قضاء دمشق عن الظاهر العبيدىّ، وهو الذي أجرى الفوّارة يجيرون «3» ، وبنى قيساريّة الأشراف «4» وتعرف بالفخريّة. قال الشريف أبو الغنائم عبد الله بن الحسين:
أنشدنى لقسّ بن ساعدة فى النجوم:
[الكامل]
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شىء لا ينال ضلال
ماذا طلابك علم شىء أغلقت ... من دونه الأبواب والأقفال
افهم فما أحد بغامض فطنة ... يدرى متى الأرزاق والآجال
إلّا الذي من فوق سبع عرشه ... فلوجهه الإكرام والإفضال(5/35)
وفيها توفّى عبيد الله «1» بن هشام بن عبد الله بن سوار أبو الحسين من أهل داريّا بدمشق، كان إماما فاضلا متديّنا.
وفيها توفّى عبد «2» بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير «3» أبو ذرّ الأنصارىّ الهروىّ المالكىّ الحافظ، كان يعرف فى بلده بابن السمّاك، سمع الحديث ورحل [إلى] البلاد، وكان إماما عالما فاضلا سخيّا صوفيّا. قال القاضى عيّاض: ولأبى ذرّ كتاب كبير مخرّج «4» على الصحيحين [و] «كتاب السنة والصفات» . رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 435]
السنة الثامنة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
فيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى الحسين بن عثمان بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبد العزيز أبى دلف أبو سعد العجلىّ، كان إماما محدّثا، سافر إلى خراسان ثمّ عاد إلى بغداد وحدّث بها، ثم انتقل إلى مكّة فتوفّى بها فى شوّال.(5/36)
وفيها توفّى عبيد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم الصّيرفىّ «1» المحدّث، كان صالحا ثقة مكثرا فى الحديث.
وفيها توفّى السلطان أبو طاهر جلال الدولة بن بهاء الدولة فيروز بن عضد الدولة بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه. ولد سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
وكان ملكا محبّبا للرعيّة حسن السيرة، وكان يحبّ الصالحين. ولقى فى سلطنته من الأتراك شدائد. ومات ليلة الجمعة خامس شعبان، وغسّله أبو القاسم بن شاهين الواعظ وأبو محمد عبد القادر بن السمّاك، ودفن بداره فى دار المملكة فى بيت كان دفن فيه عضد الدولة وبهاء الدولة قبل نقلهما إلى الكوفة، ثم نقل بعد سنة إلى مقابر قريش. وكان عمره لمّا مات إحدى وخمسين سنة وشهرا؛ ومدّة ولايته على بغداد ستّ عشرة سنة وأحد عشر شهرا. ولمّا مات كان ابنه الملقّب بالملك العزيز بواسط، فكتب إليه الخليفة القائم بأمر الله يعزّيه فيه. قلت: وجلال الدولة هذا أحسن بنى بويه حالا إن لم يكن رافضيّا على قاعدتهم النّجسة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 436]
السنة التاسعة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
فيها دخل أبو كاليجار بغداد ولم يخرج الخليفة القائم بأمر الله إلى لقائه، فنزل فى دار المملكة وأخرج منها عيال جلال الدولة، وضرب الدّبادب على بابه(5/37)
فى أوقات الصلوات الخمس؛ فروسل بالاقتصار على ثلاثة أوقات، كما كانت العادة، فلم يلتفت إلى رسول الخليفة، واستمرّت الدّبادب فى خمسة أوقات.
وفيها توفّى الحسين بن علىّ بن محمد بن جعفر أبو عبد الله الصّيميرىّ «1» العلّامة.
ولد سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، وكان أحد الفقهاء الحنفيّة الأعلام؛ كان جيّد النظر حسن العبارة وافر العقل صدوقا ثقة، انتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وولى القضاء بالمدائن وغيرها؛ وكان فى ولايته نزها عفيفا ديّنا ورعا. مات ليلة الأحد حادى عشرين شوّال ودفن فى داره بدرب الزرّادين «2» .
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو محمد الأصبهانىّ ويعرف بابن اللبّان، كان صائما قائما صدوقا ثقة أحد أوعية العلم، وله التصانيف الحسان.
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن إبراهيم أبو الحسن الصوفىّ الوكيل، كان ديّنا خيّرا، سكن مصر، وبها كانت وفاته فى شعبان.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن بكير أبو بكر التّنوخىّ الخيّاط الدمشقى، كان يؤمّ بمسجد أبى صالح خارج الباب الشرقىّ بدمشق، وكان صالحا ثقة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن الطيّب أبو الحسين البصرىّ المتكلم، سكن بغداد ودرس بها على مذهب المعتزلة، وله تصانيف كثيرة «3» : منها «المعتمد فى أصول الفقه «4» » لم يصنّف فى فنه مثله.(5/38)
وفيها توفّى محسّن بن محمد بن العبّاس الشريف الحسينىّ، كان نقيب الطالبيّين بدمشق، وولى القضاء بها بعد أخيه لأمّه فخر الدولة «1» نيابة عن أبى [محمد القاسم «2» بن] النّعمان قاضى قضاة خليفة مصر. ومات بدمشق فى المحرّم.
وفيها توفّى علىّ بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، الشريف أبو طالب العلوىّ الموسوىّ المعروف بالشريف المرتضى نقيب الطالبيّين ببغداد، وهو أخو الشريف الرضى. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وكلّ منهما رافضىّ، وكان المرتضى أيضا رأسا فى الاعتزال كثير الاطلاع والجدل. ثمّ ذكر كلاما عن ابن حزم فى هذا المعنى، أنّزه الشريف عن ذكره «3» مراعاة لسلفه الطاهر لا لاعتقاده القبيح فى الصحابة. وكان الشريف المرتضى عالما فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره من جملة قصيدة قوله:
[الخفيف]
والتقينا «4» كما اشتهينا ولا عي ... ب سوى أنّ ذاك فى الأحلام
وإذا كانت الملاقاة ليلا ... فالليالى خير من الأيام
وكانت وفاة الشريف فى يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأوّل.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن أحمد أبو الوليد المرسى يعرف بابن منقذ «5» ، حدّث عن سهل بن إبراهيم وغيره، وكان عالما فاضلا ورعا محدّثا صدوقا ثقة.(5/39)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 437]
السنة العاشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
فيها مات بواسط نصرانىّ يقال له ابن سهل، وأخرجت جنازته نهارا، فثارت العامّة بالنّصارى وجزدوا الميّت وأحرقوه، ومضوا إلى الدّير فنهبوه. وكان الملك العزيز بن جلال الدولة بن بويه بواسطّ، وعمّه الملك أبو كاليجار ببغداد، ولم يكن له تلك الهيبة، وكانوا قد أحسّوا بانقراض دولة بنى بويه بظهور طغرلبك السّلجوقىّ صاحب خراسان، فلم ينتطح فى ذلك شاتان.
وفيها جهّز المستنصر صاحب الترجمة جيشا من مصر إلى حلب، فحصروا ابن مرداس فيها واستظهروا عليه، فاستنجد بالرّوم فلم ينجدوه. وقد تقدّم ذكر هذه الواقعة فى ترجمة المستنصر.
وفيها لم يحج أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفى الحسن بن محمد بن أحمد أبو محمد الدمشقىّ المعروف بابن «1» السّكن؛ كان عابدا زاهدا صام الدهر وله اثنتا «2» عشرة سنة من العمر، وعاش سبعا وثمانين سنة. وكان لا يشرب الماء فى الصيف، وأقأم سنة وخمسة أشهر لا يشربه.
فقال له طبيب «3» : معدتك تشبه الآبار، فى الصيف باردة وفى الشتاء حارّة.(5/40)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن علىّ [بن الحسن بن علىّ بن إبراهيم «1» بن علىّ] بن عبد الله ابن الحسين [الأصغر «2» ] أبو الحسن العلوىّ الحسينىّ البغدادىّ النسابة شيخ الأشراف.
كان فريدا فى علم الأنساب، وله تصانيف كثيرة، وله شعر.
وفيها توفّى مكّى بن أبى طالب حمّوش «3» بن محمد بن مختار الإمام أبو محمد القيسىّ القيروانىّ ثم القرطبىّ المقرئ شيخ الأندلس فى زمانه، حجّ وسمع بمكة وغيرها. وكان إماما عالما محدّثا ورعا، صنّف الكثير فى علوم القرآن. ومولده بالقيروان سنة خمس وخمسين وثلثمائة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 438]
السنة الحادية عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.
فيها أغارت الترك على ما وراء النهر واستولوا على بخارى وسمرقند وخوارزم، فقطع طغرلبك جيحون. وبعث أخاه إبراهيم إلى العراق فاستولى على حلوان ثم عاد إلى الرىّ. والتقى طغرلبك مع الترك فهزمهم وعاد إلى خراسان.
وفيها زلزلت أخلاط وديار بكر زلازل هدمت القلاع والحصون وقتلت خلقا كثيرا.(5/41)
وفيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر والشام.
وفيها توفّى عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن حيّويه «1» الجوينىّ الشافعى والد أبى «2» المعالى الجوينى. وجوين (بضم الجيم) : بلدة من أعمال نيسابور.
وأصلهم من العرب من بنى سنبس «3» . سمع الحديث، وتفقّه بمرو على القفّال «4» ، وصنّف التصانيف الكثيرة. ومات بنيسابور.
وفيها توفّى محمد بن يحيى بن محمد أبو بكر. كان أصله من قرية بالعراق يقال لها الزيديّة. كان عالما بالقرآن والفرائض وسمع الحديث. ومات فى شهر رمضان.
قال أبو بكر الخطيب: «كتبت عنه، وكان ثقة» .
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن إبراهيم أبو علىّ البغدادىّ المالكىّ المقرئ العالم المشهور، مصنّف «الروضة «5» » . كان عالما بالقراءات وغيرها، مفتنّا. مات فى هذه السنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 439]
السنة الثانية عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة.(5/42)
فيها وقع الغلاء والوباء بالموصل والجزيرة وبغداد، ووصل كتاب من الموصل أنهم أكلوا الميتة، وصلّى الجمعة أربعمائة نفس، ومات الباقون وكانوا زيادة على ثلثمائة «1» إنسان، وبيعت الزمّانة يقيراطين، واللّينوفرة «2» بقيراطين أيضا، والخيارة بقيراط.
قاله صاحب مرآة الزمان.
وفيها توفّى أحمد [بن أحمد «3» ] بن محمد أبو عبد الله القصرىّ (من قصر «4» ابن هبيرة) .
ولد سنة ست وأربعين وثلثمائة. وسمع الحديث، وكان من أهل العلم والقرآن، يختم القرآن فى كلّ يوم مرّة، وكان معروفا بالسنّة. ومات فى شهر رجب، ودفن بباب حرب. وكان صدوقا صالحا ثقة.
وفيها توفّى أحمد بن عبد العزيز بن الحسن أبو يعلى الطاهرىّ (من ولد طاهر ابن الحسين الأمير) . ولد سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وقرأ الأدب وسمع الحديث.
ومات فى شوّال. وكان فصيحا صدوقا.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد أبو الفضل الهاشمىّ العباسىّ، من ولد هارون الرشيد. ولى النّضاء بسجستان، وسمع الحديث، وكان له شعر وفضل.(5/43)
وفيها كان الطاعون العظيم بالموصل والجزيرة وبغداد، وصلّى بالموصل على أربعمائة نفس دفعة واحدة، وبلغت الموتى ثلثمائة ألف إنسان.
وفيها توفّى عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيّوب أبو القاسم البغدادىّ الشاعر المشهور، كان يعرف بالمطرّز «1» . مات ببغداد فى جمادى الآخرة.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن علىّ بن عبد الرحيم الوزير أبو سعد «2» وزير جلال الدولة بن بويه. لقى شدائد من المصادرات من الأتراك، حتى آل أمره أنّه خرج من بغداد مستترا وأقام بجزيرة «3» ابن عمر حتّى مات فى ذى القعدة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن إبراهيم أبو الخطّاب الشاعر الجبّلىّ، أصله من قرية جبّل عند النّعمانيّة ببغداد. كان فصيحا شاعرا. رحل إلى البلاد ثم عاد إلى بغداد، وقد كفّ بصره فمات بها. وكان رافضيّا خبيثا. ومن شعره:
[المنسرح]
ما حكم الحبّ فهو ممتثل ... وما جناه الحبيب محتمل
تهوى وتشكو الضّنى وكلّ هوّى ... لا ينحل الجسم فهو منتحل
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثلاث وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 440]
السنة الثالثة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربعين وربعمائة.(5/44)
فيها تمت عمارة سور شيراز، ودوره اثنا عشر ألف ذراع، وارتفاع حائطه عشرون «1» ذراعا، وله عشرة أبواب.
وفيها ولّى المستنصر صاحب الترجمة خليفة مصر القائد طارقا الصّقلبىّ على دمشق؛ وعزل عنها ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن عبد الله بن حمدان، وقبض عليه واستقدمه إلى مصر؛ ثمّ صرف المستنصر طارقا عن إمرة دمشق فى سنة إحدى وأربعين، وولّى مكانه عدة الدولة المستنصرىّ؛ ثمّ صرفه أيضا عنها وبعث به إلى حلب، وولّى دمشق حيدرة بن الحسين بن مفلح، ويعرف بأبى الكرم «2» المؤيّد؛ فأقام عليها حيدرة تسع سنين.
وفيها فى شعبان ختن الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ ابنه أبا العبّاس محمدا، ولقبه بذخيرة الدين «3» وذكر اسمه على المنابر.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى محمد بن جعفر [بن] «4» أبى الفرج الوزير أبو الفرج ويلقّب ذا «5» السعادات.
وزر لأبى كاليجار بفارس وبغداد. وكان وزيرا فاضلا عادلا شاعرا. ومات فى شهر ربيع الآخر، وقيل: فى جمادى الأولى. ومن شعره: [الوافر]
أودّعكم وإنى ذو اكتئاب ... وأرحل عنكم والقلب آبى
وإنّ فراقكم فى كل حال ... لأوجع من مفارقة الشباب(5/45)
وفيها توفّى السلطان أبو كاليجار، واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة فيروز بن عضد الدولة بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه بن فنّا خسرو الدّيلمىّ.
ولد بالبصرة سنة تسع وتسعين وثلثمائة فى شوّال، ومات ليلة الخميس منتصف جمادى الأولى. وكانت ولايته على العراق أربع سنين وشهرين وأياما، ومدّة ولايته على فارس والأهواز خمسا وعشرين سنة. وكان شجاعا فاتكا مشغولا بالشرب واللهو.
ولمّا مات كان ولده أبو نصر ببغداد فى دار الملك نيابة عن أبيه، فلقّبه الخليفة القائم بأمر الله «الملك الرحيم» وخلع عليه خلعة السلطنة. وكانت الخلع سبع جباب كاملة والتاج والطّوق والسوارين واللواءين كما كان فعل بعضد الدولة.
وفيها توفّى الفضل- وقيل: فضل الله- بن أبى الخير محمد بن أحمد أبو «1» سعيد الميهنىّ العارف بالله صاحب الأحوال والكرامات. مات بقرية ميهنة من خراسان فى شهر رمضان وله تسع وسبعون سنة بعد أن سمع الحديث، وروى عنه جماعة، وتكلّم فى اعتقاده ابن حزم. والله أعلم بحاله.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن زياد أبو بكر الأصبهانىّ التاجر المعروف بابن ريذة «2» . روى عن الطّبرانىّ معجميه الكبير والصغير.
وطال عمره، وسار ذكره، وتفرّد بأشياء. ذكره أبو زكريّا بن مندة وقال: «الفقيه «3» الأمين» . كان أحد وجوه الناس، وافر العقل، كامل الفضل.(5/46)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان بن عبد الله بن غيلان بن حكيم أبو طالب الهمذانىّ البغدادىّ البزّاز أخو غيلان المقدّم «1» ذكره. سمع من أبى بكر الشافعىّ أحد عشر جزءا معروفة بالغيلانيّات، وتفرّد فى الدنيا عنه. قال أبو بكر الخطيب: «كتبنا عنه، وكان صدوقا ديّنا صالحا» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 441]
السنة الرابعة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
فيها كانت فتنة بين أهل السنّة والرافضة. قال القاضى أبو القاسم علىّ بن المحسّن التنوخىّ: «أهل الكرخ طائفة نشأت على سبّ الصحابة، وليس للخلافة عليها أمر» . قلت: وعدم أمر الخليفة عليهم لميل بنى بويه إليهم فى الباطن، فإنهم أيضا من كبار الشيعة، وهم يوم ذلك سلاطين بغداد؛ غير أنهم كانوا لا يظهرون ذلك خوفا على الملك.
وفيها هبّت ريح سوداء ببغداد أظلمت الدنيا وقلعت رواشن دار الخلافة ودار المملكة ودور الناس، واقتلعت من الشجر والنخل شيئا كثيرا.
وفيها نزل طغرلبك السّلجوقىّ الرّىّ ولم يتحقّق موت أبى كاليجار بن بويه، ثمّ فحص عن ذلك حتّى تحقّق وفاته.(5/47)
وفيها دخل السلطان مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد الهند، ووصل إلى الأماكن التى كان وصل إليها جدّه محمود.
وفيها توفّى أحمد بن حمزة بن محمد بن حمزة بن خزيمة أبو إسماعيل الهروىّ الصوفىّ. كان يعرف بعمّويه وكان شيخ الصوفية بهراة. سمع الكثير بالعراق والشام.
ومات بهراة فى شهر رجب.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن عبد الله أبو عبد الله الصّورىّ الحافظ. ولد بصور «1» سنة ست وسبعين وثلثمائة وقدم بغداد، وسمع الحديث على كبر السنّ وعنى به.
وكان إماما صحيح النقل دقيق الخطّ صائما قائما لا يفطر إلّا فى العيدين وأيام التشريق. وكان حسن المحاضرة. وله شعر على طريق القوم؛ فمن ذلك من قصيدة:
[المجتث]
نعم الأنيس كتاب ... إن خانك الأصحاب
تنال منه فنونا ... تحظى بها وتثاب
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 442]
السنة الخامسة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.(5/48)
فيها كان من العجائب أنّه وقع الصلح بين أهل السّنّة والرافضة وصارت كلمتهم واحدة. وسبب ذلك أنّ أبا محمد النّسوىّ ولّى شرطة بغداد وكان فاتكا، فاتّفقوا على أنّه متى رحل إليهم قتلوه، واجتمعوا وتحالفوا، وأذّن بباب البصرة ب «- حىّ على خير العمل» وقرىء فى الكرخ فضائل الصحابة، ومضى أهل السّنة والشّيعة إلى مقابر قريش، فعدّ ذلك من العجائب؛ فإنّ الفتنة كانت قائمة والدماء تسكب، والملوك والخلفاء يعجزون عن ردّهم، حتّى ولىّ هذا الشرطة، فتصالحوا على هذا الأمر اليسير.
فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وفيها توفّى علىّ بن عمر بن محمد بن الحسن أبو الحسن الزاهد المعروف بابن «1» القزوينىّ. ولد بالحربيّة»
ببغداد فى المحرّم سنة ستّين وثلثمائة؛ وكان إماما فاضلا زاهدا، قرأ النّحو وسمع الحديث الكثير؛ وكان صاحب كرامات وصلاح، يقصد للزيارة. ومات فى شعبان.
وفيها توفّى الأمير قرواش بن المقلّد أبو المنيع صاحب الموصل والكوفة والأنبار.
وقرواش بفتح «3» القاف والراء المهملة والواو وبعد الألف شين معجمة ساكنة.
ومعناه باللغة التركية عبد أسود. وكان قرواش هذا قد خلع عليه الخليفة القادر بالله ولقّبه معتمد الدولة. وكان قد جمع بين أختين، فلامه النّاس على ذلك؛ فقال لهم: خبّرونى، ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة! فهذا من ذاك. وكان الحاكم بأمر الله استماله فحطب له ببلاده ثمّ رجع عن ذلك. ولمّا مات قرواش ولى مكانه(5/49)
ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلّد المقدّم ذكره فى ترجمة المستنصر أنّه كان مع البساسيرىّ. ويأتى ذلك أيضا فى محلّه مختصرا.
وفيها توفّى السلطان مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، وغيرها من بلاد الهند وغيره. ومات بغزنة، وقام مقامه عمّه عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين؛ اختاره أهل المملكة فأقاموه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 443]
السنة السادسة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.
فيها فى صفر عادت الفتنة بين أهل السّنّة والرافضة ببغداد، وكتب أهل الكرخ على برج الباب: «محمد وعلىّ خير البشر، فمن رضى فقد شكر، ومن أبى فقد كفر» .
وثارت الفتنة بينهم، ولم يقدر على منعهم الخليفة ولا السلطان. واستنجد الخليفة بعيّار من أهل درب ريحان، فأحضر إلى الديوان واستتيب عن الحرام، وسلّط على أهل الكرخ فقتل منهم جماعة كثيرة.
وفيها أقام ابن المعزّ «1» بن باديس الصنهاجىّ ملك الغرب الدعوة بالمغرب للقائم بأمر الله العباسىّ، وأبطل دعوة بنى عبيد خلفاء مصر من الغرب. وكان المعزّ لدين(5/50)
الله معدّ لمّا خرج من المغرب وقصد الديار المصريّة سلّمها إلى المعزّ بن باديس.
فأقام بها سنين إلى أن توفّى، وملكها ابنه من بعده؛ فأقام مدّة سنين يخطب لبنى عبيد إلى هذه السنة؛ فأبطل الدعوة لهم وخطب لبنى العبّاس، ودعا للقائم بأمر الله وهو ببغداد. فلم تزل دعوة العباسية بعد ذلك بالمغرب حتى ظهر محمد بن تومرت «1» بالمغرب وتلقّب بالمهدىّ، وقام بعده عبد المؤمن بن علىّ فقطع الدعوة لبنى العبّاس فى أيام المقتفى العبّاسىّ، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق. وحجّ الناس من مصر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن عثمان بن عيسى أبو نصر الجلّاب «2» ، كان محدّثا ثقة؛ وأخرج له أبو بكر الخطيب حديثا عن ابن عمر: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قرئت عنده سورة الرحمن فقال: «مالى أرى «3» الجنّ أحسن جوابا لردّها منكم» . قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
إلّا قالت الجنّ ولا بشىء من نعمك يا ربنّا نكذّب» .
وفيها توفّى إسماعيل بن علىّ بن الحسين زنجويه أبو سعد الحافظ الرازىّ «4» الحنفىّ؛ كان إماما فاضلا طاف الدنيا ولقى الشيوخ وأثنى عليه العلماء؛ وكان ورعا زاهدا فاضلا، إمام أهل زمانه [بغير مدافعة «5» ] ، [و] ما رأى مثل نفسه [فى كلّ فنّ «6» ] ،(5/51)
وكان يقال له: شيخ العدليّة «1» ومات بالرّىّ، ودفن بجنب الإمام محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة. وكان قرأ على ألف وثلثمائة شيخ، وقرأ عليه ثلاثة آلاف.
قال ابن عساكر: سمع نحوا من أربعة آلاف «2» شيخ، ومات وله أربع وتسعون سنة.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن البصروىّ «3» ؛ كان شاعرا فصيحا فاضلا ظريفا صاحب نوادر. ومن شعره:
[الوافر]
ترى الدنيا وزهرتها فتصبو ... وما يخلو من الشّبهات قلب
فضول العيش أكثرها هموم ... وأكثر ما يضرّك ما تحبّ
وفيها توفّى المفضّل بن محمد بن مسعود «4» أبو المحاسن التّنوخىّ المعزى الفقيه الحنفى. تفقّه على القدورىّ، وأخذ الأدب عن أبى عيسى الرّبعىّ وبرع فى فنون، وناب فى القضاء بدمشق، وولى قضاء بعلبكّ؛ وصنّف تاريخ النحاة وأهل اللغة.
ومات بدمشق، ولم يخلف بعده مثله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 444]
السنة السابعة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وأربعين وأربعمائة.(5/52)
فيها برز محضر من ديوان الخليفة القائم بأمر الله العبّاسىّ بالقدح فى أنساب خلفاء مصر وأنّهم ديصانيّة «1» خارجون عن الإسلام، من جنس المحضر الذي برز فى أيام للقادر بالله، وقد ذكرناه فى وقته، وأخذ فيه خطوط القضاة والشهود والأشراف وغيرهم.
وفيها كانت فى مدينة أرّجان والأهواز زلازل عظيمة ارتجّت منها الأرض، وقلّعت الجبال وخرّبت القلاع، وامتدّت هذه الزلازل إلى بلاد كثيرة.
وفيها استولى طغرلبك محمد بن ميكائيل السّلجوقىّ على همذان ونواحيها، وطمع فى قصد العراق.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن محمد بن علىّ أبو علىّ التميمىّ الواعظ، سمع الحديث الكثير وروى عنه مسند الإمام أحمد عن القطيعىّ «2» .
وفيها توفّى سهل بن محمد بن الحسن أبو الحسن الفاسىّ «3» الصوفىّ، سمع الكثير وحدّث بالعراق ودمشق وصور، وتوجه إلى مصر فمات بها. وكان أديبا شاعرا على طريق القوم. فمن ذلك قوله:
[الطويل]
إذا كنت فى دار يهنيك أهلها ... ولم تك محبوبا بها فتحوّل
وأيقن بأن الرّزق يأتيك أينما ... تكون ولو فى قعر بيت مقفّل(5/53)
وفيها توفّى عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الإمام أبو عمرو الأموى مولاهم القرطبىّ المقرئ الحافظ المعروف بآبن الصيرفىّ «1» أوّلا، ثم بأبى عمرو الدّانى «2» ؛ صاحب التصانيف. كان أحد الأئمة فى علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه، وجمع فى ذلك كلّه تواليف حسانا مفيدة يطول تعدادها. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وبلغنى أن مصنّفاته مائة وعشرون مصنفا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 445]
السنة الثامنة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
فيها وقف طغرلبك السّلجوقىّ على مقالات الأشعرىّ، وكان طغرلبك حنفيّا، فأمر بلعن الأشعرىّ على المنابر، وقال: هذا يشعر بأن ليس لله فى الأرض كلام.
فعزّ ذلك على أبى القاسم القشيرىّ «3» ، وعمل رسالة سمّاها «شكاية أهل السّنّة ما نالهم من المحنة» . ووقع بعد ذلك أمور، حتّى دخل القشيرىّ وجماعة من الأشعريّة إلى السلطان طغرلبك المذكور وسألوه رفع «4» اللّعنة عن الأشعرىّ. فقال طغرلبك:
الأشعرىّ عندى مبتدع يزيد على المعتزلة، لأنّ المعتزلة أثبتوا أنّ القرآن فى المصحف وهذا نفاه. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ رحمه الله: لو أنّ القشيرىّ لم يعمل(5/54)
فى هذه رسالة كان أستر للحال، لأنّه إنّما ذكر فيها أنّه وقع اللعن على الأشعرىّ، وأنّ السلطان سئل أن يرفع ذلك فلم يجب؛ ثمّ لم يذكر له حجّة، ولا دفع للخصم شبهة.
وذكر ابن الجوزىّ من هذا النوع أشياء كثيرة، حتّى قال: وذكر مثل هذا نوع تغفّل. انتهى.
وفيها توفّى إبراهيم بن عمر بن أحمد أبو إسحاق الفقيه الحنبلىّ ويعرف بالبرمكىّ، لأنّ أهله كانوا يسكنون بالبرمكيّة «1» ؛ كان إماما عارفا بمذهبه، وله حلقة للفتوى بجامع المنصور، وسمع خلقا كثيرا، وروى عنه الخطيب وغيره؛ وكان صالحا زاهدا ورعا ديّنا صدوقا ثقة.
وفيها توفّى أحمد بن عمر بن روح أبو الحسين «2» النّهروانىّ؛ كان فاضلا شاعرا قال: كنت على شاطئ «3» دجلة، فمرّبى إنسان فى سفينة وهو يقول:
[الوافر]
وما طلبوا سوى قتلى ... فهان علىّ ما طلبوا
فقلت له: قف، ثم قلت بديها: أضف إليه:
على قلبى الأحبّة بالت ... مادى فى الجفا غلبوا
وبالهجران طيب النّو ... م من عينىّ قد سلبوا
وما طلبوا سوى قتلى ... فهان على ما طلبوا(5/55)
وفيها توفّى مطهّر «1» بن محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الصوفىّ الشّيرازىّ أحد أعيان مشايخ الصوفيّة، جاور بمدينة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة، ورحل إلى بغداد، ثمّ عاد إلى دمشق فمات بها فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 446]
السنة التاسعة عشرة من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وأربعين وأربعمائة.
فيها استوحش الخليفة القائم بأمر الله من الأمير أبى الحارث أرسلان البساسيرىّ واستوحش البساسيرىّ منه. وهذا أوّل الفتنة التى ذكرناها فى ترجمة المستنصر هذا من أنه خطب له على منابر بغداد. وكتب الخليفة القائم بأمر الله إلى طغرلبك السّلجوقىّ فى الباطن يستنهضه إلى السير إلى العراق، وكان بنواحى خراسان.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن إبراهيم أبو علىّ الأهوازىّ المقرئ، كان إماما فى القراءات، وصنّف فى علوم القرآن كتبا كثيرة، وانتهت إليه الرياسة بالشام فى القراءة، وسمع الحديث الكثير، وكان يكره مذهب الأشعرىّ ويضعفه، ومن أجله صنّف ابن عساكر كتابه المسمّى «تبيين «2» [كذب] المفترى، [فيما نسب] إلى أبى الحسن الأشعرىّ» .(5/56)
وفيها توفّى الحسين بن جعفر بن محمد «1» بن جعفر بن داود أبو عبد الله السّلماسىّ «2» الفقيه الصالح، كان مشهورا بأفعال البرّ والصدقات، ينفق ماله على الفقراء والصالحين، وأخذ منه السلطان عشرة آلاف دينار قرضا، ثمّ أراد ردّها فلم يقبلها، وقال: إننى رجل يأكل من مالى قوم لو علموا أنّنى أخذت من مال السلطان لأمتنعوا.
وفيها توفى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأصبهانىّ الفقيه المحدّث، كان زاهدا عالما ورعا، وكنيته أبو محمد «3» ، ويعرف بابن اللبّان. أثنى على علمه وفضله جماعة من العلماء. وكانت وفاته فى جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 447]
السنة العشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
فيها دخل طغرلبك السّلجوقىّ بغداد، وهرب منها أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ إلى الرّحبة «4» ، وكاتب البساسيرىّ المستنصر صاحب مصر، ومشت الرّسل بينهما.(5/57)
وفيها استولى أبو كامل «1» علىّ بن محمد الصّليحىّ على اليمن، وانتمى إلى المستنصر صاحب مصر، وخطب له باليمن، وأزال دعوة بنى العبّاس منها، وكان يدعى بها للقائم بأمر الله، فصار يدعو للمستنصر هذا صاحب الترجمة.
وفيها توفّى الحسين [بن علىّ»
] بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف أبو عبد الله العجلىّ القاضى، وكان يعرف بآبن ماكولا، ولى قضاء البصرة وبغداد، وكان قاضيا نزها عفيفا ديّنا أديبا شاعرا.
وفيها توفّى على بن المحسّن بن علىّ بن محمد بن أبى الفهم أبو القاسم التّنوخىّ القاضى، تقلّد القضاء فى عدّة بلاد، وسمع الحديث الكثير، وصنف الكتب المفيدة؛ ومات فى بغداد فى المحرّم. وكان صدوقا محتاطا فى الحديث. وقيل:
إنّه كان معتزليّا يميل إلى الرّفض.
وفيها توفّى محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ فى حياة والده، كان قد نشأ نشوءا حسنا، ورشّحه أبوه القائم بأمر الله للخلافة، ولقّبه «ذخيرة الدين» . وكانت وفاته فى ذى القعدة، وحزن عليه أبوه القائم حزنا شديدا، وخرج حتّى صلّى عليه بنفسه، فصلّى عليه وبينه وبين الناس سرادق وهم يصلّون خلفه بصلاته؛ وجلس الوزير رئيس الرؤساء للعزاء ثلاثة أيّام، ومنع من ضرب الطّبول ثلاثة أيّام، فلمّا كان اليوم الرابع حضر عميد الملك وزير السلطان بين يدى القائم بأمر الله، وأدّى عن السلطان رسالة تتضمّن التعزية والسؤال بقيام الوزير والجماعة من مجلس التّعزية فقاموا، ثم حمل تابوته بعد ذلك إلى الرّصافة فدفن هناك.(5/58)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 448]
السنة الحادية والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
فيها عم الوباء والقحط بغداد والشام ومصر والدنيا، وكان الناس يأكلون الميتة. وبلغت الرّمانة والسفرجلة دينارا، وكذا الخيارة واللّينوفرة، وانقطع ماء النيل بمصر، وكان يموت بها فى كلّ يوم عشرة آلاف إنسان. وباع عطّار واحد فى يوم واحد ألف قارورة شراب. ووقع بمصر أنّ ثلاثة لصوص نقبوا نقبا فوجدوا عند الصّباح موتى: أحدهم على باب النقب، والثانى على رأس الدرجة، والثالث على الكارة التى سرقها. وهذا الوباء والغلاء خلاف الغلاء الذي ذكرناه فى ترجمة المستنصر؛ ويأتى ذكر ذلك أيضا فى محلّه. غير أنّه كان ينذر عن ذاك بأمور استرسلت إلى أن عظم الأمر.
وفيها أقيم الأذان فى مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكرخ ب «الصلاة خير من النوم» على رغم أنف الشّيعة، وأزيل ما كانوا يقولونه فى الأذان من «حىّ على خير العمل» .
وفيها توفّى جعفر بن محمد بن عبد الواحد أبو طالب الجعفرىّ الشريف الطّوسىّ شيخ الصوفية، كان محدّثا فاضلا، سافر [إلى] البلاد فى طلب الحديث، وسمع بالعراقين والشام وخراسان وغيرها.(5/59)
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن علىّ أبو الحسن المؤدّب. أصله من قرية ببلاد خوزستان يقال لها «فالة» (بفاء) ثم قدم البصرة وسمع الحديث، ثم قدم بغداد ومات بها، وكان محدّثا شاعرا أديبا فصيحا ثقة.
وفيها توفّى هلال بن المحسّن بن إبراهيم بن هلال أبو الحسين الكاتب الصابئ صاحب التاريخ- قلت: نقلنا عنه كثيرا فى هذا التاريخ- وكان مولده فى سنة تسع وخمسين وثلثمائة، وجدّه إبراهيم هو صاحب الرسائل المقدّم ذكر وفاته، وأن الشريف الرضى رثاه، وعيب عليه من كونه من الأشراف ورثى صابئا. وكان أبو هلال هذا المحسّن صابئا، وأسلم هو متأخرا؛ وكان قبل أن يسلم سمع جماعة من النحاة، منهم أبو علىّ الفارسىّ وعلىّ بن عيسى الرّمّانىّ وغيرهما.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 449]
السنة الثانية والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
فيها استعفى ابن النّسوىّ من ولاية الشّرطة ببغداد لأستيلاء الحراميّة واللصوص عليها بحيث إنه أقيم جماعة لحفظ قصر الخليفة والطّيّار الذي للخليفة من الحريق، لأنّ «1» اللصوص كانوا إذا امتنع عليهم موضع حرّقوه.
وفيها كان الطاعون العظيم ببخارى، حتّى إنه خرج منها فى يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان. وحصر من مات فيه فكان ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألف(5/60)
شخص. ثمّ وقع فى أذربيجان والأهواز وواسط والبصرة، حتّى كانوا يحفرون التّربة الواحدة ويلقون فيها العشرين والثلاثين. ثمّ وقع بسمرقند وبلخ، فكان يموت فى كلّ يوم ستة آلاف وأكثر. وذكر صاحب المرآة فى هذا الطاعون أشياء مهولة يطول الشرح فى ذكرها، منها أن مؤدّب «1» أطفال كان عنده تسعمائة صغير فلم يبق منهم واحد. ومات من عاشر شوّال إلى سلخ ذى القعدة بسمرقند خاصّة مائتا ألف وستة وثلاثون ألفا. وكان ابتداء هذا الطاعون من تركستان إلى كاشغر وفرغانة انتهى.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان ابن داود بن المطهّر بن زياد بن ربيعة [بن الحارث «2» ] بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النّعمان بن عدىّ بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة «3» بن تيم الله بن أسد بن وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أبو العلاء المعرّىّ التّنوخىّ اللغوىّ الأعمى الشاعر المشهور صاحب التصانيف المشهورة. قال الذهبىّ:
وصاحب الزندقة المأثورة. وقال أبو المظفّر فى مرآة الزمان: وتنوخ قبيلة من اليمن. وتوفّى أبو العلاء بمعرّة النّعمان فى يوم الجمعة ثالث عشر [شهر] ربيع الأوّل.
ومولده يوم الجمعة لثلاث بقين من [شهر] ربيع الأوّل سنة ثلاث وستين وثلثمائة.
وأصابه جدرىّ بعد ثلاث سنين من عمره فعمى منه. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. قلت: وقد اختلف الناس فى أبى العلاء المذكور، فمن الناس(5/61)
من جعله زنديقا وهم الأكثر، ومن الناس من أوّل كلامه ودفع عنه. وممّا يستشهد عليه من المقالة الأولى قوله:
[الوافر]
عقول «1» تستخفّ بها سطور ... ولا يدرى الفتى لمن الثّبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزّبور
وله فى غير هذا المعنى أشياء كثيرة، وتصانيف مشهورة، منها «سقط الزّند» وشرحه بنفسه وسماه «ضوء السقط» . وله غير ذلك.
وفيها توفّى إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عابد بن عامر أبو عثمان الواعظ المفسر الصّابونىّ النيسابورىّ شيخ الإسلام. قال أبو عبد الله المالكىّ: أبو عثمان ممن شهد له أعيان الرجال بالكمال فى الحفظ والتفسير وغيرهما.
وقال البيهقىّ: أنبأنا إمام المسلمين حقّا، وشيخ الإسلام صدقا أبو عثمان الصابونىّ.
وفيها توفّى علىّ بن هندىّ القاضى أبو الحسن قاضى حمص. ولد سنة أربعمائة.
كان عالما فاضلا نزها عفيفا فصيحا، مات بدمشق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة دراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 450]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمسين وأربعمائة.
فيها أقام أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ الدعوة للمستنصر ببغداد وخطب له على منابرها. وقد استوعبنا واقعته مع الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ فى أوّل ترجمة المستنصر هذا، فيطلب هناك.(5/62)
وفيها ولّى المستنصر الأمير ناصر الدولة أبا محمد الحسن بن الحسين بن حمدان على دمشق، فدام بها إلى أن أمره المستنصر أن يتوجّه إلى حلب فى سنة اثنتين وخمسين لقتال العرب الذين استولوا عليها؛ فتوجّه إليها ودافع العرب بظاهرها فكانت بينهم وقعة هائلة انكسر فيها ناصر الدولة المذكور وعاد جريحا، واستولت العرب على أثقاله وما كان معه.
وفيها توفّى داود جغرى بك أخو السلطان طغرلبك السّلجوقى، وداود كان الأكبر. ولم يقدم بغداد، وكان مقيما بخراسان بإزاء أولاد محمود بن سبكتكين. وهو حمو الخليفة القائم بأمر الله. وكان ملكا شجاعا عاقلا جوادا مدبّرا حكيما. مات ببلخ.
وتوجّه ولداه ياقوتى «1» بك وقاورد «2» بك إلى عند أخيهما متملّك الأمر بعد أبيهما، واسمه ألب أرسلان، وقرّر عمّهما السلطان طغرلبك أمورهما، وكان بأصبهان وقد عزم على قصد العراق.
وفيها توفّى طاهر بن عبد الله بن طاهر أبو الطيّب الطّبرىّ القاضى الشافعىّ.
تفقّه بخراسان وبالعراق، وولى القضاء بربع الكرخ. ومولده سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، ومات يوم السبت عشرين [شهر] ربيع الأوّل، وقد بلغ مائة سنة وسنتين وهو صحيح العقل ثابت الفهم سليم الأعضاء والحواسّ.
وفيها توفّى عبد الله بن علىّ بن عياض أبو محمد الصّورىّ، كان يلقّب بعين الدولة، كان جليلا نبيلا، ولى القضاء بصور، وسمع الكثير، وخرّج له أبو بكر الخطيب فوائد فى أربعة أجزاء وقرأها عليه بصور. وهو الذي أخذ الخطيب مصنّفاته وادّعاها لنفسه. ومات فجأة فى الزّيب (قرية بين عكّا وصور) فى شوّال. وكان صدوقا ثقة.(5/63)
وفيها قتل الوزير رئيس الرؤساء علىّ بن الحسين بن أحمد بن محمد الوزير ابو القاسم، كان من بيت رياسة ومكانة، استكتبه القائم بأمر الله العبّاسىّ، ثمّ استوزره ولقّبه «رئيس الرؤساء شرف الوزراء» . ومولده فى شعبان سنة تسع وتسعين وثلثمائة. وكان عالما بفنون كثيرة مع سداد رأى ووفور عقل. قتله أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ. حسب ما ذكرناه فى أوّل ترجمة المستنصر صاحب الترجمة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن حبيب أبو الحسن «1» الماوردىّ البصرىّ الإمام الفاضل الفقيه الشافعىّ صاحب التصانيف الحسان، منها «التفسير» و «كتاب الحاوى» و «الأحكام السلطانية» و «قوانين الوزارة» و «الأمثال» . وولى القضاء ببلدان كثيرة. وكان محترما عند الخلفاء والملوك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 451]
السنة الرابعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
فيها انصرف أبو الأغرّ دبيس بن مزيد عن بغداد على غضب من البساسيرىّ.
وفيها كان بمكة رخص لم يعهد مثله «2» ، حتّى بلغ البرّ والتمر مائتى رطل بدينار.
وفيها قتل أبو الحارث أرسلان التركىّ المعروف بالبساسيرىّ صاحب الدعوة للمستنصر ببغداد، كان يلقّب بالمظفّر. وكان فى مبدأ أمره مقدّما على الأتراك(5/64)
خصيصا عند القائم بأمر الله العباسىّ، لا يقطع القائم أمرا دونه. فتجبّر وطغى، فجفاه القائم واستنصر عليه بالسلطان طغرلبك السّلجوقىّ حتّى خرج من بغداد على غضب.
وصار يسعى فى زوال الخلافة عن القائم، ولا زال يدبّر عليه حتى فعل تلك الأمور، ودخل بغداد وقاتل الخليفة القائم وقطع خطبته وخطب للمستنصر صاحب الترجمة، وقتل الوزير رئيس الرؤساء المقدّم ذكره- وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أوّل ترجمة المستنصر هذا- وملك بغداد ودام بها حتّى ظفره «1» السلطان طغرلبك السّلجوقىّ وقتله شرّ قتلة. وأعاد الخليفة القائم بأمر الله من حديثة «2» عانة إلى بغداد، وأعيدت الخطبة باسمه، وأبطل طغرلبك اسم المستنصر هذا من بغداد والعراق، ومهّد أمورها (أعنى العراق) حتّى عادت كما كانت عليه، وكان قتله فى آخر السنة.
وفيها توفّى الحسن بن أبى «3» الفضل الإمام أبو علىّ الشّرمقانىّ «4» - والشّرمقان:
قرية من قرى نيسابور- كان إماما فاضلا حافظا للقرآن ووجوه القراءات، زاهدا عابدا ورعا سليم الصدر. وكان لا يقبل من أحد، ويقنع بورق الخسّ. فاتفق أنّ ابن العلّاف خرج يوما متوجّها على دجلة «5» فرأى الشّرمقانىّ هذا يأخذ ما يرمى به أصحاب الخسّ فيأكله، فشقّ عليه ذلك، فحكى أمره للوزير رئيس الرؤساء؛ فقال:
نبعث له شيئا؛ فقال: لا يقبل. فقال الوزير: تحيّل فيه. فقال لغلام له: اذهب إلى مسجد الشّرمقانىّ واعمل لغلقه «6» مفتاحا من حيث لا يشعر ففعل. فقال:(5/65)
احمل له فى كلّ يوم ثلاثة أرطال خبز، ودجاجة مشوية، وقطعة حلوى سكّر.
فكان الغلام يرصده، فإذا خرج من المسجد فتح الباب وترك ذلك فى خلوته وخرج؛ فيقول الشّرمقانىّ: المفتاح معىّ، من أين ذلك! وما هو إلّا من الجنّة! وسكت ولم يخبر أحدا خوفا من أن ينقطع، فأخصب جسمه وسمن؛ فقال له ابن العلّاف:
قد سمنت، فإيش تأكل؟ فأنشد الشّرمقانىّ يقول: [البسيط]
من أطلعوه على سرّ فباح به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأخذ يورّى ولم يصرّح بما يقع له، فقال: هذا كرامة. فقال له بعضهم: ينبغى أن تدعو للوزير؛ ففهم وانكسر قلبه وامتنع من أكل ذلك. وتوفّى بعد ذلك بمدّة يسيرة.
وفيها توفّى سعيد بن محمد بن أحمد الشيخ أبو عثمان النّجيرمىّ «1» النيسابورىّ العدل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 452]
السنة الخامسة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
فيها فى صفر دخل عطيّة «2» صاحب بالس «3» إلى الرّحبة وحصرها وافتتحها. فلمّا دخلها أحسن معاملة أهلها، وخطب بها للمستنصر هذا صاحب الترجمة، بعد أن كانوا خطبوا فيها بأمر السلطان طغرلبك السّلجوقىّ للقائم بأمر الله العبّاسىّ.(5/66)
وفيها دخل السلطان طغرلبك بغداد وفى خدمته أبو كاليجار من ملوك بنى بويه، واسمه هزارسب، والأمير أبو الأغرّ بن مزيد، والأمير أبو الفتح بن ورّام، وصدقة ابن منصور بن الحسين؛ ونزل بدار الملك ببغداد. وانقرضت دولة بنى بويه من بغداد بسلطنة طغرلبك السلجوقىّ هذا.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله «1» بن فضالة أبو الفتح الموازينىّ الحلبىّ «2» الشاعر.
كان يعرف بالماهر. سكن دمشق وبها توفّى. ومن شعره: [الكامل]
يا من توقّد فى الحشا بصدوده ... نار بغير وصاله لا تنطفى
وظننت جسمى أن سيخفى بالضّنا ... عن عاذلىّ فقد ضنيت وما خفى
وفيها توفّيت الترنجان «3» زوجة السلطان طغرلبك السّلجوقىّ وأمّ أنو شروان التى تزوّجها خوارزم شاه؛ كانت أمّ ولد، وفيها دين وافر، ومعروف ظاهر، وصدقات كثيرة، وكانت صاحبة رأى وتدبير وحزم وعزم؛ وكان زوجها السلطان طغرلبك سامعا لها ومطيعا، والأمور مردودة إلى عقلها، وكانت تسير بالعساكر وتنجده وتقاتل أعداءه.
وفيها توفّيت أمّ الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ، وهى أرمينيّة أمّ ولد. تسمّى قطر الندى- وقيل بدر الدجى، وقيل علم- وهى التى حبسها البساسيرىّ لمّا ملك بغداد. وكانت وفاتها فى شهر رجب ببغداد، وصلّى عليها ابنها الخليفة القائم بأمر الله.
وقد جاوزت التسعين سنة من العمر.(5/67)
وفيها توفّى الحسن بن أبى الفضل الأمير أبو محمد النّسوىّ صاحب شرطة بغداد الذي اصطلح أهل السنّة والرافضة خوفا منه فيما تقدّم ذكره. وكان صار ما فاتكا ظالما، يقتل الناس ويأخذ أموالهم. وشهد عليه الشهود عند القاضى أبى الطيب «1» فحكم بقتله، فصالح بمال فسلم، وعزل من الشّرطة ثم أعيد؛ فاتّفقت أهل السّنة والرافضة عليه فقتلوه.
وفيها وقع الطاعون بالحجاز واليمن، وخربت قرى كثيرة، وصار من يدخلها هلك من ساعته.
وفيها توفّى محمد بن عبيد الله بن أحمد أبو الفضل المالكىّ المعروف بابن عمروس، انتهت إليه رياسة المالكية ببغداد فى زمانه، وكان من القرّاء المجوّدين ثقة دينّا؛ أخرج له الخطيب حديثا عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتّى يعمله «2» » .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 453]
السنة السادسة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.(5/68)
فيها توفّى الأمير أحمد «1» بن مروان بن دوستك نصر الدولة الكردىّ صاحب ميّافارقين وديار بكر، ملك البلاد بعد أن قتل أخوه أبو سعيد منصور. وكان نصر الدولة هذا عالى الهمّة، قوىّ الحرمة، مقبلا على اللّذّات، عادلا فى الرعيّة. قيل:
لم تفته صلاة الصبح مع الجماعة مع انهما كه فى اللهو. وكان له ثلثمائة وستّون جارية، يخلو كلّ ليلة بواحدة على عدد أيّام السنة. وخلّف عدّة أولاد. وقد وزر له أبو القاسم الحسين بن على المغربىّ صاحب الرسائل. وكان أوّلا وزير صاحب مصر، فقدم عليه فوزر له مرّتين. ومات نصر الدولة فى شوّال بظاهر ميّافارقين وله سبع وسبعون سنة. وكانت سلطنته إحدى وخمسين سنة. وملك بعده ولده نظام الدين أبو القاسم نصر بن أحمد.
وفيها توفّى علىّ بن رضوان بن علىّ بن جعفر أبو الحسن المصرىّ صاحب المصنّفات. كان من كبار الفلاسفة فى الإسلام، وكان له دار بمدينة مصر على قصر الشّمعة «2» تعرف بدار ابن رضوان. وقد تهدّمت الآن. كان إماما فى الطّبّ والحكمة، كثير الردّ على أرباب «3» فنّه. وكان فيه سعة خلق عند بحثه، وله مصنّفات كثيرة.(5/69)
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن يحيى بن محمد أبو محمد وأبو القاسم السلمىّ الدّمشقىّ المعروف بالسّميساطىّ «1» واقف خانقاه «2» دمشق وغيرها. سمع الحديث، وكان مقدّما فى علم الهندسة والهيئة، وروى عنه أبو بكر الخطيب وغيره.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 454]
السنة السابعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
فيها قبض المستنصر على وزيره أبى الفرج ابن المغربىّ، واستوزر أبا الفرج «3» البابلىّ، ثمّ ردّ ابن المغربىّ إلى كتابة الجيش، وهى كانت رتبته قبل الوزارة؛ ولم يكن قبله وزير يعزل فيعود إلى قديم تصرفه.
وفيها كانت وقعة بين أبى المكارم مسلم بن قريش بن بدران وبين عمّه مقبل ابن بدران. وكان مقبل قد طلب الأمر لنفسه واجتمع إليه خلق من الأكراد وغيرهم، والتقيا على الخابور «4» فانهزم مسلم، وملك مقبل الجزيرة. فبذل مسلم المال وجمع وعاد إلى عمّه مقبل فهزمه. ثمّ اتّفقا واجتمعا واصطلحا على أمر مشى بينهما.
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن محمد بن الحسن أبو محمد الجوهرىّ ثم الشّيرازىّ ثمّ البغدادىّ، مسند العراق فى عصره. ولد فى شعبان سنة ثلاث وستّين وثلثمائة،(5/70)
وسمع الكثير وتفرّد بأشياء عوال. وكان يعرف بالمقنّعى «1» لأنّه كان يتطيلس ويلتفّ بها تحت حنكه. ومات فى ذى القعدة، وكان له شعر. فمن ذلك قوله:
[السريع]
يا موت «2» ما أجفاك من زائر ... تنزل بالمرء على رغمه
وتأخذ العذراء من خدرها ... وتسلب الواحد من أمّه
وفيها توفّى عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار أبو الفضل العجلىّ الرّازىّ المقرئ الإمام الزاهد. أصله من الرّىّ، وولد بمكّة، وكان يتنقّل من بلد إلى بلد.
وكان مقرئا، جليل القدر، كثير التصانيف، حسن السّيرة، زاهدا متعبّدا.
وفيها توفّى المعزّ بن باديس بن منصور بن بلكّين الحميرىّ الصّنهاجىّ سلطان إفريقيّة وما والاها من الغرب. كان الحاكم صاحب مصر قد لقبّه شرف الدولة، وأرسل إليه خلعة فى سنة سبع وأربعمائة، وعاش المعزّ إلى هذا الوقت. وكان ملكا رئيسا جليلا عالى الهمّة، وهو الّذى حسم مادّة الخلاف ببلاد الغرب. وكان مذهب أبى حنيفة ظاهرا بإفريقيّة، فحمل أهل مملكته بالاشتغال بمذهب مالك وترك ما دونه من المذاهب. وكان المعزّ شيخا جوادا ممدّحا. وهو الذي خلع طاعة خلفاء مصر من بنى عبيد، وأبطل دعوتهم من الغرب، وخطب للقائم بأمر الله العبّاسىّ، فكتب إليه المستنصر هذا يتهدّده، فما التفت إلى ذلك. ثمّ وقع بين عساكره وعساكر المستنصر حروب بسبب ذلك.(5/71)
وفيها توفّى سبكتكين [بن عبد الله «1» ] التّركى أبو منصور تمام «2» الدولة. تولى إمارة دمشق من قبل المستنصر صاحب الترجمة، ومات بها فى شهر ربيع الأول.
وكان صالحا عفيفا، سمع الحديث ورواه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 455]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وخمسين وأربعمائة.
فيها دخل الصّليحىّ «3» إلى مكّة، واستعمل الجميل مع أهلها، وأظهر العدل والإحسان، وطابت قلوب الناس له ورخصت الأسعار؛ وكان شابّا أشقر اللّحية أزرق العينين، وليس كان باليمن أشقر أزرق غيره. وكان متواضعا، إذا اجتاز بقوم سلّم عليهم بيده؛ وكسا البيت الحرام بثياب بيض، وردّ بنى شيبة عن قبيح أفعالهم.
وفيها كانت واقعة بين قاورد بك بن داود وبين فضلويه الشونكارىّ على فرسخين من شيراز، فانهزم فضلويه وغنم قاورد بك أمواله. وكان فضلويه فى عشرين ألفا من الدّيلم وغيرهم؛ وكان قاورد بك فى أربعة آلاف من الترك لا غير.(5/72)
وفيها ثار أهل همذان على العميد فقتلوه مع سبعمائة رجل من أصحاب السلطان، وقتلوا أيضا شحنة «1» البلد.
وفيها قصد قتلمش الرّىّ ومعه خمسون ألفا من التركمان، فدفعه عميد الملك عنها.
وفيها توفّى السّلطان طغرلبك. واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق أبو طالب السّلجوقىّ. قدم بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وخلع عليه الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ، وخاطبه بملك المشرق والمغرب. قلت: وهذا أوّل ملوك السلجوقيّة، وهو الذي مهّد لهم الدولة، وردّ ملك بنى العباس بعد أن كان اضمحلّ وزالت دعوتهم من العراق، وخطب لبنى عبيد خلفاء مصر لمّا استولى أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ على بغداد. وقد تقدّم ذكر ذلك. فما زال طغرلبك هذا حتّى ردّ الخليفة القائم بأمر الله من الحديثة إلى بغداد، وأعاد الخطبة باسمه، وقتل البساسيرىّ.
وكان شجاعا مقداما حليما، عصى عليه جماعة فظفر بهم وعفا عنهم. وهو الذي أزال ملك بنى بويه من العراق وغيره. وكانت وفاته بالرّىّ فى يوم الجمعة ثامن شهر رمضان من هذه السنة. وكانت مدّة ملكه خمسا وعشرين سنة؛ وقيل ثلاثون سنة. ومات وعمره سبعون سنة- وقيل جاوز الثمانين- والأول أشهر. وطغرلبك (بضم الطاء المهملة وكسر «2» الراء المهملة وسكون اللام وفتح الباء ثانية الحروف وسكون الكاف) .
وفيها توفّى مسلم بن إبراهيم أبو الفضل السلمىّ البزّاز، ويعرف بابن الشّويطر، كان أديبا فاضلا. ومن شعره:
[البسيط]
ما فى زمانك من ترجو مودّته ... ولا صديق إذا خان الزمان وفا
فعش فريدا ولا تركن إلى أحد ... فقد نصحتك فيما قلته وكفى(5/73)
وفيها توفّى منصور بن إسماعيل بن أبى قرّة القاضى أبو المظفّر الفقيه الهروىّ الحنفىّ قاضى هراة وخطيبها ومسندها، سمع الكثير وحدّث. وهو أحد أعيان فقهاء الحنفيّة فى زمانه. كان إماما حافظا مفتنّا. مات فى ذى القعدة عن قريب تسعين سنة.
وفيها كان الطاعون العظيم بمصر وقراها فمات بمصر فى عشرة أشهر كلّ يوم ألف إنسان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 456]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وخمسين وأربعمائة.
فيها وقعت فتنة عظيمة بين عبيد مصر والتّرك؛ ووصل ناصر الدولة بن حمدان إلى الإسكندرية، والتقى مع العبيد بموضع يعرف بالكرم؛ فقتل من العبيد ألف رجل، وهرب من بقى. ثم تردّدت الرسل فى إصلاح ذات البين فتمّ. وقد تقدّم شىء من ذلك فى ترجمة المستنصر هذا.
وفيها جرت مراسلة بين قاورد بك ابن [أخى] «1» طغرلبك السّلجوقىّ وبين أخيه ألب أرسلان، وسببه أن ألب أرسلان لمّا ملك الرىّ واستولى على الأموال.
كان قاورد بك على أصبهان فرجع إلى كرمان وخطب لألب أرسلان المذكور ولنفسه من بعده؛ فلم يحصل له إنصاف من ألب أرسلان؛ فوقع بسبب ذلك ما وقع.(5/74)
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو الفتح الحلبىّ الشاعر المعروف بآبن أبى حصينة. كان فاضلا شجاعا فصيحا، يخاطب بالأمير.
وفيها توفّى عبد الواحد بن علىّ بن برهان «1» أبو القاسم النحوىّ. كان إماما فاضلا نحويّا وفيه شراسة خلق؛ ولم يلبس سراويل قطّ ولا غطّى رأسه أبدا. ومات ببغداد فى جمادى الأولى.
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف ابن معدان بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة الأموى الفارسىّ الأصل، ثمّ الأندلسىّ القرطبىّ أبو محمد المعروف بآبن حزم المحدّث صاحب التصانيف المشهورة. كان ظاهرىّ المذهب. وقد تكلّم فيه كلّ أحد ما خلا أهل الحديث، فإنّهم أثبتوا «2» على حفظه. كان إماما عارفا بفنون الحديث، إلا أنّه كان صاحب لسان خبيث، ويقع فى حقّ العلماء الأعلام حتّى صار مثلا، فيقال:
«نعوذ بالله من سيف الحجّاج ولسان ابن حزم» . وكان له شعر جيّد. فمن ذلك قوله:
[الوافر]
لئن أصبحت مرتحلا بجسمى ... فقلبى عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.(5/75)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 457]
السنة الثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
فيها توفّى محمد «1» بن منصور أبو نصر عميد الملك الكندرىّ وزير السلطان طغرلبك السّلجوقى. كان فاضلا مدبّرا حازما عاقلا. وكان طغرلبك فى مبدأ أمره قد بعثه ليخطب له امرأة فتزوّجها هو، فحصاه طغرلبك ثم أقرّه على خدمته، فآستولى عليه إلى أن مات. ووزر بعد موت طغرلبك لابنه ألب أرسلان وهو الذي قتله. وولى الوزارة بعده نظام الملك الذي نشر مذهب الإمام الشافعى بالعجم. وكان عميد الملك المذكور فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره لمّا تحقّق قتله، وأجاد إلى الغاية:
[البسيط]
إن كان بالناس ضيق عن مزاحمتى ... فالموت قد وسّع الدنيا على الناس
قضيت والشامت المغرور يتبعنى ... إنّ المنية كاس كلّنا حاسى
وفيها توفّى عبيد «2» الله بن عمر القاضى أبو زيد الدّبوسىّ «3» الحنفىّ شيخ الحنفيّة بما وراء النهر «4» . كان إماما عالما فقيها نحويّا بارعا فى فنون عفيفا مشكور السّيرة،(5/76)
انتهت إليه رياسة مذهب أبى حنيفة فى زمانه بما وراء النهر، ومات والمعوّل على فتواه بها.
وفيها توفّى عبد الملك «1» بن محمد بن عبد الله بن بشران أبو القاسم الواعظ الفقيه المحدّث فى شهر ربيع الآخر. وكان له لسان حلو فى الوعظ مع دين وزهد وعفّة.
وفيها توفّى موسى «2» بن عيسى بن أبى حاجّ أبو عمران الفقيه المالكىّ القابسىّ، شيخ المالكيّة فى زمانه. كان فقيها نحويّا إماما فاضلا بارعا فى فنون من العلوم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 458]
السنة الحادية والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
فيها شرع أهل الكرخ فى عمل مأتم الحسين فى يوم عاشوراء، فثار عليهم أهل السنّة. فقال القائم بأمر الله: هذا شىء قد كان فلا تعاودوه، ونهى عنه. فانكفّت الرافضة بغيظهم إلى لعنة الله.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن علىّ بن عبد الله الحافظ أبو بكر البيهقىّ؛ مولده سنة أربع وثمانين. كان أوحد زمانه فى الحديث والفقه، وله تصانيف كثيرة، جمع نصوص الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- فى عشرة مجلّدات. ومات بنيسابور فى جمادى(5/77)
الاخرة، ونقل تابوته إلى بيهق «1» . وقد روينا سننه الكبرى عن الشيخ أبى النعيم رضوان العقبىّ ثنا «2» التقىّ بن حاتم انا علىّ بن عمر الأرموىّ «3» انا ابن البخارىّ «4» انا منصور «5» بن عبد المنعم الفراوىّ انا محمد بن إسماعيل «6» الفارسىّ انا أبو بكر البيهقىّ.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرّاء أبو يعلى القاضى الحنبلىّ. ولد سنة ثمانين وثلثمائة فى المحرّم، وسمع الكثير وتفقّه على جماعة من العلماء، وانتهت إليه رياسة الحنابلة فى زمانه، ومات يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان، وكانت جنازته مشهورة مشى فيها الأعيان مثل القاضى الدّامغانىّ الحنفىّ ونقيب الهاشميّين أبى الفوارس طرّاد وغيرهما.
وفيها توفّى محمد «7» بن الفضل بن نظيف أبو عبد الله المصرىّ الفرّاء فى شهر ربيع الآخر وله تسعون سنة، وكان إماما عالما زاهدا ورعا.
وفيها توفّى المسدّد «8» بن علىّ أبو المعمّر الأملوكىّ الإمام المحدّث البارع خطيب حمص. كان إماما فقيها فصيحا، سمع الحديث ورواه.(5/78)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 459]
السنة الثانية والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وخمسين وأربعمائة.
فيها بعث المستنصر صاحب الترجمة إلى محمود بن الرّوقلية المتغلّب على حلب يطالبه بحمل المال وغزّو الروم، وصرف ابن خاقان «1» ومن معه من الغزّ إن كان على طاعته. فأجاب بأنّنى التزمت على أخذ حلب من عمّى أموالا افترضتها وأنا مطالب بها، وليس فى يدى ما أقضيها فضلا عمّا أصرفه لغيره. وأمّا الرّوم فقد هادنتهم مدّة وأعطيتهم ولدى رهينة على مال اقترضته منهم، فلا سبيل إلى محاربتهم. وأمّا ابن خاقان والغزّ معه فيدهم فوق يدى. فلمّا وصل الجواب إلى المستنصر كتب المستنصر أيضا إلى بدر الجمالىّ أمير الجيوش المقيم بدمشق: إنّ ابن الرّوقلية خلع الطاعة ومال إلى جهة العراقية. ثم ندب بدر الجمالىّ المذكور عطيّة وهو بالرّحبة لقتاله؛ فدخل القاضى ابن عمّار المقيم بطرابلس بينهم وأصلح الحال.
وفيها كان بمصر الغلاء والقحط المتواتر الذي خرج عن الحدّ- وقد تقدّم ذكره- ولا زال فى زيادة فى هذه السنة والتى قبلها إلى أن أخذ أمره فى نقص فى سنة إحدى وستّين وأربعمائة. وأبيع القمح فى هذه السنة بثمانين دينارا الإردبّ.
وفيها توفّى سعيد بن محمد بن الحسن أبو القاسم إمام جامع صور. كان فاضلا سمع الحديث ورواه، ومن رواياته عن الحسن البصرىّ أنه قال: «لا تشتروا مودّة ألف رجل بعداوة رجل واحد» .(5/79)
وفيها توفّى علىّ بن الخضر أبو الحسن العثمانىّ الدمشقىّ الحاسب. كان له تصانيف فى علم الحساب. ومات بدمشق فى شوّال.
وفيها كان بالرملة الزّلزلة الهائلة التى أخربتها حتّى طلع الماء من رءوس الآبار، وهلك من أهلها- كما نقل ابن الأثير- خمسة وعشرون ألفا. وقال ابن الصابئ:
حدّثنى علوىّ كان بالحجاز: أنّ الزلزلة كانت عندهم فى الوقت المذكور، وهو يوم الثلاثاء حادى عشر جمادى الأولى، فرمت شرفتين من مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وانشقّت الأرض فبان فيها كنوز ذهب وفضّة، وانفجرت فيها عين ماء، وأنها أهلكت أيلة ومن فيها؛ وذكر أشياء كثيرة من هذه المقولة. وأمّا ابن الأثير فإنّه قال: وانشقّت صخرة بيت المقدس وعادت بإذن الله، وأبعد البحر عن ساحله مسيرة يوم، فنزل النّاس إلى أرضه يلتقطون السمك فرجع الماء عليهم فأهلكهم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 460]
السنة الثالثة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّين وأربعمائة.
فيها ولّى المستنصر دمشق للأمير بارزطغان قطب الدولة، ووصل معه الشريف أبو طاهر حيدرة، ونزل بدار العقيقىّ «1» ، وانهزم بدر الجمالىّ أمير الجيوش من دمشق، فنهب أهلها خزائنه لأنّه كان مسيئا إليهم؛ ثم ظفر بدر الجمالى بالشريف حيدرة بعد أمور صدرت وسلخه.(5/80)
وفيها جاء ناصر الدولة بالأتراك إلى باب المستنصر بالقاهرة- وقيل: بالساحل- وزحف المذكورون إلى باب وزيره ابن كدينة «1» فطالبوه بالمال؛ فقال: وأىّ مال بقى عندى بعد أخذكم الأموال واقتسامكم الإقطاعات! فقالوا: لا بدّ أن تكتب إلى المستنصر. فكتب إليه بما جرى. فكتب المستنصر الجواب على الرّقعة بخطه يقول:
[السريع]
أصبحت لا أرجو ولا أتّقى ... إلّا إلهى وله الفضل
جدّى نبيّى وإمامى أبى ... وقولى التوحيد والعدل
المال مال الله، والعبد عبد الله، والإعطاء خير من المنع وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عقيل الشّهرزورىّ «2» الشاعر الفاضل فى القدس الشريف. وكان إماما فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره:
[البسيط]
وا حسرتا مات حظّى من قلوبكم ... وللحظوظ كما للناس آجال
وفيها توفّى الحسن بن أبى طاهر بن الحسن أبو على الختّلىّ «3» . كان يسكن دمشق وبها توفّى. ومن رواياته عن الحسن عن الحسن عن الحسن عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحسن الحسن الخلق الحسن» فالحسن الأوّل(5/81)
ابن حسّان التميمىّ، والثانى ابن دينار، والثالث البصرىّ، والرابع ابن علىّ ابن أبى طالب، رضى الله عنهما.
وفيها توفّيت خديجة بنت محمد بن علىّ بن عبد الله الواعظة الشّاهجانيّة. كانت عظيمة مشهورة بالصدق والورع والزهد والدّين المتين. ولدت «1» سنة ستّ وسبعين وثلثمائة. وكانت تسكن قطيعة الربيع «2» . وصحبت ابن «3» سمعون الواعظ. ولمّا ماتت دفنت إلى جانبه.
وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن يوسف أبو منصور البغدادىّ، كان إماما بارعا لم يكن فى زمانه من يخاطب بالشيخ الأجلّ سواه. ولد سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وكان أوحد زمانه فى فعل المعروف، والقيام بأمور العلماء، وقمع أهل البدع.
وفيها توفّى أبو جعفر الطّوسىّ «4» فقيه الإماميّة الرافضة وعالمهم. وهو صاحب «التفسير الكبير» وهو عشرون مجلّدا، وله تصانيف أخر. مات بمشهد علىّ- رضى الله عنه- وكان مجاورا بضريحه. كان رافضيّا قوىّ التشيّع.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال أبو عمر القرطبىّ المعروف بابن القطّان المالكىّ المغربىّ شيخ المالكيّة فى زمانه وعالمهم. مات فى هذه السنة وله سبعون سنة.
وفيها توفّى أحمد بن الفضل أبو بكر الباطرقانىّ «5» المقرئ فى صفر وله ثمان وثمانون سنة. كان إماما عالما بالقراءات رحمه الله.(5/82)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وستّ أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 461]
السنة الرابعة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وستّين وأربعمائة.
فيها خرج ناصر الدولة بن حمدان من عند الوزير أبى عبد الله [الماسكىّ «1» ] وزير المستنصر بمصر؛ فوثب عليه رجل صيرفىّ وضربه بسكّين؛ فأمسك الصيرفىّ وشنق فى الحال، وحمل ناصر الدولة بن حمدان إلى داره جريحا، فعولج فبرىء بعد مدّة.
وقيل: إنّ المستنصر ووالدته كانا دسّا الصيرفىّ عليه. وفى هذه الأيام اضمحلّ أمر المستنصر بالديار المصريّة لتشاغله باللهو والشرب والطّرب. فلمّا عوفى ابن حمدان اتّفق مع مقدّمى المشارقة، مثل سنان الدولة وسلطان الجيوش وغيرهما، فركبوا وحصروا القاهرة. فاستنجد المستنصر وأمّه بأهل مصر، وأذكرهم حقوقه عليهم، ووعدهم بالإحسان؛ فقاموا معه ونهبوا دور أصحاب ابن حمدان وقاتلوهم. فخاف ابن حمدان وأصحابه، ودخلوا تحت طاعة المستنصر، بعد أمور كثيرة صدرت بين الفريقين.
وفيها أبيع القمح بمصر بمائة دينار الإردبّ، ثمّ عدم وجوده. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أوّل ترجمة المستنصر مفصّلا.(5/83)
وفيها توفّى عبد الرحيم بن أحمد بن نصر الحافظ أبو زكريّا البخارىّ التميمىّ، سمع الحديث وطاف البلاد فى طلب الحديث، وسمع بعدّة أقطار واتّفقوا على صدقه وثقته. وكانت وفاته فى المحرّم بمصر.
وفيها توفّى محمد بن مكّى بن عثمان الحافظ أبو الحسين الأزدىّ المصرىّ فى جمادى الأولى، وكان إماما فاضلا محدّثا، سمع الحديث ورحل البلاد.
وفيها توفّى نصر بن عبد العزيز أبو الحسين الشّيرازىّ الفارسىّ المقرئ، كان إماما فى علم القراءات، وله سماع ورواية.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 462]
السنة الخامسة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وستّين وأربعمائة.
فيها كان معظم الغلاء بالديار المصريّة حتّى خربت وخرب غالب أعمالها. وأبطل صاحب مكّة و [صاحب «1» ] المدينة خطبة المستنصر، وخطبا للقائم بأمر الله العبّاسىّ؛ فلم يلتفت المستنصر لذلك لشغله بنفسه ورعيّته من عظم الغلاء.
وفيها وقف الوزير نظام الملك الأوقاف على مدرسته النظاميّة ببغداد.(5/84)
وفيها توفّى الحسن بن علىّ بن محمد أبو الجوائز الواسطىّ الكاتب، ولد سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة؛ وسكن بغداد دهرا طويلا. وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره- رحمه الله تعالى-:
[الرجز]
واحربا «1» من قولها: ... خان عهودى ولها
وحقّ من صيّرنى ... وقفا عليها ولها
ما خطرت بخاطرى ... إلا كستنى ولها
وفيها توفّى الشريف حيدرة بن إبراهيم أبو طاهر بن أبى الجنّ، الشريف العلوىّ. كان عالما قارئا محدّثا وكان عدوّا لبدر الجمالىّ؛ فلمّا دخل بدر الجمالىّ دمشق هرب منها حيدرة المذكور إلى عمّان «2» البلقاء؛ فغدر به بدر بن حازم وبعث به إلى بدر الجمالىّ بعد أن أعطاه بدر الجمالىّ اثنى عشر ألف دينار وخلعا كثيرة؛ فقتله بدر الجمالىّ أقبح قتله ثمّ سلخ جلده. وقيل: سلخه حيّا. وأظنّ القاضى شهاب الدين أحمد قاضى دمشق وكاتب مصر فى زماننا هذا كان من ذرّيّة ابن أبى الجنّ هذا. والله أعلم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن سهل أبو غالب بن بشران النحوىّ الواسطىّ الحنفىّ ويعرف بابن الخالة. كان إماما عالما فاضلا عارفا بالأدب والنّحو واللّغة والحديث وللفقه، وكان شيخ العراق ورحلته. وابن بشران جدّه لأمّه. ومات بواسط.
ومن شعره:
[المتقارب]
يقول الحبيب غداة الوداع ... كأن قد رحلنا فما تصنع
فقلت أواصل سفح «3» الدموع ... وأهجر نومى فما أهجع(5/85)
وله أيضا:
[البسيط]
لمّا رأيت سلوّى غير متّجه ... وأنّ عزم اصطبارى عاد مفلولا
دخلت بالرّغم منّى تحت طاعتكم ... ليقضى الله أمرا كان مفعولا
وفيها توفّى هزار سب بن تنكر «1» بن عياض أبو كاليجار تاج الملوك الكردىّ. كان قدم على السلطان ألب أرسلان السلجوقىّ بأصبهان ثمّ عاد إلى خوزستان، ونزل بموضع يعرف بخرندة «2» . وكان قد تجبّر وتكبر «3» وتسلط وتفرعن وتزوّج بأخت السلطان ألب أرسلان، فلحقه مرض الذّرب حتى مات منه.
وفيها توفّى محمد بن عتّاب الإمام الفقيه أبو عبد الله القرطبىّ المالكىّ مفتى قرطبة وعالمها، انتهت إليه رياسة مذهبه فى زمانه ببلاد قرطبة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 463]
السنة السادسة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهذه سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
فيها كانت الواقعة العظيمة بين السلطان ألب أرسلان بن طغرلبك السّلجوقىّ وبين ملك الرّوم، وانتصر المسلمون ولله الحمد. ثم سار ألب أرسلان إلى ديار بكر وافتتح بها عدّة حصون، ثم نزل على الفرات؛ ولم يخرج إليه محمود صاحب حلب(5/86)
فغاظه ذلك، فقدم حلب فسار إليها ووصلها، وأخربت عساكره حلب ونهبوها، ووصلت عساكره إلى القريتين «1» من أعمال حمص؛ ثم شفع فيه الخليفة القائم بأمر الله، فقبل ألب أرسلان الشّفاعة واصطلحا.
وفيها ملكت الفرنج جزيرة صقلّيّة. وسببه أنّه كان بها وال، فبعث إليه المستنصر صاحب مصر يطلب منه المال، وكان عاجزا عمّا طلب منه، فبعث إلى الفرنج وفتح لهم باب البلد فدخلوا وقتلوا «2» وملكوا الجزيرة.
وفيها ظهر أتسز بن أوق مقدّم الأتراك، وفتح الرّملة وبيت المقدس، وضايق دمشق، وأخرب الشام.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن ثابت بن أحمد بن مهدى أبو بكر الخطيب البغدادىّ.
ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة بدرزيجان (قرية من قرى العراق) ثمّ انتقل إلى بغداد، ورحل وسمع الحديث، وصنّف الكتب الكثيرة. ويروى عن أبى «3» الحسين ابن الطيورىّ أنه قال: أكثر كتب الخطيب مستفادة من كتب الصورىّ «4» (يعنى أخذها برقتها) . منها: «تاريخ بغداد» الذي تكلّم فيه فى غالب علماء الإسلام بالألفاظ القبيحة بالرّوايات الواهية الأسانيد المنقطعة، حتى امتحن فى دنياه بأمور قبيحة- نسأل الله السلامة وحسن العاقبة- ورمى بعظائم. وأمر صاحب دمشق بقتله لولا [أنه] استجار بالشريف ابن أبى الجنّ «5» فأجاره. وقصته مع الصبىّ الذي عشقه(5/87)
مشهورة. ومن أراد شيئا من ذلك فلينظر فى تاريخ الإمام الحافظ الحجة أبى الفرج ابن الجوزى المسمّى ب «المنتظم» ؛ وأيضا ينظر فى تاريخ العلّامة شمس الدين يوسف ابن قزأوغلى (أعنى مرآة الزمان) وما وقع له من الأمور والمحن. وما ربّك بظلّام للعبيد. أضربت عن ذكر [ذلك] كلّه لكونه متخلّقا بأخلاق الفقهاء، وأيضا من حملة الحديث الشريف. غير أنّنى أذكر من شعره ما تغزّل «1» به فى محبوبه المذكور. فمن ذلك قوله من قصيدة أوّلها:
[البسيط]
تغيّب الناس عن عينى سوى قمر ... حسبى من الناس طرّا ذلك القمر
وكلّه على هذه الكيفيّة.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد المخزومىّ الأندليسىّ القرطبىّ الشاعر المشهور المعروف بابن زيدون، حامل لواء الشعراء فى عصره. كانت وفاته فى شهر رجب بمدينة إشبيلية. ومن شعره:
[السريع]
أيّتها النفس إليه اذهبى ... فما لقلبى عنه من مذهب
مفضّض الثغر له نقطة ... من عنبر فى خدّه المذهب
أنسانى التّوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب
وله القصيدة التى سارت بها الركبان الموسومة بالزيدونية التى أوّلها «2» :
[البسيط]
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا(5/88)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن حباب أبو عبد الله الصّورىّ الشاعر المشهور.
كان فاضلا فصيحا. مات بطرابلس. ومن شعره أوّل قصيدة:
[الكامل]
صبّ جفاه حبيبه ... فحلا له تعذيبه
وفيها توفّى محمد بن وشاح بن عبد الله أبو علىّ. ولد سنة تسع وسبعين وثلثمائة.
وكان فاضلا كاتبا شاعرا فصيحا مترسّلا. رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** ا
[ما وقع من الحوادث سنة 464]
لسنة السابعة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وستين وأربعمائة.
فيها بعث الخليفة القائم بأمر الله الشريف أبا طالب الحسن بن محمد أخا طرّاد الزّينبىّ إلى أبى هاشم محمد أمير مكّة بمال وخلع، وقال له: غيّر الأذان وأبطل «حىّ على خير العمل» . فناظره أبو هاشم المذكور مناظرة طويلة، وقال له: هذا أذان أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب. فقال له أخو الشريف: ما صحّ عنه، وإنّما عبد الله بن عمر بن الخطّاب روى عنه أنه أذّن به فى بعض أسفاره، وما أنت وابن عمر! فأسقطه من الأذان.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عثمان القاضى أبو طالب أمير الدولة، الحاكم على طرابلس الشأم والمتولّى عليها. وكان كريما، كثير الصدقة، عظيم المراعاة للعلويّين.
مات فى نصف شهر رجب.(5/89)
وفيها توفّى عيسون «1» بن علىّ الشيخ أبو بكر الصّقلّى الزاهد المشهور. كان كثير العبادة والزّهد والورع. صنّف كتابا سماه «دليل القاصدين» فى اثنى عشر مجلدا.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصّمد ابن الخليفة المهتدى بالله أبو الحسين «2» الهاشمىّ العبّاسىّ، خطيب جامع المنصور ببغداد. كان صالحا عالما زاهدا ثقة.
وفيها توفّى المعتضد «3» بالله عبّاد بن محمد بن إسماعيل بن عبّاد الملك الجليل صاحب إشبيلية من بلاد الغرب، فى قول الذهبىّ. كان من أجلّ ملوك المغرب وأعظمهم؛ وكان محبّا للعلماء والشعراء، وعنده فضيلة ومشاركة. وكان ابن زيدون الشاعر- المقدّم ذكره- عنده فى صورة وزير. رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 465]
السنة الثامنة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وستين وأربعمائة.
فيها قتل الحسن بن الحسين بن حمدان الأمير أبو محمد ناصر الدولة التّغلبىّ ذو المجدين المقدّم ذكره فى أوّل ترجمة المستنصر هذا. وقع له أمور آل أمره بعدها إلى أن تزوج ببنت إلدكز، واتّفق معه. واتفق لهما أمور كثيرة مع المستنصر صاحب(5/90)
الترجمة. ولما اتّفقا قوى أمر ناصر الدولة هذا ودخل إلى مصر واستولى عليها، ولقّب نفسه بسلطان الجيوش، وأمن إلدكز وناصر الدولة هذا كلّ منهما إلى الآخر.
ووقع لهما أمور، إلى أن دخل ناصر الدولة مصر ثالث مرّة، فغدر إلدكز به وقتله، حسب ما ذكرناه مفصّلا فى ترجمة المستنصر. ثمّ خرج إلدكز بمن معه إلى محمود بن ذبيان أمير بنى سنبس فقتلوه، وكان عنده الأمير شاور فقتلوه أيضا، وخرجوا إلى خيمة تاج المعالى بن حمدان أخى ناصر الدولة فقتلوه بعد أن هرب منهم. ثم قطع ابن حمدان المذكور قطعا وأنفذ كلّ قطعة إلى بلد. قلت: وهذا ناصر الدولة آخر من بقى من أولاد بنى حمدان ملوك حلب وغيرها.
وفيها توفّى عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد أبو القاسم القشيرىّ النيسابورىّ. ولد سنة ستّ وسبعين وثلثمائة فى شهر ربيع الأوّل؛ وربّى يتيما فقرأ واشتغل بالأدب والعربية. وكان أوّلا من أبناء الدنيا، فجذبه أبو علىّ «1» الدّقّاق فصار من الصوفيّة. وتفقّه على بكر «2» بن محمد الطّوسىّ، وأخذ الكلام عن ابن «3» فورك، وصنّف «التفسير الكبير» و «الرسالة» . وكان يعظ ويتكلّم بكلام الصوفيّة.
ومات بنيسابور. ومن شعره:
[السريع]
إن نابك الدهر بمكروهه ... فقل بتهوين تخاويفه
فعن قريب ينجلى غمّه ... وتنقضى كلّ تصاريفه(5/91)
وقد روينا رسالته عن حافظ العصر قاضى القضاة شهاب الدّين أحمد بن علىّ ابن حجر انا أبو الحسن «1» بن أبى المجد شفاها انا أبو محمد القاسم «2» بن مظفّر بن عساكر إجازة إن لم يكن سماعا انا محمد بن على بن محمود العسقلانىّ سماعا انا أمّ المؤيّد «3» زينب بنت عبد الرحمن الشّعريّة سماعا انا أبو الفتوح عبد الوهاب بن شاه الكرمانىّ انا المؤلّف رحمه الله.
وفيها توفّى السلطان ألب أرسلان عضد الدولة أبو شجاع محمد الملقّب بالملك العادل ابن جغرى بك داود بن ميكائيل بن سلجوق السلجوقىّ التركىّ، ثانى ملوك بنى سلجوق، كان اسمه بالعربىّ محمدا. وبالتركىّ ألب أرسلان. وأصل هؤلاء السّلجوقية من الأتراك فيما وراء النهر، فى موضع بينه وبين بخارى مسافة عشرين فرسخا، وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان حتّى صار من أمرهم ما صار. وهو ابن أخى السلطان طغرلبك محمد، وبعده تولّى السلطنة. وألب أرسلان هذا هو أوّل من أسلم من إخوته، وأوّل من لقّب بالسلطان من بنى سلجوق، وذكر على منابر بغداد. وكانت سلطنته بعد عمّه طغرلبك فى سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
ونازعه أخوه قاورد بك فلم يتمّ [له] أمر. وكان ملكا مطاعا شجاعا. مات وهو أجلّ ملوك بنى سلجوق وأعد لهم فى الرعيّة. وهو الذي أنشأ وزيره نظام الملك. وتولّى السلطنة من بعده ولده ملكشاه. ومات ألب أرسلان وعمره أربعون سنة قتلا؛ وكان سبب موته أنه سار فى سنة خمس وستّين وأربعمائة فى مائتى ألف فارس إلى نحو(5/92)
بلاد الروم، ثم عاد إلى ديار بكر، ثمّ إلى جهة حلب وقصد شمس الملك تكين. فلمّا دخل إليه أتاه أعوانه بوالى قلعة من قلاع شمس الملك، واسم الوالى يوسف الخوارزمى، وقرّبوه إلى سرير السلطان ألب أرسلان، فأمر ألب أرسلان أن يضرب له أربعة أوتاد وتشدّ أطرافه الأربعة إليها. فقال يوسف المذكور للسلطان: يا مخنّث، مثلى يقتل هذه القتلة! فغضب السلطان وأخذ القوس والنّشّاب وقال: خلّوه، فرماه فأخطأه، ولم يكن يخطئ له سهم قبل ذلك، فأسرع يوسف المذكور وهجم على السلطان على السرير، فنهض السلطان ونزل فعثر وخرّ على وجهه؛ فوصل يوسف إليه وبرك عليه وضربه بسكّين فى خاصرته؛ وقتل يوسف فى الحال، وحمل السلطان فمات بعد أيّام يسيرة- وقيل فى يومه- وكان ذلك فى جمادى الآخرة من السنة. وألب أرسلان بفتح الهمزة وسكون اللام وبعدها باء موحدة وبقية الأسم معروف.
وفيها توفّى قاوردبك بن داود بن ميكائيل السّلجوقىّ أخو السلطان ألب أرسلان المقدّم ذكره. ولمّا مات أخوه ألب أرسلان نازع ابن أخيه ملكشاه وقاتله، فظفر به ملكشاه بعد حروب وأسره وأمر بقتله؛ فحنقه رجل أرمنىّ بوترقوس، وتولّى سعد الدولة كوهرائين «1» على قتله، وكان ذلك فى شعبان بهمذان. وأمر قاورد بك المذكور من العجائب؛ فإنّه كان يتمنّى موت ألب أرسلان ويتصوّر أنّه يملك الدنيا بعده، فكان هلاكه مقرونا بهلاكه. قلت: وكذلك كان أمر قتلمش مع أخيه طغرلبك عمّ ألب أرسلان وقاورد بك؛ فإنّه كان ينظر فى النجوم ويتحقّق أنه يملك بعده، وكان هلاكه أيضا مقرونا بهلاكه.(5/93)
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن المسلمة الحافظ أبو جعفر. كان إماما حافظا محدّثا عالما. مات ببغداد فى جمادى الأولى من السنة.
وفيها توفّى علىّ بن الحسن «1» بن علىّ بن الفضل الرئيس أبو منصور الكاتب المعروف بصرّدرّ «2» الشاعر المشهور. كان أحد نجباء الشّعراء فى عصره، جمع بين جودة السّبك وحسن المعنى. ومن شعره:
[البسيط]
أكلّف القلب أن يهوى وألزمه ... صبرا وذلك جمع بين أضداد
وأكتم الركب أو طارى وأسأله ... حاجات نفسى لقد أتعبت روّادى
وله أيضا:
[الكامل]
لم أبك أن رحل الشباب وإنّما ... أبكى لأن يتقارب الميعاد
شعر الفتى أوراقه فإذا ذوى ... جفّت على آثاره الأعواد
وله أيضا فى جارية سوداء:
[السريع]
علقتها سوداء «3» مصقولة ... سواد قلبى صفة فيها
ما انكسف البدر على تمّه ... ونوره إلا ليحكيها
لأجلها الأزمان أوقاتها ... مؤرّخات بلياليها «4»
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.(5/94)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 466]
السنة التاسعة والثلاثون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وستّين وأربعمائة.
فيها خرج عساكر غزنة وتعرّضوا لبلاد السلطان ملكشاه السّلجوقى؛ فخرج إليهم إلياس بن ألب أرسلان أخو ملكشاه، فقاتلهم واستأمن إليه سبعمائة منهم، وانهزم من بقى إلى غزنة، وأوغل خلفهم إلياس. وكان سلطان غزنة يوم ذاك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين. ثم عاد إلياس من الوقعة وقد كفى ملكشاه أمر الغزنويّة. ولمّا وصل إلياس إلى بلخ مات بعدها بثلاثة أيّام، وسرّ أخوه ملكشاه بموته، فإنّه كان منحرفا على ملكشاه. فقال له وزيره نظام الملك: لا تظهر الشماتة واقعد فى العزاء؛ ففعل وأظهر الجزن عليه.
وفيها بنى حسّان بن مسمار الكلبىّ قلعة صرخد «1» ، وكتب على بابها: أمر بعمارة هذا الحصن المبارك الأمير الأجلّ مقدّم العرب عزّ الدّين فخر الدولة عدّة أمير المؤمنين (يعنى المستنصر صاحب مصر) وذكر عليها اسمه ونسبه.
وفيها قال ابن الصابئ: ورد إلى مكّة إنسان عجمىّ يعرف بسلار من جهة جلال الدولة ملكشاه، ودخل وهو على بغلة بمركب ذهب، وعلى رأسه عمامة سوداء، وبين يديه الطّبول والبوقات، ومعه للبيت كسوة ديباج أصفر، وعليها اسم محمود بن سبكتكين وهى من استعماله؛ وكانت مودعة بنيسابور من عهد محمود ابن سبكتكين عند إنسان يعرف بأبى القاسم الدّهقان، فأخذها الوزير نظام الملك منه وأنفذها مع المذكور.(5/95)
وفيها توفّى أحمد «1» بن محمد بن عقيل أبو العباس الشّهرزورىّ. كان محدّثا وسمع الكثير، وكان فاضلا فقيها شاعرا. مات ببيت المقدس فى ذى القعدة. ومن شعره من قصيدة طويلة قوله:
[البسيط]
سألت طيفك عن تلفيق «2» إفكهم ... فقال معتذرا لا كان ما قالوا
سعى الوشاة بقطع الودّ بينكما ... وللمودّات بين الناس آجال
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان أبو محمد الخفاجىّ «3» الحلبىّ الشاعر المشهور. كان فصيحا فاضلا. أخذ الأدب عن أبى العلاء المعرّى وغيره، وسمع الحديث وبرع فيه. ومات بقلعة اعزاز من أعمال حلب. ومن شعره قوله:
[الرمل]
أترى طيفكم لمّا سرى ... أخذ النّوم وأعطى السّهرا
يا عيونا بالغضا «4» راقدة ... حرّم الله عليكن الكرى
ومنها:
سل فروع البان عن قلبى فقد ... وهم البارق فيما ذكرا
قال فى الرّبع وما أحسبه ... فارق الأظعان حتّى انفطرا «5»
وفيها توفّى عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علىّ بن سليمان أبو محمد الكتّانىّ الصوفىّ الحافظ الدّمشقىّ أحد الرّحّالين فى طلب العلم. كان من المكثرين فى الحديث كتابة وسماعا مع الصدق والأمانة.(5/96)
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن علىّ الحافظ أبو بكر العطار الأصبهانىّ. كان عظيم الشأن ببلده، عارفا بالرجال والمتون، وكان إماما ثقة.
وفيها توفّى محمد بن عبيد الله بن أحمد [بن محمد] «1» بن أبى الرّعد الفقيه الحنفىّ قاضى عكبرا. كان إماما فقيها صادقا ثقة. مات بعكبرا يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر.
وفيها توفّيت الماورديّة البصرية. كانت زاهدة عابدة صالحة، تجتمع إليها النساء فتعظهنّ وتؤدّبهنّ، قاربت الثمانين سنة، أقامت منها خمسين سنة لا تفطر النهار ولا تنام الليل، ولا تأكل خبزا ولا رطبا ولا تمرا، وإنّما يطحن لها الباقلاء فتتقوّت به. وماتت بالبصرة فلم يبق بالبلد إلّا من شهد جنازتها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
ولمّا كان ليلة النّوروز نقص أصابع، ثم زاد حتى أوفى. ونودى عليه فى سابع عشرين توت: إصبع من سبع عشرة ذراعا. وانتهت زيادته فى هذه السنة إلى ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع (أعنى أنه زاد بعد الوفاء إصبعين لاغير) .
*** [ما وقع من الحوادث سنة 467]
السنة الأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وستين وأربعمائة.
فيها أعيدت الخطبة بمكّة للمستنصر صاحب الترجمة.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد(5/97)
ابن الأمير طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدى بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر.
المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، أمير المؤمنين أبو جعفر الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. وأمّه أمّ ولد روميّة تسمّى قطر النّدى. ماتت فى خلافته، حسب ما ذكرناه فى هذا الكتاب فى محلّه. ومولده فى سنة إحدى وتسعين وثلثمائة.
وبويع بالخلافة بعد موت أبيه وعمره إحدى وثلاثون سنة فى ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وكان جميلا مليح الوجه أبيض اللّون مشربا بحمرة أبيض الرأس واللّحية، متديّنا ورعا زاهدا عالما، فى وجهه أثر صفار من قيام اللّيل، وكان يسرد الصوم، وكان قليل الجماع، ولهذا قلّ نسله. وكان سبب تركه الجماع أنّه جامع ليلة وبين يديه شمعة فصار صورته على الحائط صورة شنيعة، فقام عنها وقال:
لاعدت إلى مثلها. وكانت وفاته فى يوم الخميس ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوما، وقيل غير ذلك.
وأقام فى الخلافة أربعا وأربعين سنة. قلت: ومن الغرائب أن القائم هذا كان معاصرا للمستنصر العبيدى صاحب الترجمة وهو خليفة مصر، وكلاهما مكث فى الخلافة ما لم يمكثه غيره من آبائه وأجداده من طول المدّة؛ فالقائم هذا كانت مدّته أربعا وأربعين سنة، والمستنصر ستّين سنة؛ فما وقع للقائم لم يقع لأحد من العباسيّين، وما وقع للمستنصر لم يقع لأحد من الفاطميّين. وبويع بالخلافة بعد القائم حفيده عبد الله بن محمد الذّخيرة بن القائم المذكور. ومولده بعد وفاة أبيه الذخيرة بستّة أشهر، وتولّى تربيته جدّه القائم، ولقّب بالمقتدى «1» بالله.(5/98)
وفيها توفّى عبد الرحمن بن محمد بن المظفّر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبى طلحة الداوودىّ الحافظ. ولد سنة أربع وسبعين وثلثمائة، وسمع الحديث وقرأ الفقه ودرس وأفتى، ووعظ وصنّف، وكان له حظّ من النظم والنثر. ومن شعره:
[الخفيف]
كان فى الاجتماع للناس نور ... فمضى النّور وادلهمّ الظلام
فسد الناس والزمان جميعا ... فعلى الناس والزمان السلام
وفيها توفّى أبو الحسن علىّ بن الحسن بن علىّ بن أبى الطيّب الباخرزىّ «1» . كان إماما فاضلا شاعرا، صنّف «دمية القصر فى شعراء «2» أهل العصر» . والعماد «3» الكاتب حذا حذوه. وكان الباخرزىّ فريد عصره، وديوان شعره مشهور بأيدى الناس.
ومن شعره قوله:
[الطويل]
زكاة رءوس الناس فى عيد فطرهم ... بقول رسول الله صاع من البرّ
ورأسك أغلى قيمة فتصدّقى ... بفيك علينا فهو صاع من الدّرّ(5/99)
وفيها توفّى علىّ بن الحسين بن أحمد بن الحسين أبو الحسن الثّعلبى، ويعرف بابن صصرى. ذكره الحافظ ابن عساكر وأثنى عليه. حدّث عن تمّام بن محمد وغيره، وكان ثقة. وأصل بنى صصرى من قرية بالموصل. ومات بدمشق.
وفيها توفّيت كوهر خاتون عمّة السلطان ملكشاه السّلجوقىّ أخت السلطان ألب أرسلان. كانت ديّنة عفيفة، صادرها نظام الملك لمّا مات أخوها ألب أرسلان وأخذ منها أموالا عظيمة. فخرجت إلى الرىّ لتمضى إلى المباركيّة «1» تستنجدهم على قتال الوزير نظام الملك، فأشار نظام الملك على ملكشاه بقتلها فقتلها. فلما وصل خبر قتلها إلى بغداد ذمّ الناس نظام الملك وقالوا: ما كفاه بناء هذه المدرسة النظاميّة وغصبه لأراضى الناس وأخذ أنقاضهم حتى دخل فى الدماء من قتله هذه المرأة! وأيضا أنّه أشار على ملكشاه بقتل عمّه قاورد بك المقدّم ذكره، ثم أشار على ملكشاه بكحل أولاد عمّه. وهجا نظام الملك جماعة من أهل العراق؛ فلمّا بلغ نظام الملك قال: ما أقام هذه الشناعة علىّ إلّا فخر الدولة بن جهير «2» .
وفيها توفّى محمود بن نصر بن صالح صاحب حلب ويعرف بابن الروقليّة. كان عمّه عطيّة قد أخذ حلب منه، فتجهّز محمود هذا وأتاه وحصره حتّى استعادها منه.
ومات بها فى ليلة الخميس ثالث عشر شعبان، وهى الليلة التى مات فيها الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ. وسبب موته أنه عشق جارية لزوجته، وكانت تمنعه منها، فماتت الجارية فحزن عليها حتّى مات بعد يومين. ولمّا مات وقع بين العسكر الخلاف.
وكان محمود هذا قد أوصى إلى ولده أبى المعالى شبل وأسكنه القلعة والخزائن عنده؛(5/100)
وأسكن ولده نصرا البلد، وكان يكره نصرا ويحبّ شبلا، والعساكر تحب نصرا؛ فلا زالوا حتّى ملك نصر وخلع شبل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 468]
السنة الحادية والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وستين وأربعمائة.
فيها خرج مؤيّد الملك بن نظام الملك الوزير من بغداد يريد والده، وكان أبوه قد مرض، وخرج معه أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد البيضاوىّ «1» الشاهد رسولا من الديوان إلى السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، يخبره بوفاة الخليفة القائم بأمر الله وإقامة ولده المقتدى بعده فى الخلافة.
وفيها لبس بدر الجمالىّ أمير الجيوش من المستنصر خلعة الوزارة بمصر، وكانت منزلته قبل ذلك أجلّ من الوزارة، ولكن لبسها حتّى لا يترتّب أحد فى الوزارة فينازعه فى الأمر.
وفيها أيضا قبض بدر الجمالىّ على قاضى الإسكندرية ابن المحيرق وعلى جماعة من فقهائها وأعيانها، وأخذ منهم أموالا عظيمة.
وفيها استولى أتسز التّركمانىّ على دمشق وخطب بها للمقتدى العباسىّ، وكتب إلى المقتدى يذكر له تسليمها إليه وغلوّ الأسعار بها وموت أهلها، وأنّ الكارة(5/101)
الطعام بلغت فى دمشق نيّفا وثمانين دينارا مغربيّة، وبقيت على ذلك أربع سنين «1» .
والكارتان ونصف غرارة بالشامىّ. فتكون الغرارة بمائتى دينار. وهذا شىء لم يعهد مثله فى سالف الأعصار. قلت «2» : ولا بعده. وقد تقدّم ذكر هذا الغلاء بمصر والشام فى ترجمة المستنصر هذا.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن محمد القاضى أبو الحسين جلال الدولة الشريف العلوىّ، كان ولى قضاء دمشق للمستنصر، وهو آخر قضاة المصريّين الرافضة، وهو الذي أجار الخطيب البغدادىّ لمّا أمر أمير دمشق بقتله. قال يوما وعنده [أبو] الفتيان بن حيّوس: وددت أنّى فى الشجاعة مثل جدّى علىّ، وفى السخاء مثل حاتم. فقال له [أبو] الفتيان بن حيّوس: وفى الصدق مثل أبى ذرّ-[الغفارىّ «3» ] .
فخجل الشريف، فإنّه كان يتزيّد فى كلامه.
وفيها توفّى إسماعيل بن علىّ أبو محمد «4» العين زربىّ الشاعر الفصيح. كان يسكن دمّشق وبها مات. ومن شعره:
[الطويل]
وحقّكم لا زرتكم فى دجنّة ... من الليل تخفينى كأنّى سارق
ولا زرت إلّا والسيوف شواهر «5» ... علىّ وأطراف الرماح لواحق(5/102)
وله أيضا:
[الطويل]
ألا يا حمام الأيك «1» عيشك آهل ... وغصنك ميّال وإلفك حاضر
أتبكى وما امتدّت اليك يد النّوى ... ببين «2» ولم يذعر جناحك ذاعر
قلت: وهذا يشبه قول القائل فى أحد معانيه:
[الخفيف]
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأراها فى الحزن ليست هنالك
خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت وما الحزين كذلك
وفيها توفّى مسعود [بن عبد العزيز] «3» بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضىّ الشاعر البغدادىّ. كان أديبا فاضلا شاعرا. مات ببغداد فى ذى القعدة. ومن شعره:
[الخفيف]
ليس لى صاحب معين سوى اللّي ... ل إذا طال بالصدود عليّا
أنا أشكو همّ الحبيب إليه ... وهو يشكو بعد الصّباح إليّا
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا. وأوفى يوم نصف توت.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 469]
السنة الثانية والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسغ وستّين وأربعمائة.(5/103)
فيها فى صفر غلب على المدينة النبويّة محيط العلوىّ وأعاد خطبة المستنصر هذا بها، وطرد عنها أميرها الحسين بن مهنّا فقصد الحسين ملكشاه السّلجوقىّ.
وفيها توفّى- والصحيح فى التى قبلها- علىّ بن أحمد بن محمد بن علىّ أبو الحسن الواحدىّ النيسابورىّ. كان من أولاد التجار من ساوة، وكان «1» أوحد عصره فى التفسير. كان إماما عالما بارعا محدّثا، صنف التفاسير الثلاثة: «البسيط» و «الوجيز» و «الوسيط» . والغزالىّ أخذ هذه الأسماء برمّتها وسمّى بها تصانيفه.
وصنّف الواحدىّ أيضا «أسباب النزول» فى مجلّد و «شرح الأسماء الحسنى» وكتبا كثيرة غير ذلك. وكان له أخ اسمه عبد الرحمن قد تفقّه وحدّث أيضا.
وفيها توفّى إسفهدوست «2» بن محمد بن الحسن أبو منصور الدّيلمىّ الشاعر. كان أوّلا يهجو الصحابة- رضى الله عنهم- والناس، ثم تاب وحسنت توبته.
وقال فى ذلك قصيدة طنّانة أولها:
[الكامل]
لاح الهدى فجلا عن الأبصار ... كاللّيل يجلوه ضياء نهار
ورات سبيل الرشد عينى بعد ما ... غطّى عليها الجهل بالأستار
ومنها:
وعدلت عما كنت معتقدا له ... فى الصحب صحب نبيّك «3» المختار
السيد الصدّيق والعدل الرّضى ... عمر وعثمان شهيد الدار
وهى طويلة جدّا.(5/104)
وفيها توفّى طاهر بن أحمد بن باب شاذ «1» أبو الحسن النحوىّ المصرىّ صاحب «المقدّمة «2» » المشهورة. كان عالما فاضلا وله تصانيف فى النحو. سمع الحديث ورواه، وقرىء عليه الأدب بجامع «3» مصر سنين. تردّى من سطح جامع مصر فى شهر رجب فمات من ساعته.
وفيها توفّى عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة- واسم مندة إبراهيم بن الوليد- الحافظ أبو القاسم ابن الحافظ أبى عبد الله العبدىّ الأصبهانىّ. كان كبير الشأن، جليل القدر، حسن الخطّ واسع الرّواية. ولد سنة إحدى «4» وثمانين وثلثمائة، وهو أكبر إخوته- رحمه الله- ومات فى شوّال.
وقال الذهبىّ: مات فى سبعين وأربعمائة.
وفيها كان الطاعون العظيم بالشام، ومات خلائق لا تحصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا. وأوفى بأواخر توت.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 470]
السنة الثالثة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبعين وأربعمائة.(5/105)
فيها ورد كتاب أرتق «1» بك على الخليفة المقتدى العباسىّ بأخذه بلاد القرامطة.
وفيها توفّيت بنت الوزير نظام الملك وزوجة الوزير عميد الدولة «2» ، وجلس الوزير وولده للعزاء. ونظام الملك وزير السلطان ملكشاه، وعميد الدولة وزير الخليفة المقتدى بالله؛ وكان عميد الدولة فى المحلّ أعظم، ونظام الملك فى المال أكثر.
وفيها توفّى أحمد بن عبد الملك بن علىّ الحافظ أبو صالح النيسابورىّ المؤذّن.
ولد سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، وسمع الحديث الكثير، وصنّف الأبواب والشيوخ؛ وكان يؤذّن ويعظ، وكان شيخ الصوفيّة فى وقته علما وعملا وصدقا وثقة وأمانة.
وفيها توفّى عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد أبو جعفر ابن أبى موسى، الشريف الهاشمى، إمام الحنابلة وعالمهم فى زمانه. ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وكان عالما ورعا فاضلا، تفقّه على القاضى أبى يعلى.
وكان يشهد ثمّ ترك الشهادة. وكان صدوقا ثقة زاهدا عابدا مصنّفا. مات بنيسابور فى شهر رمضان.
وفيها توفّى أحمد بن محمد [بن أحمد «3» ] بن عبد الله بن النفور «4» الحافظ أبو الحسن «5» البزّاز. مات ببغداد فى شهر رجب وله تسعون سنة. وكان إماما محدّثا فاضلا بارعا.(5/106)
وفيها توفّى الحسين «1» بن محمد [بن أحمد «2» ] بن طلّاب أبو نصر خطيب دمشق فى صفر بها وله إحدى وتسعون سنة. وكان إماما بارعا محدّثا فصيحا خطيبا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. وفتح الخليج فى سابع عشر مسرى، والماء على اثنتى عشرة إصبعا من ست عشرة ذراعا. وأوفى فى رابع أيام النسىء، وبلغ سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
ونقص فى ثالث عشر بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 471]
السنة الرابعة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
فيما توفّى إبراهيم بن علىّ بن الحسين أبو إسحاق شيخ الصوفيّة بالشام. سمع الحديث، وكان صاحب رياضات ومجاهدات. أقام بصور «3» أربعين سنة، ومات بدمشق.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن عبد الله أبو علىّ بن البنّاء الحنبلىّ. ولد سنة سبع وتسعين وثلثمائة. وبرع فى الفقه وغيره، وصنّف فى كلّ فنّ. وكان يقول: صنّفت خمسين ومائة مصنّف. وكانت وفاته فى شهر رجب هذه السنة.
وفيها توفّى الحسين «4» بن أحمد بن عقيل بن محمد أبو علىّ بن ريش الدمشقىّ. مات بدمشق فى جمادى الاخرة. وكان ثقة صدوقا فاضلا أديبا.(5/107)
وفيها توفّى سعد بن علىّ بن محمد بن علىّ بن الحسين الحافظ أبو القاسم الزّنجانىّ «1» الصّوفىّ. ولد سنة ثمانين وثلثمائة، وطاف البلاد وسمع الكثير. وانقطع فى آخر عمره بمكّة وصار شيخ الحرم.
وفيها توفّى عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجانىّ النحوىّ اللغوىّ شيخ العربيّة فى زمانه. كان إماما بارعا مفتنّا. انتهت إليه رياسة النّحاة فى زمانه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع وعشرون «2» إصبعا. وفتح الخليج فى سابع عشرين مسرى والماء على ثمانى عشرة إصبعا من ست عشرة ذراعا. وكان الوفاء فى ثالث توت بعد ما توقّف ولم يزد إلى عاشر مسرى. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة سبع عشرة ذراعا وعشرين إصبعا، ونقص فى خامس بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 472]
السنة الخامسة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
فيها توفّى منصور «3» بن بهرام الأمير نظام الملك صاحب ميّافارقين من ديار بكر، وملك بعده ابنه ناصر الدولة.(5/108)
وفيها توفّى هيّاج بن عبيد بن الحسين أبو محمد الحطّينىّ الزاهد- وحطّين: قرية غربىّ طبريّة. ويقال: إن قبر شعيب عليه السلام بها، وبنته صفوراء زوجة موسى عليه السلام أيضا بها. وحطّين بكسر الحاء المهملة وفتحها-. وكان هيّاج المذكور إماما زاهدا. سمع الحديث وبرع، وجاور بمكّة وصار فقيه الحرم ومفتى مكّة.
وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ويأكل فى كلّ ثلاثة أيام مرّة، ويعتمر فى كلّ يوم ثلاث مرّات على قدميه. وأقام بالحرم «1» أربعين سنة لم يحدث فيه، وكان يخرج إلى الحلّ ويقضى حاجته. وكان يزور النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فى كلّ سنة ماشيا، وكان يزور عبد الله بن عبّاس فى كلّ سنة مرّة بالطائف؛ ويأكل أكلة بالطائف وأخرى بمكة، وما كان يدّخر شيئا، ولم يكن له غير ثوب واحد. وفيه قال بعضهم:
[الوفر]
أقول لمكّة ابتهجى وتيهى ... على الدنيا بهيّاج الفقيه
إمام طلقّ الدنيا ثلاثا ... فلا طمع لها من بعد فيه
وكان سبب موته أنّ بعض الرافضة شكا إلى صاحب مكّة محمد بن أبى هاشم، قال: إنّ أهل السّنة يستطيلون علينا بهيّاج، وكان صاحب مكّة المذكور رافضيا خبيثا، فأخذه وضربه ضربا عظيما على كبر سنّة، فبقى أيّاما ومات، وقد نيّف على الثمانين سنة، ودفن إلى جانب الفضيل بن عياض، رحمة الله عليهما. ولمّا مات قال بعض العلماء: لو ظفرت النصارى بهيّاج لما فعلوا فيه ما فعله به صاحب مكة هذا الخبيث!. قلت: وهم الآن على هذا المذهب سوى أنّ الله تعالى قمعهم بالدولة التركيّة ونصر أهل السنّة عليهم، وجعلهم رعايا ليس لهم بمكّة الآن غير مجرّد الاسم.(5/109)
وفيها توفّى الحسن بن عبد الرحمن أبو علىّ الفقيه المكىّ الشافعىّ فى ذى القعدة، وكان من الفضلاء.
وفيها توفّى أبو عبد الله يحيى بن أبى مسعود عبد العزيز بن محمد الفارسىّ بهراة فى شوّال، وكان إماما فقيها نحويّا محدّثا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يتحرّر، «1» فإنّه زاد فى بؤونة خمس أذرع، ثم نقص ثلاث أذرع؛ ولم يزد إلى ثانى عشرين أبيب. وفتح الخليج فى عشرين مسرى والماء على تسع عشرة إصبعا من ستّ عشرة ذراعا. وكثرت زيادته فى توت، وانتهى إلى خمس عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا، ثم نقص فى ثانى بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 473]
السنة السادسة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
فيها وصل السلطان ملكشاه السّلجوقىّ إلى الرّىّ لقتال ابن عمّه سلطان شاه بن قاورد بك؛ فخرج إليه سلطان شاه مستأمنا وقبّل الأرض بين يديه. فقام السلطان ملكشاه له وأجلسه بجانبه وتحالفا وزوّجه ابنته، وعاد السلطان ملكشاه إلى أصبهان.(5/110)
وفيها ملك جلال الملك أبو الحسن بن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها حصنّ جبلة «1» ، وكان ابن عمّار هذا قاضى طرابلس وصاحبها، غلب على تلك البلاد سنين، وعجز بدر الجمالىّ أمير الجيوش عن مقاومته.
وفيها عزل المقتدى بالله العباسىّ وزيره عميد الدولة واستوزر أبا شجاع «2» محمد ابن الحسين الرّوذراورىّ «3» ، وكان صالحا عفيفا دينا. فهجاه الموصلىّ فقال:
[الكامل]
ما استبدلوا ابن جهير «4» فى ديوانهم ... بأبى شجاع لرفعة وجلال
لكن رأوه أشحّ أهل زمانه ... فاستوزروه لحفظ بيت المال
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشّبلى أبو علىّ الشاعر البغدادىّ، كان شاعرا مجيدا؛ ومات فى المحرّم. ومن شعره:
[الكامل]
لا تظهرنّ لعاذل أو عاذر ... حاليك فى السرّاء والضرّاء
فلرحمة المتوجّعين مرارة ... فى القلب مثل شماته الأعداء(5/111)
وفيها توفّى محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس الأمير الشاعر. كان أحد شعراء الشاميّين وفحولهم المجيدين، وكان له ديوان شعر. ومات بدمشق فى شعبان وقد جاوز الثمانين سنة. وأنشد له ابن عساكر قصيدة أولها:
[الطويل]
أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنكم فى ربع قلبى سكّان
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن علىّ أبو كامل «1» الصّليحىّ الخارج باليمن. قال ابن خلّكان: كان أبوه قاضيا باليمن سنّىّ المذهب، ثمّ ذكر عنه فضيلة وأشياء أخر تدلّ على أنّه كان رافضيا خبيثا، إلى أن قال: ثمّ إنه صار يحجّ بالناس على طريق السّراة «2» والطائف خمس عشرة سنة. انتهى كلام ابن خلّكان. قلت: وتغلّب على اليمن حتّى ملكه، وجعل كرسىّ ملكه بصنعاء، وبنى عدّة قصور، وطالت أيامه، ودخل سنة خمس وخمسين وأربعمائة إلى مكّة واستعمل الجميل مع أهلها، ورخصت الأسعار، وأحبّه الناس لتواضع كان فيه. ودخل معه مكّة زوجته «3» الحرّة التى كان خطب لها على منابر اليمن؛ وأقام بمكّة شهرا ثمّ رحل. وكان يركب فرسا بألف دينار، وعلى رأسه العصائب. وإذا ركبت زوجته الحرّة ركبت فى مائتى جارية بالحلىّ والجواهر، وبين يديها الجنائب بالسروج الذهب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. وفتح الخليج فى خامس توت والماء على خمس عشرة إصبعا من ستّ عشرة ذراعا. وكان الوفاء فى خامس عشرين توت. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة ست «4» عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا. ونقص فى ثالث بابة.(5/112)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 474]
السنة السابعة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
فيها توفّى داود ولد السلطان ملكشاه السّلجوقىّ فى يوم الخميس حادى عشرين ذى الحجة بأصبهان، وحزن عليه والده ملكشاه حزنا جاوز الحدّ، وفعل فى مصابه ما لم يسمع بمثله، ورام قتل نفسه دفعات وخواصّه تمنعه من ذلك، ولم يمكّن من أخذه وغسله لقلّة صبره على فراقه، حتّى تغيّر وكادت رائحته تظهر، فحينئذ مكّن منه.
وامتنع عن الطعام والشراب. واجتمع الأتراك والتّركمان فى دار المملكة وجزّوا شعورهم، واقتدى بهم نساء الحواشى والحشم والأتباع والخدم، وجزّت نواصى الخيول وقلبت السروج، وأقيمت الخيول مسوّدات، وكذا النساء المذكورات؛ وأقام أهل البلد المأتم فى منازلهم وأسواقهم. وبقيت الحال على هذا سبعة أيام، حتى كلّمه أرباب الدولة فى منع ذلك؛ وأرسل إليه الخليفة يحثّه على الجلوس بالديوان.
وفيها سار تنش صاحب دمشق فافتتح أنطرطوس «1» وغيرها.
وفيها أخذ شرف الدولة صاحب الموصل حرّان «2» من بنى وثّاب النّميريين، وصالحه صاحب الرّهاء وخطب له بها.
وفيها تملّك الأمير سديد الملك «3» أبو الحسن علىّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكنانىّ حصن شيزر، وانتزعه من الفرنج، بعد أن نازلها وتسلّمها بالأمان وبمال(5/113)
للأسقف. فلم تزل شيزر بيده وبيد أولاده إلى أن هدمتها الزلزلة وقتلت أكثر من كان بها؛ فعند ذلك أخذها السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد وأصلحها وجدّدها. وأمّا سديد الملك فلم يحيى بعد أن تملّكها إلّا نحو السنة ومات. وكان شجاعا فارسا شاعرا. وملكها بعده ابنه أبو المرهف نصر.
وفيها توفّى سليمان بن خلف بن سعد بن أيّوب بن وارث الإمام أبو الوليد التّجيبيّ القرطبىّ الباجىّ صاحب التصانيف. أصله بطليوسىّ، «1» وانتقل آباؤه إلى باجة، وهى مدينة قريبة من إشبيلية. وولد فى ذى القعدة سنة ثلاث وأربعمائة.
ورحل البلاد وحجّ وسافر إلى الشام وبغداد، وسمع بهما الكثير. قال القاضى عياض: وولى قضاء مواضع من الأندلس، وذكر مصنّفاته وأثنى على علمه وفضله.
وفيها توفّى نور الدولة دبيس بن علىّ بن مزيد أبو الأغرّ صاحب الحلّة «2» . عاش ثمانين سنة، كان فيها أميرا نيّفا وستّين سنة؛ وكان الطبول تضرب على بابه فى أوقات الصلوات، وكان جوادا ممدّحا، كان محطّ رحال الرافضة- أخزاهم الله- وملك بعده ابنه أبو كامل بهاء الدولة منصور.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى عشرة إصبعا. وفتح الخليج فى خامس عشرين مسرى، والماء على ثمانى عشرة إصبعا من ستّ عشرة ذراعا. وكان الوفاء أوّل أيّام النسىء. وبلغ ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا. ونقص فى ثالث بابة.(5/114)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 475]
السنة الثامنة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وسبعين وأربعمائة.
فيها شفع أرتق بك إلى تاج الدولة تتش صاحب الشام فى مسمار الكلبىّ فأفرج عنه، وسار الأمير أرتق بك إلى القدس.
وفيها فتح ابن قتلمش حصن أنطرطوس من الروم، وبعث إلى ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها يطلب منه قاضيا وخطيبا.
وفيها سار مسلم بن قريش صاحب حلب إلى دمشق وحصر بها صاحبها تتش، ثم عاد عنها ولم يظفر بطائل.
وفيها توفّى ابن ماكولا علىّ بن هبة الله بن علىّ بن جعفر بن علكان بن محمد ابن دلف ابن الأمير أبى دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل العجلىّ.
وعجل: بطن من بكر بن وائل من أمة ربيعة أخى مضر ابنى نزار بن معدّ بن عدنان.
قال شيرويه فى طبقاته: وكان يعرف بالوزير سعد الملك بن ماكولا، وولد بعكبرا فى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فى شعبان، وكنيته أبو نصر. قال صاحب مرآة الزمان: «الأمير الحافظ أبو نصر العجلىّ» . قال أبو عبد الله «1» الحميدىّ: ما راجعت الخطيب فى شىء إلّا وأحالنى على كتاب «2» وقال: حتّى أبصره؛ وما راجعت أبا نصر ابن ماكولا فى شىء إلّا وأجابنى حفظا، كأنّه يقرأ من كتاب. قلت: وهو الذي صنّف عن أوهام الخطيب كتابا سماه «مستمرّ الأوهام» . ومات فى هذه(5/115)
السنة. وقيل سنة تسع وسبعين، وقيل سنة سبع وثمانين. ومن شعره- رحمه الله-:
[الطويل]
ولمّا توافينا تباكت قلوبنا ... فمسك دمع يوم ذاك كساكبه
فيا كبدى الحرّى البسى ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عيسى «1» الإمام أبو بكر السّمسار. مات فى شوّال.
كان إماما فاضلا بارعا، سمع الحديث وبرع فى فنون.
وفيها وقع الطاعون ببغداد ثم بمصر وما والاهما، فمات فيه خلق كثير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى عشرة ذراعا. ثم زاد حتّى كان مبلغ الزيادة فى هذه السنة خمس عشرة ذراعا وعشر أصابع. ثم نقص فى خامس بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 476]
السنة التاسعة والأربعون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وسبعين وأربعمائة.
فيها عزل المقتدى بالله العباسىّ عميد الدولة عن الوزارة.
وفيها سلّم ابن صقيل قلعة بعلبكّ إلى تاج الدولة تتش صاحب الشام، وكان مقيما فيها من قبل المستنصر العبيدىّ صاحب الترجمة، وكان ذلك فى صفر.
وفيها عزم تتش صاحب دمشق على مصاهرة أمير الجيوش بدر الجمالىّ وزير مصر وصاحب عقدها وحلها [على ابنته»
] ، فأشار ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها على تتش بألّا يفعل، فثنى عزمه عن ذلك.(5/116)
وفيها توفّى سلطان شاه بن قاورد بك بن داود بن ميكائيل السّلجوقىّ صاحب كرمان وابن عمّ السلطان ملكشاه؛ فقدمت أمّه على ملكشاه بهدايا وأموال، فأكرمها وأقرّ ولدها الآخر مكانه.
وفيها تغيّرت نيّة السلطان ملكشاة على وزيره نظام الملك، ثمّ أصلح نظام الملك أمره معه.
وفيها توفّى إبراهيم بن علىّ بن يوسف أبو إسحاق الفيروزابادىّ الشيرازىّ الشافعىّ. ولد سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وتفقّه بفارس على أبى عبد الله «1» البيضاوىّ، وببغداد على أبى الطّيب الطّبرىّ. وسمع الحديث، وكان إماما فقيها عالما زاهدا.
ولما قدم خراسان فى الرسالة تلقّاه الناس وخرجوا إليه من نيسابور، فحمل إمام الحرمين أبو المعالى الجوينىّ غاشيته «2» ومشى بين يديه كالخدم وقال: أنا أفتخر بهذا «3» .
قال أبو المظفر فى المرآة: وما عيب عليه شىء إلّا دخوله النّظاميّة «4» ، وذكره الدروس(5/117)
[بها «1» ] ، لأنّ حاله فى الزهد والورع خلاف ذلك. ثم ساق له أشعارا كثيرة. منها فى غريق فى الماء:
[الطويل]
غريق كأنّ الموت رقّ لأخذه ... فلان له فى صورة الماء جانبه
أبى الله أن أنساه دهرى فإنّه ... توفّاه فى الماء الذي أنا شاربه
وله:
[الوافر]
سالت الناس عن خلّ وفى ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظقرت بود «2» حرّ ... فإنّ الحرّ فى الدنيا قليل
وكانت وفاته ببغداد من الجانب الشرقى.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو طاهر بن أبى الصقر «3» الأنبارىّ، كان محدّثا فاضلا ثقة صدوقا صاحب صيام وقيام. وله شعر. وأنشد لابن الرومىّ:
[الكامل]
يا دهر صافيت اللئام مواليّا ... أبدا وعاديت الأكارم عامدا
فغدرت كالميزان ترفع ناقصا ... أبدا وتخفض لا محالة زائدا
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
وفتح الخليج فى ثانى النسىء. وكان الوفاء فى ثامن توت. وكان مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع. ونقص فى تاسع بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 477]
السنة الخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وسبعين وأربعمائة.(5/118)
فيها بنى أمير الجيوش بدر الجمالىّ جامع العطّارين «1» بالإسكندرية. وسببه أنّ ولد بدر الجمالىّ عصى عليه وتحصّن بالإسكندرية. فسار إليه أبوه بدر الجمالىّ حتى نزل على الإسكندرية وحاصرها شهرا حتّى طلب أهلها الأمان وفتحوا له الباب، فدخلها وأخذ ابنه أسيرا ثم بنى هذا الجامع.
وفيها توفّى عبد السعيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر بن الصبّاغ الفقيه الشافعىّ. ولد سنة أربعمائة، وتفقّه وبرع حتّى صار فقيه العراق، وكان يقدّم على أبى إسحاق الشيرازىّ فى معرفة مذهبه. وصنّف الكتب فى الفقه، منها: «الشامل» و «الكامل» و «تذكرة العالم» و «الطريق السالم» . وولى تدريس النّظاميّة قبل أبى إسحاق عشرين يوما. ومات فى جمادى الأولى.
وفيها توفّى مسلم بن قريش بن بدران الأمير أبو البركات شرف الدولة أمير بنى عقيل صاحب الموصل والجزيرة وحلب. وزوّجه السلطان ألب أرسلان السلجوقى أخته. وكان شجاعا جوادا ذا همّة وعزم، احتاج إليه الخلفاء والملوك والوزراء، وخطب له على المنابر من بغداد إلى العواصم والشام. وأقام حاكما على البلاد نيّفا وعشرين سنة. ولمّا مدحه ابن حيّوس بقصيدته التى أوّلها:
[الكامل]
ما أدرك الطّلبات «2» مثل مصمّم ... إن أقدمت أعداؤه لم يحجم
فأعطاه الموصل جائزة له، فأقامت فى حكمه ستة أشهر. وقتل مسلم هذا فى وقعة كانت بينه و [بين سليمان «3» بن] قتلمش فى هذه السنة.(5/119)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
وفتح الخليج فى رابع عشرين مسرى، والماء على اثنتى عشرة إصبعا من ست عشرة ذراعا. وكان الوفاء آخر أيام النسىء. ووقف مدّة ثم نقص فى العشرين من توت بعد ما بلغ سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 478]
السنة الحادية والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
فيها وقع طاعون عظيم بالعراق ثم عمّ الدنيا؛ فكان الرجل قاعدا فى شغله فتثور به الصفراء فتصرعه فيموت من وقته. ثم هبّت ريح سوداء ببغداد، أظلمت الدنيا، ولاحت نيران فى أطراف السماء وأصوات هائلة، فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والبهائم. فكان أهل الدرب يموتون فيسدّ الدرب عليهم. قاله صاحب مرآة الزمان- رحمه الله-.
وفيها اتّفق جماعة بمصر مع ولد أمير الجيوش بدر الجمالىّ على قتل والده وينفرد الولد بالملك، ففطن به أبوه فقتل الجماعة وعفّى أثر ولده؛ ويقال: إنّه دفنه حيّا، وقيل: غرّقه، وقيل: جوّعه حتى مات. وكان بدر الجمالىّ أرمنىّ الجنس، فاتكا جبّارا، قتل خلقا كثيرا من العلماء وغيرهم، وأقام الأذان ب «حىّ على خير العمل» ، وكبّر على الجنائز خمسا، وكتب سبّ الصحابة على الحيطان. قلت: وبالجملة إنّه كان من مساوئ الدنيا، جزاه الله. وغالب من كان بمصر فى تلك الأيام كان رافضيّا خبيثا بسبب ولاة مصر بنى عبيد إلّا من ثبّته الله تعالى على السنّة.(5/120)
وفيها توفّى أحمد بن الحسن «1» بن محمد بن إبراهيم أبو بكر سبط ابن فورك وختن أبى القاسم القشيرىّ على ابنته، وكان يعظ فى النّظاميّة، وكان قبيح السّيرة.
وفيها توفّى عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالى الجوينىّ الفقيه الشافعىّ المعروف بإمام الحرمين. وجوين: قرية من قرى نيسابور. ولد سنة سبع عشرة وأربعمائة، وتفقّه على والده فأقعد مكانه وله دون العشرين من العمر، فأقام الدرس، وسمع بالبلاد، وحجّ وجاور؛ ثم عاد إلى نيسابور، ودرّس بها ثلاثين سنة، وإليه المنبر والمحراب، ويجلس للوعظ، وتخرّج به جماعة، وصنّف «نهاية المطلب [فى رواية «2» المذهب] » . وصنّف فى الكلام الكتب الكثيرة: «الإرشاد» وغيره. قال صاحب مرآة الزمان: وقال محمد بن علىّ تلميذ أبى المعالى الجوينىّ: دخلت عليه فى مرضه الذي مات فيه وأسنانه تتناثر من فيه ويسقط منها الدود، لا يستطاع شمّ فيه؛ فقال:
هذه عقوبة اشتغالي بالكلام فاحذروه! وكانت وفاته ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الأوّل عن تسع وخمسين سنة.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علىّ المتكلّم المعتزلىّ شيخ المعتزلة والفلاسفة والداعية إلى مذهبهم. وهو من أهل الكرخ، وكان يدرّس هذه العلوم، فآضطرّه أهل السّنة إلى أنّه لزم بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر.
ومات فى ذى الحجة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن عبد الملك «3» بن عبد الوهّاب بن حمويه، الإمام أبو عبد الله الدّامغانىّ القاضىّ الحنفىّ. ولد بالدامغان فى شهر ربيع الآخر(5/121)
سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وتفقّه ببلده، ثم قدم بغداد وتفقّه أيضا بالصّيمرىّ والقدورىّ، وسمع منهما الحديث، وبرع فى الفقه، وخصّ بالفضل الوافر والتواضع الزائد، وارتفع وشيوخه أحياء، وانتهت إليه رياسة المذهب فى زمانه. وكان فصيح العبارة مليح الإشارة غزير العلم سهل الأخلاق معظّما عند الخلفاء والملوك. ولى قضاء القضاة ببغداد سنة سبع وأربعين، وصار رأس علماء عصره فى كلّ مذهب.
وحسنت سيرته فى القضاء حتّى أقام فيه ثلاثين سنة. ومات ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر رجب. وكانت جنازته عظيمة، نزع العلماء طيالستهم ومشوا فيها، وكثر أسف الناس عليه. رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى منصور بن دبيس بن علىّ بن مزيد الأمير الرافضىّ أبو كامل بهاء الدولة صاحب الحلّة. مات فيها فى شهر رجب، وكانت ولايته ستّ سنين. وقام بعده ولده سيف الدولة صدقة. قلت: والجميع رافضة، كلّ واحد أنجس من الآخر، عاملهم الله بما يستحقّونه.
وفيها توفّى هبة الله بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن السّيبىّ «1» البغدادىّ. سمع الحديث وتفقّه، وكان أديبا شاعرا فصيحا. مات فى المحرّم. ومن شعره:
[المتقارب]
رجوت الثمانين من خالقى ... لما جاء فيها عن المصطفى
فبلّغنيها وشكرا له ... وزاد ثلاثا بها أردفا
وهأنا منتظر وعده ... لينجزه فهو أهل الوفا(5/122)
وفيها توفّى يحيى بن محمد بن طباطبا الشريف أبو المعمّر بقيّة «1» شيوخ الطالبيّين.
كان هو وأخوه من نسّابيهم، وكان فاضلا شاعرا فقيها فى مذهب الشّيعة. ومات فى شهر رمضان. وهو آخر من بقى من أولاد طباطبا بالعراق ولم يعقب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة يأتى ذكره؛ لأنّ النيل لم يزد فى هذه السنة إلى أوّل مسرى إلا ثلثى ذراع فقط، ثم زاد فى ثانى عشرين مسرى أذرعا حتى صار فى يوم النوروز على ثلاث عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا. ثم نقص إصبعين ثم ثمانيا، ثم زاد فى خامس توت ستّ أصابع؛ وخرج الناس إلى الجبل واستسقوا، فزاد حتّى بلغ ثلاث عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا، ثم نقص سبع أصابع- وقيل: ثمانيا- ثم زاد فى عيد الصليب حتّى صار على أربع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا. ونقص تسع أصابع، ثم زاد فى أوّل بابة حتّى بلغ خمس عشرة ذراعا وخمس أصابع. وكان ذلك منتهى زيادته فى هذه السنة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 479]
السنة الثانية والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
فيها صاد السلطان ملكشاه أربعة آلاف غزال- وقيل: عشرة آلاف وبنى بقرونها منارة سمّاها أمّ القرون.
وفيها توفّى ختلغ بن كنتكين «2» الأمير أبو منصور أمير الكوفة والحاج. ذمّه محمد ابن هلال الصابئ وذمّ سيرته فى تاريخه، إلّا أنّه كان شجاعا، وله وقائع مع العرب(5/123)
فى البرّيّة. وكان محافظا على الصلوات فى الجماعة، ويختم القرآن فى كلّ يوم، ويختصّ بالعلماء والقرّاء، وله آثار جميلة بطريق الحجاز والمشاهد والمساجد. ومكث فى إمارة الحاج اثنتى عشرة سنة.
وفيها قتل سليمان بن قتلمش، هو ابن عمة السلطان ملكشاه السّلجوقىّ. كان أميرا شجاعا، فتح عدّة بلاد، وآخر ما فتحه أنطاكية، وكان قد حاصر حلب ورجع.
وقتل مسلم بن قريش فى حربه؛ فجاءه تاج الدولة تتش والأمير أرتق بك من دمشق، والتّقوا معه واقتتلوا فجاء سليمان هذا سهم فى وجهه فوقع عن فرسه ميتا، فدفن إلى جانب مسلم بن قريش الذي قتل فى محاربته قبل ذلك بأيام.
وفيها توفّى علىّ بن فضّال بن علىّ أبو الحسن المغربىّ الفيروانىّ. كان فاضلا أديبا، له نظم ونثر. ومات بغزنة فى شهر ربيع الأوّل. ومن شعره قوله:
[السريع]
إن تلقك الغربة فى معشر ... قد أجمعوا فيك على بغضهم
فدارهم ما دمت فى دارهم ... وأرضهم ما دمت فى أرضهم
وفيها توفّى علىّ بن المقلّد بن نصر بن منقذ بن محمد بن مالك الأمير أبو الحسن الكنانىّ. كان بينه وبين ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها مودّة، وكان شجاعا فاضلا نحويّا لغويّا شاعرا، وكان صاحب شيزر وبها توفّى. وتولّى شيزر بعده ابنه نصر بن علىّ. وكان له ديوان شعر مشهور. ومن شعره:
[البسيط]
إذا ذكرت أياديك التى سلفت ... وسوء فعلى وزلّاتى ومجترمى
أكاد أقتل نفسى ثم يمنعنى ... علمى بأنّك مجبول على الكرم
وفيها توفى أبو سعيد «1» أحمد بن محمد بن دوست النيسابورىّ الفقيه المحدّث الصوفىّ شيخ الشيوخ ببغداد.(5/124)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع عشرة إصبعا.
وزاد فى نصف بشنس، ثم نقص نصف ذراع، ثم زاد فى أوانه حتى أوفى فى ثالث أيام النسىء. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 480]
السنة الثالثة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثمانين وأربعمائة.
فيها بعث تتش أخو السلطان ملكشاه يقول لأخيه: قد استولى المصريّون على الساحل وضايقوا دمشق، وأسأل السلطان أن يأمر آق سنقر وبوزان «1» أن ينجدانى.
فكتب ملكشاه إليهما أن ينجداه. وكان الأمير بوزان بالرّهاء وآق سنقر بحلب.
وسبب ذلك أنّ أمير الجيوش بدرا الجمالىّ لمّا قوى أمره بمصر، وصار هو المتحدّث عن المستنصر صاحب الترجمة بهذه البلاد، واسترجع كثيرا مما كان ذهب من ممالكهم، جهّز «2» جيشا إلى الساحل. فعظم ذلك على تتش صاحب دمشق.
وفيها بنى تاج الملك أبو الغنائم «3» ببغداد المدرسة التاجيّة بباب أبرز «4» وضاهى بها النّظاميّة. قلت: ومن باب أبرز هذا أصل بنى البارزى كتّاب سرّ زماننا هذا.
كان جدّهم مسلم يسكن فى بغداد بباب أبرز المذكور، ثم خرج من بغداد فى جفلة التتار إلى حلب فسمّى الأبرزىّ، ثم خفّف فسمّى البارزىّ. ويأتى ذكر جماعة منهم فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.(5/125)
وفيها توفّى شافع بن صالح بن حاتم أبو محمد الفقيه الحنبلىّ «1» . كان إماما عالما، تفقّه على أبى يعلى، ومات فى صفر ودفن بباب حرب، وكان صالحا زاهدا ثقة.
وفيها توفّى محمد بن هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابئ أبو الحسن الملقّب بغرس النعمة صاحب التاريخ المسمّى ب «عيون التواريخ» ذيّله على تاريخ أبيه، وأبوه ذيّله على تاريخ ثابت بن سنان، وثابت ذيّل على تاريخ محمد بن جرير الطّبرىّ. وكان تاريخ الطبرىّ انتهى إلى سنة اثنتين أو ثلاث وثلثمائة. وتاريخ ثابت انتهى إلى سنة ستين وثلثمائة. وتاريخ هلال انتهى إلى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. وتاريخ غرس النعمة هذا انتهى إلى سنة تسع وسبعين وأربعمائة. وكان غرس النعمة هذا فاضلا أديبا مترسّلا، وله صدقة ومعروف، محترما عند الخلفاء والملوك والوزراء.
وجدّ أبيه إبراهيم الصابئ هو صاحب «الرسائل» فى أيام عضد الدولة بن بويه.
وقد تقدّم ذكره فى محلّه من هذا الكتاب.
وفيها توفّى أمير الملثّمين «2» بمرّاكش وغيرها من بلاد المغرب الأمير أبو بكر بن عمر. أصله من ولد تاشفين. كان أميرا جليلا يجاهدا فى سبيل الله تعالى. ركب فى بعض غزواته فى خمسمائة ألف مقاتل من رجال الديوان والمطّوّعة. وكان يخطب فى بلاده للدولة العباسيّة، وكان يصلّى بالناس الصلوات الخمس، ويقيم الحدود، ويلبس الصوف، وينصف المظلوم، ويعدل فى الرعيّة، وكان بين رعيّته كواحد منهم. رحمه الله تعالى.(5/126)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وخمس أصابع.
وكان الوفاء فى آخر أيّام النسىء. وكان مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
ونقص فى رابع بابة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 481]
السنة الرابعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
فيها توفّى أحمد بن محمد بن الحسن بن الخضر الحافظ أبو طاهر الجواليقىّ والد أبى منصور موهوب. كان شيخا صالحا متعبّدا، من أهل البيوتات القديمة ببغداد، وكان جدّه صاحب دنيا واسعة. ومات هو فجأة فى شهر رجب.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن علىّ بن محمد بن متّ بن أحمد بن علىّ بن جعفر ابن منصور بن متّ الحافظ شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصارىّ الهروىّ. هو من ولد أبى أيّوب الأنصارىّ رضى الله عنه. سمع الكثير وروى عنه جماعة. وكان إماما حافظا بارعا فى اللغة إمام وقته. قال المؤتمن: وكان يدخل على الأمراء والجبابرة فما كان يبالى بهم. ومات فى ذى الحجة وقد جاوز أربعا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن ماجة أبو بكر الأبهرىّ الأصبهانىّ الإمام العالم المشهور. مات بأصبهان عن خمس وتسعين سنة، وقد انتهت إليه رياسة العلم بها.
وفيها توفّى عثمان بن محمد بن عبيد الله أبو عمرو المحمىّ «1» . مات فى صفر. وكان إماما عالما مفتنّا.(5/127)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع. فهلكت الزروع والغلّات والمخازن من كثرة الماء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 482]
السنة الخامسة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
فيها جهّز بدر الجمالىّ أمير الجيوش عسكرا من مصر مع نصير الدولة الجيوشىّ، فنزل على صور وبها القاضى عين الدولة بن أبى عقيل، فسلّمها إليه لمّا لم يكن له به طاقة. وفتح نصير الدولة صيداء وعكّا. وكان لتتش بهذه البلاد ذخائر وأموال، فأخذها نصير الدولة المذكور، ثم نزل على بعلبكّ، وجاءه ابن ملاعب وخطب للمستنصر صاحب الترجمة (أعنى أنه دخل تحت طاعة المصريّين) . وبعث تتش إلى آق سنقر وبوزان وقال لهما: هذه البلاد كان لى فيها ذخائر وقد أخذت، وطلب منهما النجدة، فبعثا له عسكرا.
وفيها توفّى طاهر بن بركات «1» بن إبراهيم الحافظ أبو الفضل القرشىّ الخشوعىّ.
كان عظيم الشأن، من أكابر شيوخ دمشق. قال ابن عساكر: سألت ولده إبراهيم ابن طاهر: لم سمّيتم الخشوعيّين؟ فقال: لأنّ جدّنا الأعلى كان يؤمّ الناس فمات بالمحراب. انتهى. وكانت وفاة طاهر هذا بظاهر دمشق. وكان ثقة صدوقا عالما.
وفيها توفى عاصم بن الحسن بن محمد بن على بن عاصم أبو الحسين. كان ظريفا أديبا شاعرا فصيحا حافظا للشعر.(5/128)
وفيها توفّى علىّ بن أبى يعلى بن زيد الشيخ أبو القاسم الدّبوسىّ من أهل دبوسية، وهى بلدة بين بخارى وسمرقند. كان إماما عالما. أقدمه الوزير نظام الملك إلى بغداد للتدريس [فى] مدرسته النظاميّة. وكان عارفا بالفقه والجدل والمناظرة.
ومات ببغداد فى شعبان.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن صاعد رئيس نيسابور وعالمها وقاضيها أبو نصر النيسابورىّ الحنفىّ. كان إمام وقته ووحيد دهره علما وزهدا وفضلا ورياسة وعفّة. انتهت إليه رياسة السادة الحنفيّة فى زمانه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو حامد أحمد بن محمد السّرخسىّ الشّجاعىّ البلخىّ الفقيه العالم المشهور. كان إماما عالما فاضلا، سمع الحديث الكثير وتفقّه وبرع فى فنون.
وفيها توفّى إبراهيم بن سعيد الحافظ أبو إسحاق النّعمانىّ مولاهم الحبّال. كان إماما فاضلا حافظا، سمع الكثير ورحل البلاد وحدّث وسمع منه خلائق، ثمّ سكن مصر، وبها كانت وفاته، ومات وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 483]
السنة السادسة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة.(5/129)
فيها نزل تتش على حصن بعلبكّ «1» وبها ابن ملاعب ومع تتش آق سنقر وبوزان فقاتلوه مدّة، وقالوا له: أنت توجّهت إلى مصر وخطبت للمستنصر. فلمّا أخافوه طلب الأمان فأعطوه؛ فنزل من القلعة وتوجّه إلى مصر؛ وملك تتش بعلبكّ «2» . وأقام ابن ملاعب بمصر مدّة، وأحسن إليه المستنصر صاحب الترجمة، ثمّ عاد إلى الشام ودبّر الحيلة على حصن فامية حتّى ملكه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام علىّ بن محمد القيروانىّ. كان فقيها عالما شاعرا. ومن شعره- وأجاد إلى الغاية-:
[الكامل]
ما فى زمانك ماجد ... لو قد تأمّلت الشواهد «3»
فاشهد بصدق مقالتى ... أو لا فكذّبنى بواحد
قلت: لله درّه! لقد عبّر عن زماننا هذا كأنّه قد رآه.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن جهير الوزير أبو نصر فخر الدولة. أصله من الموصل وبها ولد، وقدم ميّافارقين. وكتب للخليفة القائم بأمر الله العبّاسىّ يسأله أن يستوزره، فأجابه ثم نقم عليه ونفاه إلى الحلّة ثم أعاده. ولما تولّى المقتدى الخلافة وزرله، ثم عزل ونفى؛ فمضى إلى السلطان ملكشاه وانتمى إليه، وفتح له ديار بكر وأتحفه بالأموال. ثم تغيّر عليه السلطان؛ فاستأذن فى الإقامة بالموصل فأذن له؛ فتوجّه إليه فلم يقم به إلّا اليسير، ومرض ومات ودفن بالموصل. وكان سخيّا كريما شجاعا مدبّرا عارفا.(5/130)
وفيها توفّى الشيخ المسند أبو الحسين «1» عاصم بن الحسن العاصمىّ الكرخىّ. كان إماما محدّثا، سمع الكثير وروى عنه خلق كثير، وكان أديبا شاعرا ثقة.
وفيها توفّى الحافظ أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن علىّ التّرياقىّ «2» . مات بمدينة هراة وله أربع وتسعون سنة. وكان عالما محدّثا فقيها فاضلا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العارف بالله أبو بكر محمد بن إسماعيل التّفليسىّ الصوفىّ النّيسابورىّ. مات فى شوّال بنيسابور، وكان إماما محدّثا فقيها صوفيا معدودا من أعيان الصوفيّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 484]
السنة السابعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة أربع وثمانين وأربعمائة.
فيها فى صفر كتب الوزير أبو شجاع إلى الخليفة يعرّفه باستطالة أهل الذمّة على المسلمين، وأنّ الواجب تمييزهم عنهم؛ فأمره الخليفة أن يفعل ما يراه. فألزمهم الوزير لبش الغيّار «3» والزّنانير وتعليق الدراهم الرّصاص فى أعناقهم مكتوب على الدراهم [ذمىّ «4» ] ، وتجعل هذه الدراهم أيضا فى أعناق نسائهم فى الحمّامات ليعرفن بها، وأن يلبسن الخفاف فردا أسود وفردا أحمر، وجلجلا فى أرجلهنّ. فذلّوا وانقمعوا(5/131)
بذلك. وأسلم حينئذ أبو سعد بن الموصّلايا «1» ، كاتب الإنشاء للخليفة وابن أخته «2» أبو نصر هبة الله.
وفيها فى جمادى الأولى قدم أبو حامد الطّوسىّ الغزالىّ إلى بغداد مدرّسا بالنظاميّة ومعه توقيع نظام الملك.
وفيها وقع بالشام زلزلة عظيمة ووافق «3» ذلك تشرين الأوّل، وخرج الناس من دورهم هاربين، وانهدم معظم أنطاكية ووقع من سورها نحو من تسعين برجا.
وفيها نزل آق سنقر على فامية فأخذها من ابن ملاعب.
وفيها فى شهر رمضان خرج توقيع الخليفة المقتدى بالله العبّاسىّ بعزل الوزير أبى شجاع من الوزارة؛ وكان له أسباب، منها أنّ نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقىّ كان يسعى عليه لابنه. فلمّا أتاه الخبر بعزله قام من الديوان ولم يتأثر؛ وأنشد:
[الوافر]
تولّاها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق
وفيها حاصر تتش أخو السلطان ملكشاه طرابلس ومعه آق سفر وبوزان وبها قاضيها، وهو صاحبها، واسمه جلال الملك بن عمّار، ونصب عليها المجانيق. فاحنجّ عليهم ابن عمّار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على طرابلس؛ فلم يقبل منه تتش ذلك، وتوقّف آق سنقر عن قتاله. فقال له تتش: أنت تبع لى، فكيف تخالفنى فقال: أنا تبع لك إلّا فى عصيان السلطان. فغضب تاج الدولة تتش(5/132)
ورجع إلى دمشق، ومضى آق سنقر إلى حلب، ومضى بوزان إلى الرّهاء (أعنى كلّ واحد إلى بلده) .
وفيها ملك يوسف بن تاشفين الأندلس ونفى ابن عبّاد عنها.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن علىّ بن حامد أبو نصر المروزىّ. كان إماما فى القراءات، وصنّف فيها التصانيف، وانتهت إليه الرياسة فيها. وكانت وفاته فى ذى القعدة.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن محمد أبو عبد الله التّنوخىّ الحلبىّ، ويعرف بابن العظيمىّ «1» . كان إماما شاعرا فصيحا بليغا. ومن شعره قوله:
[البسيط]
يلقى العدا بجنان ليس يرعبه ... خوض الحمام ومتن ليس ينقصم
فالبيض تكسر والأوداج دامية ... والخيل تعرم والأبطال تلتطم
والنقع غيم ووقع المرهفات به ... لمع البوارق والغيث الملثّ دم
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 485]
السنة الثامنة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
فيها ورد الأمير تاج الدولة تتش على السلطان ملكشاه شاكيّا من «2» آق سنقر فلم يلتفت السلطان إليه؛ فترك ابنه عند السلطان وعاد إلى دمشق.(5/133)
وفيها فى يوم الاثنين منتصف شهر ربيع الأوّل وقت الظهر، وهو السادس من نيسان، اقترن زحل والمرّيخ فى برج السّرطان، وذكر أهل صناعة النجوم أن هذا القران لم يحدث مثله فى هذا البرج منذ بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى هذه السنة. قال صاحب مرآة الزمان: وكان تأثير هذا القران هلاك ملكشاه السلجوقىّ سيّد الملوك، ومقتل نظام الملك سيّد الوزراء. انتهى.
وفيها فى شهر رمضان توجّه السلطان ملكشاه من أصبهان إلى بغداد بنيّة غير مرضيّة فى حقّ الخليفة المقتدى بالله وعزم على تغييره، وكان معه وزيره نظام الملك، فقتل فى شهر رمضان فى الطريق، على ما سيأتى ذكره؛ إن شاء الله.
ووصل ملكشاه إلى بغداد فى ثامن عشر شهر رمضان. فأوّل ما وصل بعث يقول للخليفة: لا بدّ أن تترك لى بغداد وتذهب إلى أىّ بلد شئت. فانزعج الخليفة وبعث إليه يقول: أمهلنى شهرا؛ فقال: ولا ساعة. فأرسل الخليفة إلى تاج الملك أبى الغنائم، وكان السلطان ملكشاه استوزره بعد قتل نظام الملك، فقال: سله بأن يؤخّرنا عشرة أيّام. فدخل تاج الملك على السلطان وقال له: لو أنّ بعض العوامّ أراد أن ينتقل من دار إلى دار لم يقدر على النّقلة فى أقلّ من عشرة أيام، فكيف بالخليفة! فأمر السلطان له بالمهلة عشرة أيام. ثم اشتغل بنفسه من مرض حصل له ومات منه بعد أيام.
ذكر وفاته- هو السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان [بن «1» ] محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقمان «2» التركىّ السلجوقىّ. تسلطن(5/134)
بعد موت أبيه بوصية منه إليه فى سنة خمس وستين وأربعمائة، وجعل وزيره نظام الملك وزيرا له ومتكلّما فى الدولة، وفرّق البلاد على أولاده وجعل مرجعهم إلى ملكشاه هذا. فلمّا تسلطن ملكشاه خرج عليه عمّه قاورد بك صاحب كرمان؛ فواقعه فأخذه ملكشاه أسيرا. فلمّا مثل بين يدى ملكشاه قال: أمراؤك كاتبونى، وأظهر مكاتبات. فأخذها ملكشاه وأعطاها للوزير نظام الملك، فأخذها نظام الملك وألقاها فى موقد «1» نار كان بين يدى ملكشاه فاحترقت. فسكنت قلوب الأمراء، وبذلوا الطاعة؛ وثبت ملكه بهذه الفعلة. ثم خنق عمّه قاورد بك المذكور بوتر، وتمّ له الأمر. وملك من الأقاليم ما لم يملكه أحد من السلاطين؛ فكان فى مملكته جميع بلاد ما وراء النهر، وبلاد الهياطلة «2» ، وباب الأبواب، وبلاد الروم والجزيرة والشام؛ حتّى إنّه ملك من مدينة كاشغر، وهى أقصى مدينة للترك، إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينيّة إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضا. وكان من أحسن الملوك سيرة، ولذلك كان يلقّب بالسلطان العادل. وكان منصورا فى حروبه، مغرى بالعمائر، حفر الأنهار وعمّر الأسوار والقناطر وعمّر جامع السلطان ببغداد ولم يتمّه، وأبطل المكوس فى جميع بلاده، وصنع بطريق مكة مصانع الماء، غرم عليها أموالا كثيرة. وكان مغرى بالصيد، حتى إنّه صاد مرّة فى حلقة واحدة عشرة آلاف صيد؛ وقد تقدّم ذكر ذلك. وكانت وفاته فى شوّال. قيل: إنّه سمّ فى خلال تخلّل به. ولم يشهده «3» الدولة ولا عمل له عزاء. وحمل فى تابوت إلى أصبهان فدفن بها. وقام فى السلطنة بعده أكبر أولاده بركياروق «4» ، ولقّب بركن الدولة. وخالفه عمّه، ووقع له معه وقائع.(5/135)
وفيها توفّى الوزير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقىّ المقدّم ذكره.
واسمه الحسن بن إسحاق بن العبّاس الوزير أبو على الطّوسىّ. كان من أولاد الدّهاقين بناحية بيهق «1» ، وكان فقيرا مشغولا بسماع الحديث، ثم بعد حين اتّصل بداود بن ميكائيل السلجوقىّ، فأخذه بيده وسلّمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حسن الطوسىّ اتّخذه والدا ولا تخالفه. فلمّا وصل الملك إلى ألب أرسلان استوزره، فدبّر ملكه عشر سنين. ومات ألب أرسلان، فازدحم أولاده على الملك، فقام بأمر ملكشاه حتّى تمّ أمره وتسلطن. ولمّا دخل نظام الملك على الخليفة المقتدى أمره بالجلوس، وقال له: يا حسن، رضى الله عنك لرضا أمير المؤمنين عنك.
وكان نظام الملك عالى الهمّة، وافر العقل، عارفا بتدبير الأمور، محبّا للعلماء والصلحاء، على ظلم وجور كان عنده، على عادة الوزراء.
ولمّا خرج من أصبهان بعد مخدومه ملكشاه قاصدا بغداد نزل «2» قرية من قرى نهاوند مكان الوقعة التى كانت فى زمان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فقال:
هذا موضع مبارك؛ قتل فيه جماعة من الصحابة، طوبى لمن كان منهم. وكان جالسا والأمراء بين يديه، وكان صائما، فإنّه كان يوم الخميس؛ فقدّم الأكل فأكل الناس؛ ثم ركب محفّته إلى خيمة النساء، وكان به مرض النّقرس، فاعترضه صبىّ ديلمىّ فى زىّ الصوفيّة وبيده قصّة، فدعا له وسأله أن يناوله إيّاها من يده إلى يده؛ فقال: هات؛ فمدّ يده ليأخذها فضربه بسكّين فى فؤاده، فحمل الى مضربه ومات؛ فهرب الديلمى فعثر بطنب خيمة فقطّع قطعا. وكانت وزارة نظام الملك لبنى سلجوق(5/136)
أربعا وثلاثين سنة- وقيل أربعين سنة- وكان عمره ستا وسبعين سنة. ومن شعره:
[البسيط]
بعد الثمانين ليس قوّه ... لهفى «1» على قوّة الصّبوّه
كأننى والعصا بكفّى ... موسى ولكن بلا نبوّه
وفيها توفّى مالك بن أحمد الإمام أبو عبد الله البانياسىّ «2» ثم البغدادىّ المعروف بالفرّاء فى جمادى الآخرة شهيدا فى الحريق. وكان معدودا من العلماء الفضلاء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. وأوفى فى سابع توت، ونقص فيه أيضا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 486]
السنة التاسعة والخمسون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة ستّ وثمانين وأربعمائة.
فيها خطب تاج الدولة تتش السلجوقىّ لنفسه بعد موت أخيه ملكشاه، وأرسل إلى الخليفة بأن يخطب له ويوعده؛ فما التفت إليه فى الجواب، غير أنّه أرسل يقول له: إنما تصلح للخطبة إذا حصلت «3» الدنيا بحكمك، والخزائن التى بأصبهان معك، وتكون صاحب الشرق وخراسان، ولم يبق من أولاد أخيك ملكشاه من يخالفك؛ وأمّا فى هذا الحال فلا سبيل إلى ما التمسته. فلمّا وقف تتش على ذلك سار إلى الموصل وبها إبراهيم بن قريش؛ فخرج إليه فى بنى عقيل والتقوا معه فقتل(5/137)
إبراهيم وقتل عليه أعيان بنى عقيل. وكان علىّ بن مسلم بن قريش عند بركياروق ابن ملكشاه، فأخبره بمصاب عمّه، فعزّ عليه فكتب إلى تتش يلومه.
وفيها فتح عسكر مصر صور وحمل صاحبها إلى مصر ومعه أصحابه. فضرب بدر الجمالىّ رقاب الجميع، وقطع على أهل صور ستين ألفا «1» عقوبة لهم.
وفيها بطل مسير الحاجّ من العراق خوفا عليهم، وسار حجّاج دمشق، ولم يوصّلوا إلى أمير مكة ما يرضيه. فلمّا رحلوا خرج ونهبهم، وعاد من سلم منهم على أقبح حال، وتخطّفهم العرب فى الطريق.
وفيها توفّى عبد القادر بن عبد الكريم بن الحسين أبو البركات. كان شيخا صالحا، خطّب بدمشق لبنى العباس وللمصريّين؛ وأنشد لبعضهم:
[الطويل]
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن فى قومه بحسيب
فإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل فى بلدة بغريب
وفيها توفّى علىّ بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الحافظ الفقيه الهكّارىّ.
كان ينعت بشيخ الإسلام- والهكّاريّة: جبال فوق الموصل فيها قرّى وبنّى- وكنيته أبو الحسن. كان إماما عالما فقيها، سمع الحديث ورواه، وبنى أربطة، وقدم بغداد. وكان صالحا متعبّدا شيخ بلاده فى التصوّف، وكان من أهل السنة والجماعة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث أصابع.(5/138)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 487]
السنة الستون من ولاية المستنصر معدّ على مصر وهى سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وهى التى مات فيها المستنصر معدّ صاحب الترجمة حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها أيضا توفّى الخليفة المقتدى بالله العباسىّ وبدر الجمالى أمير الجيوش بمصر، وآق سنقر صاحب حلب قتيلا، وبوزان بالشأم، وأمير مكة. وتسمّى هذه السنة سنة موت الخلفاء والأمراء؛ فعدّ الناس هذا كلّه من القران المقدّم ذكره فى سنة خمس وثمانين وأربعمائة. ويأتى كلّ واحد من هؤلاء على حدته فى هذه السنة.
وفيها كانت زلزلة عظيمة [ببغداد «1» ] بين العشاءين فى المحرّم.
وفيها حدث فتن وحروب وغلاء بسائر الأقاليم
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين أبو القاسم المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدّين أبى العباس محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بأمر الله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة جعفر المقتدر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدى بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس العباسى الهاشمى.
بويع بالخلافة بعد موت جدّه القائم بأمر الله فى ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وهو ابن تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر. وكان توفّى أبوه الذخيرة محمد، والمقتدى هذا حمل فى بطن أمّه، وكان اسم أمّه أرجوان- وقيل قرّة العين- وكانت أرمينيّة، فولدته بعد موت أبيه بستة أشهر. وكان المقتدى من رجال بنى العباس(5/139)
له همّة عالية، وشجاعة وافرة، وظهرت فى أيامه خيرات؛ وخطب له فى الشرق بأسره وما وراء النهر والهند وغزنة والصين والجزيرة والشام واليمن؛ وعمّرت فى أيامه بغداد، واسترجع المسلمون الرّهاء. وأنطاكية ومات فجأة فى ليلة السبت خامس عشر المحرّم، وكان عمره ثمانيا وثلاثين «1» سنة وثمانية أشهر ويومين. وتخلّف بعده ابنه أبو العبّاس أحمد. وكانت خلافة المقتدى تسع عشرة سنة وثمانية أشهر.
وفيها توفّى الشريف أمير مكة محمد بن أبى هاشم. كان ظالما جبّارا فاتكا سفّا كاللدّماء مسرفا رافضيّا سبّابا خبيثا متلؤنا، تارة مع الخلفاء العباسيّين، وتارة مع المصريّين، وكان يقتل الحجّاج ويأخذ أموالهم. وهلك بمكة وقد ناهز السبعين.
وفرح المسلمون وأهل مكّة بموته، وقام بعده ابنه هاشم.
وفيها توفّى المستنصر صاحب الترجمة العبيدىّ خليفة مصر، وقد تقدّم ذكر وفاته فى ترجمته.
وفيها توفّى الحسن بن أسد أبو نصر الفارقىّ الشاعر المشهور. كان فصيحا فاضلا عارفا باللغة والأدب، وهو الذي سلّم ميّافارقين إلى [منصور «2» بن] مروان.
فلمّا دخلها تتش السلجوقىّ اختفى، ثم ظّهر لمّا عاد تتش، ووقف بين يديه وأنشده قصيدة، منها:
[البسيط]
واستحلبت حلب جفنىّ فانهملا ... وبشّرتنى بحرّ القتل حرّان
فقال تتش: من هذا؟ فقيل له: هذا الفارقىّ؛ فأمر بضرب عنقه من وقته.
فكان قوله:
وبشّرتنى بحرّ القتل حرّان
فألا عليه.(5/140)
ومن شعره:
[المنسرح]
كم ساءنى الدّهر ثم سرّ فلم ... يدم لنفسى همّا ولا فرحا
ألقاه بالصبر ثم يعركنى ... تحت رحا من صروفه فرحا
وفيها توفّى الأمير آق سنقر بن عبد الله قسيم الدولة التّركىّ. كان شجاعا عادلا منصفا، وكان الملوك السلجوقيّة يحترمونه، ولم يكن له ولد غير زنكى. وآق سنقر هذا هو جدّ الملك العادل نور الدين محمود المعروف بالشهيد. ولمّا قتل آق سنقر انضمّ على ولده زنكى مماليك أبيه وصار معهم، واستفحل أمره، على ما يأتى ذكره إن شاء الله فى عدّة مواطن.
وفيها توفّى أمير الجيوش بدر الجمالىّ الأرمنىّ وزير مصر للمستنصر بل صاحب أمرها وعقدها وحلّها. كان أوّلا ولى الشام والسواحل للمستنصر، ثم خالفه مدّة وأقام بعكّا، إلى أن استدعاه المستنصر المذكور إلى مصر بعد أن اختلّ أمرها من الغلاء والفتن؛ وفوّض إليه أمور مصر والشام وجميع ممالكه؛ فاستقامت الأمور بتدبيره وسكنت الفتن، وصار الأمر كلّه له؛ وليس للخليفة المستنصر معه سوى الاسم لا غير. ومات قبل المستنصر بأشهر. ولمّا مات بدر الجمالىّ أقام المستنصر ابنه أبا القاسم شاهنشاه «1» ، ولقّبه الأفضل؛ فأحسن الأفضل السّيرة فى الرعيّة، لكنه عظم فى الدولة أضعاف مكانة أبيه. وخلّف بدر الجمالىّ أموالا كثيرة يضرب بها المثل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.(5/141)
ذكر ولاية المستعلى بالله على مصر
المستعلى بالله خليفة مصر اسمه أحمد وكنيته أبو القاسم بن المستنصر بالله معدّ ابن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله، السادس من خلفاء مصر الفاطميّين بنى عبيد، والتاسع ممّن ولى من أجداده الخلافة بالمغرب. بويع بالخلافة بعد موت أبيه المستنصر معدّ فى يوم عيد الغدير، يوم ثامن عشر ذى الحجة سنة سبع وثمانين. ومولده بالقاهرة فى المحرّم سنة سبع وستين وأربعمائة.
ولمّا ولى الخلافة كانت سنه يوم ذاك نيّفت على عشرين سنة. وقال ابن خلّكان:
مولده لعشر ليال بقين من المحرّم، وذكر السنة. وكان القائم بأمره الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالىّ؛ فإنّ المستنصر كان قد أجلس بعده ابنه أبا منصور نزارا أكبر أولاده، وجعل إليه ولاية العهد بالخلافة. فلمّا مرض المستنصر أراد أخذ البيعة له فتقاعد الأفضل شاهنشاه ودافع المستنصر من يوم إلى يوم حتّى مات المستنصر؛ وكان ذلك كراهة من الأفضل فى نزار ولد المستنصر. وسببه أن نزارا خرج ذات يوم فى حياة أبيه المستنصر فإذا الأفضل راكب وقد دخل من أحد أبواب القصر، فصاح به نزار المذكور: انزل يا أرمنىّ يا نجس!. فحقدها عليه الأفضل وصار كلّ منهما يكره الآخر. فاجتمع الأفضل بعد موت المستنصر بالأمراء والخواصّ وخوّفهم من نزار وأشار عليهم بولاية أخيه الصغير أبى القاسم أحمد، فرضوا بذلك ما خلا محمود بن مصال اللّكّىّ «1» فإنّ نزارا كان وعده بالوزارة والتّقدمة على الجيوش مكان الأفضل. فلمّا علم ابن مصال الحال أعلم نزارا بذلك،(5/142)
وبادر الأفضل بإخراج أبى القاسم أحمد هذا وبايعه ونعته بالمستعلى بالله، وذلك بكرة يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، وأجلسه على سرير الخلافة، وجلس الأفضل شاهنشاه على دكّة الوزارة، وحضر قاضى القضاة المؤيّد بنصر الأنام علىّ بن نافع بن الكحّال والشهود معه، وأخذوا البيعة على مقدّمى الدولة ورؤسائها وأعيانها. ثم مضى الأفضل إلى إسماعيل وعبد الله ابنى المستنصر وهما بالمسجد بالقصر والموكّلون عليهما، فقال لهما: إنّ البيعة تمّت لمولانا المستعلى بالله، وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: تبايعان أم لا؟ فقالا: السمع والطاعة؛ إنّ الله اختاره علينا؛ وقاما وبايعاه. فكتب الأفضل بذلك سجلّا قرأه الشريف سناء الملك محمد بن محمد الحسينىّ الكاتب بديوان الإنشاء على الأمراء. وأمّا أمر نزار فإنّه بادر وخرج من وقته وأخذ معه أخاه عبد الله الذي بايع وابن مصال اللّكّىّ وتوجّهوا إلى الإسكندريّة، وكان الوالى بها ناصر الدولة أفتكين التركىّ أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالىّ (أعنى والد الأفضل هذا) ، فعرّفوه الحال ووعده نزار بالوزارة، فطمع أفتكين فى ذلك، وبايع نزارا المذكور، وبايع أيضا جميع أهل الإسكندرية، ولقّب المصطفى لدين الله. ثم وقع لنزار هذا أمور وحروب مع الأفضل نذكر منها نبذة من أقوال جماعة من المؤرخين.
قال العلّامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان- بعد ما ساق نسبه بنحو ما ذكرناه وأقلّ- قال: وكان المتصرّف فى دولته الأفضل ابن أمير الجيوش (يعنى عن المستعلى) . قال: وكان هرب أخوه نزار بن المستنصر إلى الإسكندريّة وبها أفتكين مولى أبيه. قلت: وهذا بخلاف ما ذكره غيره من أنّ أفتكين كان مولى لبدر الجمالىّ والد الأفضل شاهنشاه. قال: وزعم نزار أنّ أباه عهد إليه، فقام له بالأمر أفتكين ولقّبه ناصر الدولة. وأخذ له البيعة على(5/143)
أهل البلد، وساعده ابن عمّار «1» قاضى الإسكندرية. فتوجّه الأفضل إلى الإسكندرية وضايقها؛ فخرج إليه أفتكين فهزمه وعاد الأفضل إلى القاهرة (يعنى مهزوما) فحشد وعاد إليها ونازلها وافتتحها عنوة وقتل أعيان أهلها، واعتقل أفتكين وابن عمّار. فكتب ابن عمّار إلى الأفضل ورقة من الحبس يقول فيها:
[البسيط]
هل أنت منقذ شلوى من يدى زمن ... أضحى يقدّ أديمى قدّ منتهس
دعوتك الدّعوة الأولى وبى رمق ... وهذه دعوة والدهر مفترسى
فلم تصل إليه الورقة حتّى قتل. فلمّا وقف عليها قال: والله لو وقفت عليها قبل ذلك ما قتلته. وكان ابن عمّار المذكور من حسنات الدهر. وقدم الأفضل بأفتكين ونزار إلى القاهرة، وكان أفتكين يلعن المستعلى والأفضل بن أمير الجيوش على المنابر؛ فقتله المستعلى بيده وبنى على أخيه نزار حائطا فهو تحته إلى الآن. وكان للمستعلى أخ اسمه عبد الله [فظفر «2» به الأفضل] . انتهى كلام صاحب مرآة الزمان بآختصار.
وقال غيره: ولمّا استهلّت سنة ثمان وثمانين خرج الأفضل بعساكر مصر إلى الإسكندريّة، وهناك نزار وأفتكين، فكانت بينهم حرب شديدة بظاهر الإسكندرية، انكسر فيها الأفضل بمن معه، ورجع إلى القاهرة منهزما؛ فخرج نزار ونهب أكثر البلاد بالوجه البحرىّ. وأخذ الأفضل فى التجهّز لقتال نزار، ودسّ إلى جماعة ممّن كان مع نزار من العربان واستمالهم عنه، ثمّ خرج بالعساكر ثانيا إلى نحو الإسكندريّة، فكانت بينهم أيضا وقعة بظاهر الإسكندريّة انكسر فيها نزار بمن معه إلى داخل الإسكندرية؛ فحاصرهم الأفضل حصارا شديدا إلى ذى القعدة.(5/144)
فلمّا رأى ذلك ابن مصال جمع ماله وفرّ إلى الغرب. وكان سبب فرار ابن مصال أنّه رأى فى منامه أنه راكب فرسا وسار والأفضل ماش فى ركابه؛ فقال له المعبّر:
الماشى على الأرض أملك لها؛ فلمّا سمع ذلك فرّ. ولمّا فرّ ابن مصال صعفت قوى نزار وأفتكين وخافا وطلبا من الأفضل الأمان فأمّنهما ودخل البلد؛ ثم قبض على نزار وأفتكين وبعث بهما إلى مصر، وكان ذلك آخر العهد بنزار. وكان مولد نزار فى يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وقيل:
إنّ الأفضل بنى لنزار حائطين وجعله بينهما إلى أن مات. وأمّا أفتكين نائب الإسكندريّة فإنّه قتله بعد ذلك. ولم يزل الأفضل يؤمّن ابن مصال حتّى حضر إليه بالقاهرة ولزم داره حتّى رضى عنه الأفضل. انتهى ذكر نزار وكيفيّة قتله.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: وفى أيّامه وهنت دولتهم (يعنى المستعلى صاحب الترجمة) . قال: وانقطعت دعوتهم من أكثر مدن الشام، واستولى عليها الأتراك والفرنج، ونزل الفرنج على أنطاكية وحصروها ثمانية أشهر، وأخذوها فى سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وأخذوا المعرة سنة اثنتين وتسعين، ثم أخذوا القدس فيها أيضا فى شعبان، واستولى الملاعين على كثير من مدن الساحل. ولم يكن المستعلى مع الأفضل بن أمير الجيوش حكم. وفى أيّامه هرب أخوه نزار إلى الإسكندريّة، فأخذ له البيعة على أهل الثغر أفتكين، وساعده قاضى الثغر ابن عمّار، وأقاموا على ذلك سنة. فجاء الأفضل سنة ثمان وثمانين وحاصر الثغر وخرج إليه أفتكين فهزمه، ثم نازلها ثانيا وافتتحها عنوة وقتل جماعة، وأتى القاهرة بنزار وأفتكين، فذبح أفتكين صبرا، وبنى المستعلي على أخيه حائطا، فهو تحته إلى(5/145)
الآن: انتهى كلام الذهبىّ. قلت: ومن حينئذ نذكر كيفيّة أخذ الفرنج للسواحل فى أيام المستعلى هذا، وهو كالشرح لمقالة الذهبىّ وغيره:
كان أوّل حركة الفرنج لأخذ السواحل وخروجهم إليها فى سنة تسعين وأربعمائة، فساروا إليها، فأوّل ما أخذوا نيقية «1» ، وهو أوّل بلد فتحوه وأخذوه من المسلمين.
ثمّ فتحوا حصون الدروب شيئا بعد شىء، ووصلوا إلى البارة «2» وجبل السّمّاق «3» وفامية وكفر طاب «4» ونواحيها. وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ساروا إلى أنطاكية ولم ينازلوها، وجاءوا إلى المعرّة فنصبوا عليها السّلا لم فنزلوا إليها فقتلوا من أهلها مائة ألف إنسان، قاله أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ؛ قال: وسبوا مثلها. ثمّ دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأمير شعبان «5» . وقيل شقبان، وقيل فى اسمه غير ذلك- وكان على الفرنج صنجيل، فحاصرها مدّة؛ فنافق رجل من أنطاكية يقال له فيروز «6» وفتح لهم فى الليل شبّاكا فدخلوا منه، ووضعوا السيف، وهرب شعبان وترك أهله وأمواله وأولاده بها. فلما بعد عن البلد «7» ندم على ذلك، فنزل عن فرسه فحثى التّراب على رأسه وبكى ولطم، وتفرّق عنه أصحابه وبقى وحده؛ فمرّ به رجل أرمنىّ حطّاب فعرفه فقتله وحمل رأسه إلى صنجيل ملك الفرنج.(5/146)
وقال أبو يعلى [بن] القلانسىّ: فى جمادى الأولى ورد الخبر بأنّ قوما من أهل أنطاكية عملوا عليها وواطئوا الفرنج على تسليمها إليهم لإساءة تقدّمت من حاكم البلد فى حقّهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصة فى برج من الأبراج التى للبلد مما يلى الجبل، فباعوهم إيّاه، وأصعدوا منه فى السّحر وصاحوا «1» ، فانهزم ياغى سيان وخرج فى خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص؛ فسقط الأمير عن فرسه عند معرّة مصرين، فحمله بعض أصحابه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وسقط ثانيا فمات.
وأمّا أنطاكية فقتل منها وسبى من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدركه حصر، وهرب إلى القلعة قدر ثلاثة آلاف تحصّنوا بها.
وكان أخذ المعرّة فى ذى الحجّة بعد أخذ أنطاكية. ولمّا وقع ذلك اجتمع ملوك الإسلام بالشام، وهم رضوان صاحب حلب وأخوه دقماق وطغتكين وصاحب «2» الموصل وسكمان «3» بن ارتق صاحب ماردين وأرسلان شاه صاحب سنجار «4» - ولم ينهض الأفضل بإخراج عساكر مصر. وما أدرى ما كان السبب فى عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال- فاجتمع الجميع ونازلوا أنطاكية وضيّقوا على الفرنج حتّى أكلوا ورق الشجر. وكان صنجيل مقدّم الفرنج عنده دهاء ومكر، فرتّب مع راهب حيلة وقال: اذهب فآدفن هذه الحربة فى مكان كذا، ثم قل للفرنج بعد ذلك: رأيت المسيح فى منامى وهو يقول: فى المكان الفلانىّ حربة مدفونة فآطلبوها، فإن(5/147)
وجدتموها فالظّفر لكم، وهى حربتى، فصوموا ثلاثة أيّام وصلّوا وتصدّقوا ثم قام وهم معه إلى المكان ففتّشوه «1» فظهرت الحربة؛ فصاحوا وصاموا وتصدّقوا وخرجوا إلى المسلمين، وقاتلوهم حتى دفعوهم عن البلد؛ فثبت جماعة من المسلمين فقتلوا عن آخرهم، رحمهم الله تعالى. والعجب أنّ الفرنج لمّا خرجوا إلى المسلمين كانوا فى غاية الضعف من الجوع وعدم القوت حتّى إنهم أكلوا الميتة وكانت عساكر الإسلام فى غاية القوّة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرّقوا جموعهم، وانكسر أصحاب الجرد السوابق، ووقع السيف فى المجاهدين والمطّوّعين. فكتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة (أعنى المستظهر العباسىّ) يستنصرونه؛ فأخرج الخليفة أبا نصر ابن الموصلايا إلى السلطان بركياروق ابن السلطان ملكشاه السلجوقىّ يستنجده. كلّ ذلك وعساكر مصر لم تهيّأ للخروج.
وأمّا أخذ بيت المقدس فكان فى يوم الجمعة ثالث عشرين شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وهو أنّ الفرنج ساروا من أنطاكية ومقدّم الفرنج كندهرى فى ألف ألف، منهم خمسمائة ألف مقاتل فارس، والباقون رجّالة وفعلة وأرباب آلات من مجانيق وغيرها، وجعلوا طريقهم على الساحل وكان بالقدس افتخار الدولة من قبل المستعلى خليفة مصر صاحب الترجمة، فأقاموا يقاتلون أربعين يوما، وعملوا برجين مطلّين على السور؛ أحدهما بباب صهيون، والآخر بباب العمود وباب الأسباط، وهو برج الزاوية؛ ومنه فتحها السلطان صلاح الدّين بن أيوب، على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى. فأحرق المسلمون البرج الذي كان بباب صهيون وقتلوا من فيه. وأمّا الآخر فزحفوا به حتّى ألصقوه بالسور، وحكموا به على البلد، وكشفوا من كان عليه من المسلمين؛ ثم رموا بالمجانيق والسّهام رمية رجل واحد،(5/148)
فانهزم المسلمون فنزلوا إلى البلد، وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بها، فهجموا عليهم وقتلوا فى الحرم مائة ألف وسبوا مثلهم، وقتلوا الشيوخ والعجائز وسبوا النساء، وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا، منها عشرون ذهبا فى كلّ قنديل ألف مثقال، ومنها خمسون فضّة فى كلّ قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم بالشامىّ، وأخذوا تنّورا من فضّة زنته أربعون رطلا بالشامىّ، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى. وكان بيت المقدس منذ افتتحه عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فى سنة ستّ عشرة من الهجرة، لم يزل بأيدى المسلمين إلى هذه السنة. هذا كلّه وعسكر مصر لم يحضر، غير أنّ الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ صاحب أمر مصر لمّا بلغه أنّ الفرنج ضايقوا بيت المقدس خرج فى عشرين ألفا من عساكر مصر وجدّ فى السير، فوصل إلى القدس يوم ثانى فتحه ولم يعلم بذلك.
فقصده الفرنج وقاتلوه، فلم يثبت لهم ودخل عسقلان بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير؛ فأحرق الفرنج ما حول عسقلان وقطعوا أشجارها، ثم عادوا إلى القدس. ثم عاد الأفضل إلى مصر بعد أمور وقعت له مع الفرنج. واستمرّ بيت المقدس مع الفرنج، فلا قوّة إلّا بالله.
وقال ابن القلانسىّ: إنّ أخذ المعرّة كان فى هذه السنة أيضا، وإنّه كان قبل أخذ بيت المقدس. قال: وزحف الفرنج فى محرم هذه السنة إلى سور المعرّة من الناحية الشرقيّة والشمالية، وأسندوا البرج إلى سورها، فكان أعلى منه. ولم يزل الحرب عليها إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من المحرّم، وصعدوا السور، وانكشف أهل البلد بعد أن تردّدت إليهم رسل الفرنج، وأعطوهم الأمان على نفوسهم وأموالهم وألّا يدخلوا إليهم، بل يبعثوا إليهم شحنة «1» فمنع من ذلك الخلف(5/149)
بين أهلها، فملكت الفرنج البلد بعد المغرب بعد أن قتل من الفريقين خلق كثير، ثم أعطوهم الأمان. فلمّا ملكوها غدروا بهم وفعلوا تلك الأفعال القبيحة وأقاموا عليها، إلى أن رحلوا عنها فى آخر شهر رجب إلى القدس. وانجفل الناس بين أيديهم، فجاءوا إلى الرملة فأخذوها عند إدراك الغلّة، ثم انتهوا إلى القدس. وذكر فى أمر القدس نحوا مما قلناه، غير أنّه زاد فقال: ولمّا بلغهم (يعنى الفرنج) خروج الأفضل من مصر جدّوا فى القتال ونزلوا من السور وقتلوا خلقا كثيرا، وجمعوا اليهود فى الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المشاهد وقبر الخليل- عليه السلام- وتسلّموا محراب داود بالأمان. ووصل الأفضل بالعساكر وقد فات الأمر، فنزل عسقلان فى يوم رابع عشر شهر رمضان ينتظر الأسطول فى البحر والعرب؛ فنهض إليه مقدّم الفرنج فى خلق عظيم، فانهزم العسكر المصرىّ إلى ناحية عسقلان؛ ودخل الأفضل عسقلان، ولعبت سيوف الفرنج فى العسكر والرجال والمطّوّعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عن عشرة آلاف نفس، ومضى الأفضل. وقرّر الفرنج على أهل البلد عشرين ألف دينار تحمل إليهم، وشرعوا فى جبايتها من أهل البلد؛ فاختلف المقدّمون فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئا. ثم قال: وحكى أنّه قتل من أهل عسقلان من شهودها وتجارها وأحداثها سوى أجنادها ألفان وسبعمائة نفس.
ولما تمّت هذه الحادثة خرج المستنفرون من دمشق مع قاضيها زين الدين أبى سعد الهروىّ، فوصلوا بغداد وحضروا فى الديوان وقطّعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا، وقام القاضى فى الديوان وأورد كلاما أبكى الحاضرين، وندب من الديوان من يمضى إلى العسكر السلطانىّ ويعرّفهم بهذه المصيبة؛ فوقع التقاعد لأمر يريده(5/150)
الله. فقال القاضى الهروىّ- وقيل: هى لأبى «1» المظفّر الأبيوردىّ- القصيدة التى أوّلها:
[الطويل]
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم «2»
ومنها:
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات «3» أيقظت كلّ ناتم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى «4» أو بطون القشاعم «5»
ومنها:
وكاد لهنّ المستجنّ بطيبة ... ينادى بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتى لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهى الدعائم
ومنها:
وليتهم إذ لم يذودوا حميّة ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم
وإذ زهدوا فى الأجر إذ حمى «6» الوغى ... فهلّا أتوه رغبة فى الغنائم
وقال آخر:
[الوافر]
أحلّ الكفر بالإسلام ضيما ... يطول عليه للدين النّحيب
فحقّ ضائع وحمّى مباح ... وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبا ... ومسلمة لها حرم سليب(5/151)
وكم من مسجد جعلوه ديرا ... على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق ... وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهنّ طفل ... لطفّل «1» فى عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكلّ ثغر ... وعيش المسلمين إذا يطيب
أمّا لله والإسلام حقّ ... يدافع عنه شبّان وشيب
فقل لذوى البصائر حيث كانوا ... أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
وقال الناس فى هذا المعنى عدّة مراث. والمقصود أنّ القاضى ورفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة. ولا قوة إلّا بالله!. ثم إنّ الأفضل بن أمير الجيوش جهّز من مصر جيشا كثيفا وعليه سعد الدولة القواسىّ فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فخرج سعد الدولة المذكور من مصر بعسكره فالتقى مع الفرنج بعسقلان؛ ووقف سعد الدولة فى القلب، فقاتل قتالا شديدا، فكبا به فرسه فقتل. وثبت المسلمون بعد قتله وحملوا على الفرنج فهزموهم إلى قيسارية «2» . فيقال: إنّهم قتلوا من الفرنج ثلثمائة ألف، ولم يقتل من المسلمين سوى مقدّم عسكرهم سعد الدولة القواسىّ المذكور ونفر يسير. قاله صاحب مرآة الزمان. وقال الذهبىّ فى تاريخه: هذه مجازفة عظيمة (يعنى كونه قال قتل ثلثمائة ألف من الفرنج) . انتهى. قلت: ومن يومئذ بدأت الفرنج فى أخذ السواحل حتّى استولوا على الساحل الشامى بأجمعه إلى أن استولت الدولة الأيوبيّة والتركيّة واسترجعوها شيئا بعد شىء، حسب ما يأتى ذكره إن شاء الله فى هذا الكتاب.(5/152)
ومات المستعلى صاحب الترجمة فى يوم الثلاثاء تاسع صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وقيل: فى ثالث عشر صفر، والأوّل أشهر. ومات وله سبع وعشرون سنة، وكانت خلافته سبع سنين وشهرين وأياما. وتولّى الخلافة بعده ابنه الآمر بأحكام الله منصور. وكان المتصرّف فى دولته وزيره الأفضل سيف الإسلام شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ. فانتظمت أحوال مصر بتدبيره؛ واشتغل بها عن السواحل الشاميّة حتى استولت الفرنج على غالبها؛ وندم على ذلك حين لا ينفع الندم.
وكان المستعلى حسن الطريقة فى الرعيّة، جميل السيرة فى كافّة الأجناد، ملازما لقصره كعادة أبيه، مكتفيا بالأفضل فيما يريده، إلا أنّه كان مع تقاعده عن الجهاد وتهاونه فى أخذ البلاد متغاليا فى الرّفض والتشيّع؛ كان يقع منه الأمور الشنيعة فى مأتم عاشوراء، وببالغ فى النّوح والمأتم، ويأمر الناس بلبس المسوح وغلق الحوانيت واللطم والبكاء زيادة عما كان يفعله آباؤه، مع أنّ الجميع رافضة، ولكنّ التفاوت نوع آخر.
وأما الذي كان يفعله آباؤه وأجداده من النّوح فى يوم عاشوراء والحزن وترتيبه، فإذا كان يوم العاشر من المحرّم احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضى القضاة والشهود وقد غيروا زيّهم ولبسوا قماش الحزن، ثم صاروا إلى المشهد الحسينىّ بالقاهرة- وكان قبل ذلك يعمل المأتم بالجامع الأزهر- فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأمراء والأعيان وقرّاء الحضرة والمتصدّرين فى الجوامع، جاء الوزير فجلس صدرا، والقاضى وداعى الدّعاة من جانبيه، والقرّاء يقرءون نوبة بنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة أشعارا يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت، وتصيح الناس بالضجيج والبكاء والعويل- فإن كان الوزير رافضيّا على(5/153)
مذهب القوم تغالوا فى ذلك وأمعنوا، وإن كان الوزير سنّيّا اقتصروا- ولا يزالون كذلك حتّى تمضى ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر عند الخليفة بنقباء الرسائل؛ فيركب الوزير وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضى القضاة والداعى ومن معهما إلى باب الذهب (أحد أبواب القصر) فيجدون الدّهاليز قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط «1» ، وينصب فى الأماكن الخالية الدكك لتلحق بالمساطب وتفرش؛ ويجدون صاحب الباب جالسا هناك، فيجلس القاضى والداعى إلى جانبه والناس على اختلاف طبقاتهم؛ فيقرأ القرّاء وينشد المنشدون أيضا. ثم يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة (ليس على وجوهها، وإنما تخالف مفارشها) ؛ ثمّ يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخلّلات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النّحل والفطير والخبز المغيّر لونه بالقصد لأجل الحزن. فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة (يعنى الحاجب والمشدّ) وأدخل الناس للأكل من السّماط. فيدخل القاضى والداعى ويجلس صاحب الباب ببابه؛ ومن الناس من لا يدخل من شدّة الحزن، فلا يلزم أحد بالدخول. فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى مكانهم ركبانا بذلك [الزىّ «2» ] الذي ظهروا فيه من قماش الحزن. وطاف النّوّاح بالقاهرة فى ذلك اليوم، وأغلق البيّاعون حوانيتهم إلى بعد العصر، والنّوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقّتها. فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم ويتصرّفون فى بيعهم وشرائهم؛ فكان [ذلك] دأب الخلفاء الفاطميّين من أولهم المعزّ لدين الله معدّ إلى آخرهم العاضد عبد الله. انتهت ترجمة المستعلى. ويأتى بعض أخباره أيضا فى السنين المتعلّقة به على سبيل الاختصار، كما هو عادة هذا الكتاب.(5/154)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 488]
السنة الأولى من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
فيها اصطلح أهل السّنة والرافضة ببغداد وعملوا الدعوات ودخل بعضهم إلى بعض.
وفيها قتل تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق أبو سعيد السلجوقىّ أخو السلطان ملكشاه. كان أوّلا فى المشرق، فاستنجده أتسز الخوارزمىّ صاحب الشام فقدم دمشق، وقتل أتسز المذكور واستولى على الشام، وامتدّت أيّامه. وهو الذي قتل آق سنقر وبوزان، ثمّ خالف على ابن أخيه بركيا روق بن ملكشاه، ووقع بينهما أمور آخرها فى هذه السنة؛ كانت بينهما وقعة هائلة على الرّىّ. وكان لمّا قتل آق سنقر وبوزان أخذ جماعة من أمرائهما فقتلتهم بين يديه؛ وكان بكجور من أكابر الأمراء، فقتل أولاده بين يديه صبرا، وهرب بكجور إلى بركيا روق. فلمّا انتصر على الرّىّ جاء بكجور إلى السلطان بركياروق وهو يبكى، فقال: قد قتل عمّك أولادى وأنا قاتله بأولادى؛ فقال:
افعل. وكان تش قد وقف بالقلب مقابل ابن أخيه السلطان بركياروق، فقصده الأمير بكجور المذكور وطعنه فألقاه عن فرسه؛ فنزل سنقرجه- وكان أيضا صاحب ثار- فحزّ رأسه، وقيل؛ رماه مملوك بوزان بسهم فى ظهره فوقع منه، وانهزم أصحابه؛ وطيف برأسه. وأسر وزيره فخر الملك علىّ بن نظام الملك، فعفا عنه السلطان بركياروق لأجل أخيه وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك. قلت: كان مؤيّد الملك وزير بركياروق، وفخر الملك وزير تتش، وهما ابنا نظام الملك. ثم وقع أيضا لأولاد تاج الدولة تتش هذا أمور وفتن بعد موت أبيهم؛ وهم رضوان وإخوته، على ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.(5/155)
وفيها توفّى عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار أبو يوسف القزوينىّ شيخ المعتزلة. كان إماما فى فنون، فسّر القرآن فى سبعمائة مجلّد- وقيل فى أربعمائة، وقيل ثلثمائة- وكان الكتاب وقفا فى مشهد أبى حنيفة رضى الله عنه. وكان رحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة. وكان محترما فى الدول، ظريفا، حسن العشرة، صاحب نادرة. قيل: إنّه دخل على نظام الملك الوزير وكان عنده أبو محمد التميمىّ ورجل آخر أشعرىّ، فقال له القزوينىّ: أيّها الصدر قد اجتمع عندك رءوس أهل النار.
قال نظام الملك: وكيف ذلك؟ قال: أنا معتزلىّ، وهذا مشبّه (يعنى التميمىّ) وذلك أشعرىّ، وبعضنا يكفّر بعضا؛ فضحك النظام. وقيل: إنّه اجتمع مع ابن البراج متكلّم الشّيعة، فقال له ابن البراج: ما تقول فى الشيخين؟ فقال: سفلتين ساقطين. قال: من تعنى؟ قال: أنا وأنت. وكانت وفاة القزوينىّ هذا فى ذى القعدة، وقد بلغ ستّا وتسعين سنة، ودفن بمقابر الخيزران عند أبى حنيفة، رضى الله عنه.
وفيها توفّى محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد أبو عبد الله بن أبى نصر الحميدىّ الأندلسىّ. كان من جزيرة «1» ميورقة. ولد قبيل الأربعمائة، وسمع الكثير ورحل إلى الأقطار ثم استوطن بغداد. وكان مختصّا بصحبة ابن حزم الظاهرىّ، وحمل عنه أكثر كتبه. قال ابن ماكولا: «صديقنا أبو عبد الله الحميدىّ من أهل العلم والفضل، ورد بغداد وسمع أصحاب الدارقطنىّ وابن شاهين وغيرهم، وسمع منه خلق كثير، وصنّف «تاريخ الأندلس» ، ولم أر مثله فى عفّته ونزاهته» .(5/156)
وفيها توفّى منصور [بن نظام «1» الدين] بن نصر الدولة بن مروان صاحب ميّافارقين، وكان استولى على الجزيرة فمات بها، فحمل إلى آمد فدفن بقبّة بنتها له زوجته ستّ الناس بنت عميد «2» الأمّة. وأوّل ولاية بنى مروان لديار بكر فى سنة ثمانين وثلثمائة، واستولى الوزير ابن جهير على بلادهم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ومات منصور فى هذه السنة. فكانت ولايتهم نيّفا ومائة سنة. وأعيان ملوكهم أوّلهم پاد الكردىّ، وبعده مروان وهو جدّهم، ثم بعده ولده أحمد، ثم بعده ولده نظام الدين ثم ولداه «3» سعيد ومنصور هذا.
وفيها توفى محمد بن عبّاد بن محمد بن إسماعيل بن قريش السلطان المعتمد على الله أبو القاسم ابن السلطان المعتضد بالله أبى عمرو ابن الفقيه قاضى إشبيلية ثم سلطانها الظافر ابن المؤيّد بالله أبى العباس بن أبى الوليد اللّحمىّ، من ولد النّعمان بن المنذر صاحب الحيرة. كان المعتمد هذا صاحب إشبيلية وقرطبة. وأصلهم من بلد العريش «4» التى كانت فى أوّل رمل مصر. وكان المعتمد عالما ذكيا شاعرا عادلا فى الرعيّة، كان من محاسن الدنيا.(5/157)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 489]
السنة الثانية من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
فيها حكم المنجّمون بأن يكون طوفان مثل طوفان نوح عليه السلام. فسأل الخليفة ابن عيسون المنجّم، فقال: أخطأ المنجّمون، طوفان نوح قد اجتمع فى برج الحوت الطوالع السبعة، والآن قد اجتمع فيه ستة، زحل لم يجتمع معها؛ ولكنّى أقول: إنّ بقعة من البقاع يجتمع بها عالم من بلاد كثيرة فيغرقون. فقيل:
ما ثمّ أكبر من بغداد، ويجتمع فيها ما لا يجتمع فى غيرها، وربّما كانت هى؛ فقال ابن عيسون: لا أدرى غير ما قلت. فأمر الخليفة بإحكام المسنّيات «1» وسدّ الفروج، وكان الناس يتوقّعون الغرق؛ فوصل الخبر بأن الحاج نزلوا فى واد عند نخلة «2» ، فأتاهم سيل عظيم وأخذ الجميع بالجمال «3» والرجال، وما نجا منهم إلّا من تعلّق برءوس الجبال. فخلع الخليفة على ابن عيسون وأجرى له الجراية وأمن الناس.
وفيها ورد كتاب المستعلى صاحب مصر وكتاب وزيره الأفضل أمير الجيوش إلى رضوان بن تتش السلجوقىّ بالدخول فى الطاعة. فأجاب وخطب للمستعلى صاحب الترجمة.(5/158)
وفيها خرج العسكر المصرىّ إلى الساحل ونزل على صور وفتحوها عنوة، وأخذوا منها أموالا عظيمة، وكان بها رجل يعرف بالكتيلة، فأسر وحمل إلى مصر.
وفيها سار الأفضل أمير الجيوش المذكور من مصر بالعساكر إلى القدس، وكان به سكمان بن أرتق وأخوه ايلغازى؛ فحصّر البلد ونصب عليها المجانيق وقاتلهم أربعين يوما؛ وأرسل أهل القدس فواطئوه على فتح الباب، وطلبوا منه الأمان فأمّنهم وفتحوا له الباب، وخرج سكمان من باب آخر ومضى إلى الرّها، ومضى أخوه ايلغازى إلى بغداد. وهما أول ملوك الارتقيّة ظهورا.
وفيها تواترت الأخبار بخروج ملك الروم من بلاد الروم بقصد البلاد الشاميّة.
وفيها قتل رضوان بن تاج الدولة تتش السلجوقىّ وقتل ولده ونهبت داره.
وكان ظالما فاتكا. كان استوزر أبا الفضل بن الموصلىّ مشيّد الدين.
وفيها توفّى عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أبو حكيم الخيرىّ- وخير: إحدى بلاد فارس- وهو جدّ [أبى «1» ] الفضل بن ناصر لأبيه «2» . تفقّه على أبى إسحاق الشيرازىّ وبرع فى الفرائض، وله فيها مصنّف. وكان فقيها صالحا حسن الطريقة.
وفيها توفّى عبد الرزّاق بن عبد الله بن المحسّن أبو غانم التّنوخىّ المعرّىّ. كان فاضلا شاعرا. ومن شعره فى كوز فقّاع «3» :
[الوافر]
ومحبوس بلا ذنب جناه ... له سجن بباب من رصاص
يضيّق بابه خوفا [عليه «4» ] ... ويوثق بعد ذلك بالعفاص «5»
إذا أطلقته خرج أرتقاصا ... وقبل فاك من فرح الخلاص(5/159)
وفيها توفّى منصور بن محمد بن عبد الجبّار الشيخ أبو المظفّر السمعانىّ، جدّ أبى سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور صاحب «الذيل» . وكان أبو المظفّر هذا من أهل مرو، وتفقّه على مذهب أبى حنيفة حتى برع، ثمّ ورد بغداد وانتقل لمذهب الشافعىّ لمعنى من المعانى، ورجع إلى بلده فلم يقبلوه وقام عليه العوامّ، فخرج إلى طوس، ثم قصد نيسابور. وصنّف «التفسير» و «البرهان» و «الاصطلام» و «القواطع فى أصول الفقه» وغير ذلك. ومات فى شهر ربيع الأول بمرو.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثلاث عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 490]
السنة الثالثة من ولاية المستعلي أحمد على مصر وهى سنة تسين وأربعمائة.
فيها أخذت الفرنج نيقية وهى أوّل بلد أخذوه، ثم [فتحوا «1» حصون الدورب] شيئا بعد شىء، كما ذكرناه مفصّلا فى أوّل ترجمة المستعلى هذا.
وفيها توفّى المعمّر»
بن محمد بن المعمّر بن أحمد بن محمد أبو الغنائم الحسينىّ «3» الطاهر ذو المناقب نقيب الطالبيّين. مات بالكرخ، فحمل إلى مقابر قريش فدفن بها. وكان من كبار الشيعة. وولى النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيدرة، ولقّب بالرضىّ ذى الفخرين.
وفيها توفّى نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم أبو الفتح الفقيه القدسىّ الشافعىّ.
أصله من نابلس، وأقام بالقدس مدّة ودرس بها. وكان فقيها عابدا زاهدا ورعا.
مات فى المحرّم من هذه السنة.(5/160)
وفيها توفّى يحيى بن أحمد السّيبىّ «1» . مات فى شهر ربيع الاخر وعاش مائة وثلاثا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وأياما، وكان صحيح الحواسّ، يقرأ عليه القرآن، ويسمع الحديث، ورحل الناس إليه. وكان ثقة صالحا صدوقا.
وفيها قتل الملك أرسلان أرغون بن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ بمرو، كان قد حكم على خراسان. وسبب قتله أنه كان مؤذيا لغلمانه جبّارا عليهم؛ فوثب عليه رجل منهم فقتله بسكّين. وكان قد ملك مرو ونيسابور وبلخ وترمذ، وأساء السيرة وخرّب أسوار مدن خراسان، وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك، وأخذ منه ثلثمائة ألف دينار ثم قتله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 491]
السنة الرابعة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.
فيها تواترت الشّكايات من الفرنج، وكتب السلطان بركياروق السلجوقىّ إلى العساكر يأمرهم بالخروج مع عميد «2» الدولة للجهاد، وتجهّز سيف الدولة صدقة، وبعث مقدّماته إلى الأنبار. ثمّ وردت الأخبار إلى بغداد بأنّ الفرنج ملكوا أنطاكية وساروا إلى معرّة النعمان فى ألف ألف إنسان، فقتلوا وسبوا، حسب ما ذكرنا فى أول ترجمة المستعلى هذا.(5/161)
وفيها عزل السلطان بركياروق وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك عن وزارته، واستوزر أخاه فخر الملك. وكان مؤيّد الملك فى غاية من العقل والفضل وحسن التدبير؛ وفخر الملك بعكس ذلك كلّه. فلحق مؤيّد الملك بأخى بركياروق محمد بن ملكشاه، وأطمعه فى الملك. وكان عزل مؤيد الملك بإشارة [مجد «1» الملك] القمّى المستوفى.
وفيها خرج محمد بن ملكشاه المذكور على أخيه بركياروق. وكان لملكشاه عدّة أولاد، منهم بركياروق السلطان بعده وأمّه زبيدة «2» ، ومحمود وأمه خاتون، ومحمد شاه هذا الذي خرج، وسنجر؛ ومحمد وسنجرهما أخوان لأب وأم. وكان محمد هذا رباه أخوه بركياروق وأقطعه كنجة «3» وأعمالها، ورتّب معه شخصا كالأتابك، واسمه أيضا محمد؛ فوثب عليه محمد شاه وقتله لكونه كان يحجر عليه، ولا يبتّ أمرا حتى يراجع بركياروق. ووافق ذلك مجىء مؤيّد الملك بن نظام الملك إليه، فجرت له مع أخيه بركياروق حروب ووقائع.
وفيها توفّى طرّاد بن محمد بن علىّ أبو الفوارس الزينبىّ العبّاسىّ الهاشمىّ. هو من ولد زينب بنت سليمان بن علىّ بن عبد الله بن عباس. ولد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وسمع الكثير، ورحل الناس إليه من الأقطار، وأملى بجامع المنصور، وحجّ سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأملى بمكة والمدينة، وولى نقابة العباسيّين بالبصرة، وكانت له رياسة وجلالة. ومات فى شوّال وقد جاوز تسعين سنة.(5/162)
وفيها توفّى نصر بن علىّ بن المقلّد بن نصر بن منقذ أبو المرهف الكنانىّ عزّ الدولة. ملك شيزر بعد أبيه، وقام بتربية إخوته أحسن قيام. وفيه يقول أبوه علىّ بن المقلّد من قصيدة:
[الطويل]
جزى الله نصرا خير ما جزيت به ... رجال قضوا فرض العلا وتنفلّوا
ومنها:
سألقاك يوم الحشر أبيض واضحا ... وأشكر عند الله ما كنت تفعل
ومنها:
إلى الله أشكو من فراقك لوعة ... توقّد فى الأحشاء ثم ترحّل
ومن شعر نصر هذا:
[الخفيف]
كنت أستعمل البياض من الأم ... شاط عجبا بلمّي وشبابى
فاتّخذت السواد فى حالة الشّي ... ب سلوّا عن الصّبا بالتّصابى
وفيها توفى الحافظ أبو العباس أحمد بن بشرويه «1» الأصبهانىّ الإمام المحدّث.
مات وله ست وتسعون سنة. وكان إماما حافظا، سمع الحديث وروى عنه غير واحد، وكان من أئمة المحدّثين. رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 492]
السنة الخامسة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.(5/163)
فيها استولى الفرنج على بيت المقدس فى يوم الجمعة ثالث عشر شعبان، حسب ما ذكرناه فى ترجمة المستعلي هذا.
وفيها توفّى السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وغيرها من بلاد الهند. كان ملكا عادلا منصفا منقادا إلى الخير كثير الصدقات، كان لا يبنى لنفسه مكانا حتى يبنى لله مسجدا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطّبرى.
أرسلنى إليه بركياروق فى رسالة، فرأيت فى مملكته ما لا يتأتّى وصفه. ومات فى شهر رجب وقد جاوز السبعين، وأقام ملكا نيّفا وأربعين سنة.
وفيها توفّى الشيخ عبد الباقى بن يوسف بن علىّ بن صالح أبو تراب المراغىّ الفقيه الشافعىّ. كان إماما فقيها زاهدا مدرّسا. مات فى ذى القعدة عن اثنتين «1» وتسعين سنة، وقد انتهت إليه رياسة العلم بنيسابور.
وفيها توفّى علىّ بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضى أبو الحسن «2» الموصلىّ الأصل المصرىّ الفقيه الشافعىّ المعروف بالخلعىّ. ولد بمصر فى أوّل سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان مسند الديار المصريّة فى وقته.
ومات فى ذى الحجة.
وفيها توفّى الحافظ أبو القاسم «3» مكىّ بن عبد السلام الرّميلىّ ببيت المقدس شهيدا حين أخذته الفرنج فى شعبان، واستشهد به عالم لا يحصى. وكان إماما محدّثا حافظا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.(5/164)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 493]
السنة السادسة من ولاية المستعلي أحمد على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
فيها عادت الخطبة ببغداد باسم بركياروق بعد الخليفة، وكان بطل اسمه وخطب لأخيه محمد شاه؛ وهذا بعد أن وقع بينهما حروب إلى أن ملك بركياروق وأخرج أعوان محمد شاه من بغداد.
وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن علىّ بن صابر أبو القاسم السلمىّ الدمشقىّ ويعرف بابن سيدة. ولد سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، ومات فى شهر ربيع الآخر بدمشق. وأنشد:
[الوافر]
صبرا لحكمك أيّها الدهر ... لك أن تجور ومنّى الصبر
آليت لا أشكوك مجتهدا ... حتى يردّك من له الأمر
وفيها توفّى محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس أبو الفتيان الأمير الشاعر.
ولد سنة إحدى «1» وأربعمائة، وهو من بيت الفضل والعلم والرياسة. ومات فى شهر رجب وقد جاوز تسعين سنة. ومن شعره من قصيدة أوّلها:
[الطويل]
لكم أن تجوروا معرضين وتغضبوا ... وعادتكم أن تزهدوا حين تغضبوا
جنيتم علينا واعتذرنا إليكم ... ولولا الهوى لم يسأل الصّفح مذنب
وفيها توفّى الوزير محمد بن محمد [بن محمد «2» ] بن جهير الصاحب شرف الدين عميد الدولة. كان حسن التدبير، كافيا فى المهام، شجاعا جوادا عظيما فى الدول. وزر للخليفة القائم، ثم من بعده للمقتفى فعزله بأبى شجاع، ثم أعاده المستظهر فدبّر أموره ثمانى(5/165)
سنين وأحد عشر شهرا وأربعة أيام. وكان له ترسّل بديع، وتوقيعات وجيزة وأشعار رقيقة. ومدحه شعراء عصره؛ وفيه يقول أبو منصور علىّ بن الحسن المعروف بصرّدرّ الشاعر قصيدته العينية المشهورة التى أوّلها:
[الكامل]
قد بان عذرك والخليط مودّع ... وهوى النفوس مع الهوادج يرفع
وفيها توفّى يحيى بن عيسى بن جزلة أبو علىّ المتطبّب صاحب «المنهاج «1» » فى الطب. كان نصرانيّا يقرأ على أبى علىّ بن الوليد المعتزلىّ، فلم يزل يدعوه إلى الإسلام حتى أسلم وحسن إسلامه. واستخدمه أبو عبد الله «2» الدامغانى قاضى القضاء فى كتب السّجلّات. وكان يطبّ أهل محلّته بغير عوض، ويعود الفقراء ويحسن إليهم. ووقف كتبه على مشهد أبى حنيفة- رضى الله عنه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم عشر أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 494]
السنة السابعة من ولاية المستعلى أحمد على مصر وهى سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
فيها قتل السلطان بركياروق خلقا من الباطنية، وكانوا ثلثمائة ونيّفا، وكتب إلى الخليفة بالقبض على من اتّهم أنّه منهم.(5/166)
وفيها التقى بركياروق مع أخيه محمد شاه، وكان مع محمد شاه خمسة عشر ألفا، ومع بركياروق خمسة وعشرون ألفا؛ فاقتتلوا قتالا شديدا، قتل من الفريقين عدّة كبيرة؛ فانهزم محمد شاه وهرب وزيره مؤيّد الملك بن نظام الملك، فتبعه غلمان بركياروق وأخذوه وجاءوا به إلى بركياروق، فقام وضرب عنقه بيده. ومضى محمد شاه واستجار بأخيه سنجر شاه؛ فأرسل سنجر شاه إلى بركياروق يسأله فيه؛ فقال بركياروق: لا بدّ أن يطأ بساطى. ثم وقع أمور؛ وانتصر سنجر شاه لأخيه محمد شاه، ولا زال حتّى دخل محمد بغداد وخالب له بها، وتوجّه بركياروق إلى واسط.
وفيها أخذ الفرنج جبلة من بلاد الساحل وأرسوف «1» وقيساريّة بالسيف.
وفيها توفّى محمد بن منصور أبو سعد شرف الملك المستوفى الخوارزمىّ. كان جليل القدر فاضلا نبيلا متعصّبا لأصحاب أبى حنيفة- رضى الله عنه- وهو الذي بنى على أبى حنيفة القبّة والمدرسة الكبيرة بباب الطّاق- وقد قدّمنا ذكره فى وفاة أبى حنيفة فى هذا الكتاب- وبنى أيضا مدرسة بمرو، ووقف فيها كتبا نفيسة، وبنى الرّباطات فى المفاوز، وعمل خيرات كثيرة. ثم انقطع فى آخر عمره. وبذل لملكشاه مائة ألف دينار حتى أعفاه من الخدمة. ومات بأصبهان فى جمادى الآخرة.
وفيها قتل أبو المحاسن «2» وزير بركياروق. كان قد نقم على أبى سعيد «3» شيئا فقتله؛ فركب بعد ذلك وسار على باب أصبهان، فوثب عليه غلام أبى سعيد الحدّاد فقتله وأخذ بثأر أستاذه. فأمر بركياروق بسلخ الغلام فسلخ وعلّق.(5/167)
وفيها توفّى الشيخ أبو الحسن علىّ بن أحمد بن الأخرم «1» المدينىّ المؤذّن. كان إماما محدّثا فاضلا. مات فى المحرّم وله تسع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 495]
السنة التى حكم فى أوّلها المستعلي أحمد ثم الآمر ولده، وهى سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
فيها جلس الخليفة المستظهر بالله أحمد العباسىّ لمحمد شاه وسنجر شاه ابنى ملكشاه جلوسا عامّا ودخلا عليه وقبلا الأرض له، فأدناهما وأفاض عليهما الخلع، وتوّجهما وطوّقهما وسوّرهما، وقرأ الخليفة: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ...
الآية. ثم خرجا إلى قتال أخيهما بركياروق؛ فوقع بينهما وقائع وحروب أسفرت عن نصرة بركياروق وانهزام محمد شاه.
وفيها قبض بركياروق على الكيا «2» الهرّاسىّ الفقيه الشافعىّ، لأنه بلغه عنه أنه باطنىّ شيعىّ؛ فكتب الخليفة إليه ببراءة ساحته وحسن عقيدته ودينه، فأطلقه.
وفيها كانت وفاة صاحب الترجمة المستعلي بالله أحمد، كما تقدّم ذكره فى ترجمته.
وفيها توفّى حسين بن ملاعب جناح الدولة صاحب حمص. كان أميرا مجاهدا شجاعا يباشر الحروب بنفسه. دخل جامع «3» حمص يوم الجمعة فصلّى الجمعة، فوثب(5/168)
عليه ثلاثة من الباطنيّة فقتلوه. وكان سبب قتله أنه كان عند رضوان بن تتش ملك حلب منجّم باطنىّ، وهو أوّل من أظهر مذهب الباطنيّة بالشام، فندب لقتل جناح الدولة هذا أولئك النفر. ثمّ قتل المنجم بحلب بعد ذلك بأربعة عشر يوما.
وفيها توفّى الشيخ أبو العلاء صاعد بن سيّار الكنانىّ الهروى الفقيه العالم المشهور.
كان إماما فقيها مفتيا مدرّسا صالحا ثقة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.(5/169)
ذكر ولاية الآمر بأحكام الله على مصر
الآمر اسمه منصور، وكنيته أبو علىّ، ولقبه الآمر بأحكام الله بن المستعلى بالله أبى القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبى تميم معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ السابع من خلفاء مصر من بنى عبيد والعاشر منهم ممن ملك بالمغرب.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدّين محمد الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: «كان رافضيّا كآبائه فاسقا ظالما «1» جبّارا متظاهرا بالمنكر واللهو، ذا كبر وجبروت، وكان مدبّر سلطانه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش. ولى الآمر وهو صبىّ فلما كبر قتل الأفضل وأقام فى الوزارة المأمون أبا عبد الله محمد بن مختار بن فاتك البطائحىّ «2» ، فظلم وأساء السّيرة إلى أن قبض عليه الآمر سنة تسع عشرة وخمسمائة، وصادره ثم قتله فى سنة اثنتين وعشرين وصلبه، وقتل معه خمسة من إخوته. وفى أيّام الآمر أخذ الفرنج عكّا سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وأخذوا طرابلس «3» فى سنة اثنتين وخمسمائة، فقتلوا وسبوا، وجاءتها نجدة المصريّين بعد فوات المصلحة؛ وأخذوا عرقة «4» وبانياس.
وتسلّموا فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة تبنين «5» وتسلمّوا صور سنة ثمانى عشرة، وأخذوا بيروت بالسيف فى سنة ثلاث وخمسمائة، وأخذوا صيداء «6» سنة أربع وخمسمائة.(5/170)
ثم قصد الملك بردويل الإفرنجىّ مصر ليأخذها، ودخل الفرما «1» وأحرق جامعها ومساجدها؛ فأهلكه الله قبل أن يصل إلى العريش «2» . فشقّ أصحابه بطنه وصبرود، ورموا حشوته «3» هناك؛ فهى ترجم إلى اليوم بالسبخة «4» ، ودفنوه بقمامة «5» . وهو الذي أخذ بيت المقدس وعكا وعدّة حصون من السواحل. وهذا كله بتخلّف هذا المشئوم الطلعة. وفى أيّامه ظهر ابن تومرت «6» بالغرب.
وولد الآمر فى أوّل سنة تسعين وأربعمائة، واستخلف وله خمس سنين، وبقي فى الملك تسعا وعشرين سنة وتسعة أشهر، إلى أن خرج من القاهرة يوما فى ذى القعدة(5/171)
وعدّى على الجسر «1» إلى الجزيرة «2» ؛ فكمن له قوم بالسلاح. فلما عبر نزلوا عليه بأسيافهم، وكان فى طائفة يسيرة، فردّوه «3» إلى القصر وهو مثخن بالجراح، فهلك من غير عقب. وهو العاشر من أولاد المهدىّ عبيد الله الخارج بسجلماسة وبايعوا(5/172)
بالآمر ابن عمه الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله. وكان الآمر ربعة، شديد الأدمة، جاحظ العينين، حسن الخط، جيدّ العقل والمعرفة.
وقد ابتهج بقتله لفسقه وسفكه للدماء وكثرة مصادرته واستحسانه الفواحش.
وعاش خمسا وثلاثين سنة. وبنى وزيره المأمون بالقاهرة الجامع «1» الأقمر» . انتهى كلام الذهبىّ برمّته. ونذكر إن شاء الله قتله وأحواله بأوسع مما قاله الذهبىّ من أقوال جماعة من المؤرّخين أيضا.
وقال العلّامة أبو المظفّر فى مرآة الزمان: «لما كان يوم الثلاثاء ثالث ذى القعدة خرج من القاهرة (يعنى الآمر) وأتى الجزيرة وعبر بعض الجسر، فوثب عليه قوم فلعبوا عليه بالسيوف- وقيل: كانوا غلمان الأفضل- فحمل فى مركب إلى القصر فمات فى ليلته، وعمره أربع وثلاثون سنة- وزاد غيره فقال: وتسعة أشهر وعشرون يوما- وكانت أيّامه أربعا وعشرين سنة وشهرا.
قلت: وهم صاحب مرآة الزمان فى قوله: «وكانت مدّته أربعا وعشرين سنة وشهرا» . والصواب ما قاله الذهبىّ، فإنّه وافق فى ذلك جمهور المؤرخين.
ولعل الوهم يكون من الناسخ. وما آفة الأخبار إلّا رواتها.
قال (أعنى صاحب مرآة الزمان) : ومولده سنة تسعين وأربعمائة. قلت:
وزاد غيره وقال: فى يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم. قال: وكانت سيرته قد ساءت بالظلم والعسف والمصادرة. قال: ولمّا قتل الامر وثب غلام له أرمنىّ فاستولى على القاهرة، وفرّق الأموال فى العساكر، وأراد أن يتأمر على الناس؛ فخالفه جماعة(5/173)
ومضوا إلى أحمد بن الأفضل (يعنى الوزير) فعاهدوه وجاءوا به إلى القاهرة، فخرج الغلام الأرمنىّ فقتلوه، وولّوا أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، وولى الخلافة، ولقّبوه بالحافظ؛ ووزر له أبو علىّ أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش، وسمّاه أمير الجيوش. فأحسن إلى الناس، وأعاد إليهم ما صادرهم به الآمر وأسقطه؛ فأحبّه الناس؛ فحسده مقدّمو الدولة فاغتالوه. وقيل: إنّ الآمر لم يخلّف ولدا وترك امرأة حاملا؛ فماج أهل مصر وقالوا: لا يموت أحد من أهل هذا البيت إلّا ويخلّف ولدا ذكرا، منصوصة عليه الإمامة؛ وكان قد نصّ على الحمل قبل موته، فوضعت الحامل بنتا، فعدلوا إلى الحافظ؛ وانقطع النّسل من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من شيعة المصريّين؛ فإنّ الإمامة عندهم من المستنصر إلى نزار.
وكان نقش خاتم الآمر هذا «الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين» . وابتهج الناس بقتله.
انتهى كلام صاحب مرآة الزمان أيضا برمّته.
قلت: ونذكر إن شاء الله قتلة الآمر هذا بأوسع من هذا فى آخر ترجمته بعد أن نذكر أقوال المؤرّخين فى أمره.
وقال قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان- رحمه الله-:
«وكان الآمر سيّئ الرأى جائر السّيرة مستهترا متظاهرا باللهو واللّعب. وفى أيّامه أخذت الفرنج مدينة عكّا- ثم ذكر ابن خلّكان نحوا ممّا ذكره الذهبىّ من أخذ الفرنج للبلاد الشامية. إلى أن قال:- خرج من القاهرة (يعنى الآمر) صبيحة يوم الثلاثاء ثالث عشر «1» ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ونزل إلى مصر وعدّى على الجسر إلى الجزيرة التى قبالة مصر (يعنى الرّوضة) ؛ فكمن له قوم بالأسلحة(5/174)
وتواعدوا على قتله فى السكة التى يمرّ بها. فلمّا مرّ بها وثبوا عليه ولعبوا عليه بالسيوف، وكان قد جاوز الجسر وحده فى عدّة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصّته وشيعته، فحمل فى زورق فى النيل ولم يمت، وأدخل القاهرة وهو حىّ وجىء به إلى القصر فمات من ليلته، ولم يعقب. وكان قبيح السّيرة، ظلم الناس وأخذ أموالهم، وسفك الدماء، وارتكب المحظورات، واستحسن القبائح، وابتهج الناس بقتله» .
انتهى كلام ابن خلّكان.
وقيل: إنّ الآمر كان فيه هوج عند طلوعه المنبر فى خطبته فى الجمع والأعياد، فاستحيا وزيره المأمون بن البطائحىّ أن يشافهه بما يقع له من الهوج؛ وأراد أن يفهمها له من غير مشافهة، فقال له: يا مولانا، قد مضى من الشهر أيّام ولم يبق إلا الرّكوب إلى الجمعة الأولى- قلت: وقد تقدّم فى ترجمة المعزّ لدين الله ترتيب خروج الخلفاء الفاطميّين إلى صلاة الجمعة- ويصلّوا بالناس ثلاث جمع، والجمعة الأخيرة «1» من كلّ شهر يصلّى بالناس الخطيب وتسمّى تلك الجمعة جمعة الراحة (أعنى يستريح فيها الخليفة) . ونستطرد فى هذه الترجمة أيضا لذكر شىء من ذلك مما لم نذكره فى ترجمة المعزّ. قال الوزير: يا مولانا، وبعد غد جمعة الراحة، فإن حسن فى الرأى أن يخرج مولانا بحاشيته خاصّة من باب النوبة «2» إلى القصر النافعىّ «3» فما فيه سوى عجائز وقرائب وألزام، ويجلس مولانا على القبّة التى على المحراب قبالة الخطيب ليشاهد نائبه فى الخطابة كيف يخطب، فإنّه رجل شريف فصيح اللّسان حافظ القرآن.(5/175)
فأجابه الخليفة الآمر إلى ذلك. ولمّا حضر الجامع وجلس فى القبّة وفتح الرّوشن وقام الخطيب فخطب، فهو فى الصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فى الخطبة الثانية وإذا بالهوى قد فتح الطاق فرفع الخطيب رأسه فوقع وجهه فى وجه الخليفة فعرفه فأرتج عليه وارتاع ولم يدر ما يقول، حتّى فتح عليه فقال: معاشر المسلمين، نفعكم الله وإيّاى بما سمعتم، وعن الضلال عصمكم. قال الله تعالى فى كتابه العزيز:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...
. إلى آخر الآية، وصلّى بالناس. فلما انفصل المجلس تكلم الآمر مع وزيره المذكور بما وقع للخطيب. فانفتح الكلام للوزير وتكلّم فيما كان بصدده، فرجع الآمر عن الخطّابة واستناب وزيره المذكور؛ فصار الوزير يخطب بجامع القاهرة وجامع ابن طولون وجامع مصر.
وقال ابن أبى المنصور فى تاريخه: إنّ ابتداء خطبة الوزير المأمون كانت فى شهر رمضان سنة خمس وثمانين؛ وترك الآمر الخطابة مع ما كان له فى ذلك من الرغبة الزائدة، حتّى إنّه كان اقترح أشياء أخرى فى خروجه إلى الجامع زيادة على ما كانت آباؤه تفعله، غير أنّه كان يخطب فى الأعياد بعد ما استناب وزيره المأمون ابن البطائحىّ فى خطبة الجمع. فكان الآمر إذا خرج فى خطبة العيد خرج إلى المصلّى، ويخرجون قبله، على العادة السابقة المذكورة فى ترجمة المعزّ، بالفرش والآلات، وعلّق بالمحاريب الشروب المذهبة، وفرش فيه ثلاث سجّادات متراكبة، وبأغلاها السجادة اللطيفة التى كانت عندهم معظّمة، وهى قطعة من حصير، ذكر أنّها كانت من حصير لجعفر الصادق- رضى الله عنه- وكانت مما أخذه الحاكم بأمر الله عند فتح دار جعفر الصادق. ثم تغلق الأبواب الثلاثة التى بجنب القبّة التى فى صدرها المحراب.
قلت: والذي ذكرناه فى ترجمة المعزّ لدين الله كانت صلاته بالجامع الأزهر،(5/176)
والآمر هذا كانت صلاته فى الجمعة بالجامع الحاكمىّ، وفى العيد بالمصلّى.
ونذكر أيضا هيئة خروج الامر إلى الجامع بنحو ما ذكرناه هناك وزيادة أخرى لم نذكرها؛ فبهذا المقتضى يكون للإعادة نتيجة. قال: ثمّ تفرش أرض القبّة المذكورة جمعيا بالحصر المحاريب المبطّنة، ثم تعلّق الستور بالمحراب وجانبى المنبر، ويفرش درجه، وينصب اللواءان ويعلّقان عليه، ويقف متولّى ذلك والقاضى تحت المنبر، ويطلق البخور، ويتقدّم «1» الوزير بألّا يفتح الباب أحد، وهو الباب الذي يدخل الخليفة منه ويقف عليه، ويقعد الداعى فى الدّهليز، ويقرأ المقرئون بين يديه، ويدخل الأمراء والأشراف والشهود والشيوخ، ولا يدخل غيرهم إلّا بضمان من الداعى. فإذا استحقّت الصلاة أقبل الخليفة فى زيه الذي ذكرناه فى ترجمة المعزّ لدين الله وقصيب الملك بيده، وجميع إخوته وبنو عمّه فى ركابه. فعند ذلك يتلقّاه المقرئون ويرجع من كان حوله من بنى عمه وإخوته. ويخرج من باب الملك إلى أن يصل إلى باب العيد، فتنشر المظلّة عليه- وقد ذكرنا أيضا زىّ المظلّة فى ترجمة المعزّ- ويترتّب الموكب فى دعة لا يتقدّم أحد ولا يتأخّر عن مكانه، وكذلك وراء الموكب العماريات- هم عوض المحفّات- والزّرافات والفيلة والأسود عليها الأسرّة مزيّنة بالأسلحة. ولا يدخل من باب المصلّى أحد راكبا إلا الوزير خاصّة، ثم يدخل الباب الثانى فيترجّل الوزير ويتسلّم شكيمه فرس الخليفة حتّى ينزل الخليفة ويمشى إلى المحراب، والقاضى والداعى عن يمينه ويساره يوصّلان التكبير لجماعة المؤذّنين. وكاتب الدّست وجماعة الكتّاب يصلّون تحت عقد المنبر، لا يمكن غيرهم أن يكون معهم. ويكبّر فى الأولى سبعا وفى الثانية خمسا على(5/177)
سنّة القوم، ثم يطلع الوزير ثمّ يسلّم الدعو «1» القاضى، فيستدعى من جرت عادته بطلوع المنبر، وكلّ لا يتعدّى مكانه. ثم ينزل الخليفة بعد الخطبة ويعود فى أحسن زىّ على هيئة خروجه من رحبة باب العيد حتّى يأكل الناس السّماط. وقد ذكرنا كيفيّة السّماط وزىّ لبس الخليفة والمظلّة وصفة ركوبه وطلوعه إلى المنبر ونزوله، فى ترجمة المعزّ لدين الله أوّل خلفائهم، فينظر هناك من هذا الكتاب.
قلت: وكان الآمر يتناهى فى العظمة ويتقاعد عن الجهاد. وما قاله الذهبىّ فى ترجمته فبحقّ؛ فإنّه مع تلك المساوى التى ذكرت عنه كان فيه تهاون فى أمر الغزو والجهاد حتّى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها فى أيّامه، وإن كان وقع لأبيه المستعلى أيضا ذلك وأخذ القدس فى أيامه فإنّه اهتمّ لقتال الفرنج وأرسل [الأفضل «2» بن] بدر الجمالىّ أمير الجيوش بالعساكر، فوصلوا بعد فوات المصلحة بيوم. فكان له فى الجملة مندوحة، بخلاف الآمر هذا، فإنّه لم ينهض لقتال الفرنج البتّة، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكرا فهو كلا شىء. وسنبيّن ذلك عند استيلاء الفرنج على طرابلس وغيرها على سبيل الاختصار فى هذا المحلّ، فنقول:
أوّل ما وقع فى أيّامه من طمع الفرنج فى البلاد فإنّهم خرجوا فى أوّل سنة سبع وتسعين وأربعمائة من الرّهاء، وانقسموا قسمين، قسم قصد حرّان، وقسم قصد الرّقّة. فالذى توجّه إلى الرّقّة خرج لهم سكمان بن أرتق صاحب ماردين، وكان سالم بن بدر العقيلىّ فى بنى عقيل، وقد نزلوا على رأس «3» العين، فخرج بهم سكمان(5/178)
المذكور، والتقوا مع الفرنج واقتتلوا قتالا شديدا أسر فيه سالم بن بدر المذكور، ثم كانت الدائرة على الفرنج، فانهزموا وقتل منهم خلق كثير. والقسم الآخر من الفرنج الذي قصد حرّان والبلاد الشاميّة لم ينهض لقتالهم وصالحهم ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها وهادنهم، على أن يكون لصنجيل ملك الفرنج ظاهر البلد، وألّا يقطع الميرة عنها وأن يكون داخل البلد لابن عمّار. وهلك فى أثناء ذلك صنجيل المذكور ملك الروم. ولم ينهض أحد من المصريّين لقتال المذكورين.
فعلمت الفرنج ضعف من بمصر. ثم بعد ذلك فى سنة اثنتين وخمسمائة قصد الفرنج طرابلس وأخذوها، بعد أن اجتمع عليها ملوك الفرنج مع ريمند «1» بن صنجيل المقدّم ذكره فى ستين مركبا فى البحر مشحونة بالمقاتلة؛ وطنكرى الفرنجىّ صاحب أنطاكية، وبغدوين الفرنجىّ صاحب القدس بمن معهم، جاءوا من البرّ وشرعوا فى قتالها وضايقوها من أوّل شعبان إلى حادى عشر ذى الحجّة، وأسندوا أبراجهم إلى سور البلد. فلمّا رأى أهل طرابلس ذلك أيقنوا بالهلاك مع تأخّر أسطول مصر عنهم. ثم حضر أسطول مصر من البحر. وصار كلّما سار نحو البلد ردّه الفرنج إلى نحو مصر.
قلت: ومن هذا يظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كلّ وجه. الأوّل:
من تقاعدهم عن المسير فى هذه المدّة الطويلة. والثانى: لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوّة لدفع الفرنج من البحر عن البلد على حسب الحال. والثالث: لم لا خرج الوزير الأفضل بن أمير الجيوش بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر «2» الجمالىّ فى أوائل الأمر. هذا مع قوّتهم(5/179)
من العساكر والأموال والأسلحة. فلله الأمر من قبل ومن بعد. ولله درّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب فيما فعله فى أمر الجهاد وفتح البلاد، كما يأتى ذلك كلّه إن شاء الله مفصّلا فى وقته وساعته فى ترجمة السلطان صلاح الدين- رحمه الله-.
ثمّ إنّ الفرنج لما علموا بحال أهل طرابلس وتحقّقوا أمرهم حملوا حملة رجل واحد فى يوم الاثنين حادى عشر ذى الحجة وهجموا على طرابلس، فأخذوها ونهبوها وأسروا رجالها وسبوا نساءهم وأخذوا أموالها وذخائرها؛ وكان فيها ما لا يحصى ولا يحصر واقتسموها بينهم. وطمعوا فى الغنائم، فساروا إلى جبلة وبها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس وقاضيها، وتسلّموها منه بالأمان فى ثانى عشر ذى الحجّة فى يوم واحد، وخرج منها ابن عمّار سالما. ثم وصل بعد ذلك الأسطول المصرىّ بالعساكر، فوجدوا البلاد قد أخذت فعادوا كما هم إلى مصر. وسار ابن عمّار إلى شيزر، فأكرمه صاحبها سلطان بن علىّ بن منقذ واحترمه وعرض عليه المقام عنده فأبى، وتوجّه إلى الأمير طغتكين صاحب دمشق، فأكرمه طغتكين وأنزله وأقطعه الزّبدانىّ «1» وأعماله. ثم وقع بين بغدوين صاحب القدس وبين طغتكين المذكور أمور، حتّى وقع الاتفاق بينهما على أن يكون السّواد «2» وجبل عوف مثلّثة، الثّلث للفرنج والباقى للمسلمين. ثم انقضى ذلك فى سنة خمس وخمسائة. وقصد بغدوين الفرنجىّ المذكور صور؛ فكتب واليها وأهلها إلى طغتكين يسألونه أنهم يسلّمونها إليه قبل مجىء الفرنج لأنّهم يئسوا من نصرة مصر؛ فأبى وبعث إليهم الفرسان والرّجالة، وجاءهم هو من جبل عاملة ثمّ عاد. ثمّ سار إليهم بغدوين فى «3» الخامس(5/180)
والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة فقطع أشجارها وقاتلها أياما، وهو يعود خاسرا. وخرج طغتكين وخيّم ببانياس وجهّز الخيّالة والرّجالة إلى صور نجدة، فلم يقدروا على الدخول إليها من الفرنج وثمّ رحلت الفرنج عنها، ونزلوا على الحبيس «1» (وهو حصن عظيم) وحاصروه حتى فتحوه عنوة؛ وقتلوا كلّ من كان فيه، ثم عاد بغدوين إلى صور وشرع فى عمل الأبراج، وأخذ فى قتالها «2» والزحف فى كلّ يوم.
فلمّا بلغ ذلك طغتكين زحف عليهم ليشغلهم، فخندق عليهم وهجم الشتاء فلم يبال الفرنج به لأنّهم كانوا فى أرض رملة، والميرة تصل إليهم من صيداء فى المراكب.
ثمّ ركب طغتكين البحر وسار إلى نحو صيداء، وقتل جماعة من الفرنج وغرّق مراكبهم وأوصل مكاتبته إلى أهل صور، فقوّى قلوبهم. ثم عمل الفرنج برجين عظيمين، طول الكبير منهما زيادة على خمسين ذراعا، وطول الصغير زيادة على أربعين ذراعا، وزحفوا بهما أوّل شهر رمضان، وخرج أهل صور بالنّفط والقطران ورموا النار، فهبّت الريح فاحترق البرج الصغير بعد المحاربة العظيمة، ونهب منه زرديات «3» وطوارق «4» وغير ذلك؛ ولعبت النار فى البرج الكبير أيضا فأطفأها الفرنج.
ثم إنّ الفرنج طمّوا الخندق، وواتروا الزّحف طول شهر رمضان، وأشرف أهل البلد على الهلاك. فتحيّل واحد من المسلمين له خبرة بالحرب، فعمل كباشا من أخشاب تدفع البرج الذي يلصقونه بالسور. ثم تحيّل فى حريق البرج الكبير حتّى أحرقه، وخرج المسلمون فأخذوا منه آلات وسلاحا. فحينئذ يئس الفرنج من(5/181)
أخذها، ورحلوا عنها بعد ما أحرقوا جميع ما كان لهم من المراكب على الساحل والأخشاب والعمائر والعلوفات وغيرها. وجاءهم طغتكين فما سلّموا إليه البلد؛ فقال طغتكين: أنا ما فعلت الذي فعلته إلّا لله تعالى لا لرغبة فى حصن ولا مال، ومتى دهمكم عدوّكم جئتكم بنفسى وبرجالى، ثمّ رحل عنهم- فلله درّه من ملك- كلّ ذلك ولم تأت نجدة المصريّين. ودام الأمر بين أهل صور والفرنج، تارة بالقتال وتارة بالمهادنة، إلى أن طال على أهل صور الأمر ويئسوا من نصرة مصر، فسلّموها للفرنج بالأمان فى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة.
قلت: وما أبقى أهل صور- رحمهم الله تعالى- ممكنا فى قتالهم مع الفرنج وثباتهم فى هذه السنين الطويلة مع عدم المنجد لهم من مصر. وقيل فى أخذ صور وجه آخر.
قال ابن القلانسىّ: وفى سنة تسع عشرة وخمسمائة، ملك الفرنج صور بالأمان.
وسببه خروج سيف الدولة مسعود منها، وكان قد حمل إلى مصر، وأقام الوالى الذي بها فى البلد. قلت: وهذه زيادة فى النّكاية للمسلمين من صاحب مصر؛ فإنّ سيف الدولة المذكور كان قائما بمصالح المسلمين، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدّة الطويلة، فأخذوه منها غصبا وخلّوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج. فكان حال المصريّين فى أوّل الأمر أنّهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين، والآن بأخذهم سيف الدولة من صور صاروا نجدة للفرنج.
وهذا ما فعله إلا الآمر هذا صاحب الترجمة بنفسه بعد أن قبض على الأفضل ابن أمير الجيوش وقتله، وقتل غيره أيضا معه.(5/182)
ونعود إلى كلام ابن القلانسىّ قال: وعرف الفرنج (يعنى بخروج سيف الدولة) فتأهّبوا للنزول عليها، وعرف الوالى أنه لا قبل له بهم لقلّة النجدة والميرة بها؛ فكتب إلى صاحب مصر يخبره. فكتب إليه: قد رددنا أمرها إلى ظهير الدين- أظنه يعنى بظهير الدين طغتكين المقدّم ذكره أمير دمشق- قال: ليتولّى حمايتها والذّب عنها، وبعث منشورا له بها. ونزل الفرنج عليها وضايقوها بالحصار والقتال حتّى خفّت الأقوات، وجاء طغتكين فنزل ببانياس، وتواترت المكاتبات.
إلى مصر باستدعاء المؤن، فتمادت الأيّام إلى أن أشرف أهلها على الهلاك. ولم يكن للأتابك طغتكين قدرة على دفع الفرنج، ويئس من مصر؛ فراسل أهلها الفرنج وطلبوا الأمان على نفوسهم وأهاليهم وأموالهم، ومن أراد الخروج خرج ومن أراد الإقامة أقام. وجاء الاتابك بعسكره فوقف بإزاء الفرنج، وركبت الفرنج ووقفوا بإزائه وصاروا صفّين؛ وخرج أهل البلد يمرّون بين الصّفّين ولم يعرض لهم أحد، وحملوا ما أطاقوه، ومن ضعف منهم أقام. فمضى بعضهم إلى دمشق، وبعضهم إلى غزّة، وتفرّقوا فى البلاد، وعاد الأتابك إلى دمشق. ودخل الفرنج صور وملكوها سنين إلى حين فتحت ثانيا، حسب ما سيأتى ذكره فى ترجمة السلطان الذي يتولّى فتحها. قلت: وهذا الذي ذكرناه هو كالشرح لكلام الذهبىّ وغيره من المؤرّخين فيما ذكروه عن الآمر هذا. ونعود إلى ترجمة الآمر.
وكان للآمر نظم ونظر فى الأدب. ومما نسب إليه من الشعر قوله:
[السريع]
أصبحت لا أرجو ولا أتّقي ... إلّا إلهى وله الفضل
جدّى نبيّى وإمامى أبى ... ومذهبى التوحيد والعدل(5/183)
وقد نسب هذا الشعر لغيره من الفاطميّين «1» أيضا. وكان الآمر يحفظ القرآن، انفرد بذلك دون جميع خلفاء مصر من الفاطميّين، وكان ضعيف «2» الخطّ. وأمّا ما وعدنا به من ذكر قتله فنقول: كان الامر صاحب الترجمة مطلوبا من جماعة من أعوان عمه نزار المقتول بيد أبيه بعد واقعة الإسكندرية المقدّم ذكرها؛ لأنّ الآمر وأباه المستعلي غصبا الخلافة، وأن النّص كان على نزار. وقد ذكرنا ذلك كلّه فى أوّل ترجمة المستعلى. فاتّصل بالآمر أنّ جماعة من النّزارية حصلوا بالقاهرة ومصر يريدون قتله، فاحترز الآمر على نفسه وتحيّل فى قبضهم، فلم يقدّر له ذلك لما أراده الله. وفشا أمر النّزارية وكانوا عشرة، فخافوا أن يقع عليهم الآمر فيقتلهم قبل قتله، فآجتمعوا فى بيت وقال بعضهم لبعض: قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا الآمر فيقتلنا، ومن المصلحة والرأى أن نقتل واحدا منّا ونلقى رأسه بين القصرين، وحلانا «3» عندهم؛ فإن عرفوه فلا مقام لنا عندهم، وإن لم يعرفوه تمّ لنا ما نريد، لأنّ القوم فى غفلة. فقالوا للذى أشار عليهم: ما يتّسع لنا قتل واحد منّا، ينقص عددنا وما يتمّ بذلك أمرنا، فقال الرجل: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته؟ فقالوا نعم. فقال: وما دللتكم إلّا على نفسى، وشرع فى قتل نفسه بيده بسكّين فى جوفه فمات من وقته. فأخذوا رأسه فرموه فى الليل بين القصرين، وأصبحوا متفرّقين ينظرون ما يجرى فى البلد بسبب الرأس. فلمّا وجد الرأس اجتمع عليه الناس وأبصروه، فلم يقل أحد منهم أنا أعرفه. فحمل إلى الوالى، فأحضر الوالى عرفاء الأسواق وأرباب المعايش فلم يعرف؛ فأحضر أيضا(5/184)
أصحاب الأرباع والحارات فلم يعرف؛ ففرح التسعة بذلك ووثقوا بالمقام بالقاهرة لقضاء مرادهم. واتّفق للخليفة الآمر أن يمضى إلى الرّوضة- حسب ما ذكر فى أوّل ترجمته- وأنّه يجوز على الجسر الذي من مصر إلى جزيرة الرّوضة للمقام بها أياما للفرجة. وكان من شأن الخلفاء أنهم يشيعون الركوب فى أرباب خدمتهم حيثما قصدوا حتّى لا يتفرّقوا عنه، وأيضا لا يتخلّف أحد عن الركوب؛ فعلم النّزارية التسعة بركوبه فجاءوا إلى الجزيرة، ووجدوا قبالة الطالع من الجسر فرنا، فدخلوا فيه قبل مجىء الخليفة الآمر، ودفعوا إلى الفرّان دراهم وافرة ليعمل لهم بها فطيرا بسمن وعسل؛ ففرح الفرّان بها وعمل لهم الفطير؛ فما هو بأكثر ممّا أكلوه، ولم يتموا أكلهم إذ طلع الخليفة الآمر من آخر الجسر، وقد تفلّل عنه الرّكابيّة ومن يصونه لحرج الجواز على الجسر لضيقه، فلمّا قابلوه وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين حتى إنّ واحدا منهم ركب وراءه وضربه عدّة ضربات؛ وأدوكهم الناس فقتل التسعة. وحمل الآمر فى عشارىّ «1» إلى قصر «2» اللّؤلؤة، وكان ذلك فى أيّام النيل، ففاضت نفس الآمر قبل وصوله إلى اللؤلؤة. وقد تقدّم عمر الآمر ومدّة خلافته فى أوّل ترجمته، فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا. وقيل: إنّ بعض منجّميه كان عرّفه أنّه يموت مقتولا بالسكاكين، فكان الآمر كثيرا ما يلهج بقوله: الآمر مسكين، المقتول بالسكين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 496]
السنة الأولى من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ستّ وتسعين وأربعمائة.(5/185)
فيها أعيدت الخطبة ببغداد إلى السلطان بركياروق السلجوقىّ بعد أن التقى مع أخيه محمد شاه وهزمه بركياروق. فتوجّه محمد شاه إلى أرمينية وأخلاط، ثم عاد إلى تبريز فى جمادى الآخرة، ومضى بركياروق إلى زنجان. ووقع بينهما فى الآخر الاتّفاق على شىء فعلوه.
وفيها استوزر الخليفة المستظهر بالله العبّاسىّ زعيم الرؤساء أبا القاسم علىّ بن محمد [بن محمد «1» ] بن جهير على كره منه، وعزل وزيره سديد الملك أبا الفضل «2» بن عبد الرزّاق.
فكانت ولايته عشرة أشهر.
وفيها توفّى أردشير بن منصور أبو الحسين العبّادىّ الواعظ الأستاذ. كان أصله من أهل مرو، وكان يخاطب بالأمير قطب الدين. قدم بغداد وجلس فى النّظاميّة، وحضر أبو حامد الغزالىّ مجلس وعظه، وكان يحضر مجلسه من الرجال والنساء ثلاثون ألفا. وكان صمته أكثر من نطقه، وإذا تكلّم هابته الناس؛ وبوعظه حلق أكثر الصّبيان رءوسهم، ولزموا المساجد وبدّدوا الخمور وكسروا الملاهى. ولمّا قدم بغداد ووعظ بها، وكان البرهان «3» الغزنوىّ يعظ بها قبله فانكسر «4» سوقه. فقال الدّهّان الشاعر المشهور فى ذلك:
[السريع]
لله قطب الدّين من عالم ... منفرد بالعلم والباس
قد ظهرت حجّته للورى ... قام بها البرهان للناس
ومات قطب الدين فى غرّة جمادى الآخرة. رحمه الله.(5/186)
وفيها توفّى الشيخ أبو المعالى الزاهد الصالح البغدادىّ. كان مقيما بمسجد باب الطاق ببغداد؛ فحضر مجلس ابن أبى عمامة «1» فوقع كلامه فى قلبه فتزهّد. وكان لا ينام إلّا جالسا ولا يلبس إلّا ثوبا واحدا شتاء وصيفا. وكان منقطعا إلى العبادة، ويقصد للزيارة.
وفيها توفّى الشيخ أبو طاهر أحمد بن علىّ بن عبيد «2» الله بن عمر بن سوار المقرئ المجوّد. كان إماما عارفا بالقراءات، وسمع الحديث واشتغل فى القراءات سنين.
وفيها توفّى الشيخ أبو داود سليمان بن نجاح المؤيّدىّ المقرئ الإمام. مات فى شهر رمضان وله ثلاث وثمانون سنة، وقد انتهت إليه رياسة القرّاء فى زمانه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 497]
السنة الثانية من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
فيها وقع الصلح بين الإخوة أولاد السلطان ملكشاه السلجوقىّ، وهم السلطان بركياروق ومحمد شاه وسنجر شاه، على أن يكون اسم السلطنة لبركياروق وضرب «3» النّوبة (أعنى الطبلخانات) فى أوقات الصلوات الخمس على بابه، وأن يكون لمحمد شاه أرمينية وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، وأن يكون لسنجر شاه خراسان(5/187)
على حاله أوّلا، وأن يكون لبركياروق الجبل وهمذان وأصبهان والرّىّ وبغداد وأعمالها والخطبة ببغداد، وأن محمد شاه وسنجر شاه يخطبان لنفوسهما «1» .
وفيها نزل الأمير سكمان بن أرتق صاحب ماردين، وجكرمش صاحب الموصل على رأس العين عازمين على لقاء الفرنج، وكان خرج ريمند وطنكرى صاحب أنطاكية بعساكر الفرنج إلى الرّهاء، فالتقوا فنصر الله المسلمين وقتلوا منهم عشرة آلاف، وانهزم ريمند وطنكرى فى نفر يسير من الفرنج.
وفيها نزل بغدوين صاحب القدس الفرنجىّ على عكّا فى البرّ والبحر فى نيّف وتسعين مركبا فحصروها من جميع الجهات، وكان واليها زهر الدولة الجيوشىّ، فقاتل حتّى عجز، فطلب الأمان له وللمسلمين فلم يعطوه لمّا علموا (الفرنج) من أهل مصر أنهم لم ينجدوه، ثم أخذوها بالسيف فى شهر رمضان. وقد قدّمنا ذكر ذلك فى ترجمة الآمر هذا بأكثر من هذا القول.
وفيها حاصر صنجيل الفرنجىّ طرابلس وبنى عليها حصنا؛ فخرج القاضى ابن عمّار صاحب طرابلس بعسكره فى ذى الحجة، وهدم الحصن وقتل من فيه من الفرنج ونهبه، وكان فيه شىء كثير.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن حيدرة الأديب أبو الحسين، ويعرف بابن خراسان الطرابلسىّ الشاعر المشهور. وكان شاعرا مجيدا، هجا فخر الملك ابن عمّار قاضى طرابلس وصاحبها وأخاه؛ فأمر به قاضى طرابلس المذكور فضرب حتّى مات. ومن شعره من قصيدة:
[الطويل]
[جزى «2» الله عنا النّيرب الفرد صالحا ... لقد جمع المعنى الذي يذهب الفكرا
]
خرجنا على أنّا نقيم ثلاثة ... فطاب لنا حتّى أقمنا به عشرا(5/188)
وفيها توفّى إسماعيل بن علىّ بن الحسن «1» بن علىّ الشيخ أبو علىّ الجاجرمىّ «2» الأصمّ النّيسابورىّ. ولد سنة ستّ وأربعمائة، ورحل فى طلب العلم، وطاف البلاد وعاد إلى نيسابور فمات بها فى المحرّم. وكان فقيها واعظا زاهدا ورعا صدوقا ثقة حسن الطريقة.
وفيها توفّى دقماق بن تش الأمير أبو نصر شمس الملوك السلجوقىّ صاحب دمشق. وسمّاه الذهبىّ وصاحب مرآة الزمان دقاقا بلا ميم. ولعلّ الذي قلناه هو الصواب؛ فإننا لم نسمع باسم قبل ذلك يقال له دقاق، وأيضا فإنّ جدّ السلجوقيّين الأعلى اسمه دقماق، وهذا من أكبر الأدلّة على أنّ اسمه دقماق. ولى دمشق بعد قتل أبيه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان؛ وقام بأمره الأتابك ظهير الدّين طغتكين، وتزوّج طغتكين والدته. فأقام فى مملكة دمشق حتّى مات. وملك دمشق بعده ابنه تتش وهو حدث السن، وأوصى أن يكون طغتكين أيضا القائم بدولته؛ فوقع ذلك، وقام طغتكين بالأمر أحسن قيام.
وفيها توفّى العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلا يا أبو سعد الكاتب الفاضل.
كتب فى الإنشاء للخلفاء خمسا وستّين سنة. وكان نصرانيّا، فأسلم فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة على يد الخليفة المقتدى بالله العبّاسىّ. ومات فجاءة. وكان طاهر اللّسان كريم الأخلاق شاعرا مجيدا مترسّلا. ومن شعره:
[الوافر]
يا خليلىّ خليّانى ووجدى ... فملام «3» العدول ما ليس يجدى(5/189)
ودعانى فقد دعانى إلى الحك ... م غريم الغرامة الّت «1» عندى
فعساه يرقّ إذ ملك الرّ «2» ... قّ بنقد من وصله أو بوعد
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 498]
السنة الثالثة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
فيها هلك صنجيل عظيم الفرنج وصاحب أنطاكية.
وفيها بعث ضياء الدّين محمد وزير ميّافارقين إلى قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهو بملطية يستدعيه إلى ميّافارقين؛ فتوجّه إليه قلج أرسلان وملك ميافارقين. وكان مبدأ قلج أرسلان هذا أنّه خدم ملكشاه السلجوقىّ، فأرسله على جيش لغزو الرّوم؛ فسار وافتتح ملطية وقيساريّة وأقصرى «3» وقونية وسيواس «4» وجميع ممالك الروم؛ فأقرّه ملكشاه بها، فأقام بها وعدّ من الملوك؛ إلى أن قدم ميافارقين واستولى عليها، وولّاها لمملوك والده خمرتاش السليمانىّ. واستوزر قلج أرسلان ضيا الدّين المذكور، وأخذه معه وولّاه أبلستين «5» . ثمّ وقع بين قلج(5/190)
أرسلان هذا وبين جاولى مملوك السلطان محمد شاه بن ملكشاه وتقاتلا، فانكسر فلج أرسلان. فلمّا رأى الهزيمة عليه ألقى نفسه فى الخابور فغرق، فأخرج وحمل تابوته إلى ميّافارقين ودفن بها.
وفيها بعث يوسف بن تاشفين صاحب المغرب إلى الخليفة المستظهر بالله العبّاسىّ يخبره أنّه خطب له على منابر ممالكه، وأرسل يطلب منه الخلع والتقليد؛ فبعث إليه بما طلب.
وفيها توفّى السلطان ركن الدولة بركياروق ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داوود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ أبو المظفّر.
مات فى شهر ربيع الأوّل وهو ابن أربع وعشرين سنة. وكانت سلطنته اثنتى عشرة سنة. وعهد لولده ملكشاه، وأوصى به الأمير آياز؛ فتوجّه آياز بالصبىّ إلىّ بغداد، ونزل به دار المملكة، وعمره أربع سنين وعشرة أيام، وأجلسه على تخت الملك مكان أبيه بركياروق؛ وخطب له ببغداد فى جمادى الأولى. فلم يتمّ أمر الصبىّ، وملك عمّه محمد شاه الذي كان ينازع أخاه بركياروق، وقتل آياز المذكور.
وبركياروق: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء والكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة وبعد الراء واو وقاف.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن الحسن بن أبى الصقر أبو الحسن الواسطىّ. تفقّه على أبى إسحاق الشّيرازىّ، وسمع الحديث الكثير. وكان أديبا عالما. ومن شعره لمّا كبر سنّه وصار لا يستطيع القيام لأصحابه:
[الوافر]
علّة سمّيت ثمانين عاما ... منعتنى للأصدقاء القياما
فإذا عمّروا تمهّد عذرى ... عندهم بالذى ذكرت وقاما(5/191)
وفيها توفّى الحافظ أبو علىّ الحسين بن محمد الغسّانىّ الجيّانىّ «1» عن إحدى وتسعين سنة. كان إماما حافظا، سمع الكثير وحدّث وكتب وصنّف.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 499]
السنة الرابعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
فيها ظهر رجل من نواحى نهاوند وادّعى النبوّة، وكان ممخرقا «2» بالسّحر والنجوم فتبعه خلق كثير وحملوا إليه أموالهم. وكان يعطى جميع ما عنده لمن يقصده، وسمّى أصحابه بأسماء الصحابة الخلفاء، رضوان الله عليهم. وكان خرج أيضا فى هذه السنة بنهاوند رجل من ولد ألب أرسلان السلجوقىّ يطلب الملك؛ فخرج إليهما العساكر، وأخذوا الرجل المدّعى النبوّة، والذي طلب الملك معا وقتلا.
وفيها كان بين الفرنج وبين طغتكين واقعة عظيمة على سواد طبريّة.
وفيها ملكت الإسماعيليّة «3» حصن فامية، وقتلوا خلف بن ملاعب صاحب الحصن بأمر أبى طاهر الصائغ العجمىّ المقيم بحلب. وهذا الصائغ هو الذي أظهر مذهب الباطنية الرافضة، وقتلته الفرنج، وأراح الله المسلمين منه.(5/192)
وفيها توفّى عمر بن المبارك بن عمر أبو الفوارس البغدادىّ. ولد سنة ثلاث عشرة «1» وأربعمائة، وبرع فى علم القرآن، وقرأ الناس عليه سنين كثيرة، وسمع الحديث الكثير، وكان من الصالحين.
وفيها توفّى مهارش البدوىّ بن مجلّى الأمير أبو الحارث صاحب الحديثة، الذي خدم الخليفة القائم بأمر الله، فيما تقدّم ذكره لمّا حصل عنده بالحديثة. وكان مهارش هذا كثير الصلاة والصوم والصدقة صالحا محبّا لأهل العلم. وعاش نيّفا وثمانين سنة. رحمه الله.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو البركات محمد بن عبد الله بن يحيى بن الوكيل المقرئ المحدّث؛ مات وله ثلاث وتسعون سنة. وكان عالما بفنون كثيرة، عارفا بعلوم القرآن.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو البقاء المعمّر بن محمد بن علىّ الكوفىّ الحبّال؛ ومات وله ستّ وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 500]
السنة الخامسة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمسمائة.
فيها ولى الخليفة المستظهر بالله أبا جعفر عبد الله «2» الدّامغانىّ أخا قاضى القضاة حجبة الباب؛ فرمى الطّيلسان وتزيّا بزىّ الحجبة، فشقّ ذلك على أخيه.(5/193)
وفيها بعث «1» السلطان محمد شاه برأس أحمد بن عبد الملك بن عطّاش مقدّم الباطنيّة، ورأس ولده. وكان ابن عطّاش هذا فى قلعة عظيمة بأصبهان.
وفيها توفّى جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد الشيخ أبو محمد السّراج القارئ البغدادىّ. ولد سنة ستّ عشرة وأربعمائة. وقرأ بالروايات وأقرأ سنين، وسافر إلى مصر والشام، وسمع الحديث وصنّف المصنّفات الحسان، منها كتاب «مصارع العشّاق» وغيره. وكان فاضلا شاعرا لطيفا. نظم «كتاب التنبيه» وغيره. ولم يمرض فى عمره سوى مرض الموت. ومن شعره:
[السريع]
يا ساكنى الدّير «2» حلولا به ... يطربهم فيه النواقيس
قيسوا لنا القرب وكم بينه ... وبين أيّام النّوى قيسوا
وفيها قتل السلطان محمد شاه بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقىّ وزيره سعد الملك، سعد بن محمد أبا المحاسن «3» ، واستوزر عوضه أبا نصر أحمد بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه بلغه أنّه دبّر عليه هو وجماعة، وكاتب أخاه سنجر شاه، فقبض عليه وصلبه وأصحابه.
وفيها قتل أيضا الوزير فخر الملك علىّ بن الوزير نظام الملك حسن، وكنيته أبو المظفّر. كان استوزره بركياروق، ثم توجّه إلى نيسابور، فوزر إلى سنجر شاه.
وثب عليه شخص فى زىّ الصوفيّة من الباطنيّة وناوله قصّة ثم ضربه بسكّين فقتله.
قلت: وهكذا أيضا وقع لأبيه نظام الملك. حسب ما ذكرناه فى محلّه. فأخذ الباطنىّ وفصّل على قبر فخر الملك عضوا عضوا.(5/194)
وفيها توفّى محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الأسدىّ. ولد بمكّة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وسافر البلاد ولقى العلماء. وكان إماما فاضلا شاعرا. ومن شعره:
[الخفيف]
قلت ثقّلت «1» إذ أتيت مرارا ... قال ثقّلت كاهلى بالأيادى
قلت طوّلت قال لا بل تطوّل ... ت وأبرمت قال حبل ودادى
ورأيت هذين البيتين فى شرح البديعيّة لابن حجّة «2» فى القول بالموجب، ونسبهما لابن حجّاج. والله أعلم.
وفيها توفّى الحافظ أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحدّاد الإمام العالم المحدّث.
مات فى ذى القعدة بأصبهان وله اثنتان وتسعون سنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو غالب محمد بن الحسن الكرخىّ الباقلّانىّ العالم المشهور. مات وله ثمانون سنة.
وفيها توفّى أبو الكرم «3» المبارك بن فاخر النحوىّ البغدادىّ. كان إماما عالما بالنحو واللغة والعربيّة، وله مصنّفات حسان. وتوفّى ببغداد.
وفيها توفّى سلطان المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشفين اللّمتونىّ «4» صاحب المغرب، كان من عظماء ملوك الغرب.(5/195)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وتسع أصابع.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 501]
السنة السادسة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة إحدى وخمسمائة.
فيها ظهرت ببغداد صبيّة عمياء تتكلّم عن أسرار الناس؛ فكانت تسأل عن نقوش الخواتم وما عليها، وألوان الفصوص، إلى غير ذلك.
وفيها حاصر بغدوين الفرنجىّ صاحب القدس صيداء وضايقها. حسب ما ذكرناه فى أوّل هذه الترجمة.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن النّقّار الشيخ أبو طاهر. ولد بالكوفة ونشأ ببغداد. وكان أديبا شاعرا فاضلا. ومن شعره:
[السريع]
وزائر زار على غفلة ... وقد أماط الصبح ثوب الظلام
راح وقد سهّلت الراح من ... أخلاقه ما كان صعب المرام
وفيها قتل صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأمير أبو الحسن سيف الدولة صاحب الحلّة. كان كريما عفيفا عن الفواحش، وكانت داره ببغداد حرما للخائفين.
لم يتزوّج غير امرأة واحدة فى عمره، ولا تسرى قطّ. قتل فى واقعة كانت بينه وبين عسكر السلطان محمد شاه.
قلت: وكانت سيرته مشكورة، وخصاله محمودة وما سلم «1» من مذهب أهل الحلّة «2» ، فإنّ أباه كان من كبار الرافضة.(5/196)
وفيها توفّى عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الشيخ الإمام أبو المحاسن الرّويانىّ الطّبرىّ فخر الإسلام. ولد فى ذى الحجّة سنة خمس عشرة وأربعمائة، وتفقّه ببخارى مدة؛ وبرع فى مذهب الشافعىّ- رضى الله عنه- وله مصنّفات فى مذهبه منها كتاب «بحر المذهب» وهو أطول كتب الشافعيّة، وكتاب «مناصيص «1» الشافعىّ» وكتاب «الكافى» وصنّف فى الأصول والخلاف. وكان قاضى طبرستان؛ فقتلته الملاحدة فى يوم الجمعة حادى عشر المحرّم- ورويان:
بلدة بنواحى طبرستان- وقيل: إنّه مات فى سنة اثنين وخمسمائة.
وفيها توفّى يحيى بن علىّ بن محمد بن الحسن بن بسطام أبو زكريّاء الشّيبانى.
التّبريزىّ الخطيب اللغوىّ. كان إماما فى علم اللّسان. رحل إلى الشام، وقرأ اللغة على أبى العلاء المعرّىّ، وسمع الحديث وحدّث؛ وأقرأ اللغة. ومات فى جمادى الآخرة، وله إحدى وثمانون سنة.
وفيها توفّى الملك تميم بن المعزّ بن باديس صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب. امتدّت أيّامه وكان من أجلّ ملوك المغرب، أقام هو وأبوه المعزّ نحوا من مائة سنة وأكثر؛ ومات وله تسع وسبعون سنة. والصحيح أنه مات فى القابلة.
حسب ما يأتى ذكره. وقد أثبت الذهبىّ وفاته فى هذه السنة.
وفيها توفّى الشيخ المسلّك أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الدّونىّ «2» الصوفىّ، أحد كبار مشايخ الصوفيّة فى شهر رجب. وكان له قدم فى علم التصوّف.(5/197)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 502]
السنة السابعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة اثنتين وخمسمائة.
فيها توفّى إسماعيل بن إبراهيم بن العبّاس بن الحسن الشريف أبو الفضل الحسينىّ الدمشقىّ المعروف بابن أبى الجنّ. كان فقيها فاضلا ثقة. ولى قضاء دمشق مدّة، وبها توفّى.
وفيها توفّى ملك المغرب تميم بن المعزّ بن باديس أبو يحيى صاحب إفريقيّة، وينتهى نسبه إلى يعرب بن قحطان، قاله السمعانىّ. ولد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وعاش ثمانين سنة، وأقام فى الإمرة ستّا وأربعين سنة، وخلّف مائة ولد لصلبه، قاله صاحب مرآة الزمان؛ قال: لأنّه كان مغرى بالجوارى مع اهتمامه بالملك؛ وقيل: إنّه مات وله خمسون ولدا. وكان مقامه بالمهديّة. وكان عظيم القدر شاعرا جوادا ممدّحا. وله ديوان شعر. ومن شعره:
[الكامل]
ما بان عذرى فيه حتّى عذّرا «1» ... ومشى الدّجى فى خدّه فتحيّرا
همّت تقبّله عقارب صدغه ... فأسلّ ناظره عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغنى «2» ... وصبا وإن كان التّصابى أجدرا
لأعدت تفّاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا(5/198)
وله أيضا:
[الطويل]
أما والذي لا يعلم السّرّ غيره ... ومن هو بالسّر المكتّم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلما ... لإعلامها عندى أشدّ وآلم
وفيها توفّى الحسن العلوىّ أبو هاشم رئيس همذان. كان جوادا ممدّحا مموّلا شجاعا صاحب صدقات وصلوات. صادره السلطان محمد شاه السلجوقىّ على تسعمائة ألف دينار، أدّاها فى نيّف وعشرين يوما، ولم يبع فيها عقارا.
وفيها توفّى الشيخ أبو القاسم علىّ بن الحسين الربعىّ البغدادىّ الفقيه المحدّث.
مات فى شهر رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 503]
السنة الثامنة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثلاث وخمسمائة.
فيها كاتب السلطان محمد شاه السلجوقىّ الأمير سكمان بن أرتق صاحب أرمينية وأخلاط وميّافارقين، والأمير شرف الدّين مودودا صاحب الموصل، ونجم الدين إيلغازى صاحب ماردين بالاجتماع على جهاد الفرنج؛ فآجتمعوا وبدءوا بالرّهاء.
وبلغ الفرنج، فاجتمع طنكرى صاحب أنطاكية، وابن صنجيل صاحب طرابلس، وبغدوين صاحب القدس، وتحالفوا هم أيضا على قتال المسلمين، وساروا؛ فكانت وقعة عظيمة نصر الله المسلمين فيها وغنموا منهم شيئا كثيرا.(5/199)
وفيها توفّى [عمر «1» بن] عبد الكريم بن سعدويه الحافظ ابو الفتيان الدّهستانىّ.
كان إماما حافظا محدّثا، رحل البلاد وسمع الكثير، وروى عنه أبو بكر الخطيب وغيره، واتّفقوا على صدقه وثقته ودينه. ومات فى شهر ربيع الأول.
وفيها توفّى وجيه «2» بن عبد الله بن نصر الأديب الفاضل أبو المقدام التّنوخىّ.
كان شاعرا فصيحا. ولمّا أخربت الفرنج المعرّة، أنشد فى المعنى لمحمود بن علىّ:
[الخفيف]
هذه صاح «3» بلدة قد قضى اللّ ... هـ عليها كما ترى بالخراب
وقّف العيس وقفة وابك من كا ... ن بها من شيوخها والشّباب
واعتبر إن دخلت يوما إليها ... فهى كانت منازل الأحباب
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعيد محمد بن محمد بن محمد الأصبهانىّ المعروف بالمطرّز. مات فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 504]
السنة التاسعة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع وخمسمائة.
فيها بنى الخليفة المستظهر بالله العباسىّ على الخاتون بنت ملكشاه السلجوقىّ أخت السلطان محمد شاه.(5/200)
وفيها أيضا جهّز السلطان محمد شاه المذكور العساكر إلى الشام لقتال الفرنج، وندب جماعة من الملوك معهم، منهم شرف الدّين مودود صاحب الموصل، وقطب الدين سكمان بن أرتق صاحب ديار بكر فاجتمعوا ونزلوا على تلّ «1» باشر ينتظرون البرسقىّ صاحب همذان، فوصل إليهم وهو مريض، فاختلفت آراؤهم لأمور وقعت، ورجع كلّ واحد إلى بلاده.
وفيها توفّى الأمير قطب الدّين سكمان بن أرتق- المقدّم ذكره- صاحب ديار بكر. عاد من الرّهاء مريضا فى محفّة حتّى وصل ميّافارقين فمات بها. وحمل تابوته من ميّافارقين إلى أخلاط فدفن به. وكان ملكا عادلا مجاهدا. وأبوه أرتق مات بالقدس. ونجم الدّين إيلغازى بن أرتق أخو سكمان المذكور هو الذي ولى بعده. توجّه إيلغازى المذكور إلى السلطان محمد شاه السلجوقىّ، فولاه شحنجية «2» العراق عوضا عن أخيه سكمان، ثم أخذ منه ماردين فى سنة ثمان وخمسمائة، وميّافارقين فى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة، ثم أخذ منه حلب أيضا. ولسكمان هذا وقائع مع الفرنج كثيرة ومواقف. رحمه الله.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن علىّ الشيخ الإمام العلّامة الفقيه العالم المشهور بالكيا الهرّاسىّ الشافعىّ العجمىّ. لقبه عماد «3» الدّين. كان من أهل طبرستان وخرج إلى نيسابور، وتفقّه على أبى المعالى الجوينىّ، وقدم بغداد ودرس بالنظاميّة ووعظ(5/201)
وذكر مذهب الأشعرىّ، فرجم وثارت الفتن، واتّهم بمذهب الباطنيّة. فأراد السلطان قتله، فمنعه الخليفة المستظهر بالله وشهد له بالبراءة. وكانت وفاته فى يوم الخميس غرّة المحرم، ودفن عند الشيخ أبى إسحاق الشيرازىّ، وحضر لدفنه الشيخ أبو طالب الزّينبىّ وقاضى القضاة أبو الحسن الدامغانىّ- وكانا مقدّمى طائفة السادة الحنفية- فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الدّامغانىّ متمثّلا بهذا البيت:
[الوافر]
وما تغنى النوادب والبواكى ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزّينبىّ أيضا متمثّلا بهذا البيت:
[الكامل]
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم
ولمّا مات رثاه أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزّىّ الشاعر المشهور ارتجالا بقصيدة أوّلها:
[البسيط]
هى الحوادث لا تبقى ولا تذر ... ما للبريّة من محتومها وزر
لو كان ينجى علوّ من بوائقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر
والكيا: بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف. والهرّاسىّ معروف. والكيا بلغة الأعجام: الكبير القدر.
وفيها توفّى أبو يعلى حمزة بن محمد الزّينبىّ أخو الإمام العالم طرّاد. مات فى شهر رجب وله سبع وتسعون سنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو الحسين يحيى بن علىّ بن الفرج الخشّاب بمصر. كان عالم مصر ومقرئها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.(5/202)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 505]
السنة العاشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمس وخمسمائة.
فيها عزل السلطان محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ وزيره أحمد بن نظام الملك، وكانت وزارته أربع سنين وأحد عشر شهرا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ الفقيه الشافعىّ. كان إمام عصره. تفقّه على أبى المعالى الجوينىّ حتى برع فى عدّة علوم كثيرة، ودرس وأفتى، وصنّف التصانيف المفيدة فى الأصول والفروع، ودرّس بالنّظاميّة، ثم ترك ذلك كلّه ولبس الخام الغليظ، ولازم الصوم وحجّ وعاد، ثم قدم إلى القدس، وأخذ فى تصنيف كتابه «الإحياء» وتمّمه بدمشق. وله من المصنفات «البسيط» «والوسيط» «والوجيز» وله غير ذلك. وذكره ابن السمعانىّ فى الذيل فقال: ومن شعره:
[الكامل]
حلّت عقارب صدغه فى خدّه ... قمرا يجلّ بها عن التشبيه
ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... ومن العجائب كيف حلّت فيه
وفيها توفّى محمود بن علىّ بن المهنأ بن أبى المكارم الفضل بن عبد القاهر أبو سلامة المعرّىّ القائل فى حق المعرّة لما استولى عليها الفرنج الأبيات التى مرّت فى ترجمة وجيه بن عبد الله فى سنة ثلاث وخمسمائة التى أوّلها:
[الخفيف]
هذه صاح بلدة قد قضى اللّ ... هـ عليها كما ترى بالخراب
وجد والد محمود هذا الفضل بن عبد القاهر هو القائل:
[البسيط]
ليلى وليلى نفى نومى اختلافهما ... بالطّول والطّول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطّول ليلى كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا(5/203)
وفيها توفّى مقاتل بن عطيّة بن مقاتل الأمير شبل الدوله أبو الهيجاء البكرىّ من ولد أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال العماد الكاتب: «كان شبل الدولة من أولاد العرب، وقع بينه وبين إخوته خشونة ففارقهم، وسار إلى خراسان وغزنة ومدح أعيانها، واختصّ بنظام الملك الوزير» . انتهى كلام العماد. قلت وهو الذي رثى نظام الملك بقوله:
[البسيط]
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف
أضحت ولا تعرف الأيّام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 506]
السنة الحادية عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ست وخمسمائة.
فيها توفّى محمد بن موسى بن عبد الله اللّامشىّ «1» التركىّ الإمام الفقيه الحنفىّ، مصنّف «أصول الفقه» على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه. كان إماما عالما فقيها مفتنّا. ولى قضاء بيت المقدس مدّة. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة. وسمّاه الذهبىّ البلاساغونىّ «2» الحنفىّ قاضى دمشق عدوّ الشافعيّة.
وفيها توفّى قاضى القضاة أبو العلاء صاعد بن منصور النيسابورىّ الواعظ. كان إماما فقيها عالما واعظا، كان له لسان حلو فى الوعظ.(5/204)
وفيها توفّى الشيخ أبو سعد المعمّر بن علىّ [بن المعمّر «1» ] بن أبى عمامة الحنبلىّ الفقيه الواعظ، كان فقيه بغداد وواعظها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 507]
السنة الثانية عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع وخمسمائة.
فيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علىّ بن موسى أبو علىّ البيهقىّ ولد أبى بكر «2» أحمد صاحب التصانيف. رحل البلاد، ولقى الشيوخ، وسكن خوارزم ودرس بها، ثم عاد إلى بيهق فتوفى بها. وكان إماما فاضلا صدوقا ثقة.
وفيها توفّى الأمير رضوان ابن الأمير تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ المنعوت بفخر الملك صاحب حلب.
ملكها بعد قتل أبيه تتش فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وكان غير مشكور السّيرة.
قتل أخويه أبا طالب وبهرام؛ وقتل خواصّ أبيه. وهو أوّل من بنى بحلب دار الدعوة. وكان ظالما بخيلا شحيحا قبيح السّيرة، ليس فى قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين. وكانت الفرنج تغاور وتسبى وتأخذ من باب حلب ولا يخرج إليهم.
ومرض أمراضا مزمنة، ورأى العبر فى نفسه، حتّى مات فى ثامن عشر جمادى(5/205)
الاخرة، وملك بعده ابنه ألب أرسلان وعمره ستّ عشرة سنة، وقام بكفالته لؤلؤ الخادم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن الحسين أبو بكر الشّاشىّ الفقيه الشافعىّ. ولد سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وكان يعرف بالمستظهرىّ، تفقّه بجماعة وقرأ على ابن الصّبّاغ «1» كتابه «2» «الشامل» ودرس بالنظاميّة. ومات فى شوّال، ودفن عند أبى إسحاق الشّيرازىّ. وكان كثيرا ما ينشد:
[الوافر]
تعلّم يافتى والعود رطب ... وطينك ليّن والطبع قابل
فحسبك يا فتى شرفا وفخرا ... سكوت الحاضرين وأنت قائل
وفيها توفّى محمد «3» بن أحمد بن محمد الإمام العلّامة أبو المظفّر الأبيوردىّ، وهو من ولد معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن أبى سفيان صخر بن حرب.
كان عالما بالأنساب وفنون اللغة والآداب، وسمع الحديث ورواه، وصنّف لأبيورد «4» تاريخا، وصنّف «المختلف والمؤتلف» فى أنساب العرب. وكان له الشعر الرائق.
وكان فيه كبروتيه بحيث إنّه كان إذا صلّى يقول: اللهم ملّكنى مشارق الأرض ومغاربها. وكتب قصّة للخليفة وعلى رأسها «الخادم المعاوىّ» (يريد بذلك نسبه إلى(5/206)
معاوية) . فأمر الخليفة بكشط الميم وردّ القصة؛ فبقيت «الخادم العاوى» .
وكانت وفاته بأصبهان. ومن شعره وأجاد إلى الغاية:
[الطويل]
تنكّر لى دهرى ولم يدر أننى ... أعزّ وأحداث الزمان تهون
وظلّ يرينى الخطب كيف اعتداؤه ... وبتّ أريه الصبر كيف يكون
وفيها توفّى الأمير مودود صاحب الموصل. كان قدم الشام لمساعدة الأتابك ظهير الدين طغتكين وكسر الفرنج. وكان مودود هذا يدخل كلّ جمعة فيصلى بجامع دمشق ويتبرّك بمصحف عثمان رضى الله عنه. فدخل على عادته ومعه الأتابك طغتكين يمشى فى خدمته والغلمان حوله بالسيوف مسلّلة؛ فلمّا صار فى صحن الجامع وثب عليه رجل لا يؤبه له، وقرب من مودود هذا كأنّه يدعو له، وضربه بخنجر أسفل سرّته ضربتين، إحداهما نفذت إلى خاصرته، والأخرى إلى فخذه، والسيوف تأخذه من كلّ ناحية؛ وقطع رأسه ليعرف شخصه فما عرف.
ومات مودود من يومه، وكان صائما فلم يفطر، وقال: والله ما ألقى الله إلّا صائما.
وكان من خيار الملوك دينا وشجاعة وخيرا. ولمّا بلغ السلطان محمدا شاه السلجوقىّ موته أقطع الموصل والجزيرة لآق سنقر البرسقىّ، وأمره بتقديم عماد الدين زنكى والرجوع إلى إشارته. وزنكى هذا هو والد الملك العادل نور الدين محمود المعروف بالشهيد، المنشئ «1» لدولة بنى أيوب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبعان.(5/207)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 508]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمان وخمسمائة.
فيها واطأ لؤلؤ خادم رضوان على قتل ابن أستاذه ألب أرسلان، ففتكوا به فى قلعة حلب.
وفيها نزل الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق على حمص، وفيها خيرخان «1» بن قراجا. وكان عادة نجم الدين إذا شرب الخمر وتمكّن منه أقام أيّاما مخمورا لا يفيق، لتدبيره، ولا يستأمر فى أمور. وعرف منه خيرخان هذه العادة فتركه حتّى سكر، فهجم عليه برجاله وهو فى خيمته، فقبض عليه وحمله إلى قلعة حمص وسجنه بها أيّاما، حتى أرسل إليه طغتكين يوبّخه ويلومه فأطلقه.
وفيها هلك بغدوين الفرنجىّ صاحب القدس من جرح أصابه فى وقعة طبريّة، وأراح الله المسلمين منه، ومصيره إلى سقر.
وفيها قتل الأمير أحمديل «2» الرّوّادى صاحب مراغة «3» ، قتله باطنىّ ضربه بسكّين فى دار السلطان محمد شاه ببغداد. وكان شجاعا جوادا، وكان يركب فى خمسة آلاف فارس. وكان إقطاعه أربعمائة ألف دينار فى السنة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن محمد بن محمد بن جهير الصاحب أبو القاسم الوزير ابن الوزير ابن الوزير، وزر لجماعة من الخلفاء غير مرّة. ومات فى سابع عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان وزيرا عاقلا حليما سديد الرأى، حسن التدبير والثبات، من بيت رياسة ووزر.
وفيها توفى الشريف الحسيب النسيب أبو القاسم علىّ بن إبراهيم الحسينىّ خطيب دمشق فى شهر ربيع الآخر. وكان فاضلا فصيحا خطيبا.(5/208)
وفيها توفّى الحافظ الفقيه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الخولانىّ القرطبىّ، كان عالم بلاده ومفتيها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 509]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة تسع وخمسمائة.
فيها صالح الأفضل أمير الجيوش مدبّر مملكة الآمر صاحب الترجمة بردويل الفرنجىّ صاحب القدس. وكان بردويل قد أخذ قافلة عظيمة من المسلمين بالسبخة المعروفة الآن بسبخة «1» بردويل. فرأى الأفضل مهادنته لعجزه عنه، وأمر الناس بذلك، وساروا إلى الشام وغيره.
وفيها توفّى علىّ بن جعفر بن القطّاع «2» أبو القاسم السعدىّ الصقلىّ، من أولاد كبار علماء صقلّية. وقدم مصر ومدح الأفضل أمير الجيوش. وكان شاعرا بارعا.
ومن شعره:
[الطويل]
ألا فليوطّن نفسه كلّ عاشق ... على سبعة محفوفة بغرام
رقيب وواش كاشح ومفنّد ... ملحّ ودمع واكف وسقام «3»(5/209)
وفيها توفّى محمد بن علىّ- وقيل محمد بن محمد- بن صالح الشيخ الأديب أبو يعلى العبّاسىّ المعروف بابن الهبّاريّة «1» الشاعر البغدادىّ. كان فيه إقدام بالهجو على أرباب المناصب. وقدم أصبهان وبها السلطان ملكشاه السلجوقىّ ووزيره نظام الملك حسن الطّوسىّ، فدخل على النظام المذكور ومعه رقعتان، رقعة فيها هجوه والأخرى فيها مدحه؛ فأعطاه التى فيها الهجو يظنّ أنها التى فيها المدح. وكان الهجو:
[الكامل]
لا غرو أن ملك ابن إس ... حاق وساعده القدر
وصفا لدولته وخص ... أبا المحاسن «2» بالكدر
فالدهر كالدّولاب لي ... س يدور إلّا بالبقر
- وأبو المحاسن الذي أشار إليه كان صهر نظام الملك، وكان بينهما عداوة- فكتب نظام الملك: يصرف لهذا القوّاد رسمه مضاعفا. ثم هجاه بعد ذلك فأهدر دمه. قال العماد الكاتب: كان ابن الهبّاريّة من شعراء نظام الملك، غلب على شعره الهجاء والهزل والسّخف، وسلك فى قالب ابن «3» حجّاج وفاقه فى الخلاعة والمجون.
ومن شعره أيضا:
[الكامل]
وإذا البيادق فى الدّسوت تفرزنت ... فالرأى أن يتبيدق الفرزان
وإذا النفوس مع الدنوّ تباعدت ... فالحزم أن تتباعد الأبدان
خد جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما فى البريّة كلّها إنسان
قلت: وابن الهبّاريّة هذا هو صاحب «الصادح «4» والباغم» .(5/210)
وفيها توفّى الحافظ البارع أبو شجاع شيرويه بن شهردار «1» بن شيرويه الديلمىّ الهمذانى بهمذان. كان إماما حافظا، سمع الكثير ورحل البلاد وحدّث، وكان من أوعية العلم.
وفيها توفّى- فى قول الذهبىّ- الأمير يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس صاحب بلاد المغرب. وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه فى هذا الكتاب. كان ملك بعد أبيه تميم فى سنة اثنتين وخمسمائة إلى أن مات فى هذه السنة رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 510]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة عشر وخمسمائة.
فيها قتل الأمير لؤلؤ الذي كان قتل ابن أستاذه ألب أرسلان. والصحيح أنّه قتل فى الآتية.
وفيها حجّ بالناس أمير الجيوش الجيوشى الحبشىّ المستظهرى العباسىّ، ودخل مكّة وعلى رأسه الأعلام وخلفه الكوسات «2» والبوقات والسيوف فى ركابه، وقصد بذلك إذلال «3» أمير مكة والسودان؛ فوقع له بمكة أمور، ولم يقاومه أحد.(5/211)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن ميمون الحافظ أبو الغنائم بن النّرسىّ الكوفىّ، محدّث مشهور ويعرف بأبىّ «1» لأنّه كان جيّد القراءة، وسمع الحديث الكثير وسافر البلاد، وختم به علم الحديث بالكوفة. قال محمد بن ناصر: ما رأيت مثل أبى الغنائم فى ثقته «2» وحفظه، ما كان أحد يقدر أن يدخل فى حديثه ما ليس منه. وعاش ستا وثمانين سنة.
وفيها توفّى محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطّاب الكلواذانىّ «3» الفقيه الحنبلىّ.
تفقّه على القاضى أبى يعلى، وسمع الحديث وحدّث وأفتى ودرّس، وصنّف «الهداية «4» » وغيرها، وشهد عند قاضى القضاة أبى عبد الله الدّامغانىّ الحنفىّ. وكان فاضلا شاعرا. وله قصيدة «5» من جنس العقيدة؛ أولها:
[الكامل]
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشّوق نحو الآنسات الخرّد
والنوح فى أطلال سعدى إنّما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
وله أيضا من غير هذه القصيدة:
[الوافر]
لئن جار الزمان علىّ حتّى ... رمانى منه فى ضنك وضيق
فإنّى قد خبرت له صروفا ... عرفت بها عدوّي من صديقى
ومات وله ثمان وسبعون سنة.(5/212)
وفيها توفى المسند المعمّر أبو بكر عبد الغفّار بن محمد الشّيرويىّ «1» ، مسند نيسابور فى ذى الحجة، وله ستّ وتسعون سنة، ورحل إليه الناس من الأقطار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 511]
السنة السادسة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
فيها زلزلت بغداد يوم عرفة زلزلة عظيمة ارتجّت لها الدنيا؛ فكانت الحيطان تذهب وتجىء، ووقع الدّور على أهلها فمات تحتها خلق كثير. ثم كان عقبها موت السلطان محمد شاه السّلجوقى، ثم موت الخليفة المستظهر العباسىّ فى السنة الآتية، وحارب دبيس بن مزيد الخليفة المسترشد بالله، وغلت الأسعار حتى بلغ الكرّ القمح أو الدقيق ثلثمائة دينار، وفقد أصلا، ومات الناس جوعا، وأكلوا الكلاب والسنانير. ثم جاء سيل عظيم فأخرب سنجار «2» . قال ذلك صاحب مرآة الزمان.
وفيها نزل آق سنقر البرسقى على حلب وبها يارقتاش «3» الخادم بعد لؤلؤ، فحاصرها فلم يظفر منه بطائل، وعاد إلى الموصل.(5/213)
وفيها توفّى محمد بن سعيد بن إبراهيم بن نبهان أبو علىّ الكاتب سبط هلال ابن المحسّن الصابئ المقدّم ذكره، مات فى شوّال ودفن بداره بالكرخ. وكان فاضلا فصيحا شاعرا، إلّا أنّه كان شيعيّا رافضيّا. ومن شعره:
[السريع]
لى أجل قدّره خالقى ... نعم ورزق أتوفّاه
حتّى إذا استوفيت منه الذي ... قدّر لى لم أتعدّاه
وفيها توفّى السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق، أبو شجاع غياث الدين السّلجوقىّ. كان ملكا عادلا مهيبا شجاعا كريما. خرج فى السنة الماضية إلى أصبهان، فمرض بها مرضا طال به إلى أن مات فى حادى عشر ذى الحجّة، وعمره سبع وثلاثون سنة، ومدّة ملكه بعد وفاة أخيه بركياروق اثنتا عشرة سنة. وخلّف خمسة أولاد: مسعودا ومحمودا وطغرل وسليمان وسلجوق. وولى السلطنة من بعده ولده محمود.
وفيها توفّى يمن بن عبد الله الخادم أبو الخير الحبشى خادم المستظهر العباسىّ.
كان مهيبا جوادا حسن التدبير ذا رأى وفطنة، مات بأصبهان.
وفيها توفّى المحدّث الفاضل أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر [ابن محمد «1» ] بن يوسف راوى سنن الدّار قطنىّ. كان من كبار المحدّثين.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه الواعظ الحافظ أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة «2» بأصبهان. سمع الكثير ورحل البلاد وبرع فى فنون وحدّث، وروى عنه غير واحد.(5/214)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 512]
السنة السابعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة.
فيها فى يوم الجمعة ثالث عشرين المحرّم خطب ببغداد لمحمود بن محمد شاه السلجوقىّ بعد موت أبيه على المنابر.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله أبى القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير الموفّق طلحة ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ ابن عبد الله بن عبّاس العبّاسىّ الهاشمىّ البغدادىّ. وأمّه أمّ ولد تركيّة تسمّى الطن «1» .
بويع بالخلافة بعد موت أبيه المقتدى بالله فى ثامن عشر المحرّم سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع عشرة سنة وشهران. وكان ميمون الطّلعة حميد الأيّام. قال ابن الأثير: كان ليّن الجانب، كريم الأخلاق، يسارع فى أعمال البرّ، وكانت أيّامه أيّام سرور للرعيّة، فكأنّها من حسنها أعياد. وكان حسن الخطّ جيّد(5/215)
التوقيعات لا يقار به فيها أحد، تدلّ على فضل غزير وعلم واسع. ومات بعلّة التّراقى وهى دمّل يطلع فى الحلق. ومن شعره:
[البسيط]
أذاب حرّ الهوى فى القلب ما جمدا ... يوم «1» مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك «2» نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق فى مهوى الهوى قددا
وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة وأيّاما. ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيّامه مضطربة كثيرة الحروب. وتولّى الخلافة من بعده ابنه المسترشد.
وفيها خرجت والدة السلطان محمود بن محمد شاه من أصبهان إلى السلطان سنجر شاه، فلقيها ببلخ فأكرمها. فقالت له: أدرك ابن أخيك وإلّا تلف، فإنّ الأموال قد تمزّقت، والبلاد قد أشرفت على الأخذ، وهو صبىّ وحوله من يلعب بالملك. فقال لها: سمعا وطاعة. وكان وزير محمود ومدبّر مملكته أبو القاسم، وكان سيئ التدبير ظالما، وكان يخاف من مجىء سنجر شاه المذكور إلى البلاد؛ فأنفق ما فى خزائن محمد شاه فى أربعة أشهر، وباع الجواهر [والأثاث] وأنفقه «3» فى العساكر فلم يفده ذلك، على ما سيأتى ذكره.
وفيها توفّى بكر بن محمد بن علىّ بن الفضل بن الحسن بن أحمد بن إبراهيم، الإمام الفقيه الحافظ المحدّث أبو الفضل الأنصارىّ الزّرنجرىّ- وزرنجر: قرية على خمسة فراسخ من بخارى- سمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، وتفرّد بالرواية عن جماعة منهم، لم يحدّث عنهم غيره. وكان بارعا فى الفقه يضرب به المثل، ويقولون: هو أبو حنيفة الصغير. وكان إذا طلب منه أحد من المتفقهة الدرس ألقى(5/216)
عليه من أىّ موضع أراد من غير مطالعة ولا نظر فى كتاب، وكان إذا أشكل على الفقهاء شىء رجعوا إلى قوله ونقله.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن علىّ بن الحسن الإمام العلّامة أبو طالب الزينبىّ الحنفىّ فريد عصره. ولد سنة عشرين وأربعمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث وبرع فى الفقه وأفتى ودرّس. انتهت إليه رياسة السادة الحنفيّة فى زمانه ببغداد، ولقّب بنور الهدى. وترسّل إلى ملوك الأطراف من قبل الخليفة، وولى نقابة الطالبيّين والعباسيّين. وكان شريف النفس والحسب، كثير العلم جليل القدر.
ومات يوم الاثنين حادى عشر صفر، وصلّى عليه ابنه القاسم، وحمل إلى قبّة أبى حنيفة فدفن داخل القبّة، وله اثنتان وتسعون سنة. وكان سمع من غيلان وغيره، وانفرد ببغداد بروايته صحيح البخارىّ عن كريمة بنت «1» أحمد.
وفيها توفّى محمد بن عتيق بن محمد التميمىّ القيروانىّ. قدم الشام مجتازا إلى العراق. وكان يقرئ علم الكلام بالنّظاميّة، وكان يحفظ كتاب سيبويه. وسمع يوما قائلا ينشد أبيات أبى العلاء المعرّى:
[الطويل]
ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا
وتحطمنا الأيّام حتّى كأنّنا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فقال مجيبا:
كذبت وبيت الله حلفة صادق ... سيسبكنا بعد النّوى من له الملك
ونرجع أجساما صحاحا سليمة ... تعارف فى الفردوس ما عندنا شكّ(5/217)
وفيها توفّى أبو الفضل «1» بن الخازن الشاعر المشهور. كان ديّنا فاضلا شاعرا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 513]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
فيها قدم السلطان سنجر شاه السلجوقىّ الرىّ وملكها؛ واصطلح مع ابن أخيه محمود بن محمد شاه بعد حروب، وزوّجه ابنته، وأقرّه على ملكه.
وفيها وقعت المباينة بين الآمر خليفة مصر (أعنى صاحب الترجمة) وبين مدبّر مملكته الأفضل بن أمير الجيوش؛ واحتجب الآمر عنه وتعلّل بمرض.
واجتهد الأفضل أن يغتاله بالسمّ فلم يقدر، ودسّ إليه السمّ مرارا فلم يصل إليه.
وكان للآمر قهرمانة كاتبة فاضلة تعرف أنواع العلوم: الطب والنجوم والموسيقى، حتّى كانت تعمل التحويلات وتحكم على الحوادث، فاحترزت على الآمر؛ ولم تزل تدبّر على الأفضل بن أمير الجيوش حتى قتل، حسب ما يأتى ذكره.
قال ابن القلانسىّ: وفيها ظهرت صور الأنبياء عليهم السلام: الخليل وولديه إسحاق ويعقوب «2» - صلوات الله عليهم- وهم مجتمعون فى مغارة بأرض بيت المقدس، وكأنّهم أحياء لم يبل لهم جسد ولا رمّ لهم عظم، وعليهم قناديل من ذهب وفضّة معلّقة، فسدّوا باب المغارة وأبقوا على حالهم.(5/218)
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن عبد الملك بن حمّويه قاضى القضاة أبو الحسن الدامغانىّ الحنفىّ. ولد فى رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وقلّد القضاء وهو ابن ستّ عشرة سنة بعد موت أبيه؛ وولى القضاء لأربعة خلفاء. وهذا لم يقع لغيره إلّا للقاضى شريح. وأمّا القاضى أبو طاهر محمد ابن أحمد الكوفىّ فذاك ولى لخمسة خلفاء.
قلت: الشيء بالشيء يذكر؛ وهذا قاضى قضاة زماننا، جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقينىّ، ولى القضاء لستة سلاطين: الناصر فرج، والمنصور عبد العزيز ابنى الظاهر برقوق، والخليفة المستعين بالله العباسى، والمؤيّد شيخ، وابنه المظفّر أحمد، والظاهر ططر. ووقع مثل هذا كثير فى آخر الزمان؛ والمقصود غير ذلك. وكان الدامغانىّ إماما عالما عفيفا ديّنا معظّما عند الخلفاء والملوك. وناب عن الوزارة، وانفرد بأخذ البيعة للخليفة المسترشد. وكان ذا مروءة وصدقات وإحسان، ومعرفة بصناعتى القضاء والشروط. ومات ليلة رابع عشر المحرّم، ودفن فى مشهد أبى حنيفة- رضى الله عنه- وعاش ثلاثا وستين سنة وأشهرا.
ولى القضاء منها تسعا وعشرين سنة وخمسة أيّام. وسمع الحديث من القاضى أبى يعلى الفرّاء والخطيب وغيرهما، وكان صدوقا ثقة.
وفيها توفّى الإمام العلّامة أبو الوفاء علىّ بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادىّ الحنبلىّ شيخ الحنابلة فى عصره. كان إماما عالما صالحا مفتنّا؛ ومات ببغداد وله اثنتان وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وسبع أصابع.(5/219)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 514]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع عشرة وخمسمائة.
فيها خطب ببغداد لسنجر شاه السلجوقىّ ولابن أخيه محمود بن محمد شاه جميعا فى المحرّم، ولقب سنجر شاه بالسلطان عضد الدولة، ومحمود بجلال الدولة.
وفيها توفّى الحسين «1» بن علىّ بن محمد الإمام العلّامة مؤيّد الدين الطّغرائىّ الكاتب وزير السلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ، المقدّم ذكره، والطغرائى هذا جدّ محمد بن الحسين وزير الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وكان السلطان محمود نسب خروج أخيه مسعود عليه إلى الطّغرائىّ فقتله.
وقال الذهبىّ: وزير السلطان مسعود قتل فى المصافّ بين مسعود وأخيه محمود.
وكان أفصح الفصحاء، وأفضل الفضلاء، وأمثل العلماء؛ وهو صاحب «لاميّة العجم» ، وديوانه مشهور بأيدى الناس. ومن شعره يمدح الوزير نظام الملك على قافيتين «2» :
[الكامل]
يا أيّها المولى الذي اص ... طنع الورى، شرقا وغربا
والقصيدة كلها على هذا المنوال.(5/220)
ومن شعره أيضا:
[السريع]
قوموا إلى لذّاتكم يا نيام ... ونبّهوا العود وصفّوا المدام
هذا هلال الفطر قد جاءنا ... بمنجل يحصد شهر الصيام
وفيها توفى الحافظ أبو منصور محمود بن إسماعيل الأشقر الأصبهانىّ عالم أصبهان ومحدّثها، مات فى ذى القعدة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع الأندلسىّ المرىّ «1» المقرئ المجوّد. كان رأسا فى علوم القرآن، وأفاد وأقرأسنين.
وفيها توفّى الشيخ أبو الحسن علىّ بن الحسن بن الموازينىّ العالم المحدّث المشهور.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 515]
السنة العشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة خمس عشرة وخمسمائة.
فيها كتب الخليفة المسترشد بالله العباسىّ والسلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ إلى إيلغارى يأمرانه بإبعاد بيس بن صدقة، وفسخ الكتاب الذي عقده له على ابنته.(5/221)
وفيها توفّى عبد الرزّاق بن عبد الله بن علىّ بن إسحاق الطوسىّ ابن أخى نظام الملك. كان فاضلا، تفقّه على أبى المعالى الجوينىّ، وأفتى وناظر، ووزر للسلطان سنجر شاه السلجوقىّ. ومات بنيسابور.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن عبد العزيز أبو علىّ بن المهتدى الخطيب. كان فاضلا، شهد عند القاضى أبى عبد الله الدامغانىّ الحنفىّ، وكان ظريفا صالحا ديّنا.
ومات فى شوّال، ودفن بباب حرب من بغداد.
وفيها قتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش أبو القاسم بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ الأرمنىّ وزير مصر ومدبّر ممالكها. ولى مملكة مصر بعد موت أبيه بدر الجمالىّ فى أيّام المستعلى إلى أن مات المستعلى؛ فأقام الأفضل هذه ولده مكانه فى الخلافة، ولقّبه بالآمر (أعنى صاحب الترجمة) ودبّر دولته وحجر عليه. وكان الخليفة المستنصر جدّ الآمر هذا وولده المستعلى والد الآمر كلاهما أيضا تحت حجر بدر الجمالى والد الأفضل هذا. فلمّا ملك الأفضل سار على سيرة أبيه مع الخلفاء من الحجر والتضييق عليهم. وزاد الأفضل هذا فى حقّ الآمر صاحب الترجمة حتّى إنّه منعه من شهواته، وأراد قتله بالسّم. فحمله ذلك على قتله، واتّفق الآمر مع جماعة، وكان الأفضل يسكن بمصر؛ فلمّا ركب فى غير موكب وثبوا عليه وقتلوه فى سلخ شهر رمضان بعد أمور وقعت. وخلّف الأفضل من الأموال والنقود والقماش والمواشى ما يستحيا من ذكره كثرة. وقد ذكرنا ذلك فى «كتاب الوزراء» وهو محلّ الإطناب فى الوزراء، وليس لذكره هنا محلّ. والمقصود فى هذا الكتاب تراجم ملوك مصر لا غير، وما عدا ذلك يكون على سبيل الاستطراد.
قال ابن الأثير: كانت ولايته (يعنى الأفضل) ثمانيا وعشرين سنة، وكان حسن السيرة عادلا. ثم أخذ فى تعداد أمواله.(5/222)
وفيها توفّى الإمام الحافظ المحدّث أبو محمد الحسين بن مسعود البغوىّ المعروف بابن الفرّاء. كان إماما حافظا، رحل إلى البلاد وسمع الكثير وحدّث وألّف وصنّف. وكان يقال له محيى السنة. ومات فى شوّال.
وفيها توفّى الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن عمر «1» السّمرقندىّ الإمام الحافظ المشهور. سمع الكثير وروى عنه غير واحد، وكان صدوقا ثقة دينّا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع، وقيل: خمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 516]
السنة الحادية والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ست عشرة وخمسمائة.
فيها كانت وقعة عظيمة بين الأمير إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين وبين الكفّار على تفليس، فعاد مريضا فمات بعد أيّام.
ذكر وفاته- هو نجم الدين إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر وحلب، وهو ثالث من ظهر أمره من ملوك بنى أرتق الأعيان. وكان ملكا شجاعا جوادا، له غزوات ومواقف مشهورة مع الفرنج. وكانت وفاته فى هذه السنة عند عوده من تفليس بميافارقين فى شهر رمضان. وذكر الذهبىّ وفاته فى الخالية؛ والأصحّ ما قلناه؛ فإنّه عاد إلى ميّافارقين مريضا، فنزل بظاهرها ومعه زوجته الخاتون بنت الأمير ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق؛ فمات يوم الخميس سابع عشر شهر(5/223)
رمضان فى قرية تعرف بالفحول؛ فحمل تابوته إلى ميّافارقين. وكان عنده ابنه شمس الدولة سليمان فاستولى على ميّافارقين؛ واستولى ابنه الآخر حسام الدولة تمرتاش «1» على ماردين.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان أبو محمد والد أبى اليسر شاكر التنوخىّ المعرّىّ. ولد بالمعرّة، وقرأ الأدب، وقال الشعر.
ومن شعره:
[الكامل]
يا من تنكّب قوسه وسهامه ... وله من اللّحظ السقيم سيوف
يغنيك عن حمل السلاح إلى العدا ... أجفانك المرضى وهنّ حتوف
وفيها توفّى عبد الله بن يحيى بن البهلول الأندلسىّ. كان أصله من مدينة سر قسطة من الغرب، وكان فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره قوله: [الطويل]
ولست بمن يبغى على الشعر رشوة ... أبّى ذاك لى جدّ كريم ووالد
وإنّى من قوم قديما ومحدثا ... تباع عليهم بالألوف القصائد
وفيها توفّى الحسين بن مسعود بن محمد الشيخ الإمام العلّامة أبو محمد البغوىّ الشافعىّ المعروف بابن الفرّاء، الفقيه المحدّث المفسر. وقد تقدّم ذكر وفاته فى الماضية. والصحيح أنّه مات فى هذه السنة. وهو مصنّف «شرح السنّة» و «معالم التنزيل» و «المصابيح» وكتاب «التهذيب فى الفقه» «والجمع بين الصحيحين» . وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها. ومات بمرو الرّوذ فى شوّال.(5/224)
وفيها توفّى عبد الرحمن بن أبى بكر عتيق بن خلف أبو القاسم الصّقلّىّ المقرئ المجوّد المعروف بابن الفحّام، مصنّف «التجريد «1» » فى القراءات السبع. كان من كبار شيوخ القرّاء، سكن الإسكندريّة، وقصده الناس من النواحى لعلوّ إسناده وإتقانه.
وفيها توفّى القاسم بن علىّ بن محمد بن عثمان الشيخ الإمام العلّامة الأديب اللغوىّ النحوىّ أبو محمد البصرىّ الحرامىّ الحريرىّ، مصنّف «المقامات» . كان يسكن بنى حرام «2» أحد محالّ البصرة مما يلى الشطّ. مولده ومرباه بقرية المشان «3» من أعمال البصرة فى حدود سنة ستّ وأربعين وأربعمائة، وكان أحد أئمة عصره فى الأدب والبلاغة والفصاحة، وله مصنّفات كثيرة، منها كتاب «المقامات» الذي لا نظير له فى معناه، وقد سلك فيه منوال بديع الزمان صاحب المقامات الذي عملها قبل الحريرىّ؛ وقد تقدّم ذكره فى هذا الكتاب فى محلّه. وفى مقامات الحريرى هذا يقول إمام الدنيا محمود الزمخشرىّ:
[السريع]
أقسم بالله وآياته ... ومعشر الحجّ وميقاته
إنّ الحريرى حرىّ بأن ... نكتب بالتّبر مقاماته
ومن شعر الحريرىّ:
[البسيط]
لا تخطونّ إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب فى فوديك قد وخطا
وأىّ عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا سعى فى ميادين الصّبا وخطا
وقد أرّخ الذهبىّ وفاته فى السنة الماضية. والله أعلم(5/225)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وست وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 517]
السنة الثانية والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة سبع عشرة وخمسمائة.
فيها قبض السلطان محمود السلجوقىّ على وزيره عثمان بن نظام الملك، وبعث الخليفة بعزل أخيه أحمد عن وزارته. فبلغ أحمد فانقطع عن الديوان.
وفيها سار الأمير نور الدولة بلك [بن بهرام «1» ] بن أرتق إلى غزو مدينة الرّهاء فى شهر رجب.
وفيها توفّى الأمير الحاجب فيروز شحنة دمشق. وكان أميرا صالحا ديّنا، وله آثار جميلة بدمشق وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن علىّ أبو عبد الله بن الخيّاط التغلبىّ الدمشقىّ الكاتب الشاعر المجيد، طاف البلاد ومدح الأكابر والملوك؛ قيل: إنّه دخل حلب فى حداثة سنّه، فقصد دار أبى الفتيان بن حيّوس الشاعر وقد أسنّ، قال: فدخلت عليه؛ فقال: من أين أنت؟ فقلت: من دمشق. فقال: ما صناعتك؟ قلت: الشعر.
قال: فأنشدنى من شعرك. فأنشدته قولى:
[الكامل]
لم يبق عندى ما يباع بحبّة ... وكفاك شاهد منظرى عن مخبرى
إلّا صبابة ماء وجه صنتها ... من أن تباع وأين أين المشترى(5/226)
قال: نعيت إلىّ نفسى. قلت: ولم؟ قال: لأنّ الشام لا تخلو من شاعر مجيد، ولا يجتمع فيها شاعران، وأنت موازنى فى هذه الصناعة. ثم أعطانى دنانير وكسوة. ومن شعره أيضا قوله فى جواب كتاب:
[البسيط]
وافى كتابك أسنى ما يعود به ... وفد المسّرة منّى إذ يوافينى
فظلت أطويه من شوق وأنشره ... والشوق ينشرنى فيه ويطوينى
وفيها قتل الوزير عثمان بن نظام الملك. كان استوزره السلطان محمود بن محمد شاه السلجوقىّ؛ فبعث عمّه سنجر شاه السلجوقىّ يطلبه. فقال أبو نصر المستوفى:
متى بعثت به حيّا إلى عمّك سنجر شاه لم تأمنه، اقتله وابعث إليه برأسه. فبعث عنبرا الخادم إليه ليقتله. فعرف عثمان وقال: أمهلنى حتّى أصلّى ركعتين؛ فقام وصلّى وقال لعنبر: أرنى «1» سيفك ما أراه إيّاه، سيفى أمضى منه، فلا تقتلنى إلّا به؛ وناوله إيّاه فقتله به. فلمّا كان بعد قليل بعث السلطان محمود إلى أبى نصر المستوفى من فعل به كذلك، وذبحه ذبح الشاة. قلت: الجزاء من جنس العمل.
وفيها توفّى عبد المنعم بن حفاظ «2» بن أحمد بن خلف المحدّث أبو البركات الأنصارىّ الدمشقىّ، ويعرف بابن البقلىّ. كان جوادا فاضلا، سمع الكثير؛ واستوزره خير خان «3» بن قراجا صاحب حمص؛ ثم بلغه أنه كاتب طغتكين صاحب دمشق، فقبض عليه وكحله، فرجع إلى دمشق أعمى، فأقام بها حتّى مات.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وعشر أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وعشر أصابع.(5/227)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 518]
السنة الثالثة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة.
فيها عزم دبيس على قصد بغداد؛ وكان دبيس قد التجأ إلى طغرل بن محمد شاه السلجوقىّ. فتأهّب الخليفة المسترشد بالله للقائهما، وجمع الجيوش من كلّ جانب؛ ثم ترك دبيس المجىء فى هذه السنة لأمر ما.
وفيها كاتب أهل حلب آق سنقر صاحب الموصل؛ فسار إلى حلب فسلمها إليه أهلها، وهرب منها الأمير سكمان بن أرتق؛ فساق آق سنقر البرسقىّ خلفه، فلحقه بمنبج فقتله.
وفيها استولت الفرنج على صور بالأمان بعد أمور وحروب ذكرناها فى أوّل ترجمة الآمر هذا.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن علىّ بن محمد القاضى أبو جعفر الدّامغانىّ الحنفىّ، شهد عند أبيه، ثم ولى قضاء الكرخ من قبل أخيه، ثم ترك ذلك ورمى الطيلسان وولى حجبة باب النوبىّ للخليفة؛ وعظم ذلك على أخيه. وكان فاضلا كريم الأخلاق حسن العشرة خليقا بالرياسة.
وفيها توفّى محمد بن نصر بن منصور أبو سعد القاضى الهروىّ. كان فى بداءة أمره فقيرا حتّى اتّصل بالخليفة، وصار سفيرا بينه وبين الملوك. واستشهد هو وولده بهمذان، وكانت له اليد الباسطة فى النظم والنثر. ومن شعره:
[الوافر]
أودّعكم وأودعكم جنانى ... وأنثر دمعىّ نثر الجمان
وإنّى لا أريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان(5/228)
وفيها توفّى الفقيه أبو الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسىّ الشافعىّ بمصر؛ قاله الذهبىّ. كان فقيها عالما بارعا فى فنون.
أمر النيل فى هذه- الماء القديم سبع أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 519]
السنة الرابعة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة تسع عشرة وخمسمائة.
فيها جسّر دبيس بن صدقة طغرل بن محمد شاه السلجوقىّ على قصد بغداد وأن يطلب السلطنة لنفسه، فسار؛ واستعدّ له الخليفة المسترشد، ووقع له معهما حروب آلت إلى أنّ دبيسا توجّه بعد هزيمته إلى سنجر شاه السلجوقىّ مستجيرا به، فأجاره ثم قبض عليه.
وفيها قبض الآمر صاحب الترجمة على وزيره المأمون أبى عبد الله بن البطائحىّ وعلى أخيه «1» أحمد المؤتمن، واستولى على أموالهما وذخائرهما ثم قتلهما، وكانا قد دبّرا فى القبض عليه. والمأمون هذا هو بانى جامع الأقمر بالقاهرة. وكان الآمر استوزره بعد قتل الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش.
وفيها توفى أحمد بن محمد بن الفضل أبو الفضل الكاتب الأديب الفاضل الشاعر المشهور، المعروف بابن الخازن، وقد تقدّم ذكر وفاته فيما مضى «2» . والله أعلم.(5/229)
وفيها قتل الأمير آق سنقر البرسقىّ صاحب الموصل. كان أميرا شجاعا جوادا عادلا فى الرعيّة، وكان الخلفاء والملوك يحترمونه، وكان قد احترز من الباطنيّة بالرجال والسلاح والجانداريّة «1» . فدخل يوم الجمعة لجامع الموصل، فجاء إلى المقصورة وفيها جماعة من الصوفيّة لهم عادة يصلّون فيها، فاستراب بهم ودخل فى الصلاة وتأخّر عنه اصحابه؛ فوثب عليه ثلاثة فى زىّ الصوفيّة فضربوه بالسكاكين، فلم تعمل فى جسده للدرع الذي كان عليه؛ فصاحوا: رأسه وجهه، فضربوه حتّى قتلوه، وقتل الثلاثة. وحزن الناس عليه، وأقاموا ابنه مسعودا مقامه.
وفيها توفّى الأمير سليمان بن إيلغازى بن أرتق صاحب ميّافارقين. كان عادلا شجاعا جوادا، مات فى شهر رمضان ودفن عند أبيه. وجاء أخوه تمرتاش «2» من ماردين، فملك ميّافارقين وأحسن إلى أهلها.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 520]
السنة الخامسة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة عشرين وخمسمائة.
فيها توفّى أحمد بن محمد بن محمد الشيخ أبو الفتوح «3» الغزالىّ الطوسىّ، أخو أبى حامد الغزالىّ المقدّم ذكره. كان متصوّفا متزهّدا فى أوّل عمره ثم وعظ، وكان مفوّها.(5/230)
قال ابن الجوزىّ: ولمّا وعظ قبّله العوامّ. وجلس فى دار السلطان محمود فأعطاه ألف دينار، فلمّا خرج رأى «1» فرس الوزير فى الدهليز بمركب ذهب وقلائد وطوق ذهب، فركبه ومضى. وبلغ الوزير فقال: لا يتبعه أحد ولا يعاذ الفرس.
وفيها توفّى عبد الله «2» بن القاسم بن المظفّر بن علىّ القاضى أبو محمد المرتضى الشّهرزورىّ والد قاضى القضاة كمال الدين. كان أحد الفضلاء الشّهرزوريّين والعلماء المذكورين، وكان له النظم والنثر. ومن شعره:
[الطويل]
وبانوا فكم دمع من الأسر أطلقوا ... نجيعا وكم قلب أعادوا إلى الأسر
فلا تنكروا خلعى عذارى تأسّفا ... عليهم فقد أوضحت عندكم عدرى
وفيها توفّى محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيّوب الشيخ الإمام الفقيه الصوفىّ المالكىّ أبو بكر الطّرطوشنىّ «3» الاندلسىّ العالم المشهور نزيل الإسكندرية- وطرطوشة آخر بلاد المسلمين من الأندلس، وقد عادت الآن للفرنج- وكان يعرف بابن أبى رندقة. حجّ ودخل العراق وسمع الكثير، وكان عالما زاهدا ورعا ديّنا متواضعا متقشّفا متقلّلا من الدنيا راضيا باليسير. وقال ابن خلّكان: إنّه دخل على الأفضل بن أمير الجيوش بمصر فبسط تحته مئزره، وكان إلى جانب الأفضل نصرانىّ، فوعظ الأفضل حتى أبكاه، ثم أنشد:
[السريع]
يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترض واجب
إنّ الذي شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب(5/231)
وأشار إلى النصرانىّ. فأقام الأفضل النصرانىّ من موضعه وأبعده. وقد صنّف الشيخ أبو بكر كتاب «سراج الملوك «1» » للمأمون الذي ولى وزارة مصر بعد الأفضل، وقد تقدّم ذكره فى الماضية، وله تصانيف أخرى، وفضله مشهور لا يحتاج إلى بيان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 521]
السنة السادسة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
فيها قتل الباطنيّة وزير «2» السلطان سنجر شاه السلجوقىّ. وكان قد أفنى منهم اثنى عشر ألفا. فبعثوا إليه سائسا يخدم فى إصطبله مدّة إلى أن وجد الفرصة؛ فدخل الوزير يوما يفتقد خيله، فوثب عليه المذكور فقتله، وقتل بعده.
وفيها قتل الأمير مسعود بن آق سنقر البرسقىّ بالرّحبة؛ وكان عزمه أخذ دمشق فعوجل. وكان ولى بعد موت أبيه آق سنقر فى الخالية، فلم تطل مدّته.
وفيها توفّى أحمد [بن أحمد «3» ] بن عبد الواحد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن المتوكّل على الله الإمام المحدّث أبو السعادات. سمع الحديث الكثير ورحل البلاد. مات متردّيا من سطحه فى شهر رمضان ببغداد. وكان صحيح السماع ثقة.
وفيها توفّى هبة الله بن علىّ بن إبراهيم أبو المعالى الشيرازىّ. كان من أعيان الفضلاء، وله شعر جيّد.(5/232)
وفيها توفّى العبد الصالح الزاهد أبو الحسن علىّ بن المبارك بن الفاعوس زاهد بغداد. كان كبير القدر، أحد أعيان الصوفيّة، وله أحوال وكرامات. مات ببغداد وكان له مشهد عظيم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا، وأصابع لم تحرّر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 522]
السنة السابعة والعشرون من ولاية الامر منصور على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فيها توفّى الحسن بن علىّ بن صدقة الوزير أبو علىّ جلال الدين وزير الخليفة المسترشد بالله العباسىّ. كان فاضلا ديّنا رئيسا عاقلا حسن السّيرة محمود الطريقة محبوبا للخاصّة والعامّة جوادا ممدّحا؛ مات ببغداد وحزن عليه الخليفة. وتطاول بعد موته للوزارة جماعة، منهم عزّ الدولة بن المطلّب، وابن الأنبارىّ «1» ، وأحمد ابن نظام الملك وغيرهم؛ فلم يستوزر الخليفة أحدا منهم، واستناب نقيب النقباء علىّ بن طرّاد الزينبىّ الحنفىّ.
وفيها توفى الحسين بن علىّ بن أبى القاسم الفقيه العلّامة أبو علىّ اللّامشىّ «2» السّمرقندىّ الحنفىّ. كان إماما مفتّنا يضرب به المثل فى النظر «3» ، وسمع الحديث ورواه، وكان صالحا دينا على طريق السلف مطّرحا للكلفة. ومات بسمرقند.(5/233)
وفيها توفّى الأمير ظهير الدين أبو المنصور طغتكين بن عبد الله الأتابك صاحب الشأم مملوك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان السلجوقىّ. كان طغتكين مقدّما عند أستاذه تتش المذكور، وزوّجه أم ابنه دقماق، ونصّ عليه فى أتابكية ابنه دقماق المذكور. فقام بتدبير ملكه أحسن قيام، وغزا الفرنج غير مرّة، وله فى الجهاد اليد البيضاء. وقد ذكرنا بعض وقائعه فى أوّل ترجمة الآمر هذا مع الفرنج على سبيل الاختصار، نعرّف من ذلك همّته وشجاعته. وكان عادلا فى الرعيّة. ولمّا احتضر أوصى بالملك إلى ولده تاج الملوك بورى؛ فسار فى الناس أيضا أحسن سيرة. ومات طغتكين فى صفر بعد أن حكم دمشق سنين كثيرة. رحمه الله تعالى.
وفيها توفى عبد الله بن طاهر بن محمد بن كاكو أبو محمد الواعظ. ولد بصور ونشأ بالشام. قال أنشدنى أبو إسحاق الشيرازىّ لنفسه:
[البسيط]
لمّا أتانى كتاب منك مبتسما ... عن كلّ معنى ولفظ غير محدود
حكت معانيه فى أثناء أسطره ... أفعالك البيض فى أحوالى السّود
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 523]
السنة الثامنة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.
فيها ضمن زنكى بن آق سنقر للسلطان مائة ألف دينار على ألّا يعزله عن الموصل؛ وضمن الخليفة للسلطان أيضا مثل ذلك، ولا يولّى دبيسا ولاية- وكان الخليفة يكره دبيسا- فقبل السلطان ذلك.(5/234)
وفيها توفّى طاهر بن سعد الصاحب الوزير أبو علىّ المزدقانىّ «1» . كان شجاعا جوادا، بنى المسجد على الشرف «2» شمالى دمشق، ويسمّى مسجد الوزير، وكان قد عاداه وجيه الدولة «3» بن الصوفىّ، فآنتمى إلى الإسماعيليّة خوفا منه، فقتل هناك.
وفيها توفّى هبة الله بن أحمد بن محمد الحافظ المحدّث أبو محمد الأنصارىّ المعروف يا بن الأكفانىّ. سمع الكثير ولقى الشيوخ، وسمع جدّه لأمّه أبا الحسن ابن صصرى وغيره.
وفيها توفّى الحافظ أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد الثقفى الفقيه العالم المشهور؛ مات وله تسع وثمانون سنة.
وفيها توفّى أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن الإمام أبى بكر البيهقىّ ببغداد فى جمادى الأولى، وكان فاضلا فقيها، سمع الحديث.
وفيها توفّى الفقيه المحدّث أبو الحجّاج يوسف بن عبد العزيز الميورقىّ «4» الأصل ثمّ الإسكندرى، وبها توفّى. كان إماما فقيها عالما بارعا مفتنّا فى كثير من العلوم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 524]
السنة التاسعة والعشرون من ولاية الآمر منصور على مصر وهى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهى السنة التى قتل فيها الآمر صاحب الترجمة، حسب ما ذكرناه مفصّلا فى ترجمته أوّلا.(5/235)
وفيها (أعنى سنة أربع وعشرين) استوزر بورى بن طغتكين صاحب دمشق المفرّج بن الصوفىّ.
وفيها وصل زنكى بن آق سنقر إلى حلب من الموصل، وقد أظهر أنّه على عزم الجهاد؛ وراسل بورى يلتمس منه المعونة على محاربة الفرنج. فأرسل إليه بورى من استحلفه الأيمان المغلّظة، واستوثق منه لنفسه ولصاحب حمص وحماة.
وفيها ظهرت بالعراق عقارب طيارة لها أجنحة، وهى ذات شوكتين؛ فقتلت من الأطفال خلقا كثيرا. قاله صاحب مرآة الزمان؛ والعهدة عليه فيما نقلناه عنه.
وفيها توفّى إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق العرّىّ الكلبىّ الشاعر. مولده بغزّة. كان أحد فضلاء الدهر، رحل إلى البلاد وامتدح جماعة من الرؤساء. ومن شعره وأجاد إلى الغاية:
[الكامل]
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب البواعث والدّواعى مغلق
خلت البلاد فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنّه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن عبد الوهّاب الإمام البارع أبو عبد الله النحوى، وهو أخو أبى الكرم «1» بن فاخر النحوىّ لأمّه. قرأ بالروايات، وسمع الحديث الكثير، واشتغل باللغة والأدب، وقال الشعر الرائق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.(5/236)
ذكر ولاية «1» الحافظ لدين الله على مصر
الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبى القاسم محمد ابن الخليفة المستنصر بالله معدّ بن الظاهر بالله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المصرىّ، الثامن من خلفاء مصر من بنى عبيد، والحادى عشر منهم ممن ولى من آبائه بالمغرب، وهم ثلاثة: المهدىّ والقائم والمنصور. وأوّل من ولى من آبائه بالقاهرة المعزّ لدين الله؛ فلهذا قلنا: هو الثامن من خلفاء مصر، والحادى عشر منهم ممن ولى بالمغرب.
وولى الحافظ الخلافة بمصر بعد قتل ابن عمه الامر أبى علىّ منصور، على ما يأتى بيانه من أقوال كثيرة. ولم يكن من خلفاء مصر من أبوه غير خليفة سواه والعاضد الآتى ذكره. ولقبوه الحافظ لدين الله، ووزر له أبو على أحمد بن الأفضل ولقّب أمير الجيوش، فأحسن إلى الناس وعاملهم بالخير وأعاد لهم مصادراتهم.
وكان قبل ولاية الحافظ هذا اضطرب أمر الديار المصرية؛ لأنّ الآمر قتل ولم يخلف ولدا ذكرا، وترك امرأة حاملا، فماج أهل مصر وقالوا: لا يموت أحد من أهل هذا البيت إلّا ويخلّف ولدا ذكرا منصوصا «2» عليه الإمامة. وكان الآمر قد نص على الحمل قبل موته؛ فوضعت الحامل بنتا، فعدلوا إلى الحافظ هذا، وانقضع(5/237)
النسل من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من الشّيعة المصريّين؛ فإنّ الإمامة عندهم من المستنصر إلى نزار الذي قتل بعد واقعة الإسكندريّة.
وقال صاحب مرآة الزمان: ولمّا استمر الحافظ فى خلافة مصر، ضعف أمره مع وزيره أبى علىّ أحمد بن الأفضل أمير الجيوش وقوى شوكة الوزير المذكور، وخطب للمنتظر «1» المهدىّ، وأسقط من الأذان «حىّ على خير العمل» ودعا الوزير المذكور لنفسه على المنابر بناصر إمام الحق، هادى العصاة «2» إلى اتباع الحق؛ مولى الأمم؛ ومالك فضيلتى السيف والقلم. فلم يزل كذلك حتى قتل الوزير المذكور، على ما يأتى ذكره.
وقال ابن خلّكان: «وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له شيرماه «3» الديلمىّ طبل القولنج الذي كان فى خزائنهم. ولمّا ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب مصر كسر فى أيّامه، وقصته مشهورة. [و «4» ] أخبرنى حفيد شيرماه المذكور أن جدّه ركّب هذا الطبل من المعادن السبعة، والكواكب السبعة فى أشرافها، وكل واحد منها فى وقته. وكان من خاصّته إذا ضربه أحد خرج الريح من مخرجه. ولهذه الخاصيّة كان ينفع من القولنج» . انتهى كلام ابن خلكان.
قلت: ونذكر سبب كسر هذا الطبل فى ترجمة السلطان صلاح الدين عند استقلاله بمملكة مصر.
ولما عظم أمر الحافظ بعد قتل الوزير المقدّم ذكره، جدد له ألقاب لم يسبق إليها، وخطب له بها على المنابر؛ وكان الخطيب يقول: «أصلح من شيّدت به الدّين(5/238)
بعد دثوره، وأعززت به الإسلام بأن جعلته سببا لظهوره؛ مولانا وسيّدنا إمام العصر والزمان، أبا الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آبائه الطاهرين، حجج الله على العالمين» . ولمّا قتل الوزير أبو علىّ أحمد المذكور- على ما يأتى ذكره- وزر للحافظ جماعة، فأساءوا التدبير، منهم أبو الفتح يانس أمير الجيوش ومات، فوزر له ابنه الحسن، ثم وزر له بهرام، ثم تولّى الحافظ الأمر بنفسه إلى أن مات.
وكان أمره مع الوزير أبى علىّ أحمد بن الأفضل أنّه لمّا قتل الخليفة الآمر كان الحافظ هذا محبوسا، فأخرجوه وأشغلوا الوقت به إلى أن يولد حمل الآمر، فإن كان صبيّا يلى الخلافة ويحلع الحافظ. وتولّى أحمد المذكور الوزارة وجعلوا الأمور إليه، وليس للحافظ إلّا مجرّد الاسم فى الخلافة. وكان الوزير المذكور شهما شجاعا عالى الهمة كابيه الأفضل وجدّه بدر الجمالى السابق ذكرهما، فاستولى على الديار المصريّة. وولدت الحامل بنتا، فاستمرّ الحافظ فى الخلافة تحت الحجر، وصار الأمر كلّه للوزير؛ فضيّق على الحافظ وحجر عليه ومنعه من الظهور وأودعه فى خزانة لا يدخل إليه أحد إلّا بأمر الأكمل (أعنى الوزير المذكور) فإنّه كان لقّب بالأكمل فى أيام وزارته. وطلع الوزير إلى القصر وأخذ جميع ما فيه، وقال: هذا كله مال أبى وجدّى؛ ثم أهمل خلفاء بنى عبيد والدعاء لهم، فإنّه كان سنيّا كأبيه، وأظهر التمسّك بالإمام المنتظر فى آخر الزمان، فجعل الدعاء فى الخطبة له، وغيّر قواعد الرافضة.
فأبغضه الأمراء والدعاة؛ لأنّ غالبهم كان رافضيّا بل الجميع. ثم أمر الوزير الخطباء بأن يدعو له بألقاب اختصّها لنفسه. فلمّا كرهه الشيعة المصريّون صمّموا على قتله.
فخرج فى العشرين من المحرّم إلى لعب الكرة، فكمن له جماعة وحمل عليه مملوك إفرنجى(5/239)
للحافظ فطعنه وقتله وقطعوا رأسه، وأخرجوا الحافظ وبايعوه ثانيا، ونهبت دار الوزير المذكور.
وركب الحافظ إلى دار الخلافة واستولى على الخزائن، واستوزر مملوكه أبا الفتح يانس الحافظىّ. ولقّب أمير الجيوش أيضا وهو صاحب حارة اليانسية «1» ، فظهر هو أيضا شيطانا ما كرا بعيد الغور حتى خاف منه أستاذه الحافظ، فتحيّل عليه بكل ممكن وعجز حتى واطأه فرّاشه بأن جعل له فى الطهارة ماء مسموما، فاستنجى به فعمّل عليه سفله ودوّد؛ فكان يعالج بأن يلصق عليه اللحم الطرىّ فيتعلق به الدود إلى أن مات.
وقال صاحب كتاب «المقلتين فى أخبار الدولتين» : «كان الآمر قد اصطفى مملوكين، يقال لأحدهما هزبر الملوك، واسمه جوامزد «2» ؛ والآخر برغش، وينعت بالعادل. وهو صاحب المسجد «3» قبالة الروضة من بر مصر. وكان الآمر يؤثر هذا الأصغر لرشاقته. فلما قتل الآمر، وما ثم من يدبر الأمر، اعتمدا على الأمير أبى الميمون عبد المجيد، وكان أكبر الجماعة سنّا، فتحيّلا بأن قالا: إنّ الخليفة المنتقل (يعنون الآمر) كان قبل وفاته بأسبوع أشار إلى شىء من ذلك، وإنّه كان يقول عن نفسه: المسكين المقتول بالسكين، وإنّه قال: إنّ الجهة الفلانيّة حامل(5/240)
منه، وإنّه رأى رؤيا تدلّ على أنّها ستلد ولدا ذكرا، وهو الخليفة من بعده؛ وإنّ كفالته للأمير عبد المجيد أبى الميمون. فجلس عبد المجيد المذكور كفيلا، ونعت بالحافظ لدين الله، وأن يكون هزبر الملوك وزيرا، وأن يكون الأمير الأجل السعيد يانس متولّى الباب وإسفهسالار. وكان أصله من غلمان الأفضل بن أمير الجيوش (يعنى من مماليكه) ؛ وكان من أعيان الأمراء بمصر، وقرئ بهذا التقرير سجلّ بالإيوان، والحافظ فى الشبّاك جالس، قرأه قاضى القضاة على منبر نصب له أمام الشبّاك بحضور أرباب الدولة. واستمرّ الحافظ، وانفشّ ورم الحبلى، ووزر له هذا المذكور وأميران بعده، وهما: بهرام الأرمنىّ، ورضوان بن ولخشى.
قلت: ولم يذكر هذا المؤرّخ أمر أحمد الوزير، ولا ما وقع له مع الحافظ، وهو أجدر بأخبار الفاطميّين من غيره. ولعلّه حذف ذلك لكونه كان فى أوّل الأمر. والله أعلم.
قال: استمرّ الحافظ خليفة من سنة أربع وعشرين وخمسمائة إلى جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وكان له من الأولاد عدّة: سليمان وهو أكبرهم وأحبّهم إليه، وحسن وكان عاقّا له، ويوسف وجبريل، هؤلاء قبل خلافته.
وولد له فى خلافته أبو منصور إسماعيل، وخلّف بعد موته. ولما ولّى العهد لسليمان أكبر أولاده فى حياته جعله يسدّ مكان الوزير، ويستريح من مقاساة الوزراء الذين يحيفون عليه ويضايقونه فى أمره ونهيه. فمات سليمان بعد ولايته العهد بشهرين، فحزن عليه شهورا. وترشّح حسن ثانيه فى العمر لولاية العهد، فلم يستصلحه أبوه الحافظ لذلك ولا أجابه إليه. فعظم ذلك على حسن المذكور، ودعا لنفسه وكاتب الأمراء وعوّل على اعتقال أبيه ليستبدّ هو بالأمر، وأطمع الناس فيما يواصلهم به إذا تمّ له الأمر؛ فامتدّت إليه الأعناق، وكاتب الأمراء وكاتبوه.(5/241)
ثم عاودتهم عقولهم بأنّ هذا لا يتمّ مع وجود الخليفة. وكاتبوا أباه بخلاف ذلك.
فسيّر أبوه تلك الكتب إليه؛ قال: لا تعتقد أن معك أحدا. فأوقع بعدّة من الأمراء، وأخذ ما فى آدرهم. وقصد أبوه الحافظ إضعافه وصرفه عن جرأته بغير فتك، ففسد أمره وافتقر إلى أبيه. وكان حسن المذكور سيّر بهرام الأرمنى المقدّم ذكره حاشدا له ليصل إليه بالأرمن، وكان هذا (بهرام) أميرهم وكبيرهم.
فلمّا لجأ حسن إلى أبيه الحافظ احتفظ به أبوه وحرص عليه. فلما علم من بقى من الأمراء، وهم على تخوّف منه، اجتمعوا على طلبه من أبيه ليقتلوه ويأمنوا أمره؛ فوقفوا ببين القصرين فى عشرة آلاف. فراسلهم الخليفة الحافظ بلين الكلام وتقبيح مرادهم من قتل ولده، وأنّه قد أزال عنهم أمره، وأنّ ضمانه عليه فى ألّا يتصرّف أبدا؛ ووعدهم بالزيادة فى الأرزاق والإقطاعات. فلم يقبلوا شيئا من ذلك بوجه؛ وقالوا: إمّا نحن وإمّا هو؛ وإن لم نتحقّق الراحة الأبديّة منه وإلّا فلا حاجة لنا بك أيضا ونخلع طاعتك. وأحضروا الأحطاب والنيران لتحريق القصر، وبالغوا فى الإقدام عليه. فلم يجد الخليفة من ينصره عليهم؛ لأنّهم أنصاره وجنده الذين يستطيل بهم على غيرهم. فألجأته الضرورة أنّه استصبرهم ثلاثة أيّام ليتروّى فيما يعمل فى حق ولده؛ فرأى أنّه لا ينفكّ من هذه المنازلة العظيمة التى لم ير مثلها إلّا أن يقتله مستورا ويحسم مادّته ويأمن مباينة عسكره، وأنّه لا يأمن هو على نفسه، وأنّه لا بدّ من التصرف بهم وفيهم، وأنّهم لا ينفكّون من المقام ببين القصرين على هذا الأمر إلّا بعد إنجازه. وكان لخاصته طبيبان يهوديّان يقال لأحدهما أبو منصور، وللآخر ابن قرقة «1» . وكان ابن قرقة خبيرا بالاستعمالات ذكيّا. فحضر إليه أبو منصور قبل ابن قرقة، ففاوضه الخليفة فى عمل السقية القاتلة لولده؛ فتحرّج من ذلك وأنكر معرفته،(5/242)
وحلف برأس الخليفة وبالتوراة أنّه لا يعرف شيئا من هذا فتركه. ثم حضر ابن قرقة ففاوضه فى السقية فقال: الساعة، ولا يتقطّع الجسد بل تفيض النفس لا غير، فأحضرها فى يومه؛ وألزم الخليفة ولده حسنا على شربها فشر بها ومات، وقيل للقوم سرّا: قد كان ما أردتم، فامضوا إلى دوركم. فلم يثقوا بذلك بل قالوا:
يشاهد منّا من نثق به. فأحضروا أميرا معروفا بالجرأة يقال له المعظّم جلال الدين محمد جلب راغب «1» ؛ فدخل المذكور إلى المكان الذي فيه القتيل، فوجده مسجّى وعليه ملاءة، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه بارشينا «2» ، فغرزه بها فى مواضع خطرة من جسده حتى تحقّق موته، وعاد إلى القوم فأخبرهم فوثقوا منه وتفرّقوا. ولما نسّاهم الحافظ أمر ابنه قبض على ابن قرقة صاحب السقية فرماه فى خزانة البنود، وأمر بارتجاع جميع أملاكه وموجوده إلى الديوان. وكانت داره «3» بالزقاق الذي كان يسكنه فرّوخ شاه بن أيّوب، تطلّ على الخليج قبالة الغزالة «4» وما فيه من الدور والحمّام؛ وهذا الدرب يعرف بدرب ابن قرقة(5/243)
قريب باب الخوخة. ثم أنعم الخليفة على رفيقه أبى منصور وجعله رئيس اليهود، وحصلت له نعمة ضخمة.
قال: وكان الحافظ فى كلّ ستة أشهر يجرّد عسكرا إلى عسقلان بما يتحقّقه من عزمات الفرنج فى القلّة والكثرة مع من هو فيها مقيم من المركزية»
والكنانيّة وغيرهم؛ فكان القلّة من الفرسان من ثلثمائة إلى أربعمائة (يعنى الذين يسيّرهم فى التجريدة) ، والكثرة من أربعمائة إلى ستمائة؛ ويقدّم على كلّ مائة فارس أميرا، ويسلّم للأمير الخريطة؛ وهذا اسم «2» لحمل أوراق العرض من الديوان ليتّفق مع والى عسقلان على عرضهم. ثم يسلّم إليه مبلغا من المال ينفقه فيمن فاتته النفقة.
وكانت النفقة للأمراء مائة دينار، وللأجناد ثلاثين دينارا. فاتّفق أنّ والى عسقلان أرسل كتابا يعرّف الخليفة أنّ عند الفرنج حركة؛ فجرّد الخليفة فى تلك المرة العدّة الكبيرة، وفيهم جلال الدين جلب راغب «3» الأمير الذي كشف صحة موت حسن ابن الخليفة بسقية السمّ؛ فسيّر إليه الخليفة مائة دينار، وهى علامة التجريد والاهتمام؛ فتجهّز المذكور للسفر فى جملة الناس، وفى نفسه تلك الجناية التى قدّمها عند الخليفة فى ولده حتى قتله. فلمّا كان السفر جلس الخليفة ليخدموه بالوداع ويدعو لهم بالنصر والسلامة؛ فدخلوا إليه ومثلوا بين يديه لذلك وانصرفوا إلّا جلال الدين جلب راغب المذكور. فقال الخليفة: قولوا للأمير: ما وقوفك دون أصحابك! ألك حاجة؟
فقال: يأمرنى مولانا بالكلام. فقال له: قل. قال: يا مولانا ليس على وجه الأرض خليفة ابن بنت رسول الله غيرك. وقد كان الشيطان استزلّنى فأذنبت ذنبا(5/244)
عظيما، عفو مولانا أوسع منه. فقال له: قل ما تريد غير هذا، فإنّا غير مؤاخذيك به.
فقال: يا مولانا، قد توهّمت بل تحقّقت أنّى ماض فى حالة السخط منك، وقد آليت على نفسى أن أبذلها فى الجهاد، فلعلّى أموت شهيدا فيضيع ذلك سخط مولانا علىّ.
فقال له الخليفة: أنت غنىّ عن هذا الكلام، وقد قلنا لك: إنّا ما آخذناك «1» ، فأىّ شىء تقصد؟ قال: لا يسيّرنى مولانا تبغا لغيرى، فقد سرت مرارا كثيرة مقدّما، وأخشى أن يظنّ هذا التأخير للذنب الذي أنا معترف به. قال: لا، بل مقدّما وصاحب الخريطة. وأمر بنقل الحال عن المقدّم الذي كان تقرّر للتقدّمة والخريطة.
فسّر جلال الدين جلب راغب بذلك. ثم أعطاه الخليفة أيضا مائتى دينار، وقال له: اتّسع بهذه.
قال: وكان الأغلب على أخلاق الحافظ الحلم. ومرض الخليفة مرضته التى توفّى فيها، فحمل إلى اللؤلؤة «2» خارج القصر فأثخن فى المرض فمات بها. وظهر من وصيّته أنّ ولده أبا منصور إسماعيل، وهو أصغر أولاده، هو الخليفة من بعده، مع وجود ولدين كاملين، هما أبو الحجّاج يوسف وهو أبو الخليفة العاضد الآتى ذكره، وأبو الأمانة جبريل. فعقدت عليه الخلافة من بعده، ونعت بالظافر بأمر الله، وأن يستوزر له الأمير نجم «3» الدين بن مصال» . انتهى كلام صاحب المقلتين.
وقال ابن القلانسىّ: «وفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة ورد الخبر من مصر بوفاة الحافظ بأمر الله، وولى الوزارة أمير الجيوش أبو الفتح بن مصال المغربىّ؛ فأحسن السيرة وأجمل السياسة، فاستقامت الأحوال. ثم حدث بعد ذلك من(5/245)
اضطراب الأمور والخلف بين السودان والعساكر بحيث قتل بين الفريقين العدد الكثير وسكنت الفتنة» . انتهى كلام ابن القلانسىّ.
وكانت ولاية الحافظ على مصر تسع عشرة «1» سنة وسبعة أشهر، وتولّى الخلافة بعده أصغر أولاده، حسب ما ذكرناه عن كلام صاحب المقلتين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 525]
السنة الأولى من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
فيها توفّى حمّاد بن مسلم الرّحبىّ الشيخ الإمام الصالح المسّلك، أستاذ الشيخ عبد القادر فى التصوّف وشيخه. سمع الحديث. وكان على طريق التصوّف يدّعى «2» المعرفة والمكاشفة وعلوم الباطن. وكان يعطى كلّ من تصيبه حمّى لوزة وزبيبة فيأكلهما فيبرأ، وصار الناس يتردّدون إليه وينذرون إليه النذور، فيقبل الأموال ويفرّقها على أصحابه، ثم كره أخذ النذور، حتّى مات فى شهر رمضان ببغداد، ودفن بالشّونيزيّة «3» . وكان من الأبدال الصالحين. ويعرف بحمّاد الدّبّاس. رحمة الله عليه.
وفيها توفّى السلطان محمود بن السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق، عضد الدولة السلجوقىّ. كان ملكا شجاعا. وكان قد عزم على إفساد الأمور على الخليفة المسترشد(5/246)
العباسىّ، فعاجله الموت بهمذان فى يوم الخميس خامس عشر شوّال؛ وعمره ثمان «1» وعشرون سنة؛ ومدّة مملكته أربع عشرة سنة. وكان قد عهد إلى ابنه داود وهو صغير فى حجر زوج أمّه أحمد «2» يلى صاحب أذربيجان. فجدّد أبو القاسم وزير محمود على الأمراء العهود، وكتب إلى أحمديلى بذلك. وكان مسعود أخو محمود المتوفّى ببلاد أرمينية، فتحرّك لطلب السلطنة، فكتب إلى الخليفة ولم يكتب لعمّه سنجر شاه السلجوقىّ، فمشى سنجر شاه وولى السلطنة لابن أخيه طغرل (أعنى لعمّ الصبىّ داود) ورتّب لداود ما يكفيه إلى أن يكبر. ووقع بعد ذلك أمور.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد أبو عبد الله الرازىّ «3» ثم المصرىّ المعدّل الشاهد، ويعرف بابن الحطّاب، مسند الديار المصريّة وشيخ الإسكندريّة، مات فى سادس جمادى الأولى وله إحدى وتسعون سنة.
وفيها توفّى هبة «4» الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن العبّاس بن الحصين أبو القاسم الشيبانىّ الهمذانىّ الكاتب البغدادىّ مسند العراق. ولد سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وسمع الكثير وحدّث وروى عنه غير واحد.
وفيها قتل الوزير أبو علىّ أحمد بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالىّ الأرمنىّ ثم المصرىّ وزير الحافظ العبيدىّ. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ:(5/247)
«صاحب مصر وسلطانها الملك الأكمل أبو علىّ وابن صاحبها ووزيرها» (يعنى الأفضل) . قلت: والحقّ ما نعته به الذهبىّ؛ فإن أحمد هذا ووالده وجدّه هم كانوا أصحاب مصر، والخلفاء معهم كانوا تحت الحجر والضيق. وتصديق [ذلك «1» ] ما خلفه الأفضل شاهنشاه أبو صاحب الترجمة من الأموال والمواشى وغير ذلك. وإنما «2» كان يطلق عليهم بالوزراء إلّا لكون العادة كانت جرت بأن الملك للخليفة لا وهم بلا مدافعة انهم كانوا أعظم من سلاطين زماننا هذا.
ولمّا قتل أبوه الأفضل فى سنة خمس عشرة وخمسمائة فى خلافة الآمر وأخذ الآمر أمواله، سجن ابنه أحمد هذا إلى أن مات. فلمّا مات الآمر أخرج من السجن وجعل أمر مصر إليه، ووزر واستولى على الديار المصريّة. وحجر على الحافظ الخليفة ومنعه من الظهور، حسب ما ذكرناه فى ترجمة الحافظ. من أمر قتلته وكيف قتل، فلا يحتاج للتكرار هنا. وبموته صفا الوقت للحافظ واستولى على الملك، وسكن القصر على عادة الخلفاء إلى أن مات.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 526]
السنة الثانية من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ست وعشرين وخمسمائة.(5/248)
فيها توفّى أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر المستوفى المعروف بالعزيز عمّ العماد الكاتب. قبض عليه الأنساباذىّ «1» وزير طغرل وسلّمه إلى بهروز الخادم، فحمله إلى تكريت «2» فقتل بها. وكان من رؤساء الأعاجم، ولد بأصبهان، وهو من بيت كتابة وفضل.
وفيها توفّى الملك تاج الملوك بورى بن ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق.
ولى أمر دمشق بعد موت أبيه الأتابك طغتكين فى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وكان حليما شجاعا شهما. قتل أبا علىّ المزدقانىّ وجماعة كثيرة من الإسماعيليّة. قال ابن عساكر: بعث إليه الإسماعيليّة برجلين فضرباه بالسكاكين، وهو قد خرج من الحمام، فأثّر فيه بعض الأثر، وأقام ينتقض «3» عليه الجرح تارة ويندمل تارة إلى أن مات فى شهر رجب بعد سنين. ولما احتضر أوصى إلى ولده شمس الملوك إسماعيل فولى بعده. وكانت ولاية بورى على دمشق ثلاث سنين وشهورا.
وفيها توفّى عبد الكريم بن حمزة بن الخضر المحدّث الفاضل ابن محمد السلمىّ الدمشقىّ، سمع الكثير، وتوفّى بدمشق. وأنشد لأبى القاسم العجلىّ قوله:
[البسيط]
الضيف مرتحل والمال عارية ... وإنّما الناس فى الدنيا أحاديث
فلا تغرنّك الدنيا وزهرتها ... فإنّها بعد أيّام مواريث
واعمل لنفسك خيرا تلق نائله ... فالخير والشر بعد الموت مبثوث(5/249)
وفيها توفّى علىّ بن عبيد «1» الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل «2» ، الإمام أبو الحسن ابن الزاغونىّ «3» شيخ الحنابلة ببغداد. سمع الكثير بنفسه ونسخ بخطّه. وولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وكان إماما فقيها متبحّرا فى الأصول والفروع متقنا واعظا شاعرا.
وفيها توفّى أحمد بن عبيد «4» الله بن كادش، الإمام المحدّث أبو العز العكبرىّ، مات فى جمادى الأولى وله تسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 527]
السنة الثالثة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
فيها خطب لمسعود بن محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ ببغداد، ومن بعده لابن أخيه داود، وخلع عليهما وعلى [آق «5» ] سنقر الأحمديلى.
وفيها فتح شمس الملوك بن تاج الملوك بورى ابن الأتابك طغتكين صاحب دمشق [حصن «6» ] بانياس من يد الفرنج.(5/250)
وفيها توفّى أحمد بن عمّار بن أحمد بن عمّار أبو عبد الله الحسينىّ، العالم الفاضل الفصيح الكوفىّ. قدم بغداد ومدح الوزير ابن صدقة. ومن شعره:
[السريع]
وشادن فى الشّرب قد أشربت ... وجنته ما مجّ راووقه
ما شبّهت يوما أباريقه ... بريقه إلّا أبى ريقه
قلت: وهذا يشبه قول القائل مواليا، ولم أدر من السابق لهذا المعنى:
قم اسقنى ما تبقىّ فى أباريق ... أما ترى الصبح قد لاحت أباريق
مع شادن قد روّق سقاريق ... يسقى المدام وإن عزّت سقاريق
وقريب من هذا الشخص كان بخدمتى، يسمّى بدر الدين حسن الزركشىّ رحمه الله:
أفدى مهفهف وقد روّق دواريق ... بالسقم داوى لقلبى من دواريق
داساحر اللحظ قد صفّت نماريق ... مزج المدام بحضرا من نماريق
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن صاعد القاضى أبو سعيد النيسابورىّ.
ولد بنيسابور وقدم بغداد، وكان رئيس نيسابور وقاضيها، وله دنيا واسعة ومنزلة تامّة عند الخاص والعامّ. ومات فى ذى الحجة بنيسابور. وكان فقيها نبيلا ثقة.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن علىّ بن إبراهيم الإمام المحدّث الفرضىّ أبو بكر المزرفىّ «1» ، سمع الكثير وانفرد بعلم الفرائض فى عصره. ومات فى سجوده فى المحرّم.
وكان ثقة صالحا.
وفيها توفّى أبو خازم محمد ابن القاضى أبى يعلى بن الفرّاء الحنبلىّ الفقيه الصالح.
مات فى صفر وهو من بيت علم وفضل.(5/251)
وفيها توفّى الفقيه العلّامة أسعد بن أبى نصر الميهنىّ «1» شيخ الشافعيّة فى عصره وعالمهم، مات فى هذه السنة فى قول الذهبىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 528]
السنة الرابعة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
فيها عاد طغرل إلى همذان «2» ومالت العساكر إليه وانحلّ أمر أخيه مسعود.
ومسعود وطغرل كلاهما ولد محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ.
وفيها خرج شمس الملوك صاحب دمشق يتصيّد، وانفرد من عسكره؛ فوثب عليه أحد مماليك جدّه طغتكين يعرف بإيلبا. وضربه بالسيف ضربة هائلة، فآنقلب السيف من يده، فرمى بنفسه إلى الأرض؛ وضربه أخرى فوقعت فى عنق الفرس، وحال بينهما الفرس فانهزم إيلبا. وعاد شمس الملوك إلى دمشق سالما، ورتّب الغلمان فى طلب إيلبا حتى ظفروا به. فلمّا جاءوا به إليه، قال: ما الذي حملك على قتلى؟ قال: لم أفعله إلّا تقرّبا إلى الله لظلمك الناس. ثم قرّره فأقرّ على جماعة؛ فجمع شمس الملوك الجميع وقتلهم صبرا بين يديه. ولم يكفه قتلهم حتّى اتّهم أخاه سونج فجعله فى بيت، وسدّ عليه الباب حتّى مات. ثم بعد ذلك بالغ فى سفك الدماء والظلم والأفعال القبيحة إلى أن أخذه الله، حسب ما يأتى ذكره.(5/252)
وفيها أيضا وقع الخلف بين ولدى الخليفة الحافظ صاحب الترجمة، وهما أبو علىّ الحسن المقتول بالسمّ المقدّم ذكره فى ترجمة أبيه، وهو كان ولىّ العهد بعد سليمان، وبين أخيه أبى تراب حيدرة، وكان ذلك بحضرة والدهم الحافظ بمصر.
وانقسم العسكر فرقتين، أحدهما على مذهب السنّة، والثانى على مذهب الرافضة، ووقع بينهم القتال، فكان النصر لولىّ العهد؛ وأباد الحسن من تبع أخاه من السودان والأمراء بالقتل. وبعد هذا كان ركوب الأمراء بين القصرين على الحافظ لطلب حسن هذا حتّى قتله أبوه الحافظ بالسمّ الذي صنعه ابن قرقة اليهودىّ، وقد تبيّن ذكر ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة الحافظ.
وفيها توفّى أحمد بن إبراهيم الشيخ الإمام أبو الوفاء الفيروزآبادي- وفيروزآباذ:
أحد بلاد فارس- وقد تقدّم الكلام على أنّ كل اسم بلد يكون فيها «باذ» فهو بالتفخيم- كان إماما محدّثا، سمع الكثير، وخدم مشايخ الصوفيّة، وكان حافظا لسيرهم وأشعارهم، وكان يسمع الغناء، ويقول لعبد الوهّاب الأنماطىّ: إنى لأدعولك وقت السماع. وكان الأنماطىّ يتعجّب ويقول: أليس هذا يعتقد أن ذلك وقت إجابة! وكانت وفاته فى صفر، وحصر جنازته خلق كثير، وكان صالحا ديّنا.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن أبى بكر الشاشىّ، كان فقيها مفتيا مناظرا ظريف الشمائل حسن العبارة، ويعظ وينشئ الكلام المطابق المجانس. ومن شعره:
[الدوبيت]
الدمع دما يسيل من أجفاني ... إن عشت مع الفراق ما أجفانى
سجنى شجنى وحالتى «1» سجّانى ... والعاذل بالملام قد سجّانى(5/253)
والذكر لهم يزيد فى أشجانى ... والنوح مع الحمام قد أشجانى
ضاقت ببعاد منيتى «1» أعطانى ... والبين به الهموم قد أعطانى
وفيها توفّى علىّ بن محمد الأديب أبو الحسن العنبرىّ، ويقال له: ابن دوّاس القنّاء. كان شاعرا فصيحا. أصله من البصرة وسكن واسطا وبها مات. ومن شعره من أوّل قصيدة:
[البسيط]
هل أنت منجزة بالوصل ميعادى ... أم أنت مشمتة بالهجر حسّاى
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن تومرت الأمير أبو عبد الله المنعوت بالمهدىّ الهرغىّ «2» صاحب دعوة عبد المؤمن بن علىّ. كان ابن تومرت هذا ينسب إلى الحسن ابن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهما- وأصله من جبل السوس من أقصى بلاد المغرب، ونشأ هناك، ثم رحل فى شبيبته إلى العراق وغيره، وسمع الحديث وتنسّك وهجر لذّات الدنيا؛ ثم عاد إلى المغرب وانتهى إلى بجاية «3» ، فكسّر بها آلات اللهو وأهرق الخمور. ثمّ خرج منها إلى قرية يقال لها ملّالة «4» ، فرأى بها عبد المؤمن ابن علىّ فتفرّس فيه النجابة، وسأله عن نسبه حتى عرّفه عبد المؤمن. فقال له:
أنت بغيّى. وقال ابن تومرت هذا لأصحابه: هذا الذي بشّر به النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ الله تعالى ينصر هذا الدين برجل من قيس سليم» واستبشر به ابن تومرت هذا. ثمّ وقع له مع ملوك المغرب وقائع وأمور يطول شرحها حتّى ملك عدّة بلاد. وكان ابتداء أمره فى سنة اثنتى عشرة وخمسمائة- وقيل: سنة(5/254)
أربع عشرة وخمسمائة- ومولده فى يوم عاشوراء سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
ومات فى هذه السنة، وقال ابن خلّكان: فى سنة أربع وعشرين. والله أعلم.
ومن شعره:
[المتقارب]
أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلّفك القوم إذ ودّعوا
فكم أنت تنهى ولا تنتهى ... وتسمع وعظا ولا تسمع
فيا حجر الشّحذ حتّى متى ... تسنّ الحديد ولا تقطع
وكان كثيرا ما يتمثّل بهذا البيت:
[الطويل]
تجرّد من الدنيا فإنك إنّما ... سقطت «1» على الدنيا وأنت مجرّد
وكان يتمثّل أيضا بقول المتنبى:
[الوافر]
إذا غامرت فى شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت فى أمر حقير ... كطعم الموت فى أمر عظيم
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 529]
السنة الخامسة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
فيها توفّى شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بورى ابن الأتابك ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق. كانت ساءت سيرته وصادر الناس وأخذ أموالهم وسفك الدماء، وظهر منه شحّ زائد، وقتل مماليك أبيه وجدّه. وقد ذكرنا من أخباره فى السنة الماضية تبيين ذلك. وزاد ظلمه حتى كتب أهل دمشق إلى زنكى بن آق سنقر(5/255)
بالمسير إليهم. فقيل: إنه مات قبل وصول زنكى إلى الشام، واستراح أهل دمشق منه.
وفيها توفّى دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علىّ بن مزيد الأمير أبو الأغرّ الأسدىّ. أصله من بنى أسد- وقيل: من بنى خفاجة- وأوّل من ظهر من بيته جدّه الأكبر مزيد فى أيّام بنى بويه؛ ومات مزيد فقام علىّ ولده مقامه؛ وكان عائنا، ما وقعت عينه على شىء إلّا هلك. ثم قام بعده ابنه دبيس، ثمّ منصور؛ فجرى من منصور فى الخليفة القائم بأمر الله ما جرى. ثم مات منصور وخلّف ابنه صدقة، فخدم ملكشاه السلجوقىّ ثم خالف ابنه بركياروق فقتله بركياروق. وقام بعده ابنه دبيس صاحب الترجمة؛ وكان شرّ أهل بيته، يرتكب الكبائر ويفعل العظائم، ولقى منه الخليفة والمسلون شرورا كثيرة، وأبطل الحجّ، وأباح الفروج فى شهر رمضان.
وكانت أيّامه سبعا وستين سنة إلى أن قتله السلطان مسعود السلجوقىّ صبرا فى ذى الحجّة.
وكان دبيس المذكور كثيرا ما ينشد:
[الكامل]
إنّ الليالى للأنام مناهل ... تطوى وتبسط بينها الأعمار
فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار
وكان قتله بالمراغة «1» .
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المسترشد بالله أبو منصور الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله العباسىّ الهاشمى البغدادىّ. بويع بالخلافة بعد موت أبيه فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. ومولده فى حدود(5/256)
سنه خمس وثمانين وأربعمائة. وأمّه أمّ ولد تسمّى لبابة «1» . وكان شهما شجاعا ذا همّة ومعرفة وعقل، وكان مشتغلا بالعبادة، سالكا فى الخلافة سيرة القادر. قرأ القرآن وسمع الحديث وقال الشعر، ومن شعره:
[الطويل]
أنا الأشقر الموعود بى فى الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم
ومات قتيلا. وكان سبب ذلك أنّه خرج لقتال مسعود بن محمد شاه بن ملكشاه السلجوقىّ فخالف عليه عسكره فانكسر وأسر. فراسل سنجر شاه عمّ مسعود يلوم مسعودا؛ فرجع مسعود عن قتاله وضرب له السّرادق، فنزل المسترشد هذا فيه. ثمّ وصل رسول سنجر شاه إلى الخليفة ومعه سبعة عشر نفرا من الباطنيّة؛ فركب مسعودا لتلقّى رسول عمّه سنجر شاه ومعه العسكر، فسبقت الباطنيّة فى زىّ الغلمان ودخلوا على الخليفة وضربوه بالسكاكين حتّى قتلوه وقتلوا من كان عنده؛ وعادت العساكر فأحدقت بالسرادق، وخرج الباطنيّة والسكاكين بأيديهم فيها الدم؛ فمالت العساكر عليهم فقتلوهم وأحرقوهم. وغطّى الخليفة بسندسة خضراء لفّوه فيها، ودفن على حاله بباب مراغة. وكان قتله فى سابع عشر ذى القعدة، وعمره خمس وأربعون سنة، وخلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام. وبويع بالخلافة بعده ابنه أبو جعفر منصور، ولقب بالراشد، وكان ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 530]
السنة السادسة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ثلاثين وخمسمائة.(5/257)
فيها خلع الخليفة الراشد بالله أبو جعفر منصور بن المسترشد المقدّم ذكره، لأمور وقعت بينه وبين السلطان سنجر شاه وابن أخيه السلطان مسعود وقطع خطبته. وكاتب الخليفة زنكى بن آق سنقر وأطمعه فى الملك، وقال: يكون السلطان ألب أرسلان بن محمود بن محمد شاه بن ملكشاه، وأنت تكون أتابكه؛ فكان هذا أوّل سبب الفتنة، وخرج الخليفة من بغداد، ووقع له أمور آلت إلى خلعه.
قال صدقة الحدّاد الحنبلىّ فى تاريخه: إن الوزير أبا القاسم بن طرّاد صدّر محضرا على الراشد فيه أنواع من الكبائر ارتكبها من الفسق والفجور ونكاح أمّهات أولاد أبيه وأخذ أموال الناس وسفك الدماء، وأنّه فعل أشياء لا يجوز أن يكون معها إماما. فتوقّف الشهود؛ فهدّدهم ابن طرّاد وقال: علمتم صحّة هذا، فما المانع من إقامة الشهادة! فشهدوا. وكان السلطان مسعود قد جمع القضاة والشهود والأعيان وأخرج لهم نسخة يمين كانت بينه وبين الراشد، أخذها عليه بخطّه: «متى حشدت «1» أو حاذيت وجذبت سيفا فى وجه مسعود فقد خلعت نفسى من هذا الأمر» ، وفيها خطوط القضاة والشهود بذلك. فحكم القضاة حينئذ بخلعه؛ فخلع فى يوم الاثنين ثامن عشر ذى القعدة. وولّوا المقتفى محمد ابن المستظهر أخ المسترشد عمّ الراشد هذا، وحبس الراشد إلى أن مات، حسب ما يأتى ذكره إن شاء الله فى محله.
وفيها توفّى القاسم بن عبد الله بن القاسم القاضى شمس الدين الشّهرزورىّ أخو القاضى كمال الدّين الشهرزورىّ، ولى قضاء الموصل، وكان يعظ وله قبول حسن، وللناس فيه اعتقاد.(5/258)
وفيها توفّى يوسف بن فيروز حاجب شمس الملوك إسماعيل. كان [من «1» ] مماليك طغتكين. حقدوا عليه لأنّه هو الذي أشار على شمس الملوك بقتل إيلبا الذي ضرب شمس الملوك بالسيف، حسب ما ذكرناه؛ فاتّفقوا على قتله؛ فالتقاه بزاوش «2» الأتابكىّ عند المسجد الجديد فضربه بالسيف على وجهه فقتله فى جمادى الآخرة.
وفيها توفّى الإمام العلّامة أبو الحسن علىّ بن أحمد بن منصور بن قيس الغسّانىّ المالكىّ النحوىّ. كان إماما فقيها عالما نحويّا، حلّق ودرّس سنين وأقرأ النحو وقصده الناس وانتفع به خلق كثير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 531]
السنة السابعة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
فيها أرسل السلطان مسعود طالب الخليفة المقتفى لأمر الله العبّاسىّ وحواشيه بمائة ألف دينار. فبعث إليه المقتفى يقول: ما رأيت أعجب من أمرك! أنت تعلم أنّ أخى المسترشد سار من بغداد إليك بأمواله، فوصل الكلّ إليك ورجع أصحابه بعد قتله عراة، وولى ابن أخى الراشد ففعل ما فعل، ثمّ رحل وأبقى أمواله وخزائنه فى الدار، فأخذت الجميع. وأمّا الناس فإنّى عاهدت الله أنّى لا آخذ لأحد شيئا، وقد أخذت أنت أيضا الجوالى «3» والتركات «4» ؛ فمن أىّ وجه أقيم لك هذا المال!.(5/259)
وفيها تتبّع المقتفى القوم الذين أفتوا بفسق الراشد وكتبوا المحضر، وعاقب من استحقّ العقوبة، وعزل من يستحقّ العزل، ونكب الوزير شرف الدّين علىّ بن طرّاد. وقال المقتفى: إذا فعلوا هذا مع غيرى فهم يفعلونه معى؛ واستصفى أموال الزينبى، واستوزر عوضه سديد الدولة بن الأنبارىّ «1» ، وكان كاتب الإنشاء.
وفيها توفى مرشد بن علىّ بن المقلد بن نصر بن منقذ الأمير أبو سلامة صاحب شيزر. كان عارفا بفنون العلوم والآداب، صالحا كثير العبادة والتلاوة. وكان أخوه نصر ولّاه شيزر فتركها وقال: لا أدخل فى الدنيا! وولّاها أخاه سلطان بن علىّ.
وسافر البلاد، وكان له يد طولى فى العربيّة والمكاتبة والشعر. كان كثير الصوم شديد البأس والنجدة فى الحرب حسن الخطّ، كتب بخطّه سبعين ختمة، وكان له شعر.
وفيها توفّى بدران بن صدقة بن منصور، وهو من بنى مزيد، ولقبه شمس «2» الدولة.
ولمّا فعل أخوه دبيس ما فعل بالعراق وتغيّرت أحواله، خرج إلى مصر، فأكرمه صاحبها الحافظ صاحب الترجمة. وكان أديبا فاضلا، مات فى هذه السنة.
وفيها توفّى إسماعيل بن أبى القاسم بن أبى بكر النيسابورىّ الإمام القارئ، مات فى شهر رمضان. وكان رأسا فى علم القرآن وغيره.
وفيها توفى الحافظ أبو جعفر محمد بن أبى علىّ الهمذانىّ الحافظ المحدّث المشهور، سمع الكثير وكتب وصنّف وحدّث، وروى عنه غير واحد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.(5/260)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 522]
السنة الثامنة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
فيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد «1» الشيخ أبو بكر الدّينورىّ الحنبلىّ، تفقّه على أبى الخطّاب الكاوذانىّ، وبرع فى الفقه والمناظرة. ومات فى جمادى الأولى، ودفن قريبا من الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. رضى الله عنه.
وفيها توفّى الوزير أنوشروان [بن محمد «2» ] بن خالد بن محمد أبو نصر القاشانىّ القينىّ (وقين: قرية من قرى قاشان «3» ) وزر المسترشد الخليفة وللسلطان مسعود «4» السلجوقىّ.
وكان مهيبا عاقلا فاضلا. وهو كان السبب فى عمل الحريرىّ المقامات التى أنشأها.
حكى أنّ الحريرىّ كان جالسا بمسجد ببنى حرام، وهى محلّة من محال البصرة، إذ دخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رثّ الثياب. فاستنطقه الحريرىّ فإذا هو فصيح اللهجة حسن العبارة. فسأله من أين الشيخ؟ فقال: من «5» سروج.
قال: فما كنيته؟ قال: أبو زيد. فعمل الحريرىّ المقامة الحراميّة بعد قيامه من ذلك المجلس. هكذا قال صاحب مرآة الزمان.
قلت: ولعلّ الحريرىّ كان سمع به قبل ذلك وما اجتمع به؛ فإنّ الذهبىّ قال عن أبى زيد السّروجىّ: إنّه رجل مكد لحوح فصيح العبارة يسمى المطهّر «6»(5/261)
ابن سلّار. وكان الوزير أنوشروان كريما جوادا ذا همّة عالية وإقدام. ومات فى شهر رمضان. رحمه الله.
وفيها توفّى المسند بدر بن عبد الله أبو النجم، سمع الحديث الكثير، ومات فى شهر رمضان عن ثمانين سنة ببغداد. وكان سليم الباطن. طلب منه أصحاب الحديث إجازة، فقال: كم تستجيزون! ما بقى عندى إجازة.
وفيها توفّى الأمير البقش «1» السّلاحىّ. كان أميرا كبيرا، ناب عن السلطان فى ممالك؛ ثم توهّم السلطان منه وقبض عليه وحبسه بقلعة تكريت، ثم أمر بقتله، فغرّق نفسه فى دجلة، فأخرج من الماء وقطع رأسه وحمل إلى السلطان.
وفيها توفّى الحسين بن تلمش «2» بن يزدمر أبو الفوارس التركىّ الصوفىّ البغدادىّ.
كان شاعرا. ومن شعره:
[الخفيف]
أتمنّى أنّى أكون مريضا ... علّها أن تعود فى العوّاد
فتراها عينى فيذهب عنّى ... ما أقاسيه من جوى فى فؤادى
وفيها توفّى محمد بن عبد الملك بن محمد الشيخ أبو الحسن الكرجىّ «3» . كان محدّثا فقيها شاعرا شافعىّ المذهب، وصنّف فى مذهبه. وكان كريما جوادا. ومن شعره:
[الوافر]
تناءت داره عنّى ولكن ... خيال جماله فى القلب ساكن
إذا امتلأ الفؤاد به فماذا ... يضرّ إذا خلت منه المساكن(5/262)
وفيها توفّى الخليفة الراشد بالله أبو جعفر منصور ابن الخليفة المسترشد بالله أبى منصور الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بأمر الله عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله، العباسىّ الهاشمى. بويع بالخلافة بعد قتل أبيه المسترشد فى ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. ومولده فى سنة اثنتين وخمسمائة. وخرج بعد خلافته بمدّة إلى الموصل لقتال مسعود وغيره، فخذله أصحابه؛ فقبض السلطان مسعود عليه، وخلعه من الخلافة، حسب ما ذكرناه فى سنة ثلاثين وخمسمائة، وحبسه إلى أن قتله فى هذه السنة. وأمّه أمّ ولد حبشية يقال لها [أمّ السادة «1» ] . ويقال: إنّ الراشد هذا ولد مسدودا، فأحضر أبوه المسترشد الأطبّاء، فأشاروا أن يفتح له مخرج بالة من ذهب، ففعل به ذلك فنفع. وحكى عن الراشد هذا أيضا أن والده أعطى له عدّة جوار وعمره أقلّ من تسع سنين، وأمرهنّ أن يلاعبنه؛ وكانت فيهنّ جارية حبشية فحملت من الراشد فلمّا ظهر الحمل وبلغ المسترشد أنكره لصغر سنّ ولده الراشد؛ وسألها فقالت:
والله ما تقدّم إلىّ غيره، وإنّه احتلم. فسأل باقى الجوارى فقلن كذلك. ووضعت الجارية صبيا وسمّى أمير الجيش. وقيل لأبيه: إنّ صبيان تهامة يحتلمون لتسع، وكذلك نساؤهم. وكانت قتلة الراشد هذا فى شهر رمضان من هذه السنة بظاهر أصبهان. وقال الذهبىّ: إنّ قتلته كانت فى الخالية. والله أعلم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبع واحدة.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.(5/263)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 523]
السنة التاسعة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
فيها كانت زلزلة عظيمة أهلكت مائتى ألف وثلاثين ألف إنسان، قاله صاحب مرآة الزمان. وقال ابن القلانسىّ: إنّها كانت بالدنيا كلّها، وإنما كانت يحلب أعظم، جاءت ثمانين مرّة، ورمت أسوار البلد وأبراج القلعة، وهرب أهل البلد إلى ظاهرها.
وفيها توفى إسماعيل بن محمد بن أحمد الشيخ الأديب أبو طاهر الوثّابىّ «1» . كان شاعرا فصيحا مترسّلا.
وفيها توفّى علىّ بن أفلح الرئيس أبو القاسم الكاتب البغدادىّ. كان عالما فاضلا كاتبا شاعرا. تقدّم عند الخليفة المسترشد حتّى إنّه لقّبه جمال الملك وأعطاه الذهب ورتّب له الرواتب. ثمّ بلغه عنه أنّه كاتب دبيسا، فأراد القبض عليه، فهرب إلى تكريت واستجار ببهروز «2» الخادم؛ فشفع فيه فعفا عنه الخليفة. ومن شعره:
[البسيط]
دع الهوى لأناس يعرفون به ... قد ما رسوا الحبّ حتّى لان أصعبه
بلوت نفسك فيما لست تخبره ... والشيء صعب على من لا يجرّ به
وفيها توفّى الأمير محمود بن تاج الملوك بورى بن الأتابك ظهير الدين طغتكين، الملك شهاب الدين صاحب دمشق. ولى دمشق مكان أبيه- قلت: ولعلّه(5/264)
ولى بعد أخيه شمس الملوك إسماعيل. والله أعلم- ولمّا ولى إمرة دمشق ساءت سيرته، فاستوحش منه جماعة من أمرائه واتّفقوا على قتله مع يوسف الخادم والتّفش «1» الأرمنىّ. وكانا ينامان حول سريره وساعدهما عنبر الفرّاش الخركاوىّ على ذلك. فلمّا كان ليلة الجمعة ثالث عشرين شوّال ذبحوه على فراشه وخرجوا هاربين؛ فظفروا بهم وأخذوا يوسف وعنبرا فصلبا، وهرب التّغش. وكتب الأمراء إلى أخى محمود هذا، وهو محمد بن بورى بن طغتكين وكان ببعلبكّ، وكان صبيّا لم يبلغ الحلم، فجاء مسرعا ودخل دمشق، فملّكوه ولقّبوه جمال الدين. وانتهى الخبر إلى خاتون صفوة الملك والدة محمود المقتول؛ فراسلت الأمير عماد الدين زنكى بن آق سنقر تعرّفه الحال وتطلب منه أخذ الثأر؛ فجاء إلى دمشق وملكها بالأمان، ثم غذر بهم وأمر بقتلهم وصلبهم.
قلت: وعماد الدين زنكى هذا هو والد السلطان نور الدين محمود بن زنكى المعروف بالشهيد.
وفيها توفّى الشيخ الإمام المقرئ أبو العبّاس أحمد بن عبد الملك بن أبى جمرة «2» .
كان عالما فاضلا سمع الحديث وروى عنه غير واحد، وهو آخر من روى بالإجازة عن أبى عمرو الدانى «3» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.(5/265)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 534]
السنة العاشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
فيها قتل الأمير جوهر خادم السلطان سنجر شاه بن ملكشاه السلجوقىّ.
كان خادما حبشيّا حاكما فى الدّول. قتله باطنىّ جاءه فى صورة امرأة فاستغاث به؛ فوقف له جوهر لأخذ ظلامته؛ فرمى الإزار ووثب عليه وقتله؛ فقتلته خدم جوهر فى الوقت. وعزّ على سنجر شاه قتله وحزن عليه.
وفيها توفّى يحيى بن علىّ بن عبد العزيز القاضى الزّكىّ أبو الفضل قاضى دمشق، وهو جدّ ابن عساكر لأمّه. تفقّه على أبى بكر الشاشىّ ببغداد، وتفقّه بدمشق على القاضى المروزىّ، ومات بدمشق فى هذه السنة. وقال الذهبىّ: فى الآتية، وكان إماما فاضلا عالما. رحمه الله.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين محمد ابن الأمير تاج الملوك بورى ابن الأتابك ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق. كان ملك دمشق بعد قتل أخيه محمود، فلم تطل مدّته، وحضر الأمير زنكى بن آق سنقر وأخذ دمشق منه واستولى عليها، حسب ما ذكرناه. ومات فى شعبان ولم أدر مات قتيلا أم حتف أنفه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا، وشرقت البلاد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 535]
السنة الحادية عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.(5/266)
فيها نقل الخليفة المقتفى لأمر الله العبّاسىّ المظفّر بن محمد بن جهير من الأستاداريّة «1» إلى الوزر. قلت: وهذا أوّل ما سمعنا بوظيفة الأستاداريّة فى الدّول.
وفيها توفّى محمد بن عبد الباقى الشيخ الإمام أبو بكر الأنصارىّ. هو من ولد كعب بن مالك أحد الثلاثة «2» الذين خلّفوا. كان إماما عالما. وكان إذا سئل عن مولده يقول: أقبلوا على شأنكم، لا ينبغى لأحد أن يخبر [عن] مولده، إن كان صغيرا يستحقرونه، وإن كان كبيرا يستهرمونه. وكان ينشد:
[الكامل]
لى مدّة لا بدّ أبلغها ... فإذا انقضت وتصرّمت متّ
لو عاندتنى الأسد ضارية ... ما ضرّ بى ما لم يجى الوقت
وفيها توفّى الشيخ الإمام حافظ عصره أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الطّلحىّ «3» الأصبهانى التيمىّ. ولد سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وسافر البلاد وسمع الكثير وبرع فى فنون، وكان إماما فى التفسير والحديث والفقه واللغة، وهو أحد الحفّاظ المتقنين. ومات بأصبهان فى يوم عيد النحر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الفقيه المحدّث أبو الحسن رزين بن معاوية العبدرىّ «4» السّرقسطىّ، مات بمكّة فى المحرّم.(5/267)
وفيها توفّى القدوة الصالح الواعظ أبو يعقوب يوسف بن أيّوب الهمذانىّ الواعظ المفسّر، كان إماما فاضلا، وله لسان حلو فى الوعظ، وللناس فيه محبّة وعليه القبول.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 536]
السنة الثانية عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
فيها توفّى شيخ الإسلام الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة «1» ، إمام الحنفيّة ببخارى وصدر الإسلام. كان علّامة عصره، وكانت له الحرمة العظيمة، والنعمة الجليلة، والتصانيف المشهورة؛ وكان الملوك يصدرون عن رأيه. ولمّا عزم سنجر شاه ابن ملكشاه على لقاء الخطا «2» ، أخرجه معه، وفى صحبته من الفقهاء والخطباء والوعّاظ والمطّوّعة ما يزيد على عشرة آلاف نفر، فقتلوا فى المصافّ عن آخرهم، وأسر الحسام هذا وأعيان الفقهاء. فلمّا فرغ المصافّ أحضرهم ملك الخطا وقال:
ما الذي دعاكم إلى قتال من لم يقاتلكم والإضرار بمن لم يضرّكم؟ وضرب أعناق الجميع. وانهزم سنجرشاه فى ستّ أنفس، وأسرت زوجته وأولاده وأمّه وهتك حريمه، وقتل عامّة أمرائه. قال صاحب مرآة الزمان: وقتل مع سنجرشاه اثنا عشر ألف(5/268)
صاحب عمامة كلّهم رؤساء، وكان يوما عظيما لم ير مثله فى جاهليّة ولا إسلام، وكانت قتلة ابن مازة المذكور فى صفر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعد «1» أحمد بن محمد بن الشيخ علىّ بن محمود الزّوزنىّ «2» الصّوفى. كان إماما عالما فاضلا رأسا فى علم التصوّف. مات ببغداد فى شعبان.
وفيها توفّى الشيخ العارف بالله أبو العبّاس أحمد [بن محمد «3» ] بن موسى الصّنهاجىّ الأندلسىّ المالكىّ العالم الصوفىّ. كان ممن جمع بين علمى الشريعة والحقيقة.
وفيها توفّى الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبى الأشعث السّمرقندىّ، مات ببغداد فى ذى القعدة. وكان حافظا مفتنّا، سمع الكثير وسافر البلاد وكتب وحصّل وحدّث، روى عنه غير واحد.
وفيها توفّى شرف الإسلام عبد الوهّاب ابن الشيخ أبى الفرج عبد الواحد بن محمد الشّيرازىّ الفقيه الحنبلىّ الواعظ. كان رأسا فى الوعظ مشاركا فى فنون كثيرة.
ومات بدمشق.
وفيها توفّى الحافظ أبو عبد الله محمد بن علىّ المازرىّ «4» المالكىّ الحافظ المحدّث المشهور، مات فى شهر ربيع الأوّل وله ثلاث وثمانون سنة. وكان إماما حافظا متقنا عارفا بعلوم الحديث، وسمع الكثير وسافر البلاد وكتب الكثير.(5/269)
وفيها توفّى إمام جامع دمشق أبو محمد هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علىّ بن طاوس. كان رجلا فقيها صالحا ورعا حسن القراءة، أمّ سنين بجامع دمشق، ومات بها.
الذين ذكر الذهبىّ وقاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو سعد أحمد بن محمد ابن الشيخ على بن محمود الزّوزنى الصوفىّ ببغداد فى شعبان. وأبو العبّاس أحمد ابن محمد بن موسى [بن «1» عطاء الله] بن العزيف الصنهاجىّ الأندلسىّ العارف.
والحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبى الأشعث السّمرقندىّ ببغداد فى ذى القعدة. والفقيه أبو محمد عبد الجبّار بن محمد بن أحمد الخوارىّ «2» البيهقىّ فى شعبان. وأبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبى الرجال، وقد تغيّر.
وشرف الإسلام عبد الوهاب ابن الشيخ أبى الفرج عبد الواحد بن محمد الشّيرازىّ الحنبلىّ الواعظ بدمشق. وأبو حفص عمر بن العزيز بن مازة شيخ الحنفيّة بما وراء النهر، قتل صبرا فى صفر. وأبو عبد الله محمد بن علىّ المازرىّ المالكىّ الحافظ فى شهر ربيع الأوّل، وله ثلاث وثمانون سنة. وأبو الكرم نصر «3» الله بن محمد بن محمد بن مخلد بن الجلخت «4» بواسط فى ذى الحجّة. وإمام جامع دمشق أبو محمد هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علىّ بن طاوس. وأبو محمد يحيى بن علىّ بن الطرّاح المدينىّ فى رمضان.(5/270)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 537]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
فيها ملك الأمير زنكى بن آق سنقر التركى والد بنى زنكى قلعة الحديثة التى على الفرات، ونقل من كان بها من آل مهارش إلى الموصل، ورتّب فيها نوّابه.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن علىّ بن أبى الضوء الشريف أبو محمد الحسينى البغدادىّ، نقيب مشهد موسى بن جعفر ببغداد. كان إماما فاضلا فصيحا شاعرا إلّا أنّه كان على مذهب القوم، متغاليا فى التشيّع، فشان سودده بذلك. ومن شعره قوله فى المرثية التى عملها فى الشريف النقيب طاهر، وأظنّها من جملة أبيات،:
[الخفيف]
قرّبانى إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقرانى
وانضحا من دمى عليه فقد كا ... ن دمى من نداه لو تعلمان
قلت: لله درّه! لقد أحسن وأبدع فيما قال. وقد ساق ابن خلّكان هذه الأبيات فى ترجمة خالد «1» الكاتب، وساق له حكاية ظريفة، وذكر الأبيات فى صمنها فلتنظر هناك.
وفيها توفى السلطان داود ابن السلطان محمود شاه ابن السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق(5/271)
ابن دقماق السلجوقىّ، صاحب أذربيجان وغيرها، الذي كسره السلطان مسعود وجرى له معه وقائع وحروب- تقدّم ذكر بعضها- حتّى استولى على تلك النواحى. وكان سبب موته أنّه ركب يوما فى سوق تبريز، فوثب عليه قوم من الباطنيّة فقتلوه غيلة، وقتلوا معه جماعة من خواصّه، ودفن بتبريز. وكان ملكا شجاعا جوادا عادلا فى الرعيّة يباشرا الحروب بنفسه.
وفيها توفّى العلامة قاضى القضاة عبد المجيد بن إسماعيل بن محمد أبو سعيد الهروىّ الحنفىّ قاضى بلاد الروم. كان إماما فقيها متبحّرا مصنّفا، وله مصنّفات كثيرة فى الأصول والفروع، وخطب ورسائل، وأدّب وأفتى ودرّس سنين عديدة.
ومات بمدينة قيساريّة فى شهر رجب من السنة المذكورة. ومن شعره:
[الكامل]
وإذا متتّ إلى الكريم خديعة ... فرأيته فيما تروم يسارع «1»
فاعلم بأنّك لم تخادع جاهلا ... إنّ الكريم بفعله يتخادع
وفيها توفّى القان «2» ملك الخطا والترك الملك كوخان «3» وهو على كفره. وأظنّه هو الذي كسر سنجرشاه السلجوقىّ المقدّم ذكره، وقتل تلك الأمم. والله أعلم.
وفيها توفّى القاضى المنتخب أبو المعالى محمد بن يحيى بن علىّ القرشىّ قاضى قضاة دمشق وعالمها، مات بها فى شهر ربيع الأوّل وله تسع «4» وتسعون سنة.
وفيها توفّى صاحب المغرب أمير المسلمين أبو الحسن على بن يوسف بن تاشفين المعروف بالملثّم، قاله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام.(5/272)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عبد الله الحسين «1» ابن علىّ سبط أبى منصور الخيّاط. وأبو الفتح عبد الله بن محمد بن محمد البيضاوىّ فى جمادى الأولى. وأبو طالب علىّ «2» بن عبد الرحمن بن أبى عقيل الصورىّ بدمشق.
وكوخان سلطان الخطا وهو على كفره. والخطيب أبو الفضل محمد «3» بن عبد الله بن المهتدى بالله. وأبو الفتح مفلح بن أحمد الرومىّ الورّاق ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 538]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
فيها توفّى نقيب النقباء علىّ بن طرّاد بن محمد بن علىّ أبو القاسم الزينبىّ. كان معظّما فى الدول. ولّاه الخليفة المستظهر بالله نقابة النقباء، ولقّبوه بالرضى ذى الفخرين. وكان من بيت الرياسة والنقابة والفضل.
قلت: وكان ولى الوزارة؛ فنقم «4» عليه الخليفة المقتفى بالله وصادره بما فعله مع الخليفة الراشد من كتابة المحضر المقدّم ذكره فى سنة ثلاثين وخمسمائة. وكان(5/273)
الزينبىّ هذا إماما فاضلا فقيها بارعا فى مذهب الإمام أبى حنيفة، وكان جوادا ممدّحا. مدحه الحيص «1» بيص بقصيدته التى أوّلها:
[الكامل]
ما أنصفت بغداد نائبها الذي ... كبرت نيابته على بغداد
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة فريد عصره ووحيد دهره وإمام وقته أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشرى الخوارزمىّ النحوىّ اللغوىّ الحنفىّ المتكلم المفسّر صاحب «الكشّاف» فى التفسير و «المفصّل» فى النحو. وكان يقال له جار الله؛ لأنّه جاور بمكّة المشرّفة زمانا، وقرأ بها على ابن وهّاس الذي يقول فيه:
[الطويل]
ولولا ابن وهّاس وسابق فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصرّدا
وزمخشر: قرية من قرى خوارزم، ومولده بها فى رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وقدم بغداد وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى فنون؛ وصار إمام عصره فى عدّة علوم. ومن شعره يرثى شيخه أبا مضر منصورا «2» :
[الطويل]
وقائلة ما هذه الدّرر الّتى ... تساقط «3» من عينيك سمطين سمطين
فقلت «4» لها الدّرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عينى
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع أصابع.(5/274)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 539]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
فيها افتتح زنكى بن آق سنقر الرّهاء من يد الفرنج مع أمور وحروب، وردم سورها، وكتب إلى النصارى أمانا وأحسن للرعيّة، وحفر بها أساسا عميقا. وأول صخرة ظهرت فى هذا الأساس وجدوا مكتوبا عليها سطرين بالسريانيّة؛ فجاء شيخ يهودىّ فحلّهما إلى العربيّة، وهما:
[السريع]
أصبحت خلوا من بنى الأصفر ... أختال بالأعلام والمنبر
فظهر الرّحب على أنّنى ... لولا ابن سنقر لم أظهر
وفيها توفّى هبة الله بن الحسن الشيخ أبو القاسم المعروف بالبديع الأسطرلابىّ «1» .
كان فريد وقته فى عمل الأسطرلابات وآلات الفلك والطّلّسمات، وكان مع ذلك أديبا فاضلا. ومن شعره وقد أرسل لبعض الرؤساء هديّة:
[الكامل]
أهدى لمجلسك الشريف وإنّما ... أهدى له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له ... منّ عليه لأنّه من مائه
وفيها توفّى صاحب المغرب وأمير المسلمين تاشفين بن علىّ بن يوسف بن تاشفين المصمودىّ المغربىّ. وتمكن بعده عبد المؤمن بن علىّ بعد أمور وقعت له مع تاشفين هذا وبعده.(5/275)
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعبنىّ المالكىّ الفقيه خطيب إشبيلية. كان إماما عالما خطيبا أديبا شاعرا.
وفيها توفّى المسند المعمّر أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب الفقيه مسند الأندلس، سمع الكثير ورحل البلاد وتفرّد بأشياء عوال.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو البدر «1» إبراهيم بن محمد بن منصور الكرخىّ فى شهر ربيع الأوّل. وتاشفين بن علىّ بن يوسف بن تاشفين المصمودىّ أمير المسلمين، وتمكّن بعده عبد المؤمن. وأبو منصور سعيد بن محمد ابن الرزاز «2» شيخ الشافعيّة ببغداد. وأبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعبنىّ خطيب إشبيلية. ومسند الأندلس أبو الحسن علىّ بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب. وأبو البركات عمر بن إبراهيم بن محمد الزّيدىّ العلوىّ النحوىّ الكوفىّ.
وفاطمة بنت محمد بن أبى سعد محمد «3» البغدادىّ بأصبهان، ولها أربع وتسعون سنة.
وأبو المعالى محمد بن إسماعيل الفارسىّ النيسابورىّ. وأبو منصور [محمد «4» بن] عبد الملك [بن الحسن بن إبراهيم «5» ] بن خيرون المقرئ فى رجب. وأبو المكارم المبارك ابن علىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.(5/276)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 540]
السنة السادسة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة أربعين وخمسمائة.
فيها توفّى بهروز الخادم أبو الحسن مجاهد الدين خادم السلطان مسعود السّلجوقىّ. كان خادما أبيض، ويلقّب مجاهد الدين. ولى إمرة العراق نيّفا وثلاثين سنة، وله به مآثر. منها أخذ كنيسة وبناها رباطا على شاطىء دجلة وأوقف عليها أوقافا، وبها دفن. وبهروز (بكسر الباء الموحدة ثانية الحروف وهاء ساكنة وراء مهملة مضمومة وواو وزاى ساكنة) ومعناه باللغة العجميّة يوم جيّد على التقديم والتأخير على عادة اللغة العجمية والتركية.
وفيها توفّى موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقىّ الشيخ أبو منصور إمام المقتفى العبّاسىّ. سمع الحديث ببغداد وقرأ الأدب فأكثر، وانتهى إليه علم اللغة ودرّس النحو والعربيّة بالنظاميّة بعد أبى زكريا «1» التّبريزى. فلمّا ولى المقتفى الخلافة اختصه وجعله إمامه، فكان غزير العلم طويل الصمت متواضعا مليح الخطّ. مات فى المحرّم.
وفيها توفّى الشيخ أبو «2» بكر بن تقىّ (بتاء مثناة من فوق ثالثة الحروف) الأندلسى القرطبى الفقيه الشاعر، كان فاضلا شاعرا فصيحا. ومن شعره:
[الطويل]
ومشمولة فى الكأس تحسب أنّها ... سماء عقيق زيّنت بكواكب
بنت كعبة اللّذّات فى حرم الصّبا ... فحجّ إليها اللهو من كلّ جانب(5/277)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو سعيد «1» أحمد بن محمد بن أبى سعد البغدادىّ ثم الأصبهانىّ فى شهر ربيع الأوّل. وأبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن النيسابورىّ فى جمادى الأولى. وأبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد الجواليقىّ النحوىّ اللغوىّ إمام المقتفى فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 541]
السنة السابعة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
فيها بنى حسام الدين بن أرتق جسر القرمان بأرض ميّافارقين.
وفيها توفّى الأمير جاولى صاحب أذربيجان. كان شجاعا شهما يخافه السلطان مسعود وغيره. وسبب موته أنه افتصد وركب للصيد، فعنّ له أرنب فرماه بسهم فانفجر فصاده فضعف، ولم يقدر الطبيب على حبس الدم فمات.
وفيها توفّى الملك أبو المظفّر «2» عماد الدين زنكى «3» ابن الأتابك آق سنقر. كان أبوه يكنى بقسيم الدولة. وكان (أعنى اق سنقر) من خواصّ السلطان ملكشاه السلجوقىّ(5/278)
وولّاه حلب والحمص؟؟؟ وغيرهما. ولمّا مات ملك بعده ابنه زنكى جميع هذه البلاد، وزاد مملكته حتّى ملك الشام من محمد بن بورى بن طغتكين بعد حروب. ثم استولى زنكى هذا على الشام جميعه، وأقام على ذلك سنين، إلى أن توجّه إلى قلعة جعبر «1» ، فقاتل صاحبها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلىّ ونصب عليها المجانيق حتى لم يبق إلّا أخذها. فلمّا كان ليلة الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر اتّفق ثلاثة من خدّامه على قتله فذبحوه على فراشه وهربوا إلى القلعة وعرّفوا من بها. وكان مع زنكى أولاده الثلاثة: سيف الدين غازى، ونور الدين محمود المعروف بالشهيد، وقطب الدين مودود. فملك بعده ابنه نور الدين محمود الشهيد، وسار غازى إلى الموصل.
قلت: وبنو زنكى هؤلاء هم أوسط الدول؛ فإن أوّل من ملك مع الخلفاء وتلقّب بالسلطان والألقاب العظيمة بنو بويه، ثم أنشأ بنو بويه بنى سلجوق.
وأنشأ بنو سلجوق بنى أرتق وآق سنقر جدّ بنى زنكى هؤلاء. ثم أنشأ بنو زنكى (أعنى الملك العادل نور الدين محمود الشهيد) بنى أيّوب سلاطين مصر وغيرها.
ثم أنشأ بنو أيوب المماليك ودولة الترك. وأوّل ملوكهم الملك المعزّ أيبك التركمانىّ.
فانظر إلى أمر الدنيا وكيف كلّ طائفة نعمة طائفة ونشؤها إلى يومنا هذا.
وفيها توفّى الأمير عبّاس شحنة مدينة الرّىّ. كان أميرا شجاعا مقداما جوادا يباشر الحروب بنفسه.
وفيها توفّى عبد الرحيم بن المحسّن بن عبد الباقى الشيخ أبو محمد التّنوخىّ. كان شاعرا فصيحا، مات بميّافارقين.(5/279)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو البركات إسماعيل ابن أبى سعد أحمد بن محمد «1» بن دوست الصوفىّ شيخ الشيوخ فى جمادى الآخرة.
وأبو جعفر [حسن «2» ] بن علىّ البخارىّ الصوفىّ بهراة. وعماد الدين زنكى الأتابك ابن قسيم الدولة آق سنقر، قتله غلام له وهو محاصر قلعة جعبر. وأبو الفتح محمد ابن محمد بن عبد الرحمن بن علىّ النيسابورىّ الخشّاب «3» ، آخر من حدّث بأصبهان عن القشيرى «4» . وأبو عبد الله محمد بن محمد [بن أحمد «5» ] بن السّلال «6» الورّاق. وأبو بكر وجيه بن طاهر الشّحّامى «7» العدل فى جمادى الاخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 542]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الحافظ على مصر وهى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
فيها افتتح نور الدين محمود المعروف بالشهيد صاحب الشام حصن «8» أرتاح وغيرها من يد الفرنج. قلت: وهذا أوّل أمر الفتوحات الزّنكيّة والأيّوبيّة الآتى ذكرها إن شاء الله تعالى.(5/280)
وفيها استولى عبد المؤمن بن علىّ على مدينة مرّاكش من المغرب بالسيف وقتل من بها من المقاتلة، ولم يتعرّض للرعيّة، وأحضر اليهود والنصارى وقال:
إنّ الإمام المهدىّ أمرنى ألّا أقرّ الناس إلّا على ملّة واحدة وهى الإسلام، وأنتم تزعمون أن بعد الخمسمائة عام يظهر من يعضد شريعتكم، وقد انقضت المدّة؛ وأنا مخيّركم بين ثلاث: إمّا أن تسلموا، وإمّا أن تلحقوا بدار الحرب، وإمّا أن أضرب رقابكم. فأسلم منهم طائفة، ولحق بدار الحرب أخرى. وأخرب عبد المؤمن الكنائس والبيع وردّها مساجد، وأبطل الجزية، وفعل ذلك فى جميع ولاياته.
وفيها قتل الوزير رضوان بن ولخشى أمير الجيوش وزير الحافظ صاحب الترجمة ومدبّر ممالكه بديار مصر وغيرها. كان استوزره الحافظ صاحب مصر المذكور.
فلمّا ولى الوزر استولى على مصر، وحجر على الخليفة الحافظ، وسلك فى ذلك طريق الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالى. وزاد أمره، حتى دسّ عليه الحافظ السودان فوثبوا عليه وقتلوه.
وفيها توفّى الأستاذ هبة الله بن على بن محمد بن حمزة أبو السعادات العلوىّ النحوىّ، ويعرف بابن الشّجرىّ. انتهى إليه فى زمانه علم النحو والعربيّة ببغداد، وسمع الحديث وطال عمره وأقرأ وحدّث.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 543]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر وهى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.(5/281)
فيها أزال السلطان نور الدين محمود بن زنكى صاحب دمشق من حلب الأذان ب «حىّ على خير العمل» وسبّ الصحابة بها، وقال: من عاد إليه قتلته؛ فلم يعد أحد. رحمه الله تعالى.
وفيها ظهر بمصر رجل من ولد نزار ابن الخليفة المستنصر العبيدىّ يطلب الخلافة، فاجتمع عليه خلق، حتّى جهّز إليه الخليفة الحافظ صاحب الترجمة العساكر فالتقوا بالصعيد، وقتل من الفريقين جماعة. ثم انهزم النّزارىّ الذي خرج وقتل ولده.
وفيها أغار نور الدين محمود صاحب دمشق المعروف بالشهيد المقدّم ذكره على بلاد الفرنج وفتح عدّة حصون- تقبّل الله منه- وأسر وقتل وغنم.
وفيها حجّ بالناس من العراق الأمير قايماز.
وفيها توفّى قاضى القضاة أبو القاسم علىّ بن الحسين بن محمد بن علىّ الزينبى البغدادىّ الحنفىّ. ولد فى نصف شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى مذهبه. ولّاه الخليفة المسترشد قضاء القضاة، وطالت مدّته وحسنت سيرته، وناب فى الوزارة فى بعض الأحيان.
وفيها توفى الفقيه أبو الحجّاج يوسف «1» بن درناس الفندلاوىّ «2» شيخ المالكيّة بدمشق، استشهد بظاهر دمشق فى حرب الفرنج ومحاصرتهم لدمشق. وكان إماما عالما ديّنا بارعا فى فنون.(5/282)
وفيها توفّى الأستاذ أبو الدرّ ياقوت الرومىّ الكاتب مولى أبى المعالى أحمد بن علىّ بن البخارىّ التاجر بدمشق. قلت: وتسمّى بهذا الاسم جماعة كثيرة لهم ذكر، فمنهم من يذكر هنا ومنهم من لا يذكر على حسب الاتفاق، وهم ياقوت هذا المذكور. وياقوت بن عبد الله الصّقلبى أبو الحسن المعروف بالجمالى مولى الخليفة المسترشد بالله الفضل العبّاسىّ، ووفاته سنة ثلاث وستين وخمسمائة. وياقوت بن عبد الله أبو سعيد مولى أبى عبد الله عيسى بن هبة الله بن النقّاش، ووفاته سنة أربع وسبعين وخمسمائة. وياقوت بن عبد الله الموصلىّ الكاتب أمين الدين المعروف بالملكىّ نسبته إلى أستاذه السلطان ملكشاه السّلجوقىّ، انتشر خطّه فى الآفاق، توفّى بالموصل سنة ثمانى عشرة وستمائة. وياقوت بن عبد الله الحموىّ الرومىّ شهاب الدين أبو الدرّ. كان من خدّام بعض التجار ببغداد يعرف بعسكر الحموىّ، وهو صاحب التصانيف؛ توفّى سنة ست وعشرين وستمائة. وياقوت بن عبد الله مهذّب الدين الرومىّ مولى أبى منصور الجيلىّ «1» التاجر، كان شاعرا ماهرا، وهو صاحب القصيدة التى أوّلها:
[البسيط]
إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا ... فكلّ ما تدّعى زور وبهتان
توفّى سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وياقوت بن عبد الله المستعصمىّ الرومىّ جمال الدين أبو المجد صاحب الخطّ البديع، مولى الخليفة المستعصم بالله العباسىّ، توفّى سنة ثمان وتسعين وستمائة. وياقوت الشّيخىّ افتخار الدين الحبشى مقدّم المماليك فى دولة الأشرف شعبان بن حسين، توفّى سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وياقوت بن عبد الله الحبشىّ المعزّىّ المسعودىّ المحدّث الفاضل، توفّى سنة أربع وخمسين وستمائة. وياقوت بن عبد الله الأرغون شاوى الحبشىّ مقدّم(5/283)
المماليك للأشرف برسباى، توفّى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. قلت: وهؤلاء الأعيان. وأمّا غير الأعيان فكثير. وقد استطردنا ذكرهم هنا جملة لئلّا يلتبس أحد منهم على من ينظر فى ترجمة أحدهم فى محلّه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 544]
السنة العشرون من ولاية الحافظ عبد المجيد على مصر- مات فى جمادى الآخرة، حسب ما تقدّم ذكره- وهى سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
فيها واقع السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آق سنقر المعروف بالشهيد صاحب دمشق الفرنج وكسرهم الكسرة المشهورة، وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وأسر مثلهم؛ وعاد إلى حلب بالغنائم العظيمة والأسارى، وبعث بعضها إلى أخيه مودود. وفيها يقول ابن «1» القيسرانىّ الشاعر:
[السريع]
وكم «2» له من وقعة يومها ... عند ملوك الشّرك مشهود
حتّى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا(5/284)
مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
وكيف لانثنى على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
وفيها افتتح نور الدين محمود أيضا حصن فامية؛ وكان على حماة وحمص منه ضرر عظيم.
وفيها توفّى القاضى الإمام الأديب العلّامة ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد ابن الحسين الأرّجانىّ قاضى تستر. قال ابن خلّكان: «والأرجانىّ: بفتح الهمزة وتشديد الراء والفتح والجيم وبعد الألف نون، هذه نسبة إلى أرّجان، وهى من كور الأهواز من بلاد خوزستان» . انتهى. وقال صاحب المرآة: «كان إمام عصره فقيها أديبا شاعرا صاحب النظم الرائق. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس، سمع الحديث وتفقّه. وكان بليغا مفوّها. وهو القائل:
[الكامل]
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... فى العصر وانا أفقه الشعراء
قلت: ومن شعره- والبيت الثانى يقرأ معكوسا:-
[الوافر]
أحبّ المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم
مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودته تدوم
وفيها توفّى الحافظ الناقد الحجة عياض بن موسى بن عياض بن عمرو «1» بن موسى ابن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصىّ السّبتىّ أبو الفضل المعروف بالقاضى عياض أحد عظماء المالكيّة. ولد بسبتة فى منتصف شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة. وأصله من الأندلس ثم انتقل أخير أجداده إلى مدينة قاس، ثم من فاس إلى سبتة. كان إماما حافظا محدّثا فقيها متبحّرا، صنّف التصانيف المفيدة، وانتشر(5/285)
اسمه فى الافاق وبعد صيته. ومن مصنّفاته كتاب «الشفا فى شرف المصطفى» .
وكتاب «ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى ذكر فقهاء مذهب مالك» وكتاب «العقيدة» وكتاب «شرح حديث أمّ زرع» وكتاب « [جامع «1» ] التاريخ» وهو كتاب جليل، وشىء كثير غير ذلك. ومات بمرّاكش فى جمادى الآخرة. ومن شعره رحمه الله:
[السريع]
انظر إلى الزرع وخاماته «2» ... تحكى وقد هبّت «3» عليها الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النّعمان فيها جراح
وفيها توفّى الملك غازى بن زنكى بن آق سنقر التركىّ، أخو السلطان نور الدين محمود الشهيد الأتابك، سيف الدين صاحب الموصل، وهو أكبر أولاد زنكى.
مات فى سلخ جمادى الآخرة وله أربع وخمسون سنة، وأقام فى الملك ثلاث سنين وشهورا. وكان شجاعا جوادا. وهو أوّل من حمل السّنجق «4» على رأسه فى الأتابكيّة، ولم يحمله أحد قبله لأجل «5» ملوك السلجوقيّة.
وفيها توفّى الأمير معين الدين أنر «6» مملوك الأتابك طغتكين. كان مدبّر دولة أولاد أستاذه الأتابك طغتكين، وكان جليل القدر عالى الهمّة.(5/286)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرّجانى الشاعر بتستر. ومعين الدين أنر الطّغتكىّ مدبّر دولة أولاد أستاذه. والحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد [بن] المستنصر العبيدىّ.
والقاضى عياض بن موسى بن عياض أبو الفضل اليحصبىّ السّبتىّ بمرّاكش فى جمادى الآخرة. وصاحب الموصل سيف الدين غازى ابن الأتابك.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.(5/287)
ذكر ولاية الظافر على مصر
الظافر بالله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبى الميمون عبد المجيد ابن الأمير محمد ابن الخليفة المستنصر معدّ بن الظاهر علىّ بن الحاكم منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ، التاسع من خلفاء مصر من بنى عبيد، والثانى عشر منهم ممّن ولى من أجداده خلفاء المغرب.
بويع بالخلافة بعد موت أبيه الحافظ فى جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وهو ابن سبع عشرة سنة وأشهر؛ لأنّ مولده فى يوم الأحد منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وأمّه أم ولد تدعى ستّ الوفاء، وقيل: ست المنى.
قال العلّامة شمس الدين أبو المظفّر يوسف بن قزأوغلى سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه مرآة الزمان-، بعد أن سمّاه يوسف، والصواب ما قلناه أنّه إسماعيل- قال: «وكانت أيّامه مضطربة لحداثة سنّه واشتغاله باللهو، وكان عبّاس «1» الصّنهاجىّ لمّا قتل ابن سلّار «2» وزر له واستولى عليه. وكان له ولد اسمه نصر، فأطمع نفسه فى الأمر وأراد قتل أبيه، ودسّ إليه سمّا ليقتله. فعلم أبوه واحترز وأراد أن يقبض عليه فما قدر؛ ومنعه مؤيّد «3» الدولة أسامة بن منقذ وقبّح عليه ذلك، وقال:
إن فعلت هذا لم يبق لك أحد ويفرّ الناس عنك. فشرع أبوه يلاطفه (يعنى(5/288)
الوزير عباس يلاطف ابنه نصرا) وقال له: عوض ما تقتلنى اقتل الظافر. وكان نصر ينادم الظافر ويعاشره، وكان الظافر يثق به وينزل فى الليل إلى داره متخفّيا.
فنزل ليلة إلى داره وكانت بالسوفيّين «1» داخل القاهرة ومعه خادم «2» له، فشربا ونام الظافر؛ فقام نصر فقتله ورمى به فى بئر. فلمّا أصبح عبّاس (يعنى الوزير أبا نصر المذكور) جاء إلى باب القصر يطلب الظافر؛ فقال له خادم القصر: ابنك يعرف أين هو [ومن «3» ] قتله. فقال عبّاس: ما لا بنى فيه علم. وأحضر أخوى الظافر وابن أخيه فقتلهم صبرا بين يديه؛ وأحضر أعيان الدولة وقال: إنّ الظافر ركب البارحة فى مركب فانقلبت به فغرق «4» . ثمّ أخرج عيسى ولد الظافر. فتفرّقوا عن عبّاس وابنه، وثار الجند والعبيد وأهل القاهرة وطلبوا بثأر الظافر من عبّاس وابنه نصر.
فأخذ عبّاس وابنه نصر ما قدرا عليه من المال والجواهر وهربا إلى الشام. فبلغ الفرنج فخرجوا إليهما، وقتلوا عبّاسا وأسروا ابنه نصرا؛ وقتل نصر فى السنة الآتية» .
انتهى.
وقال القاضى شمس الدّين أحمد بن خلّكان: «بويع يوم مات أبوه بوصية أبيه، وكان أصغر أولاد أبيه سنّا. كان كثير اللهو واللّعب، والتفرّد بالجوارى، واستماع المغانى. وكان يأنس بنصر بن عبّاس. فاستدعاه إلى دار أبيه ليلا سرّا(5/289)
بحيث لا يعلم به أحد، وتلك الدار فى المدرسة الحنفيّة السيوفيّة «1» الآن، فقتله بها وأخفى أمره. قال: وقصّته مشهورة، وذلك فى نصف المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكان من أحسن الناس صورة. والجامع «2» الظّافرىّ الذي بالقاهرة داخل بآب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمّره وأوقف عليه شيئا كثيرا» .
انتهى كلام ابن خلّكان. قلت: والجامع الظافرىّ هو المعروف الآن بجامع الفاكهانيّين على الشارع «3» الأعظم بالقرب من حارة الدّيلم «4» .(5/290)
وقال ابن القلانسىّ: «إنّ الظافر إنّما قتله أخواه يوسف وجبريل وابن عمهما صالح بن الحسن. قلت: وهذا القول يؤيّده قول ما نقله أبو المظفر من أنّ عبّاسا قتل أخوى الظافر وابن عمه صبرا (أعنى لمّا بلغه قتلهم للظافر قتلهم به) ؛ غير أنّ جمهور المؤرخين اتّفقوا على أنّ قاتل الظافر نصر بن عبّاس المقدّم ذكره.
قال: وكان الظافر قد ركن إليهم (يعنى أخويه وابن عمه) وأنس بهم فى وقت مسرّاته؛ فاتّفقوا عليه واغتالوه، وذلك فى يوم الخميس سلخ صفر. وحضر العادل عبّاس الوزير وابنه ناصر الدين نصر وجماعة [من «1» ] الأمراء والمقدّمين [للسلام «2» ] على الرسم. فقيل لهم: إن أمير المؤمنين ملتاث الجسم. فطلبوا الدخول إليه فمنعوا؛ فألحّوا فى الدخول بسبب العيادة فلم يمكّنوا. فهجموا ودخلوا القصر وانكشف أمره، فقتلوا الثلاثة وأقاموا ولده عيسى وهو ابن ثلاث سنين، ولقّبوه بالفائز بنصر الله وبايعوه؛ وعبّاس الوزير إليه تدبير الأمور. ثم ورد الخبر بأن طلائع بن رزّيك فارس المسلمين قد امتعض من ذلك وجمع وحشد وقصد القاهرة، وكان من أكابّر الأمراء. وعلم عبّاس أنّه لا طاقة له به، فجمع أمراءه وأسبابه وأهله وخرج من القاهرة. فلمّا قرب من عسقلان وغزّة خرج عليه جماعة من خيّالة الفرنج، فاغترّ بكثرة من معه؛ فلمّا حمل عليهم قتل أكثر أصحابه وانهزموا، فانهزم هو وابنه الصغير وأسر ابنه الكبير الذي قتل ابن سلّار مع ولده وحرمه وماله وكراعه «3» ، وصار الجميع للفرنج، ومن هرب مات من الجوع والعطش.
ووصل طلائع بن رزّيك إلى القاهرة، فوضع السيف فيمن بقى من أصحاب عبّاس، وجلس فى منصب الوزارة» . انتهى كلام ابن القلانسىّ. وما نقله غالبه مخالف لغيره من المؤرّخين. والله أعلم.(5/291)
وقيل غير ذلك: إنّ خدّام القصر كتبوا إلى طلائع بن رزّيك وهو والى قوص «1» وأسوان «2» والصعيد يخبرونه بقتل الظافر ويستنجدونه على عبّاس وابنه نصر. وكتب إليه فيمن كتب القاضى الجليس أبو المعالى عبد العزيز بن الحبّاب «3» قصيدته الدالية التى أوّلها:
[الطويل]
دمعى عن نظم القريض غوادى «4» ... وشفّ فؤادى شجوه المتمادى
وأرّق عينى والعيون هواجع ... هموم أقضّت مضجعى ووسادى
بمصرع أبناء الوصىّ وعترة الن ... بىّ وآل الذاريات وصاد
فأين بنو رزّيك عنهم ونصرهم ... ومالهم من منعة وذياد
أولئك أنصار الهدى وبنو الردّى ... وسمّ العدا من حاضرين وباد
لقد هدّ ركن الدّين ليلة قتله ... بخير دليل للنّجاة وهاد
تدارك من الإيمان قبل دثوره ... حشاشة نفس آذنت بنفاد(5/292)
وقد كاد «1» أن يطفى تألّق نوره ... على الحقّ عاد من بقية عاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد
وهى طويلة كلّها على هذا المنوال فى معنى النجدة. وقد نقلتها من خطّ عقد لا يقرأ إلّا بجهد. فلمّا بلغ ذلك طلائع بن رزّيك جمع ودخل القاهرة فى تاسع شهر ربيع الأوّل، وجلس فى دست الوزارة، وتلقّب بالملك الصالح؛ وهو صاحب الجامع «2» خارج بابى زويلة، وأخرج جسد الظافر من البئر التى كان رمى فيها بعد قتله وجعله فى تابوت ومشى بين يديه حافيا مكشوف الرأس، وفعل الناس كذلك، وكثر الضجيج والبكاء والعويل فى ذلك اليوم.
وقال بعضهم وأوضح الأمر، وقوله: إنّ الظافر كان قد أحبّ نصر بن عبّاس حبّا شديدا، وبقى لا يفارقه ليلا ولا نهارا. فقدم مؤيّد الدولة أسامة بن منقذ من الشام، فقال لعبّاس الوزير يوما: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول! قال عبّاس: وما يقولون؟ قال يقولون: إن الظافر بنى «3» على ابنك نصر. فغضب عبّاس من ذلك، وأمر ابنه نصرا، فدعا الظافر لبيته فوثب عليه وقتله. وساق نحوا مما سقناه من قول أبى المظفّر وابن خلّكان. وانتهى كلامه.
وقال صاحب كتاب المقلتين فى أخبار الدولتين: «ولمّا تمّ أمر الظافر ركب بزىّ الخلافة وعاد إلى القصر؛ ولم يقدّم شيئا على انتقامه من ابنى الأنصارى لما كان يبلغه عنهما فى أيام والده الحافظ.(5/293)
وخبر ابنى الأنصارىّ أنّهما كانا من جملة الكتّاب، وتوصّلا إلى الحافظ، فاستخدمهما فى ديوان الجيش قصدا لتمييزهما؛ وهما غير قانعين بذلك، لما يعلمانه من إقبال الحافظ عليهما؛ فوثبا على السادة من رؤساء الدولة مثل الأجلّ الموفّق أبى «1» الحجّاج يوسف كاتب دست الخليفة ومشورته، ومن يليه مثل القاضى المرتضى «2» المحنّك، والخطيرى البوّاب؛ فتجرّأا على المذكورين وغيرهم من الأمراء مع قلّة دربة.
فتتبّع القوم عوراتهم، والخليفة الحافظ لا يزداد فيهما إلّا رغبة. ووقع لهما أمور قبيحة، والقوم يبلّغون الخليفة خبرهم شيئا بعد شىء، وهو لا يلتفت إلى قولهم.
ولا زال ابنا الأنصارىّ حتى صار الأكبر شريك الأجلّ الموفّق فى ديوان المكاتبات، ولكن خصّص الموفّق بالإنشاء جميعه. ولمّا تولّى ابن الأنصارىّ نصف الديوان نعت بالقاضى الأجلّ سناء الملك، بعد أن وصّاه الخليفة الحافظ أن يقنع مع الموفق بالرتبة ويدع المباشرة، ويخدم الموفّق. وصبر الأجلّ الموفّق على ذلك مراعاة لخاطر الخليفة. وأمّا ابن الأنصارى الصغير فإنّه تجنّد فتأمّر فى يوم، وخلع عليه بالطّوق وما يلزم الأمريّة، وصار أمير طوائف الأجناد. فقال الناس: هو الأمير الطارى ابن الأنصارى!. وبينما هم فى ذلك مرض الخليفة الحافظ ومات، وآلت الخلافة لولده الظافر هذا. فنرجع لما كنّا عليه من أمر الظافر مع ولدى «3» الأنصارىّ المذكورين. فركب الخليفة الظافر بعد العشاء الآخرة فى الشمع بالقصر، ووقف على باب الملك بالإيوان المجاور للشباك، وأحضر ابنى الأنصارىّ واستدعى متولّى؟؟؟(5/294)
السّتر، وهو صاحب العذاب، وأحضرت آلات العقوبة، فضرب الأكبر بحضوره بالسّياط إلى أن قارب الهلاك، وثنىّ بأخيه كذلك؛ وامر بإخراجهما وقطع أيديهما وسلّ ألسنتهما من قفيّهما، وصلبا على بابى زويلة الأوّل والثانى زمانا.
وأقام الظافر ابن مصال «1» المغربىّ وزيرا مدة شهرين. فخرج عليه ابن سلّار، وكان واليا على البحيرة والإسكندرية، ولم يرض بوزارة ابن مصال المذكور، وتابعه عباس وكان واليا على الغربية، وهو ولد زوجته. فلمّا بلغ الوزير ابن مصال ذلك، خرج إلى الصعيد لكونه لم يطق لقاء ابن سلّار ومن معه على غير موافقة من الخليفة الظافر. ودخل ابن سلّار إلى القاهرة وزيرا؛ فما طابت به نفس الخليفة الظافر بالله، فباشر الأمور مباشرة بجدّ. وأقام الظافر خليفة إلى أوائل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ولم يصف بين الخليفة والوزير عيش قطّ، وجرت بينهما أمور؛ وثبت عند ابن سلّار كراهة الخليفة فيه، فاحترز على نفسه منه، وأقام كذلك أربع سنين وبعض الخامسة، حتّى قتله نصر بن عبّاس اغتيالا فى داره. وذكر أنّ ذلك بموافقة الخليفة الظافر على ذلك؛ لأنّ هذا نصرا كان قد اختلط بالخليفة اختلاطا دائما أدّى إلى حسد أكثر أهل الدولة له على ذلك. وخشى عبّاس على نفسه من ولده نصر المذكور لما تمّ منه فى حقّ ابن سلّار؛ فرمى بينه وبين الخليفة بموهمات قبيحة، حتّى قتل نصر الخليفة أيضا. ودفنه فى داره التى بالسيوفيّين «2» ، وقتل أستاذين معه.
ولمّا عدم الخليفة استخلف ولده بعده، وهو أبو القاسم عيسى، ونعت بالفائز بنصر الله، وكان عمره يومئذ خمس سنين. أخرجه الوزير عبّاس من عند جدّته أمّ(5/295)
أبيه الخليفة يوم قتل عمّيه يوسف وجبريل ابنى الحافظ- وهما مظلومان- بتهمة أنّهما قتلا أخاهما الخليفة الظافر حسدا على الرتبة لينالاها بعده. وليس الأمر كذلك، بل عبّاس الوزير وولده نصر قتلاه. فرآهما الخليفة هذا الصغير مقتولين، فتفزّع واضطرب وغشى عليه، ولازمه ذلك وكثر به.
قلت: وقول هذا عندى فى قتل الخليفة الظافر أثبت الأقاويل. وبكلامه أيضا يعرف جميع ما ذكرناه فى أمره من أقوال المؤرّخين؛ فانّه ساق أمره على جليّته من غير إدخال شىء معه.
وأمّا تفصيل أمر عبّاس الوزير وابنه نصر فإنّ عبّاسا كان رجلا من بنى تميم ملوك الغرب، ودخل عبّاس القاهرة فاجتمع بالخليفة، فأكرمه وأنعم عليه بأشياء ثم خلع عليه بالوزارة على العادة ولقبه؛ فباشر عبّاس الوزارة وخدم الأمور وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد لينسيهم العادل ابن سلّار. واستمرّ ابنه نصر على مخالطة الخليفة الظافر؛ حتّى اشتغل الظافر عن كلّ أحد بآبن عبّاس المذكور، وأبوه عبّاس يكره خلطته بالخليفة. وانتهى الخليفة معه إلى أن يخرج من قصره لزيارة ابن عبّاس بداره التى بالسيوفيين، بحيث لا يعلم عبّاس بذلك. فلمّا علم استوحش من الخليفة لجرأة ابنه، وتوهّم أنّه ربما يحمله الخليفة على قتله. فقال عباس لابنه سرّا: قد أكثرت من ملازمة الخليفة حتى تحدّث الناس فى حقّك معه بما أزعج باطنى، وربّما يتناقل الناس ذلك ويصل إلى أعدائنا منه ما لا يزول، ففهم ابنه نصر عنه وأخذته حدّة الشباب؛ فقال نصر لأبيه: أيرضيك قتله؟ فقال أزل التهمة عنك كيف شئت. فخرج الخليفة ليلة إلى نصر بن عبّاس على عادته، فقتله بالجماعة الذين قتل بهم الوزير ابن سلّار، وقتل أيضا أستاذين كانا مع الخليفة(5/296)
الظافر، وطمرهم فى بئر هناك. وأصبح عبّاس فبايع عيسى بن الظافر، ولقّبه الفائز، على ما يأتى ذكره فى أوّل ترجمة الفائز.
ولما تمّ لعبّاس ما قصده من قتل الخليفة وتولية ولده الخلافة، كثرت الأقاويل ووقع الناس على الخبر الصحيح بالحدس، فاستوحش الناس قتل هؤلاء الأئمة.
وكان طلائع بن رزّيك واليا على الأشمونين «1» والبهنسا «2» ؛ فتحرّك حاشدا على عبّاس، ولبس السواد وحمل شعور النساء حرم الخليفة على الرماح. فتخلخل أمر عبّاس وتفرّق الناس عنه، وصار الناس تسمبه المكروه فى الطّرقات من كلّ فجّ، حتى إنّه رمى من طاق ببعض الشوارع وهو جائز بهاون نحاس، وفى يوم آخر بقدر مملوءة ماء حارّا؛ فقال عبّاس: ما بقى بعد هذا شىء. فصار يدبّر كيف يخرج وأين يسلك. فأشار عليه بعض أصحابه بتحريق القاهرة قبل خروجه منها فلم يفعل، وقال: يكفى ما جرى. فلمّا قرب طلائع بن رزيك إلى القاهرة خرج عبّاس وابنه ومعهما كلّ ما يملكانه طالبّا للشرق. فحال الفرنج بينه وبين طريقه، فقاتل حتّى قتل وأسر ولده نصر، وفاز الفرنج بما كان معه، وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وأمّا ولده نصر فنذكر أمره وقتله فى أوّل ترجمة الفائز بأوسع من هذا إن شاء الله تعالى.
وكانت قتلة الخليفة الظافر هذا فى سلخ المحرّم سنة تسع «3» وأربعين وخمسمائة على قول من رحّج ذلك، وله اثنتان وعشرون سنة؛ وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وتولّى الخلافة بعده ولده الفائز عيسى.
ونذكر إن شاء الله أمر قتله أيضا فى ترجمة الفائز بأوسع من هذا هناك.(5/297)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 545]
السنة الأولى من ولاية الظافر بأمر الله أبى منصور إسماعيل على مصر وهى سنة خمس وأربعين وخمسمائة.
فيها مطرت اليمن مطرا دما، وبقى أثره فى الأرض وفى ثياب الناس.
وفيها فى المحرّم نزل الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشام على دمشق وحاصرها؛ فراسله صاحبها مجير «1» الدين، وخرج إليه هو والرئيس «2» ابن الصوفىّ وبذلا له الطاعة وأن يخطب له مجير الدين بعد الخليفة والسلطان، وأن ينقش اسمه على الدينار والدرهم؛ فرضى نور الدين وخلع عليه ورحل عنه. وعاد وافتتح قلعة اعزاز.
وفيها اختلف وزير مصر ابن مصال المغربى والعادل ابن سلّار وجمعا العساكر واقتتلا، فقتل الوزير ابن مصال، واستقلّ ابن سلّار بالوزر والملك. وقد ذكرنا نحو ذلك فى ترجمة الظافر هذا.
وفيها توفّى أبو المفاخر الحسن بن ذى «3» النون الواعظ [بن أبى القاسم] . كان فاضلا صالحا إماما فقيها حنفىّ المذهب، كان يعيد الدرس خمسين مرّة. ومن شعره:
[البسيط]
مات الكرام ومرّوا وانقضوا ومضوا ... ومات بعدهم تلك الكرامات
وخلّفونى فى قوم ذوى سفه ... لو أبصروا طيف ضيف فى الكرى ماتوا(5/298)
وفيها توفّى الأمير أبو الحسن علىّ بن دبيس صاحب الحلّة. كان شجاعا جوادا إلّا أنّه كان على عادة أهل الحلّة رافضيّا خبيثا.
وفيها توفّى قتيلا الوزير علىّ «1» بن سلّار وزير الظافر صاحب الترجمة بديار مصر.
كان يلقّب بالملك العادل. وتولّى الوزر بعده عبّاس أبو نصر الذي قتل الظافر، حسب ما ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا.
وفيها ملكت الفرنج عسقلان «2» بالأمان بعد أن قتل من الفريقين خلق كثير، وكان قد تمادى القتال بينهم فى كلّ سنة إلى أن سلّموها. وأخذ الفرنج جميع ما كان فيها من الذخائر وغيرها.
وفيها توفّى أحمد بن منير بن أحمد «3» الأديب أبو الحسين الطرابلسىّ الشاعر المشهور المعروف بالرّفاء. ولد سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بطرابلس. وكان بارعا فى اللغة والعربيّة والأدب إلّا أنّه خبيث اللّسان كثير الفحش. حبسه الملك تاج الملوك بورى صاحب دمشق، وعزم على قطع لسانه؛ فاستوهبه منه الحاجب يوسف بن فيروز فوهبه له فنفاه. وكان هجا خلائق كثيرة، وكان بينه وبين ابن القيسرانى مهاجاة، وكان رافضيّا. وكانت وفاته بحلب فى جمادى الآخرة.
ومن شعره:
[الطويل]
جنى وتجنّى والفؤاد يطيعه ... فلا ذاق من يجنى عليه كما يجنى
فإن لم يكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى(5/299)
وفيها توفّى الأمير تمرتاش «1» بن نجم الدين إيلغازى الأرتقىّ صاحب ماردين وديار بكر.
كان شجاعا جوادا عادلا محبّا للعلماء والفضلاء يبحث معهم فى فنون العلوم. وكان لا يرى القتل ولا الحبس. ومات فى ذى القعدة، وكانت مدّته نيّفا وثلاثين سنة.
وقام بعده ابنه.
وفيها توفّى حيدره «2» بن الصوفىّ الذي كان أقامه مجير الدين صاحب دمشق مقام أخيه، ثم وقع منه سعى بالفساد، فاستدعاه مجير الدين إلى القلعة على حين غفلة فضرب عنقه لسوء سيرته وقبح أفعاله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو بكر محمد بن أبى حامد بن عبد العزيز بن على الدّينورىّ البيّع ببغداد. والمبارك بن أحمد ابن بركة الكندىّ الحبّار «3» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وأربع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 546]
السنة الثانية من ولاية الظافر على مصر وهى سنة ست وأربعين وخمسمائة.
فيها دخل السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقىّ إلى بغداد، وخرج الوزير ابن هبيرة «4» وأرباب الدولة إلى لقائه فأكرمهم.(5/300)
وفيها عاد الملك العادل نور الدين محمود إلى حصار دمشق، ووقع له مع مجير الدين صاحب دمشق أمور حتّى استنجد مجير الدين بالفرنج، فرحل عنها نور الدين؛ ثم نازلها وتراسلا على يد الفقيه «1» برهان الدين البلخىّ وأسد الدين شيركوه «2» الكردىّ وأخيه نجم الدين أيوب، ثم تحالف نور الدين مع مجير الدين على أمر ورحل عنه.
وفيها توفّى الأمير علىّ بن مرشد [بن علىّ «3» ] بن المقلّد بن نصر بن منقذ عزّ الدين.
ولد بشيزر. وكان فاضلا أديبا حسن الخط، مات بعسقلان شهيدا. وكان أكبر إخوته وبعده أسامة. ومن شعره:
[الكامل]
قد قلت للمنثور إنّ الورد قد ... وافى على الأزهار وهو أمير
فافترّ ثغر الأقحوان مسرّة ... لقدومه وتلوّن المنثور
وفيها توفّى الفامىّ «4» الحافظ أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبّار الهروىّ العجمىّ.
كان إماما عالما فاضلا، رحل وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى علوم شتّى. مات فى هذه السنة فى قول الذهبىّ.
وفيها توفّى الأمير نوشتكين «5» بن عبد الله الرّضوانىّ السلجوقىّ ببغداد. كان أميرا معظّما فى الدول وله مواقف ووقائع.(5/301)
وفيها توفّى القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربىّ الأندلسىّ المالكىّ.
كان إمام وقته مفتنّا فى علوم كثيرة، وولى القضاء مدّة طويلة، وكان مشكور السّيرة عدلا فى حكمه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو نصر عبد الرحمن ابن عبد الجبّار الهروىّ الفامىّ الحافظ. والقاضى أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسىّ.
والأمير نوشتكين الرّضوانىّ ببغداد. وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن الدّبّاغ «1» اللّخمىّ الأندلسىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 547]
السنة الثالثة من ولاية الظافر أبى منصور على مصر وهى سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
فيها توفّى محمد بن نصر أبو «2» عبد الله العكّاوىّ ويقال له ابن صغير القيسرانىّ الشاعر المشهور. ولد بعكّا ونشأ بقيساريّة الساحل، ثم انتقل إلى حلب وإلى دمشق. فبلغ تاج الملوك بورى بن طغتكين أنّه هجاه فتنكّر له، فهرب إلى حلب ومدح نور الدين محمود بن زنكى صاحبها. وله ديوان شعر مشهور، ومات بدمشق.
ومن شعره فى مغنّ وأجاد إلى الغاية:
[البسيط]
والله لو أنصف الفتيان أنفسهم ... أعطوك ما ادّخروا منها وما صانوا
ما أنت حين تغنّى فى مجالسهم ... إلا نسيم الصّبا والقوم أغصان(5/302)
وفيها توفّى السلطان مسعود ابن السلطان محمد شاه ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقىّ.
كان ملكا جليلا شجاعا طالت أيامه. قال أبو المظفّر: لم ير أحد ما رأى من الملوك والسلاطين حتّى مرض على همذان بأمراض حارّة، وعسرت مداواته. ومات فى سلخ جمادى الآخرة. وأقيم بعده فى الملك ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد شاه ابن ملكشاه، فأقام ملكشاه المذكور خمسة أشهر ثمّ وقع له أمور وخلع. قلت:
يكون ملكشاه هذا ثانى ملك من بنى سلجوق سمّى بملكشاه.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ المظفّر بن أردشير أبو منصور العبّادىّ «1» الواعظ.
سمع الحديث الكثير، وقدم بغداد ووعظ بجامع القصر والنّظاميّة، وحصل له قبول زائد. وكان فصيحا بليغا. وترسّل بين الخليفة والملوك، وعظم أمره.
وفيها توفّى القاضى أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموىّ الشافعىّ.
كان إماما عالما فقيها مفتنّا فى عدّة فنون، وولى القضاء زمانا، وحمدت سيرته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن محمد بن سعيد الدّانىّ، المقرئ ابن غلام الفرس «2» . وأبو الفضل محمد ابن عمر بن يوسف الأرموىّ القاضى الشافعىّ. وأبو نصر محمد بن منصور ابن عبد الرحيم النّيسابورىّ الحرضىّ فى شوّال، وله تسعون سنة. والسلطان مسعود ابن محمد بن ملكشاه السلجوقىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.(5/303)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 548]
السنة الرابعة من ولاية الظافر أبى منصور على مصر وهى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
فيها انحل أمر بنى سلجوق باستيلاء الترك على السلطان سنجرشاه السلجوقىّ.
وسببه أنّه لمّا التقى مع خاقان ملك الترك وخوارزم شاه قبل تاريخه، وانهزم منهم تلك الهزيمة القبيحة التى قتل فيها خلائق من العلماء والفقهاء وغيرهم، وعاد خاقان إلى بلاده، ثم صالح سنجرشاه خوارزم شاه، وبقى «1» فى قلب سنجر شاه ما جرى عليه.
فلمّا حسن أمره تجهّز للقاء الترك ثانيا بعد أمور صدرت بينهم، والتقى معهم فانكسر ثانيا؛ واستولوا عليه وجعلوه فى قفص خديد؛ فبقى فيه مدّة وهو يخدم نفسه وليس معه أحد. واقتصّ الله منه للخليفة المسترشد وابنه الراشد ما كان فعله معهما حسب ما تقدّم ذكره. وامتحن بأشياء إلى أن مات، على ما يأتى ذكره إن شاء الله.
وفيها توفّى القاضى محفوظ «2» بن أبى محمد الحسن بن صصرى أبو البركات، ويعرف بالقاضى الكبير. كان إماما عالما مشهورا بالخير والعفاف. ومات بدمشق فى ذى الحجّة وقد بلغ ثمانين سنة.
وفيها توفّى الشيخ الزاهد المسلّك أبو العبّاس أحمد بن أبى غالب بن الطّلاية الصوفىّ العارف فى شهر رمضان.(5/304)
وفيها توفّى الحافظ أبو الفرج عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر اليوسفىّ.
كان إماما حافظا محدّثا، سمع الكثير ورحل وكتب وصنّف. ومات فى المحرّم وله أربع وثمانون سنة.
وفيها توفّى الأفضل أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشّهرستانىّ الإمام العالم المتكلّم. كان إمام عصره فى علم الكلام عالما بفنون كثيرة من العلوم، وبه تخرّج جماعة كثيرة من العلماء.
وفيها توفّى شيخ الصوفيّة فى زمانه أبو الفتح محمد بن عبد الرحمن بن محمد المروزىّ الكشميهنىّ. كان إماما مسلّكا عارفا بطريق القوم، إمام عصره فى علم التصوّف وغيره، وللناس فيه محبّة واعتقاد حسن.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو سعد محيىّ الدين محمد بن يحيى النّيسابورىّ الشافعىّ تلميذ أبى حامد الغزالىّ فى شهر رمضان حين استباحت الترك نيسابور. وكان فقيها إماما عالما مصنّفا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ أصابع.(5/305)
ذكر ولاية الفائز بنصر الله على مصر
هو أبو القاسم عيسى ابن الخليفة الظافر بأمر الله أبى منصور إسماعيل ابن الخليفة الحافظ أبى الميمون عبد المجيد بن محمد- ومحمد هذا ليس بخليفة- ابن الخليفة المستنصر بالله معدّ ابن الخليفة الظاهر «1» لإعزاز دين الله على ابن الخليفة الحاكم بأمر الله منصور ابن الخليفة العزيز بالله نزار ابن الخليفة المعزّ لدين الله معدّ أول خلفاء مصر ابن الخليفة المنصور إسماعيل ابن الخليفة القائم بأمر الله محمد ابن الخليفة المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل المصرىّ العاشر من خلفاء مصر من بنى عبيد والثالث عشر من أصلهم المهدىّ أحد خلفاء بنى عبيد بالمغرب.
وأمّ الفائز هذا أمّ ولد يقال لها زين الكمال.
قال أبو المظفّر بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان: «مولده فى المحرّم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفّى وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور» . وزاد ابن خلّكان بأن قال: لتسع بقين من المحرّم «2» . قال: وكانت أيّامه ستّ سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوما. وبين وفاته ووفاة المقتفى (يعنى خليفة بغداد العبّاسىّ) أربعة أشهر وأيّام. قلت: وقوله «وبين وفاته ووفاة المقتفى أربعة أشهر وأيام» لا يعرف بذلك من السابق منهما بالوفاة. وأنا أقول: أمّا السابق فهو الخليفة المقتفى الآتى ذكره، إن شاء الله؛ فإنّ وفاة المقتفى فى شهر ربيع الأوّل، ووفاة الفائز هذا صاحب الترجمة فى شهر رجب.(5/306)
قال صاحب المرآة: «وقام بعده أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ.
ولم يكن أبوه خليفة، وأمّه (يعنى عبد الله) أمّ ولد تدعى ستّ المنى، ولقّب بالعاضد» .
انتهى كلام صاحب المرآة.
وقال صاحب كتاب المقلتين فى أخبار الدولتين: «ولمّا أصبح الوزير عبّاس (يعنى صبيحة قتل الخليفة الظافر بأمر الله) ركب إلى القصر ودخل إلى مقطع الوزارة من غير استدعاء، فأطال جلوسه ولم يجلس الخليفة له، فاستدعى عبّاس زمام القصر، وقال له: إن كان لمولانا ما يشغله عنّا فى هذا اليوم عدنا إليه فى الغد. فمضى الأستاذ وهو حائر فيما يعمل وقد فقد الخليفة. فدخل إلى أخوى الخليفة يوسف وجبريل، وهما رجلان أحدهما مكتهل، فأخبرهما بالقصّة؛ وما كان عندهما من خروج أخيهما البارحة إلى دار نصر بن عبّاس خبر ولا اطّلعا عليه إلّا فى تلك الساعة؛ فما شكّا فى قتل أخيهما الخليفة الظافر، وقالا للزّمام: إن اعتذرت اليوم هل يتمّ لك هذا مع الزمان؟ فقال الزّمام: ما تأمرانى به؟ قالا: تصدقه وتحقّقه. وكان للخليفة ولد عمره خمس سنين اسمه عيسى. فعاد الزّمام إلى عبّاس وقال له: ثمّ سرّ أقوله إليك بحضور الأمراء والأستاذين. فقال عبّاس: ما ثمّ إلّا الجهر. قال: إنّ الخليفة خرج البارحة لزيارة ولدك نصر فلم يعد بغير العادة. فقال عبّاس: تكذب يا عبد السوء! إنّما أنت مبايع أخويه يوسف وجبريل اللذين حسداه على الخلافة فاغتالاه، واتفقتم على هذا القول. فقال الزّمام: معاذ الله! قال عبّاس: فأين هما؟ فخرجا إليه ومعهما ابن أخ لهما اسمه صالح بن حسن الذي قتل والده الخليفة الحافظ بالسمّ.
وقد تقدّم ذكر قتله فى ترجمة أبيه الحافظ عبد المجيد.
قال: فلمّا حضروا قال لهم عبّاس الوزير: أين الخليفة؟ فقالوا: حيث يعلم ابنك ناصر الدين. قال لا. قالوا: بلى! وهذا بهتان منك، لأنّ بيعة أخينا(5/307)
فى أعناقنا، وهؤلاء الأمراء الحاضرون يعلمون ذلك، وإنّا فى طاعته بوصيّة والدنا، وأقاما الحجّة عليه. فكذّبهما وأمر غلمانه بقتل الثلاثة فى دارهم. ثم قال للزّمام:
أين ابن مولانا؟ قال حاضر. فقال عبّاس: قدّامى إلى مكانه. فدخل الوزير عبّاس بنفسه إليه، وكان عند جدّته لأمّه، فحمله على كتفه وأخرجه للنّاس قبل رفع المقتولين، وبايع له بالخلافة، ولقّبه بالفائز بنصر الله. فرأى الصبىّ القتلى فتفزّع واضطرب ودام مدّة خلافته لا يطيب له عيش من تلك الرجفة. وتم أمر الفائز فى الخلافة، ووزر له عبّاس المذكور، إلى أن وقع له مع طلائع بن رزّيك ما سنذكره من أقوال جماعة من المؤرّخين. وقد ذكرنا منه أيضا نبذة جيّدة فيما مضى، ولكن اختلاف النقول فيها فوائد.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخ الإسلام- بعد أن ساق نسب الفائز هذا حتّى قال-: «بويع: بالقاهرة حين قتل والده الظافر وله خمس سنين، وقيل: بل سنتان، فحمله الوزير عبّاس على كتفه ووقف فى صحن الدار به مظهر الحزن والكآبة، وأمر أن يدخل الأمراء فدخلوا؛ فقال لهم: هذا ولد مولاكم، وقد قتل عمّاه مولاكم، وقد قتلتهما كما ترون به، وأشار إلى القتلى، والواجب إخلاص الطاعة لهذا الولد الطفل. فقالوا كلّهم: سمعنا وأطعنا، وضجّوا ضجّة واحدة بذلك. ففزع الطفل (يعنى الفائز) ، ومال على كتف عبّاس من الفزع. وسمّوه الفائز، ثم سيّروه إلى أمّه وقد اختلّ عقله من تلك الضجّة فيما قيل، فصار يتحرّك فى بعض الأوقات ويصرع- قلت: على كلّ قول كان الفائز قد اختلّ عقله-. قال:
«ولم يبق على يد عبّاس الوزير يد ودانت له الممالك. وأمّا أهل القصر فإنّهم اطّلعوا على باطن القصّة فأخذوا فى إعمال الحيلة فى قتل عبّاس وابنه، فكاتبوا طلائع بن(5/308)
رزّيك الأرمنىّ والى منية «1» بنى خصيب. ثم ساق الذهبىّ قصّة طلائع مع الوزير عبّاس.
وقال ابن الأثير: «اتّفق أنّ أسامة «2» بن منقذ قدم مصر، فاتّصل بعبّاس الوزير وحسّن له قتل زوج أمّه العادل بن سلّار فقتله، وولّاه الظافر الوزارة من بعده؛ فاستبدّ بالأمر وتمّ له ذلك. وعلم الأمراء [والأجناد «3» ] أنّ ذلك من فعل ابن منقذ فعزموا على قتله. فخلا بعبّاس وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح قول الناس إنّ الظافر يفعل بابنك نصر- وكان من أجمل الناس، وكان ملازما للظافر- فانزعج لذلك وقال: كيف الحيلة؟ قال: اقتله فيذهب عنك العار. فاتّفق مع ابنه على قتله.
وقيل: إنّ الظافر أقطع نصر بن عبّاس [قرية «4» ] قليوب «5» كلّها فدخل وقال: أقطعنى مولانا قليوب. فقال ابن منقذ: ما هى فى مهرك بكثير!» .(5/309)
فجرى ما ذكرناه، وهربوا وقصدوا الشام على ناحية أيلة «1» فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين. وملك الصالح طلائع بن رزّيك ديار مصر من غير قتال؛ وأتى إلى دار عبّاس المعروفة بدار الوزير المأمون بن البطائحىّ التى هى اليوم المدرسة «2» السّيوفيّة الحنفيّة؛ فاستحضر الخادم الصغير الذي كان مع الظافر لمّا نزل سرّا، وسأله عن الموضع الذي دفن فيه فعرّفه به. فقلع البلاطة التى كانت على الظافر ومن معه من المقتولين، وحملوا وقطّعت عليهم الشعور وناحوا عليهم بمصر، ومشى الأمراء قدّام الجنازة إلى تربة آبائه. فتكفّل الصالح طلائع بن رزّيك بالصغير (يعنى الفائز هذا) ودبّر أحواله.
وأمّا عبّاس ومن معه فإنّ أخت الظافر كاتبت الفرنج الذين بعسقلان الذين استولوا عليها من مديدة يسيرة، وشرطت لهم مالا جزيلا إذا خرجوا عليه وأخذوه، فخرجوا عليه فواقعهم فقتل عباس وأخذت الفرنج أمواله وهرب ابن منقذ فى طائفة إلى الشام؛ وأرسلت الفرنج نصر بن عبّاس إلى مصر فى قفص حديد.
فلما وصل سلّم رسولهم المال وذلك فى [شهر] ربيع الأوّل سنة خمسين وخمسمائة، ثم خلعت «3» أخت الظافريد نصر وضرب ضربا مهلكا، وقرض جسمه بالمقاريض، ثم صلب على باب زويلة حيّا ثم مات، وبقى مصلوبا إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وخمسين، ثم أنزل وأحرقت عظامه. وقيل: إنّ الصالح طلائع بن رزّيك بعث إلى الفرنج بطلب نصر بن عبّاس وبذل إليهم أموالا. فلمّا وصل سلّمه الملك الصالح(5/310)