يوسف بن تغري بردي
أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي (حوالي 812 ج 874 هـ) ، مؤرخ مسلم.
ولد بالقاهرة في دار الأمير منجك اليوسفى بجوار مدرسة السلطان حسن.
توفي والده الأمير الكبير تغري بردي المذكور بدمشق على نيابتها في محرّم سنة 815 هـ، فربّاه زوج أخته قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي إلى أن مات ابن العديم المذكور في 819 هـ، فتولى تربيته قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني الشافعي، وحفّظه القرآن العزيز إلى أن كبر وانتشا وترعرع، وحفظ مختصر القدوري في الفقه، وطلب العلم وتفقه بالشيخ شمس الدين محمد الرومي الحنفي، وبقاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء الحنفي قاضي مكة وغيرهم. وأخذ النحو عن الشيخ تقيّ الدين الشّمنّي الحنفي. وأخذ التصريف عن الشيخ علاء الدين الرومي وغيرهم. وقرأ المقامات الحريرية على قوام الدين الحنفي وأخذ عنه العربية أيضاً وقطعة جيّدة من علم الهيئة. وأخذ البديع والأدبيّات عن شهاب الدين أحمد بن عربشاه الدمشقيّ الحنفيّ وغيره.
كما وأفاد من علماء كثيرين أمثال المقريزي وعبد الرحمن الزركشي وتسلم منهم إجازة الرواية.
وكان ولعاً بعلم التاريخ فلازم مؤرّخي عصره مثل قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني، والشيخ تقي الدين المقريزي، واجتهد في ذلك إلى الغاية، وساعده جودة ذهنه، وحسن تصوّره، وصحيح فهمه، حتى برع ومهر وكتب وحصّل وصنّف وألّف وانتهت إليه رئاسة هذا الشأن في عصره.
آثاره
ومن مصنفاته: النجوم الزاهرة، المنهل الصافي، حوادث الدهور، مورد اللطافة، البشارة، البحر الزاخر وغيرها.(/)
[الجزء الأول]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة لكتب التراث العربى
بقلم السيد الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإرشاد القومى إن الأمم العظيمة لا ترضى، ولا تستطيع، أن تنسلخ عن تاريخها، وتاريخها هو وعاء ثقافتها وحضارتها، فى حقب هذا التاريخ نشأت ونمت وتطوّرت، واجتازت محنا، وحققت مجدا. وكما أن سجل هذه الأحداث تشهد به الآثار الباقية من عمارة ومشروعات فإن الكلمة المكتوبة كانت منذ قديم سجلا لتراث الأمم، سردا لتاريخها، وتصويرا لآمالها وعواطفها شعرا ونثرا، وتسجيلا للآراء السائدة فى عصورها المختلفة، مما يرتفع أحيانا الى مرتبة الحكمة والمذهب الفلسفى، ومما لا يزيد على أن يكون خطرات لأفراد.
ونهضتنا الحاضرة، التى انبثقت فى جميع ميادين الحياة، منذ فجر 23 يوليو سنة 1952، لم تتنكر لماضى أمتنا العربية، ولم تغفل تراثنا الاسلامى العريق.
ففى الوقت الذي تعمل فيه على التطوّر تحت راية العلم، وفى ركبه الزاحف، ترعى تراثها العريق الذي كانت أشعته تضىء ظلام العالم فى أيام ازدهار ماضينا.
فكما أن رئيسنا وقائد ثورتنا يعلن فى" الميثاق الوطنى" أن العلم هو السلاح الحقيقى للإرادة الثورية، ومن هنا الدور العظيم الذي لا بد للجامعات ولمراكز العلم على مستوياتها المختلفة أن تقوم به...... والعلم هو السلاح الذي يحقق النصر الثورى، يعلن كذلك أن العمل العظيم الذي تمكن الشعب من إنجازه بالثورة الشاملة ذات الاتجاهات المتعدّدة، قد تحقق بفضل ضمانات تمكن النضال الشعبى من توفيرها، ومنها وعيه العميق بالتاريخ وأثره على الإنسان المعاصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذا الإنسان على التأثير فى التاريخ؛ ومنها إيمان لا يتزعزع بالله، وبرسله، ورسالاته القدسية التى بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان فى كل زمان ومكان.
وأن مشعل الحضارة انتقل من بلد إلى بلد، لكنه فى كل بلد كان يحصل على زيت جديد يقوى به ضوءه على امتداد الزمان.
وأن شعبنا، إلى جانب ما قام به من تحمل المسئولية المادية والعسكرية فى صدّ أول موجات الاستعمار الأوربى، وردّ غزوات التتار، قد تحمل كذلك المسئولية الأدبية فى حفظ التراث الحضارى العربى وذخائره الحافلة.
وأنه يتعين علينا أن نذكر دائما أن الطاقات الروحية التى تستمدها الشعوب من مثلها العليا النابعة من أديانها السماوية، أو من تراثها الحضارى، قادرة على صنع المعجزات.
وفى ضوء هذه التوجيهات تقوم المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر بمساهمتها فى نشر التراث العربى، كجزء من برامجها التى تساهم فيها بنشر الثقافة الحديثة بجميع فروعها.
وهى فى ذلك تقدم هذه الخدمة الثقافية للأمة العربية فى جميع أجزاء الوطن العربى الكبير، فإن هذا التراث ثمرة العقول العربية فى خمسة عشر قرنا من الزمان، وفى جميع الوطن العربى من غربيه إلى شرقيه، ومن شماليه إلى جنوبيه، متضمنا ما كتبه أسلافنا فى إفريقيا وآسيا وأوروبا نفسها فى الأندلس العظيمة.
وحسبنا فى بيان أهمية هذا التراث أنه باللغة العظيمة التى تجمعنا- نحن العرب جميعا- وأنه يتصل بتاريخنا، نحن العرب جميعا.
فلقد قال الرئيس جمال عبد الناصر فى" الميثاق الوطنى":
" يكفى أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التى تصنع وحدة الفكر والعقل ...
ويكفى أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التى تصنع وحدة الضمير والوجدان".
والله الموفق فيما نقصد وما نعمل.
الدكتور محمد عبد القادر حاتم
القاهرة فى المحرم سنة 1383 هـ يونيه (حزيران) 1963 م بسم الله الرّحمن الرّحيم كتاب النجوم الزاهرة
تصدير
هذا كتاب كبير يؤرخ لمصر منذ الفتح الإسلامى من سنة 20 هـ إلى خلال سنة 872 هـ ألفه جمال الدين يوسف بن تغرى بردى الأتابكى القاهرى المولد والوفاة.
وقبل أن يصدر القسم الأدبى بدار الكتب الجزء الأوّل من هذا الكتاب كان المستشرق الهولندى «يونبل» قد نشر منه بين سنتى (1851، 1855) مجلدين كبيرين يشتملان على الأحداث من سنة 20 هـ إلى سنة 365 هـ، ومن بعده نشر المستشرق الإمريكي «وليم پوپر» عشرة مجلدات تبدأ من حيث انتهى سلفه المستشرق الهولندى وتنتهى إلى آخر الكتاب أى سنة 872 هـ، غير أنها تنقصها الأحداث من سنة 565 هـ إلى سنة 800 هـ.
وحين استقبل القسم الأدبى بدار الكتب المصرية العمل فى هذا الكتاب استقبله بإضافات جديدة:
1- فقد استأنس بمخطوطة جديدة.
2- وحرّر من متنه الكثير بالرجوع إلى الأمهات المنقول عنها.
3- وضم إليه دراسات علمية جديدة عن الأماكن المذكورة فيه.
4- وعرض لمغلقه بالشروح الكثيرة.
5- ثم أضاف إلى كل جزء فهرسا جامعا خاصا به.
€(المقدمة/1)
ولقد تسلمت المؤسسة الكتاب بأجزائه التى لم يتم تحقيقها- فيما تسلمته من القسم الأدبى- وكان منهجها فيه بعد أن لم تجد له مخطوطات أخرى:
1- أن تصوّر الأجزاء التى طبعت منه محذوفا منها فهارسها.
2- وأن تصوّر الأجزاء المحققة ليكون الكتاب كله على نسق واحد.
3- وأن تضم الفهارس كلها فى قسم مستقل.
4- وأن تضم إلى هذا القسم الأخير تصحيح ما وقع فى الأجزاء التى طبعت من الكتاب من أخطاء، وكذلك الاستدراكات التى تهدى إليها إعادة النظر فى الكتاب.
وبهذا يخرج الكتاب كاملا بفهارس موحدة جامعة.
والله ولى التوفيق ها
المحرّم سنة 1383 هـ المؤسسة المصرية العامة يونيه (حزيران) 1963 م للتأليف والترجمة والطباعة والنشر
€(المقدمة/2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد، فهذا هو الجزء الأوّل من كتاب «النجوم الزاهرة» لأبى المحاسن بن تغرى بردى الذي تقوم بطبعه دار الكتب المصرية مع بقية الموسوعات العلمية والأدبية والتاريخية فى عهد حامل لواء النهضة فى مصر حضرة صاحب الجلالة مولانا المليك المعظم «فؤاد الأوّل» حفظه الله. وإنا نضعه بين أيدى القرّاء بعد أن بذلنا الجهد فى سبيل إصداره على هذا النحو خاليا، على ما نعتقد، من التحريف والتصحيف اللذين ملئ بهما أصلاه، وهما النسخة الأوربية والنسخة الفتو غرافية اللتان اعتمدنا عليهما كمصدرين لطبع هذا الكتاب.
وصفه
هو كتاب كبير جمّ الفائدة فى تاريخ مصر مرتب على السنين، ابتدأ فيه مؤلفه بفتح عمرو بن العاص من سنة 20 هـ (640 م) إلى أثناء سنة 872 هـ (1367 م) وقد ذكر فيه من ولى مصر من الملوك والسلاطين والنوّاب ذكرا وافيا مع ذكر ملوك الأطراف بطريق إجمالىّ، آتيا فى كل سنيه على ما وقع من الحوادث المهمة، ومن
€(المقدمة/3)
توفى من رجالات الأمة الإسلامية. وقد انفرد بعد أبى بكر «1» بن عبد الله بن أيبك مؤرّخ مصر بإشارته فى آخر كل سنة إلى زيادة النيل ونقصانه، حتى كاد يكون كتابه المرجع الوحيد لحضرة صاحب السعادة الأستاذ أمين سامى باشا فى كتابه:
«تقويم النيل» .
ومن الأصل العربى لهذا الكتاب نسخ فى الأستانة وبرلين وغوطا وأبسالا وبطرسبورج وباريس والمتحف البريطانى.
ترجمته الى اللغات الأوربية
وقد ترجم هذا الأثر الجليل الى اللغة اللاتينية والى لغات أوروبية أخرى عدّة مرات «2» .
ترجمته إلى اللغة التركية
ولما فتح السلطان سليم العثمانى مصر واطلع على هذا الكتاب أمر بنقله إلى التركية فنقله شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا قاضى العسكر بالأناضول يومئذ فترجم فى منزله جزءا وبيضه المولى حسن المعروف بآشجي زاده ثم عرضه على السلطان فى الطريق فأعجبه وأمر بنقله هكذا الى تمامه «3» .
€(المقدمة/4)
اختصاره
وقد لخص المؤلف كتابه وسماه «الكواكب الباهرة من النجوم الزاهرة» وذكر أنه اختصره حذرا من أن يختصره غيره على تبويبه وفصوله واقتدى فى ذلك بجماعة من العلماء المؤلفين كالذهبى والمقريزى وغيرهما «1» .
اهتمام علماء أوروبا بنشره
ولما كان هذا الكتاب من أهمّ المصادر التاريخية، اهتم بنشره علماء أوروبا فنشر المستشرق جونبل الهولاندى منه مجلدين ضخمين فى أربعة أجزء بمطبعة بريل فى مدينة ليدن من سنة 1851- 1855 م؛ ويبتدئ الجزء الأوّل من سنة 20 من الهجرة لغاية سنة 253 هـ، والجزء الثانى من سنة 254- 365 هـ. وقد صدّرهما بمقدّمة وملاحظات باللغة اللاتينية. ونشر المستشرق وليم بوبر العالم الإمريكي منه عشرة مجلدات مع مقدّمة باللغة الانجليزية لكل جزء من أجزائه، وطبعت بجامعة كاليفورنيا من سنة 1909- 1915 ومن سنة 1916- 1923 وسنة 1926 وسنة 1929، وتشتمل على السنين من سنة 365- 566 هـ ومن سنة 801- 872 هـ.
ويتبين من هذا أن باقى الأجزاء التى تشتمل على السنين من سنة 567- 800 هـ لم تطبع بعد.
اهتمام دار الكتب المصرية بنقل نسخة منه
ولذا اهتمت دار الكتب المصرية بنقل نسخة منه بالتصوير الشمسى عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة أياصوفيا بالآستانة تحت رقمى 3498، 3499
€(المقدمة/5)
وهى محفوظة بدار الكتب تحت رقم 1343 تاريخ، وتشمل سبعة مجلدات ينقصها المجلد الثانى، وبيانها كالآتى:
المجلد
الأوّل: القسم الأوّل- من سنة 20- 146 هـ: القسم الثانى- من سنة 147- 254 الثالث: القسم الأوّل- من سنة 524- 637: القسم الثانى- من سنة 637- 675 الرابع: القسم الأوّل- من سنة 676- 723: القسم الثانى- من سنة 723- 745 الخامس: القسم الأوّل- من سنة 746- 782: القسم الثانى- من سنة 783- 799 السادس: القسم الأوّل- من سنة 800- 815: القسم الثانى- من سنة 816- 836 السابع: القسم الأوّل- من سنة 836- 854: القسم الثانى- من سنة 854- 872
اهتمام الحكومة المصرية بطبعه
ولما كان اهتمام علماء أوروبا بنشر هذا الكتاب وطبعه بلغ شأنا كبيرا لأنه خاص بتاريخ مصر وهى أكبر دولة شرقية إسلامية لها من الحضارة والمدنية ما لم يبلغه سواها من الأمم الشرقية الأخرى، كان جديرا بحكومة الدولة المصرية أن تقوم بطبع هذا الكتاب على نفقتها، ولذا أشار رئيس الحكومة وقتئذ ساكن الجنان المغفور له عبد الخالق ثروت باشا على دار الكتب المصرية بطبع هذا الكتاب القيّم
€(المقدمة/6)
ضمن مطبوعاتها، فلبت طلبه وباشرت طبعه بمطبعتها لا سيما بعد أن حصلت على نسخة منه بالتصوير الشمسى.
العناية التامة بتصحيحه
ولذلك قام القسم الأدبى بترقيمه وضبطه وتصحيحه، متوخّيا فيه تحقيق الأعلام وأسماء البلدان والوقائع بمراجعة المصادر التاريخية المطبوعة والمخطوطة لتحرّى الصواب مع كتابة التعليقات وذكر المراجع. وطالما وفّق فى مراجعته إلى أكثر الكتب التى نقل عنها المؤلف، لتكون هذه الطبعة أصح نسخة يعوّل عليها.
ويجدر بنا أن نذكر أسماء الكتب التى نقل عنها المؤلف وراجعناها فيما صححناه من كتابه مع بعض المصادر الأخرى التى اعتمدنا عليها فى تصحيح هذا الكتاب:
(1) تاريخ ابن كثير المسمى بالبداية والنهاية- نسخة فتوغرافية محفوظة بدار الكتب تحت رقم 1110 تاريخ.
(2) تاريخ الإسلام للذهبى- نسخة مخطوطة تحت رقم 42 تاريخ.
(3) عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان للعينى- نسخة فتو غرافية تحت رقم 1584 تاريخ.
(4) مرآة الزمان للحافظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى- نسخة فتوغرافية تحت رقم 551 تاريخ.
(5) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم- نسخة طبعة أوروبا رقم 1129 تاريخ.
(6) تاريخ الرسل والملوك للطبرى- نسخة طبعة أوروبا.
(7) التاريخ الكامل لابن الأثير- نسخة طبعة أوروبا.
€(المقدمة/7)
(8) فضائل مصر للكندى- نسخة طبعة أوروبا.
(9) الطبقات الكبرى لابن سعد- نسخة طبعة أوروبا.
(10) المشتبه فى أسماء الرجال للذهبى- نسخة طبعة أوروبا.
(11) فتوح البلدان للبلاذرى- نسخة طبعة أوروبا.
(12) معجم البلدان لياقوت- نسخة طبعة أوروبا.
(13) معجم ما استعجم للبكرى- نسخة طبعة أوروبا.
(14) ولاة مصر وقضاتها للكندى- نسخة طبعة بيروت.
(15) أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الجزرى- نسخة طبعة مصر.
(16) الإصابة فى تمييز الصحابة لابن حجر العسقلانى- نسخة طبعة مصر.
(17) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى- نسخة طبعة مصر.
(18) مروج الذهب للمسعودى- نسخة طبعة بولاق.
(19) الخطط للمقريزى- نسخة طبعة بولاق.
(20) وفيات الأعيان لابن خلكان- نسخة طبعة بولاق.
(21) صحيح مسلم- نسخة طبعة بولاق.
(22) حوادث الدهور لابن تغرى بردى المؤلف- الجزء الأوّل بالتصوير الشمسى تحت رقم 2397 تاريخ.
وما الى ذلك من المصادر الأخرى من كتب التاريخ والأدب واللغة لضبط الأعلام والأماكن وتصحيح العبارات. وقد خصصنا فهرسا شاملا لكل هذه الكتب التى راجعناها فى نهاية هذا الجزء مع فهارس أخرى.
€(المقدمة/8)
ترجمة المؤلف
كتبها تلميذه وصديقه أحمد بن حسين التركمانى المعروف بالمرجى بآخر كتاب «المنهل «1» الصافى» للمؤلف وقد كتبه بخطه، قال:
ذكر نبذة من ترجمة مؤلف هذا التاريخ أسبغ الله عليه ظلاله، وختم بالصالحات أعماله.
قال كاتب هذه النسخة تلميذ المؤلف، وغرس نعمه، وأكبر محبّيه، وأصغر خدمه «أحمد بن حسين التركمانى الحنفى الشهير بالمرجى» لطف الله به:
لما اتصلت بخدمة مؤلف هذا الكتاب الجناب العالى المولوىّ الأميرىّ الكبيرىّ الفاضلىّ الكاملىّ الرئيسىّ الأوحدىّ العضدىّ الذّخرىّ النصيرىّ؛ نادرة الزمان، وعين الأعيان، وعمدة المؤرّخين، ورأس الرؤساء المعتبرين، وأهّلنى لكتابة هذا التاريخ، فضلا وإحسانا منه وصدقة علىّ. استوعبته كتابة ومطالعة وتأمّلا، فلم أر فيه مثله فى زمانه، لاختبارى ما اشتمل عليه من المحاسن التى لم توجد فى مثله من أبناء عصره، من لطيف المحاضرة، وفكاهة المنادمة، والعقل التامّ، وكرامة الأصالة الكريمة، والحرمة الوافرة، والعظمة الزائدة، وحسن الخلق، وبشاشة الوجه، وحسن الملتقى، والشكالة الحسنة التى يضرب بها المثل. وعلى ما قلته بلسان التقصير، وأعظم من ذلك من الأوصاف الجميلة التى لو استوعبها منطلق اللسان لملأ منها كتبا مجلدة، جميع من جالسه وحاضره من المتردّدين الى بابه، ومشنّفى أسماعهم بحسن
€(المقدمة/9)
منادمته وخطابه؛ فأحببت ألا يخلو مثل هذا التاريخ من ترجمة مثل هذا المؤرّخ، إذ جرت العادة أن المؤرّخين لا يترجمون أنفسهم؛ ورأيت من بعض ما يجب على أن أذكر نبذة من ذكر بعض أحواله على سبيل الاختصار فأقول:
هو يوسف بن تغرى بردى بن عبد الله الأمير جمال الدين أبو المحاسن بن الأمير الكبير سيف الدين تغرى بردى اليشبغاوى الظاهرى أتابك العساكر بالديار المصرية، ثم كافل المملكة الشامية. سألته عن مولده فقال:
مولدى بالقاهرة بدار الأمير منجك «1» اليوسفى بجوار مدرسة السلطان حسن، فى حدود سنة اثنتى عشرة وثمانمائة تقريبا.
قلت: وتوفى والده الأمير الكبير تغرى بردى المذكور بدمشق على نيابتها فى محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة، فربّاه زوج أخته قاضى القضاة ناصر الدين محمد بن «2» العديم الحنفى الى أن مات ابن العديم المذكور فى سنة تسع عشرة وثمانمائة، وتزوّج بأخته شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين «3» عبد الرحمن البلقينى الشافعى، فتولى تربيته وحفّظه القرآن العزيز الى أن كبر وانتشا وترعرع، وحفظ مختصر القدورى فى الفقه، وطلب العلم وتفقه بالشيخ شمس الدين محمد الرومى الحنفى، وبقاضى القضاة
€(المقدمة/10)
بهاء الدين أبى البقاء الحنفى قاضى مكة، وبقاضى القضاة بدر الدين محمود «1» العينى الحنفى. وأخذ النحو عن شيخنا العلامة تقىّ الدين «2» الشّمنّى الحنفى، ولازمه كثيرا وتفقه عليه أيضا. وأخذ التصريف عن الشيخ علاء الدين الرومى وغيرهم. وقرأ المقامات الحريرية على العلامة قوام الدين «3» الحنفى وأخذ عنه العربية أيضا وقطعة جيّدة من علم الهيئة. وأخذ البديع والأدبيّات عن العلامة شهاب الدين أحمد «4» بن عربشاه الدمشقىّ الحنفىّ وغيره. وكتب عن شيخ الاسلام حافظ عصره شهاب الدين أحمد «5»
€(المقدمة/11)
ابن حجر كثيرا من شعره، وحضر دروسه، وانتفع بمجالسته. وعن قاضى القضاة جلال الدين «1» أبى السعادات بن ظهيرة قاضى مكة من شعره وشعر غيره. وعن العلامة بدر الدين «2» بن العليف، والشيخ قطب الدين أبى الخير «3» بن عبد القوى شاعرى مكة كثيرا من شعرهما. وكتب عن شعراء عصره واجتهد وحصل ونثر ونظم وبرع فى عدّة علوم وشارك فى عدّة فنون.
ثم حبّب اليه علم التاريخ فلازم مؤرّخى عصره مثل قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى، والشيخ تقىّ الدين «4» المقريزى، واجتهد فى ذلك الى الغاية، وساعده جودة ذهنه، وحسن تصوّره، وصحيح فهمه، حتى برع ومهر وكتب وحصّل وصنّف وألّف وانتهت اليه رياسة هذا الشأن فى عصره.
€(المقدمة/12)
سمع الحديث واستجاز، ومن مسموعاته العوالى كتاب «السنن لأبى داود» على المشايخ الثلاثة المسندين المعمرين: زين الدين عبد الرحمن «1» بن يوسف بن أحمد بن الطحان الدمشقى الحنبلى المشهور بابن قريج (بقاف وجيم مصغر) ، وعلاء الدين على «2» ابن إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكى الحنبلى أيضا، وشهاب «3» الدين أحمد بن عبد الرحمن المشهور بابن الناظر الصاحبة الحنبلى أيضا. وكتاب «جامع الترمذى» سمعه على الشيخين الأخيرين ابن بردس وابن ناظر الصاحبة بعد موت ابن الطحان، وسمع عليهما أيضا «شمائل المصطفى للترمذى» ومشيخة الفخر بن البخارى، و «مسند ابن عباس» ، وقطعة كبيرة من «مسند أحمد» فى عدّة مجالس.
ومن مسموعاته العوالى أيضا كتاب «فضل الخيل» للحافظ شرف الدين الدمياطى سمعه على الحافظ تقىّ الدين المقريزى بسماعه على الشيخ المسند ناصر الدين محمد بن يوسف بن طبرزد الحراوى بسماعه من مؤلفه، وله مسموعات كثيرة بالطالع والنازل.
€(المقدمة/13)
وأجازه بالقاهرة حافظ العصر شيخ الاسلام قاضى القضاة شهاب الدين أحمد ابن حجر، والشيخ الحافظ تقي الدين أحمد بن على بن عبد القادر المقريزى الشافعى، والحافظ العلامة أبو محمد محمود بن أحمد العينى الحنفى، وأحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الحنبلى، وأبو ذرّ عبد الرحمن «1» بن محمد الزركشى الحنبلى، وعز الدين عبد «2» الرحيم ابن الفرات الحنفى، وإبراهيم بن «3» صدقة بن إبراهيم بن إسماعيل الصالحى الحنبلى، ومحمد بن يحيى بن محمد الحنبلى، وأحمد بن محمد بن محمد الحنفى، وأحمد بن محمد بن إبراهيم الفيشى «4» المالكى، والمسند محمد بن عبد «5» الله الرشيدى، وعبد الله «6» بن محمد الميمونى
€(المقدمة/14)
وعبد الله بن أحمد «1» القمنى، وجلال الدين عبد الرحمن «2» بن على بن عمر بن الملقّن، والحافظ أبو النعيم زين الدين رضوان «3» بن محمد بن يوسف العقبى المستملى، وقاضى القضاة بدر الدين محمد «4» أحمد بن محمد بن محمد، والعلامة شمس الدين «5» محمد النواجى، والشيخ عز الدين أحمد «6» بن إبراهيم بن نصر الله الحنبلى، ومحمد «7» بن على بن أحمد الشهير بابن المغيربى وآخرون.
€(المقدمة/15)
وبالحجاز قاضى القضاة جلال الدين أبو السعادات أحمد بن محمد بن ظهيرة الشافعى المكى، وقاضى القضاة بهاء الدين محمد أبو البقاء الحنفى المكى، وشاعرا مكة بدر الدين بن العليف، والشيخ أبو الخير بن عبد القوى وغيرهم.
وأجازه من حلب العلامة شهاب الدين أحمد «1» بن أبى بكر المرعشى الحنفى، وابن الشماع وغيرهما.
وبرع فى فنون الفروسية كلعب الرمح ورمى النشّاب وسوق البرجاس ولعب الكرة والمحمل. وأخذ هذه الفنون عن عظماء هذا الشأن، وفاق فيهم على أنداده، وساد على أقرانه علما وعملا؛ هذا مع الديانة والصيانة والعفّة عن المنكرات والفروج والاعتكاف «2» عن الناس، وترك الترداد الى أعيان الدولة حتى ولا الى السلطان؛ مع حسن المحاضرة، ولطيف المنادمة، والحشمة الزائدة، والحياء الكثير، واتساع الباع فى علوم الآداب والتاريخ وأيام الناس، قلّ أن يخلو مجلسه من مذكّرات العلوم، جالسته كثيرا وتأدّبت بتربيته، وحسن رأيه وسياسته وتدبيره. يضرب به المثل فى الحياء والسكون، ما سمعته شتم أحدا من غلمانه، ولا من حاشيته، ولا تكبّر على أحد من جلسائه قط، كبيرا كان أو صغيرا، جليلا كان أو حقيرا.
وصحب بعض الأصلاء الأعيان كالقاضى كمال الدين بن البارزى، وقاضى القضاة شهاب الدين بن حجر وغيرهما من العلماء والرؤساء، ونكرّر ترداد غالبهم الى بابه، وحضروا مجلسه كثيرا وأحبّوه محبة زائدة.
€(المقدمة/16)
هذا مع ما اشتمل عليه من الكرم الزائد، والميل الى الخير، ومحبته أهل العلم والفضل والصلاح، والإحسان اليهم بما تصل القدرة اليه.
وله اليد الطولى فى علم النغم والضروب والإيقاع حتى لعلّه لم يكن فيه مثله فى زمانه، انتهت اليه الرياسة فى ذلك وكتب كثيرا وحصّل وصنّف وألّف.
ومن مصنفاته هذا الكتاب الجليل وهو المسمى ب «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» فى سبعة مجلدات، هذه الستة ومجلد آخر يسمى «بالكنى» استوعب فيه ذكر الأعيان المشهورين بكنيتهم على هذا الشرط، وهو من أوّل دولة الترك ومختصره المسمى «بالدليل الشافى على المنهمل الصافى» ومختصره سماه «مورد اللطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة» وذيل على الإشارة للحافظ الذهبى مختصرا سماه «بالبشارة فى تكملة الإشارة» وكتاب «حلية الصفات فى الأسماء والصناعات» مرتبا على الحروف، يشتمل على مقاطيع وتواريخ وأدبيات، بديع فى معناه، وغير ذلك. كل ذلك فى عنفوان شبيبته.
ونرجو، إن أطال الله عمره وفسح فى أجله، ليملأنّ خزائن من العلوم والمصنفات فى كل فنّ، لعلمى باتساع باعه فى التصنيف والتأليف.
ومن شعره ما أنشدنى من لفظه لنفسه- حفظه الله تعالى- فى مليح اسمه «حسن» قوله:
طرفه الأحور زاه شاقنى ... وبه قد ضاع علمى بالوسن
جوره عدل علينا فى الهوى ... كلّ فعل منه لى فهو حسن
€(المقدمة/17)
وله أيضا:
تجارة الصبّ غدت ... فى حبّ خود كاسده
ورأس مالى هبة ... لفرحتى بفائده
وله أيضا:
أيبك قطز يعقبو بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال
لاجين بيبرس برقوق شيخ ذو الإفضال ... ططر برسباى جقمق ذو العلا إينال
ترجمة المؤلف عن الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع للسخاوى «1»
يوسف بن تغرى بردى الجمال أبو المحاسن بن الأتابكى بالديار المصرية، ثم نائب الشام اليشبغاوى الظاهرىّ القاهرىّ الحنفىّ. ولد فى شوّال تحقيقا سنة ثلاث عشرة وثمانمائة تقريبا بدار منجك اليوسفى، جوار المدرسة الحسنيّة، ومات أبوه بدمشق على نيابتها وهو صغير، فنشأ فى حجر أخته عند زوجها الناصرىّ بن العديم الحنفىّ، ثم عند الجلال البلقينى، لكونه كان خلفه عليها. وحفظ القرآن، ثم فى كبره- فيما زعم- مختصر القدورى وألفية النحو وإيساغوجى، واشتغل يسيرا وقال إنه قرأ فى الفقه على الشمس والعلاء الروميين، وفى الصرف على ثانيهما، وكذا اشتغل فى الفقه على العينى وأبى البقاء بن الضياء المكى والشمنى ولازمه أكثر، وعليه اشتغل فى شرح الألفية لابن عقيل والكافياجى
€(المقدمة/18)
وعليه حضر فى الكشاف والزين قاسم، واختص به كثيرا وتدرّب به، وقرأ فى العروض على النّواجى، والمقامات الحريرية على القوام الحنفى، وعليه اشتغل فى النحو أيضا بل أخذ عنه قطعة جيدة من علم الهيئة، وقرأ أقراباذين فى الطب على سلام الله، وفى البديع وبعض الأدبيات على الشهاب بن عربشاه، وكتب عن شيخنا من شعره وحضر دروسه وانتفع، فيما زعم، بمجالسته؛ وكذا كتب بمكة عن قاضيها أبى السعادات بن ظهيرة من شعره وشعر غيره، وعن البدر بن العليف وأبى الخير بن عبد القوىّ وغيرهم من شعراء القاهرة؛ وتدرّب كما ذكر فى الفنّ بالمقريزى والعينى وسمع عليهما الحديث، وكذا بالقلعة عند نائبها تغرى برمش الفقيه على بن الطحان وابن بردس وابن ناظر الصاحبة، وأجاز له الزين الزركشى وابن الفرات وآخرون. وحج غير مرة أوّلها فى سنة ست وعشرين، واعتنى بكتابة الحوادث من سنة أربعين، وزعم أنه أوقف شيخه المقريزى على شىء من تعليقه فيها فقال: دنا الأجل، إشارة إلى وجود قائم بأعباء ذلك بعده، وأنه كان يرجع إلى قوله فيما يذكره له من الصواب بحيث يصلح ما كان كتبه أوّلا فى تصانيفه، بل سمعته يرجح نفسه على من تقدّمه من المؤرّخين من ثلاثمائة سنة بالنسبة لاختصاصه دونهم بمعرفة الترك وأحوالهم ولغاتهم، ورأيته إذ أرّخ وفاة العينى قال فى ترجمته: إن البدر البغدادى الحنبلى قال له وهما فى الجنازة: خلا الجوّ، إشارة إلى أنه تفرّد؛ وما رأيته ارتضى وصفه له بذلك من حينئذ فقط، فانه قال إنه رجع من الجنازة فأرسل له ما يدل على أن العينى كان يستفيد منه، بل سمعته يصف نفسه بالبراعة فى فنون الفروسية كلعب الرمح ورمى النشّاب وسوق البرجاس ولعب الكرة والمحمل ونحو ذلك.
€(المقدمة/19)
وبالجملة فقد كان حسن العشرة، تامّ العقل- إلا فى دعواه فهو حمق- والسكون، لطيف المذاكرة، حافظا لأشياء من النظم ونحوه، بارعا حسبما كنت أتوهّمه فى أحوال الترك ومناصبهم وغالب أحوالهم، منفردا بذلك لا عهد له بمن عداهم، ولذلك تكثر فيه أوهامه، وتختلط ألفاظه وأقلامه، مع سلوك أغراضه، وتحاشيه عن مجاهرة من أدبر عنه بإعراضه، وما عسى أن يصل اليه تركى!.
وقد تقدّم عند الجمالى ناظر الخاص بسبب ما كان يطريه به فى الحوادث، وتأثّل منه دنيا، وصار بعده الى جانبك الجداوى فزادت وجاهته، واشتهرت عند أكثر الأتراك ومن يلوذ بهم من المباشرين وشبههم فى التاريخ براعته. وبسفارته عند جانبك خلص البقاعى من ترسيمه حين ادعى عليه عنده بما فى جهته لجامع الفكّاهين، لكون البقاعى ممن كان يكثر التردّد لبابه، ويسامره بلفظه وخطابه؛ وربما حمله على إثبات مالا يليق فى الوقائع والحوادث مما يكون موافقا لغرضه، خصوصا فى تراجم الناس وأوصافهم، لما عنده من الضّغن والحقد، كما وقع له فى أبى العباس الواعظ وابن أبى السعود. وكان إذا سافر يستخلف فى كتابة الحوادث ونحوها التقىّ القلقشندى.
وقد صنف المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى فى ستة مجلدات تراجم خاصة على حروف المعجم من أوّل دولة الترك؛ والدليل الشافى على المنهل الصافى؛ ومورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة؛ والبشارة فى تكملة الإشارة للذهبى؛ وحلية الصفات فى الأسماء والصناعات، مشتمل على مقاطيع وتواريخ وأدبيات، رتبه على حروف المعجم وغير ذلك «1» .
€(المقدمة/20)
وفيها الوهم الكثير والخلط الغزير مما يعرفه النقاد، والكثير من ذلك ظاهر لكل. ومنه السّقط فى الأنساب كتسمية الحجار أحمد بن نعمة مع كون نعمة جدّه الأعلى. وكحذفه ما يتكرر من الأسماء فى النسب أو الزيادة فيه بأن يكون فى النسب ثلاثة محمدين فيجعلهم أربعة، أو أربعة فيجعلهم خمسة. والقلب كأن يكون المترجم طالبا لواحد فيجعله شيخا له. والتصحيف والتحريف كالغرافى بالفاء والغين المعجمة يجعله مرة بالقاف، ومرة بالعين والقاف مخففا، وكالحسامية بالخسابية، وتسعين بسبعين وعكسه، وابن سكّر حيث ضبطه بالشين المعجمة، وفريد الدين بمؤيد الدين. والتغيير كسليمان من سلمان وعكسه، وعبد الله من أبى عبد الله، وسعد من سعد الله، وثبا «1» حيث جعله عليا، وعبد الغفار صاحب الحاوى حيث جعله عبد الوهاب، وابن أبى جمرة الولى الشهير حيث جعله محمدا، وصلاح الدين خليل بن السابق أحد رؤساء الشام سماه محمدا، وعبد الرحمن البوتيجى الشهير جعله أبا بكر، وأحمد بن على القلقشندى صاحب صبح الأعشى سمى والده عبد الله.
والتكرير فيكتب الرجل فى موضعين مرة فى إبراهيم ومرة فى أحمد، وربما تنبه لذلك فيجوّز كونه أخا ثانيا. وإشهار المترجم بما لا يكون به مشهورا حيث يروم التشبه بابن خلكان أو الصفدى فيما يكتبانه بهامش أوّل الترجمة لسهولة الكشف عنه ككتابته مقابل ترجمة أحمد بن محمد بن عبد المعطى جدّ قاضى المالكية بمكة المحيوى عبد القادر ما نصه: ابن طراد النحوى الحجازى. أو وصفه بما لم يتصف به كالصلاح بن أبى عمر حيث وصفه بالحافظ، والجمال الحنبلى بالعلامة، وناصر الدين ابن المخلّطة بقوله: إنه لم يخلف بعده مثله ضخامة وعلما ومعرفة ودينا وعفة. وتعبيره
€(المقدمة/21)
بما لا يطابق الواقع كقوله فى البرهان بن خضر: تفقه بابن حجر. أو شرحه لبعض الألقاب بما لا أصل له حيث قال فى ابن حجر: نسبة الى آل حجر يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الخربة وأرضهم قابس. أو لحنه الواضح وما أشبهه كأزوجه فى زوّجه، والحياة فى الحيا، والمجاز فى المزاح، وأجعزه فى أزعجه، والكيابة فى الكآبة، والحطيط فى الحضيض، ومنتضمة فى منتظمة، وظنين فى ضنين.
بل ويذكر فى الحوادث ما لم يتفق كأنه كان يكتب بمجرّد السماع كقوله فى الشهاب ابن عربشاه- مع زعمه أنه من شيوخه-: إنه استقر فى قضاء الحنفية بحماة فى صفر سنة أربع وخمسين عوضا عن ابن الصوّاف، وإن ابن الصوّاف قدم فى العشر الثانى من الشهر الذي يليه فأعيد فى أواخر جمادى الآخرة، وهذا لم يتفق كما أخبرنى به الجمالى بن السابق الحموى، وكفى به عمدة سيما فى أخبار بلده.
وكقوله عن جانم: إنه لما أمر برجوعه من الخانقاه الى الشام توجه كاتب السر ابن الشّحنة لتحليفه فى يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان سنة خمس وستين، فإن هذا كما قال ابن الشحنة المشار إليه لم يقع. وكقوله: إن صلاح الدين بن الكويز استقرّ فى وكالة بيت المال عوضا عن الشرف الأنصارى فى رجب سنة ثلاث وستين، وفى ظنى أن المستقرّ حينئذ فيها إنما هو الزين بن مزهر. ويذكر فى الوفيات تعيين محالّ دفن المترجمين فيغلط: كقوله فى نصر الله الرويانى: إنه دفن بزاويته، الى غير ذلك من تراجمه التى يقلد فيها بعض المتعصبين كما تقدّم. أو يسلك فيها الهوى، كترجمته لمنصور بن صفىّ وجانبك الجداوى، بل سمعت غير واحد من أعيان الترك ونقادهم العارفين بالحوادث والذوات يصفونه بمزيد الخلل فى ذلك. وحينئذ فما بقى ركون لشىء مما يبديه، وعلى كل حال فقد كان لهم به جمال. وقد اجتمعت به مرارا وكان يبالغ
€(المقدمة/22)
فى إجلالى اذا قدمت عليه ويخصنى بتكرمة للجلوس، والتمس منى اختصار الخطط للمقريزى، وكتبت عنه ما قال إنه من نظمه فيمن اسمها «فائدة» وهو:
تجارة الصبّ غدت ... فى حبّ خود كاسده
ورأس مالى هبة ... لفرحتى بفائده
وابتنى له تربة هائلة بالقرب من تربة الأشرف إينال، ووقف كتبه وتصانيفه بها وتعلل قبل موته بنحو سنة بالقولنج واشتدّ به الأمر من أواخر رمضان بإسهال دموىّ بحيث انتحل وتزايد كربه، وتمنى الموت لما قاساه من شدّة الألم إلى أن قضى فى يوم الثلاثاء خامس ذى الحجة سنة أربع وسبعين ودفن من الغد بتربته، وعسى أن يكون كفّر عنه، رحمه الله وعفا عنه وإيانا «1» .
€(المقدمة/23)
ترجمة المؤلف عن شذرات الذهب فى أخبار من ذهب «1» لابن العماد الحنبلى فى حوادث سنة 874 هـ
جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الأمير الكبير سيف الدين تغرى بردى الحنفى الإمام العلامة. ولد بالقاهرة سنة اثنتى عشرة وثمانمائة ورباه زوج أخته قاضى القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفى إلى أن مات، فتروّج بأخته جلال الدين البلقينى الشافعى فتولى تربيته وحفظ القرآن العزيز. ولما كبر اشتغل بفقه الحنفية وحفظ القدورى وتفقّه بشمس الدين محمد الرومى وبالعينى وغيرهما، وأخذ النحو عن التقىّ الشّمنّى ولازمه كثيرا وتفقه به أيضا، وأخذ التصريف عن الشيخ علاء الدين الرومى وغيره، وقرأ المقامات الحريرية على قوام الدين الحنفىّ وأخذ عنه العربية أيضا وقطعة جيدة من علم الهيئة، وأخذ البديع والأدبيات عن الشهاب بن عربشاه الحنفىّ وغيره،
€(المقدمة/24)
وحصر على ابن حجر العسقلانى وانتفع به، وأخذ عن أبى السعادات بن ظهيرة وابن العليف وغيرهما.
ثم حبّب إليه علم التاريخ فلازم مؤرّخى عصره مثل العينىّ والمقريزىّ، واجتهد فى ذلك إلى الغاية وساعدته جودة ذهنه وحسن تصوّره وصحة فهمه، ومهر وكتب وحصّل وصنّف وانتهت إليه رآسة هذا الشأن فى عصره، وسمع شيئا كثيرا من كتب الحديث، وأجازه جماعات لا تحصى مثل ابن حجر والمقريزىّ والعينىّ.
ومن مصنفاته كتاب المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى فى ستة مجلدات، ومختصره المسمى بالذيل الشافى على المنهل الصافى، ومختصر سماه مورد اللطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة، والنجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، وذيل على الإشارة للحافظ الذهبى سماه بالبشارة فى تكملة الإشارة، وكتاب حلية الصفات فى الأسماء والصناعات مرتبا على الحروف، وغير ذلك. ومن شعره:
تجارة الحب غدت ... فى حب خود كاسده
ورأس مالى هبة ... لفرحتى بفائده
ومنه مواليا فى عدّة ملوك الترك:
أبيك قطز يعقب بيبرس ذو الإكمال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال
لاچين بيبرس برقوق شيخ ذو الإفضال ... ططر برسباى چقمق ذو العلا إينال
وتوفى فى ذى الحجة.
حديث ابن إياس عن المؤلف
وقد أشار ابن إياس فى تاريخه (ج 2 ص 118) الى ترجمته عند ذكر وفاته فى حوادث سنة أربع وسبعين وثمانمائة فقال:
€(المقدمة/25)
«وفيه كانت وفاة الجمالى يوسف بن الأتابكى تغرى بردى اليشبغاوى الرومى نائب الشام. وكان الجمالى يوسف رئيسا حشما فاضلا حنفىّ المذهب وله اشتغال بالعلم، وكان مشغوفا بكتابة التاريخ وألف فى ذلك عدّة تواريخ منها تاريخه الكبير الموسوم بالنجوم الزاهرة؛ والمنهل الصافى؛ ومورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة؛ وله تاريخ فى وقائع الأحوال على حروف الهجاء؛ وله غير ذلك عدّة مصنفات. وكان نادرة فى أولاد الناس. ومولده سنة ثلاث عشرة وثمانمائة» اهـ.
مؤلفاته ولابن تغرى بردى عدا كتاب «النجوم الزاهرة» الكتب الآتية «1» :
1- مورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة: اقتصر فيه على ذكر الخلفاء والسلاطين بغير مزيد، واستفتح بذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فالخلفاء الراشدين الى الخليفة القائم بأمر الله. ثم ذكر العبيديين ومن خلفهم على مصر الى أيامه.
منه نسخة فى مكتبة محمد الفاتح ومكتبة بشير أغا فى الأستانة، وفى غوطا مع ذيل الى سنة 906 هـ، وفى باريس وأكسفورد وكمبريدچ وتونس. وطبع فى كمبريدچ سنة 1792 م وله ذيول منها: «منهل الظرافة، لذيل مورد اللطافة» بأسماء أمراء مصر الى سنة 884 هـ فى برلين.
2- منشأ اللطافة، فى ذكر من ولى الخلافة: وهو تاريخ مصر من أقدم أزمانها الى سنة 719 هـ فى باريس.
€(المقدمة/26)
3- المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى: هو معجم لمشاهير الرجال العظام من سنة 650 هـ الى آخر أيام المؤلف، أراد به أن يكون ذيلا للوافى تأليف الصفدى.
منه نسخة فى دار الكتب المصرية فى ثلاثة مجلدات كبيرة صفحاتها نحو 3000 صفحة منقولة عن مكتبة عارف بك بالمدينة. ترجم فيها مئات من الأعيان والعلماء، وأسند كل رواية الى صاحبها.
ومن لطيف ما جاء فى مقدّمته- وقد خالف به أكثر مؤلفى عصره- قوله:
«كنت قد اطلعت على نبذ من سيرهم وأخبارهم (يعنى رجال التاريخ) ووقفت فى كتب التاريخ على الكثير من آثارهم فحملنى ذلك على سلوك هذه المسالك، وإثبات شىء من أخبار أمم الممالك، غير مستدعى الى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والخلّان، ولا مكلّف لتأليفه وترصيفه من أمير ولا سلطان؛ بل اصطفيته لنفسى، وجعلت حديقته مختصة بباسقات غرسى؛ ليكون فى الوحدة لى جليسا، وبين الجلساء مسامرا وأنيسا ... الخ» .
وهذا يخالف طريقة سائر المؤلفين فى ذلك العهد، وقد اختصره فى كتاب سماه: «الدليل الشافى على المنهل الصافى» منه نسخة فى مكتبة بشير أغا بالآستانة.
4- نزهة الرائى فى التاريخ: هو تاريخ مفصل على السنين والشهور والأيام فى عدّة مجلدات، منها الجزء التاسع فى اكسفورد لحوادث سنة 678- 747
5- حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور: جعله ذيلا على كتاب السلوك للمقريزى بدأ به حيث انتهى ذاك الى سنة 856 هـ، لكنه خالف المقريزى فى طريقته فأطال فى التراجم إلا ما جاء ذكره منها فى المنهل الصافى. منه نسخ فى برلين والمتحف البريطانى وأيا صوفيا.
€(المقدمة/27)
6- البحر الزاخر فى علم الأوائل والأواخر: مطوّل فى التاريخ على السنين، منه جزء صغير فى باريس من سنة 32- 71 هـ.
فهارس الكتاب
وإتماما للفائدة وتعميما للنفع قام القسم الأدبى بعمل فهارس وافية لهذا الجزء شملت ذكر الولاة الذين ولوا حكم مصر والأعلام التى وردت فيه والقبائل والأماكن ووفاء النيل وغير ذلك مرتبة على حروف المعجم، وقد بذل كل من حضرتى محمد عبد الجواد الأصمعىّ افندى وعلى أحمد الشهداوىّ افندى المصححين بالقسم الأدبى مجهودا فى هذا الشأن يستحقان عليه الثناء.
أحمد زكى العروى
رئيس قسم التصحيح بنار الكتب المصرية(المقدمة/28)
[خطبة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته وسلم الحمد لله الذي أيد الإسلام بمبعث سيد الأنام، وجعل مدده شاملا لكل خليفة وإمام، فهم ظل الله فى أرضه يأوى اليه كل ملهوف، والزعماء القائمون بنهى كلّ منكر وأمر كل معروف؛ قلّبهم فى أطوارها دولا، وخالف بينهم اعتقادا وقولا وعملا؛ وجعل قصصهم عبرة لأولى الألباب، وتذكرة فى كل خبر وكتاب؛ فمن عدل منهم كان أوّل السبعة «1» ، ومن ظلم كان فى أخباره شنعة؛ أحمده حمدا كثيرا على أن عرّفنا من صلح منهم ومن فسد، ومن هو فى الوغى مدد، وبين الأنام عدد؛ ونشكره على أن أخّرنا عن كل الأمم، وهذا لعمرى من أعظم الإحسان وأسبغ النعم؛ لنعاين ممن «2» تقدّم آثارهم، ونشاهد منازلهم وديارهم، ونسمع كما وقعت وجرت أخبارهم؛ أعظم بها من منّة جليلة، وكرامة وفضيلة؛ إذ أخبرنا عنهم ما لم يخبروه عنا، ورأينا منهم ما لم يروه منا؛ فلنقابل هذه المنة بالإنصاف، فى كل مترجم ومن اليه انضاف؛ فنخبر بذلك من تأخر عصره من الأقوام، بأفواه المحابر وألسن الأقلام؛(1/1)
ليقتدى كل ملك يأتى بعدهم بجميل الخصال، ويتجنب ما صدر منهم من اقتراح «1» المظالم وقبيح الفعال؛ ولم أقل كمقالة الغير إننى مستدعى الى ذلك من أمير أو سلطان، ولا مطّلب به من الأصدقاء والإخوان؛ بل ألّفته لنفسى، وأينعته بباسقات غرسى؛ ليكون لى فى الوحدة جليسا، وبين الجلساء مسامرا وأنيسا؛ ولا أنزّهه من خلل وإن حوى أحسن الخلال، ولا من زلل وإن طاب مورده الزلال؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة لا ينقص قدر إيمانها بعد تأكده، ولا يخفض مجد إتقانها بعد تشيّده؛ وأشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي كان لقول الحق أهلا، ومن جعل بتشريعه طرق الفلاح لسالك سننه سهلا؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرّيته وأتباعه.
أما بعد فلما كان لمصر ميزة على كل بلد بخدمة الحرمين الشريفين، أحببت أن أجعل تاريخا لملوكها مستوعبا من غير مين؛ فحملنى ذلك على تأليف هذا الكتاب وإنشائه، وقمت بتصنيفه وأعبائه؛ واستفتحته بفتح مصر وما وقع لهم فى المسالك، ومن حضرها من الصحابة ومن كان المتولّى لذلك؛ وعلى أىّ وجه فتحت: صلح أم عنوة من أصحابها، وأجمع فى ذلك أقوال من اختلف من المؤرّخين وأهل الأخبار وأربابها؛ وذلك بعد اتصال سندى الى من لى عنه منهم رواية، ليجمع الواقف عليه بين صحة النقل والدراية؛ وأطلق عنان القلم فيما جاء فى فضلها وذكرها من الكتاب العزيز، وما ورد فى حقها من الأحاديث وما اختصت به من المحاسن فصار لها على غيرها بذلك التمييز؛ ثم أذكر من وليها من يوم فتحت وما وقع فى دولته من العجب، واحدا بعد واحد لا أقدّم أحدا منهم على أحد باسم ولا كنية ولا لقب؛ ثم أذكر أيضا فى كل ترجمة ما أحدث صاحبها فى أيام ولايته من الأمور، وما جدّده من(1/2)
القواعد والوظائف والولايات فى مدى الدهور؛ ولا أقتصر على ذلك بل أستطرد الى ذكر ما بنى فيها من المبانى الزاهرة، كالميادين والجوامع ومقياس النيل وعمارة القاهرة؛ أوّلا بأوّل أذكره فى يوم مبناه وفى زمان سلطانه، مستوعبا لهذا المعنى ضابطا لشانه؛ على أننى أذكر من توفى من الأعيان فى دولة كل خليفة وسلطان باقتصار، بعد فراغ ترجمة المقصود من الملوك مع ذكر بعض الحوادث فى مدّة ولاية المذكور فى أيما قطر من الأقطار؛ وأبدأ فيه بعد التعريف بأحوال مصر بولاية عمرو ابن العاص فى المملكة الإسلامية، ثم ملك بعد ملك كل واحد على حدته وما وقع فى أيامه الى الدولة الأشرفية الإينالية؛ وسميته:
«النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة»
والله الموفّق والمنّان وبالله المستعان.(1/3)
ذكر فتح مصر لابن عبد الحكم وغيره
قال المؤلف: أخبرنا حافظ العصر قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي مشافهة عن أبي هريرة بن الذهبي قال:
أخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي روى خليفة عن غير واحد: «أن في سنة عشرين كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر، فسار وبعث عمر الزبير بن العوام مردفاً له ومعه بسر بن أبى «1» أرطاة وعمير بن وهب الجمحي وخارجة بن حذافة العدوي حتى أتى بابليون «2» ، فحصنوا، فافتتحها عنوة وصالحه أهل الحصن؛ وكان الزبير أول من ارتقى سور المدينة ثم تبعه الناس، فكلم الزبير عمرًا أن يقسمها بين من افتتحها، فكتب عمرو إلى عمر بذلك ثم رقي إلى المنبر وقال: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت بعت، وإن شئت خمست» . انتهى كلام الذهبىّ.(1/4)
وقال علي- وعليّ مصغر- بن رباح: المغرب «1» كله عنوة، فتدخل مصر فيها اهـ.
وقال ابن عمر: افتتحت مصر بغير عهد. وقال يزيد بن أبي حبيب:
مصر كلها صلح إلا الإسكندرية.
وأما فتوح مصر لابن عبد الحكم فقد أخبرنا به حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي مشافهة قال: قرأت على أبي المعالي عبد الله بن عمر بن علي أخبرنا، إجازة إن لم يكن سماعًا، عن زهرة بنت عمر أخبرنا الكمال أبو الحسن عليّ بن شجاع أخبرنا أبو القاسم هبة الله ابن علي البوصيري أخبرنا أبو صادق مرشد بن يحيى المديني أخبرنا أبو الحسن علي بن منير الخلال وأبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج الأنصاري أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن بن خلف بن قديد الأزدي أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم قال:
لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية «2» قام إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي أن أسير إلى مصر، وحرضه عليها وقال: إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز [ها] «3» عن القتال والحرب، فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عنده ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها، حتى ركن إليه عمر وعقد له على أربعة آلاف رجل [كلهم من «4» عك] ، ويقال: [بل] «5»(1/5)
ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقال له عمر: سر وأنا مستخير الله في مسيرك، وسيأتيك كتابي سريعًا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئاً من أرضها فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس فاستخار عمر «1» وكاتبه يتخوف على المسلمين بالرجوع، فأدرك الكتاب عمرا وهو برمح؛ فتخوف عمرو إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل [عنها] «2» فقيل: إنها من أرض مصر، فدعا بالكتاب وقرأه على المسلمين؛ فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من أرض مصر؟ قالوا: بلى، قال:
فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله. وقيل غير ذلك: وهو أن عمر أمره بالرجوع وخشن عليه في القول.
وروي نحو مما ذكرنا من وجه آخر، من ذلك: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال عمر له: كتبت إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر من الشأم، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، إن عمراً لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا، فندم عمر على كتابه إلى(1/6)
عمرو إشفاقاً على المسلمين، ثم قال عثمان: فاكتب إليه: إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك.
فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط، فكان يجهز على عمرو الجيوش وكان على القصر (يعني قصر الشمع الذي بمصر القديمة) رجل من الروم يقال له الأعيرج والياً عليه، وكان تحت يد المقوقس، واسمه:
جريج بن مينا، وأقبل عمرو حتى إذا كان بالعريش، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما «1» قاتلته الروم قتالاً شديدًا نحواً من شهر ثم فتح الله على يديه، وكان عبد الله ابن سعد على ميمنة عمرو منذ خروجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه؛ ثم مضى عمرو نحو مصر وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى قبط مصر يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة وأن ملكهم قد أنقطع، وأمرهم بتلقي عمرو.
ويقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعواناً؛ ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الأخف حتى نزل القواصر، فسمع رجل من لخم نفراً من القبط يقول بعضهم لبعض: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وإنما هم في قلة من الناس! فأجابه رجل منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا أخيرهم؛ ثم تقدم عمرو أيضا لا يدافع إلا بالأمر(1/7)
الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتل نحواً من شهر حتى فتح الله عليه؛ ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين «1» ، فقاتلوا من بها قتالاً شديداً وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده فأمده بأربعة ّآلاف تمام ثمانية آلاف مع عمرو، فوصلوا إليه إرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ثم أحاط المسلمون بالحصن وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له الأعيرج من قبل المقوقس وهو ابن قرقب اليونانيّ وكان المقوقس ينزل بالإسكندرية وهو فى سلطان هرقل غير أنه كان حاضراً الحصن حين حاصره المسلمون، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن، وجاء رجل إلى عمرو وقال: اندب معي خيلاً حتى آتي من ورائهم عند القتال، فأخرج معه عمرو خمسمائة فارس عليهم خارجة بن حذافة، في قول، فساروا من وراء الجبل حتى وصلوا مغار بني وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقاً وجعلوا له أبواباً وبثوا في أفنيتها حسك «2» الحديد، فالتقاهم القوم حين أصبحوا وخرج خارجة من ورائهم فانهزموا حتى دخلوا الحصن وقاتلهم قتالا شديدا بصبحهم وعشيهم، فلما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده ويعلمه بذلك، فأمده بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود»
، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد- في قول- وقيل: خارجة بن حذافة الرابع، لا يعدون مسلمة. وقال عمر له: اعلم أن معك أثنى عشر ألفًا ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة.(1/8)
وقيل غير ذلك، وهو أن الزبير رضي الله عنه قدم إلى عمرو في اثني عشر ألفاً وأن عمراً لما قدم من الشأم كان في عدة قليلة فكان يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق بادره رجل بأن قال: قد رأينا ما صنعت وإنما معك من أصحابك كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو على ذلك أياماً يغدو في السحر فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح، فبينماهم على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام في اثني عشر ألفًا فتلقاه عمرو، ثم أقبلا فلم يلبث الزبير أن ركب وطاف بالخندق ثم فرق الرجال حول الخندق وألح عمرو على القصر ووضع عليه المنجنيق.
ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو:
أخرج وأستشير أصحابي، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يزيد الخروج برجل من العرب فقال له: قد دخلت فأنظر كيف تخرج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له:
إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، فقال العلج في نفسه: قتل جماعة أحب إلي من قتل واحد، فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من أمر عمرو ألا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم، فخرج عمرو.
وبينما عبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده رآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلم من الصلاة ووثب على فرسه ثم حمل عليهم، فلما رأوه ولوا هاربين وتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، فصار لا يلتفت إليه حتى دخلوا إلى الحصن، ورمي عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع ولم يتعرض لشيء مما طرحوه من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان فيه فاستقبل الصلاة؛ وخرج الروم إلى متاعهم وجمعوه.(1/9)
فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير: إني أهب نفسي لله تعالى وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلماً إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا تكبيره يجيبونه جميعا؛ فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفاً أن ينكسر السلم، وكبر الزبير تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا وعمد الزبير بأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه واقتحم المسلمون الحصن. فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو ابن العاص الصلح ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك.
وكان مكثهم على القتال حتى فتح الله عليهم سبعة أشهر. انتهى كلام ابن عبد الحكم باختصار.
وقال غيره في الفتح وجهاً آخر قال: لما حصر المسلمون بابليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم شهراً، فلما رأى القوم الجد من العرب على فتحه والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر الأقباط وخرجوا من باب القصر القبلي وتركوا به جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة (موضع «1» الصناعة اليوم) وأمروا بقطع الجسر وذلك في جري النيل. ويقال: إن الأعيرج تخلف بالحصن بعد المقوقس؛ فأرسل المقوقس إلى عمرو:
«إنكم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد(1/10)
أحاط بكم هذا النيل. وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه.
ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء» .
فلما أتت عمراً رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل [ويحبسونهم «1» ] ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أنهم يرون حال المسلمين.
فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال:
إما أن دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا. وإن أبيتم فأعطيتم «2» الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين. فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال: كيف رأيتموهم؟ قالوا:
رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد؛ يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.(1/11)
فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد! ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.
فرد إليهم المقوقس رسله يقول لهم: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم وألا يجيبهم إلى شيء دعوه اليه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي في ذلك وأمرني ألا أقبل شيئا إلا خصلة من هذه الثلاث الخصال، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني؛ فقالوا جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه وقد أمره الأمير دوننا بما أمره وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله.
فقال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا! إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً وليس ينكر السواد فينا؛ فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإنني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فتقدم إليه عبادة فقال:
قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سواداً مني وأفظع منظراً ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني، وأنا قد وليت وأدبر(1/12)
شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله وأتباع رضوانه، وليس غزونا عدواً ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذه «1» بيده ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه.
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط! لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فقال:
أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنكم لم تقووا(1/13)
عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعذر لنا عند الله إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا من رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين، إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا [ما «1» ] أمامنا.
وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه، فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث،(1/14)
فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله إلينا.
إما إجابتكم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين نبينا وأنبيائه ورسله وملائكته- صلوات الله عليهم- أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الإسلام، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم؛ وإن أبيتم إلا الجزية فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضاه نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمّتنا وكان لكم به عهد علينا؛ وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن أخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال المقوقس: هذا لا يكون أبداً، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال عبادة: هو ذلك فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا الى خصلة غير هذه الثلاث الخصال؟ فرفع عبادة يديه وقال: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك لأصحابه وقال: قد فرغ القوم فما ترون؟ فقالوا:
أو يرضى أحد بهذا الذل! أما ما أرادوا من دخولنا إلى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا، نترك دين المسيح بن مريم وندخل في دين لا نعرفه! وأما ما أرادوا من أن(1/15)
يسبونا ويجعلونا عبيداً فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مراراً كان أهون علينا.
قال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون. فقام عبادة وأصحابه.
فقال المقوقس لأصحابه: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة! ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين. فقالوا: وأي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم؛ ولا بد من الثالثة؛ قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم، تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم [خير «1» لكم من أن تموتوا من آخركم وتكونوا عبيداً تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم] . قالوا: فالموت أهون علينا. وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة؛ وبالقصر من جمع القبط والروم كثير.
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر منهم وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم، ما تنتظرون! فو الله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعاً أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم من ذلك كرهاً، فأطيعوني من قبل أن تندموا. فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه.(1/16)
وأرسل المقوقس الى عمرو بن العاص رضي الله عنه: إني لم أزل حريصاً على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إلي بها، فأبى علي من حضرني من الروم والقبط، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم ورجعوا إلى قولي؛ فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم [لنا «1» ] ذلك جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه في ذلك، فقالوا: لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا [وتصير «2» الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه] فقال: قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء؛ وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك، كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرض لهم في شيء منها.
فشرط ذلك كله على القبط خاصة. وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية وفرض عليهم الديناران؛ رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة.(1/17)
فكان جميع من أحصي يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا أكثر من ستة آلاف «1» نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف دينار في كل سنة؛ وقيل غير ذلك.
وقال عبد الله بن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرمي: لما فتح عمرو مصر، صالح أهلها عن جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف. قال: وشرط المقوقس للروم أن يخيروا، فمن أحب(1/18)
منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك لازما له مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج؛ وعلى أن المقوقس له الخيار في الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه بما فعل؛ فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.
قلت: وقد اختلف بعد ذلك في فتح مصر: هل فتحت صلحاً أم عنوة، فمن قال: إن مصر فتحت بصلح، احتج بما ذكرناه ونحوه بمثل ما ذكره القضاعي وغيره، وقالوا: إن الأمر لم يتم إلا بما جرى بين عبادة بن الصامت وبين المقوقس؛ وعلى ذلك أكثر علماء أهل مصر، منهم عقبة بن عامر ويزيد بن أبى حبيب والليث ابن سعد وغيرهم.
وذهب الذي قال إنها فتحت عنوة إلى أن الحصن فتح عنوة وكان حكم جميع الأرض كذلك؛ وهم عبيد الله بن المغيرة الشيباني ومالك بن أنس وعبد الله ابن وهب وغيرهم.
وذهب قوم إلى أن بعضها فتح عنوة، وبعضها فتح صلحاً، منهم عبد الله ابن لهيعة وابن شهاب الزهري وغيرهما.
قال عبيد الله بن أبي جعفر حدثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان، وعهد عند فلان؛ فسمى ثلاثة نفر. وفي رواية: إن عهد أهل مصر كان عند كبرائهم.
قال: وسألت شيخاً من القدماء عن فتح مصر، قلت له: فإن ناساً يذكرون أنه لم يكن لهم عهد؛ فقال: ما يبالي ألا يصلّى من قال إنه ليس لهم عهد؛ فقلت:
فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا،(1/19)
وكتاب عند قزمان صاحب رشيد، وكتاب عند يحنس صاحب البرلس؛ قلت:
كيف كان صلحهم؟ قال: دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين؛ قلت:
أفتعلم ما كان من الشروط؟ قال: نعم، ستة شروط: لا يخرجون من ديارهم، ولا تنزع نساؤهم، ولا أولادهم، ولا كنوزهم، ولا أراضيهم، ولا يزاد عليهم.
وكان فتح مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة.
وقال ابن كثير في تاريخه: قال محمد بن إسحاق: فيها (يعني سنة عشرين من الهجرة) كان فتح مصر. وكذا قال الواقدي: إنها فتحت هي والإسكندرية فى هذه السنة. وقال أبو معشر: فتحت مصر سنة عشرين والإسكندرية في سنة خمس وعشرين. وقال سيف: فتحت مصر والإسكندرية في ربيع الأول سنة ست عشرة. ورجح ذلك أبو الحسن بن الأثير في الكامل لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة. وهو معذور فيما رجحه. انتهى كلام ابن كثير.
وقال أيضاً في قول آخر: فتحت الإسكندرية في سنة خمس وعشرين بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل: صلحاً على اثني عشر ألف دينار، وشهد فتحها جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن عبد الحكم: وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم ومن لم يكن له برسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، وذكرهم جملة واحدة، فقال: الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وكان أمير القوم، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وخارجة بن حذافة العدوي، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيس بن أبى العاص السهمي، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامرىّ، ونافع(1/20)
ابن عبد قيس الفهري، وأبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عبدة، وعبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان، مولى عمرو ابن العاص، وكان حامل لواء عمرو بن العاص، رضي الله عنهم. وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص فقيل: إنما دخلها بعد الفتح.
وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت، وقد شهد بدراً وبيعة العقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وقد شهد بدرا، وهو الذي أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى مصر فقاسم عمرو بن العاص ماله، وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوام، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، يقال: له صحبة، وأبو أيوب خالد بن زيد «1» الأنصاري، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وقيل: عويمر بن زيد.
ومن أحياء القبائل: أبو بصرة «2» حميل بن بصرة الغفاري، وأبو ذرّ جندب ابن جنادة الغفاري.
وشهد الفتح مع عمرو بن العاص هبيب بن مغفل، وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وكعب بن ضنة «3» العبسي،(1/21)
ويقال: كعب بن يسار بن ضنة، وعقبة بن عامر الجهني، وهو كان رسول عمر ابن الخطاب الى عمرو بن العاص حين كتب إليه [يأمره «1» ] أن يرجع إن لم يكن دخل أرض مصر، وأبو زمعة «2» البلوي، وبرح «3» بن عسكل ويقال: برح بن عسكر، شهد فتح مصر واختط بها، وجنادة بن أبي أمية الأزدي، وسفيان بن وهب الخولاني وله صحبة، ومعاوية بن حديح الكندىّ، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، وقد اختلف فيه، فقال قوم: له صحبة، وقال آخرون: ليست له صحبة، وعامر، مولى حمل الذي يقال له: عامر حمل، شهد الفتح وهو مملوك، وعمار بن ياسر، ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان، وجهه إليها في بعض أموره. انتهى كلام «4» ابن عبد الحكم باختصار.
وقال ابن كثير: في فتح مصر وجه آخر على ما أخبرنا به شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني الشافعي مشافهة بإجازته من الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير مجموعاً من كلام ابن إسحاق وغيره، قالوا:(1/22)
لما استكمل المسلمون فتح الشأم، بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص إلى مصر. وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بسر بن أبي «1» أرطاة وخارجة بن حذافة وعمير «2» بن وهب الجمحي، فاجتمعوا على باب مصر، فلقيهم أبو مريم جاثليق «3» مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل البنيات، بعثه المقوقس صاحب الإسكندرية لمنع بلادهم.
فلما تصافّوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم، ليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد [فبرزا «4» إليه، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلاد] فاسمعا: إن الله بعث محمدًا بالحق وأمره به وأمرنا به محمد وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة. وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم وأوصينا بكم حفظا لرحمنا منكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة؛ ومما عهد الينا أميرنا: «استوصوا بالقبطين خيراً» فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيراً، لأن لهم ذمة ورحماً.
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل «5» مثلها إلا الأنبياء، معروفة شريفة كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف والملك منهم، فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم وأغربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا به وأهلا وأمنا حتى نرجع إليك.(1/23)
فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثاً، لتنظرا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم؛ قالا: زدنا، فزادهم يوماً؛ فقالا: زدنا، فزادهم يوماً، فرجعا إلى المقوقس، فأبى أرطبون «1» أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، وقال لأهل مصر: أما نحن فنجتهد أن ندفع عنكم، لا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام؛ وأشار عليهم بأن يبيّتوا المسلمين؛ فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فألح الأرطبون فى أن يبيّتوا المسلمين؛ ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة، منهم الأرطبون. وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع، وارتقى الزبير عليهم سور البلد.
فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه؛ واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو. فأمضوا الصلح وكتب لهم عمرو كتاب أمان:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقض ولا تساكنهم النوبة. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم «2» ؛ فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بقدرهم؛ وذمتنا ممن أبى بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك؛ ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم؛ ومن أبى [منهم «3» ] واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا؛ عليهم(1/24)
ما عليهم أثلاثا [فى كل «1» ثلث جباية ثلث ما عليهم] على ما في هذا الكتاب، عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة «2» صادرة ولا واردة» . وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط. وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة؛ فأبى عمرو أن يردها عليهما وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه.
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة الأيام التي آمنهم فيها أن يرد عليهم، وكل شيء أخذ ممن لم يقاتل فكذلك، ومن قاتل فلا ترد عليه سباياه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عتاب حدثنا عبد الله أخبرني عبد الله بن عقبة- وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة- حدثني يزيد بن أبي حبيب عمّن سمع عبد الله ابن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاص، اقسمها، فقال عمرو:
لا أقسمها؛ فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر؛ فكتب إليه عمر: أقرها حتى يغزو منها حبل «3» الحبلة. تفرد به أحمد، وفي إسناده(1/25)
ضعف من جهة ابن لهيعة لكنه عليم بأمور مصر ومن جهة المبهم الذي لم يسم، فلو صح لدل على فتحها عنوة ولدل على أن الإمام يخير في الأراضي العنوة، إن شاء قسمها، وإن شاء أبقاها.
قلت: قد رواه الطحاوىّ بسند صحيح.
وذكر سيف: أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف، فجعل عمرو يذمرهم ويحثهم على الثبات؛ فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال له عمرو: اسكت، فإنما أنت كلب؛ فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب! فأعرض عنه عمرو، ونادى بطلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة، قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين؛ فهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر. انتهى كلام ابن كثير وغيره.
وقد سقنا ما ذكره ابن كثير هنا لزيادة فيما ذكره، ولكونه حافظاً محدثاً، فيصير بذلك ما ذكرناه من فتح مصر من طرق عديدة لتكثر في هذا الكتاب الفائدة إن شاء الله تعالى.(1/26)
ذكر ما ورد في فضل مصر من الآيات الشريفة والأحاديث النبوية
قال الكندي وغيره من المؤرخين: فمن فضائل مصر أن الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز في أربعة وعشرين موضعاً، منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلت عليه القرائن والتفاسير.
فأما صريح اللفظ فمنه قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
، وقوله تعالى يخبر عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
، وقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
ومنه قوله عز وجل مخبراً عن نبيه يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
وأما ما دلت عليه القرائن فمنه قوله عز وجل: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ
. وقوله عز وجل: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ
. قال ابن عباس وسعيد بن المسيب ووهب بن منبه وغيرهم: هي مصر «1» . وقوله تعالى:
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ
وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
. يعني مصر.
وقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
. يعني قوم فرعون، وأن بني إسرائيل(1/27)
أورثوا مصر. وقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
. وقوله عز وجل مخبراً عن نبيه موسى عليه السلام:
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ
وقوله عز وجل مخبرا عن فرعون: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
. وقوله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ
. وقوله تعالى مخبراً عن فرعون: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
، يعنى أرض مصر. وقوله تعالى مخبرا عن نبيه يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ
وقوله تعالى مخبرا عن بني إسرائيل:
رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وقوله تعالى مخبراً عن نبيه موسى عليه السلام: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ
وقوله تعالى: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ
. يعني أرض مصر. وقوله تعالى:
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى
. وقوله عز وجل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً
. وقوله تعالى مخبرا عن ابن يعقوب عليه السلام:
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
. يعني مصر. وقوله تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ.
وأما ما ورد في حقها من الأحاديث النبوية فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لهم «1» ذمة(1/28)
ورحماً» قال ابن كثير رحمه الله: والمراد بالرحم أنهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، أمه هاجر القبطية، وهو الذبيح على الصحيح، وهو والد عرب الحجاز الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوال إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه مارية القبطية من سنى كورة أنصنا «1» ، وقد وضع عنهم معاوية الجزية إكراما لإبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن كثير.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولم [ذلك «2» ] يا رسول الله؟ فقال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» وعنه صلى الله عليه وسلم، وذكر مصر: «ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مئونته» .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة.
وقال أيضا: لما خلق الله آدم، مثّل له الدنيا: شرقها وغربها وسهلها وجبلها وأنهارها وبحارها وعامرها وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك؛(1/29)
فلما رأى مصر، رآها أرضاً سهلة ذات نهر جارٍ، مادته من الجنة تنحدر فيه البركة، ورأى جبلاً من جبالها مكسواً نوراً لا يخلو من نظر الرب عز وجل إليه بالرحمة، في سفحه أشجار مثمرة، فروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة، فدعا آدم في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات؛ قال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة، وتربتك مسكة، تدفن فيها عرائس الجنة، أرض حافظة مطبقة رحيمة، لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظة، ولا زال منك ملك «1» وعز، يا أرض مصر، فيك الخبايا والكنوز، ولك البر والثروة، سال نهرك عسلاً، كثر الله رزقك، ودر ضرعك، وزكا نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك يا مصر خير ما لم تتجبري وتتكبّرى أو تخونى؛ فإذا فعلت ذلك، عداك «2» شر ثم يغور خيرك» .
فكان عليه السلام أول من دعا لها بالرحمة والخصب والرأفة والبركة.
وقال عبد الله بن عباس: دعا نوح عليه السلام لابنه بيصر بن حام- وهو أبو مصر الذي سميت مصر على اسمه- فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي، فبارك فيه وفي ذريته، وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التى هى أمّ البلاد.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لما قسم نوح عليه السلام الأرض بين ولده، جعل لحامٍ مصر وسواحلها والغرب وشاطئ النيل، فلما قدم بيصر ابن حام وبلغ العريش، قال: «اللهم إن كانت هذه الأرض التي وعدتنا على لسان نبيك نوح وجعلتها لنا منزلاً، فاصرف عنا وباها «3» ، وطيب لنا ثراها، واجمع ماها «4» ، وأنبت كلاها «5» ، وبارك لنا فيها، وتمم لنا وعدك؛ إنك على كل شيء قدير، وإنك(1/30)
لا تخلف الميعاد» وجعلها بيصر لابنه مصر وسماها به. يأتي ذكر ذلك عند ذكر من ملك مصر قبل الإسلام في هذا المحل إن شاء الله تعالى.
والقبط ولد مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
وقال كعب الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس لما سكنت إلا مصر؛ فقيل له: ولم؟ قال: لأنها معافاة من الفتن، ومن أراد بها سوءاً كبه «1» الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وروى ابن يونس عنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر إذا زخرفت؛ وفي رواية: إذا أزهرت.
وروى ابن يونس بإسناده إلى أبي بصرة الغفاري قال: سلطان مصر سلطان الأرض كلها.
قلت: ولهذا الخبر الصحيح جعلنا في آخر تراجم ملوك مصر حوادث سائر الأقطار كلها.
وقال: في التوراة مكتوب: مصر خزائن الأرض كلها، فمن أراد بها سوءاً قصمه الله.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: خلقت الدنيا على خمس صور: على صورة الطير برأسه وصدره وجناحيه وذنبه؛ فالرأس مكة والمدينة واليمن،(1/31)
والصدر الشأم ومصر، بالجناح الأيمن العراق، وخلف العراق أمة يقال لها: واق واق «1» وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، والجناح الأيسر السند والهند، وخلف الهند أمة يقال لها: باسك، وخلف باسك أمة يقال لها: منسك، وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، والذّنب من ذات الحمام إلى مغرب الشمس؛ وشر ما في الطير الذنب.
وقال ابن عبد الحكم حدثنا أشهب بن عبد العزيز وعبد الملك بن مسلمة قالا حدّثنا مالك عن ابن شهاب عن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً» ثم ساق ابن عبد الحكم عدة أحاديث أخر بأسانيد مختلفة في حق مصر ونيلها في هذا المعنى.
وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز قاضي العراق: سألت أحمد بن المدبر عن مصر، فقال: كشفتها فوجدت غامرها أضعاف عامرها، ولو عمرها السلطان لوفت له بخراج الدنيا.
وقال بعض المؤرخين: إنه لما استقر عمرو بن العاص رضي الله عنه على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن صف لي مصر؛ فكتب إليه:
ورد كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء؛ طولها شهر، وعرضها عشر «2» ؛ يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر؛ يخطّ وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات؛ تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر؛ له أوان يدرّ حلابه، ويكثر فيه دبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض(1/32)
على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل؛ فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته؛ فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب؛ لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم؛ فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى؛ فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هى ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء. الذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها، ألّا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها، في عمل جسورها وترعها؛ فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال؛ والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.
فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لله درك يا بن العاص! لقد وصفت لي خبراً كأني أشاهده.
وقال المسعودي في تاريخه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بأهل مصر خيراً فإن لهم نسباً وصهراً» أراد بالنسب: هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وأم ولده إسماعيل. وأراد بالصهر: مارية القبطية أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم التى أهداها له المقوقس اهـ.
ذكر ما ورد في نيل مصر
روى يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: إى والذي فلق البحر لموسى(1/33)
عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين:
يوحي إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري، فيجري ما كتب الله؛ ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل عد حميداً.
وروى ابن يونس من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة» .
وعن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، وسخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب، فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونًا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله عز وجل أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقد ورد أن مصر كنانة الله في أرضه.
وعن أبي جنادة الضبىّ: أنه سمع عليا يقول: النيل في الآخرة عسل أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ ودجلة (يعني جيحان) في الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل؛ وسيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل.
وقال بعض الحكماء: مصر ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، فإن في شهر أبيب (وهو تموز) ومسرى (وهو آب) وتوت (وهو أيلول) يركبها الماء فيها فترى الدنيا بيضاء(1/34)
وضياعها على رواب وتلال مثل الكواكب، وقد أحاطت بها المياه من كل وجه؛ وثلاثة أشهر مسكة سوداء، فإن في شهر بابه (وهو تشرين الأول) وهاتور (وهو تشرين الثاني) وكيهك (وهو كانون الأول) ينكشف الماء عنها فتصير أرضها سوداء وفيها تقع الزراعات؛ وثلاثة أشهر زمردة خضراء، فإن في شهر طوبة (وهو كانون الثانى) وأمشير (وهو شباط) وبرمهات (وهو آذار) تلمع ويكثر حشيشها ونباتها، فتصير مصر خضراء كالزمردة؛ وثلاثة أشهر سبيكة حمراء وهو وقت إدراك الزرع وهو شهر برمودة (وهو نيسان) وبشنس (وهو أيار) وبؤونة (وهو حزيران) ، ففي هذه الشهور تبيض الزروع ويتورد العشب فهو مثل السبيكة الذهب.
وقيل: إنه لما ولي عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط المذكورة فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا عادة أو سنة لا يجري إلا بها؛ فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر (يعني بؤونة) عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل فيجري؛ فقال لهم عمرو ابن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلاً ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء؛ فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر بن الخطاب: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.
فلما قدم الكتاب على عمرو بن العاص رضي الله عنه فتح البطاقة فإذا فيها:
«من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر.(1/35)
أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك» .
فعرّفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين وبالبطافة؛ ثم ألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر ببركة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ونظير ذلك أمر قرافة مصر ودفن المسلمين بها. فقد روينا بإسناد عن ابن عبد الحكم حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد: سأل المقوقس عمرو ابن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك، وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها! فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة؛ فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنا لا نعلم غراس الجنة ألا للمؤمنين، فاقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أول من قبر فيها رجل من المعافر يقال له:
عامر [فقيل عمرت «1» ] .
قلت: والقرافة سميت بطائفة من المعافر يقال لهم القرافة، نزلوا هناك.
*** وقال بعض علماء الهيئة: إن مصر واقعة من المعمورة في قسم الإقليم الثاني والإقليم الثالث، ومعظمها في الثالث.
وقال أبو الصلت: هي مسافة أربعين يوماً طولاً في ثلاثين يوماً عرضاً.(1/36)
وقال غيره: هي مسافة شهر طولاً في شهر عرضاً. وطولها من الشجرتين اللتين ما بين رفح والعريش إلى مدينة أسوان من صعيد مصر الأعلى؛ وعرضها من آيلة إلى برقة، ويكتنفها جبلان متقاربان من مدينة أسوان المذكورة إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط (يعني إلى مصر) ، ثم يتسع بعد ذلك ما بينهما وينفرج قليلا، ويأخذ الجبل المقطم منهما مشرقاً والآخر مغرباً على وراب متسع من مصر إلى ساحل البحر الرومي، وهناك تنقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها فى الجنوب وأوغلها في الشمال.
وقال بعض الحكماء: ليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين والهند غير النيل. وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال غير النيل. وليس فى الدنيا نهر يزيد فى أشدّ ما يكون من الحر غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد وينقص على ترتيبٍ فيهما غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد إذا نقص مياه الدنيا غير النيل.
وبهذا النيل أشياء لم تكن في غيره من الأنهار، من ذلك: السمكة الرّعّادة التي إذا وضع الشخص يده عليها اضطرب جسمه جميعه حتى يرفع يده عنها، ومنها التمساح ولم يكن في غيره من المياه؛ وفي مصر أعاجيب كثيرة.
وقال الكندي في حق مصر وأعمالها: جبلها مقدس، ونيلها مبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالى نبيه موسى، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه وبها فلق الله البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون عليهما السلام ويوشع بن نون ودانيال وأرميا ولقمان وعيسى بن مريم، ولدته أمه بأهناس، وبها النخلة التي ذكرها الله تعالى لمريم؛ ولما سار عيسى إلى الشأم وأخذ على سفح المقطم ماشياً، عليه جبة صوف مربوط الوسط بشريط وأمه تمشي خلفه، فالتفت إليها وقال: يا أماه،(1/37)
هذه مقبرة أمة محمد؛ وكان بمصر إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعقوب ويوسف واثنا عشر سبطاً.
ومن فضائلها: أنها فرضة الدنيا يحمل من خيرها إلى سواحلها؛ وبها ملك يوسف عليه السلام؛ وبها مساجد إبراهيم ويعقوب وموسى ويوسف عليهم السلام؛ وبها البرابي العجيبة والهرمان، وليس على وجه الأرض بناء باليد حجراً على حجر أطول منهما.
وقال أبو الصّلت: طول كل عمود منهما ثلثمائة وسبعة عشر ذراعاً، ولكل أربعة أسطحة ملسات متساويات الأضلاع، طول كل ضلع أربعمائة وسبعون ذراعاً؛ واختلف فيمن بناهما، فقيل: شداد بن عاد «1» ، وقيل: سويرد، وقيل: سويد، بناهما في ستة أشهر وغشاهما بالديباج الملون، وأودعهما الأموال والذخائر والعلوم خوفاً من طوفان يأتي.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب: بناهما سويرد بن سلهوق بن سرياق بن ترميل دون بن قدرشان بن هو صال، أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون مدينة الاشمونين. والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوة سحرهم. وهذا يؤيد قول من قال بعدم بناء شداد بن عاد لهما. قال: وسبب بناء الهرمين العظيمين اللذين بمصر أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة قد رأى سو يرد في منامه كأن الأرض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس قد هربوا على وجوههم، وكأن الكواكب تتساقط ويصدم «2» بعضها بعضاً بأصوات هائلة، فأغمه ذلك ولم يذكره(1/38)
لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم؛ ثم رأى بعد مدة مناماً آخر أزعجه أكثر من الأول، فدخل إلى هيكل الشمس وتضرع ومرغ وجهه على التراب وبكى، فلما أصبح جمع رؤساء الكهنة من جميع أهل مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهناً، فخلا بهم وذكر لهم ما رآه أولاً وآخراً، فأولوه بأمر عظيم يحدث في العالم؛ ثم حكى بعض الكهنة أيضاً: أنه رأى مناماً أعظم من هذا المنام في معناه، ثم أخذوا الارتفاع وأخبروه بالطوفان وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد؛ فقال: انظروا، هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا: نعم، فأمر ببناء الأهرام وجعل في داخله الطلسمات والأموال وأجساد ملوكهم، وأمر الكهنة أن يزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء، فزبروا فيها وفي سقوفها وحيطانها جميع العلوم الماضية، وصوروا فيها صور الكواكب وعليها الطلسمات، وجعل طول كل هرم مائة ذراع، بالذراع الملكي (وهو خمسمائة ذراع بذراعنا الآن «1» ) . ولما فرغت كساها الديباج الملون وعمل لهم عيداً حضره أهل ملتهم؛ ثم عمل فى الهرم الغربىّ حجارة صوان ملونة ملئت بالأموال الجمة، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخرة، والسلاح الذي لا يصدأ، والزجاج الذي ينطوى ولا ينكسر، وأصناف العقاقير والسموم القاتلة؛ ثم عمل في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمله أجداده من أشياء يطول شرحها اهـ.
[ويقال «2» : إنّ هرمس المثلث بالحكمة وهو الذي تسميه العبرانيون خنوخ وهو إدريس عليه السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يخاف عليه الذهاب والدّثور؛ وكل(1/39)
هرم منها ارتفاعه ثلثمائة ذراع وسبعة عشر ذراعاً، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعاً، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع في مثلها. ويقال: إنه كان عليه حجر شبه المكبة فرمته الرياح العواصف، وطول الحجر منها خمسة أذرع في سمك ذراعين. ويقال: إن لهما أبوابا مقبية في الأرض، وكل باب من حجر واحد يدور بلولب إذا أطبق لم يعلم أنه باب، يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت على اسم كوكب من الكواكب السبعة، وكلها مقفلة بأقفال حديد؛ وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوف إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه، فيوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها. والقبط يزعمون أنهما والهرم الصغير قبور ملوكهم وأكابرهم.
ولما ولي المأمون الخلافة وورد مصر أمر بفتح واحد منها ففتح بعد طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب وهو زلاقة ضيقة من الحجر الصوان المانع الذي لا يعمل فيه الحديد بين حاجزين ملتصقين بالحائط، قد نقر في الزلاقة حفر يتمسك السالك بتلك الحفر ويستعين بها على المشي في الزلاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر؛ ويقال: إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب، وانتهت بهم الزلاقة إلى موضع مربع في وسطه حوض من حجر مغطى، فلما كشف عنه غطاؤه لم يوجد فيه إلا رمة بالية، فأمر المأمون بالكف عما سواه. وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا. ويقال: إن المأمون أنفق على النقب جملة اختلف المؤرخون في كميتها.
فلما انتهى به النقب إلى الموضع المربع المذكور وجد فيه جاماً من زمرد مغطى، فكشف فوجد فيه ذلك المقدار الذي أنفقه من غير زيادة على ذلك- واستمر ذلك(1/40)
إلجام في ذخائر الخلفاء إلى وقعة هولاكو ببغداد- فقال: الحمد لله الذي رد علينا ما أنفقناه] .
وقيل: إن الأمير أحمد بن طولون سأل بعض علماء الأقباط المعمرين ممن رأى الرابع عشر من ولد ولده عن الأهرام؛ فقال: إنها قبور الملوك، كان الملك منهم إذا مات وضع في حوض حجارة يسمّى الجرون، ثم يبنى عليه الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان والقباب، ثم يرفعون البناء على هذا المقدار الذي ترونه ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يجعل له طريق في الأرض بعقد أزج، فيكون طول الأزج تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت؛ فقيل له: كيف بنيت هذه الأهرام المملسه، وعلى أي شيء كانوا يصعدون ويبنون، وعلى أي شيء كانوا يضعون الآلات ويحملون الحجارة العظيمة التي لا يقدر أهل زماننا هذا على أن يحركوا الحجر الواحد إلا بجهد؟ فقال: كان القوم يبنون الهرم مدرجا فإذا فرغوا منه نحتوه من فوق إلى أسفل، قلت: وهذا أصعب من الأول، قال:
فكانت هذه حيلتهم، وكانوا مع هذا لهم قدرة وصبر وطاعة لملوكهم ديانة؛ فقيل له:
ما بال هذه الكتابة التي على الأهرام والبرابي لا تقرأ؟ قال: ذهب الحكماء الذين كان هذا قلمهم «1» ، وتداول أرض مصر الأمم، فغلب على أهلها القلم الرومي كأشكال أحرف القبط والروم؛ فالقبط تقرؤه على حسب تعارفها إياه وخلطها لأحرف الروم بأحرفها على حسب ما ولدوا من الكتابة بين الرومي والقبطي الأول، فذهب عنهم كتابة آبائهم السالفة وصاروا لا يعرفونها، وهي هذه الكتابة التي على الأهرام وغيرها. انتهى أمر الهرم.(1/41)
[و «1» قد نظم عمارة اليمنىّ فيهما فقال:
خليلي ما تحت السماء بنية ... تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكل ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري
وقال سعد الدين بن جبارة فى المعنى:
لله أي غريبة وعجيبةٍ ... في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الإبداع كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة ... من غير ما عمدٍ ولا أطناب
وبالقرب من الأهرام صنم على صورة إنسان تسميه العامة «أبا الهول» لعظمه، والقبط يزعمون أنه طلسم للرمل الذي هناك لئلا يغلب على أرض الجيزة] .
وأما السحرة الذين كانوا بمصر في زمان فرعون فكانوا، كما ذكر يزيد بن أبي حبيب، اثني عشر ساحراً رؤساء، وتحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفاً، تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة؛ فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء والعرفاء.
وعن محمد بن المنكدر: كان السحرة ثمانين ألفاً، فلما عاينوا ما عاينوا أيقنوا أن ذلك من السماء وأن السحر لا يقوم أمر الله، فخر الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك سجدا، فاتبعهم العرفاء واتبع العرفاء من بقي؛ قالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، وكانوا من أصحاب موسى ولم يفتتن أحد منهم مع من افتتن من بني إسرائيل فى عبادة العجل.(1/42)
وأما ما بمصر من الأعاجيب والمباني- فبها عمود مدينة عين شمس الذي تسميه العامة «مسلة فرعون» . وبها «صدع أبي قير» ، وهو موضع في الجبل يجتمع إليه في يوم مخصوص في السنة جميع جنس الطير، وبالجبل طاقة يدخل فيها كل طير يأتي إليه ثم يخرج من وقته حتى ينتهي إلى آخر الطير فتقبض عليه ويموت فيها.
وبها «مجمع البحرين» وهو البرزخ، وهما بحر الروم والصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة واحدة ما بين القلزم والفرما. وبها ما ليس في غيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس ولولاه أكلت الثعابين أهلها؛ وهو كقنافذ سجستان لأهلها. وبها «دهن البلسان» ، وليس ينبت عرقه إلا بمصر خاصة. وبها «معدن الذهب والزمرد» ، وليس في الدنيا معدن زمرد سواه. وبها «معدن النفط والشب والبرام والرخام» . وبها «الأفيون» ، وهو عصارة الخشخاش؛ وقيل: بها سائر المعادن؛ وبها «الأبنوس» . وبها «حجر السّنباذج» الذي بقطع به سائر الأحجار؛ وأشياء غير ذلك سكتنا عنها خوف الإطالة.
*** وأما مصر تلك الأيام فكان مبانيها وأماكنها في غير مصر الآن. وموضع مصر قديماً هي البقعة الآن الخراب عند حدرة ابن قميحة والكيمان التي عند قبر القاضي بكار إلى المشهد النفيسي.
وأما قطائع ابن طولون فيأتي ذكرها في ترجمته وبيان أماكنها. قال الشريف النسابة الثقة محمد بن أسعد الجوّانىّ فى كتابه المسمى «بالنّقط لمعجم ما أشكل من الخطط» : سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالصمصام يقول:
في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة حدثني القاضي أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي «1» عن(1/43)
القاضي القضاعي «2» أبي عبد الله أنه قال: كان في مصر من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع مسلوك، وألف ومائة وسبعون حماما؛ وأنّ أبا الحسن ابن حمزة الحسني ذكر أنه عرض له دخول حمام سالم الذي عند درب سالم في أول القرافة، يعني حمام جنادة بن عيسى المعافري الذي عند مصبغة الحفارين المعروفة بفسقية ابن طولون- قلت: وفسقية ابن طولون هي عند المقبرة الكبيرة على يسرة المتوجه إلى القرافة بالقرب من قبر القاضى بكّارا هـ- قال: وإنه ما وصل إليه إلا بعد عناء من الزحام، وإنه كانت قبالة الحمام في كل يوم جمعة خمسمائة درهم. قلت: وكانت الخمسمائة درهم يوم ذاك نحو اثنين وأربعين دينارا إلا ثلثاً، لأن الدينار كان صرفه يوم ذاك اثني عشر درهماً. انتهى كلام الشريف.
قلت: وذهبت تلك الأماكن بأجمعها عند خراب قطائع ابن طولون لمّا أخر بها محمد بن سليمان الكاتب، لا سيما لما بنيت القاهرة فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، على ما يأتي ذكر ذلك في ترجمة جوهر القائد.
*** وأما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع فقد تجدد ذلك كله في الدولة التركية، ومعظمه في دولة ابن قلاوون محمد، على ما يأتي بيان ذلك في ترجمته، لأننا نذكر كل مكان تجدد في أيام سلطانه كما شرطناه في أول هذا الكتاب. اهـ.(1/44)
*** وأما محاسن مصر فكثيرة: من ذلك ما قاله الشيخ الإمام الفقيه أبو محمد الحسن ابن إبراهيم بن زولاق: إن من محاسن مصر اعتدال هوائها في حرها وبردها؛ وإن مزاج هوائها لا يقطع أحدا عن التصرف كما يقطع حر بغداد أهلها عن التصرف في معايشهم، ويخلو أكثر الطرقات بها نهاراً، وكذلك بردها، وإن برد مصر ربيع وحرها قيظ. وقدم رجل من بغداد إلى مصر فقيل له: ما أقدمك؟ فقال: فررت من كثرة الصياح في كل ليلة: «يا غافلين الصلاة» لاختفائهم من الحر والبرد، فإن حر بغداد وبردها يقطعان أهلها عن التصرف حتى إنهم يكمنون في بطن الأرض من شدة الحر في الصيف، وتطوف الحراس في بعض المواضع نهاراً لاختفاء الناس في بطون الأرض من شدة الحر. انتهى كلام ابن زولاق.
قلت: وأما برد الشمال والروم فلا حاجة لذكره لعظم البرد وكثرة الثلوج والأمطار وغير ذلك.
قال ابن زولاق أيضاً: ومن ذلك الأقوات والميرة التي لا قوام لأحد في بلد إلا بها، فإن مصر تمير أهلها والساكنين بها وبأعمالها، وتمير الحرمين الشريفين والوافدين إليها من الأقطار، وما تجد بلداً إلا وتصل إليها ميرة مصر؛ وبغداد لا تمير أهلها فضلاً عن غيرهم لأن طعامها وأقوات ساكنيها من الموصل وأعماله والفرات وأعماله وديار مضر وربيعة.
وأما بغداد فإنها تميز نفسها أربعة أشهر، وتميرها الموصل أربعة أشهر، وتميرها واسط أربعة أشهر؛ وكذلك البصرة أيضاً لا تمير نفسها، وإنما تميرها واسط والأهواز؛ ولما حل الغلاء ببغداد نزح عنها أهلها وأثر فيها إلى اليوم، وكان بمصر(1/45)
غلاء في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وغلاء في سنة أربع عشرة وثلاثمائة، وغلاء في سنة عشرين وثلاثمائة، وغلاء في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وغلاء في سنه ست وسبع وثمان وخمسين وثلثمائة، فما أثر ذلك فيها.
قلت: هذا، وما وصل القائل إلى غلاء سني المستنصر بالديار المصرية من سنة ست وخمسين إلى سنة خمس وستين وخمسمائة التي شبهت بأيام يوسف عليه السلام، ولم يقع بمصر غلاء مثله قبله ولا بعده، وبعد ذلك تراجع أمر مصر فى مدّة يسيرة وعادت إلى ما كانت عليه أولاً. يأتي ذكر هذا الغلاء وغيره في ترجمة الخليفة المعز العبيدي في هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا القياس الذي ذكرناه بين مصر وبغداد إنما كان تلك الأيام التي كان بها يومئذ عظماء خلفاء بني العباس، وكانت مصر تلك الأيام يليها عامل من قبل أمير من أمراء الخلفاء؛ وأما يومنا هذا فلا تقاس مصر بالعراق جميعه بل تزيد محاسنها على جميع أقطار الأرض، ولولا خشية الإطالة لبينا ذلك، ولكن فيما ذكرناه من محاسن مصر وما اشتملت عليه من الطرائف كفاية عن الإطناب فيها.
*** وأما خراج مصر قديماً فقيل: إن كيقاوس أحد ملوك القبط الأول جبى خراجها فجاء مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار، وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص رضي الله عنه في الإسلام اثني عشر ألف ألف دينار، ثم رذل «1» إلى أن جباه أحمد بن طولون في سنة ستين ومائتين أربعة آلاف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار مع ما يضاف إليه من ضياع الأمراء، ثم جباه جوهر القائد خادم المعز العبيدي ثلاثة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار فى سنة ستين وثلثمائة.(1/46)
وسبب نزول خراج مصر أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في حفر ترعها وإتقان جسورها، وإزالة ما هو شاغل للأرض عن الزراعة كالقصب والحلفاء والقضاب وغير ذلك.
وحكى عبد الله بن لهيعة: أن المرتبين لذلك كانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل: سبعون ألفاً بصعيد مصر، وخمسون ألفاً بالوجه البحري.
وحكى ابن زولاق: أن أحمد بن المدبر لما ولي خراج مصر كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها، فقال: والله لو عمرها السلطان لوفت له بخراج الدنيا.
وقيل: إنها مسحت في أيام هشام بن عبد الملك فكان ما يركبه الماء الغامر والعامر مائة ألف ألف فدان، والفدان أربعمائة قصبة، والقصبة عشرة أذرع.
وقيل: إن أحمد بن المدبر المذكور اعتبر ما يصلح للزراعة بمصر فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان، والباقي مستبحر وتلف من قلة الزراعة، واعتبر أيضا مدة الحرث فوجدها ستين يوماً؛ والحراث يحرث خمسين «1» فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث، اهـ.
قلت: هذا خلاف ما رئي من الجزائر في الإسلام مثل جزيرة بني نصر وجزيرة الذهب وغيرهما قبلي وبحري؛ وأيضا خلاف إقليم البحيرة، والبحيرة كان أصلها كرماً لامرأة المقوقس، وكانت تأخذ خراجها الخمر بفريضة عليهم، فكثر الخمر عليها فقالت: لا حاجة لي بالخمر، أعطوني دنانير، فلم تجدها معهم، فأرسلت على الكرم الماء فغرقتها، فصارت بحيرة يصاد بها السمك حتى استخرجها بنو العباس،(1/47)
فسدوا جسورها وزرعوها ونمت واستمرت في زيادة إلى يومنا هذا، وبقي ذلك اسما عليها لا تعرف إلا بالبحيرة.
ذكر ما قيل في سبب تسمية مصر بمصر
قيل: إنه كان اسمها في الدهر الأول زجلة «1» من المزاجلة، وقال قوم: سميت بمصريم بن مركائيل «2» بن دواييل بن غرياب بن آدم، وهذا هو مصر الأول؛ وقيل:
بل سميت بمصر الثاني، وهو مصرام بن نقراوش «3» الجبار بن مصريم الأول المقدم ذكره؛ وقيل: سميت بعد الطوفان بمصر الثالث، وهو مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وهو اسم أعجمي لا ينصرف؛ وقيل: هو اسم عربي مشتق، ولكل قائل دليل؛ وقيل:
غير ذلك أقوال كثيرة يأتي ذكر بعضها.
قال المسعودي في تاريخه: إن بني آدم لما تحاسدوا وبغى عليهم بنو قابيل بن آدم ركب نقراوش الجبار ابن مصريم المقدم ذكره في نيف وسبعين راكباً من بني غرياب بن آدم، جبابرة كلهم يطلبون موضعاً من الأرض ليقطنوا فيه، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فأطالوا المشي عليه، فلما رأوا سعة هذا البلد أعجبهم، وقالوا: هذا بلد زرع وعمارة، فأقاموا فيه واستوطنوه وبنوا فيه الأبنية المحكمة والمصانع العجيبة، وبنى نقراوش بن مصريم [مصر «4» وسماها باسم أبيه مصريم] ثم لما ملك قال لبنيه: إني أريد أن أصنع مدينة، ثم أمرهم ببنيان مدينة في موضع خيمته، فقطعوا الصخور من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص، وبنوا دورا وزرعوا وعمروا الأرض، ثم أمرهم ببناء المدائن والقرى وأسكن كل ناحية من الأرض من(1/48)
رأى، ثم حفروا النيل حتى أخرجوا ماءه إليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري، وإنما كان ينبطح ويتفرق في الأرض، فهندسوه وشقوا منه أنهاراً إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وشقوا منه نهراً إلى مدينتهم أمسوس يجري في وسطها، ثم سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بيصر بن حام بن نوح على ما نذكره هنا أيضاً. ويقال: إن مصر هذا غرس الأشجار بيده فجاءت ثمارها عظيمةً بحيث إنه كان يشق الأترجة نصفين لنوح يحمل البعير نصفها، وكان القثاء يومئذ في طول أربعة عشر شبراً؛ ويقال: إنه أول من وضع السفن وإنّ سفينته كانت ثلثمائة ذراع في عرض مائة ذراع. ويقال: إن مصرايم نكح امرأة من بنات الكهنة فولدت ولداً يقال له قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنه من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا؛ فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها.
وقيل: إنه كان عدد من وصل معهم ثلاثون رجلا فبنوا مدينة سموها مافة ومعين، (ومافة ثلاثون بلغتهم) وهي مدينة منف التي تسمى الأن: «منوف العليا» ، وكشف لهم أصحاب قليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم والطلسمات والمعادن، ووصفوا لهم عمل الصنعة «1» وبنوا على عبر البحر مدناً: منها رقودة «2» مكان الإسكندرية؛ ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ولده قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه، فجعل لقفطريم من قفط إلى أسوان، ولأشمون من أشمون إلى منف، ولأتريب الحوف كله، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة؛ وقال لأخيه فارق: لك من برقة إلى المغرب، فهو صاحب إفريقية وأولاده الأفارق؛ وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه، وأمرهم عند موته أن يحفروا له في الأرض سرباً وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه(1/49)
من الذهب والجوهر، ويزبروا «1» عليه أسماء الله المانعة من أخذه «2» ، فحفروا له سرباً طوله مائة وخمسون ذراعاً، وجعلوا في وسطه مجلساً مصفحاً بصفائح الذهب، وجعلوا له أربعة أبواب على كل باب منها تمثال من ذهب، عليه مانع مرصع بالجوهر، وهو جالس على كرسي من ذهب، قوائمه من زمرذ، وزبروا في صدر كل تمثال آيات مانعة، وجعلوا جسده في جرن مرمر مصفح بالذهب، وكانت وفاة مصرايم المذكور بعد الطوفان بسبعمائة سنة، ومات ولم يعبد الأصنام، وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية مملوءة من الدر الفاخر والعقاقير والطلسمات العجيبة وسبائك الذهب، وسقفوا ذلك بالصخور وهالوا فوقها الرمال بين جبلين، وولي ابنه قبطيم الملك.
*** ودخل مصر من الصحابة ممن تقدم ذكرهم فى فتح مصر وغيرهم جماعة: الزبير ابن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة ابن عبيد، وعمرو بن العاص، وعمرو بن علقمة، وشرحبيل بن حسنة، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وخارجة بن حذافة، ومحمد بن مسلمة، وأبو رافع، ومسلمة بن مخلد، وأبو أيوب، ونافع بن مالك «3» ، ومعاوية بن حديج، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ودخلها من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين: يعقوب وأولاده، وهم:
يوسف، ويهوذا، وروبيل، ولاوي، وزبالون، وشمعون، ويسحر «4» ،(1/50)
ودنيا، ودانا، وديفتابيل «1» ، وجاد، وبنيامين. ودخلها موسى وهرون؛ وبها ولد عيسى بن مريم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها، فقال: إن الله عز وجل لما خلق الأشياء جعل كل شىء لشىء؛ فقال العقل: أنا لاحق بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك؛ فقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك؛ وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك؛ وقال البخل: أنا لاحق بالمغرب، فقال سوء الخلق: وأنا معك.
ويقال: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان، والحياء، والنجدة، والفتنة، والكبر، والنفاق، والغنى، والفقر، والذل، والشقاء؛ فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك؛ وقالت النجدة: وأنا لاحقة بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق:
وأنا معك؛ وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك؛ وقال الفقر:
أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: المكر عشرة أجزاء: تسعة منها في القبط، وواحد فى سائر الناس. اهـ.
*** ووصف ابن القرية مصر فقال: عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغارا وأجلّهم كباراً. وقال المسعودي في تاريخه: قال بعض الشعراء يصف مصر:
مصر ومصر شأنها عجيب ... ونيلها يجري به الجنوب(1/51)
قلت: وقد قيل في مصر عدة قصائد ومقطعات ذكرنا منها نبذة في تاريخنا «حوادث الدهور» عند وفاء النيل في كل سنة: منها ما قاله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ:
لم لا أهيم بمصرٍ ... وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى ... من مائها إن تملق
وفي المعنى للشيخ زين الدين عمر بن الوردي رضي الله عنه:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغدادٍ ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيل
وأبدع منه ما قيل في المعنى أيضا لابن سلّار:
لعمرك ما مصر بمصرٍ وإنما ... هي الجنة العليا لمن يتذكر
وأولادها الولدان من نسل أدم ... وروضتها الفردوس والنيل كوثر
وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري في هذا المعنى:
ما مثل مصر فى زمان ربيعها ... لصفاء ماءٍ واعتدال نسيم
أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها ... لما نظرت إلى جمال وسيم
وله أيضاً رضي الله عنه وأبدع:
لمصر فضل باهر ... لعيشها الرغد النضر
في كل سفح يلتقي ... ماء الحياة والخضر
[و «1» للصّفىّ الحلّى في القاهرة:
لله قاهرة المعز فإنها ... بلد تخصص بالمسرة والهنا
أو ما ترى في كل قطر منيةً ... من جانبيها فهي مجتمع المنى(1/52)
ولأبي الحسن علي بن بهاء الدين الموصلي الحنبلي في المعنى:
بها ما تلذ العين من حسن منظرٍ ... وما ترتضيه النفس من شهواتها
وتربتها تبر يلوح وعنبر ... يفوح وتلقى بعد بعد حياتها
زمردة خضراء قد زين قرطها ... بلؤلؤة بيضاء من زهراتها
ولابن الصائغ الحنفي في المعنى وأجاد:
ارض بمصرٍ فتلك أرض ... من كل فن بها فنون
ونيلها العذب ذاك بحر ... ما نظرت مثله العيون
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
روت لنا مصر عن فواكهها ... أخبار صدقٍ صحيحة الخبر
وكل ما صحّ من محاسنها ... أرويه من خوخها عن الزهري
وله أيضا:
جلا نيل مصر وهو شهد ومن يذق ... حلاوته يوما من الناس يشهد «1»
أيا بردى بالشأم إن ذبت حسرةً ... وغيظاً فلا تهلك أسًى وتجلّد
وقال غيره فى المعنى «2» :
النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي
فى غيظ من طلب العلا ... عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا ... قلعتها بأصابعى](1/53)
وللشريف العقيلي في المعنى رضي الله عنه:
أحن إلى الفسطاط شوقاً وإنني ... لأدعو لها ألا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجةٍ لجنابها ... وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروساً والمقطم تاجها ... ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
[فائدة «1» : إذا أردت أن تعلم كم تكون زيادة النيل في السنة فاحسب يوم عيد ميكائيل، وهو ثاني عشر بؤونة، كم يكون في الشهر العربي من يوم، وزد فوقه تسعين يوماً وخذ سدس الجميع، تكون عدّة أذرع النيل فى تلك السنة اهـ] .
ولولا خشية الإطالة لذكرنا من هذا نبذاً كثيرة؛ ومن أراد الإكثار من ذلك فليراجع تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» فإنني ذكرت من ذلك عدة مقطعات عند وفاء النيل في كل سنة. ونعود الآن إلى كلام المسعودي، قال:
وهي مصر، واسمها كمعناها، وعلى اسمها سميت الأمصار، ومنها اشتق هذا الاسم عند علماء المصريين. ثم ذكر المسعودي زيادة النيل ونقصانه نحواً مما ذكرناه، إلى أن قال: فإذا انتهت الزيادة إلى ست عشرة ذراعا ففيه تمام الخراج، وفي سبع عشرة ذراعاً كفايتها وري جميع أرضها، وإذا زاد على السبع عشرة وبلغ الثمان عشرة ذراعاً وأغلقها استبحر من أرض مصر الربع، وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرناه من وجه الاستبحار وغير ذلك، وإذا كانت الزيادة ثمان عشرة ذراعاً كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء بمصر، وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعاً، وقد كان النيل بلغ في زيادته تسع عشرة ذراعاً سنة تسع وتسعين في خلافة عمر بن عبد العزيز.(1/54)
قلت: وكلام المسعودي بهذا القول في عصر الأربعمائة من الهجرة قبل أن تعلو الأراضي ويحتاج إلى بلوغه إحدى وعشرين ذراعاً وأكثر؛ ولو رأى عصرنا هذا لكان يرجع فيه عن مقالته وطلب الزيادة. اهـ.
قال: ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثني عشر ذراعاً ثمان وعشرون إصبعاًِ، ومن اثني عشر ذراعاً إلى ما فوق يصير الذراع أربعاً وعشرين إصبعاً. قال: وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاث أذرع، وفى نيل تلك السنة يكون الماء قليلا.
قال: والأذرع التى يستسقى عليها هى ذراعان، تسميان بمنكر ونكير، وهى ذراع «1» ثلاثة عشر ذراعا وذراع أربعة عشر ذراعا، فإذا انصرف الماء في هذين الذراعين (أعني ثلاثة عشر وأربعة عشر) وزيادة نصف ذراع من الخمسة عشر واستسقى الناس بمصر، كان الضرر شاملاً لكل البلدان، وإذا تم خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعاً كان فيه صلاح لبعض البلاد ولا يستسقى فيه، وكان ذلك نقصاً من خراج السلطان.
قلت: ونذكر أيضاً من أخبار نيل مصر وما كان بها من المقاييس في الجاهلية والإسلام عند ما نذكر بناء المتوكل لمقياس مصر المعهود الآن في ترجمة يزيد بن عبد الله التركي لما ولي إمرة مصر في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين هجرية بأوسع من هذا، فلينظر هناك، اهـ.
قال: والترع التي بغيضة مصر أربع أمهات، أسماؤها: ترعة ذنب التمساح، وترعة بلقينة، وخليج سردوس، وخليج ذات الساحل؛ وتفتح هذه الترع إذا كان الماء زائداً في عيد الصليب، وهو لأربع عشرة تخلو من توت، وهو أوّل أيلول.(1/55)
قال: وكان بمصر سبع خلجانات: فمنها خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج سردوس، وخليج المنهى.
وكانت مصر فيما يذكر أهل الخبرة أكثر البلاد جناناً، وذلك أن جنانها كانت متصلة بحافتي النيل من أوّله الى آخره الى حد أسوان إلى رشيد، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع دخل خليج المنهى وخليج الفيوم وخليج سردوس وخليج سخا.
وكان الذي ولي حفر خليج سردوس لفرعون عدو الله هامان، فلما ابتدأ في حفره أتاه أهل القرى يسألونه أن يجري الخليج تحت قراهم ويعطون على ذلك ما أراد من المال، فكان يعمل ذلك حتى اجتمعت له أموال عظيمة، فحمل تلك الأموال إلى فرعون، فسأله فرعون عنها، فأخبره الخبر، فقال فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ويفيض عليهم معروفه ولا يرغب فيما في أيديهم، ونحن أحق بمن يفعل هذا بعبيده، فاردد على أهل كل قرية ما أخذته منهم، ففعل هامان ذلك. وليس في خلجان مصر أكثر عطوفاً وعراقيل من خليج سردوس. وأما خليج الفيوم وخليج المنهى فإن الذي حفرهما يوسف بن يعقوب صلى الله عليهما وسلم. اهـ.
قلت: والآن نأتي بما وعدنا بذكره من أخبار من ملك مصر قبل الإسلام، على أنه ليس في شرطنا من هذا الكتاب، وإنما نذكره على سبيل الاختصار لتعلم بذلك أحوال مصر قديماً وحديثاً كما ذكرنا؛ هذا كله ليعلم الناظر فيه أمورها على سبيل الاستطراد إلى أن نذكر ما صنف هذا الكتاب بسببه وهم ملوك مصر، وأول من نذكر منهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم نسوق التاريخ من حينئذ على منواله دولاً دولاً، لا نخرج منه إلى غيره إلا ما مست الحاجة إلى ذكره استطراداً، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.(1/56)
*** [ذكر من ملك مصر قبل الإسلام]
فأما من ملك مصر بعد من نقدّم ذكره من أولادهم وغيرهم فقال المسعودي:
وكان بيصر بن حام بن نوح قد كبرت سنه فأوصى إلى الأكبر من ولده وهو مصر وأجمع الناس على أنه ملك من حد رفح من أرض فلسطين من بلاد الشأم، وقيل: من العريش، وقيل: من الموضع المعروف بالشجرة وهو آخر أرض مصر، والفرق «1» بينها وبين الشأم، وهو الموضع المشهور بين العريش ورفح إلى بلاد أسوان من بلاد الصعيد طولاً، ومن آيلة وهي تخوم الحجاز إلى برقة عرضاً. وكان لمصر أولاد أربعة وهم:
قبط «2» ، وأشمون، وأتريب، وصا. وقد تقدم ذكر ذلك، غير أننا نذكره في سياق كلام المسعودي أيضاً، إذ لا يتم المراد إلا بذكره، ليتناسق الأسلوب.
قال: وقسم مصر بين ولده الأربعة الأرض أرباعاً، وعهد إلى الأكبر من ولده وهو قبط، وأقباط مصر يضافون في النسب إلى أبيهم قبط بن مصر، وأضيفت المواضع إلى سكانها وعرفت بأسمائهم، واختلطت الأنساب وكثر ولد قبط وهم الأقباط، فغلبوا على سائر الأرض، ودخل غيرهم في أنسابهم. ولما هلك قبط بن مصر ملك بعده أشمون بن مصر؛ ثم ملك بعده صا بن مصر؛ ثم ملك بعده أتريب بن مصر؛ ثم ملك بعده ماليق بن دارس؛ ثم ملك بعده حرايا بن ماليق؛ ثم ملك بعده كلكي بن حرايا، وأقام في الملك نحواً من مائة سنة؛ ثم ملك بعده أخ له يقال له:
ماليا بن حرايا؛ ثم ملك بعده لوطس بن ماليا نحواً من سبعين سنة؛ ثم ملكت بعده ابنة له يقال لها: حوريا بنت لوطس بن ماليا نحواً من ثلاثين سنة؛ ثم ملكت بعدها امرأة أخرى يقال لها: ماموم. ثم كثر ولد بيصر بن حام بن نوح بأرض مصر(1/57)
وتشعبوا وملكوا النساء، فطمعت فيهم ملوك الأرض، فسار إليهم من الشأم ملك من العماليق يقال له: الوليد بن درمع «1» ، فكانت له بها حروب حتى غلب على الملك وانقادوا إليه واستقام له الأمر حتى هلك؛ ثم ملك بعده الريان بن الوليد العملاقي، وهو فرعون يوسف عليه السلام؛ ثم ملك بعده دارم بن الريان العملاقي؛ ثم ملك بعده كامس بن معدان العملاقي؛ ثم ملك بعده الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام، وقد اختلف فيه، فمن الناس من يقول: إنه من العماليق، ومنهم من رأى أنه من لخم من بلاد الشأم، ومنهم من رأى أنه من الأقباط من ولد مصر بن بيصر، وكان يعرف بظلما؛ وهلك فرعون غرقاً حين خرج في طلب بني إسرائيل، ولما غرق فرعون ومن كان معه من الجنود خشي من بقي بأرض مصر من الذراري والنساء والصبيان والعبيد أن يغزوهم ملوك الشأم والمغرب، فملكوا عليهم امرأة ذات رأي وحزم يقال لها: دلوكة، فبنت على ديار مصر حائطاً يحيط بجميع أرضها والبلاد، وجعلت عليه المحارس والأجراس والرجال متصلة أصواتهم بقرب بعضهم من بعض، وأثر هذا الحائط باق إلى هذا اليوم، وهو يعرف بحائط العجوز؛ وقيل:
إنما بنته خوفاً على ولدها، فإنه كان كثير الصيد فخافت عليه سباع البر والبحر واغتيال من جاوز أرضهم من الملوك، فحوطت الحائط من التماسيح وغيرها، وقد قيل في ذلك غير هذا أيضاً. فملكتهم دلوكة المذكورة ثلاثين سنة واتخذت بمصر البرابي والصور، وأحكمت آلات السحر، وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلاً كانت أم خيلاً، وصورت فيها أيضاً من يرد في البحر من المراكب من بحر المغرب والشأم، وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة وخواص الأحجار والنبات والحيوان، وجعلت ذلك في أوقات حركات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية، فكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو(1/58)
الحجاز واليمن عورت تلك الصور التي في البرابي من الإبل وغيرها، فيتعور ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه وحيوانه، وإذا كان الجيش من نحو الشأم فعلت تلك الصور أيضاً ما فعلت كما وصفنا، وكذلك من أتاهم في المراكب؛ فهابتهم الأمم والملوك ومنعوا ناحيتهم من عدوهم، فاتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز إلى عدة أقطار، ثم عرفت بمجيء الطوفان ثانية، فخافت على هذه الصور والعلوم أن تذهب فبنت عدة برابٍ، وجعلت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة، وجعلت بنيانها نوعين:
طيناً وحجراً، وفرزت ما يبنى بالطين مما يبنى بالحجر، وقالت: إن كان هذا الطوفان ناراً استحجر ما بنينا بالطين وبقيت هذه العلوم، وإن كان الطوفان الوارد ماءً ذهب ما بنينا بالطين وبقي ما بنينا بالحجارة، وإن كان الطوفان سيفاً بقي كلا النوعين.
ولما ماتت دلوكة العجوز المذكورة ملك مصر بعدها دركوس بن بلطيوس؛ ثم ملك بعده بورس بن دركوس؛ ثم ملك بعده لعس بن نورس نحوا من خمسين سنة؛ ثم ملك بعده دنيا «1» بن نورس نحوا من عشرين سنة؛ ثم ملك بعده نلوطس عشر سنين؛ ثم ملك بعده مما كيل بن بلوطس، ثم ملك بعده يلونة بن مماكيل وكانت له حروب ومسير في الأرض، وهو فرعون الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وخرب بيت المقدس؛ ثم ملك بعده مرينوس وكانت له أيضاً حروب بالمغرب، ثم ملك بعده نقاس بن مرينوس ثمانين سنة، ثم ملك بعده قويس بن نقاس عشر سنين؛ ثم ملك بعده كاميل، وكانت له أيضاً حروب مع ملوك المغرب وغزاه البخت نصّر مرزبان المغرب من قبل ملك فارس، فخرب أرضه وقتل رجاله وسار البخت نصر إلى نحو المغرب. ولما زال أمر البخت نصر ومن كان معه من جنود فارس ملكت الروم مصر وغلبت عليها، فتنصر أهلها، فلم يزالوا على ذلك(1/59)
إلى أن ملك كسرى أنو شروان، فغلبت جيوشه على الشأم وسارت نحو مصر فملكوها، وغلبوا على أهلها نحواً من عشرين سنة، فكانت بين الروم وفارس حروب كثيرة، وكان أهل مصر يؤدون خراجين عن بلادهم: خراجاً لفارس، وخراجاً للروم؛ ثم انجلت فارس عن مصر والشأم [لأمر «1» حدث في دار مملكتهم فغلبت الروم على مصر والشأم] وأشهروا النصرانية فشمل ذلك من في الشأم ومصر إلى أن أتى الله بالإسلام، وكان من أمر المقوقس صاحب مصر مع النبي صلى الله عليه وسلم من الهدايا ما كان إلى أن افتتحها عمرو بن العاص بمن كان معه من الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حسبما ذكرناه في أول ذلك الكتاب.
وكان المقوقس ملك مصر وصاحب القبط نزيل الإسكندرية في بعض فصول السنة، وفي بعضها مدينة منف، وفي بعضها قصر الشمع، وقصر الشمع في وسط مدينة الفسطاط. والمقصود من ذكر ذلك أن الذين ملكوا مصر باتفاق كثير من أهل التاريخ على اختلاف بينهم، من الفراعنة وغيرهم: اثنان وثلاثون فرعوناً؛ ومن ملوك بابل ممن ملك مصر: خمسة؛ ومن العماليق وهم الذين قدموا إليها من الشأم: أربعة؛ ومن الروم: سبعة؛ ومن اليونانيين: عشرة؛ وذلك قبل ظهور المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وملكها أناس من ملوك الفرس من الأكاسرة، فكانت مدة من ملك مصر من بني نوح والفراعنة والعماليق والروم واليونانيين ألف سنة وثلثمائة سنة.
قلت: وهذا الذي ذكرناه على سبيل الاستطراد، وشرط كنابنا هذا ألا نذكر فيه إلا من ملك مصر في الإسلام، ومن ذكرناه من هؤلاء زيادة ليست بمنكرة لتحصيل الفائدة.(1/60)
قال المسعودي: وسألت جماعة من أقباط مصر بالصعيد وغيره من أهل الخبرة عن تفسير اسم فرعون فلم يخبروني عن معنى ذلك ولا تحصل لي في لغتهم، فيمكن- والله أعلم- أن هذا الاسم كان سمة لملوك تلك الأعصار، وأن تلك اللغة تغيرت كتغير الفهلوية، وهي الفارسية الأولى إلى الفارسية الثانية، وكاليونانية إلى الرومية، وتغير الحميرية وغير ذلك من اللغات. انتهى كلام المسعودي.
قلت: وليس بمستبعد هذه المقالة لأن لسان العرب وهو أشرف الألسن وبه نزل القرآن الكريم قد تغير الآن غالبه، وصارت العامة وغيرها تتكلم بكلام لو سمعه بعض أعراب ذلك الزمان لما فهموه لتغير ألفاظه، وكذلك اللغة التركية، فإن لسان المغل الآن لا يعرفه جند زماننا هذا ولا يتحدثون به، ولو سمعوه لما فهموه، وأشياء كثيرة من هذا. اهـ.
ونشرع الآن بذكر ما نحن بصدده، ومن لأجله صنف هذا الكتاب، وهم ملوك مصر والقاهرة، ونبدأ بترجمة عمرو بن العاص رضي الله عنه، لأنها «1» فتحت على يديه، وهو أوّل من وليها من المسلمين.
ذكر ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤي بن غالب، أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد القرشىّ السّهمىّ الصحابىّ؛ أسلم يوم الهدنة وهاجر، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة ذات السلاسل، وفيه أبو بكر وعمر، لخبرته بمكيذة الحرب، ثم ولي الإمرة في غزوة الشأم لأبي بكر وعمر، ثم افتتح مصر حسبما تقدم ذكره ووليها لعمر أولاً، ثم وليها لمعاوية ابن أبي سفيان ثانياً على ما يأتي ذكره.(1/61)
وحكى ابن سعد في كتاب الطبقات: أنه أسلم بعد الحديبية هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام: وله عدة أحاديث، روى عنه ابناه عبد الله ومحمد، وأبو عثمان النهدي، وقبيصة بن ذؤيب، وعلي بن رباح، وعبد الرحمن بن شماسة، وآخرون؛ وقدم دمشق رسولاً من أبي بكر إلى هرقل، وله بدمشق دار عند سقيفة كردوس، ودار عند باب الجابية تعرف ببني حجيجة، ودار عند عين الحمار «1» ، وأمه عنزية، وكان قصيرا يخضب بالسواد.
حدثنا ابن لهيعة عن مشرح عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص» رواه الترمذي. وقال ابن أبي مليكة قال طلحة بن عبيد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«عمرو بن العاص من صالحي قريش» أخرجه الترمذي وفيه انقطاع. وقال حمّاد ابن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابنا العاص مؤمنان هشام وعمرو» . وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أخبرني سويد بن قيس عن قيس بن شفىّ: أن عمرو بن العاص قال:
يا رسول الله، أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي؟ قال: «إن الإسلام والهجرة يجبّان ما كان قبلهما» قال: فو الله ما ملأت عيني منه ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله، حياءً منه.
وقال الحسن البصري: قال رجل لعمرو بن العاص: أرأيت رجلاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال: بلى، قال:
قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك، وقد استعملك؛ قال: بلى،(1/62)
فو الله ما أدري أحباً كان لي منه أو استعانةً بي، ولكن سأحدثك برجلين مات وهو يحبهما: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر؛ فقال الرجل: ذاك قتيلكم يوم صفين، قال: قد والله فعلنا.
وروي أن عمراً لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان على عمان، فأتاه كتاب أبي بكر بذلك. قال ضمرة عن الليث بن سعد: إن عمر رضي الله عنه نظر إلى عمرو ابن العاص يمشي، فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً.
قال الذهبي بعد كلام ساقه: ثم إن عمراً قال لمعاوية- يعني في أيام وقعة صفين-: يا معاوية، أحرقت كبدي بقصصك، أترى أنا خالفنا علياً لفضلٍ منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وأيم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك، أو لأنابذنك، قال: فأعطاه مصر، يعطي أهلها عطاءهم وما بقي فله.
ويروى أن علياً كتب إلى عمرو يتألفه، فلما أتاه الكتاب أقرأه معاوية، وقال:
قد ترى، فإما أن ترضيني، وإما أن ألحق به! قال: فما تريد؟ قال: مصر، فجعلها له.
وعن يزيد بن أبي حبيب وغيره؛ أن الأمر لما صار لمعاوية استكثر طعمة مصر لعمرو، ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه، وظن أن معاوية سيزيده الشأم مع مصر فلم يفعل معاوية، فتنكر له عمرو فاختلفا وتغالظا، فدخل بينهما معاوية بن حديج فأصلح بينهما، وكتب بينهما كتاباً: إن لعمرو ولاية مصر سبع سنين وأشهد عليهما شهوداً، ثم مضى عمرو إليها سنة تسع وثلاثين (أعني في ولايته الثانية) ، فما مكث نحو ثلاث سنين حتى مات.(1/63)
قال: وكان عمرو من أفراد الدهر دهاء وجلادة وحزماً ورأياً وفصاحة. ذكر محمد بن سلام الجمحي: أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى رجلاً يتلجلج في كلامه يقول: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.
وقال مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر قال: صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه، ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مداراةً منه؛ وصحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل منه من غير مسئلة؛ وصحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحلم منه؛ وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين، أو قال أنصع، «1» ظرفاً منه، ولا أكرم جليساً، ولا أشبه سريرة بعلانيةٍ منه؛ وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها. وقال موسى بن علي بن رباح حدثنا أبي حدثنا أبو قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمراً كان يسرد الصوم، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل، أكثر ما كان يأكل في السحر. وقال عمرو بن دينار: وقع بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص كلام فسبه المغيرة، فقال عمرو: يا آل هصيص، أيسبني ابن شعبة! فقال عبد الله ابنه: إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها! فأعتق عمرو ثلاثين رقبة. انتهى كلام الذهبي باختصار.
قلت: ولما ولي عمرو بن العاص مصر ودخلها سكن الفسطاط. ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقول كثيرة، منها: أن عمراً لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه (أعني خيمته) فإذا فيه يمامة قد فرخت، فقال عمرو: لقد تحرّم منا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون(1/64)
من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط- يعنون فسطاط عمرو الذي خلفه بمصر مضروباً لأجل اليمامة فغلب عليه ذلك- وكان موضع الفسطاط المذكور موضع الدار التى تعرف اليوم بدار الحصار «1» عند دار عمرو الصغيرة بمصر.
وقال الشريف محمد بن سعد الجوّانىّ: كان فسطاط عمرو عند درب حمّام «2» شمول بخط الجامع، اهـ.
ولما رجع عمرو من الإسكندرية في سنة إحدى وعشرين أو غيرها نزل موضع فسطاطه وتنافست «3» القبائل بعضها مع بعض في المواضع، فولى عمرو بن العاص معاوية بن حديج التجيبي «4» ، وشريك بن سمي الغطيفي، وعمرو بن قحزم «5» الخولاني، وحيويل «6» بن ناشرة المعافري على الخطط، وكانوا هم الذين نزلوا الناس وفصلوا بين القبائل. وذلك في سنة إحدى وعشرين من الهجرة، واستمر عمرو على عمله بمصر، وشرع في بناء جامعه بمصر إلى أن عزله عثمان عن ولاية مصر في سنة خمس وعشرين بعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أنتقض صلح أهل الإسكندرية وغزاه عمرو في السنة المذكورة.
وسبب ذلك أن ملك الروم بعث إليهم منويل الخصي في مراكب من البحر، فطمعوا في النصرة ونقضوا دينهم، فغزاهم عمرو في ربيع الأول سنة خمس وعشرين(1/65)
فافتتح الأرض عنوة والمدينة صلحاً، ثم استأذن عمراً عبد الله بن سعد بن أبي سرح في غزوة إفريقية، فأذن له عمرو بن العاص؛ وبعد قليل عزله عثمان في هذه السنة بعبد الله بن أبي سرح المذكور- وعبد الله بن أبى سرح أخو عثمان لأمه- وقيل:
إن ذلك كان في سنة سبع وعشرين، والذي قلنا الأقوى؛ وهذه ولاية عمرو بن العاص على مصر الأولى. وتأتي بقية ترجمته ووفاته في ولايته الثانية، إن شاء الله تعالى.
وسبب عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر أنه قدم على عثمان لما تخلف وكان قدم على عمر مرتين استخلف في إحداهما زكريا بن جهم العبدري «1» ، وفي الثانية ابنه عبد الله، فلما قدم عمرو على عثمان سأله عزل عبد الله بن سعد ابن أبي سرح عن صعيد مصر، وكان عمر قد ولاه صعيد مصر، فامتنع عثمان من ذلك وعزله عن مصر وعقد لعبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر كلها مضافةً للصعيد وغيره، فكانت ولاية عمرو بن العاص على مصر في المرة الأولى أربع سنين وأشهرا.
[ذكر «2» بناء جامع عمرو بن العاص بمصر رضى الله عنه
كان خاناً والذي حاز موضعه قيسبة «3» بن كلثوم التجيبي أبو عبد الله أحد بني سوم، فلما رجعوا من الإسكندرية سأل عمرو قيسبة المذكور في منزله هذا يجعله مسجداً؛ فقال له قيسبة: فإني أتصدق به على المسلمين، فسلمه إليهم؛ واختط مع قومه بني سوم في [تجيب «4» ] وبني الجامع في سنة إحدى وعشرين، وكان طوله(1/66)
خمسين ذراعاً في عرض ثلاثين؛ ويقال: إنه وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلاً من الصحابة، منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وأبو بصرة الغفاري، ومحمية «1» بن جزء الزّبيدى، ونبيه ابن صواب وغيرهم، وكانت القبلة مشرقة «2» جداً، وإن قرة بن شريك لما هدم المسجد المذكور وبناه في زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان تيامن بها قليلا.
وذكر الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة: [أنهما «3» ] كانا يتيامنان إذا صليا في المسجد الجامع، ولم يكن للمسجد الذي بناه عمرو محراب مجوّف، وإنما قرة بن شريك المذكور جعل المحراب المجوف.
وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة ليالي أسس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هدم وزاد فيه. وكان لمسجد عمرو بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريه، وبابان في غربيه؛ وكان الخارج من زقاق القناديل يجد ركن الجامع الشرقي محاذياً لركن دار عمرو الغربىّ، وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو، وسقفه مطأطأ جدّا ولا صحن له؛ وكان الناس يصطفون بفنائه؛ وكان بينه وبين دار عمرو سبعه أذرع؛ وكان الطريق محيطاً به من جميع جوانبه، وكان عمرو قد اتخذ منبراً فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزم عليه في كسره ويقول:
أما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك! فكسره عمرو.(1/67)
وأول من صلي عليه من الموتى به في داخله أبو الحسين سعيد «1» بن عثمان صاحب الشرطة في النصف من صفر، وكانت وفاته فجأة فأخرج وصلي عليه خلف المقصورة وكبر عليه خمساً، ولم يعلم أحد قبله صلي عليه بالجامع وأنكر الناس ذلك.
وأول من زاد في الجامع المذكور مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر في أيام معاوية سنة ثلاث وخمسين «2» ، فزاد فيه من بحريه وجعله رحبة في البحري وبيضه وزخرفه، ولم يغير البناء القديم ولا أحدث في قبليه ولا غربيه شيئاً.
وذكر أنه زاد فيه من شرقيه حتى ضاق الطريق بينه وبين دار عمرو بن العاص وفرشه بالحضر وكان مفروشاً قبل ذلك بالحصباء.
وقيل: إن مسلمة نقض ما كان عمرو بناه وزاد فيه من شرقيه وجعل له صوامع، وبنى فيه أربع صوامع في أركانه الأربعة، وأمر ببناء المنار في جميع المساجد، وأمر مسلمة أن يكتب اسمه على المنائر، وأمر مؤذني المسجد الجامع أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من آذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، فكان لآذانهم دوي شديد، وأمر ألا يضرب بناقوس عند وقت الأذان، أعني الفجر.
ثم إن عبد العزيز بن مروان هدمه سنة تسع وسبعين، وهو أمير مصر من قبل أخيه عبد الملك بن مروان، وزاد فيه من ناحية الغرب وأدخل فيه الرحبة التي كانت في بحريه ولم يجد في شرقيه موضعا يوسعه به.(1/68)
وذكر الكندي في كتاب الأمراء: أنه زاد فيه من جوانبه كلها، ويقال: إن عبد العزيز المذكور لما أكمل بناء المسجد المذكور خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر فدخل المسجد فرأى في أهله خفة فأمر بأخذ الأبواب على من فيه، ثم دعاهم رجلاً رجلاً، يقول للرجل: ألك زوجة؟ فيقول: لا، فيقول: زوجوه؛ ألك خادم؟ فيقول: لا، فيقول: اخدموه؛ أحججت؟ فيقول: لا، [فيقول «1» ] : أحجوه؛ أعليك دين؟ فيقول: نعم، فيقول: اقضوا دينه، فأقام المسجد بعد ذلك دهراً عامراً ثم الى اليوم.
وأمر عبد العزيز المذكور برفع سقف الجامع وكان مطأطأ في سنه تسع وثمانين «2» ، ثم إن قرة بن شريك العبسي بن قيس عيلان هدمه في مستهل سنة اثنتين وتسعين بأمر الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقرة أمير على مصر من قبله، وابتدأ في بنائه في شعبان من السنة المذكورة، وجعل على بنائه يحبى بن حنظلة مولى بنى عامر ابن لؤي، وكانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه في رمضان سنة ثلاث وتسعين ونصب المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين ونزع المنبر الذي كان في المسجد؛ وذكر أن عمرو بن العاص كان جعله فيه.
قلت: ولعله كان وضعه بعد وفاة عمر بن الخطاب، فإنه كان منعه حسبما ذكرناه؛ وقيل: هو منبر عبد العزيز بن مروان.
وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر. وذكر أن زكريا بن مرقى «3» ملك النوبة أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وبعث معه نجارا يسمّى «بقطر» حتى(1/69)
ركبه، ولم يزل هذا المنبر في الجامع إلى أن زاد قرة بن شريك المذكور في الجامع، فنصب منبراً سواه، ولم يكن إذ ذاك يخطب في القرى إلا على العصي إلى أن ولي [عبد الملك بن مروان «1» ] بن موسى بن نصير اللخمي مصر من قبل مروان بن محمد فأمر باتخاذ المنابر فى القرى، وذلك فى ستة اثنتين وثلاثين ومائة، ولا يعرف منبر أقدم من منبر قرة بن شريك بعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل كذلك إلى أن قلع وكسر أيام العزيز بالله نزار العبيدي بنظر الوزير ابن كلس في يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلثمائة وجعل مكانه منبر مذهب، ثم أخرج هذا المنبر إلى الإسكندرية وجعل بجامع عمرو بن العاص الذي بها، ثم أنزل المنبر الكبير إلى الجامع المذكور في أيام الحاكم بأمر الله العبيدي في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعمائة، وصرف بنو عبد السميع عن الخطابة وجعلت خطابته لجعفر بن الحسن بن خداع الحسيني، وجعل إلى أخيه الخطابة في الجامع الأزهر، وصرف بنو عبد السميع من جميع المنابر؛ ثم وجد بعد ذلك المنبر الجديد الذي نصب بالجامع قد لطّخ بالقذر فوكّل به من يحفظه وعمل له غشاء من أدم مذهب، وخطب عليه ابن خداع وهو مغشى؛ وكانت زيادة قرة بن شريك من القبلي والشرقي وأخذ بعض دار عمرو بن العاص وابنه عبد الله فأدخله في المسجد وأخذ منهما الطريق التي بين المسجد وبينهما، وعوض أولاد عمرو ما هو في أيديهم من الرباع التي في زقاق مليح في النحاسين وقشرة، وأمر قرة بعمل المحراب المجوف، وهو المحراب المعروف بمحراب عمرو؛ [لأنه في سمت محراب] «2» المسجد القديم الذي بناه عمرو، وكانت قبلة المسجد القديم عند العمد المذهبة في صف التوابيت، وهي(1/70)
أربعة عمد: اثنان في مقابلة اثنين؛ وكان قرّة قد أذهب رءوسها، ولم يكن في المسجد عمد مذهبة غيرها، وكانت قديما [حلقة أهل المدينة «1» ] ثم زوق أكثر العمد وطوق في أيام الإخشيد سنة أربع وعشرين وثلثمائة، ولم يكن للمسجد أيام قرة غير هذا المحراب.
فأما المحراب الأوسط فيعرف بمحراب عمر بن مروان أخي عبد الملك بن مروان الخليفة، ولعله أحدثه في الجدار بعد قرة؛ وذكر قوم أن قرة عمل هذين المحرابين، وصار للجامع أربعة أبواب في شرقيه، آخرها باب إسرائيل، وهو باب النحاسين؛ وفي غربيه أربعة أبواب شارعة في زقاق يعرف بزقاق البلاط؛ وفي بحريه ثلاثة أبواب. انتهى ما أوردناه من أمر جامع عمرو بن العاص المذكور رضى الله عنه.
*** وأما بناء عمرو بن العاص لبيت المال بالفسطاط- فالأصح أنما بناه أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج بمصر في سنة سبع وتسعين في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمير مصر يوم ذاك عبد الملك بن رفاعة الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد خرجنا عن المقصود لطلب الفائدة ونعود إلى ذكر عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قيل: إنه رئي وهو على بغلة هرمة، وهو إذ ذاك أمير مصر، فقيل له: أتركب هذه وأنت أمير مصر؟ فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملتني، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري؛ إن الملل من كواذب الأخلاق.(1/71)
وعن عمرو قيل له: صف الأمصار، قال: أهل الشام أطوع الناس للمخلوق وأعصاه للخالق؛ وأهل مصر أكيسهم صغاراً وأحمقهم كباراً؛ وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها؛ وأهل العراق أطلبهم للعلم وأبعدهم منه.
قال مجالد عن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة ابن شعبة، وزياد بن أبيه؛ فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادرة، وأما زياد بن أبيه فللصغير والكبير.
وقال أبو عمران بن عبد البر: كان عمرو من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، مذكوراً فيهم بذلك، وكان شاعراً محسناً حفظ عنه فيه الكثير في مشاهد شتى، وله يخاطب عمارة بن الوليد بن شعبة عند النجاشىّ:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه وغادر سنة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وقال الذهبي في التذهيب: روى أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله البصري عن أبي مليكة قال قال عمرو بن العاص: إني لأذكر الليلة التي ولد فيها عمر. قلت:
ما قال هذا إلا لأنه أسن من عمر فلعل بينهما نحو خمسين سنة. انتهى كلام الذهبىّ باختصار.
وقال ابن عبد الحكم في تاريخه: خطبة عمرو. حدّثنا عبد الرحمن حدّثنا سعيد ابن ميسرة عن إسحاق بن الفرات عن ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميري عن بحير بن ذاخر «1» المعافري قال:(1/72)
رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة [تهجيراً «1» ] وذلك آخر الشتاء بعد حميم «2» النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت؛ فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ قال: يا بني، هؤلاء الشرط، فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلا ربعة قصد «3» القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب موشية كأن به العقيان يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمداً موجزاً وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام ويأمر بالاقتصاد وينهى عن الفضول وكثرة العيال وقال في ذلك: يا معشر الناس، إياكم وخلالاً أربعة، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة. إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال، فى غير درك ولا نوال؛ ثم إنه لا بد من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيحور من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه غافلاً.
يا معشر الناس، إنه قد تدلت الجوزاء، وذكت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده؛ وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنها جنتكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيراً؛ وإياكم والمسومات «4» والمعسولات فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم.(1/73)
حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صهراً وذمة» ؛ فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه؛ واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك؛ واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» .
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود وسخن العمود وكثر الذباب وحمض اللبن وصوح البقل وانقطع الورد من الشجر، فحي إلى فسطاطكم على بركة الله؛ ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته؛ أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
قال: فحفظت ذلك عنه، فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل- لما حكيت له خطبته- إنه يا بني يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حداهم على الريف والدعة] .
*** السنة الأولى من ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر وهي سنة عشرين من الهجرة- فيها كانت غزوة تستر؛ وفيها توفي بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر الصديق، وحمامة أمه، وكان من السابقين الأولين وممن عذب في الإسلام(1/74)
وشهد بدراً وكان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ مات بدمشق بالطاعون في هذه السنة، وقيل في التي قبلها ودفن بدمشق بالباب الصغير، وله بضع وستون سنة رضي الله عنه؛ وفيها توفيت زينب بنت جحش بن رباب الأسدي- أسد خزيمة- أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وقيل سنة خمس وقيل سنة أربع وهو الأصح؛ وفيها توفي البراء بن مالك الأنصارىّ أخو أنس بن مالك الأنصارىّ النجاري، كان أحد الأبطال الأفراد في الصحابة رضي الله عنهم؛ وفيها توفي عياض بن غنم أبو سعد من المهاجرين الأولين، شهد بدراً وغيرها رضي الله عنه؛ وفيها توفي سعيد ابن عامر بن حذيم الجمحي، كان من أشراف بنى جمح، له صحبة ورواية، قال الذهبي:
روى عنه عبد الرحمن بن سابط؛ وفيها توفي أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رضيع النبي وشبيهه؛ وفيها توفي هرقل عظيم الروم وقام ابنه قسطنطين مكانه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم أربعة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وإحدى وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر وهي سنة إحدى وعشرين من الهجرة- فيها فتحت الإسكندرية في مستهلها على يد عمرو بن العاص بعد أمور وحروب، وفي آخرها افتتح عمرو بن العاص برقة وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار؛ وفيها اشتكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصرفه عمر وولى عليهم عمار بن ياسر على الصلاة، وولى عبد الله بن مسعود على بيت المال، وولى عثمان بن حنيف على مساحة أرض السواد؛ وفيها كان فتح نهاوند، واستشهد أمير الجيش الذي توجّه اليها، وهو النعمان بن مقرن المزني، واستشهد(1/75)
أيضا يومئذ طليحة بن خويلد بن نوفل وفتحت تستر؛ وفيها صالح أبو هاشم بن عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس على أنطاكية وملطية وغيرهما؛ وفيها توفّى خالد بن الوليد ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أبو سليمان سيف الله، كذا لقبه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمه لبابة أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ودفن بحمص، وقبره مشهور يقصد للزيارة؛ وفيها توفي العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن مقنع بن حضرموت حليف بني أمية، وإلى أخيه تنسب بئر ميمونة التي بأعلى مكة احتفرها في الجاهلية؛ وفيها توفي الجارود العبدي سيد عبد القيس، وكنيته أبو عتاب، وقيل أبو المنذر، وقيل اسمه بشر ولقب جاروداً لأنه أغار على بكر بن وائل فأصابهم وجردهم، أسلم سنة عشر من الهجرة وفرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
*** السنة الثالثة من ولاية عمرو الأولى على مصر وهي سنة اثنتين وعشرين من الهجرة- فيها افتتح عمرو بن العاص طرابلس الغرب، وقيل في التي بعدها؛ وفيها غزا حذيفة مدينة الدّينور فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت قبل لسعد ثم انتقضت؛ وفيها أيضا غزا حذيفة ما سبذان فافتتحها عنوة، وقيل كان افتتحها سعد ثم نقضوا؛ وقال طارق بن شهاب: غزا أهل البصرة ماه، فأمدهم أهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر فأرادوا أن يشركوا في الغنائم فأبى أهل البصرة، ثم كتب إليهم عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة؛ وفيها فتحت همذان قاله ابن جرير وغيره؛ وفيها فتحت الري وما بعدها، ثم فتحت أذربيجان في قول الواقدي وأبي معشر، وقال سيف: كانت فى سنة(1/76)
ثماني عشرة، وكان بين أهل هذه البلاد والمسلمين حروب كثيرة حتى فتح الله عليهم؛ وفيها توفي أبي بن كعب، في قول الواقدىّ وابن نمير والدّيلمى واليزيدي، وقيل في سنة تسع عشرة.
أمر النيل في هذه السنة الماء القديم، أعني القاعدة، ستة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة فيها ستة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.
*** السنة الرابعة من ولاية عمرو الأولى على مصر، وهي سنة ثلاث وعشرين من الهجرة- فيها فتح كرمان، وكان أميرها سهل بن عدي؛ وفيها فتحت سجستان وكان أمير الجيش عاصم بن عمر؛ وفيها فتحت مكران، وكان أمير الجيش لفتحها الحكم بن عثمان وهي من بلاد الجبل؛ وفيها- ذكر سيف عن مشايخه-: أنّ سارية ابن زنيم قصد فسا ودارابجرد واجتمع له جموع من الفرس والأكراد عظيمة ودهم المسلمين منهم أمر عظيم، ورأى عمر بن الخطاب في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من نهار وأنهم في صحراء، وهناك جبل إن استندوا إليه لم يؤتوا إلا من جهة واحدة، فنادى عمر من الغداة للصلاة جماعة حتى إذا كانت الساعة التي كان رأى أنهم اجتمعوا فيها خرج إلى الناس، فصعد المنبر فخطب الناس وأخبرهم بما رأى ثم قال: يا سارية، الجبل الجبل، ثم قال: إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم؛ قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم وفتحوا البلد؛ وقيل في رواية أخرى: إنما كان عمر في خطبة الجمعة؛ وفيها حج عمر بن الخطاب بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر حجة حجها؛ وفيها غزا معاوية بن أبي سفيان الصائفة حتى بلغ عمورية؛ وفيها توفي قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر ابن سواد بن كعب واسمه ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس أبو عمرو(1/77)
الأنصاري الظفري أخو أبي سعيد الخدري لأمه وقتادة الأكبر، شهد قتادة وقعة بدر، وأصيبت عينه ووقعت على خده في يوم أحد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فغمز حدقته وردها إلى موضعها فكانت أصح عينيه؛ وفيها توفى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ابن لؤي أبو حفص القرشي العدوي الفاروق، استشهد في يوم الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة وقيل لأربع، وسنه يوم مات نيفت على ستين سنة، وقيل غير ذلك على أقوال كثيرة، ضربه أبو لؤلؤة واسمه فيروز عبد المغيرة بن شعبة بخنجر في خاصرته وهو في صلاة الصبح فمات بعد ثلاثة أيام، وتولى الخلافة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وكانت خلافته عشر سنين ونصف لأنه ولي بعد وفاة أبي بكر الصديق في ثامن جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة.
قلت: ويضيق هذا المحل عن ذكر شىء من بعض مناقبه وما ورد في حقه من الأحاديث، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا المكان.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً.
*** السنة الخامسة من ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر وهي سنة أربع وعشرين من الهجرة- فيها سار منويل الخصي إلى الإسكندرية فسأل أهل مصر عثمان إرسال عمرو بن العاص لقتال منويل المذكور، فجاء إليها عمرو وحارب حتى افتتحها الفتح الثاني في هذه السنة، وقيل: بل كان ذلك في سنة خمس وعشرين وهو الأصح؛ وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ وفيها- في قول سيف- عزل عثمان سعداً عن الكوفة وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط(1/78)
مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان، وكنيته أبو وهب، وهو أخو عثمان لأمه، وله صحبة ورواية، روى عنه أبو موسى الهمذانىّ والشّعبىّ؛ وفيها فتح معاوية بن أبي سفيان الحصون وولد له ابنه يزيد؛ وفيها توفي سراقة بن مالك بن جعشم أبو سفيان المدلجي.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية أبن أبي سرح على مصر
هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح واسمه الحسام (وسرح بالسين والحاء المهملتين) والحسام بن الحارث بن حبيب (بالحاء المهملة مصغراً) بن جذيمة «1» ابن نصر بن مالك بن حسل «2» بن عامر بن لؤي، أبو يحيى العامري عامر قريش، ولي إمرة مصر بعد عزل عمرو بن العاص في سنة خمس وعشرين، كما تقدم ذكره، من قبل عثمان بن عفان، وجاءه الكتاب بولايته وهو بالفيوم، فجعل لأهل الجواب جعلاً فقدموا به مصر، وسكن الفسطاط ومكث أميراً على مصر مدة ولاية عثمان بن عفان كلها وهو أخو عثمان لأمه؛ قاله ابن كثير، قال: وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه، يأتي ذكر ذلك مفصّلا في آخر ترجمته من كلام ابن حجر بعد أن نذكر نبذة من أموره.
ولما ولي مصر أحسن السيرة في الرعية، وكان جواداً كريماً، ثم أمره عثمان أن يغزو إفريقية، فإذا افتتحها كان له خمس الخمس من الغنيمة نفلاً، فسار عبد الله بن(1/79)
أبي سرح المذكور إلى إفريقية في عشرة آلاف وغزاها حتى افتتح سهلها وجبلها وقتل خلقاً كثيراً من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام وحسن إسلامهم، وأخذ عبد الله بن أبي سرح المذكور خمس الخمس من الغنيمة وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة في الجيش فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار.
قال الواقدي: وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، فأطلقها عثمان كلها في يوم واحد في آل الحكم، ويقال: في آل مروان؛ ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح المذكور إفريقية ثانية في سنة ثلاث وثلاثين حين نقض أهلها العهد حتى أقرهم على الإسلام والجزية؛ واستشهد معه في هذه المرة بإفريقية جماعة منهم: معبد بن العباس بن عبد المطلب وغيره.
ثم غزا في سنة أربع وثلاثين غزوة ذات الصواري في البحر من ناحية الإسكندرية، فلقيه قسطنطين بن هرقل في ألف مركب، وقيل في سبعمائة، والمسلمون في مائتي مركب، وتقاتلا فانتصر الأمير عبد الله هذا وهزم الروم؛ وإنما سميت غزوة ذات الصواري لكثرة صواري المراكب واجتماعها. وعاد إلى مصر فبلغه في سنة خمس وثلاثين خبر من ثار على عثمان رضي الله عنه، ودخل منهم طائفة إلى مصر بأمر عثمان، فإنه كان أخرج منهم جماعة إلى البصرة والشام ومصر، فلما قدم من قدم منهم إلى مصر وافقهم جماعة من المصريين على خلاف عثمان كرهاً في ابن أبي سرح هذا لكونه ولي بعد عمرو بن العاص، وأيضاً لاشتغاله عنهم بقتال أهل المغرب وفتح بلاد البربر وأندلس وإفريقية وغيرها، ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حرب عثمان وحرب عبد الله بن أبي سرح المذكور،(1/80)
واجتمعوا واستنفروا من مصر في ستمائة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب لينكروا على عثمان وساروا إلى المدينة تحت أربع رايات، وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعبد الرحمن التجيبي، وأقبل معهم محمد بن أبي بكر الصديق، وأقام بمصر محمد بن حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء، فكتب ابن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم منكرين عليه في صفة معتمرين، فوقع لهم مع عثمان رضي الله عنه أمور يطول شرحها إلى أن سألوا عثمان عزل عبد الله ابن أبي سرح هذا عن ولاية مصر ويولي عليهم محمد بن أبي بكر الصديق، فأجابهم الى ذلك، فلما رجعوا وجدوا في الطريق بريدياً يسير فأخذوه وفتشوه، فإذا معه في إداوة كتاب كتبه مروان بن الحكم كاتب عثمان وابن عمه، والكتاب على لسان عثمان، فيه الأمر بقتل طائفة منهم وصلب آخرين وقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم؛ وكان على الكتاب طبع خاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان على جمله، فلما رجعوا جاءوا بالكتاب إلى المدينة وداروا به على الناس، فكلم الناس عثمان في أمر الكتاب؛ فقال عثمان ما معناه: إنه دلس عليه الكتاب ثم قال: والله لا كتبته ولا أمليته ولا دريت بشيء من ذلك والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون وكذبه الكاذبون في ذلك؛ واستمر عبد الله بن أبي سرح على عمله على كرهٍ من المصريين إلى أن خرج من مصر متوجهاً إلى عثمان بعد أن استخلف عليها عقبة بن عامر الجهني وقتل عثمان رضي الله عنه واستخلف علي رضي الله عنه، فعزل عبد الله بن أبي سرح هذا عن مصر وولاها لقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما؛ ثم استولى على مصر جماعة من قبل علي بن أبي طالب وقاتلوا عقبة بن عامر على ما سيأتي ذكره بعد أن نذكر من توفي في أيام ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح هذا على مصر كما هو عادة كتابنا(1/81)
هذا، وكان عزل عبد الله بن أبي سرح عن مصر في سنة ست وثلاثين بعد أن حكمها نحواً من عشر سنين.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح صاحب الترجمة فلم أقف له على خبر بعد ذلك، غير أن بعض المؤرخين ذكروا أنه توفي بفلسطين في سنة ست وثلاثين المذكورة، ويقال غير ذلك أقوال كثيرة؛ منها:
قال الحافظ شهاب الدين بن حجر العسقلاني في الإصابة: روى الحاكم من طريق السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم إلا أربعة نفر وامرأتين: عكرمة وابن خطل ومقيس بن صبابة وابن أبي سرح، وذكر الحديث، قال: فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان فجاء به عثمان حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، فقال:
يا رسول الله، بايع عبد الله، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله» .
ومن طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن سعد ابن أبي سرح يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فزين له الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل (يعني يوم الفتح) فاستجار بعثمان، فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود.
وروى ابن سعد من طريق ابن المسيّب قال: كان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله، فذكر نحواً من حديث مصعب بن سعد عن أبيه.
وروى الدار قطنىّ من حديث سعيد بن يربوع المخزومي نحو ذلك؛ ومن طريق الحكم بن عبد الله عن قتادة بن أنس بمعناه؛ وأوردها ابن عساكر من حديث(1/82)
عثمان بن عفان أيضاً؛ وأفاد سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان» : أن الأنصاري الذي قال: فهلّا أو مأت إلينا، هو عباد بن بشر، ثم قال: وقيل: إن الذي قال هو عمر.
وقال ابن يونس: شهد فتح مصر واختط بها، وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر، وله مواقف محمودة في الفتوح، وأمره عثمان على مصر، ولما وقعت الفتنة سكن عسقلان ولم يبايع لأحد، ومات بها سنة ست وثلاثين، وقيل: كان قد سار من مصر إلى عثمان واستخلف السائب بن هشام بن عمرو فبلغه قتله، فرجع فتغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة فمنعه من دخولها، فمضى إلى عسقلان، وقيل إلى الرملة، وقيل بل شهد صفين، وعاش إلى سنة سبع وخمسين ذكره ابن منده.
وقال البغوي «1» : له عن النبي صلّى الله عليه وسلم حديث واحد وخرجه، ووقع لنا بعلو في المعرفة لابن منده. انتهى كلام ابن حجر باختصار، وتأتي بقية ترجمة ابن أبي سرح هذا في حوادث سنيه.
*** السنة الأولى من ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وهي سنة خمس وعشرين من الهجرة- فيها في قول سيف عزل عثمان سعداً عن الكوفة؛ وفيها سار الجيش من الكوفة وعليهم سليمان بن ربيعة إلى برذعة، فقتل وسبى؛ وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.(1/83)
*** السنة الثانية من ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وهي سنة ست وعشرين من الهجرة- فيها فتحت سابور وكان أمير الجيش عثمان بن أبي العاص الثقفي، صالحهم على ثلاثة آلاف ألف وثلثمائة ألف؛ وفيها زاد عثمان ابن عفان رضي الله عنه في المسجد الحرام ووسعه واشترى الزيادة من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم إلى الحبس وقال: ما جرأكم علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر فلم تصيحوا عليه؛ وفيها حج عثمان بن عفان بالناس.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع، وقيل خمسة عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة سبع وعشرين- فيها توفي عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول، وكنيته أبو يحيى، وقيل: أبو الحارث، صحابي شهد بدراً؛ وفيها فتحت الأندلس «1» ، وكان أمير الجيش عبد الله بن الحصين وعبد الله بن عبد القيس، أتياها من قبل البحر، كتب إليهما عثمان رضي الله عنه يقول: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان والسلام. قال ابن جرير: قال بعضهم وفي هذه السنة غزا معاوية قبرس. وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين. وقال أبو معشر: غزاها معلوية(1/84)
سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم. وقال الواقدي: في هذه السنة فتحت اصطخر ثانياً على يدى عثمان بن أبي العاص. وقال الذهبي: فيها غزا معاوية قبرس وكان معه عبادة بن الصامت وزوجة عبادة أم حرام بنت ملحان الأنصارية فاستشهدت، كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاها ويقيل عندها وبشرها بالشهادة؛ وفيها صالح عثمان بن أبي العاص أهل أرجان على ألفي ألف ومائتى ألف، وصالح أهل دارابجرد على ألف ألف وثمانين ألفاً؛ وفيها غزا أمير مصر ابن أبي سرح صاحب الترجمة إفريقية حسبما تقدم، وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو ابن العاص وعبد الله بن الزبير بن العوام، وكان المسلمون في عشرين ألفاً، وكان العدو (يعني جرجير) في مائتي ألف مقاتل، وفتح الله وغنم المسلمون شيئاً كثيراً؛ وفيها حج بالناس عثمان رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
*** السنة الرابعة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة ثمان وعشرين- فيها فتحت قبرس على يد معاوية، قاله الذهبي في قول، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع المسلمين من الغزو في البحر شفقة عليهم، فلما ولي عثمان استأذنه معاوية فأذن له ففتح الله على يده؛ وفيها غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم، قاله الواقدي، وفيها غزا الوليد بن عقبة أذربيجان. فصالحهم مثل صلح حذيفة؛ وفيها حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ثلاثة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعاً.(1/85)
*** السنة الخامسة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة تسع وعشرين- فيها افتتح عبد الله بن عامر اصطخر، في قول، عنوة فقتل وسبى، وكان على مقدمته عبد الله بن معمر بن عثمان التيمي وكلاهما صحابي؛ وفيها عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة بعد عمالة ست سنين، وقيل ثلاث، وولى عليها عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان؛ وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص، وله من العمر خمس وعشرون سنة فأقام بها ست سنين؛ وفيها وسع عثمان بن عفان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبناه بالقصّة (وهى الكلس) كان يؤتى به من نخلة، والحجارة المنقوشة وجعل عمده حجارة مرصعة وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستة على ما كانت عليه في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه وضرب له بمنى فسطاط، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غير واحد من الصحابة كعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود؛ وفيها نقضت أذربيجان فغزاهم سعيد بن العاص حتى افتتحها ثانياً؛ وفيها فتحت أصبهان؛ وفيها عزل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.
*** السنة السادسة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة ثلاثين بعد الهجرة- فيها افتتح عبد الله بن عامر مدينة هور من أرض فارس وغنم منها شيئاً كثيرا،(1/86)
ثم افتتح عبد الله المذكور أيضاً بلاداً كثيرة من أرض خراسان، ثم افتتح نيسابور صلحاً، ويقال عنوة، ثم صالح أهل سرخس على مائة وخمسين ألفاً، وصالح أهل مرو على ألفي ألف ومائتي ألف، ولما فتح عبد الله بن عامر هذه البلاد الواسعة كثر الخراج على عثمان وأتاه المال من كل وجه حتى اتخذ الخزائن وزاد الأرزاق؛ وفيها نقض أهل خراسان وتجمعوا، فنهض لقتالهم الأحنف بن قيس وقاتلهم حتى هزمهم، وكانت وقعة مشهورة؛ وفيها توفي الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب المطلبي، وهو أخو عبيدة بن الحارث والحصين بن الحارث، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفيها توفي أبي بن كعب في قول الواقدي، وقد تقدم، وهذا أثبت الأقوال في موته؛ وفيها توفي حاطب بن أبي بلتعة اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، وهو صحابي شهد بدراً رضي الله عنه؛ وفيها توفي عبد الله بن كعب بن عمرو المازني الأنصاري البدري أيضاً، كنيته أبو الحارث وقيل أبو يحيى، شهد بدراً وكان على الخمس يوم بدر رضي الله عنه؛ وفيها توفي عياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال أبو سعد القرشي، كان أيضاً ممن شهد بدراً والمشاهد بعدها، هكذا قال ابن سعد وفرق بينه وبين ابن أخيه عياض ابن غنم بن زهير الفهري أمير الشام المتوفى سنة عشرين؛ وفيها توفي معمر بن أبي سرح، واسمه ربيعة بن هلال القرشي الفهري أبو سعيد، وقيل اسمه عمرو، وهو أيضاً ممن شهد بدراً؛ وفيها توفي مسعود بن ربيعة، وقيل ابن الربيع أبو عمير القاري، والقارة حلفاء بني زهرة، وهو أيضاً ممن شهد بدراً وغيرها رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وإحدى وعشرون إصبعاً.(1/87)
*** السنة السابعة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة إحدى وثلاثين من الهجرة- فيها توفي أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، أسلم أبو سفيان يوم الفتح وشهد حنيناً وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم مائة من الإبل وأربعين أوقية، وقد فقئت عينه يوم الطائف، ثم شهد غزوة اليرموك، وفيها توفي أبو الدرداء، واسمه عويمر بن يزيد، وقيل عبد الله بن قيس بن ثعلبة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري الصحابي المشهور رضي الله عنه؛ وفيها توفي نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، كنيته أبو سلمة له صحبة ورواية رضي الله عنه؛ وفيها توفي كسرى ملك فارس وهو يزدجرد بن شهريار، وسبب هلاكه أنه هرب من كرمان إلى مرو فلم يتم له ذلك، فخرج أيضاً هارباً إلى أن نزل برجل ينقر الأرحاء فأوى إليه، فقتله الرجل وأخذ ما عليه من الجواهر.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً.
*** السنة الثامنة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة اثنتين وثلاثين- فيها سار عبد الله بن عامر من البصرة إلى المشرق فافتتح بها بلاداً كثيرة: الطالقان وجرجان وبلخ وطخارستان، وكان على مقدمته الأحنف بن قيس، وقيل بل جهز عبد الله بن عامر الأحنف وأقام هو بالبصرة يمده بالمال والرجال؛ وفيها غزا عبد الرحمن بن ربيعة بلنجر، وكان صاحبها نازلاً قريباً من باب الأبواب وبعث يطلب من سعيد بن العاص المدد فأمده بحبيب بن مسلمة الفهري فأبطأ حبيب على(1/88)
عبد الرحمن فسار عبد الرحمن نحو بلنجر المذكورة وحصرها؛ وفيها توفي أبو ذر «1» الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بن كعيب بن صعير بن الوقعة بن حرام بن سفيان بن عبيد ابن حرام، كان من أحد السابقين الأولين وكان خامساً في الإسلام رضي الله عنه:
وفيها توفي العباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو الفضل، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو بثلاث، أسلم بعد وقعة بدر رضي الله عنه، وقد استسقى به عمر بن الخطاب في أيام خلافته في بعض السنين؛ وفيها توفي عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فأر بن مخزوم بن صاهلة ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، أبو عبد الرحمن الهذلي حليف بني زهرة، أسلم قبل عمر، وكان سبب إسلامه مرور النبي صلى الله عليه وسلم به وقصته مشهورة، وهو أحد كبار الصحابة رضي الله عنه، وهو من السابقين الأولين وشهد بدراً والمشاهد كلها؛ وفيها توفي عبد الرحمن بن عوف ابن الحارث بن زهرة بن كلاب، أبو محمد القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا للإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى بعد موت عمر لأجل الخلافة؛ وفيها توفي أبو الدرداء عويمر وقد تقدم ذكره، والصحيح أنه توفي في هذه السنة؛ وفيها توفى الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس، عم عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وأبو مروان بن الحكم، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فدام به إلى أن أستقدمه عثمان في خلافته، وسمي الحكم هذا طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه؛ وفيها توفي سلمان الفارسي، وكنيته أبو عبد الله، ويقال له سليمان الخير، أصله من اصطخر، وقيل من أهل أصبهان، من قرية يقال لها جىّ، وهو من الطبقة الثانية من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كان(1/89)
من المهاجرين، شهد بدرا وأحدا؛ وفيها توفي سنان بن أبي سنان بن محصن الأسدي من الطبقة الأولى من الصحابة، كان من المهاجرين، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفيها توفي عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدىّ ابن سعد بن سهم، كنيته أبو حذافة، كان ممن هاجر الهجرتين وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، وهو رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى؛ وفيها توفي كعب الأحبار بن نافع الحميري من مسلمي أهل الكتاب، كنيته أبو إسحاق، أسلم على يد أبي بكر الصديق، وقيل على يد عمر رضي الله عنهما، وهو من الطبقة الأولى من التابعين؛ وفيها توفي أبو مسلم الجبلي (بالجيم) وهو من جبل صيدا بساحل دمشق، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل بعد ذلك، وهو من الطبقة الأولى من التابعين؛ وفيها توفي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي الأزدي، حليف بني عبد شمس بن عبد مناف، أسلم بمكة قديماً وهاجر إلى الحبشة وشهد خيبر رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وتسعة أصابع.
*** السنة التاسعة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة ثلاث وثلاثين- فيها نفى عثمان رضي الله عنه جماعة من أهل الكوفة إلى الشام كانوا يعيبون عليه ويطعنون فيه ويسبون سعيد بن العاص والي الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فكتب إليه عثمان يسيرهم إلى الشام، فسيرهم وفيهم عروة بن الجعد البارقي ومالك بن الحارث الأشتر النخعي وجندب بن زهير وعمرو بن الحمق وابن أبي زياد وغيرهم؛ وفيها غزا معاوية بن أبي سفيان بلاد الروم ووصل إلى(1/90)
حصن المرأة من أعمال ملطية وافتتحه؛ وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية وكانوا نقضوا كما تقدم في ترجمته؛ وفيها بعث عبد الله بن عامر الأحنف ابن قيس إلى خراسان وكانوا أيضاً قد نقضوا العهد فقاتلهم وظفر بهم ولحقه عبد الله ابن عامر فهدم مدينتها؛ وفيها توفي المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الكندي، وكنيته أبو معبد، ويقال له ابن الأسود لأنه كان حالف الأسود بن عبد يغوث في الجاهلية فتبناه، وإنما قيل له الكندي لأن أباه كان حالف كندة، وهو في الصحابة من الطبقة الأولى، كان من المهاجرين الأولين، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وكان يقال له فارس الإسلام رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً.
*** السنة العاشرة من ولاية ابن أبي سرح على مصر وهي سنة أربع وثلاثين- فيها غزا أمير مصر صاحب الترجمة غزوة ذات الصواري وانتصر على الروم حسبما تقدم ذكره؛ وفيها سارت ركائب المنحرفين عن عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة؛ وفيها توفي إياس بن أبي البكير الكناني حليف بني عدي، كان من المهاجرين، شهد بدراً هو وإخوته: خالد وعاقل وعامر، ولم يشهد بدراً إخوة أربعة سواهم، وقد شهد إياس هذا فتح مصر رضي الله عنه؛ وفيها توفى عبادة ابن الصامت في قول، وقد تقدم ذكره وهو أحد النقباء ليلة العقبة ومن كبار الصحابة؛ وفيها توفي مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي المذكور في حديث الإفك، شهد بدراً والمشاهد بعدها، وكان فقيراً ينفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ وفيها توفي أبو عبس بن جبر بن عمرو الأنصاري الأوسي،(1/91)
واسمه على الأصح عبد الرحمن، وكان اسمه في الجاهلية عبد العزى فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الذين قتلوا كعب بن الأشرف اليهودي وشهد بدراً وغيرها؛ وفيها توفي أبو طلحة الأنصاري، واسمه زيد بن سهل بن الأسود، أحد بني مالك بن النجار، كان من النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً والمشاهد بعدها.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ستة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وستة أصابع.
*** السنة الحادية عشرة من ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر وهي سنة خمس وثلاثين- فيها عزل عبد الله بن أبي سرح عن مصر في قول؛ وفيها كانت غزوة ذي خشب وأمير المسلمين فيها معاوية بن أبي سفيان؛ وفيها كان خروج أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر متوجهاً إلى عثمان، واستخلف على مصر عقبة بن عامر الجهني، وقيل السائب بن هشام العامري، وجعل على خراجها سليم بن عتر «1» التجيبي، وكان ذلك في رجب من سنة خمس وثلاثين وسار إلى عثمان فاستمر أمر مصر مستقيماً إلى شوال من السنة؛ وفيها خرج محمد ابن [أبي «2» ] حذيفة بن عتبة بن ربيعة على عقبة بن عامر خليفة عبد الله بن أبي سرح على مصر، وملك مصر على ما سيأتي ذكره؛ وفيها كانت مقتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه في ذي الحجة منها وقصته مشهورة، وقد استوعب ذلك جماعة من المؤرخين في عدة كراريس لا سبيل إلى تلخيصها في هذا المحل، غير أننا نذكر نسبته ومدة خلافته لا غير، فنقول:(1/92)
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس أمير المؤمنين، أبو عمزو، وقيل أبو عبد الله القرشي الأموي؛ وأمه أروى، هو أحد السابقين الأولين وذو النورين وصاحب الهجرتين وزوج الابنتين، مولده قبل عام الفيل بستة أعوام، وقيل بعده بستة أعوام، وخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر لمرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم فتوفيت بعد بدر بليال، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم من بدر وآجره، ثم زوجه بالبنت الأخرى أم كلثوم.
قال الذهبي: روى عطية عن أبي سعيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان، وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز جيش العسرة، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقلبها بيده ويقول: «ما ضر عثمان بعد اليوم ما عمل» رواه أحمد في مسنده، وفضائله كثيرة يضيق هذا المحل عن ذكر شيء منها.
قلت: بويع عثمان بالخلافة لما مات عمر في ذي الحجة سنة أربع وعشرين من الهجرة، فدام في الخلافة حتى قتل في هذه السنة رضي الله عنه، وتولى الخلافة من بعده علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وفيها توفى كعب «1» الأحبار، وكان أسلم في خلافة أبي بكر الصديق، وكان من أوعية العلم؛ وفيها توفي عبادة بن الصامت الأنصاري الصحابي المشهور أحد النقباء مات بالرملة.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.(1/93)
ذكر استيلاء محمد بن [أبي] حذيفة على مصر
هو محمد بن [أبي] حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وثب على مصر وملكها من غير ولاية من خليفة، فلذلك لم يعده المؤرخون من أمراء مصر، وكان من خبره أنه جمع جمعاً وركب بهم على عقبة بن عامر الجهني خليفة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقاتله وهزمه وأخرجه من الفسطاط، ثم دعا الناس لخلع عثمان من الخلافة وصار يعدد أفعاله بكل شيء يقدر عليه، فاعتزله شيعة عثمان وقاتلوه وهم: معاوية بن حديج وخارجة بن حذافة السهمي وبسر بن أبى أرطاة ومسلمة بن مخلّد في جمع كثير من الناس، وبعثوا إلى عثمان بذلك، وبينا أن يأتي الخبر من عثمان قويت شوكة محمد هذا، ثم حضر من عند عثمان سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم ويتألف الناس، فخرج إليه جماعة من أعوان محمد بن أبي حذيفة المذكور وكلموه وخاشنوه، ثم قلبوا عليه فسطاطه وشجوه ونهبوه، فركب من وقته وعاد راجعاً ودعا عليهم لما فعلوه به، ثم عاد إلى مصر عبد الله بن أبي سرح راجعاً فمنعه أن يدخل إلى مصر وقاتلوه، فكر راجعاً إلى عسقلان ثم قتل في هذه الأيام بفلسطين، وقيل بالرملة حسبما ذكرناه في آخر ترجمته في هذا الكتاب، ثم أراد محمد ابن أبي حذيفة أن يبعث جيشا إلى عثمان فجهز إليه ستمائة رجل عليهم عبد الرحمن ابن عديس البلوي، وبينما هم في ذلك إذ قدم عليهم الخبر بقتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة، فلما وصل الخبر بذلك ثار شيعة عثمان بمصر وعقدوا لمعاوية ابن حديج وبايعوه على الطلب بدم عثمان وساروا الى الصعيد، فبعث اليهم محمد ابن أبي حذيفة جماعة كثيرة فتقاتلا فهزمت جيش محمد وافترقا، وتوجه معاوية بأصحابه إلى جهة برقة فأقام بها مدة ثم عاد إلى الإسكندرية، فبعث اليه محمد ابن أبي حذيفة بجيش آخر فاقتتلوا بخربتا أول شهر رمضان من سنة ست وثلاثين(1/94)
فانهزم جيش محمد أيضاً، وأقامت شيعة عثمان بخربتا إلى أن قدم معاوية بن أبي سفيان من الشأم إلى مصر، فخرج إليه محمد بن أبي حذيفة بأصحابه ومنعوه من الدخول إلى الفسطاط، ثم اتفقا على أن يجعلا رهناً ويتركا الحرب، فاستخلف محمد ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت وخرج فى الرهن هو وابن عديس وعدة من قتلة عثمان، فلما وصلوا إلى معاوية قبض عليهم وحبسهم وسار إلى دمشق فهربوا من السجن، فتتبعهم أمير فلسطين حتى ظفر بهم وقتلهم في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فلما بلغ الخبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمصاب محمد بن جذيفة ولى على مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصارى رضى الله عنه.
ذكر ولاية قيس بن سعد بن عبادة على مصر
هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي المدني؛ قال الذهبي: كان من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة، وله عدة أحاديث، روى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وعروة بن الزبير والشعبىّ وميمون بن أبى شبيب وغريب ابن حميد الهمدانىّ وجماعة، وكان ضخما جسما طويلاً جداً سيداً مطاعاً كثير المال جواداً كريماً يعد من دهاة العرب. قال عمرو بن دينار: كان ضخماً جسيماً صغير الرأس ليست له لحية، وإذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض؛ روى عنه أنه قال:
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المكر والخديعة في النار» لكنت من أمكر هذه الأمة. وقال الزهري: أخبرنا ثعلبة بن أبى مالك أنّ قيس ابن سعد كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جويرية بن أسماء:
كان قيس يستدين ويطعمهم، فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا هذا الفتى أهلك مال(1/95)
أبيه، فمشيا في الناس فصلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقام سعد بن عبادة خلفه، فقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب يبخلان علي ابني اهـ.
وقال موسى بن عقبة: وقفت على قيس عجوز فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً. وقال أبو تميلة «1» يحيى بن واضح: أخبرنا أبو عثمان من ولد الحارث بن الصمة قال: بعث قيصر إلى معاوية: ابعث إلي سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظن إلا قد احتجنا إلى سراويلك، فقام وتنحى وجاء بها فألقاها، فقال:
ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها! فقال:
أردت بها أن يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم ... شديد وخلقي في الرجال مديد
فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه، قال: فوقفت بالأرض اهـ.
ولما ولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على مصر لما ولي الخلافة بعد قتل عثمان وبعثه إلى مصر فوصل إليها في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين فدخلها قيس ومهد أمورها واستمال الخارجية بخربتا من شيعة عثمان ورد عليهم أرزاقهم، وقدموا عليه بمصر فأكرمهم وأنعم عليهم، وكان عنده رأي ومعرفة ودهاء، فعظم على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ولايته لمصر فإنه كان من حزب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واجتهدا كثيراً ليخرجاه منها فلم يقدرا على ذلك(1/96)
حتى عمل معاوية على قيس من قبل علي بن أبي طالب وأشاع أن قيساً من شيعته ومن حزبه، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سراً، ولا زال يظهر ذلك حتى بلغ علياً، وساعده في ذلك محمد بن أبي بكر الصديق لحبه مصر أو لإمرتها وعبد الله بن جعفر، فما زالا بعلي حتى كتب لقيس بن سعد يأمره بالقدوم عليه، وعزله عن مصر، فكانت ولايته على مصر من يوم دخلها إلى أن صرف عنها أربعة أشهر وخمسة أيام وكان عزله في خامس رجب من سنة سبع وثلاثين، وولي عليها الأشتر النخعي.
وروينا عن أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأ وغلى كما أخبرنا أبو الحسن علي بن صدقة الشافعي أخبرنا القاضي الإمام تاج الدين أحمد الفرغاني الحنفي أخبرنا حيدرة بن المحيا العباسي حدثنا صالح بن الصباغ أخبرنا أبو المؤيد محمود قال حدثنا الحافظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى إجازة بكتابه «مرآة الزمان» قال: خرج قيس ابن سعد بن عبادة من عند علي حتى دخل مصر في سبعة نفر وصعد المنبر وقعد عليه وقرأ كتاب علي على الناس، وفيه: «من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، أما بعد، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأنبياء وأن الله توفى رسوله وأستخلف بعده خليفتين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ثم توفاهما الله تعالى على ما كانا عليه، ثم ولي بعدهما والٍ أحدث أحداثاً فوجدت عليه الأمة مقالاً [فقالوا ثم «1» ] نقموا عليه وغيروه، ثم جاءونى وبايعوني، ولله علي العمل بكتابه وسنة رسوله والنصح للرعية ما بقيت والله المستعان، وبعثت إليكم بقيس بن سعد بن عبادة أميراً، فوازروه وعاشروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان(1/97)
إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته، وأسأل الله لنا ولكم عملاً صالحاً وثواباً جزيلاً ورحمةً واسعة والسلام عليكم. وكتبه عبد الله «1» بن أبي طالب في رابع صفر سنة ست وثلاثين» ثم قال قيس: أيها الناس قد جاء الحق وزهق الباطل، وبايعنا خير من نعلم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن نحن لم نعمل بذلك فلا بيعة لنا عليكم، فقام الناس وبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا قرية من قرى مصر يقال لها: «خربتا» فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان، وبها رجل من كنانة من بني مدلج يقال له: يزيد بن الحارث بن مدلج، فأرسلوه إلى قيس بن سعد: إنا لا نقاتلك فابعث عمالك فالأرض أرضك، ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس. ووثب مسلمة بن مخلد الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك! علىّ تثب! فو الله ما أحب أن لي ملك مصر إلى الشأم وأني قتلتك فبعث إليه مسلمة يقول:
إني كاف عنك ما دمت والي مصر، وكان قيس بن سعد له رأي وحزم، فبعث إلى الذين بخربتا: إني لا أكرهكم على البيعة وأكف عنكم، فهادنهم وهادن مسلمة ابن مخلد وأقام قيس يجبي الخراج ولا ينازعه أحد من الناس، وخرج أمير المؤمنين إلى وقعة الجمل ورجع إلى الكوفة وقيس مكانه، فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية بن أبى سفيان لفربه من الشأم مخافة أن يقفل عليه علي بن أبي طالب من العراق ويقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع معاوية بينهما فأخذ يخدعه.
فكتب معاوية إلى قيس:(1/98)
«من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد بن عبادة: سلام عليك، أما بعد، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أمور رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو شتمة شتمها أو في سيرٍ سيره أو في استعماله الفيء فقد علمتم أن دمه لم يكن حلالاً لكم، فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئا إدّا، فتب إلى الله يا قيس بن سعد، فإنك ممن أعان على قتل عثمان، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً؛ وأما صاحبك فقد تيقنا أنه الذي أغرى به وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، فأن بايعتنا على هذا الأمر فلك سلطان العراقين، ولمن شئت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحب، فإنك لا تسألني شيئاً إلا أوتيته، واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك والسلام» .
فلما جاءه كتاب معاوية أحب قيس أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل حربه؛ فكتب إليه:
«أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، فأما ما ذكرت من أمر عثمان فذلك أمر لم أقار «1» به ولم أتنطف «2» به؛ وأما قولك: إن صاحبي أغرى الناس بعثمان فهذا أمر لم أطلع عليه، وذكرت أن معظم عشيرتي لم يسلموا من دم عثمان، فأول الناس فيه قياماً عشيرتي ولهم أسوة غيرهم؛ وأما ما ذكرت من مبايعتي إياك وما عرضت علي فلي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يسارع إليه، وأنا كاف عنك ولن يبدو لك من قبلي شيء مما تكره والسلام» .(1/99)
فلما قرأ كتابه معاوية لم يره إلا مباعداً مفارقاً فلم يأمن مكره ومكيدته، فكتب إليه ثانياً:
«أما بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلماً، ولم أرك مباعداً فأعدك حرباً، وليس مثلي من يخدع وبيده أعنة الخيل ومعه أعداد الرجال والسلام» .
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه، وكتب إليه:
«أما بعد، فالعجب من اغترارك بي يا معاوية وطمعك في تسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقربهم بالخلافة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلاً، وأقربهم إلى رسوله وسيلة، وأوفرهم فضيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلاً، وأبعدهم من الله ورسوله [وسيلة «1»
] ولد ضالين مضلين طاغوت «2» من طواغيت إبليس، وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال لتشتغلن بنفسك حتى العدم.
وقال هشام: ولما رأى معاوية أن قيس بن سعد لا يلين له كاده من قبل علي؛ وكذا روى عبد الله بن أحمد بن حنبل باسناده اهـ.
وقال هشام بن محمد: عن أبي مخنف وجه آخر في حديث قيس بن سعد ومعاوية، قال: لما أيس معاوية من قيس بن سعد شقّ عليه لما يعرف من حزمه وبأسه، فأظهر للناس أن قيساً قد بايعه، واختلق معاوية كتاباً فقرأه على أهل الشأم وفيه:(1/100)
أما بعد، لما نظرت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم محرماً مسلماً برأ تقيا مستغفرا وإنى معكم على قتله بما أحببتم من الأموال والرجال متى شئتم عجلت إليكم.
قال: فشاع في أهل الشأم أن قيساً قد بايع معاوية وبلغ علياً ذلك فأكبره وأعظمه، فقال له عبد الله بن جعفر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيساً عن مصر، فقال علي: والله ما أصدق هذا على قيس، ثم عزله وولى الأشتر، وقيل محمد بن أبي بكر الصديق في قول ابن سيرين، فلما عزله عرف قيس أن علياً قد خدع وتوجه إليه وصار معه؛ قال عروة: وكان قيس بن سعد مع علي في مقدّمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رءوسهم بعد موت علي، فلما دخل الجيش في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم، إن شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً، قالوا: خذ لنا ففعل؛ فلما ارتحل نحو المدينة جعل ينحر كل يوم جزوراً. قال الواقدي وغيره: إنه توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين.
السنة التي حكم في بعضها قيس بن سعد بن عبادة على مصر وهي سنة ست وثلاثين- فيها كانت وقعة الجمل بين علي رضي الله عنه وبين عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ومعها طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وغيرهما، وكانت فيها مقتلةً عظيمة قتل فيها عدة من الصحابة وغيرهم؛ قال البلاذري: التقوا بمكان يقال له «الخريبة» في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين اهـ.
قلت: وممن قتل في هذه الوقعة طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى بعد موت عمر بن الخطاب قتله مروان بن الحكم(1/101)
في منصرفه من وقعة الجمل بساعة، وكان مروان مع عائشة أيضاً غير أنه لما رأى انصرافه رمى عليه بسهم قتله، وقال لأبان بن عثمان بن عفان: قد كفيتك بعض قتلى أبيك- يعني أنه كان موارياً على عثمان في أول الأمر- وفيها قتل الزبير بن العوّام ابن خالد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله القرشىّ الأسدىّ المكي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة وهو من السابقين، قتله عمير «1» بن جرموز بعد انصرافه من وقعة الجمل بساعة؛ وفيها توفي حذيفة بن اليمان واسم اليمان حسيل (ويقال حسيل بالتصغير) بن جابر بن أسيد، وقيل ابن عمرو، أبو عبد الله العبسي حليف الأنصار، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفيها توفي سلمان الفارسي رضي الله عنه في قول وقد تقدم ذكره.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية الأشتر النخعي على مصر
وفي ولاية الأشتر هذا على مصر قبل محمد بن أبي بكر الصديق اختلاف كثير، حكى جماعة كثيرة من المؤرخين وذكروا ما يدل على أنّ ولاية محمد بن أبي بكر كانت هي السابقة بعد عزل قيس بن سعد بن عبادة، وجماعة قدموا ولاية الأشتر هذا، ولكل منهما استدلال قوي، والذين قدموا الأشتر هم الأكثر، وقد رأيت في عدة كتب ولاية الأشتر هي المقدمة فقدّمته لذلك.(1/102)
والأشتر اسمه مالك بن الحارث، قال أبو المظفر في مرآة الزمان: قال علماء السيرة كابن إسحاق وهشام والواقدي قالوا: لما اختل أمر مصر على محمد بن أبي بكر الصديق وبلغ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين، صاحبنا الذي عزلناه عنها- يعني قيس بن سعد بن عبادة- أو مالك ابن الحارث- يعني الأشتر هذا.
قلت: وهذا مما يدل على أن ولاية محمد بن أبي بكر الصديق كانت هي السابقة، اللهم إلا إن كان لما اختل أمر مصر على محمد عزله علي رضي الله عنه بالأشتر، ثم استمر محمد ثانياً بعد موت الأشتر على عمله حتى وقع من أمره ما سنذكره، وهذا هو أقرب للجمع بين الأقوال لأن الأشتر توفي قبل دخوله إلى مصر والله أعلم؛ وكان علىّ رضى الله عنه حين انصرف من صفين رد الأشتر إلى عمله على الجزيرة وكان عاملا عليها، فكتب إليه وهو يومئذ بنصيبين: سلام عليك يا مالك، فإنك ممن استظهرتك على إقامة الدين؛ وكنت قد وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه خوارج، وهو غلام حدث السن غر ليس بذي تجربة للحرب ولا مجرب للأشياء، فاقدم علي لننظر في ذلك كما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصفة من أصحابك والسلام. فأقبل مالك- أعني الأشتر- على علي رضي الله عنه فأخبره بحديث محمد وما جرى عليه، وقال: ليس لها غيرك، فاخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ. فخرج الأشتر من عند علي وأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر فشق عليه وعظم ذلك لديه، وكان قد طمع في مصر وعلم أن الأشتر متى قدمها كان أشد عليه، فكتب معاوية إلى الخانسيار «1»(1/103)
(رجل من أهل الخراج، وقيل كان دهقان القلزم) يقول: إن الأشتر واصل إلى مصر قد وليها، فإن أنت كفيتني إياه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت، فأقبل لهلاكه بكل ما تقدر عليه؛ فخرج الخانسيار حتى قدم القلزم فأقام به، وخرج الأشتر من العراق يريد مصر حتى قدم إلى القلزم فاستقبله الخانسيار فقال له: انزل فإني رجل من أهل الخراج وقد أحضرت ما عندي، فنزل الأشتر فأتاه بطعام وعلف وسقاه شربة من عسل جعل فيها سماً، فلما شربه مات، وبعث الخانسيار [من «1» ] أخبر بموته معاوية، فلما بلغ معاوية وعمرو بن العاص موت الأشتر قال عمرو بن العاص:
إن لله جنوداً من عسل.
وقال ابن الكلبي عن أبيه: لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة، فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له نافع، وأظهر له الود وقال له:
أنا مولى عمر بن الخطاب، فأدناه الأشتر وقرّ به ووثق به وولاه أمره، فلم يزل معه إلى عين شمس (أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية) وفيها ذلك العمود المذكور في أول أحوال مصر من هذا الكتاب، فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا؟؟؟ وسقاه نافع المذكور العسل فمات منه.
وقال ابن سعد: إنه سم بالعرش؛ وقال الصوري: صوابه بالقلزم؛ وقال أبو اليقظان: كان الأشتر قد ثقل على أمير المؤمنين علي أمره، وكان متجريا عليه مع شدة محبته له.
وحكي عن عبد الله بن جعفر قال: كان علي قد غضب على الأشتر وقلاه واستثقله، فكلمني أن أكلمه فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، وله مصر فإن ظفروا به استرحت منه فولاه، وكانت عائشة رضي الله عنها قد دعت عليه فقالت: اللهم(1/104)
ارمه بسهم من سهامك؛ واختلفوا في وفاة الأشتر، فقال ابن يونس: مات مسموماً سنة سبع وثلاثين، وقال هشام: سنة ثمان وثلاثين في رجب؛ وكان الأشتر شجاعاً مقداماً، وقصته مع عبد الله بن الزبير مشهورة، وقول ابن الزبير بسببه:
اقتلاني ومالكاً ... واقتلا مالكاً معي
حتى صار هذا البيت مثلاً.
وشرح ذلك: أن مالك بن الحارث (أعني الأشتر النخعي) كان من الشجعان الأبطال المشهورين، وكان من أصحاب علي وكان معه في يوم وقعة الجمل، فتماسك في الوقعة هو وعبد الله بن الزبير بن العوام، وكان عبد الله أيضاً من الشجعان المشهورين، وكان عبد الله بن الزبير من حزب أبيه، وخالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم، وكانوا يحاربون علياً رضي الله عنه فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على الآخر جعله تحته وركب صدره، وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير يقول:
اقتلاني ومالكاً ... واقتلا مالكاً معي
يريد قتل الأشتر بهذا القول والمساعدة عليه حتى افترقا من غير أن يقتل أحدهما الآخر؛ وقال عبد الله بن الزبير المذكور: لقيت الأشتر النّخعىّ يوم الجمل فما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً، ثم أخذ رجلي وألقاني في الخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبداً.
وقال ابن قيس: دخلت مع عبد الله بن الزبير الحمام واذا فى رأسه ضربة لو صبّ فيها قارورة لاستقر، فقال: أتدري من ضربني هذه الضربة؟ قلت:
لا، قال: ابن عمك الأشتر النخعىّ.(1/105)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها لمن بشرها بسلامة ابن أختها عبد الله بن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم. وقيل: أن الأشتر دخل بعد ذلك على عائشة رضي الله عنها، فقالت له: يا أشتر، أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة، فأنشد:
أعائش لولا أنني كنت طاوياً ... ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... بأخر صوتٍ اقتلاني ومالكا
فنجاه مني أكله وسنانه ... وخلوة جوف لم يكن متمالكا
ذكر ولاية محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على مصر
هو محمد بن أبي بكر الصديق، واسم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان؛ أسلم أبو قحافة يوم الفتح فأتى به ابنه أبو بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقوده لكبر سنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم لا تركت الشيخ حتى نأتيه» إجلالاً لأبي بكر رضى الله عنه. اهـ.
وأبو قحافة المذكور ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، وكنية محمد هذا (أعني صاحب الترجمة) أبو القاسم، وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ومولده سنة حجة الوداع بذي الحليفة في عقب ذى القعدة، فأراد أبو بكر أن يردّ أسماء إلى المدينة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مرها أن تغتسل وتهل» وكان محمد هذا في حجر علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما تزوج أمه أسماء بعد وفاة أبي بكر الصديق فتولى تربيته، ولما سار علي إلى وقعة الجمل كان محمد هذا معه على الرجالة، ثم شهد معه وقعة صفين،(1/106)
ثم ولاه مصر فتوجه إليها ودخلها في النصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين، فتلقاه قيس بن سعد المعزول عن ولاية مصر، وقال له: يا أبا القاسم، إنك قد جئت من عند أمير لا رأي له، وليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإني أدلك على الذي كنت أكيد به معاوية وعمراً وأهل خربتا فكايدهم به، فإنّك إن كايدتهم بغيره تهلك، ووصف له المكايدة التى يكايدهم بها فاستغشه محمد بن أبي بكر وخالفه في كل شيء أمره به، ثم كتب إليه علي يشجعه ويقوي عزمه، ففتك محمد في المصريين وهدم دور شيعة عثمان بن عفان ونهب دورهم وأموالهم وهتك ذراريهم، فنصبوا له الحرب وحاربوه، ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، فلحقوا بمعاوية في الشام، وكان أهل الشام لما انصرفوا من وقعة صفين ينتظرون ما يأتي به الحكمان؛ فلما اختلف الناس بالعراق على علي رضي الله عنه طمع معاوية في مصر، وكان أهل خربتا عثمانية ومن كان من الشيعة كان أكثر منهم، فكان معاوية يهاب مصر لأجل الشيعة وقصد معاوية أن يستعين بأخذ مصر على حرب علي رضي الله عنه قال: فاستشار معاوية أصحابه عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن ابن خالد وأبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي وغيرهم (وهؤلاء المذكورين كانوا خواصّه) فجمع المذكورين وقال: هل تدرون ما أدعوكم إليه؟ قالوا: لا يعلم الغيب إلا الله، فقال له عمرو بن العاص: نعم، أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها فتدعونا لنشير عليك فيها فاعزم وانهض، في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك، فقال له: يا بن العاص، إنما أهمك الذي كان بيننا (يعني أنه كان أعطاه مصر لما صالحه على قتال علي) وقال معاوية للقوم: ما ترون؟ قالوا:
ما نرى إلا رأي عمرو، قال: فكيف أصنع؟ فقال عمرو: ابعث جيشاً كثيفاً(1/107)
عليهم رجل حازم صارم تثق إليه فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فنظاهره على من كان بها من أعدائنا، قال معاوية: أو غير ذلك؟ قال:
وما هو؟ قال: نكاتب من بها من شيعتنا نأمرهم على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم فتقوى قلوبهم ونعلم صديقنا من عدوّنا، وإنّك يا بن العاص بورك لك فى العجلة، قال عمرو: فاعمل برأيك فو الله ما أرى أمرك إلا صائراً للحرب، قال: فكتب إليهم معاوية كتاباً يثني عليهم ويقول: هنيئاً لكم بطلب دم الخليفة المظلوم وجهادكم أهل البغي، وقال في آخره: فاثبتوا فإن الجيش واصل إليكم والسلام. وبعث بالكتاب مع مولى يقال له سبيع فقدم مصر، وأميرها محمد بن أبي بكر الصديق، فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج، فكتبا جوابه:
أما بعد، فعجل علينا بخيلك ورجلك، فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن أتانا المدد من قبلك يفتح الله علينا، وذكرا كلاماً طويلاً؛ وكان مسلمة ومعاوية ابن حديج يقيمان بخربتا في عشرة آلاف، وقد باينوا محمد بن أبي بكر ولم يحسن محمد تدبيرهم كما كان يفعله معهم قيس بن سعد بن عبادة أيام ولايته على مصر، فلذلك انتقضت على محمد الأمور وزالت دولته؛ ولما وقف معاوية على جوابهما وكان يومئذ بفلسطين جهز عمرو بن العاص في ستة آلاف وخرج معه معاوية يودعه وأوصاه بما يفعل، وقال له: عليك بتقوى الله والرفق فإنه يمن والعجلة من الشيطان، وأن تقبل ممن أقبل وتعفو عمن أدبر، فإن قبل فهذه نعمة، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أقطع من الحجة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة؛ فسار عمرو حتى وصل الى مصر واجتمعت العثمانية عليه، فكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر صاحب مصر.(1/108)
أما بعد، فنحّ عنّى بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني قلامة ظفر، والناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك [وهم مسلموك «1» ] فاخرج منها إني لك من الناصحين؛ ومعه كتاب معاوية يقول: يا محمد، إن [غب «2» ] البغي والظلم عظيم الوبال، وسفك الدماء الحرام من النقمة في الدنيا والآخرة، وإنا لا نعلم أحداً كان على عثمان أشد منك، فسعيت عليه مع الساعين وسفكت دمه مع السافكين، ثم أنت تظن أني نائم عنك وناس سيئاتك، وكلام طويل من هذا النمط حتى قال: ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام. فطوى محمد الكتابين وبعث بهما إلى علي بن أبي طالب وفي ضمنهما يستنجده ويطلب منه المدد والرجال، فرد عليه الجواب من عند علي بن أبي طالب بالوصية والشدة، ولم يمده بأحد.
ثم كتب محمد إلى معاوية وعمرو كتاباً خشن لهما فيه في القول، ثم قام محمد في الناس خطيباً فقال:
أما بعد، فإن القوم الذين ينتهكون الحرمة ويشبّون نار الفتنة قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بجيوشهم، فمن أراد الجنة فليخرج اليهم فليجاهدهم في الله، انتدبوا مع كنانة بن بشر؛ فانتدب مع كنانة نحواً من ألفي رجل، ثم خرج محمد بن أبي بكر في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، وكنانة «3» يسرح لعمرو الكتائب، فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج السكوني.
وفي رواية لما رأى عمرو كنانة سرح إليه الكتائب من أهل الشام كتيبة بعد كتيبة وكنانة يهزمها فاستنجد عمرو بمعاوية بن حديج السكوني فسار في أصحابه وأهل الشام فأحاطوا بكنانة.(1/109)
فلما رأى كنانة ذلك ترجل عن فرسه وترجل أصحابه، وقرأ وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا
إلى قوله وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
فقاتل حتى قتل بعد أن قتل من أهل الشام مقتلة عظيمة، فلما رأى أصحاب محمد ذلك تفرقوا عنه فنزل محمد عن فرسه ومشى حتى انتهى إلى خربة فأوى إليها، وجاء عمرو بن العاص ودخل الفسطاط؛ وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبي بكر، فسأل قوماً من العلوج وكانوا على الطريق فقال: هل رأيتم رجلاً من صفته كذا وكذا؟ فقال واحد منهم: قد دخل تلك الخربة، فدخلوها فإذا برجل جالس، فقال معاوية بن حديج: هو ورب الكعبة، فدخلوها واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به على الفسطاط ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى عمرو بن العاص وكان في جنده، فقال: أيقتل أخي صبراً؟ فأرسل عمرو إلى معاوية بن حديج يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر كرامة لأخيه عبد الرحمن ابن أبي بكر، فقال معاوية: أيقتل كنانة بن بشر وأخلي أنا محمداً هيهات هيهات! فقال محمد: اسقوني ماء، فقال معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة، إنكم منعتم عثمان الماء، ثم قتلتموه صائماً فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنّك يا بن أبي بكر فليسقك الله من الجحيم؛ فقال محمد لمعاوية: يا بن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا؛ فقال له معاوية:
أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار؛ قال محمد:
إن فعلتم ذلك لطالما فعلتموه بأولياء الله تعالى؛ ثم طال الكلام بينهما حتى أخذ معاوية محمداً ثم ألقاه في جيفة حمار ميت ثم حرقه بالنار؛ وقيل: إنه قطع رأسه وأرسله إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به «1» ، وهو أول رأس طيف به «2»(1/110)
في الإسلام. ولما بلغ عائشة رضي الله عنها قتل أخيها محمد بن أبي بكر هذا وجدت عليه وجداً عظيماً وأخذت أولاده وعياله وتولت تربيتهم.
وقال أبو مخنف بإسناده: ولما بلغ علي بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان من الأمر بمصر وتملك عمرو لها واجتماع الناس عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيباً فحثهم على الجهاد والصبر والسير إلى أعدائهم من الشاميين والمصريين، وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة.
فلما كان من الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش، فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيباً فقال:
الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل، وابتلاني بكم وبمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت، أو ليس عجيباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه بغير عطاء ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء! وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على معاوية «1» وطائفة من العطاء فتتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي! فقام مالك بن كعب الأرحبي فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة له، فانتدب ألفان فأمر عليهم مالك بن كعب هذا فسار بهم خمساً؛ ثم قدم على علي جماعة ممن كان مع محمد بن أبي بكر الصديق بمصر، فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو فيها، فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق، وذلك لأنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر، واستقر أمر العراقين على خلاف علي فيما يأمرهم به وينهاهم(1/111)
عنه والخروج عليه والتنقد على أحكامه وأقواله وأفعاله لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم، فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو نائبه على البصرة يشكو اليه ما يلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة، فرد عليه ابن عباس يسليه في ذلك ويعزيه في محمد بن أبى بكر ويحثّه على تلاقى الناس والصبر على مسيئهم، فإن ثواب الجنة خير من الدنيا، ثم ركب ابن عباس إلى الكوفة إلى علي واستخلف على البصرة زياداً؛ وقد خرجنا عن المقصود.
*** السنة التي حكم فيها محمد بن أبي بكر الصديق وغيره على مصر وهي سنة سبع وثلاثين من الهجرة- فيها كانت وقعة صفين بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان؛ وفيها قتل عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المدلجي العبسي أبو اليقظان، كان من نجباء الصحابة وشهد بدراً والمشاهد كلها وقتل في صفين، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه؛ وفيها توفي خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة التيمي «1» مولى أم سباع بنت أنمار، كنيته أبو عبد الله، كان من المهاجرين الأولين، شهد بدراً والمشاهد بعدها وروي عنه أحاديث؛ وفيها أيضاً قتل بصفين من أصحاب علي رضي الله عنه أويس بن عامر المرادي القرني الزاهد سيد التابعين، كنيته أبو عمرو، أسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفيها قتل في وقعة صفين من أصحاب علي رضي الله عنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري؛ وفيها توفي عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ وفيها قتل كريب بن صباح الحميري، أحد الأبطال من أصحاب معاوية.(1/112)
أمر اليل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية عمرو بن العاص ثانياً على مصر
قد تقدم الكلام في أول ولايته على نسبه وصحبته للنبىّ صلى الله عليه وسلم ثم أخذه مصر ثانياً في ترجمة محمد بن أبي بكر الصديق وكيفية قتاله وكيف ملك مصر منه. وولاية عمرو بن العاص هذا في هذه المرة من قبل معاوية بن أبى سفيان، وكان دخوله إلى مصر في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين، وجمع إليه معاوية الصلاة والخراج في ولايته هذه. وسبب انتماء عمرو إلى معاوية أن عمراً كان لما عزله عثمان بن عفان عن مصر بعبد الله بن سعد بن أبي سرح المقدم ذكره توجه عمرو وأقام بمكة منكفاً عن الناس حتى كانت وقعة الجمل.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي قال جويرية بن أسماء حدثني عبد الوهاب ابن يحيى بن عبد الله بن الزبير حدثنا أشياخنا أن الفتنة وقعت وما رجل من قريش له نباهة أعمى فيها من عمرو بن العاص، وما زال مقيماً بمكة ليس في شيء مما فيه الناس حتى كانت وقعة الجمل، فلما فرغت بعث إلى ولديه عبد الله ومحمد فقال: إني قد رأيت رأياً ولستما باللذين ترداني عن رأيي ولكن أشيرا علي، إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له ابنه عبد الله: إن كنت لا بد فاعلاً فإلى علي؛ قال: إني إن أتيت علياً قال: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، فأتى معاوية
وعن عروة وغيره قال: دعا عمرو ابنيه، فأشار عليه عبد الله أن يلزم بيته لأنه أسلم له؛ فقال محمد: أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها، لا أرى(1/113)
أن تتخلف؛ فقال عمرو لابنه عبد الله: أما أنت فأشرت علي بما هو خير لي في آخرتي؛ وأما أنت يا محمد فأشرت علىّ بما هو أنبه لذكرى، ارتحلا؛ فارتحلوا إلى الشام غدوة وعشية حتى أتوا الشام. فقال: يأهل الشام، إنكم على خير وإلى خير، تطلبون بدم عثمان، خليفة قتل مظلوماً؛ فمن عاش منكم فإلى خير، ومن مات فإلى خير. فما زال مع معاوية حتى وقع من أمره ما حكيناه في أول ترجمته وغيرها.
ودخل مصر ووليها بعد محمد بن أبي بكر الصديق ومهد أمورها، ثم خرج منها وافداً على معاوية بالشام واستخلف على مصر ولده عبد الله بن عمرو، وقيل خارجة بن حذافة، وحضر أمر الحكمين، ثم رجع إلى مصر على ولايته، ودام بها إلى أن كانت قصة الخوارج الذين خرجوا لقتل علي ومعاوية وعمرو هذا، فخرج عبد الرحمن بن ملجم لقتل علي رضي الله عنه، وقيس إلى معاوية، ويزيد إلى عمرو بن العاص، وسار الثلاثة كل واحد إلى جهة من هو متوجه لقتله، وتواعد الجميع أن يثب كل واحد على صاحبه في سابع عشر شهر رمضان؛ فأما عبد الرحمن فإنه وثب على علىّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وقتله حسبما نذكره فى ترجمته؛ و [أما] «1» قيس فوثب على معاوية وضربه فلم تؤثر فيه الضربة غير أنه جرح؛ وأما يزيد فإنه توجه إلى عمرو هذا فعرضت لعمرو علة تلك الليلة منعته من الصلاة فصلى خارجة بالناس، فوثب عليه يزيد يظنه عمراً وقتله، وأخذ يزيد وأدخل على عمرو فقال يزيد: أما والله ما أردت غيرك؛ فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة؛ فصار مثلاً: «أردت عمراً وأراد الله خارجة» . وأقام عمرو بعد ذلك مدة سنين حتى مات بها فيما نذكره إن شاء الله تعالى في آخر هذه الترجمة.(1/114)
قيل: إنه لما حضر عمرو بن العاص الوفاة بكى؛ فقال له ابنه: أتبكي جزعاً من الموت؟ فقال: لا والله؛ وجعل ابنه يذكّره بصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام؛ قال عمرو: تركت أفضل من ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبقة إلا عرفت نفسي فيها: كنت أول شيء كافراً وكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلومتّ حينئذ لوجبت لي النار؛ فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس منه حياءً ما ملأت عيني منه، فلو مت حينئذ لقال الناس: هنيئاً لعمرو أسلم على خير ومات على خير أحواله، ثم تلبست بعد ذلك بأشياء فلا أدري أعلي أم لي، فإذا أنا مت فلا يبكى علي ولا تتبعوني ناراً، وشدوا علي إزاري فإني مخاصم، فإذا أوليتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها أستأنس بكم حتى أعلم ما أراجع به رسل ربي. قال الذهبي: أخرجه أبو عوانة في مسنده. وفي رواية: أنه بعدها حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت؛ فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه.
وقال الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن أباه قال:
اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور، فتركنا كثيراً مما أمرت ووقعنا في كثير مما نهيت، اللهم لا إله إلا أنت؛ ثم أخذ بإبهامه فلم يزل يهلل حتى توفي.
قال الذهبي، وأيده الطحاوي، حدثنا المزني سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول:
دخل ابن عباس على عمرو بن العاص وهو مريض فقال: كيف أصبحت؟ قال:(1/115)
أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلاً، وأفسدت من ديني كثيراً، فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت، فعظني بموعظة أنتفع بها يا بن أخي؛ فقال: هيهات يا أبا عبد الله! فقال: اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى.
وكانت وفاة عمرو المذكور في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين فصلى عليه ابنه ودفنه ثم صلى بالناس صلاة العيد. قاله أبو فراس مولى عبد الله بن عمرو. وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير: وسنه نحو مائة سنة. وقال أحمد العجلي وغيره: تسع وتسعون سنة. وقال ابن نمير: توفي سنة اثنتين وأربعين.
قلت: والأول هو المتواتر. وكان عمرو رضي الله عنه من أدهى العرب وأحسنهم رأياً وتدبيراً. قيل: إنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية:
من الناس؟ فقال: أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد؛ قال معاوية: كيف ذلك؟ قال عمرو: أما أنت فللتأني؛ وأما أنا فللبديهة؛ وأما المغيرة فللمعضلات؛ وأما زياد فللصغير والكبير؛ قال معاوية: أما ذانك فقد غابا فهات بديهتك يا عمرو؛ قال: وتريد ذلك؟ قال نعم؛ قال: فأخرج من عندك، فأخرجهم معاوية؛ فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أسارك، فأدنى معاوية رأسه منه؛ فقال عمرو: هذا من ذاك، من معنا في البيت حتى أسارك! ولما مات عمرو ولي مصر عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية
*** السنة الأولى من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة ثمان وثلاثين من الهجرة- فيها توجه عبد الله بن الحضرمي من قبل معاوية إلى البصرة ليأخذها، وكان بها زياد بن أبيه ووقع بينهما أمور. وفيها سارت الخوارج لقتال علىّ(1/116)
رضي الله عنه، وكان كبيرهم عبد الله بن وهب، فهزمهم علي وقتل أكثرهم وقتل ابن وهب المذكور، وقتل من أصحاب علي رضي الله عنه اثنا عشر رجلاً، وكانت الوقعة في شعبان من هذه السنة. وفيها توفي صهيب بن سنان بن مالك الرومي، سبته الروم فجلب إلى مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان التيمي، وقيل: بل هرب من الروم فقدم مكة وحالف ابن جدعان، وكان صهيب من السابقين الأولين شهد بدراً والمشاهد كلها، روى عنه أولاده حبيب «1» وزياد وحمزة؛ وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكعب الأحبار، وكنيته أبو يحيى، توفي بالمدينة في شوال. ونشأ صهيب بالروم فبقيت «2» فيه عجمة. وفيها توفي سهل بن حنيف «3» بن واهب الأنصاري كان من أهل مسجد قباء، وكنيته أبو سهل وقيل أبو عبد الله، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي بن أبي طالب، وهو ممن شهد بدراً وأحداً والخندق. وفيها توفيت أسماء بنت عميس بن معد بن تميم «4» بن الحارث بن كعب بن مالك، أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بمكة وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبى طالب، وولد هناك عبد الله بن جعفر، ثم تزوجها بعد جعفر أبو بكر الصديق، فاستولدها محمداً أمير مصر المقدم ذكره، ثم تزوجها بعد أبي بكر علي بن أبي طالب، فولدت منه يحيى وعوفا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وتسعة أصابع. وفي كتاب درر التيجان: تسعة عشر إصبعاً.(1/117)
*** السنة الثانية من ولاية عمرو الثانية على مصر وهي سنة تسع وثلاثين- فيها أيضاً كانت وقعة الخوارج مع علي بن أبي طالب بحروراء وبالنّخيلة، قاتلهم علىّ فكسرهم وقتل رءوسهم، وسجد لله شكراً لما أتي بمخدج «1» اليد مقتولا، وكان رءوس الخوارج زيد بن حفص «2» الطائي وشريح بن «3» أوفى العبسي وكانا على المجنبتين، وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وقد تقدم ذكرها في السنة الماضية، والأصح أنها في هذه السنه؛ وكان على رجالتهم حرقوص بن زهير. وفيها بعث معاوية يزيد ابن شجرة الرّهاىّ ليقيم الحج، فنازعه قثم بن عباس ومانعه، وكان من جهة علي، فتوسط بينهما أبو سعيد الخدري وغيره، فاصطلحا على أن يقيم الموسم شيبة «4» بن عثمان العبدري حاجب الكعبة. وفيها أيضاً بعث معاوية ابن عوف في ستة آلاف فارس وأمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن، وكان بهيت أشرس بن حسان البلوي «5» من جهة علي وقد تفرق عنه أصحابه ولم يبق معه سوى ثلاثين رجلاً، فخرج إليهم وقاتلهم وقتل ابن أشرس وأصحابه. وفيها أرسل معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره بالغارة على من هو في طاعة علي من الأعراب. وفيها توفي سعد بن عابد ويعرف بسعد القرظ مولى عمار بن ياسر (والقرظ: ورق السّلم كان يجلبه وييعه للدباغ فسمي به) وكان سعد يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ثم أذن على عهد أبي بكر وعمر، وهو من الصحابة وله رواية.(1/118)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء الفديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
*** السنة الثالثة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة أربعين- فيها بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فقدم المدينة وعامل علي متوليها وهو أبو أيوب الأنصاري فنفر منها أبو أيوب. وفيها قتل أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة الجمد بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي بنت عم أبي طالب كانت من المهاجرات، توفيت في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو أحد السابقين الأولين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة؛ وأما ما ورد في حقه من الأحاديث وما وقع له في الغزوات فيضيق هذا المحل عن ذكر شيء منها، وفي شهرته رضي الله عنه ما يغني عن الإطناب في ذكره؛ قتله عبد الرحمن بن ملجم، جلس له مقابل السدة «1» التي يخرج منها علي إلى الصلاة، فلما أن خرج علي إلى صلاة الصبح شد عليه عبد الرحمن المذكور فضربه بسكين كانت معه أو بسيف في جبهته وفي رأسه فحمل من وقته وقبض على عبد الرحمن المذكور، فقال علي: أطعموه واسقوه فإن عشت فأنا ولي دمي، إن شئت قتلت وإن شئت عفوت؛ وإن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكان عبد الرحمن قد سم سيفه، فتم علي رضي الله عنه جريحاً يوم الجمعة والسبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان من السنة، وتولى الخلافة من بعده ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما، وكانت خلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر. ولما دفن علي أحضر عبد الرحمن بن ملجم(1/119)
فاجتمع الناس وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية والحسن والحسين ولدا علي وعبد الله بن جعفر ابن أخيه: دعونا نشتف منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم وكحل عينيه، وجعل يقول: إنك لتكحل عيني عمك هذا «1» ، وعيناه تسيلان على خديه، ثم أمر به فعولج على قطع لسانه، فجزع، فقيل له في ذلك؛ فقال:
ما لذاك أجزع ولكن أكره أن أبقى في الدنيا لا أذكر الله! فقطعوا لسانه، ثم أخرجوه في قوصرة «2» ؛ وكان- قبحه الله ولعنه- أسمر حسن الوجه أفلج في جبهته أثر السجود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه قال: صلى الحسن على علي رضي الله عنه ودفن بالكوفة عند قصر الإمارة وعمي قبره لئلا تنبشه الخوارج. وقال شريك وغيره: نقله الحسن إلى المدينة. وذكر المبرد عن محمد بن حبيب، قال: أول من حول من قبر إلى قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها توفي لبيد بن ربيعة بن كلاب بن مالك بن جعفر بن كلاب الصحابي العامري الشاعر المشهور، كنيته أبو عقيل، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من القبائل الذين أسلموا بعد الفتح، ووفد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة وأسلم. وفيها توفي تميم بن أوس ابن خارجة أبو رقية اللخمي الداري الصحابي المشهور، واختلف فى نسبه الى الدار ابن هانئ أحد بني لخم. أسلم تميم سنة تسع، رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً؛ وفي كتاب درر التيجان: وستة أصابع.(1/120)
*** السنة الرابعة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة إحدى وأربعين، وتسمى هذه السنة عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد وهو معاوية بن أبي سفيان- فيها (أعني في سنة إحدى وأربعين) بايع الحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة معاوية وخلع نفسه. وسببه: أنه لما ولي الخلافة بعد وفاة والده علي رضي الله عنه أحبه الناس حباً شديداً زائداً واجتمعوا على طاعته، واستمر في الخلافة أشهراً، فلما رأى الأمر مآله للقتال مع معاوية وألح عليه أهل العراق حتى خرج في جموعه إلى نحو الشام وخرج معاوية أيضاً بجيوشه في طلب الحسن رضى الله عنه، ثم أرسل معاوية إلى الحسن يطلب الصلح. قال خليفة: فاجتمعا بمسكن؛ وهي بأرض السواد من ناحية الأنبار، فاصطلحا في ربيع الآخر وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، لا من جزع بل شفقة على المسلمين، فإن الذي كان اجتمع للحسن من العساكر أكثر مما كان اجتمع لأبيه ولكن ترك ذلك خوفاً من سفك الدماء.
ولما وقع ذلك دخل على الحسن سفيان أحد أصحابه وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين؛ فقال الحسن: لا تقل ذلك، إني كرهت أن أقتلكم في طلب الملك. قال الحافظ الذهبي قال أبو بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن ابن علي إلى جنبه وهو يقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . أخرجه البخاري. وفيها توفي صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعدها، وأعار النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلاحاً كثيراً. وفيها توفيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(1/121)
أمر النيل في هذه- السنة الماء القديم ثمانية أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
*** السنة الخامسة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة اثنتين وأربعين- فيها بعث معاوية المغيرة بن شعبة الى زياد بن أبيه فخدعه وأنزله من قلعته. وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل. وفيها تحرّكت الخوارج الذين بقوا من يوم النهروان. وفيها توفي حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن سفيان «1» ابن حارث أبو عبد الرحمن وقيل أبو مسلمة، ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار بن قصي الجمحي، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين ممن أسلم في هدنة الحديبية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع. وفي درر التيجان: أربعة أذرع وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية عتبة بن أبي سفيان على مصر
هو عتبة بن أبي سفيان- واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس- أخو معاوية بن أبي سفيان لأبيه. ولاه أخوه معاوية إمارة مصر بعد وفاة عمرو بن العاص رضي الله عنه في شوال سنة ثلاث وأربعين. ودخل عتبة مصر(1/122)
في ذي القعدة منها. وكان عتبة هذا شهد مع عثمان بن عفان يوم الدار. قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: قدم على أخيه معاوية بدمشق، وكان له بها في درب الحمالين «1» دار، وولي المدينة والطائف والموسم لأخيه معاوية غير مرة، وشهد وقعة الجمل مع عائشة رضي الله عنها ثم انهزم، فعيره عبد الرحمن بن الحكم «2» :
لعمري والأمور لها دواعٍ ... لقد أبعدت يا عتب الفرارا
وقال ابن عساكر عن الهيثم بن عدي قال: ذكر ابن عباس عتبة بن أبي سفيان في العور، ذهبت عينه يوم الجمل مع عائشة. وقال أبو بكر الخطيب: حج عتبة ابن أبي سفيان بالناس سنة إحدى وأربعين وسنة اثنتين وأربعين. وقال الأصمعي:
الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. وقال أبو حاتم:
أوصى «3» عتبة بن أبي سفيان مؤدب ولده فقال: ليكن أول إصلاحك بني إصلاحك لنفسك، فإن عيوبهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما فعلت، والقبيح ما تركت، وعلمهم كتاب الله ولا تملهم فيتركوا، ولا تدعهم منه فيهجروا؛ وروهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه؛ ولا تخرجهم من علم «4» إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم «5» ؛ وهددهم بي وأدبهم دوني؛ وكن بهم كالطبيب الرفيق الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، وامنعهم من محادثة النساء، واشغلهم بسير الحكماء؛ واستزدني بآدابهم أزدك، ولا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك. انتهى.(1/123)
ولما قدم عتبة إلى مصر في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين أقام بها أشهراً ثم خرج منها وافداً على أخيه معاوية بدمشق، واستخلف على مصر عبد الله بن قيس ابن الحارث، وكانت في عبد الله المذكور شدة فكرهه الناس بمصر، فبلغ ذلك عتبة هذا فرجع الى مصر وصعد المنبر وقال: يأهل مصر، قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إن قال فعل، فإن أبيتم درأكم «1» بيده، فإن أبيتم؟؟؟ درأكم بسيفه؛ ثم جاء في الآخر «2» ما أدرك في الأول، إن البيعة شائعة «3» ، لنا عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه؛ فناداه المصريون من جنبات المسجد: سمعاً سمعاً؛ فناداهم عتبة: عدلاً عدلاً. ثم نزل.
فجمع له أخوه معاوية الصلاة والخراج؛ وعقد عتبة هذا لعلقمة بن يزيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفاً من آهل الديوان تكون بها مرابطة، ثم خرج إليها عتبة بعد ذلك مرابطاً في ذي القعدة وقيل في ذي الحجة، وهو الأشهر، سنة أربع وأربعين من الهجرة، فمات بها في الشهر المذكور. وتولى مصر بعده عقبة بن عامر الجهني، وكانت ولاية عتبة على مصر سنة واحدة وشهراً واحداً.
*** السنة التي حكم فيها عتبة بن أبي سفيان على مصر وهي سنة ثلاث وأربعين- فيها شتى بسر بن أبي أرطاة بأرض الروم مرابطاً: وفيها فتح عبد الرحمن بن سمرة(1/124)
الزرنج «1» وغيرها من بلاد سجستان. وفيها افتتح عقبة بن نافع الفهري كوراً من بلاد السودان ووردان من بلاد برقة. وفيها توفي عبد الله بن سلام الإسرائيلي- ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من الأنصار، وقال: كنيته أبو يوسف، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم في السنة الأولى من الهجرة سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. وهو رجل من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وهو صاحب القصة مع اليهود. وفيها توفي محمد بن مسلمة بن خالد الأنصاري الصحابي، مذكور في الطبقة الأولى من الأنصار، أسلم بالمدينة على يد مصعب ابن عمير، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح وشهد بدراً والمشاهد كلها ومات في صفر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم تسعة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع. وذكر في درر التيجان: أن الماء القديم في هذه السنة أربعة أذرع وثلاثة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية عتبة بن أبي سفيان على مصر وهي سنة أربع وأربعين- فيها توفي عتبة صاحب الترجمة حسبما تقدم ذكره. وفيها غزا المهلب بن أبي صفرة أرض الهند وسار إلى قندابيل «2» وكسر العدو وسلم وغنم، وهي أول غزواته. وفيها حج الخليفة معاوية بن أبي سفيان بالناس من الشام. وفيها زاد معاوية في مقصورة جامع دمشق، وكان قد أحدثها لما وثب عليه البرك ليقتله.
ثم أحدث في هذه السنة أيضاً مروان بن الحكم مقصورة المدينة وهو والٍ عليها.
وفيها أوغل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في بلاد الروم وشتى بها. وفيها غزا بسر(1/125)
ابن أبي أرطاة في البحر. وفيها عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة. وفيها توفي الحارث بن خزمة بن عدي بن أبىّ بن «1» غنم الأشهلي أبو بشير الصحابي، هو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرا والمشاهد كلها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين إياس بن أبي البكير. وفيها توفيت أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان على الصحيح، واسمها رملة، وهي أخت معاوية لأبيه، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهي ابنة عمة عثمان بن عفان، وكان تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشة، وذلك في سنة ست من الهجرة أو سبع. وفيها توفي أبو بردة بن نيار بن عمرو بن عبيد بن عمرو بن كلاب، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار من الصحابة، شهد العقبة مع السبعين وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي أبو موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس بن سليم اليماني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم عليه مسلماً مع أصحاب السفينتين واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، ثم ولي الكوفة والبصرة. لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ومات في ذي الحجة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وإصبع واحد.
ذكر ولاية عقبة بن عامر على مصر
هو عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن رفاعة بن مودوعة بن عدي ابن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني، أبو حماد الصحابىّ،(1/126)
شهد فتح مصر مع عمرو بن العاص ثم وليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بعد موت أخيه عتبة بن أبي سفيان في سنة أربع وأربعين، وكان يخضب بالسواد.
قال صاحب البغية: ودام بمصر إلى أن قدم مسلمة بن مخلد على معاوية بدمشق، فولاه مصر وأمره أن يكتم ذلك عن عقبة بن عامر، ثم سيره إلى مصر وأمر معاوية عقبة بغزو رودس ومعه مسلمة بن مخلد المذكور، وخرجا إلى الإسكندرية ثم توجها في البحر، فلما سار عقبة استولى مسلمة على سرير إمرته، فبلغ ذلك عقبة ابن عامر، وكان ذلك لعشرٍ بقين من ربيع الأول سنة سبع وأربعين، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر، وتولى مسلمة. وآخر من روى عن عقبة بمصر أبو قبيل. انتهى.
وقال الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر في الإصابة: روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس وأبو أمامة وجبير بن نفير وبعجة بن عبد الله الجهني وأبو إدريس الخولاني وخلق من أهل مصر.
قال أبو سعيد بن يونس: كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه صحيح اللسان شاعراً كاتباً، وهو آخر من جمع القرآن. قال: ورأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان، وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده.
وفي صحيح مسلم من طريق قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها فتركتها ثم ذهبت إليه فقلت: بايعني فبايعني على الهجرة. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. وشهد عقبة بن عامر الفتوح، وكان هو الرائد إلى عمر بفتح دمشق. وشهد صفين مع معاوية وأمره بعد ذلك على مصر.(1/127)
وقال أبو عمر الكندي: جمع له معاوية في إمرة مصر بين الخراج والصلاة، فلما أراد عزله كتب إليه أن يغزو رودس، فلما توجه مسافراً استولى مسلمة، فبلغ عقبة فقال: أغربةً وعزلاً! وذلك في سنة سبع وأربعين. ومات في خلافة معاوية على الصحيح.
وحكى أبو زرعة في تاريخه عن عباد بن بشر قال: رأيت رجلاً يحدث في خلافة عبد الملك فقلت: من هذا؟ فقالوا: عقبة بن عامر الجهني. قال أبو زرعة: فذكرته لأحمد بن صالح، فقال: هذا غلط، مات عقبة في خلافة معاوية. وكذلك أرخه الواقدي وغيره، زاد في آخرها: وأما قول خليفة بن خياط: قتل في النهروان من أصحاب علي، أبو عمرو «1» عقبة بن عامر الجهني فهو آخر، بدليل قول خليفة في تاريخه في سنة ثمان وخمسين مات عقبة بن عامر الجهني. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن حجر.
وقال صاحب كتاب «العقود الدرية في الأمراء المصرية» : توفي عقبة في سنة ثمان وخمسين بمصر، وقبره يزار بالقرافة.
وقال صاحب كتاب «مهذب الطالبين إلى قبور الصالحين» : عقبة بن عامر الجهني من أعلام الصحابة معدود من خدّام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يأخذ بزمام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقودها في الأسفار، وعدد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل المعوذتين وحثه على قراءتهما؛ وهو أحد من شهد فتح مصر من الصحابة، وولي مصر لمعاوية بن أبي سفيان بعد عتبة بن أبي سفيان، ثم غزا في البحر سنة سبع وأربعين. وهو أول من نشر الرايات على السفن، فلما خرج إلى الغزو جاء كتاب معاوية بعزله وولاية مسلمة، فلم يظهر مسلمة ولايته، فقال عقبة: ما لي أرى الأمر أبطأ علي؟ قالوا: ولى مسلمة بن مخلد، قال عقبة: ما أنصفنا معاوية عزلنا وغرّبنا.(1/128)
قال: ولأهل مصر فيه اعتقاد عظيم، ولهم عنه نحو مائة حديث. وقد ذكر ابن عبد الحكم أحاديثه التي رواها عنه أهل مصر.
الحديث الأول- منها: «من توضأ فأحسن وضوءه ثم صلى [صلاةً «1» ] غير ساهٍ ولا لاهٍ كفر عنه ما كان قبلها من سيئاته «2» » .
الحديث الثاني- قال عقبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تعجب «3» ربك من شاب ليس له صبوة»
الحديث الثالث- قال «4» عقبة: كنت آخذ بزمام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غاب المدينة، فقال لي: «يا عقبة ألا تركب» فأشفقت أن تكون معصية، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة، ثم ركب فقال: «ألا أعلمك سورتين» فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فأقرأنى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
، ثم أقيمت الصلاة فتقدم وصلى بهما وقال: «اقرأهما كلما نمت وقمت» .
ثم قال: وليس في الجبانة قبر صحابي مقطوع به إلا قبر عقبة فإنه زاره الخلف عن السلف.
وقال الشيخ الموفّق ابن عثمان في تاريخه المرشد ناقلاً عن حرملة من أصحاب الشافعي: إن البقعة التي دفن فيها عقبة المذكور بها أيضاً قبر عمرو بن العاص وقبر(1/129)
أبي بصرة الصحابيين، تحويهم القبة التي هدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم بناها البناء المعهود الآن. ورئي بعض الأمراء في النوم ممن جاوره، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بمجاورة عقبة. وروي له من البركات روايات كثيرة: منها أن رجلاً أسر له ولد فأتى قبر عقبة ودعا الله عز وجل فقام من عند قبره فلقي ابنه في الطريق. انتهى كلام صاحب مهذب الطالبين.
*** السنة الأولى من ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر وهي سنة خمس وأربعين- فيها غزا معاوية بن حديج إفريقية من بلاد المغرب. وفيها سار عبد الله بن سوار العبدي فافتتح القيقان وغنم وسلم وعاد. وفيها عزل عبد الله ابن عامر عن البصرة، فاستعمل عليها معاوية الحارث بن عمرو الأزدي ثم عزل عن قريب وولّى عليها زياد بن أبيه، فبادر زياد وقتل سهم بن غالب الذي كان خرج في أول الأمر على معاوية وصلبه. وفيها توفيت أم المؤمنين حفصة بنت عمر ابن الخطاب زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون. قال ابن سعد بإسناده: ولدت حفصة وقريش تبني البيت قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين. وذكر الذهبي وفاتها في سنة إحدى وأربعين وتابعه جماعة على ذلك. وفيها توفّى زيد بن ثابت بن الضحّاك ابن زيد الأنصاري الصحابي، وهو من الطبقة الثالثة من الأنصار، كنيته أبو سعيد وقيل أبو خارجة. قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي أبو بكر وأشدها في دين الله عمر وأصدقها حياءً عثمان وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت» .(1/130)
قلت: وهو من كتاب الوحي والقراء. وفيها توفّى سلمة بن سلامة وكنيته أبو عوف. وقيل أبو ثابت. وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، صحابي مشهور، شهد العقبتين وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفّى سهل ابن عمرو بن زيد بن جشم الأنصاري، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من الصحابة ممن شهد أحداً «1» والخندق وما بعدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفّى عاصم ابن عدي، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وكنيته أبو عمرو «2» وقيل أبو عبد الله، وهو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى قباء.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع. وقال صاحب درر التيجان: وسبعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر وهي سنة ست وأربعين- فيها عزل الخليفة معاوية عبد الرحمن بن سمرة عن سجستان وولاها الربيع بن زياد الحارثي، فخاف الترك وجمع ملكهم «كابل شاه» الجموع وزحف على المسلمين فنزح المسلمون عن مدينة كابل، ثم لقيهم الربيع هذا وقاتلهم (أعني الترك) فهزمهم الله تعالى؛ وساق وراءهم المسلمين إلى الرخج، وغنموا منهم شيئاً كثيراً. وشتى المسلمون بأرض الروم في هذه السنة. وفيها توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لما رجع من بلاد الروم إلى حمص، وكان قد شتى بالروم وفتح حصوناً كثيرة، فسقاه ابن أثال «3» النصراني شربة مسمومة فمات منها. وهو ممن أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/131)
وقيل إنه مات في سنة تسع وأربعين. وفيها توفي هرم بن حيان العبدي «1» البصري ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من الفقهاء المحدثين والزهاد من أهل البصرة، وهو أحد الزهاد الثمانية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وسبعة «2» أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وتسعة أصابع. وفي الدرر: ثمانية عشر ذراعاً وتسعة أصابع.
*** السنة الثالثة من ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر وهي سنة سبع وأربعين- فيها عزل عقبة المذكور عن مصر. وفيها سار رويفع بن ثابت الأنصاري من طرابلس الغرب ودخل إفريقية ثم عاد من سنته. وفيها غزا عبد الله بن سوار العبدي القيقان أيضاً، فجمع له الترك والتقوا معه فاستشهد عبد الله وسائر من كان معه من الجيوش. وفيها شتى مالك بن هبيرة بأرض الروم. وفيها أقام الموسم عنبسة ابن أبي سفيان. وفيها توفي قيس بن عاصم بن سنان؛ ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة في الصحابة ممن أسلم من العرب ورجع إلى بلاد قومه، وكنيته أبو علي وقيل أبو قبيصة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً.
وفي درر التيجان: وثلاثة وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
ذكر ولاية مسلمة بن مخلد على مصر
هو مسلمة بن مخلّد بن صامت بن نياز بن لوذان بن عبد ودّ بن زيد بن ثعلبة ابن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة، أبو معن «3» وقيل أبو سعيد،(1/132)
الصحابي الأنصاري (ومسلمة بفتح الميم وسكون السين المهملة، ومخلد بضم الميم وتشديد اللام) . ولاه معاوية بن أبي سفيان مصر بعد عزل عقبة بن عامر الجهني في سنة سبع وأربعين حسبما تقدم ذكره في أخر ترجمة عقبة، وجمع له معاوية الصلاة والخراج وبلاد المغرب. فلما ولي مسلمة مصر انتظمت غزواته في البر والبحر: منها غزوة القسطنطينية الآتي ذكرها، ولم يحضرها غير أنه حسن لمعاوية غزوها. وفي أيام ولايته على مصر نزلت الروم البرلس «1» في سنة ثلاث وخمسين فاستشهد في الوقعة وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين. وفي إمرته لمصر أيضاً هدم ما كان عمرو بن العاص بناه من المسجد بمصر وبناه هو وأمر ببناء منار المسجد، وهو أول من أحدث المنار بالمساجد والجوامع. وخرج مسلمة إلى الإسكندرية في سنة ستين واستخلف على مصر عابس بن سعيد، فجاءه الخبر بموت معاوية بن أبي سفيان في شهر رجب منها واستخلاف يزيد بن معاوية بعد أبيه، وكتب إليه يزيد بن معاوية وأقره على عمل مصر، وكتب إليه أيضاً بأخذ البيعة له؛ فندب مسلمة عابساً وكتب إليه من الإسكندرية بذلك؛ فطلب عابس أهل مصر وبايع ليزيد فبايعه الجند والناس إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه، فحينئذ بايع عبد الله بن عمرو ليزيد على كره منه. ثم قدم مسلمة من الإسكندرية فجمع لعابس مع الشرطة القضاء في أوّل سنة إحدى وستين. اهـ.
وقال الذهبي: مسلمة بن مخلد الأنصاري له صحبة ورواية، وحدّث عنه شيبان ابن أمية وعلي بن رباح ومجاهد وعبد الرحمن بن شماسة وغيرهم، قال: ولدت حين(1/133)
قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد ولي ديار مصر لمعاوية. انتهى كلام الذهبي.
وقال ابن عبد «1» الحكم: مسلمة بن مخلد الأنصاري لهم عنه حديث واحد ليس [لهم «2» ] عنه غيره، وهو حديث موسى بن علي عن أبيه أنه سمعه يقول وهو على المنبر:
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين. لم يرو عنه غير أهل مصر، وأهل «3» البصرة لهم عنه حديث واحد، وهو حديث أبي هلال الراسبي قال حدثنا جبلة ابن عطية عن مسلمة بن مخلد: أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص:
إن ابن عمك لمخضد، ثم قال: أما إني أقول هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد ووقه العذاب» . وربما أدخل بعض المحدثين بين جبلة بن عطية وبين مسلمة رجلاً.
وقد ولي مسلمة بن مخلد مصر، وهو أول من جمع له مصر والمغرب، وتوفي سنة اثنتين وستين، وكان يكنى أبا سعيد. انتهى كلام ابن عبد الحكم. وكان مسلمة كثير العبادة.
قلت: وأما غزوة القسطنطينية التي وعدنا بذكرها فإنها كانت في سنة تسع وأربعين؛ وكان مسلمة هذا حرض معاوية عليها، فأرسل إليها معاوية جيشاً كثيفاً وأمر عليهم سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل يزيد واعتذر، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض شديد؛ فأنشد يزيد يقول:(1/134)
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالغذقذونة «1» من حمى ومن موم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير مران عندي أم كلثوم
- وأم كلثوم امرأته وهي ابنة عبد الله بن عامر- فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان بأرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس، فسار ومعه جمع كبير. وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمرو ابن عمرو «2» وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم، فأوغلوا في بلاد الروم [حتى بلغوا القسطنطينية «3» ] ، فاقتتل المسلمون والروم واشتد الحرب بينهم، فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل، ثم حمل بعد ذلك عليهم وانغمس بينهم. فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه، فبلغ معاوية قتله فقال لأبيه: هلك والله فتى العرب! فقال أبوه لمعاوية: ابني أم ابنك؟ فقال:
ابنك، فآجرك الله؛ فقال:
فإن يكن الموت أودى به ... وأصبح مخ الكلابي زيرا
فكل فتى شارب كأسه ... فإما صغيراً وإما كبيرا
قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مخلد، فقرأ سورة البقرة فما ترك ألفاً ولا واواً.
وقال ابن سعد في كتاب الطبقات الكبرى من تصنيفه: حدثنا معن بن عيسى حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن مسلمة بن مخلد قال: أسلمت وأنا ابن أربع سنين، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربعة عشرة سنة.(1/135)
وقال محمد بن عمرو: «1» يروي مسلمة بن مخلّد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: وتحول إلى مصر ونزلها، وكان مع أهل خربتا، وكانوا «2» أشدّ أهل المغرب [وأعده] «3» ، وكان له بها ذكر ونباهة؛ ثم صار إلى المدينة فمات بها فى خلافة معاوية. اهـ.
قلت: وهذا القول يخالف فيه الجمهور. والذي قاله المؤرخون: إنه استمر على عمله حتى توفي لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنتين وستين. وكانت ولايته على مصر خمس عشرة سنة وأربعة أشهر. وتولى مصر من بعده سعيد بن يزيد.
وقال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس على ما أخبرنا: شهد مسلمة فتح مصر واختط بها، وولي الجند لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد بن معاوية؛ وروى عنه من أهل مصر علي بن رباح وهشام بن أبي رقيّة وأبو قبيل وهلال ابن عبد الرحمن ومحمد بن كعب وغيرهم، توفي بالإسكندرية سنة اثنتين وستين في ذي القعدة.
حدثنا علي بن سعيد الرازي حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا وكيع حدثنا موسى ابن علي عن أبيه قال: سمعت مسلمة بن مخلّد يقول: ولدت حين قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وتوفي وأنا ابن عشر سنين. قال ابن يونس: هذا الحديث غريب، وقد رواه معن بن عيسى وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهما عن موسى ابن علي. انتهى كلام ابن يونس.
هذا ما وقع لنا من أخبار مسلمة بن مخلد المذكور، ويأتي ذكره أيضاً في سني ولايته على مصر كما هي عادتنا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.(1/136)
*** السنة الأولى من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة ثمان وأربعين- فيها كتب معاوية بن أبي سفيان الخليفة إلى زياد لما بلغه قتل عبد الله بن سوار:
أنظر لي رجلاً يصلح لثغر الهند أوجهه إليه؛ فوجه إليه زياد سنان بن سلمة «1» الهذلي، فولاه معاوية الهند. وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن إمرة المدينة بسعيد بن العاص الأموي. وفيها قتل بالهند عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي. وفيها توفي الحارث بن قيس الجعفي الفقيه صاحب عبد الله بن مسعود، وقيل: إنه مات في غير هذه السنة. وفيها كان مشتى عبد الرحمن القيني «2» بإنطاكية.
وفيها كانت صائفة عبد الله بن قيس الفزاري. وفيها كانت غزوة مالك بن هبيرة السكوني في البحر. وفيها استعمل زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبة. وفيها حج بالناس مروان بن الحكم، وهو يتوقع العزل لموجدةٍ كانت من معاوية عليه، وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وإصبعان.
*** السنة الثانية من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة تسع وأربعين- فيها شتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، وقيل ما شتى بها إلا فضالة بن عبيد الأنصاري.
وفيها حج بالناس سعيد بن العاص؛ وفيها قتل زياد بالبصرة الخطيم الباهلىّ الخارجىّ.(1/137)
وفيها خرج على المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة شبيب بن بجرة الأشجعي، وهو غير شبيب الذي خرج على الحجاج بن يوسف، فوجه إليه المغيرة كثير بن شهاب الحارثي فقتله بأذربيجان. وكان شبيب ممن شهد النهروان. وفيها كانت غزوة فضالة بن عبيد جربة «1» وشتى بها، وفتحت على يده وأصاب فيها سبايا كثيرة. وفيها كانت صائفة عبد الله بن كرز البجلي. وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة الرهاوي بالبحر فشتى بأهل الشام. وفيها كانت غزوة عقبة بن نافع في البحر فشتى بأهل مصر. وفيها عزل مروان عن المدينة بسعيد بن العاص في شهر ربيع الأول، فكانت ولاية مروان ثماني سنين وشهرين، وكان على قضاء المدينة عبد الله بن الحارث بن نوفل فعزله سعيد حين ولي واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن. وفيها توفي الحسن بن علي، والأصح أنه في الآتية، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وستة أصابع.
*** السنة الثالثة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة خمسين من الهجرة- فيها وجّه زياد الربيع الحارثي إلى خراسان فغزا بلخ وكانت قد انتقضت بعد رواح الأحنف بن قيس عنها فصالحوا الربيع هذا ورحل عنها وغزا قوهستان فافتتحها عنوة. وفيها أراد معاوية نقل منبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة وأن يحمل إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهم قتلة عثمان، فطلب العصا وهي عند سعد القرظ، وحرك المنبر فكسفت(1/138)
الشمس حتى رئيت النجوم باديةً «1» ، فأعظم الناس ذلك فتركه. وقيل: بل أتاه جابر وأبو هريرة فقالا له: يا أمير المؤمنين، لا يصلح أن يخرج منبر النبي صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه وتنقل عصاه إلى الشام، فانقل المسجد؛ فتركه معاوية وزاد فيه ست درجات واعتذر مما صنع. وفيها افتتح معاوية بن حديج (بضم الحاء المهملة مصغراً) فتحاً كبيراً بالمغرب، وكان قد جاءه عبد الملك بن مروان في مدد أهل المدينة. وهذه أول غزوة لعبد الملك بن مروان. وفيها ولى معاوية زياداً البصرة والكوفة معاً بعد موت المغيرة بن شعبة، فعزل زياد الربيع عن سجستان وولاها لعبيد الله بن أبي بكرة. وفيها غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية وكان معه فيها وجوه الناس، وممن كان معه أبو أيوب الأنصاري وقد ذكرناها (أعني هذه الغزوة فى أصل الترجمة) . وفيها توفى السيد حسن بن علىّ ابن أبي طالب رضي الله عنه، وكنيته أبو محمد الهاشمي، القرشي السيد ابن السيد ابن السيدة فاطمة الزّهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد في شعبان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل في نصف شهر رمضان منها، قاله الواقدىّ. وكان ريحانة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وشبيهاً به. ولي الخلافة بعد موت أبيه علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين؛ واجتمع عليه المسلمون وأحبوه حباً شديداً وألزموه حرب معاوية، فسار على كرهٍ منه، فلما كان في بعض الطريق اختلف عليه بعض أصحابه فضاق صدره، ثم أرسل إلى معاوية يسأله الصلح ويسلم له الأمر، فوقع ذلك وشق على أصحابه وكادت نفوسهم تذهب، ودخل عليه سفيان أحد أصحابه وقال له: السلام عليك(1/139)
يا مذل المؤمنين؛ فقال الحسن: لا تقل ذلك، إني كرهت أن أقتلكم في طلب الملك.
قال الحافظ الذهبي قال أبو بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» أخرجه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» صححه الترمذي.
قلت: ومناقب الحسن كثيرة يضيق هذا المحل عن ذكرها، وكانت وفاته بالمدينة في شهر ربيع الأول ودفن بالبقيع رضي الله عنه. وفيها توفيت أم المؤمنين صفية بنت حيىّ بن أخطب بن سعية «1» من سبط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ثم من ولد هارون أخي موسى عليهما السلام؛ سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وجعل عتقها صداقها وتزوجها، وماتت في هذه السنة وقيل في سنة ست وثلاثين، والأول أشهر. وفيها كانت بناية مدينة القيروان بالمغرب.
وفيها كان الطاعون العظيم بالكوفة وأميرها المغيرة بن شعبة، ومات فيه بعد أن فر منه. وهذا الطاعون رابع طاعون مشهور وقع في الإسلام؛ فإن الأول كان بالمدائن فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ والثاني طاعون عمواس «2» في زمان عمر رضي الله عنه؛ والثالث بالكوفة وأميرها أبو موسى الأشعري؛ ثم هذا الطاعون أيضاً بالكوفة.
وفيها توفي المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود، أبو عيسى ويقال أبو محمد،(1/140)
صحابي مشهور، وكان من دهاة العرب، يقال له: مغيرة الرأي، وكان كثير الزواج.
قال المغيرة: تزوجت بسبعين امرأة. وقال مالك: كان المغيرة نكاحاً للنساء، ويقول: صاحب المرأة إن مرضت مرض وإن حاضت حاض؛ وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان. وقال ابن المبارك: كان تحت المغيرة أربع نسوة فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسان الأخلاق، طويلات الأعناق، ولكني رجل مطلاق، فأنتنّ الطلاق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الرابعة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة إحدى وخمسين من الهجرة- فيها حج بالناس معاوية وأخذهم ببيعة ابنه يزيد. وفيها كانت مقتلة حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما. قال ابن الأثير في تاريخه الكامل قال الحسن «1» : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة:
انتزاؤه «2» على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشهورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، وقتله حجراً وأصحاب حجر، فيا ويلاه من حجر! ويا ويلاه من أصحاب حجر!! وفيها توفي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى أبو الأعور القرشي العدوي الصحابي؛(1/141)
أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كان أميراً على ريع «1» المهاجرين، وولي دمشق نيابة عن أبي عبيدة بن الجراح وشهد فتحها، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها بعد بدر. وقال الواقدي: توفي سنة إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقبره بالمدينة ونزل في قبره سعد وابن عمر، وكان رجلاً آدم طويلاً أشعر. وفيها توفي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد [بن «2» ] عوف بن غنم بن مالك بن النجار، الخزرجىّ النجّارىّ المدني الصحابي، شهد بدراً والعقبة، وعليه نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة فبقي في داره شهراً حتى بنيت حجرته ومسجده، وكان من نجباء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، وروى عنها مولياها عطاء وسليمان ابنا يسار وابن أختها يزيد بن الأصم وابن أختها عبد الله بن عباس وابن أختها عبد الله ابن شداد بن الهاد وجماعة أخر؛ وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبى رهم ابن عبد العزّى العامرىّ فتأيّمت منه، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها منه، وبنى بها بسرف بطريق مكة لما رجع من عمرة القضاء، وهي أخت لبابة الكبرى زوجة العباس ولبابة الصغرى آم خالد بن الوليد، وأخت أسماء بنت عميس لأمها، وأخت زينب بنت خزيمة أيضاً لأمها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعاً وثلاثة وعشرون إصبعاً. وفي درر التيجان: وستة وعشرون إصبعا.(1/142)
*** السنة الخامسة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة اثنتين وخمسين- فيها شتى بسر بن أبي أرطاة بأرض الروم (وهو بضم الموحدة وسكون السين المهملة) .
وفيها حج بالناس سعيد بن العاص. وفيها توفي أبو أيوب الأنصاري، واسمه خالد بن زيد فى قول بن الأثير، كان من نجباء الصحابة، شهد العقبة وبدراً وأحداً وقد تقدم ذكره ووفاته في سنة تسع وأربعين. وفيها توفي كعب بن عجرة ولد خمس وسبعون سنة.
وفيها صالح عبيد الله بن أبى بكرة الثقفىّ رتبيل «1» وبلاده على ألف ألف درهم.
وفيها ولد يزيد بن أبي حبيب فقيه أهل مصر. وفيها توفي عمران بن الحصين بن عبيد ابن خلف، أبو نجيد (بضم النون مصغراً) ، الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي قضاء البصرة، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه إليهم ليفقههم. وفيها توفي معاوية بن حديج التجيبي الكندي، وقد تقدم من أخباره نبذ كثيرة فيما تقدم.
وهو من كبار العثمانية وممن كان بخربتا وحارب جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتل محمد بن أبي بكر الصديق وكان من أنياب العرب وكبارها. وفيها خرج زياد بن خراش العجلىّ فى ثلثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد، فسير إليه زياد خيلاً عليها سعد بن حذيفة أو غيره. فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه. وخرج أيضاً على زياد رجل من طيّئ يقال له معاذ، فأتى نهر عبد الرحمن بن أم الحكم في ثلاثين رجلاً، فبعث اليه زياد من قتله وقتل أصحابه، وقيل بل حل لواءه واستأمن؛ ويقال لهم أصحاب نهر عبد الرحمن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.(1/143)
*** السنة السادسة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة ثلاث وخمسين- فيها أستعمل معاوية على الكوفة الضحاك بن قيس الفهرىّ بعد موت زياد بن أبيه، واستعمل على البصرة سمرة بن جندب، وعزل عبيد الله ابن أبي بكرة عن سجستان وولاها لعباد بن زياد بن أبيه، فغزا عباد المذكور قندهار حتى بلغ بيت الذهب، فجمع له الهند جمعاً هائلاً، فقاتلهم عباد حتى هزمهم، ولم يزل على إمرة سجستان حتى توفي معاوية بن أبي سفيان. وفيها توفّى عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق في نومة نامها، واسم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان التيمي القرشي الصحابي، مات بمكة وكان شجاعاً رامياً، أسلم قبل الفتح. وفيها توفي عمرو بن حزم الخزرجي الصحابي، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، وكان من نجباء «1» الصحابة. وفيها شتى عبد الرحمن بن أم الحكم بأرض الروم. وفيها أقام الموسم سعيد بن العاص. وفيها أمر معاوية على خراسان عبيد الله بن زياد.
وفيها قتل عابد بن ثعلبة البلوي أحد الصحابة، قتله الروم بالبرلس. وفيها فتحت رودس (جزيرة في البحر) فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون وهم على حذر من الروم، وكانوا أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم، وكان معاوية يدر لهم العطاء، وكان العدو قد خافهم، فلما مات معاوية أقفلهم ابنه يزيد. وفيها توفّى زياد بن أبيه، كان ولي الكوفة والبصرة والعراق لمعاوية، وكان من دهاته»
؛ وقال مسكين الدارمىّ يرثيه بقوله:
رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهاراً حين ودعنا زياد(1/144)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة السابعة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة أربع وخمسين- فيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن إمرة المدينة وولاها لمروان بن الحكم ثانية.
وفيها غزا عبيد الله بن زياد وقطع النهر وعدى إلى بخارا على الإبل، فكان أوّل عربىّ قطع النهر، وافتتح بها البلاد. وفيها وجه الضحاك بن قيس من الكوفة ابن هبيرة الشيباني إلى غزو طبرستان، فصالحه أهلها على خمسمائة ألف درهم. وفيها عزل معاوية سمرة ابن جندب عن البصرة وولاها لعبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي. وفيها حج بالناس مروان بن الحكم أمير المدينة، وقال ابن الأثير «1» : سعيد بن العاص، وكان عامل المدينة. وفيها توفي أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبىّ، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه ومولاه، كنيته أبو زيد، وقيل أبو محمد، وقيل أبو حارثة. ففي الصحيح عن أسامة قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأخذني والحسين ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما» . وأمة أم أيمن بركة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وكان أسود كالليل وأبوه أبيض أشقر، قاله إبراهيم بن سعد. وفيها توفي ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي جبير «2» بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي الصحابي، أسلم بعد بدر وحضر عدّة مشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام(1/145)
النجّارىّ الصحابىّ شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بروح القدس وعاش هو وأبوه وجده وجد أبيه كل واحد مائة وعشرين سنة. وفيها توفي سعيد بن يربوع المخزومي الصحابي عن مائة وعشرين سنة أيضاً، أسلم في الفتح. وفيها توفّى عبد الله ابن أنيس الجهني الصحابي حليف الأنصار شهد العقبة. وفيها توفّى حكيم بن حزام ابن خويلد بن أسد أبو خالد الأسدي الصحابي ابن أخى خديجة زوجة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أسلم في الفتح وكان سيداً شريفاً، ولد في جوف الكعبة وأعتق في الجاهلية والإسلام مائتي رقبة وجاوز مائة السنة من العمر. وفيها توفي أبو قتادة الأنصاري السلمي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسمه الحارث بن ربعي. وكان من نجباء الصحابة رضي الله عنهم. وفيها توفي مخرمة بن نوفل الزهري الصحابي عن مائة وخمس عشرة سنة، وكان من المؤلفة قلوبهم، والمسور هو ابنه. وفيها مات فيروز «1» الديلمي وكانت له صحبة وكان مع معاوية وأستعمله على صنعاء. وفيها مات فضالة ابن عبيد الأنصاري بدمشق وكان قاضيها، وقيل في موته غير ذلك، شهد أحداً وما بعدها. وخرجت «2» هذه السنة وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سمرة، وعلى خراسان خليد بن يربوع الحنفي (وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون الياء المعجمة باثنتين من تحت) .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع.(1/146)
*** السنة الثامنة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة خمس وخمسين- فيها عزل معاوية عن البصرة عبد الله الثقفي وولاها لعبيد الله بن زياد. وفيها حج بالناس مروان بن الحكم أمير المدينة. وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة وولّاها الضحّاك بن قيس. وفيها توقى أبو اليسر (بفتح الياء المثناة من تحت والسين) السّلمىّ (بفتحتين أيضا) اسمه كعب بن عمرو، وهو من أعيان الصحابة الأنصار، وهو الذي أسر العباس يوم بدر وشهد العقبة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وله عشرون سنة. وفيها توفي سعد بن أبي وقاص وأسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب بن مرة، كنيته أبو إسحاق الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد السابقين الأوّلين، كان يقال له: فارس الإسلام، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكأن مقدم الجيوش في فتح العراق، وكان مجاب الدعوة كثير المناقب وشهد بدراً. وروى عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها سعد بن أبي وقاص إلى رابغ وهي من جانب الجحفة، فانكفأ المشركون على المسلمين فحماهم سعد يومئذ بسهامه، وهو أول قتال كان فى الإسلام؛ فقال سعد:
ألا هل «1» آتى رسول الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رامٍ في عدو ... بسهمٍ يا رسول الله قبلي
وفيها توفي الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يختفي في داره بمكة، وكان عمره ثمانين سنة وزيادة، وقيل مات يوم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه.(1/147)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وستة أصابع.
*** السنة التاسعة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة ست وخمسين- فيها عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن خراسان وولى عليها سعيد بن عثمان بن عفان، فغزا سعيد سمرقند ومعه المهلب بن أبي صفرة الأزدي وطلحة الطلحات وأوس بن ثعلبة، وخرج إليه الصّغد «1» فقاتلوه فألجأهم إلى مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهائن. وفيها شتى المسلمون بأرض الروم. وفيها توفيت أم المؤمنين جويرية المصطلقية، وقيل: إنها ماتت في سنة خمسين، وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقي، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع في السنة الخامسة، وكان اسمها برة فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها وتزوجها وجعل صداقها عتق جماعة من قومها، ثم قدم أبوها الحارث بن أبي ضرار على النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن جويرية قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت عشرين سنة، وكانت قبل النبى صلى الله عليه وسلم عند ابن عمّهاصفوان ذى «2» الشفر. وفيها غزا يزيد بن شجرة في البحر، وفي البر عياض بن الحارث. وفيها اعتمر معاوية في رجب.
وحج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وفيها كانت البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد. وفيها توفي عبد الله بن قرط الأزدي الصحابي أمير حمص.(1/148)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبعان.
*** السنة العاشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة سبع وخمسين- فيها وجه معاوية حسان بن النعمان الغساني إلى إفريقية، فصالحوه «1» من يليه من البربر وضرب عليهم الخراج وبقي عليها حتى توفي معاوية وتخلف ابنه يزيد. وفيها عزل معاوية الضحاك عن الكوفة وولاها عبد الرحمن بن أم الحكم. وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة وأمر عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها عزل معاوية سعيد بن عثمان عن خراسان وأعاد عليها عبيد الله بن زياد.
وفيها شتى عبد الله بن قيس بأرض الروم. وفيها توفي السائب بن أبي وداعة السهمي الصحابي وكان أسر يوم بدر وأسلم بعد ذلك. وفيها توفى عثمان بن طلحة ابن شيبة العبدري، وقيل في سنة تسع وخمسين وهو جد بني شيبة حجبة الكعبة، وأسلم يوم الفتح، وقيل يوم حنين. وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم وعمرو بن يزيد «2» الجهني في البحر، وقيل جنادة بن أبي أمية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعاً.(1/149)
*** السنة الحادية عشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة ثمان وخمسين- فيها غزا عقبة بن نافع من قبل مسلمة بن مخلد القيروان واختط عقبة مدينة القيروان وابتناها. وفيها توفيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقيهة نساء هذه الأمة، وكنيتها أم عبد الله التيمية، دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال بعد بدر ولها من العمر تسع سنين، وهي أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم «1» إليه بعد خديجة، روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ، وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: «يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام» فقالت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. وعن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة. رواه الترمذي وحسنه.
قلت: وفضل ومناقب عائشة كثيرة وكانت وفاتها في شهر رمضان، وقال الواقدي: في ليلة سابع عشر رمضان ودفنت بالبقيع ليلا، فلم ترليلة أكثر ناساً منها، وصلى عليها أبو هريرة، وماتت ولها ست وستون سنة رضي الله عنها. وفيها عزل معاوية الضحاك بن قيس عن الكوفة وأستعمل عوضه عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي وهو ابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية، وفي عمله في هذه السنة خرجت الخوارج الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم، فجمعهم حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين(1/150)
الطائي فخطباهم وحثاهم على الجهاد، فبايعوا حيان بن ظبيان وخرجوا [إلى بانقيا «1» ] فسار الجيش إليهم من الكوفة فقتلوهم جميعاً؛ ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة لسوء سيرته فلحق بخاله معاوية فولاه مصر فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر فقال: ارجع إلى خالك فلا «2» تسرفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة، فرجع إلى معاوية؛ ثم توجه ابن حديج إلى معاوية في السنة يعاتبه كما نذكره إن شاء الله تعالى بعد وفاة أبي هريرة. وفيها توفي أبو هريرة وقيل في التي بعدها، والأكثر على أن وفاته في هذه السنة. وفي اسم أبي هريرة واسم أبيه أقوال كثيرة.
قال أبو عبد الله الذهبي: أشهرها عبد الرحمن بن صخر، وكان اسمه قبل الإسلام عبد شمس. وقال: كناني أبي بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنماً فوجدت أولاد هرة وحشية فأخذتها «3» ، فقال: أنت أبو هريرة. وهو من المكثرين من الصحابة، وهو دوسي، ودوس: قبيلة من الأزد، ومات وله ثمان وسبعون سنة. وفيها وفد معاوية ابن حديج على معاوية بن أبي سفيان الخليفة، وكان إذا قدم معاوية على معاوية زينت له الطرق [بقباب «4» الريحان] تعظيماً لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: بخٍ بخٍ! هذا معاوية بن حديج؛ فقالت: لا مرحبا «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه» ؛ فسمعها معاوية ابن حديج فقال: على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت(1/151)
فما أنجبت «1» ، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في أهل الكوفة! ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعله لضربناه ضربا يطأطئ منه ولو كره هذا القاعد (يعني خاله معاوية) ؛ فالتفت إليها معاوية وقال لها: كفي، فكفت عن الكلام.
وفيها توفي عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، أحد الأجواد وله صحبة ورواية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعاً. وفي درر التيجان: وأربعة وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأحد عشر إصبعاً.
*** السنة الثانية عشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة تسع وخمسين- فيها شتى عمرو بن مرة بأرض الروم في البر. وفيها حج بالناس الوليد بن عتبة، وقيل عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وفيها غزا أبو المهاجر دينار فنزل على قرطاجنة وخرج إليه أهلها فالتقوا وكثر القتل بين الفريقين حتى حجز الليل بينهم، وانحاز المسلمون من ليلتهم فنزلوا جبلاً في قيلة بولس، ثم عاودوهم وصالحوهم على أن يخلوا لهم الجزيرة، ثم افتتح أبو المهاجر المذكور ميلة «2» ، وكانت إقامته بها في هذا الغزو نحواً من سنتين. وفيها توفي عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي أبو عبد الرحمن. قال الذهبي:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وله حديث، وهو: «من قتل دون ماله فهو شهيد» ، وروى عنه حنظلة بن قيس. وأسلم والده يوم الفتح. وفيها توفي مرة بن كعب البهزي السلمي «3» له صحبة. وفيها توفي سعيد بن العاص بن أبى أحيحة بن سعيد(1/152)
ابن العاص بن أمية، أمير الكوفة لعثمان، وكان فصيحاً سخياً، ولد بعيد الهجرة، وهلك أبوه يوم بدر. وفيها توفي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري حاجب الكعبة ابن أخت مصعب بن عمير، شهد خيبر كافراً ونيته اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم يومئذ. وفيها توفي أبو محذورة، واسمه الياس وقيل سمرة ابن معير الجمحي، مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وكان من أندى الناس صوتاً.
وخرجت هذه السنة والوالي على الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة الوليد بن عتبة، وعلى خراسان عبد الرحمن «1» بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعاً.
وفي كتاب درر التيجان: وسبعة وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وأحد عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة عشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة ستين- فيها توفي الخليفة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، واسم أبى سفيان صخر بن حرب ابن أمية بن عبد شمس أبو عبد الرحمن القرشي الأموي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة، وأسلم معاوية قبل أبيه في عمرة القضاء، وبقي يخاف من الخروج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولي إمرة الشام لعمر ثم لعثمان، ثم نازع علياً الخلافة حتى وليها من بعده في سنة أربعين من الهجرة بعد موت علي بن أبي طالب وبعد أن سلم إليه الحسن بن علي الأمر، بعد أمور وقعت مع علي وابنه الحسن رضي الله(1/153)
عنهما. قال الذهبي: وأظهر إسلامه يوم الفتح، وكان رجلاً طويلاً أبيض جميلاً مهيلاً «1» إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب بالصفرة اهـ.
قلت: وهو كاتب النبي صلى الله عليه وسلم وأخو زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان المقدم ذكرها. وكانت وفاة معاوية في شهر رجب وله سبع وسبعون سنة، وتولى ابنه يزيد الخلافة من بعده. وفيها كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية.
وفيها أيضاً كان دخول جنادة رودس وهدم بيوتها في قول بعضهم. وفيها توفي أبو عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم معادن القبلية «2» ، عاش ثمانين سنة. وفيها توفي أبو حميد الساعدي المدني الصحابي أحد من نزل البصرة من الصحابة، وهو الذي وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي سمرة بن جندب الصحابي الفزاري. وفيها حج بالناس عمرو بن سعيد الأشدق، وكان العامل على مكة والمدينة. وفيها توفيت الكلابية التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ففارقها، وكان قد أصابها جنون.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع
*** السنة الرابعة عشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة إحدى وستين- فيها كانت مقتلة السيد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم وابن بنته فاطمة بكربلاء في يوم عاشوراء، وقصته(1/154)
طويلة يجرح ذكرها القلوب، غير أننا نختصر منها ما نعرف به وفاته وكيفية خروجه حتى ظفر به.
وهو أنه لما ولي يزيد بن معاوية الخلافة بعد موت أبيه بايع الناس السيد الحسين بالخلافة وخرج في جموعه بعد أن خلع الفاسق يزيد المذكور من الخلافة، فانتدب لقتاله بأمر يزيد ابن مرجانة (أعني عبيد الله بن زياد) وقاتله حتى ظفر به وقتله بعد أمور وحروب. وكان قاتل الحسين رضي الله عنه الشمر «1» اللعين الطريد من رحمة الله، قتله بكربلاء. وقتل مع الحسين من إخوته لأبيه جعفر وعتيق ومحمد والعباس الأكبر بنو علي، وابن الحسين الأكبر علي، وهو غير علي زين العابدين، وابنه عبد الله، وابن أخيه القاسم بن الحسن، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأخوه عون، وقتل معه أيضاً عبد الله وعبد الرحمن ابنا مسلم بن عقيل رضي الله عنهم أجمعين.
ولما جيء برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد جعل ينكت بقضيب على ثناياه وقال: إن كان لحسن الثغر! فقال له أنس «2» : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل موضع قضيبك من فيه. ثم بعث بالرأس إلى يزيد بن معاوية، فلما حضروا برأس الحسين عند يزيد أنشد.
نفلّق هاماً من أناس أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وفيها توفي عثمان بن زياد بن أبيه أخو عبيد الله بن زياد المذكور، مات شاباً وسنه ثلاث وثلاثون سنة. وفيها توفيت أم المؤمنين أم سلمة، واسمها هند بنت(1/155)
أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت عم أبي جهل وبنت عم خالد بن الوليد، بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند الرجل الصالح أبي سلمة بن عبد الأسد وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت من أجمل النساء، وطال عمرها وعاشت تسعين سنة وأكثر، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة، وقد حزنت على الحسين وبكت عليه كثيرا. وفيها توفى حمزة بن عمرو الأسلمىّ المدني الذي له صحبة. وفيها حج بالناس الوليد بن عتبة. وفيها توفي جابر بن عتيك الأنصاري، وقيل جبر، «1» وله إحدى وتسعون سنة وشهد بدراً. وفيها توفي علقمة بن قيس النخعىّ صاحب عبد الله ابن مسعود على خلف في وفاته. وفيها توفي خالد بن عرفطة العذري الصحابي له صحبة ورواية، روى عنه عبد الله بن يسار وأبو إسحاق، وكان ولي الكوفة لزياد ابن أبيه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وأربعة أصابع. وفي درر التيجان: وثمانية أصابع.
*** السنة الخامسة عشرة من ولاية مسلمة بن مخلد على مصر وهي سنة اثنتين وستين- وهي التي مات فيها مسلمة بن مخلد صاحب الترجمة. وفيها توفي أبو مسلم الخولاني اليماني «2» الزاهد سيد التابعين بالشأم، واسمه عبد الله بن ثوب، وقيل ابن عبيد، وقيل ابن مشكم «3» ، وقيل اسمه يعقوب بن عوف؛ قدم المدينة من(1/156)
اليمن في خلافة أبي بكر الصديق، وكان أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها ولى عبيد الله بن زياد أمير العراق المنذر بن الجارود العبدي على السند. وفيها غزا سالم خوارزم فصالحوه على مال. وفيها حج بالناس عثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب، وقال ابن الأثير: الوليد بن عتبة. وفيها توفي علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك أبو شبل النخعي الكوفي الفقيه المشهور خال إبراهيم النخعي، قال الذهبي:
أدرك الجاهلية وسمع عمر وعثمان وعلياً وابن مسعود وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص وعائشة وجماعة أخر، وقد ألقاه الأسود الكذاب في النار فلم تضرّه. قاله إسماعيل ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم. قلت: الأسود الذي «1» كان ادعى النبوة. وفيها ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور. وفيها توفي بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي مات بمرو، وكان أسلم قبل بدر. وفيها توفى عبد المطلب ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ابن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، له صحبة، وأخرج له مسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
ذكر ولاية سعيد بن يزيد على مصر
هو سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدي أمير مصر من أهل فلسطين، ولي إمرة مصر بعد موت مسلمة بن مخلد من قبل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ودخلها في مستهل شهر رمضان سنة اثنتين وستين من الهجرة، وتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو الخولاني، فلما رآه قال: يغفر الله(1/157)
لأمير المؤمنين، أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولي علينا أحدهم! ثم دخلوا معه. ولم يزل أهل مصر على الشنآن له والإعراض عنه والتكبر عليه حتى توفي يزيد ابن معاوية ودعا عبد الله بن الزبير الناس لبيعته وقامت أهل مصر بدعوته وسار منهم جماعة كثيرة إليه، فبعث عبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن جحدم أميراً على مصر، واعتزل سعيد المذكور، فكانت ولايته سنتين إلا شهراً واحداً.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط فيمن ملك الفسطاط» : ولاه يزيد ابن معاوية على مصر «1» فقدمها في استهلال شهر رمضان سنة اثنتين وستين، فأقر عابساً على الشرطة؛ ثم ساق نحواً مما قلناه، إلى أن قال: وكانت مدّته على مصر سنتين وأشهرا.
قلت: وفي مدة هاتين السنتين وقع له حروب كثيرة شرقاً وغرباً، فأما من جهة الشرق فكانت الفتن ثائرة بين ابن الزبير وبين الأموية حتى قدم ابن جحدم إلى مصر وملكها منه ودعا بها لابن الزبير، هذا مع الفتن التي كانت ببلاد المغرب من خروج كسيلة البربري وتجرد بسببه غير مرة إلى برقة وغيرها.
وأمر كسيلة البربري: أنه كان أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه، فكان من أكابر البربر وصحب أبا المهاجر، فلما ولي عقبة بن نافع إفريقية عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه، فلم يقبل واستخف به، وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلّاخين؛ فقال كسيلة: هؤلاء غلمانى يكفوننى المؤونة؛ فشتمه عقبة وأمره بسلخها ففعل؛ فنصح أبو المهاجر عقبة فلم يسمع؛ فقال: وإن كان لا بد فأوثقه فإني أخاف عليك منه فتهاون به عقبة فأضمر كسيلة(1/158)
الغدر، فلمّا كان الآن ورأى القوم «1» قلة مع عقبة توثب، وكان في عسكر عقبة جماعة وافقوا كسيلة، ثم راسلته الروم فأظهر كسيلة منذ ذلك ما كان أضمر وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة؛ فقال أبو المهاجر لعقبة: عاجله قبل أن يقوى جمعه، وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فزحف عنه عقبة إلى كسيلة، فتنحى كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه ويتعب عقبة؛ فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن الثقفىّ:
كفى حزناً أن تطعن «2» الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصارع من دوني تصم المناديا
فبلغ عقبة ذلك، فأطلقه وقال له: الحق بالمسلمين فقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة؛ فلم يفعل وقال «3» : وأنا أيضاً أريد الشهادة؛ فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم حتى قتل المسلمون جميعهم ولم يفلت منهم أحد، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان، فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال فلم يوافقه جيش الصنعاني وعاد إلى مصر وتبعه أكثر الناس من العساكر المصرية من جند سعيد صاحب مصر، فاضطر زهير إلى العود معهم فسار إلى برقة وأقام بها، وبعث يستمد المصريين، ووقع له أمور إلى أن ملك إفريقية في سنة تسع وستين.(1/159)
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال «1» والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم، ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها من غير مدافع إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان وندب زهيراً ثانية وأمده بالعساكر حتى استولى على إفريقية ودعا بها لعبد الملك ابن مروان. وكان زهير بن قيس المذكور في هذه المدة مرابطاً ببرقة ومن ولي من أمراء مصر يعضده إلى أن كان ما كان.
*** السنة الأولى من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهى سنة ثلاث وستين- فيها غزا عقبة بن نافع القيروان وسار حتى دخل السوس «2» الأقصى وغنم وسلم ورد من القيروان، فلفيه كسيلة النصراني فدافعه عقبة بمن معه فاستشهد عقبة بن نافع المذكور في الوقعة وأبو المهاجر مولى الأنصار وعامة أصحابهما، ثم سار كسيلة فخرج لحربه زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان وواقعه، فانهزم زهير إلى برقة وأقام بها سنين إلى أن ندبه عبد الملك بن مروان لقتاله ثانياً، فتوجه إليه وواقعه، فقتل اللعين كسيلة وهزم جنوده وقتلت منهم مقتلة عظيمة، وقد مر ذلك كله في أول الترجمة مفصلاً. وفيها بعث سالم بن زياد بن أبيه طلحة بن عبد الله الخزاعي والياً على سجستان وأمره أن يفدي إخاه من الآسر ففداه بخمسمائة ألف وأقدمه على أخيه. وفيها كانت وقعة الحرة على باب طيبة، وهو أن يزيد بن معاوية بعث إليها جيشا عليهم مسلم بن عقبة حين خالفوا عليه وأمره بهتك حرمة المدينة،(1/160)
وكان مع مسلم اثنا عشر ألفاً، فوصل مسلم المذكور إلى المدينة وفعل فيها ما لا يفعله مسلم، فإنه قتل في هذه الوقعة خلقاً من المهاجرين والأنصار وانتهكت حرمة المدينة وآنتهبت وآفتضت فيها ألف عذراء، واستشهد فيها عبد الله بن حنظلة الغسيل «1» في ثمانية من بيته، وله صحبة ورواية، وقتل فيها أيضاً معقل بن سنان الأشجعي صبراً، وأستشهد أيضاً عبد الله بن زيد بن عاصم المازني النجاري، وله صحبة ورواية، وأستشهد فيها أيضاً أفلح مولى أبي أيوب، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن ثابت بن قيس بن شماس حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه، ومعاذ بن الحارث الأنصاري أبو حليمة القاري الذي أقامه عمر يصلّى التراويح، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ست سنين، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، ومحمد بن أبي حذيفة العدوي؛ كل هؤلاء قتلوا يومئذ؛ وهذا مما اختصرته من مقالة الذهبي.
وقد ذكر هذه الواقعة أيضاً أبو المظفر، وساق فيها أموراً شنيعة إلى الغاية، وفيها ذكرناه كفاية يعرف منها حال مسلم بن عقبة المذكور. ويكفيك أنه من يومئذ سمي مسلم المذكور «مسرف بن عقبة» . وقيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي ذكر ذلك في وفاته قريباً. انتهى أمر مسرف بن عقبة. وقال خليفة: جميع من أصيب من قريش والأنصار يوم الحرة ثلاثمائة وستة رجال، ثم سرد أسماءهم في ثلاث أوراق. وفيها توفي مسروق بن الأجدع، واسم الأجدع عبد الرحمن بن مالك بن أمية أبو عائشة الهمداني ثم الوداعي الكوفي مخضرم (أعني أنه ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعد ذلك) وسمع أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم.(1/161)
وممن قتل أيضاً في الحرة زيد بن عاصم وليس هو بصاحب الأذان، ذاك زيد بن ثعلبة، والزبير بن عبد الرحمن بن عوف. وحج بالناس عبد الله بن الزبير. وفيها توفي ربيعة بن كعب الأسلمي من أهل الصفة، روى له مسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وستين- فيها حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة «1» بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى قضاءها سعيد بن نمران، وأبى شريح أن يقضي في الفتنة، وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفي مسلم بن عقبة المسمى مسرفاً المقدم ذكره في وقعة الحرة. قال محمد بن جرير الطبري: ولما فرغ مسلم من وقعة الحرة توجه إلى مكة، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامىّ، فأدرك مسلماً الموت فعهد بالأمر إلى الحصين بن نمير.
وذكر الذهبي رحمه الله: أن مسلماً هذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. قلت:
ولهذا أمسكنا عن الكلام في أمره. وشهد مسلم صفين مع معاوية وكان على الرجالة.
وفيها توفي الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وقد تقدم نسبه في ترجمة أبيه معاوية، مات في نصف شهر ربيع الأوّل، وكان بويع بالخلافة بعد موت أبيه(1/162)
معاوية في شهر رجب سنة ستين، فكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر وأياماً، وكان فاسقاً قليل الدين مدمن الخمر، وهو القائل:
أقول لصحبٍ ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذةٍ ... فكل وإن طال المدى يتصرم
وله أشياء كثيرة غير ذلك غير أننى أضربت عنها لشهرة فسمه ومعرفة الناس بأحواله. وقد قيل: إن رجلاً قال في مجلس عمر بن عبد العزيز عن يزيد هذا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر بن عبد العزيز: تقول: أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطاً تعزيراً له. ولما مات يزيد هذا ولي الخلافة من بعده ابنه معاوية ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثالث خلفاء بنى أميّة، وكان رجلاً صالحاً فلم يرد الخلافة وخلع نفسه منها، ومات بعد قليل.
ذكر خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ثالث خلفاء بني أمية ووفاته
كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو يزيد. بويع بالخلافة بعد موت أبيه يزيد بعهد منه إليه، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وكان مولده سنة ثلاث وأربعين فلم تطل مدته في الخلافة.
قال أبو حفص الفلاس «1» : ملك أربعين ليلة ثم خلع نفسه، فإنه كان رجلاً صالحاً؛ ولهذا يقال في حق أبيه: يزيد شر بين خيرين، يعنون بذلك بين(1/163)
أبيه معاوية بن أبي سفيان وابنه معاوية هذا. وقيل: إن معاوية هذا لما أراد خلع نفسه جمع الناس وقال: أيها الناس، ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم؛ فقالوا: ول أخاك خالداً؛ فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فلا أتقلد وزرها، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس، إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته، فصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً بخطاياه؛ ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك، وركب هواه وأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل. وصار في قبره رهيناً بذنوبه، وأسيراً بجرمه؛ ثم بكى حتى جرت دموعه على خديه ثم قال: إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح الحرم وخرب الكعبة، وما أنا بالمتقلّد ولا بالمتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم؛ والله لئن كانت الدنيا خيراً فلقد نلنا منها حظاً ولئن كانت شراً فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها، ألا فليصل بالناس حسان ابن مالك، وشاوروا في خلافتكم رحمكم الله. ثم دخل منزله وتغيب حتى مات في سنته بعد أيام.
وفيها توفي شداد بن أوس بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت. وفيها توفّى المسور بن مخزمة بمكة في اليوم الذي ورد فيه خبر موت يزيد بن معاوية، وكان سبب موته أنه أصابه حجر منجنيق في جانب وجهه فمرض أياما ومات. وفيها وثب مروان ابن الحكم على الأمر وبويع له بالخلاقة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.(1/164)
ذكر ولاية عبد الرحمن بن جحدم على مصر
هو عبد الرحمن بن عقبة «1» بن إياس بن الحارث بن عبد [بن] «2» أسد بن جحدم (بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الدال المهملة أيضاً وبعدها ميم ساكنة) الفهري أمير مصر، وليها من قبل عبد الله بن الزبير بن العوام لما بويع بالخلافة في مكة وبايعه المصريون وتوجه إليه منهم جماعة كثيرة وبايعوه، فأرسل إليهم عبد الرحمن هذا فوصل إلى مصر في شعبان سنة أربع وستين التي ذكرنا حوادثها فى إمرة سعيد ابن يزيد المقدم ذكره، ودخل معه مصر جماعة كثيرة من الخوارج وأظهروا دعوة عبد الله بن الزبير بمصر ودعوا الناس لبيعته، فتابعهم الناس والجند على ما في قلوبهم من الحب في الباطن لبني أمية.
ولما دخل عبد الرحمن المذكور إلى مصر وتم أمره أقرّ عابسا على الشّرطة والقضاء بمصر، فبينما هم في ذلك وصل الخبر من الشأم ببيعة مروان بن الحكم بالخلافة وأن أمره تم، فصارت مصر معه في الباطن، وفي الظاهر لابن الزبير، حتى جهز مروان بن الحكم جيشاً مع ابنه عبد العزيز إلى أيلة ليدخل مصر من هناك، ثم ركب مروان بن الحكم في جيوشه وجموعه وقصد مصر؛ فلما بلغ عبد الرحمن بن جحدم ذلك استعدّ لحربه وحفر خندقاً في شهر، أو قريب من شهر، وهو الذي بالقرافة، وسار مروان حتى نزل مدينة عين شمس (أعني المطرية خارج القاهرة) فخرج إليه عبد الرحمن، فتحاربوا يوماً أو يومين، فكانت بين الفريقين مقتلة كبيرة، ثم آل الأمر بينهما إلى الصلح واصطلحا على أن مروان يقر عبد الرحمن ويدفع إليه مالاً وكسوة؛ ودخل مروان مصر في غرة جمادى الأولى سنة خمس وستين.(1/165)
وقال صاحب البغية في آخر جمادى الأولى من السنة: ومدة مقام ابن جحدم فيها إلى أن دخل مروان «1» تسعة أشهر، وبايعه الناس إلا قليلاً فضرب أعناقهم، وجعل على الشرطة في مدة مقامه عمرو بن سعيد بن العاص، وخرج منها (يعني مروان) لهلال رجب سنة خمس وستين. انتهى كلام صاحب البغية.
وقال غيره: وعزل مروان عبد الرحمن بن جحدم عن إمرة مصر، وكانت مدة ولايته عليها تسعة أشهر وأياماً، وفتح مروان خزائنه ووضع العطاء، فبايعه الناس إلا نفراً من المعافر قالوا: لا نخلع بيعة عبد الله بن الزبير، فضرب مروان أعناقهم وكانوا ثمانين رجلاً، وذلك في نصف جمادى الآخرة. وكان في ذلك اليوم موت عبد الله بن عمرو بن العاص فلم يستطع أحد أن يخرج بجنازته إلى المقبرة، فدفنوه بداره لشغب الجند على مروان، ثم ضرب مروان عنق الأكدر «2» بن حمام اللخمي سيد لخم، وكان من قتلة عثمان رضي الله عنه، ثم ولى مروان ابنه عبد العزيز بن مروان على مصر وجمع له الصلاة والخراج معاً، ثم خرج منها مروان يريد الشأم بعد أن أوصى ولده عبد العزيز بوصايا كثيرة مضمونها الرفق بأهل مصر، وكان خروج مروان من مصر في أول يوم من شهر رجب.
وقال ابن كثير: وفيها (يعني سنة خمس وستين) دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الأشدق إلى مصر فأخذاها من نائبها لعبد الله بن الزبير. وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها عبد الرحمن بن جحدم، فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن(1/166)
جحدم، فدخل مصر وملكها وهرب عبد الرحمن بن جحدم، ودخل مروان إلى مصر فتملكها وجعل عليها ولده عبد العزيز بن مروان. انتهى كلام ابن كثير برمته.
وقال ابن الأثير في كتابه الكامل «1» : (ذكر فتح مروان مصر) ، قال: ولما قتل الضحاك وأصحابه وأستقر «2» الشأم لمروان سار إلى مصر، فقدمها وعليها عبد الرحمن ابن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه حتى دخل مصر، فقيل لابن جحدم ذلك فرجع، وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق؛ فلما دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث إليه أخاه مصعباً في جيش، فأرسل إليه مروان عمرو بن سعيد قبل أن يدخل الشأم [فقاتله «3» ] فانهزم مصعب وأصحابه، وكان مصعب شجاعاً، ثم عاد مروان إلى دمشق فاستقر بها.
وكان الحصين بن نمير ومالك بن هبيرة قد اشترطا على مروان شروطاً لهما ولخالد ابن يزيد، فلما توطد ملكه قال ذات يوم ومالك عنده: إن قوماً يدعون شروطاً منهم عطارة مكحلة (يعني مالكاً فإنه كان يتطيب ويتكحل) ، فقال مالك هذا:
ولما تردي تهامة ويبلغ الحزام الطّبيين! فقال مروان: مهلا أبا سليمان إنما داعبناك «4» ؛ فقال: هو ذاك. انتهى كلام ابن الأثير برمته.
قلت: وكانت أيام عبد الرحمن هذا على مصر مع قصر مدته كثيرة الفتن والحروب من أولها إلى آخرها، غير أنه حج بالناس من مصر فى أيامه، وبنى عبد الله ابن الزبير الكعبة ولم يحج أحد من الشأم في هذه السنة.(1/167)
قال ابن الأثير: لما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشأم عبد الله بن الزبير أيام يزيد بن معاوية تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشأم، فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها، فأمر بهدمها حتى التحقت بالأرض وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل «الحجر الأسود» عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس وضرب عليها السور «1» وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم- عليه السلام- وأزيد فيها من الحجر» . فحفر ابن الزبير فوجد أساسا أمثال الجبال فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة؛ فقال: أقروها على أساسها وبنائها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وقيل كانت عمارتها سنة أربع وستين.
*** السنة التي حكم فيها عبد الرحمن بن جحدم على مصر من قبل عبد الله بن الزبير وهي سنة خمس وستين- فيها وقع الطاعون الجارف بالبصرة في قول ابن الأثير وعليها عبد الله بن عبيد الله بن معمر، فهلك خلق كثير وماتت أم عبيد الله فلم يجدوا لها من يحملها. وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير وكان على المدينة أخوه مصعب بن الزبير وعلى الكوفة ابن مطيع وعلى البصرة الحارث بن أبي ربيعة المخزومي وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها وجه مروان بن الحكم الخليفة حبيش ابن دلجة في أربعة آلاف إلى المدينة وقال له: أنت على ما كان عليه مسلم بن عقبة، فسار حبيش ومعه عبيد الله بن الحكم أخو مروان وأبو الحجاج يوسف الثقفي وابنه الحجاج وهو شاب، فجهز متولي البصرة من جهة ابن الزبير، وهو عبيد الله التيمي، جيشاً(1/168)
من البصرة، فالتقوا مع حبيش بن دلجة في أول شهر رمضان فقتل حبيش بن دلجة وعبيد الله بن الحكم وأكثر الجيش، وهرب من بقي وهرب يوسف وابنه الحجاج.
وفيها دعا عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية إلى بيعته فأبى محمد فحصره في شعب بني هاشم في جماعته وتوعدهم. وفيها دخل المهلب بن أبي صفرة إلى خراسان أميراً عليها من قبل ابن الزبير وحارب الأزارقة أصحاب ابن الأزرق وقاتلهم حتى كسرهم وقتل منهم أربعة آلاف وثمانمائة. قال الذهبي: ووقع أيضاً في هذه السنة بين مروان وبين ابن الزبير حروب كثيرة حتى توفي مروان حسبما يأتي ذكره. وفيها توفي مالك بن هبيرة السكوني، له صحبة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي الخليفة مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الملك القرشي الأموي، ويقال أبو القاسم وأبو الحكم؛ ولد بمكة بعد عبد الله بن الزبير بأربعة أشهر. قال الذهبي: ولم يصح له سماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن له رؤية إن شاء الله. اهـ.
قلت: وهو ابن عم عثمان بن عفان وكاتبه؛ ومن أجله كان ابتداء فتنة عثمان رضي الله عنه وقتله، ثم انضم إلى ابن عمه معاوية بن أبي سفيان وتولى عدة أعمال، إلى أن وثب على الأمر بعد أولاد يزيد بن معاوية (أعني معاوية وخالداً) وبويع بالخلافة فلم تطل مدته ومات في أول شهر رمضان. وفي سبب موته خلاف كثير؛ وعهد بالخلافة من بعده إلى ابنه عبد الملك، ثم من بعده إلى ابنه عبد العزيز أمير مصر؛ وكان أولاً أراد أن يعهد لخالد بن يزيد بن معاوية فإنه كان خلعه من الخلافة وتزوج بأمه، ثم بدا له أن يعهد لولديه عبد الملك وعبد العزيز؛ ثم ما كفاه(1/169)
فزبره «1» وقال: تنح يا بن رطبة الإست! والله مالك عقل؛ وبلغ أم خالد ذلك فأضمرت له السوء؛ فدخل مروان عليها وقال لها: هل قال لك خالد شيئاً؟
فأنكرت فنام عندها، فوثبت هي وجواريها فعمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وغمرته هي والجواري حتى مات، ثم صرخن وقلن: مات فجأة. وقال الهيثم: إنه مات مطعوناً بدمشق. والله أعلم. وفي حدودها توفي قيس بن ذريح أبو زيد الليثي الشاعر المشهور، كان من بادية الحجاز، وهو الذي كان يشبب بأم معمر لبنى بنت الحباب الكعبية ثم إنه تزوج بها، وقيل: إنه كان أخا الحسين بن علي رضي الله عنهما من الرضاعة، ثم أمر قيساً هذا أبوه بطلاق لبنى فطلقها وفارقها، ثم قال فيها تلك الأشعار الرائقة؛ من ذلك قوله:
ولو أنّنى أسطيع صبراً وسلوةً ... تناسيت لبنى غير ما مضمرٍ حقدا
ولكن قلبى قد تقسمه الهوى ... شتاتاً فما ألفى صبوراً ولا جلدا
وله بيت مفرد:
وكل ملمات الزمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
وفي حدودها أيضاً توفي قيس بن معاذ المجنون، ومن ثم يقاس الجنون بمجنون ليلى، وقيل اسمه البختري «2» بن الجعد وقيل غير ذلك. وليلى محبوبته: هي ليلى بنت مهدي أم مالك العامرية الربعية. وهو من بني عامر بن صعصعة وقيل من بنى كعب ابن سعد، قيل إنه علق بليلى علاقة الصبا لأنهما كانا صغيرين يرعيان أغناماً لقومهما، فعلق كل واحد منهما بالآخر، فلما كبرا احتجبت عنه ليلى فزال عقله؛ وفي ذلك يقول:(1/170)
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابةٍ «1» ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
ثم عظم الأمر به إلى أن صار أمره إلى ما هو أشهر من أن يذكر. وقيل إنهما ماتا في سنة ثمانٍ وستين. وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم، وقد تقدم بقية نسبه في ترجمة أبيه عمرو بن العاص الأموي الصحابي، وكنيته أبو محمد، ويقال أبو عبد الرحمن، القرشي السهمي، كان من نجباء الصحابة وعلمائهم، وهو من المكثرين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكرنا يوم وفاته في دخول مروان بن الحكم الى مصر عند ما أزال عنها عبد الرحمن بن جحدم. وفيها توفي النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة أبو عبد الله، ويقال أبو محمد، الأنصاري الخزرجي الصحابي، ابن أخت عبد الله بن رواحة. ولد سنة اثنتين من الهجرة وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وولي قضاء دمشق لمعاوية بن أبي سفيان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعاً.
وفي درر التيجان: خمسة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
ذكر ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي أمير مصر، كنيته أبو الأصبغ، مولده بالمدينة، ثم دخل الشام مع أبيه مروان(1/171)
وكانت داره بدمشق، هى الدار التى الصوفيّة الآن المعروفة بالسميساطية «1» ثم كانت لابنه عمر بن عبد العزيز بعده. وولي إمرة مصر لأبيه مروان في غرة شهر رجب سنة خمس وستين على الصلاة والخراج معاً بعد ما عهد له بالخلافة بعد أخيه عبد الملك.
وكان السبب في بيعتهما أن عمرو بن سعيد بن العاص لما هزم مصعب بن الزبير، حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين، رجع إلى مروان وهو بدمشق، فبلغ مروان أن عمراً يقول: إن الأمر لي بعد مروان، فدعا مروان حسان بن ثابت فأخبره بما بلغه عن عمرو؛ فقال: أنا أكفيك عمراً؛ فلما اجتمع الناس عند مروان عشياً قام حسان فقال: إنه بلغنا أن رجالاً يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ثم لعبد العزيز من بعده، فبايعوا إلى آخرهم. ومات أبوه بعد مدة يسيرة حسبما تقدم ذكره، واستقر أخوه عبد الملك بن مروان في الخلافة من بعده، فأقر عبد العزيز هذا على عمل مصر على عادته. وقد روى عبد العزيز هذا الحديث عن أبيه وعبد الله بن الزبير وعقبة بن عامر وأبي هريرة، وروى عنه ابنه عمر بن عبد العزيز والزهري وعلي بن رباح وجماعة. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال غيره: كان يلحن في كلامه ثم تعلم العربية فأحسن تعلمها، وكان فصيحاً جواداً ذا مروءة وكرم؛ وكان أبوه مروان عقد له البيعة بعد عبد الملك ثم ولاه مصر؛ وهو معدود من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وكان عبد العزيز هذا قد حده عمرو بن سعيد(1/172)
الأشدق في شراب شربه فوجد عليه ابنه عمر بن عبد العزيز؛ فلما ولي عمر المدينة وجد إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر في بيت خليدة العرجاء، فحدّه عمر حدّ الخمر؛ فقال إسحاق: يا عمر، كل الناس جلدوا فى الخمر؛ يعرّض بأبيه عبد العزيز. اهـ.
ولما أقام عبد العزيز بمصر وقع بها الطاعون في سنة سبعين، فخرج عبد العزيز من مصر ونزل بحلوان فأعجبته فاتخذها سكناً، وجعل بها الحرس والأعوان وبنى بها الدور والمساجد وعمرها أحسن عمارة وغرس نخلها وكرمها، ثم جهز البعث لقتال ابن الزبير في البحر في سنة اثنتين وسبعين. ثم لما طالت أيام عبد الملك في الخلافة بعد قتل عبد الله بن الزبير ثقل عليه أمر عبد العزيز هذا وأراد أن يخلعه من ولاية العهد ويجعلها عبد الملك لولديه الوليد وسليمان من بعده؛ فمنعه قبيصة بن ذؤيب من ذلك، وكان قبيصة على خاتم عبد الملك، وقال له: لا تفعل ذلك، فإنك باعث على نفسك صوتاً، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه؛ فكف عن ذلك ونفسه تنازعه، حتى دخل عليه روح بن زنباع الجذامي، وكان أجل الناس عند عبد الملك، فشاوره في ذلك، فقال روح: لو خلعته ما انتطح فيها عنزان؛ فبينما هما على ذلك، وقد نام عبد الملك وروح تلك الليلة عنده، إذ دخل عليهما قبيصة ليلاً، وكان لا يحجب عن عبد الملك، وكانت الأخبار والكتب تأتيه فيقرؤها قبل عبد الملك؛ فقيل له: قد جاء قبيصة؛ فدخل قبيصة فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز، فاسترجع عبد الملك وقال لروح: يا أبا زرعة، كفانا الله ما أجمعنا عليه؛ فقال له قبيصة:
فداك ما أردت ولم تقطع رحم أبيك، ولم تأت ما تعاب به، ولم يظهر عليك غدر.
وقيل غير ذلك: وهو أن عبد الملك كتب لأخيه عبد العزيز هذا: يا أخي، إن رأيت أن تصير الأمر لابن أخيك الوليد فافعل؛ فأبى عبد العزيز؛ فكتب إليه عبد الملك ثانية: فاجعله من بعدك، فإنه أعز الخلق إلي؛ فكتب إليه عبد العزيز:(1/173)
إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز (يعني ابنه) ما تراه في الوليد؛ فكتب عبد الملك إليه ثالثة: فاحمل خراج مصر إلي؛ فكتب إليه عبد العزيز: إني وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهلنا، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أوّلا، فإن رأيت ألّا تغثث «1» علي بقية عمري ولا يأتيني الموت إلا وأنت واصل فافعل؛ فرق له عبد الملك وقال:
لا أغثّث «2» عليه بقية عمره، وقال لابنيه الوليد وسليمان: إن يرد الله أن يعطيكماها لم يقدر أحد من الخلق على ردها عنكما، ثم قال لهما: هل قارفتما حراماً قط؟ قالا: لا والله؛ فقال عبد الملك: نلتماها ورب الكعبة. وقيل: إنّ عبد العزيز لما ردّ كلام عبد الملك، قال عبد الملك: اللهم إنه قد قطعني فاقطعه. فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه فاستجيب له فيه.
قلت: وكانت وفاة عبد العزيز في ثالث عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين من الهجرة، وقيل سنة خمس وثمانين؛ فكانت ولايته على مصر عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوماً. وتولى مصر من بعده عبد الله بن عبد الملك بن مروان.
وقال محمد بن الحارث المخزوميّ: دخل رجل على عبد العزيز في ولايته على مصر يشكو إليه صهراً له، فقال: إن ختني ظلمني؛ فقال له عبد العزيز: من ختنك؟
فقال: الرجل الختان الذي يختن الناس؛ فقال عبد العزيز لكاتبه: ما هذا الجواب؟(1/174)
فقال: أيها الأمير، إنك لحنت والرجل يعرف اللحن، وكان ينبغي أن تقول: من ختنك (بالضم) ؛ فقال عبد العزيز: أتراني أتكلم بكلام لا تعرفه العرب؟ والله لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن؛ فأقام في بيتٍ جمعةً لا يظهر ومعه من يعلمه النحو فصلى بالناس الجمعة الأخرى وهو أفصح الناس.
وقال الذهبي في كتابه «تذهيب التهذيب» بعد أن ساق نبذة من نسبه وولايته وروايته بنحو ما قلناه إلى أن قال: «روى ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى ابن عمر: ارفع إلي حاجتك؛ فكتب إليه ابن عمر (يعني عبد الله) : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى.
وابدأ بمن تعول» ، ولست أسألك شيئاً ولا أرد رزقاً رزقنيه الله عز وجل. وقال؟؟؟ نريد ابن أبي حبيب عن سويد بن قيس: بعثني عبد العزيز بن مروان بألف دينار لابن عمر فجئته بها ففرقها. وقال محمد بن هانئ الطائي عن محمد بن أبي سعيد قال: قال عبد العزيز بن مروان: ما نظر إلي رجل قط فتأملني إلا سألته عن حاجته. ثم قال بعد كلام آخر: وكان يقول عبد العزيز بن مروان: وا عجبا من مؤمن يوقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يخلف عليه، كيف يدخر مالاً عن عظيم أجر أو حسن سماع!.
قلت: وكان عبد العزيز جواداً ممدحاً سيوساً حازماً. قال ابن سعد: مات بمصر سنة خمس وثمانين قبل أخيه عبد الملك بسنة. وقال الحافظ بن يونس:
ولي مصر عشرين سنة. وقال الليث بن سعد: توفي في جمادى الآخرة سنة ست وثمانين، وله حديث وهو: سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع» انتهى كلام الذهبي باختصار.(1/175)
قلت: وعبد العزيز هذا هو الذي أشار على أخيه عبد الملك بضرب الدراهم والدنانير، فضربها في سنة ست وسبعين. وعبد الملك أول «1» من أحدث ضربها في الإسلام فانتفع الناس بذلك. وكان سبب ضربها أنه كتب فى صدر كتاب الى [ملك «2» ] الروم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع التاريخ؛ فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم «3» كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيّكم(1/176)
ما تكرهون؛ فعظم ذلك عليه فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال:
حرم دنانيرهم واضرب للناس سكة وفيها ذكر الله تعالى، ثم استشار أخاه عبد العزيز فأشار عليه أيضاً بذلك؛ فضرب الدنانير والدراهم. ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
فكره الناس ذلك لمكان القرآن، فإن الجنب والحائض يمسها؛ ونهى أن يضرب أحد غيره؛ فضرب سمير اليهودي فأخذه الحجاج ليقتله، فقال له: عيار دراهمي أجود من عيار دراهمك فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس سنج الأوزان ليتركه فلم يفعل؛ وكان الناس لا يعرفون الوزن بل يزنون بعضها ببعض، فلما وضع لهم سمير السنج كف بعضهم عن [غبن «1» ] بعض.
وأول من شدد «2» في أمر الوزن وخلص الفضة أبلغ من تخليص من كان قبله عمر ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك وجود الدراهم؛ ثم خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك، فاشتد فيه أكثر من ابن هبيرة. ثم ولي يوسف بن عمر فأفرط في الشدة، وامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة، فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب فى حبة مائة ألف سوط. وكانت الدراهم الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن أبو جعفر المنصور يقبل في الخراج غيرها، فسميت الدراهم الأولى مكروهة. وقيل: إن الدراهم المكروهة هي الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
فكرهها «3» العلماء. وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كباراً وصغاراً، فكانوا يضربون منها المثقال وزن عشرين قيراطاً واثني عشر قيراطا وعشرة قراريط، فلما ضربوا الدراهم في الإسلام أخذ الوسط من(1/177)
ثلث هذا العدد، وهو أربعة عشر قيراطاً، فصار الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً، ووزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
*** السنة الأولى من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ست وستين- فيها عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة أميرها وأرسل عليها عبد الله بن مطيع، وفي أثناء هذا الأمر خرج المختار الكذاب من السجن والتف عليه خلق من الشيعة وقويت شوكته وضعف أمر عبد الله بن مطيع معه، ثم إنه توثب بالكوفة فقاتله طائفة من أهل الكوفة فهزمهم وقتل منهم رفاعة بن شداد وعبد الله بن سعد بن قيس وغلب على الكوفة، وهرب منه عبد الله بن مطيع إلى ابن الزبير، وجعل المختار يتتبع قتلة الحسين بن علي، فقتل عمرو بن سعد بن أبي وقاص وشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي؛ ثم افترى المختار على الله أنه يأتيه جبريل بالوحي، فلهذا قيل عنه: المختار الكذاب. وفيه يقول سراقة بن مرداس:
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي هجاءكم «1» حتى الممات
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
وفيها أيضاً التقى المختار مع عبيد الله بن زياد فقتل عبيد الله بن زياد وقتل معه شرحبيل بن ذي الكلاع وحصين بن نمير السكوني، واصطلم المختار جيشهم وقتل خلقا كثيرا وطيف برءوس هؤلاء؛ وقيل إن ذلك في الآتية. وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخاه مصعب بن الزبير، وعامله على البصرة عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان بالكوفة المختار متغلباً عليها، وبخراسان(1/178)
عبد الله بن خازم. وفيها توفي أسماء بن حارثة الأسلمي (وحارثة بالحاء) ، وله صحبة وهو من أصحاب الصفة، وقيل: إنه مات قبل ذلك. وفيها توفي جابر بن سمرة، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، على خلف في وفاته. وفيها توفي أسماء بن خارجة ابن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري سيد قومه في قول. وفيها كان الطاعون بمصر ومات فيه خلائق عظيمة، وهذا خامس طاعون مشهور في الإسلام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبعان.
*** السنة الثانية من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة سبع وستين- فيها كانت الوقعة بين إبراهيم بن الأشتر النخعي وبين عبيد الله ابن زياد، وكان ابن الأشتر من حزب المختار، وكان في ثمانية آلاف من الكوفيين، وكان عبيد الله بن زياد في أربعين ألفاً من الشاميين؛ فأسرع ابن الأشتر إلى أهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق فسبقهم ودخل الموصل، فالتقوا على خمسة فراسخ من الموصل بالخازر «1» ، فانتهز ابن الأشتر وقتله وقتل من أصحابه خلائق ممن ذكرناهم في الماضية وغيرهم. وكان من غرق منهم في نهر الخازر أكثر ممن قتل؛ ودخل ابن الأشتر الموصل واستعمل عليها وعلى نصيبين وسنجار العمال، ثمّ بعث برءوس عبيد الله بن زياد والحصين وشرحبيل بن ذي الكلاع إلى المختار فأمر بهم المختار فنصبوا بمكّة.(1/179)
قلت: وعبيد الله بن زياد هذا هو الذي قاتل الحسين بن علي حتى قتله. وفيها عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن العراق وولاه لابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير؛ وكان حمزة جوادا مخلّطا يجود أحياناً حتى لا يدع شيئاً يملكه ويمنع أحياناً ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفة وضعف؛ فعزله أبوه وأعاد أخاه مصعباً في الثانية. وفيها وجه المختار أربعة آلاف فارس عليهم أبو عبد الله الجدلي وعقبة بن طارق، فكلم الجدلي عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية، وأخرجوه من الشعب «1» فلم يقدر ابن الزبير على منعهم، وأقاموا في خدمة محمد بن الحنفية ثمانية أشهر حتى قتل المختار وسار محمد بن الحنفية إلى الشام. وأما ابن الزبير فإنه غضب من المختار لكونه انتصر لمحمد بن الحنفية وندب لقتاله أخاه مصعب بن الزبير وولاه جميع العراق، فتوجه مصعب وحصر المختار في قصر الإمارة بالكوفة حتى قتله طريف «2» وطراف (أخوان من بني حنيفة) في شهر رمضان وأتيا برأسه إلى مصعب.
وقتل في حرب المختار جماعة من الأشراف منهم عمر وعبيد الله ابنا علي بن أبي طالب وزائدة بن عمير الثقفي ومحمد بن الأشعث بن قيس الكندي سبط أبي بكر الصديق.
وفيها توفي عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أسلم سنة سبع من الهجرة، وكان كبير طيّئ. وفيها توفي أبو شريح الخزاعي الكعبي الصحابي واسمه، على الأصح، خويلد بن عمرو، أسلم يوم الفتح. وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة والبصرة ابنه حمزة، وكان على قضاء البصرة عبد الله بن عتبة بن مسعود وعلى الكوفة (أعني قاضيها) هشام بن هبيرة، والخليفة بالشام عبد الملك بن مروان(1/180)
أخو صاحب الترجمة، وبخراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفي الأحنف بن قيس بالكوفة مع مصعب بن الزبير، وقيل: مات سنة إحدى وسبعين لما سار مصعب لقتال عبد الملك بن مروان. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية، أدرك الجاهلية وليست له صحبة. وفيها قتل مصعب بن الزبير عبد الرحمن وعبد «1» الرب ابني حجر بن عدي وعمران بن حذيفة بن اليمان، قتلهم صبراً بعد قتل المختار وأصحابه. وفيها توفي أبو واقد الليثي، له صحبة وأحاديث. ويقال فيها أيضاً توفي زيد بن أرقم، وقيل: إن وفاة هؤلاء في السنة الآتية وهو الأصح.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وستين- فيها عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن العراق وولي عليها ابنه حمزة ابن عبد الله بن الزبير وقد مر ذلك في الماضية. وفيها استعمل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود الزهري على المدينة، فأراد جابر أن يبايع سعيد بن المسيب لابن الزبير فامتنع فضربه سبعين سوطاً، قاله خليفة بن خياط. وفي هذه السنة وافى عرفات أربعة ألوية: لواء ابن الزبير وأصحابه، ولواء ابن الحنفية وأصحابه، ولواء بني أمية، ولواء النجدة الحروري، ولم يكن بينهم حرب ولا فتنة. وكان العامل على المدينة لابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب، وعلى خراسان عبد الله بن خازم؛ وكان عبد الملك بن مروان مشاقّا لابن(1/181)
الزبير. وفيها توفي عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، أبو العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الخلفاء العباسيين. ولد في شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مرتين. وكان يسمى الحبر لكثرة علومه، ومات وله سبعون سنة، رضي الله عنه.
وفيها توفي عابس بن سعيد الغطيفي قاضي مصر، ولى القضاء والشرطة بمصر لمسلمة ابن مخلد عدة سنين. وفيها توفي قيس بن ذريح وقيس مجنون ليلى، وقد تقدم ذكرهما في سنة خمس وستين. وفيها توفي ملك الروم قسطنطين. وفيها توفي عبد الرحمن بن حاطب «1» بن أبي بلتعة. وفيها توفي أبو شريح الخزاعي، وأبو واقد الليثي، وقد تقدم ذكرهما في الماضية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعاً.
وفي درر التيجان: وأربعة وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الرابعة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة تسع وستين- فيها كان بالبصرة طاعون الجارف. قال المدائني: حدثني من أدرك الجارف قال:
كان ثلاثة أيام مات فيها في كل يوم سبعون ألفاً. وقال خليفة قال أبو اليقظان:
مات لأنس بن مالك ثمانون ولداً ويقال سبعون ولداً؛ وقيل مات لعبد الرحمن بن أبي بكرة في الطاعون المذكور أربعون ولداً. وقل الناس بالبصرة جداً حتى إنه ماتت أم أمير البصرة فلم يجدوا من يحملها إلا أربعة بالجهد. ومات لصدقة بن عامر العامري في يوم واحد سبعة بنين، فقال: اللهم إني مسلم مسلم. ولما كان يوم الجمعة(1/182)
خطب الخطيب وليس في المسجد إلا سبعة أنفس وامرأة، فقال الخطيب:
ما فعلت الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب. وقيل: إنه توفي في هذا الطاعون عشرون ألف عروس. وقد اختلف في سنة هذا الطاعون فمنهم من قال في هذه السنة، وقال بعضهم: في سنة سبعين، وقال آخر: في سنة اثنتين وسبعين، وقيل غير ذلك. وهذا الطاعون يكون سابع طاعون في الإسلام، فإن الأول كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني طاعون عمواس في عهد عمر رضي الله عنه، والثالث بالكوفة في زمن أبي موسى الأشعري، والرابع بالكوفة أيضاً في زمن المغيرة ابن شعبة، والخامس الطاعون الذي مات فيه زياد، ثم الطاعون بمصر فى سنة ست وستين. وفيها شرع الخليفة عبد الملك بن مروان في عمارة القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة جامع الأقصى، وقيل: بل كان شروعه في ذلك سنة سبعين. وفيها عزل عبد الله بن الزبير ابنه حمزة عن إمرة العراق وأعاد أخاه مصعب بن الزبير، فقدمها مصعب وتجهز وخرج يريد الشام لقتال عبد الملك بن مروان، وخرج عبد الملك أيضاً من الشام يريد مصعب بن الزبير، فسار كل منهما إلى آخر ولايته وهجم عليهما الشتاء، فرجع كل منهما إلى ولايته. قال خليفة: وكانا يفعلان ذلك في كل سنة حتى قتل مصعب. وفيها عقد عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة لحسان الغساني على غزو إفريقية. وفيها اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح الخليفة عبد الملك بن مروان [ملكهم «1» ] على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين. هكذا ذكر ابن الأثير هذه الواقعة في هذه السنة، وقال غيره: إنها في غير السنة. وفيها توجه مصعب بن الزبير إلى مكة ومعه(1/183)
أموال كثيرة ودواب كثيرة، فقسم في قومه وغيرهم ونحر بدناً كثيرة. وفيها «1» حكم رجل من الخوارج بمًنى وسل سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله بأيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة. وفيها حج بالناس مصعب بن الزبير؛ وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وفيها توفي الأحنف بن قيس التميمي البصري أبو بحر؛ واسمه الضحاك بن قيس بن معاوية بن الحصين، وكان أحنف الرجلين (والحنف: الميل) ، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قلت: وأخبار الأحنف مشهورة تغني عن الإطناب في ذكره، وقد تقدم ذكر وفاته، والصحيح في هذه السنة. وفيها توفي أبو الأسود الدؤلي البصري الكناني واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، وهو من الطبقة الأولى من تابعي البصرة، وهو أول من وضع علم النحو، ومات بالطاعون. وفيها قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد «2» أبي أحيحة بن العاص بن أمية الأشدق، سمي الأشدق لأنه كان خطيباً مفلقاً، وقيل: لاتساع شدقه، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة. وفيها توفي قبيصة بن جابر بن وهب بن مالك أبو العلاء الأسدي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وكانت أرضعته هند أم معاوية بن أبي سفيان. وفيها توفي مالك بن يخامر «3» السكسكي الألهانى الحمصي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقيل: له صحبة ورواية.
وفيها توفي يزيد بن ربيعة بن مفرغ أبو عنان الحميري البصري، كان شاعراً مجيداً، والسيد الحميري من ولده.(1/184)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وستة أصابع.
*** السنة الخامسة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة سبعين- فيها كان الوباء بمصر، وقيل فيها كان طاعون الحارف؟؟؟ المقدّم ذكره فى الماضية. وفيها تحول عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة من مصر إلى حلوان حسبما ذكرناه في أول ترجمته، واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار. وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير. وفيها كانت مقتلة عمير بن الحباب بن جعدة السلمي.
وفيها تحركت الروم على أهل الشام وعجز عبد الملك بن مروان عنهم لاشتغاله بقتال عبد الله بن الزبير، فصالح ملك الروم على أن يؤدي له في كل جمعة ألف دينار.
وفيها وفد مصعب بن الزبير على أخيه عبد الله بن الزبير بأموال العراق. وفيها بعث عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص بن أمية إلى البصرة ليأخذها في غيبة مصعب بن الزبير. وفيها توفي الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد الهمداني الكوفي الأعور، راوية علي رضي الله عنه، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وقيل: توفي سنة ثلاث وستين. وفيها توفي عاصم بن عمر بن الخطاب، وأمه جميلة أخت «1» عاصم بن ثابت بن أبى أقلح الأنصاري، وكان اسمها عاصمة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. وعاصم هذا هو جدّ عمر ابن عبد العزيز الأموي لأمه.(1/185)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وواحد وعشرون إصبعاً. وفي درر التيجان: ثمانية عشر إصبعاً.
*** السنة السادسة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة إحدى وسبعين- فيها حج بالناس أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وعرف «1» بمصر عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة، وهو أول من عرف بها فقام من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وعرف بمصر.
قلت: ومن خلافة مروان بن الحكم إلى هذه الأيام والممالك مقسومة بين خليفتين: عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: أما الحرمان والعراق كله فبيد عبد الله بن الزبير؛ والشام ومصر وما يليهما بيد عبد الملك بن مروان، والفتن قائمة بينهما والحروب واقعة في كل سنة. وفيها افتتح الخليفة عبد الملك بن مروان قيسارية الروم في قول الواقدي. وفيها نزع عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود ابن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو آخر وال كان له على المدينة، فدام على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير. وفيها توفي شتير بن شكل القيسي الكوفي من أصحاب علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما.
(وشتير بضم الشين المعجمة وفتح التاء فوقها نقطتان وبعدها ياء تحتها نقطتان، وشكل بفتح الشين المعجمة والكاف وآخره لام) . وفيها خرج عبد الله بن ثور أحد بنى قيس(1/186)
ابن ثعلبة من جهة مصعب بن الزبير بالبحر، فانتدب لقتله عبد الرحمن الإسكاف والتقوا [بجواثا «1» ] فانهزم عبد الرحمن. وفيها توفي البراء بن عازب بن الحارث بن عدي أبو عمارة، وهو من الطبقة الثالثة من الأنصار من الصحابة، مات بالكوفة في أيام مصعب بن الزبير. وفيها توفي عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت السلمي أبو صالح أمير خراسان، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وكان مشهوراً بالشجاعة، وأصله من البصرة. (وخازم بالخاء المعجمة والزاي) . وفيها توفي عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي «2» الصحابي، من الطبقة الثانية من المهاجرين، فأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ثم خيبر وما بعدها. وفيها كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان وبين مصعب بن الزبير، وقتل مصعب في المعركة، وكان مصعب من أجمل الناس وأشجعهم، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكنيته أبو عبد الله والمشهور أبو عيسى، وكان مصعب يجالس أبا هريرة؛ ورآه جميل بثينة بعرفات فقال: إن هاهنا لشابا أكره أن تراه بثينة (أعني لجماله) . ولما قتل مصعب بن الزبير أخذ أمر أخيه عبد الله بن الزبير في إدباره. وقيل: إن قتلة مصعب كانت في سنة اثنتين وسبعين، وهو الأشهر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً. وفي درر التيجان: وسبعة عشر إصبعاً.(1/187)
*** السنة السابعة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة اثنتين وسبعين- فيها بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة بالقدس والجامع الأقصى، وقد ذكرناه في الماضية، والأصح أنه في هذه السنة. وسبب بناء عبد الملك أن عبد الله بن الزبير لما دعا لنفسه بمكة فكان يخطب في أيام منى وعرفة وينال من عبد الملك ويذكر مثالب بني أمية، ويذكر أن جده الحكم كان طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، فمال أكثر أهل الشأم إلى ابن الزبير؛ فمنع عبد الملك الناس من الحج فضجوا، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليصرفهم «1» بذلك عن الحج والعمرة، فصاروا يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ضحاياهم؛ وصار أخوه عبد العزيز بن مروان صاحب مصر يعرف بالناس بمصر ويقف بهم يوم عرفة. وفيها ولّى عبد الملك ابن مروان طارق بن عمرو مولى عثمان على المدينة، فسار إليها وغلب عليها وأخرج منها طلحة بن عبد الله بن عوف عامل ابن الزبير، وقد تقدم ذلك في الماضية.
وفيها بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة لقتال عبد الله ابن الزبير فتوجه إلى مكة وحاصر ابن الزبير إلى أن قتل ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين، على ما يأتي ذكره في محله. وفيها كان العامل على المدينة طارقاً لعبد الملك بن مروان، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، وكان على خراسان- في قول بعضهم- بكير بن وشاح.(1/188)
وفيها توفي عبيدة بن عمرو السلماني «1» المرادي، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من كبار الفقهاء، أخذ عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.
(وعبيدة بفتح العين وكسر الباء الموحدة) . وفيها على الصحيح مقتلة مصعب ابن الزبير، طعنه زائدة الثقفي وقتل معه ابنه عيسى وإبراهيم بن الأشتر ومسلم ابن عمرو الباهلي، وقد مر من أخباره في الماضية ما يغني عن ذكره هنا ثانية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً. وفي درر التيجان: سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.
*** السنة الثامنة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهى سنة ثلاث وسبعين- فيها قتل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر، وقيل أبو خبيب، القرشي الأسدي، أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، له صحبة ورواية، حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي بالبيت الحرام أشهراً ونصب على الكعبة المنجنيق ورمى به على البيت غير مرة حتى قتل ابن الزبير وصلبه. قيل: إن الحسن البصري سئل عن عبد الملك بن مروان، فقال الحسن: ما أقول في رجل الحجاج سيئة من سيئاته. وقتل مع عبد الله بن الزبير هؤلاء الثلاثة: وهم عبد الله ابن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، وعبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي، وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فهؤلاء من الأشراف، وأما غيرهم(1/189)
فكثير. ومن يوم قتل عبد الله بن الزبير صار في الإسلام خليفة واحد وهو عبد الملك ابن مروان. قلت: ومناقب عبد الله بن الزبير كثيرة يضيق هذا المحل عن ذكرها.
وفيها توفيت أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن الزبير المذكور بعد ابنها عبد الله بمدة يسيرة. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة في أربعة آلاف، فساروا إليه في ستين ألفاً فهزمهم محمد واستباح عسكرهم، وقيل: إن هذا كان من ناحية أرمينية.
وفيها توفي إياس بن قتادة بن أوفى، من الطبقة الأولى من التابعين، وكان لأبيه قتادة صحبة. وفيها توفى سلم بن زياد بن أبيه أمير خراسان، وكان جواداً ممدحاً يعطي ألف ألف الدرهم، مات بالبصرة. وفيها توفي مالك بن أوس بن الحدثان أحد بني نصر ابن معاوية بن هارون، قيل له صحبة، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين.
وفيها استعمل عبد الملك بن مروان أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية «1» ، وكانت [بحيرة «2» الطريخ التي بأرمينية] مباحة لم يتعرض إليها أحد بل كان يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه [ويبيعه «3» ] ويأخذ ثمنه، وصارت بعده لابنه مروان؛ ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة الأموية، وهي الآن على ذلك الحجر. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وهذا الطريخ «4» من عجائب الدنيا فإنه سمك صغار له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيراً يؤخذ بالأيدي وغيرها، فإذا انقضى موسمه لا يوجد منه شيء. وفيها عزل عبد الملك خالد بن عبد الله(1/190)
عن البصرة وولاها أخاه بشراً في قول. وفيها توفي مالك بن مسمع «1» بن غسان الربعي البصري، من الطبقة الأولى من التابعين، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وتسعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.
*** السنة التاسعة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة أربع وسبعين- فيها سار الحجاج من مكّة، بعد ما بنى البيت الحرام، إلى المدينة، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعنت «2» أهلها، وبنى بها مسجداً في بني سلمة يعرف به، وأخذ بعض الصحابة وختم عليهم في أعناقهم. روى الواقدي عن ابن أبي ذؤيب عمن رأى جابر بن عبد الله مختوماً [في «3» يده ورأى أنس بن مالك مختوما] في عنقه، يذلهما بذلك. قال الواقدي: وحدثني شرحبيل بن أبي عون عن أبيه قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد الساعدي فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان؟ فقال: قد فعلت؛ قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.
وفيها توفي بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وهو متولي البصرة، وكان ولي العراق والكوفة قبل ذلك، وقحط الناس أيام بشر فاستسقى فمطروا؛ ثم مر بشر بسراقة، وكان سراقة قد عمل فيها أبياتاً، فرأى سراقة يحول الماء من داره؛(1/191)
فقال بشر: ما هذا يا سراقة؟ فقال: هذا ولم ترفع يديك في الدعاء، فلو رفعتهما لجاءنا الطوفان. ومات بشر المذكور من البلاذر، فإنه شربه بطوس فاعتل ولزم الفراش حتى مات. وفيها توفي رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الصحابي من الطبقة الثالثة من الأنصار، شهد أحداً وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عبد الله، وأمه حليمة بنت عروة بن مسعود. وفيها توفي أبو سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، الصحابي من الطبقة الثالثة من الأنصار، واستصغر يوم أحد فرد. قال أبو سعيد: فخرجنا نتلقّى رسول الله عليه وسلم حين أقبل من أحد ببطن قباء، فنظر إلي وقال: «سعد بن مالك» ؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي، فدنوت منه وقبلت ركبته «1» ، فقال: «آجرك الله في أبيك» ، وكان قتل يومئذ شهيداً. وفيها توفي سلمة بن الأكوع، وكنيته أبو مسلم «2» ، الصحابي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. قال سلمة: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات. وفيها توفي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، وأمه زينب بنت مظعون بن حبيب، وهو شقيق حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم عبد الله قديماً بمكة قبل البلوغ، وهو من العبادلة الأربعة: وهم عبد الله ابن عمر هذا، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وهو من المكثرين في رواية الحديث.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعا.(1/192)
*** السنة العاشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة خمس وسبعين- فيها حج بالناس الخليفة عبد الملك بن مروان وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظنها أول حجته في الخلافة. وفيها ولى الخليفة عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف على العراق. وفيها خرج عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة من مصر وافداً على أخيه الخليفة عبد الملك بن مروان بالشام واستخلف على مصر زياد بن حنظلة التجيبي، وتوفي زياد بعد ذلك بمدة يسيرة في شوال؛ وتخلف على مصر الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان حتى قدم أبوه عبد العزيز من الشام. وفيها ولى عبد الملك المدينة يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية. وفيها خرج ملك الروم بجيوشه ونزل على مرعش من أعمال حلب، فندب عبد الملك لقتاله أخاه محمد بن مروان فهزم محمد الروم وغلبهم. وفيها ضرب عبد الملك بن مروان على الدينار والدرهم اسم الله تعالى، وسببه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بثلاثمائة سنة أو بأربعمائة سنة مكتوب عليها: باسم الأب والابن وروح القدس. قال الزهري:
كانت الدراهم على ثلاثة أصناف: الوافية وزن الدرهم مثقال، والبغلية «1» وزن الدرهم نصف مثقال، والزيادية وزن العشرة ستة مثاقيل، فجمع عبد الملك هذه الأصناف وضربها على ما هي الآن عليه. وفيها توفي توبة بن الحمير بن عقيل بن كعب بن ربيعة الخفاجي أحد عشاق العرب صاحب ليلى الأخيلية بنت عبد الله ابن الرحال بن شداد بن كعب، وكانت أشعر نساء زمانها لا يقدم عليها غير الخنساء.(1/193)
قيل: إن ليلى هذه دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها: ما رأى منك توبة حتى عشقك؟ فقالت: ما رأى الناس منك حين جعلوك خليفة!. وقال الشعبي:
ودخلت «1» ليلى الأخيلية على الحجاج وأنا حاضر، فقال: ما الذي أقدمك علينا؟
فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم؛ وكلب البرد، وشدة الجهد، وأنت لنا بعد الله الرفد؛ فقال لها: صفي حال البلاد؛ فقالت: أما الفجاج فمغبرة، وأما الأرض فمقشعرة، ثم ذكرت أشياء من هذه المقولة إلى أن قالت: وقد أصابتنا سنون لم تدع لنا هبعاً «2» ، ولا ربعاً؛ ولا عافطةً، ولا نافطةً؛ ذهبت الأموال، ونزحت الرجال اهـ.
وأما أشعار توبة المذكور فيها وتشبيبه بها فكثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وفيها توفي أبو ثعلبة الخشني «3» القضاعي، واسمه جرثوم، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة حنين، وقيل: إنه شهد بيعة الرضوان وحنيناً ونزل الشام وتوفي بها. وفيها توفي سليم بن عتر «4» التجيبي المصري أبو سلمة عالم مصر وقاضيها، من الطبقة الأولى من التابعين، وهو أول من قضى بمصر في سنة تسع وثلاثين وشهد فتح مصر. وفيها توفي «5» شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية ابن عامر أبو أمية قاضي الكوفة، من الطبقة الأولى من التابعين الكوفيين، وقيل إنه صحابي. وفيها كان وقوع الطاعون بالكوفة. وفيها توفي صلة بن أشيم العدوي أبو الصهباء، من الطبقة الأولى من تابعي الصحابة بالبصرة. وفيها توفي العرباض(1/194)
ابن سارية أبو نجيح السلمي، من الطبقة الثالثة من الصحابة المهاجرين. وفيها توفي عمرو بن ميمون الأودي (أود بني صعب بن سعد) من الطبقة الأولى من التابعين، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وتسعة أصابع.
*** السنة الحادية عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ست وسبعين- فيها خرج صالح بن مسرح التميمي وكان رجلاً صالحاً ناسكاً لكنه كان يحط على الخليفتين عثمان وعلي رضى الله عنهما كهيئة الخوارج، فوقع له حروب في هذه السنة إلى أن توفي من جرح أصابه فى حروبه بعد مدّة فى حمادى الآخرة وعهد لشبيب بن يزيد؛ فوقع لشبيب المذكور مع الحجاج بن يوسف حروب ووقائع كثيرة أكثرها لشبيب على الحجاج حتى دخل شبيب في هذه السنة الكوفة ومعه امرأته غزالة، وكانت غزالة المذكورة تدخل مع زوجها في الحروب، وربما قصدت الحجاج فهرب منها. وفيها وفد يحيى بن الحكم على الخليفة عبد الملك بن مروان. وفيها كان الحجاج على العراق وفعل تلك الأفعال القبيحة، وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية. وفيها توفي حبة بن جوين العرني صاحب علي (وحبة بالحاء المهملة والباء الموحدة) وهو منسوب إلى عرنة (بالعين المهملة المضمومة والراء المهملة والنون) . وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة بعد أن ولاه عبد الملك إمرتها في أول السنة. وفيها(1/195)
ولد مروان بن محمد الجعدي المعروف بالحمار آخر خلفاء بني أمية الآتي ذكره في محله. وفيها استشهد زهير بن قيس البلوي المصرى أبو شداد في واقعة الروم، وقد تقدم ذكره في واقعة إفريقية مع كسيلة وغيره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربعة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
*** السنة الثانية عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة سبع وسبعين- فيها قتل شبيب بن يزيد بن نعيم بعد أن وقع له وقائع مع الحجاج وعماله، وهو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت الشيباني الخارجي، خرج بالموصل فبعث إليه الحجاج خمسة قواد فقتلهم واحداً بعد واحد، ثم قاتل الحجاج وحاصره وكسره غير مرة، وكانت امرأة شبيب غزالة من الشجعان الفرسان حتى إنها قصدت الحجاج فهرب منها، فعيّره بعض الناس بقوله:
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
وفيها خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان من الخلافة وحارب الحجاج إلى أن قتل. وفيها عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو. وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان وهو أمير المدينة، وكان على البصرة والكوفة الحجّاج ابن يوسف الثقفي، وعلى خراسان أمية المذكور. وفيها غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك بن مروان. وفيها توفي جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري في قول. وفيها(1/196)
توفي عبيد بن عمير بن قتادة الليثي المكي أبو عاصم، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل مكة، قال عطاء: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضى الله عنها فقالت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير، قالت: أفمن أهل مكة؟ قال: نعم، قالت: خفف فإن الذكر ثقيل. قال مجاهد «1» : كنا نفتخر بفقيهنا ابن عباس، وقاضينا عبيد بن عمير. وفيها توفي قطري بن الفجأة المازنىّ وقيل التميمىّ، كان أحد رءوس الخوارج، حارب المهلب بن أبي صفرة سنين، وسلم عليه بأمير المؤمنين.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وسبعين- فيها ولي المهلب بن أبي صفرة خراسان نيابة عن الحجاج وهو يوم ذاك أمير البصرة والكوفة وخراسان وكرمان. وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد «2» القاري، وله ثمان وسبعون سنة، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم برأسه (والقاري بالياء المشددة) . وفيها غزا محرز بن أبي محرز أرض الروم وفتح ارقدة «3» ، فلما رجع بعسكره، أصابهم مطر شديد من وراء درب «4» الحدث فأصيب منه ناس كثيرة.(1/197)
وفيها ولي إمرة الغرب كلها موسى بن نصير اللخمي، فسار إليه وقدم إلى طنجة وقدم على مقدمته طارق بن زياد الصدفي مولاهم الذي افتتح الأندلس، وأصاب فيها المائدة التي يزعم أهل الكتاب أنها مائدة سليمان عليه السلام. وفيها حج بالناس الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقيل أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة. وفيها فرغ الحجاج بن يوسف من بناء واسط، وإنما سمّيت واسط لأنها بين الكوفة بناء واسط والبصرة، منها إلى الكوفة خمسون فرسخاً وإلى البصرة كذلك. وفيها عزل عبد الملك عامل خراسان وضم ولايتها وولاية سجستان إلى الحجاج، فسار الحجاج إلى البصرة واستخلف عليها المغيرة بن عبد الله بن [أبي «1» ] عقيل. وفيها قدم المهلب على الحجاج فأجلسه معه على سريره وأعطى أصحابه الأموال وقال: هؤلاء حماة الثغور. وفيها توفّى جابر ابن عبد الله بن عمرو الأنصاري الصحابي أبو عبد الله، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة الثانية مع الأنصار وكان أصغرهم سناً، وأسلم قبل العقبة الأولى بعام، وأراد أن يشهد بدراً فخلفه أبوه على إخوته. وفيها توفّى عبد الرحمن ابن غنم بن كريب «2» الأشعري، اختلفوا في صحبته، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أنصار أهل الشام بعد الصحابة، وقيل: هو تابعي ثقة، وقيل: إنه أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه. قال ابن الأثير: أدرك الجاهلية وليست له صحبة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.(1/198)
*** السنة الرابعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة تسع وسبعين- فيها استولى الحجاج بن يوسف على البحرين واستعمل عليها محمد ابن صعصعة الكلابي وضم إليه عمان، فخرج عليه الريان البكري فهرب محمد وركب البحر حتى قدم على الحجاج. وفيها غزا الوليد بن عبد الملك بن مروان ملطية فغنم وسبى وعاد إلى أبيه عبد الملك. وفيها كان الطاعون العظيم بالشام. وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة. وفيها قتل الخليفة عبد الملك بن مروان الحارث ابن عبد الرحمن بن سعد الدمشقي الذي ادعى النبوة، وكان انضم عليه جماعة كبيرة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، كان من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، روى عن علي بن أبي طالب وابن مسعود. وفيها أصاب الناس طاعون شديد حتى كادوا يفنون فلم يغز أحد تلك السنة فيما قيل.
وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفيها استعفى شريح بن الحارث من القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى الأشعري.
وفيها توفي النابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله بن عديس، وقيل عبد الله ابن قيس، وقيل حسان بن قيس، وكنيته أبو ليلى، وكان من شعراء الجاهلية ولحق الأخطل ونازعه بالشعر، وله صحبة ووفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الذهبي: وقال يعلى بن الأشدق- وليس بثقة-: سمعت النابغة يقول:
أنشد ف؟؟؟ النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: «أين المظهر يا أبا ليلى» ؟ فقلت: الجنة، قال: «أجل إن شاء الله» ثم قلت أيضاً:(1/199)
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفضض الله فاك» مرتين. ومات النابغة بأصبهان وله مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وستون سنة، وقيل مائتا سنة. وفيها توفّى محمود ابن الربيع، وكنيته أبو إبراهيم، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
*** السنة الخامسة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثمانين- فيها كان سيل الجحاف بمكة وهلك فيه خلق كثير من الحجاج، فكان يحمل الإبل وعليها الأحمال والرجال والنساء ما لأحد منهم حيلة، وغرقت بيوت مكة وبلغ السيل الركن، فسمي ذلك العام عام الجحاف. وفيها كان طاعون الجارف بالبصرة في قول بعضهم. وفيها خرج عبد الواحد بن أبي الكنود من الإسكندرية وركب البحر وغزا الفرنج حتى وصل إلى قبرس. وفيها هلك أليون عظيم الروم وملكها. وفيها صلب عبد الملك سعيد بن عبد الله بن عليم الجهني على إنكاره القدر، قاله سعيد بن عفير. وفيها توفي جبير بن نفير بن مالك أبو عبد «1» الله اليحصبي الحضرمي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام؛ أسلم في خلافة الصديق رضي الله عنه. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية الأزدي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. وفيها توفي حسان بن النعمان الغساني من أولاد ملوك غسان، ويقال:(1/200)
إنه ابن المنذر، صاحب الفتوحات بالمغرب، ولاه معاوية بن أبي سفيان إفريقية.
وفيها توفي زيد «1» بن وهب بن خالد أبو سليمان الجهني، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. وفيها توفي السائب بن يزيد بن سعيد الكندي أبو يزيد، من الطبقة الخامسة من المخضرمين، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حدث الأسنان. وفيها توفي شريح بن هانئ بن يزيد بن نهبك «2» بن دريد بن الحارث بن كعب، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، كان من أصحاب علي رضي الله عنه وشهد معه مشاهده، وكان قاضي الكوفة وبه يضرب المثل. قال الذهبي: إنه مات سنة ثمان وسبعين. وفيها حج بالناس أمير المدينة أبان بن عثمان، وكان على العراق والشرق الحجاج. وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الذي يروي حديث الدباغ، وهو أول من قال بالقدر في البصرة، قتله الحجاج وقيل قتله عبد الملك الخليفة بدمشق.
وفيها توفي شقيق بن سلمة الأزدي أبو وائل، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. وفيها توفي أبو إدريس الخولاني، واسمه عائذ الله بن عبد الله، وقيل عبد الله بن إدريس بن عائذ الله، قاضي دمشق في أيام معاوية وغيره، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الشام. وفيها توفي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أبو جعفر وقيل أبو محمد، وأمه أسماء بنت عميس ولدته بالحبشة في الهجرة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بالحبشة، وهو من الطبقة الخامسة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حدث الأسنان، وقيل إنه كان له يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. وفيها توفي(1/201)
عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي، وكنيته أبو حاتم، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة، وأمه هولة بنت غليظ من بني عجل، وهو أول من قرأ القرآن بالألحان، وولي قضاء البصرة، وأوفده الحجاج على الخليفة عبد الملك فسأله أن يولي الحجاج خراسان وسجستان. وفيها توفي العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وكان من العباد الخائفين. وفيها توفي معاوية ابن قرة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، كان زاهداً عابداً ورعاً.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
*** السنة السادسة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة إحدى وثمانين- فيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك بن مروان وحجّت معه أمّ الدرداء. وفيها خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان من الخلافة، ووقع له بسبب ذلك مع الحجاج حروب، ووافقه جماعة كثيرة على ذلك وكاد أمره أن يتم. وفيها غزا عبد الله بن عبيد الله بلاد الروم ووصل إلى قاليقلا ففتحها، ويقال: إن أصل الفرات من عندها يجتمع.
وفيها توفى محمد بن علىّ بن أبى طالب المعروف بابن الحنفية، والحنفية اسم أمه، ولها اسم آخر: خولة بنت جعفر بن قيس، ومحمد هذا من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وكنيته أبو القاسم؛ ولد في خلافة أبي بكر، وقيل لثلاث سنين أو لسنتين بقين من خلافة عمر، وهي السنة التي ولد فيها سعيد بن المسيب، وكان ديناً عابداً(1/202)
صاحب رأي وقوة شديدة إلى الغاية. وفيها كانت مقتلة بحير بن ورقاء الصريمي.
وفيها كان دخول الديلم قزوين، وسببه أن العساكر كانت لا تبرح مرابطة بها، فلما كان في هذه السنة كان من جملة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً، فلما قدم قزوين رأى الناس لا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو؟ قالوا: نعم، قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب ففتحوها؛ وبلغ ذلك الديلم فبيتوهم وهجموا [على] البلد وتصايح الناس، فقال محمد بن أبي سبرة: أغلقوا الأبواب فقد أنصفونا، فأغلقوا الأبواب التي للمدينة فقاتلوهم.
وأبلى محمد بلاء حسنا حتى ظفر بهم المسلمون ولم يفلت من الديلم أحد، ولم يعد الديلم بعدها؛ فصار محمد فارس ذلك الثغر، وكان يدمن شرب الخمر، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأمر بتسييره إلى داره، وهى دار الفسّاق بالكوفة، فسيّر إليها، فأغارت الديلم بعده على قزوين ونالت من المسلمين وظهر الخلل بعده حتى طلب ثانية وأعيد الى قزوين. وفيها توفى سويد بن غفلة، وكنيته أبو أمية كناه بها عمر بن الخطاب، وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفد عليه فوجده قد قبض، وأدرك دفنه وهم ينفضون أيديهم من التراب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع.
*** السنة السابعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة اثنتين وثمانين- فيها كانت وقعة الزاوية بين محمد بن الأشعث وبين الحجاج بالبصرة، وكان لابن الأشعث مع الحجاج في السنة الماضية وفي هذه السنة عدّة(1/203)
وقائع منها: وقعة دجيل يوم عيد الأضحى، وهي وقعة دير الجماجم، ثم وقعة الأهواز، ويقال: إنه خرج مع ابن الأشعث ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، فيهم علماء وفقهاء وصالحون. وقيل: إنه كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، فكانت منها ثلاث وثمانون على الحجاج وواحدة له، فعند ما انكسر ابن الأشعث خرج إلى الملك زنبيل «1» والتجأ إليه حتى مات بعد ذلك في سنة أربع وثمانين، وفي موته أقوال كثيرة. وفيها عزل الخليفة عبد الملك بن مروان أبان بن عثمان بن عفان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومىّ، فعزل هشام ابن مساحق عن القضاء بالمدينة وولى عوضه عمرو بن خالد الزّرقىّ.
وفيها غزا محمد بن مروان بن الحكم أخو الخليفة عبد الملك أرمينية، فهزم أهلها فسألوه الصلح فصالحهم، وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروا به وقتلوه. وقيل بل قتل سنة ثلاث وثمانين. وفيها توفي أسماء بن خارجة بن مالك الفزاري الكوفي أحد الأجواد، وفد على الخليفة عبد الملك فقال له عبد الملك: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بها؛ قال أسماء: ما سألني أحد حاجة إلا وقضيتها، ولا أكل رجل من طعامي إلا رأيت له الفضل علي، ولا أقبل علي رجل بحديث إلا وأقبلت عليه بسمعي وبصري؛ فقال له عبد الملك: حق لك أن تشرف وتسود. وفيها توفي أبو الشعثاء سليم «2» بن أسود بن حنظلة المحاربي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. وقيل: إن وفاة أبي الشعثاء في غير هذه السنة والأصح فيها. وفيها توفي عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبو بكر، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، كان يسجد على كور عمامته قد حالت بين جبهته والأرض. وفيها توفى(1/204)
المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، واسم أبي صفرة ظالم بن سراقة، وكنيته أبو خداش، كان خليفة أبيه على مرو فمات فى شهر رجب، وكان المغبرة جواداً سيداً شجاعأ، ولما وصل الخبر إلى أبيه وجد عليه وجداً عظيماً أثر فيه ذلك، ثم استناب ابنه يزيد بن المهلب على مرو.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
*** السنة الثامنة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثلاث وثمانين- فيها حج بالناس أمير المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي.
وفيها توفي أبو الجوزاء «1» أوس بن خالد الربعي البصري، وقيل خالد بن سمير، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة. وفيها توفي روح بن زنباع أبو زرعة الجذامي الشامي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وكان متميزاً عند الناس فخاف منه معاوية فعزم على قتله ثم خلى عنه، وكان عظيم دولة عبد الملك بن مروان، وهو الذي قدم الحجاج بن يوسف الثقفي عند عبد الملك حتى صار من أمره ما صار، وقصته مع الحجاج المذكور مشهورة من قتل عبيده وإحراق خيامه عند ما ولي الحجاج حرب مصعب بن الزبير. وروح هذا هو زوج هند بنت النعمان بن بشير، وكانت تكرهه، وهى القائلة:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراسٍ تجللها «2» بغل
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يك إقراف فمن قبل الفحل «3»(1/205)
وقد شاع ذلك في زمانها حتى قال بعض الشعراء فى صاحب سأّلة:
لي صاحب مثل داء البطن صحبته ... يودني كوداد الذّيب للبرأعى
يثني علي جزاه الله صالحةً ... ثناء هندٍ على روح بن زنباع
وفيها توفي زاذان «1» الكوفي أبو عبد الله مولى كندة، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وكان صالحاً صاحب نسك وعبادة وكان بزازاً. وفيها توفي عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث «2» بن عبد المطلب، أبو محمد الهاشمي، من الطبقة الأولى من التابعين، وأمه هند بنت أبي سفيان؛ ولد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت به أمه إلى أختها أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: «من هذا» ؟ فقالت: ابن عمك وابن أختي، فتفل في فيه ودعا له. وفيها توفي عبد الله بن شداد بن الهاد «3» ، واسم الهاد عمرو الليثي، وسمي الهاد لأنه كان يوقد ناره للأضياف ليلاً ولمن سلك الطريق، وهو من الطبقة الأولى من تابعي المدينة، وأمه سلمى بنت عميس الخثعمية أخت أسماء.
وفيها توفي عبد الرحمن بن يسار أو بلال أبي ليلى، صحب أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه أحداً وما بعدها. وأما عبد الرحمن هذا فإنه تابعي من أهل الكوفة، من الطبقة الأولى، وكان عالماً زاهداً خرج على الحجاج بن يوسف، قتل بدجيل وقيل بل غرق في نهر دجيل مع ابن الأشعث. وفيها توفي معبد الجهني من أهل البصرة وهو أول من تكلم في القدر، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وحضر التحكيم بدومة الجندل. وفيها توفي المهلب بن أبي صفرة اسمه ظالم(1/206)
ابن سراق بن صبح الأزدي العتكي «1» البصري، وفي اسم المهلب أقوال كثيرة، قيل:
اسمه سارق بن ظالم، وقيل بالعكس، وقيل طارق بن سارق، وقيل قاطع بن سارق وقيل الذي ذكرناه أولاً؛ الأمير أبو سعيد أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم وفرسانهم، ولد عام الفتح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وولي الأعمال الجليلة، وله مواقف مع الروم وغيرها إلى أن توفي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعاً.
*** السنة التاسعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة أربع وثمانين- فيها فتحت المصيصة على يد عبد الله بن عبد الملك بن مروان.
وفيها افتتح موسى بن نصير ملك درنة من بلاد المغرب، فقتل وسبى حتى قيل:
إن السبي بلغ خمسين ألفاً. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم وحرق كنائسهم، وتسمى سنة الحريق. وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية وكان من فصحاء العرب وبلغائهم وأجوادهم، كان خرج أيضاً مع محمد بن الأشعث، واسمه أيوب ابن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي، ثم ندم الحجاج على قتله. وابن القرية هذا له حكايات كثيرة في الجود والكرم والفصاحة، منها: أنه لما أحضره الحجاج ليقتله، فقال له ابن القرية: أقلني عثرتي، واسقني ريقي فإنه «ليس «2» جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة» ؛ فقال الحجاج: كلا! والله لأزيرنك «3»(1/207)
جهنم؛ قال: فأرحني فإني أجد حرها، فأمر به فضربت عنقه، فلما رآه قتيلاً قال:
لو تركناه حتى نسمع من كلامه!. وفيها ولي إمرة الإسكندرية عياض بن غنم التجيبي. وفيها بعث عبد الملك بن مروان بالشعبي إلى أخيه عبد العزيز صاحب الترجمة إلى مصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك حسبما ذكرناه في صدر ترجمة عبد العزيز. وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل. وفيها ظفر الحجاج برأس محمد بن الأشعث وطيف بها في الأقاليم. وفيها قتل الحجاج حطيطاً الزيات الكوفي، كان عابداً زاهداً يصدع بالحق، قتله الحجاج لتشيعه ولميله لابن الأشعث. قيل: إنه لما أحضره بين يديه قال له الحجاج: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أقول فيهما خيراً، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: ما ولدت في زمانه، فقال له الحجاج: يا بن اللخناء، ولدت في زمان أبي بكر وعمر ولم تولد في زمن عثمان! فقال له حطيط:
يا بن اللخناء، إني وجدت الناس اجتمعوا في أبي بكر وعمر فقلت بقولهم، ووجدت الناس اختلفوا في عثمان فوسعني السكوت، فقال معد لعنه الله (معد صاحب عذاب الحجاج) : إني أريد أن تدفعه إلي، فو الله لأسمعنك صياحه، فسلمه إليه فجعل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت، فلما كان وقت الصبح كسر ساق حطيط، ثم دخل عليه الحجاج لعنه الله فقال له: ما فعلت بأسيرك، فقال: إن رأى الأمير أن يأخذه مني، فقد أفسد علي أهل سجني، فقال له الحجاج: علي به فعذبه بأنواع العذاب وهو صابر، فكان يأتي بالمسال فيغرزها في جسمه وهو صابر، ثم لفه في بارية وألقاه حتى مات. وفيها توفي أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني صاحب العربية وأيام الناس، كان إماماً فيهما، وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، شهد القادسية وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم.(1/208)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وواحد وعشرون إصبعاً.
*** السنة العشرون من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة خمس وثمانين- فيها كانت وفاة عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة، حسبما تقدم ذكره، في الطاعون العظيم الذي كان في هذه السنة بمصر وأعمالها، وهو ثامن طاعون كان في الإسلام على قول بعضهم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى في حوادث سنة ست وستين. وفيها غزا محمد بن مروان إرمينية فأقام بها سنة وولى عليها عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فبنى مدينة أردبيل ومدينة برذعة. وفيها جهز عبد الله بن عبد الملك بن مروان يزيد بن حنين في جيش فلقيه الروم فى جيش كثير فأصيب الناس، وقتل ميمون الجرجاني في ألف نفس من أهل أنطاكية.
وفيها عزل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة عن خراسان، وولي الفضل أخوه مدة يسيرة ثم عزل أيضاً، وولي قتيبة بن مسلم. وفيها قتل موسى بن عبد الله بن خازم «1» السلمي وكان بطلاً شجاعاً وسيداً مطاعاً، كان غلب على ترمذ وما وراء النهر مدة سنين وحارب العرب من هذه الجهة والترك من تلك الجهة، وجرت له وقعات عظيمة، وآخر الأمر أنه خرج ليلة في هذه السنة بعساكره ليغير على جيش فعثر به فرسه فابتدره ناس من ذلك الجيش وقتلوه. وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وفيها توفي عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما مات النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربع سنين. وفيها توفي واثلة بن الأسقع(1/209)
ابن عبد العزّى بن عبدياليل، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكان ينزل ناحية المدينة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح وبايعه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن عبد الملك على مصر
هو عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة ابن عبد شمس، القرشي الأموي الأمير أبو [عمر «1» ] ، ولد في حدود سنة ستين ونشأ بدمشق تحت كنف والده عبد الملك، وندبه أبوه في خلافته إلى عدة غزوات، وافتتح المصيصة في سنة أربع وثمانين وقتل وسبى وغنم؛ ثم ولاه أبوه إمرة مصر بعد موت عمه عبد العزيز بن مروان في سنة خمس وثمانين، فتوجه إليها ودخلها في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من سنة خمس وثمانين، وقيل من سنة ست وثمانين. ودخل مصر ابن سبع وعشرين سنة، وكان أبوه عبد الملك أمره أن يعفي آثار عبد العزيز؛ فأول ما دخل عبد الله المذكور استبدل العمال بعمال غيرهم والأصحاب بأصحاب أخر، واستعمل على شرطة مصر عبد الأعلى، ومنع من لبس البرانس، وكان فيه شدة بأس. فلم يكن إلا أشهر وتوفي أبوه عبد الملك بن مروان وولي الخلافة من بعده أخوه الوليد بن عبد الملك، فأقره الوليد على إمرة مصر على عادته؛ فأمر عبد الله المذكور أن تنسخ دواوين مصر بالعربية، وكانت تكتب بالقبطية، ففعل ذلك. ثم وقع في سنة سبع وثمانين الشراقى بمصر وعلت الأشعار بها إلى الغاية، حتى قيل: إن أهل مصر لم يروا في عمرهم مثل(1/210)
تلك الأيام، وقاست أهل مصر شدائد بسبب الغلاء، فاستشأمت الناس بكعبه.
هذا مع ما كان عليه من الجور؛ فإنه كان يرتشي ويأخذ الأموال من الخراج وغيره.
ولما شاع ذلك عنه طلبه أخوه الوليد من مصر، فخرج عبد الله من مصر إليه بدمشق في صفر سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مصر عبد الرحمن بن عمرو بن مخزوم الخولاني. هذا وأهل مصر في شدة عظيمة من عظم الغلاء؛ فأقام عند الوليد مدة يسيرة ثم عاد إلى مصر حتى عزله أخوه الوليد بن عبد الملك عن إمرة مصر في سنة تسعين، وولى عوضه على مصر قرة بن شريك الآتي ذكره. فكانت ولاية عبد الله هذا على مصر ثلاث سنين وعشرة أشهر. وبعد عزله توجه إلى دمشق عند أخيه الوليد. وخرج من مصر بجميع أمواله واستصحب معه الهدايا والتحف إلى أخيه الوليد. فلما وصل إلى الأردن أحيط به من قبل أخيه الوليد فأخذ جميع ما كان معه، وحمل عبد الله المذكور إلى أخيه الوليد. وعبد الله هذا أمه أم ولد لأن أكبر إخوته الوليد ثم سليمان ثم مروان الأكبر- درج «1» - وعائشة، وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة؛ ثم يزيد ومروان الأصغر ومعاوية وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان؛ ثم هشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية واسمها عائشة؛ ثم أبو بكر، وكان يعرف ببكار، وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ ثم الحكم وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ثم فاطمة وأمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ثم عبد الله هذا صاحب الترجمة، ومسلمة والنّذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات الأولاد.(1/211)
*** السنة الأولى من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة ست وثمانين- فيها كان طاعون القينات، سمي بذلك لأنه بدأ في النساء، وكان بالشام وواسط والبصرة. وفيها سار قتيبة بن مسلم متوجها إلى ولايته فدخل خراسان وتلقاه دهاقين بلخ وساروا معه، وأتاه أيضاً أهل صاغان بهدايا ومفتاح من ذهب وسلموا له بلادهم بالأمان. وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك حصن بولق «1» وحصن الأخرم. وفيها توفي الخليفة عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين أبو الوليد، القرشي الأموي، والد عبد الله هذا صاحب الترجمة؛ بويع بالخلافة بعهد من أبيه مروان بن الحكم، وكان ذلك بعد أن دعا عبد الله بن الزبير لنفسه بالخلافة، وتم أمر عبد الملك المذكور في الخلافة وبقي على مصر والشام، وابن الزبير على باقي البلاد، مدة سبع سنين والحروب ثائرة بينهم، ثم غلب عبد الملك على العراق وما والاها بعد قتل مصعب بن الزبير، ثم ولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق ومحاربة عبد الله ابن الزبير حتى قتله، واستوثق الأمر بقتل عبد الله بن الزبير لعبد الملك، ودام في الخلافة حتى توفي بدمشق في شوال. وخلافته المجمع عليها (أعني بعد قتل عبد الله ابن الزبير) من وسط سنة ثلاث وسبعين.
وقال الشعبي: خطب عبد الملك فقال: اللهم إن ذنوبي عظام، وإنها صغار في جنب عفوك، فاغفرها لي يا كريم. وكان مولد عبد الملك سنة ست وعشرين من الهجرة، وكان عابداً ناسكاً قبل الخلافة، فلما أتته الخلافة تغير عن ذلك كله وولى الحجاج على العراق. قيل: إن الحسن البصري سئل عن عبد الملك هذا فقال:
ما أقول في رجلٍ الحجاج سيئة من سيئاته!. وفيها هلك ملك الروم الأحرم بورى(1/212)
قبل عبد الملك بن مروان بشهر. وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وفيها توفي بشر بن عقربة الجهني أبو اليمان. قال الواقدي: قتل أبوه عقربة يوم أحد، قال بشر: فلقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: «يا حبيب ما يبكيك» فقلت: قتل أبي، قال: «ما ترضى أن أكون أباك وعائشة أمك» ومسح على رأسي بيده، فكان أثريده من رأسي أسود وسائره أبيض. وفيها توفي عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكان ممن بايع تحت الشجرة وشهد مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة بني النضير والخندق والقريظة. وفيها توفي أبو أمامة «1» صدي بن عجلان الباهلي، من الطبقة الرابعة من الصحابة. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعزل عبد الملك عن شرطته، وكان الحجاج أمير العراق كله والشرق في هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة سبع وثمانين- فيها افتتح قتيبة بن مسلم أمير خراسان بيكند. وفيها شرع الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان في بناء جامع دمشق الأموي وكان نصفه كنيسة النصارى، وعلى ذلك صالحهم أبو عبيدة بن الجراح؛ فقال لهم الوليد: إنا قد أخذنا كنيسة مريم عنوة فأنا أهدمها، فرضوا بهدم هذه الكنيسة وإبقاء كنيسة مريم؛ والمحراب الكبير هو مكان باب الكنيسة. ثم كتب الوليد إلى ابن عمه عمر بن(1/213)
عبد العزيز بن مروان وهو أمير المدينة ببناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة في أوائل هذه السنة أيضاً وله من العمر خمس وعشرون سنة بعد أن صرف عنها؟؟؟ بن إسماعيل المخزومي؛ ودام عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة إلى أن عزله الوليد أيضاً بأبي بكر بن [عمرو بن «1» ] حزم.
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة؛ وكان على قضاء المدينة أبو بكر ابن عمرو بن حزم. وفيها توفي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد «2» . وفيها قدم نيزك طرخان على قتيبة بن مسلم فصالحه وأطلق ما في يده من أسارى المسلمين.
وفيها غزا قتيبة المذكور نواحي بخارا فكانت ملحمة عظيمة هزم الله فيها المشركين.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك فافتتح قمقم «3» وبحيرة الفرسان، فقتل وسبى، ويسر الله تعالى في هذا العام بفتوحات كبار على الإسلام. وفيها توفى قبيصة بن ذؤيب ابن حلحلة بن عمرو الخزاعي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة والثانية من أهل الشام، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان على خاتم الخليفة عبد الملك بن مروان وصاحب أمره وأقرب الناس إليه. وفيها توفي مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب، أبو عبد الله الحرشي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وكان له فضل وورع ورواية، وكان بعيداً من الفتن. وفيها توفي أبو الأبيض العنسىّ وهو من التابعين، كان كثير الغزو والجهاد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.(1/214)
*** السنة الثالثة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وثمانين- فيها جمع الروم جمعاً عظيماً وأقبلوا فالتقاهم قتيبة بن مسلم ومعه العباس ابن الخليفة الوليد، فهزم الله الروم وقتل منهم خلق كثير، وافتتح المسلمون سوسنة وطوانة. وفيها غزا قتيبة أيضاً الترك فزحفوا إليه ومعهم أهل فرغانة وعليهم ابن أخت ملك الصين، ويقال: بلغ جمعهم مائتي ألف، فكسرهم قتيبة، وكانت ملحمة عظيمة أيضاً. وفيها توفي عبد الله بن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري الخزرجي من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة. وفيها كان فتح طوانة من أرض الروم على يد مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك. وفيها حج بالناس أمير المدينة عمر بن عبد العزيز ووصل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحليفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا الناس معه، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر، وسال الوادي فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب. وفيها كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بإدخال حجر أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد وأن يشترى ما بنواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع وأن يقدم القبلة، ففعل عمر ذلك. وفيها توفي عبد الله بن بسر المازني (مازن بن منصور) وكان ممن صلى إلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وواحد وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.(1/215)
*** السنة الرابعة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة تسع وثمانين فيها افتتح موسى بن نصير جزيرتى ما يرقة «1» ومنرقة، وهما جزيرتان في البحر بين جزيرة صقلية وجزيرة الأندلس، وتسمى هذه الغزوة غزوة الأشراف لكثرة الأشراف التي كانوا بها (أعني أشراف العرب) . وفيها غزا قتيبة «وردان خذاه» ملك بخارا فلم يطقهم ورجع. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك عمورية فلقي جمعاً من الروم فهزمهم الله. وفيها ولي خالد بن عبد الله القسري مكة وهي أول ولايته. وفيها غزا مسلمة أيضاً والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العباس مدينة أذرولية «2» . وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز. وفيها توفي ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية. وفيها عزل عمران بن عبد الرحمن عن قضاء مصر بعبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وله خمس وعشرون سنة.
وفيها توفي عمران بن حطان «3» السدوسي الخارجي، كان شاعر الخوارج؛ وروى عن أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما، وكان عمران فصيحاً «4» قبيح الشكل، وكانت زوجته جميلة، فدخل عليها يوماً وهي بزينتها فأعجبته وعلمت منه ذلك، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة؛ قال: ومن أين علمت؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأنا ابتليت بمثلك فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة. ومن شعره فى عبد الرحمن ابن ملجم وقومه:
يا ضربةً من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا(1/216)
إنّى لأذكره يوما فأحسبه ... أو فى البرية عند الله ميزانا
أكرم بقومٍ بطون الطير أقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا
قلت: وهذا مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون بالمعصية. وفيها توفي يحيى بن يعمر أبو سليمان الليثي البصري، وكان عالماً بالقراءات والعربية، وهو أول من نقط المصاحف، وكان ولاه الحجاج [من بره «1» ] قضاء مرو، وكان يقضى بالشاهد واليمين اهـ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية قرة بن شريك على مصر
هو قرة بن شريك بن مرثد بن حازم «2» بن الحارث بن حبش بن سفيان بن عبد الله ابن ناشب بن هدم «3» بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان العبسي أمير مصر؛ ولي مصر بعد عزل عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل الوليد بن عبد الملك بن مروان على صلاة مصر وخراجها، ودخلها يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأول سنة تسعين.
قال العلامة شمس الدين يوسف بن قرأوغلى في تاريخه «مرآة الزمان» : كان قرة من أمراء بني أمية وولاه الوليد مصر، وكان سيئ التدبير خبيثاً ظالماً غشوماً فاسقاً منهمكاً، وهو من أهل قنسرين، قدم مصر سنة تسع وثمانين أو سنة تسعين، وكان الوليد عزل أخاه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وولى قرة وأمره ببناء جامع مصر والزيادة فيه سنة اثنتين وتسعين، فأقام في بنائه سنتين. قلت: وقد قدمنا في ترجمة عمرو بن العاص عند ذكر بنائه جامعه نبذة من ذلك اهـ.(1/217)
قال: وكان الناس يصلون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ قرة من بنائه، وكان الصناع إذا انصرفوا من البناء دعا بالخمور والزمور والطبول فيشرب الخمر في المسجد طول الليل، ويقول: لنا الليل ولهم النهار؛ وكان أشر خلق الله؛ وتحالفت الأزارقة على قتله فعلم فقتلهم؛ وكان عمر بن عبد العزيز يعتب على الوليد لتوليته مصر. ومات قرة في سنة خمس وتسعين بمصر. وورد على الوليد البريد في يوم واحد بموت الحجاج بن يوسف وموت قرة، فصعد المنبر وهو حاسر شعثان الرأس فنعاهما إلى الناس، وقال: والله لأشفعن لهما شفاعة تنفعهما؛ فقال عمر بن العزيز رضي الله عنه وهو ابن عم الوليد المذكور: انظروا إلى هذا الخبيث، لا أناله الله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وألحقه بهما، فاستجاب الله دعاءه وأهلك الوليد بعدهما بثمانية أشهر أو أقل. انتهى كلام صاحب «مرآة الزمان» بعد ما ساق وفاته في سنة خمس وتسعين؛ والأصح ما سنذكره في وفاته من قول الذهبي وغيره من المؤرخين.
وأما قوله: إن الوليد مات بعد وفاة قرة بثمانية أشهر، فليس كذلك؛ لأن وفاة قرة في ليلة الخميس لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين؛ ووفاة الوليد في نصف جمادى الآخرة، قاله خليفة بن خيّاط اهـ.
وقيل: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار أيام الوليد بن عبد الملك، فقال: الحجاج بالعراق! والوليد بالشأم! وقرة بن شريك بمصر! وعثمان بالمدينة! وخالد بمكة! اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح؟؟؟ الناس!. فلم يمض غير قليل حتى توفّى الحجاج وقرّة بن؟؟؟ في شهر واحد، ثم تبعهم الوليد، وعزل عثمان وخالد، فاستجاب الله لعمر.(1/218)
قال ابن الأثير: وما أشبه هذه القصة بقصة ابن عمر مع زياد بن أبيه حيث كتب إلى معاوية يقول: قد ضبطت العراق بشمالي؛ ويميني فارغة- يعرض بذلك أن شماله للعراق وتكون يمينه بإمارة الحجاز- فقل ابن عمر لما بلغه ذلك: اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله؛ فكان أول خبر جاءه موت زياد.
ولما كان قرة على مصر أمره الوليد بهدم ما بناه عمه عبد العزيز بن مروان لما كان أمير مصر ففعل قرة ذلك؛ ثم أخذ بركة «1» الحبش وأحياها وغرس بها القصب، فقيل لها «إسطبل قرة» .
وقال الحافظ أبو سعيد بن يونس، بعد ما ذكر نسبه بنحو مما ذكرناه، كان أمير مصر للوليد بن عبد الملك وكان خليعاً، روى عن سعيد بن المسيب حديثاً واحداً، رواه عنه حكيم بن عبد الله بن قيس. وتوفي قرة بمصر وهو وال عليها في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين، وكان الوليد بن عبد الملك ولى قرة مصر وعزل عنها أخاه عبد الله ابن عبد الملك؛ فقال رجل من أهل مصر شعراً وكتب به إلى الوليد بن عبد الملك:
عجباً ما عجبت حين أتانا ... أن قد أمرت قرة بن شريك
وعزلت الفتى المبارك عنا ... ثم فيلت «2» فيه رأي أبيك(1/219)
ثم قال ابن يونس: حدثني أبو أحمد بن يونس بن عبد الأعلى وكهمس ابن معمر وعيسى بن أحمد الصدفي وغيرهم، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ابن عبد الله بن قيس عن قرة بن شريك: أنه سأل ابن المسيب عن الرجل ينكح عبده وليدته ثم يريد أن يفرق بينهما؛ قال: ليس له أن يفرق بينهما. قال ابن يونس: ليس لقرة بن شريك غير هذا الحديث الواحد. انتهى كلام ابن يونس.
قلت: وكانت ولاية قرة على مصر ست سنين إلا أياماً. وتولى إمرة مصر بعده عبد الملك بن رفاعة الآتي ذكره؛ وكان من عظماء أمراء الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد عند أهل الشأم من أفضل خلفائهم، بنى المساجد: مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنابر، وأعطى المجذمين أموالاً ومنعهم من سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادماً، وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحات عظاما: منها الأندلس وكاشعر والهند؛ وكان يمر بالبقال فيقف عليه ويأخذ منه حزمة بقل فيقول:
بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. وكان صاحب بناء واتخاذ للمصانع؟؟؟
والضياع، فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء. وكان سليمان ابن عبد الملك صاحب طعام ونكاح. فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام. وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً في أيامه: ما وزدك الليلة، وكم تحفظ من القرآن، وما تصوم من الشهر؟
قلت: ولم أذكر هذا كله إلا لما قدمناه من الحط على الوليد من أقوال المؤرخين، فأردت أن أذكر من محاسنه أيضا ما نقله غيرهم اهـ.(1/220)
*** السنة الأولى من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة تسعين- فيها غزا قتيبة بن مسلم «وردان «1» خذاه» الغزوة الثانية، فاستصرخ وردان خذاه على قتيبة بالترك، فالتقاهم قتيبة وهزمهم الله تعالى وفض جمعهم. ثم غزا قتيبة أيضاً في السنة أهل الطالقان بخراسان فقتل منهم مقتلة عظيمة. وفيها غزا العباس ابن الخليفة الوليد ابن عبد الملك بن مروان فبلغ إلى أرزن «2» ثم رجع. وفيها توفي خالد بن يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان، أبو هاشم الأموي الدمشقي أخو معاوية الرجل الصالح وعبد الله.
قيل: إن خالداً هذا بويع بالخلافة بعد أخيه معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يتم أمره، ووثب مروان بن الحكم على الأمر وخلع خالداً هذا وتزوج بأمه، وقد مر ذكر قتلها له في ترجمة مروان. وكان خالد المذكور موصوفاً بالعلم والعقل والشجاعة، وكان مولعاً بالكيمياء. وقيل: إنه هو الذي وضع حديث السفياني «3» «إنه يأتي في آخر الزمان ... » لما سمع بحديث المهدي. انتهى. وفيها توفي عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكان فقيهاً شاعراً. وفيها توفي أبو الخير مرثد «4» بن عبد الله اليزني. وفيها فتحت بخارا على يد قتيبة، ثم صالح قتيبة أهل الصغد ورجع بهم ملكهم طرخون إلى بلاده.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم وافتتح الحصون الخمسة [التي بسورية «5» ] .
وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد.(1/221)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وتسعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة إحدى وتسعين- فيها سار قتيبة بن مسلم الى أن وصل الى فارياب «1» فخرج إليه ملكها سامعاً مطيعاً، فاستعمل عليها قتيبة عامر بن مالك ورجع. وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأذربيجان وولاها أخاه مسلمة بن عبد الملك بن مروان؛ فقدم مسلمة وانتدب إلى الغزو فغزا إلى أن وصل في هذه السنة إلى الباب من بحر أذربيجان، فافتتح مدائن وحصوناً كثيرة. وفيها افتتح قتيبة بن مسلم أمير خراسان شومان وكش ونسف، وامتنع عليه أهل فارياب فأحرقها، وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى طرخون ملك تلك البلاد، فجرت له معه حروب ومواقف؛ ثم صالحه عبد الرحمن وأعطاه «2» طرخون أموالاً، وتقهقر إلى أخيه قتيبة إلى بخارا، فانصرفوا حتى قدموا مرو؛ فقالت الصغد لطرخون ملكهم: إنك رضيت بالذل والجزية وأنت شيخ كبير لا حاجة لنا فيك، وعزلوه عنهم. وفيها غزا موسى بن نصير طليطلة (مدينة بالأندلس من بلاد الغرب) بعد ما أستولي على الجزيرة وأفتتح حصونها، ودخل طليطلة عنوةً، فوجد في دار المملكة مائدة سليمان بن داود عليهما السلام؛ وهي من خليطين ذهب وفضة وعليها ثلاثة أطواق من لؤلؤ وجوهر. وقال الهيثم: افتتحها طارق في سنة اثنتين وتسعين، وقيل غير ذلك. وفيها أيضاً قتل قتيبة طرخان ملك الترك وبعث برأسه الى الحجاج ابن يوسف الثقفي. وفيها قدم محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج من اليمن بهدايا(1/222)
عظيمة، فأرسلت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد وبنت عمه تطلبها منه؛ فقال محمد أخو الحجاج: حتى يراها أمير المؤمنين فغضبت، ثم رآها الوليد وبعث بها إلى أم البنين فلم تقبلها، وقالت: قد غصبها من أموال الناس؛ فسأله الوليد؛ فقال: معاذ الله! فأحلقه الوليد بين الركن والمقام خمسين يميناً أنه ما ظلم أحداً ولا غصبه حتى قبلتها أم البنين. وكان محمد هذا عامل صنعاء، وكان يسب علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر؛ ولهذا كان يقول عمر بن عبد العزيز: «الحجاج بالعراق! وأخوه محمد باليمن! وعثمان بن حيان بالحجاز! والوليد بالشأم! وقرة بن شريك بمصر! امتلأت بلاد الله جورا!. وفيها حج بالناس الوليد ابن عبد الملك، فلما دخل إلى المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب، فلم يجسر أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له:
لو قمت! فقال: لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي أقوم فيه؛ قيل: فلو سلمت على أمير المؤمنين! قال: والله لا أقوم إليه؛ قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟
أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا، ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك وهو ضعيف البصر؛ فقال الوليد: قد علمنا حاله ونحن نأتيه، فدار في المسجد ثم أتاه، فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ - فو الله ما تحرك سعيد- فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ فانصرف الوليد وهو يقول: هذا بقية الناس. وصلى الوليد الجمعة بالمدينة فخطب الناس الخطبة الأولى جالساً. ثم قام فخطب الثانية قائماً.
قال إسحاق بن يحيى: فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه: أهكذا يصنعون؟ قال:
هكذا صنع معاوية وهلم جرا؛ قال فقلت: ألا تكلمه! قال: أخبرني قبيصة بن(1/223)
ذؤيب أنه كلم عبد الملك فلم يترك القعود وقال: هكذا خطب عثمان؛ قال فقلت: والله ما خطب إلا قائماً؛ قال رجاء: روى لهم شىء فأخذوا به. وفيها توفي أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم «1» بن عدي بن النجار، أبو حمزة الأنصاري النجاري الخزرجىّ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخرهم موتاً، وهو من المكثرين، مات في هذه السنة؛ قاله الإمام أحمد، وكذا قال الهيثم بن عدي وسعيد بن عفير وأبو عبيد.
وقال الواقدي: سنة اثنتين وتسعين، وتابعه معن بن عيسى عن ابن لأنس ابن مالك. وقال سعيد بن عامر وإسماعيل بن علية وأبو نعيم والمدائني والفلاس وخليفة وقعنب وغيرهم: سنة ثلاث وتسعين. وقال محمد بن عبد الله الأنصاري:
اختلف علينا مشيختنا في سن أنس: فقال بعضهم: بلغ مائة وثلاث سنين، وقال بعضهم: بلغ مائة وسبع سنين، وقال يحيى بن بكير: توفي أنس وهو ابن مائة وسنة، ومات له في الطاعون الجارف ثمانون ولداً.
قلت: وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه دعا له: «اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك له فيه» . قال أنس: فإني لمن أكثر الأنصار مالا، وحدّثنى ابنتي آسية «2» أنه دفن من صلبي إلى مقدم الحجاج البصرة تسعة وعشرون ومائة. وفيها توفى محمد ابن يوسف الثقفي أخو الحجاج عامل صنعاء باليمن، وقد تقدم ذكر هديته إلى الوليد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.(1/224)
*** السنة الثالثة من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة اثنتين وتسعين- فيها حج بالناس الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز. وفيها غزا عمر بن الوليد ومسلمة ابن عبد الملك بلاد الروم وفتح مسلمة حصوناً كثيرة، يقال: إنه بلغ إلى الخليج وفتح سوسنة. وفيها توفي إبراهيم بن يزيد بن شريك من تيم الرباب «1» ، أبو أسماء، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وكان يقصّ على الناس. وفيها توفّى بلال ابن أبي الدرداء أبو محمد الأنصاري، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشأم، كان قاضياً على دمشق في زمان يزيد بن معاوية وبعده إلى أن عزله عبد الملك بن مروان بأبي إدريس الخولاني. وفيها توفي عبد الرحمن بن يزيد بن جارية «2» بن عامر بن مجمع أبو محمد «3» الأنصاري، من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، وأخوه لأمه عاصم بن عمر بن الخطاب؛ وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي طويس المغني صاحب الألحان، وهو أول من غنى بالألحان في الإسلام، وهو تصغير طاوس. وفيها فتحت جزيرة الأندلس على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير. وفيها فتحت جزيرة سردانية على يد جيش موسى بن نصير، وهذه الجزيرة في بحر الروم، وهى من أكبر الجزائر ما عدا جزيرة صقلّيّة وأقريطش، وهي كثيرة الفواكه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع.(1/225)
*** السنة الرابعة من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة ثلاث وتسعين- فيها افتتح قتيبة خوارزم وسمرقند، وكان ساكنها الصغد، وبنى بها مسجداً وخطب بنفسه فيه، وأخذ من أهلها عن رقبتهم ستة آلاف ألفٍ وثلاثين ألفاً، ووجد في سمرقند جارية من ولد يزدجرد فبعث بها إلى الحجاج فأرسلها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك فأولدها يزيد بن الوليد. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم وفتح حصن الحديد وقلعة غزالة. وفيها غزا العباس بن الوليد ففتح سميساط «1» وطرسوس والمرزبان «2» . وفيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة بسبب أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بظلم الحجاج وسفكه الدماء وما يفعل بأهل العراق وخوفه عواقبه.
وفيها توفي وضاح اليمن، واسمه عبد الله بن إسماعيل بن عبد كلال، كان من أهل صنعاء من الأنبار، وقيل: اسمه عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال؛ ووضاح اليمن لقب له لجمال وجهه، وهو صاحب القصة مع أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك بن مروان التي ذكرها ابن خلكان في تاريخه. وفيها فتحت طليطلة.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غضب موسى بن نصير على مولاه طارق، فسار إليه في رجب منها، واستخلف على إفريقيّة ابنه عبد الله بن موسى، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه طارق وترضاه فرضي عنه وقبل عذره وسيره إلى طليطلة، وهي من عظام مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على خمسة «3» أيام، ففتحها وأصاب فيها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، وفيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به.(1/226)
وفيها غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سميساط والمرزبان «1» . وفيها حج بالناس عبد العزيز بن الوليد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.
*** السنة الخامسة من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة أربع وتسعين- فيها غزا قتيبة بن مسلم بلد كابل فحصرها حتى فتحها، ثم افتتح أيضاً فرغانة بعد أن حصرها وأخذها عنوة، وبعث جيشاً فافتتحوا الشاش. وفيها قتل محمد الثقفي صصة بن ذاهر. قيل: إن صصة هذا هو الذي اقترخ الشّطرنج. وفيها افتتح مسلمة ابن عبد الملك سندرة «2» من أرض الروم. وفيها غزا العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم وافتتح أنطاكية. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند. وفيها حج بالناس مسلمة بن عبد الملك. وفي أيام الوليد بن عبد الملك فتح الله على الإسلام فتوحاً عظيمة، وعاد الجهاد شبيهاً بأيام عمر رضي الله عنه. وفيها كانت بالشأم زلازل عظيمة دامت في غالب البلاد أربعين يوماً، وكان أولها من عشرين من آذار فهدمت الأبنية ووقع معظم أنطاكية. وفيها هرب يزيد بن المهلب وإخوته من حبس الحجاج إلى الشأم. وفيها غزا قتيبة ما وراء النهر وفتح فرغانة وخجندة. وفيها توفى الحسن ابن محمد بن الحنفية، وأمه جمال بنت قيس بن مخرمة، وكنيته أبو محمد، وهو من الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة، وكان من ظرفاء بني هاشم، وكان يقدم على أخيه(1/227)
أبي هاشم عبد الله بن محمد في الفضل والهيبة. وفيها قتل الحجاج سعيد بن جبير مولى بني والبة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، كان من كبار العلماء الزهاد، وكان ابن عباس يعظمه، وكان خرج مع محمد بن الأشعث على الحجاج، ثم انحاز بعد قتل ابن الأشعث إلى أصبهان، وكان عامل أصبهان ديناً، فأمر سعيدا بالخروج من بلده بما ألح عليه الحجاج في طلبه، فخرج إلى أذربيجان مدة ثم توجه إلى مكة مستجيراً بالله وملتجئاً إلى حرم الله، فبعث به خالد القسري إلى الحجاج.
وكان الحجاج كتب إلى الوليد أنّ جماعة من التابعين قد التجئوا إلى مكة، فكتب الوليد إلى عامل مكة خالد القسري: احملهم إلى الحجاج، وكانوا خمسة: سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وطلق بن حبيب، فأما عمرو وعطاء فأطلقا، وأما طلق فمات في الطريق، وأما مجاهد فحبس حتى مات الحجاج، لا عفا الله عنه، وأما سعيد بن جبير فقتل. وقصة قتلته طويلة وهي أشهر من أن تذكر. وفيها توفي سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن «1» عائذ بن عمران بن مخزوم، وأمه أم سعيد بنت عثمان بن حكيم السلمي، وكنيته أبو محمد- أعني ابن المسيب- وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وكان يقال له فقيه الفقهاء وعالم العلماء، وهو أحد الفقهاء السبعة، وقد نظمهم بعض الشعراء:
ألا كل من لا يقتدي بأئمةٍ ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم: عبيد الله، عروة، قاسم ... سعيد، سليمان، أبو بكر، خارجة
وفيها توفي عروة بن الزبير بن العوام، أبو عبد الله الأسدي، هو أيضاً أحد الفقهاء السبعة وهو المشار إليه في ثاني اسم من البيت الثاني، وهو من الطبقة(1/228)
الثانية من تابعي أهل المدينة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو شقيق عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم؛ وبينه وبين عبد الله المذكور عشرون سنة، وكان ابتلى بالأكلة فى رجله فقطعنت وهو صائم، فصبر على ذلك وحمد الله عليه، رضي الله عنه؛ وفي سنة وفاته اختلاف كثير. وفيها توفي عطاء بن يسار مولى ميمونة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو محمد، وقيل أبو يسار، وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة.
قال ابن «1» بكير: كان بالمدينة ثلاثة إخوة لا ندري أيهم أفضل: عطاء وسليمان وعبد الله بنو يسار، وثلاثة إخوة: محمد وأبو بكر وعمر بنو المنذر، وثلاثة إخوة:
بكير ويعقوب وعمر بنو عبد الله الأشج «2» . وفيها توفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بزين العابدين، وكنيته أبو محمد، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وأمه أم ولد يقال لها غزالة، وقيل سلامة، وقيل سلافة، وقيل شاه زنان، وكانت سندية، وكان علي هذا باراً بها، رضي الله عنه وعن أسلافه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وإصبع واحد.
*** السنة السادسة من ولاية قرة بن شريك على مصر وهي سنة خمس وتسعين- فيها وفد موسى بن نصير من بلاد المغرب على الوليد بالشأم ومعه الأموال وثلاثون ألف رأس من الرقيق. وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك مدينة الباب من إرمينية وخربها ثم بناها بعد ذلك مسلمة المذكور. وفيها ولد أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء(1/229)
بني العباس. وفيها غزا العباس بن الوليد أرض الروم ففتح هرقلة وغيرها. وفيها حج بالناس بشر بن الوليد بن عبد الملك. وفيها توفي جعفر بن عمرو بن أمية الضّمرىّ وهو أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة. وفيها توفي الخبيث الحجاج بن يوسف ابن الحكم بن [أبي «1» ] عقيل بن مسعود بن عامر، أبو محمد الثقفي.
قال الشعبي: كان بين الحجاج وبين الجلندا الذي ذكره [الله] في كتابه العزيز في قوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
سبعون جداً. وقيل:
إنه كان من ولد عبد «2» من عبيد الطائف لبني ثقيف ولد أبي رغال دليل أبرهة إلى الكعبة.
قلت: هو مشبئوم؟؟؟ هو وأجداده، وعليهم اللعنة والخزي، فإنه كان مع ظلمه وإسرافه فى القتل مشئوم الطلعة؛ [ «3» وكان فى أيامه طاعون الإسراف، مات فيه خلائق لا تحصر؛ حتى قيل: لا يكون الطاعون والحجاج! وكان معظم الطاعون بواسط] .
وقيل: كان اسم الحجاج أولاً كليب، ومولده سنة تسع وثلاثين، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة إحدى وأربعين، بمصر بدرب «4» السراجين، ثم خرج به أبوه يوسف مع(1/230)
مروان بن الحكم إلى الشأم. ولم أدر ما أذكر من مساوئ هذا الخبيث في هذا المختصر، فإن مساوئه لا تحصر، غير أنني أكتفي فيه بما شاع عنه في الآفاق من قبيح الفعال، وسوء الخصال.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعاً.
ذكر ولاية عبد الملك بن رفاعة الأولى على مصر
هو عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي المصري أمير مصر، ولي مصر بعد موت قرة بن شريك من قبل الوليد بن عبد الملك بن مروان، وليها في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين على الصلاة، فلم يكن بعد ولايته إلا أيام ومات الوليد ابن عبد الملك وتخلف أخوه سليمان بن عبد الملك، فأقر عبد الملك هذا على عمل مصر، فدام على ذلك وحسنت سيرته، فإنه كان عفيفاً عن الأموال ديناً وفيه عدل في الرعية، وكان ثقة أميناً فاضلاً، روى عنه الليث بن سعد وغيره.
قال الليث بن سعد: كان يقول عبد الملك بن رفاعة: «إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاق» يعني بهذا الكلام في حق كل عامل على بلد.
قلت: وهذا أيضاً في حق كل حاكم كائن من كان. وفى الجملة فبينه «1» وبين قرّة لبن شريك زحام. وكان المتولي في أيام عبد الملك بن رفاعة على خراج مصر أسامة ابن زيد التنوخي، وعلى الشرطة أخاه الوليد بن رفاعة.
قال الكندي: كتب سليمان بن عبد الملك بن مروان إلى أسامة: احلب الدر حتى ينقطع، وأحلب الدم حتى ينصرم. قال: فذلك أول شدة دخلت على أهل مصر. وقال يوماً سليمان بن عبد الملك- وقد أعجبه فعل أسامة بن زيد المذكور-:(1/231)
هذا أسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً؛ فقال له ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان: أنا أذلّك على من هو شر من أسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً؛ قال سليمان: ومن هو؟ قال عمر: عدو الله إبليس؛ فغضب سليمان وقام من مجلسه.
ولما مات سليمان بن عبد الملك وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة وجه في عزل أسامة بن زيد المذكور قبل دفن سليمان، وأقر عبد الملك بن رفاعة على عمله بمصر مدة، ثم عزله بأيوب بن شرحبيل في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين. وكانت ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر في هذه المرة ثلاث سنين تخميناً. وتأتي بقية ترجمته في ولايته الثانية إن شاء الله تعالى. وفي أيام عبد الملك هذا قتل عبد العزيز ابن موسى بن نصير، وكان أبوه استعمله على الأندلس لما قدم الشأم، وكان سببه أنه تزوج بامرأة رذريق «1» فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له عند الدخول عليه كما كان يفعل لزوجها، فقال: إن ذلك ليس في ديننا، وكان ديناً فاضلاً، فلم تزل به حتى أمر بفتح باب قصير «2» ، فكان أحدهم إذا دخل عليه طأطأ رأسه فيصير كالراكع له، فرضيت به وقالت له: الآن لحقت بالملوك، وبقي أن أعمل لك تاجاً مما عندي من الذهب واللؤلؤ فأبى، فلم تزل به حتى فعل، فانكشف ذلك للمسلمين «3» ، فقيل: إنه تنصر، فثاروا عليه وقتلوه بدسيسة من عند عبد الملك هذا بآمر سليمان بن عبد الملك، فدخلوا عليه، وهو يصلي الصبح في المحراب وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة، فضربوه بالسيوف ضربة واحدة واحتزوا رأسه وسيروه إلى سليمان، فعرضه سليمان على أبيه فتجلد للمصيبة وقال: هنيئاً له الشهادة، فقد قتلتموه والله صواماً قواماً. فعد الناس ذلك من زلات سليمان بن عبد الملك اهـ.(1/232)
*** السنة الأولى من ولاية عبد الملك بن رفاعة الأولى على مصر وهي سنة ست وتسعين- فيها غزا مسلمة بن عبد الملك الصائفة. وفيها افتتح العباس ابن الوليد بن عبد الملك طرسوس. وفيها عزم الوليد قبل موته بمدة يسيرة على خلع أخيه سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد، وكان الوليد قد شاور الحجاج في ذلك فأشار عليه بخلعه، فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك فامتنع، وكان بفلسطين، فعرض عليه الوليد أموالاً كثيرة فأبى، فكتب الوليد إلى عماله أن يخلعوا سليمان ويبايعوا لابنه عبد العزيز بن الوليد، فلم يجبه إلى ذلك سوى الحجاج وقتيبة بن مسلم؛ ثم قال لعمر بن عبد العزيز: بايع لابن أختك عبد العزيز، فإنّ عبد العزيز ابن الوليد كانت أمه أخت عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: إنما بايعناك وسليمان في عقد واحد، فكيف نخلعه ونتركك! فأخذ الوليد منديلا وجعله في عنق عمر بن عبد العزيز ولواه حتى كاد أن يموت، فصاحت أخته أم البنين زوجة الوليد حتى أطلقه وحبسه في بيتٍ ثلاثة أيام إلى أن قالت له أم البنين: أخرج أخي فأخرجه وقد كاد أن يموت، وقد التوى عنقه، فقالت أم البنين: اللهم لا تبلغ الوليد في ولد عبد العزيز ما أمله. وفيها قتل قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين بن أسيد «1» بن زيد ابن قضاعة الباهلي، وهو من التابعين، وكنيته أبو صالح، كان من كبار أمراء بني أمية، ولاه الحجاج خراسان، وفتح الفتوحات؛ فلما ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة نقم عليه لكونه كان خلعه في أيام أخيه الوليد، فبعث إليه من قتله بعد أمور وحروب.
وفيها توفي الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل ابن عم الحجاج، كان ولاه الحجاج البصرة وزوجه أخته زينب بنت يوسف. وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن عثمان(1/233)
ابن عفان، وأمه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان من الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة. وفيها افتتح قتيبة مدينة كاشغر «1» . وفيها حج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد (بفتح الهمزة وكسر السين المهملة) ، وكان على حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبى مسعود. وفيها توفى الحليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين أبو العباس الأموي الدمشقي، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام، وكان الوليد عند أهل الشأم أفضل خلفائهم من كونه بنى المساجد والجوامع وبنى جامع دمشق ومسجد المدينة، وهو أول من اتخذ دار الضيافة للقادمين، وبنى البيمارستانات للمرضى، وساق المياه إلى مكة والمدينة، ووضع المنابر في الأمصار، غير أنه كان له مساوئ من كونه كان أقر الحجاج على العراق وأشياء غير ذلك؛ وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثلاثة وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر وهي سنة سبع وتسعين- فيها غزا يزيد بن المهلب جرجان. قال المدائني: غزاها ولم تكن يومئذ [مدينة»
] إنما هي جبال محيطة بها. وفيها حج بالناس الخليفة سليمان بن عبد الملك. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك(1/234)
برجمة وحصن ابن عوف وافتتح أيضاً حصن الحديد وسردا «1» ، وشتى بنواحي الروم. وفيها بعث سليمان بن عبد الملك على الغرب محمد بن يزيد مولى قريش فولي سنتين وعدل، ولكنه عسف على موسى بن نصير وقبض على ابنه عبد الله وسجنه ثم جاء البريد بأن يقتله؛ فتولى قتله عبيد الله بن خالد بن صابي «2» ، وكان أخوه عبد العزيز بن موسى على الأندلس، ثم ثاروا عليه فقتلوه في سنة تسع وتسعين لكونه خلع طاعة سليمان، قتله وهو في صلاة الفجر حبيب بن أبي عبيد بن عقبة بن نافع الفهرىّ.
ذكر وفاة موسى بن نصير المذكور
هو صاحب فتوحات الغرب، وكنيته أبو عبد الرحمن. قيل: أصله من عين التمر «3» ، وقيل: هو مولى لبني أمية، وقيل: لامرأة من لخم، مات بطريق مكة مع الخليفة سليمان بن عبد الملك. مولده بقرية كفرتوثا «4» من قرى الجزيرة في سنة تسع عشرة؛ وولاه معاوية بن أبي سفيان غزو البحر فغزا قبرس وبنى بها حصوناً ثم غزا غيرها؛ وطالت أيامه وفتح الفتوحات العظيمة ببلاد المغرب، وكان شجاعاً مقداماً جواداً. وفيها جهز الخليفة سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر وشتى بها. وفيها عزل سليمان داود بن طلحة الحضرمىّ عن إمرة مكة، وكان عمله «5» عليها ستة أشهر؛ وولى عوضه عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.(1/235)
*** السنة الثالثة من ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر وهي سنة ثمان وتسعين- فيها غزا يزيد بن المهلب بن أبي صفرة طبرستان، فصالحه صاحبها الأصبهبذ «1» على سبعمائة ألف، وقيل: خمسمائة ألف في السنة. وفيها غدر أهل جرجان وقتلوا عاملهم وجماعةً من المسلمين، فسار اليهم يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وقاتلهم شهراً حتى نزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وصلب منهم فرسخين [عن «2» يمين الطريق ويساره] وقاد منهم اثني عشر ألف نفس إلى وادي جرجان فقتلهم وأجرى الدماء في الوادي.
وفيها غزا داود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم وفتح حصن المرأة مما يلي ملطية.
وفيها عادت الزلازل أربعين يوماً، وقيل: ستة أشهر، فهدمت القلاع والأماكن العالية.
وفيها استعمل سليمان عروة بن محمد بن عطية السعدي على اليمن. وفيها توفي أيوب ابن الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان؛ وأم أيوب المذكور أم أبان بنت سليمان ابن الحكم، وقيل: بنت خالد بن الحكم، وكان شابّا جليلا. وفيها توفى عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكنيته أبو عبد الله، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكان عالماً زاهداً، وهو أحد الفقهاء السبعة المشار إليه في الأبيات السابقة بعبيد الله، وكان الزهري يلازمه ويأخذ عنه. وفيها فتحت مدينة الصقالبة ببلاد المغرب. وفيها حج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد ابن أسيد وهو أمير مكة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعاً وستة أصابع.(1/236)
ذكر ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر
هو أيوب بن شرحبيل بن أكشوم «1» بن أبرهة بن الصباح أمير مصر.
قال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخه: أيوب بن شرحبيل بن أكشوم بن أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شرحبيل بن مرثد بن الصبّاح ابن معديكرب بن يعفر بن ينوف «2» بن شراحيل بن «3» أبى شمر بن شرحبيل بن ياشر ابن أشغر «4» بن ملكيكرب بن شراحيل بن يعفر بن عمير بن أبي كرب بن يعفر بن أسعد بن ملكيكرب بن شمير «5» بن أشغر بن ينوف بن أصبح الأصبحي. وأمه أم أيوب بنت مالك بن نويرة بن الصباح. وأيوب هذا أحد أمراء مصر وليها لعمر بن عبد العزيز. روى عنه أبو قبيل وعبد الرحمن بن مهران، وتوفي في رمضان سنة إحدى ومائة.
حدثني موسى بن هارون بن كامل أخبرنا عبد الله بن محمد البردي حدثنا أبي حدثنا ابن أبي ذئب «6» حدثنا عبد الرحمن بن مهران عن أيوب بن شرحبيل قال:
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامله على مصر: أن خذ من المسلمين من كل أربعين ديناراً، ومن أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً إذا قبلوها في كل عام، فإنه حدثني من سمعه عمن سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن يونس باختصار(1/237)
قلت: وكانت ولاية أيوب هذا على مصر بعد عبد الملك بن رفاعة من قبل عمر ابن عبد العزيز في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين. فلما ولي أيوب هذا مصر جعل الفتيا بمصر إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، وجعل على الشرطة الحسن بن يزيد الرعيني، وزيد في عطايا الناس عامة، وعطلت حانات الخمر وكسرت بإشارة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ونزحت القبط عن الكور، واستعملت [عليها] المسلمون، ونزعت أيديهم أيضاً عن المواريث واستعمل عليها المسلمون، وحسنت أحوال الديار المصرية في أيامه، وأخذ أيوب هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأمور. وبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بموت الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في شهر رجب سنة إحدى ومائة وتولية يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة، وأن يزيد أقر أيوب بن شرحبيل المذكور على عمله بمصر على الصلاة على عادته؛ فلم تطل مدة أيوب بعد ذلك، ومات في يوم سابع عشر شهر رمضان من سنة إحدى ومائة المذكورة، وقيل: لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان؛ فكانت ولايته على مصر سنتين ونصف سنة؛ وتولى مصر بعده بشر بن صفوان الآتي ذكره.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط فيمن ولي الفسطاط» : إنه عزل (يعني أيوب هذا) في التاريخ المذكور من الشهر والسنة؛ غير أنه خالف ما ذكرناه من موته، وقال: «عزل» والله أعلم، ووافقه غيره على ذلك. والصحيح ما نقلناه، أنه توفي. غير أن يزيد لما ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز غير غالب ما كان قرره عمر. وسببه أن عمر لما احتضر قيل له: اكتب إلى يزيد ابن عمك وأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه! إنه من بني عبد الملك؛ ثم كتب إليه: «أما بعد، فاتق الله يا يزيد، واتق الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك(1/238)
لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام» . فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن المدينة، واستعمل عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهرىّ عليها، فاستقضى عبد الرحمن بن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومىّ، وأراد معارضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلاً حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد من ابن حزم أنه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده «1» منه. ثم عمد يزيد إلى كل ما صنعه ابن عمه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده، ولم يخف شناعةً عاجلةً ولا إثماً آجلاً.
فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان عاملاً على اليمن، فجعل عليهم خراجاً محدداً «2» ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله باليمن يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما حدده محمد، وقال: لأن يأتيني من اليمن حفنة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوظيفة. فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها، وقال لعامله: خذها منهم ولو صاروا حرضاً «3» ، والسلام. ثم عزل جماعةً من العمال. فمن قال بعزل أيوب عن مصر فهو يستدل بما ذكرناه، والأصح أنه مات في التاريخ المذكور المقدم ذكره.
*** السنة الأولى من ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر وهي سنة تسع وتسعين- فيها أغارت الخزر على أرمينية وأذربيجان، وأمير تلك البلاد يوم ذاك عبد العزيز بن حاتم الباهلي، وكان بينهم وقعة قتل الله فيها عامة الخزر، وكتب عبد العزيز الباهلي إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز بذلك. وفيها حج بالناس أبو بكر بن حزم. وفيها استقضى عمر بن عبد العزيز الشّع؟؟؟ ىّ على الكوفة. وفيها قدم يزيد بن المهلب بن أبى(1/239)
صفرة من خراسان، فما قطع الجسر إلا وهو معزول. وتوجه عدي بن أرطاة والياً من قبل عمر بن عبد العزيز على البصرة، فأبى يزيد بن المهلب أن يسلم عليه، فقبض عليه عدي بن أرطاة وقيده وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه عمر بن عبد العزيز حتى مات. وفيها أسلم ملك الهند.
قال ابن عساكر: كتب ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: «من ملك الهند والسند، ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك وتحته ابنة ألف ملك، والذي في مملكته نهران ينبتان العود والكافور والأكرة التي يوجد ريحها من اثني عشر فرسخاً، والذي في مربطه ألف فيل وتحت يده ألف ملك، إلى ملك العرب:
أما بعد، فإن الله قد هداني إلى الإسلام فابعث إلي رجلاً يعلمني الإسلام والقرآن وشرائع الإسلام، وقد أهديت لك هدية من المسك والعنبر والند والكافور فاقبلها، فإنما أنا أخوك في الإسلام، والسلام» .
وفيها توفي سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري، وكان أصغر من الحسن، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وحزن على موته أخوه الحسن حزناً عظيماً وأمسك عن الكلام حتى كلم في ذلك، فقال أول ما تكلم:
الحمد لله الذي لم يجعل الحزن عاراً على يعقوب. وفيها توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك ابن مروان الأموي الهاشمي، وأمه ولادة بنت العباس، وهي أم الوليد أيضاً، وكنيته أبو أيوب، ولي الخلافة بعد أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ست وتسعين، وكان فصيحاً لسناً جميلاً حسن السيرة مفتاحاً للخير، أذهب الله به ظلم الحجاج، وأطلق من كان في حبس الحجاج، فأنصف المظلومين، وبنى مدينة الرملة و؟؟؟؟ ها، ثم ح؟؟؟ م أفعاله باستخلافه ابن عمه عمر بن عبد العزيز على المسلمين قبل أخويه يزيد وهشام،(1/240)
وكان سليمان هذا أكولاً، وحكاياته في كثرة الأكل مشهورة، منها: أنه حج مرة فنزل بالطائف فأكل سبعين رمّانة، ثم جاءوه بخروف مشوىّ وست دجاجات فأكلها، ثم جاءوه بزبيب فأكل منه شيئاً كثيراً؛ ثم نعس وانتبه فأتاه الطباخ فأخبره أن الطعام استوى، فقال: اعرضه علي قدراً قدراً، فصار يأكل من كل قدرة «1» اللقمة واللقمتين واللحمة واللحمتين، وكانت ثمانين قدراً؛ ثم مد السماط فأكل على عادته كأنه ما أكل شيئا. اهـ، وكانت وفاته بدابق «2» في صفر سنة تسع وتسعين عن خمس وأربعين سنة. وكانت خلافته دون ثلاث سنين، رحمه الله. وفيها وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه لهم خيلاً وطعاماً كثيراً، وحث الناس على معونتهم. وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة؛ فوجه عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير. وفيها توفي سهل بن عبد العزيز ابن مروان أخو الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان فاضلاً ديناً زاهداً. وفيها توفي قيس بن أبي حازم عوف بن الحارث الأحمسي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، شهد مع خالد بن الوليد حين صالح أهل الحيرة والقادسيّة. وفيها توفي القاسم بن مخيمرة الهمداني، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وكان يدعو بالموت، فلما نزل به كرهه، وكان ثقةً مع علم وزهد وورع.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.(1/241)
*** السنة الثانية من ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر وهي سنة مائة- فيها حج بالناس أبو بكر بن حزم. وفيها غزا الصائفة الوليد بن هشام المعيطي؛ وفيها خرج شوذب الخارجي واسمه بسطام من بني يشكر. وفيها أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة «1» بالقفول عنها إلى ملطية، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين، وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم؛ فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز فأمرهم بالعود إلى ملطية وإخلاء طرندة خوفاً على المسلمين [من العدو «2» ] وأخرب طرندة. وفيها تزوج محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الحارثية، فولدت له السفاح أول خلفاء بني العباس الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
وفيها كانت الزلازل، فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار وواعدهم يوماً بعينه، ثم خرج هو بنفسه رضي الله عنه في ذلك اليوم وخرج معه الناس، فدعا عمر وتضرع إلى الله فسكنت الزلازل ببركته. وقيل: إن في أول هذه السنة كانت أول دعوة بني العباس بخراسان لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فلم يظهر أمره غير أنه شاع ذلك في الأقطار، ثم وقعت أمور إلى أن ظهرت دعوتهم في سنة مائة واثنتين وثلاثين، كما سيأتي ذكره في محله. وفيها توفي خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه جميلة بنت سعد بن الربيع الخزرجي، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكذا جميع إخوته، وكنيته أبو زيد، وكان عالماً زاهدا،(1/242)
وهو أحد الفقهاء السبعة. وفيها توفي الشاب الصالح الناسك عبد الملك ابن الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان، مات في خلافة أبيه عمر بن عبد العزيز. قال بعض أهل الشام: كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك المذكور هذا. ومات عبد الملك المذكور وله تسع عشرة سنة رحمه الله.
وفيها كان طاعون عدىّ بن أرطاة، ومات فيه خلائق. وفيها توفي أبو رجاء العطاردي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، واسمه عمران بن تيم، وقيل:
ابن ملحان، وقيل: عطارد بن ثور «1» . وفيها توفي أبو طفيل عامر بن واثلة بن عبد الله ابن عمرو الليثي الكناني الصحابي، آخر من رأى فى الدنيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالإجماع، وكان من شيعة علي، روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلامه الركن.
وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند «2» يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم؛ وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشبة «3» بن ذاهر وعده ملوك وتسموا بأسماء العرب. وكان استعمل عمر على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخا قتيبة، فغزا عمرو بعض الهند وظفر حتى بقي ملوك السند مسلمين، فبقوا على ذلك إلى خلافة هشام، [ثم] ارتدوا عن الإسلام لأمر وقع من هشام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرون «4» إصبعا.(1/243)
ذكر ولاية بشر بن صفوان على مصر
هو بشر بن صفوان بن تويل (بفتح التاء المثناة) بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شرحبيل بن عرين «1» بن أبي جابر بن زهير الكلبي، أمير مصر. وليها من قبل يزيد بن عبد الملك بعد موت أيوب بن شرحبيل في سابع عشر شهر رمضان سنة إحدى ومائة.
قال ابن يونس: وحدث عنه عبد الله بن لهيعة، ويروي عن أبي فراس.
انتهى كلام ابن يونس، ولم يذكر وفاته ولا عزله.
وقال غيره: وفي أيام بشر على مصر نزل الروم تنيس وأقام بعد ذلك مدة، وولاه الخليفة يزيد بن عبد الملك على إفريقية بالغرب، فخرج إليها من مصر في شوال سنة اثنتين ومائة واستخلف أخاه حنظلة بن صفوان على مصر، فأقره يزيد بن عبد الملك على إمرة مصر عوضاً عن أخيه بشر المذكور.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط، فيمن ولى الفسطاط» بعد ما ذكر نسبه إلى جده، قال: ولاه يزيد بن عبد الملك، وقدمها (يعني مصر) لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة إحدى ومائة، فجعل على شرطته شعيب بن حميد ابن أبى الرّبذاء «2» البلوي. وفي إمرته نزلت الروم تنيس، وكتب يزيد بمنع الزيادات التي زادها عمر بن عبد العزيز، ودون التدوين الرابع «3» ، ثم خرج إلى إفريقية بإشارة يزيد بن عبد الملك في شوال سنة اثنتين ومائة، واستخلف أخاه حنظلة. اهـ. وسبب(1/244)
عزل بشر بن صفوان وتوجهه إلى إفريقية قتل يزيد بن أبي مسلم؛ وكان الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان استعمل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على إفريقية سنة إحدى ومائة، بعد عزل محمد بن يزيد مولى الأنصار، فلما ولي يزيد على إفريقية عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق؛ فإن الحجاج كان ردهم إلى قراهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم كفار، فأراد يزيد بن أبي مسلم [أن] يفعل بأهل سواد إفريقية كذلك؛ فكلموه في ذلك فلم يسمع وعزم على ما عزم عليه؛ فلما تحققوا ذلك أجمع رأيهم على قتله، فوثبوا عليه وقاتلوه وقتلوه، وولوا على أنفسهم الوالي الذي كان عليهم قبل يزيد المذكور، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار، وكان عندهم؛ وكتبوا إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضاه الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا علينا محمد بن يزيد؛ فكتب إليهم يزيد: إني لم أرض بما صنع يزيد بن أبي مسلم، وأقر محمد بن يزيد على عمله مدة أيام، ثم بدا له إرسال بشر بن صفوان هذا إلى إفريقية فكتب إليه بالتوجه، وأقر أخاه حنظلة بن صفوان على إمرة مصر عوضه برغبة أخيه بشر في ذلك. وخرج بشر إلى إفريقية ووقع له بها أمور يطول شرحها إلى أن غزا جزيرة صقلية في سنة تسع ومائة وغنم منها شيئاً كثيراً، ثم رجع من غزاته إلى القيروان فتوفي بها من سنته. فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي. انتهت ترجمة بشر بن صفوان.
*** السنة الأولى من ولاية بشر بن صفوان على مصر وهي سنة إحدى ومائة- فيها استخلف يزيد بن عبد الملك بعد موت ابن عمه عمر بن عبد العزيز فى شهر(1/245)
رجب. وفيها ولى الخليفة يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري على المدينة، وعزل عنها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فحج عبد الرحمن بالناس، وكان عامل مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها [ابن] المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم. وفيها لحق يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بالبصرة وغلب عليها وحبس عاملها عدي بن أرطاة الفزاري وخلع يزيد بن عبد الملك من الخلافة وخرج عن طاعته- وكان يزيد هذا من حبسه عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته كما تقدم ذكره- فجهز الخليفة يزيد بن عبد الملك لحرب يزيد بن المهلب الجيوش، ووقع لجيش يزيد بن عبد الملك مع يزيد بن المهلب وقائع آلت إلى أن قتل يزيد بن المهلب المذكور. وفيها توفي أبو صالح السمان وهو المعروف بالزيات، واسمه ذكوان، مولى غطفان، من الطبقة الثانية من الموالي بالمدينة، أسند عن جماعة من الصحابة وروى عنه خلق كثير. وفيها توفي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي أبو حفص، ولي الخلافة بعد موت ابن عمه سليمان بن عبد الملك بعهده إليه بحيلة وضعها سليمان بن عبد الملك حتى بايعه يزيد وهشام ابنا عبد الملك وتم أمره. ومولده بالمدينة سنة ستين عام توفي الخليفة معاوية بن أبي سفيان أو بعدها بسنة، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فسار عمر بن عبد العزيز في الخلافة سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من التقلل والتقشف والعدل في الرعية والإنصاف، إلى أن توفي يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب بدير سمعان وصلى عليه ابن عمه يزيد بن عبد الملك بن مروان الذي تخلف بعده؛ ومات عمر بن عبد العزيز وله تسع وثلاثون سنة وستة أشهر.(1/246)
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: عن يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا كتاب رق من السماء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
قلت: وفي هذه كفاية عن ذكر شيء من مناقبه رحمه الله. وفيها توفي عمر ابن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومىّ الشاعر المشهور، وكنيته أبو الخطاب؛ ولد في الليلة التي مات فيها الخليفة عمر بن الخطاب. وكان الحسن البصري يقول: أي حق رفع، وأي باطل وضع. وكانت العرب تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا في الشعر حتى أتى عمر هذا فأقرت لها بالشعر. قال ابن خلكان: لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة.
قلت: وتشبيبه بالنساء وحكايته مع فاطمة «1» بنت عبد الملك بن مروان مشهورة.
ومن شعره:
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعد ما صرع الكرى السمارا
طارقاً في المنام تحت دجى اللّي ... ل ضنيناً بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال إنا كما عهدت ولكن ... «شغل الحلي أهله أن يعارا «2» »(1/247)
وفيها توفي ذو الرمة الشاعر المشهور، وكنيته أبو الحارث، واسمه غيلان بن عقبة، وهو من الطبقة الثانية من شعراء الإسلام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية بشر بن صفوان على مصر وهي سنة اثنتين ومائة- فيها وقعة كانت بين يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وبين مسلمة بن عبد الملك بن مروان قتل فيها يزيد بن المهلب المذكور وكسر جيشه وانهزم آل المهلب، ثم ظفر بهم مسلمة فقتل فيهم وبدع وقل من نجا منهم. وفيها غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية إرمينية وهو على الجزيرة قبل أن بلى العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً نحو سبعمائة أسير. وفيها غزا العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الروم فافتتح دلسة. وفيها حج بالناس أمير المدينة عبد الرحمن بن الضحاك. وفيها توفي محمد بن مروان بن الحكم والد مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية الآتي ذكره. وفيها توفي الضحاك بن مزاحم الهلالىّ، [و] هو من رهط زينب زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو القاسم، وهو من الطبقة الثالثة من تابعى أهل الكوفة. وفيها توفّى يزيد ابن [أبي «1» ] مسلم كاتب الحجاج، وكنيته أبو العلاء «2» ، وكان على نمط الحجاج في الجبروت وسفك الدماء، ولما مات الحجاج أقره الوليد بن عبد الملك على العراق أربعة أشهر؛ فلما مات الوليد وولي أخوه سليمان الخلافة عزله بيزيد بن المهلب بن أبي صفرة المقدم ذكره؛ وأمره سليمان بمسكه وإرساله إليه، فأرسله إليه فحبسه إلى أن أخرجه(1/248)
يزيد بن عبد الملك وولاه إفريقية فقتل هناك في هذه السنة. وقد حكينا ترجمته وقتلته في أول ترجمة بشر بن صفوان. وفيها توفي عدي بن زيد بن الخمار «1» العبادي التميمي الشاعر المشهور، وهو جاهلي نصراني من فحول الشعراء، ذكره محمد بن سلام في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية، وقال: وهم أربعة فحول: طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد بن الخمار. قال أبو الفرج صاحب الأغاني: الخمار بخاء معجمة مضمومة. وفي وفاته أقوال: قيل إنه مات قبل الإسلام، وقيل في زمن الخلفاء الراشدين، وقيل غير ذلك. ومن شعره:
أين أهل الديار من قوم نوحٍ ... ثم عاد من بعدهم وثمود
أين آباؤنا وأين بنوهم ... أين آباؤهم وأين الجدود
سلكوا منهج المنايا فبادوا ... وأرانا قد كان منا ورود
بينما هم على الأسرّة والأن ... ؟؟؟ اط أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذاك الوعيد والموعود
ومنها:
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... هو أدنى للموت ممن يعود
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعأ، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعا.(1/249)
ذكر ولاية حنظلة بن صفوان الأولى على مصر
ولي حنظلة إمرة مصر باستخلاف أخيه بشر بن صفوان له لما ولاه الخليفة يزيد بن عبد الملك إمرة إفريقية وكتب ليزيد بذلك، فأقره يزيد على إمرة مصر وذلك في شوال سنة اثنتين ومائة. وحنظلة هذا من بنى كلب، ولمّا ولى مصر مهد أمورها ودام بها إلى سنة ثلاث ومائة [ثم] خرج إلى الإسكندرية واستخلف على مصر عقبة بن مسلم التجيبي؛ ثم ورد عليه كتاب الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان بكسر الأصنام والتماثيل، فكسرت كلها ومحيت التماثيل من ديار مصر وغيرها في أيامه.
قال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس: حنظلة بن صفوان الكلبي أمير مصر لهشام بن عبد الملك، روى عنه أبو قبيل آخر ما عندنا «1» من أخباره.
وقدومه من الغرب سنة سبع وعشرين ومائة، وكان أخرجه عبد الرحمن بن حبيب الفهرىّ.
قلت: وقوله «أمير مصر» لهشام يعني في ولايته الثانية على مصر. اهـ.
قال: وكان حنظلة حسن السيرة في سلطانه «2» . حدثني مسلمة «3» بن عمرو بن حفص المرادي وأبو قرة محمد بن حميد الرعيني حدثني النضر بن عبد الجبار أخبرنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل، قال: أرسل إلي حنظلة بن صفوان فأتيته في حديث طويل. هذا ما ذكره ابن يونس في ترجمة حنظلة بتمامه وكماله.
قلت: واستمر حنظلة على عمله بمصر حتى توفي يزيد بن عبد الملك واستقر أخوه هشام بن عبد الملك فى الخلافة، [ثم «4» ] صرف حنظلة هذا بأخيه محمد بن عبد الملك(1/250)
ابن مروان، وذلك في شوال سنة خمس ومائة؛ فكانت مدته على مصر ثلاث سنين.
وتأتي بقية ترجمته في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
وسبب عزل حنظلة عن مصر أمور، منها: أن هشاماً عزله وأراد أن يولي عقفان على مصر عوضه ثم ثنى عزمه عن ذلك وولى عقفان الصدقة وولى أخاه محمداً مصر. وعقفان المذكور حروري [اسمه عقفان «1» ] ، خرج في أيام يزيد بن عبد الملك في ثلاثين «2» رجلاً، فأراد يزيد أن يرسل إليه جنداً يقاتلونه، فقيل له: إن قتل عقفان بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأي أن تبعث لكل رجل من أصحابه رجلاً من قومه يكلمه فيرده؛ ففعل يزيد ذلك؛ فقال لهم أهلوهم: إنا نخاف أن نؤخذ بكم؛ وأومنوا فرجعوا وبقي عقفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه ورده. فلما ولي هشام الخلافة. ولاه أمر العصاة بعد أن أراد أن يوليه إمرة مصر، ولما ولي عقفان أمر العصاة وعظم أمره قدم ابنه من خراسان عاصياً، فشده وثاقاً وبعث به إلى الخليفة هشام، فأطلقه هشام لأبيه، وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه عنا، فاستعمله على الصدقة، فبقي عقفان على الصدقة إلى أن مات هشام وولي الخلافة مروان الجعدي الحمار.
*** السنة الأولى من ولاية حنظلة بن صفوان الكلبي على مصر وهي سنة ثلاث ومائة- فيها قتل أمير الأندلس السمح بن مالك الخولاني، قتله الروم يوم التروية. وفيها أغارث الترك «3» على اللان «4» . وفيها غزا العباس بن الوليد الروم(1/251)
ففتح مدينة يقال لها رسلة «1» . وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك.
وفيها ولّى عبد الواحد بن عبد الله النضرىّ «2» الطائف بعد عزل عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد عنه وعن مكة. وفيها حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك، وكان أمير العراق في هذه السنة عمر بن هبيرة، وعلى خراسان الحرشي. وفيها توفي يحيى بن وثاب الأسدىّ مولاهم قارئ الكوفة أحد القراء، أخذ القراءة عرضاً عن علقمة والأسود وعبيد ومسروق وغيرهم. قال الأعمش: كان يحيى بن وثاب لا يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم في عرض ولا في غيره. وفيها توفي أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وكان فقيهاً عالماً يفتي أهل البصرة في غيبة الحسن البصري وفي حضوره. وفيها توفي خالد بن معدان بن أبي كريب «3» ، أبو عبد الله الكلاعي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشأم كان عابداً ورعاً، وكان يكره الشهرة.
وفيها توفي سليمان «4» بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه كان مكاتباً لها فأدى وعتق، ووهبت ميمونة ولاءه لابن عباس، وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وكنيته أبو أيوب، وقيل أبو محمد، وهو أحد الفقهاء السبعة، وكانوا يفضلونه على سعيد بن المسيب. وفيها توفي أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، واسمه عامر بن عبد الله بن قيس، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وولي قضاء الكوفة بعد شريح، وكان سعيد بن جبير قتيل الحجاج كاتبه.(1/252)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع.
السنة الثانية من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة أربع ومائة- فيها كانت وقعة نهر أران «1» ، فالتقى المسلمون والكفار وكان أمير المسلمين الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى الكفار ابن الخاقان، وكانت الوقعة بقرب باب الأبواب، ونصر الله المسلمين وركبوا أقفية الترك قتلاً وأسراً وسبياً. وفيها عزل الخليفة يزيد ابن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة ومكّة وولّى عليهما عبد الواحد النّضرىّ «2» . وفيها توفي أبان بن عثمان بن عفان، وأمه أم عمرو بنت جندب بن عمرو، وكنيته أبو سعيد، وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وكان فقيهاً، وولي إمرة المدينة لعبد الملك بن مروان. وفيها توفي الشعبي واسمه عامر بن شراحيل أبو عمرو الشعبي، شعب همدان، كان علامة أهل الكوفة في زمانه، ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وروى عن علي يسيراً وعن المغيرة بن شعبة وعائشة وأبي هريرة وغيرهم. وقال أبو بكر بن عياش عن الحسن قال: ما رأيت أفقه من الشعبي؛ قلت:
ولا شريح؟ قال: تريد أن تكذبني!.
وفيها توفي ربعي بن حراش بن جحش الغطفاني الكوفي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وكان لا يكذب قط؛ وكان له ابنان عاصيان على الحجاج بن(1/253)
يوسف الثقفىّ، فقيل للحجاج: إن أباهما لا يكذب قط فسله عنهما؛ فأرسل إليه الحجاج قال: أين ابناك؟ فقال: في البيت، قال الحجاج: قد عفونا عنهما بصدقك.
وفيها توفي أبو قلابة الجرمي واسمه عبد الله بن زيد، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وكان فقيهاً عابداً طلب إلى القضاء فهرب إلى الشأم وأقام به. وفيها حج بالناس عبد الواحد بن عبد الله النّضرىّ عامل الطائف، وكان عامل العراق كله في هذه السنة عمر بن هبيرة مضافاً للمشرق كله، وكان على قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي، وعلى قضاء البصرة أبو قلابة الجرمي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأحد عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة خمس ومائة- فيها أيضاً زحف الخاقان ملك الترك وخرج من الباب «1» في جمع عظيم من الترك وقصد أرمينية، فسار إليه الجراح الحكمي فاقتتلوا أياماً ثم كانت الهزيمة على الكفار، وكان ذلك في شهر رمضان. وفيها غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم فقتل وسبى. وفيها غزا الجراح الحكمي اللان حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون وأصاب غنائم كثيرة. وفيها غزا مروان بن محمد الصائفة اليمنى فافتتح قونية من أرض الروم وكماخ «2» . وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك، فأرسل(1/254)
إلى عطاء متى أخطب؟ قال: بعد الظهر قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر وقال: أخبرني رسولي عن عطاء؛ فقال عطاء: ما أمرته إلا بعد الظهر، فاستحيا إبراهيم. وفيها توفي الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أمير المؤمنين، أبو خالد القرشي الأموي الدمشقي. ولي الخلافة بعد ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان بعهد من أخيه سليمان معقود في تولية عمر بن عبد العزيز؛ ولهذا قلنا في ترجمة عمر ابن عبد العزيز: «بحيلة من سليمان» ، فإن سليمان كان عهد لعمر بن عبد العزيز بالخلافة فخاف من إخوته ومن الناس، فأخفى ذلك وبايع الناس لما هو مكتتب، فقالوا:
نبايع على أن يكون فيه ولد عبد الملك، فبايعوا فإذا فيه عمر بن عبد العزيز، ثم من بعده ليزيد وهشام، فتمت البيعة؛ وأم يزيد هذا عاتكة بنت يزيد بن معاوية، ومولده سنة إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين. ودام في الخلافة إلى أن مات في الخامس والعشرين من شعبان بسواد الأردن. وكانت خلافته أربع سنين وشهراً، وتولى الخلافة بعده أخوه هشام بن عبد الملك.
وكان سبب موته أنه كان يحب جارية من جواريه يقال لها حبابة، وكانت مغنية، وكان يزيد صاحب لهو وطرب، فلما ولي يزيد الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز أقام يسير بسيرة عمر أربعين يوماً وترك اللهو والشرب، فقالت حبابة المذكورة لخصي ليزيد، وهو صاحب أمره،: ويحك! قربني منه حيث يسمع كلامي ولك عشرة آلاف درهم، ففعل، فلما مرّ بها يزيد أنشدت:
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وأبياتاً أخر بالألحان، والشعر للأحوص، فلما سمعها يزيد قال: ويحك يا خصي! قل لصاحب الشرطة يصلي بالناس، ودخل إليها وعاد إلى انهماكه ولذاته. فلما كان بعض الليالي شرقت حبابة فماتت، فحزن عليها يزيد حزنا عظما،(1/255)
وخلاها يزيد ثلاثة أيام لم يدفنها وهو ينظر إليها، ثم دفنها خمسة أيام فلم يطق ذلك، فنبشها وأخرجها من القبر وجعل يقلبها ويبكي؛ فقوي عليه الحزن حتى قتله بعد سبعة عشر يوماً. وفيها توفي كثير عزة، واسمه كثير بن عبد الرحمن بن الأسود، وهو من الطبقة الثانية من شعراء المدينة، وكان شيعياً، قال ابن ماكولا: كان يتقلب في المذاهب.
قلت: ولولا تقلبه في المذاهب ما قربه بنو أمية فإنهم كانوا يكرهون الشيعة.
قلت: وهو أحد العشاق وصاحب عزة. قيل: إن عزة دخلت على أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثيّر:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين؟ قالت: وعدته بقبلة ثم رجعت عنها، فقالت: أنجزيها وعلي إثمها، فأنجزته، فأعتقت أم البنين أربعين عبداً عند الكعبة، وقالت: اللهم إني أبرأ إليك مما قلته لعزة. وفيها توفي سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكنيته أبو عمير، وقيل أبو عبد الله، من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة وأمه أم ولد، وكان من خيار قريش وفقهائهم وزهّادهم. وفيها توفى محمد بن شعيب بن شابور- بالمعجمة- القرشي، وكان جده مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان.
ومحمد هذا من الطبقة الخامسة، وقيل السادسة من تابعي أهل الشأم، وكان أحد الأئمة، وذكره يحيى بن معين بالإرجاء «1» . قاله صاحب المرآة. والصحيح أن مولده سنة ست عشرة ومائة، وتوفي سنة مائتين، وقيل: سنة ثمان وتسعين ومائة، وقيل غير ذلك.(1/256)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.
ذكر ولاية محمد بن عبد الملك على مصر
هو محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أمير مصر. وليها بعد عزل حنظلة بن صفوان من قبل أخيه الخليفة هشام بن عبد الملك على الصلاة، ودخل إليها يوم الأحد «1» لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال من سنة خمس ومائة المقدم ذكرها. ومحمد هذا هو أخو سعيد ابن عبد الملك لأبويه، وهو من الطبقة الرابعة من تابعي أهل دمشق، وكان ناسكاً كثير العبادة حسن السيرة جواداً، كان يكره من أخيه هشام وغيره حتى يلي الأعمال، ولما ولي مصر جعل على شرطته حفص بن الوليد الحضرمي. وحدث عن رجل عن أبي هريرة وسمع من المغيرة بن شعبة.
وقال أبو حاتم: روى عمن سمع معاوية وعن المغيرة مرسلاً، وروى عنه الأوزاعي وغيره، وكان ثقة مأموناً. وحين وصوله «2» إلى مصر وقع بها وباء ففر منها محمد إلى الصعيد فلم تطل مدته بالصعيد وعاد بعد أيام إلى مصر؛ ثم خرج منها بسرعة إلى الأردن واستعفى فأعفي، وصرف عن إمرة مصر بالحر بن يوسف، فكانت ولايته شهراً واحداً؛ وسكن الأردن، ودام في دولة أخيه هشام على ذلك إلى أن حج بالناس في سنة ثلاثين ومائة، وعاد من الحج فوجد الفتن قائمة بالشأم من جهة بني العباس، فاستمر عند ابن عمه مروان بن محمد بن مروان المعروف بالحمار إلى أن(1/257)
هزم مروان المذكور في وقعة العراق من أبي مسلم الخراساني، وقبض على محمد هذا وعلى أخيه مع مروان الحمار، فقتلهما عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس؛ قتلهما بنهر أبي فطرس «1» ، وقيل: إنه صاحب الواقعة مع عبد الله بن علي العباسي يوم هزم مروان عند نهر الزاب، وهو أنه لما كانت الهزيمة على بني أمية رأى عبد الله بن علي فتى عليه أبهة الشرف يقاتل مستقتلاً، فناداه عبد الله: يا فتى، لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد، فقال الفتى: إن لم أكنه فلست بدونه؛ قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت، فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال:
أذل الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيراً إلى الموت سيراً جميلا
ثم قاتل حتى قتل، فإذا هو محمد بن عبد الملك، وقيل: ابن لمسلمة بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم، عفا الله عنه.
ذكر ولاية الحر بن يوسف على مصر
هو الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أمير مصر (والحر بضم الحاء المهملة وتشديد الراء المهملة) . وليها بعد عزل محمد بن عبد الملك من قبل هشام بن عبد الملك على الصلاة؛ وكان المتولي على خراج مصر في هذه السنين كلها عبيد الله «2» بن الحبحاب، فدخل الحر بن يوسف هذا إلى مصر لثلاث خلون من ذي الحجة سنة خمس ومائة وباشر أمورها، وأقرّ(1/258)
حفص بن الوليد على شرطة مصر على عادته. وفى أيامه تناقض القبط بمصر في سنة سبع ومائة ووقع له معهم أمور طويلة، ثم خرج من مصر مرابطاً إلى دمياط، فأقام بها ثلاثة أشهر مغازياً؛ ثم عاد إلى مصر وأقام بها أياماً، ثم خرج منها ووفد على الخليفة هشام بن عبد الملك بالشأم، واستخلف حفص بن الوليد على الصلاة بمصر. فأقام عند الخليفة مدة يسيرة وعاد إلى مصر في ذي القعدة من سنة سبع ومائة وقد انكشف أراضيها من النيل، فأخذ في إصلاح أحوالها وتدبير أمورها.
ودام بها إلى ذي القعدة من سنة ثمان ومائة، وصرف عنها في ذي القعدة باستعفائه لمغاضبة وقعت بينه وبين عبيد الله بن الحبحاب متولي خراج مصر. فكانت ولاية الحر هذا على مصر ثلاث سنين سواء. وتولى من بعده على مصر حفص بن الوليد الذي كان استخلفه الحر هذا على الصلاة لما وفد على الخليفة هشام.
ولما عزل الحر عن إمرة مصر ولاه هشام الموصل، وهو الذي بنى المنقوشة داراً ليسكنها، وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها. وهو الذي عمل النهر الذي كان بالموصل. وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرة فيها ماء، وهي تحملها ساعة ثم تستريح قليلاً لبعد [الماء «1» ] ، فلما رأى الحر ذلك كتب إلى هشام بذلك فأمره أن يحفر نهراً إلى البلد، فحفره؛ فكان أكثر شرب أهل البلد منه؛ وعليه كان الشارع المعروف بشارع النهر «2» ، وبقي العمل فيه عدة سنين. ومات الحر هذا في سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان أجل أمراء بني أمية شجاعة وكرماً وسؤدداً.(1/259)
*** السنة الأولى من ولاية الحر بن يوسف الأموي على مصر، وهي سنة ست ومائة- فيها عزل الخليفة هشام متولي العراق عمر بن هبيرة الفزارىّ بخالد ابن عبد الله القسري، فدخل خالد بغتة وبها ابن هبيرة يتهيأ لصلاة الجمعة ويسرح لحيته، فقال عمر بن هبيرة: هكذا تقوم الساعة بغتةً. فقيده خالد القسري وألبسه مدرعة من صوف وحبسه؛ ثم إن غلمان ابن هبيرة اكتروا داراً إلى جانب السجن فنقبوا سرداباً إلى السجن وأخرجوه منه، فهرب إلى الشأم واستجار بالأمير مسلمة ابن عبد الملك بن مروان فأجاره، وكلم أخاه هشاماً في أمره فعفا عنه، فلم تطل أيام عمر بن هبيرة ومات بعد مدة يسيرة. وفيها غزا مسلمة بن سعيد بن أسلم فرغانة فلقيه ابن خاقان ملك الترك في جمع كبير، فكانت بينهم وقعة قتل فيها ابن خاقان في طائفة كبيرة من الترك. وفيها حج بالناس الخليفة هشام بن عبد الملك. وفيها استعمل خالد القسري أخاه أسد بن عبد الله على إقليم خراسان نيابةً عنه. وفيها توفي طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن اليماني الجندي أحد الأعلام، كان من أبناء الفرس الذين سيرهم كسرى إلى اليمن، وهو من فقهاء التابعين. قال سفيان الثّورىّ عن رجل قال: كان من دعاء طاوس: اللهم اخرمنى المال والولد وارزقني الإيمان والعمل. وفيها توفي أبو مجلز لاحق بن حميد في قول الذهبي. وفيها «1» حج بالناس الخليفة هشام بن عبد الملك فلقيه إبراهيم بن محمد بن طلحة في الحجر فقال له:
أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذي خرجت معظماً له إلا رددت علي ظلامتي، قال هشام: أي ظلامة؟ قال: داري؛ قال: فأين كنت من أمير المؤمنين عبد الملك؟
قال: ظلمني، قال: فالوليد وسليمان؟ قال: ظلماني، قال: فعمر؟ قال: [رحمه الله «2» ] ردها علي، قال: فيزيد بن عبد الملك؛ قال: ظلمني وقبضها مني بعد قبضي لها فهى(1/260)
في يدك؛ فقال هشام: لو كان فيك ضرب لضربتك! فقال: في والله ضرب بالسيف والسوط، فانصرف هشام [والأبرش «1» خلفه فقال: أبا مجاشع] ، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما أجوده! قال: هي قريش وألسنتها. ولا يزال في الناس بقايا! ما رأيت مثل هذا!.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية الحر بن يوسف على مصر وهي سنة سبع ومائة- فيها عزل الجراح الحكمي عن إمرة أذربيجان بالأمير مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فغزا مسلمة قيسارية الروم وافتتحها بالسيف. وفيها غزا أسد بن عبد الله القسري متولي خراسان بلاد سجستان، فانكسر المسلمون واستشهد طائفة ورجع الجيش مجهودين «2» . وفيها كان بالشأم طاعون شديد فخاف الناس كثيراً. وفيها غزا أسد بن عبد الله القسري جبال الطالقان والغور، وكان أهلها خرجوا بأموالهم وأهلهم إلى كهف عظيم في جبل [شاهق «3» ] شامخ ليس فيه طريق مسلوك، فعمل أسد توابيت وربطها بالسلاسل ودلاها عليهم، فظفر بهم وعاد سالماً غانماً، فنزل بلخ وبنى مدينتها وولاها برمك أبا خالد البرمكي ونقل إليها الجند والأمراء. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الروم مما يلي الجزيرة ففتح قيسارية وهي مدينة مشهورة. وفيها غزا معاوية بن هشام الخليفة ومعه أهل الشأم وصحبته ميمون بن مهران فقطعوا البحر إلى قبرس. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. وفيها توفّى موسى بن محمد(1/261)
ابن علي بن عبد الله بن عباس ببلاد الروم غازياً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، قاله ابن الأثير؛ والأصح أنه مات في القابلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وإصبعان.
*** السنة الثالثة من ولاية الحر بن يوسف على مصر وهي سنة ثمان ومائة- في ذي الحجة منها حكم بمصر حفص بن الوليد. وفيها غزا ولد الحليفة معاوية بن هشام أرض الروم وجهز بين يديه الأبطال «1» الى حنجر «2» فافتتحها. وفيها غزا أخو الخليفة مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم فافتتح قيسارية «3» . وفيها وقع حريق عظيم بدابق، احترقت المواشي والدواب والرجال. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي.
وفيها توفي موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبو عيسى الهاشمي وهو أخو السفاح والمنصور لأبيهما وأخو إبراهيم لأمه وأبيه، مات في حياة أبيه محمد غازياً في بلاد الروم وله ثمان عشرة سنة. وفيها توفي نصيب بن رباح أبو محجن الشاعر المشهور مولى عبد العزيز بن مروان، وأمه نوبية فجاءت به أسود فباعه عمه وكان من العرب من بنى الحاف بن قضاعة، وقيل: إنه هرب فدخل على عبد العزيز ومدحه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أنا عبد «4» ، فقال عبد العزيز للمقومين: قوموه، فقالوا: عبد أسود ليس له قيمة، قيمته مائة دينار، قال أبو محجن عن نفسه:
إنه راعي إبل يحسن القيام عليها، قالوا: مائتا دينار، قال: إنه يبري النّبل ويريشها، قالوا: ثلثمائة دينار، قال: إنه يرمي ويصيب، قالوا: أربعمائة دينار،(1/262)
قال: إنه راوية الأشعار، قالوا: خمسمائة دينار، قال: أصلح الله الأمير، أين جائزتي؟ فأعطاه ألف دينار، فاشترى أمه وأهله وأعتقهم. وذكره محمد بن سلام في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام. وفيها توفي عطاء بن يسار أبو محمد المدني الفقيه، مولى «1» ميمونة أم المؤمنين؛ وعطاء أخو سليمان وعبد الله وعبد الملك، وكان قاصاً «2» واعظاً ثقةً جليل القدر، وقال الذهبي: إنه مات في الماضية. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام المقدم ذكره. وفيها توفي عكرمة البربري ثم المدني أبو عبد الله مولى ابن عباس أحد العلماء الربانيين، روى عن ابن عباس وعائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهم؛ قال الهيثم بن عدي وغيره: مات سنة ست ومائة.
وقال أبو نعيم وأبو بكر بن أبي شيبة وجماعة: سنة سبع ومائة؛ وقال يحيى بن معين والمدائني: سنة خمس عشرة ومائة، وقال غيرهم: في هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
ذكر ولاية حفص بن الوليد الأولى على مصر
هو حفص بن الوليد بن سيف «3» بن عبد الله بن الحارث بن جبل بن كليب ابن عوف بن معاهر «4» بن عمرو بن زيد بن مالك بن زيد بن الحارث بن عمرو بن حجر ابن قيس بن كعب بن سهل بن زيد بن حضرموت، الأمير أبو بكر الحضرمي القاري أمير مصر، وليها بعد عزل الحر بن يوسف من قبل هشام بن عبد الملك على الصلاة مكرهاً على ذلك. وكان حفص وجيهاً عند بني أمية ومن أكابر أمرائهم، وكان(1/263)
فاضلاً ثقة، روى عن الزهري وغيره، وروى عنه الليث بن سعد وجماعة أخر، ولم تطل مدته على ولاية مصر في هذه المرة وعزل بعد جمعتين يوم عيد الأضحى وقيل آخر ذي الحجة سنة ثمان ومائة.
قلت: وعلى القولين لم تطل ولايته بل ولا وصلت إلى أربعين يوماً، وكان سبب عزله عن إمرة مصر بسرعة شكوى عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر عليه للخليفة هشام بن عبد الملك، وشكوى جماعة أخر من أوباش المصريين، فعزله هشام عن مصر بعبد الملك بن رفاعة، ثم ندم أهل مصر على عزله وطلبوا منه إعادته عليهم، يأتي ذكر ذلك كله في ولايته الثانية على مصر فإنه وليها بعد ذلك ثانياً وثالثاً حتى قتله الحوثرة في سنة ثمان وعشرين ومائة. وكان حفص شريفاً مطاعاً محبباً للناس ولديه معرفة وفضيلة، واستقدمه هشام بعد عزله عن مصر وأراد أن يوليه خراسان عوضاً عن أسد بن عبد الله القسري، فامتنع حفص من ذلك. وكان سبب عزل أسد عن خراسان أنه خطبهم يوماً فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد، اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني؛ فبلغ قوله هشاماً، فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري: اعزل أخاك، فعزله. وأراد هشام أن يولي حفصاً فامتنع، فولى خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، ثم عزله هشام واستعمل عليها أشرس بن عبد الله وأمره أن يكاتب خالدا، وكان الأشرس فاضلا خيرا، كان يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا.
وقد خرجنا عن المقصود استطرادا.
ذكر ولاية عبد الملك بن رفاعة الثانية على مصر
قلت: تقدم التعريف بعبد الملك هذا في أول ولايته على مصر بعد موت قرّة ابن شريك سنة ست وتسعين. وكانت ولاية عبد الملك أيضاً على الصلاة لا غير،(1/264)
والخراج عليه عبيد الله بن الحبحاب على عادته، فقدم عبد الملك المذكور من الشأم إلى مصر عليلاً في أول المحرم، وقيل: اثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة تسع ومائة [والأول أصح] «1» وكان أخوه الوليد بن رفاعة يخلفه على الصلاة بمصر من أول المحرم السنة المذكورة (أعني من أول يوم ولايته) ، فلما دخل عبد الملك إلى مصر لم يطق الصلاة بالناس لشدة «2» مرضه، فاستمر أخوه الوليد بن رفاعة يصلي بالناس وعبد الملك ملازم الفراش إلى أن توفي نصف المحرم من السنة المذكورة، فكانت ولايته هذه الثانية على مصر خمس عشرة ليلة على أنه دخل مصر في أول المحرم؛ وتولى مصر بعده أخوه الوليد بن رفاعة.
ذكر ولاية الوليد بن رفاعة على مصر
هو الوليد بن رفاعة بن خالد بن ثابت [بن ظاعن «3» ] الفهمي المصري أمير مصر، وليها باستخلاف أخيه عبد الملك إليه فأقره الخليفة هشام بن عبد الملك على إمرة مصر وعلى الصلاة. وجعل الوليد هذا على شرطة مصر عبد الله بن [أبي «4» ] سمير الفهمي ثم عزله وولى خالد بن عبد الرحمن الفهمي؛ واستمر على إمرة مصر وطالت أيامه ووقع له بها أمور ووقعت في أيامه حوادث. وفي أيامه نقلت قيس إلى مصر ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك. وفي أيامه أيضاً خرج وهيب اليحصبي من مصر في سنة سبع عشرة ومائة من أجل أن الوليد هذا أذن للنصارى في عمارة كنيسة يوحنا «5» بالحمراء، فلم يكن بعد أيام قليلة إلا ومرض الوليد ولزم الفراش حتى مات في يوم الثلاثاء في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع عشرة ومائة، واستخلف عبد الرحمن بن خالد على الصلاة(1/265)
بمصر، وكانت إمرته على مصر تسع سنين وخمسة أشهر، وولي مصر بعده عبد الرحمن ابن خالد المذكور. ولم تطل مدة الوليد هذا على مصر إلا لخروج عبيد الله بن الحبحاب المتولي على خراج مصر منها، وقد تقدم عزل جماعة كبيرة من العمال بمصر بسبب عبيد الله المذكور، فدبر عليه الوليد هذا حتى أخرجه هشام من مصر واستعمله على إفريقية، فسار إليها عبيد الله بن الحبحاب واشتغل بها عن خراج مصر، فإنه في أول خروجه سير جيشاً إلى صقلية، «1» فلقيهم مراكب الروم فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم الروم، وكانوا قد أسروا جماعةً من المسلمين فيهم عبد الله بن زياد فبقي أسيراً إلى سنة إحدى وعشرين ومائة، ثم استعمل عبيد الله بن الحبحاب عقبة بن الحجاج العبسي على الأندلس فسار إليها وملكها، ثم سير عبيد الله جيشاً إلى السوس «2» وأرض السودان فغنموا وظفروا وعادوا. ولما خرج عبيد الله بن الحبحاب من مصر جمع له الخليفة خراج مصر وصلاتها وعظم أمره ومهد البلاد وساس الناس ومالت إليه الرعية، ثم عزل عن الخراج أيضاً واستقل بصلاة مصر على عادته أولاً إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره.
*** السنة التي حكم في محرمها عبد الملك بن رفاعة على مصر ثم في باقيها الوليد بن رفاعة وهي سنة تسع ومائة- فيها غزا أسد بن عبد الله القسري الترك فهزم خاقان وافتتح قزوين «3» . وفيها غزا معاوية ابن الخليفة أمير المؤمنين هشام بن(1/266)
عبد الملك الروم وفتح حصناً يقال له: الطينة «1» . وفيها توفي لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري في قول الفلاس وهو أبو مجلز المقدم ذكره، وهو من الطبقة الثانية، وكان بمرو لما قتل قتيبة بن مسلم، فولاه أهل مرو أمرهم حتى قدم وكيع ابن أبي سود «2» ، وكان لاحق هذا يركب مع قتيبة في موكبه فيسبح الله اثنتي عشرة ألف تسبيحة يعدها على أصابعه لا يعلم به أحد. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام وهو عامل مكة والمدينة والطائف، وخطب الناس وقال: سلونى فإنكم لا تسألون أحداً أعلم مني؛ فسأله رجل من أهل العراق [عن] «3» الأضحيّة [أ] «4» واجبة هي؟ فما درى ولا أجاب ونزل ولم يتكلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعاً مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة عشر ومائة- فيها غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الخزر، وتسمى هذه الغزوة غزوة الطين، والتقى مسلمة مع ملك الخزر واقتتلوا أياماً وكانت ملحمة عظيمة هزم الله فيها الكفار في سابع جمادى الآخرة. وفيها افتتح معاوية ابن الخليفة هشام بن عبد الملك حصنين كبيرين من أرض الروم. وفيها توفي الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد المعروف بالحسن البصري، كنيته أبو سعيد مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى حميد بن قحطبة.
وكان الحسن إمام أهل البصرة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة؛ قال(1/267)
الذهبي: بل كان إمام أهل العصر، ولد بالمدينة سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وكانت أمه مولاةً لأم سلمة أم المؤمنين، فكانت تذهب أمه لأم سلمة في الحاجة فتشاغله أم سلمة بثديها فربما در عليه. قال: وقد سمع من عثمان وهو يخطب وشهد يوم الدار «1» ، ورأى طلحة وعلياً، وروى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بكرة والنعمان بن بشير وخلق كثير من الصحابة وغيرهم؛ ومناقب الحسن كثيرة ومحاسنه غزيرة وعلومه مشهورة. وفيها توفي محمد بن سيرين أبو بكر الأنصاري البصري الإمام الرباني، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، مولى أنس بن مالك، وهو صاحب التعبير، وكان أبوه سيرين من سبي جرجرايا «2» فكاتب أنساً على مال جزيل فوفاه له؛ ومولده لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه. وفيها جمع خالد القسري الصلاة والأحداث والشرطة والقضاء بالبصرة لبلال ابن أبي بردة وعزل ثمامة عن القضاء. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام. وفيها توفي الفرزدق مقدم شعراء عصره، وكنيته أبو فراس، واسمه همّام بن غالب بن صعصعة ابن ناجية التميمي البصري، روى عن علي بن أبي طالب وغيره، وكان يرسل «3» ، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة، وكان يقال: الفرزدق أشعر الناس عامة وجرير أشعر الناس خاصة.
قال محمد بن سلام: أتى الفرزدق إلى الحسن البصري فقال: إني قد هجوت إبليس فاسمع، قال: لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن فلأقولن للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس، قال: فاسكت فإنك عن لسانه تنطق.
وللفرزدق هذا مع زوجته النّوار حكايات ظريفة. ومن شعره:(1/268)
إن المهالبة الكرام تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه
زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه
وفيها توفى جرير [بن] الخطفي، وهو جرير بن عطية بن حذيفة «1» بن بدر بن سلمة أبو حزرة التميمي البصري الشاعر المشهور، هو من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام، مدح يزيد بن معاوية ومن بعده من الأمويين.
قال محمد بن سلام: ذاكرت مروان بن أبي حفصة فقال:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما ... حلو القريض ومره لجرير
وعن هشام بن الكلبي عن أبيه: أن أعرابياً مدح عبد الملك بن مروان فأحسن فقال له عبد الملك: [هل] تعرف أهجى بيتٍ في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قال: أصبت، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
قال: أحسنت؛ فهل تعرف جريراً؟ قال: لا والله؟ وإني إلى رؤيته لمشتاق، قال: فهذا جرير وهذا الأخطل وهذا الفرزدق، فأنشأ الأعرابي يقول:
فحيا الإله أبا حزرةٍ ... وأرغم أنفك يا أخطل
وجد الفرزدق أتعس به ... ودقّ خياشيمه الجندل
فأنشأ الفرزدق يقول:
بل أرغم الله أنفا أنت حامله ... ياذا الخنا ومقال الزور والخطل(1/269)
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
فغضب جرير وقال أبياتاً، ثم وثب وقبل رأس الأعرابي وقال: يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت كل سنة خمسة عشر ألفاً، فقال له عبد الملك: وله مثلها مني.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة إحدى عشرة ومائة- فيها عزل الخليفة هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله السّلمىّ عن خراسان وولاها الجنيد بن عبد «1» الرحمن المرّىّ، وسبب عزل أشرس لما فعله بالمدينة وكيف انتقضت عليه السّغد، وتخلف أهل بخارا واستجاشوا عليه بخاقان ملك الترك، وفتح على المسلمين باباً واسعاً ذهبت فيه الأموال وضعفت العساكر من سوء تدبيره.
وفيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام الصائفة ووغل في بلاد الروم، وغزا أيضاً أخوه سعيد بن هشام فوصل إلى قيسارية. وفيها ولى هشام الجراح بن عبد الله الحكمي على أرمينية. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام. وفيها توفي يزيد بن عبد الله بن الشّخّير أبو العلاء من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وكان من كلامه يقول: لأن أعافى فأشكر، أحبّ إلىّ من أن أبتلى فأصبر. وفيها غزا في البحر عبد الله بن أبي مريم. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان فلقيهم الحارث بن عمرو فهزمهم بعد قتال كثير واستباح عسكرهم. وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل إفريقيّة عثمان ابن أبي نسعة عن الأندلس واستعمل عليها الهيثم بن عبد الله «2» الكناني.(1/270)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.
*** السنة الرابعة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة اثنتا عشرة ومائة- فيها زحف الجراح بن عبد الله الحكمي بالمسلمين من برذعة «1» إلى ابن خاقان ليدفعه عن أردبيل «2» ، فالتقى الجمعان وعظم القتال واشتد البلاء وانكسر المسلمون وقتل منهم خلق، منهم أمير الجيش الجراح بن عبد الله الحكمي المذكور، وكان أحد الأبطال، وغلبت الخزر على أذربيجان وحصل وهن عظيم على الإسلام. وفيها توفي رجاء بن حيوة أبو المقدام الكندي الأزدي، كان ثقةً فاضلاً كثير الحديث وكان سيد أهل زمانه؛ قال ابن عون: ثلاثة لم أر مثلهم كأنهم التقوا فتواصوا: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشأم. وكان رجاء عظيما عند بنى أميّة لا سيما عند عمر بن عبد العزيز، كان إذا قدمت لعمر بن عبد العزيز حلل يعزل منها حلة ويقول: هذه لخليلي رجاء بن حيوة. وفيها توفي شهر بن حوشب أبو عبد الله الأشعري وقيل أبو الجعد «3» ، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشأم، قرأ القرآن على عبد الله بن عباس سبع مرات. وفيها توفي طلحة بن مصرف بن عمرو أبو عبد الله وقيل أبو محمد، الكوفي الهمداني، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة، كان قارئ أهل الكوفة يقرءون عليه، فلما كثروا عليه كأنه كره ذلك، فمشى إلى الأعمش وقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوه. وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة(1/271)
فافتتح مدينة خرشنة «1» . وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي، وقيل: سليمان بن هشام بن عبد الملك، أعني ابن الخليفة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سنة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً.
*** السنة الخامسة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهى سنة ثلاث عشرة ومائة- فيها غزا الجنيد المري ناحية طخارستان، فجاشت الترك بسمرقند فالتقاهم الجنيد بقرب سمرقند فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكتب الجنيد من البحر إلى سورة الدّارمىّ، بنجدة على سمرقند، فخرج سورة في جنده، فلقيته الترك على غرة فقتلته، فعاد الجنيد أيضاً لقتال الترك بعد قتل سورة ثانياً وقاتلهم حتى هزمهم ودخل سمرقند.
وفيها توفي مكحول الشامي أبو عبد الله، من الطبقة الثانية «2» من تابعي أهل الشأم، قال: كنت مولى لعمرو بن سعيد بن العاص فوهبني لرجل من هذيل، فأنعم علي بها، فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا سمعته، ثم أتيت المدينة، وقال كما قال أوّلا، ثم أتيت الشعبي ولم أر مثله. وفيها حج بالناس الخليفة هشام بن عبد الملك. وفيها دخل جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان فأخذهم الجنيد ومثل بهم وقتلهم. وفيها توفي أبو محمد «3» البطال وقيل: أبو يحيى «4» ، واسمه عبد الله، أحد الموصوفين بالشجاعة والإقدام، ومن سارت بذكره الركبان، كان أحد أمراء(1/272)
بني أمية، وكان على طلائع مسلمة بن عبد الملك بن مروان في غزواته، وكان ينزل بأنطاكية، شهد عدة حروب وأوطأ الروم خوفاً وذلاً.
قلت: والعامة تكذب على أبي محمد هذا بأقوال كثيرة، ويسمونه البطال، في سير كثيرة لا صحة لها. وفيها حج بالناس سليمان بن [هشام «1» بن] عبد الملك وقيل إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. وفيها توفي حرام بن سعد بن محيصة أبو سعيد، وعمره سبعون سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً سواء.
*** السنة السادسة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة أربع عشرة ومائة- فيها عزل الخليفة هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك عن إمرة أذربيجان والجزيرة بابن عمه مروان بن محمد المعروف بالحمار آخر خلفاء بني أمية الأتي ذكره، فسار مروان بن محمد المذكور بجيشه حتى جاوز الروم فقتل وسبى من الترك. وفيها غزا الجنيد بلاد الصّغانيان «2» من الترك فرجع ولم يلق كيداً. وفيها ولي إمرة المغرب عبيد الله بن الحبحاب السكوني «3» صاحب خراج مصر، فتوجه إليها وبقي عليها تسع سنين.
وفيها توفي عطاء بن أبي رباح المكي أبو محمد بن أسلم «4» مولى قريش أحد أعلام التابعين، ولد في خلافة عثمان، وسمع من كبار الصحابة. وفيها توفي محمد الباقر، وكنيته أبو جعفر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي العلوي(1/273)
سيد بني هاشم في زمانه، روى عن ابن عباس وغيره، وهو أحد [الأئمة «1» ] الاثني عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم، مولده في سنة ست وخمسين. ولمحمد هذا إخوة أربعة «2» ، وهم: زيد الذي صلب، وعمر، وحسين «3» ، وعبد الله، الجميع بنو زين العابدين، رضي الله عنهم. وفيها عزل الخليفة هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام عن إمرة المدينة وولاها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص؛ وإبراهيم المعزول هو خال الخليفة هشام بن عبد الملك. وفيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام ابن عبد الملك الصائفة اليسرى فأصاب شيئاً كثيراً، وأن عبد الله البطال التقى هو وقسطنطين في جمع فهزمهم البطال وأسر قسطنطين. وفيها غزا سليمان ابن الخليفة هشام الصائفةٍ اليمنى فبلغ قيساريّة. وفي هذه «4» السنة عزل هشام إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي عن إمرة المدينة واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث ابن الحكم في ربيع الأول، وكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثمان سنين، وعزل إبراهيم أيضاً عن مكة وعن الطائف، واستعمل عليها محمد بن هشام المخزومىّ. وفيها وقع الطاعون بواسط.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.
*** السنة السابعة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة خمس عشرة ومائة- فيها خرج الحارث بن سريج «5» عن طاعة الخليفة وتغلب على مرو وجوزجان «6» ،(1/274)
فسار إليه أسد بن عبد الله القسري، فالتقوا فآنهزم الحارث، وأسر أسد عدة من أصحاب الحارث وبدع فيهم. وفيها وقع بخراسان قحط شديد ومجاعة عظيمة. وفيها توفي عمرو بن مروان بن الحكم الأمير أبو حفص، وأمه زينب بنت عمر بن أبي سلمة المخزومىّ؛ كان عمرو من خيار بني أمية، ولم يكن بمصر في أيام بني أمية أفضل منه. وفيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام أرض الروم وافتتح حصوناً. وفيها وقع الطاعون بالشأم. وفيها حج بالناس محمد بن هشام المخزومىّ، وكان الأمير بخراسان الجنيد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثامنة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة ست عشرة ومائة- فيها بعث عبيد الله بن الحبحاب أمير إفريقية ببلاد المغرب جيشاً إلى بلاد السودان فغنموا وسبوا. وفيها غزا المسلمون في البحر مما يلي صقلية فأصيبوا. وفيها تزوج الجنيد فاضلة بنت المهلب بن أبي صفرة، وبلغ [ذلك] الخليفة هشاماً فغضب وعزل الجنيد عن خراسان وولاها عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، وقال له: إن أدركته حياً فأزهق نفسه، فقدم عاصم خراسان وقد مات الجنيد، وكان بالجنيد مرض البطن. وفيها توفيت حفصة بنت سيرين أخت محمد بن سيرين؛ وكانت زاهدةً عابدة، قرأت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة وماتت وهي بنت تسعين سنة. وفيها توفي نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو من الطبقة الثالثة من التابعين، وكان عبد الله بن جعفر أعطى ابن عمر فيه اثني عشر ألف درهم فأبى وأعتقه، وكان نافع عند عبد الله بن عمر كبعض ولده، وكان نافع ثقة كثير الحديث. وفيها غزا(1/275)
معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم الصائفة. وفيها كان الطاعون بالعراق وكان أشده بمدينة واسط وسواحلها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً ونصف إصبع.
*** السنة التاسعة من ولاية الوليد بن رفاعة على مصر وهي سنة سبع عشرة ومائة- فيها جاشت الترك بخراسان، ومعهم الحارث بن سريج الخارجي، وعليهم الخاقان الكبير، فعاثوا وأفسدوا ووصلوا إلى بلد مرو الروذ، فسار إليهم أسد القسرىّ فالتقاهم وقاتلهم حتى هزمهم، وكانت وقعة هائلة قتل فيها من الترك خلائق. وفيها افتتح مروان بن محمد المعروف بالحمار متولي أذربيجان ثلاثة حصون، وأسر تومانشاه «1» وبعث به إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فمن عليه وأعاده إلى مملكته.
وفيها غزا عبيد الله بن الحبحاب أمير إفريقية عدة بلاد من المغرب فغنم وسلم.
وفيها توفيت سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، واسمها آمنة، وأمّها الرّباب بنت امرئ القيس بن عدي، وكانت من أجمل نساء عصرها. وفيها توفي عبد الرحمن بن هرمز الأعرج مولى محمد بن ربيعة، وكنيته أبو داود، من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة. وذكر الذهبي في هذه السنة وفاة جماعة أخر، قال:
وتوفي سعيد بن يسار، وقد ذكره عبد الله بن أبي زكريا الخزاعىّ، وتوفى شريح ابن صفوان بمصر، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وعائشة بنت سعد، وعمر ابن الحكم بن ثوبان، وفاطمة بنت علي بن أبي طالب، وقتادة بن دعامة المفسر(1/276)
وقيل بعدها، ومحمد بن كعب القرظي في قول الواقدي، وتوفي موسى بن وردان القاضي بمصر، وميمون بن مهران أو فى عام أول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً ونصف إصبع.
ذكر ولاية عبد الرحمن بن خالد على مصر
هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، الأمير أبو خالد، وقيل أبو الوليد، الفهمي المصري، أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، وكان استخلفه الوليد بن رفاعة قبل موته على صلاة مصر، وكان قبل ذلك أيضاً ولي شرطتها مدة سنين، فلما مات الوليد بن رفاعة أقره الخليفة هشام على إمرة مصر عوضاً عن الوليد بن رفاعة على الصلاة، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة سبع عشرة ومائة، ولما تم أمره جعل على شرطته عبد الله بن بشار الفهمي. وكان في عبد الرحمن هذا لين.
وفي ولايته على مصر نزلت الروم بنواحى مصر وأسروا منها خاتما كثيراً، فلما بلغ هشاماً ذلك عزله عن إمرة مصر وأعاد حنظلة بن صفوان ثانياً على مصر، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائة، فكانت مدة ولايته على مصر سبعة أشهر وخمسة أيام.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في كتابه «تذهيب التهذيب» بعد ما قال أمير مصر لهشام: والليث بن سعد أحد مواليه، قال: روى عن الزهري وروى عنه الليث بن سعد ويحيى بن أيوب. قال ابن معين: كان عنده عن الزهرىّ كتاب فيه مائتا حديث أو ثلثمائة حديث كان الليث يحدث بها عنه. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن يونس: ولي مصر سنة ثمان عشرة ومائة وعزل سنة تسع عشرة ومائة. قلت:
والذي ذكرناه في تاريخ ولايته وعزله هو الأشهر. قال: وكان ثبتاً في الحديث، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. اهـ.(1/277)
وقيل: إن سبب عزله عن مصر أن دعاة بني العباس أرسلوا إليه سراً، فأكرمهم ووعدهم، فبلغ ذلك هشاماً فعزله. وكان من أمر دعاة بني العباس أنه وجه بكير ابن ماهان عمار بن زيد «1» إلى خراسان والياً عليها على شيعة بني العباس، فنزل مرو وغير اسمه وتسمى بخداش ودعا الناس إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فتسارع الناس إليه وأطاعوه، ثم غير ما دعاهم إليه وأظهر دين الخرمية «2» ورخص لبعضهم في نساء بعض، وقال: إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يضام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة: الدعاء له، والحج: القصد إليه؛ وكان يتأول من القرآن قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
، فنفر من كان أطاعه عنه.
وكان خداش المذكور نصرانياً بالكوفة وأسلم ولحق بخراسان، وكان ممّن اتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم الأعجمي وغيرهما وأخبرهم أن محمد بن علي أمره بذلك، فبلغ خبره أسد بن عبد الله القسري فظفر به، فأغلظ القول لأسد فقطع لسانه وسمل عينيه بعد أن سأله عمن وافقه، فذكر جماعةً، منهم أمير مصر عبد الرحمن هذا، وليس ذلك بصحيح، ثم أمر أسد بيحيى بن نعيم الشّيبانىّ فصلب، ثم أتى أسد بحزوّر «3» مولى المهاجر بن دارة الضّبىّ فضرب عتقه بشاطئ النهر.(1/278)
*** ذكر السنة التي حكم في أولها عبد الرحمن بن خالد ثم في باقيها حنظلة بن صفوان وهي سنة ثمان عشرة ومائة- فيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام أرض الروم وقتل وسبى.
وفيها غزا مروان الحمار ناحية ورتنيس «1» وظفر بملكهم وقتل وسبى. وفيها حج بالناس محمد ابن هشام بن إسماعيل وهو أمير المدينة، وقيل: كان هذه السنة على المدينة خالد بن عبد الملك. وفيها توفي علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب أبو محمد الهاشمي المدني العباسي المعروف بالسجاد، كان يصلي كل يوم ألف ركعة، وهو والد الخلفاء العباسية، وكانت كنيته أبا الحسن، فكناه عبد الملك بن مروان أبا محمد، وقال:
لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعاً. وكان لعلي هذا أولاد كثيرة وهم: محمد والد الخلفاء، وعيسى وداود وسليمان وإسماعيل وعبد الصمد وصالح وعبد الله. وولد علي هذا في أيام قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسمي باسمه. وفيها توفي عبد الله ابن عامر بن يزيد بن تميم أبو عمران اليحصبىّ مقرئ أهل الشأم، قيل: إنه قرأ القرآن على أبي الدرداء وتولى قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني، ومات يوم عاشوراء وله سبع وتسعون سنة. وفيها عزل الخليفة هشام بن عبد الملك خالد ابن عبد الله القسري عن المدينة واستعمل عليها محمد بن هشام. وفيها توفي ثابت بن أسلم البناني، وبنانة اسم امرأة كانت تحت سعد بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو من الطبقة الثالثة (أعني ثابتاً) من أهل البصرة؛ وكان ثابت من أعبد أهل زمانه، وبه يضرب المثل في العبادة.(1/279)
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن لكل شيء مفتاحاً وإن ثابتاً من مفاتيح الخير» وكانت عيناه تشبه عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له أنس ابن مالك: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فما زال يبكي حتى عمشت.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر، قال: وتوفي في هذه السنة أبو صخرة جامع ابن شداد، وحكيم بن عبد الله بن قيس، وأبو عشانة حي بن يؤمن المعافري، وعبادة بن نسي الكندي، وعبد الله بن عامر مقرئ الشأم.
قلت: هو الذي ذكرناه آنفاً. قال: وعبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن سابط الجمحي (بضم الجيم نسبة لبني جمح) وعثمان بن عبد الله بن سراقة المدني، وعلي بن عبد الله بن العباس الهاشمي. قلت: وقد تقدم ذكره في غير هذه السنة. قال: ومعاذ بن عبد الله الجهني، ومعبد بن خالد الجدلي الكوفي، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر في قول ابن معين. قلت: وقد تقدم ذكره في غير هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية حنظلة بن صفوان الثانية على مصر
قلت: تقدم التعريف به في ولايته الأولى على مصر في سنة اثنتين ومائة، وكان سبب ولايته هذه على مصر ثانياً أنه لما ضعف أمر عبد الرحمن بن خالد أمير مصر المقدم ذكره شكا منه أهل مصر إلى هشام بن عبد الملك، وكان شكواهم من لينه لا لسوء سيرته، فعزله الخليفة هشام لهذا المقتضى وغيره وولى حنظلة(1/280)
ابن صفوان هذا ثانياً على إمرة مصر على صلاتها، فقدمها حنظلة في خامس المحرم سنة تسع عشرة ومائة، وتم أمره ورتب أمور الديار المصرية ودام بها إلى سنة إحدى وعشرين ومائة، [و] فيها انتقض عليه قبط مصر، فحاربهم حنظلة المذكور حتى هزمهم، ثم في سنة اثنتين وعشرين ومائة قدم عليه بمصر رأس زيد بن علي زين العابدين فأمر حنظلة بتعليقها وطيف بها؛ ثم استمر على إمرة مصر إلى أن عزله عنها الخليفة هشام بن عبد الملك وولاه إفريقية، فاستخلف حنظلة على صلاة مصر حفص بن الوليد الحضرمىّ المعزول عن إمرة مصر قبل تاريخه، وخرج حنظلة من مصر لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة، فكانت ولايته على مصر في هذه المرة الثانية خمس سنين وثمانية أشهر.
وذكر صاحب كتاب «البغية والاغتباط، فيمن ولي الفسطاط» قال بعد ما سماه: ولي ثانياً من قبل هشام على الصلاة، فقدم يوم الجمعة لخمس خلون من المحرم سنة تسع عشرة ومائة، وجعل على شرطته عياض بن خترمة «1» بن سعد الكلبي. ثم ذكر نحواً مما ذكرناه من عزله وخروجه إلى إفريقية. ولما ولي حنظلة إفريقية أمره الخليفة هشام بتولية أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي إمرة الأندلس، فولاه في شهر رجب. وكان أبو الخطار لما تتابع ولاة الأندلس من قيس قال شعراً وعرض فيه بيوم مرج «2» راهط، وما كان من بلاء كلب فيه مع مروان بن الحكم، وقيام القيسية مع الضحاك بن قيس الفهري على مروان، فلما بلغ شعره هشام ابن عبد الملك سأل عنه فأعلم أنه رجل من كلب، فأمر هشام بن عبد الملك حنظلة أن يولي أبا الخطار الأندلس فولاه وسيّره اليها، فدخل قرطبة فرأى ثعلبة(1/281)
ابن سلامة «1» أميرها قد أحضر الألف الأسارى من البربر ليقتلهم، فلما دخل أبو الخطار دفع الأسارى إليه، فكانت ولايته سبباً لحياتهم. ومهد أبو الخطار بلاد الأندلس.
وفي ولايته خرج عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع بالأندلس، فأرسل إليه حنظلة رسالة يدعوه إلى مراجعة الطاعة فقبضهم «2» وأخذهم معه إلى القيروان «3» ، وقال: إن رمي أحد من أهل القيروان بحجر قتلت من عندي أجمعين فلم يقاتله أحد، واستفحل أمره. وكان حنظلة لا يرى القتال إلا لكافر أو خارجي.
فلما قوي أمر عبد الرحمن خرج حنظلة إلى الشأم ودعا على عبد الرحمن وأهل إفريقية فاستجيب له، فوقع الوباء والطاعون ببلادهم سبع سنين لم يفارقهم إلا في أوقات متفرقة، وثار على عبد الرحمن هذا جماعة من العرب والبربر ثم قتل بعد ذلك. هذا بعد أن وقع له مع أبي الخطار حروب ووقائع. وكان ممن خرج على عبد الرحمن عروة بن الوليد الصدفي واستولى على تونس، وثابت الصنهاجي بناحية أخرى، وأما حنظلة فإنه أستمر بالشأم إلى «4» أن مات.
السنة الأولى من ولاية حنظلة الثانية على مصر وهي سنة تسع عشرة ومائة- فيها حج بالناس مسلمة بن عبد الملك أخو الخليفة هشام. وفيها غزا مروان بن محمد المعروف بالحمار غزوة السابحة «5» فدخل بجيشه من باب اللان، فلم يزل حتى خرج من بلاد الخزر، ثم انتهى إلى البيضاء مدينة الخاقان. وفيها جهز عبيد الله بن الحبحاب(1/282)
أمير إفريقية جيشاً، عليهم قثم بن عوانة، فأخذوا قلعة سردانية من بلاد المغرب ورجعوا، فغرق قثم بن عوانة وجماعته في البحر. وفيها توفّى عبد الله بن كثير مقرئ أهل مكة أبو معبد مولى عمرو بن علقمة الكناني، أصله فارسي، ويقال له: الداري (والداري: العطار، نسبة إلى عطر دارين) ، وقال البخاري: هو مولى قريش من بني عبد الدار، وقال أبو بكر بن أبي داود: الدار: بطن من لخم، منهم تميم الداري، قرأ القرآن على مجاهد وغيره، وقيل: إن وفاته سنة عشرين، وهو الأصح.
وفيها قصد خاقان أسد بن عبد الله القسري بجموع الترك، فالتقاهم أسد بن عبد الله وواقعهم فقتل خاقان وأصحابه، وغنم أسد أموالاً عظيمة وفتح بلاداً لم يصل إليها غيره. وفيها خرج المغيرة بن سعيد بالكوفة، وكان ساحراً متشيعاً، فحكى عنه الأعمش أنه كان يقول: لو أراد علي بن أبي «1» طالب أن يحيي عاداً وثموداً «2» وقروناً بين ذلك كثيراً لفعل. وبلغ خالد بن عبد الله القسري خبره، فأرسل إليه فجيء به وأمر خالد بالنار والنفط وأحرقه ومن كان معه. وفيها غزا أسد بن عبد الله الختل «3» وقتل ملكها بدير «4» طرخان. وفيها توفي حبيب بن محمد العجمي، ويعرف بالفارسي، البصري، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل البصرة، وهو أحد الزهاد الذي يضرب بزهده المثل. وفيها حج بالناس مسلمة بن عبد الملك.
وأما الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة فهم جماعة كثيرة، قال: وتوفي إياس بن سلمة بن الأكوع، وحبيب بن أبي ثابت في قولٍ، وحماد بن أبي سليمان(1/283)
الفقيه في قولٍ، وسليمان بن موسى الفقيه بدمشق، وقيس بن سعد الفقيه بمكة، ومعاوية بن هشام الأمير بأرض الروم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وستة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة عشرين ومائة- فيها عزل خالد بن عبد الله القسري عن إمرة العراق بيوسف بن عمر الثقفي، وكانت مدة ولاية خالد على العراق أربع عشرة سنة، فلما استخلف الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بعد موت عمه هشام بن عبد الملك بعث بخالد إلى يوسف هذا فقتله. وفيها توفي أسد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر البجلي القسري، وهو أخو خالد بن عبد الله القسري المقدم ذكره أعلاه. وكان أسد هذا ولي خراسان مرتين، وغزا عدة غزوات وافتتح البلاد، وبنى مدينة بلخ، وتوفي قبل عزل أخيه خالد بن عبد الله القسري بيسير. وفيها توفي حماد بن أبي سليمان فقيه أهل الكوفة، وقد ذكر الذهبي وفاته في الخالية، وهو من الطبقة الثالثة من التابعين.
قيل لإبراهيم النخعي: من نسأل بعدك؟ قال: حماد بن أبي سليمان. وعنه أخذ أبو حنيفة العلم، وهو أول من حلق حلقة للاشتغال «1» . وفيها توفي سليمان بن ثابت الداراني الدمشقي المحاربي من الطبقة الثالثة من التابعين، كان يقال له: قاضي الخلفاء لأنه أقام قاضياً على دمشق ثلاثين سنة، قضى لتسعة من خلفاء بني أمية، وقيل لسبعة، وهو الأصح. وفيها توفي محمد بن واسع بن جابر أبو عبد الله الأزدي، من الطبقة(1/284)
الثالثة من تابعي أهل البصرة، كان لا يقدم عليه أحد في زمانه في العبادة والزهد والورع، كان يصوم الدهر ويخفيه. قيل: إنه دخل هو ومالك بن دينار إلى دار الحسن البصري فلم يجداه في الدار، فرأى محمد بن واسع طعاماً للحسن فأكل منه من غير إذن الحسن، وعزم على مالك فلم يوافقه مالك وقال: حتى يأذن لي صاحبه، وبينما هما في ذلك دخل الحسن البصري فأعجبه فعل محمد بن واسع وقال:
هكذا كنا نفعل مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئتنا يامويلك.
وذكر الذهبي جماعة أخر وفيهم من تكرر ذكره لاختلاف المؤرخين، قال:
وتوفي أنس بن سيرين على الصحيح، وأسد بن عبد الله القسري الأمير، والجلاح أبو «1» كثير القاضي، والجارود «2» الهذلي، وحماد بن أبي سليمان في قولٍ، وأبو معشر «3» زياد ابن كليب الكوفي، وعاصم بن عمر بن قتادة الظّفرىّ، وعبد «4» الله بن كثير مقرئ أهل مكة، وعبد الرحمن بن ثروان الأودي «5» ، وعدي بن عدي بن عميرة الكندي، وعلقمة بن مرثد الكوفي، وعلي بن مدرك النخعي الكوفي، وقيس بن مسلم الجدلي الكوفي، ومحمد بن إبراهيم التيمي المدني الفقيه في قول، ومحمد بن كعب القرظي في قولٍ، ومسلمة بن عبد الملك، وواصل الأحدب، ويزيد «6» بن رومان على الصحيح، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم على الصحيح.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبعان ونصف.(1/285)
*** السنة الثالثة من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة إحدى وعشرين ومائة- فيها غزا مروان الحمار من أرمينية إلى أن بلغ قلعة بيت السرير من بلاد الروم فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية فقتل أيضاً وأسر، ثم دخل الحصن الذي فيه سرير الملك فهرب منه الملك حتى صالحوا مروان في السنة على ألف رأس ومائة ألف مديٍ «1» ، ثم سار مروان في السنة حتى دخل أرض أرز «2» وبلاد بطران «3» فصالحوه ثم صالحه أهل بلاد تومان، ثم أتى حمزين «4» فقاتلهم ولازم الحصار عليهم شهرين حتى صالحوه، ثم افتتح مروان مسدار وغيرها. وذكر خليفة بن خياط أن أبا محمد البطال قتل فيها. وفيها غزا الصائفة مسلمة ابن الخليفة هشام بن عبد الملك فسار حتى أتى ملطية، ومات مسلمة هذا في دولة أبيه هشام. وفيها غزا نصر بن سيار ما وراء النهر وقتل ملك الترك كورصول، وكان كورصول المدكور ملكاً عظيماً غزا في المسلمين اثنتين وسبعين غزوة، ولما قبض عليه نصر أراد أن يفدي نفسه بألف جمل بختي وبألف برذون، فلم يقبل نصر وقتله. وفيها خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، ووقع له مع جيش الخليفة أمور وحروب وآل أمره إلى أن انكسر واختفى حتى ظفر به وقتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة. وفيها توفي الربيع بن أبي راشد أبو عبد الله الزاهد، من الطبقة الثالثة من تابعي(1/286)
أهل الكوفة، كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لخشيت أن يفسد علي قلبي. وفيها توفي عطاء السليمي، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل البصرة، وكان من التابعين المجتهدين، أقام أربعين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى ولم يضحك، ورفع رأسه مرة ففتق في بطنه فتق؛ وكان إذا أراد أن يتوضأ ارتعد وبكى، فقيل له: في ذلك، فقال: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم قبل أن أقوم بين يدي الله تعالى. وفيها توفي نمير بن أوس الأشعري قاضي دمشق، من الطبقة الرابعة من التابعين، ولاه الخليفة هشام القضاء ثم استعفاه فأعفاه. وفيها توفّى محارب ابن دثار السدوسي الشيباني أبو المطرف؛ من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة؛ قال: لما أكرهت على القضاء بكيت وبكى عيالي، فلما عزلت عن القضاء بكيت وبكى عيالي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعاً.
*** السنة الرابعة من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة اثنتين وعشرين ومائة- فيها خرج بالمغرب ميسرة الحقير وعبد الأعلى مولى «1» موسى بن نصير متعاضدين ومعهما خلائق [من الصفرية «2» ] ، فخرج لقتالهم متولي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب وقاتلهم واستظهر عليهم والي إفريقية، لكن قتل ابنه إسماعيل، ثم جهز لهم عبيد الله بن الحبحاب جيشاً ثانياً عليه أبو الأصم خالد، فقتل أبو الأصم المذكور(1/287)
في جماعة من الأشراف في آخر السنة، واستفحل أمر الصفرية وبايعوا الشيخ عبد الواحد بالخلافة، فلم يتم أمره وقتل بعد حروب كثيرة. وقتل في هذه الواقعة وغيرها في هذه السنة خلائق كثيرة. وكان عبيد الله بن الحبحاب قد جهز جيشاً آخر مع حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة الفهري إلى جزيرة صقلية فظفر حبيب المذكور ظفراً ما سمع بمثله، وسار حتى نزل على أكبر مدائن صقلية، وهي مدينة سرقوسة «1» ، وهابته النصارى وذلوا لإعطاء الجزية، ووقع بالمغرب في هذه السنة حروب مهولة متداولة. وفيها توفي شهيداً زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وصلب مدة طويلة، وقد تقدم ذكر واقعته في سنة إحدى وعشرين ومائة.
وفيها توفي إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني البصري، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل البصرة، وكنيته أبو واثلة، وكان قاضياً على البصرة، وكان سيداً فاضلاً ذكياً، له نوادر غريبة، كان يقول: أذكر ليلة ولدت وضعت أمي على رأسي جفنة.
قال إياس: قلت لأمي: ما شيء سمعته عند ولادتي يا أمي «2» ؟ فقالت: طست وقع من أعلى الدار ففزعت فولدتك في تلك الساعة. قلت: وعلى هذا يكون سماعه لذلك وهو في بطن أمه، فإنها لما سمعت الضجة ولدت من الفزع. فيكون سماع إياس لذلك قبل أن ينزل من بطن أمه. اهـ. وفيها توفي بلال بن سعد بن تميم السكوني «3» (بفتح السين المهملة) من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشأم، كان بالشأم مثل الحسن البصري في العراق، وكان إمام جامع دمشق، فكان إذا كبر سمع صوته من الأوزاع (قرية على باب الفراديس) ولم يكن البنيان يومئذ متصلاً؛ هكذا نقل أبو المظفر في تاريخه «مرآة الزمان» . وفيها توفي الأمير مسلمة ابن الخليفة عبد الملك(1/288)
ابن مروان أبو شاكر «1» ، وقيل: أبو سعيد وقيل: أبو الأصبع «2» ، كان شجاعاً صاحب همة وعزيمة، وله غزوات كثيرة من ولاية أبيه عبد الملك إلى هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.
*** السنة الخامسة من ولاية حنظلة بن صفوان على مصر وهي سنة ثلاث وعشرين ومائة- فيها كانت وقعة عظيمة بين البربر وبين كلثوم بن عياض، فقتل كلثوم في المصاف واستبيح عسكره، كسرهم أبو يوسف الأزدي رأس الصّفريّة (والصفرية «3» هم منسوبون إلى بني المهلب بن أبي صفرة) ، ثم وقعت أمور ووقائع بالمغرب في هذه السنة أيضاً يطول شرحها. وفيها حج بالناس يزيد ابن الخليفة هشام بن عبد الملك وصحبه الزهري بن شهاب، فهناك لقى الزهرىّ مالك بن أنس وسفيان ابن عيينة. وفيها خرج خمسة وعشرون ألفاً من الروم ونزلوا بملطية، فبعث إليهم(1/289)
هشام بن عبد الملك الجيوش فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، ولله الحمد. وفيها توفيت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق؛ وأول أزواج عائشة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم تزوجها مصعب ابن الزبير فاصدقها مائة ألف «1» دينار. وعن الكلبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ قيل: شبيب، وقيل: فلان وفلان؛ فقال:
إن أشجع العرب رجل ولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف وألف ألف وألف ألف، وتزوج سكينة بنت الحسين بن علي وعائشة بنت طلحة، وابنة «2» الحميد بنت عبد الله بن «3» عامر بن كريز، وابنة «4» ريان بن أنيف الكلبي، وأعطي الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات، ذاك مصعب بن الزبير. وأظنها تزوجت بعد مصعب.
وأما الذين ذكر وفاتهم الذهبي في هذه السنة فجماعة مختلف فيهم، قال: توفي ثابت البناني، وقد تقدم ذكره، وتوفي ربيعة بن يزيد القصير بدمشق، وأبو يونس سليم مولى أبي هريرة، وسماك بن حرب الذهلي، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وشرحبيل بن سعد المدنىّ، وأبو عمران الجونىّ عبد الملك بن حبيب، وأبن محيصن مقرئ مكة، ومحمد بن واسع عابد البصرة، وقد تقدم ذكره، ومالك بن دينار، يأتي ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا.(1/290)
ذكر ولاية حفص بن الوليد ثانياً على مصر
قلت: تقدم التعريف بحفص هذا في أول ترجمته لما ولي مصر في سنة ثمان ومائة. وكان سبب ولايته هذه الثانية على مصر أن حنظلة بن صفوان لما ولي إفريقية أقر حفصاً هذا على صلاة مصر وتوجّه الى إفريقيّة، فأقرّه الخليفة هشام ابن عبد الملك على إمرة مصر على الصلاة، وذلك فى سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة. وقال صاحب «البغية» : فأقره هشام (يعني على إمرة مصر) ، ثم جمع له بين الصلاة والخراج في ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة أربع وعشرين ومائة، فجعل على شرطته عقبة بن نعيم الرعيني، وجعل على الديوان يحيى بن عمرو العسقلاني، وعلى الزمام «1» عيسى بن عمرو، ثم صرفه الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك عن الخراج وولاه عيسى بن أبي عطاء يوم الثلاثاء لسبع بقين من شوال سنة خمس وعشرين ومائة، وانفرد بالصلاة، ثم استعفى مروان بن محمد بن مروان فأعفاه، فكانت ولايته هذه ثلاث سنين إلا شهرا. اهـ. وقال غيره: جمع له هشام بن عبد الملك الصلاة والخراج معاً، وكان لأمراء مصر مدة سنين [أن] يلي الأمير على الصلاة لا غير، فلما جمع لحفص بين الصلاة والخراج وقع في أيامه شراقي وقحط بالديار المصرية، فاستسقى حفص بالناس وخطب ودعا الله سبحانه وتعالى وصلى، ثم عاد إلى منزله، فلم يكن إلا القليل وورد عليه موت الخليفة هشام بن عبد الملك، واستخلف من بعده الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، فأقر الوليد حفصاً هذا على ما كان عليه من إمرة مصر على الصلاة والخراج أياماً قليلة، ثم صرفه عن الخراج بعيسى بن أبي عطاء في ثالث عشرين شوال سنة خمس وعشرين ومائة وانفرد حفص بالصلاة. ثم خرج حفص(1/291)
من مصر إلى الشأم ووفد على الوليد بن يزيد بعد أن أستخلف على صلاة مصر عقبة ابن نعيم الرعيني، وعند وصول حفص إلى دمشق اختلف الناس على الوليد وخلعوه من الخلافة ثم قتلوه، لسوء سيرته وقبيح أفعاله، كل ذلك وحفص بالشأم، وبويع بالخلافة ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. ولما ولي يزيد المذكور الخلافة أقر حفصاً هذا على عمله وأمره بالعود إلى مصر وأن يفرض للجند ثلاثين ألفاً، فعاد حفص إلى مصر وفرض الفروض وبعث بيعة أهل مصر إلى يزيد بن الوليد.
فلم تطل مدة أيام يزيد وتوفي وبويع بالخلافة من بعده إبراهيم بن الوليد، فلم يتم عليه أمره وتغلب عليه مروان بن محمد بن مروان الجعدي المعروف بالحمار، ودعا لنفسه وتم له ذلك؛ فلما بلغ حفصاً ذلك بعث يستعفيه من ولاية مصر فأعفاه مروان وولّى مكانه حسّان بن عتاهية. اهـ. وكانت ولاية حفص هذه الثانية نحو ثلاث سنين.
وقال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس فى تاريخه بعد ما ذكر نسبه بنحو ما ذكرناه في ولايته الأولى على مصر لكنه زاد فقال: الحضرمي، ثم من بني عوف بن معاذ، كان أشرف حضرمي بمصر في أيامه، ولم يكن خليفة من بعد الوليد إلا وقد استعمله، كان هشام بن عبد الملك قد شرفه ونوه بذكره وولاه مصر بعد الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم نحواً من شهر ثم عزله، فدخل على هشام فألفاه في التجهيز إلى الترك فولاه الصائفة فغزا ثم رجع فولّى نحو مصر سنة تسع عشرة ومائة وسنة عشرين ومائة وسنة إحدى وعشرين ومائة وسنة اثنتين وعشرين ومائة، فلما قتل كلثوم بن عياض القشيري عامل هشام على إفريقية، وكان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ومائة، كتب هشام إلى حنظلة بن صفوان الكلبي عامله على جند مصر بولايته على إفريقية فشخص إليها، وكتب إلى حفص بن الوليد بولاية جند مصر وأرضها، فولي حفص عليها بقية خلافة هشام، وخلافة الوليد بن يزيد، وخلافة(1/292)
يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد إلى سنة ثمان وعشرين ومائة؛ وحدث عنه يزيد بن أبي حبيب، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وعبد الله ابن لهيعة وغيرهم، وكان ممن خلع مروان مع رجاء بن الأشيم الحميرىّ «1» وثابت بن نعيم ابن زيد «2» بن روح بن سلامة الجذامىّ وزامل بن عمرو الحراني «3» في عدة من أهل مصر والشام، فقتله حوثرة بن سهيل الباهلي بمصر في شوال سنة ثمان وعشرين ومائة، وخبر مقتله يطول.
وقال المسور الخولاني يحذر أبن عم له من مروان ويذكر قتل مروان حفص ابن الوليد ورجاء بن الأشيم ومن قتل معهما من أشراف أهل مصر:
وإن أمير المؤمنين مسلط ... على قتل أشراف البلاد فأعلم
فإياك لا تجني من الشر غلطة ... فتودى «4» كحفص أو رجاء بن الاشيم
فلا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم ... وكيف وقد أضحوا بسفح المقطم
قال ابن يونس: حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي عن يزيد بن أبي حبيب عن حفص بن الوليد عن محمد بن مسلم عن عبيد الله بن عبد الله حدثه أن ابن عباس حدثه: أن شاة ميتة كانت لمولاة ميمونة من الصدقة فأبصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انزعوا جلدها فانتفعوا به» قالوا: إنها ميتة، قال: «إنما حرم أكلها» .
قال أبو سعيد بن يونس: أسند حفص غير هذا الحديث: حدثني أبي عن جدي أنه حدثه ابن وهب حدثني الليث: أن حفص بن الوليد أول ولايته بمصر(1/293)
أمر بقسم مواريث أهل الذمة على قسم مواريث المسلمين، وكانوا قبل حفص يقسمون مواريثهم بقسم أهل دينهم، انتهى كلام ابن يونس. وقد ساق ابن يونس ترجمة حفص على سياق واحد ولم يدع لولايته الثالثة على مصر شيئاً. ولا بد من ذكر ولايته الثالثة هنا لما شرطناه في كتابنا هذا من ذكر كل والٍ في وقته وزمانه، ونذكره إن شاء الله تعالى بزيادات أخر.
*** السنة الأولى من ولاية حفص بن الوليد الثانية على مصر وهي سنة أربع وعشرين ومائة- فيها عاثت الصفرية ببلاد المغرب وحاصروا قابساً «1» ونصبوا عليها المجانيق، وافترقت الصفرية بعد قتل ميسرة فرقتين، ثم ولى الخليفة حنظلة أمير مصر أمر إفريقية لما بلغه قتل كلثوم، كما تقدم ذكره. وفيها قدم جماعة من شيعة بني العباس من خراسان إلى الكوفة يريدون أخذ البيعة لبني العباس فأخذوا وحبسوا ثم أطلقوا. وفيها غزا سليمان بن هشام الصائفة والتقاه ملك الروم فهزمه سليمان وغنم «2» . وفيها قتل كلثوم بن عياض أمير المغرب، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشأم، وكان جليلاً نبيلاً فصيحاً له خطب ومواعظ، قتل بالمغرب في وقعة كانت بينه وبين ميسرة الصفري، ثم مات ميسرة أيضاً في آخر السنة. وفيها توفي الزهري واسمه محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، الإمام أبو بكر القرشي الزهري المدني أحد الأعلام، من تابعي أهل المدينة من الطبقة الرابعة، كان حافظ زمانه. قال الليث بن سعد قال(1/294)
ابن شهاب: ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري، ولد سنة خمسين، وطلب العلم في أواخر عصر الصحابة، وله نيف وعشرون سنة، فروى عن ابن عمر حديثين، وروى عن جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وروى عنه الجمّ الغفير اهـ.
وذكر الذهبي جماعة أخر، قال: توفي عبد الله بن قيس الجهني، وعمرو بن سليم الزرقي أبو طلحة، والقاسم بن أبي بزة المكي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وقد تقدم ذكره، ومحمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وأبو جمرة (بالجيم والراء) نصر بن عمران الضبعي.
أمر النيل في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة «1» عشر إصبعا.
*** السنة الثانية من ولاية خفص بن الوليد الثانية على مصر وهي سنة خمس وعشرين ومائة:
فيها كانت فتن كثيرة بالمغرب بين الأمير حنظلة بن صفوان المعزول عن إمرة مصر والمتولي إفريقية وبين عكاشة الخارجي، فكانت بينهم وقعة لم يسمع بمثلها، وانهزم عكّاشة وقتل من البربر ما لا يحصى، ثم التقى حنظلة ثانياً مع عبد الواحد على فرسخ من القيروان، وجمع عبد الواحد ثلثمائة ألف مقاتل، فبذل حنظلة الأموال وضج الناس والنساء والأطفال بالدعاء، وبقي حنظلة يسير بين الصفوف بنفسه ويحرض على القتال، وكسر أصحاب حنظلة أغماد سيوفهم والتحمت الحرب وانكسرت ميسرة الإسلام، وحنظلة على تحريضه حتى تراجعوا، وهزم الله(1/295)
عبد الواحد وجيوشه ثم قتل، وأتي حنظلة برأسه، وقتل من البربر مقتلة عظيمة لم يسمع بمثلها، فكانت هذه ملحمة مشهودة، ثم أسر عكاشة وأتي به إلى حنظلة فقتله وقتل جماعة كثيرة من أصحابه. وقيل: أحصي من قتل في هذه الوقعة فبلغوا مائة ألف وثمانين ألفاً. وهذه الملحمة أعظم ملحمة وقعت في الإسلام بالمغرب.
وفيها عقد الوليد بن يزيد بن عبد الملك البيعة لابنيه الحكم وعثمان في شهر رجب بعد أن ولي الخلافة بشهر واحد، وكتب بذلك إلى الآفاق. وفيما؟؟؟ توفّى محمد «1» بن علي ابن عبد الله بن عباس العباسي الهاشمي، ومحمد هذا هو والد السفاح أول خلفاء بني العباس، وكنيته أبو عبد الله، وكان أصغر من أبيه علي بأربع عشرة سنة، فلما شابا خضب أبوه علي بالسواد وابنه محمد هذا بالحناء، فلم يفرّق بينهما إلا بالخضاب لتشابههما. ومولد محمد هذا بالقرب من أرض البلقاء سنة ثمان وخمسين وقيل:
سنة ستين. وفي الليلة التي مات فيها محمد هذا ولد فيها محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، فسمي المهدي على اسم جده محمد المذكور وكني بكنيته. وكان محمد هذا بويع بالخلافة سراً وفرق الدعاة في البلاد، فلم يتم أمره ومات. وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس، الأموي القرشي الدمشقي أبو الوليد، ولد سنة نيف وسبعين واستخلف بعهد من أخيه يزيد بن عبد الملك، واستخلف وعمره أربع وثلاثون سنة، ودام في الخلافة تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأياماً، وكان جميل الصورة يخضب بالسواد، وبعينيه حول مع كيس، وأمه فاطمة بنت هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومىّ.(1/296)
قال مصعب الزبيري: زعموا أن عبد الملك رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من يسأل سعيد بن المسيب عنها، وكان يعبر الرؤيا، وعظمت على عبد الملك، فقال سعيد بن المسيب: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان هشام هذا آخرهم، لأن أولهم الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام.
قال حماد الراوية: لما ولي هشام الخلافة طلبني فحضرت عنده فوجدته جالساً في فرش قد غرق فيه، وبين يديه صحفة من ذهب مملوءة مسكاً مذوباً بماء ورد وهو يقلبه بيده فتفوح رائحته، فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: يا حماد، إني ذكرت بيتاً من الشعر ما عرفت قائله وهو هذا:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
فقلت: هو لعدي بن زيد، فقال: أنشدني القصيدة، فأنشدته إياها، فقال:
سل حاجتك، وكان على رأسه جاريتان كأنهما أقمار، وفي أذن كل واحدة منهما جوهرتان يضيء منهما المنزل، فقلت: يا أمير المؤمنين، جارية من هاتين، فقال:
هما لك، وأمر لي بمائة ألف درهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعاً.
السنة الثالثة من ولاية حفص بن الوليد الثانية على مصر وهي سنة ست وعشرين ومائة- فيها خرج يزيد بن الوليد بن عبد الملك على أبن عمه الخليفة الوليد ابن يزيد بن عبد الملك لما أنتهك الوليد المذكور الحرمات وكثر فسقه وسئمته الرعية على قصر مدته، فبويع يزيد هذا بالمزة «1» ووثب على دمشق وجهز عسكراً لقتال الخليفة(1/297)
الوليد، وكان الوليد بتدمر قد أنهزم إليها عاكفاً على المعاصي بها، فخرج الوليد وقاتل العسكر وانكسر وقتل بنواحي تدمر، على ما يأتي ذكره، وتم أمر يزيد في الخلافة، وسمي بالناقص، لكنه لم تطل مدته أيضاً ومات، على ما يأتي ذكره أيضاً. وفيها توفّى خالد ابن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر البجلي القسري، ولي خالد المذكور أعمالاً جليلة مثل مكة المشرفة والعراق وغيرهما، وكانت أمه نصرانية فكان يعير بها، وكان بخيلاً على الطعام جداً، ذكر عنه أبو المظفر أموراً شنيعة من هذا الباب. وفيها توفي الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية (الهاشمي) «1» الأموي الدمشقي المعروف بالفاسق، ولد سنة تسعين وقيل سنة اثنتين وتسعين.
ولما احتضر أبوه يزيد بن عبد الملك لم يمكنه أن يستخلفه لأنه صبي، فعهد إلى أخيه هشام بن عبد الملك وجعل ابنه هذا الوليد ولي العهد من بعد هشام، وأم الوليد بنت محمد بن يوسف الثقفي، فالحجاج عم أمه. ولما مات عمه هشام ولي الخلافة وصدرت عنه تلك الأمور القبيحة المشهورة عنه: من شرب الخمر والفجور وتخريق المصحف بالنشاب. وذكر عنه بعض أهل التاريخ أموراً أستبعد وقوعها، منها: أنه دخل يوماً فوجد ابنته جالسة مع دادتها «2» فبرك عليها وأزال بكارتها، فقالت له دادتها: هذا دين المجوس، فأنشد:
من «3» راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور(1/298)
قال: وأخذ يوما المصحف وفتحه، فأوّل ما طلع له وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
، فقال: أتوعدني! ثم علقه ولا زال يضربه بالنشاب حتى خرقه ومزّقه وهو ينشد:
أتوعد كل جبار عنيد ... فهأنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل يا رب خرقني الوليد
ولما كثر فسقه خلعوه من الخلافة بابن عمه يزيد بن الوليد وقتلوه في جمادى الآخرة، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وتوفي ابن عمه يزيد المذكور بعده بمدة يسيرة، كما سيأتي ذكره. وفيها توفي سعيد «1» بن مسروق والد سفيان الثوري؛ وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، الهاشمي «2» الأموي الدمشقي أبو خالد، المعروف بيزيد الناقص، لأنه نقص الجند من عطائهم لما ولي الخلافة، وكان الوليد ابن عمه زاد الجند زيادات كثيرة فنقصها يزيد هذا لما ولي الخلافة ومشى الأمور على عاداتها. وثب يزيد على الخلافة لما كثر فسق ابن عمه الوليد، وتم أمره بعد قتل الوليد، وبويع بالخلافة في جمادى الآخرة من سنة ست وعشرين ومائة المذكورة. وأم يزيد هذا شاه «3» فرند بنت فيروز بن يزدجرد، حكي أن قتيبة بن مسلم ظفر بما وراء النهر بابنتي فيروز فبعث بهما إلى الحجاج بن يوسف، فبعث الحجاج بإحداهما، وهي شاه فرند، إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك فأولدها يزيد هذا، وكانت أم فيروز بن يزدجرد بنت شيرويه بن كسرى، وأم شيرويه بنت خاقان، وأم أم فيروز هي بنت قيصر عظيم الروم، ولهذا كان يزيد يفتخر ويقول:(1/299)
أنا ابن كسرى وجدّى مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان
قلت: وكان يزيد هذا لا بأس به، غير أن أيامه لم تطل، ومات في سابع ذي الحجة من سنة ست المذكورة. وذكر الذهبي وفاة جماعة كثيرة في هذه السنة مختلف في وفاتهم، كما هي عادة سياقه، فإنه يذكر الواحد في عدة أماكن، فنحن نذكر مقالته ولا نتقيد بها، ومن وقع لنا ممن ذكره ترجمناه على عادة كتابنا هذا في محله، قدمه الذهبي أو أخره، فقال: توفي جبلة بن سحيم، وخالد بن عبد الله القسري الأمير، ودراج أبو السمح، وسعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، وسليمان بن حبيب المحاربي، وقد تكرر في عدة سنين، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد، والكميت بن زيد الشاعر، وعبيد الله بن أبي يزيد المكي، وعمرو بن دينار، والوليد قتل في جمادى الآخرة فكانت خلافته خمسة عشر شهراً، ويزيد بن الوليد الناقص مات في ذي الحجة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنى عشر إصبعا.
ذكر ولاية حسان بن عتاهية على مصر
هو حسان بن عتاهية بن عبد الرحمن بن حسان بن عتاهية بن خزز بن سعد ابن معاوية التجيبي؛ وقال صاحب «البغية» : حسان بن عتاهية بن عبد الرحمن. اهـ.
ولّاه مروان بن محمد بن مروان المعروف بالحمار على إمرة مصر وهو بالشأم، فأرسل حسان من الشأم بكتاب إلى ابن نعيم باستخلافه على صلاة مصر إلى أن يحضر من الشأم، فسلم حفص بن الوليد الأمر إلى أبن نعيم، ثم قدم حسان المذكور إلى مصر في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة على الصلاة لا غير.(1/300)
وزاد صاحب «البغية» وقال: قدم في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. اهـ.
وكان عيسى بن أبي عطاء على الخراج، فلما أستقر أمر حسان في إمرة مصر أسقط الفروض التي كان قررها حفص بن الوليد في ولايته وقطع [فروض «1» ] الجند كلها، فوثبوا عليه وقاتلوه وقالوا: لا نرضى إلا بحفص، وركبوا إلى المسجد ودعوا إلى خلع مروان الحمار من الخلافة وحصروا حسان في داره، وقالوا له: اخرج عنا، فإننا لا نقيم معك ببلد، ثم أخرجوا عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج من مصر، كل ذلك في آخر جمادى الأخرة، ثم أخرجوا حفصاً من سجنه وولوه أمرهم. وتوجه حسان هذا إلى الشأم ودام بها من جملة أمراء بني أمية إلى أن زالت دولة بني أمية وتولت العباسية. قتل حسان هذا مع من قتل بمصر من أعوان بني أمية في سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولاية حسان على مصر ستة عشر يوماً وقيل: إن حسان كان من أعوان بني العباس، والأول أشهر، وتولى بعده حفص بن الوليد ثالثاً.
وقال الحافظ أبو سعيد بن يونس: شهد حسان بن عتاهية جد عتاهية والد صاحب الترجمة فتح مصر وصحب عمر بن الخطاب؛ وابنه عبد الرحمن بن حسان ابن عتاهية يروي عنه مخيس بن ظبيان، وفي نسخة: عبد الغني.
وحدثني أحمد بن علي بن دارح بن رجب الخولاني حدثني عمي عاصم بن دارح حدثنا عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير حدثني أبي حدثني عمرو بن يحيى السدي حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج قال: سألني أبو جعفر المنصور:
ما فعل حسان بن عتاهية؟ قلت: قتله شعبة «2» . قال: قتله الله. كان لنا جليساً(1/301)
عند عطاء بن أبي رباح. قال سعيد بن كثير: شعبة هذا هو ابن عثمان التميمي، كان على المصرية «1» ، وهو أول من قدم مصر من قواد المسودة «2» ، وكان على مقدمة عامر بن إسماعيل المرادي الجرجاني الذي قتل مروان بن محمد الحمار.
ضبط الأسماء الغريبة في هذه الترجمة: (عتاهية) بفتح العين المهملة والتاء المثناة، و (خزز) بفتح «3» الخاء المعجمة والزاي الأولى وسكون الزاي الثانية، و (التجيبى) بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم وياء ساكنة وباء ثانية الحروف.
ذكر ولاية حفص بن الوليد الثالثة على مصر
ولما ثار أهل مصر على حسان بن عتاهية وأخرجوه منها لحق بالخليفة مروان ابن محمد بن مروان المعروف بالحمار في الشأم، وذكر له حسان ما وقع له مع أهل مصر؛ واستمر حفص بن الوليد على صلاة مصر شهر رجب وشعبان، وقدم الأمير حنظلة بن صفوان من إفريقية، وقد أخرجه أهلها فنزل بالجيزة غربي مدينة مصر، ودام هناك إلى أن قدم عليه كتاب الخليفة مروان الحمار بولايته على مصر، فامتنع المصريون من ولاية حنظلة بن صفوان عليهم، ومنعوه من الدخول إلى مصر وأظهروا الخلاف، ثم أخرجوا حنظلة من الجيزة إلى الوجه الشرقي، ومنعوه من المقام بالفسطاط، وحاربوه فحاربهم فهزم، وتم أمر حفص؛ وسكت مروان عن مصر بقية سنة سبع وعشرين ومائة، ثم عزل حفص في مستهل سنة ثمان وعشرين ومائة وولي عوضه على مصر الحوثرة بن سهيل أخو عجلان الباهلي، وواقع الحوثرة حفصاً وقتله، كما ذكره ابن يونس وغيره في ترجمته الثانية، وكان قتل حفص المذكور في يوم(1/302)
الثلاثاء لليلتين خلتا من شوال سنة ثمان وعشرين ومائة، ورثاه صديقه أبو بحر مولى عبد الله بن إسحاق مولى آل الحضرمي من حلفاء عبد شمس بعدة قصائد، وكان أبو بحر أمأمأ في النحو واللغة، تعلم ذلك من يحيى بن يعمر، ومات في سنة سبع «1» وعشرين ومائة، وكان أبو بحر يعيب الفرزدق في شعره وينسبه إلى اللحن، فهجاه الفرزدق بقوله:
فلو كان عبد الله مولًى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له أبو بحر عبد الله المذكور: قد لحنت أيضاً يا فرزدق في قولك: مولى مواليا، بل كان ينبغي أن تقول: مولى موالٍ.
*** السنة الأولى من ولاية حفص بن الوليد الثالثة على مصر وهي سنة سبع وعشرين ومائة، على أن حسان بن عتاهية حكم منها على مصر ستة عشر يوماً في جمادى الآخرة- فيها وقع بالشأم وغيره عدة فتن وحروب من قبل مروان الحمار وغيره حتى ولي الخلافة وخلع إبراهيم بن الوليد الذي كان تخلف بعد موت أخيه يزيد بن الوليد الناقص ولم يتم أمره، وكان مروان المذكور متولي أذربيجان وأرمينية، فلما بلغه موت يزيد جمع الأبطال والعساكر وأنفق عليهم الأموال حتى بلغ قصده وولي الخلافة وتم أمره، وفي آخر السنة المذكورة بايع مروان لابنيه عبيد الله وعبد الله بالعهد من بعده وزوجهما بابنتي هشام بن عبد الملك، ولم يدر ما خبئ له في الغيب من زوال دولته ببني العباس. وفيها حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز الأموي وهو أمير مكة والمدينة والطائف. وفيها خلع سليمان بن هشام(1/303)
مروان الحمار من الخلافة، وكان سليمان بمدينة الرصافة، ووقع له مع مروان أمور وحروب. وفيها توفي الحكم بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، وكان الوليد عقد له ولأخيه عثمان ولاية العهد بعده، وأستعمل الحكم هذا على دمشق وعثمان على حمص حتى عزلهما يزيد بن الوليد الناقص. وفيها توفي عبد العزيز بن عبد الملك بن مروان أبو الأصبع، وهو الذي تولى قتل الوليد بن يزيد، فولاه يزيد الناقص العهد بعد أخيه إبراهيم. وفيها توفي مالك بن دينار العابد الزاهد أبو يحيى البصري، أحد الأعلام الزهاد، قيل: إن أدم مالك المذكور كان في السنة بفلسين ملحاً، وكان يلبس إزار صوف وعباءة خفيفة وفي الشتاء فروةً، وكان ينسخ المصحف فى أربعة أشهر، وفي شهرته ما يغني عن الإطناب في ذكره.
وفي هذه السنة أيضاً كان الطاعون بالشأم ومات فيه خلائق لا تحصى، وكان هذا الطاعون يسمى «بطاعون غراب» .
ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم على القاعدة المتقدم ذكرها في سنة ست وعشرين ومائة، قال: وتوفي إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وبكير بن عبد الله بن الأشج على الأصح، وسعد بن إبراهيم في قول، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهري، وعبد الكريم بن مالك الجزري، وعبد الله بن دينار المدني، وعمرو بن عبد الله أبو إسحاق السّبيعىّ، وعمير بن هانئ العنسي، ومالك بن دينار الزاهد في قولٍ، ومحمد ابن واسع في قول خليفة، ووهب بن كيسان أيضاً.
أمر النيل- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعا.(1/304)
ذكر ولاية حوثرة بن سهيل على مصر
هو حوثرة بن سهيل أخو عجلان «1» بن سهيل الباهلي أمير مصر، ولاه مروان الحمار على إمرة مصر بعد أن عزل عنها حفص بن الوليد المقدّم ذكره، وجهّز صحبته العساكر لقتال حفص بن الوليد، فخرج حوثرة من الشأم وسار منها بالعساكر حتى وصل إلى مصر في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلةً خلت من المحرم سنة ثمان وعشرين ومائة وزاد صاحب «البغية» فقال: ومعه سبعة آلاف فارس، وولاه مروان على الصلاة وعيسى بن أبى عطاء على الخراج. اهـ. ولما وصل حوثرة إلى مصر أجمع «2» جند مصر وأهلها على منعه من الدخول إلى مصر فأبى عليهم حفص بن الوليد ونهاهم عن ذلك فخافوا حوثرة وسألوه الأمان فأمنهم ونزل بظاهر الفسطاط، وقد اطمأنوا إليه، فخرج إليه حفص بن الوليد في وجوه الجند فقبض حوثرة عليهم وقيدهم وأوسع الجند سباً فانهزم الجند، فقام حوثرة من وقته ودخل إلى مصر ومعه عيسى بن أبي عطاء وهو على الخراج على عادته وحوثرة على الصلاة لا غير، وبعث حوثرة في طلب رؤساء مصر فجمعوا له فضرب أعناقهم وفيهم رجاء بن الأشيم الحميري «3» من كبار المصريين، ثم أخذ حفص بن الوليد فقتله وأخذ في تمهيد أمور مصر، وتم أمره إلى سنة إحدى وثلاثين ومائة [ثم] «4» عزله مروان الحمار عن إمرة مصر وبعثه إلى العراق لقتال الخراسانية دعاة بني العباس فقتل هناك، وكان استخلف على مصر أبا الجراح بشر بن أوس، وكان خروجه من مصر لعشر خلون من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة، فكانت ولايته على مصر ثلاث سنين وستة أشهر، وولي مصر من بعده(1/305)
المغيرة بن عبيد «1» الله الآتي ذكره. ولما توجه حوثرة إلى الشأم ووجهه مروان الحمار إلى العراق نجدةً لابن هبيرة فتوجه إلى العراق ووقع له بها أمور، ولم يزل مع مروان الحمار إلى أن انكسر مروان من أبي مسلم الخراساني صاحب دعوة بني العباس، وقيل:
فقتل حوثرة هذا مع من قتل من أعوان بني أمية فإنه كان مولى لبني أمية ومن كبار أمرائهم، يقال: إنهم طحنوه طحناً لما ظفروا به حتى مات، فإنه كان شجاعاً مقداماً صاحب رأي وتدبير وقوّة وخبرة بالحروب. اهـ. وأما أمر حوثرة لما توجه إلى العراق لابن هبيرة فإنه وصل إليه وفي وصوله له قدم على يزيد «2» بن هبيرة ابنه داود منهزماً، فخرج يزيد بن هبيرة ومعه حوثرة هذا إلى نحو قحطبة في عدد كثير لا يحصى وساروا حتى نزلوا جلولاء «3» ، واحتفر ابن هبيرة الخندق الذي كانت العرب «4» اختفرته أيام وقعة جلولاء، وأقام به، وأقبل قحطبة إلى جهة ابن هبيرة فارتحل ابن هبيرة وحوثرة بمن معهما إلى الكوفة لقحطبة، وقدم حوثرة هذا أمامه في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة، وقيل: إن حوثرة لم يفارق يزيد بن هبيرة، وأرسل قحطبة طائفةً من أصحابه الى الأنبار وغيرها وأمرهم بإحدار ما فيها من السفن ليعبر الفرات فبعثوا إليه كل سفينة كانت هناك، فقطع قحطبة الفرات حتى صار في غربيه، ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة وحوثرة، وذلك في محرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة لثمان مضين منه، وكان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من [أرض «5» ] الفلوجة «6» العليا على ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، وكان قدم عليه أيضاً ابن ضبارة «7» نجدةً بعد حوثرة بن سهيل الباهلي المذكور، فقال حوثرة لابن هبيرة:(1/306)
إن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبآلحرى أن يتبعك، قال ابن هبيرة: ما كان ليتبعنى ويدع الكوفة، ولكن الرأى أن أبادره إلى الكوفة، فعبر الدجلة من المدائن يريد الكوفة، واستعمل على مقدمته حوثرة المذكور وأمره أن يسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على جانبي الفرات، وقد قال قحطبة لأصحابه: إن الإمام أخبرني أن لي بهذا المكان وقعةً يكون النصر [فيها «1» ] لنا، ثم عبر قحطبة من مخاضة وقاتل حوثرة ومحمد بن نباتة فانهزم حوثرة ومحمد بن نباتة وأخوه ولحقوا بابن هبيرة، فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك، وقيل: إن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة يزيد بن هبيرة فسار إليه بمن معه. وأما أمر قحطبة فإنه فقد من عسكره بعد هزيمة عساكر ابن هبيرة، فقال أصحاب قحطبة: من عنده عهد من قحطبة فليخبر به، فقال مقاتل بن مالك العكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس، فبايع الناس حميد بن قحطبة لأخيه الحسن، وكان قد سيره أبوه قحطبة في سرية؛ ثم أرسلوا إليه وأحضروه وسلموا إليه الأمر ثم بعثوا «2» على قحطبة فوجدوه في جدول هو وحرب بن سالم بن أحوز «3» قتيلين، فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه. وقيل: إن معن بن زائدة ضرب قحطبة على عاتقه فسقط في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي إذا أنا مت وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي ثم كونوا في أمركم، فوقع ذلك حتى انهزم «4» عسكر ابن هبيرة.(1/307)
*** السنة الأولى من ولاية حوثرة بن سهيل على مصر وهي سنة ثمان وعشرين ومائة- فيها بعث إبراهيم العباسي أبا مسلم إلى خراسان وأمره على أصحابه وكتب إليهم بذلك، فأتاهم فلم يقبلوا منه، وخرج من قابل إلى مكة وأخبره أبو مسلم بذلك، ثم أرسله ثانياً كما سيأتي ذكره. وفيها توفي إسماعيل بن عبد الرحمن السدي صاحب التفسير والمغازي والسير، كان إماماً عارفاً بالوقائع وأيام الناس، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وقيل: إنه مات سنة سبع وعشرين ومائة، وفيها توفي جابر بن يزيد الجعفي، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة وقد تكلم فيه وضعفه بعضهم. وفيها توفي حيىّ بن هانئ المعافري، أبو قبيل (وأبو قبيل بفتح القاف وكسر الموحدة) غزا أبو قبيل البحر مع جنادة والغرب في زمان معاوية، وكان شجاعاً ديناً متواضعاً، يخرج إلى السوق إلى حاجته بنفسه، روى عنه الليث بن سعد وغيره ومات بمصر. وفيها توفي سعيد بن مسروق الثوري أبو سفيان، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة، كان عالماً زاهداً. وفيها توفي عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة واعظ البصرة، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل البصرة، كان من الزهاد وكان يحضر مجالس مالك بن دينار. قال أبو نعيم: صلى عبد الواحد الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة. وفيها توفي عثمان بن عاصم بن حصين «1» [أبو حصين «2» ] (بفتح الحاء) الأسدي، من الطبقة الرابعة من تابعى أهل الكوفة، قرئ القرآن عليه بمسجد الكوفة خمسين سنة. وفيها توفي يزيد بن أبي حبيب، من الطبقة الثالثة. من تابعي أهل مصر، وهو أول من أظهر بها الحلال والحرام والفقه، وإنما كانوا يتحدثون بالملاحم والفتن، وكان الليث بن سعد يثني عليه ويقول: ابن أبي حبيب سيّدنا.(1/308)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبع واحد.
*** السنة الثانية من ولاية حوثرة على مصر وهي سنة تسع وعشرين ومائة- فيها خرج بحضرموت طالب الحق عبد الله بن يحيى الكندىّ «1» الأعور، تغلب عليها واجتمع عليه الأباضية، ثم سار إلى صنعاء وبها القاسم بن عمر الثقفي فوقع بينهم قتال كثير، انتصر فيه طالب الحق وهرب القاسم وقتل أخوه الصلت، واستولى طالب الحق على صنعاء وأعمالها، ثم جهز إلى مكة عشرة آلاف وبها عبد الواحد ابن سليمان بن عبد الملك بن مروان فغلبوا على مكة وخرج «2» منها عبد الواحد المذكور.
وفيها كتب ابن هبيرة أمير العراق «3» إلى عامر بن ضبارة فسار حتى أتى خراسان «4» وقد ظهر بها أبو مسلم الخراساني صاحب دعوة بني العباس في شهر رمضان، وكان قد ظهر هناك عبد الله بن معاوية الهاشمي فقبض عليه أبو مسلم وسجنه وسجن معه خلقاً من شيعته. وفيها توفي سالم بن أبي أمية أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله ابن معمر التيمي، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل المدينة، كان يفد على عمر بن عبد العزيز ويعظه، فقال له يوماً: يا أمير المؤمنين، عبد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته عصاه مرة واحدة فأخرجه من الجنة بتلك الخطيئة الواحدة، وأنا وأنت نعصي الله كل يوم مراراً، ونتمنى على الله الجنة! وكانت وفاته بالمدينة.(1/309)
ذكر من ذكر الذهبي وفاته في هذه السنة، قال: فيها توفي أزهر بن سعيد الحرازي بحمص، والحارث بن عبد الرحمن بالمدينة، وخالد بن أبي عمران التجيبي قاضي إفريقية، وسالم أبو النضر المدني، وعلي بن زيد بن جدعان التّيمىّ، وقيس ابن الحجاج السلفي، ومطر بن طهمان الوراق، ويحيى بن أبى كثير اليمانىّ، وبشر ابن حرب الندبي وآخرون.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية حوثرة بن سهيل على مصر وهي سنة ثلاثين ومائة- فيها اصطلح نصر بن سيار وجديع بن علي الكرماني على قتال أبي مسلم الخراساني، فدس أبو مسلم الخراساني إلى ابن علي الكرماني من خدعه واجتمعا وقاتلا نصر بن سيار فقوي جيش أبي مسلم الخراساني وتقهقر نصر بن سيار بين يديه، فأخذ أبو مسلم أثقاله ثم أخذ مرو وقتل عاملها شيبان الحروري «1» ، فأقبلت سعادة بني العباس وأخذ من يومئذ أمر بني أمية في إدبار، ثم استولى أبو مسلم في هذه السنة على أكثر مدن خراسان، ثم ظفر بعبد الله بن معاوية الهاشمي فقتله، ثم كتب نصر بن سيار إلى ابن هبيرة نائب العراق يستنجده ويستصرخ به إلى الخليفة مروان الحمار. وفيها استولى جيش طالب الحق على مكة، فكتب عبد الواحد أمير المدينة إلى الخليفة مروان الحمار يخبره بخذلان أهل مكة، ثم جهز جيشاً إلى مكة فبرز لحربهم أعوان(1/310)
طالب الحق وعليهم أبو حمزة والتقى الجمعان بقديد «1» في صفر فانهزم جيش عبد الواحد وساق أبو حمزة فاستولى على المدينة أيضاً، وقتل يوم وقعة القديد هذه ثلثمائة نفس من قريش: منهم حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام، وابنه عمارة، وابن أخيه مصعب حتى قالت بعض النوائح:
ما للزمان وما ليه ... أفنى قديد رجاليه
ثم إن مروان الحمار بعث جيشاً عليه عبد الملك بن محمد بن عطية، فسار ابن عطية المذكور والتقى مع أبي حمزة مقدم عساكر طالب الحق فكسره، وقتل أبرهة الذي كان ولاه طالب الحق على مكة عند بئر ميمونة، فبلغ طالب الحق فأقبل من اليمن في ثلاثين ألفاً، فخرج إليه عبد الملك بن محمد المذكور بعساكر مروان فكانت بينهم وقعة عظيمة انهزم فيها طالب الحق، ثم ألتقوا ثانياً، وثالثاً قتل فيها طالب الحقّ فى نحو من ألف حضرمىّ، وبعث عبد الملك بن محمد برأسه إلى الخليفة مروان الحمار. وفيها كانت زلازل شديدة بالشام وأخربت بيت المقدس وأهلكت»
أولاد شداد بن أوس فيمن هلك، وخرج أهل الشأم إلى البرية وأقاموا أربعين يوماً على ذلك، وقيل: كان ذلك في سنة إحدى وثلاثين ومائة. وفيها توفي الخليل ابن أحمد بن عمرو الفراهيدي أبو عبد الرحمن النحوىّ البصرىّ.
قال ابن قرأوغلى: ولم يكن بعد الصحابة أذكى من الخليل هذا ولا أجمع، وكان قد برع في علم الأدب، وهو أول من صنف العروض، وكان من أزهد الناس.
قلت: ولعل ابن قرأوغلى واهم في وفاة الخليل هذا، والذي أعرفه أنه كان في عصر أبي حنيفة وغيره. وذكر الذهبي وفاته في سنة ستين ومائة، وقال ابن(1/311)
خلكان: كانت ولادته يعني الخليل في سنة مائة من الهجرة وتوفي في سنة سبعين ومائة وقيل خمس وسبعين ومائة، وقال ابن قانع في تاريخه المرتب على السنين: إنه توفي سنة ستين ومائة، وقال ابن الجوزي في كتابه الذي سماه «شذور العقود» : إنه مات سنة ثلاثين ومائة وهذا غلط قطعاً، والصحيح أنه عاش لبعد الستين ومائة، ويقال:
إنه كان له ولد فدخل عليه فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض، فخرج إلى الناس فقال: إن أبي جن فدخلوا إليه وأخبروه، فقال مخاطبا لابنه:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع ونصف إصبع.
*** السنة الرابعة من ولاية الحوثرة على مصر إلى شهر رجب، ومن رجب حكمها المغيرة بن عبيد الله الآتي ذكره وهي سنة إحدى وثلاثين ومائة- فيها كانت وقعة بين ابن هبيرة وبين عامر بن ضبارة، فالتقوا بنواحي أصبهان في شهر رجب فقتل ابن ضبارة في المصاف.
وذكر محمد بن جرير الطبري: أن عامر بن ضبارة كان في مائة ألف، ثم بعث ابن هبيرة إلى مروان الحمار يخبره بقتله عامر بن ضبارة وطلب منه المدد فأمده بأمير مصر صاحب الترجمة حوثرة بن سهيل الباهلي بعد أن عزله عن إمرة مصر وبعثه في عشرة آلاف من قيس، ثم تجمعت جيوش مروان الحمار بنهاوند وعليهم مالك ابن أدهم فضايقهم قحطبة أربعة أشهر حتى خرجوا بالأمان في شوال، ثم قتل قحطبة وجوهاً من عسكر أهل مصر، ثم أقبل قحطبة يريد العراق فخرج إليه متوليها ابن هبيرة(1/312)
وانضم إليه المصريون والمنهزمون حتى صار في ثلاثة وخمسين ألفاً ونزل جلولاء، ونزل قحطبة في آخر العام بخانقين «1» ، فوقع بين الطائفتين عدة وقائع وبقوا على ذلك إلى السنة الآتية. وفيها كان الطاعون العظيم، هلك فيه خلق كثير، حتى قيل: إنه مات في يوم واحد سبعون ألفاً قاله ابن الجوزي، وكان هذا الطاعون يسمى:
«طاعون أسلم بن قتيبة» .
قال المدائني: كان بالبصرة في شهر رجب واشتد في رمضان ثم خف في شوال وبلغ كل يوم ألف جنازة، وهذا خامس عشر طاعوناً وقع في الإسلام حسبما تقدم ذكره في هذا الكتاب، قال المدائني: وهذا كله في دولة بني أمية، بل نقل بعض المؤرخين أن الطواعين في زمن بني أمية كانت لا تنقطع بالشأم حتى كان خلفاء بني أمية إذا جاء زمن الطاعون يخرجون إلى الصحراء، ومن ثم اتخذ هشام بن عبد الملك الرصافة منزلاً، وكانت الرصافة بلدة قديمة للروم، ثم خف الطاعون في الدولة العباسية، فيقال: إن بعض أمراء بني العباس بالشأم خطب فقال:
احمدوا الله الذي رفع عنكم الطاعون منذ ولينا عليكم، فقام بعض من له جرأة فقال:
إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون اهـ. وفيها تحول أبو مسلم الخراساني عن مرو ونزل نيسابور واستولى على عامة خراسان. وفيها توفي واصل بن عطاء أبو حذيفة البصري مولى بني مخزوم، وقيل: مولى بني ضبة، ولد سنة ثمانين بالمدينة، وكان أحد البلغاء لكنه كان يلثغ بالراء يبدلها غيناً، وكان لاقتداره على العربية وتوسعه في الكلام يتجنب الراء في خطابه، وفي هذا المعنى يقول بعض الشعراء:
وجعلت وصلي الراء لم تنطق به ... وقطعتني حتى كأنك واصل(1/313)
وواصل هذا هو رأس المعتزلة، والخوارج لما كفرت بالكبائر، قال واصل:
بل الفاسق لا مؤمن ولا كافر منزلة «1» بين المنزلتين، فلذلك طرده الحسن البصري، عن مجلسه، فجلس عند واصل عمرو بن عبيد واعتزلا مجلس الحسن البصري فمن يومئذ قيل لهم: المعتزلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع.
ذكر ولاية المغيرة بن عبيد الله على مصر
هو المغيرة بن عبيد الله بن المغيرة بن عبيد الله بن سعد «2» بن حكم «3» [بن مالك «4» ] بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن [عدي «5» ] بن فزارة الفزاري.
وقال صاحب «البغية» : المغيرة بن عبيد الله بن مسعدة خالف فى الجدّ. اهـ.
ولاه الخليفة مروان الحمار على مصر «6» بعد عزل حوثرة وتوجهه إلى العراق نجدةً لابن هبيرة، فقدم المغيرة إلى مصر في سادس عشر من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة على الصلاة. وقال صاحب «البغية» : ولاه مروان بن محمد على الصلاة فقدم يوم الأربعاء لست بقين من رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة فجعل على شرطته ابنه عبد الله وكان ليناً محبباً للناس.
وقال غيره: ولما دخل مصر أقام بها مدة يسيرة وخرج إلى الإسكندرية واستخلف على صلاة مصر أبا الجراح الحرشي «7» ، ثم عاد بعد مدة ولم تطل مدته،(1/314)
وتوفي يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائة واستخلف ابنه الوليد بن المغيرة على إمرة مصر وصلاتها فلم يقره الخليفة مروان الحمار على ذلك، وولي مصر عبد الملك بن مروان بن موسى، فكانت ولاية المغيرة على مصر عشرة أشهر إلا أياماً ثلاثة «1» .
وقال صاحب «البغية» : وتوفي يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى وذكر السنة، فكانت ولايته عشرة أشهر، فأجمع الجمع على أن يولوا عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج على الشرطة إلى أن يأتي أمر مروان ابن محمد، وانصرف الوليد للنصف من جمادى الآخرة، وكان المغيرة ديناً فاضلاً عدلاً محبباً للرعية، وهو أجل أمراء بني أمية وولي لهم الأعمال الجليلة، وحضر وقعة شهرزور، لما وجه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طريف «2» الخراشي فى أربعة آلاف الى شهرزور وبها عثمان بن سفيان، والمغيرة هذا على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد فنزلوا «3» على فرسخين من شهرزور وقاتلوا عثمان وانهزم عثمان وقتل، وقام أبو عون ببلاد الموصل، وقيل إن عثمان لم يقتل وهرب هو والمغيرة هذا إلى عبد الله بن مروان وغنم أبو عون عسكره وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، ثم سير خطبة العساكر إلى أبي عون فاجتمع معه ثلاثون ألفاً، ولما بلغ مروان الخليفة خبر أبي عون سار بنفسه بجميع عساكر ممالكه وأقبل نحو أبي عون فوقع له حروب وأمور يطول شرحها.(1/315)
ذكر ولاية عبد الملك بن مروان على مصر
هو عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير اللخمي أمير مصر، ولاه الخليفة مروان بن محمد بن مروان المعروف بالحمار على الصلاة والخراج معاً بعد موت المغيرة ابن عبيد الله الفزاري، وكان عبد الملك هذا قد ولي خراج مصر قبل أن يلي الإمرة والصلاة، فلما مات المغيرة جمع له مروان الخراج والصلاة، وذلك في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما تم أمره جعل أخاه معاوية على الشرطة، ثم ولى عكرمة بن عبد الله الخولاني، ثم إن عبد الملك المذكور أمر باتخاذ المنابر في الجوامع ولم يكن قبل ذلك منبر، وإنما كانت ولاة مصر يخطبون على العصي إلى جانب القبلة، ثم خرج عليه قبط مصر بعد ذلك واجتمعوا «1» على قتاله فحاربهم وقتل كثيراً منهم وانهزم من بقي [منهم «2» ] ثم خالف بعد ذلك في أيامه عمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان على مروان الحمار ودعا لنفسه واجتمع عليه جمع من قيس في الحوف الشرقي من أعمال مصر، فبعث إليهم عبد الملك هذا [بجيش «3» ] فلم تقع بينهم حرب، وبينما هم في ذلك إذ قدم عليهم الخليفة مروان الحمار من أرض الشام وقد انهزم من أبي مسلم الخراساني صاحب دعوة بني العباس في يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من شوال، وقيل لثلاث بقين من شوال سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ولما دخل مروان مصر وجد أهل الحوف الشرقي من بلاد مصر وأهل الإسكندرية [والصعيد «4» ] قد صاروا مسودة- أعني صاروا من أعوان بني العباس ولبسوا السواد- فعزم مروان الحمار على تعدية النيل فعدى إلى الجيزة وأحرق الجسرين والدار المذهبة «5» وبعث بجيش إلى الاسكندرية(1/316)
فاقتتلوا مع من كان بها بالكريون «1» ، وبينما هو في ذلك خالفت القبط، فبعث إليهم مروان من قاتلهم أيضاً وهزمهم، ثم بعث جيشاً إلى الصعيد، وبينما هو في ذلك قدم صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في طلب مروان ومع صالح أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان قدوم عبد الملك إلى الديار المصرية في يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة المذكورة فلم يثبت مروان الحمار لصالح المذكور، وتوجه إلى بوصير بالجيزة ومعه عبد الملك صاحب مصر وغيره من حواشيه وأمرائه وأقار به من بني أمية، فلحقه صالح بها فالتقاه مروان الحمار بمن معه وقاتله حتى انهزم وقتل في يوم الجمعة لتسع بقين من ذي الحجة، ثم عاد صالح بن علي المذكور ودخل الفسطاط في يوم الأحد لثمان خلون من المحرم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث برأس مروان إلى الشام والعراق وزالت دولة بني أمية.
وأما عبد الملك بن مروان أمير مصر صاحب الترجمة فإنه كان لما ولي مصر أحسن السيرة ولم يفحش في حق بني العباس فأمنه صالح وأمن أخاه معاوية وعفا عنهما، ثم قتل حوثرة بن سهيل وحسان بن عتاهية اللذين كانا كل منهما ولي على مصر قبل عبد الملك، وعبد الملك هذا هو آخر أمير ولي مصر من قبل بني أمية وزالت في هذه السنة بقتل مروان الحمار دولة بني أمية، وبويع السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة، وهو أول خلفاء بني العباس، ولا بد من ذكر كيفية انفصال دولة بني أمية وابتداء دولة بني العباس في هذه الترجمة فإن ذلك من أعظم ما يذكر من الوقائع وإن كان ذلك غير ما نحن فيه من شرط هذا الكتاب فنذكره على سبيل الاستطراد في ترجمة عبد الملك أمير مصر فإنه آخر من ولى من أمراء بنى أميّة.(1/317)
ذكر بيعة السفاح بالخلافة
لما كان المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة بلغ ابن هبيرة أمير العراقين لبني أمية أن قحطبة أحد دعاة بني العباس توجه نحو الموصل يريد الكوفة فرحل ابن هبيرة بأصحابه نحو الكوفة، وسار كل منهما حتى تواقعا، فجاءت قحطبة طعنة فوقع في الفرات فهلك ولم يعلم به قومه، وانهزم أيضاً أصحاب ابن هبيرة وغرق خلق منهم في المخايض.
وقال بيهس بن حبيب: [قلت «1» ] لجمع الناس بعد أن جاوزنا الفرات: من أراد الشام فهلم فذهب معه جمع «2» من الناس، ونادى آخر: من أراد الجزيرة، فتبعه خلق، ونادى آخر: من أراد الكوفة، فذهب كل جند إلى ناحية «3» ، فقلت: من أراد واسط فهلم فاجتمعنا على ابن هبيرة وسرنا حتى دخلنا واسط يوم عاشوراء وأصبح وأصبحوا المسودة وقد فقدوا قائدهم قحطبة، ثم استخرجوه من الماء وأمروا عليهم ابنه الحسن فقصد بهم الكوفة فدخلوها يوم عاشوراء أيضاً وهرب متوليها من قبل بني أمية وهو زياد بن صالح، فاستعمل ابن قحطبة على الكوفة أبا سلمة الخلال ثم قصد واسط فنزلها وخندق على جيشه، فعبأ ابن هبيرة عساكره فالتقوا فانهزم عسكر ابن هبيرة وتحصنوا بواسط، وقتل في الوقعة حكيم بن المسيب الجدلي، ثم وثب أبو مسلم صاحب دعوة بني العباس على ابن الكرماني فقتله بنيسابور وجلس في دست الملك وخطب للسفاح وأخذ في أسباب بيعة السفاح بالخلافة، فلما كان يوم ثالث شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين ومائة بويع بالخلافة فى دار مولاهم الوليد(1/318)
ابن سعد ولم ينتطح في ذلك عنزان، وبلغ ذلك خليفة الوقت مروان بن محمد بن مروان الأموي المعروف بالحمار، فسار من الشام فى مائة الف حتى نزل الرأس دون الموصل، فجهز السفاح عمه عبد الله بن علي في جيش فالتقى الجمعان على كشاف «1» في جمادى الآخرة فانكسر مروان وتقهقر إلى الجزيرة وقطع وراءه الجسر وقصد الشام ليتقوى «2» ويلتقي ثانياً بالمسودة، ودخل عبد الله بن علي العباسي الجزيرة فاستعمل عليها موسى بن كعب التميمي ثم طلب الشام مجداً، وأمده السفّاح بعمّه الآخر صالح ابن علي، فسار عبد الله حتى نزل دمشق فعجز مروان عن ملاقاته، وفر إلى غزة فحوصرت دمشق مدة ثم أخذت في شهر رمضان، وقتل خلق من بني أمية وجندهم لا يدخل تحت حصر، فلما بلغ مروان ذلك هرب إلى مصر ثم قتل في آخر السنة ببوصير حسبما ذكرناه، وهرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى النوبة، ووقع ما ذكرناه في ترجمة عبد الملك أمير مصر من قتل حوثرة وحسان وغير ذلك.
قال محمد بن جرير الطبري: كان بدء أمر بني العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عنه، أعلم العباس عمه أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك. وعن رشيد «3» بن كريب أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال: يا بن عم، إن عندي علماً أريد أن أبديه إليك فلا تطلعن عليه أحداً، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم، قال: قد علمته فلا يسمعنه منك أحد.
وروى المدائني عن جماعة أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال:
لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية، فعند(1/319)
ذلك يدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب؛ فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر، بعث محمد الإمام رجلاً إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم ولا يسمي أحداً ثم توجه أبو مسلم وغيره وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه، ثم وقع في يد مروان الحمار كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إلى أبي مسلم، جواب كتاب يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربية بخراسان فقبض مروان على إبراهيم، وقد كان مروان وصف له صفة السفاح التي كان يجدها في الكتب، فلما جيء بإبراهيم قال: ليست هذه الصفة التي وجدت، ثم ردهم وشرع في طلب الموصوف له، فإذا بالسفاح وإخوته وعمومته قد هربوا إلى العراق، فيقال: إن إبراهيم كان قد نعى إليهم نفسه وأمرهم بالهرب فساروا حتى نزلوا في الحميمة «1» في أرض البلقاء، ثم قدموا الكوفة فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، فبلغ الخبر أبا الجهم، فاجتمع بموسى بن كعب وعبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وإبراهيم بن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل [وعبد الله «2» ] بن بسام وجماعة من كبار شيعتهم، فدخلوا على آل العباس فقالوا: آيكم عبد الله بن محمد ابن الحارثية؟ فأشاروا إلى السفاح فسلموا عليه بالخلافة، ثم خرج السفاح يوم جمعة على برذون أبلق فصلى بالناس بالكوفة ثم عاد السفاح إلى المنبر ثانياً وقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فشرفه، وكرمه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوام به والذابين عنه. ثم ذكر قرابتهم في آيات من القرآن الشريف إلى أن قال: فلما قبض الله نبيه قام بالأمر أصحابه الى أن وتب بنو حرب وبنو مروان، فجاروا واستأثروا فأملى الله لهم حيناً حتى أسفوه فانتقم منهم(1/320)
بأيدينا، ورد علينا حقنا، ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا؛ وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يأهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا؛ أنتم الذين لم تتغيروا «1» عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدت في أعطياتكم مائة «2» مائة فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير «3» .
وكان السفاح موعوكاً فجلس، فقام عمه داود بن علي فخطب وأبلغ وقال: إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزيزاً إنما عاد إلى المنبر لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك فادعوا له بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتّبع لسلفه المفسدين فى الأرض الشابّ المتكهّل وسماه، فضج الناس له بالدعاء «4» .
وأما إبراهيم بن محمد (أعني أخا السفاح) الذي وقع له مع مروان ما ذكرناه، فإن مروان قتله بعد ذلك غيلة، وقيل: بل مات في السجن بحران بالطاعون، انتهى ما أوردناه من انفصال الدولتين
*** السنة الأولى من ولاية عبد الملك بن مروان بن موسى على مصر وهي سنة اثنتين وثلاثين ومائة- فيها كانت وقائع كثيرة بالعراق وغيره قتل فيها خلائق، ففي المحرم كانت الوقعة بين قحطبة وابن هبيرة حسبما تقدم ذكره في أول بيعة السفاح.
وفيها في ثالث شهر ربيع الأول بويع السفاح عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله(1/321)
ابن عباس بالخلافة، وقد تقدم أيضاً. وفيها كانت قتلة مروان الحمار، وقد تقدم ذكره أيضا، وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس آخر خلفاء بني أمية، وكنيته أبو عبد الملك، القائم بحق الله، وأمه أم ولد كردية، كان يعرف بالحمار وبالجعدي، وتسميته بالجعدي نسبة لمؤدبه جعد بن درهم، وبالحمار، يقال فلان أصبر من حمار في الحروب، ولهذا لقب بالحمار، فإنه كان لا يفتر عن محاربة الخوارج، وقيل: سمي بالحمار لأن العرب تسمّى كل مائة سنة حمارا، فلما قارب ملك بني أمية مائة سنة لقبوا مروان هذا بالحمار، وأخذوا ذلك من قوله تعالى في موت حمار العزيز: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ...
الآية وكان مولد مروان الحمار سنة اثنتين وسبعين بالجزيرة وأبوه متول عليها من قبل ابن عمه الخليفة عبد الملك بن مروان، فنشأ مروان في دولة أقار به وولي الولايات الجليلة، وافتتح عدة فتوحات حتى وثب على الأمر بعد إبراهيم بن الوليد، وبويع بالخلافة سنة سبع وعشرين ومائة، فلم يتهن بالخلافة لكثرة الحروب، وظهرت دعوة بني العباس وكان من أمرها ما كان وانقرض بموته دولة بني أمية. وفيها توفي خلائق يطول الشرح في ذكرهم ممن قتل في الحروب وأيضاً من أعوان بني أمية وغيرهم. وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو الخليفة السفاح لأبيه، وقد تقدم ذكر واقعته مع مروان الحمار في أمر الكتاب، وأمه أم ولد بربرية اسمها أسلم، وكان أبوه محمد أوصى إليه بالعهد فإنه كان بويع سراً فأدركته المنية، وكان شيعتهم يكاتبونه من خراسان حتى وقع له مع مروان ما حكيناه، وحبسه إلى أن مات في هذه السنة وقيل في الماضية، وبعد موته انضمت شيعته على عبد الله السفاح. وفيها قتل سعيد بن عبد الملك بن مروان أبو محمد، وكان يعرف بسعيد الخير، قتل بسيف عبد الله بن علي العباسي عم السفاح، وكان ديّنا خيّرا ولى لأقار به خلفاء بني أمية(1/322)
أعمالاً جليلة. وفيها توفي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان شجاعاً ديناً كريماً، وكان ولي العراق وحفر بالبصرة نهراً يعرف بنهر ابن عمر. وفيها توفّى محمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أبو عبد الملك الأنصاري، ولي قضاء المدينة.
وفيها توفي محمد بن عبد الملك أخو سعيد لأبويه، تقدمت ترجمته في ولايته على مصر سنة خمس ومائة. وفيها توفي يزيد بن عمر بن هبيرة بن معاوية الأمير أبو خالد، وقيل أبو عمرو الفزاري، ولي الأعمال الجليلة وغزا القسطنطينية مع مسلمة بن عبد الملك وجمع له بين العراقين سنة ثلاث ومائة وكان خطيباً شاعراً شجاعاً، وكان السفاح أمنه فبعث إليه أبو مسلم الخراساني وحرضه على قتله فأمر بقتله فقتل هو وابنه داود وكاتبه عمر بن أيوب وعدة من مواليه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبع واحد.
ذكر ولاية صالح بن علي العباسي الأولى على مصر
هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي، أول من ولي مصر من قبل خلفاء بني العباس، مولده بالسواد وقيل بالشراة «1» من أرض البلقاء سنة ست وتسعين من الهجرة، ولى مصر من قبل ابن أخيه أمير المؤمنين عبد الله السفاح بعد قتل مروان الحمار في أول محرم سنة ثلاث وثلاثين ومائة وقد تقدم ذكر قتاله مع مروان في ترجمة عبد الملك بن مروان بن موسى أمير مصر ولما ولي صالح مصر بعث ببيعة أهل مصر لأمير المؤمنين عبد الله السفاح، ثم أخذ صالح في إصلاح أمر مصر وقبض على جمع كثير من المصريين الأمويّين، منهم(1/323)
عبد الملك بن مروان بن موسى أمير مصر وأخوه، وقتل كثيراً من شيعة بني أمية وحمل طائفة منهم إلى العراق وقتلوا بقلنسوة من أرض فلسطين، وأمر للناس بأعطياتهم للمقاتلة والعيال، وقسم الصدقات على الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، وزاد في المسجد زيادة هائلة، وجعل على شرطته ابن هانئ»
الكندي، ثم ورد عليه بعد مدة طويلة كتاب السفاح بإمارته على فلسطين والاستخلاف على مصر، فاستخلف على مصر أبا عون عبد الملك، وخرج منها في شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وسار معه عبد الملك بن مروان بن موسى، الذي كان أمير مصر، مكرماً وعدة من أهل مصر- تأتي بقية ترجمة صالح بن علي هذا في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى- فكانت ولاية صالح على مصر في هذه المرة سبعة أشهر وأياماً.
*** السنة التي حكم فيها صالح على مصر وهي سنة ثلاث وثلاثين ومائة- فيها استعمل الخليفة السفاح على البصرة عمه سليمان بن علي، واستعمل على مكة خاله زياد بن عبيد الله، وعلى اليمن ابن خالة محمد بن زياد بن عبيد الله. وفيها وجه السفاح على إفريقية محمد بن الأشعث. وفيها خرج ببخارا شريك بن شيخ المهري «2» ، وكان قد نقم على أبي مسلم الخراساني تجبره فجهز إليه أبو مسلم جيشاً فحاربوه وقتلوه.
وفيها خرج طاغية الروم قسطنطين بجيوشه وأخذ ملطية وهدم السور والجامع.
وفيها قتل عبد الله بن علي عم السفاح الخليفة خلقا كثيرا من قواد بني أمية. وفيها توفي داود بن علي بن عبد الله بن العباس عم [الخليفة «3» ] السفاح، وكان ولي المدينة ومكة(1/324)
وحج بالناس في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهو أول أمير حج بالناس من بني العباس، وقتل داود هذا أيضاً في ولايته خلقاً من بني أمية وأعوانهم، ثم مات بعد أشهر، واستخلف حين احتضر على عمله ولده موسى، فاستعمل السفاح على مكة خاله زياداً المقدم ذكره، وموسى «1» بن داود على إمرة المدينة لا غير. وفيها قتل عبد الرحمن ابن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وفيها قتل عبد الله بن علي عم السفاح ثعلبة وعبد الجبار ابني أبي سلمة بن عبد الرحمن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وتسعة أصابع.
ذكر ولاية أبي عون الأولى على مصر
هو أبو عون، واسمه عبد الله وقيل عبد الملك بن يزيد الأمير أبو عون، أصله من أهل جرجان ولي صلاة مصر وخراجها باستخلاف صالح بن علي بن عبد الله بن العباس له في مستهل شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائة، واستمر أبو عون بمصر إلى أن وقع الوباء بها فخرج منها، واستخلف على مصر صاحب شرطته عكرمة بن عبد الله ابن عمرو بن قحزم (وقحزم بفتح القاف وسكون الحاء المهملة وفتح الزاي وبعدها ميم) ثم عاد أبو عون إلى مصر بعد الوباء وأقام بها إلى أن خرج منها ثانياً إلى دمياط في سنة خمس وثلاثين ومائة، واستخلف على مصر عكرمة أيضاً وجعل على الخراج عطاء بن شرحبيل. وفي هذه السنة خرج القبط عليه بسمنود بالوجه البحري من(1/325)
أعمال مصر فبعث إليهم أبو عون جيشاً فحاربوهم وقتلوهم، وفي أيام أبي عون هذا سكنت أمراء مصر العسكر «1» .
وسببه أنه لما قدم صالح بن علي العباسي وأبو عون هذا بجموعهم إلى مصر في طلب مروان الحمار نزلت عساكرهما الصحراء جنب جبل يشكر الذي هو الآن جامع أحمد بن طولون وكان فضاءً، فلما رأى أبو عون ذلك أمر أصحابه بالبناء فيه فبنوا وبنى هو به أيضاً دار الإمارة ومسجد عوف بجامع «2» العسكر، وعملت الشرطة «3» أيضاً في العسكر وقيل لها الشرطة العليا، وإلى جانبها بنى الأمير أحمد بن طولون جامعه «4» الموجود الآن، وسمي من يومئذ ذلك الفضاء(1/326)
العسكر وصار منزلاً لأمراء مصر من بعد أبي عون وصار العسكر مدينة ذات أسواق ودور عظيمة، وفيه أيضاً بنى الأمير أحمد بن طولون بيمارستانه «1» ، وكان البيمارستان المذكور بالقرب من بركة قارون «2» التي صارت الآن كيماناً وبعضها بركة على يسار من مشى من حدرة ابن «3» قميحة يريد قنطرة السد، وعلى هذه البركة بنى كافور الإخشيدي داراً «4» صرف عليها مائة ألف دينار وسكنها، وزادت العمائر في العسكر إلى أن ولي أحمد بن طولون وقدم إلى مصر من العراق، فنزل على عادة الأمراء بدار الإمارة بالعسكر، فما زال بها أحمد بن طولون إلى أن بنى القصر والميدان «5»(1/327)
بالقطائع «1» وتحول إليها، ودام بها إلى أن مات وولي ابنه خمارويه بن أحمد بن طولون وجعل دار الإمارة بالعسكر ديوان الخراج، يأتي ذكر ذلك في ترجمتهما إن شاء الله تعالى.
فلما زالت دولة بني طولون وولي محمد بن سليمان الكاتب الأتي ذكره سكن بدار في العسكر عند المصلى القديمة حيث الكوم المطل الآن على قبر القاضي بكار «2» بن قتيبة، وما زالت الأمراء بعد ذلك تنزل بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر المعزي من المغرب إلى مصر وبنى القاهرة المعزّية فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. انتهى أمر العسكر وسبب بنيانه باختصار، وهذا التعريف بالعسكر مقدمة لما يأتي بعد ذلك من سكن أمراء مصر به.
وأما أبو عون فإنه لما أرسل وحارب القبط وقتلهم بسمنود عاد إلى مصر، وبينما هو كذلك في أموره ورد عليه كتاب الخليفة أبي العباس عبد الله السفاح بعزله وولاية صالح بن علي العباسي ثانياً على مصر على الصلاة والخراج، ومع ذلك ولاية فلسطين أيضاً والغرب، ثم وردت الجيوش من قبل السفاح مع صالح بن علي لغزو المغرب، وكانت ولاية أبي عون على مصر في هذه المرة الأولى ثلاث سنين إلا(1/328)
أربعة أشهر، ويأتي بقية ترجمة أبي عون هذا في ولايته الثانية على مصر إن شاء الله تعالى.
*** السنة الأولى من ولاية أبي عون على مصر وهي سنة أربع وثلاثين ومائة- على أنه حكم مصر أشهراً من سنة ثلاث وثلاثين ومائة التي ذكرناها فى حوادث صالح بن على. اهـ. فيها (أعني سنة أربع وثلاثين ومائة) تحول الخليفة السفاح من الحيرة ونزل الأنبار وسكنها. وحج بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى العباسي. وفيها كانت حروب كثيرة من جهة ملك الصين وغيره كما هي عوائد أوائل الدول، والسفاح مشغول في تمهيد الممالك في هذه السنة والخالية.
وأما عمال السفاح في هذه السنة: على الشأم عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون صاحب الترجمة، وعلى الجزيرة وأذربيجان أخو الخليفة السفاح، وعلى ديوان الأموال خالد بن برمك، وعلى خراسان أبو مسلم الخراساني، وعلى البصرة سليمان بن علي عم السفاح. وفيها توفي يزيد بن يزيد «1» بن جابر الأزدي، كان من الزهاد الخائفين البكائين، أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وفيها توفي يونس بن عبيد أبو عبد الله مولى عبد القيس من الطبقة الرابعة من تابعي أهل البصرة، كان يحدث ثم يقول: أستغفر الله ثلاثاً. وفيها كان الطاعون بالري وأعمالها ومات فيه خلق كثير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع.(1/329)
*** السنة الثانية من ولاية أبي عون على مصر وهي سنة خمس وثلاثين ومائة- فيها خلع زياد طاعة الخليفة السفاح بما وراء النهر فتهيأ لحربه أبو مسلم الخراساني، وبعث نصر بن راشد إلى ترمذ «1» ليحصنها، فقاتلته طائفة من الخوارج، وسار أبو مسلم وحارب زياد بن صالح المذكور وقبض عليه.
وذكر الذهبي هذه الواقعة في سنة خمس وثلاثين ومائة. وفيها أيضاً كانت حركة ملك الصين، وكان زياد بن صالح المذكور متولي سمرقند فتهيأ لقتاله وكتب إلى أبي مسلم الخراساني بذلك، ووقع لهم معه أمور وحروب إلى أن انهزم ملك الصين، كل ذلك قبل خروج زياد بن صالح عن الطاعة. وفيها توفيت رابعة «2» العدوية البصرية الزاهدة العابدة، وكانت مولاة لآل عتيك، وكان سفيان الثوري وأقرانه يتأدبون معها، وكانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعةً خفيفة حتى يسفر الفجر ثم تثب إلى الصلاة وتقول: يا نفس كم تنامين، وإلى كم لا تقومين «3» ؛ يوشك أن تنامين نومة لا تقومين منها إلا بصرخة «4» .
وفيها قتل سليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، وكان سليمان مبايناً لمروان الحمار والتجأ لبنى العباس فأمنه السفاح وصار يجالسه، فأرسل إليه أبو مسلم الخراساني يقول: قد بقي من الشجرة الملعونة فرع، في كلام طويل، فلم يلتفت السفاح إلى كلامه فدس أبو مسلم إلى سديف الشاعر مالاً وقال له: قل في هذا المعنى شعراً، فأنشد سديف المذكور السفاح وأشار إلى سليمان:(1/330)
لا يغرنك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الضلوع داءً دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فكان ذلك سبب قتله فضرب السفاح عنقه وعنق ولديه وصلبهم. وفيها توفي عطاء الخراساني البجلي أبو عثمان بن أبي مسلم ميسرة مولى المهلب بن أبي صفرة من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، كان عالماً زاهداً فقيه أهل خراسان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية صالح بن علي العباسي ثانياً على مصر
وليها ثانياً من قبل السفاح فقدم مصر بجيوش كثيرة من فلسطين لغزو بلاد المغرب، وكان قدومه إلى مصر في يوم خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومائة، ولما دخل مصر أقر عكرمة على شرطته بالفسطاط وجعل على شرطته بالعسكر يزيد بن هانىء الكندي، وولى أبا عون المعزول عن إمرة مصر جيوش المغرب وقدمه صالح المذكور أمامه إلى نحو إفريقية، وكان خروج أبي عون بجيوشه إلى نحو المغرب في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وجهزت المراكب من إسكندرية إلى برقة، وبينما هم في ذلك قدم الخبر بموت أمير المؤمنين عبد الله السفاح في ذي الحجة واستخلاف أبي جعفر المنصور، فأقر أبو جعفر المنصور عمه صالح بن علي هذا على عمل مصر على عادته وكتب إلى أبي عون بالرجوع عن غزو إفريقية، فأرسل صالح إلى أبي عون بالخبر، فأقام أبو عون ببرقة أحد عشر شهراً ثم عاد إلى مصر بجيشه، فجهزه صالح هذا إلى فلسطين لحرب الخوارج بها، فسار أبو عون وحاربهم وهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمةً، وسير إلى مصر(1/331)
منهم ثلاثة آلاف رأس، ثم خرج صالح بن علي بعد ذلك من مصر إلى فلسطين واستخلف ابنه الفضل على صلاة مصر، فسافر حتى بلغ بلبيس ثم رجع إلى مصر وأقام بها إلى أن خرج منها ثانياً لأربع خلون من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ومائة فلقى أبا عون فأمره على صلاة مصر وخراجها معاً ومضى إلى فلسطين، ودخل أبو عون الفسطاط لأربع بقين من شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين ومائة وسكن العسكر ودام على إمرة مصر، واستمر صالح بن علي بفلسطين إلى أن أمره المنصور بالتوجه لغزو الروم في سنة ثمان وثلاثين ومائة فخرج صالح حتى نزل مرج دابق، وأقبلت جيوش الروم مع ملكهم قسطنطين في مائة ألف، فلقيه صالح هذا بالمسلمين ونصره الله تعالى على الروم فقتل منهم وسبى وغنم، ثم حج بالناس في سنة إحدى وأربعين ومائة ثم غزا الروم والصائفة غير مرة، وهو الذي بنى حصن دابق ومات وهو عامل حمص بقنسرين، وقيل مات بعين أباغ «1» ، وقد بلغ ثمانياً وخمسين سنة، واستخلف ابنه الفضل على حمص فأقره الخليفة أبو جعفر المنصور على ذلك، وكان صالح صالحاً فاضلاً، وله رواية أسند عن أبيه، وروى عنه ابناه إسماعيل وعبد الملك، وهو عم السفاح والمنصور.
*** السنة الأولى من ولاية صالح بن علي العباسي الثانية على مصر وهي سنة ست وثلاثين ومائة- على أن أبا عون حكم منها أشهراً على مصر. فيها بايع أهل دمشق هاشم بن يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان لما بلغهم موت السفاح. وحكى الذهبي ذلك في سنة سبع وثلاثين ومائة اهـ، فتوجّه صالح ابن علي من فلسطين بالجيوش إلى الشام، فلما أظلهم صالح بالجيوش وهربوا ملك(1/332)
صالح الشام بعد أمور صدرت. وفيها دعا عبد الله بن علي العباسي عم السفاح لنفسه وقال: إن السفاح قال: من انتدب لمروان الحمار فهو ولي عهدي من بعدي، وعلى هذا خرجت، فلما بلغ الخليفة أبا جعفر المنصور ذلك قال لأبي مسلم الخراساني: فإنما هو أنا وأنت؛ فسار أبو مسلم نحو عبد الله بن علي المذكور فوقع له معه وقعة هائلة كاد أن ينهزم فيها أبو مسلم، ثم كان النصر له وانهزم عبد الله ابن علي، فلما بلغ المنصور ذلك بعث لأبي مسلم الخراساني بولاية مصر والشأم معاً فأظهر أبو مسلم الغضب وقال: يوليني مصر والشام وأنا لي خراسان! وعزم على الشر، وقيل: بل شتم المنصور لما جاءه من عنده من يحصي الغنائم، وأجمع على الخلاف ثم طلب خراسان، وخرج المنصور إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم ليقدم عليه في طريقه، فرد عليه الجواب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان «1» أنه أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء؛ فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، فإن أرضاك ذلك فإنا أحسن عبيدك، وإن أبيت نقضت ما أبرمت من عهدك «2» . فرد عليه المنصور الجواب يطمنه مع جرير بن يزيد البجلي، وكان واحد وقته فخدعه.
وأما عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد، فقصد عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فأمنه المنصور، وتوجه عبد الله بن علي إلى أخيه سليمان بن علي متولي البصرة فاختفى عنده، والصحيح أن هذه الفتنة كان ابتداؤها في أواخر هذه السنة غير أن الوقعة والهرب كانا في سنة سبع وثلاثين ومائة. وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله السفاح بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، أول خلفاء بني العباس، مات في ذي الحجة وله ثلاث وثلاثون(1/333)
سنة، وكانت خلافته أربع «1» سنين، فإنه ولي في سنة اثنتين وثلاثين ومائة قبل قتل مروان الحمار، وبه كان انقراض دولة بني أمية، وكان أبوه محمد بن علي، بويع بالخلافة قبل موته بسنتين «2» فلم يتم أمره، وعهد عند موته لابنه السفاح «3» هذا قبل أبي جعفر المنصور، وكان أسن من السفاح ولما مات [السفاح «4» ] هذا، ولي أخوه أبو جعفر المنصور الخلافة من بعده.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وثمانية أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية صالح بن علي العباسي على مصر وهي سنة سبع وثلاثين ومائة- فيها قدم الخليفة أبو جعفر المنصور الكوفة وتأخر بعده أبو مسلم الخراساني بأيام؛ وكانا تلك السنة معاً في الحج فأتاهما الخبر بموت السفاح وبخلافة المنصور. وقد ذكرنا خروج عبد الله بن علي العباسي على أبي جعفر المنصور في العام الماضى وهو وهم، وإن كان خروجه كان في آخر السنة الماضية فما واقعه أبو مسلم إلا في هذه السنة. اهـ. وفيها حج بالناس إسماعيل بن علي وهو أمير الموصل، وكان أمير المدينة في هذه السنة زياد بن علي، وأمير مكة العباس بن عبد الله، ومات في آخر السنة، فأضاف أبو جعفر المنصور مكة إلى زياد، وكان على(1/334)
الكوفة عيسى بن موسى العباسي، وعلى البصرة سلمان بن علي عم المنصور، وعلى خراسان أبو داود، وعلى مصر صالح صاحب الترجمة، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة.
وفيها قتل الخليفة أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني وولى أبا داود خالد بن إبراهيم خراسان عوضه، واسم أبي مسلم عبد الرحمن وهو صاحب دعوة بني العباس وأحد من قام بأمرهم حتى تم له ذلك ووطأ لهم البلاد وقتل العباد وقصة قتلته تطول. وكان أبو مسلم شاباً جباراً مقداماً شجاعاً عارفاً صاحب رأي وتدبير ودهاء ومكر وعقل وحذق، قيل إنه كان يجامع في السنة مرة واحدة مع كثرة جواريه، فقيل له في ذلك، فقال: يكفي الشخص أن يتجنن في السنة مرة. ويحكى أن أبا جعفر المنصور لما قتله أدرجه في بساط وطلب جعفر بن حنظلة، فقال أبو جعفر المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك الله ها هو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين، هذا أول «1» خلافتك، فأنشد المنصور:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر «2»
ثم أنشد المنصور ثانياً وبين يديه وجوه دولته وأعوان مملكته وأعيانها وأقاربه:
زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
واختلف في اسم أبي مسلم واسم أبيه، فقيل: اسمه عبد الرحمن بن مسلم بن شقيرون بن إسفنديار، وقيل: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، وقيل: عبد الرحمن(1/335)
ابن محمد، وسماه أبو بكر الخطيب إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سدوس بن جودر «1» من ولد يزدجرد «2» ، وقيل: إنما سماه عبد الرحمن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي العباسي، وكناه: أبا مسلم، وكانت كنيته: أبا اسحاق، وكان مولده سنة مائة بأصبهان. اهـ. وفيها توفي صفوان بن صالح بن صفوان أبو عبد الملك الدمشقي الثقفى ولد سنة ست وسبعين، وكان فقيهاً زاهداً عابداً، وكان يؤذن بجامع دمشق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع.
ذكر ولاية أبي عون الثانية على مصر
كانت ولايته هذه الثانية على مصر من قبل صالح بن علي العباسي لما توجه إلى فلسطين كما تقدم ذكره، ثم أقره الخليفة أبو جعفر المنصور على إمرة مصر على صد؟؟؟ ها وخراجها معاً، وكان يوم دخول أبي عون المذكور إلى مصر يوم سادس عشرين شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين ومائة، وجعل على شرطته عكرمة بن عبد الله وعلى الدواوين عطاء بن شرحبيل، ودام أبو عون على صلاة مصر وخراجها معاً إلى أن قدم الخليفة أبو جعفر المنصور إلى بيت المقدس، فكتب بطلب أبي عون المذكور إلى عنده ببيت المقدس وأمره بأن يستخلف على مصر، فاستخلف أبو عون المذكور عكرمة على الصلاة وعطاء بن شرحبيل على الخراج، وخرج من مصر في النصف من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، فلما وصل أبو عون إلى المنصور ببيت المقدس عزله عن إمرة مصر وولى عليها موسى بن كعب، فكانت ولايته(1/336)
هذه الثانية على مصر ثلاث سنين وستة أشهر، ودام أبو عون في صحبة الخليفة أبى جعفر المنصور، وحضر وقعة الراوندية مع المنصور، والراوندية: قوم من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب الدعوة يأتي ذكرهم في الحوادث في سنة الواقعة مع المنصور.
*** السنة الأولى من ولاية أبي عون الثانية على مصر وهي سنة ثمان وثلاثين ومائة- فيها بعث أبو جعفر المنصور لقتال ملبد الشيباني خازم بن خزيمة، فسار خازم في ثمانية آلاف فارس، وكان ملبد هذا قد خرج على المنصور من أول خلافته فالتقوا فقتل ملبد بعد حروب كثيرة. وفيها غزا صالح بن علي الروم على دابق «1» ، وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته وأخذ ملطية، وكانت الروم أخذوها من مدة سنين. وفيها حج بالناس الفضل بن صالح بن علي العباسي من الشام من عند أبيه. وفيها توفّى زيد ابن واقد الدمشقي؛ وفيها ظهر عبد الله بن علي العباسي وبعث بالبيعة مع أخيه سليمان متولي البصرة إلى أبي جعفر المنصور فأمنه أبو جعفر المذكور وعفا عنه.
وفيها دخل عبد الرحمن «2» بن معاوية الأموي إلى الأندلس واستولى عليها وامتدت أيامه وبقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة، وكان هرب من بني العباس إلى المغرب ودخل الأندلس، فسمي بعبد الرحمن الداخل، يأتي ذكره وذكر أولاده من بعده في عدة أماكن من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وذكر الذهبي وفاة جماعة كثيرة في هذه السنة، قال: وتوفي زيد بن واقد القرشي بدمشق، وسهيل بن أبي صالح في قولٍ، وسليمان بن فيروز أبو إسحاق(1/337)
الشيباني «1» في قول، والعلاء بن عبد الرحمن المدني، وعبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله المخزومي في قول، وعلقمة بن أبي علقمة في قول، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب في قول، وليث بن أبي سليم في قول «2» ، والمسور بن رفاعة القرظي المدني.
أمر النيل في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية أبي عون الثانية على مصر وهي سنة تسع وثلاثين ومائة- فيها حج جعفر بن حنظلة البهراني «3» فأتى ملطية وهي خراب فعسكر بها، وأقبل الأمير عبد الواحد فنزل على ملطية فزرع أرضها وطبخ كلساً لبناء سورها، ثم خرج عنها لأمرٍ اقتضى ذلك، فأرسل طائفة الروم من أحرق الزرع. وفيها خرج الأمير صالح بن علي المقدم ذكره والعباس بن محمد فأوغلا في بلاد الروم، وغزتا معهما أم عيسى ولبابة أختا الأمير صالح بن علي المذكور وعمتا المنصور الخليفة، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله، وبعد هذا العام لم يكن غزو إلى سنة ست وأربعين ومائة لاشتغال الخليفة المنصور بخروج ابني عبد الله بن الحسن عليه. وفيها عزل المنصور عمه سليمان بن علي عن البصرة وولّى عليها سفيان ابن سعيد. وفيها اختفى عبد الله بن علي وابنه خوفاً على أنفسهما، وعبد الله هذا هو الذي كان خرج على المنصور وأختفي عند أخيه سليمان الذي عزل عن البصرة في هذا العام ثم ظفر به المنصور وسجنه. وفيها حج بالناس العباس ابن أخي المنصور.(1/338)
وفيها في قول صاحب المرآة: وصل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان إلي جزيرة الأندلس وملكها، ويسمى عبد الرحمن الداخل، وكنيته أبو المطرف «1» ، وأمه أم ولدٍ وبويع بالأندلس في هذه السنة، وهو أول الخلفاء من بني أمية وأقام عليها ثلاثاً وثلاثين سنة، وقد تقدم ذكر عبد الرحمن هذا في الماضية في قول الذهبي. وفيها وسع الخليفة أبو جعفر المنصور المسجد الحرام مما يلي دار الندوة.
وفيها توفي عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي قاضي دمشق في أيام الوليد بن يزيد. وفيها توفي عمرو بن مهاجر بن دينار أبو عبيد، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأحد عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثالثة من ولاية أبي عون الثانية على مصر وهي سنة أربعين ومائة- فيها بنى المصيصة «2» جبريل بن يحيى وسكنها الناس. وفيها ثار جمع من جند خراسان على أميرها أبي داود خالد بن إبراهيم ليلاً حتى وصلوا إلى داره فأشرف عليهم وجعل ينادي أصحابه فانكسرت به آجرة فوقع من أعلى داره فانكسر ظهره ومات من الغد، فبعث الخليفة أبو جعفر المنصور على إمرة خراسان عوضه عبد الجبار بن عبد الرحمن(1/339)
الأزدي، فسار المذكور وقبض على جماعة من أهل خراسان وقتلهم. وفيها توجه الأمير عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد العباسي ابن أخي الخليفة أبي جعفر المنصور إلى ملطية فأقام بها سنة حتى بناها ورم شعثها وأسكنها الناس. وفيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور وعاد من الحج فزار بيت المقدس وسلك الشأم في طريقه ونزل الرقة فقتل بها منصور بن جعفر العامري ثم سار إلى الهاشمية وهي مدينة الكوفة وأمر بالشروع فى بناء مدينة بغداد واختطّها.
وذكر الذهبي بناء بغداد في سنة خمس وأربعين ومائة قال: وفي هذه السنة أسست مدينة السلام بغداد وهي التي تدعى مدينة المنصور، سار المنصور يطلب موضعاً يتخذه بلداً فبات ليلةً موضع القصر، فطاب له المبيت ولم ير إلا ما يحب، فقال: ها هنا ابنوا فإنه طيب ويأتيه مادة الفرات ودجلة والأنهار، فخط بغداد ووضع أول لبنة بيده وقال: بسم الله وبالله والحمد لله ابنوا على بركة الله؛ وسأل راهباً هناك عن أمر الأرض وصحتها وقال: هل تجدون في كتابكم «1» أن تبنى ها هنا مدينة؟ قال: نعم؛ يبنيها مقلاص «2» ، قال: فأنا «3» كنت أدعى بذلك، وطلب المنصور الصناع والفعلة من البلاد وأحضر المهندسين والحكماء والعلماء، وكان فيمن أحضر حجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، ورسمت له بالرماد سورها وأبوابها وأسواقها، ثم بنيت حتى كمل المهم منها في عام والباقي في أربع سنين، وكانت بقعة بغداد مزرعة تدعى المباركة لستين نفسا فعوّضهم المنصور عنها وأرضاهم، وقيل: إنه ليس في الدنيا مدينة مدورة سواها، وعمل في وسطها دار المملكة بحيث إنه إذا كان في قصره كان(1/340)
جميع أطراف البلد إليه سواء، وسكنها المنصور ونقل إليها خزائنه، وقيل سعتها مائة وثلاثون جريباً، وأنفق عليها مائة «1» ألف ألف درهم.
وقال بدر المعتضدي قال لنا أمير المؤمنين: انظروا كم سعة مدينة المنصور؟
فحسبنا فإذا هي ميلان مكسران في ميلين، وقيل: مسافة ما بين كل باب وباب ألف ومائتا ذراع، وكلها مبنية بالآجر واللبن، واللبنة ذراع في ذراع، وزنتها مائة رطل وسبعة عشر رطلاً. ولها أربعة أبواب بين الباب والباب ثمانية وعشرون برجاً وعليها سوران، ثم بنى الجامع والقصر، وفي صدر القصر القبة الخضراء، ارتفاعها ثمانون ذراعاً، ودامت حتى سقط رأسها في ليلة مطر ورعد في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة؛ وكان لا يدخل هذه المدينة أحد راكباً سوى المنصور وابنه محمد المهدي «2» .
وقال الصولي قال أحمد «3» بن أبي طاهر: ذرع بغداد- يعني الجديدة- ذرع الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وفي نسخة أخرى غير رواية الصولي:
أنها من الجانبين ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة، قال الصولي وذكر ابن أبي طاهر: أن عدد حماماتها كانت ذلك الوقت ستين ألفاً، وقال: أقل ما يدير «4» كل حمام خمسة أنفس، وذكر أن بإزاء كل حمام خمسة مساجد.
قال الذهبي: وكذا نقل الخطيب في تاريخه، وما أعتقد أنا هذا قط ولا عشر ذلك، ثم قال الخطيب: حدّثنى هلال بن الحسن «5» قال: كنت بحضرة جدّى إبراهيم(1/341)
ابن هلال الصابي فقال تاجر: يذكر أن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمام فقال جدي:
سبحان الله! هذا سدس ما كنا عددناه وحصرناه زمن الوزير المهلبي، ثم كانت في دولة عضد الدولة بن بويه خمسة آلاف. ونقل ابن خلكان أن استكمال بغداد كان في سنة تسع وأربعين ومائة، وهي بغداد القديمة التي بالجانب الغربي على دجلة، وبغداد اليوم هي الجديدة بالجانب الشرقي؛ وفيها دار الخلافة. انتهى كلام الذهبي وغيره باختصار. وقد خرجنا عن المقصود في هذا الكتاب لكثرة الفوائد. وفيها توفي منصور بن جعونة بن الحارث بن خالد العامري كان ممن خرج على بني العباس وامتنع عن بيعتهم.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة قال: وفيها توفي أيوب أبو العلاء القصاب، وداود «1» بن أبي هند في أولها، وأبو حازم سلمة «2» بن دينار الأعرج، وسهيل ابن أبي صالح، وسعد بن إسحاق بن كعب، وصالح بن كيسان، وعروة بن رويم.
وقيل: وفيها توفي عمارة بن غزية الأنصاري، وعمرو «3» بن قيس السكوني الحمصي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعا ونصف.
ذكر ولاية موسى بن كعب على مصر
هو موسى بن كعب الأمير أبو عيينة التميمي، أحد نقباء بني العباس، ولاه الخليفة أبو جعفر المنصور على إمرة مصر بعد عزل أبي عون، فدخل مصر(1/342)
لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائة وسماه صاحب «البغية» موسى بن كعب بن عيينة. اهـ.
قلت: وولي على صلاة مصر وخراجها معاً، ونزل العسكر المقدم ذكره وسكنه، وجعل على شرطته عكرمة بن عبد الله وباشر أمر مصر «1» بحرمة وافرة، ونهى الجند «2» أن «3» يتوجهوا إليه أو يتكلموا معه إلا في أمر مهم ولا يفعلوا به كما كانوا يفعلون بالأمراء من قبله، فانتهوا عنه حتى إنه لم يمكن «4» أحداً أن يجتاز ببابه إلا من له عنده حاجة أو أذن له في ذلك. وموسى هذا هو أول من بايع أبا العباس السفاح بالخلافة في مبدأ أمره وأخرجه إلى الناس، وكان هو القائم بأمر بني العباس مع أبي مسلم الخراساني، وكان موسى هذا يسافر إلى البلاد ويدعو الناس للقيام مع بني العباس حتى قبض «5» عليه أسد بن عبد الله القسري عامل خراسان يوم ذاك لبني أمية، فأمر به أسد فألجم بلجام وكسرت أسنانه وعوقب ثم أطلق بعد شدائد، فلما صار الأمر إلى بني العباس أمالوا الدنيا عليه، وكان قاسى الأهوال بسبب دعوتهم وعذب وحبس كما سيأتي ذكره، وكان يقول لما ولي مصر: كانت لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان؛ وكان أبو جعفر المنصور يعظمه ويجل مقداره، وكان جعله على شرطته ثم ولاه مصر مكرهاً وأضاف له السند، فلم تطل مدته على إمرة مصر وعزله أبو جعفر المنصور في ذي القعدة كما سيأتي ذكره بمحمد بن الأشعث، وكتب إليه المنصور: إني عزلتك عن غير سخط، ولكن بلغني أن عاملاً «6»(1/343)
يقتل بمصر يقال له موسى، فكرهت أن تكونه؛ فأخذ موسى كلام المنصور لغرض من الأغراض، فقتل بعد ذلك بسنين موسى بن مصعب، في خلافة محمد المهدي كما سيأتي ذكره إن شاء الله، ولما صرف موسى بن كعب عن إمرة مصر استخلف على الجند خالد بن حبيب وعلى الخراج نوفل بن الفرات، وخرج موسى هذا من مصر لست بقين من ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائة، وكانت ولايته على مصر سبعة أشهر وأياماً، ولما خرج من مصر سار حتى قدم على الخليفة أبي جعفر المنصور فأكرم الخليفة نزله وولاه على الشرطة ثانياً، ومات بعد مدة يسيرة، وقيل: إنه توجه مريضاً فمات في أثناء قدومه ولم يل الشرطة ولا غيرها، وعلى القولين فأنه مات في هذه السنة رحمه الله تعالى.
وأما أمر موسى هذا مع أسد وكان ذلك في سنة سبع عشرة ومائة فإنه كان خرج هو وسليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهرّ بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة ابن زريق فدعوا الناس لبني العباس، فظهر أمرهم فقبض عليهم أسد بن عبد الله وقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
فقال له سليمان بن كثير: نحن والله كما قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «1»
صيدت والله العقارب بيديك.
إنا أناس من قومك وإن المضرية رفعوا إليك هذا لأننا كنا أشدّ الناس على قتيبة ابن مسلم فطلبوا بثأرهم، فحبسهم وأطلق من كان معهم من أهل اليمن لأنه كان(1/344)
منهم، وأراد قتل من كان من مضر، فدعا موسى بن كعب هذا وألجمه بلجام حمار وجذب اللجام فتحطمت أسنانه ودق وجهه وأنفه، ثم دعا لاهز بن قريظ وضربه ثلثمائة سوط «1» .
*** السنة التي حكم فيها موسى بن كعب على مصر وهي سنة إحدى وأربعين ومائة فيها كان عزله وولايته. وفيها كانت وقعة الراوندية ببغداد، وهم قوم من خراسان على رأي أبي مسلم الخراساني، يقولون بتناسخ الأرواح، فيزعمون أن روح آدم عليه السلام حلّت فى عثمان بن نهيك، وأنّ المنصور هو ربهم، وأن الهيثم بن معاوية هو جبريل، وأتوا قصر المنصور وجعلوا يطوفون به، فقبض المنصور على مائتين منهم وحبسهم فغضب الباقون، فعمدوا إلى نعش فارغ وحملوه يزعمون أنها جنازة ومروا بها على باب السجن، فشدوا على أهل السجن بالسلاح حتى فتحوا باب السجن، وأخرجوا أصحابهم وقصدوا المنصور، فخرج إليهم المنصور على غفلة فكانت بينهم وقعة كاد المنصور أن يقتل فيها، وقتل عثمان بن نهيك بسهم ثم وضع المنصور فيهم السيف. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور زياد بن عبيد الله «2» الحارثي عن مكة والمدينة والطائف وولى محمد بن خالد بن عبد الله القسري المدينة، وولى الهيثم بن معاوية مكة والطائف. وفيها توفي موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني أبو محمد صاحب المغازي مولى أل الزبير بن العوام، ومغازيه في مجلد صغير، أدرك سهل بن سعد وحدث عن أم خالد بنت خالد وعن عروة وكريب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والأعرج وحمزة بن عبد الله بن عمرو الزهري وخلقٍ، وحدث عنه ابن جريج والأمام مالك وعبد الله بن المبارك وابن عيينة وغيرهم.(1/345)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
ذكر ولاية محمد بن الأشعث على مصر
هو محمد بن الأشعث بن عقبة بن أهبان الخزاعي أمير مصر، وليها من قبل المنصور بعد عزل موسى بن كعب التميمي، ولاه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور على الصلاة والخراج معاً وقدم مصر في يوم الاثنين خامس ذى الحجة من سنة إحدى وأربعين ومائة، وولى على شرطته المهاجر بن عثمان الخزاعي ثم عزله وجعل عوضه محمد بن معاوية الكلاعي مكانه. ولما استقر محمد بن الأشعث هذا في إمرة مصر، أرسل الخليفة أبو جعفر المنصور إلى نوفل بن الفرات أن يعرض على محمد بن الأشعث ضمان خراج مصر، فإن ضمنه فأشهد عليه وأشخص إلي الشهادة، وإن أبى فكن أنت على الخراج عادتك، فعرض نوفل على ابن الأشعث هذا الكلام فأبى من الضمان، فانتقل نوفل إلى الدواوين ففقد محمد بن الأشعث من عنده فسأل عنهم، فقيل له: هم عند صاحب الدواوين، فندم ابن الأشعث على ما وقع منه من ترك الخراج، ثم جهز ابن الأشعث جيشاً بعث به إلى المغرب فانهزم الجيش، وخرج ابن الأشعث يوم الأضحى سنة اثنتين وأربعين ومائة وتوجه إلى الإسكندرية واستخلف محمد بن معاوية صاحب شرطته على الصلاة ولم يكن إلا القليل وورد عليه البريد بعزله عن إمرة مصر، وولي مصر عوضه حميد بن قحطبة وذلك في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائة، وخرج محمد بن الأشعث بعد عزله عن مصر وتوجه إلى الخليفة المنصور فأكرمه أبو جعفر المنصور وجعله من أكابر أمرائه، ودام عنده حتى وجهه المنصور مع ابنه محمد المهدي إلى غزو الروم فتوجه محمد بن(1/346)
الأشعث مع المهدي هو والحسن بن قحطبة، فمرض ابن الأشعث في أثناء الطريق ومات، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهراً واحداً، وكان عنده نباهةُ وشجاعة ومعرفة، وهو أحد أكابر أمراء بني العباس، وقد تقدم ذكره في عدة وقائع، منها واقعة جهور «1» بن مرار «2» العجلي، وأمره أنه خلع الخليفة المنصور بالري. وكان سبب ذلك أن جهوراً لما هزم سنباذ حوى ما كان في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم الخراساني فلم يوجهها إلى المنصور، ثم خاف من المنصور فخلعه من الخلافة، فوجه إليه أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث هذا في جيش عظيم، فسار محمد هذا إلى نحو الري، ففارقها جهور وسار نحو أصبهان، ودخل محمد الري وملك جهور أصبهان، فأرسل إليه محمد عسكراً وبقي هو بالري، فأشار على جهور بعض أصحابه أن يسير في نخبة من عسكره إلى جهة محمد بن الأشعث فإنه في قلة، فإن ظفر به فلم يكن [لمن «3» ] بعده بقية، فسار جهور إليه مجداً، وبلغ محمداً خبره فحذر واحتاط «4» وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم فالتقوا بقصر الفيروزان «5» بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جهور نخبة فرسان العجم، فهزم جهور وقتل من أصحابه خلق كثير، فهرب جهور ولحق بأذربيجان ثم قتل بعد ذلك بأسبار «6» قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى أبي جعفر المنصور؛ ولمحمد هذا عدة مواقف وأمور يطول شرحها.(1/347)
*** السنة التي حكم فيها محمد بن الأشعث على مصر وهي سنة اثنتين وأربعين ومائة- فيها خرج عيينة بن موسى متولي السند عن الطاعة، فخرج الخليفة أبو جعفر المنصور إلى البصرة وجهز عمرو بن حفص العتكي على السند لمحاربة ابن موسى المذكور، فسار وغلب على الهند والسند. وفيها نقض إصبهبذ طبرستان وقتل من بها من المسلمين، فانتدب لحربه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم وأبو الخصيب مرزوق مولى المنصور، فحاصروه حتى ظفروا بالمدينة وقتلوا وسبوا «1» ، فلما رأى إصبهبذ ذلك مص سماً كان في خاتمه فهلك، وكان من جملة السبي شكلة أم إبراهيم ابن المهدى الآتى ذكرها وذكره فى الحوادث. وفيها ولى الخليفة أبو جعفر المنصور أخاه العباس بن محمد على الجزيرة. وفيها توفي حميد بن أبي حميد الطويل كان ثقة كثير الحديث، أسند عن أنس وغيره، وروى عنه الإمام مالك وغيره.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفي أسلم المنقرىّ، وحبيب بن أبى عمرة القصاب، والحسن بن عبيد الله، والحسن بن عمرو الفقيمى، وأبو هانئ حميد بن هانئ الخولاني المصري، وحميد الطويل في قول، وخالد الحذاء، وسعد بن إسحاق بن كعب في قول، والأمير سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وعاصم بن سليمان الأحول، وعمرو بن عبيد المعتزلي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وإصبع واحد، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا.(1/348)
ذكر ولاية حميد بن قحطبة على مصر
هو حميد بن قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان الطائي أمير مصر، وليها من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور بعد عزل محمد بن الأشعث في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائة، جمع له أبو جعفر المنصور صلاة مصر وخراجها معاً، فدخل إلى مصر في عشرين ألفاً من الجند يوم الجمعة لخمسٍ خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين ومائة، فجعل على الشرطة محمد بن معاوية بن بحير، وقبل أن تطول مدته بمصر ورد عليه عسكر آخر من قبل الخليفة لغزو إفريقية، وكان قدوم العسكر المذكور إلى مصر في شوال من السنة، فجهز حميد العساكر وجعل عليهم أبا الأحوص العبدي، وكان العسكر ستة آلاف فارس، فتوجه أبو الأحوص بمن معه من العساكر حتى التقى مع أبي الخطاب الأنماطي ببرقة فتقاتلا، فانهزم أبو الأحوص بمن معه إلى جهة الديار المصرية، فخرج حميد بن قحطبة بنفسه حتى وصل إلى برقة والتقى مع أبي الخطاب المذكور، فقاتله حتى هزمه وقتل أبا الخطاب المذكور وجماعة من أصحابه، ثم عاد إلى مصر منصوراً، فأقام بها إلى أن قدم إلى مصر علي بن محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن داعيةً لأبيه فدس «1» إليه حميد هذا فتغيب، فكتب ذلك لأبي جعفر المنصور فغضب وصرفه عن إمرة مصر في ذي القعدة بيزيد بن حاتم،(1/349)
فخرج حميد بن قحطبة من مصر لثمان بقين من ذى القعدة سنة أربع وأربعين ومائة، وكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهرين إلا أياماً. ولما خرج حميد بن قحطبة المذكور من مصر توجه إلى الخليفة أبي جعفر المنصور فأكرمه الخليفة وجعله من جملة أمرائه، ووجهه بعد ذلك لغزو إرمينية في سنة ثمان وأربعين ومائة فسار ثم عاد ولم يلق حرباً، ثم أرسله الخليفة أبو جعفر المنصور أيضاً في سنة اثنتين وخمسين ومائة لغزو كابل، ثم ولاه بعد ذلك إقليم خراسان مدة، ثم نقله إلى عمل خراسان فأقام بها مدة طويلة إلى أن مات في خلافة المهدي سنة تسع وخمسين ومائة، وكان أميراً شجاعاً مقداماً عارفاً بأمور الحروب والوقائع، وتنقل في الأعمال الجليلة، معظماً عند بني العباس، وقد تقدم ذكر ما حضره حميد هذا مع أبيه قحطبة من الوقائع في ابتداء دعوة بني العباس، ثم قام هو وأخوه الحسن بن قحطبة في دعوتهم، وقاتلوا جيوش مروان بن محمد؟؟؟ لى أن هزموه وتم أمر بني العباس؛ فعرفوا لحميد ذلك، وولوه الأعمال الجليلة إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره.
*** السنة الأولى من ولاية حميد بن قحطبة على مصر وهي سنة ثلاث وأربعين ومائة- فيها بلغ المنصور أن الديلم قد أوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم خلائق، فندب أبو جعفر المنصور الناس للجهاد. وفيها عزل المنصور الهيثم عن إمرة مكة بالسري ابن عبد الله بن الحارث بن العباس العباسي. وفيها حج بالناس عيسى بن موسى ابن محمد بن علي الهاشمي العباسي أمير الكوفة.(1/350)
قال الذهبي: وفي هذا العصر «1» شرع علماء الإسلام فى تدوين الحديث والفقه والتفسير، وصنف ابن جريج التصانيف بمكة، وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي بالكوفة، وصنف الأوزاعي بالشأم، وصنف مالك الموطأ بالمدينة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف معمر باليمن، وصنف سفيان الثوري كتاب الجامع، ثم بعد يسير صنف هشام كتبه، وصنف الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، ثم ابن المبارك والقاضي أبو يوسف يعقوب وابن وهب، وكثر تبويب العلم وتدوينه، ورتبت ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون عن حفظهم ويروون العلم عن صحف صحيحة غير مرتبة؛ فسهل ولله الحمد تناول العلم فأخذ الحفظ يتناقص، فلله الأمر كله انتهى كلام الذهبىّ. وفيها توفّى سليمان ابن طرخان أبو القاسم التيمي، من الطبقة الرابعة من تابعي [أهل «2» ] البصرة، كان من العباد المجتهدين، وكان يصلي الغداة بوضوء العشاء سنين عديدة. وفيها توفي يحيى ابن سعيد أبو سعيد الأنصاري القاضي الفقيه، من الطبقة الخامسة من أهل المدينة، قدم على الخليفة أبي جعفر المنصور بالكوفة فاستقضاه على الهاشميّة.(1/351)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع سواء.
*** السنة الثانية من ولاية حميد بن قحطبة على مصر وهي سنة أربع وأربعين ومائة- فيها غزا محمد بن أبى العباس السفاح الديلم بجيش الكوفة والبصرة وواسط والجزيرة. وفيها قدم محمد المهدي ابن الخليفة على أبيه أبي جعفر المنصور من خراسان وقد بنى بابنة عمه ريطة بنت السفاح. وفيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور، وخلف على العسكر خازم بن خزيمة، فاستعمل على المدينة رياح بن عثمان المزنىّ وعزل محمد القسري. وكان المنصور قد أهمه شأن محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لتخلفهما عن الحضور إلى عنده مع الأشراف، وما كفاه ذلك حتى قيل له: إن محمد بن عبد الله المذكور ذكر أن المنصور لما حج قبل أن يلي الخلافة في حياة أخيه السفاح وكان ممن بايع له ليلة اشتور «1» بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين «2» اضطرب ملك بني أمية. قلت: لعل ذلك كان قبل أن يلي السفّاح الخلافة وقبل قتل مروان الحمار. اهـ. وكان أبو جعفر المنصور سأل زياداً متولي المدينة عنهما قبل ذلك؛ فقال: ما يهمك [من أمرهما «3» ] يا أمير المؤمنين، أنا آتيك بهما، فضمنه إياهما في سنة ست وثلاثين ومائة ولم يف زياد بالضمانة، وصار المنصور في أمر عظيم من جهة عبد الله وابنيه، وطال عليه الأمر، وعبد الله وولداه(1/352)
في اختفائهم، حتى قبض المنصور على عبد الله المذكور وحبسه وحبس معه جماعةً كثيرة من بني حسن، وهم حسن وإبراهيم ابنا حسن بن الحسن، وحسن بن جعفر ابن حسن بن الحسن، وسليمان وعبد الله ابنا داود بن حسن بن الحسن، وسهيل وإسحاق ابنا إبراهيم المذكور، وعيسى بن حسن بن الحسن، وأخوه علي القائم «1» ؛ فقيد المنصور الجميع وحبسهم، [وجهر «2» على المنبر بسب محمد بن عبد الله وأخيه فسبح الناس وعظموا ما قال، فقال رياح: ألصق الله بوجوهكم الهوان، لأكتبن إلى خليفتكم غشكم وقلة نصحكم، فقالوا: لا نسمع منك يا بن المحدودة «3» ، وبادروه يرمونه بالحصى، فنزل واقتحم دار مروان وأغلق الباب، فخف بها الناس، فرموه وشتموه ثم إنهم كفوا، ثم إن آل حسن حملوا في أقيادهم إلى العراق] . وفيها توفي صالح بن كيسان أبو محمد، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة «4» ، كان يؤدّب [ولد «5» ] عمر بن عبد العزيز بن مروان وأولاد الوليد بن عبد الملك، ثم ضمه عمر بن عبد العزيز إلى نفسه، وكان قد جمع بين الفقه والحديث والدين والمروءة. وفيها توفي عبد الله بن(1/353)
شبرمة الضبي أبو شبرمة، من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان فقيهاً ديناً حسن الخلق قليل الحديث.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأحد عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعا.
انتهى الجزء الأوّل من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثانى وأوّله ذكر ولاية يزيد بن حاتم على مصر(1/354)
[الجزء الثانى]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 144]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ذكر ولاية يزيد بن حاتم على مصر
هو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي الطائي المهلبي أمير مصر، ولاه الخليفة أبو جعفر المنصور على الصلاة والخراج معا بعد عزل حميد ابن قحطبة عن إمرة مصر سنة أربع وأربعين ومائة، فقدم إلى مصر في يوم الاثنين النصف من ذي القعدة من السنة المذكورة، فأقر على شرطته عبد الله بن عبد الرحمن، وعلى الخراج معاوية بن مروان بن موسى بن نصير «1» . وكان يزيد جواداً ممدحاً شجاعاً. قال يزيد: كنت يوماً واقفاً بباب المنصور أنا ويزيد بن أسيد السلمي إذ فتح باب القصر وخرج خادم لأبي جعفر المنصور، فنظر إلينا ثم انصرف فدخل وأخرج رأسه من طاق وقال:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فلا يحسب التمتام أنّى هجوته ... ولكنّنى فضّلت أهل المكارم
فقال له يزيد بن حاتم: نعم نعم على رغم أنفك وأنف من بعثك؛ فخرج الخادم وأبلغها الخليفة أبا جعفر، فضحك حتى استلقى. وهذا الشعر لربيعة بن ثابت الرقي يمدح يزيد هذا.
وفي أيام يزيد بن حاتم المذكور ظهرت بمصر دعوة بني الحسن بن علي ابن أبي طالب وتكلم بها الناس وبايع كثير منهم لبني الحسن في الباطن(2/1)
وماجت الناس بمصر وكاد أمر بني الحسن أن؟؟؟، والبيعة كانت باسم على بن محمد ابن عبد الله، وبينما الناس في ذلك قدم البريد برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة فنصب في المسجد أياماً. وكان يزيد هذا قد منع أهل مصر من الحج بسبب خروج هؤلاء العلويين، فلما قتل إبراهيم أذن لهم: الحج؛ وكان يزيد مقصداً للناس محباً للشعر وأهله، مدحه عدة من الشعراء. قيل: إن ربيعة المقدم ذكره، صاحب البيتين المقدم ذكرهما، قصده فاشتغل عنه يزيد، فخرج وهو يقول:
أراني ولا كفران لله راجعاً ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فبلغ يزيد فرده وملأ خفيه ذهباً، فقال فيه قصيدته المشهورة لما عزل عن إمرة مصر، التي أولها:
بكى أهل مصر بالدموع السواجم ... غداة غدا عنها الأغر (3) ابن حاتم
ثم ورد عليه كتاب الخليفة المنصور يأمره بالتحوّل من المعسكر الى الفسط كما كانت عادة أمراء مصر قبل بناء المعسكر، وأن يجعل الدواوين في كنائس القصر- يعني قصر الشمع «1» - وذلك في سنة ست وأربعين ومائة. وقصد يزيد ابن حاتم من الشعراء محمد بن عبد «2» الله بن مسلم ومدحه بقصيدة طنّانة أوّلها:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشترى(2/2)
وكان يزيد منع الناس من الحج في سنة خمس وأربعين ومائة، كما تقدم ذكره، فلم يحجّ فى تلك السنة أحد من مصر ولا من الشام لما كان بالحجاز من الاضطراب من أمر بني الحسن، ثم حج يزيد هذا في سنة سبع وأربعين ومائة فاستخلف على مصر عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج صاحب شرطته، ولما عاد من الحج بعث جيشاً لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك، فتوجه إليه الجيش وقاتلوه وظفروا به وقدم رأس الخارجي المذكور إلى مصر في عدّة رءوس، فنصبت الرءوس أياماً بمصر ثم حملوها إلى بغداد، فضم الخليفة أبو جعفر المنصور عند ذلك ليزيد هذا برقة زيادة على عمل مصر؛ وهو أول من ضم له برقة على مصر، وكان ذلك في سنة تسع وأربعين ومائة. ثم خرج في أيام يزيد القبط بسخا بالوجه البحري، فجهز إليهم يزيد جيشاً كثيفاً فقاتله القبط وكسروه فرد الجيش منهزماً، فصرفه أبو جعفر المنصور عن إمرة مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين ومائة، فكانت ولايته على مصر سبع سنين وأربعة أشهر. وتولى من بعده مصر عبد الله ابن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، ثم ولي يزيد بن حاتم هذا بعد ذلك إفريقية من بلاد المغرب، فتوجه إليها وغزا بها عدة غزوات، ولا زال بها حتى توفي سنة سبعين ومائة، واستخلف على إفريقية ابنه داود بن يزيد، فأقره الخليفة هارون الرشيد على ذلك، ودام إلى أن عزله في سنة اثنتين وسبعين ومائة بعمه روح بن حاتم. اهـ
*** [ما وقع من الحوادث سنة 145]
السنة الأولى من ولاية يزيد بن حاتم المهلبي على مصر وهي سنة خمس وأربعين ومائة- فيها قتل الخليفة أبو جعفر المنصور محمداً وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب واحداً بعد واحد، فقتل محمد بالمدينة وبعده بمدة قتل إبراهيم؛ وكان إبراهيم خرج أيضاً بعد خروج أخيه محمد على المنصور بالبصرة، وانضم عليه(2/3)
خلائق من العلماء والفقهاء وأعيان بني الحسن، فلما ورد عليه الخبر بقتل أخيه محمد عظم شأنه وكاد أمره أن يتم، ووقع بينه وبين جيش المنصور أمور ووقائع إلى أن قبض عليه وقتل. وفيها أيضاً مات والدهما عبد الله بن الحسن في حبس المنصور.
قال الهيثم: حبسهم أبو جعفر المنصور في سرداب (يعني عبد الله المذكور وأقاربه من بني الحسن) - وقد قدمنا ذكر من حبس مع عبد الله من أقاربه بأسمائهم في سنة أربع وأربعين ومائة- قال: حبسهم في سرداب تحت الأرض لا يعرفون ليلاً ولا نهاراً- والسرداب عند قنطرة الكوفة وهو موضع يزار- ولم يكن عندهم بئر للماء ولا سقاية، فكانوا يبولون ويتغوطون في مواضعهم، وإذا مات منهم ميت لم يدفن بل يبلى وهم ينظرون إليه، فاشتد عليهم رائحة البول والغائط، فكان الورم يبدو في أقدامهم ثم يترقى إلى قلوبهم فيموتون. ويقال: إن أبا جعفر المنصور ردم عليهم السرداب فماتوا، وكان يسمع أنينهم أياماً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفي محمد بن عبد الله ابن حسن وأخوه إبراهيم قتلاً، والأجلح الكندي، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وأنيس بن أبي يحيى الأسلمي، وحبيب بن الشهيد، وحجاج بن أرطاة، والحسن بن ثوبان، والحسن بن الحسن بن الحسن في سجن المنصور، ورؤبة بن العجاج التميمي، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، وعبد الملك «1» بن أبي سليمان الكوفي، وعمر بن عبد الله مولى غفرة (بالمعجمة والفاء) وعمرو بن ميمون(2/4)
ابن مهران «1» الجزري، ومحمد بن عبد الله الديباج «2» ، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام ابن عروة فى قول، ونصر بن حاجب الخراساني، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 146]
السنة الثانية من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة ست وأربعين ومائة- فيها كان فراغ بناء بغداد وتحول إليها الخليفة أبو جعفر المنصور في صفر، وكان خالد بن برمك أشار على المنصور ببنائها، وقيل: إن حجاج بن أرطاة هو الذي اختط جامعها، وقبلتها منحرفة، ولما دخلها الخليفة أبو جعفر المنصور أمر أن يكتب إلى الآفاق أن يرد عليه الخطباء والعلماء والشعراء؛ وكان لا يدخل أحد المدينة راكباً، فشكا إلى المنصور عمه عيسى بن علي أن المشي يشق عليه، فلم يأذن له في الركوب؛ ثم بعد مدّة أمر المنصور بإحراج الأسواق من المدينة، خوفاً من مبيت صاحب خبر «3» بها، فبنيت الكرخ «4» وباب «5» المحول وغير ذلك.
وظهر شح المنصور في بناء بغداد، وبالغ في المحاسبة، حتى قال خالد بن الصلت، وكان على بناء ربع بغداد: رفعت إليه الحساب فبقيت علي خمسة عشر درهماً فحبسنى(2/5)
حتى أدّيتها [وعند ما «1» دخل المنصور بغداد وقع بها الطاعون. وقد تقدم أن الطاعون غير الوباء، فالوباء هو الذي تتنوع فيه الأمراض، والطاعون هو الطعن الذي ذكر في الحديث «2» ] . وفيها توفي ضيغم بن مالك العابد كان من الخائفين البكائين، وهو من الطبقة الخامسة من أهل البصرة؛ وكان ورده في كل يوم أربعمائة ركعة. وفيها توفي عمرو بن قيس الملائي من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان من الأبدال، وكان يقول: حديث أرقق [به] قلبي وأبلغ به إلى ربي أحب إلي من خمسين قضية من قضايا شريح.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر، قال: وتوفي أشعث بن عبد الملك الحمراني، والحارث [بن عبد «3» الرحمن] بن عبد الله بن أبي ذباب المدني، وحبيب «4» بن الشّهيد، وسنان [بن يزيد التميمي «5» أبو حكيم] الرهاوي، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند المدنى، وعوف الأعرابي، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن أبى يحيى الأسلمىّ، وهشام ابن عروة على الصحيح، ويزيد بن أبي عبيد، ويحيى بن أبي أنيسة الجزري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 147]
السنة الثالثة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة سبع وأربعين ومائة- فيها حج الخليفة أبو جعفر المنصور وعزم على قبض جعفر بن محمد بن علي بن الحسين(2/6)
ابن على بن أبى طالب- أعنى جعفر الصادق- فلم يتم له ذلك. وفيها آنتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح فخاف الناس عاقبة ذلك. وفيها خلع الخليفة أبو جعفر المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد وولاها لابنه محمد المهدي، وجعل عيسى المذكور بعد المهدي؛ وكان السفاح قد عهد إلى أبي جعفر المنصور بالخلافة ثم من بعده إلى عيسى بن موسى هذا. وفيها أغارت الترك مع استرخان الخوارزمي على مدينة تفليس، وكان بها حرب بن عبد الله الريوندي «1» الذي تنسب إليه الحربية «2» ببغداد، فخرج إليهم حرب المذكور وقاتلهم فقتلوه وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين وسبوا. وفيها توفي عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي عم الخليفة أبي جعفر المنصور، وأمه بربرية «3» يقال لها هنادة، ولد سنة ثلاث ومائة وقيل: آثنتين ومائة في آخر ذي الحجة. وهو الذي هزم مروان الحمار بالزاب وتبعه إلى دمشق وفتحها وهدم سورها وجعل جامعها سبعين يوماً لدوابه وجماله، وقتل من أعيان بني أمية ثمانين رجلاً بنهر أبي فطرس من أرض الرملة، ثم ولي دمشق للسفاح، فلما ولي المنصور خرج عليه عبد الله ودعا لنفسه فهزمه أبو مسلم الخراساني فشفع له إخوته وأخذوا له أمانا من الخليفة أبي جعفر المنصور،(2/7)
فلما قدم عليه حبسه مدة حتى مات في حبسه؛ قيل: إن أبا جعفر المنصور بنى له داراً حبسه فيها وجعل في أساسها ملحاً، فلما سكنها عبد الله وحبس فيها أطلق عليها ماء فذاب الملح فوقعت الدار عليه فمات.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزياده أربعة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 148]
السنة الرابعة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة ثمان وأربعين ومائة- فيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور. وفيها توجه حميد بن قحطبة إلى ثغر أرمينية فلم يلق بأساً، وتوطأت الممالك لأبي جعفر المنصور وثبتت قدمه في الخلافة وعظمت هيبته في النفوس ودانت له الأمصار؛ ولم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس من بلاد المغرب فقط، فإنها تغلب عليها عبد الرحمن بن معاوية المرواني الأموي المعروف بالداخل لكونه دخل المغرب لما هرب من بني العباس، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل بالأمير فقط، وكذلك بنوه من بعده، ويأتى ذكرهم في محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفيها توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، الإمام السيد أبو عبد الله الهاشمي العلوي الحسيني المدني، يقال: مولده سنة ثمانين من الهجرة؛ وهو من الطبقة الخامسة من تابعي أهل المدينة، وكان يلقب بالصابر، والفاضل، والطاهر، وأشهر ألقابه الصادق؛ وهو سبط القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فإن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد المذكور، وأمها أم أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولهذا كان جعفر يقول: أنا ابن الصديق مرتين، وهو يروي عن جده لأمه القاسم بن محمد ولم يرو(2/8)
عن جده لأبيه علي زين العابدين، وقد أدركه وهو مراهق، وروى عن أبيه وعروة ابن الزبير وعطاء ونافع والزهري، وحدث عنه أبو حنيفة وابن جريج وشعبة والسفيانان ومالك وغيرهم. وعن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.
وروي عن علي بن الجعد عن زهير بن محمد قال: قال أبي لجعفر بن محمد- يعني الصادق-: إن لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر بن أبي قحافة وعمر، فقال:
جعفر: برئ الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر.
وذكر الذهبي بإسناد عن محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة قال:
سألت أبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى رضي الله عنهما. وقال لي جعفر:
يا سالم، أيسب الرجل جده! أبو بكر جدي، فلا نالتنى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما. قال الذهبي: هذا إسناد صحيح؛ وسالم وابن فضيل شيعيّان. هـ.
قلت: * والفضل ما شهدت به الأعداء* وأي عذر أبقى جعفر الصادق بعد ذلك للرافضة! أخزاهم الله تعالى. وفيها توفي سليمان بن مهران الإمام أبو محمد الأسدي الكاهلي المحدث المعروف بالأعمش، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة، ولد بقرية أمه «1» من عمل طبرستان في سنة إحدى وستين.(2/9)
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: وقد رأى أنس بن مالك وهو يصلي، ولم يثبت أنه يمع منه، مع أن أنساً لما توفي كان للأعمش نيف وثلاثون سنة، وكان يمكنه السماع من جماعة من الصحابة. ثم ذكر الذهبي روايته عن جماعة كثيرة جدا، وذكر أيضاً من روى عنه أكثر وأمعن «1» ؛ ثم ذكر من خفة روحه ودعابته أشياء، منها:
قال وقال عيسى بن يونس: خرج الأعمش فإذا بجندي فسخره ليعبر به نهراً، فلما ركبه- قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا
الآية، فلما توسط به الأعمش في الماء قال: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
ثم رمى به.
وقال محمد بن عبيد الطنافسي: جاء رجل نبيل كبير اللحية إلى الأعمش فسأله عن مسألة خفيفة من الصلاة، فالتفت إلينا الأعمش فقال: انظروا إليه، لحيته تحتمل حفظ أربعة آلاف حديث ومسألته مسألة صبيان الكتاب اهـ
وذكر الذهبي في هذه السنة وفاة جماعة كثيرة، قال: وتوفي جعفر بن محمد الصادق، وسليمان الأعمش، وشبل بن عبّاد مقرئ مكة، وزكريا بن أبي زائدة في قول، وعمرو بن الحارث الفقيه بمصر، وعبد الله بن يزيد بن هرمز؛ وعبد الجليل بن حميد اليحصبي، وعمار بن سعد المصري، والعوام بن حوشب، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى القاضى- يأتى ذكره- قال: وحمد بن عجلان الفقيه المدني «2» ، ومحمد بن الوليد الزبيدي الفقيه، ونعيم بن حكيم المدائني «3» ، وأبو زرعة يحيى الشيباني.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم، ذراع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.(2/10)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 149]
السنة الخامسة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة تسع وأربعين ومائة- فيها حجّ بالناس محمد بن الإمام إبراهيم، وفيها ولي إمرة مكة عبد الصمد بن علي العباسي عم الخليفة المنصور ثم صرف عنها. وفيها غزا العباس بن محمد أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، الذي كان ولي مصر قبل تاريخه، فمات ابن الأشعث في الطريق، وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته. وفيها كمل بناء بغداد.
وفيها توفي سلم بن قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين أبو عبد الله الباهلي الخراساني والد سعيد بن سلم، ولي سلم هذا إمرة البصرة ليزيد بن عمر بن هبيرة في أيام مروان الحمار، ثم وليها في أيام أبي جعفر المنصور، وكان أميرا عاقلا عادلا في الرعية.
وفيها توفي عيسى بن عمر النحوي الثقفي العالم صاحب الإكمال والجامع، وفيهما يقول الخليل بن أحمد صاحب العربيّة والعروض:
بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
وفيها توفي كرز بن وبرة الكوفي، كان يسكن جرجان، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة، كان زاهداً عابداً، سأل ربه أن يعطيه الاسم الأعظم على أن يسأل ربه به حاجة من الدنيا فأعطاه، فسأله الله أن يقويه على ختم القرآن، فكان يختم كل يوم وليلة ثلاث ختمات.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفى ثابت بن عمارة وزكرياء بن أبي زائدة في قول، وسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير،(2/11)
وعبد الحميد بن يزيد الجذامي، وكهمس بن الحسن التميمي، والمثنى بن الصباح، ومحمد بن الأشعث الخزاعي القائد، وأبو جناب «1» الكلبي، ومعروف بن سويد الجذامي «2» المصري، ويعقوب بن مجاهد في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 150]
السنة السادسة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة خمسين ومائة- فيها خرج اسباديس «3» في جموع كثيرة، يقال: كان في نحو ثلثمائة ألف مقاتل، وغلب على غالب خراسان؛ فخرج لقتالهم الأختم «4» المروروذي بأهل مرو الروذ، فاقتتلوا فقتل الأختم في جيشه؛ ثم خرج لقتاله خازم بن خزيمة، وتقاتلا أشد قتال وثبت كل من الفريقين حتى نصر الله الإسلام وهزم اسباديس وكثر القتل في جيشه فقتل منهم سبعون ألفا وأسر بضعة عشر ألفا وهرب اسباديس في طائفة من عسكره إلى الجبل. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور جعفر بن سليمان عن إمرة المدينة وولى الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي العلوى. وفيها حجّ بالناس عبد الصمد ابن علي العباسي. وفيها توفي الإمام الأعظم أبو حنيفة، واسمه النعمان بن ثابت بن زوطى، الفقيه الكوفي صاحب المذهب؛ ولد سنة ثمانين من الهجرة ورأى أنس(2/12)
ابن مالك الصحابي غير مرة بالكوفة لما قدمها أنس، قاله ابن سعد. وروى عن عطاء بن أبي رباح ونافع وسلمة وخلق كثير، وتفقه بحماد وغيره حتى برع في الفقه والرأي وساد أهل زمانه بلا مدافعة في علوم شتى. وقال عبد الله بن المبارك:
أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أورع ولا أعقل من أبي حنيفة. وعن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة صلى العشاء والصبح بوضوء واحد أربعين سنة. قال الذهبي:
وقد روي من وجهين أنه ختم القرآن في ركعة. وعن النضر بن محمد قال: كان أبو حنيفة جميل الوجه نقي الثوب عطر الرائحة. وعن ابن المبارك واسمه عبد الله قال:
ما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة. وروى إبراهيم ابن سعيد «1» الجوهري عن المثنى أن رجلاً قال: جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار. ويروى أن أبا حنيفة ختم القرآن في الموضع الذي مات فيه سبعة آلاف مرة. وروى محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن عن القاسم بن معن: أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ
ويبكي ويتضرع إلى الفجر. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أحلم من أبي حنيفة. وعن الحسن بن زياد: قال أبو حنيفة: إذا ارتشى القاضي فهو معزول وإن لم يعزل. وقال إسحاق بن إبراهيم الزهري عن بشر بن الوليد الكندىّ: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين، فأبى وحلف ألا يفعل ذلك؛ فقال الربيع حاجب المنصور: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف! قال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني؛ فأمر به إلى السجن(2/13)
فمات فيه ببغداد. وعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع؛ فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح؛ قال: كذبت؛ قال أبو حنيفة:
فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح، فإن كنت كاذباً فلا أصلح، وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح، فحبسه؛ ووقع لأبي حنيفة بسبب القضاء أمور مع المنصور وهو على امتناعه إلى أن مات. وقال أحمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وقال حبان «1» بن موسى: سئل ابن المبارك: أمالك أفقه أم أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة. وقال الخريبي «2» : ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل. وقال يحيى القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا بأحسن من أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. وقال علي بن عاصم: لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أرق من الشعر لا يعيبه إلا جاهل. وقال الحميدي: سمعت ابن عيينة يقول:
شيئان ما ظننتهما يجاوزان قنطرة الكوفة: قراءة حمزة وفقه أبي حنيفة، وقد بلغا الآفاق. وعن الأعمش أنه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت، وأظنه بورك له في علمه. وقال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة تتفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه. وقال محمد بن شجاع سمعت علي بن عاصم يقول: لو وزن عقل أبي حنيفة بعقل نصف الناس لرجح بهم.(2/14)
قلت: ومناقب أبي حنيفة كثيرة، وعلمه غزير وفي شهرته ما يغني عن الإطناب في ذكره، ولو أطلقت عنان القلم في كثرة علومه ومناقبه لجمع من ذلك عدة مجلدات؛ وكانت وفاته رضي الله عنه في شهر رجب من هذه السنة، ودفن بمقابر بغداد، وأقام على ذلك سنين إلى أن بنى عليه شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي مشهداً في سنة تسع وخمسين وأربعمائة وبنى على القبر قبة ومدرسة كبيرة للحنفية، فلما فرغ من عمارة ذلك جمع الفقهاء والعلماء والأعيان ليشاهدوا ما بناه، فبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم الشريف أبو جعفر مسعود «1» البياضىّ الشاعر وأنشد:
ألم تر أن العلم كان مبدداً ... فجمعه هذا الموسد في اللحد
كذلك كانت هذه الأرض ميتة ... فأنشرما فعل العميد أبي سعد
قلت: وأحسن من هذا ما قاله عبد الله بن المبارك في مدح أبي حنيفة، القصيدة المشهورة التي أوّلها:
لقد زان البلاد ومن عليها ... إمام المسلمين أبو حنيفة
وفيها توفي عبد العزيز بن سليمان أبو محمد الراسبي من الطبقة السادسة من تابعي أهل البصرة، كان عابداً زاهداً، كانت رابعة «2» تسميه سيد العابدين؛ كان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الحاضرون من جوانب المسجد وربما وقع الميت والميتان من جوانب المسجد؛ قاله أبو المظفر في مرآة الزمان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً ونصف.(2/15)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 151]
السنة السابعة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة إحدى وخمسين ومائة- وهي التي عزل فيها. وفيها عزل المنصور عمر بن حفص المهلبي عن السند بهشام بن عمرو التغلبي «1» ، وتولى المهلبي هذا إفريقية. وفيها ابتدأ الخليفة أبو جعفر المنصور بعمارة الرصافة بالجانب الشرقي وعمل لها سوراً وخندقاً وأجرى إليها الماء كما فعل ببغداد. وفيها جدد الخليفة أبو جعفر المنصور البيعة لولده محمد المهدي ثم لابن أخيه من بعده عيسى بن موسى، فكان من يبايعه يقبل يده ويد المهدي ثم يمسح على يد عيسى بن موسى ولا يقبلها. قلت: البلاء والرياء قديمان. وفيها توفي عبد الله بن عون بن أرطبان أبو عون مولى عبد الله بن درّة من الطبقة الرابعة من أهل البصرة؛ كان عثمانياً ثقة ورعاً كثير الحديث. ولد قبل الطاعون الجارف بثلاث سنين، وكان إذا مر بالقدرية «2» لا يسلم عليهم.
وذكر الذهبي وفاة جماعة آخرين في هذه السنة، قال: وفيها توفي حنظلة ابن أبي سفيان المكي، وداود بن يزيد الأودي، وسيف بن سليمان في قول، وعبد الله بن عون في رجب، وعبد الله بن عامر الأسلمي يقال فيها، وعلي بن صالح المكي، وعيسى بن أبي عيسى الخياط الخباط الحناط فإنه باشر الصنائع الثلاث:
الخياطة وبيع الخبط «3» وبيع الحنطة، ومحمد بن إسحاق بن يسار فيها على قول، وهو الأصح، ومعن بن زائدة الأمير، والوليد بن كثير المدني بالكوفة وصالح بن علىّ الأمير.(2/16)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وحديج (بضم الحاء المهملة وفي الآخر جيم) التجيبي [بضم التاء «1» المثناة من فوق] الأمير أبو عبد الرحمن أمير مصر وليها من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور بعد عزل يزيد بن حاتم المهلبي عنها، على الصلاة في يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومائة، ولم يول على الشرطة أحداً وباشر هو ذلك بنفسه؛ وكان عبد الله هذا قد ولي الشرطة لغير واحد من أمراء مصر. ولما استقر في إمرة مصر سكن المعسكر على عادة الأمراء، وهو أول من خطب بالسواد بمصر، فأقام بمصر مدة ثم خرج منها ووفد على الخليفة أبي جعفر المنصور ببغداد في سنة أربع وخمسين ومائة واستخلف أخاه محمد بن عبد الرحمن على الصلاة ثم رجع إلى مصر في آخر السنة المذكورة؛ ودام بها إلى أن توفي وهو على إمرة مصر في مستهل صفر سنة خمس وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمداً على صلاة «2» مصر فأقره الخليفة أبو جعفر المنصور على إمرة مصر بعده. فكانت ولاية عبد الله هذا على مصر ثلاث سنين تنقص أياماً.
وعبد الله هذا وأبوه من أكابر المصريين من أعوان بني أمية غير أنه استأمن سليمان بن علي العباسي لما استأمنه عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة ابن أبي سفيان. وسببه أنه لما قتل غالب بني أمية خاف عمرو المذكور فقال: اختفيت فكنت لا آتي مكاناً إلا عرفت به، فضاقت علي الدنيا فقصدت سليمان بن علي وهو(2/17)
لا يعرفني فقلت له: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك؛ فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فسلمت «1» ؛ فقال: [ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال «2» ] :
مرحباً بك، [ما «3» ] حاجتك؟ فقلت له: إن الحرم اللواتي أنت أولى [الناس «4» ] بهن وأقربهم إليهن قد خفن تخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى سليمان كثيراً ثم قال: بل يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك؛ ثم كتب إلى السفاح:
يا أمير المؤمنين، إنه قد «5» دفت دافة من بني أمية علينا وإنا إنما قتلناهم على عقوقهم، لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف؛ فالرحم تبل «6» ولا تقتل وترفع ولا توضع؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان شكر الله تعالى على نعمه. فأجابه إلى ما سأل. وكان هذا أول أمان لبني أمية ودخل فيه صاحب الترجمة وغيره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 152]
السنة الأولى من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر وهي سنة اثنتين وخمسين ومائة- فيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور. وفيها وثب الخوارج ببست «7» على عاملها معن بن زائدة الشيباني فقتلوه لجوره وعسفه. وفيها غزا حميد بن قحطبة كابل «8» وولاه المنصور إقليم خراسان. وفيها ولي البصرة يزيد بن(2/18)
المنصور «1» . وفيها توفي «2» معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك الشيباني الأمير أبو الوليد وقيل أبو يزيد. كان أحد الأجواد وكان شجاعاً مقداماً ممدحاً.
وحكاياته في الجود والكرم مشهورة. وكان أولاً مع ابن هبيرة ثم اختفى حتى كانت وقعة الراوندية مع المنصور المقدم ذكرها؛ فلما كانت الوقعة خرج معن وقاتل بين يدي المنصور قتالاً عظيماً، فولاه المنصور اليمن ثم سجستان؛ وقيل: إن معناً دخل مرة على الخليفة أبي جعفر المنصور: فقال له المنصور: هيه يا معن! تعطي مروان ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة:
ما زلت يوم الهاشمية «3» معلنا ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان
فقال: أحسنت يا معن، ما أكثر وقوع الناس في قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
ودخل عليه يوماً وقد أسن فقال: كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين؛ قال: وإنك لجلد [قال «4» ] : على أعدائك يا أمير المؤمنين؛ قال:
وفيك بقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين. وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن ابن يزيد»
زاهد أهل البصرة فقال: ويح هذا! ما ترك لربه شيئاً.(2/19)
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في هذه السنة، قال: وتوفى أبو عامر صالح ابن رستم الخزاز، وعبد الله «1» بن أبي يحيى الأسلمي، وعمر بن سعيد بن أبي الحسين المكي، وطلحة بن عمرو المكي، وعباد بن منصور الناجىّ، ويونس بن يزيد الأيلي في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع واحد ونصف إصبع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 153]
السنة الثانية من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر وهي سنة ثلاث وخمسين ومائة- فيها قتل متولي إفريقية عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة الأزدي، خرجت عليه أمم من البربر وعليهم أبو حاتم الأباضي وأبو عاد فيقال: إنهم كانوا في خمسة وثمانين «2» ألف فارس ومائتي ألف راجل، وكانوا بايعوا أبا قرة الصفري بالخلافة. وفيها ألزم الخليفة أبو جعفر المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال المعروفة بالمدينة، وكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد، وفيها يقول أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنّها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس
وفيها غزا مسعود «3» بن عبد الله الجحدري الصائفة وفتح حصناً بالروم عنوة.
وفيها ولي بكار «4» بن مسلم أرمينية. وفيها أغارت الحبشة على جدة فجهز إليهم الخليفة(2/20)
أبو جعفر المنصور المراكب. وفيها سخط المنصور على وزيره أبي أيوب المورياني «1» واستأصله وحبس معه أولاد أخيه سعيداً ومسعوداً ومحمداً ومخلداً؛ وقتل في السنة الآتية. وكان الذي سعى بأبي أيوب هذا هو كاتبه أبان بن صدقة. وفيها توفي شقيق بن ابراهيم الزاهد أبو علي البلخي الأزدي، كان من كبار مشايخ خراسان وله لسان في التوكل «2» ، وهو أوّل من تكلّم فئ التصوف وعلوم الأحوال بكورة خراسان؛ وهو أستاذ حاتم الأصم وكان لشقيق دنيا واسعة خرج عنها وتزهد وصحب إبراهيم بن أدهم. وفيها توفي وهيب بن الورد مولى بني مخزوم من الطبقة الثالثة من أهل مكة، وكان اسمه عبد الوهاب فصغر وهيباً؛ وكانت له أحاديث ومواعظ. روى عنه عبد الله بن المبارك وغيره، وكنيته أبو عثمان وقيل أبو أمية، وكان زاهداً ينظر في دقائق الورع. قال بشر الحافي «3» : أربعة رفعهم الله بطيب المطعم: وهيب بن الورد وإبراهيم ابن أدهم ويوسف بن أسباط وسلم «4» الخواص.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 154]
السنة الثالثة من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن النّجيبى على مصر وهي سنة أربع وخمسين ومائة- فيها قدم الخليفة أبو جعفر المنصور الشام وزار بيت المقدس، ثم جهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفاً لحرب الخوارج بإفريقية، وأنفق(2/21)
المنصور على الجيش المذكور، مع شحه بالمال، ستين ألف ألف درهم وزيادة؛ ثم ولى قضاء دمشق ليحيى بن حمزة، فاعتل يحيى بأنه شاب؛ فقال: إني أرى أهل بلدك قد أجمعوا عليك فإياك والهدية، فبقي يحيى على قضاء دمشق ثلاثين سنة.
قال الواقدي: وفيها نزلت صاعقة بالمسجد الحرام فأهلكت خمسة نفر. وفيها مات الوزير أبو أيوب المورياني، وكان المنصور صادره وسجنه وأخاه خالداً وبني أخيه في السنة الماضية، فلما مات ضرب المنصور أعناق بني أخيه. وفيها حج بالناس محمد بن الإمام إبراهيم العباسي أمير مكة. وفيها توفى الحكم بن أبان العدنىّ، هو من الطبقة الثالثة من أهل اليمن؛ كان سيد أهل اليمن في الزهد والعبادة والصلاح، كان يصلي الليل كله فإذا غلبه النوم ألقى نفسه في الماء وقال لنفسه: سبحي الله عز وجل مع الحيتان.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر، قال: وتوفي أشعب الطماع، وجعفر بن برقان، والحكم بن أبان العدني، وربيعة بن عثمان التيمي، وعبد الله بن نافع مولى ابن عمر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي، وعبيد الله بن عبد الله بن موهب «1» ، وعلي بن صالح بن حي الكوفي، وعمر بن إسحاق بن يسار المدنىّ، وقرّة ابن خالد السدوسي، ومحمد بن عبد الله بن مهاجر الشعيثي، وأبو عمرو بن العلاء المازني، ومعمر في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعا.(2/22)
ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمن على مصر
هو محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج التجيبي أمير مصر، وليها باستخلاف أخيه عبد الله بن عبد الرحمن له بعد موته، فأقره الخليفة أبو جعفر المنصور على ذلك وولاه مصر على الصلاة والخراج وذلك في سنة خمس وخمسين ومائة، فجعل على شرطته العباس «1» بن عبد الرحمن بن ميسرة؛ وسكن المعسكر وسار في الناس سيرة مشكورة غير أنه لم تطل أيامه، ومرض ولزم الفراش حتى مات في النصف من شوال من سنة خمس وخمسين ومائة. فكانت ولايته على إمرة مصر استقلالاً بعد موت أخيه عبد الله ثمانية أشهر ونصفاً. وتولى إمرة مصر من بعده موسى بن علي بن رباح باستخلاف محمد هذا له. وفي أيام ولايته على مصر خرجت عساكر مصر إلى إفريقية صحبتها يزيد بن حاتم، فقام محمد هذا بأمرهم أتم قيام وجهزهم وحمل إلى يزيد الأموال والخيل والسلاح والرواتب حتى سار إلى جهة المغرب وقاتل من بها وقتل أبا عاد وأبا حاتم وملك القيروان وسائر الغرب، وبعث إلى محمد هذا ليعرف الخليفة بذلك فوجده الرسول قد مات قبل وصوله بأيام. وقد تقدم ذكر نسب محمد هذا في ترجمة أخيه عبد الله بن عبد الرحمن فلا حاجة للإعادة. اهـ
*** [ما وقع من الحوادث سنة 155]
السنة التي حكم فيها محمد بن عبد الرحمن وغيره من الأمراء على مصر وهي سنة خمس وخمسين ومائة- فيها استنقذ يزيد بن حاتم المعزول عن إمرة مصر قبل تاريخه بلاد المغرب من يد الخوارج بعد حروب عظيمة، وقتل أبا عاد وأبا حاتم(2/23)
ملكي الخوارج، ومهد إقليم المغرب وأصلح أموره، وبقي على إمرة المغرب خمسة عشر عاماً أميراً. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور عن إمرة المدينة الحسن بن زيد العلوي بعبد الصمد بن علي العباسي عم الخليفة المنصور. وفيها بنى المنصور أسوار الكوفة والبصرة ونيسابور وأدار عليها الخندق من أموال أهلها. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وصادره وحبسه لشكوى أهل الجزيرة عليه. وفيها توفي أشعب «1» بن جبير الطماع، وأمه جعدة «2» وقيل أم حميد. وقيل إنه كان مولى عثمان بن عفان «3» رضي الله عنه، وقيل مولى سعيد بن العاص، وقيل مولى عبد الله بن الزبير، وقيل مولى فاطمة بنت الحسين؛ وكان أزرق العينين أحول أقرع نشأ بالمدينة، وقيل ولد سنة تسع من الهجرة وعاش دهراً طويلاً.
وكان أشعب قد تعبد وقرأ القرآن وتنسك وروى الحديث، وكان حسن الصوت، وله أخبار كثيرة مستظرفة في الطمع وغيره.
روى الأصمعي قال: عبث الصبيان بأشعب فقال: ويحكم! اذهبوا، سالم يقسم تمراً فعدوا، فعدا «4» معهم وقال: ما يدريني لعله حق.(2/24)
وقال أبو أمية الطرسوسي حدثنا ابن أبي عاصم النبيل عن أبيه قال: قلت لأشعب الطماع: أدركت التابعين فما كتبت شيئاً، فقال: حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال: «لله على عبده نعمتان» ثم سكت؛ فقلت: اذكرهما، فقال: الواحدة نسيها عكرمة، والأخرى نسيتها أنا.
وروى ابن أبي عبد الرحمن الغزي عن أبيه قال أشعب: ما خرجت في جنازة فرأيت اثنين يتساران إلا ظننت أن الميت أوصى لي «1» بشيء. وعن ابن أبي عاصم قال: مررت يوماً فإذا أشعب ورائي فقلت: مالك؟ قال: رأيت قلنسوتك قد مالت فقلت: لعلها تقع فآخذها، فأخذتها عن رأسي فدفعتها إليه. وحكايات أشعب في الطمع كثيرة مشهورة؛ وقيل إنه كان يجيد الغناء. وفيها توفي مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث أبو سلمة الهلالي الكوفي الأحول الحافظ الزاهد. قال سفيان بن عيينة: رأيت مسعراً وربّما يحدثه الرجل بشيء هو أعلم به منه فيستمع له وينصت، وما لقيت أحداً أفضله عليه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية موسى بن علي على مصر
هو موسى بن علي «2» بن رباح الأمير أبو عبد الرحمن اللخمي المصري أمير مصر، ولي إمرة مصر باستخلاف محمد بن عبد الرحمن التجيبي إليه، فأقره الخليفة أبو جعفر(2/25)
المنصور على إمرة مصر [و] على الصلاة، وذلك في شوال سنة خمس وخمسين ومائة فجعل على شرطته أبا الصهباء محمد بن حسان الكلبي، وباشر إمرة مصر إلى سنة ست وخمسين ومائة؛ [وفي ولايته «1» ] خرج عليه قبط مصر وتجمعوا ببعض البلاد فبعث موسى هذا بعسكر فقاتلوهم حتى هزموهم وقتل منهم جماعة وعفا عن جماعة، ومهد أمور مصر؛ وكان فيه رفق بالرعية وتواضع، وكان يتوجه إلى المسجد ماشياً وصاحب شرطته بين يديه يحمل الحربة، وكان إذا أقام صاحب الشرطة الحدود بين يديه يقول له موسى هذا: أرحم «2» أهل البلاد؛ وكان يحدث فيكتب الناس عنه.
قال الذهبي في «تذهيب التهذيب» : ولي الديار المصرية ست سنين وحدث عن أبيه، وعن الزهري، وعن ابن المنكدر، وجماعة؛ وحدث عنه أسامة بن زيد الليثي، والليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وابن المبارك، وابن وهب، ووكيع، وأبو عبد الرحمن المصري، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن سنان العوقى، وروح بن صلاح الموصلي ثم المصري، وطائفة، آخرهم موتا القاسم بن هانئ الأعمى بمصر، ووثقه أحمد وابن معين والعجلي والنسائي.
وقال أبو حاتم: كان رجلاً صالحاً يتقن حديثه لا يزيد ولا ينقص، صالح الحديث، من الثقات.
وقال الحافظ أبو سعيد بن يونس: ولد بإفريقية سنة تسعين ومات بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة. اهـ.
وقال غيره: أقام على إمرة مصر إلى أن توفي الخليفة أبو جعفر المنصور في سادس ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وولي الخلافة من بعده ابنه محمد المهدي فأقرّ(2/26)
المهدىّ موسى هذا على إمرة مصر، فاستمر على ذلك إلى أن عزله المهدي بعد ذلك في سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة وولى بعده على مصر عيسى بن لقمان، فكانت ولايته على مصر ست سنين وشهرين.
وقال صاحب «البغية» : ثم صرفه المهدي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة، ومدة ولايته ست سنين وشهران.
قلت: وافقنا صاحب «البغية» في المدة والسنة وخالفنا في شهر عزله.
قلت: وفي أيامه كان خروج يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم «1» خرج ملتزماً بخراسان هو ومن معه منكراً على الخليفة محمد المهدي ونقم عليه في سيرته التي يسير بها، وكتب إلى موسى هذا ليوافقه فنهر قاصده وقبض عليه وكتب بذلك للمهدىّ، واجتمع مع البرم بشر كثير، فوجه إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابن أخى معن ابن زائدة الشيباني، فلقيه يزيد فاقتتلا حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيد المذكور وبعث به وبأصحابه إلى المهدي؛ فلما بلغوا النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنبه وكذلك أصحابه، فأدخلوهم إلى الرصافة على تلك الحالة، وقطعت يدا يوسف ورجلاه ثم قتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر «2» . وقيل: إن يوسف المذكور كان حرورياً فتغلب على بوشنج «3» وعليها مصعب «4» جد طاهر بن الحسين فهرب منه، وكان تغلب أيضاً على مرو الروذ والطالقان وجوزجان «5» ، وقد كان من جملة أصحابه أبو معاذ الفاريابىّ فقبض عليه معه.(2/27)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 156]
السنة الأولى من ولاية موسى بن علي على مصر وهي سنة ست وخمسين ومائة- فيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور الهيثم بن معاوية عن إمرة البصرة بسوار بن عبد الله، فاستقر سوار على إمرتها والقضاء، جمع له بينهما؛ ولما عزل الهيثم قدم بغداد فأقام [بها] أيامأ ومات فجأة على صدر سريته وهو يجامع، فخرج المنصور في جنازته وصلى عليه ودفن في مقابر قريش. وفيها توفي حمزة بن حبيب بن عمارة أبو عمارة الزيات أحد القراء السبعة؛ كان الأعمش إذا رآه يقول: هذا حبر القرآن.
وفيها توفي عبد الرحمن بن زياد أبو خالد الإفريقي المعافري قاضي إفريقية، كان فقيهاً زاهداً ورعاً؛ وهو أول مولود ولد بالإسلام بإفريقية، وهو من الطبقة الخامسة من أهل المغرب وفد على خلفاء بني أمية، وكان قوالاً بالحق مشكور السيرة عدلاً رحمه الله. وفيها توفي حماد الراوية أبو القاسم بن أبي ليلى، ولاؤه لبكر بن «1» وائل. وقيل اسم أبيه سابور بن مبارك الديلمي الكوفي، وكان إخبارياً عالماً علامة خبيراً بأيام العرب وشعرها؛ وامتحنه الوليد بن يزيد الخليفة في حفظ الشعر فتعب، فوكل به من يستوفي عليه فأنشد ألفين وسبعمائة «2» قصيدة مطولة، فأمر له الوليد بمائة ألف درهم.
وفيها توفي أيضاً حماد عجرد، واسمه حماد بن يونس «3» بن كليب أبو يحيى «4» الكوفي وقيل: الواسطي، كان أيضاً إخبارياً علامة، وكان بينه وبين بشار بن برد الشاعر الأعمى الآتي ذكره أهاج ومفاوضات؛ وكان بالكوفة في عصر واحد الحمادون(2/28)
الثلاثة: حماد الراوية المقدم ذكره وحماد عجرد هذا، وحماد بن «1» الزبرقان، فكانوا يشربون الخمر ويتهمون بالزندقة.
قال خلف بن المثنى: كان يجتمع بالبصرة عشرة «2» في مجلس لا يعرف مثلهم:
الخليل بن أحمد صاحب العروض سني، والسيد محمد»
الحميري الشاعر رافضي «4» ، وصالح بن عبد القدوس ثنوي «5» ، وسفيان بن مجاشع صفري «6» ، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمرو ابن أخت المؤيد «7» مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئي «8» ؛ فيتناشد الجماعة أشعاراً وأخباراً؛ فكان بشار يقول: أبياتك هذه يا فلان أحسن من سورة «9» كذا وكذا، وبهذا المزاح ونحوه كفروا بشاراً، وقيل: وفاة حماد عجرد سنة خمس وخمسين ومائة وقيل: سنة إحدى وستين ومائة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعا.(2/29)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 157]
السنة الثانية من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة سبع وخمسين ومائة- فيها أنشأ الخليفة أبو جعفر المنصور قصره الذي سمّاه الخلد على شاطئ دجلة. وفيها عرض المنصور جيوشه في السلاح والخيل وخرج وهو عليه درع وقلنسوة سوداء مصرية وفوقها الخوذة. وفيها نقل المنصور الأسواق من بغداد، وعملت بظاهرها بباب الكرخ، ووسع شوارع بغداد وهدم دوراً كثيرة لذلك. وفيها غزا الروم يزيد بن أسيد، فوجه على بعض جيشه سناناً مولى البطال، فسبى وقتل وغنم. وفيها توفي سوار بن عبد الله قاضي البصرة، كان عادلاً في حكمه، شكاه أهل البصرة إلى المنصور فاستقدمه المنصور، فلما قدم عليه جلس فعطس المنصور فلم يشمّته سوّار، فقال له المنصور: مالك لم تشمتني؟ فقال: لأنك لم تحمد الله، فقال المنصور: أنت ما حابيتني في عطسة تحابي غيري! ارجع إلى عملك. وفيها توفي عبد الوهاب ابن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي ابن أخي المنصور، ولاه عمه المنصور دمشق وفلسطين والصائفة ولم تحمد ولايته وولي عدة أعمال غير ذلك. وكان أبوه إبراهيم بويع بالخلافة بعد موت أبيه فلم يتم أمره وقبض عليه مروان الحمار وحبسه حتى مات فعدل الناس بعده إلى أخيه السفاح وبايعوه فتم أمره. وفيها توفي عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد «1» الفقيه أبو عمرو الاوزاعي فقيه الشام وصاحب المذهب المشهور الذي ينسب إليه الأوزاعية قديماً، والأوزاع: بطن من همدان وقيل: من حمير الشام «2» وقيل قرية بدمشق، وقيل:(2/30)
إنما سمي الأوزاعي لأنه من أوزاع القبائل، ومولده ببعلبك، ونشأ بالبقاع، ونقلته أمه إلى بيروت فرابط بها إلى أن مات بها فجأة، فوجدوه يده اليمنى تحت خده وهو ميت؛ وكان فقيهاً ثقة فاضلاً عالماً كثير الحديث حجة رحمه الله. وفيها توفي محمد ابن طارق المكي من الطبقة الثالثة «1» من أهل مكة، كان من الزهاد العباد.
قال محمد بن فضل «2» : رأيته في الطواف وقد انفرج له أهل الطواف فحزر «3» طوافه في اليوم والليلة فكان عشرة فراسخ. وبه ضرب ابن شبرمة المثل حيث قال:
لو شئت كنت ككرز في تعبده ... أو كابن طارق حول البيت في الحرم
قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا في طلاب الفوز فالكرم
وذكر الذهبي وفاة جماعة مختلف فيهم، فقال: وفيها توفى- قاضى مرو- الحسين ابن واقد، وسعيد بن أبي عروبة في قول، وطلحة بن أبي سعيد الإسكندراني، وعامر بن اسماعيل المسلى «4» الأمير، وفقيه الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعىّ، ومحمد بن عبد الله بن أخي الزهري، ومصعب بن ثابت «5» بن الزبير فى قول، ويوسف ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي (بفتح السين) ، وأبو محنف «6» لوط في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 158]
السنة الثالثة من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة ثمان وخمسين ومائة- فيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد العباسى بن أخي الخليفة أبي جعفر(2/31)
المنصور وهو شاب أمرد. وفيها مات طاغية الروم. وفيها ولى الخليفة خالد بن برمك الجزيرة، وكان ألزمه الخليفة المنصور بثلاثة آلاف ألف درهم. وفيها توفي زفر بن الهذيل العنبري، الإمام الفقيه صاحب أبي حنيفة ومولده سنة عشر ومائة؛ روى علىّ بن المدرك عن الحسن بن زياد قال: كان زفر وداود الطائي متحابين، فأما داود فترك الفقه وأقبل على العبادة، وأما زفر فجمعهما. قال أبو نعيم: كنت أعرض الحديث على زفر فيقول: هذا ناسخ وهذا منسوخ، وهذا يؤخذ وهذا يرفض. وقال الحسن بن زياد: ما رأيت أحداً يناظر زفر إلا رحمته. قلت:
يعني لكثرة علومه وبلاغته وقدرته على العلم. وهو أول أصحاب أبي حنيفة موتاً رحمه الله. وفيها توفي شيبان الراعي، وكان من كبار الفقهاء من الزّهاد والعبّاد، كان من أكابر أهل دمشق ثم ترك الدنيا وخرج إلى جبل لبنان، فانقطع به وأكل المباحات وصحب سفيان الثوري وغيره. قيل: إنه كان إذا حصل له جنابة أتته سحابة مطر فيغتسل منها؛ وكان إذا ذهب إلى الجمعة يخط على غنمه خطاً فيجيء فلم يجدها تتحرك. قال الهيثم: حج شيبان وسفيان الثوري فعرض لهما سبع، فقال سفيان: أما ترى السبع؟ فقال شيبان لا تخف غير الله عز وجل، فلما سمع السبع صوت شيبان جاء إليه وبصبص «1» فعرك شيبان أذنه بعد أن بصبص السبع، فقال له:
اذهب.
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبو جعفر المنصور الهاشمي العباسي، ولد فى سنة خمس وتسعين أو فى حدودها، وأمه أم ولد اسمها سلامة البربرية؛ وروى عن أبيه وجده، وروى عنه ولده محمد المهدي؛ وكان قبل أن يلي الخلافة يقال له: عبد الله الطويل؛ ولي الخلافة بعد(2/32)
موت أخيه عبد الله السفاح، أتته البيعة وهو بمكة، فإنه كان حج تلك السنة بعهد السفاح إليه لما احتضر في سنة ست وثلاثين ومائة، فدام فيها اثنتين وعشرين سنة إلى أن مات في ذي الحجة. وولي الخلافة من بعده ابنه محمد المهدي بعهد منه إليه.
وقال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك وهشام وأنا. قال شباب «1» :
أقام الحج للناس أبو جعفر المنصور سنة ست وثلاثين ومائة وسنة أربعين ومائة وسنة أربع وأربعين ومائة وسنة اثنتين وخمسين ومائة. وزاد الفسوي «2» أنه حج أيضاً سنة سبع وأربعين ومائة.
قال أبو العيناء حدثنا الأصمعي: أن المنصور صعد المنبر فشرع في الخطبة؛ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، اذكر من أنت في ذكره، فقال له: مرحباً، لقد ذكرت جليلاً، وخوفت عظيماً، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ والموعظة منا بدت ومن عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما الله أردت، إنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، فأهون بها ويلك «3» ! وإياك وإياكم معشر الناس وأمثالها؛ ثم عاد إلى الخطبة وكأنما يقرأ من كتاب.
وقال الربيع: كان المنصور يصلي الفجر ثم يجلس [وينظر] في مصالح الرعية إلى أن يصلي الظهر، ثم يعود إلى ذلك إلى أن يصلي العصر، ثم يعود إلى أن يصلي(2/33)
المغرب؛ فيقرأ ما بين المغرب والعشاء الآخرة «1» ، ثم يصلي العشاء ويجلس مع سماره إلى ثلث الليل الأول، فينام الثلث الأوسط ثم ينتبه إلى أن يصلي الفجر، ويقرأ في المصحف إلى أن ترتفع الشمس فيجلس للناس، فكان هذا دأبه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 159]
السنة الرابعة من ولاية موسى بن علي اللخمي على مصر وهي سنة تسع وخمسين ومائة. فيها خرج الخليفة محمد المهدي من بغداد فنزل البردان «2» وجهز الجيوش إلى الصائفة، وجعل على الجيوش عمه العباس بن محمد العباسي وبين يديه الحسن «3» بن وصيف في الموالي وقواد خراسان وغيرهم؛ فساروا إلى الروم حتى بلغوا أنقرة وفتحوا مدينة يقال لها: المطمورة «4» وعادوا سالمين غانمين. وفيها فتح الخليفة المهدي الخزائن وفرق الأموال. وذكر الربيع الحاجب قال: مات المنصور وفي بيت المال مائة ألف ألف درهم وستون ألف درهم فقسم ذلك المهدي وأنفقه. وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في حبس أبيه إلا من كان عليه دم وأشباه ذلك. وفيها أعتق المهدي جاريته الخيزران وتزوجها، وهي أم الهادي والرشيد. وفيها عزم المهدي(2/34)
على خلع ابن عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد وتولية ولده موسى الهادي [فكتب «1» إلى عيسى بن موسى بالقدوم عليه] فامتنع عيسى من ذلك. وفيها توفي عبد العزيز مولى المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة من الطبقة الرابعة من أهل مكة، وكان معروفاً بالعبادة والورع وله أحاديث. وفيها أطلق المهدي الحسن وأخاه ولدي إبراهيم بن عبد الله بن حسن وسلم الحسن إلى أمير يحتفظ به، فهرب الحسن فتلطف المهدي حتى وقع به بعد مدّة. وفيها عزل المهدي إسماعيل الثقفي عن الكوفة بعثمان ابن لقمان الجمحي وقيل بغيره. وفيها عزل المهدي خاله يزيد بن منصور عن اليمن وولاها رجاء بن روح.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في هذه السنة، قال: وتوفي أصبغ بن زيد الواسطي، وحميد بن قحطبة الأمير، وعبد العزيز بن أبي رواد «2» بمكة، وعكرمة بن عمار اليمامي، وعمار بن رزيق «3» الضبي، ومالك بن مغول قيل في أولها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وأبو بكر الهذلي واسمه سلمى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 160]
السنة الخامسة من ولاية موسى بن علي اللّخمىّ على مصر وهى سنة سئين ومائة. فيها عزل المهدي أبا عون عن إمرة خراسان وولاها بعده معاذ بن(2/35)
مسلم. وفيها حج بالناس الخليفة محمد المهدي ونزع المهدي كسوة البيت الحرام وكساه كسوة جديدة، فقيل: إن حجبة الكعبة أنهوا إليه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الأستار، فأمر بها فجردت عنها الستور، فلما انتهوا إلى كسوة هشام بن عبد الملك بن مروان وجدوها ديباجاً غليظاً إلى الغاية. ويقال:
إن المهدي فرق في حجته هذه في أهل الحرمين ثلاثين ألف ألف درهم منها دنانير كثيرة، ووصل إليه من اليمن أربعمائة «1» ألف دينار فقسمها أيضاً في الناس، وفرق من الثياب الخام مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب؛ ووسع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقرر في حرسه خمسمائة رجل من الأنصار ورفع أقدارهم. وفيها خلع المهدي ابن عمه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس من ولاية العهد وجعلها في ولده موسى الهادي. وفيها توفي إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي العجلي أبو إسحاق البلخي، وأصله من كورة بلخ من أبناء الملوك، حج أدهم ومعه امرأة فولدت بمكة إبراهيم هذا، فطاف به أبوه حول الكعبة ودار به على الخلق في المسجد وقال: ادعوا له.
قال ابن مندة: سمعت عبد الله بن محمد البلخي، سمعت عبد الله بن محمد العابد، سمعت يونس بن سليمان البلخي يقول: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه شريفاً كثير المال والخدم والجنائب «2» والبزاة، فبينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه إذ هو بصوت يناديه: يإبراهيم، ما هذا العبث! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً. اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة، قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا.(2/36)
وذكر الذهبي بإسناد عن إبراهيم بن أدهم أنه قيل لإبراهيم بن أدهم:
ما كرامة المؤمن على الله؟ قال: أن يقول للجبل تحرك فيتحرك، قال: فتحرك الجبل، فقال: ما إياك عنيت.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا سواء.
ذكر ولاية عيسى بن لقمان على مصر
هو عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي (بضم الجيم وتقدمها نسبة إلى جمح) أمير مصر، وليها بعد عزل موسى بن علي اللخمي من قبل أمير المؤمنين محمد المهدىّ على الصلاة والخراج معاً في سنة إحدى وستين ومائة، وكان دخوله إلى مصر في يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقين من ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة؛ فجعل على الشرطة الحارث بن الحارث الجمحي وهو من بني عمه، ثم سكن عيسى هذا المعسكر على عادة أمراء مصر ودام على إمرة مصر مدة يسيرة، ثم جاءه الخبر بعزله عن إمرة مصر في جمادى الآخرة «1» لاثنتي عشرة بقيت منها من سنة اثنتين وستين ومائة، وولاية واضح مولى أبي جعفر المنصور. فكانت ولاية عيسى هذا على مصر نحو خمسة أشهر، وهي بسفارة يعقوب بن داود. وكان سبب تقدم يعقوب بن داود عند المهدي لما أحضره المهدي عنده في أمر الحسن بن إبراهيم العلوي فقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، إنك قد بسطت عدلك لرعيتك وأنصفتهم وأحسنت إليهم فعظم رجاؤهم، [وانفسحت آمالهم «2» ] ؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها [لك «3» ] لم تدع النظر فيها، وأشياء خلف بابك يعمل فيها ولا تعلم بها، فإن جعلت(2/37)
لي السبيل إليك رفعتها؛ فأمره بذلك. فكان يدخل عليه كلما أراد ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمور الثغور والولايات وبناء الحصون ونقوية الغزاة وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء عن الغارمين والصدقة على المتعففين، فحظي عنده بذلك وتقدمت منزلته حتى سقطت منزلة أبي عبيد الله وحبس. وكتب المهدي توقيعاً بأنه اتخذه أخاً في الله ووصله بمائة ألف درهم.
ولما عزل عيسى هذا عن إمرة مصر قربه إلى المهدي فأكرمه غاية الإكرام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 161]
السنة التي حكم فيها عيسى بن لقمان على مصر وهي سنة إحدى وستين ومائة على أنه ولي في آخرها غير أننا نذكرها في ترجمته، ونذكر سنة اثنتين وستين ومائة في ترجمة غيره لأن كلاً منهما ترجمته غير مستوفاة لقلة اعتناء المؤرخين بهما قديماً.
فيها خرج المقنع الخارجي بخراسان واسمه عطاء، وقيل حكيم، بأعمال مرو وادّعى النبوّة، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستغوى خلقاً عظيماً وتوثب على بعض ما وراء النهر، فانتدب لحربه أمير خراسان معاذ بن مسلم والأمير جبريل بن يحيى وليث مولى المهدي وسعيد الحرسىّ، فجمع المقنّع الأقوات وتحصّن للحصار بقلعة من أعمال كش»
على ما يأتي ذكره. وفيها ظفر نصر بن [محمد «2» بن] الأشعث الخزاعي بعبد الله ابن الخليفة مروان الحمار الأموي المكنى بأبي الحكم وهو أخو عبيد الله؛ وكانا وليّى عهد مروان، فلما قتل مروان حسبما ذكرناه بديار مصر هرب عبد الله هو وأخوه إلى الحبشة فقتل عبيد الله واختفى هذا إلى أن أتي به إلى المهدي فجلس له مجلسا(2/38)
عاماً وقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز العقيلي إلى جنبه، ثم قال له: أبو الحكم؟
قال: نعم، فسجنه المهدي. وفيها أمر المهدي بعمارة طريق مكة وبنى بها قصوراً «1» أوسع من القصور التي أنشأها عمه السفاح، وعمل البرك وجدد الأميال «2» ودام العمل في ذلك حتى تم في عشر سنين. ثم أمر المهدي بترك المقاصير التي في الجوامع وقصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها حج بالناس موسى الهادي ولي عهد المهدي وابنه الأكبر. وفيها زاد الخليفة المهدي في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي أبو دلامة زند «3» بن الجون الكوفي الشاعر المشهور مولى بني أسد، كان عبداً حبشياً فصيحاً خليعاً ماجناً، وهو ممن ظهر ذكره في الدولة العباسية من الشعراء. ومن شعره وهو من نوع المقابلة ثلاثة بثلاثة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر على اختلاف يرد عليه في وفاتهم. قال: وفيها مات أرطاة بن الحارث النخعي، وإسرائيل بن يونس، وحرب بن شداد أبو الخطاب، ورجاء بن أبي سلمة بالرملة «4» ، وزائدة بن قدامة في أولها، وسالم بن أبي المهاجر الرقي، وسعيد بن أبي «5» أيوب المصري، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الحكم بن أعين المصري، ونصر بن مالك الخزاعي الأمير، ويزيد «6» بن إبراهيم التستري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وأربعة أصابع.(2/39)
ذكر ولاية واضح المنصوري على مصر
هو واضح بن عبد الله المنصوري الخصي أمير مصر، وليها من قبل المهدي بعد عزل عيسى بن لقمان عن مصر في جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة. فدخلها واضح المذكور في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة؛ وجمع له المهدي صلاة مصر وخراجها معاً، ولما دخل مصر سكن المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطته موسى بن زريق مولى بني تميم. وواضح هذا أصله من موالي صالح ابن الخليفة أبى جعفر المنصور. وكان خصيصاً عند المنصور إلى الغاية، وكان يندبه إلى المهمات لشجاعة كانت فيه وشدة. ولما ولي إمرة مصر شد على أهلها فشكوا منه فعزله المهدي عنهم في شهر رمضان من سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة بمنصور بن يزيد. فكانت ولاية واضح هذا على مصر نحو أربعة أشهر.
وقال صاحب «البغية» : ثلاثة شهور. واستمر واضح هذا على بريد مصر إلى أن خرج إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكان واضح المذكور فيه ميل للعلوبّين فحمله واضح على البريد إلى الغرب فنزل إدريس بمدينة يقال لها وليلة «1» ، وكان إدريس هذا قد خرج أولاً مع الحسين صاحب فخ «2» ، فلما قتل الحسين هرب إدريس هذا إلى مصر واختفى بها إلى أن وجهه واضح هذا إلى الغرب، فلما وصل إدريس هذا إلى الغرب دعا لنفسه فأجابه من كان بها(2/40)
وبنواحيها من البربر وعظم أمره وبلغ ذلك الخليفة الهادي موسى، فطلب واضحاً هذا وقتله وصلبه في سنة تسع وستين ومائة، وقيل: الذي قتله هارون الرشيد لما تخلف بعد موت أخيه موسى الهادي في أول خلافته.
ذكر ولاية منصور بن يزيد على مصر
هو منصور بن يزيد بن منصور بن عبد الله بن شهر بن يزيد الزنجاني الحميري الرعيني أمير مصر وهو ابن خال المهدي؛ ولاه المهدي إمرة مصر بعد عزل واضح عنها في سنة اثنتين وستين ومائة على الصلاة، فقدم مصر يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية ابن حديج مدة يسيرة، ثم عزله وولى عبد الأعلى بن سعيد «1» الجيشاني، ثم عزله أيضاً وولى عسّامة بن عمرو؛ وكل ذلك في مدة يسيرة فإن ولاية منصور المذكور لم تطل على إمرة مصر وعزل عنها في النصف من ذي القعدة من سنة اثنتين وستين ومائة المذكورة بيحيى بن داود؛ فكانت مدة ولاية منصور بن يزيد هذا على مصر شهرين وثلاثة أيام، ولم أقف على وفاته بعد ذلك غير أنه ذكر في واقعة عبد السلام الخارجي أنه حضرها بقنسرين. وأمر عبد السلام بن هاشم اليشكري المذكور، [أنه] كان قد خرج بالجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه فلقي عدة من قوّاد المهدىّ فيهم عيسى «2» ابن موسى القائد فقتله بعد أمور في عدة ممن معه وهزم جماعة من القواد فيهم شبيب ابن واج «3» المرورّوذىّ، فندب المهدي إلى شبيب ألف فارس وأعطى كل رجل(2/41)
منهم ألف درهم معونة فوافوا شبيباً، فخرج بهم في طلب عبد السلام المذكور فهرب منه فأدركه بقنّسرين وقتله.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 162]
السنة التي حكم فيها واضح مولى المنصور على مصر ثم من بعده منصور ابن يزيد الحميري الرعيني وهي سنة اثنتين وستين ومائة- فيها وضع الخليفة المهدي دواوين الأزمة وولى عليها عمرو «1» بن مربع، ولم يكن لبني أمية ذلك. (ومعنى دواوين الأزمة: أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كان قبل ذلك الدواوين مختلطة) . وفيها وصلت الروم إلى الحدث «2» فهدموا سورها فغزا الناس غزوة لم يسمع بمثلها، وكان مقدم الغزاة الحسن بن قحطبة سار إليهم في ثمانين ألف مقاتل سوى المطوعة؛ فأغار على ممالك الروم وأحرق وأخرب ولم يلق بأساً. وفيها ولي اليمن عبد الله بن سليمان. وفيها ظهرت المحمّرة «3» بجرجان ورأسهم عبد القهار فغلبوا على جرجان وقتلوا وأفسدوا؛ فسار لحربهم من طبرستان عمر بن العلاء فقتل عبد القهّار ورءوس أصحابه وتشتت باقي أصحابه. وفيها كان مقتل عبد السلام بن هاشم اليشكري الذي خرج بحلب وبالجزيرة، وكثرت جموعه وهزم الجيوش التي حاربته حتى انتدب لحربه شبيب بن واج في ألف فارس من الأبطال وأعطوا ألف ألف(2/42)
درهم، ففر منهم اليشكري إلى حلب فلحقه بها شبيب وقتله. وفيها توفي أبو عتبة «1» عباد بن عباد الخواص كان من أهل المحبة وعنه أخذ مشايخ الطريقة، كان يمشي فى الأسواق ويصيح: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه! وكان صاحب أحوال وكرامات رحمه الله. وفيها توفي محمد بن جعفر بن عبيد «2» الله بن العباس العباسي الهاشمي، كان صاحب فضل ومروءة وكان بمنزلة عظيمة عند الخليفة أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يعجب به ويحادثه، وكان لبيباً لسناً فصيحاً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر ممن تقدم ذكرهم وغيرهم على اختلاف يرد في وفاتهم، قال: وفيها توفي إبراهيم بن أدهم الزاهد، وإبراهيم بن نشيط المصري في قول، وخالد ابن أبي بكر العمري «3» المدني، وداود بن نصير الطائي، وزهير بن محمد التميمي المروزي، وإسرائيل بن يونس بخلف، وعبد الله بن محمد بن أبي يحيى المدني سحبل، ويزيد بن إبراهيم التستري بخلف، ويعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، وأبو بكر بن أبي سبرة القاضي، وأبو الأشهب العطاردي واسمه جعفر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.(2/43)
ذكر ولاية يحيى بن داود على مصر
هو يحيى بن داود الشهير بابن ممدود الأمير أبو صالح الخرسي «1» من أهل خراسان.
وقال صاحب «البغية» : من أهل نيسابور. ولي مصر من قبل المهدي على الصلاة والخراج بعد عزل منصور بن يزيد عنها في ذي الحجة سنة اثنتين وستين ومائة، ولما قدم مصر سكن المعسكر على العادة، وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، وكان أبو صالح المذكور تركياً وفيه شدة بأس وقوة جنان مع معرفة وتدبير؛ وكان لما قدم مصر وجد السبل بها مخيفة لكثرة المفسدين وقطاع الطريق، فأخذ أبو صالح هذا في أقماع المفسدين وأبادهم وقتل منهم جماعة كثيرة، فعظمت حرمته وتزايدت هيبته في قلوب الناس حتى تجاوز ذلك الحدّ؛ فكان يمنع الناس من غلق الدروب والأبواب وغلق الحوانيت حتى جعلوا عليها [شرائج «2» ] القصب والشباك لمنع الكلاب من دخولها في الليل، وهو أول من صنع ذلك بمصر؛ فكان ينادي بمصر ويقول: من ضاع له شيء فعلي أداؤه، ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: من راح له شيء فأنا أقوم له به من مالي؛ فكان الرجل يدخل الحمّام فيضع ثيابه فى المسلخ «3» ثم يقول: يا أبا صالح احرس ثيابي ثم يدخل الحمام ولم يكن بها حارس ويقضي حاجته على مهل ويخرج فيلقى ثيابه كما هي لا يجسر أحد على أخذها من عظم حرمته، فإنه كان أشد الملوك حرمة وأعظمهم هيبة وأقدمهم على سفك الدماء وأنهكهم عقوبة؛ ثم إنه أمر أهل مصر من الأشراف والفقهاء والأعيان أن يلبسوا القلانس الطوال ويدخلوا بها عليه في يوم الاثنين والخميس بلا أردية؛ فقاسى أهل مصر منه شدائد، غير أن البلاد ومصر كانت(2/44)
في أيامه في غاية الأمن. قيل: إن أبا جعفر المنصور كان إذا ذكره يقول: هو رجل يخافني ولا يخاف الله. واستمر على إمرة مصر إلى أن عزله الخليفة محمد المهدىّ بسالم بن سوادة في محرم سنة أربع وستين ومائة، وفرح المصريون بعزله عنهم؛ فكانت ولايته على مصر سنة وشهراً إلا أياماً. وقال صاحب «البغية» : سلتين وشهراً، والأول أثبت. وهو أحد من مهد الديار المصرية وأباد أهل الحوف من قيس ويمن وغيرهم من قطاع الطريق؛ وكان من أجل أمراء مصر لولا شدة كانت فيه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 163]
السنة الأولى من ولاية أبي صالح يحيى بن داود على مصر وهي سنة ثلاث وستين ومائة- فيها جدّ الأمير سعيد الحرسىّ في حصار المقنع حتى أشرف على أخذ قلعته، فلما أحس المقنع بالهلاك مص سما وأسقى نساءه فتلف وتلفوا. وفيها عزل الخليفة محمد المهدي عبد الصمد بن علي عن إمرة الجزيرة وولاها زفر بن عاصم الهلالي. وفيها ولى المهدي ابنه هارون الرشيد بلاد المغرب كلها وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها قدم المهدي إلى حلب وجهز البعوث لغزو الروم، وكانت غزوة عظيمة، أمر عليها ابنه هارون الرشيد وضم إليه الربيع الحاجب وموسى «1» بن عيسى بن موسى والحسن بن قحطبة، فافتتح المسلمون فتحاً كبيراً. وفيها قتل المهدي جماعة من الزنادقة وصلبهم وأحضرت كتبهم فقطعت. وفيها زار المهدي القدس، وحج بالناس علي بن(2/45)
المهدي. وفيها توفي الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الازدي الفراهيدي البصري صاحب العربية والعروض، وقد تقدم ذكره من قول صاحب مرآة الزمان في سنة ثلاثين ومائة؛ والأصح وفاته في هذه السنة. وفيها توفي أرطاة بن المنذر بن الأسود أبو عدي السكوني «1» الحمصي، قال: أتيت عمر بن عبد العزيز فعرض لي في خيله وقال: يا أرطاة: ألا أحدثك بحديث هو عندنا من العلم المخزون؟ قلت: بلى، قال: إذا توضأت عند البحر فالتفت إليه وقل: يا واسع المغفرة اغفر لي، فإنه لا يرتد إليك طرفك حتى يغفر لك ذنوبك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعا.
ذكر ولاية سالم بن سوادة على مصر
هو سالم بن سوداة التميمي أمير مصر، وليها من قبل محمد المهدي بعد عزل يحيى بن داود في أول المحرم سنة أربع وستين ومائة، فقدمها يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وجعل على شرطته الأخضر بن مروان، وقدم معه أيضاً أبو قطيفة «2» إسماعيل بن إبراهيم على الخراج؛ ولما دخل سالم إلى مصر سكن بالمعسكر على العادة، ودام على إمرة مصر إلى أن مضت سنة أربع وستين ومائة ودخلت سنة خمس وستين ومائة؛ وورد عليه الخبر من قبل الخليفة محمد المهدي بصرفه عن إمرة مصر بإبراهيم بن صالح العباسي، فكانت ولايته على مصر نحو السنة.(2/46)
وقال صاحب «البغية» : صرف في سلخ ذي الحجة فكان مقامه بمصر سنة إلا ثمانية عشر يوماً. وفي أيامه كانت حروب كثيرة بمصر وبلاد المغرب، وجهز عساكر مصر نجدة إلى من كان في برقة ثم عادوا من غير قتال لما بلغتهم الفتنة التي كانت بالمغرب بين بربر بلنسية «1» وبربر شنت «2» برية من الأندلس وجرت بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق من الطائفتين، وكانت بينهم وقائع مشهورة دامت أشهرا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 164]
السنة التي حكم فيها سالم بن سوادة، على مصر وهي سنة أربع وستين ومائة- فيها حج بالناس صالح بن المنصور. وفيها غزا هارون الرشيد ابن الخليفة المهدي الصائفة فوغل في بلاد الروم ووقع له بالروم حروب وافتتح عدة حصون حتى بلغ خليج قسطنطينية، وصالح ملك الروم في العام على سبعين ألف دينار مدة ثلاث سنين بعد أن غنم وسبى واستنقذ خلقاً من المسلمين من الأسر، وغنم ما لا يوصف من المواشي حتى بيع البرذون بدرهم والزردية بدرهم وعشرون سيفاً بدرهم؛ وقتل من العدو نحو خمسين ألفاً؛ قاله الذهبي، ثم رجع فسر به أبوه المهدي. وقيل: إن هذه الغزوة كانت فى سنة خمس وسنتين ومائة. وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة وفارس واستعمل عليها صالح بن داود بن علي. وفيها خرج المهدي حاجاً فوصل العقبة فعطش الناس وجهد الحجيج.(2/47)
وأخذت المهدي الحمى فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بن موسى حيث لم يصلح المصانع على الوجه، ولاقى الناس شدة من قلة الماء. وفيها توفي شبيب بن شيبة أبو معمر المنقري «1» ، كان خطيباً لسناً فصيحاً دخل على المنصور فقال: يا شبيب عظني وأوجر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يرض أن يجعل أحداً من خلقه فوقك، فلا ترض لنفسك أن يكون أشكر له فى الأرض منك؛ فقال أحسنت وأوجرت!.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في تاريخه مع خلاف يرد عليه، قال: وفيها توفي إسحاق بن يحيى بن طلحة التيمي، وسلام بن مسكين في قول، وسلام بن أبي مطيع في قول أيضاً، وعبد الله بن زيد بن أسلم العدوي، وعبد الله بن شعيب بن الحبحاب وعبد الله بن العلاء بن زئر؟؟؟ «2» ، وعبد الرحمن بن عيسى بن وردان، وعبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون، وعبد المجيد بن أبي عبس «3» الأنصاري، وعمر «4» بن أبي زادة في قول الواقدي، وعمر بن «5» عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، والقاسم بن معن المسعودي في قول خليفة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.(2/48)
ذكر ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر
هو إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير مصر، وليها من قبل ابن عمه المهدىّ على الصلاة والخراج معا؛ وقدم إلى مصر لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وستين ومائة ونزل المعسكر على عادة أمراء مصر في الدولة العباسية، ثم ابتنى دارا عظيمة بالموقف «1» من المعسكر، وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، ودام إبراهيم بمصر إلى أن خرج دحية بن المعصب «2» بن الأصبغ «3» بن عبد العزيز ابن مروان بالصعيد ودعا لنفسه بالخلافة، فتراخى عنه إبراهيم هذا ولم يحفل بأمره حتى استفحل أمر دحية وملك غالب بلاد الصعيد وكاد أمره أن يتم ويفسد بلاد مصر وأمرها؛ فسخط المهدي عليه بسبب ذلك وعزله عزلاً قبيحا فى سابع ذى الحجّة سنة 167 هـ بموسى بن مصعب. فكانت ولاية إبراهيم بن صالح هذه على مصر ثلاث سنين إلا أياماً، وصادره المهدي بعد عزله وأخذ منه ومن عمّاله ثلثمائة وخمسين ألف دينار، ثم رضي عنه بعد ذلك وولاه غير مصر ثم أعاده الرشيد إلى عمل مصر ثانياً في سنة ست وسبعين ومائة. يأتي ذكر ذلك في ولايته الثانية ان شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 165]
السنة الأولى من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة خمس وستين ومائة- فيها كانت غزوة هارون الرشيد ابن الخليفة المهدي السابق ذكرها(2/49)
على الأصح. وفيها حج بالناس صالح بن المنصور. وفيها توفي داود بن نصير أبو «1» سليمان الطائىّ العابد، كان كبير الشأن في العلم والورع والزهد وسمع الحديث كثيراً وتفقه على أبي حنيفة رضي الله عنه، وأحد أصحابه الكبار. وفيها توفي حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، كان أحد الأعلام تفقه بأبيه وكان إماماً كثير الورع فقيهاً صالحاً. وفيها توفي خالد بن برمك والد البرامكة ووالد يحيى بن خالد وجد جعفر والفضل، وكان جليل القدر خصيصاً عند المنصور وابنه المهدي وولي الأعمال الجليلة، وكان عاقلاً مدبراً سيوساً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة على اختلاف فيهم، قال: وفيها توفي حماد «2» بن أبي حنيفة وخالد بن برمك والد البرامكة، وخارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت المدني، وسليمان بن المغيرة البصري، وداود الطائي الزاهد بخلف- وقول الذهبي بخلف، يعني أنه على اختلاف وقع في وفياتهم انتهى- وعبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان، ومعروف بن مشكان «3» قارئ مكة، ووهيب بن خالد بالبصرة، وأبو الأشهب العطاردي بخلف.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وإصبع واحد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 166]
السنة الثانية من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة ست وستين ومائة- فيها خرج موسى بن المهدي الخليفة إلى جرجان واستقضى أبا يوسف(2/50)
يعقوب صاحب أبي حنيفة. وفيها أمر الخليفة محمد المهدي بإقامة البريد من اليمن «1» إلى مكة ومن مكة إلى بغداد، ولم يكن البريد قبل ذلك بقطر من الأقطار. وفيها توفي عاصم بن عبد الحميد الفهري شيخ ابن وهب، كان إماماً فاضلاً رحمه الله. وفيها عزل المهدي عن قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن وولاها خالد بن طليق بن عمران ابن حصين. وفيها غضب الخليفة المهدي على وزيره يعقوب بن داود بن طهمان وكان خصيصاً بن فحسده موالي المهدي وسعوا به حتى قبض عليه، وكان الوزير يعقوب كثير الأنهماك في اللذات، وكان المهدي لا يحب النبيذ لكن يتفرج على غلمانه وهم يشربون، فلما عظم أمر الوزير يعقوب وصار الحل والعقد بيده مع انهماكه، قال في ذلك بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا «2» ... خليفة الله بين الدف والعود
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير فصرفه المهدىّ عن إمرتها بالفضل ابن سليمان الطوسي وأضاف إليه سجستان. وفيها قدم وضاح الشروي بعبد الله «3» ابن الوزير أبي عبيد الله يعقوب المقدم ذكره، وكان رمي بالزندقة فقتله المهدي بحضرة أبيه، وأباد المهدي الزنادقة في هذه السنة وقتل منهم خلائق.(2/51)
الذين ذكرهم الذهبي في وفيات هذه السنة. قال: وفيها توفي خالد بن يزيد المري، وخليد بن دعلج السدوسي، وصدقة بن عبد الله السمين، وعقبة بن عبد الله الرفاعي الأصم بخلف، وعقبة بن أبي الصهباء الباهلي البصريان، وعفير بن معدان «1» الحمصي، وعقبة بن نافع المعافري الإسكندراني في قول؛ والصواب في سنة ثلاث وستين ومائة، وعاصم بن عبد الحميد الفهري شيخ ابن وهب، ومعقل بن عبيد الله الجزري «2» . وفي أولها دفنوا أبا الأشهب العطاردي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعاًن سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 167]
السنة الثالثة من ولاية إبراهيم بن صالح الأولى على مصر وهي سنة سبع وستين ومائة- فيها أمر المهدي بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام، فدخلت في ذلك دور كثيرة وولّى البناء يقطين الأمير ومات المهدي ولم يتم بناؤه. وفيها أظلمت الدنيا ظلمة شديدة لليال بقين من ذي الحجة وأمطرت السماء رملاً أحمر، ثم وقع عقيبه وباء شديد هلك فيه معظم أهل بغداد والبصرة. وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد أمير المدينة، ثم توفي بعد عوده إلى المدينة بأيام، وتولى المدينة من بعده إسحاق بن عيسى ابن علي. وفيها عزل المهدي عن ديوان الرسائل أبا عبيد الله الأشعري «3» الذي كان وزيره(2/52)
وقبض عليه في الماضية ثم أطلقه وولاه ديوان الرسائل فعزله في هذه السنة، وولى مكانه الربيع الحاجب، فاستناب الربيع فيه سعيد بن واقد «1» . وفيها جد المهدي في تتبع الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتل منهم خلائق. وفيها توفي بشار بن برد أبو معاذ العقيلي بالولاء، الضرير الشاعر المشهور، ولد أعمى جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر. وكان ضخماً عظيم الخلقة والوجه مجدراً طويلا، وكان يرمى بالزندقة، ويروى عنه أنه كان يفضل النار على الأرض، ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم صلوات الله عليه؛ وفى تفضيل النار يقول:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
ومن شعره في غير هذا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي «2» فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وله فى المشورة:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو فصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... فإن «3» الخوافي قوة للقوادم
وله في التشبيهات قوله:
كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى «4» كواكبه
وفيها توفي عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير الهاشمي العباسي، وهو ابن أخي السفاح والمنصور، وجعله السفاح ولي عهده بعد أخيه(2/53)
المنصور، فلا زال به المنصور في أيام خلافته حتى جعل المهدي ابنه قبله في ولاية العهد ثم خلعه المهدي من ولاية العهد بالكلية بعد أمور صدرت؛ وكان عيسى هذا يلقب في أيام ولاية العهد بالمرتضى، وولي عيسى المذكور أعمالاً جليلة إلى أن توفي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحد وأربعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية موسى بن مصعب على مصر
هو موسى بن مصعب بن الربيع الخثعمي مولى خثعم أصله من أهل الموصل ولاه المهدي إمرة مصر- بعد عزل إبراهيم بن صالح عنها سنة سبع وستين ومائة- على الصلاة والخراج؛ وقدم مصر في يوم السبت سابع ذي الحجة من السنة المذكورة؛ وعند دخوله إلى مصر رد إبراهيم بن صالح معه إلى مصر بعد أن كان خرج منها، وقال:
أمرني الخليفة بمصادرتك فصادره وأخذ منه ومن عمّاله ثلثمائة ألف دينار، ثم أمر إبراهيم بالمسير إلى بغداد فسار إليها؛ ولما دخل موسى هذا الى مصر سكن بالمعسكر.
وجعل على شرطته عسامة بن عمرو، وأخذ موسى في أيام إمرته على مصر يتشدد على الناس في استخراج الخراج وزاد على كل فدان ضعف ما كان أولا، ولقي الناس منه شدائد وساءت سيرته وارتشى في الأحكام؛ ثم رتّب دراهم على أهل الأسهواق وعلى الدواب فكرهه الجند وتشغبوا عليه ونابذوه؛ وثارت قيس واليمانية وكاتبوا أهل مصر فاتفقوا عليه؛ ثم اشتغل موسى هذا بأمر دحية الأموي الخارج ببلاد الصعيد المقدم ذكره وجهز إليه جيوشا لقتاله؛ ثم خرج هو بنفسه في جميع جيوش مصر لقتال قيس واليمانية؛ فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم وأسلموه فقتل، ولم(2/54)
يتكلم أحد من أهل مصر لأجله كلمة واحدة؛ وكان قتله لسبع خلون من شوال سنة ثمان وستين ومائة؛ فكانت ولايته على مصر عشرة أشهر، وولي بعده عسامة بن عمرو، وكان موسى استخلفه بعد خروجه للقتال. وكان موسى هذا من شر ملوك مصر، كان ظالماً غاشماً، سمعه الليث بن سعد يقرأ في خطبته: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها) فقال الليث: اللهم لاتقه منها.
ومن غريب الاتفاق: أن موسى بن كعب أمير مصر المقدم ذكره في موضعه لما عزله أبو جعفر المنصور عن إمرة مصر بمحمد بن الأشعث كتب إليه: إني قد عزلتك لا لسخط ولكن بلغني أن غلاما يقتل بمصر من أمرائها يقال له موسى فكرهت أن تكونه، فأخذ موسى كلام المنصور لغرض. وبقي أهل مصر يتذاكرون ذلك إلى أن قتل موسى هذا بعد ذلك بسبع وعشرين سنة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 168]
السنة التي حكم فيها موسى بن مصعب على مصر وهي سنة ثمان وستين ومائة- فيها جهز المهدي سعيداً الحرشي لغزو طبرستان في أربعين ألفا. وفيها حج بالناس علي بن المهدي. وفيها نقضت الروم الصلح بعد «1» فراغه بثلاثة أشهر، فتوجّه إليهم يزيد بن بدر بن أبي محمد البطال في سرية فغنموا وظفروا. وفيها مات عمر «2»(2/55)
الكلواذاني عريف الزنادقة وتولى بعده حمدويه الميساني. وفيها توفي الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد الهاشمي المدني، وأمه أم ولد كان عابداً ثقة، ولي المدينة لأبي جعفر المنصور خمس سنين، ثم غضب عليه أبو جعفر وعزله واستصفى أمواله وحبسه، فلم يزل محبوسا حتى مات المنصور فأخرجه المهدي ورد عليه كل شيء كان أخذ له؛ ولم يزل عند المهدي مقرباً إلى أن مات في هذه السنة.
وفيها توفي حماد بن سلمة أبو سلمة البصري مولى بني تميم، كان من أهل البصرة وهو ابن أخت حميد الطويل، كان ثقة عالماً زاهداً صالحاً كبير الشأن.
الذين ذكر وفاتهم الذهبي على اختلاف في وفاتهم، قال: وتوفى أبو أميّة [أيوب] ابن خوط «1» البصري، وجعفر الأحمر بخلف، وأبو الغصن «2» ثابت بن قيس المدني، والأمير الحسن بن زيد بن السيد الحسن سبط النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت وهو الذي ذكرناه في هذه السنة. قال: وتوفي خارجة بن مصعب السرخسي «3» ، وسعيد بن بشير بدمشق وقيل سنة تسع، وأبو مهدي سعيد بن سنان الحمصي، وطعمة بن عمرو الجعفري الكوفي، وعبيد الله بن الحسن العنبرىّ قاضي البصرة، وغوث بن سليمان بمصر، ومحمد بن صالح التمار، وأبو حمزة السكري في قول، ومفضل بن مهلهل «4» في قول، ونافع بن يزيد الكلاعي بمصر ويحيى بن أيوب المصري وقيل سنة ثلاث.(2/56)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
ذكر ولاية عسامة بن عمرو على مصر
هو عسامة بن عمرو بن علقمة بن معلوم بن جبريل «1» بن أوس بن دحية المعافري الأمير أبو داجن أمير مصر (وعسامة بفتح العين المهملة والسين المهملة مشددة وبعد الألف ميم مفتوحة وهاء ساكنة) وليها باستخلاف موسى بن مصعب له، فلما قتل موسى أقره المهدي على إمرة مصر عوضه؛ وكان ذلك في شوال سنة ثمان وستين ومائة، وكان ولى الشّرطة بمصر لعدة من أمراء مصر؛ ولما ولي إمرة مصر افتتح إمرته بحرب دحية الأموي الخارج ببلاد الصعيد في إمرة موسى، فبعث إليه جيوشا مع أخيه بكار بن عمرو فحارب بكار المذكور يوسف بن نصير مقدمة جيش دحية المذكور وتطاعنا فوضع يوسف الرمح في خاصرة بكار ووضع بكار الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معاً ورجع الجيشان منهزمين؛ وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين ومائة. فلم يقم عسامة بعد ذلك إلا أياماً يسيرة وورد عليه الخبر من الفضل بن صالح العباسي أنه ولي مصر وقد استخلف عسامة المذكور على صلاتها حتى يحضر، فخلفه عسامة على الصلاة حتى حضر الفضل في سلخ المحرم سنة تسع وستين ومائة؛ فكانت ولاية عسامة على مصر ثلاثة أشهر إلا أياما. واستمر عسامة بمصر بعد ذلك سنين إلى أن استخلفه إبراهيم بن صالح لما ولي مصر قبل أن يدخلها على الصلاة فخلفه عسامة المذكور أياما يسيرة بها حتى حضر إبراهيم، ثم أقام عسامة بعد ذلك بمصر إلى أن مات بها يوم الجمعة لست أو لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين ومائة.(2/57)
[ما وقع من الحوادث سنة 169]
السنة التي حكم فيها عسامة وغيره على مصر وهي سنة تسع وستين ومائة- فيها خرج المهدىّ من بغداد يريد ما سبذان «1» واستخلف الربيع الحاجب على بغداد، وسبب خروجه أنه رأى تقديم ولده هارون على أخيه موسى وكلاهما أمه الخيزران، فأرسل المهدي إلى ولده موسى وكلاء وهو بجرجان فامتنع من المجيء، ثم أرسل إليه ثانياً فلم يأت، فسار إليه المهدي فمات في طريقه.
ذكر وفاة المهدي ونسبه
هو محمد بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير المؤمنين، وهو الثالث من خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة بعد وفاة أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة ومولده سنة سبع وعشرين ومائة، وأمه بنت منصور الحميرية، ومات في المحرم من هذه السنة. وسبب موته قيل؛
إنه ساق في مسيره خلف صيد فاقتحم الصيد خربة فدخلت الكلاب خلفه وتبعهم المهدي فدق ظهره في باب الخربة مع شدة سوق الفرس فمات من ساعته، وقيل: بل سمه بعض حواشيه. وقيل: بل أكل أبخاصاً «2» فصاح: جوفي جوفي ومات من الغد بقرية من قرى ما سبذان، وقيل غير ذلك. فبويع موسى الهادي ولده بالخلافة، وركب البريد من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما ولا يعرف خليفة ركب البريد سواه. وكان وصول الهادي إلى بغداد في عاشر صفر من سنة تسع وستين ومائة.(2/58)
قلت: وينبغي أن نلحق قضية موسى الهادي في كتاب «الفرج بعد الشدة» فإنه كان أبوه يريد خلعه من ولاية العهد ويقدم الرشيد عليه فجاءته الخلافة دفعة واحدة.
وفيها توفي الربيع الحاجب، كان من عظماء الدولة العباسية ونالته السعادة وطالت أيامه وولي حجوبية المنصور والمهدي، وولي نيابة بغداد وغيرها. وفيها حج بالناس سليمان بن أبي جعفر المنصور. وفيها توفي إبراهيم بن عثمان أبو شيبة قاضي واسط مولى بني عبس، كان كاتبه يزيد بن هارون، وكان عادلا في أحكامه حسن السيرة. وفيها توفي إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان خرج مع الحسين صاحب فخ فلما قتل الحسين هرب إدريس هذا إلى مصر، وكان على بريد مصر واضح، فحمله واضح المذكور إلى المغرب فنزل بمدينة وليلة وبايعه الناس والبربر وكاد أمره أن يتم؛ فدس عليه الهادي أو الرشيد الشماخ اليماني مولى المهدي، فخرج الشماخ إلى المغرب في صفة طبيب، فشكا إدريس من أسنانه فأعطاه الشماخ سنوناً «1» مسموماً وقال له: بعد صلاة الفجر استعمله وهرب الشماخ من يومه، فمات إدريس بعد أن استعمل السنون بيوم. وقد تقدم أيضاً ذكر إدريس هذا في ولاية واضح على مصر. وفيها قتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، صاحب فخ الذي كان خرج قبل هذه المرة، ثم ظهر ثانيا في هذه السنة بالمدينة، وكان متولي المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقاتله عمر المذكور، وآخر الأمر أن الحسين هذا قتل وقتل معه أصحابه، وكانت عدّة الرءوس التي حملت إلى الخليفة مائة رأس.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن هشام أبو خالد القاضي المكي، ولي قضاء مكة(2/59)
وكان قصيرا دميما، وكان عنقه داخلاً في بدنه؛ سمعته امرأته يوماً وهو يقول:
اللهم أعتق رقبتي من النار، فقالت: وأي رقبة لك! وقيل: إن أمه قالت له:
يا ولدي، إنك قد خلقت خلقة لا تصلح معها لمعاشرة الفتيان، فعليك بالدّين والعلم فانّهما يتمّان النقائص، [ويرفعان «1» الخسائس؛ فنفعني الله بما قالت فتعلمت العلم حتى وليت القضاء] .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.
ذكر ولاية الفضل بن صالح على مصر
هو الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو العباس الهاشمي العباسي، ولاه المهدي إمرة مصر بعد عزل عسامة بن عمرو على الصلاة والخراج؛ وقبل خروجه مات محمد المهدي في أول المحرم سنة تسع وستين ومائة، وولي الخلافة ابنه موسى الهادي فأقر الهادي الفضل هذا على عمل مصر وسفره، فسار الفضل حتى دخل إلى مصر في يوم الخميس سلخ المحرم المذكور؛ وكان الفضل استعمل عسامة المعزول عن إمرة مصر على الصلاة إلى أن حضر، فلما قدم الفضل استعمل عسامة أيضاً على عادته الأولى قبل أن يلي الإمرة؛ ولما دخل الفضل إلى مصر وجد أمر مصر مضطربا من عصيان أهل جزيرة الحوف، بالوجه البحري، وأيضاً من خروج دحية الأموي بالصعيد وقد طال أمره على أمراء مصر، وكان مع الفضل جيوش الشأم فحال قدومه جهز العساكر لحرب دحية المذكور. فقاتله العسكر وهزموه، وأسر دحية بعد أمور وحروب، وقدموا به إلى الفسطاط، فضرب(2/60)
الفضل عنقه وصلب جثته وبعث برأسه إلى الهادي. وكان قتل دحية المذكور في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائة، فكان الفضل يقول: أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية وهزيمته وقتله وقد عجز عنه غيري، وكاد أمره أن يتم لطول مدته ولاجتماع الناس عليه لولا قيامي في أمره، وكان الفضل لما قدم مصر سكن المعسكر و [بنى «1» ] به الجامع، فلم يكن بعد قتله لدحية بمدة يسيرة إلا وقدم عليه البريد بعزله عن إمرة مصر بعلي بن سليمان؛ فلما سمع الفضل خبر عزله ندم على قتل دحية ندماً عظيماً فلم يفده ذلك. وكان عزل الفضل عن إمرة مصر في أواخر سنة تسع وستين ومائة المذكورة؛ فكانت ولايته على مصر دون السنة.
وقد ولي الفضل هذا إمرة دمشق مدة. ولا أعلم ولايته على دمشق قبل ولايته على مصر أو بعدها. وهو الذي عمر أبواب جامع دمشق والقبة التي في الصحن وتعرف بقبة المال في أيام إمرته على دمشق. وكانت وفاة الفضل هذا في سنة اثنتين وسبعين ومائة وهو ابن خمسين سنة، وكان أميراً شجاعاً مقداماً شاعراً فصيحاً أديباً صاحب خطب وشعر، من ذلك قوله:
عاش الهوى واستشهد الصبر ... وعاث في الحزن والضر
وسهل التوديع يوم نوى ... ما كان قد وعّره الهجر
ذكر ولاية علي بن سليمان على مصر
هو علي بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو الحسن الهاشمي العباسي، ولي إمرة مصر بعد عزل الفضل بن صالح عنها؛ ولاه موسى الهادي على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج معاً، ودخل علي بن سليمان هذا إلى مصر(2/61)
في شوال سنة تسع وستين ومائة وسكن المعسكر، وجعل على شرطته عبد الرحمن ابن موسى اللخمي ثم عزله وولى الحسن بن يزيد الكندي. ولما قدم علي المذكور إلى مصر أقام مدة يسيرة وورد عليه الخبر بموت موسى الهادي في نصف شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وولاية هارون الرشيد الخلافة من بعده وأن الرشيد أخاه أقر علياً على عمل مصر على عادته؛ وكان علي بن سليمان المذكور عادلاً وفيه رفق بالرعية آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ومنع في أيامه الملاهي والخمور، وهدم الكنائس بمصر وأعمالها، فتكلم القبط معه في تركها وأن يجعلوا له في مقابلة ذلك خمسين ألف دينار، فامتنع من ذلك وهدم الكنائس؛ وكان كثير الصدقة في الليل فمالت الناس إليه، فلما رأى ميل الناس إليه أظهر ما في نفسه من أنه يصلح للخلافة، وطمع في ذلك وحدثته نفسه بالوثوب، فكتب بعض أهل مصر إلى هارون الرشيد وعرفه بذلك، فسخط عليه هارون وعاجله بعزله؛ فعزله عن إمرة مصر في يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين ومائة؛ وولى مصر بعده موسى بن عيسى. فكانت ولاية علي بن سليمان هذا على مصر نحو سنة وثلاثة أشهر، وقيل أكثر من ذلك. وتوجه علي بن سليمان إلى الرشيد فندبه لقتال يحيى بن عبد الله بالديلم وصحبته الفضل بن يحيى البرمكي- ويحيى بن عبد الله هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم- كان خرج بالديلم واشتدت شوكته وكثرت جموعه وأتاه الناس من الأمصار، فاغتمّ الرشيد لذلك، وندب إليه علي بن سليمان هذا بعد عزله وجعل أمر الجيش للفضل بن يحيى، وولاه جرجان وطبرستان والري وغيرها وسيرهما في خمسين ألفاً، وحمل معهما الأموال؛ فكاتبا يحيى بن عبد الله وتلطفا به وحذراه المخالفة وأشارا(2/62)
عليه بالطاعة؛ ونزل الفضل بن يحيى بالطالقان بمكان يقال له: آشب «1» ؛ ووالى كتبه إلى يحيى بن عبد الله العلوي المذكور، حتى أجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بني العباس ومشايخهم، منهم عبد الصمد بن علي؛ فأجاب الرشيد إلى ذلك وسرّبه وعظمت منزلة الفضل عنده، وسير الرشيد الأمان إلى يحيى بن عبد الله مع هدايا وتحف فقدم يحيى مع الفضل وعلي بن سليمان إلى بغداد، فلقيه الرشيد بما أحب وأمر له بمال كثير، ثم بعد مدة قبض عليه وحبسه حتى مات في الحبس؛ وكان الرشيد قد عرض كتاب أمان يحيى بن عبد الله المذكور على الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وعلى أبي البختري «2» القاضي؛ فقال محمد بن الحسن: الأمان صحيح، فحاجه الرشيد وأغلظ له فلم يرجع حتى حنق منه الرشيد وكاد يسطو عليه. وقال أبو البختري: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد. واستمر علي بن سليمان معظماً إلى أن مات.
وتوفي بعد عزله عن مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائة قاله الذهبي وقيل: سنة ثمان وسبعين ومائة.
[ما وقع من الحوادث سنة 170]
السنة التي حكم فيها علي بن سليمان على مصر وهي سنة سبعين ومائة- فيها توفي الخليفة موسى الهادي ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي الهاشمي، أمير المؤمنين أبو جعفر وقيل أبو محمد، وقيل أبو موسى، الرابع من خلفاء بني العباس ببغداد، ولد سنة خمس(2/63)
وأربعين ومائة، وقيل سنة ست وأربعين ومائة، وقيل سنة ثمان وأربعين ومائة؛ وأمه أم ولد تسمى الخيزران، وهي أم الرشيد أيضا؛ وكان موته من قرحة أصابته، وقيل: إن أمه الخيزران سمته لما أجمع على قتل أخيه هارون الرشيد، وكانت الخيزران مستبدة بالأمور الكبار حاكمة، وكانت المواكب تغدو إلى بابها فزجرهم الهادي ونهاهم عن ذلك وكلمها بكلام فج، وقال لها: متى وقف ببابك أمير ضربت عنقه، أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك، أو سبحة! فقامت الخيزران وهي ما تعقل من الغضب، وقيل: إنه بعث إليها بسم أو طعام مسموم فأطعمت الخيزران منه كلباً فمات من وقته فعملت على قتله حتى قتلته: وقيل في وفاته غير ذلك، وكانت وفاته في نصف شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، فكانت خلافته سنة واحدة وثلاثة أشهر وقيل سنة وشهراً، وبويع أخوه هارون الرشيد بالخلافة. وكان الهادي طويلاً جسيماً أبيض، بشفته العليا تقلص، وكان أبوه قد وكل به في صغره خادماً، فكلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق، فيضيق على نفسه ويضم شفته.
حكى مصعب الزبيري عن أبيه قال: دخل مروان بن أبي حفصة شاعر وقته على الهادي فأنشد قصيدة فيها:
تشابه يوما بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي: أيما أحب إليك، ثلاثون ألفاً معجلة أو مائة ألف درهم تدون في الدواوين؟ قال: تعجل الثلاثون، وتدون المائة ألف؛ قال: بل تعجلان لك. وفيها ولد للرشيد ابنه الأمين محمد من بنت عمه زبيدة وابنه المأمون عبد الله وأمه أم ولد- يأتي ذكرها في ترجمته-، وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز [العمرىّ](2/64)
عن إمرة المدينة وولاها لإسحاق بن سليمان بن علي العباسي. وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة إلى يحيى بن خالد بن برمك وقال له: قد قلدتك أمور الرعية وأخرجتها من عنقي فول من رأيت وافعل ما تراه، وسلم إليه خاتم الخلافة وكان الهادي قد حجر على أمه الخيزران فردها الرشيد إلى ما كانت عليه وزادها، فكان يحيى بن خالد يشاورها في الأمور. وفيها فرق الرشيد في أعمامه وأهله أموالاً لم يفرقها أحد من الخلفاء قبله. وفيها خرج من الطالبيين إبراهيم بن إسماعيل ويقال له طباطبا؛ وخرج أيضاً على الرشيد علي بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. وفيها حج الرشيد ماشيا كان يمشي على اللبود، كانت تبسط له من منزلة إلى منزلة؛ وسبب حجه ماشياً أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا هارون، إن هذا الأمر صائر إليك فحج ماشياً، واغز «1» ووسع على أهل الحرمين. فأنفق فيهم الرشيد أموالاً عظيمة ولم يحج خليفة قبله ولا بعده ماشياً رحمه الله، ولقد كان من أحاسن «2» الخلفاء. وفيها توفيت جوهرة العابدة «3» الزاهدة زوجة أبي عبد الله البراثي الزاهد، كان زوجها أبو عبد الله منقطعا بقرية براثى غربي بغداد. وفيها توفى فتح بن محمد ابن وشاح أبو محمد الأزدي الموصلي الزاهد العابد، كان صاحب كرامات وأحوال.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وتوفي إسحاق بن سعيد بن عمرو الأموي، وعبد الله بن جعفر المخرمي المدني، وجرير بن حازم البصرىّ، والربيع ابن يونس الحاجب، وسعيد بن حسين الأزدي، وعبد الله بن المسيب أبو السوار المدني- بمصر يروي عن عكرمة-، وعبد الله بن المؤمل المخزومي، وعبد الله(2/65)
ابن الخليفة مروان الأموي في السجن، وعمرو بن ثابت الكوفي. وفي «التذهيب» قال: مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. وغطريف بن عطاء متولي اليمن، ومحمد بن أبان بن صالح الجعفي «1» ، ومحمد بن الزبير المعيطي إمام مسجد حران، ومحمد بن مسلم، أبو سعيد المؤدب بخلف، ومحمد بن مهاجر الأنصاري الحمصي، ومهدي بن ميمون في قول، وموسى الهادي بن المهدي الخليفة، وأبو معشر نجيح السندي المدني، ويزيد بن حاتم الأزدي متولي إفريقية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.
ذكر ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر
هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو عيسى العباسي الهاشمي، «2» ولاه الخليفة هارون الرشيد إمرة مصر على الصلاة بعد عزل علي بن سليمان عنها؛ فقدم موسى إلى مصر في أحد الربيعين من سنة إحدى وسبعين ومائة وسكن بالمعسكر، وجعل على شرطته أخاه إسماعيل ثم عزله وولى عسامة بن عمرو، ثم وقع من موسى هذا أمور غير مقبولة، منها: أنه أذن للنصارى في بنيان الكنائس التي كان هدمها علي بن سليمان فبنيت بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وقالا: هى عمارة البلاد، واحتجا بأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمان الصحابة والتابعين. وهذا كلام يتأول. وكان موسى المذكور عاقلاً جواداً ممدحاً ولي الحرمين لأبي جعفر المنصور والمهدي مدة طويلة، ثم ولي اليمن للمهدي أيضا، ثم ولي مصر لهارون الرشيد، وكان فيه رفق بالرعية(2/66)
وتواضع؛ قيل: إنه دخل اليه ابن السمّاك الواعظ وذكره ثم وعظه حتى بكى بكاء شديداً، فقال ابن السماك: لتواضعك في شرفك أحب إلينا من شرفك؛ وقيل: إنه جلس يوماً بميدان مصر فأطال النظر في النيل ونواحيه، فقيل له: ما يرى الأمير؟
فقال «1» : أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر، ومنازل سكنى، ودور خيل «2» وجبان أموات، ونهراً عجاجاً، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، ومصايد بحر، وقانص «3» وحش، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومفازة رمل، وسهلاً وجبلاً في أقل من ميل في ميل.
قلت: لله دره فيما وصف من كلام كثرت معانيه وقل لفظه. واستمر موسى بعد ذلك على إمرة مصر إلى أن عزله الرشيد عنها بمسلمة بن يحيى لأربع عشرة خلت من شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً. وتوجه إلى الرشيد فلما قدم عليه ولاه الكوفة مدة ثم صرفه عن الكوفة وولاه دمشق، فأقام بها مدة أيضاً وصرف عنها وأعيد إلى إمرة مصر ثانياً كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى- لما «4» كانت الفتنة بدمشق بين المضرية «5» واليمانية، وهذه الفتنة هي سبب العداوة بين قيس وبين اليمن إلى يومنا هذا. وكان أول الفتنة بين المضرية واليمانية. وكان رأس المضرية أبا الهيذام «6»(2/67)
واسمه عامر بن عمارة المري أحد فرسان العرب. وكان سبب الفتنة أموراً: منها أن أحد غلمان الرشيد بسجستان قتل أخاً لأبي الهيذام، فرثى أبو الهيذام أخاه وجمع جمعاً وخرج إلى الشام، فاحتال عليه الرشيد بأخ له وأرغبه «1» حتى قبض عليه وكتفه، وأتى به إلى الرشيد فمن عليه وأطلقه؛ وقيل: إن أول ما هاجت الفتنة بالشام، أن رجلاً من القين خرج بطعام له يطحنه في الرحى بالبلقاء فمر بحائط رجل من لخم أو جذام وفيه بطيخ فتناول منه، فشتمه صاحبه وتضاربا، وسار القينىّ، فجمع صاحب البطيخ قوماً ليضربوه إذا عاد من اليمن، فلما عاد ضربوه، فقتل رجل من اليمانية فطلبوا بدمه واجتمعوا لذلك، فخاف الناس أن يتفاقم ذلك؛ فاجتمع الناس ليصلحوا بينهم فأتوا بني القين فكلموهم فأجابوهم، فأتوا اليمانية فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر في أمرنا؛ ثم ساروا وبيتوا للقين فقتلوا منهم ستمائة وقيل ثلثمائة، فاستنجدت القين قضاعة وسليحاً «2» فلم ينجدوهم، فاسنجدت قيسا فأجابوهم، وساروا معهم فقتلوا من اليمانية ثمانمائة؛ وكثر القتال بينهم والتقوا غير مرة نحو سنتين ثم آصطلحوا ثم تقاتلوا؛ وتعصب لكل طائفة آخرون ودام ذلك إلى يومنا هذا بسائر بلاد الشام «3» .
*** [ما وقع من الحوادث سنة 171]
السنة الأولى من ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر وهي سنة إحدى وسبعين ومائة- فيها أخرج الرشيد من كان ببغداد من العلويين إلى المدينة.
وفيها في شهر رمضان حجت الخيزران أم الرشيد وكان أمير الموسم عبد الصمد بن علي العباسي، وأقامت بمكة شهراً وتصدقت بأموال كثيرة. وفيها توفي اسماعيل بن(2/68)
محمد بن زيد «1» بن ربيعة، أبو هاشم ويلقب بالسيد الحميري؛ كان شاعراً مجيداً وله ديوان شعر. وفيها توفي عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب أبو الوليد التيمي «2» المدني، كان راوية العرب وافر الأدب عالماً بالنسب، أعطاه الخليفة موسى الهادي مرة ثلاثين ألف دينار. وفيها توفي المفضل «3» بن محمد بن يعلى الضبي، كان أحد الأئمة الفضلاء الثقات، وكان علامة في النسب وأيام العرب. قال جحظة: اجتمعنا عند الرشيد فقال للمفضل: أخبرني بأحسن ما قالت العرب في الذئب ولك هذا الخاتم وشراؤه ألف وستمائة دينار، فقال: أحسن ما قيل فيه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
فقال الرشيد: ما ألقى الله هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم ورمى به إليه؛ فبلغ زبيدة فبعثت إلى المفضل بألف وستمائة دينار وأخذت الخاتم منه وبعثت به إلى الرشيد، وقالت: كنت أراك تعجب به؛ فألقاه إلى المفضل ثانياً وقال له: خذه وخذ الدنانير ما كنت لأهب شيئاً وأرجع فيه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم على اختلاف في وفاتهم، قال: وفيها توفي إبراهيم بن سويد المدنىّ «4» ، وحبّان «5» بن علي بخلف، وحديج بن معاوية فيها أو بعدها، وأبو المنذر سلام القارئ، وعبد الله بن عمر العمري المديني، وعبد الرحمن بن الغسيل وله مائة(2/69)
وست سنين، وعدي بن الفضل البصري، وعمر بن ميمون بن الرمّاح، ومهدىّ ابن ميمون البصري بخلف، ويزيد بن حاتم المهلبي، في قول، وأبو الشهاب الحناط «1» عبد ربه بن نافع فيها أو فى الآتية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 172]
السنة الثانية من ولاية موسى بن عيسى الأولى على مصر وهي سنة اثنتين وسبعين ومائة- فيها حج بالناس يعقوب بن المنصور. وفيها عزل الرشيد عن أرمينية يزيد بن مزيد الشيباني وولى أخاه عبيد الله بن المهدي. وفيها زوج الرشيد أخته العباسة بنت المهدي بمحمد بن سليمان العباسي الهاشمي أمير البصرة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو المطرف الأموي المعروف بالداخل؛ مولده بدير حنين من عمل دمشق في سنة ثلاث عشرة ومائة ونشأ بالشام، فلما زال ملك بني أمية وقتلوا وتفرقوا فر عبد الرحمن هذا إلى المغرب بحواشيه وملك جزيرة الأندلس وتم أمره بها غير أنه لم يلقب بأمير المؤمنين، وقيل: إنه لقب به، والأول أصح لأن جماعة كثيرة ملكوا الأندلس من ذريته وليس فيهم من لقب بأمير المؤمنين، يأتي ذكرهم الجميع في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى؛ وولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون الشاعر هي من ذريته أيضاً.(2/70)
الذين ذكرهم الذهبي في الوفيات، قال: وفيها توفي الحسن بن عياش أخو أبي بكر بن عياش بالكوفة، وروح بن مسافر البصري، وسليمان بن بلال، وصالح المري بخلف، وصاحب الأندلس عبد الرحمن الداخل الأموي، وابن عم المنصور علي بن سليمان بن علي، وابن عمه الآخر الفضل بن صالح بن علي، والوليد بن أبي ثور، والوليد بن المغيرة المصري «1» ، ويحيى بن سلمة «2» بن كهيل بخلف.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان ونصف.
ذكر ولاية مسلمة بن يحيى على مصر
هو مسلمة بن يحيى بن قرة بن عبيد الله بن عتبة البجلي الخراساني أمير مصر، أصله من أهل خراسان وقيل من جرجان وخدم بني العباس وكان من أكابر القواد؛ ولاه هارون الرشيد على إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً بعد عزل موسى بن عيسى العباسي في سنة اثنتين وسبعين ومائة، وقدم إلى مصر في شهر رمضان من السنة المذكورة في عشرة آلاف من الجند، وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس؛ وجعل على الشرطة ابنه عبد الرحمن، فلم تطل مدته على مصر ووقع في ولايته على مصر أمور وفتن حتى عزله الخليفة هارون الرشيد في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة بمحمد بن زهير الأزدي؛ فكانت ولايته على إمرة مصر أحد عشر شهراً، وكانت أيامه مع قصرها كثيرة الفتن؛ ووقع له أمور مع أهل الحوف ثم أخرج العساكر لحفظ البحيرة من الفتن التي كانت بالمغرب: منها خروج سعيد بن الحسين بن(2/71)
يحيى الأنصاري بالأندلس وتغلبه على أقاليم طرطوشة «1» في شرق الأندلس، وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه الحسين ودعا إلى اليمانية وتعصب لهم، فاجتمع له خلق كثير وملك مدينة طرطوشة وأخرج عاملها يوسف القيسي «2» فعارضه موسى بن فرتون «3» وقام بدعوة هشام الأموي ووافقته جماعة؛ وخرج أيضاً مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة وخرج معه جمع كبير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقة وتغلب على تلك الناحية وقوي أمره. وكان هشام مشغولاً بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله، ولم تزل الحرب قائمة بالغرب، وأمير مصر يتخوف من هجوم بعضهم إلى أن عزل مسلمة عن مصر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 173]
السنة التي حكم فيها مسلمة بن يحيى على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين ومائة- فيها عزل الرشيد عن إمرة خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث وولى عوضه ولده العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث. وفيها حج الرشيد بالناس ولما عاد أخذ معه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وحبسه إلى أن مات. وفيها توفيت الخيزران جارية المهدي وأم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، كان اشتراها المهدي وأعتقها وتزوجها، ذكرنا ذلك في وقته من هذا الكتاب في محله، وكانت عاقلة لبيبة دينة؛ كان دخلها في السنة ستة آلاف وستين ألف ألف درهم، فكانت تنفقها في الصدقات وأبواب البر، وماتت ليلة الجمعة(2/72)
لثلاث بقين من جمادى الآخرة، ومشى ابنها الرشيد في جنازتها وعليه طيلسان أزرق وقد شد وسطه وأخذ بقائمة التابوت حافياً يخوض في الطين والوحل من المطر الذي كان في ذلك اليوم حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه وصلى عليها ودخل قبرها ثم خرج وتمثل بقول متمم [بن نويرة] الأبيات المشهورة، التى أوّلها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم تصدق عنها بمال عظيم ولم يغير على جواريها وحواشيها شيئاً مما كان لهم.
وفيها توفيت غادر جارية الهادي وكانت بارعة الجمال، وكان الهادي مشغوفاً بحبها فبينما هي تغنيه يوما فّكر وتغيّر لونه وقال: وقع في نفسي أني أموت ويتزوجها أخي هارون من بعدي، فأحضر هارون واستحلفه بالأيمان المغلظة من الحج ماشياً وغيره [أنه لا يتزوجها «1» ] ، ثم استحلفها أيضاً كذلك، ومكث الهادي بعد ذلك أقل من شهر ومات وتخلف هارون الرشيد فأرسل هارون الرشيد خطبها «2» ، فقالت له: وكيف يميني ويمينك؟ فقال: أكفر عن الكلّ، فتزوجته فزاد حب الرشيد لها على حب الهادي أخيه حتى إنها كانت تنام فتضع رأسها على حجره فلا يتحرك حتى تنتبه؛ فبينما هي ذات يوم نائمة [ورأسها «3» ] على ركبته انتبهت فزعة تبكي وقالت: رأيت الساعة أخاك الهادي وهو يقول وأنشدت أبياتاً منها:
ونكحت عامدة أخي ... صدق الذي سماك غادر
فلم تزل تبكي وتضطرب حتى ماتت وتنغص عليه عيشه بموتها. وقيل: إن الرشيد ما حج ماشياً إلا بسبب اليمين التي كانت حلفه [إياها] أخوه الهادي بسببها. وفيها توفي محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان من وجوه بني العباس وتولّى(2/73)
الأعمال الجليلة، وهو الذي تزوج العباسة بنت المهدي أخت هارون الرشيد، وكان له خمسون ألف عبد، منهم عشرون ألفاً عتقاً. قاله أبو المظفر في مرآة الزمان.
ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي اسماعيل ابن زكرياء الخلقاني، وجويرية بن أسماء الضبعي، وأم الرشيد الخيزران، وسعيد ابن عبد الله المعافري، وسلام بن أبي مطيع، والسيد الحميري الشاعر، وزهير ابن معاوية بن كامل اللخمي المصري، وعبد الرحمن بن أبي الموالي مولى بني هاشم، والأمير محمد بن سليمان بن علي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية محمد بن زهير على مصر
هو محمد بن زهير الأزدي أمير مصر ولاه هارون الرشيد على إمرة مصر وجمع له بين الصلاة والخراج معاً، وذلك بعد عزل مسلمة بن يحيى لخمس خلون من شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس واستعمل على خراج مصر عمر بن غيلان وعلى الشرطة حنك «1» بن العلاء ثم صرفه وولّى حبيب ابن أبان البجلي؛ ولما ولي عمر بن غيلان خراج مصر شدد على الناس وعلى أهل الخراج، فنفرت القلوب منه وثار عليه الجند وقاتلوه وحصروه في داره فلم يدافع عنه محمد بن زهير صاحب الترجمة، فانحطّ قدر عمر بن غيلان وتلاشى أمره مع الجند وغيرهم؛ وبلغ الخليفة هارون الرشيد ذلك فعظم عليه عدم قيام محمد بن زهير بنصرة عمر بن غيلان المذكور فعزله عن إمرة مصر بداود بن يزيد بن حاتم المهلبي فى سلخ(2/74)
ذى الحجّة من سنة ثلاث وسبعين ومائة؛ فكانت ولاية محمد بن زهير على إمرة مصر خمسة أشهر تنقص أياماً، وتوجه إلى الرشيد فزجره ثم جعله من جملة القواد وندبه للاستيلاء على مال محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة بعد موته، وكانت تركة محمد بن سليمان عظيمة: من المال والمتاع والدواب، فحملوا منها ما يصلح للخلافة وتركوا ما لا يصلح؛ وكان من جملة ما أخذوا له ستون ألف ألف درهم؛ فلما قدموا بذلك على الرشيد أطلق منه للندماء والمغنين شيئاً كثيراً ورفع الباقي إلى خزانته.
وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسداً له ويقول: إنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدثه به نفسه- يعني الخلافة- وأن أمواله حل طلق «1» لأمير المؤمنين. وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه، فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت الكتب الواردة من جعفر أخيه واحتج الرشيد عليه بها في أخذ أمواله ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غيره، فأقر جعفر بالكتب، فأخذ الرشيد جميع المال ولم يعط جعفراً منها الدرهم الواحد.
قلت: انظر إلى شؤم الحسد وسوء عاقبته، ولله در القائل: الحاسد ظالم في صفة مظلوم، مبتلى غير مرحوم. ودام محمد بن زهير عند الرشيد إلى أن كان ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ولاية داود بن يزيد على مصر
هو داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي أمير مصر، ولاه الخليفة هارون الرشيد على إمرة مصر على الصلاة بعد عزل محمد بن زهير الأزدي، فقدم مصر لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وسبعين ومائة،(2/75)
وقدم معه إبراهيم بن صالح بن علي العباسىّ على الخراج؛ فدخلا مصر معا وسكن داود المعسكر على العادة وجعل على شرطته عمّار بن مسلم الطائي، ثم أخذ داود في إصلاح أمر مصر وأخرج الجند الذين كانوا ثاروا على عمر بن غيلان صاحب خراج مصر في أيام محمد بن زهير المعزول عن إمرة مصر إلى بلاد المغرب، وأخرج بعضهم أيضاً إلى بلاد المشرق وكانوا عدة كبيرة. ثم ورد عليه الأمر من الرشيد أن يأخذ المصريين ببيعة ابنه الأمير محمد بن زبيدة ففعل ذلك. وكان الرشيد عقد لابنه محمد المذكور بولاية العهد ولقبه بالأمين وأخذ له البيعة من الناس وعمره خمس سنين وكتب بذلك إلى الأقطار. وكان سبب البيعة للأمين أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك وسأله في ذلك وقال له:
إنه ولدك وخلافته لك، وإن أختي زبيدة تسألك في ذلك، فوعده الفضل بذلك وسعى فيه عند الرشيد حتى بايع له الناس بولاية العهد وترك ولده المأمون وهو أسن من ولده محمد الأمين بشهر، ثم بعد ذلك عهد الرشيد للمأمون بولاية العهد بعد الأمين على ما سيأتي ذكره.
وأما جند مصر الذين أخرجوا من مصر فإنهم ساروا إلى المغرب في البحر فأسرهم الفرنج بعد حروب، وسكن الحال بديار مصر وأمن الناس، واستمر داود على إمرة مصر إلى أن صرفه الرشيد عنها بعيسى بن موسى بن عيسى العباسي المعزول عن إمرة مصر قديماً، وذلك لست خلون من المحرم سنة خمس وسبعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة ونصف شهر.
وأما أمر الجند الذين أسرهم الفرنج فإن داود بن يزيد المذكور جهزهم نجدة إلى هشام بن عبد الرحمن الأموي فيما قيل، وسببه أن هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس لما فرغ من حرب أخويه سليمان وعبد الله وأجلاهما عن الأندلس وخلا(2/76)
سره منهما انتدب لمطروح بن سليمان بن يقظان الذي كان خرج عليه وسير إليه جيشاً كثيفاً وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، فساروا إلى مطروح، وهو بسرقسطة، فحصروه بها فلم يظفروا به، فرجع أبو عثمان ونزل بحصن طرطوشة بالقرب من سرقسطة وبث سراياه على أهل سرقسطة، ثم إن مطروحاً خرج في بعض الأيام يتصيد وأرسل البازي على طائر فاقتنصه، فنزل مطروح ليذبحه ومعه صاحبان له قد انفرد بهما فقتلاه وأتيا برأسه إلى أبي عثمان فأرسله أبو عثمان الى هشام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 174]
السنة التي حكم فيها داود بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وسبعين ومائة- فيها حج بالناس هارون الرشيد على طريق البصرة ودخل البصرة ووسع في جامعها من ناحية القبلة. وفيها وقعت العصبية وثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة. وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان العباسي إمرة السند ومكران. وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن القاضي أبي يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة في حياة والده. وفيها توفي روح بن حاتم بن؟؟؟ صة بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي الأمير، كان هو وأخوه من وجوه دولة بني العباس. ولي روح هذا إفريقية والبصرة وغيرهما، وكان جليلاً شجاعاً جواداً. وفيها توفي عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الإمام الحافظ عالم الديار المصرية وقاضيها ومحدثها أبو عبد الرحمن الحضرمىّ المصري، مولده سنة سبع وتسعين وقيل سنة ست وتسعين؛ ومات في يوم الأحد نصف شهر ربيع الأول من السنة وصلى عليه الأمير داود بن يزيد ودفن بالقرافة من جبّانة مصر وقبره معروف بها يقصد للزيارة. قال الذهبي: وكان ابن لهيعة من الكتابين للحديث والجماعين للعلم والرحالين فيه، ولقد حدثني شكر «1» أخبرنا يوسف بن مسلم عن بشر بن المنذر(2/77)
قال: كان ابن لهيعة يكنى أبا خريطة، وذاك أنه كانت له خريطة معلقة في عنقه فكان يدور بمصر، فكلّما قدم قوم كان يدور عليهم، فكان إذا رأى شيخا سأله: من لقيت وعمن كتبت. وفيها توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان مغنياً يضرب بغنائه وضربه بالعود المثل، وكان الغناء يوم ذاك غير الموسيقى الآن، وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة، وهو نوع من إنشاد زماننا هذا على الضروب لإنشاد المداح والوعاظ. وقد أوضحنا ذلك في غير هذا المحل في مصنف على حدته وبينا فيه الفرق بينه وبين الموسيقى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع ونصف.
ذكر ولاية موسى بن عيسى الثانية على مصر
هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، ولي إمرة مصر ثانية من قبل الرشيد بعد عزل داود بن يزيد المهلبي وجمع له صلاة مصر وخراجها، فكتب موسى المذكور من بغداد إلى الأمير عسامة بن عمرو يستخلفه على الصلاة، ثم قدم خليفته على الحراج نصر بن كلثوم ثم قدم موسى إلى مصر في سابع صفر سنة خمس وسبعين ومائة وسكن بالمعسكر على العادة، وحدثته نفسه بالخروج على الرشيد فبلغ الرشيد ذلك.
قال أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه «مرآة الزمان» : وبلغ الرشيد أن موسى ابن عيسى يريد الخروج عليه فقال: والله لا عزلته إلا بأخس من على بابي؛ فقال لجعفر بن يحيى: ول مصر أحقر من على بابي وأخسهم، فنظر فإذا عمر بن مهران كاتب الخيزران وكان مشوه الخلقة ويلبس ثياباً خشنة ويركب بغلاً ويردف غلامه خلفه، فخرج إليه جعفر وقال: أتتولى مصر؛ فقال: نعم، فسار إليها فدخلها(2/78)
وخلفه غلام على بغل للثقل «1» ، فقصد دار موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض المجلس قال موسى: ألك حاجة؟ فرمى إليه بالكتاب، فلما قرأه قال: لعن الله فرعون حيث قال: (أليس لي ملك مصر) ! الآية، ثم سلم إليه ملك مصر فمهدها عمر المذكور ورجع إلى بغداد وهو على حاله. انتهى كلام أبي المظفر.
قلت: لم يذكر عمر بن «2» مهران أحد من المؤرخين في أمراء مصر، والجمهور على أن موسى بن عيسى عزل بابراهيم بن صالح العباسي، ولعل الرشيد لم يرسل عمر هذا إلا لنكاية موسى؛ ثم أقر الرشيد إبراهيم بعد خروج المذكور من بغداد، فكانت ولاية عمر على مصر شبه الاستخلاف من إبراهيم بن صالح ولهذا أبطأ إبراهيم بن صالح عن الحضور إلى الديار المصرية بعد ولايته مصر عن موسى المذكور؛ أو كانت ولاية عمر بن مهران على خراج مصر وإبراهيم على الصلاة وهذا أوجه من الأول.(2/79)
وقال الذهبي: ولى الرشيد مصر لجعفر بن يحيى البرمكي بعد عزل موسى، فعلى هذا يكون عمر نائباً عن جعفر ولم يصل جعفر إلى مصر في هذه السنة ولهذا لم يثبت ولايته أحد من المؤرخين انتهى. وكان عزل موسى بن عيسى عن إمرة مصر فى ثامن عشرين صفر سنة 176 هـ، فكانت ولايته هذه الثانية على مصر سنة واحدة إلا أياماً قليلة.
قلت: ومما يؤيد قولي إنه كان على الخراج قول ابن الأثير في الكامل، وذكر ذلك في سنة 176 هـ قال: «وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر ورد أمرها إلى جعفر بن يحيى بن خالد فاستعمل عليها جعفر عمر بن مهران. وكان سبب عزله أن الرشيد بلغه أن موسى عازم على الخلع فقال: والله لا أعز له آلا بأخس من على بابي، فأمر جعفراً فأحضر عمر بن مهران وكان أحول مشوه الخلق وكان لباسه خسيساً وكان يردف غلامه خلفه، فلما قال له الرشيد: أتسير إلى مصر أميرا؟ قال: أتولاها على شرائط إحداها أن يكون إذني إلى نفسي إذا أصلحت البلاد انصرفت، فأجابه إلى ذلك؛ فسار فلما وصل إليها أتى دار موسى فجلس في أخريات الناس، فلما تفرقوا قال: ألك حاجة؟ قال: نعم، ثم دفع إليه الكتب فلما قرأها قال: هل يقدم أبو حفص أبقاه الله؟ قال: أنا أبو حفص؛ فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: (أليس لي ملك مصر) ثم سلم له العمل. فتقدم عمر إلى كاتبه ألا يقبل هدية إلا ما يدخل في الكيس «1» ، فبعث الناس بهداياهم، فلم يقبل دابة ولا جارية ولم يقبل إلا المال والثياب، فأخذها وكتب عليها أسماء أصحابها وتركها؛ وكان أهل مصر قد اعتادوا المطل بالخراج وكسره، فبدأ عمر برجل منهم فطالبه بالخراج فلواه «2» ، فأقسم ألا يؤديه(2/80)
إلا بمدينة السلام، فبذل الخراج فلم يقبله منه وحمله إلى بغداد فأدى الخراج بها فلم يمطله أحد، فأخذ النجم «1» الأول والنجم الثاني، فلما كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل وشكوا الضيق، فأحضر تلك الهدايا وحسبها لأربابها وأمرهم بتعجيل الباقي فأسرعوا في ذلك فاستوفى خراج مصر عن آخره ولم يفعل ذلك غيره ثم انصرف إلى بغداد» . انتهى «2» كلام ابن الأثير برمّته.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 175]
السنة التي حكم فيها موسى بن عيسى ثانياً على مصر وهي سنة خمس وسبعين ومائة- فيها عقد الرشيد البيعة بالخلافة من بعده لابنه محمد بن زبيدة ولقب بالأمين وعمره خمس سنين، وكانت أمه زبيدة حرضت الرشيد وأرضوا الجند بأموال عظيمة حتى سكتوا. وفيها خرج يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي بالديلم وقويت شوكته وتوجهت إليه الشيعة من الأقطار فاغتم الرشيد من ذلك واشتغل عن اللهو والشرب وندب لحربه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي في خمسين ألفاً وفرق فيهم الأموال، فانحلت عزائم يحيى المذكور وطلب الصلح من الرشيد فصالحه الرشيد وأمنه ثم حبسه بعد مدة إلى أن مات. وفيها هاجت العصبية بالشام بين القيسية «3» واليمانية وقتل منهم عدد كثير، وكان على إمرة الشام موسى ابن ولي العهد عيسى العباسي، فعزله الرشيد واستعمل على الشام موسى بن يحيى البرمكي فقدم موسى وأصلح بينهم. وفيها عزل الرشيد عن إمرة خراسان العباس بن جعفر وأمر عليها خاله «4» الغطريف بن عطاء.(2/81)
وفيها توفي الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مولاهم الأصبهاني الأصل المصري، أحد الأعلام وشيخ إقليم مصر وعالمه، كنيته أبو الحارث، مولده في شعبان سنة أربع وتسعين.
قال الذهبي: وحج سنة ثلاث عشرة ومائة فلقى عطاء ونافعا وابن أبى مليكة وأبا «1» سعيد المقبري وأبا الزبير وابن شهاب فأكثر عنهم، ثم ذكر جماعة كثيرة ممن روى عنه. انتهى.
وكان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره بحيث إن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته؛ وكان الشافعي يتأسف على فوات لقيه. قيل:
إن الإمام مالكاً كتب إليه من المدينة: بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق وتمشي في الأسواق، فكتب إليه الليث بن سعد: (قل من حرم زينة الله) الآية.
وعن ابن الوزير قال: قد ولي الليث الجزيرة وكان أمراء مصر لا يقطعون أمراً إلا بمشورته، فقال أبو المسعد «2» وبعث بها إلى المنصور أبي جعفر:
لعبد الله عبد الله عندي ... نصائح حكتها في السر وحدي
أمير المؤمنين تلاف مصراً ... فإن أميرها ليث بن سعد
وكانت وفاة الليث في رابع عشر شعبان.
ذكر الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وتوفي الحكم بن فصيل «3» الواسطي؛ والخليل بن أحمد فيما قيل وقد مر، وخشاف «4» الكوفي صاحب اللغة، والقاسم بن معن المسعودي الكوفي؛ والليث بن سعد فقيه مصر.(2/82)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعاً.
ذكر ولاية إبراهيم بن صالح ثانياً على مصر
تقدم ذكر ترجمته في ولايته الأولى على مصر، أعاده الرشيد إلى ولاية مصر ثانيا بعد عزل موسى بن عيسى العباسىّ فى صفر سنة ست وسبعين ومائة. ولما ولي إبراهيم مصر، أرسل باستخلاف عسامة بن عمرو على الصلاة، إلى أن قدم نصر بن كلثوم على خراج مصر في مستهل شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة.
وتوفي عسامة بن عمرو لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من السنة. ثم قدم إلى مصر روح بن زنباع خليفة لإبراهيم على الصلاة والخراج. وروح بن زنباع هذا أبوه حفيد روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان، فدام روح بن زنباع المذكور على صلاة مصر وخراجها إلى أن قدمها إبراهيم بن صالح بعده بأيام في النصف من جمادى الأولى؛ كل ذلك من سنة ست وسبعين ومائة. وسكن إبراهيم المعسكر وجمع له الرشيد بين الصلاة والخراج، فلم تطل أيامه ومات لثلاث خلون من شعبان سنة ست وسبعين؛ وقام بأمر مصر بعد موته ابنه صالح بن إبراهيم بن صالح مع صاحب شرطته خالد بن يزيد إلى أن ولي مصر عبد الله بن المسيب. وكان «1» مقامه بها شهرين وثمانية عشر يوماً؛ وكان إبراهيم المذكور من وجوه بني العباس وولي الأعمال الجليلة مثل دمشق وفلسطين ومصر للمهدي أولاً، ثم ولي الجزيرة لموسى الهادي، ثم ولي مصر ثانيا في هذه المرة لهارون الرشيد، وكان خيراً ديناً ممدحاً، وفد عليه مرة عباد بن عباد الخواص فقال له إبراهيم هذا: عظني، فقال عباد: إن(2/83)
أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك! فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته رحمه الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 176]
السنة التي حكم فيها إبراهيم بن صالح على مصر وهي سنة ست وسبعين ومائة- فيها عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه محمد الأمين ولقبه المأمون، وولاه الشرق وكتب بينهما كتاباً وعلقه في الكعبة، وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد غير أنّ الأمين أمّه زبيدة بنت جعفر هاشميّة، والمأمون أمّه أم ولد اسمها مراجل، ماتت أيام نفاسها به، ومولدهما في سنة سبعين ومائة. وفيها حج بالناس سليمان بن منصور العباسي. وفيها أيضاً حجت زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد، وأمرت في هذه السنة ببناء المصانع والبرك في طريق الحج. وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن إمرة خراسان وولاها حمزة بن مالك الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس. وفيها توفي إبراهيم بن علي بن سلمة «1» بن عامر بن هرمة، أبو إسحاق الفهري الشاعر المشهور. كان الأصمعي يقول: ختم الشعراء بابن هرمة [و] هو آخر الحجج. وفيها توفي صالح بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، ولي عدة أعمال جليلة وكان من أعيان بني العباس. وفيها توفي أبو عوانة وآسمه الوضاح بن عبد الله البزاز الواسطي الحافظ، مولى يزيد بن عطاء اليشكري، ويقال من سبي جرجان، رأى الحسن البصري وابن سيرين. وتوفي بالبصرة في شهر ربيع الأول.(2/84)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن المسيب على مصر
هو عبد الله بن المسيب بن زهير بن عمرو «1» بن جميل الضبي أمير مصر، ولاه الرشيد مصر على الصلاة بعد موت إبراهيم بن صالح العباسي، فقدم إلى مصر لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ستّ وسبعين ومائة وسكن المعسكر وجعل على شرطته أبا المكيس «2» ولم تطل ولاية عبد الله المذكور على إمرة مصر، وعزل بإسحاق بن سليمان في شهر رجب سنة سبع وسبعين ومائة، فكانت ولايته على إمرة مصر نحو عشرة أشهر، وأقام بمصر بطالاً من غير إمرة إلى أن وليها استخلافاً عن عبد الملك بن صالح العباسي في سنة ثمان وسبعين ومائة نحو الشهرين، وصرف عبد الملك بعبيد الله بن المهدي، فصرف عبد الله بن المسيب هذا عن استخلاف مصر بعزل عبد الملك بن صالح، فإنه كان خليفته على مصر ولزم عبد الله بن المسيب بيته إلى أن استخلفه ثانياً عبيد الله بن المهدي لما ولي مصر بعد عبد الملك بن صالح، فباشر عبد الله بن المسيب صلاة مصر قليلاً باستخلاف عبيد الله بن المهدي المذكور، ثم صرف ولزم داره إلى أن مات.
وفي أيام ولايته على مصر مع قصرها وقع له حروب مع أهل الحوف.
واستنجده هشام صاحب الأندلس فجهز له العساكر، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بعزله. وكان هشام أرسل جيشاً كثيفاً واستعمل عليه عبد الملك بن عبد الواحد(2/85)
ابن مغيث، فدخلوا بلاد العدو وبلغوا أربونة وجرندة «1» [فبدأ بجرندة «2» ] وكان بها حامية الفرنج، فقتل رجالها وهدم أسوارها وأبراجها وأشرف على فتحها فرحل عنها إلى أربونة ففعل بها مثل ذلك، وأوغل فى بلادهم ووطئ أرض بربطانية «3» فاستباح حريمها وقتل مقاتلتها، وجاس البلاد شهراً يحرق الحصون ويسبي ويغنم، وقد أجفل العدو من بين يديه هارباً، وأوغل في بلادهم ورجع سالماً ومعه من الغنائم ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وهي من أشهر مغازى المسلمين بالأندلس.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 177]
السنة التى حكم فيها على مصر عبد الله بن المسيب وهي سنة سبع وسبعين ومائة- فيها عزل الرشيد حمزة بن مالك الخزاعي عن إمرة خراسان وولاها الفضل ابن يحيى البرمكي مع سجستان والري. وفيها حج بالناس الرشيد، وكان هذا دأب الرشيد، فسنة يحج وسنة يغزو، وفي هذا المعنى قال بعض شعراء عصره:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
وفيها توفي شريك بن عبد الله بن أبي شريك أبو عبد الله القاضي النخعي، أصله من الكوفة، وبها توفي يوم السبت مستهل ذي القعدة، وكان إماماً عالما ديناً.
قال ابن المبارك: شريك أحفظ لحديث الكوفيين من سفيان الثوري. وفيها توفي أبو الخطاب الأخفش الكبير في هذه السنة وقيل فى غيرها، واسمه عبد الحميد ابن عبد المجيد شيخ العربية، أخذ عنه سيبويه ولولا سيبويه لما كان يعرف، فإن(2/86)
الأخفش الأوسط الذي أخذ عنه سيبويه أيضاً الأتي ذكره هو المشهور؛ ولأبي الخطاب الأخفش هذا أشياء غريبة ينفرد بها عن العرب، وقد أخذ عنه جماعة من العلماء، منهم: عيسى بن عمر النحوىّ، وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهم.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها مات عبد العزيز بن أبي ثابت المدني، وعبد الواحد بن زياد «1» الزاهد العبدىّ فيما قيل، ومحمد بن جابر الحنفي اليمامي، ومحمد بن مسلم الطائفىّ، وموسى بن أعين الحراني، وهياج بن بسطام الهروي، ويزيد بن عطاء اليشكري معتق أبي عوانة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية إسحاق بن سليمان على مصر
هو إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل عبد الله بن المسيب في مستهل شهر رجب سنة سبع وسبعين ومائة، وجمع له الرشيد صلاة مصر وخراجها؛ ولما دخل مصر سكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، وجعل على شرطته بعض أصحابه، وهو مسلم بن «2» بكار العقيلي؛ وأخذ إسحاق في إصلاح أمر مصر وكشف [أمر «3» ] خراجها، فلم يرض بما كان يأخذه قبله الأمراء، وزاد على المزارعين زيادة أفحشت بهم فسئمته الناس وكرهته وخرج عليه جماعة من أهل الحوف «4» من قيس وقضاعة، فحاربهم(2/87)
إسحاق المذكور وقتل من حواشيه وأصحابه جماعة كبيرة؛ فكتب إسحاق يعلم الرشيد بذلك، فعظم على الرشيد ما ناله من أمر مصر وصرفه عن إمرتها وعقد الرشيد لهرثمة على إمرة مصر وأرسله في جيش كبير إلى مصر؛ وكان عزل إسحاق هذا عن إمرة مصر في شهر رجب من سنة ثمان وسبعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وأياماً وتوجه إلى الرشيد.
وقال ابن الأثير: «وفي هذه السنة (يعني سنة ثمان وسبعين ومائة) وثبت الجوفيّة بمصر على عاملهم إسحاق بن سليمان وقاتلوه وأمدّه الرشيد بهرثمة بن أعين، وكان عامل فلسطين، فقاتلوا الحوفية وهم من قيس وقضاعة، فأذعنوا بالطاعة وأدوا ما عليهم للسلطان. فعزل الرشيد إسحاق عن مصر واستعمل عليها هرثمة مقدار شهر، ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح» . انتهى كلام ابن الأثير برمته.
ذكر ولاية هرثمة بن أعين على مصر
هو هرثمة بن أعين أحد أمراء الرشيد وخواص قواده، ولاه على إمرة مصر لما بلغه ما وقع لإسحاق بن سليمان العباسي مع أهل مصر، وبعثه إليها في جيش كبير وحرضه على قتال المصريين، وولاه على صلاة مصر وخراجها معاً؛ فخرج هرثمة من بغداد حتى قدم مصر ليومين خلوا من شعبان سنة ثمان وسبعين ومائة؛ فتلقاه أهل مصر بالطاعة وأذعنوا له، فقبل هرثمة منهم ذلك وأمنهم وأقر كل واحد على حاله.
وأرسل يعلم الرشيد بذلك، ثم جعل هرثمة على شرطته ابنه حاتما فلم تطل مدّة هرثمة على إمرة مصر وورد عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر وخروجه بالعساكر إلى نحو إفريقية في يوم ثاني عشر شوال من السنة المذكورة؛ فكانت إقامته على إمرة مصر شهرين ونصف شهر. وولي مصر بعده عبد الملك بن صالح العباسي، وتوجه هرثمة(2/88)
إلى بلاد المغرب من مصر بجيوش عظيمة فلم يلق حرباً بل أذعن إليه من كان ببلاد المغرب من العصاة لعظم هيبة هرثمة المذكور، فإنه كان شجاعأ مقداماً مهيباً؛ و؟؟؟ م هرثمة بالمغرب سنين إلى أن استعفى فأعفاه الرشيد في سنة إحدى وثمانين ومائة وأذن له في القدوم عليه.
وكان الرشيد يندب هرثمة للمهمات ووقع له بالمغرب أمور: منها أنه لما توجه إلى إفريقية سار صحبته يحيى بن موسى، فأمره هرثمة أن يتقدمه ويتلطف بابن الجارود ليعود إلى الطاعة قبل وصول هرثمة، فقدم يحيى القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير؛ حاصله أن ابن الجارود شق العصا ولم يظهر الطاعة، فخلا يحيى ب [محمد «1» ] بن الفارسي وعاتبه حتى استماله ووافقه على قتال ابن الجارود، وتقاتل يحيى وابن الفارسي مع ابن الجارود فقتل ابن الفارسي غدراً وعاد يحيى بن موسى إلى هرثمة بطرابلس الغرب؛ ثم سار هرثمة إلى ابن الجارود بجند طرابلس في محرم سنة تسع وسبعين ومائة فلما وصل قابس «2» تلقاه عامة الجند، وخرج ابن الجارود من القيروان في مستهل صفر، وكان العلاء بن سعيد عدوّ ابن الجارود ويحيى بن موسى يستبقان إلى القيروان كل منهما يريد أن [يكون «3» ] الذكر له؛ فسبقه العلاء ودخل القيروان وقتل جماعة من أصحاب ابن الجارود وصار إلى هرثمة، وسار ابن الجارود أيضاً إلى هرثمة فسيره هرثمة إلى الرشيد فاعتقله الرشيد ببغداد؛ وسار هرثمة إلى القيروان فأمن الناس وسكنهم وبنى القصر الكبير وبنى سور مدينة طرابلس الغرب مما يلي البحر. وكان إبراهيم بن الأغلب بولاية الزاب «4» فأكثر من الهدية إلى هرثمة(2/89)
حتى أقرة هرثمة على الزاب فحسن أثره فيها. ثم إن عياض بن وهب الهواري وكليب ابن جميع الكلبي جمعا جموعاً وأرادا قتال هرثمة فسيّر إليهما هرثمة يحيى بن موسى في جيش كبير ففرق جموعهما وقتل كثيراً من أصحابهما ثم عاد إلى القيروان، فلما رأى هرثمة ما بإفريقية من الاختلاف واصل كتبه إلى الرشيد يستعفي حتى أعفاه، وقدم العراق حسبما تقدم ذكره. فكانت ولاية هرثمة على إفريقية سنتين ونصفا.
ذكر ولاية عبد الملك بن صالح على مصر
هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الأمير أبو عبد الرحمن الهاشمي العباسي أمير مصر، وليها بعد توجه هرثمة بن أعين إلى إفريقية، ولاه الرشيد إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج معاً، فوليها عبد الملك هذا ولم يدخلها واستعمل عليها عبد الله بن المسيب الضبى المعزول عن إمرة مصر قديماً، وقد ذكرنا نيابته عن عبد الملك هذا في ترجمته أيضاً من هذا الكتاب؛ فجعل عبد الله بن المسيب على شرطته عمار بن مسلم، فلم تطل مدة عبد الملك هذا على ولاية مصر وصرف عنها في سلخ سنة ثمان وسبعين ومائة؛ وتولى مصر من بعده عبيد الله بن المهدي وقد ولي في هذه السنة على مصر ثلاثة أمراء وهي سنة ثمان وسبعين ومائة؛ وكان عبد الملك هذا شريفا نبيلا، وأمه أم ولد كانت لمروان بن محمد الحمار فشراها صالح بن علي فولدت له عبد الملك هذا. ويقال: إن الجارية حملت بعبد الملك هذا من مروان، ولهذا قال له الرشيد لما قبض عليه وحبسه: ما أنت لصالح، قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان، قال: ما أبالي أي الفحلين غلب «1» علي. وكان أولاً معظماً عند الرشيد ولما ولاه دمشق سنة سبع(2/90)
وسبعين ومائة، وخرج الرشيد وودعه قال له الرشيد: هل من حاجة؟ قال: نعم بيني وبينك بيت ابن الدّمينة حيث يقول:
فكوني «1» على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد شغوب
فسكت الرشيد عن أمره حتى نقل عنه أنه يريد الخلافة فعزله عن دمشق في سنة ثمان وسبعين «2» ومائة، وكانت إقامته عليها أقل من سنة؛ وأظن أن في تلك الأيام أضيف إليه إمرة مصر، ثم أقدمه الرشيد إلى بغداد وكان قبل ذلك كتب الى الرشيد يقول:
أخلاي بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ من شجو صاحبه خلو
من أي نواحي الأرض أبغي رضاكم ... وأنتم أناس ما لمرضاتكم «3» نحو
فلا حسن نأتي به تقبلونه ... ولا إن أسأنا كان عندكم عفو
فقال الرشيد: والله لئن أنشأها لقد أحسن، ولئن رواها كان أحسن.
وولي عبد الملك هذا الجزيرة مرتين وغزا الصائفة في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وغرا الروم سنة خمس وسبعين ومائة، فأخذ سبعة آلاف رأس من الروم. ومات للرشيد ولد وولد له ولد في ليلة واحدة فدخل عليه عبد الملك هذا فقال:(2/91)
يا أمير المؤمنين، آجرك الله فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك؛ وجعل هذه بتلك جزاء الشاكرين، وثواب الصابرين! وكان لعبد الملك لسان وبيان على فأفأة كانت فيه، وكانت وفاته بالرقة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 178]
السنة التى حكم فيها على مصر إسحاق بن سليمان، ثم هرثمة بن أعين، ثم عبد الملك بن صالح وهي سنة ثمان وسبعين ومائة- فيها وثب أهل المغرب وقاتلوا متولي إفريقية الفضل بن روح بن حاتم المهلبي فأمر الرشيد هرثمة بن أعين أن يتوجه من مصر إلى المغرب، وقد ذكرنا ذلك في ترجمة هرثمة وذكرنا توجهه واستيلاءه على بلاد المغرب، وأنهم أذعنوا إليه بالطاعة. وفيها فوض الرشيد أمور المملكة إلى يحيى بن خالد البرمكي. وفيها سار الفضل بن يحيى البرمكي إلى خراسان أميراً عليها فعدل في الرعية وأحسن السيرة بها. وفيها هاجت الحوفية بديار مصر بين قضاعة وقيس، وقد ذكرنا قصتهم مع إسحاق بن سليمان عامل مصر. وفيها غزا الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم وغزا الشاتية سليمان بن راشد «1» ومعه البند بطريق صقلّيّة. وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي العباسي. وفيها خرج بالجزيرة الوليد بن طريف وفتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين وسار إلى أرمينية وكثرت جموعه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن حميد الرّؤاسىّ الكوفي، وجعفر بن سليمان الضبعي، وخارجة بن مصعب، والصحيح قبل هذه بعشر سنين، وعليلة بن بدر البصري واسمه الربيع، وعليلة لقب له. وعيثر «2» بن(2/92)
القاسم الكوفي، وعبد الله بن جعفر أبو علي المديني، وعمر بن المغيرة بالمصيصة «1» ، والمفضل بن يونس يقال فيها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبيد الله بن المهدي الأولى على مصر
هو عبيد الله ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي الهاشمي أمير مصر، ولي مصر بعد عزل عبد الملك بن صالح عنها، ولاه الرشيد وجمع له صلاة مصر وخراجها، وهو أخو الرشيد لأبيه محمد المهدي؛ ولما ولي عبيد الله مصر استخلف عليها داود بن «2» حبيش وأرسله أمامه، فقدم داود مصر لسبع خلون من جمادى الآخرة؛ ثم قدمها عبيد الله المذكور بعده في يوم الثلاثاء لأربع خلون من شعبان سنة تسع «3» وسبعين ومائة قاله صاحب «البغية» .
وقال غيره: قدمها عبيد الله في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة تسع وسبعين ومائة. وجعل على شرطته معاوية بن صرد ثم عمار بن مسلم،(2/93)
فأقام عبيد الله على إمرة مصر مدّة وخرج منها إلى جهة الإسكندرية لما بلغه أنّ الفرنج قصدوا الإسكندرية بعد انهزل بهم من الحكم بن هشام على ما نذكره في آخر هذه الترجمة؛ واستخلف على مصر عبد الله بن المسيب المقدم ذكره فغاب عبيد الله مدة ثم عاد إليها ودام على إمرة مصر إلى أن صرفه أخوه الرشيد عنها في شهر رمضان من [هذه] السنة. وخرج منها لليلتين خلتا من شوال، فكانت ولايته هذه المرة تسعة أشهر إلا أياماً قليلة، وولي عوضه الأمير موسى بن عيسى العباسي الهاشمي.
وقال صاحب «البغية» : صرف عنها لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة فوافق في الشهر وخالف في السنة.
وأما ما وعدنا بذكره من انهزام الفرنج من الحكم بن هشام صاحب الأندلس الأموي فإنه ندب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج وصحبته العساكر، فدخل بلاد الفرنج وبث سراياه في بلادهم يحرقون وينهبون ويأسرون، وسير سرية فجازوا خليجاً من البحر كان الماء قد جزر عنه؛ وكان الفرنج قد جعلوا أموالهم وأهاليهم وراء ذلك الخليج ظناً منهم أن أحداً لا يقدر أن يعبره، فجاءهم ما لم يكن في حسابهم فغنم المسلمون منهم جميع ما لهم وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروا وسبوا الحريم وعادوا سالمين إلى عبد الكريم المذكور؛ فسير عبد الكريم طائفة أخرى فخربوا كثيرا من بلاد فرنسية «1» وغنموا أموال أهلها وأسروا الرجال، فأخبره بعض الأسرى أن جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على طريقهم؛ فجمع عبد الكريم عساكره وسار على التعبئة وأجد السير، فلم يشعر الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم، فانهزموا وغنم ما معهم وعاد عبد الكريم سالما هو ومن معه؛ فلما وقع للفرنج(2/94)
ذلك أرادوا أن يهجموا على ثغر الإسكندرية وغيرها لينالوا من المسلمين بعض الغرض وركبوا البحر لقطع الطريق، فخرج عبيد الله بعساكره إلى ثغر الإسكندرية فلم يقدر أحد من الفرنج على التوجّه الى جهتها وعادوا بالذّلة والخزى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 179]
السنة التي حكم فيها عبيد الله بن المهدي على مصر وهي سنة تسع وسبعين ومائة- فيها ولى الرشيد إمرة خراسان لمنصور بن يزيد بن منصور الحميري. وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري بجموعه من ناحية أرمينية إلى الجزيرة وقد عظم أمره وكثرت جيوشه، فسار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني من قبل الرشيد فراوغه يزيد مدّة ثم التقاه على غرة بقرب هيت وقاتله حتى ظفر به وقتله وبعث برأسه إلى الرشيد، فرثته أخته الفارعة «1» بنت طريف بقصيدتها التى سارت بها الركبان التى أوّلها:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف(2/95)
حليف «1» الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بحليف
ومنها:
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فرب زحوف لفها بزحوف
عليه سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوت مكة إلى عرفات. وفيها في شهر ربيع الأول وصل هرثمة بن أعين أميراً على القيروان والمغرب فأمن الناس وسكنوا وأحسن سياستهم، وبنى القصر الكبير في سنة ثمانين ومائة وبنى سور طرابلس الغرب؛ ثم إنه رأى اختلاف الأهواء فطلب من الرشيد أن يعفيه وألح في ذلك حتى أعفاه. وفيها توفي الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل «2» بن عمرو بن الحارث، شيخ الإسلام وأحد الأعلام وإمام دار الهجرة وصاحب المذهب، أبو عبد الله المدني الأصبحي مولده سنة اثنتين وتسعين، وقيل سنة ثلاث وتسعين وهى السنة التى مات فيها أنس ابن مالك الصحابي، وكان الإمام مالك رحمه الله عظيم الجلالة كبير الوقار غزير العلم متشددا في دينه.
قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فما لك النجم. وقال في رواية أخرى: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وما في الأرض كتاب أكثر صواباً من الموطأ.
وقال ابن مهدي: مالك أفقه من الحكم وحماد.(2/96)
وقال ابن وهب عن مالك قال: دخلت على أبي جعفر مراراً وكان لا يدخل عليه أحد من الهاشميين وغيرهم إلا قبل يده فلم أقبل يده قط. وعن عيسى بن عمر المدني قال: ما رأيت بياضاً قط ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياضا من ثوب مالك. وقال غير واحد: كان مالك رجلاً طوالاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية أشقر أصلع عظيم اللحية عريضها، وكان لا يحفي شاربه ويراه مثله.
قلت: ومناقب الإمام مالك كثيرة وفضله أشهر من أن يذكر. وكانت وفاته في صبيحة أربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل في حادي عشر ربيع الأول، وقيل في ثالث عشر؛ وأما السنة فمجمع عليها، أعنى فى سنة تسع وسبعين ومائة رحمه الله. وفيها توفي الهقل «1» بن زياد الدّمشقىّ نزيل بيروت أبو عبد الله، كان كاتب الأوزاعي وتلميذه وحامل علمه من بعده.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي حماد بن زيد، وخالد بن عبد الله الطحان، وعبد الله بن سالم الأشعري الحمصي، ومالك بن أنس الإمام، وفقيه دمشق هقل بن زياد، والوليد بن طريف الخارجي، وأبو الأحوص سلام بن سليم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.(2/97)
ذكر ولاية موسى بن عيسى الثالثة على مصر
قلت: هذه ولاية موسى بن عيسى الهاشمي العباسي الثالثة على مصر، ولاه الرشيد على مصر بعد عزل أخيه عبيد الله بن المهدي على الصلاة؛ فلما ولي موسى من بغداد قدم أمامه ابنه يحيى بن موسى إلى مصر واستخلفه على صلاتها، فقدم يحيى ابن موسى إلى مصر لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة، ودام بمصر على صلاتها إلى أن قدمها والده موسى بن عيسى في آخر ذي القعدة من سنة تسع وسبعين ومائة المذكورة؛ وسكن المعسكر على العادة وأخذ في إصلاح أمور مصر وأصلح بين قيس ويمن من الحوف، واستمر على إمرة مصر إلى أن صرفه الرشيد عنها بعبيد الله بن المهدي ثانياً في جمادى الآخرة سنة ثمانين ومائة؛ فكانت ولاية موسى على مصر في هذه المرة الثالثة نحوا من عشرة أشهر. وخرج من مصر وتوجه إلى بغداد وصار من أكابر أمراء الرشيد، وحجّ بالناس من بغداد في السنة المذكورة.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة مات بعد عوده من الحج وله خمس وخمسون سنة.
وقيل: كانت وفاته في سنة تسع وثمانين ومائة. ولما حج في سنة اثنتين وثمانين ومائة ندبه الرشيد ليقرأ عهد أولاده بالخلافة في مكة والمدينة لأن الرشيد كان بايع في هذه السنة لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد أخيه محمد الأمين؛ وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه بالمأمون وسلمه إلى جعفر بن يحيى. وهذا من العجائب لأن الرشيد رأى ما صنع أبوه وجده المنصور بعيسى بن موسى حتى خلع نفسه من ولاية العهد، ثم ما صنع به أخوه الهادي ليخلع نفسه من العهد، فلو لم يعاجله الموت لخلعه؛ ثم هو بعد ذلك يبايع للمأمون بعد الأمين حتى وقع لهما بعد موته ما فيه عبرة لمن اعتبر.(2/98)
قلت: وهذا البلاء والتدميغ إلى يومنا هذا، فإن كل ملك من الملوك إلى زماننا هذا يخلع ابن الملك الذي قبله ثم يعهد هو لابنه من غير أن يقعد له قاعدة يثبت ملكه بها، بل جل قصده العهد، ويدع الدنيا بعد ذلك تنقلب ظهراً لبطن. وكان أميراً جليلاً جواداً ممدحاً، تقدم التعريف بأحواله في ولايته الأولى والثانية على مصر من هذا الكتاب اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 180]
السنة التي حكم فيها موسى بن عيسى العباسي على مصر وهي سنة ثمانين ومائة- فيها كانت الزلزلة العظيمة التي سقط منها رأس منارة الإسكندرية.
وفيها تنقل الخليفة الرشيد من بغداد إلى الموصل ثم إلى الرقة فاستوطنها مدة وعمر بها دار الملك واستخلف على بغداد ابنه الأمين محمد بن زبيدة. وفيها حجّ بالناس موسى ابن عيسى العباسي المعزول عن إمرة مصر المقدم ذكره. وفيها هدم الرشيد سور الموصل لئلا يغلب عليها الخوارج. وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك خراسان وسجستان فولى عليهما جعفر محمد بن الحسن بن قحطبة ثم بعد مدة يسيرة عزل الرشيد جعفراً المذكور وولى عليهما عيسى بن جعفر. وفيها خرج خراشة «1» الشيباني متحكماً بالجزيرة فقتله مسلم بن بكار العقيلي. وفيها خرجت المحمرة «2» بجرجان هيجهم على الخروج زنديق يقال له؛ عمرو بن محمد العمركىّ «3» ، فقتل عمرو المذكور بأمر الرشيد بمدينة مرو. وفيها توفي سيبويه إمام النحاة أبو بشر عمرو بن عثمان البصري، أصله فارسي وطلب الفقه والحديث ثم مال إلى العربية حتى برع فيها وصار أفضل(2/99)
أهل زمانه، وصنف فيها كتابه الكبير الذي لم يصنف مثله، وفي سنة وفاة سيبويه أقوال كثيرة، وقيل: إن مدة عمره كانت اثنتين وثلاثين سنة، وقيل: بل أزيد من أربعين سنة. وفيها توفي عافية بن يزيد بن قيس الكوفىّ الأودىّ «1» ، كان من أصحاب أبي حنيفة الذين يجالسونه ثم ولي القضاء، وكان فقيهاً ديناً صالحاً. وفيها توفي المبارك بن سعيد بن مسروق أخو سفيان الثورىّ، وكنيته أبو عبد الرحمن، ولد بالكوفة وسكن بغداد، وكان ثقة ديناً كف بصره بأخره «2» . وفيها توفي هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي الهاشمي أمير الأندلس، وليها في سنة ثلاث وسبعين ومائة بعد وفاة أبيه، فكانت مدة ملكه بالأندلس سبع سنين وأياما، ومات في صغره وله تسع وثلاثون سنة. وقد تقدم التعريف به «3» : أن عبد الرحمن الداخل دخل المغرب جافلاً من بني العباس وملكه وسمي بالداخل.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسماعيل بن جعفر المدني، وبشر بن منصور السليمي الواعظ، وحفص بن سليمان المقرئ، ورابعة العدوية،. قلت: وقد تقدمت وفاتها في قول غير الذهبي. قال: وصدقة بن خالد الدمشقي بخلف، وعبد الوارث بن سعيد التنوري؛ وعبيد «4» الله بن عمرو الرقىّ، والمبارك ابن سعيد الثوري، وفضيل «5» بن سليمان بخلف، ومحمد بن الفضل بن عطية البخاري،(2/100)
ومسلم بن خالد الزنجي المكي، ومعاوية بن عبد الكريم الضال، وصاحب الأندلس هشام بن عبد الرحمن الأموي، وأبو المحياة يحيى بن يعلى التيمي؛ ويقال: مات فيها سيبويه شيخ النحو.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
ذكر ولاية عبيد الله بن المهدي الثانية على مصر
تقدم التعريف به في أول ولايته على إمرة مصر ولما عزل الرشيد موسى بن عيسى العباسي أعاد أخاه عبيد الله هذا على إمرة مصر عوضه ثانياً، فأرسل عبيد الله هذا داود بن حبيش «1» خليفة له على صلاة مصر، فسار داود حتى وصل إلى مصر لسبع خلون من جمادى الآخرة من سنة «2» ثمانين ومائة، فخلفه داود على صلاة مصر إلى أن حضر إليها عبيد الله بن المهدي في يوم رابع شعبان من السنة، فلم تطل مدته على مصر ووقع له بها أمور حتى صرف عنها لثلاث خلون من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين ومائة؛ فكانت ولاية عبيد الله بن المهدي في هذه المرة الثانية على إمرة مصر سنة واحدة وشهرين تقريباً. وقيل: غير ذلك. وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة، ولما عزل عن مصر توجه إلى الرشيد ودام عنده إلى أن خرج معه في سنة اثنتين وتسعين ومائة في مسيره إلى خراسان، فسار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث، وكان الرشيد مريضاً واستخلف على الرقة ابنه القاسم(2/101)
وضم إليه خزيمة بن خازم، وسار من بغداد إلى النهروان واستخلف على بغداد ابنه الأمين وأمر ابنه المأمون بالمقام ببغداد، فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير: لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك والأمين مقدّم عليك، وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب من أبيك الرشيد أن تسير معه، فطلب، فأجابه الرشيد بعد امتناع.
فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري، فقال له الرشيد: يا صباح، لا أظنك تراني أبداً، فدعا له الصباح بالبقاء؛ فقال: يا صباح، ما أظنك تدري ما أجد؛ قال الصباح: لا والله؛ فعدل الرشيد عن الطريق واستظل بشجرة وأمر خواصه بالبعد عنه، ثم كشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير، فقال: هذه علة أكتمها عن الناس ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين، وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي ويستطيل دهري، وإن أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعو بدابة فيأتونني بدابة أعجف قطوف «1» لتزيدني علة؛ ثم طلب الرشيد دابة فجاءوا بها على ما وصف. وكان أخوه عبيد الله هذا أشار عليه بعدم السفر، فلم يسمع منه وأخذه معه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 181]
السنة التي حكم فيها عبيد الله بن المهدي في ولايته الثانية على مصر وهي سنة إحدى وثمانين ومائة- فيها غزا الرشيد بلاد الروم وافتتح حصن الصفصاف «2» عنوة، وسار عبد الملك «3» بن صالح العباسي حتى بلغ أرض الروم وافتتح حضنابها. وفيها حجّ(2/102)
بالناس الرشيد. وفيها استعفى يحيى بن خالد بن برمك من التحدث في أمور الممالك فأعفاه الرشيد وأخذ الخاتم منه وأذن له في المجاورة بمكة. وفيها كتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين يعفيه عن إمرة المغرب وأذن له في المجاورة والقدوم عليه، واستعمل عوضه على المغرب محمد بن مقاتل العكي رضيع الرشيد، وكان أبوه مقاتل أحد من قام بالدعوة العباسية.
وفيها أمر الرشيد أن يصدر في مكاتباته بعد البسملة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ فريد الزمان وشيخ الإسلام، وأمه خوارزمية مولده سنة ثمان عشرة ومائة.
وقيل: سنة عشر ومائة، ورحل سنة إحدى وأربعين ومائة فلقي التابعين وأكثر الترحال في طلب العلم، وروى عن جماعة كثيرة، وروى عنه خلائق وتفقه بأبي حنيفة. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وعن إسماعيل ابن عياش قال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك. وقال العباس بن مصعب المروزي: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء.
وقال شعيب بن حرب: سمعت سفيان الثوري يقول: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر. وقال الذهبي: قال عبد الله ابن محمد قاضي نصيبين حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة: أملى علي ابن المبارك بطرسوس- وودعته وأنفذها معي (يعني الورقة) إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة- هذه الأبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وتهج السنابك والغبار الأطيب(2/103)
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا «1» يستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فلما قرأه ذرفت عيناه، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن عطيّة الثقفىّ، واسماعيل بن عيّاش الحمصىّ، وأبو المليح الحسن بن عمر الرقّىّ، وحفص ابن ميسرة الصنعاني، والحسن بن قحطبة الأمير، وحمزة بن مالك، وسهل بن أسلم العدوي، وخلف بن خليفة الواسطي بها، وعباد بن عباد المهلّبىّ، وعبد الله ابن المبارك المروزي، وروح بن المسيب الكلبي، وسهيل بن صبرة العجلي، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، وعفان بن سيار قاضي جرجان، وعلىّ بن هاشم ابن البريد «2» الكوفي، وعيسى ابن الخليفة المنصور، وقران بن تمام الأسدي (بضم القاف وتشديد الراء) تخمينا، ومحمد بن حجّاح الواسطي، ومحمد بن سليمان الأصبهاني الكوفي، ومصعب بن ماهان المروزي، ومفضل بن فضالة قاضي مصر ويعقوب ابن عبد الرحمن القاري «3» ، وأم عروة بنت جعفر بن الزبير بن العوام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع ونصف.(2/104)
ذكر ولاية إسماعيل بن صالح على مصر
هو إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي العباسي أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر على الصلاة في يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائة بعد عزل عبيد الله بن المهدي عنها، فاستخلف إسماعيل على صلاة مصر عوف بن وهب الخزاعىّ فصلّى المذكور بالناس إلى أن حضر إسماعيل بن صالح إلى مصر لخمس بقين من شهر رمضان المذكور، ولما قدم إلى مصر سكن بالمعسكر وجعل على الشرطة سليمان بن الصمة المهلبي مدة ثم صرفه «1» بزيد بن عبد العزيز الغساني وأخذ في إصلاح أمر الديار المصرية، وكان شجاعاً فصيحاً عاقلاً أديباً.
قال ابن عفير: ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح.
واستمر إسماعيل بن صالح على إمرة مصر إلى أن صرف عنها لأمر اقتضى ذلك بإسماعيل بن عيسى في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وقال صاحب «البغية» : إنه عزل بالليث بن الفضل وأن الليث عزل باسماعيل المذكور وسماه إسماعيل بن علي. والأقوى أن إسماعيل هذا عزل باسماعيل الذي سميته، وعلى هذا الترتيب ساق غالب من ذكر أمراء مصر. وكانت مدته على إمرة مصر ثمانية أشهر وعدة أيام تقارب شهرا اهـ.
[ما وقع من الحوادث سنة 182]
السنة التي حكم فيها إسماعيل بن صالح على مصر، وهي سنة اثنتين وثمانين ومائة- فيها حجّ بالناس عيسى «2» بن موسى العباسي. وفيها أخذ الرشيد البيعة بولاية(2/105)
العهد ثانياً من بعد ولده الأمين محمد لولده الآخر عبد الله المأمون، وكان ذلك بالرقة، فسيره الرشيد إلى بغداد وفي خدمته عم الرشيد جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك ابن صالح وعلي بن عيسى، وولى المأمون ممالك خراسان بأسرها وهو يومئذ مراهق.
وفيها وثبت الروم على ملكهم قسطنطين فسملوه «1» وعقلوه وملكوا عليهم غيره. وفيها توفي عبد الله «2» بن عبد العزيز بن عبد الله [بن عبد «3» الله] بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الله العمري العدوي، كان إماماً عالماً عابداً ناسكاً ورعاً. وفيها توفي مروان بن سليمان بن يحيى ابن أبى حفصة أبو السّمط- وقيل: أبو الهندام- الشاعر المشهور. كان أبو حفصة جد أبيه مولى مروان بن الحكم أعتقه يوم الدار «4» لأنه أبلى بلاء حسنا في ذلك اليوم، يقال: إنه كان يهودياً فأسلم على يد مروان، وقيل غير ذلك. ومولد مروان هذا صاحب الترجمة سنة خمس ومائة، وكان شاعراً مجيداً، مدح غالب خلفاء بني أمية وغيرهم، وما نال أحد من الشعراء ما ناله مروان لا سيما لما مدح معن بن زائدة الشيباني بقصيدته اللامية؛ يقال: إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، وهي القصيدة التي فضل بها على شعراء زمانه. قال ابن خلكان: والقصيدة طويلة تناهز الستين بيتاً، ولولا خوف الإطالة لذكرتها لكن «5» نأتي ببعض مديحها وهو من أثنائها:
بنو مطر «6» يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في بطن خفان «7» أشبل(2/106)
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
بهاليل «1» في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وان دعوا ... أجابوا وان أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
وفيها توفي هشيم «2» بن بشير بن أبي خازم أبو معاوية الواسطي مولى بني سليم وكان بخاري الأصل، كان ثقة كثير الحديث ثبتاً، وكان يدلس في الحديث، وكان ديناً أقام يصلي الفجر بوضوء صلاة العشاء الآخرة سنين كثيرة، وتوفي ببغداد في يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رمضان أو شعبان. وفيها توفي شيخ الإسلام قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب [بن خنيس «3» ] بن سعد بن حبتة بن معاوية.
وسعد بن حبتة من الصحابة أتى يوم الخندق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له ومسح على رأسه. ومولد أبى يوسف بالكوفة سنة ثلاث عشرة ومائة، وطلب العلم سنة نيف وثلاثين؛ وسمع من هشام بن عروة وعطاء بن السائب والأعمش وغيرهم.
وروى عنه ابن سماعة ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وخلق سواهم. وكان في ابتداء أمره يطلب الحديث، ثم لزم أبا حنيفة وتفقه به حتى صار المقدم في تلامذته، وبرع(2/107)
في عدة علوم. قال الذهبي: وكان عالماً بالفقه والأحاديث والتفسير والسير وأيام العرب، وهو أول من دعي في الإسلام بقاضي القضاة. قلت: ولم يقع هذا الاسم على غيره كما وقع له فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب، فهو قاضي القضاة على الحقيقة. قال محمد بن الحسن: مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفة، فلمّا خرج قال: إن يمت هذا الفتى فهو أعلم من عليها (وأومأ إلى الأرض) . وقال ابن معين: ما رأيت في أصحاب «1» الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف. وروى أحمد بن عطية عن محمد بن سماعة قال: كان أبو يوسف بعد ما ولي القضاء يصلي كل يوم مائتي ركعة. وقال محمد بن سماعة المذكور: سمعت أبا يوسف يقول في اليوم الذي مات فيه: اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت به متعمدا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك. وكان أبو يوسف عظيم الرتبة عند هارون الرشيد. قال أبو يوسف: دخلت على الرشيد وفي يده درتان يقلبهما فقال: هل رأيت أحسن منهما؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: وما هو؟ قلت: الوعاء الذي هما فيه، فرمى إلي بهما وقال: شأنك بهما.
وكانت وفاته في يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر. وفي يوم موته قال عباد بن العوام: ينبغي لأهل الإسلام أن يعزي بعضهم بعضاً بأبي يوسف. وفيها توفي يزيد بن زريع أبو معاوية العيشي «2» البصري، كان(2/108)
ثقة كثير الحديث عالماً فاضلاً صدوقاً، وكان أبوه والي البصرة، فمات فلم يأخذ من ميراثه شيئاً، وكان يتقوت من سف «1» الخوص بيده رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وتسعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً سواء.
ذكر ولاية إسماعيل بن عيسى على مصر
هو إسماعيل بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن علي بن العباس، العباسي الهاشمي، أمير مصر. ولاه الرشيد على إمرة مصر بعد عزل إسماعيل بن صالح العباسي عنها على الصلاة، فقدم مصر لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائة. ولما دخل مصر سكن المعسكر على عادة أمراء مصر، ودام على إمرتها إلى أن صرفه الرشيد عنها بالليث بن الفضل في شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة، فكانت ولايته على مصر ثلاثة أشهر تنقص أياماً. وتوجه إلى الرشيد فأكرمه ودام عنده إلى أن حج معه في سنة ست وثمانين ومائة تلك الحجة التي لم يحجها خليفة قبله.
وخبرها أن الرشيد سار إلى مكة بأولاده وأكابر أقار به مثل إسماعيل هذا وغيره، وكان مسير الرشيد من الأنبار فبدأ بالمدينة فأعطي فيها ثلاثة أعطية: أعطى هو عطاء، وابنه محمد الأمين عطاء، وابنه عبد الله عطاء؛ وسار إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ عطاؤهم بمكة والمدينة ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد قد ولى الأمين العراق والشأم إلى آخر المغرب، وولى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع الرشيد لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان المؤتمن في حجر عبد الملك بن صالح وجعل خلعه وإثباته للمأمون؛ ولما وصل(2/109)
الرشيد إلى مكة ومعه أولاده وأقاربه والقضاة والفقهاء والقواد، كتب كتاباً أشهد فيه على محمد الأمين من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتاباً أشهد عليه فيه بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة وجدد عليهما العهود في الكعبة. ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس: قد ألقى بينهم حرباً وخافوا عاقبة ذلك، فكان ما خافوه.
ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين ومائة قدم بغداد «1» وأشهد على نفسه من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح وغير ذلك للمأمون وجدد له البيعة عليهم بعد الأمين. ثم بعد عود الرشيد وجه إسماعيل هذا إلى الغزو، فعاد «2» ودام عنده إلى أن وقع ما سنذكره.
[ما وقع من الحوادث سنة 183]
السنة التي حكم فيها إسماعيل بن عيسى على مصر وهي سنة ثلاث وثمانين ومائة- فيها حج بالناس العباس بن موسى الهادي الخليفة. وفيها تمرّد متولّى الغرب محمد ابن مقاتل العكي وظلم وعسف واقتطع من أرزاق الأجناد وآذى العامة، فخرج عليه تمام بن تميم التميمي نائبه على تونس، فزحف إليه وبرز لملتقاه العكي ووقع المصاف «3» ، فانهزم العكي وتحصّن بالقيروان في القصر وغلب تمام على البلد، ثم نزل العكي بأمان وانسحب إلى طرابلس؛ فنهض لنصرته إبراهيم بن الأغلب، فتقهقر تمام إلى تونس ودخل ابن الأغلب القيروان فصلى بالناس وخطب وحض على الطاعة؛ ثم التقى ابن الأغلب وتمام فانهزم تمام، واشتد بغض الناس للعكىّ وكاتبوا الرشيد فيه فعزله وأمّر عليهم إبراهيم بن الأغلب. وفيها توفي البهلول المجنون، واسم أبيه عمرو، وكنيته(2/110)
أبو وهيب، الصيرفي الكوفي، تشوش عقله فكان يصحو في وقت ويختلط في آخر، وهو معدود من عقلاء المجانين، كان له كلام حسن وحكايات ظريفة. قال الذهبي:
وقد حدث عن عمرو بن دينار وعاصم بن بهدلة وأيمن بن نابل «1» ، وما تعرضوا إليه بجرح ولا تعديل ولا كتب عنه الطلبة، وكان حيّا فى دولة الرشيد كلها. وقيل: إن الرشيد مر به، فقام إليه البهلول وناداه ووعظه، فأمر له الرشيد بمال؛ فقال:
ما كنت لأسود وجه الوعظ، فلم يقبل. وأما حكاياته فكثيرة، وفي وفاته اختلاف كثير، والصحيح أنه مات في هذا العصر. وفيها توفي زياد بن عبد الله بن الطفيل، الحافظ أبو محمد البكائي العامري الكوفي صاحب رواية السيرة النبوية عن ابن إسحاق، وهو أتقن من روى عنه السيرة. وفيها توفي علي بن الفضيل بن عياض، مات شاباً لم يبلغ عشرين سنة في حياة والده فضيل، وكان شاباً عابداً زاهداً ورعاً وكان يصلي حتى يزحف إلى فراشه زحفاً، فيلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبت سبقنا العابدون. وفيها توفي محمد بن صبيح «2» أبو العباس المذكر الواعظ، كان يعرف بابن السماك، كان له مقام عظيم عند الخلفاء؛ وعظ الرشيد مرة فقال:
يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله تعالى مقاماً وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أو إلى النار! فبكى الرشيد حتى قال بعض خواصه: ارفق بأمير المؤمنين؛ فقال: دعه فليمت حتى يقال: خليفة الله مات من مخافة الله تعالى! قال الذهبي: قال ثعلب: أخبرنا ابن الأعرابي قال: كان ابن السماك يتمثل بهذه الأبيات:(2/111)
إذا خلا القبور ذو خطر ... فزره يوماً وانظر إلى خطره
أبرزه الدهر من مساكنه ... ومن مقاصيره ومن حجره
ومن كلام ابن السماك أيضاً قال: «الدنيا كلها قليل، والذي بقي منها في جنب الماضي قليل، والذي لك من الباقي قليل، ولم يبق من قليلك إلا القليل» . وفيها توفي الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن السيد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. كان موسى المذكور يدعى بالعبد الصالح لعبادته، وبالكاظم «1» لعلمه. ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة، وكان سيداً عالماً فاضلاً سنياً جواداً ممدحاً مجاب الدعوة.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن سعد، وإبراهيم بن الزبرقان الكوفي، وأبو إسماعيل المؤدب إبراهيم بن سليمان، وإبراهيم ابن سلمة المصري، وأنيس بن سوار الحرمىّ «2» ، وبكار بن بلال الدمشقي، وبهلول ابن راشد للفقيه، وجابر بن نوح الحمّانىّ، وخاتم بن وردان، في قول، وحيوة بن معن التجيبي، وخالد بن يزيد الهدادي «3» ، وحبيش بن عامر؛ يروى عن أبي قبيل المعافري، وداود بن مهران الربعي الحراني، وزياد بن عبد الله البكائي، وسفيان بن حبيب البصري، وسليمان بن سليم الرفاعي العابد، وعباد بن العوام، فى قول، وعبد لله بن مراد المرادىّ، وعفيف بن سالم الموصلي، وعمرو بن يحيى الهمذاني «4» ، ومحمد بن السماك(2/112)
الواعظ، ومحمد بن أبي عبيدة بن معن، وموسى الكاظم بن جعفر، وموسى بن عيسى الكوفىّ القارئ، والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني، ونوح بن قيس البصري، وهشيم بن بشير، ويحيى بن حمزة قاضي دمشق، ويحيى بن [زكرياء «1» بن] أبي زائدة في قول، ويوسف بن [يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة «2» بن] الماجشون، قاله الواقدىّ، ويونس بن حبيب صاحب العربية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية الليث بن الفضل على مصر
هو الليث بن الفضل الأبيوردي أمير مصر، أصله من أبيورد «3» ، ولاه الرشيد على إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً في شهر رمضان في سنة ثلاث وثمانين ومائة بعد عزل إسماعيل بن عيسى؛ وقدم إلى مصر لخمس خلون من شوال من السنة المذكورة، وسكن المعسكر، وجعل أخاه علي بن الفضل على الشرطة، ومهد أمور مصر واستوفى الخراج، ودام على ذلك إلى أن خرج من مصر وتوجه إلى الخليفة هارون الرشيد في سابع شهر رمضان سنة أربع وثمانين ومائة بالهدايا والتحف، واستخلف أخاه علي بن الفضل على صلاة مصر، فوفد على الرشيد وأقام عنده مدة ثم عاد إلى مصر على عمله في آخر السنة، واستمر على إمرة مصر إلى أن خرج منها ثانياً إلى الرشيد في اليوم الحادي «4» والعشرين من رمضان سنة خمس وثمانين ومائة.(2/113)
واستخلف على صلاة مصر هشام «1» بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، فتوجه إلى الرشيد لأمر اقتضى ذلك، ثم عاد إلى مصر في رابع عشر المحرم سنة ست وثمانين ومائة، وكان هذا دأبه كلما غلق «2» خراج سنة ونجز حسابها وفرق أرزاق الجند، أخذ ما بقي وتوجه به إلى الرشيد ومعه حساب السنة. ودام على ذلك إلى أن خرج عليه أهل الحوف بشرقي مصر وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث هذا في أربعة آلاف من جند مصر، وكان ذلك في الثامن والعشرين «3» من شعبان من سنة ست وثمانين ومائة المذكورة؛ واستخلف على مصر عبد الرحمن بن موسى بن علي بن رباح على الصلاة والخراج، فواقع أهل الحوف فانهزم عنه الجند وبقي هو في نحو المائتين من أصحابه، فحمل بهم على أهل الحوف حملة هزمهم فيها، فتولوا وتبع أقفيتهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وبعث إلى مصر بثمانين رأساً. ثم قدم إلى مصر فلم ينتج أمره بعد ذلك من خوف أهل الحوف منه، فخافوه ومنعوا الخراج فلم يجد الليث بداً من خروجه إلى الرشيد، فتوجه إليه وعرفه الحال وشكا له من منع الخراج وسأله أن يبعث معه جيشاً إلى مصر فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش؛ فلم يسمح له الرشيد بذلك؛ وأرسل محفوظاً «4» إلى مصر، فقدم إليها محفوظ المذكور وضم خراجها من غير سوط ولا عصا، فولاه الرشيد عوضه على خراج مصر، ثم عزل الليث عن إمرة مصر بأحمد بن إسماعيل في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين ومائة، فكانت ولاية الليث على مصر أربع سنين وسبعة أشهر، وتوجه إلى الرشيد، وكان ممن حضر الإيقاع بالبرامكة في سنة سبع وثمانين ومائة المذكورة.(2/114)
ولنذكر أمر البرامكة هنا وإن كان ذلك غير ما نحن بصدده غير أنه في الجملة خبر يشتاقه الشخص فنقول على سبيل الاختصار من عدة أقاويل:
كان من جملة أسباب القبض على جعفر أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، فقال لجعفر: أزوجها لك ليحل لك النظر إليها ولا تقربها؛ فقال: نعم، فزوجها منه، وكانا يحضران معه ويقوم الرشيد عنهما، فجامعها جعفر فحملت منه وولدت غلاماً، فخافت الرشيد فسيرت الولد مع حواضن إلى مكة ثم وقع بين العباسة وبعض جواريها [شر «1» ] ، فأنهت الجارية أمرها إلى الرشيد، وقيل: الذي أنهته زبيدة لبغضها لجعفر.
وقيل في قتله سبب آخر وهو أن الرشيد دفع إليه عدوه يحيى بن عبد الله العلوي فحبسه جعفر ثم دعا به وسأله عن أمره فقال له: اتق الله في أمري، فرق له جعفر وأطلقه ووجه معه من أوصله الى بلاده؛ فنم على جعفر الفضل بن الربيع إلى الرشيد وأعلمه القصة من عين كانت للفضل على جعفر، فطلب الرشيد جعفراً على الطعام وصار يلقمه ويحدثه عن يحيى بن عبد الله، وجعفر يقول: هو بحاله في الحبس؛ فقال: بحياتي، ففطن جعفر وقال: لا وحياتك، وقص عليه أمره، فقال الرشيد: نعم ما فعلت! ما عدوت ما في نفسي! فلما قام عنه قال: قتلني الله إن لم أقتلك. وقيل غير ذلك، وهو أن جعفراً ابتنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم؛ فقيل للرشيد: هذه غرامته على دار فما ظنك بنفقاته! وقيل: إن يحيى بن خالد لما حج تعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك فاسلبني، اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني إلا(2/115)
الفضل، ثم عاد واستثنى الفضل ثم دعا يحيى بن خالد بدعوات أخر، وكان الفضل عنده مقدماً على جعفر فإنه كان الأسن، فلما انصرف من الحج هو وأولاده ووصلوا إلى الأنبار نكبهم الرشيد، ولما أرسل للقبض على جعفر توجه إليه مسرور ومعه جماعة وجعفر فى لهوه ومغنّيه «1» يغنيه قوله:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لابد يوماً ... وإن كرمت «2» تصير الى نفاد
قال مسرور: فقلت له: يا جعفر، الذي جئت له هو والله ذاك قد طرقك، فأجب أمير المؤمنين؛ فوقع على رجلي يقبلها وقال: حتى أدخل وأوصي! فقلت:
أما الدخول فلا سبيل إليه، وأما الوصية فاصنع ما شئت، فأوصى. وأتيت الرشيد به فقال: ائتني برأسه، فأتيته به.
[ما وقع من الحوادث سنة 184]
السنة الأولى من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة أربع وثمانين ومائة- فيها ولى الرشيد حماداً البربري إمرة مكة واليمن كله، وولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، وولى ابن الأغلب المغرب، وولى مهرويه الرازي طبرستان. وفيها طلب أبو الخصيب الخارج بخراسان الأمان فأمنه علي بن عيسى بن ماهان وأكرمه. وفيها سار أحمد بن هارون الشيباني فأغار على ممالك الروم فغنم وسلم. وفيها توفي أحمد ابن الخليفة هارون الرشيد الشاب الصالح، كان قد ترك الدنيا وخرج على وجهه وتزهد وصار يعمل بالأجرة ولا يعلم به أحد، وكان أكبر أولاد الرشيد، وأمه أم ولد؛ ولم يزل أحمد هذا منقطعا إلى الله تعالى حتى مات ولم يعلم به أحد؛ وكان أحمد هذا(2/116)
يعرف بالسبتي «1» ، وأحمد هذا خفي عن كثير من الناس، ومن الناس من يظنه البهلول الصالح ويقول: البهلول كان ابن الرشيد، وليس هو كذلك، وقد تقدم ذكر البهلول.
وأحمد هذا هو ابن الرشيد، وله أيضاً حكايات كثيرة في الزهد والصلاح. على أن بعض أهل التاريخ ينكرون ذلك بالكلية، والله أعلم بحقيقة ذلك. وفيها توفي محمد بن يوسف بن معدان أبو عبد الله الأصبهاني؛ كان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد وكان له كرامات وأحوال. وفيها توفي المعافى بن عمران أبو مسعود الموصلي الأزدي، رحل البلاد في طلب الحديث وجالس العلماء وجمع بين العلم والورع والسخاء والزهد ولزم سفيان الثوري وتفقه به وتأدب بآدابه، فكان يقول له: أنت معافى كاسمك.
الذين ذكرهم الذهبي في الوفيات في هذه السنة، قال: وفيها توفي إبراهيم بن سعد الزهري في قول، وإبراهيم بن أبي يحيى المدنىّ، وحميد بن الأسود، وصدقة ابن خالد في قول، وعبد الله بن عبد العزيز الزاهد العمري، وعبد الله بن مصعب الزبيري، وعبد الرحيم بن سليمان الرازي «2» ، وعثمان بن عبد الرحمن الجمحي في قول، وعبد السلام بن شعيب بن الحبحاب، وعبد العزيز بن أبي حازم في قول، وعلي بن غراب القاضي، ومحمد بن يوسف الأصبهاني الزاهد، ومروان بن شجاع الجزري، ويوسف بن الماجشون قاله البخارىّ، وأبو أميّة بن يعلى قاله خليفة.(2/117)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 185]
السنة الثانية من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة خمس وثمانين ومائة- فيها وثب أهل طبرستان على متوليهم مهرويه فقتلوه فولّى عوضه الرشيد عبد الله ابن سعيد الحرشي «1» . وفيها وقعت بالمسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين. وفيها خرج الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل والجزيرة. وفيها حج بالناس أخو الخليفة منصور ابن المهدي، وكان يحيى بن خالد البرمكي استأذن الرشيد في العمرة، فخرج يحيى بن خالد في شعبان وأقام بمكة واعتمر في شهر رمضان وخرج إلى جدة فأقام بها على نية الرباط إلى زمن الحج، فحج وعاد إلى العراق. وفيها توفي عم «2» جد الرشيد عبد الصمد بن علىّ ابن عبد الله بن العباس الأمير أبو محمد الهاشمي العباسي، ولد سنة خمس أو ست ومائة، وأمه أم ولد، ويقال: إن أمه كثيرة «3» التي شبب بها عبد الله بن قيس الرقيات.
ولي عبد الصمد هذا إمرة دمشق والموسم غير مرة، وولي إمرة المدينة والبصرة.
واجتمع مرة بالرشيد وعنده جماعة من أقار به، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعمه وعم عمه وعم عم عمه؛ وكان في المجلس سليمان بن أبي جعفر المنصور وهو عم الرشيد، والعباس بن محمد وهو عم سليمان المذكور، وعبد الصمد هذا وهو عم العباس. ومات وليس بوجه الأرض عباسية إلا وهو محرم لها، رحمه الله. وفيها توفي محمد ابن الإمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير(2/118)
أبو عبد الله الهاشمي العباسي. ولي إمرة دمشق لأبي جعفر المنصور ولولده المهدي؛ وحج بالناس عدة سنين، وكان عاقلاً جواداً ممدحاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو إسحاق الفزاري في قول إبراهيم بن محمد، وخالد بن يزيد بن [عبد الرحمن «1» بن] أبي مالك الدمشقي، وصالح بن عمر الواسطي، وعبد الله بن صالح بن علي بسلمية «2» ، وعبد الواحد بن مسلم، وقاضي مصر محمد بن مسروق الكندي، والمسيب بن شريك، والمطلب بن زياد، ويزيد بن مزيد الشيباني، ويقطين بن موسى الأمير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 186]
السنة الثالثة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة ست وثمانين ومائة- فيها حج الرشيد ومعه ابناه: الأمين محمد والمأمون عبد الله وفرق بالحرمين الأموال. وفيها بايع الرشيد بولاية العهد لولده قاسم بعد الأخوين الأمين والمأمون، ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسم الرشيد الدنيا بين أولاده الثلاثة قال الشعراء في البيعة المدائح، ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
خير الأمور مغبّة ... وأحقّ أمر بالنّمام
أمر قضى إحكامه الرّ ... حمن في البيت الحرام
وفيها أيضاً سار علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب، فالتقاه فقتل أبو الخصيب وغرقت جيوشه وسبيت حرمه واستقام أمر خراسان. وفيها(2/119)
سجن الرشيد ثمامة بن الأشرس المتكلم لأنه وقف منه على شيء من «1» إعانة أحمد بن عيسى. وفيها توفي حماد- ويقال: سلم- بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر المعروف بسلم الخاسر الشاعر المشهور من أهل البصرة، سمّى الخاسر لأنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل: اشترى شعر امرئ القيس، وقيل شعر الأعشى. وكان سلم من الشعراء المجيدين، وهو من تلامذة بشار بن برد المقدم ذكره. وفيها توفي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو الفضل الهاشمي العباسي أخو السفاح والمنصور لأبيهما، وأمه أم ولد. ولد في سنة ثمان عشرة ومائة وقيل سنة إحدى وعشرين ومائة، وولي دمشق والشأم كله والجزيرة، وحج بالناس غير مرة. وكان الرشيد يجله ويحبه. وفيها توفي يزيد بن هارون أبو خالد مولى بني سليم، ولد سنة ثمان عشرة ومائة، وكان من الزهاد العباد، كان إذا صلى العتمة لا يزال قائماً حتى يصلي الفجر بذلك الوضوء نيفاً وأربعين سنة. وفيها توفي الأمير يقطين بن موسى أحد دعاة بني العباس، ومن قرر أمرهم في الممالك والأقطار، وكان داهيةً عالماً حازماً شجاعاً عارفاً بالحروب والوقائع.
ذكر الذين أثبت الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي حاتم بن إسماعيل، أو سنة سبع؛ والحارث بن عبيدة الحمصي، وحسان بن إبراهيم الكرماني، وخالد بن الحارث، وصالح بن قدامة الجمحي، وطيفور الأمير مولى المنصور «2» ، والعباد بن العوّام فى قول، والعباس بن الفضل المقرئ، وعبد الرحمن بن عبد الله ابن عمر المدني، وعيسى البخاري غنجار «3» ، والمسيب بن شريك بخلف، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي.(2/120)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 187]
السنة الرابعة من ولاية الليث بن الفضل على مصر وهي سنة سبع وثمانين ومائة- فيها أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفراً ثم صلبه مدة وقطعت أعضاؤه وعلقت بأماكن، ثم بعد مدة أنزلت وأحرقت وذلك في صفر، وحبس الرشيد يحيى ابن خالد بن برمك، أعنى والد جعفر المذكور، وجميع أولاده وأحيط بجميع أموالهم.
وطال حبس يحيى بن خالد المذكور وابنه الفضل إلى أن ماتا في الحبس. وفي سبب قتل جعفر البرمكي اختلاف كبير ليس لذكره «1» هنا محل. وفيها غزا الرشيد بلاد الروم وفتح هرقلة وولى ابنه القاسم الصائفة وأعطاه العواصم، فنازل حصن سنان، فبعث إليه قيصر وسأله أن يرحل عنه ويعطيه ثلثمائة وعشرين أسيراً من المسلمين، ففعل.
وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك. وسبب قتله أنه كان يبكي على قتل جعفر وما وقع للبرامكة، فكان إذا أخذ منه الشراب يقول لغلامه: هات سيفي فيسله ويصيح: وا جعفراه! ثم يقول: والله لآخذن ثأرك ولأقتلن قاتلك!. فنم عليه ابنه عثمان للفضل بن الربيع فأخبر الفضل الرشيد، فكان ذلك سبب قتله. وفيها توفي الفضيل بن عياض الإمام الجليل أبو علي التميمي اليربوعي. ولد بخراسان بكورة أبيورد وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الحديث من منصور وغيره ثم تعبد وتوجه إلى مكة وأقام بها إلى أن مات في يوم عاشوراء، قاله علي بن المديني وغيره. وكان ثقةً نبيلاً فاضلاً عابداً زاهداً كثير الحديث. وقيل: إن مولده بسمرقند. وذكر(2/121)
بإسناده عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً «1» يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس. وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع رجلاً يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ
فقال: يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق. وقيل في توبته غير ذلك. وأما مناقبه فكثيرة: منها عن بشر الحافي قال: كنت بمكة مع الفضيل فجلس معنا إلى نصف الليل ثم قام يطوف إلى الصبح، فقلت: يا أبا علي ألا تنام؟
فقال: ويحك! وهل أحد يسمع بذكر النار وتطيب نفسه أن ينام!. وقال الأصمعي: نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل، فقال الفضيل: تشكو من يرحمك الى من لا يرحمك!. وسئل الفضيل: ما الإخلاص؟ قال الفضيل: أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا؛ قال: فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا؛ قال: فهذا الإخلاص. وعن الفضيل قال: من ساء شان دينه وحسبه ومروءته. وعنه قال: لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على نفسه ودينه. وقال: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل. وعنه قال:
إذا أراد الله أن يتحف العبد سلط عليه من يظلمه. واجتمع مع الرشيد بمكة، فقال له الرشيد: إنما دعوناك لتحدثنا بشيء وتعظنا؛ قال: فأقبلت عليه وقلت:(2/122)
يا حسن الخلق والوجه حساب الخلق كلهم عليك؛ قال: فبكى الرشيد وشهق، فرددت عليه حتى جاء الخدام فحملوني وأخرجوني. وعنه قال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل. وقال الفضيل: قول العبد أستغفر الله يعني أقلني يا رب.
قلت: روي عن علي بن أبى طالب رضى عنه أنه قال: أتعجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هو؟ قال: الاستغفار. وقال بعض المشايخ في دعائه:
اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو الاستغفار والإيمان، وعصيت الشيطان في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفرلى ما بينهما. وكان بعض المشايخ يقول أيضا: اللهم إن حسناتي من عطائك وسيئاتي من قضائك، فجد بما أعطيت على ما به قضيت حتى يمحى ذلك بذلك. وفيها قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قتله الرشيد لأمر اقتضى ذلك واختلف الناس في سبب «1» قتله اختلافاً كبيراً يضيق هذا المحل عن ذكره. وكان قتله في أول صفر من هذه السنة، وصلبه على الجسر وسنه سبع وثلاثون سنة وقتل بعده جماعة كثيرة من أقاربه البرامكة. وكان أصله من الفرس، وكان جعفر جميلاً لسناً أديباً بليغاً عالماً يضرب بجوده الأمثال، إلا أنه كان مسرفا على نفسه غارقا في اللذات؛ تمكن من الرشيد حتى بلغ من الجاه والرفعة ما لم ينله أحد قبله وولي هو وأبوه وأخوه الفضل الأعمال الجليلة. وكان أبوه يحيى قد ضم جعفراً إلى القاضي أبي يوسف يعقوب حتى علمه وفقهه وصار نادرة عصره.
يقال: إنه وقع في ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع ونظر في جميعها، فلم يخرج شيئاً منها عن موجب الفقه والعربية. وكان جعفر مثل أخيه الفضل في السخاء وأعظم. وأما ما حكي من كرمه فكثير: من ذلك أن أبا علقمة الثقفي صاحب الغريب(2/123)
كان عند جعفر في مجلسه، فأقبلت إليه خنفساء، فقال أبو علقمة: أليس يقال: إن الخنفساء إذا أقبلت إلى رجل أصاب خيرا؟ قالوا: بلى؛ فقال جعفر: يا غلام، أعط الشيخ ألف دينار، ثم نحوها عنه، فأقبلت الخنفساء ثانياً، فقال: يا غلام أعطه ألفاً أخرى. وله من هذا أشياء كثيرة، ثم زالت عنه وعن أهله تلك النعم حتى احتاجت أمه إلى السؤال. قال الذهبي عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال: دخلت على أمي يوم النحر وعندها امرأة في أثواب رثة، فقالت لي أمي: أتعرف هذه؟ قلت: لا؛ قالت: هذه عبادة أم جعفر البرمكي، فسلمت عليها ورحبت بها، ثم قلت: يا فلانة حدثينا بعض أمركم؛ قالت: أذكر لك جملة فيها عبرة، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة جارية ونحرت في بيتي خاصة ثمانمائة رأس، وأنا أزعم أن ابني جعفراً عاق لي، وقد أتيتكم الآن يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعاراً «1» والآخر دثاراً.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر
هو أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس الأمير أبو العباس الهاشمي العباسي أمير مصر. ولاه الرشيد على صلاة مصر بعد عزل الليث بن الفضل عنها في سنة سبع وثمانين ومائة، فقدمها يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، وجعل على شرطته معاوية بن صرد. وفي ولايته استنجده إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فأمده بالعساكر وتوجهوا إليه ثم عادوا.(2/124)
وكان سبب هذه التجريدة «1» أن أهل طرابلس الغرب كان كثر شغبهم على ولاتهم، وكان ابراهيم بن الأغلب المذكور قد استعمل عليهم عدة ولاة، فكانوا يشكون من ولاتهم فيعزلهم ويولي غيرهم إلى أن استعمل عليهم سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة، فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه، فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه، فأخرجوه من داره فدخل الجامع وقاتلهم فيه فقتلوا من أصحابه جماعة ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان [من هذه السنة «2» ] ، وكانت ولايته سبعاً وعشرين يوما، واستعمل جند طرابلس عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي. ثم وقع أيضاً بين الأبناء بطرابلس وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس؛ فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فاستنجد أحمد ابن إسماعيل أمير مصر وجمع جمعاً كبيراً وأمرهم أن يحضروا بني أبي كنانة والأبناء وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان، فلما قدموا عليه أراد قتلهم الجميع، فسألوه العفو عنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم، وعادوا إلى بلادهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق بالطاعة. واستمر أحمد هذا على إمرة مصر إلى أن صرف عنها بعبد الله بن محمد العباسي في يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع وثمانين ومائة؛ فكانت ولايته على إمرة مصر سنتين وشهراً ونصف شهر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 188]
السنة الأولى من ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر وهي سنة ثمان وثمانين ومائة- فيها غزا المسلمون الصائفة فبرز إليهم نقفور «3» بجموعه فالتقوا فجرح نقفور ثلاث جراحات وانهزم هو وأصحابه بعد أن قتل من الروم مقتلة عظيمة، فقيل: إن القتلى(2/125)
بلغت أربعين ألفاً، وقيل: أربعة آلاف وسبعمائة. وفيها حج الرشيد بالناس وهي آخر حجة حجها، وكان الفضيل بن عياض قال له: استكثر من زيارة هذا البيت فإنه لا يحجه خليفة بعدك. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري، كان إماماً عالماً صاحب سنة وغزو وكان صاحب حال ولسان وكرامات.
قال الفضيل بن عياض: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وإلى جانبه فرجة فذهبت لأجلس فيها، فقال: هذا مجلس أبى إسحاق الفزارىّ. وفيها توفّى إبراهيم ابن ماهان بن بهمن أبو إسحاق الأرجاني النديم المعروف بالموصلي، أصله من الفرس ودخل إلى العراق، ثم رحل إلى البلاد في طلب الأغاني، فبرع فيها بالعربية والعجمية؛ وكان مع ما انتهى إليه من الرياسة في الغناء فاضلاً عالماً أديباً شاعراً؛ نادم جماعة من خلفاء بني العباس؛ وكان ذا مال، يقال: إنه لما مات وجد له أربعة وعشرون ألف ألف درهم، وهو والد إسحاق النديم المغني أيضاً. حكي أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة؛ فغاضبها ودام على ذلك مدة، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئاً، فعمل أبياتاً وألقاها إلى إبراهيم الموصلي هذا فغنى بها الرشيد، فلما سمعها بادر إلى ماردة فترضاها، فسألته عن السبب فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم، ثم سألت الرشيد أن يكافئهما، فأمر لهما بأربعين ألف درهم. والأبيات:
العاشقان كلاهما متجنب ... وكلاهما متبعد متغضب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو له فعز المطلب(2/126)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسحاق بن مسور المرادي المصري، وجرير بن عبد الحميد الضبي، والحسين بن الحسن البصرىّ، وسليم ابن عيسى المقرئ، وعبد الملك بن ميسرة الصدفي، وعبدة بن سليمان الكوفي، وعتاب «1» بن بشير الحراني بخلف، وعقبة بن خالد السكوني، وعمر بن أيوب الموصلي، وعيسى بن يونس السبيعي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومعروف بن حسان الضبي، ومهران بن أبي عمر الرازي، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 189]
السنة الثانية من ولاية أحمد بن إسماعيل على مصر وهي سنة تسع وثمانين ومائة- فيها سار الرشيد إلى الري بسبب شكوى أهل خراسان عاملهم علي بن عيسى بن ماهان، فقد «2» رموه بعظائم وذكروا أنه على نية الخروج عن طاعة الرشيد؛ فأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى وافاه ابن عيسى بالأموال والجواهر والتحف للخليفة ولكبار القواد حتى رضي عنه الرشيد ورده إلى عمله، وخرج مشيعا له لما خرج إلى خراسان.
قلت: لله درّ القائل فى هذا المعنى:
بعثت في حاجتي رسولا ... يكنى أبا درهم فتمت
ولو سواه بعثت فيها ... لم تحظ نفسي بما تمنت
وفيها كان الفداء، حتى لم يبق بممالك الروم في الأسر مسلم. وفيها توفي العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة أبو الفضل الشاعر المشهور حامل لواء(2/127)
الشعراء في عصره، أصله من غرب خراسان ونشأ ببغداد وقال الشعر الفائق، وكان معظم شعره في الغزل والمديح، وله أخبار مع الخلفاء، وكان حلو المحاضرة مقبولاً عند الخاص والعام، وهو شاعر الرشيد، وخال إبراهيم بن العباس الصولي.
قال ابن خلكان: وحكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي، والعباس بن الأحنف، وهشيمة «1» الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلّى عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي؛ فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي، فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر! فقال: لقوله:
وسعى «2» بها ناس وقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد «3»
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
قلت: وفي موت الكسائىّ وابراهيم الموصلي والعباس بن الأحنف في يوم واحد نظر، والصحيح أن وفاة العباس هذا تأخرت عن وفاة هؤلاء المذكورين بمدة طويلة.
ومما يدل على ذلك ما حكاه المسعودي في تاريخه عن جماعة من أهل البصرة، قالوا:
خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف ينادي الناس: هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قالوا: فعدلنا إليه وقلنا: ما تريد؟ قال: إنّ مولاى يريد(2/128)
أن يوصيكم؛ قالوا: فملنا معه وإذا شخص ملقى تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا، وأنشأ يقول:
يا غريب الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على شجنه
كلّما جدّ «1» البكاء؟؟؟ هـ ... دبت الأسقام في بدنه
ثم أغمي عليه طويلاً، ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد، ففتح عينيه فسمع تغريده ثم قال:
ولقد زاد الفؤاد شجاً ... طائر يبكي على فننه
شفه ما شفني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه. فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف رحمه الله.
وذكر «2» أبو علىّ الفالى في «كتاب الأمالي» : قال بشار بن برد: ما زال غلام من بني حنيفة (يعني العباس) يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصباً ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
وقد خرجنا عن المقصود لطلب الفائدة، ونرجع الآن إلى ما نحن بصدده.(2/129)
وفيها توفي علي بن حمزة «1» بن عبد الله بن بهمن بن فيروز مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائىّ النحوىّ المقرئ، وسمي بالكسائي لأنه أحرم في كساء. وهو معلم الرشيد وفقيهه وبعده لولديه الأمين والمأمون، وكان إماماً في فنون عديدة: النحو والعربية وأيام الناس، وقرأ القران على حمزة الزيات أربع مرات، واختار لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع، وتعلم النحو على كبر سنه، وخرج الى البصرة وجالس الخليل ابن أحمد. وذكر ابن الدورقي قال: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فحضرت العشاء فقدموا الكسائي فأرتج عليه [فى] قراءة (قل يأيّها الكافرون) ؛ فقال اليزيدي: قراءة هذه السورة يرتج [فيها] على قارئ أهل الكوفة!. قال:
فحضرت الصلاة فقدموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد؛ فلما سلم قال:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
وكان الكسائي عند الرشيد بمنزلة رفيعة، سار معه إلى الري فمرض ومات بقرية رنبويه «2» ، ثم مات مع الرشيد محمد بن الحسن الفقية صاحب أبي حنيفة فقال الرشيد لما رجع إلى العراق: [اليوم»
] دفنت الفقه والنحو برنبويه. وفيها توفي محمد بن الحسن الفقيه ابن فرقد الشيباني مولاهم الكوفي الفقيه العلامة شيخ الإسلام وأحد العلماء الأعلام مفتى العراقين أبو عبد الله، قيل: إن أصله من حرستا «4» من غوطة دمشق، ومولده بواسط ونشأ بالكوفة وتفقه بأبي يوسف ثم بأبي حنيفة وسمع مسعراً ومالك(2/130)
ابن مغول والأوزاعي ومالك بن أنس؛ وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وهشام بن عبيد الله وعلي بن مسلم الطوسي وخلق سواهم؛ وكان إماماً فقيهاً محدثاً مجتهداً ذكياً، انتهت إليه رياسة العلم في زمانه بعد موت أبي يوسف. قال أبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه. وقال الشافعي: لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته، وقد حملت عنه وقر «1» بختي كتباً. وقال إبراهيم الحربي:
قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدّقاق؟ قال: من كتب محمد ابن الحسن. وعن الشافعي قال: ما ناظرت أحداً إلا تغير وجهه ما خلا محمد بن الحسن. وقال أحمد بن محمد بن أبي رجاء: سمعت أبي يقول: رأيت محمد بن الحسن في النوم فقلت: إلام صرت؟ قال: غفرلى؛ قلت: بم؟ قال:
قيل لي: لم نجعل هذا العلم فيك إلا ونحن نغفر لك.
قلت: وقد تقدم في ترجمة الكسائي أنهما ماتا في صحبة الرشيد بقرية رنبويه من الري، فقال الرشيد: دفنت الفقه والعربية بالري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية عبد الله بن محمد على مصر
هو عبد «2» الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو محمد الهاشمي العباسي المعروف بابن زينب، ولاه الرشيد إمرة مصر على الصلاة بعد عزل أحمد بن إسماعيل سنة تسع وثمانين ومائة. ولما ولي مصر أرسل يستخلف(2/131)
على صلاة مصر لهيعة بن موسى «1» الحضرمي، فصلى لهيعة المذكور بالناس إلى أن قدم عبد الله بن محمد المذكور إلى مصر في يوم السبت للنصف من شوال سنة تسع وثمانين ومائة المذكورة؛ وسكن المعسكر على عادة أمراء بني العباس، ثم جعل على شرطته أحمد بن حوىّ «2» العذري مدة، ثم عزله وولى محمد بن عسّامة. ولم تطل مدة عبد الله المذكور على إمرة مصر وعزل بالحسين بن جميل لإحدى عشرة بقيت من شعبان سنة تسعين ومائة. وخرج عبد الله من مصر واستخلف على صلاتها هاشم بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج؛ فكانت مدة ولاية عبد الله هذا على مصر ثمانية أشهر وتسعة عشر يوماً. وتوجه إلى الرشيد فأقره الرشيد من جملة قواده وأرسله على جماعة نجدة لعلي بن عيسى لقتال رافع بن الليث بن نصر بن سيار، وكان رافع ظهر بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند. وكان سبب خروج رافع أن يحيى بن الأشعث تزوج ابنة لعمه أبي النعمان وكانت ذات يسار ولسان، ثم تركها يحيى بن الأشعث بسمرقند وأقام ببغداد واتخذ السراري، فلما طال ذلك عليها أرادت التخلص منه، وبلغ رافعاً خبرها فطمع فيها وفي مالها،؟؟؟ دس إليها من قال لها:
لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قوماً أنها أشركت بالله ثم تتوب فينفسخ نكاحها وتحل للأزواج، ففعلت ذلك فتزوجها رافع. فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فشكا إلى الرشيد، فكتب الرشيد إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما وأن يعاقب رافعاً ويجلده الحد ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار [حتى يكون عظة «3» لغيره] ففعل به ذلك ولم يحدّه، وحبس رافع(2/132)
بسمرقند مدة، ثم هرب من الحبس فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فأراد ضرب عنقه فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمره بالانصراف إلى سمرقند، فرجع إليها ووثب بعامل علي بن عيسى عليها وقتله واستولى على سمرقند واستفحل أمره حتى خرجت إليه العساكر وأخذته وقتل بعد أمور. ولما عاد عبد الله صاحب الترجمة إلى الرشيد سأله في إمرة مصر ثانياً فأبى واستمر عند الرشيد الى أن مات.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 190]
السنة التي حكم فيها عبد الله بن محمد العباسي على مصر وهي سنة تسعين ومائة- فيها افتتح الرشيد مدينة هرقلة «1» وبث جيوشه بأرض الروم وكان في مائة ألف فارس وخمسة وثلاثين ألفاً سوى المطوعة، وجال الأمير داود بن موسى بن عيسى العباسي في أرض الكفر وكان في سبعين ألفاً؛ وكان فتح هرقلة في شوال، وأخربها وسبى أهلها، وكان الحصار ثلاثين يوماً. وفيها افتتح شراحيل بن معن بن زائدة الشيباني حصن الصقالبة بالمغرب. وفيها أسلم الفضل بن سهل المجوسىّ على يد المأمون ابن الرشيد. وفيها بعث نقفور ملك الروم إلى الرشيد بالخراج «2» والجزية. وفيها نقضت أهل قبرس [العهد] ، فغزاهم ابن يحيى وقتل وسبى. وفيها افتتح يزيد بن مخلد الصفصاف «3» وملقونية «4» . وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك في حبس الرشيد، ويحيى هذا هو والد جعفر البرمكي- وقد تقدم ذكر جعفر وقتله في محله من هذا الكتاب-.
وفيها توفى سعدون المجنون، كان صاحب محبة وحال، صام ستين عاماً حتى خفّ(2/133)
دماغه فسماه الناس مجنوناً. قيل: إنه وقف يوماً على حلقة ذي النون [المصري] وهو يعظ الناس فسمع سعدون كلامه، فصرخ وقال:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها مات أسد بن عمرو البجلي الفقيه، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين مقرئ مكة في قول، والحكم بن سنان الباهلي القربىّ «1» ، وشجاع بن أبى نصر البلخىّ المقرئ، وعبد الله بن عمر «2» بن غانم قاضي إفريقية، وأبو علقمة عبد الله بن محمد الفروي «3» المدني، وعبد الحميد بن كعب بن علقمة المصري، وعثمان بن عبد الحميد اللاحقي، وعبيدة بن حميد الكوفي الحذاء «4» ، وعطاء بن مسلم الحلبي الخفاف، وعمر بن علي المقدمي، ومحمد بن بشير المعافري بحلب، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومخلد بن الحسين في رواية، ومسلمة بن علي الخشني «5» ، ويحيى بن أبي زكريا الغساني بواسط، ويحيى بن ميمون البغدادي التمار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية الحسين بن جميل على مصر
هو الحسين بن جميل مولى أبي جعفر المنصور أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل عبد الله بن محمد العباسي عنها على الصلاة في سنة تسعين ومائة، فقدم(2/134)
مصر يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان من السنة المذكورة وسكن المعسكر؛ وجعل على شرطته كاملاً الهنائي ثم معاوية بن صرد، ثم جمع له الرشيد بين الصلاة والخراج في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر رجب سنة إحدى وتسعين ومائة.
ولما ولي الخراج تشدد فيه فخرج عليه أهل الحوف بالشرق من الوجه البحري وامتنعوا من أداء الخراج، وخرج عليهم أبو النداء بأيلة «1» في نحو ألف رجل وقطع الطريق وأخاف السبل، وتوجه من أيلة إلى مدين، وأغار على بعض نواحي قرى الشأم وآنضم إليه من جذام وغيرها جماعة كبيرة وأفسدوا غاية الإفساد، وبلغ أبو النداء المذكور من النهب والقتل مبلغاً عظيماً، حتى بلغ الرشيد أمره، فجهز إليه جيشاً من بغداد لقتاله. ثم بعث الحسين بن جميل هذا من مصر عبد العزيز الجززىّ «2» في عسكر آخر فالتقى عبد العزيز بأبي النداء المذكور بأيلة وقاتله بمن معه حتى هزمه وظفر به.
وعند ما ظفر عبد العزيز بأبي النداء المذكور وصل جيش الخليفة الرشيد إلى بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة، فلما رأى أهل الحوف مسك كبيرهم ومجيء عسكر الخليفة أذعنوا بالطاعة وأدوا الخراج وحملوا ما كان انكسر عليهم بتمامه وكماله.
فلما وقع ذلك عاد عسكر الرشيد إلى بغداد. وأخذ الحسين هذا في إصلاح أمور مصر.
فبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر بمالك بن دلهم وذلك في يوم ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر وأياما.(2/135)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 191]
السنة التي حكم فيها الحسين بن جميل على مصر وهي سنة إحدى وتسعين ومائة- فيها حج بالناس أمير مكة الفضل بن العباس. وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم [بريد «1» ] خراسان. وفيها غزا يزيد بن مخلد الروم في عشرة آلاف مقاتل، فأخذ الروم عليه المضيق، فقتل بقرب طرسوس وقتل معه سبعون رجلاً من المقاتلة ورجع الباقون، فولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين المتقدم ذكره في أمراء مصر في محله، وضم إليه الرشيد ثلاثين ألفاً من جند خراسان، ووجه معه مسروراً الخادم، وإلى مسرور المذكور النفقات في الجيش المذكور وجميع أمور العسكر، خلا الرياسة على الجيش فإن ذلك لهرثمة بن أعين المذكور. وفيها نزل الرشيد بالرقة وأمر بهدم الكنائس التي بالثغور. ثم عزل علي بن عيسى بن ماهان عن إمرة خراسان بهرثمة بن أعين المذكور. وبعد هذه الغزوة لم يكن للمسلمين صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
وفيها توفي عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي (بفتح السين المهملة) أبو عمرو الكوفي، كان محدثاً حافظاً زاهداً ورعاً. قال جعفر البرمكي: ما رأينا مثل ابن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرقة، وحدث المأمون فاعتل قبل خروجه؛ فقلت: يا أبا عمرو، قد أمر لك بخمسين ألف درهم؛ فقال: لا حاجة لي فيها؛ فقلت: هي مائة ألف؛ فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمناً. وفيها توفى مخلد ابن الحسين أبو محمد البصري، كان من أهل البصرة فتحول إلى المصيصة ورابط بها، وكان عالماً زاهداً ورعاً حافظاً للسنة، لا يتكلم فيما لا يعنيه.(2/136)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي خالد بن حيان الرقي الخراز «1» ، وسلمة بن الفضل الأبرش بالري، وعبد الرحمن بن القاسم المصري الفقيه، وعيسى بن يونس في قول خليفة وابن سعد، ومخلد بن الحسين المهلبي بالمصيصة، ومطرف بن مازن قاضى صنعاء، ومعمّر بن سليمان النّخعىّ الرّقّىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية مالك بن دلهم على مصر
هو مالك بن دلهم بن عيسى «2» بن مالك الكلبي أمير مصر، ولاه الرشيد إمرة مصر بعد عزل الحسين بن جميل عنها، ولاه على الصلاة والخراج، فقدم مصر يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين ومائة. ولما دخل مالك هذا إلى مصر وافى خروج يحيى بن معاذ أمير جيش الرشيد الذي كان أرسله نجدة للحسين ابن جميل على قتال أبي النداء الخارجي. وكان يحيى بن معاذ خرج من مصر ثم عاد إليها بعد عزل الحسين بن جميل. ولما دخل يحيى المذكور الفسطاط كتب إلى أهل الأحواف أن اقدموا علي حتى أوصي بكم مالك بن دلهم أمير مصر، وكان مالك المذكور قد نزل بالمعسكر وسكنه على عادة أمراء مصر، فدخل رؤساء اليمانية والقيسية من الحوف، فأغلق عليهم يحيى الأبواب وقبض عليهم وقيدهم وسار بهم، وذلك في نصف شهر رجب من السنة. واستمر مالك بن دلهم على إمرة مصر بعد ذلك مدة، وجعل على شرطته محمد «3» بن توبة بن آدم الأودي من أهل حمص،(2/137)
فاستمر على ذلك إلى أن صرفه الخليفة بالحسن بن البحباح «1» في يوم الأحد لأربع خلون من صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وخمسة أشهر تنقص أياماً لدخوله مصر وتزيد أياماً لولايته ببغداد من الرشيد.
وكان سبب عزله أن الأمين أرسل إليه في أول خلافته بالدعاء على منابر مصر لابنه موسى، واستشاره في خلع أخيه المأمون من ولاية العهد فلم يشر عليه. وكان الذي أشار على الأمين بخلع أخيه المأمون الفضل بن الربيع الحاجب، وكان المأمون يغض من الفضل، فعلم الفضل إن أفضت الخلافة للمأمون وهو حي لم يبق عليه، فأخذ في إغراء الأمين بخلع أخيه المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد، ولم يكن ذلك في عزم الأمين، ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما؛ فرجع الأمين إلى قولهم وأحضر عبد الله بن خازم، فلم يزل في مناظرته إلى «2» الليل، فكان مما قال عبد الله بن خازم: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهد أبيه ونقض ميثاقه! ثم جمع الأمين القواد وعرض عليهم خلع المأمون فأبوا ذلك، وساعده قوم منهم، حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا «3» تجرّئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول والناكث «4» مغلول. فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان وتبسم وقال: لكن شيخ هذه الدعوة وناب «5» هذه الدولة لا يخالف على إمامه «6» ولا يوهن طاعته؛ لأنه هو والفضل ابن الربيع حملاه على خلع المأمون. ثم انبرم الأمر على أن يكتب للعمال بالدعاء لابنه(2/138)
موسى ثم بعد ذلك بخلع المأمون، فكتب بذلك لجميع العمال. فلما بلغ ذلك المأمون أسقط اسم الأمين من الطرز وبدت الوحشة بين الأخوين الخليفة الأمين ثم المأمون، وانقطعت البرد من بينهما، فأخذ الأمين يولي الأمصار من يثق به، فعزل مالكاً هذا عن مصر وولى عليها الحسن، كما سيأتي ذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 192]
السنة التي حكم فيها مالك بن دلهم على مصر وهي سنة اثنتين وتسعين ومائة- فيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد ومعه أبو النداء أسيراً فقتله. وفيها قتل الرشيد هيصماً اليماني «1» وكان قد خرج عليه. وفيها تحركت الخرمية «2» ببلاد أذربيجان، فسار إلى حربهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وعاد منصوراً. وفيها توفي إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن [أبي «3» ] وداعة أبو القاسم المكي، كان قد قرأ القرآن وسمع الحديث، ثم غلب عليه الغناء حتى فاق فيه أهل زمانه، وأخذ عن زلزل المغني وغيره. وفيها توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن، أبو محمد الأودي، مولده سنة خمس عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين ومائة، وتوفي بالكوفة في عشر ذي الحجة. وكان ثقة إماماً زاهداً ورعاً حجة كثير الحديث صاحب سنة وجماعة، كان لا يستقضى أحداً يسمع عليه الحديث حاجة. وفيها توفي علي بن ظبيان أبو الحسن العبسي الكوفي، كان إماماً عالماً جليلاً نبيلاً متواضعاً زاهداً عارفا(2/139)
بالفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، تقلد قضاء القضاة عن الرشيد. وفيها «1» توفي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي في حبس الرشيد، كان قد حبسه الرشيد هو وأباه بعد قتل أخيه جعفر، فحبسا إلى أن مات أبوه يحيى، ثم مات الفضل هذا بعده وكلاهما في حبس الرشيد. وكان الفضل هذا متكبراً جداً عسر الخلق إلا أنه كان أجود من أخيه جعفر وأندى راحة؛ ومولده في ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائة، وكان أسن من هارون الرشيد بنحو شهر، لأن مولد الرشيد في أول يوم من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، فأرضعت الخيزران أم الرشيد الفضل وأرضعت أم الفضل الرشيد أياماً، وأم الفضل هي زبيدة بنت منير بن يزيد من مولدات المدينة. ولما مات الفضل حزن الناس عليه وعلى أبيه وأخيه جعفر من قبله، وفيه يقول بعضهم:
يا بني برمك واهاً لكم ... ولأيامكم المقتبله
كانت الدنيا عروساً بكم ... وهي اليوم ملول أرمله
وفيها توفي القاضي أبو يعقوب يوسف بن القاضي أبي يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة، كان ولي القضاء في حياة أبيه وكان إماماً عالماً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم، قال: وفيها توفي صعصعة بن سلام خطيب قرطبة، وعبد الله بن إدريس الأودي، ويحيى بن كريب الرعيني المصري، ويوسف ابن القاضي أبي يوسف، وعرعرة بن البرند «2» السامي البصري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.(2/140)
ذكر ولاية الحسن بن البحباح «1» على مصر
هو الحسن بن البحباح أمير مصر، وليها بعد عزل مالك بن دلهم عنها في صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولما ولاه الرشيد على إمرة مصر جمع له بين الصلاة والخراج، فأرسل الحسن هذا يستخلف على صلاة مصر العلاء بن عاصم الخولاني حتى قدم مصر يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل من السنة، وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن خالد «2» مدة، ثم عزله بصالح بن عبد الكريم ثم عزل صالح المذكور بسليمان بن غالب بن جبريل، واستمر الحسن هذا على إمرة مصر إلى أن توفي الخليفة هارون الرشيد في جمادى الآخرة من السنة وولي الخلافة ابنه الأمين محمد بن زبيدة، فثار جند مصر على الحسن هذا وقاتلوه، فقتل من «3» الفريقين مقتلة عظيمة حتى سكن الأمر، وجمع مال الخراج بمصر وأرسله إلى الخليفة.
فوثب أهل الرملة «4» على أصحاب المال وأخذوا المال منهم. وبينما الحسن في ذلك ورد عليه الخبر بعزله عن مصر بحاتم بن هرثمة، فخرج من مصر بعد أن استخلف عوف ابن وهيب «5» على الصلاة، ومحمد بن زياد على الخراج، وسافر من طريق الحجاز لفساد طريق الشأم. وكان خروجه من مصر لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهرا وثمانية وعشرين يوما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 193]
السنة التي حكم فيها الحسن بن البحباح على مصر وهي سنة ثلاث وتسعين ومائة- فيها وافى الرشيد جرجان، فأتته بها خزائن علي بن عيسى على ألف(2/141)
وخمسمائة بعير، ثم رحل الرشيد منها في صفر وهو عليل إلى طوس فلم يزل بها إلى أن مات في ثالث جمادى الآخرة. وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع بن الليث فانتصر هرثمة وأسر أخا رافع وملك بخارا وقدم بأخي رافع إلى الرشيد فسبه ودعا بقصاب وقال: فصل أعضاءه، ففصله. وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع الحكيم غلط في مداواة الرشيد في علته التي مات فيها فهم الرشيد بأن يفصله كما فعل بأخي رافع ودعا به؛ فقال جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين فإنك تصبح في عافية فأنظره فمات الرشيد في ذلك اليوم. وفيها قتل نقفور ملك الروم في حرب برجان «1» ، وكان له في المملكة تسع «2» سنين، وملك بعده ابنه استبراق شهرين وهلك فملك ميخائيل بن جورجس زوج أخته. وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الرشيد بن الخليفة محمد المهدىّ بن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، العباسي الهاشمي البغدادي وهو الخامس من خلفاء بني العباس وأجلهم وأعظمهم، نال في الخلافة ما لم ينله خليفة قبله، استخلف بعهد من أبيه المهدي بعد وفاة أخيه موسى الهادي، فإن أباه المهدي كان جعله ولي عهده بعد أخيه الهادي، فلما مات الهادي حسبما تقدم ذكره ولي الرشيد بالعهد السابق من أبيه، وذلك في سنة سبعين ومائة، ومولده بالري لما كان أبوه أميراً عليها في أول يوم من محرم سنة ثمان وأربعين ومائة، ومات في ثالث جمادى الآخرة بطوس، وصلى عليه ابنه صالح ودفن بطوس؛ وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهي أم أخيه الهادي أيضاً.(2/142)
قال عبد الرزاق بن همام: كنت مع الفضيل بن عياض بمكة فمر هارون الرشيد، فقال الفضيل: الناس يكرهون هذا وما في الأرض أعز علي منه، لو مات لرأيت أموراً عظاماً. وقال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلىّ، وزوجته زبيدة بنت عمه جعفر اهـ. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين ونصفاً، وتولى الخلافة من بعده ابنه محمد الأمين بن زبيدة. ومات الرشيد وله خمس وأربعون سنة. وفيها نوفّى صالح [بن عمرو «1» ] بن محمد بن حبيب بن حسان، الحافظ أبو علي البغدادي مولى أسد بن خزيمة المعروف بجزرة (بجيم وزاي معجمة وراء مهملة) ، لقب بجزرة لأنه قرأ على بعض مشايخ الشأم: «كان لأبي أمامة جزرة يرقي بها المرضى» ، فصحف خرزة جزرة فسمي بذلك «2» ؛ وكان إماماً عالماً حافظاً ثقة صدوقاً. وفيها توفي غندر «3» واسمه محمد أبو عبد الله البصري الحافظ، سمع الكثير وروى عنه خلائق، وكان فيه سلامة باطن. قال ابن معين: اشترى غندر سمكاً وقال لأهله: أصلحوه، فأصلحوه وهو نائم وأكلوا ولطخوا يده وفمه؛ فلما انتبه قال: قدموا السمك، فقالوا: قد أكلت، فقال: لا، قالوا: فشم يدك، ففعل فقال: صدقتم، ولكني ما شبعت.(2/143)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسماعيل «1» بن علية أبو بشر البصري، والعباس بن الأحنف الشاعر المشهور، والعباس بن الحسن العلوي، والعباس بن الفضل بن الربيع الحاجب، وعبد الله بن كليب المرادىّ بمصر، وعون بن عبد الله المسعودي، ومحمد بن جعفر البصري، ومروان بن معاوية الفزاري نزيل دمشق، وأبو بكر بن عيّاش المقرئ بالكوفة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية حاتم بن هرثمة على مصر
هو حاتم بن هرثمة بن أعين أمير مصر، وليها بعد عزل الحسن بن البحباح عنها، ولاه الخليفة الأمين محمد على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج؛ وسار من بغداد حتى قدم بلبيس في عساكره ونزل بها، وطلب أهل الأحواف فجاءوه وصالحوه على خراجهم، ثم انتقض ذلك وثاروا عليه واجتمعوا على قتاله وعسكروا؛ فبعث إليهم حاتم المذكور جيشاً فقاتلوهم وكسروهم ثم سار حاتم من بلبيس حتى دخل مصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ومعه نحو مائة من الرهائن من أهل الحوف.
وسكن حاتم المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطه ابنه، ثم عزله بعلي بن المثنى، ثم عزل علياً أيضاً بعبيد الله الطرسوسي. واستمر على إمرة مصر ومهد أمورها وابتنى بها القبّة المعروفة بقبّة الهواء. ودام على ذلك حتى ورد عليه الخبر من الخليفة(2/144)
الأمين محمد بعزله عن إمرة مصر في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة.
وتولى مصر بعده جابر بن الأشعث. فكانت ولاية حاتم هذا على إمرة مصر سنة واحدة ونصف سنة تنقص أياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 194]
السنة التى حكم فيها حاتم بن هرثمة على مصر وهي سنة أربع وتسعين ومائة- فيها أمر الخليفة الأمين بالدعاء لابنه موسى على المنابر بعد ذكر المأمون والقاسم، فتنكر كل واحد من الأمين والمأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما وهذا أول الشر والفتنة بين الأخوين. ثم أرسل الأمين في أثناء السنة إلى المأمون يسأله أن يقدم ولد الأمين موسى المذكور على نفسه ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ فقويت الوحشة بينهما أكثر، ووقع أمور يأتي ذكر بعضها. ثم عزل الأمين أخاه القاسم عن الثغور والعواصم وولى عوضه خزيمة بن خازم، واستدعى القاسم إلى بغداد وأمره بالمقام عنده. وفيها ثار أهل حمص بعاملهم إسحاق بن سليمان فنزح إلى سلمية «1» فولى عليهم الأمين عبد الله بن سعيد الحرشي؛ فحبس عدة من وجوههم، وقتل عدّة وضرب النار في نواحي حمص؛ فسألوه الأمان فأمّنهم فسكنوا ثم هاجوا فقتل طائفة منهم. وفيها في شهر ربيع الأول بايع الأمين بولاية العهد لابنه موسى ولقبه بالناطق بالحق، وجعل وزيره علي بن عيسى بن ماهان. وكان المأمون لما بلغه عزل القاسم عن الثغور قطع البريد «2» عن الأمين وأسقطه اسمه من(2/145)
الطرز والسكة «1» . وفيها وثب الروم على ملكهم ميخائيل فهرب وترهب، وكان ملك سنتين، فملكوا عليهم ليون القائد. وفيها توفي حفص بن غياث بن طلق أبو «2» عمر النخعي الكوفي قاضي بغداد بالوجه الشرقي، ولي القضاء مدة طويلة وحسنت سيرته إلى أن مات قاضياً في ذي الحجة، وكان ثقة ثبتاً مأموناً إلا أنه كان يدلس.
وفيها توفي أبو نصر الجهني المصاب من أهل المدينة. قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك: كان يجلس مكان أهل الصفة من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلم أحداً، فإذا سئل عن شيء أجاب بجواب حسن، ووقع له مع الرشيد أمور ودفع إليه أموالاً فلم يقبلها.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي سالم بن سالم البلخي العابد ضعيف، وسويد بن عبد العزيز قاضي بعلبك، وشقيق بن إبراهيم البلخي الزاهد، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبيد الله بن المهدي محمد بن المنصور، وأبو عبد الله محمد بن حرب الخولاني «3» الأبرش، ومحمد بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي، ومحمد بن أبي عدي، ويحيى بن سعيد بن أبان الأموي، والقاسم بن يزيد الجرمي «4» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.(2/146)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 195]
السنة الثانية من ولاية حاتم بن هرثمة على مصر وهي سنة خمس وتسعين ومائة، وهي التي عزل فيها حاتم بن هرثمة المذكور- فيها لما تحقق المأمون خلعه من ولاية العهد تسمى بإمام المؤمنين. وفيها قال بعض الشعراء فيما جرى من ولاية العهد لموسى بن الأمين وهو طفل، وكان ذلك برأى الفضل وبكر بن المعتمر:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
في أبيات كثيرة. وفيها فى شهر ربيع الآخر عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان على بلاد الجبال: همذان ونهاوند وقم وأصبهان، وأمر له بمائتي ألف دينار وأعطى لجنده مالاً عظيماً. وخرج علي بن عيسى المذكور في نصف جمادى الآخرة من بغداد، وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون. ووقع لعلي هذا مع جيش المأمون أمور يطول شرحها. وفيها ظهر السفياني «1» بدمشق وبويع بالخلافة، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، في ذي الحجة؛ وكنيته «2» أبو الحسن، وطرد عامل الأمين عن دمشق، وهو سليمان بن أبي جعفر بعد أن حصره السفياني بدمشق مدة ثم أفلت منه. وخالد بن يزيد جدّ السفياني هذا هو الذي وضع حديث السفياني في الأصل، فإنه ليس بحديث، غير أن خالداً لما سمع حديث المهدي من أولاد علي في آخر الزمان أحب أن يكون من بني سفيان من يظهر(2/147)
في آخر الزمان، فوضع حديث السفياني؛ فمشى ذلك على بعض العوام انتهى. وفيها توفي إسحاق بن يوسف بن «1» محمد، أبو محمد الأزرق الواسطي، كان من الفقهاء الثقات الصالحين المحدثين، أقام عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله، ومات بواسط. وفيها توفي بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، كان من أشراف قريش، وكان معظما عند الرشيد، ولاه إمرة المدينة فأقام عليها اثنتي عشرة سنة، وكان جواداً ممدحاً نبيلاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي بشر بن السري الواعظ بمكة، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي الكوفي، وعبيد الله بن المهدي أمير مصر وقد تقدم ذكره. وفيها في قول عثام بن علي الكوفي، وقيل سنة أربع، ومحمد بن الفضيل الضبي الكوفي، والوليد بن مسلم في أولها، ويحيى بن سليم الطائفي بمكة، وأبو معاوية الضّرير محمد بن خارم «2» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وإحدى وعشرون إصبعاً ونصف إصبع.
ذكر ولاية جابر بن الأشعث على مصر
هو جابر بن الأشعث بن يحيى بن النقي «3» الطائي أمير مصر، وليها بعد عزل حاتم بن هرثمة عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. ولاه الأمين على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج. وقدم مصر يوم الاثنين لخمس بقين من(2/148)
جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة الأمراء؛ واستخلف على صلاة مصر يحيى بن يزيد المرادي وكان ليناً. ولما دخل مصر وأقام بها وقعت الفتنة في العراق بين الأخوين الأمين والمأمون أولاد الرشيد، وكانت الوقعة بين جيش الأمين وعسكر المأمون، وكان على جيش الأمين علي بن عيسى بن ماهان في عسكر كثيف، وكان على عسكر المأمون طاهر بن الحسين، وهو في أقل من أربعة آلاف؛ فلما وصل ابن ماهان بعساكره إلى الري أشرف عليه طاهر بن الحسين المذكور وهم يلبسون السلاح وقد امتلأت بهم الصحراء وعليهم السلاح المذهّب؛ فقال طاهر ابن الحسين: هذا ما لا قبل لنا به ولكن نجعلها خارجية ونقصد «1» القلب؛ فهيأ سبعمائة من الخوارزمية. قال أحمد بن هشام الأمير: فقلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا، وبيعة الرشيد للمأمون؟ قال: نعم، فعلقناهما على رمحين وقمت بين الصّفّين وقلت: الأمان، ثم قلت: يا علي بن عيسى ألا تتقي الله، أليست هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك! قال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام، فصاح: علىّ يأهل خراسان من جاء به فله ألف درهم، ثم وقع القتال وانهزم علي بن عيسى بن ماهان وأصحابه فتبعهم طاهر بمن معه فرسخين بعد أن تواقعوا اثنتي عشرة مرة؛ وعسكر المأمون ينتصر فيها حتى لحقهم طاهر بن التاجي ومعه رأس علي بن عيسى بن ماهان، وأخذوا جميع ما كان في عسكره؛ فأرسل طاهر بن الحسين الرأس إلى المأمون. فلما وصل إليه البريد بالرأس سلم عليه بالخلافة وطيف بالرأس في خراسان، ومن يومئذ استفحل أمر المأمون وقوي جأشه. وجاء الخبر بقتل علي بن عيسى بن ماهان إلى الأمين وهو يتصيد السمك، فقال للذي أخبره: ويحك! دعني فإن كوثراً قد صاد سمكتين(2/149)
وأنا ما صدت شيئاً بعد، فلامه الناس حتى قام من مجلسه؛ ثم جهز لحرب طاهر ابن الحسين عبد الرحمن بن جبلة الأنباري أمير الدينور بالعدة والقوة، فسار حتى نزل همذان. هذا وقد اضطرب ملك الأمين وأرجف ببغداد إرجافاً شديداً وندم محمد الأمين على خلع أخيه المأمون؛ وطمع «1» الأمراء فيه وشغبوا جندهم بطلب أرزاقهم وازدحموا بالجسر يطلبون الأرزاق والجوائز، فقاتلهم حواشي الأمين ثم عجز عنهم فزاد في عطاياهم.
ولما خرج عسكر الأمين ثانياً مع عبد الرحمن ووصل إلى همذان التقى مع طاهر وقاتله قتالاً شديداً ثم تقهقر ودخل مدينة همذان وتفرق عنه أكثر أصحابه فحصره طاهر بهمذان حتى طلب منه عبد الرحمن الأمان، ثم غدر عبد الرحمن وقاتل طاهراً ثانياً حتى قتل، وملك طاهر بن الحسين البلاد ودعا للمأمون وخلع الأمين. كل ذلك والأمين ببغداد لم يخرج منها حتى وافاه طاهر المذكور وقتله على ما سيأتي في ترجمة الأمين إن شاء الله تعالى. ولما ملك طاهر البلاد واستفحل أمره وبلغ المصريين ذلك وثب السري بن الحكم ومعه جماعة كبيرة من المصريّين عصبة للمأمون ودعا السري الناس لخلع الأمين فأجابوه وبايعوا المأمون؛ فقام جابر في أمر الأمين فقاتله السري بن الحكم المذكور حتى هزمه وأخرجه من مصر على أقبح وجه. فخرج جابر المذكور من مصر لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة تقريباً.
وولي مصر بعده أبو نصر عباد بن محمد بن حيّان «2» من قبل المأمون.(2/150)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 196]
السنة التي حكم فيها جابر على مصر وهي سنة ست وتسعين ومائة- فيها وقع بين عسكر الأمين والمأمون وقائع يطول شرحها. وفيها رفع المأمون منزلة الفضل ابن سهل وعقد له على الشرق طولاً وعرضاً وجعل عمالته «1» ثلاثة آلاف ألف درهم وكتب على سيفه «ذا الرياستين» من جانب رياسة الحرب ومن جانب رياسة القلم والتدبير؛ فقام الفضل بأمر المأمون كما يجب. وولى المأمون أيضا أخاه الحسن ابن سهل دواوين الخراج. كل ذلك والأمين ببغداد في قيد الحياة وفي تعبئة العساكر لقتال المأمون غير أنه ضعف أمره إلى الغاية. وفيها ولى الأمين محمد عبد الملك بن صالح الجزيرة والشام. وفيها خلع الأمين وبويع المأمون ببغداد ثم أعيد الأمين.
وسبب ذلك أنه لما مات عبد الملك بن صالح العباسىّ بالرقّة قام الحسين بن علىّ ابن عيسى بن ماهان فجمع الناس واستقل بالأمر بعد عبد الملك بن صالح، ونفق «2» في العساكر لأجل الأمين، ثم سار بهم إلى بغداد فاستقبله الأشراف والقواد وضربت له القباب ودخل بغداد في شهر رجب؛ فلما كان الليل بعث الأمين [فى] طلبه؛ فأعلظ الحسين لرسول الأمين وقال: لا أنا مغن ولا مسامر ولا مضحك حتى يطلبني في هذه الساعة! وأصبح فخلع الأمين ودعا للمأمون، فوقع بسبب ذلك أمور وحروب بينه وبين حواشي الأمين إلى أن ظفر به الأمين ثم أطلقه ورضي عنه، وأعيد الأمين للخلافة. ووقع للأمين مثل هذه الحكاية في هذه السنة غير مرة. وفيها وقع بين طاهر(2/151)
ابن الحسين وبين جيش الأمين وقعة عظيمة قتل فيها محمد بن يزيد بن حاتم المهلبي.
وطاهر من جهة المأمون وابن يزيد من جهة الأمين. وفيها توفي عبد الله بن مرزوق، أبو محمد الزاهد البغدادي، كان وزير الرشيد فخرج من ذلك وتخلى عن ماله وتزهّد رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو معاوية محمد بن خازم الضرير «1» الكوفي، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وذهب بصره وله أربع سنين. وهذا غير أبي معاوية الأسود، فإن الأسود اسمه اليمان. نزل أبو معاوية هذا طرسوس وصحب الثوري وغيره.
وفيها توفي أبو الشيص محمد بن رزين، كان شاعراً فصيحاً. قال أبو بكر الأنباري:
اجتمع أبو الشيص ودعبل وأبو نواس ومسلم بن الوليد وتناشدوا الأشعار في عصر «2» واحد.
وحكي أن القاضي الوجيه أبا الحسن علي بن يحيى الذروي «3» دخل الحمام وكان ابن رزين هذا في الحمام، فأنشد ابن رزين بحضرة القاضى المذكور لنفسه:
لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جاري
كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار «4»
فلما سمعه القاضي المذكور ضحك، ثم أنشد لنفسه فى واقعة الحال:
وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء
أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء(2/152)
ثم أنشد القاضي أيضاً ينعت الحمام بقوله:
إن عيش الحمام أطيب عيش ... غير أن المقام فيه قليل
جنة تكره الإقامة فيها ... وحجيم يطيب فيه الدخول
فكأن الغريق فيها كليم ... وكأن الحريق فيه خليل
وفيها توفي وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي الأعور، كان إماماً محدثاً ثقة حافظا كثيرا الحديث؛ ومولده سنة تسع وعشرين ومائة وقيل سنة ثمان وعشرين ومائة. (ورؤاس بطن من قيس عيلان) وأصله من خراسان، وسمع من الأعمش وهشام بن عروة وغيرهما.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع! كان حافظاً يحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم ويفتي بقول أبي حنيفة؛ ويحيى [بن سعيد «1» ] القطان كان يفتي بقول أبي حنيفة أيضاً.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عباد بن محمد على مصر
هو عباد بن محمد بن حيان البلخي، مولى كندة الأمير أبو نصر. ولاه المأمون على إمرة مصر بعد عزل جابر بن الأشعث عنها في شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة.
بكتاب هرثمة بن أعين، وكان عباد هذا وكيلاً على ضياع هرثمة بمصر. فسكن عبّاد(2/153)
المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطته هبيرة بن هاشم بن حديج، ولما بلغ الأمين ولاية عباد هذا على مصر كتب الى ربيعة بن قيس رئيس قيس الحوف بولاية مصر، وكتب أيضاً إلى جماعة من المصريين بإعانته؛ فلما بلغهم ذلك قاموا ببيعة الأمين وخلعوا المأمون وساروا لمحاربة عباد أمير مصر وأصحابه، فخندق عباد على الفسطاط «1» ؛ وكانت بينهم حروب ووقائع آخرها الوقعة التي مسك فيها عباد وحمل إلى الأمين فقتله الأمين في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر. وتولى مصر من بعده المطلب بن عبد الله. وكان عباد هذا من أعيان القواد، قدمه هرثمة بن أعين حتى ولاه المأمون مصر، وكان فيه رفق بالرعية وعنده سياسة ومعرفة بالحروب. دخل مصر وغالب من بها ميله إلى الأمين فلا زال بهم حتى وافقه كثير منهم، وكاد أمره يتم لولا انتقاض أهل الحوف عليه وكثر جمعهم ووثبوا عليه، فجمع عباد عساكره وقاتلهم [من] عدة وجوه وهو في قلة إلى أن ظفروا به فلم يبق عليه الأمين وقال: هذا ناب من أنياب عساكر المأمون. ومع هذا كله ملكها المأمون وولى المأمون بها المطلب، ولم يقدر الأمين على أن يولي بها أحداً، وقتل بعد مدة يسيرة وتولّى المأمون الخلافة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 197]
السنة التي حكم فيها عباد على مصر وهي سنة سبع وتسعين ومائة- فيها لحق القاسم الملقب بالمؤتمن بن الرشيد بأخيه المأمون، ومحبه عمه المنصور بن المهدي.
وفيها كانت وقائع بين عساكر الأمين والمأمون أسر في بعضها هرثمة بن أعين فحمل بعض أصحاب هرثمة على من أسره وضربه فقطع يده وخلص هرثمة هذا والحصار(2/154)
عال «1» في بغداد في كل يوم نحو خمسة عشر شهراً، وكان المحاصر لها طاهر بن الحسين مقدم عساكر المأمون، والمأمون بالري، ومع طاهر بن الحسين الأمير هرثمة بن أعين وزهير بن المسيب. هذا والأمين ينفق الأموال على الجند وهو في غاية من الضيق والشدة، وقتل جماعة كبيرة من أهل بغداد، وخرج النساء من الخدور حاسرات، واشتدت شوكة المأمونية، وتفرق عن الأمين عساكره وأخذ أمره في إدبار إلى ما سيأتي ذكره. وفيها توفي بقية بن الوليد بن صاعد «2» بن كعب، أبو يحمد «3» الكلاعي «4» ، كان من أهل الشام، وكان ثقة في روايته عن الثقات ضعيفاً في غيرهم، مولده سنة عشر ومائة.
وفيها توفي شعيب بن حرب أبو صالح المدائني الزاهد، كان أصله من أبناء خراسان ثم من أهل بغداد فتحول إلى المدائن ثم إلى مكة ودام بها إلى أن مات. وكان له فضل ودين متين وزهد وورع. وفيها توفي عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد مولى قريش من أهل مصر؛ كان كثير العلم ثقة ولد سنة خمس وعشرين ومائة. وفيها توفي ورش المقرئ واسمه عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان. وقيل عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان بن داود بن سابق القبطي المصري، إمام القراء أبو سعيد ويقال: أبو عمرو ويقال: أبو القاسم. أصله من القيروان، وشيخه نافع وهو الذي لقبه ورشاً لشدة بياضه. والورش: شيء يصنع من اللبن، وقيل: بل لقبه ورشان، وهو طائر معروف، فكان يعجبه هذا اللقب ويقول: أستاذي نافع سماني به. وانتهت إليه رياسة القراء بالديار المصرية، وكان بصيراً بالعربية، وكان أبيض(2/155)
أشقر أزرق سميناً مربوعاً ويلبس ثياباً قصاراً ومولده سنة عشر ومائة. وفيها توفي «1» أبو نواس الحسن بن هانئ، وقيل: الحسن بن وهب «2» ، الحكمي «3» الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء في زمانه، كان إماماً عالماً فاضلاً غلب عليه الشعر؛ قال شيخه أبو عبيدة: أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين. ولقب بأبي نواس لذؤابتين كانتا تنوسان «4» على قفاه، وإنما كان لقبه أولاً أبا علي. وفي سنة وفاته اختلاف كبير، فأقرب من قال في هذه السنة، وأبعد من قال سنة خمس ومائتين؛ وأما شعره فكثير مشهور ونوادره فكثيرة أيضاً، وديوان شعره كبير بأيدي الناس في عدة مجلدات.
ومن أجود ما قال من الشعر قوله:
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل شيء رآه ظنه قدحا ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
وله:
أذكى سراجاً وساقي الشر، يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح
كدنا على علمنا والشك نسأله ... أراحنا نارنا أم نارنا راح
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.(2/156)
ذكر ولاية المطلب بن عبد الله الأولى على مصر
هو المطلب بن عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي أمير مصر. ولاه المأمون على مصر بعد عزل عباد بن محمد عنها والقبض عليه في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وجمع له صلاة مصر وخراجها معاً. وقدم إلى مصر من مكة في النصف من شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائة، وسكن المعسكر، وأقرّ على شرطته هبيرة ابن هاشم مدة قليلة، ثم عزله بمحمد بن عسامة، ثم عزل محمداً بعبد العزيز بن الوزير الجروي، ثم عزل عبد العزيز بإبراهيم بن عبد السلام الخراعىّ، ثم عزله بهبيرة ابن هاشم المذكور أولاً. كل ذلك لما كان في أيامه من كثرة الاضطراب بمصر، والفتن والحروب قائمة في كل قليل بديار مصر؛ فإن أهل مصر كانوا يوم ذاك فرقتين: فرقة من حزب الأمين محمد الخليفة، وفرقة من حزب أخيه المأمون.
فقاسى المطلب هذا بمصر شدائد مع أنه لم تطل مدته وعزل بالعباس بن موسى في شوال سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت ولايته على إمرة مصر نحواً من سبعة أشهر ونصف شهر، وقبض عليه وحبس مدة طويلة بإذن المأمون. وتأتي بقية ترجمته في ولايته الثانية على مصر بعد خروجه من السجن عند عزل الأمير العباس بن موسى عن مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 198]
السنة التي حكم فيها المطلب بن عبد الله على مصر وهي سنة ثمان وتسعين ومائة- فيها كان حصار الأمين ببغداد إلى أن ظفر به وقتل في المحرم صبراً وله عشرون سنة، وعلقت رأسه وطيف بها. وفيها ولى الخلافة المأمون ابن هارون الرشيد عوضاً عن أخيه محمد الأمين، وكانت كنيته أبا العباس؛ فلما(2/157)
ولي الخلافة كني بأبي جعفر على كنية جد أبيه. وفيها في رمضان ثار أهل قرطبة بالأمير الحكم بن هشام الأموي وحاربوه لجوره وفسقه وأحاطوا بالقصر، وأشتد القتال وعظم الخطب واستظهروا عليه؛ فأمر الحكم أمراءه فحملوا عليهم وقاتلوهم حتى هزموهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب من وجوه القوم ثلثمائة على النهر منكسين؛ وبقي القتل والنهب والتحريق في قرطبة ثلاثة أيام، ثم أمنهم فهج «1» أهل قرطبة إلى البلاد. وفيها توفي سفيان بن عيينة بن أبي عمران، وأسم أبي عمران ميمون مولى محمد «2» بن مزاحم الهلالي أخى الضحاك المفسّر، كنيته- أعني سفيان- أبو محمد الكوفي ثم المكي، الإمام شيخ الإسلام، مولده سنة سبع ومائة في نصف شعبان، كان إماماً ثقة حجة عالماً صالحاً.
قال الحسين بن عمران بن عيينة: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة. فلما كنا بجمع- يعني المزدلفة- استلقى على فراشه ثم قال: قد وافيت هذا الموضع سبعين عاماً أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في العام في شهر رجب. وكان سفيان يقول: لا يمنع أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله قد استجاب دعاء شر الخلق وهو إبليس قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
. وكان أيضاً يقول: يستحب للرجل أن يقول في دعائه: اللهم استرني بسترك الجميل، ومعنى الستر الجميل أن يستر على عباده في الدنيا والأخرة.(2/158)
وقال غيره: إن الرجل ليحدث الذنب فلا يزال نادماً حتى يموت فيدخل الجنة فيقول إبليس: يا ليتني لم أوقعه فيه. وفيها توفي عبد الرحمن بن مهدي بن حسان، أبو سعيد العنبري البصري اللؤلؤي الإمام الحافظ، كان ثقة كثير الحديث من كبار العلماء الحفاظ؛ ولد سنة خمس وثلاثين ومائة وسمع الكثير. قال اسماعيل القاضى:
سمعت ابن المدينىّ يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي.
قال أحمد بن سنان: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه ولا يبرى قلم ولا يقوم أحد قائماً، كأنّ على رءوسهم الطير وكأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم يتبسم أو تحدث لبس نعله وخرج. وفيها توفي علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان، الأموي الهاشمي أبو الحسن المدعو بالسفياني المتغلب على دمشق، وكان يلقب بأبي العميطر لأنه قال لأصحابه يوماًَ: إيش لقب الجرذون؟ فقالوا: لا ندري، فقال: أبو العميطر، فلقب به. ولما خرج بدمشق ودعا لنفسه وتسمى بالسفياني كان ابن تسعين سنة، وبايعه أهل دمشق بالخلافة سنة خمس وتسعين ومائة، واشتغل عنه الخليفة الأمين بحرب أخيه المأمون؛ فانتهز السفياني هذه الفرصة وملك دمشق، حتى قاتله أعوان الخليفة وهزموه، فاختفى بالمزة وأقام بها أياماً ومات. وقد تقدم في سنة خروجه أن حديث السفياني موضوع وضعه خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان جدّ علىّ هذا. اهـ. وفيها كانت قتلة الخليفة أمير المؤمنين الأمين محمد، وكنيته أبو عبد الله. وقيل أبو موسى، ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي البغدادي.
وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور. قيل: إنه لم يل الخلافة بعد علىّ ابن أبى طالب والحسن ولده رضي الله عنهما ابن هاشمية غير الأمين هذا. وقد(2/159)
تقدم ذكر ما وقع له مع أعوان أخيه المأمون من الحروب إلى أن حاصره طاهر بن الحسين ببغداد نحو خمسة عشر شهراً حتى ظفر به وقتله صبراً في المحرم من هذه السنة، وطيف برأسه. وقتل الأمين وله عشرون «1» سنة. وكان أخوه المأمون أسن منه بشهر واحد. وكان الأمين من أحسن الشباب صورة: كان أبيض طويلاً جميلاً ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة وفصاحة وأدب وفضيلة وبلاغة، لكنه كان سيىء التدبير ضعيف الرأى أرعن مبدّرا للاموال لا يصلح للخلافة؛ وكان مدمناً للخمر، منادماً للفساق والمغاني والمساخر، واشترى عريب «2» المغنية بمائة ألف دينار، واحتجب عن إخوانه وأهل بيته؛ وقسّم الأموال والجواهر في النساء والخصيان.
ومحبته لخادمه كوثر مشهورة، منها: أنه لما كان في الحصار خرج كوثر المذكور ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجلس يبكي، وجعل الأمين هذا يمسح الدم «3» عن وجهه، ثم أنشد:
ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناس أحرقوه(2/160)
ولم يقدر على الزيادة، فأحضر عبد الله بن أيوب التيمي الشاعر، فقال له: قل عليهما، فقال:
ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه
فقال الأمين: أحسنت! بحياتي يا عباس انظر، إن كان جاء على ظهر فأوقره «1» له، وإن كان جاء في زورق فأوقره؛ قال: فأوقروا له ثلاثة أبغل دراهم.
قلت: وحكايات الأمين كثيرة، وجنونه وكرمه أشهر من أن يذكر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
ذكر ولاية العباس بن موسى على مصر
هو العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، ولي مصر بعد عزل المطلب عنها في شوال سنة ثمان وتسعين ومائة، ولاه المأمون على الصلاة والخراج، ولما ولي مصر قدم ابنه عبد الله أمامه إلى مصر خليفة له عليها؛ فقدم عبد الله إلى مصر ومعه الحسن بن عبيد بن لوط الأنصاري، ومحمد بن إدريس- أعني الإمام الشافعي- رحمه الله لليلتين بقيتا من شوال من السنة المذكورة. ولما دخل عبد الله المذكور والحسن ابن عبيد سجنا المطلب المعزول عن إمرة مصر قبل تاريخه. وسكن عبد الله المعسكر(2/161)
على العادة، وتشدد على أهل مصر فبغضوه وثاروا عليه، ووافقهم جند مصر؛ فقاتلهم عبد الله المذكور غير مرة، ومنعهم الحسن بن عبيد أعطياتهم وتهددهم لموافقتهم على حرب عبد الله. ثم تحامل الحسن المذكور على الرعية وعسفها وتهدد الجميع؛ فاجتمع الجميع وثاروا ووقفوا جملة واحدة؛ فخرج إليهم عبد الله وقاتلهم، فهزموه وأخرجوه من مصر؛ ثم عمدوا إلى المطلب بن عبد الله وأخرجوه من حبسه وأقاموه على إمرة مصر لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة تسع وتسعين ومائة. ولما بلغ العباس صاحب الترجمة ما وقع لابنه عبد الله بمصر قصد الديار المصرية حتى نزل بلبيس ودعا قيساً لنصرته ومضى إلى الحوف، ثم عاد مريضاً إلى بلبيس فمات به لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين ومائة. يقال: أن المطلب دس عليه سماً في طعامه فمات منه. وأما ابنه عبد الله فقال صاحب البغية:
قتله الجند في يوم النحر سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت مدة إقامته خليفة عن أبيه شهرين ونصف شهر.
قلت: وأما ولاية العباس على مصر أيام ناب عنه ابنه وزمان قتاله مع أهل مصر فكانت كلها حروباً وفتناً. ولعل العباس لم يدخل مصر ولا حكمها اهـ.
ذكر ولاية المطلب الثانية على مصر
قد تقدم ذكره في ولايته الأولى على مصر، وأما ولايته هذه فكانت بعد خروجه من السجن، لأنه لما قامت جند مصر والرعية على عبد الله بن العباس والحسن بن عبيد وأخرجوهما من مصر، وقيل بل قتلوا عبد الله بن العباس المذكور، ولوا عليهم المطلب هذا بعد أن أخرجوه من السجن، فاستولى على مصر ورفق بالرعية وأجزل لهم أعطياتهم وأحسن إليهم، فانضم عليه خلائق من الجند ومن أهل(2/162)
مصر وغيرهم؛ فاستفحل أمره بهم وقويت شوكته، وأخرج من كان بمصر من أصحاب العباس وابنه عبد الله، وتم أمره إلى أن قدم العباس بنفسه إلى مدينة بلبيس فلم يقدر على دخول مصر، ووقع له مع العباس أمور وحروب، إلى أن دس عليه المطلب هذا سماً فمات العباس منه، كما ذكرناه في ترجمته. ولما بلغ المأمون ذلك لم يجد بداً من أن يقره على إمرة مصر لشغله بقتال أخيه الأمين. فاستمر المطلب هذا على إمرة مصر إلى أن تم أمر المأمون في الخلافة وثبتت قدمه فعزله «1» عنها بالسري ابن الحكم في مستهل شهر رمضان سنة مائتين. وكان المطلب قد ولى على شرطته أحمد بن حوي «2» ، ثم عزله بهبيرة بن هاشم. فلما قدم السري بن الحكم إلى نحو مصر لم يطق المطلب هذا مدافعته عنها لكثرة جيوش السري وجموعه، فشاور أصحابه فأشاروا عليه بالثبات والقتال، فجمع هو أيضاً جمعاً هائلاً وقام بنصرته غالب جند مصر؛ والتقى مع السري وقاتله غير مرة، وقتل بين الطائفتين خلائق، حتى كانت الهزيمة على المطلب وأصحابه، وخرج هارباً من مصر إلي نحو مكة. ودافع الجند وأهل مصر عن نفوسهم حتى أمنهم السري، ودخل إلى مصر واستولى عليها. فكان حكم المطلب في هذه المرة الثانية على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر. وقال صاحب البغية: وثمانية أشهر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 199]
السنة التي حكم في أولها العباس ثم المطلب بن عبد الله على مصر وهي سنة تسعة وتسعين ومائة- فيها قدم الحسن بن سهل من عند الخليفة المأمون إلى بغداد وفرق عماله في البلاد، ثم جهز أزهر بن زهير لقتال الهرش الخارجي في المحرم؛ فقتل(2/163)
الهرش المذكور. وفيها في جمادى الآخرة خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن طباطبا- واسم طباطبا إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب- يدعو إلى الرضى «1» من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان القائم بأمره أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، فهاجت الفتن وأسرع الناس إلى ابن طباطبا واستوسقت «2» له الكوفة؛ فجهز الحسن بن سهل لحربه زهير بن المسيب في عشرة آلاف، فالتقوا فانهزم زهير بن المسيب واستباحوا عسكره. فلما كان من الغد أصبح محمد بن إبراهيم المذكور ميتاً فجاءة، فأقام أبو السرايا في الحال شاباً أمرد اسمه محمد بن محمد بن زيد من العلويين، ثم جهز له الحسن جيشاً آخر وآخر. ووقع لأبي السرايا هذا مع عساكر الحسن بن سهل أمور ووقائع يأتي ذكر بعضها في محلها إن شاء الله تعالى. وفيها توفي سليمان بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو أيوب الهاشمي العباسي أمير دمشق وغيرها، كان حازماً عاقلاً جواداً ممدحاً. وفيها توفي علي بن بكار أبو الحسن البصري، كان إماماً عالماً زاهداً، انتقل من البصرة فنزل المصيصة فأقام مرابطاً، وكان صاحب كرامات واجتهاد. وفيها توفي عمارة ابن حمزة بن مالك بن يزيد بن عبد الله مولى العباس بن عبد الملك، كان أحد الكتاب البلغاء الأجواد، وكان ولاه أبو جعفر المنصور خراج البصرة، وكان فاضلاً بليغاً فصيحاً، آلا أنه كان فيه تيه شديد يضرب به المثل، حتى إنه كان يقال: أتيه من عمارة؛ وله في التيه والكرم حكايات كثيرة.(2/164)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسحاق بن سليمان الرازي [أبو يحيى «1» ] ، وحفص بن عبد الرحمن قاضي نيسابور، والحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي، وسيار بن حاتم، وشعيب بن الليث بن سعد فى صفر، وعبد الله ابن نمير الخارفي الكوفي، وعمر بن حفص العبدي البصري، وعمرو بن محمد العنقزي الكوفي، ومحمد بن شعيب بن شابور ببيروت، والهيثم بن مروان العنسي الدمشقي، ويونس بن بكير الكوفي راوي المغازي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وإحدى عشرة إصبعاً.
ذكر ولاية السري بن الحكم الأولى على مصر
هو السري بن الحكم بن يوسف بن المقوم مولى من بني ضبة، وأصله من بلخ من قوم يقال لهم «الزط «2» » ، أمير مصر، وليها بإجماع الجند وأهل مصر على الصلاة والخراج معاً في مستهل شهر رمضان سنة مائتين بعد عزل المطلب عنها. وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته محمد بن عسامة، وأخذ في إصلاح أمور مصر وقراها. وبينما هو في ذلك وثب عليه الجند في مستهل شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين لأمر اقتضى ذلك، وحصل بينه وبينهم أمور ووقائع يطول شرحها، حتى ورد عليه الخبر من الخليفة المأمون عبد الله بعزله عن إمرة مصر بسليمان بن غالب في شهر ربيع الأول المذكور. وقيل: إنه هو الذي خرج من مصر(2/165)
واستعفى لأمور صدرت في حقه من الجند والرعية. وقيل: إن الجند قبضوا عليه بأمر الخليفة وحبسوه. وكانت ولايته على مصر نحواً من ستة أشهر تخمينا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 200]
السنة التي حكم في أولها المطلب وفي آخرها السري بن الحكم على مصر وهي سنة مائتين من الهجرة- فيها في المحرم هرب أبو السرايا والطالبيون من الكوفة إلى القادسية، فدخل الكوفة هرثمة بن أعين ومنصور بن المهدي بعساكرهما وأمنوا أهلها؛ فتوجه أبو السرايا وحشد وجمع ورجع إلى نحو الكوفة وواقع القوم فانهزم وأمسك وأتي به إلى الحسن بن سهل، فقتله في عاشر شهر ربيع الأول بأمر الخليفة المأمون. وفيها هاج الجند ببغداد لكون الحسن بن سهل لم ينصفهم في العطاء، وبقيت الفتنة بينه وبينهم أياماً كثيرة ثم صلح الأمر بينهم. وفيها أحصي ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى. وفيها قتلت الروم ملكهم ليون وكان له عليهم سبع سنين «1» ، وملكوا ميخائيل بن جورجيس. وفيها قتل الخليفة المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، لكونه أغلظ في الكلام وقال: يا أمير الكافرين.
وفيها توفي معاذ بن هشام الدستوائي «2» البصري الحافظ، روى عن أبيه وابن عون وأشعث بن عبد الملك وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وإسحاق وبندار «3» وابن المديني وغيرهم. وقال العباس بن عبد العظيم الحافظ: كان عنده عن أبيه عشرة آلاف حديث. وفيها توفي زاهد الوقت معروف بن الفيرزان، وقيل: ابن(2/166)
فيروز أبو محفوظ، وقيل: أبو الحسن، من أهل كرخ بغداد، كان إمام وقته وزاهد زمانه. ذكر معروف الكرخي عند أحمد بن حنبل فقالوا: قصير العلم، فقال للقائل: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل اليه معروف! اهـ
وكان أبواه من أعمال واسط من الصابئة. وعن أبي علي الدقاق قال: كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب نصراني، فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه، فهرب ثم أسلم أبواه.
ومن كلام معروف- رحمة الله عليه- قال: من كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره خدعه، ومن توكل عليه منعه «1» ، ومن تواضع له رفعه، وعنه قال: كلام العبد فيما لا يعنيه «2» خذلان من الله. وقال رجل: حضرت معروفا فاغتاب رجل [رجلاً «3» ] عنده؛ فقال معروف: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
وعنه قال: ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين.
قلت: ومناقب معروف كثيرة، وزهده وصلاحه مشهور، نفعنا الله ببركته.
وفيها في أول المحرم قدم مكة حسين بن حسن الأفطس، ودخل الكعبة وجردها وأخذ جميع ما كان عليها وكساها ثوبين رقيقين من قز، كان أبو السرايا بعث بهما إليها، مكتوب عليهما: [أمر به الأصفر بن الأصفر «4» ] أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله الحرام، وأن تطرح عنها كسوة الظلمة من ولد العباس؛ ثم أخذ الحسين أموالاً كثيرة من أهل مكة وصادرهم وأبادهم. وفيها توفي أبان بن عبد الحميد(2/167)
ابن لاحق اللاحقي، كان شاعراً فاضلاً بليغاً، قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وله فيهم مدائح كثيرة، وصنف لهم كتاب «كليلة «1» ودمنة» وهو فرد في معناه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصبع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعا.
ذكر ولاية سليمان بن غالب على مصر
هو سليمان بن غالب بن جميل بن يحيى بن قرّة البجلي الأمير أبو داود، ولي إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً؛ بعد عزل السري بن الحكم وحبسه، بإجماع الجند وأهل مصر عليه في يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الأول من سنة إحدى ومائتين. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته أبا ذكر «2» بن جنادة بن عيسى المعافري، فشدد على المصريين، فعزله عن الشرطة بالعباس بن لهيعة الحضرمىّ. ثم وفع بين سليمان هذا وبين الجند أيضا وجشة فوثبوا عليه وقاتلوه، ووقع له معهم وقائع وحروب كثيرة آلت إلى عزله عن إمرة مصر، فصرفه المأمون عنها، وأعاد على إمرة مصر السري بن الحكم ثانية. فكانت ولاية سليمان هذا على إمرة مصر خمسة أشهر، فإنه صرف في مستهل شعبان سنة إحدى ومائتين، وتوجه إلى المأمون وصار من جملة القواد؛ وندبه المأمون لقتال بابك الخرمي، وهذا أول ظهور بابك الخرمي في الجاويدانية. وبابك هو من أصحاب الجاويدان بن سهل صاحب البذّ «3» ،(2/168)
وادعى بابك أن روح جاويدان دخلت فيه، وأخذ بابك في العبث والفساد- وتفسير جاويدان: الدائم الباقي. ومعنى خرم: فرج، وهي مقالات المجوس، والرجل منهم ينكح أمه وأخته، ولهذا يسمونه دين الفرج؛ ويعتقدون مذهب التناسخ وأن الأرواح تنتقل من جوف إلى غيره- وعاد سليمان صاحب الترجمة إلى الخليفة من غير أن يلقى حرباً؛ فإن بابك المذكور لما سمع بمجيء العساكر هرب؛ واستمر سليمان عند المأمون الى أن كان ما سنذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 201]
السنة التي حكم في أولها السري بن الحكم إلى مستهل ربيع الأول، ثم سليمان ابن غالب إلى شعبان، ثم السري بن الحكم ثانية على مصر وهي سنة إحدى ومائتين- فيها جعل المأمون ولي عهده في الخلافة من بعده علياً الرضى بن موسى الكاظم العلوي، وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد، وترك لبس السواد ولبس الخضرة، وترك غالب شعار بني العباس أجداده ومال إلى العلوية؛ فشق ذلك على بني العباس وعلى القواد وجميع أهل الشرق لا سيما أهل بغداد، وخرج عليه جماعة كثيرة بسبب ذلك، وثارت الفتن لهذه الكائنة؛ وكلم المأمون أكابر بني العباس في ذلك فلم يلتفت إلى كلامهم. وفيها ولى المأمون زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب التميمي إمرة المغرب. وفيها كتب المأمون إلى إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسي أمير البصرة يأمره بلبس الخضرة، فامتنع ولم يبايع بالعهد لعلي الرضى؛ فبعث اليه المأمون عسكرا لحربه فسلم نفسه بلا قتال، فحمل هو وولداه «1» إلى خراسان، وفيها المأمون، فمات هناك. وفيها خرج منصور بن المهدي العباسي أيضاً بكلواذا «2» ونصب(2/169)
نفسه ثانياً للمأمون ببغداد فسموه المرتضى وسلموا عليه بالخلافة؛ فامتنع من ذلك وقال: إنما أنا نائب للمأمون. فلما ضعف عن قبول ذلك عدلوا الى أخيه إبراهيم ابن المهدي فبايعوه بالخلافة. كل ذلك بسبب ميل المأمون إلى العلوية. وجرت فتنة كبيرة واختبط العراق سنين وخطب به باسم إبراهيم بن المهدي على المنابر.
وفيها توفي عبد الله بن الفرج الشيخ أبو محمد القنطري العابد الزاهد، كان من كبار المجتهدين، كان بشر الحافي يحبه ويثني عليه ويزوره. وفيها توفي حمّاد بن أسامة ابن زيد الحافظ أبو أسامة الكوفي مولى بني هاشم، روى عن الأعمش وإسماعيل ابن أبي خالد وأسامة بن زيد الليثي وغيرهم؛ وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي مع تقدمه وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق الكوسج وغيرهم. وقال محمد بن عبد الله بن عمّار: كان أبو أسامة في زمن الثوري يعد من النساك. وفيها في ذي القعدة توفي علي بن عاصم بن صهيب الحافظ أبو الحسن مولى بنت محمد بن أبي بكر الصديق، كان من أهل واسط؛ ولد سنة ثمان ومائة، أو خمس ومائة؛ وكان محدثاً فاضلاً، روى عنه الإمام أحمد بن حنبل وطبقته، إلا أنهم قالوا: كان يخطئ فضعفوه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو أسامة الكوفي، وحرمي «1» بن عمارة، وحماد بن مسعدة، وعلي بن عاصم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.(2/170)
ذكر ولاية السري الثانية على مصر
تولى السري ثانياً على مصر من قبل الخليفة المأمون على الصلاة والخراج معاً.
وقدم الخبر من المأمون بولايته في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة إحدى ومائتين، ففي الحال أخرج من السجن ولبس خلعة المأمون بإمرة مصر وتوجّه الى المعسكر وسكن به. وجعل على شرطته محمد بن عسّامة «1» ثم عزله بالحارث بن زرعة؛ فشكا منه الجند فعزله بابنه ميمون، ثم عزل ميموناً أيضاً بأبي ذكر بن المخارق «2» ، ثم عزله بأخيه صالح بن الحكم، ثم عزل صالحاً بأخيه إسماعيل، ثم عزل إسماعيل بأخيه داود؛ كل ذلك لتغلب أهل مصر عليه وهو يصغي إلى قولهم إلى أن أستفحل أمره. ولما ثبتت قدمه في إمرة مصر أخذ يتتبع من كان حاربه وعاداه في أول ولايته، فمسك منهم جماعة وأخرج جماعة، ومهد أمور مصر وأصلح أحوال أهل البلاد وأباد أهل الحوف. وأستمر على إمرة مصر إلى أن توفي بها في سلخ جمادى الأولى من سنة خمس ومائتين.
وقال صاحب البغية: مات بالفسطاط يوم السبت لانسلاخ ربيع الأول من سنة خمس ومائتين.
قلت: وعلى هذا القول كانت ولايته على مصر في هذه المرة الثانية ثلاث سنين وتسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وتولى إمرة مصر من بعده ابنه محمد بن السّمرىّ.
وكان السرىّ أميرا جليلا معظّما فى الدّول، ولى الأعمال وتنقل في البلاد، وكان ممن(2/171)
أنضم على المأمون من القواد، ووقع له أمور بمصر ذكرنا بعضها إلى أن أعيد إليها ثانياً، واستمر بها إلى أن توفي، حسبما تقدّم ذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 202]
السنة الأولى من ولاية السري بن الحكم الثانية على مصر وهي سنة اثنتين ومائتين، على أنه حكم فيها من الخالية من شعبان إلى آخرها حسبما تقدم ذكره- فيها، أعني سنة اثنتين ومائتين، بايع العباسيون إبراهيم بن المهدي ولقبوه بالمبارك المنير.
وأول من بايع إبراهيم بن المهدي المذكور عبد الله بن العباس بن محمد بن علي العباسي ثم أخوه منصور بن المهدي ثم بنو عمه ثم القواد؛ وخلعوا المأمون من الخلافة لكونه أخرج العباسيين من ولاية العهد وجعلها في العلويين، ولبس الخضرة وترك لبس السواد الذي هو شعار بني العباس. ووقع بولاية إبراهيم هذا أمور وفتن وحروب آلت إلى خلع إبراهيم هذا وهربه واختفائه، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج المأمون من مرو يريد العراق، وكانت الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم بن المهدي المذكور. وفيها توفي الحسن بن الوليد أبو علي النيسابوري، وقيل أبو عبد الله القرشي، كان من خراسان وقدم إلى بغداد وحدث بها؛ وكان يطعم أهل الحديث الفالوذج، وقرأ على الكسائي، وكان له ثروة ومال ينفقه على العلماء ويغزو الترك ويحج في كل عام. وفيها توفي الفضل بن سهل بن عبد الله، وزير المأمون وعظيم دولته، ذو الرياستين أبو عبد الله؛ كان أبوه سهل من أولاد ملوك المجوس، أسلم في أيام هارون الرشيد واتصل بيحيى البرمكي، واتصل ابناه الفضل هذا وأخوه الحسن بالفضل وبجعفر ابني يحيى البرمكي؛ فضم جعفر البرمكي الفضل هذا إلى المأمون وهو ولي عهد الخلافة، فغلب على المأمون بخلاله الجميلة من الوفاء والبلاغة والكتابة حتى صار أمر المأمون كله بيده، لا سيما [أنه] لما ولي الخلافة ولّاه(2/172)
الأعمال الجليلة. وكان الفضل هذا هو القائم بالتدبير في خلع الأمين وقتاله حتى تم له ذلك. وتولى الوزارة من بعده أخوه الحسن بن سهل. وكان موته بسرخس، قتله أربعة من حواشي المأمون في ليلة الجمعة ثالث شعبان في الحمام بسرخس، فتتبع المأمون قتلته حتى ظفر بهم وقتلهم. وقتل الفضل وهو ابن ستين سنة، وقيل إحدى وأربعين سنة. وفيها توفي يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو عبد الله اليزيدي النحوي العدوي البصري، وسمي اليزيدي لأنه كان منقطعاً ليزيد بن منصور الحميري خال الخليفة محمد المهدي، كان إماماً في النحو واللغة والأدب ونقل النوادر وكلام العرب، وله تصانيف مفيدة، منها: كتاب الحيل، وكتاب مناقب بنى العباسى، وكتاب أخبار اليزيديين، وله أيضاً مختصر في النحو. ومات في جمادى الآخرة.
رحمه الله.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 203]
السنة الثانية من ولاية السري الثانية على مصر وهي سنة ثلاث ومائتين- فيها توجه المأمون إلى طوس فأقام بها عند قبر أبيه أياماً، وفي إقامة المأمون بطوس مات علي بن موسى الرضى العلوي ولي عهد المأمون، فدفن عند قبر الرشيد؛ واغتم المأمون لموته، ثم كتب لأهل بغداد يعلمهم بموت علي المذكور. وعلي هذا هو الذي كان المأمون عهد له وقامت تلك الحروب بسببه. ثم كتب المأمون لأهل بغداد ولبني العباس أنه يجعل العهد في بني العباس؛ فأجابوه بأغلظ جواب، وقالوا:
لا نؤثر على إبراهيم بن المهدي أحداً. ثم وقع بينه وبين إبراهيم أمور آخرها أن إبراهيم(2/173)
انكسر وهرب واختفى سنين إلى أن ظفر به المأمون وعفا عنه. وفيها غلبت السوداء على الوزير الحسن بن سهل وتغير عقله فقيد بالحديد وحبس في بيت بواسط؛ وأخبر المأمون بذلك فكتب بأن يكون على عسكر الحسن بن سهل دينار بن عبد الله، وأن المأمون واصل عقيب كتابه. وفيها كانت زلزلة عظيمة سقطت فيها منارة الجامع والمسجد ببلخ ونحو ربع المدينة. وفيها اختفى إبراهيم بن المهدي الذي كان بويع بالخلافة في سابع عشر ذي الحجة وبقي مختفياً عدة سنين. وكانت أيامه سنتين إلا بضعة عشر يوماً، وخلافته لم يثبتها المؤرخون ولا عده أحد من الخلفاء، غير أنه كان بنو العباس بايعوه لما جعل المأمون العلوي ولي عهده، فلم يتم أمره وهرب واختفى. وفيها وصل المأمون إلى همذان في آخر السنة. وفيها توفى حسين بن علىّ ابن الوليد الجعفىّ مولاهم الكوفىّ المقرئ الزاهد أبو عبد الله، وقيل أبو محمد، روى عن حمزة الزيات وقرأ عليه، وكان إماماً ثقة حافظاً محدثاً. وفيها توفي علي الرّضى ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبى طالب، الإمام أبو الحسن الهاشمىّ العلوىّ الحسينىّ، كان إماما عالما؛ روى عن أبيه وعن عبيد الله بن أرطاة، وروى عنه ابنه أبو جعفر محمد وأبو عثمان المازني والمأمون وطائفة. وأمه أم ولد؛ وله عدة إخوة كلهم من أمهات أولاد، وهم: ابراهيم والعباس والقاسم وإسماعيل وجعفر وهارون وحسن وأحمد ومحمد وعبيد الله وحمزة وزيد وعبد الله وإسحاق والحسين والفضل وسليمان وعدة بنات. وكان علي هذا سيد بني هاشم في زمانه وأجلّهم، وكان المأمون يعظمه ويبجله ويخضع له ويتغالى فيه حتى إنه جعله ولي عهده من بعده وكتب بذلك إلى الأفاق، فاضطربت مملكته بسببه، فلم يرجع عن ذلك حتى مات علىّ(2/174)
هذا؛ وبعد موته جعل المأمون العهد في بني العباس. وفي علي هذا يقول أبو نواس الحسن بن هانئ:
قيل لي أنت أحسن الناس طراً ... في فنون من المقال النبيه
لك من جيد الفريض مديح ... يثمر الدر في يدي مجتنيه
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادماً لأبيه
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 204]
السنة الثالثة من ولاية السري الثانية على مصر وهي سنة أربع ومائتين- فيها وصل المأمون إلى النهروان فتلقاه بنو هاشم والقواد، ودخل بغداد في نصف صفر؛ وبعد ثمانية أيام كلمه بنو العباس في ترك الخضرة ولبس السواد، ولا زالوا به حتى أذعن وترك الخضرة ولبس السواد. وفيها ولى المأمون أخاه أبا عيسى على الكوفة، وولى أخاه صالحاً على البصرة، وولى يحيى بن معاذ على الجزيرة؛ فتوجه يحيى بن معاذ إلى الجزيرة وواقع بابك الخرّمىّ الخارجي حتى أخرجه منها. وفيها توفي أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم الإمام العالم الفقيه أبو عمرو القيسي العامري المصري فقيه مصر، وقيل اسمه مسكين ولقبه أشهب، سمع مالكاً والليث ويحيى بن أيوب وسليمان بن بلال وغيرهم، وهو أحد أصحاب الإمام مالك رضي الله عنه الكبار. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وقال سحنون رحمه الله: أشهب ما كان يزيد في سماعه حرفاً واحداً.
وفضله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم على ابن القاسم في الرأي حتى إنه قال:(2/175)
أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة. وعن ابن عبد الحكم قال: سمعت أشهب في سجوده يدعو على الشافعي بالموت، فذكرت ذلك للشافعىّ فأنشد:
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وكان مولد أشهب سنة أربعين ومائة، ومات في الثاني والعشرين من شعبان بعد موت الإمام الشافعي بثمانية عشر يوماً. وفيها توفي الإمام الشافعي محمد بن إدريس ابن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، الإمام العالم صاحب المذهب أبو عبد الله الشافعي المكي؛ ولد سنة خمسين ومائة بغزة، وروى عن مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة وداود ابن عبد الرحمن العطار وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومالك بن أنس صاحب المذهب وعرض عليه الموطأ، وخلق سواهم. وروى عنه أبو بكر الحميدي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن حنبل وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وغيرهم.
وتفقه بمالك ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وغيرهما، وبرع في الفقه والحديث والأدب والرمي. وقال محمد بن إسماعيل السلمي حدثني حسين الكرابيسي قال:
بت مع الشافعي غير ليلة وكان يصلّى نحو ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ منها. وقال إبراهيم بن محمد بن الحسن الأصبهاني حدثنا الربيع قال: كان الشافعي يختم القرآن ستين مرة في رمضان. وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم سحراً أحدهم الشافعي. وقال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت(2/176)
أمة لوسعهم عقل الشافعي. وقال أبو ثور: ما رأيت مثل الشافعي ولا رأى هو مثل نفسه.
قلت: ومناقب الشافعي رضي الله عنه كثيرة وفضله أشهر من أن يذكر. وكانت وفاته في يوم الخميس سلخ شهر رجب من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى، وله أربع وخمسون سنة. وكان موضع دفنه ساحة حتى عمر تلك الأماكن السلطان صلاح الدين يوسف، ثم أنشأ الملك الكامل محمد القبة على ضريحه وهى القبة الكائنة اليوم علي قبره رضى الله عنه. ومن شعره:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفنا والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً «1» كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
قال المبرد: دخل رجل على الشافعي فقال: إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء؛ فأنشأ الشافعى يقول:
فلولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأشجع في الوغى من كل ليث ... وآل مهلب «2» وأبي يزيد
ولولا خشية الرحمن ربي ... حسبت «3» الناس كلهم عبيدي
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع.(2/177)
ذكر ولاية محمد «1» بن السري على مصر
هو محمد بن السري بن الحكم بن يوسف الأمير أبو نصر الضبي البلخي، ولي إمرة مصر بعد وفاة أبيه السري بن الحكم في يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة خمس ومائتين؛ ولاه المأمون على الصلاة والخراج معا كما كان والده. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن قابس «2» ثم عزله وولّى أخاه عبيد الله. ولما ولي مصر كان الجروي قد غلب على أسفل أرض مصر وجمع جموعاً وخرج عن الطاعة فتهيأ محمد هذا لقتاله وجهز اليه العساكر المصرية، ثم خرج هو بنفسه لقتاله، ووقع له معه حروب ووقائع؛ وبينما هو في ذلك مرض ولزم الفراش حتى مات ليلة الاثنين لثمان خلون من شعبان سنة ست ومائتين. فكانت ولايته على مصر استقلالاً سنة واحدة وشهرين وثمانية أيام. وتولى مصر من بعده أخوه عبيد الله بن السري، وكان شاباً عاقلاً مدبراً حازماً سيوساً، مهد الديار المصرية في ولايته وأباد أهل الفساد وحارب الجروىّ غير مرة وأحبته الرعية، غير أنه لم تطل أيامه وعاجلته المنيّة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 205]
السنة الأولى من ولاية محمد بن السري على مصر وهي سنة خمس ومائتين- فيها حج بالناس عبيد الله بن الحسن العلوي وهو والى الحرمين مكّة والمدينة. وفيها ولى المأمون طاهر بن الحسين على جميع بلاد خراسان والمشرق وأعطاه عشرة آلاف ألف درهم، وكان ولده عبد الله بن طاهر قد قدم على المأمون من الرقة فولاه(2/178)
على الجزيرة. ثم ولى المأمون عيسى بن محمد بن خالد على أذربيجان وإرمينية وأمره بقتل بابك الحرّمىّ. وفيها استعمل المأمون عيسى بن يزيد الجلودي على محاربة الزط، وكانوا قد طغوا وتجبروا. وفيها توفي يعقوب بن إسحاق بن زيد «1» بن عبد الله ابن أبي إسحاق الإمام أبو محمد الحضرمي مولاهم البصرىّ قارئ أهل البصرة بعد أبي عمرو بن العلاء وأحد الأئمة القراء العشرة، أخذ القرآن عن أبى المنذر سلّام الطويل وأبى الأشهب العطاردىّ ومهدي بن ميمون وغيرهم، وسمع حروفاً من حمزة، وتصدى للإقراء فقرأ عليه خلق، وكان أصغر من أخيه أحمد بن إسحاق، ومات في ذي الحجة. وفيه يقول محمد بن أحمد العجلىّ يمدحه:
أبوه من القراء كان وجده ... ويعقوب في القراء كالكوكب الدري
تفرده محض الصواب ووجهه ... فمن مثله في وقته وإلى الدهر
وفيها توفي أبو سليمان الداراني، اسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل:
عبد الرحمن بن عسكر العبسي الداراني، كان من واسط وتحول إلى الشام ونزل داريا (قرية غربي دمشق) ، وكان إماماً حافظاً كبير الشأن في علوم الحقائق والورع أثنى عليه الأئمة، وكان له الرياضات والسياحات، وله كرامات وأحوال. رحمه الله تعالى آمين.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي روح بن عبادة في جمادى الأولى، وأبو عامر العقدىّ [عبد الملك بن عمرو «2» ] ، ومحمد بن عبيد، ويعقوب الحضرمىّ، ومحمد بن عبيد الطنافسي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعا.(2/179)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 206]
السنة الثانية من ولاية محمد بن السري على مصر وهي سنة ست ومائتين- فيها كان الماء الذي غرق منه أرض السواد وذهبت الغلات وغرقت قطيعة «1» أم جعفر، وقطيعة العباس. وفيها نكب الأمير عيسى بن محمد بن أبى خالد بابك الخرّمىّ وبيته «2» . وفيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم. وفيها توفي بهيم العجلي الشيخ أبو بكر الزاهد العابد، كان رجلاً حزيناً يزفر الزفرة فيسمع زفيره على بعد، وكان من البكّائين الخابعين «3» . وفيها توفي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي المغربي الأندلسي، ولي إمرة الأندلس يوم مات أبوه في صفر، سنة ثمانين ومائة وعمره اثنتان وعشرون سنة وشهر وأيام، ولقب بالمرتضى، وكنيته أبو العاص؛ وكان شجاعاً فاتكاً، ربط على باب قصره ألف فرس لخاصة نفسه.
قلت: وقد تقدم الكلام على أصل هؤلاء أنهم من ذرية عبد الملك بن مروان وأن عبد الرحمن الداخل خرج في غفلة «4» بني العباس من الشأم إلى الغرب وملك الأندلس. وفيها توفي يزيد بن هارون الإمام الحافظ أبو خالد السلمي مولاهم الواسطي، ولد سنة ثمان عشرة ومائة. قال السراج: سمعت علي بن شعيب يقول:
سمعت يزيد بن هارون يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وكان مع هذا ديناً زاهداً صلى بوضوء العشاء صلاة الفجر نيفاً وأربعين سنة رحمه الله. [ومات في شهر ربيع الأول من السنة وله ثمان وثمانون سنة «5» ] .(2/180)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو حذيفة البخاري صاحب «المبتدأ» ، وحجاج الأعور، وشبابة بن سوار، ومحاضر بن «1» المورع، وقطرب النحوي صاحب سيبويه، وموسى بن اسماعيل، ووهب بن جرير، ويزيد ابن هارون، وعبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبيد الله بن السري على مصر
هو عبيد الله بن السري بن الحكم بن يوسف، ولي إمرة مصر بعد موت أخيه محمد بن السري بمبايعة الجند له في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شعبان سنة ست ومائتين على الصلاة والخراج معاً. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن عقبه «2» المعافري، ولما ولي عبيد الله مصر وقع بينه وبين الجروي الخارجي المقدم ذكره حروب كثيرة، ثم حدّثته نفسه بالخروج عن طاعة المأمون وجمع وحشد؛ فبلغ المأمون ذلك وطلب عبد الله بن طاهر وقال له: إني استخرت الله تعالى منذ شهر، وقد رأيت أن الرجل يصف ابنه ليطريه وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك، وقد مات السري وولى ابنه عبيد الله وليس بشيء، وقد رأيت تولينك مصر ومحاربة الخوارج بها؛ فقال عبد الله بن طاهر: السمع والطاعة، وأرجو أن يجعل الله الخير لأمير المؤمنين. فعقد له المأمون لواء مكتوباً عليه ألقاب عبد الله بن طاهر، وزاد فيه يا منصور؛ وركب الفضل بن الربيع الحاجب بين يديه إلى داره(2/181)
تكرمة له؛ ثم خرج عبد الله من العراق بجيوشه حتى قرب من مصر، فتهيأ عبيد الله ابن السري المذكور لحربه وعبأ جيوشه وحفر خندقاً عليه، ثم تقدم بعساكره إلى خارج مصر والتقى مع عبد الله بن طاهر وتقاتلا قتالاً شديداً وثبت كل من الفريقين ساعة كبيرة حتى كانت الهزيمة على عبيد الله بن السري أمير مصر، وانهزم إلى جهة مصر، وتبعه عبد الله بن طاهر بعساكره، فسقط غالب جند عبيد الله المذكور في الخندق الذي كان عبيد الله احتفره، ودخل هو بأناس قليلة إلى داخل مصر وتحصن به؛ فحاصره عبد الله بن طاهر وضيق عليه حتى أباده وأشرف على الهلاك، فطلب عبيد الله بن السري الأمان من عبد الله بن طاهر بشروطه، وبعث إليه بتقدمة من جملتها ألف وصيف ووصيفة مع كل وصيف ووصيفة ألف دينار في كيس حرير وبعث بهم ليلاً؛ فرد عبد الله بن طاهر ذلك عليه، وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهاراً قبلتها ليلاً (بل أنتم بهديتكم تفرحون) الآية. فلما بلغه ذلك طلب الأمان من غير شرط؛ فأمنه عبد الله بن طاهر بعد أمور صدرت؛ فخرج إليه عبيد الله بن السري بالأمان وبذل إليه أموالاً كثيرة وأذعن له وسلم إليه الأمر، وذلك في آخر صفر سنة إحدى عشرة ومائتين. قال صاحب البغية: وعزله المأمون في ربيع الأول وذكر السنة انتهى.
قلت: فكانت ولاية عبيد الله هذا على إمرة مصر أربع سنين وسبعة أشهر إلا ثمانية أيام. وتوجه عبيد الله إلى المأمون في السنة المذكورة فأكرمه وعفا عنه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 207]
السنة الأولى من ولاية عبيد الله بن السري وهي سنة سبع ومائتين- فيها حج بالناس أبو عيسى أخو الخليفة المأمون. وفيها ولى المأمون موسى بن حفص طبرستان. وفيها ظهر الصناديقي باليمن واستولى عليها وقتل النساء والولدان وادّعى(2/182)
النبوة وتبعه خلق وآمنوا بنبوته وارتدوا عن الإسلام، فأهلكه الله بالطاعون بعد أمور رقعت منه. وفيها خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علىّ ابن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان خروجه من سوء سيرة عامل اليمن، فبايعه خلق؛ فوجه إليه المأمون لحربه دينار ابن عبد الله وكتب معه بأمانه؛ فحج دينار ثم سار إلى اليمن حتى قرب من عبد الرحمن المذكور، وبعث إليه بأمانه فقبله وعاد مع دينار إلى المأمون. وفيها خلع طاهر ابن الحسين المأمون من الخلافة باكر النهار من يوم الجمعة وقطع الدعاء له، فدعا الخطيب: «اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤونة من بغى عليها» ولم يزد على ذلك، ثم طرح طاهر لبس السواد فعرض له عارض فمات من ليلته فأتى الخبر بخلعه على المأمون أول النهار من النصحاء له، ووافى الخبر بموته ليلاً وكفى الله المأمون مؤونته. وقام بعده على خراسان ابنه طلحة فأقره المأمون مكان والده طاهر المذكور؛ وكان ذلك قبل تولية ابنه عبد الله بن طاهر مصر بمدة طويلة.
وطاهر هذا هو الذي كان قام ببيعة المأمون وحاصر الأمين ببغداد تلك المدة الطويلة حتى ظفر به وقتله. وكان طاهر المذكور أعور، وكان يلقب بذي اليمينين؛ فقال فيه بعض الشعراء:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة
وكان في نفس المأمون منه شيء لكونه قتل أخاه الأمين محمداً بغير «1» مشورته لما ظفر به بعد حصار بغداد، ولم يرسله إلى أخيه المأمون ليرى فيه رأيه مراعاة لخاطر أمه زبيدة، فلما قتله طاهر المذكور لم يسع المأمون إلا السكوت لكون طاهر هو القائم بدولة المأمون وبنصرته على أخيه الأمين حتى تم له ذلك. وفيها(2/183)
توفي الواقدي، واسمه محمد بن عمر بن واقد، الإمام أبو عبد الله الأسلمي، مولده سنة تسع وعشرين ومائة وكان إماماً عالماً بالمغازي والسير والفتوح وأيام الناس، وكان ولي القضاء للمأمون أربع سنين. وفيها توفي الأمير طاهر بن الحسين بن مصعب أبو طلحة الخزاعي الملقب ذا اليمينين، أحد قواد المأمون الكبار والقائم بأمره وخلع أخيه الأمين من الخلافة؛ ولاه المأمون خراسان وما يليها حتى خلع المأمون فمات من ليلته في جمادى الأولى فجاءة، أصابته حمى وحرارة فوجد على فراشه ميتاً.
حكي أن عميه علي بن مصعب وحميد بن مصعب عاداه بغلس، فقال الخادم: هو نائم فانتظرا ساعة، فلما انبسط الفجر قالا للخادم: أيقظه؛ قال: لا أجسر؛ فدخلا عليه فوجداه ميتاً. وفيها توفي عمر بن حبيب العدوي القاضي الحنفي البصري هو من بنى عدىّ بن عبد مناة «1» ، قدم بغداد وولي قضاء الشرقية بها وقضاء البصرة، وكان إماماً عالماً بارعاً في فنون كثيرة مشكور السيرة محبباً إلى الناس. رحمه الله. وفيها توفي أبو عبيدة «2» معمر بن المثنى التيمي البصري النحوي العلامة مولى تيم قريش، كان من أعلم الناس بأنساب العرب وله مصنفات مشهورة في علوم كثيرة. وفيها توفي الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن بن يزيد الكوفي صاحب التواريخ والأشعار، ولد بالكوفة ونشأ بها ثم انتقل إلى بغداد، وكان مليح الشكل نظيف الثوب طيب الرائحة حلو المحاضرة عالماً بارعاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي جعفر بن عون، وطاهر ابن الحسين الأمير بخراسان، وأبو قتادة الحراني، وعبد الصمد بن عبد الوارث،(2/184)
وعمر بن حبيب العدوي، وأبو نوح قراد، وكثير بن هشام، والواقدي، ومحمد بن كناسة، وهاشم بن القاسم، والهيثم بن عدي، والفراء النحوي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 208]
السنة الثانية من ولاية عبيد الله على مصر وهي سنة ثمان ومائتين- فيها حج بالناس الأمير صالح أخو المأمون. وفيها استعفى محمد بن سماعة عن القضاء فأعفى، وولّى المأمون عوضه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وفيها خرج الحسن بن الحسين أخو طاهر بن الحسين المقدم ذكره من خراسان إلى كرمان ممتنعاً بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد حتى أخذه وقدم به على المأمون فعفا عنه. وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدية ثم عزله بعد مدة، وولى عوضه بشر بن الوليد الكندي. وفيها توفي صالح بن عبد الكريم البغدادي أحد الزهاد العباد الورعين. وفيها توفي الفضل بن الربيع بن يونس الحاجب الأمير أبو الفضل، مولده سنة أربعين ومائة وحجب للرشيد واستوزره. ولما مات الرشيد استولى على الخزائن وقدم بها إلى الأمين محمد ببغداد ومعه البردة والقضيب والخاتم فأكرمه الأمين وفوض إليه أموره، فصار إليه الأمر والنهي. ولما خلع الأمين أخاه المأمون من ولاية عهد الخلافة استخفى ثم ظهر في أيام المأمون، فأعاده المأمون إلى رتبته إلى أن مات. وفيها توفيت السيدة نفيسة ابنة الأمين الحسن بن زيد بن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب، الهاشمية الحسنية الحسيبة النسيبة صاحبة المشهد بين مصر والقاهرة، وقد ولي أبوها إمرة المدينة لأبي جعفر المنصور مدة، ثم قبض عليه(2/185)
وحبسه، إلى أن أطلقه المهدي لما تخلف ورد عليه جميع ما كان أخذه أبوه المنصور منه، وقد ذكرنا ذلك في محله. وتحولت السيدة نفيسة مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق من المدينة إلى مصر، فأقامت بها إلى أن ماتت في شهر رمضان من هذه السنة من غير خلف في وفاتها. وهي صاحبة الكرامات والبرهان، وقد شاع ذكرها شرقاً وغرباً. وفيها توفي العتابي واسمه كلثوم بن عمرو بن أيوب الشاعر المشهور أحد البلغاء، كان أصله من قنسرين، وقدم بغداد، ومدح الرشيد ثم أولاده الخلفاء من بعده؛ وكان منقطعاً إلى البرامكة، وكان يتزهد ويلبس الصوف. ومن شعره فيما قيل موالياً:
يا ساقيا خصّنى بما تهواه ... لا تمزج اقداحي رعاك الله
دعها صرفاً فإنني أمزجها ... إذ أشربها بذكر من أهواه
قلت: وهذا يشبه قول القائل، ولم أدر لمن هو:
نديمى «1» لا تسقنى ... سوى الصرف فهو ألهني
ودع كأسها أطلساً «2» ... ولا تسقنى مع دني
وفيها توفي مسلم بن الوليد الأنصاري مولى أسعد بن زرارة الخزرجي الشاعر المشهور، كان فصيحاً بليغاً. ومن شعره فيما قيل وقد رأيته لغيره وهو في مليح أعمى مضمّنا:
بروحي مكفوف اللواحظ لم يدع ... سبيلاً إلى صب يفوز بخيره
سوالفه تفني الورى خل لحظه ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره(2/186)
قلت: وهذا معنى ظريف فحضرني فيه مقطوع غير أنه من غير المادّة:
كانتا مقلتاه قبل عماها ... لقتال الورى تسل نصالا
فأمنا قتالها حين كفت ... وكفى الله المؤمنين القتالا
وفيها توفي الأمير موسى ابن الخليفة الأمين محمد بن الرشيد هارون العباسي الهاشمي الذي كان ولاه أبوه الأمين العهد من بعده وسماه بالناطق بالحق وخلع المأمون وقامت تلك الحروب التي كان فيها هلاك الأمين. وكان موسى هذا عند جدته لأبيه زبيدة بنت جعفر، وأمه أم ولد ومات وسنه دون عشرين سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 209]
السنة الثالثة من ولاية عبيد الله بن السري على مصر وهي سنه تسع ومائتين- فيها قرب المأمون أهل الكلام وأمرهم بالمناظرة بحضرته وصار ينظر فيما يدل عليه العقل، وجالسه بشر بن غياث المريسي، وثمامة بن الأشرس وهؤلاء الجنوس. وفيها ولى المأمون علي بن صدقة إمرة أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك وأعانه بأحمد ابن الجنيد الإسكافي فقاتل بابك فأسره بابك، فولى المأمون عوضه إبراهيم بن الليث.
وفيها حج بالناس أمير مكة صالح بن العباس بن محمد بن علي العباسي. وفيها توفي بشر بن منصور الشيخ أبو محمد، كان أحد العبّاد الزهّاد المجتهدين، كان يتجنّب الناس ويتورّى «1» بالخلوة. وفيها توفي الحسن بن موسى أبو علي الأشيب الحنفي الخراساني، كان ولي القضاء بالموصل ثم حمص في أيام الرشيد، ثم ولي قضاء طبرستان للمأمون(2/187)
وكان عالما عارفا. وفيها توفي سعيد بن سلم «1» بن قتيبة أبو محمد الباهلي البصري، كان ولي بعض أعمال خراسان ثم قدم بغداد وحدث بها، وكان عالماً بالحديث والعربية وغيرهما رحمه الله. وفيها توفي الحسن بن زياد اللؤلؤي الإمام، أحد العلماء الأعلام فقيه عصره أبو علي أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ وكان أصله من الكوفة ونزل بغداد. قال محمد بن شجاع الثلجي «2» : سمعت الحسن بن أبي «3» مالك يقول:
كان الحسن بن زياد إذا جاء إلى أبي يوسف أهمت أبا يوسف نفسه من كثرة سؤالاته. وقال أبن كاس النخعي «4» حدثنا أحمد بن عبد الحميد بن الحارث قال:
ما رأيت أحسن خلقاً من الحسن بن زياد ولا أقرب ولا أسهل جانباً مع توفر فهمه وعلمه وزهده وورعه، وكان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه. وقال جعفر بن محمد بن عبيد الله الهمداني «5» : سمعت يحيى بن آدم يقول: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد انتهى.
وكان ديناً قوالاً بالحق، وقصته مع الرشيد في أمر يحيى العلوي ومحمد بن الحسن مشهورة. وكانت وفاته في هذه السنة، في قول، وقيل: في سنة أربع وهو الأصح رحمه الله. وفيها توفي سعيد بن وهب أبو عثمان «6» البصري مولى بني سامة بن لؤىّ كان شاعرا مجيدا أكثر شعره في الغزل والمجون وكان مقدماً عند البرامكة، ومن شعره فى سوداء:(2/188)
سوداء بيضاء الفعال كأنها ... نور العيون تخص بالأضواء
قالوا جننت بحبها فأجبتهم ... أصل الجنون يكون بالسوداء
قلت: وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول القائل:
يا من فؤادي فيها ... متيم لا يزال
إن كان لليل بدر ... فأنت للصبح خال
وفيها توفي عبد الله بن أيوب أبو محمد التيمي من تيم اللات بن ثعلبة أحد شعراء الدولة العباسية، مدح الأمين والمأمون وغيرهما وأجازه الأمين مرة بمائتي ألف درهم دفعة واحدة في قوله الأبيات المقدم ذكرها في ترجمة الأمين لما ضرب كوثر خادم الأمين، وأول الأبيات التي عملها عبد الله هذا:
ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
وفيها هلك طاغية الروم ميخائيل بن جرجس وملك بعده ابنه توفيل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 210]
السنة الرابعة من ولاية عبيد الله بن السرىّ على مصر وهي سنة عشر ومائتين- فيها ظفر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة (أمه) الذي كان بويع بالخلافة وتلقب بالمبارك، ظفر به وهو بزي النساء فعاتبه عتاباً هيناً ثم عفا عنه.(2/189)
وفي اختفاء إبراهيم هذا حكايات كثيرة. وفيها امتنع أهل قم «1» فوجه إليهم المأمون علي بن هشام فحاربهم حتى هزمهم ودخل البلد وهدم سورها وأستخرج منها سبعة آلاف ألف درهم. وفيها في شهر رمضان توجه المأمون إلى فم «2» الصلح وبنى ببوران بنت الحسن بن سهل، وكائنة المأمون مع بوران المذكورة وتزويجه بها مشهور.
وفيها توفي حميد الطوسي كان من كبار قواد المأمون وكان جباراً وفيه قوّة وبطش وإقدام، كان يندبه المأمون للمهمات. وفيها توفي شهريار بن شروين «3» صاحب الديلم وملك بعده ابنه سابور فنازعه على الملك مازيار بن قارن «4» وقهره وأسره وقتله واستولى المذكور على الجبال والديلم. وفيها توفي الأصمعي واسمه عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع أبو سعيد الباهلي البصري، وقيل: إن اسم قريب عاصم. والأصمعي هذا هو صاحب العربية والغرائب والتصانيف المفيدة والملح واللغة وأيام الناس وأخبارهم، وكان مقرباً عند الرشيد وأختص بالبرامكة ونالته السعادة، وله مع الرشيد وغيره من الخلفاء ماجريات لطيفة. وذكر الذهبي وفاته في سنة ست عشرة ومائتين بخلاف ما أثبتناه هنا؛ وفي وفاته اختلاف كبير وأقوال كثيرة أقلها من هذه السنة وأبعدها إلى سنة ست عشرة ومائتين. وفيها توفي عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار البصري مولى عزرة «5» بن ثابت الأنصاري، ولد سنة(2/190)
أربع وثلاثين ومائة وكان قد جمع بين العلم والزهد والسنة. وفيها توفيت علية بنت المهدي عمة المأمون ومولدها سنة ستين ومائة، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأكملهن أدباً وعقلاً وصيانة، وكان في جبهتها سعة تشين وجهها فاتخذت العصابة المكلّلة بالجوهر لتستر جبينها بها، وهي أول من اتخذتها وسميت شد جبين لذلك.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الشيباني صاحب العربية، والحسن بن محمد بن أعين الحراني، وعبد الصمد ابن حسان المروزي، ومحمد بن صالح بن بيهس «1» أمير عرب الشام، وأبو عبيدة اللغوي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن طاهر على مصر
هو عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، الأمير أبو العباس الخزاعي المصيصي أمير خراسان وأجل أعمال المشرق ثم أمير مصر، ولي مصر من قبل المأمون بعد عزل عبيد الله بن السري على الصلاة والخراج معاً، ودخل مصر في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين بعد أن قاتل عبيد الله بن السري أياماً وأخذه بالأمان حسبما تقدم ذكره في ترجمة عبيد الله بن السري. ومولد عبد الله بن طاهر هذا سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتأدب في صغره وقرأ العلم والفقه وسمع من وكيع وعبد الله المأمون؛ وروى عنه اسحاق ابن راهويه وهو أكبر منه، ونصر بن زياد وخلق سواهم. وكان بارع الأدب(2/191)
حسن الشعر، وتقلد الأعمال الجليلة وأول ولايته مصر، ولما ولي مصر ودخلها أمر عبيد الله بن السري بالخروج إلى المأمون ببغداد، وأقام عبد الله بن طاهر هذا بعسكره إلى أن خرج عبيد الله بن السري من مصر في نصف جمادى الأولى من السنة المذكورة، ثم سكن عبد الله بن طاهر المعسكر وجعل على شرطته معاذ بن عزيز ثم عزله بعبدويه بن جبلة، ثم تهيأ للخروج إلى الإسكندرية فخرج إليها من مصر في مستهل صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين واستخلف على صلاة مصر عيسى بن يزيد الجلودي.
وكان قد نزل بالاسكندرية طائفة من المغازبة من الأندلس في المراكب وعليهم رجل كنيته أبو حفص «1» ، فتوجه إليهم عبد الله بن طاهر وقاتلهم حتى أجلاهم عن الإسكندرية. وقيل: بل نزحوا عنها قبل وصول عبد الله بن طاهر خوفاً منه وتوجهوا إلى جزيرة «2» أقريطش فسكنوها وبها بقايا من أولادهم إلى الآن، وبعد خروجهم من الإسكندرية عاد عبد الله بن طاهر إلى ديار مصر فى جمادى الآخرة وسكن بالمعسكر إلى أن ورد عليه كتاب المأمون يأمره بالزيادة في الجامع العتيق، فزيد فيه مثله وبعث يعلم المأمون بذلك وكتب له أبياتاً من نظمه وهى:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه «3»
فما أحببت من شيء ... فإني الدهر أهواه(2/192)
وما تكره من شيء ... فإني لست أهواه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وكان عبد الله بن طاهر جواداً ممدحاً.
حكى أبو السمراء قال: خرجنا مع عبد الله بن طاهر من العراق متوجهين [إلى مصر «1» ] حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق واذا بأغرابىّ قد اعترضنا على بعير له أورق «2» وكان شيخاً، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، وكنت أنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي «3» وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير عبد الله بن طاهر، وكانت كسوتنا أحسن من كسوته، ودوابنا أفره من دابته؛ فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا فقلنا: يا شيخ، قد ألححت في النظر إلينا، عرفت شيئاً أم أنكرته؟ فقال: لا والله، ما عرفتكم قبل يومي هذا ولا أنكرتكم لسوء أراه بكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم؛ فأشرت إلى إسحاق بن أبي ربعي وقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتباً جاه الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد تشاهد أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير
ثم نظر إلى إسحاق بن ابراهيم الرافقىّ وقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا بالرجال مكور «4»
أخال به جبناً وبخلاً «5» وشيمة ... تخبر عنه أنه لوزير(2/193)
ثم نظر الىّ وقال:
وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه «1» للشعر والعلم راوياً ... فبعض نديم مرة وسمير
ثم نظر إلى الأمير وقال:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة «2» ... ووجه بإدراك «3» النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بذي «4» يد ... به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بن طاهر ... لنا والد بر بنا وأمير
قال: فوقع ذلك من عبد الله بن طاهر أحسن موقع، وأعجبه مقالة الشيخ وأمر له بخمسمائة دينار وجعله في صحابته.
ذكر واقعة أخرى لعبد الله بن طاهر هذا. قال الحسن بن يحيى الفهري:
بينما نحن مع عبد الله بن طاهر بين سلمية وحمص ونحن نريد دمشق إذ عارضنا البطين الشاعر، فلما رأى عبد الله بن طاهر قال:
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الجود طاهر بن الحسين
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي العزتين في الدعوتين
مرحباً مرحباً بمن كفه البح ... ر إذا فاض مزبد الرّجوتين
ما يبالى المأمون أيّده الل ... هـ إذا كنتما له باقيين(2/194)
أنت غرب وذاك شرق مقيماً ... أي فتق أتى من الجانبين
وحقيق إذ كنتما في قديم ... لزريق ومصعب وحسين
أن تنالا ما نلتماه من المج ... د وأن تعلوا على الثقلين
فأمر له عن كل بيت بألف دينار وسار معه إلى مصر والإسكندرية، وبينما هو راكب على فرسه بالإسكندرية نزلت يد فرسه في مخرج فوقع به فيه فمات.
وقيل: إن عبد الله هذا لما استولى على مصر وهب له المأمون خراجها، فلم يدخلها حتى صعد المنبر، فما نزل حتى فرق جميع ذلك، وكان ثلاثة آلاف ألف دينار.
وقال سهل بن ميسرة: لما رجع عبد الله بن طاهر من الشام إلى بغداد صعد فوق سطح، فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال: ما هذا الدخان؟ فقيل له:
لعل قوماً يخبزون؛ فقال: أو يحتاج جيراننا إلى ذلك! ثم دعا حاجبه وقال: امض ومعك كاتب وأحص جيراننا من لا يقطعهم عنا شارع، فمضى وأحصاهم فبلغ عددهم ألف نفس، فأمر لكل بيت بالخبز واللحم وما يحتاجون إليه، وبكسوة الشتاء والصيف والدراهم؛ فما زالوا كذلك حتى خرج من بغداد، فانقطع ذلك لكنه صار يبعث إليهم من خراسان بالكسوة مدة حياته.
وقيل: إن المأمون سأل عبد الله بن طاهر هذا: أيما أحسن، منزلي أم منزلك؟
قال: يا أمير المؤمنين، منزلي، قال: ولم؟ قال: لأني فيه مالك وأنا في منزلك مملوك. وكان عبد الله بن طاهر لا يدخل في منزله خصياً، ويقول: هم بين النساء رجال، وبين الرجال نساء.
- وقال أحمد بن يزيد السلمي: كنت مع طاهر بن الحسين بالرقة فرفعت إليه قصص فوقع عليها بصلات فبلغت ألفي ألف درهم وسبعمائة ألف درهم؛ ثم كنت(2/195)
مع ولده عبد الله بن طاهر بالرقة فرفعت إليه القصص فوقع عليها فزاد على أبيه بألفي ألف درهم.
وقال محمد بن يزيد الأموي الحصني «1» - وكان محمد هذا من ولد مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان قد اعتزل الناس في حصن له- قال: لما بلغني خروج عبد الله بن طاهر من بغداد يريد قتال مصر أيقنت بالهلاك لما كان بلغه من ردي عليه- يعنى قصيدته التى يقول فى أوّلها:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
من أبيات كثيرة- قال: ولما كان بلغني هذه القصيدة أتقنت المنافية، وقلت: يفتخر علينا رجل من العجم قتل ملكاً من ملوك العرب بسيف أخيه! - يعني بذلك أباه طاهراً لما قتل الأمين بسيف المأمون- فرددت عليه قصيدته بقصيدتى التى أوّلها:
لا يرعك القال والقيل ... كل ما بلغت تهويل
ولم أعلم أن الأقدار تظفره بي «2» ؛ فلما قرب مجيء عبد الله بن طاهر استوحشت المقام خوفاً على نفسي ورأيت تسليم نفسي عاراً علي، فأقمت مستسلماً للأقدار، وأقمت جارية سوداء في أعلى الحصن، فلم يرعني «3» إلا وهي تشير بيدها وإذا بباب الحصن يدق؛ فخرجت وإذا بعبد الله بن طاهر واقف وحده قد انفرد عن أصحابه؛ فسلمت عليه سلام خائف، فرد علي رداً جميلاً؛ فأومأت أن أقبل ركابه فمنعني بألطف منع، ثم ثنى رجله وجلس على دكة باب الحصن، ثم قال: سكن روعك فقد أسأت(2/196)
بنا الظن، وما علمنا أن زيارتنا لك تروعك ثم كلمني وباسطني؛ فلما زال روعي قال: أنشدني قصيدتك التي منها:
يا بن بنت النار موقدها
فقلت: لا تنغص إحسانك؛ فقال: ما قصدي إلا زيادة الأنس بك؛ فامتنعت.
فقال: والله لا بد؛ فأنشدته القصيدة إلى قولي:
ما لحاذيه «1» سراويل
فقال: والله لقد أحصينا ما في خزائن ذي اليمينين [يعني «2» خزائن أبيه طاهر بن الحسين فإنه كان يلقب بذي اليمينين «3» ] بعد موته، فكان فيها ثلاثة آلاف سراويل من أصناف الثياب ما في واحد منها تكة، فما حملك على هذا؟ قلت: أنت حملتنى بقولك:
وأبي «4» من لا كفاء له ... من يساوي مجده قولوا
فلما فخرت على العرب فخرنا على العجم؛ فقبل العذر وأظهر العفو؛ ثم قال:
هل لك في الصحبة إلى قتال مصر؟ فاعتذرت بالعجز عن الحركة، فأمر بإحضار(2/197)
خمسة مراكب من مراكبه بسروجها ولجمها محلاة بالذهب، وثلاثة دواب من دواب الشاكرية، وخمسة أبغال من بغال النقل، وثلاثة تخوت فيها الثياب الفاخرة، وخمس بدر من الدراهم، ووضع الجميع على باب الحصن واعتذر بالسفر؛ فمددت يدي لأقبل يده فامتنع وسار لوقته.
وقال أبو الفضل الربعي: لما توجه عبد الله بن طاهر إلى خراسان قصده دعبل الشاعر، وكان ينادمه في الشهر خمسة عشر يوماً؛ فكان يصله في الشهر بمائة ألف درهم وخمسين ألف درهم؛ فلما كثرت صلاته توارى عنه دعبل حياء منه، فطلبه عبد الله بن طاهر فلم يقدر عليه، فكتب إليه دعبل يقول:
هجرتك لم أهجرك كفراً لنعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنني لما أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فملآن لا أتيك إلا معذراً ... أزورك في شهرين يوماً وفي شهر
فإن زدت في بري تزايدت جفوة ... ولم تلقني حتى القيامة في الحشر
وبعد هذه الأبيات كتب: حدثني المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يشكر الله لا يشكر الناس ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير» فوصله عبد الله بثلاثمائة ألف درهم. وقال معافى «1» بن زكريا: أول ما قصد دعبل عبد الله بن طاهر أقام مدّة لم يجتمع به وضاق ما بيده فكتب اليه:
جئتك مستشفعاً بلا سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل ... غير ملح عليك في الطلب(2/198)
فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ... ولو انتظرت كثيره لم يقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
وحكي أنه خرج من بغداد إلى خراسان فسار وهو بين سمّاره، فلما وصل إلى الري سحراً سمع صوت الأطيار فقال: لله در أبي كبير الهذلي حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح
ثم التفت إلى عوف بن محلم الشاعر فقال: أجز، فقال عوف أبياتاً على وزن هذا البيت وقافيته؛ فلما سمعها عبد الله قال: أنخ، فو الله لا جاوزت هذا المكان حتى ترجع إليك أفراخك- يعني الجائزة- وأمر له بكل بيت ألف درهم.
وقال أبو بكر الخطيب: دخل عوف بن محلم على عبد الله بن طاهر فسلم، فرد عبد الله عليه، وفي أذن عوف ثقل، فأنشد عوف المذكور:
يا بن الذي دان «1» له المشرقان ... طرا وقد دان «2» له المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وقيل: إن عبد الله بن طاهر لما وصل إلى مدينة مرو وجلس في قصر الإمارة دخل عليه أبو يزيد الشاعر وأنشده:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في قصر مرو ودع عدان «3» لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة «4» بن علي وابن ذي «5» يزن(2/199)
فأعطاه عشرين ألفاً. وقيل: إنه أنشده غيرهما وهو قوله أيضا:
يقول رجال إن مرو بعيدة ... وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر
وقيل: إن عبد الله بن طاهر قدم مرة نيسابور فأمطروا، فقال بعض الشعراء:
قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالمطر
غيثان في ساعة لنا أتيا ... فمرحباً بالأمير والدرر
ومن شعر عبد الله بن طاهر المذكور قوله:
نبهته وظلام الليل منسدل ... بين الرياض دفيناً في الرياحين
فقلت خذ قال كفي لا تطاوعني ... فقلت قم قال رجلي لا تواتيني «1»
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
وله نظم كثير غير ذلك. ولما دخل إلى مصر وفرق خراجها قبل أن يدخلها حسبما تقدم ذكره أنشده عطاء الطائي- وكان عبد الله بن طاهر واجدا عليه قبل ذلك- قوله:
يا أعظم الناس عفواً عند مقدرة ... وأظلم الناس عند الجود للمال
لو يصبح النيل يجري ماؤه ذهباً ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
فأعجبه وعفا عنه؛ وأقترض عشرة آلاف دينار ودفعها إليه، فإنه كان فرق جميع ما معه قبل دخول مصر.
ولما دخل عبد الله بن طاهر إلى مصر قمع المفسدين بها ومهد البلاد ورتب أحوالها وأقام على إمرة مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وخرج منها لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين؛ واستخلف على مصر عيسى بن(2/200)
يزيد الجلودي على صلاتها وركب البحر وتوجه إلى العراق؛ فلما قارب بغداد تلقاه العباس ولد الخليفة المأمون، والمعتصم محمد أخو المأمون وأعيان الدولة وقدم عبد الله بغداد وبين يديه المتغلبون على الشأم ومصر مثل ابن أبي الجمل وابن أبي أسقر «1» وغيرهما، فأكرمه المأمون؛ ثم ولاه بعد ذلك الأعمال الجليلة مثل خراسان وغيرها. ويقال: إن عبد الله بن طاهر المذكور هو الذي زرع بمصر البطيخ العبدلي «2» وإليه ينسب بالعبدلي «3» ، وأظنه ولده عن نوعين، فإنه لم يكن ببلد خلاف مصر اهـ. وعاش بعد عزله عن مصر سنين إلى أن مات بمرو في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين هـ بعد أن مرض ثلاثة أيام بحلقه (يعني بعلة الخوانيق) . ومات وله ثمان وأربعون سنة وقبل أن يموت تاب وكسر الملاهي وعمر الرباطات بخراسان ووقف لها الوقوف وافتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم. وكان عادلاً في الرعية محبباً لهم وكان عظيم الهيبة حسن المذهب شجاعاً مقداماً. ولما مات خلف في بيت ماله أربعين ألف ألف درهم سوى ما في بيت مال العامة. وتولّى مصر من بعده عيسى ابن يزيد الجلودي الذي استخلفه عبد الله المذكور، أقره المأمون على إمرة مصر بسفارة عبد الله هذا اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 211]
السنة الأولى من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة إحدى عشرة ومائتين- فيها أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أو فضله على أحد من الصحابة؛ وأن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى(2/201)
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان المأمون يبالغ في التشيع لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء، بل كان يترضى عنهما ويعتقد إمامتهما. وفيها توفي عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ، أبو بكر الصنعاني الحميري، مولده سنة ستّ وعشرين ومائة هـ؛ وسمع الكثير وروى عنه خلق من كبار المحدثين: مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما. ومات باليمن في النصف من شوال من السنة.
وفيها توفي معلى «1» بن منصور، الحافظ أبو يعلى الرازي الحنفي، كان ثقة صدوقا نبيلا حليلا صاحب فقه وسنة كثير الحديث صحيح السماع؛ سئل عن القرآن فقال: من قال: إنه مخلوق فهو كافر. وطلب للقضاء فامتنع رحمه الله تعالى. وفيها توفي موسى بن سليمان أبو سليمان الجرجاني الحنفي، كان إماماً فقيهاً بصيراً بالفقه والسنة وكان صدوقاً، عرض عليه المأمون القضاء فامتنع وأعتذر بعذر مقبول رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي علي بن الحسين بن واقد بمرو، وعبد الله بن صالح العجلى المقرئ، والأحوص بن جواب أبو الجواب الضبي، وطلق بن غنام ثلاثتهم بالكوفة، وأبو العتاهية الشاعر ببغداد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.(2/202)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 212]
السنة الثانية من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة اثنتي عشرة ومائتين- فيها وجه المأمون محمد بن «1» طاهر على مصر. وفيها وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي لمحاربة بابك الخرمي. وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافاً إلى تفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، رضي الله عنهم أجمعين؛ وأشمأزت النفوس منه وأشخص العلماء وآذاهم وضربهم وحبسهم ونفاهم وقويت شوكة الخوارج.
وخلع المأمون من الخلافة الأمير أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر [العين «2» ] ببلاد اليمن؛ ثم سار المأمون إلى دمشق وصام بها رمضان وتوجه فحج «3» بالناس. وفيها في شهر ربيع الأول كتب المأمون إلى الآفاق بتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة. وفيها توفي أحمد بن أبي خالد الوزير أبو العباس وزير المأمون، كان أبوه كاتباً لأبي عبد الله وزير المهدي جد المأمون، وكان أحمد هذا فاضلاً مدبراً جواداً ذا رأي وفطنة إلا أنه كانت أخلاقه سيئة؛ قال له رجل يوماً:
والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك؛ قال: قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
وأنت فظ غليظ القلب وما ننفض من حولك!.(2/203)
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة؛ قال: وفيها توفي أبو عاصم النبيل، وعبد الرحمن بن حماد الشعيثي «1» ، وعون بن عمارة العبدي بالبصرة، ومحمد بن يوسف الفريابي بقيسارية «2» ، ومنبه بن عثمان بدمشق، وأبو المغيرة عبد القدّوس الخولانىّ بحمص، وزكريا بن عدي ببغداد، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون الفقيه بالمدينة، وعلي بن قادم بالكوفة، وخلاد «3» بن يحيى بمكة، والحسين بن حفص الهمداني «4» بأصبهان، وعيسى بن دينار الغافقي «5» الفقيه بالأندلس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية عيسى بن يزيد الأولى على مصر
هو عيسى بن يزيد الجلودي، ولي إمرة مصر باستخلاف عبد الله بن طاهر عليها، فأقره المأمون على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج، فتحوّل الى المعسكر وسكن به على عادة الأمراء؛ وجعل على شرطته ابنه محمداً وعلى المظالم إسحاق بن متوكل. وكانت ولايته على مصر نيابة عن عبد الله بن طاهر، فدام عيسى هذا على إمرة مصر إلى سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ. [و] صرف المأمون عبد الله بن طاهر عن إمرة مصر وولّاها لأخيه المعتصم محمد بن هرون الرشيد. فلما(2/204)
ولي المعتصم مصر أقر عيسى هذا على الصلاة فقط، وجعل على خراج مصر صالح بن شيرزاد. فلما ولي صالح المذكور الخراج ظلم الناس وزاد الخراج وعسف فانتقض عليه أهل الحوف واجتمعوا وعسكروا وعزموا على قتاله، وكان عليهم عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية؛ فقام عيسى بن يزيد بنصرة صالح وبعث ابنه محمداً في جيش فحاربوه فانهزم وقتل أصحابه. وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين هـ.
وبلغ الخبر أبا إسحاق المعتصم فعظم عليه وعزل عيسى هذا عن إمرة مصر وولى عوضه عمير بن الوليد التميمي. فكانت ولاية عيسى على مصر في هذه المرة الأولى سنة وسبعة أشهر وأياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 213]
السنة التي حكم في بعضها عيسى بن يزيد على مصر وهي سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ- فيها خرج عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية بمصر، فولى المأمون أخاه أبا إسحاق المعتصم على مصر وعزل عبد الله بن طاهر. وقد ذكرنا ذلك كله في ترجمة عيسى بن يزيد. وفيها ولى المأمون ولده العباس على الجزيرة وأمر لكل من المعتصم والعباس بخمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل ذلك لعبد الله بن طاهر المعزول عن إمرة مصر حتى قيل: إنه لم يفرق ملك ولا سلطان في يوم واحد مثل ما فرقه المأمون في هذا اليوم.
قلت: لعل الدينار يوم ذاك لم يكن مثل دينارنا اليوم بل يكون مثل دنانير المشارقة التي تسمى بتنكثا «1» والله أعلم. وفيها استعمل المأمون على السند الأمير غسّان ابن عباد، وكان غسان هذا من رجال الدهر حزماً وعزماً، وكان ولي خراسان قبل(2/205)
ذلك وعزل بعبد الله بن طاهر المقدم ذكره. وفيها توفي أحمد بن يوسف بن القاسم ابن صبح، أبو جعفر الكاتب الكوفي مولى بني العجل كاتب المأمون على ديوان الرسائل؛ كان من أفضل الكتاب في عصره وأذكاهم وأجمعهم للمحاسن، وكان فصيح اللسان مليح الخط يقول الشعر الجيد، قال له رجل يوماً: ما أدري مم أعجب، مما وليه الله من حسن خلقك، أو مما وليته من تحسين خلقك! وفيها توفي أسود بن سالم أبو محمد البغدادي الزاهد الورع الصالح المشهور، كان بينه وبين معروف الكرخي مودة ومحبة، وكان من كبار القوم وممن له كرامات وأحوال. وفيها توفي بشر بن أبي الأزهر يزيد الإمام أبو سهل القاضي الحنفي، كان من أعيان فقهاء أهل الكوفة وزهادها، سأله رجل عن مسألة فأخطأ فيها فعزم أن يقصد عبد الله بن طاهر الأمير لينادى عليه في البلدان: بشر أخطأ في مسألة في النكاح حتى رده رجل وقال: أنا أعرف الرجل الذي سألك، فأتي به إليه فقال له: أنا أخطأت وقد رجعت عن قولي، والجواب فيه كذا وكذا.
قلت: لله در هذا العالم الذي يعمل بعلمه رحمه الله تعالى.
وفيها توفي ثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري الماجن، كان له نوادر واتصل بهارون الرشيد وولده المأمون. قيل: إنه خرج بعد المغرب من منزله سكران فصادفه «1» المأمون فى نفر، فلما رأه ثمامة عدل عن طريقه وقد أبصره المأمون، فساق إليه المأمون وحاذاه، فقال له: ثمامة؟ قال: إي والله، قال: سكران أنت؟ قال:
لا والله، قال: أفتعرفني؟ قال: إي والله، قال: فمن أنا؟ قال: لا أدري والله؛ فضحك المأمون حتى كاد يسقط عن دابته. ولثمامة هذا حكايات كثيرة من هذا(2/206)
الجنس. وفيها توفي أبو عاصم النبيل في قول صاحب المرآة قال: واسمه الضحاك الشيباني البصري الحافظ المحدث، كان فقيهاً عالماً حافظاً سميع الكثير وحدث وسمع منه خلق ومات في ذي الحجة.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي عبد الله بن موسى العبسي، وخالد بن مخلد القطواني بالكوفة، وعمرو بن عاصم الكلابي بالبصرة، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بمكة، وعمرو بن أبي سلمة والهيثم بن جميل الحافظ بأنطاكية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً ونصف.
ذكر ولاية عمير بن الوليد على مصر
هو عمير بن الوليد الباذغيسي التميمي أمير مصر، ولي مصر باستخلاف أبي إسحاق محمد المعتصم له لأن الخليفة المأمون كان ولى مصر لأخيه المعتصم بعد عزل عبد الله ابن طاهر وولى المعتصم عميراً هذا على الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر سنة أربع عشرة ومائتين، وسكن المعسكر وجعل على شرطته ابنه محمدا؛ وعند ما تم أمره خرج عليه القيسية واليمانية الذين كانوا خرجوا قبل تاريخه وعليهم عبد السلام وأبن الجليس، فتهيأ عمير هذا وجمع العساكر والجند وخرج لقتالهم وخرج معه أيضاً فيمن خرج الأمير عيسى بن يزيد الجلودي المعزول به عن إمرة مصر، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة ومائتين، واستخلف عمير ابنه محمداً على صلاة مصر، وسافر بجيوشه حتى ألتقى مع أهل الحوف القيسية واليمانية؛ فكانت بينهم وقعة هائلة وقتال ومعارك وثبت كل من الفريقين حتى قتل عمير هذا في المعركة لست عشرة(2/207)
خلت من شهر ربيع الأول المذكور. وقال صاحب البغية: قتل عمير في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول، فوافق في الشهر والسنة، وخالف في اليوم.
قلت: وكانت ولاية عمير بن الوليد المذكور على مصر استقلالاً من قبل أبي إسحاق المعتصم شهرين سواء وتولى من بعده مصر عيسى بن يزيد الجلودىّ ثانيا.
ذكر ولاية عيسى بن يزيد الجلودي ثانياً على مصر
ولي عيسى بن يزيد هذا مصر ثانياً من قبل أبي إسحاق محمد المعتصم بعد قتل عمير ابن الوليد على الصلاة، ولما ولي مصر، قصده قيس ويمن على العادة وقد كثر جمعهم من أهل الحوف وقطاع الطريق، فوقع لعيسى هذا أيضاً معهم حروب وفتن، وجمع عساكره وخرج إليهم حتى التقاهم بمنية مطر (أعنى المطرية بقرب مدينة عين شمس التي فيها العمود الذي تسميه العامة بمسلة فرعون) وقاتلهم؛ فكانت بينهم حروب هائلة انكسر فيها الأمير عيسى بمن معه وقتل من عسكره خلائق وانحاز إلى مصر، وذلك في شهر رجب من سنة أربع عشرة ومائتين المذكورة؛ وبلغ المأمون ذلك فعظم عليه وطلب أخاه أبا إسحاق محمداً المعتصم وندبه للخروج إلى مصر وقال له:
امض إلى عملك وأصلح شأنه، وكان المعتصم شجاعاً مقداماً؛ فخرج المعتصم من بغداد في أربعة آلاف من أتراكه وسافر حتى قدم مصر في أيام يسيرة وعيسى كالمحصور مع أهل الحوف، وقبل دخوله إلى مصر بدأ بقتال أهل الحوف من القيسية واليمانية وقاتلهم وهزمهم وقتل أكابرهم ووضع السيف في القيسية واليمانية حتى أفناهم، وذلك في شعبان من السنة ومهد البلاد وأباد أهل الفساد؛ ثم دخل الفسطاط (أعني مصر) وفي خدمته عيسى الجلودي وجميع أعيان المصريين(2/208)
لثمان بقين من شعبان، وسكن بالمعسكر حتى أصلح أحوال مصر؛ ثم خرج منها إلى الشأم في غرة المحرم سنة خمس عشرة ومائتين في أتراكه ومعه جمع كثير من الأسرى في ضر وجهد شديد مشاة حفاة أمام الخيالة.
قلت: وشجاعة المعتصم معروفة مشهورة تذكر في خلافته ووفاته، وهو الآن ولي عهد أخيه عبد الله المأمون؛ وقبل أن يخرج من مصر مهد أمورها وولى عليها عبدويه بن جبلة وعزل عيسى بن يزيد الجلودي صاحب الترجمة. فكانت ولاية عيسى هذه الثانية على مصر نحواً من ثمانية أشهر تنقص أيّاما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 214]
السنة التى حكم فيها على مصر عمير بن الوليد ثم عيسى بن يزيد الجلودي ثانياً وهي سنة أربع عشرة ومائتين- فيها قتل الأمير محمد بن الحميد الطوسي في حرب كان «1» بينه وبين أصحاب بابك الخرمي. وفيها أيضاً قتل أبو الداري أمير اليمن. وفيها كانت قتلة عمير بن الوليد صاحب مصر المقدم ذكره. وفيها خرج بلال الشاري «2» وقويت شوكته، فندب الخليفة المأمون لحربه هارون بن أبي خلف فتوجه إليه وقاتله وظفر به وقتله. وفيها ولى المأمون أذربيجان وأصبهان والجبال وحرب بابك الخرّمىّ الأمير علي بن هشام، فتوجه علي المذكور بجيوشه وقاتل بابك وواقعه في هذه السنة غير مرّة.(2/209)
قلت: وقد طال أمر بابك هذا على الناس وامتدت أيامه وحاربه جماعة كثيرة من أمراء المأمون وتعب الناس من أجله تعبا زائداً وهو لا يكل من الخروج والقتال إلى ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي أحمد بن جعفر الحافظ أبو عبد الرحمن الوكيعي الضرير البغدادي، وسمي الوكيعي لملازمته وكيع بن الجراح المقدم ذكره.
قال إبراهيم الحربي: كان الوكيعي يحفظ مائة ألف حديث.
وفيها توفي الإمام أبو زيد النحوي البصري واسمه سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، كان إماماً في علم النحو واللغة والأشعار ومذاهب العرب وآبائهم وأيامهم، وكان ثقة حافظاً صدوقاً.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة الحافظ أبو عامر السوائي هو من بنى عامر ابن صعصعة، كان إماماً حافظاً زاهداً قنوعاً أسند عن سفيان الثوري والحمادين وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره.
وفيها توفي الوليد بن أبان الكرابيسي المعتزلي، كان من كبار المعتزلة بالبصرة وله في الاعتزال مقالات معروفة يقوي بها مذاهب المعتزلة.
قلت: كان من كبار العلماء ذكره المسعودي وأثنى على علمه وفضله.
وفيها توفي أبو العتاهية الشاعر المشهور أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد ابن كيسان العنزي مولاهم الكوفي نزيل بغداد وأصله من سبي عين «1» التمر ولقبوه بأبي العتاهية لاضطراب «2» كان فيه.(2/210)
وقيل: بل كان يحب الخلاعة فكنى بذلك. وهو أحد فحول الشعراء ونسك فى آخر عمره ومال «1» للزهد والوعظ. مات فى هذه السنة. وقيل: سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو الأقوى، وقيل: فى جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة ومائتين وهو الذي ذكره الذهبىّ. ومدح المهدىّ ومن بعده من الخلفاء، ومن مديحه:
إنّ المطايا تشتكيك لأنها ... تطوى اليك سباسبا «2» ورمالا
فإذا رحلن بنا رحلن مخفّة ... واذا رجعن بنا رجعن ثقالا
وله:
يا رب إن الناس لا ينصفوننى ... فكيف إذا «3» أنصفتهم ظلمونى
وإن كان لى شىء تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغى سيبهم منعونى
وإن نالهم بذلى فلا شك عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتمونى
وما أحسن قوله:
هب الدّنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك الى زوال
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن خالد الذّهبىّ «4» بحمص، وعبد الله بن عبد الحكم الفقيه بمصر، وسعيد بن سلّام العطّار بالبصرة، ومحمد بن الحميد الطّوسىّ الأمير قتل فى حرب الخرّميّة، وأبو الدّارىّ أمير اليمن قتل أيضا، وعمير الباذغيسىّ نائب مصر خلافة عن المعتصم، قتل فى الحوف فى حرب ابن الجليس وعبد السلام؛ فسار أبو إسحاق بنفسه اليهما فظفر بهما وقتلهما. انتهى كلام الذهبىّ.(2/211)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا ونصف.
ذكر ولاية عبدويه بن جبلة على مصر
هو عبدويه بن جبلة أصله من الأبناء من قوّاد بنى العباس، ولّاه المعتصم نيابة عنه على صلاة مصر بعد عزل عيسى بن يزيد الجلودىّ عن إمرة مصر فى مستهلّ المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين؛ ثم خرج المعتصم بعد ولايته إلى الشأم حسبما تقدّم ذكره؛ وبعد سفر المعتصم تحوّل عبدويه هذا الى المعسكر وسكن به على عادة الأمراء، وجعل على الشّرطة ابنه، وعلى المظالم اسحاق بن اسماعيل بن حمّاد بن زيد؛ ولمّا ولى مصر أخذ فى إصلاح أحوالها وإثبات ما قرّره المعتصم بها من الأمور. وبينما هو فى ذلك خرج عليه أناس من الحوفيّة أيضا من القيسيّة واليمانيّة فى شعبان من السنة، فتهيّأ عبدويه لمحاربتهم وجهّز اليهم جيشا فسار اليهم الجيش وحاربوهم وظفروا بهم بعد أمور ثم حضر اليه بعد ذلك الأفشين حيدر بن كاوس الصّغدىّ الى مصر فى ثالث ذى الحجة من السنة ومعه علىّ بن عبد العزيز الجروىّ لأخذ المال فلم يدفع اليه عبدويه وقاتله «1» ، فخرج الأفشين الى برقة، وصرف عبدويه بن جبلة عن إمرة مصر بعيسى بن منصور بن موسى؛ وبعد عزل عبدويه المذكور عاد الأفشين الى مصر وأقام بها على ما سيأتى ذكره، فكانت ولاية عبدويه بن جبلة على مصر نيابة عن أبى اسحاق محمد المعتصم سنة واحدة.(2/212)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 215]
السنة التى حكم فيها عبدويه بن جبلة على مصر وهى سنة خمس عشرة ومائتين- فيها وصل أبو إسحاق المعتصم من مصر الى الموصل واجتمع بأخيه الخليفة عبد الله المأمون وعرّفه ما فعل بمصر فشكره على ذلك. وفيها سار المأمون من الموصل الى غزو دابق «1» وأنطاكية فغزاهما وتوجّه إلى الشأم ودخلها وأقام بها، وكتب الى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم أن يأخذ الجند بالتكبير اذا صلّوا الجمعة، وبعد الصلوات الخمس اذا قضوا الصلاة أن يصيحوا قياما ويكبّروا ثلاث تكبيرات، ففعل ذلك فى شهر رمضان فقال الناس: هذه بدعة ثالثة.
قلت: البدعة الأولى لبس الخضرة وتقريب للعلويّة وإبعاد بنى العباس؛ والثانية القول بخلق القرآن وهى المصيبة العظمى؛ والثالثة هذه. ثم فيها أباح المأمون أيضا المتعة فقال الناس: هذه بدعة رابعة. وفيها غضب المأمون على الأمير علىّ بن هشام وبعث اليه عجيفا «2» وأحمد بن هشام لقبض أمواله.
وفيها توفّى الأمير إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علىّ بن عبد الله بن العباس أبو الحسن الهاشمىّ العباسىّ، كان من أعيان بنى العباس وأفاضلهم، وولى الأعمال الجليلة بعدّة بلاد.
وفيها توفيت زبيدة بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العباس، أم جعفر الهاشمية العبّاسيّة، واسمها أمة العزيز زوجة هارون الرشيد(2/213)
وبنت عمّه وأمّ ولده الأمين محمد المقتول بيد طاهر بن الحسين بسيف المأمون، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه. وماتت زبيدة وهى أعظم نساء عصرها دينا وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفا، أحصى ما أنفقته فى حجّة واحدة فكان ألفى ألف دينار، قاله أبو المظفّر فى مرآة الزمان.
قلت: ولعلّها عمّرت فى هذه الحجّة المصانع التى بطريق الحجاز أو بعضها اهـ.
وكان فى قصر زبيدة مائة جارية تقرأ القرآن. فكان يسمع من قصرها دوىّ كدوىّ النّحل من القراءة، ولم تزل زبيدة فى حشمها أيام زوجها الرشيد وفى أيام ولدها محمد الأمين وفى أيام ابن زوجها عبد الله المأمون، لم يتغيّر من حالها شىء الى أن ماتت فى هذه السنة؛ وقيل فى سنة ستّ عشرة ومائتين وهو الأشهر. وأما ما فعلته من المآثر والمصانع بالحجاز وغيره فهو معروف لا يحتاج إلى ذكره هنا، وكانت مع هذا الجمال والحشمة فصيحة لبيبة عاقلة مدبّرة؛ قيل: إنّ المأمون دخل اليها بعد قتل ابنها الأمين يعتذر اليها ويعزّيها فيه ويسكّن ما بها من الحزن، فقال لها: يا ستّاه، لا تأسفى «1» عليه فإنى عوضه لك؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا آسف «2» على ولد خلّف أخا مثلك! ثم بكت وأبكت المأمون حتى غشى عليه.
قلت: ولم يكن قتل الأمين بإرادة أخيه المأمون وانما اقتحمه طاهر بن الحسين وقتله من غير إذن المأمون، وحقد المأمون عليه لذلك ولم يسعه الا السكوت.(2/214)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو زيد الأنصارىّ صاحب العربيّة بالبصرة واسمه سعيد بن أوس، والعلاء بن هلال الباهلىّ بالرّقّة، ومحمد ابن عبد الله الأنصارىّ القاضى بالبصرة، ومكّىّ بن ابراهيم الحنظلىّ ببلخ، وعلىّ ابن الحسن بن شقيق بمرو، ومحمد بن مبارك الصّورىّ بدمشق، وإسحاق بن عيسى ابن الطبّاع ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية عيسى بن منصور على مصر
هو عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقىّ «1» مولى بنى نصر بن معاوية أمير مصر، وليها من قبل أبى إسحاق محمد المعتصم بعد عزل عبدويه بن جبلة عنها فى مستهلّ سنة ستّ عشرة ومائتين على الصلاة، وسكن عيسى بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته أبا المغيث يونس «2» بن ابراهيم. وفى أيام ولايته انتقضت عليه أسفل الأرض بغربها «3» أعنى بالوجه البحرىّ، وانضم الأقباط عليهم وذلك فى جمادى الأولى، وحشدوا وجمعوا فكثر عددهم وساروا نحو الديار المصرية؛ فتجهّز عيسى وجمع العساكر والجند لقتالهم فضعف عن لقائهم وتقهقر بمن معه، فدخلت الأقباط وأهل الغربية مصر وأخرجوا منها عيسى هذا على أقبح وجه لسوء سيرته، وخرج معه أيضا متولّى خراج مصر وخلعوا الطاعة؛ فقدم الأفشين(2/215)
من برقة وتهيّأ لقتال القوم فى النصف من جمادى الآخرة، وانضمّ عليه عيسى ابن منصور هذا ومن انضاف اليه، وتجمعوا وتجهّزوا لقتال القوم وخرجوا فى شوّال وواقعوهم فظفروا بهم بعد أمور وحروب وأسروا وقتلوا وسبوا؛ ثم مضى الأفشين الى الحوف وقاتلهم أيضا لما بلغه عنهم وبدّد جمعهم وأسر منهم جماعة كبيرة بعد أن بضّع فيهم وأبدع؛ ودامت الحروب فى السنة المستمرّة بمصر فى كلّ قليل الى أن قدمها أمير المؤمنين عبد الله المأمون لخمس خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور المذكور وحلّ لواءه وعزله ونسب له كلّ ما وقع بمصر ولعمّاله؛ ثم جهّز العساكر لقتال أهل الفساد وأحضر بين يديه عبدوس الفهرىّ فضربت عنقه لأنه كان أيضا ممن تغلّب على مصر. ثم سار عسكره لقتال أسفل الأرض أهل الغربية والحوف وأوقعوا بهم وسبوا القبط وقتلوا مقاتلتهم وأبادوهم وقمعوا أهل الفساد من سائر أراضى مصر بعد أن قتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم رحل الخليفة المأمون من مصر لثمان عشرة خلت من صفر بعد أن أقام بمصر وأعمالها (مثل سخا «1» وحلوان وغيرهما) تسعة وأربعين يوما؛ وولّى على صلاة مصر كيدر وعلى الشّرطة أحمد بن بسطام الأزدىّ من أهل بخارا. وعمّر المقياس وجسرا آخر بالجزيرة تجاه الفسطاط.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 216]
السنة التى حكم فيها عيسى بن منصور على مصر وهى سنة ست عشرة ومائتين- فيها كرّ المأمون راجعا «2» من العراق الى غزو الروم لكونه بلغه أنّ ملك(2/216)
الروم قتل خلقا من المسلمين من أهل طرسوس والمصّيصة، فسار اليها حتى وصلها فى جمادى الأولى من السنة فأقام بها الى نصف شعبان؛ وجهّز أخاه أبا إسحاق محمدا المعتصم لغزو الروم فسار وافتتح عدّة حصون، ثم وجّه المأمون أيضا القاضى يحيى ابن أكثم الى جهة أخرى من الروم فتوجّه وأغار وقتل وسبى، ثم رجع المأمون فى آخر السنة الى دمشق وتوجّه منها الى الديار المصرية حسبما تقدّم ذكره ودخلها فى أوّل سنة سبع عشرة ومائتين.
وفيها توفى محمد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب بن أبى صفرة، كان من أكابر؟؟؟ مراء، ولى إمرة البصرة والصلاة بها وغيرها، وكان جوادا ممدّحا قدم مرّة على المأمون فقال له: يا محمد أردت أن أولّيك فمنعنى إسرافك فى المال؛ فقال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء الظنّ بالمعبود؛ فقال له المأمون: لو شئت أبقيت على نفسك؛ فقال محمد: من له مولى غنىّ لا يفتقر، فاستحسن المأمون ذلك منه وولّاه عملا.
وقيل للعتبىّ: مات محمد بن عبّاد؛ فقال: نحن متنا بفقده وهو حىّ بمجده.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى حبّان «1» بن هلال، وعبد الملك بن قريب الأصمعىّ، ومحمد بن كثير المصّيصىّ الصّنعانىّ، والحسن بن سوّار البغوىّ، وعبد الله بن نافع المدنىّ الفقيه، وعبد الصمد بن النعمان البزاز «2» ، ومحمد بن بكّار بن بلال قاضى دمشق، ومحمد بن عبّاد المهلّبىّ أمير البصرة، ومحمد ابن سعيد بن سابق نزيل قزوين، وزبيدة زوجة الرشيد وابنة عمه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع.(2/217)
ذكر ولاية كيدر على مصر
هو كيدر واسمه نصر بن عبد الله وكيدر شهرة غلبت عليه، الأمير أبو مالك الصّغدىّ؛ ولى إمرة مصر بعد عزل عيسى بن منصور فى صفر سنة سبع عشرة ومائتين من قبل المأمون على الصلاة فسكن المعسكر على عادة الأمراء بعد رحيل المأمون، وجعل على شرطته ابن «1» إسبنديار. ثم بعث المأمون برجل من العجم يسمى بابن بسطام على الشّرطة فولى مدّة ثم عزله كيدر لسوء سيرته لرشوة ارتشاها وضربه بالسوط فى صحن الجامع، ثم ولّى ابنه المظفّر عوضه. ودام كيدر على إمرة مصر الى أن ورد عليه كتاب المأمون فى جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة ومائتين بأخذ «2» الناس بالمحنة- أعنى بالقول بخلق القرآن- وكان القاضى بمصر يومئذ هارون بن عبد الله الزهرىّ، فأجاب القاضى والشهود، ومن توقّف منهم عن القول بخلق القرآن سقطت شهادته. وأخذ كيدر يمتحن القضاة وأهل الحديث وغيرهم، وكان كتاب المأمون الى كيدر يتضمّن ذلك: «وقد عرف أمير المؤمنين أنّ الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو «3» الرعية وسفلة العامّة ممن لا نظر له ولا رويّة ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حقّ قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرّقوا بينه وبين خلقه؛ وذلك أنهم ساووا بين الله «4» وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه؛ وقد قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
، وكلّ ما جعله فقد خلقه؛ كما قال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
؛ وقال تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ(2/218)
ما قَدْ سَبَقَ
؛ فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها. وقال عزّ وجلّ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
. والله تعالى محكم كتابه ثم مفصّله، فهو خالقه ومبتدعه.
ثم انتسبوا الى السنة وأنهم أهل الحقّ والجماعة وأنّ من سواهم أهل الكفر والباطل؛ فاستطالوا بذلك وغرّوا به الجهّال، حتى مال قوم من أهل السمت «1» الكاذب والتخشّع لغير الله الى موافقتهم، فنزعوا الحقّ الى باطلهم واتخذوا دين «2» الله وليجة «3» إلى ضلالهم. الى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أنّ أولئك شرّ الأمة المنقوصون من التوحيد حظّا، أوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق فى أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله؛ وأحقّ أن يتّهم فى صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به.
ومن عمى «4» عن رشده وحظه عن الإيمان بالتوحيد، كان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا. ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه وتخرّص الباطل ولم يعرف الله حقّ معرفته. فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا هذا، وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون فى خلق الله [القرآن «5» ] وإحداثه، وأعلمهم أنى غير مستعين فى عمل ولا واثق بمن لا يوثق بدينه. فإذا أقرّوا بذلك ووافقوا [عليه «6» ] فمرهم بنظر «7» من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم عن القرآن، وترك شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق؛ واكتب الينا بما يأتيك عن قضاة أهل أعمالك فى مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. ثم كتب المأمون بمثل ذلك الى سائر عمّاله والى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعىّ ابن عمّ طاهر بن الحسين أن يرسل اليه سبعة نفر، وهم:
محمد بن سعد كاتب الواقدىّ، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملى يزيد(2/219)
ابن هارون، واسماعيل بن داود، واسماعيل بن أبى مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدّورقىّ؛ فأشحصوا اليه، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه فردّهم من الرّقة الى بغداد؛ وكانوا توقّفوا أوّلا ثم أجابوه خوفا من العقوبة. ثم كتب المأمون أيضا الى إسحاق بن ابراهيم المذكور بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم «1» بما أجاب به هؤلاء السبعة؛ ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون. ثم كتب اليه كتابا آخر من جنس الأوّل وأمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة: منهم أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وبشر بن الوليد الكندىّ، وأبو حسّان الزّيادىّ، وعلىّ بن أبى مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيد الله بن عمر القواريرىّ، وعلىّ بن الجعد، وسجّادة- واسمه الحسن بن حمّاد- والذّيّال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد «2» ، وكان حينئذ ببغداد، وسعدويه الواسطىّ، وإسحاق بن أبى إسرائيل وابن الهرش، وابن عليّة الأكبر، ومحمد بن نوح العجلىّ، ويحيى بن عبد الرحمن العمرىّ، وأبو نصر التمّار، وأبو معمر القطيعىّ، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم؛ وعرض عليهم كتاب المأمون فعرّضوا وورّوا ولم يجيبوا ولم ينكروا؛ فقال لبشر بن الوليد: ما تقول؟ قال: قد عرّفت أمير المؤمنين غير مرّة؛ قال: فالآن قد تجدّد من أمير المؤمنين كتاب؛ قال: أقول: كلام الله؛ قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير هذا الذي قلت لك، إنى قد استعهدت أمير المؤمنين أنى لا أتكلّم فيه. ثم قال لعلىّ بن أبى مقاتل: ما تقول؟ قال: القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشىء سمعنا وأطعنا. ثم أجاب أبو حسّان الزيادىّ بنحو من ذلك. ثم قال لأحمد بن حنبل رضى الله عنه: ما تقول؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد على ذلك.(2/220)
قلت: والامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه هو أعظم من قام فى إظهار السنّة وثبّته الله على ذلك، ولولاه لفسدت عقائد جماعة كثيرة، وقد تداولته الخلفاء بالعقوبة على القول بخلق القرآن وهو يمتنع من ذلك أشدّ امتناع، ويأتى بالأدلّة القاطعة، الى أن خلّصه الله منهم وهو على كلمة الحق. ثم قال لابن البكّاء الأكبر:
ما تقول؟ قال: أقول القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك؛ فقال إسحاق ابن ابراهيم: والمجعول مخلوق! قال نعم؛ قال: فالقرآن مخلوق! قال: لا أقول مخلوق. ثم وجّه إسحاق بن إبراهيم بجواباتهم الى المأمون. فورد عليه كتاب المأمون:
بلغنا ما أجاب به متصنّعة أهل القبلة وملتمسو الرياسة فيما ليسوا له بأهل؛ فمن لم يجب بأنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية «1» . ثم قال فى الكتاب: وأمّا ما قال بشر فقد كذب، لم يكن جرى بينه وبين أمير المؤمنين فى ذلك عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الاخلاص والقول بأن القرآن مخلوق. فادع به اليك فإن تاب فاشهر أمره، وان أصرّ على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه وابعث الينا برأسه؛ وكذلك ابراهيم. وأما علىّ بن أبى مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلّل وتحرّم. وأما الذيّال فأعلمه أنه كان فى الطعام الذي سرقه من الأنبار ما يشغله. وأمّا أحمد بن يزيد وقوله: إنه لا يحسن الجواب فى القرآن، فأعلمه أنه صبىّ فى عقله لا فى سنّه، جاهل «2» سيحسن الجواب اذا أدّب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك. وأمّا أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته واستدلّ على جهله وآفته بها. وأمّا الفضل(2/221)
ابن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر وما اكتسب من الأموال فى أقل من سنة، يعنى فى ولايته القضاء. وأمّا الزّيادىّ فأعلمه واذكر له ما يشينه «1» . وأمّا أبو نصر التّمّار فانّ أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة «2» متجره.
وأمّا ابن نوح وابن حاتم [والمعروف «3» بأبى معمر] ، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ «4» محاربتهم فى الله [ومجاهدتهم «5» إلا لإربائهم «6» ] وما نزل به كتاب الله فى أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع «7» الإرباء شركا وصاروا للنصارى شبها! ثم ذكر لكل واحد منهم شيئا وبّخه به.
حتى قال: ومن لم يرجع عن شركه ممن سمّيت بعد بشر وابن المهدىّ فآحملهم موثقين الى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا حملهم على السيف؛ قال: فأجابوا كلّهم عند ذلك الا أحمد بن حنبل وسجّادة ومحمد بن نوح والقواريرىّ، فأمر بهم فقيّدوا، ثم سألهم من الغد وهم فى القيود؛ فأجاب سجادة، ثم عاودهم بالثانى فأجاب القواريرىّ. فوجّه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح. ثم بلغ المأمون أنهم إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم اليه؛ فلما صاروا الى الرقّة بلغهم وفاة المأمون، وكذا «8» ورد الخبر على أحمد بن حنبل. وأمّا محمد بن نوح فكان عديلا لأحمد بن حنبل فى المحمل فمات، فوليه أحمد وصلّى عليه ودفنه. هذا ما كان بالعراق.
وأمّا مصر، فبينما كيدر فى امتحان علمائها وفقهائها ورد عليه الخبر بموت المأمون فى شهر رجب قبل أن يقبض على من طلبه المأمون، وأنّ المعتصم محمدا بويع بالخلافة(2/222)
من بعده. ثم عقيب ذلك ورد على كيدر كتاب المعتصم ببيعته ويأمره بإسقاط من فى الديوان من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعل كيدر ذلك؛ فخرج يحيى بن الوزير الجروىّ «1» فى جمع من لخم وجذام عن الطاعة، فتجهز كيدر لحربهم، فأدركته المنية ومات فى شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر بن كيدر بعده على مصر، فأقرّه المعتصم على إمرة مصر؛ فكانت ولايته على مصر سنتين [وشهرين «2» ] تنقص أياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 217]
السنة الأولى التى ولى فيها كيدر على مصر وهى سنة سبع عشرة ومائتين- فيها خرج المأمون من مصر وتوجّه الى الشأم ثم غزا الروم وأقبل ملك الروم توفيل فى جيوشه فجهز المأمون لحربه الجيوش، ثم كتب توفيل للمأمون كتابا يطلب فيه الصلح فبدأ بنفسه فى المكاتبة وأغلظ فاستشاط المأمون غضبا وقصد الروم فكلموه فى هجوم الشتاء ووعدوه للقابل فثنى عزمه.
وفيها وقع حريق عظيم بالبصرة، يقال: إنه أتى على أكثرها، وكان حريقا عظيما فوق الوصف.
وفيها قتل المأمون عليا وحسينا ابنى هاشم بأذنة «3» فى جمادى الأولى لسوء سيرته «4» .(2/223)
وفيها توفى عمرو بن مسعدة بن صول أبو الفضل الصّولىّ أحد كتاب المأمون وخاصته، وكان جوادا ممدّحا فاضلا نبيلا جليلا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى حجّاج بن منهال الأنماطىّ بالبصرة، وشريح بن النعمان الجوهرىّ، وموسى بن داود الضّبّىّ الكوفىّ ببغداد، وهشام بن إسماعيل العطّار العابد بدمشق، وعمرو بن مسعدة أبو الفضل الصّولىّ كاتب الإنشاء للمأمون- وقد ذكرناه- وإسماعيل بن مسلمة أخو القعنبىّ بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 218]
السنة الثانية من ولاية كيدر على مصر وهى سنة ثمان عشرة ومائتين- فيها اهتمّ المأمون ببناء طوانة «1» وجمع فيها الرجال والصّنّاع وأمر ببنائها ميلا فى ميل، وقرّر ولده العباس على بنائها وغرم عليها أموالا عظيمة، وهى على فم الدّرب مما يلى طرسوس، ثم افتتح المأمون عدّة حصون.
وفيها كانت المحنة العظيمة المقدّم ذكرها، أعنى القول بخلق القرآن، وأجاب غالب علماء الدنيا بذلك ما خلا جماعة يسيرة؛ وعظم البلاء بالعلماء وضربوا وأهينوا وردعوا «2» بالسيف وغيره، فلم يكن بعد ذلك الا أيام يسيرة ومرض المأمون ببلاد الروم، ولم يزل مرضه يزداد به الى أن مات.(2/224)
ذكر وفاته ونسبه
هو الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله المأمون ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ، ولد سنة سبعين ومائة قبل أخيه الأمين محمد بن زبيدة بشهر عند ما استخلف أبوه الرشيد، وأمّه أمّ ولد تسمّى مراجل، ماتت أيام نفاسها به. بويع بالخلافة بعد قتل أخيه الأمين محمد فى أواخر سنة خمس وتسعين ومائة وغيّر لقبه بأبى جعفر «1» وكان أوّلا أبا العباس؛ وكان نبيلا قرأ العلم فى صغره وسمع من هشيم وعبّاد بن العوّام ويوسف ابن عطيّة وأبى معاوية الضّرير وطبقتهم، وبرع فى الفقه على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه والعربية وأيام الناس. ولما كبر عنى بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها، فجرّه ذلك لقوله بخلق القرآن؛ فكان من رجال بنى العباس حزما وعزما وحلما وعلما ورأيا ودهاء وهيبة وشجاعة وسؤددا وسماحة، لولا أنه شان ذلك كلّه بقوله بخلق القرآن.
قال ابن أبى الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه يعلوه صفرة قد وخطه الشيب، أعين «2» طويل اللحية رقيقها ضيّق الجبين على خدّه خال.
وعن إسحاق الموصلىّ قال: كان المأمون قد سخط على الحسين الخليع الشاعر لكونه هجاه عند ما قتل الأمين؛ فبينما أنا ذات يوم عند المأمون اذ دخل الحاجب برقعة فاستأذن فى إنشادها، فأذن له، فأنشد قصيدة أوّلها:(2/225)
أجزنى «1» فإنى قد ظمئت إلى الوعد ... متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
الى أن قال:
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسنت، فقال الحاجب: أحسن قائلها، قال: ومن هو؟
قال: عبدك الحسين بن الضحاك؛ فقال المأمون: لا حيّاه الله! أليس هو القائل:
فلا تمّت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك فيها مبدّدا
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال فى الدنيا طريدا مشرّدا
هذه بتلك ولا شىء له عندنا. قال الحاجب: فأين عادة عفو أمير المؤمنين؟
قال: أمّا هذه فنعم، ائذنوا له. فدخل الحسين فقال له المأمون: هل عرفت يوم قتل أخى الأمين أن هاشميّة هتكت؟ قال: لا، قال: فما معنى قولك:
وممّا «2» شجا قلبى وكفكف عبرتى ... محارم من آل الرسول استحلّت
ومهتوكة بالخلد «3» عنها سجوفها ... كعاب «4» كقرن الشمس حين تبدّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالهم ما تمنّت(2/226)
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتنى، وروعة فاجأتنى، ونعمة استلبتها بعد أن غمرتنى، فإن عاقبت فبحقّك وإن عفوت فبفضلك؛ فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة. ومما ينسب الى المأمون من الشعر قوله:
لسانى كتوم لأسراركم ... ودمعى نموم لسرّى مذيع
فلولا دموعى كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لى دموع
وكانت وفاة المأمون فى يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب وحمل الى طرسوس فدفن بها. وكان المأمون حليما عادلا. قيل: إن بعض المشايخ كتب إليه «1» رقعة فيها مرافعة فى إنسان، فكتب عليها المأمون: السّعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أخرجتها من النّصح، فخسرانك فيها أكثر من الرّبح؛ وأنا لا أسعى فى محظور ولا أسمع قول مهتوك فى مستور؛ ولولا أنت فى خفارة شيبك لعاقبتك على جريرتك مقابلة تشبه أفعالك. وكتب بعضهم إلى المأمون رقعة فيها: إن رجلا مات وخلّف مالا عظيما وليس له وارث إلا طفل مرضع، وإن تحكّم القضاء فيه أضاع ماله، وأمير المؤمنين أولى به. قال: فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها، الطفل حبّره الله وأنشاه، والمال ثمّره الله وأنماه، والميّت رحمه الله ورضى عنه وأرضاه؛ وأمّا الساعى لى فى أخذه فلعنه الله وأخزاه.
وقيل: إنه لما مات عمرو بن مسعدة وزير المأمون رفعت اليه رقعة: أن عمرا المذكور خلّف ثمانين ألف ألف دينار. فوقّع المأمون على ظهرها: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا.
وقيل: إن رجلا قدّم الى المأمون رقعة فيها مظلمة، وكان المأمون راكبا بغلة فنفرت منه فألقت المأمون عن ظهرها إلى الأرض فأوهنته؛ فقال: والله لأقتلنّك،(2/227)
(قالها ثلاث مرّات) ؛ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن الملهوف يركب الخطر وهو عالم بركوبه، وينسى الأدب وهو غير جاهل به، ولو أحسنت الأيام إنصافا لأحسنت التقاضى، ولأن تلقى الله يا أمير المؤمنين حانثا فى يمينك خير من أن تلقاه قاتلا لى. فأعجب المأمون كلامه وأمر بإزالة ظلامته.
وفيها توفى إبراهيم بن إسماعيل أبو إسحاق البصرىّ الأسدىّ المعتزلىّ، كان يعرف بابن عليّة، وهو أيضا من القائلين بخلق القرآن؛ وله مع الشافعىّ مناظرات فى الفقه بمصر، ومع أحمد بن حنبل مناظرات ببغداد بسبب القرآن. فكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ابن عليّة ضالّ مضلّ. ومات بمصر ليلة عرفة. وكان من أعيان علماء عصره.
وفيها توفّى بشر بن غياث بن أبى كريمة أبو عبد الرحمن المرّيسىّ «1» مولى زيد ابن الخطاب، كان أبوه يهوديا يسكن ببغداد، وتفقّه هو بالقاضى أبى يوسف حتى برع فى علوم كثيرة، ثم اشتغل بعلم الكلام والقول بخلق القرآن. وكان أبو زرعة الرازىّ يقول: بشر بن غياث زنديق.
قلت: ذكر أن عبد الله بن المبارك رأى فى منامه زبيدة وفى وجهها أثر صفرة، فقال لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى فى أوّل معول ضرب بطريق مكة؛ فقال: فما هذه الصّفرة التى فى وجهك؟ فقالت: دفن بين أظهرنا رجل يقال له بشر المرّيسىّ زفرت عليه جهنّم زفرة فاقشعرّ الجلد منّى بسببها، فهذه الصفرة من تلك الزفرة.
وفيها توفّى الشيخ الصالح الزاهد علىّ الجرجانىّ كان يسكن جبال لبنان.
قال بشر الحافى: رأيته يوما على عين ماء، فهرب منّى وقال: بذنب منّى رأيت(2/228)
اليوم إنسانا؛ فعدوت خلفه وقلت: أوصنى؛ فقال: عانق الفقر، عاشر الصبر، وعاد الهوى، وعاقّ الشهوات.
وفيها توفّى محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلىّ صاحب الإمام أحمد ابن حنبل، كان عالما زاهدا مشهورا بالسنّة والدّين، امتحن بخلق القرآن فثبت على السّنّة حتى حمل هو والإمام أحمد فى القيود الى المأمون فمات محمد فى الطريق بعانة «1» قبل أن ينظر وجه المأمون. وقد تقدّم ذكره فى أوّل ترجمة كيدر صاحب مصر بأوسع من هذا، رحمه الله
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا سواء.
ذكر ولاية المظفّر بن كيدر على مصر
هو المظفّر بن كيدر أمير مصر، ولى إمرة مصر بعد موت أبيه كيدر باستخلافه، وأقرّه المعتصم على عمل مصر وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، وسكن المعسكر على عادة الأمراء وتمّ أمره؛ فخرج عليه يحيى بن الوزير الذي كان خرج على أبيه أيضا قبل موته بمدّة يسيرة، فتهيّأ المظفّر هذا لقتاله وحشد وجمع الجند والعساكر وخرج من مصر حتى التقى مع يحيى بن الوزير المذكور وقاتله، فكانت بينهم وقعة هائلة انكسر فيها يحيى بن الوزير المذكور وظفر به المظفّر هذا، وذلك فى جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة ومائتين. ولمّا ولى المعتصم الخلافة أنعم بولاية مصر على أبى جعفر أشناس، ودعى لأشناس على منابر مصر، وبعد مدّة يسيرة صرف أشناس المظفّر هذا عن إمرة مصر فى شعبان من السنة، وولى مصر، بعده موسى بن أبى العباس. وكانت ولاية المظفّر على مصر نحوا من أربعة أشهر(2/229)
تخمينا، على أنه لم يهنأ له بها عيش من كثرة ما وقع له من الحروب والوقائع فى هذه المدّة اليسيرة، مع أنه ورد عليه كتاب المعتصم يذكر له أن يمتحن العلماء بخلق القرآن بمصر فامتحن جماعة. وبالجملة فكانت أيّامه على مصر قليلة ووقائعه وشروره كثيرة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 219]
السنة التى حكم فى أوّلها كيدر وفى آخرها ابنه المظفّر على مصر وهى سنة تسع عشرة ومائتين- فيها كانت ظلمة شديدة بين الظهر والعصر وزلازل هائلة.
وفيها ظهر محمد بن القاسم العلوىّ الحسينىّ بالطّالقان «1» يدعو الى الرّضى من آل محمد فاجتمع عليه خلق، فأرسل عبد الله بن طاهر له جيوشا فواقعوه عدّة وقعات حتى انهزم محمد، وقصد كورة خراسان فظفر به متولّى نسا «2» فقيّده وبعث به الى ابن طاهر فأرسله الى المعتصم فحبسه، فهرب من السجن ليلة عيد الفطر واختفى فلم يقع له المعتصم على أثر ولا خبر.
وفيها فى جمادى الأولى قدم بغداد إسحاق بن إبراهيم بسبى عظيم من أهل الخرّميّة الذين أوقع بهم بهمذان.
وفيها عاثت الزّطّ بنواحى البصرة فانتدب لحربهم عجيف بن عنبسة فظفر بهم وقتل منهم نحو ثمانمائة، ثم جرت له معهم بعد ذلك حروب، وكانت عدّتهم خمسة «3» آلاف.
وفيها امتحن الخليفة المعتصم أحمد بن حنبل بالقول بخلق القرآن وعاقبه رضى الله عنه، ووقع له أمور يطول شرحها من المناظرات والأسئلة، فثبّته الله على الحق.(2/230)
وفيها حجّ بالناس العباس بن محمد بن علىّ العباسىّ.
وفيها توفّى على بن عبيدة أبو الحسن الكاتب المعروف بالرّيحانىّ، كان أديبا فصيحا بليغا، صنّف الكتب فى الحكم والأمثال واختصّ بالمأمون. ومن شعره قوله:
تهنّ بمنزليك وجود بذل ... سعودك فيهما خبرا وخبرا
فمن دار السعادة كلّ يوم ... إلى دار الهنا وهلمّ جرّا
وفيها توفّى محمد بن على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن على ابن أبى طالب أبو جعفر، وقيل: أبو محمد، وكان يلقّب بالجواد وبالمرتضى وبالقانع؛ ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وكان خصيصا عند المأمون، وزوّجه المأمون بابنته أمّ الفضل، وكان يعطيه فى كل سنة ألف ألف درهم؛ ومات لخمس ليال بقين من ذى الحجّة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى علىّ بن عيّاش الألهانى بحمص، وأبو بكر عبد الله بن الزّبير الحميدىّ بمكّة، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو غسّان مالك بن اسماعيل النّهدىّ بالكوفة، وإبراهيم بن حميد الطويل، وسعد بن شعبة بن الحجّاج بالبصرة، وأبو الأسود النّضر بن عبد الجبار بمصر، وسليمان ابن داود الهاشمىّ، وغسّان بن الفضل الغلانىّ ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وإصبع واحد، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع ونصف.
ذكر ولاية موسى بن أبى العبّاس على مصر
هو موسى بن أبى العباس ثابت، ولى إمرة مصر نيابة عن أشناس بعد عزل المظفّر بن كيدر عنها فى مستهلّ شهر رمضان سنة تسع عشرة ومائتين، ولى(2/231)
على الصلاة وجمع له الخراج فى بعض الأجيان. ولما ولى مصر سكن بالمعسكر على عادة الأمراء، واستعمل على الشّرطة بعض حواشيه، وحسنت أيّامه وطالت وسكنت الشرور والفتن بآخر أيامه، فإنه فى أوّل الأمر خالفه بعض أهل الحوف ووقع له معهم أمور حتى سكن الأمر وصلح، على أنه كان فى أيام المحنة بخلق القرآن، وأباد فقهاء مصر وعلماءها إلى أن أجاب غالبهم بالقول بخلق القرآن. ودام على إمرة مصر نائبا لأبى جعفر أشناس الى أن صرف عنها فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائتين. وكانت ولايته على إمرة مصر أربع سنين وسبعة أشهر، وولّى أشناس على إمرة مصر بعده مالك بن كيدر الصّغدىّ.
وأما التعريف بأشناس فإنه كان من كبار القوّاد بحيث إن المعتصم جعله فى فتح عمّوريّة من بلاد الروم على مقدّمته، ويتلوه محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى ميمنته إيتاخ القائد، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخيّاط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة. وفيما ذكرناه كفاية لمعرفة مقام أشناس عند الخلفاء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 220]
السنة الأولى من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة عشرين ومائتين- فيها عقد الخليفة المعتصم على حرب بابك الخرّمىّ، وعلى بلاد الجبال للأفشين، واسمه حيدر بن كاوس، فتجهّز الأفشين وحشد وجمع وسار لحرب بابك وغيره. وفيها وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن «1» يوسف الى أردبيل «2» لعمارة الحصون التى خرّبها بابك فى أيّام عصيانه.(2/232)
قلت: وقد أفسد بابك هذا فى مدّة عصيانه مدنا كثيرة وأخرب عدّة حصون وأباد العالم، وعجزت الخلفاء والملوك عنه لفراره؛ وطالت أيامه نحو العشرين سنة أو أكثر.
وفيها بنى المعتصم مدينة سرّ من رأى وسكنها، وهى التى تسمّى أيضا سامرّا.
وسبب بنائه لهذه المدينة كثرة مماليكه الأتراك، لأنهم كثروا وتولّعوا بحرم الناس، فشكا أهل بغداد ذلك للمعتصم وقالوا له: تحوّل عنّا وإلا قاتلناك؛ قال: وكيف تقاتلونى وفى عسكرى ثمانون ألف دارع «1» ! قالوا: نقاتلك بسهام الليل- يعنون الدعاء- فقال المعتصم: والله مالى بها طاقة، فبنى لذلك سرّ من رأى وسكنها.
وفيها أسر عجيف جماعة من الزّطّ وقدم بهم بغداد، وكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا. قاله صاحب المرآة.
وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وصادره وأخذ منه أموالا عظيمة تفوق الوصف، حتى قيل: إنه أخذ منه عشرة آلاف ألف دينار، واستأصله وأهل بيته ونفاه الى قرية بطريق الموصل؛ وولّى بعده الوزارة محمد بن عبد الملك ابن الزيّات.
وفيها اعتنى المعتصم باقتناء الترك، فبعث الى سمرقند وفرغانة والنواحى لشرائهم وبذل فيهم الأموال وألبسهم أنواع الدّيباج ومناطق الذهب، وأمعن فى شرائهم حتى بلغت عدّتهم ثمانية آلاف مملوك، وقيل: ثمانية عشر ألفا، وهو الأشهر؛ ولأجلهم بنى مدينة سامرّا، كما تقدّم ذكره.(2/233)
ذكر بناء مدينة سامرّا على سبيل الاختصار
ولمّا ولى المعتصم وكثرت مماليكه صاروا يؤذون الناس، فكانوا يطردون خيلهم الى بغداد فيصدم أحدهم المرأة والشيخ الكبير والصغير، فعظم ذلك على أهل بغداد فكلّموا المعتصم، كما تقدّم ذكره، فعزم على التحوّل من بغداد، فخرج من بغداد وتنقّل على دجلة والقاطول، وهو نهر منها، فانتهى الى موضع فيه دير لرهبان؛ فرأى فضاء واسعا جدّا والهواء طيّبا فاستمرأه وتصيّد به ثلاثا، فوجد نفسه يطلب أكثر من أكله، فعلم أن ذلك لتأثير الهواء والتّربة والماء؛ فاشترى من أهل الدّير أرضهم بأربعة آلاف دينار وأسّس قصره بالوزيرية التى ينسب اليها التّين الوزيرىّ، وجمع الفعلة والصّنّاع من الممالك، ونقل اليها أنواع الأشجار والغروس، واختطّت الخطط والدّروب، وجدّوا فى بنائها، وشيّدت القصور، واستنبطت اليها المياه من دجلة وغيرها؛ وتجامع الناس بها فقصدوها وسكنوها، فكثرت بها المعايش الى أن صارت من أعظم البلدان.
وفيها ظهر إبراهيم النّظّام وقرّر مذهب الفلاسفة وتكلّم فى القدر فتبعه خلق.
وفيها حجّ بالناس صالح بن العبّاس بن محمد بن على العباسىّ. وفيها توفى خلف بن أيوب أبو سعيد العامرىّ البلخىّ الامام الفقيه الحنفىّ مفتى أهل بلخ وخراسان، وكان إماما زاهدا ورعا؛ أخذ الفقه عن القاضى أبى يوسف يعقوب وابن أبى ليلى، وأخذ الزهد عن إبراهيم بن أدهم. وانتهت اليه رياسة المذهب فى زمانه، رحمه الله تعالى. وفيها توفى سليمان بن داود بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس الأمير أبو أيوب الهاشمىّ العبّاسىّ، كان صالحا زاهدا عفيفا جوادا. قال الشافعىّ: ما رأيت أعقل(2/234)
من رجلين: أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمىّ. وفيها توفى فتح بن سعيد أبو نصر الموصلىّ، كان من أقران بشر الحافى وسرىّ السّقطىّ؛ كان زاهدا عابدا كبير الشأن. قال فتح: صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدّون من الأبدال وكلّهم أوصانى عند فراقى له: إياك ومعاشرة الأحداث. وفيها توفى الحافظ أبو نعيم الفضل بن دكين، ودكين اسمه عمرو بن حمّاد بن زهير بن درهم مولى أبى طلحة بن عبد الله التّيمىّ، ولد سنة ثلاثين ومائة؛ وهو أحد الأعلام المشهورين بعلم الحديث المتقدّمين فيه. وفيها توفى قالون المقرئ واسمه عيسى وكنيته أبو موسى، كان إماما عالما انتهت اليه الرياسة فى النحو والعربية والقراءة فى زمانه بالحجاز، وهو أحد أصحاب نافع، ورحل اليه الناس وطال عمره وبعد صيته.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 221]
السنة الثانية من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة إحدى وعشرين ومائتين- فيها تكامل بناء مدينة سرّ من رأى. وفيها ولى إمرة مكّة محمد ابن داود بن عيسى العباسىّ، ووقع فى ولايته بمكّة حروب وفتن. وفيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير المعتصمىّ وبين بابك الخرّمىّ انهزم فيها بابك. وفيها توفى ابراهيم بن شمّاس أبو إسحاق السّمرقندى الإمام الزاهد الورع، كان ثقة ثبتا شجاعا بطلا عظيم الهامة؛ خرج من مدينة سمرقند غازيا، فالتقاه الترك فقتلوه فى المحرّم من السنة. وفيها توفى عيسى بن أبان بن صدقة الإمام القاضى أبو موسى(2/235)
الحنفىّ، كان عالما سخيّا جدّا، كان يقول: والله لو أتيت برجل يفعل فى ماله كفعلى لحجرت عليه؛ وكان مع كرمه من أعيان الفقهاء، وولى القضاء سنتين.
وفيها توفى أبو جعفر المحوّلىّ الزاهد العابد، كان يسكن بباب المحوّل فعرف به؛ كان يقول: حرام على قلب مأسور بحبّ الدنيا أن يسكنه الورع، وحرام على نفس مغرمة برياء الناس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرام على كل عالم لم يعمل بعلمه أن تنجده التقوى. وفيها كان الطاعون بالبصرة، ذكره ابن الجوزىّ فى المنتظم «1» فقال:
كان لشخص تسعة أولاد فماتوا فى يوم واحد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو اليمان الحمصىّ، وعاصم بن علىّ بن عاصم، والقعنبىّ، وعبدان المروزىّ واسمه عبد الله بن عثمان، وهشام بن عبيد الله الرازىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا ونصف إصبع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 222]
السنة الثالثة من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين ومائتين- فيها كانت وقعة الأفشين مع الكافر بابك الخرّمىّ، فهزمه الأفشين واستباح عسكره وهرب بابك، ثم أسروه بعد فصول طويلة؛ وكان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث فى البلاد وأفسد، وأخاف الإسلام وأهله، وغلب على أذربيجان وغيرها، وأراد أن يقيم ملّة المجوس؛ وظهر فى أيامه المازيّار القائم بملّة المجوس بمدينة(2/236)
طبرستان فعظم شرّه؛ وكان الخليفة المعتصم قد جعل لمن جاء به حيّا ألفى ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، فجاء به سهل البطريق، فأعطاه المعتصم ألفى ألف درهم وحطّ عنه خراج عشرين سنة؛ ثم قتل بابك فى سنة ثلاث وعشرين ومائتين (أعنى فى الآتية) . ولما أدخل بابك مقيّدا الى بغداد انقلبت بغداد الكبير والضّجيج «1» ، فلله الحمد.
وفيها توفى أحمد بن الحجّاج الشّيبانىّ ثم الذّهلىّ، كان إماما عالما فاضلا ثقة.
قدم الى بغداد وحدّث بها عن عبد الله بن المبارك وغيره، وروى عنه محمد بن اسماعيل البخارىّ، وكان الإمام أحمد يثنى عليه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عمر بن حفص ابن غياث، وخالد بن نزار الأيلىّ «2» ، وأحمد بن محمد الأزرقىّ الذي ذكرناه فى الطبقة الماضية، وعلى بن عبد الحميد، ومسلم بن ابراهيم، والوليد بن هشام القحذمىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 223]
السنة الرابعة من ولاية موسى بن أبى العباس على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين ومائتين- فيها قدم الأفشين بغداد فى ثالث صفر ببابك الكافر الخرّمىّ وأخيه، وكان المعتصم يبعث للأفتين منذ توجّه الى بغداد فى كلّ يوم خلعة وفرسا بفرحته ببابك.
ومن عظم فرح المعتصم وعنايته بأمر بابك رتّب البريد من سرّ من رأى الى الأفشين(2/237)
بحيث إن الخبر يأتيه من مسيرة شهر فى أربعة أيام. وكان بابك يقول بتناسخ الأرواح ويستحلّ البنت وأمّها. وقد تقدّم فى العام الماضى أنّ المعتصم أعطى لمن أحضره الى بغداد ألفى ألف درهم. ولمّا أن أراد المعتصم قتل بابك المذكور أمر بعد عقوبته بقطع أربعته، فلمّا قطعت يده مسح بالدم على وجهه حتى لا يرى أحد أنّ وجهه اصفرّ خيفة من القتل، وقتل وعلّق رأسه وقطعت أعضاؤه ثم أحرق.
وفيها أيضا جهّز المعتصم الأفشين المذكور بالجيوش لغزو الروم، فتهيّأ وسافر والتقى مع طاغية الروم، فاقتتلوا أياما وثبت كلّ من الفريقين الى أن هزم الله طاغية الروم ونصر الاسلام، ولله الحمد.
وفيها أخرب المعتصم مدينة أنقرة وغيرها من بلاد الروم، وأنكى فى بلاد الروم وأوطأهم خوفا وذلّا وصغارا، وافتتح عمّوريّة بالسيف، وشتّت جمعهم وخرّب ديارهم.
وكان ملكهم توفيل بن ميخائيل بن جرجس قد نزل زبطرة «1» فى مائة ألف وأغار على ملطية «2» وأباد المسلمين، حتى أخذ المعتصم بثأرهم وأخرب ديار الكفر.
وفيها دفع المعتصم خاتمه الى ابنه هارون للواثق وأقامه مقام نفسه، واستكتب له سليمان بن محمد بن عبد الملك بن الزيّات. وفيها فى شوّال زلزلت فرغانة، فمات تحت الهدم خمسة عشر ألفا من الناس. وفيها حجّ بالناس محمد بن داود. وفيها توفيت فاطمة النيسابوريّة الزاهدة، جاورت بمكة مدّة، وكانت تتكلم فى معانى القرآن؛ قال ذو النون المصرىّ: فاطمة وليّة الله وهى أستاذتى.(2/238)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عبد الله بن صالح كاتب الليث، وخالد بن خداش، ومحمد بن سنان العوقىّ «1» ، ومحمد بن كثير العبسىّ، وموسى بن اسماعيل التّبوذكىّ، ومعاذ بن أسد المروزىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا ونصف إصبع.
ذكر ولاية مالك بن كيدر على مصر
هو مالك بن كيدر، واسم كيدر نصر، وقد تقدّم ذكره فى ولايته على مصر، وكيدر ابن عبد الله الصّغدىّ. وولى مالك إمرة مصر بعد عزل الأمير موسى بن أبى العبّاس عنها من قبل الأمير أبى جعفر أشناس، ولّاه على صلاة مصر؛ وكان الخراج للخليفة يولّى عليه من شاء فى هذه السنين؛ فقدم مالك بن كيدر الى مصر لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من سنة أربع وعشرين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة أمراء بنى العباس؛ وولّى على الشّرطة بعض حواشيه، وساس الناس الى أن صرف عن إمرة مصر فى ثالث شهر ربيع الآخر من سنة ستّ وعشرين ومائتين؛ وتولّى مصر من بعده الأمير علىّ بن يحيى؛ فكانت ولاية مالك هذا على مصر سنتين وأحد عشر يوما، ودام بعد ذلك بطّالا سنين الى أن توفّى فجاءة فى عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائتين؛ وكان أميرا ساكنا عاقلا مدبّرا سيوسا وقورا فى الدول، ولى الأعمال الجليلة، وتنقّل فى خدم الخلفاء، وكان من أكابر القوّاد والأمراء.(2/239)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 224]
السنة الأولى من ولاية مالك بن كيدر على مصر وهى سنة أربع وعشرين ومائتين- فيها أظهر مازيّار بن قارن الخلاف بطبرستان وحارب أعوان الخليفة، وكان مباينا لآل طاهر؛ وكان المعتصم يأمره بحمل الخراج اليهم، فيقول مازيّار: لا أحمله إلّا الى أمير المؤمنين. وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم ما يدلّ على أنه يريد عزل عبد الله بن طاهر؛ فلمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة الرفيعة طمع فى إمرة خراسان، وبلغه منافرة مازيّار، فكتب اليه الأفشين يمنّيه ويستميله ويقؤى عزمه. ثم كتب المعتصم الى عبد الله بن طاهر بمحاربة مازيّار، ثم جهّز بعد ذلك المعتصم جيشا لمحاربة مازيّار وعلى الجيش الأفشين المذكور. هذا، ومازيّار قد ج؟؟؟ ى الأموال وعسف وأخرب أسوار آمد والرّىّ وجرجان، وهرب الناس الى نيسابور.
ووقع لمازيّار أمور وحروب، آخرها أنه قتل بعد أن أهلك الحرث والنسل.
وفيها توفى إبراهيم ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو إسحاق أخو الرشيد وعمّ الأمين والمأمون والمعتصم؛ كان يعرف بابن شكلة «1» وهى أمّه أمّ ولد سوداء؛ مولده فى سنة اثنتين وستين ومائة. وإبراهيم هذا هو الذي كان بويع بالخلافة بعد قتل الأمين ولقّب بالمبارك المنير فى سنة اثنتين ومائتين، فلم يتمّ أمره؛ ووقع له مع عسكر المأمون حروب ووقائع أسفرت عن هزيمة إبراهيم واختفائه سنين الى أن ظفر به المأمون وعفا عنه. وكان إبراهيم قد انتزع الى أمّه فكان أسود حالكا عظيم اللحية، على أنه لم يكن فى أولاد الخلفاء أفصح منه ولا أشعر؛ وكان حاذقا بالغناء وصناعة(2/240)
العود، يضرب به المثل فيهما. وله فى هروبه واختفائه وكيفية الظّفر به أمور وحكايات مهولة؛ منها أنه لما وقف بين يدى المأمون شاور فى قتله أصحابه، فالكل أشاروا بالقتل غير أنهم اختلفوا فى القتلة؛ فالتفت المأمون الى أحمد بن خالد «1» الوزير وشاوره؛ فقال:
يا أمير المؤمنين، إن قتلته فلك نظير، وإن عفوت عنه فما لك نظير؛ فأنشد المأمون:
فلئن عفوت لأعفون جللا «2» ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى
فكشف إبراهيم بن المهدى رأسه وقال: الله أكبر، عفا عنى أمير المؤمنين! فقال المأمون: يا غلمان، خلّوا عن عمّى وغيّروا من حالته وجيئونى به. ففعلوا وأحضروه «3» بين يدى المأمون فى مجلسه، ونادمه وسأله أن يغنّى فأبى، وقال: نذرت لله عند خلاصى تركه؛ فعزم عليه وأمر أن يوضع العود فى حجره، فغنّى.
وقال الذهبىّ: وعن منصور بن المهدىّ قال: كان أخى إبراهيم إذا تنحنح طرب من يسمعه، فإذا غنّى أصغت اليه الوحوش ومدّت أعناقها اليه حتى تضع رءوسيها فى حجره فإذا سكت نفرت وهربت؛ وكان إذا غنّى لم يبق أحد إلا ذهل ويترك ما فى يده حتى يفرغ.
قلت: وحكايات إبراهيم فى الغناء والعود مشهورة يضيق هذا المحل عن ذكرها، وقد ذكره ابن عساكر فى تاريخ دمشق فى سبع عشرة ورقة.
وفيها توفى أبو عبيد القاسم بن سلّام، وكان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة «4» ، وكان القاسم إماما عالما مفنّنا، له المصنفات الكثيرة المفيدة: منها غريب الحديث وغيره. وفيها توفى سليمان بن حرب الحافظ أبو أيوب الأزدىّ البصرىّ،(2/241)
ولد فى صفر سنة أربعين ومائة؛ وكان إماما فاضلا- قال القاضى يحيى بن أكثم:
لما عدت من البصرة الى بغداد قال لى المأمون: من تركت بالبصرة؟ قلت:
سليمان بن حرب- حافظا للحديث ثقة عاقلا فى نهاية الصيانة «1» والسلامة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 225]
السنة الثانية من ولاية مالك بن كيدر على مصر وهى سنة خمس وعشرين ومائتين- فيها قبض المعتصم على الأفشين، لعداوته لعبد الله بن طاهر ولأحمد بن أبى داود، فعملا عليه ونقلا عنه أنه يكاتب مازيّار؛ فطلب المعتصم كاتبه «2» وتهدّده بالقتل؛ فاعترف وقال: كتبت اليه بأمره، يقول: لم يبق غيرى وغيرك وغير بابك الخرمىّ، وقد مضى بابك، وجيوش الخليفة عند ابن طاهر، ولم يبق عند الخليفة سواى؛ فإن هزمت ابن طاهر كفيتك أنا المعتصم ويخلص لنا الدين الأبيض (يعنى المجوسيّة) ، وكان الأفشين يتّهم بها؛ فوهب المعتصم للكاتب مالا وأحسن اليه، وقال: إن أخبرت أحدا قتلتك. فروى عن أحمد بن أبى دواد قال:
دخلت على المعتصم وهو يبكى وينتحب ويقلق؛ فقلت: لا أبكى الله عينك! ما بك؟
قال: يا أبا عبد الله رجل أنفقت عليه ألف ألف دينار ووهبت له مثلها يريد قتلى! قد تصدّقت لله بعشرة آلاف ألف درهم، فخذها وفرّقها- وكان الكرخ قد احترق- فقلت:
تفرّق نصف المال فى بناء الكرخ، والباقى فى أهل الحرمين؛ قال: أفعل. وكان الأفشين قد سير أموالا عظيمة الى مدينة أشروسنة، وهمّ بالهرب اليها وأحسّ بالأمر، فهيّأ(2/242)
دعوة ليسمّ المعتصم وقوّاده، فإن لم يجبه دعا لها أتراك المعتصم: مثل الأمير إيتاخ وأشناس وغيرهما فيسمّهم، ثم يذهب الى إرمينية ويدور الى أشروسنة. فطال بالأفشين الأمر ولم يتهيأ له ذلك، حتى أخبر بعض خواصّه المعتصم بعزمه، فقبض عليه حينئذ المعتصم وحبسه، وكتب الى عدوّه عبد الله بن طاهر بأن يقبض على ولده الحسن بن الأفشين، فوقع له ذلك. وفيها استوزر المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات. وفيها أيضا أسر مازيّار المذكور وقدم به بين يدى المعتصم. وفيها زلزلت الأهواز وسقط أكثر البلد والجامع وهرب الناس الى ظاهر البلد، ودامت الزلزلة أياما وتصدّعت الجبال منها. وفيها ولى إمرة دمشق دينار بن عبد الله، وعزل بعد أيام بمحمد بن الجهم. وفيها توفى سعدويه، واسمه سعيد بن سليمان، وكنيته أبو عثمان الواسطىّ، الواعظ البزّاز؛ كان يسكن ببغداد، وامتحن بالقرآن فأجاب؛ فقيل له بعد ذلك: ما فعلت؟
قال: كفرنا ورجعنا. وفيها توفى صالح بن إسحاق أبو عمرو النحوى الجرمىّ، لأنه نزل فى قبيلة من جرم؛ وكان اماما فاضلا عارفا بالعربية وأيام الناس وأشعار العرب، وله اختيارات وأقوال. وفيها توفى على بن رزين الإمام أبو الحسن الخراسانىّ التّرمذىّ ويقال الهروىّ، أستاذ أبى عبد الله المغربى، كان صاحب أحوال وكرامات.
وفيها توفى الأمير أبو دلف العجلىّ، واسمه القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل ابن سنان، من ولد عجل أمير الكرج «1» ، كان شجاعا جوادا ممدّحا شاعرا؛ وهو الذي قال فيه علىّ بن جبلة:
إنّما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره «2»(2/243)
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
قيل: إنّ المأمون كان مقطّبا، فدخل عليه أبو دلف؛ فقال له المأمون: يا أبا دلف، أنت الذي قال فيك الشاعر، وذكر البيت المقدّم ذكره؛ فقال أبو دلف: يا أمير المؤمنين، شهادة زور وقول غرور «1» ؛ وأصدق منه قول من قال:
دعينى أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم «2»
وقال ثعلب: حدّثنا ابن الأعرابىّ عن الأصمعىّ قال: كنت واقفا بين يدى المأمون إذ دخل عليه أبو دلف؛ فنظر اليه المأمون شزرا، وقال له: أنت الذي يقول فيك علىّ بن جبلة «3» :
له راحة لو أنّ معشار عشرها ... على البرّ كان البرّ أندى من البحر
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدهر
فقال: يا أمير المؤمنين، مكذوب علىّ، لا والذي فى السماء بيته ما أعرف من هذا حرفا؛ فقال المأمون: قد قال فيك أيضا:
ما قال لا قطّ من جود أبو دلف ... إلّا التشهد لكن قوله نعم
فقال: ولا أعرف هذا أيضا يا أمير المؤمنين.
قلت: وأخبار أبى دلف كثيرة وشعره سارت به الركبان.
وفيها توفى منصور بن عمّار بن كثير الشيخ أبو السّرىّ الواعظ الخراسانىّ، وقيل:
البصرىّ، رحل الى العراق، وأوتى الحكم والفصاحة، حتى قيل: إنه لم يقض أحد فى زمانه مثله.(2/244)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية علىّ بن يحيى الأولى على مصر
هو على بن يحيى الأمير أبو الحسن الأرمنىّ، ولى إمرة مصر من قبل الأمير أبى جعفر أشناس التركىّ على الصلاة، بعد عزل الأمير مالك بن كيدر عنها، سنة ست وعشرين ومائتين؛ ووصل الى الديار المصرية فى يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وسكن بالمعسكر على عادة الأمراء؛ وجعل على شرطته معاوية [بن معاوية] «1» بن نعيم، وتمّ أمره، وأخذ فى إصلاح أحوال الديار المصرية وإقماع المفسدين، الى أن ورد عليه الخبر فى شهر ربيع الأوّل من سنة سبع وعشرين ومائتين بموت الخليفة محمد المعتصم وبيعة ابنه هارون الواثق بالخلافة من بعده، وأن الخليفة هارون الواثق أقرّه على عمل مصر على عادته. فأقام على ذلك مدّة، وورد عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر، من غير سخط، بعيسى بن منصور، وذلك فى يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة من سنة ثمان وعشرين ومائتين. فكانت ولاية علىّ بن يحيى هذا على مصر سنتين وثمانية أشهر، وقيل: وثلاثة أشهر، والأوّل الأصحّ. وتوجّه الى العراق وقدم على الخليفة هارون الواثق فأكرمه الواثق؛ وولى الأعمال الجليلة فى أيام الواثق وأيام أخيه المتوكّل جعفر. ثم أعيد الى إمرة مصر ثانيا حسبما يأتى ذكره، وأقام بها مدّة، ثم عزل وعاد الى العراق وعظم عند الخلفاء، وغزا الصائفة غير مرّة، الى أن خرج فى أوّل سنة تسع وأربعين ومائتين هـ الى غزو الروم وتوغّل فى بلاد الروم ثم عاد قافلا من إرمينية الى ميّافارقين، فبلغه مقتل الأمير عمر بن عبد الله الأقطع؛ وكان الأقطع قد خرج مع(2/245)
جعفر بن دينار الى الصائفة فافتتح حصنا يقال له مطامير؛ فاستأذن الأقطع جعفر بن دينار فى الدخول الى الروم فأذن له، فدخل الأقطع الروم ومعه عسكر كثيف. وكان الروم فى خمسين ألفا، فأحاطوا به وبمن معه، فقتلوه وقتل معه ألف رجل من أعيان المسلمين؛ وكان ذلك فى يوم الجمعة منتصف شهر رجب من السنة. فلما بلغ الأمير علىّ بن يحيى المذكور خبر قتل الأقطع عاد من وقته يطلب الروم، فقاتل حتى قتل حسبما ذكرناه فى ولايته الثانية على مصر. وفى أيّام علىّ بن يحيى هذا على مصر وقّع بينه وبين هارون بن عبد الله الزهرىّ الأصم قاضى قضاة ديار مصر، فعزله وولّى عوضه محمد بن أبى الليث الحارث بن شدّاد الإيادىّ الجهمىّ الخوارزمىّ؛ فبقى محمد المذكور فى القضاء نحوا من عشر سنين، ولم يكن محمود السيرة فى أحكامه، وامتحن الفقهاء بمصر بخلق القرآن، وحكم على عبد الله بن عبد الحكم بودائع كانت للجروىّ «1» عندهم بألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، فأقاموا شهودا بأن الجروىّ كان قد أبرأهم وأخذ الذي له، فلم يلتفت لذلك وعسفهم وظلمهم وفعل أمثال ذلك كثيرا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 226]
السنة الأولى من ولاية على بن يحيى الأولى على مصر وهى سنة ستّ وعشرين ومائتين- فيها فى جمادى الأولى أمطر أهل تيماء «2» بردا كالبيض قتل منهم ثلثمائة وسبعين نفسا؛ قاله ابن حبيب الهاشمىّ، ثم قال: ونظروا الى أثر قدم طوله ذراع، ومن الخطوة الى الخطوة نحو خمسة «3» أذرع، وسمعوا صوتا يقول:(2/246)
ارحم عبادك اعف عن عبادك. وفيها منع المعتصم الأفشين من الطعام والشراب حتى مات، ثم أخرج وصلب فى شعبان. والأفشين اسمه حيدر «1» بن كاوس، وهو من أولاد الأكاسرة، والأفشين لقب لمن ملك مدينة أشروسنة، وقد تقدّم ذكر وروده الى الديار المصرية وقتاله مع القيسيّة واليمانيّة، ثم قتاله بالشرق مع مازيّار وغيره؛ وذكرنا أيضا سبب القبض عليه فى حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين، ولا حاجة الى التكرار، لأن ما ذكرناه هناك هو المعتمد والمقصود من التعريف بأحواله. وفيها توفيت عنان جارية الناطفىّ، كانت من مولّدات المدينة «2» ، وكانت جميلة شاعرة فصيحة سريعة الجواب؛ بلغ الرشيد خبرها فاستعرضها؛ فقال مولاها: ما أبيعها إلا بمائة ألف درهم، فردّها الرشيد فتصدّق مولاها الناطفىّ بثلاثين ألف درهم. وبعد موت الناطفىّ بيعت «3» بمائة «4» ألف درهم وخمسين ألف درهم، وماتت بخراسان. وأخبارها وما جرياتها مع أبى نواس وغيره من الشعراء مشهورة.
وفيها توفى مازيّار، واسمه محمد بن قارن، الأمير صاحب طبرستان، كان مباينا لعبد الله ابن طاهر وكان الأفشين كذلك، فكان الأفشين يدسّ اليه ويحمله على خلاف الخليفة المعتصم، ولا زال به حتى خالف وحارب عساكر الخليفة وعبد الله بن طاهر غير مرّة؛ ووقع له أمور وأبلى المسلمين ببلايا وأباد الناس، الى أن ظفر به وأحضر بين يدى الخليفة المعتصم، فأمر به المعتصم فضرب أربعمائة وخمسين سوطا، فمات(2/247)
من ساعته تحت العقوبة عطشا «1» ، وكان معدودا من الشّجعان (ومازيّار بفتح الميم وبعد الألف زاى مفتوحة وياء مثناة من تحت مشدّدة وبعد الألف راء مهملة) .
وفيها توفى محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول، أبو الهذيل العلّاف البصرىّ مولى لعبد القيس؛ كان شيخ المعتزلة، وصنّف الكتب فى مذهبهم، ولد سنة خمس وثلاثين ومائة هـ. وقدم بغداد وناظر العلماء وأبادهم، وكان خبيث اللسان. وفيها توفى يحيى بن يحيى بن بكير «2» بن عبد الرحمن الحافظ أبو زكريا التّميمىّ المنقرى الحنظلىّ النّيسابورىّ الزاهد العابد الورع، كان إمام أهل نيسابور وحافظها فى زمانه؛ وأخرج عنه البخارىّ فى مواضع، واتفقوا على ثقته وصدقه.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن محمد الفروىّ، واسماعيل بن أبى أويس، وجندل بن والق، وسعيد بن كثير بن عفير، وعيّاش «3» بن الوليد الرقّام، وغسّان بن الرّبيع الموصلىّ، ومحمد بن مقاتل المروزىّ، ويحيى بن يحيى التّميمىّ النيسابورىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 227]
السنة الثانية من ولاية على بن يحيى على مصر وهى سنة سبع وعشرين ومائتين هـ- فيها خرج بفلسطين المبرقع أبو حرب اليمانىّ الذي زعم أنّه السفيانىّ، فدعا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أوّلا، الى أن قويت شوكته فادّعى النبوّة. وكان(2/248)
سبب خروجه أن جنديّا أراد النزول فى داره، فمانعته زوجته، فضربها الجندىّ بسوط فأثّر فى ذراعها؛ فلما جاء المبرقع شكت اليه؛ فذهب الى الجندىّ فقتله وهرب، ولبس برقعا لئلا يعرف، ونزل جبال الغور مبرقعا، وحثّ الناس على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ فاستجاب له قوم من فلّاحى القرى وقوى أمره؛ فسار لحربه رجاء الحضارىّ «1» أحد قوّاد المعتصم فى ألف فارس، وأتاه فوجده فى مائة ألف، فعسكر بإزائه ولم يجسر على لقائه.
فلما كان أوان الزراعة تفرّق أكثر أصحابه فى فلاحتهم وبقى فى نحو الألفين؛ فواقعه عند ذلك رجاء الحضارىّ المذكور وأسره وحبسه حتى مات خنقا فى آخر هذه السنة. وكان المبرقع بطلا شجاعا. وفيها بعث المعتصم على دمشق الأمير أبا المغيث «2» الرافقىّ «3» ، فخرجت عليه طائفة من قيس، لكونه أخذ منهم خمسة عشر نفسا فصلبهم؛ فجّهز اليهم أبو المغيث جيشا، فهزموه وزحفوا على دمشق، فتحصّن بها أبو المغيث ووقع حصار شديد؛ ومات المعتصم والأمر على ذلك، فاستمرّ فى الحصار الى أن كتب الواثق الى رجاء الحضارىّ أن يتوجه الى دمشق مددا لأبى المغيث، فقدم دمشق وحارب القيسيّة حتى هزمهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وقتل من الأجناد ثلثمائة. وفيها فى تاسع عشر شهر ربيع الأوّل بويع هارون الواثق بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم. وفيها توفى بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان ابن عبد الله الزاهد الورع أبو نصر المعروف ببشر الحافى، كان أصله من أبناء الرؤساء بخراسان، فتزهّد وصحب الجنيد؛ ومولده بمرو سنة خمسين ومائة، وسكن بغداد، وتزهّد(2/249)
حتى فاق أهل عصره؛ وسمع الحديث من مالك بن أنس والفضيل بن عياض وحمّاد ابن زيد وشريك وعبد الله بن المبارك وغيرهم؛ وروى عنه جماعة منهم أحمد الدّورقىّ ومحمد بن يوسف الجوهرىّ وسرىّ السّقطىّ وخلق غيرهم. قال أبو بكر المروزىّ:
سمعت بشرا يقول: الجوع يصفّى الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق.
وقال أبو بكر بن عفّان: سمعت بشر [بن الحارث «1» ] يقول: إنى لأشتهى شواء منذ أربعين سنة ما صفالى درهمه. وعن المأمون قال: ما بقى أحد نستحى منه غير بشر بن الحارث. وقال أحمد بن حنبل: لو كان بشر بن الحارث تزوّج لتمّ أمره. وقال إبراهيم الحربىّ: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلا من بشر ولا أحفظ للسانه، كأن فى كلّ شعرة منه عقلا. وعن بشر قال: المتقلّب فى جوعه كالمتشحّط فى دمه فى سبيل الله. وعنه قال:
شاطر «2» سخىّ أحبّ الى الله من صوفىّ بخيل. وعنه قال: لا أفلح من ألف أفخاذ النساء. وعنه قال: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلّم. وكانت وفاة بشر فى يوم الأربعاء حادى عشر شهر ربيع الأوّل. وفيها توفّيت فاطمة جارية المعتصم وتدعى بعريب «3» ، كانت فائقة الجمال بارعة فى الغناء والخطّ، اشتراها المعتصم من تركة أخيه المأمون بمائة ألف درهم. وفيها توفى أمير المؤمنين المعتصم [بالله محمد «4» ] ، وكنيته أبو إسحاق ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس، الهاشمىّ العباسىّ الخليفة الثالث من أولاد هارون الرشيد؛ بويع بالخلافة بعد موت أخيه عبد الله المأمون فى شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، ومولده سنة ثمانين ومائة، وأمه أمّ ولد اسمها ماردة، وكان أمّيّا عاريا من كل علم. وعن محمد الهاشمىّ قال: كان مع المعتصم غلام فى الكتّاب(2/250)
يتعلم معه، فمات الغلام؛ فقال له الرشيد أبوه: يا محمد، مات غلامك! قال: نعم يا سيدى واستراح من الكتّاب؛ فقال: وإن الكتّاب ليبلغ منك هذا! دعوه لا تعلّموه؛ قال: فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة. وكان المعتصم مع ذلك فصيحا مهيبا عالى الهمّة شجاعا مقداما، حتى قيل: إنه كان أهيب خلفاء بنى العباس، إلا أنه سار على سيرة أخيه المأمون فى امتحان العلماء بخلق القرآن؛ وكان يدعى الثّمانىّ، لأنه ولد سنة ثمانين ومائة فى شهر رمضان، ورمضان بعد ثمانية أشهر من السنة، وملك لثمان عشرة ليلة من شهر رجب، وهو الثامن من خلفاء بنى العباس، وفتح ثمانية فتوح، وكان عمره ثمانا وأربعين سنة، وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخلّف من الولد ثمانية بنين وثمانى بنات، وخلّف من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها دراهم، وقيل: ثمانمائة ألف درهم، ومن الخيول ثمانين ألف فرس، ومن الجمال ثمانين ألف جمل وبغل ودابة، وثمانين ألف خيمة، وثمانية آلاف عبد (أعنى مماليك) ، وقيل: ثمانية عشر ألفا، وثمانية آلاف جارية، وعمّر من القصور ثمانية.
وقال نفطويه «1» : وحدّثت أنه كان من أشدّ الناس بطشا (يعنى المعتصم) وأنه جعل يد رجل بين إصبعيه فكسرها اهـ. وكانت وفاته فى يوم الخميس تاسع عشر ربيع الأوّل، وتخلّف من بعده ابنه هارون الواثق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.(2/251)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 228]
السنة الثالثة من ولاية على بن يحيى على مصر وهى سنة ثمان وعشرين ومائتين- فيها استخلف الخليفة هارون الواثق على السلطنة أشناس الذي كان أمر مصر اليه يولّى فيها من اختار، وألبسه وشاحين بجوهر. وفيها وقعت قطعة من جبل العقبة، قتل تحتها جماعة من الحاجّ. وفيها توفى عبيد «1» الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر «2» الحافظ أبو عبد الرحمن التّيمىّ ويعرف بابن عائشة، وهو من ولد عائشة بنت طلحة، قدم بغداد وحدّث بها، وكان فاضلا أديبا حسن الخلق ورعا عارفا بأيام الناس؛ وكان مع هذه الفضيلة شديد القوّة يمسك يمينه ويساره شاتين الى أن تنسلخا؛ وابن عائشة هو الذي ضربه المأمون فخرج منه ريح، فقال فيه أبو نواس تلك الأبيات المشهورة «3» . وفيها توفى عبد الملك ابن عبد العزيز الحافظ أبو نصر التّمار، كان إماما عالما صدوقا زاهدا، إلا أنه كان ممن أجاب فى المحنة، فنهى الامام أحمد لهذا المعنى [عن] الأخذ عنه. وفيها توفى(2/252)
محمد بن عبيد «1» الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان بن حرب، العتبىّ البصرىّ صاحب النوادر والآداب والأشعار والأخبار والطرائف والملح والتصانيف؛ وذكره ابن قتيبة فى كتاب المعارف، وابن المنجّم فى كتاب البارع «2» . ومن شعره:
رأين» الغوانى الشيب لاح بعارضى ... فأعرضن عنّى بالخدود النواضر
وكنّ اذا أبصرننى أو سمعننى ... خرجن «4» فرقّعن الكوى بالمحاجر
فإن عطفت عنّى أعنّة أعين ... نظرن «5» بأحداق المها والجآذر
فإنّى من قوم كريم «6» ثناؤهم ... لأقدامهم صيغت رءوس المنابر
خلائف فى الإسلام فى الشرك قادة ... بهم واليهم فخر كلّ مفاخر
وأورد له المبرّد فى كتابه الكامل بيتين يرثى بهما بعض أولاده، وهما:
أضحت بخدّى للدّموع رسوم ... أسفا عليك وفى الفؤاد كلوم
والصبر يحمد فى المواطن كلّها ... الّا عليك فإنه مذموم(2/253)
وفيها توفى محمد بن مصعب أبو جعفر البغدادىّ، كان أحد العبّاد الزّهاد والقرّاء، أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل ووصفه بالسنة. وفيها توفى يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحافظ الإمام أبو زكريا الكوفىّ، كان أحد الحفّاظ الرحّالين، وكان يحفظ عشرة آلاف حديث يسردها سردا؛ وكانت وفاته بمدينة سامرّا فى شهر رمضان.
وفيها توفى نعيم بن حمّاد بن معاوية بن الحارث بن همّام الخزاعىّ المروزىّ صاحب عبد الله بن المبارك، كان أعلم الناس بالفرائض، وهو من الرحّالة فى طلب الحديث.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن شبّوية «1» المروزى، وأحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازى، وأحمد بن عمران الأخنس، وإسحاق بن بشر الكاهلىّ الكوفىّ، وبشّار بن موسى الخفّاف، وحاجب بن الوليد الأعور، وحمّاد بن مالك الحرستانىّ «2» ، وداود بن عمرو الضّبّىّ، وعبد الله بن سوّار بن عبد الله العنبري القاضى، وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبىّ، وعبد الرحمن بن المبارك، وأبو نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار، وعلى بن عثّام «3» الكوفىّ، وأبو الجهم صاحب الخبر «4» ، ومحمد بن جعفر الوركانىّ، ومحمد بن حسّان السّمتىّ «5» ، وأبو يعلى محمد بن الصّلت التّوّزىّ، والعتبىّ الإخبارىّ، ومحمد بن عبد الله، ومحمد بن عمران ابن أبى ليلى، والمثنّى بن معاذ العنبرىّ، ومسدّد، ونعيم بن الهيصم، ويحيى الحمّانىّ.(2/254)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر
هو عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقى «1» ، وليها ثانيا بعد عزل على بن يحيى الأرمنىّ، من قبل الأمير أشناس التركىّ المعتصمىّ على الصلاة؛ ودخل الى مصر فى يوم الجمعة لسبع خلون من محرم سنة تسع وعشرين ومائتين؛ وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر فى الدولة العباسية؛ وجعل على الشرطة ابنه، ومهّد أمور مصر، ودام بها الى أن توفى الأمير أشناس التركىّ المعتصمىّ عامل مصر من قبل الخليفة- وهو الذي كان اليه أمور مصر يولّى عليها من شاء من الأمراء- فى سنة ثلاثين ومائتين. وولّى الخليفة مكانه على مصر الأمير إيتاخ. وكانت ولاية أشناس على مصر اثنتى عشرة سنة أو نحوها. ولما ولى إيتاخ التركىّ مصر أقرّ عيسى بن منصور هذا على عمله، فاستمرّ عيسى بمصر على إمرتها نيابة عن إيتاخ الى أن مات الخليفة هارون الواثق فى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وبويع بالخلافة من بعده أخوه المتوكّل على الله جعفر، فأرسل الى عيسى هذا [بأن] يأخذ البيعة له على المصريين. ثم صرفه بعد ذلك فى النصف من شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بالأمير هرثمة؛ وقدم مصر علىّ بن مهرويه خليفة هرثمة على الصلاة. فلم تطل أيام عيسى بن منصور هذا بعد عزله عن إمرة مصر، ومرض ولزم الفراش حتى مات فى قبّة «2» الهواء بمصر فى حادى عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين المذكورة. رحمه الله. وكان(2/255)
أميرا جليلا عارفا عاقلا مدبّرا سيوسا، ولى الأعمال الجليلة، وطالت أيامه فى السعادة.
وهو ممن ولى إمرة مصر أوّلا عن الخليفة، والثانية عن الأمير أشناس التركىّ، فكانت ولايته على مصر أربع سنين وثلاثة أشهر وثمانية عشر يوما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 229]
السنة الأولى من ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر وهى سنة تسع وعشرين ومائتين- فيها صادر الخليفة الواثق بالله هارون [كتّاب] الدواوين وسجنهم، وضرب أحمد بن إسرائيل ألف سوط وأخذ منه ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان ابن وهب كاتب الأمير إيتاخ الذي أمر مصر راجع اليه أربعمائة ألف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكاتبه ألف ألف دينار؛ فيقال: إنّ هارون الواثق أخذ من الكتّاب فى هذه النوبة ألفى ألف دينار؛ وكان متولى هذه المصادرات الأمير إسحاق بن يحيى صاحب حرس الواثق. وفيها ولّى الخليفة هارون الواثق الأمير إيتاخ اليمن مضافا الى مصر فبعث اليها إيتاخ نوّابه. وفيها ولّى الواثق محمد بن صالح إمرة المدينة، وولّى محمد بن يزيد الحلبىّ الحنفىّ قضاء الشرقية. وفيها توفى خلف بن هشام بن ثعلبة أبو محمد البزّاز البغدادىّ المقرئ، كان إماما عالما، له قراءة اختارها وقرأ بها، وكان قد قرأ على مسلم صاحب حمزة وسمع مالكا وأبا عوانة وأبا شهاب عبد ربّه الخياط وجماعة؛ وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وموسى بن هارون وإدريس بن عبد الكريم الحدّاد وجماعة أخر. قال حمدان بن هانئ المقرئ: سمعت خلفا البزاز يقول: أشكل علىّ باب من النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن شبيب الحبطىّ «1» واسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرّقّى، وثابت بن موسى العابد، وخالد بن(2/256)
هيّاج الهروىّ، وخلف بن هشام البزّار، وأبو مكيس «1» الذي زعم أنه سمع من أنس، وأبو نعيم ضرار بن صرد، وعبد العزيز بن عثمان المروزىّ، وعمّار بن نصر، وعمر ابن خالد الحرّانى نزيل مصر، ومحمد بن معاوية النيسابورىّ، ونعيم بن حمّاد الخزاعىّ، ويحيى بن عبدويه صاحب شعبة، ويزيد بن صالح النيسابورىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 230]
السنة الثانية من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة ثلاثين ومائتين- فيها عاثت الأعراب حول المدينة فسار لحربهم الأمير بغا الكبير فدوّخهم وأسر وقتل فيهم- وكان قد حاربهم حمّاد بن جرير الطبرى القائد فقتل هو وعامّة أصحابه- واستباحوا عسكرهم، وحبس بغا منهم فى القيود بالمدينة نحو ألف نفس، فنقبوا الحبس، فأخبرت بهم امرأة، فأحاط بهم أهل المدينة وحضروهم يومين، ثم برزوا للقتال بكرة الثالث، وكان مقدّمهم عزيزة «2» السّلمىّ فكان يحمل فيهم وهو يرتجز ويقول:
لا بدّ من زحم «3» وإن ضاق الباب ... إنى أنا عزيزة بن قطّاب
للموت خير للفتى من العاب «4»(2/257)
وكان قد فكّ قيده وصار يقاتل به [يومه «1» ] الى أن قتل وصلب، وقتلت عامّة بنى سليم وقتل جماعة كثيرة من الأعراب. وفيها توفى محمد بن سعد الإمام أبو عبد الله مولى بنى هاشم، وهو كاتب الواقدىّ صاحب الطبقات والسّير وأيام الناس؛ كان إماما فاضلا عالما حسن التصانيف، صنّف كتابا كبيرا فى طبقات الصحابة والتابعين والعلماء الى وقته.
قلت: ونقلنا عنه كثيرا فى الكتاب رحمه الله تعالى. روى عنه خلائق لا تحصى؛ ووثّقه غالب الحفّاظ إلا يحيى بن معين. وفيها توفى محمد بن يزداد «2» بن سويد المروزىّ أحد كتّاب المأمون ووزرائه؛ كان إماما كاتبا فاضلا، مات بسرّمن رأى فى شهر ربيع الأوّل بعد ما لزم داره سنين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن جميل المروزىّ، وأحمد بن جناب المصّيصىّ، وإبراهيم ابن إسحاق الضّبّىّ، وإسحاق بن إسماعيل الطّالقانى «3» ، وإسماعيل بن عيسى العطّار، وسعيد بن عمرو الأشعثىّ، وسعيد ابن محمد الجرمىّ، وعبد الله بن طاهر الأمير، وعبد العزيز بن يحيى المدنىّ نزيل نيسابور، وعلىّ بن الجعد، وعلى بن محمد الطّنافسىّ، وعون بن سلّام الكوفىّ، ومحمد ابن إسماعيل بن أبى سمينة «4» ، ومحمد بن سعد كاتب الواقدىّ، ومحبوب بن موسى الأنطاكىّ، ومهدىّ بن جعفر الرملىّ «5» .(2/258)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 231]
السنة الثالثة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة إحدى وثلاثين ومائتين- فيها ورد كتاب الخليفة هارون الواثق الى الأعمال بامتحان العلماء بخلق القرآن، وكان قد منع أبوه المعتصم ذلك؛ فامتحن الناس ثانيا بخلق القرآن. ودام هذا البلاء بالناس الى أن مات الواثق وبويع المتوكّل جعفر بالخلافة، فى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين؛ فرفع المتوكّل المحنة ونشر السنّة. وفيها كان الفداء فافتكّ هارون الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستّمائة أسير؛ ولم يقع قبل ذلك فداء بين المسلمين والروم من منذ سبع وثلاثين سنة. فقال ابن أبى دوّاد: من قال من الأسارى: القرآن مخلوق فأطلقوه وأعطوه دينارا، ومن امتنع فدعوه فى الأسر.
قلت: ما أظنّ الجميع إلا أجابوا. وفيها عزم الخليفة هارون الواثق على الحجّ، فأخبر أنّ الطريق قليلة المياه، فثنى عزمه. وفيها ولّى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فخرج اليها فى شعبان فى أربعة آلاف، وقيل: فى ستة آلاف فارس. وفيها ولّى الواثق إسحاق بن إبراهيم بن أبى حفصة على اليمامة والبحرين وطريق مكّة مما يلى البصرة.
وفيها رأى الواثق فى المنام أنه فتح سدّ يأجوج ومأجوج فانتبه فزعا، وبعث الى السدّ سلّاما التّرجمان. وفيها توفى أحمد بن حاتم الإمام أبو نصر النحوىّ، كان إماما فاضلا أديبا، صنّف كتبا كثيرة: منها كتاب الشجر والنبات والزرع. وفيها توفى على بن محمد ابن عبد الله بن أبى سيف المدائنىّ الشيخ الإمام أبو الحسن، كان إماما عالما حافظا ثقة، وهو صاحب التاريخ؛ وتاريخه أحسن التواريخ؛ وعنه أخذ الناس تواريخهم.(2/259)
وفيها توفى محمد بن سلّام بن عبد الله بن سلّام، الإمام أبو عبد الله البصرىّ، مولى قدامة بن مظعون، وهو مصنّف كتاب طبقات الشعراء، وكان من أهل العلم والفضل والأدب.
وفيها توفى محمد بن يحيى بن حمزة قاضى دمشق وابن قاضيها، ولى قضاءها مدّة خلافة المأمون وبعض خلافة المعتصم ثم عزل، وكان إماما عالما متبحّرا فى العلوم.
وفيها توفى مخارق المغنّى المطرب أبو المهنّأ «1» ، كان إمام عصره فى فنّ الغناء، كان الرشيد يجعل بينه وبين مغنّية ستارة الى أن غنّاه مخارق هذا فرفع الستارة وقال له:
يا غلام الى هاهنا، فأقعده معه على السرير وأعطاه ثلاثين ألف درهم؛ وكان فى مجلس الرشيد يوم ذاك ابن جامع المغنّى وغيره.
قلت: ولا تنس إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق بن إبراهيم فإنّهما كانا فى رتبة لم ينلها غيرهما فى العود والغناء إلّا أنّ مخارقا هذا كان فى طريق آخر فى التأدّى؛ والجميع كان غناؤهم غير الموسيقى الآن. وقد بيّنا ذلك فى غير هذا المحل فى مصنّف لطيف. ثم اتصل مخارق بالمأمون وقدم معه دمشق، وكان مخارق يضرب بجودة غنائه المثل، وكانت وفاته بمدينة سرّ من رأى.
وفيها توفى يوسف بن يحيى الفقيه العالم أبو يعقوب البويطىّ، وبويط: قرية «2» .
قال الشافعىّ رضى الله عنه: ما رأيت أحدا أبرع بحجّة من كتاب الله مثل البويطىّ، والبويطىّ لسانى. ولما مات الشافعىّ تنازع محمد بن عبد الحكم والبويطىّ فى الجلوس(2/260)
موضع الشافعىّ حتى شهد الحميدىّ «1» على الشافعىّ أنه قال: البويطىّ أحق بمجلسى من غيره، فأجلسوه مكانه. وأخبره الشافعىّ أنّه يمتحن ويموت فى الحديد، فكان كما قال.
وفيها توفى أبو تمّام الطائىّ حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس الخوارزمىّ الجاسمىّ «2» الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء فى عصره؛ كان أبوه نصرانيّا فأسلم هو، ومدح الخلفاء والأعيان، وسار شعره شرقا وغربا. وهو الذي جمع الحماسة، وكان أسمر طويلا فصيحا حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة، ولد سنة تسعين ومائة أو قبلها. ومن شعره ينعت سيفا:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف «3» فى ... متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب
ولما مات رثاه الحسن بن وهب بقوله:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائى
ماتا معا فتجاورا فى حفرة ... وكذاك كانا قبل فى الأحياء
ورثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم يوم ذاك بقوله:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لمّا ألّم مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائى
وكانت وفاته بالموصل فى جمادى الأولى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وسنة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع ونصف.(2/261)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 232]
السنة الرابعة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين- فيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير وبين بنى نمير، وكانوا قد أفسدوا الحجاز واليمامة «1» بالغارات، وحشدوا فى ثلاثة آلاف راكب، فالتقوا بأصحاب بغا فهزموهم.
وجعل بغا يناشدهم الرجوع الى الطاعة وبات بإزائهم تلك الليلة، ثم أصبحوا فالتقوا فانهزم أصحاب بغا ثانيا، فأيقن بغا بالهلاك. وكان قد بعث مائتى فارس الى جبل لبنى نمير؛ فبينما هو فى الإشراف على التلف إذا بهم قد رجعوا يضربون الكوسات «2» ، فقوى بأس بغابهم وحملوا على بنى نمير فهزموهم وركبوا أقفيتهم قتلا «3» ، وأسروا منهم ثمانمائة رجل؛ فعاد بغا وقدم سامرّا وبين يديه الأسرى. وفيها مات خلق كثير بأرض الحجاز من العطش. وفيها كانت الزلازل كثيرة بأرض الشأم، وسقط بعض الدور بدمشق، ومات جماعة تحت الردم. وفيها ولّى الواثق الأمير محمد بن ابراهيم بن مصعب بلاد فارس. وفيها توفى أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الواثق بالله ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ؛ بويع بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم فى شهر ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين ومائتين، وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى قراطيس؛ ومات فى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذى الحجة من السنة المذكورة؛ فكانت خلافته خمس سنين ونصفا. وتولّى الخلافة من بعده(2/262)
أخوه المتوكّل على الله جعفر، وكان ملكا مهيبا كريما جليلا أديبا مليح الشعر، إلّا أنّه كان مولعا بالغناء والقينات. قيل: إن جارية غنّته بشعر العرجى وهو:
أظلوم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحيّة ظلم
فمن الحاضرين من صوّب نصب رجلا، ومنهم من قال: صوابه رجل؛ فقالت الجارية: هكذا لقّننى المازنىّ. فطلب المازنىّ، فلمّا مثل بين يدى الواثق قال:
ممّن الرجل؟ قال: من بنى مازن؛ قال الواثق: أىّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قال: مازن ربيعة؛ فكلّمه الواثق حينئذ بلغة قومه، فقال: با اسمك؟ - لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما- فكره المازنىّ أن يواجهه بمكر؛ فقال: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لها وأعجبته. وقال له: ما تقول فى هذا البيت؟
قال: الوجه النصب، لأنّ مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم؛ فأخذ اليزيدىّ يعارضه؛ قال المازنىّ: هو بمنزلة إنّ ضربك زيدا ظلم، فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه أنّ الكلام معلّق الى أن تقول: ظلم فيتمّ؛ فأعجب الواثق وأعطاه ألف دينار.
وقال ابن أبى الدنيا: كان الواثق أبيض تعلوه صفرة، حسن اللحية، فى عينيه نكتة [بيضاء «1» ] . وقيل: إنّ الواثق لما احتضر جعل يردّد هذين البيتين وهما:
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا مل؟؟؟
ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم ... وليس يغنى عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خدّه بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه! يكرّرها الى أن مات رحمه الله تعالى. وفيها توفى على بن(2/263)
المغيرة أبو الحسن الأثرم البغدادىّ، الإمام البارع صاحب اللغة والنحو، قدم الشأم ثم رجع الى بغداد وسمع بها من الأصمعىّ وغيره، ومات بها. وفيها توفى محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابىّ، كان أحد العلماء باللغة والمشار اليه فيها، وكان يزعم أنّ الأصمعىّ وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلا ولا كثيرا؛ وسأله إمام المحنة أحمد ابن أبى دواد: أتعرف معنى استولى؟ قال: لا ولا تعرفه العرب، لأنها لا تقول:
استولى فلان على شىء حتى يكون له فيه مضادّ ومنازع، فأيّهما غلب استولى عليه؛ والله تعالى لا ضدّ له؛ وأنشد [قول] النابغة:
إلّا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد «1»
وكان مع هذا خصيصا عند المأمون. وسأله مرّة عن أحسن ما قيل فى الشراب؛ فقال: قول القائل:
تريك القذى من دونها وهى دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق «2»
فقال المأمون: أشعر منه من قال:
وتمشّت فى مفاصلهم ... كتمشّى البرء فى السّقم
يريد الحسن بن هانئ.
قلت: هذا كان فى تلك الأعصار الخالية، وأما لو سمع المأمون بما وقع للمتأخرين فى هذا المعنى وغيره لأضرب عن القولين ومال الى ما سمع. كم ترك الأوّل للآخر!.(2/264)
وفيها توفى محمد بن عائذ «1» أبو عبد الله الكاتب الدّمشقىّ صاحب المغازى والفتوح والسّير وغيرها، ولد سنة خمسين ومائة هـ، وولى خراج غوطة دمشق للمأمون، وكان عالما ثقة صاحب اطّلاع، مات فى هذه السنة، وقيل: سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن الحجّاج السّامىّ «2» لا الشامىّ، والحكم بن موسى القنطرىّ الزاهد، وجويرية بن أشرس، وعبد الله بن عون الخرّاز «3» ، وعلىّ بن المغيرة الأثرم اللغوىّ، وعمرو «4» بن محمد الناقد، وعيسى بن سالم الشاشىّ، وهارون الواثق بالله، ويوسف بن عدىّ الكوفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية هرثمة بن نصر على مصر
هو هرثمة بن نصر الجبلىّ: من أهل الجبل، ولى إمرة مصر بعد عزل عيسى ابن منصور عنها فى شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ولّاه الأمير إيتاخ التركىّ على إمرة مصر نيابة عنه على الصلاة. ولما ولى هرثمة هذا أرسل الى مصر علىّ بن مهرويه خليفة له على مصر وعلى صلاتها، فناب علىّ بن مهرويه عنه، حتى قدم هرثمة المذكور الى مصر فى يوم الأربعاء لستّ خلون من شهر رجب من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ. وسكن بالمعسكر على العادة؛ وجعل على شرطته(2/265)
أبا قتيبة. وفى أيّام هرثمة هذا ورد كتاب الخليفة المتوكّل الى مصر بترك الجدال فى القرآن واتباع السنّة وعدم القول بخلق القرآن. ولله الحمد.
وسببه أنّ الواثق كان قد تاب ورجع عن القول بخلق القرآن، فأدركته المنيّة قبل إشاعة «1» ذلك وتولّى المتوكّل الخلافة. قال أبو بكر الخطيب: كان أحمد بن أبى دواد قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد فى المحنة، ودعا الناس الى القول بخلق القرآن. وقال عبيد الله بن يحيى: حدّثنا إبراهيم بن أسباط بن السّكن قال: حمل رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فأدخل؛ فقال ابن أبى دواد: تقول أو أقول؟ قال: هذا أوّل جوركم، أخرجتم الناس من بلادهم، ودعوتموهم الى شىء ما قاله أحد؛ لا! بل أقول؛ قال: قل- والواثق جالس- فقال: أخبرنى عن هذا الرأى الذي دعوتم الناس اليه، أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدع الناس اليه، أم شئ لم يعلمه؟ قال: علمه؛ قال: فكان يسعه ألّا يدعو الناس اليه وأنتم لا يسعكم! فبهتوا. قال: فاستضحك الواثق وقام قابضا على كمّه ودخل بيتا ومدّ رجليه وهو يقول: شىء وسع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار وأن يردّ الى بلده.
وعن طاهر بن خلف قال: سمعت المهتدى بالله بن الواثق يقول: كان أبى إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا، فأتى بشيخ مخضوب مقيّد- كلّ هؤلاء يعنون بالشيخ (أحمد بن حنبل) رضى الله عنه- فقال أبى: ائذنوا لابن أبى دواد وأصحابه؛ وأدخل الشيخ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: لا سلّم الله عليك؛ فقال الشيخ: بئس ما أدّبك مؤدّبك، قال الله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.(2/266)
قال الذهبىّ: هذه رواية «1» منكرة، ورواتها مجاهيل، لكن نسوقها بطريق جيّد، قال: فقال ابن أبى دواد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلّم؛ فقال له: كلّمه؛ فقال:
يا شيخ، ما تقول فى القرآن؟ قال: لم تنصفنى ولى السؤال؛ قال: سل يا شيخ؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: هذا شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء أم شىء لم يعلموه؟ فقال: شىء لم يعلموه؛ فقال:
سبحان الله، شىء لم يعلموه! أعلمته أنت؟ قال: فخجل وقال: أقلنى؛ قال: والمسألة بحالها؟ قال: نعم؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن أبى دواد: علمه؛ قال الشيخ: علمه ولم يدع الناس اليه؟ قال: نعم؛ قال: فوسعه ذلك؟ قال: نعم؛ قال: أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده! قال: فقام أبى ودخل الخلوة واستلقى وهو يقول: شىء لم يعلمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علىّ علمته أنت! سبحان الله! علموه ولم يدعوا اليه الناس، أفلا وسعك ما وسعهم! ثم أمر برفع قيود الشيخ وأمر له بأربعمائة دينار وسقط من عينه ابن أبى دواد ولم يمتحن بعدها أحدا.
وقد روى نحوا من هذه الواقعة أحمد بن السّندىّ الحدّاد عن أحمد بن منيع عن صالح بن على الهاشمىّ المنصورىّ عن الخليفة المهتدى بالله رحمه الله، قال صالح:
حضرت وقد جلس للمتظلمين- يعنى المهتدى بالله رحمه الله- فنظرت الى القصص تقرأ عليه من أوّلها الى آخرها فيأمر بالتوقيع عليها ويختمها فيسرّنى ذلك، وجعلت أنظر اليه، ففطن بى ونظر الىّ فغضضت عنه، حتى كان ذلك منه ومنّى مرارا؛ فقال لى: يا صالح، فى نفسك شىء تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم؛ فلما انقضى المجلس أدخلت مجلسه؛ فقال: تقول ماذا فى نفسك أو أقوله لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين(2/267)
ما ترى؛ قال: أقول: إنه قد استحسنت ما رأيت منّا؛ فقلت: أىّ خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق! فورد على قلبى أمر عظيم؛ ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك! فأطرق المهتدى ثم قال: اسمع منّى، فو الله لتسمعنّ الحقّ؛ فسرى فى ذهنى شىء، فقلت: ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة ربّ العالمين وابن عمّ سيد المرسلين! قال: ما زلت أقول: القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة «1» فأدخل مقيّدا، وهو جميل حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له؛ فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس، فقال له: ناظر ابن أبى دواد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه يضعف عن المناظرة؛ فغضب وقال:
أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت!. قال: هوّن عليك وأذن لى فى مناظرته؛ فقال: ما دعوناك إلّا لذلك؛ فقال: احفظ علىّ وعليه. فقال: يا أحمد، أخبرنى عن مقالتك هذه، هى مقالة واجبة داخلة فى عقد الدّين فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال: أخبرنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله، هل ستر شيئا مما أمر به؟ قال: لا. قال: فدعا الى مقالتك هذه؟
فسكت. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين واحدة؛ فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ:
أخبرنى عن الله تعالى حين قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
أكان الله هو الصادق فى إكمال دينه، أم أنت الصادق فى نقصانه حتى تقال مقالتك؟ فسكت؛ فقال الشيخ: ثنتان؛ قال الواثق: نعم. فقال: أخبرنى عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ قال: علمها؛ قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث؛ قال: نعم. قال: فاتّسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن علمها أن يمسك عنها ولم يطالب أمّته بها؟ قال: نعم؛ قال: واتّسع لأبى بكر(2/268)
وعمر وعثمان وعلىّ ذلك؟ قال: نعم؛ فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت القول أنّ أحمد يصبو «1» ويضعف عن المناظرة؛ يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتّسع للنبىّ صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ فلا وسّع الله عليك؛ قال الواثق: نعم كذا هو، قطّعوا قيد الشيخ، فلما قطّعوه ضرب الشيخ بيده الى القيد فأخذه؛ فقال الواثق:
لم أخذته؟ قال: إنّى نويت أن أتقدّم إلى من أوصى اليه إذا أنا متّ أن يجعله بينى وبين كفنى حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، فأقول: يا ربّ لم قيّدنى وروّع أهلى، ثم «2» بكى، فبكى الواثق وبكينا. ثم سأله الواثق أن يجعله فى حلّ وأمر له بصلة؛ فقال: لا حاجة لى بها. قال المهتدى: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ الواثق رجع عنها من يومئذ اهـ.
قلت: ولما وقع ذلك كتب للأقطار برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة بالجملة، وهدّد كلّ من قال بها بالقتل.
وكان هرثمة هذا يحبّ السّنّة، فأخذ فى إظهار السنّة والعمل بها، وفرح الناس بذلك وتباشروا بولايته؛ فلم تطل مدّته على إمرة مصر بعد ذلك حتى مرض ومات بها فى يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين؛ واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة على صلاة مصر. وكانت ولاية هرثمة المذكور على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وهذا ثانى هرثمة ولى إمرة مصر فى الدولة العباسيّة، فالأوّل هرثمة بن أعين، ولّاه الرشيد هارون على مصر سنة ثمان(2/269)
وسبعين ومائة، والثانى هو هرثمة بن نصر هذا. وكان هرثمة أميرا جليلا عاقلا مدبّرا سيوسا. وتولّى مصر من بعده ابنه حاتم بن هرثمة باستخلافه له، فأقرّه الخليفة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 233]
السنة التى حكم فيها هرثمة بن نصر على مصر وهى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين- فيها كانت زلزلة عظيمة بدمشق سقط منها شرفات الجامع الأموىّ وانصدع حائط المحراب وسقطت منارته، وهلك خلق تحت الرّدم، وهرب الناس الى المصلّى باكين متضرّعين الى الله، وبقيت ثلاث ساعات ثم سكنت.
وقال القاضى أحمد بن كامل فى تاريخه: رأى بعض أهل دير مرّان «1» دمشق تنخفض وترتفع مرارا، فمات تحت الرّذم معظم أهلها- هكذا قال ولم يقل بعض أهلها- ثم قال: وكانت الحيطان تنفصل حجارتها من بعضها مع كون الحائط عرض سبعة أذرع، ثم امتدّت هذه الزّلزلة الى أنطاكية فهدمتها، ثم الى الجزيرة فأخربتها، ثم الى الموصل. يقال: إنّ الموصل هلك من أهله خمسون ألفا، ومن أهل أنطاكية عشرون ألفا.
وفيها أصاب القاضى أحمد بن أبى دواد فالج عظيم وبطلت حركته حتى صار كالحجر الملقى. وأحمد هذا هو القائل بخلق القرآن، يأتى ذكره عند وفاته فى هذا الكتاب فى محلّه إن شاء الله تعالى.
وفيها فى شهر رمضان ولّى الخليفة المتوكّل على الله ابنه محمدا المنتصر الحرمين والطائف.(2/270)
وفيها عزل المتوكل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه الفتح بن خاقان. وفيها غضب المتوكّل على عمر بن الفرج وصادره.
وفيها قدم يحيى بن هرثمة بن أعين- وكان ولى طريق مكّة- بالشّريف علىّ بن محمد بن علىّ الرّضى العلوىّ من المدينة، وكان قد بلغ المتوكّل عنه شىء.
وفيها توفى بهلول بن صالح أبو الحسن التّجيبىّ، كان إماما حافظا، قدم بغداد وحدّث بها، ومن رواياته عن ابن عباس رسالة زياد بن أنعم.
وفيها توفّى محمد بن سماعة بن عبيد «1» الله بن هلال بن وكيع بن بشر أبو عبد الله القاضى الحنفىّ التّيمى، ولد سنة ثلاثين ومائة، وكان إماما عالما صالحا بارعا صاحب اختيارات وأقوال فى المذهب، وله المصنّفات «2» الحسان، وهو من الحفّاظ الثّقات؛ ولى القضاء وحمدت سيرته، ولم يزل به الى أن ضعف نظره واستعفى، وكان يصلّى كل يوم مائتى ركعة. قال: مكثت أربعين سنة لم تفتنى التكبيرة الأولى فى جماعة إلا يوما واحدا ماتت فيه أمّى فقاتتنى صلاة واحدة، وصلّيت خمسا «3» وعشرين صلاة رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى محمد بن عبد الملك بن أبان بن أبى حمزة «4» الزيّات الوزير أبو يعقوب وقيل: أبو جعفر أصله من جيل «5» (قرية تحت بغداد) . قلت: ومنها كان أصل الشيخ عبد القادر الكيلانى. وكان أبو محمد هذا تاجرا وانتمى هو للحسن بن سهل(2/271)
فنوّه بذكره؛ حتى اتصل بعده بالمعتصم، ثم استوزره الواثق. وكان أديبا فاضلا شاعرا عارفا بالنّحو واللغة جوادا ممدّحا، ومن شعره على ما قيل قوله:
فإن سرت بالجثمان عنكم فإنّنى ... أخّلف قلبى عندكم وأسير
فكونوا عليه مشفقين فإنّه ... رهين لديكم فى الهوى وأسير
قلت: وما أحسن قول القاضى ناصح الدّين الأرّجانىّ فى هذا المعنى:
لم يبكنى إلا حديث فراقهم ... لمّا أسرّ به إلىّ مودّعى
هو ذلك الدرّ الذي أودعتم ... فى مسمعى أجريته من مدمعى
قلت: وهذا مثل قول الزمخشرىّ فى قوله لمّا رثى شيخه أبا مضر- والله أعلم من السابق لهذا المعنى لأنهما كانا متعاصرين-:
وقائلة ما هذه الدّرر التى ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
فقلت لها الدّرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عينى
وفيها توفى الإمام الحافظ الحجة يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام- وقيل: غياث بدل عون- أبو زكريا المرّىّ (مرّة بن غطفان مولاهم) البغدادىّ الحافظ المشهور، كان إمام عصره فى الجرح والتّعديل وإليه المرجع فى ذلك، وكان يتفقّه بمذهب الإمام أبى حنيفة.
قال الإمام محمد بن إسماعيل البخارىّ: ما استصغرت نفسى إلّا عند يحيى بن معين. ومولده فى سنة ثمان وخمسين ومائة، فهو أسنّ من علىّ بن المدينىّ، وأحمد بن حنبل، وأبى بكر بن أبى شيبة، وإسحاق بن راهويه، وكانوا يتأدّبون معه ويعرفون له فضله، وروى عنه خلائق لا تحصى كثرة.(2/272)
قال أبو حاتم: يحيى بن معين إمام. وقال النّسائىّ: هو أبو زكريا الثقة المأمون أحد الأئمة فى الحديث. وقال علىّ بن المدينىّ: لا نعلم أحدا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين. وعن يحيى بن معين قال: كتبت «1» بيدى ألف ألف حديث.
وقال علىّ بن المدينىّ: انتهى علم الناس الى يحيى بن معين. وقال القواريرىّ: قال لى يحيى القطّان: ما قدم علينا أحد مثل هذين الرجلين: مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال أحمد بن حنبل: كان يحيى بن معين أعلمنا بالرجال. وعن أبى سعيد الحدّاد قال: الناس عيال فى الحديث على يحيى بن معين. وقال محمد بن هارون الفلّاس: اذا رأيت الرجل ينتقص يحيى بن معين فاعرف أنّه كذّاب.
وكانت وفاة يحيى بن معين لسبع بقين من ذى القعدة بالمدينة، ودفن بالبقيع.
قال الذّهبىّ: وقال حبيش بن المبشّر وهو ثقة: رأيت يحيى بن معين فى النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أعطانى وحبانى «2» وزوّجنى ثلثمائة حوراء، ومهّد لى بين البابين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن عبد الله ابن أبى شعيب الحرّانى، وابراهيم بن الحجّاج السّامى، واسحاق بن سعيد بن الأركون الدّمشقى، وحبّان بن موسى المروزىّ، وسليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، وداهر بن نوح الأهوازىّ، وروح بن صلاح المصرىّ، وسهل بن عثمان العسكرىّ، وعبد الجبّار بن عاصم النّسائى، وعقبة بن مكرم الضّبّى، ومحمد بن سماعة القاضى،(2/273)
ومحمد بن عائذ الكاتب، والوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، ويحيى بن أيّوب المقابرى، ويحيى بن معين، ويزيد بن موهب الرّملىّ «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية حاتم بن هرثمة على مصر
هو حاتم بن هرثمة بن نصر «2» الجيلىّ أمير مصر، وليها باستخلاف أبيه له بعد موته فى الثالث والعشرين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين على الصلاة؛ وأرسل كاتب الأمير إيتاخ التركىّ المعتصمىّ الذي إليه أمر مصر فى ولايته عليها مكان أبيه. وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر. وجعل على شرطته محمد بن سويد.
وأخذ فى إصلاح أحوال الديار المصرية؛ وبينما هو فى ذلك ورد عليه كتاب الأمير إيتاخ بصرفه عن إمرة مصر وتولية علىّ بن يحيى الأرمنىّ ثانيا على مصر، وكان ذلك فى يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين المذكورة. فكانت ولاية حاتم هذا على مصر من يوم مات أبوه شهرا واحدا وثلاثة عشر يوما. وكان حاتم هذا جليلا نبيلا، وعنده معرفة وحسن تدبير، إلا أنه لم يحسن أمره مع إيتاخ، لطمع كان فى إيتاخ التركىّ الذي كان اليه أمر مصر بعد أشناس، وكلاهما كان تركيّا. ولم أقف على وفاة حاتم بن هرثمة هذا اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 234]
السنة التى حكم فى أوّلها الى رجب هرثمة بن نصر، ومن رجب الى شهر رمضان ابنه حاتم بن هرثمة، ومن رمضان الى آخرها علىّ بن يحيى الأرمنىّ، وهى(2/274)
سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها هبّت ريح بالعراق شديدة السّموم لم يعهد مثلها، أحرقت زرع الكوفة والبصرة وبغداد وقتلت المسافرين، ودامت خمسين يوما، ثم اتّصلت بهمذان فأحرقت أيضا الزرع والمواشى، ثم اتّصلت بالموصل وسنجار «1» ، ومنعت الناس من المعاش فى الأسواق ومن المشى فى الطريق، وأهلكت خلقا.
وفيها حجّ بالناس من العراق الأمير محمد بن داود بن عيسى العباسىّ، وكان له عدّة سنين يحجّ بالناس.
وفيها أظهر الخليفة المتوكّل على الله جعفر السّنّة بمجلسه وتحدّث بها ونهى عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك الى الآفاق، حسبما ذكرناه فى ترجمة هرثمة هذا، واستقدم العلماء وأجزل عطاياهم. ولهذا المعنى قال بعضهم: الخلفاء ثلاثة:
أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه يوم الرّدّة، وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فى ردّ مظالم بنى أميّة، والمتوكّل فى إظهار السنّة.
وفيها خرج عن الطاعة محمد [بن البعيث «2» ] أمير إرمينية وأذربيجان وتحصّن بقلعة مرند «3» ؛ فسار لقتاله بغا الشّرابىّ فى أربعة آلاف، فنازله وطال الحصار بينهم، وقتل طائفة كبيرة من عسكر بغا، ودام ذلك بينهم الى أن نزل محمد بالأمان، وقيل:
بل تدلّى ليهرب فأسروه.
وفيها فوّض الخليفة المتوكل لإيتاخ متولّى إمرة مصر الكوفة والحجاز وتهامة ومكّة والمدينة مضافا على مصر، ودعى له على المنابر. وحجّ إيتاخ من سنته وقد تغيّر خاطر المتوكّل عليه. فلما عاد من الحجّ كتب المتوكّل إلى إسحاق بن إبراهيم(2/275)
ابن مصعب بالقبض عليه فى الباطن إن أمكنه؛ فتحايل عليه إسحاق حتى قبض عليه وقيّده بالحديد وقتله عطشا، وكتب محضرا أنه مات حتف أنفه. وكان أصل إيتاخ هذا مملوكا من الخزر «1» طبّاخا لسلّام الأبرش؛ فاشتراه المعتصم، فرأى له رجلة «2» وبأسا فقرّبه ورفعه؛ ثم ولّاه الواثق بعد ذلك الأعمال الجليلة. وكان من أراد المعتصم والواثق والمتوكّل قتله سلّمه اليه، فقتل إيتاخ هذا مثل عجيف والعبّاس بن المأمون وابن الزيّات الوزير وغيرهم.
وفيها توفّى زهير بن حرب بن شدّاد أبو خيثمة النّسائىّ، كان عالما ورعا فاضلا، رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث، وروى عنه جماعة، وكان من أئمة الحديث.
وفيها توفّى سليمان بن داود بن بشر بن زياد الحافظ أبو أيّوب البصرىّ المنقرىّ المعروف بالشّاذكونىّ «3» ، رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث وروى عن خلائق، وروى عنه جمع كبير، وهو أحد الأئمة الحفّاظ الرحّالين.
وفيها توفى سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علىّ بن عبد الله بن العباس الأمير أبو أيوب الهاشمىّ العباسىّ، أحد أعيان بنى العباس وأحد من ولى الأعمال الجليلة مثل المدينة والبصرة واليمن وغيرها.
وفيها توفّى علىّ بن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن بكر بن سعيد، وقيل: جعفر بن نجيح بن بكر، الإمام الحافظ الناقد الحجّة أبو الحسن السّعدى مولاهم البصرىّ الدّارىّ(2/276)
المعروف بابن المدينىّ، كان إمام عصره فى الجرح والتعديل والعلل، وكان أبوه محدّثا مشهورا. ومولد علىّ هذا فى سنة إحدى وستين ومائة، وهو أحد الأعلام وصاحب التصانيف؛ وسمع أباه وحمّاد بن زيد وابن عيينة والدّراوردىّ ويحيى القطّان وعبد الرحمن بن مهدىّ وابن عليّة وعبد الرزّاق وخلقا سواهم، وروى عنه البخارىّ وأبو داود والنّسائىّ وابن ماجه والتّرمذى عن رجل عنه وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذّهلىّ وخلق سواهم. وعن ابن عيينة قال: يلوموننى على حبّ علىّ بن المدينى، والله إنى لأتعلّم منه أكثر مما يتعلّم منّى. وعن ابن عيينة قال: لولا علىّ بن المدينىّ ما جلست.
وقال النّسائىّ: كأن الله خلق علىّ بن المدينى لهذا الشأن. وقال السّرّاج:
سمعت محمد بن يونس [يقول] سمعت ابن المدينىّ يقول: تركت من حديثى مائة ألف حديث، منها ثلاثون ألفا لعبّاد بن صهيب. وقال السّرّاج: قلت للبخارىّ:
ما تشتهى؟ قال: أن أقدم العراق وعلىّ بن المدينىّ حىّ فأجالسه. قال البخارىّ:
مات علىّ بن عبد الله (يعنى ابن المدينى) ليومين بقيا من ذى القعدة بالمدينة سنة أربع وثلاثين ومائتين. وقال الحارث وغير واحد: مات بسامرّاء فى ذى القعدة. وقال الإمام أبو زكريا النووىّ: لابن المدينىّ فى الحديث نحو مائتى مصنّف. وفيها توفّى يحيى بن أيوب البغدادىّ العابد الصالح، ويعرف بالمقابرئ لانه كان يتعبّد بالمقابر، وكان له أحوال وكرامات.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن حرب النّيسابورىّ الزاهد، وروح بن عبد المؤمن القارئ، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الشّاذكونىّ، وأبو الرّبيع سليمان بن داود الزّهرانىّ، وعبد الله بن(2/277)
عمر بن الرمّاح قاضى نيسابور، وأبو جعفر عبد الله بن محمد [النّفيلىّ «1» ] ، وعلىّ بن بحر القطّان، وعلىّ بن المدينىّ، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن أبى بكر المقدّمىّ، والمعافى بن سليمان الرّسعنىّ «2» ، ويحيى بن يحيى اللّيثىّ الفقيه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية علىّ بن يحيى الثانية على مصر
قد تقدّم الكلام على ولاية علىّ بن يحيى هذا أوّلا على مصر، ثم وليها ثانيا فى هذه المرّة بعد عزل حاتم بن هرثمة بن نصر عنها، من قبل الأمير إيتاخ المعتصمىّ على الصلاة فى يوم سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ. فسكن علىّ ابن يحيى بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته معاوية بن نعيم. واستمرّ علىّ هذا على إمرة مصر الى أن قبض الخليفة المتوكل على الله جعفر على إيتاخ المذكور فى المحرم سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وقدم الخبر على الأمير علىّ هذا بالقبض على إيتاخ والحوطة على ماله بمصر، فاستصفيت أمواله وترك الدعاء له على منابرها بعد الخليفة؛ وأنّ المتوكّل ولّى ابنه وولىّ عهده محمّدا المنتصر مصر وأعمالها كما كان لإيتاخ المذكور؛ فدعى عند ذلك للمنتصر على منابر مصر. فكان حكم إيتاخ على الديار المصرية أربع سنين. ولما ولى المنتصر إمرة مصر أقرّ علىّ بن يحيى هذا على عمل(2/278)
مصر على عادته؛ فاستمرّ عليها الى أن صرفه المنتصر عنها بإسحاق بن يحيى بن معاذ فى ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين ومائتين. فكانت ولايته على مصر فى هذه المرّة الثانية سنة واحدة وثلاثة أشهر تنقص أيّاما. وخرج من مصر وتوجّه الى العراق وقدم على الخليفة المتوكّل على الله جعفر وصار عنده من كبار قوّاده؛ وجهّزه فى سنة تسع وثلاثين ومائتين الى غزو الروم، فتوجّه بجيوشه الى بلاد الروم فأوغل فيها، فيقال: إنّه شارف القسطنطينيّة، فأغار على الروم وقتل وسبى، حتى قيل: إنه أحرق ألف قرية وقتل عشرة آلاف علج، وسبى عشرة آلاف رأس، وعاد الى بغداد سالما غانما؛ فزادت رتبته عند المتوكّل أضعاف ما كانت. ثم غزا غزوة أخرى فى سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوغّل فى بلاد الروم، ثم عاد قافلا من إرمينية الى ميّافارقين، فبلغه مقتل الأمير عمر بن عبد الله الأقطع بمرج الأسقف؛ وكان الروم فى خمسين ألفا فأحاطوا به- أعنى عمر بن عبد الله الأقطع- ومن معه فقتلوه وقتل عليه «1» ألف رجل من أعيان المسلمين؛ وكان ذلك فى يوم الجمعة منتصف شهر رجب سنة تسع وأربعين ومائتين المذكورة. فلمّا بلغ الأمير علىّ بن يحيى هذا عاد يطلب الروم بدم عمر بن عبد الله المذكور، حتى لقبهم وقاتلهم قتالا شديدا، حتى قتل وقتل معه أيضا من أصحابه أربعمائة رجل من أبطال المسلمين. رحمهم الله تعالى.
وكان علىّ بن يحيى هذا أميرا شجاعا مقداما جوادا ممدّحا عارفا بالحروب والوقائع مدبّرا سيوسا محمود السيرة فى ولايته، وأصله من الأزمن؛ وقد حكينا طرفا من هذه الغزوة فى ولايته الأولى؛ والصواب أنّ ذلك كان فى هذه المرّة، وأنّ تلك الغزوة كانت غير هذه الغزوة التى قتل فيها. رحمه الله تعالى وتقبّل منه.(2/279)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 235]
السنة التى حكم فيها علىّ بن يحيى الأرمنىّ فى ولايته الثانية على مصر وهى سنة خمس وثلاثين ومائتين- فيها ألزم الخليفة المتوكّل على الله النصارى بلبس العسلىّ.
وفيها ظهر رجل بسامرّاء يقال له محمود بن الفرج النّيسابورىّ، وزعم أنه ذو القرنين، وكان معه رجل شيخ يشهد أنّه نبىّ يوحى إليه، وكان معه كتاب كالمصحف، فقبض عليهما وعوقب محمود المذكور حتى مات تحت العقوبة، وتفرّق عنه أصحابه.
وفيها عقد المتوكّل لبنيه الثلاثة وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابا، كما فعل جدّه هارون الرشيد مع أولاده؛ فأعطى المتوكّل ابنه الأكبر محمّدا المنتصر من عريش مصر الى إفريقيّة المغرب كلّه الى حيث بلغ سلطانه، وأضاف اليه جند قنّسرين والعواصم والثغور الشاميّة والجزيرة وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين واليمن واليمامة وحضر موت والبحرين والسّند وكرمان وكور الأهواز وما سبذان ومهرجان وشهرزور وقمّ وقاشان وقزوين والجبال؛ وأعطى ابنه المعتزّ بالله- واسمه الزبير وقيل محمد- خراسان وطبرستان وما وراء النهر والشرق كلّه؛ وأعطى ابنه المؤيّد بالله إبراهيم إرمينية وأذربيجان وجند دمشق والأردنّ وفلسطين.
وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم بن ميمون، أبو محمد التّميمىّ، ويعرف والده بالموصلىّ النديم، وقد تقدّم ذكره فى ولاية الرشيد هارون. وولد إسحاق هذا سنة خمسين ومائة، وكان إماما عالما فاضلا أديبا أخباريا؛ وكان بارعا فى ضرب العود وصنعة الغناء، فغلب عليه ذلك حتى عرف بإسحاق المغنّى، ونال بذلك عند الخلفاء من الرتبة ما لم ينله غيره، وهو مصنّف كتاب الأغانى «1» .(2/280)
قال الذهبىّ: أبو محمد التميمىّ الموصلىّ النديم صاحب الغناء كان اليه المنتهى فى معرفة الموسيقى. قلت: لم يكن فى أيّام إسحاق الموسيقىّ ولا بعده بمدّة سنين مثله. اهـ. قال: وكان له أدب وافر وشعر رائق جزل، وكان عالما بالأخبار وأيّام الناس وغير ذلك من الفقه والحديث والأدب وفنون العلم. قال: وسمع من مالك وهشيم وسفيان بن عيينة والأصمعىّ وجماعة. اهـ.
وعن إسحاق قال: بقيت دهرا من عمرى أغلّس «1» كلّ يوم الى هشيم أو غيره من المحدّثين، ثم أصير الى الكسائىّ أو الفرّاء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم أصير الى منصور المعروف بزلزل المغنّى فيضاربنى طريقين فى العود أو ثلاثة، ثم آتى عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتى الأصمعىّ وأبا عبيدة فأنشدهما [وأستفيد منهما «2» ] ، فإذا كان العشاء رحت الى أمير المؤمنين الرشيد. ومن شعره:
هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إنّ عهدى بالنّوم عهد طويل
وكان إسحاق يكره أن ينسب الى الغناء. وقال المأمون: لولا شهرته بالغناء لولّيته القضاء. وفيها توفى سريج- بسين مهملة وجيم- بن يونس بن إبراهيم المروزىّ الزاهد العابد جدّ ابن سريج الفقيه الشافعىّ، كان سريج أعجميا فرأى فى منامه الحقّ جلّ جلاله، فقال له: يا سريج، طلب «3» كن، فقال سريج: يا خداى سر بسر. وهذا(2/281)
اللفظ بالعجمىّ معناه أنه قال له: يا سريج، سل حاجتك؛ فقال: يا رب رأس برأس. وروى سريج عن ابن عيينة، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأخرج له البخارىّ ومسلم والنّسائىّ. وفيها توفى الطيّب بن إسماعيل بن إبراهيم الشيخ أبو محمد «1» الدؤلىّ، كان عابدا زاهدا يقصد الأماكن التى ليس فيها أحد؛ وكان يبيع اللآلئ والجواهر، وهو أحد القرّاء المشهورين وعباد الله الصالحين، وكان ثقة صدوقا، روى عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغوىّ وغيره. وفيها توفى عبد الله بن محمد بن إبراهيم الحافظ أبو بكر العبسىّ، ويعرف بابن أبى شيبة، كان أحد كبار الحفّاظ. وهو مصنّف المسند والتفسير والأحكام وغيرها، وقدم بغداد وحدّث بها.
قال أبو عبيد القاسم بن سلّام: انتهى علم الحديث الى أربعة: أحمد بن حنبل، وأبى بكر بن أبى شيبة، ويحيى بن معين، وعلىّ بن المدينىّ؛ فأحمد أفقههم فيه، وأبو بكر أسردهم، ويحيى أجمع له، وابن المدينىّ أعلمهم به.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: فيها توفى أحمد بن عمر الوكيعىّ، وإبراهيم بن العلاء [زبريق الحمصىّ «2» ] ، وإسحاق الموصلىّ النديم، وسريج بن يونس العابد، وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب أمير بغداد، وشجاع بن مخلّد، وشيبان بن فرّوخ، وأبو بكر «3» بن أبى شيبة، وعبيد الله بن عمر القواريرىّ، ومحمد بن عبّاد المكىّ، ومحمد بن حاتم السّمين، ومعلّى بن مهدىّ الموصلىّ، ومنصور بن أبى مزاحم، وأبو الهذيل العلّاف شيخ المعتزلة.(2/282)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية إسحاق بن يحيى على مصر
هو إسحاق بن يحيى بن معاذ بن مسلم الختلىّ، أمير مصر، أصله من قرية ختلان (بلدة عند سمرقند) ، ولى مصر بعد عزل علىّ بن يحيى الأرمنىّ، فى ذى الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين، ولّاه المنتصر بن المتوكّل على مصر وجمع له صلاتها وخراجها معا، وقدم الى مصر لإحدى عشرة خلت من ذى الحجّة من سنة خمس وثلاثين ومائتين المذكورة. وقال صاحب «البغية والاغتباط» : إنّه وصل الى مصر لإحدى عشرة خلت من ذى القعدة وذكر السنة، فخالف فى الشهر ووافق فى السنة وغيرها. ولما قدم مصر سكن المعسكر، وجعل على الشّرطة الهيّاجىّ، وعلى المظالم عيسى بن لهيعة الحضرمىّ. وكان إسحاق هذا قد ولى إمرة دمشق فى أيام المأمون، ثم فى أيام أخيه المعتصم ثانيا مدّة طويلة، ثم ولى دمشق ثالثا فى أيام الخليفة هارون الواثق ودام بها الى أن نقله المنتصر لما ولّاه أبوه المتوكّل إمرة مصر، حسبما تقدّم ذكره. وكان إسحاق بن يحيى هذا من أجلّ الأمراء، كان جوادا ممدّحا شجاعا عاقلا مدبرّا سيوسا محبّا للشعر وأهله، وقصده كثير من الشعراء ومدحوه بغرر من المدائح وأجازهم الجوائز السنيّة. وكان فيه رفق بالرّعيّة وعدل وإنصاف؛ رفق بالناس فى أيام ولايته بدمشق عند ما ورد كتاب المعتصم بامتحان الرعيّة بالقول بخلق القرآن؛ وأيضا لمّا ولى مصر ورد عليه بعد مدّة من ولايته كتاب المنتصر وأبيه الخليفة المتوكّل بإخراج الأشراف العلويّين من مصر الى العراق فأخرجوا؛ وذلك بعد أن أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين بن علىّ رضى الله عنهما وقبور العلويّين. وكان هذا وقع من المتوكّل فى سنة ستّ وثلاثين ومائتين وقيل قبلها.(2/283)
وكان سبب بغضه فى علىّ بن أبى طالب وذرّيته أمر يطول شرحه وقفت عليه فى تاريخ الإسعردىّ «1» ، محصوله: أنّ المتوكّل كان له مغنّية تسمى أمّ الفضل، وكان يسامرها قبل الخلافة وبعدها، وطلبها فى بعض الأيّام فلم يجدها، ودام طلبه لها أيّاما وهو لا يجدها، ثم بعد أيّام حضرت وفى وجهها أثر شمس؛ فقال لها: أين كنت؟
فقالت: فى الحجّ؛ فقال: ويحك! هذا ليس من أيام الحجّ! فقالت: لم أرد الحجّ لبيت الله الحرام، وإنّما أردت الحجّ لمشهد علىّ؛ فقال المتوكّل: وبلغ أمر الشيعة الى أن جعلوا مشهد علىّ مقام الحجّ الذي فرضه الله تعالى! فنهى الناس عن التوجّه الى المشهد المذكور من غير أن يتعرّض الى ذكر علىّ رضى الله عنه؛ فثارت الرافضة عليه وكتبوا سبّه على الحيطان، فحنق من ذلك وأمر بألّا يتوجّه أحد لزيارة قبر من قبور العلويّين؛ فثاروا عليه أيضا، فتزايد غضبه منهم فوقع منه ما وقع. وحكاياته فى ذلك مشهورة لا يعجبنى ذكرها، إجلالا للإمام علىّ رضى الله عنه. ولما عظم الأمر أمر بهدم قبر الحسين رضى الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل ذلك كلّه مزارع. فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم المتوكّل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء دعبل وغيره، فصار كلّما يقع له ذلك يزيد ويفحش. وكان الأليق بالمتوكّل عدم هذه الفعلة، وبالناس أيضا ترك المخاصمة؛ لما قيل: يد الخلافة لا تطاولها يد.
وفى هذا المعنى، أعنى فى هدم قبور العلويّين، يقول يعقوب بن السّكّيت وقيل هى لعلىّ بن أحمد- وقد بقى إلى بعد الثلاثمائة وطال عمره:(2/284)
تالله إن كانت أميّة قد أتت ... قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
وعدّة أبيات أخر «1» . وقيل: إن ابن السكيت المذكور قتل ظلما من المتوكّل، فإنّه قال له يوما: أيّما أحبّ إليك: ولداى المؤيد والمعتزّ أم الحسن والحسين أولاد علىّ؟
فقال ابن السكيت: والله إنّ قنبرا خادم علىّ خير منك ومن ولديك «2» ؛ فقال: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات من ساعته.
قلت: وفى هذه الحكاية نظر من وجوه عديدة. وقد طال الأمر وخرجنا عن المقصود، ونرجع الى ما نحن بصدده.
ولما ورد كتاب المنتصر الى إسحاق بن يحيى هذا بإخراج العلويّين من مصر، أخرجهم إسحاق من غير إفحاش فى أمرهم؛ فصرفه المنتصر بعد ذلك بمدّة يسيرة عن إمرة مصر، فى ذى القعدة من سنة ستّ وثلاثين ومائتين، بعبد الواحد بن يحيى.
فكانت ولاية إسحاق على مصر سنة واحدة تنقص عشرين يوما، ومات بعد ذلك بأشهر قليلة فى أوّل شهر ربيع الآخر من سنة سبع وثلاثين ومائتين بمصر، ودفن بالقرافة. ولما مات إسحاق رثاه بعض شعراء البصرة فقال من أبيات كثيرة:
سقى الله ما بين المقطّم والصّفا ... صفا النّيل صوب المزن حيث يصوب
وما بى «3» أن يسقى البلاد وإنّما ... مرادى أن يسقى هناك حبيب(2/285)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 236]
السنة التى حكم فيها إسحاق بن يحيى على مصر وهى سنة ست وثلاثين ومائتين- فيها حجّ بالناس المنتصر محمد بن الخليفة المتوكّل على الله. وحجّت أيضا أمّ المتوكّل، وشيّعها المتوكّل الى أن استقلّت بالمسير ثم رجع. وأنفقت أمّ المتوكّل أموالا جزيلة فى هذه الحجّة، واسمها شجاع. وفيها كان ما حكيناه من هدم قبر الحسين وقبور العلويّين وجعلت مزارع، كما تقدّم ذكره. وفيها أشخص المتوكل القضاة من البلدان لبيعة ولاة العهد أولاده: المنتصر بالله محمد، ومن بعده المعتزّ بالله محمد، وقيل الزبير، ومن بعده المؤيد بالله إبراهيم؛ وبعث خواصّه الى الأمصار ليأخذوا البيعة بذلك. وفيها وثب أهل دمشق على نائب دمشق سالم بن حامد، فقتلوه يوم الجمعة على باب الخضراء. وكان من العرب «1» ، فلمّا ولّى أذلّ قوما بدمشق من السّكون والسّكاسك لهم وجاهة ومنعة، فثاروا به وقتلوه. فندب المتوكّل لإمرة دمشق أفريدون التركىّ وسيّره إليها، وكان شجاعا فاتكا ظالما؛ فقدم فى سبعة آلاف فارس، وأباح له المتوكّل القتل بدمشق والنهب ثلاث ساعات. فنزل أفريدون بيت لهيا «2» ، وأراد أن يصبّح البلد؛ فلما أصبح نظر الى البلد، وطلب الركوب فقدّمت له بغلة فضربته بالزوج فقتلته، فدفن مكانه، وقبره ببيت لهيا، وردّ الجيش الذين كانوا معه خائفين.
وبلغ المتوكّل، فصلحت نيّته لأهل دمشق. وفيها توفى إسماعيل بن إبراهيم بن بسّام «3»(2/286)
الحافظ أبو إبراهيم التّرجمانى «1» كان إماما عالما محدّثا صاحب سنة وجماعة، كتب عنه الإمام أحمد بن حنبل أحاديث، وروى عنه محمد بن سعد وغيره، ووثّقه غير واحد. وفيها توفى الحسن بن سهل الوزير أبو محمد أخو ذى الرياستين الفضل بن سهل. كانا من بيت رياسة فى المجوس، فأسلما مع أبيهما فى خلافة الرشيد هارون واتصلوا بالبرامكة، فانضم سهل ليحيى بن خالد البرمكىّ، فضمّ يحيى الأخوين الى ولديه:
فضمّ الفضل بن سهل الى جعفر، والحسن بن سهل هذا الى الفضل بن يحيى؛ فضمّ جعفر الفضل بن سهل الى المأمون وهو ولىّ عهد، فكان من أمره ما كان. ولمّا مات الفضل ولى الحسن هذا مكانه وزيرا؛ ثم لم تزل رتبته فى ارتفاع، الى أن تزوّج المأمون بابنته بوران بنت الحسن بن سهل، وقد تقدّم ذلك كلّه فى محلّه. ولم يزل الحسن بن سهل وافر الحرمة إلى أن مات بسرخس «2» فى ذى القعدة من شرب دواء أفرط به فى إسهاله، وخلّف عليه ديونا لكثرة إنعامه. وفيها توفى عبد السلام بن صالح ابن سليمان بن أيوب أبو الصّلت الهروىّ الحافظ الرحّال، رحل فى طلب العلم إلى البلاد، وأخذ الحديث عن جماعة، وروى عنه غير واحد. قيل: إنه كان فيه تشيّع.
وفيها توفى منصور ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد ابن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ، الأمير عمّ الرشيد هارون. وكان منصور هذا ولى إمرة دمشق للأمين بن الرشيد، وتولّى أيضا عدّة أعمال جليلة.
وكانت لديه فضيلة. وكانت وفاته فى المحرّم من السنة. وفيها توفى نصر بن زياد ابن نهيك الإمام أبو محمد النّيسابورىّ الفقيه الحنفىّ، سمع الحديث وتفقّه على محمد ابن الحسن، وولى قضاء نيسابور مدّة وحمدت سيرته. وكان نزيها عفيفا. رحمه الله.(2/287)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، «1» وإبراهيم بن أبى معاوية الضرير، وإبراهيم بن المنذر الخزامىّ، وأبو إبراهيم الترجمانىّ إسماعيل بن إبراهيم، وأبو معمر القطيعىّ إسماعيل بن إبراهيم، والحسن ابن سهل وزير المأمون، وخالد بن عمرو السّلفىّ، وصالح بن حاتم بن وردان، وأبو الصّلت الهروىّ عبد السلام بن صالح، ومصعب بن عبد الله الزّبيرىّ، ومنصور بن المهدىّ الأمير، ونصر بن زياد قاضى نيسابور، وهدبة بن خالد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر
هو عبد الواحد بن يحيى بن منصور بن طلحة بن زريق «2» مولى خزاعة، وهو ابن عمّ طاهر بن الحسين، ولى إمرة مصر على الصلاة والخراج معا من قبل المنتصر، كما كان أشناس وإيتاخ وغيرهما، بعد عزل إسحاق بن يحيى عنها. فقدمها عبد الواحد هذا فى الحادى والعشرين من ذى القعدة سنة ستّ وثلاثين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته محمد بن سليمان البجلىّ. واستمرّ على ذلك إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر بعزله عن خراج، مصر فعزل فى يوم الثّلاثاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين ومائتين، ودام على الصلاة فقط. ثم ورد عليه فى السنة المذكورة كتاب الخليفة المتوكّل بحلق لحية قاضى قضاة مصر أبى بكر محمد بن أبى اللّيث وأن يضربه ويطوف به على حمار، ففعل به ما أمر به، وكان ذلك فى شهر رمضان(2/288)
من السنة وسجن، وكان القاضى المذكور من رءوس الجهميّة «1» . وولى القضاء بعده بمصر الحارث بن مسكين بعد تمنّع، وأمر بإخراج أصحاب أبى حنيفة والشافعى رضى الله عنهما من المسجد، ورفعت حصرهم، ومنع عامّة المؤذنين من الأذان. وكان الحارث قد أقعد، فكان يحمل فى محفّة الى الجامع، وكان يركب حمارا متربّعا، ثم ضرب الذين يقرءون بالألحان، ثم حمله أصحابه [على] النظر فى أمر القاضى المعزول- أعنى ابن أبى اللّيث المقدّم ذكره- وكانوا قد لعنوه بعد عزله وغسلوا موضع جلوسه فى المسجد، فصار الحارث بن مسكين يوقف القاضى محمد بن أبى الليث المذكور ويضربه كلّ يوم عشرين سوطا لكى يؤدّى ما وجب عليه من الأموال، وبقى على هذا أياما. ودام الحارث بن مسكين هذا قاضيا ثمان سنين حتى عزل بالقاضى بكّار ابن قتيبة الحنفىّ. واستمرّ الأمير عبد الواحد هذا على إمرة مصر إلى أن صرفه المنتصر عنها فى سلخ صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين بالأمير عنبسة بن إسحاق؛ وقدم إلى مصر خليفة عنبسة على صلاة مصر والشركة على الخراج فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وسبعة «2» أيام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 237]
السنة الأولى من ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر وهى سنة سبع وثلاثين ومائتين- على أنه حكم بمصر من السنة الخالية من ذى القعدة إلى آخرها، وقد ذكرنا تلك السنة فى ترجمة إسحاق بن يحيى وليس ذلك بشرط فى هذا الكتاب- أعنى تحرير حكم أمير مصر فى السنة المذكورة- بل جلّ القصد ذكر حوادث السنة وإضافة ذلك لأمير من أمراء مصر.(2/289)
وفيها- أعنى سنة سبع وثلاثين ومائتين- وثبت بطارقة إرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه «1» . وبلغ المتوكّل ذلك، فجهّز لحربهم بغا الكبير؛ فتوجّه إليهم وقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، قيل: إنّ القتلى بلغت ثلاثة «2» آلاف، ثم سار بغا الى مدينة تفليس «3» : وفيها أطلق المتوكّل جميع من كان فى السجن ممّن امتنع من القول بخلق القرآن فى أيام أبيه، وأمر بإنزال جثّة أحمد بن نصر الخزاعىّ فدفعت الى أقاربه فدفنت. وفيها ظهرت نار بعسقلان «4» أحرقت البيوت والبيادر «5» وهرب الناس، ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل ثم كفّت بإذن الله تعالى. وفيها كان بناء قصر «6» العروس بسامرّاء وتكمّل فى هذه السنة، [فبلغت «7» ] النفقة عليه ثلاثين ألف ألف درهم.
وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر الأمير على المتوكّل من خراسان، فولّاه العراق.
وفيها رضى المتوكّل على يحيى بن أكثم، وولّاه القضاء والمظالم. وفيها توفّى إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن [مطر أبو «8» ] يعقوب التّميمىّ «9» الحنظلىّ الحافظ المعروف بابن راهويه، كان من أهل مرو وسكن نيسابور، وولد سنة إحدى وستين ومائة، وكان إماما حافظا بارعا، اجتمع فيه الحديث والفقه والحفظ والدّين والورع، وهو أحد الأئمة الحفّاظ الرّحالة، ومات فى يوم الخميس نصف شعبان. وفيها توفّى حاتم بن يوسف وقيل ابن عنوان «10» أبو عبد الرحمن البلخىّ، وكان يعرف بالأصمّ(2/290)
ونسب الى ذلك، لأنّ امرأة سألته مسألة فخرج منها صوت ريح من تحتها فخجلت؛ فقال لها: ارفعى صوتك، وأراها من نفسه أنه أصمّ حتى سكن ما بها، فغلب عليه الأصمّ، وكان ممّن جمع له العلم والزهد والورع. وفيها توفى حيّان بن بشر الحنفىّ، كان إماما عالما فقيها محدّثا ثقة، ولى قضاء بغداد وأصبهان، وحمدت سيرته.
وفيها توفى الشيخ أبو عبيد البسرىّ، أصله من قرية بسر من أعمال حوران، كان صالحا مجاب الدّعوة صاحب كرامات وأحوال، واسمه محمد، وكان صاحب جهاد وغزو.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن محمد بن عمر الشافعىّ، وحاتم الأصمّ الزاهد، وسعيد بن حفص «1» النّفيلىّ، والعباس بن الوليد النّرسىّ «2» - قلت: النّرسىّ بفتح النون وسكون الراء المهملة- وعبد الله بن عامر بن زرارة، وعبد الله بن مطيع، وعبد الأعلى بن حمّاد النّرسىّ، وعبيد الله بن معاذ العنبرىّ، وأبو كامل الفضيل بن الحسين الجحدرىّ، ومحمد بن قدامة الجوهرىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 238]
السنة الثانية من ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر وهى سنة ثمان وثلاثين ومائتين- فيها حاصر بغا تفليس وبها إسحاق بن إسماعيل مولى بنى أميّة، فخرج إسحاق للمحاربة فأسر ثم ضربت عنقه، وأحرقت تفليس واحترق فيها خلق، وفتحت عدّة حصون بنواحى تفليس.(2/291)
وفيها قصدت الرّوم لعنهم الله ثغر دمياط فى ثلثمائة مركب، فكبسوا البلد وسبوا ستّمائة امرأة ونهبوا وأحرقوا وبدّعوا، ثم خرجوا مسرعين فى البحر.
وفيها توفّى بشر بن الوليد بن خالد الإمام أبو بكر الكندى الحنفىّ، كان من العلماء الأعلام وشيخا من مشايخ الإسلام، كان عالما ديّنا صالحا عفيفا مهيبا»
، وكان يحيى بن أكثم شكاه إلى الخليفة المأمون؛ فاستقدمه المأمون وقال له: لم لا تنفّذ أحكام يحيى؟ فقال: سألت عنه أهل بلده فلم يحمدوا سيرته؛ فصاح المأمون: اخرج اخرج؛ فقال يحيى بن أكثم: قد سمعت كلامه يا أمير المؤمنين فاعزله؛ فقال:
لا والله لم يراعنى فيك مع علمه بمنزلتك عندى، كيف أعزله!.
وفيها توفّى صفوان بن صالح بن صفوان الثّقفىّ الدّمشقىّ مؤذّن جامع دمشق، كان إماما محدّثا سمع من سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وغيره.
وفيها توفّى الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام أبو المطرّف الأموىّ الدّمشقىّ الأصل المغربىّ أمير الأندلس، ولد بطليطلة «2» فى سنة سبع وسبعين ومائة وأقام على إمرة الأندلس ثنتين وأربعين سنة، ومات فى صفر، وملك الأندلس من بعده ابنه. وقد تقدّم الكلام على سلفه وكيفيّة خروجه من دمشق الى المغرب فى أوائل الدّولة العبّاسية.
وفيها توفّى محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن العسقلانىّ الحافظ مولى بنى هاشم، كان فاضلا زاهدا محدّثا، أسند عن الفضيل بن عياض وغيره، ومات بعسقلان، وكان من الأئمة الحفّاظ الرحّالين.(2/292)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد المروزىّ مردويه، وإبراهيم بن أيوب الحورانىّ الزّاهد، وابراهيم بن هشام الغسّانى، وإسحاق بن ابراهيم بن زبريق- بكسر الزاى وسكون الموحدة-، وإسحاق بن راهويه، وبشر ابن الحكم العبدى، وبشر بن الوليد الكندىّ، وزهير بن عبّاد الرّؤاسىّ، وحكيم بن سيف الرّقىّ، وطالوت بن عبّاد، وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس الأموىّ، وعبد الملك بن حبيب فقيه لأندلس، وعمرو بن زرارة، ومحمد بن بكّار بن الريّان، ومحمد بن الحسين البرجلانىّ «1» ، ومحمد بن عبيد بن حساب «2» ، ومحمد بن المتوكّل اللؤلؤىّ المقرئ، ومحمد بن أبى السّرىّ العسقلانىّ، ويحيى بن سليمان نزيل مصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر
هو عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عيسى بن عنبسة الأمير أبو حاتم، وقيل: أبو جابر، وهو من أهل هراة «3» ، ولى إمرة مصر بعد عزل عبد الواحد بن يحيى عنها، ولّاه المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل على الله جعفر، فى صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين على الصلاة؛ فأرسل عنبسة خليفته على صلاة مصر، فقدم مصر فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة، فخلفه المذكور على صلاة مصر حتى قدمها فى يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة متولّيا على الصلاة وشريكا لأحمد بن خالد الصّريفينىّ «4» صاحب خراج مصر. وسكن عنبسة المعسكر على عادة(2/293)
الأمراء، وجعل على شرطته أبا أحمد محمد بن عبد الله القمّىّ «1» . وكان عنبسة خارجيّا يتظاهر بذلك؛ فقال فيه يحيى بن الفضل من أبيات:
خارجيّا يدين «2» بالسيف فينا ... ويرى قتلنا جميعا صوابا
ولما ولى عنبسة مصر أمر العمّال بردّ المظالم، وخلّص الحقوق، وأنصف الناس غاية الإنصاف، وأظهر من الرفق والعدل بالرعيّة والإحسان اليهم ما لم يسمع بمثله فى زمانه؛ وكان يتوجّه ماشيا الى المسجد الجامع من مسكنه بالمعسكر بدار الإمارة.
وكان ينادى فى شهر رمضان: السّحور، لانه كان يرمى بمذهب الخوارج، كما تقدّم ذكره.
وفى أوّل ولايته نزل الروم على دمياط فى يوم عرفة وملكوها وأخذوا ما فيها وقتلوا منها جمعا كبيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال؛ فلما بلغه ذلك ركب من وقته بجيوش مصر ونفر اليهم يوم النحر سنة ثمان وثلاثين ومائتين- وقد تقدّم ذلك- فلم يدرك الرّوم، فأصلح شأن دمياط ثم عاد الى مصر. وكان سبب غفلة عنبسة عن دمياط أنه قدم عليه عيد الأضحى وأراد طهور ولديه يوم العيد حتى يجمع بين العيد والفرح، واحتفل لذلك احتفالا كبيرا، حتى بلغ به الأمر أن أرسل الى ثغرى دمياط وتنّيس «3» فأحضر سائر من كان بهما من الجند والخرجيّة والزرّاقين وغيرهما، وكذلك من كان بثغر الإسكندرية من المذكورين، فرحلوا إليه بأجمعهم؛ واتفق مع هذا أنه لما كان صبح يوم عرفة هجم على دمياط ثلثمائة سفينة مشحونة بمقاتلة الروم، فوجدوا البلد خاليا من الرّجال والمقاتلة ولم يمنعهم عنها مانع، فهجموا [على] البلد وأكثروا من القتل والسّبى والنّهب. وكان عنبسة غضب على مقدّم من أهل دمياط يقال له أبو جعفر(2/294)
ابن الأكشف، فقيّده وحبسه فى بعض الأبرجة؛ فمضى إليه بعض أعوانه وكسروا قيده وأخرجوه، واجتمع اليه جماعة من أهل البلد، فحارب بهم الروم حتى هزمهم وأخرجهم من دمياط، ونزحوا عن دمياط مهزومين ومضوا الى أشموم «1» تنّيس فلم يقدروا عليها فعادوا إلى بلادهم. ودام بعد ذلك عنبسة على مصر إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر أن ينفرد بالخراج والصّلاة معا، وصرف شريكه على الخراج أحمد بن خالد؛ فدام على ذلك مدّة، ثم صرف عن الخراج فى أوّل جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد أن عاد من سفرة الصعيد الآتى «2» ذكرها فى آخر ترجمته، وانفرد بالصلاة. ثم ورد عليه كتاب الخليفة المتوكّل بالدعاء بمصر للفتح بن خاقان، أعنى أنّ الفتح ولى إمرة مصر مكان المنتصر بن المتوكّل، وصار أمر مصر إليه يولّى بها من شاء، وذلك فى شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فدعى له بها على العادة بعد الخليفة.
وفى أيام عنبسة المذكور كان خروج أهل الصعيد الأعلى من معاملة الديار المصرية على الطاعة، وامتنعوا من إعطاء ما كان مقرّرا عليهم، وهو فى كل سنة خمسمائة نفر من العبيد والجوارى مع غير ذلك من البخت «3» البجاويّة وزرافتين وفيلين وأشياء أخر. فلما كانت سنة أربعين ومائتين تجاهروا بالعصيان وقطعوا ما كانوا يحملونه، وتعرّضوا لمن كان يعمل فى معادن الزمرّذ من العمّال والفعلة والحفّارين فاجتاحوا الجميع؛ وبلغ بهم الأمر حتى اتصلت غاراتهم بأعالى الصعيد(2/295)
فانتهبوا بعض القرى المتطرّفة مثل إسنا وأتفو «1» وظواهر هما؛ فأجفل أهل الصعيد عن أوطانهم؛ وكتب عامل الخراج إلى عنبسة يعلمه بما فعلته البجاة، فلم يمكن عنبسة كتم هذا الخبر عن الخليفة المتوكّل على الله جعفر؛ فكتب إليه بجميع ما فعلته البجاة؛ فلمّا وقف على ذلك أنكر على ولاة الناحية تفريطهم «2» ؛ ثم شاور المتوكّل فى أمرهم أرباب الخبرة بمسالك تلك البلاد؛ فعرّفوه أنّ المذكورين أهل بادية وأصحاب إبل وماشية؛ وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لأنّها بعيدة عن العمران، وبينها وبين البلاد الإسلاميّة برارىّ موحشة ومفاوز معطشة وجبال مستوعرة، وأنّ التكلف الى قطع تلك المسافة وهى أقلّ ما تكون مسيرة شهرين من ديار مصر، ويريد المتوجّه أن يستعدّ بجميع ما يحتاج إليه من المياه والأزواد والعلوفات، ومتى ما أعوزه شىء من ذلك هلك جميع من معه من الجند وأخذهم البجاة قبضا باليد. ثم إنّ هؤلاء الطائفة متى طرقهم طارق من جهة البلاد الإسلامية طلبوا النّجدة ممّن يجاورهم من طريق النّوبة، وكذلك النوبة طلبوا النجدة من ملوك الحبوش، وهى ممالك متصلة بشاطئ نهر النيل حتى تنتهى بمن قصده السير الى بلاد الزّنج، ومنها الى جبل القمر «3» الذي ينبع منه النيل، وهى آخر العمران من كرة الأرض. وقد ذكر القاضى شهاب الدين بن فضل الله العمرىّ فى كتابه «مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» : أنّ سكان هذه البلاد المذكورة لا فرق بينهم وبين الحيوانات الوحشيّة لكونهم حفاة عراة ليس على أحدهم من الكسوة ما يستره، وجميع ما يتقوّتون به من الفواكه التى تنبت عندهم فى تلك الجبال، ومن الأسماك التى تكون عندهم فى الغدران التى تجرى على(2/296)
وجه الأرض من زيادة النيل، ولا يعترف أحد منهم بزوجة ولا بولد ولا بأخ وأخت؛ بل هم على صفة البهائم ينزو بعضهم على بعض. فلما وقف المتوكّل على ما ذكره أرباب الخبرة بأحوال تلك البلاد، فترت عزيمته عما كان قد عزم عليه من تجهيز العساكر. وبلغ ذلك محمد بن عبد الله القمّىّ وكان من القوّاد الذين يتولّون خفارة الحاج فى أكثر السنين، فحضر محمد المذكور الى الفتح بن خاقان وزير المتوكّل وذكر له أنه متى رسم المتوكّل الى عمّال مصر بتجهيزه عبر إلى بلاد البجاة، وتعدّى منها الى أرض النّوبة ودوّخ سائر تلك الممالك. فلما عرض الفتح حديثه على المتوكّل أمر بتجهيزه وسائر ما يحتاج إليه، وكتب إلى عنبسة بن إسحاق هذا، وهو يومئذ عامل مصر، أن يمدّه بالخيل والرجال والجمال وما يحتاج إليه من الأسلحة والأموال، وأن يولّيه الصعيد الأعلى يتصرّف فيه كيف شاء. وسار محمد حتى وصل إلى مصر، فعند ما وصلها قام له عنبسة بسائر ما اقترحه عليه، ونزل له عن عدّة ولايات من أعمال الصعيد، مثل قفط والقصير وإسنا وأرمنت وأسوان؛ وأخذ محمد بن عبد الله القمّىّ المذكور فى التّجهيز، فلمّا فرغ من استخدام الرجال وبذل الأموال، حمل «1» ما قدر عليه من الأزواد والأثقال، بعد أن جهّز من ساحل السويس سبع مراكب موقرة بجميع ما تحتاج عساكره إليه: من دقيق وتمر وزيت وقمح وشعير وغير ذلك. وعيّنت لهم الأدلّاء مكانا من ساحل البحر نحو عيذاب، يكون اجتماعهم فيه بعد مدّة معلومة.
ثم رحل محمد من مدينة قوص مقتحما تلك البرارى الموحشة، وقد تكامل معه من العسكر سبعة آلاف مقاتل غير الأتباع، وسار حتى تعدّى حفائر الزمرّذ، وأوغل فى بلاد القوم حتى قارب مدينة دنقلة، وشاع خبر قدومه إلى أقصى بلاد السودان؛ فنهض ملكهم- وكان يقال له على بابا- إلى محاربة العسكر الواصل مع محمد المذكور، ومعه من(2/297)
تلك الطوائف المقدّم ذكرها أمم لا تحصى، غير أنهم عراة بغير ثياب، وأكثر سلاحهم الحراب والمزاريق، ومراكبهم البخت النّوبية الصّهب، وهى على غاية من الزّعارّة «1» والنّفار؛ فعند ما قاربوا العساكر الإسلاميّة وشاهدوا ما هم عليه من التجمّل والخيول والعدد وآلات الحرب فلم يقدروا على محاربتهم، عزموا «2» على مطاولتهم حتى تفنى أزوادهم وتضعف خيولهم ويتمكنوا منهم كيفما أرادوا؛ فلم يزالوا يراوغونهم مراوغة الثعالب، وصاروا كلّما دنا منهم محمد ليواقعهم يرحلون من بين يديه من مكان إلى مكان، حتى طال بهم المطال وفنيت الأزواد، فلم يشعروا إلّا وتلك المراكب قد وصلت إلى الساحل، فقويت بها قلوب العساكر الإسلامية؛ فعند ذلك تيقّنت السّودان أن المدد لا ينقطع عنهم من جهة الساحل، فصمّموا على محاربتهم ودنوا إليهم فى أمم لا تحصى. فلما نظر محمد إلى السودان التى أقبلت عليه انتزع جميع ما كان فى رقاب جمال عساكره من الأجراس، فعلّقها فى أعناق خيوله، وأمر أصحابه بتحريك الطبول وبنفير «3» الأبواق ساعة الحملة؛ وتم «4» واقفا بعساكره وقد رتّبها ميامن ومياسر بحيث لم يتقدّم منهم عنان عن عنان؛ وزحفت السودان عليه وهو بموقفه لا يتحرّك حتى قاربوه، وكادت تصل مزاريقهم الى صدر خيوله؛ فعند ذلك أمر أصحابه بالتكبير، ثم حمل بعساكره على السودان حملة رجل واحد وحرّكت نقّاراته وخفقت طبوله، وعلا حسّ تلك الأجراس، حتى خيّل للسودان أنّ السماء قد انطبقت على الأرض، فرجعت جمال السودان عند ذلك «5» جافلة على أعقابها، وقد تساقط عن ظهورها أكثر ركّابها؛ واقتحم عساكر الإسلام السودان فقتلوا من ظفروا به منهم، حتى كلّت أيديهم وامتلأت تلك الشّعاب والبرارى بالقتلى، حتى حال «6» بينهم الليل. وفات المسلمين(2/298)
على بابا (أعنى ملكهم) ، لأنّه كان مع جماعة من أهل بيته وخواصّه قد نجوا على ظهور الخيل. فلما انفصلت الواقعة وتحقّقت السودان أنّهم لا مقام لهم بهذه البلاد حتى يأخذوا لأنفسهم الأمان؛ فأرسل على بابا ملك السودان الى محمد بن عبد الله القمّى يسأله الأمان ليرجع الى ما كان عليه من الطاعة ويتدرّك له حمل ما تأخر عليه من المال المقرّر له لمدة أربع سنين، فبذل له محمد الأمان؛ وأقبل عليه على بابا حتى وطئ بساطه، فخلع عليه محمد خنعة من ملابسه وعلى ولده وعلى جماعة من أكابر أصحابه. ثم شرط عليه محمد أن يتوجّه معه الى بين يدى الخليفة المتوكّل على الله ليطأ بساطه؛ فامتثل على بابا ذلك، وولّى ولده مكانه الى أن يحضر من عند الخليفة؛ وكان اسم ولده المذكور ليعس «1» بابا. ثم عاد محمد بن عبد الله القمىّ بعسكره وصحبته على بابا حتى وصل الى مصر فأكرمه عنبسة المذكور، وكان خرج الى لقائه بأقصى بلاد الصعيد؛ وقيل: بل كان مسافرا معه وهو بعيد. فأقام محمد بن عبد الله مدّة يسيرة ثم خرج بعلى بابا الى العراق وأحضره بين يدى الخليفة المتوكّل على الله؛ فأمره الحاجب بتقبيل الأرض فامتنع؛ فعزم المتوكل أن يأمر بقتله وخاطبه على لسان التّرجمان: إنّه بلغنى أنّ معك صنما معمولا من حجر أسود تسجد له فى كلّ يوم مرتين، فكيف تتأبّى عن تقبيل الأرض بين يدىّ وبعض غلمانى قد قدر عليك وعفا عنك! فلما سمع على بابا كلامه قبّل الأرض ثلاث مرّات؛ فعفا عنه المتوكّل وأفاض عليه الخلع وأعاده الى بلاده. كل ذلك فى أيام ولاية عنبسة على مصر، وابتنى عنبسة فى أيام ولايته أيضا المصلّى «2» المجاورة لمصلّى خولان وكانت من أحسن المبانى؛ ثم صرف عنبسة بيزيد بن عبد الله بن دينار فى أوّل(2/299)
شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين. فكانت ولاية عنبسة المذكور على مصر أربع سنين وأربعة أشهر.
قلت: وعنبسة هذا هو آخر من ولى مصر من العرب وآخر أمير صلّى فى المسجد الجامع، وخرج من مصر فى شهر رمضان وتوجه الى العراق سنة أربع وأربعين ومائتين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 239]
السنة الأولى من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة تسع وثلاثين ومائتين- فيها نفى المتوكّل علىّ بن الجهم الى خراسان. وفيها غزا الأمير علىّ بن يحيى الأرمنىّ بلاد الروم- أعنى الذي عزل عن نيابة مصر قبل تاريخه، وقد تقدّم ذلك كلّه فى ترجمته- فأوغل علىّ بن يحيى المذكور فى بلاد الروم حتى شارف القسطنطينيّة، فأحرق ألف قرية وقتل عشرة آلاف علج وسبى عشرين ألفا وعاد سالما غانما. وفيها عزل المتوكّل يحيى بن أكثم عن القضاء وأخذ منه مائة ألف دينار، وأخذ «1» له من البصرة أربعة آلاف جريب. وفيها فى جمادى الأولى زلزلت الدنيا فى الليل واصطكّت الجبال ووقع من الجبل المشرف على طبريّة قطعة طولها ثمانون ذراعا وعرضها خمسون ذراعا فمات تحتها خلق كثير. وفيها حجّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود العباسىّ، وهو يوم ذاك أمير مكّة. وفيها توفى محمد بن أحمد بن أبى دواد القاضى أبو الوليد الإيادى، ولّاه المتوكّل القضاء والمظالم بعد ما أصاب أباه أحمد بن أبى دواد الفالج، ثم عزل بعد مدّة عن المظالم ثم عن القضاء، كلّ ذلك فى حياة أبيه فى حال مرضه بالفالج. وأبوه هو الذي كان يقول بخلق القرآن وحمل الخلفاء على امتحان العلماء. وكان محمد هذا بخيلا مسّيكا مع شهرة أبيه بالكرم. وكانت وفاته فى حياة والده، وعظم مصابه على أبيه مع ما هو فيه من شدّة مرضه بالفالج حتى إنّه [كان] كالحجر الملقى.(2/300)
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن يوسف البلخىّ الفقيه، وداود بن رشيد، وصفوان بن صالح الدّمشقىّ المؤذّن، والصّلت بن مسعود الجحدرىّ، وعثمان بن أبى شيبة، ومحمد بن مهران الجمّال الرازىّ، ومحمد بن نصر «1» المروزىّ، ومحمد بن يحيى بن أبى سمينة، ومحمود بن غيلان، ووهب بن بقيّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 240]
السنة الثانية من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة أربعين ومائتين- فيها سمع أهل خلاط «2» صيحة عظيمة من جوّ السماء، فمات خلق كثير. وفيها وقع برد بالعراق كبيض الدّجاج قتل بعض المواشى. ويقال: إنه خسف فيها ببلاد المغرب ثلاث عشرة قرية ولم ينج من أهلها إلّا نيّف وأربعون رجلا، فأتوا القيروان فمنعهم أهل القيروان من الدخول اليها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم؛ فبنوا لهم خارجها وسكنوا وحدهم. وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن داود العباسىّ. وفيها وثب أهل حمص على عاملهم أبى المغيث الرافقىّ «3» متولى البلد، فأخرجوه منها وقتلوا جماعة من أصحابه؛ فسار اليهم الأمير محمد بن عبدويه، ففتك بهم وفعل بهم الأعاجيب. وفيها توفى إبراهيم بن خالد بن أبى اليمان الحافظ أبو ثور الكلبىّ، كان أحد من جمع بين الفقه والحديث، وسمع سفيان بن عيينة وطبقته، وروى عنه مسلم بن الحجّاج صاحب الصحيح(2/301)
وغيره، واتفقوا على صدقه وثقته. وفيها توفى أحمد بن أبى دواد بن جرير القاضى، أبو عبد الله الإيادىّ البصرىّ ثم البغدادىّ، واسم أبيه الفرح «1» ، ولى القضاء للمعتصم والواثق؛ وكان مصرّحا بمذهب الجهميّة، داعية الى القول بخلق القرآن؛ وكان موصوفا بالجود والسخاء والعلم وحسن الخلق وغزارة الأدب. قال الصّولىّ كان يقال: أكرم من كان فى دولة بنى العباس البرامكة ثم ابن أبى دواد؛ لولا ما وضع به نفسه من المحنة، ولولاها لاجتمعت الألسن عليه؛ ومولده سنة ستين ومائة بالبصرة. وقال أبو العيناء: كان أحمد بن أبى دواد شاعرا مجيدا فصيحا بليغا، ما رأيت رئيسا «2» أفصح منه. قال ابن دريد: أخبرنا الحسن بن الخضر قال: كان ابن أبى دواد مؤالفا «3» لأهل الأدب من أىّ بلد كانوا، وكان قد ضمّ «4» اليه جماعة يمونهم، فلما مات اجتمع ببابه جماعة منهم، وقالوا: يدفن من كان ساحة «5» الكرم وتاريخ الأدب ولا يتكلّم فيه! إن هذا لوهن وتقصير. فلمّا طلع سريره قام ثلاثة [منهم «6» ] فقال أحدهم:
اليوم مات نظام الفهم واللّسن ... ومات من كان يستعدى على الزمن
وأظلمت سبل الآداب إذ حجبت ... شمس المكارم فى غيم من الكفن(2/302)
وقال الثانى:
ترك المنابر والسرير تواضعا ... وله منابر لو يشا وسرير
ولغيره يجبى «1» الخراج وإنّما ... تجبى إليه محامد وأجور
وقال الثالث:
وليس نسيم «2» المسك ريح حنوطه ... ولكنّه ذاك الثناء المخلّف
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنّه أصلاب قوم تقصّف
وكانت وفاته لسبع بقين من المحرّم. وكانت وفاة ابنه محمد [بن أحمد] بن أبى دواد فى السنة الخالية. وقد تقدّم ابن أبى دواد هذا فى عدّة أماكن من هذا الكتاب فيمن تكلم بخلق القرآن.
وفيها توفى قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف، أبو رجاء الثّقفىّ، من أهل بغلان، وهى قرية من قرى بلخ. ومولده فى سنة خمسين ومائة. وكان إماما عالما فاضلا محدّثا، رحل الى الأمصار، وأكثر من السماع، وحدّث عن مالك ابن أنس وغيره، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وغير واحد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن خضرويه البلخىّ الزاهد، وأحمد بن أبى دواد القاضى، وأبو ثور الفقيه إبراهيم بن خالد، وإسماعيل بن عبيد بن أبى كريمة الحرّانىّ، وجعفر بن حميد الكوفىّ، والحسن ابن عيسى بن ما سرجس، وخليفة العصفرىّ «3» ، وسويد بن سعيد «4» الحدثانىّ، وسويد بن نصر المروزىّ، وعبد السلام بن سعيد سحنون الفقيه،(2/303)
وعبد الواحد بن غياث، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن خالد بن عبد الله الطّحّان، ومحمد بن الصّبّاح الجرجرائى، ومحمد بن أبى غياث الأعين، واللّيث بن المقرئ صاحب الكسائىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا ونصف ذراع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 241]
السنة الثالثة من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة إحدى وأربعين ومائتين- فيها فى جمادى الآخرة ماجت النجوم فى السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، وكان أمرا مزعجا لم يسمع بمثله. وفيها ولّى الخليفة المتوكّل على الله جعفر أبا حسّان الزّيادىّ قضاء الشرقيّة فى المحرّم، وشهد عنده الشهود على عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة؛ فكتب المتوكّل إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد: أن يضرب عيسى بالسّياط حتى يموت ويرمى فى دجلة، ففعل به ذلك. وفيها فادى المتوكّل الروم، فخلّص من المسلمين سبعمائة وخمسة وثلاثين رجلا من أيدى الروم ممّن كان أسيرا عندهم.
وفيها توفى الامام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله ابن حيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان، هكذا نسبه ولده عبد الله، واعتمده جماعة من المؤرّخين؛ وزاد غيرهم بعد شيبان فقال: ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علىّ بن بكر بن وائل؛ الإمام أحد الأعلام وشيخ الإسلام أبو عبد الله الشّيبانىّ البغدادىّ صاحب المذهب، مولده فى شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين ومائة، روى عن جماعة كثيرة مثل هشيم وسفيان بن عيينة ويحيى القطّان والوليد(2/304)
ابن مسلم وغندر وزياد البكّائىّ ويحيى بن أبى زائدة والقاضى أبى يوسف يعقوب ووكيع وابن نمير وعبد الرحمن بن مهدىّ وعبد الرزاق والشافعىّ وخلق كثير، وممّن روى عنه محمد بن إسماعيل البخارى ومسلم بن الحجّاج صاحب الصحيح وأبو داود وخلق كثير. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع.
وقال إبراهيم بن شمّاس: سمعت وكيعا يقول: ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى (يعنى أحمد بن حنبل) . وعن عبد الرحمن بن مهدىّ قال: ما نظرت إلى أحمد بن حنبل إلا تذكّرت به سفيان الثّورىّ. وقال القواريرىّ: قال لى يحيى القطّان:
ما قدم علىّ مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وروى ابن عساكر عن الشافعىّ:
أنه لما قدم مصر سئل: من خلّفت بالعراق؟ فقال: ما خلّفت به أعقل «1» ولا أورع ولا أفقه ولا أزهد من أحمد بن حنبل.
قلت: وفضل الإمام أحمد أشهر من أن يذكر، ولو لم يكن من فضله ودينه إلا قيامه فى السّنّة وثباته فى المحنة لكفاه ذلك شرفا، وقد ذكرنا من أحواله نبذة كبيرة فى هذا الكتاب فى أيام المحنة وغيرها. وكانت وفاته فى شهر ربيع الأوّل منها (أى من هذه السنة) رحمه الله تعالى. وقد روينا مسنده عن المشايخ الثلاثة المسندين المعمّرين:
زين الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الطّحّان، وعلىّ بن إسماعيل بن بردس وأحمد بن عبد «2» الرحمن الذهبىّ، قالوا: أخبرنا أبو عبد الله صلاح الدين محمد بن أبى عمر المقدسىّ أخبرنا أبو النّجيب علىّ بن أبى العباس المنصورىّ أخبرنا أبو علىّ حنبل ابن علىّ الرّصافىّ أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين أخبرنا أبو الحسين علىّ بن(2/305)
المذهب أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعىّ أخبرنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثنا أبى.
وفيها توفّى الحسن بن حمّاد أبو علىّ الحضرمىّ، ويعرف بسجّادة لملازمته السّجّادة فى الصلاة، كان إماما عالما زاهدا عابدا، سمع أبا معاوية الضّرير وغيره، وروى عنه ابن أبى الدنيا وطبقته، وهو أحد من امتحن بالقول بخلق القرآن وثبت على السّنّة، وقد تقدّم ذكره فى أيام المحنة وشىء من أخباره وأجوبته لإسحاق بن إبراهيم نائب الخليفة ببغداد فى سنة ثمان عشرة ومائتين.
وفيها توفى محمد بن محمد بن إدريس، أبو عثمان العسقلانىّ الأصل المصرىّ ابن الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. وكان للشافعىّ ولد آخر اسمه محمد توفى بمصر صغيرا وولى محمد هذا قضاء الجزيرة، وحمدت هناك سيرته، وسمع من أبيه وأحمد بن حنبل وغيرهما.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام أحمد بن حنبل، والحسن بن حمّاد سجّادة، [وجبارة «1» بن المغلّس] ، وأبو توبة الرّبيع بن نافع الحلبىّ وعبد الله بن منير المروزىّ، وأبو قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسىّ، ومحمد ابن عبد العزيز بن أبى رزمة، وأبو مروان محمد بن عثمان العثمانىّ، ومحمد بن عيسى التّيمىّ الرازىّ المقرئ، وهديّة «2» بن عبد الوهاب المروزىّ، ويعقوب بن حميد بن كاسب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.(2/306)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 242]
السنة الرابعة من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة اثنتين وأربعين ومائتين- فيها حشدت الروم وخرجوا من ناحية سميساط «1» الى آمد «2» والجزيرة، فقتلوا وسبوا نحو عشرة آلاف نفس ثم رجعوا. وفيها حجّ بالناس أمير مكة الأمير عبد الصمد ابن موسى بن محمد الهاشمىّ. وحجّ من البصرة إبراهيم بن مظهر الكاتب على عجلة تجرّها الإبل وتعجّب الناس من ذلك. وفيها كانت زلزلة بعدّة بلاد فى شعبان، هلك منها خلق تحت الرّدم، قيل: بلغت عدّتهم خمسة وأربعين ألفا، وكان معظم الزلزلة بالدّامغان «3» ، حتى قيل إنه سقط نصفها، وزلزلت الرّىّ وجرجان ونيسابور وطبرستان وأصبهان، وتقطّعت الجبال وتشقّقت الأرض بمقدار ما يدخل الرجل فى الشّقّ، ورجمت قرية السّويداء بناحية مضر «4» بالحجارة. وقع منها حجر على أعراب، فوزن حجر منها فكان عشرة أرطال (لعلّه بالشامىّ) ، وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، ووقع بحلب طائر أبيض دون الرّخمة فى شهر رمضان فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله اتقوا الله اتقوا الله أربعين صوتا، ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك؛ وكتب البريد بذلك وشهد خمسمائة إنسان سمعوه. وفيها مات رجل ببعض كور الأهواز فى شوّال، فسقط طائر أبيض على جنازته، فصاح بالفارسيّة: إن الله قد غفر لهذا الميّت ولمن شهد جنازته. وفيها توفى عبد الله بن بشر بن أحمد بن ذكوان إمام جامع دمشق. قال أبو زرعة: لم يكن بالشأم ومصر والعراق والحجاز(2/307)
أقرأ من ابن ذكوان، وكان مولده سنة ثلاث وأربعين ومائة، ومات يوم عاشوراء.
وفيها توفّى محمد بن أسلم بن سالم أبو الحسن الطّوسىّ، كان إماما زاهدا عابدا، تشبّه بالصحابة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو مصعب «1» الزّهرىّ، والحسن بن علىّ الحلوانىّ، وابن ذكوان المقرئ، وزكريا بن يحيى كاتب العمرىّ، ومحمد بن أسلم الطّوسىّ، ومحمد بن رمح التّجيبىّ، ومحمد بن عبد الله ابن عمّار «2» ، ويحيى بن أكثم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
ذكر ولاية يزيد بن عبد الله على مصر
هو يزيد بن عبد الله بن دينار الأمير أبو خالد، كان من الموالى، ولى مصر بعد عزل عنبسة عنها، فى شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين، ولّاه المنتصر على الصلاة. فلما ولى مصر أرسل أخاه العبّاس بن عبد الله بن دينار أمامه إلى مصر خليفة له؛ ثم قدم يزيد هذا بعده إلى مصر لعشر بقين من شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين المذكورة؛ وسكن المعسكر، وأقام الحرمة ومهّد أمور الديار المصرية، وأخرج المؤنّثين منها وضربهم وطاف بهم، ثم منع النداء على الجنائز، وضرب جماعة بسبب ذلك؛ وفعل أشياء من هذه المقولة؛ ودام على ذلك إلى المحرّم سنة خمس وأربعين ومائتين. خرج من مصر الى دمياط لما بلغه نزول «3» الروم عليها فأقام بها مدّة لم يلق حربا(2/308)
ورجع فى شهر ربيع الأوّل من السنة الى مصر؛ وعند حضوره الى مصر بلغه ثانيا نزول الروم إلى دمياط، فخرج أيضا من مصر لوقته وتوجّه الى دمياط فلم يلقهم، فأقام بالثغر مدّة ثم عاد الى مصر. ثم بدا له تعطيل الرّهان الذي كان لسباق الخيل بمصر وباع الخيل التى كانت تتّخذ للسّباق بمصر. ثم تتبّع الروافض بمصر وأبادهم وعاقبهم وامتحنهم وقمع أكابرهم، [وحمل منهم «1» جماعة الى العراق على أقبح وجه] ؛ ثم التفت الى العلويّين، فجرت عليهم منه شدائد من الضّيق عليهم وأخرجهم من مصر. وفى أيّامه فى سنة سبع وأربعين ومائتين بنى مقياس النيل بالجزيرة المنعوتة بالرّوضة.
ذكر أوّل من قاس النّيل بمصر
أوّل من قاسه يوسف الصدّيق بن يعقوب نبىّ الله عليه السلام. وقيل: إنّ النيل كان يقاس بأرض علوة الى أن بنى مقياس منف، وإنّ القبط كانت تقيس عليه الى أن بطل لما بنت دلوكة العجوز صاحبة مصر مقياسا بأنصنا «2» ، وكان صغير الذّرع؛ ثم بنت مقياسا آخر بإخميم. ودلوكة هذه هى التى بنت الحائط المحيط بمصر من العريش الى أسوان، وقد تقدّم ذكرها فى أوّل هذا الكتاب عند ذكر من ملك مصر من الملوك قبل الإسلام. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرّصاصة، وقيل غير ذلك. فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيساريّة الأكسية الى أن ابتنى المسلمون بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا(2/309)
مقياس بالقصر «1» خلف الباب يمنة من يدخل منه فى داخل الزّقاق، أثره قائم الى اليوم، وقد بنى عليه وحوله.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر بنى بها مقياسا بأسوان، فدام المقياس بها مدّة الى أن بنى فى أيام معاوية بن أبى سفيان مقياس بأنصنا أيضا؛ فلم يزل يقاس عليه الى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان. وكان عبد العزيز بن مروان أمير مصر إذ ذاك من قبل أخيه عبد الملك بن مروان، وقد تقدّم ذكر عبد العزيز فى ولايته على مصر. وكان عبد العزيز يسكن بحلوان. وكان مقياس عبد العزيز الذي ابتناه بحلوان صغير الذرع. ثم بنى أسامة بن زيد التّنوخىّ فى أيام الوليد بن عبد الملك مقياسا وكسر فيه ألف قنطار «2» . وأسامة هذا هو الذي بنى بيت المال بمصر، وكان أسامة عامل خراج مصر. ثم كتب أسامة المذكور الى سليمان بن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة ببطلان هذا المقياس المذكور، وأن المصلحة بناء مقياس غير ذلك؛ فكتب إليه سليمان ببناء مقياس فى الجزيرة (يعنى الروضة) فبناه أسامة فى سنة سبع وتسعين- قال ابن بكير «3» مؤرّخ مصر: أدركت المقياس بمنف ويدخل القيّاس بزيادته كل يوم إلى الفسطاط (يعنى مصر) - ثم بنى المتوكّل فيها مقياسا فى سنة سبع وأربعين ومائتين(2/310)
فى ولاية يزيد بن عبد الله هذا، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد. وقدم من العراق محمد بن كثير الفرغانىّ المهندس فتولّى بناءه؛ وأمر المتوكّل بأن يعزل النّصارى عن قياسه؛ فجعل يزيد بن عبد الله أمير مصر على القياس أبا الرّدّاد الفقيه المعلّم، واسمه عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى الرّدّاد المؤذن وكان القمّىّ «1» يقول:
أصل أبى الرّدّاد هذا من البصرة. وذكر الحافظ ابن يونس قال: قدم مصر وحدّث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر سبعة «2» دنانير فى كلّ شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت فى أيدى أبى الرّدّاد وأولاده الى يومنا هذا. ومات أبو الردّاد المذكور فى سنة ست «3» وستين ومائتين.
قلت: وهذا المقياس هو المعهود الآن، وبطل بعمارته كلّ مقياس كان بنى قبله من الوجه القبلىّ والبحرىّ بأعمال الديار المصرية. واستمرّ على ذلك الى أن ولى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون الدّيار المصريّة، وركب من القطائع فى بعض الأحيان فى سنة تسع وخمسين ومائتين ومعه أبو أيّوب صاحب خراجه والقاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ الى المقياس وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار.
قلت: وأما مصروف عمارة هذا المقياس فشىء كثير، وبنى بعد تعب زائد وكلفة كبيرة يطول الشرح فى ذكرها؛ وفى النظر الى بنائه ما يغنى عن ذكر مصروف عمارته. وبنى أيضا الحارث مقياسا بالصناعة «4» لا يلتفت اليه ولا يعتمد عليه ولا يعتدّ به، وأثره باق الى اليوم.(2/311)
وقال الحسن بن محمد بن عبد المنعم: لما فتحت العرب مصر عرّف عمرو بن العاص عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّ مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وأن فرط «1» الاستشعار يدعوهم الى الاحتكار، ويدعو الاحتكار الى تصاعد الأسعار بغير قحط. فكتب عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص يسأله عن شرح الحال؛ فأجابه عمرو: إنى وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي تروى منه الى سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنّهايتان المخوفتان فى الزيادة والنّقصان، وهما الظمأ والاستبحار، اثنا عشر ذراعا فى النقصان وثمانية عشر ذراعا فى الزيادة. وكان «2» البلد فى ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلّموه من القبط، وخميرة «3» العمارة فيه.
قلت: وقد تقدّم ذكر ما تحتاج مصر اليه من الرجال للحرث والزراعة وحفر لجسور، وكميّة خراج مصر يوم ذاك وبعده فى أوّل هذا الكتاب عند ذكر النيل، فلا حاجة لذكره هنا ثانيا اذ هو مستوعب هناك. ولم نذكر هنا هذه الأشياء إلا استطرادا لعمارة هذا المقياس المعهود الآن فى أيام صاحب هذه الترجمة؛ فلزم من ذلك التعريف بما كان بمصر من صفة كلّ مقياس ومحلّه وكيفيّته، ليكون الناظر فى هذا الكتاب على بصيرة بما تقدّم من أحوال مصر.
ولما وقف عمر بن الخطاب على كتاب عمرو بن العاص استشار عليّا رضى الله عنهما فى ذلك؛ ثم أمره أن يكتب اليه ببناء مقياس، وأن ينقص ذراعين من(2/312)
اثنى عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدهما على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين؛ ففعل ذلك وبناه عمرو (أعنى المقياس) بحلوان؛ فاجتمع له كلّ ما أراد.
وقال ابن عفير وغيره من القبط المتقدّمين: اذا كان الماء فى اثنى عشر يوما من مسرى اثنى عشر ذراعا فهى سنة ماء، وإلا فالماء ناقص؛ وإذا تمّ ستة عشر ذراعا قبل النّوروز فالماء يتمّ. فاعلم ذلك.
قلت: وهذا بخلاف ما عليه الناس الآن؛ لأن الناس لا يقنعهم فى هذا العصر إلا المناداة من أحد وعشرين ذراعا، لعدم معرفتهم بقوانين مصر، ولأشياء أخر تتعلّق بما لا ينبغى ذكره.
وقد خرجنا عن المقصود فى ترجمة يزيد بن عبد الله هذا، غير أننا أتينا بفضائل وغرائب. ودام يزيد بن عبد الله على إمرة مصر إلى أن مات الخليفة المتوكّل على الله جعفر، ويخلّف بعده ابنه المنتصر محمد. وقتل أيضا الفتح بن خاقان مع المتوكّل، وكان الفتح قد ولّاه المتوكّل أمر مصر وعزل عنه ابنه محمدا المنتصر هذا. وكان قتل المتوكّل فى شوّال من سنة سبع وأربعين ومائتين التى بنى فيها هذا المقياس. ولمّا بويع المنتصر بالخلافة أرسل الى يزيد بن عبد الله المذكور باستمراره على عمله بمصر.
فدام يزيد بن عبد الله هذا على ذلك إلى أن مات الخليفة المنتصر فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين ومائتين، وبويع المستعين بالله بالخلافة. [و] أرسل المستعين إليه بالاستسقاء لقحط كان بالعراق؛ فاستسقوا بمصر لسبع عشرة خلت من ذى القعدة، واستسقى جميع أهل الآفاق فى يوم واحد؛ فإن المستعين كان قد أمر سائر عمّاله(2/313)
بالاستسقاء فى هذا اليوم المذكور. ودام يزيد بن عبد الله على إمرة مصر حتى خلع المستعين من الخلافة، بعد أمور وقعت له، فى المحرّم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وبويع المعتزّ بن المتوكل بالخلافة؛ فعند ذلك أخيفت السّبل وتخلخل أمر الديار المصرية لاضطراب أمر الخلافة. وخرج جابر بن الوليد بالاسكندرية، فتجهّز يزيد بن عبد الله هذا لحربه، وجمع الجيوش وخرج من الديار المصرية والتقاه؛ فوقع له معه حروب ووقائع كان ابتداؤها من شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وخمسين ومائتين؛ وطال القتال بينهما وانكسر كلّ منهما غير مرّة وتراجع. فلما عجز يزيد بن عبد الله عن أخذ جابر بن الوليد المذكور، أرسل الى الخليفة فطلب منه نجدة لقتال جابر وغيره؛ فندب الخليفة الأمير مزاحم بن خاقان فى عسكر هائل الى التوجّه الى الديار المصرية، فخرج بمن معه من العراق حتى قدم مصر معينا ليزيد بن عبد الله المذكور لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب من السنة المذكورة؛ وخرج يزيد بن عبد الله الى ملاقاته وأجلّه وأكرمه، وخرج الجميع وواقعوا جابر بن الوليد المذكور وقاتلوه حتى هزموه ثم ظفروا به واستباحوا عسكره، وكتبوا الى الخليفة بذلك؛ فورد عليهم الجواب بصرف يزيد ابن عبد الله هذا عن إمرة مصر وباستقرار مزاحم بن خاقان عليها عوضه، وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين. فكانت مدّة ولاية يزيد بن عبد الله هذا على مصر عشر سنين وسبعة أشهر وعشرة أيام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 243]
السنة الأولى من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة ثلاث وأربعين ومائتين- فيها حجّ بالناس عبد الصمد بن موسى، وسار بالحجّ من العراق جعفر ابن دينار. وفيها فى آخر السنة قدم المتوكّل إلى الشأم فأعجبته دمشق وأراد أن(2/314)
يسكنها وبنى له القصر بداريّا «1» حتى كلّموه فى الرجوع إلى العراق وحسنوا له ذلك؛ فرجع بعد أن سمع بيتى «2» يزيد بن محمد المهلبىّ وهما:
أظنّ الشام تشمت «3» بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق «4»
فإن يدع «5» العراق وساكنيه ... فقد تبلى المليحة بالطّلاق
وفيها توفّى أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول تكين، الكاتب المعروف بالصّولىّ، الكاتب الشاعر المشهور؛ كان أحد الشعراء المجيدين، وله ديوان شعر صغير الحجم ونثر بديع. وهو ابن أخت العباس بن الأحنف الشاعر، ونسبته الى جدّه صول تكين المذكور، وكان أحد ملوك خراسان، وأسلم على يد يزيد بن المهلّب ابن أبى صفرة. وقال الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السّهمىّ فى تاريخ جرجان:
الصّولىّ جرجانىّ الأصل، وصول: من بعض ضياع جرجان، وهو عمّ والد أبى بكر محمد ابن يحيى بن عبد الله بن العباس الصّولىّ صاحب كتاب الوزراء وغيره من المصنّفات، فإنهما مجتمعان فى العباس المذكور. ومن شعر الصّولىّ هذا قوله:
؟؟؟ دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها(2/315)
وفيها توفّى الحارث بن أسد الحافظ أبو عبد الله المحاسبىّ، أصله من البصرة وسكن بغداد، وكان كبير الشأن فى الزهد والعلم، وله التصانيف المفيدة. وفيها توفّى الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس الشيخ الإمام أبو همّام السّكونىّ البغدادىّ، كان صالحا عفيفا ديّنا عابدا وتوفّى ببغداد. وفيها توفى هارون بن عبد الله بن مروان الحافظ أبو موسى البزّاز مات ببغداد فى شوّال، وأخرج عنه مسلم وغيره، وكان ثقة صدوقا. وفيها توفّى هنّاد بن السّرىّ الدّارمىّ الكوفىّ الزاهد الحافظ، كان يقال له راهب الكوفة، سمع وكيعا وطبقته، وروى عنه أبو حاتم الرّازىّ وغيره. وفيها توفّى القاضى يحيى بن أكثم ابن محمد بن قطن بن سمعان التّميمىّ الأسيّدىّ «1» ، أبو عبد الله، وقيل أبو زكريا، وقيل أبو محمد. ولى القضاء بالبصرة وبغداد والكوفة وسامرّا، وكان إماما عالما بارعا.
قال أبو بكر الخطيب فى تاريخه: كان أحد أعلام الدنيا ممّن اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته وسياسته؛ وكان أمر الخلفاء والملوك لأمره، وكان واسع العلم والفقه والأدب اهـ.
قال الكوكبىّ: أخبرنا أبو علىّ محرز «2» بن أحمد الكاتب حدّثنى محمد بن مسلم البغدادىّ السّعدىّ قال: دخلت على يحيى بن أكثم فقال: افتح هذه القمطرة، ففتحتها، فاذا شىء قد خرج منها، ورأسه رأس إنسان ومن سرتّه الى أسفله خلقة زاغ «3» ، وفى ظهره سلعة «4» وفى صدره سلعة، فكبّرت وهلّلت ويحيى يضحك، ثم قال بلسان فصيح:(2/316)
أنا الزّاغ أبو عجوه ... أنا ابن اللّيث واللّبوه
أحبّ الرّاح والريحا ... ن والنّشوة والقهوه
فلا عربدتى تخشى ... ولا تحذر لى سطوه
ثم قال لى: يا كهل، أنشدنى شعرا غزلا؛ فقال لى يحيى بن أكثم: قد أنشدك فأنشده؛ فأنشدته:
أغرّك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثم أتوب «1»
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمى ... وقد يصرم الإنسان «2» وهو حبيب
فصاح: زاغ «3» زاغ زاغ، وطار ثم سقط فى القمطرة؛ فقلت: أعزّ الله القاضى! وعاشق أيضا! فضحك؛ فقلت: ما هذا؟ فقال: هو ما ترى! وجّه به صاحب اليمن الى أمير المؤمنين وما رآه بعد اهـ. وقال أبو خازم القاضى: سمعت أبى يقول:
ولى يحيى بن أكثم قضاء البصرة وله عشرون سنة فاستصغروه، فقال أحدهم: كم سنّ القاضى؟ [فعلم «4» انه قد استصغر] ، فقال: أنا أكبر من عتّاب الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل مكة، وأكبر من معاذ الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على اليمن، وأكبر من كعب بن سور الذي وجّهه عمر قاضيا على البصرة [فجعل جوابه «5» احتجاجا] . وفيها توفى يعقوب بن إسحاق السّكّيت الإمام(2/317)
أبو يوسف اللغوىّ صاحب إصلاح المنطق، كان علّامة الوجود، قتله المتوكّل بسبب محبّته لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. قال له يوما: أيّما أحبّ إليك أنا وولداى: المؤيّد والمعتزّ، أم علىّ والحسن والحسين؟ فقال: والله إنّ شعرة من قنبر خادم علىّ خير منك ومن ولديك؛ فأمر المتوكّل الأتراك فداسوا بطنه؛ فحمل الى بيته ومات اهـ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 244]
السنة الثانية من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة أربع وأربعين ومائتين- فيها سخط المتوكّل على حكيمه بختيشوع ونفاه إلى البحرين. وفيها افتتح بغا التركىّ حصنا كبيرا من الروم يقال له صملة. وفيها اتّفق عيد الأضحى وفطير اليهود وعيد الشّعانين للنّصارى فى يوم واحد. وفيها توفى الحسن بن رجاء أبو علىّ البلخىّ، كان إماما حافظا، سافر فى طلب الحديث، وسمع الكثير، ولقى الشيوخ، وروى عنه غير واحد. وفيها توفّى علىّ بن حجر بن إياس بن مقاتل الإمام أبو الحسن السّعدىّ [المروزىّ «1» ] ، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وكان من علماء خراسان، كان حافظا متقنا شاعرا، طاف البلاد وحدّث، وانتشر حديثه بمرو. وفيها توفى محمد «2» بن العلاء بن كريب أبو كريب الهمذانىّ الكوفىّ الحافظ، كان من الأئمة الحفّاظ، لم يكن بعد الإمام أحمد أحفظ منه.(2/318)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن منيع، وإبراهيم بن عبد الله الهروىّ، وإسحاق بن موسى الخطمىّ «1» ، والحسن بن شجاع البلخىّ الحافظ، وأبو عمّار الحسين بن حريث، وحميد بن مسعدة، وعبد الحميد ابن بيان الواسطىّ، وعلىّ بن حجر، وعتبة بن عبد الله المروزىّ، ومحمد بن أبان مستلى وكيع، ومحمد بن عبد الملك بن أبى الشّوارب، ويعقوب بن السّكّيت.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وإصبع واحد.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 245]
السنة الثالثة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة خمس وأربعين ومائتين- فيها عمّت الزلازل الدنيا فأخربت القلاع والمدن والقناطر، وهلك خلق بالعراق والمغرب، وسقط من أنطاكية [ألف وخمسمائة «2» دار و] نيّف وتسعون برجا وتقطّع جبلها الأقرع وسقط فى البحر؛ وسمع من السماء أصوات هائلة، وهلك أكثر أهل اللّاذقيّة «3» تحت الرّدم، وهلك أهل «4» جبلة، وهدمت بالس «5» وغيرها، وامتدّت الى خراسان، ومات خلائق منها. وأمر المتوكّل بثلاثة آلاف ألف درهم للذين أصيبوا فى منازلهم. وزلزلت مصر، وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة، فمات خلق من أهل بلبيس(2/319)
وغارت عيون مكّة. وفيها أمر المتوكّل ببناء مدينة الماحوزة «1» ، وسمّاها الجعفرىّ «2» ، وأقطع الأمراء آساسها؛ وبعد هذا أنفق عليها أكثر من ألفى ألف دينار، وبنى بها قصرا سمّاه اللؤلؤة لم ير مثله فى علوّه وارتفاعه؛ وحفر للماحوزة نهرا كان يعمل فيه اثنا عشر ألف رجل، فقتل المتوكّل وهم يعملون فيه، فبطل عمله، وخربت الماحوزة ونقض القصر. وفيها أغارت الروم على مدينة سميساط، فقتلوا نحو خمسمائة وسبوا؛ فغزاهم علىّ بن يحيى، فلم يظفر بهم.
وفيها توفى ذو النّون المصرىّ الزاهد العابد المشهور، واسمه ثوبان بن ابراهيم، ويقال: الفيض بن أحمد «3» أبو الفيض، ويقال: الفيّاض الإخميمى؛ كان إماما زاهدا عابدا فاضلا، روى عن الامام مالك واللّيث بن سعد وابن لهيعة والفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وغيرهم؛ وروى عنه أحمد بن صبيح الفيومىّ وربيعة بن محمد الطائىّ والجنيد بن محمد وغيرهم؛ وكان أبوه نوبيّا. وذو النون هو أوّل من تكلّم ببلده فى ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم، ووقع له بسبب ذلك أمور يلزم من ذكرها الإطالة فى ترجمته؛ وليس لذلك هنا محلّ. وقال يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون يقول: مهما تصوّر فى فهمك فالله بخلاف ذلك. وقال: سمعت ذا النون يقول: الاستغفار اسم جامع لمعان كثيرة(2/320)
ثم فسّرها. ومات ذو النون فى ذى القعدة بمصر، ودفن بالقرافة، وقبره معروف بها يقصد للزيارة.
وفيها توفّى هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة الإمام حافظ دمشق وخطيبها ومفتيها، ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة، وكنيته أبو الوليد السّلمىّ. وفيها توفى الحسين بن على بن يزيد الإمام الحافظ أبو علىّ الكرابيسىّ، كان يبيع الكرابيس «1» ، وهى ثياب من الكرابيس؛ روى عن الشافعىّ وغيره وروى عنه غير واحد. وفيها توفّى سوّار بن عبد الله بن سوّار بن عبد الله بن قدامة أبو عبد الله [التميمى «2» ] العنبرىّ البصرىّ، كان إماما عالما فقيها زاهدا أديبا حافظا صدوقا ثقة؛ وفيه يقول بعض الشعراء:
ما قال لا قطّ إلّا فى تشهّده ... لولا التشهّد لم تسمع له لاء
وفيها توفّى عسكر بن الحصين أبو تراب النّخشبىّ «3» الزاهد العارف، كان من كبار مشايخ خراسان المشهورين فى العلم والورع والزهد. وفيها توفّى محمد بن حبيب مولى بنى هاشم، كان عالما بالأنساب وأيام العرب، حافظا متقنا صدوقا ثقة، مات بمدينة سامرّا فى ذى الحجة. وفيها توفّى محمد بن رافع بن أبى رافع بن أبى زيد «4» القشيرىّ النّيسابورىّ إمام عصره بخراسان؛ كان ممن جمع بين العلم والعمل والزّهد والورع، ورحل [الى] البلاد ورأى الشيوخ وسمع الكثير.(2/321)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن عبدة الضّبّىّ، وأبو الحسن أحمد بن محمد النبّال الفوّاس مقرئ مكّة، وأحمد بن نصر النّيسابورىّ، وإسحاق بن أبى إسرائيل، وإسماعيل بن موسى السّدّىّ، وذو النون المصرىّ، وسوّار بن عبد الله العنبرىّ، وعبد الله بن عمران العابدىّ، ومحمد بن رافع، وهشام بن عمّار.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 246]
السنة الرابعة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة ست وأربعين ومائتين- فيها غزا المسلمون الروم، فسبوا وقتلوا واستنقذوا خلائق من الأسر. وفيها فى يوم عاشوراء تحوّل الخليفة المتوكّل الى الماحوزة وهى مدينته التى أمر ببنائها. وفيها أمطرت [السماء] بناحية بلخ مطرا [يشبه «1» ] دما عبيطا أحمر. وفيها حجّ بالركّب العراقىّ محمد بن عبد الله بن طاهر، فولى أعمال الموسم وأخذ معه ثلثمائة ألف دينار لأهل مكّة، ومائة ألف دينار لأهل المدينة، ومائة ألف لإجراء الماء من عرفات الى مكّة. وفيها توفى دعبل ابن على بن رزين بن سليمان «2» بن تميم بن نهشل الخزاعىّ الشاعر المشهور. والدّعبل هو البعير المسنّ العظيم الخلق (ودعبل بكسر الدال وسكون العين المهملتين وكسر الباء الموحدة وبعدها لام) . وكان دعبل طوالا ضخما، ومولده فى سنة ثمان وأربعين ومائة، وبرع فى علم الشعر والعربيّة، وهو من الكوفة، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر(2/322)
الى البلاد، وصنّف كتابا فى طبقات الشعراء، وكان هجّاء خبيث اللسان، أطروشا فى قفاه سلعة «1» ؛ هجا الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق والأمير عبد الله بن طاهر وجماعة من الوزراء والكتّاب. ومن شعره:
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعرى كيف تومكما ... يا صاحبىّ اذا دمى سفكا
لا تأخذا بظلامتى أحدا ... قلبى وطرفى فى دمى اشتركا
ورثاه البحترىّ، وكان دعبل مات بعد أبى تمّام بمدّة، فقال من قصيدة أوّلها:
قد زاد فى كلفى وأوقد لوعتى ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل
وفيها توفّيت شجاع أمّ المتوكّل على الله جعفر فى حياة ولدها المتوكّل، وكانت تدعى «السيّدة» وكانت أمّ ولد، وكانت صالحة كثيرة الصدقات والمعروف؛ كانت تخرج فى السرّ على يد كاتبها أحمد بن الخصيب. ولما ماتت قال ابنها المتوكّل فى موتها:
تذكّرت لمّا فرّق الدهر بيننا ... فعزّيت نفسى بالنبىّ محمد
فأجازه بعض من حضر فقال:
فقلت لها إنّ المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فى يومه مات فى غد
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن ابراهيم الدّورقىّ، وأحمد بن أبى الحوارىّ، وأبو عمر الدّورىّ المقرئ واسمه حفص»
، ودعبل الشاعر، والمسيّب بن واضح.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.(2/323)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 247]
السنة الخامسة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة سبع وأربعين ومائتين- فيها قتل الخليفة المتوكّل على الله أمير المؤمنين أبو الفضل جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ؛ ومولده سنة سبع «1» ومائتين، وقيل: فى سنة خمس ومائتين، وتولّى الخلافة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين بعد وفاة أخيه هارون الواثق؛ وأمّه أمّ ولد تسمّى شجاع تقدّم ذكرها فى السنة الخالية؛ وهو العاشر من خلفاء بنى العباس، قتله مماليكه الأتراك باتفاق ولده محمد المنتصر على ذلك، لأن المتوكّل كان أراد خلع ولده المنتصر المذكور من ولاية العهد وتقديم ابنه المعتزّ عليه، فأبى المنتصر ذلك؛ فصار المتوكّل يوبّخ ولده المنتصر محمدا فى الملأ ويسلّط عليه الأحداث؛ فحقد عليه المنتصر، واتفق مع وصيف وموسى بن بغا وباغر على قتله؛ فدخلوا عليه وقد أخذ منه الشّراب وعنده وزيره الفتح بن خاقان وهو نائم، فأوّل من ضربه بالسيف باغر ثم أخذته السيوف حتى هلك؛ فصاح وزيره: ويحكم أمير المؤمنين! فلما رآه قتيلا قال: ألحقونى «2» به، فقتلوه؛ ولفّ هو والفتح بن خاقان فى بساط ثم دفنا بدمائهما من غير تغسيل فى قبر واحد؛ وذلك فى ليلة الخميس خامس شوّال من هذه السنة. فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وأياما. وبويع بالخلافة بعده ابنه المنتصر محمد، فلم يتهنّأ بها، ومات بعد ستة أشهر، حسبما يأتى ذكره فى السنة الآتية. وكان المتوكّل فيه كلّ الخصال الحسنة إلا ما كان فيه من الغضب. وقد افتتح خلافته بإظهار السّنّة ورفع(2/324)
المحنة، وتكلّم بالسّنّة فى مجلسه؛ حتى قال إبراهيم بن محمد التّيمىّ قاضى البصرة: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصدّيق يوم الرّدّة، وعمر بن عبد العزيز فى ردّ مظالم بنى أميّة، والمتوكّل فى محو البدع وإظهار السنّة. وكان المتوكّل فاضلا فصيحا؛ قال علىّ بن الجهم: كان المتوكّل مشغوفا بقبيحة (يعنى أمّ ولده المعتزّ) لا يصبر عنها، فوقفت له يوما وقد كتبت على خدّيها بالمسك جعفرا؛ فتأمّلها ثم أنشد «1» يقول:
وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا ... بنفسى مخطّ «2» المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدّها ... لقد أودعت قلبى من الحبّ أسطرا
وكان المتوكّل كريما، قيل: ما أعطى خليفة شاعرا ما أعطاه المتوكّل. وفيه يقول مروان بن «3» أبى الجنوب:
فأمسك ندى كفّيك عنّى ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبّرا
ويقال: إنه سلّم على المتوكّل بالخلافة ثمانية كلّ منهم أبوه خليفة، وهم: منصور ابن المهدىّ، والعباس بن الهادى، وأبو أحمد بن الرشيد، وعبد الله بن الأمين، وموسى ابن المأمون، وأحمد بن المعتصم، ومحمد بن الواثق، وابنه المنتصر محمد بن المتوكّل. وفيها قتل الفتح بن خاقان وزير المتوكّل، قتل معه على فراشه، كان أبوه خاقان معظّما عند المعتصم، وكان من أولاد الأتراك؛ فضمّ المعتصم الفتح هذا الى ابنه المتوكّل فنشأ معا، فلما تخلّف المتوكّل استوزره؛ وكان أهلا لذلك: كان أديبا فاضلا جوادا ممدّحا(2/325)
فصيحا. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن إسحاق أبو عبد الرحمن الأزدىّ، كان حافظا ثقة سمع سفيان بن عيينة وغيره، وهو الذي كان سببا لرجوع الواثق عن القول بخلق القرآن.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن سعيد الجوهرىّ، وأبو عثمان المازنىّ، والمتوكّل على الله، وسلمة بن شبيب، وسفيان ابن وكيع، والفتح بن خاقان الوزير.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 248]
السنة السادسة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة ثمان وأربعين ومائتين- فيها فى صفر خلع المؤيّد إبراهيم والمعتزّ الزّبير ابنا المتوكّل أنفسهما من ولاية العهد مكرهين على ذلك من أخيهما الخليفة المنتصر محمد. وفيها وقع بين أحمد ابن الخصيب وبين وصيف التركىّ وحشة؛ فأشار الوزير على المنتصر أن يبعد عنه وصيفا وخوّفه منه؛ فأرسل اليه أن طاغية الروم أقبل يريد الإسلام فسر اليه، فاعتذر؛ فأحضره وقال له: إمّا تخرج أو أخرج أنا؛ فقال: لا، بل أخرج أنا. فانتخب المنتصر معه عشرة آلاف وأنفق فيهم الأموال وساروا. ثم بعث المنتصر الى وصيف يأمره بالمقام بالثغر أربع سنين. وفيها حكم محمد بن عمر الخارجىّ بناحية الموصل ومال اليه خلق؛ فسار لحربه إسحاق بن ثابت الفرغانىّ، فالتقوا فقتل جماعة من الفريقين، ثم أسر محمد وجماعة فقتلوا وصلبوا الى جانب خشبة بابك الخرّمىّ المقدّم ذكره فيما مضى. وفيها قويت شوكة يعقوب بن اللّيث الصّفّار واستولى على معظم إقليم(2/326)
خراسان، وسار من سجستان ونزل هراة وفرّق فى جنده الأموال. وفيها بويع المستعين بالخلافة بعد موت ابن عمّه «1» محمد المنتصر الآتى ذكره. وعقد المستعين لمحمد بن عبد الله ابن طاهر على العراق والحرمين والشّرطة. وفيها حبس المستعين بالله ولدى «2» عمّه «3» المتوكل وهما المؤيّد إبراهيم والمعتزّ الزبير، وضيّق عليهما واشترى أكثر أملاكهما كرها، وجعل لهما فى السنة نحو ثلاثة وعشرين ألف دينار. وفيها أخرج أهل حمص عاملهم؛ فراسلهم وخادعهم حتى دخلها، فقتل منهم طائفة وحمل من أعيانهم مائة الى العراق ثم هدم سور حمص. وفيها عقد الخليفة المستعين لأتامش على مصر والمغرب مع الوزارة، وفرّق المستعين فى الجند ألفى ألف دينار. وفيها غزا وصيف التركىّ الصائفة. وفيها نفى المستعين عبيد الله بن يحيى بن خاقان الى برقة.
وفيها مات بغا الكبير التركىّ المعتصمىّ أحد أكابر الأمراء فى جمادى الآخرة من السنة، فعقد المستعين لابنه موسى بن بغا على أعمال أبيه. وكان بغا يعرف بالشّرابىّ، مات وقد جاوز التسعين سنة، وباشر من الحروب ما لم يباشره غيره، ولم يلبس سلاحا ولا جرح قط؛ فقيل له فى ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المنام، فقلت: يا رسول الله ادع لى؛ فقال: لا بأس عليك أحسنت إلى رجل من أهل بيتى فعليك من الله واقية.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المنتصر بالله محمد ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر الهاشمىّ العباسىّ؛ بقيّة نسبه تقدّمت فى ترجمة أبيه جعفر المتوكّل فى الخالية. بويع بالخلافة يوم قتل أبيه فى يوم الخميس خامس شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين، فلم تطل أيّامه ومات بعد أبيه بستة أشهر فى شهر ربيع الأوّل بالخوانيق «4» . قيل: إن المنتصر(2/327)
هذا رأى أباه المتوكّل فى المنام فقال له: ويحك يا محمد! ظلمتنى وقتلتنى، والله لا تمتّعت فى الدنيا بعدى إلا أياما يسيرة ومصيرك الى النار، فانتبه فزعا وقال لأمّه: ذهبت عنّى الدنيا والآخرة، فلم يكن بعد أيّام إلا ومرض ثلاثة أيام ومات بالذّبحة فى حلقه. وقيل: سمّه القاصد وقتل القاصد بعده. وقيل: سمّه طبيبه وقيل غير ذلك.
وكان شهما شجاعا راجح العقل واسع الاحتمال كثير المعروف شان سؤدده بقتل أبيه.
وبويع بالخلافة بعده ابن «1» عمّه المستعين بالله أحمد. وكانت وفاة المنتصر هذا فى يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع الأوّل، وقيل: يوم الأحد رابع ربيع الأوّل. وفيها توفّى الأمير طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وهو على إمرة خراسان بها. فعقد الخليفة المستعين بالله أحمد لابنه محمد بن طاهر بن الحسين على إمرة خراسان عوضه. وفيها نفى المستعين أحمد بن الخصيب الى أقريطش «2» بعد أن استصفى أمواله. وفيها فرّق المستعين الأموال على الجند.
قال الصّولىّ: لما تولّى المستعين كان فى بيت المال ألف ألف دينار ففرّق الجميع فى الجند. وفيها توفّى أحمد بن سليمان بن الحسن أبو بكر الفقيه الحنبلىّ البغدادىّ، ومولده فى سنة ثلاث وخمسين ومائة؛ وكان إماما فقيها عالما بارعا كانت له حلقتان بجامع المنصور.
قلت: وهو أوّل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه وفاة. وفيها توفى احمد بن صالح الحافظ أبو جعفر المصرىّ، وكان يعرف بالطبرىّ لأن والده كان جنديّا من مدينة طبرستان، ومولد أحمد هذا فى سنة سبعين ومائة بمصر؛(2/328)
وكان فقيها محدّثا ورد بغداد وناظر الإمام أحمد وغيره. وفيها توفى الإمام الأستاذ أبو عثمان المازنىّ البصرىّ علّامة زمانه فى النحو والعربيّة واسمه بكر بن محمد وهو من مازن ربيعة؛ كان إماما فى النحو واللّغة والآداب وله التصانيف الحسان.
وفيها توفى مهنّا بن يحيى البغدادىّ الشيخ الإمام أبو عبد الله، كان فقيها إماما محدّثا صحب الإمام أحمد ثلاثا وأربعين سنة ورحل معه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن صالح المصرىّ، والحسين الكرابيسىّ، وطاهر بن عبد الله بن طاهر الأمير، وعبد الجبّار ابن العلاء، وعبد الملك بن شعيب بن اللّيث، وعيسى بن حمّاد زغبة، ومحمد بن حميد الرّازىّ، والمنتصر بالله محمد، ومحمد بن زنبور المكّىّ، وأبو كريب محمد بن العلاء، وأبو هشام الرفاعىّ.
أمر النّيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وثمانية أصابع ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 249]
السنة السابعة من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة تسع وأربعين ومائتين- فيها فى صفر شغب الجند ببغداد عند مقتل عمر بن عبيد «1» الله الأقطع وعلىّ بن يحيى الأرمنىّ أمير الغزاة وهما ببلاد الروم مجاهدان، وأيضا عند استيلاء الترك على بغداد وقتلهم المتوكّل وغيره وتمكّنهم من الخلفاء وأذيّتهم للناس؛ ففتح الترك والشاكريّة السجون وأحرقوا الجسر وانتهبوا الدواوين، ثم خرج نحو ذلك بسرّمن رأى، فركب بغا وأتامش وقتلوا من العامّة جماعة، فحمل العامّة عليهم(2/329)
فقتل من الأتراك جماعة وشجّ وصيف بحجر؛ فأمر بإحراق الأسواق ثم قتل فى ربيع الأوّل أتامش وكاتبه شجاع؛ فاستوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد ابن يزداد عوضا عن أتامش. وفيها عزل عن القضاء جعفر بن عبد الواحد.
وفيها كانت زلزلة هلك فيها خلق كثير تحت الرّدم. وفيها توفى بكر بن خالد أبو جعفر القصير ويقال: محمد بن بكر، كان كاتب أبى يوسف القاضى وعنه أخذ العلم، وكان فاضلا عالما. وفيها توفّى عمر بن علىّ بن يحيى بن كثير الحافظ أبو حفص الصّيرفىّ الفلّاس البصرىّ، كان إماما محدّثا حافظا ثقة صدوقا سمع الكثير ورحل [الى] البلاد، وقدم بغداد فتلقّاه أهل الحديث فحدّثهم ومات بمدينة سرّ من رأى. وفيها كان الطاعون العظيم بالعراق وهلك فيه خلائق لا تحصى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى عبد «1» بن حميد، وأبو حفص الفلّاس، وأيّوب بن محمد الوزّان الرّقّىّ، والحسن بن الصبّاح البزّار «2» ، وخلّاد بن أسلم الصفّار، وسعيد بن يحيى بن سعيد الأموىّ، وعلىّ بن الجهم الشاعر، ومحمود بن خالد السّلمىّ، وهارون بن حاتم الكوفىّ، وهشام بن خالد بن الأزرق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم تسعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.(2/330)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 250]
السنة الثامنة من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة خمسين ومائتين- فيها فى شهر رمضان خرج الحسن بن زيد بن محمد الحسينىّ بمدينة طبرستان واستولى عليها وجبى الخراج وامتدّ سلطانه الى الرّىّ وهمذان، والتجأ اليه كلّ من كان يريد الفتنة والنهب؛ فانتدب ابن طاهر لحربه، فانهزم بين يديه مرّتين؛ فبعث الخليفة المستعين بالله جيشا الى همذان نجدة لابن طاهر. وفيها عقد الخليفة المستعين بالله لابنه العباس على العراق والحرمين. وفيها نفى جعفر بن عبد الواحد الى البصرة لأنه عزل من القضاء وبعث «1» الى الشاكريّة فأفسدهم. وفيها وثب أهل حمص بعاملها الفضل بن قارن فقتلوه فى شهر رجب؛ فسار اليهم الأمير موسى بن بغا فالتقوه عند الرّستن «2» فهزمهم وافتتح حمص، وقتل فيها «3» مقتلة عظيمة وأحرق فيها وأسر من رءوسها. وفيها حجّ بالناس جعفر بن الفضل أمير مكّة. وفيها توفى الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف القاضى أبو عمرو المصرىّ «4» المالكىّ مولى محمد بن زياد ابن عبد العزيز بن مروان، ولد سنة أربع وخمسين ومائة؛ وكان إماما فقيها عالما، كان يتفقّه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله؛ ولى قضاء مصر سنتين ثم صرف، وكان رأى الليث بن سعد وسأله، وسمع سفيان بن عيينة وأقرانه، وكان ثقة مأمونا.
وفيها توفى عبد الوهاب بن عبد الحكم الشيخ الفقيه الإمام المحدّث أبو الحسن(2/331)
الورّاق صاحب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، كان فقيها محدّثا زاهدا صالحا ورعا. وفيها توفى الفضل بن مروان الوزير أبو العباس، كان إماما فاضلا بارعا رئيسا، وزّر للمعتصم ولابنيه: الواثق هارون والمتوكل جعفر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو طاهر أحمد بن السرّاج، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزّىّ المقرئ، والحارث بن مسكين أبو عمرو، وعبّاد بن يعقوب الرّواجنىّ «1» شيعىّ، وأبو حاتم السّجستانىّ سهل بن محمد بن عثمان، وعمرو «2» بن بحر أبو عثمان الجاحظ، وكثير بن عبيد المذحجىّ، ونصر بن علىّ الجهضمىّ، ومحمد بن علىّ بن الحسن بن شقيق المروزىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 251]
السنة التاسعة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة إحدى وخمسين ومائتين- فيها اضطربت أمور المستعين بالله بسبب قتله باغر التركىّ قاتل المتوكّل واضطربت أمراء الأتراك، ثم وقّع بين المستعين وبين الأتراك؛ ولا زالت الأتراك بالمستعين حتى خلعوه، وأخرجوا المعتزّ بن المتوكّل من حجرة صغيرة كان محبوسا بها هو وأخوه المؤيّد ابراهيم بن المتوكل؛ وبايعوا المعتزّ بالخلافة. وكان المعتزّ قد انحدر الى بغداد، فلما ولى المعتزّ الخلافة لقى فى بيت المال خمسمائة ألف دينار، ففرّق المعتزّ جميع ذلك فى الأتراك، وبايعوا للمعتزّ ومن بعده لأخيه المؤيّد ابراهيم؛ وكان(2/332)
ذلك فى ثانى عشر المحرّم من هذه السنة. ثم جهّز المعتزّ لقتال المستعين أخاه أبا أحمد ابن المتوكّل ومعه جيش كثيف فى ثالث عشرين المحرّم، فتوجّهوا الى المستعين وقاتلوه وحصروه ببغداد أشهرا الى أن انحرف عنه عامل بغداد طاهر بن عبد الله ابن طاهر؛ فعند ذلك أذعن المستعين وخلع نفسه فى أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين على ما يأتى ذكره. وفيها خرج الحسين بن أحمد بن محمد بن اسماعيل بن محمد بن الأرقط عبد الله بن زين العابدين علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب بمدينة قزوين فغلب عليها فى أيّام فتنة المستعين، وقد كان هو وأحمد بن عيسى العلوىّ قد اجتمعا على قتال أهل الرّىّ وقتلا بها خلقا كثيرا وأفسدا وعاثا وسار لقتالهما جيش من قبل الخليفة فأسر أحدهما وقتل الآخر. وفيها خرج إسماعيل بن يوسف ابن إبراهيم «1» بن عبد الله بن الحسن بن الحسن الحسنىّ العلوىّ بالحجاز، وهو شابّ له عشرون سنة وتبعه خلق من العرب، فعاث فى الحرمين وأفسد موسم الحاجّ وقتل من الحجّاج أكثر من ألف رجل، واستحلّ المحرّمات بأفاعيله الخبيثة، وبقى يقطع الميرة عن الحرمين حتى هلك الحجّاج وجاعوا؛ ثم نزل الوباء فهلك فى الطاعون هو وعامّة أصحابه فى السنة الآتية. وفيها توفى إسحاق بن منصور بن بهرام الحافظ أبو يعقوب [التّميمىّ «2» ] المروزىّ الكوسج، كان إماما عالما محدّثا فقيها رحّالا، وهو أحد أئمة الحديث. وفيها توفى الحسين بن الضّحّاك بن ياسر أبو علىّ الشاعر المشهور المعروف بالحسين الخليع الباهلىّ البصرىّ؛ ولد بالبصرة سنة اثنتين وستين ومائة ونشأ بها ومدح غير واحد من الخلفاء وجماعة من الوزراء وغيرهم، وكان شاعرا مجيدا خليعا وهو من أقران أبى نواس وشعره كثير.(2/333)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن منصور الكوسج، وأيوب بن الحسن النّيسابورىّ الفقيه صاحب محمد بن الحسن، وحميد ابن زنجويه «1» ، وعمر بن عثمان الحمصىّ، وأبو تقىّ «2» هشام بن عبد الملك اليزنىّ «3» ، ومحمد ابن سهل بن عسكر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 252]
السنة العاشرة من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة اثنتين وخمسين ومائتين- فيها استقرّ خلع المستعين من الخلافة وقتل بعد الحبس على ما يأتى ذكره.
وكانت فيها بيعة المعتزّ بالخلافة. وفيها ولّى الخليفة المعتزّ الحسن بن أبى الشوارب قضاء القضاة. وفيها خلع الخليفة المعتزّ على الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر خلعة الملك وقلّده سيفين، فأقام بغا ووصيف الأميران ببغداد على وجل من ابن طاهر، ثم رضى المعتزّ عنهما وردّهما الى رتبتهما. ونقل المستعين الى قصر [الحسن «4» بن سهل بالمخرّم] هو وعياله ووكّلوا به أميرا، وكان عنده خاتم عظيم القدر فأخذه محمد بن طاهر وبعث به الى المعتزّ. وفيها خلع الخليفة المعتزّ على أخيه أبى أحمد خلعة الملك وتوجّه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ووشاحين مجوهرين وقلّده سيفين. وفيها(2/334)
فى شهر رجب خلع المعتزّ أخاه المؤيّد ابراهيم من العهد وقيّده وضربه. وفيها حبست أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكريّة ببغداد وغيرها، فجاءت فى العام الواحد مائتى ألف ألف دينار «1» ، وذلك عن خراج المملكة سنتين. وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوىّ الذي كان خرج بمكّة فى السنة الخالية ووقع بسببه حروب وفتن. وفيها نفى المعتزّ أخاه أبا أحمد الى واسط ثم ردّ أيضا الى بغداد، ثم نفى المعتزّ أيضا علىّ بن المعتصم الى واسط ثم ردّ الى بغداد. وفيها حجّ بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الهاشمىّ العباسىّ. وفيها توفى المؤيّد إبراهيم ولىّ العهد ابن الخليفة المتوكّل على الله الهاشمىّ العباسىّ وأمّه أمّ ولد، وكان أخوه المعتزّ خلعه وحبسه، وفى موته خلاف كبير، والأقوى عندى أنه مات خنقا. وفيها توفى إبراهيم بن سعد الحافظ أبو إسحاق الجوهرىّ، كان إماما محدّثا ديّنا صدوقا ثبتا، طاف البلاد ولقى الشيوخ وسمع الكثير، وروى عنه غير واحد وصنّف المسند. وفيها قتل الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله أبو العباس أحمد [بن محمد «2» ] ابن الخليفة المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون ابن محمد المهدىّ بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ، وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى مخارق «3» . بويع بالخلافة لما مات ابن عمّه محمد المنتصر فى يوم سادس شهر ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين ومائتين؛ فأقام فى الخلافة الى أن انحدر الى بغداد وخلع فى سلخ سنة إحدى وخمسين ومائتين. فكانت خلافته الى يوم انحدر الى بغداد سنتين وتسعة أشهر؛ والى أن خلع من الخلافة ثلاث سنين وستة أشهر، ومات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. ولمّا خلعوه أرسل اليه المعتزّ الأمير أحمد ابن طولون التركىّ ليقتله؛ فقال: لا «4» والله لا أقتل أولاد الخلفاء، فقال له المعتزّ:(2/335)
فأوصله الى سعيد الحاجب، فتوجّه به وسلّمه الى سعيد الحاجب، فقتله سعيد الحاجب فى شوّال؛ وفى قتلته أقوال كثيرة. وكان جوادا سمحا يطلق الألوف وكان متواضعا. قال يوما لأحمد بن يزيد المهلّبىّ: يا أحمد، ما أظنّ أحدا من بنى هاشم إلا وقد طمع فى الخلافة لما ولّيتها لبعدى عنها؛ فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، وما أنت ببعيد، وإنما تقدّم العهد لمن رأى الله أن يقدّمه عليك؛ وكان فى لسان المستعين لثغة تميل الى السين المهملة والى الثاء المثلّثة. وبويع بعده ابن عمه المعتزّ.
وفيها توفى أحمد بن سعيد بن صخر الإمام الحافظ الفقيه أبو جعفر الدارمىّ، كان إماما محدّثا وكان الإمام أحمد بن حنبل اذا كاتبه يقول فى أوّل كتابه: لأبى جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل. وفيها توفى إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد الشّيبانىّ عمّ الإمام أحمد بن حنبل، كان إماما فاضلا محدّثا، ومات وله اثنتان وتسعون سنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن عبد الله ابن [على»
بن] سويد بن منجوف، والمستعين بالله أحمد بن [محمد بن] المعتصم قتلا، وإسحاق بن بهلول الحافظ، والأمير أشناس، وزياد بن أيّوب، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، ومحمد بن بشّار بندار فى رجب، وأبو موسى محمد ابن المثنّى العنزىّ «2» الزّمن فى ذى القعدة، ومحمد بن منصور المكّىّ الجوّاز «3» ، ويعقوب ابن ابراهيم الدّورقىّ، ومحمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.(2/336)
ذكر ولاية مزاحم بن خاقان على مصر
هو مزاحم بن خاقان بن عرطوج «1» الأمير أبو الفوارس التركىّ ثم البغدادىّ، أخو الفتح بن خاقان وزير المتوكّل قتل معه. ولى مزاحم هذا مصر بعد عزل يزيد بن عبد الله التركىّ عنها؛ ولّاه الخليفة المعتزّ بالله الزبير على صلاة مصر لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين؛ وسكن بالمعسكر على عادة أمراء مصر، فجعل على شرطته أرخوز «2» ، وأخذ مزاحم فى إظهار الناموس وإقماع أهل الفساد؛ فخرج [عليه] جماعة كبيرة من المصريين، فتشمّر لقتالهم وجهّز عساكره وأنفق فيهم؛ فأوّل ما ابتدأ بقتال أهل الحوف من الوجه البحرى، فتوجّه اليهم بجنوده وقاتلهم وأوقع بهم وقتل منهم وأسر؛ ثم عاد الى الديار المصرية فأقام بها مدّة يسيرة، ثم خرج أيضا من مصر ونزل بالجيزة؛ ثم سار الى تروجة «3» بالبحيرة وقاتلهم وأوقع بهم وقتل منهم مقتلة كبيرة وأسر عدّة من رءوسهم وعاد بهم الى ديار مصر؛ فلم تطل إقامته بها وخرج الى الفيوم وقاتل أهلها، ووقع له بها حروب كثيرة وقتل منهم أيضا مقتلة عظيمة وأمعن فى ذلك.
وكثر بعد هذه الواقعة إيقاعه بسكّان النواحى. ثم التفت الى أرخوز وحرّضه على أمور أمره بها؛ فشدّد أرخوز المذكور عند ذلك ومنع النساء من الخروج من بيوتهنّ والتوجّه الى الحمّامات والمقابر، وسجن المؤنّثين والنوائح، ثم منع الناس من الجهر بالبسملة فى الصلاة بالجامع، وكان ذلك فى شهر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وأمر أهل الجامع بمساواة الصفوف فى الصلاة ووكّل بذلك رجلا «4» من العجم يقوم بالسّوط من مؤخّر المسجد؛ وأمر أهل الحلق بالتحوّل الى جهة(2/337)
القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع المساند التى يسند اليها فى الجوامع، وأمر أن تصلّى التراويح فى شهر رمضان خمس تراويح، وكانوا قبل ذلك يصلّونها ستّا؛ ومنع من التثويب فى الصلاة، وأمر بالأذان فى يوم الجمعة فى مؤخّر المسجد، ثم أمر بأن يغلّس بصلاة الصبح؛ ونهى أيضا أن يشقّ ثوب على ميّت أو يسوّد وجه أو يحلق شعر أو تصيح امرأة؛ وعاقب بسبب ذلك خلقا كثيرا وشدّد على الناس حتى أبادهم ولم يزل فى التشدّد على الناس حتى مرض ومات فى ليلة الاثنين لخمس خلون من المحرّم سنة أربع وخمسين ومائتين. واستخلف بعده ابنه أحمد ابن مزاحم على مصر؛ فكانت ولاية مزاحم هذا على مصر سنة واحدة وعشرة أشهر ويومين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 253]
السنة الأولى من ولاية مزاحم بن خاقان على مصر وهى سنة ثلاث وخمسين ومائتين- فيها قصد يعقوب بن الليث الصفّار هراة فى جمع، وقاتل أهلها حتى أخذها من نوّاب محمد بن طاهر ومسك من كان بها وقيّدهم وحبسهم. وفيها سار الأمير موسى بن بغا فانتقى هو وعسكر عبد العزيز ابن الأمير أبى دلف العجلىّ فهزمهم، وساق وراءهم الى الكرج «1» وتحصّن عنه عبد العزيز، وأسرت والدة عبد العزيز المذكور؛ ثم بعث الى سامّرّا بتسعين حملا من رءوس القتلى. وفى شهر رمضان خلع الخليفة المعتزّ بالله على بغا الشرابىّ وألبسه تاج الملك «2» . وفيها فى شوّال قتل وصيف التركىّ.
ثم فى ذى القعدة كسف القمر. وفيها غزا محمد بن معاذ «3» بلاد الروم ودخل بالعسكر من جهة ملطية فأسر وقتل. وفيها فى ذى القعدة ايضا التقى موسى بن بغا والكوكبىّ «4»(2/338)
بأرض قزوين، واقتتلا فانهزم الكوكبىّ ولحق بالدّيلم. وفيها توفى سرىّ السّقطىّ الشيخ أبو الحسن، واسمه السّرىّ بن المغلّس، وهو الزاهد العابد العارف بالله المشهور، خال الجنيد وأستاذه؛ كان أوحد أهل زمانه فى الورع وعلوم التوحيد، وهو أوّل من تكلّم بها فى بغداد، واليه ينتهى مشايخ الطريقة، كان علم الأولياء فى زمانه؛ صحب معروفا الكرخىّ وحدّث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبى بكر بن عيّاش وعلىّ بن غراب ويزيد بن هارون؛ وحدّث عنه أبو العباس بن مسروق والجنيد بن محمد وأبو الحسين النّورىّ. قال عبد الله بن شاكر عن السّرىّ قال:
صلّيت وقرأت وردى ليلة ومددت رجلى فى المحراب فنوديت: يا سرىّ، كذا تجالس الملوك! فضممت رجلى وقلت: وعزّتك وجلالك لا مددتها، وقيل: إن السرىّ رأى جارية سقط من يدها إناء فانكسر، فأخذ من دكّانه إناء فأعطاها [إيّاه «1» ] عوض المكسور؛ فرآه معروف فقال: بغّض الله اليك الدّنيا؛ قال السرىّ: فهذا الذي أنا فيه من بركات معروف.
قال الجنيد: سمعت السرىّ يقول: أحب أن آكل أكلة ليس لله علىّ فيها تبعة، ولا لمخلوق [علىّ «2» ] فيها منّة، فما أجد الى ذلك سبيلا! قال: ودخلت عليه وهو يجود بنفسه فقلت: أوصنى؛ قال: لا تصحب الأشرار ولا تشغلنّ عن الله بمجالسة الأخيار. وعن الجنيد يقول: ما رأيت لله أعبد من السرىّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة مارئى مضطجعا إلا فى علّة الموت. وعن الجنيد: سمعت السرىّ يقول: إنى لأنظر إلى أنفى كلّ يوم مرارا مخافة أن يكون وجهى قد اسودّ. قال: وسمعته يقول: ما أحبّ أن أموت حيث أعرف، أخاف ألّا تقبلنى الأرض فأفتضح.(2/339)
وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول اذا ذكر السرىّ: ذاك الشيخ الذي يعرف بطيب [الريح «1» ] ونظافة الثوب وشدّة الورع. وفيها توفى الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أبو العباس الخزاعىّ، كان من أجلّ الأمراء، ولى إمرة بغداد أيّام المتوكّل جعفر، وكان فاضلا أديبا شاعرا جوادا ممدّحا شجاعا. وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه فى هذا الكتاب ونبذة كبيرة من محاسنهم ومكارمهم. وفيها فى شوّال قتل الأمير وصيف التركىّ المعتصمىّ، كان أميرا كبيرا، أصله من مماليك المعتصم بالله محمد، وخدم من بعده عدّة خلفاء، واستولى على المعتز، وحجر على الأموال لنفسه، فتشغّب عليه الجند فلم يلتفت لقولهم، فوثبوا عليه وقتلوه بعد أمور وقعت له معهم.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن سعيد الهمدانىّ «2» المصرىّ، وأحمد بن سعيد الدارمىّ، وأحمد بن المقدام العجلىّ، وخشيش ابن أصرم النّسائىّ الحافظ، وسرىّ بن المغلّس السّقطىّ عن نيّف وتسعين سنة، وعلىّ بن شعيب السّمسار، وعلىّ بن مسلم «3» الطّوسىّ، ومحمد بن عبد الله بن طاهر الأمير، ومحمد بن عيسى بن رزين التّيمىّ مقرئ الرّىّ، وهارون بن سعيد الأيلىّ، والأمير وصيف التركىّ، ويوسف بن موسى القطان، وأبو العباس العلوىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ دة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.(2/340)
ذكر ولاية أحمد بن مزاحم على مصر
هو أحمد بن مزاحم بن خاقان بن عرطوج الأمير أبو العباس ابن الأمير أبى الفوارس التركىّ. ولى إمرة مصر بعد موت أبيه باستخلافه على مصر، فأقرّه الخليفة المعتزّ بالله على ذلك. وكانت ولايته فى خامس المحرّم سنة أربع وخمسين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته أرخوز المقدّم ذكره فى أيام أبيه مزاحم. فلم تطل أيامه ومات بمصر لسبع خلون من شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين ومائتين المذكورة. فكانت ولايته على إمرة مصر شهرين ويوما واحدا. وتولّى إمرة مصر من بعده أرخوز بن أولوغ طرخان التركىّ باستخلافه.
وكان أحمد هذا شابا عارفا مدبّرا محبّبا للرعيّة «1» ، لم تطل أيّامه لتشكر أو تذمّ.
ذكر ولاية أرخوز على مصر
هو أرخوز بن أولوغ «2» طرخان التركىّ. وأولوغ طرخان كان تركيا وقدم بغداد فولد له أرخوز المذكور بها؛ ونشأ أرخوز حتى صار من كبار أمراء الدولة العباسيّة وتوجّه الى مصر وولى بها الشّرطة لعدّة «3» أمراء كما تقدّم ذكره، ثم ولى إمرة مصر بعد موت أحمد بن مزاحم، فى العشر الأول من شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين ومائتين باستخلاف أحمد بن مزاحم له، فأقرّه الخليفة المعتزّ بالله على ذلك، وجعل اليه إمرة مصر وأمرها جميعه، كما كان لمزاحم وابنه.(2/341)
وقال صاحب «البغية والاغتباط فيمن ملك الفسطاط» : وليها باستخلاف أحمد بن مزاحم على الصلاة فقط، وجعل على شرطة مصر بولغيا «1» ، ثم خرج الى الحجّ فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين وله خمسة أشهر ونصف شهر.
وقال غيره: ودام أرخوز على إمرة مصر الى أن صرف عنها بالأمير أحمد بن طولون فى شهر رمضان من سنة أربع وخمسين ومائتين، فكانت ولايته على مصر خمسة أشهر ونصفا؛ وخرج الى بغداد فى أوّل ذى القعدة من السنة، ووفد على الخليفة فأكرم مقدمه وصار من جملة القوّاد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 254]
السنة التى حكم فيها أربعة أمراء على مصر: ففى أوّل محرّمها مزاحم ابن خاقان، ثم ابنه أحمد بن مزاحم، ثم الأمير أرخوز بن أولوغ طرخان من شهر ربيع الآخر الى شهر رمضان، ثم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، وهى سنة أربع وخمسين ومائتين- فيها قتل بغا الشّرابىّ التركىّ المعتصمىّ الصغير، كان فاتكا قد طغى وتجبّر وخالف أمر المعتزّ؛ وكان المعتزّ يقول: لا ألتذ بطيب الحياة حتى أنظر رأس بغا بين يدىّ؛ فوقعت أمور بعد ذلك بين بغا والأتراك حتى قتل بغا وأتى برأسه الى المعتز، فأعطى المعتزّ قاتله عشرة آلاف دينار. وفيها توفى علىّ بن محمد ابن علىّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، أبو الحسن «2» الهاشمىّ العسكرىّ أحد الأئمة الاثنى عشر المعدودين عند الرافضة، وسمىّ بالعسكرىّ لأنّ الخليفة المتوكّل جعفرا أنزله مكان العسكر. وكان مولده سنة(2/342)
أربع وعشرين ومائتين. ومات بمدينة سرّ من رأى فى جمادى الآخرة من السنة.
وفيها توفى محمد بن منصور بن داود الشيخ أبو جعفر الطّوسىّ الزاهد العابد.
كان من الأبدال، مات فى يوم الجمعة لستّ بقين من شوّال وله ثمان وثمانون سنة؛ وسمع سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغوىّ وغيره؛ وكان صدوقا ثقة صالحا. وفيها توفى المؤمّل بن إهاب بن عبد العزيز الحافظ أبو عبد الرحمن الكوفىّ، أصله من كرمان، ونزل الكوفة وقدم بغداد وحدّث بها وبدمشق، وأسند عن يزيد ابن هارون وغيره، وروى عنه ابن أبى الدنيا وجماعة أخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
صورة ما ورد بآخر الجزء الاوّل من النسخة الفتوغرافية:
برسم خزانة الجناب الكريم العالى المولوى الزينى فرج بن المعز الأشرف المرحوم السيفى برديك أمير أخور وأحد مقدّمى الألوف والده كان وأمير حاجب هو الملكىّ الأشرفىّ أدام الله نعمته ورحم سلفه بمحمد وآله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من كتابته فى يوم الجمعة المبارك مستهل شعبان المكرم سنة خمس وثمانين وثمانمائة أحسن الله عاقبتها على يد الفقير الحقير المعترف بالتقصير الراجى لطف ربه الخفىّ محمد بن محمد بن أحمد بن محمد القادرى الحنفى عفا الله تعالى عنهم أجمعين.
انتهى الجزء الثانى من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثالث وأوّله ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر(2/343)
[الجزء الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين.
الجزء الثالث من كتاب النجوم الزاهرة
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 254]
ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر «1»
هو أحمد بن طولون «2» الأمير أبو العبّاس التركىّ أمير مصر، ولى مصر بعد عزل أرخوز «3» بن أولوغ طرخان فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وقد مضى من عمره أربع وثلاثون سنة ويوم واحد. وكان أبوه طولون مولى نوح [بن أسد «4» ابن سامان السامانىّ] عامل بخارى وخراسان، أهداه نوح فى جملة مماليك إلى المأمون ابن الرشيد، فرقّاه المأمون حتى صار من جملة الأمراء. وولد له ابنه أحمد هذا فى سنة عشرين ومائتين، وقيل فى سنة أربع عشرة ومائتين، ببغداد، وقيل بسرّمن رأى وهو الأشهر، من جارية تسمّى هاشم، وقيل قاسم. وقيل: إن أحمد(3/1)
هذا لم يكن ابن طولون وإنما طولون تبنّاه؛ قال أبو عبد الله محمد «1» بن أبى نصر الحميدىّ: قال بعض المضريين: إن طولون تبنّاه لما رأى فيه من مخايل النجابة. ودخل عليه يوما [وهو صغير «2» ] ، فقال: بالباب قوم ضعفاء فلو كتبت لهم بشىء! فقال [له «3» ] طولون: ادخل إلى المقصورة وأتنى بدواة؛ فدخل أحمد فرأى بالدّهليز جارية من حظايا طولون قد خلا بها خادم، فأخذ أحمد الدواه وخرج ولم يتكلّم؛ فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول، فجاءت إلى طولون وقالت: إنّ أحمد راودنى الساعة فى الدهليز، فصدّقها طولون، وكتب كتابا لبعض خدمه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة، وأعطاه لأحمد وقال: اذهب به إلى فلان؛ فأخذ أحمد الكتاب ومرّ بالجارية؛ فقالت له: إلى أين؟ فقال: فى حاجة مهمّة للأمير فى هذا الكتاب؛ فقالت:
أنا أرسله، ولى بك حاجة؛ فدفع إليها الكتاب فدفعته إلى الخادم المذكور، وقالت:
اذهب به إلى فلان؛ وشاغلت أحمد بالحديث، أرادت بذلك أن يزداد عليه الأمير طولون غضبا. فلما وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث به إلى طولون؛ فلما رآه عجب واستدعى أحمد وقال له: اصدقنى! ما الذي رأيت فى طريقك إلى المقصورة؟ قال: لا شىء؛ قال: اصدقنى وإلا قتلتك! فصدقه الحديث؛ وعلمت الجارية بقتل الخادم، فخرجت «4» ذليلة؛ فقال لها طولون:
اصدقينى فصدقته فقتلها؛ وحظى أحمد عنده.(3/2)
وقال أحمد بن يوسف: قلت لأبي العباس بن خاقان: الناس فرقتان فى ابن طولون، فرقة تقول: إنّ أحمد ابن طولون، وأخرى تقول: هو ابن يلبخ «1» التركىّ، وأمّه قاسم جارية طولون؛ فقال: كذبوا، إنما هو ابن طولون. ودليله أنّ الموفّق لما لعنه نسبه إلى طولون ولم ينسبه إلى يلبخ، ويلبخ مضحاك يسخر منه، وطولون معروف بالسّتر. وقال أحمد بن يوسف المذكور: كان طولون رجلا من أهل طغزغز «2» حمله «3» نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون [فيما كان موظّفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك فى كلّ سنة «4» ] . وولد [له «5» ] أحمد [سنة عشرين «6» ومائتين] من جارية، ومات أبوه طولون فى سنة أربعين ومائتين، وقيل: فى سنة ثلاثين ومائتين، والأوّل أصح. انتهى كلام ابن يوسف.
ونشأ أحمد بن طولون على مذهب جميل، وحفظ القرآن وأتقنه «7» ، وكان من نشأته أطيب الناس صوتا به، مع كثرة الدرس وطلب العلم؛ وتفقّه على مذهب الإمام(3/3)
الأعظم أبى حنيفة. ولما ترعرع «1» أحمد تزوّج بابنة عمّه خاتون فولدت له العباس سنة اثنتين وأربعين ومائتين. ولما مات أبوه طولون فوّض إليه الخليفة المتوكّل ما كان لأبيه، ثم تنقّلت به الأحوال إلى أن ولى إمرة الثغور وإمرة دمشق ثم ديار مصر. وكان يقول: ينبغى للرئيس أن يجعل اقتصاده على نفسه وسماحته على من يقصده ويشتمل عليه، فإنه يملكهم ملكا لا يزول به عن قلوبهم. ونشأ أحمد بن طولون فى الفقه والصلاح والدين والجود حتى صار له فى الدنيا الذكر الجميل.
وكان شديد الإزراء «2» على الترك وأولادهم لما يرتكبونه فى أمر الخلفاء، غير راض بذلك، ويستقلّ عقولهم؛ ويقول: حرمة الدّين عندهم مهتوكة.
وقال الخاقانىّ «3» - وكان خصيصا عند ابن طولون-: وقال لى يوما (يعنى ابن طولون) : يا أخى [الى «4» ] كم نقيم على هذا الإثم مع هؤلاء الموالى! (يعنى الأتراك) ، لا يطئون موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم؛ والصواب أن نسأل الوزير «5» أن يكتب «6» أرزاقنا الى الثغر؛ فسأله فكتب له وخرجنا إلى طرسوس؛ فلما «7» رأى ما الناس عليه(3/4)
من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سرّ بذلك؛ فأقمنا نسمع الحديث مدّة، ثم رجعت أنا الى سرّ من رأى، فآستقبلتنى أمّه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابنى! فحلفت لها إنه فى عافية؛ ثم عدت الى طرسوس فأخبرته بما رأيت من أمّه وقلت له: إن كنت أردت بمقامك فى هذه البلاد وجه الله وتدع أمّك كذلك فقد أخطأت؛ فوعدنى بالخروج من طرسوس؛ ثم خرجنا ونحن زهاء «1» خمسمائة رجل- والخليفة يومئذ المستعين بالله- وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثياب مثمّنة «2» من عمل الروم، فسرنا إلى الرّها «3» ؛ فقيل لنا: إنّ جماعة من قطّاع الطريق على انتظاركم، والمصلحة دخولكم حصن الرّها حتى يتفرّقوا «4» ؛ فقال أحمد: لا يرانى الله فارّا «5» وقد خرجت على نيّة الجهاد! فخرجنا والتقينا، فأوقع بالقوم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون؛ فزاد فى أعين الناس مهابة وجلالة؛ ووصل الخادم الى المستعين بالثياب، فلما رآها استحسنها؛ فقال له الخادم: لولا ابن طولون ما سلمت ولا سلمنا وحكى له الحكاية؛ فبعث إليه مع الخادم ألف دينار سرّا، وقال له: عرّفه أننى أحبّه، ولولا خوفى عليه قرّبته.
وكان ابن طولون إذا أدخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ اليه الخليفة بالسلام سرّا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها ميّاس «6» ، فولدت(3/5)
له ابنه خمارويه فى المحرّم من سنة خمسين ومائتين. ولما تنكّر «1» الأتراك للمستعين وخلعوه وأحدروه إلى واسط، قالوا «2» له: من تختار أن يكون فى صحبتك؟ فقال:
أحمد بن طولون، فبعثوه معه فأحسن صحبته. ثم كتب الأتراك إلى أحمد: اقتل المستعين ونولّيك واسطا؛ فكتب إليهم لا رآنى «3» الله قتلت خليفة بايعت له أبدا! فبعثوا سعيدا «4» الحاجب فقتل المستعين، فوارى أحمد بن طولون جثّته. ولما رجع أحمد الى سرّ من رأى بعد ما قتل المستعين أقام بها، فزاد محلّه عند الأتراك فولّوه مصر نيابة عن أميرها سنة أربع وخمسين ومائتين. فقال حين دخلها: غاية ما وعدت به فى قتل المستعين واسط، فتركت ذلك لله تعالى، فعوّضنى ولاية مصر والشام.
فلما قتل والى مصر من الأتراك فى أيّام الخليفة المهتدى صار أحمد بن طولون مستقلّا بها فى أيام المعتمد. وقيل: إنّه ولى الشام نيابة عن باكباك «5» ، فلمّا قتل باكباك استقلّ، وكان حكمه من الفرات الى المغرب. وأوّل ما دخل مصر خرج بغا الأصغر، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندريّة فى جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين، وسار إلى الصعيد، فقتل هناك وحمل رأسه «6» الى مصر فى شعبان. ثم خرج ابن الصوفىّ العلوىّ، وهو إبراهيم ابن محمد بن يحيى [بن «7» عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب] ، وتوجّه إلى إسنا فى ذى القعدة فنهب [وقتل «8» أهلها] ؛ وقيل: إنّ أحمد بن طولون بعث(3/6)
اليه جيشا فكسر الجيش فى ربيع الأوّل سنة ست وخمسين ومائتين، وأرسل اليه ابن طولون جيشا آخر فواقعوه بإخميم فهزموه الى الواح «1» . ثم خرج ابن طولون بنفسه لمحاربة عيسى بن الشيخ، ثم عاد وأرسل جيشا؛ ثم ورد عليه كتاب الخليفة بأنه يتسلّم الأعمال الخارجة عن أرض مصر؛ فتسلّم الإسكندرية وخرج اليها لثمان خلون من شهر رمضان، واستخلف على مصر طغلج «2» صاحب شرطته، ثم عاد الى مصر لأربع «3» عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى وأمره بلباس البياض؛ ثم خرج الى الإسكندرية ثانيا [لثمان «4» بقين من] شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين، ثم عاد فى شوّال. ثم ورد عليه كتاب المعتمد يستحثّه فى جمع الأموال؛ فكتب اليه ابن طولون: لست أطيق ذلك والخراج فى يد غيرى؛ فأرسل المعتمد على الله اليه نفيسا الخادم بتقليده الخراج وبولايته الثغور الشاميّة. فأقرّ أحمد بن طولون عند ذلك أبا أيّوب أحمد بن محمد [بن شجاع «5» ] على الخراج، وعقد لطخشىّ بن بلبرد «6» على الثغور، فخرج اليها فى سنة أربع وستين ومائتين، فصار الأمر كلّه بيد أحمد ابن طولون، وقويت شوكته بذلك وعظم أمره بديار مصر.
ولما كان فى بعض الأيام ركب يوما ليتصيّد بمصر فغاصت قوائم فرسه فى الرمل فأمر بكشف ذلك الموضع فظفر بمطلب فيه ألف ألف دينار، فأنفقها فى أبواب(3/7)
البرّ والصدقات، كما سيأتى ذكرها. وكان يتصدّق فى كل يوم بمائة دينار غير ما كان عليه من الرواتب، وكان ينفق على مطبخه فى كلّ يوم ألف دينار، وكان يبعث بالصدقات الى دمشق والعراق والجزيرة والثغور وبغداد وسرّ من رأى والكوفة والبصرة والحرمين وغيرها؛ فحسب ذلك فكان ألفى «1» ألف دينار ومائتى ألف دينار.
ثم بنى الجامع الذي بين مصر وقبّة «2» الهواء على جبل يتسكر خارج القاهرة وغرم عليه أموالا عظيمة.
قال أحمد الكاتب: أنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقال له الصنّاع: على أىّ مثال نعمل المنارة؟ وما كان يعبث قطّ فى مجلسه، فأخذ درجا من الكاغد وجعل يعبث به فخرج بعضه وبقى بعضه فى يده، فعجب الحاضرون، فقال: اصنعوا المنارة على هذا المثال، فصنعوها.
ولما تمّ بناء الجامع رأى أحمد بن طولون فى منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى للقصور «3» التى حول الجامع ولم يتجلّ للجامع، فسأل المعبّرين فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى قائما وحده؛ فقال: من أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلّى الله لشىء خضع له» .
وكان كما قالوا.(3/8)
وقال بعضهم: إنّ الكنز «1» الذي لقيه ابن طولون منه عّمر الجامع المذكور. وكان بناؤه فى سنة تسع وخمسين ومائتين. وأما أمر الكنز فانه ذكر غير واحد من المؤرّخين أنّ أحمد بن طولون كان له كاتب يعرف بابن دشومة «2» وكان واسع الحيلة بخيل اليد زاهدا فى شكر الشاكرين، لا يهشّ الى شىء من أعمال البرّ، وكان ابن طولون من أهل القرآن إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع؛ واتّفق أنّ الخليفة المعتمد أمر ابن طولون أن يتسلّم «3» الخراج حسبما ذكرناه، فامتنع من المظالم لدينه، ثم شاور كاتبه ابن دشومة المذكور، فقال ابن دشومه: يؤمّننى الأمير لأقول له ما عندى؟ فقال أحمد بن طولون: قل وأنت آمن؛ فقال: يعلم الأمير أن الدنيا والآخرة ضرّتان، والشهم من لم يخلط إحداهما بالأخرى، والمفرّط من جمع بينهما؛ وأفعال الأمير أفعال الجبابرة، وتوكّله توكّل الزهّاد، وليس «4» مثله من ركب خطّة لم يحكمها، ولو كنّا نثق بالنصر وطول العمر لما كان شىء آثر عندنا من التضييق على أنفسنا فى العاجل لعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر كثير المصائب والآفات؛ وهذه المظالم قد اجتمع(3/9)
لك منها فى السنة ما قدره مائة ألف دينار؛ فبات أحمد بن طولون ليلته وقد حرّكه قول ابن دشومة، فرأى فيما يرى النائم صديقا له كان من الزهّاد مات لمّا كان ابن طولون بالثغر قبل دخوله الى مصر، وهو يقول له: بئس ما أشار عليك ابن دشومة فى أمر الارتفاق «1» ، واعلم أنه من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه؛ فارجع الى ربّك، وإن كان التكاثر والتفاخر قد شغلاك عنه فى هذه الدنيا. فأمض ما عزمت عليه وأنا ضامن لك من الله تعالى أفضل العوض منه قريبا غير بعيد.
فلما أصبح أحمد بن طولون دعا ابن دشومة فأخبره بما رأى فى نومه؛ فقال له ابن دشومة: أشار عليك رجلان: أحدهما فى اليقظة والآخر فى المنام، وأنت لمن فى اليقظة أوجد وبضمانه أوثق؛ فقال ابن طولون: دعنى من هذا؛ وأزال جميع المظالم ولم يلتفت الى كلامه. ثم ركب أحمد بن طولون الى الصيد، فلما سار فى البرّيّة انخسفت الأرض برجل فرس بعض أصحابه فى قبر فى وسط الرمل؛ فوقف أحمد بن طولون عليه وكشفه فوجد مطلبا واسعا، فأمر بحمله فحمل منه من المال ما قيمته ألف ألف دينار؛ فبنى منه هذا الجامع والبئر «2» بالقرافة الكبرى والبيمارستان «3» بمصر ووجوه البرّ؛ ثم دعا بابن دشومة المقدّم ذكره وقال: والله لولا أنّى أمّنتك لصلبتك، ثم بعد مدّة صادره واستصفى أمواله، وحبسه حتى مات.
وقيل: إن ابن طولون لما فرغ من بناء جامعه المذكور أمر حاشيته بسماع ما يقول الناس فيه من الأقوال والعيوب؛ فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه(3/10)
عمود، وقال آخر: ليست له ميضأة؛ فبلغه ذلك فجمع الناس وقال: أما المحراب فإنى رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خطّه لى فى منامى، وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الذي خطّه لى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما العمد فإنّى بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره؛ وهذه العمد إما أن تكون فى مسجد أو كنيسة فنزّهته عنها؛ وأما الميضأة فإنّى نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهّرته عنها، وهأنا أبنيها خلفه، وأمر ببنائها.
وقيل: إنه لمّا فرغ من بنائه رأى فى منامه كأنّ نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله من العمران؛ فلمّا أصبح قصّ رؤياه فقيل له: أبشر بقبول الجامع المبارك، لأنّ النار كانت فى الزمن الماضى إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله «1» قصة قابيل وهابيل «2» .
وكان حول الجامع العمران ملاصقة له، حتى قيل: إن مسطبة كانت خلف الجامع، وكانت ذراعا فى ذراع لا غير، فكانت أجرتها فى كلّ يوم اثنى عشر درهما:
فى بكرة النهار يقعد فيها شخص يبيع الغزل ويشتريه بأربعة دراهم؛ ومن الظهر الى العصر لخبّاز بأربعة دراهم؛ ومن العصر الى المغرب لشخص يبيع فيها الحمّص والفول بأربعة دراهم. قلت: هذا مما يدل على أن الجامع المذكور كان فى وسط العمران.(3/11)
وهذا الجامع على جبل يشكر- كما ذكرناه- وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إنّ موسى عليه السلام ناجى ربّه- جلّ جلاله- عليه بكلمات. ويشكر المنسوب إليه هذا الجبل هو ابن جزيلة من لخم. انتهى.
وأنفق ابن طولون على البيمارستان ستين ألف دينار، وعلى حصن «1» الجزيرة ثمانين ألف دينار، وعلى الميدان خمسين ألف دينار؛ وحمل إلى الخليفة المعتمد فى مدة أربع سنين ألفى ألف دينار ومائتى ألف دينار. وكان خراج مصر فى أيامه أربعة آلاف ألف وثلثمائة ألف دينار؛ هذا مع كثرة صدقاته وإنفاقه على مماليكه وعسكره.
وقد قال له وكيله «2» فى الصدقات: ربما امتدّت الىّ الكفّ المطوّقة والمعصم فيه السّوار والكمّ الناعم، أفأمنع هذه الوظيفة؟ «3» فقال له: ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن تردّ يدا امتدّت اليك.
وقيل: إنه حسّن له بعض التجار التجارة، فدفع له أحمد بن طولون خمسين ألف دينار يتّجر له بها؛ فرأى ابن طولون بعد ذلك فى منامه كأنه يمشمش عظما، فدعا المعبّر وقصّ عليه؛ فقال: قد سمت همّتك إلى مكسب لا يشبه خطرك «4» ؛ فأرسل ابن طولون فى الحال إلى التاجر وأخذ المال منه فتصدّق به.(3/12)
وكان جميع خصال ابن طولون محمودة، إلا أنه كان حادّ الخلق والمزاج؛ فإنه لما ولى مصر والشام ظلم كثيرا وعسف وسفك كثيرا من الدماء. يقال: إنه مات فى حبسه «1» ثمانية عشر ألفا، فرأى فى منامه كأنّ الحق سبحانه قد مات فى داره فاستعظم ذلك وانتبه فزعا، وجمع المعبّرين فلم يدروا؛ فقال له بعضهم: أقول ولى الأمان؟
قال نعم؛ قال: أنت رجل ظالم، قد أمتّ الحقّ فى دارك! فبكى.
وكان فيه ذكاء وفطنة وحدس ثاقب. قال محمد بن عبد الملك الهمذانىّ:
إن ابن طولون جلس يأكل، فرأى سائلا فأمر له بدجاجة ورغيف وحلواء، فجاءه الغلام فقال: ناولته فما هشّ له؛ فقال ابن طولون: علىّ به، فلما مثل بين يديه لم يضطرب من الهيبة؛ فقال له ابن طولون: أحضر لى الكتب التى معك واصدقنى، فقد صحّ عندى أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف؛ فقال له بعض من حضر: هذا والله السحر الحلال! قال ابن طولون: ما هو سحر ولكنّه قياس صحيح، رأيت سوء حاله فسيّرت له طعاما يشره له الشبعان فما هشّ له، فأحضرته فتلقّانى بقوّة جأش، فعلمت أنه صاحب خبر لا فقير، فكان كذلك.
وقال أبو الحسين الرازىّ: سمعت أحمد [بن أحمد «2» ] بن حميد بن أبي العجائز وغيره من شيوخ دمشق قالوا: لما دخل أحمد بن طولون دمشق وقع بها حريق عند كنيسة مريم، فركب ابن طولون إليه ومعه أبو زرعة البصرى «3» وأبو عبد الله أحمد ابن محمد الواسطىّ كاتبه؛ فقال ابن طولون لأبى زرعة: ما يسمّى هذا الموضع؟
قال: كنيسة مريم؛ فقال أبو عبد الله: أكان لمريم كنيسة؟ قال: ماهى من بناء(3/13)
مريم، وإنما بنوها على اسمها؛ فقال ابن طولون: مالك [و] للاعتراض على الشيخ! ثم أمر بسبعين ألف دينار من ماله، وأن يعطى لكل من احترق له شىء ويقبل قوله ولا يستحلف، فأعطوا لمن ذهب ماله. وفضل من المال أربعة عشر ألف دينار؛ ثم أمر بمال عظيم أيضا ففرّق فى فقراء أهل دمشق والغوطة، وأقلّ «1» ما أصاب الواحد من المستورين دينار.
وعن محمد بن على الماذرائىّ «2» قال: كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون فأرى شيخا ملازما للقراءة «3» على قبره، ثم إنى لم أره مدّة، ثم رأيته فسألته فقال: كان له علينا بعض العدل إن لم يكن الكلّ، فأحببت أن أصله بالقراءة؛ قلت: فلم انقطعت؟
قال: رأيته فى النوم وهو يقول: أحبّ ألّا تقرأ عندى، فما تمرّ بآية إلا قرّعت بها وقيل: أما سمعت هذه! انتهى.
قلت: ولمّا ولى أحمد بن طولون مصر سكن العسكر على عادة أمراء مصر من قبله، ثم أحب أن يبنى له قصرا فبنى القطائع. والقطائع قد زالت آثارها الآن من مصر ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها من قبّة الهواء، التى صار مكانها الآن قلعة الجبل، الى جامع ابن طولون المذكور وهو طول «4» القطائع، وأما عرضها فانه كان من أوّل الرّميلة من تحت القلعة الى الموضع الذي يعرف الآن بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن زين العابدين؛ وكانت مساحة القطائع ميلا فى ميل.(3/14)
وقبّة الهواء كانت فى السطح «1» الذي عليه قلعة الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصر ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدان السلطانى الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرّميلة «2» .
وكان موضع سوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانا. ويجاورها الميدان الذي يعرف اليوم بالقبيبات؛ فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دار الإمارة فى جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه الى المقصورة المحيطة بمصلّى الأمير الى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدّة قطع يسكن فيها عبيد الأمير أحمد بن طولون وعساكره وغلمانه.
قلت: والقطائع كانت بمعنى الأطباق التى للمماليك السلطانية الآن، وكانت كلّ قطيعة لطائفة تسمّى بها، فكانت قطيعة تسمّى قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفرّاشين- وهم نوع من الجمدارية الآن- ونحو ذلك. وكانت كل قطيعة لسكن جماعة ممن ذكرنا وهى «3» بمنزلة الحارات اليوم. وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع كثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار الإمارة عليه، فركب الى سفح الجبل وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطّ موضعهما وبنى القصر والميدان المقدّم ذكرهما؛ ثم أمر لأصحابه وغلمانه أن يختطّوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا؛ واختطّوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط- أعنى بمصر القديمة- ثم بنيت القطائع وسمّيت كل قطيعة باسم من سكنها. قال القضاعىّ: وكان للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة [مفردة «4» ] تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم؛ وبنى القوّاد مواضع [متفرّقة «5» ] ،(3/15)
وعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرّقت فيما السكك والأزقّة، وعمرت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمّامات والأفران والحوانيت والشوراع.
وجعل ابن طولون قصرا كبيرا فيه ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وسمّى القصر كلّه الميدان؛ وعمل للقصر «1» أبوابا لكل باب اسم؛ فباب الميدان الكبير كان منه الدخول والخروج لجيشه وخدمه؛ وباب الخاصّة لا يدخل منه إلا خاصّته؛ وباب الجبل «2» الذي يلى جبل المقطم؛ وباب الحرم «3» لا يدخل منه إلا خادم خصىّ أو حرمة؛ وباب الدّرسون كان يجلس فيه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلّد جنايات الغلمان السودان الرّجّالة فقط، واسمه الدرمون وبه سمّى الباب المذكور؛ وباب دعناج لأنه كان يجلس فيه حاجب يقال له دعناج؛ وباب الساج لأنه كان عمل من خشب الساج؛ وباب الصلاة لأنه كان يخرج [منه] إلى الصلاة وكان بالشارع الأعظم، وكان هذا الباب يعرف بباب السباع لأنه كانت عليه صورة سبعين من جبس؛ وكانت «4» هذه الأبواب لا تفتح كلّها إلا فى يوم العيد [أو] يوم عرض الجيش [أو يوم «5» صدقة] ، وما «6» كانت تفتح الأبواب إلا بترتيب فى أوقات معروفة؛ وكان للقصر شبابيك «7» تفتح من سائر نواحى الأبواب تشرف كلّ جهة على باب.(3/16)
ولما بنى هذا القصر والميدان وعظم أمره زادت صدقاته ورواتبه حتى بلغت صدقاته المرتّبة فى الشهر ألفى دينار، سوى ما كان يغطى ويطرأ عليه؛ وكان يقول:
هذه صدقات الشكر على تجديد النعم؛ ثم جعل مطابخ للفقراء والمساكين فى كلّ يوم، فكان يذبح فيها البقر والغنم ويفرّق للناس فى القدور الفخّار والقصع، ولكل قصعة أو قدر أربعة أرغفة: فى اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر أو القصعة؛ وكان فى الغالب يعمل سماط عظيم وينادى فى مصر: من أحبّ [أن] يحضر سماط الأمير فليحضر؛ ويجلس هو بأعلى القصر ينظر ذلك ويأمر بفتح جميع أبواب الميدان ينظرهم وهم يأكلون ويحملون فيسّره ذلك ويحمد الله على نعمته. ثم جعل بالقرب من قصره حجرة فيها رجال سمّاهم بالمكبّرين عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت فى كلّ ليلة منهم أربعة يتعاقبون بالليل نوبا، يكبّرون ويهلّلون ويسبّحون ويقرءون القرآن بطيّب الألحان ويترسّلون بقصائد زهديّة ويؤذّنون أوقات الأذان؛ وكان هو أيضا [من] أطيب الناس صوتا. قلت: ولهذا كان فى هذه الرتبة، لأن الجنسيّة علة الضم.
ولا زال على ذلك حتى خرج من مصر الى طرسوس، ثم عاد الى أنطاكية فى جيوشه، بعد أن كان وقع له مع الموفّق أمور ووقائع يأتى ذكرها فى حوادث سنيه على مصر.
وكان قد أكل من لبن الجاموس وأكثر منه، وكان له طبيب اسمه سعد «1» بن نوفيل نصرانى؛ فقال له: ما الرأى؟ فقال له: لا تقرب الغذاء اليوم وغدا، وكان جائعا فاستدعى خروفا وفراريج فأكل منها، وكان به علّة القيام فامتنع؛ «2» فأخبر الطبيب؛ فقال: إنا لله! ضعفت القوّة المدافعة بقهر الغذاء لها، [فعالجه] «3» فعاوده الإسهال؛(3/17)
فخرج من أنطاكية فى محفه «1» تحمله الرجال، فضعف عن ذلك فركب البحر الى مصر؛ فقيل لطبيبه: لست بحاذق؛ فقال: والله ما خدمتى له إلا خدمة الفأر للسّنّور، وإن قتلى عنده أهون علىّ من صحبته!.
ولما دخل ابن طولون الى مصر على تلك الهيئة استدعى الأطباء وفيهم الحسن ابن زيرك، فقال لهم: والله لئن لم تحسنوا فى تدبيركم لأضرينّ أعناقكم قيل موتى؛ فخافوا منه، وما كان يحتمى، ويخالفهم. ولما اشتدّ مرضه خرج المسلمون بالمصاحف، واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، والمعلّمون بالصّبيان، الى الصحراء ودعوا له؛ وأقام المسلمون بالمساجد يختمون القرآن ويدعون له؛ فلما أيس من نفسه رفع يديه إلى السماء وقال: يا ربّ ارحم من جهل مقدار نفسه، وأبطره «2» حلمك عنه؛ ثم تشهّد ومات بمصر فى يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين، وولى مصر بعده ابنه أبو الجيش خمارويه؛ ومات وعمره خمسون سنة بحساب من قال إنّ مولده سنة عشرين ومائتين. وكانت ولايته على مصر سبع عشرة سنة. وقيل: إنّه لمّا ثقل فى الضعف أرسل الى القاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ- وكان قد حبسه فى دار بسبب نحكيه هنا بعد ما نذكر ما أرسل يقول له- فجاء الرسول إلى بكّار يقول له: أنا أردّك الى منزلتك وأحسن؛ فقال القاضى بكّار:
قل له: شيخ فان وعليل مدنف، والملتقى قريب، والقاضى الله عزّ وجلّ؛ فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك؛ فأطرق ساعة، ثم أقبل يقول: شيخ فان وعليل مدنف والملتقى قريب والقاضى الله! وكرّر ذلك الى أن غشى عليه؛ ثم أمر بنقله من السجن الى دار اكتريت له.(3/18)
وأما سبب انحراف أحمد بن طولون على القاضى بكّار فلكون «1» أنّ ابن طولون دعا القاضى بكّارا لخلع الموفق من ولاية العهد للخلافة فامتنع؛ فحبسه لأجل هذا؛ وكرر عليه القول فلم يقبل وئالا «2» ؛ وكان «3» أوّلا من أعظم الناس عند ابن طولون.
قال الطحاوىّ: ولا أحصى كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو يملى «4» الحديث ومجلسه مملوء بالناس، ويتقدّم الحاجب ويقول: لا يتغيّر أحد من مكانه؛ فما يشعر بكّار إلّا وابن طولون إلى جانبه؛ فيقول له: أيها الأمير ألا تركتنى [حتى] «5» كنت أقضى حقّك [وأؤدّى «6» واجبك! أحسن الله جزاءك وتولّى مكافأتك] ؛ ثم فسد الحال بينهما حتى حبسه.
قال القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان: كان أحمد بن طولون يدفع الى القاضى بكّار فى العام ألف دينار سوى المقرّر له فيتركها بكّار بختمها [ «7» ولا يتصرّف فيها] ؛ فلما دعاه ابن طولون لخلع الموفّق من ولاية العهد امتنع، فاعتقله وطالبه بحمل الذهب فحمله اليه بختومه، وكان ثمانية عشر كيسا فى كل كيس ألف دينار؛ فاستحى ابن طولون عند ذلك من الملأ. قلت: هذا هو القاضى الذي فى الجنة؛ رحمه الله تعالى. وقال أبو عيسى اللؤلؤيّ: رآه بعض أصحابه المتزهّدين فى حال حسنة فى المنام (يعنى ابن طولون) ، فقال له: ما فعل الله بك؟ وكيف حالك؟ قال: لا ينبغى لمن سكن الدنيا [أن] يحتقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيرتكبها، عدل بى عن النار الى الجنة(3/19)
بتريّثى «1» على متظلّم عيّ «2» اللسان شديد التهيّب «3» ، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته وتقدّمت «4» بإنصافه؛ وما فى الآخرة على الرؤساء أشدّ من الحجاب «5» لملتمسى «6» الإنصاف.
ورثاه كثير من الشعراء، من ذلك ما قاله بعض المصريّين:
يا غرّة «7» الدنيا الذي أفعاله ... غرر بها كلّ الورى تتعلّق
أنت الأمير على الشآم وثغره ... والرّقّتين «8» وما حواه المشرق
واليك مصر وبرقة وحجازها ... كلّ «9» إليك مع المدى يتشوّق
وخلّف ابن طولون ثلاثة وثلاثين ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا، وهم:
العباس وخمارويه الذي ولى مصر بعد موته، وعدنان ومضر وشيبان وربيعة وأبو العشائر، وهؤلاء أعيانهم، فأما العباس فهو الذي كان عصى على والده ودخل الغرب وحمل الى أبيه أحمد فحبسه ومات وهو فى حبسه، ومات بعد أبيه بيسير؛ وكان شاعرا، وهو القائل:(3/20)
لله درّى إذ أعدو على فرسى ... الى الهياج ونار الحرب تستعر
وفى يدى صارم أفرى الرءوس به ... فى حدّه الموت لا يبقى ولا يذر
إن كنت سائلة عنى وعن خبرى ... فهأنا الليث والصّمصامة الذّكر
من آل طولون أصلى إن سألت فما ... فوقى لمفتخر فى الجود مفتخر «1»
وكان أبوه أحمد بن طولون لما خرج الى الشام فى السنة الماضية أخذه مقيّدا معه وعاد به على ذلك.
وخلّف أحمد بن طولون فى خزائنه من الذهب النقد عشرة آلاف ألف دينار؛ ومن المماليك سبعة آلاف مملوك، [ومن «2» الغلمان أربعة وعشرين ألف غلام] ، ومن الخيل [الميدانية «3» ] سبعة آلاف رأس، ومن البغال والحمير ستة آلاف رأس، ومن الدوابّ لخاصته ثلثمائة، ومن مراكبه الجياد مائة. وكان ما يدخل إلى خزائنه فى كل سنة بعد مصاريفه ألف ألف دينار. رحمه الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 255]
السنة الأولى من ولاية أحمد بن طولون على مصر وهى سنة خمس وخمسين ومائتين- فيها كان ابتداء خروج الزّنج، وخرج قائدهم «4» بالبصرة، فلما خرج انتسب(3/21)
إلى زيد بن علىّ، وزعم أنّه علىّ بن محمد بن أحمد بن علىّ بن عيسى بن زيد بن علىّ [بن «1» الحسين بن علىّ بن أبى طالب] ؛ وهذا نسب غير صحيح. وانضمّ عليه معظم أهل البصرة، وعظم أمره وفعل بالمسلمين الأفاعيل، وهزم جيوش الخليفة، وامتدّت أيّامه الى أن قتل فى سنة سبعين ومائتين بعد أن واقعه الموفّق أخو الخليفة غير مرّة.
وفيها كان بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس «2» وقعة كبيرة. وفيها عظم أمر ابن وصيف، وقبض على حواشى المعتزّ بالله الخليفة؛ فسأله المعتزّ فى إطلاق واحد منهم فلم يفعل. ولا زال أمره يعظم إلى أن خلع المعتزّ بالله من الخلافة فى رجب «3» ، ثم قتل بعد خلعه بأيّام. واختفت أمّ المعتزّ قبيحة، ثم ظهرت فصادرها صالح بن وصيف المذكور وأخذ منها أموالا عظيمة، ثم نفاها إلى مكّة؛ وكان مما أخذ منها ابن وصيف ألف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار، وأخذ منها من الجواهر ما قيمته ألفا ألف دينار. وكان الجند سألوا المعتزّ فى خمسين ألف دينار ويصطلحون معه؛ فسألها المعتزّ فى ذلك؛ فقالت: ما عندى شىء. فلمّا رأى ابن وصيف هذا المال قال: قبّح الله قبيحة، عرّضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار وعندها هذا كلّه. وفيها بويع المهتدى بالله محمد، وكنيته أبو إسحاق، وقيل: أبو عبد الله، ابن الخليفة الواثق بالله هارون بالخلافة بعد خلع المعتزّ بالله فى ثانى «4» شعبان. وفيها توفّى عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد الحافظ أبو محمد التّميمىّ الدارمىّ السمرقندى الإمام المحدّث صاحب المسند؛ ومولده سنة مات عبد الله(3/22)
ابن المبارك سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان من الأئمة الأعلام، وقد روينا مسنده المذكور عن الشيخ زين الدين رجب بن يوسف الخيرىّ «1» ومحمد بن أبى الشائب «2» الأنصارىّ حدّثانا أخبرنا أبو إسحاق التّنوخىّ، حدّثنا أبو العباس الحجّار وإسماعيل ابن مكتوم وعيسى المطعّم «3» إجازة، قالوا: أخبرنا ابن اللّيثىّ، حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل ابن [أبى عبد الله «4» ] عيسى [بن شعيب بن إسحاق السجزى «5» ] ، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن ابن محمد الدّاودىّ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمّويه السّرخسىّ، أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندىّ، حدّثنا الدارمىّ. وفيها توفى المعتزّ بالله أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد، وقيل: إن اسمه الزبير، ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ؛ ومولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه، وأمّه أمّ ولد رومية تسمى قبيحة لجمال صورتها من أسماء الأضداد، لم يقع لخليفة ما وقع عليه من الإهانة، لأن الأتراك أمسكوه وضربوه وجرّوا برجله وأقاموه فى الشمس «6» فى يوم صائف وهم يلطمون وجهه، ويقولون(3/23)
له: اخلع نفسك؛ ثم أحضروا القاضى ابن أبى الشوارب والشهود، حتى خلع نفسه؛ ثم أخذه الأتراك بعد خمس ليال من خلعه وأدخلوه الحمام فعطش فمنعوه الماء حتى مات «1» فى شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وله أربع وعشرون سنة. وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأربعة «2» عشر يوما. وفيها توفى الحافظ أبو يحيى صاعقة، واسمه محمد بن عبد الرحيم، وله سبعون سنة. وفيها توفى محمد بن كرّام «3» السّجستانىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وست أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 256]
السنة الثانية من ولاية أحمد بن طولون على مصر وهى سنة ست وخمسين ومائتين- فيها وثب موسى بن بغا بالأتراك على صالح بن وصيف وطالبوه بقتل المعتز وبمال أمّه قبيحة، ووقع بينهم حروب قتل فيها صالح بن وصيف المذكور؛ ثم خلعوا الخليفة المهتدى، فقاتلهم حتى ظفروا به وقتلوه، وبايعوا المعتمد بالخلافة.
وفيها استعمل الخليفة أخاه الموفّق طلحة على المشرق، وصيّر ابنه جعفرا ولىّ عهده وولّاه مصر والمغرب، ولقّبه المفوّض إلى الله. وانهمك المعتمد فى اللهو واللذات.
واشتغل عن الرعيّة، فكرهه الناس وأحبّوا أخاه الموفّق طلحة، فغلب على الأمر حتى صار المعتمد معه كالمحجور عليه، على ما سيأتى ذكره. وفيها توفّى الحسن بن علىّ(3/24)
الإمام العابد الزاهد أبو علىّ التّنوخىّ البغدادىّ أوحد زمانه فى علوم الحقائق، وهو من كبار أصحاب سرىّ السّقطىّ، وهو أوّل من عقدت له الحلقة ببغداد. وفيها توفى الزّبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام، أبو عبد الله الأسدىّ الإمام العلامة صاحب كتاب النسب «1» ، كان عالما بالأنساب وأيام الناس، ولى قضاء مكة، وقدم بغداد وحدّث بها. وفيها كان قتل صالح بن وصيف التركى أحد قوّاد المتوكّل، كان قد استطال على الخلفاء وقتل المعتزّ وصادر أمّه قبيحة حسبما تقدّم ذكره. وفيها توفّى الإمام الحافظ الحجة أبو عبد الله محمد بن اسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة [بن الأحنف «2» ] بن بردزبه «3» البخارىّ الجعفىّ مولاهم؛ وكان المغيرة مجوسيّا فأسلم على يد يمان البخارىّ الجعفىّ. والبخارىّ الجعفىّ مولاهم؛ وكان المغيرة مجوسيّا فأسلم على يد يمان البخارىّ الجعفىّ. والبخارىّ هذا هو صاحب الصحيح، مولده يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة ومات ليلة عيد الفطر بقرية خرتنك «4» بالقرب من بخارى، وقد سمعت صحيحه بفوت «5» على سيدنا شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن البلقينيّ الشافعىّ رضي الله عنه؛ أنبأنا والدى شيخ الاسلام، أنبأنا جمال الدين عبد الرحيم بن شاهد الجيش، أنبأنا إسماعيل بن عبد القوىّ بن عزّون وأحمد بن علىّ بن يوسف وعثمان بن عبد الرحمن بن(3/25)
رشيق سماعا عليهم عن هبة الله بن علىّ البوصيرىّ ومحمد بن أحمد «1» بن حامد الأرتاحىّ، الأوّل عن محمد بن بركات، والثانى عن علىّ بن [الحسين بن «2» ] عمر الفرّاء عن كريمة بنت أحمد المروزيّة عن محمد بن مكّى الكشميهنىّ «3» عن محمد بن يوسف الفربرىّ عن الامام البخارىّ، وأخبرنى به الشيخ الأوحد أبو عبد الله محمد بن عبد الكافى السّويفىّ سماعا عليه لجميعه، أنبأنا شمس الدين محمد بن على بن الخشّاب سماعا عليه لجميعه، أنبأنا شيخان أبو العباس أحمد بن أبى طالب بن الشّحنة الحجّار وأم محمد وزيرة بنت عمر التّنوخيّة، قالا أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدىّ، أنبأنا أبو الوقت عبد الأوّل بن [أبى عبد الله] عيسى السّجزىّ، أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن ابن محمد الدّاودىّ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السّرخسىّ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربرىّ، أنبأنا الامام البخارىّ رضى الله عنه. وفيها توفى أمير المؤمنين المهتدى بالله محمد ابن الخليفة هارون الواثق ابن الخليفة محمد المعتصم ابن الخليفة الرشيد هارون الهاشمىّ العباسىّ، وكان صالحا عابدا يسرد «4» الصوم متقشّفا، لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أصلح منه، غير أنه لم يجد من ينصره، وحاربته الأتراك وخلعوه وداسوا خصيتيه وصفعوه حتى مات فى منتصف «5» شهر رجب؛ فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوما؛ وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى(3/26)
قرب. قال الخطيب أبو بكر: لم يزل صائما منذ ولى الخلافة الى أن قتل وله نحو أربعين سنة. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهرىّ. وفيها توفّى على بن المنذر الطّريقىّ «1» . وفيها توفّى محمد بن أبى عبد الرحمن.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع واثنتان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 257]
السنة الثالثة- من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة سبع وخمسين ومائتين- فيها دخل الزّنج البصرة وأباحوها وبذلوا فيها السيف، فحاربهم سعيد الحاجب واستخلص منهم كثيرا مما كانوا أسروه. وفيها عقد الخليفة المعتمد لأخيه أبى أحمد الموفّق على الكوفة والحجاز والحرمين واليمن وبغداد وواسط والبصرة والأهواز وفارس وما وراء النهر. وفيها قتل ميخائيل بن توفيل «2» ملك الروم، قتله بسيل «3» الصّقلبىّ وكان ميخائيل قد ملك أربعا وعشرين سنة. وفيها حجّ بالناس الفضل ابن إسحاق بن الحسن بن سهل «4» بن العباس العباسىّ. وفيها توفى الحسن بن عبد العزيز الحافظ أبو علىّ الجذامىّ المصرىّ، قدم بغداد وحدّث بها؛ قال الدّار قطنىّ لم أر مثله فضلا وزهدا ودينا وورعا وثقة وصدق عبارة. وفيها توفى سليمان بن معبد أبو داود النحوىّ المروزىّ، رحل فى طلب العلم إلى العراق والحجاز واليمن والشأم ومصر، وقدم بغداد وذاكر الجاحظ، ومات بها فى ذى الحجّة. وفيها توفى شهيدا بأيدى الزّنج العبّاس بن الفرج أبو الفضل الرّياشىّ النحوىّ البصرىّ مولى محمد بن(3/27)
سليمان العباسىّ، رحل فى طلب العلم، وكان من النحو واللغة والفقه والأدب والفضل بالمحلّ الأعلى، وكان من الثّقات الحفّاظ، وقرأ كتاب سيبويه على المازنىّ، فكان المازنىّ يقول: يقرأ علىّ كتاب سيبويه وهو أعلم به منّى. وفيها توفّيت فضل الشاعرة، كانت من مولّدات اليمامة «1» ، وكذا أمها، وبها ولدت؛ فربّاها بعض الفضلاء وباعها، فاشتراها محمد بن الفرج الرّخجىّ وأهداها إلى المتوكّل، ولم يكن فى زمانها أفصح منها ولا أشعر. وفيها توفى شهيدا بأيدى الزّنج زيد بن أخزم- بمعجمتين- الطائىّ الحافظ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 258]
السنة الرابعة- من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة ثمان وخمسين ومائتين- فيها عقد المعتمد على الله لأخيه الموفّق طلحة على حرب الزّنج، فندب إليهم الموفّق منصورا، فكانت وقعة بين منصور بن جعفر بن دينار وبين يحيى «2» ، فانهزم عن منصور عسكره، وساق وراءه يحيى فضرب عنقه، واستباحت الزّنج عسكره؛ فلما وصل الموفّق إلى نهر «3» معقل انهزم جيش الخبيث رأس الزّنج، ثم تراجعوا وقاتلوا جيش الموفّق حتى هزموه؛ وانحاز الموفّق وهمّ بالهروب، ثم تراجع(3/28)
وواقعهم حتى انتصر عليهم. وأسر طاغيتهم يحيى المذكور، وقتل عامّة أصحابه، وبعث بيحيى إلى المعتمد، فضربه ثم طوّف به ثم ذبحه. وفيها وقع الوباء العظيم بالعراق، ومات خلق لا يحصون. حتى مات غالب عسكر الموفّق؛ فلما وقع ذلك كتر الزّنج على الموفّق وواقعوه ثانيا أشدّ من الأوّل. ثم هزمهم الله ثانيا. وفيها كانت زلازل هائلة سقطت منها المنازل ومات خلق كثير تحت الرّدم. وفيها كانت واقعة ثالثة بين الزّنج والموفّق كانوا فيها متكافئين. وفيها توفّى أحمد بن الفرات بن خالد أبو مسعود»
الرازى الأصبهانىّ. كان أحد الأئمة الثّقات. ذكره أبو نعيم فى الطبقة السابعة وأثنى عليه. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان البصرىّ الحافظ، سكن بغداد وحدّث بها عن جدّه وغيره، وروى عنه المخاملىّ وغيره. وفيها توفى جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ، كان يقال له قاضى الثغور، وولى القضاء بسرّمن رأى، وحدّث عن أبى عاصم النبيل وغيره؛ قال أبو زرعة الرازىّ: كنت اذا رأيته هبته وأقول: هذا يصلح للخلافة. وفيها توفّى محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس أبو عبد الله النّيسابورىّ الذّهلىّ مولاهم، كان حافظّ عصره وإمام الحديث بنيسابور وصاحب الواقعة «2» مع البخارىّ صاحب الصحيح. كان أحد الأئمة الحفّاظ المتقنين؛ كان الامام أحمد بن حنبل يثنى عليه وينشر فضله ويقول: هو إمام السنة بنيسابور.
وفيها توفّى معاوية بن صالح أبو عمرو الحضرمىّ الحمصىّ قاضى الأندلس؛ أصله من(3/29)
أهل مصر؛ كان إماما عالما فاضلا محدّثا كبير الشأن. وفيها توفّى يحيى بن معاذ ابن جعفر أبو زكريا الرّازى الواعظ أحد الزهّاد أوحد وقته فى علوم الحقائق؛ وكانوا ثلاثة إخوة: يحيى وإسماعيل وإبراهيم؛ كان إسماعيل أكبرهم، ويحيى الأوسط. وفيها توفى يحيى الجلّاء، كان من الزهّاد، وصحب بشرا الحافى ومعروفا الكرخىّ وسريّا السّقطىّ. قال أحمد بن حنبل: قلت لذى النّون: لم سمّى بابن الجلّاء؟
فقال: سميناه بذلك لأنه اذا تكلّم جلا قلوبنا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع ونصف. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وخمس أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 259]
السنة الخامسة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة تسع وخمسين ومائتين- فيها كان أيضا بين الموفّق وبين الزّنج مقتلة عظيمة، ثم كان بين موسى ابن بغا وبين الزّنج أيضا مقتلة عظيمة، وقتل فيها خلق من الطائفتين. وفيها كانت وقعة بين الروم وبين أحمد بن محمد القابوسىّ على ملطية وشمشاط «1» ، ونصر الله المسلمين.
وفيها ولد عبيد الله الملقّب بالمهدىّ والد الخلفاء الفاطميّين. وفيها توفّى الحسين بن عبد السلام أبو عبد الله المصرىّ المعروف بالجمل، الشاعر المشهور، كان يصحب الشافعىّ رضى الله عنه. وفيها توفى محمد بن عمرو بن يونس أبو جعفر الثّعلبىّ،(3/30)
ويعرف أيضا بالسّوسىّ، الزاهد العابد، مات وقد بلغ من العمر مائة سنة. وفيها توفى محمد بن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع أبو الحسن القرشىّ الدمشقىّ الحافظ العالم المحدّث مصنف كتاب الطبقات. وفيها توفى الإمام أبو إسحاق إبراهيم ابن يعقوب السّعدىّ الجرجانىّ العالم المشهور. وفيها توفى أيضا أحمد بن إسماعيل السّهمىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وخمس أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 260]
السنة السادسة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة ستين ومائتين- فيها كان الغلاء المفرط بالحجاز والعراق حتى بلغ الكرّ «1» من الحنطة ببغداد مائة وخمسين دينارا. وفيها أغارت الأعراب على حمص، فخرج أميرهم منجور «2» النركى لحربهم فقتلوه، وتولى بعده حمص بكتمر التركىّ المعتمدىّ. وفيها أخذت الروم لؤلؤة «3» .
وفيها أيضا كانت وقعات عديدة بين عساكر الموفّق وبين الزّنج، وقتلت الزّنج علىّ ابن يزيد العلوىّ صاحب الكوفة. وفيها توفى إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الحافظ أبو إسحاق الجرجانىّ- المقدّم ذكره فى الماضية- على الصحيح فى هذه السنة؛ كان يسكن دمشق، ويحدّث على المنبر، وكان من الأئمة الحفّاظ، إلا أنه كان منحرفا عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وفيها توفّى أيّوب بن إسحاق بن(3/31)
إبراهيم بن مسافر، كان يسكن الرّملة، وحدّث بها وبمصر ودمشق، وكان زعر «1» الخلق. وفيها توفى الحسن بن على [بن محمد بن علىّ «2» ] بن موسى بن جعفر بن الحسين ابن على بن أبى طالب، ويقال له العسكرىّ، كنيته أبو محمد؛ وهو أحد الأئمة الاثنى عشر المعدود [ين] عند الرافضة. ومولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين بسرّمن رأى، وأمّه أمّ ولد. وفيها توفى الحسن الفلّاس العابد الزاهد، كان يتقوّت من قمام المزابل، صحبه بشر الحافى وسرىّ السّقطىّ ومعروف الكرخىّ، وانتفع به بشر الحافى. وفيها توفّى الحسن بن محمد بن الصبّاح أبو على الزعفرانىّ، أصله من قرية بالعراق يقال لها الزعفرانية، وهو صاحب الإمام الشافعى الذي قرأ عليه كتاب الأم «3» ، وروى عنه أقواله القديمة. وفيها توفّى مالك بن طوق بن غياث «4» التّغلبىّ صاحب الرّحبة «5» ؛ كان أحد الأجواد، ولى إمرة دمشق والأردنّ. وفيها توفّى موسى «6» ابن مسلم بن عبد الرحمن أبو بكر القنطرىّ، كان ينزل قنطرة البردان ببغداد «7» فنسب إليها، وكان يشبّه فى الزهد والورع ببشر الحافى.(3/32)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع أصابع ونصف.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 261]
السنة السابعة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة إحدى وستين ومائتين- فيها ولّى الخليفة المعتمد أبا السّاج إمرة الأهواز وحرب صاحب الزّنج، فكان بينه وبين الزنج حروب. وفيها بايع المعتمد بولاية العهد بعده لابنه المفوّض جعفر المذكور قبل تاريخه أيضا وولّاه المغرب والشأم والجزيرة وأرمينية، وضمّ إليه موسى بن بغا، وولّى أخاه الموفّق العهد بعد ابنه المفوّض، وولّاه المشرق والعراق وبغداد والحجاز واليمن وفارس وأصبهان والرّىّ وخراسان وطبرستان وسجستان والسّند [وضمّ «1» اليه مسرورا البلخىّ] ، وعقد لكل واحد منهما لواءين:
أبيض وأسود، وشرط إن حدث به حدث [الموت «2» ] أن الأمر يكون لأخيه الموفق «3» إن لم يكن ابنه المفوّض جعفر قد بلغ؛ وكتب العهد وأرسله مع قاضى القضاة الحسن بن أبى الشّوارب ليعلقه فى الكعبة. وفيها توفى الحافظ مسلم بن الحجّاج بن مسلم الإمام الحافظ الحجّة أبو الحسين النّيسابورىّ صاحب الصحيح، ولد سنة أربع ومائتين. قال الحسين «4» بن محمد الماسرجسىّ: سمعت أبى يقول سمعت مسلما يقول: صنّفت هذا المسند الصحيح من ثلثمائة ألف حديث مسموعة.
وقال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم فى تأليف صحيحه اثنتى عشرة سنة؛ قال:
وهو اثنا عشر ألف حديث، يعنى بالمكرّر. قلت: مات يوم الأحد ودفن(3/33)
يوم الاثنين لخمس بقين من شهر رجب. وقد روينا صحيحه عن أبى ذرّ «1» الحنبلىّ أنبأنا محمد بن إبراهيم البيانىّ سماعا أنبأنا أبو الفداء إسماعيل وعلىّ بن مسعود بن نفيس، قالا أنبأنا إبراهيم بن عمر بن مضر وأحمد بن عبد الدائم، قال ابن مضر أنبأنا منصور «2» ، وقال ابن عبد الدائم أنبأنا محمد بن على بن صدقة الحرّانىّ أنبأنا صدر «3» الدّين البكرىّ، قال البكرىّ أنبأنا المؤيّد [بن «4» محمد بن على] الطّوسىّ قال ابن عساكر إجازة قال الفراوىّ، «5» وهو فقيه الحرم، قال أنبأنا الفارسىّ «6» أنبأنا الجلودىّ «7» أنبأنا ابن سفيان «8» أنبأنا مسلم.
وفيها توفى الحسن بن محمد بن عبد الملك أبو محمد القاضى الأموىّ، ويعرف بابن أبى الشوارب، كان فقيها عالما فاضلا جوادا ذا مروءة «9» ، ولى القضاء سنين عديدة.(3/34)
وفيها توفى الشيخ الإمام المعتقد أبو يزيد البسطامىّ «1» ، واسمه طيفور بن عيسى بن شروسان، وكان شروسان «2» مجوسيّا، وكان لعيسى ثلاثة أولاد: آدم وهو أكبرهم، وطيفور هذا وهو أوسطهم [وعلىّ «3» ] ، وكان الثلاثة زهّادا عبّادا، وكان طيفور أفضل [أهل] زمانه وأجلّهم محلّا، كان له لسان فى المعارف والتدقيق، وكان صاحب أحوال وكرامات، وقد شاع ذكره شرقا وغربا. وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن يزداد «4» أبو صالح الكاتب المروزىّ، وزر أبوه للمأمون ووزر هو للمستعين والمهتدى، وكان أديبا شاعرا فاضلا جوادا ممدّحا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 262]
السنة الثامنة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة اثنتين وستين ومائتين- فيها ولى قضاء سرّ من رأى علىّ بن الحسن بن أبى الشوارب عوضا عن أبيه. وولى قضاء بغداد إسماعيل بن إسحاق القاضى. وفيها اشتغل المعتمد بقتال يعقوب بن الليث الصّفّار؛ فبعث كبير الزّنج عسكره إلى البطيحة «5» فنهبها(3/35)
وأفسد العسكر بها وأسروا وقتلوا. وفيها تعرّض رجل لامرأة ببغداد وغصبها بمكان وهى تصيح: اتّق الله وهو لا «1» يلتفت؛ فقالت: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ...
الآية ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت: اللهمّ إنّه قد ظلمنى فخذه اليك؛ فوقع الرجل ميتا.
قال ابن عون «2» الفرائضىّ: فأنا والله رأيت الرجل ميّتا، فحمل على نعش والناس يهلّلون ويكبّرون. وفيها غلب يعقوب بن الليث الصفّار على فارس، وهرب عامل المعتمد إلى الأهواز. وفيها توفّى خالد بن يزيد أبو الهيثم التّميمىّ الحراسانىّ الكاتب، أحد كتّاب الجيش ببغداد، كان فاضلا شاعرا. وفيها توفّى سعد بن يزيد أبو محمد البزّاز، كان إماما فاضلا شاعرا حافظا، روى عنه يزيد بن هارون وطبقته؛ ومات ببغداد في شهر رجب. وفيها توفى عبد الله بن الفقير «3» .
المروزىّ «4» المعتقد، كان من الأبدال «5» ، كان مقيما بقزوين، فاذا كان يوم الجمعة(3/36)
قد سلك «1» مسافة بعيدة، وكان يمشى على الماء ويقف له بحر جيحون، وكان يتقوّت بالمباحات «2» . وفيها توفى يعقوب بن شيبة «3» بن الصّلت بن عصفور أبو «4» يوسف الحافظ السّدوسىّ البصرىّ، كان إماما حافظا فقيها عالما، صنّف المسند معلّلا إلا أنه لم يتمّه، وكان يتفقّه على مذهب مالك، وسمع منه يزيد بن هارون وغيره، وكان ثقة، إلا أنه كان يقول بالوقف في القرآن، فهجره الناس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 263]
السنة التاسعة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة ثلاث وستين ومائتين- فيها سار يعقوب بن الليث الصّفّار إلى الأهواز، وأسر الأمير ابن واصل «5» ، واستولى على الأهواز. وفيها استوزر الخليفة المعتمد الحسن بن مخلد بعد موت عبيد الله «6» بن يحيى بن خاقان؛ فلما قدم موسى بن بغا إلى سامرّا هرب الحسن المذكور، فاستوزر مكانه سليمان بن وهب في ذى الحجّة. وفيها حجّ بالناس الفضل ابن إسحاق الذي حجّ بهم في الماضية. وفيها توفّى الوزير عبيد الله «7» بن يحيى بن خاقان(3/37)
ابن عرطوج أبو الحسين «1» التركىّ الوزير. وسبب موته أنه دخل ميدانا في داره يوم الجمعة لعشر خلون من ذى القعدة ليضرب الصّوالجة «2» ، وركب ولعث «3» ، فصدمه خادمه رشيق، فسقط عن دابته ميتا. وفيها توفى محمد بن محمد بن عيسى أبو الحسن البغدادىّ، ويعرف بابن أبى الورد «4» ، كان من الزهّاد الورعين. وفيها توفى الامام الحافظ محمد بن على بن ميمون الرّقّىّ العطّار إمام أهل الجزيرة؛ وفي التهذيب: توفى سنة ثمان وستين.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 264]
السنة العاشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة أربع وستين ومائتين- فيها في المحرّم خرج أبو أحمد الموفّق طلحة ومعه موسى بن بغا إلى قتال الزّنج، فلما نزلا بغداد مات موسى بن بغا، فحمل إلى سامرّا ودفن بها. وفيها فى شهر ربيع الأوّل توفّيت قبيحة أمّ الخليفة المعتزّ بسامرّاء؛ وكان الخليفة المعتمد قد أعادها من مكّة إلى سامرّا وأكرمها، وكانت أمّ ولد للمتوكّل روميّة، وكانت فائقة في الجمال، فسمّيت قبيحة من أسماء الأضداد؛ وقد تقدّم ذكر مصادرتها من قبل صالح بن وصيف وما أخذ منها من الذهب والجواهر. وفيها توفى عبيد الله ابن عبد الكريم بن يزيد بن فرّوخ الحافظ أبو زرعة الرازىّ مولى عيّاش بن مطرّف القرشىّ، ولد سنة مائتين بالرّىّ؛ وكان إماما حافظا ثقة صدوقا، وهو أحد الأئمة(3/38)
المشهورين الرحّالين لطلب الحديث، قدم بغداد وحدّث بها غير مرّة، وجالس الإمام أحمد بن حنبل وكان يحبّه ويثنى عليه. وفيها توفّى إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل ابن عمرو بن مسلم الفقيه أبو إبراهيم المزنىّ المصرىّ صاحب الشافعى، روى عنه وعن غيره، وروى عنه أبو بكر بن خزيمة والطحاوىّ «1» وغيرهما، وهو أحد الأئمة المشهورين، وتفقّه به جماعة، وصنّف التصانيف، منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، ومختصر المختصر؛ ولمّا قدم القاضى بكّار بن قتيبة على قضاء مصر وهو حنفىّ، اجتمع به المزنىّ، فسأله رجل من أصحاب بكّار وقال «2» : قد جاء في الأحاديث تحريم النبيذ وتحليله، فلم قدّمتم التحريم على التحليل؟ فقال المزنىّ: لم يذهب أحد إلى تحريم النهيذ في الجاهلية ثم حلّل لنا، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا فحرّم، فهذا يعضد أحاديث التحريم. فاستحسن القاضى بكار ذلك منه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانى أذرع واثنتا عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.(3/39)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 265]
السنة الحادية عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة خمس وستين ومائتين- فيها خرج صاحب الترجمة أحمد بن طولون من مصر الى الشأم في المحرّم، وتوجّه إلى أنطاكية وحصر بها صاحبها سيما «1» الطويل، ولم يزل مقيما عليها بآلات الحصار إلى أن أخذ أنطاكية وقتل سيما الطويل المذكور، ثم عاد الى مصر. وفيها أمر الموفّق بحبس سليمان بن وهب وابنه عبد الله فحبسا، وأخذ أموالهما وعقارهما، ثم صولحا على تسعمائة ألف دينار. وفيها استوزر الخليفة المعتمد إسماعيل ابن بلبل. وفيها مات يعقوب بن الليث الصفّار بالأهواز، وخلفه «2» أخوه عمرو بن الليث؛ فكتب عمرو بن الليث إلى المعتمد بأنه سامع مطيع. وفيها بعث. ملك الروم بعبد الله بن رشيد بن كاوس، الذي كان عامل الثغور وأسره الروم، إلى أحمد بن طولون مع عدّة أسارى. وفيها خرج العبّاس بن أحمد بن طولون إلى برقة مخالفا لأبيه، وكان أبوه قد استخلفه على مصر لمّا توجّه إلى حصار سيما الطويل بأنطاكية، وأخذ معه العبّاس ما في بيت مال مصر من الأموال وما كان لأبيه من الآلات وغيرها «3» وتوجّه إلى برقة؛ فوجّه أبوه أحمد بن طولون خلفه جيشا فقاتلوه حتى ظفروا به، وأحضروه إلى أبيه فحبسه، وقتل جماعة من القوّاد الذين كانوا معه. وفيها دخل الزّنج النّعمانية «4» فأحرقوا سوقها وأكثر منازل أهلها وقتلوا وسبوا. وفيها ولّى الموفّق عمرو بن الليث الصفّار خراسان وكرمان وفارس وأصبهان وسجستان. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد(3/40)
ابن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمىّ. وفيها توفّى إبراهيم بن هانئ الحافظ أبو إسحاق النّيسابورىّ، كان أحد أئمة الحديث الرّحّالة، واختفى أحمد «1» بن حنبل في داره أيام المحنة. وفيها توفّى سعدان «2» بن نصر بن منصور أبو عثمان الثّقفىّ البزّاز، ولد سنة اثنتين وسبعين ومائة، وسمع سفيان بن عيينة وغيره، وكان أديبا شاعرا، مات في ذى الحجة «3» .
وفيها توفى صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو الفضل الشّيبانىّ، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في [شهر] ربيع الآخر، وولى قضاء أصبهان، وكان صدوقا كريما جوادا ورعا. وفيها توفى عبد الله بن محمد بن أيّوب أبو محمد الزاهد الورع، سئل قضاء بغداد فامتنع. وفيها توفّى علىّ بن الموفّق العابد، كان صاحب كرامات وأحوال، وكان محدّثا ثقة صدوقا. وفيها توفى عمرو «4» بن مسلم الشيخ المعتقد أبو حفص النّيسابورىّ، كان من الأبدال مجاب الدعوة، مات في [شهر] ربيع الأوّل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 266]
السنة الثانية عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة ست وستين ومائتين- فيها دخل علىّ بن أبان «5» مقدّم الزّنج الأهواز فقاتله أغرتمش «6»(3/41)
التركىّ فانتصر الخبيث على أغرتمش المذكور وقتل ونهب وبعث برءوس القتلى ونصبها على سور مدينته. وفيها وثب الأعراب على الحجّاج وأخذوا الكسوة، وصار بعضهم إلى صاحب الزّنج، وأصاب الحجّ شدة عظيمة. وفيها دخل أصحاب الزنج رامهرمز «1» واستباحوها. وفيها كانت بين الأكراد والزّنج وقعة ظهر فيها [الزّنج] «2» فى الأوّل ثم كان النصر للأكراد على الزنج، وأعمل فيهم السيف، ولله الحمد والمنّة. وفيها توفى محمد بن شجاع الحافظ أبو عبد الله الثّلجىّ البغدادىّ الفقيه الحنفىّ أحد الأعلام، قرأ القرآن على اليزيدىّ، وروى الحروف عن يحيى بن آدم، وتفقّه على الحسن بن زياد اللؤلؤيّ وغيره، وصار إمام عصره، وبه تخرّج غالب علماء عصره. وفيها توفى حمّاد [ابن «3» الحسن] بن عنبسة الورّاق العالم المشهور. وفيها توفى محمد بن عبد الملك الدّقيقىّ «4» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 267]
السنة الثالثة عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة سبع وستين ومائتين- فيها دخلت الزّنج واسطا واستباحوها وأحرقوا فيها، فجهّز الموفّق(3/42)
ابنه أبا العباس لحربهم في جيش عظيم، فكانت بينه وبينهم وقعة عظيمة انهزم فيها الزنج، وقتل أبو العباس فيهم مقتلة عظيمة وأسر جماعة، وفرّقهم وغرّق مراكبهم فى الماء، فكان ذلك أوّل نصر المسلمين على الزنج؛ ثم كان بعد ذلك في هذه السنة أيضا عدّة وقائع بين الزنج وبينه والجميع ينتصر فيها أبو العباس بن الموفّق. وفيها بنى الموفّق مدينة بإزاء مدينة صاحب الزنج، وسمّاها الموفّقيّة. وفيها وثب صاحب الترجمة أحمد ابن طولون على أحمد [بن محمد «1» ] بن المدبّر، وكان أحمد [بن محمد] بن المدبر متولى خراج دمشق والأردنّ وفلسطين، وحبسه وأخذ أمواله، ثم صالحه على سمّائة ألف دينار.
وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد بن إسحاق العباسىّ. وفيها توفّى على بن الحسن «2» بن موسى بن ميسرة الهلالىّ النّيسابورىّ الدّرابجردىّ- ودرابجرد محلة بنيسابور- كان من أكابر علماء نيسابور وابن عالمهم، وله مسجد بدرابجرد «3» يقصد للزيارة، وقيل: إنه روى عنه البخارىّ ومسلم وغيرهما، وكان ثقة صدوقا فاضلا، وجد فى مسجده ميتا بعد أسبوع ولم يعلموا به، وقيل: أكله الذئب «4» . وفيها توفّى محمد بن حمّاد بن بكر المقرئ صاحب خلف بن هشام، كان أحد القرّاء المجوّدين وعباد الله الصالحين. وفيها توفّى شهيدا يحيى بن محمد بن يحيى أبو زكرياء الذّهلىّ إمام أهل نيسابور في الفتوى والرياسة، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، وهو ابن صاحب الواقعة مع محمد بن إسماعيل البخارىّ.(3/43)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع أصابع ونصف.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 268]
السنة الرابعة عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة ثمان وستين ومائتين- فيها غزا خلف الفرغانىّ التركىّ، نائب أحمد بن طولون، ثغور الشام، فقتل من الروم بضعة عشر ألفا، وغنم حتى بلغ السهم أربعين دينارا. وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستانىّ «1» الخارج بخراسان، قتله غلمانه «2» فى آخر السنة.
وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على أحمد بن طولون، وكاتب الموفّق بالقدوم عليه. ولؤلؤ المذكور من موالى أحمد بن طولون. وفيها توفّى أحمد بن سيّار بن أيوب الحافظ أبو الحسن المروزىّ إمام أهل الحديث بمرو، كان جمع بين الحديث والفقه والورع والزهد، وكان يقاس بعبد الله بن المبارك، وقد روى عنه أئمة خراسان: البخارىّ وغيره.
وأخرج له النّسائىّ، واتفقوا على صدقه وثقته. وفيها توفّى أنس بن خالد بن عبد الله ابن أبى طلحة بن موسى بن أنس بن مالك الأنصارىّ، كان إماما حافظا، روى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل وغيره. وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله فقيه أهل مصر ومحدّثهم، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومات بمصر فى ذى القعدة وصلّى عليه القاضى بكّار، وكان يعرف بصاحب الشافعىّ لأنه أسند عنه، وكان مالكىّ المذهب، وامتحن بعد أن حمل إلى بغداد فثبت على السنّة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.(3/44)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 269]
السنة الخامسة عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر وهى سنة تسع وستين ومائتين- فيها قطعت الأعراب الطريق على [قافلة من «1» ] الحاجّ، وأخذت خمسمائة جمل بأحمالها. وفيها وثب خلف الفرغانىّ التركىّ عامل أحمد بن طولون، على يازمان «2» خادم الفتح «3» بن خاقان وحبسه بالثغور، فخلّصه الجند وهمّوا بقتل خلف، فهرب إلى دمشق؛ فاتفقوا ولعنوا أحمد بن طولون على المنابر. فبلغ ابن طولون، فسار من مصر حتى نزل أذنة وقد تحصّن بها يا زمان المذكور؛ فأقام ابن طولون مدّة على حصاره فلم ينل منها طائلا، فعاد إلى دمشق. وفيها استولى الموفّق على مدينة صاحب الزّنج ودخلها عنوة. وفيها توفى أحمد بن عبد الله بن القاسم الحافظ أبو بكر الورّاق على الصحيح؛ حدّث عن عبد الله بن معاذ العنبرىّ وغيره، وروى عنه «4» [أبو] سعيد بن الأعرابىّ وغيره. وفيها توفّى الحسن بن مخلد بن الجرّاح أبو محمد الكاتب الوزير، ولد سنة تسع ومائتين، وكان يتولّى ديوان الضّياع للمتوكّل جعفر، واستوزره المعتمد. وفيها توفّى «5» خالد بن أحمد بن عمرو الأمير أبو الهيثم الذّهلىّ، ولى إمرة مرو وهراة «6» وبخارى «7» وغيرها؛ وكان من أهل السنّة، وله أيام مشهورة وأمور(3/45)
محمودة. قال ابن قزأوغلى في تاريخه: وهو الذي نفى البخارىّ عن بخارى لمّا قال:
لفظى بالقرآن مخلوق؛ وكان يحبّ العلماء والحديث؛ أنفق في طلب الحديث والعلم ألف ألف درهم. وفيها توفّى عيسى بن الشيخ بن السّليل «1» أبو موسى الذّهلىّ الشّيبانىّ.
كان غلب على دمشق أيام المهتدى وأوّل أيام المعتمد. وفيها توفّى محمد بن إبراهيم أبو حمزة «2» الصّوفىّ البغدادىّ أستاذ البغداديين، وهو أوّل من تكلم في هذه المذاهب: من صفاء الذكر وجمع الهمّ والمحبّة والعشق والأنس، لم يسبقه إلى الكلام بهذا على رءوس المنابر ببغداد أحد؛ كان عالما بالقراءات، وجالس الإمام أحمد بن حنبل؛ وكان الإمام أحمد إذا جرى في مسألة «3» شىء من كلام القوم يلتفت إليه ويقول: ما تقول في هذه المسألة يا صوفىّ. وصحب سريّا السّقطىّ والجنيد وحسنا المسوحىّ «4» وغيرهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 270]
السنة السادسة عشرة من ولاية أحمد بن طولون على مصر، وهى سنة سبعين ومائتين، أعنى التى مات فيها أحمد بن طولون المذكور- فيها كانت أيضا(3/46)
وقائع بين الموفّق طلحة وبين صاحب الزّنج، قتل في آخرها صاحب الزنج علىّ «1» ، لعنه الله تعالى. وفيها انشقّ ببغداد [فى «2» ] الجانب الغربىّ شقّ من نهر عيسى، فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار. وفيها ظهر أحمد بن عبد الله بن إبراهيم العلوىّ بصعيد مصر وتبعه خلق كثير، فجهّز إليه أحمد بن طولون جيشا، فكانت بينهم حروب حتى ظفر أصحاب ابن طولون به، فحملوه إليه فقتله ومات بعده بيسير. وفيها بنى أحمد ابن طولون على قبر معاوية بن أبى سفيان أربعة أروقة، ورتّب عند القبر أناسا يقرءون القرآن ويوقدون الشموع عند القبر. وفيها توفّى إسماعيل بن عبد الله بن ميمون ابن عبد الحميد بن أبى الرجال الحافظ أبو نصر «3» العجلىّ، سمع خلقا كثيرا، وروى عنه غير واحد، وكان ثقة شاعرا فصيحا، ومات وله أربع وثمانون سنة. وفيها توفّى القاضى بكّار بن قتيبة بن عبد الله، وقيل: قتيبة بن أسد، بن [أبى «4» ] بردعة بن عبيد الله [ابن بشير «5» بن عبيد الله] بن أبى بكرة الثّقفىّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكنية القاضى بكّار هذا أبو بكرة، القاضى البصرىّ الحنفىّ؛ ولد بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومائة، وهو أحد الأئمة الأعلام، كان عالما فقيها محدّثا صالحا ورعا عفيفا ثقة، مات وهو أعلم أهل زمانه بالديار المصرية. وفيها توفّى داود بن علىّ بن خلف أبو سليمان الظاهرىّ صاحب مذهب الظاهرية «6» المعروف بداود الظاهرىّ، وهو أوّل من نفى القياس في الأحكام الشرعية وتمسّك بظواهر النصوص؛ وأصله من أصبهان،(3/47)
وسمع الكثير ولقى الشيوخ وتبعه خلق كثير، وقدم بغداد وصنّف بها الكتب، وتوفّى بها في رمضان، وقيل: فى ذى القعدة. وفيها توفّى الرّبيع بن سليمان بن عبد الجبّار ابن كامل أبو محمد المرادىّ الفقيه صاحب الشافعىّ رضى الله عنه، نقل عنه معظم أقاويله، وكان فقيها فاضلا ثقة ديّنا، مات بمصر في شوّال وصلّى عليه صاحب مصر خمارويه ابن أحمد بن طولون. وفيها توفى عبد الله بن محمد بن شاكر أبو البخترىّ العنبرىّ الكوفىّ، كان محدّثا فاضلا، قدم بغداد وحدّث بها. وفيها توفّى علىّ بن محمد صاحب الزّنج وقائدهم، وقيل: اسمه نهيود، وهو صاحب الوقائع المقدّم ذكرها مع الموفّق وعساكره؛ وكانت مدّة إقامته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام، ولقى الناس منه في هذه المدّة شدائد؛ قال الصّولىّ: قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف ما بين شيخ وشابّ وذكر وأنثى، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان له منبر في مدينته يصعد عليه ويسبّ عثمان وعليّا ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم، وهذا هو رأى الخوارج الأزارقة- لعنة الله عليهم- واستراح المسلمون بموته كثيرا، ولله الحمد، وفيها توفّى الفضل بن عبّاس بن موسى الأستراباذىّ، سمع «1» أبا نعيم وروى عنه أبو نعيم عبد الملك بن عدىّ، كان فقيها فاضلا مقبول القول عند الخاصّ والعامّ. وفيها توفى محمد [بن اسحاق «2» ] بن جعفر الحافظ أبو بكر الصّغانىّ، رحل في طلب الحديث، وسمع الكثير، ولقى الشيوخ وكتبوا عنه. وفيها توفى محمد «3» بن الحسين بن المبارك أبو جعفر، ويعرف بالأعرابىّ،(3/48)
روى عنه ابن صاعد وغيره. وفيها توفى محمد بن مسلم «1» بن عثمان الرازىّ، ويعرف بابن وارة، كان أحد الحفّاظ الرحّالين والعلماء المتقنين مع الدّين والورع والزهد.
وفيها توفّى نصر بن الليث بن سعد أبو منصور البغدادىّ الورّاق، أخرج له الخطيب حديثا يرفعه إلى عثمان بن عفّان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية خمارويه على مصر
هو خمارويه وقيل خمار بن أحمد بن طولون، التركىّ، السّامرّىّ المولد، المصرىّ الدار والوفاة، تقدّم التعريف بأصله في ترجمة أبيه أحمد بن طولون؛ الأمير أبو الجيش خمارويه ملك مصر والشأم والثغور بعد موت أبيه بمبايعة الجند له في يوم الأحد العاشر من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين. وعند ما ولىّ إمرة مصر أمر «2» بقتل أخيه العباس الذي كان في حبس أبيه أحمد بن طولون لامتناع العبّاس من مبايعة خمارويه هذا، فقتل. وأمّ خمارويه أمّ ولد يقال لها ميّاس، ولد بسرّمن رأى فى سنة خمس وخمسين ومائتين.
وأوّل ما ملك مصر عقد لأبى عبد الله أحمد [بن محمد «3» ] الواسطىّ على جيش «4» إلى الشأم لستّ خلون من ذى الحجّة سنة سبعين ومائتين المذكورة؛(3/49)
وعقد لسعد الأيسر «1» على جيش آخر؛ وبعث بمراكب في البحر لتقيم بالسواحل الشاميّة؛ فنزل الواسطىّ فلسطين وهو خائف من خمارويه أن يوقع به، لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العبّاس؛ فكتب الواسطىّ إلى أبى «2» أحمد الموفّق يصغّر أمر خمارويه عنده ويحرّضه على المسير إلى قتاله، فأقبل ابن الموفّق من بغداد، وقد انضم إليه إسحاق بن كنداج ومحمد بن [ديوداد «3» ] أبى السّاج، ونزل الرّقّة فتسلّم قنّسرين والعواصم- وكان خمارويه جميع الشام والثغور داخلة في سلطانه- ثم سار ابن الموفّق حتى قاتل أصحاب خمارويه وهزمهم ودخل دمشق؛ فخرج خمارويه فى جيش عظيم لعشر خلون من صفر سنة إحدى وسبعين ومائتين؛ فالتقى مع ابن الموفّق بنهر أبى فطرس «4» المعروف بالطواحين «5» من أرض فلسطين، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارويه، وكان خمارويه في سبعين ألفا، وابن الموفّق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه. ومضى خمارويه عائدا إلى مصر مهزوما، فخرج كمين كان له مع سعد الأيسر ولم يعلم سعد أنّ خمارويه انهزم؛ فحارب سعد الأيسر ابن الموفّق حتى هزمه وأزاله عن عسكره اثنى عشر ميلا. [ورجع «6» أبو العباس إلى(3/50)
دمشق فلم تفتح له] . ثم مضى سعد الأيسر الى دمشق، وطمع في البلاد الشامية واستخفّ بخمارويه وغيره، ثم استولى على دمشق.
ووصل خمارويه إلى مصر في ثالث شهر ربيع الأوّل من السنة، ولم يعلم ما وقع لسعد الأيسر؛ فلمّا بلغه خبره خرج ثانيا إلى دمشق لسبع «1» بقين من شهر رمضان من السنة فوصل إلى فلسطين، ثم عاد بعساكره من غير حرب لأمور وقعت فى ثامن عشر شوّال؛ واستمرّ بمصر إلى أن خرج ثالثا إلى الشام في ذى القعدة سنة اثنتين وسبعين ومائتين. وقد خرج سعد الأيسر عن طاعته من يوم الواقعة، فقاتل سعدا الأيسر المذكور وهزمه وظفر به وقتله، ودخل دمشق وملكها في سابع المحرّم من سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وأقام بها أياما؛ ثم سار لقتال ابن كنداج فتقاتلا، فكانت الهزيمة أوّلا على خمارويه وانهزم جميع أصحابه وثبت «2» هو في طائفة [من حماته «3» ] ، وقاتل ابن كنداج المذكور حتّى هزمهم وتبعهم بأصحابه حتى وصلت أصحاب خمارويه إلى سرّ من رأى بالعراق؛ وعظم أمر خمارويه في هذه الوقعة وهابته الناس.
ثم كتب خمارويه إلى أبى أحمد الموفّق طلحة «4» فى الصلح، فأجابه أخو الخليفة الموفّق لذلك؛ وكتب لخمارويه بولايته على مصر والشام جميعه والثغور ثلاثين سنة؛ وقدم بالكتاب بعض خدّام الموفّق إلى الشام في شهر رجب، وعرّفه الخادم أنّ الكتاب كتبه الخليفة المعتمد وأخوه الموفّق وابنه بأيديهم تعظيما لخمارويه، فسرّ خمارويه بذلك، وعاد إلى مصر في أواخر رجب المذكور، وأمر بالدعاء لأبى أحمد الموفّق(3/51)
المذكور بعد الخليفة وترك الدعاء عليه؛ فإنه كان يدعى عليه بمصر من مدّة سنين من أيام إمارة أبيه أحمد بن طولون من يوم وقّع بين الموفّق وبين أحمد بن طولون، وخلع ابن طولون الموفّق من ولاية عهد الخلافة، وأمر القاضى بكّار بن قتيبة بخلعه فلم يوافقه بكّار على ذلك، فحبسه أحمد بن طولون بهذا المقتضى. وقد ذكرنا ذلك كلّه في آخر ترجمة أحمد بن طولون.
ولما اصطلح خمارويه مع الموفّق عظم أمره وسكنت الفتنة، فإنه كان في كل قليل يخرج العساكر المصريّة لقتال عسكر الموفّق، فلما اصطلحا زال ذلك كلّه؛ وأخذ خمارويه في إصلاح ممالكه، وولّى بمصر على المظالم [محمد «1» بن] عبدة بن حرب. ثم بلغ خمارويه مسير محمد بن [ديوداد] أبى السّاج الى أعماله بمصر، فخرج بعساكره في ذى القعدة ولقيه بثنيّة «2» العقاب في دمشق، وقاتله واشتدّ الحرب بين الفريقين وانكسر عساكر خمارويه، فثبت هو مع خاصّته على عادته وقاتل ابن أبى الساج حتى هزمه أقبح هزيمة، وقتل في أصحابه مقتلة عظيمة وأسروغنم، وعاد الى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرين جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين؛ فأقام بمصر مدّة يسيرة وخرج الى الإسكندرية في رابع شوّال، ثم عاد إلى مصر بعد مدّة يسيرة فأقام بها قليلا؛ ثم خرج الى الشام في سنة سبع وسبعين ومائتين لأمر اقتضى ذلك، وعاد بعد أيام إلى الديار المصريّة، فورد عليه الخبر بها بموت الموفّق فى سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ ثم ورد عليه الخبر في سنة تسع وسبعين ومائتين بموت الخليفة المعتمد؛ وبويع بالخلافة المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفّق طلحة بعد عمّه المعتمد؛ فبعث خمارويه إلى المعتضد بهدايا وتحف، فسأله أن يزوّج(3/52)
ابنته قطر الندى «1» لولده المكتفى بالله؛ فقال المعتضد: بل أنا أتزوّجها، فتزوّجها فى سنة إحدى وثمانين ومائتين، ودخل بها ببغداد في آخر العام، وأصدقها ألف ألف درهم. يقال. إنّ المعتضد أراد بزواجها أن يفقر أباها خمارويه في جهازها؛ وكذا وقع، فإنّه جهّزها بجهاز عظيم يتجاوز الوصف، حتى قيل: إنّه دخل معها فى جملة جهازها ألف هاون من الذهب. ولما تصاهر خمارويه مع المعتضد زالت الوحشة من بينهما، وصار بينهما مودّة كبيرة. وولّاه المعتضد من الفرات إلى برقة ثلاثين سنة؛ وجعل إليه الصّلاة والخراج [والقضاء «2» ] بمصر وجميع الأعمال، على أنّ خمارويه يحمل إلى المعتضد في العام مائتى ألف دينار عما مضى، وثلثمائة ألف دينار عن المستقبل. ثم قدم بعد ذلك رسول المعتضد إلى خمارويه بالخلع وكانت اثنتى عشرة خلعة وسيفا وتاجا ووشاحا. انتهى ما سقناه من وقائع خمارويه. ولا بدّ من ذكر شىء من أحواله وما جدّده في الديار المصرية من شعار الملك في أيام إمرته بها.
ولما ملك خمارويه الديار المصريّة بعد موت أبيه أحمد بن طولون أقبل على عمارة قصر أبيه وزاد فيه محاسن كثيرة؛ وأخذ الميدان الذي كان لأبيه المجاور للجامع فجعله كلّه بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، وحمل إليه كلّ صنف من الشجر المطعّم وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النّحاس وأجسام النخل مزاريب الرّصاص، وأجرى فيها الماء المدبّر؛ فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء فينحدر الى(3/53)
فساقىّ معمولة، ويفيض الماء منها إلى مجار تسقى سائر البستان؛ وغرس «1» فى أرض البستان من الرّيحان المزروع في زىّ نقوش معمولة وكتابات مكتوبة، يتعاهدها البستانىّ بالمقاريض حتى لا تزيد ورقة على ورقة لئلا يشكل ذلك على القارئ،
وحمل إلى هذا البستان النخل من خراسان وغيرها؛ ثم بنى في البستان برجا من الخشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، وطعّمه ليقوم هذا البرج مقام الأقفاص؛ وبلّط أرضه وجعل فيه أنهارا لطافا يجرى فيها الماء المدبّر من السواقى؛ وسرّح في البرج من أصناف الفمارىّ والدّباسىّ «2» والنوبيات «3» وما أشبهها من كلّ طائر يستحسن صوته، وأطلقها بالبرج المذكور، فكانت تشرب وتغتسل من تلك الأنهار؛ وجعل في البرج أوكارا في قواديس لطيفة ممكّنة في جوف الحيطان ليفرخ الطيور فيها؛ وعارض لها فيه عيدانا ممكّنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح؛ وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحو ذلك شيئا كثيرا. ومل في هذا البستان مجلسا له سمّاه دار الذهب، طلى حيطانه كلّها بالذهب واللّازورد في أحسن نقش؛ وجعل في حيطانه مقدار قامة ونصف صورا بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه والمغنيات اللاتى تغنّيه(3/54)
فى أحسن تصوير وأبهج تزويق؛ وجعل على رءوسهنّ الأكاليل من الذهب والجواهر المرصّعة، وفي آذانها الأخراص «1» الثّقال؛ ولوّنت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا القصر من أعجب ما بنى في الدنيا.
وجعل بين يدى هذا القصر فسقيّة ملأها زئبقا. وسبب ذلك أنه اشتكى إلى طبيبه كثرة السهر وعدم النوم، فأشار عليه بالتكبيس، فأنف من ذلك وقال: لا أقدر على وضع يد أحد علىّ؛ فقال له الطبيب: تأمر «2» بعمل بركة من زئبق، فعمل البركة المذكورة، وطولها خمسون ذراعا في خمسين ذراعا عرضا وملأها من الزئبق، فأنفق فى ذلك أموالا عظيمة؛ وجعل في أركان البركة سككا من فضة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من فضّة، وعمل فرشا من أدم يحشى «3» بالريح حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شدّه، ويلقى على تلك البركة الزئبق ويشدّ بالزنانير الحرير التى فى حلق الفضة المقدّم ذكرها، وينزل خمارويه فينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتجّ ويتحرّك بحركة الزئبق ما دام عليه. وكانت هذه البركة من أعظم الهمم الملوكيّة العالية؛ وكان يرى لها في الليالى المقمرة منظر عجيب إذا تألّف نور القمر بنور الزئبق.
قال القضاعىّ: ولقد أقام الناس مدّة طويلة بعد خراب هذا القصر يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة.(3/55)
ثم بنى خمارويه في القصر أيضا قبّة تضاهى قبة الهواء سماها الدّكة، وجعل لها السّتر الذي يقى الحسرّ والبرد فيسدل حيث شاء ويرفع متى أحبّ؛ وكان كثيرا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان والصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة. ثم بنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه. وبنى أيضا في داره المذكورة دارا للسباع وعمل فيها بيوتا كل بيت لسبع لم يسع البيت غير السبع ولبؤته، وعمل لتلك البيوت أبوابا تفتح من أعلاها بحركات، ولكلّ بيت منها طاقة صغيرة يدخل منها الرجل الموكّل بخدمة ذلك البيت لفرشه بالرمل؛ وفي جانب كل بيت حوض من الرّخام بميزاب من نحاس يصبّ فيه «1» الماء، وبين يدى هذه البيوت رحبة فسيحة كالقاعة فيها رمل مفروش، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصبّ فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس من سوّاس «2» بعض السباع المذكورة [أن] ينظّف بيت ذلك السبع أو يضع له غذاءه من اللحم، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت وصاح على السبع يخرج الى الرحبة المذكورة؛ ثم يردّ الرجل الباب وينزل الى البيت من الطاقة ويكنسه ويبدّل الرمل بغيره من الرمل النظيف، ويضع غذاءه من اللحم فى مكانه بعد ما يقطّع اللحم قطعا ويغسل الحوض ويملؤه ماء، ثم يخرج الرجل ويرفع الباب من أعلاه كما فعل أوّلا، وقد عرف السبع ذاك، فحالما يرفع الباب دخل السبع الى بيته وأكل ما هيّئ له من اللحم؛ فكانت هذه الرحبة فيها عدّة سباع ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع فتخرج الى الرحبة المذكورة وتشمّس فيها ويهارش بعضها بعضا فتقيم، يوما كاملا إلى العشىّ وخمارويه وعساكره تنظر إليها؛ فإذا كان العشىّ يصيح(3/56)
عليها السّوّاس فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتعدّاه إلى غيره. وكان من جملة هذه السباع سبع أزرق العينين يقال له «1» له" زريق" قد أنس بخمارويه وصار مطلقا فى الدار لا يؤذى أحدا وراتبه على عادة السباع، فلا يلتفت إلى غذائه بل ينتظر سماط خمارويه، فإذا نصبت المائدة أقبل زريق معها وربض بين يدى خمارويه، فيبقى خمارويه يرمى إليه بيده الدّجاجة بعد الدجاجة والقطعة «2» الكبيرة من اللحم ونحو ذلك مما على المائدة؛ وكانت له لبؤة لم تأنس بالناس كما أنس هو، فكانت محبوسة فى بيت وله وقت معروف يجتمع بها [فيه «3» ] ، وكان إذا نام خمارويه جاء زريق وقعد ليحرسه، فإن كان [قد «4» ] نام على سريره ربض بين يدى السرير وجعل يراعيه ما دام نائما، وإن نام خمارويه على الأرض قعد قريبا منه وتفطّن لمن يدخل أو يقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة؛ وكان في عنق زريق طوق من ذهب فلا «5» يقدر أحد أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له وحراسته إياه، حتى أراد الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق وزريق بمصر، ولو كان زريق حاضرا لما كان يصل إلى خمارويه أحد. فما شاء الله كان.
وكان خمارويه أيضا قد بنى دارا جديدة للحرم من أمّهات أولاد أبيه [مع «6» أولادهنّ وجعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده] وجعل فيها لكل واحدة حجرة واسعة، لتكون «7» لهم بعد زوال دولتهم، وأقام لكلّ حجرة من الخدم(3/57)
والأسمطة الواسعة ما كان يفضل عن أهلها منه شىء كثير؛ وكان الخدم الموكّلون بالحرم من الطبّاخين وغيرهم يفضل لكلّ منهم مع كثرة عددهم الشيء الكثير من الدّجاج ولحم الضأن والحلوى والقطع الكبار من الفالوذج «1» والكثير من اللّوزينج «2» والقطائف «3» والهبرات «4» من العصيدة التى تعرف اليوم بالمأمونية وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار؛ واشتهر بمصر بيع الخدم لذلك؛ فكان الناس يأتونهم لذلك من البعد ويشترون منهم ما يتفكّهون به من الأنواع الغريبة من المأكل؛ وكان هذا دواما في كلّ وقت بحيث إنّ الرجل إذا طرقه ضيف خرج من فوره الى باب دار الحرم فيجد ما يشتريه ليتجمّل به لضيفه مما لا يقدر على عمل مثله. ثم أوسع خمارويه اصطبلاته لكثرة دوابّه فعمل لكلّ صنف من الدوابّ إصطبلا «5» حتى للجمال، ثم جعل للفهود دارا مفردة، ثم للنّمورة دارا مفردة، وللفيلة كذلك، وللزرافات كذلك؛ وهذا كان سوى الاصطبلات التى كانت في الجيزة ومثلها فى نهيا ووسيم وسفط وطهرمس؛ وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط «6» برسم الدوابّ؛ وكان للخليفة أيضا إصطبلات بمصر سوى ذلك، فيها الخيل لحلبة السباق(3/58)
وللرّباط في سبيل الله برسم الغزو، وعلى كل إصطبل وكلاء لهم الرزق السّنىّ والأموال «1» المتّسعة.
وبلغ رزق الجيش المصرىّ في أيام خمارويه في السنة تسعمائة ألف دينار؛ وكان مصروف مطبخ خمارويه في كل شهر ثلاثة وعشرين ألف دينار، وهذا سوى مصروف حرمه «2» وجواريه وما يتعلق بهنّ. وكان خمارويه قد اتّخذ لنفسه من مولّدى الحوف وسائر الضياع قوما معروفين بالشجاعة وشدّة البأس؛ لهم خلق تامّ وعظم أجسام، وأجرى عليهم الأرزاق ووسّع لهم في الغطاء، وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق وأذيّة الناس بخدمته، وألبسهم الأقبية من الحرير والديباج وصاغ لهم المناطق وقلّدهم بالسيوف المحلّاة يضعونها على أكتافهم إذا مشوا بين يديه وسمّاهم المختارة؛ فكان هؤلاء يقاتلون أمام جند خمارويه أضعاف ما يقاتله الجند. وكان إذا ركب خمارويه ومضى الحجّاب بين يديه ومشى موكبه على ترتيبه ومضت أصناف العسكر وطوائفه، تلاهم السودان وعدّتهم ألف أسود لهم درق من حديد محكمة الصنعة وعليهم أقبية سود وعمائم سود، فيخالهم الناظر إليهم بحرا أسود يسير على وجه الأرض لسواد ألوانهم [وسواد ثيابهم «3» ] ، ويصير لبريق درقهم وحلىّ سيوفهم والخوذ التى على رءوسهم من تحت العمائم زىّ بهج الى الغاية؛ فإذا مضى السودان قدم خمارويه وقد انفرد عن موكبه وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة «4» سهم، وخواصّه تحفّ به.
وكان خمارويه طويل القامة ويركب فرسا تامّا فيصير كالكوكب، إذا أقبل لا يخفى(3/59)
على أحد كأنه قطعة جبل. وكان خمارويه مهيبا «1» ذا سطوة، قد وقع في قلوب الناس أنه متى أشار إليه أحد بيده أو تكلّم أو قرب منه لحقه ما يكره؛ وكان إذا سار فى موكبه لا يسمع من أحد كلمة ولا سعلة ولا عطسة ولا نحنحة البتّة كأنّما على رءوسهم الطير؛ وكان يتقلّد في يوم العيد سيفا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزّه ويخرج الى المواضع التى لم يكن أبوه يخرج اليها كالأهرام ومدينة العقاب «2» ونحو ذلك لأجل الصيد، فإنه كان مشغوفا به، لا يكاد يسمع بسبع إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود فيدخلون الى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابته عنوة وهو سليم، فيضعونه فى أقفاص من خشب محكمة الصنعة تسع الواحد من السباع وهو قائم؛ فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص [وفيه السبع «3» ] بين يديه. وكانت حلبة السّباق فى أيّامه تقوم عند الناس مقام الأعياد لكثرة الزينة وركوب سائر الجند والعساكر بالسلاح [التامّ «4» والعدد الكاملة] ، ويجلس الناس لرؤية ذلك كما يجلسون في الأعياد.
قلت: والتشبيه أيضا بتلك الأعياد لا بأعياد زماننا هذا، فإن أعيادنا الآن كالمآتم بالنسبة لتلك الأعياد السالفة. انتهى.
وقال القضاعىّ: وكان أحمد بن طولون بنى المنظر لعرض الخيل. قال.
وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربع؛ والأربع العجائب: منها كان عرض الخيل بمصر، ورمضان بمكّة، والعيد بطرسوس، والجمعة ببغداد. ثم قال القضاعىّ: وقد ذهب اثنتان من الأربع: عرض الخيل بمصر، والعيد بطرسوس.
انتهى.(3/60)
وقال المقريزى: وقد «1» ذهبت الجمعة ببغداد بعد القضاعى بقتل هولاكو «2» للخليفة المستعصم ببغداد. وزالت شعائر الإسلام من العراق؛ [وبقيت «3» مكة شرّفها الله تعالى، وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه: إنّه من عجائب الإسلام] .
انتهى كلام المقريزى رضى الله عنه.
قلت: وما زال أمر خمارويه في تزايد إلى أن ماتت حظيّته بوران التى بنى لها القصر المعروف ببيت الذهب المقدّم ذكره، فكدّر موتها عيشه وانكسر انكسارا بان عليه. ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته قطر الندى لمّا تزوّجها الخليفة المعتضد، فجهّزها جهازا ضاهى به نعمة الخلافة. وقد ذكرنا سبب زواج الخليفة بابنته قطر الندى المذكور في أوائل ترجمته، ووعدنا بذكر جهازها في آخر الترجمة في هذا المحل.
وكان من جملة جهازها دكّة أربع قطع من ذهب عليها قبّة من ذهب مشبّك «4» فى كل عين من التشبيك قرط معلّق فيه حبّة من جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هاون من الذهب. وقال الذهبىّ: وألف هاون من ذهب. قال القضاعىّ: وعقد المعتضد النكاح على ابنته قطر الندى فحملها أبو الجيش خمارويه إلى المعتضد مع(3/61)
أبى عبد الله «1» بن الجصّاص، وحمل معها من الجهاز ما لم ير مثله ولا يسمع به.
ولما دخل إلى خمارويه ابن الجصّاص يودّعه قال له خمارويه: هل بقى بينى وبينك حساب؟ قال: لا؛ فقال خمارويه: انظر حسنا «2» ، فقال: كسر بقى من الجهاز؛ فقال خمارويه: أحضروه، فأخرج ربع طومار «3» فيه ثبت ذكر نفقة الجهاز فإذا فيه أربعمائة ألف دينار، فوهبها له خمارويه. قال محمد «4» بن علىّ الماذرائى: فنظرت فى الطومار فإذا فيه:" [و «5» ] ألف تكّة الثمن [عنها «6» ] عشرة آلاف دينار". قال القضاعىّ:
وإنما ذكرت هذا الخبر ليستدلّ به على [أشياء «7» : منها] سعة نفس أبى الجيش خمارويه؛ ومنها كثرة مال ابن الجصّاص، حتى إنّه قال: كسر بقى من الجهاز، وهو أربعمائة ألف دينار، لو لم يذكّره بذلك لم يذكره؛ ومنها: عمارة مصر في ذلك الزمان لما طلب فيها ألف تكّة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت بأهون سعى، ولو طلب اليوم خمسون لم يقدر عليها. انتهى كلام القضاعى.
قال المقريزى: ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة تكّة بعشرة دنانير إذا طلبت توجد في الحال ولا بعد شهر، إلا أن يعتنى «8» بعملها. انتهى كلام المقريزى.
ولمّا فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر النّدى أمر فبنى لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصر فيما بين مصر وبغداد. وأخرج معها خمارويه أخاه خزرج «9» بن أحمد ابن طولون في جماعة مع ابن الجصّاص، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد؛(3/62)
فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرا قد فرش، فيه جميع ما تحتاج إليه. وقد علّقت فيه الستور وأعدّ فيه كلّ ما يصلح لمثلها. وكانت في مسيرها من مصر الى بغداد على بعد الشّقة كأنّها في قصر أبيها، حتى قدمت بغداد في أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين؛ وهى سنة قتل فيها خمارويه المذكور، على ما سيأتى ذكره.
ولمّا دخل بها الخليفة المعتضد أحبّها حبّا شديدا لجمال صورتها وكثرة آدابها.
قيل: إنّه خلا بها في بعض الأيّام فوضع رأسه على ركبتها ونام، وكان المعتضد كثير التحرّز على نفسه؛ فلما نام تلطّفت به وأزالت رأسه عن ركبتها ووضعتها على وسادة، ثم تنحّت عن مكانها وجلست بالقرب منه في مكان آخر؛ فانتبه المعتضد فزعا ولم يجدها، فصاح بها فكلمته في الحال؛ فعتبها على ما فعلت من إزالة رأسه عن ركبتها، وقال لها: أسلمت نفسى لك فتركتنى وحيدا وأنا في النوم لا أدرى ما يفعل بى! فقالت «1» : يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علىّ، ولكن فيما أدّبنى به والدى خمارويه: أنى لا أجلس مع النّيام ولا أنام مع الجلوس؛ فأعجبه ذلك منها الى الغاية. قلت: لله درّها من جواب أجابته به!.
ولمّا فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى المذكورة وأرسلها إلى زوجها المعتضد بالله، تجهّز وخرج إلى دمشق بعساكره، وأقام بها إلى أن قتل على فراشه فى السنة المذكورة.
قال العلامة شمس الدين في تاريخه مرآة الزمان: كان خمارويه كثير الفساد بالخدم، دخل الحمّام مع جماعة منهم فطلب من بعضهم الفاحشة فامتنع الخادم(3/63)
حياء من الخدم؛ فأمر خمارويه أن يضرب، فلم يزل يصيح حتى مات في الحمّام، فأبغضه الخدم. وكان قد بنى قصرا بسفح قاسيون «1» أسفل من دير مرّان «2» يشرب فيه [الخمر «3» ] ، فدخل تلك الليلة الحمّام «4» فذبحه خدمه، وقيل: ذبحوه على فراشه وهربوا، وقيل غير ذلك: إنّ بعض «5» خدمه يولع بجارية له فتهدّدها خمارويه بالقتل، فاتّفقت مع الخادم على قتله. وكان ذبحه في منتصف ذى الحجة، وقيل: لثلاث خلون منه من سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وكان الأمير طغج بن جفّ معه في القصر في تلك الليلة، فبلغه الخبر فركب في الحال وتتبّع الخدم وكانوا نيّفا وعشرين خادما، فأدركهم وقبض عليهم وذبحهم وصلبهم، وحمل أبا الجيش خمارويه في تابوت من دمشق إلى مصر وصلّى عليه ابنه جيش ودفن. ويقال: إنّه دفن بالقصر إلى جانب أبى عبيدة البرانىّ «6» ؛ فرآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال:
غفر لى بالقرب من أبى عبيدة ومجاورته. انتهى كلام صاحب المرآة. وقال غيره: قتل على فراشه، ذبحه جواريه وخدمه وحمل في صندوق الى مصر.
وكان لدخول تابوته إلى مصر يوم عظيم، استقبله جواريه وجوارى غلمانه ونساء قوّاده بالصّياح وما تصنع النساء في المآتم؛ وخرج الغلمان وقد حلّوا أقبيتهم وفيهم من سوّد ثيابه وشقّها، فكانت في البلد ضجّة وصرخة حتى دفن. وكانت مدّة ملكه(3/64)
على مصر والشام اثنتى عشرة سنة وثمانية عشر يوما. وتولّى مصر بعده ابنه أبو العساكر جيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون. انتهى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 271]
السنة الأولى من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة إحدى وسبعين ومائتين- فيها دخل محمد وعلىّ ابنا الحسين «1» بن جعفر بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد المدينة، فقتلا فيها [جماعة «2» من أهلها] وجبيا الأموال وعطّلا الجمعة [والجماعة «3» ] من مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم شهرا. وفيها عزل الخليفة المعتمد على الله عمرو بن الليث الصفّار وأمر بلعنه على المنابر، وولّى عوضه خراسان محمد بن طاهر بن الحسين. ثم ولّى المعتمد على سمرقند وبخارى نصر بن أحمد بن أسد. وفيها كانت الوقعة بين أبى العباس بن الموفّق وبين خمارويه صاحب الترجمة، وهى الوقعة التى ذكرناها في أوائل ترجمة خمارويه. وفيها وثب يوسف «4» بن أبى الساج على الحجّاج، فقاتلوه وأسروه وقدموا به بغداد مقيّدا قد أشهر على جمل، وفيها توفّيت بوران بنت الوزير الحسن بن سهل زوجة الخليفة المأمون. وقصّة زواجها مع المأمون مشهورة، وكانت وفاتها في شهر ربيع الأوّل ببغداد، وقد بلغت ثمانين سنة، وكانت عظيمة الشأن متصدّقة خيّرة فطنة راوية للشعر، وكانت من أحبّ(3/65)
نساء المأمون إليه. وفيها توفى أبو حفص عمر «1» بن مسلم وقيل: ابن مسلمة الحدّاد «2» النّيسابورىّ، أصله من قرية على باب نيسابور يقال لها كورداباذ «3» على طريق بخارى.- قلت: وباذ بالتفخيم في جميع ما يأتى فيه لفظة باذ مثل فيروز باذ وكلاباذ وما أشبه ذلك، لا يصحّ معنى ذلك إلا بالتفخيم، ومتى رقّق كما يتلفّظ به أولاد العرب ذهب معنى الاسم- كان النّيسابورىّ هذا عظيم الشأن أحد السادة الأئمة من كبار مشايخ القوم، وله الكرامات المشهورة، ذكر عند «4» الجنيد فقال:
كان رجلا من أهل الحقائق. وفيها توفّى محمد بن وهب أبو جعفر العابد صاحب الجنيد؛ قال: سافرت لألقى أبا حاتم العطّار البصرىّ الزاهد فطرقت عليه بابه فقال: من؟ فقلت: رجل يقول: ربّى الله؛ ففتح الباب ووضع خدّه على الأرض وقال: طأ عليه، فهل بقى في الدنيا من يحسن أن يقول ربّى الله!. وكانت وفاته ببغداد، وتولّى الجنيد غسله وتكفينه والصلاة عليه، ودفن إلى جانب سرىّ السّقطىّ. وفيها توفّى مصعب بن أحمد بن مصعب أبو أحمد القلانسىّ «5» ، ولد ببغداد، وكان عظيم الشأن من أقران الجنيد وكان صاحب كرامات وأحوال.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة في السنة المذكورة خمس عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.(3/66)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 272]
السنة الثانية من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة اثنتين وسبعين ومائتين- فيها وقع خلاف بين أبى العبّاس بن الموفّق وبين يا زمان الخادم في طرسوس، فأخرج أهل طرسوس أبا العبّاس عنهم، فقدم الى أبيه ببغداد. وفيها دخل حمدان «1» بن حمدون وهارون الشارىّ «2» بالخوارج مدينة الموصل وصلّى الشارىّ بالناس فى الجامع. وفيها تحرّكت الزّنج بواسط وصاحوا: أنكلاى «3» يا منصور، وكان أنكلاى وسليمان بن جامع و [أبان «4» بن على] المهلّبىّ والشعرانىّ وغيرهم من قوّاد الزّنج محبوسين في بغداد في بئر «5» فتح السّعيدىّ، فكتب إليه الموفّق بأن يبعث رءوسهم ففعل، وصلبت أبدانهم على الجسر. وفيها غزا الصائفة يا زمان الخادم وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس. وفيها توفّى أحمد بن مهدىّ بن رستم الحافظ أبو جعفر الأصبهانىّ أحد الثّقات الحفّاظ الرحّالين في طلب الحديث والعلم، كان صاحب صلاة وتعبّد واجتهاد، لم يفرش له فراش منذ أربعين سنة، وأنفق على محصل العلم ثلثمائة ألف درهم، وصنّف المسند. وفيها توفّى الحسن بن إسحاق بن يزيد أبو علىّ العطّار؛ قال عبد الرّحمن بن هارون: كنّا في البحر سائرين إلى إفريقيّة فركدت علينا «6» ريح، فأرسينا «7»(3/67)
إلى موضع يقال له البرطون ومعنا «1» شخص يصطاد السمك، فاصطاد سمكة نحوا من شبر وأقل، فرأينا على صفحة أذنها اليمنى مكتوبا: «لا إله إلا الله» وفي اليسرى:
«محمد رسول الله» ، فقذفناها في البحر ومنعنا الناس أن يصطادوا من ذلك الموضع.
وفيها توفّى العلاء بن صاعد أبو عيسى البغدادىّ الكاتب، كان يتعاطى علم النجوم، فحبسه الموفّق؛ فقال لأصحابه: طالع الوقت يقتضى أنّ بعد ثلاثة عشر يوما أخرج من الحبس وأعود إلى منزلى، وكان مريضا فمات بعد ثلاثة عشر يوما في الحبس، فدفع إلى أهله ميّتا؛ قيل: إنه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام في مرضه فقال:
يا رسول الله، ادع الله «2» أن يهب لى العافية، فأعرض عنه يمينا وشمالا وهو يقول ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا أفعل؛ فقال: يا رسول الله، ولم؟
قال: لأنّ أحدكم يقول أعلّنى المرّيخ وأبرأنى المشترى. وفيها توفّى محمد بن عبد الله ابن عمّار بن سوادة أبو جعفر الفقيه المخرّمىّ «3» ، ولد سنة اثنتين وستين ومائة، وكان حافظا كثير الحديث سمع سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل وغيره. وفيها توفّى «4» محمد بن أبى داود بن عبيد الله أبو جعفر بن(3/68)
المنادى، سمع يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه البخارىّ وغيره. وفيها توفّى محمد ابن عوف بن سفيان أبو جعفر الطائىّ الحمصىّ الزاهد العابد، كان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثله. وفيها توفّى يعقوب بن سواك «1» الجيلىّ «2» الزاهد، سكن بغداد وصحب بشرا الحافى وانتفع به وكان من الأبدال.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وتسع أصابع، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 273]
السنة الثالثة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ثلاث وسبعين ومائتين- فيها وثب ثلاثة بنين لملك الروم على أبيهم فقتلوه وملّكوا «3» أحدهم عليهم. وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وبين محمد بن أبى السّاج في جمادى الأولى، فانهزم إسحاق، ثم تواقعا أيضا في ذى الحجة فانهزم إسحاق أيضا ثانيا. وفيها قبض الموفّق أخو الخليفة على لؤلؤ مولى ابن طولون الذي كان قدم عليه بالأمان من الشام، وأخذ أمواله وكانت أربعمائة ألف دينار. وفيها توفّى أحمد بن سعد «4» بن إبراهيم الزّهرىّ الجوهرىّ، كان عالما فاضلا زاهدا يعدّ من الأبدال، وهو من بيت كلّهم زّهاد وعلماء. وفيها توفّى أحمد بن العلاء أبو عبد الرّحمن القاضى الرّقّىّ، ومولده(3/69)
سنة اثنتين وتسعين ومائة، وتوفّى بمصر بعد «1» ابن أخيه أبى الهيثم بعشرين يوما، ورثاهما أخوه هلال. وفيها توفّى حنبل بن إسحاق بن حنبل ابن عمّ الإمام أحمد ابن حنبل، سمع الكثير وصنّف التاريخ، وروى عنه أبو القاسم «2» البغوىّ وغيره، وكان زاهدا عابدا. وفيها توفّى محمد بن إبراهيم بن مسلم الحافظ أبو أميّة البغدادىّ، كان رفيع القدر، إماما في الحديث، سكن طرسوس ومات في جمادى الآخرة، سمع أبا نعيم وغيره، وروى عنه أبو حاتم الرازىّ وغيره. وفيها توفى [محمد بن «3» ] عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام الأموىّ أمير الأندلس، كان فاضلا عالما فصيحا، كان يخرج الى الجهاد فيوغل في بلاد الكفّار السنة والسنتين وأكثر. ولما مات ولى بعده ابنه المنذر بن محمد. وفيها توفّى محمد بن يزيد بن ماجة الإمام الحافظ الحجّة الناقد أبو عبد الله القزوينى صاحب السّنن والتفسير والتاريخ، وهو مولى ربيعة، ولد سنة سبع ومائتين، ورحل الى مكّة والكوفة والبصرة وبغداد والشام ومصر وغيرها، وسمع الكثير، وكان صاحب فنون، مات يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان؛ وقد روينا مسنده عن الشيخ المسند رضوان بن «4» محمد العقبىّ؛ قال أخبرنا أبو إسحاق الأنبارىّ قال أخبرنا الكمال بن حبيب قال أخبرنا «5» سنقر بن(3/70)
عبد الله الزّينىّ أخبرنا الموفّق بن «1» قدامة أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد [بن «2» طاهر] المقدسىّ أخبرنا أبو منصور محمد بن الحسين أخبرنا أبو طلحة القاسم بن [أبى «3» ] المنذر حدّثنا علىّ بن إبراهيم بن سلمة القطّان حدّثنا ابن ماجة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وخمس أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 274]
السنة الرابعة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة أربع وسبعين ومائتين- فيها غزا يا زمان الخادم الروم، فأسر وقتل وسبى وعاد سالما غانما.
وفيها خرج الموفّق الى كرمان يقصد حرب عمرو بن الليث الصّفّار. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد أيضا. وفيها هجم صدّيق الفرغانى [على] سرّ من رأى فأخذ أموال التجّار ونهب دور الناس وكان يقطع الطريق، وكان الخليفة المعتمد بسرّمن رأى وأخوه الموفّق قد خرج لقتال عمرو بن الليث الصفّار. وفيها توفى أحمد بن حرب بن مسمع أبو جعفر العدل، كان من قرّاء القرآن وأحد الشهود الذين رغبوا عن الشهادة في آخر أعمارهم. وفيها توفى محمد بن عيسى بن حبّان «4» المدائنىّ في قول الذهبىّ وغيره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع أصابع.(3/71)
*** [ما وقع من الحوادث سنة 275]
السنة الخامسة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة خمس وسبعين ومائتين- فيها بعث الموفّق جيشا إلى نواحى سرّ من رأى مع الطائىّ، فأخذ صدّيقا الفرغانىّ اللصّ فقطعوا يديه ورجليه وأيدى أصحابه وأرجلهم، وحملوا إلى بغداد على تلك الصورة. وفيها أيضا غزا يا زمان الخادم البحر فأخذ عدّة مراكب للروم. وفيها في شوّال حبس الموفّق ابنه أبا العباس- وأبو العباس هذا هو الذي يلى الخلافة بعد ذلك ويتلقّب بالمعتضد ويتزوّج بقطر النّدى بنث خمارويه صاحب الترجمة- وقد تقدّم ذكر جهازها في أوّل هذه الترجمة- ولما أمسك الموفّق ابنه أبا العباس المذكور تشغّب أصحابه وحملوا السلاح، فركب الموفّق وصاح بأصحاب أبى العباس: ما شأنكم! أترون أنكم «1» أشفق على ولدى منّى! فوضعوا السلاح وتفرّقوا. وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمىّ أيضا. وفيها توفى أحمد بن محمد بن الحجاج الفقيه أبو بكر المرّوذىّ «2» صاحب الإمام أحمد بن حنبل، كان أبوه خوارزميّا وأمه مرّوذية، وكان مقدّما في أصحاب الإمام أحمد لورعه وفضله. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن غالب بن خالد أبو عبد الله البصرىّ الباهلىّ ويعرف بغلام خليل، سكن بغداد وحدّث بها، وكان من الأبدال، يسرد «3» الصوم دائما. وفيها توفّى سعد الأيسر، كان أمير دمشق وكان عادلا وكان من خواصّ أحمد بن طولون، وهو الذي هزم أبا العباس أحمد بن الموفّق لما حارب خمارويه حسبما ذكرناه، وكان سعد يقول عن خمارويه: هذا الصبىّ مشغول باللهو وأنا أكابد الشدائد؛ فبلغ خمارويه(3/72)
فخرج إلى الرّملة واستدعاه، فلما قدم عليه قتله بيده؛ وبلغ أهل دمشق ذلك فغضبوا ولعنوا خمارويه. وفيها توفى سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدّاد بن عمرو ابن عمران أبو داود السّجستانى الأزدىّ الإمام الحافظ الناقد صاحب السّنن.
مولده سنة اثنتين ومائتين، كان إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، رحل إلى «1» العراق وخراسان والحجاز والشام ومصر وبغداد غير مرّة، وروى بها كتاب السنن وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل فاستحسنه، وكان عارفا بعلل الحديث ورعا، وكان له كمّ واسع وكمّ ضيّق؛ فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب، والآخر لا أحتاج إليه. وقد سمعت سننه رواية اللؤلؤي عنه على المشايخ الثلاثة: زين الدين «2» عبد الرّحمن الدّمشقى، وعلاء الدين «3» علىّ بن بردس البعلبكّى، وشهاب الدين «4» أحمد [المشهور با] بن ناظر الصاحبيّة، بسماع الأوّلين لجميعه على أبى حفص «5» بن أميلة، وبإجازة الثالث من أبى العباس «6» بن الجوخى، قالا: أخبرنا أبو الحسن علىّ بن البخارىّ أخبرنا أبو «7» الحفص بن طبرزذ مما اتفق له. أخبرنا أبو البدر إبراهيم الكرخىّ وأبو الفتح الدّومى قالا أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن على أخبرنا الشريف أبو عمر الهاشمىّ اخبرنا أبو علىّ اللؤلؤي «8» أخبرنا أبو داود. وفيها توفى على بن يحيى بن أبى منصور أبو الحسن المنجّم، كان أصله من أبناء فارس، وكان أديبا شاعرا، ونادم الخلفاء(3/73)
من المتوكّل إلى المعتمد، وكانوا يعظّمونه، وكان عالما بأيام الناس راوية للأشعار.
وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن إبراهيم العنبسىّ «1» الصّيمرىّ الشاعر، كان أديبا قدم بغداد ونادم المتوكّل؛ ومن شعره رضى الله عنه:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعوّاد
قد يصاد القطا فينجو سليما ... ويحلّ القضاء بالصّيّاد
وفيها توفّى المنذر بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام أبو الحكم أمير الأندلس، أقام على الأندلس سنتين، وأمّه أمّ ولد، وهو السادس لصلب عبد الرّحمن الداخل الأموىّ المقدّم ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 276]
السنة السادسة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ستّ وسبعين ومائتين- فيها رضى الخليفة المعتمد على عمرو بن الليث الصّفّار، وكتب اسمه على الأعلام والعدد. وفيها في [شهر «2» ] ربيع الأوّل خرج الموفّق أخو الخليفة المعتمد من بغداد يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف بأصبهان، فتنحّى له أحمد عن داره:
عن آلتها وفرشها، فنزل بها الموفّق؛ وقدم محمد بن أبى الساج على الموفّق هاربا من خمارويه صاحب الترجمة بعد وقعات جرت بينهما، فأكرمه الموفّق وخلع عليه.(3/74)
وفيها ولّى عمرو بن الليث الصّفار شرطة بغداد. وفيها انفرج «1» تلّ بنهر الصّلح «2» عند فم الصّلح بالعراق، ويعرف بتلّ بنى شقيق «3» ، عن سبعة قبور فيها سبعة أبدان صحيحة والأكفان جدد تفوح منها رائحة المسك، وأحدهم شابّ «4» له جمّة «5» طويلة طريّة، ولم يتغيّر منه شىء، وفي خاصرته ضربة؛ وكانت القبور حجارة مثل المسنّ، وعندهم كتاب ما يدرى ما فيه. وفيها توفّى بقىّ بن مخلد بن يزيد الحافظ أبو عبد الرّحمن الأندلسىّ صاحب الرحلة والتصانيف، كان مجاب الدعوة، رحل الى مكة والمدينة ومصر والشام وبغداد والشرق والعراقين، وكان له مائتان وأربعة وثمانون شيخا، ومولده في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ومات ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الآخرة. وفيها توفّى عبد «6» الله الفرحان أبو طاهر الأصبهانى العابد المشهور، كان مجاب الدعوة وله آثار في الدعاء مشهورة، كتب الكثير من الحديث بالعراق والشام ومصر، وسمع هشام بن عمّار وغيره، وروى عنه محمد بن عبد الله الصّفّار وغيره. وفيها توفّى عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد المروزىّ الكاتب مصنّف كتاب غريب الحديث وغريب القرآن ومشكل القرآن، مات فجأة، صاح صيحة عظيمة ثم مات في شهر رجب؛ وقال الدارقطنىّ: كان يميل الى التشبيه «7» ، وكلامه(3/75)