صورة
مصغرة، وقد بنيت أول مدرسة فيها سنة 517 وهي:
175 - المدرسة الزجاجية بناها بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب، ولما أراد بناءها لم يمكنه الحلبيون من ذلك إذ كان الغالب عليهم التشيع، فكان جماعته يبنون في النهار، وتالشيعة تنقض ما بنوه في الليل. وقال بعض المؤرخين: إنها من بناء عبد الرحمن بن العجمي لأصحاب الشافعي، وقد خربت وأصبحت دوراً للسكنى، ويغلب أن يكون مكانها في محل خان الطاف من محلة الجلوم إعلام النبلاء.
176 - النورية أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سنة 544 وتعرف بالنفرية أيضاً وهي تجاه المدرسة الصاحبية.
177 - العصرونية كانت داراً لأبي الحسن علي بن أبي الثريا وزير بني مرداس فصيرها الملك العادل نور الدين سنة 550 مدرسة وجعل فيها مساكن للمرتبين بها من الفقهاء، وقد كانوا سنة 874 فوق المئة، واستدعى لها من سنجار شرف الدين بن أبي عصرون فولاه تدريسها والنظر فيها، وهو أول من درس بها فعرفت به، وبنى له نور الدين مدارس بمنبج وحماة وحمص وبعلبك ودمشق، وقد كان لها بقية إلى سنة 1343 إذ شرعت إدارة الأوقاف بخرابها وإقامة دور للسكنى مكانها يضاف ريعها للأوقاف.
178 - الصاحبية أنشأها القاضي بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد، قال ابن خلكان: إن حلب كانت قبل أن يتصل ابن شداد بخدمة الملك الظاهر قليلة المدارس وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى بترتيب أمورها، وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكي للشافعية، وذلك في سنة إحدى وستمائة، ثم عمر في
جوارها داراً للحديث وجعل بين المكانين تربة فيها، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء وحصلت بها الاستفادة والاشتغال وكثر الجمع بها. وتقع هذه المدرسة في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة الآن بجنينة الفريق شرقي محلة السفاحية، ولم يبق منها ولا من دار الحديث سوى حجر مكتوب وقد(6/103)
كانتا عامرتين في القرن العاشر كما في إعلام النبلاء.
179 - الظاهرية وتعرف أيضاً بالسلطانية، وهي للشافعية والحنفية أسسها الملك الظاهر613 وتوفي ولم تتم وأكملها شهاب الدين طغرل أتابك وعلى بابها أنها أنشئت سنة 620 وهي اليوم خراب إلا بضع حجر جددت يسكنها بعض الفقراء ومحرابها من بدائع الصنعة.
180 - الأسدية أنشأها الأمير أسد الدين شيركوه المتوفى سنة 564 وهو عم صلاح الدين. وهي في محلة باب قنسرين باق منها قبلية وقبة وقد جدد فيها سنة 1316 ثماني حجرات.
181 - الشعيبية كانت فيما قالوا مسجداً أول ما اختطه المسلمون عند فتح حلب يعرف بالغضايري نسبة لعلي بن عبد الحميد الغضايري. فلما ملك نور الدين حلب وصل الشيخ شعيب بن أبي الحسن الفقيه الأندلسي فصيرت له مدرسة فعرفت به، وعلى جدارها تاريخ بناء نور الدين سنة545 وهي في القرب من باب إنطاكية مسجد تقام فيه الصلوات وهي في إدارة الأوقاف إعلام النبلاء.
182 - الشرفية أنشأها شرف الدين عبد الرحمن بن العجمي، وأنفق عليها ما يربو على أربعمائة ألف درهم، ووقف عليها أوقافاً جليلة، وكان فيها غرف وإيوان وقاعة للدرس، وفي بنائها وأبوابها من بدائع الصنعة ما يفتخر به الصناع، وعلى بئرها قنطرة من الحديد مكتوب عليها بالقلم المجوز أنها صنعت سنة أربعين وستمائة وهي من بدائع الرسم. وفي سنة 1343 شرع في تعميرها واتخذ من
الجهة الشرقية منها بهو كبير بأربعة أعمدة يصلح للمحاضرات وأماكن أخرى.
183 - الرواحية أنشأها ركن الدين هبة الله محمد بن عبد الواحد الحموي وقال في الوافي: زكي الدين بن رواحة الأموي الشاعر المعدل كان كثير الأموال محتشماً، أنشأ مدرسة بدمشق وأخرى بحلب وشرط على الفقهاء والمدرسين شروطاً صعبة، وأن لا يدخل مدرسته يهودي ولا نصراني ولا حنبلي حشوي توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقد اندثرت في وقعة تيمور ثم أصلحت في زمن قصروه كافل حلب. أما الآن فقد صارت دوراً ولم(6/104)
يبق منها باب ذي أحجار ثلاثة سود، وباب مسدود يعلوه حجرة عظيمة، وهي واقعة في أول الزقاق المعروف بزقاق الزهراوي شمالي المدرسة الشرقية الآنفة الذكر.
184 - البدرية أنشأها بدر الدين عتيق عماد الدين شادي في صدر درب البازيار ويعرف الآن بزقاف الزهراوي وهي دائرة.
185 - السيفية أنشأها الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان ابن جندر 617 مشتركة بين الشافعية والحنقية وقد دثرت هي وسميتها التي جعلت لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل كما يأتي، لكن يتعين موقع إحداهما في قبلي تربة الكيباتي بجانب محلة الكلاسة، بما هو موجود من تربة الباني التي لم يذكر التاريخ أنها في جوار مدرسته، وهي اليوم قبة قديمة سقفها خرب فيها قبره.
186 - الزيدية وتعرف بالألواحية لنزول الألواحي فيها، هي داخل باب إنطاكية بالقرب من المدرسة الشعيبية، أنشأها إبراهيم بن إبراهيم المعروف بأخي زيد الكيال انتهت سنة 655 درس فيها أحمد بن محيي الدين العجمي.
187 - القوامية داخل باب الأربعين بالقرب من حارة الفرافرة تجاه قسطل الملك العادل غياث الدين وداخلها ربط للقلندرية.
188 - الشادبختية أنشأها جمال الدين بن كمال الدين بن العديم محمود بحلب
589، وممن ولي تدريسها أحمد بن كمال الدين بن العديم المتوفى 638 وكانت حلب يومئذ أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ. وقد تولي تدريسها بعده كثيرون من الفضلاء من بني الشحنة.
189 - الظاهرية أيضاً أنشأها الملك الظاهر غياث الدين صاحب حلب 616 للشافعية وأنشأ إلى جانبها تربة ليدفن فيها من يموت من الملوك والأمراء، وهي قبلي حلب مما يلي باب المقام لم يبق منها سوى المحراب وعمودين وحوض مثمن بديع.
190 - الهروية أنشأها الملك الظاهر غازي لأجل الشيخ الذي كانت له عنده منزلة رفيعة وهو علي الهروي السئح وهي قبلي حلب، خربت في فتنة(6/105)
التتر ولم يبق منها سوى قبره في قبة داخل كرم فستق، وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وستمائة.
191 - الفردوس أنشأتها الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب وهي جليلة، وجعلها تربة ومدرسة وربطاً ورتبت فيها خلقاً من القراء والفقهاء والصوفية، ولا تزال أسوارها باقية وجامعها عامراً، لكنها جعلت مدفناً للفلاحين النازلين في جوارها وتحتاج إلى ترميم، وهي مثال جميل من أمثلة الهندسة العربية، كتب على حائط فنائها بعد البسملة وآيات من سورة الزخرف: هذا ما أمرت بإنشائه ذات التر الرفيع، والجناب المنيع، الملكة الرحيمة، عصمة الدنيا والدين، ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته، وذلك في أيام مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز نصره، بتولي العبد الفقير عبد المحسن العزيزي الناصري رحمه الله
في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وقد كتب على محرابها البديع عمل حسان بن عفان.
192 - البلدقية أنشأها الأمير حسام الدين القيمري سنة646 وهي خراب منذ قرون.
وهناك أربع مدارس ذكرها ابن الشحنة:
194 - الأولى بالجبيل لشمس الدين أحمد بن العجمي وقد دفن بها أبو ذر المؤرخ سبط ابن العجمي وهي مشتركة بين الشافعية والمالكية أنشئت سنة595 وتسمى الآن جامع أبي ذر فيها قبلية ومنبر.
195 - الثانية أنشأها الأمير شمس الدين لولو.
196 - الثالثة بالمقام أنشأها بهار الدين المعروف بابن أبي سبال.
197 - الرابعة أنشأها عز الدين مظفر الحموي 632.(6/106)
هذه هي المدارس الشافعية في داخل المدينة وخارجها. أما مدارس الحنفية في المدينة فهي:
198 - البلدقية أيضاً وهي بجانب سميتها المتقدمة الذكر بنيت كذلك سنة 635.
199 - الحلاوية كانت كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين ولما بعثر الفرنج قبور المسلمين وأحرقوهم 518 انتقم المسلمون بأن أحالوا هذه الكنيسة مع ثلاث أخرى مدرسة، وفيها إلى الآن عمد الرخام في تيجانها نقوش تمثل أنواعاً من النبات تشبه نقوش قلعة سمعان، وكانت تعرف قديماً بمسجد السراجين جعلها نور الدين مدرسة، وجدد بها مساكن يأوي إليها الفقراء 543 وهي من أعظم المدارس، ومن أكثرها طلبة وأغزرها رواتب وجرايات، درس بها جملة من العلماء. وهي منفصلة عن الجامع الكبير بزقاق ضيق في السوق قبالته من الغرب. وقد ذكرها أحد علماء الآثار فقال: إن الجزء الجنوبي منها يحتوي على بقايا بناء ديني من
عهد النصرانية الأولى، وقد أثبت ذلك التقليد القائل بأن هيلانة بنت في حلب كنيسة، ونقوش البناء تشبه نقوش الكنائس ذات السطح المتوسط في ديار بكر والرصافة. كل هذا يدل بالمنظر لصورة تيجان الكنيسة أن أصلها من بناء قام في آخر القرن السادس. ويقول هرزفيلد: إن عهد الفراغ الذي قامت فيه القبة يرد إلى تاريخ قاعتها. وكذلك الرواقان المتلاصقان من الجنوب والشمال، وإن الناظر في مجموع هذا البناء يرى الجزء الغربي منه بيعة تغشاها قبتان أو ثلاث كان محراباً متصلاً بالزقاق الآخذ اليوم إلى المدرسة والجامع الأعظم. وذكر القزويني أن في مدرسة الحلاوي بحلب حجراً على طرف بركتها كأنه سرير ووسطه منقور قليلاً يعتقد الفرنج فيه اعتقاداً عظيماً وبذلوا فيه أموالاً فلم يجابوا إليه. ومحراب هذه المدرسة العامرة اليوم بالطلبة من أجمل المحاريب عمل بخشب الآبنوس على صورة بديعة، وكان على قبتها طائر من نحاس يدور مع الشمس.
200 - الأتابكية أنشأها شهاب الدين طغرل بك عتيق الملك الظاهر غياث الدين غازي نائب السلطنة سنة618 وخربت في فتنة التتر ثم رممت وما(6/107)
زالت عامرة إلى القرن العاشر ثم خربت، والآن لا يعرف إلا مكانها الذي أصبح عرصة خالية شرقي جامع العادلية وقبلي خان الفرايين يفصلها عنهما الطريق الأخذ إلى السفاحية والطريق الآخذ إلى الخسروية.
201 - الحدادية أنشأها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت صلاح الدين، وهي من الكنائس الأربع التي صيرها ابن الخشاب مساجد فهدمها وبناها بناء وثيقاً، تولاها كثير من المدرسين وكانت عامرة في أواخر القرن العاشر. وهي في محلة السفاحية لم يبق من آثارها سوى عضادتي باب كبير مكتوب على طرفه الأيمن الحمد لله.
202 - الجردكية وهي ملاصقة للصاحبية، أنشأها الأمير جرديك النوري بسوق
البلاط كملت سنة 601 كانت عامرة إلى آخر القرن الثامن. وفي أواخر القرن الثالث عشر كانت قهوة ثم تحولت مكتباً ثم صارت دكاناً ثم عمرتها دائرة المعارف مخزناً واسعاً وهو الآن كذلك.
203 - المقدمية أنشأها عز الدين عبد الملك بن المقدم من أمراء صلاح الدين سنة 564 وكانت إحدى الكنائس الأربع التي صيرها ابن الخشاب مساجد فجعلها مدرسة وأضاف إليها داراً كانت إلى جانبها. وهي في محلة الجلوم في زقاق يسمى خان التتن باق منها قبليتها وبابها الذي فيه صنعة حسنة. وهي أخت المقدمية في دمشق التي بناها المقدم أيضاً، والأوقاف التي في دمشق مشتركة بين الاثنتين.
204 - الجاولية أنشأها عفيف الدين عبد الرحمن الجاولي النوري، وهي في محلة سويقة حاتم وقد كان الباقي منها قبليتها. أما الآن فقد هدمتها دائرة الأوقاف وعمرت في مكانها عقارات للاستغلال.
205 - الطمانية أنشأها الأمير حسام الدين طمان النوري وخربت في القرن الثمن أو قبله، وكانت في درب الأسفريس الذي هو بجانب جامع منكلي بغا المعروف الآن بجامع الرومي من باب قنسرين.
206 - الحسامية أنشأها الأمير حسام الدين محمود بن ختلو غربي قلعة حلب سنة615، وأمام بابها القديم باب حادث كتب عليه أنه عمر سنة 1281، والباقي منها قبليتها وثلاث حجرات صغار. وهي خربة في إدارة(6/108)
الأوقاف مسدودة الباب، أول من درس بها بدر الدين يعقوب النحاس ثم ولده محمد ثم العلماء بنو الشحنة.
207 - الأسدية ثم الخسروية تجاه القلعة المعروفة حينئذ بالطواشية أنشأها بدر الدين الخادم عتيق أسد الدين شيركوه كانت داراً يسكنها فوقفهما بعد موته، وكان مكتوباً على بابها جددت سنة 632 قال ابن الشحنة: إن هذه المدرسة خربها الملا
محمد ناظر الأوقاف بحلب سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ولم يبق لها عين ولا أثر، ودخلت في عمارة المدرسة التي أنشأها الوزير خسرو باشا المشتملة على مسجد وجامع ومدرسة وخانقاه معدة للضيوف، وهي أول عمارة أنشئت بحلب منذ دخول الترك. وفي دار الحبيب أن خسرو باشا كافل حلب تولى الوزارة أمر بإنشاء جامع وتكية في حلب بمشارفة معمار رومي، وأدخل عدة أوقاف منها الدار التي عمرها ووقفها أبو الفضل ابن الشحنة والمدرسة الأسدية الملاصقة لها ومسجد ابن عنتر الملاصق لها وكانت هذه الدار إحدى دور حلب العظام مشتملة على حديقة وبحرة وسبع قاعات وفرن وآبار لخزن الغلال ودهليز يصل إلى حمامه المشهور بحمام القاضي.
واتفق في هذه المدرسة أن جعلت ميضآت للتكية المذكورة. وفي أعمدة التكية المذكورة عمودان كانا للمدرسة القديمة بزقاق سالار بحلب فأخذهما، ومتوليها إذ ذاك محمد جلبي ابن المرعشي ولم ينتطح فيها عنزان اه.
قلنا: وهذا مثال صريح من العمران التركي فهو والخراب اسمان لمسمى واحد. وهذه المدرسة تسمى اليوم بالخسروية وهي عامرة بطلبة العلم بفضل النهضة الأخيرة، ومحرابها ومنبرها وقبتها من أجمل آثار الصناعة الحلبية في القرن العاشر بقيت بحالها لم تمسها أيدي المتولين والمتلاعبين، وفيها القيشاني من صنع حلب.
208 - القليجية أنشأها الأمير مجاهد الدين محمد بن شمس الدين محمود بن قليج النوري سنة 650 ملاصقة لدار العدل ثم تجدد من جوانبها الثلاثة دور مضافة إلى دار العدل، خربت في القرن العاشر.
209 - الفطيسية أنشأها سعد الدين مسعود بن الأمير عز الدين أيبك المعروف بفطيس عتيق عز الدين فرخ شاه، كانت داراً يسكنها فوقفها توفي(6/109)
سنة 649.
وأول من درس بها أحمد القراولي المارداني المعروف بالفصيح وعليه انقضت الدولة الناصرية، وهي مما دخل في دار العدل وحكم القاضي شمس الدين بن أمين الدولة بانتقال وقفها إلى القليجية أقرب مدرسة إليها، قال ابن الشحنة: إنها درست في الفتنة التيمورية ولم يبق لها عين ولا أثر ولا يعلم أين كانت. وكذا صار في مدارس عديدة فإنني ما زلت أسمع أنه كان بحلب أربعون مدرسة للحنفية خاصة ولم يدع ابن شداد ذلك.
210 - المجدية الجوانية منسوبة إلى مجد الدين بن الداية في محلة بزة بالقرب من ضريح النبي بلوقيا خربت في سنة 936.
211 - المجدية البرانية منسوبة إليه أيضاً دثرت بالكلية.
212 - الكلتاوية بناها الأمير طقتمر الكلتاوي المتوفى سنة 787 داخل بانقوسا في محلة تسمى بالكلتاوية، وهي للحنفية لم يبق منها سوى قسم من قبيلتها وكان فيها قبر الواقف لكنه دارس.
213 - الالجانية لصيق جامع الطواشي نسبة إلى الجاي أمين السلاح زمن اشقتمر أنشئت سنة 744.
214 - الكينوشية أو الكهنبوشية داخل النيرب ويقال بل هي زاوية.
215 - الشهابية تجاه الناصرية للحنفية. ولا أثر لها الآن، ولعلها دخلت في بناء خان الوزير.
216 - الكاملية بالقرب من الناصرية بناها ابن كامل. ولا أثر لها ولعلها دخلت في بناء خان الوزير أيضاً.
217 - الصاحبية شمالي الجردكية أنشأها شهاب الدين أحمد بن الصاحب سنة 765 وهي باقية إلا أنها متوهنة وفيها نقوش وآثار تعد من النفائس.
218 - المدرسة التي في شرقي الجامع العمري في بحسيتا فيها قبر الشيخ حسن
الفول.
219 - اليشبكية بناها الأمير يشبك المؤيدي نائب حلب على أنها مكتب أيتام وبنى له فيها مدفناً دفن فيه سنة823 ووقف عليها سوقه الذي(6/110)
بناه بالقرب منها ولا أثر لها، أما المسجد الذي بنى معها فهو باق في سوق العبي.
220 - تغري الدرمشية تحت القلعة بناها الأمير تغري درمش نائب حلب.
221 - السفاحية بناها القاضي شهاب الدين سبط بني السفاح ووقفها على الشافعية وشرط أن لا يكون لحنفي فيها حظ إلا في الصلاة.
222 - مدرسة أقجا أنشأها أقجا خازن يشبك اليوسفي وهي قبلي السفاحية بالخط المذكور ولا أثر لها اليوم.
223 - الدلغادرية بناها الأمير ناصر الدين باك محمد بن دلغادر ظاهر البلد من شماليه على كتف الخندق، ووقفها على الحنفية وقرر بها شهاب الدين أحمد بن موسى المرعشي.
224 - الأشودية أنشأها الأمير عز الدين أشود التركماني دثرت في القرن العاشر.
225 - النقيب أنشأها السيد الشريف المرتضى النقيب عز الدين أبو الفتوح أحمد بن محمد الإسحاقي المؤتمني الحسيني المتوفى سنة 653 على جبل جوشن، وكانت عمارتها من البدائع يقال لها تاج حلب.
226 - الدقاقية أنشأها مهذب الدين أبو الحسن علي بن الدقاق سنة630 خربت بعد القرن التاسع على الغالب، كانت شمالي الفيض.
227 - الجمالية أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهري عتيق ضيقة خاتون وهي قبلي الفردوس.
228 - العلائية أنشأها علاء الدين علي بن أبي الرجا شاد ديوان الملكة ضيقة
خاتون بنت الملك العادل. وهذه إما أن تكون ليست مدرسة بل مسجداً وهو موجود الآن في محلة الكلاسة مكتوب عليه اسم الباني هذه سنة 33 وهو مدفون في حجرة شرقي القبلية، أو تكون المدرسة غيره وقد زال أثرها.
229 - الكمالية العديمية أنشأها الصاحب كمال الدين عمر بن(6/111)
العديم شرقي حلب خارج باب النيرب وبنى إلى جوارها تربة وجوسقاً وبستاناً، ابتدأ بعمارتها سنة 639 وتمت في سنة 649.
230 - الأتابكية أيضاً أنشأها الأتابك شهاب الدين طغرل عتيق الملك الظاهر سنة 620 أول من درس بها الصفي عمر الحموي ثم نظام الدين البلخي والفخر عبد الرحمن بن إدريس وهي في محلة الجبيلة في صدرها قبيلة في طرفها الأيمن إيوان في وسطه ضريح الواقف وقد اتخذتها دائرة المعارف مدرسة ابتدائية مكتوب على بابها اسم بانيها أبى سعيد طغرل وأنها على المدرس والحنفية.
231 - الصهيبية وراء باب إنطاكية مباشرة تجد بقايا بناء عرفه قدماء السياح بأنه قوس قديمة ثم نقشت عليه بعد كتابة كوفية ويسمى جامع التوتي. وهي المدرسة الصهيبية التي قامت على أنقاض جامع في حلب بناه أبو عبيدة. قال سبرنهايم: إن النقوش الكثيرة والهندسة القديمة والكتابات الكوفية الموجودة في البناء تجعله في الدرجة الأولى من المكانة، ومنه يدرس التحويل التام المجهول سره حتى الآن والذي تم على عهد نور الدين في أسلوب الهندسة من حيث صور الكتابة والطرز السياسي في الكتابات.
232 - السيفية أيضاً أنشأها الأمير سيف الدين علي بن سليمان ابن جندر تحت القلعة لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل. هذا ما ورد في الدار المنتخب في الكرم على مدلرس المالكية والحنابلة.
233 - الناصرية كانت قديماً كنيسة لليهود تعرف بكنيسة مثقال ثم في سنة 727
ثبت أنها محدثة في دار الإسلام فقلبت مدرسة وعمل بها منارة وهي معروفة الآن بجامع الحيات لرسوم حيات من الحجر في قنطرة بابها وقد عراها الوهن إعلام النبلاء.
234 - الشادبختية أيضاً هذه هي الجوانية أنشأها الأمير جمال الدين شادبخت الخادم الهندي الأتابكي تائب نور الدين بحلب، أول من درس فيها نوفق الدين محمود بن النحاس ثم لبن العديم ثم بنو الشحنة، وهي في سوق الضرب ويقال الآن الزرب تحريفاً مكتوباً على بابها أنها موقوفة على الحنفية سنة589 وتعرف اليوم بجامع الشيخ معروف، محراب قبليتها بديع كتب عليه(6/112)
أنه عمل الرجا وعبد الله بن يحيى.
235 - الطرنطائية منسوبة إلى مجددها طرنطاي بن عبد الله الأمير سيف الدين نائب دمشق المتوفى سنة 792 وهي في آخر محلة باب النيرب، جسيمة مكتوب على بابها كتابة حديثة بالاستناد إلى بعض الكتب: وقف هذين الجامع والمدرسة عفيف بن محمد شمس الدين سنة 785، وفيها رواقان وحجر وفوق الرواقين رواقان صغيران ووراء كل منهما خمس حجر وشمالي باب المدرسة باب قديم داخله دار يظهر أنها خانقاه تابع للمدرسة.
وكان في حلب داران للحديث أنشأهما الملك العادل وخمس دور تعد من مدارس المالكية والحنابلة:
236 - الأولى أنشأها القاضي ابن شداد.
237 - والثانية أنشأها نجد الدين بن الداية.
238 - والثالثة أنشأها بدر الدين الأسدي.
239 - والرابعة أنشأها أم الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود.
240 - والخامسة أنشأها الصاحب مؤيد الدين إبراهيم بن يوسف القفطي كانت
تعرف بالفردوس.
هذا ما رواه ابن الشحنة عن ابن شداد وغيره في مدارس حلب الشهباء. وأنت ترى أنهل من هذا القبيل تعد ثانية دمشق. وأن مدارسها على الأكثر نشأت في الدولتين النورية والصلاحية أو عمرت بأيدي الأمراء والأميرات، ولم يكتب لها البقاء كلها لأنها عمل أفراد كما قلنا. ولولا ذلك لكانت أقرب إلى مقاومة الحوادث. وهذا من جملة آفات هذا الشرق التعس. وأكثر هذه المدارس مما بدأ فيه الخراب في أيام العثمانيين كما هو الحال في مدارس دمشق وقد جاء في تقوم سنة 1332 أن في الشهباء 32 مدرسة، وما نظن العامر منها يتجاوز العشر وقد أنشئت فيها على عهد العثمانيين.
241 - العثمانية أنشأها أحد ولاة حلب في القرن العاشر وما والت عامرة يسكنها الطلبة.
242 - الشعباتية.(6/113)
243 - القرناصية.
244 - السيافية.
245 - الإسماعيلية.
246 - المنصورية.
247 - البهائية.
248 - الخسروية التي مرت.
249 - الكواكبية أنشأها سنة 1167 السيد أحمد بن السيد أبي السعود ابن السيد أحمد الكواكبي في محلة الجلوم الصغرى وأودعها كتباً قيمة تفرقت أيدي سبا.
250 - الأحمدية أنشأها سنة 1166 على صلحاء أكراد ما وراء الموصل. وفيها نحو ثلاثة آلاف كناب، القاضي أحمد بن طه زاده المشتهر بالجلبي.
251 - الهاشمية في محلة الفرافرة، أنشأها هاشم الدلال باشي من أصحاب الأملاك بحلب سنة عشر وثلاثمائة وألف.
252 - الدليوانية كانت مسجداً فرممه محمد أسعد باشا الجابري سنة 1323 وجعل فيها ست حجر للطلبة وحجرة للمدرس يدرس فيها الفقه الشافعي، وشرط أن يكون الطلبة غرباء.
253 - البلاطية هي زاوية مشروط فيها إقامة عشرة من الطلبة الحنفية ولها إمام ومؤذن ومدرس ولهم طعام، وقفها الأمير زين الدين الحاج بلاط الدوادار وهي خارج باب المقام، بقي من آثارها إيوان كبير وست حجر يسكنها الفقراء، عمرت في منتصف القرن التاسع.
254 - التجهيز أنشئت في صفر سنة عشر وثلاثمائة وألف باسم المكتب السلطاني، وهي في غربي حلب في محلة اسمها السليمية أو الجميلية وهي دار التجهيز والمعلمين.
255 - الصنائع أسست هذه المدرسة سنة 1319 في دار الصابوني من محلة باب قنسرين، ثم ثم اتخذ لها بناء خاص في محلة السليمية.
26 - الأميري هو جامع لكن فيه حجر للدرس ومدارس للحديث والفقه والنحو.(6/114)
هذا عدا المدارس الابتدائية والمدارس التي لغير المسلمين وهي عديدة.
وليس في تاريخ حلب ما يدل على أنه كان فيها كما كان في دمشق دور للقرآن، بل كان فيها دار القرآن الحبشية المنوبة إلى أبي العشائر المطل شباكها على المجتمع الكبير درس لها أبو الوفاء العرضي سنة 1071. وذكر ابن جبير في المائة السادسة أنه كان يتصل من الجانب الغربي من جامع حلب مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسناً وإتقان صنعة، فهما في الحسن روضة تجاور أخرى قال: وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة، ومن أطرف
ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتاً وغرفاً وله طيقان يتصل بعضها بيعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كوم مثمر عنباً، فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدلياً أمامها فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئاً دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدارس نحو أربع مدارس أو خمس. قانا: ولعله يقصد بكلامه المدرسة الحلاوية العامرة إلى اليوم
وقد درس في هذه المدارس أجلة علماء الشهباء والوفدين عليها من الأئنة، وكلنت كمدارس دمشق والقدس تقرئ الطالب ما ينفعه في دينه ودنياه. ويقول منش: إن المدارس تكاثرت في حلب على عهد أولاد صلاح الدين وازدهرت معارفها وآدابها حتى بلغت أربعاً وأربعين مدرسة أو تزيد، ثلاث منها لعلوم الطب ولم يتعرض من كتبوا على مدارس حلب لوصف مدارس الطب.
257 - القرموطية إنشاء عبد القادر بن قرموط سنة 882 جددها عبد الرحمن بن قرموط سنة 978 وهي الآن مكتب.
258 - الشاذلية وقيل هي دار حديث قرب مسجد النحويين في سويقة الحجارين، كانت ضيقة فتجددت قبليتها وبابها واستخرج منها دكانان.
259 - البولادية في محلة باب المقام في الصف الشرقي من الجادة، خربة يسكنها الفقراء.
260 - مدرسة للشافعية هي تربة العلمي في محلة الدحديلة.(6/115)
261 - القلقاسية قبلي القلعة مندثرة.
262 - الصروي ملحقة في جامع الصروي في محلة البياضة أنشأت سنة 920.
263 - الرحيمية أنشأتها رحمة بنت عبد القادر بن أحمد بك في محلة مستدمبك سنة 1156.
264 - مدرسة تجاه واوية الكيال لا يعرف اسم بانيها هي اليوم مسكن للفقراء.
265 - مدرسة من مشتملات جامع السكاكيني في محلة الأعجام.
266 - الدفتردار منسوبة لبيت العقاد بجانب سبيل البيك داخل محلة باب المقام.
267 - مدرسة داخل بوابة النبي لا أثر لها.
268 - مدرسة خارج بوابة النبي لا أثلر لها.
269 - مدرسة الالجايية السالفة الذكر تعرف بالصاحبية أنشأها بهاء الدين يوسف بن رافع المعروف بابن شداد لا أثر لها.
270 - مدرسة تجاه سابقتها لنور الدين ونكي لا أثر لها.
271 - تربة ألطونبغا وتعرف الآن بالمدرسة بلا اسم.
272 - نصر الله في محلة بحسيتا كنيس اليهود بزقاق المدرسة معطلة موهنة.
مدارس القدس:
مدارس بيت المقدس كمدارس دمشق وحلب من حيث البناء والترتيب والوقوف عليها، ومعظمها مما أقامه الملوك والأمراء والأغنياء والعلماء، ولم يكتب لها البقاء كثيراً لأنها كلها من الأفراد مهدد بالوهن في كل قرن، ضربها الدهر ضرباته، وعبث بجمالها وقطع أوصالها، ولو كانت من عمل الجماعات كمدارس الغرب في المقدس نفسه، لكتب لها البقاء أكثر أحكم وأعظم.(6/116)
وأقدم مدارس بيت المقدس ما بني على عهد صلاح الدين يوسف بن أيوب عقيب استخلاصه هذه المدينة من أيدي الصليبيين، ثم توفر أهل الخير من الأمراء والأغنياء، ومنهم النساء والإماء، فأنشئوا منها ما أنشئوا عنوان الغيرة على العلم وبث الفضائل. وقد عدد مجير الدين الحنبلي ما كان على عهده منها في القدس والخليل فقال: إنه كان في بيت المقدس من المدارس:
273 - المدرسة الفارسية التي شرقي المسجد وقفها الأمير فارس البكي، وهي عامرة فيها دار كتب المسجد الأقصى.
274 - النحوية على طرف صحن الصخرة من جهة القبلة إلى الغرب بانيها الملك المعظم عيس سنة أربع وستمائة كان يدرس فيها الكتاب لسيبويه.
275 - النصرية كانت على برج باب الرحمة مدرسة تعرف بالنصرية للشيخ نصر المقدسي، ثم عرفت بالغزالية نسبة لأبي حامد الغزالي وقد اعتكف فيها وأتم تأليف كتابه إحياء العلوم فيما قبل. ثم أنشأها الملك المعظم عيس وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو ووقف عليها كتباً وتاريخ وقفها سنة 610 ويقول مجير الدين: إنها دثرت في عصره وهي الآن غرفتان عامرتان معدتان للزيارة.
276 - التنكزية واقفها الأمير تنكرز الناصري نائب الشام، وهي مدرسة عظيمة ليس في المدارس أتقن من بنائها عمرت سنة 729 وهي بجانب باب الحرم بجوار باب السلسلة مجاورة للسور من جهة الغرب، ولا تزال عامرة وهي مقر المحكمة
الشرعية.
277 - البلدية بجانب باب الحرم جوار باب السلسلة، واقفها الأمير منكلي بغل الأحمدي نائب حلب ودفن فيها سنة 782 وما برحت عامرة ولكنها دار للسكنى.
278 - الأشرفية داخل المسجد الأقصى بالقرب من باب السلسلة، عمرها الملك الأشرف قايتباي وبدئ بحفر أساسها 885 وكانت قبتها ثالث القباب المهمة في القدس. والأولى قبة الصخرة والثانية قبة الأقصى.(6/117)
وقد تكاملت هذه المدرسة 87 وكانت طبقتين سفلية وعلوية، ولعها آخر المدارس الإسلامية الفخمة التي أنشأت من هذا الطراز في بيت المقدس، على كثرة ما وقف عليها من الأوقاف لم يبق منها إلا سطحها وبابها وعليه كتابة من عهد الأشرف.
279 - العثمانية بباب المتوضإ بجوار الحرم، واقفتها امرأة من أكابر الروم اسمها أصفهان شاه خاتون وتدعى خانم، وعليها أوقاف ببلاد الروم وغيرها، وعلى بابها تاريخها في سنة أربعين وثمانمائة وهي لا تزال عامرة وتسكنها أسرة.
280 - الخاتونية بباب الحديد جوار الحرم واقفتها أغل خاتون بنت شمس الدين محمد بن سيف الدين القازانية البغدادية، ثم أكملت عمارتها ووقفت عليها أصفهان شاه بنت الأمير قازان شاه 782 وما حبس عليها من المغل معلوم، وهي اليوم دار فيها قبر السيدة خاتون القازانية البغدادية.
281 - الأغونية بباب الحديد جوار الحرم، واقفها أرغون الكاملي نائب الشام وهو الذي استجد باب الحديد أحد أبواب المسجد، أكملت عمارتها سنة 759 وهي الآن سكنى وقد ضاعت أوقافها وأحباسها وفيها قبر أرغون شاه.
282 - المزهرية بباب الحديد جوار الحرم، وقفها المقر الزيني أبو بكر بن مزهر الأنصاري صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية، وبعضها راكب على ظهر الأرغونية، ولها مجمع على أروقة المسجد وكان الفراغ من بنائها في سنة 885
وقد غدت داراً للسكنى وقسم منها خراب.
283 - الجوهرية بباب الحديد جوار الحرم الشريف وبعضها على رباط كرد. واقفها الصفوي جوهر زمان الادر الشريفة في سنة 844 وهي الآن دار للسكنى.
284 - المنجكية بباب الناظر جوار الحرم وقفها الأمير منجك نائب الشام ونقل مجير الدين أن الأمير كان وصل إلى القدس الشريف ليبني المدرسة للسلطان الملك الناصر حسن، فلما قتل السلطان في سمة اثنتين وستين وسبعمائة بناها لنفسه ونسبت إليه، ووفق عليها ورتب لها فقهاء وأرباب(6/118)
وظائف ثم تلاشت ثم عمرت، ولا تزال معمورة إلى هذا العصر، وقد أتقن عمارها في العهد الأخير وأقام فيها المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى.
285 - الجاولية في الجهة الشمالية، واقفها الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة توفي 745 ضاعت أوقافها وهي اليوم قسم من كلية روضة التعارف الوطنية.
286 - النصيبية في الجهة الشمالية، واقفها الأمير علاء الدين علي ابن ناصر الدين محمد تائب قلعة نصيبين، ولي نيابة القدس وعمر بها المدرسة وتوفي بدمشق سنة 809 ونقل إلى هذه المدرسة وهي اليوم قسم من كلية روضة المعارف الوطنية.
287 - الإسعردية جوار الحرم إلى الشمال، واقفها الخواجة مجد الدين عبد الغني الإسعردي وتاريخ وقفها 770 ولا تزال عامرة. وقد شرع في ترميمها منذ عهد غير بعيد لنقل دار كتب المسجد الأقصى إليها وإقامة قاعة للمحاضرات فيها.
288 - المالكية إلى شمالي الحرم، عمرها الحاج ملك الجوكندار، وكان بناؤها في مستهل المحرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وهي تابعة للأسعردية وما برحت عامرة.
289 - الفارسية إلى شمالي الحرم، واقفها الأمير فارس البكي ابن الأمير قطلو ملك بن عبد الله نائب السلطة بالأعمال الساحلية والجبلية ونائب غزة، وهو الذي نسبت إليه الفارسية بداخل المسجد الأقصى وهذه الآن دار سكن وكان يدرس فيها الخالدية.
290 - الأمينية بباب شرف الأنبياء المعروف بباب الدويدارية بجوار المسجد، واقفها الصاحب أمين الدين عبد الله في سنة ثلاثين وسبعمائة وهي دار سكن.
291 - الدويدارية بباب شرف الأنبياء جوار الجامع، واقفها الأمير علم الدين أبو موسى سنجر الصالحي النجمي وتاريخ وقفها سنة 696 وفيها اليوم مدرسة البنات الإسلامية.
292 - الباسطية بباب شرف الأنبياء، بعضها على المدرسة الدوايدارية،(6/119)
واقفها زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيوش المنصورة وعزيز المملكة وقفها سنة 834 لا تزال موجودة تابعة للدويدارية وفيها مدرسة البنات الإسلامية.
293 - الكريمية بباب حطة جوار الحرم، واقفها الصاحب كريم الدين بن المعلم هبة الله بن مكانس ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية سنة 718 وهي الآن دار سكن.
294 - الدلغادرية بباب حطة جوار الحرم، واقفها الأمير ناصر الدين ابن دلغادر وبعد أن عمرتها زوجته مصر خاتون وقفها سنة 897 وهي دارسة.
295 - الطولونية داخل المسجد على الرواق الشمالي، كان يصعد إليها من السلم الموصل منه إلى منارة باب الأسباط، أنشأها احمد بن الناصري محمد الطولوني الظاهر زمن الملك الظاهر برقوق سنة 827 وهي من الدارس الداثرة.
296 - الفنرية مقابل الطولونية من جهة الشرق، كان يصعد إليها من السلم المتصل منها إلى منارة باب الأسباط أيضاً، وهي من إنشاء الطولوني عمرها من
مدرسته المقدم ذكرها وجعلها للملك الظاهر برقوق، فلما توفي الظاهر وآل الأمر لولده الملك الناصر فرج رتب لها قرى وأقام نظامها وجعل لها معاليم تصرف عليها، ثم لما توفي الناصر فرج لم يكن لها كتاب وقف فاشتراها بعد وفاته رجل من الترك يقال له محمد شاه بن الفنري الرومي ووقفها ونسبت إليه، وقد درست وأصبحت مساكن.
297 - الحسنية على باب الأسباط، وقف شاهين الحسني الطواشي من دولة الملك الناصر حسن المتوفى سنة 762 هي الآن دارسة.
298 - الصلاحية بالقرب من السور من جهة الشمال بباب الأسباط وقف صلاح الدين على الشافعية. ذكر المؤرخون أن صلاح الدين كان نازلاً في كنيسة صهيون ففاوض جلساءه من العلماء الأكابر في أن يبني مدرسة للفقهاء الشافعية ورباطاً للصلحاء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصندحنة عند باب أسباط، وعين دار البطرك وهي بقرب كنيسة(6/120)
القمامة للرباط، ووقف عليها وقوفاً، وارتاد أيضاً مدارس للطوائف، وقيل: كان موضع هذه المدرسة ديراً للراهبات أقيم في مكان بيت القديسين يواكيم وحونة فهدمه الملك وأقام المدرسة مكانه. وتاريخ وقفها 588 ووظيفة مشيختها من الوظائف السنية بمملكة الإسلام. وكان الأتراك نزلوا عن هذه المدرسة للآباء البيض في القرن الماضي فجعلوها مدرسة أكليركية، وفي الحرب العامة أخذها الترك وجعلوها مدرسة للعلوم الدينية، فلما سقطت القدس في أيدي الحلفاء رجعت إلى المسيحيين كنيسة.
299 - الكاملية بخط باب حطة جوار الكريمية من جهة الشمال، واقفها الحاج كامل من أهالي طرابلس كتب محضر بوقفها سنة 810 تعد في الدوارس.
300 - المعظمية وقف الملك المعظم عيسى مقابل باب شرف الأنبياء المعروف بباب الدويدارية، تاريخ وقفها سنة ستين وستمائة وهي معمورة وكان يدرس فيها
الخالدية خصوصا الكافية والهداية.
301 - السلامية بباب شرف الأنبياء تجاه المعظمية وهي بجوار المدرسة الدويدارية من جهة الشمال، واقفها الخواجا مجد الدين أبو الفداء إسماعيل السلامي والظاهر أنها وقفت بعد السبعمائة وهي دار قرآن ولا تزال دار سكن.
302 - الوجيهية بخط درج الموله. وقف وجيه الدين محمد بن عثمان بن أسعد بن المنجا الحنبلي المتوفى في سنة 745 هي الآن دار للسكن.
303 - المحدثية بالقرب من الوجيهية عند قبو باب الفواغة بجوار الحرم، واقفها عز الدين أبو محمد عبد العزيز العجمي الأردبيلي سنة 762 وهي اليوم قسم من كلية روضة المعارف الوطنية.
304 - الحسنية بباب الناظر على رباط علاء الدين البصير، واقفها ناظر الحرمين الشريفين نائب السلطنة بالقدس، وكان بناؤها في سنة 837 وهي لعهدنا دار سكن.
305 - التشتمرية بباب الناظر بالقرب من الحسنية، واقفها الأمير تشتمر السيفي، ناريخ وقفها 759 وهي دار سكن.(6/121)
306 - البارودية بباب الناظر بالقرب من التشتمرية، واقفتها الست الحاجة سفري خاتون ابنة شرف الدين أبي بكر بن محمود المعروف والدها بالبارودي تاريخ وقفها سنة 768 هي اليوم دار سكن.
307 - الجهاركسية بجوار اليونسية من جهة الشمال، كانت كنيسة من بناء الروم قسمت نصفين، جعل الأول المدرسة الجهاركسية والثاني الزاوية اليونسية. والجهاركسية نسبة لواقفها الأمير جركس الخليلي المتوفى سنة 791، لا تزال معمورة.
308 - الحنبلية بباب الحديد، واقفها الأمير بيدر نائب الشام فرغ من بنائها 781
وهي دار سكن.
309 - دار الحديث بجوار التربة الجالقية من جهة الغرب نسبة لركن الدين الكبير العجمي المعروف بالجالق. واقفها الأمير شرف الدين عيسى بن بدر الدين أبي القاسم الهكاري 666.
310 - دار القرآن السلامية تجاه دار الحديث، واقفها سراج الدين عمر بن أبي بكر أبي القاسم السلامي 761 لم تبرج معروفة.
311 - الطازية بخط داود بالقرب من باب السلسلة، وقف الأمير طاز المتوفى 763 موجودة إلى الآن دار سكن.
312 - الأفضلية وتعرف قديماً بالقبة بحارة المغاربة، وقف الملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي بن الملك صلاح الدين علي فقهاء المالكية بالقدس، ووقف أيضاً حارة المغاربة على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم ذكورهم وإناثهم، وهي دار سكن الآن.
313 - الؤلؤية بخط مرزبان بجوار حمام علاء الدين البصير من جهة الشمال أو بباب العامود، واقفها الأمير لؤلؤ غازي عتيق الملك الأشرف شعبان بن حسن لا تزال موجودة وقسم منها زاوية.
314 - البدرية قرب اللؤلؤية بخط مرزبان، وقفها بدر الدين محمد ابن أبي القاسم الهكاري وهي دار سكن.
315 - الميمونة عند باب الساهرة وكانت كنيسة من بناء الروم، واقفها الأمير فارس الدين أبو سعيد ميمون القصري 593 حولت إلى(6/122)
مدرسة في عهد العثمانيين، وهي الآن مدرسة بنات للمعارف وجعل اسمها المأمونية.
316 - الأباصيرية مدرسة تنسب للأمير علاء الدين الأباصيري، كانت بجوار باب الناظر وهي معمورة يسكنها فقراء السودان وكانت في عهد الأتراك قسماً من
السجن.
317 - الموصلية بباب شرف الأنبياء بجوار المسجد الأقصى، ونسبت للخواجة فخر الدين الموصلي وهي عامرة.
هذه خمس وأربعون مدرسة عمرت كلها قبل عهد العثمانيين وما ندري إن كانت أُنشئت في زمنهم الطويل مدرسة للفقه أو دار للحديث أو القرآن، وأكثر هذه المدارس من البناء الحجري الجيد وفيها يتجلى جمال الهندسة العربية وبعضها لم يقو على عوادي الأيام فتداعي في عصر واقفه، وبعضه مما سطا عليه أكله أكلة الأوقاف فاضمحل بالطبيعة، لم تشفع فيه متانة بنائه وإحكام بنيانه، وأكثر مما صبر على الأيام وبقي إلى الآن مثالا ناطقاً بفضل البانين والواقفين لكنه تعطل عما كان وقف عليه من التدريس والملازمة. وكيف دارت فعدد الباقي من المدارس بيت المقدس بالنسبة لنا بقي من نوعه في دمشق وحلب أكثر ولا يعلل ذلك إلا أن أرباب العدوان على الوقوف والأحباس لم يتيسر لهم أن يتسلطوا عليها وكان لهم من عناية غير المسلمين بمدارسهم ودياراتهم في القدس عبرة وعظة.
وكان في قرية الطور 318 المدرسة المنصورية وهي خراب. وبمحلة الواد 319 المدرسة العثمانية.
وبباب السلسلة 320 المدرسة الكيلانية.(6/123)
321 - الدقمرية.
322 - المرمرية.
323 - البرقوقية.
324 - الرشيدية.
وبباب المناظر 325 الفرهادية.
وبباب حطة 326 الصلاحية.
وفي القدس اليوم مدارس مهمة لطوائف النصارى ولجماعة الصهيونيين تحتاج إلى درس خاص ففيها من حيث العمران ما هو ذو شأن وإن كان حديثاً على طراز غربي في البناء لا صلة بينه وبين هندسة هذه الديار، لذلك ليس له في النفس تلك الروعة التي يجدها المرء لمدارسنا القديمة المتقنة الأوضاع.
بقية مدارس القطر:
ذكر من زاروا حماة في لبقرتين السابع والثامن أنه كان فيها ثلاث مدارس وبيمارستان وأن فيها زوايا وربطاً. وليس لهذه المدارس من أثر اليوم. ومن جملة مدارسها:
327 - المدرسة الخاتونية لمؤسستها مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر صاحب حماة أنشأتها ونسبت إليها فسميت الخاتونية ووقفت عليها وقفاً جليلاً وكتباً، وهي الآن بستان في مبدإ طريق محلة الجراجمة على يسار المنحدر إلى باب النهر.
327 - المدرسة الطواشية في محلة المدينة، وقفها الطواشي مرشد في دولة الملك المنصور تجاه باب الجامع الكبير الشمالي في جانب حمام الذهب الشرقي، خربت بعد الألف وهي الآن دارسة، وكانت عظيمة جداً ولها أوقاف مهمة ولم يبق منها إلا آثار الجدران في البستان.
328 - المدرسة البارزية وهي للشافعية وقد خربت أيضاً.
329 - المدرسة العصرونية في باب حمص على ضفة العاصي قرب بستان الجبل، كانت دار قرآن وكان لها جامع وداران متصلان بها، وفي جدارها كتابة حجرية إلى اليوم مقروءة وخلاصتها أن الأمير نجم الدين التوتان بن ياروق أنشأها سنة 584 وعمر مسجدها وكتب عليها: أمر بعمل هذه الدار المباركة السيد الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد بن ألي بكر الشافعي خلا قبلها وما استثنى، جعلها دار قرآن ووقف عليها أوقافاً كثيرة لتسكن في هذه الديار من فقراء
المسلمين الغرباء وقيمين بها ليلاً ونهاراً يتلون كتاب الله ويتذاكرونه بينهم ويدعون للواقف ولوالديه وللمسلمين. وقرر بها شيخين يعلمونهم القرآن الكريم ويكون مقام الفقير فيها مدة خمس سنين(6/124)
فإن ختم القرآن أو مضت المدة المعينة فيكس ثوباً أو جبة، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم في شوال سنة خمس عشرة وسبعمائة.
330 - المدرسة العزية كانت في محلة باب الجسر، بناها محمد ابن حمزة العزي بجوار جامع العزي في شهور سنة 727 وهي خراب.
331 - المدرسة النورية كانت قريبة من جامع نور الدين وبعد أن عفت آثارها جددها سيف الدين الكيلاني وجعلت تكية.
332 - المدرسة الحنفية هي القطعة الشرقية من حرم جامع نور الدين، بناها الملك المؤيد صاحب حماة. وهذه إحدى المدارس التي أشار إليها ابن جبير التي كانت حذاء المارستان والثانية النورية والثالثة لا يعرف مكانها.
333 - المدرسة الشيخية وهي الزاوية السفاحية في الموقف بناها قاضي القضاة نجم الدين عبد الظاهر بن السفاح الحلبي وكانت تسمى مدرسة الشيخة وقد وقف لها حولها أوقافاً كثيرة.
334 - المدرسة المظفرية كانت في جانب الجامع الكبير إلى الغرب، في محلة المدينة، بناها الملك المظفر تقي الدين عمر.
وكان لجميع هذه المدارس أوقاف دارة على الطلبة والمدرسين ومعاليم لهم، وقد كتب على باب جامع النوري في الحجر ما يستفاد منه أن أحد الملوك وقف على طلبة العلم فيه خمسة عشر ألف درهم في كل سنة استجلاباً لأدعيتهن وإعانة لهم على طلب العلم. ويقال على الجملة: إن مدارس حماة حسنة من حسنات بيت أيوب فإن بضعة منهم تولوا مملكتها فعمروها بعلمهم وعدلهم ونشطوا العلماء وأفضلوا على المعوزين.
وليس في حمص مدارس قديمة، وقد ذكرا ابن جبير في المائة السادسة أن بها مدرسة واحدة وليس بها مستشفى على رسم مدن هذه الجهات. وقال ياقوت في القرن السابع: إنه كان بها مدارس. وقال الظاهري في القرن التاسع: إن بها مدارس. وهذه المدارس لا أثر لها.
ومن أهم مدارس طرابلس 335 المدرسة القرطائية أفخم مدارس طرابلس كلها وهي مرصقة للجامع الكبير من الجهة الشرقية، وقد ذهب(6/125)
اسم بانيها بالتحقيق وزمن بنائها مع الكتابة التي طمست لإخفاء أوقافها التي كانت نحفورة على ظهر جدارها القبلي، والمظنون أن بانيها هو قرطاي ابن عبد الله الناصري الذي أقام المنبر بالجامع الكبير الأشرفي وذكر اسمه هناك، وكان تاريخ بنائه في شهر ذي القعدة 726 وهذه المدرسة تشبه من وجوه كثيرة جامع البريطاني وتقام فيه الصلوات وهي ملحقة بالجامع الكبير.
336 - مدرسة تغري برمش بباب الحديد على طريق الآخذة إلى المولوية، والمشهور عند أهل طرابلس أن بانيها الملك الظاهر بيبرس، وليس الأمر كذلك وهذه صورة الكتابة التاريخية التي فوق بابها:
بسم الله الرحمن الرحيم. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا، قوله الحق وله الملك. عمر هذا المكان المبارك المقر السيفي تغري برمش الظاهري أعز الله أنصاره مسجداً لله تعالى وتربة لدفن ولديه الأخوين الشقيقين السعيدين سيدي الأمير قالتمر وسيدي الأمير تغري بردجي الطفلين المنغصين على الدنيا المتجاورين في دار الآخرة تغمدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنته، وجمع بينهما في دار كرامته. وذلك في ثالث شهر الله المحرم سنة تسع وتسعين وسبعمائة ورحم الله من يترحم عليهما. وهذه المدرسة متداعية للسقوط.
337 - المدرسة الزريقية هي في محلة السويقة داخل طرابلس وهي متسعة ولا تقام فيها الصلوات وهذه صورة الكتابة التاريخية التي عليها: أمر بإنشاء هذه الزاوية المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى سيف الدين كرناي السيفي وذلك بتاريخ شهر شوال سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
338 - المدرسة السقرقية تقع في طرف المدينة للجهة الغربية على الطريق الآخذة إلى جباية باب الرمل، بناها آقطرق الحاجب مسجداً الله تعالى وتربه للدفن وعلى حائطها لجهة الجنوب الشرقي كتب الوقفية بأحرف غليظة ظاهرة فيها اسم بانيها وتعداد العقارات الموقوفة على المسجد وشروط الواقف(6/126)
لصرف ريعها وفيها أن كتاب الوقف مؤرخ بمنتصف ذي القعدة الحرام سنة 757.
339 - الخاتونية تقع أمام المدرسة السقرقية، بنتها أرغون خاتون بالاشتراك مع زوجها ومعتقها عز الدين ايدمر الأشرفي والي طرابلس، وكان الفراغ من بنائها في سنة 775 كما هو مذكور في كتاب الوقف المحفور عند مدخل المدرسة المذكورة وفيها أسماء العقارات الموقوفة عليها وشروط الواقفة ريعها وإقام الصلات فيها.
340 - مدرسة دبها بناها الشيخ عبد الله الديها الحلبي من أصحاب الطريقة النقشبندية قريباً من سوق الصاغة سنة 1234 على ما زبر ذلك بابها، ووقف عليها أوقافاً حسنة ودفن فيها وتقام فيها الصلوات.
وفي طرابلس مدارس وزوايا وخوانق أخرى لا يعلم اسم بانيها ولا زمن بنائها وبعضها مهجور مقفر وآخر متداع.
ومن مدارس الشام 31 مدرسة حصن الأكراد أنشأها والي هذه البليدة بكتمر من عبد الله الحر الأشرفي زاوية ومدرسة وبيمارستاناً بأموال جسيمة على الصادي والغادي من أبناء السبيل وذلك في سنة 719.
ومنها 342 رباط الخيل الرحمن أنشأها قلاوون سنة 679 صاحب الآثار في دمشق والقدس والخليل وغيرها.
ومنها 343 مدرسة غزة أنشأها للشافعية الأمير الكبير علم الدين الجاولي الذي سمع مسند الشافعي بالكرك دانيال، وعمل نيابة السلطنة في غزة وبنى بها مدرسة وجامعاً حسناً، وله عمائر كثيرة وخانات توفي سنة 745.
ومنها 344 خانقاه النجمية في بعلبك، عمره نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين يوسف أيام ولايته عليها وخصه بالصوفية.
ومنها 345 السيفية بمدينة الصلت لمنشئها الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاية سنة 742.
ومنها 346 الزبدانية لواقفها محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة(6/127)
656 درس في سنة 698 ابن العدل محي الدين يحيى بن محمد بن عبد الصمد وهي مدرسة جدة.
ومنها 347 الأمينية بمدينة بصرى، وكانت عامرة في القرن السادس ولم نعلم اسم بانيها.
وكان في المعرة 348 مدرسة المعرة قديمة للشافعية بنيت على ما يفهم مما كتب على رتاجها الجميل زمن الملك المنصور محمد أحد ملوك الأيوبيين في حماة سنة 595 وعمر فيها ابن الوردي مدرسة في النصف الأول من المائة الثامنة.
ومنها 349 مدرسة عزاز أنشأها إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي وساق إليها القناة الحلوة وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة وله آثار حسنة غيرها توفي سنة 748.
قال ابن طولون: كان في ربوة دمشق مدرسة يقال لها المضجية 350 وفي الأصل المنبجة موقوفة على مدرس حنفي وطلبته.
وكان في منبج مدرسة بناها نور الدين محمود بن زنكي لابن أبي عصرون في جملة ما بنى له من المدارس، وفي آثار البلاد أنه كان فيها مدارس وربط. وفي جباع وميس وعيناتا وجزين ومشغرة والشقراء من جبل عامل مدارس دينية تخرج فيها جلة فقهاء الشيعة وأدبائهم، وقد خربت واضطر أهل عامل إلى إرسال بعض الطلبة إلى النجف الأشرف يدرسون في مدارسها التي هي للشيعة بمثابة الأزهر في القاهرة والزيتونة في تونس لأهل السنة.
ولا نعلم في سائر مدن الشام ساحلها وداخلها شيئاً من تاريخ المدارس وخططها فإن كانت فهي ضئيلة لأن قوة المسلمين في هذه الديار كانت في العواصم الكبرى حيث ينزل الملوك والأمراء والأغنياء، وسائر المدن ضعيفة الشأن في هذا المعنى. ومن الصعب أن تقوم المدارس للطلبة في القرى. وكانت الكرك وصفد وبصرى والزبداني ومنبج والرملة وغزة، وأكثرها اليوم أشبه بالقرى منها بالمدن أكثر من بيروت وصيدا وصور ويافا وحيفا وعكا واللاذقية وجبلة والسويدية والإسكندرونة عمراناً، فقد ذكر الظاهري في القرن التاسع أنه كان في كل من غزة وصفد وبعلبك مدارس بصيغة الجمع، ومنها ما(6/128)
كان مركزاً من مراكز العلم مثل صفد. وما نخال بعض المدن التي أصبحت قرى كانت خالية أيضاً من مدارس مثل كفر طاب بين المعرة وشيزر ولكن أخبارها ضاعت.
ومن مدارس القطر مدرسة قليتباي في غزة درست ويظن أنها قرب المسجد، وفيها مدرسة هاشم حديثة العهد وفيها طلاب متعممون، ومدرسة أبي نبوت في يافا، ومدرسة الجزار في عكا، ومدرسة في الجامع الكبير المارستانية في نابلس، ومدرسة جامع الحنابلة، ومدرسة البيك والصلاحية في نابلس أيضاً وبجوارها الشيخ بدران شيخ المدرسة، كانت محكمة شرعية والآن تحولت مقهى.(6/129)
الخوانق والربط والزوايا
خوانق دمشق:
الخانقاه كلمة فارسية قيل: أصلها خونكاه أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. وهي زوايا الصوفية لم تعهد على هذا النمط إلا في القرن السادس، وأول من بناها من الملوك بمصر كما قال السيوطي السلطان صلاح الدين يوسف ورتب للفقراء الواردين أرزاقاً معلومة. وقال المقريزي: إن الخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجعلت ليتخلى الصوفية فيها لعبادة الله تعالى، وإن أول من اتخذ بيتاً للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره.
وقيل: إن أول خانقاه بنيت في الإسلام للصوفية زاوية برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى الفرنج على الديار القدسية، وسبب ذلك أنه رأى طائفة من الصوفية وألفتهم في طريقتهم، فسأل عنهم ما هذه الألفة والصحبة والأخوة الخاصة بينكم فقالوا له: الألفة والصحبة لله طريقتنا. فقال لهم: أبني لكم مكاناً لطيفاً تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الزاوية. وفي التاج أم معاوية كان يكتب إلى أطرافه وعماله وإلى زياد بالعراق بإطعام السابلة والفقراء وذوي الحاجة في كل يوم أربعون مائدة يتقسمها وجوه جند الشام.
ولقد كان بدمشق من هذه الخوانق أو الخانقات ست وعشرون خانقاهاً على ما في الدارس وهي:(6/130)
351 الأسدية داخل باب الجابية في المحل المعروف بدرب الهاشمية قديماً إنشاء الدين شيركوه، ولي مشيختها نجم الدين بن القرشية العباسي وغيره وهي غير معروفة.
352 - الإسكافية كانت على نهر يزيد بسفح قاسيون، إنشاء شرف الدين بن اٌلإسكافي مجهول محلها.
353 - الأندلسية شرقي العزيزية والأشرفية قرب الكلاسة ملاصقة للجقمقية غربي السمسياطية وهي المعروفة بأبي عبد الله الأندلسي ومن صوفيتها شهاب الدين أحمد القباني. وهذه الخانقاه الآن عمد قائمة ليس إلا.
354 - الباسطية كانت بالجسر الأبيض غربي الإسعودية وشمالي العزية إنشاء عبد الباسط بن خليل ناظر الجيوش بعد الثمانمائة، ولي مشيختها قاضي القضاة الباعوني وهي الآن في البساتين خراب.
355 - الحسامية الشبلية شمالي الشبلية البرانية عند جسر كحيل منسوبة لأم حسام الدين عمر بن لاجين ولي مشيختها شرف الدين نعمان وهي غير معروفة.
356 - الخاتونية ظاهر باب النصر المعروف بدار السعادة أول الشرف القبلي على نهلر بانياس شرقي جامع تنكرز وملاصقة له منسوبة إلى خاتون بنت معين الدين زوجة نور الدين وهي الآن عمائر وبنايات.
357 - الدويرية كانت بدرب السلسلة بباب البريد منسوبة لمحمد ابن عبد الله الدمشقي المقري المعدل.
358 - الروزنهارية بالباب الشرقي من الجامع الأموي خارج باب الفراديس في المحل الذي كان يعرف ببرج المسجد، لأبي الحسن الروزنهاري ليست معروفة.
359 - السميساطية للشمال الشرقي من الجامع الأموي، أسها أبو(6/131)
القاسم علي بن محمد المعروف بالحجيش السميساطي المتوفى سنة 453 قالوا: إنه دفن بداره بباب الناطفانيين المعروف الآن بباب العمارة وكان قد وقفها على فقراء المؤمنين والصوفية ووقف علوها على الجامع وحبس أكثر نعمته على وجوه البر. وكانت هذه الدار دار عبد العزيز بن الوليد وهو الأصبغ الأموي وابن أخت عمر بن عبد
العزيز، وقد سكنها عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة وتولاها أناس من أكابر العلماء. وجددها تنكر في سنة 728 بناء جميلاً، وتنكر هذا جدد عمائر المساجد والمدارس ووسع الطرقات في دمشق وله في الشام عمائر وآثار. وقد نقضت منذ بضع سنين من أساسها وجدد بناؤها على أن تجعل مدرسة راقية للعلوم الدينية فلم يتم لها هذا ورجعت حجرها مأوى البطالين.
ذكر القلقشندي من الوظائف الدينية بدمشق في القرن التاسع وظيفة شيخ الشيوخ، وموضوعها التحدث على جميع الخوانق والفقراء بدمشق وأعمالها، والعادة أن يكون متوليها شيخ الخانقاه السميساطية بدمشق.
360 - الشومانية أنشأها شومان ظهير الدين أحد مماليك بني أيوب ولم يذكر في الدارس غير هذا.
361 - الشهابية داخل باب الفرج غربي العادلية الكبرى وشمالي المعينية إنشاء الأمير ليدكين بن عبد الله مملوك الأمير الطواشي شهاب الدين رشيد النجمي سنة650 خربت في وقعة تيمور 803 ولم تتجدد بعد، وهي الآن دور وأنقاضها ظاهرة بأحجارها النحيتة.
362 - الشبلية إنشاء شبل الدولة كافور المعظمي بإزاء الشبلية البرانية المتقدمة على نهر ثورة بسفح قاسيون، وليها نجم الدين بن بركات بن القرشية البعلي وغيره ولا يعرف عنها غير هذا.
363 - الشنباشية بحارة البلاطة تعرف بأبي عبد الله الشنباشي كانت مدرسة للإناث.
364 - الشريفية تجاه العروية شرقي دار الحديث الأشرفية ملاصقة للطوملنية شرقي باب القلعة وغربي العادلية الصغرى، إنشاء أحمد بن الفقاعي درس بها الفارقي وهي الآن حوانيت.(6/132)
365 - خانقاه الطاحون خارج البلد منسوبة لنور الدين تولاها السيخ سعيد الغثاني وهي دائرة.
366 - الطواويسية منسوبة للملك دقاق أو لابنه وهي المشهورة بجانب الكوجانية والطريق الآخذ إلى المرجة والصالحية وهي اليوم جامع اقتطعت الأوقاف من غربيها قطعة جعلتها للمستغلات.
367 - العزية بالجسر الأبيض على نهر ثورة بالصالحية فبلي الباسطية وغربي الماردانية ومدرسة إبراهيم الإسعردي، إنشاء عز الدين آيدمير الظاهري 690 وهي محطة الترامواي الآن.
368 - خانقاه القصر مطلة على الميدان الأخضر، إنشاء شمس الملوك ذهبت مع ما ذهب.
369 - القصاعية كانت بالقصاعين أو سوق مدحت باشا اليوم إنشاء فاطمة خاتون خطليجي، خربت ولم يبق لها عين ولا أثر.
370 - الكججانية بالشرف الأعلى بين الطواويسية والعزية وأمام شركة الكهرباء والترامواي، إنشاء إبراهيم الكججاني لم تبرج قبتها ظاهرة.
371 - المجاهدية إنشاء مجاهد الدين إبراهيم على الشرف القبلي سنة 656 ولم يعلم منها ولا مكانها.
372 - النهرية المشهورة بخانقاه عمر شاه بأول شارع القنوات شرقي سيدي خمار وهي الآن دار.
373 - النجيبية جاء في مختصر الدارس أنها بناحية باب البريد، إنشاء نجم الدين أيوب والد صلاح الدين ولا يعرف لها أثر.
374 - الناصرية إنشاء صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد ابن غازي بن أيوب بجبل قاسيون على نهر يزيد تقدم ذكرها في دور الحديث صارت اليوم
حاكورة صبار.
375 - الناصرية منسوبة للناصر صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادي كانت بدرب خلف القيسارية، وهي غير معلومة.
376 - اليونسية في أول الشرف الأعلى الشمالي شرقي الخانقاه الطواويسية، إنشاء الأمير الشرفي يونس سنة 784 هدمت وجعلت طريقاً في أيامنا.(6/133)
ومن الخوانق الحديثة 377 خانقاه أحمد باشا الشهير بين أمراء الأروام أي العثمانيين بشمسي أحمد باشا تولى دمشق فطالت مدته وبنى فيها خانقاهاً قبالة قلعة دمشق من جانبها القبلي ملاصقة لخندقها وجعل فيها حجرات للصوفية وهي من محاسن دمشق. رواية الحسن البوريني، وما زالت هذه الخانقاه عامرة ولكن ى على الصورة التي أرادها الواقف بل صارت جامعاً. ومن خوانق دمشق القديمة 378 خانقاه النحاسية أنشأها الخواجة الكبير شمس الدين النحاس الدمشقي سنة 622.
رباطات دمشق:
الرباط ويقال له التكية بالتركية قال الأميري: والخانقاه بالكاف يعني الخانكا وهي بالعجمية دار الصوفية ولم يتعرضوا للفرق بينهما وبين الزاوية والرباط وهو المكان المسبل للأفعال الصالحة والعبادة. وأول من اتخذ دار الضيافة الواردين الوليد بن عبد الملك الأموي واتخذ بعده عمر بن عبد العزيز داراً لطعام المساكين والفقراء وابن السبيل. وكان لنور الدين محمود بن زنكي يد طولي في الاستكثار من الربط والخوانق بني منها في جميع مملكته للصوفية ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدار عليها الإدرارات الصالحة، وكان يكرم الصوفية والفقهاء والعلماء. وقد جدد الظاهر دور الضيافة للرسل والواردين. ويؤخذ مما قاله المقريزي أن الرباط دار يسكنها أهل طريق الله، والرباط والمرابطة ملازمة تغر العدو ثم صار
لزوم الثغر رباطاً، والرباط المواظبة على الأمر، وقيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاد عن العبادة والبلاد، فالرباط بيت الصوفية ومنزلهم، ولكل قوم دار والرباط دارهم.
وكان بدمشق ثلاثة وعشرون رباطاً وهي:
349 - رباط البياني داخل باب شرقي بحارة درب الحجر أو البيمارستان الآن. والبياني نسبة لأبي البيان محمد بن محفوظ القرشي ويعرف بابن الحوراني لا يعرف عنه شيء أنشئ سنة 501.
380 - رباط التكريتي بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، إنشاء(6/134)
محمد بن علي بن سويد التكريتي التاجر المثري سنة 670 غير معروف.
381 - رباط الشيخ محي الدين بالصالحية بناه على قبر محي الدين ابن عربي السلطان سليم خان وجعله جامعاً وتكية لطعام الفقراء في سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة قاله القرماني. وهو موجود إلى اليوم.
382 - رباط صفية القلعية بالقرب من المدرسة الظاهرية لا يعرف عنه شيء غير هذا.
383 - رباط زهرة كان قرب حمام جاروخ وأمام فرن خليفة بجيرة دار الأمير مسعود ابن الست عذراء صاحبة المدرسة وهو غير معروف.
384 - رباط طومان إنشاء طومان أحد أمراء السلجوقيين تحت القلعة ولا يعرف عنه شيء.
385 - رباط جاروخ التركماني لا يعرف عنه إلا أنه كان بباب الجابية.
386 - رباط غرس الدين خليل من ولاة دمشق، كان معروفاً بباب الجابية وهو مجهول.
387 - رباط المهراني
و388 - رباط البخاري كانا عند باب الجابية ولا يعلم عنهما غير ذلك.
389 - رباط البافلاطوني
و390 - رباط الفلكي
و391 - رباط بنت السلار داخل باب السلامة ولا يعلم عنها شيء.
392 - رباط عذرا خاتون كان داخل باب النصر غير معروف.
393 - رباط بدر الدين عمر.
394 - رباط الحبشية بمحلة المعينية غير معروف.
395 - رباط أسد الدين شيركوه بدرب زرعة لا يعرف ولا يعرف درب زرعة.
396 - رباط القصاعين
و397 - رباط بنت الدفين كانا داخل المدرسة الفلكية.
398 - رباط بنت عز الدين مسعود صاحب الموصل
و399 - رباط الداوداري داخل باب الفرج، ولي مشيخته(6/135)
نور الدين بن قوام وهما غير معروفين.
400 - رباط الفقاعي من رباطات السفح سفح قاسيون.
401 - رباط الوزار بمحلة سويقة صاروجا.
وبعض هذه الرباطات قد ذكرت أولاً باسم مدارس وبنيت في محلها والغالب أن الرباطات كانت تستحيل في الأحايين جوامع أو مساجد أو مدارس كما شوهد ذلك في زماننا. ومما أغفله صاحب الدارس من الرباطات
402 - رباط نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وقفه وكان داخل الدرب بوقاق العونية بباب البريد.
زوايا دمشق:
الزوايا كالخانقاهات والرباطات إلا أنها تقام فيها الأذكار وقد كثرت بكثرة الطرق والمشايخ المعتقدين وذلك بعد القرن السادس. وكان بدمشق على عهد صاحب الدارس ست وعشرون زاوية:
403 - الأرموية بسفح قاسيون، إنشاء عبد الله بن يونس الأرموي المتوفى سنة 631 وهي خراب.
404 - الأرموية الشرفية بالسفح أيضاً، إنشاء الشيخ شرف الدين ابن عثمان بن علي الرملي غير معلومة.
405 - الحريرية ظاهر دمشق بالشرف القبلي، إنشاء علي الحريري أبي محمد ابن أبي الحسن بن مسعود سنة 630 لم نحققها.
406 - الحريرية الأعففية لأحمد الأعفف الحريري.
407 - الدهستانية لإبراهيم الدهستاني، كانت عند سوق الخيل العتيق.
408 - الحصنية إنشاء تقي الدين الحصني بالشاغور وهي موجودة.
وفي ظهر نسخة من كتاب العنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان للنعيمي ما نصه: الحمد لله: كان ابتداء عمارة الزاوية أعلى خان السبيل المعروف بخان الحصني قدس سره نار الاثنين من شعبان سنة 1092 اثنتين وتسعين وألف في مدة قليلة، ومطلعها من مسجده المعروف بالحصنية المجاورة(6/136)
للخان المذكور، وقد أنشأ العبد الفقير فيه أيضاً عمارات كثيرة وكذلك عمارة ميضأته التي اختلسها بنو العجمي الغادرون وانتزعت منهم وأعيدت أحسن ما كانت بإمداد الله ومعونته ورفقه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وكتبه العبد الفقير تقي الدين الحسيني الحصني الشافعي لطف الله تعالى به والمسلمين.
409 - الدينورية بالسفح إنشاء عمر بن عبد الملك الدينوري المتوفى سنة 629.
410 - الدينورية الشيخية بالسفح أيضاً إنشاء أبي بكر الدينوري باني الزاوية
بالصالحية.
411 - السيوفية بالسفح على نهر يزيد غربي دار الحديث الناصرية والعالمة إنشاء الشيخ السيوفي نجم الدين بن عيسى بن شاه أرمن الرومي.
412 - الداودية بالسفح أيضاً تحت كهف جبرائيل، إنشاء زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود القادري.
413 - السراجية بالصاغة العتيقة منسوبة لابن سراج.
414 - الشريفية التعارانية شرقي الناصرية الجوانية، إنشاء محمد الحسيني التعاراني.
415 - الطالبية الرفاعية بقصر حجاج، إنشاء طالب الرومي.
416 - الوطية شمالي جامع جراح للمغاربة وتعرف بزاوية المغاربة، إنشاء الرئيس علي الشهير بابن وطية الموقت سنة 802.
417 - الطيبة شمالي القيمرية الكبرى داخل مدرسة القطاط، إنشاء طه المصري شرقي حمام أسامة سنة 631.
418 - العمادية المقدسية عند كهف جبرائيل بالسفح، إنشاء أحمد ابن عماد الدين بن العماد المقدسي المتوفى سنة 688.
419 - الغسولية بالسفح أيضاً، إنشاء أبي عبد الله محمد ابن أبي الزهر الغسولي.
420 - الفقاعية بالسفح أيضاً، إنشاء الشيخ يوسف الفقاعي.
421 - الغويتية بالسفح، لصاحبها الشيخ علي الغويتي.
422 - اللوثنية بالسفح أيضاً، إنشاء علي اللوثني.(6/137)
423 - القوامية البالسية غربي جبل قاسيون والزاوية السيوفية ودار الحديث الناصرية على حافة نهر يزيد، لصاحبها أبي بكر بن فوام البالسي.
424 - القلندرية الدركزبنية بمقبرة باب الصغير لمحمد بن يونس الساوجي من
مشايخ القلندرية. وقلندر لفظة فارسية معناها الدرويش الذي نفض يده من الدنيا وزهدت نفسه في زخارفها.
425 - القلندرية الحيدرية كانت بمحلة العونية.
426 - اليونسية بالشرف الشمالي غربي الوراقية والعزية البرانية للشيخ يونس بن يوسف الفتي أنشئت سنة 619.
427 - زاوية ابن اللقيمية أنشاء ناصر الدين بميدان الحصا، وهو من ذرية صلاح الدين أيوب غير معلومة.
428 - زاوية عبد القادر الموصلي.
هذه أسماء الزوايا وبعضها لم يزل باقياً لم يصب بما أصيبت به المدارس.
ومن الزوايا التي كانت في المزة:
429 - زاوية خضر العدوي على باب دمشق، وكان هذه مشهوراً بشيخ الملك الظاهر بيبرس وكان يعتقده، بنى له كما قال ابن طولون عدة زوايا في مصر والشام منها زاوية المزة، وبدمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية. ومن الزوايا الحديثة:
430 - تكية السلطان سليم التي بناها أيام بنى القبة على قبر محي الدين ابن عربي بالصالحية 922 ووقف عليها أوقافاً دارة ولا يزال بعضها إلى الآن وقد بقي الرسم من هذه التكية وأضيفت إلى معاهد الجامعة السورية.
431 - التكية السليمانية بجانبها منسوبة للسلطان سليمان القانوني، جاء في كتاب الجوامع والمدارس أن فيها من الأحجار والآلات والرخام الصافي والملون والصنائع والقباب والترصيص ما يحير الناظر ويسر الخاطر.
ثم مدح بحرتها ومئذنتها فقال: إنه يحصل للمسافر أنس بهما لأن غالب المهندسين متشرفون بدين الإسلام. ثم قال: تجددت مدرسة إلى جانب التكية السليمانية من
الشرف برسم المدرس في سنة 974 وهي من زوائد التكية وجاء مدرسها من الباب العالي اه. وقد رمت هذه التكية في الحرب العامة على آخر أيام(6/138)
الترك وأزيل ما كان علق بقبتها ومسجدها وحجرها من الكلس والجبس وأعيدت إلى حالتها الأولى فظهر حسن هندستها وطرز بنائها الرومي، ومنارتاها شاهدتان بأنها من طرز بناء الجوامع في فروق، وكانت تتداعى منارتها الشرقية فنقضت وأعيدت كما كانت، واستولت إدارة الجامعة السورية على جزء منها في العهد الأخير جعلته مخابر لمدرسة الطب، ولها أوقاف قيل: أنها تبلغ نحو مائة ألف ليرة مسانهة. وهذه التكية من أجمل آثار العثمانيين هندسها معمار سنان أشهر مهندس في دولة الترك المتوفى 966 ولم يحصل الانتفاع بها مع أنها في الغاية بناء وهندسة وأوقافاً.
ومن التكايا التي عمرت أواخر القرن العاشر:
432 - تكية مولويخانة تكية الدراويش بالقرب من جامع تنكز، وهي في غاية الحسن عمرت سنة 993 والمولوية هي طريقة الدراويش المنسوبين لجلال الدين الرومي، وكان مقرها في قونية وطريقتهم تمتاز بالرقص والتواجد والإنشاد وقد ألغى الكماليون طريقة المولوية من مملكتهم ولم يبق منها إلا بعض تكايا في الشام أكلت أوقافها ومن أهلها تكية حلب.
ومن الزوايا التي عمرت بعد صاحب الدارس على ما يظهر:
433 - الزاوية الغزالية بالجامع الأموي شمالي مشهد عثمان، كان مدرسها سنة1083 مصطفى المحاسني.
434 - الزاوية المزلقية بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية لشمس الدين بن المزلق مولده سنة 754 وكان من الأغنياء، عمر على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر بنات يعقوب وعيون التجار وغيرها، وأنفق
على عمارتها ما يزيد على مائة ألف دينار ولم يسبقه أحد إلى مثل ذلك، وهو صاحب المآثر بدرب الحجاز، وقف جميع أملاكه من القرى وغيرها، وجعل النظر في ذلك لمن كان حاجب الحجاب ولمن كان خطيباً بالجامع الأموي، ولم يمض قرن وبعض الثاني حتى لم يبق جارياً من مبراته سنة 1083 المعينة في كتاب الوقف سوى شيء قليل. قاله المحاسني. والغالب أن اسم واقف هذه المدرسة محمد بن علي بن المزلق المتوفى سنة 848 وهي عند مسجد الذبان. ومن الزوايا الحديثة:(6/139)
435 - زاوية الصمادية في الشاغور أنشئت سنة 1053 أنشأها زاوية ومسجداً محمد بن خليل الصمادي.
436 - الزاوية الشاذلية أنشئت 1290 في القنوات لأهل الطريقة الشاذلية وما زال يقام فيها الذكر.
437 - الغواصية زاوية أنشئت في الميدان لأصحاب الطريقة الرفاعية، حرقت في الثورة الأخيرة، وكانت عمرت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
438 - زاوية السعدية في زقاق الخمارات وهي لأهل طريقة سعد الدين الجباوي.
ويؤخذ من مجموع الإحصاء الرسمي أن بدمشق الآن إحدى عشرة تكية، ولعل الزوايا داخلة في هذا المجموع. وفي القنيطرة تكية أنشأها لالا مصطفى باشا الذي تولى دمشق سنة 971.
خوانق حلب وربطها وزواياها:
439 - خانقاه البلاط هذه أول خانقاه بنيت في حلب، سميت بذلك لأنها في سوق البلاط الآن سوق الصابون أنشأها شمس الخواص لؤلؤ الخادم عتيق الملك رضوان سنة تسع وخمسمائة، كان لها بابان أحدهما من السوق المذكورة ثم سد وجعل صغيراً، والآخر من شارع شرقيها، قيل: هي موقوفة على الفقراء
المتجردين دون المتأهلين بحلب، ثم هجرت واتخذت بيتاً، إلى أن أحياها الشيخ علاء الدين الجبرتي بنفقة الأمير تغري بردي، ثم إن الحكومة التركية اتخذت منها مخفراً ثم أجرته دائرة الأوقاف مدة طويلة فعمر مخزناً للتجارة ونقل باب الخانقاه القديم إلى شمالي باب المخزن وعمل له دهليز يدخل منه إلى الصحن والقبلية، ووقع في هذين ترميمات بسعي أهل الخير ومعاونة مديرية الأوقاف فعاد للمحل بعض الحياة.
440 - خانقاه القديم أنشأها نور الدين محمود بن زنكي سنة خمسمائة وثلاث وأربعين، كانت تحت القلعةإلى جانب الخندق ملاصقة لدار العدل، ثم عرفت بالمقشاتية ثم خربت ودخلت في عمارة المستشفى الوطني.(6/140)
441 - خانقاه القصر من إنشاء نور الدين أيضاً سنة خمسمائة وثلاث وخمسين، وهي تحت القلعة سميت بالقصر الذي كان هنالك من بناء شجاع الدين فاتك.
442 - خانقاه الست أنشأتها زوجة نور الدين أم الملك الصالح إسماعيل سنة خمسمائة وثمان وسبعين، وبنت إلى جانبها تربة دفنت بها ولدها الملك الصالح. ثم كثرت الخوانق والربط من ذاك العهد. وعد ابن الشحنة منها عدا ما تقدم خمسة وعشرين رباطاً أنشئت في الدولتين النورية والصلاحية ثم في دولة المماليك، وكلها قامت بأيدي أهل الخير من الملوك والأمراء والأميرات وبعض أرباب الدولة.
443 - خانقاه الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك صاحب إربل في المحلة التي كانت تعرف بالسهيلة ثم عرفت بسويقة حاتم. هكذا في الدار المنتخب وهي تعرف بالزينية بزقاق يقال له زقاق الفرن، مكتوب على بابها أنها جددت في دولة الملك الظاهر أبي المظفر ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب، وأن واقفها الأمير زين الدين علي بن بكتكين سنة 630. والآن فيها قبلية
وست حجر.
444 - خانقاه بعرصة الفراتي أنشأها مجد الدين أبو بكر محمد بن محمد الداية ابن نوشتكين المتوفى سنة خمسمائة وخمس وستين، أخو نور الدين من الرضاع.
445 - خانقاه بمقام إبراهيم أنشأها مجد الدين ابن الداية المذكور أيضاً.
446 - خانقاه سعد الدين كمشتكين الخادم مولى بنت الأتابك عماد الدين المتوفى سنة خمسمائة وثلاث وسبعين، كانت ملاصقة للمدرسة الصلاحية البهائية اليوم ثم عرفت بالقلقاسية ويرجح أنها والآتية دخلتا في خان خيري بك.
447 - خانقاه طاوس بجانب السابقة.
448 - خانقاه ابن التبني أنشأها الأمير عبد القاهر ابن عيسى المعروف بابن التبني وقفها سنة 639 عند وفاته، وهي ذيل محلة العقبة والآن صارت دارين وتحتهما في حجرة قبر الواقف.(6/141)
449 - خانقاه الأمير علاء الدين طاي بغا كانت داراً يسكنها فوقهما على الصوفية على الصوفية عند موته سنة 550 وهي مما دخل في دار العدل ثم دثر وقام في محله المستشفى الوطني.
450 - خانقاه العجمي أنشأها أبو بكر أحمد بن العجمي وكانت داراً يسكنها، فوقفها أخوه الشيخ شرف الدين على الصوفية.
451 - خانقاه حوشي أنشأها بيرم مولى ست بنت التعسنا التعسلني خالة صلاح الدين في دهليز دار الملك المعظم وتعرف بخانقاه حوشي.
452 - خانقاه بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن شداد المتوفى سنة 632 كانت داراً يسكنها فوقفها للصوفية.
453 - خانقاه الفطيسية أنشأها مسعود بن عز الدين أيبك المعروف بفطيس المتوفى سنة 649 وهو عتيق عز الدين فرخشاه، وكانت في مدرسته المعروفة
بهذا الاسم ثم دخلتا في دار العدل كما ذكر في خبر المدرسة.
454 - خانقاه سنقرجاه وهي برأس زقاق البهاء قبلي دار العدل عمرت سنة 554 ثم دثرت مع دار العدل ودخل الجميع في بناء المستشفى الوطني وما يليه.
455 - خانقاه الكاملية مكتوب على بابها وقفت هذه الخانقاه فاطمة بنت الملك الكامل محمد توفيت سنة 656، وهي في محلة الجلوم الكبرى في زقاق يسمى بزقاق الشيخ عبد الله، ليس فيها اليوم سوى ثلاث حجر صغيرة مشرفة على الخراب.
456 - خانقاه بنت صاحب شيزر وهو سابق الدين عثمان أنشأها قبالة دورهم، لا أثر لها وقد كانت في العرصة التي إلى شرقي جامع العادلية وقبلي خان الفرايين.
457 - خانقاه بدرب البنات شمالي البيمارستان الكاملي وقفتها ست العراق لبنة نجم الدين أيوب بن شاذي عن ولدها سيف الدين سنة574 وهذا الدرب يعرف اليوم ببوابة خان القاضي من محلة باب قنسرين لا أثر لها.(6/142)
458 - خانقاه بدرب البنات كذلك أنشأتها زمرد خاتون وأختها ابنتا حسام الدين لاجين عمر بن النوري وأمها أخت صلاح الدين يوسف.
459 - خانقاه نور الدين محمود بن زنكي ذكرها أبو ذر قال: أظنها أنشئت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال ابن شداد: أظنها التي بجوار المدرسة الشاذبختية الجوانية، وفي هامش بخط محمد بن عمر الموقع أنها أصبحت تعرف بالشيجرية، ليس لها أثر.
460 - خانقاه ضيفة خاتون بنتها سنة خمس وثلاثين وستمائة داخل باب الأربعين تجاه مسجد حافظ عبد الرحمن بن الأستاذ، هذه الخانقاه الآن بمحلة الفرافرة أمام جامع الزينبية ومدرسة الهاشمية، تسمى الناصرية لأن على بابها أنها
أنشئت زمن الناصر يوسف بن أيوب، فيها إيوان عظيم ومحراب بديع، وهي مائلة إلى الاندثار يسكنها بعض الفقراء من العبيد المعتقين.
461 - خانقاه بنت والي قوص مندثرة مجهولة المحل.
462 - خانقاه القوامية كانت تجاه خانقاه ضيفة خاتون، ليس لها أثر.
463 - خانقاه محمد بن عبد الملك بن المقدم بدرب الحطابين الذي عرف بعد ذلك بدرب ابن سالار سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ودرب ابن سالار هو المعروف الآن بزقاق خان التين من محلة الجلوم، فيرجح أنها كانت بجانب مدرسة المقدمية التي ذكرناها المنسوبة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد الذي يظهر أنه ابن صاحب الخانقاه. لا أثر لها.
464 - خانقاه الشمسية في رأس درب البازيار ملاصقة لبيت أبي ذر المؤرخ، أنشأها أبو بكر أحمد وأوصى أخاه صاحب الشرفية أن يقفها على الصوفية، الدرب المذكور يعرف الآن بزقاق الزهراوي.
465 - خانقاه الخادم هي إلى جانب المتقدمة من شماليها وقفها الخادم من عتقاء بني العجمي على سكنى بني العجمي الإناث.
466 - خانقاه تجاه المتقدمة لا يعلم لمن تنسب ولعلها هي ما جاء في بعض التواريخ أنها إنشاء جمال الدولة إقبال الظاهري، قال أبو ذر عن هاتين الأخيرين إن في كل قبراً، والآن تجول جميع ذلك إلى دور مسكونة.
467 - خانقاه طغرل بك هو الأمير شهاب الدين طغرل الأتابك(6/143)
وهي في خارج باب الأربعين بالجبيل، هي الآن مدرسة النجاة.
468 - خانقاه الدورية أنشأها محمد بن جمال الدين يوسف الدوري عين التجار بحلب ووقف لها ابنه وقفاً وهي موقوفة على شمس الدين الأطعاني، كانت على شاطئ نهر قوين من جهة الناعورة، وهي دائرة مكانها مجهول.
469 - خانقاه السحلولية على شاطئ قويق قرب بستان حجازي وقفها كافل حماة الإسعردي على عبد الرحمن بن سحلول المتوفى سنة 782 وجعل لها مدرساً هدمت في حادثة تيمور لا يعلم محلها.
470 - خانقاه الكاملة أنشأته الكاملة زوجة علاء الدين بن أبي الرجاء خارج حلب.
472 - رباط أنشأه سيف الدين علي بن سليمان بن جندر بالرحبة الكبيرة وكان في دار تعرف ببدر الدين محمود بن شكري الذي خنقه الملك الظاهر غازي، هو مندثر الآن ويرجح أنه كان في محلة باب قنسرين تجاه جامع الكريمية.
473 - رباط قرب مدرسة النورية التي تعرف أيضاً بالنفرية، كانت في محلة السفاحية تجاه المدرسة الصباحية في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة اليوم بجنينة الفريق وهي مندثرة.
474 - رباطان تحت القلعة للخدم أحدهما برأس درب الملك الحافظ، والآخر اسمه الجنالية برأس زقاق المبلط بينه وبين السلطانية طريق، وهذا من إنشاء جمال الدولة إقبال الظاهري في حدود الأربعين وستمائة.
475 - رباط قراسنقر ذكره ابن خطيب الناصرية في ترجمة بانيه المتوفى سنة 728 وقال: له وقف كبير، وهو مندثر لا يعلم محله.
476 - رباط الخدام تحت القلعة، مندثر.
477 - رباط بشرقي تربة ابن الصاحب أمام الظاهرية، أنشئ في دولة الناصر حسين علي بن أحمد.
478 - رباط بجانب مدرسة ضيقة خاتون في الفردوس، أنشئ ستة 633.(6/144)
479 - رباط قرب الظاهرية التي في خارج حلب، أنشئ أيام يوسف الناصر.
480 - رباط للقلندرية في داخل المدرسة المقدمية التي كانت في الفرافرة تجاه
قسطل الملك العادل، مندثر.
481 - الثكنة العسكرية أسسها إبراهيم باشا المصري 1248 ثم أصلحت سنة 1297 وتسمى بقشلة الشيخ يبرق لزاوية هذا الدفين بجانبها، وهي في الجهة الشمالية الشرقية من حلب طولها ثلاثمائة وأربعون ذراعا وعرضها زهاء مائتين.
482 - ثكنة على قمة جبل البختي بدئ بتأسيسها 1330 ثم زيد عليها بعد انسحاب الترك زيادات ولم نزل غير كاملة.
وقد درس كثير من الرباطات في باب المقام وغيره.
483 - زاوية معروفة ببني الخشاب مكتوب على حجر في جدارها: جدد عمارة هذه الزاوية المعروفة ببني الخشاب الحسن بن إبراهيم بن سعيد ابن الخشاب 633 وفيها تربة كانت تسمى بالتربة الخشابية، هي اليوم في زقاق اسمه زقاق أبي درجين من محلة الجلوم، جددها في سنة 1315 مصطفى الهلالي وجعل لها حجرة درس ومنبرا.
484 - الزاوية الهلالية في محلة الجلوم بزقاق الهلالية، كانت مسجدا صغيرا قطنه هلال الرام حمداني، ثم وسعت وصارت تقام فيها الجمعة والأذكار.
485 - زاوية البزازية في الجلوم بزقاق خان البيض، تصلى فيها الأوقات الجهرية ولها قبلية.
486 - الزاوية الكمالية في محلة العقبة في زقاق الكيزواني.
487 - زاوية الأخضر في محلة السفاحية نجاه الموازيني وقفها الشيخ الأخضر ودفن فيها سنة 1287.
488 - زاوية الشيخ تراب.
489 - زاوية الطواشي.(6/145)
490 - زاوية النسيمي تحت القلعة، كانت مسجدا قديما جددها قانصوه الغوري
910.
491 - الزاوية الجوشنية الاقصراوية نسبة لمنشئها سنة 747 علي الشيخ إبراهيم شهريار الكازروني.
492 - زاوية الصالحية في سويقة الحجارين وتعرف بالقادرية أيضا، وكانت قديما تعرف بالبهشنية من أقدم الزوايا متولوها بنو الحلوى.
393 - زاوية البيلوني في سويقة حاتم صغيرة معطلة يسكنها الفقراء، إنشاء أحد بني البيلوني.
394 - زاوية محيي الدين في باب الجنين.
495 - زاوية الكيالي في سويقة حاتم.
496 - زاوية الجعفرية في زقاق فرن جقجوقة من سويقة حاتمك أنشئت 796.
497 - زاوية الهبراوي في محلة الكلاسة كانت دارا وقفها محمد خير الهبراوي وسع ببعضها الجامع وجعل الباقي زاوية.
498 - زاوية لبني الهبراوي أيضا كانت تسمى مسجد الراعي.
499 - زاوية في المقامات مندرسة.
500 - زاوية محمد الاطعاني البسطامي في محلة الشماعيين من المشارفة أنشئت سنة 700.
501 - زاوية خضر نجاه بستان الكلاب في جنوبي بستان إبراهيم آغا، أنشأها بدر الدين بن زهرة متنزها، ثم اغتصبها من بعده جلبان كافل حلب وجعلها زاوية سنة 770 وهي مندثرة.
502 - زاوية للقادرية تنسب للأمير جلبان أيضا على رأس باب الجنان، منشأة سنة770.
503 - تكية المولوية من أعظم التكايا، أنشأها مرزا فولاذ ومرزا علوان
فارسيان من أتباع شاه إسماعيل الصفوي، ثم أحدث فيها زيادات كثيرة.
504 - زاوية غربي قبلية جامع قارلق، أنشئت سنة 1207.(6/146)
505 - زاوية الحربلي في قارلق، أنشأها علي الحربلي سنة 1322.
506 - زاوية الشيخ طه بطيخ في قارلق أنشئت سنة 1280.
507 - نكية الحداد في محلة تاتارلر.
508 - زاوية للخلوتية بالجانب الغربي من الجامع الأحمدي في محلة الدلالين، وقف أحمد صديق.
509 - زاوية بجانب سابقتها للطريقة النقشبندية للواقف المذكور.
510 - زاوية لطريقة سعد اليماني في محلة المشاطية.
511 - زاوية الشيخ بلال في محلة البلاط.
512 - زاوية بيت خير الله في محلة بانقوسا.
513 - زاوية قطليجا في محلة محمد بك أنشئت سنة 757.
514 - زاوية أبي الجدايل بزقاق المزوق.
515 - الزاوية الصيادية أنشاها أبو الهدى الصيادي سنة 1295 ثم زيدت إلى سنة 1327.
516 - التكية الإخلاصية نسبة لإخلاص الخلوتي المتوفى سنة 1074 عمرها له محمد باشا الأرناءوط.
517 - تكية القرقلر مبنية فوق مغارة الأربعين تحت القلعة.
518 - زاوية الشيخ يبرق في داخل الثكنة العسكرية، أنشئت سنة 671.
519 - تكية بابا بيرم للقندرية أنشئت سنة764.
520 - زاوية المصريين في محلة اقيول.
521 - زاوية هي مسجد الفرا أنشئ في حدود الألف، ثم أتخذ زاوية لبني الأنجق
في محلة الألماحي.
522 - زاوية الشيخ عبد الله هي مسجد في محلة الشرعسوس.
523 - زاوية تغري برمش كافل حلب قرب جامع الأطروش، أنشأها سنة 841.
524 - زاوية العقيلية في محلة محب.
525 - تكية المخملجي في ترب الغرباء، أنشئت سنة 643.(6/147)
526 - تكية الشيخ أبي بكر للطريقة الوفائية أسسها حمد ابن عمر القاري في القرن العاشر.
527 - زاوية البعاج في محلة الطبلة.
528 - زاوية الشيخ جاكير في مدفن الشيخ تشبه زاوية.
وفي حلب خانقاهات ومدارس وزوايا كثيرة ادثر معظمها، جاء في ترجمة مظفر الدين صاحب إربل أنه بنى أربع خانقاهات للزمني والعميان ودارا للأرامل ودارا للأيتام ودارا للملاقيط وخانقاهين للصوفية.
ربط القدس وزواياها:
كان في بيت المقدس عدة زوايا وربط منها:
529 - الزلوية المعظمية وقد مر ذكرها في المدارس بقي منها غرفتان والباقي دارس.
530 - الزاوية الحنفية بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر وقفها صلاح الدين سنة 587 في جلال الدين الشاشي، ثم من بعده على من يحذو حذوه، وقد وقف صلاح الدين نصف دار الاسبتار رباطا للمتصوفة الوافدين من أهل الطريق والمعرفة، ونصفها مدرسة للمتفقهة، للطلبة المتعففة والمتنزهة، فجمع بين العلم والعمل، وكتب الرزق لهم إلى كتاب الأجل - قاله العماد الكاتب، ودار الاستبار اليوم أو هذا الراط الآن خراب بلقع.
531 - الخانقاه الفخرية داخل سور الحرم، وبجوار جامع الغاربة واقفها أبو عبد الله محمد ابن فضل ناظر الجيوش الاسلامية، وكانت له أوقاف كثيرة وبر إحسان للأهل العلم 732 ولا تزال عامرة إلى يومنا هذا وهي زاوية ودار سكن
532 - الرباط الزمني بباب المتوضإ تجاه المدارسة العثمانية. واقفه الخواجا شمس الدين محمد بن الزمن وكان بناؤه في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة.
533 - رباط كرد بباب الحديد بجوار السور تجاه المدرسة الأرغونية، واقفه المقر السيفي كرد في 693 استحال الآن دار سكن.
534 - الزاوية الوفائية بباب الناظر تجاه المدرسة المنجيكية وعلوها(6/148)
دار من معاليما تعرف بدار الشيخ شهاب الدين بن الهائم، ثم عرفت ببني الوفا لسكناهم بها، وتعرف قديما بدار معاوية، وهي الآن دار سكن.
535 - الزاوية الشيخونية بالقرب من الإصلاحية عند سويقة باب حطة، واقفها الأمير قطيشا بن علي من رجال حلقة دمشق، جعل نظرها لنفسه ثم من بعده لولده شيخون، فسميت بالشيخونية تاريخ وقفها 761.
536 - الرباط الماريني بباب حطة مقابل الكاملية وهي بجوار التربة الأوحدية، وقفه منسوب لامرأتين من عتقاء الملك الصالح صاحب ماردين، وشرطه أن يكون لمن يرد من ماردين تاريخ وقفه 763 وهو موجود.
537 - الزاوية المهمازية غرب المدرسة المعظمية من الغرب، منسوبة للشيخ كمال الدين المهمازي، ووقفت على مربع من الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون في 745 وهي معروفة.
538 - الرباط المنصوري بباب الناظر، وقف قلاوون الصالحي 681. كان سجنا في عهد الأتراك واليوم ينزله فقراء السودان.
539 - رباط علاء الدين القصير تجاه الرباط المنصوري واقفه، علاء الدين آيدغدي 666.
540 - الزاوية المحمدية بجوار البارودية من جهة الغرب، وقفها محمد بن زكريا الناصري سنة 751 وهي خراب.
541 - الزاوية اليونسية مقابل البارودية، ونسبتها إلى الفقراء اليونسية، مجهول واقفها وهي موجودة.
542 - زاوية الطواشية بحارة الشريف وتعرف قديما بحارة الأكراد، وقفها محمد بن جلال الدين عرب سنة 753.
543 - زاوية المغاربة بأعلى حارتهم، وقف عمر بن عبد الله المصمودي المجرد سنة 703.
544 - زاوية البلاسي بظاهر القدس من جهة القبلة، وهي قديمة نسبتها لأحمد البلاسي.
545 - زاوية الأزرق بظاهر القدس من جهة القبلة شرقي زاوية البلاسي، نسبتها لإبراهيم الأزرق780 وتعرف أيضا بزاوية السراي.(6/149)
546 - زاوية الدركاه بجوار البيمارستان الصلاحي، وكانت في زمن الفرنج دار الاسبتار، وهي من بناء هيلانة أم قسطنطين التي غمرت كنيسة القيامة. واقفها الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين وذلك في سنة 613 قسم منها داخل في كنيسة الألمان الدباغة والباقي خراب.
547 - زاوية الشيخ يعقوب العجمي بالقرب من القلعة، وهي كنيسة من بناء الروم تلاشت أحوالها.
548 - الخانقاه الصالحية علو كنيسة القيامة وقف صلاح الدين عل الصوفية 585وهي موجودة.
549 - زاوية الجثنية كانت بجوار المسجد الاقصى، وقفها صلاح الدين على جلال الدين الشاشي الزاهد ولا يعرف عنها شيء.
550 - الزاوية الحمراء بالقرب من الخانقاه الصلاحية بجوار جامع عمر، منسوبة للفقراء الوفائية وهي باقية.
551 - الزاوية الميمونية بجوار باب الساهرة، وهي كنيسة من بناء الروم، واقفها ميمون القصري 593 دخلت في المدرسة المأمونية.
552 - الزاوية اللؤلؤية بباب العمود أحد أبواب المدينة وهي وقف بدر الدين لؤلؤ غازي واقف اللؤلؤية المتقدم ذكرها.
553 - الزاوية البسطامية بحارة المشارقة واقفها عبد الله البسطامي وكانت موجودة قبل 770.
554 - زاوية الصمادية بجوار البسطامية من جهة الشمال، وهي بلصق درج البراق سد بابها في المائة التاسعة.
555 - زاوية الهنود بظاهر باب الأسباط، وهي قديمة كانت للفقراء الرفاعية ثم نزل بها طائفة الهنود فعرفت بهم.
556 - زاوية الجراحية بظاهر القدس من جهة الشمال، نسبة لواقفها الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي 598.(6/150)
557 - تكية خاصكي سلطان أنشأتها أم السلطان سليمان، ولا تزال عامرة تفرق الحساء والخبز، ولا يزال يأخذ قسم من وجهاء القدس وأشرافها هذه الصدقة والإحسان.
الربط والزوايا في المدن الصغرى:
في خليل الرحمن لعهدنا ثلاث تكايا وزوايا وهي:
558 - تكية سيدنا الخليل لها مخصصات من دائرة الأوقاف وتعمل الحساء والطعام.
560 - زاوية أني بكر الشبلي تدر عليها الأوقاف ومعاوناتها.
561 - الزاوية القادرية.
562 - زاوية الشيخ سعيد.
563 - زاوية المجاهد. وفيها زاوية خاصة لإقامة الذكر
564 - زاوية حارة قيطون. ووضع أنواع الأعلام وما يتبعها
565 - زاوية الشيخ الجعبري. ويجلسون فيها ويضيفون.
566 - زاوية الشيخ الخيري.
وكان في الخليل علي مجير الدين الحنبلي 567 زاوية الشيخ عمر المجرد 568 - زاوية المغاربة بجوار عين الطواشي و 569 - زاوية الشيخ علي البكا و570 - زاوية القواسمة نسبة لأحمد القاسمي الجنيدي من ذرية أبي القاسم الجنيد وهو مدفون بها و571 - الرباط المنصوري تجاه باب القلعة، وقف المنصور قلاوون. و572 - زاوية الشيخ إبراهيم المزي بين حارتي الأكراد والدارية و573 - زاوية الشيخ عبد الرحمن الأرزرومي في حارة الأكراد. و574 - زاوية البسطامية
بجوار المسجد الجاولي من جهة الشمال و575 - زاوية السمانية بجوار زاوية الشيخ عمر المجرد. و576 - زاوية أبي عقافة و577 - رباط الطواشي و578 - زاوية شيخون و579 - رباط مكي 580 - زاوية الشيخ رضوان 581 - زاوية الشيخ الخضر 582 - زاوية الصلاطقة(6/151)
بجوار البركة، وهي داخل زاوية الأدهمية و583 - زاوية الرامي و584 - زاوية الشيخ علي كنعوش الأدهمي و585 - زاوية الشيخ محمد البيضة و586 - زاوية الموقع و587 - زاوية الشيخ إبراهيم الحنفي و588 - رباط الجماعيلي و589 - زاوية الخضر بالقرب من متوضإ المسجد و590 - زاوية الحدابنة و591 - زاوية القادرية بظاهر البلد.
ومن ربط فلسطين 592 - الخانقاه الصالحي في قرية حطين، وإنشاء السلطان صلاح الدين ولم يبق منه الآن إلا مطبخه وأنقاضه.
ومنها 593 - خانقاه الرملة مهدم غير معلوم أثره.
وفي إنطاكية 5 تكايا وفي إدلب وعملها 15 تكية وزاوية، وفي كل من حارم وبيلان والجسر تكية، كل من جبل سمعان ومنبج تكيتان. وفي حماة الزاوية الكيلانية، بني الجامع القبلي منها ياسين الكيلاني 1118 ولم يعرف اسم بانيها الأول. وفيها رباط مرتض الكيلاني ورباط محمد الحيري ورباط السبسبي ورباط الكيالي. ومما كان في حماة ويصح أن يعين في جملة الربط دار الإكرام، كانت معدة للضيافة وسكنى الملوك، خربت وصار محلها مدابغ وأنشأ فيها مبارز الدين أقوش داراً لضيافة الملوك وهي مما خرب. وكان فيها دار الضيافة المسماة بالطيارة الحمراء على سور باب النقفي والطيارة الحمراء كانت فوق القبو، والباسطية شرقي الجامع النوري. وكان في حماة أيضاً دار الفرح كانت وقفاً للأفراح، فمن أراد أن يتزوج مثرً يأخذها من متوليها وكان فيها 35 بيتاً وهي اليوم بيوت السادة الكيلانية. وفي ربض حمص زاوية قام بإنشائها أبو الهدى
الصيادي ولكنها لم تتم وهي حسنة البناء والطراز.
وكان في حمص دار صدقة لأبي عبد الله صالح بن ثوبان من عبيد الرسول وهو الذي روى في مسجد دمشق: أنا الذي صببت الماء على يدي رسول الله عليه وسلم وأعطيته قدحاً فأفطر.
وفي طرابلس 8 تكايا للخوتية والقادرية والرفاعية والشاذلية والنقشبندية. وفي عكار تكية واحدة، وفي اللاذقية 4 تكايا وزوايا.(6/152)
مراقد العظماء وخوانق:
هذه أسماء من لك في أرض الشام من الصحابة الكرام: أبي بن كعب. أبو الدرداء. أبو أمامة. أبو عبيدة. أبو هاشم بن عتبة. أوس بن أوس. بلال الحبشي. تميم الداري. جعفر بن أبي طالب. الحارث بن هشام. الحباب بن المنذر. حرملة بن زيد. خالد بن الوليد؟. خزيمة بن ثابت. زيد بن حارثة. سعد بن عبادة. سبرة بن فاتك. سهيل الأنصاري. سهيل بن عمرو. شرحبيل بن حسنة. وشمعون وصهيب الرومي. الضحاك ابن القيس. ضرار ابن الخطاب. ضرار بن الأزور. عبد الله بن حوالة. عبدون بن السعدي. عبد المطلب الهاشمي. عبد الله بن سعد. عبد الله بن رواحة. عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق. محمد بن أبى حذيفة. مدرك الفزاري. معاوية بن أبى سفيان. المقدام بن معدي كرب. معاذ بن جبل. وأثلة بن الأسقع. عبد الرحمن بن عوف. فضالة بن عبيد.
أكثر مراقد العظماء من الصحابة والتابعين والعلماء والعاملين والزهاد أشبه بزوايا وتكايا يقصدها الناس للزيادة والتبرك وإن كان منها ما لم يثبت أن فلاناً بعينه دفنت تجاليده في البقة التي يعنونها. فمكن المقالات والمزارات قبر يحيى بن زكريا والحسين بن علي في الجامع الأموي بدمشق، وقبر صلاح الدين يوسف بن أيوب شمالي هذا الجامع، ومقام ذي الكفل وهود في سفح جبل قاسيون بدمشق،
ومقامك زيد العابدين وبلال الحبشي وبلال بن حمامة وخديجة ورقية وأم كلثوم وأم حبيبة وزينب الكبرى والسيدة سكينة وغيرهم في مقبرة باب الصغير بدمشق. ومقام أبي الدرداء في قلعة دمشق. ومقام حجر بن عدي في مسجد الأقصاب بدمشق. ومقام شريح بن حسنة وخولة وأبي وضرار وبنت الأزور والبدر الغوي الشيخ رسلان في باب توماء وباب شرقي بدمشق. وزيد بن ثابت في باب السريجة. وشمعون ابن خناقة في حي الشاغور. وصهيب الرومي وتقي الدين الحصني وغيرهما في الميدان. وعدي بن مسافر في بستان الورد، والشيخ السروجي في الشاغور. وعبد الرحمن الكردي في حي العمارة. وعبد الرحمن بن أبي بكر وكمال الدين(6/153)
الحمزاوي وعبد الرحمن الدحداح والشهاب المنيني والشهاب العطار في مقبرة مرج الدحداح. ومقام محيي الدين بن عربي وعبد الغني النابلسي وأصحاب الكهف وعائشة الباعونية بصالحة دمشق. ونور الدين الشهيد والإمام ابن دقيق العيد في سوق الخياطين. ومقام سعد بن عبادة في المنيحة. وعبد الله بن سلام قي سقبا. والشيخ حرملة في جوبر. ومقام حزقيل في داريا. ودحية الكلبي في المزة. وهذه القرى الخمس من قرى غوطة دمشق. وتنيم الداري في قرية الطيبة. والشيخ حسن الراعي في قطنا. ومعاذ بن جبل في القصير. والشيخ جندل في منين. ومقام السلطان أبي يزيد البسطامي في المرج. ومقام أيوب وسعد الأسود في قرية الشيخ سعد في حوران. وسلمان الفارسي في قرية السهوة. ومقام عكاشة في الجولان. والمقداد بن الأسود في تل المقداد. وسعد الدين الجباوي في جبة. وعمار بن ياسر في اللجاة. وقبر أبي عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل في الغور. ومقام جعفر بن أبي طالب وعبد الله ابن رواحة وزيد بن حارثة قرب قرية مؤتة في المزار من عمل الكرك.
ومقام الإمام الأوزاعي في بيروت، ومقام يوشع وشمعون في صور، ومقام
هارون ويعقوب في صفد، ومقام الخضر والياس في حيفا. ومقامات شعيب والسيدة سكينة ومعاذ بن جبل ونصر الدين الطيار في طبرية. ومقامات صالح وأبي عتيبة في عكا. ومقامات العزير ولوط ويونس في الناصرة. ومقامات يعقوب وأولاده والخضر والشيخ مسلم وبشير ومسعود ورجال العمود والشيخ بدر والسلطان عماد الدين في نابلس. ومقامات دانيال ويامن ومعاوية وإسكندر ذي القرنين وابن سيرين والشيخ حمدان وغيرهم في جينين. ومقامات يامن وشمعون ويعقوب والياس ولأبي خميس وأبي شعير وعامر وعمار وعدنان في بني صعب. ومقامات يحيى وذي الكفل ويوشع وناتون وإبراهيم وشيت والشيخ أبي الجود وأبي رماح وأبي عابد والجنيد والدجاني في جماعيل. ومقامات زكريا ويوسف وأنبياء بني إسرائيل والشيخ حاتم وغانم المقدسي في المشاريق. ومقامات الشيخ زين ونصر الله في الشعراوية. خالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وأبي أمامة الباهلي وأبي ذر الغفاري(6/154)
والنعمان بن بشير في حمص والمعرة وما إليهما. ومقام الشيخ أبي الليث السمرقندي والشيخ علوان في حماة.
ذكر نجير الدين قبة راحيل والدة يوسف الصديق إلى جانب الطريق بين بيت لحم وبيت جالا. وبظاهر الرملة من جهة الغرب بالقرب من البحر نشهد يقال له روبيل بن يعقوب. وبظاهر لد من جهة الشرق مشهد عبد الرحمن ابن عوف الصحابي، وبظاهر القدس في قرية العازرية مشهد العازرا. وقبر شمويل بقرية ظاهر القدس من جهة الشمال على طريق الرملة في قرية رامة.
وللشيعة عدة مقامات في حلب وأرجائها وفي غيرها نسبت لعلي بن أبي طالب وللحسن وللحسين. كما أن للخضر عدة مقامات في كثير من الأرجاء ويشترك في تعظيمها النصارى والمسلمون غالباً. ومما ذكره ابن الشحنة من المقامات القديمة في حلب مسجد النور بالقرب من باب قنسرين كان أبو تمير عبد الرزاق بن عبد
السلام 425 يتعبد فيه تنذر له النذور وبزار. ومسجد الغضايري ويعرف بمسجد شعيب وقبر كليب العابد ومسجد الأنصاري والمشهد الآخر في رأس جبل جوشن ومشهد قرية براق ومقام إبراهيم الخليل في قرية نوابل وكلتاهما من عمل حلب.
وبقرية روحين من جبل سمعان مشهد فيه ثلاثة قبور: الأوسط منها قبر قس بن ساعدة الأيادي، والقيران الآخران فبرا سمعان وشمعون من الحواريين، وقيل كانا من المتوحدين الرهبان. وبجبل برصايا من عمل إعزاز قبر برصيصا أي مقصورة العابد. وبقورس قبر أوربا. وبمنبج مشهد خالد لبن سنان العبسي صاحب الأخدود. وبجبل بزاعا من غربي الباب مشهد يطل على الباب. وبجبل الطور المجاور لقنسريم مقام يقال: إنه مقام النبي، وبدير سمعان من عمل المعرة قبر بن عبد العزيز ووراءه قبر الشيخ أبي زكريا يحيى بن منصور. وبجبلة قبر إبراهيم بن أدهم الزاهد. ومعظم هذه المزارات مازالت معروفة يختلف إليها الناس وقام عليها شبه أو تكايا. وفي عبيه من شوف لبنان مزار الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي يزوره معظم الطوائف الإسلامية وعليه مدرسة.(6/155)
المستشفيات والبيمارستانات
مستشفيات دمشق:
إقامة دور للبائسين ومآوى للضعفاء وأصحاب العاهات والزمانات من أمارات الحضارة ودلائل ارتقاء الإنسان في العطف على من خانتهم الطبيعة. روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مّر عند مقدمه الجابية من أرض دمشق بقوم مجذمين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت. ووقف عثمان بن عفان محلة سلوان في ربض القدس على ضعفاء البلد. وأول من اتخذ المستشفيات صدر الإسلام الوليد بن عبد الملك، فإنه أقام في دمشق على ما يروى مستشفى للمجذومين بالقرب من الباب الشرقي في محل يسمى الآن بالأعاطلة، ذلك لأن في ماء دمشق على ما قالوا خاصية دفع مرض الجذام عن أهلها فلا يصيبهم إلا في الندر، وإذا حل الغريب المصاب به نكسر عنه عاديته أو يتوقف سيره في جسمه. قال ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، فرض للمجذومين وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل أعمى قائداً. وذكر بعضهم أن الوليد لما ولى إسحاق قبيصة الخزاعي ديوان الومني بدمشق قال: لأدعم الزمن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمن حتى توضع في يده الصدقة. وفي سنة 162 أمر المهدي أن يجري على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق. وبذلك عرفنا أن القوم يخصون المجذومين بأماكن خاصة لئلا تسري العدوى منهم إلى غيرهم. أما المستشفيات فللأمراض الأخرى.
ولقد كان بدمشق ثلاثة مستشفيات أو بيمارستانات - والبيمارستان(6/156)
كلمة فارسية مركبة معناها محل المرضى - الأول 595 أنشأه نور الدين محمود بن زنكي كما أنشأ غيره في الشام. وكان بيمارستان دمشق أعظمها وأكثرها خرجاً ودخلاً. قال
صاحب الروضتين بلغني في أصل بنائه نادرة وهي أن نور الدين رحمه الله وقع في أسره بعض أكابر ملوك الإفرنج فقطع على نفسه في فدائه مالاً عظيماً فشاور نور الدين أمراءه فكل أشار بعدم ما استخار الله تعالى فأطلقه ليلاً، فلما بلغ الفرنجي مأمنه مات، وبلغ نور الدين موت الفرنجي فبنى بذلك المال هذا البيمارستان ومنع المال الأمراء لأنه لم يكن عن إرادتهم. تولى بناءه كمال الدين الشهرزوري وكان الحاكم المحتكم في الدولة النورية بدمشق، وهو الذي تولى بناء أسوارها وسّن دار العدل لتنفذ أحكامه بحضرة السلطان فلا يبقى عليه مغمز وملمز.
وذكر ابن جبير أنه كان في القرن السادس بدمشق مارستانان قديم وحديث، والحديث أحلفهما وأكبرهما وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً وله قَوَمة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الرسم لكن الاحتفال في الجديد أكثر. اغلب الظن أن البيمارستان الكبير هو النوري، والآخر غيره 596 كان في باب البريد وخدم في هذا رشيد الدين(6/157)
بن علي بن الخليفة وعز الدين السويدي من الأطباء المشهورين.
وفي شذرات الذهب أن المارستان الصغير بدمشق أقدم من المارستان النوري كان مكانه في قبلة مطهرة الجامع الأموي وأول من عمره بيتاً وخرب رسوم المارستان منه أبو الفضل الاخنائي ثم ملكه بعده أخوه البرهان الأخنائي وهو تحت المئذنة الغربية بالجامع الأموي من جهة الغرب، وينسب إلى أنه عمارة معاوية أو أبنه.
أما المستشفى الثالث 597 فهو المستشفى القيمري في الصالحية بجوار جامع محيي الدين عربي نسبة لمنشئه أبي الحسن القيمري المتوفى سنة 653 وواجهة الباب من أجمل الأبواب هندسة، وقد رّمه حسن باشا المعروف بشور يزي حسن ونظر إلى أوقافه وأقام شعائره كما فعل في البيمارستان النوري، وقد رمم في العهد الأخير وأعيد إلى ما كان عليه.
وقرأت في كتاب الجوامع والمدارس صورة وقف البيمارستان القيمري فإذا فيه: هذا وقف أبي الحسن بن أبي الفوارس القيمري على بيمارستانه في الصالحية على معالجة المرضى والمعالجين والأشربة وأجرة الطبيب، يصرف إلى الطبيب في كل شهر لواحد سبعون درهماً ونصف غرارة من قمح، والأدنى ستون درهماً ونصف غرارة قمح، وللمشارف في كل شهر أربعون درهماً ونصف غرارة قمح، وللحوائج في كل شهر ثلاثة عشر درهماً وسدس غرارة قمح، ولمن يقوم بمريضات النساء والمجنونات في كل شهر لكل واحد عشرة دراهم وسدس غرارة قمح، وإلى الشراب وبائعه لعنل الأشربة والمعالجين في كل شهر ستة وعشرين درهماً وثلث غرارة قنح، ولأمين المشارفين والمتولين في الوقف إلى كل واحد في كل شهر ستون درهماً وغرارة قمح وغرارة شعير، وللإمام في كل شهر أربعون درهماً وثلث غرارة قمح، وللمعمار المرتب لعنارته في كل شهر ثلاثة عشر درهماً وسدس غرارة قمح، ويكون بواباً، وللحوايج في كل شهر ثمانية دراهم وسدس غرارة، وللناظر العشر عن المغل، وريع الوقف ويصرف ويصرف إلى رجلين اثنين(6/158)
بخدمة البيمارستان عن ثمن قدور ونحاس وفرش ولحف ومخدة، وفي كل شهر إلى قيمه والمؤذن بالمسجد بقرب البيمارستان خمسة وعشرون درهماً، فإنه فضل يصرف إلى فكاك الأسارى من الكفار، وبعد ذلك عاد وقفاً على الفقراء. وتاريخ الوقفية سنة 652 وتاريخ المسجد سنة 880 ثم ذكر القرى
والبساتين والحوانيت والطواحين التي وقفها على البيمارستان.
وظل المستشفى النوري عامراً إلى سنة 1317هـ وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن عشرين رجلاً حتى قامت بلدية دمشق بإنشاء مستشفى للغرباء 598 في الجانب الغربي من التكية السليمانية المظلة على المرج الأخضر، وجمعت له إعانات وأُخذ مبلغ من واردات البلدية وأوقاف المستشفى النوري واحتفل في 15 ذي القعدة 1317 بافتتاح المستشفى الجديد وخصصت أوقاف المستشفى النوري ومبلغ خمسمائة ليرة تؤخذ مسانهة من ريع البلدية تصرف على المستشفى الذي سني بادئ بدء بالمستشفى الحميدي نسبةً إلى السلطان الذي بني في عهده. أما بناية المستشفى النوري فقد جعلت مدرسة وواجهتها لا تزال بحالها وفيها بعض الحجر والنوافذ من البناء القديم، والغالب أن الأيام سطت على بقية البناء فتغيرت معالمه. وقد رمت واجهته مؤخراً.
وزاد المستشفى الجديد رونقاً ورواءً مقبرة الصوفية التي ضمت إليه وجعلت حديقة للمستشفى. وقد سمي المستشفى على عهد الحكومة العلابية بالمستشفى الوطني وأقيمت مدرسة الطب بجانبه والحكومة متكفلة بالإنفاق عليه.
وفي دمشق لهذا العهد عدة مستشفيات، الأول:
599 - المستشفى العسكري وهو من بناء إبراهيم باشا المصري في القرن الماضي.
600 - المستشفى الإسكتلندي وفي 11 ذي القعدة 1315 24 أيار 1899 احتفلت جمعية اسكتلندا الإنكليزية بافتتاح المستشفى الذي أسسته في أرض الزينبية على طريق بغداد وهو على غاية من حسن الهندسة وجمال الحديقة وسعتها.
601 - المستشفى اللعازري بنته أخوية اللعازريين الفرنسية قبالة المستشفى الاسكتلندية وهو حسن البناء والنظام أيضاً.(6/159)
602 - مستشفى الراهبات اللعازريات وهو قديم قرب مدرسة اللعازرية.
المستشفى الوطني أو مستشفى مدرسة الطب وقد مر ذكره.
603 - المستشفى الطلياني في الصالحية قبل الجسر.
604 - مستشفى المجاذيب المسمى بمستشفى ابن سينا أنشئ له مكان في قصير دومة.
مستشفيات حلب:
605 - بيمارستان بني الدقاق كان يعرف بهذا الاسم ثم دخل في دار سودون الدوادار غربي المدرسة الحلاوية لا أثر له اليوم.
606 - بيمارستان بني الدقاق على باب الجامع الكبير، كان له بوابة عظيمة ينسب لابن خرخان، لما تعطل كان يجلس فيه الكحالون فعرف بدار الكحالة. بقي منه ثلاثة مخادع يسكنها بعض الفقراء.
607 - بيمارستان نور الدين هو في الزقاق المعروف الآن بزقاق البهرمية من محلة الجلوم الكبرى، مكتوب على بابه أنه أمر بعمله محمود بن زنكي بتولي ابن أبي الصعاليك. ويظهر أنه حصل فيه إصلاحات كثيرة، فإنه كان فيه قاعة للنساء مكتوب عليها أنها عمرت في دولة صلاح الدين يوسف سنة 655 ومكتوب على إيوانه أنه عمر أيام الأشرف شعبان المتوفى سنة 779 وعلى الشباك الذي على بابه أنه أحدث سنة 840 وكانت قاعة المنسهلين سماوية فسقفها القاضي شهاب الدين بن الزهدي. أما الآن فقد صارت حجراته تلالاً ولم يبق إلا بضع منها يسكنها بعض الفقراء. وقد جاء في بعض التواريخ أن هذا البيمارستان كان في الأصل من وضع ابن بطلان الطبيب البغدادي المتوفى سنة 458 ثم جدده نور الدين ووقف عليه أوقافاً كثيرة وهو في أصح بقعة هواءً. حدثني الثقة أنه اطلع على صك وقف أحد المستشفيات في حلب قال: جاء فيه أن كل مجنون يخص
بخادمين يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثياباً(6/160)
نظيفة ويحملانه على أداء الصلاة ويسمعانه قراءة القرآن يقرأه قارئ حسن الصوت، ثم يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة والنغمات الموسيقية الطيبة.
608 - بيمارستان أرغون الكاملي وهو في محلة اسمها الآن باب قنسرين، أنشأه أرغون الصغير الكاملي نائب حلب سنة سبعمائة وخمس وخمسين، رتب كل ما يحتاج إليه من رزق وآلات وأدوية وخدام، شرط واقفه أن التولية لكافل حلب فكان في كفالة تغري برمش على أتم الوجوه، فيه حجر وأروقة ومحابس للمجانين مظلمة، يروى أنه كانت توضع فيه الرياحين ويؤتي بآلات الطرب والمغنين لتكون هذه المشاهد والأنغام من تمام العناية بالمداواة، ثم في أواخر عهد الأتراك نقل من كان فيه من المجانين إلى مستشفى الغرباء واصبح هو مأوى لبعض الفقراء. وفي مدخله أفاريز ونقوش من أجمل ما نقش النقاشون تزينه.
609 - مستشفى الرمضانية أنشأه إبراهيم باشا المصري، وهو مخصص لمرضى العسكر.
610 - المستشفى الوطني بدئ به سنة ثلاثمائة وألف وبعد بلوغه نحو النصف ترك، ثم أكمل بعد نحو عشر سنين وجعل للمرضى الغرباء والفقراء.
611 - المستشفى الزهري أنشأته غدارة الصحة للأمراض الزهرية بعد تأليف الحكومة العربية.
بقيه المستشفيات:
المارستان النوري هو المستشفى الوحيد في حماة، بناه نور الدين محمود وكانت التولية عليه سنة ألف للشيخ صفا العلواني وكان مجموع نفقته كل يوم ثمانية وثمانين عثمانياً العثماني أو السلطاني نحو سبعة قروش، وهو الآن شبيه بالمندرس
يستعمله بعضهم للسكنى وذهبت أوقافه إلا قليلاً. وقد وجد على حجر في المارستان بالجانب الغربي من أعلى البنيان كتابتان الأولى سنة خمس وسبعمائة وهي: رسم الملك لأمر بختشاي الكافلي بحماة بإبطال ما كان(6/161)
يؤخذ من البيمارستان بغير طريقة وأن وقفه يصرف على ما وقفه الواقف على السكر والأشربة وذلك بأمر السيفي. الثاني: لما كان بتاريخ الشهر المحرم المحروسة داود المقر السيفي درداس الخاصكي كافل المملكة الحموية أعز الله أنصاره وتبرع بمعلومه على الضعفاء المقيمين به وهو في كل شهر مائة دراهم لاغتنام الأجر والدعاء اه.
وفي حماة اليوم مستشفى واحد، ومثله في حمص، وآخر في درعا، ورابع في القنطرة، وخامس في يبرود، وسادس في دير الزور، وفي إسكندرونة مستشفى وذلك ما عدا المستوصفات بإدارة الصحة والإسعاف العام ويقوم بإدارتها وتمريض مرضاها أطباء وطنيون.
وكان في طرابلس مارستان أنشأه بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر أحد الأمراء بحلب المتوفى سنة 742. وفي طرابلس اليوم مستشفى كان سمي مستشفى عزمي بك أحد عمالها الذي بتنشيطه. وقبل 55 سنة جاء نابلس مبشر إنكليزي وأسس فيها مستشفى، وأخذ يعالج المرضى بأجور طفيفة ويكرههم على استماع وعظه فتحسس المسلمون وأسسوا سنة 1326 شرقية المستشفى الوطني وهو إلى اليوم سائر سيراً حسناً يقوم بأموالهم وريع البلدية.
أسس البرتستانت عدة مستشفيات ومستوصفات في الشام منها في طبرية والناصرة وصفد والصلت وصيدا والقدس ويافا وحيفا وبيروت ودمشق وغيرها من البلدان، ولا تكاد تخلو المدن المهمة من مستشفى أو شبه مستشفى مثل اللاذقية وطرطوس ومنها مستشفى خاص بمرض السل ومستشفى العصفورية للمجاذيب
في لبنان، وكان في الخليل مستشفى جميل اسمه المنصوري وقفه الملك المنصور قلاوون، ومستشفيات الصهيونيين في القدس وحيفا ويافا وغيرها مهمة في بابها.
وقد أقام الصليبيون في المدن التي احتلوها بعض مستشفيات منها واحد في صور وكان لهم في القدس مارستان وهو من الأماكن التاريخية كان عبارة(6/162)
عن 155 متراً طولاً و137 عرضاً وعليه قامت في القرون الوسطى الملاجئ والمستشفيات الخاصة بزوار الغرب ولا سيما رهبنة فرسان القديس يوحنا ومستشفياته. وحول ابن أخت صلاح الدين كنيسة الملجأ إلى مستشفى وبقي اسمه العربي الفارسي أي المارستان يطلق منذ ذاك العهد على مجموع تلك الأماكن. وفي سنة 1869م أعطى سلطان العثمانيين النصف الشرقي من المارستان إلى تاج بروسيا بمناسبة زيادة ولي عهد بروسيا للقدس. وقد كان صلاح الدين جعل دار الأسقف في القدس لما فتحها بيمارستان المرضى.
ومستشفيات القدس اليوم كمستشفيات بيروت مهمة لكثرتها ووفرة ريعها وتنافس المبشرين في تجويدها لها أحذق الأطباء، وفي بعض قرى لبنان مستشفيات صغيرة ومصاح منها مصح بحنس ومستشفى جمعية الفرندس في برمانا، ومصح ضهر الباشق وغيرها، وفي عمل دومة من دمشق مستشفى ابن سينا لأصحاب الأمراض العقلية.
لهفة على المدارس وغيرها:
أرأيت أيها الناظر في هذا الكتاب، كيف كان عمل الأجداد في إنشاء المدارس والربط والخوانق والمستشفيات، وكيف تساوى في تأييدها والوقف عليها الملوك والعظماء وجمهور الناس من الرجال والنساء. وكيف جودوا بناءها وأحكموا وقوفها الدارة ومع هذا لم تقو على مقاومة المخربين والغاصبين فعاد أكثرها دوراً وحوانيت. أزهرت في أزهرت في أربعة قرون واستصفيت في أربعة، استصفاها
من ارتكبوا العار في الاستيلاء عليها من دون حرج، عملوا هذا وهم متنمسون بالدين يصلون ويصومون، ويقال عنهم: إنهم المسلمون، وربما كان على أبدان بعضهم شعار العلماء وما هم في الواقع إلا من أهل الرسم لا من أهل العلم، وقد يكون أقرب الناس إلى مخالفة الشرع القائمون عليه.
ترى هل تلام الحكومات على هذا العبث بالمدارس وانتهاك حرمتها أم تلام الأمة؟ لاشك أن الحكومات ينالها قسط كبير من الملامة لأنها هيأت سبل السرقات، وربما كانت مشتركة بالسرقة أحياناً، ولكن اللوم كل اللوم(6/163)
على الجماعة والمدارس مدارسهم والدين دينهم. ومنذ عبث العابثون بالمدارس، وسرق السارقون عينها ومغلها، تراجعت دروس الدين وتراجعت معها دروس العلوم الأخرى ففشا الجهل المطبق في الأمة، وكادت تعود سيرتها الأولى من الجاهلية الجهلاء، وأصبح من وسموا بالعلم إذا سئلوا أفتوا بغير علم، وجوزوا ما حرمه الشرع وحرموا ما جوزه، ومن مساويهم أكل أموال الأقاف واستصفاء أعيانها، ومعدهم تهضم خصوصاً المساجد والمدارس.
أضاع الخلف ما أبقاه السلف معموراً زهراً من المدارس التي كانت في العصور الغابرة غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفاً ومظروفاً، وبها أثبت أجدادنا أنهم كانوا شيئاً مذكوراً في إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على مجد أمتهم، وأن الأعمال العظيمة لم تقم بنفسها لو لم يفكر فيها عقول كبيرة، وما كانت تلك المدارس تعمر لو لم يدرس فيهلا نوابغ من رجال العلم والاداب، ولو لم تكن ذات قانون معقول. نعم لم نعرف سر هذه الصناعة التي مثلتها لنا هذه المدارس، ولعله يقوم في الجيل المقبل أبنائنا علماء بالآثار والبحث يكشفون سر أعمال الأجداد كما توفر علماء الآثار في أوربا مائة سنة حتى كشفوا لأممهم أسرار البيع العظمى التي قامت خلال القرون الوسطى، وعسى
أن يبرهن الباحثون منا انه لم يقم في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه ويغذونه بعقولهم، ويفضون عليه من معين قرائحهم.
قلت مرة من محاضرة ألقيتها في الشهباء في ربيع سنة 1341هـ - 1923م وقابلت فيها بين مدارس حلب ودمشق: من تأمل مدارس أرباب الخير من المسلمين في الشهباء والفيحاء، وقرأ ما كتب بتأمل، وزارها المرة بعد المرة على تغير معالمها، وتشويه طرأ على محاسنها، وفساد عرا أذواق الأبناء والأحفاد، إذا قيس إلى سلامة ذوق الأجداد، وجعل نسبة بين عدد ما عمر منها وما بقي في البلدتين الشقيقتين يؤكد معنا أن الفساد استحوذ عليها في دمشق أكثر من حلب، وأن من تجردوا من الوجدان فاستحلوا استصفاء تلك المدارس كانوا في الفيحاء اكثر من أمثالهم في الشهباء، ولذلك كان عدد الباقي في حلب اكثر وأجود من المدارس في دمشق.(6/164)
ولا ينكر أن مادة البناء قد تختلف في بلد عن آخر. وقد كان الاعتماد في تلك القرون على الحجر الصلد، وفي دمشق عدة مقالع جميلة منوعة منه كما في حلب، ولم يكثر الآجر والطوب والخشب إلا في القرون الحديثة، ولذلك لم تخرب المدارس الدمشقية لعدم متانة في بنائها، فإن المثلة الظاهرة منها إلى اليوم لا تجعلها تختلف في شيء عن مدارس حلب. ولكن القائمين على هذه المدارس في هذه المدينة كانوا يعتدلون في العبث بها، ومتانة الأخلاق من جملة ما امتاز به الحلبيون، يضاف إليها حب الاحتفاظ بتراث الأجداد على صورة كانت ظاهرة في قرون الارتقاء، كامنة في عصور الشقاء والرجوع إلى الوراء.
والناظر إلى مدارس دمشق وحلب وهي لا تقل عن ثلاثمائة مدرسة، منها زهاء مائتين في دمشق يدرك أنها من عمل السلاطين والعمال وقليل من التجار وأهل الخير. وكان منهم من يتوخى منها أن تكون توليتها لبنية من بعده ليعيشوا منها إذا
صودرت أملاكهم. بنى قليل من التجار المدارس لأن الشعب كان يفنى في أغلب العصور في كبرائه، فلم يكن شأن في مظاهر النعمة والغبطة مدة قرون لغير أرباب الدولة أو من كان يعد في جملتهم، وكان الناس يحاذرون أن تنشأ لهم شهرة في الثروة، والثروة تتجلى في الدار والفرش والدابة واللباس، وفي بذل المال فقامة دور العلم وإيواء اليتامى والمحاويج، فكانوا يتظاهرون بالفقر لينجوا من مخالب العمال.
وقل أن رأينا جماعة اتفقوا على إقامة عمل من هذا القبيل يفتخر به اللهم إلا قليلاً من المساجد، ولو فعلوا لأمنت أعمال الجماعات من اعتداء المعتدين اكثر من عمل الأفراد، ولما استصفت واستحل هدمها، ولا غير خططها ومعالمها من لا يخافون الله ولا عبادة، ولجاءت ممثلة للعظمة الحقيقية في الأمة، على نحو ما قامت البيع والأديار والمدارس في الغرب، بإرشاد رجال الدين من كرادلة وأساقفة وقساوسة، فكانوا يجمعون قليلاً من صدقات الملوك والأغنياء والفرسان والشعب، فيجيء مجموعها عظيماً يدار بأيدي هيأة منظمة على كل حال، ويختطون خطة لا يخرج عنها الخلف إلا قليلاً،
للثر القديم من الموقع في النفس مال ليس للثر الحديث، فإن الأول(6/165)
يذكر بأمور كثيرة، يذكر بمجد السلف وأياديهم البيضاء وإرادتهم الصحيحة، يذكرنا بأن فلاناً الذي تحترمه الأمة بنى ذاك المصنع وتلك الدار، وأن فلاناً العالم درس هناك أو كان يألف المكان الفلاني، وكم من أثر تاريخي أو مصنع من مصانعنا نمر به دون أن نحفل بما فيه من عبر، ولو كنا على شيء من مدينة أجدادنا ما زهدنا هذا الزهد البشع في تراثهم، ولو اقتبسنا المدينة الحديثة بمحاسنها ومساوئها لرأيتنا أسرع إلى التقاط آثار الجدود والاحتفاظ بها من الماء إلى الحدود.
لا تستطيع أمة أن تقطع الصلة بينها وبين ماضيها، خصوصاً إذا كانت ذات غابر
عظيم كغابر الأمة العربية، قام على أساس متين، وتقاليد جميلة، ومقدسات متسلسلة، أما ونحن لا نرقى بدون القديم والأخذ من نافع الحديث، فواجب العقلاء أن يفكروا في أقرب الطرف إلى هذه الغاية، وهذا لا يتم بغير إحياء دور العلم ومعاهد الفضل، وإحياؤها موقوف على قليل من العناية.
ليس للمدرسة الحديثة التي ننشئها اليوم تلك النضارة، ولا تتجلى فيها معاني الحسن والإحسان التي نشعر بها ونكاد نلمسها في المعاهد القديمة مثل مدرسة ضيفة خاتون رحمها الله فإنك إذا رأيتها تمثلت أمامك صفحة من تاريخ هذه الأمة المجيد، تمثلت بيت بني أيوب وأفضالهم على ربوع الشام، وكفى بهم وبصلاح الدين حسنة عقم الدهر أن يلد مثلها. كثير من المصانع بناها الملوك بالسخرة وإرهاق الرعية، وإعانات الأسرى والمعتقلين، ولم نقرأ في التاريخ أن أحدا من آل البيت الصلاحي عمر مدرسة أو جامعاً أو مستشفى أو رباطاً من مال مشبوه، أو سخرة ممقوتة، فأكرم وأنعم كل فرد أصيلاً كان في هذا البيت الشريف أو دخيلاً عليه. . . .
عمر أهل الخيرات من سلف هذه الأمة هذا القدر العظيم الذي نعجب به من معاهد التعليم الديني دع المساجد والجوامع، ولو كتب البقاء لبعضها لأغنت القوم بعض الشيء بمعارفها ونشرت النور بينهم. وكانت المدارس والجوامع في تلك القرون المظلمة في الغرب المستنيرة في هذا الشرق هي المتكلفة بتعليم الناس وإخراجهم من الأمية، وكان لمعظم المدارس والجوامع مرتبطة بها وخارجة عنها لتعليم الأطفال تؤهلهم لتلقي دروس(6/166)
المدارس والجوامع، ولا نغالي إذا قلنا: إن عدد الأميين كان في تلك العصور أقل مما هو الآن في هذه الديار. ولو اطرد العمل اطراده في مدارس الغرب مثلاً لأصبحنا في هذا القرن والأميون أقل مما هم في مماليك المدينة الحديثة.
ولكن الجهل قضى على تلك المدارس وأكل المتولون أوقافها فخربت وتغيرت معالمها. وكم من وقف يستمتع به النظار عليه يصرفون ما وقف على الخير في سبيل شهواتهم بدون محاسب من ذممهم ولا رقيب من أصحاب السلطان. ولو كتب لهم أن يأكلوا منها بالمعروف ويصرفوا حقوق تلك المعاهد أو بعض مغلها على رمها وإجراء الرزق على ساكنيها والدارسين فيها لأتت بثمرات جنية، ولما أكلوا في بطونهم النار، وركبوا متن العار والشنار، وكم من بيت كان موسوماً في القديم بالعلم والتقى فخلف من بعد السلف خلف عبثوا بالحرمات فاستحلوا أموال المدارس والمعابد فدثر البيت وانقرضت الأسرة وذهبوا وما يملكون جملة. لم يرحموا لأنهم لم يرحموا.
ضبطت الحكومة السابقة أكثر أوقاف الملوك والسلاطين وكان ريعها كثيراً جداً في هذه الديار، فلم تصرفها فيما خصصت له ولم تنجح في الغاية التي توختها منها، واستقل بعض أرباب النفوذ بالأوقاف التي ائتمنوا عليها أو انتهت إليهم بحكم الوارثة فأساءوا الاستعمال إلا من عصم الله. فالسبب إذاً في خراب مدارسنا الجميلة سوء إدارة الحكومات السالفة وعبث المتولين عليها وإخراجها عما وضعت له من عمل الخير بصنع أولئك الذين يعدون أنفسهم في جملة هذا المجتمع وهم أعدى عداته اه.(6/167)
دور الآثار
المتاحف والعرب:
المتاحف العامة على الصورة التي نراها في الغرب لعهدنا ليست مما عهد في هذا الشرق. فإن أثينا منذ الزمن الأطول كان لها متحف دعته رواق الصور. وعرضت رومية أجمل ما أخذته من الصور من أثينا. ولم يكن حتى في القرون الوسطى في أوربا متاحف. وكانت بدائع الصنائع البشرية تحفظ في دور الملوك وفي قاعات البيع والأديار. حتى إذا كانت القرون الحديثة ونشأ كبار المصورين في إيطاليا وغيرها كثرت المتاحف التي تعرض فيها التصاوير العجيبة ومبدعات القول والأنامل، بحيث كاد أن يكون لكل مدينة معرض منها. وأخذت تخص تغص بما يهديها إياه الكبراء والملوك، ولما كثر الإخصاء عم المتاحف أيضاً. فصار للأمم العظمى متحف لغرائب الصناعة في النقش، وآخر في الرسم، وغيرها في أدوات الحرب، وآخر في أدوات الزينة، وغيره في أدوات الموسيقى إلى غير ذلك.
ولا نعلم أن كانت للعرب متاحف أيام مدنيتهم على الصورة التي هي اليوم في كل بلد تذوق الحضارة، بل كانت متاحفهم في جوامعهم وقصورهم التي اختاروا لنقشها وتزويقها أمهر صناع أيامهم على نحو ما كان في جامع بني أمية في دمشق، والأقصى في القدس، وبعض جوامع بغداد والقاهرة، وفي الحمراء والزهراء في الاندلس، وفي قصور الخلفاء ببغداد وقصورهم في الأندلس وقصور الفاطميين في القاهرة. وكانت دور العظماء في الشرق كما كانت في الغرب تتنافس في بدائع الصناعة وتجعلها بحيث يراها من يختلفون(6/168)
إلى قصورهم، ولا تزال البيوت القديمة إلى اليوم في الشام تفاخر بما عندها من مجموعات الصيني والقاشاني والسلاح القديم والحلي والأواني الفضية والذهبية القديمة على كثرة ما
طرأ على القطر من الحوادث التي عزت فيها الحاجيات دع الرغبة في الكماليات. وكان اقتناء هذه البدائع في هذه الديار من دلائل الظرف وآيات التعيين والرياسة، كما كان اقتناء الكتب في قرطبة بل في حلب ودمشق إلى عهد قريب.
كان الفاتحون يغنمون في جملة ما يغنمون الطرائف البديعة وأدوات الزينة والتحف. هكذا فعل تيمور فحمل معه من دمشق صناع هذه البدائع وما أبدعوه، وهكذا فعل سليم العثماني فاتح مصر فنهب منها أجمل آثارها التي استطاع حملها وزين بها قصره وقصور جماعته في القسطنطينية. وذكر المؤرخون أن بعض ملوك الأندلس من العرب كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة من غير نكير، وفيها صور الآدميين وغيرهم.
وكان أهل أوربا زمن الحرب الصليبية وبعدها يتنافسون فيما يجلبونه من الأقمشة والبسط وأدوات الزينة من الشام، ولما جاء القرن الأخير أخذوا ينقلون إلى متاحفهم ما أبقته صنع الأيدي من أهل المدنيات القديمة من تماثيل ونصب وأحجار زبر عليها رقم، وفي بعض متاحف أوربا ولا سيما في متحف اللوفر في باريس والمتحف البريطاني في لندا ومتحف برلين ومتاحف إيطاليا وغيرها كثير مما عثر عليه الباحثون العادات الحجرية في اليمن والشام ومصر ولا سيما من الديار الشامية. وقد أخذت عادياتنا تسافر من أرضنا منذ اخذ علماء الآثار يبحثون في سهولها وجبالها، وما كتبه كثير من علماء المشرقيات والعادات في القرن التاسع عشر دليل يؤيد ذلك، وقد نشروا أبحاثهم في كتب خاصة ومقالات لهم في المجلات الأثرية والعادية والعلمية.
أما نحن سكان هذه الديار فلم تكن لنا عناية بهذا الشأن بل قل جداً من اهتدى إلى الاحتفاظ بما خبأته الأيام في بطون هذا الصقع. وكنا أزهد الناس فيها حتى نقلت آثارنا ونفسائسنا أمام أعيننا كما نقلت مخطوطاتنا ونحن ضاحكون مستبشرون،
وانتفع بها القوم هناك وأكملوا بها تاريخ المدينة، ولما وقع الانتباه في الحكومة العثمانية أخذت تمانع بعض الشيء في نقل هذه التحف(6/169)
والطرق، ونقلت بعض ما عثر عليه من المصانع في خرائب صيدا وتدمر وغيرها فزينت بها متحف الآستانة. وقد ندب بعض علماء الآثار من الإنكليز وحفروا بطرق عجيبة مغارة الصخرة في المسجد الأقصى فذهب ما فيها ولم يعلم عنه شيء.
وكم من بعثة أثرية قامت بحفريات وأخذت ما عثرت عليه ولم تأخذ الدولة العثمانية حقها منه ولسان حال الباحثين ما ورد في الأمثال العربية لا يحزنك دم ضيعه أهله. وقد طلب منها في مؤتمر الصلح باريس إعادة ما أخذته هي وألمانيا خلال الحرب العامة من هذه الديار من الآثار. وفي ذلك برهان على مكانه العاديات في نظر الغربيين.
ولقد كنا نزين للحكومة التركية منذ ست وأربعين سنة أن تنشئ لدمشق متحفاً صغيراً تجعل فيه العاديات وبدائع الصنائع، فكان عمالها يتشاغلون عن ذلك لأنهم يحبون أن يكون كل فضل في الاستانة، وأن تكون سائر الولايات قرى ومزارع للاستعمار على طريقتهم، حتى إذا نادت سورية بالحكومة العربية صحت عزيمة هذه على إنشاء متحف فاتخذت له سنة 1337هـ - 1919م دار المدرسة العادلية من أجمل قصور الفيحاء، وأخذت تجمع بعناية المجمع العلمي ما بقي من الآثار النفسية. فهو أول متحف عربي في هذه الديار، سار القائمون به على قدم الغربيين في نظامه، ثم بني له بناء خاص في غربي المدينة في المرج الأخضر واغتنى في أسرع مدة غنى يغبط عليه بما اكتشف المنقبون عن العاديات من علماء الغرب.
حياة المتحف العربي بمعاضدة الأمة له. ولم يقصر بعض من لديهم مثل هذه التحف والطرف في إهدائها لتجعل في دار آثار الأمة عنوان ارتقائها ونموذجاً
على معرفتها بتاريخها. لا جرم أن هذا المتحف هو البذرة الأولى التي ألقيت في هذه التربة المخصبة المهيأة لأنواع النماء والإثراء يستفيد منه أهل الأجيال الخالفة ما يعني غناءه في تربية عقولهم وعيونهم وأناملهم ويعتبرون بماضي الصناعة عند الأقدمين، وما كان لأجدادنا من الأيادي البيضاء في الفنون الجميلة بين المحدثين.(6/170)
-
نشأة علم الآثار:
عنيت الأمم منذ القديم بالفنون الجميلة، وكان حظ كل أمة من هذا الشأن بحسب رقيها وحضارتها. كان الأفراد يجمعون الآثار ويتنافسون باقتنائها لا لغاية علمية بل للزينة والتفاخر. ودام هذا حالهم حتى سنة 1764م لما ظهر متاب تاريخ الفن عند الأقدمين لمؤلفه وانكمان الألماني، وهو أول من وضع أسس هذا العلم الحديث.
إن علم الآثار القديمة فرع من فروع التاريخ، ومن أصعبها مراساً، إذ يحتاج صاحبه إلى قوة انتباه وذوق سليم. فإن هذا العلم لا يقتصر فيه فقط على جمع الآثار القديمة في المتاحف ووصفها، بل يتطلب حل رموزها وفهم كنهها، واستجواب تلك الشهود الصامتة، واستنتاج الحقائق منها.
ولقد أصبح النظر في أبحاث علماء الآثار وتحقيقاتهم محتماً على كل مؤرخ ومحقق، ويستنير بها كل لغوي ومفسر. وكم معضلة تاريخية ولغوية حسمت بفضل هذا العلم. وهاهي كلمة فرعون التي لا يجهل اليوم الأحداث معناها، ذهب المتقدمون من علماء اللغة في تفسيرها مذاهب حتى قام علماء الآثار فأظهروا وثائق تثبت أنها لقب كل من ملك مصر. وكم من حوادث جاءت في كتب السلف وفي الكتب المنزلة فذهب الناس في تأويلها، وشك بعضهم في صحتها، ولولا علم
الآثار الذي أماط عنها اللئام، وأظهرها للعيان ملموسة محسوسة، لقالوا: إنها أساطير الأولين. أليست جهود الذين اكتشفوا آثار آشور والكلدان ومصر وفارس ويونان وبعثوا ذكرها بعد أن كانت نسياً منسياً ألوفاً من السنين، شاهداً عدلاً على أخبار تلك المماليك.
لم يدون الأقدمون غير النزر اليسير الذي وصلهم من أخبار الشعوب القديمة، وأغفلوا ذكر أكثر الأمم البائدة التي ذهبت أخبارها بزوال أصحابها، ولو اكتفينا بهذه النصوص المشبوهة لما كنا أوفر حظاً ممن تقدمنا بمعرفة أخبار السلف، وبفضل هذا العلم نعرف اليوم أخبار أكثر هذه الأمم، كما نعرف حوادث الأمم في القرون الوسطى، وقد توصلوا لمعرفة ما كان عليه الإنسان(6/171)
قبل عشرات الألوف من السنين، يوم كان يأوي إلى الكهوف، ويقتات بالنبات، ويفترس الوحوش، مع أننا نجعل ونحن في القرن العشرين كثيراً من عقائد بعض الشعوب الضاربة في مجاهل إفريقية وهي معاصرة لنا.
ومن الإنصاف أن لا ننكر فضل من نقلوا إلينا أخبار القدماء لأن هذا الشيء اليسير هو الذي أثار في فئة من الناس حب الاستطلاع، وكانت هذه النصوص نوراً يستضاء به، ومراجعاً يستأنس به. وعلماء الآثار أصدق الناس في هذه الروايات، وهم وإن لم ينكروا وقوعها فلا يجزمون بصحتها إلا متى عثروا على دليل من ذلك العصر يؤيدها. ولأبحاث علماء الآثار ميزة جديرة بالاعتبار فإنها تكون في أكثر الأحايين منزهة عن الأغراض والغايات النفسانية. وقد يخطئ الأثري في استنتاجة، ولكنه لا يعتمد تشويه الحقائق، لأن همه الوحيد أن يحيي هذا الماضي البعيد، ويصبح ومعاصروه كأنهم يعيشون في ذاك العصر وذاك المحيط. ومن منا لا يشعر بمثل هذا الشعور عندما يزور متحفاً أو معبداً أو أطلالاً قديمة. وكيف يمكنه أن ينكر الحقيقة ولسان حال هاته الأمم البائدة يقول:
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
لقي هذا العلم الحديث إقبالاً عظيماً في الغرب فعنيت حكوماتها به، وأصدرت للمشتغلين به أموالاً طائلة، وأنشأت له المدارس والمجامع العلمية أسوة ببقية العلوم. وقد أبدى الأثريون على قلة عددهم نشاطاً عظيماً، ووضعوا في برهة قصيرة كثيراً من المؤلفات المفيدة. وقد نال الشام قسط وافر من هذه الأبحاث، فهي أول بقعة اتجهت نحوها الأنظار وخصوصاً فلسطين، لمكانة الشعوب التي استوطنتها منذ الزمن الأول الأطول، وأهمهم الشعب الإسرائيلي، لعلاقة الأمم الغربية بكتابهم المقدس.
البعثات الأثرية الغربية:
أوفدت أكثر حكومات الغرب بعثات علمية للتنقيب عن آثار الشام نخص منها بالذكر البعثة الفرنسية التي رافقت حملتها في سنة 1860 والجمعية الإنكليزية للبحث عن آثار فلسطين. ثم تضاعفت الهمم فجاء من(6/172)
الفرنسيين رنان والدوق دولوين ودوسلسي ودوفوكوين وكلرمون غانو ودوسو وفانزان وغيران، ومن الإنكليز روبنسون ومادن وسايس وويلسون وفارين، ومن الألمان أوتوتينيوس، ومن السويسريين ماكس فان برشيم. وأهم الأمكنة التي نقبوا فيها هي تل الحسي وتل زكريا وتل الصافي وتل الجديدة وتل الجزر وتل تعناك وتل المتسلم وعكا ويافا والقدس وصيدا وصور وجبيل وعمريت وجزيرة أرواد وبعلبك إلى عدة أصقاع في الشام الشمالية.
وبينا هذه البعثات مجدة في عملها، كانت الدولة العثمانية في سبات عميق مكتفية بمراقبة هذه البعثات لاقتسام الغنيمة وإيداعها متحف الآستانة الوحيد. ولم تفكر بعمل حفريات قط، كما أنها كانت تأبى إنشاء فروع لمتحفها في الشام أو في غيرها من السلطنة العثمانية، وحجتها في ذلك أن الآثار إذا جمعت في مركز
واحد، وضم بعضها إلى بعض نتجت من ذلك فوائد علمية وعملية لا ترجى من تعدد دور الآثار، وذلك أسوة بمتاحف أكثر الأمم الغربية، وعملاً برأي أكثر علماء الآثار. ولكنها تجاهلت بأن ما يصلح لأرض لها وحدة تاريخية لا يعمل به في أرض ضمت تحت لوائها شعوباً مختلفة ومدنيات متباينة كالإمبراطورية العثمانية.
ولذلك كان جل اهتمام الدولة العثمانية مصروفاً إلى إنماء متحف الآستانة فأهملت أمر الآثار القديمة في ديارها، ولم تعهد إلى أناس يتعهدونها أو يراقبون سيرها، فدرس كثير من البنايات الأثرية البديعة، وأقبل الأهلون في كل ناحية ينقبون عن الآثار القديمة بغية الاتجار بها. فأصبحت هذه التجارة ذات شأن في القطر، وغصت متاحف أوربا بآثار الشام، واقتنى غواة العاديات الأجانب كثيراً منها. وبهذه الصورة وبفضل الامتيازات الأجنبية تمكنت كل من الجامعة الأميركية والكلية اليسوعية في بيروت وغيرهما من المعاهد من إنشاء متحف خاص، وجمع الدكتور فورد في صيدا، وغيره في حلب من الأجانب مجاميع مهمة من آثار الشام. ولم يعرف من الشاميين من اشتهر بجمع الآثار، القديمة وكانوا لا يعبئون بها، ولا يقيمون لها وزناً. ومن كان منهم يملك طرفةً أو أثراً يتنازل عنها مقابل دريهمات معدودة، حتى تجردت أكثر البيوت والأسر من نفائسها.(6/173)
آثارنا وآثار جيراننا:
ولقد تبين من الحفريات التي أجريت في الشام ومن الآثار التي اكتشفت فيها أن آثارها تختلف كثيراً عما وجد من نوعها في الأقطار المجاورة، ولا يرجى أن نعثر في هذه الديار على آثار تثير بجسامتها إعجاب العامة قبل الخاصة، كما هو شأن آثار مصر وآشور وفارس. والسذاجة في الصناعات تغلب على الشاميين منذ القديم، وهذا ناشئ عن طبائعهم ومعتقداتهم. فالشامي في جميع أدواره التاريخية يميل إلى الساذج، وهذا يظهر في صناعته وفلسفته الدينية، وتتجلى في هذه
البساطة مواهبه الفنية، جمع بين الساذج والجميل فأحسن الصنع وأبدع. وتقل الآثار المنقولة النفيسة التي اكتشفت في الشام بالنسبة لما وجد في غيرها من الأقطار، وهذا القليل يشهد ببراعة الصانع الشامي وذوقه السليم، حاز بهما مكانة بين أقرانه من فناني بقية الشعوب.
وليس معنى قلة العاديات عدم انتشارها في القطر، بل لأنها لم تصل إلينا لأسباب وعوامل شتى. ذلك أن تربة الشام رطبة لا تحفظ ما يودع فيها. وأن الشاميين قلما يجعلون في مدافن موتاهم نفائسهم، كما هو شأن المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. بل يكتفون بالأشياء الساذجة المنوعة. فإذا أضفنا إلى خلو القبور من الأعلاق، وما قد كتبه اشمو نزار ملك صيدا على تابوته مخاطباً به نابشي القبور، ناصحاً لهم أن لا يهتكوا حرمته، مؤكداً أن لا ذهب ولا فضة في قبره ندرك من هذا سر ندرتها بين أيدينا. فإذا كان هذا حال ملوكهم فما بالك بالرعية. وخلو القبور منها هو حجة للشام لا عليها، ودليل على سمو عقيدة سكانها، ونضج فكرتهم منذ القديم، لأن الشامي كبقية الشعوب السامية يغلب عليه الاعتقاد بأن الجسم مادة تتلاشى مع الزمن ليست جديرة بالإكرام الذي يبالغ به غيرهم من الشعوب. ومع هذا فقد انتشرت في الشام عادة وضع بعض الأشياء في القبور وذلك بمؤثرات خارجية واقتباس عادات الغالب، والشام في أكثر أدوار تاريخها خضعت لسلطان أجنبي.
الشام معهد ثلاث ديانات يدين بها اليوم معظم البشر. وهذه الديانات(6/174)
لم تكن ابنة ساعتها، بل هنالك عوامل مهدت لها السبيل مدة قرون عديدة قبل ظهورها. ولذلك يهم كلاً منا معرفة تطورها.
وهذا ما يزيد في مكانة آثار الشام ويجعل إقبال العلماء عليها أكثر من سواها لعلاقتها الكبيرة بنظامنا الاجتماعي الحاضر. وقد أدركت جمعية الأمم هذا الأمر
واحتاطت له خوفاً من المزاحمة واستئثار دولة بهذه الآثار دون سواها، فاشترطت في المادة 14 من صك الانتداب أن القانون الذي سيسن لحماية العاديات يجب أن يستمد روحه مما يدعو إلى التنشيط أكثر منه إلى التثبيط، كما أنها اشترطت على الحكومة المنتدبة عند منحها إجازات بالحفر أن لا تتصرف بشكل يرمي إلى حرمان علماء أي شعب كان تلك الإجازات دون أسباب موجبة، وهكذا أصبح الباب مفتحاً لجميع الأمم.
تأسيس دور الآثار:
وقد تضاعف نشاط البعثات الأثرية الأجنبية عقب الهدنة في سنة 1918، وأظهرت قيادة جيوش الحلفاء في الشرق عناية كبرى بالآثار، وعهدت للأخصائيين في جيوشها بدرس آثار الشام ورفع التقارير عنها، وشددت النكير على العابثين بها. ومن جملة مقررات المؤتمر الفرنسي الذي عقد في مرسيليا سنة 1919 للبحث بشؤون الشام العامة اقتراح على الحكومة الفرنسية بإنشاء ديوان للآثار القديمة، والتشبث باسترجاع ما أخذته الحكومة العثمانية من آثار الشام، وقد حققت المفوضية الفرنسية في الشام الاقتراح الأول، فأنشأت لها ديواناً للآثار القديمة، وحذت المفوضية الإنكليزية حذوها في فلسطين وشرق الأردن.
ولم تكن الشام في عهد الملك فيصل أقل عناية من تينك الدولتين. فقد اغتنم هذه الفرصة بعض المفكرين وفي مقدمتهم الأستاذ مؤلف خطط الشام فاقترحوا على الملك إنشاء متحف في دمشق، فقوبل هذا الاقتراح بارتياح عظيم. وما لبث الملك أن أصدر أمره بذلك إلى الأستاذ بأمر تحقيقه على أن يكون فرعاً للمجمع العلمي العربي الذي أسسه الرئيس أيضاً. وأنشأت الحكومة السورية متحفاً آخر في حلب، وأنشأت حكومات لبنان وجبل الدروز والعلويين(6/175)
متاحف في بيروت والسويداء وطرطوس، وكذلك أنشأت كل من حكومتي فلسطين والشرق العربي متحفاً جعلته
الأولى في القدس والثانية في عمان، وجميع هذه المتاحف نمت بسرعة عظيمة بفضل ما اشترته واستهدته من الآثار، وما نالها مما اكتشفته البعثات الأثرية في مناطقها فأصبحت الشام بتشجيع الحكومات المحلية والسلطات المنتدبة ساحة عمل دولي كبير.
وقامت البعثات الفرنسية بالبحث عن الآثار في صيدا وأم العواميد وكفر الجرة وبيروت وجبيل والقرية ولبيا في منطقة الحكومة اللبنانية، وفي السويداء وقنوات الشهباء، وفي تل النبي مند قدش القديمة وفي المشرفة قطنا القديمة والنيرب وأرسلان طاش والقصر الأحمر، وقامت بعثتان مختلطتان بأعمال التنقيب في قلعة الصالحية دوراسا أو روبوس القديمة على شاطئ الفرات، وفي مدينة تدمر. وتحرت البعثة التشكوسلوفاكية آثار الشيخ سعد وتل أرفاد، ونقبت بعثة ألمانية في رأس العين شمالي الشام. وحصرت البعثات الإنكليزية والأميركية أعمالها في منطقة فلسطين والشرق العربي، فنقبوا عن الآثار في تل مجدو القديمة وبيسان وسبسطية سمرة القديمة وسيشم وبيت جبرين والقدس والتابغة وجرش.
متحف دمشق:
تختلف مجموعة دار الآثار في دمشق عن مجاميع متحف الشام للعناية التي بذلتها بآثار القطر الشامي على اختلاف أدواره التاريخية وخاصة العهد الإسلامي. وحري بدمشق عاصمة الأمويين، ومهد الحضارة العربية، أن يكون لها متحف يحيي ذكرى هذا الماضي المجيد. ورغم ندرة العاديات الإسلامية المنقولة في ربوع الشام وأسعارها الباهظة، تمكنت دار الآثار من جمع أعلاق قيمة. منها مجموعة نقود إسلامية، ومجموعة خزف عربي، ومجموعة مصاحف مخطوطة ومذهبة. ومجموعة خشبية أخص بالذكر منها جانباً من سدة جامع من خشب الحور الرومي آية في جمال الصنع وحسن الذوق، مزينة بنقوش عربية بديعة،
وكتابات قرآنية كوفية مزهرة متناسقة جميلة جداً، وقد كتبت في أعلاها هذه الفقرة: بن محمد بن الحسين بن(6/176)
علي صفي أمير المؤمنين تقبل الله منه وذلك في شهور سنة سبع وتسعين وأربعمائة وتابوت مزين مجموع يشكل حشوات صغيرة منقوشة نقشاً بديعاً وقد كتب على كل جوانبههذا ضريح الست الجليلة الكبيرة المعظمة الملكة فخر الخواتين عصمة الدنيا والدين، بختي خاتون ابنة السلطان الملك معز الدين قيصر شاه ابن السلطان السعيد الشهيد ملك ملوك الروم والأرمن قليج أرسلان قدس الله روحه ونور ضريحه، وذلك في مستهل ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة وبين مجموع الكتابات الحجرية لوحتان سلجوقيتان كتب عليهما تاريخ ترميم جانب من جامع بني أمية في شهور سنة 475 وأخرى أيوبية تاريخها سنة 575 ومجموعة وافرة من شواهد قبور أمراء الشام وعلمائها في القرن السابع والثامن هـ. ومما يلفت النظر جرة من رخام أبيض، وعلى القسم الأسفل منها نقوش عربية وعهدها من القرن الثامن للهجرة. وأخرى من الفخار عليها نقوش أشخاص وحيوانات وطيور وزهور محكمة الصنع وكتب في وسطها هذه العبارة عز وإقبال وسلامة وسعادة وكرم وغبطة ورفعة، وهذه الجرة فريدة في بابها وهي من صنع العراق في القرن الثالث عشر م.
ومن أهم الآثار غير الإسلامية مجموعة زجاجية وهي أجمل مجموعات العالم، ومجموعة مهمة من الآثار التدمرية وهناك رأس تمثال أحد عظماء الحثيين يرجع عهده للألف الثانية قيل الميلاد. ونصب الفرعون سيتي الأول وعليه ذكر انتصاره على الحثيين، وطائفة من الآثار الرومانية واليونانية.
متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس
وعمان:
وجمع في متحف بيروت كثير من الآثار الفنييقية وغيرها الأواني والحلي التي عثر عليها في مدافن جبيل وفي أقبية معبدها. ويرجع عهد بعضها إلى الألف الثالثة وبعضها إلى 1800 سنة قبل الميلاد منها ناووس الملك أحيرام المتوفى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد نقشت على جوانبه صورة الملك يتناول القرابين من أتباعه وبعض الشعائر الدينية، وهو قائم على أربعة(6/177)
أسود. ومما يزيد في شأن هذا الأثر الكتابة الفينيقية التي زبرت عليه وهي أقدم كتابة عرفت من نوعها حتى اليوم وهذه ترجمتهاعمل هذا الأران التابوت أفسبعل بن احرام ملك جبيل لأبيه كي يكون مقره الأبدي، فإذا نصب ملك من الملوك أو حاكم من الحكام العداء لجبيل وإخراج هذا التابوت من تحت التبليط فيكون خاتون خصمه فيدك عرش ملكه ويعم الخراب جبيل إذا محا هذه الكتابة. . . . . . وبين هذه الآثار آنية خرافية تقش عليها اسم الفرعون امنمعحت الثالث 1850 - 1800 قبل المسيح. وآنيتان عليهما اسم امنمعحت الرابع وآنية من الرخام جميلة الصنع مع غطائها، وكتب عليها بالهيروغليفية ما يأتي: خدام الإله ابن الشمس فليعش امنمعحت إلى الأبد وصندوق صغير للحلي من حجر كريم أسود محلى بالذهب وشكله على طراز الناووس وعلى الغطاء كتابه هيروغليفية هذه ترجمتها: فليعش الإله بون سيد الأرضين ملك مصر البحرية والقبلية مع خرون راع المحبوب راع المحبوب من ثوم سيد هيليوبوليس الممنوحة له الحياة الأبدية. وجمع في هذا المتحف مقدار كبير من الفخار أهمه الأواني التي عثر عليها في كفر الجرة ويرجع تاريخ صنعها إلى الألف الثاني قبل الميلاد. ولآثار جبيل مكانة تاريخية عظيمة وهي من أهم ما عثر عليه حتى الآن في الشام.
وكان في متحف السويداء مجموعة حجرية نفسية أكثرها من العهد اليوناني والروماني ضاع معظمها مع السف إبان الثورة السورية. ومتحف طرطوس
حديث العهد ليس فيه إلا مجموعة صغيرة ليست ذات شأن كبير. وأما متحف حلب فلم يخصص له مكان بعد، ولكن مجاميعه جاهرة ستحفظ فيه متى هيئ لها المكان. وأكثر هذه الآثار حثية وآشورية من التي استخرجت في حفريات أرسلان طاش وتل الأحمر وتل أرفاد والنيرب.
وفي متحف القدس خزفية مجاميع ومعدنية تبين تطور نهضة فلسطين والأدوار التي مرت عليها في أهم عصورها التاريخية، كما أنه يحتوي على عدد من النواويس من العهد اليوناني وأجملها مما نقش عليه صورة معركة بين اليونان والنساء المترجلات أمازون وطائفة آثار من الحجر البركاني من عهد الفرعون سيتي الأول ورعمسيس الثالث التي وجدت في(6/178)
بيسان. وقد حفظت قطع الجمجمية التي وجدت في التابغة ويرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. وأما مجموعة متحف عمان فأكثرها مما يرجع تاريخه إلى العهد الروماني والبيزنطي.
وبعد فقد عرفنا بما تقدم مقدار العناية التي بذلتها البعثات الأجنبية بآثار الشام غير الإسلامية وإعراضهم عن هذه الأخيرة. لا جرم أن معظم الآثار الإسلامية في القطر محفوظة في الجوامع والمساجد والمدارس تحت إشراف ديوان الأوقاف. ولذلك يتحاشى ما أمكن أن يثيروا عواطف عوام المسلمين حتى إن السلطات المنتدبة تركت لدوائر الأوقاف حرية التصرف بهذه الأماكن المقدسة. وقد اكتفت بأن تسدي إليها من حين إلى آخر النصائح لبذل العناية بهذه الآثار. لكن أكثر هذه الدوائر في شغل شاغل عنها. فكل يوم نسمع بضياع اثر أو تشويهه لا عن قصد منهم بل لأنهم لا يقدرون قيمة ما هو تحت أيديهم، حتى أصبحت أكثر هذه الأمكنة الأثرية في حالة يخشى عليها من الاندراس، وبذلك يفقد القطر هذه المفاخر التي تشهد بمدينة السلف العظيمة في أزهى العصور الشامية. فعسى أن تحذو الشام حذو شقيقتها مصر وتؤلف لجنة للآثار الإسلامية تعنى بجمعها وتتفقد شؤون البنية
منها.
وقد أنشأت الجمهورية الفرنسية في دمشق معهداً فرنسياً لدرس الآثار وخاصة منها الإسلامية على منوال المعهد الفرنسي في القاهرة. وقد سبق للبعثات الأجنبية أن أسست في القدس معاهد لدرس الآثار مثل المدرسة الأثرية الفرنسية، والمدرسة الأثرية الإنكليزية، والمدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية، ولهذه المعاهد فضل كبير بكشف غوامض تاريخ الشام القديم.
لم تدع السلطتان الفرنسية والإنكليزية في منطقتي سورية وفلسطين باباً إلا وطرقتاه لنشر الدعاية في الممالك الأجنبية عن آثار الشام ومكانتها. وقد تجلى ذلك في دعوتهم لمؤتمر الآثار الدولي الذي عقد في سورية وفلسطين في شهر نيسان سنة 1926 فكانت نتائجه مرضية. وبفضل هذه الدعاية نرى عدد السياح بازدياد في كل سنة. ولا شك أن الشام إذا صرفت العناية بفنادقها وطرق مواصلاتها تصبح مقصد السياح من أهل الأرض، وتجني من ذلك فوائد مادية وأدبية لا تقدر.(6/179)
دور الكتب
نشأة الكتب:
عرفنا من سير القدماء أنهم كانوا يقيدون علومهم ومآثرهم وتواريخهم وأيامهم في صنوف من المواد، تكون على مقربة منهم، وتكثر في أرضهم وديارهم. فالبابليون كتبوا كتبهم على الآجر أي بالطين المشوي، وكتب الهنود على النحاس والحجارة والحرير الأبيض والطومان المصري، والعرب عمدوا إلى أكتاف الإبل واللخاف، أي الحجارة البيض والرقاق وعسب النخل. وبقي الأمر على ذلك حتى شاع الورق المعمور من الكتان في خراسان وسمرقند وبغداد ودمشق، منذ القرن للهجرة على ما يظهر.
ولما شاع الورق قضي على الرق لسهولة تناول القرطاس والمهرق، وهي الصحيفة البيضاء يكتب فيها. وكان من الحرير الأبيض ما يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه، وقد اعتمدوا عليه قبل القراطيس بالعراق، وكتب بعض أهل الغرب في صفائح من معدن رقيق. وكان أهل فرغامة في الروم أول من استنبطوا الرق، كانت له تجارة رابحة بارت بظهور الورق، وكانت الكتب في العراق تجعل في جلود دباغ النورة أي الكلس، وهي شديدة الجفاف، ثم كانت الدباغة الكوفية، تدبغ الجلود بالتمر وفيها لين ولا رائحة لها.
ولما فتح الإسكندر فارس كان العلم منقوشاً مكتوباً في صخور وخشب، فأخذ حاجته منها وأحرق الباقي. ولما تولى أردشيربابك وابنه سابور على فارس والعراق جمع مل تفرق من الكتب فيهما، واستنسخ من الهند والصين والروم(6/180)
كتبهم. ولما ملك بطلميوس بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية فحص عن كتب العلم فعهد إلى رجل اسمه زميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً. وقال له: قد بقي في الدنيا شيء كثير
في السند والهند وفارس وجرجان والأمان وبابل والموصل وعند الروم. وذكروا أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج أي الكراريس فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار ابن عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزاً فاحتفره فأخرج تلك الأسفار. قالوا: فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالأشعار من أهل البصرة. وبلغ من عناية ملوك الفرس بصيانة العلوم، وحرصهم على بقائها على وجه الدهر، وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض، أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث، وأبقاها على الأيام، وأبعدها عن التعفن والدروس، فكتبوا في لحاء شجر الخدنك، ولحاؤه يسمى التوز، وكانت تعمل منه القسي، وبهم اقتدى في ذلك أهل الهند والصين ومن يليهم من الأمم.
ولما حصل الفرس العلوم طلبوا لها من يفاع الأرض أصحها تربة وأقلها رطوبة، وأبعدها من الزلازل والخسوف، وأعلكها طيناً، وأبقاها على الأيام بناء، يقيمون فيها خزائنهم ودور كتبهم فاختاروا مدينة جي من عمل أصفهان جعلوها في قنهندرز أي حصن، فانهارت هذه المصنعة في الإسلام فظهروا فيها أزج معقود من طين الشقيف، أي بيت مستطيل من الخرف، فوجدوا فيها كتباً كثيرة من كتب الأوائل مكتوبة كلها في لحاء التوز بالكتابة الفارسية القديمة، وقالوا: إن الفرس كانوا يودعون كتبهم في سارويه، أحد الأبنية الوثيقة القديمة المعجزة النباء، وتشبه الأهرام في الجللة وإعجاز البناء، وكانت الكتب على صفحة صفحة أي من وجه واحد.
هذا ما يؤخذ من كلام ابن النديم وغيره في منشأ الكتب عند القدماء، ومع هذا لم تحفظ لغات الأقدمين لولا ما وجد منها مكتوباً على الأحجار، وكان بعض تلك اللغات اندثر في القرون الأخيرة حتى لا يحلها إنسان، مثل اللغة الهيروغليفية لغة
قدماء المصريين المقدسة فعثروا في رشيد من ثغور مصر(6/181)
في سنة 1826 على حجر كان مكتوباً بالهيروغليفي، وهو الخط الخاص بالآثار عند قدماء المصريين، وكان الخط المعتاد عندهم الخط الهيراطيقي يكتبون به حاجاتهم العادية وفنونهم وآدابهم. وهذا يكتب على البردي بقلم من البوص المعروف بالغاب، يغمس في مدار أسود أو أحمر ومنه أدراج طويلة قد يبلغ طول الواحدة منها ثلاثين متراً، ومنها نماذج حفظت في متاحف الغرب ومتحف مصر، وكذلك ما عثروا عليه في رسائل تل العمارنة في المنيا بمصر في سنة 1888 وقد كتبت بالآجر بالحروف المسمارية البابلية، وفيها سجلات الدولة في عهد فرعون مصر أمينوفيس الرابع أمينوفيس الثالث، وانحلت بهذه الآجرات عقد من التاريخ القديم استدل بها على علاقة الشام بمصر.
ومثل ذلك يقال في الأثر النفيس الذي اكتشفها أحد أمراء روسيا في تدمر سنة 1882 وانحلت به مشاكل كثيرة من الحضارة التدمرية. وقد حل الخط التدمري بارتلمي، واكتشف دوسو في الجنوب الشرقي من النمرة في الصفا حجراً مكتوباً بالخط الآرامي وهو بالعربية، وحل لغة الصفا بيمان وهاليفي. واكتشفت في البتراء المصانع المكتوبة بالآرامية، وحل علماء الآثار اللغة الحميرية السبئية في اليمن. وحل لغة البابليين دي مورغان، ومن أهم ما عثر عليه من آثارهم مسلة عظيمة عملت بمسحوق الحجر البركاني وقد زبرت عليها شريعة حمورابي أحد أعاظم ملوك البابليين، وكان من أصل عربي كما يقول هومل.
وأهم الكتابات الفينيقية التي ظهرت ما وجد مزبوراص على ناووس أحد ملوك صيدا سنة 1855، والخط الفينيقي أشبه بالخط العبراني، والخط المسند هو الذي كتبت به مصانع الفرس القدماء ومصانع أشور وبابل وأرمينية وخوزستان وما إلى ذلك من أرض العراق. ولا يزال العلماء يكتشفون الآثار والعاديات في أرض
الشام، وإلى اليوم لم ينحل خط الحثيين أقدم شعوب هذه الديار، ولا يزال علماء الآثار منذ عثر بروكهار في حماة على حجر مكتوب بهذا الخط سنة 1812 متوفرين على حل هذا القلم وقد ظفروا بكثير من آثار الحثيين في هيرابوليس أوقرقميش عاصمة الحثيين وفي طرابلس(6/182)
وحلب وأرفاد وحمص وغيرها.
ومعنى كل هذا أنه لم يصل إلى أهل الحديث بعد تطال الأعصار من تلك اللغات القديمة إلا ما كان مزبوراً على الأحجار والآجر، ثم ما كان على الخشب والرق ثم الورق، وكانت للعرب في الكتابة على الرق والورق يد طولي نقلوا بواسطتهما ما أمكن كم علوم القدماء، وأعطوه لأهل الحضارات الحديثة بأمانة وإخلاص. فالقدماء إذاً وضعوا الكتب أيام عرفوا الكتابة، فكان لبعضهم كالفرس واليهود والهنود كتب مقدسة، وخلف الرومان واليونان تواريخ وقصائد وخطباً ومقالات فلسفية. قال سنيوبوس: وقلما نجد في الكتب المواد اللازمة لمباحثنا إذ ليس لدينا كتاب أشوري ولا فينيقي. أما ما بقي من أسفار الشعوب الأخرى فتافه جداً. وكان القدماء يكتبون ولكن أقل منا، ولذلك كانت تآليفهم أندر، ولم يكن لهم من كل مصنف غير نسخ قليلة لما أن الكال كانت تقضي باستنساخها كلها باليد، وقد دثر غالب هذه النسخ أوضاع وتعذرت قراءة ما بقي منه، ويسمى علم حلها باليوغرافيا أي علم الخطوط والكتابات القديمة.
نشأة الخزائن والعناية بحفظها:
عرفنا بما تقدم أننا لا نستطيع أن نحكم على العصور التي سبقت الإسلام في الشام في أمر الكتب والخزائن فإن إنطاكية نطقت بما كان فيها من علوم القدماء، وانتقلت إليها من حران والإسكندرية، ولا بيروت ولا مدرسة الفقه التي كانت فيها قبل الإسلام، أطلعتنا على ما كان فيهما من خزائن وأسفار، فإن أخبار هاتين المدينتين إنطاكية وبيروت انطمست منذ القديم كما انطمست معالمها بالزلازل
المدهشة التي قضت على دور العلم فيهما، وأتت أيضاً على برمتها في العصور الأولي للإسلام، والزلازل كالحريق تتلف الكتب وتدمر دورها.
ثبت أن العرب لم يدونوا في الجاهلية شيئاً من مآثرهم بالعربية، لأن الخط العربي محدث انتقل إليهم من أنبار قبيل الإسلام، ولكنهم كانوا أول من أسرع التدوين خارج جزيرتهم، ولا سيما في العراق والشام أوائل الإسلام.(6/183)
ومن أهم الكتب القديمة في الشام مصحف سيدنا عثمان الذي عام ثلاثين للهجرة إلى دمشق ليكون الاعتماد عليه كما أرسل مثله إلى الأمصار الكبرى في الأقطار الأخرى. والغالب أنه نقلت عنه عدة مصاحف عدت من الأمهات منها ما جعل في طبرية، ومنها ما وضع في قنسرين. وكثرت النسخ بعد ذلك، لكن هذه المصاحف ذهبت في الحريق الذي أصيبت به الجوامع في عصور مختلفة، وكلما حرق مصحف قديم قال القوم: إنه مصحف عثمان، والأصح أن يقال المصحف المنقول عن مصحف عثمان. وحدثين الشيخ مسعود الكواكبي أنه تشرف غير مرة بزيارة مصحف كتب عليه حرره عثمان بن عفان وهو محفوظ في مكتبة جامع أياصوفيا في الآستانة.
ثبت أن أول خزانة كتب في الإسلام أنشئت في دمشق أو في حلب أنشأها حكيم آل مروان خالد بن يزيد الأموي المتوفى سنة خمس وثمانين، ولم يصل إلنا من أخبارها شيء، ولا شك أنها كانت تحوي بعض العلوم التي نقلها من القبطية واليونانية والسريانية، في الكيمياء والطب والنجوم وغيرها، وربما كان فيها شيء من كتب الجغرافيا لأنه ثبت مما قاله ابن السنبدي الذي زار خزانة الكتب بالقاهرة في سنة 435هـ أنه كان فيها كرة من نحاس من عمل بطلميوس، كتب عليها حملت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد ابن معاوية. وقال: إنه كان في تلك الخزانة من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة آلاف وخمسمائة جزء. ولا شك أن خزانة خالد بن يزيد كان فيها أيضاً كتاب عبيد بن شرية الجرهمي الذي كان
استحضره جده معاوية من صنعاء اليمن وسأله عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلدان. فأجابه إلى ما أراد، فأمر معاوية أن يدون وينسب إلى عبيد بن شرية. ولعبيد كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين. وهذا من أول التدوين في النصف من القرن الأول. ولوهب بن منبه المتوفى سنة 110 أو 14 أو 16 تصنيف ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، رآه ابن خلكان في القرن الثامن وقال: إنه من كتب المفيدة.
وجاء القرن الثاني والشام تهتز أعصابها بانتقال الملك من بني أمية إلى(6/184)
بني العباس فلم يؤثر عنها أنه كان فيها خزانة كتب، ولا عرف أحد من الخاصة بأنه كان مولعاً بجمع الأسفار، فكانت الكتب القليلة التي لهم تجهل في الجوامع أو في بعض دور الخاصة على ما كانت الحال في أكثر المدن الإسلامية.
وإذا وقع التدوين في القرن الأول لم يدخل القرن الثاني حتى كثرت الكتب، وقد ورد في سيرة الزهري المتوفى سنة 124هـ أنه كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله مشتغلاً بها عن كل أحد، فقالت له زوجته: والله لهذه المتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر. وهذا دليل على تكاثر المتب حتى صارت للزهري مجموعة منها ينصرف إليها بكليته، وامرأته تريده على أن يكون لها فقط. وكل هذه الكتب لم تبق الأيام عليها. والغرب كان أمهر منا في الاحتفاظ بما دون فإن أقدم كتاب في أوربا يرد إلى القرن الثاني للمسيح.
ولم يعرف قبل عهد الرشيد والمأمون أن جمعت الكتب في خزانة وسميت دار الحكمة أو بيت المعرفة. وكانت دار الحكمة أشبه بجامعة فيها دار كتب يجتمع فيها رجال يتقاضون ويطالعون وينسخون. ويدير شؤون تلك الدور من يثق الخليفة بعقلهم وأمانتهم وعملهم. كان هذا في القرن الثاني واعتوره في القرن
الثالث بعض الفتور، وظل بيت الحكمة في القرنين الرابع والخامس في بغداد مفتح الأبواب. وأنشأ أحد وزراء العباسيين أبو نصر سابور بن أردشير في القرن الخامس داراً بالكرخ في بغداد سماها دار العلم، وقفها على العلماء ونقل إليها كتباً كثيرة وأنشأ الفاطميون في القاهرة دار العلم في القرن الرابع تشبهاً بالعباسيين في بغداد، أنشأها الحاكم العباسي بأمر الله سنة 400 وفرشها ونقل إليها الكتب العظيمة وأسكنها من شيوخ السنة شيخين. قال ابن قاضي شهبة: وبقي الحاكم كذلك ثلاث سنين ثم أخذ يقتل أهل العلم وأغلق دار العلم. ولم تعهد الشام دار الحكمة إلا في القرن الخامس أنشأها بنو عمار في طرابلس. وكان في كل من كفر طاب والعمرة في زمن أبي العلاء المعري خزانة كتب زارها كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل خزانة بني عمار بمدة خلافاً لما وهَم بعض المؤلفين المعاصرين، لأن بني عمار لم يستولوا على طرابلس إلا بعد الأربعين وأربعمائة.(6/185)
وكان أبو العلاء زار طرابلس قبل هذا التاريخ أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة.
وكانت في الشرقية التي بجامع حلب خزانة كتب مهمة اسمها خزانة الصوفية. واتفقت فتنة في بعض أيام عاشوراء بين أهل السنة والشيعة ونهبت خزانة الكتب، ولم يبق في خزانة الكتب إلا قليل. قال ابن العديم: وجدد الكتب بعد ذلك الوزير أبو النجم هبة الله بن بديع وزير الملك رضوان ثم وقف غيره كتباً أخر. وقد ذكر ابن سنان الخفاجي 466 هذه الخزانة في قصيدته اليائية التي كنبها من القسطنطينية يداعب أحد أصدقائه قال فيها:
أبلغ أبا حسن السلام وقل له ... هذا الجفاءُ عداوة الشيعيةْ
فلأطرفن بما صنعت مكابراً ... وأبثّ ما لاقيت منك شيكة
ولأجلسنك للقضية بيننا ... في يوم عاشوراء بالشرقية
حتى أثير عليك فيها فتنة ... تنسيك يوم خزانة الصوفية
وقد ظلت هذه الخزانة في حلب عامرة إلى القرن السابع وهي مسبلة على المطالعة، ولم يعلم هل كانت الخزانة المهمة التي أنشأها في حلب سيف الدولة بن حمدان وجمع فيها الأمهات الجيدة عامة للناس أيضا كخزانة الصوفية أم هي خاصة به وبجماعته في قصره، وقد أشتهر عنه ولوعه بالكتب إلى الغاية. وناهيك بخزانة كان من جملة خزانها الخالديان الشاعران المشهوران. وربما ذهبت هذه الخزانة في هجمة الروم على حلب وتخريبهم قصر سيف الدولة. وقلت عناية الملوك بخزائن الكتب، لما كثرت المدارس في هذه الديار في القرن الخامس اكتفاء بخزائن كتب المدارس التي أثبتوها من حيث أنها بذلك أمس ولو تكد تخلو مدرسة من المدارس في الشام من خزانة كتب. وكان لحلب ودمشق والقدس الحظ الأوفر من ذلك، لو لم تنازعها طرابلس التي كان يراد من إنشاء دار الحكمة فيها نشر التشيع على ما يقال، وساعد عل كثرة الكتب في طرابلس ما كان فيها من معمل الورق الجيد. وقد عرفنا أن معامل الورق كانت تخرج الكاغد والقراطيس والطوامير الجيدة في طرابلس ودمشق وحلب ومنبج وطبرية وغيرها من المدن. ومن أشهر خزائن الملوك والأمراء في القرن السادس والسابع خزانة الكتب التي(6/186)
وقفها بحلب نور الدين محمود بن زنكي على مدرسته وسلمت إلى محمد بن علي ابن ياسر الجياني الأندلسي، زميل ابن عساكر مؤرخ دمشق، وأجريت عليه جراية ثم وقف كتبه على أصحاب الحديث توفي سنة 553 ووقف نور الدين علي البيمارستان الذي أنشأه بدمشق جملة كثيرة من الكتب الطبية كما وقف كتبا كثيرة على أهل العلم في أرجاء مملكته.
وأعطى صلاح الدين يوسف لمؤدب ولده الأفضل أبي سعيد البندهي أو البنجديهي
كتبا كثرة من خزانة كتب حلب، أباح له أن يأخذ منها ما شاء، وهذا جمعها وحصل من الكتب التي لم تحصل لغيره، ووقفها بخانقاه السميساطي بدمشق. وكثيرا ما كان صلاح الدين يبيح لرجاله أن يأخذوا ما شاءوا من الكتب التي وقعت إليه، كما فعل في مصر وأعطى وزيره القاضي الفاضل من خزانة الفاطميين قدرا كبيرا من كتبها، وأعطى عماد الدين الكاتب أيضا بعض أسفارها، وكان في هذه الخزانة على ما قبل ألف ألف كتاب وفيها من تاريخ الطبري فقط ألف ومائتا نسخة. فبيعت خزانة الفاطميين وتشتتت على هذه الصورة ولم يكن في ديار الإسلام أعظم منها. ووهب صلاح الدين القاضي الفاضل ما شاء من كتب خزانة آمد لما فتحها وكان فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب فانتخب منها الفاضل سبعين حملا. وهذه الألوف من الكتب التي ملكها القاضي الفاضل وقفها بعد على إحدى مدارس القاهرة وكان هو وابنه من غلاة الكتب.
ومن الخزائن التي كانت بالشام خزانة علي بن طاهر السلمي النحوي 500 كانت له حلقة بالجامع بدمشق ووقف فيه خزانة كتب. وكان لتاج الدين الكندي في الجامع الأموي خزانة كتب فيها كل نفيس. ووقف شرف الدين بن عروة الموصلي المنسوب أليه مشهد ابن عروة في الجامع الأموي خزائن كتبه فيه. ومن الخزائن خزانة بني جرادة العلماء في حلب فقد كتب أحدهم أبو الحسن ابن أبي جرادة 548 بخطه ثلاث خزائن من الكتب النفيسة وخزانة لوالده أبي البركات وخزانة لابنه عبد الله. وما موفق الدين ابن المطران 587 وفي خزانته من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجاً عما استنسخه. وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبداً ولهم(6/187)
منه الجامكية والجراية. ومات أمين الدولة السامري وقد اجتمع عنده نحو عشرين ألف مجلد لا نظير لها في الجودة. وكان مهذب الدين الدخوار صاحب مدرسة الطب بدمشق من أهل القرن السابع اقتنى كتباً كثيرة،
واقتنى من آلات النحاس التي لا يحتاج إليها في العلم الهيأة والنجوم ما لم يكن عند غيره أي إنه كان عنده مرصد فلكي وخزانة كتب.
وجمع جمال الدين بن القفطي 646 في حلب ما لا يوصف من الكتب، وكانت خزانته تساوي خمسين ألف دينار. وكانت خزانة قطب الدين النيسابوري مهمة وقفها على إحدى المدارس بدمشق. وكان الملك الناصر ابن الملك المعظم عيسى 656 معيناً بتحصيل الكتب النفيسة، وكان جمع محمد بن عمر ابن شاهنشاه صاحب حماة وابن صاحبها من الكتب ما لا مزيد عليه، وكان في خدمته ما يناهز مائتي متعمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمشتغلين بالحكمة والمنجمين والكتاب 610 ووقف الملك الأشرف موسى 635 كتبه بالمدرسة الأشرفية بدمشق، واشتهرت في هذا القرن خزانة ابن أبي أُصيبعة وتلمذه ابن القف بدمشق. ومن خزائن القرن الثامن والتاسع والعاشر التي بلغنا خبرها خزانة أبي الفداء صاحب حماة فإنه جمع من الكتب سبعة آلاف مجلد وقفها على جامع الدهشة. ولم يقم في هذا القرن بعد الملوك من بني أيوب أحد من الأمراء عُني بالكتب وتسبيلها على المطالعة، فالقرن الثامن كان خاتمة هذه الحركة المباركة في الشام.
ومن الخزائن في هذه الحقبة خزانة ناصر الدين العسقلاني 723 فقد خلف ثماني عشرة خزانة مملوءة كتباً نفيسة. واقتنى ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية خزانة مهمة. وملك عمر القريشي الدمشقي 792 من نفائس الكتب شيئاً كثيراً. ووقف تقي الدين اليلداني أكثر كتبه ومجاميعه بالخزانة الفاضلية بالكلاسة بدمشق سنة 655 وحصل شمس الدين البعلي كتباً وكتب بخطه المليح شيئاً كثيراً 774، وخلف تافنح الفارقي 694 ألفي مجلدة ومائتي مجلدة. وكانت خزانة ابن رواحة الحموي 622 في مدرسته بدمشق. وخلف بدر الدين ابن غانم الدمشقي ألفي مجلدة. واجتمع لشرف الدين البارزي الحموي 738 من الكتب ما لم يجتمع لأهل
عصره. وكانت(6/188)
خزانة أرغون نائب حلب 731 عامرة بالكتب النفيسة. ومن الخزائن المشهورة خزانة ابن فضل الله العمري وابن مالك النحوي وابن خلكان المؤرخ.
واقتنى بعض ولاة العثمانيين في الشام كتباً نفسية بطريق مختلفة ومنهم سنان باشا صاحب الجامع خلف مائة وستين مصحفاً مرصعاً بالدر والجوهر وخمسة وثلاثين صندوقاً مملوءة بالكتب التي لا تقدر بثمن، وكانت الصناديق مرصعة باليواقيت والمعدن. وكل هذا أخذه صاحبه من اليمن والشام وغيرها ونقل إلى الآستانة. وكان القرن العاشر في الجامع الأموي بدمشق خزانة كتب خاصة بالمالكية والأمين عليها مفتي أهل هذا المذهب. ووقف علي الدفتري من أهل القرن الحادي عشر كتاباً نفيسة غالية بدمشق. وكان لبولس الزعيم اللبناني من أهل القرن السابع عشر للميلاد خزانة مخطوطة.
ولم يبلغنا أن قامت للكتب سوق في وراء جنوب دمشق من الأرجاء إلى أقصى حدود الشام، مع أن بعض أقاليمها أنجبت علماء إجلاء مثل قمرا وامتان وعرمان ونجران وشبهة وصرخد وبصرى والصليب ووادي الأردن وجبل الشراة وعمان ومعان والشوبك وعجلون وأذرعان وجرش والسويداء.
وبعد فقد كانت الوراقة أو صنعه الكتب من نسخ وتجليد وتذهيب صناعة رائجة ومن أهم الصناعات في العهد القديم، والناسخ يرزق بقدر إجادته الخط أو الخطوط التي يعرفها ويحسنها. وكذلك المجلد والمذهب يكافأ كل واحد منهما بحسب غنائهما. وكان كثير من العلماء يكتبون الخط المنسوب أي الخط ذا القاعدة وينسخون نسخاً لا بأس به ويعيشون من نسخهم. ومنهم من كانوا يتعففون عن القضاء، أو تولي شيء من أمر الأمة، ويؤثرون أن يعيشوا بالنسخ أو الوارقة أو الاتجار بالكتب، ومنهم من أثروا منها. وكان في كل حاضرة سوق لبيع الكتب
يختلف إليه العلماء والأدباء. ومن العلماء من نسخوا المائة بل المئات من الكتب، ومنهم من نسخ ألف مجلد في حياته. ولم يكد الكتاب يخرج من يد مؤلفه خصوصاً إذا كان من المشاهير الثقاب حتى تتعاوره الأيدي بالنسخ، وينتقل من قطر، ويتداول في الأيدي، ويجلد ويوضع في القماطر.
وقد جاء زمن على دمشق من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر(6/189)
وكل مدرسة من مدارسها الكثيرة لا تخلو من خزانة وافية بغرض الأساتيذ والتلاميذ. ومن أهم المدارس التي حوت خزائن ذات شأن العمرانية والعروية والناصرية والعادلية والأشرفية. جاء في فتاوى التقي السبكي صك وقف دار الحديث الأشرفية هذا: ويصرف إلى خازن الكتب ثمانية عشر درهماً في كل شهر وعليه الاهتمام بترميم الكتب، وإعلام الناظر أو نائبه ليصرف فيه من مغل الوقف ما يفي بذلك، وكذلك إذا مست الحاجة إلى تصحيح متاب أو مقابلته. وجاء فيه: وجعل جزاءاً من الوقف يصرف على مصالح المدرسة النورية ومن ذلك أن يصرف في شراء ورق وآلات نسخ من مركب حبر وأقلام ودوي ونحو ذلك ما يقع به الكفاية لمن ينسخ في الديوان الكبير أو قبالته الحديث أو شيئاً من علومه أو القرآن العظيم أو تفسيره، ويصرف إلى من يكتب في مجالس الإملاء، وإلى من يتخذ لنفسه كتباً أو استجازة، ولا يعطى من ذلك إلا لمن ينسخ لنفسه لغرض الاستفادة والتحصيل دون التكسب والانتفاع بثمنه. قال: وللشيخ الناظر أن يستنسخ للوقف أو يشتري ما تدعو الحاجة إليه من الكتب والأجزاء ثم يقف ذلك أسوة ما في الدار من كتبها. وكتب سنة ستمائة واثنتين وثلاثين اه.
وكان رهبان الموازنة في لبنان منذ القرن الخامس عشر يصرفون أوقات فراغهم في نسخ المخطوطات الدينية والعلمية وكان بعض بطارقتهم وأساقفتهم يحملون الشمامسة الرهبان وغيرهم على نسخ المتب يزيدون بها مجاميع الأديار والبيع في
الجبل ويتقيلون في ذلك مثال إخوانهم علماء المسلمين في المدن. وبهذه الطريقة كانت تنمو الكتب والأيدي تتناولها على أيسر وجه كأنها بعض المقدسات. وكأن القوم كانوا يتعبدون الله بحفظها وإماطة الأذى عنها وتجليدها وتخليدها، وخدمتها بالتعليق عليها ومعارضتها بالنسخ الصحيحة ووضع الفهارس لها بحسب عرفهم في تلك الأيام، يتخيرون لها ما يبقى ويخلد طويلاً من الورق المتين والمركب الجيد والجلد النفيس المجود الدبغ لندرتها، والنادر موضع العناية وهو خليق بأن تشد على يد الضنانة وتحتفظ النفوس به وتغتبط بتعاور الأيدي عليه دون أن يناله سوء من عوادي الدهر.(6/190)
مصائب الكتب ودورها:
ما برحت خزائن الكتب تزيد على الزمن بازدياد الحضارة في الإسلام وتنتقل الكتب من مصر إلى الشام، ومن الشام إلى العراق، ومن الحجاز إلى الشام مثلاً، ويعني بها العلماء والأدباء، ويتنافس في اقتنائها الملوك والأمراء، ويضعف الغرام بها يوم تضعف الحركة العلمية ويرغب عن الفضائل، ما برحت الحال على ذلك حتى دخل الروم حلب وأحرقوها سنة 351 ثم أحرقوا حمص وغيرها من المدن. ثم وقع الحريق الأعظم الذي في الجامع الأموي سنة 461 ودثر ما كان فيه من الكتب والمصاحف. وربما حرق فيه المصحف العثماني القديم. ومن أهم النكبات التي أصيبت بها الكتب نكبة طرابلس لما فتحها الصليبيون وإحراق صنجيل أحد أمرائهم كتب دار العلم فيها، وأخذ الصليبيون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها وكتب خاصة في بيوتهم. واختلفت الروايات في عدد المجلدات التي كانت في خزانة بني عمار أو دار حكمتهم في طرابلس، وعلى أصح الروايات أنها ما كانت تقل عن مائة ألف مجلد، وأوصلها بعضهم إلى ألف ألف وبعضهم إلى أكثر. وقفها الحسن بن عمار وجاء بعده علي بن محمد بن عمار الذي جدد دار العلم سنة 472 ثم عمار بن محمد حتى صارت طرابلس كما قال ابن الفرات في زمن آل عمار جميعها دار علم، وكان في تلك الدار مائة وثمانون ناسخاً ينسخون لها الكتب بالجراية والجامكية، فضلاً عما يشتري لها من كتب المنتخبة من الأقطار. وابن الفرات هو ممن يقول بأن عدد ما كان في دار العلم هذه من الكتب نحو ثلاثة ملايين كتاب عندما أحرقها الصليبيون سنة 503. والغالب أنه كان في طرابلس من الكتب الموقوفة غير دار العلم وقفت قبل بني عمار، وأراد ابن الفرات بهذه الثلاثة آلاف الألف عدد الكتب التي كانت في مكاتب طرابلس كلها.
ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أن ما كانوا يسمونه جزءاً أو مجلدا أو مجلدة لا يتجاوز بضع كراريس من كراساتنا، والكراسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف
بمعنى أن ألف المجلدة أو المجلد لا تبلغ في مصطلحنا(6/191)
أكثر من خمسين كتاباً أو ستين أو سبعين كتاباً، فكان المجلد في تلك العصور قليل الأوراق، لأن الورق أو الرق غليظ فإذا جعل كل مجلد مئتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله ولا يصح ما قاله ابن الفرات من انه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها إلا على هذه الصورة، أي إن كتبها كانت بين المائتين وثلاثمائة ألف ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالة من مقالاتنا أو إملاءة من أمالينا أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامرتنا.
فالمصيبة الأولى العظمى التي أصابت الكتب في الشام كانت على عهد الصليبين والمصيبة الثانية ما حمله منها التتر في نوبة هولاكو وما أحرق في مدارس دمشق وجوامعها من أمهاتها، فقد ذكر المؤرخون أنه امتلأت خزانة الكتب بمراغة بما نهبه هذا الطاغية من الشام والعراق وغيرهما. وقدر ما حمله بأربعمائة ألف مجلد، ومنها ما حرق في فتنة غازان سنة 699 وفي وقعة تيمور سنة 803 فان النار ظلت تحرق دور دمشق ودارسها وجوامعها في الفتنة التيمورية ثلاثة أيام، فذهب في هذين الحريقين وغيرهما كتب المدرسة الضيائية والمدرسة العادلية وغيرهما من المدارس.
ومن الخزائن التي دمرت في الحروب الصليبية خزانة أسامة بن منقذ أحد أصحاب قلعة شيرز فإنها كانت أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة أرسل بها بعد أن أخذ عهداً من الصليبين من دمياط إلى عكا في بطسة فنهيت ونهب معها ثلاثون ألف دينار قال: إن ذهابها حزازة في قلبه ما عاش. ومن مصائب الكتب ما وقع من حريق في دار صاحب حماة سنة 687 ذهب فيه من الكتب مقدار عظيم.
ومنذ دخل الصليبيون الشام أخذوا على ما يظهر يقتنون الكتب العربية ولكن على صورة ضعيفة لأن العلم بها كان معدوماً عندهم، يبتاعونها على أنها عاديات قديمة غريبة الشكل، ولما لمعت في القرن السادس عشر شعلة النهضة في إيطاليا أراد البابوات اقتناء الكتب العربية، فندبوا لذلك بعض العارفين من رهاب الموارنة وحملوا إلى رومية من أديار لبنان ما كان محفوظاً فيها(6/192)
من كتب الدين والعلم بالعربية والسريانية. وحمل يوسف السمعاني من لبنان سنة 1768م كتباً في ثلاثة مراكب إلى رومية ملأها بالمخطوطات العربية وغيرها فغرق منها مركبان.
ومن المصائب التي أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوربا ومنها فرنسا وجرمانيا وبريطانيا العظمى وهولندا وروسيا أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتباً تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وكان بلغ الجهل ببعض من اتسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع أن يفضلوا درهماً على أنفس كتاب فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم والتصرف به تصرفهم بملكهم. حدثني الثقة أن أحد سماسرة الكتب في القرن الماضي كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها في غير علوم الفقه والحديث، من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض، وبقي هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام حتى اجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة في خزانة الأمة في برلين هي من هذا القطر. وفهرس هذه الخزانة فقط في عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. يتألف من فهارس الكتب العربية في خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها.
وإن بعيداً يحسن القيام على هذا التراث الوافر لأحرى به من قريب يبدده جزافاً. وإن أمماً عرفتنا أكثر مما عرفنا أنفسنا حتى قال أحد علمائهم: إن العرب وضعوا من المصنفات ما لا يستطيع أحدنا أن يقرأه طول عمره، لجديرون بإرث الشرق في مادياته ومعنوياته كما قلنا في فصل في مجلة المقتطف منذ أربع وأربعين سنة. نعم أن كتباً تترك للأرضة تعيث فيها، والعفن يعبث بجمال جسمها ورسمها، وتحرم النور ويعفى أثرها الغبار والأوساخ، ويحرم النظر فيها على من يحسن الاستفادة منها، أو تفضل عليها دريهمات معدودة حرية بأن تكون في ملك من يستفيد منها ويفيد.(6/193)
ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا ولم نعرف متى جمعت خزانة قبة صحن الجامع الأموي، وكانت مملوءة برقوق نفيسة فتحت سنة 1317هـ بأمر السلطان عبد الحميد الثاني إجابة لمقترح الإمبراطور غليوم الثاني الألماني فعثروا فيها قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات دينية وقصص رهبانية ومزامير عربية مكتوبة بالحرف اليوناني ومقاطع شعرية لأوميروس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية، وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامرييين وصلوات وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج وبينها مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة وقصائد شعرية يرتقي عهدها إلى أيام الصليبين ونسخ إنجيل برقوق. فأهدى السلطان بعضها لعاهل ألمانيا ووزع قسم منها على بعض رجال الآستانة ورجال دمشق واستخلصت بعض قطع منها حفظت الآن في دار الآثار في دمشق وأهمها تلك القطعة الكوفية المكتوبة على ورق شريفة وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة 298 وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها. ورأى
شيخنا طاهر الجزائري في تلك القبة جزءاً مكتوباً عليه أنه حبس على مشهد زين العابدين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأئمة سنة نيف وسبعين وأربعمائة.
وكانت في دير صيدنايا من جبل قلمون خزانة كتب حافلة بالمخطوطات النادرة ولا سيما السريانبة، فحاذر وكلاء الدير من كثرتها المشرق2 ص588 أن تكون حجة بيد السريان يتقوون بها على إثبات حقوقهم في الدير، فأجمع رأيهم على إخراجها وإتلافها تخلصاً منها، فجمعوها ومعظمها من النفائس المخطوطة على رق وبدءوا يحرقونها وقوداً للفرن خبزوا عليها خبزتين وكان هذا من نحو عشر سنين ومائة سنة. وهو عمل مثل الجهل المطبق والتعصب الممقوت. وكم وقع من حوادث إفرادية من مثل هذه فضاعت فيها الكتب ولم تبلغنا تفاصيلها. ومما أعان على تشتت الكتب أن بعض من أولعوا في العهد(6/194)
العثماني بتسم ذرى المناصب والقضاء، وكان لهم مشاكل وقضايا يريدون حلها في المراجع العليا أو لمجرد التقرب والتظرف كانوا يمعنون في مهاداة من يتوقعون الخير منهم بالكتب، وبذلك رحلت إلى الآستانة وغيرها أحمال من المخطوطات على هذا الوجه أيضاً فعدت هذه الهدايا في جملة مصائب الخزائن.
خزائن اليوم وأهم ما حوت:
من أهم الخزائن في الشام خزانة المسجد الأقصى في القدس وفيها نصف مصحف قديم بخط كوفي كتب عليه كتبه محمد بن الحسن بن الحسين ابن بنت رسول الله وإحدى ثلاث نسخ من مصحف مجزأ ثلاثين جزءاً كتبها بيده أحد ملوك المغرب ابن عبد الحق على رّق وهي مجلدة على الطريقة المراكشية وموضوعة في الصندوق مزخرف بالميناء على الطريقة الأندلسية. ومصاحف كبيرة جداً وصغيرة كتبت في عهد المماليك وملوك بني عثمان. ومن كتبها نشق الأزهار لابن إياس وحوادث الجو لمؤلف مجهول وكتاب المعرفة والتاريخ رواية ابن
درستويه عن ابن القطاف.
ومن خزائن القدس مكتبة القبر المقدس ودير الروم ومكتبة دير الدومنيكان ومكتبة الآباء البيض ومكتبة دير الفرنسيسكان ودير الأرمن وخزانة الآثار الأمريكية والآثار الإنكليزية ومكتبة المجمع العلمي الأثري البروتستانّتي والجامعة العبرية والمكتبة الحنبلية ومكتبة الشيخ الخليلي ومكتبة البديرية، وأهمها المكتبة الخالدية العمومية أنشأها في القدس راغب الخالدي من أعيان تلك المدينة بمشورة أستاذنا طاهر الجزائري ومعاونته وقد بلغت نحو أربعة آلاف مجلد، منها ثلثيها من المخطوط وزادت زيادات كثيرة بما ضيف إليها من خزانة الأسرة الخالدية. جعلت سنة 1318هـ - 1900م على مقربة من المسجد الأقصى في مقبرة أحد الأمراء. ومن نوادرها أنموذج العلم للمولى شمس الدين محمد بن حمزة الفناري المتوفى سنة 834هـ ذكر فيه أصول مائة علم. الطبقات السنية في تراجم الحنفية عليه خط مؤلفه تقي الدين بن عبد القادر المضري التميمي الداري المتوفى سنة 1010هـ. الشعور بالعور للصلاح الصفدي المتوفى سنة 764(6/195)
في ذكر العلماء الذين أُصيبوا بفقد إحدى عينيهم. منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر في خصائص الملك الناصر وهو المعروف بالمدبجات لعبد المنعم الجلياني 613. مختصر حياة الحيوان لجلال الدين السيوطي 911. قهوة الإنشاء لابن حجة الحموي 838 وهو مجموع رسائله. اختصار السيرة النبوية لمحي الدين بن علي 638. رواية ولده أبي سعيد وولده أبي بكر بن أبي المعالي محمد وابنته فاطمة عنه. نزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين لمرعي الحنبلي 1033. ورونق الحفاظ بمعجم الألفاظ للحافظ يوسف سبط أحمد بن علي بن حجر وعليه خط الحافظ قاسم بن قطلوبغا 879 وهو المجلد الثاني ويرجع أنه بخط مؤلفه. مثير الغرام بفضائل القدس والشام لسرور المقدسي 765 وفي آخره حواش فيها أسماء
بعض تواريخ القدس. إتحاف الأخصا في فضائل المسجد الأقصى لمحمد أبي شرف الشافعي المصري 609. شاناق في السموم والترياق لشاناق الهندي نقله من لغته الهندية إلى الفارسية منكه الهندي نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه وهو في معرفة السموم والترقيان وهي نسخة ملوكية. الوسيط للواحدي 468 الجزء الثالث منه. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس اليعمري 734. أرجوزة محمد بن أحمد الباعوني 871 في التاريخ وقعت في نحو ألف بيت من الهجرة إلى الملك برسباي. تعليق شهاب الدين أحمد بن الهائم على الخصائص النبوية بخط أحمد الشهير بابن الهائم 815. تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع للدبوسي 430. مجموعة رسائل لابن كمال باشا 940. تأويل مشكل الأحاديث والرد على الملاحدة والمعطلة وأهل الأهواء المبتدعة من إملاء أبي بكر محمد بن حسن بن فورك 406. إيضاح الإشكال في من أبهم اسمه من النساء والرجال أي رواة الحديث للحافظ محمد بن المقدسي 507. وكتاب الأربعين الأبدال التساعيات للبخاري ومسلم للحافظ عبد المؤمن الدمياطي 717. ارتياح الأكباد بأرباح فقد الأولاد للسخاوي. كتاب قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأحمد بم محمد بن عمر القدسي الشهير بابن زوجة أبي عذيبة.(6/196)
كتاب التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري 616. دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي 467 ذيل يتيمة الدهر للثعالبي.
ومن الخزائن المهمة في غزة خزانة المفتي، وفي يافا الخزانة الإسلامية وخزانة أبي نبوت وفي أرباض حيفا خزانة دير الكرمل وفيها صكوك قديمة لها علاقة بالدير. ومن الخزائن الخاصة في القدس خزانة عبد الله مخلص وفي عكا خزانة جامع الجزار وفي نابلس خزانة آل الجوهري وخزانة آل صوفان وفي صفد
خزانة آل النحوي وفي جبل عامل خزانة آل خاتون وإبراهيم يحيى والشيخ زين الدين وآل الصغير وأحمد رضا.
وأهم خزائن لبنان آل أرسلان في عبيه وخزانة جرجس صفا في دير القمر وخزانة دير الشرفة ودير السير ودير المخلص ودير البلمند وعين تراز وقزحيا وبزمار واللويزة ومار أشعيا ودير يوحنا مارون بكفرحي. وكان في بعض أديار اليسوعيين في لبنان مخطوطات نقلوخا إلى ديارهم في بيروت كما نقلت المخطوطات المهمة في القرون الماضية من أديار الموارنة في جبل إلى رومية العظمى.
ومن خزائن بيروت الخزانة الشرقية للآباء وخزانة الجامعة الأمريكية معظمها بالإنكليزية ومجموعة دار الكتب الكبرى في بيروت قليلة المخطوطات كثيرة المطبوعات وكان في بيروت مجموعة البارودي من المخطوطات فبيعت كما بيعت محموعة حيدر أحمد الشهابي ومجموعة جميل العظيم ومجموعة رُشَيْد الدحداح في بيروت وغيرها من مجاميع الأفراد التي بعثرت لقلة العناية بالعلم أو لأسباب مادية قاهرة أحياناً. ومن خزائن الساحل خزانة آل كرامة وآل الجسر وأل المغربي وآل السمين في طرابلس، وخزانة آل الأزهري في اللاذقية وخزانة سليمان أحمد في جبل العلويين وخزائن بعض المدارس في إنطاكية. وأشهر الخزائن العامة في حلب خزائن المدرسة الأحمدية والمدرسة الخسروية والمدرسة العثمانية والمدرسة القرمانية وجامع الناصرية والخزانة المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية وخزائن آل الكواكبي والغزي والملامح والزرقا والكتخدا ومنش والأنطاكي والعينتابي وقطر أغاسي ومجموعة سباط. وفي الخزانة الأحمدية بحلب المباحث المشرقية للفخر الرازي. والوافي للصفدي ومختصر(6/197)
تاريخ الذهبي المسمى بالعيار وتاريخ الذهبي في سبعة مجلدات ودر الحبب في تاريخ حلب لابن
خطيب الناصرية في مجلدين والتفسير المهمل للفيض الهندي ومثير الغرام لزيارة القدس والشام، ومن مخطوطات المدرسة العثمانية المعروفة بالضيائية بحلب عمدة الحفاظ في تفسير أشرا الألفاظ للحلبي السمين والمقدمة السنية للصفدي والدر الثمين في أسماء البنات والبنين والحدائق الأنسية في الحقائق الأندلسية. وكتاب الناسخ والمنسوخ للحازمي، وفي خزانة المولوية بحلب اختلاف الفقهاء للوزير ابن هبيرة المسمى بشرح معاني الصحاح. وخزانة الجامع الكبير بحلب غنية بالكتب الفلكية وآلات علم الفلك وكان واقفها محمود الجزار وأبوه من علماء هذا الفن. وفي المدرسة البهائية عيون السير لابن سيد الناس في السيرة النبوية وحاشية عليه في ثلاثة أجزاء لإبراهيم بن محمد خليل سبط ابن العجمي الحلبي. وفي بعض المدارس الحلبية الأخرى كتب متفرقة لكنها غير ذات بال. وفي الكنيس الكبير في حلب توراة مخطوطة قديمة الخط جداً. وفي حمص خزانة نوري الكيلاني في جامع الشيخ إبراهيم ومجاميع الكيلاني. وفي حمص مجاميع آل الأتاسي وخزانة القديس اليان الحمصي وخزانة الخوري عيسى أسعد وخزانة بني الجندي وكامل لوقا. وفي المعرة مجموعة آل الحراكي.
وكان في دمشق عدة خزائن بعثرت منها خزانة آل جمزة، وخزانة الحضرة وآل الحسني وخزانة آل عبد القادر الحسني هدت أسرته كثيراً مها للمجمع العلمي فجعلها في خزانة الظاهرية. وحرقت خزانة بدر الدين الحسني وخزانة الشمعة وآل مردم بك وخزانة آل القوتلي. وتشتتت خزائن آل الحسيبي والعطار والحلبي والغزي وبايزيد والأيوبي. وخزانة آل السقطي وزعت، وإلى اليوم لا تزال محفوظة خزانة كل من آل الأسطواني وكان أُحرق قسم مهم منها في دار سعيد الأسطواني وذلك في حريق سوق الحميدية، وحفظت خزائن كتب آل البيطار وأل القاسمي وعابدين والمبارك وآل النابلسي وآل المنير وآل المرادي ودخل قسم مهم
من كتب المنّير والمرادي إلى دار الكتب الظاهرية. وحملت خزانة طاهر الجزائري وكان فيها الأمهات المحررة إلى مصر فأباعها من دار الكتب المصرية والخزانتين التيمورية(6/198)
والزكية. ومما حفظ من المجاميع مجموعة البطريركية الأرثوذكسية ومجموعة كنيسة السريان وهما مجموعتان جديدتان جمعتا بعد فتنة سنة 1860 التي ذهبت فيها مجاميع الكنائس والأديار في دمشق وبعض لبنان ولا سيما زحلة. وفي بعض البيوت القديمة في دمشق وحلب والقدس بل في معظم المدن القديمة مجاميع قليلة يحتفظون بها ورثوها من أجدادهم ومنهم لا يرجعون إليها ولا عرفوا مضامينها ويتغالون بحفظها ويتنوقون في رصفها كأنها بعض الآنية اللطيفة والعروض التي يتنافس فيها ونعم الهوى هواها. واهم الخزائن العامة في الشام خزانة دار الكتب الظاهرية وليست مكانتها منبعثة من كثرة أعداد كتبها بل من النوادر المحفوظة فيها وربما كانت مجموعتها أندر مجموعة في الشام، فيها بضعة آلاف متاب ورسالة وفيها ما هو بخط مؤلفيه أو مقروء عليهم ومنها القديم جداً بل فيها أقدم كتاب في الشام من القرن الثالث. أنشئت هذه الخزانة سنة 1296 بمساعي طاهر الجزائري وسليم البخاري ومعاونة غيرهما من العلماء وكان لمدحت باشا وحمدي باشا واليي سورية يد في جمعها، وأهم رجل من عمال الدولة عطف على هذا المشروع وساعده مساعدة فعلية بهاء بك مدير الرسالة في ولاية سورية. فجمع ما تفرق من الأسفار في الخزانة العامة التي أبقت عليها الأيام وبعد ممانعات شديدة ممن يرومون كتم العلم وإبقاء الناس في عماية جمعوا مقداراً من الكتب جعلوها في شطر من مدرسة الملك الظاهر بيبرس قبالة العادلية الكبرى ونصبوا عليها قواماً ووضعوا لها مثل شرائط المكاتب الكبرى فجاءت مؤلفة من 2453 كتاباً منوعة عدا الدشت والكراريس والأوراق المتفرقة. أخذت من عشر خزائن وهي:
1 - خزانة المدرسة العمرية بالصالحية وهي قديمة العهد وفقها بعض أهل الخير ولكن كان الناظر قد سرق جانباً عظيماً منها لا تزال عند أبنائه ومنها ما في الظاهرية الجزء الأول أو الثاني والتتمة أو الأول في دار السارق.
2 - خزانة مدرسة عبد الله باشا العظم وقفها سنة 1211 وضم إليها كتباً وقفها والده محمد باشا العظم سنة 1190.
3 - خزانة سليمان باشا العظم وقفها سنة 1196 كانت بمدرسة بباب البريد.
4 - خزانة الملا عثمان الكردي(6/199)
كانت بمدرسة السليمانية أيضاً.
5 - خزانة مدرسة الخياطين وقفها أسعد باشا العظم بعد سنة 1165 وكان مقرها بمدرسة والده إسماعيل باشا العظم.
6 - خزانة المرادية بمدرسة مراد المرادي.
7 - مدرسة السميساطية وهي قديمة وقفها بعض أهل الخير.
8 - خزانة الياغوشية كانت موضوعة في مدرسة سياوش باشا بالشاغور.
9 - خزانة الأوقاف وهي مؤلفة من عدة خزائن حفظت بقاياها.
10 - خزانة بيت الخطابة كانت بحجرة الخطابة بالجامع الأموي. ومن كتب أخرى موقوفة.
وفي زمن رءوف باشا والي دمشق أوائل هذا القرن جمع لها نحو خمسمائة ليرة وابتاع لها مقدراً من الكتب المطبوعة في الغرب وغيرها وجلد بعض كتبها حتى إذا كانت سنة 1919م وتألف المجمع العلمي العربي على يد كاتب هذه السطور بذلت العناية بابتياع أو استهداء الكتب المخطوطة والمطبوعة وقليل منها بغير اللغة العربية فناهز عدد الكتب المخطوطة الأربعة آلاف كتاب عدا المجاميع، وعدد المطبوعة الأربعين ألفاً عدا الخزانة التي أعدها المجمع لأعماله في الفروع التي يبحث فيها وهي تربو على أربعة آلاف، وحصلت الفائدة من تنوع الأسفار
والمجلات والصحف حتى قدر معدل الداخلين للاستفادة منها كل يوم بمائة إنسان وما زالت عناية المجمع بتكثير كتبها متوفرة، ومن الكتب المخطوطة التي حفظت في دار الكتب الظاهرة الكواكب الدراري لابن عروة الحنبلي وهو في أكثر من مائة وعشرين مجلداً في فن التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام والرد على الفلاسفة وأسماء الرجال وعلوم شتى والموجود منه 42 جزءاً. والغريب في الحديث كثير منها أجوبة الإمام أحمد عن أسئلة أبي داود السجستاني كتب سنة مائتين وست وثمانين وهو اقدم كتاب عرف في الديار الشامية. والبحر المحيط في أصول الفقه للبدر الزركشي في خمس مجلدات والجزء الأول منالتذكرة لأميرك من علماء المعتزلة في علم الكلام. والأول أيضاً من الإشارات الإلهية لبي حيان التوحيدي في مخاطبة النفس. والأول من سر الصناعة لبن جني في أسرار العربية وشعب الإيمان في التصوف والأخلاق لعبد الجليل الأندلسي. والرسالة الجامعة من جمع أصحاب(6/200)
رسائل إخوان الصفا تقرأ عندهم بعد الرسائل المعروفة. والصحائف اليونانية في مخاطبة النفس الإنسانية والضوء اللامع للسخاوي في تراجم أهل القرن التاسع في خمس مجلدات كبيرة طبع. والثاني من مناقب الخلفاء الأربعة لأبي بكر ابن الطيب الباقلاني. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر الأندلسي طبع. والثالث من الجليس والأنيس لأبي الفرج المعافا بن زكريا. وكتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي طبع وتفضيل السلف على الخلف لإبراهيم بن هبة الله وديوان خالد الكاتب المتوفى في حدود السبعين والمائتين. والطب الروحاني لأبن الجوزي في علم الأخلاق طبع. والأطراف فيما يتعلق بالمحدثين سبع مجلدات للحافظ جمال الدين المزي. وكتاب الأموال لأبي عبيد بن سلام الأزدي طبع. وتاريخ دمشق لابن عساكر المتوفى سنة 571 في عشرين مجلداً. والجزء الخامس من الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وهي في علوم شتى. وأخبار
الأذكياء ليوسف بن عبد الهادي المتوفى 909 بخط مؤلفه. وفهرس الكتب الموقوفة بخط يوسف بن عبد الهادي بعضها من تصنيفه وبخط يده. المناقب والمثالب تأليف هبة الله بن عبد الواحد الخوارزمي. مساوئ الأخلاق ومذمومها ومكروه طرائقها لأبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي في خمسة أجزاء. شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبن العماد الدمشقي المتوفى سنة 1089 طبع. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لأبن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 بخط إبراهيم البقاعي طبع عقد الجمان في مختصر أخبار الزمان المنسوب للمسعودي المتوفى 343 وهو للشاطبي المتوفى 872. إرشاد السالك إلى مناقب الإمام مالك ليوسف بن عبد الهادي بخط مؤلف. طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة الأسدي ويليه مختصر النحاة للزبيدي. المدهش لابي الفرج ابن الجوزي المتوفي سنة 597. طبع الطف والطائف لأبى الفرج بن الجوزي. أدب السلوك لأبى الفضل عبد المنعم بن عمر ابن عبد الله الأندلسي 603 مشتمل على مشارع كلمات الحكمة والأدب والأخلاق. قاموس الأطباء وناموس الألباء لمدين بن عبد الرحمن القوصوني(6/201)
المصري من أطباء القرن الحادي عشر للهجرة في المفردات الطبية. مالا يسع الطبيب جهله ليوسف بن إسماعيل المعروف بابن الكبير من أهل القرن الثامن. منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان لأبى العباس يحيى بن عيسى الكاتب الملقب بالرئيس الأجل المتوفى 493 وهو في جزأين دخلا في مجلد واحد. خلاصة تحقيق الظنون في الشرح والمتون تأليف محمد بن مصطفى الصديقي وهو ذيل لكشف الظنون أتمه 1180. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبى الحسن علي بن أبى بكر الهيثمي 807 جمع فيه مولفه زوائد الكتب الستة من مسند احمد بن حمبل والبزاز وأبى يعلى الموصلي والمعاجم الثلاثة للطبراني نسخة في مجلد كبير. المجمل في اللغة لأبى الحسين احمد بن فارس بن زكريا المتوفى 390
أقتصر فيه مؤلفه على الألفاظ المهمة المستعملة أخذ أكثرها بالسماع عمن تقدمه وأختصر الشواهد ورتبه على الأبجدية منه جزء يبتدئ من حرف العين إلى آخر الكتاب بخط أبى بكر محمد بن محمد بن خلف في سنة 589. جنى الداني في حروف المعاني لحسن بن قاسم المرادي المتوفى 749 وهو كما في كشف الظنون من مأخذ علي المغني لابن هشام. شرح الإيضاح لأبي علي حسن بن أحمد الفارسي 377 والشرح للجرجاني 471 شرحه أولاً شرحاً مبسوطاً في نحو ثلاثين مجلداً وسماه المغني ثم لخصه في مجلد واحد وسماه المقتصد وهو في مجلد ضخم 904 صفحات بخط نفيس من القرن العاشر. مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب لعبد الرزاق الفوطي المتوفى 723 منه الجزء الرابع يبتدئ من حرف العين إلى القاف بخط مؤلفه. الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة للنجم الغزي المتوفى 1061 وذيله المسمى لطف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر. طبقات الحنابلة لأبن رجب 795. نشر المحاسن اليمانية في خصائص ونسب القحطانية لأحد أفاضل وصاب من بلاد اليمن. أجزاء مكن عيون التواريخ للصلاح الكتبي 764.
وفي خزانة المجمع العلمي الخاصة عدة مخطوطات نادرة أخذت بالتصوير الشمسي منها نسخة من الدارس للنعيمي أبي المفاخر محيي الدين المتوفى(6/202)
927 منقولة عن نسخة لابن المؤلف محفوظة في خزانة ميونخ. وتراجم الأعيان للبوريني 1024. الذيل على الروضتين لأبن أبي شامة 665. حكماء الإسلام للبيهقي المتوفى في حدود سنة 570. رحلة الأمير يشبك بن مهدي الدوادار 85. كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي لعلاء المعري لكمال الدين أبن العديم الحلبي المتوفى سنة 660 ناقص من أخره. مجموع فيه نقش خواتم الحكماء وأدبائهم، واجتماعات الفلاسفة في بيوت الحكمة وغير ذلك.
التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار فيما يجب من حسن التدبير والنصيحة في التصرف والاختيار لمحمد بن محمد بن خليل الأسدي صاحب كتاب لوامع الأنوار ومطالع الأسرار فرغ من تصنيف كتابه سنة 854. المثالث والمثاني في المعالي والمعاني لصفي الدين الحلي 570 ومعه مجموعة أخرى للشاعر نفسه. نظم درة الغواص للسراج الوراق بخط محمد بن الصالحي الهلالي المتوفى سنة 1004. تحفة ذوي الألباب للصفدي سنة 764. وفي المجاميع عشرات من الرسائل النادرة الجديرة بالنشر.
هذا ما أمكن استيعابة من الكلام على خزائن الكتب المخطوطة في هذا القطر عرفنا بها في الجملة كيف نمت وجمعت وكيف مزقت وشتتت. وكان القوم يعتقدون أن اقتناء الكتب يورث الغنى وبيعها يورث الفقر، ولذلك احتفظت بعض البيوت بكتبها وربما زادت عليها. وشوهد أثر هذه العناية في البيوتات القديمة فإن المخطوطات على كثرة ما أصابها من التفريق ما برحت محفوظة في المدن بل في القرى في بيوت أفراد من الشعب قد لا يخطر في البال أنها تعنى بمثل هذه الكنوز. ومنهم من يتبرك بها ويفاخر باقتنائها، ومنهم من يرتقب الزمن ليبيعها بالأثمان الغالية. وقد ابتاعت في مصر في العهد الأخير مقادير عظيمة منها، لغنى مصر وشيوع العلم في بنيها، وتفانيهم في إحراز آثار السلف. وقد يبتاعون السفر المخطوط بثمن فاحش وربما كان مما مثل بالطبع مرات، لأن للمخطوط روعة غير روعة المطبوع، وقيم تاريخياً يدركها من يعاني هذه الصناعة ويقدر العاديات قدرها.
ومن الأسف أن صناعة النسخ ماتت من قطرنا وضعف بذلك التنافس(6/203)
في الخطوط الجيدة المنسوبة وغيرها كما قضت الآلة الكاتبة في الغرب وفي الشرق على الخط أيضاً. ومن المؤلفين والكتاب اليوم من يملون على كتابهم على تلك الآلة مباشرة
أو يكتبون هم بأنفسهم عليها دون أن يتبعوا أناملهم بتنميق السطور ووضع الصفحات مما يفيد في الإسراع بالأعمال، ويقضي على الفن والجمال. ولولا الحرص المغروس في الفطر ما بقيت هذه البقايا التي نفاخر بها من عمل الأجداد، وهي في نظر العقلاء أغلى من التبر والعسجد، ولا سيما بعد أن سطت عليها كل يد أثيمة وأبيع من كتب الجوامع والمدارس بالألوف فسافرت عنا تنزل على الرحب والسعة على من يعرف قيمتها ويحسن تعهدها. والكتب كما قال أحد المولعين بها كالطيور لا تطلب إلا الهواء الطلق السالم من الشوائب. ولطالما انتقلت من يد إلى يد ومن جيل إلى جيل كما تتنقل الأعلاق النفسية أو كما تتداول النقود والحلي ولكن بتجلة وحرمة.
هذا وخير طريقة تحفظ بها ثمالة تركه السلف الصالح أن يعمد كل من حوت رفوفهم وطماطرهم كتباً إلى كتبهم المخطوطة فيودعوها في الخزائن العامة لأنها أقل عرضة للحريق والتلف ولكارث ووارث، وأن يستعاض عنها بالكتب المطبوعة في الخزائن الخاصة، وتجعل المخطوطات ملك الجماعات يرجع إليها العلماء والباحثون، وتسبل عليها فتكون منهم على طرف الثمار، وبذلك يزيد النفع منها ويحيا بالطبع والنشر ما لم تساعده الحال أن يعرف حتى الآن، وبذلك تجتمع فائدتان فائدة الانتفاع وفائدة الحفظ، كما فعل المصريون وحفظوا بقايا كتبهم في داري الكتب المصرية والأزهر وخزانة المجلس البلدي في الإسكندرية والجامع احمدي في طمطا والله يرث الأرض ومن عليها.(6/204)
الأديان والمذاهب
أديان القدماء:
اهتدى الفينيقيون بفطرتهم إلى الاعتقاد بالتوحيد على ما ظهر. ودعوا معبودهم البعل أي الرب والسيد وقد يسمونه أدون ومعناه السيد أيضاً. ولقبوه بملوك أو ملوخ أي الملك أو ببعل شمائيم أي رب السماء، ثم أخذوا يصورون الرب ويجسمونه على الصورة التي يختارونها، خصوصاً لما جابوا الأقطار ومصروا الأمصار، فأصبحت كل المدينة تخص الرب بها، فكان أهل صور يطلقون على معبودهم بعل صور، وأهل صيدا يقولون عن معبودهم رب صيدون، وأهل بيروت يعرف ربهم ببعل بيروت وهكذا يقولون بعل حرمون وبعل جاد وبعل تامار.
وفننوا بعد في أربابهم فأخذوا ينسبونها إلى النار وعبادة الطبيعة وأنشئوا يؤلهون قوات الوجود ومظاهرة الرائعة والأفلاك والنجوم. وكما جعل الفينيقيون لأربابهم أنداداً اخترعوا لهم أزواجاً سموها عشروت وقد عبدت في سواحل الشام خاصة. ثم أخذت بعض المدن بالطبع تطلب لمعبوداتها زوجات وتنشئ لها معابد. وكان معبد بعلة جبيل يحج إليه الناس من أنحاء القطر كما يحتفلون في الربيع بمقتل الرب أدونيس أو نهر إبراهيم. وكان من كهنة الفينيقيين أن أقاموا في أوقات مخصوصة من السنة حفلات دينية تجري فيها أمور غريبة من الرقص والفحش ومن تضحية البنات والأسرى على مذابح الهياكل التي كانت أشبه بمواخير يأوي إليها الفاحشات فيختلف إليهن من يريد الفجور باسم الدين.(6/205)
ويقال على الجملة: إن الفينيقيين عبدوا في كل بلد مجموعة من الأرباب، فأهل صور عبدوا عشتروت وملكوت وبعلا، وأهل صيدا أشمون وعشتروت وبعلا، وأهل بيروت عشتروت وعطارد وبعل مرقد. وتجيء بعد هذه الطبقة من الأرباب
طبقة أخرى منها كالرب أبيس والرب سليمان. ومجموعة الأرباب الكبرى عند الفينيقيين كمجموعة ما عبده الرومان بعد قرون في بعلبك من عطارد والمشتري وغيرهما.
وكانت ديانة الآراميين كديانة الآشوريين يعبدون الرب العظيم ورب الفكر ورب السماء والرب الأسد. ويجسمون رب الأرباب عندهم، على صورة إنسان في نصفه الأعلى، ونصفه الأسفل على صورة سمكة. وذكروا أن شيما كانت ربة أهل حماة. وعبد الآراميون النيازك والشمس والقمر والسيارات السبع والهواء والرياح والنيران وعبدوا أترعطي الربة السورية ودعوها دركيتو نصفها السفلي سمكة. وكان عابدوها إكراماً لها يمتنعون عن تناول السمك ويتوفرون على فتح أحواض يربون الأسماك فيها. ومن معبودات الآراميين هدد وسميسيوس زوج الربة شيما وأرترعطي زوج الرب هدد.
وكان الحثيون على مثال من تقدمهم الأمم عباد أورثان أيضاً، فقد عبدوا الرب تيشوبو وهو مثل هدد الآراميين وبعل الكنعانيين. وروي أنهم عبدوا الشمس وأخذوا عن الكنعانيين عبادة عشتروت وغيرها من الأرباب وألهوا مظاهر الطبيعة فعبدوا جمالها وجلالها.
وعبد الكلدان والآشوريون أولاً رب السماء ورب الأرباب ورب الأرض ورب البحر، وجعلوا لكل رب هذه الأرباب ربة تكون قرينيه. وبعد حين عبدوا القمر والشمس والزهرة. والزهرة هذه ينظرون إليها أنها قد تجسدت فيها الحياة والحرب ففيها اللطف والهمجية، وقد بنوا لها في المدينة أرك هيكلاً للفحش حتى دعيت هذه المدينة بمدينة العاهرات. وعبد البابليون على عهد حمورابي مردوك رب الأكوان وعبدوا رب الحكمة والعلوم والحرب والصيد والزراعة والموت والزوابع والأنواء والأوبئة. واقتبس الآشوريون عامة معبودات البابليين وزادوا عليها ربهم أشور
رب الأرباب عندهم،(6/206)
ينزهونه عن الوالد والولد والزوج، ويعتقدون بحشر الأجساد أو ما يشبه ذلك في يوم الجزاء. ويرمزون إلى أربابهم بحيوانات ودواب كرمزهم بالأفاعي والطير والسمك والغزلان والبقر والخرفان.
أما قدماء المصريين فقد اهتدوا إلى عبادة رب الأرباب وتمثلوه في الشمس الحاكمة على الأكوان. وقدسوا معبودهم على صور شتى ثم أصبح لكل مدينة ربها يعتقدون بأنه واحد يظهر في مظاهر مختلفة من مظاهر الطبيعة من نبات وحيوان وجماد وطواطب وأنهار ولا سيما النيل، وأقاموا لكل واحد من أربابهم الهياكل يخدمها الكهنة والسدنة ومن أهم معبوداتهم أوزيريس وإيزيس وهوروس أي الوالد والوالدة والولد. واعتقد المصريون بالآخرة والجزاء في العالم الثاني وحشر الأجساد، ولذلك عنوا بتحنيط موتاهم على ما لم يصل إليه أحد قبلهم، عل الميت يأنس بصورته.
وعبد الفرس قوى الطبيعة التي وقعت تحت حسهم من شمس وقمر ونار وماء وهواء، ثم عبدوا ميترا التي هي الزهرة، ثم كان من مجوسهم على عهد زرادشت ولأخلافه أن عبدوا رب الخير والشر، واسم رب الخير يزدان أو رب النور وهو الرب الأعظم مبدع الكائنات، واسم رب الشر أهرمن وهو رب الظلمة وأصل كل بلاء. قال ماني: مبدأ العالم كونان أحدهما نور والأخر ظلمة كل واحد منهما منفصل من الآخر، فالنور هو العظيم الأول ليس بالعدو وهو الإله ملك جنان النور وله خمسة أعضاء الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أخر روحانية وهي الحب والإيمان والوفاء والمروءة والحكمة، وزعم أنه بصفاته هذه أزلي ومعه شيئان اثنان أزليان أحدهما الجو والآخر الأرض، وأعضاء الجو خمسة الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة وأعضاء الأرض النسيم والريح والنور والماء والنار، والكون الآخر وهو الظلمة وأعضاؤها خمسة الضباب والحريق والسموم
والسم والظلمة، ومن تلك الظلمة كان الشيطان. والصابئة هم القائلون بالأصنام الأرضية للأرباب السماوية أي الكواكب متوسطون إلى رب الأرباب، وينكرون الرسالة في الصور البشرية عن الله تعالى ولا ينكرونها عن الكواكب.
هذا وقد دان اليونان كما دان كثير من الأمم القديمة قبلهم بتأليه الجمال(6/207)
على اختلاف مظاهرة، عبدوا الجمادات لأول أمرهم ثم ترقوا إلى غيرها من تاليه الأشجار والرجوم والأحجار، وأنشأا يكومون الأفعى في هياكلهم كما يكرمون بعض حيوانات البحر وطيور البر. وكانوا يبالغون في إكرام الموتى من عظمائهم حتى ألحقوهم بأربابهم، ونسبوا إليهم كل صفات البشر وأبشع رذائلهم. ويقدمون في المذابح من الطيور والحيوانات والبشر مما كان عند الفينيقيين. وهكذا كثرت أربابهم إلى التي ليس بعدها، وكلما فتحوا أرضاً أضافوا إلى أربابهم بعض الأرباب التي وجدوها تعبد في الأقاليم المغلوبة على أمرهم، وكثرت خرافاتهم حتى كان يستهدف للموت كل من يريدهم من عقلائهم على أن يقلعوا عن تخريفهم. هذا غاية ما يشار إليه من أديان قدماء الدول التي طال أمرهم في هذه الديار.
ومن أجيال العرب التي حكمت هنا أجزاء مهمة قبل الإسلام النبطيون في الجنوب والايطوريون في بعض الساحل وقد عبد النبطيون اللات والعزي، وكانت البتراء مركز عباداتهم قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل. وعبد الايطوريون الكواكب والشمس والزهر وإذا الشرى، وربما تشابهت معبوداتهم ومعبودات النبيطيين. وكان لهم في بعلبك مذبح قالوا: إنه بيت من بيوتهم عظيم عندهم جداً. وصنم الأقيصر كان في مشارف الشام لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان يحجون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده وكلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعره قرة من دقيق أي قبضة. وعرف من الآثار أن أهل صرخد كانوا يعبدون اللات على ما اكتشف على باب كنيستها. ومعظم هذه الأصنام كان مما ينحت من
الأحجار ومنها ما كان من الشبهة البرونز، وقد نقلوا هذه الأصنام إلى الغرب خصوصاً منذ أوائل القرن الثالث قبل المسيح لما قبض على زمام الإمبراطورية الرومانية أباطرة من الشاميين، وقد عثروا على بعضها في فرنسا والنمسا وإيطاليا. وكان ياهو المشهور في تاريخ الإسرائيليين حفيد يهو شافاط الذي قتل جميع أنبياء بعل وعبدته يعبد العجول في بيت أيل. وبيت أيل إلى شرقي خط يمتد من أورشليم إلى نابلس على بعد واحد من كلتا المدينتين وكانت قديماً عاصمة الكنعانيين.
وقد عبد الرومان قوى الطبيعة من الأفلاك والشمس والأرض والنبات(6/208)
والحيوان وأكرموا الينابيع والأشجار العظيمة والحجارة ثم عبدوا المشتري وأظهروه في مظاهر عديدة وكانوا يقولون رب البرق ورب الرعد ورب النور. وجعلوا للمشتري ربة اسمها جونون وعبدوا المريخ ورب الحرب يقدمون له ضحايا من الخنازير والبقر والغنم بل يقدون له الذبائح البشرية يختارونهم من أسرى الحرب على الأكثر. ولهم أرباب أخرى كرب البيت وحارسه ورب نار البيت وجعلوا لها هياكل أقاموا على حراستها بنات عذارى يتعهدون نارها حتى إذا غفلن عنها فأطفأت وأدوهن على ما كان أهل الجاهلية يئدون بناتهم خشية العار. ولما أختلط الرومان بالأمم الأخرى اقتبسوا منها ما راقهم من أربابهم ومنها عشترت المعبود الشامي.
قال كلرمون غانوا: لم تكد تظهر الوثنية اليونانية الرومانية حتى أصبح الناس يحبونها أصقاع الشام كافة ويقبلونها راضين. وذلك لأنها قائمة على أساس التسامح القابل للظهور في كل مظهر وصورة. تلتئم بمرونة عجيبة مع أشكال الديانات التي تدين بها الشعوب الأخرى. وذلك بأن تمزج هذه الديانات بنفسها أو تمزج نفسها بها. ولم تدخل في ذاك المحيط الخاضع المدهوش إلا إصلاحاً واحداً
وهو معرفة الأشياء الحسنة، ولم تقض إلا بقضاء واحد وهو الابتعاد عن البشاعة، ولم تضع إلا نظاماً واحداً وهو نظام السرور، ولا تعليماً واحداً غير تعليم الذوق، ولم توح بغير الجمال. وكانت ترفق بالأديان التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا تشتد إلا على الأديان التي تحاول مقاومتها. فالعبادات القديمة التي عرفت عند الكنعانيين استقت من هذا النبع الصافي البارد مأخوذة بشيء من الجنون اه.
لما جاء كسرى إلى حلب وعمر بيتاً للنار كان في الشام أربعة أديان أمهات، وهي: اليهودية والنصرانية وعبادة الأوثان والنيران. ولما جاء الإسلام كان الناس يدينون بهذه الأديان. وكانت النصرانية قبل الإسلام على رواية اليعقوبة في ربيعو وغسان وبعض قضاعة، واليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، والمجوسية في تميم، والزندقة في قريش أخذوها من الحيرة. وكان بنو حنيفة أخذوا في الجاهلية إلهاً من حيس،(6/209)
والحيس تمر يخلط بالسمن والأقط فيعجن، فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه. ولما مرض عمرو بن لحي وكان يلي أمر الكعبة في الجاهلية قيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا وقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.
اليهودية:
يرجع البشر على اختلاف مذاهبهم وأديانهم إلى جد واحد وهو آدم وإلى أبناء سيدنا نوح الذين تناسلوا وتكاثروا وانتشروا على سطح الأرض. ومعلوم أن عرب الجاهلية واليهود هم أبناء سام ولذلك سموا بالساميين واستوطنوا في الأصل الديار الكنعانية المعروفة اليوم بفلسطين ومشوا منها إلى حدود مصر جنوباً وإلى العراق ثم إلى منتصف آسيا شرقاً. والحاميون أبناء حام سكنوا مصر والحبشة وانتشروا
القسم الثالث أي أبناء يافث فهم في القارة الأوربية والأرض التركية.
ولما ظهر الأب الأول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن بلدته الرها أورفة من ديار الكلدان جاء منقاداً بمشيئة الله إلى الأرض الكنعانية وأقام في بلدة حبرون أي خليل الرحمن رمزاً لمودة الخالق له. وهنا نغضي عن سرد ما أوتي من المعجزات ونغفل أيضاً عن ذكر من جاء بعده من الأباء والأنبياء الكرام وما أوتوا هم أيضاً من المعجزات والكتب المقدسة حافلة بكل ما يراد معرفته بهذا الشأن. ولا نرى بداً من الإشارة فقط إلى أن سيدنا إسماعيل بن الخليل الأكبر قد نزح وأمه هاجر من الأرض الكنعانية إلى شبه(6/210)
جزيرة العرب وبقي أخوه إسحاق في تلك الأصقاع الموصوفة بأرض الميعاد، إشارة إلى العهد الذي أعطاه الخالق سبحانه وتعالى خليله إبراهيم القائل بإعطاء الأرض الكنعانية على رحبها إلى نسله. وقد سميت بالأرض المقدسة أيضاً عندما بدأ اليهود يحجون إلى الهيكل المقدس الذي بناه سليمان الحكيم. وقد كان بناء هذا الهيكل مدعاة لتمسك اليهود بهذه الديار ولعدم النزوح عنها إلا لتعاطي التجارة لمن كان مكروهاً بحكم الضرورة على الإقامة موقتاً في الأقطار المجاورة. وقد وجدت في الدهر الغابر آثار تاريخية كثيرة تدل على نزول اليهود حوران ودمشق وبلاد الفينيقيين الواقعة على شاطئ البحر المتوسط.
ومما لا ريب فيه أن اليهود قد أقاموا عصوراً في القطرين الذين دوختهما جيوش النبي داود وأعني بهما سورية وشمال ما بين النهرين. ولما أعمل نبوخذ نصر ملك بابل 600ق م سيفه باليهود هاجر قسم منها إلى فارس وآسيا الوسطى وآب قسم أخر إلى دمشق. وعادت البقية وعلى رأسها نحميا ودانيان وجددوا بناء الهيكل المقدس ولم يلبث أن جاء تيطوس الروماني 70ب م وهدمه. وقد أعمل هو أيضاً السيف برقابه وأضطرهم إلى النزوح إلى الأمصار البعيدة كاليونان والأندلس
وشمال إفريقية. وقد روي عن بولس الرسول أنه حاول إقناع اليهود القاطنين في الشام لا تباع السيد المسيح والتدين بدين النصرانية، وهذا مما يدل على وجودهم في تلك الأزمنة في هذه الديار.
ثم أن قائدي عساكر سيدنا عمر عندما فتح الشام انتخبا نفراً غير قليل من اليهود والمسلمين الدمشقيين أرباب الصناعات والفنون الجميلة وجيء بهم بعد إلى بلاد بخارى فتوفروا على البناء المتوافر تمام المماثلة للنسق الدمشقي من حيث طرز البناء ورسومه وأشكاله وأدواته حتى يخيل لمن يزور تلك الأصقاع أنه في سوق أو دار من أسواق الشام ودورها.
ثم إن نزول اليهود في دمشق منذ أمد بعيد مشهود ومحسوس من كنيس قرية جوبر التي تبعد بضع دقائق عن شرقي دمشق وقد جاء ذكره في التلمود الموضوع منذ أكثر من ألفي سنة وذلك بقوله في الحرف الواحد: كنشتاديبه جوبر ومعناه كنيسة جوبر القائمة إلى يومنا هذا والتي كانت مقراً للنبيين(6/211)
إيليا الخضر وتلميذه اليشاع اليسع. وفي بعض دور الكتب العبرية في دمشق إلى اليوم آثار مخطوطة يرجع عهدها إلى القرن الحادي عشر للميلاد. وصفوة القول أن اليهود لم ينقطوا عن الشام لا سيما عند فتح المسامين لها إذ ثبتت أقدامهم فيها وتوفرت لهم أسباب الهناء والرخاء.
ولم تؤثر التطورات والفتوحات التي وقعت في القطر في اعتقاد اليهود الديني ولا غيرت شكلاً من مراسيمهم، بل كانت بالعكس سبباً قوياً لتضافرهم وتحفزهم لدرء كل ما من شأنه أن يفسد لهم معاملاتهم وعاداتهم. وما زالوا منذ الخلقة كسائر اليهود يعبدون الله عز وجل ويوحدونه ويعرفونه بيهوه كما تسمى إلى آدم وإلى الآباء والأنبياء بقوله لهم باللفظ العبري: إني ي هـ وهـ أي أنا يهوه.
وقد فصل المجتهدون من علماء اليهود اسمه المقدس تفصيلاً وافياً خلاصته باللغة
العبرانية: هيا، هيو، يهيه ومعناه كان، في الماضي وكائن في الحال وسيمون في المستقبل أي إنه تعالى حي قيوم دائم إلى الأبد. وكان يرفق أحياناً اسمه الكريم في التوراة كلمة إلوهيم أو شداي ومعناهما الجبروت والشدة. ويحترم اليهود أيضاً الأنبياء الذين أوحي إليهم في زمن ملوكهم وعددهم 48.
يتآلف اليهود مع مواطنيهم مهما اختلفت نزعاتهم. فهم فرنسيس في فرنسا، وروس في روسيا، وإنكليز في بريطانيا، وهنا أيضاً لا يختلفون عن الشاميين من حيث الأخلاق والزي. ولأسمائهم دخل قوي في الألفة مع مسلمي الشام. فهم يتسمون بأسماء لا يسمى بها غيرهم من اليهود كصبحي وصبري وعارف ومراد ويحيى وعبده وبهية وعائشة وجملية إلى ما هنالك من الأسماء المحضة، ومما يزيد ائتلافهم مع المسلمين أنهم مضطرون بحكم الدين الموسوي أن يراعوا مثلهم أحكام الختان والغسل والطهارة.
ولغة اليهود العبرية أينما حلوا ورحلوا يتعرف بها بعضهم إلى بعض وبها يؤدون فروض صلواتهم اليومية وشعائرهم الدينية، ولغتهم هذه هي شقيقة اللغة العربية. فإن الصرفيين العرب لا يتعذر عليهم تعلم اللغة العربية والتعمق(6/212)
في دقائقها. وهي كما قلنا لغة سامية تكتب كالعربية من اليمين إلى الشمال وأغلب كماتها هي كشقيقتها لفظاً ومعنى. وعدد حروفها 22 حرفاً وهي: اب ج د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت أي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت.
وقد كان للغة العبرانية الفضل الأكبر في حفظ حياة اليهود إلى هذا الزمن فهي التي جمعت شملهم في البلدان المختلفة وهي التي ذبت عن حياضهم وحافظت على كيانهم. وقد العلماء المعاصرون على رفعها إلى مصاف اللغات الحية مما حدا بهم على تأسيس الجامعة العبرية في القدس الشريف في 1 نيسان سنة 1925 وبدءوا بترجمة الآثار النفيسة والكتب المفيدة إليها. ولا يمضي زمن حتى يكون لهذه اللغة
على ما أرى شان عظيم ومركز سام. ورب قائل بقول: إنه قد يحثوا دون توسع علماء اليهود في الترجمة والإنشاء فقدان الكلمات الفنية الحديثة من اللغة العبرانية، فالجواب، أن التلمود أتي على ذكر بعض المخترعات التي نظنها وليدة القرن الغابر أو الحاضر كالمناطيد والكهرباء وسماها بأسمائها المخصوصة. وقد أعيدت إلى اللغة في هذا العصر ومع هذا لم يحجم علماء اللغة في القرن الماضي عن استعمال الكلمات الدخيلة المحتاج إليها والتي تفي بالمعاني المقصود إدخالها على اللغة العبرانية.
السامرة:
ينسب السامريون أنفسهم إلى سبط يوسف وينسب كهانهم أنفسهم إلى سبط لاوي ويقررون أن هذا السبط هو بيت الكهنوت الإسرائيلي حصراً.
والسامرية نسبة إلى إقطاع شمر ونيم الذي كان في ملك سامير الأشوري الشمرونيمي. وذلك إن الآشوريين لما غزوا فلسطين غزوتهم الأولى انتشروا في الأقاليم وامتلكوا كثيراً من الإقطاعات. وكانت فرقة شمرونيم تملكت(6/213)
إقطاع سبسطية وأخذوا يستغلون أرضه بعد أن خربوا المدينة المذكورة. ثم آل هذا الإقطاع إلى سامير أمير الفرقة فجاء إليه أحد ذوي اليسار من آل يوسف واشترى إقطاعه وأخذ يعمره هو وآله، فلبستهم نسبة الأرض ثم ابتنوا أخيراً مدينتهم التي تسمت بالسامرية نسبة إلى أصل تسمية الإقطاع ومالكه الآشوري.
ويعزو السامريون سبب انشقاقهم عن سائر أسباط إسرائيل إلى خلاف ديني نشأ بينهم وبين هذه الأسباط. وذلك أن الإسرائيليين ظلوا إلى القرن الثالث من دخولهم أرض كنعان يقدسون جبل جرزيم الذي هو جبل نابلس الجنوبي ويقربون عليه قرابينهم اعتقاداً منهم أن يوشع أقام هيكل العبادة الأول في هذا الجبل. وكان إلى ذلك التاريخ مركز حجهم ومقام إمامهم الأكبر وكاهنهم الأعظم. فلما ورث الأمامي
الكبرى الإمام عزي ابن بحقي وكان حديث السن فحسده الكاهن الأعظم عالي وأنف أن يكون له مرءوساً وأخذ يدس الدسائس حتى نجح في استمالة فريق من الإسرائيليين فهجروا جرزيم وانتقلوا إلى سيلون - قرب القدس وكان ماهراً في الشعوذة وأعمال السحر، فعظم حوله الجمع فأقام هيكلاً وصندوقاً للشواهد وادعى أنهما الأصليان وأوجب تقديسهما وصرف الوجوه عن جرزيم.
وقد ساعده في عمله اختفاء الهيكل وصندوق الشواهد اللذين أقامهما يوشع على جرزيم بأعجوبة ربانية انتقاماً من اليهود لمخالفتهم الشريعة وانغماسهم في المعاصي. فاعتبر سائر اليهود قول عالي وأخذوا يقدسون هيكل سيلون.
أما سبطا يوسف ولاوي فإنهما ظلا على عهدهما من نصر الإمام عزي وتقديس جرزيم واعتباره المحل المختار الذي اختاره الله للهيكل والذبيح.
ومن هذا الحين أصبح الإسرائيليون فرقتين: فرقة عزي ومركزهم جرزيم وحددوه، وفرقة عالي ومركزهم سيلون. وقد استحكم العداء بين الفرقتين فأخذتا تبتعدان إحداهما عن الأخرى وطفقت كل فرقة تلصق بالأخرى التهم، وجرت بينهما مناقشات ومنازعات كانت تؤدي في بعض الأوقات إلى إراقة الدم.
يقول السامريون: إن عالي الكاهن بعد أن عظم أمره أخذت مطامعه تظهر(6/214)
وأساء السيرة في اليهود هو وأولاده وأخذوا يخالفون أوامر الله وشريعته، وقد تبنى ولداً أسمه صمويل أتقن الشعوذة. وأغتنم الفلسطينيون فرصة انشقاق الإسرائيليين على اليهود ونكلوا بهم، فلما مات الكاهن خلفه صمويل فلم ير إلا أن يدعي النبوة ربطاً لقلوب اليهود به، فصدقه هؤلاء لقوة شعوذته ودهائه ولكنهم طلبوا منه أن يقيم عليهم ملكاً يدير شؤونهم ويجمع شملهم دفعاً لخطر الفلسطينيين فأقام عليهم شاول الملك. وكان من أعمال هذا الملك إشهار الحرب على سبطي يوسف ولاوي لعدم اتباعهم لهم وعدم اعتبارهم هيكل سيلون وذبحهم معهم في مذبح سيلون. وقد كبس
شاول السبطين في عيد المظال فقتل منهم كل من وجده وذبح إمامهم الأكبر شيشي بن عزي وخرب محل عبادتهم في جرزيم ونقض حجارة الهيكل.
واحتل منطقتهم فتشتت قسم كبير من اللذين سلموا من القتل منهم. وظل آل يوسف ولاوي اثنين وعشرين عاماً ولا يقدرون على أداء فريضة الحج ولا يجرءون على التظاهر بشعائرهم الدينية. وقد حاول كاهنمه الأكبر باير داود حينما ملك باحترام جرزيم وبناء الهيكل فيه ينجح، وأخذ يقيم الهيكل في يابيس القدس الآن وادعى هو وابنه سليمان من بعده أنه المحل المختار وأناطوا به جميع المقدسات المنوطة بجرزيم دون أن يكون في أسفاره التوراة الخمسة دليل على ذلك في زعم السامريين.
ولما غزا بختنصر فلسطين أجلى في من أجلاه آل يوسف إلى بابل وأسكن محلهم أمماً غريبة فسبب ذلك انحباس الأمطار وعطب الزيتون، فالتمس القاطنون من الملك أن يسأل آل يوسف عن سبب ذلك فأجابه هؤلاء أن لنا جبلاً مقدساً نحج إليه ونتقرب إلى الله فيه بالقرابين لا نرى فيه حبساً ولا عطباً، فعزم على أعادتهم إلى أرضهم ليقيموا شعائرهم. وقد وقع في هذا السياق بينهم وبين آل يهوذا خلاف على المحل المختار ولكن آل يوسف أقنعوا الملك بقوة نصوصهم فرجحهم وأعادهم وجعل لهم شيئاً من السلطة فجاءوا وأقاموا هيكلهم على يابيس وهدموا هيكلها. فكان نجاحهم هذا عاملاً جديداً في ازدياد النفرة بين الفريقين أولاً وتحريف اليهود نسخ التوراة الموجودة في أيديهم ثانياً.(6/215)
وقد طعن اليهود في أصلهم فقالوا عنهم كوتيين ونعتوهم بأنهم وثنيون وأن لهم صنماً اسمه أشيما نكايةً وتغرضاً. وانتقاماً. وقد كان اليهود في عهد الحكم الروماني والفارسي كثار العدد. وكان لهم يد كبرى في الثورات الوطنية التي كانت تنشب من حين إلى آخر، وقد أفنت هذه المنازعات عدداً كبيراً. فلما دخل
العرب فلسطين أخذ السامريون يدينون بالإسلام فيقل عددهم رويداً رويدا إلى أن أصبحوا طائفة قليلة جداً ربما لا يتجاوز عددها الآن مائتي نفر ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً. وقد اقتبسوا من المسلمين واقتبس المسلمون منهم في نابلس على توالي الأيام كثيراً من العادات واللهجات. وهم الآن يتكلمون بالعربية النابلسية العامية. وقليل منهم يعرف العبرانية كما أن عبرانيتهم قديمة بينهما وبين عبرانية اليهود اختلاف بين وإن متت اللغتان إلى أصل واحد. ولا يزال أصل بعض الأسر المسلمة في نابلس معروف النسبة والأرومة في الطائفة السامرية.
ينعت السامريون أنفسهم بالمحافظين لأنهم حافظوا ولا يزالون يحافظون على أدق شعائر العبادات والشريعة دون تأويل ولا انحراف. ويزعمون أن التوراة التي في أيديهم أصدق وأقدم توراة وأنها بخط أبيشع فينحس ابن العزر بن هرون نقلها أبيشع عن المدرج الذي كتبه بيده موسى عليه السلام. وتوراتهم هذه مدرج طويل من الرق له أسطوانة مفضضة محفوظة في معبدهم تكاد تكون سلوتهم الوحيدة في هذا العالم الذي أصبحوا فيه غرباء عن كل اُمَمِهِ وأثرها تاريخياً أكثر مما هو شعي حي. وهم يزعمون أن توراة اليهود قد فقدت مراراً وحرقت كثيراً وأن التوراة التي بين أيدي اليهود ملفقة بالظن والحدس على غير أساس، وأن اليهود عدا ذلك قد تسامحوا بكثير من مظاهر الدين وأولوا نصوص الشريعة فصار بينهم فروق كثيرة. وفي أيدي السامريين كتب جدلية كثيرة في تثبيت طريقهم والطعن في طريقة اليهود وتفسيراتهم وتأويلاتهم.
وأول خلاف نشأ بينهم وبين اليهود خلاف القبلة. فالسامريون يعتبرون جبل جرزيم الجبل المقدس والمحل الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده عليه والذي أمر يوشع من قبل موسى بإقامة الهيكل فيه ويقررون أن عيد(6/216)
الفسح وقرابينه لا تجوز إلا في هذا الجبل وحدود منطقته التي لا تتعدى منطقة نابلس الآن. ومن
الخلافات بينهم وبين اليهود وقت الختان. فالسامريون لا يقبلون عذراً لتأخير يوم الختان إلى ما بعد اليوم الثامن من الولادة على حين يتجوز اليهود في ذلك. وبين الفريقين خلاف في مواعيد الأعياد وشعائرها وفروعها وفرضية القرابين والطبقات الملزمة بها. وللسامريين أصول فلكية دقيقة يستندون إليها في حساب تولد الأهلّة وتعيين مواعيد الأعياد والشعائر.
ويخالف السامريون اليهود في تجويز بعض الأنكحة فهم يحرمون نكاح امرأة الأخ الشقيق وبنت الأخ وزوج الأخت وامرأة العم وامرأة الخال واليهود يحللونها. وكذلك هم يختلفون في بدء عيد الفطير والطقس الخمسيني ذوي الأسابيع السبعة المقدسة التي يحيي بها الإسرائيليون ذكرى أسابيع الخروج من مصر ودخول أرض كنعان. والسامريون يتشددون في شعائرهم الدينية لا سيما يوم السبت، ويزعمون أنهم يطبقون أوامر التوراة حرفياً. ويتشددون في أحكام الدم والنجاسات ومواعيد الطهارة وكيفياتها ويحملون أنفسهم عبئاً لا يملك الإنسان نفسه من الشفقة عليهم من أجله. وهم اليوم لا يغسلون موتاهم ولا يحملونهم وإنما يستأجرون لهذين الغرضين أناسا من المسلمين لأن للميت وغسله ومائه نجاسات يتعذر طهر السامري منها في الحال الحاضر. ويقولون: إن السامري لا يطهر منها إلا إذا رش بعد عزلة الأيام السبعة برماد بقرة مقررة الصفات. وقد نفذ هذا الرماد الذي كانوا يتوارثونه منذ أمد طويل ولم يمكنهم تعويضه. وللسامريين صلوات مفروضة يوم السبت وغيره. ففي غير السبت لهم صلاتان مفروضتان هما صلاة الصبح وصلاة المغرب. وفي يوم السبت صلاتان زائدتان على تينك الصلاتين هما صلاة الظهر وصلاة الصرفة. وصلاتهم ذات ركوع وسجود وانتصاب يتلون فيها سوراً من التوراة. وهم يتوضئون قبيل الصلاة وضوءاً يقرب من وضوء المسلمين.
وأهم أعيادهم عيد الفسح في آخر أسبوع الفطير. ويكون في الرابع عشر من
الشهر القمري الذي يجتمع مع شهر نيسان. وهو عيد سنوي جامع يشبه الحج. يصعد السامريون فيه كبارهم وصغارهم جبل جرزيم. ويوجبون(6/217)
حضوره على كل سامري ولا يقبل للمتخلف عذر. فإذا كان يوم العيد وأخذت الشمس بالزوال تهيئوا للعيد في ثياب بيضاء وجبب زاهية واعتصموا بعمائم بيضاء أو حرير أغبانية مطرزة وهيئوا سبعة أكباش سالمة من كل عيب ونقص وحفروا تنوراً عميقاً يبنونه بحجارة مرصوفة من دون طين. فإذا آن وقت الغروب يأخذون بتلاوة التوراة وقراءة التراتيل مصطفين على شكل إمام ومؤتمين، فجينما يأزف الوقت المقرر وهو بين الغروبين يعطي الكاهن الأكبر إشارته فيذبح الذباحون الأكباش بسرعة البرق، ثم ينتهون من هذه الصلاة الأولى ويبادرون جميعاً لتحضير الذبائح ينتفها أناس ويملحها آخرون، وبعضهم يوقدون النار ويحمون التنور وهم في كل أعمالهم هذه في صلاة لا يفترون عن التلاوة والترتيل. ثم يحرقون شحوم القرابين وأطرافهم على مذبح يصنعونه من الحجارة ويلقون بعد ذلك الذبائح في التنور، ويقضون بعد ذلك ثلاث ساعات في الصلاة ريثما ينضج القرابين فيرفعون عنها الحجارة ويخرجونها ويأكلونها، وبعد أن ينتهوا من الأكل يحرقون الفضلات والعظام، إذ أنه لا يجوز لغريب أن يمس الذبيحة ولا أثراُ منها. وقد اعتاد المسلمون في نابلس أن يصعدوا الجبل في هذا اليوم للتفرج أولاً ولزيارة شيخ لهم اسمه الشيخ غانم يظن أنه من شهداء الحروب الصليبية اه.
وفي كتاب ولاية بيروت أن شروط العقيدة الأصلية عند السامريين خمسة وهي الاعتقاد بوحدانية الله، ونبوة موسى، وأن التوراة كتاب منزل، وأن جبل جرزيم هو مقدس، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. ويعتقدون أن الله منزه عن جميع الصفات ولا يؤمون بنبوة أحد من الأنبياء سوى موسى ويُشع ويعتقدون أن البشر يحاسبون على أعمالهم في اليوم الآخر ويؤمنون بمجيء المهدي ويطلقون عليه
أسماء مختلفة فيسمونه حاشا حيب وحاطا حيب ومرجع وأن لظهور علائم فيظهر كلمة الله وينقل عصا موسى وألواحه العشرة ويجيء بقدرة المن وهي الحلوى الإلهية. ويعتقد السامرة بالملائكة ويفرض على كل سامري أن يصلي ويزكي، فلصلاة صلاتان: إحداهما صلاة الصبح، والثانية صلاة الغروب، وكل صلاة إحدى عشرة ركعة،(6/218)
جماعة أفضل، والصلاة مفروضة على الرجال والنساء ولكن النساء لا يخالطن الرجال خلال الصلاة، ويشترط أن يكون المصلي طاهراً والطهارة عندهم على نوعين الغسل أولاً والوضوء ثانياً، فالطهارة من الحدث شروط أولى على كل موسوي حتى إن لمس الحائض موجب للغسل، وعلى الحائض أن تحضر ثلاثاً من النساء يقفن على رأسها حين اغتسالها، وأما الوضوء فيغسل المتوضئ أولاً يديه، وإذا كان من أصحاب الأعمال اليدوية فيغسل يديه إلى المرفقين والساعدين ثلاث مرات. ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يغسل وجهه ويمسح أُذنيه ويغسل رجليه ثلاثاً. ويتلون التوراة في الصلاة باللسان العبري القديم وتجوز تلاوتها باللغة السامرية. والحج عند السامريين هو عبارة عن زيارة جبل جرزيم وهو ثلاثة أشكال حج الفطير وحج العنصرة وحج المظال. ويمسكون في صومهم أربعاً وعشرين ساعة قبل حج المظال بخمسة أيام، فلا يدخل السامري كبيراً كان أو صغيراً شيئاً إلى فمه حتى الطفل الرضيع فإنه يمنع من الرضاعة طول هذه المدة، ولا ينامون مطلقاً في هذه الأربع والعشرين ساعة، بل يقضونها بالطاعة والعبادة. أما الزكاة في عبارة عن إعطاء واحد في العشرة من الأرباح إلى الكاهن والفقير. ويحجب السامريون نساءهم ويجوز الزواج ثانية إذا كانت المرأة عاقراً أو مريضة أو ذات عيب شرعي. وأصول مواريثهم لا تخالف أصول الشريعة المتبعة عند جميع الموسويين.
الأرثوذكسية:
ليس من دين يدين به أبناء آدم إلا فيه مذاهب متباينة بتباين منازع زعمائه. فقد خاصم أهل الختان المنتصرون رسل المسيح ليقنعونهم بوجوب اختتان الوثنيين الراغبين في التدين بالنصرانية. ولكن الرسل والكهنة اجتمعوا في أورشليم في السنة الخمسين بعد الميلاد وحكموا بألا يثقل بهذا الناموس على من يرجع إلى الله من الأمم اع11: 2 - 3 و15: 1 - 31 و16: 1 - 3.
وفي القرن الثاني نشأت في الدين المسيحي بدع اليهود الناصريين والنيونيين والكلساعيين والشمشونيين والفنوستيين على تفرق نحلهم فانتبذتهم الكنيسة(6/219)
وعاجلهم سهم القضاء. وقام بعدهم مبتدعون كثيرون اشتهر منهم في القرن الرابع قس كنيسة الإسكندرية آريوس، إذا كفر بألوهة المسيح فجمعت عليه الكنيسة سنة 325 مجمعاً مسكونياً في مدينة نيقية حضره ملوك المسيحيين القيصر قسطنطين الكبير وثلاثمائة وثمانين عشر أسقفاً ما عدا الكهنة والشمامسة والعلماء وحكمت عليه فعري من الكهنوت ونفي وقطع السبب بأتباعه.
وبتأثير ضلال آريوس كفر مكدونيوس أسقف القسطنطينية بالروح القدس فحكمت عليه الكنيسة وعللى بدع آفنوميوس وأبوليناريوس وصباليوس وماركلوس وآفدوكسيوس وفوتينوس بالمجمع الثاني المسكوني الذي التام سنة 381 في القسطنطينية على عهد القيصر ثيوذوسيوس الكبير وحضره مائة وخمسين أسقفاً أثبتوا صلاحية المجمع الأول الشرعية وأكملوا دستور الإيمان الذي وضعه، قاضين بإقامته على كل أرثوذكسي فهو شعار إيماننا إلى اليوم القيامة ومطلعه أومن بإله وأحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض. . . وحطوا مكدونيوس من رتبته الكهنوتية فسكن نسيس مشايعه.
وأولع نسطوريس أسقف القسطنطينية بعشق الإمامة نافراً إليها في شاكلة من خالف ليعرف فكفر بالمسيح وأمه مريم فرمته الكنيسة بإقحاف رأسه في مجمعها
الثالث المسكوني الذي اجتمع في مدينة أفسس سنة 431 على عهد القيصر ثيوذوسيوس الصغير وحضره نحو مأتي أسقف قرعوا ضلال نسطوريوس بالحق فأسقط من الكهنوت ونفي إلى مصر وباتت بدعته تذمى في الكلدان كالخنفساء إلى اليوم.
وركب أوطينما الراهب رأسه في محاربة ضلال نسطوريوس حتى انتشر عليه رأيه في طبيعتي المسيح ففسد إيمانه بهما وأغرق في غوايته حتى انتصفت منه الكنيسة بحكمها عليه وعلى بدعته بمجمعها المسكوني الرابع الذي اجتمع في خلكيدون سنة 451 وحضره القيصر مركيانوس وستمائة وثلاثون أسقفاً.
وضرب الدهر بين القائلين بالطبيعة الواحدة فتشردوا قدداً عليها المنية لولا زعيمهم أسقف أرفاً يعقوب الزنزلي المشهور بالبرادعي. فإنه لأم صدعهم بتجديده لهم مركز البطريركية في إنطاكية فتسموا باليعاقبة إكراماً له وانقسموا إلى سريان وأرمن ومصريين.(6/220)
وفي سنة 553 اجتمع المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية على عهد القيصر يوستنيانوس الكبير وكان أعضاؤه مائة وخمسة وستين أسقفاً حكموا على غوايات أوريجانوس الشهير وما يعرف في التاريخ الكنسي بالقضايا الثلاث وأثبتوا أحكام المجامع المسكونية الأربعة.
وفي سنة 680 التأم المجمع المسكوني السادس في القسطنطينية وحضرة القيصر قسطنطين اللحياني ومائة وسبعون أسقفاً وفي رواية أخرى مائتان وتسعة وثمانون أباً حكموا على القائلين بالمشيئة الواحدة في المسيح، منهم سرجيون بطريرك القسطنطينية وأونوريوس بابا رومية وأقاموا المجامع المسكونية الخمسة فباتت هذه البدعة تعالج النزع في شيعة الراهب يوحنا مارون التي عرفت بالمردة وانحصرت على فتن لبنان وتسمى الآن بالمارونية نسبة إلى الراهب المذكور الذي
صار أسقفاً أول عليها حتى استوفت أنفاسها أيام حملات الفرنج الصليبين على الشام سنة 1182 فإنهم جذبوا الموارنة إلى الخضوع لكنيسة رومية فثبتوا فيه بعد أن طرد المسلمون الصليبين، إلا أنهم أبدلوا بدعة المشيئة الواحدة بما ابتدعته رومية بعد أن قطعتها الكنيسة من شركتها في القرن الحادي عشر.
وفي سنة 726 بدأ القيصر لاون الايصوري محاربة صور الأولياء الأيقونات وبقاياهم وشايعة أسقافه كثيرون فتأذنت الكنيسة من هذه البدعة حتى حكمت عليها في مجمعها السابع المسكوني الذي اجتمع في مدينة نيقة سنة 787 على عهد القيصرة إيريني الوصية على ابنها قسطنطين السادس وحضره ثلاثمائة وسبعة وستون أباً. إلا أن هذه البدعة تجددت في الشيع البروتستانتية في أوائل القرن الخامس عشر ولا تزال ترهقها بأضرار جمة عاملة على تشعث ألفتها وتمزق شملها.
وفي سنة 879 التأم المجمع المسكوني الثامن في كنيسة أيا صوفيا وحضرة القيصر باسيليوس المكدوني وعماله ليحافظوا على النظام جرياً على عادة أسلافه العواهل العظام وثلاثمائة وثلاثة وثمانون رئيس كهنة أثبتوا دستور الإيمان الذي وضعه المجمعان الأول والثاني على ما مر قاضين بانتباذ من يزيد فيه أو ينقص منه. ولا يحصى هذا المجمع رسمياً مع المجامع السبعة(6/221)
المذكورة، مع أن الكنيسة كلها شرقاً وغرباً اشتركت فيه وقررت أحكامه بالاتفاق التام جرياً على عادتها فيها. وسبب ذلك أنه لم يلتئم بعده مجمع مسكوني تام الشروط ليثبت صلاحيته الشرعية اتباعاً لنظام المجامع.
ونشرت كنيسة رومية الدين المسيحي في شعوب أوربا أيام كان الله خاتماً على قلوبهم، فبذلوا لها مقادتهم وخشع ملوكهم أمام أساقفها فعصفت في رؤوس الباباوات زوابع المجد العالمي واسترسلوا في سعيهم وراء السلطة المطلقة على
الممالك والكنائس، فنزل جهل الغرب المطبق على مقترحهم وأسدر عيونهم نور الشرق - والشرق مبعث النور - فنصح لهم البطريركان المسكونيان أن يتزعوا، فما كان منهم إلا أن غلوا في طغيانهم فنبذتهم الكنيسة بمجمع التأم على عهد القيصر قسطنطين مونوماخس والبطريرك ميخائيل المذكور، فعمدوا بعد يأسهم إلى القوة البدنية توصلاً إلى ما اشرأبت إليه أطماعهم فسيروا على الشرق الحملات الصليبية التي سودت بإفحاشها فيه مجلدات برمتها حتى محقها المسلمون وطهروه منها وردوا على الكنيسة الأرثوذكسية حقوقها التي منحها إياها الخليفة عمر بن الخطاب وخلفاؤه. فمقت الروم اللاتين حتى آثروا أن يروا عمامة السلطان محمد الثاني الفاتح في كنيسة أجيا صوفيا على أن يروا فيها كمة البابا.
ولما انحجب نور الشرق عن رومية تاهت كنيستها في شعاب الباطل فأجفل منها معظم أمم أوربا متعوذين بالمذهب البرتستانتي، فأنشأت لهم ديوان التفتيش المشهور بفظائعه. ثم لما سطع فجر العلم في أوربا وامتنع عليها إكراه الناس على التدين بما تمليه عليهم عمدت إلى دهاء الرهبانيات كالجزويت والكبوشيين وغيرهم فاستغوت بالمال حزائق من الطواف الشرقية القديمة، منها حزيقة الروم الكاثوليك الذين استغوتهم من الملة الأرثوذكسية فانتحلوا لأنفسهم وصف الملكيين ليوهموا الناس أنهم الأصل ولكنهم لم يوهموا إلا أنفسهم فصدق فيهم قول المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
أما الحقيقة التاريخية فهي أن القائلين بالطبيعة الواحدة من أقباط مصر(6/222)
نعتوا الأرثوذكسيين بالملكيين لتمسكهم بإيمان ملوك القسطنطينية.
فمن هذه الحقائق التاريخية التي أيدتها شواهد العقل والنقل المثبتة في المطولات يعلم المطالع:
1 - أن الحقيقة الإنجيلية حفظت في الكنيسة الأرثوذكسية مصونةً عن كل شائبة
بدعة وضلال وستحفظ إلى منتهى الدهرمت16: 18و28: 20يو14: 16.
2 - وأن المملكة البيزنطية التي عاشت زهاء ألف ومائة وخمسين عاماً قد ناصرت الكنيسة على صيانة هذه الحقيقة مؤثرة إياها على المصلحة المادية.
3 - وأن أمر الكنيسة الأرثوذكسية شورى لأنها تعمد في حل المشكلات إلى المجامع اقتداء برسل المسيح المخلص فلا يستبد فيها شخص واحد برأيهمت 18: 15 - 17 واع 15: 6.
4 - وأن السلطة العليا فيها منحصرة في المجامع المسكونية وحدها فهي تؤمن بما حددته من عقائد الإيمان المقررة في الكتاب المقدس وتأتمر بأوامرها وتحفظ قوانينها وتنبذ كل نبذتها وتحكم على من يتجاسرون على نقض أحكامها والعبث بقراراتها أياً كانوا.
5 - وأن الشرق كان موطن أخبار الدين المحققين، وجهابذة اليقين الراسخين، الذين حددوا العقائد المسيحية تحديداً لا يحتمل التأويل والتبديل بما أقاموا عليها من البينات الواضحة والحجج الدامغة مما اضطر الغرب أن يجعل قياده في يده وينزل على حكمه في جميع الأمور الدينية.
6 - وأن الروم الأرثوذكسيين كانوا أصحاب البلاد وكان معتقدهم سائداً في من توطنها من العباد حتى افتتحها المسلمون وأمنوهم على دينهم وأموالهم فعاش بوجاهتهم في الممالك الإسلامية حتى اليوم بقية الطوائف النصرانية التي حكمت عليها الكنيسة قبلاً، وقد قال القرآن الشريف في الروم (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) سورة الروم.
الكثلكة:
الكثلكة أو الدين الكاثوليكي أو الكنيسة الكاثوليكية اسم واحد للمذهب(6/223)
الديني المعروف الذي يدين به اليوم نيف وثلاثمائة مليون من البشر كما ورد في أضبط
الإحصاءات الحديثة. يعلن أصحابه ويثبتون قولهم بالبرهان أنه هو الدين الوحيد الذي بشر به السيد المسيح قبل تسعة عشر قرناً وأخذه عنه رسله الحواريون لينشروه بأمره في كل العالم متى28: 18 - 20 مرقس 16: 15 تحت رئاسة الأساقفة الخاضعين للحبر الأعظم بابا رومية وخلف القديس بطرس المقام من السيد المسيح كالمتقلد الرئاسة العامة المطلقة على كنيسته وكراعي نعاجه وخرافه متى16: 18 - 19 يوحنا 21: 15 - 17 وأما اسمها فمشتق من لفظة يونانية معناها الجامعة والمنتشرة في كل الأرض لأن الكنيسة الكاثوليكية منذ عهد الرسل انتشرت في جميع أنحاء المعمور حتى ما وراء حدود المملكة الرومانية.
وأصل الكثلكة تلك الجماعة الأولى التي أنشأها السيد المسيح بذاته ودعاها كنيسة متى 16 - 18 ألفها من الاثني عشر رسولاً متى 10: 2 - 5 ثم من الاثنين والسبعين تلميذاً لوقا 10: 1 وأنبأهم بتبشير إنجيله في كل العالم متى26: 13 وأوصى تلامذته قبل صعوده أن يتلمذوا كل الأمم ويعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس ويعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به متى28: 19 - 20 فما مر عليهم بضعة أيام حتى حل عليهم البارقليط أي الروح القدس الذي وعدهم بإرساله يوحنا15: 26 فأنطقهم بألسنة جميع الأمم التي كان حضر بعض أبنائها أورشليم لعيد العنصرة ووقفوا بذلك على الدين الجديد أعمال2: 1 - 12 فاعتمد في ذلك اليوم ثلاثة آلاف من اليهود أعمال2: 41 ثم بلغ عددهم خمسة آلاف بعد أيام 4: 4 ثم شاع اسمهم فعرفوا بالمسيحيين 11: 26 ثم صار التخصيص بظهور بعض الشيع فدعوا بالكاثوليك وكنيستهم بالكنيسة الكاثوليكية قريباً من عهد الرسل كما ورد في كتاب القديس أغناطيوس تلميذهم والفيلسوف يوستنيوس النابلسي المستشهد سنة 165م ولم يزل مذ ذاك الوقت اسمهم الخاص دون سواهم.
يؤمن الكاثوليك بكل العقائد التي أوحى الله في الكتب المنزلة وفي التقليد. وتقسم
الكتب المنزلة إلى قسمين أسفار العهد العتيق وأسفار العهد الجديد.(6/224)
وأسفار العهد العتيق منها أولية ومنها ثانوية. فالأولية هي التي كتبت في الأصل باللغة العبرانية وهي: أسفار موسى الخمسة التكوين والخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع ثم الأسفار التاريخية يشوع والقضاة وراعوت والملوك الأربعة وأخبار الأيام الاثنان وعزرا ونحميا وأستير ثم الأسفار النبوية: أربعة كبار أشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال واثنا عشر صغار هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وزكريا ومليخا ثم الأسفار الحكيمة مزامير داود وأمثال سليمان وأيوب ونشيد الأناشيد والجامعة.
أما الأسفار الثانوية فهي التي كتبت بالكلدانية أو اليونانية ونقلت في الترجمة المعروفة بالسبعينية وهي طوبيا ويهوديت وابن سيراخ والمكابيون اثنان.
وهذه كتب العهد الجديد: الأناجيل الأربعة القانونية للرسولين متى ويوحنا وللتلميذين مرقس ولوقا. ثم سفر أعمال الرسل للقديس لوقا. ثم رسائل القديس بولس الأربع عشرة ثم رسالة القديس يعقوب ورسالتا بطرس وثلاث رسائل يوحنا ورسالة يهوذا ورؤيا يوحنا.
وفي الكنيسة الكاثوليكية معتقدات أخر ليست مدونة في الأسفار المنزلة وإنما أخذتها بالتعليم الحي بسلسلة متواصلة من عهد الرسل إلى يومنا وأعلنت بها في مجامعها أو في براءات أحبارها وفي تعليمها اليومي. وخلاصة هذه المعتقدات المدونة في أسفار العهد ولا سيما في أسفار العهد الجديد مرجعها إلى ما يلي:
أولاً عقيدة التوحيد: أي اعتقاد وجود إله واحد روح بسيط أزلي لا أول له ولا آخر لا يحصر جوهره المكان، قائم بذاته ذو صفات وكمالات لا حد لها من قداسة وحكمة وقدرة ورحمة وعدل. وهو خالق كل الكائنات الروحية والهيولية من العدم بجوده واختياره.
ثانياً عقيدة التثليث: هذا الإله الصمد ذو الجوهر الفرد والطبيعة الإلهية الواحدة له ثلاثة أقانيم هي صفات جوهرية نسبية متساوية بكل كمال وكل(6/225)
قدرة لا يفرقها شيء نسبة بعضها إلى بعض. فندعو الأقنوم الأول أباً وهو أصل اللاهوت غير مولود وغير منبثق. والثاني ابناً مولوداً من الآب منذ الأزل ليس ولادة جسدية بل ولادة عقلية روحية بمعرفة الأب لذاته وكمالاته يصدر بهذه المعرفة ابنه الشبيه به وضياء مجده وصورة جوهره عبرانيون 1: 3 كولوسي 1: 15 فهو إله من إله نور من نور إله حق من إله حق من جوهر الأب دستور نيقية. والثالث روحاً قدساً منبثقاً من الأب والابن ليس بطريق الولادة العقلية، بل بتبادل حب الأب لابنه وحب الابن لأبيه المولود منه. وهذا الحب ليس عرضياً بل جوهرياً ندعوه الروح القدس. وهذه عقيدة تثليت الأقانيم في الله أوصى بها الله بنوع خفي في العهد العتيق كما يؤخذ من بعض آياته، ثم صرح به السيد المسيح في نصوص عديدة من الإنجيل وقرره تلاميذه في رسائلهم بما لا يبقي في الأمر أدنى ريب وإن كان سراً يفوق الإدراك البشري.
ثالثاً عقيدة التجسيد: هو سر الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الذي تأنس وأتخذ في أحشاء مريم العذراء دون زرع بشري طبيعتنا البشرية بكل خواصها ما عدا الخطيئة ليفدي بني آدم من تبعة الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الأبوان الأولان بمخالفتهما لأوامره تعالى في جنة عدن وخلفاها لسائر نسلهما وبها حصل هلاك الجنس البشري ففقد البرارة الأصلية التي منحها قبل خطيئته فلم يعد أهلاً للتمتع بالنعيم الأبدي ومشاهدة الله في السماء. وإذا كان الإنسان غير قادر على الوفاء عن خطيئته لجلال الله فإنه تعالى رحمه ووعده بمخلص يعيد له بفدائه ما فقده من تلك النعم تكوين 3: 15 وليس هذا المخلص إلا السيد المسيح منتظر الآباء والأنبياء وجميع الشعوب وهو الإله المتجسد ذو الأقنوم الإلهي الواحد وذو
الطبيعتين الإلهية والإنسانية يوحنا 1: 14و3: 16 لوقا: 26 - 36 فهذا الإله المتأنس قضى على الأرض ثلاثاً وثلاثين سنة يعمل ويعلم وأنشأ كنيسة وأسلم نفسه اختياراً للعذابات وللموت ثم قام بقوة لاهوته من قبره في اليوم الثالث وتراءى مراراً لتلاميذه ثم صعد إلى السماء بعد أربعين يوماً. وبكل ذلك أتم جميع ما تنبأ عنه الأنبياء دون أن يخل من نبواتهم حرفاً.(6/226)
ولما كانت أعماله سواء صدرت من طبيعته الإلهية كالمعجزات التي صنعها أو من طبيعته الإنسانية كمولده وموته ذات قيمة غير متناهية لصدورها عن شخصه الوحيد الإلهي شخص ابن الله فقدمها لأبيه ولا سيما موته على الصليب تكفيراً عن خطايا البشر الذين يستطيعون بعد ذلك أن ينالوا نعمة البرارة والخلاص الأبدي بواسطة المعمودية والأعمال الصالحة والتوبة عن الزلات.
رابعاً عقيدة القيامة: يؤمن الكاثوليك بخلود النفس فعند انفصالها عن الجسد بالموت تدخل السماء أن كانت طاهرة من كل خطيئة ثقيلة أو خفيفة وتعاقب بعقوبات جهنم إن كانت في حال الخطأ المميت دون توبة عند الموت.
أما إذا كانت مدنسة ببعض الخطايا الخفيفة أو لم تكفر تماماً عن خطاياها السابقة المغفورة فيحكم عليها بعذابات مؤقتة وذلك ما يدعونه المطهر ريثما تفي لعدل الله الوفاء التام. وفي آخر الأزمنة سيبعث الله الموتى من قبورهم فيعودون إلى أجسادهم ليحضروا الدينونة الأخيرة التي يتلوها السيد المسيح فيحكم نهائياً على البشر فيجازي الأبرار بالنعيم الأبدي ويعاقب الأشرار بالعذاب الدائم يوحنا5: 26 - 29.
خامساً المعتقدات التقليدية: ماعدا المعتقدات السابقة التي وردت في الأسفار يؤمن أيضاً الكاثوليك ببعض الحقائق التي لم تصرح بها الكتب المنزلة وإن أمكن إثباتها من بعض آياتها كعقيدة عصمة الحبر الأعظم من الغلط في أمور الإيمان والآداب
إذا علم كنائب المسيح وكخليفة هامة الرسل وكعقيدة حبل العذراء مريم بلا دنس وكعقيدة وجود المطهر وهلم جراً.
فهذه العقائد يمكن ترقيتها بسلسلة متواصلة إلى زمن الرسل تشهد عليها نصوص الآباء والمجامع جيلاً بعد جيل ويُعلن بها أرباب الكنيسة في تعليمهم اليومي بالإجماع. لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تعلن بكونها هي كنيسة المسيح ويعارضها في ذلك غيرها من الكنائس المنفصلة عنها كان لا بدّ أن تمتاز الكنيسة الحقيقية عن سواها ببعض العلامات الخاصة. وهذه العلامات قد سبق الرسل ودوّنها في دستور الإيمان المنسوب إليهم وتكرر ذكرها في كل دساتير الإيمان المتقررة بعدهم وهي أربعة: أن تكون الكنيسة واحدة(6/227)
مقدسة جامعة رسولية. وهذه العلامات لا تستطيع أن تثبتها لنفسها أي كنيسة كانت إلا الكنيسة الكاثوليكية.
فهي واحدة باتفاق جميع أعضائها في خضوعهم لرأس واحد منظور هو نائب المسيح وخليفة بطرس هامة الرسل ثم في اعتقادهم كا ما تعلمه الكنيسة دون خلاف وأخيراً في اشتراكهم بالأسرار عينها.
وهي مقدسة لأن منشأها السيد المسيح هو القداسة بالذات ثم لأن كل تعاليمها وآدابها صالحة مقدسة ولأنها أيضاً تقدم لذويها وسائط جملة لتقديس نفوسهم لا سيما بالأسرار السبعة التي رسمها المخلص أعني المعمودية والميرون والتوبة والقربان الأقدس ومشحة المرضى والكهنوت والزواج بقريبة واحدة دون طلاق. ولذلك قد أولدت عدداً لا يحصى من القديسين في كل أنحاء العالم تشهد على قداستهم أعمالهم العجيبة وفضائلهم السامية التي لا تزال آثارها ظاهرة لكل ذي عينين. وكفى دليلاً عليه وجود الرهبانيات الساعية وراء الكمال بنذورها والمتفانية في عمل كل خير دون غاية زمنية.
وهي جامعة لأنها وحدها قد نشرت تعاليمها في جميع أقطار العالم المعروف فقام
دعاتها بأمر الرب الموصي بنشر إنجيله بين كل الأمم ومن ثم لا يكاد يخلو قطر من بعض تبعتها. وهي أعظم عدداً من أي مذهب كان إذا قيس بها منفرداً منقسماً كالروم والشيع البروتستانية والبوذية والبرهمانية وهلم جراً. وفي اسمها دليل على هذه السمة فإن الكاثوليكية معناها الجامعة.
وقد ظهرت هذه العلامة منذ عهد الرسل إذ يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية 1: 8 إن إيمانكم يبشر به في العالم كله.
وهي رسولية لأن سلسلة أخبارها الأعظميين تتصل دون انقطاع برأس الأول القديس بطرس هامة الرسل. وبيوس الحادي عشر الجالس اليوم سعيداً على كرسي رومية إنما هو خلفه المائتان والسادس والستون.
هذه علامات الكنيسة الكاثوليكية الأصلية. أما ما يرى في بعض بلاد الشرق من الاختلافات في الطقوس واللغات والعادات الدينية فكل ذلك ثانوي عرضي يمكن تغييره مع الزمان دون أن يمس جوهر الكنيسة الكاثوليكية لا بل يزينها ويزيدها جمالاً.(6/228)
ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية انتشرت بكل سرعة في العالم كله منذ عهد الرسل الحواريين حتى تجاوزت حدود المملكة الرومانية. ولوقوع بلاد الشام في جوار فلسطين لا يستغرب انتشار النصرانية فيها قبل سواها. وذلك ما تثبته أقدم الشواهد التاريخية وأولها سفر أعمال الرسل الذي منذ يلوح إنشاء الدين المسيحي في إنطاكية 11: 26 وفي سائر سواحل الشام ذكر منها صور وعكة وقيصرية 21: 3 - 8.
ويمكننا أن نتتبع تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الشام جيلاً بعد جيل على الرغم مما حل بها من اضطهادات الوثنيين وعلى الرغم مما شاع من البدع كالأريوسية واليعقوبية والنسطورية والمنوثلية فلم يكن بين الطوائف الشرقية ما يفصلها عن
الكنيسة الرومانية في إيمانها وخضوعها لرأس الكنيسة الرومانية وآدابها غير الأعراض السابق ذكرها. والدليل على ذلك إكرام كنائس الشرق لقديسي الغرب وإكرام الغربيين للقديسين الشرقيين. وفي طقوس الشرقيين القديمة ما يشهد إلى اليوم بتلك الوحدة والاتفاق. وكذلك سير القديسين الشرقيين ثبت ذلك الأمر. وكثيرون منهم أزهروا في الشام كالقديس يوحنا فم الذهب والقديس أفرام السرياني والقديس مارون الناسك.
غير أن تملك العرب على الشام واستفحال الشيع المضادة لتعاليم الكنيسة وصعوبة طرق المواصلات بين الشرق والغرب أضعفت الدين الكاثوليكي كثيراً في الشام، إلى أن عاد فتعزز بقدوم الصليبين إلى الشرق ثم بدخول المرسلين منذ القرن الثالث عشر في هذا القطر، فظهرت آثاره الطيبة أولاً بين الموارنة ثم بعد ذلك بزمن بين الروم والأرمن، ثم بين الكلدان والسريان حتى قامت لكل هذه الطوائف كنائس منظمة لها بطاركتها وأسقفتها ورعاياها، ولكل طائفة تاريخها الخاص يترجم عن أعمال بنيها ومشاهير ملتها وارتباطها مع الكرسي الروماني.
واليوم يبلغ إحصاء الكاثوليك في الشام نيفاً وستمائة ألف معظمهم الموارنة. . .،. . 3. ثم الروم الكاثوليك. . .،. 12. ثم الأرمن. . .،. 8. ثم السريان. . .،. 2. ثم اللاتين. . .،. 1. ثم الكلدان. . . 2 هذا ماعدا المهاجرين إلى أميركا وغيرها.(6/229)
وقد تعززت الكثلكة في الشام بدخول الرهبان وأقدمهم الفرنسيون في القرن الثالث عشر. ثم في القرن السابع عشر الكرمليون والكبوشيون واليسوعيون. ثم في أواخر القرن الثامن عشر اللعازريون، وفي القرن التاسع عشر أخوة المدارس المسيحية والأخوة المريميون مع راهبات من رهبانيات مختلفة كراهبات الزيارة وراهبات المحبة واليوسفيات وراهبات القلبين الأقدسين وراهبات السجود وراهبات
العائلة المقدسة وراهبات العجز الخ. ولكل من هؤلاء الرهبان والراهبات من المشروعات الجليلة ما يكفي وحده لتشريف الكنيسة الكاثوليكية. ولله الحمد على كل حال.
المارونية:
الموارنة طائفة من النصارى الكاثوليكيين الشرقيين بعرف من تواريخهم أنهم ينتسبون إلى الناسك البار القديس مارون القورسي النشأة على ما يرجع. اعتزل هذا الفاضل الدنيا في أواخر القرن الرابع ولجأ إلى صومعة في قمة جبل غير بعيد عن إنطاكية فما لبث عرف فضائله أن فاح في تلك الأنحاء فجذب إليه جماعات قصدوه ليلتمسوا منه بركته وصلواته ويسترشدوا بتعاليمه ويقتدوا بسيرته. وقد زهد قوم منهم بالدنيا واختاروا العزلة والتفرغ لخدمة الله في المغاور وأعالي الجبال ليقيموا بعيدين عن ضوضاء العالم، على أن أريج حياتهم الطاهرة لم يمكن إخفاؤه فتقاطر المجاورون حول تلك المناسك وتألفت منهم طائفة عرفت فيما بعد باسم الطائفة المارونية، وكان أهم المراكز التي التفوا حولها دير القديس مارون المبني على ضفاف النهر العاصي في نواحي أفامية.
ولما توافر عددهم مست الحاجة إلى تنظم أحوالهم الروحية فأقيم لهم بطريرك هو البار يوحنا مارون وبه تبتدئ سلسلة بطاركة الموارنة، وعاش هذا البطريرك الأول في أواخر القرن السابع في حين كان للموارنة أمراء يديرون شؤونهم الزمنية، ثم أخذ الموارنة يهجرون إلى الأقطار المجاورة، فنزل قوم منهم في جبال عكار وعمروا فيها القرى، وسارت فئة نحو الجنوب إلى لبنان الشمالي فما عتموا أن قويت شوكتهم فيه فبلغ في القرن العاشر عدد(6/230)
رجالهم الصالحين للقتال أربعين ألفاً على ما ذكر مؤرخو الحروب الصليبية. وقصد فريق منهم سورية الداخلية فاستوطن جوار دمشق واستغل الأرض فيها وبني الدساكر والمرابط. وفريق أم
القدس وآخر نزح إلى قبرس في أيام الصليبيين وبعض الأسر سكنت حلب في أواسط القرن الخامس عشر وهبط بعضهم مصر ورودس ومالطة. على أن الأغلب فضلوا الإقامة في جبال لبنان فاعتصموا بها ونموا وكثروا رغم ما أصابهم من النكبات في أوقات مختلفة. ولما ضاق بهم جبلهم رحل قسم منهم إلى بلاد المهجر كأمريكة وإفريقية وأوقيانية حيث ألفوا جاليات لها مقامها المعتبر في عالم التجارة والصناعة والأدب كسائر إخوانهم اللبنانيين والسوريين، وبلغ عدد الموازنة ويدخل فيه المهاجرون خمسمائة ألف نسمة.
أما في الدينيات فيتفق الموازنة من الكاثوليكيين بمعتقدهم وشرائعهم الدينية والأدبية وهم مثلهم خاضعون لسلطة بابا رومية، وإنما لهم وللسريان لغة طقسية واحدة هي السريانية لكنهم يختلفون عن سائر الطوائف بترتيباتهم ونظام إدارتهم الروحي المبينة كلها في دستورهم المجمع اللبناني الذي عقد سنة 1736 وفي عاداتهم المشروعة، ويرأس الطائفة بطريرك يعرف ببطريرك إنطاكية مستقل عن سائر البطاركة الشرقيين مركزه الشتوي دير سيدة بكركي فوق جونية ومقره الصيفي جديدة قنوبين لبنان الشمالي فوق طرابلس. ويخضع لإدارته مطارنة يقيم بعضهم نوباً له بعضاً على أبرشيات معينة مستقل بعضها عن بعض، ويعهد إليهم في تدبير هذه الأبرشيات الروحي والزمني وإدارة أوقافها مباشرةً أو بواسطة وكلاء يسمونهم لذلك ويراقبون أعمالهم، وفي الأبرشيات كهنة يعنون بخدمة الرعايا. وفي الطائفة جمعيات رهبانية يقيم أعضاؤها في أديارهم ومدارسهم ويتفرغون لخدمة الله والنفوس.
وكان للموازنة شرع خاص يتقاضون بموجبه أقره لهم جميع الذين حكموا القطر من النصارى وغيرهم، ولا تزال أغلب قوانينه مرعية الإجراء عندهم حتى اليوم.
ونبغ منهم في رجال الدين كثيرون نذكر منهم البطاركة جرجس عميرة الذي ألف
أول غراماطيق سرياني ووضع قواعده بالغة اللاتينية ليسهل على(6/231)
المستشرقين درس هذه اللغة، ثم العلامة أسطفانوس الدويهي المؤرخ المشهور، ويوسف جبيش وبولس مسعد ويوحنا الحاج، والبطريرك الحالي الياس الحويك صاحب المواقف المشهورة في القضايا الوطنية.
ثم الأساقفة كالمطران جرمانوس فرحات والسيد يوسف سمعان السمعاني ويوحنا حبيب ويوسف الدبس وغيرهم كثيرون من رجال الدين ممن خدموا اللغة العربية والقانون والتاريخ.
وبين العلمانيين أمراء شهاب وبيت أبي اللمع وأُناس امتازوا بخدمة وطنهم وأعمالهم المبرورة كآل خازن ودحداح وحبيش والسعد وكرم والظاهر ونبغ غيرهم في خدمة العلم كآل البستاني والشدياق والنقاش والباز. ولا يمكن في عجالة سرد أسماء جميعهم.
البروتستانتية:
التأم في أوائل سنة 1529 في إحدى مدن جرمانيا مؤتمر بأمر الإمبراطور كارلس الخامس قرر عدم السماح بإحداث تغيير في الرسوم الدينية وكان هذا القرار موجهاً ضد الإصلاح والمصلحين. وفي 19 نيسان من نفس السنة أرسل كثيرون من الأمراء والأشراف وأربع عشرة مدينة إمبراطورية احتجاجاً قالوا فيه: إنهم مستعدون أن يطيعوا الإمبراطور والمؤتمر في كل القضايا الواجبة والممكنة ولكنهم لا يخضعون لأحد في ما يعتقدونه مخالفاً لكلمة الله وضميرهم. فسموا من ذلك بروتستانت أو محتجين، ومن هذا الوقت أُطلق هذا الاسم على كل المسيحيين من غير اللاتين والكنائس الشرقية بفروعها. وهم يدعون أنفسهم غالباً إنجيليين ويدعون غيرهم تقليديين نسبةً إلى التقليد كما سنرى. والبروتستانتية بمعناها اللغوي لا يخلو منها دين أو مذهب، ففي كل زمان ومكان أفراد وجماعات يحتجون على رسوم في الدين أو مذهب الذي ولدوا فيه قد ينجحون أو لا ينجحون، أما البروتستانت فقد نجحوا نجاحاً لم يقدره أحد لهم فعددهم الآن يتجاوز مائتي مليون في الدرجة الأولى عدداً بعد اللاتين وكل من انضم إليهم من الكنائس الشرقية، وفي الدرجة الأولى في الرقي وسعة الملك.
ثم إن البروتستانت وإن افترقت أكثر فرقهم في أمور أكثرها عرضية(6/232)
فهم مجمعون على أمور كثيرة، وإليك التفصيل في ما هم مجمعون عليه وما هم مختلفون فيه: أهم ما تجمع عليه أكثر فرق البروتستانت عدا ما هم مجمعون عليه مع غيرهم مما يأتي بيانه:
أ -: أن الكتاب المقدس هو القانون الوحيد في كل ما يلزم للخلاص.
ب -: أن المسيح هو المخلص الوحيد وليس بأحد غيره خلاص.
ج -: أن الخلاص كله نعمة مجانية من الله.
د -: أن الإيمان هو السبيل الوحيد لنيل الخلاص.
هـ: أن الأعمال الصالحة هي ثمر الأيمان الحي فنعمل لأننا مخلصون لا لكي نخلص.
والبروتستانت إجمالاً قسمان كبيران - الأول الايسكوبيليان أي الأسقفيون وهو الذين يقولون: إن درجات الأكليروس ثلاث: الأسقف والقسيس والشماس - الثاني البرسبتيريان أي القسوسيون وهم الذين ليس عندهم رتبة أساقفة. وأكثر فرق البروتستانت هذا القسم. فالأسقفيون مثلاً يجرون العبادة غالباً بموجب كتاب صلاة أي صورة معينة تتلى وقت عبادة الجماعة. وأما العبادة العائلية والاجتماعات الأخرى الروحية فيتركونها لحرية القسيس أو من ينوب عنه. أما القسوسيون فالحرية مفوضة للخادم في كل الأوقات. وعندهم بعض صلوات وإرشادات مكتتبة لمساعدة القسيس في أحوال خصوصية.
على أن هذا النظام لا يعد جوهرياً فهذه الكنيسة الأنكليكانية وهي تجري عبادتها بموجب كتاب صلاة تقول في العقيدة34 لا يلزم أن تكون التقاليد والطقوس في جميع الأماكن واحدة متساوية إذ قد اختلفت في كل الأزمان ويصح تغييرها على مقتضى اختلاف المكان والزمان وعادات الناس بحيث لا يرتب منها شيء مضاد لكلام الله. . . وكل كنيسة تختص بأمة فلها سلطان أن تثبت وتغير وتبطل طقوسها ورسومها التي رتبت بسلطان الناس فقط.
وكل الأسقفيين والأكثرية العظمى من غيرهم يجرون السرين المعمودية والشركة ويعمدون الأطفال والبالغين الذين لم يعمدوا أطفالاً، أما بعض القسوسيين فلا يعمدون إلا البالغين ويسمون بالمعمدانيين، وبعضهم لا يجري السرين مطلقاً وهم المعروفون بالفرندس أو الكويكرس.(6/233)
يتفق البروتستانت مع غيرهم في أمور كثيرة جوهرية ويخالفون في أمور أخرى وإليك التفصيل: أهم الأمور الجوهرية التي يتفق فيها البروتستانت مع غيرهم.
يتفقون في قانوني الإيمان - أولاً القانون المعروف بقانون إيمان الرسل وهو يرجع إلى أواخر القرن الأول المسيحي بل قيل: إن الرسل أنفسهم وضعوه - ثانياً قانون الإيمان النيقاوي وضعه المجمع المسكوني الأول الذي التأم سنة325 في مدينة نيقية مع ما أضيف إليه في ما بعد سوى عبارة واحدة بخصوص انبثاق الروح من الابن أضيفت فيما بعد لا يقبلها الروم الأرثوذكس ويوجد قانون إيمان ثالث مجمع عليه يسمى قانون مار أثناسيوس ولكنه أقل شهرة وأقل استعمالاً من الأولين. ويمكن تلخيص الأمور الجوهرية التي يتفقون فيها في ما يأتي:
1 - التوحيد والتثليث.
2 - الخلق والسقوط والفداء.
3 - تجسيد الكلمة الأزلية المسيح ابن الله من مريم العذراء بالروح القدس وكل ما يتعلق بتاريخ فداء المسيح من ميلاده إلى مجيئه الثاني للدينونة.
4 - القيامة والدينونة.
5 - وجوب التبشير بالمسيح ودعوة الغير إلى الإيمان به.
6 - عدم تحريف الأسفار التي يتفقون على قانونيتها من الكتاب المقدس.
وأهم الأمور المختلف فيها سلطان الكتاب المقدس. ويعتقد البروتستانت أنه المرجع الوحيد المعصوم الذي يجب الرجوع إليه في عقائد الإيمان. ويعتقد غيرهم أن للكتاب والتقليد سلطاناً متساوياً ومن هذا يدعوهم البروتستانت تقليديين. والتقليد عند المسيحيين كالتلمود عند اليهود والحديث عند المسلمين. وبعد فلا خلاف بين البروتستانت وغيرهم في عدد أسفار العهد الجديد إنما الخلاف في عدد أسفار العهد. فالبروتستانت لا يقبلون إلا الأسفار التي يقبلها اليهود وذكر عددها يوسيفوس. وغيرهم يضيف إليها أسفاراً تسمى أبوكريفا وجدت في الترجمة السبعينية مضمونة إلى باقي الأسفار. ومع تسليم البروتستانت بلزوم المجامع
وفائدتها فهم لا يحسبون لما تقرره قوة ولا سلطاناً إلا إذا أثبت من الكتاب المقدس. أما المجامع عند الروم الأرثوذكس والمجامع والبابا عند البابويين فهم معصومون من الخطأ في ما يقررونه من عقائد الإيمان ويعتقد البروتستانت أن فرصة الخلاص تنتهي بالموت وبه يتقرر حال كل(6/234)
نفس أما في النعيم أو في الجحيم. ويتفق معهم في حال أهل الجحيم ويخالفون في حال أهل النعيم فعندهم مكان عذاب وقتي غير الجحيم يسمى عند الباباويين المطهر وعند الروم الأرثوذكس عقالات الجحيم تذهب إليه الأنفس لتكفر عن ذنوب صغيرة، وتصرف فيه مدة تطول وتقصر بحسب عدد تلك الذنوب وصفتها، ويمكن تقصير هذه المدة بالصلوات والصدقات. يحصر البروتستانت الشفاعة وطلب الخلاص بالمسيح، وغيرهم يطلبهما منه ومن الملائكة والقديسين.
عند البروتستانت سران فقط هما المعمودية والشركة وغيرهم يضيف إليهما خمسة فيصير العدد سبعة والمضافة هي:
1 - التثبيت عند اللاتين والموازنة. والميرون عند غيرهم.
2 - الكهنوت.
3 - الاعتراف للكاهن.
4 - الزواج.
5 - المسحة الأخيرة قبل الموت. أما الإفاضة في تعريف السر وفاعليته وما يحدث فيه وما يحدثه هو من التغيير وفي سبب هذا الخلاف فإنها تخرجنا كثيراً عن المقصد.
والبروتستانت يعترفون لله وحده وللشخص الذي أخطئوا إليه، ولله وحده عندهم السلطان على مغفرة الخطايا. وغيرهم يوجب الاعتراف للكاهن وللكاهن سلطان مطلق علة غفران الخطايا.
ولما كان البروتستانت في هذه الديار ثمرة الإرساليات نرى من الواجب أن نشير إلى الداعي إلى الإرساليات، فالداعي إليها أوامر الكتاب المقدس الكثيرة، وأهمها أمر المسيح الأخير الصريح اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس. وقد أطاع رسله أمره وتفرقوا في أنحاء العالم المعروف حينئذ وليس لهم ما يستندون عليه أمام قوات هذا العالم سوى إيمانهم وثقتهم بوعده. وعدوا مخالفة أمره هذا جرماً عظيماً فقال الرسول بولس: إذ الضرورة موضوعة علي فويل لي إن كنت لا أبشر. ولا يزال هذا التبشير من مميزات الكنيسة الحقيقية ففي العقيدة 19 الأنكليكانية كنيسة المسيح المنظورة هي جماعة المؤمنين التي فيها يبشر بكلمة الله النقية.
وقد وجه البروتستانت قواهم إلى هذا الواجب حالما تمكنوا من تنظيم(6/235)
شؤونهم، فتألفت الجمعيات هنا وهناك، وربما كان أقدمها جمعية المورافيين نسبة إلى مورافيا على ضفاف الدانوب، وتعرف بجمعية الأخوة المتحدين، وقد كانوا ولا يزالون في المقدمة بالنسبة إلى عددهم الذي لا يتجاوز000000 3. وفي أواخر القرن الثامن عشر زاد عدد الإرساليات البرتستانتية وزاد نشاطها. وقد طلبت من أمين سر المستر هاردمان في القدس بعض إحصاءات لهذه الإرساليات فأسل آخر ما عرفه منها أعربه بالشكر قال: عدد إرساليات البروتستانت في العالم 380، عدد المرسلين رجالاً ونساءً 29049 والمال الذي صرفته خمسة عشر مليون ليرة إنكليزية هذا عدا ما جمع في حقول الإرساليات نفسها وصرف عليها أيضاً. وعدد الإرساليات في فلسطين17 وعدد المرسلين فيها 160.
وعمل بعض هذه الإرساليات عام وبعضها خاص محصور في قارة أو مملكة أو إقليم أو دين أو مذهب أو رتبة من الناس أو الذكور أو الإناث أو الطب العام أو الخاص أو طبع الكتب أو نشرها أو التبشير مجرداً أو فتح المدارس فقط. وهذا
الاختصاص في الغرب حتى في الأمور الدينية هو أساس نجاحه.
ومن المبادئ الأساسية لهذه الإرساليات أن تنظم المهتدين جماعات تشرع بإدارة شؤونها بنفسها، وتسير نحو الاستقلال الإداري والمالي. ومنها عدم التدخل في سياسة البلاد التي يرسلون إليها، ووجوب إطاعة أوامر حكومتها، والمحافظة على قوانينها ونظاماتها في كل ما لا يخالف الضمير بناء على قول المسيح أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله وبناء على أوامر رسله المتعدد بالصلاة والطاعة للحكام. ومع ذلك فقد أوقعت السياسة الأوربية تهمه المداخلة في السياسة على المرسلين، لأنها استعملت الإرساليات على غير قصد من المرسلين جسراً عبرت عليه إلى مقاصدها الاستعمارية فشوهت سمعة المرسلين.
ولقد كان من الطبيعي أن توجه الإرساليات أفكارها إلى هذه الديار مهبط الوحي ومهد المسيحية لإنعاش المسيحية وتبشير غير المسيحيين بها. وفي إحصاء بتاريخ سنة 1913 أن عدد الإرساليات في هذا القطر أكثر من(6/236)
30 أمريكية وإنكليزية وإسكتلندية ايرلندية وألمانية ودنمركية ومورافقية وأسوجية. ويقوم بأكثرها أفراد أو مدينة أو جماعة صغيرة، وأعمالها غالباً محصورة في العواصم كالقدس وبيروت ودمشق أو بعض المدن والقرى كيافا وحيفا والناصرة وبيت لحم والخليل ورام الله وصفد والشويفات وبرامانا وبيت مري والشوير وشملان وبعلبك والنبك ودير عطية وغيرها. وليس بين كل هذه الإرساليات سوى إرساليتين عموميتين كبيرتين لهما طائفة منظمة بمجامع وقوانين وميزانية ومالية مستقلة عن ميزانية الإرسالية، والأولى أمريكية قسوسية في الشمال، والثانية إنكليزية أسقفية في الجنوب.
إرسالية الشمال أمريكية قسوسية أسست سنة 1810. وفي سنة 1821 نزل أول مرسليها من ميناء يافا وشرعت بعملها في القدس وجوارها، ولكن قضت الأحوال
أن ينحصر عملها في الجزء الواقع شمالي رأس الناقورة، وقام مرسلوها بمبادئ الإرساليات البروتستاتية بكل أمانة ونشاط وكان لهم اليد الطولى وفضل السبق في نشر العلم والمدنية لا بما عملوه فقط بل بتحريض غيرهم أيضاً.
ودائرة عمل إرسالية الجنوب من رأس الناقورة شمالاً إلى حدود مصر جنوباً، وهي إنكليزية أسقفية أعضاؤها من كنيسة إنكلترا المثبتة. أسست في لندن في 12نيسان سنة 1899 وأسمها جمعية المرسلين الكنسية ويعبر عنها بالأحرف وللإحاطة بعمل إرسالية فلسطين لا بد من ذكر لمحة من تاريخ الأسقفية الإنكليزية فيها. وفي سنة 1841 أسست أسقفية أنكليكانية في القدس بالاشتراك مع بروسيا. وكان من مبادئ المرسلين الأولية أن لا يشقوا من الطوائف الأخرى المسيحية طائفة بروتستانتية وخصوصاً من طائفة الروم الأرثوذكس التي يعتبرونها أم الكنائس. بل قصدوا أن يعملوا بالاتفاق مع رؤسائها لإنعاش المسيحية من الغفلة التي استولت على معظم مسيحيي الشرق. ولكن مقاومة هؤلاء الرؤساء وهيجهم طوائفهم على المرسلين وعلى كل من يقترب منهم، اضطرتهم بعد تردد طويل إلى تأليف طوائف. وقدان بالمذهب البروتستانتي من كل الطبقات، وارتقى كثيرون من أولاد الفقراء والفلاحين إلى أسمى ما يمكن الوصول إليه من المراتب. على أن تأثير المرسلين(6/237)
لم يقتصر على العدد القليل من البروتستانت العرب، بل عم القطر بل هم كانوا من أول عوامل الرقي.
أن لكل من الإرساليات المذكورة عمالاً وأفراداً متعلقين بها وعددهم بحسب سعة عملها. ولكن للإرساليتين السابقتين فقط طوائف بروتستانتية منظمة بجامع وقوانين وميزانية مستقلة عن ميزانية الإرسالية كما مر.
ليس لطائفة البروتستانت العرب كما مر قسوسية مشيخية، وليس لها كتاب صلاة تجري بموجبه عبادة الجماعة سوى بعض إرشادات مطبوعة ضرورية لإرشاد
القسيس في بعض الواجبات وهو مع ذلك غير مقيد بها. وتستعمل كتاب ترتيل فيه الآن 432 ترتيلة بأنغام مختلفة غربية وبعض أنغام شرقية، وإنما العلامات الموسيقية كلها غربية. وهذا الكتاب مشترك بين سورية وفلسطين ومستعمل للعبادة في الكنيستين.
وعدد نفوس الإنجيليين في لبنان 10 آلاف نفس. بقي الكنائس الأخرى غير الميخية منها كنيسة الفرندس في برمانا ورأس المتن والكنيسة المعمدانية في راشيا الوادي وجوارها والكنيسة الإنجيلية في دمشق للكنيسة المشيخية الاسكوتلاندية والكنائس الإنجيلية في جهات القلمون وهي تابعة للإرسالية الدنمركية ولها عدة مراكز في النبك ودير عطية ويبرود وصدد وغيرها.
أما طائفة البروتستانت العربية في فلسطين فهي أسقفية انكليكانية تجري عبادتها بموجب كتاب الصلاة العامة المترجم عن الإنكليزية مع عقائد الدين التسع والثلاثين وكتاب الترتيل المشترك مع كنيسة سورية. رسم أول قسوسها الوطنيين سنة 1871 في الناصرة وكان طائفة الناصرة في مقدمة كنائس فلسطين في إقامة الأوقات والسعي نحو الاستقلال وكان أحد أفرادها عودة عزام المستوطن القدس في الربع الثالث من القرن الماضي وقف أملاكه كلها لكنيسة القدس وأصبحت الآن ذات قيمة كبيرة. وتبعه غيره في الوقف على الكنائس. ويبلغ مجموه البروتستانت في فلسطين وشرقي الأردن نحو ثمانية آلاف إنسان.
وبعد فإن في العالم أجمع الآن حركتين متضادتين نعبر عنهما بالجذب والدفع، فبينما أنت ترى الشعوب تتحرك بدفع بعضها عن بعض فتتألف(6/238)
كتلاً متفرقة تجدها في نفس الوقت تنجذب وتتقارب وتتفهم وتسعى لتوحيد هذه الكتل أو ربط بعضها ببعض على الأقل، وعلى الرغم مما نجده من التباعد بحركة الدفع والتمركز نجد الناس يقرب بعضهم من بعض بحركة الجذب، والعامل الأقوى في
حركة الجذب سرعة المواصلة وانتشار العلم، فسرعة المواصلة قربت الناس بعضهم من بعض فأخذوا يتفاهمون والعلم جعلهم يحكمون العقل أكثر من العوطف فرأوا أن كثيراً من الفوارق إما وهمية أو عرضية أو مبالغ فيها. وما يجري في الدائرة البشرية الاجتماعية يجري في الدائرة الدينية. فعلى الرغم من بعد مسافة الفوارق الدينية والمذهبية نجد أهل هذه الأديان والمذاهب أكثر تسامحاً وأسرع سعياً نحو الاتفاق، حتى في الأديان التي نراها على أعظم مسافة من البعد، فلا تكاد تمر سنة حتى يعقد مؤتمر الأديان يجتمع فيه نواب معظم الأديان الإلهية كالمسيحية والإسلام واليهودية وغير الإلهية كالبوذية وغيرها. وقد عقد أول مؤتمر رسمي في 16 أيلول سنة 1924 في سوق الغرب اجتمع فيه نواب الجهتين للسعي في زيادة الاتحاد وتوحيد النظام.
أصل السنة:
لا يخفى أن الأحكام الشرعية التي علمت من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: الأول الأحكام الاعتقادية وأصولها المجملة ستة الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر. ويقال لجميع هذه الأحكام دين الإسلام وهي ما جاء به جميع الأنبياء. وهذه وإن كانت في تعيينها مذاهب عديدة إلا أن ما عدا مذهب السنة باطل.
القسم الثاني الأحكام العملية وهي عشرة: الفرض، الواجب، السنة، الاستحباب، الإباحة، الحرمة، الكراهة التحريمية، الكراهة التنزيهية، الصحة، الفساد. ولا يخلو فعل العاقل البالغ عن حكم منها، فالشرائع المتعلقة بأفعال المكلفين ثلاثة أنواع إجمالية: الأول العبادات وهي عبارة عن الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض والواجبات. الثاني المعاملات كالنكاح والطلاق والهبة والوصية والبيع والشراء والكفالة والوكالة. الثالث العقوبات كالدية(6/239)
والكفارة فدية والقصاص، وفي
تعيينها مذاهب كثيرة إلا أنه تقرر فيها المذاهب الأربعة، وأصحابها أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، فما اتفق عليه هؤلاء الأئمة الأربعة هو حق وصواب، وما اختلفوا فيه يحتمل الخطأ والصواب، لأن كل مجتهد يخطأ ويصيب، والحق واحد لا يتعدد، وكل مؤمن مأمور باتباع مذهب منها إذا لم يكن بلغ مرتبة الاجتهاد، ويلزمه الاعتقاد بصواب متبوعة، إذ لا يجوز له تقليده إن اعتقد خطأه.
القسم الثالث الأحكام الشرعية المتعلقة بأحوال القلوب، والمتكفل بذلك علم الأخلاق والتصور. والقصد هنا بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في القسم الأول. وينبغي أن نبين أولاً من أهم أهل السنة والجماعة ثم نذكر عقائدهم إذ ربما يضن بعض الناس أن كل من يطلق عليه اسم المسلم هو من أهل السنة والجماعة وليس الأمر كذلك، فإن أهل البدع والأهواء مخالفون لأهل السنة والجماعة، والحال أن فيهم من يعد من أهل ملة الإسلام، لذلك رأيت من اللازم أولاً بيان من هم أهل السنة والجماعة، ثم بيان عقائدهم التي اتفقوا عليها، ولم أتعرض للمخالفين لهم ولا بذكر حجج الطرفين، وسرد المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الأشعرية والماتريدية لما أن ذلك خارج عن موضوع الخطط وإنما من خصائص كتب الكلام، فاقتصرت على أهم المسائل الاعتقادية التي يكلف كل مؤمن باعتقادها.
وقد ألف كتباً لبيان الفرق الإسلامية ومقالاتها كالشهرستاني وابن حزم وعبد القاهر البغدادي وغيرهم. إذا أطلق أهل السنة والجماعة يراد بها الأشعرية والماتريدية، أما الأشعرية فهم أصحاب الإمام أبى الحسن علي بن الإسماعيلي من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي الجليل. أخذ علم الكلام أولاً عن شيخه محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة وتبعه في الاعتزال حتى صار للمعتزلة إماماً ثم رجع عن مذهبه وصنف كتباً في الرد عليهم، وأجمع على
عقيدة الأشعري المالكية والشافعية وبعض الحنفية وفضلاء الحبابلة، ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سنن غيره أو على نصرة مذهب معروف فزاد المذهب(6/240)
حجة وبياناً، وليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته. ولد سنة ستسن ومائتين وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وأما الماتريدية فهم أصحاب الإمام أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي نسبة إلى قرية بسمرقند، الحنفي المتكلم ناصر السنة وقامع البدعة وحيي الشريعة، كان إماماً جليلاً مناضلاً عن الدين موطداً لعقائد أهل السنة قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظرتهم، وله مصنفات منها كتاب التوحيد وكتاب بيان وهم المعتزلة وكتاب تأويلات القرآن وهو كتاب لا يوازيه فيه كتاب.
وليس هو من أتباع الأشعري لكونه أول من أظهر مذهب أهل السنة كما ظن. لأن الماتريدي مفصل لمذهب الإمام أبي حنيفة وأصاحبه المظهرين قبل الأشعري مذهب أهل السنة. وكانت وفاته بسمرقند سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
والحاصل أن كلاً من هذين الإمامين الجليلين أبي الحسن وأبي منصور لم يبدعان من عندهما رأياً ولم يشتقا مذهباً إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحدهما قام بنصرة مذهب الشافعي وما دل عليه، والثاني قام بنصرة مذهب أبي حنيفة وما دل عليه. وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا.
ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس بين هاتين الطائفتين اختلاف في أصول الدين، وإنما اختلفوا في بعض مسائل متفرعة عن الأصول لا تستلزم تضليلاً ولا تفسيقاً.
ثم أن عقائد أهل السنة والجماعة تنحصر في أربعة أركان هي مبنى الإيمان: إلهيات والصفات والأفعال والسمعيات.
الركن الأول فيما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل العالم بجميع أجزاءه حادث وجد بعد أن لم يكن، وهو قابل للفناء وله صانع واجب الوجود لذاته ممتنع العدم بالنظر لذاته، واحد لا شريك ولا مثيل له في ذاته وصفاته وأفعاله، قديم لا بداية له، أبدي لا نهاية له، متصف بصفات الكمال، منزه عن سمات النقص، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا تحله الجواهر(6/241)
ولا الأعراض، ولا يحل في غيره ولا يتحد بغيره، ولا يقوم بذاته حادث، منزه عن التحول والانتقال، استوى على العرش على الوجه الذي عناه بالمعنى الذي أراده، استواء يليق بجلال ذاته، وهو فوق سماواته فوق عرشه، مباين لخلقة لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بقدرته، ومع ذلك فهو قريب من كل موجود بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو تعالى مرئي للمؤمنين بالأبصار في دار القرار، فيرونه لا في مكان ولا على جهة من قبالة واتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي والمرئي.
الركن الثاني في العلم بصفاته تعالى الله تعالى متصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة، وهي صفات لها أزلية ونعوت له أبدية، فهو تعالى قادر على جميع الممكنات، وجميع الحوادث واقعة بقدرته تعالى، وقدرة الله على المقدورات كلها قدرة واحدة، يقدر بها على جميع المقدورات على طريق الاختراع دون الاكتساب، ومقدوراته تعالى لا تفنى.
وهو سبحانه مريد لأفعاله فلا وجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته، لا يقع شيء في العالم إلا بإرادته ومشيئته، فالخير والشر والطاعة والمعصية واقعة بإرادة الله تعالى وقضائه وقدره ومشيئته، ما شاء الله كان لم يشأ لم يكن، وإرادته تعالى قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي، والإرادة غير الأمر لأنه قد يأمر بالشيء ولا يريده، ويريد الشيء ولا يأمر به، ويريد الشيء ويأمر به، ولا يريد الشيء
ولا يأمر به. وغير الرضى أيضاً فإن الإرادة قد تتعلق بما لا يرضي به الله تعالى كالكفر الواقع من الكفار فإنه تعالى أراده ولم يرض به ولا يرضي لعباده الكفر، وليست عين العلم لأن العلم يتعلق بالواجب والمستحيل والجائز، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائز.
وهو تعالى عالم بجميع الموجودات كلياتها وجزئياتها، ومحيط بكل المخلوقات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، وعلمه واحد يعلم به جميع المعلومات على تفصيلها من غير حس ولا بداهة ولا استدلال عليه، وعلمه قديم لم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يبثه من مخلوقات، ومهما حدثت(6/242)
المخلوقات لم يحدث له علم بها حصلت مكشوفة بالعالم الأزلي. وهو تعالى حي وحياته بلا روح ولا اغتذاء، وجميع الأرواح مخلوقة، والحياة شرط في العلم والقدرة والإرادة والرؤية والسمع، فمن ليس بحي لا يصح أن يكون عالماً قادراً مريداً سامعاً مبصراً.
وهو سبحانه سميع بصير يسمع ويرى ولا يعزب عن سمعه مسموع وأن خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وأن دق، ولا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، لم يزل رائياً لنفسه، وسامعاً لكلام نفسه، وأن الانكشاف بالسميع غير الانكشاف بالبصر، وأن كليهما غير الانكشاف بالعلم، بل لكل منها حقيقة يفوض علمها لله تعالى. وهو تعالى متكلم بكلام قائم بذاته ليس بحرف ولا صوت هو به أمرناه مخبر وأن القرآن كلام الله غير مخلوق.
الركن الثالث في الأفعال الله تعالى لا خالق سواه وكل حادث في العالم حدث بقدرته وخلقه لا محدث له غيره، وجميع أفعال العبادة اختيارية واضطرارية، مخلوقة له تعالى ومتعلقة بقدرته وإنما الله خلق في العبد قوة تسمى الإرادة الجزئية وأقدر عبده على صرف هذه القوة إلى ما شاء من جزئيات المأمورات والمنهيات
باختياره، وهذا الصرف هو الذي يسمى بالكسب تارة وبالميل والجزء الاختياري تارة آخرى، ويسمى أيضاً بقدرة العبد. وقد جرت عادة الله تعالى أنه لا يخلق القدرة على المعصية في أعضاء العبد حتى يصرف العبد إرادته الجزئية إليها، فإذا صرفها إليها بأن مال قلبه وعزم عليها فهناك يخلق الله تعالى القدرة في أعضاءه على فعلها فيفعلها، فقدرة العبد التي هي الميل المذكور مقارنة لإيجاد الله تعالى ليس لها تأثير في إيجاد الفعل بل مجرد مقارنة.
وهو تعالى لا يحب عليه شيء من فعل الأصلح لعبادة، ورعاية الحكمة والمصلحة في فعله، فله أن يعذب على الطاعات ويثيب على المعاصي، وأن يبتلي عبده بضرب الآلام من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق، ولا يعد ذلك منه قبيحاً ولا ظلماً لأنه يتصرف في ملكه لا في ملك غيره، يفعل ما يريد، ولا حاكم عليه بل له الحكم، وإنما يثيب على الطاعة بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم، ويعاقب على المعصية عدلاً منه تعالى،(6/243)
وقد راعى الحكمة فيما خلق وأمر تفضلاً منه ورحمة ولا باعث له على الفضل.
بعثة الأنبياء ممكنة عقلاً وواقعة قطعاً، وفي وقوعها حكمة بالغة ورحمة للعالم شاملة، واحتياج الناس إلى الأنبياء كاحتياجهم إلى الأطباء، النبوة إنما تحصل بمجرد اصطفاء إلهي لا باستحقاق من المبعوث واجتماع شروط فيه، بل الله يختص برحمته من يشاء وهو تعالى اعلم حيث يجعل رسالته، وقد أرسل الله تعالى رسلاً من البشر إلى البشر مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة، وأيدهم بالمعجزات الخارقة للعادات المقرونة بالتحدي، وكلهم جاءوا بتوحيد الله تعالى والنهي على الشرك وإخلاص العبادة له تعالى، وهم صادقون فيما جاءوا به مصونون عن التحريف والتبديل، معصومون من كل نقص حسي أو معنوي مبلغون أممهم جميع ما أمروا بتبليغه، وأولهم آدم وآخرهم نبينا محمد
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أن الله سبحانه أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة بشيراً نذيراً، وجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده وأيده بالمعجزات الباهرة، والبراهين الظاهرة، وانزل عليه القرآن الكريم الذي هو له معجزات باقية إلى يوم الدين، فنسخ بشريعته الشرائع التي كانت قبله إلا ما قرر منها، وفضله على سائر الأنبياء وجعل الشهادة له بالرسالة شطر الإيمان، وألزم الناس تصديقه في جميع ما اخبر به عنه، وأمر بتبليغ ما انزل عليه فقال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) فبلغ صلوات الله وسلامه عليه الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى أتاه اليقين.
إن لله تعالى وملائكة هم عباد الله المكرمون ورسل الله بينه وبين أنبياءه وأمناؤه على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصفون بذكوره ولا انوثه، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يعلم حقيقتهم ولا عددهم إلا خالقهم، وهم أجسام لطيفة نورانية يروننا ولا نراهم بصورهم الأصلية.
الركن الرابع في السمعيات إن لهذه الدنيا أجلاً محموداً فإذا جاء اجلها يتبدل نظام هذا الكون، فتبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات،(6/244)
ويعبد الله تعالى الأرواح إلى الأجساد، ثم يجازي الله تعالى كل نفس بما كسبت إما بنعيم أبدي أو عذاب سرمدي، وجميع ما أخبر به الصادق من عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين ووزن الأعمال، والمرور على الصراط، والشفاعة لمن إذن له الرحمن، جميع ذلك حق يجب الإيمان به.
الشيعة:
الشيعة لفظ معناه الأتباع والأنصار يطلق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، تقوم هو شيعة وهما وهم وهن شيعة وجمعه شيع وأشياع، ثم صار علماً بالغلبة على أتباع علي بن أبي طالب عليه السلام.
عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سليمان الفارسي القائل: بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له. ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أمر الناس بخمس فعلموا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال: الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج قيل: فما الواحد التي ترموها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب قيل له: وإنما لمفروضة معهن قال: هي مفروضة معهن. ومثل أبي ذو الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص وقيس ابن سعد عبادة وكثير أمثالهم. ومن أرادهم فليراجع كتاب الدرجات الرفيعة لابن معصوم.
عرف هؤلاء باسم شيعة علي ثم غلب فأطلق فقيل لهم شيعة. ذكر أبو حاتم الرازي في كتاب الزينة في الألفاظ المتداولة بين أرباب العلوم على ما نقل في كتاب الروضات أن أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمالشيعة وكان لقب أربعة من الصحابة وهم أبو ذر وسليمان وعمار والمقداد إلى أن آن أوان صفين فاشتهر بين موالي علي عليه السلام. ومهما تكن منزلة هذه الرواية من الثقة فالأمر الذي لا خلاف أنه لما استقل الأمويون بالأمر وناهضوا الهاشميين وأتباعهم تلك المناهضة الشديدة كان اسم الشيعة على إطلاقه علماً على أتباع آل البيت.(6/245)
أما ما ذهب إليه بعض المتاب من أن أصل مذهب التشيع من بدعة عبد الله ابن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهم وقلة علم بحقيقة مذهبهم. ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك، علم مبلغ هذا القول من الصواب.
لا ريب في أن أول ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيع له. وكان التشيع
هناك ضعيف الحول ولكنه مكين في قلوب أهله. ثم استفحل أمره في العراق زمن خلافة علي السلام. أما في الشام فالمعروف بين الشيعة في جبل عامل خلفاً عن سلف أن الذي دلهم على هذا المذهب أبو ذر الغفاري لما سير إلى الشام ولا يزال في قرية الصرفند بين صيدا وصور له مقام معروف باسمه اتخذ مسجداً وعموراً وهو غير مسجد القرية الجامع، وفي قرية ميس الجبل له مقام آخر. وميس هذه قرية في جبل عامل على طريق القادم من دمشق. وروى الحر العاملي في كتابه أمل الآمل أن أبا ذر لما أخرج إلى الشام تشيع فيها جماعة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم. ثم ذكر رواية عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وقد سئل عن أعمال الشقيق فقال: أرنون وبيوت وربوع وتعرف بسواحل البحار وأوطأة الجبال هؤلاء شيعتنا حقاً.
وفي كتاب الروضة والفضائل لشاذان بن جبرئيل القمي رواية مسندة إلى عمار بن ياسر وزيد بن أرقم تدل على أنه كان زمن خلافة علي عليه السلام قرية في الشام عند جبل الثلج تسمى أسعار أهلها من الشيعة، وأسعار هذه قرية خربة بين مجدل شمس وجباتا الزيت وهناك نهر يعرف بنهر أسعار.
المتأولة جمع متوالي مأخوذ من الموالاة وهي الحب، لموالاتهم أهل البيت واتباعهم طريقتهم. والظاهر أن تلقيبهم بهذا اللقب في جبل عامل لم يتقدم عن القرن الثاني عشر للهجرة لأنكل المؤرخين قبل هذا القرن لم يعرفوا لهم هذا اللقب ولم ينبزهم به أحد منهم، وكانوا إذا أرادوا ذلك تجنبوا الشيعة وقالوا: الرافضة كما فعل المحبي في خلاصة الأثر. ولكن من تأخر عن القرن الحادي عشر لم يلزمهم بترك نبزهم به كما فعل المرادي في سلك الدور فإنه لم يذكرهم في جبل عامل إلا باسم المتاولة وفاقاً للشهرة في عصره.(6/246)
وقد جاء في إحدى السالنامات التركية أن ابتداء ظهور المتأولة سنة 1100 للهجرة. وعلى الجملة إن هذا اللقب أطلق عليهم
لما أظهروا وجودهم السياسي وخلعوا طاعة أمراء لبنان واجتمعوا جملة واحدة في جبل عامل تحت قيادة آل نصار الوائليين، وفي بعلبك تحت لواء بني حرفوش، وفي شمالي لبنان بزعامة المشايخ آل حمادة.
كانوا يومئذ ينتخون باسم بني متوال فعرفوا به واشتهر عنهم، ويدلنا على ذلك أن هذا اللقب لم يكن إلا للذين دخلوا في غمار تلك الفتنة فعرف به شيعة جبل عامل وبعبلك وشمالي لبنان، ولم يعرف لشيعة حلب وحمص وحماة، ولا لشيعة دمشق إلا الذين تديروا الصالحية وأطراف الميدان وهم من مهاجرة بعبلك وجبل عامل.
الشيعة في الشام هم في جبل عامل، وهو البلد الوقع بين صفد جنوباً، ونهر الأولي شمالاً، وغور الحولة وما حاذاه إلى ارض البقاع شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. وفي مدينة بعلبك وأعمالها وزمنهم فيها قديم.
وفي أعمال حمص قرى قليلة لهم وفي نفس المدينة جماعات ظاهرة ومستترة، وفي أعمال إدلب قرى الفوعة ونبل وغيرهما وكلها شيعة، وفيهما إلى اليوم السادة بنو زهرة نقباء الأشراف في مدينة حلب في الزمن السالف. وكل هؤلاء من بقايا زمن الحمدانيين ومن فلول شيعة حلب يوم تشتت شملهم. وفي دمشق ويرجع عهدهم إلى القرن الأول للهجرة، وفي أكناف حوران وهم من مهاجرة جبل عامل، وفي شمالي لبنان والمتن والبترون وهم من مهاجرة بعلبك. ولا يقل عدد نفوس الشيعة في الشام عن مائتي ألف من الإمامية. معتقدات الشيعة، وهم فرقة من المسلمين، اعتقادات المسلمين العامة عينها ولكنهم في الأصوال يخالفون أهل السنة بالإمامة، وهي عندهم رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص بحق النيابة عن النبي، وهي واجبة عقلاً على الله لأنها لطف وكل لطف واجب عليه تعالى، ولذلك خالفوا المعتزلة القائلين بوجوبها على الخلق عقلا، والأشاعرة القائلين على الخلق شرعاً.
ويجب عندهم أن يكون الإمام معصوماً وانفرد بهذا الشرط الإمامية(6/247)
والإسماعيلية من الشيعة، وأن يكون منصوصاً عليه وأن يكون افضل أهل زمانه.
وأن الأئمة اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب المنصوص عليه من الرسول صلى الله عليه وسلم وآخرهم محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى عام 260 في سر من رأى وهو حي يرزق ولا يعلم الناس مقره وسيظهر في آخر الزمان في مكة المكرمة، وقد قال بقولهم هذا فريق من أهل السنة. وأما القول بأنه يخرج من سرداب سر من رأى فلم يقل به أحد من الشيعة وأن نسبه إليهم من لا يعرف مذهبهم جهلاً بحقيقة الحال.
ويخالفون الأشاعرة في بعض صفاته تعالى فالأشاعرة تقول في كونه تعالى متكلماً: إن الكلام معنى قائم بذاته تعالى ليس بحرف ولا صوت ولا شيء من أساليب الكلام وهو قديم. والشيعة والمعتزلة يقولون: إن الكلام قائم بالغير يراد من كونه متكلماً فعل الكلام لا أن الكلام قائم به ولذلك فالكلام حادث.
والأشاعرة تقول: إن أفعاله تعالى لغرض وإلا لكان ناقصاً مستكملاً بذلك الغرض. وعند الإمامية أن أفعاله معللة بالعلل والأغراض وإلا كان عابثاً. والغرض عائد لغيره أما لمنفعة العبد أو لاقتضاء نظام الوجود ذلك الغرض.
والأشاعرة تقول: إن أفعال كلها واقعة بقدر الله وأنه لا فعل للعبد أصلاً. وقال بعضهم: إن للعبد من ذلك الكسب أي كونه طاعة أو معصية.
وقال آخرون: إن العبد إذا صمم خلق الله الفعل العقيب التصميم وأنه تعالى فاعل للكل حسناً أو قبيحاً. والشيعة الإمامية أو زيدية يقولون بقدرة العبد واختياره وأنه ليس بمجبر على فعله، بل أن يفعل وله أن لا يفعل وأن الفعل منسوب إليه وأنه يستحيل عليه تعالى فعل القبيح. وقالت الإمامية بوجوب اللطف عليه تعالى وهو ما يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية ولا حظ له في التمكين ولا يبلغ درجة
الإلجاء.
وقالوا بجريان المسببات عن أسبابها فالشبع مثلاً شيء حادث عن الأكل أنه شيء يحدثه الله عند الأكل.
وقالت الأشاعرة بإمكان الرؤية البصرية يوم القيامة على الله تعالى. وقالت الشيعة والمعتزلة باستحالتها مطلقاً.(6/248)
وقالت الأشاعرة في الحسن والقبح بأنهما شرعيان أي أنه ليس في العقل ما يدل على الحسن والقبح، بما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه فهو، قبيح، وقالت الشيعة الإمامية بأن الحسن حسن في نفسه يستحق صاحبه المدح، والقبيح قبيح بنفسه صاحبه الذم ولا يتوقف ذلك على حكم الشارع.
ويقولون: إن العدل صفة من صفاته تعالى واجبة الثبوت له. هذه أمهات المسائل الأصولية التي يخالفون فيها بعض فرق المسلمين كالأشاعرة، وربما وافقهم في أكثرها غيرهم كالمعتزلة. وأما في الفروع فلا تكاد تجد لهم قولاً مخالفاً لا يكون قائلاً به غيرهم من فرق المسلمين اليوم.
نعم انفردوا اليوم بالقول بالمتعة وأن كان أثرها في العرب منهم قليلاً بل أندر من النادر. وهي متعتان متعة النكاح ومتعة الحج، فالأولى هي الزواج إلى أجل مسمى تحل عقدته بانقضاء الأجل، وعلى الزوجة المتمتع بها بعد انقضاء الأجل أن تعتد العدة الشرعية فلا تنكح زوجاً غيره حتى تنقضي عدتها، ولا بد فيها من ذكر المهر والأجل، ولا توارث بينهما وبين الزوج للدليل الخاص إلا مع الاشتراط، ولكن الولد منها ولد شرعي لا فرق بينه وبين اخوته. وأما متعة الحج فهي الطواف الأخير المعروف بطواف النساء فلا تحل للمحرم النساء حتى يأتي به.
ومنها في الميراث مسألة العول والتعصيب فهم ينكرون العول. ويقول إمامهم جعفر بن محمد الصادق على أن الذي أحصى رمال الحج عالج يعلم أن المواريث
لا تعول، ويجرون فيما جاء من ذلك على قاعدة من له الغنم فعليه الغرم.
ولا يقولون بالتعصيب بل يرثه أقرب الناس إليه، وطبقات الإرث في النسب ثلاث: الآباء والأبناء والاخوة والأجداد، والأخوال والأعمال. فالمتقدمة من هذه الطبقات تحجب ما بعدها، فإذا كان ذو فرض أخذ فرضه ورد الباقي على نفس الطبقة لا يتعداها سواء كان المردود عليه ذكراً أو أنثى.
فإذا مات الميت عن بنت وأب أخذت البنت النصف والأب السدس بالفرض ورد الباقي عليهما كل بقدر سهمه لأنهما من طبقة واحدة، فلو لم(6/249)
يكون له أب بل وجد أو أخ كان الرد على البنت لأنها من الطبقة الأولى والجد والأخ من الطبقة الثانية فهي أولى منه بآية وأولو الأرحام.
ويقولون بالجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً ولكن التفريق أفضل.
وإذا قال القائل لزوجته أنت طالق ثلاثاً فإن كانت جامعة لشروط الطلاق وقعت واحدة وإلا كان الطلاق باطلاً. وشرط صحة الطلاق أن تكون الزوجة طاهرة في طهر لم يواقعها الزوج فيه وأن يكون الطلاق بشهادة ذوي عدل.
وتجتمع الشيعة في أيام عاشوراء فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاء عليه السلام، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة وأول من رثاه أبو دهيل الجمحي بقصيدة يقول فيها:
تبيت النشاوى من أمية نوماً ... وبالطف قتلى ما ينام حميمها
والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب الأغاني أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه. ثم إن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية. ولا تزال إلى تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض كما يتوهم بل يستحبونها لأنها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرق بعض العجم فأبدعوا فيها
بدعاً فيها يمقتها الله والناس من ضرب أنفسهم بالمدى وغسالة الدماء على أثوابهم وعمل ما يسمونه الشبيه وقد مقته العلماء من الشيعة ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة.
الباطنية:
أطلق هذا اللقب على فرق خالفت الإسلام مدعية بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم. فبالعلالق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان التعليمية والملحدة، وهم يقولون: نحن إسماعيلية لأنا تميزنا من فرق الشيعة بهذا السم وهذا الشخص، ثم الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج هذا ما قاله الشهرستاني. وقال عبد القاهر(6/250)
البغدادي: إن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أساساً من قبله صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي عليه الصلاة والسلام على موافقة أساسهم. ولما تأولت أصول الدين على الشرك احتالت أيضاً لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس.
وذكر أنه خرج منهم أناس بالبحرين والقطيف والأحساء ومنهم من ظهر في طريق الحجاز واستولى على مكة. ومنهم من ظهر بالقيروان واستولى بأتباعه على بلاد المغرب. ومنهم من استولى على هجر. ومنهم من ظهر باليمن وقتل الكثير من أهلها. ومنهم من خرج بالشام وهو أبو القاسم بن مهرويه. وأن زعيمهم الأول ميمون بن ديصان كان مجوسياً أولاً. ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذين هم بحران، واستدل على ذلك حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية. واستدل على ذلك أيضاً بأن صابئة حران
يكتمون أديانهم ولا يظهرونها أحلافهم إياه على أن لا يذكر أسرارهم لغيرهم. قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلهم إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع. والأرجح أن المحور الأعظم الذي تدور عليه الباطنية هو مسائل الملك والسلطان وهي أشبه من بعض الوجوه بالطريقة الماسونية.
وعلى الجملة فإن منشأ هذه المذاهب خلافة علي بن أبي طالب، وطلب شيعته باسمه الملك فغالوا فيه مغالاة عظيمة حتى أخرجه بعضهم عن البشرية. وقد كان أكثر أهل الشام في القرون الثلاثة الأولى للإسلام على ما يظهر من مذاهب النصارى، والمسلمون اقل منهم. ولقد انتهى الحال بجميع القبائل القديمة في الشام مثل بني كلاب وبني جذام وبني عاملة أن دانوا بالإسلام ولم يتخلف عنهم بادئ بدء سوى تنوخ في حلب وتغلب في شمالي شرقي تدمر. ولما مر السائح ويليبالد في القرن الأول للهجرة بحمص كانت نصف(6/251)
مسلمة وقويت عريكة الإسلام في القرون التالية لما سكنها العباس من قواد المروانيين في خمسين من أولاده.
وكانت الشام في الإسلام توالي علياً وأصحابه تارة وتوالي غيره أخرى. وكان أهل حلب سنية حنفية حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح فصار فيها شيعية وشافعية. وأتى صلاح الدين وخلفاؤه فيها على التشيع كما أتى عليه في مصر. وكان المؤذنون في جوامع الشهباء يؤذنون بحي على خير العمل. وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع فلم يوفقوا إلى ذلك. وكان حكم بني حمدان وهم شعية من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال. ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الثني عشر وقد خرب الآن. وفي سنة 141 ظهر في حلب قوم يقال لهم الراوندية خرجوا بحلب وحيران وكانوا يزعمون أنهم بمنزلة الملائكة، وصعدوا تلاً بحلب
فيما قالوا ولبسوا ثياباً من حرير وطاروا من التل فكسروا وهلكوا.
وصف المقدسي مذاهب الشام في القرن الرابع للهجرة فقال: إن السامرة فيه من فلسطين إلى طبرية ولا تجد فيه مجوسياً ولا صابئاً، مذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنة. وأهل طبريا ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة ولا ماء فيه لمعتزلي إنما هم خفية، وببيت المقدس خلق من الكرامية لهم خوانق ومجالس ولا ترى به مالكياً ولا داودياً، وللأوزاعية مجلس بجامع دمشق والعمل كان فيه على مذهب أصحاب الحديث، والفقهاء شفعوية وأقل قصبة أو بلد لبس فيه حنفي، وربما كانت القضاة منهم قال: واليوم اكثر العمل مذهب الفاطمي.
ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس فقال: وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة وهم أكثر من السنيين بها وقد عموا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتى منهم الرافضة وهم البسبابون ومنهم الإمامية والزيدية وهم يقولون بالتفضيل خاصة. ومنهم الإسماعيلية والنصيرية يزعمون الإلهية لعلي رضي الله تعالى عنه. ومنهم الغُرابية وهم يقولون: إن علياً رض كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الغراب بالغراب، وينسبون إلى الروح(6/252)
الأمين عليه السلام قولاً تعالى الله عنه علواً كبيراً. إلى فرق كثيرة يضيق عنهم الإحصاء. قال: وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنُّبوية سنيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها، وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحرّمونه السراويل فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدى أحد بّر قسمه وهم يقتلون هؤلاء الروافض لين ما وجدوهم. وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف.
قال الشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الرد على النصيرية أيام استولى هؤلاء على جانب كبير من الشام: إن للقرامطة في معاداة الإسلام وقائع مشهورة وكتباً مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين وقد قتلوا من علماء المسلمين
ومشايخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى النصارى على ثغور المسلمين، وبسببهم استولى النصارى على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت أعظم الأسباب في ذلك. واتفقوا بعد صلاح الدين ونور الدين مع النصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد. وقال: إن لهم ألقاباً معروفة عند المسلمين تارةً يسمون الملاحدة وتارة يسمون القرامطة وتارةً يسمون الباطنية وتارةً يسمون الإسماعيلية وتارةً يسمون النصيرية وتارةً يسمون الخرمية وتارةً يسمون المحمرة. وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم. وهم كما قال العلماء فيهم، ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن، ولا يقرون بأن للعالم خالقاً خلقه ولا بأن له ديناً أمر به، ولا أن له داراً يجزي الناس فيها على أعمالهم في غير هذه الدار، وهم يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة تارة وعلى أقوال المجوس الذين يعبدون النور. وقال: إن إخوان الصفا ونحوهم هم من أئمتهم(6/253)
وينكرون على الرسل ودعوى أنهم من جنسهم طالبون للرئاسة فمنهم من أحسن بطلبها ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمداً وموسى من القسم الأول والمسيح من القسم الثاني ويستهزئون بالصلاة والزكاة والصوم والحج الخ اه.
الإسماعيلية:
هم القائلون بانتقال الإمامة بعد جعفر الصادق إلى ابنه الأكبر إسماعيل، انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم. وهم يوافقون الإمامة في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى جعفر الصادق ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإمامية إلى إسماعيل هذا. ثم يسوقونها في بنيه فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين علي إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه إسماعيل الذي تنسب إليه هذه الفرقة بالنص إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه محمد الحبيب ثم إلى ابنه عبيد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جد الخلفاء الفاطميين بمصر، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي منصور نزار ثم إلى أبنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معد خامس خلفائهم بمصر. ومن هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين مستعلوية ونزارية. فأما المستعلوية فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله إلى ابنه المستعلي بالله أبي القاسم ثالث خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي علي منصور إلى آخر من جاء بعدهم وهو حادي عشر خلفائهم بمصر. وأما النزارية فأنهم يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنص من أبيه المستعلي. ثم الإسماعيلية في الجملة من المستعلوية والنزارية يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور، وكان يسمى صاحب الدعوة الهادية - وفي القرن التاسع كانوا يسمون في ديوان الإنشاء بالقصاد وبين العامة بالفداوية - وهو يرون أن الأرواح مسجونة في هذه(6/254)
الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر، فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وأن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية.
وذكر في العبر أن منهم من يدعي ألوهية الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدعي رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ والرجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت. ويتفق المستعلون والنزارية في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها. ولدعاة الأئمة المستورين عندهم مكانة عظمى لا سيما الداعي القائم بذلك أولاً وهو الداعي إلى محمد المكتوم أول أئمتهم المستورين، فإن له من الرتبة عندهم فوق ما لغيره من الدعاة القائمين بعده. واشتهر من دعاتهم رمضان وابنه ميمون وعبد الله القداح بن ميمون، اطلع هذا على أسرار الدعوة من أبيه وسار من نواحي أصفهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت. ثم أنشأ ابنه أحمد فأرسل هذا أحد دعاته إلى اليمن وإلى المغرب. ومن نسب أحداً من هؤلاء الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضل وخرج عن جادة الصواب عندهم، ويرون تخطئه من مالأ على الإمام عبيد الله المهدي أول أئمتهم القائمين ببلاد المغرب وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحق، وكذلك من خذل الناس عن أتباع القائم بأمر الله بن عبيد الله ثاني خلفائهم ببلاد المغرب أو نقض الدولة على المعز لدين الله أول خلفائهم بمصر، ويرون ذلك من أعظم العظائم وأكبر الكبائر.
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خم غيضة بين مكة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة وسبب جعلهم له عيداً أنهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه ذات يوم فقال لعلي: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدار الحق معه حيث دار. ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمي أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما الأئمة بكبيرة، أو ينسبها أحد إليهم أو يوالي
لهم عدواً أو يعادي ولياً. ويقولون: إن الإمام منهم لا يموت إلا وقد خلف ولداً ذكراً منصوصاً عليه.(6/255)
وأصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ ثم ظهروا بأصبهان في أيام السلطان ملكشاه السلجوقي، واشتهروا هنالك بالباطنية لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وبالملاحدة لأن مذهبهم كله إلحاد، ثم صاروا إلى الشام ونزلوا فيما حول طرابلس وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدعوة فيما حول طرابلس كمصياف والخوابي والقدموس والمرقب والعقليقة والكهف والرصافة وغيرها. وهم يعظمون راشد الدين سنان، وهو رجل كان بقلاع الدعوة وانتهت إليه رياستهم في زمن صلاح الدين.
ولما افترق الإسماعيلية إلى مستعلوية ونزارية أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النزارية عملاً بدعوة ابن الصباح، واخذ من منهم بالشام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلوية وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميين بمصر واشتهروا باسم الفداوية لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه. روى هذا القلقشندي وقال ابن ساعد: ويلقب الإسماعيلية بالسبعية لقولهم بسبعة أئمة، ويرون أن في كل دور سبعة أئمة، إما ظاهرون وهو دور الكشف، وإما مختفون وهو دور الستر، ولا بد من إمام، إما ظاهر وإما مستور، لقول أمير المؤمنين رضي الله عنه الأرض عن قائم لله بحججه، ويلقبون أيضاً بالباطنية لقولهم: إن لكل ظاهر باطناً، وبالتعليمية لقولهم: إن العلم بالتعلم من الأئمة خاصة، وربما لقبوا بالملاحدة لعدوهم عن ظواهر الكتاب والسنة لأنهم يتأولون سائر النصوص، وعندهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية اه.
وذكر كتاب جلبي أنه كان للفداوية الذين اشتهروا في زمن الظاهر بيبرس - هكذا
كانت العامة تسمي الإسماعيلية - من طرابلس إلى صيدا إلى حلب على الساحل حتى حوران سبعون قلعة أهمها قلعة صهيون. وقد ذكر مؤرخو حلب أنه جاء إلى جبل السماق سنان بن سلمان بن محمد أبو الحسن البصري صاحب الدعوة النزارية ومتولي الحصون الإسماعيلية، وكان أديباً فاضلاً عارفاً بعلم الفلسفة وله شعر حسن وكلام منثور جيد، وتمكن(6/256)
في الحصون وانقادت إليه الطائفة الإسماعيلية ما لم ينقادوا إلى غيره.
ويقضي مذهبهم على ما قال هوار في المعلمة الإسلامية بأن الله لا صفات له ولا تدركه العقول ولا تفهمه الألباب ولم يخلق العالم نباشرة، بل تجلت إرادته في أمره وهو العقل العام وفيه تختفي جميع الخصائص الإلهية وهو الله المتجلي. وإذ كان لا يصلي لكائن لا يدرك فإن الصلاة تتجه نحو صورتها الخارجية وهي العقل الذي هو حقيقة معبود الإسماعيلية. فكما أنه لا سبيل إلى معرفة الله بل يعرف العقل فقط فهذا العقل يطلق عليه أسماء الحجاب والمكان والأزل والعقل والأول. والعقل يخلق الروح العام الذي هو الجوهر في الحياة، وإذ كانت حياة العقل بالعلم وهو ناقص من هذا النظر فيرمي بالضرورة إلى تحقيق الكمال. ومن هنا تنشأ حركة بمعنى آخر عن حركة أخرى تتولد منها. الروح تخرج المادة الأولى التي تتألف منها الأرض والكواكب وهي غير عاملة بل تتجلى في أشكال تنطوي فيها الأفكار على العقل. وهناك كائنان ضروريان وأصليان وهما الأمد والزمان. والكواكب والعناصر نتيجة لازمة من عمل هذه المخلوقات الخمسة مشتركة. ويفسر ظهور الإنسان بالضرورة التي يشعر بها الروح العلم في إحراز العلم الكامل حتى يرقى إلى طبيعة العقل العام ومتى جرى الوصول إلى هذه الغاية تبطل كل حركة. وللخلاص يجب على المرء تحصيل العلم الذي لا يتأنى أن يأتي إلا من تجسد العقل على هذه الأرض ويتجسد ذلك في الرسول وخلفائه والأئمة.
ويسمى الذي يتجلى قيه الكلام الموحى، والثاني هو ترجمان هذا الكلام بما يحوى من المعاني التي تؤول. والمبادئ الثلاثة الأخيرة هي الإمام والحجة، الذي يبرهن على رسالة الإسالة الأساس، والداعية. وكان محمد الناطق وعلي الأساس.
والذين يرخص لهم بالاطلاع على أسرار الدين هم طبقات كانوا أولاً سبعة ثم صاروا تسعة. ويبدأ الداعية مع من يريد تلقينه أسرار الدعوة بأن يضع له مشكلات في صعوبة فهم الشريعة وهي الطريقة يجرى عليها الباطنية عامة، ولا يوال به حتى يذكر له أن هذه المشاكل قد حلت على أيسر(6/257)
وجه بتأويل القرآن ومعرفة رموزه. وللحساب المستخرج من قيمة الحروف العددية شأن كبير. ومتى اقتنع المدعو بقوة البراهين التي أوردها له الداعية يستحلفه بأن لا يبوح بأدنى سر من الأسرار التي سيفضي بها غليه، ويعلمه بأن الواسطة للنجاة أن يخضع خضوعاً أعمى لأوامر الإمام الروحية والزمنية. وجمهور المؤمنين بهذه الدعوة ما كانوا يقفون على أكثر من الدرجة الأولى أو الثانية من الأسرار، والدعاة يصلون إلى الدرجة السادسة إلا قليلاً. ولا يبلغ الدرجة العالية غلا بعض الممتازين. وهذا أسبه بتعاليم الشيعة والمتصوفة في تعيين درجة الإنسان الكامل.
والجنة معناها مجازاً حالة النفس الواصلة إلى كامل العلم، وجهنم معناها الجهل، وما من نفس يحكم عليها بالخلود في جهنم على الأبد، بل تعود إلى الأرض بالتناسخ حتى تعرف إمام الزمان وتأخذ عنه علوم الدين. والشر لا بقاء له ولا بد ما اشتهر عن الإسماعيلية من القتل يجب أن نذهب إلى أن ما اجترحوه لم ينشأ عن عقيدة لهم بل يجب أن ينظر فيه إلى الإفراط الذي عرف به رؤساؤهم في نيل السلطة السياسية. وقال رسو من السياح: إن من عرفهم من الإسماعيلية هم على جانب عظيم من الكرم ولطف الأخلاق، وقلما يحبون التنقل ويعملون في أرضهم ويتمسكون بأهداب دينهم الذي يخالف مذهبهم القديم كل المخالفة، وهم أشداء
الحاجة خاضعون لزعمائهم. انتهى قول هوار.
ولم يعرف الزمن الذي نزل فيه الإسماعيلية بعض لأرجاء الشام إذ لم يجر لهم ذكر قبل أوائل القرن الخامس للهجرة. وكان الحكيم المنجم وأبو طاهر الصائغ وهما من دعاة الإسماعيلية وأمثالهما من العجم أول من أظهر هذا المذهب بالشام في أيام الملك رضوان بن تتش السلجوقي صاحب حلب الذي أغضى عنهم وأراد اتخاذهم حزباً له فقيل دعوتهم على ما قبل، واستمالوا إليهم خلقاً كثيراً بسمين والجوز له فقيل دعوتهم على ما قيل، واستمالوا إليهم خلقاً كثيراً بسمين والجوز وجبل السماق وبني عليم وجعل لهم في حلب دار دعوة. ولم يلبثوا أن اغتالوا قي جامع حمص 496 عمه جناح الدولة وصاحب حمص، تولى ذلك ثلاثة من العجم يلبسون لباس الصوفية(6/258)
بينما كان يتهيأ لغزوة صنجيل أمير طرابلس من الصليبيين لرفع الحصار عن حصن الأكراد. ولم يلبث هذا الطبيب المنجم أن قضى نحبه عاهداً بالدعوة إلى رفيقه أبي طاهر الصائغ. استولى الإسماعيلية على أفامية من الصليبيين ثم استرجعها هؤلاء منهم 498 ووضع السيف في الإسماعيلية بحلب سنة 507 و508 كما وضع فيهم في دمشق سنة 522 خطط الشام ج1 وج2 وكذلك كان حالهم في الباب من عمل حلب. قال ابن جبير: فداخلت أهل البلاد الحمية فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصلوهم عن آخرهم. وقال: إن الإسماعيلية يبذلون الأنفس دون أمامهم سنان وحصلوا من طاعته وامتثال أمره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى. وفي تلك السنة أيضاً قتلوا برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم. وفي سنة 571 حاول أحد الإسماعيلية من العجم اغتيال السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فأنجاه الله وأغضى الطرف عنهم وفي سنة 588 قتل الإسماعيلية كونراد أمير صور. وبعد مدة قتلوا ريموند بن بويمند الرابع المعروف بالأعور أمير إنطاكية من الصليبيين
قتلوه في الكنيسة. وفتح الظاهر بيبرس والتتار قلاعهم وخضعوا بعد ذلك لمماليك مصر.
وكان للإسماعيلية في بلاد العجم وقائع عظيمة وهم الذين قتلوا الوزير نظام الملك في بغداد وغيره من رجال الإسلام حتى ضاقت بهم الصدور. وقد سموا أوائل دخول الصليبيين إلى الشام بالحشاشين أو القتلة لأن رؤساءهم كانوا فيما قيل يعطون الحشيشة لمن يريدونه على قتل أحد خصومهم السياسيين. وكان الصليبيون يطلقون على رئيسهم شيخ الجبل. وقد نالوا من الصليبيين كثيراً كما نالوا من أمراء المسلمين وهم جمعية سياسية ترمي إلى إقامة مُلك. وما كان هذا القتل منهم عن باعث مذهبي بل سياسي. على أنهم أخافوا رجال السياسة في هذه الديار وهي في أشد أوقات ضيقها زمن الحروب الصليبية وحروب التتار. ويبلغ عدد الإسماعيلية اليوم في الشام نحو خمسة وثلاثين ألفاً منهم جماعة في سليمة وفي قلاع الدعوة في جبل النصيرية. ومن الإسماعيلية عشرات ألوف في العجم والهند والأفغان وعُمان ومسقط وزنجبار وإفريقية الشرقية. وإسماعيلية هذه الديار يجبون(6/259)
الزكاة كل سنة ويرسلونها إلى أمامهم أغا خان في الهند أما، سائر الإسماعيلية فليسوا مرتبطين به. وقد ذكر بعض أعيانهم أن الإسماعيلية اليوم يقولون: إن كل زمن لا يخلو عن رجل من السلالة الطاهرة يسمونه إماماً واعتباره اعتبار علمي ديني خالٍ من كل غرض سياسي.
النصيرية أو العلوية:
قال القدماء: هم أتباع نصير غلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم يدعون ألوهية علي رضي الله عنه مغالاةً فيه ويزعمون أن مسكنه السحاب وإذا مر بهم السحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن ويقولون: إن الرعد صوته والبرق ضحكه، وهم من أجل ذلك يعظمون السحاب، ويقولون: إن سلمان الفارسي
رسوله، وإن كشف الحجاب عما يقوله من أي كتاب بغير إذن ضلال، ويحبون ابن ملجم قاتل علي ويقولون: إنه خلص اللاهوت من الناسوت ويخطئون من يلعنه. وإن لهم خطاباً بينهم من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه. وهم يخفون مقالتهم من أذاعها فقد أخطأ عندهم. ولهم اعتقاد في تعظيم الخمر ويرون أنها من النور ولزمهم من ذلك أن عظموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتى استعظموا قلعها. ويزعمون أن الصديق وأمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان تعدوا على علي ومنعوه حقه من الخلافة.
وقال المحدثون منهم أنفسهم على ما ذكره صاحب تاريخ العلويين: إن النصيرية رجع لهم اسمهم القديم بعد انتهاء الحرب العامة 1918م وسميت العلوية وكانت محرومته مدة 412 سنة أي من قتال الاتراك للعلويين وإن اسم العلويين الذي كان يطلق على طائفتهم دثر عدة قرون وسمى الموجودون باسم الجبل ويظن بعضهم أن اسم النصيرية هو نسبة للسيد أبي شعيب محمد بن نصير البصري النميري مع أن الأصح هو لأنه تغلب اسم(6/260)
الجبل إليهم وأصبحت كلمة النصيري أشنع كلمات التحقير.
وقال: إن قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم)، معناه كمال الدين وكمال الدين هو ولاية علي، وهذه هي الحكمة المقصودة من نزول القرآن بالتدريج.
ويقول العلويون: إنه لما أعلن كمال الإسلام كان لا يزال بعض العقائد مكتوما وخفيا، ولذلك بقي إلى هذا اليوم مكتوما بخصوصيته، وبتعبير أصح إن بقاء عقيدة العلويين مكتومة هو من كمال الإسلام وإعلانها مضر به لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر المؤمنين بولاية علي وبذلك كمل الإسلام، ولكنه بقي حريصا على كتمان البقية ولذلك كان كتمان البقية من كمال الإسلام أيضا. وهذا هو تعليل تكتم العلويين في عقيدتهم. وهم يقولون أيضا: إن بني هاشم كانوا يعرفون في زمن
النبي أحكاما ما كان يعرفها الأمويون، وإن أهل البيت تعلموا علوما لم يسمعها غيرهم. وهنا مبدأ أسرار العلويين. ومن جملة أسباب تكتم العلويين أن بيعة غدير خم لم تكن إلا إفشاء لبعض حقوق أهل البيت والأمر بأتباعها واحترامها.
وقال: إن السلطان سليما العثماني لما فتح الشام استدعى عشائر تركية من الأناضول إلى خراسان وقدرها تسعون ألف خيمة أي أكثر من نصف مليون تقريبا وأسكنهم في القلاع في جبال النصيرية والمواقع الغنية المرتفعة منه، ولم يمض أكثر من خمسين عاما حتى انقرض الأتراك في المنطقة الضيقة التي لم تكن حاصلاتها تكفي سكانها الأصليين، ولم يبق من الأتراك سوى خمسة عشر ألفا وهم اليوم في الباير والبوجاق وقليل منهم في الساحل، حافظوا على جنسيتهم ولسانهم، ومن نزل منهم أرجاء حماة وحمص تغلبت عليه العربية.
وليس بين العلويين اختلاف في المذهب بل تفرقوا عشائر وأفخاذا فمنهم الكلبية وهي من أكبر العشائر والنواصر والجهينية والقراحلة والجلقية والرشاونة والشلاهمة والرسالنة والجردية والخياطية والبساترة والعبدية والبراعنة والفقاروة والعمامرة والحدادية وبنو علي والبشالوة والياشوطية والعتارية والمتاورة والحلبية والخرزجية والسوارخة والنيلاتية والسرانبة والصوارمة والمهالبة والدراوسة والمحارزة والبشارغة والجواهرة والسواحلية والإنطاكيون(6/261)
والأطنويون. والنسبة في هذه الأسماء إما إلى أشخاص منهم معروفين عندهم أو إلى قرى ومدن معروفة في أراضيهم وغيرها.
وقال أيضاً: ليس للعلويين ديانة خاصة أو مذهب خاص كما يظن بعضهم، بل إن العلويين مسلمون شيعيون جعفريون، لا تفرق بينهم وبين سائر الجعفرية قيود دينية أو اجتهادات علمية، ويعتقدون أن الأئمة الاثني عشر هم معصومون من الخطايا، وإن أقوال الأئمة دلائل قطعية، ولا يمكن أن يخالف الإمام القرآن
والأحاديث ولا يحق لأحد أن يؤول القرآن، ولا أن يفرق بين محكمه ومتشابهه سوى أهل البيت، ولا تنفع عند العلوي القواعد الصرفية والنحوية أو الأصولية في استخراج الأحكام الشرعية، بل كل ذلك من جملة حقوق أهل البيت. وإن العلويين يمتازون على بقية الجعفرية أي الاثني عشرية بانتسابهم في الآداب الدينية إلى الطريقة الحنبلانية، وهذا الانتساب هو الذي أدى إلى افتراقهم عن بقية الاثني عشرية. ويرى المؤلف أن يتحد العلويين والشيعة المتأولة والإسماعيلية، وليس بين هؤلاء وبين العلويين سوى الافتراق الخاص في اعتبار الأئمة بعد جعفر الصادق.
وقد سألنا الأستاذ سليمان أحمد من علمائهم فأجاب معتذراً عن التوسع في وصف مذهبهم وختم بقوله: أمة توالت عليها النوائب السياسية والاجتماعية خمسة أجيال فأخملتها أي إخمال، وانزوى علماؤها وصلحاؤها وعاث الجهل في عشائر فساداً، ليس من السهل الكتابة عنها، وليس بالهين ضلال التاريخ، وقل من جرى في ميدانه فلم يعثر. لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام، أكثر الناس اختلافاً، وأقلهم ائتلافاً، إذ شيخ مذهبهم الذي ينتمون إليه الخصيبي من رجال الإمامية تقرأ ما له وما عليه في كتب الرجال. إنما لهم طريقة كالنقشبندية والرفاعية وغيراهما من طرق الصوفية بالنسبة إلى أهل السنة. وهذا مصدر التقولات الباطلة عليهم، وما أُبرّئ جهلتهم من كل ما يقال، ولكن أشهد بالغرض والتغريض على غالب المؤرخين الذين كتبوا عنهم اه.
ويسكن النصيرية أو العلويون اليوم في جبال اللاذقية وطرابلس وحماة(6/262)
ومنهم فئة قليلة في دمشق وصالحيتها وفي قرى عين فيت وزعورا وغجر في الحولة، وعدد العلويين اليوم أكثر من مائتي ألف. وقد استعملوا العنف معهم في أكثر الأدوار السالفة فنفروا وقد كان الظاهر بيبرس في القرن السابع أمر أن تبنى لهم جوامع
في قراهم فبنوا في كل قرية جامعاً وما كانوا يدخلونها على عهد ابن بطوطة في القرن التاسع، بل كانت حظائر للغنم وإصطبلات للدواب، وأمر السلطان قلاوون أيضاً أن يبنى جامع في كل قرية من قرى النصيرية، وهكذا فعل عبد الحميد الثاني من العثمانيين فبنى لهم جوامع لم يلبثوا أن خربوها وأهانوها. وشأن العلويين شأن سائر الطوائف الإسلامية الصغرى كلما زادوا علماً وتربية رجعوا إلى الأصول الصحيحة. وفيهم كرم وشمم وشجاعة ومكارم أخلاق.
الدروز:
لما طمع الحاكم بأمر الله الفاطمي سادس خلفاء الفاطميين أو العبيديين بمصر في دعوى الربيوبية، أخذ يمهد لذلك المقدمات ولقب نفسه الحاكم بأمره وأمر الخطباء بأن يقرءوا بدل البسملة بسم الله الحاكم المحيي المميت وفي رواية أنهم كتبوا باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم. فلما أنكروا عليهم كتبوا بسم الله الحاكم الرحمن الرحيم فجعلوا في الأول الله صفة للحاكم وجعلوا في الثاني العكس. وأنشأ يدعي علم المغيبات، وكان من دعاته رجلان عجميان من دعاة الباطنية يقال لأحدهما محمد بن إسماعيل الدرزي المعروف بنشتكين، وللآخر حمزة بن علي بن أحمد وهذا من أعظم دعاة الحاكم، كان يؤثره على جميع عشيرته، وكان صاحب الرسائل والمكاتبات عنده. وصنف الدرزي كتاباً كتب فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ومنه إلى أسلاف الحاكم متقمصة من واحد إلى آخر حتى انتهت إلى الحاكم بأمر الله. وقرئ هذا الكتاب في الجامع الأزهر بالقاهرة، فهجم الناس على مؤلفه ليقتلوه ففر منهم، وحدث شغب عظيم في القاهرة وقتلوا(6/263)
كثيرين من أصحابه. وكانت بلغت جريدة أسمائهم ستة عشر ألفاً. ولم يسمع الحاكم بأمر الله بعد أن وقع ما وقع إلا أن ينبعث إلى الدرزي في السر مالاً وأوعز إليه أن يخرج إلى الشام وينشر فيها الدعوة، فنزل وادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق، وقرأ
الكتاب على أهله واستمال همك إلى الحاكم، وأعطاهم المال فكثر مشايعوه وأنصاره.
وكان الأمراء التنوخيون سكان لبنان على استعداد لقبول دعوة الدرزي فانقادوا إليه فسمي جماعته بالدروز. والدروز ينكرون هذه التسمية ويحبون أن يدعوا بالموحدين، وكان يسميهم أصحابهم بالأعراف. وغلب عليهم في حوران في العهد الأخير لقب آل معروف دعوا به تحبباً. وهذا كان من شعار لانقسام هذه الطائفة إلى أصلين من أمهات أصول العرب في هذا القطر وهما القيسية واليمنية. ولما نشأ الدروز يبثون دعوتهم بين المسلمين غزوا في عقر دارهم وفي وادي التيم نحو سنة 410 على الأرجح وغزوا في جبل السماق من أرجاء حلب لما هاجروا بمذهبهم أيضاً وخربوا ما عندهم من المساجد فقتل دعاتهم وأعيانهم سنة 423 خطط الشام م1.
ووقع خلاف بين الداعية الأول محمد بن إسماعيل الدرزي والداعية الثاني حمزة بن علي بن أحمد، فكتب التقدم لهذا ومات الدرزي سنة 411 فقام بالدعوة حمزة واصبح القوم يدرسون ويلقبونه بهادي المستجيبين وحجة القائم وغير ذلك. ولما هلك الحاكم كتب حمزة الرسالة المسماة بالسجل المعلق وعلقها على أبواب الجامع وفيها يقول: إن الحاكم اختفى امتحاناً لإيمان المؤمنين، وشرع حمزة يزرع في القلوب بذر الاعتقاد بألوهية الحاكم وتوحيده وعبادته، ويجتمع هو واتباعه في المعبد السري، حتى ثار عليهم المسلمون وطردوهم ففروا من مصر إلى الشام.
قال سليم البخاري: إن الدروز يخالفون في عقائدهم عقائد الفرق من أرباب الديانات يتظاهرون بالتبعية لمن يكونون تبعاً له، وأما في الباطن فإنهم ينكرون الأنبياء عليهم السلام وينسبونهم إلى الجهل وأنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم وما عرفوا المولى، ويشنعون بالطعن على جميع أرباب الديانات من المسلمين
والنصارى واليهود، والديانة الحقة عندهم هي توحيد الحاكم،(6/264)
ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم وحفظ الأخوان بدل الصلاة.
ويقرءون القرآن ويؤولونه ويذهبون إلى قدم العالم تبعاً لبعض الفلاسفة ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص، فالسجد يسمى قميصاً عندهم، وأن الميت حين موته تنتقل روحه إلى من يولد وقتئذ، فالأرواح الإنسانية لا تنتقل عندهم إلا إلى قوالب إنسانية. ويقولون: الهوية الإلهية تنتقل من قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر، فتتجلى في كل زمن بصورة وتجلت أخيراً في الحاكم، وأن حمزة أيضاً ظهر في كل عصر قالب، ففي زمان كان فيثاغورس الحكيم، وفي زمان كان شعيباً، وفي زمان كان سليمان بن داود، وفي زمان كان المسيح الحق، فهو نبي الكريم عندهم، وحمزة العصر المحمدي وهو سلمان الفارسي، ويزعمون أن القرآن قد أوحى حقيقة إلى سلمان الفارسي وأنه كلامه وأن محمداً أخذه وتلقاه عنه حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خاطب به ولده في معرض الوصية بقوله: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) هو خطاب سلمان لمحمد والتعبير بالنبوة إنما هو من خطاب المعلم للمتعلم.
وإذا أراد أحد من جهالهم أن يدخل في سلك الموحدين ينبغي له أن يستجلب رضاهم بتقديم وسائل العطف مدة حتى تتحقق توبته، فإذا قبلوه أدخلوه على الإمام فيوصيه بحفظ السر وعدم إشهاره، ويأمره بتحرير العهد الواجب تحريره، إذ لا يكون موحداً خالصاً بدون تحرير العهد على نفسه، فإذا حرروه وسلمه إلى الإمام صار واحداً منهم. وصورة العهد وهو المعروف لأول انتشار الدروزية بميثاق ولي الزمان: توكلت على مولانا الحاكم الأحد الفرد المنزه عن الأزواج والعدد، أقر فلان بن فلان إقراراً أوجبه على نفسه وأشهد به على روحه في صحة من عقله وبدنه وجواز أمره طائعاً غير مكره ولا مجبر، أنه قد تبراً من جميع
المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها على أصناف اختلافاتها وأنه لا يعرف شيئاً غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره والطاعة هي العبادة وأنه لا يشرك في عبادته أحداً مضى أو حضر أو ينتظر وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع ما يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ورضي بجميع أحكامه له وعليه، غير معترض ولا منكر(6/265)
لشيء من أفعاله ساءه ذلك أم سره، ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه أو أشار به إلى غيره أو خالف شيئاً من أوامره، كلن بريئتاً من البارئ المعبود وحرم الإفادة من جميع الحدود واستحق العقوبة من البارئ العلي جل ذكره، ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جل ذكره كان من الموحدين الفائزين. وكتب في شهر كذا وسنة كذا وكذا من سني عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمرشدين بسيف مولانا جل ذكره وشدة سلطانه وحده.
وليس لأحد من الناس أن يدخل في مذهب الدروز لأن ذلك لا يتأتى إلا إبان الدعوة الأولى، وقد سد هذا الباب بعد ذلك. ويحرص الدروز كل الحرص على كتمان عقائدهم ولذلك يعبرون عن مرامهم في كتبهم ورسائلهم بطريق الرمز والكناية فلا يفهم ما يراد منها إلا الطبقة العالية من أرباب الدين عندهم أو مشايخ العقل. ويذكرون مباحث من علم الكلام، وبعض مقالات غلاة المتصوفة، وتأويلات الرافضة والملاحدة، وخصوصاً الإسماعيلية من غلاة الشيعة. ولهم قضاة مهم يحكمون في المعاملات المدنية الجارية بينهم على مقتضى الشريعة، غير أنهم يخالفونها في بعض المعاملات بحكم العادة الموروثة وقد اصطلحوا على التوصية بما يشاءون لما يشاءون. ولا يجوز عندهم الجمع بين امرأتين فإن لم يطلق التي عنده لا يمكنه التزوج بغيرها. وتطلق المرأة بأدنى سبب، ولا يجوز
عندهم رد المطلقة ولو كان بعد زوج آخر.
ويقسم الدروز من حيث الدين إلى ثلاثة أقسام: العقال أو الأجاويد والشراح والجهال. ويرخص للشراح بالاطلاع على ما كتبه الشيخ الفاضل بشرح أحد أوليائهم الأمير عبد الله التنوخي الملقب بالسيد دفين قرية عبيه وهو الذي بنى المساجد وجدد الجوامع، وكان على ما قيل يريد أن يرجع بالدروز إلى مذهب أهل السنة والجماعة توفي سنة 874.
ولا يباح للجهال من الديانة غير معرفة المسائل الأولية من الدين. ومن العقال طبقة أتقياء يقال لهم المتنزهون وهم مثابرون على العبادة والورع، ومنهم من لم يتزوج، ومنهم من لك يأكل لحماً طوال حياته، ومنهم من هو(6/266)
صائم كل يوم، ولا يذوقون شيئاً من بيت أحد من غير العقال. والعقال جميعهم يعتقدون أن أموال الحكام والأمراء حرام فلا يأكلون شيئاً من طعامهم ولا من طعام خَدَمهم ولا من طعام حُمل على دابة مشتراة من مال حاكم، وقد يعتاشون من عمل لهم خاص يتعاطونه بأنفسهم من زراعة وصناعة. وينزهون ألسنتهم عن ألفاظ الفحش والبذاءة ويتجنبون الإسراف.
واسمع بعد هذا رأي الأمير شكيب أسلان من مقالة في جريدة الشورى 15 جمادى الثانية سنة 1344 في الدروز قال: الدروز فرقة من الفرق الإسلامية أصلهم من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية، والشيعة الإسماعيلية الفاطمية أصلها من الشيعة السبعية القائلين بالأئمة السبعة، وهؤلاء هم من جملة المسلمين كما لا يخفى. وإذا قيل: إن الدروز هم من الفرق الباطنية التي لا يحكم لها بالإسلام فالجواب أن الدروز يقولون: إنهم مسلمون ويقيمون جميع شعائر المسلمين ويتواصون بمرافقة الإسلام والمسلمين في السراء والضراء، ويقولون: إن من خرج عن ذلك منهم فليس بمسلم. ولهذا أصبح من الصعب على المسلم الذي فهم الإسلام كما فهمه
السلف الصالح والذي سمع حديث فلا شققت عن قلبه أن يخرج الدروز من الإسلام.
وفي الشرع المحمدي قاعدة: نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال الله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) وهؤلاء لا يلقون السلام فقط بل يلقون السلام ويقولون: أنهم مسلمون، ويحفظون القرآن، ويلقن ملقنهم الميت إذا جاء منكر ونكير وسألك ما دينك ومن نبيك وما كتابك ومن إخوانكم وما قبلتك فقل لهمت الإسلام ديني ومحمد نبيي والقرآن كتابي والكعبة قبلتي والمسلمون اخوتي وليس من شعائر الإسلام شيء لا يقيمه أو لا يوجب إقامته الدروز.
وإذا قيل: إنه مع كل هذه المظاهر تحتوي عقيدتهم الباطنية التي تعرفها طبقة العقال على ما يصادم أركان عقيدة السنة والجماعة ولا يتفق معها في شيء فالجواب قد وجد في الإسلام أئمة كبار يترضى عنهم عند ذكرهم ولهم قباب تزار وتعلق فيها القناديل وكانوا يقولون بوحدة الوجود! فهل وحدة الوجود مما يطابق السنة؟ كلا فهل أخرج المسلمون هؤلاء الأئمة من(6/267)
الإسلام؟ وأما تجسد الإله فليس من عقيدة الدروز كما يتهمهم بعضهم والتجسد شيء والترائي شيء آخر. وأما تأويل آي القرآن الكريم بحسب زعمهم فكم من فرقة في الإسلام انفردت بتأويلٍ للآيات الكريمة. . . . . اه.
وبعد فإن للدروز روابط مهمة بينهم منها أنهم مهما كانت بينهم طوائل وحزازات يتخلون عنها ويصبحون جسماً واحداً يوم يريدون مقاومة عدّوٍ لهم. وهم من التسامح على جانب حتى مع من يخالفهم. ومعظم عاداتهم إسلامية وأسماؤهم إسلامية وفيهم من الإسلام شيء كثير من جوهره. وقد رأينا لعهدنا أبناء هذا المذهب كلما تعلموا قربوا من الأصول الإسلامية وفيهم اليوم فئة صالحة مستنيرة
تريد الجهر بالرجوع إلى مذهب أهل السنة.
ومن أراد زيادة تفاصيل في مذهب الدروز فعليه بالرجوع إلى كتبهم ورسائلهم وهي محفوظة في دور الكتب العامة هنا وفي الغرب. وينزل الدروز اليوم في شوف لبنان وجبل حوران ووادي التيم وبعض قرى الغوطة بدمشق والجبل الأعلى في حلب وبعض قرى عكا ولا يقل عددهم عن مائة وأربعين ألفاً.
البابية:
مؤسس هذا المذهب رجل من فارس اسمه المبرزا علي محمد الشيرازي ولد سمة 1235هـ وتوفي والده وهو حدث فكفله خاله وعلمه مبادئ الفارسية والعربية وحسن الخط واشتغل لأول أمره بالتجارة، وفي سن العشرين أخذ يكثر من الرياضة والعبادة فخاف خاله على صحته فأرسله إلى العراق وقضى أشهراً في كربلاء والنجف اجتمع خلالها إلى علماء الشيعة وخرج من العراق بأفكار تخالق ما عرفه الناس من الإسلام، وأخذ يبث دعوته فمال إليه جماعة وحج في تلك الأيام. وكان يقول: ادخلوا البيوت من أبوابها أنا مدينة العلم وعلي بابها يشير إلى أنه واسطة السعادة الأبدية، ثم دعا نفشه الباب ومعنى الباب عند الشيعة المهدي المنتظر وتخلى عن اسمه. وبعد مدة أرسل إلى بوشهر ومنها أرسل دعاته إلى شيراز وأصفهان يبثون دعوته. فعقد والي شيراز لهم مجالس المناظرة مع الفقهاء فأفتى هؤلاء بكفر(6/268)
البابية ووجوب قتلهم. لكن الوالي اكتفى بقطع العصب الكعبري من كعابهم وسجنهم. وجيء بالباب من بوشهر 19رمضان سمة 1261 وأنزل في دار أبيه ريثما يهدأ روعة، ثم استقدمه الوالي سراً وبعد المفاوضة تظاهر الوالي بأنه اقتنع بصحة دعوة الباب وجعل هذا في قصره، ثم عقد له مجلساً لمناظرته فأفتوا بكفره فلم يسع الوالي إلا أن أشار بضربه على رجليه فلما استغاث أو عزوا إليه أن يصعد المنبر ويعلن توبته ففعل. وظهر الوباء في شيراز واختلت أحوال
فارس فبعث والي أصفهان يستدعي الباب إليه، فلما رأى والي شيراز ذلك نفى جميع أصحاب الباب من ولايته، ولما حمل الباب إلى والي أصفهان أوعز هذا بأن يحسن القوم استقباله فاستقبلوه، ثم عقد له مجلس المناظرة فأفتى العلماء بقتله، فاعتذر الوالي عن تنفيذ فتواهم، وخبأه في قصره مطلقاً له حرية التأليف والكتابة وبقي في داره حتى قتل الوالي وخلفه في الحكم ابن أخيه، فطالع هذا رجال عاصمة الملك بالأمر، فأمروا بنفيه إلى أذربجان فحبس في قلعة جهريق ثم قلعة ماكو.
وبث الباب دعلته وساعده المحيط واختلال الأمن في كثير من الولايات، فاشتد دعائه في بث دعونه فلقيت قبولاً من بعض الناس، وفي مقدمة أتباعه الملا حسين بشرويه الملقب بباب الأبواب في خراسان، والثاني الملا محمد علي البارفروشي بمازندران والثالثة امرأة من قزوين اسمها زرين تاج من عائلة عريقة في العلم وزوجة أحد المجتهدين وهي جميلة الصورة جميلة الأدب، تحفظ القرآن وتعرف تفسيره وأسراره، فاقتنعن بصحة دعوة الباب، ولم تلبث أن دعت إليه سراً وجهراً وإن لم تجتمع به، فمال الناس إلى مواعظها وفتنتهم بفصاحتها وجمالها وجميل شعرها، وقد حسرت نقابها ولقبت بقرة العين، ثم خرجت إلى خراسان فالتقت في رشت بالبارفروشي أحد الدعاة ومعه جند من البابية فبعثا منادياً ينادي عجلوا أيها الناس فقد ظاهر الإمام المنتظر فنصبوا منبراً ووقفت قرة العين سافرة وحثت الناس على الاعتقاد بالباب فآمن بعضهم وأنكر الآخر، ثم انتقلت على هودج إلى مازندران والناس يتبعونها، وأخذت تطوف القرى تبشر بدعوة الباب فقبضت عليها الحكومة وخنقتها وأحرقتها.(6/269)
ثم قام تاملا حسين بشرويه وقد كثر أنصار الباب وألف منهم جيشاً صغيراً قاتل جيش الشاه في مازندران وجعل الملا علي البارفروشي مقدماً وسماه حضرت
أعلى وحجبه عن الناس، وأصيب بشرويه في إحدى المعارك وأوصى جماعته بأن يطيعوا حضرت أعلى وتغلبت الحكومة على قلعتهم وقبضوا على ملا محمد وحاكموهم فقتلوهم على بكرة أبيهم. وبلغ عدد من قتل في هذه الوقائع ألفين وخمسمائة من البابية وخمسمائة من الجند وغيرهم. وحدث مثل ذلك بقيام أحد الدعاة الملا محمد علي الزنجاني في زنجان ولكنه لم يوفق. وكذلك وقع في مدينة تبريز فقاتلت حكومة فارس دعاتهم حتى أبادتهم. أما الباب فكان مسجوناً في سجن جهريق. ولما اندلع لسان الثورة في مازندران وزنجان وتبريز وقتلت الأنفس، ارتأى رئيس حكومة فارس قتله فقتله بمشورة الشاه في 28 شعبان سنة 1266هـ. ووضعت حكومة فارس في أشياعهم السيف في جميع مملكتها خصوصاً بعد أن ثبت أن الذي حاول اغتيال ناصر الدين شاه سنة 1268 هو من شيعة البابية.
وكان من جملة العلماء الذين فتنوا بدعوة الباب رجل اسمه بهاء الله ميرزا حسين علي فلما وقعت هذه الحوادث قبض عليه وسجن ثم حوكم، وكان سفير روسيا يدافع عنه من تهمة الاتفاق مع الخارجين على الشاه، ثم أفرج عنه ونفي إلى العراق فأرسل مخفوراً بالجند الفارسي مع بعض فرسان من سفارة روسيا في طهران لئلا يغتالوا في الطريق فأقام في العراق 12 سنة ثم حمل إلى الآستانة ومنها إلى أدرنة فأقام فيها نحو خمس سنين ثم صدر الأمر بنفيه إلى قبرس وظل البهاء في عكا حتى وافاه أجله سنة 1309 فدفن فيها، وخلفه ابنه عباس أفندي وكان كأبيه على غاية من حسن السنت والأخلاق وعظم النفس وبسط اليد وجمال الأدب وحسن العشرة حتى استمال بأخلاقه من يعتقد بالبابية ومن لا يعتقد. ولما توفي سنة 1922 تفرق أمر الجماعة وانقلبوا فرقاً كما كان عباس أفندي في حياته مع صبح أزل متخاصمين متشاكسين. وسرت دعوتهم إلى عدد قليل من أبناء
الشام وإلى بعض أهل أوربا وأميركا. ويبالغون في عدد من دانوا بهذا المذهب(6/270)
في الغرب. وهم في الشام وفي أميركا وأوربا بضعة آلاف على الأغلب.
يقولون: إن من تعاليم الباب تحريم الكتب المنزلة قبله ونسخ القرآن وأحكامه. وإنه قضى بهدم المزارات حتى الكعبة وقبر الرسول وفرض بناء 19 مزاراً باسمه ومن دخلها آمنلً، وأبطل الحج وقسم السنة إلى 19 شهراً وجعل الشهر الواحد 19 يوماً فأيام السنة عنده 361 وأضاف إليها خمسة أيام سماها المسروقة ورمز عنها بحرف هـ وجعل أول يوم من شهر فروردين ماه الفارسي الموافق للحادي والعشرين من شهر مارس الإفرنجي الغربي الذي هو يوم الاعتدال الربيعي وهو عيد النوروز عند الفرس عيداً للفطر وخصه بنسفه وسماه عيد رضوان. وجعل الصوم 19 يوماً من شروق الشمس إلى غروبها وخصص الأيام الخمسة المذكورة للهو والطرب قبل دخول شهر الصيام. والمطهران عنده خمسة النار والهواء والماء والتراب وكتاب الله أي الباب مع تلاوة آية التطهير 66 مرة على كل شيء نجس. وجعل الدم وروث البهائم وغيرها طاهراً. وللباب وخليفته بهاء الله عدة رسائل وكتب منها ما كتباه بالفارسية ومنها بالعربية، من أهلها من قلم الباب كتابه البيان وفيه شريعته وتعاليمه. ومن أهم كتب بهاء الله كتاب أقدس نهج فيه منهج القرآن في ترتيب الآيات والسور ودون قيه شريعته وأحكامها باللغة العربية. وقد أدخل البهاء عدة إصلاحات على مذهب الباب اقتضته الحال ذلك. وبعضهم يطلق على أهل هذا المذهب اسم البابية نسبة للمؤسس الأول وبعضهم يلقبهم بالبهائية نسبة لبهاء الله الذي زاد في المذهب ونقص منه، وهم يسمون أنفسهم أهل البيان.
قال كليمان هوار: إن الباب أنشأ ديناً جديداً بتعاليمه وعقائده وأنشأ مجتمعاً جديداً تحت ستار الإصلاح في الإسلام. فالله واحد وعلي محمد مرآته التي ينعكس فيها النور الإلهي ويتأتى لكل إنسان أن يشاهدها. وقال الباب في كتابه البيان: عليكم أن
تجعلوا من أنفسكم ومن أعمالكم مرائي بحيث لا ترون فيها إ لا الشمس التي تحبونها وقد برأ الله العالم على سبع صفات سميت حروف الحقيقة وهي القدر والقضاء والإرادة والمشيئة والإذن والأجل(6/271)
والكتاب. ويدير شؤون الطائفة 19 رجلاً وكل بابي يدفع لهم في السنة خمسة في المائة من قيمة رأس المال، وتلغى جميع العقوبات ما عدا الغرامة التي توضع على زوجين لا يريدان أن يتعاشرا بالمعروف. والتجارة والعقود مشروعة، ويسمح بدفع فائدة عن بضائع بيعت بالنسيئة. والزوج إجباري بعد الحادية عشرة والطلاق ممقوت، ويمهل الزوجات المتخاصمان سنة لتأليف ذات بينهما، وعلى الأرامل من الرجال والنساء أن يتروجوا، وعدة الرجال منهم تسعون يوماً والنساء خمسة وتسعون يوماً وإذا لم يفعلا يغرمان غرامة.
ولا يضرب الولد قبل أن يبلغ الخامسة وبعد ذلك لا يضرب أكثر من خمس ضربات. ويسمح لمن يدينون بهذا المذهب أن يستعملوا الحلي والجواهر خلافاً لما أمر به الشارع الإسلامي. ويسمح لهم بالوضوء ولكن لا على لأنه قرض، ويجب أن يكون في كل حي حمام، ولا يتحجب النساء ويؤذن بالتحدث إليهن من دون إكراه وأن يكون الكلام معهن جهراً لا سراً. ويحج أتباع الباب إلى البيت الذي ولد فيه حيث يقام له مسجد، أو إلى المكان الذي سجن هو فيه أو خاصة حوارييه، ولا يسمح لمن يدينون بمذهبهم بالارتحال والسياحة إلا لمن اضطر إلى ذلك، ولا يسمح بركوب البحار منهم إلى المكان الذي سجن إلا لمن اضطر إلى ذلك، ولا يسمح بركوب البحار منهم إلا للحجاج والتجار، ولا تقام صلاة جماعة إلا على الأموات وخطبة المسجد واجبة، ويدفن الموتى في زجاج أو في حجارة منحوتة مصقولة، ويجعل في يد الميت اليمنى خاتم يكتب على فصه لئلا يفزع الموتى في قبورهم. وليس من حق أحد أن يستعمل الشدة مع إنسان ولا أن يسيء إلى أخيه،
ويجيبون على كل من يكلمهم أو يكاتبهم ويفرض عليهم أن يؤدوا الرسالة التي ائتمنوا عليها إلى صاحبها من دون عبث بها. ويحظر عليهم تعاطي المخدرات والمكسرات، ويجب أن يدعو كل واحد منهم في كل شهر تسعة عشر إنساناً، وأن يجتمع معهم ولو على شرب الماء القراح، ويحظر عليهم الكدية، ومن الضلال إعطاء الشحاذين. وتقسم مواريثهم على الصورى التالية بعد صرف نفقات الدفن والجنازة: للولد 9 من ستين وللزوج 8 من ستين وللوالد 7 من ستين وللأم 6 من ستين وللأخ 5 من ستين وللأخت 4 من ستين وللأستاذ 3 من ستين، ولا يرث أحد من ذوي القربي بعد ذلك اه.
وحظر على البابية لما نزلوا عكا الدعاية إلى مذهبهم في الشام. ولما أعلنت(6/272)
الحرية سنة 1908 انتقلوا إلى عكا وزاد أشياعهم قليلاً وهم هنا قلائل ربما لم يتجاوزوا المائتين وهم على غاية من حسن الأخلاق وجميل المعاملة قلما شكا منهم إنسان أو اشتكوا هم من إنسان، ولا تجد بينهم من لا يحترف حرفة ويعمل ويكد. ولا سيما رئيسهم الأخير عباس أفندي فقد كان محافظاً على صلواته مع الجماعة لم يخرج في سمته عن روح الشرع الإسلامي. فإما أن يكون صادقاً في إسلامه أو أنه عاش في تقية متقنة كما يعيش كثير من أرباب النحل الضعيفة بين المخالفين لهم من السواد الأعظم، ولا سيما الشيعة بين ظهراني أهل السنة.
وكان عباس على علم وأدب إذا تكلم يمزح الفلسفة بالمنقولات فيتعذر على كل إنسان فهم كلامه، وله خطب ومواعظ انطلق بها لسانه في سياحة له في أوربا وأمريكا دانت خمس سنين، ويؤخذ من مجموع أقواله أن البهائية أو البابية ترمي إلى تطبيق الشرائع على العقل وحل المشاكل القائمة بين أهل الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. وقال مرة: إن الباب صاحب المذهب كان يريد التوفيق بين السنة والشيعة. بل كان يرمي إلى وحدة العالم الإنساني ونشر
السلام العام والتأليف بين قلوب البشر بقوة الدين وتحكيم العقل والعلم، ونبذ التعصب الديني والجنسي والوطني والسياسي، ونشر العلم وإنشاء محكمة عامة كبرى تفصل الخلافات التي تحدث بين الشعوب والدول، وإلى تربية بني البشر على الفضائل الإنسانية وإلى إقامة القواعد الاقتصادية وتأليف لغة عامة تفهمها جميع الأمم.
ويقال على الجملة: إن التشيع كان منشأ البابية والإسماعيلية والنصيرية والدرزية. وكما كانت فارس مثابة كثير من أسباب المدينة الإسلامية كانت أيضاً منشأ معظم ما تفرع من الإسلام من النحل والطرق الغربية. ولو تسامح أهل هذه المذاهب في نشر حقائقها، لما تقول عليهم المتقولون، ولا رماهم المخالفون بما قد يكونون منه أبرياء. وبقي أن يقال: إن في الشام مذهب اليزيدية عبدة الشيطان، وممن ينتحلون هذه النحلة قريتان في ضواحي حلب، ولما كانت جمهرة أهل مذهبهم في جبل سنجار من عمل الموصل لم تخصهم بمبحث اختص لأنهم لا يسترعون الانتباه ويتمثلون على الأغلب في سواد الأمة والله أعلم.(6/273)
الأخلاق والعادات
عادات الدمشقيين:
كان سمر الشاميين قبل نصف قرن تقريباً في بيوتهم، نكتفي كل طبقة باجتماعها مع أهل طبقتها، فنتج عن ذلك أن في المدينة الواحدة من مدن الشام المبيرة تبايناً وسمرهم ولهجاتهم، وبالطبع بتصوراتهم وعقليتهم إلى أن ولي الشام مدحت باشا الوالي العثماني الشهير ووضع أسس الإصلاح العلمي والاجتماعي والإداري، وبدأت النهضة الأدبية عقب ذلك فتعارف الأولاد بالمدرسة أولاً، وتقومت ألسنتهم، واعتادوا التلفظ بالفصيح الصحيح، وفتحت الأندية والمقاهي ودور التمثيل، ثم قاعات الصور المتحركة، وتعارف الناس وقلت الفوارق، وقضى على الأرستقراطية إلا قليلاً، وحلت محلها الديمقراطية، فنشأ عن ذلك اعتياد الشباب الراقي المتعلم ارتياد المحال العامة والاحتكاك بمن مضى وقت تعليمهم، فمرنوا أيضاً على التخاطب بالفصيح الصحيح ما أمكن، وعم ذلك جميع الطبقات حتى غير المسلمة وما نزال نوى ذلك في تقدم مستمر. تنقسم حفلات الدمشقيين إلى مدنية ودينية. أما الدينية فتنحصر فيما يلي: عيد الفطر والنحر، والرجوع من الحج، والإياب من زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة السلام، وسنة الختان، وبعض نذور لله يقوم بها من أبل من مرض شديد، وآب من سفر خطر أو بعيد، وعادات القوم في تلك(6/274)
الأعياد إخراج الصدقات والزكوات والتوسيع على الفقراء، وتكثر الزيارات ويتصافح القوم عما بينهم من سيئات، ويصلون أرحامهم ويوسعون على عيالهم. وعادتهم في ذلك أن يبدأ الأصغر سناً بزيارة الأكبر، ويقدم الأكبر سناً ويحترم في كل شيء. ومنشأ ذلك على ما أعلم الأمية فإن غلبة الأمية على قوم تضطرهم إلى احترام من كان أكثر تجربة منهم، ومن مرت عليه السنون، وحلب الدهر أشطره وكثرت تجاربه، كان جديراً بالاحترام. أما اليوم
فحقيق بالاحترام من يقدم الخدم النافعة لأمته، وليس للسن دخل في ذلك. وخير الناس كما قيل أنفعهم للناس.
ويتقدم عيد الفطر شهر رمضان، وللدمشقيين فيه عادات: منها إتمام فريضة الصيام، والانقطاع عن بعض عادات ضارة، ويقضون نهاره في سماع المواعظ في المساجد، وليلة في زيارات بعضهم بعضاً، وارتياد محال اللهو المباح، وتكثر حركة الأخذ والعطاء والبيع والشراء، وهو من المواسم المذكورة.
أما حفلات الحج في هذا العصر، فتتم حين رجوع أحدهم من بعد أداء فريضة الحج بأن يقدم إلى خواص ذوي قرباه وجيرانه وأصدقائه وأحبابه هدية، وتختلف هذه الهدية بحسب مقدرته المالية، ويبتدئ المهنئون بزيارته في داره، ويقدم له خواص أصدقائه وأقربائه قبل وصوله إلى وطنه هدايا تكون غالباً من اللباس الفاخر، ويكون مثل ذلك بعد رجوع أحدهم من زيارة مسجد الرسول. وتختم هذه الزيارات غالباً بإقامة حفلة يدعونها مولداً وهي عبارة عن اجتماع يضم أصدقاء المحتفى به وذوي قرباه وزملاءه وجيرانه في داره، ويدعون المنشدين ويفتتحون بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم وينشدون بعض قصائد في مديح الرسول يتلون المولد النبوي فيه وتعداد بعض مآثره ونسبة وبعض إرهاصات تقدمت بعثته، وحين مولده، يقصدون من ذلك التبرك.
ومثل ذلك حفلة الختان ومن المتعارف فيها أن يهدي إلى صاحب الحفلة أهلة وأصدقاؤه شيئاً كثيراً من السمن والأرز والغنم والقهوة، بل من جميع ما يلزم لتلك الحفلة، ويكون ذلك ديناً عليه وفاؤه، حين إقامة حفلة مثلها(6/275)
عند المهدين. وتختم هذه الحفلة مثل أخواتها أيضاً بتلاوة المولد.
ولم يبرح بعض من لا يعتد بعقولهم ينذرون بعض نذور غربية وهي ما يسمونه بالنوبة يقيمون لها حفلة هي عبارة عن دعوة بعض الفقراء المشعوذين، ممن
يضربون على الطار والطبل، ويلعبون بالشيش، وبعض قطع من السلاح الأبيض ويطفئون بأفواههم النيران فيجتمع عليهم الأطفال وبعض صغار الأحلام فقط. وهي عادة أصبحت على وشك الزوال.
ومن الحفلات الدينية أيضاً حفلات تكايا أو زوايا المولوية، وأرباب هذه الطريقة لهم حين إقامة هذه الحفلات لباس خاص وهو ثوب أبيض فضفاض، ويلبسون على رؤوسهم ما يسمونه كلاهاً وهو من اللباد مستطيل الشكل، ويمتاز رئيس تلك الطريقة بوضعه عمامة خضراء فوقها ويدورون على أنفسهم على نغمات موسيقية مطربة جداً من حيث الفن الموسيقي. وهي من حيث نظامها أتقن حفلات الشرق الدينية على الإطلاق، وهي بالحفلات المدنية أليق منها بالدينية.
إذا حضرت أحدهم الوفاة تعلن وفاته إن كان من الأشراف والعلماء وأرباب الظهور في مآذن المدينة، ثم يحضر غسل المتوفى أصدقاؤه وذوو قرباه. وغسل الميت عند المسلمين يقوم مقام التقرير الطبي في هذه الأيام، يثبت بها أن الميت مات ميتة طبيعية فيطلع الغاسل على عامة جسمه، فإذا كان فيه أثر ضرب أو رض أو خنق ظهر ذلك لحاضري غسله، وهم غالباً من محبيه، فيشيع ذلك ويتصل بالحكام، وبعد غسله يشيعون جنازته إلى أحد المساجد ويصلون عليه، ويذهبون به إلى المقبرة ويمشي المؤذنون أما جنازته يذكرون الله وذلك إشهاراً لموته وإعلاناً له. وبعد رجوعهم من المقبرة يذهبون إلى منزل عميد الأسرة يعزونه ويحضرون على ثلاث ليال بعد العشاء أحد المساجد القريبة من دار المتوفى، يسمعون ما تيسر من القرآن الكريم، ويسمون ذلك صباحية، ويحضر تلك الحفلة أقرباء الراحل وجيرانه وزملاؤه ويصرفون على الفقراء والمعوزين الدراهم والطعام بحسب ثروة المتوفى. وهذه العادة كادت تبطل لمعرفة القوم بقيمة الوقت فأخذوا يكتفون بالتعزية في(6/276)
بيت آل الفقيد. وعادة عيادة المريض معدودة
عندهم من الواجبات يواسونه ويسلونه ويكررون الاختلاف إليه.
من عاداتهم المدنية أنه متى بلغ الشاب العشرين إلى الثلاثين أن يتولى عميد أسرته إرسال عميدة العائلة مع من ترضاه من أخت وعمة وخالة ونسيبة وبعض خواص الجيران إلى بيوت المدينة يبحثن وينقبن على زوجة لذلك الشاب، وتكون قاعدتهم في خطبيهم غالباً الكفاءة من جهة الثروة والسن والآداب. ولا يزلن يوالين بحثهن عاماً كاملاً على العقل ومتى قر قرارهن على إحدى البنات يكررن التردد إلى دارها مرات عديدة ليرينها بجميع مظاهرها، يرينها في زينتها وفي وقت الغسيل ووقت الطبخ وتنظيف المنزل. وعادة الدور التي يكون بها بنات في سن الزواج وهي عادة من الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرين أن يناط بالبنات تقديم القهوة والشراب للخاطبات فيتأمل الخاطبات مشيتها ونقل أقدامها وأدبها في تقديم القهوة في الإياب والذهاب ويخاطبنها فيرين غنة كلامها وفصاحتها، ومتى أصبح الأمر تقريباً واقعاً يذهبن إلى الحمام معاً ويرين جسمها عارية وشعرها ويشممن آذانها وفمها وتحت إبطها ورائحة عرقها وثيابها، وينقلن ذلك إلى الخاطب وعميد الأسرة مع وصف شكلها وجمال وجهها وطولها وغير ذلك. هذا مما له مساس بالنساء من طرف الخاطب.
أما وظيفة النساء من جهة الخاطب فيزرن الحي القاطن فيه سراً ويرسلن من يتقن به من أقربائهن وجيرانهن فيدخلن غالب بيوت ذلك الحي باحثات عن أخلاق الخاطب وثروته وتجارته أو وظيفته، وعن عدد آل بيته ومركز تلك الأسرة في الهيأة الاجتماعية. ويجري التقصي عن آداب بيت الخاطب وأصوله ويذهبن بالمخطوبة سراً إلى مقر الخاطب أو طريق ذهابه وإيابه فتراه فإذا راق الخاطب في أعينهن بعد تلك الاستخبارات يرفعن الأمر إلى عميد أسرة المخطوبة. وهنا تنتهي مهمة النساء، ثم يتألف شبه وفد من عميد أسرة الخاطب، والبعض من
معارف عميد بيت المخطوبة، إلى دار ذلك العميد، ويطلبون منه الموافقة على زواج تلك البنت من ذلك الشاب، بعبارات تختلف بحسب مركز تلك الأسر في المجتمع. ويكون الأمر مقضياً على الأغلب(6/277)
بعد تلك التمهيدات، ويقررون المهر ويقرءون فاتحة القرآن الكريم للتبرك دليلاً على رضى الطرفين. وبعد ثلاثة أيام يقدم الخاطب خاتم الخطبة. وبعد أسبوع غالباً يحتفل بحفلة العقد يقوم بها الخاطب، ويدعوا برقاع مطبوعة على غاية الإتقان أهله ومعارفه، معيناً وقت الدعوة ويومها، يرسل إلى عميد أسرة المخطوبة بعدد من تلك الرقاع ينفقون عليه من قبل، فيدعو من أراد من أسرته وأصدقائه. فيجتمع المدعوون في المحل المعين ويجري على الأغلب افتتاح تلك الحفلة بقراءة المولد، وتدار المرطبات وقراطيس الحلوى على المدعوين، بعد عقد قران الزوجين الشرعي، وينفض المدعوون، وتنتهي حفلة العقد بعد دفع المهر المقرر، وبعد شهرين أو ثلاثة غالباً يذهب وفد نسائي من قبل العروس بعد أن يكون أهل العروس أتموا لوازم عروسهم يحملن هدية تختلف بحسب مكانتهن، يسمينها تعيينة فيعين موعد حفلة العرس وعدد المدعوات من أهل العروس وتكون تلك الحفلة ليلاً في الغالب، ويرسلون بطاقات الدعوة، وليلة الحفلة يرسل وفد من النساء في مركبات على عدد المدعوات من النساء إلى دار العروس، يأتين بها من دارها مع المدعوات إلى دار العروس، وتكون هذه غاية الرواء والبهاء والزينة، ويدعى عادة إلى تلك الحفلة المغنيات والمطربات ويقضين تلك الليلة بعد دخول العروس بعرسه غرفة خلوتهما بالغناء والرقص وسماع الموسيقى وآلات الطرب، ويمسين على ذلك إلى الصباح، وتعود السيدات المدعوات إلى دورهن ويبقى في بيت العروس بعض الخواص من أهلها، مثل أمها وعمتها وخالتها ومربيتها سبعة أيام.
هذه هي الحفلة النسائية أما الحفلة الخاصة بالعروس الرجل فيتقدم أحد وجوه
أسرته أو أصدقائه غالباُ يعد داره لتلك الحفلة ويسمونها تلبيسة ويدعون إليها جميع أقارب العروس وأصدقائه وأرباب مهنته وجيرانه، في جوقة موسيقية تدير هذه الحفلة نحو ساعتين تطرب الحضور بأنغامها، ومتى حان للعروس لبس ثيابه يهزج الشاب عادة عند إلباسه كل قطعة من ثيابه بأهازيج وطنية عامية بحسب كل عصر ومصر. يذهب به الحضور عقبى ذلك إلى دار حفلة العروس بالأهازيج، ويدخلونه الدار مع عميد الأسرة(6/278)
فيدخله ويضع يده بيد عرسه ويدخل بهما إلى غرفتهما ويذهب بسلام.
هذه حفلات الزواج وعوائد القوم قديماً، واليوم قد زيد عليها معاينة صحة الزوجين، وينظرون إلى الكفاءة العلمية قبل كل شيء مما يبشر الأسرة المقبلة بأعلى درجات السعادة الزوجية، وهذا الشكل في تأسيس الأسرة يعض عليه المحافظون بالنواجذ، ويؤيدونه بكل ما أُوتوا من قوة، ويرونه أضمن لحفظ السعادة البيتية من جميع أشكال النظم المتبعة في العالم.
ومن عاداتهم الخروج أواخر فصل الشتاء وأوائل الربيع إلى المتنزهات العامة يوميا في الأسبوع لاستنشاق الهواء النقي، على اختلاف عادهم ومذاهبهم، نساء ورجالاً، وتكون أماكن جلوس النساء خاصة بهن غالباً، ولا يتيسر للرجال أن يخالطوهن بحكم العادة، والشاذ قليل. ومن العادات القديمة التي نشأت من الأمية أيضاً سماع الفصاص في المقاهي وقد تلاشت الآن هذه العادة، وكان يجتمع في المقهى عدد يختلف بحسب المحل والقصاص، يتصدر القصاص الحكواتي في صدر المكان ويقرأ لهم غالباً القصص التي يرغبون فيها مثل رواية عنترة والزير وأبي زيد وهي روايات حماسية، تمثل الشجاعة والكرم والأنفة والحمية والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمام ورعاية الذمار والجار، إلى آخر ما هنالك من مكارم الأخلاق ينسبونها إلى أبطال الرواية، ويجعلون نهاية النصر لهم
والدوائر على مناوئيهم، ويصفون الخصوم بالجبن والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد إلى آخر ما هنالك من مفاسد الأخلاق، مما يربي نفوس السامعين على حب الفضائل ويحبب إليهم العمل بها، ويبغض إليهم النقائص ويحملهم على البعد عنها، وغالب من يجتمعون لسماع تلك الأقاصيص من طبقة العوام، وهم متصفون ببعض تلك الفضائل.
ومن ملاهيهم خيال الظل والعوام يدعونه قره كوز، وكان في أول القرن الحاضر من أشد العوامل تأثيراً في تهذيب الأخلاق وتقويمها، بما يلقيه أستاذ هذا الفن المشهور بدمشق علي بي حبيب على ألسن تلك الخيالات من المواعظ الأخلاقية، بعبارات ملؤها انتقاد، تفعل في قلب أشد الناس بلادة، وكان يصور في كلامه العادات السيئة المتفشية في عصره، ويظهرها(6/279)
في قالب ينفر الناس منها، ويصور ظلم الحكام وأصحاب النفوذ وأغلاطهم في صور نقد لطيف، وكان يحترمه علية القوم ويعد أستاذاً كبيراً في الموسيقى تخرج به كل من ينتمي لهذا الفن بدمشق.
ومن العادات الشائعة تعاطي القهوة والشاي في المقاهي العامة شتاء، وأنواع المرطبات صيفاً، والتدخين بالتبغ والنارجيلة على الدوام، وتكون صورة اجتماعية حسب طبقاتهم، ويرتادون أماكن سمرهم هذا، بعد العشاء حين الانتهاء من مزاولة الأشغال وطلب الراحة. وأحاديثهم غالباً تدور على السياسة وفي موضوعات علمية واجتماعية يمتدحون فلاناً لمكرمة أتاها، ويذمون فلاناً لنقيصة بدرت منه. ارتقت أحاديثهم في هذا القرن إلى الخوض في هذه الشؤون العامة، ولم تكن في القرن الماضي تتعدى أحاديث البطون والفروج إلا قليلاً. ومنهم من يقضي سمره ببعض الألعاب الشائعة كالشطرنج والبليار والدومنية والدانا والنرد وألعاب الورق على اختلاف أشكالها وأسمائها.
وقد فشت مؤخراً عادة ارتياد بعض الشباب أماكن الشراب، وموقعها غالباً بين
الرياض والغياض، وعلى ضفاف الأنهار، وتكون أغلب تلك الاجتماعات متجانسة، فتراهم جماعات متشاكلين حوا مناضد الشراب، يجتمع كل أليف إلى أليفه، وتجد جالساً إلى كل منضدة غالباً رجل من أرباب الصوت الحسن ينشد أصحابه الأناشيد الحسان. ومنهم من يختلف إلى زمرة من الموسيقيين الفنانين، يصحبون آلاتهم كالعود والكمنجة والقانون والدائرة والناي. ومنهم من يقتصر على بعض تلك الآلات. وتجري غالب الاجتماعات في أماكن خاصة. وأما المحال العامة للشراب فنحوي من كل شيء أحسنه كالمنشدين والمغنين والآلاتية، وتسمى تلك الأماكن الجنائن، تضم غالباً الماء والخضرة والشكل الحسن، وتبتدئ وقت الغروب وتنتهي عند منتصف الليل.
وهذا مجمل عادات دمشق ولا تختلف عنها عادات سكان القطر في الشمال والجنوب والغرب اختلافاً يذكر ما خلا بعض عادات دينية عند الطوائف غير المسلمة، وفيما عدا ذلك فهم متشابهون في أخلاقهم الاجتماعية، ويمتاز سكان هذا الديار من غيرهم في المحافظة على ما ورثوه من بعض أخلاق(6/280)
الفاتحين العرب منذ نيف وثلاثة عشر قرناً وهي الرزانة والوقار والصبر على المصائب، ويلتزمون هذه الرزانة وهذا الوقار في أعمالهم ومجالسهم بل وفي بيوتهم وبين ذويهم ومجالس سمرهم وشرابهم وأنسهم، ويكرهون من يتصف بالطيش والرعونة والشكوى الصريحة ويتجنبون مجالسته، ولكل عادة من هذه العادات شذوذ وهي قليلة.
عادات الحلبيين:
للحلبيين المسلمين عادات يستعملونها في أفراحهم وأتراحهم نذكر منها شيئاً يحفظه التاريخ إلى ما بعد أن يحتاجه تطور الزمن فيبقى ذكره من مستغرب الأخبار وروائع الآثار فنقول:
مما يستعملونه في قضية الولادة أن الطفل متى تمخضت به أمه وولدته تلمسه القابلة فإن كان غلاماً صلت على محمد وإن كان جارية ترضت عن فاطنة الزهراء ثم يقدم إلى أحد أقاربه فيؤذن في أُذنه الأذان الشرعي يسمى من قبل وليه ويطبخ لأمه حلوى بالشونيز والجوز لتكثير لبنها وتقصير بالشرب على ماء الحمام المنقوع فيه أصول البنفسج مدة أسبوع ويرسل أحد أصدقاء الأسرة مائدة كبيرة تشتمل على مقدار عظيم من الزلابية معها أباليج السكر، ويولم أهل المولود في اليوم السابع وليمة حافلة بين أطعمتها حلوى قوامها الدبس والشمرة تعرف باسم المغلي وقد يحضر في ليلة تلك الوليمة قيان للنساء ومطربون للرجال، وكل صديق لأبوي المولود يقدم هدية بعضها مأكول وبعضها مما يتجلى به ومنها مسكوكات ذهبية قديمة تعلق في قلنسوة الطفل واسم ذلك تهناية وبعد مضي أربعين يوماً على الولادة تؤخذ النفساء إلى الحمام مع أترابها من النساء ويكبس بدنها بالشدود وهو المردقوش والخزامى المغربية. وإذا شعرت أم الطفل بمغص في بطنه تمضغ له لب عجو الدراقن وعصر لفظتها في فمه فيسكن مغصه وتدهن مراقه بالزيت وتذر عليه مسحوق ورق المرسين، ومتى بدأت أسنانه بالخروج تسلق له شيئاً من(6/281)
الحنطة تدوفه بالسكر ولب الجوز واللوز والفستق وتطعمه منه وتفرق باقيه على الأهل والجيران.
متى بلغ الطفل الخامسة من عمره يرسل إلى المكتب أو إلى الشيخة أو المعلمة إذا كان جارية ومتى ختم تعلم القرآن العظيم تعمل له حفلة نسمى نشيدة يحضر فيها إلى منزل الغلام جماعة الشداة والمطربين ودراويش الطريقة المولودية وبعد أن تقام نوبة سماح يطاف بالغلام ورفقانه بعض الشوارع البلدة وهم ينشدون أزجالاً في المدائح النبوية ماشياً وراء الغلام حامل المبخرة ورجل آخر ينثر الشعير على رؤوس الناس دفعاً لإصابة عيون العُيُن ثم يعود هذا الموكب إلأى منزل الغلام
وتبسط له الموائد فيأكل وينصرف ويملأ جيب كل ولد فستقاً وزبيباً مضافاً إليهما شيء من النقود. وقد يختن الولد في هذا اليوم إذا لم يكن ختن من قبل. واعتاد كثير من الناس ختن أولادهم في اليوم السابع من ولادتهم كما اعتادوا ثقب شحمة أذن الأنثى فيه. وقد يفرد لختان الغلام حفلة يدعى إليها الأحباب والأصحاب ويولم لهم ثم يزين الغلام بالحلي والحلل ويركب على برذون مزين ويركب وراءه رديف يقال له العريف، ويطاف به في الشوارع يتقدمه أحد مشايخ الطرق راكباً على برذون مجلل بسجادة الإرشاد مكللا رأسه بطيلسان أحمر في يده عقافة يشير بها إلى جماعته وهم سائرون أمامه يحملون أعلام طريقتهم ويضربون طبولهم، وبعد أن ينتهوا من طوافهم يعودون إلى منزل الغلام وتتلى قصة المولد النبوي ختامها يختن الولد. وقد يرافق هذا الموكب طائفة من الدارعين ولابسي الجواشن والخوذ في أيديهم السيوف والتراس يقفون في فسحات الطرق ويلعبون بعضهم مع بعض بسيوفهم وقد سار وراء جموعهم رجل يقود جملاً على ظهره منصة مهندمة يقوم رجل يرتدي كسوة نساء عرب البادية يقال له عبلة قد أمسك بيديه صنوجاً يرقص بها حتى يصل إلى دار المختون وهذا الموكب يسمى عراضة.
للغلام في أول يوم يصومه من رمضان طبق يملأ بأنواع الحلوى يفطر عليه. وإذا بلغ الغلام مبلغ الرجال وتاق للزواج تأخذ أمه وذوات قرابته يلتمسن له زوجة تنطبق أوصافها على أذواقهن. والأغنياء يغالبون بالمهر(6/282)
وربما بلغت جملة المهر ذهب عثماني وزيادة، والمهر عند الفقراء لأحد لأقله والمعجل منه ثلثاه والمؤجل الثلث الباقي. والزوجة الغنية تضيف إلى المهر من مال أبيها قدره وربما زادت وتصرف الجميع على شراء أثاث المنزل. وعقد الزواج يكون في بيت الزوجة باحتفال فائق يحضره المطربون ويطاف على الحاضرين بكؤوس المرطبات وأنواع الحلوى المجففة. وبعد أن يتم العقد بأيام ينقل الجهاز الذي أعدته الزوجة
إلى بيت الزوج بموكب حافل يتقدمه جماعة الحمالين ولاعبو السيوف والعصي، وشدادة الأزجال، ويسبق ليلة القران ليالٍ يسمونها التعاليل يحضر فيها المطربون والموسيقيون وتحرق الألعاب النارية وقبل ليلة القران بليلتين يدعو أهل الزوجة أقاربهن ويفرق عليهن الحناء ونقوشها فينلن منها على أيديهن ما تناله منها العروس على يديها ورجليها ومعصميها وتعرف تلك الليلة بلبلة النقش، ثم في صبيحة اليوم الذي يكون القران في مسائه تقام وليمة العرس وتكون الدعوى إليها جفلى يجلس على سماطها من أحب. وفي هذا اليوم يأخذ أهل الزوج الزوجة من بيت أهلها فيركبن العربات المزدانة ويأتين بها إلى بيت زوجها وكن قبل ظهور العربات يأتين بها إلى بيت زوجها ماشيات على أقدامهن يزغردن ولا يمرون بها على باب حمام زعماً بأن جنه يخطفها. وأصل هذا ما كان يفعله الانكشارية من اختطاف العرائس اللواتي يمررن على حمامهن فكانوا لا يطلقون سراح العروس إلا بعد أن يأخذوا شيئاً من حيلها أو نقوداً من زوجها.
في مساء هذا اليوم يأخذ الزوج زينته في منزل أحد أصدقائه ويحضر إلى منزله بموكبه حافل من المطربين والموسيقيين وهو يسير الهوينى بين شابين يشبهانه يقال لهما سخاديج وأحدهما سخدوج. قد حملت أمامه مصابيح ضخمة على عتلات في مقدمتهم شداة يترنمون بمواليات كلما أتم أحدهم مواليه يهتف الجميع بقولهم: الله يساور جوز جوز جيز تحريف الله يصور الزوج زوج جهاز. وقدم تقدم صف الزوج صفوف المطربين وأصحاب الأزجال الحماسية وحملة المشاعل ومحرقو الألعاب النارية والمدرعون واللاعبون بالسيوف ألعاب الفروسية إلى أن يصل هذا الموكب منزل الزوج فيدخله وتتلقاه عرسه ويضع يدها في يده أقرب إنسان إليه ويدخلان الغرفة المعدة لهما(6/283)
ويفتح على رأسيهما طيلسان وردّي اللون. وفي صبيحة تلك الليلة يدخل الزوج الحمام ومعه الجم والغفير من الخلان
والإخوان، وبعد خروجه منه يعمل له أصدقاؤه الولائم على عدة أيام وهي المسماة بالصبيحات. وفي اليوم الخامس عشر يولم الزوج لأهل زوجته وليمة شيقة تسمى عزيمة الخامس عشر.
ومما يستغرب من عادات بعض الأهلين من قطان أطراف حلب أنهم يفرشون ليلة القران في غرفة العروسين قطيفةً يجعلون رؤوس ما التوى من ريشها إلى جهة صدر الغرفة، فإذا وجد الزوج الوردة زراً غير باسم الثغر حول القطيفة أي جعل رؤوس ما التوى من ريشها إلى جهة عتبة البيت وإلا أبقاها يعلنان القضية وتعلو الضوضاء وتشتد الضجة ويفتضح الحال.
ومما يستعمله الحلبيون المسلمون في أتراحهم من العادات هو أن بعض سكان أطراف البلدة يُحضر حين وفاة رجالهم الأعزاء عليهم - نائحات بدويات ينثرن على رؤوسهن الحناء ويشدن في أوساطهن المآزر ويخدشن خدودهن ويسودن وجوههم بسخام القدر، وحين خروج النعش من الدار يضربن جبهة بابها بإناء خزفي زاعمة أن هذا العمل يمنع من أن يلحق بالميت غيره من أهله، ونعش الميت يسيرون به وهم يجهزون بكلمة التوحيد، وقد يكون في مقدمته من يؤذن أذان الجوق وينشد المدائح النبوية، وقد يمشي أمام النعش جماعة الدراويش المولوية. وإذا كان الميت من مشايخ الطريق يتقدم جماعته ويجملون نعشه ويتجاذبونه ويتمسكون به كأنه يحاول الطيران وهم يمنعونه عنه وينادونه باسمه ويضرعون أليه بأن يعدل عن الطيران، وحملة أعلام الطريقة يفعلون بأعلامهم فعل حملة النعش به فيركضون بها إيهاماً بأنها تجرهم وتحاول أن تطير بهم إلى غير ذلك من الحركات التي ينكرها الشرع. إذا وصل النعش إلى القبر حطوه إلى الأرض وأخرجوا الميت منه ولحدود، ومن الناس من يودع في نقرة من جدار القبر قنينة فيها شيء من زيت الزيتون قصد تعتيقه لينتفع به بعد من يكون مصاباً
بالريح فيطلي منه بدنه فيبرأ.
في الليالي الثلاث الأولى من الوفاة يجتمع في المسجد الحي بين العشائين(6/284)
نفر من الرجال والأطفال يكررون كلمة التوحيد وفي أيديهم سبحة كبيرة ينتظم في سلكها خمسمائة حبة كل حبة منها في حجم الجوزة. فإذا دارت دوراً سكتوا وتلا إمام المسجد شيئاً من القرآن. ثم تدور دوراً آخر في ختامه ينتهي الذكر ويفرق على الحاضرين الحلوى المعروفة بالغريبة. في صباح اليوم الثالث من الوفاة يجتمع الجم الغفير على القبر وتمد البسط على أطرافه وتوضع عليه قمام ماء الورد وتنثر فوقه الزهور ويفرق على الحاضرين أجزاء الربعات وبعد الانتهاء من قراءتها يصطف الناس حلقة ويذكرون الله تعالى ويفرق على الفقراء شيء من النقود ويعزى الناس أهل الميت وهم في المقبرة. وهذا اليوم يسمى الثالث وفيه وفي كل من اليوم السابع واليوم الأربعين واليوم المتمم للسنة من الوفاة يدعى جماعة من القراء إلى بيت الميت يتلون القرآن العظيم في نهارهم، وفي المساء تبسط الموائد ويفتح باب الدار للفقراء فيأكلون ويزودون.
ومما اعتاده الحلبيون في أول يوم من المحرم أن يكون فطورهم من طعام حلو، وأن يخرج جماعة من العجزة يتصدق عليهم الناس بشيء من البرغل لهم فاز من صلى سموا يلازمه زجل ينشدونه على الأبواب وهو فاز من صلى على تاج العلى طه النبي المصطفى جد الحسين وبعض الناس يسمونهم الحسينية. وهذه العادة موروثة عن الطوائف العلوية التي كانت تقطن حلب. وفي يوم عاشور يوسع الناس على عيالهم بالمطاعم ويطبخون طعام الحبوب الذي يشير إليه ابن منير الطرابلسي الشاعر بقوله:
وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى السحر
وفي يوم عاشور كانت الحكومة قبل خراب مشهد الحسين تولم فيه وليمة حافلة
يحضرها الوالي ومن دونه وينشد أحد المطربين قصيدة ابن معتوق في رثاء الحسين التي مطلعها هل المحرم فاستهل مكبرا. وتعطل الحومة أيضاً في آخر أربعاء من صفر وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وتحتفل بتلاوة قصة المولد النبوي في الجامع الكبير، ويستمر الناس على تلاوة هذه القصة ليلاً ونهاراً إلى آخر هذا الشهر، ويولمون من أجلها الولائم العظيمة.
وتعطل أيضاً في اليوم السابع والعشرين من رجب وتحتفل بقراءة قصة المعراج(6/285)
في المشهد المذكور. ويجتمع الناس ليلة النصف من شعبان في المساجد بين العشائين ويقرءون سورة يس ثلاث مرات ويلقنهم الإمام دعاة ليلة النصف المذكور في كتاب نزهة المجالس وغيرها من الكتب، وتهجر المعاصي في شهر رمضان ويكثر ترداد الناس على الجوامع والمساجد ويقبلون على تلاوة القرآن ومنهم من يقصد المقاهي ليلاً لتفرج على المشعوذين والمتصارعين.
ويخرج قرب السحر طبال يوقظ الناس للسحور ويعقبه شداة المدائح النبوية في منارات الجوامع. وبعد صلاة العيد يخرج الناس إلى المقابر لزيارة موتاهم، وكان يخرج قبل العيد بيومين رجل سخره معه مدرع بالودع والخزر والأجراس يستجدي الناس بالرقص ويضحكهم بحركات حماره يقال له جحش العيد. وكان يخرج في أيام العيد ولدان قد صبغوا أجسامهم بالسواد وعلى رؤوسهم الطراطير يستدرون إحسان الناس بالرقص والقفز ويقال لهم بيضه بيضه، وبعد انتهاء العيد رواد الحجاز أهبتهم ويسافرون لأداء فريضة الحج ويحتفل أحبابهم بوداعهم. وفي عيد النحر يقبل الناس على الضحايا.
وفي تاسع آذار الرومي الشرقي يخرجون صباحاً إلى ضاحية البلدة لاستنشاق نسيم الصبا التي تهب في ذلك الوقت كما يزعمه بعض المنجمين. ويكثر خروج الناس في أوائل أيام الربيع إلى جبل الجوشن وما قرب منه فإذا نور الشجر وأوراق
يترددون على البساتين. وفي شهر نيسان يحتكرون مؤوناتهم من السمن والجبن والفحم. وكان النساء في يومي أربعاء الزوبعة وخميس البيض ويكونان قبل يوم الأحد وهو أول يوم من عيد الفصح يخرجن إلى البساتين ويمضين فيها سحابة يومين ويفعلن مثل ذلك في يوم الاثنين الذي يلي عيد الفصح، ويزعمن أن من لم يخرج إلى النزهة في هذه الأيام لا يأمن الصداع ووجع الرأس، إلى غير ذلك من العادات التي بعضها مستحسن وبعضها مستهجن مما هو مذكور في كتاب نهر الذهب مسهباً مفصلاً.
وأما ما يستعمله النصارى الحلبيون من العادات في أفراحهم وأتراحهم فمنها أن مريد الزواج منهم يبدأ بتصفح وجوه النسوة في مجامع الناس وحين خروجهن من الصلاة فمتى أعجبته أنثى سعى بإعلامهما أنه يرغب أن تكون له زوجة وهذه هي الخطبة الأولى. ثم يسعى بالخطبة الثانية وهي أن يرسل(6/286)
أحد أوليائه مع كاهن طائفته إلى ولي مخطوبته فيعلماه أن موليهما يرغب أن تكون موليته زوجة له فإذا أجاب طلبهما وضع الكاهن يد أحدهما بيد الآخر علامة على الرضى المتبادل، وبعض الكهنة يسأل المخطوبة بقوله هل رضيت أن يكون فلان زوجاً لك فتطأطئ رأسها بالإيجاب وحينئذ يقدم له قطعة من الحلي مرسلة من زوجها وبعد ذلك يشرع الخاطب بزيارة مخطوبته، وطالما نهى الكهنة عن كثرة هذه الزيارة فذهب نهيهم سدى. وبعد مرة يرسل الكاهن إلى أهل المخطوبة ليتفق معهم على ميعاد عقد الخطبة وليقدم هدية الخاطب إلى مخطوبته. وهذا العمل يسمى المشورة وقد ينكث أهل المخطوبة ويفسخ عقد الخطبة فيقيم الكاهن الحجة على أهل المخطوبة ويغرمهم ما أنفقه الخاطب في مدة الخطبة. أما إذا لم يفسخ عقد الخطبة فإن رقاع الدعوة ترسل بتوقيع الوليين إلى المدعوين لحضور الإكليل، يقبل المدعوون إلى بيت الخاطب في اليوم المعين ثم يتوجهون إلى بيت المخطوبة
فيضعون عليها خمارها وأزهارها وتكون جميع ثيابها بيضاء ويأتون بها في وقت العتمة إلى بيت خاطبها وهي تسير الهوينى بين امرأتين على شاكلتها وأمامها المصابيح وجماعة الموسيقي، حتى إذا اقتربت من بيت خاطبها خف لاستقبالها فخاصرها ودخل بها إلى منزله وانتظم عقد المدعوين، ثم يقف العروسان بين يدي مطران الطائفة ومن معه من الكهنة وهم متحلون بملابسهم الكنائسية ويشرع المطران يترنم بآيات من الإنجيل مخصصة بعقد الزواج ويجري بين العروسين الإيجاب والقبول ويلقي عليهما النصائح ويأمرهما بالتحابب والطاعة أحدهما الآخر للآخر ويستغرق ذلك ساعة من الزمن. وفي الختام يرفيهما هو والحاضرون ثم تعزف آلات الطرب وتدور أقداح الراح فيرقصون ويمرحون إلى الهزيع الأول من الليل، فيقدم للحاضرين سفرة الدخلة وهي قطع من لحم الدجاج الهندي والهضم المحمضة المعروفة بالمخلالات والخبز الحواري وغير ذلك وبعد أن يتم الحاضرون أكلهم يعودون إلى السماع والطرب. ثم في منتصف الليل يقوم بعض الأدباء ويهنئ العروسين بقصيدة، وفي الصباح يقدم للحاضرين الفطور من معمولات اللوز الهندي الشكولاته مع بعض الحلاوي واللحوم المقددة ثم يتحلق الحاضرون حلقاً العروسين بالرقص العربي والكردي ثم ينصرفون.(6/287)
وفي هذه الصبيحة يهدي أحد أبوي الزوج إلى الزوجة قطعة من الحلي تسمى الصبيحة وفي اليوم الرابع يحضر المدعون إلى منزل الزوج لتهنئة العروسين، ثم في اليوم الثامن يزور العروسان أصحابهما فيحيون لهما ليلة طرب، ثم في اليوم الثاني عشر يولم الزوج إلى كهنة الطائفة وبعد شهر يطوف العروسان منازل الألى كانوا مدعوين ليلة القران ويردان إليهم الزيارة.
المهر يدفع من الزوجة إلى الزوج عكس ما هو معروف عند المسلمين ولا حد لأكثره إذا كانت الزوجة غنية والرغبة منها في الزوج فوق رغبته بها وهو يسمى
دوطه وبعض الكتبة يترجمون هذه اللفظة بكلمة بائنة وإذا كانت رغبة الزوجين في الزواج متساوية فليس هناك دوطة إنما كل واحد من الزوجين يهدي الآخر قطعة من الحلي قيمتها تناسب ثروته.
بعد انتهاء هذه الحفلات يصرف بعض المتفرنجين شهراً من حياته بالتغيب عن منزله يسمونه شهر العسل يمضيه الزوجان في موضع نزه جميل يطلقان فيه حريتهما، كأن العروسين يمضيان هذا الشهر في وداع الحياة المطلقة المؤذنة بفراقها لحلول ذلك الضيف الثقيل بل القيد الأبدي الذي لا يحل وثاقه إلا بالموت: عادة أخذها الغربيون عن الأمم الوثنية القديمة كأنها رمز إلى سرعة انقضاء راحة الإنسان بالزواج وطول عنائه بعده، وذلك لأن الزوجين لا يلبث فرحهما بعد الاقتران سوى أيام قلائل حتى يدخلا في العريض الطويل من تكاليف الحياة وأوصابها التي لا تنفد إلا بنفاد العمر. فما أشبه الحياة وما فيها من الراحة والتعب بإناء مفعم من الصبر قد بسط على وجهه قليل من العسل، وكأن الإنسان لا يضطر إلى استعمال ما في هذا الإناء اضطراراً حقيقياً إلا بعد أن يتزوج فكأن مقدار ما يناله حينئذ من الراحة وما يعقبها من التعب كمقدار ما في ذلك الإناء من الصبر والعسل فلا يعلق من العسل غير قليل حتى ينفد ويظهر تحته الصبر، فيجرعه مكرهاً ضرورة عدم إمكان الحياة إلا به وهذا مصداق قول الناس في الزواج فرح شهر وتر دهر.
وما يستعمله النصارى في أتراحهم أنه متى احتضر انه متى احتضر المريض يحضر إليه كاهنه ويستأديه واجباته الدينية، وبعد أن يقضي نحبه يتربصون بدفنه مدة أربع وعشرين ساعة يضعونه في خلالها في صندوق من الصفيح، وفي هذه البرهة(6/288)
يرسلون رقاع الدعوة لحضور الاحتفال بالجنازة، ثم في الوقت المعين يضعون الصندوق في نعش مزدان بالأيقونات وأكاليل الزهر فيحمل إلى البيعة
ليصلى عليه، ثم يحمل إلى المقبرة وأمامه صفوف الكهنة يترنمون بآيات من الإنجيل ووراءهم عظماء الطائفة وتلامذة المكاتب وحملة الصلبان والشموع، وقد اكتنف النعش أربعة من كبار الطائفة يمسكونه من أربع أطرافه بسفائف من الحرير الأسود، وحينما يصلون به إلى اللحد يضعه الحمالون عن كواهلهم ويتقدم أحد الأدباء فيرثيه نظماً أو نثراً ثم يوارونه في لحده، ويصطف أهل المتوفى للتعزية ويمر عليهم المشيعون لجنازته لتعزيتهم وفي مقدمتهم المطران ولفيف الكهنة. ولبعض الأسر الغنية ديماس تحت الأرض مختص بدفن موتاهم يقال له خشخاشة يودعون فيه النعش دون أن يهيلوا التراب عليه، وقد يكون هذا الديماس بناية تشبه البيت مبنية على وجه الأرض.
في اليوم الثالث من الوفاة يحتفل للمتوفى بصلاة في البيعة يسمونها جنازاً يسرجون فيها من المصابيح قدر ما يقع عليه الاتفاق من النقود بين أهل الميت وبين كهنة طائفته، وهذه الصلاة تعاد في اليوم التاسع وفي يوم الأربعين وفي نصف السنة وتمام السنة. وحداد الولد على أبوية ثلاث سنين والأخ على أخيه والزوجين أحدهما على الآخر والأبوين على ابنيهما سنتان.
ومما يستعمله اليهود الحلبيون من العادات في أفراحهم وأتراحهم أن يختنوا بعد يومين من ولادته، وإذا كان من سبط إسرائيل وكان بكر أبويه وجب على أبيه أن يفتديه من كاهن من سبط هارون يضع الطفل في حجره ويقول لأبيه: هذا المولود حق سبط الكهنة فيستوهبه أبوه منه بمقدار معلوم من الفضة. ومتى بلغ عمر الطفل سنة يأخذه أبواه كل سنة إلى وليمة قدوس أي زفاف يطعمانه من طعام السيعودته فإذا بلغ الثانية عشرة يؤمر بصيام ذلك اليوم، وإذا بلغ الثالثة عشرة يلبسونه كنفوت وهو صدرة تربط أطرافها الأربعة بفتائل من الغزل ويشد على رأسه وعضده الأيسر تيفلين وهو سير من الجلد يشتمل على الكلمات العشر
والإصحاح الأول(6/289)
من سفر الوصايا، وحينئذ يعتبر رجلاً متمماً صلاة الجماعة التي لا تتم إلا بعشرة رجال ويرث سهمين من تركة أبيه.
وإذا بلغ الثامنة عشرة وجب عليه الزواج فيباشر الخطبة ومتى انتقى مخطوبة يكتب بينهما قنيان أي عهد يسمونه شيطاراً يعينان فيه مقدار المهر المدفوع من الطرفين ويذكران ما اتفقا عليه من الشروط، ثم في اليوم المعين تنعقد جمعية يسمونها كتبة فيها يكون تسلم الزوج الأمتعة والنقود التي تعهدت الزوجة بتقديمها إليه، وبعد ثلاثة أيام تكون حفلة الزفاف المعروفة باسم قدوس فيحضر المدعون وتعزف آلات الطرب وتدار كؤوس ابنة العنب من وقت العصر إلى وقت الغروب ثم يقوم رؤساء الدين ويجرون العقد بين العروسين ويقرأ أحدهم قداشين يقف الزوجان مدة قراءة الأول متقابلين ومدة قراءة الثاني متحاذيين، ويفتح على رأسيهما ملاءة من الصوف يسمونها طليطة أي طيلسان. وفي هذه الساعة يقدم الزوج إلى زوجته قطعة من الفضة فتأخذها منه ويشهد بذلك رجلان ليس لهما قرابة لأحد الطرفين، وحين تسلم الزوجة القطعة المذكورة من الزوج يخاطبها بقوله هاري آت ميقديشت لي بي طباعت زكيدات موشي وإسرائيل أي أنت مقدسة لي بهذه القطعة مثل دين موسى وإسرائيل. ثم يتقدم الحاخام الكبير وبيده كأس من الخمر فيبارك عليه بدعاء طويل باللغة العبرانية ويشرب منه جرعة ثم يدار على الحاضرين فيشرب من شفافته كل واحد منهم جرعة ثم يعاد إلى الحاخام فيرميه إلى الأرض فينكسر، وبعد ذلك يدخل الزوجان البيت المعد لخلوتهما فإذا التقى آدم مع حواء في تلك الليلة وجب عليه أن يمسك عنها مدة خمسة عشر يوماً، وأن ينطبل أي ينغمس في حوض خصوصي، وعلى الزوج أن يدعو في ثاني يوم من زواجه عشرة من رؤساء الدين ويولم لهم، وعلى رئيسهم قبل الأكل أن يبارك على المائدة سبع مرات كما بارك على كأس الخمر يوم الزفاف.
ومما يستعملونه في أتراحهم أن المريض متى احتضر جلس عند رجليه رجلان يذكرانه بقولهما شيماع إسرائيل أدوناي ايلو هينو أدوناي احاد أي اسمع يا إسرائيل الديان إلهنا الديان واحد. فإذا قضى نحبه وضعوه على(6/290)
اللوحوت أي المغتسل وغسلوه بالماء الفاتر وأدرجوه في ثوب من الكتان يعيبونه بالتقريض والحروق كيلا يطمع به نباشو القبور، ثم يضعون جثة الميت في الأورت أي النعش ويحضر أحد أقربائه ويقرأ عليه قداساً أي يصلي عليه صلاة الميت، ثم يحمل النعش بين ثلاثة أشخاص وعلى كل من مرت به الجنازة أن يمشي معها أربعة أذرع أو أكثر ويطلب من الميت السماح، إلى مدفنه ويوارونه في ترابه ويقوم أحد الحاضرين ويبارك عليه بقوله: باروخ ديان ها ايميت أي عيوننا ما رأت وأيدينا ما سفكت هذا الدم. فإذا وصلوا إلى بيت الميت قام أحد الحاضرين إلى كل وارث له وخرق ثوبه من زيقه وهو يقول: باروخ ديان ها ايميت ثم تحضر مائدة عليها أطعمة متنوعة يرسلها أحد الحاضرين فيأكل منها ورثة الميت على شرط أن يضع الطعام بأيديهم أحد الحاضرين ويبارك لهم بقوله: باروخ ميناحيم ابيليم أي تبارك الذي يسلي الحزين. وعلى ورثة الميت أن يلزموا منازلهم سبعة أيام لا يعلون فيها علاً مطلقاً ويسمونها التآبيل أي الحداد. وفي اليوم السابع يصنع طعام الفقراء وهكذا في اليوم الثلاثين تسعة أشهر ومرور السنة اه.
عادات لبنان وأخلاقه:
كانت عادات لبنان إلى أواخر القرن الماضي، قبل أن يبدأ أهله بالهجرة إلى أميركا، كعادات معظم جبال الشام، تغلب عليها السذاجة والفطرة السليمة، وفي مضاء ووفاء وإباء. يقل الكرم ويكثر الحرص في أهل القسم الشمالي منه وهم الموازنة والروم، وكان العكس في حال أهل القسم الجنوبي وهم الدروز والسنة والشيعة والنصارى الذين كانوا من أصول عربية، فإن أخلاقهم ظلت عربية بحتة، ولهم في باب الكرم وحفظ العهد فصول. وقد يكون الشماليون ألين عريكة وأقرب إلى السكون في الأحايين. والجنوبيون(6/291)
أشد بأساً وأقوى شكيمة. ودخل تبدل كبير في العادات بانتشار المدارس الأجنبية في الجبل منذ نيف وستين سنة، واستبدلت العادات الإفرنجية ببعض العادات الوطنية إلا قليلاً. وحمل الذين عادوا من المهاجر بعض عادات من نزلوا عليهم، فأصبحت عادات الجبلين مزيجاً من الغربية والشرقية. ويكثر التقليد في سكان الشمال أكثر منه في سكان الجنوب. وهناك فروق ليست بقليلة بين سكان الجرود الشمالية والجنوبية.
كانوا اللبنانيون من أول من نفخ في ديارهم بوق الهجرة إلى أمريكا، ولبوا دعواتها سراعاً قبل غيرهم من الشاميين، لأن حاصلات أرضهم قليلة لا تكفي لعوائلهم. وكانوا من قبل مولعين بمواطنهم، لا يحبون أن ينتقلوا ولو في أرجاء هذا القطر، وكان من يسافر من إحدى قرى الجبل إلى دمشق يضرب به المثل في بعد الهمة وكثرة الشجاعة. وكثير ما كانوا يتغنون بقولهم:
جوزك يا مليحة ... راح عالشام وحده
وكان أقصى ما يبلغه تصورهم من البعد إنطاكية شمالي الشام دنقلة في السودان، ويقال إلى اليوم أوصلك إلى دنقلة. وكان إذا نشط أحدهم للسفر إلى مصر أو الآستانة، بعد كمن وصل إلى المريخ، يقصدونه من القاصية ليسمعوا ما يقص عليهم من عجائب رحلته. فلما بدءوا بالهجرة وكثر عديدهم، واستسهلوا ركوب
المخاطر في بلاد المهجر، ونجحوا وارتاشوا، تبدلت عقليتهم بعض الشيء، وهم كأكثر من يهاجرون في طلب الرزق يعتمدون على أنفسهم ومضائهم وتضامنهم، لا علم يحميهم ولا دولة يهمها أمرهم. حملوا في جنوبهم عزماً وحزماً، وحملوا أيضاً روح التحزب والفرقة الذي امتازوا به لما نشأهم عليه رؤساؤهم. وكان المتعلمون منهم في هذه السبيل أشد مراساً من العوام. ولما كان العائدون من طبقة الفلاحين والعاملين إلى قرارهم من ديار المهجر، أكثر من الراجعين من أصحاب المعامل والمزارع والتجارات، وبعبارة ثانية أن عدد الفلاحين الأميين كان أوفر من عدد الآيبين من المتعلمين والمغتنين أصبح تسرب العادات الغربية لا يكاد يشعر به بين العامة على كثرتهم، وهو ظاهر محسوس بين الخاصة على قلتهم.
وقصارى ما يقال في هذا الباب أن أهل لبنان أخذوا مدينة الغرب من(6/292)
مدارسه هنا وبالاختلاط بأهله وراء البحار بلا قيد ولا شرط، على حين كان غيرهم ولا يزالون يأخذونها ببعض الحذر والحيطة. ولبنان منذ عهد متطاول كانت علائقه بالغرب أكثر من غيره من أهل هذه الديار. والروح اللاتيني ترفرف عليه. يحمله إلى ربوعه الرهبان الموارنة من رومية وغيرهم من دعاة النصرانية والاستعمار. ولو مكنت طبيعة الجبل من إنشاء مدن كبرى فيه، لظهرت هذه الفروق على جليتها في أهله، كما تتجلى مثلاً في أهل المدن الداخلية.
لم يبرح الدروز يعدون في المحافظين على عادتهم القديمة وأخلاقهم العربية من إباء ووفاء وحسن عشرة وكرم وحسن وفادة، يعظمون رؤساءهم ولو كانوا في سن صغير جداً. والدروز، ما خلا الطبقة المتمدنة منهم التي تلبس السراويل والمعاطف والسترات والأقمصة الإفرنجية على الأساليب الغريبة، ما زال جمهورهم يلبس لباساً واحداً في جميع البلاد التي ينزلونها: عمائم بيضاء وقفاطين من الأقمشة الغليظة القطنية وأعبئة قصيرة مخططة وأحذية بلدية ساذجة. كأن
لباسهم لم يتبدل منذ حلو هذه الأرض، ونساؤهم محجبات قليلاً يسبلن على رؤوسهن شاشاً أبيض فإذا رأين غريباً أظهرن إحدى عينيهن فقط أي أن حجابهن الحجاب الشرعي.
كان أهل لبنان قبل حادثة سنة 1860 يقسمون إلى خاصة وعامة، فالخاصة هم الأمراء والمقدمون والمشايخ. والمشايخ على ثلاث طبقات، مشايخ الإقطاع، والمشايخ الذين يدلون إلى مشايخ الإقطاع بنسب، وكانوا يعرفون بمشايخ الطبق، ثم مشايخ الطبقة الثالثة. وتختلف مصطلحات هذه الطبقات باختلاف العصور، وكلامنا هذا يتناول الأخيرة منها التي ثبتت إلى ظهور الجبل بمظهر الاستقلال الداخلي بعد حادثة الستين. ولهم عادات راسخة في خطابهم وكتابهم ومجالسهم وأفراحهم وأتراحهم، أمست عندهم بمثابة القواعد العامة، وتختلف عن مجموع ما هو من نوعها في سائر الأقطار، والسر في ذلك أن لبنان مدين بظهوره بمظهر المنعزل المستقل منذ عهد المماليك والعثمانيين لأمراء كانوا يتلون جباية الجبل على سبيل الإقطاع مقابل مال يؤدونه، وهم ينصرفون إلى توظيف طبقات الناس، وتصنيف أهلها على(6/293)
ما يرون. ومما أثبت هذه الأصول بين الأشراف لبنان أن الأرستقراطية فيهم كانت ثابتة لا تتحول عنهم لفقر أو غيره. ويغلب على الظن أنهم جمعوا في عاداتهم بين العادات العربية، وشيء من العادات الغربية اكتسبوها في مخالطتهم الصليبيين.
وفي الحق أن لبنان القديم وليد أمرائه من المعينين والتنوخيين والشهابيين واللمعيين والأرسلانيين وآل علم الدين. وقد أقر هذه العادات المشايخ الجنبلاطية والعمادية والنكدية والتلاحقة والملكية وبنو العيد، وفي المسيحيين آل الخازن والحداح والضاهر وحبيش وغيرهم. وأخذت تحتفظ كل طبقة بأصولها وعاداتها، لا يباح لأهل طبقة أن يتزوجوا من أهل طبقة أخرى، ولا أن يختلطوا بهم الاختلاط
اللازم. وكان الجلال الوقار يغلبان على أهل كل طبقة. ويعدون من أسباب السقوط أن يسف ابن أسرة من أسر الأمراء أو المقدمين أو المشايخ فيصهر إلى غير أهل طبقته، ولذلك غلب ضعف الأجسام على بعض هذه الطبقات، وتأصلت فيها بالوراثة الأمراص العضالة لخروجهم عن الطبيعة في الزواج.
وكانت لهم عادات نشأهم عليها حكامهم في الإسلام والجلوس والخطاب. وهم يغالبون في الحرص على كرامتهم، ويعد أكبر أعيانهم من الشرف أن يكتب إليه الحاكم ويلقيه الأخ العزيز ويوقع له بالمحب المخلص. ويكتب الأمير إلى الطبقة الثانية من الشعب وهي طبقة المشايخ عزيزنا أو أعز المحبين أو حضرة عزيزنا أو جناب بدل حضرة. وإذا كان طبق الورق صغيراً أو كبيراً، أو كان توقيع الحاكم في أسفل الكتابة أو في أعلاه فإن لكل ذلك معاني عندهم. والغالب أن القوم كانوا لقلة أشغالهم يتسلون بمثل هذه التفاهات، ويضعون لها قواعد من عند أنفسهم، ويتنافسون في رضا الحاكم والوصول إلى مجلسه وتقبيل يده وثوبه، تأصل هذا الداء فيهم إلى العصر الأخير، فكان من كتب له هذا الشرف تنافل خبره أهل بيته خلفاً عن سلف وعدوه في مفاخرهم. وقد كثر فيهم حب الظهور حتى أن المرء ليبيع وداره ويبذل مال ينال عملاً صغيراً في الحكومة أو ليكتسي الحرير هو وعياله ويتعاظم على أهل قريته. ومنه من ابتعدوا(6/294)
عن مواطن الشرف ليتزلفوا إلى من اعتقدوا أن في أيديهم إسعادهم. وكم من بيوت خربت بسبب هذا التمجد بالباطل والتقرب من أصحاب السلطان بفساد الأخلاق.
وكانوا إلى عهد قريب يقدمون الرجال على النساء في إعطاء القهوة أو الخمر، يرفعون مقام الرجل فوق مقام المرأة، ولا يزال أثر ذلك ظاهراً في الطوائف الإسلامية. فلما اقتبسوا المدينة الحديثة أصبح الرجل عند المسيحيين لا شيء تقريباً في بيته، والحكم لامرأته تصرفه على هواها، خصوصاً إذا كانت تعلماً منه، أو
كانت أسرتها أغنى من أسرته وجاءته ببائنة أو جهاز. وهذه الأخلاق ماثلة في بيروت وفي بعض الأقاليم المكتظة بالسكان.
ويحترم الأولاد آباءهم كما كان ذلك في سائر أرجاء القطر، على صورة فيها التشدد الزائد، حتى إن الولد لا يكاد بجالس أباه ولا يقعد أمامه، ولا يؤاكله ولا يدخلن أمامه ولا يرفع صوته، ولو تزوج وولد، ولا سيما في البيوت التي احتفظت بتقاليدها. وكانت العادة أن لا يتفرق أهل البيت الواحد مهما كثر أفراده، يسكنون في دار واحدة، وإذا كانت الأسرة فقيرة ففي غرفة واحدة. وكثيراً ما يخصون الولد الأكبر في الأرض بشيء من العقار وحفظ كرامة إلى أسرة أخرى، شأن كثيرين من المحنطين، بل شأن من يعدون أنفسهم في الراقين أيضاً.
كان البناني يتزوج في الثامنة عشرة أو العشرين من عمره ولا سيما في الطوائف الإسلامية، والمسيحيون قد يتأخرون إلى الثلاثين وبعضهم إلى الأربعين، وقد يخطف العروس عروسه في بعض الطبقات، إذا كانت من طبقة غير طبقته، وتظاهر أهلها بأنهم يأبون زواجه، أو لعداء بين أهل الخاطب والمخطوبة، أو لعدم الكفاءة في النسب أو المال، وكانوا يحبون كثرة النسل بخلاف ما نراهم اليوم بعد الهجرة، فإنهم أصبحوا على مثال الأمم التي تريد تقليل الذرية في البيت ما أمكن حتى لا يدخله الفقر. وكانوا يعدون كثيرة العيال من اليسر والبركة، ويقلقون لمن يتأخر حملها من نسائهم، ويشرعون(6/295)
بمداولتها أو وضع التعاويذ المصطلح عليها بينهم، وينذرون النذور إن رزقت ولداً، يقدمونها إلى قديسهم وأوليائهم. ولهم كغيرهم خرافات كثيرة منها تخزيف الأولاد في صغرهم بخيالات، ينشأ الولد عند بعض المسيحيين جباناً، والدروز منذ القدم في هذا الجيل على قلة عددهم يخاف جيرانهم باسمهم. وقد زاد هذا الجبن كثيراً من انتشار التعليم ومعروف قدرة الحياة، فأصبح يجبن من لم يكن يجبن، ونزعت الأخلاق الحربية إلا من الدروز،
وأصبح القوم يؤثرون الراحة ويتطلبونها جيثما وجدوها، ويزهدون في سكنى جبالهم على كثرة غرامهم بها، وتمجيدهم لهوائها ومائها ومناظرها وهنائها. وربما كان أهل لبنان من أكثر الشاميين اقتداراً على الإعلان عن أرضهم، والإعجاب بجبلهم، والتبجح بثروتهم وأثاث بيوتهم، وتمجيد رؤسائهم وعلمائهم وأُدبائهم. وهذا مما ساعد على إعمار الجبل بما جلبه المهاجر اللبناني من المال إلى أرضه، وسمت الهمم بأهله أن يعمروه هذا العمران الواسع بالنسبة إلى البقاع الأخرى، ولذلك لكان كسائر جبال الشام انحطاطاً وفاقة.
تسربت العادات الغربية إلى لبنان أكثر من غيره، فبعد أن كان اللبناني يأكل وأهله وضيوفه على سفرة في الأرض أو على خشبة مستديرة من صفحة واحدة، بأدوات منها الخوف ومنها ملاعق من الخشب من صنع أرضه، أصبح يجلس إلى خوان وأمامه صحاف وملاعق وشوكات وسكاكين ومائدته مغطاة بثوب أبيض، وعلى يده منديل الغمر أبيض، وألوان الطعام تأتيه إرسالاً. وأكثر هذا محسوس الأثر بين المسيحيين ولا سيما سكان الساحل. وقد بلغ ببعضهم حب التقليد أن أصبحوا لا يكتفون بخمر أرضهم، ويتغالى بعض أغنيائهم المترفين فيجلب خمور الغرب يسقيها ضيوفه على مائدته. وغدا لا يطيب له الزجل والمواليا والمعنّى والقراديات والغناء العربي والقصائد العربية، وكانت تنبسط أرواح أجداده إلى سماعها، بل يحاول أن يسمع النغمات الإفرنجية لأنها أجمل وهو تفرنج وتأورب ويحب أن يقطع صلاته مع آبائه.(6/296)
وهكذا يقال في الرقص والألعاب كلها فإنها أصبحت بين الطبقات المتعلمين إفرنجية محضة في بيروت وفنادق لبنان الكبرى. وقد ولع بعض النساء في بيوت الراقية على الطراز الحديث بالرقص والمخاصرة والمقامرة ولا سيما في بيروت، ولوعاً لا تكاد تجد له مثيلاً فيما بلغنا وعرفنا من أخبار الأقطار الغربية. فقد ترى
البيروتية ولا سيما من المسيحيات ترقص المتقدمة في السن منهن تجلس إلى منضدة القمار تقضي الساعات الطويلة، وقد يكون بناتها الفتيات واقفات ينتظرنها ليذهبن إلى النوم وهي مستغرقة. وكثير عدد النساء اللاتي فقدن صحتهن وشرفهن لشدة ولوعهن بالقمار والرقص، وإذا رأيت أزياءهن، حسبتهن أوربيات وزيادة إفراطه في التقليد، وغرتهن الظواهر من مدنية الغرب فاجتزان بها، وكانت المرأة المسيحية في جنوبي لبنان في القرن الماضي تتجنب وتتجافى عن غشيان مجالس الرجال من غير محارمها.
وفي أندية بيروت في الشتاء والفنادق الكبرى في جبل مدة الصيف نموذج من الحياة البيروتية التي أصبحت مزيجاً غربياً من الأخرق والعادات، يبدو فيها التكلف والتصنيع، ويفقد منها الروح العربي، وليس المسلمون فيها على المستوى جيرانهم في النهوض الاجتماعي حتى ترسم لهم الآن صورة بعينهم. وقد أخذت بعض البيوت التي أخذت المدنية الحديثة لا تتكلم في بيوتها أو مجالسها واجتماعاتها إلا بالفرنسية وقليل منها بالإنكليزية، أو يمزجون لغتهم الأصلية باللغة التي تعلموها بعضها في المدارس، وأصبحت معظم عادات السكان إفرنجية مقتبسة منقولة لا أصلية.
وأنت إذا دخلت اليوم دار لبناني متعلم ممن كتب له السفر كثيراً، ورأيت العادات القديمة محفوظة يأخذك العجب، لأن اللبناني يحاول أن يقلد، ولطالما عولج في هذه السبيل حتى تنزع منه عاداته وتقاليده، ويلحق بالإفرنج في مناحية منازعه. ومن أبشع ضروب التقليد أنه أخذ بعد أن تعلم بعضهم في المدارس تعليماً ناقصاً أبتر يستعمل في سلامه وحديثة بعض ألفاظ إفرنجية، تساوي في ذلك البحري الجاهل والتاجر المتمول، فصارت أحاديثهم مزيجاً(6/297)
من العربية والإفرنجية كعاداتهم وأخلاقهم. وأثبت ابن هذا الصقع أنه ما استطاع أن يتخلى عن القديم برمته، ولا
استعد لأن يقتبس الجميل من الجديد بجملته.
واللبناني أكثر من غيره من سكان هذا القطر اقتصاداً وتؤدة، ومعرفة بأساليب الحياة، وبعَد هِمم، وشدة حذر. وهو نظيف لا كابن الجبال الأخرى، وفي مسكنه وزراعته وصناعته شيء من النظام. وقد تبيت في بيت الفقير منهم في إحدى المزارع الحقيرة، ولا تستنكف من مؤاكلته، ولا تأنف من النوم في فراشه، والجلوس على مقاعده، والاتكاء إلى وسادته. فالزعامة الزمنية من قبلُ عند غير المسيحيين، والرياسة الدينية عند المسيحيين، كانتا بين اللبنانيين على أتمهما لسهولة تسلط الزعيم أو الرئيس الروحي على رعاياه، لضيق الرقعة التي يمتد عليها نفوذه. وقد استفاد ابن الجبل من هذه الزعامة ترتيباً ونظاماً على الجملة، وولد فيه حب التضامن والصدق بما يلقنه إياه الشيخ أو الكاعن، ورُبط الناس بقيود يصعب التفلت منها بعض الصعوبة وهذا أقرب إلى النفع من الفوضى تضرب أطنابها بين سكان الجبال الأخرى، وجهالة ممتدة الرواق على الكبار والصغار لا تدري متى ينقشع ظلامها. وقد اضطر السكان أن يقلد بعضهم بعضاً في باب الأخذ بأسباب الترقي والتعليم. وكان للموازنة التقدم ثم لمن يليهم من الروم والكاثوليك، ثم يأتي الدروز فالسنة فالشيعة.
فقدت عادات ليست بقليلة من الجبل ومما فقد أو كاد لباس الفلاحين وهي العمائم والسراويل والعباءات، ولا سيما من القرى التي هي مصطاف البروتين والطرابلسيين والمصريين، ولباس جمهور عظيم منهم الآ، هو اللباس الغربي، والقبعة الإفرنجية شائعة الاستعمال في النساء والرجال، ولا سيما عند من تعلموا التعليم الغربي في مدارس التبشير في بيروت وما إليها من القرى والمدن. والقبعة اليوم تهزم الطربوش والعمامة والكوفية والعقال أمامها، كما تنهزم المدنية الشرقية أمام المدنية الغربية طوعاً أو كراهاً، وربما كان لحالة لبنان السياسية مؤخراً دخل
كبير في هذا التمثل السريع. والمغلوب أبداً مولع بشعار الغالب. وكل ما قام به اللبناني من اقتباس التمدن فبل هذا العهد كان مقدمة إلى هذه النتيجة. ولولا أن الهجرة نخرت عظام اللبنانيين،(6/298)
وتغلغل حبها في شغاف قلوبهم، لكان الخطر كبيراً من هذه السرعة في اقتباس عادات ليست عاداتهم، وأخلاف قلما تلائم أخلاقهم، في أرض هي مفتاح باب البحار. وكأنا بلبنان إذا ظل غرام أهله بالرحيل عنه على هذه الصورة طلب الغنى، يوشك أن يفرغ من سكانه، يتعلمون لا ليكون فلاحين وصناعاً بل تجاراً ومستخدمين. وقد أولعوا بتقليد الأمم العظيمة الغنية في عامة مناحيهم وهم لا ثروة ثابتة لهم، وفي ذلك ما يخشى عليهم من عواقبه، ومن أظهر شؤمه على مجتمعهم ما نسمع به اليوم بعد الآخر من كثرة الاختلاس والاحتيال في دواوين حكومتهم وبيوت تجارتهم بحيث كادت ترتفع ثقة الغرب منهم، ذلك لأن الصعلوك فيهم يحاول أن يعيش عيش أرباب الطبقة الوسطى، هؤلاء لا يقنعهم إلا أن يدانوا الطبقات العليا، وتقليد أوربا أوقعهم في شر أمورهم، وفاتهم أن الأمة لا تفلح إلا باقتباس الجديد، والاحتفاظ بالقديم المفيد، وأن كل شعب يحاول أن يرتجل عاداته، ويصطنع أخلاقه، يندغم في غيره، ويذوب في بوتفة من يريدهم ولا يريدهم.
-
العادات في الأرجاء الأخرى:
تتخالف العادات في القرى وتتقارب، بحسب قربها وبعدها عن الحواضر على الأغلب، وبحسب أصول سكانها، فإذا كانوا من أصول عربية تجلت فيهم عادات البلدية كأهل حوران مثلاً فانهم على قربهم من دمشق قد رسخت فيهم العادات البدوية، كأهل الحواضر والوادي من سكان أقصى الجنوب.
ذلك لأن العرب تسربوا إلى الشام أولاً من الجنوب قبل الإسلام بقرون، وما زالت
موجات الهجرة تأتيها من تلك الأصقاع. وبينا تجد أهل غوطة دمشق كأهل الحضرة في مناحيهم كما يقول الرحالة ابن بطوطة، ترى أهل مرج دمشق، وما هم من الغوطة ببعيد، كأهل حوران، في عاداتهم ولباسهم وطراز معيشتهم. تتمثل فيهم عيش البداوة، وهم فلاحون مقيمون على الحرث والكرث وماشيتهم قليلة. وعادات المسيحيين في حوران وجبل الدروز ومادبا والكرك كعادات المسلمين السنة والدروز، والتعديل القليل على عادات المسيحيين لأنهم أسرع إلى التعليم من الأكثرية وإن كانت(6/299)
الأقليات في الغالب تفنى في الأكثريات. بيد أن الحال كانت على ذلك قبل الانتباه الأخير في الأقلية. مثال ذلك أن النساء المسيحيات في نابلس وحماة يحتجبن كالمسلمات مراعاة لعادات الأكثرية.
ولباس أهل بلاد غزة والخليل ونابلس كلباس أهل حوران، كوفية وعقال وعباءة وقفطان. وكذلك أهل بر حماة وحمص والمعرة وما إليها مما هو في سمت الشمال من الأصقاع. وسكات قرى حلب القريبة، كسكان قرى دمشق يلبسون العمائم. وهذه لا تلبس أن تزول بالطربوش، لأن المتعلمين من أبناء القرى يؤثرون لباس الطربوش على العمامة أو الكوفية. دع أهل المدن فقد قلت العمائم فيها. ولذلك يصح أن يقال: إن القبعة تهزم الطربوش من الساحل، والطربوش يهزم العمامة في الوسط، والعمامة تهزم الكوفية والعقال من سائر أطراف القطر النائية. وهكذا لا ترى وحدة في اللباس في أي ناحية من أنحاء الشام اجتزت بها. وقد يظن الغربي الذي اعتادت عيونه رؤية التوحيد في الملابس، إذا مر بإحدى الحواضر عندنا، أنه في قاعة تمثيل هزلي، تعرض فيها صور من البشر غربية في حركاتها وألبستها.
جاء في دواني القطوف أن عادات الحورانيين في أعراسهم وولاداتهم ومآتمهم شبيهة بعوائد سورية القديمة ممتزجة ببعض عادات العرب، مثل دفع الخاطب
لوالد عروسه تقدها في القديم عشرة آلاف غرش فخفض إلى ستة آلاف ثم إلى ألفي غرش فقط لعهدنا هذا عند المسيحيين. وعندهم الألطاف النقوط ورشق العروس عند مرورها في البلد بالعنصل بصل الفار. وفي المآتم يحملون الطعام إلى بيت الميت. ومدة النوح سبعة أيام كاملة. ومن العار عندهم بكاء الرجال إلى غير ذلك. وأهم ملابس الرجال القمصان الطويلة البيضاء المرسلة الأردان، والغنباز من نسيج الديما القطنية أو الحريرية، وسلطة قنطيشة واسعة الكمين قصيرة، من الجوخ الأزرق، مطرزة بالحرير الأحمر الناتىء، والفقراء يتخذونها من الخام الأزرق بلا طراز. وعلى رؤوسهم الكوفية والعقال. وفي أرجلهم المداس والجزمة الحذاء أما ملابس النساء فقميص أزرق ملون التطريز، وأسع الأردان والأكمام،. وفوقه سلطة أكبر مما يلبسه الرجال إما من الخام أو الجوخ. وعلى رؤوسهن(6/300)
شنبر أسود حريري. فالمتزوجات يتلفعن به ويربطنه من الوراء. والعزبات يعصبن رؤوسهن فوق المنديل. ويلبسن البوابيج والجزمات القصيرة، ويتخذان زناراً من الفضة حياصة قيمته أكثر من ألف غرش، وله ذوائب مسترسلة، وفي معاصمهن أساور فضية ضخمة، وفي أرجلهن خلاخيل فضية، وفي آذانهن تراكي ذهب حلق مستدير، وعلى رؤوسهن عصابة من قماش مرصوفة بنقود ذهبية تعرف بالشبكة، وفي أصابعهن خواتم فضية. ويستعملون جميعهم نساءً ورجالاً الوشم إلى غير ذلك مما يختلف باختلاف حالتهم اه.
وعادات السكان في القرى تتشابه وكذلك ألبستهم، وكلما بعدوا عما يقال له التمدن تمازجوا وتضامنوا، فما يزال المسلمون في بعض القرى وادي بردى إذا كان عند جارهم المسيحي فرح أو ترح يأتي المسلمون يخدمون ضيوفه، ويقدمون له الهدايا ليبيضوا وجهه أمام الواردين عليه وبالعكس. وهذا من أجمل العادات في التضامن بين أهل البلد الواحد. وعادات المسلمين في الساحل والداخل متشاكلة، وكلها
مقتبس من عادات أهل دمشق. فدير الزور وحلب وحماة وحمص والمعرة وإنطاكية واللاذقية وطرابلس وبعلبك وبيروت وصيدا وصور وصفد والنبطية والصلت ونابلس وعكا وحيفا ويافا والقدس والخليل وغزة، وبالجملة فكل بلد فيه كتلة إسلامية أو مسيحية من السكان لا تجد عاداته إلا دمشقية، وأهله يقتبسون من دمشق إلى اليوم ما يروقهم من عاداتها، ومدينة دمشق محبوبة تهفو إليها نفوس الشاميين عامة، وأهلها محبوبون للرقة التي فطروا عليها، ولأنهم يعطفون كثيراً على الغريب، وربما أغرقوا في عطفهم وآثروه على ابن حيهم، وكل من دخلها ولا سيما من سكان القطر متى خرج منها اكتأب ودعا لها بالعمار ولو خسر فيها جزءاً من ماله قال القزويني: وأهل دمشق أحسن الناس خلقاً وزياً وأميلهم إلى اللهو واللعب ولهم في كل يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب، ووصف المساخر والصراع والغناء والألعاب بما لا يخرج الآن عما كان منذ نحو ألف سنة. والغالب أن السبتية من عادات اليهود سكان البلاد الأصليين كما(6/301)
أن إضراب بعض المشايخ عن القراءة أيام الثلاثاء، من عادات الصابئة لأن يوم البطالة عند الصابئة يوم الثلاثاء. ومع هذا فقد مدح الدمشقيون منذ القديم كثيراً وهجوا كثيراً. ولعل المادح والقادح لا يخلوان من مبالغة.
ومن يتزوج من أهل هذا القطر بامرأة دمشقية يحسب نفسه سعيداً، فالدمشقيات يتغربن كثيراً، وما برحت دمشق تضم إليها الغرباء من أهل الكور الأخرى وتتمثلهم وتعيضها عمن يدخل إليها من الرجال بعض نسائها، يدخل فيها عادات العاصمة الأموية، ويمزجن أهل الوطن الواحد من طريق الأسر والبيوت. والبدو والحضر من جميع النحل يؤثرون البنين على البنات، وكلهم يلدون كثيراً، ويعيش الأطفال في المدن أكثر من القرى، للعناية بصحتهم ووجود الأطباء والقوابل. ولولا أن البدوي يولد له كل سنة لانقرض نسله لكثرة الغزو والذبح في الدهر
السالف.
وجميع نساء القرى من المسلمات في الشام سافرات يعمان مع الرجال في الحقول والمراعي على صيانة لا تبذل فيها، ما خلا بعض القرى القريبة من الحواضر فإن عادة الحجاب سرت إليهن، فيلبسن ملاءات من حبر أسود أو أزرق على الأغلب. وفي بعض المدن ملاءات ملونة بأصفر وأحمر معاً أو بأبيض فقط. ولكن نساء دمشق خاصةً اخترن زياً من الملاءات ومناديل الوجه، اقتبسنها عن نساء الآستانة أيام كان الحجاب شائعاً في نساء الترك. فلما كشف الحجاب في تركيا في العهد الأخير وأصبح زيهن كزي الغربيات، قبعات على الرؤوس وأثواب قصيرة خفيفة. وزال الحجاب أو كاد عند نساء مصر بالطبيعة لتغلب المدينة عليهن، بقي نساء حواضر الشام كبيروت ودمشق وحلب وطرابلس حائرات يطمح بعضهن إلى تقليد التركيات والمصريات. ولكن شدة المسيطرين من الرجال، اضطرتهن إلى الوقوف الآن عند حد حجابهن القديم، فيظهرن في الشوارع في حبرات سوداء مسدولة إلى أعقابهن ومناديل سود مسبلة على وجوههن، وقد تكون في المتبرجات شفافة جميلة لا تكاد تحجب الوجوه بل تزينها وتدعو الناظرين إلى إرسال الطرف إليهن.
ومنذ هاجر الجركس من القافقاس بعد الحرب الروسية التركية سنة 1294 إلى الشام وأسكنتهم الدولة العثمانية في بعض قرى منبج وحمص(6/302)
وسليمة ودمشق وعمان وجرش والقنيطرة، أدخلوا إلى الشام بعض عاداتهم في تربية المواشي والفلاحة والصناعات الزراعية. ويغلب على الجراكسة الإمساك والتضامن لأنهم في حاجة إليه لدفع عادية البوادي عنهم، ويغلب التدين على شيوخهم والشجاعة على شبابهم. وإذا أراد الشاب منهم أن يخطب فتاة خطفها من بيت أبيها مهما كانت منزلتها ومنزلته. ونساؤهم يظللن سافرات ما دمن أبكاراً وعانسات، حتى إذا
تزوجن عمدن إلى الحجاب وابتعدن عن مجالس الرجال. والفتيات يختلطن بالفتيان ويغنين ويرقصن معاً ويتسامرون ويتحدثون من دون نكير. ويقل فيهم تعدد الزوجات، والمرأة الجركسية مثال المرأة الصالحة في تربية أولادها وإدارة شؤون بيتها.
وقد أخذ الصهيونيون في فلسطين يدخلون عاداتهم منذ كثر سوادهم فيها، ولكن من الصعب أن يقتبسها السكان الأصليون لأنهم ينظرون إليهم نظر أعداء، وإن كان في عاداتهم الجميل جداً كحب النظام والترتيب والنظافة والاقتصاد، وتجويد الأعمال الزراعية على اختلاف ضروبها. وكذلك الحال في المهاجرين من الأرمن الذين تسربوا من الشمال وامتدوا إلى الجنوب قليلاً وإلى الغرب، فإن من عاداتهم ما هو المعقول، وهو تضامنهم إلى ما لا حد له، واقتصادهم ومهارتهم في التجارة والصناعة، بيد أنهم لا يمتزجون بالشاميين ويريدون كالصهيونيين أن يعاملوا أهل القطر ليربحوا منهم فقط، لا لتكون بينهم المنافع مشتركة كما هو الحال بين أبناء هذا الوطن الواحد على اختلاف نحلهم، وعلى كثرة ما يوقد الواقدون من الرؤساء المتعصبين من جذوة التعصب، يوشكون أن يقاطعوا غير أبناء جنسهم، ولكن السواد الأعظم إذا عاملهم بالمثل وعمدوا إلى مقاطعتهم لا يبقى أمامهم سوى الرحيل.
وأهل دمشق وحلب بل وأكثر المدن الداخلية من أشد الشاميين محافظة على عاداتهم وأخلاقهم، ولهم غرام إلى اليوم بالتقليب بألفاظ التشريف، واستعمال الألقاب الضخمة، راجت رواجاً كثيراً على آخر عهد الترك العثمانيين، لأن رتبهم وألقابهم مما كانوا أسرفوا في منحه للرفيع والوضيع فصار أهل الطبقتين الوسطى والدنيا لا يتخاطبون إلا بلقب باشا أو بك أو أفندي ودولتك عطوفتك سعادتك سماحتك فضيلتك(6/303)
سيادتك. أما ألقاب سيدنا ومولانا فتكاد تؤلف جزءاً مهماً من
أحاديثهم ابتليت الأمة بهذه الألقاب كما ابتليت بالتلقيب بالدين في القرن الخامس إلى القرون الأخيرة. وقد وصف ابن جبير مآتم أهل دمشق وجنائزهم في الدولة الصلاحية فقال: ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانها ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة إلى الدين فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه(6/304)
أو بدره أو نجمه أو زينة أو بهائه أو جماله أو مجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه إلى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة، وتتبعها ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضاً من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الإسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية، فيصعد كل واحد منهم إلى الشريعة ساحباً أذياله من الكبر ثانياً عطفه وقذاله قال: ومخاطبة هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلماً يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطياً، والجد عندهم عنقاء مغرب. وصفه سلامهم إيماء للركوع أو السجود فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط وآخر يقوم وعمائمهم تهوي بينهم هوياً. وهذه الحالة من الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدنا لقينات النساء. وعند استعراض رقيق الإماء، فيا عجباً لهؤلاء الرجال، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال، لقد ابتذلوا أنفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه، لهم في هذا الشأن طرائق عجيبة في الباطل، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم لقد تساوت الأذناب عندهم والرؤوس، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس اه.
بمثل هذا اللسان الغريب وصفنا ابن جبير. ولما أفرط القوم في عاداتهم في الجنائز والمآتم والأفراح والمجتمعات والقيام والقعود وتبادل السلام وتقديم القهوة والشاي وغيرهما، ودخلت في طور من الهزل عجيب، زهد فيها المتعلمون على المناحي الغربية، وأنشئوا ينبذونها نبذ النواة. وخفت أيضاً(6/305)
ألفاظ التكريم عن عهد الترك وهي آخذة بالزوال، وبقدر ما يكثر سواد المتعلمين يقل سواد المداهنين والمرائين، على ما يقل المخرفون والمعتقدون. فقد كان بعض الناس يعتقدون بالفال والمندل والكيمياء والأحلام والكشف، فقل اليوم من يلتفتون إلى هذه المسائل، وخفت وطأتها حتى من القرى البعيدة. والمنورون من الناس قسمان: قسم وقف عند حدود الشرع واكتفى بأوامره ونواهيه، وآخر نزع ربفة الدين ولكن في سره دون الجهر من القول.
وبعض العادات لا تقوى على نزعها إلا الأيام الطويلة والنشوء السريع، وهذا متعذر الآن لتعذر نشر التعليم الإجباري في الشعب، فقد كان النساء إلى عهد قريب في الأحياء البعيدة عن مدينة حلب في الجنائز مسخمات وجوههن مخمشات لها لابسات ثياب الحداد، باكيات مولولات منتحبات، وهذا من عادات الجاهلية التي منعها الإسلام. وأول المسؤولين عن إقرار مثل هذه العادات المشايخ والوعاظ وأرباب الصحف. وقل أن رأينا من المشايخ والوعاظ من يتعرض لإنكار مثل هذه البدع والعادات الضارة. أما الصحف فعلى كثرة ما نشرت من الأنوار في طبقات مخصوصة من الناس فقد بقيت في ناحية من النواحي مقصرة كل التقصير، وهو البحث في العادات المضرة والأخلاق الساقطة. وإنا ليحزننا أن كان في الصحافيين أناس لا يزيدون المجتمع إلا فساداً فوق فساده، لأنهم يلقنون العامة الكذب والخديعة والملق، ويدعون أن قراءهم لا يرضون منهم إلا بهذه الطرق. ولكننا على يقين من أنهم هم يبيعون من قرائهم ما يتفق مع مصلحة جيوبهم
وأكياسهم. كان التدجيل إلى عهد قريب من خصائص بعض مشايخ الطرق فذهبت الآن ريحهم أو كادت وخلفهم هذا الضرب من الناس.
يمكن إرجاع أهم صفات الناس في هذا القطر إلى مادتين أصليتين الوفاء والكرم ولا تزال هاتان الصفتان ماثلتين في معظم الشاميين على كثرة ما اعتور مجتمعهم من تبديل وتعديل. وتجد هاتين المزيتين على أتمهما في كثير من أهل الطبقات الوسطى والدنيا، يقومون عليهما غالباً من دون أن يتوقعوا عنهما أجراً سماوي أو مظهراً دنيوياً. أما الطبقة العليا فمن النادر أن يكون فيها الوفاء والكرم، وإن وفت فلأمر ما تفي، أو تكارمت فلغرض(6/306)
ترتجيه. وكلما ضعف الوازع الديني في القوم، وهاجمتهم عادات الغربيين، انحلوا م عهدة الوفاء والكرم، ولذلك ترى الأوفياء والكرماء بعيدين إلا قليلاً عن المناطق التي اختلطت بالغريب على سواحل البحر، وأخذت من معارفه، وتخلقت بأخلاقه، واعتادت عاداته.
ومنذ شاع الكذب والحسد في الشاميين، ضعفت مادة حياتهم من التجارة والصناعة، وكادت ثقة الغرب ترتفع منهم، وإذا كتب لهم أن شاعوا في الجملة اليوم فبفضل الأسس القديمة التي قام عليها مجتمعهم وجامعتهم، وبفضل نشاطهم في مهاجرهم حيث رأوا أنفسهم أمام جاليات كثيرة من الأمم اضطرتهم الحال معها أن يظهروا بمظهر الأمانة ليعتاشوا ويرتاشوا. أما التحاسد والمشاغبة فلم تنقطع شأفتهما فيهم حتى في ديار الغربة، وربما زادهم على ما كانوا ألفوه منها ما روأوه في مهاجرهم عند الأمم الأخرى فاقتبسوه وأضافوه إلى رؤوس أموالهم. وربما بلغت الجالية الشامية نحو ألف ألف نسمة أي نحو سبع سكان القطر، فما أمرهم باليسير إذا حتى لا يشار إليهم بجملة، لأنهم على الأقل يمثلون صورة من أهل القطر في الخارج، والأجانب لا يعرفون إلا أنها صحيحة مطابقة للأصل، أو أنهم من أمثل طبقات الشعب. ولو تفرقوا في الأرجاء التي ينزلونها، كما تفرقت
قلوبهم في موطنهم الأصلي، لكان لزماً أن يؤثر ذلك في أخلاقهم وعاداتهم، ولكنك تراهم في مهاجرهم يجتمعون أهل كل إقليم بإقليمه على الأكثر، وقد لا تختلط لفائفهم بسكان الديار التي ينزلونها إلا كما يختلط الشامي بالمصري إذا نزل مصر، يختلط به ليبرح منه ويحتفظ بشاميته وتقاليده بعد جيلين وثلاثة وأحياناً بعد أربعة وخمسة.
عادات القبائل وأخلاقها:
ثُمن أو سبع أهل القطر الشامي اليوم أي نحو خمسمائة ألف نسمة بادية أو قبائل رحالة، ويقال لهم في الاصطلاح: العرب أو العربان، تصطاف في مكان وتشتو في آخر، وقلّ من يألف منهم سكنى الدور، وبيوتهم من الخيام والمضارب تنسج من شعر المعزى، يعتمدونها بعمد ويشدونها بأطناب،(6/307)
ويضربونها حيث نزلوا لرعية ماشيتهم، يحملون معهم أثاثهم وخرثيهم ودوابهم ومؤونتهم، وهم شاوية يقومون على تربية الشياه والعنز ويربي بعضهم الأباعر، والشاوية من الأسماء التي تطلق على عشائر دير الزور على الفرات خاصة لأنهم جماعة شياه. ومعاش البدو من مواشيهم وما تدر عليهم من السمون والألبان والأجبان والزبد وما يبيعون من نتاج قطعانهم، أو من غزو بعضهم بعضاً إن كانوا أشراراً على الفطرة لم تدمث أخلاقهم قليلاً بالاحتكاك بالمتحضرين، وإذ كان سكان البادية على هذه الحالة من التنقل وأكثرهم يوغل في الشياء إلى وسط ديار العرب انتجاعاً للكلأ والماء، أصبح من المتعذر أن تنشأ لهم حالة ثابتة يتأتى معها وصف كل قبيل منهم في عاداته وأخلاقه.
وعرب الشام من أصول شتى وقد تتغير أسماء قبائلهم مهما عظمت قي كل قرن أو قرنين، فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بدخول الإسلام الشام، في القرن الثالث أو الرابع، وما عرف من أسمائها في القرن الثامن أو التاسع تبدل في القرن الحادي عشر، وهكذا تتبدل أسماء العائلة تبعاً للمتأمر عليها، وقد تسمى القبيلة كلها باسم أميرها أو شيخها. والعشائر كلها تنقسم إلى أفخاذ وبطون، والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته، أو من كان أذكى قومه جناناً، وأبسطهم بالكرم يداً، وأشجعهم يوم النزال قلباً، واصلبهم في الحوادث عوداً، ثم تنتقل بالوراثة.
وغزو القبائل بعضها بعضاً يحول دون بقاء الثروة الناطقة والصامته فيهم، فقد
تكون القبيلة اليوم في الغابة من طيب العيش، ناعمة البال بحلالها أي ماشيتها، فتغزى من الغد في عقر دارها، فلا تلبث أن تصبح أعرى من مغزل لا بد لها ولا لبد. دع ما يصيبها من نقص في الأنفس، فقد كان من النادر أن تجد رجلاً بلغ أقص سن الشيخوخة لأنه يعتبط في الغزوات، ويقتل في سن الفتوة غالباً. والحكومات الشامية اليوم تحظر على القبائل الغزو، وهم يخافون سطوتها لمكان السيارات ورشاشاتها في الأرض، والطيارات وقذائفها في الجو، وتحاول كل حكومة أن تعطي البادية أرضاً تزرعها لتأوي(6/308)
إلى البيوت الثابتة، وتتخلى عن عيش البداوة وما تستلزمه من شقاوة وشقاء. ومن عشائر الشام ما عرف أنها كانت رحالة فأصبحت مزارعة مقيمة، ولذ لها عيشها الثاني فاغتنت يوم تحضرت، مثل الدنادشة أو بني دندش فهم قبيلة يمانية جلت إلى حوران منذ نحو ثلاثمائة سنة، ثم انتقلت إلى أرجاء تل كلخ من عمل حصن الأكراد، ولهم اليوم قرى عامرة وبيوت وقصور في قرى الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح ومشتى حمودة ومشتى حمزة وبرج الدنادشة وغيرها، وظلت أخلاقهم إلى عهد قريب أخلاق العشائر يحبون الغزو والسطو وحمون الذمار والجار، وهم على حصة موفورة من الكرم والوفاء وصحة العهد. واتفق مثل هذا التحول لكثير من عشائر الحديديين والموالي وبني خالد، فإنهم لما امتلك السلطان عبد الحميد الثاني أرضاً واسعة في الشمال الشرقي من الشام في أرجاء حماة وحمص، حمى العشائر ومنع الغزو بينها، فتحضر من هذه العشائر عدد كبير انصرفوا إلى اعتمال الأرض والعناية بالزرع والضرع. وهكذا كانت الحال في القديم والحديث، تدخل البادية في الحضارة، وقل أن خرج أفراد من الحضارة إلى البداوة، لأن الترقي سنة الطبيعة، والبداوة أصل ثم يذوب أهلها على الزمن في الحضر.
تبعد منازل البدو عن سواحل البحر المتوسط غالباً، ولا تزال تمتد في الداخل حتى
ينتهي العامر من ديار الشام في الجنوب والشرق، وهناط البداوة بأجلى مظاهرها. والأولى أن يقال مثلاً في عشائر الفضل والهوادجة والبحاترة النازلين على ضفاف بحيرة الحلوة، وبني صخر الضاربين في البلقاء، وبني حسن في علجون، والحسينية والفواعرة والعكيدات في أرجاء حمص، وبني خالد عرب حماة، والحديديين والموالي واللهيب والغيار عرب حلب، والسًّبعَة والفدعان من عنترة النازلين من بحيرة الجبول إلى سليمة وعشائر البشاتورة والبواتية الغزاوية والمساعيد ونقار والصقور عرب بًيْسان ونابلس وجنين وطول كرم، وعشائر شرقي الأردن التي تشتو في وادي العربة أو الأغوار، أو الحماد أي الصحراء العربية شرقاً، وتصطاف في ارض معينة الحدود معروفة - فالأولى أن يطلق على هذه القبائل اسم نصف حضرية(6/309)
لأن منها من يزرع الأرض، ومن أفلح في الفلاحة، وأيقن على الأيام أن العيش الثابت خير من المتقلقل، وأن من يدفع للدولة أجرة حمايته، أهنأ بالاَ ممن يتكل في حمايته على نفسه وسيفه وعصبيته.
وهكذا يقال في عرب الغياث والعمور في اللجا والصفا، وعرب العدوان والأيديات والعباد والمشالخة والحمايدة والشوابكة والدعجة والعجمارمة والنمر والكايد في أطراف عَمّان والصلت ومادبا، والخرشان والجبور في الموقر والعليا والنقير، وبني حميدة والسليط والحجايا والحباشنة والصرايرة والطراونه وكثرربة والمعايطة والمجالي والمدنات في أرجاء الكرك، والحويطات والدمانية وأبي تايه والمطالقة والنعيمات والديابات وبني عطية في جهات معان، وعرب الشرور وبني عطا والهلالات والعبيدية والعلايا في وادي موسى وجبال الشراة، والحميدات وعبدين والبحارات والكلالدة والوهبيات والمنازعين في الطفيلة، فإن كثيراً منهم يزرعون الأرض، ويقومون على تعهد الماشية، وقد يبعدون في الانتجاع ثم يعودون أدراجهم.
وعلى مثل هذه الحال عشيرة العمور في أرجاء تدمر وعشائر بو شعبان في السخنة والجبور في البو كمال والعكيدات في الميادين ودير الزور وغيرهم من العشائر النازلة على شط الفرات الغربي، فإنها كلها نصف متحضرة وبقليل من العناية تدخل في المدينة وتترك عاداتها وشقائها، ويسوغ لنا أن نستنتج أن البادية حتى أكثرها إيغالاً في البداوة يمكن تحضيرها إذا أكرهت على التحضر خلافاً لما يذهب إليه بعض أهل الغرب. وفي الشام قبائل من البدو مثل عرب الروالة من عنزة وهم لا يقلون عن عشرين ألف نسمة، ينتقلون أبداً كالنور أو الغجر كل مدة في ناحية، ولا ينزلون المدن إلا لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم وألبانهم. والنور جيل منحط من الناس يرتحلون كالبدو ويعملون الأعمال الخسيسة، ولذلك يحتقرهم جميع أصناف العالم من أهل المدن والقرى والبدو، وهم قلما تخلو منهم بلد ومنهم عدد كبير في أوربا.
ولا تختلف عادات العشائر لأنها كلها في حالة أولية فطرية هدتهم إليها الحاجة إلى الحياة، فعشائر ولد علي والسرحان والمعجل والسردية والنعيم(6/310)
في حوران والقنيطرة والزوية، والزريقات في طرابلس والتياهة والعزازمة والترابين والجبارات والحناجرة والكعابنة والصرايعة والجهالين وفقرة وثباني وهارين وفرحات وزويديين وضواحك وسلامات وصقرير والرسيلات وأبي صونية والغوالبة في أقصى فلسطين أي في أرجاء بئر السبع وغزة والخليل والمجدل، وعشائر القدس ورام الله وبيت لحم وأريحا ويافا والرملة كالسويطرة وعرب النبي روبين والجماسين وأبي كشكو المالمة والعوجا والديوك والنويعمة والخطباء والفهيرات والعرينات والنصيرات والتعامرة والعبيدية والسواحرة وعرب حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد وهم الغابة والعواضين والشقارات والزبيدات والتواتحة والكمابية والضيبة وبني عزة والنغناغية والرمل التركمان
وجسر الزرقاء وقسارية والفقرة ونفيعات والدمايرة والسواعيد والسمينة والغوارنة والسويطات والحجيرات والطوقية والمريسات وصبيح الحجيرات والمزاريب والسبارجة والجواميس والغزالين والتلاوية والمواسي والسرجونة والسدور والسمايرة والخرامية والسماكية والمنارة وكراد الخيط والملاحة والشمالنة والبويزية والزنغرية وزبيد وقديرية وطوبا وحسينية وعلمانية ووقاس والصويلات والنميرات، وعشرات من القبائل كلها متشابهة في عاداتها وأحوالها الطبيعية وجلها لا تسد مطامعه إلا الغارات واستباحة حمى المعمور، عرفوا بذلك منذ عرف تاريخهم. وكان الرومان خاصة يقيمون المخافر من اجتياحهم القرى ويقيمون لهم منهم زعماء يصدونهم عن الاعتداء بعضهم على بعض، أو يحولون دون اعتدائهم على المقيمين من سكان المزارع والدساكر.
وفي تاريخ فلسطين أن العزة والسيطرة كانت في جميع بلاد الساحل والسهل البدو وأهل الدير، فبلاد السبع وغزة كانت منقسمة بين الغزارمة والحناجرة والترابين والجبارات، فالعزارمة يمانيون ومشايخهم أجداد ابن سعيد، وأمراء الترابين عائلة أبي ست، وأمراء التياها الهزءيل، وأنساب هذه القبائل غير صريحة فإنها مزيج من عشائر مختلفة وقبائل متنوعة وفيهم القيسي واليماني، وبلاد الخليل أكثرها قيسية ومقاطعة القدس يمانية وقيسية اه.
وكما عرف البدوي بأنه يجير الملتجئ إليه، كذلك إذا آنس ضعفاً(6/311)
من أحد أبناء السبيل في البرية سرق منه ماله وثيابه أو هيمانيه ودابته، وندر أن يقتله فشأنه شأن معظم البشر عبد القوة لا يحاذر غيرها. ولطالما كان الجنود الشاميون أيام كانوا يفرون على عهد الترك من اليمن تطيل البادية عليهم أيدي الاعتداء تارة ويكسونهم ويطعمونهم تارةً أخرى، وهكذا كان الفار يعرى ويكتسي مراراً حتى يصل إلى المعمور من دياره.
وماذا يعمل البدوي وماشيته ترعى أمامه، وكيف يصرف ليله ونهاره، وكيف تطيب له الحياة في الصيف والشتاء، وهو معرض لأشد الحرارة وأشد لا جرم أن البدوي، وهو بذكائه وفراسته معروف موصوف أكثر من الفلاحين أهل القرى، يعرف من الأخبار التي تهمه من أنباء العالم ما ينبغي له الإحاطة به، ويتناقله بسرعة البرق، حتى إن ما يحدث في الحجاز أو العراق، يصل خبره إلى ابن بادية الشام وما وراءه من العرب، قبل أن تصل السيارة والبريد، فينتقل الخبر في الأفواه من فم إلى فم، ويسمون الأخبار العلوم وأول ما يسأل البدوي في البادية أو المعمورة عن العلوم. وإذا لم يمن عند البدوي ما يتسلى به من القصص والأخبار التي تمون في العادة نمطتً واحداً يأخذ شاعر القبيلة ربابة يضرب عليها، ويفكههم من نظمه أو من محفوظه بأشعار. وفي الغالب أن يكون ما ينشدهم إياه بلهجتهم التي يألفونها. ويحتوي على الأكثر الحماسيات وأخبار الغزاة والغزوات وأيام الشجعان وحوادث الكرماء والضيفان. والرقص معروف عندهم وهو الدبكة أو السحجة يرقص في الغالب الفتيان والفتيات، دون الرجال والنساء المتزوجات. ومهور النساء غالية في بعض العشائر، وتكون من الجمال والشياه غالباً لا من النقود لقلة تداول النقد بينهم فهم يتقايضون الحاصلات، كما يتقايضون البنات بالحيوانات. والبدوي يخصب إن جادت المراعي من خيرات السماء، وإلا فقد أترب وأجدب، ونفقت دوابه فأعوزته اللقيمات.
ويجلس الرجال في العراء في خيمة مضروبة تكون في الغالب خيمة الشيخ أو الغني، يتعاطون قهوة البن وهم يجيدون طبخها لفراغهم وتوفرهم على معالجتها. وقد يستغني البدوي عن الأكل أو يقلل منه كثيراً، ولكنه لا(6/312)
يستغني بحال عن تعاطي في كل ساعة فهي نقله وحلواؤه وشرابه المتنعش، وقد يصرف أحدهم ثمن بّن في السنة أكثر مما يصرف على طعامه ولباسه. وأحب الهدايا إلى قلب البدوي
أن تحمل إليه مقداراً من البن. وطعامهم من أسهل الأشياء، مقصور على بعض الألبان والبّر والجريش والأقط والعصيدة، ولباسهم ساذج للغاية وكسوتهم متشابهة: قفطان من القطن، وعباءة خفيفة، وزنار عادي، وكوفية وعقال، ولا يلبسون في الأعم من حالاتهم قمصاناً وصُدَراً وسراويل، وأكثرهم حفاة، ويصطنع كسكان وادي موسى نعالاً من جلود الأباعر ينيطونها بحبال يدخلون فيها أباهِم أرجلهم تعلق بها.
قّل أن تجد في البادية من يقرأ ويكتب، فقد تبلغ العشيرة ألف نسمة ولا تظفر فيها بمن يكتب جملة. ومن العشائر من تستأجر خطيباً من أهل الحضر يكون معها في مشتاها ومصيفها، ويعظم بما يعلم من أمور الدين. وأكثر البادية لا يتطهرون ولا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون من الإسلام إلا أن الله واحد وأن محمداً رسوله. ولولا هاتان الكلمتان لقلنا إنهم كعرب الجاهلية حذو القذّة بالقذة وقد تصلي بعض القبائل كالرولة، ولما كان الماء يعوزهم في منتجعاتهم وتنقلاتهم فهم يتيممون صعيداً طيباً، والله يعلم هل يحسن أكثرهم قراءة فاتحة الكتاب، أو يعرفون سوره الصغار. وما كانت هذه العشيرة تصلي من قبل لولا أن لابسها بعض دعاة الشيعة وعلموا كل فريق منهم إقامة الصلوات، ولنقوهم بعض معتقدات التشيع من حيث لا يدرون. وقد تديّن اليوم أي دان بالمذهب الوهابي قسم من الروالة لما لحقوا بنجد، والمذهب الوهابي مذهب محمد بن عبد الوهاب وهو مذهب أحمد بن حنبل بأصوله وفروعه. وإذا كان من الأمور العادية في البادية أن تكون القبائل في خصام دائم، وهي أشبه بحكومات صغرى تتقاتل وتستعين بالغريب على خصمها، مست الحاجة إلى قضاة يفصلون بينها في المنازعات، وقضاتهم منهم يتقاضون عندهم بأجر معلوم، وأحكامهم سريعة نافذة، ومن أحكامهم ما هو مطابق للشرع(6/313)
الإسلامي، ومنها ما هو من بنات أفكار القاضي، أو
يأخذه من العرف والعادة. والاختلافات تفض بين المتخاصمين على أيدي الرؤساء صلحاً على الأكثر وقّل أن يراجع البدوي الحكومة في مسألة لأن من أصولها البحث والتحقيق، وهو يحب قضاء عاجلاً، وأن يحكم له أو عليه في جلسة واحدة، وينفي القاتل في بعض القبائل سبع سنين فإذا صالح أهل القتيل ودفع الدية يعود إلى عشيرته، وتختلف دية القتيل بين 33 ألف غرش إلى 15 ألفاً، ولا يحق عند بعضهم لأحد بعد سبع سنين أن يثأر للقتيل، والأخذ بالثأر كثير عندهم، ولا مدة عند معظمهم للمطالبة بالثأر. ومن المأثور عنهم أن البدوي أخذ ثأره بعد أربعين ستة وقال: إنني تعجلت أخذه. وجزاء السارق تغريمه المال المسروق من ضعفين إلى أربعة أضعاف، وينجو السارق بالفرار، ويدفع الضارب للمضروب إذا عطل منه عضواً نصف الدية. والزاني يرجم عندهم حتى يموت ولكنهم تساهلوا في هذا الحكم، والفحش عندهم على نسبة ما هو عند الحضر ويكثر في بعض العشائر ويقل بحسب اختلاطها بأهل المدن وبعدها عنها، والخمور لا أثر لها في البادية لأن العرب قلما يشبعون الخبز والإدام فمالهم إذاً والمدام، ولشطف العيش عندهم يعدون في الأعياد اليوم الذي ينزل على شيخهم ضيف يجب أن ينحر له شاة في تلك الوجبة مدعوون كلهم بالطبيعة، وعندما يأكلون اللحم فترى قطعانه تسافر من فوق الرؤوس حتى يطعم من المنسف البعيد منهم عنه، وتسمع عندها تعريق اللحم عن العظم أشبه بأصوات حيوانات وقعت على عظام.
ويكثر تعدد الزوجات بينهم خصوصاً عند من يملك بعض نعجات أو بضعة أباعر فتراه طول النهار وجزءاً من الليل، تحت خيمته يتقهوى أي يشرب القهوة مستلقياً على قفاه، يقص أقاصيصه وينعم ببطالته، على حين ترعى امرأته وبناته الغنم والجمال، ويتحطبن الحطب أو يجمعن العشب، وتحمل المرأة الماء على رأسها من مكان بعيد، أو تستقيه في قرب تحملها على حمار إن كان صاحبها من أهل
اليسار، وتستخرج المرأة الزبد والسمن وتعمل الجبن وتخبز الخبز وتهيئ الطعام. ويعيش أولادهم كالسائمة في البرية بدون عناية ويهلك معظمهم قبل الخامسة من العمر، ولهذا تكون أجسام من يفلتون(6/314)
منهم من الموت قوية تبعاً لقاعدة بقاء الأنسب. وهم لا طبيب عندهم ولا جراح ولا قابلة إلا ما تعلموه من أجدادهم من الوصفات، وثقفوه بطول الزمن في مداواة الجروح، ويداوون أكثر الأمراض المستعصية بالكي أو بأدهان وحشائش لهم يعرفونها. وأمراضهم قليلة بالنسبة لخشونة عيشهم وجشوبة طعامهم وقلة تطهرهم، وذلك لمكان الهواء النقي والشمس المطهرة من أجسامهم ولندرة ما يطعمون من الأطعمة المركبة من حامض وحلو وحار وبارد، ولقلة الهموم التي تساورهم وما تساور في العادة إلا سكان المدن والقرى ممن يفقهون واجبات الحياة، ويكدحون في طلب المعاش ولا يزالون مأخوذين بحب التقليد. والبدوي حاد النظر يرى الأشباح من مسافة بعيدة جداً، وقد يرى والقمر ليلة هلاله ما لا يبصره الحضري، ومن رآه في تمييز المرئيات عن بعد باعد، يكاد يصدق ما ذكرته العرب عن نظر زرقاء اليمامة. وكما كانت أبصارهم حادة كانت أسنانهم وأضراسهم سليمة براقة للطف أخلاطهم وتخليطهم.
قال أديب وهبة: إن سكنى البدوي في بيت الشعر في البوادي المحفوفة بالأخطار والمشاق، وبعده عن الحامية وانتباذه الأسوار، قد ولد فيه عدة مزايا يمتاز بها على الحضري، منها الشجاعة والعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة فتوغل البدو في البادية، وتولعهم بالغزو والغارات قد جعلهم في قتال أو استعداد دائم للقتال، فأصبحت الشجاعة فيهم طبيعة، وتعذر قيام الفرد مهما كان شجاعاً بمقابلة العدد من العدو قد اضطرهم للالتجاء إلى العصبية، وهي التضامن المطلق بين أفراد القبيلة، حتى تطلب العشيرة بأجمعها بحق أحد أفرادها، وأقرب أسبابها لديهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف الأسرة، ومن الأسر تتألف الفصيلة وتتدرج
بهذه الصورة إلى القبيلة. والذي عليه عشائر الشرق العربي أنها تطلب وتطالب بحقوق أفرادها إلى الجد الخامس من جدود الطالب والمطلوب، أي لكل فرد يتصل مع إيهاما بالجد الأول أو الثاني أو الثالث إلى الخامس الحق بطلب حق قريبه، وعليه أن يخضع للحق المطلوب منه، ولهم بذلك قوانين وقواعد موروثة. ثم إن ابتعاد البدو عن المدن وتفردهم في الأرض المقفرة يضطرهم إلى إكرام(6/315)
الضيف والقاصد وحماية الضعيف والملتجئ، حتى إذا وقع أحد أفراد قبيلتهم بمثل هذا الأمر الذي يكثر حدوثه لديهم يتقاضى ما أسلفه. وقد قويت هذه المزية فيهم حتى ضرب بكرمهم المثل، وفاقوا به سائر الأمم. وإن مطاوي التاريخ العربي مستفيضة بأقاصيص كرماء العرب وكرمهم العجيب. والبدوي يعتقد أنه لا ذكر له ولا إرث أفضل من سمعة الكرم والجود. وإن هذه المزية لا تزال عند بدو الشرق العربي على ما كانت عليه في زمن أجدادهم الجاهليين فلا يحل ضيف بيت أحدهم غنياً كان أو معدماً، إلا ويسرع لتهيئة كل ما يرضيه ويسره، وإن الكثيرين منهم يضطرون إلى تحمل أعباء الدين الثقيلة لإرضاء قاصدهم. وإذا استأمنهم مستأمن على أمانة فدوا لحفظها أموالهم وأولادهم وأنفسهم، وكذلك إذا التجأ إليهم خائف، أو استجار بهم مظلوم، أو نزل عليهم موتور مطرود.
رأي في الأخلاق الشامية:
تمثل الأمم في العادة طبقتان من أبنائها الوسطى والعليا. والطبقة الدنيا وهي طبقة العامة مستتبعة لا متبوعة، لأن ما هي فيه من تأخر أسباب الحياة، لا يترك لها مجالا للتفكير في شئ، غير ما يقع تحت حسها مباشرة، تشتد حاجتها الطبيعية إليه. وقد تقلد الطبقة السفلى الطبقة الوسطى تقليدا خفيفا لا يكاد يشعر به، وتقليد الطبقة الوسطى الطبقة العليا أشد ظهورا من تقليد الدنيا للوسطى. وتتجلى في الطبقة العليا مظاهر السعة في العيش، والبسطة في العلم أو الحضارة، وهي أبدا
حريصة على مكانتها، تحاذر سقوط شأنها من أنظار الطبقتين التاليين، وتعد السؤود كل السؤود، ما هي فيه من جاه ومال ومجد وعلم.
يعد من الطبقة العليا العلماء والعظماء والقواد وأرباب الأموال، ممن يسيرون الجماعات إلى حياتها أو موتها، وينفثون في روعها ما يرقع مستواها العقلي، ويطهرون نفوسها من الآثام والآلام، وبأيديهم ربدة ثروة الأمة وجهودها، وإليهم منتهى ما بلغته قرائح أبنائها يمثلون التسلسل في الفكر، وتتجسم فيهم الإرادة الثابتة والعزيمة الصحيحة، وهم صورة البيوت الخالدة(6/316)
ومنعكس التأثيرات الطريفة والتالدة، ومثال الشعب ورقيه ووجهه الوضاح الجميل، وفي قبضتهم مفاتيح المفاخر ومغاليق المآثر وهم المذكورون وهم المشهورون، ومصير غيرهم إلى الخمول والعفاء.
من أجل هذا كان على تلك الطبقة أن تتحلى بحلي الفضيلة والشرف وأن تكون عفيفة الطعمة حسنة الأحدوثة، بعيدة عن الموبقات والبذخ والسرف، بأيدي العاثرين والبائسين، وتلقن أبناء أمتها علماً ينتج الثروة ويحفظ المجد، ويولي الكرامة. وإذا جُنت بالظهور من دون استعداد له وحاولت الاحتفاظ بمكانتها دون أن تتذرع بأسباب البقاء، وبتجديد مواد حياتها الحين بعد الآخر، فإن عزها لا يلبث أن يزول، وسعادتها توشك أن تضمحل، ومن العبث أن تعيش هذه الطبقة بشهرة أجدادها من الحكام وأهل الشرف وأرباب المظاهر، وأن تعتقد أن جماع المفاخر وقف على أحسابها وأنسابها، وتطلب من كل إنسان أن يرفع مقامها لأن من أجدادها من كان على شيء من الفهم أو الظهور، أو أنه كان يسفك الدماء ويستحيل أكل أموال الناس حتى أثرى وخلف عقاراً وقرى وصامتاً وناطقاً. ورب صعلوك في نظر المتمجدين كبير في عيون الخلق. والكبير من كبرت أخلاقه، ونفع الناس وانتفع بهم.
وإذا جئنا نحاسب مثلاً بعض من انتسبوا إلى الدين، وهم أشرف الفئات في العرف نراهم أقرب الناس إلى امتهانه بأعمالهم، يأتون ما لا ينطبق على جلال منزلهم. فقد فشت المطامع فيهم واستحلوا الأموال مهما كان لونها وطعمها ورائحتها، وأتوا للاحتفاظ بمظاهرهم القديمة من الأعمال ما بدت به مقاتلهم، فقضوا بفساد ذممهم على أوضاع الأمة، وركبوا مراكب الهوى واستمرأوا لأنفسهم أكل ما اعتقدوه حلالاً طيباً فأضاعت الأمة مشخصاتها ومقوماتها، وأصبحت مزيجاً غريباً لا تعرف كيف تكيفه. وليس في المجتمع من يناقشهم الحساب، وكيف يناقشون وهم المرجع وهم الهادون. وكان المشار إليهم بالبنان من أهل هذه الطبقة في الدهر الغابر، يدلون بشممهم على الخلفاء والسلاطين، ويسيطرون بإخلاصهم على القضاء والحاكمين، ومن هانت عليه عزة نفسه يوشك أن يستهين بكل محمدة. ولقد أدركنا أحد كبار الشيوخ(6/317)
العلم، لما شاهد هذا التسفل في طبقة العلماء يشير على طلاب العلم الديني أن يتقن كل واحد منهم صناعة حتى لا يسفّ لأحد يستجدي نواله، ولا يمسي عالة على أبواب الحكومات وأرباب السلطات، أن احتاج إلى صناعته احترف بها. وإلا كان لمناصب الدين والدنيا مخطوباً لا خاطباً.
ولي سويد بن عبد العزيز قضاء بعلبك سنة 167هـ وكان محتاجاً، فلقيه داود ابن أبي شيبان الدمشقي فقال له: يا أبا محمد وليت القضاء بعلم العلم والحديث. قال: نشدتك الله أتحت جبتك شعار؟ فقال داود: نعم. فرفع سويد جبته وقال: لكن جبتي ليس تحتها شعار. وقال: أنشدك الله هل هذا الطيلسان لك؟ قال داود: نعم. قال سويد: فوالله ما هذا الطيلسان الذي ترى علي لي، وإنه لعارية، أفلا ألي القضاء بعد هذا، فوالله لو ولوني بيت المال فإنه شر من القضاء لوليته اه هذا قول عالم في زمن كان صاحب السلطان يطلب الأكفياء إلى القضاء فيفرون منه فرار السليم من الأجرب. ومنهم من ضرب لأنه لم يقبل أن يلي القضاء، وكان محتماً عليه
قبوله لانتهاء الرياسة في العلم والعمل إليه. كان هذا في ذاك العصر الذهبي فما بالك بالعصر الأخير، والجهال يتطلبون مناصب الدين إلا في الندر، ويقدمون لتوليتها الرشي والهدايا وقل فيهم النزيه الذي يستحق أن يطلق عليه اسم العالم، أفلا تسقط بجدك هيبة هذه الطبقة من النفوس بعد هذا؟
وبينا تجد بعض القائمين على الدين من أهل السواد الأعظم لا يهتمون لغير إملاء جيوبهم وبطونهم، تشاهد بعض رجال الدين من أبناء الطوائف الصغيرة يجمعون شمل من التفوا حولهم، يقودونهم إلى محجة سعادتهم، ويؤسسون لهم دور التعليم والقربات، وينشلونهم من السقوط الذي صاروا إليه بحكم الأيام. فلا بدع إن جاء مجموع الطوائف المسيحية على قتله في الشام، أرقى من مجموع الطوائف الإسلامية على وفرة عدده وسعة ثروته. وكان من أثر الرياسة الدينية المنتفية من الإسلام أن استخدمها أهل النصرانية في المصالح المهمة، فكان لهم فيها عموم النفع. وكانت هذه الرياسة على ما فيها ناجعة في تهذيب الشعب عندهم، فأخرجوه من تيه الفوضى إلى باحة النظام. وهذا هو سر الترتيب الذي تراه ماثلاً في المجتمع النصراني وهو على(6/318)
حصة ضئيلة في المجتمع الإسلامي ولا يؤاخذ الإسلام بانحطاط أهله وما المؤاخذ إلا من أخذوا على أنفسهم عهداً بأن يطبقوا مفاصله فأهملوا واجبهم، ولو كان الدين عاملاً من عوامل سقوط أمة ما كانت اليابان وهي تدين بالبوذية في مقدمة أمم الأرض علماً وعمراناً.
ولا مشاحة في أن من طبقة الدينيين فئة صالحة، ولكنها كانت في كل عصر تلقي الحبل على الغارب لغلبة اليأس عليها، وهناك فئة أشد تأثيراً وظهوراً وهي التي طالما قدمت وأخرت وباعت من هذه الأمة المسكينة ما شاءت وشاءت منافعها ودارت في كل دور مع مطامعها كيف دارت. إلا أن الدهر عاقب هذه الطبقة بما احتقبته من الكبائر، فضربها ضربة آذنت بانقراضها لأنها لم تجار الزمن في
نشوانه، كأن تكون مثال الفضائل تربأ بأنفسها عن الغيبة والنميمة وتتشرب أفئدتها حب الصدق والصدع بالحق وتتحامى مزالق التغرير والتضليل وتحضر وكدها في واجبها من إرشاد العامة من طريق العلم الصحيح، في زمن أشتد فيه النزاع بين القديم والحديث، أو بين الدين والإلحاد، وتجلى الانتقال في كل مظاهر الحياة. وما زالت هذه الفئة تحاول أن تسترد بالثرثرة والتبجح مجداً زائلاً، وهي في حالة المحتضر ولا تبدئ ولا تعيد. وما تحدثت أن تخرج من جهالتها، وتتطور بطور العصر، وتأخذ بحظ من العلم الديني والمدني، وتتحلى بشيء كثير من مكارم الأخلاق.
كان أحد أفراد هذه الطبقة أبلى في الدعوة الدينية بلاء حسناً، ورزق قلماً ماضياً، وعزماً مؤاتياً، واستعد للنزول والنزال في ميدان دعوته، يحمل أكثر أدواتها. وما عتم أن ترك ما هيأته الفطرة له وأكسبته إياه التجربة وطول المدة وحاول بلوغ مظهر جديد اعتقد أنه جماع المظاهر، وهو لم يتمرس بآدابه، ولا يعرف مداخله ومخارجه، وغلبه حب الشهرة فادعى ما لم يخلق له ولا تخلق به ونسي الغرض الذي يضطلع به، وراح يستغل موضع الضعف من فطرته ولا يعمل فيما يرجى فيه كماله، ترك سيرته الأولى وهام بمظهرة الثاني، زهد فيما يحسن وحاول التلبس فيما لا يحسن. وغريب من إنسان لم يقنع بمنزلة طيبة وضعته فيها بيئته وتربيته، ويجاهد جهاداً آخر في ساحة الوغى ولا سلاح معه يستخدمه، ولا آلة من أدوات الحرب يتقنها، الذكاء(6/319)
وحده ينفع إلى حد معين، وأدوات النجاح في طريقة تحتاج إلى علم وفطرة. والعلم بالتعليم والتريض، والفطرة هبة لا تباع ولا تشترى.
أنت يا هذا إذا حفظت قواعد علم من العلوم، يتعذر عليك إن تدعي الكيمياء والطبيعة أو السياسة والاجتماع، علوم مختلفة طويلة الذيل لا ينفع معها التخليط.
القواعد المجملة التي تحفظ من كتاب في موضوع تحتاج في إتقانها إلى صرف طائفة طويلة من عمرك فلا تعطيك القريحة قياد كل أمر ولا تسير في سبيلك كل دعوى. ولذلك ترى من هذه شأنه صاعداً متدلياً، ينفي اليوم ما أثبت أمس ويحارب حيناً من سالمه زمناً يصانع أرباب القوة طوراً ثم يقلب لهم ظهر المجن تارة، إذا لم يستمرئ ما أطعموه ولم يستقبل من أمره ما استدبر في وضع الخطط التي خطها لهم، والناس كلهم في نظره صغار عقول وأرباب فضول وهو لا يرى غير نفسه استجمعت ضروب المحامد، ولذلك لا يضن عليها بما يمجدها، ويضع الألقاب الضخمة لها وينوه أبداً بما انطوى عليه من شرف وعلم وعمل، ومن رضي عنه من الناس ينيله من عطفه ما لو وزن أيضاً في ميزان القسط لشالت كفته. والعاقل من أنصف نفسه قبل أن ينصف الناس منه، ومن ظلم نفسه كان حرياً بأن يظلم غيره، ولهذا أمثال غير قليلة فيمن يلقبونهم بالبارزين والخواص أي النابهين.
نموذج آخر. بينا تجد الأول يجرع دعوته كما يجرع الصاب والعلقم ويستعلي ويستطيل ويحاول أن يثبت أنه مصدر كل خير، لو استمع الناس له لتمت سعادتهم الدنيوية والأخروية، ترى أخاه قد أتخذ في الحياة غير طريقته وخالفه في سيره وسيرته، فقد لقن في صباه مجملات يحكم فيها بالجزيئات على الكليات حكماً مسمطاً ويتلطف ويتطرف ليجد السبيل إلى قلوب العامة والسوقة لأنهم كثير سوادهم يستميلهم بالدعابة والفكاهة، وماذا يهمه من الخاصة وهم قليل عديدهم، وما يناله من غضبهم ورضاهم ما دام الجمهور عنه راضياً. وأحسن ما يراه للوصول إلى قلوب العامة أن يرضي كل صاحب سلطان، لأن في رضي القوي تنطوي المظاهر والدنيا وهو عبدها وغايته من الحياة السجود على أبواب سدنتها، لا يبالي أن يصعق(6/320)
كل من لم يمالئوه، ويتوهم أن النقاد لا يفرقون بين الزيف
والبهرج، ولا بين الهازل الماجن والمجد المجاهد، والعلم الحقيقي يولي صاحبه عزوفاً، وإذا قرن بالتهذيب لا يحاول صاحبه درجة إذا تخطاها أدركه العثار.
عرفت عالمين دينيين أريدا على أن تفتح لهما أبواب الرزق، وتغدق عليهما المظاهر على أن يسفا إسفافاً خفيفاً يكون في السكوت عن رجل كان لهما صاحباً قديماً فحاز مظهراً كبيراً من مظاهر الدنيا حسده عليه عبيد المطامع والشهوات، وكان جوابهما كل مرة أن من لا يعمل للمصلحة العامة لا يستحق صداقتنا ليأت ما استطاع من الخير ونحن بالطبع له الأخلاء الأوفياء لا نريد منه جزاء. وهكذا قاطعاه وهو الحاكم المتحكم في الدولة، وهكذا عزفت نفسهما عن أن يرقصا للقرد في دولته ويزينا للظالم ظلمه وهو في أوج عزته. زهدا في الجاه العريض لزهد صاحبه في الفضائل وشدة هيامه بدرهمه وديناره. رجلان يأكلان اللقمة بالتسفل والرياء وآخران جاهرا بأنها تؤكل بدون هذا. وهذا مثال من أخلاق بعض المعاصرين، وعبرة للأعقاب في الغابرين.
ظهر التعطيل في الإسلام منذ قرون، بما قام به المبتدعة من أهل الطرق وسخفاء الدجالين والقصاصين، فانحطت العقول وضعف مستوى العلم والتهذيب في الناس فمن تصدى يا ترى لمحاربة هذه الضلالات التي لم ينزل بها سلطان؟ قشت أخلاق سيئة تخالف هدي الدين فتغافل الموكل إليهم هداية الخلق عن انتشار سمومها كأنهم يقرونها، وتركوا رعيتهم هملاً كالسائمة. وكانت دروس العلم مباحة مورودة إلى أوائل هذا القرن، وبتساهلهم كاد العلم الإسلامي ينقرض. وجاء كثير من مرتزقة الوعاظ والخطباء والأئمة والقضاة جهلاء يفتون بغير علم، ويخطبون بالمبتذل الساقط، ويلهون الجمهور بالقشور، ويبيعونه من سلعهم الكاسدة ما لو ائتمر العوام بأوامرهم لرجعوا ألف سنة إلى الوراء. وإذا اجتمع هؤلاء الدينيون إلى أكثر زعماء الأديان الأخرى، ظهر الفرق بين التقصير والعناية وتجلت المباينة
بين من ساروا مع الزمن، ومن عاندوا الحقائق وحاربوا العقل وجمدوا في الفكر، ومالوا إلى الكسل عن عمل. وفوق هذا تراهم يجمعون أموالهم بخرق حرمة كل(6/321)
قانون وشريعة، وهم متخاذلون متفاشلون لا يكاد واحد منهم يزكي أخاه، ولا تجد خمسة منهم اتفقوا على مقصد واحد من مقاصد الخير. والعاقل يرجح الأمية على هذا العلم الذي لم ينتج خيراً لأهله ولا لغيرهم، والأميون لا تصدر منهم هذه الجرأة على العبث بناموس الكمال. ومن تفلتوا من حدود الشرائع على فربهم منه، كانوا أشد انتقاضاً عليها من الجاهلين والغافلين.
وتتصرف على هذه الطبقة، طبقة تلتحم بالخاصة أو العليا أيضاً، من جماعة المتعلمين على الأصول المدنية الحديثة، فقد دب في بعض هذه الطبقة سوس الفساد ولما تزل في بدء تأسيسها، وظهر لأرباب البصائر أن الدروس الطبيعية والرياضية والاجتماعية والفلسفية والحقوقية تنير العقل، ولكنها لا تحسن الأخلاق، إذا كانت منحطة من أصلها. وربما كان العلم في بعض هذه الطبقة أداء شر تستخدمه حبائل لصيد ما يسد المطامع. والأخلاق مغروسة في الدم والأسرة، والعلم صناعة يتعلمه الذكي الدائب.
وقد تلونت صبغة هذه الفئة في هذه الأرض الطيبة، بألوان أهوية الأقاليم وجوائها، بل بألوان المدارس التي تخرجت بأساتيذها، فمن تعلم منها في مدارس التبشير التي بها أهل أوروبة وأميركا على آسية وإفريقية، جاءت إلا قليلاً منحلة من ربقة حب الوطن وعهدة حب الجماعة، واستحكمت في كثير من أفرادها الأنانية والأثرة استحكاماً هون عليها كسرة قيود الحكمة والخروج على الأدب الصحيح.
وقد اشتهر بعض هذه الطائفة بمعاداة الدينيين والأعيان، والإزراء بسائر الطبقات وأكل الحسد والحقد قلوبها، فهي لا تتحاب بينها ولا تحب غيرها، ولا تعرف من محيطها أكثر مما يعرف الدخلاء. شمخت بأنوفها، واحتقرت كل من لم يجر على
مثالها، ولا تثقف تثقيفها. ومنهم من دفعه ما لقفه من تربية وحصله من تعليم ناقص، إلى خدمة الغريب، والفناء في محبته والدهشة بكل ما يأتي على يده وقبول كل ما حمله من خلق وثقافة والتغني بتاريخه ومجده والتغزل بجمال بلده والإعجاب بأوضاعه، أخذ كل ما أعطاه شاكراً مغتبطاً، فخرج بذلك عن قوميته، وكثير منهم هجر بلده، إلى مكان ينبت بزعمه العز ويدر أخلاف الرزق.(6/322)
ومنهم من تعلموا في مدارس الدولة المنقطعة وتخلقوا بغير أخلاقهم، وانحلوا زمناً من قوميتهم فلا يفكرون ولا يتكلمون إلا بالتركية، ولا يكتبون إن كانوا ممن يحسبون الكتابة إلا بالتركية. فلما تبدلت الحالة السياسية بعد الحرب العامة دفعتهم الضرورة إلى ادعاء العربية وكانوا من قبل يعقونها وهم من أبنائها، زاعمين أنهم تبدلت أخلاقهم بمجرد الانتقال من دور إلى دور.
وليست الأخلاق بدلت تنزعها، ولا طلاء تزيله وتستبدل غيره به. ولما كان معظم من تعلموا هذه العلوم في العهد السابق من أهل الطبقات النازلة في أصولهم، كان الموروث ولهم والمائل فيهم من الأخلاق مثلاً من أخلاق أهل جرثومتهم، ولذلك هان عليهم ويهون في كل دور أن ينزلوا عن مشخصاتهم لأول طارئ. وهذه الفئة مضرة بأخلاقها أكثر من الجهال لأنها تعلمت تعليماً ممسوخاً ظنته كل شيء. ومذ فارقت المدارس التي تفاخر بأنها تحمل شهاداتها، وكثيراً ما نال شهاداتها المتوسط الغبي، ظنت أنها قبضت على قياد العلوم وودعت الكتب فصارت ترجح القهقري في معارفها الأولية وتجلت أخلاقها في كل ما عانته من الأعمال، فكانت إذا وسد إليها أمر تلتهم الأخضر واليابس، وإذا بدا لها طمع تهزأ بالفضائل إذا لم تجلب لها السعادة التي تتصورها.
رأى المجتمع من سقوط الأخلاق في بعض أهل هذه الطبقة ما تندى الجباة من تسجيله: رأى منهم من يقول ولا يخجل أنه إذا قيل لهم: إن الحالة الحاضرة
ستتبدل بعد عشرين سنة يفكر مذ الآن في أمر راتبه الذي قبضه من سلك ما كان يحلم أن يحشر في جمله أهله، ويقول أبداً: اعذروني إذا خدمت أغراض كل صاحب قوة كما يشتهي، وإذا كنت آله في كل ما يحب.
هو غني الجيب فقير النفس. جاهل يحشر نفسه في العلماء، والطبيعة تضعه حيث تريد.
ومنهم من جعل رأس ماله في مصانعه ولاة الأمر مهما كانوا والتقرب إليهم بكل حيلة، لينال مظهراً يظهر به، لاعتقاده واعتقاد كثيرين أن الشرف كل الشرف في التقرب من الحكام، وأن كل مجد جاء من غير طريقهم لا وزن له إذا نصبت الموازين، وهؤلاء المتصدرون أسوأ مثال لمن حولهم.(6/323)
يحبون إليهم الاتكال وضعة النفوس، وكأنهم يقولون: إن سبيلهم لا غيرها في سبيل الفلاح والتمجد، وأن الفضائل لا شأن لها أمام المغانم. وأن العلم لا ينفع بغير تدليس، والطريق المسلوك عندهم طريق المداجاة والمحاباة، وإتقان المؤامرات والسعايات.
ومنهم أناس ظنوا وبالسوء ما ظنوا، أن السعادة مناط القحة، والسعادة هي المال، والمال محلل أخذه من كل وجه، فتراهم يرتكبون كل شأئن من العمل ليجمعوا مالاً ويعددوه ويستمتعوا بمتع الحياة، فهم حراص على كل ما يوصلهم إلى غايتهم، سلاط في التسور على مقامات أهل الفضل، يصمونهم بكل كبيرة وينبزونهم بالخفة والرعونة. جوزوا لأنفسهم السرقة، لأنهم لا مأرب لهم في غير الإثراء، وجمع المال جماع المزايا في نظرهم. احتقروا الشرائع عليهم بتبديل مذهبهم والتقرب إلى أهل كل دين وطريقة بدينهم وطريقتهم. ولو أنصفوا لعدوا لصوصاً عارفين باللصوصية، واللص يسرق خفية من طريق واحدة قد يكون فيها مكرهاً ليطعم نفسه وعياله، وهذا يسرق جهرة من كل طريق ويزيد على لؤم طباعة
تبجحاً بالمبادئ والشرف والأمانة، ومن الغريب أن يرى حتى من الأذكياء من يجلونه أو يغالطون أنفسهم في انحطاط أخلاقه وهم يعرفونها، ورحم الله شاعر مصر إسماعيل صبري حيث قال:
غاض ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب قفرا
وتفشى العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برا
أوجه مثلما نثرت على الأج ... داث ورداً إن هن أبدين بشرا
وشفاه يقلن أهلاً ولوأد ... ين في الحشا لما قلن خيرا
ومنهم أناس ورثوا عن آبائهم استحلال آكل السحت والعبث بحقوق العباد. فلما تلقفوا القشور اللازمة لهم في المدارس التي سموها بالعليا ومرنوا على النفاق والباطل ومردوا على آداب الأديان وخرجوا عن أوضاع المجتمعات، جاءوا سراقاً يسكنون القصور، وعاشوا طول حياتهم في ذل النفوس، يجمعون بين المنازع المختلفة في وقت واحد علماً بأن إحدها لابد أن تكتب له الغلبة، فإذا نجح كان لهم حظ من نجاح أهله، وإذا أثمر الآخر لم تفهم خيراته، جعلوا(6/324)
بيوتهم للخمر والقمر أندية ومسارح، وفطموا نفوسهم إلا عن إشباعها المال الحرام. وهم بأصحاب الملاعب أشبه منهم بالمتعلمين أصحاب المراتب، وإذا دخل الغر حانتهم وفيها كل مفعول جائز هلن عليه انتهالك الحرمات، وإذا عاشرتهم تعلم في بؤرتهم من التزوير والتغرير ما يعاب به الحيوان فضلاً عن الإنسان.
ومنهم من ورثوا التذبذب من بيوتهم وأخذوا الدس والوقيعة بالسند المتصل بآبائهم، وكان قصارهم أن يحزوا مناصب تمكنهم من المتاجرة بحقوق الناس ودمائهم، ليتأثلوا وينفقوا في السفه ما تألثوه، فهم لا يستنكفون عن التقرب من أصحاب الشأن بكل ما لديهم من الوسائط، ويبسمون لعامة أصناف الناس بل ويصانعونهم على الجملة يعرف كذب مصانعه، ومع هذا يمضون في طريقهم وهم لا يحبون
أحداً ولا يحبهم أحد. ونزع عقيدة عرفوا بها أمس، لتقلد غيرها اليوم، أسهل عليهم من نزع أحذيتهم وقمصانهم. قضوا أعمارهم في نصب الحيل والمكايد، لا يلذهم من دنياهم غيرها، وأكبر أفراحهم يوم يغشون ويسري في الناس غشهم، كأن المدرسة التي تعلموا فيها لم تعلمهم غير ذلك.
ولكن هي الفطرة إذا فسدت فكل خير يأتيها يكون عارضاً عليها، تنبذه ولا تسيغه.
ومنهم أناس عرفوا منذ قبضوا على زمام أعمالهم بسلب نعمة الضعيف ومحاولة التقرب من القوي نبذتهم الطبيعة أولاً، ثم عمي الدهر عنهم فبلغوا مأربهم من المراتب، ولم تسعهم جلودهم يوم شاهدوا العز بعد الذل، فظهروا في مظاهر من الكبرياء والعظمة، ومن أين للسافل بأصله أن يكون في فرعه عالياً. حصروا هممهم في العبث بالمصالح العامة، يفكرون بغير إملاء جيوبهم، والدهان لسادتهم مهما كانوا، وتوفير المنافع لمن يحف من حول عروشهم، وإن كانوا من أحد الطبقات معرفة وأخلاقاً. وقد رأينا من هذه الطائفة من يغير سيرته في السنة الواحدة مرتين، ويدخل في آن واحد في عدة أحزاب وجمعيات سرية وجهرية، يقسم لكل واحد منها اليمين الغموس، معاهداً طائفة على الإخلاص لطائفتها وحزبها وطريقتها دون غيرها، وهو لا يتوقع من هذه المرونة المستغربة إلا أن يكون له شأن مع كل(6/325)
حزب إذا كتب له الظهور.
ومن هذه الفئة أُناس لا يهنأُ لهم بال إلا إذا اغتنوا، فلما انتفخت صناديقهم بالوًرَث والوَرِق، ضيقوا حتى بنيهم وبناتهم لئلا يسرفوا في أموالهم، فاضطروهم إلى ارتكاب كل شنعاء، أما هم فعادوا يدعون الفاقة، فتراهم لا ينفقون إلا ما يحفظ عليهم مظهرهم، ويوصلون إلى مراميهم، كأن الدينار جعل للخزن فقط، والسعيد من يجمعه ولو لم يستمتع بع حياته. ويخلفه لمن هم عليه أشداء الأعداء، ويصرفونه في العهر والخمر والزمر والقمر. ولو أنصف هذا الظهور له أيضاً إن
تاقت نفسه إلى الظهور.
ومنهم طائفة تصلي وتصوم، وتلزم المساجد ودروس الوعظ، وتتظاهر بالدين، وتتقرب إلى حملة الشرع وأرباب الصلاح لا تُفلت السبح من أيديها، تتظاهر بأنها تذكر اسم الله في غدوها ورواحها، وهي في باطنها من أشد الخلائق عداوة للإنسانية، تقول بألسنتها ما ليس في قلوبهم، ولو كشفت عنها الغطاء لأيقنت أنها نمن الشفقة بحيث لو شاهدت صغاراً يتضورون جوعاً ما أطعمتهم فتات موائدها، ولو بَصُرت ببائسين يرتعدون دنقاً وعرياً ما كستهم بلاس بلاط ولا زودتهم حثالة مطابخها وأهرائها، وإذا وقع لها أن أكرهت على نجدة بائس نؤوف تبجحت بما أتت، وقامت تومئ بلسان الحال إلى أنه لولاها لنهار بناء الأمة وتداعت صروح مجدها، وتوهم أساليب غريبة مضحكة.
ومنهم أناس إذا عرفتهم في العهد الماضي عرفتهم بعجمتهم التي لا غبار عليها، وهم ما كانوا يجوزون لأنفسهم التكلم بلغتهم الأصلية، فلما تبدلت السياسة تبدلوا لساعتهم، وصاروا لغير ما سبب معقول حرباً على من كانوا بالأمس يتمنون رضاهم، وأخذوا أنفسهم وأبنائهم بتعلم لغة من جاءوهم، وغيروا عاداتهم ولهجاتهم، وأنشئوا يستخدمون كل الطرق للاحتفاظ بكراسيهم، حتى إذا جلسوا عليها نسوا فضل المفضلين عليهم، وقد عاهدوا أنفسهم أن يخدموا كل صاحب قوة بالصورة التي تروقه مع(6/326)
ذكاء فيهم وتجربة أحرزوها فهان عليهم أن يبيعوها مقابل عرض قليل ومظهر ضئيل. التجسس فيهم فطرة والإزراء بالقومية والوطنية من مألوفاتهم ما أساءوا استعمال ما ائتمنوا عليه إلا ليغتنوا بطرق عرفوها، ويغنوا أبناءهم ولو كان في ذلك هلاك مئات من الناس.
ومنهم أُناس كانوا في أخذ المال كالعلقة يمتصون الطاهر وغير الطاهر ثم يفيضون منه على القانع والمعتر، ويطعمون الطعام ويكسون الأيتام. ومنهم من
جمعوا العشرات الألوف ومئات الألوف ولا تجود أنفسهم بدانق لتعليم أطفال الفقراء وإنجاد البائسين وإكساء العراة. وإذا تصفحت جرائد الجمعيات الخيرية التي قامت في العهد الأخير لتعليم اليتامى وإغاثة المحاويج، ولا تسقط فيها إلا نادراً على أسماء بعض أرباب السعة، بمعنى أن هذه الطبقة كانت أقل الناس في معاونتها. والطبقتان الوسطى والنازلة هما اللتان جمعتا الدرهم فوق الدرهم، اقتطعتاه من رزق عيالها، لتطعما به من هم أجوع منها، وتنشل من السقطة من هم أكثر سقوطاً من بينها.
وفي هذه الديار عشرات من الأغنياء يدمجون في سلك الأعيان يعتزون بأموالهم، ويضنون بها كل الضنانة، اللهم إلا إذا كان في صرفها إرضاء شهواتهم، وتوفير أنواع رفاهيتهم. وإذا أشير إليهم أن يشاركوا في المصالح الوطنية لووا وجوههم، وهزءوا في باطنهم بهذه الأعمال التافهة، حتى إذا حلت بهم مصيبة أخذوا يستنجدون ولا ينجدون، ويطاقون ألسنتهم في رجال كانوا بالأمس يقدسونهم، وأنهّى للأمة أن تعرفهم أيام شقائهم، وهم لم يتعرفوا إليها أيام سعادتهم. وهذا وهم أنصار كل حكومة تسوغهم أكل حقوقها وحقوق الضعفاء، وتطلق أيديهم في ظلم الفلاحين والمغفلين، وتعاونهم في محاكمها على فض قضاياهم بما يتفق مع رغائبهم، وتوسد إليهم أمورها المنتجة لهم مالاً وجاهاً.
في هؤلاء الأعيان رجل كان عنده من أدوات الزينة والتبرج ما يساوي المئات من الدنانير، وربما كان ثمن ربطات رقبته المعمولة من الحرير لا يقل عن ألف جنيه، لأن عددها كان ألفي ربطة معروضة في قاعة كبيرة وكنت إذا أردته على أن يبتاع جريدة ليقرأها شكا إليك ضيق ذات يده،(6/327)
وأظهر أن القراءة مما لا تسمح له به أوقاته الثمينة، وكان يدفن أمواله في الأرض حتى لا يظهر عليها الناس إذا وضعت في المصرف، فظهر ألوف بعد أن أصيب بنكبة اضطرته إلى نبشها.
وبلغ الشح ببعضهم أنه كان يطعم خدامه وأولاده طعاماً غير ما يطعمه نفسه وزوجه، ويدعى مع كل من يجتمع إليه أنه فقير مملق، لا طاقة له على تحمل شيء، فلما اضطر إلى الكشف عن دفائنه كانت ألوفاً عدا ما يسلفه بالربا الممقوت أضعافاً مضاعفة وعدا مزارعه وحدائقه. ومن الغريب أن يتطوع مثل هذا الرجل الذي رد إلى أرذل العمر في الجاسوسية وهو يتظاهر بالتقوى. وأكثر هؤلاء الأشحة يظهرون في العامة بمظهر المتصدقين والمحسنين، وكأن تجود نفوسهم ببعض دريهمات لبعض المستكدين على رؤوس الأشهاد، ليقال عنهم إنهم أهل خير وصلاح. وهناك رجل يكذب على قومه طول حياته الطويلة، بنسبه وعلمه وتقواه، فلم يعدم ضعاف العقول من صدقوه في دعاويه، وعاش بمداهنة الناس وبلغ من ثقة القوم به أنه إذا حانت منية أحدهم، يلوب على من يأتمنه على أولاده بعده، فلا يجد غير هذا المزوّر يقيمه وصياً على عياله لما اشتهاه من أمانته بين السذج في كل دور، فلا يلبث مال الموصي أن يمزق بيد الوصي. وهكذا كان هذا الدعي بعد نصف قرن من المشار إليهم المجمع على تكريمهم، وقد عرف أيام تنولي القضاء بتبرئة المجرم وتجريم البريء. ومن العجب أنه لم يسأله أحد من أين جاء بثروته، والعادة على الأكثر أن لا يسأل الغني عن طرق غناه بل يتمسح به ويتبرك بأنفاسه، ولو كان لا ينزل منه عن قطمير لأحد.
ظهر الكثير من العامة في حوادث وقعت بمظهر الغيراء على المصالح الوطنية، وأبانوا عن حمية وأريحية ما كان يرجى صدور مثلما من أرباب الطبقة العليا، ولا ممن اعتادوا أن يجعلوا من الأديان سلماً إلى درك شهواتهم، وقام من صفوف الأميين وأهل المتربة أُناس جعلوا هدفهم ما اعتقدوه حقاً نافعاً مخلصين في أقوالهم وأفعالهم، معتقدين الخير فيما بذلوا أنفسهم ونفائسهم في سبيله. وتجلى النبوغ في أفراد منهم بحكم قانون الرجعة، فأثبتوا في الشدائد بهذا الشرف المغيب أنهم ربما
كانوا من سلالة عظماء أكارم. وهناك أُناس ظاهرهم مهذب براق أثروا(6/328)
امتهان النفس في أخس الأعمال مقابل عرض ينالونه أو إقبال يتخيلونه، فارتكبوا كل ما يورثهم عار الأبد، فكان ظاهرهم مجملاً، وباطنهم خبثاً وخديعة، يفادون بكل ما ليس لهم فيه مصلحة، ويداجون كل من يلقاهم بما يريد، ولعلك على حق إذا قلت إن صيغ الكلام تضيق عن وصف أفعالهم. فهم ممن حُبب إليهم من دنُياهم أذى القريب لا ينامون ملء جفونهم إلا يوم يوقعون بأصحاب الشرف والمروءات.
وما لنا والإكثار من ضرب الأمثلة بفئة هي معقد الآمال في الإصلاح وهي لم تكد تحقق رجاء إلى الآن، وليست في أخلاقها مما يرغب المرء كثيراُ في تكثير سوادها، لأن منها من تجرد من معنى الحق والصدق. ولو حللت نفوس أكثرهم تحليلاً دقيقاً لرأيتهم أعرف الناس بالمدخل والمخرج وأعراهم من أكثر الفضائل الكسبية واللدنية. ضعف عطفهم على جنسهم وهان عليهم أن يبيعوا وجداناتهم لمن يضمن لهم مظاهرهم. فهم أبداً سلاح الغريب على القريب، وهم يده الباطشة وأظافره الخادشة.
ولطالما نضب حلم أرباب الحلوم من تلاعب أُناس استناروا بقبس العلم الحديث، يتهارشون على أبواب جمعية مدنية وهم في الحقيقة لا يهمهم من دعوتها إلا أن يحموا بسلطانها سلطانهم، ويستروا في حمى كهفها معايبهم، ومن الغريب أنه لا يكاد يرقى في درجاتها إلا من عرفوا بالاسترسال في حظوظهم، وكانوا من الممقوتين في العرف والعادة، وهذا وقانون الجمعية شديد في التسامح مه أمثالهم، ولكن كل قانون ينصبغ بصبغة محيطه، وما دام المحيط على ما ترى فلا بدع إن بعد هذا أعظم قانون سماوي أو أرضي في حكم العدم.
ولا يفوتنك أن الطبقة الوسطى في ديارنا هي التي تتمثل فيها الأمة حقيقة لا مجازاً ويكثر فيها الخير ويقّل فيها الشر، وهي التي تقوم بجلب المنافع ودرء
المضار، وتعيش في خوف الديان، وتهتم لسعادة الأوطان، وهي في الغالب محدودة بعقول أبنائها، وكثير بما يتم على أيديها من الخيرات باجتماعها، وهي التي تفكر وتقدر وقد قام كثير من الأعمال النافعة بصنيعها ومن وضعها. فيهم الصبر وفيهم الأناة وفيهم الرحمة، وخسيسهم أقل من رفيعهم، هم قوة الظهر(6/329)
في جيش الأمة بل في طليعته المتيقظة. السخاء مغروس في أكثرهم والمروءة والوفاء غريزتان يورثهما الآباء لأبنائهم، وهم يبعدون عن أرباب السلطات دأبهم التوفر على صناعتهم وزراعتهم، وقلما تحدثهم أنفسهم أن يتخذوا بديلاً عن عمل عاناه آباؤهم وأجدادهم.
الأخلاق التي تعبث بالفضائل هي التي رسخت في بعض العلية من أهله وشهد الله أن هذه الأمة لا تشكو قلة علمها بقدر ما تشكو ضعف أخلاقها، وإذا أخذت المطامع البشعة من قلوب دعاة الإصلاح وحماة الحوزة كيف يوجه اللوم على من كان دون طبقتهم؟ ومما يسوء أن كان أقرب الناس إلى إدراك معنى الفضائل أسرعهم إلى عقولها وانتهاك حرماتها. وإذا كانت في الطبقة الوسطى هناك لا تخلو منها إنسان فهي كالعوذة يتقي بها شر الحاسد، ويصان بها جمال المكرمات والمحامد، وقلما يخلو بشر من عيوب صغيرة ضررها على صاحبها وحده. أكثر ما تعاب به هذه الأمة عصيانها على الأنظمة والشرائع لا تُطبق منها إلا ما لا يمس بمصالحها الخاصة، فإذا كان في بعضها ما يخالف الشهوات والأغراض خرجت عليها وحاربتها والمهيمنين عليها. ولذلك صعبت هنا في كل قرن مهمة المصلحين في إصلاحهم لقلة الثبات وونى تاهمهم. فقد يسرع بعضهم في التصديق خصوصاً إذا أحسنت الدعاية بادئ بدء ولكنهم سرعان ما ينقضون العهد. ومن أضّر ما يضر هذا الشعب أنه قلما يخضع للزعيم خضوعاً حقيقياً تقرأُ معانيه في حركاته وسكناته ولو كان الزعيم في الغاية من حسن الأخلاق وإرادة الخير لها.
وهذه أخلاق العرب بعينها أفرطوا في حب حريتهم فحاول الصعلوك فيهم أن يكون وجيهاً فسارع الانحلال إلى دولهم بالطبيعة وظهر التخبط في إحرازهم الرياسات منذ فجر الإسلام.
وظلت هذه الأخلاق متسلسلة في دمائهم. وقد يريد الطامع في شيء أن تنقلب الدولة رأساً على عقب، وتنتقل ولو إلى عدوه، على أن يتولاها قريبه الذي لا يحبه وأن يهلك في الحمم والنيران المستعرة فريق عظيم من قومه إذا كان له من هذا الحريق ما يشوي به سمكته.
وأنت إذا حللت روح الشاميين تراهم فرادى لا يقلون كثيراً عن(6/330)
غيرهم من الراقين، وإذا جئت تحللهم جماعات فهنالك التفسيخ في القوى والانحلال في الروابط. والشاميون إذا اجتمعوا تخالفوا عادة على الرياسة والتصدر، وتباينوا في الفكر والاجتهاد، لأن الذكاء غالب عليهم، وحب الذات مستحكم في شغاف قلوبهم، وكل واحد يريد أن ينفذ قوله ولو كان مغلطاً، وإذا لم يوافقه رفقاؤه على ما ارتأى عاداهم وربما آذاهم، كأن الاختلاف في الاجتهاد يستلزم العدواة والسخيمة. فلا تستغرب بعد هذا إن أصيبت أكثر أعمال الجماعات عندهم بالشلل والفشل ومنها ما يموت كالجنين في بطن أمه قبل أن يتمثل بشراً سوياً. وقد ينشئ غير المسلمين الجمعيات والمجامع ويحالفهم النجاح أكثر من غيرهم لأنهم على تربية متقاربة وعلى تكافل ودؤوب في الجملة. وما ندري لعل العامل في هذا النجح الضرورة التي دعا إليها تماسك الصغير أمام قوة الكبير، على حين ترى أن هذا الكبير لا يحسن على الأغلب إلا الإدلال بقوته الموهومة والإعجاب بماضيه يقف عند حده، ولا يعرف أن يبرهن على العظمة الغابرة بسداد أعماله الحاضرة.
ومن عيوب السواد الأعظم أن الهزل يغلب عليهم، والجد قليل فيهم، يحبون المداعبة والهزل واللهو، ويسوء بعض اللئام أن يروا في قربهم من يجد. يهزءون
بمن يعملون وهم لا يعملون ولا يعرفون كيف يعملون، فسبيلهم سبيل العاطل والمعطل. ومن عيوبهم أنهم لا يصدقون صاحبهم لأن سوء الظن غالب عليهم، وهذا ولو جاءهم مستنصحاً مسترشداً، لأنهم أميل إلى المصانعة لا إلى الصدع بالحق، وأقرب إلى أن يرضوا جليسهم ويسكتوا أمامه عن هفواته، وربما التمسوا له في حضرته المعاذير حتى إذا غاب عن عيونهم نحتوا أثلته وعابوه بما قد لا تلزمه تبعته. ومن أجل هذا تأصلت في القوم عادات وأخلاق كان يتأتى نزعها لو كتب لها من ينقدها وينكرها غير مدالس ولا موالس. فالنعومة الظاهرة التي تشاهد في بعض الشاميين يحتاجون معها إلى شيء من الخشونة والقسوة.
كانوا في الأيام الماضية إذا أرادوا الحط من شخص سلبوه صفاته واتهموه بالمروق من الدين وربما أوصلوه بهذه التهمة الشنعاء إلى ضرب عنقه، وهذا من بعض الأسباب في قلة النوابغ في القرون المتأخرة. واليوم(6/331)
نشأ لهم زي جديد من أزياء التهمات يلبسونها من لا ترضيهم حاله، أضافوا إلى من يحاولون النيل منهم تهمة المروق من الوطنية كأن الوطنية ما هم فيه من الختل والتخاذل وطلب الظهور بقاصمة الظهور. ويا لشقاء الدين والوطن كم اتجر بهما متاجرون في الغابر والحاضر. ومن تدبر أحوال هذه الطائفة بأدنى نظر أدرك أن كل من يتبجحون بهذه الدعاوى هم أول من يدوس كل مقدس لبلوغ غرض حقير.
والدواء الناجع في مداواة هذه الأخلاق هو أن يكون للصغار مدارس وطنية متقنة تلقنهم العلم الصحيح والأخلاق الصحيحة والقومية الصحيحة. أما الكبار الذين اشتهروا بسوء القالة فيقاطعون ويتجهم لهم العقلاء في كل أفق، لا يدنونهم من مجالسهم مهما بلغ من سلطانهم وجاههم ومالهم. فأن من السخف التلطف مع الأشرار في المحضر، والتهامس في قبيح سيرتهم في المغيب. يجب أن يناقشوا الحساب ولا يؤمن لهم على خطاب والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً.
سيقول فريق ممن يقرءون هذه الصفحات: أنها أغرقت في وصف أخلاق الطبقات وفضحت ما كان مكنوناً لا يعرفه إلا أرباب البصيرة، ونحن في زمن أحوج ما نكون إلى السكوت عن المعايب حتى لا يبدو عوارنا لغيرنا، كأن غيرنا لا يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. وكان الأولى في عرفهم أن نجامل ونجمجم، بيد أن السكوت عن العيوب عيب كبير، وكتمان العلة مدرجة إلى الهلكة، والتاريخ لا يكتب على الهوى ولا يملئ لإرضاء الناس. وما نخال منصفاً بصيراً إلا ويعترف وهو مثلنا جد آسف أن ما أصاب هذه الديار من المصائب منذ عهد طويل لم يكن إلا بسوء أخلاق من تولوا من أبنائها أمرها، وأنه من المستحيل بعد أن صرح الحق عن محضه أن تؤلف الشام كياناً يذكر وتقوم في ساحة الحضارة البشرية بعمل يشكر، ولو أوتيت علم الجرمانيين واللاتينيين، ورزقت غنى الإنكليز السكسونيين، ما دامت أخلاق أهل الحل والعقد فيها لا تعالج بالتقويم، ولا يحاول القضاء على مواطن الضعف من نفوسهم وعقولهم. والساكت عن الحق شيطان أخرس.
فصلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفا(6/332)
حياة محمد كرد علي
مؤلف خطط الشام
ترجمته بنفسه
أصل أسرتنا من السليمانية تنسب إلى الأكراد الأيوبية، جاء جدي إلى دمشق في التجارة وكان من أهل اليسار فراقته وسكن فيها. ثم ذهب في بعض السنين إلى الحجاز متجراً، واتفق له أن انتقد ذات يوم عملاً من أعمال محافظ الحج، وكان ظالماً جباراً، فشق ذلك عليه، وأمر بمصادرته في كل ما يملك، فاضطر أن يذهب إلى الآستانة مستعدياً. وما زال يعمل الوسائط حتى اجتمع بالسلطان، واقترح عليه هذا أن يصرف النظر عن دعواه على محافظ الحج، ويأخذ مقابل ماله قريتين في الشام إقطاعاً له ولأولاده من بعده، فأبى وقال للسلطان: ما جئت لآخذ صدقة بل جئت أطلب عدلاً وأنصافاً.
وهكذا رجع إلى دمشق مجرداً من ثروته وهلك قهراً بعد قليل. وخلف والدي يتيماً فقيراً فاشتغل لأول أمره في صناعة الخياطة ثم بالتجارة، فأثرى مرات وخسر مرات، وابتاع في آخر أمره مزرعة صغيرة في الغوطة تمززتها أنا واخوتي منذ صغاراً وإلى الآن.
ولدت في دمشق أواخر صفر سنة 1293هـ 1876م، من أم شركسية، ولما بلغت السادسة في العمر أخذت بتلقي القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الإسلامية والحساب والطبيعيات في مدرسة كافل سيباي الأميرية، وتلت شهادتها من الدرجة الأولى. ثم دخلت المكتب الرشدي العسكري فدرست مبادئ التركية، وكانت دروس الفرنسية ناقصة فأتاني والدي بمعلم إلى الدار أخذت عنه نحو هذه اللغة وصرفها على الأصول مدة ثلاث سنين،(6/333)
وبرعت بالترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس. ولما أحرزت شهادة المدرسة الرشدية من درجة متوسطة، لأني لم
أتمكن على ما يجب من الرياضيات لإصابتي بالحسر وضعف البصر - بحيث لم أكد أتبين عن بعد ما يرسم الأستاذ من أشكالها وخطوطها في اللوحة، ففاتني التبحر فيها مع الأسف - عينت مدة ست سنين موظفاً في قلم الأمور الأجنبية، فأخذت في خلالها أتقن آداب التركية. وشرعت أنشئ فيها كما أنشئ بالفرنسية، وقد اختلفت حولين كاملين إلى مدرسة اللعازاريين للاضطلاع بآداب اللغة الفرنسية، ودرست الطبيعيات ودروس الكيمياء بهذه اللغة لأزيد تمكناً منها.
وقد اقتطعت مع ذلك جانباً من الوقت لدرس الآداب العربية والعلوم الإسلامية، وتلقيت اللغة الفارسية حتى حذقتها ثم أُنسيتها. وفي خلال تلك المدة اتصلت بالأساتذة الشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد المبارك والشيخ سليم البخاري وأخذت عنهم وعن غيرهم من مشايخ الطبقة الطبعة الثانية كل ما وسعتني قراءته، من كتب اللغة والأدب والبيان والاجتماع والتاريخ والفقه والتفسير والفلسفة. وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التأليف والنشر، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثرهم، والحرص على تراث حضاراتهم، أُستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة 1338هـ حميد الأثر، وكنت بدأت بنظم الشعر فنهاني عن تعاطيه أُستاذي المبارك، وأرادني على إتقان الإنشاد فقط، وما ينبغي له من الأدوات، لئلا يشغلني الشعر بلذته عن طلب العلم. فصعدت بأمره، كما كنت قبلت نصيحة والدي، وأنا يافع، بترك الإنشاد بصوت رخيم. لأن ذلك كان يعدّ في نظره شيئاً وضيعاً كما روى ذلك عن شيخه. وهكذا حرمني والدي الموسيقى، وحرمني شيخي الشعر. ولولا نصيحتهما لعنيت بهذين الفنين، وكانا لي سلوى وأي سلوى. ولكن أُستاذي المبارك خرجني بالغة والإنشاء. ووالدي، وكان عامياً يقرب من الأمية، أنفق عن سعة ليعلمني. فكان مدة سنين يدر الرواتب على
أساتذتي، وقد ابتاع لي خزانة كتب كانت تعد في ذلك العهد شيئاً في بلدتي.(6/334)
وأهم ما أُولعت بمطالعته - بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه - كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وأصول الشعوب ومدنياتهم. وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر وفوليه وتين ورنان وسيمون ولاقيس وهانوتو وبوترو ولوبون وبرونتيروبثي دي جولفيل ولمتر وسانت بوف، وتدارست المجلات الفلسفية الاجتماعية والتاريخية والأدبية بالغة الفرنجية.
وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر، وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلما دونّت موضوعاً لم أدرسه في الجملة ولم تتسربه نفسي. وعهد إليّ سنة 1315هـ. بتحرير جريدة الشام الأسبوعية فحررتها ثلاث سنين كانت مدرستي الأولى في الصحافة. وساعدتني فيها معرفة التركية والفرنسية. ثم دعيت إلى المؤازرة في مجلة المقتطف المصرية أكبر مجلاتنا العربية. فنشرت فيها أبحاثاً جمة في التاريخ والاجتماع والأدب مدة خمس سنين فبدأت لي شهرة في عالم الأدب العربي لمنزلة هذه المجلة إذ ذاك بين أبناء اللغة العربية، وكثرة من تقع تحت أنظارهم من العلماء والأدباء والباحثين. وفي عام 1901م هبطت مصر للسياحة بقصد الذهاب إلى باريز للدرس، فعرض علّي صاحب جريدة الرائد المصري نصف الأسبوعية أن أُحرز في جريدته، فلبيت الطلب متكارهاً، إذ كانت عاقتني عن العودة إلى الشام أمور قام بها المشاغبون المتجسسة في دمشق. واتهموني تشفياً بأمور هي من المحرمات في عرف الحكومة العثمانية، ثم رجعت إلى بعد عشرة أشهر. ومن أعظم ما استفدته من رحلتي هذه الأخذ عن عالم الإسلام والإصلاح الشيخ محمد عبده وحضور مجالسه الخاصة والعامة.
وفي شتاء سنة 1323 فتشت الحكومة العثمانية داري في دمشق بحجة أنه علقت
مناشير في شوارع البلدة مكتوبة بلغة سلسة، وفيها مطاعن في أحد الأعيان والوالي، ومثل هذه العبارة وهذه الأفكار لا يحسنها ولا يعرفها غيري! فظهر للحكومة افتراء المفترين واكتفت بأن شردتني أياماً عن داري. وفي هذه الوقعة نظم صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان قصيدة ارتجالية يداعبني بها، ويصف ما حل بي مجسماً قال سامحه الله:(6/335)
ألا قل لمن في الدجى لم ينمْ ... طلاب المعالي سمير الألمْ
ومن أرّقته دواعي الهوى ... فدون الذي أرقته الحكم
فكم في الزوايا تخبى فتىً ... طريد الكتاب شريد القلم
يرى الأرض ضيقاً كشق اليراع ... ويهوى على ذا الوجود العدم
وكم ذا بجسرين من ليلة ... على مثل جمر الغضا في الضرم
تمنى الأديب بها ندحة ... ولو بات يرعى هناك الغنم
وكم سروة تحت جنح الظلام ... كسرًّ بصدر الأريب انكتم
يخاف بها حركات الغصون ... ويخشى النسيم إذا ما نسم
وإن تشدُ ورقاء في أيكة ... تؤرقه في صوتها والنغم
وكم بات للنجم يرعة إذا ... أديم السما بالنجوم اتسم
وطال به الليل حتى غدا ... يظن عمود الصبح انحطم
ومن ذعره خال أن النجوم ... لتهدي إلى مسكه عن أمم
إذا ما السمك بدا رامحاً ... توهمه نحوه قد هجم
ولولا الدجى لم يتم النجا ... وقد أمكن الظلم لولا الظلم
ولله در القرى إذ خفته ... فما بالسهولة يخفى العلم
فجسرين زبدين والأشعريّ ... ديار بها قد أوى واعتصم
ونحو المليحة رام الخفا ... وكم بالمليحة من متهم
ديار أبي أهلها غدره ... وآواه فيها الوفا والكرم
ولا شك رقوا لأحواله ... طريداًيعاني الجوى والسقم
ليالي كانون في الأربعين ... وبرد العسيات أغلى الفحم
بأرض تراها سماءً وماءً ... ففوقالسواني وتحت الديم
يجول وقد صار مثل الخيال ... ودقّ فلو لاح لم يقتحم
فوق الخدود كلون البهار ... وتحت المىقي كلون العتم
وفي كل يوم سؤال وبحث ... وأنّي تولي وكيف انهزم
وقد كان في كسبهم بيته ... بجلق قال وقيل عمم
فكانت على كتبه غارة ... كغارات عرب الصفا بالنعم
وقالوا سينفى إلى رودس ... وقالوا سيجزى بما قد جرم(6/336)
وقالوا سيحمله أدهم ... وقد فيل فزان من دونه=وتلك السموم وتلك الحمم
وبعض بسجن عليه قضى ... وبعض بضرب عليه حكم
وكرد علي غدا عبرة ... ففات ومنه الرجاء انصرم
فيا كرد لا تحزننك الخطوب ... فإن الهموم بقدر الهمم
ومن رام أن يتعاطى البيان ... توقًّع أن يبلى بالنفم
فذي حرفة القول حرّيفة ... وكم أدركت من لبيب وكم
وكم نكتة أعقبت نكبة ... وكم من كلام لقلب كلم
ومن بالكتابة أبدى هوىً ... فإن الكآبة منها القسم
فيا كرد صبراً على محنة ... فكم محنة شيبت من لمم
وصبراً على ورقات لها ... عيون المعاني يُبًكذين دم
وواهباً لباقات زهر غدوت ... لها جامعاً يا أخي من قدم
أزاهر تسهر في جمعها ... فلا غرو إن فاح عرف فنم
وما نمَّ إلا بنشر ذكي ... وطيب يفوق عرار الأكم
فقولوا لواش بكرد علي ... نشرت الثنا حين حاولت ذم الخ
كان التضييق علي في الشام يزيد كما استفاضت شهرتي، والشهرة حقيقة كانت على صاحبها آفة في الدور الحميدي، فرأيت بعد طول التأمل أن المقام فيه عبثاً، فأخذت بالاستعداد للهجرة إلى مصر لأصدر مجلة المقتبس، فأصدرتها في أول سنة 1324هـ، وتوليت معها رئاسة تحرير جريدة الظاهر اليومية، وبعد سنة عينت أمير سر تحرير جريدة المؤيد. والجرائد ثلاث التي توليتها في مصر هي الرائد المصري والظاهر والمؤيد وكانت من الصحف التي تصدع بالوطنية المصرية، وتنتقد سياسة المحتلين، ولذلك كثر أصدقائي من الوطنيين لالمصريين، فعددت بهم مصر وطني الثاني، وكادوا هم يعدونني منهم. وقد آزرت في مجلة العالم الإسلامي الباريزية التي ما زالت تصدر في باريز باللغة الفرنسية إلى عهد قريب. حتى إذا حدث الانقلاب العثماني 1908م رجعت إلى دمشق وأصدرت في 17 كانون الأول(6/337)
1908 جريدة المقتبس يومية سياسية، بعد أن صدر المقتبس ثلاث سنين في القاهرة مجلة شهرية علمية، وعدت إلى إصدار المجلة أيضاً.
وكان المقتبس السياسي معتدلاً بلهجته، وطنياً بمسلكه، ينتقد ما يمكنه نقده من مواطن الخلل في الإدارة العثمانية، وما رمى إلى وما رمى إلى الانفصال عن الترك قط، بل كان يرمي إلى استحصال حقوق العرب ضمن الجامعة العثمانية الكبرى، فلم يرق هذا أيضاً بعد رجال الدور الحميدي، وأخذوا يقاومون المقتبس وصاحبه، ويقيمون عليه الدعاوى المزورة، يصدرها الظالمون المرتشون من الموظفين، ممن دأبنا على الكيد لهم، والعمل على تنحيتهم، حتى جاء زمن وعلى المقتبس عشرات من الدعاوى، يطلب فيها أصحابها جزاء المفتري على الأكثر، لأنهم أبرياء بزعمهم مما نسب إليهم.
ومن أغرب دعوى الوالي الحميدي على في السنة الأولى اتهامه إياي بالارتجاح، أي أرجاء عهد عبد الحميد الاستبدادي، وهو الدور الذي بكيت من أهواله، وقد هجرت الأهل والوطن فراراً من كابوسه، ولكن أعمالي في خدمة الحرية سنين طويلة، كذبته وأشياعه من الحميديين الاتحاديين.
وقد اضطررت في هذه الدعوى إلى مغادرة الشام، فركبت البحر إلى فرنسا، وأخذوا الوالي يهدد القضاء بالعزل إذا لم يحكموا علي بالجباية، وصرفت الوقت في باريز أدرس مدنيتها وأستفيد من لقاء علمائها وساستها، ووقفت وقوفاً حسناً على حركتها العلمية والسياسية، وذلك بواسطة جماعة من أصدقائي علماء المشرقيات، عرفوني إلى الطبقة العليا التي أردت التعرف إليها في عاصمة الفرنسيس، وفي مقدمتهم فيلسوف فرنسا المرحوم إميل بوترو. وقد سألته أن يكتب لي جريدة بأمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، فتفضل وكتب لي ما أردت، فابتعته وطالعته كما مطالعة درس، ولا أزال إلى اليوم أجل تلك المجموعة المختارة سلوتي في خلوتي وجلوتي.
كتبت خمساً وثلاثين مقالة ومحاضرة في وصف سياحتي، ولا سيما في وصف عاصمة فرنسا، وطبعت هذه المقامات في كتاب سميته غرائب الغرب وما كان في الحقيقة إلى غرائب باريز ليس إلا. وبعد أن أقمت ثلاثة أشهر في كارتيه لاتين بباريز عدت إلى الآستانة عن طريق فينا(6/338)
مبرأ مما نسب إلي. وفي سنة 1912 أقام نفس الوالي الحميدي دعوى على المقتبس وقبض على مديره المسؤول المرحوم أخي أحمد، وأخذ عالماً من علماء المدينة اسمه الشيخ إبراهيم الأسكوبي، وأرسلهما إلى الآستانة فسجنا مدة، وذلك بتهمة أن المقتبس نشر قصيدة لهذا العالم تمس الآل السلطاني.
والحقيقة أنها تأوهات ونصائح، وكان نشأت في جريدة من جرائد الشام قبل أن
تنتشر في المقتبس بعشرين يوماً. أما أنا فتمكنت من الفرار كالمرة الأولى، وهبطت مصر عن طريق البر مع تجار الجمال. ودخلت الإسماعيلية بعد سير أربعة عشر يوماً، قطعن فيها الشام من الوسط إلى أقصى تخومها الجنوبية. ثم برأت مما نسب إلي كالمرة الأولى، وعدت إلى دمشق بعد ستة أشهر، وعاد المقتبس إلى الصدور. إلا أن الوالي كان تمكن من إجبار أحد أخوتي على بيع مربعتن، فاباعها بثمن بخس، فأضيفت الخسارة بها إلى ما خسرناه في إغلاق صحيفتنا السياسية مرتين. ولم يعوض علينا أحد شيئاً مما خسرناه. واكتفى المقتبس إلى ذاك حين باشتراكاته وإعلاناته ومطبوعاته فقط. وقد استقبلت يوم عودتي إلى دمشق وكما يستقبل العظماء، فضحكت من تبدل الرأي العام، وبالغ بعض من استقبلوني بالحفاوة، وهم يزيدون على ألفين، كانوا يوم وقعت في الدعوة ينكرون عملي في انتقاد الحكومة، ومن قبل كانوا يصفقون ويستحسنون، وينحنون ويدعون، فلم أدر وجهاً برضاهم ولا لغضبهم، فكتبت إلى صديقي المرحوم العلامة رفيق بك العظم أقول له: إن القوم لا قوني في دمشق في هذه المرة كما يلاقون الملك. فلم أفرح لهذا الإقبال، ولا ساءني ذلك الإدبار، وعجبت لجنون من ينخدع بالجماعات الذين لا يثبتون بحال على أفكارهم.
وفي سنة 1913 زرت إيطاليا وسويسرا وفرنسا والمجر والآستانة، وكتبت 33 في وصف مدينة تلك المماليك. وكان الداعي إلى هذه الرحلة الثانية البحث عن المخطوطات التاريخية التي نقل عنها بالتصوير الشمسي صوراً، الأمير ليوني كايتاني من علماء إيطاليا وعظمائها. وقبل نشوب الحرب العامة ببضعة أشهر وقف والي دمشق المقتبس، بدعوى أنه نشر عبارة في كشف الحجاب، وهي منقولة عن الصحف التركية، والحقيقة أن المقتبس(6/339)
كان توفر على كشف حجاب الاتحاديين، وأصلاهم حرباً عواناً هو وأنصاره من رجال البلاد وحملة الأقلام
فيها، فأخذوا يخلقون له هذه التهم أو يكف عنهم. ولطالما تقاضوه ذلك، وله أن يتحكم في مطالبه الخاصة ما شاء فأبى، وربما كان رده لهم غير جميل لا يخلو من بعض خشونة، ثم ورد الأمر من نظارة الداخلية بعود المقتبس إلى الصدور، فأبيت إصداره، لما الحاكمين المتحكمين في السلطنة العثمانية بلا منازع. وألح أرباب الشأن بإعادة المقتبس إلى الصدور، فكان جوابي أنني زهدت في هذه الصناعة صناعة الصحافة، ما دامت أحكامهم غاشمة ظالمة. إلا أن الحكومة بقيت تحاذرني مدة أشهر. وأقامت شرطياً أمام داري يكتب كل يوم أسماء من يدخل علي من أربابا الطبقات المختلفة، حتى إذا خرجت إلى منتزه أو زيارة أحد يتبعني الجواسيس حيث سرت. أما كتبي وجرائدي وبرقياتي فإنها كانت تراقب أشد مراقبة، بل أضحكها وأبكاها.
وبينا كان حالي كذلك أعلنت الحومة العثمانية النفير العام، وجاء الشام وال عاقل عادل اسمه خلوصي بك فنشأت بيني وبينه صداقة، ولا سيما عقب أن ظهر من تفتيش أوراق قنصل فرنسا أنني كنت دائماً إلى جانب خدمة العرب، ولم أمل إلى الخروج على الترك، ولا أسففت إلى خدمة غيرهم، مع أني أردت على ذلك مرات، وأغلوا لي الثمن والجعالة، فاحتقرت كل نفيس في سبيل خدمة المصلحة العامة، وهذا سر نجاتي من مخالف قتلة الاتحاديين الذي لم يراعوا عظيماً ولا غيره في الحرب، وصلبوا من صلبوا على أعواد المشانق بلا رحمة في مدن دمشق وبيروت وحلب.
أرادني خلوصي بك ست مرات على إصدار المقتبس وأنا أحاوله وأطاوله، لكن قنصل ألمانيا كان يلح على الحكومة المحلية بإقناعي لإصداره، لما أيقن من تأثيره في أفكار الشاميين بل في بلاد العرب، فصحت بعد حين عزيمتي على أصداره، خصوصاً بعد أن أوحى ألي خلص أصدقائي، بأن القوم يتربصون بي الشر إذا لم
أجبهم إلى إصدار المقتبس، ولم أخدم الحكومة في تلك الحالة الحرجة. وأنني إذا طلبت على إبائي يخشى أن يحاسبوني(6/340)
عما اجترحته في الماضي حساباً غير يسير، وتكون حياتي في تهلكة، فاعتذرت بأن على المقتبس مبلغاً من الديون بسبب توقفه ثمانية أشهر وبيع مطبعته فقالوا إنهم يسددونها عني ففعلوا. وفي خلال ذلك جاء أحد أساطين الاتحاديين أحمد جمال باشاً قائداً للجيش الرابع، وحثي على التعجيل بإصدار المقتبس، وكان كلامه رجاءً في الصورة الظاهرة، وتهديداً في الحقيقة، فبادرت إلى امتثال الأمر فأصدرته، وبقيت سنة لا أكتب فيه إلا نادراً، ويتولى أخي سياسته، حتى تنبه جمال باشا للأمر وأرادني على كتابة مقالات افتتاحية باسمي ففعلت، وكثيراً ما كانت أفكاري ترشح اضطراراً من أفكار القائد العام مباشرة أو بالواسطة، فكانت إرادتي مسلوبة لتهديدي كل ساعة بنشر الحسابات القديمة مع الاتحاديين، وفي أواخر السنة الأولى للحرب أرسلي جمال باشا مع البعثة العلمية من علماء الشام إلى الآستانة فجناق قلعة، وأوعز إلى بإنشاء رحلة هذه البعثة، ووضع كتاب في رحلة أنور باشا، وكيل القائد العام وناظر الحربية، إلى الشام والحجاز. ففعلت مضطراً. وظهر هذان الكتابان الأول باسمي واسم ثلاثة من أرباب الصحف في الشام، والثاني باسمي فقط. وهما من كتب الدعاية السمجة في الحرب الممقوتة. وفي هذه السنة أيضاً أنشأت الدولة بإيعاز ألمانيا وترتيبها في مدينة دمشق جريدة يومية عربية أسمتها الشرق عهدت إلي برئاسة تحريرها فوليته مدة، واضطرني أحمد جمال باشا إلى رفع اسمي من جريدة المقتبس لتروج جريدة الشرق التي ظهرت إلى أواخر الحرب. وكانت جريدة ألمانية تركية بحتة يقصد بها الدعاية والتأثير في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة.
ولما بدأت جيوش الحلفاء تتقدم في جنوبي الشام غادر أحمد جمال باشا البلاد،
فأردني خلفه جمال باشا المرسيني أن أظل على ما كنت في جريدة الشرق فقلت له: لم يستعبدني أحد في حياتي غير سلفك العالي ولا أريد أن أستعبد مرة أخرى. وقصدت إلى الآستانة للتجارة فمنعي الاتحاديون هناك بإيعاز من أحمد جمال باشا، ومنعوني من معاطاة أعمال لا أعرفها في الحقيقة. وبينا كنت أفاوضهم بذلك سقطت دمشق بأيدي الحلفاء، وانقطعت الطريق بين الشام والاستانة، إلى دمشق بعد ثلاثة أشهر(6/341)
من سقوطها، لأعاود إصدار المقتبس، لكن الحاكم العسكري العام وكان من أصدقائي، ألح عليّ أن أتولى رئاسة ديوان المعارف فقبلت متكارهاً، وأخذت في درس حالة المدارس لإصلاحها على ما يلائم روح الأمة العربية، وبدأت بإنشاء دار للآثار وتجهيز دار الكتب الظاهرية بجهاز حديث. ثم حصل خلاف بيني وبين الحكومة فأردت التنحي عن رئاسة ديوان المعارف، فألحت علي الحكومة بالبقاء، إن كان ولا بد فينقلب ديوان المعارف بأعضائه ورئيسه إلى مجمع علمي، وتكون علاقته مع رئيس الحكومة مباشرةً، فقبل هذا الاقتراح وشرعت في تأسيس المجمع العلمي العربي في 8 حزيران سنة 1919.
وفي آخر تشرين الثاني سنة 1919 صدر الأمر بدعوى الضيق المالي بصرف رئيس المجمع العلمي وأعضائه، إلا عضوين فقط للأشراف على داري الكتب والآثار. وكان ذلك تشفياً من بعض الأحزاب التي لم أشأ أن أسايرها على العمياء. ودمت منعزلاً في داري إلى ان عهدت إلي وزارة المعارف في 7 أيلول سنة 1920 أول دخول السلطة الفرنسية إلى المدن الربع، وهي الوزارة التي غيروا اسمها بعد مع سائر الوزارات باسممديرية عامة. وفي خلال ذلك أخذت عشرة من الطلاب للإخصاء في العلوم العالية في جامعات فرنسا. وزرتها للمرة الثالثة، كما زرت بلجيكيا وهولندا وإنكلترا وإسبانيا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا، وكتبت الرحلة الثالثة في إحدى وخمسين مقالة، وأعدت طبع غرائب الغرب وأدخلت فيه
الرحلات الثلاث، فجاء في مجلدين. وكان أحد أعوان الجنرال غورو أول مفوض سام للجمهورية الفرنسية ولبنان نشر على لساني وبدون اطلاعي في إحدى المجلات الباريزية عبارة يقصد منها مدح الانتداب الفرنسي إلى التي ليس بعدها وتقريظ غورو وأعوانه. فكذبت ما عزي إلي في الصحف. وكان أحد موظفي البعثة الفرنسية في دمشق دس أيضاً على لساني في خطبة أردت على إلقائها باللغة الفرنسية في معرض بيروت التجاري على جماعة من الفرنسيس جملاً بخصوص العهد الفيصلي لم تخطر لي في بال. فامتعضت مما وقع في المرة الأولى والمرة الثالثة، ولما لم يرق عملي من التكذيب في نظر وكيل المفوض(6/342)
استقلت من المعارف، وبقيت في رئاسة المجمع، وكنت أديره أثناء وزارة المعارف وبعدها. وكان في ذلك الخير لأني حصرت وكدي في خدمة المجمع وتأسيسه على ما يجب وبقدر ما يساعد المحيط المالية. وعرضت عليّ وزارة المعارف في الحكومة المؤقتة خلال ثورة سنة 1344هـ فاعتذرت وآثرت الانقطاع إلى المجمع وإتمام كتابي خطط الشام.
وفي 15 شباط سنة 1928م أسندت إلي وزارة المعارف في حكومة صاحب الفخامة الشيخ تاج الدين الحسني وبقيت أدير شؤون المجمع العلمي إلى الآن. وفي أواسط شهر تموز سنة 1928 ندبتني دولة سورية والمجمع العلمي لتمثيلها في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة اكسفورد فرحلت إلى بلاد الإنكليز وزرت بلجيكيا وفرنسا. وقد اغتنمت فرصة وجودي في وزارة المعارف فأنشأت مدرسة العلوم الأدبية العليا جعلتها من فروع الجامعة السورية، كما هيأت جميع افتتاح أسباب كلية الإلهيات تضاف أيضاً إلى الجامعة وبذلك تمت لها أربع شعب، شعبة الطب، وشعبة الحقوق، وشعبة الآداب، وشعبة الإلهيات. وإذا انفسح الزمن للعمل ففي النية إضافة الفرع الأخير من فروع الجامعة وهو الفنون والعلوم.
كان المقتبس عقب الهدنة قد عاد إلى الصدور وظل يطرد نشره، حتى ألفت العصابات لغزو الساحل الشامي وأصبح القول الفصل لأناس من صعاليك العامة وأغرار الشباب، ممن أخذوا يهدوننا سراً وجهراً إن لم نمالئهم على رغائبهم، في هيج الأفكار ودعوتها إلى الثورة، فآثرت توقيف المقتبس على إصداره آلة للفتنة بين الناس، وإهراق دماء الأبرياء ليربح المستعبدون. على حين كنت على مثل اليقين أن الانتداب الفرنسي واقع لا محالة. وقد شق عليّ بعد أن بلوت من السياسة حلوها ومرها، وكرعت خلها وخمرها، أن آتي ما يكون وباله عليّ قبل غيري من رجال الصحافة، في أمر لا فائدة منه إلا لمن يستثمرون الثورات لمصحتهم الخاصة. وبقيت جريدتنا معطلة سنة كاملة، حتى دخل الجيش الفرنسي فعادت إلى الظهور. وظهرت جريدة المقتبس بتحرير المرحوم شقيقي أحمد كرد علي تصدر حرة في الجملة، وطنية الصفة والمنزع، فلما هلك أصبح تحريرها ألعوبة في أيدي أناس أرادوا(6/343)
تسخيرها في خدمة أحزابهم، فاضطررت إلى إغلاقها في صيف سنة 1928 بعد أن خدمت البلاد عشرين سنة.
كان مذهب المقتبس السياسي معاونة الحكومة بالمعقول، وانتقادها عند الاقتضاء. وتحبيذها إذا أتت ما تحبذ عليه. ينزع أبداً إلى إنارة الأفكار، وبث الملكات الصحيحة وتقوية روح القومية العربية، وسياسته وطنية ليس فيها شيء من روح الكراهة للأجانب، ويرمي إلى فتح صدر الأمة لمعظم ما في المدينة الغربية من أسباب الرقي. ولا يتحزب المقتبس لحزب إلا إذا تجلى له غناؤه وبلاؤه في خدمة الأمة. فقد دخلت في جمعية الاتحاد والترقي قبيل الانقلاب العثماني بنحو اثنتي عشرة سنة، وخدمت ما استطعت وساعدت البيئة، ولم أجدد في الانقلاب للاتحاديين عهداً مع كثرة إلحاحهم علي. إذا رأيت وتناقضاً في الخطة، لأن مرامي الاتحاديين تجلت بأنها تقصد إلى تتريك العناصر، ومن أول مقاصدنا الدعوة إلى
القومية العربية، وإنهاض العرب من كبوتهم.
ولما عبث الاتحاديون بالمقصد الذي رسموه لأنفسهم يوم نشأتهم الجديدة، تألفنا في الشام والآستانة كتلة من العرب والترك، وألفنا حزب الحرية والائتلاف اشتغلنا به مدة، ثم رأينا من المصلحة حله فحللناه. وأقترح عليّ زمن الحومة العربية غير مرة الدخول في الأحزاب فأبيد. ولكن لما تفاقم الشر، وأصبحت دمشق عاصمة في الصورة، والمدبرون لها أغمارنا غرباء في الأكثر، صحت عزيمتنا مع جماعة من أهل الطبقة العالية مسلمين ومسيحيين وألفنا الحزب الوطني معدلاً لأمزجة الأحزاب الأخرى. فكان حاجزناً دون انبعاث ما يندر من العوم.
وفي شباط 1924 عهد إلي تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق، فرأيت تفاوتاً في عربية الطلبة، وكان منهم المقتدر الذي يصلح للكتابة والخطابة، ومنهم الضعاف في مبادئ النحو والصرف، لأن مدرستي الحقوق والطب كانتا تحاولان تكثير سواد الطلبة وتقبل منهم حتى المقصرين في الفروع المهمة، ولا سيما اللغة العربية التي يعدونها ثانوية! فاضطرت إلى إلقاء بعض دروس نحوية مختصرة على التلاميذ ريثما يستعدون لتلقي(6/344)
الآداب، فحاولت تعليمهم الإنشاء والخطابة بالعمل أكثر من النظر. ولم ترق بعض الطلبة العلامات التي نالوها في الفحص العام، وكان بعض أساتذتهم يشوقونهم من طرف خفي على رفع أصواتهم بالشكوى من المدرس ليظموا درسه إلى دروسهم، ورأى رئيس الجامعة الطبيب الكحال السيد رضى سعيد الايتوني استثمار هذه الحركة لمصلحته، ومصلحته أبداً في إقصاء الأكفياء أرباب الإرادات المستقلة من تدريس الجامعة، فقام مدفوعاً أيضاً بيد رئيس الحكومة إذ ذاك السيد صبحي بركات. وكان هذا مغيظاً محنقاً من صاحب الترجمة لأن جريدة المقتبس لم تمالئه على خطبته، وصعب علي أن أترضاه، ولو بأن أذكر له على الأقل أن لا علاقة لي بالمقتبس منذ مدة طويلة،
وأنني لا أديره ولا أحرره ولا ينطق بلساني.
وكانت المؤامرة فاستكتب رئيس الجامعة عض الصحف للنيل مني، وأعطاها فيما قيل دراهم لتكتب له المطاعن على علي بما يفيد في تنحيتي. ومن الرسائل ما كتبه له بعض مستخدميه ممن كان يغطي عن سراقته في مدرسة الطب مقابل هذا التطوع في خدمة أغراضه، ومنهم طلبة مقصرون في دروسهم كافئهم على ما نشروه له من الطعن بي بأن منحهم شهادة الطب، ومعذرته أنه في حاجة إلى من يحسن من جماعته كتابة سطرين بالعربية، لأنه هو ورئيس الحكومة ابن بركات لا يحسنان كتابة سطر واحد، وإذا قرأ أو قرئ عليهما كلام عربي لا يفهمانه بحال. وهكذا جمع رئيس الجامعة بعض الطلبة المقصرين في دروسهم في دار أحد من يدهنون له من أطباء مدرسته، ولقنوهم كيف يجرئون على الشكوى من الدرس ويكتبون محضراً بهذا الطب، ومن لم يوقعه من الطلبة يهدد بما يخاف منه على مستقبله. وأخيراً تقرر إرسال بضعة من طلبة مدرسة الطب إلى درس الخطابة في دار الحقوق لينادوا بإسقاط خمسة من الأساتذة من جملتهم مدرس الآداب العربية، وخطب بحضوري أحد الطلبة، وهو أبن أحد أخصاء رئيس الحكومة خطبة لقنها، وكوفئ عليها بعد هو ووالده، فخرجت من المدرسة على أن لا أعود إليها، وتم لبعض الأساتيذ ما أرادوه، فاستأثروا بأكثر الدروس الشاغرة، ولم يعد من المخطوب فيهم إلا واحد وهو مدير المعهد السيد عبد القادر العظم الذي(6/345)
أسترضى الطلبة وصانع رئيس الجامعة مع أنه أضعف الأساتذة المشتكي منهم ولا صلة له بالعلم.
أهم المطبوع منة كتبي مجلة المقتبس ثمانية مجلدات وجزآن صدر منها ثلاث سنين في مصر وخمس في الشام وهي تبحث في الاجتماع والأدب والتربية والتعليم والتاريخ ومنها رسائل البلغاء وغرائب الغرب وغابر الأندلس وحاضرها
وتاريخ الحضارة والقديم والحديث ورواية المجرم البريء وقصة الفضيلة والرذيلة. وأول ما نشرت رواية يتيمة الزمان سنة 1312هـ. وآخره خطط الشام وهو كتاب في مدينة الشام وتاريخه صرفت في تأليفه ثلاثين عاماً، وطالعت لأجله زهاء ألف ومائتي مجلد بالغات الثلاثة العربية والتركية والإفرنسية، وأنفقت في سبيل تأليفه نحو ألف وخمسمائة جنيه، ويدخل في ستة مجلدات وربما كان معجمه في أربعة. وعندي من التأليف التي لم تطبع حرية الوجدان والحرية المدنية والحرية السياسية معربة من جول سيمون الفيلسوف الفرنسي. ومنها كنوز الأجداد ومكتشفات الأحفاد وأمراء الإنشاء وأخلاق المعاصرين إلى غير ذلك من المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات والصحف وآخرها مقالاتي وانتقاداتي في مجلة المجمع العلمي العربي خلال تسع سنين.
خلقت عصبي المزاج دموية، مغرماً بالموسيقى العربية، محباً للطرب والأنس والدعابة، عاشقاً للطبيعة والساحة. وقد كان للمزرعة الصغيرة التي أورثنا إياها المرحوم والدنا في قرية جسرين ومن قرى الغوطة أثر ظاهر في تربية ملكتي. وبها استغنيت أنا واخوتي لأول أمرنا عن طرق الأبواب للتحيل أو التسفل للمعاش.
ولم أخل منذ اشتغلت بسياسة البلاد وحتى بعد أن تجردت العلم المحض، من جرائد كان من جملة أغراضها ثلبي، وكثير من كتاب الذين عرفوا بالسفاهة كانوا يرزقون الجنيهات الكثيرة على حساب النيل مني، والتطاول علي، وما زالت حتى الساعة لا أخلو من أناس يتطاولون علي حب الشهرة، ينالونها من طريق الطعن بمن اشتهروا، ولم يحدث لي أن أجبت أحد هؤلاء(6/346)
الطاعنين في وقت من الأوقات. اللهم إلا إذا كان هناك تحريف لحقيقة وطنية أو قضية علمية، فأذكر الواقع بدون اسم المتحامل المخالف. وقد وقع مرة لمجلة ألبسها أصحابها ثوب الدين، أن
سجلت نحو ثلاث سنين تكتب في المقالات والقطع الصغيرة فلم أجبها، ولم أقرأ أكثر ما كتبت، حتى إذا نضبت مادتها من المال والقول، أجبتها بمقالة نشرت في كتاب القديم والحديث باسم الإصلاح وهي من المقالات التي لم تخل من حدة.
أعشق النظام والتدقيق، وأحب الحرية والصراحة، وقد أولعت بالتجدد، ومن عادتي أن اقف بمعالجته عند حد لا أتعداه إلى هدم أصل من الأصول المقدسة، وأدور من الإصلاح التدريجي العلمي في دائرة لا تتعدى الثروة في الأفكار، أجاهر في الحق، وأطعن في المنافقين وأتجهم لهم، وأجبت المرتشدين والمخربين، لذلك يكثر أعدائي من أهل هذه الطبقة. ولطالما كادوا لي وآذوني في مادياتي فلذ لي عملي تسؤني نتائجه. أخلص للصاحب وأخدمه خدمة خالصة، وأغار من مصلحته. وربما أرفعه فوق قدريه، حتى إذا بدرت منه بادرة سوء نحوي أو نحو المجتمع، ألوي وجهي عنه آخر الدهر. ولطالما آخذني بعض أصحابي على إسداء المعروف إلى من هم أول من ينكرونه، وإسراعي إلى التصديق من حولي، في زمن يكذب فيه معظم أهله، دعاني إلى الإحسان إلى أناس ليسوا أحرياء به، وألي الأخذ بأيدي فئة كان الأولى لهم أن يظلموا مغمورين، ومعظمهم كانوا لمقاصد لهم يتخيلونها أول من حملوا علي وعادوني، فكان الجواب، أني أحمل الناس على محمل الخير، فإذا ظهرت تربيتهم الحقيقية، وتبين أني كنت مغروراً بهم كان جزاؤهم الإعراض، وهل يجوز العقل أن تعض الكلب الذي يعضك، والحيوان المفترس الذي يحاول إهلاكك ولو أطعمته وسقيته.
أكره الفوضى وأتألم للظلم، وأحارب التعصب، وأمقت الرياء، وإذا حاربت لأجل المظلومين، وهاجمت طغمة المتعصبين، فإنما أحارب وأهجم بذوق وفهم على الأغلب، وأميل إلى الشدة، وقد تكون إلى الإفراط أحياناً، لتفعل البلاغة فعلها في عقول من يراد إرشادهم أو إسقاطهم. وتنقبض نفسي منذ الصغر من غشيان
المجالس والمجتمعات الغاصة بأنواع الناس، وأحرص على الوقت فلا أكاد أنفقه إلا لمنفعة عامة أو خاصة اهـ.(6/347)