وكان أراد أن يخفق علم التمدن الأوربي فوق مملكته فاستدعى إليه من فرنسا ضباطاً ومهندسين ورجالاً من أرباب الصناعات فجاءه العدد الكثير منهم. وخلفه مصطفى الرابع فألغى جميع خطط الإصلاح، ولكنه قتل كما قتل سلفه سليم ولم يطل عهده أكثر من أربعة عشر شهراً، وخلفه محمود الثاني 1223 متشبعاً بروح إصلاح سليم الثالث، يريد إخراج الدولة من سباتها، معتقداً أنه لا سبيل إلى نجاتها إلا بإيجاد قوة لها من غير عسكر الإنكشارية الذين عراهم الانحلال منذ مائة سنة، وأصبحوا يقتلون الملوك
والوزراء ويخونون الدولة في ساحات الوغى، ويعبثون بشغبهم ومؤامرتهم بكيان الدولة، ذاهباً إلى أن من جملة الأسباب في بقاء الدولة أن يقلّد الفرنج في مناحيهم وعاداتهم. وهو الذي لبس الطربوش والألبسة الغربية. وأخذ يقيم الحفلات والمراقص وحفلات السماع على الطريقة الأوربية.
وفي سنة 1223 مرّ ببلاد النصيريين طبيب إنكليزي فقتله الرعاع هناك، فصدرت الأوامر بالقبض على القتلة فأرسل سليمان باشا والي صيدا عسكراً بزعامة مصطفى بربر فاكتسح ديارهم وقتل سبعين رجلاً من كبارهم، وحشا رؤوسهم تبناً وبعث بها إلى الباشا، ثم امتنع النصيرية عن أداء المال فأرسل عليهم مصطفى بربر فنكل بهم وقتل خمسة وأربعين من رجالاتهم فأخلدوا إلى الطاعة. وكان من مقتل الطبيب وسيلة إلى الغارة على ضعاف الرعايا في زمن أصبح فيه شنّ الغارات صناعة يحترفها أناس مخصوصون في خدمة متغلب من المتغلبين.
وفي سنة 1224 قوي الاختلاف بين والي دمشق وابن الشهابي وابن جنبلاط وكانا استوليا على أملاك عظيمة من الفلاحين في البقاع فلم يزرع أحد في تلك الرجاء. وكان الوهابيين قد استولوا خلال هذه المدة على الحجاز وأخذوا يجاذبون عمال الدولة حبل السلطة في الأرجاء التي بين الحجاز والشام. وذكر بعض المؤرخين أنهم ارتكبوا في بلاد حوران سنة 1225 أفعالا بربرية من سبي النساء وقتل الأطفال ونهب الأموال وإحراق المنازل والغلال حتى قيل إنهم أتلفوا نحو ثلاثة آلاف ألف درهم وفي تاريخ نجد 1225 أن سعوداً اجتاز بالقرى التي حول المزيريب وبصرى فنهبت الجموع ما وجدوا فيها من(3/28)
المتاع وشعلوا فيها النيران ثم رجع إلى وطنه ومعه غنائم كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام وقتل من أهل الشام عدة. وساق والي دمشق يوسف باشا حملة على مصطفى بربر متسلم طرابلس واستنجد بالأمير بشير الشهابي حاكم لبنان فلم ينجده معتذراً بفتن
النصيرية والإسماعيلية وأن الجند اللبناني مضطر إلى أن يرابط الجبل، فنال والي دمشق من متغلب طرابلس بالإجاعة وطول الحصار.
فتنة كنج يوسف باشا:
صدر الأمر السلطاني في سنة 1225 إلى سليمان باشا والي صيدا أن يقتل والي دمشق كنج يوسف باشا ويصادر أمواله. لأن يوسف باشا عجز عن سوق قوة لقتال ابن سعود ورأى كما قال جودت، اشتغال الدولة بمشاكلها الداخلية والخارجية فرصة لادخار المال، وأكثر من الاعتداء على الأهلين وظلمهم، واختلس زيادة على هذا أموالاً كثيرة من مرتبات الحج. ومما قاله السلطان لوالي صيدا في أمره الصادر بهذا الشأن: إني آمل منك صداقة وحسن خدمة لأنك تربية الغازي الجزار أحمد باشا حتى لا يقال إن هذا راح ولم يخلف إنساناً!. ومعنى ذلك أن الدولة كانت راضية عن الجزار إذا ذكرته تذكره بأنه مثال رجالها الأمناء، وما ذلك إلا لأنه كان يؤدي لها الخراج في الجملة ويقاتل أعداءها ويرشي جماعة الأستانة بالمال على الدوام. أما سوء سيرته في الرعية وظلمهم وتقتيلهم فهذا لا ينقص بزعمها قدر الرجال، بل يجب على العمال أن يتقيلوا مثاله.
ولما جاء سليمان باشا في جند من الدروز وغيرهم لأخذ دمشق من كنج يوسف باشا تعصب الدمشقيون لواليهم القديم، ووقع القتال في أرض الجديدة وداريا، فانهزم الدمشقيون وظفر العسكر اللبناني والعكاوي وقتل كثير من الدمشقيين. وفي هذه الوقعة يقول المعلم نقولا الترك في مدح الأمير بشير:
وخاض غمار الحرب تحمل خلفه ... ثلاثة آلاف تصول وتخطر
فلاقته فرسان المنايا مغيرة ... تنادي على الباغين: الله أكبر(3/29)
وثار الوغى والسيف قد قارع القنا ... وغطى الفريقين الغبار المكدر
فولى على أعقابه كل ظالم ... وفي سهل داريا الأعادي تقهقروا
وكم من سراياهم ترامت جماجم ... كأوراق أشجار على الأرض تنثر
وكان والي دمشق القديم قد جمع أمواله فبلغت كما قيل اثني عشر صندوقاً من الذهب وعشرة أحمال من الفضة، فتعرض بعض الجند لجماعته أثناء خروجهم ليلاً من السراي، فأفلت هو ووقع المال في أيدي الجند والعامة، فتقاسموه واغتنى أناس من هذه الغارة على أموال الوالي التي سببت نكبته، وجمعها من أموال الدولة ودماء الأمة، وتوجه يوسف باشا كنج إلى مصر فتوسط له محمد علي الكبير بالعفو ثم بعثت الدولة بعض رجالها فضبطوا ما خلفه الوالي السابق من الأموال في دمشق بعد أن نهب ما نهب، فكانت نحو ثمانية آلاف كيس من صافي الصابون وبعض أشياء كان يتجر بها.
سليمان باشا وأمراء راشيا وكوائن حلب:
وعدَّ مشاقة من حسنات سليمان باشا ضمه إقليم البلان إلى ولاية دمشق بعد أن كان مستقلاً تحت لواء أمراء راشيا الشهابيين قال وذلك لأن حكام ذلك الإقليم مستبدون، وكانت الأهالي تقاسي عذاباً وجوراً لا يطاقان، والأمراء يدفعون عن الإقليم مالاًً معلوماً لحفظ استقلالهم به وبراشيا معاً، والحكومة مشطورة مع الأهالي إلى شطرين حزب يناصر الأمير فندي وآخر الأمير منصوراً، وكان كل واحد منهما يراقب الآخر ويترصد الفرص ليفتك به، فيحتاج كل منهما بالطبع إلى عصابة ومال وحاشية. وقد أثنى مشاقة على سليمان باشا وقال: إنه خدم الدولة والرعية خمسة عشر عاماً بالعدل والأمانة، وكان الأسف عليه عاماً حتى شعرت الدولة بفقده 1819 م وقال: لما سلبت بلاد بشارة من أيدي مشايخها كثرت التعديات واضطرت حكومة صيدا إلى وضع عساكر كثيرة، فلما جاء سليمان باشا الكرجي والياً على عكا اقتصر على مائتي جندي من المشاة وخمسمائة فارس وأربعمائة خيال من الهوارة يتبعهم مشاة ضبطية في باب السراي وجماعة
المدفعيين على أسوار المدينة وأقام في كل بلدة من المدفعيين والضابطة كفايتها.(3/30)
وسليمان باشا من مماليك الجزار اشترك مع سليم باشا في حرب الجزار، ولما أفسد الجزار هذا العسكر على باب عكا هرب سليم باشا وسليمان باشا، إلا أن هذا عاد إلى مولاه تائباً فوجه عليه متسلمية صيدا. وكان سليمان باشا هذا لا يسمع وشاية ويحمي من يعينهم من جماعته ولا يسمع فيهم كلاماً، وإذا عين أحدهم لا يرفعه مهما وقعت عليه من الشكاوي، وإذا توفي أحد خدامه مسلماً كان أو مسيحياً يضع ولده مكانه إن كان له ولد ويجري عليه رزقه وإن كان لا ولد له يدرَ راتباً على عياله، وكان يعطي كل واحد من خدام بابه على حسب حاله من القرش إلى العشرة قروش كل يوم، وهذا لأكبر ما يكون من أرباب الوظائف. قال العورا مدون وقائعه: وكان عنده لما مات 22 دعبولة في كل دعبولة ألف كيس ريال فرنسا كل ريال بأربعة قروش عدا ما كان تحت صرافه حاييم وأخيه موسى وهو يربو على اثني عشر ألف كيس وعدا الديون التي للخزينة على تجار عكا وبيروت وما عند حريمه من الجواهر والتحف وخلا ما عنده من الغلات والكراع.
هذا الرجل الذي خلف هذه الثروة وما ذلك بالأمر المستنكر على ولاة عصره، كان يتبجح بكلام العادلين والمصلحين مع أفراد من حاشيته ومن يغشون مجلسه، ليدل على حبه لإحقاق الحق وزهده في حطام الدنيا. شنشنة معروفة في بعض من يتولون الأمر يبرئون أنفسهم من حب الدنيا وهم سراق منظمون، ويستحلون في السر كل كبيرة وفي جهرهم أعفة أتقياء. هذا الرجل قال لوكيله وصرافه حاييم وكاتبه حنا العورا يوم استولى على دمشق وخلصها من يوسف كنج باشا: أنا قضيت حياة رأيت فيها الحلو والمر، فإذا أردتم أن تخدموني بالصداقة فأنا أشترط عليكم أن لا تظلموا أحداً، فلا أريد الظلم ولا أذية أحد ولا خراب بيت أحد. ولا عيني بمال أحد، وأريد ما أمكن سد باب الظلم، وليس لي حاجة في غير لقمة خبز
طيبة وحصان مليح وجوبق دخان والكسوة الاعتيادية وامرأة واحدة ولست آذن ولا أرخص لأحد منكم أن يجمع لي مال عباد الله بالظلم ولا بالخطف، ولا بالحيلة ولا بوجه من الوجوه، ولا أريد إلا أخذ الأموال المرتبة بأمر السلطان فقط ولا(3/31)
أشكر من يسعى لي بجلب الأموال من غير حلها بل أغضب عليه، وهاأنذا أشهد الله وملائكته ورسوله عليّ وعليكم بهذا جميعه، وأنا بريء الذمة من كل ما تفعلونه في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل تقبلون بشرطي هذا كي أسلمكم زمام أموري وأريح فكري، فأجابوه: نعم قبلنا وسمعنا وأطعنا فحينئذ قال لهم: وأنا سلمتكم مصلحتي بتمامها تصرفوا بها بحسب صداقتكم، وقد توكلت على الله وهو نعم الوكيل. كلام أشبه بكلام عمر بن عبد العزيز لأناس من حاشيته من زهاد التابعين وتابعي التابعين!
وفي سنة 1226 حدثت فتنة بين الدروز القانطين في الجبل الأعلى من عمل حلب وبين أهالي تلك الأرجاء وجرت بينهم وقائع فاتفق جميع أهل تلك الأطراف فأرسلوا يستشفعون بالأمير بشير فكتب إلى حكام حلب، وأرسل مباشرين لإحضار الدروز من هناك وكانوا أربعمائة بيت وأعطاهم مائة ألف درهم لمعاشهم.
وكثير ما كان يجري الخلاف في دمشق بين آغا القلعة والوالي فيعتصم الآغا وجماعته في القلعة ويشرع بإطلاق الرصاص والبارود والمدافع على جماعة الوالي ويصيب الأهالي من ذلك خطوب جسيمة كما وقع سنة 1227 فأخذ عسكر الوالي يحيط بالقلعة ويطلق من المآذن المجاورة النار عليها والجنود يطلقون النيران، ودام ضرب المدافع والحصار الشديد ليلاً ونهاراً بلا فتور، وقتل أُناس خارج القلعة واحترقت بعض الأماكن، ثم وضع عسكر الوالي سلالم ودخلوا القلعة من سورها وجرت المذبحة بين المحاصرين والمحصورين ونهب عسكر الوالي القلعة، وكان من يذهب قتلاً من الجند على نسبة من يقتل من الرعية. والقلاع آية
البلاء على الرعية ولا ينتفع بها عند الاقتضاء إلا الوالي أو المتغلب انتفاعاً موقتاً.
ومن الولاة الذين ملأوا حلب وأرجاءها ظلماً ابن جبار جلال الدين باشا 1227 كان مثلاً في المصادرات وقتل من يأبى إعطاء المال ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنساناً وقد احتال على ثمانية عشر شخصاً من رؤساء الإنكشارية في حلب وأهلكهم فسكنت الفتن قليلاً وقطع من أوصال الإنكشارية وقبض على القياد بشدته وقلة ذمته في إهراق الدماء وروى في أعلام النبلاء أن(3/32)
ابن جبار هذا عين اثنين يتجسسان أخبار الناس الذين تجب مصادرتهم فكان يرسل اثنين حاملين بلطة يأتيان بمن يجب مصادرته، فيزج في الحبس ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك، ثم يطالب بما قرر عليه وهو جرم أو جرمان، والجرم أربعون كيساً والكيس خمسمائة قرش، فمن لم يدفع الجرم في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة، وكلما خنقوا واحداً أطلقوا مدفعاً فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع، وكان الوالي إذا أراد النزول إلى السوق أمر فزينت له الأسواق نهاراً فينزل ومعه البلطجية والعساكر عن يمينه وشماله فيدور في الأسواق، ومتى أدار وجهه إلى رجل فغن البلطجية يأتون ويضربون رقبة صاحب ذلك الحانوت، يفعل ذلك بثلاثة أو أربعة أشخاص ثم يعود، ولما تكرر منه هذا العمل الفظيع سأله وجوه البلد عن سبب قتل هؤلاء وما ذنبهم فكان يقول: لا ذنب لهم غير إني أقصد إرهاب الناس. وتعذيبه الناس وأخذهم بالتهم الباطلة من المأثور عنه المشهور به.
وجاء بعده خورشيد باشا وكان يصلي ويصوم لكن أتباعه يفعلون كل كبيرة وهو عنهم ساكت، وحدث أن الأهالي هجموا على دار رئيس دائرته سليمان بك وقتلوه وحملوا سائر أتباعه بما عندهم من أدوات الفحش والخمر إلى القاضي فعد الوالي ذلك نشوزاً على السلطنة من أهل حلب فاستدعى عسكراً فجاءته جملة مستكثرة منهم، فوقعت وقعة بين العسكر والعصاة في محلة قسطل الحرامي 1235 فانكسر
العصاة وهاجم العسكر البلدة وأخذوا يطلقون المدافع على أسوارها فخربوا جانباً منها ودام الحصار 111 يوماً وجرى القتال داخل البلد في الشوارع والأسواق، وكان القتال سجالاً بينهم إلى أن فر العصاة من الأهالي ودخل الولاة فيمن معهم من العسكر واحتلوا البلدة وقتلوا سبعة من كبار العصاة وأرسلوا برؤوسهم إلى الإستانة. وقد قال الأهالي إنهم ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كانوا ينوءون تحته من ضريبة الدور التي ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء، وقد قتل بالطبع من الثائرين والأهالي والجند مئات.
تولى دمشق سنة 1232 صالح الكوسج باشا وكان عادلاً حليماً فخماً وراقت الحال في أيامه ولم يحدث إلا نشوز عرب فليحان فأرسل عليهم جنداً(3/33)
فتحصنوا في اللجاة فقتلهم العرب ولم يسلم من الجند إلا القليل، وبعد سنتين تولى دمشق سليمان باشا وكان عادلا إلا أنه محب للمال. وذكر جودت أن جماعة من الحشاشين والأشقياء 1235 أخلوا بالأمن في حلب حتى كان الولاة يضطرون أن ينزلوا خارج البلد في مكان اسمه الشيخ بكير وأنه لم يمض على الثمانية عشرة شقياً الذين كان قتلهم بالخدعة جلال الدين باشا جبار واليها، حتى عدا الأشقياء فكثروا وأرادوا القيام بثورة، فتدارك الوالي الأمر باستدعاء الجنود الكثيرة، وحسم هذه النازلة. قال بعد أن ذكر أربعة أبرياء قتلوا في حلب بدلاً من أربعة مجرمين بواسطة أحد الأعيان: كان على ذلك العهد بين الأعيان كثير من الأردياء الأشرار، وهذه الحالة لم تكن خاصة بالأستانة ولا بالولايات، وكان قلن الإنسان في سهولته كتقطيع لحم الدجاج، حتى حدث مرة أن الأراجيف كثرت في الأستانة وبينا كان مجلس الوكلاء ينظر في طريقة الحسم مادتها قال حالت أفندي: إن أحسن طريقة أن يقطع رأس الحلاق المقيم في أوقجيلر باشي وبذلك يحدث للناس خوف ودهشة وتنقطع مادة الأراجيف، فقال له أحد الحضور: عفواً إن هذا حلاقي فقال حالت
أفندي: ليس هذا الذي أردت أن أضرب عنقه بل الحلاق الذي يسكن في الطرف الآخر وبذلك يحصل المقصود. قال وبالجملة فقد كثر في تلك الأيام في الأستانة وخارجها من اسودت قلوبهم وقست أفئدتهم من الناس، وكانت الإدارة من كل وجه مختلة بحيث لا يتيسر وصفها ولم يبق من وسيلة إلا تجديد الأصول وإصلاح أُمور الدولة وتنظيمها، وقد نال هذا الشرف والي مصر محمد علي باشا والفضل للمتقدم 1هـ. وهذا كلام مؤرخ رسمي يكتب للسلطنة، والحقيقة أن الحالة كانت أسوأ مما وصفها به.
وقعة المزة واستسلام الدولة لوالي عكا:
تولى دمشق سنة 1235 درويش باشا، وفي أيامه اعتدى جماعته على مزارع ابن شهاب وابن جنبلاط في البقاع فاضطر والي الجبل إلى إرسال جند لمحاربته، وأرسل والي عكا جنداً ووقع القتال فانتصر والي الجبل على والي(3/34)
دمشق، وبعثت الدولة والي حلب للنظر في هذه الفتنة بين الولاة، فرأى أن السبب في ذلك عبد الله باشا والي عكا، فحاصره والي حلب في عكا على غير طائل، ثم عزل درويش باشا عن إيالتي دمشق وصيدا وعفي عن عبد الله باشا، وهلك جمهور من الجند والناس في هذه الفتن التي كان منشؤها فيما قيل دسيسة من بعض الإسرائيليين هلك أحد أنسبائهم وتقربوا من درويش باشا فأثروا فيه. وذكر الشهابي في هذه الوقعة المعروفة بوقعة المزة لأن هذه القرية حرقت فيها، أن عبد الله باشا استمال بعض مشايخ جبل نابلس ووقعت الفتنة بين أهالي ذاك الإقليم فانقسموا فئتين ووقع القتال بينهم، وقالوا: إن سبب هذه الفتنة أن درويش باشا كان يريد تسلم عكا من عبد الله باشا بأمر الدولة فتشيّع الأمير بشير الشهابي لوالي عكا، وسار في عسكره من المشاة والفرسان من أهل الشوف والمناصف والمتن، وعسكر عبد الله باشا في الدالاتية والهوارة، وجعلوا مصافهم من كوكب إلى المعظمية من إقليم البلان
وخرج درويش باشا إلى المزة فأقبل الأمير بشير، فلما علم عسكر درويش باشا بقدومه تحصنوا للحصار، وانتشب القتال بين الطرفين وطلقت عساكر دمشق المدافع والزنبركات أي المدافع الصغيرة، فهجم الأمير بعسكره هجمة واحدة وهدم أسوار البلدة، وكانت مبنية باللبن وامتلكها، ففرت عساكر دمشق وقد قتل منهم نحو مائتين وخمسين رجلاً وأخذوا منهم خمسمائة أسير، وغنم عسكر الأمير خياماً وذخائر وخيلاً وسلاحاً، ورجع إلى المعظمية وبلغت أسرى عسكر دمشق من أهلها 374 رجلاً عدا من قطعوا رؤوسهم. ومضت عدة أيام وفي نهر بردى تطفوا الغرقى من عسكر درويش باشا حتى بلغ عددهم ألف رجل ومائتي رجل بين قتيل وجريح، وقتل من عسكر عكا نحو سبعين رجلاً. وانتشب القتال بين الأمير خليل بن الأمير بشير وبين فيزو باشا أحد أتباع والي دمشق وهو قادم من نابلس في قرية مرجانة فقبض عسكر عبد الله باشا على مائة وخمسين أسيراً وقطعوا خمسة وعشرين رأساً وانهزم فيزو باشا إلى دمشق.
وأرادت الدولة أن تضرب على يد عبد الله باشا 1237 والي عكا فأمدت والي دمشق بواليي حلب وأذنة ليتعاونوا على ضربه وقد تحصن فيها(3/35)
بألفي جندي، فحاصره الولاة المذكورون تسعة أشهر فلم يستطيعوا الاستيلاء على عكا مع أنهم كانوا في ستة عشر ألف جندي. ولما عجزت الدولة عن أخذ هذا الثغر من عبد الله باشا وأصبح في يده معظم القطر الشامي حقيقة رتبت عليه خمسة وعشرين ألف كيس وهي تساوي نحو نصف مليون ليرة، وذلك بدل نفقات عسكرها في حصار عكا، وكان عبد الله باشا يوقع كتاباته هكذا أمير الحاج السيد عبد الله والي الشام وصيدا وطرابلس ومتصرف ألوية غزة ويافا ونابلس وسنجاق القدس الشريف حالاً.
سياسة الأمير بشير في لبنان وتقاتل الولاة وارتباك
الدولة:
تولى دمشق مصطفى باشا 1237 وفي أيامه حدثت فتنة بين الأمير بشير وابن جنبلاط وعلي العماد كتبت النصرة فيها للأمير، وهرب المشايخ المذكورون إلى حوران فأمسكوا وقتلوا، واضطر الأمير بشير الشهابي بعد ذلك إلى التغيب في دمشق وحوران، ثم عاد بعد مدة إلى لبنان وتسلم زمام الأمر وطلب الأموال المتأخرة من اللبنانيين فثاروا عليه في اثني عشر ألف فارس وقيل في ثلاثة عشر ألف مقاتل وليس معه فيما قيل سوى ثلاثمائة. فقتل منهم على قلة عديده وأخضعهم لسلطانه، وعاونه الشيخ بشير جنبلاط على كبح جماحهم وكذلك والي عكا أرسل إليه عساكر الأرناؤد والهوارة والمغاربة والأكراد فنشب القتال بين الفريقين فقتل من جماعة الأمير بشير 15 رجلاً وأحضروا 29 رأساً من رؤوس محاربيهم. ثم قلب الأمير الشهابي ظهر المجن للشيخ جنبلاط وسعى بقتله، كما قتل أناساً من أهله وحاشيته وسمل عيونهم ليأمن شرّهم بزعمه، وذلك لأن ابن جنبلاط قويت شوكته وأثرى وكثر مشايعوه، فما كان من أمير الجبل إلا أن سعى بإهلاكه وألقى الفتنة بين الحزب اليزبكي والجنبلاطي ليخلو له الجوّ وسلم معظم لبنان لأناس من مشايخ الموارنة يحكمونه ويأتونه بالجزية والخراج ليدفع هو المقررعليه لوالي صيدا أو عكا، ويأمن جانب الدولة فتصفو الولايةله. وكان من سياسته أن يظاهر صاحب الظهور والقوة شأن الأمراء اللبنانيين في معظم أدوار تاريخهم.(3/36)
وكثر الخلاف بين والي طرابلس ووالي دمشق ووالي صيدا ووالي عكا، والناس يقتلون بسبب هذا الاختلاف بينهم، وحاكم دمشق يحاصر حاكم عكا، والدولة ترضى عن هذا وتغضب على ذاك، وتسلب ولاية زيد لتعطيها لعمرو، تلاحظ في
ذلك التوازن بين القوات، وتتحاشى رجوع الذين يعصون أمرها من الولاة. وأعقل الولاة وأدهاهم من كانت تدوم ولايته سنتين وكانت الوظائف الحسابية في هذا الدور بيد الإسرائيليين والكتابية بيد المسيحيين، وكان الولاة يصادرون بعض الإسرائيليين ويحبسونهم وربما يقتلونهم لاستحصال المال فيحتال هؤلاء لتمشية أمورهم، وحدث أن معظم الحامية والموظفين في دمشق كانوا مرة من أهل بغداد والموصل وكركوك فغضب الوالي عليهم فأمر بترحيلهم فهلك بعضهم في الطرق.
كانت الشام تتخبّط بأيدي الولاة وأرباب الإقطاعات، والدولة غير مستريحة في داخليتها وخارجيتها، فاستقلت اليونان 1830 م بعد حرب هائلة فقدت فيها الدولة أسطولها وذهب قسم من الأسطول المصري، وكان الأسطول اليوناني ضرب بيروت 1241 1825، وتوسعت اختصاصات إمارتي الأفلاق والبغدان رومانيا حتى بلغتا الاستقلال أو كادتا، وفتحت روسيا لها طريق البحر الأسود، وما زالت حال الدولة على ذلك حتى نشأت ثورة الإنكشارية في الأستانة 1242 وكانت الدولة أخذت تنظم جنداً جديداً على الأصول الحديثة، فاستراحت بعض الشيء بعد إهلاك الإنكشارية، وكذلك حال الأمة المسكينة التي قاست الأهوال من اعتداءاتهم، وكان الفضل الأكبر في ذلك لمصلح الدولة السلطان محمود الثاني الذي أظهر من الثبات وقوة الإرادة في هذا الشأن ما لم يعرف به أجداده الذين قتلوا بأيدي الإنكشارية، واستناموا لما يأمرون به مخافة أن تزهق أرواحهم. وقضى أيضاً على أهل الطريقة البكداشية في الأستانة وما إليها مما ذكره له التاريخ بالإعجاب، وعاب بعضهم عليه شدته وأعجب بأعماله معاصروه من الأعاظم. فقد قال سفير روسيا في الأستانة بعد سنتين من قرض جيش الإنكشارية: إن السلطان محموداً بقضائه على هذا الجند المختل الذي تصعب إدارته قد ظفر بنور من النبوغ(3/37)
بمثله تنجو الممالك من المهالك. وقال دي لاجونكيير: إذا كان السلطان محمود أقل
سعادة من بطرس الأكبر في إرادة التجدد فإن منشأ ذلك بأن بطرس الأكبر قد وجد أمة لا تزال على الفطرة أي جديدة، وكان من الأسهل أن تنظم وتصاغ، وعلى العكس في محمود فإنه صادفته عقبات من الأوضاع القديمة، أوضاع نشأت وكبرت مع المملكة وكان منها فيما مضى قوتها وقدرتها، أوضاع وضعها السيف وأيدها الظفر وقدّسها الدين.
تولى دمشق صالح باشا ثلاث سنين وثلاث مرات كل مرة سنة وأظهر شدة زائدة ثم تولاها ولي الدين باشا 1242 وكان أحمق مغفلاً مهملاً ثم عزل ونصب عبد الرؤوف باشا 1243 وكان عادلاً لطيفاً وطمعت الشام به لعدله وفي 1243 أحدث وزير دمشق مظلمة على سبع عشرة قرية من البقاع فأمر الأمير أهل القرى اللبنانيين أن يرجعوا بمالهم إلى إقليمهم فرجعوا فخرب البقاع فارتضى وزير دمشق حينئذ بأخذ عشرين ألف قرش من تلك القرى وكتب إلى الأمير أنه رتب العشرين ألف قرش عوضاً عن المال الميري والقسم أي الثلث.
محاولة الدولة قتل النصارى وفتنة نابلس:
وأرادت الدولة أن تنتقم من نصارى الشام بل من النصارى في أنحاء المملكة لثورة اليونان عليها ومطالبتها بالاستقلال يوم ثورة المورة 1244 وجزائر البحر المتوسط فأمرت والي دمشق أن يقتل المفسدين من كبراء طائفة الروم فعقد مجلساً من أعيان دمشق وتلا أمر الأستانة على مسامعهم، فكان جوابهم أنه لا يوجد من النصارى عندنا المفسدون وجميعهم ذميون سالكون بشروط الذمة فلا تجوز أذيتهم. لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأن الرسول عليه السلام أوصى بالذميين وقال: من آذى ذمياً كنت خصيمه يوم القيامة. ونحن لا نقدر أن نتحمل هذه التبعة، وكتبوا محضراً للدولة بحسن سلوك نصارى الإيالة وطاعتهم ودفعهم المرتبات الأميرية وأنهم يستحقون حسن الرعاية والمرحمة من السلطنة السنية.
ولعمري أي علاقة للثائرين في جزائر البحر والمورة مع الآمنين من الرعايا في الشام، فقد أبان عقلاء دمشق إذ ذاك عن رأي سديد، ولكن لا(3/38)
ندري إذا كان رأيهم راق لدى ولاة الأمر في الأستانة. وأي أمر جائر أكثر من هذا كأن النزّاع إلى الاستقلال من اليونان كانوا يصدرون عن آراء مسيحيي الشام أو آسيا الصغرى، أو أن هؤلاء يحثونهم على نزع أيديهم من أيدي الدولة، ولو استطاع المسلمون أنفسهم في ذلك الوقت أن يستقلوا عن الدولة لينجوا من خلل إدارتها لما تأخروا عن ذلك ساعة.
وفي سنة 1246 1829 طلب والي عكا من الأمير بشير الشهابي أن يفتح قلعة صانور وكان أهل نابلس عصوا عليه وتحصنوا في قلعة صفد وأعجزوه فلم يقدر عليهم لأن معظم الأهالي انضموا إلى الثائرين، وكانت صانور منذ القرن الماضي تشغل بال رجال الدولة في عكا وصيدا والقدس، فنشبت بينه وبينهم عدة وقائع وبعد حصار ثلاثة أشهر وتخريب عدة قرى، أمر الوزير بهدم القلعة ودكها إلى الأساس ودك مغائرها وهدم آبارها، وسبب هذه الثورة الضريبة التي فرضها والي دمشق على الثائرين، ولما عجز عن جمعها أحيلت إلى عبد الله باشا فتعهد للدولة بدفع ألف كيس وأمر بجمعها من أهل نابلس، وكان من زعماء النابلسيين إذ ذاك أسعد بك طوقان والشيخ القاسم الأحمد، وفشل النابلسيون ولم يبق في القلعة عند تسليمها سوى 367 وكان فيها أكثر من ألف ومائتي نسمة قتل بعضهم وضرب الآخرون وذكر مشاقة أن سبب عصيان نابلس سلخ عبد الله باشا لها بأمر الدولة عن إيالة دمشق، لأن والي دمشق ادعى أن المطلوب منها ستمائة كيس لا تتحصل إلا بسوق حملة تستغرق المبلغ المتحصل منهم، فتعهد عبد الله باشا بأن تضم إليه ويدفع ألفي كيس عنها، وأن عسكر أمير الجبل الذي جاء نجدة لعبد الله باشا كان نحو خمسة آلاف رجل، وأن النابلسيين نزلوا على حكم الأمير بشير الشهابي فعفا
عنهم جميعاً وهدم القلعة وحصل الأموال الأميرية بعد مناوشات طفيفة.
مقتل سليم باشا والي دمشق:
انقضى النصف الأول من هذا القرن أو كاد والقطر نَهْب أيدي الطامعين من الولاة والمتسلمين، يسيئون في الرعية الاستعمال، ويعبثون بما خولتهم(3/39)
دار الملك من السلطة فيمثلون أعظم مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي الفردي الجاهل. ولم يكن يخطر في بال الدولة أن رعاياها يقوون على الانتقام من أعظم عمالها، وهم الموصوفون في معظم أدوارهم بالطاعة للملوك والزعماء والرضى بما يقتضي به الأقدار، ولو صحت عزيمة المظلومين مرة أو مرات أن يهلكوا من يحاول إهلاكهم وخراب أرضهم وديارهم، لما ساءت الحال، وبلغت الشام ما بلغته من الاختلال، نريد أن نقول أن الرعايا طالت أيديهم فقتلوا والياً عظيماً من ولاة السلطنة. ونعني به سليم باشا الصدر السابق مبيد جيش الإنكشارية.
نصبت الدولة هذا الشيخ والياً على حلب ثم على دمشق سنة 1247، وكان ظاهره شجاعاً مهيباً وباطنه جباناً وقد همّ أن يغتال بعض أعيان المدينة فبدأ بمدينة حماة، وقتل بعضهم فأيقن القوم أن هذا القاتل لا يصعب عليه أن يهلك أناساً في دمشق ليصفوا للدولة الحال بزعمه، فلما جاء عاصمة الشام أراد أن يضع على كل سكرة أي عقار في دمشق مصريتين كما هو الحال في الأستانة فثارت العامة بإشارة الأعيان وكانوا عند المصائب الشديدة تتحد على الأغلب كلمتهم، اتقاء شر عظيم يقعون فيه، وكثيراً ما كانوا يدخلون الأوهام على الولاة؛ لئلا يشتطوا في مطالبهم وتكون المغانم مناصفة بين الأعيان المتغلبة والحاكم المنصوب، فضرب الوالي العامة من أبراج القلعة بالقنابل، حتى إذا ضاق عليه الخناق جاء في بعض رجاله إلى دار قرب باب البريد فتأثره العامة وهدموا على رأسه سقف المخدع وأحرقوه.
وذكر بعضهم أن هذا الوالي تحصن برجاله في جامع مغلق أولاً والسَكمَان بالقلعة،
فبدأ الحريق من باب الهواء وأخذ يمتد، فلما رأى ذلك داخله الوهم لقلة رجاله وكثرة الدماشقة فتحصن بالقلعة، وأخذ يحرق دار الحكومة ليشغل الناس ويفوز بنفسه، وكان الحريق هائلاً خرب كثيراً، ثم اعتمدوا على حصار القلعة وأخذ الوالي يطلق المدافع على البلد، وأقام الناس متاريس حول القلعة ثم في الحارات وحاصروا العسكر المرابط في جامع المعلق، وقتل في هذه المناوشات كثير من الأهالي وجماعة الوالي، وطال المطال وتألب الناس على الوالي حتى إن والي عكا أخذ يقوي أهل دمشق عليه، ولما ضاق به الحصار(3/40)
خرج إلى بيت القاضي بجانب دار المشورة، فجاء سبعة رجال وكسروا الباب والنافذة عليه وألقوا النار بعد أن أخرجوا من عنده ابن أخيه والكيخية، ثم قطعوا أعناقهما افتراءً وعدواناً كما قال مدون هذه الوقعة إذ ليس لهما ذنب يوجب القتل حتى إن الباشا نفسه افتروا عليه لأنه لم يظهر منه أدنى أذى إليهم غير تمسكه بإتمام الأوامر التي بيده من الأستانة، وربما كان يضمر للأعيان شراً لا نعلمه وأما في الظاهر فليس لهم عذر سوى أنهم افتروا عليه وعلى جماعته على نوع مستغرب مناف للشرائع كلها ثم أخذوه عرياناً إلى القلعة، مع الاثنين خاصة بعد أن داروا برؤوسهم ودفنوهم داخل القلعة وتولى الشربجي الداراني ورشيد نسيب الشوملي أمر البلد، وبات الناس يتوجسون خيفة من رجال الأستانة، ولو كان ما أتوه في حالة راحة الدولة لأرسلت عليهم جنودها يفعلون بالأبرياء والجناة الأفاعيل المنكرة، ولكن الدولة كانت تتوجس خيفة من محمد علي والي مصر وما بلغه من القوة بجنده وبحريته واستعداده، ولها مشاكل في أُوربا تخاف أن تتجزأ قوتها إذا أرادت تأديب الدمشقيين. ولذلك لم تحب أن تناقش الأهالي الحساب ولم تسؤها فجيعتها بشيخ هِمّ قاتل، والقاتل مبشر بالقتل، ومن عادة الدول على الأغلب أن تفتك بعد حين فيمن استعملته آلة للفتك، ولذلك نرى مؤرخي الترك قد نطقوا بلسان الحكومة ولم يحركوا ساكناً كأنهم رأوا
لعمل الدمشقيين مبرراً من حسن نيتهم.
وقال مشاقة: لما قتل الدمشقيون سليم باشا اجتمع أعيانهم ورتبوا حكومة مؤقتة وأخذوا يترقبون ورود عسكر الدولة للانتقام منهم، فورد الخبر بخروج عساكر مصر لتأتي الشام فسكن روعهم بعض الشيء، ولما خرجت عساكر مصر صرفت الدولة النظر عما عمله أهالي دمشق وأرسلت والياً عليهم اسمه علي باشا. وأخذت الدولة تؤول عمل أهل دمشق وأصبحت كالمحامية عنهم تختلق لهم الأعذار عما بدر منهم لأن السياسة اضطرتها إلى ذلك. فقد جاء في تاريخ لطفي نقلاً عن جريدة تقويم الوقائع الرسمية أن سليم باشا لم يعمل بحسب الوقت لما جاء دمشق، وقد عين الحاج علي باشا والي قره مان لاستئصال الفتنة التي كان شبوبها يترامى إلى المسامع، بيد أن سليم باشا قتل قبل وصول خلفه، وتبين أن للغرباء يداً في هذه الفتنة، وأن تأديب المشاغبين بسوق قوة على دمشق يضر بأهاليها!(3/41)
وقال المؤرخ إن سبب عصيان الدمشقيين أن سليم باشا مر بحماة عند شخوصه إلى دمشق وقتل بضعة رجال من عرب عنزة وقيد البرازي في القيود وأتى به معه إلى دمشق فدهش أهلها، وكان اقتراحه وضع ضريبة فأوقد جذوة الفتنة. وذكر أن الأهالي هجموا على السراي أولاً وأغلقوا دكاكينهم وانتشرت الفوضى. وقد كتب السلطان على محضر قدمه بهذا الشأن عاطف بك ابن خليل شقيق سليم باشا قال فيه: قد يتبادر إلى الذهن أن لبعض الأطراف يداً في حادثة دمشق، ومن الجائز أن يكون ذلك بصنع والي صيدا لأن هؤلاء ليسوا على ثقة تامة من دولتنا العلية وهم ينفرون منها على الدوام، وعلى هذا فإن أمور إيالة الشام إذا دخلت في النظام على ما يجب يحدث ذلك ضرراً لهم، وقد عرفوا هذا حق المعرفة، فيجوز أن يكونوا سبب هذه الفتنة لإيصال الحال إلى تلك الصورة.
وقد ظهر من الأوراق الرسمية الأخرى التي نشرها لطفي في تاريخه أن السلطان
ذهب مذهبين في هذه الفتنة فكان يقول في بعض أوامره قبل مقتل سليم باشا القائم بتطبيق قانون رسوم الاحتساب سداً لنفقة الجند: إن أهالي دمشق وحواليها وإن كانت أرضهم مباركة، لا يستنكف أكثرهم عن عار ولا يعرفون الحياء، وظاهر أنهم وسيرون بحول الله وقوته من أسباب التأديب ما يقفون به عند حدهم. وقال في كتاب آخر: إن وقوع هذه الحادثة في دمشق ليست منبعثة من جسارة الأهالي فقط، بل نشأت بلا ريب من إغواء الأطراف وتحريكها. وذكر المؤرخ أن السبب في فتنة سليم باشا تحريك محمد علي والي مصر ليجعل مقدمة لدخوله الشام، وفي رواية أخرى أن والي عكا عبد الله باشا كان هو السبب في ذلك.
وقصارى القول أن سليم باشا مبيد جيش الإنكشارية الذي عجنت طينته بالدماء فقتله أعيان دمشق مخافة أن يبطش بهم كما بطش في حماة، خافوه ووجدوا فرصة للنيل منه لما جاء يطبق قانون الاحتساب، فأثاروا الرأي العام عليه ففعلوا وربما كانوا يريدون الاكتفاء بتهديده ليحملوه على الهرب، ولكن الأمر خرج من أيديهم إلى أيدي العامة فقتلوه غير حاسبين للعاقبة(3/42)
حساباً، فكان قتله على غير رضى العقلاء من الأعيان، وكان هلاكه مخيفاً لمن يأتي بعده من الولاة.
الحكم على الموقف السياسي في نصف قرن:
ويجوز لنا بعد نقل حوادث نصف قرن أن نلخصها ونستنتج منها على الصورة التالية اً كان الظلم يقع على المسلمين والمسيحيين والإسرائيليين على السواء، ولما كان المسلمون هم السواد اعظم من السكان كان تأثير الظلم في مجموعهم أقل من تأثيره في مجموع الإسرائيليين مثلاً. 2ً أوغل أرباب الإقطاعات في الظلم فقلّم الجزار من أظافرهم ليستأثر وحده بالظلم والقتل، فحالفه التوفيق بطول المدة إلى الضرب على أيديهم بعض الشيء، فلما هلك عادت الحالة الأولى إلى سابق تعاستها من ظلم المستضعفين والفلاحين. 3ً مرَّت حملة نابليون بونابرت على
جنوبي الشام كالسحابة، وكان من الجزار أن ضمّ قوى الأقاليم برأي انكلترا التي تولت حربه بحراً بأسطولها، وساعد أن حكومة الدير كتوار في باريز استدعت نابوليون فعاد أدراجه مسرعاً لا يلوي على شيء كما رجع ريشاردس قلب الأسد ملك انكلترا في الحروب الصليبية بعد أن عقد مع صلاح الدين يوسف ميثاقاً أنقذ به الصليبيين ومحاربيهم من القتل والقتال. 4ً الظلم الواقع على النصيرية وإرادتهم على تغيير معتقداتهم واتخاذ مقتل رجل غريب يمتُّ بنسبة إلى دولة أجنبية قوية ذريعة إلى تخريب جبالهم وقتل زعمائهم بدون تحقيق، على حين كان زعماء الأرجاء الأخرى من القطر يفعلون فعلهم وزيادة، ولا من يردعهم أو يقوى على نزع سلطانهم وتخفيف وطأتهم، مثل محمد باشا أبو مرق الذي عجت الأرض إلى السماء في فلسطين من مظالمه حتى أخذ الناس يبيعون أولادهم كما تباع الجواري والإماء فراراً من ظلمه وقياماً بما يفرضه عليهم من المغارم. 5ً قيام مصطفى بربر متسلم طرابلس واستعانته بكافل عكا على كافل دمشق وظلمه الرعية ومحاولة الدولة غير مرة أن تستريح من تسلطه فلم تستطع ذلك إلى أن أهلك حتف أنفه. 6ً انقضاء دولة بني العظم بهلاك عبد الله باشا آخر من ولي(3/43)
منهم سنة 1223 ولم يقم بعده أحد من ذريتهم لتولي الأحكام. 7ً اشتغال الدولة بالغوائل التي أصابتها ولا سيما استقلال اليونان ومحاولتها لما نال اليونان ما أرادوا أن تنتقم ممن يدينون بدينهم في الشام، فرد حزم الحازمين إرادة المختلين من ولاة الأمر الظالمين بحجة دينية أيضاً. 8ً عدم توفيق سليم الثالث في تطبيق خطط الإصلاح وكذلك مصطفى الرابع حتى تولى السلطنة محمود الثاني فبدأ في إنفاذ إصلاحه بمقياس واسع، كان أوله مقتل جيش الإنكشارية في العاصمة والولايات، فعدّ مصلح عصره الذي أدخل دولته في المدنية الغربية طوعاً وكرهاً، وجعل لها مقاماً بين الدول لم يكن لها من قبل على اتساع أقاليمها، وخروج أكثر
القاصية من حكمها فتبين لها أن عظمة الممالك بحسن إرادتها وكثرة مدنيتها لا بعظم رقعتها وخصب بقعتها، وأن دولة غناماها في عنفوانها وبذخها كما هي في ضعفها وشيخوختها، تُوَلّي رقاب الأمة ولو بالصورة الظاهرة، وجبوة خراجها ولو بالتغاضي عن بعضه للجباة لا للرعية لا تصلح ويصلح أهلها.(3/44)
دور الحكومة المصرية
من سنة 1247 إلى 1256
حالة الدولة العثمانية عند إذلال جيش محمد علي
الكبير لها:
كانت الدولة العثمانية إلى أواخر منتصف القرن الثالث عشر جسيماً كبيراً تعروه نوبات عصبية من حين إلى آخر فيردها بقوته، أو يطول زمنها عليه حتى تنتهي بطبيعتها. وصاحب المرض إذا طالت عليه معاودة النوبات قد يألفها ويظن أنه بريء من كل خطر، على حين تكثر آلامه، وتقرب منه حمامه، والأدوار العصبية أشد ظهوراً في ألم الجسم، وإذا تكررت على المصاب يصير إلى العجز فلا يستطيع أن يدفع ضراً ولا يجلب خيراً. فكانت الدولة العثمانية إذا نظر إلى ظواهرها يظن معها قوة، وفي الحقيقة هي إلى ضعف لكثرة ما استحكم فيها من أمراض وساورها من أوجاع، غفلت عن تعهد قوتها الحقيقية، فكانت تعلو وتسفل وتطفو وترسب، بحسب مقدرة القائمين عليها من الصدور والسلاطين، تقوم بالفرد ولا شأن للجماعة في معالجة ما يصلحها من تقنين وأُصول إدارة، وأهم ما امتاز به جندها الطاعة للرؤساء إلا أنها أصبحت في حروبها تستهلك أكثر مما تستحصل، لأن جيش الإنكشارية وهم مستندها في قوتها عراه الانحلال فغدت الوقعة التي كان يكتفي فيها بعشرة آلاف مقاتل تسوق إليها ثلاثين ألفاً ثم يشغب ولا يعمل عملاً. ولا عبرة بالعدد إذا كان المجموع أقرب إلى التفسخ، ومعنويات المقاتلين إلى الضعف.
إن بعض الغوائل التي أُصيبت بها المملكة والشام من جملتها في هذا القرن والذي قبله كانت بصنع جيش الإنكشارية وتمرده على رؤسائه، وبضعف(3/45)
الزعماء
واختلافاتهم المتصلة مع الولاة في الخارج، والوزراء والملوك في دار الملك، فكان وضع السيف فيهم على عهد محمود الثاني، وصدور الأمر بقتلهم في الولايات مما نفس خناق الأمة. وإن كانت العقوبة التي نزلت بهم في الشام أخذ، لأن بعضهم وفيهم الرؤساء كانوا من الأهلين، فلما نزل ما نزل بجماعتهم غيروا ألقابهم وبدلوا طرازخم وثيابهم، وبعد أن تخلصت الدولة والأمة منهم صعب على العثمانية في بضع سنين أن تصلح ما فسد في عشرات بل في مئات، وهل من سبيل إلى ارتجال جيش منظم إلا إذا ساد السلام أعواماً طوالاً، وانتشر العلم وتعلم القواد على الأقل، وكيف يتأتى ذلك وطالع الدولة الحرب على الدوام لا تفتأ متنقلة من أزمة إلى أزمة، وكانت في هذه الحقبة خرجت من حرب الوهابية في الحجاز ودخلت في حرب اليونان.
ولم يخطر ببال الدولة يوم قام محمد علي في مصر أن يتدرج بعد قتل المماليك في مراتب القوة والسيادة، حتى يقبض على زمام الأمر 1804م وينظم قوتيه البرية والبحرية، وينشط الزراعة والتجارة وتسمو به الهمة، أن لا يكتفي بما يملك بل ينزع إلى التوسع في فتوحه، لإيقانه أن الدولة وإن كانت في صدد إدخال الإصلاح على أوضاعها بفضل محمود الثاني سلطانها العاقل، لا تستطيع أن تلحق غبار مصر التي جرت على الأصول في تنظيم جيشها وإدارتها وسلطان العثمانيين على اتساع ولاياته وكثرة خيراتها، يتعذر عليه أن يقوم في مملكته بما قام به محمد علي في ولايته، لأن الإصلاح في الجسم الثقيل المختلف الأمراض، أصعب منه في جسم له مرض واحد، إذا عولج كان أقرب إلى الصحة والاستمتاع بالسلامة.
كان الغرب في هذا القرن يسير إلى الارتقاء بخطى واسعة سريعة، والدولة العثمانية تنظر إلى هذه المظاهر باهتة، وقلما يبدو لرجالها أن يتحدثوا في سر هذا
الارتقاء وعواقبه عليهم وعلى جيرانهم، إن لم يجاروهم في هذا المضمار. فأصبحت دولة بني عثمان لا تكفى عادية دولة من دول الغرب إلا إذا استعانت بأُخرى عليها، واستفادت من تخالفهم وتباين أغراضهم، بعد أن كانت أيام شبابها تنال من دولها مجتمعات ومنفردات. ولكن الجيش الذي يصل إلى أسوار فينا على عجلات البقر، ويقاتل المحاربين والمسالمين بالسيف والنشاب(3/46)
غدا يحتاج إلى أسباب في النقل أسرع، وسلاح في الفتك أقطع، غدا يحتاج إلى علم وعُدد، أكثر من احتياجه إلى أسماء ضخمة وعَدَد، وأصبحت السياسة والإدارة والحرب علوماً عملية، والدربة والتنظيم رأس كل أمر، والجيوش بنظامها وقيادتها وعددها وذخيرتها وبالفكرة المتشبع بها أفرادها، فكيف تنجح بعد الآن دولة تعد الجهل من مظاهر القوة، وكيف لا تتجلى الفروق بين دولة جمدت ولم تعمل، ودول تحركت ونمت وربت، وبين أُمة فتحت أقطاراً واسعة منذ قرون وبقيت طول حياتها الطويلة تصارع عناصرها ويصارعونها، وهي عنهم غريبة وهم عنها غرباء ولم تتمثلهم ولم تتمثل فيهم كما فعل محمد علي فتمثل في مصر والمصريين.
لماذا تراجعت الدولة العثمانية:
نسب ميشو انحطاط الدولة العثمانية وإخفاقها في حكم الولايات التي افتتحتها إلى عدة أسباب أهمها الجهل والجمود والغرور قال ومن حسن طالع النصرانية أنه لما فترت الهمة في الحروب الصليبية التي يراد بها حماية أُوربا، أخذ الأتراك يضيعون شيئاً من قوتهم العسكرية التي أخضعوا لسلطانها الشعوب النصرانية، فكان العثمانيون بادئ بدء الأمة الوحيدة التي كان لها جيش دائم منظم تحت السلاح، وبه أحرزت الدولة التفوق على الأمم التي تريد إخضاعها لسطوتها. وغدت أُوربا في القرن السادس عشر، ولمعظم ممالكها جيوش يقاومون بها أعداءهم، وسرعان ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية.
وأخذت المدفعية والبحرية تزيد كل يوم نظاماً ورقياً في الغرب، على حين كان الأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية، ولا يستفيدون بتاتاً من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم، ويزاد على ذلك ما عبث بكيان الأتراك من الخرافات وقلة التسامح، فحال ذلك دون فتوحهم. كانوا إذا استولوا على ولاية يحاولون أن يحكموها بأنظمتهم، ويغرسوا فيها عاداتهم وعباداتهم، فاقتضى لهم من ثم أن يبدلوا وجه كل شيء ويقضوا على حياة كل شيء في(3/47)
الأمصار التي ينزلونها، وأن يقضوا على أهلها أو يضعوهم بحيث لا يستطيعون أن يناجزوهم الشر، ويرفعوا رؤوسهم فيهم، ولذلك يلاحظ أن الأتراك استولوا مراراً على المجر، فكانوا يرحلون عنها بعد كل حملة يحملونها عليها، ولم يستطيعوا أن يؤسسوا فيها مستعمرة أو موطناً ثابتاً، وهم في انتصار يتلوه انتصار. والشعب العثماني الذي كفى لاحتلال ولايات مملكة الروم واستعبادها لم يكف لسكنى أقطار أبعد والاحتفاظ بها، وبهذا نجت ألمانيا وإيطاليا من غارات الأتراك، وربما استطاع العثمانيون أن يفتحوا العالم لو قدر لهم أن يُخَلّقوا الأقاليم التي ينزلونها بأخلاقهم ويُنزلوا فيها كثيراً من أبنائهم. قال: من الأسباب الرئيسية التي أضعفت القوة الجندية في الأتراك، الحروب التي كانوا أعلنوها على أوربا وفارس. فقد صدهم جهادهم الفرس عن حملاتهم على النصارى، وجهادهم في النصارى أضر بنجاحهم في حروبهم في آسيا. وكانت طريقة الأتراك في حربهم الفرس والشعوب النصرانية متباينة، فبعد أن قاتلوا زمناً مقاتلة ما وراء النهر والقفقاس، أصبحوا عاجزين عن قتال أوربا، فضعفوا عن قتال الفرس وعن قتال النصارى من أُمم الغرب. وظلوا بعدئذ بين عدوين تقريباً يهمهما زوالهم ويتحمسان بالحماسة الدينية. حمل الأتراك معهم مثل جميع البرابرة الذين أتوا من شمال آسيا نظام حكومة الإقطاعات، وكان أول عمل يأتيه أولئك الشعوب الرحالة
تقسيم الأراضي بوضع بعض القيود والشروط لمقتطعيها، ومن هذا التقسيم نشأ نظام الإقطاعات. والفرق بين الأتراك وسائر البرابرة الذين فتحوا المغرب هو أن استبداد السلاطين المبني على الحسد والغيرة لم يترك مجالاً قط للإقطاعات أن تكون وراثية ليكون بجانبهم طبقة من الأشراف كما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة، وهكذا لم تكن تشهد في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جانبها ديمقراطية عسكرية.
شبهوا الأتراك بالرومان. وكانت بداءة هذين الشعبين واحدة، وما أشبه أشياع روملوس بأتباع عثمان. ويتفاوت الشعبان في نظر التاريخ، ذلك لأن العثمانيين ظلوا كما كانوا في الأصل. أما الرومان أيام فتوحهم فلم يزهدوا في معارف من فتحوا ديارهم. ولم يستنكفوا من الأخذ بعاداتهم ومعبوداتهم.(3/48)
ولم يقتبس الأتراك من الأمم المغلوبة شيئاً، وتشددوا في أن يظلوا على بربريتهم. ولم تتأصل الأرستقراطية الوراثية في جانب الاستبداد المطلق، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي قضي بها على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية. وكل من درسوا سير المجتمعات يدركون أن بالأرستقراطية تتهذب الأخلاق وتثقف عادات الشعوب، وبالطبقة المتوسطة تنتشر المعارف وتبدأ المدنية. إن فقدان طبقة الأشراف أو العالية في الحكومات الشرقية لم يبين لنا سرعة انحلال هذه الحكومات فقط، بل إنه حلّ لنا معنى جمود الفكر الإنساني في هذا الضرب من الحكومات، وكيف لم يتقد قيد غلوة. وما كان في المساواة المطلقة، ومن حكومة تغار من كل ما لا تكون هي منشأه ومصدره شيء من المنافسة والقدوة وحب المجد، وبدون هذه الأسباب يقضى على كل مجتمع أن يبقى في الجهل الأعمى الذي كان عليه لأول أمره، وأن يفقد معظم مزاياه ومصالحه. وبالنظر لزهد الأتراك في العلوم والآداب ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي
مواليهم وكانوا في الحقيقة أعداءهم، ذلك لأنهم كانوا يشمئزون من كل جديد، ومن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا، فاضطروا أن يلجأوا إلى الأجانب في كل ما اخترع ونظم في أوربا، وهكذا لم يكن لهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم وقوتهم، وفي متانة جيوشهم وأساطيلهم. ولا يخفى ما أضاعه الأتراك بونائهم عن السير في معارج الرقي العسكري الذي أصاب منه الأوربيون قسطاً موفوراً، ولما كان الشأن في حروبهم لجيوش متحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم، فلما جاء دور العلوم البشرية وما أبرزته عقول الناس من المخترعات والمكتشفات، كان العقل المساعد هو المحد من الشجاعة.
شبه بعضهم جيش الإنكشارية العثمانية بطوائف البرتوريان من الرومان، في حين كان هؤلاء منتخبين، وما جرى على خاطر الأتراك قط أن يختاروا أميرهم سواء في ذلك شعوبهم وجيوشهم. وكانت مصلحة الإنكشارية تقضي أن يلقوا الاضطراب في المملكة لئلا يخلو لها الجو فتستفيد شيئاً من الجديد. أما الأتراك الذين توطنوا في يونان فكانوا يحترمون العادات القديمة أكثر من(3/49)
غيرهم، كما يحترمون الأوهام وحب العمالات التي ينزلونها. ولما استولوا على مدينة الأستانة كانوا يوجهون أنظارهم على الدوام إلى المواطن التي أنشأتهم وتناسلوا فيها، فكانوا أشبه بسياح وفاتحين عابري سبيل في أوربا: من ورائهم قبور أجدادهم، ومهاد عباداتهم وكل ما يقدسونه ويحترمونه، وأمامهم شعوب يكرهونها، وأديان يريدون القضاء عليها، وأقطار يتراءى لهم أن الباري تعالى يلعنها. وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى انحطاطهم، ذكرى مجد سالف، وإعجاب وطني لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا يستهينون، ولهم القوة، بالأخطار التي تهددهم، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم.
هذا رأي المؤرخ الفرنسي في العثمانيين وعلة انحطاطهم وقال غيره وأغرق: إن
شأن الأتراك العثمانيين في الولايات التي يفتحونها إذا رحلوا عنها شأن جماعة من البدو نزلوا منزلاً موقتاً ضربوا خيامهم فيه، إذا ترحلوا عنه من الغد لا تشاهد بعدهم في الأرض التي نزلوها سوى آثار أطنابهم، وعمد خيامهم فقط.
حملة محمد علي على الشام وهزيمة الأتراك:
أظهر والي مصر محمد علي وهو بعض عمال الدولة العثمانية مثالاً مجسماً من التجدد في الممالك، وبدت أمارات قوته بعد أن قرض المماليك من مصر، فلم يسع الباب العالي إلا الاعتراف بسلطته ومحاسنته، شأنه مع كل عامل أحرز قوة، على شرط أن يؤدي الجزية، ويعرف كيف يصانع رجال الدولة وسلطانهم. وكان محمد علي أسعد طالعاً من سلطانه، لأنه لم يصطدم يوم قام بإصلاحه بما اصطدم به السلطان محمود في تطبيق الإصلاحات، راى من المصريين قبولا لدعوته، واستعداداً للمدنية، وهو لم يقاوم الطبيعة كما قاومها الترك العثمانيون في السياسة التي استخدموها للقضاء على العناصر، بل استعرب وتمصر وألف بطانته من كل من يخدم مصر بدون عصبية.
قام بما أراد في مملكته الصغيرة أحسن قيام، وفتح صدره لكل جديد،(3/50)
بل فتحت مصر بفضله صدرها لذلك. بيد أن محمد علي لم يقف عند الحد الذي بلغه من الاسئثار بوادي النيل، وطمح إلى التوسع في الملك، شأن عظماء الفاتحين الطامعين في بسطة السلطان، ولكن أي البلاد يفتح؟ هل يتوسع في أفريقية؟ في صحراء ليبيا وصحراء النوبة وهي أصقاع لا توازي العناء. وربما صدمته دول الاستعمار عن التوغل في شمالي إفريقية أو في أواسطها، أم يقصد الشام وهي مفتاح كل فتح، وفيها من العمران ما يوازي العناء في استصفائها، وبينها وبين سكان مصر من وجه الشبه ما لا ينكر محله، ثم لا يصعب عليه إذا خفقت عليها أعلامه، أن يتقدم إلى الأمام، ويملك من أرض العرب والترك ما طاب له، ولا
يعلم ما تحدثه الأيام.
بحث محمد علي عن وسيلة لذلك فلم يلبث طالعه السعيد أن خلق له سبباً معقولاً لفتح الشام، وذلك أن بعض فلاحي الشرقية بمصر ضاقت نفوسهم من إعنات عماله بالجندية والضرائب، فهاجروا إلى جهات غزة ملتجئين إلى والي عكا، وكان عددهم ستة آلاف، فطلب منه محمد علي إرجاعهم خوفاً من كثرة عدد من يتبعهم إلى الشام، فامتنع الوالي من ذلك بدعوى أن القطرين تابعان لسلطان واحد، فاستشاط محمد علي غضباً خصوصاً وهو الذي استرضى خاطر الدولة على والي عكا وكانت غضبت عليه، ودفع عنه ستين ألف كيس غرامة اقتضتها منه لترضى عنه، فاتخذ عزيز مصر من ذلك حجة لفتح الشام فأمر سنة 1247 بإعداد جيش للسفر إليها عن طريق العريش وطريق البحر في آن واحد، وذلك لمحاصرة عكا من جهتين، وعين ولده إبراهيم باشا قائداً عاماً للجيوش، وسليمان بك الفرنساوي قائم مقام له، وجنّد ستة ألايات من المشاة وأربعة من الفرسان، ومعهم أربعون مدفعاً وكثير من مدافع الحصار الضخمة، وما يلزم ذلك من الأعتاد والمؤن. فوصل إبراهيم باشا مع الأسطول إلى يافا وفتحت له كما فتحت القدس ونابلس أبوابها، وكانت عكا أشهر مدن الشام بحصانتها وفيها خمسة آلاف مقاتل، فدام حصارها سبعة أشهر تحاصرها من البحر بوارج حربية مسلحة بالمدافع الكبيرة، ومن البر ثلاثون ألف جندي، وبريطانيا العظمى متغاضية عنه طوعاً أو كرهاً، إذ كان محمد علي من فرنسا نصير وظهير، وليست بريطانيا حرة مطلقة، في(3/51)
البحر المتوسط لتضرب أسطول محمد علي منذ أقلع من الموانئ المصرية إلى السواحل الشامية. قال المؤرخون: ولما كانت الجيوش المصرية تحاصر عبد الله باشا في عكا جاءه من نابلس ستمائة رجل واخترقوا صفوف العسكر المصري ودخلوا عكا لمساعدة وزيرها شاهرين سلاحهم ضاربين من عارضهم.
وبعد فترة قليلة تمكنت الدولة من تجنيد عشرين ألف مقاتل بقيادة عثمان باشا والي حلب، فترك إبراهيم باشا قسماً من الجيش على عكا، والتقى في ضواحي حمص مع القسم الآخر بالجيش العثماني الذي كان كأخلاط الزمر لا نظام له ولا دربة، وأبلى المصريون بلاء حسناً حتى أوصلوا العثمانيين إلى العاصي وغرق كثير منهم فيه، واختفى عثمان باشا في حماة، ثم احتل إبراهيم باشا بعلبك وعاد إلى عكا وشدد الحصار عليها ففتحها بمعاونة العرب والدروز والموارنة الذين أتوه بأنفسهم طوعاً بعد أن ظهر على الأتراك في أرض حمص، وأتاه بشير الشهابي إلى المعسكر يريد الدخول في طاعته. فتحت عكا بضرب المدافع ثلاث ثغرات من سورها واستمر القتال بالسلاح الأبيض فاستسلمت الحامية، وأخذ عبد الله باشا واليها أسيراً وحمل إلى مصر مكرماً، ثم فتح الأسطول المصري سواحل الشام كاللاذقية وطرابلس وبيروت وصيدا وصور. وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا قصد دمشق ومعه الأمير بشير وأمراء حاصبيا وراشيا فجمع علي باشا والي المدينة عسكراً من الأكراد وأحداث البلد قدّر بعشرة آلاف، وكشف إبراهيم باشا بمنظاره خيول الأكراد ومقاتلة الدماشقة فوجه خيل الهنادي لمقاتلة الأكراد، ونبه على العسكر النظامي أن يقاتلوا الدمشقيين ولا يؤذوهم، بل يطلقون البنادق في الفضاء، فلما سمع الدمشقيون أصوات النار تهاربوا وقاتل الأكراد جهدهم حتى غلبوا، وفي إثرهم خيل الهنادي تقتل من تلحقه منهم.
تقدير مؤرخين وشاعر لغلبة محمد علي:
يؤخذ مما قاله البيطار أن إبراهيم باشا قد ساعده الأمير بشير الشهابي ورؤساء جبل نابلس، لأن عبد الله باشا والي عكا كان حاصر قلعة صانور وهدمها(3/52)
وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في الديار الشامية، وأن إبراهيم باشا بينا كان جيشه على عكا يقاسي الأهوال ويتجدل منه الرجال إثر
الرجال جاء عباس باشا حفيد محمد علي باشا إلى البقاع وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الآتية لقتالهم، وافترق أهل جبل لبنان وتلك النواحي فرقتين، فتابع النصارى منهم الأمير بشيراً المتفق مع إبراهيم باشا، وخالفهم الدروز وأظهروا الطاعة للسلطان، ثم قصد إبراهيم باشا إلى طرابلس وحمص ودخلهما بلا قتال.
قال: وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر وعاونه أهل الجبل من المسيحيين والدروز، وكان قبل ذلك وقعت بين هاتين الطائفتين فتن فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه، ثم دخل عسكر إبراهيم باشا عكا من الأبراج على السلالم. وذكر بعضهم أن من جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفاً ومن عساكر عكا نحو خمسة آلاف. قال: وفي ثالث المحرم 1248 أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جواباً ثم طلب ثانياً فأرسلوا إليه إنا لا نمكنك من الدخول أصلاً، وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قرب قرية داريا فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالاً يسيراً، ولم يقصد كل من الفريقين إضرارا الآخر، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان، ثم دخل إبراهيم باشا دمشق وقد فر منها واليها علي باشا وعسكره والقاضي والمفتي والنقيب ومحمد شوربجي الداراني وجميع أبناء الترك الموظفين وغالب أعيان دمشق، ثم عزم على قتال حمص فحصل بينه وبين العسكر السلطاني قتال قتل منهم نحو خمسة آلاف وأُسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً وغنم أموالهم وعتادهم وسار بعد ذلك إلى حماة فحلب فملكهما، ثم جاء إنطاكية وعينتاب واللاذقية واستولى على حصن الإسكندرونة وعلى حصن بيلان وكان فيه حسين باشا فحدثت بينهما مقتلة عظيمة.
وفي البهجة التوفيقية أن الدولة جيشت جيشاً آخر بلغ عدده ستين ألف مقاتل بقيادة حسين باشا فالتقى الجيشان أمام حمص وانهزم الجيش التركي(3/53)
وبلغ عدد القتلى من الترك 2000 والأسرى 3000 وتقهقر الجيش التركي إلى حلب، وحاول حسين باشا دخولها فمنعه أهلها خوفاً من انتقام إبراهيم باشا فتقهقر إلى بيلان فتقدم الجيش المصري ودخل حلب وتأثر الجيش التركي فهزمه وغنم منه خمسة وعشرين مدفعاً وكان غنم منه أولاً اثني عشر مدفعاً ثم غنم أربعة عشر مدفعاً آخر وقتل من العثمانيين أربعة آلاف ومن المصريين خمسمائة وخمسون، ووقع في يد إبراهيم باشا ألفان من العساكر النظامية أسرى من الأرناؤد والهوارة فأعطاهم الأمان وأدخلهم في جملة جنده، واختفى حسين باشا ولم يعرف له أثر، واجتاز إبراهيم باشا جبال طوروس وكان السلطان في هذه المدة جيش ستين ألف مقاتل آخر وفي رواية أُخرى مائة وخمسين ألف عسكري بالمدافع والمهمات ولم يكن مع إبراهيم باشا سوى ثلاثين ألفاً فالتقى الجيشان في سهول قونية ووقع القائد رشيد باشا أسيراً في أيدي المصريين وانهزم الأتراك وغنم المصريون منهم في هذه الوقعة نيفاً ومائة مدفع وكثيراً من الذخائر وأسروا عشرة آلاف عسكري بينهم كثير من الضباط والقواد وقتل منهم ثلاثون ألفاً.
ويقول مشاقة: إن جيش حسين باشا لم يكن سوى أربعين ألفاً من الترك، على حين لم يكن مع إبراهيم باشا سوى اثني عشر ألفاً وكان أبقى من عسكره جانباً للمحافظة في الأقاليم المفتتحة وهلك الآخر في الحرب أو الوباء فغَلب، وهذا أقرب إلى المعقول. وقد استغرب كامل باشا لِمَ لم تستطع الدولة أن تجيش في الحال نحو عشرين إلى ثلاثين ألف جندي من حلب ودمشق وترسل أسطولاً إلى عكا يصد عنها أُسطول محمد علي أو يقيم العثرات في سبيله، كما أنه استغرب كيف أن العثمانيين لم يحفظوا خط رجعتهم ولم يقفوا موقفاً يردون به عادية أعدائهم،
وانهزموا تحت نيرانهم إلى الإسكندرونة تاركين خمسة وعشرين مدفعاً وألقي أسير على حين لم يفقد من المصريين سوى عشرين جندياً. وقد وصف الشيخ أمين الجندي فعال الأتراك وهنأ عزيز مصر وولده إبراهيم وحفيده عباساً بفتح الشام فقال من قصيدة:
والله غيَّر ما بهم من نعمة ... لما تغير حالهم وتبدلا
وقد استباحوا المنكرات فلا تسل ... عما توقع منهم وتحصلا(3/54)
وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل ... أبصرت حياً من مضرتهم خلا
نبذوا الشريعة من وراء ظهورهم ... وطغوا وزادوا في الضلال توغلا
وتمسكوا بالبدعة السوداء لا ... بالسنة الغراء فارتدوا على
ومشايخ الإسلام أصبح علمهم ... جهلاً فلم تر قط منهم أجهلا
وقال في وصف وقائع المصريين من الأتراك:
فترى الكماة مبددين على الثرى ... والخيل من وقع القنابر جُفَّلا
أضحت طعاماً للطيور لحومهم ... ودماؤهم للمشرفية منهلا
واختل عقد نظامهم رعباً وقد ... غطوا الرؤوس ولم يغطوا الأسفلا
وقال:
وأتى بهم للرستن المشهور إذ ... بين المقابر قد تستر واختلا
حيث الجهاديون حل وزيرهم ... في باب حمص وقد أبى أن يدخلا
قامت بخدمته وطاعة أمره ... حمص إذ امتثلت ولم تبد القلا
لما رأى السيف الإله أحدَّ من ... كل السيوف مدى الزمان وأطولا
ألقى السلاح تأدباً وتواضعاً ... عند المزار وللضريح استقبلا
حتى إذا نفدت ذخائره وما ... ألفى بحمص للعساكر مأكلا
أمضى إلى أرض القصير ركابه ... يبغي العساكر أن تقوم وترحلا
وهناك حاربهم وفرّق جمعهم ... في صولة والبر بالقتلى امتلا
وقال:
هل يغلب الأسد المجرب ثعلب ... مهما استعان بمكره وتحيلا
وإلى حماة الشام سار وبعدها ... لمعرة النعمان يخترق الفلا
حتى إذا اقتحم المضيق ببأسه ... وعلى الجبال سما وأشرف واعتلى
تركوا الذخائر والخيام وكلها ... يخشون منه لدى الفرار تثقلا
من يخبر الأتراك أن جيوشهم ... كسرت وأن حسينهم ولّى إلى
والعز بالعرب استنار مناره ... ببزوغ شمس مراحم لن تأفلا(3/55)
سقوط الأناضول وتضاؤل السلطان العثماني أمام
الجيش المصري:
وما زال الجيش المصري يتقدم في الأناضول حتى وصل إلى كوتاهية وأراد أن ينزل بورصة بحجة أن ليس له في أواسط الأناضول حطب ومؤنة في الشتاء، وكانت الطريق إلى الأستانة أمامه مهيعاً لا يقف فيها ما يوقف سيره، وأهل الأناضول والأستانة راضون عنه، وأشاع إبراهيم باشا أن مقصده من غزوته هذه توطيد دعائم السلطنة. وكان رجاله من الأوربيين يحثونه على أن يواصل السير ويفتح الأستانة، وأن لا يقتصر على فتح الشام وعلى ما أخذه من آسيا الصغرى ولو استمع إليهم لقامت الدولة المصرية في القسطنطينية بدلاً من دولة الأتراك، فأعاد محمد علي بذلك الدولة العربية. قال دي لاجونكيير: ولم يكن لمحمد علي هذا النظر البعيد وهذا الطموح، بل لم يكن يطلب غير الاستقلال والتوسع في الملك. وبقيت هذه المشكلة التي كان يتأتى أن يكون منها عراك بين قوميتين هما العربية والتركية، مقصورة على دائرة معينة من الحرب، لم تتعد حد القتال بين
ملك وأحد عماله الناشزين عليه.
ولما رأى السلطان محمود ما آلت إليه حاله، عرته الدهشة وداخله الفزع، فطلب معاونة الدول العظمى علناً لتعينه على محمد علي، وحرص خصوصاً على معاونة روسيا التي أصبحت بعد معاهدة أدرنة ترى نفسها حامية الدولة العثمانية، وليس من مصلحتها أن تكون هذه الدولة قوية، فأخرجت روسيا إلى الأستانة اثني عشر ألف جندي، واستدعى فيلق البغدان وهو مؤلف من أربعة وعشرين ألف مقاتل ليأتي إلى الأستانة، وعقدت معاهدة في كوتاهية على أن تبقى الشام وأذنة وجزيرة كريت لمحمد علي ويرحل عن الأناضول على مال معلوم يدفعه كل سنة قيل إنه ستون ألف كيس وذلك لمدة خمس سنين والسلطان لا سأل محمد علي غير ذلك، والخطبة تلقى في المساجد باسم السلطان. وعقدت روسيا معاهدة سرية مع الدولة العثمانية مدتها ثمان سنين، دعيت معاهدة خنكارا إسكله سي وهي دفاعية هجومية كان القصد منها جعل المضايق في قبضتها، فهلعت قلوب أوربا لذلك، وأخذت إنكلترا تحسب لهذه المعاهدة ألف حساب.
ولما انتهت شؤون الفتح جعل إبراهيم باشا مقره في إنطاكية، فكان يحضر(3/56)
أحيانا إلى حلب ودمشق وعكا ثم يرجع حتى يرقب عن أمم حالة بلاد الأكراد، وكانت منتقضة على الدولة العثمانية إذ ذاك. وكان إبراهيم باشا يوقع على كتاباته الرسمية الحاج إبراهيم والي جدة والحبشة وسر عسكر حالاً وبعد فتوح عكا صار توقيعه هكذا سر عسكر عربستان أي قائد جيوش بلاد العرب وفوض محمد علي ولاية دمشق إلى شريف باشا وماليتها إلى حنابك البحري، وكان هذا من المقربين جداً من محمد علي، ثم رأت الحكومة المصرية فصل حلب عن ولاية دمشق 1838م وأقامت واليا عليها إسماعيل بك ابن عم إبراهيم باشا حاكماً مستقلاً، ورجح مشاقة أن السبب في ذلك الثورات التي حدثت في الأقاليم والقلاقل التي
ذهبت براحة الأهالي والتعدي والحروب التي أفنت معظم الرجال لأنها كانت كلها محصورة بإدارة واحدة وهي دمشق، ولذلك حصل للحاكم العام عثرات جمة في تنفيذ أوامره للبعد بين البلدان. وعهد تنظيم مالية حلب لجرمانوس البحري، وقيل: إن حكومة محمد علي كانت إلى الرفق بدمشق أكثر منها في حلب، لأن الحلبيين قاوموا إبراهيم باشا بعض المقاومة، ولم ينزلوا عن القلعة حالاً، وقال مشاقة: بل دخل بدون معارض فوضع عليهم غرامات حربية وغرمهم مالاً لاحتكار بعض الأصناف حتى يستفيد من ذلك أعوانه.
أعمال إبراهيم باشا في إصلاح الشام:
وكان من أول أعمال إبراهيم باشا الجليلة في الديار الشامية ترتيب المجالس الملكية والعسكرية، وإقامة مجلس الشورى وغيرها من النظم الحديثة، وترتيب المالية، جعل نظاماً لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم، ولذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء وينالهم من ذلك مصة الوشل ورأت الشام في أيام إبراهيم باشا إبطال المصادرات، وتقرير حق التملك، وتوطد الأمن في ربوعها، وأحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعمت تربية دود(3/57)
الحرير واستخرجت بعض المعادن ولا سيما الفحم الحجري في قرنايل. وفرض على لبنان 6782 كيساً يتقاضى الأمير ضعفيها ويدخر في خزانته الخاصة المال الزائد على المفروض.
وأكد كثيرون أن بعمله هذا استعادت أكثر قرى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها عمرانها القديم. وأخرب بعض القلاع التي كان يعتصم فيها الثائرون أحياناً مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس، وقرب العلماء والشعراء، ورخص للأجانب في إرسال معتمديهم إلى دمشق، وكانوا يمنعون من دخولها قبله، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس. ويقال على الجملة: إن الناس حمدوا حكومة محمد علي في الشام ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه إبراهيم عملاً بايعاز أبيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الأهلين بالضرائب - وأقل الضرائب الشخصية 15 قرشاً وأعظمها خمسمائة قرش - فإن هذا مما نفرت منه القلوب ولا سيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل أهل حلب وأهل دمشق.
فتوق وفتن وحصار الفلسطينيين لإبراهيم:
لم تقع حوادث مهمة في السنين الأولى التي قضاها إبراهيم باشا في الشام اللهم إلا
ما وقع في القدس سنة 1249 من فتنة بين المسيحيين قتل فيها خلق وما كان من عصيان النصيرية فانتدب الأمير بشير الشهابي لتأديبهم فأرسل عليهم عسكراً خيم في البهلولية فهرب النصيرية بقضهم وقضيضهم وتركوا مواشيهم وغلالهم وأمتعتهم ففتحها العسكر وأحرق لهم خمس عشرة قرية وقطع أشجارها ثم أحرق لهم ثلاثين قرية أخرى ثم خمسين أخرى وكانت مناوشات بين عسكر الأمير والنصيرية. وعلل مشاقة هذه الوقائع بأن المصريين لما شرعوا بتغيير عوائد العشائر، وطلب أموال أميرية زيادة على ما اعتادوا دفعه، نفرت قلوب الأهالي منهم، وصاروا يتمنون رجوع حكم الأتراك، وابتدأ الناس ينتقضون عليهم واضطر المصريون إلى الاستكثار من الجند لحفظ مركزهم الجديد، فعصت عليهم طائفة النصيرية في جبال اللاذقية وأرسل الحاكم عسكراً لقتالهم(3/58)
من لبنان وحاصبيا وراشيا، فتوغلوا في تلك الجبال وامتلكوا عدة محال، ولعدم العناية واستخفافهم بالخصم آلت الحال إلى تراجعهم وقتل كثير من رجالهم، وآبوا إلى اللاذقية يتعثرون بأذيال الخجل، إلى أن جردت الحكومة على الجبال المذكورة عسكراً كثيراً وقهرت أهلها.
وأوعز إبراهيم باشا إلى الأمير بشير أن يرسل ولده بألفي مقاتل إلى طرابلس سنة 1833م 1249هـ يجتمع هناك بسليم بك أحد قواد المصريين لتأديب العكاريين والحصنيين والصافيتين فذهب وقبض على بعض العصاة في طرابلس وعكار وكثير من الأعيان وجرت بينهم عدة وقائع. والغالب أن وقائع جبال النصيرية امتدت منها إلى صافيتا وعكار والحصن أو امتدت من هذه إلى تلك. وفي سنة 1250 حدث هياج في حلب ثم في بيروت وإنطاكية، واشتغل إبراهيم باشا بإدخال من وقع في يديه من الرجال في سلك الجندية، فهرب الناس وتشتتوا وتوقفت الأعمال، وطلب من نابلس إنفاذ قانون الجندية فخرج أهلها عن الطاعة وحاصروا
إبراهيم باشا في القدس نحو شهرين وكان لبيت أبي غوش بين القدس ويافا يد طولى في هذه الفتنة ورئيسها قاسم الأحمد حاكم نابلس، فلما ضاق الحصار بإبراهيم باشا اضطر محمد علي أن يجيء بالذات إلى يافا وأرسل إلى قاسم الأحمد كتاباً يتلطف فيه مصحوباً بمال جسيم ويقول إنه لا يأخذ منه عسكراً ولا مالاً فرضى قاسم الأحمد وفك الحصار وخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا، فوجد العساكر قد وصلت لنجدته، فرجع على عقبيه في الحال واشتغل بالقتال والنهب والسلب، فهرب قاسم الأحمد إلى الخليل فلحقه إبراهيم باشا بعسكره، واشتغل بالنهب والقتل حتى لم يبق ولم يذر. ثم دار على الساحل فأدب العصاة من أهله ولم يزل يتتبع آثار قاسم الأحمد حتى قبض عليه وقتله في دمشق، وقتل أربعة من أولاده وأمر بجمع السلاح من جميع البلدان.
وفي تاريخ فلسطين أن إبراهيم باشا لما قضى بأخذ أموال ورجال من فلسطين ندم أصحاب الإقطاعات على سكوتهم، واجتمعوا في قرية بيت وزن غربي نابلس واتفقوا على محاربته، فنكث جماعة منهم مالوا معه ودلوه على الطريق والمياه، فعاجل المخالفين قبل أن ينظموا حركتهم، وفتح طريق(3/59)
طول كرم ثم نابلس، وعطف على القدس فاحتلها، وقد تهافت الأهالي على قتاله من كل جانب فهاجمهم وكسر جمهور القبائل الشمالية عند شعفاط، ولكن أهالي الخليل هزموه عند برك سليمان وحصروه في القدس فاستعاد نشاطه وقارعهم ثانية وظفر بهم.
خطأ إداري لإبراهيم باشا ووقائعه في اللجاة ووادي
التيم:
لا جرم أن إبراهيم باشا أخطأ في تطبيق قانون التجنيد في الشام على نحو ما فعل أبوه في مصر، وكان عليه أن يقنع والده بالعدول عنه إلى حين، لأن صاحب
القطر الأصلي لم يقطع آماله من استرجاعه وهو يسعى بكل ممكن إلى استخلاصه من غاصبه، وكل ما تنفر منه قلوب الرعية يفرح به لأنه يخدم مصلحته. فمسألة التجنيد قللت من أنصار الحكومة المصرية في القطر لقلة اعتياد الناس الجندية في ذاك العصر، وقد أصبح القوم يعدون التجنيد من باب إلقاء النفس في التهلكة، وزال من الأفكار معنى الدفاع عن الوطن والذب عن مقصد شريف، وهذا الروح كان قد ضعف في الأمة بعد أن حكمها الغرباء قروناً بالعنف والقهر. قال في معلمة الإسلام: إن تجنيد الشعب في الشام أدى إلى هجرة عدد عظيم من أهلها إلى آسيا الصغرى والعراق. ووضع اليد على الحيوانات للأعمال العسكرية نتج منه انحطاط الزراعة والتجارة، ولئن كان أمن قد استتب في الأرجاء فإن الغضب العام لم يكن أقل منه. وجاء في تاريخ حماة أن إبراهيم باشا كان يحشر الناس لبناء الثكنة العسكرية في حماة ويقبض على كل من يجده في البلد فكانوا يفرون منه إلى رؤوس الجبال وتارة يختبئون في الأنهار وربما قلع الإنسان عين نفسه أو قطع إصبعه ليعفى من الخدمة العسكرية. ولقد اتفق دروز وادي التيم مع دروز حوران وعرب تلك الجهات وأبو تجنيد أولادهم، فأرسل والي دمشق 1251 عليهم جنداً فالتقوا به في جنوبي اللجاة في وعرة هناك كتبت فيها الهزيمة على المصريين، ثم أرسل عليها قائداً اسمه محمد باشا فقاتلوه وقتلوه وقتلوا خلقاً كثيراً، ثم أنفذ إبراهيم باشا أحد رجاله شريف باشا إلى قرية أم الزيتون في وادي اللوى في أربعمائة فارس فقتلهم(3/60)
الشيخ حمدان الدرزي عن آخرهم ولم يبق إلا على مقدمهم. وذكروا في سبب هذه الوقائع أن إبراهيم باشا طلب 180 نفراً للجندية من جبل الدروز الشرقي كما طلب 1200 من دروز لبنان وأرسلهم إلى عكا، فطلب المشايخ إبدال ذلك بالمال وأوهموه الطاعة فلما عادوا إلى إقليمهم ثاروا عليه، فتوجه إليهم الجند بقيادة علي آغا البصيلي كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه
عبد القادر آغا أبو جيب فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من تسليم الأنفار وأرادوا الاستعاضة عنهم بالبدلات العسكرية. فقال البصيلي: إني أُرسل مراسلة استشير بها أفندينا. وعلى ذلك قرّ القرار. وفي تلك الليلة كبست الدروز العساكر وأذقانهم كؤوس المنية، وقتل أبو جيب وكان المتسلم في حوران وجبل الدروز، ولم يسلم من القتل سوى البصيلي وخمسة عشر نفراً، ثم جمع الدروز أمتعتهم ودخلوا اللجاة فجاءهم عسكر إبراهيم باشا فقتلوه. وهذه هي الوقعة التي قتل فيها الفريق محمد باشا. وقد بلغ عدد المقاتلة من الدروز والعرب عشرة آلاف. وفي مدونات مشايخ الدروز أنفسهم أن المقاتلة منهم لم يتجاوزوا الثمانمائة مقاتل ومعهم مائتان من عرب السلوط أحلافهم. وكانوا يربطون الطرق وينهبون القوافل بين بيروت ودمشق ويقتلون كل من وجدوه منفرداً من العسكر النظامي.
وروى مشاقة أن العسكر المصري الذي أُرسل لأول مرة على دروز حوران كانوا 450 مقاتلاً من الهوارة قتلوا إلا قليلاً، فأرسل إبراهيم باشا عليهم نحو ستة آلاف من العسكر النظامي مجهزين بالمدافع مع أن الدروز يومئذ لم يكونوا أكثر من 1600 مقاتل. ولما عجز شريف باشا والي دمشق عن كبح جماح الدروز جاء إبراهيم باشا من شمالي الشام وكان هناك يرقب حركة الأتراك فساق قوة أُخرى، فرأى الرعب قد دبّ في قلوب عسكره من رهبة الدروز فعمد إلى ضربهم من جهة صرخد بفرسان الأكراد. ودارت رحى الحرب بينهم وتهارب الدروز من وجه إبراهيم باشا ورجاله إلى أن قادوهم إلى سهل دام، وهناك رجعوا عليهم وأعملوا السيف فيهم وفتكوا بجموعهم، ولما عرف إبراهيم باشا أن عسكره ذُعر من شجاعة الدروز عمد إلى تسميم الماء الذي كانوا يستقون منه فأرسل إلى الدكتور كلوت بك يستحضر منه(3/61)
محلولاً قاتلاً فرفض هذا إجابة طلبه وحاول أن
يمنعه من استعمال تلك الواسطة لما فيها من القسوة التي تشمل الحريم والأطفال معاً، أما إبراهيم باشا فكان يرى مصلحة الدولة أولاً والرعية ثانياً، ولما عجز عن إخضاع العصاة ألزم علماء الكيمياء بصنع محلول سليماني ألقاه في المياه وأعلم الدروز بذلك، فاضطر الدروز إلى ترك المكان بعد أن مات منهم عدد كبير عطشاً وأتوا إلى إقليم البلان. وكان دروز وادي التيم وإقليم بالبلان ينجدون دروز حوران بقيادة شبلي العريان ولما ضاق بهم ذراع إبراهيم باشا استدعى من مصر عسكراً من الأرناؤد فأمده أبوه بأربعة آلاف جندي بقيادة مصطفى باشا، وهم الذين حارب الدروز بهم في الوعرة أيضاً فلم يظفروا بهم. وكانت دروز الأقاليم تنجد دروز حوران سراً أولاً ثم أخذت تنجدهم علناً. أما نصارى لبنان فتجندوا أولاً مع العساكر المصرية وحضروا الوقائع التي حدثت بين المصريين والدروز في حوران ووادي التيم. وتجمع العصاة في قرية حينة من إقليم البَلاّن، فأطلق الأمير مجيد شهاب الغارة عليهم فانهزموا وقتل منهم 150 رجىً وبلغ شبلي العريان ذلك فحضر بعسكره من الوعرة وحاصر العسكر المصري في سراي حاصبيا فقتل من أمراء حاصبيا الأمير علي ثم أرسل العريان إلى الأمير محمود خليل أن يخرج من السراي ولا يشارك العسكر النظامي فخرج بجماعته اللبنانيين، واضطرمت نار الحرب بين العسكر المصري والعريان، ففر الجند المصري منهزماً نحو البقاع فتبعه العريان بمن معه وأعمل في أقفيتهم السلاح فقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل وتشتت من عسكره في البقاع وعاد فخيم في قرية عيحا قرب راشيا، فأتته الدروز وتحصنوا قبالته في غابة هناك، وانتشب الحرب بينه وبينهم فلم يظفر بهم، ثم اشتبك الدروز مع عسكر إبراهيم باشا في وادي بكا فهجم عليهم إبراهيم باشا بعسكره وأطلق عليهم النار وأطبقت العساكر من كل جانب، فقتلوا من الجند المصري وقتل منهم مقتلة عظيمة اضطروا عقيبها إلى الفرار. قيل أنه قتل من
الدروز في الوقعة الأولى 620 عدا من تأثرهم إبراهيم باشا وقتلهم، ثم حدثت وقعة في قلعة صخور وتفرق الدروز، وطلب العريان الأمان من إبراهيم باشا فأجابه إليه وجعله قائداً على ألف فارس هوارة. وفي سنة 1252 توجه الأمير مسعود(3/62)
الشهابي لحرب العرب العصاة في الصفا فاستسلموا له ومات من عسكره خمسون جندياً دنقاً.
نعم بدأ الاشمئزاز من حكومة محمد علي سنة 1250 لما صدر أمره إلى ابنه إبراهيم باشا باحتكار أصناف الحرير للحكومة، وبضرب ضريبة جديدة على الأهالي، وبتجهيز عدة ألايات، وزاد الحنق لنزع السلاح، فابتدأت الثورة بجوار بحيرة لوط وعلى شواطئ الأردن، وفي هذه الوقعة التي انتهت بقتل قاسم الأحمد حاكم نابلس بدمشق، قتل إبراهيم باشا كثيراً من زعماء الأتراك ممن كانوا ساعدوا العصاة عليه، وأخذ الدلاوز والنصيرية والموارنة يستعدون للثورة يهيجهم عليها عمال الدولة العثمانية، وبريطانيا تحرض العثمانيين وتعلمهم كيف يسلكون. وقد روى كامل في تاريخه أن إبراهيم باشا فقد من جيشه في السنتين التايتين لأمر التجنيد نحو عشرين ألفاً. وممن انتقض على إبراهيم باشا أهالي الكرك فإنه لما فتح إقليمهم نظم إدارته وجعل له حامية من جنده، وبعد قليل تمرد السكان وذبحوا الحامية والموظفين على بكرة أبيهم، وقتلوا كتيبة من جنده كانت آيبة إلى مصر، فأضلوها الطريق وأهلكوا أكثرها.
سياسة الأتراك والدول مع محمد علي:
وكانت الدولة العثمانية بمعاونة الدولة البريطانية لا تفتأ منذ دخول المصريين إلى الشام تدس الدسائس في القطر، وتستميل رؤساء العشائر وأرباب الزعامات والأعيان، بالمال تارة والوعود الخلاّبة أُخرى. وبعد أن عقد محمد علي مع سلطان العثمانيين العقد الثاني وهو خمس سنين أيضاً ومضى أكثره وأدى المقرر
عليه من المال، ارتأى العثمانيون بإيعاز بريطانيا العظمى أن يستخلصوا الشام وأذنة من محمد علي، فأرسل السلطان محمود سنة 1255 حافظ باشا في سبعين ألف مقاتل وفي رواية مائة ألف مجهزين بمدفعية مهمة ومعها طائفة من كبار ضباط روسيا وبروسيا وزحف إبراهيم باشا في أربعين ألفاً حتى انتهى الجيشان إلى سهل نِزّيب نصيبين، واشتبك القتال بين الجيشين ثماني ساعات ونصفاً فتراجع الجيش العثماني بعد أن قتل منه ستة آلاف وقيل أربعة وأُسر اثنا عشر(3/63)
ألفاً، وغنم المصريون من العثمانيين في هذه الوقعة 166 مدفعاً و20 ألف بندقية، وقتل من المصريين أربعة آلاف وقتل المصريون من الأتراك في حال انهزامهم ما يبلغ خمسة أسداسهم.
وذكر المصنف المجهول أن وقعة نزيب كانت يوم 11 ربيع الثاني 1255 24 حزيران 1839 وأن إبراهيم باشا استولى من العثمانيين على مائة وعشرين مدفعاً وعشرة آلاف بندقية وجميع مهماتهم وذخائرهم وعتادهم وقتل منهم أربعة آلاف وخمسمائة وجرح 18 ألفاً وأسر ثمانية آلاف وخمسمائة وقتل أمراء كثيرين. وقتل من جيش إبراهيم باشا أربعمائة وجرح ثمانمائة وفقد أربعمائة ثم قصد بيره جك البيرة فهرب العثمانيون وغنم منهم 32 مدفعاُ بعتادها. انتهى خبر الهزيمة إلى الأستانة بعد ثمانية أيام من وفاة السلطان محمود الثاني وجلوس ابنه عبد المجيد وهو فتى في السادسة عشرة من عمره. جلس السلطان الجديد وسلطنته مهددة بجيوش محمد علي، وليس للدولة جيش، وقد فقدت أسطولها في الإسكندرية، سلمه لمحمد علي أمير البحر أحمد فوزي باشا، فرأى السلطان أن يسادّ ويقارب، فأرادته الدول على أن يتربص ريثما يتوفق إلى حل مرضي بإجماع الآراء بينهن، فكان من ذلك حل المسألة المصرية العثمانية بالطرق السلمية الحربية، فاتفقت الدول العظمى ما خلا فرنسا أن لا تتجدد معاهدة خنكار إسكله سي بين العثمانية
والروسية، وأن السلطان إذا اقتضت له معاونة لسلامة السلطنة تعاونه الدول، على أن تبقى المضايق والدردنيل تحت إشرافهن، وكان محمد علي يتذرع لدى الباب العالي أن تكون مصر والشام وأذنة ملكاً وراثياً له ولأولاده فأرضته الدول بمصر فقط ولم تنفعه معاضدة فرنسا، وقضي على محمد علي أن يخرج من أذنة والشام في عشرة أيام، وأن لا تبقى له مع مصر سوى باشاوية عكا أي فلسطين من أرض الشام. تقرر ذلك في مؤتمر لندرا 1840 بين إنكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا بيد أن محمد علي أبى أن يخرج من الشام، فبعثت إنكلترا بأسطولها إلى السواحل بقيادة روبرت ستوبفورد فضربت بيروت واستسلمت باقي الثغور كطرابلس وصيدا وصور وقاومت عكا، وبعد أن أطلقت عليها البوارج الإنكليزية قذائفها ثلاث ساعات أصابت مستودع البارود فانفجر وقتل كثيراً من الرجال، ثم(3/64)
اضطرت العساكر المصرية إلى العودة من طريق البر الذي كانت جاءت منه. وكانت فرنسا مناهضة هذه المرة للدول وقامت إلى جنب محمد علي تبرر عمله، وتناصره برأيها ومعاونتها الأدبية.
ونشر السلطان عبد المجيد 1255 1839 خلال هذه المدة خط كلخانه أو البراءة السلطانية وهي أول قانون إصلاحي في السلطنة العثمانية يقضي بإعطاء العناصر العثمانية حقها وحريتها، ويضع نظاماً لاستيفاء الضرائب على نظام واحد، وتطبيق القانون العسكري وغير ذلك من الأمور الإدارية، فصفقت أوربا لقانونه ورجت الارتقاء لمملكته. وكان هذا القانون مما أوحت به بريطانيا واستملاه عقلاء الساسة من الأتراك في العاصمة.
انفراط عقد الحكم المصري:
ولما أحس أهل لبنان بواسطة دعاة البريطانيين أن الدول أزمعت إجلاء الجيش المصري عن الشام بالقوة إن لم ينجل مختاراً، أخذوا يناوشون الحامية المصرية
وقتلوا بعض المتسلمين من المصريين، وكان الأمراء الشهابيون واللمَعيون يقوون العامة سراً ويحثونهم على الثبات، والإفرنج يخبرون الناس باتفاق الدول الأربع النمسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا مع الدولة العثمانية على استخلاص الشام من محمد علي، ويحرضونهم على الدولة المصرية، ويؤكدون أن المراكب الحربية قادمة إليهم، واشتدت الفتنة بين أهل الجبل والأمير بشير وحرق إبراهيم باشا بعض قرى الجبل وقتل رهباناً وسبى حريماً.
وكان أمير لبنان في ظاهره مع إبراهيم باشا خوفاً منه، وفي الباطن مع من يضمن له ولايته، وقبض المصريون على 57 رجلاً من أعيان لبنان بينهم أربعون من أمراء الشهابيين كانوا يدعون أهل بلادهم لخلع طاعة المصريين فنفاهم إبراهيم باشا إلى مصر ومنها إلى السودان، وأخذ أعوان أمير لبنان ينتقمون من الرعايا بجمع السلاح والخيل وطرح المغارم، وجاء على الأثر الأسطول العثماني والأوربي في أربعين قطعة صغيرة وكبيرة، تحمل خمسة(3/65)
آلاف وخمسمائة جندي عثماني وألفي جندي أوربي، فأخذ إبراهيم باشا يجمع شمله في الداخل، ويستدعي جنوده من الساحل، وبحسب تقارير ضباط الإنكليز أن المقتول والمجروح والضائع من العسكر المصري لم يكن أقل من عشرين ألف جندي.
وخرج إبراهيم باشا من دمشق 1256 بعد أن فرق ذخائره ومتاعه على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي خارجاً من باب الله ونزل في سهل القدم، ومنها قصد إلى مصر عن طريق البر. وقبل رحيله عن دمشق أرسل خالد باشا التركي من الساحل أحمد آغا اليوسف في شرذمة من الجيش فخرج إليه إبراهيم باشا بجند قليل وهزمه شر هزيمة، فرجع إبراهيم باشا بالغنائم والذخيرة الوافرة، اما أحمد آغا فنزل بعسكره بعيداً عن دمشق في إحدى قرى الزبداني ينتظر إخلاء إبراهيم باشا المدينة، ثم خرج إبراهيم باشا صادعاً
بالأمر الذي جاءه من والده بالجلاء عن الشام فخرج أهل دمشق لوداعه وخطبهم وحرضهم على الإخلاد إلى الطاعة والسكينة، ريثما تعود الحكومة العثمانية، وعينت الدولة علي باشا الذي كان والياً على الشام يوم دخول إبراهيم باشا، وكان أشد الأتراك تعصباً، وبقي قنصل بريطانيا المستر ودد الذي أثار الموارنة على إبراهيم باشا مفوضاً من الدولة التركية بمراقبة أعمال عمالها، وكان كثيراً ما يشير على الدولة بعزل هذا فتعزله ونصب ذاك فتنصبه، وكان الموظفون العثمانيون معه كموظفين صغار في خدمة آمر مطلق.
أراد محمد علي أن يقاوم دول أوربا ويظل في الشام، ولكنه علم ببعد نظره أن ذلك متعذر، وأن أسطولاً ضرب بيروت وأحرق الأسطول المصري ونزل تسعة آلاف جندي إلى سواحل الشام، وأن الموارنة بعد أن كانوا عضد ابنه إبراهيم أصبحوا يعاونون الأوربيين على طرده من الشام، وتقدم أمير البحر بأبيه أمام الإسكندرية وأخذ من محمد علي معاهدة لم يترك له بها سوى مصر، وأنه من مقتضى معاهدة الدولة العثمانية مع الدول ترك الحق لبريطانيا بالاتفاق مع النمسا في محاصرة الموانئ ومساعدة كل من أراد خلع طاعة المصريين والرجوع إلى الدولة العلية، وبعبارة أخرى تحريضهم على العصيان لإشغال الجيش المصري في الداخل، كي لا يقوى على مقاومة السفن النمساوية والبريطانية(3/66)
وأن يكون لمراكب روسيا والنمسا وبريطانيا معاً حق الدخول في البوسفور لوقاية القسطنطينية متى تقدمت الجيوش المصرية نحوها.
فضل حكم محمد علي:
كانت حسنات حكومة محمد علي في الشام أكثر من سيئاتها. وضعت أصول الإدارة والجباية ورفعت أيدي أرباب الإقطاعات وأعطتهم من الخزانة رواتب تكفيهم، ولم يخلص من ذلك إلا الأمير بشير الشهابي والي لبنان، فإنه نال ولايته
مباشرة من محمد علي في مصر، وظلّ يتصرف بلبنان، وبذلك رفعت سلطة المشايخ والأمراء المستبدين. قال مشاقة: كانت الدول التركية خبيرة بأحوال الشعب أكثر من الدولة المصرية فبعثت تدس الدسائس في المشايخ، وتغريهم بالمواعيد الفاحشة، ليحضوا الشعب على شق عصا الطاعة، طمعاً بإرجاع نفوذهم، وكان النصيرية أول من شق عصا الطاعة وتبعهم الدروز في حوران ووادي التيم، فقضى المصريون معظم أيام دولتهم في الشام بالحروب والقلاقل.
ومن مآثر الحكومة المصرية التي عددها مشاقة تجفيفها المستنقعات وتصريف الأقذار في مجار خاصة، وتحديد أسعار اللحوم، والعدل بين الرعايا على اختلاف أديانهم وطبقاتهم، لا تكلف صاحب الحق نفقة لتحصيل حقوقه، وإنفاق كل مال في وجهه المخصص له، ومع ذلك ظل الشعب يسومها العداوة ويناقشها الحساب، لأنه اعتاد أن يكون محكوماً لا حاكم نفسه، عبداً لا حراً. وأكد أن البريطانيين استخدموا رجلاً من رجالهم السياسيين اسمه ودد فجاء كسروان بدعوى أنه يريد تعلم اللغة العربية، وأخذ يبث الدسائس حتى أعلن الكسروانيون العصيان، وقاتلوا جيشاً من جيوش إبراهيم باشا وجيوش الأمير بشير، ودام القتال أياماً، وتغلب العصاة على إبراهيم باشا مراراً، وهي المرة الأولى التي ذاق بها إبراهيم باشا طعم الانكسار.
ومدح مشاقة الأمير بشيراً الشهابي الذي كان عضداً قوياً لإبراهيم باشا، وقد تولى حكومة الجبل من سنة 1785 إلى سنة 1840 وأرسلته الدولة لما استولت(3/67)
على الساحل إلى مالطة وبقي منفياً فيها زمناً ولم يستطع أن يعود إلى إمارته. قال إنه كان شجاعاً مقداماً، وقائداً محنكاً، وسياسياً داهية، خدم الجزار بكل أمانة ونشاط، وخدم خلفه وحفيده مثله، وخدم الدولة التركية والدولة المصرية، وكان يعطي لكل خدمة ودولة حقوقها، وكان صادقاً إذا وعد أميناً على واجبه، ولكنه لم يخدم لبنان
خدمة تذكر. وانتقد مشاقة حكومة محمد علي تقاعسها عن إشهار استقلالها عن الدولة التركية، مع أنه كان من أسهل الأمور بعد أن اكتسحت القطر، فلو نادى محمد علي بنفسه ملكاً مستقلاً وأرسل سفراء إلى عواصم الدول الأجنبية، وعقد معها المعاهدات الدولية لاعترفت له بالملك على الرغم من مقاومة دولة بني عثمان، ولو طلب منها الاعتراف بملكه واستقلاله عن الدولة التركية عقيب حادثة قونية، لأجبرتها على الاعتراف بسيادته لأنه استحال عليها إخراج جنوده من الشام، أو صد هجمات إبراهيم باشا وتقدمه إلى قلب عاصمتها، ولو فعل لكانت المملكة العثمانية عربية اليوم أو لكانت على الأقل أضيفت الشام إلى مصر وأصبح حظ القطرين واحداً. ولم يظهر سر امتناع محمد علي من الإقدام على هذا الأمر الخطير ولو فعل لغير حالة هذا الشرق القريب لا محالة.
رأي الغرباء في حكومة محمد علي:
أثبتت حكومة محمد علي في فتوحها أن المصري بل العربي إذا تهيأ له زعيم عاقل لا يقل عن الغربيين في سيرته وجلادته، وأنه لم يضره في القرون الماضية إلا فناؤه في الحكومة التركية، بدعوى أن الإسلام لا يفرق بين الأجناس، والعربي والتركي أخوان، وأن الظلم إذا جاء من مسلم كان مقبولاً!. وكانت حكومة محمد علي من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثة أو أربعة قرون، بل أن الشام في القرون الوسطى والحديثة لم تسعد بما يقرب منها فضلاً عما يماثلها.
كتب المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق إلى سفير دولته في الأستانة سنة 1858م ما تعريبه: لما كانت الإيالة تحت حكم محمد علي باشا عاد كثير(3/68)
إلى سكنى المدن والقرى المهجورة، وإلى حراثة الأرضين المهملة، وهذا ما حدث وخاصة في حوران وفي الأرجاء الواقعة حوالي حمص، وفي كل الجهات الواقعة على حدود البادية، وفي هذه الأماكن أكره العرب على احترام سلطة الحكومة،
وجعل السكان بمأمن من اعتداءاتهم. وكان الشام بأسره تحت إدارة شريف باشا وقيادة الجيش الذي يبلغ عدده زهاء 40 ألف جندي نظامي وغير نظامي بإمرة إبراهيم باشا، فبحسن إدارة الأول تضاعف نجاح الأهلين وحسنت المالية في هذه النواحي، كما أن نشاط إبراهيم وحزمه وطد الأمن ومدّ رواق الثقة، وقد عدت الحكومة ظالمة لكنها في الحقيقة لم تكن تستطيع غير ذلك، إذ كان عليها أن تصلح غدة أمور مختلفة، وأن تبدل الفوضى والتعصب والقلاقل التي كانت سائدة بالعدل.
وامتعض أصحاب المقامات العالية والأفندية والأغوات من ذلك كثيراً لأنهم كانوا يثرون من ابتزاز أصحاب التجارة والحرف وسائر الطبقات العاملة. وقد سر هؤلاء كل سرور لخلاصهم من الظلم الذي أنّوا تحت عبئه طويلا، واغتبط النصارى خاصة وفرحوا لنجاتهم من التعصب الذي أوصلهم إلى درجة من الذل لا تطاق. ولم يكن الفلاحون أقل سروراً منهم لأنه وإن كانت الضرائب المقررة تستوفي بكل شدة، لم يكن يستوفي منهم بارة زيادة، ولا تضبط حاصلاتهم وغلالهم، ولا يؤخذ منهم شيء دون دفع ثمنه، ولم يجبروا على تقديم خدمة دون بدل، وقد فرضت الخدمة العسكرية على المسلمين، وهذا الأمر الجديد كان ينبوع استياءٍ عظيم. أما النصارى الذين كانوا يدفعون الخراج فأعفوا من الخدمة العسكرية، والفلاحون الذين قطنوا القرى المهجورة أسلفوا مالاً لإصلاح بيوتهم وتموينها، وأعفوا من الضرائب مدة ثلاث سنين.
وقصارى القول أن جميع هذه المساعدات بذلت لزيادة الحاصلات، وكم من مرة ذهبت الجنود بإمرة إبراهيم باشا لإتلاف بيوض الجراد وما نقف منها وبفضل هذا الحكم الحازم العادل المحترم من الجميع أخذت البلاد تترقى في مدارج النجاح والنماء، فلو طال الحكم المصري على الشام لاستعادت قسماً عظيماً من وفرة
سكانها القدماء، وأصابت شطراً كبيراً من الثروة التي كانت في الماضي، وآثارها لم تزل ظاهرة للعيان في القرى والمدن العديدة في جهات(3/69)
حوران، وفيما وجد في البادية حيث ترى فيها الطرق التي اختطها الرومانيون.
قال: ولم يكد المصريون يطردون من القطر ويتقلص ظلّ سطوتهم وقد كانوا أخضعوا الجميع لحكمهم الشديد حتى عاد القوم إلى نبذ الطاعة وخلفت الرشوة والتبذير في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد ومنيت المداخيل بالنقص، واستأنف عرب البادية غاراتهم على السكان فخلت القرى والمزارع المأهولة جديداً بالتدريج حتى أمكن القول إنه لا يوجد ثم ظل للأمن على الحياة والأملاك وكل شيء يدل على عودة حالة الفوضى إلى هذه الديار التي تركها المصريون.
هذه أجمل صفحة في وصف حكم محمد علي في الشام كتبها إنجليزي. وقال برييه الفرنسي في كتابه الشام على عهد حكومة محمد علي ما تعريبه: ما من بلدة نالت ما نالته الشام من العمران والمجد في كل مظهر من مظاهر الحياة، وما من بلد عانى شقاءً كشقائها من تقلبات الزمان، وسقي أديمها بالدماء، فإن خصبها المدهش وجمال إقليمها وتنوعه، ومركزها المهم الذي يقرب إليه جميع الأجزاء القديمة التجارية من الأرض، كان يجعل منها في القديم النقطة المتوسطة للعلوم والتجارة في العالم، ولكن هذا المركز وهذه المنافع قد نبهت أطماع الفاتحين، وجلبت غير مرة على الشام ويلات الحروب.
وكانت الشام على عهد الأتراك العثمانيين مقسمة إلى أربعة إيالات: حلب وطرابلس وعكا ودمشق، وقبل مجيء إبراهيم باشا إلى الشام كانت حكومة هذا القطر من الممالك العثمانية التي تتعب السلطنة، ولا يمكن حصر السلطة في يد واحدة، لأن معنى ذلك تسليم سلطة كبرى لرجل واحد تمكنه من العصيان وكثيراً ما كان السلطان سلطاناً بالاسم مع أن الشام كانت مقسمة إلى أربع إيالات كما
حدث في زمن عبد الله باشا وغيره ممن شقوا عصا الطاعة وكثيراً ما كان الباشوات يشنقون كما حدث في حلب على جدران قصر الشيخ يابران ولطالما شنقت عليه باشاوات بيد الأهالي كما أحرقوا باشا دمشق.
وكان الدم يجري لأقل شبهة والعذاب الأليم يحل فيشنق الباشاوات وتستل أرواحهم من أسفلهم ويجعلون العصاة على الحديد ويحزون الرؤوس وبذلك كان يتمكن الباشاوات من توطيد سلطانهم على الرعايا وإلا أصبحوا عرضة للحرق والشنق. قال: ومن المحقق أنه ليس إلا طريقة الإرهاب والقوة التي(3/70)
تؤثر الأثر المطلوب في شعوب الشام وتردهم إلى الطاعة، وقد عرف إبراهيم باشا كيف يؤثر في الشاميين وذلك بأن استمال إليه قلوب أشرافهم وأعيانهم وألقى بينهم الشقاق ضمناً عند الاقتضاء، وبذلك تيسر له حكم هذه الإيالات ووضع ضرائب شديدة عليها ما كان القوم يتحملونها لو لم يكونوا من عناصر وأديان مختلفة، وكان شريف باشا حاكماً على الشام كله وتحت يده الحكام، وكان طماعاً في المال.
حكمنا على أنفسنا وعلى غيرنا:
هذا هو الإنصاف في الحكم على حكومة إبراهيم باشا وما هي في الحقيقة إلا روح محمد علي الكبير التي كان يستمد منه ابنه، ولا يصدر إلا عنه في الخطوب ولا يقطع أمراً دون الرجوع إلى رأيه، حتى جاءت أحكام المصريين نموذجاً في الإدارة، ولو عزمت الدولة العثمانية أن تستفيد من هذا الدرس لأرادت عمالها على تطبيق خطط إبراهيم باشا في الإصلاحات التي قام بها خلال التسع سنين التي قضاها في هذا القطر، ولكن العثمانيين ابتلوا بالإهمال والغرور، لا يعمدون إلى حسن الإدارة ويتظاهرون بالإحسان إلا يوم الشدائد، فإذا زالت عادوا إلى طبائعهم في إعنات الرعية وإلقاء الحبل على الغارب، ونسوا ما أعطوا من عهود، وما وضعوا من القوانين. وهذا ما دعا إلى ظهور الفروق الكثيرة بين الإدارتين
المصرية والعثمانية بعد رحيل جيش إبراهيم باشا عن هذه الديار، وهو الجلاء الذي اقتضته الدول الكبرى بل الدولة البريطانية التي حملت الدول على موافقتها على رأيها لآمال لها تريد تحقيقها في مصر والشام، لتكون هي الحاكمة المتحكمة في مصالحها لا الدولة المصرية الفتية التي تحب فرنسا وتساهمها سياستها أحياناً. وما مصر والشام إلا طريق الهند الأقرب، بل مفتاحها من البحر المتوسط، وإذا أردنا أن ننظر بعين المؤرخ المنصف نرى بريطانيا العظمى هي التي اقتضت سياستها القضاء على أماني محمد علي بل أماني العرب من إنشاء دولة عربية، كما أوجبت سياستها قبل ثلاثين سنة أن تدعو الدولة العثمانية إلى حرب الوهابيين في نجد والحجاز حرباً عواناً لأنه كان(3/71)
يخشى أن يؤسسوا أيضاً دولة عربية جديدة ربما كانت عثرة في سبيل أماني تلك الحكومة في شبه الجزيرة العربية.
ولو نظرنا إلى ما وقع لإبراهيم باشا في الشام لأول الفتح، لم نره إلا قتالاً مع العثمانيين أي قتال الجيش المصري مع الجيش العثماني، وإذا كان في الجيش الذي دافع عن عكا أو عن دمشق أو يوم حمص مثلاً أناس من الأكراد والهوارة فهؤلاء ليسوا شاميين وهم مستأجرون يحاربون مع كل من يعولهم ويرزقهم، على نحو ما وقع لإبراهيم باشا من هذه الفئة، أسرهم من صفوف الدولة ثم حولهم إلى صفوفه فأخذوا يقاتلون معه، ولم يلتو القصد على إبراهيم باشا إلا لما دخلت أصابع الأجانب، وأخذوا يثيرون عربان نابلس وسكان كسروان وجبال النصيرية ودروز لبنان ووادي التيم وجبل حوران وكل من عرفوا بالمضاء من سكان الجبال، وأما المدن والسواد الأعظم من الناس فقد استقبلوه وأخلصوا له وشعروا بحسن إدارته ولا سيما المسيحيون والاسرائيليون وكلهم أدركوا الفرق بين حكومته وحكومة الترك.
ولقد تجلى في وقائع محمد علي في الشام تجلياً لا مجال للريب فيه، أن اختلاف
المذاهب وتباين التربية، كان من العوامل القوية في إلقاء الفتنة بين أبناء هذا الوطن، وأن دول أوربا عند أغراضها تستحل بث بذور الشقاق بين المتآلفين، وتستخدم وسائل غريبة في تكدير صفاء الآمنين، وتعبث بعقول السّذّج المساكين، وأنها قلما اهتمت لمصلحة أمة من أمم الشرق، بل تهمها مصلحتها فقط، ولو كانت تريد الخير للشام لتركته يسعد ويرقى بحكم محمد علي الذي كان بإقرار رجالها من أرقى ما عهده القطر منذ قرون، ولعل أبناء الشام أيقنوا بخطإهم في الانتقاض على الحكومة المصرية وهي مثلهم عنصراً ولغة وعادات أنهم كانوا على ضلال في الحنين إلى حكم العثمانيين، وما كان من حقهم أن ينسوا في سنين قليلة كيف كان حكامهم يسارعون في الإثم والعدوان. وكان على الشاميين منذ عهد المصريين أن يدركوا أن الدولة دب فيها دبيب الفساد، وأن من العناء رياضة الهرم، وأن الهرم إذا نزل في الدول لا يرتفع.(3/72)
العهد العثماني من سنة 1256 إلى 1277
رجوع الشام إلى سالف بؤسها على العهد العثماني
وفتن الدروز والنصارى
أشبه الشام بعد الحكومة المصرية حال من كان في محنة مستديمة وشظف عيش، ثم حسنت حالته بان عُلّم النظام والسكون، ومتّع ببعض الراحة، وغذي بالأطايب، فتغيرت طبيعته، وتبدلت نفسيته، وبمحاولة إرجاعه إلى سابق مألوفه، عُدّ من يحاول ذلك جانياً عليه. وما كان يحلم أولاً بأن يستمتع بغير ما كان له، وبرجوعه سيرته الأولى تجلى له الفرق وتنغص عيشه.
تبين الفرق بين الإدارتين المصرية والعثمانية ولو طال عهد المصريين أكثر - وكانوا في صدد الفتح يتخوفون بادرة العثمانيين كل حين - لسعد القطر حقيقة وأيقن حتى من كانوا ينعمون من دماء الأمة على العهد العثماني أن طريقة المصريين في المساواة بين الطبقات والمذاهب المختلفة، والشدة في إنفاذ القوانين، وتقليد الغرب في كل أمر جوهري أفضل طريقة لراحة السكان، وكان يرجى أن يألفوا في مدة قصيرة ما تأصل في فطرهم على توالي القرون، وتعودوه من حكم أرباب الإقطاعات الذين صدهم المصريون عن تجارتهم الشائنة التي ألفوها زمن العثمانيين، وهي الاتجار بالجباية يجبونها أضعافاً، ويسلبون الباقي من الأمة بمرأى من الحكومة ومسمع.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
لم تكد تخلي الجنود المصرية أرض الشام حتى رجعت إلى حالتها القديمة وثارت العداوات في الصدور، وزادت الدسائس الأجنبية، وأخذت فرنسا(3/73)
تساعد الموارنة، وبريطانيا تعاون الدروز، فتعدى هؤلاء على الموارنة في سنة 1257 ودخلوا دير القمر وارتكبوا فيه الفظائع المنكرة، وزحفوا على زحلة بثمانية آلاف، وانتسب
القتال بينهم وبين أهلها، ومعهم أهل بعلبك، فانهزم الدروز شر هزيمة، ولولا تدخل الجيوش بشدة لامتدت الثورة. وانجلت حادثة دير القمر عن مائة وتسعة قتلى من النصارى وعدد كبير من الدروز قدره مشاقة بأكثر من خمسمائة لأنهم كانوا مهاجمين قال: ولما ظهر للنصارى غدر مشايخ الدروز بهم في هذه الحادثة نفروا منهم نفوراً تاماً، وطلبوا من الوزير حاكماً عليهم ورفع سلطة المشايخ عنهم فأجابهم إلى ذلك، لأن هذا ما كان يرغب فيه، ولولاه لما كان الأتراك يختمون عروض المحاضر طعناً على أمراء الجبل ويحضون أهله على الفتن.
عاملت الدولة العثمانية بعد عودتها إلى القطر كل من ساعدها على مقاصدها وخدمها أو تظاهر بخدمتها وتجسس لها زمن الحكومة المصرية المعاملة التي ترضيه، فرجع أرباب النفوذ والإقطاعات إلى سالف مجدهم، المبني على تقطيع أوصال الشعب والتغذي بلحمه. وأقامت بدلاً من الأمير بشير الشهابي الأمير بشير قاسم الشهابي حاكماً على لبنان. وكان دون سلفه إدارة ومعرفة، وأقصت الأمراء الشهابيين عن وادي التيم، وأقامت شبلي العريان متسلماً لها لأنه خدم أتراك في حرب المصريين، نزع من النصارى سلاحهم وقدم للدروز باروداً وذخائر، وكان يرى سلب القرى المسيحية وإحراقها من عوامل الخدمة لطائفته ودولته.
ولم يكن من مصلحة الدولة أن تسود الألفة بين الطوائف، وأن يتعامل أهل الوطن الواحد بالحسنى، فكان أكثر رجالها يوقدون جذوة التعصب الديني ويساعدون الدروز على النصارى في لبنان، حتى يتيسر للدولة أن تنزع الحكم من أرباب الإقطاعات وتقيم له والياً كما لطرابلس وصيدا والقدس وحلب ودمشق، ولذلك كثرت الفتن والمناوشات بين النصارى والدروز، فأثار الأمير قاسم الشهابي الدروز على الموارنة 1841م فقتلوهم ونهبوهم فتدخلت الدولة وعزلت الأمير قاسماً الشهابي لتقيم مكانه والياً عثمانياً، نصبت عمر باشا النمساوي ثم عزلته،
وجعل الجبل قائم مقاميتين الأولى نصرانية والثانية(3/74)
درزية، فلم ترتض الطائفتان ذلك، وأصبحت الأولى بيد فرنسا والثانية بيد إنكلترا، واختل الأمن في أرجاء الشام لمحاولة الدولة نزع السلاح من فئة أو أهل ناحية وإبقاءه في أيدي آخرين.
كتب قنصل إنكلترا في دمشق سنة 1841م 1257هـ إلى نجيب باشا كتاباً قال له فيه: إذا كانت الحكومة ترغب حقيقة في استتباب الأمن ففي وسعها أن تبدأ بإظهار حسن نيتها فتمنع تخريب القرى وتدمير أماكن العبادة الكائنة على بضع خطوات من دمشق. إن نزع السلاح من يد الشاميين عامة أمر مرغوب فيه لو تسنى إتمامه دون التخوف من حدوث ثورة عامة، بيد أنا رأينا هذه الوسيلة مقصورة على نصارى لبنان الغربي ولبنان الشرقي، على حين سمح لسائر أتباع السلطنة بحفظ أسلحتهم، ومع ذلك لا ينبغي أن يغرب عن البال أن الباب العالي اعترف بصدق رعاياه النصارى وأمانتهم في هذه الأرجاء إذ لجأ إليهم قبل الجميع فوزع عليهم أسلحة لطرد عدو الطرفين يريد إبراهيم باشا المصري كما أن احتلال جنود حضرة السلطان الآن للشام هو نتيجة مساعدة اللبنانيين.
فتن أهلية في الجبال والمدن:
وفي سنة 1842 قبض عمر باشا النمساوي على زعماء الدروز فاجتمع أتباعهم وهجموا على سراي بيت الدين وكان هناك فتهددهم، وحضر شبلي العريان بجنده المنظم واجتمع في الطريق بفرقة من الأرناؤد قادمة إلى عمر باشا ليرسلها لتأديب الدروز فوقعت بين الفريقين موقعة فهزمهم جند عمر باشا في أقل من ساعة.
وظلت مراجل الأحقاد في لبنان تغلي والحكومة تجهل أو تتجاهل السبيل لقطع شأفة الفتن من الجبل وغيره من الأصقاع الشامية. وقد عينت سنة 1260هـ رجلاً لجباية الأموال الأميرية من جبل النصيرية ومطاردة بعض الأشقياء، فلما بلغ ناحية البهلولية طلب مقدمي الكلبية ورؤساءهم فأرسلوا إليه رجلين وهما إسماعيل
عثمان وحبيب مخلوف فأرسلهما في الحال إلى اللاذقية مقيدين وأخذ في تعذيبهما، وانتهى الخبر إلى الجبل فتجمع نحو خمسمائة رجل من أهله(3/75)
ومضوا إلى اللاذقية وهاجموا دار الحكومة وكسروا السجن وأخذوا السجينين ومن معهما من المأمورين، فصدر الأمر بأن يجهز الجند الذي كان معه مع جميع الأهالي النازلين بين أنطاكية وصافيتا، فتألف منهم جيش عسكر في القرداحة، فأرسل النصيرية بعض نسائهم إلى القائد يحملن أعلام الأمان ويطلبن العفو، وأن يضمن لهن سلامة الأنفس والأموال والعيال، فأبى إلا إنزال العقوبة بالثائرين، وكان عددهم نحو ستمائة، وعدد العسكر النظامي والمقتلة من الأهلين نحو عشرين ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً، وكان في قرية المران شيخ من أهل الدين والصلاح يعتمد العلويون عليه وكان يعرف علم الفلك فأخذ الطالع كما جاء في مصدر علوي وقال لهم: إنه لن يفقد منهم إلا رجل يصاب برجله ولا يموت وسألوه عن موعد الهجوم فقال: غداً الظهر فنزلت الطمأنينة على قلوب الثائرين خصوصاً وقد وعدهم أنهم لا يصابون بأذى، ولما حان وقت الظهر تجمهر الثائرون وانقسموا ثلاث فرق وهاجموا العسكر، ودارت الدائرة على الجيش وقتل القائد وهلك من عسكره على ما قيل نحو ألفي رجل وغنم النصيرية جميع الذخائر، فأرسلت الحكومة على الثائرين وفداً يدعوهم إلى الطاعة بصورة لطيفة ويضمن لهم سلامتهم فأطاعوا وسلموا الذخائر بأسرها إلى الحكومة.
وفي سنة 1261 قام الدروز ثانية في لبنان وقتلوا النصارى واستمرت الفتن إلى سنة 1277. وفي سنة 1845 أرسل والي دمشق إلى دروز حاصبيا يحضهم، على رواية مشاقة، على قتل النصارى ويمدهم بالسلاح والذخيرة، وأوعز إلى دروز حوران أن يقدموا لمساعدتهم، وسأل مثل ذلك مسلمي البقاع فهرب نصارى حاصبيا قبل الإيقاع بهم. فانقض عليهم الدروز في جهات راشيا وفتكوا بمعظمهم
وتشتتوا في تلك الأرجاء ومنهم من سلم وجاء زحلة، ومنهم من عاد إلى حاصبيا، ومنهم من قتل، وعينت الحكومة أحد أمراء الشهابين حاكماً على حاصبيا لكنها لم تسمح له بمعاقبة المعتدين وزعماء هذه الفتنة.
وفي غرة محرم سنة 1267 وقعت فتنة بحلب سرت إلى حي باب النيرب وهي قرلق وبانقوسا فنهبت أحياء النصارى وأحرقت ثلاث كنائس ودام النهب ثلاثة أيام، ثم قام الأهالي على الوالي وطلبوا منه رفع الفردة والنظام(3/76)
فامتنع من ذلك فضربه الأوباش، ثم انكسر سكان الحارات وانتشر الحريق في الأحياء المذكورة والنهب والقتل فقتل من الحلبيين نحو خمسمائة رجل كلهم من الرعاع ومن العسكر نحو ذلك وقبض على مثل هذا المقدار من الناس، ثم بحثوا عن أمتعة النصارى المسلوبة فأرجع إليهم غالب ما نهب منهم.
وفي هذه السنة عصى محمد الحرفوش أمير بعلبك وجمع عسكراً من بعلبك وإقليم البلان، فأرسلت عليه الدولة قوة بقيادة مصطفى باشا فانهزم أمامه إلى قرية معلولا وتحصن بها مع اخوته وأولاد عمه فحصرهم الجنود إلى أن دخلوا عليهم بدلالة أهل القرية، فأسر الأمير محمد وطوق القائد العثماني بعلبك بثلاثة آلاف جندي فاستسلم أمراؤها فقبض عليهم وأرسلهم إلى دمشق فنفوا إلى كريت، وقضى بذلك على عامل من عوامل حكومة الإقطاعات.
وفي نكبات الشام أن الحروب الأهلية التي حدثت في دير القمر وزحلة وغيرهما من الأنحاء سنة 1848 1265 انتهت بقتل ثلاثة آلاف رجل من النصارى قتلوا في لبنان والبقاع وبعضهم في المدن ونحو أربعمائة رجل من الدروز ولولا محاربة الدروز النصارى بالخيانة ومساعدة الحكومة لهم في كل مكان على نزع السلاح لكثر عدد القتلى وزاد على هذا القدر، وأما الخسائر المالية فلم تقدر في ذلك الحين.
وفي سنة 1268 امتنع دروز حوران من دفع الخراج فندبت الحكومة لإخضاعهم والي دمشق محمد باشا القبرصي بفرقة من الجند فوقعت بينه وبينهم معركة دامت بضع ساعات فانهزم والي دمشق ووضع الدروز أيديهم على مهمات الجند والمدافع، ثم توسط قنصل بريطانيا فأرجع الدروز مسلوبات العسكر، وتعرف هذه الوقعة بوقعة صاري عسكر سر عسكر انتهت سنة 1269.
حرب القريم منشؤها في الشام وكوائن درزية
ونصيرية:
وفي سنة 1268 حدثت في القدس وبيت لحم أمور تألفت منها الأسباب لنشوب الحرب العظمى بين الدولة العثمانية وروسيا وهي الحرب المعروفة بحرب القريم 1270 وذلك لاختلافات قديمة بين الروم واللاتين بسبب كنيسة(3/77)
القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم. ادعت كل من الطائفتين حق الريسة والتقدم على الأخرى باستلام مفاتيحها، وكانت روسيا طمعت في الشرق وقامت تطالب بحماية الروم الأرثوذكس أبناء مذهبها كما ادعت فرنسا حق المطالبة بحماية موارنة لبنان والطوائف البابوية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحاولت الدولة أن تغفل عن مطالبة قيصر روسيا، فاتخذ من ذلك حجة وقام يريد إنفاذ وصية بطرس الأكبر القاضية بافتتاح الأرض العثمانية والاستيلاء على الأستانة.
هجم الأسطول الروسي في البحر الأسود على الأسطول العثماني وحطمه، فنشبت الحرب بين الروس والعثمانيين وانتصر الروس وكادوا يبلغون الأستانة، فأرسلت إنكلترا وفرنسا جيشاً وأساطيل إلى أرجاء البحر الأسود، وقاتلت الروس وانتصروا عليهم في سواستبول، وكذلك بعثت ساردينيا فرقاً من الجند الإيطالي، دفع الدول إلى ذلك أمر غير حب المحافظة على الدولة العثمانية، وهو الخوف من خروج
روسيا إلى البحر المتوسط وبخروجها خطر على أوربا بل خطر على بريطانيا العظمى وطريق هندها، وبعد حرب ثلاث سنين 1856 ظفرت الدولة مع الدول الأخرى بالروس ودفعت بريطانيا نفقات الحرب، وحصلت الدولة الروسية على مطاليبها وامتيازاتها، ومن شروط المعاهدة ضمان استقلال المملكة العثمانية وسلامتها، والحظر على أية دولة أن تدخل في شؤون تركيا الداخلية ومساواة النصارى مع المسلمين في الحقوق. ولما رأى رجال الدولة أن الطريقة البالية القديمة في إدارة الملك العثماني تودي بها لا محالة أقنعوا السلطان بنشر الخط الهمايوني وبه قبلت الدولة 1856 في عداد الدول الأوربية فكان هذا العامل النافع من نتائج حرب القريم، وبان للدولة وجه خطأها في اعتزالها السياسة الدولية.
وفي سنة 1273 وقعت فتنة بين الدروز والحوارنة في اللجاة فاز فيها الدروز وفي سنة 1275 1858 قهرت الدولة النصيرية بقهر زعيمهم إسماعيل هواش وجردتهم من كل رعاية وخصوصية، والسبب في هذه الفتنة أن طائفة الكلبية عصت أوامر الحكومة فأرسلت هذه خمسمائة فارس ضربت قرى الساحل، واتصلت الأخبار بالنصيرية فهاجموا الجند وقتلوا منهم فجهزت الحكومة بعد أيام عسكراً عظيماً وهاجمت الطائفة وجعلت قوة لها في الساحل وزحف النصيرية ولم يلبثوا(3/78)
أن أحاطت بهم العساكر من كل جهة فدافع النصيرية حتى فقدوا خمسة وعشرين رجلاً وفي اليوم التالي التحم القتال ودامت المناوشات والمقاومات أربع سنين حتى أرسلت الدولة عسكراً جراراً، وندبت كامل باشا لإجراء الصلح بين الدولة والنصيرية فتم ذلك على يده.
مبدأ المذابح المعروفة بحادثة سنة الستين وحادثة
بيت مري ودير القمر:
استطال النصارى بعد حرب القريم، ولا سيما في لبنان، وأخذت الدولة تثير الدروز على النصارى على ما يؤكده الغربيون والنصارى، وبقيت الحوادث تتوالى والأصابع العثمانية والأجنبية تعبث بعقول المغفلين، وكانت الثورات على ما في تاريخ زحلة تتوالى والخصام يزداد اتساعاً، وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جر الويل وإهراق الدماء، وكان ذلك من أهم ذرائع التنافس والتنابذ بين المسيحيين والدروز، وكأن البلاد ألفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمانية واليزبكية والجنبلاطية والمعلوفية والمكارمية والزحلية والقنطارية، ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية، فكانت الأخيرة أشر من الأولى، وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير لمعاضدتهم لهما.
بدأت الفتنة العظمى بهجوم شراذم من الدروز على قرية بيت مري في لبنان يوم 30 آب 1859 فانهزم الدروز وأحرقوا ثلاث قرى مسيحية وقتل بعض رجالها، وفي الربيع التالي بدأت الدروز تفد على المختارة مركز آل جنبلاط كبار مشايخ الدروز. قال مشاقة: وفي شهر نيسان من تلك السنة ورد أمر إلى خورشيد باشا من السلطان بإهلاك النصارى عن آخرهم وإطلاق أيدي الأوباش، فألح خورشيد باشا على سعيد بك جنبلاط أن يصدع بالأمر فأوعز إلى رجاله بالهجوم على النصارى، فقتل الدروز بضعة عشر منهم في الطرق، ثم وقعت مناوشة في دير القمر وأرغم طاهر باشا قائد الحامية في دير القمر نصارى الدير على تسليم سلاحهم له، وبعد أن جمع سلاح النصارى سمح للدروز(3/79)
بالهجوم على المدينة فسالت الدماء أنهاراً ثلاثة أيام، ولم ينج من النصارى إلا عدد قليل، ثم أحرقوا المساكن وارتكبت الجنود التركية مع النساء على عادتها ما ارتكبت، وبلغ عدد قتلى الدير على رواية مشاقة ما يقرب ألفي نفس من الرجال البالغين والنساء
والأطفال ثم أعمل الدروز سيوفهم في أهل جزين. فحوادث الشام سنة 1860 بدأت إذاً ببيت مري في السنة الماضية وثنت بدير القمر ومن هناك انتشرت في الأطراف.
مذابح حاصبيا وراشيا ورأي إنكليزيين في أصل
المذابح:
طلب والي دمشق الخراج المتأخر من دروز حاصبيا وعين أحد الشهابيين في فرقة من العساكر لشد أزره، فتألب دروز وادي التيم وإقليم البلان على الشهابي في حاصبيا وهاجموها ولم يلاقوا مقاومة شديدة من النصارى لقلة عددهم وكان عدد القتلى متساوياً بين الفريقين ثم نزع من النصارى سلاحهم، وأخذ الدروز يفتكون بهم ويحرقون مساكنهم، ثم تنحى العسكر التركي وترك الدروز وشأنهم مع النصارى فقتلوا منهم 724 رجلاً وقتل من الدروز والأتراك أربعون. وفي اليوم الذي جرت فيه مذبحة حاصبيا باغت دروز حوران نصارى راشيا الوادي في بيوتهم وفي السراي على مرأى من الجنود التركية وبمساعدتهم أجهزوا على جموعهم وقتلوهم مع أمراء الشهابيين ولم ينج منهم سوى أميرين ثم نهبوا بيوتهم، وبلغ عدد قتلى راشيا الوادي خمسمائة رجل وطفل وامرأة. وهاجم دروز حوران بقيادة إسماعيل الأطرش مدينة زحلة فردهم أهلها مراراً، وطال القتال يومين فاضطر الدروز إلى الرجوع عنها، ثم عاد الدروز ومعهم الجند العثماني وأحرقوا جانباً من المدينة وأخذ الجند يرتكب الفاحشة واغتصبوا الراهبات ونهبوا الكنائس والأديار، فلم يبق لدى قناصل الدول شك في أن الدولة العثمانية تريد هذه المذابح وتدبرها حتى لا تطالبها الدول بحماية النصارى وتجد سبيلاً إلى مراقبة أعمالهم الجزئية والكلية مما يسقط من منزلتها، وقد هلك من الزحليين نحو مائة إنسان
لأنهم لم يمكنوا الدولة من إدخال جندها إلى بلدهم. وإسماعيل الأطرش هذا قتل يوم جاء لمعاونة أبناء مذهبه في وقعتي(3/80)
راشيا وزحلة 135 نصرانياً التجئوا من إقليم البلان إلى شيخ قرية كناكر. قال اللورد دوفرين: لم يبق أدنى ريب يحول دون نسبة المذابح الأخيرة وجميع الحروب والاضطرابات والمنازعات التي انتابت لبنان في مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة إلى استياء الحكومة العثمانية من الاستقلال النوعي الممنوح للجبل، فجعلت مرمى سياستها أن تبرهن على أنه يتعذر العمل بطريقة الحكم التي منحتها الدول لبنان في سنة 1845، ولهذا كان الأتراك يغتنمون الفرصة لإثارة دفائن الأحقاد القديمة بين الدروز والموارنة، ولما ازداد تعجرف المسيحيين وتعصبهم بقوة المساعدات الأجنبية التي فازوا بها، ثقل على الأتراك احتمال وطأة استقلالهم، فعقدوا العزم على اتخاذ الدروز آلة ليوقعوا بهم ويضربوهم ضربة أشد إيلاماً مما تقدمها، بيد أن ما حدث في حاصبيا وراشيا ودير القمر قد جاء مجاوزاً الحد المنوي لعدم توفر شروط اللباقة في خورشيد باشا وأعوانه لإنفاذ سياسة دهاء كهذه، فأفرطوا فيها بحيث افتضح سر سياستهم وكان له دوي هائل في الأندية الأوربية.
وقال أيضاً: لما زرت هذه الأصقاع لبنان قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين، فالدروز كانوا مستعدين للقتال، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد دنت ساعة فوزهم، كما أن دخل الجمارك يثبت أن قد أدخل إلى لبنان من كانون الثاني 1857 إلى ربيع 1860 أكثر من 120 ألف بندقية و20 ألف مسدس وكان من المشتهر انصراف المطران طوبيا وشركائه إلى إيقاظ الفتنة. إلى أن يقول فمن العبث وصف النصارى بأنهم شهداء قديسون فهم يضاهون جيرانهم الدروز في حروبهم همجية وظمأ إلى الدماء، وكثيراً ما كانوا يقتتلون بعضهم مع بعض ولا يعفون عن النساء. يؤيد ذلك ارتكابهم الفظائع مع
المشايخ الخازنيين منذ سنتين، ومثل هذه المعايب كثيرة في تاريخهم، بيد أن الدروز هم من هذا القبيل أكثر شفقة من غيرهم فلا يقتلون بعضهم مع بعض ويحترمون النساء، وعليه فمن الخطأ وصف القتال الذي جرى بين الدروز والموارنة بمثابة اعتداء وثنيين برابرة على أتباع دين المسيح الودعاء، بل هو نتيجة تباغض طائفتين متساويتين في(3/81)
الهمجية، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حقنهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم.
وقال قنصل إنكلترا في دمشق على ذاك العهد: لقد بقي من كل ما رتبه المصريون شيء واحد سالما وهو عتق النصارى من رقهم على أن هذا ربما يصير عاملاً جديداً لاستئناف الاضطرابات لضعف الإدارة العثمانية وظلمها، والظلم يدفع إلى المقاومة والضعف يزيد في التمرد، والسكان يؤلفون من طوائف مختلفة المذاهب معادية للسنة ومن طوائف نصرانية متعصبة يعادي بعضها بعضاً، والحكومة عاجزة عن بسط سيطرتها على الجميع ولهذا أمست مضطرة إلى إثارة طائفة عن أُخرى بإيقاد جذوة التحاسد والبغضاء بينها، وبمثل هذه المسائل تتمكن من حفظ بعض السيطرة لنفسها، بيد أنها تخسر ثقة الرعايا بها وتعكر كأس الوئام بين العناصر المختلفة، فتحول دون كل تقدم ونجاح.
مذابح دمشق ورأي الغريب والوطني في تعليلها:
وبعد هذه النصوص المعتبرة لم يبق شك في أن الدولة هي التي وضعت الخطة العوجاء لذبح النصارى ليتيسر لها أن تمتلكهم وتضعف من غلواء المسلمين أيضاً شأنها في معظم أحوالها في كل بلد نزلته. والموارنة كالدروز لا يخلون من المؤاخذة الشديدة، اغتر كل فريق بمن كان يزين له الشر ويحسن له العاقبة بعد
ارتكابه فأتمر بما أُمر به، فكان ذلك وبالاً عليه وعلى جاره، ولم يخسر الدافع لهما شيئاً. وما كان يخطر بالبال أن هذه الشرارة تسري إلى دمشق مدينة التسامح واللطف ويقوم رعايا المسلمين بمعاونة الدروز يؤذون من أُمروا بالإحسان إليهم بعد أن عاشوا وإياهم ثلاثة عشر ثرنا في صفاء وهناء.
ويؤخذ مما قاله مشاقة أن مذبحة دمشق لا علاقة لها بحوادث لبنان على ما قيل ولا تعزى لها الأسباب التي عزيت لتلك، ولأن من أسبابها الأولية عبث النصارى بالشريعة التي أحدثتها الدولة على أثر حرب القريم مكرهة من دولة(3/82)
الروس، وهي مساواة الرعايا بالحقوق المدنية، وإعفاء النصارى من الخدمة العسكرية، وقيل: إن الدواة رغبت في وضع الشريعة التي يقال عنها المساواة وهي ليست على شيء منه لتثير خواطر شعبها على النصارى وتجعل لهم سبيلاً إلى بغضهم ومقتهم، ولو كان النصارى وقتئذ على شيء من الحكمة لرفضوا إعفاءهم من الخدمة العسكرية التي جردتهم من الوطنية، وأبكمت لسانهم عن المطالبة بحقوقهم. قال: وكان مسلمو دمشق عامة وسورية خاصة يسفهون عمل الدولة التركية الذي قامت به مضطرة عقب حرب القريم، وكثر تذمر المسلمين من الدولة مع التقريع، فأجابتهم أنها لم تفعل ذلك إلا مضطرة، وبلغ من حقد المتعصبين أنهم تآمروا وألفوا الجمعيات السرية يطلبون بها خلع الدولة التركية وإبدالها بدولة تعيد مجد الإسلام ولا تخضع لأهل النصرانية وبلغ الأتراك أمرهم فأوغروا صدورهم على النصارى ليلهوهم ويتخلصوا من شرهم.
وبعد أن فصل هجوم النصارى على مطران الروم بدمشق يريدونه على أن يرفع عنهم حيف الحكومة، وطلبها بدل الخدمة العسكرية منهم، وذكر كيف عرض المطران على الوالي بأن النصارى تجمهروا جمهرة العصاة وأرادوا الإيقاع به، قال: إن الوالي لم يشأ أن يردع النصارى رأساً وأناط بتأديبهم رعاع المسلمين
الذين كانت الحكومة تخشى بطشهم، ولا تتجاسر على مطالبتهم بدفع الضرائب، وكانت الحكومة غير راضية عنهم لفتكهم ببعض وزرائها وامتناعهم عن إجابة مطالبها. ورغبة أحمد باشا والي دمشق بإثارتهم على النصارى كي يتخلص منهم أو من بعضهم فيقل عددهم وتضعف شوكتهم ويصبح إخضاعهم لأوامر الحكومة مكفولاً فيرد عن دولته الخطر الذي كان يتهددها به مسلمو دمشق وقد جاهروا بخلع دولة الأتراك عنهم وراسلوا دولة مصر لتأتي لنجدتهم ولم يفلحوا.
فرأى والي دمشق للوصول إلى هذا الغرض أن ينصب المدافع على أبواب الجامع الأموي وقاية للمسلمين الداخلين إليه في أوقات الصلاة من غدر النصارى! وأمر في عصر اليوم التاسع من تموز 1860 بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهاباً للثوار من المسلمين والدروز معاً، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الخفر وبطشوا به وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد، فهجم الأوباش على(3/83)
المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم، قتلوا الرجال، وسبوا العيال، وهتكوا الأعراض، وراحوا بالعروض والأموال، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين.
وذكر برانت قنصل بريطانيا أن السبب الرئيسي في إيقاد جذوة الفتنة أن أولاد المسلمين أخذوا يرسمون صورة الصليب في الطرقات ويدرسونها ويهينون المسيحيين المارين، فقبض عليهم التفكجي باشي وقيدهم بالسلاسل وأكرههم على تكنيس الطرق، فهجمت الغوغاء وأنقذتهم فاشتعلت الفتنة. قال: وعندي أن أحمد باشا مخطئ في ضعفه مع مجلسه، وعدم اتخاذه الاحتياطات التي أشير عليه بها غير مرة، وإصراره على إبقاء رئيس التفكجية في مركزه، مع اشتهاره بعدم الكفاية رغما عن تحذير عدة أشخاص من جميع الطبقات منه قبل إيقاظ الفتنة بعدة أسابيع، وإهماله إنقاذ مسيحي حاصبيا وراشيا نكثاً بوعوده لما أخبر بالخطر
المحدق بهم، وتقاعده عن استدراك مهاجمة زحلة وقلة اكتراثه بذبح الدروز النصارى إن لم نقل بتواطئه، وهو القائل، على ما روي، إنه يوجد في سورية آفتان كبيرتان هما المسيحيون والدروز فكلما ذبح أحدهما الآخر استفادت الحكومة العثمانية. وإن خطر حمل السلاح على النصارى والسماح به للمسلمين والدروز لا يمكن تأويله إلا بأن حكومة تلك الأيام كانت لا تهتم لفتنة تحدث أو أنها تود إحداثها أو لا تجسر أن تعامل الجميع بالسوية. وقال الماجور فرازر إن فؤاد باشا قال له: إن الدمشقيين يكرهون الأتراك، وأن من الضروري إلقاء الرعب في قلوبهم توطيداً لأركان الحكم العثماني فيتجنبون ركوب متن الفتنة.
وقد علل مشاقة سبب فتنة دمشق تعليلاً مقبولاً فقال: إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل لها أسباب خصوصية نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم، فلما وضعفت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع الكبير ولا للوضيع أن يحترم الرفيع، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية، وأن من الواجب حفظ اعتبار(3/84)
أهل الاعتبار بالدرجة اللائقة بهم من أية طائفة كانوا خصوصاً النصارى نحو المسلمين، وعليهم أن يعرفوا بأن كبراء البلاد ومعتبريها هم منهم، والسلطنَةَ مع وزرائها وعسكرها وجميع عظمائها من المسلمين، وأن النصارى غي سورية هم الجزء الأصغر والأضعف في كل شيء، بل الوجوه يجب على المسيحيين تقديم الاحترام الوافر نحو المسلمين، والطاعة التامة لأولياء الأمور فيما يرسمونه لهم 1هـ.
-
ضحايا مذابح دمشق وتخريبها:
قدّر قنصل الإنكليز عدد من ذبحوا من نصارى دمشق بزهاء 3500 نسمة، والغرباء الذي لجئوا إلى المدينة طلباً للنجاة نحو 2000 نسمة. وقال لورتيه: إن عدد من هلك من النصارى في فتن لبنان وحوادث دمشق بلغ اثني عشر ألفاً، وأن في دير القمر وحدها تربة بناها أبناء وطنه فيها ستة آلاف من الهالكين وهو عدد فيه نظر. وقد قتل بعض النصارى في محال منفردة مثل نصارى جباع من عمل صيدا، فإن الدروز انقضوا عليها وحرقوا بيوتهم ونهبوا القرى، وأن مائتين وخمسين نسمة من جزين كانوا في الغابات فطاردهم الدروز من محل إلى آخر وقتلوا بعضهم، ولم يصل منهم إلى قرب صيدا إلا خمسة عشر رجلاً فقط. وحرقت ميمس والكفير من عمل حاصبيا وهلك فيهما مائة وعشرون نصرانياً، وخربت ثمان قرى للنصارى في البقاع وحرقت، وقتل من بقي فيها من الشيوخ والأحداث بينهم النساء والأطفال واعتدي على العذارى، وشوهدت من بيروت ثنتان وثلاثون قرية تحترق وذلك يوم 28 و29 أيار وأمست بعض البلدان الزاهرة في لبنان مهجورة.
وقال كراهام: إن ستين قرية وبلدة في لبنان قد دمرت وأصبح هذا الجبل بلقعاً ويتعذر معرفة عدد النصارى الذين قتلوا في مذابح جبل لبنان، فالتخمينات متباينة ويقدر بعضهم القتلى بأربعة آلاف وآخرون بعشرة، وهذا العدد الأخير مبالغ فيه كثيراً. قال وأرجح أنه لا يتجاوز الأربعة آلاف، فقد جمعت عدة أنباء موثوق بها وعارضتها بعضها على بعض فتبين لي أن عدد القتلى في دير قمر(3/85)
يختلف بين 1100 إلى 1200 وفي حاصبيا وراشيا 700 وفي صيدا 550 وإذا أضفنا إليها 200 لاجئ قتلوا في 30 و31 أيار في جوار بيروت وألف نصراني ذبحوا في بيوتهم على ما أرجح فلا اعتقد أن عدد القتلى يتجاوز 3500 ذكر، وفقدهم يحرم القطر أيدي عاملة كان يتوقف عليها نجاحها.
وزعم لنورمان أنه يريد أن يكتب تاريخاً لا رواية خيالية، ولكنه كان إلى المبالغة واستعمال أساليب الخطابة والخيال، ومع هذا ننقل بعض ما ذكره مما عساه قد فاتنا تفصيله. أما المبالغات في الأرقام فمما نكله إلى فطنة القارئ يردها ببصيرته لأن قناصل الوقت في هذه الديار أصدق قليلا، ورواياتهم أقرب إلى الصحة والسداد خصوصاً من لم يكن لدولهم رأي خاص إلا الحقيقة. فقد ذكر لنورمان أن ستين قرية في الغرب والمتن أصبحت في ثلاثة أيام خراباً يباباً، وأنه قتل في مقبرة صيدا مائة واثنان وعشرون رجلاً وقتل الضبطية 17 شخصاً على أبواب صيدا، وأن ألفاً ومائتي نصراني اختبئوا في غابة على أربعة فراسخ من صيدا فأحرقها الدروز والمسلمون فلم ينج منهم إنسان وهلكوا ذبحاً وحرقاً، وأنه قتل في دير المخلص على مقربة من صيدا مائة وخمسون راهباً وأخاً، عدا ما سلب منه من العروض والأموال التي جاء بها سكان الجوار وأودعوها الدير لأنه كان محترماً من الناس كافة قبل هذه الحوادث، وأنه قتل في حاصبيا تسعمائة وخمسة وسبعون مسيحياً لم ينج منهم إنسان، وقتل من أمراء الشهابيين في وادي التيم أحد وثلاثون رجلاً ولم ينج منهم سوى ثلاثة لأن ضلعهم كان مع فرنسا، وأنه أحرقت في أرجاء حاصبيا قريتا الكفير وشويا وفي عمل راشيا قرى بيت لهيا وكفر مشكة وعيحا وحرقت حاصبيا كراشيا كلها، ولما جاء جيش الاحتلال الفرنسي في شهر أيلول سنة 1860 إلى زحلة رأى نحو ستمائة جثة من جثث الدروز ملقاة على الأرض إلى جانب جثث قتلى النصارى، وأن المدينة خربت ولم يحدث فيها قتل إلا في دير اليسوعية والباقي من أهلها هلكوا في الدفاع عن بلدهم وأنه قتل في دير القمر 2200 إنسان وأن ثلاثمائة إنسان كانوا مختبئين في دار فلما جاء خورشيد باشا قائد بيروت قتلهم عن آخرهم، وأن مسلمي بيروت وفي مقدمتهم عمر بيهم أعظم تجار تلك المدينة فتحوا بيوتهم للاجئين إليهم من المسيحيين،
وأخذوا يوزعون عليهم الأطعمة(3/86)
وحالوا بحكمتهم دون تدخل الرعاع من أبناء طائفتهم في الأمر فخففوا من غلوائهم.
وذكر أن عدد الهالكين من 30 أيار إلى 20 حزيران في لبنان وسورية المجوفة كان أربعمائة إنسان في المتن والغرب وجوار بيروت، وألفاً وثمانمائة في صيدا وجزين والكور المجاورة، وألفين وخمسمائة في قضاءي حاصبيا وراشيا، ومائتين وخمسين في زحلة، وألفين ومائتين في دير القمر ومائة وواحداً وعشرين في بيت الدين، وخمسمائة في بعلبك أي 7771 شخصا من الرجال والنساء والأطفال، وأنه خربت 360 قرية وهدمت 560 كنيسة، وحرق 42 ديرا، وهدمت 28 مدرسة كان فيها 1830 تلميذا، وخسرت الأقاليم التي وقعت فيها الفتن جميع محاصيلها السنوية، وقدر مجموع ما فقد من أموال النصارى وعروضهم بخمسة وتسعين مليون فرنك يدخل فيها أربعة ملايين قيمة تعطيل التجار عن أعمالهم مدة شهرين.
أما بشأن دمشق فقد أغرق في التقدير أيضا فقال: إن الحريق والنهب والقتل دام خمسة أيام من اليوم التاسع من تموز إلى اليوم الثالث عشر قتل في خلالها 8500 مسيحي ودمرت 3800 دار، وقدرت الخسائر بمائة مليون فرنك، ثم قدر عدد من هلكوا من النصارى بالأمراض والقلة بعد المذابح بثلاثين ألف نسمة! وقال: إذا أضفنا هذا العدد إلى من نكبوا في هذه المذابح بلغ من هلك في دمشق ولبنان 46300 إنسان خلال سنة واحدة بتعصب المسلمين والدروز. قلنا وجميع التقديرات تثبت أن القتلى ومن هلكوا بسبب مصائب تلك الفتنة والأمراض لا يتجاوزون ربع ما قدره صاحب كتاب مذابح الشام على أن هذا العدد لا يستهان به أيضا.
عمل الدولة والدول عقبى الحوادث:
ولما ترامت هذه الأخبار المشؤومة إلى الغرب أرسلت الدولة أحد كبار وزراء ذاك الوقت فؤاد باشا لإنزال العقوبة بالفاعلين من المسلمين والدروز، وأرسلت فرنسا عشرة آلاف جندي للمحافظة ومنع التعدي وكذلك باقي الدول(3/87)
الأوربية، منها من أرسل مراكب حربية، ومنها من أرسل نوابا لإصلاح الحال. وخيم جند فرنسا في البقاع تسعة أشهر وظلت السفن الأجنبية راسية في موانئ الشام وعددها عشرون بارجة، وعقد في بيروت مؤتمر دولي مؤلف من وكلاء الدول الخمس إنكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، وضع أساس نظام جديد للبنان أقره السلطان عبد المجيد ووافقت الدول عليه 1861 1277 ثم عدل هذا النظام سنة 1281 واشتركت به دولة إيطاليا مع الدول السابق ذكرها.
أعاد فؤاد باشا الأمن إلى نصابه ونفى بعض الأعيان من دمشق لأنهم لم يحولوا دون الأشقياء والسفلة وما أتوا من المنكرات، وقتل 111 مسلما رشقا بالرصاص وشنق 56 ونفي 145 وحكم بالأشغال الشاقة على 186 استخدموا في إنشاء الطرق وقضى غيابا بالقتل على 183 وفي عداد الذين قتلوا 18 شخصا من كبار الأسر وأناس ذوو وجاهة، وسمح للنصارى الذين دانوا بالإسلام كرها أن يعودوا إلى دينهم وعددهم خمسمائة، وأخليت ثلاث حارات في دمشق لسكنى النصارى، وجنّد ثلاثة آلاف جندي من هذه المدينة وجعل البدل العسكري مائتي ليرة، وأرسل زهاء ألف رجل للنفي والسجن إلى الأستانة وغيرها، وقتل والي دمشق المشير أحمد باشا رميا بالرصاص لتساهله في إطفاء الفتنة وقال هذا يوم قتل: إني مظلوم وسماه الأتراك بالشهيد، وكان من عظماء الدولة تربى تربية عالية في مدارس الغرب. وقيل: إن فؤاد باشا عجل بقتله مخافة أن تشيع الأوامر التي وردت إليه من الأستانة ونفذها، وأنه لذلك بادر بأخذ حقيبة أوراقه منه ساعة اجتماعه به، وقتل قائد حي النصارى وقائدي حامية حاصبيا وراشيا، وعزل خورشيد باشا قائد
الجند في الساحل، وعوض على المنكوبين من مال الدولة والأهلين. وقال قنصل بريطانيا: إن الخسائر المالية بدمشق من حريق ونهب وأعلاق وعروض وغيرها لا تقل عن مليون وربع ليرة، وكان يرى أن خمسة ملايين ليرة لا تكاد تكفي للتعويض عن تخريب الأملاك، وعن خسارة الأموال والحلي والجواهر والأمتعة الثمينة والسلع والملابس قال ذلك لفؤاد باشا لما قال له أن يفرض غرامة قدرها 25 مليون قرش أي زهاء مائتي ألف جنيه. هذا عدا ما أصاب النساء من هتك(3/88)
الأعراض وفض الأبكار وركوب العار وبيعهن من الأكراد وأهل البادية كما يباع الإماء كل واحدة بمائة إلى مائة وخمسين قرشا.
أما الدروز في لبنان ووادي التيم ودمشق وحوران فقد نفي منهم نحو مائة إلى طرابلس الغرب، ولم يقتل أحد منهم لأن النصارى طلبوا محاكمتهم بالشرع، ولا بد في الشرع من شهود عدول، والنصارى في هذا الحادث لا تصح شهادتهم، والدروز لا يشهد بعضهم على بعض، وإلا فإن فؤاد باشا أراد فيما قيل أن يقتل منهم خمسمائة رجل، ولاحظ الماجور فرازر بقوله إنه إذا لم يحكم على غير سبعة وخمسين قاتلا فيستنتج من ذلك أن معظم من اشتركوا في المذابح لم يزالوا مطلقا سراحهم، لأنه من المستحيل أن يعتقد بأن أكثر من ثمانية آلاف شخص ذبحهم سبعة وخمسون رجلا دع النساء السبايا واللائي عبث بطهارتهن. وذكر آخر أن الدروز لم يرتكبوا الفاحشة مع النساء وتركوا ذلك لرعاع المسلمين.
عمل العقلاء في دمشق وبيروت ورأي مؤرخ منصف في المسلمين:
وهنا لا بد من التنويه بعمل أكثر عقلاء المسلمين في دمشق وبيروت خاصة، وما بذلوه لحقن دماء أبناء ذمتهم من النصارى، فقد أنقذوا ألوفا منهم على ما يقضي بذلك الدين والشرف، ولولا ذلك لم يبق منهم ديار، وفي مقدمتهم الأمير عبد القادر الحسني، فشكرته الدول النصرانية جمعاء ومما قالته الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا
وإمبراطورة الهند في شكر صنيعه: إنها عرفت من سلوك سموه الفرق بين المسلم ذي العقل الراجح، والجبناء المتظاهرين بالتدين الذين عملوا بإثارتهم التعصب على إبادة كثيرين من النصارى العزّل. وقد كان للشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي ومحمود أفندي حمزة وأسعد أفندي حمزة والشيخ سليم العطار وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد وصالح آغا المهايني والسيد عمر بيهم إلى عشرات غيرهم من أهل العلم والسراوة في دمشق وبيروت ممن فتحوا بيوتهم لإيواء مواطنيهم المنكوبين يد طولى في هذا الشأن تذكر فتشكر ولقد قال السيد محمود حمزة قصيدة في تقبيح ما صدر من رعاع الدمشقيين من أفعال القتل والنهب منها:(3/89)
يا وحوشاً صادفت في غابها ... آمناً فاستقبلته بالسهام
إلى أن قال:
بئس مصر قد خلت من حاكم ... جور سلطان ولا عدل العوام
قال مشاقة خلال كلامه على فلاح مسلم رأى نصرانيا بين القتلى الذين أهلكهم الجزار على باب عكا فأخذوه إلى قريته وضمد جراحه ولما عوفي حمله إلى دمشق لئلا ينتقل خبره إلى ذاك الطاغية: فهذه القصة ذكرتني ما ورد في الإنجيل الشريف عن السامري الذي ضمد جراحات الواقع بين اللصوص، ولكن ما عمله هذا المسلم مع النصراني هو أعظم لأنه خاطر بنفسه لكي ينقذ الغريب عنه الذي لم يكن يعرفه قبلا، وهكذا يوجد من الصلاح والمروءة بين المسلمين من يسدون المعروف للغرباء عنهم، وكفى دليلا على ذلك ما شوهد بالعيان من أعمال حضرة الأمير عبد القادر الجزائري والمرحوم صالح آغا المهايني والكثير غيرهم من أتقياء المسلمين من طبقات مختلفة في حادثة سنة 1860 فقد صانوا ستة عشر ألف نسمة مسيحية عن الذبح بسيف الأشقياء والثائرين الذين لم تصنهم حكومة دمشق لغاية لم تعد مكتومة وهي لم تعترف بها ولكن القرائن أثبتتها والتفوه بها
ممنوع اهـ.
-
من المسؤول عن هذه الفتنة الشعواء:
كانت هذه الفتنة سبب خراب قسم عظيم من مدينة دمشق، كما خربت مئات من القرى في لبنان، وخربت زحلة وحاصبيا وراشيا ودير القمر إلا قليلا، وأهم ما خرب الكنائس والأديار القديمة والبيوتات التاريخية الجميلة، وهام كثير من نصارى دمشق وغيرها على وجوههم في الأرض، ومنهم من هاجر إلى مصر وقبرص واليونان والأستانة وأصيب المسلمون بأضرار كثيرة، ولربما نجا المجرمون وقتل من كان جرمهم خفيفا. والذنب كل الذنب على الحكومة وعمالها أولا لما أبدوه من الضعف ثم على الأقرب فالأقرب من الأعيان والمشايخ والخاصة ثم على العامة.(3/90)
ولو قام كل واحد من الأعيان والمشايخ بواجبه لخفّ الشر كثيرا في دمشق، وربما امتنع عامة الأشقياء عن أعمالهم على الرغم من تحريض الحكومة لهم سرا أو من إبدائها تساهلا ظنوا معه أنها تدعوهم إلى عمل ما عملوا. فقد ثبت أن والي دمشق قال للأمير عبد القادر الجزائري وهو يستأذنه للمحافظة على النصارى وإطفاء الفتنة: ليس لي من الأمر شيء، وإذا كنت تستطيع أنت أن تحافظ بجماعتك المغاربة فلك ذلك فأجابه أن السلاح ينقصني، فأعطاه سلاحا لأربعمائة مقاتل. وفي تحفة الزائر أن الأمير عبد القادر استأذن الوالي يوم فتنة لبنان ودمشق في طلب مشايخ الدروز إلى بعض القرى خارج البلد والاجتماع بهم ليعظهم ويحذرهم سوء عاقبة ما اعتزموا عليه فأذن له وخرج إليهم وتكلم معهم بما أثر فيهم فأذعنوا لنصائحه ووعدوه بأنهم لا يحركون في دمشق ساكنا ولا يثيرون فتنة، ولما كان أمر الله لا يرد قويت بواعث الفتنة ولم ينجع فيهم نهي الحكومة ولا أثرت فيهم
شدة انتقامها. قال واستمرت الفتنة قائمة ونارها موقدة أربعة عشر يوما في دمشق، وما أوقع أحمد باشا الشهيد وجماعة من رؤساء الجند إلا اغتراره بأقوال من كان يستعبد أن يقع في دمشق ما وقع في الجبل، لدعوى وجود البواعث المقتضية لذلك بين اللبنانيين وعدمها في دمشق.
ومن القرائن القوية على أن لحكومة الأستانة يداً في إثارة هذه الفتنة، أنها أرسلت بعض رجالها قبل وقوع المذابح بأشهر إلى الشام وبعد ذلك تبدل وجه كل شيء وتغيرت معاملة الحكومة للنصارى. ومن يحسن الظن بالحكومة التركية ينسب ما جرى إلى إهمال العمال، وإلى ما كان لديهم من الوسائط القليلة والرجال وأن الحكومة أرادت أن تنتقم ممن كانوا يتطلعون إلى دولة أخرى تحكمهم كالدولة المصرية، ولسان حالها في الحقيقة بشأن هذه الفتنة المثل المشهور لم آمر بها ولا ساءتني وماذا يهمها قتل نحو أحد عشر ألف نسمة وخراب قُدّر ببضعة ملايين من الدنانير وغير ذلك من المقابح والمساوئ، إذا كان في ذلك تأييد سلطانها على قطر ما زالت سلطتها عليه اسمية منذ فتحته.
وقد ذكر العارفون من العرب والفرنج أنه لولا انتداب الدولة لمثل الداهية فؤاد باشا لعقوبة الرعاع وغيرهم، لكانت أوربا اشتطت في معاملة الدولة(3/91)
وسابتها بعض ولايتها. ومن حسن الحظ أن هذه الفتنة لم تتعد دمشق وأواسط لبنان ونجا منها شماله بفضل رجل اسمه يوسف كرم حال دون انبعاث الدروز إلى جهاته، ولو اتصلت نيران الفتنة بأقاليم الجنوب والشمال ولم تبق محصورة في الوسط لكان الهول أعظم والخطب أدهى وأمرّ. ونجت جنوب الشام وشمالها لضعف الحكومة فيهما، ولأن القول الفصل في كل بلد كان لجماعة من عقلائها ووجوهها فإن الرعاع حدثتهم أنفسهم أن يبطشوا في حمص وحماة وحلب وطرابلس واللاذقية ويافا وغيرها فحال عقلاء تلك المدن دون الإيقاع بأحد من أهل وطنهم،
ولم تبتل أقاليمهم بما ابتليت به سورية المجوفة.
سوء أثر حوادث الشام في الدولة ومنازعة الدول لهل
في سلطانها:
سبع عشرة سنة مضت على الدولة وهي تحرك النُّعَرةَ الدينية لتضرب الدرزي بالنصراني وهذا بالمسلم، حتى وصلت إلى هذه النتيجة المرمضة من إهلاك من أهلكت وإضعاف من أضعفت، فانتقمت من الذين قتلوا بعض ولاتها قبل دخول المصريين، ثم عاونوا محمد علي الكبير معاونة فعلية وأدبية، وبالغت في عقوبتهم حتى أنستهم ما استمتعوا به على عهد حكومته الرشيدة، وخلصت من حماية فرنسا وانكلترا للموارنة والدروز، ولكن السياسة التي اتبعتها كادت تفشل ويخرج القطر كله من الحكم العثماني، لولا الشدة في عقاب من قضت السياسة بعقوبته والإسراع بتنفيذ الأحكام والتعويض عن المنكوبين. ولِمَ لم يقو فؤاد باشا إلا على المسلمين لأنهم لا سياج لهم إلا الدولة العثمانية، يؤثرونها على غيرها مع اعتقادهم ظلمها وسوء إدارتها، أما الدروز فإن لهم كالموارنة سنداً قوياً يحميهم. ولذلك لم يؤاخذ أشقياؤهم بما أجرموا، وهذا من غرائب السياسة في هذا العصر أن يجعل القاتل في حلٍّ مما أتاه. ولكن المسلمين من جهة ثانية انتفعوا بهذه العبرة التي وقعت لهم وإن كلفتهم كثيراً، فأصبحوا لا يثقون برجال الدولة على الجملة، ويعتقدون أن الظاهر من أقوالهم غير الباطن، وأن الدولة متى قضت مصلحتها تهلك أُمة حتى تستفيد فائدة صغيرة، وتخرب بلداً إذا كان من ذلك مغنم ترجوه. وبهذا العمل الأخرق الذي قصدت(3/92)
به الدولة التفريق بين أجزاء قلوب بناء الوطن الواحد المشتركة منافعهم المتحدة مرافقهم، قد سلبت شطراً من سلطتها ففتحت أبواب ديارها لدول أوربا بأن أعطتها الحق لحماية طوائف من رعاياها، وكانوا لا يرون
غيرها مرجعاً لخم في الشام، وأوجدت مسألة حماية الأقلية على مقياس واسع، فنتج من ذلك إنشاء حكومات داخل حكومة، وأصبح رؤساء الدين من النصارى يراجعون العمال في شؤون طوائفهم في التافهات والمهمات، ويريدونهم على تأييد مطالبهم وإن كانت جائرة أحياناً، وصار العمل إذا لم يخفض جناح الذل للرئيس الروحي على ما يجب يقيله من وظيفته بما لديه من الوسائط الفعالة. وأمست دور القناصل بعد الحادثة محاكم دائمة للنظر في قضايا من علقوا آمالهم على الدولة التي تمثلها تلك الدار. وغدا قنصل روسيا مسيطراً على مسائل الروم الأرثوذكس، وقنصل فرنسا الحاكم المتحكم في قضايا الباباويين، وقنصل بريطانيا العظمى مهيمناً فيما يعرض للبروتستانت والدروز، وغدا أهل كل نحلة يجعلون من الدولة التي يمتّون إليها معقد آمالهم، ويدعون في سرهم وجهرهم أن يقرب أيام حكمها مباشرة عليهم، ونزل كثير من الطوائف عن مشخصاتهم فأصبحوا عرباً بالدم متفرنجين بالتربية والعادات، يحتقرون ما كان عليه أجدادهم ويغالون في اقتباس ما عند غيرهم، خصوصاً إذا كانوا ينتحلون نحلتهم ويرون في الآخرة رأيهم. على أن الحادثة فتحت لجميع السوريين أبواب الأخذ عن الغرب وما كان ذلك مما أضر على إطلاقه، بل جاءت منه فوائد مهمة في باب الحضارة. والعبرة المهمة التي أخذها الناس من هذه الفتنة المشؤومة إيقان جمهور تلك الطوائف التي عبث بها العابثون، أن التبعة على قدر الفهم وأن القتلة وأرباب الدعارة نال شرهم الأبرياء من طوائفهم، وأنه لا يؤاخذ إذا جدّ الجد غير أهل المدارك وعيون الناس.
وكم ذنب مولّده دلال ... وكم بعدٍ مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... فحلّ بغير جارمه العقاب(3/93)
العهد العثماني من سنة 1277 إلى 1300
بعد فتنة سنة الستين:
خرج الأهلون في دمشق ولبنان بعد المذابح الفظيعة في تلك السنة المشؤومة، وقد خسروا مادياتهم ومعنوياتهم. هلكت النفوس التي حرم الله قتلها، وهلك ألوف من النصارى ومئات من المسلمين والدروز، وخسر أهل المدن والقرى أموالهم، وخربت الدور والقصور، وحرقت البيع والأديار. وكانت الخسائر في المعنويات أشد لأن الغرب أساء الظن بأهل هذه الديار، وأجمل حكمه عليهم كافة وعدّهم متوحشين ظالمين، ولم يستطع أحب الناس من الأوربيين للمسلمين أن يدافعوا حق الدفاع عنهم، مع علمهم بأن الفتنة أمر دُبر بدليل، والدولة هي المسؤولة أولاً وقد رجحت كفة الدروز في مدينة دمشق بما جاءهم من نجدات الحورانيين أبناء مذهبهم، فكان من الدروز أن اشتركوا أكثر من المسلمين في هذه المذابح. وكان للجند النظامي وغير النظامي من الأجناس المختلفة يد في قتل النصارى في ضواحي صيدا وبيروت ودير القمر وحاصبيا وراشيا وزحلة ودمشق وغيرها، وهم الذين هتكوا الأعراض على الأكثر فباءوا بالخزي والعار، وأخذت أوربا بعد أن قويت علاقاتها التجارية بالشام تسعى إلى تقليلها، لأن كابوس الفتنة استولى بعد تلك الوقائع على العقول في الغرب والشرق سنين كثيرة، وربما دام حتى انقرض من شهودها وسمعوا بفظائعها.
جمعت الدولة للمنكوبين غرامات حربية من الأهلين بما زاد عن طاقتهم، ولم يصل إلى المصابين كما قال مشاقة أكثر من ربع الذي تكلفت له الدولة،(3/94)
فضاع الربع الثاني في النفقات اللازمة، والثالث أختلسه مأمورو الحكومة، والربع الرابع ربحه صيارفة اليهود، وبالجملة فإن الخسارة وقعت على الدولة والمسلمين والنصارى، ولكن الدولة استعاضت عما فقدت تذليل الرعايا وإخضاعهم لكل ما
ترسمه عليهم، حتى لقد جبى فؤاد باشا بقايا الأموال في دمشق التي أعيا الولاة تحصيلها على أيسر وجه، ولم يبق للعشائر رؤساء تتعب الحكومة بمعارضة أوامرها.
وخرج لبنان من فتنته ممنوحا استقلالا إداريا، وأخذ يستمتع منذ سنة 1281 بنظام خاص فينتخب له الباب العالي متصرفا نصرانيا بموافقة الدول الست العظمى ويعطي الدولة بالاسم ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس خراجا سنويا، وبقيت تسد العجز في موازنة الجبل مدة طويلة، وأهم ما ربحه لبنان القضاء نهائيا على سلطة أرباب الإقطاعات. وأصبح كما قال بعضهم في عهده الجديد ملجأ للأحرار من كل نحلة كما كان بفضل الأمراء المتولين عليه من آل عساف وآل معن وآل شهاب ملجأ للطوائف الكاثوليكية.
أما مسلمو دمشق فبدأت أيام ذلهم بالقضاء على كبرائهم، وكان في قتلهم وتشريدهم عبرة لمن خلفهم أو نجا من المعمعة، وأصبحوا عبيد الدولة حقيقة في كل ما تأمر به، حتى إن منهم من كانوا لا يراجعون الوالي وإن كان غلطه ظاهرا كل الظهور حتى لا يغضبوه بزعمهم، ولطالما حاول بعض الولاة العقلاء أن يعلمهم حسن الدفاع المعقول عن حقوق الأهالي، فكان جوابهم أن افعلوا يا مولانا ما تشاءون فإنا لا نحب المناقشة مع العظماء. إفراط في العهد الأول وتفريط في العهد الثاني.
السلطان عبد المجيد وخلفه عبد العزيز:
توفي السلطان عبد المجيد سنة 1277 1861 أي بعد مضي أشهر من انتهاء فتنة الشام، وكان عهده سيئا يحكم في شؤون المملكة السراري والجواري والمقربون في القصر السلطاني ويسرف السلطان في الأموال ويبدد ثروة السلطنة، وكان إسرافه مبدأ ارتباك الدولة في ماليتها، فإن عبد المجيد لما زوج ابنته فاطمة(3/95)
من علي غالب بن رشيد باشا أنفق على الجهاز والعرس مليوني ليرة فرنسية. وكان
كما قال دي لاجونكيير أكثر ملوك بني عثمان إنسانية، اكتشف عدة مؤامرات رتبت للإيقاع به فكان كل مرة يعفو عن المتآمرين، فحمل إلى قبره أسف أمته وحرمة أوربا له التي أثنت عليه على الرغم من فجائع الشام وجدة، وذلك لكونه لم يقض على عمل السلطان محمود في الإصلاحات ولأنه ساعد ما وسعته قوته على تأييدها والاحتفاظ بها.
خلف عبد المجيد أخوه السلطان عبد العزيز، وأخذ لأول مرة يهتم لتنفيذ خطط الإصلاح التي وضعها أبوه وأخوه أولاً، وبدأ بنفسه في إصلاح المالية، فآلى أن لا يتزوج بغير امرأة واحدة، وأبطل الإسراف في نفقات قصره، فتخلى عن جزء مهم من مرتباته، ولم يلبث أن عاد إلى طبيعته في الترف، وعاد الإسراف في أموال السلطنة إلى أبشع صورة بحيث لم تأت سنة 1875م حتى أعلنت الدولة إفلاسها، وتمنت لو تقترض من مصارف أوربا بفائدة اثني عشر بالمائة. وفي التاريخ العام: ولسوء الحظ أن السلطان عبد العزيز نسي حالاً نياته الحسنة الأولى، وأصبح في الحرم تسعمائة امرأة وثلاثة آلاف خادم وخادمة، وكانت تمد كل يوم خمسمائة مائدة، ويجلس إلى كل واحدة منها اثنا عشر شخصاً.
نشر أول قانون للولايات على أصول فرنسا سنة 1281 1864 وكان السلطان عبد المجيد في سنة 1272 1856 نشر خطاً سلطانياً يقضي بإدخال إصلاحات إدارية كثيرة في السلطنة العثمانية، عاقت حوادث الشام عن تطبيقها في ربوعه، فأخذ القطر بعد الحوادث المشؤومة يتدرج نحو المدنية، وقد تخلص من أرباب الإقطاعات، ولم يتخلص من أرباب النفوذ في المدن والقرى ممن كانوا يسرقون الأمة والحكومة معاً، ويقاسمون الولاة والعمال على الأرباح. أما الولاة في أول القرن والقرن الماضي فكانوا لا يهتمون إلا بالاحتفاظ بولايتهم ويبدلون بسرعة كما قال أحد العارفين من الأوربيين بمن يجهلون كثيراً أخلاق الشعب وإدارة
الأحزاب السياسية، فينبذون وراء ظهورهم الاهتمام بإنجاح الولايات لأنهم موقنون بقصر مدة ولايتهم عليها، فيكبّون مدة حكمهم على جمع الأموال الوافرة بقدر ما تمكنهم الحال. وفي أواخر هذا القرن تبدلت(3/96)
الأحوال فأصبحت الدولة تبعث إلى الشام بأعاظم رجالها يتولونها، وفيهم المستقيم العفيف عن أموال الناس العارف بأصول السياسة والإدارة.
وفي سنة 1280 شب قتال شديد بين بني علي والكلبية وهاجم الكلبية والنواصرة بني علي حتى بلغوا قرية ست يللو ثم حرقوا بتغراموا وديروتان ومغسلة وخربوها وكان الرجال يحاربون والنساء يشتغلن بالتخريب والإحراق وهجم بنو علي على الفرقية وديرونة ورويسة البساتنة وحرقوها قاله في تاريخ العلويين.
وفي سنة 1286 كانت الواقعة المعروفة في جبال النصيرية بوقعة الوالي، وسببها أن طائفة الكلبية النصيرية ظهر منها شقاوة، وخالفت أوامر الدولة فأرسلت هذه والياً لتمهيد الأمور وإرجاع العصاة إلى الطاعة، ومعه جيش قدر بعشرة آلاف فسار إلى قرية الجديدة ورابط، فأرسل الوالي يطلب مقدمي الكلبية ووجوه النصيرية ومقدميهم ومشايخهم المعتمد عليهم من قضاء صافيتا إلى ناحية البجاق ولما وافوه قبض عليهم جميعاً وسار الجيش إلى قرية المرج وأمر بحرق القرداحة أكبر دساكر تلك الجهة، كما أحرق بعض قرى الكلبية والنواصرة ثم مضى إلى بني علي وأحرق وأفسد وعذب جميع الطوائف النصيرية من عمل صافيتا إلى البجاق، ولما شفيت صدور الجيش من العذاب والتخريب، التأم مجلس إداري في جبلة فحكم بصلب ثلاثة من أعاظم الطائفة الكلبية وصلب آخر من بني علي، وأخذت الحكومة الباقين إلى بيروت فسجنتهم خمس سنين ثم برأتهم وأطلقت سراحهم.
ويحدثنا الشيوخ أن أيام السلطان عبد المجيد وعبد العزيز كانت سعيدة على الشام
في الجملة، وإن كان ذالك الدوران مبدأ تصفية حسابات الدولة، فقد أعلنت رومانيا في أيام عبد العزيز استقلالها، وتخلت الدولة عن الصرب، وطلب سكان كريت أن تدخل الإصلاحات على جزيرتهم، فلما رأوا إهمالاً من الدولة طلبوا ضمهم إلى اليونان ولكن الباب العالي قوي عليهم ونجحت سياسته. وفي سنة 1868 نزعت مصر عن الدولة، وأصبحت خديوية تدفع خراجاً معيناً للسلطنة، ثم هاج سكان البوسنة والهرسك وساءت حالة السلطنة وأصبحت(3/97)
الديون العمومية أربعة مليارات فرنك بعد أن كانت قبل عشر سنين 375 مليوناً أنفقها السلطان في خصوصياته. وبينا كان عسكر الدولة يحتاج إلى المال في بلغاريا، والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أشهر، كان عبد العزيز يفكر في نقل قسم من ثروته الخاصة على باخرة أجنبية إلى أودسا. هذا والثورة فاشية في بلغاريا، والصرب والجبل الأسود تحاربان الدولة، وأوربا تخاطب الحكومة في أمر النصارى الذين كانت تخشى على حياتهم مخاطبة الآمر للمأمور فتمسّ كل يوم عاطفتها، وشهرت الدولة إفلاسها ولم يصرف السلطان من الأموال التي اقترضها سوى واحد من خمسة عشر على الجيش والأسطول. برهان واضح على قبح الحكم المطلق كيف كان نوعه وحالة القائم به، وأنه إذا اتفق أن جاءت فيه بعض أيام راحة فهي نسبية لا تكون معياراً، ولم تربح الدولة من عهد عبد العزيز سوى تأسيس نظارتين مهمتين: العدلية والمعارف.
خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس:
شقيت السلطة بإدارة عبد العزيز وكادت تتداعى أركان الدولة وهو لاهً في أفراحه لا يبالي بما تخبؤه الأيام، ما دام كل من تحت سماء السلطنة عبيده الخاضعين، وأصبح لا ينفذ أمراً للوزارة، وكأنه عرف حالته فأخذ يفاوض إمبراطور روسيا سراً ليحميه فاطلع الوزراء على الأمر، فلما رأوا سوء المغبة عياناً تآمروا على
خلعه، فاجتمع الصدر الأعظم مدحت باشا وناظر الحربية حسين عوني باشا ورشدي باشا المترجم من أعاظم رجال السلطنة بالاتفاق مع الشريف عبد المطلب، وكان ذلك برأي مدحت باشا أولاً، وأسرعوا في خلع عبد العزيز على حين فجأة، قبل أن ينقل ثروته إلى الديار الأجنبية، ويطلع على ما دبروا له فيبطش بالمتآمرين، وذلك بفتوى شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي أثبت فيها عليه العَتَةَ والجهل بالأمور السياسية، والإسراف في أموال الأمة بما لا تستطيع تحمله وإنفاقه في شهواته، وإخلاله بعمله في أمور الدنيا والدين مما ساق الملك والملة إلى الخراب. ونصبوا بدله مراد الخامس.
ولما كان عبد العزيز على جانب من عزة النفس وشمم السلطنة صعب عليه(3/98)
الخلع فطلب مقراضاً يقص به شعره فانتحر بقطع بعض عروق يديه وقيل بل قتل بيد أثيمة وهو غير صحيح. وقد ساعد سفير إنكلترا رجال الدولة القائمين بهذا العمل، بأن استدعى قسماً من الأسطول الإنكليزي إلى ميناء الأستانة ليلجئوا إليه إذا انكشفت مؤامرتهم قبل إتمامها. ولما تربع مراد في دست السلطنة تنازل عن ستين ألف كيس من مخصصات القصر وترك للمالية ريع المناجم والمعامل على حين كان يرسف في قيود ديونه التي تراكمت عليه منذ ولايته العهد، وقد أنافت على مليون ليرة وليس في الخزينة من المال ما يكفي إلا لسدها وبعض زيادة طفيفة، والجند والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أحد عشر شهراً. وكان مراد ليلة خلع عبد العزيز ارتاع فأصابه مسّ من الجنون لما بشروه بالبيعة له بالسلطنة، على صورة لم يكن يتوقعها واشتد خلله بعد أيام من توليته عندما بلغه مقتل حسين عوني باشا فلم يتلطف مبلغه بالأمر وقال له إن الوزراء قتلوا فقال الآن جاءت نوبتي في القتل وبدأ معه الجنون المطبق، فلم يسع أهل الحل والعقد إلا خلعه بعد أن سكتوا على ذلك شهرين، فخلعوه بإثبات جنونه المطبق ونصب مكانه السلطان
عبد الحميد الثاني يوم 16 شعبان سنة 1293، بعد أن تعهد لمدحت باشا بأن ينشر القانون الأساسي، ويؤسس في السلطنة حكومة دستورية.
عهد عبد الحميد الثاني:
تولى عبد الحميد زمام السلطنة وروسيا تهيج ممالك البلقان، والدولة مائلة إلى السقوط لإسراف عبد العزيز، فألغى جانباً كبيراً من نفقات المطبخ السلطاني وكانت نفقاته على عهد عبد العزيز أربعين ألف ليرة في الشهر فأنزل مبلغاً لا يستهان به، وقضى أن لا تخرج من المابين موائد الطعام بل أن يأكل فيه من له حق الأكل، وألغى الامتيازات التي كانت لوالدة السلطان، لأن والدته ماتت وهو صغير فتوفر بذلك 150 ألف ليرة نفقات سنوية، وأخذ يتولى بنفسه إدارة الشؤون ويتفنن في الجاسوسية ليطلع على الصغيرة والكبيرة. لكن روسيا أعلنت الحرب على الدولة فنزعت البوسنة والهرسك من أملاكها واستقلت الصرب والجبل الأسود، وانهزم العثمانيون أمام الروس وخرجوا من حربهم(3/99)
وقد أضاعوا جزءاً مهماً من مملكتهم وما يربو على مائتي ألف كيلو متر مربع من الأراضي، وسبعة ملايين من الرعايا، وانسلخت جزيرة قبرص عن السلطنة وقضت معاهدة برلين 1294 أن لا تسلب من الدولة الإمارات التي كانت تابعة لها فقط، بل نصف أرضها في أوربا، وأن يتعهد السلطان بإصلاح مكدونية وكريت وأرمينية وتحملت السلطة غرامة باهظة. وأعلن السلطان القانون الأساسي في المملكة وسارع بتأليف مجلس نيابي ومجلس شيوخ واجتمع مجلس الأمة قبل أن يحضر نواب اليمن وبغداد والبصرة وطرابلس الغرب لبعد ولاياتهم واكتفوا بوجود ثلثي النواب، وانتهت معاملة أعضاء مجلس النواب بعد ثلاثة أشهر من نشر القانون السياسي، ولم يكن انتخاب النواب بالرأي العام بل بتعليمات مؤقتة بمعرفة مجالس الإدارة.
ولما تناقش النواب في مسألة الصلح مع روسيا لم يرتضوا بالشروط الصعبة التي
اقترحتها الدولة الظافرة وحدث في المجلس أخذ ورد، شق ذلك على عبد الحميد وربما بدرت بوادر من بعض النواب بحق السلطان فأمر بإقفال المجلس، وكان على حماة يرضى معها أن يتنازل عن ثلثي المملكة على أن يضمن له عرشه، فصدر أمره بتوقيف أعمال مجلس النواب إلى مدة غير معينة وأمر بإخراج عشرة من نواب الولايات في ثمان وأربعين ساعة من الإستانة، وكان منهم خمسة من ولايات الشام فأظهر بذلك أول صورة من صور استبداده خالف بها الأصول النيابية، ولم تتمتع الأمة بحرية الدستور سوى أربعة أشهر لأنه صعب على مانحه أن يسير على غير خطة الاستبداد، وندر أن يجيء من المستبد إلا مستبد، فزاد حنق الأحرار والغيورين على بقاء السلطة العثمانية، وأخذ هو يشتد خوفه على نفسه، ويقضي على من كان خلع عمه عبد العزيز على أيديهم من الوزراء، ولاسيما مدحت باشا الذي نقله إلى ولايات بغداد والشام وإزمير، ومنها إلى حبس الطائف فقتله هناك، وأخذ يستكثر من الجواسيس وأصبح ولا همّ له بعد سنين إلا اتخاذ الاحتياطات لذلك، وكثرت أوهامه وظنونه، وأنشأ يراقب المطبوعات مراقبة دقيقة مضحكة، ولا يسمح بنشر جريدة ولا كتاب على الأكثر إلا إذا طرز باسمه واختلقت له فيه الأماديج. وفي أول عهده 1881م أخذ الصهيونيون ينزلون فلسطين مئات كل سنة،(3/100)
وهم مقدمة الصهيونية الذين كانوا يحاولون أن يقيموا بناء القومية اليهودية في فلسطين ويعيدوا لصهيون أي القدس مجدها بإنشاء المعبد الذي خرب وعرش داود.
انسيال الدروز على جبل حوران ووقائعهم:
مضت قرون على لبنان قبل منحه استقلاله النوعي عقيب حوادث الشام وهو بورة الفتن، ومنبعث الثورات والقلاقل، لأنه كان فيه كتلتان عظيمتان بل دينان مختلفان الموارنة والدروز. كل منهما يريد التوسع في السلطة، وكل منهما تعلم الطاعة
لرؤسائه وعقاله، يسير بقيادتهم يوم الكريهة، أو يجتمع تحت لواء صاحب إقطاعه راضياً مختاراً، وكل منهما يستمد من قوة غريبة. والموارنة أقدم استمداداً وصلات بالأمم اللاتينية من جيرانهم، وجيرانهم أشد بأساً وأكثر مضاء أثبتوا في مقاتلتهم الصليبيين، فكان قتالهم لهم أشد من مناجزة بعض الطوائف الإسلامية من سكان أرجاء الساحل لهم. فلما وقع ما وقع في حوادث لبنان عام 1860 قضت الطبيعة على بعض رجال طائفة الدروز أن يهاجروا إلى جبل حوران فرحلوا إليه في فريق من إخوانهم أهل وادي التيم والجبل الأعلى وصفد وعكا وغوطة دمشق وإقليم البلان وكان منهم طائفة فروا من وجه القضاء في الأصقاع الأخرى، وآخرون أتوا حوران بدافع الحاجة، فكثروا سواد من كانوا حلوا في هذه الربوع أيضاً من أبناء مذهبهم، وأول نزول الدروز في حوران بعد وقعة عين دارة المشهورة في لبنان سنة 1710م 1122هج فتألفت كتلة منهم هناك وقويت عقيب حوادث الشام، وأخذ الدروز يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة في اللبنانيين الغربي والشرقي.
اعتز قدماء الدروز بإخوانهم الذين جاءوهم وأخذوا يجمعون شملهم على عادتهم بإمرة قوادهم، وكان أهمهم بنو حمدان ثم أسرة بني الأطرش التي أصبح معظم الجبل بتدبير كبيرهم إسماعيل الأطرش خاضعاً لهم، وسلطة هذا البيت تتناول أكثر أنحاء الجبل والأكثرية معهم على الأغلب. ومنذ نزول الدروز في حوران ما برحوا يناوشون النصارى والسنيين من أهل القرى والبادية(3/101)
القتال، حتى استقلوا به استقلالاً تاماً، وكانت أول وقائعهم المشهورة بعد وقائع إبراهيم باشا ما حدث سنة 1296 بينهم وبين أهل بسر الحريري من أجل فتاة، فهجم الدروز على بسر وقتلوا من أهلها ثمانية أو عشرة أشخاص وقتل من أهل بسر خمسة أثناء الدفاع عن أنفسهم، وعند ذلك تجمع الحورانيون ألوفاً، وأراد مدحت باشا أن يجيب
الحورانيين إلى مطالبهم وهي إنزال العقوبة بثلاثة وعشرين رجلاً من الدروز، فأبى الدروز إلا أن يعطوا دية عن القتلى، وقصد أن يسوق قوة على حوران للتهديد لا للضرب، ثم حلت المسألة صلحاً.
قال عثمان نوري في تاريخه: وعقيب ذلك طلب مدحت باشا إعفاءه من ولاية سورية، فاغتبط عبد الحميد بذلك لأنه كان يرى أن بقاءه طويلاً في هذه الديار لا يجوز، لأنه تذرع بعمرانها وهو منه موجس خيفة على الدوام. وقال كان النزاع والجدال قائمين على ساق وقدم بين أهالي سورية المتباينين في الدين والجنس، فلما وليها مدحت باشا دخلت في طور السكينة والأمن، ولا سبيل إلى تقرير الحكم العثماني في أرض تتأثر فيها الأفكار بالنفوذ الأجنبي إلا بانتظام الإدارة وإجراء العدل وتنظيم المالية، وهذا ما عمله مدحت باشا. وكان عبد الحميد يرائيه، ويحول دون أمانيه، بحيث أن السلطان لم يكن يتوقف ساعة عن بث بذور الاضطراب في الولاية لينتقم من مدحت باشا، وذلم بتحريض مثل المشير أحمد أيوب باشا وجميل باشا عليه اه.
انتهت مسألة الدروز بعد أن ساقت الدولة عليهم قوة إلى القراصة من عمل نجران وقتلت منهم ستمائة واستأمن الرؤساء، ولم يكن سواد الدروز في الجبل إذ ذاك أكثر من عشرة آلاف، وتسمى هذه الوقعة بوقعة القراصة وهو ماء قرب نجران، ولما لم تحسن الدولة الإدارة في الجبل زادت جرأة الدروز إلى أن كانت سنة 1298 فهجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانهما على بكرة أبيهم ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع، فسيقت عليهم حملة بقيادة المشير حسين فوزي باشا أسفرت عن ربط دية شرعية مقسطة عليهم، وتأسيس قائم مقامية جبل الدروز مؤلفة من ثمان نواح وتعيين القائم مقام والمديرين منهم.
كانت الدولة تقاسي الأمرين في تأديب عصاة الدروز كل مرة. قال مدحت باشا
في مفكراته سنة 1297 والذي زاد في الطين بلة أن فرنسا تحمي الموارنة(3/102)
الكاثوليك وإنكلترا تتشيع للدروز، وكل هذا من السياسات التي تريد بها هاتان الدولتان توسيع نفوذهما في سورية أو ضرب إحداهما بالأخرى، فلما أخذت الدولة أهبتها لتأديب الدروز قام سفير إنكلترا في الأستانة يشكو من ذلك، ويكرر التردد على المابين والباب العالي فأصبحت الأوامر ترد تترى بحل هذه العقدة حلاً سلمياً.
ومن جملة تدخل فرنسا أنها تجاهرت بحماية يوسف كرم قائم مقام النصارى في شمالي لبنان لما ثار على متصرفه داود باشا لما أراد زيادة خراج لبنان من 3500 كيس إلى 7000 كيس ليزيل العجز من موازنة الجبل فنال من عسكر التصرف فاستنجد هذا بواليي دمشق وبيروت فأرسلا إلى متصرف الجبل زهاء عشرة آلاف مقاتل فسارت إلى كرم. وعندها تدخل قنصل فرنسا في الأمر ومنح الحماية الفرنسية ليوسف كرم فركب من بيروت على دارعة قاصداً إلى فرنسا وكان ذلك سنة 1866.
المصلح مدحت باشا وطبقته من العمال:
اضطر مدحت باشا أن يتخلى ويا للأسف عن ولاية سورية وقد طبق مفاصل الإصلاح في أرجائها الواسعة على أسرع ما يمكن، أنشأ الطرق والمكاتب والمدارس ونشط الصناعات والزراعة، وضرب على أيدي المرتشين، ونشر الحرية الشخصية، واقن الحكام والمحكوم عليهم دروساً في الوطنية والشعور بالواجب وكان يرجى للشام أن تسبق الأستانة في الحضارة بفضل إصلاحاته لو طالت أيامه وأيام غيره من الولاة المقتدين أمثال ضياء باشا في دمشق، ورستم باشا وداود باشا في لبنان، وكامل باشا في حلب ممن كانوا بسيرتهم معلمين للحكام، وضعوا لهم أصول الإدارة، وحرصوا حقيقة على إمتاع الناس بالعدل
وأعمال العمران، فكانوا حجة على الدولة بأنها تستطيع الإصلاح إذا أرادته على قلة الرجال لديها على شرط أن تتركهم يعملون بوجداناتهم وعقولهم، وما عهد إليهم تنفيذه من القوانين الكافية بمعرفة أرباب النزاهة من رجال الشام.
وقد تعاقب على دمشق خلال هذا القرن 61 والياً وعلى حلب 52 والياً(3/103)
وهكذا سائر المتصرفيات الثانوية، لا يسلم الوالي إلا ريثما يُودّع، والطيب منهم هو الذي لا تطول أيامه خاصة، لأن حساده كثيرون في الأستانة وفي الولاية التي يتولاها وتقارير الجواسيس عند عبد الحميد مقبولة لا ترد، والدولة يصعب عليها أن تتفلت من قيودها القديمة قيود حكومة القرطاسيات أي المفاوضات الطويلة بالورق، فإذا رأت رجل جد من أبنائها يحاول أن يعلمها الصواب في المعاملات، لا تلبث أن ترميه بكل شنعاء، وكان حظ النوابغ في كل دور من أدوار العثمانيين ولا سيما في العهد الحميدي أن يغض منهم ويسعى إلى التخلص من إصلاحهم ومراميهم، ولسان الحال يناديهم لا نحب أن نخرج عم مألوفنا العاطل المجمع على عطله ونؤثر أن نموت فيه على سلوك سبل التجدد:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام(3/104)
العهد العثماني من سنة 1300 إلى سقوط عبد
الحميد الثاني
الحالة في مبدإ القرن الرابع عشر وإصلاح جبال
النصيرية والسبب في خرابها:
غدت الدولة العثمانية أوائل هذا القرن قوية الشكيمة لسرعة الاتصال مع دار السلطنة، وتشعب الأسلاك البرقية وطرق البريد، وشدة مراقبة دول أوربا لأعمال السلطنة، وتسابق الدول في تأييد نفوذهن في الولايات. وامتاز لبنان الذي كان يكثر ترداد اسمه بثوراته وإقطاعاته الحين بعد الآخر، بأن انقطع ذكره بعض الشيء من باب المسائل المزعجة، وأصبح يعمل لنفسه بما متع به من امتياز خاص، ولم يعد الدرزي والماروني فيه يقتتلان كما كانا في القرن الماضي لتأييد سلطان ملك أو أمير، أو للأخذ بيد صاحب الإقطاع أو حباً بالغارة والقتل والنهب.
ونشبت فتن في جبال النصيرية لأن هؤلاء لم يتأت لهم نصير من الغرب كما قام للبنانيين يأخذ بأيديهم إلى السعادة التي يتخيلها لهم، ويسوقهم إلى طريق الحكم الذاتي ولو على صورة ابتدائية، وكان أهل السنة المجاورين للنصيرية ينظرون إليهم نظر الازدراء، وهم في جبالهم يعدون قوة يحسب حسابها، وإذ كانوا طوع إرادة مشايخهم ورؤساء قبائلهم كانت سلطة الدولة عليهم قليلة. وإذا كتب للدولة أن أحرزت بعض سلطان عليهم في الشواطئ البحرية أو في الأماكن القريبة من ضفاف العاصي من جهة الداخل، فإن أعالي الجبال كانت معتصمهم، وربما كان فيها أماكن لم تدسها حوافر الخيول التركية لوعورة مضايقهم، وقد أرسل السلطان عبد الحميد رجلاً من خاصته اسمه(3/105)
ضيا باشا جعله متصرفاً على لواء اللاذقية في مبدإ هذا القرن فرفع عن النصيرية الظلم، ووسد الحكم لبعض مشايخهم ووجوههم،
بأن جعلهم أعضاء في المحاكم والمجالس ليشعر نفوس قومهم العزة بعد الامتهان والذلة، وأنشأ لهم جوامع ومدارس فأخوا يتعلمون ويصلون ويصومون، وأقنع الدولة بأنهم مسلمون فلم يعصوا له أمراً، ونفس من خناقهم فبدءوا يشعرون بأنهم بشر كسائر مواطنيهم وأنهم شركاء في هذا القطر لهم فيه حقوق سائر أرباب المذاهب وبعد أن ترك هذا المتصرف العاقل منصبه الذي دام بضع سنين على أحسن ما يكون، مع أنه كان بعلمه في درجة الأميين، خربت المدارس وحرقت الجوامع أو دُنست، وكانت الدولة في أكثر أدوارها لا تأخذ من معظم إقليم النصيرية شيئاً يذكر من الضرائب، والقائم مقام الذي يجبي منهم ضريبة السنة أو بقايا ضرائب السنين السالفة تصفق له الدولة وينال تقدير ولاة الأمر فيشرفونه برتب الدولة ومراتبها، وكانت جباية خمسين ألف قرش من النصيرية تستلزم إعداد حملة عليهم ينفق عليها ما يقرب من المبلغ المجبي أحياناً.
قلنا: إن النصيرية كانوا ينظر إليهم نظر ازدراء. وقد سألنا عالم جبلهم في أيامنا الشيخ سليمان الأحمد عن رأيه في الحوادث الأخيرة، فكتب إلينا يقول ما نثبته بالحرف لأن قوله حجة في هذا الباب قال: كان أهل الحاضرة اللاذقية في هذا القرن يعدون ما يفعله جهلة العلويين النصيرية بفتيا علماء الدين، فيعصبونه بهم لدى الحكام ويغرونهم بهم وبالرؤساء، ويحرضونهم على الفتك بهم بكل واسطة، وكان الدين أعظم الوسائط التي توصل بها إلى هذه الوحشية والبربرية ومن جري ذلك المصاب العظيم الذي وقع على آل سعيد البهلولية من أشرف وأجل البيوت العلوية في حادثة سنة 1295 وما كان العلويون ليحملوا وزر مصائبهم على الدولة التركية، بل على وجهاء البلد ورؤسائه السنيين وعلمائهم، ثم على أهل الفساد من مقدميهم ورؤسائهم الذين كانوا يسارعون لما بين عشائرهم من الضغائن والأحقاد والغارات إلى الدخول بخاطر الأغوات ثم بخاطر الحكام عن أيديهم، ومن
تم له الفوز جردت له الحكومة العساكر الجرارة، وسلمته قيادتهم الفعلية فيسطوا بهم وبعشيرته على عدوه. ولا تسل عما تفعل الهمجية. ومتى دوخت تلك العشيرة وقتل أشرافها(3/106)
وذللت، عاملت الحكومة العشيرة الظافرة نفس تلك المعاملة دواليك، حسبما تقتضي سياسة التفرقة والأحوال. ولا أدري إلى أي عصر تمتد سلسلة هذه الروايات المحزنة التي نرجو من الله أن يحسم أسبابها بأيدي المصلحين. والتبسط في شرحها لا يجدي أو لا ينتج إلا أن الشرقيين هم السبب الأعظم في بلاء أنفسهم وحجة الله فيه على المتسمين بسمات الدين، وتلك حزازة في نفوس المصلحين. والذي أراه أن قدم الحكومة التركية لم ترسخ في جبال العلويين حق الرسوخ وخاصة في مقاطعة الكلبية، وكانت الحكومة إذا أُحرجت جردت العساكر فنهبت وسلبت وحرقت وفتكت، فإذا رجعت العساكر، عادت العشائر إلى ما كانت عليه، يضبط الحاكم الحازم جماحهم، ومتى بُدل بحاكم ضعيف الإدارة أو مرتش، عم البلاء من الرؤساء الفسدة والأشقياء الجهلة. لما حكم إبراهيم باشا المصري قطع دابر أهل الفساد، وضرب الأمن أطنابه بحيث لم يكن يسمع في عرض البلاد وطولها نهب، ولا قطع سبيل، فرتع الأنام في بحبوحة الأمن مدة حكمه الذي كان مع صرامته نموذج العدل والإنصاف، فلما دالت دولته حصل من اختلال الأحوال ما لا يحصره المقال 1هـ.
فتن درزية وفتن أرمنية:
كان يظن بعد أن خمدت ثائرة الفتن في لبنان وما إليه من جبل اللكام أن الناس يرتاحون من الحملات والغارات إلا ما كان من غزو البادية بعضهم مع بعض فإن ذلك من المتعذر لأنه مرض قديم مستعص نشأ قبل الإسلام بقرون، ولم تقو جميع الحكومات التي تعاقبت على الشام أن تقضي عليه وتستأصله من أصوله، بيد أن القوة التي أحرزها جبل حوران بالدروز الذين هاجروا إليه جعل من الجبل موطن
غارات وغزو، وأصبح هذا الجبل إبرة سفينة الأمن في الشام، وكان يتلبس بهذه الصفة جبل لبنان في القرون الماضية فيتعب سائر الأرجاء الشامية، ويضطر الحكومة أن تتقي شره بإثارة أهل الجوار عليه، وإلقاء الخلاف بين أمرائه ومشايخه.
نشبت فتن في جبل حوران في أعوام مختلفة، وكثيراً ما كان بعض أشقياء(3/107)
الدروز فيه يطيلون أيدي الاعتداء على سكان حوران والغوطة والمرج وجبل قلمون، فيتحد أشقياء المقرن القبلي منه مع عرب السردية ويغزون في البلقان وما إليها قبائل بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية، وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد ودير الزور، ويتحد أشقياء المقرن الشمالي مع عرب الحسن ويهاجمون قرى جبل قلمون والنبك وحمص، ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة فيسلبون قرى سفوح جبل جوران ويقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر إذا خلو بهم، ولا يدفعون الأموال الأميرية، وبذلك تأيدت شوكة الدروز وخافهم جيرانهم من أهل القرى والبادية، وتخوفت الدولة عاقبة أمرهم للرابطة القوية بين أفرادهم، وهم إذا جاءهم الغريب، والدماء تسيل بينهم كالسيول، لا يلبثون أن يكونوا عليه يداً واحدة ويصدقوا قتال عدوهم المشترك، بما فيهم من شمم وإباء عربي وعند الشدائد تذهب الأحقاد.
رأى الدروز في سنة 1304 وقد ارتاشوا وتأثلوا ونما عددهم أن يستولوا على قرى اللجاة للتحصن بها عند الإيجاب واستثمار ما يمكن استثماره منها فاحتشد نحو خمسمائة فارس منهم بقيادة شبلي وفندي الأطرش، ووصلوا إلى المسمية وهاجموا قلعتها فردوا عنها. وفي سنة 1308 انقسم دروز حوران إلى فرقتين المشايخ والعامة وزادت بينهم العداوة والبغضاء فأدى ذلك إلى حدوث وقائع متعددة ودخل بعض المشايخ إلى قلعة المزرعة فأرسلت عليهم ست كتائب مشاة
وألاي فرسان مع مدافع، وفي أثناء مغادرتهم ثكنة المزرعة تعرض لهم العامة فقابلهم العسكر بالضرب، فانهزم الدروز بعد أن تحملوا خسائر كلية ودخل الجند السويداء وأسرعوا ببناء ثكنة عسكرية. وتعرف هذه الوقعة بوقعة العامة ونال الدروز من الجند في سنة 1311 في طريق المزرعة وحاصروا قلعتها ثلاثة أيام. وفي سنة 1313 هجم الدروز على قرية الحراك وقتلوا أكثر أهلها وهدموا جامعها الحصين ونهبوها مع قرى المليحة الغربية والمليحة الشرقية وحريك ودير السلط وكحيل فأرسلت الدولة عليهم 1314 حملة بقيادة أدهم باشا ولما بلغ أول حدود الجبل تعرض له الدروز فقابلهم العسكر بالمثل، وبعد وقعة القراصة ونجران والسجن وأم العلق دخل العسكر السويداء.(3/108)
ولو وضعت الإصلاحات الإدارية موضع العمل بجد ونشاط لاستقام الأمر كثيراً، ولقلت الفتن التي تقع بين الرعايا والعمال.
وكانت الحكومة سنة 1315 تتذرع بتطبيق أصول الأعشار بصورة الأمانة على حسابها، فقتل الدروز ضابطاً كبيراً مع ثلاثين جندياً في عرمان، ومدير ناحية صرخد ورفقاءه من الدرك، وأكثر حراس الأعشار في جميع قرى الجبل فأرسلت عليهم الحكومة مفرزة مؤلفة من أربعمائة جندي وفي رواية درزية أربع كتائب قتلوها بالفؤوس والسيوف إلا قليلاً في محل يدعى العيون قرب عَرّمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة وحاصروا ثكنة السويداء 28 يوماً ريثما وصلت القوة العسكرية بقيادة المشير طاهر باشا مؤلفة من 54 كتيبة، وحدثت بينهم وبين كتيبتين كانتا في آخر القوة حرب دامت ست ساعات وانهزم الدروز في وقعة الشبهة. وخوفاً من وقوع قتل عام رجع العسكر عنهم. وفي هذه المرة قبضت الحكومة على ستمائة رجل منهم مائتان من رؤساء العصابات، ونفتهم من الشام ثم أرجعتهم مكرمين من الأستانة فابتاعوا بالدراهم التي نالوها من إحسان الدولة
سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا به عمالها.
وفي سنة 1319 ساقت الدولة على الدروز قوة من الفرسان والمشاة إلى الصفا واللجاة للتنكيل بهم، واسترداد ما سلبوه من المواشي وغيرها. وفي سنة 1321 وقع خصام بين طائفتي الحلبية والمغوشين من الدروز أسفرت عن قتل أكثر من أربعين شخصاً، فأرسلت الحكومة ثلاث كتائب لإجراء التحقيق. وهكذا توالت وقائع الدروز وأكثرها في مقاومتهم للدولة كلما أرادت أن تدخلهم في الطاعة، وتجري عليهم الأحكام التي تجري على جيرانهم من أخذ رسوم الأغنام، وتسجيل الأملاك أو النفوس أو أخذ الأعشار. ولكم جرت وقائع لذلك في قنوات ومفعلة والشوفي والحجلة والكفر ونجران، وكم من وقائع بين المساعيد والعزام وبين بني الأطرش الدروز وبني المقداد السنيين. وبعد جهاد أربعين سنة أصبح الدروز في جبل حوران الأكثرية المطلقة بعد أن كانوا أقلية في أواخر القرن الماضي وزادت نفوسهم ستة أضعاف عما كانوا قبل خمسين سنة.(3/109)
-
الحملات على جبل الدروز وعلى الكرك:
وفي سنة 1324 اعتدى دروز حوران على عرب المعجل فغزا الدروز المعجل في النقرة من حوران فقتل المعجل منهم نحو سبعين رجلاً ثم اعتدى المعجل على قافلة درزية وقتلوا رجلاً من أكابر بيوتهم بالقرب من براق، فهاجمهم الدروز في ضمير من مرج الغوطة وقتلوا نحو أربعمائة من العرب، وأبقوا على النساء، وفي سنة 1328 غزا دروز حوران جيرانهم أهل قريتي معربة وغصم وسكانهما مسلمون ونصارى على أثر خصام وقع بين نواطير القرية ونواطير بصرى على الكرم فقتلوا 59 رجلاً وامرأة عدا الجرحى ونهبوا القسم الأعظم من قرى السهوة وجيزة وسماقية وطيسة، فأرسلت عليهم الدولة حملة مؤلفة من ثلاثين ألف جندي
بقيادة سامي باشا الفاروقي فضربهم ضربة خفيفة قتل فيها زهاء ألف رجل منهم ونحو مئة وخمسين من الجند وأحرقت بعض القرى ولا سيما الكفر أهمّ موقع حربي في الجبل وحواليها دار معظم القتال، وغنم الجند والضباط ما فيها من متاع وحلي وأرزاق مما حشره الدروز فيها من أنحاء الجبل، ولم تستفد الدولة من هذه الحملة إلا إحصاء نفوس الجبل، واستأمن الدروز فحكم على بعض زعمائهم وأشقيائهم بالصلب فصلبوا في دمشق وجند بعض شبانهم وعفي عن بعض المجرمين وجرم بعض الأبرياء. وهكذا غرمت الدولة والأمة حتى امتلأ صندوق القائد فيما يقال ولم تنفذ خطط الإصلاح التي وضعت على العادة في كل مرة، ومنها ما يرضى به الدروز لكن تطبيقه يحتاج إلى إخلاص وحكمة. وقد أبان الدروز في هذه الحرب شأنهم في أكثر حروبهم وغاراتهم عن مهارة في الفنون الحربية وشجاعة متناهية.
وأرادت الدولة في تلك السنة أن تحصي نفوس سكان لواء الكرك كما أحصت سكان لواء حوران، فانتقض أهل الكرك على الدولة لأنهم بادية على الأكثر والبادية تخاف الجندية أكثر مما يخاف منها أهل المدن والمزارع لأن عهدهم بالحكومة حديث وصعب التأليف بين طبائعهم ومعاملة الموظفين الفاسدين وكان لواء الكرك أُسس في سنة 1311 على سيف البادية بين الحجاز والشام، وقد ثبت للدولة أن المرسلين يعملون بنشاط لتنصير تلك الأصقاع، وكان ذاك الإقليم من قبل بعيداً عن كل سلطان ويحكمه رؤساء عشائره، ولم يكن أكثر قراهم(3/110)
معموراً مأهولاً، وكانت ديارهم كأنها قطعة من الحجاز القاحلة لا الشام الخصيبة، وصادف أن قطعت مرتبات عرب بني صخر والخرشان وغيرهم من أهل الوبر، فقام البدو الذين حرموا رواتبهم وهي أربعة آلاف ليرة في السنة، وسطوا على بضع محطات السكة الحديدية الحجازية على طول أكثر من مائتي كيلو متر في
أرض اللواء، ونهبوا قطاراُ بحمولته وقتلوا وجرحوا بعض موظفي الخط، وقام الكركيون باديهم وحاضرهم وأطالوا يد الاعتداء على التجار والموظفين والحامية فقتلوا منهم نحو 150إنساناً، ولو لم يلجأ أكثرهم إلى قلعة الكرك لهلك في هذه الفتنة بضع مئات وحرقت الأماكن الأميرية كلها ونهبت خزانة الحكومة ودور الموظفين وأُحرق قسم منها، وخرب قسم عظيم من المدينة 549 داراً بإطلاق القلعة المدافع عليها وقطع العصاة الأسلاك البرقية وهاموا على وجوههم في البراري، وبعد أن جاء المدد للمحصورين في القلعة قبضت الدولة على عشرات من الثائرين عدا من قتلهم هناك صبراً وحكمت عليهم بأحكام مختلفة وأكثرهم بالقتل. ولم يشترك أهالي معان والطفيلة في هذه الفتنة، وكانت النية أن يقوموا مع الكركيين في يوم واحد. وجرت وقائع بين عسكر الدولة وعرب المجالي وبني حميدة وابن الطريف وكورة وسليط وغورين وكثر ربا وعراق وخنزيرة والمعايطة وعبيد وجلامدة وأغوات بالقرب من قرية كفر ربة استسلم فيها بعضهم، وبلغ عدد القتلى من الكركيين نحو ألفي نسمة. ولم يحدث بعد هذه الوقعة شيء يذكر في أرض الشام اللهم إلا هياج العربان للغارة والنهب في الشمال والجنوب، وكانت الدولة تسوق عليهم قوى خفيفة تارة، وتتركهم وشأنهم تارة أخرى، خصوصاً إذا لم يقع منهم على أهل المدن والقرى اعتداء مباشرة، ولم يتدخل قناصل بعض الدول لمأرب لهم، كأن يكون في القتلى بعض النصارى أو أن تقضي السياسة بأن يوجدوا مسألة جديدة تحب دولة ذاك القنصل استثمارها في دار الملك.
ومن الحوادث التي وقعت في سنة 1324 1906م الخلاف الذي وقع بين الحكومة المصرية والحكومة العثمانية على حدود الشام وعقدت بينهما المعاهدة المعروفة بمعاهدة رفح وتعين الخط الفاصل الإداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية(3/111)
القدس
وبين شبه جزيرة طورسينا، وكان للصحف الوطنية المصرية حملات على بريطانيا بهذا الشأن.
رأي في دلال الدروز والنصيرية على الدولة:
وفي الحق أن مسألتين في هذا القطر شغلتا الأفكار خلال هذه الفترة: مسألة النصيرية في الساحل، ومسألة الدروز في الداخل. أما المسألة الأولى فمما يحدث له أمثال في كثير من الأقطار، وتنتهي كل ثورة بصلب بعض أرباب النفوذ والسيطرة وتخريب بيوت الثائرين والساكنين. ورابطة النصيرية وتعلقهم بمشايخهم أقل من رابطة الدروز وهي أقرب إلى الحل إذا انعقدت. ثم إنهم ليسوا من المعرفة بحيث يتطالون إلى تأييد سلطانهم، أو تحدثهم أنفسهم بالاستقلال عن الدولة، إذ لا ملجأ لهم من الأمم الغربية يرجعون إليه ويصدرون عنه، ولكن هل كان دروز حوران مثلهم يا ترى؟ بعد أن حاول إخوانهم غير مرة أن يقيموا لهم حكومة مستقلة في لبنان ثم انسالوا على جبل حوران يحاولون الاستقلال بربوعه، والابتعاد عن سيطرة عمال العثمانيين في هذا الجبل الذي ينتهي العمران به وتبدأ البادية المترامية الأطراف؟. إن ظواهر الحال تدل على أن الدروز في جبل حوران حاولوا منذ عهد إبراهيم باشا المصري أن ينزعوا أيديهم من أيدي حكام القطر ويستمتعوا بامتياز لهم خاص، لأنهم يثقل عليهم حكم غيرهم في الجملة، وبين عامتهم وعامة غيرهم فروق في الآداب العمومية والأخلاق والعادات، وإذا ثاروا يعرفون السبب في ثورتهم، لأن مشايخ العقل منهم يلقنون أجاويدهم، وأجاويدهم يلقنون عقالهم، وعقالهم يلقون عامتهم كل ما ينفع في شؤونهم العامة فكانوا يرضون عقيب كل فتنة أن يتفقوا مع الدولة على مال معين يؤدونه للسلطنة، ثم لا يلبثون أن يمتنعوا عن أدائه مع أن الجبل الذي تملكوه بالسيف أو بالشراء بأثمان زهيدة من جيرانهم المسلمين والنصارى هو من الخصب بحيث لا
يصعب عليهم أن يؤدوا الأعشار والأموال المطلوبة أو جزءاً من الضرائب التي يدفعها سائر الحورانيين، ولعلهم أو بعض مشايخهم كانوا يدلون على الدولة بما لهم من عطف بريطانيا عليهم فيتوهمون(3/112)
أن ينشئوا لهم في صميم الشام دولة صغرى ناسين جميع الاعتبارات التي كانت تحول دون أمانيهم، وتهيب بالدولة إلى مناجزتهم القتال كلما حاولوا أن يرفعوا رؤوسهم.
وكانت الدولة هي التي ساعدت على تعاقب ثوراتهم وتسلسل شقاواتهم واستلذاذهم بالحروب، لأنها اتخذتهم آلة في لبنان ووادي التيم وحوران للانتقام من عدوها إبراهيم باشا واستخدمتهم آلات لها في مذابح سنة الستين. ودفعتهم في طريق الشقاوة والمقاومة بمالها وسلاحها فظنوا أنفسهم قوة مهمة لا تقف أمامها قوى دولة، وعرفوا أنهم إذا ظفروا كان لهم ما يريدون، وإذا غُلبوا يحسنون مداراة رجال الدولة، ولهم من بريطانيا العظمى على كل حال دولة تسأل عنهم وتعنى بمصالحهم، فلهم أن يدلوا على جيرانهم وعلى الحكومة.
وكان الشعب في معظم الأرجاء يستخف بعامة الدروز إذا اختلفوا إلى الحواضر، وإذا ذكروا يذكرونهم كما يذكرون النصيرية بالسخرية والمهانة، فيشق ذلك على جماعتهم خصوصاً والدروز لم يفقدوا أصولهم العربية ومن شأنها الشمم والإباء، فكانوا يصعب عليهم سماع ما يصمونهم به، وربما كذب الناس عليهم ونسبوا إليهم أموراً ليست من مذهبهم ولا من عاداتهم، كذبهم على النصيرية أيضاً، وكان لبعض المشايخ المتعصبين في الحواضر يد في إلقاء هذه الكراهة وهذه النفرة بين هاتين الشيعتين وبين الأكثرية من أهل السنة، الذين انشقوا منهم، ولعل الحكومة كانت تتعمد ذلك ولا يسوؤها فتغضي عما كان النصيرية والدروز يسامونه من الذل، وتفسح المجال للعامة والمشايخ البله أن يعاملوا مواطنيهم تلك المعاملة المؤلمة على النفوس الأبية، فيقابلها الدروز بمثلها يوم يكون لهم السلطان المطلق
في جبلهم وأرضهم.
ولو كانت الدولة بذلت شيئاً من العناية بهذين الشعبين الجبليين في الساحل والداخل، كأن تنشر بينهم التعليم الابتدائي، وتعطف على كورهم فتصلح طرقها، وتدخل عليها ما يمكن من أسباب النجاح لاستغنت هي والأمة عن مقابلتهما، وهم بعض أبنائها، بالسف والمدفع لتعيدهم كلما نشزوا إلى حظيرة(3/113)
الطاعة، ولو دخلت المدنية على دروز جبل حوران ونصيرية جبل اللكام، كما دخلت مثلاً على دروز جبل لبنان، لكان من هذين الشعبين العربيين خَلقاً وخُلقاً قوة في الشام، ولما استحكم هذا النفور الذي كان من أثره ما ظهر في العهد الأخير يوم رضوا بأن ينزعوا أيديهم من أيدي جيرانهم، مع علمهم بأنهم شركاء متضامنون في هذا القطر المحبوب.(3/114)
العهد العثماني من سنة 1326 إلى 1336
الدستور العثماني وثورته:
منذ أقفل السلطان عبد الحميد سنة 1294 المجلس النيابي وعطل الأحكام الدستورية ما برح بعض أحرار العثمانيين تركهم وأرمنهم وعربهم وأرناؤدهم، يتأففون من حالة الدولة ويدعون سراً، إذا لم يكن الجهر، إلى المطالبة بإعادة هذا المجلس وقد أسسوا للوصول إلى هذه الغاية جمعيات سرية في بعض ممالك أوربا ومصر، جعلت لها فروعاً في بعض الولايات العثمانية وعملت في الخفاء زمناً، والسلطان يصم آذانه تارة، ويتصامُّ عن هذه المطالب المشروعة تارة أخرى، ويعاقب من يقتدر عليه من هؤلاء الدعاة إن كانوا في قبضته وتحت علمه بالنفي والتغريب، أو بالمداراة وإغداق الأموال والرتب على بعضهم إذا كانوا بعيدين عنه. وأهم جمعية ألفت لهذا الغرض جمعية الاتحاد والترقي، تشعبت فروعها في أنحاء السلطنة وقويت في بث دعوتها في الشام حوالي سنة 1314 وما برحت على ضم شملها وتكثير سواد القائلين بقولها وإبلاغ دعوتها في جرائد لها أنشأتها خارج السلطنة، وكلمة الجمعية تزيد انتشاراً كلما اشتد عبد الحميد في إرهاق الداخلين فيها، ولا سيما في المارس العليا في الأستانة، والمدارس العليا مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والشركس والأرناؤد واللاز والأرمن والروم، فإذا عادوا إلى الولايات يضيفون إلى تذمر الأهلين من فساد الأحكام تذمراً، ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم.(3/115)
التاثت الأحوال، وتنكرت الأخلاق، وبات القول الفصل للرشي والمحاباة والشفاعات، وغلوا في التجسس والوقيعة، وكثر الفقر وعم القهر، وزاد الضغط على الأمة، ونال الجند حظ وافر من الشقاء، وغدا المرابطون منهم والغزاة لا يطمعون إلا ما يحفظ عليهم رمقهم فقط، وكثيراً ما كانوا يهلكون جوعاً كما وقع
لهم في اليمن مرات، أو بسوء التدبير كما وقع لكتائب الأرناؤد في دمشق في إحدى الحملات على الدروز، فهلك مئات منهم لأنهم تركوا في العراء في تشرين الثاني فهلكوا بالزحير، وقد يخدمون السنين ولا يلبسون ثياباً تقيهم حمارّة الحر وصبارّة القر، ويطول أمد خدمتهم فيقضون العشر والخمس عشر سنة لا يسرحون، خصوصاً إذا كانوا في ديار قصية كاليمن والحجاز.
أخذ أحرار الضباط يبثون في الأجناد روح الثورة، وكانوا مستعدين لقبول ما يلقى عليهم، فتمرد أولاً بعض الجند في آسيا الصغرى، ثم سرت روح التمرد إلى جند مقدونية. والجنود موقنون أن الدولة لا تهتم بأرواحهم اهتمامها بالبنادق التي يحملونها. واتفق أن ضاقت صدور المسلمين من الأرناؤد في مقدونية من طمع الدول الأوربية فيهم، وأدركوا أن العثمانية تسلمهم متى عجزت كما فعلت مع غيرهم، فيقعون في قبضة الحكومات الأجنبية على نحو ما وقع لمسلمي البوسنة والهرسك وبلغاريا ورومانيا واليونان والصرب. فقام الأرناؤد يداً واحدة في مناصرة الجيش المطالب بالدستور، واتحد الفيلقان الأول والثاني في الروم ايلي، وتبعهما الفيلق الرابع في كردستان، وذلك بالاتحاد مع عصابات البلغار. ونادى الضابطان نيازي بك وأنور بك بالدستور، أو يزحفان على دار الملك، فلم يسع السلطان إلا أن يعيد العمل بالقانون الأساسي الذي كان أوقفه منذ إحدى وثلاثين سنة، فصدرت الإرادة بوضعه موضع العمل صبيحة يوم الجمعة 25 جمادى الآخرة سنة 1326هـ 1908م وبوشر بانتخاب النواب وأطلقت حرية الاجتماع وحرية القول وحرية الكتابة والنشر بعد ذاك الضغط المنهك، وألغيت الجاسوسية التي جعلت وكدها في كشف عورات الناس بما لا يفيد شيئاً في حياة الدولة. وأخرج ألوف من الموظفين والخدمة والمغنين والطباخين وغيرهم من المابين أو قصر يلديز حيث كان السلطان أكثر أيام ملكه، وإليه انتقل الحكم من الباب العالي
الذي كان في عهده اسماً(3/116)
بلا مسمى، ما يريده لا يكون إذا لم يرده المابين، وما يريده المابين ينفذ في الحال بدون مناقشة ولا حوار.
إعادة الدستور وحال الدولة بعده:
أعيد الدستور إلى العمل بدون إهراق دماء، لأن جواسيس السلطان عبد الحميد هوّلوا له في قوة النزاع إلى الثورة من فيالق جيشه، وكانوا قتلوا بعض رجاله في سلانيك ممن أرسلهم للبحث عن قضية الثورة، كما بالغوا في تقدير قوة الأحرار وسريان أفكارهم في الولايات، فلم يسعه وهو محكوم لأوهامه وظنونه إلا أن يرد ما اغتصبه من حقوق الأمة العثمانية، ونجحت سياسة الأحرار وفشلت سياسة أعوانه الذين كانوا يتملقونه ويقولون له: إن أوربا إذا اتفقت على الدولة لا تستطيع أن تفلت من يديها، وما زال دولها متخالفات فلا يخشى على السلطنة العثمانية، أما الرعية فهي من ضعف الجانب بحيث تستطيع الدولة أبداً أن تقضي على كل ثورة تحدث في أرجاء ولاياتها، ثم إن الرعايا همج يسبحون بحمد آل عثمان في كل أوان، ولا تدرك عقولهم معنى الحرية، والحرية لا يتطلبها إلا بعض الشبان ومن لفّ لفهم من المحرومين والناقمين الذين فسدت نياتهم بما لقنوه من تعاليم أوربا المضرة.
وأخذ الناس في الشام يقدسون جمعية الاتحاد والترقي التي كانت سبب هذا الانقلاب الذي أنعش الأمة بعض الشيء وكثرت الآمال والأماني في إصلاح الحال، وطردت الشام ولاتها وعمالها الذين عرفوا بالجاسوسية لعبد الحميد والنيل من رعيته، وكفّ أهل النفوذ في القاصية عن الضغط على الفلاحين، إذ عرف هؤلاء من يلهم على رفع شكاويهم للمراجع، وأهين بعض من اشتهر عنهم أنهم من أنصار عبد الحميد الغارقين في رواتبه ومراتبه حتى اضطروا أن يندمجوا في الأحرار ويقدسوا شبانهم، ولطالما امتهنوهم وسعوا بهم إلى الحكام في عهد
الحكومة المطلقة، وبدئ بانتخاب أعضاء مجلس النواب، فحاولت جمعية الاتحاد والترقي أن يكون نواب الشام ممن تركن إليهم، أو ممن عرفوا بميلهم إلى الحرية وبعدهم عن السياسة الحميدية، ولكنها سعت لتقليل عددهم(3/117)
في الشام سعيها لذلك في سائر الولايات العربية، لئلا تتألف منهم أكثرية في المجلس، إذا انضموا إلى بعض العناصر الأخرى فيصبح الأتراك أقلية، لأن الاتحاديين لا يريدون إلا دستوراً ينتعش به الأتراك، وينال الخير بالعرض سائر العناصر على صورة لا تضر بكيان الترك، ويسعون إلى تتريك العناصر لتؤلف جمعية الاتحاد أمة واحدة متجانسة بلغتها إذ لم يمكن تجانسها بدينها، ويقوم أحرار العثمانيين من الأتراك في القرن العشرين بما عجز عن عمله محمد الفاتح وسليم ياوز من الفاتحين.
وبينا أحرار الأتراك دعاة القومية التركية الشديدة يفكرون في وضع خطط الإصلاح، ويحيون كل ما هو تركي، ويحاذرون كل ما هو عربي، والناس في فرح وجذل لأنهم أخذوا على الأقل يقولون ما يريدون ويستمتعون بحرياتهم، أعلنت اليونان ضمها لجزيرة كريت كما أعلنت النمسا إلحاق ولايتي البوسنة والهرسك، ورفض أمير بلغاريا السيادة العثمانية وأعلن استقلاله، وعاد مجلس النواب إلى عمله 1326هـ ولم يمض إلا أشهر قليلة حتى ندم السلطان عبد الحميد على ما وهب طوعاً أو كرهاً من تنفيس خناق العثمانيين، وأحب أن يقوم بعمل ارتجاعي يعيد به الناس إلى الضغط والفناء فيه وفي أعوانه، فيعملوا أحراراً من دون ممانع أو مناقش، فنهض جماعته من جواسيس وعمال ومن طردوا من الضباط من الجيش لقلة اقتدارهم وغيرهم من العوام الذين تخدعهم ألفاظ الشرع ويتبعون كل ناعق، وألفوا حزباً باسم الدين سموه الحزب المحمدي وأنصار هذا الحزب كثيرون لأنه اسم تحبه أكثرية الأمة، فدخل الناس فيه أفواجاً عن سلامة نية، حتى قيل إن من وقعوا على محضر الرضى بالدخول في سلكه بلغوا سبعين
ألفاً في دمشق وحدها، واختار السلطان لبث دعوته الولايات التي لم تتأثر أعصابها كثيراً بدعوة الأحرار وثورة الجند كالشام مثلاً، وأخذوا يهيجون العامة باسم الدين ويرتبطون بالسلطان بأيدي أناس كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء.
فعصا السواد الأعظم من جنود الأستانة بما بذله السلطان لهم من الذهب الوهاج، ولم ير أعوانه الذين هيجوا الأجناد واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم، فأسكروهم ليلة الفتنة، وفرقوا عليهم الذهب الكثير ليقوموا(3/118)
بالمطالبة بتطبيق الأحكام الشرعية بحذافيرها، وإبعاد بعض النواب وإسقاط الوزارة وتعيين الضباط الأميين الخارجين من صفوف الجيش، لا من دكات المدارس، أي اختيار الجهلة على المتعلمين، وبعبارة أفصح إبطال القانون الأساسي لأنه مخالف بزعمهم للإسلام، ومن قواعده الحرية، والحرية ليست من شأن الدين!. وقتل في هذه السبيل أناس من النواب وغيرهم من الدستوريين وعامة الناس في شوارع العاصمة، لأن الجند الثائر كان يطلق النار في الفضاء إرهاباً وترويعاً فيصيب الأبرياء وغيرهم، واغتال الضباط الجهلة كثيراً من الضباط الدارسين.
فلما تجلى هول الموقف للاتحاديين أهاجوا النفوس في الروم ايلي، فقامت بعض ولايتها على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور، وهب جند الفيلقين الثاني والثالث في أدرنة وسلانيك وزحفا على الأستانة بقيادة محمود شوكت باشا البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع، وقبض على المنتقضين والعصاة من الجند المشاغب، وضربت أعناق بعض المشايخ والمتمشيخين للسياسة لا للدين، ونفوا ألفاً وخمسمائة رجل من رجال السلطان وحاشيته إلى الحجاز واليمن، وخلعوا عبد الحميد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة وسجنها وتعذيبها ومخافة الشرع وحرق كتب
الإسلام والإسراف في مال الأمة، وبايعوا باتفاق مجلسي النواب والأعيان لولي عهده رشاد أفندي باسم السلطان محمد الخامس وحملوا السلطان عبد الحميد المخلوع منفياً إلى سلانيك.
عبد الحميد وسياسته وأخلاقه:
وبذلك تخلصت الأمة من عبد الحميد بعد أن حكم فيها ثلث قرن زاد أخلاقها فساداً. تولى لأول أمره زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الرابع، وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ثم أرسل على ما قيل من أحرق دار مدحت ليحرق العهد في جملة ما أحرق، واخذ يستميل قلوب أكثر أهالي الأستانة حتى اجتمع الصدران الأعظمان رشدي باشا ومدحت باشا ودعوا ألف(3/119)
شخص من الكبراء وأرباب المقامات، وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه، وأفتى شيخ الإسلام بحل بيعته - وما أسرع مشايخ الإسلام في إصدار فتاواهم لصاحب الوقت أياً كان وما أبطأهم في فتاويهم في المسائل الجوهرية - وبويع لعبد الحميد فما عتّم أن أقصى عن دار ملكه من كانوا السبب الأول في خلع عبد العزيز من العظماء.
وأخذ عبد الحميد يكثر من التضييق على أخيه مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولا سيما عهد السلطنة، ويشرد كل من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء، فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة وساستها، وأصبحت الطبقة التي اختارها تسير على رغبته، وكل من خالفه، ولو في سره، أقصاه وسجنه وعذبه، وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الأفعال، ويبالغ في الاحتياط لنفسه، وغدا يتولى كل أمر بذاته، ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم، وما يصطنع إلا من فسدت أخلاقهم من كل جنس على الأغلب، حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي طبقة من
أعوانه طغوا وبغوا.
أخذ عبد الحميد يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين، فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية، أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد وعجزوا عن استغلالها، فيضمها إلى أملاكه السنية، وألف عدة شركات وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع وبعض المعامل، وضارب بالأوراق المالية واتجر بالامتيازات. وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً قلما يهتم بشيء من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بالإنفاق عليهم خزانة الأمة، وكلهم أمناؤه إن اخطئوا فلهم الأجر، وإن أصابوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. ولقد قلّ جداً في عماله من لم يتجسس له، لا سيما بعد أن شاهد الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية المحببة إلى قلب السلطان، وغدا التجسس عند بعض الطبقات من الأمور التي لا تنكر.
اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ(3/120)
الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع، لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، وأصدر إرادته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام أن يوقفوا سير المعارف عبد الحد الذي وصلت إليه، لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة!! ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي لنعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وذهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً، وحاول أن يرفع من دعاء القنوت لفظ ونخلع ونترك من يفجرك لأن فيها لفظ خلع
وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من صحيح البخاري أحاديث الخلافة وأن تصادر حاشية ابن عابدين لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والاغتيال والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل، وغيّر بعض الأسماء فلا يقال مراد بل مرآة ولا عبد الحميد بل حامد أو حميد أو حمدي لأن مراد اسم أخيه وعبد الحميد اسمه، وأصبحت الصحف في أيامه أبواقاً تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.
وكثرت في أيامه مظاهر التكريم الخلابة من أوسمة ورتب، وأخذت تباع في آخر عهده بالمزاد بيع العقار والدار، ولها سماسرة ولها تجار، يغوي بها السلطان من يريد تشريفه، ويرفع بها من يهمه رفعه، وأصبح بعض العقلاء في دار الملك والولايات يتظاهرون بالبلاهة، أو ينقطعون عن الخدمة ويقنعون بالدون من العيش، لأن سلطانهم لا يرضيه منهم إلا أن يكونوا على قدمه في كل ما يذهب إليه. ولقد نصح له بعض سفراء الدول في أواخر عهده بالكفّ من شرور بعض العمال، لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها، فقال لهم: وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي! أي أنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من عسف الأمة ما داموا يظهرون له الحب، ويخدمون أغراضه على ما يحب.
كان عبد الحميد من الحسد بحيث يحسد خصيانه، وأشق ما يبلغه أن يعلم(3/121)
أن في أحد أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه، فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً ويجعله إلى الخمول بعد الشهرة، ويخرجه قسراً من عالم النباهة والظهور، فإن لم يستطع ذلك فلا أيسر من التقول عليه للحط من كرامته، ويلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء ولذلك
كان بعضهم عيوناً على بعض، ينال الواحد من رفيقه في غيبته وحضرته، حتى يتقربوا من قلب سلطانهم الذي يحب الملق، ويهش للدهان والتزلف. عادة له منذ كان فتىً، فقد ذكر مربيه المستشرق فمبري المجري أنه كان وهو فتىً لم يبلغ الحلم يلقي الشقاق بين أفراد الأسرة المالكة في القصر، وينقل الكلام من أناس إلى آخرين من أهل بيته، ويتجسس عليهم ويكشف سترهم.
أما إسراف السلطان عبد الحميد فإنه كان أقلّ من إسراف عبد العزيز بقليل، ولكن طغمة الجواسيس كانت مع نفقات قصره في الربع الأخير من دوره تستنزف جزءاً مهما من واردات السلطنة التي عرف كيف يستغلها، وكيف يصرفها في شهواته على طريقة مستورة، لم يطلع عليها إلا الخواص من رجاله. فقد ذكر الثقات أن آل عثمان لما أجلتهم جمهورية تركيا من بلادهم في صيف 1342 بأجمعهم كان مع بعض سراري السلطان عبد الحميد عقود من الماس والجوهر عرضوها في مصر للبيع فعجز الأغنياء عن أداء قيمها ثم جعلتها بعض المصارف عندها رهناً عل مال أسلفته، فكم كان يا ترى من أمثال هذه الحلي المدهشة عند نساء آل عثمان، والأمة تهلك وعمالها لا يقبضون رواتبهم. وكلما عقدت قرضاً فكرت في آخر بحيث كانت الدولة تعيش بالقروض في آخر أيامها. وأصبح عبد الحميد في عهده الأخير يملك ألوفاً من المزارع والقرى، ويحمل جانباً من أمواله يضعها في المصارف الأجنبية، يعدها لطارئ يطرأ عليه، فلما سقط لم تنفعه، واستولى عليها الاتحاديون كما استولوا على خزائن قصره يلديز ومجوهراته وأعلاقه وجواريه، ونقضوا كل ما أبرمه، وفصموا عرى ما أحكمه.(3/122)
رأي مؤرخ تركي في عبد الحميد وذكر حسناته:
جاء في كاتب عبد الحميد الثاني ودور سلطنته أنه كان يعتقد بالسحر والطلسمات والأرواح والفأل، ولم يتعلم شيئاً حتى إنه كان يغلط بالإملاء التركي، وله من
المزايا الاحتياط المتناهي والبصيرة وحب السعي وبعد النظر، وأن يعلم ماذا يقال فيه، ينفر من الحرب، ويلتزم السذاجة في لباسه وحاجاته، يحرص على الأمر والقيادة، ويتحرى من الأصول والمعاملات أكثرها استقامة، يميل إلى الأخذ بعلم الباطن الذي يأخذ بمجامع قلوب العامة، وإذا كانت أفكاره كثيرة الجولان أصبحت لا تثبت في مركز واحد، وإذ كان مبتلىً بالسويداء تراه على الدزام حزيناً مغموماً مغيظاً محنقاً، مفرطاً في الاحتياط والتدبير لا يعتمد على أحد، ممسكاً لا يعرف الكرم، عرضة للاضطرابات الذهنية والبدنية لعدم تطابق جملته العصبية. تبدلت حاله لما جلس على سرير الملك فنفعته المحن التي رآها لأول أمره أكثر مما أضرت به، ولئن كان أُذناً يحب أن يسمع ما يقال فيه، وينظر في الدقيق والجليل من الأمور، وهو محاط بجماعة من الأشرار ومزاجه عصبي، فإن كل هذا زاد في ذكائه. وكان إلى السابعة والعشرين يتعاطى المسكرات ويغوص في السفاهات، فنصح له طبيبه أن يقلع عنها أو يهلك كما هلك بالسل من قبل أبوه وأمه، فرجع عن عاداته الضارة ونظم حياته، وكان أول عمل قام به يوم استولى على زمام السلطنة أن سلب جميع ثروة أخيه مراد، عقارها ومنقولها، وكان ماهراً في عمليات الجمع والطرح والضرب، إلا أنه يمتنع أبداً من إجراء عملية الطرح إذا كان فيها ضرر عليه، ولم يكتف بمصادرة ثروة أخيه بل تصرف بثروة رعيته على ما يشاء، وأضاف معظم واردات الدولة إلى خزينته الخاصة، وما كانت الحكومة تتمكن من دفع الرواتب لغير النظار وكبار المقربين بصورة منظمة، أما سائر الموظفين والجند فإن عبد الحميد ترك لهم واردات يتناولونها راتب شهر أو شهرين في السنة فقط، وبذلك فتح باباً عظيماً من أبواب الرشوة 1هـ.
ومما ينبغي أن يدون في أيامه أن بعض الأمة انصرف إلى الزراعة والتجارة أكثر من الأدوار الماضية قبله في الشام، لأن الأمن استتب أكثر من القرن الماضي،
وطرق المواصلات البحرية والبرية زادت انتظاماً، والناس في الجملة(3/123)
قويت رغبتهم في تعليم أبنائهم، ولكن المسلمين مالوا إلى الترك لأخذ الوظائف الجندية والملكية، والمسيحيين والإسرائيليين مالوا إلى التفرنج لتعلمهم في مدارس الأجانب التي ظهرت تأثيراتها في أيامه، ومنها الهجرة إلى مصر والسودان والاميركتين، والزهد في سكنى العثمانية. وفي عهده زادت الخطوط الحديدية في المملكة ومعظمها خطوط حربية ثبت له غناؤها بعد حرب روسيا الأخيرة، وفي أيامه اتصلت حلب برياق ودمشق ببيروت، ودمشق بدرعا، ويافا بالقدس، وحيفا بدرعا، ودمشق بالمدينة، وطرابلس بحمص، إلى غير ذلك من الخطوط التي نفعت الشام ولا سيما الخط الحجازي من دمشق إلى المدينة المنورة.
وفي أيامه خفت وطأة الأشقياء إذ كان يقضي عليهم بالسجن الطويل والقاتل منهم يؤبد في السجن، فاستراحت الشام قليلاً وأخذت تدخل في نظام الأمم الأوربية. وكان من سياسته أن لا يستدين من أوربا مالاً ولا يعقد قروضاً مهما احتاجت الدولة للمال وساءت حالها، وكان لا يحب إهراق الدماء، وأبطل الحكم بالقتل فكان القاتل يخلد في سجنه. ففي أيامه اعتدى اليونان على الأرض العثمانية، فأعلنت الدولة حرباً على اليونان وكان الدخول في هذه الحرب مخالفاً لإرادته، وقد جعله الباب العالي أمام أمر واقع فأعلنها كارهاً، فانتصرت الدولة لكن أوربا حاولت أن لا تنحي على اليونان، وما زالت تطاول في عقد الصلح إلى سنة 1897م وكانت نتيجة ذلك أن دفعت اليونان للعثمانية غرامة قدرها أربعة ملايين ليرة ولعلها أول غرامة أخذتها من تغلبها في إحدى الوقائع بعد ذلك العز الباذخ، وقضى عدل السياسيين بأن تخرج الدولة من تساليا!.
ويقال بالإجمال: إن عبد الحميد نسخة صحيحة من تربية القصور، وصورة من صور دسائسها وشرورها، استفاد من تجارب غيره ومحنهم فاحتاط وحذر،
وطالت أيامه وعرف كيف يدخل في روح الأمة ويسخر مشايخها وأرباب الطرق والمظاهر، يسبحون بحمده ويعددون حسناته بما يقبضون من صلاته، وخلقوا له مناقب اخترعوها ما كان هو يحلم بها، وكان كل شيء في أيامه ظواهر ومظاهر، ومن دهائه النافع معرفته الدخول في عقلية السفراء فكان(3/124)
يرشيهم ويرشي زوجاتهم بطرق مختلفة يتففن فيها. ولم يكد يسلم من هداياه ورشاويه إلا سفير بريطانيا العظمى على ما يقال. فكان إذا أهداه السلطان هدية يقدم له من الغد مثلها أو أحسن منها، حتى لقد قالت امرأة هذا السفير يوماً: لقد أعجزنا أمر عبد الحميد يريد أن يرمينا في شبكته بالجواهر والحليّ كما رمى نساء السفراء قبلي. وكان كثيراً ما يلقي الشغب بين السفراء أنفسهم. وكانت له طرق وله ديوان خاص لإعطاء الصحف الأجنبية مالاً حتى تسكت عن خلل الدولة. وبهاتين القوتين قوة السفراء وقوة الصحافيين استطاع يوم ثورة الأرمن في العاصمة وأرمينية وقتل الأتراك والأكراد نحو مائة ألف من الثائرين، أن يسكت ساسة أوربا عن عمله وعمل عماله، ومع هذا لم يمنع الحذر من القدر فطوي بساطه وبساط أسرته بما عليه جملة والله وارث الأرض ومن عليها.
الأحداث في أيام محمد رشاد وحرب طرابلس
والبلقان وحزب الإصلاح:
تولى محمد رشاد الخامس بعد السلطان عبد الحميد الذي قضى في شهر ذي القعدة 1333هـ 1915م وهو ضعيف المدارك لأن أخاه ضيق عليه مدة حكمه الطويل حتى تبلد عقله وكان كأخيه عبد الحميد قليل المعلومات لم يدرس من اللغات الأجنبية شيئاً، بل درس الآداب الفارسية وبرع فيها. وزاد تسلط الاتحاديين عقيب أن ظفروا بمن أوقدوا فتنة 31 آذار وقضوا على الارتجاع وغيروا بعض خططهم
التي كانت ترمي إلى تفوق الترك على سائر العناصر وخاصة العرب، فدعت الحال إلى تأسيس حزب الأحرار المعتدلين 1329 الذي ظهر بعد ذلك باسم حزب الحرية والائتلاف في العاصمة والولايات، ولم ير الاتحاديون للخلاص من مخالفيهم أحسن من الاعتماد على القوة فاغتالوا بضعة رجال في الأستانة وحاولوا أن يغتالوا في الشام بعض أعدائهم الأشداء من أرباب القلم فلم يفلحوا، وأقصوا من الخدمة كل من لم يسر على رغائبهم، وتقاتل الحزبان فكانت الغلبة تكتب أكثر السنين للاتحاديين لأنهم دعاة الحرية الأول وترتيباتهم تامة من أكثر وجوهها، تشبه ترتيبات جمعية الماسون، ولا سيما فيما كان من قبضتهم على قياد الأعمال وأخذهم بمخنق جميع العمال.(3/125)
وثارت اليمن سنة 1329 فأرسلت الدولة جيشاً عظيماً على صنعاء والعسير قتل في حربها من أبناء الشام ألوف. كما كانت كل مرة تدفن ألوفاً من أبنائها في تلك الولاية القاصية. حدثني عظيم من الأتراك وكان أكبر رجال الشورى العسكرية في الفيلق الخامس بدمشق أن الدولة بحسب إحصاء الجيش كانت تدفن كل سنة من أبناء الشام في اليمن نحو عشرة آلاف جندي يهلكون بالأمراض والفتن والقلة وتغير الهواء، دامت على ذلك نحو خمسين سنة حتى عقد الصلح بين إمام اليمن يحيى بن محمد حميد الدين وبين قائد الحملة اليمانية عزت باشا، وبهذا العقد لم يبق للدولة هناك غير سلطان قليل في صنعاء وتَعِزِ وما إليهما من السهول والجبال، وانتقلت جل الإحكام إلى الإمام وذلك في سنة 1329هـ. وظهرت أيضاً فتن أُخرى في كردستان وألبانيا وأذنة، فلم ترتح المملكة سوى أشهر معدودة بعد إعلان القانون الأساسي. ومنشأ كل فتنة داخلية العمال على الغالب، ثم تمتد وتنتشر فيصيب الأمة شرها، ويتولى الأمر الجهلاء ثم يتعذر على العقلاء حل العقد التي يعقدونها، وكم من مجنون رمى في بئر حجراً فصعب على مائة عاقل
إخراجه. ثم نشبت حرب طرابلس بين العثمانية وإيطاليا، وجاءت إيطاليا بأسطولها إلى سواحل طرابلس وبرقة بدون مسوغ، وضربت سفينتين عثمانيتين كانتا راسيتين في ميناء بيروت فهلك من أهل المدينة والجند زهاء مائتي نسمة، وأرسلت الشام جنداً ومعاونات نقدية إلى طرابلس، آخر ما بقي من للعثمانيين من الولايات في برّ إفريقية. ولم يعد الصلح في أُوشي من سويسرا بين العثمانية والإيطالية حتى أعلنت دول البلقان المتحدة بلغاريا والصرب والجبل اسود واليونان الحرب على الدولة العثمانية فغلبتها، وجاء جيش البلقانيين إلى جتالجة من ضواحي الأستانة، وعقدت الهدنة يوم الثالث من كانون الأول 1912 بين العثمانيين والبلقانيين، وعقد مؤتمر في لندرا لإصلاح ذات البين بين الفريقين فلم يفلح، وعاد المتحاربون إلى النزاع بعد الأزمة الوزارية التي انتهت بسقوط الصدر كامل باشا وقتل ناظم باشا ناظر الحربية بيد أنور بك من ضباط الاتحاديين ودعاة الدستور في الروم ايلي، وأخذ الاتحاديون بعد هذه الفاجعة يستولون على أزمة الأمر وظهر أنور بك بمظهر جديد فقبض على عنان الحكومة، واستؤنفت الحرب بين المتحدين من البلقانيين(3/126)
الذين انفرط عقد اجتماعهم فزحف العثمانيون على أدرنة فاستعادوها إلى الملك العثماني، ولم يبق للدولة في أرض أوربا غير ولاية أدرنة وما إليها من ضواحي الإستانة، وانسلخت عنها هذه المرة ولايات قوصوة وإشقودرة ويانيا ومناستر وسلانيك وعادت الحرب فنشبت بين العثمانيين والبلقانيين في 17 تشرين الأول 1912 وعقد الصلح في 29 أيلول 1913 وقد فقدت العثمانية في هذه الحرب مائة ألف جندي بين قتيل وجريح وثمانين مليون ليرة ثمن ذخائر وسلاح، وخرجت من الروم ايلي وكانت صرفت في فتحه خمسين سنة وحكمته خمسمائة سنة ولم توفق إلى نشر لغتها ودينها فيه على ما يجب.
وفي سنة 1913 اتحد جماعة من السوريين بينهم اللبنانيون النصارى والمسلمون على مطالبة الدولة بإصلاح الشام. وكتب والي بيروت أدهم بك إلى الصدر كامل باشا كتاباً قال فيه: كانون الأول 1912 تتجاذب القطر عوامل مختلفة، ولقد ولى قسم عظيم من الأهالي وجهه شطر إنكلترا أو فرنسا لإصلاح الحالة التعسة التي هم فيها فإذا نحن لم نأخذ بالإصلاح الحقيقي يخرج من يدنا لا محالة 1هـ. فأرسل الصدر إلى الوالي يريد الأهلين على عرض مطالبهم، فاجتمع المجلس العام في بيروت وانتخب 90 عضواً عقدوا جلستهم الأولى في 12 كانون الثاني سنة 1913 واختارت من أعضائها خمسة وعشرين مفوضاً سمتهم اللجنة الدائمة، وقدمت هذه بياناً بالإصلاحات المنشودة، واتفق على ذلك أعيان المسلمين والمسيحيين فوضعت اللجنة في بيروت لائحة أهم ما فيها توسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب. وفي أوائل الصيف ذهب وفد من البيروتيين وغيرهم إلى باريز وعقدوا هناك مؤتمراً قرر يوم 21 حزيران سنة 1913 أن تضمن للعرب حقوقهم السياسية، وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكاً فعلياً، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تنظر في حاجاتها وعاداتها، وان تنفذ لائحة الإصلاحات التي نظمت في بيروت القائلة بتوسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب، وأن تعتبر اللغة العربية في مجلس النواب العثماني، وتكون لغة رسمية في الولايات العربية، وأن تجعل الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية.
فخاف الاتحاديون العاقبة وبعثوا أُناساً من قبلهم وقبض واليهم في بيروت(3/127)
حازم بك على عدة أعضاء من الإصلاحيين فأغلقت المدينة حوانيتها أياماً فأخرجهم من السجن، وبعث الاتحاديون أناساً من قبلهم إلى باريز وغيرها، واسترضوا أعضاء الوفد وأطعموا بعضهم بالوظائف الكبرى، ووعدوهم أن تجري لهم الحكومة
الاتحادية من مطالب الإصلاح ما يمكنها القيام به، مثل تسليم الأعمال الإدارية إلى السلطات الوطنية طبقاً للقانون الخاص بإدارة الولايات، وأن يكون التعليم الثانوي والابتدائي في المدارس الوطنية بالعربية، وتستعمل اللغة العربية في بعض أعمال قانونية معينة، وأن تضاف الصيغة العربية على إعلانات الجلب إلى المحاكم كما تضاف إلى الأحكام المدنية والجنائية، وتكون العرائض المقدمة للسلطات الرسمية باللغة العربية، وأن يعين بعض العرب في مجلس الأعيان ومجلس شورى الدولة ومحكمة التمييز ومشيخة الإسلام ودار الفتوى.
وطبق الاتحاديون بعض هذه المواد فرأينا في بعض مراكز الألوية والولايات في الشام مدارس تجهيزية تدرس العلوم بالعربية، وإلى جانبها المدارس القديمة التركية في كل مظاهرها، ووضعت الصيغ العربية إلى جانب الصيغ التركية في أوراق الجلب إلى المحاكم، وأخذت الحكومة تقبل الشكاوي بالعربية من الأهلين، وعين بعض رجال الشام في وظائف كبرى في العاصمة، وكان نائب دمشق في مجلس النواب شكري العسلي أول من رفع صوته بهذا الطلب، طلب إعطاء العرب حقهم من الوظائف وقال: إن أربعة فقط من أبناء العرب موظفون في الإدارة المركزية في جملة بضع مئات من الأتراك، فنبه أفكار من لم يكن متنبهاً من أبناء العرب إلى غمط حقوقهم، وحنف بعض أقحاح الترك عليه وعلى من عاونه على بث هذه الفكرة وعدوها خروجاً على الجماعة.
الصهيونية ومنشؤها:
وكان شكري العسلي أيضاً أول من نبه أفكار مجلس النواب إلى الخطر الصهيوني في فلسطين وكان الاتحاديون وفيهم الإسرائيليون أو الصابئون من اليهودية الدونمة أمثال جاويد بك ناظر المالية ينوون أن يبيعوا نحو ثلاثة ملايين دونم من الأراضي في فلسطين وسورية من جمعيات الاستعمار الصهيوني(3/128)
فبطل المشروع
لما ظهرت مضرته إلى عالم الوجود وقامت حول المشروع ضجة في الصحف فلم يسع الاتحاديين إلا أن يطووا دفتره. ولكن بالقتل أعضاء الديوان فيما قيل إن لم يحكموا على المتهمين السياسيين فوافق بعضهم على القتل اضطراراً لا اختياراً.(3/129)
وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان أن خطأ جمال باشا في رأيه وجنايته الكبرى على العرب والترك في فعله هما من الوجوه الآتية:
أولاً: إن فريقاً آخر من الذين قتلهم أبرياء من خيانة الدولة ولم يكن لهم(3/137)
ذنب سوى وجودهم في الحزب المعارض لجمعية الاتحاد والترقي، والقانون العثماني لا يعرف الاتحاد والترقي بل السلطنة العثمانية.
ثانيا: إن فريقاً آخر منهم لم يوجد عليهم وثائق خطية ولا قرائن قطعية تذهب في جزائهم إلى درجة القتل، وقد برر جمال هذا العمل فيما بلغنا من نفس رئيس الديوان العرفي بأنه من باب القتل السياسي مع أنه كان الأولى بهؤلاء أن يتركوا إلى حكم القانون فيحكم عليهم بحبس أو نفي على حسب درجة جرمه.
ثالثاً: على فرض غير الواقع، وهو أن هؤلاء مجرمون أعداء للدولة، فلم يكن من باب السياسة ولا حسن الرأي، فتح هذه المسألة أثناء الحرب ومجازاة أناس قد عفي عنهم ونكء القروح التي كانت قد سكنت نوعاً، وإثارة عواطف العرب وحفائظهم وإظهار كون الترك يريدون الانتقام في هذه الفرصة التي سنحت لهم للبطش وتعزيز النزعة الأجنبية بهذه السياسة.
رابعاً: إن الألوف الذين نفاهم إلى الأناضول مع عيالهم وخرب بيوتهم، وأمات كثيرين منهم في الغربة لم يكن منهم مائة شخص يدرون ما هي السياسة، فضلاً أن يكونوا خائنين للدولة فكان تغريبهم عن أوطانهم مجرد عذاب وقهر، بدون أدنى فائدة، سوى النفور مع تكليف الدولة عليهم 150 ألف ليرة شهرياً فكان خطأ جمال أنه سلح أعداء السلطنة العثمانية، وأنصار الشقاق بين العرب والترك، ورواد
السياسة الأجنبية الكثيرين في الشرق، بسلاح من البراهين لم يكونوا يملكونه فيما لو كان الأتراك انصرفوا من بلاد العرب بدون أعمال جمال. اه.
وبعد فقد عمل جمال باشا ما عمل بقرار من جمعيته، وكان من ورائه أنور باشا يحثه على إهلاك هؤلاء الذين صلبوهم. وقد جاء هذا مرة إلى عاليه من لبنان فقال على صورة الاستنكار: أما قتلتم بعد هؤلاء الخونة؟. وكان أنور باشا نمراً مفترساً في صورة حمل وديع، والدم في نظره ونظر رفاقه طلعت ومدحت وناظم وشركائهم أحلى في المذاق من طيب الشراب خصوصاً إذا كان صاحبه غير تركي، ومساويه ومساوي أصحابه أكثر من أن تحصى، تجردوا من كل عاطفة ومن كل دين، وعاطفتهم دهان وتظاهرهم بالدين رياء.(3/138)
وقبل تنفيذ الأحكام بالجوقة الثانية كان قائد الجيش الرابع ينفي من الشام إلى صميم الأناضول أسراً برمتها، وفيهم بيوت من صلب رجالهم بالتهم السياسية وممن جلاهم أناس من الغوغاء والقتلة القدماء، واشترك في هذه النكبة المسلمون والمسيحيون وغيرهم على السواء، خصوصاً من كان لهم صلة بدولة من دول التحالف فرنسا وبريطانيا وروسيا، ثم طمع الاتحاديون أن يتوسعوا في تأديبهم، وأعدوا في الأناضول ألوفاً من الدور ليجلوا النابهين من سكان الشام إلى تلك الأرجاء، وكان الاتحاديون قرروا في مؤتمرهم أن يجلوا العرب إلى أرض الترك، ويستعيضوا عنهم في الشام بأناس من شذاذ الآفاق، وأن يعاملوا مهاجرة الشام كما عاملوا الأرمن يوم جلوهم عن أقاليمهم أي أن يقتلوهم على بكرة أبيهم في الطرق، ويغتالوهم بالطرق التي اغتالوا بها أعداءهم الأرمن. وشرع الترك يقبضون على جوقة ثالثة من وجوه الأهلين ومنوريهم ويعذبونهم بتهم سياسية وجهوها إليهم منها أن لهم ضلعاً في إنشاء حكومة عربية ومفاوضة شريف مكة بذلك.
خلع شريف مكة طاعة العثمانيين وتأثيره في
الأتراك:
كانت البقية الباقية من منوري الشام تخاف سوء المغبة من عمل الاتحاديين خصوصاً بعد أن مرنوا على إزهاق النفوس، ورفعوا حجاب الوهم الذي كان مسدولاً فرفعوه وعرفوا ما تحته يوم جسروا على قتل كبراء الأمة ولم ينتطح عنزان. وكادت النوبة تصيب أهل الطبقات الثالثة والرابعة يوم أعلن الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة استقلاله بملك الحجاز 9 شعبان 1334هـ حزيران 1916م وثار العرب على الترك في مكة، وقتلوا الحامية التركية وأسروا أكثرها، وحوصرت المدينة بعربه، وذلك بتدبير الحلفاء وأموالهم، فشغل الترك بهذه المصيبة التي لم يكونوا يتوقعونها، وأخذوا يستميلون إليهم رجالات الشام ويستبدلون اللين بالشدة، وإذا كانوا على عزم إنفاذ حكم القتل برجال من القافلة الثالثة بعث ملك الحجاز الجديد بواسطة جمهورية أميركا المتحدة، وكانت على الحياد، بأن كل منفي عربي أو مسجون إذا أصيب(3/139)
بأدنى إهانة فهو مستعد أن يعمل أضعافه مع الأتراك الذين في أسره، فكفّ الاتحاديون عن القتل، وأطلقوا سراح السجناء مرغمين، بعد أن عذبوهم أنواع العذاب، فعدّ ذلك من حسنات الملك حسين، ولقد آلم الاتحاديون قلوب السوريين بقتل طبقة مهمة من الشبان والكهول والشيوخ، ونفي النساء والأطفال إلى الولايات التركية، ومع هذا لم تقصر الشام في تقديم أبنائها للحرب جنداً، ولا أموالها وعروضها لمعاونة الجيش، ولا أرزاقها وحيواناتها وذخائرها لخدمته، فحنق على الدولة من كان يريد انتصارها، وتأصلت العداوة بين الترك والعرب، وما كانت العداوة في الحقيقة إلا بين دعاة الاتحاديين والمستنيرين من العرب، حتى لا يبقى بعد الحرب رجال يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم بمطالبة الدولة بشيء من الإصلاح.
ومنذ نادى الملك حسين باستقلال الحجاز أخذ الضباط العرب وغيرهم من العراقيين والشاميين واليمانيين ممن وقعوا في أسر دول الحلفاء، أو كانوا في خدمة الجيش التركي على مقربة من الحجاز أو في الجهات البعيدة كالقفقاس ينضمون إلى جيش الحجاز العربي فألفوا جيشاً لا بأس به يرجع إلى نظام في الجملة، وهذا الجيش هو الذي قاتل الترك في الشام، وأوقع الشغب في الفيالق التركية، وفت في عضد الدولة العثمانية في بوادي الحجاز، وساعده ما كان ينهال من الأموال الإنكليزية التي استمال بها ملك الحجاز والقواد أولاده الأربعة العربان في الشام والحجاز، وتسرب قسم منها إلى كبار الضباط من أبناء العرب، وكان لجمعية العهد يد طولى في التحاق ضباط العرب بصاحب الحجاز وهذه الجمعية كانت مؤلفة من ضباط العرب في الدولة كما كان مثل ذلك لجمعية الفتاة العربية التي ألفت في باريز قبل الحرب بنحو خمس سنين من المفكرين من أبناء العرب وخصوصاً الشاميين، وضمت إليها بعض الأعيان والمفكرين وفي مقدمتهم أنجال شريف مكة وأبلغوا والدهم قرارهم وامتدت دعوتهم إلى جبل الدروز.
وقدر بعض الواقفين عدد من انضم من البدو إلى الجيش العربي في جميع الجهات بما يناهز المائة ألف والعسكر النظامي لا يتجاوز الخمسة آلاف. وقال بعضهم: إن البدو لم يتجاوزوا السبعين ألفاً يكثرون ويقلون بحسب الحاجة،(3/140)
والنظامي وهم من أبناء العرب الذين أسروا من الجيش التركي أو فروا منه خمسة آلاف والنظامي لم يتجاوزوا هذا القدر.
وكان شاعر الثورة الشيخ فؤاد الخطيب يحفز أرواح هذه الأمة بشعره ومما قاله في الثورة:
يا آل جنكيز إن تثقل مظالمكم ... على الشعوب فقد كانت لهم نعما
فالظلم أيقظ منهم كل ذي سنة ... ما كان ينهض لولا أنه ظُلما
أرهقتم الشعب ضرباً في مفاصله ... حتى استفاق وسلّ السيف منتقما
فالشنق عن حنق منكم وموجدة ... قد أرهف العزمات الشم والهمما
هيهات يصفح عنكم أو يصافحكم ... حرّ ولو عبد الطاغوت والصنما
يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه ... قد عاد متصلاً ما كان منفصما
والتف حولك أبطال غطارفة ... شم الأنوف يرون الموت مغتنما
فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقاً ... سداً من الترك إن تعرض له انهدما
يا من الحّ علينا في ملامته ... بعض الملام وجرّب مثلنا الألما
لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها ... مضنى لما ضج بالزعم الذي زعما
ايه بني العَرب الأحرار إن لكم ... فجراً أطلّ على الأكوان مبتسما
يستقبل الناس من أنفاسه أرج ... ما هبّ في الشرق حتى أنشر الرمما
تلك الحياة التي كانت محجبة ... في الغيب لا سأما تخشى ولا سقما
سارت مع الدهر من بدو ومن حضر ... حتى استتبت فكانت نهضة عمما
من ذلك البيت من تلك البطاح على ... تلك الطريق مشت أجدادنا قدما
لستم بنيهم ولستم من سلالتهم ... إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما
إلى الشام إلى أرض العراق إلى ... أقصى الجزيرة سيروا واحملوا العلما(3/141)
أماني الأتراك وخيبتهم وتخريبهم:
كانت حالة الشام تسوء كلما طال أمد الحرب العامة، وقد أتى الجند وبعض ضباطهم وعمال الحكومة من ظلم الناس باسم الجيش والتكاليف الحربية ما ضاقت به الصدور، وغلت مراجل الأحقاد، وكلما دامت الحرب شهراً زاد القوم من الدولة اشمئزازاً وقهراً، ومن يجسر والأحكام العرفية سائدة، وسلطان الفزع الأكبر فاغر فاه، أن يقول كلمة خير، أو يرفع مظلمة أو ينقد معوجاً، فإن التعذيب كان مصير من يجرؤ على ذلك، والسجن والقتل كان يتهدده كما وقع لمئات في دار
الملك ومنهم أصدقاء أنور باشا وشركاؤه في أعماله، قتل بعضهم لأنهم قالوا بطلب الصلح من الحلفاء، وأن الدولة تحاول بحربها الانتحار. قال سفير أميركا: رأيت أنور في حد الأيام وقد اشتدت وطأة الضباط على الفلاحين والتجار فقلت له: إن تلك الأعمال نهب التجار والفلاحين باسم الجيش تفضي بالمملكة إلى الخراب العاجل والدمار الأكيد، ولكنه لم يعبأ بأقوالي ولم يخفق فؤاده ألماً لتلك الأعمال، بل كان يفتخر بأنه أنشأ جيشاً كبيراً مجهزاً من لا شيء. بلغ عدد الجنود التي جمعها أنور نحو مليون ونصف مليون، وبقي نحو مليون أسرة في أنحاء المملكة وليس لهم من يساعدهم على القيام بأعباء الحياة، وقد فتك بهم الجوع فتكاً ذريعاً. أما الحكومة التركية فكانت تدفع لكل جندي في جيشها نحو ربع ريال في الشهر اه. قلنا: إن الدولة جمعت في الشام سبعاً وعشرين قرعة أي من ابن الثامنة عشرة إلى ابن الخامسة والأربعين وكان معدل ما يجمع من كل صنف ثمانية فرّ منهم بحسب الإحصاءات الرسمية إلى آخر الحرب نحو مائة وخمسين ألف جندي وظلّ في الخدمة بين أسير ومريض ومستخدم في خدمة خفيفة ببلده نحو خمسين ألفاً وقتل نحو أربعين ألفاً. ولو أردنا تفصيل ما وقع من الجيش ولأجل الجيش، وأهمه استباحة الأعراض المصونة، والعبث بالمقدسات والمشخصات، لاقتضى لذلك مجلد برأسه، فقد فسدت الخلاق بحيث لا يتأتى أن تصلح إلا بفناء معظم من تلوثوا بتلك اللوثات، وكانت تنضب المواد الحيوية يوماً بعد يوم، وقل الفحم الحجري جداً فأخذ الأتراك يسيرون القطارات بالحطب، يقطعون(3/142)
الزيتون والكينا من فلسطين، والجوز والمشمش والحور من الغوطة، والسنديان والزان من الصنوبر من لبنان، والزيتون والفستق من حلب، والغضا من الحجاز، واشتد الجوع وعزّ الخبز، وأصبح الغني يغتبط بأنه ينال قوت يومه على أيسر وجه، وذل اعظم عظيم في هذه الديار أمام جمال باشا وأشياعه من الاتحاديين، وصانعه
اكبر البقية الباقية من الأحرار مخافة أن ينالهم من ظلمه ما نال غيرهم، وكان الموت معلقاً بين شفتيه ومن لا يصانعه يذله، وربما قتله أو نفاه من هذه الأرض. وكان يعمل ما يريد ثم يكتب إلى الأستانة بما حصل. ومن أغرب الأحكام أن يجعل القتل في أيدي العرفاء والنقباء من صغار الضباط، فكان لأحدهم إذا قبض على عشرة فارين أن يهلك واحداً منهم بالقرعة! وهكذا تجددت الأحكام القره قوشية، ورخصت الأرواح وبيعت بيع السماح.
قال جمال باشا في مذكراته: ويقيننا أن الفضل في عدم حدوث ثورة في سورية خلال العامين والنصف العام اللذين أعقبا إعلان الشريف حسين استقلال بلاده، إنما يرجع إلى أحكام القتل التي وقعت في نيسان 1916 وبقطع النظر عن ذلك فإن أنور باشا وهو وزير الحربية، وطلعت باشا وهو وزير الداخلية، قد وافقا على تنفيذ أحكام القتل بدون استئذان من المراجع العليا، ثم أرسلتُ إلى الأستانة تقريراً بما أجريته وهناك راجعته محكمة الاستئناف التابعة لوزارة الحربية ثم أرسلته بناء على قرار مجلس الوزراء إلى القصر للتصديق السلطاني، وهكذا أيدت الإرادة السنية الأحكام التي قضى بها الجيش ونفذها وبذا ختمت هذه الرواية اه.
وكلما كانت الأمة ترجو انفراج الأزمة كان أحمد جمال باشا وهو قوي الثقة بنفسه وجيشه يرجو أن تنجلي الحرب عن نصرة دولته، ويؤسس في الشام معاهد لتتريك العرب وتقوية الدعوة التركية الاتحادية في نفوس الأمة ويفتح شوارع في يافا والقدس وبيروت ودمشق ويضع المصورات والخطط والتصميمات لهندسة أمهات مدن الشام على الطريقة الحديثة، وقد نفذت أحكامه على البادية والحاضرة، حتى إن بعض أمراء العرب كانوا عيوناً له يقبضون إحساناته الكثيرة، ولا يتلكئون عن قبول المعاونات التي يقدمها لهم الإنكليز. ولم يسلم من يد جمال باشا إلا دروز جبل حوران فإنهم خدعوه بوعودهم، ولم يتجندوا(3/143)
بحجة العمل في أراضيهم
لإخراج الحبوب للجيش. ولكن الغلات التي استغلوها لم يقدموا منها شيئاً للدولة على الرغم من إلحاح القائد العام عليهم، فحفظوا حبوبهم في أهرائهم حتى شحت في الشام، ثم أخذوا يبيعونها بأثمان فاحشة ولولا ذلك لجاع أهل مدينة دمشق نفسها على قربها من حوران أنبار الشام العظيم. ولذلك كان جمال باسا يحرّق الأُرّم عليهم، ولو خرجت دولته ظافرة لأرسلوا حملة على هذا الجبل تهلكه وتخربه. وأخرى وهي تعد في مآثر الدروز هذه النوبة، وهي أنهم آووا في جبلهم نحو عشرين ألف لاجئ من العرب والترك على اختلاف مذاهبهم، فراراً من الجندية أو غيرها، وأطعموهم مدة الحرب بلا عوض، ومنهم من كانوا يشغلونهم في أراضيهم مقابل إطعامهم فقط، فكانت مضافات الرؤساء منهم أشبه بفنادق ومطاعم عامة مجانية، خدامها أصحاب تلك البيوت من أعيان الجبل، فمثلوا بعملهم القِرىَ العربي والمروءة والشهامة، وكفروا عن سيئات المسيئين منهم في الماضي، وكان جبل الدروز أقوى صلة بين جزيرة العرب والشام والعراق مدة الحرب ولا سيما بعد استقلال الحجاز، وعزم الحلفاء على فتح الشام باسم الأمير فيصل واسم أبيه، فكان مركز جبل حوران من الوسائط النافعة لأبناء الشام والحجاز معاً، وفيه تألفت عصابات من الدروز لإلقاء الاضطراب في صفوف الجيش التركي، وظلّ أكثر زعماء الجبل على ولائهم للدولة العثمانية حتى أظلتهم الرايات العربية.
الوقائع المهمة في فلسطين وسقوط القدس وما إليها:
أخذ الجيش التركي في الجبهة ينضغط على نفسه وتتضاعف فيه مضاعفات النفوس من جوع وعري، ففي 26 و27 آذار 1917 حدثت معركة غزة الأولى بين الترك والإنكليز وفي 19 نيسان كانت معركة الرمادة، وفي 4 آب انهزم الأتراك للمرة الثانية في محاولتهم غزوة مصر في قطيا، وفي 23 تشرين الأول
و7 تشرين الثاني اخترق البريطانيون خط العثمانيين بين بئر سبع وغزة، فتخلى الأتراك عن الابن وبئر السبع وكانت وقعة في أزقة غزة على أسلوب حرب المتاريس اشتركت فيها البحرية البريطانية بمدافعها من البحر، وكانت الغلبة(3/144)
فيها للأتراك وفقد من الإنكليز على رواية قائد الجيش الرابع في وقائع غزة 4000 وفقد الترك 286 قتيلاً و756 جريحاً و585 متغيباً وأسيراً، وادعى القائد التركي أن كل جندي من الحامية في غزة قتل جندياً إنكليزياً وأن الجيش البريطاني في أرجاء غزة كان مؤلفاً من أربع فرق فرسان وأربع مشاة، وأن المعركة دامت ثلاثة أيام واضطر البريطانيون إلى النكوص على أعقابهم يحتمون في خطوطهم تاركين ورائهم القتلى والجرحى وعددهم 7000 أي ما يعادل جميع القوة التركية التي اشتركت في القتال في تلك الجبهة. وفي الأخبار الرسمية التركية أن خسائر الإنكليز رجب 1335 في ساحة غزة الثانية قدرت بثلاثة آلاف فيهم كثير من الضباط، وأفاد أحد الأسرى أن فرقته بات عددها أربعة آلاف رجل بعد عشرة والأسرى بلغوا نحو الأربعمائة وخسائر الإنكليز بالنسبة للوقعة الأولى كثيرة وخرب الجانب الأعظم من غزة وكان تشتت أهلها تحت كل كوكب. ومن الأسباب التي قضت بخرابها أن الأتراك وضعوا بعض مدافعهم الرشاشة الخفيفة في المآذن وأخذوا يطلقونها على البريطانيين، فما كان من هؤلاء إلا أن قابلوهم بإطلاق القنابل من مدفعيتهم من البر والبحر. ولم يتناول الخراب غزة فقط بل تناول يافا أيضاً، وذلك لأن العثمانيين أجلوا أهالي تينك المدينتين إلى الداخل فترك سكانهما عروضهم ومتاعهم وأموالهم أو باعوها بأثمان طفيفة وارتكبت الفرقة الثالثة من الفرسان وهي من الترك أنواع الفظائع في النساء بما يخجل منه.
كانت قيادة الجيش الفعلية في الشام بيد الألمان وبالاسم بيد العثمانيين فإن القواد فونكريس وفالكنهايم وليمان سندرس أبلوا بلاء حسناً في وقائع شبه جزيرة سينا
وغيرها ولذلك كان قائد الجيش الرابع يكرههم لأنهم جعلوه وأوامره وراء ظهورهم. ووظيفته الحقيقية في هذه الحرب أن يقدم لهم جنداً وأرزاقاً وينفذ ما يأمر به القائد الألماني لنظام الجيش وانتظامه. ولم يقصر الأتراك والحق يقال في مد الخطوط الحديدية إلى جبهة مصر على تعذر جلب الأدوات اللازمة لها من الغرب فأنجزوا خط العفولة نابلس متصلاً بحيفا ودرعا ودمشق قبل الحرب ثم أنجزوا مسعودية - طوركرم - لد - الصرار - الحفير وهو(3/145)
254كيلو متراً، ومدوا خطاً من التينة حتى دير سنيد قرب غزة وهو 40 كيلو متراً في أيام قليلة وخربوا خط حوران دمشق وطرابلس حمص لأخذ خطوطهما الحديدية، وأصبحت بئر السبع مركزاً مهماً فيها الكهرباء وأدوات الرفاهية في المدن، وسدوا طريق العريش - الابن - نخل، وحفروا آباراً وعملوا أحواضاً وجروا الماء في البادية إلى القصيمة إلى ثلاثين كيلو متراً.
سار الجيش الإنكليزي على عادته في قتال الترك في سينا سيراً بطيئاً ولكنه كان أميناً، ومدوا خطهم الحديدي بالقرب من الساحل ليكون له من الأسطول عند الاقتضاء معتصم، وفي 31 تشرين الأول أخذوا بئر السبع وفي 21 كانون الأول 1916 أخذوا العريش وفي 9 كانون الثاني 1917 أخذوا رفح. وأخلوا شبه جزيرة سينا من كل ما هو تركي سنة 1917، وأُخذت يافا في 16 تشرين الثاني وكانت أخليت من السكان زهاء سنة ونصف وتشرد أهلها، وسقطت القدس في 10 كانون الأول 1917 ودخلها القائد المشير اللنبي الإنكليزي دخول الظافر فسقطت بيت المقدس كما قال بعضهم في أيدي الفرنج بعد أن خرجوا منها في الحروب الصليبية منذ ثمانمائة وتسع عشرة سنة. وقرعت أجراس الكنائس فرحاً بسقوط القدس ومن جملتها الكنائس الألمانية كأن ما خسرته ألمانيا سياسياً بهذا السقوط يعزيها بعودة الأرض المقدسة دينياً إلى أيدي المسيحيين. واستولى الإنكليز
على أريحا يوم 21 شباط ثم جعلت الجبهة على خط يافا أريحا وظل المتحاربون يقتتلون إلى سنة 1918 وقد كلت همم المقاتلين من الترك فاخترق القائد اللنبي الجبهة التركية في أيلول 1918 واستسلم جيشان تركيان وكان انهزم أحدهما نحو الشمال أي نحو طريق القدس نابلس، ونشبت بين الفريقين البريطانيين والأتراك معركة هائلة في البيرة انتهت بهزيمة الأتراك وانسحابهم إلى اللبن وبلغ الجناح الأيسر من الجيش البريطاني حيفا وتجاوز الجناح الأيمن نابلس وسقطت حيفا في 23 أيلول 1918 وكذلك عكا والناصرة وبفتح حيفا وطوركرم ونابلس والناصرة وطبرية فتحت أبواب الشام أمام الجيش البريطاني.(3/146)
عمل الجيش العربي:
في سنة حزيران سنة 1916 أي في السنة الثالثة للحرب العامة لما قام الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة بثورته على الترك وقتل وأسر حامية مكة من الأتراك ونودي به ملكاً على الحجاز، ثار أبنه الأمير علي في عرب المدينة المنورة الموالين لأبيه على الحامية التركية غداة ثورة مكة فلم يستطيعوا أخذها لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان حصنها تحصيناً عظيماً فما استطاع العرب أن ينحوا على تلك الحصون مخافة أن يصاب قبر الرسول ومسجده بأذى وقبعت الحامية التركية بما ادخرته من الطعام في داخل حصونها وأجلت الحكومة أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى وعددهم لا يقل عن أربعين ألفاً ولم تترك سوى بضعة آلاف ممن آثروا أن يموتوا في جوار قبر النبي على الجلاء غير مطالبين الجيش المحاصر بخبز ولا إدام. وأخذ عرب الأمير علي يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية مدة ويخربون بعض خطوطه ويعود العسكر العثماني فيصلح ما خربوه ويستخدمه في الضروريات لتموين الجيش المرابط في المدينة، وأخذ منذ ذاك الحين الأمير فيصل ثالث أنجال الملك حسين
في سرايا من عرب الحجاز بشاطئ ساحل البحر الأحمر متقدماً إلى سمت الشمال وينضم إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروا في ترعة السويس وشبه جزيرة سينا وساحة العراق. ففتح ينبع البحر والوجه وهنا تألف الجيش الشمالي الذي قاده الأمير فيصل، أما شقيقه الأمير عبد الله النجل الثاني فكان في الطائف يحاصرها حتى سقطت، أي أن الأمير علياً كان يشاغل الحامية التركية في المدينة ويفتح رابغ ويجعلها ميناءه، وشقيقه الأمير فيصلاً يحاول الابتعاد عنها للانضمام إلى الجيش البريطاني في شبه جزيرة سينا.
وفي تموز1917 أي بعد أحد عشر شهراً من ثورة صاحب الحجاز على الترك فتحت العقبة بمعاونة الشيخ عودة أبي تايه من مشايخ الحويطات ومن شجعان العرب، وقد أبلى بلاء ليس بعده بلاء في هذه الوقعة وفي أكثر الوقائع(3/147)
التي اشتبك فيها الجيش العربي مع الجيش التركي، وكان له الفضل بإسقاط الطفيلة وأبي الأسل والكويرة وغيرها من المواقع التي احتلها العرب في أوائل الشام من الجنوب. وقد أسر في فتح العقبة تابوراً تركيا برمته تام الأهبة لم يفلت منه ولا أركان حربه ورجال شوراه الحربي استسلموا كلهم لأبي تايه فعاملهم أرقى معاملة مدنية. وكان لمدافع الأسطول البريطاني من البحر أولاً يد طولى في إخلاء الترك للعقبة وبسقوطها حمى العرب مؤخرة البريطانيين في سينا. وكان الأتراك يأتون من معان إلى بادية سينا يضربون البريطانيين، وباستيلاء العرب على العقبة استطاع الإنكليز أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع، أما الأتراك والألمان فقد دافعوا عن العقبة دفاعاً عظيماً ولكن البريطانيين كانت لهم السلطة على الساحل والعرب يحاربون بأجسادهم وأرواحهم مع صاحب الحجاز وأولاده.
استولى العرب على الطفيلة ووادي موسى وحاولوا الاستيلاء على معان الاقعة على الخط الحديدي فردوا عنها مرتين بخسائر، خصوصاً يوم 22 تموز عندما
هاجموا محطة أم الجرذان الجردونة فكانت خسائرهم عشرين ضابطاً ومائتي جندي واستولوا على أم الجرذان ثم تخلوا عنها. وأرسل الأتراك من الكرك أربع كتائب وسرية من البغالة بغية احتلال الطفيلة وبينا كانت سائرة في وادي موسى بلغ العرب خبرها، فتحصن محافظ الطفيلة الأمير زيد رابع أنجال ملك الحجاز في مائتي جندي نظامي وقوة قليلة من البدو في رؤوس الجبال وأخرج أهل الطفيلة وسلحهم وفرقهم على الجبال التي في أطراف الوادي، وجعل العسكر التركي في شبه حصار وأطلق عليهم النار، فارتبك الجيش الزاحف وجفلت البغال وقتل حامد فخري بك القائد التركي المعروف عند الأتراك بفاتح بكرش فسقط في يد الجيش وانهزم أكثره وسلم الباقي، وأخذ العرب ما يربي على ستمائة أسير تركي وغنموا أربعة مدافع سريعة الطلق ولم يكن معهم سوى مدفعين قديمين. أما الكرك على حصانتها فإن الأتراك أخلوها من أنفسهم.
وانضمت إلى الجيش العربي في الوقائع الأخيرة سرية مدفعية فرنسية كما كانت الطيارات الإنكليزية لا تغفل يوماً عن كشف مواقع العدو وتهيئة سبل التقدم لهم، وكانت وقائع البدو مع الترك على الأكثر أشبه بمناوشات عصابات(3/148)
لا بحروب منظمة. والأمير فيصل ينظر إليه نظر قائد عربي يتلقى الأوامر من المستر اللنبي ولقبه قائد الجيوش الشمالية.
جاء في نشرة وزارة الحربية البريطانية في آب 1917 أن خطة العرب في بداءة نهضتهم خطة حسنة تحوي في مطاويها حذقاً وحزماً ودهاء، فقد خربوا قسماً من السكة الحديدية واستولوا على مراكز الأتراك على جانبي الطريق وكانوا على جانب من البسالة يتغلبون غالباً على جيش أكثر منهم عدداً وعُدداً. وقال ليمان سندرس الألماني: إن العرب من أول شهر أيار إلى التاسع عشر منه خربوا خمسة وعشرين جسراً.
خرب العرب محطة القطرانة وأسروا عدداً من الترك وبعد أسبوع هجموا على الحسا فأخذوا قظاراً كان هناك ودمروا قسماً من العدة والذخيرة ولكن الأتراك أخرجوهم بعدئذ من الحسا فتقهقروا جنوباً وهم يخربون في الجسور والخط. وفي تشرين الثاني 1917 واقعت القوى البريطانية حامية الترك في عَمانّ فسقطت الصلت في أيدي البريطانيين والعرب وعاد الأتراك فهاجموها في آذار 1918 وردوا البريطانيين إلى غربي الأردن. وكانت حال الصلت ومعان وعمان وغيرها تعسة جداً لأن الاستيلاء عليها كان متبادلاً بين الفريقين المتحاربين وأهلها بين نارين خصوصاً نار العثمانيين الذين كانوا يعاقبون الأهلين لدى دعوتهم إلى بلد انهزموا منه بحكم الطبيعة أو القواعد الحربية بما يخرج عن حد المألوف تشفياً وانتقاماً.
لما صدر الأمر بالهجوم العام لضرب الجيش التركي الألماني الضربة القاضية فاوض البريطانيون الأمير فيصلاً أن يجهز حملة تسير من أبي الأسل إلى جسر تل شهاب في حوران لتقطع خط الرجعة على الجيوش التركية فتألفت الحملة من الجيش النظامي يرافقها شرذمة من البدو. ويظهر أن القيادة التركية شعرت بذلك لأن من البدو من كانوا يتجسسون للعرب وعليهم وللترك وعليهم، ومن عادة البدوي أن ينحاز إلى صفوف الغالب وينتقض على المغلوب ولو كان في صفوفه لأن هدفه الوحيد السلب والنهب فأوعز القائد التركي إلى الحامية أن تدافع عن معان بالهجوم على الجيش العربي في الوهيدة لإشغال الحملة عن المسير إلى تل شهاب وسار الألمان مع الأتراك من الشمال على الشوبك والطفيلة(3/149)
ليلتقوا مع الجيش التركي الذي خرج من الشرق على معان فباغتت الحامية ليلاً على تل سمنة المطلة على معان واستولوا على حصونها، وبضبطها أصبح الجيش العربي في خطر، فبلغ الأمير فيصلاً ذلك بالهاتف من الوهيدة بين معان وأبي الأسل
وتبعد عن كل منهما زهاء ساعتين أو أكثر، وكانت مقر الجيش العربي ومقر الأمير وراءها في أبي الأسل، فاهتم للأمر لتناقص عدد الجيش العربي الذي انضمت أكثريته إلى الحملة المنوه بها، وكانت بارحت قبل هذا الهجوم بيوم المقرّ من جهة الطريق الشرقي البعيد عن الخط الحجازي مسافة يوم تقريباً وهو من جهة الجفر وباير ماءان لأهل البادية فندب الأمير أخاه الأمير زيداً واستعاد حصون تل سمنة، وكان الأتراك ينوون أن يتقدموا منها للاستيلاء على الوهيدة مقر المعسكر العربي، ولو لم يتقدم أحد أبناء العرب ممن كان مع الجيش التركي ويفاوض بالهاتف مركز الجيش العربي وينذره سوء العقبى ويسارع الأمير فيصل بإرسال عبيده وعددهم مائة وخمسون ويسيروا كالبرق الخاطف يقفون أمام الجيش التركي ويشاغلونه ريثما تقدمت فرسان الجيش العربي وتبعها المشاة لولا هذا لما رُد الأتراك عن معان ولهلك الجيش العربي بأسره.
ومن ذلك الحين انقلبت حامية معان من طور الدفاع إلى طور الهجوم، وعهد الأمير فيصل بالقيادة العامة في مقر أبي الأسل إلى أخيه الأمير زيد والتحق بالحملة يرافقه قليل من الجند النظامي وحرسه من العبيد وبعض المتطوعة من بدو ومن حضر قاصداً الأزرق ليتخذه مقر القيادة للحملة، وضرب موعداً للنوري بن شعلان أن يلاقيه بالأزرق مع شرذمة من قبيلته كما أوعز إلى عوده أبي تايه أن ينزح مع شرذمة من قبيلته من الجفر إلى الأزرق، ولكن جنده كان قليل العدد والبدو الذين أرادهم على أن يوافوه تخلفوا عنه فأصبح موقفه في خطر، وكان في وسع مائة جندي عثماني لو هموا به أن يأسروه ومن معه، ولكن قذف الرعب في قلوب المحاربين من الترك فظنوا أو هناك جيوشاً جرارة لا قبل لهم بها، وزاد حراجة الموقف تشويشاً أن بعض مشايخ قرى جبل الدروز بعثوا إلى الأمير يحتجون على احتلاله الأزرق بدعوى أن احتلاله يوغر عليهم صدر الحكومة
التركية لأن الأزرق وإن كان مقدمة بادية الشام وغير مملوك لأحد لكنه(3/150)
يعتبر في نظر الدروز ونظر القبائل الرحل ملحقاً بالدروز، ولم يؤثر هذا الاحتجاج في نفس الأمير فيصل لعلمه أن لا قيمة له بالنسبة إلى زعماء الجبل الموالين له وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش الذي أخلص كل الإخلاص للثورة العربية وعاونها بماله وجاهه، ولعلمه أنهم متجرون بهذا الاحتجاج غير أنه أورث اضطراب الأفكار خشية تجسسهم للأتراك، وبعد خمسة أيام أرسل أحد شيوخ قبيلة بني صخر وهو الوحيد في موالاة الجيش العربي دون بقية شيوخ القبيلة الذين كانوا موالين للحكومة التركية ويقطعون السابلة على كل قافلة تلتحق بالأمير فيصل في أبي الأسل، وجهزه بفئة من المتطوعة لتخريب جسر عمان لقطع المواصلة بين القيادة التركية ومعان. وجاء على الأثر الكولونل لورانس الإنكليزي، ملقن الثورة العربية والمشرف عليها الذي دُعي ملك العرب غير المتوج وأخبره بسقوط نابلس وما وراءها إلى الشمال، وأنه وقع في أسر الجيش البريطاني من الجيش التركي زهاء ستين ألفاً وكان الفضل الأكبر في ذلك لتخريب جسر تل شهاب. وصباح اليوم السادس ورد على الأمير فيصل نجاب يخبره بسقوط معان وأسر حاميتها وسوق رجالها إلى العقبة، وبعد ساعتين جاءه نجلب آخر من عمان يحمل إليه أوراق الحكومة التركية فيها مبرهناً على سقوطها وانجلاء الترك عنها قبل تخريب الجسر. فرأى الأمير فيصل عندئذ نقل المقر إلى بُصْرى عاصمة حوران، مخافة أن يضم الأتراك شملهم في درعا دفاعاً عن دمشق ولم يكد يستقر بها حتى بلغه سقوط درعا بيد الجيش العربي الإنكليزي ومتطوعة الحورانيين، فسار إليها ونظم حكومتها وأخذ منه القلق لأنه كان جرى اتفاق بينه وبين الحلفاء أي بينه وبين البريطانيين أن كل فريق من العرب أو البريطانيين يسبق جيشه إلى فتح مقاطعة أو بلد يكون حق احتلالها وإدارة شؤونها لذلك الفريق إلى أن يبُت في المصير،
وحافظ الجيش الإنكليزي على هذا الوفاق فكان إذا سبق ففتح بلداً أو أسقط حصناً في العمالة التي يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم ولا سيما في الشام الداخلية. ولذلك خف السيد نسيب البكري من الأزرق بأمر الأمير فيصل إلى جبل الدروز ولقي صديقه سلطان باشا الأطرش وجيش هذا من الجبل نحو مائتي فارس وذهبوا إلى بصرى وهناك التحق بهم بعض الحورانيين(3/151)
ولا سيما آل مقداد وساروا إلى دمشق على طريق الكسوة فناوشهم جيش الأتراك قليلاً في حصون جبل المانع ريثما يتمكن من الهزيمة بانتظام، ودخلت هذه الحملة التي كانت مؤلفة من نحو خمسمائة فارس ما عدا المشاة إلى دمشق واتفق دخول هذه الحملة مع أوائل الحملة البريطانية الزاحفة على الفيحاء من طريق جسر بنات يعقوب - القنيطرة.
سقوط حوران ودمشق بيد الجيوش البريطانية:
وفي 17 أيلول 1918 قطع الجيش العربي الخط الحديدي على عشرة كيلو مترات من شمالي درعا بين خربة الغزالة ودرعا بمعاونة الطيارات الإنكليزية، وكذلك خط درعا - حيفا أي من المزيريب وخط عمان - درعا فانقطع الخط في نصيب، وأصبحت حامية درعا مقطوعة عن كل مدد، وفي اليوم الثاني كان الهجوم البريطاني العام فوجه الترك إلى العرب بقسم كبير من قوتهم فلم يبق فيها الجناح الأيسر من الجيش البريطاني إلا بقية ما لبثت أن تفرقت شذر مذر، وأسر العرب في هزيمة الأتراك تسعة آلاف أسير، وغنموا تسعة آلاف بندقية وثمانية مدافع وأربعة وخمسين رشاشاً. وفي 26 منه هجم الجيش العربي وقد انضم إليه عرب الرولة وعرب عنزة وعدد من الدروز على سكة الحجاز على 15 ميلا جنوبي درعا، فخربوا جسراً وقسماً من الخط.
وفي 28 منه احتلت القوات النظامية درعا وفي 30 منه تغلبت فرقة أسترالية
على نجدات الأتراك في قطنا، وتقربت عند المساء إلى أبواب دمشق وفشل الأتراك، وظل الجيش البريطاني يطارد المنهزمين حتى بلغ ضواحي دمشق يوم 30 أيلول وكان ناوش المهاجمون بعض الحاميات في المدن التي ذكرت ولا سيما في الناصرة 20 أيلول وقد نشب قتال فيها بين البريطانيين والألمان من الساعة الخامسة صباحاً إلى الظهر، وعندها أخلى ليمان سندرس الناصرة وركب سيارته إلى دمشق.
وعلى هذا كان أول من دخل دمشق فرقة من الخيالة الأسترالية والفرقة البريطانية جاءت من درعا على طول الخط الحجازي ومن الغد أول تشرين(3/152)
الأول دخل البريطانيون والجيش العربي في يوم واحد، وقد تأثر الجيش البريطاني بقايا المنهزمين من الجيش التركي بين ربوة دمشق وقرية دمر فهلك من الجند المنهزم نحو مائة وعشرين، وسرقت خزينة الجيش التركي وكانت في القطار في مركبتين بين الشاذروان ودمر فنهبها الفلاحون وغيرهم من المصطافين، وطارد الفرسان البريطانيون والأستراليون المنهزمين من الأتراك ممن حاولوا المقاومة أولاً في سفح جبل قلمون قرب دومة فظن الترك أن الأهلين قاموا بمناصرة الجيش البريطاني فاستسلموا فخف أهل قرية حفير من أعالي الجبل لرد الأتراك دفاعاً عن قرتهم. وكان بعض سكان حوران اعتدوا في الأيام التي سبقت سقوط دمشق على بعض المنهزمين من الجيش لأخذ سلاحهم على الأكثر، ولكن الأمير طاهراً الحسني وأبناء عمه الأمير سعيد والأمير عبد القادر كانوا ألفوا من المغاربة سرايا من المطوعة وأخذوا ألف بندقية من الحكومة التركية خرجوا إلى أذرع وخففوا ويلات الجيش التركي وساعدوه على الهزيمة، ولما خلت دمشق من حكومة كانت مسائل الأمن فيها لأناس من أهل البلد والوجاهة في مقدمتهم أحفاد الأمير عبد القادر الحسني فلم يقع ما يكدّر في النفس والأموال.
وقبيل سقوط مدينة دمشق عقد الأتراك مجلساً حربياً حضره قواد الجيش من الترك والألمان والنمساويين والمجريين ورجال الشورى الحربي، فرأى القسم الأعظم من المؤتمرين نسف جميع الأماكن الأميرية في دمشق، وكان الألمان أعدوا لذلك العدة، وقال بعض الراوين بل نسف مدينة دمشق، إلا أن القائد النمساوي أقنع رفاقه بأن هذا عمل غير معقول، لأن الدمشقيين حاربوا مع الدولة العثمانية وقاموا بكل ما فرض عليهم بإخلاص، فليس من العدل وقد خسر الترك الحرب أن يعاملوا دمشق هذه المعاملة القاسية وكانت حجته داحضة. وكان جمال باشا المرسيني المعروف بجمال باشا الصغير من رأي القائد النمساوي سراً فعاضده وأشار إلى من استلموا زمام البلد من الوطنيين أن يعلنوا استقلال الشام، فرفعوا العلم العربي على دار الحكومة ضحوة يوم 30 أيلول وبعد أن هنأ جمال باشا الصغير الحاضرين من الدمشقيين باستقلالهم، غادر دمشق على(3/153)
سيارته إلى رياق، وكان آخر قائد تركي خرج من عاصمة القطر، بعد أن ملكها الأتراك أربعمائة وأربع عشرة سنة.
وبعد يومين استدعى من فُوض إليهم الأمن في البلد من وجوهها الأمير فيصل بن الملك حسين قائد الجيش العربي، وكان مرابطاً في الجيدور فدخلها ونزل في دار آل البارودي في القنوات وهناك شرع بتأسيس الحكومة العربية. وكان البريطانيون عهدوا إلى اللواء علي رضا باشا الركابي من قواد الجيش التركي ومن أبناء دمشق بأن يكون حاكماً عسكرياً لمدن الداخلية دمشق وحلب وما إليهما بالنظر لما ثبت للبريطانيين من حسن بلائه في خدمتهم، ويقال: إنه كان أرسل إليهم مصوّر الحصون حوالي دمشق وكان وكل إليه الترك عملها، وأرسله القائد التركي قبيل سقوط دمشق ببضعة أيام ليجمع شمل المنهزمين من الجيش التركي في القنيطرة وأعطاه مبلغاً من المال، فادعى أن العربان سلبوه ماله وثيابه، وانضم إلى الجيش
الإنكليزي، وهكذا ذهب من دمشق قائداً تركياً وعاد إليها بعد أيام حاكماً عربياً بريطانياً.
وأطال بعض أهالي بعلبك أيديهم على المنهزمين من جند الترك، وأخذوا سلاحهم وسلبوهم ثيابهم وعتادهم وقتلوا نحو ثلاثين جندياً، وذل الأتراك هذا الملك العظيم، وخدم الاتحاديون الدولة بادئ بدء إذ حموا الدستور كما قال كامل باشا لكنهم بتدخلهم في السياسة وبسط سيطرتهم على السلطة الإجرائية أصبحوا حكومة في حكومة، وأضحوا خطراً على الدستور. بل صاروا بعد خطراً على المملكة كلها، ضاربوا بها في سوق السياسة الألمانية فخسروها.
سقوط بيروت والساحل والهدنة:
كانت الطيارات البريطانية يوم 29 أيلول أمطرت قنابلها على مستودعات محطة رياق نقطة اتصال الجنوب بالشمال ونهب ملحم قاسم أنابير رياق وحوش حالا في جماعة من رجاله، فنسف الألمان ما بقي من المؤن والعتاد في المستودعات والأنابير، وانهزموا في السكة الحديدية إلى الشمال، ولم يتركوا أحداً من الترك معهم نجوا باستعمال الشدة، وفي ذاك الحين قذف الألمان في بيروت المؤن(3/154)
والمواد الحربية في البحر، وأصلاهم الحلفاء ناراً حامية خلال هزيمتهم، ولم تنفعهم وتنفع الأتراك خطوط الدفاع التي كانوا جعلوها في الجبل المطل على بيروت، كما لم تنفعهم والترك أيضاً الخطوط التي أنشئوها في جبل المانع والمزة وقاسيون المحيطة بدمشق من غربها وجنوبها وشمالها، وهكذا لم تصب دمشق وثغرها بيروت بأذى يوم الهزيمة على نحو ما كان العقلاء يحاذرون.
لم يجر استيلاء الحلفاء على بيروت إلا يوم 7 تشرين الأول أي بعد سقوط عاصمة الشام بثمانية أيام، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق برقية إلى رئيس بلدية بيروت بأمر الأمير فيصل غداة وصوله إلى دمشق تأمره فيه برفع العلم
العربي، ووصل إلى بيروت من دمشق اللواء شكري باشا الأيوبي تحف به شرذمة من الفرسان، واحتل دار الحكومة، وبعد أربعة أيام وصل القائد الإنكليزي وأمر اللواء العربي بالعودة إلى دمشق، وأنزلت الراية العربية وعين الكولونيل بياباب الفرنسي حاكماً على بيروت، وأخرج الفرنسيون جنداً إلى البر بين تصفيق الأهالي ولا سيما أبناء الطوائف الغربية، ثم صدر أمر القائد اللنبي إلى الأمير فيصل أن يحتل جيشه حمص وحماة وحلب، وكانت الجنود الإنكليزية والأسترالية تتقدمه أولاً، ففتحت حمص يوم 14 تشرين الأول، وحماة يوم 16 ودخل الجيش العربي حلب يوم 25 منه مساء بعد مقاومة خفيفة ومناوشة الفرسان البريطانيين والأستراليين لبقايا الجيش التركي الذي دافع لإشغال الجيش المهاجم حتى يتسنى له الانسحاب من حلب بانتظام وسلام خشية الأسر، ويتم له نقل الموظفين وعيالهم والنقود والأوراق والسجلات، وطلب الشريف ناصر بن علي قائد الحملة العربية إلى قائد الفرقة البريطانية الجنرال مكاندرو أن يمده بسرية من جيشه ليضمها إلى فصيلة عربية يمدّ بها السرية التي كان أنفذها لاحتلال حلب فرفض الجنرال طلبه، وبعد الإلحاح عليه صرح بأن القائد العام أمره أن لا تطأ قدم جندي واحد من الجيش الإنكليزي مدينة حلب إلا بعد دخول الجيش العربي ورسوخ قدمه بها، وهكذا لم يدخل الجيش البريطاني حلب إلا بعد دخول الجيش العربي بأربع وعشرين ساعة وتأليف الحكومة العربية المؤقتة وكان آخر ما سقط من الديار الشامية ميناء الإسكندرية احتلته البحارة الفرنسية يوم 18 تشرين الثاني 1918.(3/155)
وصرح القائد مكاندرو في خطاب له في إحدى المآدب بحضور المستر مارك سايكس والمسيو جورج بيكو بعد أن أثنى على شمم العرب وذكائهم ونبوغهم وشجاعتهم بقوله: ومما يلفت النظر أنهم بفرط بسالتهم وإقدامهم سبقونا إلى حلب بيوم كامل أربعاً وعشرين ساعة.
احتل العرب قلعة حلب ودار حكومتها، وقد فقدوا أربعة وخمسين جندياً، وأحصوا أربعمائة قتيل تركي في الشوارع. وذعر الترك لأنهم أصبحوا بين عدوين الجيش المهاجم والأهالي وانقض زعماء بادية حلب على الجيش التركي، عندما كان يدافع على سلامته على أبواب حلب، للسلب والنهب. وفي 26 تشرين الأول بدأ الجيش العربي بمهاجمة الأتراك في القسم الشمالي الذي كانوا فيه من المدينة فأجلوهم وتبعهم فرسان البريطانيين في اليوم التالي فواصلوا الزحف شمالاً إلى أن بلغوا المكان الذي تتقاطع فيه سكة حديد بغداد وسكة حديد سورية، وقد وقعت في قطمة معركة شديدة بين الأتراك والبريطانيين قتل فيها كثير من الفريقين وانتهت بانهزام الأتراك إلى الشمال والجيوش البريطانية تتأثرهم، والأتراك يرتكبون الفظائع في القرى المستضعف أهلها، ووقف البريطانيون على كيلو مترات قليلة من شمالي حلب، فأبلغت إنكلترا قائد جيوشها بعقد الحلفاء الهدنة مع الأتراك يوم 31 تشرين الأول، وكان الأتراك يتذرعون بالهدنة منذ بدء الهزيمة الكبيرة في فلسطين، ولكن بريطانيا العظمى سوفت في الأمر ريثما أخرجت الترك من الشام كله بالقوة على ما يظهر، وبعد الهدنة ظلت شراذم من الجيش التركي في حارم وإنطاكية وبيلان وإسكندرونة لم تستطع اللحاق بالجيش المنهزم، فتفسخت وتخللتها الفوضى، وانقلبت إلى شبه عصابات تسلب وتنهب وتؤذي الأهلين، إلا أنها لم تلبث أن انضمت إلى المنهزمين وراء جبال طوروس أو دخلت في الطاعة واستسلمت.
ومن شروط الهدنة مع الأتراك تسليم حامية الحجاز وعسير واليمن والشام وما بين النهرين وانسحاب الجيوش من قلقية عدا من يحافظون على الأمن، وكان الفريق فخري باشا محاصراً في المدينة المنورة في خمسة عشر ألف جندي، ولم يسلم إلا عندما جاءه الأمر من حكومته في الأستانة أي في كانون الأول. وبينا كان الأمير فيصل لأول الاحتلال العربي في حلب وردت عليه برقية من(3/156)
وزارة خارجية
بريطانيا العظمى بواسطة المستر اللنبي تطلب حضوره إلى باريز ليشهد مؤتمر الصلح للدفاع عن قضيته، وعينه والده وكيلاً عنه في مؤتمر فرسال، إذ لم تكن له صفة رسمية ثابتة تخوله حضور جلسات المؤتمر بصفة قانونية، فقدم للمؤتمر مذكرة قال فيها إننا نعتقد أن سورية هذه المقاطعة الصناعية الزراعية التي يقطنها عدد وافر من السكان من طبقات مقيمة هي بلاد متقدمة تقدماً كافياً من الوجهة السياسية يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية، ونرى أيضاً أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملاً ثميناً جداً لنمونا القومي، ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود مقابل هذه المعاونة، ولا يسعنا أن نفادي مقابلها بجزء من الحرية التي أخذناها قبلاً بأنفسنا وبقوة سلاحنا.
سبب سقوط الشام بأيدي الحلفاء:
عجب العارفون لسرعة سقوط الشام في أيدي الجيش البريطاني، وكيف كان تقدم الجيش المهاجم على مقدار سير خيول الفرسان، ولا عجب فالجيش مهما بلغ عدده إذا كسرت معنوياته ورأى الأفراد قادتهم يفرون ويختبئون ويرتعدون يدب فيه الفشل، ولم يكن الجيش التركي في الشام والحجاز أكثر من مائة وعشرين ألفاً، بقي في المدة الأخيرة منه مع ليمان ساندرس الألماني خمسون ألف جندي على حين كان يلزمه مائتا ألف، وجميع مدافع الترك على اختلاف العيارات لم تتجاوز الثلاثمائة، ومعظم ما يستندون عليه المدافع النمساوية ثم البطاريات الألمانية، أما الأعتاد الحربية والقنابل منها بوجه خاص فكانت قليلة جداً عند العثمانيين، لا يبيحون استعمالها إلا عند الضرورة الماسة، على حين كان البريطانيون يسرفون لا يبالون في إطلاق القنابر. وقد ألقى ليمان ساندرس التبعة على جمال باشا الكبير فقال في تقرير له إلى وكيل القائد العام: إن كل ما في سورية من إنسان وجماد وحيوان قد تسمم من سوء إدارة جمال باشا وإن الثبات فيها لا يمكن أبداً.
وفي الحق أن سوء الإدارة قضى بأن يجوع الجند المحارب ولدى الدولة أنابير الأطعمة الكثيرة لم ينتفع بها. وما كان يظن أن الجند التركي، وبه يضرب(3/157)
المثل بالطاعة والشجاعة، أن يبدأ بالهرب، منذ بدت أمارات الفشل والبؤس، كانوا يهربون زرافات في الجبال إلى آسيا الصغرى وهم لا يعرفون الطريق وأهل القرى يطعمونهم ويلبسونهم ويهدونهم السبل. على أن الثبات أمام الجيش البريطاني لم يعد فيه أدنى فائدة ما دام حلفاؤهم البلغار قد طلبوا الصلح، وأمارات الانهزام بدت بجميع أعراضها في الساحة الغربية في أوربا.
وقصارى القول أن هذه الحرب كانت على الشام من أشأم الحروب لأنها حاربت وهي تحب السلم، فكان حربها تبعاً للدولة، وفقدت أبناءها وأموالها وخرب عمرانها. فقد منها نحو عشر سكانها في المعارك والجوع والأمراض أي نحو ثلاثمائة ألف رجل على أقل تعديل وخسرت من حيوانها وشجرها وذخائرها وبيوتها وجسورها ما يساوي الملايين من الدنانير، ويصعب تعويضه إلا في السنين الطويلة، هذا ما عدا من قتل من السوريين في الحرب مع الحلفاء فقد تطوع من الشاميين من غير المسلمين مع الحلفاء أكثر من عشرين ألفاً منهم خمسة عشر ألفاً كانوا في الجيش الأميركاني.
قبض الاتحاديون على زمام السلطنة العثمانية من سنة 1326 1908 إلى سنة 1336 1918 ولم تتخللها إلا أشهر معدودة خرج الحكم فيها عن يدهم إلى الأحزاب الأخرى، وكان من عملهم الأول إعطاء الحرية لأمة لم تشترك في طلبها بل تولدت من فكرة بعض الأحرار والضباط، ثم قضوا على تلك السلطنة العظيمة، وجنوا جنوناً عظيماً بسياسة تتريك العناصر، حتى خرجوا عن طور العقل، ولم يحبوا أن يسمعوا بالعرب والعربية وحقوق العرب، فضلاً عن مراعاتهم وهم نصف سكان المملكة، وفي أرضهم أشرف معاهدها التي كان
سلاطين العثمانيين يبسطون بواسطتها نفوذهم المعنوي على العالم الإسلامي. قامر أنور وطلعت وجمال بالمملكة العثمانية كأنها سلعة في السوق فخسروا رأس المال، وكانوا يعللون آمالهم أن يضيفوا إليه أضعافاً مضاعفة، وبشقوطهم دب الفشل في الدولة العثمانية نفسها، وكيف لا يدب وقد خرجت رازحة بديونها فلقدة أكثر من نصف مملكتها.(3/158)
رأي مؤرخ تركي في انقراض الدولة العثمانية:
نسب أحد مؤرخي الترك المعاصرين أسباب انقراض العثمانيين إلى عوامل كثيرة أهمها في نظره.
1ً انقطاع البطولة من المسلمين وقيام الأتراك سداً أمام النصرانية وبذلك جلبوا عليهم خصومة أوربا النصرانية جمعاء، فكانت مطارق النصارى تتساقط على رؤوس الأتراك قروناً.
2ً التغافل عن الوطنية التركية ولم تجعل التركية أساساً لسياسة الدولة، فصانوا أديان من وجودهم من القوميات وأبقوا على ألسنتهم، بل أيدوها وناصروها، فمنح محمد الفاتح مثلاً الروم امتيازات مذهبية، فحدث بذلك دولة في دولة، وارتكب خطأ فاحشاً، وعوضاً عن أن يجعلوا المملكة متجانسة صيروها كبرج بابل، وما قاسته التركية بل هذه الدولة في هذه السبيل مما لا يستطاع تسطيره، فإن السلجوقين حافظوا على جميع ما وجدوه في الأناضول من الأديان والقوميات الغريبة، وجرى العثمانيون على مثالهم فَرَعَوْا ما وجد بأعيانه، وما عرفوا ما هو التمثل، وكانت هذه العناصر كلما وجدت فرصة تستل من بناء الدولة حجراً وتذهب به، وبصنعهم صارت الحال إلى ما صارت إليه، وقد اشتهرت ممانعة شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي لياوزخان السلطان سليم لما أراد أن يُسْلِم الروم، قاومه باسم الدين، فبقيت هذه العناصر بحالها لفقدان الدعوة إلى القومية التركية
ومكان الشريعة. وهذه العناصر فتحت للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية فكانوا السبب في انقراضها، ولم يهدأ لهم بال في هذا الشأن، واجتهدوا في الوصول إليه، ومن أسباب هذه الذهنية المشؤومة الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة. وهذا من أساليب العرب وأصولهم
3ً تدخل الدين في مصالح الحكومة، وعدم قيام بناء الدولة على ما يجب
4ً جهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم
5ً ربيتهم أبناء الصرب والروس والاولاح والأرمن والعرب والأرناؤد والكرج والجركس وغيرهم من العناصر، ثم تسليمهم أمور الدولة إليهم بدلاً من أن يأخذوا(3/159)
بأيدي أبناء الترك، وهؤلاء وإن لم يكونوا أتراكاً كانوا يبذلون الجهد للقضاء على التركية وإسدال الحجاب عليها، وكان الملوك يعتصمون بالإسلام فأورثوا بذلك التعصب قوة
6ً كانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية عاملة على الانتقام لمملكة بيزنطية فبشعور روسيا بهاذ الانتقام، وحرصها على جعل الأتراك روساً في لغتهم ومناحيهم، كانت تحارب تركيا أبداً وهذا من جملة أسباب الانقراض.
إلى أن قال: إن الحكومة العثمانية تذرعت بالمعنويات ولم تلتفت إلى الماديات، وهذا من أعظم خطيئات الترك العثمانيين، وكان عليهم أن يجمعوا الأتراك بأسرهم تحت علم واحد، وبدلاً من أن يجعل العثمانيون حرثهم نسقاً واحداً هبوا كالأسود الظمأى إلى أواسط إفريقية يلتمسون السراب عبثاً، ومن طرف آخر انصرفوا إلى أوربا كالطيور التي جعلت قلوبها كالسباع، فنطحوا برؤوسهم بلا موجب قلاع فينا ثم وقفوا ورؤوسهم دامية. ومن أعظم دواعي الأسف أنهم فتحوا سبيل الرواج للسانين العربي والفارسي، فداس هذان العنصران لسانهم الخاص أي التركية،
وعبث بالأمة الفقر والجهل إلخ. ونحن نقول إن السبب الأعظم تغافل الدولة عن تقليد الغرب في الماديات والمعنويات فظهر على توالي القرون الفرق بين الخامل والعامل، وكان تركيب الدولة من عناصر مختلفة، ومعظمه كان في بدء أمرها من غير المسلمين، من جملة الدواعي في عدم تركيبها مزجياً، خصوصاً ومعظم تلك العناصر أرقى من الترك الأصليين عنصراً وأعظم تاريخاً، ولا عيش للمتوسط مع الذكي، وإذا أخضعه لسلطانه بالقوة فإلى حين.(3/160)
العهد الحديث
من سنة 1336 1343
تجزئة الشام بين فرنسا وإنكلترا:
كانت نتيجة الحرب تجزئة الشام بين فرنسا وبريطانيا، فاستقلت هذه بفلسطين وما إليها، واستأثرت فرنسا بالساحل من صور إلى ما وراء الإسكندرونة، وبقيت الداخلية أي الكرك والصلت ومعان وعمان وحوران ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب مستقلة بإدارة الأمير فيصل، والموحون إليه البريطانيون. أما القيادة العامة فكانت بأيدي البريطانيين ودهيت الشام بلاد العدو المحتلة عملاً باتفاق سايكس بيكو الذي عقد يوم 9 أيار 1916 قاضياً بتقسيم الأقاليم العثمانية غير التركية إلى مناطق نفوذ ومناطق سيادة، وإنشاء دولة أو دول عربية متحدة في الأصقاع العربية، وبموجبه تتناول الدول العربية داخلية سورية وقسماً من العراق. أما دولة سورية العربية فجعل فيها لفرنسا وحدها حق تقديم المستشارين والموظفين الأجانب، وذلك إجابة لرغبة الدولة السورية نفسها، أو دول الاتحاد العربي، وقد خُوّلت بريطانيا العظمى هذا الحق نفسه في دولة العراق، ويقضي هذا الاتفاق بان تنشئ فرنسا في ساحل سورية وفي قلقية، وبريطانيا في جنوب العراق وفي جملتها بغداد، وفي مواني حيفا وعكا، نظام الحكم الذي تريدانه، ونوع الإدارة الذي تستحسنانه، وأن تنشأ في فلسطين حكومة دولية.
وسار الحال على ذلك مدة إلى أن تم الاتفاق 15 أيلول 1919 بين(3/161)
الحكومتين الفرنسية والإنكليزية على ان تخرج بريطانيا عساكرها من الشام، بشرط أن لا تدخل العساكر الفرنسية إلى المدن الأربع منها أي دمشق وحلب وحمص وحماة، لأن بريطانيا قطعت للعرب عهداً أن تؤلف لهم حكومة عربية، وهكذا كان فغن الجيش البريطاني تراجع إلى شرقي الأردن وفلسطين. وعينت بريطانيا على
فلسطين السير هربرت صموئيل وهو إسرائيلي إنكليزي مفوضاً سامياً، وعينت فرنسا الجنرال غورو مفوضاً سامياً على سورية ولبنان، ويعمل هذا القائد مستقلاً باسم دولته، وكان من قبله من الفرنسيين يعملون حتى في لبنان بقيادة اللورد اللنبي القائد البريطاني العام.
وجاء في هذا الاتفاق أن بريطانيا وفرنسا تضمنان لسكان ما بين جبال طوروس والخليج العجمي، استقلالاً واسعاً يأمنون معه على حريتهم، ويتمكنون من تجديد حضارتهم، وكانت كل من بريطانيا وفرنسا نشرت بلاغاً قالتا فيه: إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وانكلترا في الشرق تلك الحرب التي هاجتها مطامع الألمان، إنما هو لتحرير الشعوب التي رزحت قروناً طوالاً تحت مظالم الترك - تحريراً تاماً نهائياً وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حرًّا. ولقد أجمعت فرنسا وبريطانيا على أن تؤكد ذلك بأن تعاونا على إقامة هذه الحكومات والإدارات الوطنية في الشام والعراق - وهما المنطقتان اللتان أتم الحلفاء تحريرهما وفي الأراضي التي ما زالوا يجاهدون في تحريرها، وأن تساعدا هذه الهيئات وتعترفا بها عندما تؤسس فعلاً، وليس من غرض فرنسا وبريطانيا أن تنزلا أهالي هذه المناطق على الحكم الذي تريدانه، ولكن همهما الوحيد أن يتحقق بمعونتهما ومساعدتهما المفيدة عمل هذه الحكومات والإدارات التي يختارها الأهلون من أنفسهم، وأن تضمنا لهم عدلاً منزهاً يساوي بين الجميع، وتسهلا عليهم ترقية الأمور الاقتصادية، وذلك بإحياء مواهب الأهالي الوطنيين وتشجيعهم على نشر العلم، ووضع حد للخلاف القديم الذي قضت به السياسة التركية، تبك هي الأغراض التي ترمي إليها الحكومتان المتحالفتان في هذه الأقطار المحررة اه.(3/162)
فتنة الأرمن واعتداؤهم على العرب:
كانت الدولة العثمانية في السنة الأولى للحرب أجلت من الأناضول إلى الشام عشرات الألوف من الأرمن، وأعملت فيهم السيف وقتلت مئات الألوف صبراً بطرق مختلفة، لأن بعض أبناء جنسهم قطعوا خط الرجعة على الجيش العثماني أثناء حربه في جبهة روسيا، فصدر أمر الحكومة العثمانية أن يقتل الأرمن قتلاً عاماً، ويقال: إنه هلك فيه نحو مليون نسمة منهم ومن لم تستطع الدولة قتلهم بعثت بهم إلى ديار العرب، رجاء أن تجد سبيلاً آخر لقتلهم، ويقال أن الألوف التي جلتها إلى الشام كانت توعز من طرف خفي بقتلها، ولكن العرب أظهروا من الشمم والكرم ونصرة الضعيف ما فطرت عليه أخلاقهم فلم يمسّ الأرمن بأذى حتى في أقصى الشرق والجنوب من الشام حيث تكثر الجهالة والهمجية.
ولما دخلت جيوش الحلفاء الشام كان في جملة كتائب فرنسا متطوعة من الأرمن، فوقع في نفوس بعضهم أن ينتقموا من العرب عما جنته أيدي الأتراك على أبناء مذهبهم فقابلوا إحسان العرب إليهم بالإساءة، وبدءوا ببيروت فأطلقوا بنادقهم على بعض البيروتيين علناً وقتلوا بعض الوطنيين، ثم أخذوا حيث ينزلون، يبدون من أمارات الغضب ما يتناول الأبرياء مباشرة، وقد تمردت هذه الكتائب حتى على الحكومة التي قبلتها متطوعة في صفوفها مثل الكتيبة التي تمردت في الإسكندرونة 1919 حتى اضطرت القيادة الفرنسية أن تنقلها إلى أذنة، ولم تقف معاملة الأرمن للعرب بالسوء عند هذا الحد بل تكونت منها أسباب لفتنة أهلية في حلب انتهت بقتل وجرح وأحكام بالقتل وإهانة الأعيان. وقد سألنا صديقنا السيد أمين غريّب وكان في الشهباء قريباً من هذه الوقعة فتفضل وكتب إلينا ما نثبته بنصه، وقوله ثقة في هذا الباب قال:
كان الجيش الإنكليزي محتلاً مدينة حلب وقد وقفت طلائعه في مسلمية وما حولها بسبب الهدنة بين الحلفاء من جهة والدول الوسطى من جهة ثانية. وكانت تركيا
بحسب الشروط قد أخذت تسرح جيشها، فيعود الجنود العرب إلى الشام بطريق أذنة ويمرون بالجنود الأرمن الذين عسكروا في أذنة ونواحيها، وكان هؤلاء الجنود قادمين مع الحلفاء وأُرجح أن قيادة أمورهم كانت في(3/163)
أيدي الفرنسيين فكان كل عربي يمر بالأرمن لابساً ثياب الجيش التركي المنحل يهيج منظره العسكري عاطفة النقمة في قلوب الأرمن إذ يتذكرون فظائع الأتراك بهم وبأهلهم. ولا يعذرونه بأنه عربي، جاهلين الفرق بين هذا وبين التركي فيعاملونه بخشونة. وكنا في حلب نستقبل كل يوم عشرات ومئات من أولئك العرب مسرّحين وهم مهشمو الوجوه مجروحون مضروبون بأيدي الأرمن فكان هؤلاء الجنود ينتشرون في حلب وينشرون بين أهلها أخبار تعدي الأرمن عليهم انتقاماً منهم لما فعل الأتراك بهم، وكان كثير من هؤلاء الجند من الحلبيين المسلمين، هذه أول مقدمة لحادثة حلب.
السبب الثاني كان الإنكليز عند دخولهم حلب قد أخذوا الأرمن اللاجئين إليها ووضعوهم في أماكن مخصوصة عُنوا فيها بإعاشتهم وترتيب أمورهم وتحسين حالتهم، فرأى الأرمن من الإنكليز حماة يدفعون عنهم ذلك الشر المستطير والضيم العظيم، فصاروا كمن انتقل فجأة من الظلمة الحالكة إلى نور كهرباء ساطعة، وتحولوا حالاً إلى جواسيس متطوعين للإنكليز ينقلون إليهم الأخبار المتنوعة، وجرأهم هذا الانقلاب في حالتهم من تعاسة وشقاء إلى حرية وإكرام فنشأت فيهم غطرسة غير معهودة لدى الحلبيين فقابلها هؤلاء بالاشمئزاز الطبيعي فازدادت نارها اضطراماً، وصارت الخشونة في الحديث على رأس كل لسان أرمني تقريباً، فتكاثرت الحوادث البسيطة في جميع أنحاء الشهباء.
السبب الثالث الجنيه المصري، فإن الإنكليز طرحوه في حلب عند قدومهم وقد تناقصت في ذلك الحين قيمته الحقيقية عن قيمته الرسمية، وكان الأرمن يتناولون
الجنيه من دوائر الإعاشة الإنكليزية ويذهبون لصرفه عند الفوّالين وباعة الحمّص مثلاً، فكان الأرمني يأكل صحن فول بغرشين ثم يبرز للفوال ورقة بليرة ويطلب منه حسم الغرشين وإعطاءه الباقي من المال الحجر، وكانت قيمة الورقة ستين غرشاً، فكان المسكين يضطر إما إلى خسارة كل موجودات محله وهي لا تزيد عن أربعين غرشاً وإما إلى مواجهة شرطي كان غالباً يعطف على خصمه الأرمني تنفيذاً للقانون، وتعددت هذه الحوادث وتنوعت حتى امتلأت منها القلوب وغلت من حرارتها الخواطر.(3/164)
جاء يوم الجمعة في 28 شباط 1919 وهو يوم الشوق التجارية هناك، فكان مسلم يبيع حماراً وقد ساومه عليه أرمني فاختلفا وتصايحا وتشاتما ثم تلاكما فكانت هذه الشرارة التي شعلت النار في الهشيم. وفي سوق الجمعة وما حولها من الأماكن التي يكثر الأرمن فيها حصل التعدي عليهم وفي أقل من ساعة بلغ عدد القتلى 52 والجرحى مئة، قتلوا كلهم وجرحوا بالمدى والخناجر وسواطير اللحم لا بالرصاص. وقد اجتهد الأرمن يومئذ اجتهاداً عظيماً كي يشركوا الحكومة العربية في الجناية عليهم بسبب وجود بعض الجنود والشرطة الأهلية في أماكن التعدي لأنهم لم يصادفوا منهم عوناً. أما عدد قتلى المسلمين الحلبيين فلم يرد ذكره أمامي لكنه بحسب ما سمعت لا يتجاوز العشرة.
وقد أُقيمت 92 دعوى على المتهمين بهذه الحوادث، وآخر ما بلغني أن قد حكم على نحو ثلاثين بالقتل فقتلوا في أوقات مختلفة وصدر الحكم على كثيرين بالسجن. أما الثلاثون عيناً من أعيان حلب فقد قبض عليهم الإنكليز يومئذ بتهمة تحريض الأهالي على ذبح الأرمن، لكن هذه التهمة لم تثبت أمام التمحيص الذي أجرته لجنة من المحققين كنت عضواً فيها. ولهذا لم تقع عليهم محاكمة بتاتاً، لكنهم جُعلوا قيد التوقيف مدة ريثما سكنت الحال، وأذكر أن القائد الإنكليزي لما
أراد أن يسرحهم ألقى عليهم كلاماً ملخصه: إنكم زعماء والزعيم لا يُعذَر على جهله ما يدور بين جماعته. إننا لم نجد عليكم ما يوجب عقاباً قانونياً. لكننا لا نبرئكم من التبعة في وجود أسلحة مع بعض أُناس منتمين إلى زعامتكم، فعليكم كلما علمتم بعد الآن أن تعلمونا بمن يحمل من الأهالي سلاحاً على شخصه أو في بيته، وإلا فنحن نتوخى لكم التحقير حتى لا يبقى في أذهان الناس أثر لاعتقاد الزعامة فيكم وهلم جرًّا.
أعمال الحكومة العربية وحكومة الصهيونيين:
لما جلت الجيوش البريطانية عن المدن الأربع دمشق وحلب وحماة وحمص أخذت الحكومة العربية بإمارة الأمير فيصل بن الحسين تعدّ لها جيشاً من الأهلين، وكانت بريطانيا تؤدي كل شهر لحكومة المدن الأربع مائة وخمسين ألف جنيه(3/165)
مصري، لتستعين بها على تنظيم شؤونها، وكان يصرف من هذا المبلغ جزء مهم على بث الدعوة وتنظيم العصابات، فأخذت بريطانيا تفكر في قطعها، ولكن الحكومة الوطنية زادت في معدل الجباية والرسوم حتى تسد العجز يوم انقطاع الإعانة الكبرى، ودخل في السياسة الوطنية شبان متحمسون، وأكثرهم من غير أبناء هذه المنطقة الشرقية منطقة المدن الأربع، وأصبحت لهم منزلة عند الأمير يبرمون وينقضون، فأبعدوا عنه كثيراً من رجال الحل والعقد، وأصبح الأمير يعمل هو والشبان، والمستند في ذلك على طائفة من أرباب الفتوة والعوام، وكثرت الأحزاب السياسية في دمشق حتى زادت على ثمانية، وكلها بالطبع تريد استقلال الشام، ومنها ما يدعو إلى استقلال جميع العرب، وكثرت المنازع واشتد التنازع بين أبناء الوطن، وكلهم يريد له الخير ولا يهتدي إلى طريق الصواب. لأن عمال بريطانيا وفرنسا أخذوا يعملون في الشام، وكل منهم يريد الاحتفاظ بحقوق دولته وثبات الأرجحية لها وتوطيد أقدامها.
وقد تأفف الناس من السياسة التي جرى عليها الأمير فيصل في الاعتماد على الغرباء عن منطقة المدن الأربع ونزع ثقته من الأعيان والمفكرين من دون سبب، فأخذوا ينصحون له سراً بالعدول عن هذه الخطة، وأوفد أعيان الدمشقيين ومفكروهم وفداً يبين له ما يجب السير عليه حرصاً على المصلحة فلم يلتفت إلى كلامهم. وقال في بعض مجالسه: إن أولئك الغرباء الذين يعتمد عليهم قد خدموه أكثر من الدمشقيين وأن هؤلاء لا مأرب لهم إلا المال. على لأن الأيام أثبتت عكس ما قال ولكن السياسة تسود الأبيض وتبيض الأسود. وكانت المنطقة الساحلية أي التي دعيت باسم المنطقة الغربية، قد أقامت لها حاكماً فرنسياً على لبنان لأول عقد الهدنة، وأخذت فرنسا تحتل السواحل وما إليها إلى قلقية، ولم تمض على ذلك مدة حتى بدأت العصابات التركية تسيء إلى الجيش الفرنسي في قلقية وشمالي الشام فقتل من الفريقين مئات. وكانت فلسطين منذ رحل الترك عنها في قبضة الجيش البريطاني فلما مضت السنة الأولى للهدنة أصبحت بريطانيا تفي للإسرائيليين الصهيونيين بما وعدهم به وزيرها بلفور مدة الحرب، إذا عاونوا بريطانيا بأموالهم بأن تجعل لهم من فلسطين وطناً قومياً. فجعلت اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين بمثابة العربية والإنكليزية(3/166)
وأخذت الوظائف تنتقل من أيدي المسلمين والمسيحيين إلى أيدي الإسرائيليين، وخص الإسرائيليون بالرعاية على ما لم يكن لهم به عهد، فشق ذلك على أهل الوطن، واجتمع المسلمون والنصارى وألفوا جمعية تطالب بريطانيا بالعدول عن هذا الوعد البلفوري، وكثرت الوفود منهم إلى أوربا وإلى مصر مركز القيادة العامة للجيوش البريطانية، فشعرت بريطانيا بصعوبات حقيقية في إدارة فلسطين آب 1921 وحدثت فتنة في يافا والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية وتوقفت الأعمال، والقوم لا عمل لهم إلا إرادة بريطانيا على الرجوع عن وعدها لليهود، وقد ملأ أبناء فلسطين من غير اليهود
وهم ثمانية أضعافهم العلم صياحاً وعويلاً ولم ينفس لهم كرب، ولم يدركوا لهم غاية. وهكذا كان من شبح الصهيونيين ما أخاف المسلمين والنصارى فاتحدوا اتحاداً صادقاً وجامعتهم في اتحادهم، وحدة المصلحة على طراز كان فيه شيء من الغرابة.
ولما تركت الحكومة العربية في دمشق وشأنها على أثر انسحاب الجيوش البريطانية إلى الخط الذي عينته معاهدة سايكس بيكو في فلسطين، رأى الأمير فيصل أن يذهب 1 أيلول إلى لندرا وباريز ليفهم ساستهما حقيقة أماني الأمة السورية ويعرف موقفه من معاهدة بريطانيا وفرنسا المنعقدة في 1 أيلول 1919 وخلاصتها تسليم قلقية والمنطقة الغربية من أرض العدو المحتلة أي ساحل سورية إلى الإدارة الفرنسية، فسحبت بموجبها الجيوش البريطانية إلى ما وراء الخط المفروض الذي عين الحدود بين المنطقتين المنوه عنه بمعاهدة سايكس بيكو، أما المنطقة الشرقية وأرض العدو المحتلة أي المنطقة العربية فتبقى الحكومة بدمشق قابضة على زمامها، وتقدم لها الدولة الفرنسية المساعدة الضرورية التي نصت عليها معاهدة سايكس بيكو.
ما استطاع رجال بريطانيا أن ينيلوا الأمير فيصلاً رغائبه، وأحالوه على فرنسا لأن الانتداب في الشام اصبح لها دون سواها، وفي فلسطين تم الانتداب لإنكلترا وكذلك العراق. فبذل الأمير جهده حتى يفهم رجال السياسة في بريطانيا وفرنسا ما هي المسألة السورية، وبعد الجهد العظيم لم ير إلا الاتفاق مع رئيس الوزارة الفرنسية المسيو كليمانسو وتعهد له أن يكون مع فرنسا ويرضى بانتدابها على الشام، واعترفت فرنسا لأهل الشام على اختلاف مذاهبهم بالاستقلال(3/167)
وحكم أنفسهم بأنفسهم، وذلك في اللائحة التي تم توقيعها بين فرنسا والأمير فيصل يوم 16 كانون الأول 1919 واعترف الأمير بأن السوريين لا يستطيعون في الوقت
الحاضر، لاختلال النظام الاجتماعي الناشئ عن الاضطهاد التركي والخسائر المحدثة أثناء الحرب، أن يحققوا وحدتهم، وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ومعاونة أمة مشاركة، وطلب باسم الشعب السوري هذه المهمة من فرنسا وقد جاء في المادة الخامسة من هذه اللائحة أن الأمير فيصلاً يتعهد بأن يسهل بالمشاركة مع فرنسا تنظيم دروز حوران بشكل استقلال إداري داخل الدولة تكون مجهزة بأوسع استقلال يلتئم مع وحدة الدولة، وجاء في المادة السابعة أنه يعترف بالعربية لغة رسمية في الإدارة والتدريس وتعلم اللغة الفرنسية كما تعلم لغة مساعدة وبصورة إجبارية ومختارة.
وتعهد الأمير بأن يقضي على العصابات التي كانت تعتدي على المنطقة الغربية التي يخفق عليها العلم الفرنسي، وعلق اعترافه بالانتداب الفرنسي جهاراً على إدماج لبنان في الشام، ثم عاد إلى الشام 3 شعبان 1337 - أيار 1919 فاستقبلته السلطتان الفرنسية والبريطانية استقبالاً رائعاً، وكان استقباله في دمشق فخماً للغاية فخطب في بيروت خطبة رضي عنها الفرنسيون، ولما جاء دمشق خطب خطبة تخالفها إجمالاً وترضي المنادين بالاستقلال التام الناجز، وبدأ التقلقل في سياسته والتناقض في أقواله، لأنه كان بين عاملين العامل الفرنسي والعامل الإنكليزي وهذا أشد وأقوى وإن لم يكن ظاهراً للعيان، ومن أشد العوامل في هذا حالة والده ملك الحجاز، ولأن إنكلترا إذا غضبت تنقطع عنه المعاونة المالية الشهرية، وبدونها يستحيل القيام بشيء من أعمال المقاومة والدعاية.
-
المؤتمر السوري ومبايعته فيصلاً ملكاً على الشام:
كانت الحكومة العربية بدمشق دعت مؤتمراً تألف من أكثر أبناء الشام ومنها فلسطين، لوضع القانون الأساسي وتعيين شكل الحكومة، فقرر إعلان ملكية الأمير
فيصل 16 جمادى الثانية 1338 - 7 آذار 1919 فبويع له بالملك على الأصول باسم فيصل الأول، وأعلن شقيقه الأمير عبد الله ملكاً(3/168)
على العراق، بايع أهل الحل والعقد الملك الجديد فرحين مغتبطين ولم يحضر قنصل بريطانيا حفلة التنصيب وحضرها معتمد فرنسا فرحاً مسروراً، وكان محباً للعرب مجاهراً باستقلالهم، وتألفت وزارة قالت أولاً إنها لا تقبل بالانتداب الفرنسي الذي كان قرره على الشام مؤتمر سان ريمو في 16 نيسان 1920 فدهش المفكرون لهذا التبدل في السياسة، وذهبت في ذلك الظنون كل مذهب، فمن قائل إن الأمير نودي به ملكاً بإيعاز إنكلترا لأنها ذكرت خدماته وخدمات والده واخوته لها في الحرب، فأرادت أن تكافئهم وتقوم بما وعدتهم به. ومن ذاهب إلى فرنسا رأت ذلك من مصلحتها، لأنها كانت عرضت على الأمير أن يقبل بالانتداب الفرنسي على الشام ما عدا فلسطين وهي تدخل له لبنان في سلك ملكه فلم يقبل. ثم تبين بعد أيام أن المسألة ليست منبعثة إلا عن آراء الأحزاب لأن من أساطينها من كذن يذهب منذ حين إلى أن أوربا إذا رأت الشاميين ينادون بالأمير فيصل ملكاً عليهم، لا تنازعهم في ذلك لأنهم أحرار في بلادهم. ويكون ساسة أوربا أمام أمر واقع لا يجرءون أن ينقضوا ما أُبرم!! وفي 18 آذار أي بعد البيعة بعشرة أيام أبلغت فرنسا وإنكلترا الأمير فيصلاً بأنهما لا تعترفان بصحة قرار المؤتمر السوري الذي بايعه ملكاً، ودعي إلى الحضور إلى أوربا لعرض قضيته أمام مجلس عال، فاعتذر بأن أعمال مملكته الجديدة لا تسمح له بمغادرة الشام، وأرسل من قبله رسولاً إلى لندرا وطلب إلى فرنسا وإنكلترا معاونتهما ليعترفا له بالاستقلال. وكان الأمير يرى من معتمد فرنسا لدى حكومته عطفاً ومعاونة، وكذلك من معتمد إيطاليا التي أرسلت إلى دمشق قنصلاً برتبة سفير صغير ليحسن تمثيل دولته أمام الدولة السورية الفتية. أما ملكية الملك فيصل فإن إنكلترا كانت على ما قيل تميل إلى الاعتراف بها ولكن
فرنسا عارضتها في ذلك.
العصابات بين الساحل والداخل:
نشطت العصابات في المنطقة الشرقية فأرسلت الدولة المحتلة في المنطقة الغربية كانون الثاني سنة 1920 كتيبتين من الجند بدلالة بعض نصارى جديدة مرجعيون ودير ميماس والقليعة فضربوا قصر محمود الفاعور أمير عرب(3/169)
الفضل في الخصاص من أرض الحولة فلما رأى عرب الفضل أنهم المقصودون بالذات حملوا على الجند حملة منكرة كانت فيها لهم الغلبة، وقتل كثير من الجند الفرنسي وقليل من العرب وعندئذ هجم نحو مائة وخمسين رجلاً من العرب وأرباب القرى المجاورة على جديدة مرجعيون فأحرقوا نحو أربعين داراً ونهبوا بعضها وقتلوا نحو عشرين رجلاً من أهلها. وادعى العرب أنه قتل من الجند نحو أربعمائة ولم يقتل منهم سوى سبعة أشخاص، وادعى الفرنسيون أن المهاجمين من العرب كانوا نحو أربعة آلاف معهم 25 مدفعاً رشاشاً ومدفعان من مدافع الصحراء، وادعى العرب أنهم ما كانوا أكثر من ثلاثمائة ولا مدافع لهم ولا رشاشات ولم يكونوا ستة إلى واحد كما ادعى الفرنسيس.
وبعد خمسة أشهر 15 حزيران تكررت هذه الحوادث في عين ابل والقليعة والجديدة نفسها، وضربت الحكومة المنتدبة على أهل جبل عامل مائتي ألف ليرة ذهباً جزاء عن العصابات في جبلهم. وذكر الريحاني أن الجباة الماهرين جمعوا من هذا الجبل أربعمائة وخمسة وثمانين ألف ليرة دفعوا منها تعويضاً لأهل الجديدة خمسين ألف ليرة.
ووقعت وقائع كثيرة في بلاد بشارة وإنطاكية وتل كلخ، كانت العصابات العامل الأقوى فيها، وحاولت المنطقة الغربية إنشاء عصابات مثل عصابات المنطقة الشرقية لتدفع الشر بالشر، وأرصدت في بعض الروايات ثلاثمائة ألف ليرة ذهباً
لهذه الغاية ولكن عصابات المنطقة الشرقية كان عملها أعظم وأفظع واكتفت بها الحكومة المحتلة ولبثت ترتقب نتائج عملها وربما جسمت أمرها وهولت فيه أكثر من الحقيقة. ومما حدق وقائع النصيرية على الإسماعيلية في جبل الكلبية في قرى عقر زيتي وخربة الفرس وجمعه شبه وغيرها من قرى الإسماعيلية، وفي ناحيتي الخوابي والقدموس، وسكانهما إسماعيلية، فنهبت القدموس وخربت بعض بيوتها، وكانت المعركة دامية بين الطائفتين قدر بعضهم قتلاها بمائتين وزاد آخرون إلى أكثر من ذلك، فزحفت كتيبة من الجيش الفرنسي على قرية الدويلية فأحرقتها، وأحرقت قريتي كاف الجوع والسلورية ثم سارت إلى(3/170)
المريقب مقر صالح العلي زعيم الثورة ومن المعتقدين عند النصيرية، وكان جمع القلوب حوله بدهائه، وعشائره تبلغ خمسة آلاف، ومعهم عشائر المتاورة، فتألفت كتلة من اثني عشر ألف مقاتل من أهالي جبال النصيرية وتعاهدت على قتال الجيش الفرنسي، فأحرق الجيش بيوت زعيم الثورة فهاجم هذا الحملة ودامت المعركة بينهما سبع ساعات، ثم تراجعت الحملة إلى القدموس ومنها إلى بانياس وطرطوس.
ومن الأحداث خلال هذه السنة ما وقع من اختلاف شباط 1919 بين مشايخ الإسماعيلية وجماعتهم من الفلاحين انقلب إلى فتنة، اضطر معها الأمراء أن يستنجدوا بمشايخ النصيرية ليعينوهم على أبناء مذهبهم فعاونوهم حتى انتصروا على جماعتهم، وأراد الفلاحون من الإسماعيلية بعد كسرتهم أن ينتقموا لأنفسهم فهاجموا قرى النصيرية القريبة من أرضهم، وارتكبوا أنواع القسوة وحرقوا الدور ونبشوا قبور الأولياء من شيعتهم فاضطرت السلطة كما قال الكولونيل نيجر إلى التدخل واشتعلت نيران الفتنة ولم تخمد إلا في تموز 1921. قال: وكادت هذه الفتنة تعم الجبل كله، لو لم يعلن استقلال جبال النصيرية، وذكر في تقرير له أن المفاوضات كثرت بين جبال النصيرية وأنقرة أي الحكومة التركية، وانقطعت بعد
عقد الصلح بين فرنسا وتركيا، وأن البنادق التي جمعتها السلطة من الجبل بلغت خمسة عشر ألفاً منها ما وزر حديث جداً ومنها إنكليزي، وكان الشيخ صالح زعيم العلويين يراسل أنقرة على الدوام. وفي تاريخ العلويين أن الثوار الأتراك اعتدوا على القرى الساحلية المتحايدة وأحرقوا ستين قرية وقتلوا بعض العلويين ودامت الفتنة ستة أشهر قتل فيها من أهل الجسر وصهيون أكثر مما قتل منهم في الحرب العمومية الكبرى.
ذكر الجنرال غورو في إحدى خطبه أنه اشترك مع عصابات مرجعيون زعيم وخمسة ملازمين 317 جندياً عربياً، وأعانتهم الحكومة العربية بأربع رشاشات ثقيلة وثلاث خفيفة، وخمسين صندوق ذخيرة، وأن مذابح عين ابل وفتنة العامليين كانت بتحريض من المنطقة الشرقية أي حكومة فيصل في دمشق، والغالب أن عمال الفرنسيين كانوا يبالغون في أخبار العصابات ويؤكد(3/171)
الخبيرون أن العسكر العربي ما اشترك مع العصابات أصلاً ولا في وقعة من الوقائع.
على أن بريطانيا وهي الصديقة المحببة إلى حكومة فيصل لم تخل من اعتداء العصابات عليها، اعتدت على أطراف سمخ في المنطقة البريطانية، كما اعتدت على قطار في الشمال يحمل عسكرا بريطانياً. ومما جرى خلال تلك الفترة اتفاق بريطانيا وفرنسا اتفاقاً عسكرياً على أن تحتل الثانية بعلبك ورياق وحاصبيا وراشيا فزحفت الجنود الفرنسية لاحتلال هذه الأقضية وكانت من عمل الحكومة العربية الفيصلية، وبعد مناوشة في وادي جريبان دامت أربع ساعات بين الجيش العربي والجيش الفرنسي دخل هذا بعلبك، ثم سعى فيصل فأخرجهم من تلك المقاطعة ثانية.
ترامت أخبار العصابات إلى الغرب وتجسمت بالطبع على العادة في نقل الأخبار، وشكا العقلاء من أهل هذه الديار وخافوا عاقبة هذه السياسة، وأسفوا لتقاتل أبناء
الوطن ولتجدد نعرة الدين، ولم يكن قناصل الدول غافلين عما يتم، وكانوا ينقلون أخبار الوقائع في الجملة على وجه الصحة، وأخذت العلائق تتوتر بين الأمير فيصل وحكومة الانتداب في الساحل، وكانت فاتحة أعمال الجنرال غورو في الشام أن طلب إلى فيصل أن يعطيه البقاع لينقل على الخط الحديدي ما يحتاج إليه الجيش الفرنسي في جهات عينتاب فأبى الأمير إجابة الطلب.
الاستفتاء في الدولة المنتدبة:
زينت بريطانيا للحلفاء إرسال وفد يستفتي أهل سورية ولبنان، في الحكومة التي يختارونها للانتداب عليهما فجاء الشام حزيران 1919 وفد أميركي منتدب من الدول ليدرس حالة الشام ويعرف ما يرضيها من الحكومات، فبدأ عمله من الجنوب إلى الشمال، وجاء دمشق فاجتمع إلى العلماء والرؤساء والقادة، فكانت الكلمة في المدن الأربع مجمعة على طلب الاستقلال التام ورفض المعاونة(3/172)
الفرنسية وطلب المساعدة الأميركية أو البريطانية فقط، وكذلك مدن الداخلية أما في الساحل فالموارنة والطوائف الباباوية طلبوا فرنسا. ويقول الريحاني: إن الأقلية اللبنانية فقط طلبت الانتداب الفرنسي ولم تشمل هذه الأقلية الطوائف المسيحية كلها. قال: ومما يدعو إلى الأسف أن قد كانت اللجنة الأميركية عاملاً آخر من عوامل الشقاق لأنها في طريقة الاستفتاء عززت من حيث لا تدري مبدأ العصبيات الدينية والطائفية.
وقد قالت هذه اللجنة الأميركية إنها زارت 34 مقاطعة من مناطق العرب والإنكليز والفرنسيس، فلسطين وساحل سورية وداخلها فيها 2365000 من المسلمين و 585 و500 من النصارى 140000 من الدروز 110000 من اليهود 450000 من الطوائف الأخرى. وهو إحصاء تقريبي وأنه بلغ مجموع العرائض التي تلقتها اللجنة 91079 عريضة وفي كل واحدة خمسون توقيعاً على
الأقل، وأن مطالب الأهالي تنحصر بطلب إنشاء مملكة ملكية ديمقراطية دستورية لا مركزية.
ولما جاءت اللجنة الأميركية إلى دمشق، أصدر المؤتمر السوري قراراً فحواه طلب الاستقلال التام لسورية، والاحتجاج على المادة الثانية والعشرين من قانون جمعية الأمم، ورفض المساعدة الفرنسية وطلب مساعدة الولايات المتحدة لمدة عشرين سنة، وإن لم تقبل هذه فبريطانيا العظمى بنفس هذه الشروط، وأن العزم معقود على تأسيس حكومة ملكية ديمقراطية يرأسها الأمير فيصل، وتقوم على أسس القومية وتحفظ حقوق الأقلية. وكانت الأكثرية المطلقة في الحكومة العربية بجانب أميركا في مسألة الانتداب، وفي الساحل كانت لفرنسا. ولما كانت أميركا لا تقبل بأن تنتدب على بلد لا شأن لها فيه فالانتداب يكون لبريطانيا، وهذا ما كان يريده فيصل لتكون الأصقاع العربية كلها ذات انتداب واحد، وتكون روحها واحداً وهي الروح البريطاني وخالفه فريق صغير فقال بأن في تعدد الانتدابات فرجاً للشام يقرب أيام استمتاعها بحريتها، ناجية من إشراف الدولة المنتدبة، وقد كانت ثقة الأمير بالإنكليز السكسونيين في القضية السورية عظيمة جداً. كتب إلى صاحب هذه الخطط من باريز يوم 4 آذار 1919 كتاباً خاصاً جاء فيه: وإذا استثنينا بعض من يريد الاستعمار(3/173)
فجميع أصوات العالم معنا فلا يشق عليكم ما يبلغكم من بعض الجهات فهي قراقع وضرب دفوف لا خوف منه هذا بشرط أن نكون موحدي الفكر والعمل. الأمة الأميركية والبريطانية معنا وسنصل إلى ما نحن نتمناه.
-
أفكار فيصل والعبث بالسياسة:
تجلت أفكار الأمير فيصل بمجيء اللجنة الأميركية كل التجلي، وكانت الدعوة أولاً
منذ يوم رفع العلم العربي على الأصقاع الداخلية أن الاستقلال تام للولايات العربية تتناول الوحدة الشام والعراق وسائر الأقطار العربية في الجزيرة، وما فتئت الدائرة تضيق حتى أخذوا يدعون إلى الشام بحدوده الطبيعية، ثم سكتوا عن فلسطين، لأن العلم البريطاني كان يخفق عليها منذ خروج الأتراك منها، ثم اكتفوا بالدعوة لاستقلال سورية، ثم تخلوا عن لبنان واكتفوا بالدعوة إلى استقلال المدن الأربع وهذه أيضاً لم تسلم لهم على ما يراد لها. وذكر الريحاني أنه كان لفيصل رأي في تقسيم العمالات إلى مقاطعات وفقاً لحالتها الطبيعية والعقلية والتهذيبية صرّح به خصوصاً للوفد اللبناني الذي جاء دمشق يهنئه بعودته من باريز، وليؤكد له أن فريقا كبيراً من اللبنانيين يتمنون الانضمام إلى سورية. وقد أخذت الحكومة العربية بعد أن نودي بالملك فيصل ملكاً على الشام تزيد في الضرائب وشرعت بالتجنيد كانون الأول 1919 وجُعل البدل النقدي عن الخدمة العسكرية ثلاثين ليرة عثمانية لستة أشهر حتى زادت وارداتها من 1800000 جنيه إلى 2300000 وذلك لتستعين بهذا المال على مقاومة فرنسا، وقد دفع الناس الأموال تخلصاً من الخدمة العسكرية، وكان بقي معهم نقد كثير من الحرب العامة، ومنه ما صرفته الحكومتان البريطانية والعربية عقيب الاحتلال، وكيف يقاوم جيش جديد جيش حكومة كبرى وهو قليل العدد والعُدد، فيه ظواهر ومظاهر لا حقائق يعول يوم البأس عليها، باتت المسألة أشبه بالهزل منها بالجد.
لما سألت الوزارة أمراء الجيش بحضور الملك فيصل عما عند الجيش العربي من الذخائر والعتاد وفي كم يوم تنفذ إذا اشتبكت الحرب، أجابوا إنها تنفذ(3/174)
في ساعتين وقد لا تنفذ في يومين. فسألتهم الوزارة وعلى ماذا تستندون في الحرب بعد نفاذ الذخائر؟ فأجاب بعضهم أنهم يأملون في أول ملحمة أن يدحروا الجيش الفرنسي الزاحف ويستولوا على ذخائره وعتاده، وعلق بعضهم آماله على الجيش العربي
في حلب. وقال آخر: إننا ننسحب إلى رؤوس الجبال، ونعتمد على حصوننا الطبيعية ونحارب حرباً دفاعية بالمناوشة، ولما سألتهم الوزارة على ماذا تعتمدون في هذه الحرب، وعلى أي شيء تتكلون في المقاومة؟ أجابوا على حماسة الأمة ومعاونتها فأجابهم أحد الوزراء: دعونا من البحث في المعنويات فإنا نقدرها مثلكم، وأخبرونا عن قوتكم الفعلية المادية وقولوا كم تمكنكم المقاومة؟ فقالوا: ست ساعات إذا اشتد لظى الحرب دفعة، ولم نوفق لدحر العدو وهزيمته.
وهكذا كان الأمناء على مصلحة الأمة يفكرون ويتناقشون قبيل أن ساقت فرنسا جيشها من الساحل إلى الداخل، أما العامة ومن كان يحمسهم فقدر عن مبلغهم من الخيالات ولا حرج. ولقد قال يوماً أحد دعاة العامة ممن أضروا كثيراً بحماستهم قضية الاستقلال في مجلس عقد بدمشق من خاصة القوم ليقرروا الحرب مع فرنسا أو الصلح وتأليف عصابات تغزو المنطقة الغربية: إن فرنسا عجزت بعد الحرب العامة أن ترسل إلى الشام بضعة أنفار من جيشها، وليس لديها مال، وما تهددنا به من قوتها لا تستطيع إنفاذه، فالأولى أن نتكل على الله ونبدهها بالحرب. فأجاب صاحب هذه الخطط وكان في الجلسة من جملة المدعوين: لست من أمراء الجيش حتى أعرف ما عنده من القوى المادية، ولكنني أعرف فرنسا وقوتها ولا أكون إلى المبالغة كثيراً إذا قلت إن فرنسا تستطيع أن تكتسح الشام من جنوبه إلى شماله إذا أرسلت علينا عوران حربها الأخيرة فقط، فيجب علينا يا سادتي أن لا نغش أنفسنا ونتذرع بالمحال.
حملة فرنسا على المدن الأربع:
كانت الحكومة العربية في أيدي العامة والهزائين من أمراء جيشها، وخطط الأحزاب متضاربة، وأعضاء كل حزب متعادون متشاكسون بينهم، وكان الجنرال غورو المفوض السامي في سورية ولبنان يعزز جيشه في الساحل ويستدعي(3/175)
من
فرنسا فرقاً من الجند فأرسل يوم 11 تموز 1920 إلى الملك فيصل كتاباً مطلعه: بينما كانت السكينة سائدة في سورية أثناء الاحتلال الإنكليزي ابتدأ الفساد يوم حلت جيوشنا محل الجيوش البريطانية ولا يزال آخذاً بازدياد منذ ذاك الوقت. وأرسل إليه أيضاً يوم 14 تموز 1919 بلاغاً يدور على خمس مواد وهي أن يعطي لفرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب، وأن تلغى حكومة فيصل القرعة العسكرية التي أخذت تجمعها ويقبل الانتداب الفرنسي والنقود السورية ويضرب على أيدي الأشقياء. فطلب الملك مهلة أربع وعشرين ساعة فانتهت مدة الإنذار الأول في 18 تموز الساعة الحادية عشرة والنصف تقريباً ثم مددت أربعاً وعشرين ساعة أخرى ثم مددت ثانية وانتهت يوم 22 تموز. ووقع تأخير في إرسال الجواب بالإيجاب أي بقبول مطالب فرنسا وكان الداعي إليه انقطاع الأسلاك البرقية، فأمر الجنرال غورو جيشه بالمسير إلى دمشق بقيادة الجنرال غوابيه يوم 21 تموز فسار إلى البقاع واحتل رياق وأخذ يصعد أكمات مجدل عنجر، وكان الجيش العربي اتخذ له حصوناً في تلك الأكمات، وتجمع بعض عامة دمشق وبضع مئات من البدو عسكر البيشة الحجازي وأخذوا يخفون إلى مقابلة الجيش الفرنسي الزاحف فوصلوا إلى جبال ميسلون، وفي يوم 22 تموز خرجت كتيبة عربية من حمص مغيرة على الجند الفرنسي في تل كلخ فانهزمت الكتيبة وأخذ منها 151 أسيراً بينهم ضابطان وثلاثة مدافع رشاشة.
وفي 22 تموز أعلم الجنرال غورو الملك فيصلاً أنه مستعد أن يتوقف عن الزحف إذا قبل بمواد الإنذار وبالشروط التالية 1ً تنشر حكومة دمشق منشوراً كتب مسودته الفرنسيون وبينوا فيه السبب الذي حملهم على إعطاء الأوامر للجنود بالزحف على دمشق والسبب الذي توقف من أجله ذلك الزحف. 2ً الموافقة على بقاء الجنود الفرنسية حتى نهاية الخط الذي وصلوه وقتئذ ليوم تنفيذ جميع شروط
الإنذار. 3ً تسليم خط السكة الحديدية من رياق إلى التكية للفرنسيين وبقاؤه بأيديهم في هذه المدة. 4ً سحب جميع الفصائل الشريفية إلى شرقي هذا الخط وجعل الدرك تحت رعاية الفرنسيين بالمنطقة التي تم احتلالها. 5ً تتوقف حكومة دمشق عن إرسال المعاونات للعصابات المنظمة(3/176)
التي تعمل في المنطقة الفرنسية. 6ً نزع السلاح من أهالي دمشق ومن الجنود الذين سرحوا. 7ً قبول بعثة فرنسية بدمشق تقف على صورة تنفيذ شروط الإنذار، وترسم خطة للمباشرة بتطبيق الانتداب الفرنسي على الشام.
كان الجيش الفرنسي الزاحف على دمشق مؤلفاً من عشر كتائب مشاة وست كتائب فرسان وسبع بطاريات من الجنود الفرنسية والسنغالية والمراكشية والجزائرية، والجيش العربي مؤلفاً من بضعة ألوف سطر عددها على الورق فقط وهو مشتت في حلب وحمص ودمشق، وليس له وحدة في القيادة. وصدر الأمر إلى الجند المرابط في حصون المجدل من الجيش العربي بالتسليم وفض الجيش، ثم عاد فصدر الأمر ثانية إلى جماعة الحصون أن يبقوا على المقاومة، ولم يكن عددهم يزيد على مائة وعشرين جندياً. وأصبح الحكم في دمشق للغوغاء الذين كان يحمسهم زعماؤهم، وهجموا على القلعة لأخذ السلاح منها فنهبوا الذخائر فاضطرت الحكومة لحفظ الأمن أن تستعمل فيهم القوة فقتل منهم نحو مأتي إنسان، وبات الناس في كرب عظيم. وحدث تبلبل، فلم تصل برقية الملك فيصل إلى المفوض السامي للجمهورية الفرنسية بقبول شروط فرنسا كلها إلا بعد أن تقدم الجيش الفرنسي ووصل إلى ميسنون من طريق دير العشائر إلى الميماس وقطع خط الرجعة على العرب، فدارت الحرب في عقبة الطين بين الجيش الزاحف وبين سرايا الجند العربي وجند البدو والمتطوعة، وكان الجيش العربي أربعمائة جندي ومائتين من الهجانة يصحبهم ويتبعهم من الأهالي والعربان عدد يختلف بين
الأربعة والخمسة آلاف على رواية الريحاني، فقتل في أربع ساعات بقنابل الطيارات وقذائف البنادق والرشاشات كثير من الفريقين، وفي مقدمة الوطنيين يوسف بك العظمة ناظر حربية الملك فيصل وكان من أكبر القائلين بالمقاومة وعرف أنه غلط في تقدير القوة وسبق السيف العذل بعد صدور أمر الملك بفض الجيش وتراجع القوة المنظمة في الجملة، فآثر الانتحار في خط النار واستشهد في ساحة الحرب محافظاً على شرفه العسكري، وقد قتل الجيش الزاحف طائفة من الأهالي الذين حاربوه بعد أن سقطوا أسرى في يده لأن قانون الجندية يبيح قتل غير الجند إذا اشتركوا في المعمعة، وفي رواية(3/177)
أنهم أجهزوا على الجرحى الوطنيين أيضاً وحفروا قبورهم بأيديهم قبل أن يُرمَوا بالرصاص. وترك الجيش العربي في ساحة الحرب 15 مدفعاً قيل أن بعضها كان معطلاً قبل أن ينصب في أماكنه و 40 رشاشاً وذخائر كثيرة. حدثني ثقة زار ساحة ميسنون غداة الوقعة رواية عن ضابط سنغالي برتبة وكيل أن قتلى الوطنيين في ميسنون من 1200 إلى 1500 وأنه قال له الضابط: أُقسم بالله أنه لم يلوث أحد السنغاليين يده بدم أحد من الوطنيين. قال محدثي: إن كل من رآهم مجدلين من قتلى الجيش الداخل هم من السنغاليين ليس فيهم أحد من الجنس الأبيض.
وعاد المنهزمون من ساحة الحرب فدخل الجيش الفرنسي من الغد إلى دمشق 25تموز وأبلغ رئيس البعثة الفرنسية الكولونيل تولا الملك فيصل أن يغادر دمشق عملاً بقرار حكومة الجمهورية بأسرع ما يستطاع في السكة الحديدية الحجازية مع عائلته وبطانته على قطار خاص أعارته إياه فأذعن، وعين قبل رحيله علاء الدين الدروبي رئيس وزارة على أن يختار بنفسه من يشاء من الوزراء، أعطاه تقليد الوزارة قبل سفره ليملأه بالوزراء الذين يختارهم دليل الثقة به. فلم يلبث أن ألف وزارته ومن الغد ألقى خطاباً في دار الحكومة حط فيه من كرامة ولي نعمته
الملك فيصل فاشمأز أرباب الوفاء من مصانعته، ولم يلبث أن أرسل إليه برقية يقول فيها: إن السلطة العسكرية تبلغ جلالتكم أنها تطلب خروجكم من حوران وأنها وضعت تحت أمركم قطاراً فإن لم تفعلوا ضربت قنابل طياراتها قرى حوران.
سقطت دمشق يوم 24 تموز بعقب وقعة ميسنون، وسقطت حلب يوم 23 بيد الجنرال دي لاموت عقب مناوشة طفيفة، وحمص وحماة يوم 28 منه بدون صعوبة فقبضت فرنسا على قياد المدن الأربع وحكم الديوان الحربي الفرنسي على 58 رجلاً من الوطنيين أكثرهم من حاشية الملك وبعضهم من أهالي جبل عامل وتركت الحكومة المنتدبة لهم المجال حتى انهزموا، ومنهم من لحق بالملك ومنهم من سار إلى شرقي الأردن أو فلسطين أو مصر.
لم يسمع للعقلاء رأي قبيل هذه الحوادث، وكثير منهم كان يكتم فكره لئلا يرمى بضعف الوطنية، ومنهم من لم يسعهم السكوت فصرحوا وأُذوا(3/178)
وهجوا، ونال العامة منهم بإيعاز الزعماء. ولكن كان أهل المصالح الحقيقية يحاذرون التهور، ويودون لو تتفاهم الحكومة الوطنية مع حكومة الانتداب، ولطالما نصحوا سراً للقائمين بالدعوة إلى الاستقلال أن يترووا في الأمر ولا يعمدوا إلى المقاومة الفعلية لاعتقادهم مضرة ذلك، وأن يجعلوا سلاحهم المناقشة بالحسنى لئلا تنزل فرنسا المن الأربع حرباً، وأن يقبل مستشاروهم وبعض مطالبهم الخفيفة، وأن يرسل إلى باريز ولندرا وفد من أرباب المكانة والمعرفة يطلب شروطاً موافقة للانتداب في الشام وهو واقع لا محالة، إذ ليس في يد الملك فيصل ولا في يد أبيه الملك حسين عهد وثيق من دول الحلفاء يثبت له أو لأبيه ملكية الشام، وغاية ما ربحه الملك حسين من اتحاده مع الحلفاء في الحرب استئثاره بملك الحجاز. وكان الحلفاء وعدوا أن يمنحوا العرب استقلالهم ويساعدوهم عل نيله، وبهذه الوعود انضم نحو
ثمانين ألفاً من العرب إلى صفوفهم وقاتلوا معهم الأتراك بقيادة الأمير فيصل الذي كانوا ينظرون إليه نظرهم إلى قائد من قوادهم، ولكن الحلفاء لما تم لهم الظفر لم يفوا بوعودهم على ما يرضي العرب.
بعد وقعة ميسنون المحزنة فصلت إدارة البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا عن أحكام المدن الأربعة واستقل الجنرال دي لاموت بأحكام حلب ودير الزور والإسكندرونة، وظلت دمشق وحمص وحماة وحوران دولة ذات، وزارة وكانت عجلون والصلت وعمان ومعان جعلت حكومة برأسها سموها حكومة شرقي الأردن ثم دعيت حكومة الشرق العربي، وذلك بإمارة الأمير عبد الله شقيق الملك فيصل، وهكذا دخلت المدن الأربع في الانتداب الفرنسي كما دخل الساحل لأول عهد دخول الحلفاء. وخطب الجنرال غورو في دار الحكومة بدمشق قائلا إن فرنسا ما جاءت إلى هذه الديار مستعمرة وسترونها أمينة على تقاليدها، راغبة في أن تضمن استقلالكم في عهد الوصاية الحر، قال إن العصاة التي كانت تهاجم الجيش الفرنسي لم يكونوا من الأشقياء فقط، وكان يقودهم ضباط الجيش النظامي، وتمد بالأسلحة والأعتاد والمال، ومع أن فتكها لم يكن شديداً في جنود فرنسا فإن أضرارها كانت عظيمة على الطوائف العزلاء إذ دمرت بيوتاً وأحرقت قرى ونهبت الأموال والمواشي، وكانت(3/179)
أعمال الحكومة الشريفية الرسمية لا تقل بإزاء فرنسا عداءً عن أعمال عصاباتها اه. وكان غورو نشر منشوراً في الطيارات على أهالي سورية قبيل وقعة ميسنون قال فيه: قيل لكم إن فرنسا ترغب في استعماركم وأنها تريد استعبادكم وما ذلك إلا إفك مبين. إن فرنسا قبلت الانتداب التي عهد به إليها مؤتمر السلم على سورية، وهي عازمة على أن تدع الموظفين الوطنيين يزاولون أشغالهم بشرط أن لا يعملوا بسلطتهم ضدها فيخونون العهود والمواثيق المقطوعة.
تعريف الانتداب وسياسة الأتراك فيما يتعلق بالشام:
أما الانتداب فلفظ حديث يراد به الإشراف أو الكفالة وهو لا يخرج عن الحماية إلا باعتبارات قليلة. وقد جاء في صك عصبة الأمم في تعريفه أن الشعوب التي جعلت تحت حكم الانتداب المحدد والموقت والذي طلبوه من أنفسهم هم مستقلون وأن المنتدب عليهم هو المرشد الموقت ريثما يصبحون قادرين على حكم أنفسهم. وقال بوانكاره من ساسة فرنسا: لسنا في الشرق لنضم أقطاراً إلينا ولا لنضع حمايتنا وإنما نحن هناك بموجب انتداب تلقيناه من عصبة الأمم تنفيذاً لمعاهدة فرسال. وقال ديبوي من علماء القضاء في فرنسا: الانتداب أنفق ما جاءت به سياسة الحرب العظمى هو عبارة عن حماية مستترة. وفي المجلة النيابية ن مدة الانتداب تقسم إلى ثلاثة أدوار ابتدأ الدور الثاني في 29 أيلول 1926 وهذا الدور يسمونه دور تنظيم الانتداب، وفي انتهاء الدور الثاني يجب أن يكون هناك حكومات وطنية وعندها يدخل الانتداب في دور التصفية، وبعد انتهاء الدور الثالث للانتداب تعقد معاهدة تحالف مؤقتة تقوم مقام النظام الحالي، وتحدد باتفاق مشترك حقوق المنتدبين والمنتدب عليهم وسلطتهم، وهذا يعد انتهاء للانتداب. ولم يحدد مدة معينة للانتداب في سورية ولبنان وفلسطين.
جعلت معاهدة صلح فرسال 1918 الانتداب ثلاث طبقات فما رُمزَ له بحرف أهو الانتداب الخفيف مثل انتداب فرنسا في سورية ولبنان والانتداب البريطاني في فلسطين والعراق، ويقضي على الدولة المنتدبة على هذه الأقطار أن تقصر مهمتها على تقديم مساعدتها لها. ومن الانتداب ما رمز له بحرف ب وهو الانتداب ببعض الشروط. ومنه ما رمز له بحرف ج وهو انتداب أمة(3/180)
على أقاليم تعد جزءاً من أملاك الدولة المنتدبة. فجعلت الشام من الصنف الأول من الانتداب أي إنه اعترف باستعدادها للاستقلال إذا دربت عليه زمناً.
قال الرئيس ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة في شروطه الأربعة عشر: أما الأمم الأخرى التي هي تحت النير التركي فيكفل لها كيان آمن ويمكّن لها حتى ترتقي في استقلالها من غير ممانعة، ولم يسمع أن أحداً من لأهل السلطات الأجنبية في الشام قال إنها غير مستقلة منذ سقطت في أيدي الحلفاء، وقال أحد كبار رجالهم: إن ما عملته فرنسا في الجزائر في القرن الماضي يتعذر جداً عمله في هذا القرن والناس هنا غيرهم هناك. والأحوال في الشام غير الأحوال في الجزائر.
وفي المادة الأولى من نص الميثاق الوطني التركي الذي تبايع الأتراك على العمل به بعد سقوط الدولة العثمانية ما نصه: إن الأقطار التي تسكنها أكثرية عربية من أرض المملكة العثمانية وهي التي كانت تحتلها الجيوش المحاربة حين عقد الهدنة في 30 تشرين الأول 1918 ينبغي أن تعين مصيرها بنفسها وذلك باستفتاء الرأي العام فيها استفتاء حرا. وهكذا كان كرم الأتراك مع إخوانهم العرب أجازوا لهم أن يعلنوا استقلال الشام عند آخر ساعة من سقوط عاصمة الشام بيد الحلفاء، ورخصوا لهم أن يعينوا مصيرهم بأنفسهم في ميثاقهم الوطني وهم يومئذ لم يكونوا يملكون لأنفسهم حولاً ولا طولاً، ولما عُرضت المسائل العثمانية على بساط البحث في مؤتمر لوزان لم يجر ذكر الشام إلا من حيث الحدود التي تم الاتفاق عليها بين فرنسا وتركيا بصورة لا تزال سرية عرف منها أنه اقتطع جزء عظيم من التخوم الشمالية في الشام أُضيفت إلى آسيا الصغرى بدون حق. هذا والأتراك كانوا ظافرين بأعدائهم اليونان الذين كانوا استولوا على معظم ولايات أدرنة وإزمير وبروصة بعد الحرب العامة فقويت جمهورية تركيا التي جعلت مقرها في أنقرة بدلاً من الأستانة وهزمت جيش اليونان شر هزيمة آب 1922 وكان ظفراً داوى به الأتراك جراحهم بعد هزائمهم في الحرب العالمية.
وقد نصت المادة 94 و 95 من معاهدة الصلح التي عقدت في مدينة سيفر يوم 10 آب 1920 بين الحلفاء والمشتركات معهن من الدول وبين الدولة(3/181)
العثمانية أن المتعاقدين على اتفاق بأن الشام والعراق وفلسطين، عملاً بالفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من الجزء الأول عهد جمعية الأمم، معترف بها موقتاً دول مستقلة على شرط أن تبذل لها النصائح والمعونة من دول منتدبة عليها تقودها في إدارتها إلى الزمن الذي يستطعن أن يسرن فيه بأنفسهن وأن المنتدب على فلسطين يكون مسؤولاً عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة بريطانيا يوم 2 تشرين الثاني 1917 ووافقت عليه الدول المحالفة بشأن تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، على أن لا تمس فيها لحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية، ولا تمس الحقوق والأنظمة السياسية التي يستفيد منها اليهود في كل بلد. وكان الحلفاء تفاوضوا مرات بشأن الشام فرأوا أن تكون فلسطين دولية، ولكن الأتراك لما هاجموا ترعة السويس زاد الإنكليز معرفة بمكان هذا القطر الحربية فرأوا أن يجعلوها منحدراً لمصر بالفصل بين عرب هذه وعرب الشام فأخذوا يطالبون بحيفا وعكا ثم بفلسطين كلها وتعهدوا لليهود أن يجعلوها لهم وطناً قومياً، وتعهد الحلفاء تعهدات مبهمة بشأن الشام حتى يعاونهم برجاله ونفوذه.
تأثر الحورانيين بعوامل الفيصليين ومقتل وزيرين
وقتل اليهود في فلسطين:
غادر الملك فيصل دمشق في زمرة من عماله وأكثرهم من السوريين، وخرج من الجنوب غداة جاء الجيش الفرنسي من الغرب، فطفقت الحكومة المحتلة تجمع السلاح من البادية والحاضرة، ووضعت على المدن الأربع غرامة حربية قدرها مائتا ألف ليرة عثمانية ذهباً، ولكن أهل حوران لم يخضعوا للأمر ومردوا على
الحكومة وبث فيهم بعض أعوان الملك فيصل فكر الثورة، فرأى رئيس الوزارة علاء الدين الدروبي أن يذهب بنفسه لإلقاء النصائح عليهم مستصحباً معه وزيرين من وزارته أحدهما عبد الرحمن اليوسف رئيس مجلس الشورى أكبر أعيان دمشق، فهاجمهم بعض الحوارنة في محطة خربة الغزالة وأنزلوهم من القطار وقتل الدروبي واليوسف، وقتل بعض ركاب القطار، مع أن رئيس الوزارة كان عارفاً بأفكار الحوارنة من جهة حكومة دمشق، ووصمهم لها بالخيانة لأنها سلمت سورية للأجانب. وانجلت وقعة(3/182)
حوران عن جمع غرامة قدرها مئة وعشرون ألف ليرة عثمانية ذهباً منها دية الوزيرين لكل من أسرتهما عشرة آلاف ليرة وحكم على بعض المتهمين بمقتل الوزيرين فزادت حوران خراباً فوق خرابها.
وفي آب 1920 زار المندوب السامي في فلسطين السر هربرت صموئيل الشرق العربي ومما قاله في خطاب له في الصلت: إن الحكومة الفرنسية كررت تأكيداتها بأنها لا تريد أن تتدخل بأي شكل كان في شؤون هذه المقاطعة، وبما ان الحكومة الفرنسية قد عززت نفوذها في دمشق فقد أصبح من الضروري فصل هذه المقاطعة عن إدارة دمشق. تسألونني عن نوع المساعدة التي تريد إنكلترا أن تقدمها لكم فأجيبكم إنها لا تريد أن تضمكم إلى الإدارة الموجودة الآن في فلسطين، بل تنشئ لكم إدارة منفردة تساعدكم على أن تحكموا أنفسكم بأنفسكم، وترسل إليكم عدداً قليلاً من الضباط ورجال القضاء محنكين عارفين باللغة العربية وأحوال الشعب العربي فيسكنون البلدان الكبرى في هذه المقاطعة، وأنتم تعرفون أكثرهم شخصياً وسيساعدونكم في تنظيم الدفاع تجاه أي هجوم خارجي وفي تنظيم الشرطة لصيانة الأمن في الداخل وترقية التجارة وتأييد العدالة وإنفاق ما تدفعونه من الضرائب بأمانة تامة على مصالحكم واحتياجاتكم ويستشيرونكم في الغاية التي تدفع لأجلها الأموال وإصلاح الطرق وترميمها وإنشاء المدارس وتقديم المعاونات
الصحية. إلى أن قال: وستكون التعليمات العمومية التي ترسلها الحكومة البريطانية إلى موظفيها هنا مبنية على قاعدة مساعدة الأهالي ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، فمراعاة هذه المبادئ المؤسسة على العدل والشرف اللذين تمتاز بهما الإدارة البريطانية في جميع أنحاء العالم هي الأسس الصالحة لكل حكومة صالحة. . اه. وفي كتاب عامان في عمان: وقد قوبل هذا البيان من أهالي المنطقة بفتور دل عليه أن زعماءهم جمدوا بعد أن سمعوه جمود الحيرة لا يدرون أشر أُريد بهم أم أراد بهم ربهم رشداً. . . ولما سئلوا عما يجول في نفوسهم وقف أحدهم وقال: يظهر أن أوربا عدلت عن فكرة اعتبار الكفايات في الأمم ورجعت إلى القرعة فهي بينما تمنع سورية ولبنان وفلسطين الاستقلال تعترف به لشرقي الأردن. . .!
واشتد الهياج بين الصهيونيين وأعدائهم من السكان في حيفا في نيسان(3/183)
1920 ونشبت الفتنة في القدس سفكت فيها الدماء ونهبت مخازن اليهود ولولا مهارة الإدارة البريطانية لامتد لهيب العداء إلى سائر مدن فلسطين لما ملئت به النفوس من الغيظ من الصهيونية والصهيونيين.
تقسيم الشام وخرابها واستقلال لبنان والعلويين
ومجلس فلسطين ودولة شرقي الأردن ودولة جبل
الدروز:
وفي أول أيلول 1920 أعلن استقلال لبنان في حرج بيروت بحضور الجنرال غورو، وأضيف إلى لبنان الأصلي الذي عرف بحدوده بعد سنة الستين جبل عامل ووادي التيم والبقاع وبعلبك وطرابلس وعكار والحصن وصافيتا فاحتج فريق من أهالي بيروت وطرابلس مع بقية البلدان المنضمة من الداخل إلى متصرفية جبل لبنان قائلين إن هذا الضم جرى بدون رضى الأهالي وبغير استفتاء، وإن ذلك
مخالف لتصريحات وزارة الخارجية في فرنسا وبريطانيا القائلة بأن الأقاليم التي انسلخت عن الدولة العثمانية مستقلة وللأهالي الحرية التامة في تقرير مصيرهم وتأسيس حكوماتهم الوطنية، وأن السكان لا يرغمون السكان على قبول نظام معين. وجعل للبنان حاكم فرنسي، لأن فرنسا رأت أن الاختلاف بين طوائفه لا يمكن معه إرضاؤهم كلهم، إذا عين أحد أبناء الطوائف الأخرى حاكماً، فعادت نغمة الطائفية إلى الجبل بصورة أشد مما كانت على عهد الترك، وقسمت مقاعد الحكم على الطوائف، وأقيم للبنان الذي دعي لبنان الكبير مجلس نيابي تنفذ المفوضية العليا للجمهورية الفرنسية في سوريا ولبنان ما تراه صالحاً من مقرراته، وقسم لبنان إلى ألوية وأقضية يدير شؤونها موظفون وطنيون، ويدير الحكومة المركزية في بيروت عدة مديرين أو وكلاء أو وزراء يتقلد زمامها الوطنيون، ولكل مدير منهم مستشار فرنسي. وتمت للموارنة في لبنان أمنيتهم التي طالما نشدوها من حكم فرنسا لهم، ونجت الشام من تهديد بطريركهم وكانت انتدبته طائفته إلى مؤتمر الصلح لينظر في استقلال لبنان، فقال وقد هدد بأن لبنان يبقى محصوراً في حدوده القديمة إذا أصر على الرفض: إننا نفضل الموت جوعاً في ظل صخورنا على أن نكون تابعين لدمشق! واقتطعت جبال النصيرية وأصبح يقال لها أرض العلويين جعلت حاضرتها(3/184)
اللاذقية وحاكمها فرنسي وإدارتها أشبه بانتداب الدرجة الثانية مما رمز له بحرف ب وكان تقسيم القطر على هذا المنوال مبدأ خرابها الاقتصادي فاضطر إلى تأليف عدة وزارات ومجالس وإدارات ومنها من لا عمل له في الواقع ونفس الأمر إلا قبض الرواتب من مال المكلفين، وشوهد الإسراف في أموال الحكومة وقد حاولت الحكومات غير مرة أن تقتصد وما برحت الأموال تصرف في الأمور المستهلكة أكثر من الأمور المستحصلة، ولا نسبة بين رواتب كبار الموظفين وغيرهم.
وفي تشرين الأول 1920 انتخب في فلسطين مجلس شورى مؤلف من عشرين عضواً نصفهم من الموظفين والنصف الآخر نصبتهم الحكومة، وهم أربعة من المسلمين وثلاثة من المسيحيين وثلاثة من الإسرائيليين، ووظيفة هذا المجلس استشارية فقط. فقامت فلسطين مسلموها ونصاراها محتجين على هذا المجلس. وفي تشرين الثاني 1920 قدم إلى عمان الأمير عبد الله بن الحسين لاسترجاع دمشق من فرنسا وإرجاعها إلى السلطة الشريفية فأرضته بريطانيا بأن جعلته أميراً على عبر الأردن على أن لا يمس أراضي الانتداب الفرنسي، وقد حدثت بعض حوادث على التخوم بين حوران والبلقاء، وتألفت هناك عصابات لغزو الأراضي التي جعلت تحت الانتداب الفرنسي وبعد أن قصدت إحدى العصابات اغتيال الجنرال غورو المفوض السامي في 23 حزيران 1921 على 40 كيلو متراً من دمشق في طريق القنيطرة، ولم ينالوه بأذى وقتل أحد ضباطه، طوي بساط العصابات والمؤامرات، وكان أمر هذه العصابات مما دبر في الشرق العربي.
وفي الخامس والعشرين من حزيران 1921 أعلن استقلال جبل الدروز وكان من قبل بين عاملين العامل البريطاني والعامل الفرنسي، فلما جاء الجيش الفرنسي إلى دمشق كان من أهل الجبل من يرحبون بالفرنسيين فنالوا استقلالهم 5 نيسان 1921 واصبح جبلهم وهو نحو مائة وخمس عشرة قرية دولة برأسها جعلت السويداء عاصمتها، ونصب على الجبل أمير من أهله ومستشار إفرنسي، فانتزع أيضاً من حكومة دمشق التي جعلت دولة لها حاكم، وذلك بعد أربعة اشهر من استلام الفرنسيين زمام الأمر، وجعل لهذه الدولة مديرون(3/185)
بدلاً من وزراء وجعل علم خاص لكل من دولة لبنان الكبير ودولة العلويين ودولة حلب ودولة دمشق ودولة جبل الدروز الواقعة تحت الانتداب الفرنسي ويحمل كل علم في مطاويه
العلم الفرنسي المثلث الألوان، ولم يجعل لفلسطين علم خاص وبقي العلم فيها إنكليزياً واقتصر شرقي الأردن على العلم العربي، وبذلك أصبحت الشام سبع دول وكانت على آخر عهد الأتراك ثلاث ولايات دمشق وبيروت وحلب وثلاثة ألوية مستقلة القدس - لبنان - دير الزور.
متاعب لبريطانيا وفرنسا واعتداءات:
وفي شباط 1921 عقد مؤتمر في حيفا مؤلف من رجال فلسطين مسلميهم ونصاراهم نظم احتجاجات على وعد بلفور وطلب تأليف حكومة وطنية وانتخاب جمعية تأسيسية ينتخبها السكان العرب. وفي 15 آذار خرج الزعيم فؤاد سليم من إربد في مائة وعشرين فارساً للقبض على بعض الأشقياء من عرب الشقيرات وعلى بعض زعماء الكورة في جبال عجلون فأحاطت بالقوة العسكرية أهالي ست قرى بقيادة كليب الشريدي وابنه وساعدتهم الغابات ووعورة الأراضي وسقط ربع الجنود بين قتل وجريح وفقد ثلث الخيل ثم استسلم الباقون للعرب الثائرين الذين سلبوا الضباط والعسكر عتادهم وأسلحتهم وألبستهم.
وألقى المندوب السامي في فلسطين في 18 نيسان 1921 خطاباً في عمان قال فيه: إن الحكومة البريطانية تقدر الخدمات التي قدمتها جيوش العرب في الحرب وترغب في أن تتوطد في زمن السلم دعائم التحالف الذي بني في خلال الحرب وقال: يساعد الضباط البريطانيون منذ شهر آب الماضي في إدارة شؤون الأقاليم الواقعة وراء نهر الأردن وسيواصلون العمل بصفتهم مستشارين بالنيابة عني للأمير عبد الله وموظفيه في الأنحاء المختلفة. وقال: إن الضباط البريطانيين الذين يقومون بهذه المهمة في جميع أنحاء المنطقة يعطفون على السكان وعلى آداب اللغة العربية وإن الحكومة البريطانية عولت على ألا تكون البلدان الواقعة فيما وراء نهر الأردن مركزاً للعداء على فلسطين أو سورية. وفي أول أيار 1921
نشبت فتنة بين الصهيونيين والوطنيين في يافا انجلت عن قتل 48 رجلاً من العرب وجرح 73 منهم وقتل من اليهود 47 شخصاً(3/186)
وجرح 146. وفي سنة 1921 دخل الأتراك عينتاب وأخرجوا الكتائب الفرنسية منها وباغت عربان الزور الفرقة الفرنسية السورية وقتلوا بعض ضباطها فحلّ بهم العقاب، فتخلت فرنسا عن قلقية بأجمعها وانحصرت قوتها بالشام من حدود كليس في الشمال، وتألفت عصابات من أبناء حارم وكفر تخارين وإدلب وجبل الزاوية والمعرة وصهيون وجرت بينها وبين الجيش الفرنسي معارك قتل فيها كثير من الفريقين، وكان بعض رؤساء تلك العصابات من الأتراك. وقد فقدت فرنسا من جندها في سورية وعلى حدودها بضعة ألوف. وقال الجنرال ويغاند المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في حفلة إزاحة الستار عن النصب التذكاري الذي أُقيم لقتلى جيش الشرق في بيروت سلخ ذي القعدة 1342 حزيران 1924: بعد الهدنة سكت المدفع في أوربا إلا من الشام، وكانت الأمهات الفرنسيات يعتقدن بأنهن سيشاهدن أولادهن إلى جنبهن فاضطرت فرنسا إلى إرسال أولادها إلى ساحات القتال في مرعش وأورفة وميسنون حيث تم تحرير سورية بقيادة سلفي الجنرال غورو وقد بلغ عدد القتلى نحو تسعة آلاف و 250 ضابطاً فيمكن أن تذكروا أولادكم وأولاد أولادكم بذلك اه. ولم يقتل هذا العدد في أرض الشام بل معظم من قتل في قلقية.
توحيد حكومات سورية وعدم رضى الأهلين:
لم يرتض أهل الداخل وفريق عظيم من سكان الساحل هذا التمزيق الذي حلّ بالشام، فكثر الناقمون والناقدون، وزعم بعض ولاة الأمر من المنتدبين أن هذا التقسيم كان برضى الأهلين، ونزلت فرنسا على رغائبهم، وبعد التجربة الأولى رأت المفوضية العليا أن تعيد المدن الأربع إلى جمعها بعد الشتات فاعلن الجنرال غورو في اليوم العشرين من حزيران 1921 في دمشق أساس الوحدة السورية
بإنشاء مجلس اتحادي لها مؤلف من دول العلويين وحلب ودمشق فقط، على أن يكون أساساً للوحدة وألقى خطاباً مثل خطاب دمشق في مدينة حلب يوم 28 منه بحضور مندوبي الدول الثلاث ومما قال فيه: وكان العمل الأول الذي قامت به فرنسا لتوطيد اتحادكم وحريتكم الوطنية تأسيس الحكومات المستقلة، وكانت الغاية من ذلك مراعاة النزعات الخاصة ووضعها في قالب يتألف منه مجموع متناسب الأجزاء. قال: ولم يفتني قط وجوب إحكام في قالب يتألف منه مجموع متناسب الأجزاء. قال: ولم يفتني قط وجوب إحكام(3/187)
الصلات بين هذه الدول التي ينبغي أن يؤلف مجموعها سورية المستقلة أي سورية التي طالما رغبت فرنسا في إنشائها قال: والواجب أولاً تنظيم هذه الدول ومنحها قسطاً أوفر من الحرية، وتأسيس صلة اتحاد بينها، ولا أذكر لبنان بين دول الاتحاد لأن تقاليده الخصوصية تقضي عليه بالسعي على انفراد وراء التقدم وبمشاركة قليلة في الاتحاد السوري لا تتناول إلا الوجهة الاقتصادية دون سواها، إلى أن يقرر من تلقاء نفسه الدخول في هذا الاتحاد.
وبدئ من قابل بجعل بعض فروع الإدارة اتحادية كالبريد والبرق والعدلية والمعارف العالية والتمليك، وجعل للاتحاد مجلس مؤلف من خمسة عشر عضواً خمسة عن كل دولة، واجتمع المجلس في حلب في السنة الأولى وفي السنة الثانية نقل مقره إلى دمشق بصورة دائمة، ويختار هؤلاء عضو رئيساً من بينهم فعين لهذا الغرض السيد صبحي بركات الخالدي واختار لدوائر الاتحاد مع العرب جماعة من الأتراك والأرمن والروم فتأثر الوطنيون لذلك، لأن اللغة العربية لم تُرعَ لها حقوقها وحرم الوظائف بعض الوطنيين وتولاها بعض من ليس لهم بهذه الأرض صلة، ولا بالعرب والعربية قرابة.
وفي 17 أيار عزمت بريطانيا العظمى أن تعترف باستقلال شرقي الأردن وأن
يجعل أميرها عبد الله بن الحسين وتنشأ فيها حكومة دستورية وتعقد معه اتفاقاً على أن تتعهد حكومته بالاعتراف بالحقوق الدولية. وأنشأت هذه الحكومة تمنح لقب باشا لمن تريد تشريفهم أو تأليف قلوبهم من المشايخ وغيرهم، فمنحت هذا اللقب للصعاليك وأسرفت في منحها والتف حول أمير تلك الكورة بعض جماعات من الوطنيين الذين كانوا اشتغلوا مع أخيه الملك فيصل في دمشق ولم يلبثوا أن انفضوا من حوله بطرق اتخذتها حكومته، وكان يتقاضى لها معاونة سنوية من بريطانيا 150 ألف جنيه ولنفقاته الخاصة 35 ألفاً من الجنيهات ثم أنزلت المعاونة إلى 80 ألفاً ومخصصاته إلى عشرين ألفاً.
وفي صيف سنة 1923 اعتدى بعض دروز الشوف على النصارى من جيرانهم واغتيل بعضهم، فقابلهم المعتدى عليهم بالمثل، وأختل الأمن في أواسط لبنان وكاد يتعدى إلى بعلبك، فعنيت حكومة الانتداب بجمع السلاح من الأيدي وعاقبت الفاعلين، ووضعت غرامات على بعض القرى التي خالفت أوامر(3/188)
الحكومة. وفي سنة 1923 و 1924 كثر إغلاق الحوانيت في دمشق وحمص وحماة احتجاجاً على كثرة الضرائب، وتقريب بعض أشخاص من الحكومة المنتدبة يوسعون مجال الخلف بين المنتدبين والمنتدب عليهم، ويسودون الناس بوشاياتهم للاحتفاظ بكراسيهم وأغلقت دمشق خمسة عشر يوماً متتابعة احتجاجاً صامتاً على انتخاب أعضاء المجلس التمثيلي بالإكراه واستعمال الحكومة وسائط الإرهاب في المدن والقرى.
صك الانتداب وموافقة الدول الكبرى عليه وأشكال جديدة من الإدارة:
جاء في معاهدة لوزان 30 شباط و24 تموز 1923 التي عقدت بين الدول وبين تركيا أن الحدود التركية السورية قد ذكرت في المادة الثامنة من الوفاق الفرنسي التركي المؤرخ بيوم عشرين تشرين الأول 1921 والغالب أن هذا الاتفاق
المعروف باتفاق فرانكلين بويون، لم ينشر خلافاً لما ادعته السياسة في العهد الحديث بعد الحرب، من أنه لا تعقد بين الدول محالفات سرية بعد الآن أن مجلس جمعية الأمم أثبت في جلسته المنعقدة يوم 29 أيلول 1923 أن الانتداب على الشام سورية ولبنان والانتداب على فلسطين قد دخلا كلاهما في دور التنفيذ، وقد جاء في المادة الأولى من هذا الصك أن الدولة المنتدبة تضع نظاماً أساسياً لسورية ولبنان في خلال ثلاث سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتطبيق الانتداب، ويعد هذا النظام الأساسي بالاتفاق مع السلطات الوطنية، وينظر فيه بعين الاعتبار إلى حقوق جميع الأهلين في الأراضي المذكورة وإلى مصالحهم وأمانيهم، وينص فيه على اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تسعل لسورية ولبنان سبيل النمو والتقدم المتوالي لدولتين مستقلتين، وتسير إدارة سورية ولبنان طبقاً لروح هذا الانتداب ريثما يشرع في تنفيذ النظام الأساسي، وتؤيد الدولة المنتدبة الاستقلال الإداري المحلي فيهما، بكل ما تسمح به الأحوال.
وجاء في المادة الثانية أنه يمكن للدولة المنتدبة أن تبقي جنودها في الأراضي المار ذكرها لأجل الدفاع عنها، ويمكنها أيضاً، إلى أن ينفذ النظام الأساسي ويعاد الأمن إلى نصابه، أن تنظم القوات المحلية اللازمة المعروفة بالميليس للدفاع(3/189)
عن تلك الأراضي، وأن تستخدمها في هذا السبيل وفي حفظ النظام، ولا يجند فراد القوات المذكورة إلا من أهل تلك الأصقاع وبعد ذلك تصبح تلك القوات تابعة للسلطة المحلية مع الاحتفاظ بما يجب أن يبقى للدولة المنتدبة من حق السلطة والمراقبة عليها، ولا يجوز استخدامها لغايات غير التي تقدم ذكرها إلا بإذن الدول المنتدبة. وما من شيء يمنع سورية ولبنان من الاشتراك في الإنفاق على القوة العسكرية النازلة في أراضيها من قوات الدولة المنتدبة، ويحق للدولة المنتدبة كل حين أن تستخدم المواني والخطوط الحديدية ووسائل المواصلات في سورية
ولبنان لنقل جنودها وجميع المعدات والمؤن ومواد القوة. وفي المادة الثامنة أن الدولة المنتدبة تضمن للجميع حرية الضمير التامة كما تضمن حرية القيام بجميع الشعائر الدينية التي تتفق مع النظام العام والآداب، ولا يجوز أن يتبع شيء من التمييز وانتفاء المساواة بين سكان سورية ولبنان بسبب اختلاف الجنس أو الدين أو اللغة وتقوم الدولة بإنماء التعليم العام باللغات الوطنية الشائعة في أراضي سورية ولبنان.
وصادقت الولايات المتحدة 1924 - 1343 على صك الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان الذي وضع موضع التنفيذ منذ أيلول 1923 وقد جاء في المادة الخامسة منه للأميركان الحرية التامة في إنشاء المعاهد والصروح والملاجئ العلمية والدينية والفنية في جميع أراضي الانتداب الفرنسي مع التعليم باللغة الإنكليزية، ولم تعترف الولايات المتحدة بالانتداب البريطاني إلا في أواخر شباط 1925 مشترطة أن يكون للرعايا الأميركيين مثل الحقوق التي للرعايا الإنكليز.
طبقت مواد الاتحاد في حلب ودمشق بعض الشيء مع وجود الدولتين دولة حلب ودولة دمشق، أما دولة العلويين فلم تتحد بغير الأمور العدلية. وفي يوم 26 حزيران 1924 4 ذي القعدة 1342 أعلن المفوض السامي في حديقة الأمة بدمشق الوحدة السورية وتأليف الدولة العربية السورية من حكومتي حلب ودمشق فقط، فخرجت دولة العلويين ودولة جبل الدروز كما خرجت دولة لبنان الكبير بالطبع من باب الوحدة، فاصبح بذلك عدد دول الشام ستاً بدلاً من سبع أي أن المدن الأربع عادت فألفت حكومة واحدة على نحو ما(3/190)
كانت زمن الحكومة الفيصلية، ولكن بتشذيب بعض أطرافها إذ نزع من جسمها دولتا الشرق العربي وجبل الدروز وخطب القائد قائلاً: إن هذه الدولة الجديدة الفخورة بماضٍ يحوي أعظم ما نظره الشرق والتي ستضم إليها أهم مدن الإسلام التي كانت منبع الترقي
الفكري في جميع الأزمان. . . إن مثل هذه الدولة تقدر ويجب أن تكون في الشرق الأوسط مركزاً مشعاً وجذاباً. والسلطة التشريعية تكون بيد مجلس نيابي والسلطة الإجرائية تسلم إلى شخص يدعى رئيس الحكومة السورية بالانتخاب، ويكون له مجلس وزراء يجتمعون تحت رئاسته يكون كل واحد من هؤلاء الوزراء مسؤولاً شخصياً عن دائرته أمام مجلس الأمة.
وفي حزيران 1924 ذي القعدة 1342 ألقى أحد رجال بريطانيا بياناً قال فيه: إن مهمة بريطانيا في فلسطين هي إنشاء وطن قومي لليهود من ناحية وصيانة مصالح السكان غير اليهود من ناحية أُخرى، وقد سعت بريطانيا لمعاملة الأهلين على قدم المساواة، ولكنها صادفت متاعب كثيرة بالنظر لعدم تجانسهم، وأنشأت إدارتين مختلفتين إحداهما في غربي الأردن حيث يوجد الوطن القومي لليهود والآخر في شرقي الأردن حيث للعرب الأغلبية، ولكنها تسعى دائماً إلى التوفيق بين مصالح اليهود والمسلمين.
غزوة النجديين عبر الأردن واستيلاؤهم على مكة
وشؤون:
حكومة عبر الأردن أو شرقي الأردن أو الشرق العربي هي بمثابة حاجز يقي فلسطين اعتداء البادية، وقد كثر اعتداء عرب البلقاء وما إليها مثل عشائر الحويطات وبني عطية على تجار نجد يسلبونهم بضائعهم وجمالهم، وشكت حكومة الملك عبد العزيز بن سعود صاحب نجد إلى حكومتي الحجاز والشرق العربي فلم يسمع لها شكوى، فأرسل صاحب نجد نحو ألف وخمسمائة مقاتل من رجاله في 10 آب 1922 وهاجموا أم العمد في البلقاء، وقتلوا أهل الطنيب وأعملوا السيف والنار في عرب بني صخر واشترك الأديات من عرب البلقاء في قتال النجديين،
وتلاحقت أفخاذ بني صخر ورجالهم من العيسى والزبن والخريشة، وجاء بعض بني حميدة النازلين إلى الجنوب الشرقي من مادبا حتى(3/191)
وادي الموجب، واشتركوا في رد هجمات أهل نجد فأزاحوهم إلى بئر عمري وهناك تشردوا في الأودية والتلال، وقيل إنه قتل منهم نحو ثلاثمائة وقتل من أهل الشرق العربي كثيرون، وقد تأثرت الدبابات الإنكليزية النجديين إلى عمري فعادت وجنودها يزعمون أنهم لم يهتدوا إلى الطريق.
وجاء النجديون ثانية بقيادة درزي بن دغمي السمير زعيم الرولة المتدينة، وأغاروا على عرب الحويطات في وادي موسى، وعلى أطراف معان، ونشبت معركة أبلى فيها الحويطات بلاء حسناً وعاونهم بعض بني عطية النازلين حوالي معان إلى تبوك، وجاء النجديون في 14 المحرم 1343 إلى الكاف قريات الملح الواقعة على الحدود بين نجد والشام في 2200 - 2600 مقاتل كما قدرتهم حكومة الشرق العربي واستولوا في طريقهم على الكاف وأخذوا حاميتها وهي أربعون جندياً وضابطان وقتلوا المفرزة البريطانية النازلة في محطة الطيران في زيزاء وعددها اثنا عشر جندياً وضابط، ووصل الجيش إلى مضيق رأس العين محلة عمان، فخرج أهالي الصلت وعمان ومنهم شراكس وششن من النازلين في قرى الناعور وعين صويلح ووادي السير، اشتركوا مع الجند العربي في القتال من الصباح إلى العصر، حتى تراجع النجديون إلى محل يبعد ثلاث ساعات عن قصر المشتى إلى الشرق وكان تأثير الطيارات البريطانية في النجدين كثيراً هاجت لأصوات قنابلها إبلهم، وقد قتل النجديون من قابلهم بالسلاح من أهالي الزيزاء واللبن وأم العمد والطنيب والقسطل ومادبا ويادودة والرجيب وسحاب والموقر وعمان، وادعت حكومة الشرق العربي أن النجديين خسروا ألف قتيل وجريح على أقل تعديل وأن عدد قتلى عرب المنطقة مادبا وعمان لا يتجاوز المائة والعشرين
وأن خسائر الجنود والبدو المرافقين لهم بلغت عشرين رجلاً وامرأة، وقد عزز الجيش البريطاني في فلسطين قوة الشرق العربي بأربع دبابات وستمائة جندي. وقال العارفون من الأهلين: إنه قتل من أهالي المنطقة نحو ستمائة ولم يتجاوز قتلى النجديين المائة وأربعين قتيلاً وأن قتلى بني صخر فقط ثلاثمائة قتيل. والمقصود من هذه الغزوة عمان وأميرها عبد الله بن الحسين لأن اعتداءاتهم على تجار نجد كثيرة، وعاونهم العيسي والزبن والخريشة والحديد والعجارمة والدعجة، وذكروا انه كان في جملة النجديين كثير من عرب(3/192)
حرب النازلين بين الحرمين لأنهم مغاضبون لملك الحجاز فالتحقوا بالإخوان نكاية به. وذكر بعض الواقفين على مجرى السياسة أن الجنيهات الإنكليزية وجدت بكثرة في جيوب الإخوان الذين غزوا بلاد الأردن للمرة الأولى وأن حملتهم لم تتقدم نحوها إلا بعد زيارة المستر فيلبي المندوب الإنكليزي في الشرق العربي لبلاد نجد.
وفي اليوم الأول من كانون الثاني 1925 1343 أعلنت الوحدة بين دولتي دمشق وحلب فقط وعينت الوزارة برئاسة السيد صبحي بركات الخالدي على أن لا تسأل وزارته أمام مجلس النواب شأن الوزارات في العالم، ولا تسأل الوزارة عما تفعل، وتستمد قوتها من المفوضية العليا، وللمستشارين القول الفصل في كل الأمور، وهكذا الحال في نظار لبنان الكبير فهم غير مسؤولين إلا عند المفوضية العليا.
وأعلن الجنرال سراي المفوض السامي يوم وصوله إلى بيروت إخراج الحاكم الفرنسي الذي كان يتولى لبنان الكبير وأن يباشر المجلس النيابي اللبناني بانتخاب حاكم وطني، ولما اختلفت آراء النواب حل المجلس وبوشر بانتخاب جديد، وأخذ التعصب الديني بعض نواب اللبنانيين فآثروا حكم غريب على واحد من قومهم مهما كانت نحلته، أما حاكم العلويين فقد ظل إفرنسياً، ومن المظاهر الغريبة أن تستحكم اللغة الفرنسية في مجلس لبنان الكبير استحكام اللغة التركية من مجلس
وزراء سورية، وأن بعض أولئك النواب والوزراء التفرنس والتترك من أمارات الظرف والفضل، في ديار أرضها وسماؤها عربيتان وهي مستقلة بالإجماع، واللغة أول أداة في أدوات الاستقلال، وحجر الزاوية في بنيانه.
وفي كانون الثاني 1925 رجب 1343 رأى بعض المفكرين في حلب وحماة وحمص ودمشق أن الوقت ملائم لعرض مطالب الشاميين على المفوض السامي الجنرال سراي، فتألفت وفود من الأعيان والمفكرين من المدن الأربع وقصدت إلى بيروت وعرضت مطالب الأمة على المفوض السامي، وخلاصتها أن الحلفاء اعترفوا باستقلال الشام في 7 تشرين الثاني 1918 وأنه يحق لها تقرير(3/193)
مصيرها وأنه فككت أجزاؤها وأنشئت فيها دويلات صغيرة قضي بها على وحدة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن القائمين بالأمر أثاروا النعرتين الطائفية والدينية، ومنحوا المدارس الأجنبية ذات البعثات الدينية المساعدات المالية والمعنوية، ليفصموا عرى الرابطتين الوطنية والقومية وليتمكنوا بهذا التفريق من القضاء على استقلال القطر ووحدته، وأن سورية بحدودها الطبيعية وطن واحد بلغتها وقوميتها وعاداتها وأخلاقها وتاريخها فلا مسوغ لتجزئتها وجعلها دويلات عديدة، وأن أسلاف المفوض السامي اتخذوا اختلاف المذاهب والمساومات السياسية معاول لتقويض بناء الوحد السورية، فسلخوا القسم الشمالي منها وأعادوه إلى الحكومة التي أُ نقذ منها في بادئ الأمر، ولم تزل طامعة بالاستيلاء على القسم آخر فحرموا هذا الوطن حدوده الطبيعية وخطوط دفاعه، والحدود إذا لم تكن عسكرية طبيعية لا سبيل إلى ضمان استقلالها. وأن المنتدبين السابقين لم يكتفوا بأن يحفظوا للبنان الصغير امتيازاته، بل عمدوا إلى ضم أرجاء أخرى من الداخل والساحل مما يزيد عن مساحته الأصلية مرتين، ويزيد على عدد سكانه مرة وجعلوه في صورة دولة لبنانية مستقلة، كما سلخوا جبل الدروز وجبال العلويين
وجعلوها دولتين. وطلبوا تأليف لجنة تأسيسية وإعطاء حق التشريع للأمة والحرية الشخصية وحرية الاجتماع والجمعيات والصحافة وإلغاء القرارات الاستثنائية والمحاكم الأجنبية وأن تدار الأوقاف الإسلامية والخط الحجازي الذي هو وقف إسلامي بمعرفة الحكومات الوطنية، وأن تمنع الهجرة الأرمنية إلى الشام لأن عدد المهاجرين إلى هذا القطر بلغ مائة وثمانين ألفاً زاحموا الوطنيين في الأعمال الصناعية والتجارية مزاحمة لا تحتمل إلى غير ذلك من المطالب كالنقد السوري ورفع الحواجز الجمركية وذلك بعقد اتفاقات مع الحكومات المجاورة كما عقد بين سورية وفلسطين للتبادل التجاري، وطلبوا إلغاء الديون العمومية وإبطال الضمانات الكيلومترية التي تعطي لبعض الخطوط الحديدية لاستغنائها بما تربح عن هذه المعاونة، وأن توحد النظم الإدارية، ويلغى قانون العشائر ويجعل حد لتدخل المستشارين في صغار الأمور وكبارها، وتسند الوظائف إلى أهل الكفاية من بني الوطن الأصليين ويقتصر على استخدام الوطنيين في جميع الوظائف المحلية.(3/194)
وقد وعد المفوض السامي وفود المدن أربع بدرس مطالبهم وإنفاذ ما في وسعه ووسع حكومته إنفاذه، وأشار إلى أن الواجب عليهم أن ينظموا صفوفهم ويؤلفوا أحزاباً تسير بعقل وروية لا يتخذها بعض أرباب الأغراض سلماً لبلوغ غاياتهم. وقد عاد الجنرال سراي في خطاب له ألقاه في حمص أيار 1925 خاطب به الأعيان بقوله: اعملوا على توحيد كلمتكم قبل اهتمامكم بالاستقلال فإن الاستقلال إنما يحصل عليه من اتحدت آراؤهم، إلى هذا أوجه نظركم، اتحدوا أولاً فإن الباني إنما يباشر وضع الأساس قبل أن يهتم بالتوريق والدهان اه. وبالفعل تأسس في سورية حزبان حزب من جميع طبقات الشعب واسمه حزب الشعب وآخر يناصر الحكومة الحاضرة واسمه حزب الوحدة كما تألفت في لبنان أحزاب.
صاحب الوعد للصهيونيين ومطالب الفلسطينيين
والسوريين وكوائن:
وفي يوم 25 آذار 1925 1 رمضان 1343 جاء القدس لورد بلفور الوزير البريطاني صاحب الوعد للصهيونيين يجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود الذي صرح به في تشرين الثاني 1917 باسم بريطانيا العظمى، فاحتج المسلمون والنصارى فيها على مجيئه وأضربوا عن الأعمال إضراباً تاماً، وكان مجيئه للاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية في بيت المقدس، وقد أرسلت برقيات الاحتجاج من أنحاء القطر على من فصل بعمله فلسطين عن أمها الشام، وجاء مساء يوم 8 نيسان إلى دمشق فأظهر الدمشقيون نفرتهم منه ومن وعده، وأغلقت المدينة صباح الغد محتجة على وعده وبعد الظهر تجمع جمهور لا يقل عن خمسة آلاف في ساحة الشهداء أراد الدرك منعهم من التجمع بالتهديد والضرب فرشقه بعض الفتيان بالحجارة، فاضطر الدرك إلى استعمال السلاح في الهواء فجرح عشرون شخصاً هلك منهم اثنان واضطرت الحكومة اللورد أن يخرج إلى بيروت فأركب البحر والبيروتيون يحتجون عليه كاحتجاج الدمشقيين، ولم يستطع أن يرى اللورد من دمشق غير جدران الفندق، ومن بيروت إلا الطريق إلى السفينة فقط.
وفي 28 أيار 1925 أنذرت بريطانيا العظمى الملك حسين بن علي أن يغادر العقبة خلال سبعة أسابيع - وكان جاءها بعد أن سقط الحجاز في أيدي جيش الملك عبد العزيز بن سعود ملك نجد - لتستلمها حكومة شرق الأردن(3/195)
وتضمها مع معان إلى الأصقاع التي تديرها لأنها ضمن الانتداب البريطاني، ولتحافظ عليها من الوهابيين الذين فتحوا مكة والطائف وانتزعوهما من يد الملك حسين، فأجاب جلالته إنه لا يسعه بالنظر للعهود المقطوعة له من الحلفاء ولا سيما بريطانيا أن
يتنازل عن هاتين البلدتين الحجازيتين العقبة ومعان وأنه لا يعترف بالانتدابات المخالفة لتلك العهود، وأبان ما سينجم عن عملها هذا الذي سيدعو إلى هياج عظيم في العالم العربي. وبعد أيام أوعزت إليه إنكلترا أن يغادر القطر فحملته إلى قبرص ليقيم فيها. وفي حزيران قتل الأشقياء قائدين فرنسيين في طريق دير الزور كانا يسيران في سيارة فبعثت السلطة طيارات أمطرت عشائر البواسرية التي فقد الضابطان في أرضها وابلاً من القذائف، فهلك منهم أكثر من ثلاثين نفساً وتلف كثير من الخيل والإبل والغنم، ثم حكمت على خمسة منهم بالقتل. وفيه جاء وفد من أعيان دروز جبل حوران وراجعوا السلطات الفرنسية يطلبون انضمامهم كما كانوا سابقاً إلى حكومة دمشق على أن يكون لهم بعض الامتيازات المحلية إذ ثبتت لهم مضرة الانفصال. كما أن وفداً من اللاذقية قابل بعض رجال تلك السلطة وأبانوا له الأضرار التي نشأت من فصل جبال النصيرية عن أمها سورية وطلبوا إرجاعها إلى حكمها.
وفي شهر نيسان 1925 جاء فلسطين وزير المستعمرات البريطانية فقابلته وفود الأمة يتقدمها وفد اللجنة التنفيذية ووفد الحزب الوطني، وتكلم غير واحد من رجال الوفد معرباً عن ظلامة الفلسطينيين وضرر الوطن العربي، فرد الوزير على أقوالهم ومما قاله: إنه رأى فلسطين أسعد من الأربعين مستعمرة التي يهتم بشؤونها، وقدمت له الوفود تقريراً هذا ملخصه:
1 - قدم عرب فلسطين تقارير كثيرة وأرسلوا وفدهم إلى لندن مرتين وفي كل ما قدموه بينوا التناقض الغريب الذي يظهر في خطة الحكومة الإنكليزية في ديارهم على الرغم من أ - نص عهد جمعية الأمم. ب - العهود المقطوعة للملك حسين. ج - البلاغ المنشور من القائد اللنبي قائد الحملة الفلسطينية. د - بعض مواد صك الانتداب. هـ البيانات الرسمية والشبه الرسمية الصادرة من الوزارات.
2 - جرت السياسة التي تسير عليها الحكومة في فلسطين إلى حالات(3/196)
اقتصادية صعبة لا يمكن الاستمرار على تحملها، ودوام الحال على هذا الشكل دون أن يجد العرب آذاناً صاغية عادلة يؤدي حتماً إلى سقوط القطر في هوة أشد عمقاً من الحالة الحاضرة إذ أنهم. أ - يقضي عليهم أداء ضرائب باهظة للإنفاق على ترتيبات واسعة لا يتحملها البلد لتنفيذ السياسة الصهيونية التي لا يمكن أن تتفق مع مصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ب - إنهم حرموا إدارة بلدهم وتمتعهم باستقلال ذاتي على حين ليسوا أقل مستوى من سكان البلدان العربية الأخرى مثل العراق وشرق الأردن التي تتمتع بحكم ذاتي نيابي. ج - حرموا حتى مما كانوا يتمتعون به من بلديات ومجالس إدارة ومجالس عمومية منتخبة ومن إرسال أعضاء إلى البرلمان في العهد التركي. د - فتحت أرضهم لهجرة يهودية كبيرة تحتوي على كثير من العناصر غير الصالحة لحياة البلاد وتحملها اقتصادياً واجتماعاً. هـ قد جعل للعناصر اليهودية أرجحية ظاهرة في الإدارة الرئيسية وفي تسيير المصالح اليهودية القومية والاجتماعية، هذا وهم أقلية ضئيلة عدداً ومصلحة.
3 - ما أراد العرب في فلسطين قط، وهم يطلبون حقهم في الحكم التشريعي، أن يغمطوا حقوق اليهود الذين يساكنونهم، ولكنهم يريدون أن يتمتعوا بحقهم باعتبار أنهم أكثرية ساحقة في العدد والمصلحة، وباعتبار أنهم عدوا بوعود صريحة، وباعتبار أن عهد جمعية الأمم يخولهم ذلك مع حفظ حق اليهود الوطنيين في الاشتراك معهم في الإدارة والتشريع بحسب نسبتهم.
4 - يعتقد العرب أنهم لن يطمئنوا في ديارهم ولن يروا في الحكومة البريطانية النية الحسنة التي طالما أعلنت أنها تنطوي عليها إذا استمرت في طرز الإدارة والسياسة التي سارت عليها في فلسطين إلى الآن مع أنهم يريدون دائماً أن يكونوا
على وفاق تام معها في مصالحها النزيهة، ويعتقدون أنه قد آن للحكومة البريطانية أن تقلع عن تجربتها العقيمة وأن تعيد نظرها بصورة جدية في هذه السياسة التي جعلت القطر وأهله في حالة اضطراب روحي وانحطاط اقتصادي وقلق.
5 - وها نحن أولاء نقدم لها مطالب الأمة بصورة صريحة واضحة رجاء أن تبدل علاقة الانتداب السيئة.(3/197)
1 - تأسيس حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من الأهالي الفلسطينيين بحسب التمثيل النسبي.
2 - تسن جمعية وطنية منتخبة القانون الأساسي الذي يضمن بقاء الأماكن المقدسة بيد أهلها القدماء على أن لا يغير شيء فيها وتحفظ حقوق الأجانب ومصالح الدولة المساعدة المتفقة مع مصالح البلد وتضمن مشاركة اليهود الوطنيين بالحكم والتشريع بنسبة عددهم ويراعى في وضعهما الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ضمانة التعهدات الدولية التي تحملتها الدولة المساعدة وهي التعهدات الصحيحة وحفظ الآثار وحرية الأديان ونحوها على النمط الوارد في المعاهدة المعقودة بين الحكومة الإنكليزية والعراق اه.
تاريخ الصهيونية وعملها الأخير:
ولما كانت الصهيونية من أهم المسائل التي تشغل بال الشاميين عامة وإخوانهم أهل فلسطين خاصة وكان لها مساس بسياسة هذا القطر وتاريخه عهدنا إلى أحد الواقفين على أسرارها فكتب إلينا ما ملخصه: اليهود قبيلة سامية نزحت من العراق إلى فلسطين وسمنت فيها زمناً، ثم هاجرت إلى مصر فمكثت هناك مدة طويلة وانقلبت إليها، وفتحتها فتحاً عسكرياً وتسلطت على بعض شعوبها. وقد أسسوا شبه حكومة ثم ما لبثوا أن دب فيهم الفساد، فانشطروا إلى قسمين شمالي وجنوبي، وأمسوا عرضة لغارات حكومات مصر وآشور وبابل لوقوع أرضهم
في الطريق الوحيد بين الدول المتزاحمة، ثم تغلبت تلك الدول عليهم فسبوهم وأخرجوهم من فلسطين، فبدأت نفوسهم تحن لإعادة مملكتهم القديمة وإحياء قوميتهم، وقد كبر هذا الرجاء في نفوسهم، فحاولوا مرات استردادها من أيدي الرومانيين ففشلوا، وخرب تيطس هيكلهم وشتتهم في أطراف الأرض، وسرعان ما ثاروا بقيادة باركوخبا ومساعدة الحاخام عقيبا فأخفقوا، وعجزوا عن الخلاص من حكم الرومانيين الثقيل.
ورغم هذه الصدمات أصبحت فكرة الرجوع إلى فلسطين عقيدة دينية عندهم، برزت في آدابهم الشعرية والنثرية، وأظهروا من الحنين إلى فلسطين(3/198)
والتلهف على زوال مجدهم، ما خلد ذكرهم في تاريخ الأدب. وقد زعم كثيرون أن المسيح أتاهم مبشراً بالرجوع إلى أرض الميعاد فلم ينجحوا لأن البيئة التي عاش فيها اليهود قروناً حالت دون بلوغهم أمنيتهم وحرمتهم الشعور بالروح القومي، لو لم تتوالى عليهم عواصف الاضطهادات في أوربا التي أيقظتهم ودفعتهم إلى إظهار الصهيونية الحديثة التي أوجدها عاملان الأول الشعور بالقومية، الثاني مضادة اليهود العامة. والقصد من الصهيونية عزل الشعب اليهودي عن الشعوب الأخرى، وجعل فلسطين وطناً خاصاً بهم، يقوم على القومية ويعترف لهم به اعترافاً دولياً مضموناً ضماناً شرعياً.
ظهرت الصهيونية بمظهرها الحقيقي سنة 1852م حين حضّ هولنكسورث الإنكليزي على إقامة حكومة يهودية في فلسطين لحماية طريق الهند البرية. وسافر السر موسى منتفيوري إلى فلسطين وطلب من محمد علي باشا المصري إسكان اليهود في القطر فرفض طلبه. وقام كثيرون من الأدباء والسياسيين واقترحوا اقتراحات مختلفة منها جعل فلسطين حكومة يهودية، أو عمل خط حديدي في العراق وإسكان اليهود على جانبيه أو إيجاد مأوى لهم في شرق الأردن.
وقد حاكم كاليشر في كتابه مطلب صهيون حول استعمار فلسطين واستملاك الأرض وإنشاء مدرسة زراعية وتأليف حامية إسرائيلية عسكرية ومزج الفكرة القومية بالروح الديني وصرح أن الخلاص الذي نوه به الأنبياء يأتي متتابعاً بمساعدة اليهود أنفسهم. وسافر مراراً لترويج هذه الفكرة، وألف الجمعية الأولى الاستعمارية في فرنكفورت سنة 1861 وحمل بعض الحاخاميين على الاشتراك معه وأعلن بعضهم أن الاستعمار في فلسطين من الأمور المقدسة فألهبت تقوى اليهود هذه الجملة البراقة، وألفوا بعض جمعيات استعمارية في الممالك الأوربية وأُسست المستعمرة الصهيونية الأولى عيون قارة في فلسطين سنة 1874. إلا أن العمل الجدي شرع فيه سنة 1897 عند عقد المؤتمر الأول الذي اشترك فيه ممثلو خمسين جمعية صهيونية وبرزت الروح الاستعمارية بشكل جلي فقاومتها الحكومة العثمانية بوضع العراقيل أمام هجرتهم وقيدتهم بقيود(3/199)
جعلت هجرة اليهود إلى فلسطين في حكم المستحيل تقريباً. وكلما كان ينتعش الروح اليهودي القومي يشتد كره الأمم لهم، وهم لا يعبئون بذلك زاعمين أنها موجة ستضمحل أمام الرقي العلمي المنتشر هناك، فانتهت عاقبة هذا الرجاء بالفشل وتعرضوا للاضطهاد في الأقطار.
ألف الزعيم الصهيوني الكبير تيودور هرتسل كتابه الوطني اليهودي سنة 1895. وقد جاء فيه أن مقاومة اليهود في نمو مستمر ومقاومتهم خطر على العالم بأسره، لأن اليهود شعب لا يمتزج بغيره والاختلاط الحقيقي يكون بالزواج المتبادل، واقترح فيه أن يعطي لهم جزء من الأرض في فلسطين أو الأرجنتين ليجتمعوا بها ويقيموا لهم وطناً خاصاً بهم، وإذا سمح لهم بفلسطين فإنهم يرون من الواجب أن تكون محلات العبادة المختصة بالطوائف الأخرى ملكاً ممتازاً لهم. وأشار بتأليف جمعية تشرف على الأعمال العلمية والسياسية وتأسيس شركة يهودية كالشركات
الإنكليزية والفرنساوية الصناعية الاستعمارية العظمى يكون رأس مالها 50 مليون ليرة إنكليزية وتتخذ لها مركزاً رئيسياً في لندن، ويعهد لهذه الشركة بالأعمال التي تهيئها اللجنة التنفيذية اليهودية وتسعى الطائفة الجديدة لترويج المهاجرة بطريقة منتظمة، ولم يعبأ هرتسل بقوانين الكنيسة فطلب فصلها عن السياسة.
ولما زار هرتسل بريطانيا العظمى لم يقبل اليهود على دعوته كما أقبل أهالي أوربا الذين ناصروه بالمال والرجال. وأول من أعتقد بصحة مشروع الوطن اليهودي جمعية زيون في النمسا التي طلبت تأليف جمعية يهودية عامة، واقترحت تأسيسها في لندن، ثم عرفوا هرتسل أن جمعيتهم قبلت دعوته. وظهر أن الذين استهوت قلوبهم فكرة تأليف الجنسية اليهودية هو الذين اعتبروا هرتسل زعيماً ومخلصا لهم. ولكن المتدينين قاوموه عندما عرفوا أن بعض زعماء دعوته لا دينيون. وتصدى له رؤساء الحاخامين في روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا وقالوا: إن الصهيونية حركة بعيدة عن اليهودية وإنها مخالفة لأوامر الله تعالى. وقال الكاتب الشهير لوسيان وولف: ن الصهيونية حماقة، وقال غايكر: إن الصهيونية تؤدي إلى حرماننا حقوقنا المدنية في الممالك الخارجية. أما بعض نصارى أوربا فقد أظهروا عطفاً على الصهيونية وطفقت بعض جرائدهم تحض اليهود على(3/200)
استعمار فلسطين إتماماً لنبوات التوراة، فصادفت دعوتهم رواجاً وتكاثر دافعو الشاقل الذين انضموا إلى الصهيونية على مقاومة أنصار الدين لها وقد عقدت بين سنة 1897 - 1911 عشرة مؤتمرات، وبعقد المؤتمرات قصد هرتسل إحياء الشعور القومي في اليهود ونشر الدعاية الصهيونية، وقد نجح في فكرته هذه ووفق لعقد المؤتمر الأول في مدينة بازل سويسرا سنة 1897 فاشترك فيه أعضاء كثيرون بعضهم يمثل جماعات وبعضهم جاءوا عن أنفسهم وقد قرروا ما يلي:
1 تعليم اللغة العبرية ونشر آدابها وإنشاء مدرسة كبرى في يافا أو القدس.
2 إنشاء مدارس يهودية في الأحياء الإسرائيلية لتعليم اللغة العبرية وتأليف لجنة تعتني بالآداب العبرية.
3 إنشاء صندوق توفير يهودي وقد وضعت قاعدة غرض الصهيونية وهي إيجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين مضموناً ضماناً شرعياً دولياً وتتخذ الوسائل للوصول إلى هذا الغرض.
1 ترقية حال الزراع اليهود والتجار في فلسطين.
2 تحالف اليهود تحالفاً محلياً أو عمومياً حسب قوانين مواطنهم المختلفة.
3 تقوية الشعور اليهودي.
4 بذل المساعي الأدبية للحصول على المنح الضرورية لضمان الغرض الصهيوني وقد أسست فروع عديدة للقيام بهذه المشاريع وجمعت 400000 ليرة إنكليزية.
وافتتح المؤتمر الثاني في مدينة بازل أيضاً سنة 1898 وتألف من أعضاء الجمعية الصهيونية العاملة وبعض الزعماء من الأقطار الأخرى واشترك فيه عدد من حاخامي روسيا المعترف بهم رسمياً نواباً عن اليهود المتدينين، وورد عليه أربعون برقية من الحاخامين المتعصبين يعلنون بها اعتقادهم بالصهيونية، فانضم إلى الجمعية الصهيونية نفر كبير من اليهود، وقد أسس هذا المؤتمر جمعية استعمارية غرضها توسيع نطاق الاستعمار بشرط اكتساب رضى(3/201)
الحكومة التركية وانعقد المؤتمر الثالث في بازل أيضاً سنة 1899 وصرح فيه هرتسل بأن مساعيه كانت متجهة للحصول على امتياز من السلطان عبد الحميد ولكنه لم يوفق. ثم تليت تقارير اللجنة العاملة فظهر منها أن معدل زيادة الجمعيات الصهيونية في روسية 30 بالمائة وفي الممالك الأخرى 25 بالمائة وبلغ عدد دافعي الشاقل أكثر
من 100 ألف نفس أي أن 250 ألفاً من اليهود تصهينوا في ذلك الوقت. وانعقد المؤتمر الرابع في كوينس هال في لندن سنة 1900 وقصدوا بانتخاب هذا المكان التأثير في الرأي العام الإنكليزي لأن بعض الإنكليز ارتاحوا إلى الدعوة الصهيونية وناصروها لما لها من الارتباط بالكتاب المقدس. وبلغ عدد الجمعيات الصهيونية في روسيا 1043 جمعية وفي إنكلترا 38 وفي الولايات المتحدة 135 وفي بلغاريا 42 جمعية.
أما آمال الصهيونيين في فلسطين فقد كاد يقضي عليها لأن الباب العالي أصدر أوامره في شهر تشرين الثاني سنة 1900 بمنع مهاجري اليهود من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة أشهر، وذلك بما ثبت له من انتعاش الحركة الصهيونية وكونها آخذة في التهام فلسطين واستملاك بقاعها والاستيلاء على واردها وصادرها فاحتجت إيطاليا على هذه الأوامر بأنها مجحفة وأنها لا تفرق بين رعاياها النصارى واليهود. وكذلك عرضت هذه المسألة على وزير الولايات المتحدة فأصدر أمره في 28 شباط سنة 1901 إلى سفيرها في الأستانة ليحتج باسم حكومتها فرفض الأتراك كل تدخل بهذا الشأن. ثم توجه هرتسل إلى الأستانة وقابل السلطان عبد الحميد في أيار سنة 1901 مرتين وأنعم عليه السلطان بالوسام المجيدي الأول وعاد إلى لندن وقابل جمعية الميكابيين في 11 حزيران سنة 1901 وأعرب لهم عن ثقته في نجاح مهمته لدى السلطان.
وانعقد المؤتمر الخامس في كانون الأول سنة 1901 وقبلت فيه القواعد الرئيسة وصودق عليها وهي: 1 عقد مؤتمر عام مرة كل سنتين. 2 يعقد أثناء هذه الفترات اجتماعات يحضرها أعضاء الجمعية العاملة الكبرى وزعماء البلدان المختلفة. 3 تأسيس هيئة إدارية في الأمكنة التي يبلغ عدد دافعي الشاقل فيها خمسة آلاف نفس إذا هم طلبوا ذلك. وتحت أسباب فتح المصرف وإعطاء إعانة
لدار الكتب اليهودية في القدس وتأليف دائرة معارف عبرية(3/202)
وتأليف إدارة عامة تشتغل بشؤون الأمة اليهودية. وانعقدت جلسة طويلة بشأن التهذيب انتهت بالقرار الآتي: المؤتمر يحبذ التمسك بالروحيات وتعليم الطائفة اليهودية على قواعد عنصرية دينية وعلى كل صهيوني أن يعمل لهذه الغاية. ثم انفض المؤتمر وانصرف الزعماء لمتابعة غايتهم فذهب هرتسل إلى القدس على رأس بعثة صهيونية فقابلوا إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني أثناء زيارته القدس وفاوضوه بمهمتهم فأجابهم: إن كل المساعي لترقية زراعة فلسطين والتي تعود بالمنفعة على الدولة التركية وتحترم سيادة السلطان توافق هواه ورضاه. فامتعض هرتسل وذهب إلى الأستانة وقابل السلطان عبد الحميد وكانت خطته ترمي إلى التفاهم على أساس تنظيم المالية العثمانية وأن يقنع جلالته بإخلاص الصهيونيين لأنهم يعملون علانية لا في الخفاء، وأن اليهود عنصر خاضع للقوانين لا يخالفون رغائب القوة الحاكمة. وطلب إليه أن يمنح اليهود سلطة واسعة للحكم البلدي الذاتي ويدفعون مقابل هذا الامتياز مبلغاً وافراً ويؤدون 300000 غرش مرتباً سنوياً مثل جزيرة ساموس ذات الاستقلال الإداري بجندها الخاص ورايتها الخاصة ومجلس نوابها الخاص أي حكومة ذات استقلال داخلي. ففشل في سياسته ومفاوضته وظل اليهود يباشرون بعض الأعمال الاقتصادية والزراعية في فلسطين في شيء من التقية ولتكتم.
ولما أخفق سعي هرتسل مع الأتراك وجه نظره إلى الحكومة الإنكليزية آملاً أن يحصل على مقاطعة بجوار الأرض المقدسة يأوي إليها المهاجرون أو المضطهدون موقتاً فاستحسن طلبه وباشر مفاوضة لورد كرومر فعرض عليه استعمار شبه جزيرة سينا وأرسل الفريقان بعثة سنة 1903 لترتاد الأرض. وقد كاد هذا المشروع يتم لولا قلة المياه ورفض حكومة مصر إعطاء شيء من ماء
النيل. ولما حبط هذا المشروع عرض عليهم وزير خارجية إنكلترا شرقي إفريقية على أثر حرب البوير واقترح هرتسل الدخول في المفاوضة بشرط إحداث وطن يهودي في شرقي إفريقية.
وعقد المؤتمر السادس في بازل في آب سنة 1903 وبحثوا في اتخاذ إفريقية وطناً قومياً، فقوبل هذا الاقتراح بالرفض وقد قال هرتسل: إن شرقي إفريقية ليست صهيون ولا يمكن أن تكون كذلك وقال مكس نوردو: لو اتخذنا(3/203)
شرقي إفريقية وطناً لتعذر علينا إلا أن نكون في دار عزلة. وفي خلال ذلك انعقد مؤتمر صهيوني في زمارين فلسطين برياسة اوسيشكن شهده خمسون عضواً وستون معلماً وكان هذا المؤتمر مصغر مؤتمر بازل فأسسوا جمعيات إدارية لتهيمن على المستعمرات وتراقب شؤونها. وفي 3 تموز توفي هرتسل بعد أن أعلى شأن الغاية الصهيونية وثبتها ووحد كلمة العملين على اختلاف مذاهبهم، وحوّل المسألة اليهودية من خيرية زراعية إلى اقتصادية سياسية.
وفي 27 تموز 1905 انعقد المؤتمر السابع وانتخب مكس نوردو رئيساً له وكان تقرير اللجنة الفلسطينية خير التقارير التي قدمت لهذا المؤتمر، لأنه تضمن خبر انتشار جريدتهم ونشاط حركتهم، وقد أعيد البحث في استعمار شرقي إفريقية، ولكنه قرر أخيراً، بأن المؤتمر الصهيوني السابع لا يتحول عن قاعدة مؤتمر بازل الرئيسة وهي إعداد وطن لليهود في فلسطين مؤمناً تأميناً شرعياً ومعترفاً به اعترافاً علنياً وأنه يرفض رفضاً باتاً كل استعمار خارج فلسطين.
وقد بحث أيضاً في عمل الجمعية الصهيونية في مستقبل فلسطين وتقرر بشأنها ما يلي: تطبيقاً للحركة الإدارية السياسية ولأجل تقويتها يجب أن تقوم على الأسس العلمية مقاصد الروح الصهيوني بالقواعد الآتية: 1 التنقيب عن الآثار. 2 ترويج الزراعة والصناعة على الأصول الديمقراطية الممكنة. 3 تحسين الحالة
الاقتصادية والتهذيبية وتنظيم يهود فلسطين بإحداث نهضة فكرية جديدة. 4 الحصول على الامتيازات كمشتري الأرض المملوكة والمتروكة والمزارع وغير ذلك.
وفي سنة 1905 أنشئت جمعية بصليل لترقية الحرف والصناعة في القدس. وفي سنة 1907 عقد المؤتمر الثامن في لاهاي وأسست مدرسة الجمناز اليهودية في يافا. وأسس مصرف داود ولفسون لبناء دور للعمال في فلسطين. وفي سنة 1908 أسست اللجنة التنفيذية للجمعية الصهيونية في فلسطين واتخذت يافا مركزاً لها. وفي سنة 1909 عقد المؤتمر التاسع في مدينة همبورغ وتقرر إنشاء مستعمرة يهودية على قواعد الاشتراك والتضامن.
وفي سنة 1911 أنشئت الجمعية الاستعمارية لأرض إسرائيل فلسطين(3/204)
وعقد المؤتمر العاشر في بازل. وكانت بين سنة 1905 - 1911 الفكرة اليهودية الوطنية جامدة وشعر قوادهم أن استرداد الأرض المقدسة شيء بعيد المنال حتى إن الحصول على قطعة من الأرض أمر عسير. وفي سنة 1913 عقد المؤتمر الحادي عشر وكانت أبحاثه جامدة وقد توالى على الحركة الصهيونية في هذه الفترة الخذلان، ولولا الحرب لعدلوا عن غايتهم القومية وأرجئوا البحث في فلسطين إلى حين. والحقيقة أن دور القهقري في تاريخ الحركة الصهيونية بدأ بوفاة هرتسل.
الأوضاع الصهيونية:
1 المصرف اليهودي الاستعماري: ليست مقاصد هذا المصرف مالية فقط بل سياسية أيضاً وبما أنه اكتسب حقوق الشركات ذات الامتياز فقد اتخذ أداة لهيئة الصهيونية العملية، وغايته العمل في فلسطين أو سورية أو في بقعة أخرى أياً كانت إذا اقتضت مصلحة اليهود ذلك. ولكن تعدل هذا النص وقيد بهذه الجملة
العمل في فلسطين وسورية وسائر أنحاء تركيا آسيا فقط وفتح فرع لهذا المصرف. وأسست سنة 1905 فروع مالية لشركة انجلوا فلسطين في القدس ويافا وحيفا والناصرة لنفس هذه الغاية.
2 البنك المالي اليهودي: وغايته توفير رأس مال دائم يجعل ملكاً للطائفة اليهودية ليستخدم في أغراضها الخصوصية مثل مشترى الأرض في فلسطين ويشترط أن لا يمس رأس ماله حتى يبلغ مليون شلن ويجب بقاء نصف هذه القيمة في المصرف. وتجمع أمواله من استعمال طوابع البريد الإضافية التي تلصق على رسائل الصهيونيين ومن الدعوات والهبات وما شابه ذلك.
العمل التهذيبي: كان توحيد التعليم اليهودي من أهم أغراض الصهيونية الرئيسة لذلك شرعوا في إقامة غرف قراءة ومنتديات للخطب وللدروس الليلية في أماكن مختلفة وفي سنة 1903 أنشئوا مدرسة البنات القومية في يافا، وقد نظم سنة 1901 حاييم ويزمان منهاجاً تاماً لجامعة عبرية وفتح لها فرع للآداب في القدس وعملوا لها بضعة احتفالات ولم تزل في مهدها.
جمعيات الطلبة: لما انتشرت الفكرة الصهيونية تغلغلت في نفوس الطلبة(3/205)
اليهود في فرنسا وروسيا وغليسيا ورومانيا وتواصوا بالمحافظة على الشعور اليهودي وتعزيز الآداب العبرية وكان شعارهم إلى الأمام. ووجهوا اهتمامهم لاستعمار فلسطين وتألفت بعد ذلك جمعيات عديدة من طلبة المكاتب وانتقوا أسماء وطنية تشير إلى نهضاتهم السابقة وفتح لها فروع في فلسطين.
الجمعيات الرياضية: دعيت رياضية ولكن غايتها في الحقيقة عسكرية لا سيما وأن أسماءها ترمي إلى هذا الغرض، وقد امتدت بسرعة إلى الأستانة وبرلين وصوفيا وبخارى وهمبورغ. وانتشرت فروعها في فلسطين بأسماء مختلفة وظهرت بالتمرين على حمل السلاح والحركات العسكرية وتنظيم الجند.
الصحافة: للصحافة اليهودية أثر كبير في نشر الدعوة الصهيونية، فلهم صحف عديدة في روسيا والنمسا وألمانيا وإنكلترا وإيطاليا وغيرها من الممالك، وهي تكتب المقالات الطويلة انتصاراً لقضيتهم ودفاعاً عن صهيونيتهم وقد كان لهم بضع صحف في فلسطين لا قيمة لها.
انتشار الصهيونية: راجت الفكرة الصهيونية عند كثير من اليهود فانضم إليها أشخاص ما عرفوا شيئاً عن الغاية الصهيونية، وتبرع فريق منهم دون أن يكلفوا إلى ذلك حتى إنك لا تجد فئة من اليهود إلا وبينهم صهيونيون، وغالوا بإظهار دعوتهم وجاهروا برفع رايتهم الزرقاء البيضاء في احتفالاتهم فاحتج العرب على ذلك على غير طائل، ولا نزال نرى اللونين الأزرق والأبيض وفي نصفهما المثلث المتقاطع ترس داود يرفرفان أيام أعيادهم على صدورهم أو على مرتفعات معاهدهم أو على طرفهم وسلعهم.
الأحزاب الصهيونية: بذل اليهود جهوداً كبيرة لاستعمار فلسطين وحصل تباين في آرائهم فانفصل بضع فرق عن جامعتهم وبرزت في المؤتمرات وكثيراً ما كانت المنافسة عنيفة بين هذه الفرق التي سنذكرها هنا:
1ً فرقة الحكومة: وهي أتباع هرتسل ومنهاجهم ما صرح به رئيس المؤتمر في جلساته العديدة من وجوب إنشاء وطن لليهود في فلسطين والأقاليم المجاورة لها يضمن ضماناً شرعياً مع تمسكهم بقرار مؤتمر بازل.
2ً فرقة الوسط المزراحية: وهم عصبة اليهود المتدينين الذين ألفوا فرقتهم أثناء انعقاد المؤتمر الخامس وهي فرع من حزب المتطرفين وقد تزايد أعضاء هذا الحزب وعقدوا مؤتمراً خاصاً سنة 1904(3/206)
وانتشروا في إنكلترا وأميركا وروسيا وألمانيا. وكانوا يظاهرون هرتسل في جميع المناقشات يرمون إلى أن يكونوا هيئة صهيونية أرثوذكسية أمينة للتوراة والتقاليد في كلما يتعلق بالحياة اليهودية.
3ً فعال زيون الحزب الديمقراطي: هو حزب اليسار الذي يوجد بين صفوفه بعض مشاهير الاشتراكيين وعددهم قليل، ولكنهم برهنوا على اقتدار وحذق وتغلبوا عل حزب مندلستون في المؤتمر، وكان مركزهم في النمسا وسويسرا، ويوجد فرقة متطرفة اسمها فرقة العملة الاشتراكية الصهيونية ويظن أن هذه الفرقة تخدم غرضها الاشتراكي أكثر من عملها الصهيوني.
4ً الزيون زيونست: توجد فرقة بهذا الاسم في الجمعية العمومية نشأت على أثر الناقشات التي دارت في المؤتمر السادس، وزعيم هذه الفرقة اوسيشكن واضع أصول الفرقة الجديدة الذي صرح أن سياسة هرتسل فشلت، والحركة الصهيونية تحتاج إلى العمل السريع في فلسطين بدون انتظار منحة أو امتياز، ويجب شراء الأرض حالاً بقسم من مال المصرف القومي.
5ً التريتوياليين: قوام هذه الفرقة هم الذين رغبوا في قبول استعمار شرقي إفريقية ثم عدلوا خطتهم وقرروا أن يستحصلوا على كل أرض في أي بلد بشرط أن ينالوا فيها استقلالهم الإداري. وظهرت فرق أخرى لم تنل شهرة مثل الفرق التي تقد ذكرها. ومنها فرق الصهيونيون السياسيين الذين عقدوا اجتماعاً خاصاً سنة 1905.
6ً الصهيونية السياسية الحقيقية: وهم يعتقدون أن طلب الحكم الإداري لليهود مبالغ فيه ويريدون أن يهتم الصهيونيون في الإسراع بمشروع استعمار فلسطين وجوارها، وهنالك فرق صغيرة.
الصهيونية في الحرب:
كانت القيادة الصهيونية العامة في برلين مؤلفة من ستة أعضاء رئيسهم واربورغ، وكان أربعة منهم في برلين وواحد في لينينغراد والآخر في أميركا الشمالية، فلما أعلنت الحرب العظمى سنة 1914 توقفت أعمال الصهيونية السياسية ولم يلبثوا
أن نقلوا إدارتهم العامة إلى كوبنهاغن ونقلوا الإدارة الملية إلى هولندا وتظاهروا بالحياد التام أمام جميع الدول وتربصوا ليروا أين تكون الغنيمة لينصرفوا إليها، أما عضوهم في الولايات المتحدة فقد أخذ يجمع حوله(3/207)
الصهيونيين وألف لجنة عاملة. ورغم هذه الاستعدادات السياسية فإن مركز الحركة الصهيونية لم يكن في كوبنهاغن ولا في أمستردام ولا في نيويورك بل كان في لندرا لأنها محور العالم، وفازوا بحمل بعض الدول على الاعتراف بحقوقهم التاريخية في فلسطين على ضعف الروح الصهيوني في إنكلترا. ولم تعلن تركيا الحرب في تشرين الثاني سنة 1914 حتى انتبه الرأي العام اليهودي وأيقن اليهود أن المسألة الشرقية سيعاد البحث فيها فانتعشت آمالهم يوم صرح رئيس الوزارة الإنكليزية أن جرس جنازة تركيا قد دُق لا في أوربا فقط بل في آسيا أيضاً واستبشروا بأن تأسيس دولة يهودية في فلسطين أصبح ممكناً ومعقولاً وبرز حاييم ويزمن أستاذ جامعة منشستر فقبض على قياد الحركة الصهيونية العامة، وكان هذا صهيونياً لم يشغل وظيفة مهمة في ترتيباتهم السابقة على أنه كان دائماً يميز نفسه في المؤتمرات، وكان يحض بشدة على العمل داخل فلسطين ويذكر ما يترتب على ذلك من الفوائد، ويقاوم بعنف جميع الذين كانوا يطلبون أن تقتصر الجهود الصهيونية على السياسة فقط. وهو الداعي إلى تأسيس جامعة عبرية في فلسطين وهو الذي اعتبر دخول تركيا في الحرب عهداً جديداً لفلسطين، وفرصة نادرة يجب أن يستفاد منها. وقابل رجال السياسة الإنكليزية يومئذ وفتح باباً للمفاوضات التي أدت إلى تصريح بلفور المعلوم وإلى اتفاق سان ريمو وإلى اعتراف إنكلترا بتسهيل تأسيس الوطن الثومي اليهودي. وقد كان ويزمن يعمل بنفسه دون مشورة أو مساعدة أحد غير بضعة نفر من صغار الصهيونيين، فرأى أن يدعو إلى لندن العضوين الروسيين في المؤتمر الصهيوني ليساعداه في العمل وانضم إليهم فيلسوف
الصهيونية اشير كنزبرغ المعروف باحاد هعام: أحد القوم والمشهور بتعصبه لنشر العلم والتهذيب بين الصهيونيين فألفوا لجنة غير منتخبة لكنها ربما كان يعتمد عليها من أكثر الصهيونيين وحاولوا مراجعة الحكومة البريطانية وإكمال المفاوضات التي باشرها ويزمن.
وفي الاتفاق السري المعقود بين فرنسا وإنكلترا سنة 1916 القاضي بأن تأخذ فرنسا شمالي فلسطين وإنكلترا ميناءي حيفا ويافا وتجعل فلسطين وما فيها من الأماكن المقدسة تحت حكم خاص للاحتفاظ بمصالح دول الحلفاء الدينية ولم تذكر المسألة الصهيونية ولم يرد ذكر ما وراء الأردن والبحر الميت وخليج(3/208)
العقبة وكان من المنتظر أن تدخل هذه المناطق في الدولة العربية أو الحلف العربي الذي كان في النية إيجاده بموجب معاهدة سرية عقدت مع شريف مكة الملك حسين ومفوض بريطانيا.
وفوضت الحكومة الإنكليزية مارك سايكس النائب الإنكليزي بمفاوضة زعماء العرب والأرمن والصهيونيين فعقد اجتماعاً رسمياً مع الصهيونيين في شباط سنة 1917 ولم يشترك فيه أحد من العرب وقد شهده ويزمن وسكولوف وهربرت بنتويش وكاون وساقر وهربرت صموئيل المندوب السامي السابق لفلسطين وجمس روتشلد. وبعد البحث الطويل توطدت العلائق بين الصهيونيين والحكومة الإنكليزية ووضعت القضية الصهيونية على أساس قانوني وفوض ويزمن وسكولوف أن ينوبا عن الصهيونيين فيما بعد، وأبلغت الحكومة الإنكليزية هذه المفاوضة إلى الحكومة الفرنسية، وذهب سكولوف إلى باريس ليبين لفرنسا أغراض الصهيونية وعلاقتها بالحالة السياسية الدولية الراهنة، وقابل ناظر الخارجية المسيو كامبون وأخذ منه هذا التصريح إن الحكومة الفرنسية لا يمكنها إلا أن تشعر بالعطف على غرضكم الذي يتوقف نجاحه على فوز الحلفاء وإنه
مسرور بإعلان هذا التأكيد. ثم توجه سكولوف إلى روما واستحصل تأكيداً بالعطف على الحركة الصهيونية من رئيس الوزارة الإيطالية والبابا.
ونشطت الحركات العسكرية في فلسطين وتقدمت بسرعة فائقة حتى وقع احتلال القدس سنة 1917 فرنّ صدى ذلك في لندن وأجاب تصريح بلفور الشهير الذي ضمن في كتاب أُرسل إلى اللورد روتلد وهذا نصه: تنظر حكومة جلالة الملك البريطانية بعين الرضى إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين، وتبذل الجهد في سبيل ذلك على أن لا يجري ما يضر بحقوق غير اليهود في فلسطين سواء من الوجهة الدينية والمدنية ولا ما يضر باليهود من الحقوق والمقام السياسي في سواها من الممالك.
فقابل اليهود هذا التصريح بالترحيب واصطبغوا جميعهم بالصبغة الصهيونية وقاموا بمظاهرات في كل مكان واكتسب هذا التصريح موافقة دول الحلفاء الكبيرة فوافقت عليه فرنسا وإيطاليا واليابان سنة 1918 أما الولايات المتحدة فإنها لما لم(3/209)
تكن أعلنت الحرب على تركيا لم توافق عليه، ولكن الرئيس ويلسون أرسل في آب سنة 1918 كتاباً إلى رئيس لجنة الصهيونيين الأميركيين هذا نصه: راقبت برغبة شديدة العمل الأساسي الذي قامت به لجنة ويزمن في فلسطين بمساعدة الحكومة البريطانية وهاأنذا أتخذ هذه الفرصة لأظهر امتناني بتقدم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وفي ممالك الحلفاء منذ تصريح بلفور الذي يحمل موافقة إنكلترا على تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ووعد الحكومة الإنكليزية بأنها تساعد ما استطاعت وتضمن الوصول إلى هذه الغاية على ألا يضر هذا العمل بحقوق غير اليهود العرب المدنية والدينية من سكان فلسطين أو يعبث بحقوق اليهود خارج فلسطين.
ولجنة ويزمن التي أشار إليها الرئيس ويلسن لجنة صهيونية أرسلتها الحكومة
الإنكليزية إلى فلسطين سنة 1918 ومنحتها سلطة واسعة، أي أن تكون بمثابة الهيئة الاستشارية للسلطات البريطانية في كل ما يتعلق بالمسائل التي تمس اليهود أو الوطن اليهودي القومي بموجب تصريح حكومة جلالة الملك. وتنحصر أغراضها في ما يأتي:
1 أن تكون حلقة اتصال بين السلطات البريطانية واليهود في فلسطين.
2 أن تشترك في توزيع الإحسان على أهالي فلسطين وأن تساعد على إرجاع المنفيين منها واللاجئين إليها.
3 أن تعاون على تقدم المستعمرات اليهودية وعلى تنظيم السكان اليهود في فلسطين.
4 أن تساعد المعاهد اليهودية في فلسطين لإعادة عملها ونشاطها.
5 تسعى لإحكام العلاقة الودية بين اليهود وغيرهم من سكان فلسطين العرب.
6 تجمع ما تراه مناسباً من المعلومات وتقدم تقريراً فيما يمكن عمله لترقي الاستعمار اليهودي وتقدم القطر عموماً.
7 تبحث إذا كان في الإمكان تأسيس جامعة عبرية في فلسطين وتختار محلها، فاختارت جبل الطور وافتتحتها بوضع الحجر الأساسي بحضور رؤساء الحكومة.
ولما غُلبت تركيا وحلفاؤها وعقد مؤتمر باريز، دخلت النهضة الصهيونية في طور جديد فذهب ويزمن وسكولوف إلى باريز ليمثلا الصهيونيين ويبينا مطاليبهم وجاء غيرهم من صهيونيي الأصقاع المختلفة، وقد سمع مجلس(3/210)
الحلفاء الأعلى اقتراحاتهم في جلسته المنعقدة في 27 شباط سنة 1919 وهذه هي
أولاً: وجوب اعتراف الدول بحق اليهود التاريخي في فلسطين وشد أزرهم لإعادة بناء وطنهم القومي.
ثانياً: أن تسلم سلطة الحكم العليا في فلسطين إلى جمعية الأمم وأن يعهد إلى إنكلترا
بالوصاية عليها وتكون مسؤولة أمام جمعية الأمم.
ثالثاً: أن يضاف إلى صك الانتداب لحكومة فلسطين الشروط الآتية:
1 تجعل فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية يضمن معها تأسيس الوطن القومي اليهودي، وأن يؤول ذلك في النهاية إلى إيجاد حكومة مستقلة على أن لا يعمل شيء يعبث بحقوق غير اليهود العرب في فلسطين أو بحقوق اليهود التي يتمتعون بها خارج فلسطين.
2 وللوصول إلى هذه الغاية تقوم الدولة الوصية: أبتشجيع الهجرة اليهودية وإسكان اليهود في الأرض الفلسطينية مع المحافظة على حقوق السكان الحاليين الثابتة من غير اليهود العرب.
ب تعضيد وكالة يهودية في فلسطين وفي العالم للإشراف على بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وأن يعهد إلى هذا المجلس بمراقبة التعليم اليهودي.
ج بعد الاقتناع بأن قانون هذه الوكالة لا يتضمن جلب الربح الخاص يجب أن يفضل على غيره بإعطاء المشاريع الاقتصادية وتمنح له الأولوية في كل امتياز في الأعمال العامة أو في استثمار الثروة الطبيعية التي تجد الحكومة من الضرورة إعطاءها لها.
3 تساعد الدولة الوصية جهد استطاعتها على توسيع الحكم الذاتي للمقاطعات أو المراكز الممكن إقامتها بالنظر إلى حالة القطر.
4 تعطى الحرية التامة في ممارسة العبادات الدينية لجميع الأديان في فلسطين دون تمييز بين السكان مهما اختلفت جنسياتهم أو حقوقهم المدنية.
ولم يقد اقتراح بإدارة الأماكن المقدسة ورأوا تركها لرأي الدول الكبرى.
وقد طلب أن يدخل ضمن حدود فلسطين المجرى الأسفل لنهر الليطاني وهضاب جبل الشيخ الجنوبية منابع الأردن ومن الشرق الجولان ونهر اليرموك وما يليهما
من المناطق الجنوبية التي كانت من نصيب فرنسا في اتفاقية سايكس بيكو واعتبرت هذه المناطق من الأسس لتقدم الاستعمار الفلسطيني وأدلوا بحجج(3/211)
تاريخية. فسمع مجلس الحلفاء أقوال الصهيونيين ولم يصدر قراراً حاسماً لاشتغاله بمسائل أهم من معضلة فلسطين.
وضع اليهود ثقتهم بالحكومة الإنكليزية وما خامرهم شك في صداقتها ولم تحدثهم أنفسهم أنها تتأخر عن مناصرتهم أو إنجاز ما وعدتهم به وقلقوا فقط لأنها ليست وحدها صاحبة الحل والعقد في أمرهم، ولذلك كانت هذه الفترة حرجة جداً في تاريخ اليهود فإما أن يقضي لهم أو يحكم عليهم. ولقد كان من المنتظر إحداث تغييرات تلائم المطاليب الصهيونية لأن الحكومة الفرنسية صدقت عل وعد بلفور لها ومعاهدة سايكس بيكو بطلت لانحلال روسيا، إلا أن اتفاق الحكومة الإنكليزية مع الملك حسين كان له شأن يذكر، ونشاط الحركة الوطنية العربية في فلسطين ومقاومتهم الصهيونية، أسمعت المراجع الرسمية صوتها وعاكست الخطط البريطانية المتحيزة للصهيونيين، كما أن بعض المقامات الدينية النصرانية أظهرت استياءها مخافة أن يتمكن اليهود من السيادة في هذا القطر، أضف إلى هذا أن اليهود اللاصهيونيين في أميركا وأوربا كانوا يقاومون الصهيونية بشدة، فمجموع هذه العوامل أخر سير القضية الصهيونية لكن العاملين الأولين معاهدة الملك حسين ومقاومة العرب كلن لهما الأثر الأكبر في ذلك.
كان العرب يستندون في سياستهم على الأمير فيصل حليف دول الحلفاء وكان هذا يتنازعه عاملان متناقضان، أحدهما العرب الذين يطلبون إليه بشدة مقاومة الصهيونية، والثني بعد نظره الذي جعله يسعى بإخلاص للتعاون مع قواد الصهيونيين، فتحرج مركزه بين هذه المطالب المتناقضة، وغلب عليه العرب فلم يرض عن تأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين، ثم عدل عن هذا الرأي وأرسل
كتاباً إلى أحد زعماء اليهود الأميركان، هذه خلاصتهم: إننا نشعر أن العرب واليهود هم أبناء عم في الجنس وأنهم تحملوا اضطهادات متشابهة من الدول القوية، وقد ساعدهم حسن الطالع بأن يتمكنوا من الصعود معاً إلى الدرجة الأولى من سلم آمالهم الوطنية، ونحن العرب وخاصة المتعلمين ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وقد اطلع وفدنا في باريز الآن على الاقتراحات التي قدمتموها أمس إلى مؤتمر السلام ونحن نعتبر أن هذه الاقتراحات معتدلة(3/212)
ولائقة، وسنعمل جهدنا وما في وسعنا لمساعدة اليهود أبداً ونتمنى لهم وطناً ينزلون فيه على الرحب والسعة. وإني أتطلع وشعبي أيضاً إلى مستقبل نستطيع فيه أن نتبادل التعاون لتصبح الأصقاع التي نشترك في الاهتمام بها ذات مركز بين الأمم المتمدنة في العالم.
ولقد حدثني أحد أخصّاء الملك فيصل أن الكولونيل لورنس قدم إليه كتاباً بالإنكليزية وطلب منه أن يوقع عليه ففعل دون أن يعرف ما فيه لأنه كان موضع ثقته!. وعلى كل فالملك فيصل مسؤول سواء عرف ما تضمنه الكتاب أم لم يعرف ولكن إذا نظرنا أيام حكمه نجد أنه لم يفد الصهيونيين إلا باتخاذه حجة على رضى العرب عن الصهيونية.
وقد مرت الأيام واليهود يبذلون جهودهم لحل معضلة فلسطين المعقدة فلم يتوصلوا إلى حل مرضي لأن بعض الدول رفض قبول قواعد الرئيس ويلسون وبعضها تردد مساومة. وأخيراً اختلف اليهود والإدارة العسكرية في فلسطين وأظهروا أن فلسطين أرضهم وما على العرب إلا أن يرحلوا عنها، فثارت ثائرة العرب وتمرد روحهم الوطني ووقفوا بالمرصاد للصهيونيين فاتفق أن كانت جماهير جبل الخليل قادمة إلى القدس للاشتراك في موسم النبي موسى سنة 1920 فتحرش بهم اليهود تحرشاً اعتبره أهل الخليل اعتداء فهاجموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وما كاد البرق يتناقل هذه الحادثة إلى سان ريمو حيث كان وزراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعين لتقرير صورة المعاهدة التي ستقدم إلى تركيا والتي لم يكن فيها نص على فلسطين سوى أن تسلم بها تركيا إلى الحلفاء وهم يفعلون بها ما يرونه مناسباً. وقد كانوا ينوون تأجيل النظر في مسألتها وتعيين شكل حكومتها النهائي ولكن حوادث القدس التي ربما كانت مدبرة من اليهود أو الحكومة غيرت هذا المنهج وأسرع الحلفاء في تصفية الخلاف بينهم، وبحثوا في فلسطين واعترفوا بمطالب الصهيونيين، وأضافوا هذه الفقرة إلى المعاهدة المصدقة في سان ريمو:
توافق الدول الموقعة على هذه المعاهدة بموجب المادة 22 من صك الانتداب وتعهد بإدارة فلسطين بالحدود التي ستقررها دول الحلفاء إلى دولة وصية تختار(3/213)
من الدول المذكورة تكون مسؤولة بتنفيذ التصريح الذي فاه به بلفور في 2 شباط سنة 1917 بالنيابة عن الحكومة البريطانية والذي وافقت عليه دول الحلفاء وفيه تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على أن لا يمس حقوق العرب المدنية والدينية ولا المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود خارج فلسطين. وقد تقرر أيضاً في سان ريمو أن تكون الحكومة الإنكليزية الحكومة الوصية على فلسطين. فأبدلت الحكومة الإنكليزية الإدارة العسكرية في فلسطين بإدارة مدنية وعينت على رأس هذه الإدارة هربرت صموئيل الصهيوني الصميم فتولى منصب المندوب السامي في فلسطين في 1 حزيران سنة 1920 فقاطعه الوطنيون ولكنه باشر بتأسيس إدارة مدنية وجابهه مشكلتان صعبتان وهما:
1 الحدود
2 مواد الانتداب،
وحلن هاتان المشكلتان بالتدريج وفي المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا، أما الحدود التي اقترحها الصهيونيون أمام المجلس الأعلى فلم توافق عليها فرنسا لأنها
أصرت على الحدود المقررة في معاهدة سايكس بيكو وبعد مباحثات طويلة تنازل الفرنسيون عن مقاطعة المطلة وبانياس أما صور وصيدا والمجرى الأسفل لنهر الليطاني ومنابع نهر الأردن والشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية والجولان واليرموك فقد أُخرجت منها، خلا عدة أميال أُضيفت إلى فلسطين من شاطئ اليرموك الغربي قبل أن يصب في الأردن.
وقد قابل اليهود هذا الحل باستياء شديد لأنهم رأوه يؤثر في استعمارهم ويضر بفلسطين وسورية. وأظهر الفرنسيين أنهم لن يتنازلوا عن مطالبهم إلا إذا توقفت إنكلترا وفرنسا إلى تعديل الاتفاق فيعطى إلى فلسطين ما يزيد من مياه الأردن الشمالي واليرموك لتنتفع منها بتوليد قواها الكهربائية أو استعمالها في ري الأرض وغير ذلك. وهكذا أُضيف إلى صك الانتداب بعض ما يتطلب اليهود وما يعود عليهم بالنفع واقتصرت الولايات المتحدة من مطالبها من فلسطين على أن تكون حقوقها التجارية مضمونة. فكاد هذا التأخير يجعل مستقبل فلسطين السياسي غامضاً لأن المفاوضات سارت ببطء ولم تنته حتى تموز سنة 1922 حين بحث في الوصاية وصدقت عليها عصبة جمعية الأمم. وفي صيف سنة 1921 كان عدل صك الانتداب بشأن شرقي الأردن بفقرة هذا نصها: للدولة الوصية الحق بتأجيل أو عدم تنفيذ بعض المواد الواردة في صك الانتداب الذي يتعلق(3/214)
في شرقي الأردن، وهكذا خرجت الصهيونية رابحة بعض الربح من الحرب ولكن أعمالها لم تصطدم بقوة عملية بعد، وإنها وإن كانت الآن في دور المد فسيأتي عليها دور الجزر فلا يجد رجالها مأوى يعودون إليه ويندمون على ما فقدوه من تمازجهم بالأهالي الذين عاشوا وإياهم دهراً طويلاً اه.
الصهيونية بعد الحرب:
وضعت الحرب العالمية أوزارها، وكل أمة تنتظر أن يصيبها قسط وافر من
حقوقها المسلوبة. فتلمس اليهود المشتتون في أقطار العالم بصيص تصريح بلفور، ينظرون إليه نظرهم إلى صك هبة أو بيع قطعي يخولهم امتلاك فلسطين، فشمخت أنوفهم وأعلن قوادهم أن فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية، وما على العرب إلا أن يرجعوا إلى جزيرتهم، ونشروا راياتهم بكثرة وفي كل مكان وأنشدوا نشيدهم القومي، وأخذت الحكومة تصطبغ بالصبغة اليهودية، فتولى رئاستها صهيوني صميم ورئاسة النيابات صهيوني متطرف، وتغلغل الصهيونيون في جميع الدوائر وسيطروا على الإدارة العامة، وصارت اللغة العبرية لغة رسمية، وظنوا أنهم سيأتي إلى فلسطين ألوف من اليهود بسرعة يؤلفون الأكثرية الساحقة ثم ينشئون دولة يهودية تتم بها النبوات القديمة، ولم يعلموا ما يقابلهم من الصعاب في تحقيق أمنيتهم، وتجاهلوا أن القطر يسكنه ثلاثة أرباع ملين عربي يملكون أرضه ويستغلون موارده، وعبثوا بالرأي العام الإنكليزي وتهاونوا في إيجاد عمل للمهاجرين وعجزا عن إعداد سبيل المعيشة لهم فوقعت في أزمة اقتصادية وبقي قسم كبير من المهاجرين مدة طويلة بلا عمل.
أما الشعب العربي الجريء فإنه كان ينتظر من الحلفاء إنصافاً لا سيما بعد أن انشقوا عن حكومتهم التركية وشاركوهم في الحرب. فكانت نفوسهم تصبو إلى الاستقلال التام أو إلى الاستقلال الداخلي تحت إشراف بعض الدول المخلصة. ولما انقشع ظل الأتراك ظهر الحلفاء بمظهر الجشع وقسموا سورية إلى حكومات وأجزاء فأدرك عرب فلسطين أن اليهود يسعون لتأسيس حكومة يهودية في مجرى تنفس جسم الديار العربية، فغضبوا وأنشئوا الجمعيات الإسلامية المسيحية وألهبوا صدور الأهالي وأثاروا نفوسهم، فاشتعل الروح الوطني بين جوانحهم(3/215)
وعقدوا المؤتمرات واشترك مندوبوهم في المؤتمر السوري في دمشق وأعلنوا أن فلسطين جزء من سورية وأرسلوا وفداً إلى أوربا والحجاز لاستصراخ العالمين الإسلامي
والنصراني فقابلتهم الحكومة الإنكليزية بجفاء وعبثت بمطاليبهم وغالطت في التعابير الفنية والتفاسير السياسية، وأصرت على اتباع سياستها القديمة التي ترمي إلى فصل العالم الإسلامي والعربي بعضه عن بعض بوضع الصهيونيين حاجزاً بين الشام ومصر والحجاز والشام. وارتاب العرب في الشق الثاني من وعد بلفور الذي يضمن حقوق السكان لأنهم رأوا تناقضاً بيناً بين شقي التصريح المذكور، فلو آمنوا بالشق الثاني وسلموا بمبدأ مهاجرة اليهود إلى القطر وفقاً لنص الشق الأول يصبح اليهود أصحاب الأكثرية المطلقة في مدة وجيزة، فإذا انسحب البريطانيون عندئذ فكيف يمكن تطبيق الشق الثاني.
لا شك أن العرب يقعون هنالك أمام مشكل خطير وتصبح الأماكن المقدسة التي بأيديهم مهددة بانتقالها إلى أيدي أعدائهم لا سيما وهم يعتبرون أنفسهم والعالم الإسلامي ينظر إليهم بأنهم أوصياء يجب أن يحافظوا عليها، فهاج هائج العرب وأبو أن يذعنوا لحكم السياسة وتزعزعت ثقة اليهود في تصريح بلفور وأحجموا عن الهجرة إلى فلسطين فذهب المندوب السامي إلى لندن وطلب بياناً من الوزارة بحجة إزالة مخاوف العرب وقصد تأمين اليهود ليقبلوا على المهاجرة فأجيب طلبه وصدر بيان في حزيران سنة 1922 وهذا ملخصه:
لم تكن الغاية من تصريح بلفور جعل فلسطين يهودية والقضاء على الشعب العربي ولغته وآدابه أو الحط من شأنها، ولكن الغاية تأسيس وطن لليهود في فلسطين، وليس للجمعية القائمة في فلسطين نصيب في إدارة الديار العمومية كما أن الجنسية التي سيتمتع بها جميع سكان فلسطين تكون جنسية فلسطينية ليس لها علاقة باليهود أو غيرهم. إن اليهود أعادوا في المدة الأخيرة بناء طائفة في فلسطين يبلغ عددها 80000 نفس يشتغل سدسهم في الزراعة، ولهذه الطائفة هيئات سياسية خاصة فلها جمعية تنتخب لإدارة شؤونها الداخلية، ومجالس منتخبة
في المدن، وهيئة تشرف على مدارسها ولها رئيس حاخامين منتخب ومجلس رباني محكمة شرعية لإدارة أمورها الدينية، وغدت لغتها العبرية لغة رسمية في دوائر الحكومة، ولها صحافة عبرية كافية. ويقصد من(3/216)
هذا العمل أن تتقدم الطائفة اليهودية الحلية بمساعدة اليهود المنتشرين في العالم ليجعلوا فلسطين مركزاً يكون فيه للشعب اليهودي أجمع مميزات قومية. وليعلم العرب أن مجيء اليهود إلى فلسطين هو حق ثابت لا منة يمن بها عليه، وقد سمح لهم بزيادة أفرادهم بالمهاجرة بقدر تحمل البلاد الاقتصادي.
وقد عرض هذا البيان قبل نشره على الجمعية الصهيونية فوافقت عليه، ثم عرض على وفد العرب الفلسطيني في لندن فحاول تعديل بعض فقره فلم ينجح، فزاد كره العرب لليهود واشتدت المعارضة للصهيونيين.
وكانت فلسطين تسير إلى الانحطاط بمساعي المندوب السامي تطبيقاً للفقرة الواردة في صك الانتداب وهي وضع القطر في حالة اقتصادية وسياسية لإفقاره وانتزاع الأملاك من أهله، فمنع تصدير الشعير حتى هبط سعره وخسر الأهالي خسارات باهظة، وعمل أعمالاً أخرى أدت إلى استياء العرب الشديد الذي طورته السياسة الصهيونية وأحالته إلى كوارث قصدت استغلالها فحدثت الثورات الآتية:
ثورتا القدس وثورة يافا:
لكل بلد أعياد، وفلسطين منبع هذه المواسم، اشتركت فيها جميع الأديان وموسم النبي موسى أعظم المواسم يقع في عيد الفصح عند الطائفتين المسيحية واليهودية، فالأقاليم العربية الإسلامية البعيدة لها مواسم مستقلة من عهد صلاح الدين بن يوسف، والقريبة تأتي متتابعة إلى القدس، وجبل الخليل أعلق الناس بهذه العادة، يأتون بكثرة ينشدون الأهازيج البدوية الثورية، قدموا إلى القدس في يومهم المعروف فتحرش بهم اليهود وأثاروا حفيظتهم فنشبت معركة قتل فيها عشرة
أشخاص من الفريقين وكسرت أبواب دكاكين اليهود ونهبت بضائع ليست بقليلة واضطربت القدس وأعلنت فيها الأحكام العرفية. والداعي إلى الثورة الثانية أن اليهود اتخذوا يوم تصريح بلفور الواقع في 2 تشرين الثاني عيداً لهم يعلنون فيه سرورهم، فقرر العرب جعله ذكرى حزن وبؤس يقفلون فيه حوانيتهم ويحتجون إلى الحلفاء على هذا الظلم، يطوف فتيانهم في الشوارع وينشدون أناشيد الرثاء الوطنية فمانعتهم الشرطة وضرب بعضهم فأهاج كامن حقدهم واصطدموا باليهود وقتل أشخاص ووقع النهب.(3/217)
ويمكن أن نعد ثورة يافا ثورة سياسية تجلى فيها الروح العربي بكل مظاهره وأسبابها أن فرع حزب بوعالي صهيون في يافا انضم إلى حزب الاشتراكيين المتطرفين المعروفين بالموبس والذين من أصولهم إلقاء النزاع بين الطبقات لا التمسك بالوطنية والجنسية. فحاول هذا الحزب الثوري استمالة هيئات العمال اليهود في فلسطين فرفض حزب احادوت هاعابودا طلبهم وأبى الانضمام إليهم، فغضبوا وقرروا إعداد تربة فلسطين للثورة الاجتماعية. وفي خلال تشرين الأول والثاني سنة 1920 حدثت قلاقل بين العال واليهود في يافا حسمت للحال. ونشرت جمعية الموبس إعلانات في أنحاء يافا وتل أبيب طلبوا من جميع العمال الاشتراك في الثورة الاجتماعية، وأن يختلفوا باليوم السابع من تشرين الثاني وهو العيد السنوي لحكومة السوفيات في روسيا وهذا بعض ما ورد في الإعلانات ليحي اليوم السابع من تشرين الثاني يوم العمال الاشتراكيين، لتسقط فرنسا وإنجلترا، لتحي الجمهورية الروسية السوفيات، ليحي المؤتمر الاشتراكي الثالث لتحي فلسطين الاشتراكية وحملوا راياتهم الحمر وساروا وفي مقدمتهم السيدة شارلوت روزنتال فحاولوا إكراه عمال اليهود على الاشتراك معهم فوافق بعضهم ورفض الآخرون فاعتدوا على المتعنتين وحصلت معركة بسيطة.
وفي أيار سنة 1921 خرج حزب الموبس من ناديهم وعلى صدورهم شارات حمراء وفي أيديهم رايات كتب عليها بخط أحمر جمل تحض الناس على الثورة وهذا نموذج منها: ليحي المؤتمر الاشتراكي، لتحي النساء الحرة في الجمعية الاشتراكية، ليحي اليوم الأول من أيار. لتسقط القوة الإنكليزية القهرية. فتعقبت الشرطة جموعهم المندفعة حتى وافت شوارع تل أبيب وصادمت اليهود وأطلقت عيارات نارية فظنها العرب مظاهرة مقصودة وجهت إليهم وتحسبوا من شرّ مداهم فتجمهروا للدفاع عن أنفسهم، وسرعان ما اشتبكوا مع اليهود وأهرقت الدماء وامتدت الثورة إلى الضواحي حيث هوجمت بعض المستعمرات الصهيونية ودام القتال ثلاثة أيام فقتل من اليهود 47 شخصاً وجرح 146 وقتل من العرب 48 نفساً يدخل فيهم البدو والقرويون وجرح(3/218)
73، فأعلنت الأحكام العرفية ووضعت غرامات باهظة على الذين اشتركوا في هذه المعركة من العرب وحرق بيت شاكر أبو كشك قائد الثورة خارج يافا، وقد استفاد اليهود من ضباطهم في الجيش إذ ساعدوهم كثيراً وألبسوا شبابهم ثياباً عسكرية وسلحوهم ببنادق الجند وأوهموا العرب أنهم جنود إنكليزية.
المهاجرة:
كان عدد اليهود قبل احتلال الإنكليز 55 ألف نفس فلما أبيحت المهاجرة وتدفقت جموع الصهيونيين وأكثرهم من شرق أوروبا أنشأت الحكومة دائرة المهاجرة والسفر لتسهيل الهجرة الصهيونية، ثم تحول هذا إلى فرع خصوصي في ديوان أمين السر العام وأرسلت الحكومة مأمورين من اليهود على نفقة الوطنيين لتشجيع الهجرة، وقد بلغ عدد اليهود في الإحصاء الرسمي سنة 1922 84000 نفس وقد قدر عددهم في آذار سنة 1925 108000 شخص وأصبحوا اليوم أكثر من أربعمائة ألف.
وبعض هؤلاء المهاجرين متدين وبعضهم بولشفيكي وهم فئة قليلة، وبعضهم جهلاء متشردون وبعضهم متعلمون، وكلهم وضع نصب عينيه إخراج العرب من فلسطين وامتلاكها وأكثر من ثلاثة أرباع اليهود يسكنون في المدن والباقي في القرى. وقد بذلوا جهوداً كبيرة لمشترى الأرض والاستعمار الزراعي في فلسطين بيد أن المهاجرين رغم ماليتهم الشخصية وما يتوارد عليهم من المساعدات الخارجية وما يتبع ذلك من التنظيم، يألفون المدن ويتركون القرى، ودلت الإحصاءات على أن قسماً قليلاً منهم يحترف الزراعة فالأربعون ألف مهاجر الذين دخلوا فلسطين لم يشتغل منهم في الزراعة سوى ثمانية آلاف وتسلل الباقون إلى المدن الكبيرة مثل القدس ويافا وحيفا وفتحوا الحوانيت المختلفة كالحلاقة وبيع السلع البسيطة وأهملوا الزراعة. والذي يعلم أن فلسطين قطر زراعي وأن الزراعة هي المهنة المنتجة الرئيسة فيها لا يرتاب في أن الصهيونيين لم ينجحوا من هذه الجهة كثيراً.
تقدر مساحة فلسطين بعشرة آلاف ميل مربع تقريباً نصفها جبال قاحلة وأرض رملية وصحراء بلقع والنصف الآخر قابل للزراعة. واليهود كانوا(3/219)
يملكون قبل الحرب نحو 177 ميلا مربعاً وكان لهم 43 مستعمرة. أما اليوم فيملكون نحو 319 ميلاً مربعاً أي ستة في المائة من مجموع الأرض الزراعية وبلغت مستعمراتهم نحو 100 قرية أكثرها في الساحل وبعضها اشتراكية. فالبيع والشراء والزراعة والأكل والمعيشة كلها مشتركة والعزّاب نساء ورجالاً ينامون معاً أما المتزوجون فلهم غرف خصوصية، ويؤخذ الأولاد من والديهم يجعلون تحت المراقبة ويعنى بأمرهم لأنهم ملك مشترك للمستعمرة. وأكثر مستعمرات اليهود تعتمد على المساعدات الخارجية وعلى قروض المصارف ويملك البارون روتشلد 40بالمائة مما يملكه اليهود في فلسطين.
المعارف والمصارف والصحافة والمشاريع
الاقتصادية:
لليهود في فلسطين إدارة معارف تشرف على المدارس اليهودية من صهيونية وأرثوذكسية وهي مستقلة عن إدارة الحكومة. وقد كان لليهود سنة 1919 1920 مائة وعشر مدارس فيها 11220 تلميذاً و584 معلماً وقي سنة 1921 بلغت مدارسهم نحو 135 مدرسة فيها 523 معلماً و12830 طالباً وهي موزعة كما يأتي: في القدس 33 مدرسة وفي يافا 17 وفي حيفا 6 وفي طبريا 4 وفي صفد 4 وفي المدن الأخرى 587 في مستعمراتهم و6 في سورية.
ويقدرون أن 83بالمائة من أبناء اليهود في فلسطين يتعلمون في المدارس اليهودية ويندر أن يدخلوا المدارس الأجنبية. أما المدارس اليهودية في فلسطين فمتنوعة فبينما تجد المدرسة الدينية التي تشبه الكتاتيب المعروفة عند العرب ولا تعلم سوى التلمود والتوراة على الأصول القديمة، تجد من جهة أخرى بساتين الأطفال الحديثة تسير على نظم منتسوري وفروبل. وهي أنواع فمنها مدرستان ثانويتان اختلط فيهما الشبان والشابات إحداهما في القدس والأخرى في يافا، ولهم مدرسة صناعية في حيفا، ودار معلمات في يافا ودار معلمين في القدس، ولهم مدرسة نيتر الزراعية التي أُسست منذ 50 سنة تقريباً وفيها 100 طالب وقد كانت تابعة لجمعية الاتحاد الإسرائيلي الاليانس فأُلحقت مؤخراً بالجمعية الصهيونية. ولهم مدرسة تجارية في يافا وثلاث مدارس للموسيقى ومدرسة للفنون الجميلة في القدس. ولغة التعليم في جميع هذه المدارس العبرية وبرامجها(3/220)
تشبه برامج مدارس أواسط أوربا مع تعديل طفيف. وهم يشددون إلى حد الإفراط في الاهتمام بتعليم جغرافية فلسطين وتاريخها اليهودي.
ومجموع ما أنفقته إدارة المعارف الصهيونية سنة 1920 120 ألف جنيه أي ينفق على كل تلميذ تسعة جنيهات وهو معدل باهظ جداً. ولكن موازنتهم أخذت تتناقص إلى أن بلغت 80000 جنيه رغم ازدياد الطلاب. وقد ساءت الحالة المالية وامتنعت إدارة المعارف الصهيونية عن دفع رواتب المعلمين فتذمروا وأنذروها بالإقلاع عن العمل إن لم تجبهم إلى مطاليبهم فلم تصغ إليهم وعجزت عن أداء مشاهراتهم فاضربوا شهراً كاملاً ثم حل المشكل حلاً سياسياً. والرسوم في المدارس اليهودية هي عالية جداً يؤدي الطالب الخارجي في المدرسة الثانوية ما يقارب العشرين جنيهاً سنوياً لقاء التعليم فقط. وقد أسس اليهود أوبرا إسرائيلية إلا أن الإقبال عليها قليل لكون لغتها عبرانية ويُقدر ما أنفقه اليهود من المال بعد الحرب بستة ملايين جنيه. مليون واحد اشتروا به أرضاً ومليون للصنائع ونصف مليون للمساعدات وثلاثة ملايين ونصف للاستعمار والتهذيب وللأمور المختلفة سياسية وإدارية.
أعظم مصرف لليهود في فلسطين بنك انكلو فلسطين الذي كان رأس ماله سنة 1920 100 ألف جنيه وفيه من الودائع 700 ألف جنيه أما الآن فقد زيد رأس ماله إلى 300 ألف جنيه واحتفظ هذا المصرف بأرباحه ولم يوزعها منذ سنة 1914 وذلك لأنه اضطر إلى تسليف المستعمرين قروضاً لمدد طويلة. وإدارة هذا المصرف العليا في لندن وله فروع في أمهات المدن الفلسطينية والسورية ولهم غير هذا المصرف مصارف عقارية. وأُخرى تسلفهم للبناء وكلها تفضل معاملة اليهود على غيرهم وتعطيهم بفائدة أقل مما تأخذه من العرب. ولليهود بضع صحف في فلسطين يصدر بعضها باللغة الإنكليزية مثل فلسطين الأسبوعية النشرة الفلسطينية وبعضها يصدر باللغة العبرانية ومنها دَوَار لسان حال العمال وها آرتس، ودؤار هايوم. وكولي إسرائيل لسان حال الأرثوذكس ومجلة هايشوف
وغيرها من الصحف الضئيلة.
في 21 أيلول سنة 1921 عقد اتفاق بين وكلاء التاج بالنيابة عن السر(3/221)
هربرت صموئيل المندوب السامي لفلسطين وبين بنيحاس روتنبرغ المهندس الروسي على أن يجمع روتنبرغ خلال سنتين مليون جنيه لشركة تؤسس في فلسطين وأن يجمع ما لا يقل عن مائتي ألف جنيه نقداً، فإذا قام بهذه الشروط فالمندوب السامي يمنحه امتيازاً مدة سبعين سنة للاستفادة من مياه الأنهار الآتية:
امياه نهر الأردن وحوضه ونهر اليرموك وجميع فروعه وروافد نهر الأردن التي تقع في الأرض التي يسيطر عليها المندوب السامي لفلسطين.
ب مياه نهر الأردن وحوضه ونهر اليرموك وجميع فروعه وروافد نهر الأردن الخارجة عن الأرض الخاضعة للمندوب السامي والواقعة في منطقة الانتداب الفرنسي.
وذلك لتوليد القوى الكهربائية وغيرها. ثم رخص له أن يبني على جسر المجامع محطة كهربائية بعد سنة وأن يستعمل بحيرة طبرية خزاناً للمياه التي يريد الانتفاع بها وأن يبني سداً عليها لرفع المياه إلى درجة معلومة، وتنقل هذه المياه في قنيّ تشاد لهذه الغاية وسمح له أيضاً بأن يبني غير تلك المحطات متى رآها ضرورية لتوليد القوى الكهربائية. وأن يغير مجرى نهر اليرموك وروافده وبثوقه إلى بحيرة طبرية وأن يستملك من الأرض والأبنية ما يراه ضرورياً لهذا المشروع. ومنح أيضاً استثمار نهر العوجا بالقرب من يافا. وتعهدت الشركة بأن تبدأ بالعمل بعد اثني عشر شهراً وأن تنجز المشروع في خمس سنوات. ولكن عدّل هذا الشرط الأخير ورخص للشركة بتمديد هذه المدة وتعهدت إذا هي تأخرت عن إنجاز هذا العمل في الخمس سنوات أو في المدة التي يعينها المندوب السامي ولم تقم بالعمل تدفع عن كل شهر ألفي جنيه للحكومة فلسطين ويحق للمندوب السامي إلغاء هذا
الاتفاق.
نظرة في نجاح الصهيونية:
إصلاح شيء أصابه البلى أسهل من خلق شيء من العدم، والصهيونية مهما تقدمت فهي فكرة خيالية لا حقيقة لها أوجدها هوى بعض اليهود لاستيطان بلاد اجتازوا بها وسكنوها ردحاً من الزمن ثم جلوا عنها كما وقع للعرب في الأندلس والفرق بين الحادثتين كبير لأن العرب غرسوا مدنية فأزهرت وأينع ثمرها،(3/222)
أما اليهود فقد زالت آثارهم واندرست مدنيتهم الساذجة. فمطالبتهم بالرجوع إلى هذه الديار متعذرة كل التعذر.
1ً لدثور قوميتهم.
2ً لتشتيت نزعاتهم وعاداتهم.
3ً اليهود يجمعهم الدين وتفرقهم الأمم، دينهم واحد وهم أمم شتى.
4ً لا تجمعهم وحدة ولا يسيرون في منهج.
5ً الأرض يمتلكها أصحابها وهم جزء من محيط عربي عظيم.
فاليهود وإن تقدموا قليلاً لا إخال نجاحهم إلا مؤقتاً ولو ساعدتهم بريطانيا ودول الغرب والفشل عاقبة كل حركة ليست طبيعية ودافعها غير عقيدة صادقة، أما أعمال اليهود خارج فلسطين بعد الحرب فإنهم انصرفوا لإقناع أوربا بأن العرب راضون عنهم وعقدوا بعض مؤتمرات وعدّلوا بعض خططهم وجمعوا أموالاً جمة وتوددوا إلى جيرانهم وطاف دعاتهم الأقطار التي يسكنها اليهود واكتفوا بحصر قواهم العملية داخل فلسطين ومراقبة الحركات السياسية الدولية العالمية اه.
حوادث وغوائل:
في نيسان 1925 خطب اللورد اللنبي المعتمد البريطاني في مصر في حفلة مقابر
الحرب البريطانية في غزة خطبة ذكر فيها السامعين بأن هذه البقعة جرت عليها معارك حربية قديمة وحديثة وأثنى على الأبطال البريطانيين الذين قادوا بأرواحهم فطردوا الأتراك في محاولاتهم الثلاث. وقد ذكر بعضهم أن قتلى البريطانيين في البقعة التي حارب بها شمشون في غزة خمسة آلاف جندي.
وفي هذا الشهر وقعت فتنة بين أهالي قرية العاليات من عمل حمص بعضهم مع بعض وبينهم وبين الحكومة انتهت بقتل أربعين نفساً وثمانية وأربعين جريحاً ويقال: إن خمس أسر فنيت على بكرة أبيها والسبب في ذلك أن رجلاً من العلويين اسمه شعبان من أهل وادي البرغل من عمل اللاذقية قام منذ السنة الماضية(3/223)
يدعو النصيرية إلى إدخال الإصلاح على مذهبهم، وتعاليمه تدور على روحانية الإمام علي بن أبي طالب في الألوهية، وتخطئة من يزعم وجوده في الشمس كالشماليين أو القمر كالكلازيين وقد أوجب على أتباعه صيام رمضان والصلوات الخمس وتعليم النساء خلافاً لما جرى عليه الأسلاف في المذهب العلوي من حظر التدين على النساء. فانقاد إلى رأيه كثيرون ولا سيما عشيرة المتاورة ولما كان قد بقيت بعض البيوت في قرية العاليات لم تتمذهب بمذهبه وقع بينها وبين من دانوا به خصام أدى إلى القتل وتدخل الحكومة.
وفي سلخ ذي الحجة حدث اختلاف بين السلطة المنتدبة وزعماء جبل الدروز أدى إلى نفي بعضهم. ونشبت فتنة بين الدروز والحامية أدت إلى قتل بضع مئات من الفريقين، وخربت السلطة بضع قرى بالقنابل التي قذفت بها من الطيارات والمدافع.(3/224)
-
التقاسيم الإدارية الحديثة
تقاسيم القدماء قبل الإسلام:
كان الشام ينقسم بحسب مصلحة المتغلبين عليه، ولما كان يطلق عليه اسم آرام كان يقسم إلى عدة أقسام مثل آرام صوبة وآرام معكة وآرام بيت رحوب وآرام دمشق وهي أقسام مملكة آرام، وكانت دمشق قصبتها، أي أنها كانت منقسمة بين ملوك كثيرين كملوك دمشق ورحوب وصوبة وجشور على ما يفهم من رواية التوراة. وأراد الرومان إضافة فلسطين إلى ولاية سورية الرومانية سنة 66 ب. م ولما نظم أغسطس قيصر مملكته وصارت سورية ولاية إمبراطورية عاصمتها أنطاكية احتفظت بعض مقاطعاتها باستقلالها، فكانت خلكيس عين جر أو عنجر مملكة صغيرة، وابيلية وادي بردي رياسة ربع، ودمشق مستقلة بعض الاستقلال إلى أيام نيرون. ووسد أمر اليهودية لوال كان له بعض الاستقلال في حدود ولايته تحت إدارة والي سورية، وكانت تدمر مستقلة في سلطانها إلى سنة 114م وأضاف الإمبراطور تراجان الأصقاع الواقعة ما وراء الأردن، وقضى على مملكة النبطيين وجعلها حكومة ممتازة سماها الولاية العربية وجعل بصرى عاصمتها.
وقسم ساويرس الروماني سورية إلى قسمين وجعل القسم الأول إلى الشمال، وفيه سورية الكومجانية وسورية المجوفة أي السهول التي على ضفتي العاصي إلى إنطاكية والبحر وما بين اللكام ولبنان، والقسم الثاني في الجنوب والشرق وفيه سورية الفينيقية والشطوط البحرية وشرقي لبنان إلى وسط البرية وفيه(3/225)
بعلبك وحمص ودمشق وتدمر. وانقسمت مملكة الشام بعد مقتل ديمتريوس إلى قسمين ملكت كلوبطرا في عكا وجنوب المملكة وملك زنوبيا في إنطاكية وشمالها. وكانت الشام مقسومة إلى قسمين سورية وفلسطين وأطلق اسم سورية على الاثنين منذ
إضافتهما إلى المملكة الرومانية قبل المسيح بمدة.
أجناد الشام وتقسيم العرب:
وقسم الأوائل الشام خمسة أقسام الأول فلسطين ومن مدنها إيليا وهي بيت المقدس وعسقلان ولدّ ونابلس وحبرون أي الخليل، والثاني، الأردن ومدينتها العظمى طبرية، والثالث الغوطة ومدينتها العظمى دمشق، والرابع حمص، والخامس قنسرين ومدينتها العظمى حلب وهو أشبه بتقسيم العرب، قسموها خمسة أجناد أي خمسة فيالق، وهي جند فلسطين، وجند الأردن، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنسرين.
سمى المسلمون فلسطين جنداً لأنه جمع كوراً وكذلك دمشق وكذلك الأردن وكذلك حمص مع قنسرين. وسميت كل ناحية لها جند يقبضون أطماعهم بها جنداً، وذكروا أن الجزيرة كانت إلى قنسرين فجندها عبد الملك بن مروان أي أفردها، فصار جندها يأخذون أطماعهم بها من خراجها، وأن محمد بن مروان كان سأل عبد الملك تجنيدها ففعل، ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وإنطاكية ومنبج وذواتها جنداً، وأفرد الرشيد قنسرين أي كورة حلب بكورها فصيرها جنداً واحداً.
ومعلوم أن العرب أطلقوا اسم الشام على سورية وفلسطين معاً وهذه القسمة أي قسمة الشام إلى قطرين لا توافق عليهما الطبيعة كما قال العارفون من علماء الجغرافيا المحدثين، لأنهما شيء واحد وما هي إلا اعتبارات سياسية صرفة، وهو تقسيم موضوع على التعارف كما قال المقدسي، وقد قسم الشام إلى ست كور وقال: فإن قال قائل لم جعلت قصبة الكورة حلب أي لم تجعلها قنسرين كما كان مصطلح العرب إلى القرن الثالث وههنا مدينة على اسمها قيل له: قد قلنا إن مثل القصبات كالقواد والمدن كالجند ولا يجوز أن نجعل حلب على جلالتها وحلول
السلطان بها وجمع الدواوين إليها وإنطاكية(3/226)
ونفاستها وبالس وعمارتها أجناداً لمدينة صغيرة أي قنسرين التي وصفها بأنها مدينة خف أهلها.
التقسيم في عصر الصليبيين والمماليك:
وما زال تقسيم الشام إلى أجناد مدة الأمويين وطرف صالح من عهد العباسيين ويفرق العمال الذين ينصبونهم بحسب ما يرون فيه المصلحة، دام ذلك إلى القرن الخامس فكانوا يقطعون بعض الأعمال ويدعونها ممالك فكانت صرخد مملكة والزبداني مملكة وحمص مملكة وحماة مملكة وحلب مملكة. وهذا التقسيم مختل بالطبع لاختلال أحوال القطر بالحروب الصليبية قال القلقشندي: قواعد الشام ست كل قاعدة منها تعد مملكة، بل كانت كل قاعدة منها مملكة مستقلة بسلطان في زمن بني أيوب، وهذه القواعد الست العظام هي دمشق وحلب وحماة وطرابلس وصفد والكرك. بل كانت الغوطة والمرج من عمل دمشق ولاية برأسها، كما كان الجبل ووادي بردى ويبوس ولاية، وكما كانت بيت لهيا في الغوطة ولاية على عهد الأمويين.
وقسم المماليك الشام قسمين جنوبي وشمالي وكان يعين لكل منهما كافل أي وال يقيم كافل القسم الأول في دمشق ويقال له كافل الممالك الشامية، وينزل عامل القسم الثاني في حلب ويقال له كافل الممالك الحلبية. وفي سنة 768 جعل الملك الأشرف من ملوك الترك حلب أكبر من دمشق كما كانت على القاعدة القديمة، وعد الظاهري سبع ممالك في الشام في القرن التاسع وهي المملكة الشامية والمملكة الكركية والمملكة الحلبية والمملكة الطرابلسية والمملكة الحماوية والمملكة الصفدية والمملكة الغزاوية.
وكان لدمشق أربع صفقات غربية وهي الساحلية والقبلية والشمالية والشرقية ففي الصفقة الأولى وهي الغربية عشر نيابات وخمس ولايات. فأما النيابات فمنها غزة
والقدس، والولايات فمنها ولاية الرملة ولدّ وقاقون وبلد الخليل ونابلس وأما الصفقة القبلية وهي الثانية ففيها نيابات وثمان ولايات، فأما النيابات فالأولى منها نيابة قلعة صرخد ونيابة عجلون. وأما الولايات فالأولى ولاية بيسان وولاية بانياس وولاية قلعة الصبيبة وولاية الشعراء وأذرعات وحسبان والصلت وبصرى.(3/227)
والصفقة الشمالية وفيها نيابة واحدة وثلاث ولايات. فأما النيابة فبعلبك وأما الولايات فالأولى ولاية البقاع البعلبكي والثانية ولاية بيروت والثالثة ولاية صيدا، والصفقة الرابعة الشرقية وبها ثلاث نيابات وأربع ولايات. وهناك نيابات حلب ونيابة طرابلس ونيابة صفد وولاية تبنين وهونين وولاية الشقيف إلى غير ذلك من مصطلح القرن الثامن للهجرة.
على عهد العثمانيين:
وقسم العثمانيون الشام ثلاث نيابات أو إيالات وهي دمشق وحلب وطرابلس وظلّ هذا التقسيم إلى ما بعد عهد السلطان أحمد فكانت دمشق وهي أعظمها عبارة عن عشرة ألوية وأهمها القدس وغزة ونابلس وتدمر وبيروت وصيدا، وولاية طرابلس خمسة ألوية وهي طرابلس وحماة وحمص وسلمية وجَبَلة. وقسمت حلب تسعة ألوية تتناول سورية الشمالية برمتها ما عدا عينتاب التابعة لولاية مرعش، وفي سنة 1660م أحدثت الدولة ولاية جديدة وهي صيدا لمراقبة الجبل. وقد امتدح الجنرال دي تورسي من طرز الإدارة التي منحها سليم الأول للشام وهي التي كان عليها العمل في الأكثر إلى خروج الأتراك من هذا القطر، وذكر بعضهم أن الشام كانت على عهد أوائل الحكم العثماني أربع إيالات كبرى وأن تقسيمها إلى ثلاث إيالات كما مر حدث بعد زمن.
وفي سنة 1272 هـ كانت الشام تقسم إيالتين إيالة دمشق وإيالة صيدا، ولما نظمت الولايات على أسلوبها المتعارف أخذ لواء الرّها أورفة من الجزيرة ولواء مرعش
من الأناضول وألحقا بحلب فجعلت ولاية وجعلت بقية الشام ولاية جسيمة حاضرتها دمشق. وأُنشئت القدس لواء مستقلاً سنة 1870 تفاوض الأستانة مباشرة، وبعد خروج المصريين 1840 كانت القدس تجعل تابعة لإيالة صيدا تارة، وتابعة للباب العالي تارة أخرى، وأصبح لبنان مؤلفاً من أقضية الكورة والبترون وكسروان والمتن والشوف وزحلة وجزين، وظلت بيروت وطرابلس ونابلس واللاذقية وعكا وأعمالها تابعة لولاية دمشق، وبقي مركز الجيش دمشق على ما كان عليه قبيل دخول إبراهيم باشا. وفي سنة 1887 جعلت القدس متصرفية مستقلة، وجعلت الكرك أي ما وراء عبر الأردن متصرفية برأسها، وجعلت بيروت سنة 1888 ولاية مستقلة عن دمشق لموقعها الاقتصادي وأضيفت(3/228)
إليها عكا ونابلس واللاذقية وطرابلس وصور وصيدا ومرجعيون. وكان لبنان منذ سنة 1860 مستقلاً استقلالاً إدارياً يتولاه متصرف من الباب العالي برتبة وزير وتصادق على تعيينه الدول الست العظمى.
ويوم جلا الأتراك عن الشام كان يقسم إلى ثلاث ولايات وهي دمشق وحلب وبيروت وثلاثة ألوية مستقلة أي ولايات صغيرة تفاوض الباب العالي مباشرة، وهي القدس ولبنان ودير الزور. واصطلح في فلسطين أولاً على جعلها أربعة ألوية وهي لواء القدس ويافا ولواء الجليل ولواء السامرة واللواء الشمالي. وجعلت المدن الأربع دمشق وحلب وحماة وحمص وما يتبعها دولة قسمت إلى عدة ألوية وهي الكرك وحوران ودمشق وحمص وحماة ودير الزور وحلب والإسكندرونة واستقل لواء اللاذقية.
تقاسيم فلسطين:
وبحسب التقاسيم الإدارية الأخيرة تقسم حكومة فلسطين إلى ثلاثة ألوية وهي
1ً لواء القدس ويافا ومركزه القدس.
2ً اللواء الجنوبي ومركزه غزة.
3ً اللواء الشمالي ومركزه حيفا.
ويقسم لواء القدس ويافا إلى سبعة أقضية وهي قضاء القدس ورام الله وأريحا وبيت لحم ويافا والرملة. وليافا امتياز شبيه باستقلال إداري. ويقسم اللواء الجنوبي إلى أربعة أقضية وهي قضاء غزة والمجدل وبئر السبع والخليل. ويقسم اللواء الشمالي إلى عشرة أقضية وهي حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد ونابلس وطول كرم وجينين وبيسان.
تقاسيم الشرق العربي أي شرقي الأردن:
وتقسم حكومة الشرق العربي إلى أربعة ألوية وهي
1ً لواء عمان ويتبعه قضاء مادبا وناحية زيزاء الجيزة ومركزه عمان.
2ً لواء الصلت ومركزه الصلت.
3ً لواء أربد ومن عمله أقضية جبل عجلون وجرش وأم قيس ومركزه أربد، ويتبع المركز رأساً ثلاث نواح وهي الرمتا والكورة والغور، ومن عمله قضاء جرش ناحية الزرقاء.
4ً لواء الكرك ويتألف(3/229)
من قضاءي الكرك والطفيلة ويتبع الكرك مباشرة ثلاث نواح: المزارن السماكية، الغور، وأضيفت العقبة ومعان إلى الشرق العربي.
دولة سورية:
وتقسم دولة سورية إلى سبعة ألوية وهي لواء 1 دمشق و 2 حوران 3 حمص و 4 حماة و 5 حلب و 6 دير الزور و 7 الإسكندرية. ويقسم لواء دمشق إلى ستة أقضية وهي 1 قضاء دومة وفيه ناحيتان تل منين ودير سلمان 2 قضاء جيرود وفيه ناحية القطيفة و 3 قضاء النبك وفيه ناحية يبرود و 4 قضاء الزبداني و 5
وادي العجم الذي جعل قضاء حرمون بعد وفيه ثلاث نواح وهي الطيبة ومركزها زاكية وبيت جن والدير علي 6 القنطيرة وفيه ناحية مجدل شمس.
ولواء حوران ويلحق بمركزه ناحيتا بصرى وطفس ويتبعه قضاءان ازرع والزوية وفي قضاء ازرع خمس نواح وهي نوى، المسمية، الصنمين، اللجاه الجنوبية، اللجاه الشماليةز
ولواء حمص ومن عمله خمس نواح وهي حسية، الرستن، عين ظاظ، القصير، جب الجراح. ويتبع حمص قضاء واحد وهو القريتين وفيه ناحية تدمر ويتبع لواء حماة ثلاث نواح وقضاء واحد فيه ثلاث نواح أيضاً فنواحي اللواء طار العلا، الحميرة، بارين، والقضاء سلمية وفيه ثلاث نواح: عين كاسون، عقيربات، معر شحور.
لواء حلب ويلحق به عشرة أقضية 1 جرابلس ولها ناحيتان ناحية قلقوم وناحية جسرين و 2 جبل سمعان وفيه ثلاث نواح عذان، الزربة، أبوالظهور و 3 الباب وفيه ناحيتا دير صافر، صوسنباط و 4 المعرة ولها ناحيتان الأندرين، خوين الكبير و 5 اعزاز وفيه ناحية نين و 6 منبج وفيه ناحيتان أبو قلقل، مسكنة و 7 كرد طاغ وله أربع نواح ناحية فاطمة، الجوم، راجو، بلبل و 8 حارم وفيها أربع نواحِ كفر تخاريم، باريشا، سلقين، ترمانين و 9 جسر الشغور وفيها ناحيتان دركوش، المضيق و 10 إدلب(3/230)
وفيها ثلاث نواح أريحا، سرمين، معرة مصرين، وأطلق على لواء حلب اسم ولاية حلب.
ويقسم دير الزور إلى ستة أقضية جعلت مراكزها الآن 1ً دير ازور. 2ً الرقة. 3ً الميادين. 4ً البوكمال. 5ً حسجة. 6ً كرو. ويقسم قضاء دير الزور إلى أربع نواح مراكزها في دير الزور وكسره ومراط وسوار. وقضاء الرقة إلى خمس نواح مراكزها الرقة وخربة الرز ومرابط وأبو هريرة وسبخه. وقضاء الميادين
إلى ناحيتين مركز أحداهما ميادين والثانية عشارة. وقضاء البوكمال إلى ناحيتين مركز أحداهما البوكمال والثانية الصلاحية. وقضاء حسجة إلى أربع نواح مراكزها في شدادي وحسجة ورأس العين وعاموده. وقضاء كرو إلى ثلاث نواح مراكزها كرو وعزنور وديرون اغا.
دولة جبل الدروز:
وتقسم دولة جبل الدروز إلى ثلاث عشرة ناحية وهي عري، القرية، صرخد، ملح، سالة، المجدل، نجران، عاهرة، وادي اللوي، الهيت، شهبة، سليم، نمرة، ومركز الدولة قرية السويداء.
-
دولة لبنان الكبرى:
يقسم لبنان الكبير إلى إحدى عشرة محافظة إلى مديريات وهي
1ً محافظة صيدا ومركزها مدينة صيدا ومن عملها مديرية النبطية ومديرية عدلون ومديرية جزين
2ً ومحافظة صور مركزها مدينة صور ويتبعها مديرية تبنين ومديرية علما ومركز المحافظة مدينة صور
3ً محافظة مرجعيون مركزها الجديدة ومن عملها مديرية حاصبيا
4ً محافظة بيروت مركزها مدينة بيروت
5ً محافظة الشوف مركزها بعقلين ويتبعها مديريات المختارة وشحيم وعين زحلته ورشميا والشويفات وعاليه ومديرية دير القمر المستقلة
6ً محافظة طرابلس ومركزها مدينة طرابلس ويتبعها مديريات حلبا وقبيات وسير
7ً محافظة المتن ومركزها بحنس ومن توابعها مديرية بكفيا وبرمانا وبسكنتا
وحمانا
8ً محافظة بعلبك ومركزها مدينة بعلبك ويتبعها مديريات طليا ودير الأحمر والهرمل(3/231)
ورأس بعلبك
9ً محافظة زحلة ومركزها مدينة زحلة ويتبعها مديريات قب الياس وسغبين وراشيا
10ً محافظة كسروان ومركزها غادير وبيت خشبو ومن عملها مديريات جبيل وريفون والكفور وقرطبا
11ً محافظة البترون ومركزها مدينة البترون ومن عملها مديريات تنورين وبشري وأميون.
دولة العلويين:
تقسم حكومة العلويين إلى لوائين
1ً لواء اللاذقية ومركزها مدينة اللاذقية وتنقسم إلى خمسة أقضية وهي اللاذقية وجبلة وصهيون وقضاء المرقب مركز حكومته بانياس وقضاء العمرانية ومركز حكومته مصياف
2ً لواء طرطوس ويقسم إلى ثلاث أقضية وهي طرطوس وصافيتا وقصبته دريكيش والحصن وقصبته تل كلخ. أما جزيرة أرواد فمستقلة وتعد من دولة العلويين.(3/232)
-
العقود والعهود الأخيرة
صورة الرسائل الرسمية التي تبودلت بين الحكومة الفرنسوية والحكومة البريطانية لأجل تثبيت اتفاقية سايكس بيكو بواسطة السر ادوار غراي وم. كامبون في أيار سنة 1916
الرسالة الأولى:
من مسيوا. كامبون إلى السرا. غراي 9 أيار 1916.
1 - تميل فرنسا وبريطانيا العظمى إلى الاعتراف بدولة عربية مستقلة أو حلف من الدول العربية المستقلة في منطقتي الألف والباء كما هو مبين في المصوّر بإمارة زعيم عربي وتقدمان لها الحماية. ويكون لفرنسا في منطقة الألف ولبريطانيا العظمى في منطقة الباء الحق الأول في عقد القروض وفي التزام المشاريع المحلية. وتقدم فرمسا في منطقة الألف وبريطانيا العظمى في منطقة الباء المستشارين الفنيين والإداريين حينما ترى الدولة العربية أو الحلف العربي ضرورة لذلك.
2 - تفوض فرنسا في المنطقة الزرقاء وبريطانيا العظمى في المنطقة الحمراء أن تعملا فيهما على ما ترغبان فيه أي أن تديراهما مباشرة أو غير مباشرة بالاشتراك مع العرب وتأسيس دولة عربية أو حلف من الدول العربية.
3 - تدار المنطقة السمراء بإدارة دولية ويترك أمر البت في تعيين شكلها إلى أن تتم المفاوضة مع روسيا وسائر الحلفاء ومندوبي شريف مكة.
4 - تعطى بريطانيا العظمى: أولاً مرفأي حيفا وعكا.
ثانياً كمية(3/233)
معينة من ماء نهري دجلة والفرات تؤخذ من منطقة الألف وتعطى لمنطقة الباء. وعلى حكومة جلالة الملك مقابل ذلك أن لا تفاوض في وقت من الأوقات دولة من الدول بشأن تسليمها قبرص قبل أن توافق فرنسا على ذلك.
5 - تكون الإسكندرونة مرفأ حراً للتجارة البريطانية ولا يكون فيها تفاوت في المعاملات أو اختلاف في الرسوم الجمركية، ولا ترفض التسهيلات الخاصة التي من شأنها الإسراع بنقل البضائع البريطانية وشحنها بالبحر أو بالخطوط الحديدية التي تمر بالمنطقة الزرقاء. لا فرق في أن تكون هذه البضائع واردة من المنطقة الحمراء أو صادرة إليها أو خاصة بمنطقة الألف والباء. تكون حيفا مرفأ حراً للتجارة الفرنسية وتجارة مستعمراتها وتجارة البلاد المشمولة بحمايتها، ولا يكون فيها تفاوت في المعاملات أو اختلاف في الرسوم الجمركية، ويكون شحن البضائع منها وإليها مباحاً بالسكة الحديدية التي تمر بالمنطقة السمراء. لا فرق في أن تكون هذه البضائع واردة أو صادرة من المنطقة الزرقاء أو من الألف أو الباء.
6 - لا تمد سكة حديد بغداد بمنطقة الألف جنوباً إلى ما وراء الموصل ولا بمنطقة الباء شمالاً إلى ما وراء سامرّاء قبل أن يتم إنشاء السكة الحديدية بين حلب وبغداد عن طريق وادي الفرات وقبل أن يوافق الفريقان على ذلك التمديد.
7 - يحق لبريطانيا العظمى وحدها أن تنشئ وتدير وتملك خطاً حديدياً يبتدئ من حيفا وينتهي بمنطقة الباء، ولها الحق أيضاً أن تنقل الجنود والمواد الحربية على هذا الخط الحديدي متى شاءت، ومن المعلوم عند الحكومتين أن هذا الخط هو لتسهيل ارتباط بغداد بحيفا فإذا تعذر مده فنياً في المنطقة السمراء واقتضى الأمر لمروره بغيرها تسمح فرنسا بذلك.
8 - تبقى تعرفة المكوس العثمانية كما كانت عليه سابقاً لمدة عشرين سنة في المنطقة الحمراء والزرقاء والألف والباء ولا يصير فيها تغيير أو تبديل إلا بمعرفة الفريقين وموافقتهما. لا توضع رسوم جمركية داخلية بين المناطق المذكورة أعلاه، وتحصل الرسوم بحسب الأصول في المرفأ الذي ترد إليه البضائع وتسلم بعد ذلك إلى الإدارة الداخلية التي تخصها تلك البضائع.(3/234)
9 - من البديهي أن فرنسا لا تفاوض دولة ثالثة في وقت من الأوقات بشأن التنازل عن مالها من الحقوق في المنطقة الزرقاء، ولا تتخلى عن هذه الحقوق إلا إلى الحكومة العربية أو الحكومات العربية المتحدة قبل أن توافق حكومة جلالة الملك على ذلك. وعلى حكومة جلالته أن تعمل بموجب هذه الشروط بالمنطقة الحمراء.
10 - يوافق الفريقان المتعاقدان الحكومة الفرنسية والحكومة البريطانية الحاميتان للدولة العربية على عدم السماح لدولة ثالثة أن تملك شيئاً في أراضي شبه جزيرة العرب وأن تتخذ قاعدة بحرية في الجزر الواقعة إلى شرق ساحل البحر الأحمر، وهذا لا يمنع أن تعدّل الحكومة البريطانية جبهة عدن بمقتضى الأصول الفنية والأحوال الخاصة بعد أن ثبتت ضرورة ذلك على أثر العداء التركي.
11 - تجري المفاوضة مع العرب بخصوص تخوم الدولة العربية أو الدول العربية المتحدة كما في السابق باسم الدولتين.
12 - معلوم أن مراقبة توريد الأسلحة إلى البلاد العربية منوط بالدولتين.
الرسالة الثانية:
من مسيوا. كامبون إلى السرا. غراي في 15 أيار سنة 1916 قبل أن تجاوب فخامتكم على رسالتنا في تاريخ 9 أيار سنة 1916 بخصوص تأليف دولة عربية أبديتم رغبتكم في إضافة بعض التأكيدات للمحافظة على حقوق الملاحة والامتيازات الدينية وامتيازات المدارس والبعثات الطبية في المناطق التي ستصبح فرنسية وفي المناطق التي ستسود فيها الإدارة الفرنسية، فغب الموافقة عليها من قبل فرنسا على حكومة جلالة الملك أن توافق أيضاً على نفس الشروط في المناطق الداخلة في دائرتها.
ولي الشرف أن أعلم فخامتكم أن الحكومة الفرنسية مستعدة أن تصادق على جميع
الامتيازات البريطانية التي كانت تتمتع بها قبل الحرب في المناطق التي ستعطى لها أي لفرنسا أو المناطق التي ستشمل بعنايتها، أما الامتيازات الدينية والمدرسية والطبية والفنية فستبقى كما في الماضي، ومن المعلوم أن هذه الامتيازات لا تعني بقاء الامتيازات الأجنبية والامتيازات القضائية.(3/235)
الرسالة الثالثة:
من السرا. غراي إلى المسيوا. كامبون في 16 أيار سنة 1916 يوافق على نص المعاهدة كما جاءت في كتاب المسيوا. كامبون في تاريخ 9 أيار سنة 1916.(3/236)
نسخة مختصرة
عن دستور فلسطين الرسمي
ينص هذا النظام على تعيين رجل صالح لإدارة حكومة فلسطين يعرف بالمندوب السامي والقائد العام، ويخوله السلطة اللازمة لتنفيذ جميع الواجبات المقترنة بوظيفته، وتطبيق شروط الانتداب الذي منحته دول الحلفاء السامية إلى بريطانيا العظمى، وتأسيس وطن قومي لليهود.
ومنح المندوب السامي السلطة لتقسيم البلاد بموافقة الوزير إلى مقاطعات أو أجزاء إدارية على أسلوب ملائم لأعمال الإدارة، وخول جميع الحقوق للتصرف بالأراضي العامة أو بما له علاقة فيها، وبجميع الحقوق لاستثمار المناجم والمعادن على اختلاف أنواعها وإعطاء امتيازات شرعية لأي كان لاستخراجها، وله الحق أن يهب الأرض العامة والمعادن والمناجم، ويؤجرها أو يسمح باستثمارها موقتاً بالشروط التي يرتئيها، وله الحق في تعيين موظفي الحكومة بعد مراعاة أوامر الوزير بالأحوال التي يراها مناسبة، وأن يعين واجباتهم ويبقى هؤلاء الموظفون في مراكزهم ما دام المندوب السامي راضياً عن أعمالهم. ويؤلف مجلس تنفيذي
لمساعدة المندوب السامي على الطريقة التي تشير بها حكومة جلالة الملك. ويؤلف اعتباراً من التاريخ الذي يعينه المندوب السامي مجلساً تشريعياً لفلسطين يستعاض به عن المجلس الاستشاري وتكون له السلطة التامة لسن القوانين الضرورية للمحافظة على الأمن والسلام وانتظام الحكومة، بشرط أن لا يخالف التعليمات المعطاة من حكومة جلالة الملك، وأن لا يسن قانوناً يمس الحرية الشخصية أو يقيد الحرية الدينية أو يميز بين سكان فلسطين بسبب الجنسية أو الديانة أو اللغة أو يخالف نظام الانتداب الموضوع لفلسطين.(3/237)
لا تنفذ القوانين التي يسنها هذا المجلس قبل أن يصادق عليها المندوب السامي وتقرها حكومة جلالة الملك.
يحتفظ المندوب السامي بالقوانين التي أجازها المجلس التشريعي لموافقة جلالته عليها ويحتفظ أيضاً بالأمور التي لها مساس بنظام الانتداب. ويحتفظ جلالة الملك لنفسه بحق رفض أي قانون قد يكون المندوب السامي وافق عليه في خلال سنة واحدة من تاريخ الموافقة عليه ويعلن رفضه إياه بواسطة كاتم السر العام.
يؤلف المجلس التشريعي من 22 عضواً عدا المندوب السامي، منهم عشرة أعضاء من الموظفين واثنا عشر من غير الموظفين، وينتخب الغير موظفين بموجب الأوامر التي تصدر من مجلس الملك الخاص، أو بموجب ما يوضع من القوانين والأنظمة من حين إلى آخر بشأن هذه الانتخابات، ويكون الأعضاء الموظفون الأشخاص الذين يشغلون وظائف كاتم السر العام والنائب العام ومدير المالية ومفتش الشرطة والسجون ومدير الصحة ومدير الأشغال العامة ومدير المعارف ومدير الزراعة ومدير الكمارك مدير التجارة والصناعة.
المحاكم الملكية والشرعية
تؤلف محاكم صلح في كل قضاء وناحية ويكون لها السلطة الخاصة بقانون حكام
الصلح العثماني كما هو معدّل بموجب القوانين والأنظمة النافذة الآن. وتؤلف محاكم مركزية في الأقضية التي يعينها المندوب السامي ولها الحق في رؤية جميع القضايا الحقوقية الخارجة عن اختصاص محاكم الصلح في ذلك القضاء والحق في رؤية جميع القضايا الجنائية الخارجة عن وظيفة محكمة الجنايات. وتؤلف محكمة جنايات لها السلطة التامة في رؤية الجرائم المعاقب عليها بالقتل والجرائم الأخرى التي ينص عليها القانون الخاص.
وللمندوب السامي أن يؤلف بأمر منه محاكم أراضٍ كلما دعت الحاجة إلى ذلك للنظر في المسائل المتعلقة بملكية الأموال الغير المنقولة.
وتؤسس محكمة تعرف بالمحكمة العليا وتعين صورة تأليفها بقانون خاص ويكون لها صفة المحاكم الاستئنافية.(3/238)
وللمحاكم الشرعية الإسلامية وحدها الحق في رؤية الدعاوى المتعلقة في الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين كالزواج والطلاق والنفقة وتصديق الوصايا الخ. ولمحاكم الطائفة اليهودية الدينية وحدها أن تنظر في استماع الدعاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية. ولمحاكم الطوائف المسيحية المختلفة وحدها أن ترى مسائل الزواج والطلاق والنفقة وتصديق الوصايا وتنظر في الأوقاف الخ. إذا شملت قضية تتعلق بالأحوال الشخصية أشخاصاً من طوائف دينية مختلفة يجوز لأي خصم أن يقدم طلباً إلى قاضي القضاة وهذا يعين بمساعدة مستشارين من الطوائف المختلفة المحكمة التي لها السلطة في استماع تلك القضية.
وإذا قامت شبهة حول قضية من القضايا الشخصية الداخلة في اختصاص محكمة دينية تحال القضية إلى محكمة خاصة يعين شكلها بقانون خاص.
بعض مواد عامة
يجب أن تنشر باللغة الإنكليزية وبالعربية وبالعبرية جميع القوانين والإعلانات
الرسمية والنماذج التي تصدرها الحكومة وجميع الإعلانات الرسمية التي تعلنها السلطات المحلية والبلديات في المناطق التي يعينها المندوب السامي بأمر منه. ويجوز استعمال اللغات الثلاث في المباحثات والمناقشات التي تدور في المجلس التشريعي وفي دوائر الحكومة ومحاكمها مع مراعاة الأنظمة التي تسن من وقت إلى آخر.
يحق لجميع سكان فلسطين أن يتمتعوا بالحرية الشخصية التامة والحرية الدينية المطلقة مع مراعاة حفظ النظام العام والآداب العامة ويحق لكل طائفة دينية معترف بها من الحكومة أن تتمتع بالاستقلال الذاتي لإدارة شؤونها الداخلية بعد مراعاة نصوص كل قانون وأمر يصدره المندوب السامي.
إذا رأت طائفة دينية أو فريق كبير من أهالي فلسطين أن شروط الانتداب لا تنفذها حكومة فلسطين كما يجب، فلها الحق في رفع مذكرة بواسطة عضو في المجلس التشريعي إلى المندوب السامي فينظر في هذه المذكرة على الطريقة التي يعينها جلالة الملك وفقاً للأصول التي وضعها مجلس عصبة الأمم.(3/239)
المعاهدة البريطانية الفرنسية
المنعقدة في 23 كانون الأول سنة 1920 التي تبحث في بعض الشؤون المهمة مما له علاقة بالانتداب على سوريا ولبنان وفلسطين والعراق.
أنابت الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية الوزيرين المفوضين الواضعين اسميهما أدناه ليحلا جميع الأمور التي لها علاقة بالانتداب الذي منح لبريطانيا العظمى على فلسطين والعراق ولفرنسا على سوريا ولبنان في المجلس الأعلى الذي اجتمع في سان رينو وقد اتفقتا على الشروط الآتية:
1 - تعينت حدود المناطق التي شملها الانتداب الفرنسي أي سوريا ولبنان وحدود المناطق التي شملها الانتداب البريطاني أي فلسطين والعراق كما يلي:
من الشرق نهر الفرات وجزيرة ابن عمر إلى حدود ولايتي ديار بكر والموصل القديمة، ومن الجنوب الشرقي حدود هاتين الولايتين القديمة إلى غاية رومالين كوي ومن هنا خط يمتد من المنطقة التي يشملها الانتداب الفرنسي فيترك فيها جميع الراضي الواقعة في حوض نهر الخابور الغربي ويمر باستقامة نحو الفرات فيجتازه بالبوكمال ويمتد باستقامة إلى أمتار فجنوب جبل الدروز ومنة هنا يمتد إلى جنوب نصيب الواقعة على خط حديد الحجاز فسمخ الواقعة على بحيرة طبرية سائراً إلى جنوب خط السكة الحديدية وموازياً له. وتبقى درعا وما حولها في المنطقة التي يشملها الانتداب الفرنسي ويبقى ذلك الخط في وادي اليرموك ضمن المنطقة الفرنسية ويسير بصورة ملاصقة وموازية لخط السكة الحديدية كي يصبح في الإمكان أن تمد في وادي اليرموك سكة حديدية في الأراضي المشمولة بالانتداب البريطاني وستوضع التخوم في سمخ بصورة يمكن معها للفريقين المتعاقدين الساميين أن يبنيا مرفأ ومحطة للسكة الحديدية ليتمكنا من استعمال بحيرة طبرية بحريّة ومن الغرب يسير الخط من سمخ ماراً داخل بحيرة طبرية فأول وادي المسعديّة حيث يسير مع مجرى هذا النهر في وادي جرابا، إلى نبعه ومن هنا يتصل بطريق القنيطرة وبانياس بالمكان المعروف بالسكيك فيسير مع الطريق التي تبقى في المنطقة الفرنسية لغاية بانياس ومن هنا يسير نحو الغرب حتى يصل إلى المطلة وتبقى المطلة في المنطقة البريطانية، وسيوضع لهذا(3/240)
الجزء من الحدود تفصيلات دقيقة يمكن معها تسهيل المواصلات بين جميع أطراف البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي كصور وصيدا والمناطق الواقعة إلى الغرب وإلى الشرق من بانياس.
وتفصل التخوم بالمطلة بمفرق المياه في وادي الأردن وحوض نهر الليطاني وتسير جنوباً مع وادي الأردن فوادي فرعم ووادي كركرة اللذين يبقيان في
المنطقة البريطانية فوادي اليلاونة ووادي العين والزرقاء التي تبقى في المنطقة الفرنسية ويصل الحد إلى شاطئ البحر المتوسط في ميناء رأس الناقورة التي تظل في المنطقة الفرنسية.
2 - تؤلف بعد التوقيع على هذه المعاهدة بثلاثة أشهر بعثة لتدرس الحدود بين المناطق المشمولة بالانتداب الفرنسي والمناطق المشمولة بالانتداب البريطاني التي بينها في المادة الأولى، وتتألف هذه البعثة من أربعة أعضاء تعين الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية اثنين منهم وتعين الاثنين الآخرين الحكومة المحلية المشمولة بالانتداب الفرنسي والحكومة المحلية المشمولة بالانتداب البريطاني بعد مشورة الحكومتين المنتدبتين.
إذا وقع خلاف بين أعضاء هذه البعثة يعرض على مجلس جمعية الأمم ويكون قرارها فيه قطعياً.
تقدم بتقارير البعثة النهائية الحدود الثابتة التي عينت أخيراً وتربط معها المصورات الضرورية الموقع عليها من قبل أعضاء البعثة، ويعمل ثلاث نسخ من هذه التقارير والمصورات تحفظ النسخة الواحدة بين سجلات مجلس جمعية الأمم وتحفظ النسختين الأخريين الحكومتان المنتدبتان.
3 - توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية على ترشيح لجنة خاصة مهمتها درس الخطط التمهيدية التي تعينها الحكومة الفرنسية المنتدبة لأجل مصلحة الري في البلاد المشمولة بانتدابها لئلا يقلل إبرازها لحيز الفعل مياه دجلة والفرات في الموضع الذي يدخلان به المنطقة العراقية المشمولة بالانتداب البريطاني.
4 - توافق الحكومة البريطانية بالنظر إلى مكانة جزيرة قبرص من الوجهة الجغرافية والعسكرية بالنسبة إلى خليج الإسكندرونة على أن لا تفاوض أحداً بخصوص التنازل عنها أو تسليمه إياها قبلما توافق فرنسا على ذلك.(3/241)
5 - أ: توافق الحكومة الفرنسية على وضع ترتيب حرّ يبين كيفية استعمال خط السكة الحديدية الواقع بين طبرية ونصيب استعمالاً مشتركاً
تضمن سير هذا الترتيب وانتظامه إدارتا السكة الحديدية المؤلفتان في منطقتي الانتداب البريطاني والفرنسي بأسرع ما يمكن أي بعد تنفيذ الانتداب على سورية وفلسطين وتسمح هذه الاتفاقية بصورة خاصة لإدارة السكة الحديدية البريطانية أن تسير قطاراتها ذهاباً وإياباً بين هاتين المنطقتين وفقاً لمصالحها، وتنقل البضائع التجارية إلى المنطقة المشمولة بالانتداب الفرنسي بواسطتها، وتعين هذه الاتفاقية الشروط المالية والإدارية والفنية اللازمة لسير القطارات البريطانية، أما إذا لم يتم الاتفاق خلال ثلاثة أشهر من تنفيذ الانتداب بين الإدارتين المذكورتين أعلاه فستعين جمعية الأمم حكماً يفصل الخلاف وعندئذ تنفذ شروط هذه الاتفاقية التي حازت رضى الطرفين.
يعمل بموجب هذه الاتفاقية إلى أجل غير مسمى وتصحح أحياناً بحسب الحال
ب: يمكن للحكومة البريطانية أن تمد خطاً من الأنابيب الحديدية بجانب السكة الحديدية ولها الحق في نقل جنودها على هذه السكة الحديدية دائماً.
ت: توافق الحكومة الفرنسية على تعيين بعثة خاصة تدرس الأراضي، وبعد درسها تعين الحدود في وادي اليرموك حتى نصيب بطريقة فنية يمكن معها بناء الخط الحديدي البريطاني وخط الأنابيب التي توصل بين فلسطين وبين سكة الحجاز ووادي الفرات في المنطقة المشمولة بالانتداب البريطاني، وتبقى السكة الحديدية الحالية المارة بوادي اليرموك داخل الأراضي المشمولة بالانتداب الفرنسي، ويجب على بريطانيا العظمى إحقاق حقها هذا ببرهة لا تتجاوز عشر سنوات.
تتألف البعثة التي ذكرناها أعلاه من عضو بريطاني وعضو فرنسي يضاف إليهما
نواب عن الحكومات المحلية بصفة مستشارين فنيين هذا إن رأت الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسوية لزوماً لذلك.
ج: إذا اقتضى الأمر لأسباب فنية أن يمر خط السكة الحديدية البريطانية ببعض الأماكن المشمولة بالانتداب الفرنسي توافق الحكومة الفرنسية على مرور(3/242)
هذا الخط بتلك المناطق وتقدم للحكومة البريطانية أو لعملائها المساعدات اللازمة.
د: إذا شاءت الحكومة البريطانية العمل بموجب الحق الممنوح لها بالفقرة الثالثة من هذه المادة أن تمد سكة حديدية في وادي اليرموك تنفذ الحكومة الفرنسية الشروط التي اشترطتها على نفسها بالفقرة الأولى والثانية من هذه المادة غب مرور ثلاثة أشهر من إنشاء السكة.
هـ: توافق الحكومة الفرنسية على اتخاذ التدابير الفعالة لحمل الحكومات المحلية المشمولة بالانتداب الفرنسي أن تصادق على هذه الحقوق الممنوحة للحكومة البريطانية.
6 - تم الاتفاق على هذه الشروط التي تسهل أعمال الحكومة البريطانية مقابل عقد الاتفاقية الفرنسية البريطانية بخصوص الزيت في سان ريمو.
7 - لا تضع الحكومة البريطانية ولا الحكومة الفرنسية موانع في منطقتي انتدابهما لجميع الموظفين اللازمين لإدارة خط السكة الحجازية أو لاستخدامهم.
تمنح جميع التسهيلات الضرورية لمرور جميع المستخدمين في الخط الحديدي الحجازي بمنطقة الانتداب البريطاني والفرنسي لئلا تتأخر أعمال هذا الخط.
توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية عند اللزوم على أن تعقدا اتفاقية مع الحكومات المحلية استثناء جميع مهمات هذا الخط ومعداته من الرسوم الجمركية عندما تمر بإحدى مناطق الانتداب.
8 - يعين خبراء واختصاصيون من قبل حكومة سورية وفلسطين غب مرور
ستة أشهر من إمضاء هذه المعاهدة مهمتهم فحص حوال مياه نهر الأردن الأعلى ونهر اليرموك وتوابعهما لاستخدامها في الري ولأجل توليد الكهرباء وتعيين المقدار اللازم للأراضي الواقعة تحت الانتداب الفرنسي.
تزود الحكومة الفرنسية الأخصائيين الذين تعينهم لدرس هذا المشروع بالتعليمات اللازمة لمنح فلسطين المياه الزائدة خدمة لمنافعها العامة إذا لم يحصل الاتفاق المطلوب عند نهاية هذا الدرس وتعرض المسألة على الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية لتدرساها وتقررا فيها قراراً نهائياً.
تشترك إدارة فلسطين بقدر انتفاعها من هذه الأعمال في دفع نفقات بناء الترع والخلجان والسدود والخزانات والأحواض والأقنية وخطوط الأنابيب(3/243)
الحديدية الخ. وتشترك في جميع الأعمال التي من شأنها إنبات الحراج وتنشيط تربيتها.
9 - توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية عملاً بنص المادة 15 والمادة 16 من نظام الانتداب الفلسطيني وعملاً بنص المادة الثامنة والمادة العاشرة من نظام الانتداب العراقي وعملاً بنص المادة الثامنة من نظام الانتداب اللبناني السوري وعملاً أيضاً بموجب الحق العام المعطى من الحكومات الوطنية للمدارس المحلية بخصوص التربية والتعليم على السماح للمدارس التي تخص أناساً من التبعة الفرنسية أو من التبعة البريطانية على المثابرة في إدارة هذه المدارس في منطقتي انتدابهما، ويسمح بتعليم اللغة الفرنسية واللغة الإنكليزية في هذه المدارس.
لا تعني هذه المادة بحال من الأحوال منح رعايا إحدى الدولتين المشار إليهما حق فتح مدارس جديدة في الوقت الحاضر في منطقة انتداب الدولة الأخرى.(3/244)
صك الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان
إن مجلس جمعية الأمم:
لما كانت دول الحلفاء العظمى متفقة على أراضي سورية ولبنان التي كانت فيما
مضى جزءاً من السلطة العثمانية يعهد بها ضمن حدود تعينها الدول المشار إليها إلى دولة منتدبة موكول إليها نصح الأهالي ومعاونتهم وإرشادهم في إدارتهم وفقاً لنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم.
ولما كانت دول الحلفاء الرئيسية قد قررت أن الانتداب على البلاد الآنفة الذكر يعطي لحكومة الجمهورية الفرنسية وقد قبلته.
ولما كان نص هذا الانتداب المبين في الماد الذكورة فيما بعد قد وافقت عليه حكومة الجمهورية الفرنسية وعرض للتصديق على مجلس جمعية الأمم.
ولما كانت حكومة الجمهورية الفرنسية تتعهد بإجراء هذا الانتداب باسم عصبة الأمم طبقاً للمواد المذكورة.
ولما كانت نصوص المادة الثانية والعشرون الآنفة الذكر الفقرة الثامنة تقضي بأنه إذا كانت درجة السلطة والمراقبة والإدارة التي تجريها الدولة المنتدبة لم يتفق عليها سابقاً بين أعضاء جمعية الأمم فالمجلس هو الذي ينظم ذلك.
يوضع نصوص الانتداب كما يلي موافقاً عليه:
1 - تضع الحكومة المنتدبة في برهة ثلاث سنوات اعتباراً من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب دستوراً نظامياً لسورية ولبنان.(3/245)
يصاغ هذا الدستور بالاتفاق مع السلطات الوطنية وتراعى فيه حقوق جميع السكان القاطنين في هذه البلاد ومصالحهم. وتشرع الحكومة المنتدبة في إيجاد الوسائل التي من شأنها أن تسهل تقدم سورية ولبنان ورقيهما حكومتين مستقلتين وتسيرهما بموجب روح هذا الصك إلى أن يتم الشروع في تنفيذ ذاك الدستور.
ويجب على الدولة المنتدبة أن تنشط الاستقلال المحلي قدر ما تسمح به الحال.
2 - يمكن للحكومة المنتدبة أن تبقي جنودها في البلاد للدفاع عنها. وقد خولت حق تنظيم جند من المليس المحلي للمحافظة على الأمن والدفاع عن الحوزة كما
تقتضيه الأحوال وذلك ريثما تنفذ الدستور ويعاد الأمن إلى نصابه، وتنظم جنود المليس المحلي من سكان البلاد فقط.
ترتبط هذه الجنود فيما بعد بالإدارات المحلية تحت إشراف الدولة المنتدبة ولا يجوز استخدامها لأغراض أخرى سوى الأغراض المعينة فيما تقدم إلا بعد موافقة الدولة المنتدبة.
لا مانع يمنع سورية ولبنان من الاشتراك في نفقات القوات التي تضعها الدولة المنتدبة في البلاد.
يحق للدولة المنتدبة في كل حين أن تستعمل المواني والخطوط الحديدية ووسائل النقل الموجودة في سورية ولبنان لسوق جنودها ونقل جميع المواد والمهمات والوقود اللازمة لها.
3 - يعهد إلى الدولة المنتدبة بالسيطرة على جميع علاقات سورية ولبنان الخارجية ولها حق إصدار البراءات إلى القناصل الذين يعينون من قبل الدول الأجنبية، وتشمل الدول المنتدبة بحمايتها السياسية والقنصلية الرعايا السوريين واللبنانيين الذين يعيشون خارج هذه الديار.
4 - الدولة المنتدبة مسؤولة عن عدم التنازل عن أي جزء من أجزاء سورية ولبنان وعن عدم تأجيره أو وضعه تحت سيطرة دولة أجنبية.
5 - إن إعفاء الأجانب من الأمور الواجبة وتمتعهم بالامتيازات الأجنبية وبقضاء القنصلات والحماية التي كانوا يتمتعون بها أيام الدولة العثمانية لا تطبق في سورية ولبنان غير أن المحاكم الأجنبية تستمر على القيام بوظيفتها إلى أن يتم تنفيذ النظام الجديد المنصوص عنه بالمادة السادسة.(3/246)
إن الدول التي كانت أتباعها يتمتعون بالامتيازات الأجنبية المبينة أعلاه أول آب سنة 1914 والتي لم تتنازل عن هذه الامتيازات أو توافق على عدم تطبيقها لأجل
محدود، ستمنح ثانية جميع هذه الامتيازات أو بعضها بعد انقضاء أمد الانتداب بالصورة التي يتم عليها الاتفاق بين الدول ذوات الشأن.
6 - تضع الحكومة المنتدبة في سورية ولبنان نظاماً قضائياً يصون حقوق الوطنيين ولأجانب على السواء.
يحافظ على أحوال الناس الشخصية وعلى مصالحهم الدينية وخصوصاً إدارة الأوقاف التي تدار وفقاً للشريعة ولإرادة الواقف.
7 - تكون معاهدات تسليم الرعايا الأجانب المبرمة بين الدول المنتدبة وبين سائر الدول الأجنبية مرعية في سورية ولبنان إلى أن يتم عقد اتفاقات خاصة بهذا الشأن.
8 - تضمن الدولة المنتدبة للجميع حرية الضمير وحرية القيام بجميع شعائر العبادة التي لا تخل بالأمن ولا بالآداب العامة ولا يكون تمييز من أي نوع بين سكان سورية ولبنان بسبب الجنس أو الدين أو اللغة.
تنشط الدولة المنتدبة التعليم العام ويكون هذا التعليم بلغة البلاد المحلية. ولا تحرم جميع الطوائف حق المحافظة على مدارسها وتعليم أبنائها بلغتها متى كان ذلك مطابقاً لقانون التعليم العام الذي تعينه الحكومة.
9 - تتجنب الحكومة المنتدبة التدخل في أعمال المجالس الإدارية وفي إدارة الطوائف الدينية وفي إدارة المعابد المقدسة التي تخص إحدى الطوائف وقد تكفلت بالمحافظة على هذه المعابد.
10 - تحدد سلطة الدولة المنتدبة في مراقبة البعثات الدينية في سوريا ولبنان لأجل محافظتهم على الأمن وعلى الحكم بطريقة مرضية. ولا تحصر الدولة المنتدبة مساعي هذه البعثات بصورة من الصور ولا تقيد أعضاءها بقيود بسبب قوميتهم ما لم تخرج أعمالهم عن أصول الدين.
يمكن لهذه البعثات الدينية أن تشتغل بأمور الإسعاف والتعليم تحت مراقبة الدولة المنتدبة أو الحكومة المحلية.
11 - يجب على الحكومة المنتدبة أن لا تميز في سوريا ولبنان بين أتباعها(3/247)
وأتباع غيرها من الدول الداخلة في عضوية جمعية الأمم، وتشمل هذه المعاملة الجمعيات والشركات الأجنبية على أنواعها وأن لا تميز أيضاً بين أتباع أي دولة أجنبية وبين أتباعها في الأمور التي لها مساس بالضرائب والتجارة والملاحة وتعاطي الحرف والمهن أو في معاملة السفن البحرية أو الوسائط الهوائية وكذلك يجب أن لا يكون تمييز في سوريا ولبنان بين البضائع التي يكون مصدرها أو مقصدها ممالك تلك الدول المذكورة ويجب إطلاق حرية المرور التجارية في عبر المنطقة المشار إليها بشروط عادلة.
للحكومة المنتدبة بعد مراعاة ما ذكر أعلاه أن تفرض الضرائب والرسوم الجمركية التي تراها ضرورية أو أن توعز للحكومات المحلية أن تفرضها، وللدولة المنتدبة أو للدول المحلية التابعة لمشورتها أن تعقد بسبب الجوار اتفاقاً جمركياً خاصاً مع البلاد المتاخمة لها.
وللحكومة المنتدبة عملاً بشروط البند الأول من هذه المادة أن تتخذ الوسائل الفعالة التي تعتقد صلاحها لترقية المارد الطبيعية مع المحافظة على مصالح السكان.
تمنح الامتيازات لترقية هذه الموارد الطبيعية لمن شاء دون النظر إلى تابعية الأشخاص الداخلة دولهم في عداد أعضاء جمعية الأمم بشرط أن لا تمس هذه الامتيازات الحكومة المحلية، ولا تمنح الامتيازات بصفة احتكار عام. لا تمس هذه الفقرة تحديد سلطة الدولة المنتدبة في إيجاد الاحتكارات المالية التي ترقي مصالح سورية ولبنان وتحفظ مواردهما المالية والمحلية، وعلى الحكومة أن تسعى لترقية هذه الموارد الطبيعية مباشرة أو بواسطة شركة خاصة تعمل تحت إشرافها على
شرط أن لا يوجد هذا العمل لا عمداً ولا بالواسطة احتكاراً خاصاً بالدولة المنتدبة أو برعاياها، أو يمنحهما ميزة في الأمور الاقتصادية والتجارية والصناعية التي تقرر فيها المساواة بين الجميع.
12 - تحافظ الدولة المنتدبة بالنيابة عن سورية ولبنان على كل اتفاق دولي عام عقد حتى الآن أو عساه يعقد فيما بعد بموافقة جمعية الأمم بخصوص الاتجار بالرقيق، وبالعقاقير، وبالسلاح، والمعدات الحربية، وبالمساواة التجارية، وحرية العبور، والملاحة، والطيران، والمواصلات البريدية والبرقية واللاسلكية، وباتخاذ الوسائط اللازمة لحماية الصنائع والآداب والفنون.(3/248)
13 - تصون الدولة المنتدبة بقدر ما تسمح لها الأحوال الاجتماعية والدينية اتحاد سورية ولبنان في الأمور ذات الفوائد العامة التي تقرها جمعية الأمم لمنع الأمراض ومقاومتها وفي جملتها أمراض الحيوان والنبات.
14 - تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطبق على الأحكام الآتية ويضمن هذا القانون لرعايا كل الدول الداخلة في جمعية الأمم المساواة في المعاملة فيما يتعلق بالحفريات والتنقيبات الأثرية.
1ً يجب أن يفهم من لفظة العاديات كل ما نتج عن عمل البشر أو وضعهم قبل سنة 1700.
2ً إن التشريع لحماية العاديات يجب أن يكون أجدر بالتشجيع منه بالتهديد ويجب على كل شخص يكتشف أثراً بدون حصول على الإذن الذكور في الفقرة الخامسة أن يعلم السلطة ذات الشأن باكتشافه وينال مكافأة متناسبة مع قيمة ما اكتشفه.
3ً لا يمكن نقل ملكية شيء من العاديات إلا لمصلحة السلطة ذات الشأن ما لم تعدل هذه السلطة عن أخذه. ولا يتأتى إخراج شيء من العاديات من البلاد إلا
بإذن تلك السلطة.
4ً كل شخص يتلف أو يثلم قطعة من العاديات تعمداً أو إهمالاً يجب أن يجازى جزاء معيناً.
5ً ممنوع كل حفر أو تنقيب لإيجاد العاديات إلا بإذن من السلطة ذات الشأن ويغرم المخالف لذلك غرامة مالية.
6ً توضع شروط عادلة للسماح بنزع الملكية مؤقتاً أو أبدياً في الأراضي التي تحتوي فائدة تاريخية أو أثرية.
7ً لا تعطى الرخصة بإجراء الحفريات إلا لأشخاص يقدمون أدلة كافية على خبرتهم الأثرية وعلى الدولة المنتدبة عند إعطاء هذه الرخص أن لا تستثني علماء أمة من الأمم.
8ً يمكن اقتسام محصول التنقيب بين الأشخاص الذين أجروه والسلطة ذات الشأن بالنسبة التي تعينها هي. فإذا تعذر الاقتسام لأسباب علمية يعطى للمكتشف تعويض عادل بدل قسم من محصول التعديل.
15 - عندما يتم تنفيذ الدستور المنصوص عنه في المادة الأولى يوضع ترتيب بين الحكومة المنتدبة والحكومة المحلية تدفع بموجبه هذه الحكومات جميع النفقات التي أنفقتها الحكومة المنتدبة لأجل تنظيم الإدارة وترقية الموارد المحلية والقيام بالمشاريع العامة التي أفادت إفادة خاصة وترسل نسخة عن هذه التراتيب إلى مجلس جمعية الأمم.(3/249)
16 - تكون اللغة الفرنسية واللغة العربية اللغتين الرسميتين المستعملتين في سورية ولبنان.
17 - تقدم الدولة المنتدبة لمجلس جمعية الأمم تقريراً سنوياً حسب طلبه تبين فيه التدابير التي اتخذتها خلال السنة لتنفيذ شروط صك الانتداب ويرسل مع هذا
التقرير نسخ عن جميع القوانين والأنظمة التي تسن سنوياً.
18 - على مجلس جمعية الأمم أن يوافق على كل تعديل يطرأ على سروط هذا الصك.
19 - يستعمل مجلس جمعية الأمم نفوذه عندما تنتهي مدة الانتداب لتحافظ حكومة سورية ولبنان في المستقبل على علاقاتهما المالية ومنها الرواتب القانونية التي منحتها إدارة سورية ولبنان أيام الانتداب.
20 - توافق الدولة المنتدبة إذا حصل نزاع بينها وبين دولة ثانية داخلة في عضوية جمعية الأمم بخصوص تفسير شروط صك الانتداب أو تطبيقها على عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولي الدائمة المنصوص عنها في المادة الرابعة عشرة من مواد عهد جمعية الأمم هذا إذا لم يمكن حل النزاع بين الدولتين بالمفاوضات.(3/250)
صك الانتداب على فلسطين
لما كانت دول الحلفاء الرئيسة قد اتفقت تنفيذاً لنصوص المادة 22 من عهد جمعية الأمم على أن تعهد إلى دولة منتدبة تختارها الدول المذكورة في إدارة شؤون فلسطين التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية ضمن الحدود التي تعينها الدول المذكورة.
ولما كانت دول الحلفاء الرئيسة قد وافقت أيضاً على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة جلالة ملك بريطانيا في 2 تشرين الثاني 1917 وصادقت عليه الدول المذكورة بأن ينشأ في فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي مع البيان الجلي بأن لا يعمل ما يعبث بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن ولا الحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
ولما كان ذلك اعترافاً بالصلة التاريخية التي تصل الشعب اليهودي بفلسطين والبواعث التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك الديار.
ولما كانت دول الحلفاء اختارت الحكومة البريطانية لتكون الدولة المنتدبة لفلسطين.
ولما كان الانتداب على فلسطين قد صيغ في النصوص التالية وعرض على مجلس جمعية الأمم طبقاً للنصوص والشروط التالية.(3/251)
ولما كانت المادة 22 المتقدمة الذكر في الفقرة 8 تنص على أن درجة السلطة والسيطرة أو الإدارة التي تكون للدولة المنتدبة إذا لم يتم الاتفاق عليها بين أعضاء جمعية الأمم فإن مجلس جمعية الأمم ينص على ذلك نصاً صريحاً. فالمجلس بعد تأييد الانتداب المذكور يحدد شروطه ونصوصه بما يأتي:
1 - للدولة المنتدبة السلطة التامة في التشريع والإدارة عدا ما وضعت لهما حدود في نصوص صك الانتداب هذا.
2 - تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في حالة سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي كما جاء في ديباجة هذا الصك وترقية أنظمة الحكم الذاتي وضمان الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين دون النظر إلى الأجناس والأديان.
3 - على الدولة المنتدبة أن تنشط الاستقلال المحلي على قدر ما تسمح به الأحوال.
4 - يعترف بهيئة يهودية صالحة لائقة كهيئة عمومية لتشير وتعاون في إدارة فلسطين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين وتساعد وتشترك في ترقية القطر تحت سيطرة حكومته دائماً.
ويعترف بأن الجمعية الصهيونية هي هذه الهيئة المنصوص عليها في ما تقدم ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن نظامها وتأليفها يجعلانها صالحة لهذا الغرض وعلى الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير بعد استشارة الحكومة البريطانية للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن القومي اليهودي.
5 - تسأل الدولة المنتدبة عن عدم التنازل عن شيء من أرض فلسطين أو تأجيره أو وضعه تحت تصرف حكومة دولة أجنبية.
6 - على حكومة فلسطين مع كفالة عدم إلحاق الضرر بحقوق جميع طوائف الأهالي أن تسهل هجرة اليهود إلى فلسطين في أحوال مناسبة وتنشط بالاتفاق مع الهيئة اليهودية المشار إليها في المادة 4 استقرار اليهود في الأرض(3/252)
الزراعية وفي جملتها الراضي المدورة والأراضي البور الموات التي تستغني عنها الأعمال العامة.
7 - يتعين على حكومة فلسطين أن تسن قانوناً للجنسية يتضمن نصوصاً بتسهيل حصول اليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم على الرعوية الفلسطينية.
8 - إن امتيازات الأجانب، وفي جملتها المحاكم القنصلية وحماية القنصليات ورعاياها، وهي التي كان الغرباء يتمتعون بها بحكم الامتيازات أو العرف في السلطنة العثمانية لا تنفذ في فلسطين ولكن متى انتهى أجل الانتداب فإن هذه الامتيازات تعاد برمتها أو مع التعديل الذي يكون قد تم عليه الاتفاق بين الدول صاحبة الشأن إلا إذا كانت الدول التي ظل رعاياها يتمتعون بالامتيازات المذكورة في أول آب 1914 قد سبقت فتنازلت عن حق تلك الامتيازات أو وافقت على عدم تطبيقها لأجل مسمى.
9 - الدولة المنتدبة مسؤولة عما ينشأ في فلسطين من نظام قضائي يكفل حقوق
الأجانب والوطنيين ويضمن كل الضمان احترام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية لجميع الشعوب والطوائف ولا سيما إدارة الأوقاف التي تسير على الشريعة الدينية وشروط الواقفين.
10 - تراعى المعاهدة المبرمة بين الدول المنتدبة وسائر الدول الأجنبية شأن تسليم الرعايا الأجانب المطلوبين من فلسطين إلى أن تعقد اتفاقات خاصة بذلك عن فلسطين.
11 - تتخذ حكومة فلسطين جميع التدابير اللازمة لصون مصالح الجمهور في ما له علاقة بترقية البلاد ولها السلطة التامة لتدبير ما يلزم لوضع يد الحكومة أو سيطرتها على أحد موارد البلاد الطبيعية أو الأعمال والمصالح والمنافع العمومية الموجودة أو التي ستوجد فيما بعد فيها بشرط مراعاة العهود الدولية التي أخذتها الدولة المنتدبة على نفسها. وعليها أيضاً أن توجد نظاماً للأراضي يلائم حاجات البلاد مع مراعاة أمور أُخرى ومنها المنافع التي تنجم عن تشجيع إكثار المهاجرة واستغلال أعظم قدر مستطاع من الأرض.
ويجوز للإدارة أن تتفق مع الهيئة اليهودية المذكورة في المادة الرابعة على(3/253)
أن تجري أو تستثمر بالإنصاف والعدل الأعمال والمصالح والمنافع العمومية وترقي المرافق الطبيعية حيث لا تتولى هذه الأمور مباشرة بنفسها. ويشترط في هذه الاتفاقات أن لا تتجاوز الأرباح التي توزعها الهيئة القائمة بالعمل مباشرة أو غير مباشرة فائدة معتدلة لرأس المال. وكل ما يزيد على هذه الفائدة يستخدم فيما ينفع البلاد على الوجه الذي توافق عليه حكومتها.
12 - يعهد إلى الدولة المنتدبة بالسيطرة على علاقات فلسطين الخارجية وحق إصدار البراءات إلى القناصل الذين تعينهم الدول الأجنبية وللدولة المنتدبة الحق أيضاً في أن تشمل رعايا فلسطين، وهم في خارج ديارهم بحماية سفرائها
وقناصلها.
13 - تتقلد الدولة المنتدبة كل التبعة المختصة بالأماكن المقدسة والمباني والمواقع الدينية في فلسطين، وهذا يتناول المحافظة على الحقوق الموجودة وضمان الوصول إلى المواضع المقدسة والمواقع الدينية وحرية العبادة مع المحافظة على الأمن العام والآداب وتُسأل الدولة المنتدبة أمام جمعية الأمم دون سواها عن كل ما يتعلق بذلك على أن لا تحول نصوص هذه المادة دون اتفاق الدولة المنتدبة مع حكومة البلاد حسبما تراه الدولة المنتدبة لتنفيذ نصوص هذه المادة وبشرط أن لا يسفر شيء في هذا الانتداب تفسيراً يخول الدولة المنتدبة سلطة التعرض للأملاك الإسلامية أو التدخل في إدارة المشاهد الإسلامية المقدسة المحفوظة الامتيازات.
14 - تؤلف الدولة المنتدبة لجنة خاصة لدرس الحقوق والدعاوى المتعلقة بالأماكن المقدسة والحقوق والدعاوى الخاصة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين وتعيين وظائفها ويعرض الأسلوب المتبع في تعيين هذه اللجنة وتأليفها وعملها على مجلس جمعية ليوافق عليها ولا تعين اللجنة ولا تشرع بعملها من غير موافقة المجلس.
15 - على الدولة المنتدبة أن تحقق أن الحرية الدينية التامة وحرية القيام بجميع شعائر العبادة مكفولتان للجميع بشرط المحافظة على النظام العام والآداب فقط ويجب أن لا يكون هناك تمييز من أي نوع كان بين سكان فلسطين(3/254)
بسبب الجنس أو الدين أو اللغة وأن لا يحرم أحد من دخول فلسطين بسبب اعتقاده الديني فقط.
لا تحترم طائفة من الطوائف من حق المحافظة على مدارسها لتعليم أبنائها بلغتهم إذا كان ذلك مطابقاً لشروط التعليم العمومية التي تفرضها الإدارة الحكومة.
16 - تُسأل الدولة المنتدبة عما تقتضيه المحافظة على النظام العام والحكم المنتظم من الإشراف على الهيئات الدينية والخيرية التي لجميع المذاهب في فلسطين
وبمراعاة هذا الشرط لا يجوز أن تتخذ تدابير في فلسطين تعوق أعمال هذه الهيئات أو تتعرض لها أو تجحف بممثل لها أو عضو فيها بسبب دينه وجنسيته.
17 - يجوز لإدارة حكومة فلسطين أن تنظم على قاعدة اختيار القوات اللازمة للمحافظة على السلم والنظام وللدفاع عن البلاد أيضاً على أن تكون تحت إشراف الدولة المنتدبة، ولا يجوز لإدارة فلسطين استخدام هذه القوات لأغراض أخرى غير الأغراض المعينة في ما تقدم إلا بموافقة الدولة المنتدبة وفي ما عدا هذه الأغراض لا يجوز لإدارة فلسطين أن تجمع قوات عسكرية أو بحيرة أو جوية ولا أن تبقيها عندها.
وليس في هذه المادة ما يمنع إدارة فلسطين من الاشتراك في نفقات قوات الدولة المنتدبة في فلسطين. ويحق للدولة المنتدبة في كل وقت أن تستخدم طرق فلسطين وسككها الحديدية وموانيها لحركات القوى المسلحة ونقل الوقود والمهمات.
18 - على الدولة المنتدبة أن تتكفل بعدم التحيز في فلسطين لرعايا أية دولة تكون عضواً في جمعية الأمم ومن ذلك الشركات المؤلفة بحسب قوانين تلك الدولة إذا قيسوا برعايا الدولة المنتدبة أو أية دولة أجنبية كانت في الأمور المتعلقة بالضرائب أو التجارة أو الملاحة أو تعاطي الصنائع أو المهن أو في معاملة السفن التجارية أو الطيارات الأهلية. وكذلك يجب أن لا يكون هناك تحيز في فلسطين ضد عروض يكون منشؤها في بلاد من بلدان الدول المذكورة أو تكون مرسلة إليها. وتطلق حرية مرور المتاجر الترانسيت عبر البلاد المشمولة بالانتداب بشروط عادلة.(3/255)
ومع مراعاة ما تقدم وسائر شروط صك الانتداب هذا يجوز لإدارة فلسطين أن تفرض بإدارة الدولة المنتدبة من الضرائب والرسوم الجمركية ما تراه ضرورياً وتتخذ من التدابير ما تظنه صالحاً لزيادة ترقية الموارد الطبيعية في البلاد وصيانة مصالح السكان ويجوز لها أن تعقد بإشارة الدولة المنتدبة اتفاقاً
جمركياً خاصاً مع أي دولة كانت أملاكها كلها داخلة في تركيا الآسيوية أو شبه جزيرة العرب في سنة 1914.
19 - تحافظ الدولة المنتدبة بالنيابة عن الإدارة إدارة فلسطين على كل اتفاق من الاتفاقات الدولية العامة المعقودة حتى الآن أو التي قد تعقد بموافقة جمعية الأمم في المستقبل من أجل الاتجار بالرقيق والاتجار بالسلاح والذخيرة أو الاتجار بالمخدرات أو تتعلق بالمساواة التجارية وحرية المرور الترانسيت والملاحة والطيران وبالمواصلات البريدية والبرقية واللاسلكية وبحقوق أصحاب الآثار الأدبية والفنية والصناعية.
20 - تعاون الحكومة المنتدبة بالنيابة عن إدارة فلسطين في تنفيذ كل سياسة مشتركة تقررها جمعية الأمم لمنع انتشار الأمراض وفي جملتها أمراض النباتات والحيوانات ومكافحتها بقدر ما تسمح به الأحوال الدينية والاجتماعية وغيرها.
21 - تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطبق على الأحكام الآتية ويمتع هذا القانون رعايا الدول الداخلة في جمعية الأمم بالمساواة في المعاملة فيما له مساس بالحفريات والتنقيبات الأثرية:
1ً يجب أن يفهم من لفظة العاديات كل ما نتج عن عمل البشر أو وضعهم قبل سنة 1700.
2ً يجب أن يكون قانون حماية العاديات أقرب إلى التشجيع منه إلى التهديد، وعلى كل شخص يكتشف أثراً بدون حصول على الإذن المذكور في الفقرة الخامسة أن يعلم السلطة ذات الشأن باكتشافه وينال مكافأة متناسبة مع قيمة ما اكتشفه.
3ً لا يمكن نقل شي من العاديات إلا لمصلحة ذات شأن(3/256)
ما لم تعدل هذه السلطة عن أخذه ولا يمكن إخراج شيء من العاديات من القطر إلا بإذن تلك السلطة.
4ً يجازى كل شخص يتلف أو يثلم قطعة من العاديات تعمداً أو إهمالاً جزاء معيناً.
5ً ممنوع إجراء حفر أو تنقيب للظفر بالعاديات إلا بإذن من السلطة ذات الشأن ويغرم المخالف غرامة مالية.
6ً توضع شروط عادلة للسماح بنزع الملكية موقتاً أو دائماً في الأراضي التي تحتوي فائدة تاريخية أو أثرية.
7ً لا تعطى الرخصة بإجراء الحفريات إلا لأشخاص يقدمون أدلة كافية على اختبارهم الأثري. وعلى الدولة المنتدبة عند إعطاء هذه الرخص أن لا تستثني علماء أمة من الأمم.
8ً يمكن اقتسام محصول التنقيب بين الأشخاص الذين أجروه والسلطة ذات الشأن بالنسبة التي تعينها هي. فإذا تعذرت القسمة لأسباب علمية يعطى للمكتشف تعويض عادل بدل قسم من محصول التعديل.
22 - تكون الإنكليزية والعربية والعبرانية اللغات الرسمية في فلسطين فكل عبارة أو كتابة بالعربية على طوابع أو عملة في فلسطين تكرر بالعبرانية وكل عبارة أو كتابة بالعبرانية تكرر بالعربية.
23 - تعترف إدارة فلسطين بالأيام المقدسة الأعياد عند كل طائفة من طوائف فلسطين أيام راحة مشروعة لأفراد تلك الطائفة.
24 - تقدم الدولة المنتدبة لمجلس جمعية الأمم تقريراً سنوياً يرتاح إليه المجلس تذكر فيه التدابير المتخذة خلال السنة لتنفيذ شروط صك الانتداب وترسل نسخ من جميع الأنظمة والقوانين التي تسن أو تصدر أثناء السنة مع التقرير.
25 - يحق للدولة المنتدبة بإذن مجلس جمعية الأمم أن تؤجل أو توقف تطبيق ما تراه من هذه الشروط غير مطابق للأحوال المحلية الحاضرة في الأملاك الواقعة
بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين في آخر الأمر، وأن(3/257)
تضع من التدابير لإدارة هذه الأملاك ما تراه ملائماً لتلك الأحوال بشرط أن لا يعمل عمل يخالف شروط المواد 15 و16 و18.
26 - توافق الدولة المنتدبة إذا وقع نزاع بينها الدولة المنتدبة وبين عضو آخر في جمعية الأمم يتعلق بتفسير شروط صك الانتداب أو تطبيقها على عرض هذا النزاع على المحكمة الدائمة للعدل الدولي المنصوص عليها في المادة الرابعة عشرة من عهد جمعية الأمم إذا لم يمكن حله بالمفاوضات.
27 - يلزم موافقة مجلس جمعية الأمم على كل تعديل في شروط صك الانتداب هذا.
28 - من التدابير في حالة انتهاء الانتداب المخول بموجب هذا الصك للدولة المنتدبة يتخذ مجلس جمعية الأمم ما يراه ضرورياً لصيانة استمرار الحقوق المكتسبة في المادتين 13 و14 على الدوام بضمان الجمعية ويعمل على أن يكفل احترام حكومة فلسطين الاحترام التام للعهود المالية التي أخذتها إدارة فلسطين على عاتقها في عهد الانتداب وفي جملة ذلك حقوق الموظفين في الراتب والمكافأة تودع الصورة الأصلية من هذا الصك في محفوظات جمعية الأمم وترسل صور مصدق عليها بواسطة السكرتير العام لجمعية الأمم إلى جميع أعضاء الجمعية.(3/258)
صك الانتداب على شرقي الأردن
لأمين سر جمعية الأمم العام بخصوص تطبيق الانتداب الفلسطيني في شرق الأردن في 23 أيلول سنة 1922.
يتشرف أمين سر جمعية الأمم العام بعرض مذكرة لأعضاء الجمعية قدمتها الحكومة البريطانية في 16 أيلول سنة 1922 بخصوص المادة 25 من نظام الانتداب الفلسطيني.
وقد صادق المجلس على هذه المذكرة بموجب قرار قرره أثناء انعقاده في لندن في 24 تموز سنة 1922 بشأن تطبيق الانتداب على فلسطين وسورية.
مذكرة العضو البريطاني
1 - تنص المادة 25 من نظام الانتداب الفلسطيني على ما يأتي:
يحق للدولة المنتدبة بإذن جمعية الأمم أن تؤجل أو توقف تطبيق ما تراه غير مطابق للأحوال المحلية الحاضرة من الشروط، وذلك في الأملاك الواقعة بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين بعد وأن تضع من التدابير لإدارة هذه الأملاك ما تراه ملائماً لتلك الأحوال على أن لا يعمل عمل يخالف شروط المواد 15 و16 و18.
2 - تطلب حكومة جلالة الملك من المجلس وفقاً لشروط هذه المادة أن يقرر القرار الآتي:
لا تطبق الشروط الآتية على نظام الانتداب الفلسطيني في القطر المعروف(3/259)
بشرق الأردن الذي يشمل جميع المقاطعات الواقعة إلى شرق خط يمتد من نقطة واقعة على خليج العقبة على بعد ميلين إلى غرب مدينة العقبة ماراً بمنتصف وادي عربة وبحر الميت ونهر الأردن حتى النقطة التي يلتقي بها هذا النهر بنهر اليرموك فمنتصف هذا النهر حتى الحدود السورية.
وتلك الشروط الملغاة هي:
الشرح الثاني والثالث من الديباجة.
المادة الثانية: في جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي كما جاء في الديباجة.
المادتان الرابعة والسادسة.
المادة السابعة: يتضمن نصوصاً بتسهيل حصول اليهود الذين يتخذون فلسطين
مقاماً دائماً لهم على الرعوية الفلسطينية.
المادة الحادية عشرة: الجملة الثانية من الفقرة الأولى والفقرة الثانية. والمواد 13 و14 و22 و23.
وفي تطبيق نظام الانتداب على شرق الأردن تقوم حكومته بالأعمال التي تقوم بها حكومة فلسطين بمراقبة الدولة المنتدبة.
3 - تقبل حكومة جلالة الملك التبعة التي تقع على عاتقها في تطبيق نظام الانتداب على شرق الأردن وتتكفل بأن الشروط التي توضع لإدارة ذلك القطر وفقاً للمادة 25 من نظام الانتداب لا يوافق بقية شروط نظام الانتداب التي لم تشر إلى عدم تطبيقها في هذا القرار بحال.(3/260)
عهد أنقرة
الذي وقع عليه يوم 20 تشرين الأول سنة 1921
المادة الأولى: يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان أنه بعد التوقيع على هذا الوفاق تنتهي حالة الحرب بينهما ويبلغ ذلك في الحال إلى الجيوش والسلطات الملكية والسكان.
المادة الثانية: بعد التوقيع على هذا الوفاق يطلق سراح أسرى الحرب من الطرفين ويعاد جميع الفرنسيين والأتراك المأسورين والمسجونين على نفقة الفريق الذي أسرهم إلى أقرب مدينة تعين لذلك. ويستفيد من هذه المادة جميع الأسرى والسجناء من الفريقين مهما كان مدة أو محل سجنهم وتوقيفهم أو أسرهم.
المادة الثالثة: بعد شهرين من التوقيع على هذا العهد على الأكثر تتراجع الجيوش التركية إلى الشمال والجيوش الفرنسية إلى جنوب الخط المعين في المادة الثامنة.
المادة الرابعة: يجري الإخلاء والاستيلاء اللذان يتمان خلال المدة المذكورة في المادة الثانية على الكيفية التي تعين بالاتفاق المشترك وذلك بواسطة لجنة مختلطة
يعينها قواد الجند من الفريقين.
المادة الخامسة: يمنح الفريقان المتعاقدان العفو العام في الأصقاع التي تم الجلاء عنها وذلك بمجرد وضع اليد عليها.
المادة السادسة: تصرح حكومة المجلس الوطني الكبير في تركيا أن حقوق الأقليات التي جرى الاعتراف بها جهاراً في الميثاق الوطني سيوافق هو عليها(3/261)
على نفس الأساس الذي عقد في الوفاق المتعلق بهذا الشأن بين دول التحالف خصومهم وبعض أحلافهم.
المادة السابعة: تدار شؤون صقع الإسكندرونة إدارة خصوصية ويتمتع السكان الأتراك في تلك الأرجاء بجميع التسهيلات لترقية ثقافتهم وتكون اللغة التركية صفة لغة رسمية.
المادة الثامنة: يعين الخط المذكور في المادة الثالثة ويحدد كما يلي:
يمتد خط التخوم من نقطة يجري اختيارها في خليج الإسكندرونة في جنوب ناحية بياس مباشرة ويتجه إلى ميدان اكبس تبقى محطة السكة الحديدية والناحية تابعتين لسورية.
ومن هنا ينحني نحو الجنوب الشرقي بحيث يترك لسورية مديرية مرسوى ولتركيا بلدة قارصايه مع مدينة كليس ثم يسير مع السكة الحديدية حتى محطة جوبان بك ويسير مع خط بغداد ويبقى سطحه للأملاك التركية حتى نصيبين. ومن هناك يتبع الطريق القديم بين نصيبين وجزيرة ابن عمر حتى يبلغ نهر دجلة وتبقى لتركيا نصيبين وجزيرة ابن عمر والطريق بينهما ويكون للبلادين نفس الحقوق في الانتفاع من هذا الطريق.
وتكون المحطات في شعبة جوبان بك ونصيبين ملكاً لتركيا كأنها جزء من سطح السكة الحديدية.
وتتألف لجنة من مندوبي الفريقين في برهة شهر بعد التوقيع على هذا الوفاق لتحديد الخط المذكور وتبدأ هذه اللجنة بعملها في تلك المدة.
المادة التاسعة: يبقى قبر سليمان شاه جد السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية وهو القبر المعروف باسم ترك مزاري الواقع في قلعة جعبر مع كل ما يتعلق به ملكاً لتركيا تستطيع أن تضع فيه حراساً وترفع العلم التركي.
المادة العاشرة: تقبل حكومة المجلس الوطني الكبير في تركيا بنقل امتياز فرع السكة الحديدية البغدادية الواقع بين بوزانتي ونصيبين مع سائر الشعب الممتدة في ولاية أذنة إلى شركة فرنسية تعينها الحكومة مع جميع الحقوق والفوائد والمنافع المتعلقة بالامتيازات ولا سيما فيما له علاقة بالاستثمار والاتجار.(3/262)
يحق لتركيا أن تنقل منقولاتها العسكرية بالسكة الحديدية من ميدان اكبس إلى جوبان بك في أرض سورية ويحق لسورية أن تنقل مهماتها الحربية بالسكة الحديدية من جوبان بك إلى نصيبين في الأرض التركية. ولا تضاف زيادة عن أجور السكة في هذه الشعبة أو الفرع، وتحتفظ الحكومتان بحقهما في درس ما تقضي به الضرورة من الحياد إذا اقتضت الحال وذلك باتفاق الفريقين.
وإذا لم يتسن الاتفاق فكل فريق حر في عمل ما يراه.
المادة الحادية عشرة: تؤلف لجنة مختلطة بعد التصديق على هذا العقد لتعقد اتفاقاً جمركياً بين تركية وسورية وتحدد اللجنة شروط هذا الاتفاق ومدته ويكون للبلادين حق التمتع بحرية العمل ريثما يعقد هذا الوفاق.
المادة الثانية عشرة: تقسم مياه نهر قويق بين مدينة حلب والصقع الواقع إلى الشمال الباقي لتركيا قسمة عادلة يرتضي بها الفريقان.
ويتأتى لمدينة حلب أن تأخذ على حسابها من نهر الفرات شطراً من المياه من الأرض التركية لتستعملها في أرجائها.
المادة الثالثة عشرة: يظلّ سكان القرى أو نصف الرحالة من أهلها ممتعين كما في السابق بحقوقهم في المراعي إذا كان لهم أملاك في إحدى الجهتين من الخط المعين في المادة الأولى ويتيسر لهم لضرورة استثمار أراضيهم أن يعملوا أحراراً لا يؤدون رسماً جمركياً ولا ثمن المراعي ولا أي رسم كان ويتنقلون من جهة إلى أُخرى من هذا الخط مع مواشيهم وما تنتج وأدواتهم وآلاتهم وبذارهم وحاصلاتهم الزراعية وهم مكلفون بأن يؤدوا الحقوق والرسوم عليها في الأراضي التي ينزلونها.
انتهى الجزء الثالث وبه انتهى التاريخ السياسي في القطر الشامي ويليه الجزء الرابع وبه يبتدئ تاريخه المدني.(3/263)
التاريخ المدني
العلم والأدب
ما يُراد بالعلم والأدب:
نريد بالعلم علم الدين والدنيا، فالعالم بالحديث عالم، والعالم بالطب عالم، والعالم بالكلام عالم، والعالم بالهندسة عالم. والكيمياء علم والبيطرة علم، والتاريخ علم والجدل علم، وشرف هذه العلوم بشرف مقاصدها، وأشرفها في نظر الإلهيين ما هذب النفس وأعدها للحياة الخالدة. وعلوم الدنيا هي الوسيلة إلى تلك السعادة كما قال حجة الإسلام الغزالي: إن الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أُمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا. فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا.
كان البشر قبل ظهور الأديان المشهورة يستخدمون علوم الدنيا للدنيا، وكانت
بسائط على حالة ابتدائية بالطبع، ويعكفون من جهة أُخرى على تماثيلهم وأربابهم ومعابدهم يجوّدون صنعها، ويمجدونها ويتغنون بمدحها، فلما جاءت الأديان المعروفة تغير الشكل بصورة أُخرى، وبقيت العناية بالعلوم تختلف باختلاف الأصقاع والدول. أما الأدب فالذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن الأخلاق ويدعو إلى المكارم. واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على تسمية العالم بالشعر أديباً وعلوم العربية أدباً. والمراد بالإسلام كما قال(4/3)
النووي من حيث انتشر وشاع في الناس وذلك قبل الهجرة النبوية بنحو ست سنين.
للأهوية والأهواء تأثير في العلم، والعلوم ربيبة الأرض المعتدلة أو الباردة أكثر من الحارة والوبيئة، لأن أهل هذه قصيرة آمالهم في الحياة، محدودة مطالبهم، فاترة هممهم، مثلوم حدهم، متداعية صحتهم. ومن صرف وكده أيضاً إلى الأهواء المذهبية ضعف سلطان العلم فيه، لتوزع قواه، وانصراف رغبته عن الفانية إلى الباقية، واشتغال ذهنه بأمور لا يتسع لغيرها في الأغلب. وكلما توغلت أمة في مضمار المدنية نظرت إلى علوم الدين وعلوم الدنيا نظرة واحدة، وشرّفت ما تشتد حاجتها إليه منها، وأبلت بكليتها على المشتغلين بها. فقد رأينا جامعات أوربا في القرون الوسطى تنشأُ لغرض الدين على الأكثر، فلما عظمت مطالب البشر، وأخذت المدنية تسير سيرها، أصبحت العلوم الدينية في جامعاتهم تقراُ كما يقرأُ التاريخ والأدب والطبيعة، لا فضل لديني لاهوتي على طبيعي رياضي، إلا بالأثر الناتج عن درسه وبحثه، هذا إن لم يرجحوا في عرفهم العلِمَ الثاني. وبينا نجد تماثيل العلماء بالمئات في شوارع الغربيين وساحاتهم ومتاحفهم ودور العلم والصناعات عندهم، لا نشهد من علماء الدين إلا نفراً قليلاً أُقيمت لهم التماثيل داخل البيع والكنائس فقط. كان الاقتصار على العلم الديني في الصدر الأول للإسلام، ثم تسربت العلوم الدنيوية بسرعة، ورأى علماء الأمة أنها نافعة لقوام
الدين والدنيا، وبذلك أقنعوا العامة ومن فوق درجتهم، فأقبل الناس عليها، وكانت العناية أولاً بعلوم القرآن والسنة، ثم أقبل الناس على الفقه لأن حالة الزمن اقتضت الإقبال عليه لتعدد الخصومات بين الناس واتساع المملكة الإسلامية وما حدث فيها من المشاكل والعُضُل، ثم أقبلوا على علم الكلام، لما رأوا الحاجة الماسة إليه خصوصاً وقد دخلت فلسفة القدماء وصادفت لها أنصاراً وعشاقاً، ثم مالوا إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة، ثم كثرت العلوم بين العرب في المدن وضعفت سندها في القرن العاشر للهجرة، إلى أن أخذت تتطور تطوراً جديداً أواخر القرن الثالث عشر ووائل هذا القرن على ما سيجيء.(4/4)
وأهم العوامل في اضمحلال العلم في ديار الإسلام زهد الملوك والأمراء فيها واشتغال الناس بالفتن والغوائل. ومذ أخذ العلماء يتعلمون علوم الدين للجاه والمال، ضعفت علوم الدين والدنيا معاً. وأصبح السلطان للممخرقين والمعطلين والمتهوسين بمسائل الكشف والولاية من علماء الرسم، وليس الغرض من العلوم كما قال ابن ساعد الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أن من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً وإنما يجيء شبيهاً بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا للعلم مأتماً، وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أُجرة تدانى إليه الأخساءُ وأرباب الكسل، فيكون ذلك سبباً لارتفاعه، ومن هنا هُجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها.
إن الذين يولعون بالعلم للعلم في هذا العالم قلائل جداً، ولكنهم يكونون على الأكثر ممن نسميهم أو أكثرهم بأهل النبوغ والعبقرية، يتفانون في مقصدهم ويأتون بالجديد يبدعون ويبرّزون على من اتخذوا العلم آلة للمظاهر وعنواناً للتصدر، وهم
هم الذين يذهبون بفضل الشهرة في الأرض، وتبقى أعمالهم شاهدة لهم بعد موتهم أحقاباً ودهوراً، ومن هذا الفريق أنجبت الشام قديماً وحديثاً جماعة افتخرت بهم، وعُدوّا بأعمالهم بالقياس إلى حال هذا القطر وإلى مجموع علماء الأمة كتلة صالحة أثرت تأثيراً محموداً في العلم والمدنية، وقد عرفنا تراجم أكثر رجال العهد العربي لقربه منا، ولا طراد التدوين في العرب في أغلب العصور على طريقة حسنة في الجملة، فوقفنا بها على منازعهم وأعمالهم. وغابت عنا تراجم كثير من المهندسين والنقاشين والمصورين والموسيقيين لأن القوم على ما يظهر يحسبون هذا الصنف النافع من الناس من أهل الصناعات فقط لا من أهل العلم. كأن العلم كله على اختلاف ضروبه ليس صناعة من الصناعات. وقد اصطلح المتأخرون على أن المراد بالعلم إذا أُطلق يقصد منه العلم الديني. ومن الغريب أن بعض المتأخرين ممن دوّنوا تراجم أهل عصورهم حرصوا على تراجم المجاذيب والممخرقين ولم يذكروا مثلاً تراجم أهل تلك(4/5)
الأيام من المقدرّين والبنائين وغيرهم ممن خلدوا بأعمالهم مدنية أعصارهم.
لم يتسلسل العلم قروناً طويلة في الشام تبعاً لتغير الدول وانصراف الهمم والعلم مذ كان محتاج إلى العلم ذلك لأن الشام كان في جميع أدواره ممراً للفاتحين يطمع فيه جيرانه، بل البعيدون عنه لتوسطه بين بر آسيا وإفريقية وأوربا. والقدر الذي عرفناه من رسوخ العلم في ديارنا كاف ولا شك في إنشاء مدنية صالحة خصوصاً إذا دعمها ما كان ينهال عليها من علوم أهل العراق والجزيرة ومصر والأندلس وفارس وغيرها. وكأن الشرق مُني بالتساهل والإهمال، وعدم التسلسل في الفكر والاطراد في العمل، فكان مظهر الحياة الفردية في الأعم الأغلب من حالاته، وعلى العكس في الغرب فإنه كان ولا يزال مثال الحياة الاجتماعية والتعصب للفكر والاستماتة فيه، والتسلسل في الأفكار.
ولقد رأينا الغرب في قرونه الوسطى قبيل عهد النهضة يشتد في إرهاق الأفكار الحرة، وديوان التفتيش الديني يحرق الأنفس البشرية بالعشرات للقضاء على الفلسفة والتجدد، بيد أن الغرب كان إذا هلك فيه رجل بطريق الإلحاد والخروج عن مألوف القوم، يقوم غيره من أخلافه في الحال يتناول ما بدأ به سلفه، ناسياً أن الهلاك يحل به إذا اشتهر أمره. ورأينا في هذا الشرق القريب أناساً ينزعون إلى التجديد والإبداع كان نصيبهم من الحياة ضرب أعناقهم، أو إدخال الرعب على قلوبهم حتى قضوا أعمارهم في خمول وتقية، وكان نصيب الأمة العربية أن يقل فيها جداً ظهور من يخلفهم في دعوتهم، وقد يأتي العصر والعصران ولا يظهر فيهما نابغة يذكر وعالم مبدع، وجاء زمن وهو ليس ببعيد، وقد أصبح الناس ينكرون البديهيات في العلم، ويحرمون ما حلل الله من ضروبه النافعة، فغارت ينابيعه من أرضنا وفاضت في الغرب وزادت مع الأيام فيضاناً، وقويت تقية العلماء ودخل في غمارهم الجاهلون فسقطت هيبة العلم. وكان من نتائج عمل الغربيين تلك الحضارة الحديثة المدهشة ومن تفاشلنا وتجاهلنا هذا الانحطاط المحسوس وإضاعة مدنية الأجداد.
العلم ابن الحرية، والأدب ربيب التسامح، وقد شاهدنا أجدادنا في هذه الديار المثال الصالح في هذا الباب على اختلاف العصور والمذاهب، وكان(4/6)
العرب في أدوارهم المختلفة يمثلون أجمل صورة من هذا القبيل. فإن كانت إنطاكية وبيروت قبل الإسلام عاصمتي الحكمة والأدب والشرائع، فقد امتازت بعدهما حلب والمعرة وطرابلس ودمشق وحمص بهذه الخصائص. والعلم بضاعة ثمينة لا تروج الرواج المطلوب إلا في ظل السلام وصلاح السلطان.
هذا شأن العلم، أما الأدب وهو منظوم الكلام ومنثوره والخطب والرسائل فيتصرف أيضاً على هذا المثال، وبه أدركنا بعض الحالة الاجتماعية والروحية
التي كانت عليها تلك الأعصر، ورأينا فيه تبدلاً محسوساً في القرون التالية، فكانت الآداب في الشام في القرن الأول غيرها في القرن الثاني والثالث، وقد استحكمت أسباب الحضارة وعم الترف، ونقلت علوم الأوائل وراجت سوق الشعر في الرابع والخامس في الشمال، وما لبثت في أواخر هذا القرن أن عراها الكساد قليلاً، ثم هبت إلى الحياة بعض الشيء في السادس والسابع تبعاً للحالة السياسية التي كان عليها القطر زمن الحروب الصليبية، ولم ينشأ في الشام خلال القرنين الثامن والتاسع شاعر يجوز عدّه في مصاف المفلقين على مثال شعراء القرن الثالث والرابع، أما في القرون الأربعة التالية فضعفت حالة الشعر اكثر من ذلك بما لا يقدر، وأصبح نظماً لا شعراً فُقد من أكثر ما نقل من الشعر الروح وبقي جسماً له من الشعر قوافيه وأوزانه، يطرس فيه المتأخر على مثال المتقدم وتتأثر أنفاس الابن بأنفاس أبيه وجده.
إن حكمنا على المنظوم يسوغ أن نورده في المنثور، كان الإنشاء في القرنين الأولين للإسلام يسير مع الطبع غالباً ونبغ في الشام أفراد كعبد الحميد بن يحي الذي وضع أساس الكتابة المرسلة، ورأينا عمر بن عبد العزيز يكتب الكتاب في الإدارة أو السياسة أو القضاء أو في أمر مهم من أمور الدولة في سطرين أو ثلاثة ليس فيه شيء من الكلفة بتة بل هو آية الفصاحة والبلاغة، وهكذا معظم آل بيته من بني أُمية وبني مروان، ومن نشأ في دولتهم أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعتبة بن أبي سفيان وشهدنا التكلف بادياً في كتابة القرون التالية التي انتقلت فيها صناعة الكتابة إلى بغداد أو القاهرة وضعف أمرها في الشام. وكان الشام يتبع العراق تارة ومصر تارة أُخرى، حتى إذا كان القرن السادس، ونبغ في الدولة الصلاحية القاضي الفاضل(4/7)
بطريقته المستملحة في الكتابة المسجعة على الأغلب، وحذا حذوه العماد الكاتب ثم ضياء الدين ابن الأثير صاحب المثل
السائر وغيرهما من كتاب الدولة أخذت تضيق حلقة الكتابة وهي احتذاء مثال المجودين من القدماء لحصرها في قيود الجناس والبديع والأسجاع فجمدت القرائح وقل المبرزون فيها المجيدون لصناعتها، فما بالك بالإنشاء الذي هو ابتكار المعاني والإبداع في القوالب. وإذا استطعنا أن نعد عشرة كتب في القرن الواحد لا نقوى على عدّ منشئ واحد فيه. وحكمنا هذا مبنيّ على ما قرأناه فيما خلفه السلف في هذه الديار من الكتب والآثار المبعثرة في بطون الدفاتر، وربما كان في المفقود الذي لم يصلنا من هذا النوع ما يؤهلنا لو ظفرنا به، أن نصدر حكواً أصح من هذا على فنون الإنشاء والكتابة والشعر والنظم، والإنشاء من الكتابة كالشعر من النظم.
ولو لم ينبغ في الكتابة من المؤلفين أمثال القفطي وياقوت وابن أبي أصيبعة وابن العديم ثم الصفدي وابن فضل الله والمقريزي والشهاب الحلبي وأمثالهم في القرنين السابع والثامن لقلنا إن الانحطاط في الكتابة بدأ في الشام منذ القرن السادس، بيد أنها أصبحت في الحقيقة سجعاً كسجع الكهان بظهور ابن عربشاه الدمشقي وابن حجة الحموي وأمثالهما في القرن التاسع، أما في القرن العاشر وما بعده فإن الكتابة كالشعر كانت إلى التكلف والسجع غالباً، ومن أفلت من المؤلفين من قيد التكلف، ونجا من الترصيع والتسجيع، جاء كلامه مقبولاً في الجملة وقليل ما هم.
بقيت الكتابة والشعر ترسفان في قيودهما القديمة إلى أوائل القرن الرابع عشر أيام نشأ للأمة في مصر بضعة شعراء ومنشئين أدخلوا الآداب في طور جديد ونزعوا عنها ثيابها البالية، وألبسوها حلة قشبية، فقام من المنشئين أمثال محمد عبده وإبراهيم المويلحي ثم المنفلوطي وطه حسين والعقاد وأضرابهم. ومن الشعراء محمود سامي وإسماعيل صبري ثم حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وتلك الحلبة، وانتشرت كتاباتهم وقصائدهم في العالم العربي ومنها اقتبس شعراء الشام وكتابه
وبطريقتهم اقتدوا وغيروا أسلوبهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وما أسلوبهم إلا الجمع بين متانة القدماء ورقة المحدثين،(4/8)
وأصبح لهذا العصر طراز خاص عرف به لم يكن له منذ عرف تاريخ الأدب العربي أي منذ زهاء خمسة عشر قرناً. وكان للصحف والمجلات ولانتشار الآداب الإنكليزية والفرنسية والتركية وغيرها تأثير كبير في هذا الانقلاب الأدبي في ديارنا، والمبرزون في ما زالوا قلائل جداً، ويرجى أن لا يمضي عقدان أو ثلاثة من السنين حتى تكون الشام أخت مصر في هذا الشأن مع مراعاة النسبة بين حالة القطرين السياسية، والنظر إلى وفرة السكان والغنى، وتوفر أسباب التعليم العربي في القطر المصري.
العلم والأدب عند أقدم شعوب الشام:
صمت تاريخ العلم هذه الديار عن ذكر الرجال الذين اشتهروا مثلاً على عهد الحثيين ومن كان قبلهم من القبائل التي نزلت الشام، وخلفت فيها آثاراً في العمران لا تقوم بغير العلم، ولم ينقل إلا أسماء قليلة اشتغل أربابها بالعلم الديني والدنيوي على عهد بعض الدول الحالفة، ولا سيما الكلدان والعبران والرومان واليونان، ولولا بعض عاديات أثرت عن الأمم التي تأصل حكمها في بعض أرجاء القطر، وأخبار نقلتها التواريخ الصحيحة لقلنا إن أكثرهم كانوا أمماً بدوية على الفطرة. وأهم ما أُثر عن الفينيقيين مما ساعد العلم بالنسبة لعصورهم اختراعهم حروف الكتابة، بل تحسين أصولها وجعلها مطابقة للأصوات، ونقلهم لها إلى الأمم التي أبحروا واتجروا معها، وعنهم أخذتها أُمم الحضارة الحديثة النازلة على شواطئ البحر المتوسط وما إليها. وهذا الاختراع أهم ما عرف في القديم كما كانت الطباعة في القرون الحديثة أهم اختراعاتها في نظر العلم. قال بورتر: لا يستحق الذكر من علوم الفييقيين سوى علم الكتابة بحروف هجائية، وليس هم أول من استعملوا الكتابة لنا علمنا من الآثار أنها كانت عند المصريين والكلدانيين قبل
عهدهم، غبر أن كتابتهم لم تكن بحروف وفق الأصوات البشرية الأصلية كالحروف الهجائية التي استنبطها الفينيقيون واعتبروا بها كل الاعتبار لأنهم أتقنوا الكتابة ونشروها بين أكثر الأمم المتمدنة لاتساع تجارتهم، فإن الحروف الهجائية في لغات أوربا وغربي آسيا وشمالي أفريقية مشتقة من حروفهم.(4/9)
وأخبار العلم قبل الإسلام ضئيلة ومنها يستدل بعض الاستدلال على مكانة العقل فيه وسلامة أذواق بنيه. وكان النور يسطع بين أهل هذا القطر على حالة متقطعة لا مطردة، ويخرج العلماء والفلاسفة فرادى، انتقلت إلينا أسماء بعضهم ممن كانوا يعملون برأسهم أو يعملون مجتمعين مع أقرانهم في ظل الحكومات مثل يوسيفوس المؤرخ اليهودي في سنة 100م وله عدة تواريخ وقد صار والياً على الجليل، وكتب بالسريانية ثم ترجمت كتاباته باليونانية، ومنهم يوستوس الطبراني اليهودي المؤرخ وفيلون اليهودي الجبلي وفيلودومر الابيكوري من جَدَر وتيودور الخطيب من عسقلان وأُقليدس المهنس النجار الفيلسوف الرياضي الذي نبغ في صور، كما نبغ فيها فرفوريوس الفيلسوف، وكان بعد زمن جالينوس، ونبغ في العلم بولودر المهندس الدمشقي الذي أقام عمود تراجان في رومية وبنى جسراً على نهر الطونة الدانوب وجاء في رفنية ارسطيفس الرفني وفلسفته هي الفلسفة الأولى قبل أن تتحقق الفلسفة، وثاوذوسيوس الفلكي كان في القرن الأول قبل المسيح في مدينة طرابلس، وممن نشأ في اللاذقية نيقولاوس صاحب جوامع الفلسفة وتوفلس صاحب الحجج في قدم العالم.
واشتهر في هذه القرون الأولى هرمبوس البيروتي تلميذ فيلون المؤرخ الفينقي في فنون الأدب، وطوروس البيروتي في الحكمة، ولوبركوس البيروتي في اللغويات والفلسفيات، ومناسياس البيروتي في الخطابة، واشتهر في الآداب مرقس كالريوس بروبس البيروتي، وفي الجغرافيا مارينوس الصوري، وكان معاصراً لبطليموس
القلوذي في القرن الثاني للمسيح. وكانت إنطاكية على عهد خلفاء الإسكندر اوسلوقس نيقاتور ومن جاء بعده مباءة أدب وحكمة، ونبغ فيها من الشعراء ورجال الدين والأدب والخطابة على عهد انتشار النصرانية رجال عظام مثل القديس يوحنا فم الذهب اليوناني، والقديس لوقا، والشاعر ارستياس. وكما كانت إنطاكية دار حكمة وعلم، كانت بيروت تدعى مرضعة الحكمة على عهد الرومان، وكانت فيها مدرسة الفقه التي أسسها على الغالب بعض أباطرة الرومان من الشاميين - وقد نشأ من حمص وبُصرى أباطرة لبسوا تاج المملكة الرومانية وحكموها - وكانت اللغة اللاتينية لسان(4/10)
العلم في تلك المدرسة، ويدرس فيها الفقه والآداب واللغة يقصدها الطلاب من جميع أنحاء المملكة حتى من روم القسطنطينية ومن أبناء العرب، وقد تخرج بأساتذتها أناس تأفقت شهرتهم في الأدب والشريعة، وكان قضاة الرومان من خريجيها مدة أربعة قرون، وكان اثنان من تلامذتها من جملة أعضاء المجمع الذي ألفه الإمبراطور يوستنيانوس لتدوين الفقه وقيل ثلاثة وهم اودكسيوس واناطوليوس ودوروتاوس، ومن أساتذتها اميل بابنيان من بيروت وكان من أشهر فقهاء الرومان، عد من جملة الفقهاء الخمسة الذين تنزل أقوالهم منزلة شريعة، وإذا تعارضت أقوالهم فالعمل بقوله، ومنهم اولبيان وهو من المشهورين من فقهاء الرومانيين ذهب بعضهم إلى أن مولده في بيروت وغيرهم إلى أنه في صور، ومنهم يوليوس بولس الحمصي وهو مشهور في الفقهاء الرومان، ومنهم مكسيموس الصوري وهو فيلسوف أفلاطوني، ومنهم لوسيان السميساطي كان نقاشاً فقيهاً فيلسوفاً بليغاً، ومنهم اسباسيوس الجبيلي الخطيب المؤرخ، ولنجينوس صاحب زينب ملكة تدمر الذي جلبته كما جلبت بولس دي ساموزات أسقف إنطاكية لينشر العلم في أرجاء مملكتها. وممن كان في تدمر وفي أرجاء الشام على ذاك العهد كيّكلراتيس الصوري وعالم المؤرخين
بوسانياس الدمشقي ونيكوماخوس المؤرخ. وممن أفضلت عليه زينب صاحبة تدمر وكانت تعرف التدمرية والمصرية واليونانية واللاتينية والعربية على الأرجح وأسماء أولادها عربية كاسيوس ويونيسيوس وأوريجانس فيلسوف قيسارية. ومن علماء بيروت الأقدمين هرمبوس له تآليف عديدة وسيلير الفيلسوف ومناسيا ألف كتاباً في البيان والفيلسوف الأفلاطوني طورس والطبيب اسطرابون وساويرس بطريرك اليعاقبة وهذا كان في القرن الخامس للميلاد. وكثر في القرن الثالث للميلاد الكتاب وأرباب القرائح وأهل العلم والحصافة والحكمة، وممن نشأ من الأدباء والفلاسفة لوسين وجامبلتوس وبلوتين. قال سنيوبوس: حفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندري علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها.(4/11)
مواطن العلم في القطر قديماً:
كان العلم يدرس في تلك الأحقاب في أربع مدارس وهي القسطنطينية والإسكندرية ورومية وبيروت، وقد أنشأ الرومان مدرسة في قيسارية، وأخرى في آثينة، وكان لصيدا على ذلك العهد مدرسة حكمة ذات شأن، ولكن دون مكانة مدرسة جارتها بيروت. وقد ألغى يوستنيانوس مدارس قيسارية وآثينة والإسكندرية، وأبقى مدارس رومية والقسطنطينية وبيروت ولقب بيروت بأم العلوم وظئر الشرائع. وأعفى ديوقليسيانوس قيصر الفقراء المتخرجين في مدرسة بيروت من الرسوم تنشيطاً لهم. وقد خربت مدرسة بيروت قبل الإسلام بالزلازل التي تواترت على الثغر في القرن السادس للميلاد ثم حريق سنة 560م الذي التهم بيروت ومساكنها ومعاهدها.
وكان في غزة مدرسة قديمة تفاخر بمشاهير علماء البيان فيها وكان فصحاؤها
على العهد اليوناني المرجع الأول في الفصاحة والبلاغة، وكان في قيسارية في القرن الثالث للمسيح مدرسة علمية يعلم فيها أوريجين أحد رجال الكنيسة وتخرج منها الأسقف أوزيب أبو التاريخ الكنسي وقيل: إنه كان في أريحا مدرسة أسسها ايليا.
قال استرابون الجغرافي اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد: لم يبق في صور وصيدا فينيقيون يضربون في الآفاق للتجارة، بل كان فيهما كثير من أصحاب علم الهيئة والعلوم الرياضية والخطباء والفلاسفة، ومدارس تقتبس فيها كل العلوم البشرية، وقد أنشأت صيدا في أيامنا كثيراً من الفلاسفة منهم بواتيوس تلميذنا وديودوت أبوه، ونشأ في صور انتيباتر وقبله أبولون، وكان في ايامنا فيلسوف اسمه بوسيدونيوس كان شيشرون يسمع خطبه.
وكانت اللغة اللاتينية ثم اللغة اليونانية لغة العلم في هذه الأحقاب، ولم يكن السريان السكان الأصليون دون الرومانيين واليونانيين في تخريج الرجال، ولا سيما في عهد النصرانية. فقد هبت في المائة الرابعة للميلاد اللغة الآرامية السريانية بحلب وجوارها من رقدتها، فسار في طليعة أهلها كيرتونا الشاعر الكبير، نشا في حلب أو في صقعها ودرس الآداب السريانية في مدرسة الرّها،(4/12)
وهي إحدى المدارس العالية في العالم السرياني، ونشأ منهم سمعان العمودي وبالاي والقديس إسحاق الإنطاكي، ومن فحول شعراء السريان، اخسنايا المنبجي أحد غلاة المنوفسية الطبيعة الواحدة ويوحنا بن افتون القنسريني شيد ديراً على ساحل الفرات عرف بدير قنسرين، وكان جامعة للآداب والمعارف الآرامية عصراً طويلاً مات سنة 538 وتوما الحرقلي نشأ في دير ترعيل قرب حلب وتلقى العلم في قنسرين وقد ترجم الأناجيل وغيرها من الأسفار المقدسة من اليونانية إلى السريانية.
ومن المدارس التي أنشأها السريان في غير أرض الشام، ولكنها خرّجت للشاميين
رجالاً أيضاً، وسرى من علومها على هذا القطر نسمات مباركات، مدرسة حران، وقد أخذت الشام ولا سيما شماليها منذ القرن الخامس تغص بالمدارس والأديار حيث تُدرس الآداب السريانية، ويتنافسون مع المدارس العالية الأخرى في ديار السريان، وكانت حران بمثابة آثينة العالم الآرامي، كما انبعثت من مدرسة نصيبين في ديار مضر في القرن الرابع شعلة الآداب الكلدانية الآرامية. وفي تاريخ كلدو وأثور أن مدرسة نصيبين كانت أول مدرسة في الشرق، أزهرت في القرن الخامس والسادس والسابع وبلغت عزها ومجدها، واشتهرت مدرسة نصيبين أكثر من مدرسة اورهاي اشتهار مدرسة المدائن وغيرها، وكان صيتها في فارس والروم وإيطاليا وأفريقية، وهي أول كلية لاهوتية بل أول جامعة درّس فيها علن الإلهيات، وظهر منها علماء كفاة كتبوا في الفنون ولا سيما في الإلهيات. واشتهر اليعاقبة كالنساطرة في العلم والتأليف. والنسطوريون أكثر عدداً، واليعاقبة أكثر مادة. وكان يرشح من علوم هؤلاء الآشوريين على الشام شيء كثير للاشتراك في اللغة والدين إذ ذاك.
هذا بعض ما انتهى إلينا من أخبار العلم ونوابغه في الشام من الفينيقيين والسريانيين والرومانيين والبيزنطيين وما زالت بعض آثارهم وأخبارهم شاهدة بفضلهم، وأنهم ليسوا دون من خلفهم في أمور كثيرة، مما اهتدى إليه العقل البشري، فإن حرمنا كتبهم لأن الكتابة كانت على حالة ابتدائية فلم نحرم كتابات لهم مزبورة على بعض الأحجار، دونوا فيها أعمالهم(4/13)
الحربية ومآثرهم العلمية، لا جرم أن من ينشئ هذه المصانع وينزل فيها لا بد أن يكون جانب من الغنى، وهذا لا يزكو إلا بالعلم المختلف الضروب وفي ظل حضارة بديعة.
ما حمل العرب من العلم إلى الشام:
تاريخ العلم في العرب من أغرب ما سُمع في تاريخ البشر، كانوا أول ظهورهم
نصف متمدنين يكثر فيهم الأميون ويقل من يكتب فيهم حتى في أهل الطبقة الأولى، ويعد فيهم من الممتازين من يحسن الكتابة، خرجوا فجأة من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم، ومن ضيق البداوة إلى متسع المدنية. ولما جاء الإسلام لم يكونوا مولعين بغير الشعر والخطب، لا يعرفون غير الفصاحة والبلاغة، وهما في نظرهم جماع كل العلوم، ينقلون أنسابهم وأخبارهم في الصدور، وعلومهم في الطب والنجوم عبارة عن تجارب شخصية أو تقليدية، ولم يكن التدوين يعهد عندهم، وكانت حدثت هذه الكتابة بالخط العربي قبل الإسلام بقليل نقلها إلى الحجاز حرب بن أمية، وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة. أخذت الكتابة من واضعها مرامر بن مرة. وأول من علم بمكة الكتابة عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الكتاب بالمدينة، وكان ممن أُسر ببدر ولا مال له، فقبل منه أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة ويخلي سبيله، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت.
ولما فتحت الشام وكانت أشبه بنصف عربية بمن حكمها من الغسانيين في الجنوب والوسط والتنوخيين في الشمال من عمال الروم ومن كان ينزلها من القبائل والبطون العربية في أرجاء تدمر والفرات وغزة وسينا، كان الشعر مما يفاخرون به، وإذا نشأ فيهم شاعر رفعوا من شأنه واعتمدوا على قريحته في الشدائد. وكان جبلة بن الأيهم من ملوك الغسانيين شاعراً مجيداً يعجب بالشعر ويجيز عليه وهو ممدوح حسان بن ثابت ومن أهل بيته فصحاء لا يستهان بهم. جاء الشام في الجاهلية كثير من شعراء جزيرة العرب وكأنهم كانوا ينزلون على أهل جيلهم وقبيلهم، ومنهم امرؤ القيس وقد ذكر في شعره بعض أرجاء(4/14)
الشام. وكذلك حسان بن ثابت ذكر راض الغساسنة ومنازلهم. وأقام المتلمس المتوفى سنة 580م في حوران عند الغساسنة إلى وفاته.
جمع القرآن ونشره في الشام:
جمع القرآن على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما روى ابن سعد أُبيّ بن كعب ومُعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وسعد بن عُبيد وأبو زيد ثابت. وكان مجمّع بن جارية قد جمع القرآن إلا سورتين أو ثلاثاً. وكان ابن مسعود قد أخذ بضعاً وتسعين سورة وتعلم بقية القرآن من مجمّع. قال وكان بقي على مجمع بن جارية سورة أو سورتان حين قُبض النبي وفي رواية أن من جُمّاع القرآن عدا من ذكروا، علي بن أبي طالب وعبيد بن معاوية. وقال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمن النبي صلى الله وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأُبيّ بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنساهم. هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبيّ بن كعب. فخرج مُعاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة منهم من يَلْقَن، فإذا رأيتم ذلك فوجّهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والأخر إلى فلسطين. وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وأما معاذ فمات عام طاعون عَمواس، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.
وهذه أول بعثة علمية حجازية أتت الشام لتعلم أهلها وتثقفهم. ويرجع الفضل الأول
في اقتراح إنفاذها لأحد أبناء أبي سفيان النجباء كما كان أبو سفيان(4/15)
وأبو حرب نقلا الخط العربي إلى الحجاز، والشام مدينة لأمية في أمور كثيرة لاشتراكها في خدمة الحضارة اشتراكاً عملياً.
قال زيد بن ثابت: أُرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال لي إن القتل قد استحرّ بالقراء يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يجمع القرآن بحال فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر: هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدره ورأيت ذلك الذي رآه عمر. قال زيد بن ثابت: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك. قد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبّع القرآن واجمعه، قال زيد: فوالله لنقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من الذي أمرني به من جمع القرآن، أجمع من الرقاع (1) واللخاف والعسب (2) وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة ابنة عمر رواه صاحب الفهرست.
وأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة ثلاثين بنسخ المصحف الذي كتب في زمن سلفه أبي بكر وتفريقه في الأمصار، وكان بلغ عثمان ما وقع في أمر القرآن من أهل العراق فإنهم قالوا: قرآننا أصح من قرآن أهل الشام، لأنا قرأنا على أبي موسى الأشعري، وأهل الشام يقولون: قرآننا أصح لأنا قرأنا على المقداد بن الأسود، وكذلك غيرهم من الأمصار، فأجمع رأيه ورأي الصحابة على أن يحمل الناس على المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مودعاً عند حفصة زوج النبي، ويحرق ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس، ففعل
ذلك ونسخ من ذلك المصحف مصاحف وحمل كلاً منها إلى مصر من الأمصار. وكان الذي تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمر عثمان بن زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن(4/16)
بن الحارث بن هشام المخزومي. وقال عثمان: إن اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل القرآن بلسانهم.
فتح العرب الشام ولم يحملوا إليه غير دين يبعد عن الشرك وعبادة الأصنام، وغير بلاغة الشعر والخطب المغروسة في طباعهم، وفطر سليمة جبلت عليها نفوسهم، فاقتبسوا في الحال مدنية من نزلوا عليهم وتمثلوها وهضموها في أقصر مدة، وأتوا بعدها بأمور جديدة، على ما قاموا بمثل ذلك في بغداد ومصر وفارس والأندلس وغيرها. ولقد أظهروا وهم في أوج عزهم من التسامح مع السكان ما دهش له المخالفون واستغربه الموافقون، ولا غرو إذا فتحوا صدورهم لتعلم العلوم بعد أن ثبت أن الرسول عليه السلام أمر زيد ابن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود أي يتعلم لغة غير لغة العرب.
العلم والأدب في القرن الأول:
من شعراء الأمويين جرير والفرزدق وكانت للأخطل الشاعر صحبة بيزيد ابن معاوية مدحه وهجا الأنصار، وما فيهم بيت إلا ويقول الشعر ولم يمسه أحد بسوء، وكان خلفاء الشام يقربونه على حين كان أهل نحلته يتبرمون بسلاطة لسانه، حتى إن الأسقف حبسه مرة في الكنيسة بدمشق لشتمه أعراض الناس، واسترساله في هجومهم، هذا والملوك تهابه، والخلفاء تكرمه، وذكره في الناس عظيم. ومنهم مسكين الدرامي والراعي والراجز العجلي والأحوص وعدّي بن الرقاع القضاعي وعلقمة بن عبدة وجناح بن روح والربيع بن مطر التميمي وحكيم بن عباس بن الأعور الكلبي والحسين بن عبيد الكلابي وأنيف العذري وأسباط بن واصل الشيباني صديق الخليفة يزيد بن الوليد وجواس ابن القعطل الكلبي وعثمان بن الوليد القرشي. وكان معاوية ومن خلفه من خلفاء بنب أُمية وبني مروان يفضلون عليهم، ومن شعرائهم نابغة بني شيبان كان يفد على المروانيين فيجزلون عطاءه، وكان الأمويون يرسلون لأبي العباس الأعمى أحد شعرائهم بعطائه إلى مكة، وغالوا في الحرص على إكرام الشعراء ما خلا عمر بن عبد العزيز فإنه كان يقصي الشعراء عن حضرته لارتكابهم المطاعن والتشبيب في أشعارهم، ولكنه كان رضي عنه يفضل(4/17)
على العلماء فقد كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا وإن خير الخير أعجله والسلام. وظلت القبائل في الإسلام إذا نشأ منها شاعر تغتبط وتفاخر، وإذا عدمته ذلت، لأنها تعده لسانها الناطق ومدون مفاخرها.
وقد أعطى النعمان بن بشير عامل حمص أعشى هَمْدان شاعر اليمن عشرين ألف دينار من مال اليمانية، اقتطعها برضاهم من عطائهم ديناراُ ديناراً، وكان من
خلفاء الأمويين مثل يزيد الأول والوليد الثاني من يقول الشعر الجيد وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً وأبرعهم أدباً.
وقد نشأ في القرن الأول من الفقهاء والمحدثين جملة صالحة في الشام منهم عبد الرحمن بن غَنْم بن سعد الأشعري الصحابي، بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس فتفقه عليه عامة التابعين بالشام 78 ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي ولي قضاء دمشق لمعاوية وأمّره غزو الروم في البحر 53، وأبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم المقري ولي قضاء دمشق في خلافة عثمان مات سنة 32 وأول من أحدث رواية القرآن بدمشق هشام بن إسماعيل وبفلسطين الوليد بن عبد الرحمن. ومن علماء الشام أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وأوس بن أوس الصحابي الشاعر سكن بيت المقدس والرملة سنة 32، ومن أخبار ييهم عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي وفد على معاوية بن أبي سفيان وأملى أشياء في أخبار الملوك أخذ عنه علاقة بن كُرْسُم الكلابي أيام يزيد بن معاوية، وكان عارفاً بأيام العرب وأحاديثها وهو أحد من أُخذت عنه المآثر وربما جاز أن يعدّ أول من دوّن التاريخ في الشام.
ومن علماء الشاميين أبو إدريس الخولاني فقيه الشام وقاضيه، وعمرو البكالي المحدث الفقيه، وبشير بن الوليد الأموي كان يقال له عالم بني مروان، وإبراهيم بن كثير بن المرتجل الرملي، وكان عبادة بن الصامت والي بيت المقدس لعمر بن الخطاب قرأ عليه أبو سلام الحبشي واسمه محظور ويقال الباهلي الدمشقي وشهر بن حوشب الأشعري المحدث 100، وبلال بن أبي الدرداء الأنصاري(4/18)
قاضي دمشق93، وأبو مسلم الخولاني شيخ الفيحاء وزاهدها من سادات التابعين، وروح بن زِنْباع يكني بأبي زرعة، ويقال بأبي زِنباع الجذامي الفلسطيني كان له اختصاص بعبد الملك بن مروان، ورجاء بن أبي سلمة الفلسطيني المحدث. ومالك
بن دينار أحد الأعلام أقام في القدس 23 وجبير بن نفير الحضرمي عالم أهل الشام 79 وغيلان بن مروان الدمشقي من كبار المعتزلة وكان الحسن يقول إذا رأى غيلان في الموسم أترون هذا هو حجة الله على أهل الشام ولكن الفتى مقتول وكان أوحد دهره في العلم والزهد قتله هشام بن عبد الملك وقتل معه صاحبه صالحاً لأنه كان ينال من بني أُمية. وإسماعيل بن عبد الله بن أبي مهاجر مولى بني مخزوم من أهل دمشق كان يؤدب أولاد عبد الملك بن مروان.
ونشأ من الكتاب في هذا القرن عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام وأسود بن قبيس الحميري من كتاب بني أمية بدمشق، وفي الفلسفة ساويرا سابوخت أُسقف قنسرين اليعقوبي كان على عهد السفيانيين في الشام ممثل الحركة الأدبية وقد جادل الموارنة بحضرة الخليفة معاوية سنة 659م وألف رسائل ومقالات عديدة في الحساب والفلك والاصطرلاب والفلسفة واللاهوت، ويعقوب الرُّهاوي وغيرهم، ونشأ في القرن السابع للميلاد أي في القرن الأول للهجرة كالينكيوس البعلبكي وهو مهندس كيماوي قيل إنه مخترع النار اليونانية المركبة من النفط والكبريت والقطران وغيرها، وكان أبو قرة أول كاتب نصراني ديني كتب بالعربية. ومن مشاهير النصارى في القرون الأولى القديس يوحنا الدمشقي 780م كان علماً في عصره وألف كتباً كثيرة في اللاهوت ومنهم قزما المنشى وقزما البار وندراوس الاقريطشي والبطريرك صفرونيوس.
عناية خالد بن يزيد بالنقل وأوائل التدوين:
كانت الكتب التي ترجمت لأبي هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي حكيم آل مروان وعالم قريش، أول نقل أو تعريب كان في الإسلام في عاصمة الشام. وخالد بن يزيد هذا زهد في الخلافة وعشق العلم، وإذا أنشأ جده معاوية ملكاً في الشام دام ألف شهر، فإنه أنشأ بعلمه مملكة(4/19)
باقية بقاء الدهر، فقد
أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي والصنعة صنعة الكيمياء. فترجمت له كتب فيها كما ترجمت له كتب في الطب والنجوم. وممن نقل له اصطفن القديم، نقل كتب الكيمياء، وكان خالد بصيراً بالطب أخذه عن يحيى النحوي وأخذ الكيمياء عن مريانس الرومي وأتقن هذين العلمين وألف فيهما وله رسائل وكتب في غير هذه الأغراض، دالة على معرفته وبراعته، وله شعر كثير ومقاطيع دالة على حسن تصرفه وسبقه. وكان من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام وقيل عنه قد علم علم العرب والعجم، وكان خطيباً شاعراً، فهو أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآلات والصناعات. وفي الفهرست: ويقال والله أعلم إنه صح له عمل الصناعة وله في ذلك عدة كتب ورسائل وله شعر كثير رأيت منه نحو خمسمائة ورقة ورأيت من كتبه كتاب الحرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير. كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة.
جاء في التاريخ العام: لما جاءت العرب وجدت المدنية اليونانية راسخة في جميع الأقطار التي داهمتها أولاً مثل الشام ومصر والعراق فاقتربت من المملكة البيزنطية وبدا لها من وراء مدنيتها النبوغ اليوناني كما تجلى لها من الفرس المدنيات القديمة من الهند والصين على نحو ما وجدت في بلاد كنعان ومصر تذكارات من الأمم القديمة التي لا تزال عليها مسحة الأجيال العريقة في القدم ومصانعها وأعمالها.
ولما بلغت الدولة العربية غاية عزها، ثم تمزقت وتقسمت أصبح دينها واحداً ولسانها واحداً وقوانينها المعمول بها واحدة، وذلك من نهر السند إلى أعمدة
هركول وتمت الوحدة بين أولئك الشعوب المختلفة ديارهم، واخذوا يقتبس بعضهم عن بعض من تبادل التجارة وسياحة الأفراد وتنقل الجيوش والأمم وانتشار المعتقدات والأخلاق والأفكار يتصادمون ويتمازجون ويتحدون ويتداخلون وكل شعب ينقل إلى الأخر عاداته وتاريخه وملكاته الطبيعية.(4/20)
فالمدنية التي عمل فيها هذا العدد الكثير من المؤازرين المختلفين ليست إذاً عربية صرفة، بل هي بحسب النموذجات التي تشبعت بروحها والمحيط الذي كبرت فيه: يونانية وفارسية وشامية ومصرية وإسبانية وهندية، ولكن إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل لا يسع المنصف إلا أن يقول بأن قسط العرب منه كان أعظم من غيرهم فلم يكونوا واسطة فقط لنقل هذه المدنية ينقلون إلى الشعوب الجاهلة في إفريقيا وإسبانية وأوربا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وعلومه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، فمن مجموع هذه المواد المختلفة التي صُبّت فتمازجت تمازجاً متجانساً أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم. وبفضلهم تيسر للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى التي عاونت فيها أيد أخرى أن تكون ذات وحدة موصوفة، فالتقليد فيها محسوس ولكنه تقليد غير أعمى، وسلطة الأساتذة الأقدمين لا تحول دون الأبحاث العلمية والاختراعات الحديثة كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحول دون انتشار التفنن ولطافة الإبداع في الاختراع. وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها ومنبعث أنوارها 1هـ.
وبعد فإن خالد بن يزيد أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام، وفي دمشق على الأرجح أُنشئت أول دار للكتب في العالم العربي، ودمشق أول عاصمة أُنشئت فيها دار ترجمة فأولى أبو هاشم بعمله هذه الأمة وهذه العاصمة شرفاً لا يبلى على الأيام. وإن الشام ليفخر بأن قامت فيه أول دولة عربية ممدنة،
وتمت فيه كثير من مشخصات الأمة العربية، ومن أولها التدوين والترجمة، فالشام أول سوق نفقت فيها بضاعة العلم والأدب فباعتها من غيرها وهذا يعد من مفاخرها التالدة. وخالد بن يزيد أول من عُني بعلوم الفلسفة ولم يتفرد بذلك المنصور العباسي خلافاً لما قاله كاتب جلبي من أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية. قال الأصفهاني كان خالد ابن يزيد ينزل حلب وتوفي سنة 85هـ.
وبذا رأينا أن التدوين حدث في القرن الأول في العلوم الدنيوية ويرى نالينو أنه ربما كان أول كتاب ترجم من اليونانية إلى العربية كتاب أحكام(4/21)
النجوم المنسوب إلى هرمس الحكيم، وكان مطمح نظر المدونين ضبط مقاصد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دوّنوا فيما هو كالوسيلة إليهما.
وحدث التدوين في عصر الصحابة الكرام على ما في توجيه النظر فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتاباً في علم الفرائض وذكر البخاري أن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث، وذكر مسلم في صحيحه كتاباً ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي. وذكر صاحب الفهرست أنه رأى في مدينة الحديثة على الفرات خزانة للكتب فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين، وأمانات وعهود بخط أمير المؤمنين علي وبخط غيره من كتاب النبي، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم.
وذكر المؤرخون أن أول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين في الطب وجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه للناس وبثه في أيديهم. وعمر بن عبد العزيز هو الذي قال: كنت أصحب من الناس سراتهم، واطلب من
العلم شريفه، فلما وليت أمر الناس احتجت إلى أن أعلم سفساف العلم، فتعلموا من العلم جيده ورديئه وسفسافه.
علماء القرن الثاني والأدب والنقلة والمنشئون فيه:
مضى القرن الأول وجاء الثاني فكثر القراء والمحدثون والشعراء والنقلة والمترسلون والكتاب بكثرة الفتوحات وفرط العناية بالعلم والأدب، وقد نبغ في هذا القرن كثير من أهل العلم منهم رجاء بن حَيْوَة الفلسطيني الكندي الأردني الفقيه العالم الذي كان يجالس عمر بن عبد العزيز 101 ومكحول مولى بني هذيل فقيه الدمشقيين وأحد أوعية العلم والآثار 113 وعبد الله ابن عامر اليحصبي القارئ المحدث أحد القراء السبعة من التابعين من أهل دمشق 118 وسليمان بن موسى الأشدق الفقيه وكان أعلم أهل الشام بعد مكحول 119 وربيعة بن يزيد شيخ دمشق بعد مكحول 123 وسليمان ابن حبيب المحاربي قاضي دمشق أربعين سنة 126 ويحيى بن يحيى بن قيس(4/22)
الغساني كان ثقة إماماً عالماً بالفتوى والقضاء وسيد أهل دمشق 135 ويزيد ابن يزيد بن جابر الأزدي إمام فقيه 134 والعلاء بن الحارث الحضرمي الفقيه 136 ويحيى بن الحارث الذِّماري المقرئ الدمشقي وعليه دارت قراءة الشاميين 145 وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر المحدث 154 وعبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي البيروتي 157 كان إمام أهل الشام وعالمهم قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، وصار يُعمل بمذهبه في الشام نحو مائتي سنة وآخر من عمل بمذهبه أحمد بن سليمان بن حذلم قاضي الشام وعمل أهل الأندلس بمذهبه أربعين سنة ثم تناقص بمذهب الإمام مالك. وكان الأوزاعي عظيم الشأن بالشام وأمره فيهم أعز من أمر السلطان. وكان مع علمه بارعاً في الكتابة والترسل.
ومن علماء الشام يونس بن ميسرة بن حَلْبس وثور بن يزيد الكلاعي الحمصي، وكان ثقة في الحديث 153 والوليد بن مسلم الدمشقي صاحب الأوزاعي وكانوا
يقولون علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم فأما الوليد فمضى على سننه ميموناً عند أهل العلم متقناً صحيح العلم 195 أو 194 ومن المحدثين الفقهاء في دمشق المطعم بن المقدام الصنعاني وأبو مَرْثَد الغنوي وابراهيم بن جدار العذري ومبشر بن إسماعيل الحلبي مولى كلب كان ثقة مأموناً 200 ويحيى بن عمرو السَّيبْاني من أهل الرملة وسيبان بفتح السين المهملة بطن من حمير 148 وصعصعة بن سلام الدمشقي المحدث كان أول من أدخل علم الحديث إلى الأندلس، وصدقة بن عبد الله السمين من كبار محدثي دمشق 166 والهِقْل بن زياد مفتي الوليد بن مسلم وله تصانيف تبلغ السبعين 195 وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي الفقيه كان عمر بن عبد العزيز يكرمه ويجلسه معه على السرير 117 ونمير بن أوس الأشعري المحدذ 121 وربيعة بن يزيد القصيري من أئمة التابعين 122 وإبراهيم ابن أبي عبلة من علماء التابعين 152 وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان المحدث 165 وسعيد بن عبد العزيز التنوخي الفقيه العالم 167 ومحمد بن الوليد الزُّبيدي كان أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث 148 ويحيى بن حمزة كان كثير الحديث وكان قاضياً بدمشق 183 وبقية بن الوليد الحمصي(4/23)
المحدث 197 وأسد بن وداعة الطائي الحمصي المحدث 137.
وحرص المسلمون في الصدر الأول بعد علم الدين على علم الطب، وكان من الأطباء في القرنين الأول والثاني زمرة صالحة مختلفة مذاهبهم منهم الحكم ابن أبي الحكم الدمشقي الطبيب وكان أبوه أبو الحكم طبيباً في صدر الإسلام، وكان أبو الحكم يستطبه معاوية ويعتمد عليه اعتماده على ابن أُثال من الأطباء المتميزين بدمشق. ومنهم عيسى بن حكم الدمشقي المشهور بمسيح صاحب الكناش الكبير. وتياذوق كان في أول دولة بني مروان ومشهوراً عندهم بالطب ومنهم عبد الملك بن أبجر الكناني كان طبيباً عالماً ماهراً في أول أمره في الإسكندرية لأنه كان
المتولي للتدريس بها بعد الإسكندرانيين، ولما ملك المسلمون الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز فاستطبه واعتمد عليه في صناعة الطب.
وكان عبد الحميد بن يحيى الكاتب إمام الإنشاء العربي وواضع أساسه وكان عالماً في كل فن من فنون الأدب 132 وهو الذي فك قيود الإنشاء وضبط أصوله وكان ختنه سالم ويكنى أبا العلاء أحد الفصحاء والبلغاء. وقد نقل من رسائل أرسطاليس إلى الإسكندر ونُقل له وأصلح هو، وله رسائل ومجموع نحو مائة ورقة. ومن الكتاب قنان بن متى وابنه قيس وحفيده الحصين ومنهم أُسامة بن زيد أبو عيسى الكاتب التنوخي ويقال الكلبي. ومن المشهورين بالبلاغة والخطابة عبد الملك بن صالح الهاشمي نسب إلى منبج، وخالد بن عبد الله القسري الخطيب المفوّه 126 وأبو السامي وعبد الله بن خداش وأبو مسلم الشامي.
ومن الناقلين أي المترجمين جبلة بن سالم، وكان ناقلاً من العربي إلى الفارسي، ونقل بعضهم شيئاً من تواريخ الأمم عن الفارسية. ولم يلبث النقل أن صار إلى بغداد بانتقال الخلافة إليها، فانتقل بذلك المترجمون الذين أنبغتهم الشام مثل قسطا بن لوقا البعلبكي الفيلسوف الطبيب المهندس المترجم المصنف، وكان يحسن العربية والسريانية واليونانية، جيد النقل فصيح اللسان، ومثل أبي عثمان الدمشقي وعبد المسيح بن عبد الله الحمصي الناعمي المعروف بابن الناعمة، وزروبا بن ماجوه الناعمي الحمصي وكلاهما من النقلة، وهلال(4/24)
ابن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وحنين بن إسحاق البغدادي المولد نشأ في الشام وتعلم فيه.
وللشاميين منذ القديم ميل إلى النقل عن الأمم الأخرى، هكذا فعلوا في كل قرن فقد كان الناقلون منهم في القرنين الأول والثاني وكذلك في القرون التالية إلى يومنا هذا وهم أقدر الأمم على تعلم اللغات الغربية والتفصح فيها. وكان أكثر النقل عن
السريانية، وهذه نقلت عن العبرانية، وهذه نقلت عن اليونانية، ولذلك تعب فلاسفة المسلمين في حل رموز الفلسفة اليونانية لأنها نقل عن نقل، وذكر أحد المعاصرين من الإفرنج أن كتب أرسطو كانت تنقل ليفهمها أهل القرون الوسطى من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية ومنها إلى العبرية ومن هذه إلى اللاتينية وكان التراجمة بادئ بدء لا يدركون فهم المعاني من كتب العرب وينقلونها إلى اللاتينية حرفاً بحرف. وقال نالينو: إن أكثر نقلة القرن الثاني كانوا ضعافاً في العلوم يترجمون بالحرف دون فهم الموضوع وكثيراً ما ترددوا في تعريب المصطلحات العلمية المجهولة عند العرب في ذلك العصر، ومن المعلوم أن طريقة التعريب لم تتقن إلا في القرن الثالث.
العلم والأدب في القرن الثالث:
لم يكن للقرن الثالث ما كان للقرن الذي سلفه من النهضة، وتجلي آثار النبوغ والتجدد، بل كان كالتتمة لبعض ما سمت له الهمم في القرنين الماضيين، وعلى صورة ربما كانت أضعف، زاد التدوين فيه أكثر من ذي قبل، وأخذت بغداد حظها من العلماء الذين قصدوها من القاصية وبقيت الشام بمعزل، راحت العلوم الفلسفية في بغداد أواخر القرن الثاني والثالث وسرى منها شعاع إلى الشام ثم عراها ما خنقها. وممن أفضل على الشام الخليفة المأمون فأنه أنشأ فيها مرصداً فلكياً عمله له يحيى بن أبي منصور وهو أحد أصحاب الرصاد المشهورين في أيامه وكان كذلك في سنة خمس عشرة وست عشرة وسبع عشرة بعد المائتين. وقام في الشام محمد بن عائذ صاحب المغازي والفتوح وغير ذلك من المصنفات 233 وعبد الله بن ذكوان القارئ الحافظ 242 وهشام بن عمار خطيب دمشق وقارئها وفقيهها ومحدثها 245 وأحمد(4/25)
ابن أبي الحواري من كبار المحدثين والصوفية 246 ومحمود بن سميع صاحب الطبقات وأحد الأثبات الثقات 259
وأبو زرعة الدمشقي النصري عبد الرحمن ابن عمرو المحدث صنف كتباً 281 وأبو مسهر عبد الأعلى الغساني شيخ دمشق وعالمها كان راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي وغيره من الشلميين 218 وصفوان بن صالح المؤذن المحدث 239 والقاسم بن عثمان الجوعي شيخ دمشق وزاهدها 248 والحافظ زكريا بن يحيى السِّجْزي المعروف بخياط السنة 287 وعبد الغفار بن عثمان والوليد بن مَزْيد العذري البيروتي كان من أهل العلم والرواية وكان الأوزاعي يقول، فيما عرفت ما حمل عني أصح من كتب الوليد بن مزيد 203 وولده أبو الفضل العباس بن الوليد البيروتي كان من أهل العلم والرواية 270 والإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي أحد الأئمة ولد بغزة هاشم سنة خمسين ومئة وتوفي بمصر سنة 204 وهو أول من صنف في أصول الفقه. ومن أعيان العلماء محمد بن عوف الطائي الحمصي 269 ذُكر عند عبد الله بن أحمد بن حنبل في سنة 273 فقال: ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثل محمد بن عوف. وعبد الله بن إسماعيل بن زيد بن صخر البيروتي ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام بن أيوب البيروتي وآدم بن أبيإياس العسقلاني من مشايخ البخاري 221 وهشام بن الغاز بن ربيعة الجُرشي الصيداوي 256 وأبو بكر محمد بن بركة القنسريني الحافظ ببرداعَس سكن حلب ثم قدم دمشق وحدث بها عن أبي جعفر أحمد ابن محمد بن رجاء المصيصي ويوسف بن سعيد بن مسلم وهلال بن أبي العلاء الرقي.
ولقب حافظ كان يطلق على من يحفظ ألوفاً من الأحاديث بأسانيدها وكانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له مجرد رواية، ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعاً، والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد. وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى والمحدث من عرف الأسانيد والعلل
وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ من ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي(4/26)
ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة. هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين.
وممن كان في الشام الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كان من أهل حرستا من غوطة دمشق. وعثمان بن خُرَّزاذ الإنطاكي المحدث. وأبو الحسن محمد الغساني الصيداوي المعروف بابن جميع الحافظ المحدث وأبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ. وأحمد بن الخليل الحلبي المحدث وأحمد ابن المسيب الحلبي المحدث وعبد الله بن إسحاق الصُّفَّري المحدث ومؤمل الرملي وأبو توبة الربيع بن نافع ويزيد بن خالد الرملي روى عن الليث بن سعد والمفضل ابن فضالة وروى عنه أبو العباس محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني وأبو زرعة الرازي وموسى بن سهل الرملي 262 وعبد الله بن محمد بن نصر بن طويط ويقال طويث أبو الفضل الزاز الرملي الحافظ. سمع في دمشق هشام بن عمار ودُحيماً وهشام بن خالد بن أحمد بن ذكوان، ووارث بن الفضل العسقلاني، ونوح بن أبي حبيب القُومَسي.
ومن شعراء هذا القرن البطين الشلعر الحمصي وعبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن من شعراء بني العباس وأصله من سَلَمْيَة وإدريس بن يزيد النابلسي الأديب الشاعر وأدهم بن محرز والعتابيّ وأبو تمام. واشتهر في هذا القرن بالهندسة أبو بكر البناء المهندس الذي بنى لابن طولون ميناء عكا.
الأدب في القرن الرابع ونهضته على عهد سيف
الدولة وأبي العلاء المعري:
قل في القرن الثالث في الشام الشعراء والأدباء، ولم ينبغ فيه إلا رجال في الحديث، والمغازي والفقه، فطلع القرن الرابع وقد ظهر فيه الأدب العربي في مظهر عظيم لم يسبق له عهد بمثله، ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظير، اللهم إلا إذا كان على عهد الأمويين، ولم تبلغنا جميع أخبار شعراء سيف الدولة بن حمدان في حلب، وقد قصده نوابغ الشعراء والأدباء، قال الصفدي وكانوا يسمون عصر سيف الدولة الطراز المذهب لأن الفضلاء الذين كانوا عنده والشعراء الذين من حوله لم يأت بعدهم مثلهم.(4/27)
ذكر الثعالبي من شعراء الشام المحدثين العتابي ومنصور النمري والأشجع السلمي ومحمد بن زرعة الدمشقي وربيعة الرقي قال على أن في الطائيين أبي تمام والبحتري اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية وهما هما. ومن مولدي أهل الشام المعوج الرقي والمريمي والعباس المصيصي وأبو الفتح كشاجم والصنوبري وأبو المعتصم الإنطاكي، وهؤلاء رياض الشعر وحدائق الظرف. ويقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء، ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً أورد صاحب اليتيمة من شعرائه ومن كانوا يقصدونه من الآفاق لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام.
وكان في هذا القرن أكثر الجهابذة والصياغين والصيارفة والدباغين بالشام من اليهود، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى. وانحطت مدن الشام في العلم انحطاطاً كثيراً ومنها حمص. ذكر السيوطي أنه نزلها خلق من الصحابة وانتشر بها الحديث زمن التابعين وإلى أيام حَريز بن عثمان وشعيب بن أبي حمزة ثم إسماعيل بن عياش وبقية وأبي المغيرة وأبي اليمان ثم أصحابهم ثم تناقص ذلك في المائة الرابعة وتلاشى ثم عدم بالكلية.
كان أبو فراس الحمداني الذي قال فيه الصاحب بُدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس ابن عم سيف الدولة وأعطاه على بيت واحد ضيعة بمنبج تغل ألف دينار. ولطالما أعطاه وأعطى الشعراء في بابه ولا سيما أبو الطيب المتنبي عشرات الألوف من الدنانير دع الإقطاعات والضياع، وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة وكانا على خزانة كتبه كما كان عليها أيضاً السلامي والببغاء والوأواء. وربما قلّ في الملوك من مُدح به سيف الدولة حتى إن كلاً من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت. وكان أبو محمد الفياض كاتباً لسيف الدولة ونديمه معروفاً ببعد المدى في مضمار الأدب وحَلبة(4/28)
الكتابة، أخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً، لحسن عبارته، وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق الأغراض، وتحصيل المراد.
ومن خواص شعراء سيف الدولة أبو العباس أحمد بن محمد النامي وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة والرتبة، ومنهم أبو الفرج عبد الواحد الببغاء من أهل نصيبين ومن شعرائه أو ما قربوا من عصره الخليع الشامي والوأواء الدمشقي وأبو طالب الرقي وأبو حامد أحمد بن محمد الإنطاكي المعروف بأبي الرقعمق، وأبو القاسم الحسن الواساني الدمشقي وأحمد بن محمد الطائي الدمشقي وابن أبي الجوع وابن رشدين وكشاجم وأقام كشاجم في الرملة كثيراً فسمي الرملي 360 والصنوبري وأبو الفتح البكتمري وأبو الفرج العجلي وأبو حصين الرقي وأبو الفرج سلامة بن بحر. ومن علماء الأدب واللغة ابن خالويه وابن جني. ومن الشعراء أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله ابنا ورقاء الشيباني من رؤساء عرب الشام وقوادها. وكان جعفر بن ورقاء الشيباني 352 من بيت إمرة وتقدم وآداب، وكان المقتدر
يجريه مجرى بني حمدان وتقلد عدة ولايات، وكان شاعراً كاتباً جيد البديهية والروية، ومن الشعراء منصور وأحمد ابنا كَيْغَلَغ وأبو علي أحمد بن نصر بن الحسين البازيار وأبو زهير المهلهل نصر بن حمدان والمغنم المصري واسمه أبو الحسن محمد الشعباني وأبو عبد الله محمد بن الحسين وأبو نصر بن نباتة التميمي والشيظمي وأبو العباس الصُّفَّري وأبو العباس الناشئ وأبو نصر البنص، وأبو القاسم الرقي المنجم الفلكي وعبد العزيز بن نباتة السعدي كان شاعرا مجيداً وله في سيف الدولة غرر القصائد 405 ومن شعراء القرن الرابع الحسين بن عبد الله بن أبي حصينة المعري 327 وممن اجتمع بسيف الدولة وجالسه مدة ثم جاء معه إلى دمشق فتوفي فيها المعلم الثاني حكيم الإسلام أبو نصر محمد الفارابي صاحب التآليف الممتعة في الحكمة 339.
وأهم ما يفاخر به هذا القرن نبوغ أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري التنوخي حكيم العرب وأديبهم، وقد كانت المعرة في أيامه كعبة القصاد، من طلاب الآداب، جذبهم إليها أبو العلاء، فجعل بلده دار حكمة وأدب،(4/29)
كما جعل سيف الدولة في القرن الذي قبله مدينة حلب مجمع الأدباء والشعراء بإحسانه ومشاركته. أحسن نابغة الشام أبو العلاء المعري إلى الآداب العربية أي إحسان، وهو من بيت أدب وفضيلة، كان أبوه عبد الله بن سليمان لغوياً شاعراً، وأخوه الأكبر محمد بن عبد الله وأخوه الثاني عبد الواحد بن عبد الله شاعرين مجيدين، وكان الشعر والأدب متسلسلاً فيهم من بطون كما تسلسل في بيتهم القضاء مدة مائتي سنة. ومن شيوخ أبي العلاء أبو بكر محمد بن مسعود النحوي ومحمد بن عبد الله بن سعد النحوي الحلبي، ومن تلامذته أبو غالب همام بن الفضل بن المهذب صاحب التاريخ المشهور، وأبو يعلى عبد الباقي ابن أبي الحصين، وأبو محمد عبد الله الخفاجي، ورشأ بن نظيف بن ما شاء الله المقري، وهذا كان أول من أنشأ في دمشق داراً
للقرآن في حدود سنة 444 والخطيب التبريزي والحسن بن علي بن همام والأمير أبو الفتح بن أبي حضينة وعشرات غيرهم من أهل المعرة وكفر طاب وحلب ودمشق وحمص وحماة وطرابلس والرقة وهكار والمصيصة وبغداد وتبريز والأندلس إلى غيرهم من التنوخيين أهل بيته، وكان أكثر هؤلاء يقول الشعر الجيد حتى أصبح ذلك من اختصاصهم. وممن صحب أبا العلاء المعري وأخذ عنه كثيراً علي بن القاضي التنوخي كان من أهل بيت كلهم فضلاء أُدباء ظرفاء. ومما يستدل به على انتشار الآداب في هذا العصر وتغالي الناس في الشعر والأدب ما قيل من أن سبعين شاعراً رثوا المعري على قبره يوم مات، فما بالك بسائر شعراء الشام على ذاك العهد.
وقام في هذا القرن من العلماء إبراهيم بن عبد الرزاق الإنطاكي مقرئ أهل الشام 338 ومن المحدثين عمر بن علي العتكي الإنطاكي الخطيب الحافظ صاحب كتاب المقبول وعبد الوهاب الكلابي المحدث 396 ومحمد ابن عبيد الله يعرف بابن أبي الفضل أبو الحسن الكلاعي الحمصي المحدث 309 وأبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي محدث دمشق كان يسكن في ربض باب الفراديس في طرف العقيبة 328 قال القاسمي وإليه تنسب مقبرة الدحداح، وعمر بن حسن الخرقي الحنبلي الدمشقي صاحب التصانيف العديدة وأحمد بن شرام الغساني أحد النحاة المشهورين بالشام(4/30)
387 ومحمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي الجغرافي الرحالة صاحب كتاب أحسن التقاسيم المطبوع وأبو مسهر البيروتي المعروف بمكحول الحافظ الثقة الثبت المشهور 321 وأبو طاهر بن ذكوان البعلبكي المؤد 359 والمنجم الصابي البعلبكي وأبو القاسم علي بن أحمد الإنطاكي كان رياضياً مهندساً وله تصانيف جليلة وكان مشاركاً في علوم الأوائل 376 وإبراهيم الأزدي العجلي الإنطاكي الفقيه المقرئ 338 ومحمد بن جعفر صاحب التصانيف
المشهورة كاعتلال القلوب وغيره توفي في يافا 327 ومحمد التميمي المقدسي والحافظ أحمد بن عمير مولى بني هاشم شيخ الشام في وقته رحل وصنف وذاكر وحدث 320 وأبو الحسين بن كشكرايا الطبيب العالم صاحب الكناش المعروف بالحاوي وعيسى الرقي المنجم الطبيب وكلاهما من أطباء سيف الدولة. وكان عيسى ينقل من السريانية إلى العربية ويأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب ورزقاً بسبب النقل ورزقين بسبب علمين آخرين. وعبد الله بن عطية المقرئ الدمشقي المفسر كان يحفظ خمسين ألف بيت من شعر العرب في الاستشهادات على معاني القرآن واللغة 383 وعبد الرحيم بن نباتة الفارقي صاحب الخطب المشهورة كان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة 374 وقام في حلب أربعة من الشعراء المعدودين وهم أبو الحسن المستهام الحلبي وأبو محمد الماهر الحلبي وابن الفتح الموازيني الحلبي وأبو الفرج بن أبي حصين القاضي الحلبي. ومن الشعراء الشاميين أبو الجود الرسعيني واسمه محمد بن أحمد وأبو مسكين البردعي شاعر محدث يتنقل في البلدان وكان مجوداً. والخليع الرقي واسمه محمد بن أبي الغمر القرشي. ومن المهندسين الرياضيين المجتبى الإنطاكي 376 وديونيسيوس بطريرك اليعاقبة له تاريخ. وقيس الماروني له كتاب حسن في التاريخ.
الآداب في القرن الخامس:
امتاز القرن الخامس بأن نشأت فيه طائفة من الرجال الذين عُنوا بالفلك والعلم الطبيعي والرياضي والطب، كما امتاز بأن نبغ فيه في الأقطار العربية الأخرى من الفلاسفة أمثال ابن رشد وابن سينا والبيروني والغزالي والرازي(4/31)
ممن هم فخر العرب على تعاقب الحقب. وقد انتقلت من كتبهم وأفكارهم أشياء كثيرة إلى الشام. ويصح أن يقال إن العلم اقترب من العلوم المادية في هذا الدور، ذهبت عن الناس الدهشة بالفصاحة والشعر ونقل الأحاديث والعناية بالدين وتم تدوين أقوال أرباب المذاهب والشعراء فانصرفت العناية إلى علوم الدنيا. وممن نشأ في هذه الديار أبو الفضل الحارثي الدمشقي المهندس الرياضي العالم بالحساب والتقسيمات والهندسة وعلم الهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب وله عدة تآليف 500 ومحمد القيسراني الدمشقي العالم بالحساب والنجوم والهندسة والهيئة وعلم المساحة والميقات والفلك 500 ورضوان الخراساني الرياضي ومحمد بن عبد الواحد المهندس صنف كتاباً في ركاية الزوال بدمشق ومعرفة طلوع الفجر بالمنازل منازل القمر 409 وجورجس بن يوحنا اليبرودي العالم بالطب وله عدة رسائل ومقالات. ومن المؤرخين حمزة بن أسد أبو يعلى التميمي المعروف بابن القلانسي العميد صنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى حين وفاته وقد طبع باسم ذيل تاريخ دمشق. ومبارك ابن شرارة أبو الخير الطبيب الكاتب الحلبي النصراني كان له جرائد مشهورة بحلب عند أهلها يحفظونها لأجل الخراج المستقر على الضياع إذا اختلف النواب في شيء من هذا النوع رجعوا إليها وله تاريخ حلب توفي في حدود سنة 490 في صور. ومن الحفاظ محمد بن علي الصوري الحافظ قالوا: كان يذاكر بمائتي ألف حديث. قال غيث: سمعت جماعة يقولون ما رأينا أحفظ منه 441 والحافظ محمد بن جميع الغساني الصيداني ويقال له الصيداوي 402 وعبد الواحد الشيرازي المقدسي الأنصاري شيخ الشام في وقته
نشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل أقام بدمشق وله تصانيف 486 وسلامة بن إسماعيل ابن جماعة المفدسي الضرير كان كثير الحفظ ألف تآليف 480 والحسن ابن عبد الصمد بن الشخباء العسقلاني صاحب الخطب البديعة مشهور بنثره 482
ومن الكتاب والخطباء صاعد بن شمامة المسيحي الحلبي الكاتب وأبو اليمن المسلم بن الحسن بن غياث الكاتب الحلبي النصراني كان صاحب الديوان بحلب، وتادرس بن الحسن النصراني كان وزير صلح بن مرداس وعبد الله بن أسعد(4/32)
فقيه حمص يعرف بابن الدهان. وعبد العزيز بن أحمد الكناني الدمشقي الصوفي المحدث 466 نصر بن إبراهيم المقدسي النابلسي عالم الشام له عدة تصانيف درس العلم ببيت المقدس مدة ثم أتى صور ثم جاء دمشق 490 علي بن داود الداراني الخطيب 402 وهوالذي طلع إلى داريا كبراء دمشق لما مات خطيب جامعهم وطلبوه ليكون خطيب جامعهم فوثب أهل داريا بالسلاح وقالوا: لا نعطيكم خطيبنا فقال رئيسهم: أما ترضون يا أهل داريا أن تسمع الناس في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام. ومن مشاهيره الحسين بن علي بن شواش الكناني المقري 497 والحسين بن علي بن إبراهيم الأهوازي شيخ القراء بدمشق 446 والخطيب أبو نصر بن طلاب مسند دمشق 470 وأبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي الواعظ العالم 456 ومن الشعراء عبد المحسن الصوري الشاعر 418 وأبو الفتيان بن حيوس الحلبي الشاعر. ومحمد بن سنان الحلبي الشاعر وأبو مشكور الحلبي الشاعر وأحمد بن فضالة الدمشقي شاعر. وعلي بن منصور الحلبي الملقب دوخلة يعرف بابن القارح من شيوخ الأدب راوية للأخبار كتب لأبي العلاء المعري رسالته المشهورة فأجابه عنها برسالة الغفران وكلا الرسالتين مطبوع. ومما يذكر في هذا القرن أن القاضي جلال الملك بن عمار جدد في طرابلس دار العلم ودار الحكمة وذلك في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة لتكون
مركزاً من مراكز التشيع، فنشرت العلوم والآداب وأصبحت طرابلس مباءة علم ودرس ومباراة في التعلم وجهز هذه الجامعة الدينية بمائة ألف مجلد وربما كانت على عهده قبل استيلاء الصليبيين عليها أول بلدة علمية في الشام على ما رأى فان برشم.
العلم والأدب في القرن السادس:
دخل القرن السادس وعلى كثرة ما كان فيه من الفتن نشأ للأمة علماء خدموا العلم في فنون مختلفة، وكانت بالشعر أقل من عصر سيف الدولة وعصر أبي العلاء المعري، وإن كان نور الدين وصلاح الدين وأُسرتهما ممن يجيزون(4/33)
عليه ويعجبون ويترنمون بسماعه، وكان من أهل بيت صلاح الدين الشعراء المفلقون، ومما عُني به نور الدين محمود بن زنكي أنه كان يجلب العلماء من القاصية ويسكنهم بالشام مثل قطب الدين النيسابوري وشرف الدين بن أبي عصرون، يبني لهم المدارس ويغدق عليهم وعلى مريديهم أنواع الإحسان ويدرّ عليهم الرواتب. وقد أُحصي فقهاء مدارس دمشق في عهد صلاح الدين فكانوا ستمائة فقيه، كان يعطيهم من صدقاته. ومن كتاب للقاضي الفاضل لصلاح الدين: ومما يجب ان يعلم المولى أن أرزاق أرباب العمائم في دولته إقطاعاً وراتباً يتجاوز مائتي ألف دينار وربما كانت ثلاثمائة ألف دينار. وأزهرت في هذا القرن مدرسة اليعاقبة في طرابلس ومنها نشأ أبو الفرج ابن العبري صاحب التاريخ المطبوع. وتعلم كثير من المحاربين والقواد والأمراء من الصليبيين اللغة العربية في الشام. في تاريخ اللغة الفرنسية وآدابها: أما بشأن اللغة أي في عهد الصليبيين فقد حدث ما يحدث في مثل هذه الأحوال على صورة مطردة، وهو أن لغة الأكثر تمدناً أثر أهلها في غيرهم. وكان أكثر الأمم تمدناً بلا مراء الشرقيون ولا سيما العرب واليونان. وقد تعلم قليل جداً من العرب والترك والفرس لغة الإفرنج ما عدا بعض التراجمة
الرسميين. وعلى العكس تعلم كثير من الصليبيين لغة الوطنيين عقيب وصولهم إلى فلسطين. إلى أن قال: ولا ريب أن مجاورة التمدن الإسلامي قد ساعدت على زيادة النفوذ الذي كان العلم العربي والفنون العربية تؤثرها فينا منذ زمن طويل. ومعلوم ما تدين به لهذا التأثير كل من الفلسفة والرياضيات والفلك والملاحة وتركيب النيران الصناعية والطب والكيمياء حتى فن الطبخ فقد أخذنا عن العرب أشياء كثيرة من مثل طريقة الأرقام وشروح أرسطو حتى حمام الزاجل والشعار وأدوات الموسيقى والأزياء والثياب والزهور والبقول. وبعد فإذ حدث أحياناً أن الأشياء التي نقلت لم تكن تسمى إلا بأسماء المدنية الشرقية التي أخذت منها مثل ثوم عسقلان وثياب دمشق فغن غيرها قد احتفظت بأسمائها العربية مع بعض التحريف وهي كثيرة ويتألف منها في الفرنسية مجموع كبير في الجملة اه.
ونبغ في هذا القرن أبو المجد محمد بن أبي الحكم، وكان طبيباً مهندساً(4/34)
فلكياً 570 وأبو زكريا يحيى البياسي من أطباء صلاح الدين وعمل لابن النقاش وهو علي بن عيسى بن هبة الله أُستاذه في الطب آلات كثيرة تتعلق بالهندسة وكان يعرف النجارة وابن النقاش هذا كان أوحد زمانه في صناعة الطب وله مجلس عام للمشتغلين عليه وكان يعالج أيضاً كتابة الإنشاء 574 وأبو الحكم عبيد الله بن المظفر المعروف بالحكيم المغربي وهو عالم بالحكمة والطب والأدب والهندسة 549 (1). وعمر بن علي بن البذوخ الدمشقي عالم بالطب شاعر له تآليف 576 وابن الصلاح عالم بالحكمة متميز بالطب مليح التصنيف 540 وموفق الدين بن المطران عالم بالطب والفلسفة متعين في الفنون الأدبية له عدة مصنفات 587 وقد نعى على أهل زمانه فتورهم وزهدهم في العلوم وقلة مضائهم ورغبتهم في الكتب والآثار وتطير بتفاقم الخطب في هذا الشأن.
وأبو الفضل عبد الكريم الحارثي الدمشقي وهو مهندس طبيب نجار نحات هندس
أكثر أبواب المستشفى النوري الكبير اشتغل بالأدب وعلم النجوم والحديث له عدة مصنفات 599 وهو الذي أصلح الساعات التي لجامع دمشق. وعلي ابن عبد الباقي بن أبي جرادة العقيلي الإنطاكي الحلبي عالم بالأدب واللغة والحساب والنجوم والفلسفة مات سنة نيف وأربعين وخمسمائة. زين الدين علي بن غانم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن منجه الحنبلي كان من أعيان أهل العلم وله رأي صائب وكان صلاح الدين يسميه عمرو بن العاص. ومحمد بن طاهر المقدسي ذو الرحلة الواسعة والتصانيف والتعاليق 507 والحافظ أبو القاسم علي بن عساكر محدث الشام ومؤرخها ومن أعيان فقهائها صاحب تاريخ دمشق المشهو 571 وكتابه من أعظم المفاخر في التاريخ معدن أدب وركاز علم. وحمزة بن أسد أبو يعلي التميمي الدمشقي العميد بن القلانسي الكاتب صاحب كتاب ذيل تاريخ دمشق المطبوع. تولى رياسة دمشق وجمع بين كتابة الإنشاء وكتابة الحساب توفي في عشر التسعين وأربعمائة، وتوفيق بن محمد المهندس المنجم الأديب الدمشقي وله تصانيف 516 وأبو البيان محمد بن محفوظ(4/35)
القرشي له عدة تصانيف 501. ومخلص الدين أبو البركات عبد القاهر ابن أبي جرادة الحلبي كان أميناً على خزائن نور الدين وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً مستحسن الفنون من التذهيب البديع وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستظرفة. وعبد الرحيم البيساني المشهور بالقاضي الفاضل الكاتب العالم صاحب الرسائل والتصانيف الجيدة ومحيي الدين بن الزكي الفقيه الخطيب 598 وعماد الدين الأصفهاني العالم الكاتب الشاعر صاحب التصانيف ومنها الفتح القدسي المطبوع 597 ومحمد الشهرزوري الدمشقي الفقيه الأديب الشاعر الكاتب 572 وعبد الله بن أبي عصرون الفقيه له عدة مصنفات 585. وعلي بن جعفر البلخي الدمشقي من أئمة الحنفية 548 وسُلَيم بن أيوب أحد أوعية العلم صنف الكثير في التفسير
والحديث والفقه والعربية نشر العلم في صور 547 والحافظ محمد بن طاهر المعروف بابن القيسراني المقدسي كان جوالاً في الآفاق يجمع بين الذكاء والحفظ وحسن التصنيف وله تصانيف كثيرة 567 وبهاء الدين بن شداد قاضي العسكر في زمن صلاح الدين يوسف الفقيه الكاتب المؤرخ صاحب التاريخ المطبوع في سيرة صلاح الدين نشأ في حلب وعظم في أيامه شأن الفقهاء لعظم قدره وارتفاع منزلته ومجد الدين طاهر ابن نصر الله بن جهبل الحلبي والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيين كان إماماً في الفقه والحساب والفرائض، ومحمد بن خضر المعري شاعر. وتقي الدين عبد الغني الجماعيلي له عدة مصنفات في الرجال 600 والحسين الأسدي مسند دمشق 551 وقطب الدين النيسابوري العالم الفقيه 578 والحسن بن هبة الله بن صصري التغلبي المحدث 586 وتاج الدين الخراساني الفقيه الصوفي 584 وتقية بنت غيث الأرمنازي الصوري الشاعرة الأديبة ولها شعر سائر 579 وعلي بن الموازيني مسند دمشق 514 وأبو طاهر بركات الخشوعي المحدث امتاز بالسماع 598. وموسى البلاغاشاني الفقيه 506 وعلي ابن إبراهيم الحسيني الخطيب 508 وهبة الله بن أحمد الأكفاني الأمين المحدث 524 وعلي بن مسلم السلمي الدمشقي الفقيه 532 ونصر الله بن محمد المصيصي الدمشقي العالم 542.
ومن الشعراء والأدباء أحمد بن الخياط الدمشقي الشاعر الكاتب الأديب(4/36)
517 وأحمد بن منير الطرابلسي الشاعر الهجاء الوصاف المشهور 548 وطراد بن علي المعروف بالبديع كاتب شاعر 524 وأبو الوحش الشاعر وعبد القاهر بن عبد الله الوأواء الشاعر الأديب 551 طبع ديوانه. وعرقلة الدمشقي النديم الخليع الشاعر ومحمد بن حرب النحوي الأديب 580 والحسين ابن رواحة الأنصاري الحموي الفقيه الشاعر 585 ومسلم بن خضر ابن قسيم الحموي الشاعر، والحسن
بن أبي الحسن صافي النحوي المعروف بملك النحاة له مصنفات في الفقه والأصلين والنحو وله ديوان شعر 568 وحسان بن نمير العقيلي الدمشقي الشاعر 567 وعلوي بن عبد الله بن عبيد الشاعر الحلبي المعروف بالباز الأشهب الأديب المتفنن 596 وأسامة بن منقذ صاحب كتابي الاعتبار ولباب الآداب وكلاهما مطبوع شاعر كاتب. وزرعة ابن موسى أبو العلاء الطبراني النصراني كاتب الأمراء بني منقذ كان معاصراً لعبد الله بن محمد بن سنان شاعر.
وقد جاء حلب الشهاب السهروردي في عهد ملكها الظاهر غازي وهو فيلسوف قتله صلاح الدين بدسائس الفقهاء قتل بقتله الحكمة، وهي صناعة الصنائع حتى إن سيف الدين الآمدي الفيلسوف النظار الكبير في القرن التالي لم يجرؤ أن يقرئ أحداً شيئاً من العلوم الحكمية، وبعد ذلك انقطعت الفلسفة من هذه الديار ولا تقرأ إلا أشياء قليلة منها وقل النابغون والمشتغلون بها، ولم نقف على حياة فيلسوف نشأ للشام من بين جميع من قام فيها من الأعلام، ولم ينشأ من الأفراد أمثال قطب الدين النيسابوري والشهاب السهروردي وسيف الدين الآمدي، ولقد أبان رنان كيف أن الفكر الديني لسوء حظ الإسلام تغلب بعد جدال طويل فخنق الحركة العلمية الفلسفية الباهرة التي جعلت المدينة العربية بتأثيرات الفارسية واليونانية والنسطورية واليهودية ردحاً من الدهر، وارثة المدنية اليونانية. قال: وأوربا مدينة لمدنية العرب ببقايا العلم الذي قطفت ثماره في القرون الوسطى.
العلم والأدب في القرن السابع:
لما خرب التتر ببغداد سنة 656 انتقلت الحركة الأدبية بحكم الطبيعة إلى(4/37)
الشام ومصر ولم تكن انقطعت منها كل الانقطاع من قبل، فهاجر كثير من العلماء من عاصمة العراق إلى دمشق والقاهرة. وفي هذا القرن تعينت المسالك العلمية وكثر الإخصائيون وتنوعت العلوم وتوفر المشتغلون بها وأنبغ الشام طبقة عالية عُدّت
تآليفهم من الأمهات في خزانة كتب الأمة العربية، ومرجعاً ثقة للأخلاف اقتبسوها من أعمال الأسلاف. فمن المؤرخين عمر بن أبي جرادة الحلبي العقيلي المعروف بابن العديم صاحب تاريخ حلب 660 وهو كمال الدين عمر بن الصاحب السعيد قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد بن الصاحب السعيد قاضي قضاة جمال الدين أبي غانم هبة الله بن قاضي القضاة مجد الدين أبي عبد الله محمد ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي الفضل هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة. بيت تسلسل فيه العلم خمسة بطون كانوا أجداد كمال الدين عمر أكرم به من بيت فضيلة وعلم. ومن مفاخر هذا القرن بحلب علي بن يوسف القفطي المعروف بالقاضي الأكرم أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر وله تآليف أكثرها في التاريخ والأدب 646 وكان يقوم بعلوم من اللغة والنحو والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ومن كتبه المطبوعة مختصر تاريخ الحكماء. وياقوت الرومي الحموي الجغرافي المؤرخ الرحالة صاحب معجم البلدان ومعجم الأدباء والمشترك وغيرها من الكتب الممتعة المنقحة المطبوعة 626 وفي حماة إبراهيم بن أبي الدم صاحب التاريخ الكبير المظفري في الملة اسلامية 642 وقام فيها عبد الرحيم البارزي قاضي حماة وابن قاضيها وأبو قاضيها. وفي حماة أيضاً علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف المهندس الرياضي 642 والقاضي جمال الدين بن واصل 697 كان إماماً مبرزاً في علوم كثيرة مثل المنطق والهندسة والأصول والهيئة ألف تاريخاً في أخبار بني أيوب وله عدة مصنفات منها الانبرورية في المنطق صنعها للانبرور ملك الإفرنج صاحب صقلية وانبولية وأنكبردة لما توجه إليه رسولاً في أيام الظاهر بيبرس سنة 659. ونبغ من المهندسين إبراهيم بن غنائم المهندس باني المدرسة الظاهرية الجوانية بدمشق،
واسمه لا يزال منقوشاً على يسار الداخل إليها في زاوية المدخل، وهو الذي هندس القصر الأبلق(4/38)
الذي قامت التكية السليمانية في القرن العاشر على أنقاضه. ونبغ في حماة الملك المنصور محمد بن الملك المظفر بن أيوب خلف عدة مصنفات منها المضمار في التاريخ وطبقات الشعراء وكان في خدمته قريب مائتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك. وجاء الناصر داود ابن الملك المعظم وكان شاعراً أديباً وفي أيامه راجت الفلسفة وأمن المشتغلون بها على أرواحهم. وجاء الأمجد بهرام شاه بن أيوب صاحب بعلبك وكان شاعراً رقيقاً وله ديوان 628 ونبغ في دمشق أحمد بن خلكان قاضي قضاتها الفقيه المؤرخ المدقق وصاحب وفيات الأعيان المنقح المطبوع 681 وأحمد بن القاسم بن خليفة المعروف بابن أبي أصيبعة الدمشقي الطبيب الأديب مؤلف طبقات الأطباء المطبوع 668 وعبد الرحمن أبو شامة له عدة تصانيف في التاريخ وغيره 665 ومنها تاريخ الروضتين وذيله والأول مطبوع. ويوسف بن قزاوغلي سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان في التاريخ، المطبوع منه الجزء الثامن وهو الأخير، أقام زمناً في دمشق 654 وعبد المنعم الجلياني الملقب بحكيم الزمان علامة في الطب والكحل والأدب والشعر وله عدة كتب منها عشرة دواوين من منظوم الكلام ومطلقه في مدح صلاح الدين لم يصلنا منها إلا المدبجات. ومن النوابغ في دمشق عز الدين الإربلي الفيلسوف الضرير كان بارعاً في الفنون الأدبية رأساً في علوم الأوائل يقرئ المسلمين وأهل الكتاب والفلاسفة 660 وعاش في دمشق أيضاً حكيمان عظيمان من حكماء الإسلام وماتا فيها هما سيف الدين علي الثعلبي الآمدي سيد العلماء وأزكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية والمذاهب الشرعية والمبادي المنطقية أقام سنين كثيرة في حماة مستتراً ممن كانوا تحاملوا عليه ونسبوه إلى الانحلال. وقد صنف في أصول الفقه وأصول الدين والمعقولات عدة
مصنفات طبع له كتاب الإحكام ومات في دمشق سنة 631 والثاني الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي الدمشقي صاحب المذهب المشهور في التصوف وله عدة مصنفات في الأخلاق وكلام القوم منها الفتوحات المكية وفصوص الحكم المطبوعان 638 ونبغ في دمشق شمس الدين الخوبي العالم في الحكمة والشرع والطب وغيره وله تآليف 637 ورفيع الدين الجلبي عالم بالعلوم الحكمية وأصول الدين والفقه والعلم الطبيعي والطب وله تآليف(4/39)
641 وإسماعيل بن عبد الكريم المعروف بابن المعلم كان شيخ الحنفية في وقته وشرف الدين بن الرحبي الطبيب الشاعر الأديب له تآليف 667 وأخوه جمال الدين بن الرحبي الطبيب العالم ورشيد الدين الصوري طبيب متفنن في علوم كثيرة وله عدة تصانيف في الطب. ومهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري طبيب متميز في العلوم الحكمية وأديب له من الكتب شرح التوراة 624 والصاحب أمين الدولة أبو الحسن بن غزال عالم بالطب له فيه مصنف لم يوضع مثله 643 ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي ويعرف بالدخوار عالم بالطب وهو صاحب المدرسة الطبية المعروفة بالدخوارية بدمشق، ونجم الدين يحيى بن اللبودي عالم في الحكمة والهندسة والعدد صاحب المدرسة الطبية المنسوبة إليه في دمشق وصاحب دار الهندسة أيضاً ألّف وله ثلاث عشرة سنة في الرد على عبد اللطيف البغدادي وله عدة مصنفات 621 وعلاء الدين علي بن أبي الحزم بن النفيس الدمشقي صاحب التصانيف الكثيرة كانت تصانيفه يمليها من حفظه وكان مشاراً إليه في الفقه والأصول والحدي والعربية والمنطق. وشمس الدين بن المؤيد العُرضي الدمشقي من الحكماء الذين كانوا بدمشق ودعاهم نصير الدين الطوسي لبناء المرصد وكان العُرضي وابنه محمد من علماء الفلك وتولى مؤيد الدين الأرصاد في مرصد مراغة وقد وضع محمد كرة لا تزال محفوظة في متحف درسدن في المانيا. وعثمان بن الصلاح المضروب به المثل
في كل فن 643 وعلي بن محمود اليشكري المنجم له يد طولى في علم الفلك وحل التقاويم شاعر خطاط 680 وبدر الدين ابن قاضي بعلبك عالم بالطب وعلوم الأدب له تصانيف طبية 650 ونجم الدين ابن المنفاخ ويعرف بابن العالمة وكانت أمه عالمة بدمشق وتعرف ببنت دهين اللوز طبيب عالم بالحكمة والمنطق والأدب له مؤلفات 652 عز الدين ابن السويدي الدمشقي عالم بالطب والأدب شاعر مجيد. يعقوب السامري عالم بالطب وعلوم الحكمة له عدة مصنفات 681 وعلي بن خليفة بن أبي أُصيبعة عالم بالطب والعربية وله كتب في الطب وغيره 616 وعبد العزيز بن رفيع الدين كان متميزاً في الحكمة والطبيعي والطب وأصول الدين والفقه والخسر وشاهي من أصحاب التصانيف الجليلة في المنطق والحكمة ومن تلاميذ فخر الدين الرازي وعفيف الدين التلمساني الدمشقي(4/40)
أديب له في كل علم مصنف 690 وعبد الرحمن بن محمد بن عساكر ابن أخي الحافظ أبي القاسم صاحب تاريخ دمشق كان فقيه وقته 620 وأحمد ابن هبة الله بن عساكر مسند دمشق 699 وكريمة بنت عبد الوهاب بن علي مسندة الشام أم الفضل القرشية الزبيرية وتعرف ببنت الحبقبق 641 وفاطمة بنت أحمد بن السلطان صلاح الدين المحدثة 678 وفاطمة بنت عساكر محدثة 683 وست العرب بنت يحيى بن قايماز أم الخير الدمشقية الكندية المحدثة. وست الكتبة بنت الطراح المحدثة وزينب بنت علي بن أحمد بن فضل الصالحية محدثة. وعائشة ابنة عيسى بن الشيخ الموفق المقدسي المحدثة 697. وعلي بن داود القحفازي شيخ أهل دمشق وخصوصاً في العربية. وعبد الوهاب ابن سحنون طبيب وله شعر وأدب وفقه 694 وزيد بن الحسين الكندي علامة في فنون الآداب مفنن عُرف بعلو السماع 613 وعلم الدين السخاوي المقري النحوي الأديب الفقيه له تصانيف 657 وإبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي شيخ القراء بدمشق 676 والقاسم بن أحمد
المرسي اللورقي شيخ القراء والمتكلمين 661 وعبد الكريم بن الحرستاني خطيب الشام 662 وعبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي شيخ الإسلام له تصانيف 660 والحافظ شمس الدين محمد بن جعوان الحافظ النحوي 682 ورشيد الدين الربعي مفسر لغوي كاتب 687 ومحمد بن سعادة مفسر أصولي فقيه نحوي عالم بالخلاف والأدب والفرائض 693 وجاء من المحدثين موسى بن عبد القادر الجيلي مسند دمشق 618 والحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله الأنماطي المحدث 619 ومكرم بن محمد بن أبي الصقر القرشي المسند الفقيه 635 وإسماعيل بن أبي اليسر التنوخي مسند الشام 676 وعبد العظيم وهو عبد الرحمن المعروف بالمسجف 635 والقاسم بن أبي بكر الإربلي المقري المحدث 680 ومحمد بن علي ابن الصابوني المحدث 680.
وجاء من العلماء في الشام عبد الله الجماعيلي الإمام في الخلاف والفرائض والأصول والفقه والنحو والحساب والنجوم والمنازل 620 ويعقوب بن صقلان المقدسي قرأ الحكمة على الفيلسوف الإنطاكي وعرف بها 626 ونجم الدين النخجواني كانت له عارضة قوية في علوم الأوائل ونفيس الدولة بن طُليب(4/41)
الدمشقي وولده صفي الدين النصراني الملكي ومحمد بن القيسراني الدمشقي عالم بالأدب والهيئة 630 وأبو الفضل بن يامين الحلبي عالم بالرياضيات وعلم حل الزيج وتسيير المواليد 604 وأحمد بن هبة الله المعروف بابن الجبراني الحلبي النحوي اللغوي وعبد الله اليونيني المحدث. ونجم الدين القمراوي عالم بالحكمة والشريعة. وشرف الدين المتاني عالم بالحكمة والشريعة وهما اللذان ذهبا إلى الموصل مختفيين ليلقيا الفيلسوف الأكبر كمال الدين بن يونس وحلا لغزه في الحكمة، وكان عجز العلماء عن حله، فسألهما عن موطنهما فقالا الشام فقال: من أي موضع منه قالا من حوران فقال: لا أشك أن أحدكما النجم القمراوي والآخر
الشرف المتاني. وفي هذا دليل على شهرتهما في العلوم الحكمية والدينية. وقمرا مزرعة مزرعة يقال لها قميرة اليوم ومتان قرية صغيرة وهما من قرى صرخد في جبل حوران.
وكانت بعض المدن عامرة بالعلماء مثل قنسرين التي خربت في القرن الرابع وكفر طاب التي خربت في أواخر الخامس. قال ابن العديم كانت كفر طاب مشحونة بأهل العلم وكان بها من يقرأ الأدب ويشتغل به. وهاتان المدينتان أصبحتا الآن قريتين حقيرتين، وكان في قرى غوطة دمشق علماء وفقهاء ويختلف إليها علماء دمشق يدرسون فيها فمن جملة تآليف الحافظ ابن عساكر كتب في روايات أهل داريا وكفرسوسة وصنعاء دمشق والربوة والنيرب ومن حدث بهما وأهل الحميرين وقبيبة وفذايا وبيت أرانس وبيت قوفا والبلاط وبيت سوا ودومة ومسرابا وحرستا وكفربطنا ودقانية وحجيرة وعين ثرماء وجديا وطرميس وبيت لهيا وبرزة. ومن هذه القرى ما دثر الآن، وذكر المحدثين من أهل مَنين وأهل بعلبك مما دل على العناية بالحديث في القرن السادس.
ومحمد بن مياس العُرّماني الشاعر الأديب وموسى القمراوي الفقيه الأديب المناظر 625 ومسعود بن أبي الفضل النقاش الحلبي الشاعر والتاج الصرخدي محمود بن عدي التميمي الشاعر المحسن 674 والرشيد البصروي سعيد بن(4/42)
علي أحد أئمة المذهب الحنفي النحوي الشاعر 684 وعلي بن بلبان الكركي 684 والفخر البعلبكي عبد الرحمن الحنبلي الفقيه المحدث 687 وعبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة قال الصفدي: لا أعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة وقبلها من نظم أحسن منه ولا أجزل ولا أفصح وبرع في الفقه وحدث كثيراً 662 ونبغ في حماة ابن بركات له تآليف في التاريخ. وأبو بكر بن الخيثمي الحموي كان إماماً في الأدب ومحمد بن المظفر بن أبي بكران الحموي عالم الأئمة الفقيه المحدث.
وعبد العزيز بن حجة الحموي الشاعر الأديب وأبو المحاسن محمد بن نصر بن عُنين الدمشقي الشاعر 632 ومحمد بن أبي الفضل الدَّولعي الفقيه الخطيب الدمشقي 635 ومحمد شمس الدين الأنصاري الكاتب بدمشق 650 ومحمد بن العفيف التلمساني الشاعر 688 ومحمد بن سوار ابن إسرائيل شاعر 677 ومحمد بن عبد المنعم التنوخي شاعر 669 وابن الساعاتي الشاعر الدمشقي صاحب الديوان المطبوع604 وفتيان الشاغوري الدمشقي الشاعر المبدع 615 وتقي الدين اليلداني المحدث 655 وعلي بن عمر المشد شاعر 656 وأبو المحاسن الشواء الشاعر الحلبي 635 ومحمد بن أبي اليسر التنوخي الدمشقي الكاتب الشاعر 669 وعبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري البدري الدمشقي إمام فقيه ناظم ناثر له تصانيف جيدة 690 ومحمد ابن سعادة مفسر أصولي فقيه نحوي عالم بالخلاف والأدب والفرائض 693 وعبد العزيز السلمي الفقيه المجتهد له تصانيف 660 وعبد الرحمن بن نجم الحنبلي الواعظ الفقيه 634 ومحمد بن عبد الواحد السعدي المحدث الأصولي الفقيه له عدة تصانيف 643 والحافظ خالد بن يوسف النابلسي 663 وأبو السخاء فتيان الحلبي النحوي. ويحيى بن حميدة الحلبي المعروف بابن أبي طي صاحب التاريخ وطبقات العلماء 630 ويحيى بن محمود الثقفي الحلبي محدث. وأحمد بن محمد الطرسوسي الحلبي محدث ويعيش بن علي الحلبي النحوي المعروف بابن الصائغ شرح المفصل للزمخشري المطبوع وشرح تصريف الملوكي لابن جني المطبوع منه المتن 643. وكانت حلب لما دخلها ابن خلكان في هذا العصر في سنة 626 للاشتغال بالعلم أُمّ البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين. ومما انفرد(4/43)
به هذا القرن على صورة لم يسبق لها مثال إنشاء ثلاث مدارس للطب ومدرسة للهندسة في دمشق فكان في هذه العاصمة أعظم جامعة إسلامية عربية حوت العلوم الدينية والدنيوية فلم تكن دون القاهرة بأزهرها الذي
بني في القرن الرابع ولا بغداد بمدرستها النظامية.
الإمام ابن تيمية والإصلاح الديني والأدب والعلم في
القرن الثامن:
اختص القرن الثامن بقيام أعظم مصلح فيه وفي قرون كثيرة من قبله ومن بعده، أراد إرجاع الدين إلى نضرته الأولى، وتعريته من القشور التي ألصقها به الجهلة المتنمسون، فآذوه وعذبوه، وسجنوه ونفوه، ونعني به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية نابغة النوابغ في الشرع وصاحب التآليف العديدة الممتعة المطبوعة، وإمام المعقول والمنقول، وسيد العلماء، ورأس الفقهاء 728 وإن دمشق لتفاخر وحق لها الفخر بأنها تجلت فيها روح ابن تيمية، ودفنت أعظمه في تربتها، ولكن عصره يخجل كل الخجل من أعمال من ناهضوه مدفوعين بعامل الحسد، ولا سيما المشايخ بنو السبكي الذين آذوه فأكثروا من أذاه، طمعاً في نيل الحظوة من العامة والملوك واستعانوا بنفوذهم السياسي في حكومة مصر والشام فاعتقلوه زماناً في القاهرة والإسكندرية ودمشق، والأمة وعقلاء علمائها تقدسه حتى لقي ربه. وقد أشبه ابن تيمية في دعوته في الإسلام لوثيروس صاحب المذهب الإنجيلي في النصرانية بيد أن مصلح النصرانية نجح في دعوته، ومصلح الإسلام أخفق ويا للأسف.
قال السيوطي: إن دمشق كثر بها العلم في زمن معاوية ثم في زمن عبد الملك وأولاده وما زال بها فقهاء ومحدثون ومقرئون في زمن التابعين وتابعيهم ثم إلى أيام أبي مسهر ومروان بن محمد الطاطري وهشام ودحيم وسليمان بن بنت شرحبيل ثم اصحابهم وعصرهم. وهي دار قرآن وحديث وفقه، وتناقص بها العلم في المائة الرابعة والخامسة وكثر بعد ذلك ولا سيما في دولة نور الدين(4/44)
وأيام
محدثها ابن عساكر والمقادسة النازلين بسفحها ثم كثر بعد ذلك بابن تيمية والمزيّ وأصحابهما.
ونبغ أفراد في هذا العصر ولا سيما في الفلك والتاريخ والجغرافيا والحديث، ومنهم بدمشق البرزالي محدث الشام وصاحب التاريخ والمعجم الكبير 740 والحافظ جمال الدين المزي صاحب التصانيف 742 والحافظ محمد بن قايماز الذهبي عالم الشريعة والأدب والتاريخ وله عشرات من المصنفات أكثرها في التاريخ والرجال منها تاريخ الإسلام والمشتبه وميزان الاعتدال وطبقات الحفاظ وهذه الثلاثة الأخيرة مطبوعة 748 والحافظ عماد الدين بن كثير المفسر المؤرخ الفقيه صاحب التآليف ومنها تاريخه المطول المطبوع 774 ومحمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي الإمام الحجة المجدد من أكبر أنصار شيخ الإسلام ابن تيمية 751 طبعت بعض كتبه في السنة ومن أهمها إعلام الموقعين. وأحمد بن فضل الله العمري الدمشقي إمام أهل الأدب والتاريخ والجغرافية والأسطرلاب وحل التقاويم وصور الكواكب وله عدة مصنفات منها مسالك الأبصار والتعريف بالمصطلح الشريف وهما مطبوعان. ومسالك الأبصار معلمة أدبية تاريخية كبرى 749 وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الأديب المؤرخ صاحب الكتب المهمة من المطبوع منها الوافي بالوفيات أجزاء ونكت العميان وشرح قصيدة ابن زيدون والأرب من غيث الأدب وتشنيف السمع والغيث المنسجم ونسب الجراكسة ولوعة الشاكي وجنان الجناس إلى غير ذلك 764 والملك المؤيد إسماعيل أبو الفداء وكان عالماً فقيهاً مؤرخاً جغرافياً فلكياً منها تاريخه وكتابه تقويم البلدان وهما مطبوعان 732 وكان يفضل على العلماء كثيراً أوى إليه أثير الدين الأبهري فرتب له ما يكفيه ورتب لجمال الدين ابن نباتة في دمشق كل سنة ستمائة درهم غير ما يتحفه به. وبعمل الملك المؤيد أبي الفداء
وعمل أسرته من قبل ومن بعد أصبحت حماة مدينة علم وأدب وخرجت رجالاً يفتخر بهم في تاريخ العلم وكانت أشبه القرى في القرون الأولى للفتح الإسلامي. ومثل هؤلاء الملوك على صغر ممالكهم كانوا مادة العلم والأدب في تلك العصور، وكثيراً ما كان ملوكنا هؤلاء يحتالون(4/45)
لنشر العلم بطرق غريبة حتى أن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة. ومن قرأ المفصل تعلم النحو والأدب معاً. وفي أواخر دولة المعظم عيسى هذا وفي دولة أبيه داود اشتهر بدمشق الاشتغال بعلوم الأوائل وكثر ذلك فأُخمد في الدولة الأشرفية. ولعل ما نال أصحاب ابن حزم الظاهري من الضرب الذي أوعز به ملك مصر إلى فقهاء الشام في القرن الثامن كان من جملة ما ارتآه الجامدون من الأسباب للنيل من المجددين.
وجاء في هذا العصر أبوبكر محمد الأنصاري المعروف بشيخ الربوة الدمشقي كان يعرف الرمل والأوفاق ونحو ذلك من العلوم وهو صاحب نخبة الدهر في القوزموغرافيا والجغرافيا المطبوع والسياسة في علم الفراسة 727 وأبو بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد له تآليف كثيرة. ومحمد الأكمل بن مفلح الدمشقي الفقيه المؤرخ 764 ومحمد بن شاكر الكتبي صاحب التصانيف منها فوات الوفيات المطبوع وعيون التواريخ 764. وعمر بن الوردي المعروف بابن أبي الفوارس صاحب التاريخ وديوان الشعر والمقامات المطبوعة كان فقيهاً أديباً 749. وعلي بن إبراهيم علاء الدين بن الشاطر الفلكي الدمشقي 777 ويعرف أيضاً بالمطعم الفلكي، كان أوحد زمانه يعرف تطعيم العاج وعالماً بالهيئة والحساب والهندسة وكانت له ثروة ومباشرات ودار من أحسن الدور وضعاً وأغربها، وله الزيج المشهور والأوضاع الغريبة التي منها البسيط الموضوع في منارة العروس بجامع دمشق يقال: إن دمشق زينت عند وضعه، وفي تاريخ
الصالحية أن ابن الشاطر هو صاحب الأسطرلاب والبسيط وكان له نظر على التوقيت بالجامع وألف الزيج والكرة وله الرسالة عليها. ويعرف علم الخيط في المزولة وتركيبها.
ومن المهندسين محمد بن إبراهيم المهندس والمعلم عمر بن نجيم والمعلم محمد الصفدي والمعلم علي بن محمد التقي المهندس كان معاصراً لابن فضل الله وحدثه بأحاديث عن الجامع الأموي وشهاب الدين احمد الحموي النقاش كتب الختمة(4/46)
الشريفة من أولها إلى آخرها على خوصة مفصلة الأجزاء والسور. ومن المحدثين الحافظ علي بن محمد اليونيني البعلي 701 قال الزبيدي وله ولأبيه ترجمة حسنة وإخوته البدر الحسن والقطب موسى وأمة الرحيم حدثوا ومن ولده الصدر عبد القادر وعم أبيه الزين عبد الغني وهم بيت علم وحديث. وعمر بن إبراهيم العجمي الحلبي فقيه فرضي حاسب له مصنفات 777 وحسن بن عمر بن حبيب الحلبي له عدة تآليف منها درة الأسلاك في دولة الأتراك وأكثر كتبه مسجعة 779 وعلي بن مظفر الداعي المقرئ المحدث الكاتب وقف التذكرة الكندية في خمسين مجلداً وضعها في المدرسة السميساطية وهي بخطه في فنون مختلفة716 وقاضي القضاة بدمشق عبد الله المقدسي 731 والجلال القزويني إمام البيان صاحب المصنفات والمثل السائر في الخطابة 739 وعلي ابن سليم بن ربيعة الأذرعي فقيه أديب نظم التنبيه في افقه في ستة عشر ألف بيت وشعره كثير 732 وعبد الله بن مروان الفارقي الخطيب الفقيه 703 وأحمد بن إبراهيم بن سباع الفزازي الخطيب النحوي المحدث 705 ومحمد بن أبي بكر الأرموي القرافي صاحب التآليف 714 وصلاح الدين خليل ابن كيكلدي الدمشقي ثم المقدسي أخذ عن مشايخ الدنيا له عدة مصنفات محررة 761 وشيخ قراء دمشق أحمد بن محمد بن أبي الحزم سبط السلعوس 731 وأحمد بن البرهان له مصنفات 738. ومحمد بن عبد
الهادي البحر الزاخر في العلم 744 وشيخ القراء ذو الفنون إبراهيم بن عمر الجعبري بالخليل 732 وتصانيفه كثيرة. ومحمد بن جماعة الكناني الحموي له معرفة بفنون وله عدة مصنفات 733 ومحمد بن علي المؤذن المعروف بابن أبي العشائر 789 له عدة مصنفات منها تاريخ قنسرين. وعبد الرحمن الفقيه المواقيتي سبط الأبهري وكان له يد طولى في الرياضي والوفق والعمليات ومشاركة في فنون 733 وهبة الله البارزي الجهني الحموي المؤلف العالم المشهور 738 وعثمان بن محمد البارزي الحموي شرح الحاوي في الفقه 730 وإسماعيل بن محمد بن جمال الدين بن الفقاع الحموي 715 العالم بالقرآت العربية درس في عدة مدارس بحماة وشهاب الدين السبكي الفقيه له تآليف 771 والكمال ابن الزملكاني الفقيه الأصولي العالم بالعربية صاحب الرسائل 727 والأمير(4/47)
العالم الشاعر أبو بكر محمد بن صلاح الدين بن صاحب الكرك 730 وسليمان ابن أبي العز الأذرعي الفقيه 707 والقاسم بن محمد الإشبيلي المحدث المؤرخ 739 ومحمد بن سليمان الصرخدي المصنف الجامع بين أشتات العلوم 792 وقاضي القضاة يوسف المحجي 738 وابن أخيه محمود بن محمد ابن جبلة الخطيب ومحمد بن إسماعيل الكفر بطناوي من فقهاء المدارس. وقاضي قضاة دمشق إبراهيم بن عبد الباعوني ومحمد بن يعقوب المعروف بابن الصاحب الحلبي 763 فقيه أديب كاتب ومحمد بن عيسى البعلي كان صاحب فنون 730 وأسمى بنت محمد بن سالم بن صصري التغلبية المسندة المحدثة 733 وزينب بنت الكمال محدثة قرأ عليها كبار العلماء. وست العرب ابنة محمد بن علي الدمشقية المحدثة كانت حية سنة 766 ومن الأطباء سليمان بن داود كبير الأطباء بدمشق 732 وأحمد بن الصلاح البعلبكي الطبيب في بعلبك صاحب التآليف.
ومن الشعراء والكتاب علاء الدين بن غانم كاتب شاعر 737 والحسن بن علي
المحدث الكاتب المجود 732 ومحمد بن الحسن الصائغ العروضي الأديب الشاعر له تآليف 722 وأحمد أبو جلنك الشاعر الحلبي 701. ومن كتاب هذا القرن الشهاب محمود الحلبي صاحب حسن التوسل في معرفة صناعة الترسل 755 وأحمد الأنصاري. إلى أمثالهم ممن نبطوا العلم ونشروه وأظهروه.
ويلاحظ أن أعلاماً من العلماء اشتهروا في هذا القرن والذي قبله وبعده، وكثير منهم نشأ من قرى الجنوب والشمال، والقرى ما زالت مادة المدن في العلم والأدب كما هي في الزرع والضرع، ومن مواطنهم اليوم من لا يعرف شيئاً مما يطلق علي اسم العلم، وبعضها في جاهلية جهلاء، مثل زملكا وحرستا وكفر بطنا والمزة ويلدا وداريا وإزرع ومحجة ونوى والجيدور ويبرود والبقاع وعجلون وصرخد ومتان وقمرا وحسبان والكرك وجبرين ويونين وإنطاكية وصفد وبعلبك والمعرة وكفرطاب وشيزر. وتوشك بعض تلك القرى أن تدثر، وأعمال النابغين فيها خالدة خلود الدهر فسبحان من هذا شأنه.(4/48)
العلوم في القرن التاسع:
بدأت طلائع الانحطاط في القرن التاسع، فلم ينبغ في الشام رجل أحدث عملاً علمياً عظيماً، أو دل على نبوغ في فرع من فروع العلم، وكثر في الجماعون والمختصرون والشارحون من المؤلفين، والسبب أن حكومة المماليك البرجية والبحرية كانت تشتد في إرهاق المتفلسفة والمتفقهة على غير الأصول المتعارفة التي لم يشتهر منها سوى أربعة أئمة: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي. فكان المخلف قليلاً يعزر على مذهب المالكية، والقتل أيسر مراتب التعزير عندهم، ثم زادت الحال اشتداداً في أوائل القرن بانسيال جيوش تيمورلنك على القطر، وقتله لبعض العلماء، وحمله إلى سمر قند كل ممتاز بعلم أو صناعة. ومع هذا نشأ في هذا القرن أفراد قلائل في العلم ذكر التاريخ تراجمهم، ومنهم أبو بكر بن أحمد ابن قاضي شهبة صاحب الطبقات وغيره 851 وأحمد بن علاء الدين حجي الحسباني الدمشقي الحافظ المؤرخ له كتاب سماه الدارس في أخبار المدارس ولعله الأصل لكتاب النعيمي في المارس وله ذيل على تاريخ ابن كثير وغيره 815 وأحمد بن محمد بن عربشاه له عدة مصنفات في الأدب والتاريخ شاعر كاتب مجيد في اللغات العربية والفارسية والتركية ومن تآليفه عجائب المقدور في أخبار تيمور وهو مطبوع 854 وصالح بن يحيى صاحب تاريخ بيروت وأمراء الغرب المطبوع كان في أواسط القرن التاسع ونقل عن أحمد بن شباط الغربي الأديب والمؤرخ أيضاً. ومن الفقهاء إبراهيم بن محمد العجلوني الفقيه كان في الشميين نظير البيجوري في المصريين 825 وإبراهيم بن إبراهيم النووي متميز في الفرائض والحساب ومتعلقاتهما له تآليف 850 وإبراهيم بن علي الحسني البقاعي له مصنفات في الفقه والنحو والمنطق والحكمة وأدب البحث وغيرها. وإبراهيم بن محمد بن مفلح فقيه 803 وعبد الله بن مفلح رئيس الحنابلة 834 وتقي الدين الحصني عالم له مصنفات في الفقه وغيره 829 وأبو بكر محمد بن مزهر
الدمشقي الفقيه انتهت إليه رياسة عصره 832 وعلاء الدين البهائي الغزولي عالم دمشق 885 له كتاب مطالع البدور في منازل(4/49)
السرور مطبوع، وإبراهيم البقاعي ترك مائة مؤلف كان إماماً بالعربية والأدب والدين والتاريخ له نظم الدرر في تناسب الآي والسور في التفسير وعدة تواريخ للرجال، وعبد الله التنوخي الأمير اللبناني المعروف بالسيد فقيه أديب مشارك في الطب والفلك طبعت بعض رسائله في الوعظ 884، ومحمد بن أحمد الباعوني 871 له مؤلفات منها منظومات في التاريخ.
ونشأ في هذا القرن أحمد الطولوني كبيرالمهندسين وكان أبوه وجده مهندسين. وخليل بن جمال الدين الأديب المؤرخ الدمشقي صنف تاريخاً للحوادث وغيره 815 ومحمود العيني 855 الفقيه المؤرخ له عدة مصنفات في التاريخ وغيره. وعبد الرحمن ابن العيني عالم دمشق في هذا القرن. وأحمد المقدسي المشهور بابن زوجة أبي عذيبة 856 صاحب تاريخ دول الأعيان. وأحمد بن حجر العسقلاني الفقيه المحدث المؤرخ 852 صاحب تاريخ الدرر الكامنة المطبوع وإنباء الغمر. وأحمد بن خليل المعروف بابن اللبودي له أدب وشعر وبعض تآليف 896 وأحمد بن المحوجب عالم بالدينيات واللسانيات. وأحمد بن عبد الله العامري فقيه أصولي له تآليف. وأحمد بن محمد الكشك عالم فقيه 837 وزين الدين بن رجب الحنبلي له عدة مصنفات ومنها طبقات الحنابلة المطبوع. وأبو العباس المالكي الفقيه العالم المفنن له عدة مصنفات. وعبد الرحيم بن عبد الرحمن الحموي فقيه أديب له مصنفات. ومحمد بن خليل القباقيبي الحلبي 849 إمام في القراآت صنف فيها. وعبد الله ابن قاضي عجلون فقيه عالم بالمعقولات 865 وقاضي القضاة العوني الناصري خطيب الخطباء 815. وصدقة الجيدوري المقرئ 825 ونور الدين أبو الثناء خطيب الدهشة استوطن حماة له تآليف كثيرة. ومحمد الجزري الدمشقي
المقرئ صاحب المصنفات الجليلة منها كتاب الطبقات، والنشر في القراآت العشر طبعاً 833 وعائشة بنت عبد الهادي محدثة دمشق 815 وأبو البقاء البدري له تآليف 887 وعلاء الدين ابن خطيب الناصرية الحلبي المؤرخ 843 وأبو بكر بن علي بن حجة الحموي الأديب الشاعر صاحب الخزانة وثمرات الأوراق وغيرهما وهما مطبوعان وكان رئيس أدباء عصره 837. وزين الدين ابن الشحنة الحلبي الفقيه المؤرخ 815 كتب(4/50)
في عدة فنون وله أراجيز في اللغة والدين والتصوف والأحكام والفرائض. ومحمود ابن الشحنة الفقيه الشاعر الأديب 890 له عدة تآليف منها الدر المنتخب في تاريخ حلب طبع مختصره. وأحمد السرميني الحلبي الفلكي 824 كان إماماً في الهيئة وحل الزيج وعمل التقاويم. وعبد الملك البابي الحلبي 839 عَلَم بالقراءات له نزهة الناظرين في الأخلاق. وعز الدين الدين ابن عبد عبد السلام السعدي المقدسي العالم الرحلة صاحب التآليف 850. والبدر البشتكي محمد بن إبراهيم الدمشقي 830. وعلي بن خليل الطرابلسي 844 له كتاب في الفقه اسمه معين الحكام. وابن حبيب الحلبي 808 له عدة مصنفات. وعبد الله بن جماعة المقدسي صاحب التآليف 865. والبرهان الحلبي المحدث 841 وعبد الله توقشندي المقدسي عالم زمانه في الأرض المقدسة 867.
ومن علماء السريان نوح البقوفاوي بطريرك اليعاقبة في حلب. وقد امتاز هذا القرن بكثرة المدارس في لبنان قال الدويهي في حوادث سنة 875هـ: وقد أحصينا أسماء من كان من النساخ في ذلك العهد ممن وقفنا على كتبهم فإذا هم ينيفون على مائة وعشرة وفي ذلك الوقت أهملوا الخط الاسترنكالي المربع وتمسكوا بالسرياني المدور.
انحطاط العلم والأدب في القرن العاشر:
زاد انحطاط العلم في القرن العاشر، فلم تكن أيام الترك العثمانيين ميمونة على
المعارف في هذه الديار مثل القرنين السالفين. وكانت الآداب تسير إذ ذاك بقوة التسلسل منبعثة من قوتها القديمة، وإذ اختلف لسان الحاكم والمحكوم عليه، وخصت الوظائف الدينية الكبرى بجماعة السلطان من الترك، مالت النفوس عن العلم، اللهم إلا من كانت لهم فطر سليمة عشقوه لفائدته وقليل ما هم. ذكر المقدسي أن أهل الدولة العثمانية كانوا لا يولّون المدارس في الشام أحداً من أبناء العرب، زاعمين أن العلماء في العرب كثير وأنهم إن ولوا عربياً من غير طريقهم، كثر الطالبون من أبناء العرب وعجزوا عن إرضائهم، وضاق الأمر على ملازمي الروم. وحصر الترك عنايتهم بالآستانة كما حصروها من قبل ببورصة، فجعل الفاتح القسطنطينية عاصمة العلم، بل جامعة ذاك(4/51)
العصر، كما قال جودت. وكان العلماء بعد الفتح العثماني يأتون إلى القسطنطينية زرافات، ولذلك لم يكن حظ للولايات دع البعيدة من عناية الدولة العثمانية بها وترقيتها في العلم والآداب. وتسلسل العلم الديني في بعض البيوت بدمشق في هذا القرن والذي بعده على صورة غريبة مثل بني الغزي وحمزة وفرفور والعمادي والنابلسي ومفلح وممن نبغ بدمشق محمد بن محمد الغزي العالم بعلوم اللسان وغيرها وله عدة مصنفات 935. ومحمد بن بدر الدين الغزي الفقيه المفسر النحوي المحدث المقرئ الأصولي النظار المؤرخ وله مائة وبضعة مصنفات 984؟ وعبد الرحمن بن فرفور عالم بالتاريخ والأدب 992. وامتاز بالدينيات محمد بن حمزة 933 وعلي بن إسماعيل بن عماد الدين 971 وإسماعيل النابلسي 993. وإبراهيم بن عمر بن مفلح 917. وكان فيه محمد بن علي بن طولون النحوي الفقيه المحدث المؤرخ صاحب مصنفات كثيرة في التاريخ على اختلاف ضروبه ومنها المطبوع 953. وعبد القادر النعيمي المؤرخ المحدث ألف كتباً كثيرة منها الدارس 927. وعبد الباسط العلموي اختصر بعض كتب النعيمي وزاد عليها ومنها مختصر الدارس
981. وابن سكيكر الدمشقي المؤرخ له زبدة الآثار في ما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار 987. وبهاء الدين محمد بن يوسف الباعوني ومؤلفاته مثل مؤلفات عمه أراجيز تاريخية 910. ومن علماء القرن في دمشق محمد بن محمد بن سلطان العالم الفقيه صاحب التآليف 950. ومحمد بن مكي عالم بالطب والهيئة والهندسة والفلك 938 وعرف بالمهارة في الفقه وغيره. وأبو بكر البلاطنسي 936. وأبو بكر محمد القاري 935 وأبو الفتح البستري 962. وأحمد بن محمد الشويكي له تآليف 966 وإسماعيل الكردي الباني عالم بالمعقولات 956. وعثمان الآمدي وهو خطيب متفنن 985. ومحمد بن محمد بن عماد الدين عالم في الدينيات 986. وأحمد بن أحمد الطيبي الفقيه النحوي له عدة مصنفات 979 وأسد الشيرازي عالم بالبلاغة والعربية والمنطق والأصلين والفقه 998. ومحمد بن هشام نحوي 907، ومحمد بن منيعة 904. ومحمد الكنجي له يد في النحو والحساب والميقات والقرآن 932. ومحمد الكفرسوسي(4/52)
932. ومحمد الميداني عالم بالقراآت والعربية له عدة مصنفات 923. وإبراهيم بن الهلالي فقيه محدث 916. وأبو بكر ابن قاضي عجلون إمام مفنن 928.
وجاء في القدس عبد الرحمن بن محمد مجير الدين العليمي صاحب تاريخ القدس والخليل المطبوع. وبرهان الدين المقدسي الفقيه الأديب له عدة مصنفات 922. وفي غزة أبو عبد الله محمد بن قاسم الغزي 918 له كتب في الفقه والأصول وغيرها. وإبراهيم بن يوسف الحنبلي المعروف بابن الحنبلي له عدة كتب 959. وفي دمشق يوسف بن عبد الهادي 909 الفقيه المؤرخ صاحب الرسائل والكتب الكثيرة في الفنون المختلفة وهو أشبه بالسيوطي في مصر بكثرة تآليفه وتنوع موضوعاته طبع له كتاب مساجد دمشق. وفي حلب محمد ابن الحنبلي المؤرخ العالم له عدة تآليف منها تأليف في تاريخ حلب 971. وعبد البر ابن الشحنة
الحلبي الأصولي الفقيه 921. وعمر الشماع الحلبي المؤرخ المحدث له عدة مصنفات 936. وفي الرملة شمس الدين الرملي العالم الفقيه 923. ونشأ في حلب خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين 971 عالم بالحساب والميقات والهيئة والوفق والموسيقى والطب وهو صاحب شجرة الإفادة بشرقية جامع حلب الأعظم. وفي حماة محمود بن أبي بكر المعري الحموي الحلبي الفقيه. وفي دمشق هاشم بن السيد الطبيب ناصر الدين السروجي 964. وفي حماة محب الدين بن داود الحموي له تآليف. وفي دمشق موسى بن يوسف بن أيوب القاضي شرف الدين الدمشقي الشافعي ألف تاريخاً في مجلد وتذكرة في مجلدين 1000.
ومع انحطاط محسوس في حركة العقول في هذا العصر كان في الشام بعض النساء العالمات مثل فاطمة بنت قريمزان شيخة المدرستين العادلية والزجاجية معاً انتهت إليها رياسة أهل زمانها بحلب أخذت العلم عن زوجها 966. وبوران بنت الشحنة الشاعرة الحلبية 938. وعائشة الباعونية الدمشقية المحدثة المتصوفة الشاعرة المجيدة لها عدة تآليف ومنها البديعية وشعرها لطيف 922.(4/53)
الآداب في القرن الحادي عشر:
أما القرن الحادي عشر فشبيه بتاليه وسالفه من حيث قلة الإبداع والتجدد والاكتفاء بالموجود، لكن عدد العالمين والمتأدبين كان أكثر على ما يظهر أو أنه دوّن كله ولم يفقد، فقد نشأ في دمشق أحمد بن محمد الغزي فقيه له بعض التآليف 1017 ومحمد أكمل الدين بن مفلح المحدث الرحلة المؤرخ كتب تاريخاً ترجم فيه معاصريه وله تعليقات تاريخية مهمة 1011. والنجم محمد الغزي محدث الشام صاحب التآليف منها في التاريخ وتراجم الرجال 1061. وأحمد بن سنان القرماني الأديب المؤرخ صاحب التصانيف وله تاريخ آثار الدول المطبوع 1019. وعبد الوهاب الفرفوري الفقيه 1073. وأحمد بن أبي الوفاء بن مفلح
الحنبلي الفقيه المحدث عارف بالفرائض والحساب والتاريخ 1038. ومن الفقهاء محمد الداودي 1006. ومن علماء العربية محمد الخوخي 1022. وفي الفقه محمد الحصكفي صاحب التصانيف في الفقه وغيره 1088. ومحمود الباقاني له عدة تصانيف 1003. وأبو بكر ابن عبد عُرف أبوه بمنلا جامي 1077. وأحمد بن محمد الزريابي فقيه المالكية 1050. وكمال الدين بن مرعي العيتاوي الفقيه 1086. ورمضان العطيفي الفقيه النحوي الراوية 1095. وعبد الباقي بن فقيه فصة محدث مقرئ أثري 1091. ويحيى الشاوي له تآليف. وشمس الدين بن بلبان عالم بالسنة 1083. والشاكر الحموي كان متصوفاً ناظماً وناثراً وله ديوان في ثلاث مجلدات.
ومن أدباء هذا القرن وشعرائه أبو بكر بن منصور العمري 1048وإبراهيم الصالحي الشاعر المعروف بالأكرمي 1012. وعمر بن محمد المعروف بابن الصغير شيخ الأدب بالشام بعد شيخه أبي بكر بن منصور العمري شاعر مجيد عارف بالطب 1065. وإبراهيم الفتال الشاعر 1098. وأبو بكر ابن أحمد المعروف بابن الجوهري. ومحمد الكريمي 1068. وعبد الكريم الطاراني الشاعر الكاتب المؤرخ 1041. وعبد اللطيف البهائي شاعر متفنن 1082. وعبد اللطيف بن المنقار شاعر 1057. والحسن البوريني الشاعر اللغوي له تآليف منها تراجم رجال عصره وشرح ديوان ابن الفارض المطبوع(4/54)
1024. وأحمد العناياتي الشاعر 1014. وأحمد بن الشاهيني الأديب اللغوي 1053. وأحمد الصفوري الشاعر الأديب المؤرخ 1043. وأحمد ابن محمد بن المنقار أديب شاعر 1032 وإسماعيل النابلسي الفقيه له بعض التآليف 1062. ودرويش محمد بن أحمد الطالوي الدمشقي الأديب 1014 ومنجك بن محمد بن منجك صاحب الديوان المطبوع 1080. وشهاب الدين العمادي شاعر منشئ 1098. وعبد الحي العكري
المعروف بابن العماد مصنف أديب مفنن أخباري أثري له شذرات الذهب في التاريخ المطبوع 1087. وعبد الرحمن بن النقيب منش شاعر 1081. وإبراهيم العمادي أحد بلغاء الشام المذكورين 1098. وأحمد بن المنلا النخجواني الملقب بالمنطقي شاعر ناثر فقيه ينظم وينثر في الألسن الثلاثة العربية والفارسية والتركية. وظهر في دمشق في العلوم والفنون بضعة أفراد منهم علاء الدين بن ناصر الدين علي الطرابلسي اشتهر بالرياضيات والقراآت والفرائض والفقه وله تآليف 1032. وعمر بن محمد القاري عالم مفنن له باع في الهيئة 1046. وعمر بن يحيى المعروف بالدويك كان عارفاً بفنون عديدة منها الرياضيات والفلك والميقات وله شعر 1083 ومحمد بن يونس الطبيب الخطيب 1008 والمنلا محمود الكردي عالم في كثير من الفنون 1047. وابن الحكيم المصاحب أبو بكر بن محمود رئيس أطباء دمشق وخطيب أُمويها عالم في العلوم الغريبة مثل علم الوفق وعلم الحرف وله يد طولى في العقليات 1007. وعبد القادر ابن عبد الهادي رياضي فقيه أصولي 1100. وعبد الحي بن محمد بن عماد عالم بالرياضيات 1089. وإبراهيم بن الأحدب الزبداني محدث فرضي رحالة أخذ الفرائض والحساب عن العلامة محمد النجدي ويلحق بابن الهائم في هذين العلمين 1010. ونشأ في هذه المدينة أيوب الخلوتي من المتصوفة له في التصوف رسائل 1071. ومن الخطباء الشهاب أحمد بن يحيى البهنسي الخطيب ابن الخطيب ابن الخطيب وأحمد بن محمد البصراوي ويعرف بابن الإمام 1003.
وجاء في المدن الأخرى أبو الجود عبد الرحمن الحلبي البتروني كان محققاً في المذهب والتفسير والبحث نظاراً 1039. وأبو الوفاء محمد بن عمر العرضي الحلبي متفرد بالإتقان والحفظ والضبط له تاريخ معادن الذهب وله رسائل(4/55)
وتآليف 1071. ومحمود البيلوني الحلبي كان إذا تكلم في فن من العلم يقول سامعه لا
يحسن غيره 1007. وفتح الله البيلوني الحلبي له عدة مصنفات وحواش ومجاميع وشعر 1042. ونور الدين بن برهان الحلبي صاحب السيرة الحلبية المطبوعة وغيرها من الحواشي والشروح والرسائل 1044، وعلي البصير له كثير من التآليف في الفقه وغيره 1090. ومحمد بن حسن الكواكبي رئيس حلب في الفنون والعلوم ألف مؤلفات كثيرة في الفقه والتفسير وهو شاعر مجيد 1096. وعبد الوهاب بن رجب أمام في العربية 1015. وعلي البصير الحموي له تآليف في الفقه وغيره. ومحمد بن أبي بكر الحموي له تآليف عديدة في الفقه والتفسير والعربية ورسائل ورحلات وكان عالماً بالفرائض والحساب والمنطق والحكمة والزايرجا والرمل وهوجد الشيخ محمد المحبي مؤلف خلاصة الأثر 1016.
ومن علماء السريان أندراوس اخبيجان الحلبي أول بطاركة الكاثوليك. وأبو السعود الكوراني الحلبي الشاعر الأديب 1056. وأحمد بن خليل الأطاسي الحمصي الفقيه مفتي حمص وعالمها 1004. وأحمد بن النقيب الحلبي الأديب المتفنن 1056. وباكير بن أحمد المعروف بابن النقيب الحلبي لم يكن في حلب من أدباء عصره أكثر رواية منه للنظم والنثر 1094. وبشير بن محمد الخليلي القدسي الأديب الشاعر لم يكن في زمنه من أقرانه من يدانيه فيه إلاّ شرف الدين العسيلي 10060. وتقي الدين التميمي الغزي صاحب الطبقات السنية في تراجم الحنفية 1010. وحسن بن محمد أبو الفوارس الحموي المعروف بابن الأعوج أمير حماة شاعر اجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند أحد من أمراء عصره. وحسين الجزري الحلبي الشاعر 1033. وحسين بن عبد الله المعروف بالمملوك متصوف 1034. وخير الدين الرملي المفسر المحدث الفقيه اللغوي صاحب التآليف والفتاوى ومنها المطبوع 1081 ورجب بن علوان الحموي أمهر ما كان في العلوم الرياضية كالهيئة والحساب والفلك والموسيقى وغيرها 1087. وسرور بن
سنين الحلبي شاعر 1020وصالح بن سلوم الحلبي رئيس الأطباء 1081. وصلاح الدين الكوراني الحلبي شاعر 1049. وعبد الحق الحمصي الملقب زين الدين الحجازي(4/56)
عالم بالمعقولات. وعبد الله بن حجازي الحلبي الشهير بابن قضيب البان مطبوع بشعره وإنشائه في الألسن الثلاثة وله تآليف 1096. وفتح الله النحاس الحلبي الشاعر 1052. ومحمد القاسمي الحلبي شاعر ناثر 1054. ومحمد الكواكبي الحلبي عالم في المنقول والمعقول 1096. ومحمد بن عبد القادر الشهير بالحادي الصيداوي أديب فقيه 1042. ومحمد التمرتاشي الغزي رأس الفقهاء الحنفية له التآليف الكثيرة 1004. ومحمد بن علي المعروف بالحريري وبالحرفوشي العاملي الدمشقي اللغوي النحوي الأديب الشاعر صاحب التصانيف الكثيرة 1059. ومحمد البيلوني الحلبي راوية الشعر والوقائع خبير بصنعة النقد أديب 1085، ومحمد بن محمد الحلفاوي الحلبي أديب 1054 ومحمد العسيلي القدسي له تصانيف دينية. وموسى الرام حمداني الحلبي البصير متفنن في الرياضيات والعلوم الحكمية وعلم الحرف والأخبار والأدب 1089. وبهاء الدين العاملي الفقيه الأديب صاحب المخلاة والكشكول وغيرهما من كتب الأدب المطبوعة. ومحمد الفصي البعلبكي الفقيه وآباؤه كلهم رؤساء العلم في تلك الناحية وله تآليف 1024. وأبو الوفاء بن معروف الحموي له تآليف 1016. وحسين الشقر كان جامعاً لأنواع الفنون 1042. وعبد القادر بن قضيب البان كان له ما ينيف على أربعين تأليفاً 1040. وعبد النافع بن عمر الحموي كان متضلعاً من العلوم شاعراً 1016. وداود الإنطاكي ويعرف بالشيخ الصوري 1005 ألف كتاباً في السب سماه تذكرة أولي الألباب مطبوع. وتقي الدين الغزي التميمي 1005 له الطبقات الحنفية.
العلوم والآداب في القرن الثاني عشر:
دخل القرن الثاني عشر ولا تجديد فيه ولا جديد، إلا النظر في قضايا قديمة لاكتها الألسن قديماً لا إبداع فيها ولا اختراع، فالمسائل الدينية المقررة تتنقل خلفاً عن سلف، والآداب العربية تنحط حتى أصبح الشعر والنثر في حالة مخزية وصارت الفتوى والقضاء والمناصب العلمية ملعبة وشعبذة وسخرية والمدارس مأوى الحمير. كما قال أحد العارفين بذلك القرن. وجاء في العاصمة زمرة من العلماء منهم إبراهيم بن حمزة محدث لغوي 1120. وأبو الإسعاد(4/57)
بن أيوب عارف بعلوم جمة مبرز في علوم الأبدان 1106. وأبو الصفا المفتي فقيه مفسر نحوي. وأحمد بن حسين باشا الكيواني أديب كاتب صاحب الديوان المطبوع 1173. قال المرادي: وهو في هذا القرن أي الثاني عشر كالأمير منجك في القرن الماضي بل أرجح، وإن لم يكن أرجح منه فهو مقارن له. وأحمد بن عبد الكريم الغزي فقيه نحوي له تآليف 1143. وأحمد بن علي المنيني المحدث اللغوي النحوي الأديب له تآليف منها شرح تاريخ اليميني المطبوع 1172. وأحمد شاكر الحكواتي شاعر رحلة 1193. وأحمد الفلاقنسي أديب منشئ 1173. وأحمد المهمنداري فقيه مفنن له شعر وأدب 1105 وأحمد البهنسي فقيه أديب 1148. وأحمد البقاعي أديب مفنن شاعر 1171. وأسعد الطويل أديب 1150. وإسماعيل الحائك فقيه عالم 1113. وإسماعيل العجلوني رحلة له يد في العلوم لا سيما الحديث والعربية وله تصانيف 1162. وحامد العمادي فقيه فرضي شاعر أديب له تآليف. وخليل الحمصاني له يد في التفسير خاصة 1123. وزين الدين البصروي عالم أديب 1102. وسعيد الجعفري عالم أديب له شعر 1183. وسعيد السمان لغوي شاعر ناثر له تآليف 1172. وسعدي العمري شاعر ناثر 1147. وسعدي بن حمزة محدث فرضي حيسوب مهندس مساح 1132. وسليمان الحموي المعروف بالسواري كاتب شاعر 1117 وصالح الجينيني محدث فقيه 1170. وعبد الجليل
المواهبي عالم في المعقولات 1119. وعبد الرحمن الصناديقي فقيه أصولي نحوي 1164. وعبد الرحمن الغزي فقيه فرضي نحوي شاعر 1118. وعبد الرحمن الكيلاني عالم مدقق شاعر ناثر 1172. وعبد الرحمن البهلول شاعر لغوي أديب 1163. وعلي الطاغستاني عالم محقق مفنن 1129. ومحمد الدكدكجي صوفي مقرئ متفنن 1131. ومحمد الكفيري فقيه أديب 1150. ومحمد الغزي فقيه أديب مؤرخ نسابة 1167. ومحمد أمين المحبي عالم أديب مؤرخ له تآليف منها الأثر المطبوع 1111. ومحمود الجزيري عالم في الزايرجا والحرف والأوفاق والرياضيات 1141. ومحمود العبدلاني عالم محقق 1173. ومراد المرادي عالم في المعقول والمنقول له تآليف 1132.(4/58)
ومكي الجوخي عالم أديب متضلع له شعر وكتابة 1192. ومصطفى اللقيمي عالم فرضي حيسوب ناظم ناثر 1187. ومصطفى البكري عالم بلغت مؤلفاته 223 مؤلفاً بين مجلد وكراسين وأقل وأكثر وله نظم كثير وقصائد خارجة عن الدواوين تقارب اثني عشر ألف بيت 1162. ومصطفى العلواني الحموي أديب ناثر ناظم 1193. ومصطفى السفرجلاني متفنن في العلوم الحكمية له رسائل في المنطق والفلسفة والحكمة والكلام وشعر ونثر 1191. وموسى المحاسني عالم محقق 1173. وعبد الرحيم المخللاتي عالم في الفرائض والحساب والفلك 1140. وعبد الرحمن الكابلي عالم محقق 1135. وعبد الرحيم الطواقي فقيه نحوي فرضي له بعض تآليف ورسائل 1123. وعبد الرزاق الرومي فقيه له تآليف. وعبد السلام بن محمد المعروف بالكاملي أو الكامدي فقيه أصولي نحوي أديب 1147. وعبد الغني النابلسي إمام في التصوف والفقه والتفسير وعلوم الأدب وله تآليف كثيرة ونظم ونثر المطبوع منها شرح الطريقة المحمدية والبديعية وكتاب في الزراعة وديوان والرحلة القدسية والرحلة الحجازية وغيرها 1126. وعبد الفتاح بن
مغيزل أديب طبيب 1195 عبد القادر التغلبي فقيه فرضي 1135 عبد القادر الكردي عالم محقق له ثلاثون تأليفاً 1178. وعبد الله البصروي عالم محقق في العلوم والفنون مؤرخ 1170 عبد الله الطرابلسي أديب شاعر له تآليف ورسائل 1154 عبد الله المكتبي محقق في الحساب والفلك والهيئة والتقويمات 1162. عثمان الشمعة عالم بالدينيات وعلوم الأدب 1162. عثمان القطان عالم بالعقليات والنقليات 1115. عمر البغدادي عالم متصوف له رسائل 1194. عمر الرجيحي كاتب أديب 1130. علي العمادي عالم أديب 1117. علي التدمري فقيه نحوي فرضي عالم بالحرف والزايرجة والوفق 1131. علي كزبر عالم رحلة مقرئ 1165. محمد بن عيسى بن كنان مؤرخ أديب 1153. يوسف ابن محمد الطرابلسي رئيس الأطباء.
هذا غاية ما يقال في رجال دمشق أما في المدن الأخرى فقد نشأ في حلب طه الجبريني المفسر المحدث العالم بالمعقولات 1178. أحمد الكواكبي الفقيه المفسر الشاعر الأديب 1124. أبو السعود الكواكبي العالم المحقق(4/59)
الشاعر 1137. وبنو الكواكبي وبنو الشحنة في حلب من البيوت التي تسلسل فيها العلم عدة قرون. المطران جرمانوس فرحات 1145 كان يحسن عدة لغات وله تآليف بالسريانية والعربية طبع منها كتابه في النحو وهو تلميذ عالم عصره سليمان الحلبي. عبد الله زاخر 1162 مترجم الإنجيل وطابعه. عبد اللطيف الأطاسي الحمصي الأديب عالم بالكيمياء والأوفاق وغيرها وله شعر كان حياً سنة 1140. البطريرك ميخائيل جروة الحلبي. الايكونيموس بطرس التولوي. القس يوحنا زندو الحلبي. وعطاء الله زندو عبد المسيح لبيان الشاعر. والشاعران ميخائيل جبارة وأنطون ذكري. ويوسف الشراباتي. ويواكيم البعلبكي الواعظ له تآليف 1782م.
وأحمد العكي العالم الفقيه له تآليف كثيرة وشعر وأدب 1147 عبد الله الاطرابلسي
المعروف بالأفيوني الفقيه له عدة تآليف وشروح 1154. عبد المعطي الخليلي له فتاوى ورسائل كلها منتخبة 1154. إبراهيم الحاقلي له عدة تآليف ترجم عدة كتب من العربية إلى اللاتينية منها كتاب ابولونيوس في الهندسة ومختصر في الفلسفة الشرقية وعدد تآليفه 64 1664م. البطريرك اسطفان الدويهي العالم المؤرخ صاحب التاريخ المطبوع 1704م، علي البرادعي البعلي الواعظ كان جده الأعلى جلال الدين من العلماء الأجلاء. ومحمد التاجي الحنفي صاحب الفتاوى التاجية الفقيه 1114. السمعاني اللبناني كتب بالعربية واللاتينية منها المكتبة الشرقية 1768م وله شهرة في إيطاليا وإسبانيا وتآليفه كثيرة قال الدبس بعد أن عدد تآليفه: وأعجب بهذا الرجل الذي يعجز رجل وإن كان مغرماً بالمطالعة على أن يقرأ في حياته ما ألفه هو في أوقات فراغه. والقس يوسف الباني الحلبي ترجم عدة كتب إلى العربية في الدين المسيحي. والبطريرك مكاريوس الحلبي نبغ في أواسط القرن السابع عشر للميلاد وهو صاحب الرحلة إلى القسطنطينية وبلغاريا وروسيا.
العلم والأدب في القرن الثالث عشر:
كان القرن الثالث عشر تتمة القرن الثاني عشر، ولكن فيه بطء وضعف، نشأ فيه من دمشق محمد بن حسين الحلبي العطار العالم بالرياضيات والفنون(4/60)
1243 اتهم بالتساهل في دينه فالتزم بيته فألف عدة رسائل بالفنون الحربية والفلك والحساب طبع بعضها. وأحمد الكزبري العالم بالكتاب والسنة 1248. أحمد المنيني الفقيه المحدث 1256. أحمد بن إسماعيل بيبرس فقيه 1247 أسعد المنير فقيه 1242. حامد العطار المحدث المفسر 1263. كمال الدين الصمادي الجرائحي الدمشقي له تآليف في التاريخ 1209. حسن جينة فقيه أديب له رسائل في الأخلاق 1206. خليل الخشة فقيه 1242. رضاء الدين الحلبي فقيه 1286. شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد الفقيه الحكيم الأديب 1222. صالح الدسوقي له بعض رسائل في الفقه
والأدب 1246. عبد الرحمن الكزبري الفقيه المحدث 1262. مكسيموس مظلوم له خمسون تأليفاً ومعرباً 1855م. يوسف مهنا الحداد عالم بالدينيات والتاريخ والرياضيات يعرف اليونانية والعبرانية 1860م. حسين الغزي الحلبي أديب 1271. جبرائيل بن يوسف المخلع أديب يحسن الفارسية ترجم الكلستان للشيخ سعدي مطبوع 1851م. عبد القادر العمادي فقيه 1228. عبد الغني السقطي عالم مفنن 1236. عمر الغزي فقيه 1277. قاسم الحلاق فقيه مفسر محدث شاعر ناثر 1284. كمال الدين الغزي عالم مؤرخ شاعر صاحب التذكرة 1214. محمد المخللاتي فرضي موقت فلكي 1207. نجيب القلعي فقيه 1241. محمد عابدين صاحب التآليف والرسائل المتقنة منها حاشيته المشهورة ورسائله وفتاويه وكلها مطبوع. عبد الغني الميداني عالم بالأصول والفقه وفنون العربية 1299 عبد السلام الشطي شاعر فقيه 1295. مصطفى المغربي التهامي عالم أديب شاعر نحو سنة 1280. عبد القادر الحسني الجزائري عالم بالتصوف والأخلاق وله شعر ونثر وتآليف ومنها المواقف ورسائل منها مطبوع 1300.
ونشأ في حلب محمد نور الترمانيني 1250 له عدة شروح على بعض كتب الآلات والأدب وله شعر وأخوه أحمد الترمانيني 1293 خلّف عدة تآليف وحواش وشروح ومنها كتاب الجامع في الكيمياء. رزق الله حسون 1880م كاتب شاعر ضليع بالعربية وفنونها وله رسائل جيدة وهو أول من أنشأ صحيفة عربية بالاستانة. وفرنسيس مرّاش الأديب له عدة تآليف(4/61)
وديوان شعر 1873م. عمر الأنسي البيروتي الشاعر الأديب له ديوان مطبوع 1293. أمين الجندي الشاعر الرقيق له ديوان مطبوع 1257. بطرس كرامة الشاعر له ديوان مطبوع 1851م. ناصيف اليازجي الشاعر اللغوي الأديب صاحب المقامات والديوان وغيرهما من كتب النحو والبيان وكلها مطبوعة اشتهر في هذا العصر كثيراً 1871م. نقولا
الترك شاعر أديب له ديوان شعر وتاريخ حملة الفرنسيس على مصر والشام مطبوع وغيره. حسين بيهم البيروتي أديب له ديوان شعر 1292. محمد النصري كان في حدود المائتين وألف له مؤلفات كثيرة أشهرها شرح قصيدة كعب. نصر الله الطرابلسي شاعر 1840م. لأحمد البربير البيروتي شاعر عالم كبير له عدة مؤلفات طبع بعضها 1226. حيدر أحمد الشهابي اللبناني 1834م مؤرخ أديب له التاريخ المنسوب إليه المطبوع. محمد أرسلان اللبناني له مؤلفات في الفلك والتاريخ 1864م. ناصيف المعلوف الأديب الكاتب ألف 36 مؤلفاً طبع أكثرها. نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي له كتب في التاريخ والأدب. عمر اليافي متصوف له ديوان شعر 1234. محمد الدباغ له عدة مصنفات 1288.
العلوم المادية في منتصف القرن الثالث عشر:
وفي النصف الثاني من هذا القرن بدأت تباشير العلوم الرياضية والطبيعية، وكانت انحطت انحطاطاً أشبه بالاندراس، تقبل على الشام من طريق الديار المصرية، بواسطة النهضة التي انبعثت بعناية محمد علي عزيز مصر فإنه أنشأ مدارس للهندسة والطب والترجمة والفنون الجميلة والحربية والبحرية وغيرها، فتخرج فيها كثير من المصريين وبعض أفراد من الشاميين. وأخذت تسري من أنوارها أشعة نافعة إلى الشام.
ثم إن الدولة العثمانية أنشأت المدارس العالية في الآستانة ولا سيما المدرسة الحربية والطب، وبعد حين أحدثت مدارس الملكية والحقوق والزراعة والهندسة فأخذ بعض أفراد من الشاميين يدرسون فيها ولكن بالتركية، فكان ذلك إلى آخر عهد العثمانيين في ديارنا من العوائق الكبيرة في سبيل نشر العلم، لأن الدولة كانت تحرص على نشر لغتها، وأبناء العرب أو من يريد أن يسلك مسالك الجيش والطب والإدارة والهندسة والزراعة أرغمتهم الحالة على التخلي عن(4/62)
لغتهم، فجاء
أكثرهم ضعافاً حتى في العلم الذي أخصوا فيه، وكانوا أضعف من ذلك في لغتهم، فلم ينبغ منهم رجال اشتهروا وأفادوا كما نبغ من مدارس الوطنيين النصارى مثل مدرسة عين ورقة الأكليركية التي أُنشئت سنة 1789م ونبغ فيها كثير من البطاركة والمطارنة والكهنة من الموارنة في القرن التاسع عشر. قال الدبس: ومن هذه المدرسة خاصة انبعثت علوم اللغتين العربية والسريانية بين النصارى الشام وغيرها من العلوم والفنون، ومثل مدرسة كفتين للروم الأرثوذكس، والمدرسة الوطنية في بيروت، والجامعة الأميركانية في بيروت التي علّمت زمناً طويلاً العلوم بالعربية ومنها الطب، فجاء من تلامذتها أفراد خدموا الآداب العربية.
ونشأ في لبنان بطرس البستاني صاحب دائرة المعارف ومحيط المحيط وقطر المحيط وكان يعرف العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية والعبرانية واليونانية، ووجد من خديوي مصر إسماعيل وغيره من ملوك المسلمين وأمرائهم تنشيطاً على إتمام عمله، كما نشأ في تلك الحقبة أحمد فارس الشدياق اللغوي المحقق صاحب جريدة الجوائب وكتاب الساق على الساق وكشف المخبا والجاسوس على القاموس وسر الليال وغيرها وكلها مطبوع، ووجد هذا من عزيز مصر وباي تونس وملك باهوبال تنشيطاً كثيراً. وهنا يقضي الواجب أن نشير بالتكريم للأسرة العلوية المصرية أسرة محمد علي الكبير فإن رجالها في كل دور قد تقيّلوا آثار جدهم الأعظم في الأخذ بأيدي المعارف وبر المؤلفين والصحافيين والشعراء فعدموا من دعائم النهضة العربية الأخيرة والعاملين على الأخذ بأيدي العاملين فيها.
العلوم والآداب في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل
الرابع عشر:
ومن علماء القرن الأخير والذي بعده في دمشق سليم العطار محدث فقيه محمود الحمزاوي فقيه أديب له مصنفات. بكري العطار إمام العربية ولا سيما النحو والتصريف ثم الفقه والحديث. حسن البيطار فقيه متفنن. محمد الطنطاوي عالم بالعربية والأصول والفقه والفلك والميقات. حسن الشطي فقيه. محمد الجوخدار فقيه. عبد الله الحلبي فقيه أصولي. أحمد الحلواني شيخ القراء. محمد الخاني متصوف فقيه. عمر العطار فقيه عالم بالعربية. عبد الرحمن الطيبي فقيه. محمد المرعشلي أديب وفقيه. عبد الرحمن البوسنوي عالم بالعربية.(4/63)
أحمد فوزي الساعاتي عالم بالعلوم المادية والدينية. عبد المجيد الخاني أديب شاعر. عبد الحكيم الأفغاني عالم بالفقه والأصول. ملا عيسى الكردي فقيه أصولي. محمد محمود الأتاسي فقيه أصولي. علاء الدين عابدين فقيه أديب. صالح قنباز عالم بالتربية والطب له عدة رسائل وكتب. عبد الله السكري فقيه. محمد المنيني فقيه محدث. وفي بيروت يوسف الأسير عالم بالعربية والفقه وله شعر وأدب وعدة تآليف نشر العلوم الإسلامية والعربية بين نصارى لبنان 1307. إبراهيم الأحدب عالم بالتفسير والحديث والأصول والفقه واللغة والأدب وله عدة تآليف ثلاثة منها دواوين باسمه ونحو ثمانين مقامة ونظم مجمع الأمثال للميداني وشرح رسائل بديع الزمان وهما مطبوعان وغير ذلك من المقالات في الصحف 1308. أمين الشميل حقوقي مؤرخ له عدة تآليف 1897. إسكندر ابكاريوس له تآليف في التاريخ 1885 يوحنا ابكاريوس 1889 له قطف الزهور في تاريخ الدهور ومعجم إنكليزي مطول. محمد الحوت 1276 فقيه محدث له كتاب في الحديث. عبد الغني الرافعي الطرابلسي 1309 شاعر متصوف. محمد الميقاتي الطرابلسي 1302
شاعر. إبراهيم الحوراني الحمصي 1916م أديب رياضي فلكي له عدة تآليف ومقالات وتحقيقات. سليم كساب لغوي أديب له عدة مصنفات 1909م. ميخائيل مشاقة الدمشقي رياضي فلكي موسيقي مؤرخ من رجال الإصلاح الديني في النصرانية 1889م له تآليف. سليمان الصولة شاعر هجاء له ديوان 1891م. يوسف الدبس 1909م أديب له تاريخ سورية المطبوع. جرجس همام رياضي أديب له المعجم العربي الانكليزي والكتب المدرسية والهندسية 1920م. سعيد الخوري الشرتوني لغوي أديب صاحب معجم أقرب الموارد وغيره من الكتب اللغوية والأدبية كان متقناً للفقه الإسلامي. رشيد الشرتوني أديب نحوي كاتب له عدة كتب مدرسية وغيرها. رُشَيْد الدحداح اللبناني له عدة تآليف في التاريخ ونشر تآليف فيه 1889م. أديب إسحاق كاتب مترسل شاعر سياسي 1303. إبراهيم سركيس أديب له بعض الرسائل والمصنفات. سليم شحادة مؤرخ وهو أحد مؤلفي كتاب آثار الأدهار المطبوع. أنطون الصقال شاعر كاتب. قاسم أبو الحسن الكستي الشاعر الأديب له ديوان مطبوع(4/64)
1322. حسين الجسر فقيه أديب له عدة مصنفات منها الرسالة الحميدية في الرد على الدهريين وغيرها من المقالات في الصحف ومنها في الأخلاق والأدب 1327. يوسف ضيا الخالدي المقدسي له عكاظ الأدب والتحفة الحميدية في اللغة الكردية. روحي الخالدي له عدة تآليف منها علم الأدب عند الإفرنج والعرب. طاهر الجزائري العالم بالتفسير والحديث والفقه والأصول والفلسفة والتاريخ والأدب واللغة له بضعة وعشرون مصنفاً مطبوعة في فنون مختلفة وله التفسير ومعجم اللغة وغيره مما لم يطبع وكنانيش فيها آراؤه ومطالعاته يحسن الفارسية والتركية ويلم بالحبشية والسريانية والعبرانية والفرنسية 1339. محمد المبارك متصوف أديب لغوي شاعر ناثر له رسائل أدبية مطبوع بعضها 1330. محمد مرتضى متصوف فقيه أديب كاتب شاعر. عبد
الرزاق البيطار فقيه أديب له تاريخ رجال عصره مخطوط. جمال الدين القاسمي فقيه محدث أصولي أديب شاعر كاتب له تفسير القرآن وعدة كتب في الإصلاح الإسلامي وتاريخ دمشق وبعضها مطبوع 1332. عبد الله الحموي شيخ القراء. شاكر الحمزاوي فقيه. شبلي شميل فيلسوف كاتب أديب طبيب له تآليف وآثار في النشوء والارتقاء والفلسفة. جرجي زيدان مؤرخ كاتب قصصي له عدة مصنفات منها روايات تاريخية وتاريخ التمدن الإسلامي وآداب اللغة العربية 1914. رفيق العظم مؤرخ اجتماعي كاتب له عدة مصنفات منها أشهر مشاهير الإسلام 1343. سليم التنير كاتب باحث له تآليف ورسائل.
ومات من الفقهاء خالد الأتاسي. أبو الخير عابدين. أمين السفرجلاني أديب له بعض تآليف. أحمد الزويتيني الحلبي 1316 الفقيه. أحمد صلاح. محمد الزرقا. صالح الرافعي. أحمد الصديقي. طاهر الحسيني. يوسف الإمام. خليل التميمي. محيي الدين الحسيني. إبراهيم أبو رباح. بشير الغزي. مصطفى كرامة. صلاح الدين تفاحة. محيي الدين اليافي. حسين العمري إلى أمثالهم. وهلك في هذا القرن من الشعراء والكتاب والكاتبات والأديبات سليم قصاب حسن شاعر له ديوان مطبوع. نجيب حداد شاعر كاتب قصصي 1891م(4/65)
داود عمون شاعر أديب. يوسف خطار غانم، محمد الهلالي شاعر. إسكندر عازار. نعوم شقير له مؤلفان في تاريخ سينا والسودان مطبوعان. أمين حداد. نعوم لبكي. أنطون رباط. أبو الخير الطباع. محمد علي حشيشو. جرجي ديمتري سرسق. فرح أنطون له عدة تآليف وترجمات مطبوعة. إسكندر شاهين له عدة كتب مترجمة. شاكر شقير كاتب شاعر. محمد أرسلان. عمر حمد شاعر. عمر اليافي. محمود الشهال شاعر. نقولا رزق الله. جميل مدور. نوفل نوفل. أمين الشميل. صلاح الدين القاسمي. شاكر الخوري. له كتاب هزلي. أحمد الصابوني له تاريخ حماة مطبوع.
محيي الدين الخياط كاتب له عدة كتب مدرسية. حسن رزق. حسن بيهم كاتب متفنن. سليم سركيس كاتب هزلي. عبد الوهاب الإنكليزي. سليم الجزائري. شكري العسلي له عدة رسائل اجتماعية وأدبية. رشدي الشمعة شاعر كاتب. أحمد طبارة. عارف الشهابي. عبد الغني العريسي. جرجي حداد. سعيد عقل. باترو باولي. رفيق رزق سلوم. فيليب الخازن. فريد الخازن. محمد المحمصاني عبد الحميد الزهراوي. عبد القادر المؤيد. حسين وصفي رضا. بشارة زلزل له عدة كتب في الطب وغيره. محمد عبد القادر الحسني. محيي الدين الحسني له مؤلفات. شاكر عون. سليم بسترس. سليت تقلا. سليم عباس. سليم البستاني. أسعد الشدودي. عبد الغني الرافعي. شاكر أبو ناضر. خليل باخوس. سليم باز. سليم جدي. فيليب جلاد. نجيب حبيقة. يوسف حرفوش. أمين الخوري. يوسف دريان.
وهلك من النساء في العهد الأخير عفيفة كرم. وردة اليازجي. عفيفة اوزون. زينب فواز. وردة الترك. هيلانة البارودي. سلمى قسطالي. هنا كسباني. مريانا المراش. سارة نوفل. فريدة عطية.
المعاصرون من العلماء والأدباء:
ومن شيوخنا وكهولنا وشبابنا ونسائنا من اشتغلوا بالعلوم والآداب على اختلاف أنواعها وممن اشتهر منهم: 1ً علماء الدين والفقه والقضاء: سليم البخاري. رشيد رضا. بدر الدين الحسني. عبد الله العلمي. عبد الله الجزار.(4/66)
مسعود الكواكبي. سعيد العرفي. سعيد مراد الغزي. مصباح محرم. عبد المحسن الأسطواني. أحمد عباس. محسن الأمين. جرجس صفا. عطا الكسم. سعيد النعسان. سعيد الباني. بهجة البيطار. طاهر الأتاسي. يوسف النبهاني. محمود منقارة. عبد الكريم عويضة. عبد اللطيف نشابة. عبد الحميد الجابري. عبد القادر بدران. عبد القادر القصاب. طاهر المنلا الكيالي. أحمد النويلاتي. خالد النقشبندي. نجيب قباني. عبد
الكريم حمزة. محمد الأسطواني. محمد الكستي. إبراهيم هاشم. سليمان أحمد. طاهر أبو السعود. يوسف الإمام الحسني. محيي الدين الخاني. عيسى العكرماوي. منيب هاشم. نمر الداري فهمي الحسيني. عادل زعيتر. أحمد الزرقا. نجيب أبو صوان. مصطفى برمدا. حسن الشطي. عوني عبد الهادي. معين الماضي. يوسف الخيري. أمين عز الدين. إسماعيل حافظ. ميخائيل عيد البستاني. مصطفى الخاني. مصطفى نجا. فوزي الغزي. فتح الله أديب. علي الكيالي. عبد المجيد المغربي. محمد الحسيني. محاسن الأزهري. توفيق الدجاني. خليل الخالدي.
ومن المتفردين بالقراءات في دمشق: محمد الحلواني. عبد الله المنجد. أحمد دهمان. محمد القطب. عبد الرحيم دبس وزيت وغيرهم.
2ً العلوم الفلسفية والمادية: يعقوب صروف. منصور جرداق. جودت الهاشمي. مصباح حولاّ. فارس الخوري. سعيد البحرة. رشدي سلهب. درويش أبو العافية. شكري خليفة. أمين معلوف. عبد الوهاب المالكي. أميل خاشو. يوسف افتيموس. إبراهيم الدادا. وجيه الجابري. فيكتور كورنلي. إسماعيل باقي. أحمد رستم. مصطفى الشهابي. وصفي زكريا. جمال الفرا. يوسف قدورة. محمد الترمانيني. صلاح الدين الكواكبي. مصطفى تمر. هاشم الفصيح. عبد الوهاب القنواني. أسعد الحكيم. سعيد شقير. أحمد حمدي الخياط. مرشد خاطر. جميل الخاني. حسني سبح. محمد محرم. شوكة الشطي. جميل صليبا. جعفر الحسني وغيرهم.
3ً العلوم الاجتماعية والتاريخية والحقوقية: شكيب أرسلان. فارس نمر. داود بركات. خليل ثابت. عيسى إسكندر المعلوف. نقولا حداد. محمد رستم حيدر. نسيم صيبعة. سعيد حيدر. جرجي يني. عمر الصالح البرغوثي(4/67)
خليل طوطح. ميخائيل ألوف. قسطنطين الباشا. سليم شحادة. نجيب صليبا. رفيق التميمي. أسد رستم. راشد طبارة. أسعد منصور. سعيد المحاسني. زكي الخطيب. عارف
الخطيب. قسطنطين زريق. حبيب الخوري. روحي عبد الهادي. حسن فهمي الدجاني. أحمد سامح الخالدي. ساطع الحصري. حسن يحيى الصبان وغيرهم.
4ً الأدباء: عبد الله البستاني. لويس شيخو. أسعد خليل داغر. سليم الجندي. إسعاف النشاشيبي. عارف النكدي. كامل الغزي. قسطاكي الحمصي. الخوري بطرس البستاني. مصطفى الغلاييني. رشيد عطية. أمين ظاهر خير الله. حنا صلاح. رشيد بقدونس. أنيس المقدسي. جبر ضومط. جرجس منش. أحمد رضا. سليمان ظاهر. عزة دروزة. بندلي الجوزي. عبد الرحمن سلام. عبد القادر المغربي. عبد القادر المبارك. إبراهيم منذر. أنيس الخوري المقدسي. ميخائيل صقال. نجيب ميخائيل ساعاتي. جرجس شلحت. سامي جريديني. حسني عبد الهادي. راغب الطباخ. سامي الكيالي. عز الدين علم الدين. عبد الله النجار. عمر الأتاسي. أبيفانيوس زائد. علي ناصر الدين. عبد اللطيف صلاح. عبد الله مخلص. عمر الزعني. حبيب كحالة. عارف الزين. فيليب طرازي. راجي الراعي. جميل معلوف. عمر الفاخوري. جرجي باز. أحمد صلاح الدين. أحمد عبد المهدي. يوسف زخم. جميل الشطي. صبحي القوتلي. توفيق ناطور. أنطون جمَيّل. نزيه المؤيد. لويس معلوف. شكري الجندي. وصفي الأتاسي. أمين الحشيمي. أنيس النصولي. أديب التقي. جودت الكيال. محمد الداودي. أحمد عبيد. حمود الزبرؤتي. منح هارون. فائز الغصين. سامي العظم. خالد الحكيم. وجيه بيضون. نجيب الريس. شريف عسيران. أديب الصفدي. أديب فرحات. سعيد الصباغ. جمال الملاح. أديب وهبة. عبد الغني باجقني. عارف التوام. فوزي العظم. حسن الحكيم. الياس القدسي. عبد الله رعد. صبحي أبو غنيمة. ميشيل بيطار. إبراهيم حرفوش. توفيق حمادة. عبد الله خير. سليم خطار الدحداح. حكمة المرادي. يوسف اليان سركيس. يوسف صادر. أنطون صالحاني. جودت
المارديني. نعيم صوايا. إسكندر طحيني. بولس عبود. إميل عرب. يوسف(4/68)
علوان. يوسف غصوب. جبرائيل قرداحي. يوسف قيقانو. نجيب مخلوف. فيليب مسك. أمين مشحور. حلمي مصري. عيسى بندك. شكري كنيدر. عبد الله صفير. حبيب زيات. أحمد عمر المحمصاني. محمد علي الطاهر. يوسف حيدر. أنطون شعراوي. توفيق الحلبي. توفيق جانا. أسعد ملكي. رزق حداد. عباس أبو شقرا. طه مدور وغيرهم.
5ً الكتاب: عبد الباسط فتح الله. خليل زينينة. خليل سعادة. خليل سعد. سامي قصيري. نعوم مكرزل. يوسف الخازن. عبد الله الأسطواني. نجيب شاهين. أميل زيدان. إبراهيم سليم النجار. يوسف العيسى. بدر الدين النعساني. عادل أرسلان. محمد الجسر. توفيق اليازجي. ادوارد مرقص. أمين الريحاني. مصطفى الخيري. محمد علي السراج. محب الدين الخطيب. سليم قبعين. ميخائيل نعيمة. بولس الخولي. جبران تويني. جبران خليل جبران. شحادة شحادة. أمين غريب. فؤاد صروف. سعيد أبو جمرة. يوسف البستاني خليل السكاكيني. عادل جبر. نجيب نصار. رشدي الحكيم. عيسى العيسى. سليم ابكاريوس. أمين الكيلاني. سعيد الزهور. خليل بدوي. خليل بيدس. بطرس غالب. ناجي أديب. وجيه الكيلاني. سعيد الأفغاني. صلاح الدين المنجد نجيب الريس. سامي كبارة. جبران تونسي. خليل كسيب. علي الطنطاوي. كاظم الطاغستاني. عمر الطيبي. أمين الحلبي. راشد البيلاني. عبد الهادي اليازجي. فارس فياض. أحمد شاكر الكرمي. أحمد كرد علي. معروف الأرناؤط. عبد الحسيب الشخ سعيد. نجيب اليان. ايليا زكا. نجيب شقرا. زكي مغامز وأمثالهم.
6ً الشعراء: فؤاد الخطيب. أمين ناصر الدين. خليل مطران. خير الدين الزركلي. خليل مردم بك. شفيق جبري. سليمان التاجي. عبد الحميد الرافعي. مصباح
رمضان. طانيوس عبده. الياس الفياض. سليم عنحوري. محمد الشريقي. نوفل الياس. محمد البزم. جرجي عطية. بشارة الخوري. شبلي ملاط. أمين تقي الدين. رشيد نخلة. محمد سليمان. أسعد رستم. فخري البارودي. نسيب أرسلان. إيليا أبو ماضي. حليم دموس. أبو السعود مراد. عبد الرحمن القصار. كامل شعيب. عارف الرفاعي. نديم الملاح. محمد(4/69)
الفراتي. عبد الرحيم قليلات. جميل العظم. إبراهيم الشدودي. حسين الحبال. أمجد الطرابلسي. جميل سلطان. زكي المحاسني. عمر أبو ريشة وغيرهم.
7ً الخطباء: عبد الرحمن شهبندر. أسعد الشقيري. أسعد عفيش. نقولا فياض. غريغوريوس حداد. حبيب اسطفان. أنيس سلوم. فيلكس فارس. حنا خباز. عبد الرزاق الدندشي. مصطفى الشماع. محمود النحاس. بدر الدين الصفدي. أفرام أبيض. عبد الرحمن الكيالي. سامي السراج وغيرهم.
8ً الكاتبات والشواعر والخطيبات: ماري زيادة. ماري عجمي. سارة خطيب. لبيب هاشم. نجلا أبو اللمع. سلمى صائغ. جوليا طعمة. عفيفة صعب. عنبرة سلام. مسرة الأدلبي. ماري يني. هيلانة البارودي. فاطمة سليمان. ابتهاج قدورة. بهيجة المؤيد. خيرية ترمانيني وغيرهن.
تأثيرات الأجانب في التربية:
من المعاهد التي خرجت أُناساً بالعربية والفرنسية كلية القديس يوسف اليسوعية في بيروت، وكان أول نزول الآباء اليسوعيين في الشام سنة 1653م، فأسسوا مدرسة عينطورا بلبنان التي أخذها الآباء اللعازريون بعد مدة 1834م وخرجت كثيراً من الأدباء باللغة الفرنسية فقط. وقد ضعفت في هذا القرن ملكة البيان في المسلمين، وهم يتلون القرآن ولكن بدون أن يتدبروا معانيه ويفهموا إعجازه، حتى أصبح الفقيه والمحدث والنحوي والمنطقي لا يحسن كتابة سطرين إلا بصعوبة.
ويتعاصى عليه فهم الكلام الفصيح دون الرجوع في المفردات البسيطة إلى المعاجم، وضعف الشعر على تلك النسبة بحيث لم ينبغ لا أفراد قلائل من الشعراء يستحق شعرهم أن يسمع ويدون، بل كانوا إذا أرادوا الخطب في الجوامع والمساجد يحفظون شيئاً منها لأهل العصور التي سلفت ويوردونها بدون مناسبة، بل إن الإجازات التي يكتبها الشيوخ وغيرها من التحميدات والتقاريظ وأدعية المواسم ينقلونها عن الأقدمين ويحرفونها على صورة مستكرهة، وقد قويت في هذا العصر قاعدة خبز الأب للابن، وكان المفتي أبو السعود من مشايخ الإسلام في الإستانة أول من ابتدعها وأخرجها للناس، فأصبح التدريس والتولية والخطابة والإمامة وغيرها من المسالك الدينية(4/70)
توسد إلى الجهلة بدعوى أن آباءهم كانوا علماء، وهم يجب أن يرثوا وظائفهم ومناصبهم وإن كانوا جهلة، كما ورثوا حوانيتهم وعقارهم وفرشهم وكتبهم. بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاك أن كانت تولي القضاء للأميين، وكم من أُمي غدا في دمشق وحلب والقدس وبيروت قاضي القضاة، أما في الأقاليم فربما كان الأميون أكثر من غيرهم، لأن أخذ القضاء في دار الملك كان متوقفاً على بذل شيء من الرُّشي، فيصل إليه أجهل الناس وبذلك فترت الهمم، وانصرفت الرغبات عن تعلم علوم الدين، لأن الجاهل والعالم سواء، ومن يحسن المصانعة والرشوة ويمتّ إليهم بأُسلوب من أساليب الشفاعة.
وأصبح الشعر عبارة عن شبكة يتعلم صاحبها نصبها ليتزلف بها إلى الكبراء وأرباب الدولة، والشاعر كطبال أو زامر أو قرّاد يغني ويلعب أمام من يعطيه دريهمات قليلة. وهناك شبكة رسمية أُخرى يصطاد بها المال وهي أن من حفظ قواعد النحو والصرف في كتب لهم معينة وانقطع إلى مدرسة من المدارس، وجاز الامتحان ست سنين على أسلوب لهم مخصوص يعفى من الخدمة العسكرية، فتعلم بذلك كثيرون، ومن فهموا ما تعلموه جاء منهم بعض فقهاء وأدباء، ثم أبطل في
العقد الثاني من القرن الرابع عشر.
وبينا كانت مدارس العلم في حلب وحماة ودمشق وطرابلس والقدس وغيرها آخذة بالأفول والاندراس، والمسلمون أو الذين خرجوا من الأمية بعض الشيء من أهل هذه الديار يولون وجوههم قِبَل المناصب الدينية والإدارية والعسكرية، كان إخوانهم المسيحيون يتعلمون في مدارس نظامية في الجملة، جعلت تدريس العربية وآدابها واللغات الحية أول بند من منهاج الدراسة فيها، فجاء من أبنائهم ومن أخذ العلم عنهم من سائر الطوائف جماعات يذكرون في التاريخ بحسن بلائهم في خدمة الآداب، ومنهم أفراد نزحوا إلى مصر وأميركا وتولوا الأعمال الكبرى وأظهروا آثار قرائحهم ونبوغهم ولا سيما في القرن التالي، وبطلت القاعدة التي كان وضعها بعض ضعاف النظر من تقبيح نحو النصارى وغناء اليهود، فأصبح بالتعلم من النصارى نحاة ثقات، ومن اليهود مغنون ومغنيات، أي أن الزمن أبطل ذاك الزعم.(4/71)
الآداب في القرن الرابع عشر:
اختص القرن الرابع عشر بأن تجلت فيه فائدة العلم لعامة الشعب، فصار المقتدرون من الناس يلقون بأولادهم لأي مدرسة كانت ليأخذوا العلم منها، ودبت الغيرة في نفوس المسلمين فأنشئوا بعض المدارس الأهلية مثل مدارس المقاصد الخيرية وغيرها في بيروت وصيدا ودمشق وحماة وحمص وحلب وطرابلس فخرّجت هذه المدارس مئات من المتأدبين كما خرّجت المدارس الطائفية مثل مدرسة البطريركية ومدرسة الحكمة المارونية في بيروت.
وكان الفضل في هذه النهضة الشامية أولاً لمدارس لبنان وبيروت وعناية بطاركة الموارنة ومطارنتهم وأساقفتهم وقسيسيهم بالعلم واللغة. أما العلوم الطبيعية والرياضية والطبية فانبعثت جذوتها من الجامعة الأميركية اكثر من غيرها، ولو لم
تُبطل تدريس العلوم بالعربية وتجعله إنكليزياً لتضاعفت الفائدة التي نشأت من هذه المدرسة العالية، وكان من أستاذين من أساتذتها الدكتور فانديك الأميركاني والدكتور ورتبات الأرمني فضل على العربية بما كتباه في العلوم المختلفة باللغة العربية وكذلك كان شأن بوست الأميركاني فإنه ألف كتباً علمية نافعة بلغتنا فعدّ منا، وكذلك فعل بورتر وغيره.
إن المدارس الطائفية ومدارس المرسلين من الأميركيين واليسوعيين وغيرهم من الأمم ذات المطامع في الأرض المقدسة قد جعلت التربية متلونة فأصبح كل متعلم يخدم الغرض الذي أُنشئت له مدرسته، وانقسمت الأمة بهذا الضرب من التعلم أقساماً، وتباعدت مسافة الخلف بين أبناء البلد الواحد، لاختلاف المذاهب بل للاختلاف في المذهب الواحد مما لم يكن له أثر يذكر في غابر العصور، ولأن معظم المدارس التي أنشأها غير الوطنيين من الشاميين كان العامل في تأسيسها مذهب خاص في الدين والسياسة، فالإنجيليون أو البروتستانت تنتشر دعوتهم كل يوم، واليسوعيون ينزعون منزعاً آخر في التربية الدينية والسياسية، وهكذا لو أردنا أن نعدد أسماء الجمعيات الدينية التي تعلم المسيحيين في الشام لما رأيناها تقل عن ثمانين إرسالية. ومنها ما ينزع من المتعلم حب قوميته(4/72)
وبلاده، وكم رأينا رجالاً ونساء درسوا في تلك المدارس فجاءوا لا غرب ولا إفرنج، يتكلمون في بيوتهم بغير لغتهم، ولا يشعرون شعور الشامي، بل يبغضون تقاليدهم وتاريخهم، ولذلك صح أن يقال إن تلك المدارس لم تنفع النفع المطلوب، بل نفعت الشركة التي قامت بتأسيسها بأن هيأت لها في هذه الديار أنصاراً.
وبينا نرى بعض المسلمين يكتبون التركية كأهلها وشعورهم تركي صرف ولم ينفعوا الشام بشيء كثير من علمهم، نشاهد كثيرين ممن درسوا في مدارس الرهبان والقسيسين والحاخامين والمدارس العلمانية الفرنسية يكتبون الفرنسية أو
الإنكليزية أو الألمانية أو الروسية أو اليونانية أحسن من كتابتهم لغتهم بدرجات وكل هؤلاء لم يستحق أحدهم اسم العالم والأديب، بل أن معظمهم قد اسودت الشام الجميلة في عينه، وهجرها إلى أرض أُخرى. إن الشامي المتأدب في الجملة بآداب قومه يحب لغته ويغار عليها، ولذلك أسس عدة صحف ومجلات راقية في مصر والمهجر من أميركا الشمالية والجنوبية وحبب المطالعة بالعربية إلى من نزل عليهم، أو إلى من هاجروا من الشاميين بحيث لا تقل صحفنا ومجلاتنا العربية خارج الديار الشامية عن خمسين جريدة ومجلة حية، وما ندري إن كانت هذه الهمة تظل على حالتها بعد انقراض هذا الجيل، فإن الجيل الجديد من الشاميين في أميركا الشمالية والجنوبية قلما يعرف العربية بل هو يتكلم بالإنكليزية أو الإسبانية أو البرتغالية. وأعظم نقص في المدارس الأميرية والطائفية والأجنبية أن الأولى تصوغ موظفين والثنية والثالثة تهيئ المتخرجين على معلميها إلى الهجرة، وتباعد بين أبناء الوطن الواحد وتبث مبادئ اجتماعية لا تنطبق على حالتنا.
نعم تمت بالشاميين كما قلنا مرة المقتبس المجلد الخامس دواعي التفريق في الوطنية وضعفت ملكتها فيهم بقوة المدارس غير الوطنية في ديارهم. فإن كانت هذه المدارس قد نفعت الشام بما أدخلته إليها من النور، فقد أضرتها بانحلال عقدة الوطنية، فمدارس الأميركان والروس واليونان والفرنسيين والإنكليز قد أصلحت وأفسدت. أصلحت بتلقين من تخرجوا فيها شيئاً من معارف الغرب، وأضعفت في نفوسهم حب الوطن بتحبيبها إليهم أوطاناً غير أوطانهم،(4/73)
وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم. والعاقل من حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونا اسمين لمسمى واحد. جنت مدارس الأجانب والحكومة أعظم جناية، لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على
جانب لم ينفعوا الدولة ولم ينفعوا الأرض التي ولدوا فيها. إن المدارس غير العربية في الشام أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع، أستغفر الله بل إن من يسرق فلذات الأكباد، ليخرجها على ما أراد، أشق على النفس وطأة، وأعظم في المغبة أثراً. وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال؟ أوَ ليست الأرواح أثمن من كل بضاعة، وهل أعز من الولد على قلب أبويه. إن المدارس التي تعلم على غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من الشام اليوم بعد اليوم روحها، وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل. ولم يبلغ البشر درجة من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها، وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها، وتقلل جنسيتها لتزيد سواد أُخرى، ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها.
في نحو سنة 1278 فتحت حكومة حلب المدرسة المنصورية وهي أول مدرسة أميرية أُنشئت في حلب. وأنشأ مدحت باشا في دمشق سنة 1295هـ ثماني مدارس ابتدائية للذكور والإناث ودار صنائع، وأسس مثل ذلك في أعمال ولايته الواسعة، وما برحت المعارف مذ ذاك العهد تعلو وتسفل والحكومة لا تطلب من المدارس الابتدائية والثانوية إلا أن تُخرج لها طبقة من الموظفين ملكيين وعسكريين يكونون أتراكاً بألسنتهم لا بقلوبهم، عثمانيين بتربيتهم لا بأصولهم، وقد أخذ دعاة تتريك العناصر يقاومون العربية سراً، فما هي إلا أعوام حتى أصبح معظم الدارسين في مدارس الحكومة يخرجون بعد درس عشر أو خمس عشرة سنة، وهم لا يحسنون لغتهم ولا لغة الدولة الرسمية،(4/74)
فضلاً عن اللغة الفرنسية التي كان تعلمها إذ ذاك رسمياً في الظاهر صورياً في الحقيقة، على مثل ما كانت اللغة العربية في مدارس الحكومة، وكان يندر بين من تخرجوا في هذه المدارس من يعاني الصناعات الحرة، ومعظم من أتموا تعلمهم في مدارس الحكومة العثمانية نشئوا
مستعدين للوظائف فقط.
وما فتئت مدارس الحكومة بعد خمسين سنة من تأسيسها غير وافية بالغرض من بعض الوجوه، وجعل التعليم بالعربية عقبى خروج الدولة العثمانية من هذا القطر، وروحها لم تبرح تلك الروح التركية، لأن معظم المعلمين ممن تعلم بالتركية وتخلق بالأخلاق التركية، وقد حاولت إدارات المعارف في الديار الشامية نزع الروح القديم وتنشئة المعلمين نشأة عربية، وليس في الوسع أن يشيب المرء إلا على ما شب عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولم تهتد مدارس الحكومة حتى اليوم إلى إيجاد مثال من التربية يلتئم مع ماضي الأمة العربية وينفعها في حاضرها ومستقبلها، وتغذية العقول غذاءً كافياً ينفعها في استخراج ثمرات الأرض وكنوزها والتفنن في صنعها ووضعها، وتجديد برامج التعليم من الزوائد التي يستغني عنها في باب تربية الفتاة والصبيّ. أما التعليم الديني عند المسلمين فهو أحط تعليم، أُصيبوا بذلك بعد خراب المئات من المدارس الدينية في القطر وأكل أوقافها، وقد تغافلت الدولة التركية عن إنهاضها، ولم يتهيأ لها في الدور الحديث من يفكر حقيقة في إصلاحها، وإذا درس المشايخ الدروس النظامية، وتأهلوا للقضاء والفتيا والتعليم أهلية حقيقية، تنحل بتعليمهم التاريخ والرياضيات والطبيعيات والاجتماعيات مشاكل كثيرة. ومن العجيب أن مدينة كدمشق لا يقل سكانها عن ثلاثمائة ألف نسمة كان فيها في الثلث الأول من القرن العاشر نحو ثلاثمائة مدرسة ومعهد مختلفة الشكل - عدا الكتاتيب الملحقة بالجوامع - تقرأُ فيها دروس العلم والأدب والطب والهندسة، ليس فيها اليوم درس ديني واحد يقرأُ بصورة مطردة، ولذلك بلغت العلوم الشرعية درجة من الضعف تضحك وتبكي، وبلغت أكثر وظائف الوعظ والتدريس والخطابة والإمامة من السخف ما نسأل الله معه السلامة.
وقد جبرت حلب هذا النقص فتولى مفتيها بمعاونة ناظر أوقافها كبر هذا الأمر، فوضع برنامج لتدريس العلوم الآلية والدينية مدة اثنتي عشرة(4/75)
سنة، ونزل الطلبة في المدارس: المدرسة الخسروية والمدرسة العثمانية والشعبانية والقرناصية والإسماعيلية، وربطت لهم رواتب تعاونهم بعض الشيء على ما هم بسبيله، يتقاضونها من أوقاف تلك المدارس ويقرأ الطلبة اليوم على أساتذة تلك المدينة على نظام في الجملة ويرجى أن يكون منهم علماء دينيون ومتأدبون.
أما علماء الدين عند المسيحيين والإسرائيليين فأخذوا يتعلمون في مدارس لهم نظامية في روسيا أو إيطاليا أو أميركا وغيرها فلا يرقى في الأغلب إلى الرئاسة الدينية عندهم إلا من توفرت فيه شروط العلم والنباهة، ويكون على الأغلب بانتخاب أقرانه، ولذلك جاء البون شاسعاً بين عقلية علماء الدين من المسلمين وعقلية غيرهم من أرباب الأديان، وغدا أرباب الإنصاف يقولون بالرئاسة الدينية في الإسلام على النحو الذي هي في النصرانية، لأنه ثبتت فوائدها في تثقيف العامة وجمع كلمة الخاصة، ولأن الحكومات ليس من شأنها أن تعلم إلا البسائط العامة المشتركة، والأمور الأخرى من شأن زعمائها الذين تعتقد فيهم صلاحها. ومن أغرب الحالات أن مدارس الحكومة في جميع المقاطعات الشامية لا يتعلم فيها غير المسلمين، أما سائر الطوائف فلا يعتمدون في تعليم أبنائهم على غير مدارسهم أو على مدارس المبشرين. وبهذه الطرق المختلفة في مناحي التربية يستحيل أن يجتمع أبناء الوطن على مقصد واحد، لأن كل فرد يتعلم النفرة من مخالفه في معتقده، وخصوصاً في مدارس بعض الرهبنات التي تهزأ بالإسلام والعرب، وتحرّف التاريخ الصحيح ولا تعلم منه إلا ما ينطبق مع رغائبها، ولا يفيد شيئاً في تكوين الوطنية والقومية، ولو اتحدت التربية واشترك جميع أبناء الشام في التناغي بها والاعتماد عليها، لا تلبث هذه الأمة خمسين سنة أن تخرج
سماؤها سلسلة طويلة من الرجال يرفعون مستوى العقل فيها، ارتفاعه عند أُمم الحضارة في الغرب، ويؤثرون فيها كما أثر أجدادنا في مجموع الحضارات الحديثة. وعندنا أن لا نهضة في الأخلاق والعلم والشؤون الاقتصادية والاجتماعية إلا إذا تعلم تعليماً صحيحاً، لأنهم ستة أسباع السكان، والثروة الثابتة ملكهم، وهذا لا يتم إلا إذا تعلم أبناء غير المسلمين مع أبناء المسلمين تعليماً وطنياً واحداً.(4/76)
الجامعات والكليات:
احتفل الصهيونيون سنة 1343م بإنشاء جامعتهم العبرية في القدس يعلمون العلوم باللغة العبرانية ولا تمضي خمس عشرة سنة حتى تنبعث الديانة اليهودية والمدنية اليهودية من مراقدها، كما انبعثت منذ القرن الماضي في بيروت شعلة المدنية الأميركية والمذهب الإنجيلي من الجامعة الأميركية، وانتشرت المدنية الفرنسية والكثلكة من كلية القديس يوسف اليسوعية.
وفي 15 حزيران 1923م أُسست في دمشق الجامعة السورية وهي ذات فرعين الطب والحقوق لتكون جامعة عربية للشام بالمعنى الذي يفهمه العلماء من الجامعات ثم أُضيفت إليها شعبة الآداب وألغيت بعد سنين، وما زالت اللغة العامية شائعة في مدرستي الطب والحقوق، لأن معظم المدرسين من الطبقة التي لا تقيم للعربية وزناً، فقد تخرجت في مدارس الترك لتكون من الموظفين في الحكومة العثمانية، ولم تُعن بالمطالعة والبحث ولا بالتأليف والترجمة، وبعض الشهادات التي كان العثمانيون يعطونها من مدارسهم مشهور أمرها، ومن الغريب أن توسد هذه الأعمال العلمية الجليلة إلى أُناس هم أتراك في تربيتهم وأفكارهم ومنازعهم في صميم بلاد العرب، وفي جامعة عربية يراد منها تكوين أمة عربية. ويرجى إدخال الإصلاح المنشود إلى هاتين المدرستين العاليتين إذا وُسدت مناصب التعليم فيهما إلى كفاة، يحسنون العربية إحسانهم العلم الذي يدرسونه وأن تصقل أماليهم بأيديهم صقلاً متقناً بحيث تصدر دروسهم عن علم أتقنوه وتمثلوه وهضموه وصار لهم ملكة خاصة، لا مترجمة في الأكثر عن التركية ترجمة جذماء عوجاء كما يفعلون إلى اليوم، ومتى كانت اللغة التركية لغة علم وعنها يؤخذ في مثل هذا العصر، والمعلوم أن لغات العلم ثلاث الإنكليزية والفرنسية والألمانية ليس إلا، ومتى كانت تربية الأعاجم تصلح للأمة العربية التي يجب أن تتكون بحسب تاريخها ومنافعها الحاضرة والمقبلة. وبعد عشرين سنة مضت على هذا التدوين
ارتقى مستوى التعليم في الجامعة السورية وارتقت اللغة العربية فيها باعتزال من ربوا تربية تركية ووسد إليهم أمر التعليم لأول إنشائها وجاء أساتذة أتقنوا العربية وآدابها وهم اليوم يلقون دروسهم(4/77)
بلغة أقرب إلى الفصحى وقد وضعوا التآليف في الطب والحقوق بلغة عربية مقبولة.
ولا سبيل إلى الانتفاع بالجامعة السورية نفعاً حقيقياً يتفق مع شهرة الديار الشامية القديمة بالعلم إلا إذا تمت فروعها فأُنشئت فيها مدرسة للآداب وأُخرى للعلوم وثالثة للإلهيات، وبذلك تتم فروعها وتنبعث منها أنوار الحكمة المشرقية والمغربية، ولا غضاضة علينا إذا جئنا من مصر وديار الغرب بعلماء أخصائيين في الفروع التي لا نحسنها من ضروب العلم، نتعلم منهم طريقتهم في البحث والدرس والتحليل والتركيب، فالقطر المصري وهو أسبق منا في العلوم ما زال إلى اليوم يأتي من الغرب بعلماء يوسد إليهم الإدارة والتعليم في جامعته. وعلى ذكر القطر المصري لا بأس بأن نشير إلى أن المتعلمين من الشاميين ما برحوا يفزعون إلى مصر منذ أواخر القرن الماضي يخدمون الآداب ويرزقون منها، فكان لمصر الفضل على الشام وبنيه لأنها كانت منبعث قرائحهم. وكان في هذه المقايضة العلمية بين الشام ومصر من الفرائد ما لا يمكن أحداً جهله.
وبعد ذلك يرجى أن لا يضيق كثيراً نطاق اللغة العربية، بعد أن رأى الناس أمرها يضعف الحين بعد الآخر في الغرب والجنوب، وهي إلى ضؤولة في الشرق والشمال والوسط على ما يبذله المجمع العلمي العربي منذ سنة 1337هـ من العناية بنشرها وتهذيب ألفاظ الكتاب وتراكيبهم، والأخذ بأيدي المؤلفين والمترجمين، وتحبيب المطالعة إلى الجمهور، وتعليمه في محاضرات ودروس عامة، وعرض آثار مدنية الأسلاف على أنظاره لبعث عقليته من رقدتها. وإذا توفرت الجامعة السورية العربية على صياغة علماء إلهيين وعلماء مدنيين وأُدباء ومهندسين
وطبيعيين وكيماويين وزراعيين وأطباء وحقوقيين وأثريين يعرفون كيف يبحثون ويعلمون، نخدم المدنية خدمة حقيقية.
الإخصاء:
وبعد فإن أهمّ ما ينبغي صرف العناية إليه اليوم نشر العلوم الانسيكلوبيدية، أي المشاركة في العلوم المتعارفة، ثم الانقطاع إلى فرع واحد، أي إلقاء النظر على المعارف التي تنير الفكر من العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والتاريخية(4/78)
والأدبية ثم معالجة موضوع واحد: إذا كانت القرون الوسطى قرون التعميم في التعليم، فإن هذا العصر عصر التخصص. فقد اتسعت معارف البشر النظرية والعملية فدعت الحاجة إلى أن يقسموها بحسب استعدادهم وحاجاتهم إلى أقسام ينقطع إليها أفراد. فالأصول من المعارف هي المعلومات العامة وتفرعاتها هي الإخصائيات. كان بادئ بدء كل شيء مفهوماً في الفلسفة، فكانت لفظة عام عند الأمم الجاهلة تتناول جميع العلوم، وتنقسم إلى قسمين: المحسوسات والمعقولات، ودعيتا علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة، وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك يخلفون في تعلمها آباءهم، بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كان يعملون بها على الدوام.
ثم حسنت الحال بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام، وانتظمت العلوم الرئيسة لا سيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف، ونشا الإخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة، ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن، أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم إلى أقسام.
وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الإخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع من المعارف، فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر، أن يزيد أبداً الإخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى إخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم، فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس، ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في عمله تقدماً بطيئاً، ويخلط ويبقى متوسطاً وإلى ضعف. والإخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للسرعة في الإنتاج وبهذا يرى أرباب معامل الإبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً.(4/79)
إذا قسمت الأعمال وأخصى المشتغلون بالعلوم وتوسعوا فيها، فالإخصاء يؤدي ولا جرم إلى الضعف الأدبي، وذلك أن العاملات مثلاً إذا قضين نهارهن في عملهن السهل اللطيف في الظاهر، كأن يتوفرن على إدخال الخيوط في إبرهن فإنهن لا يفقدن شيئاً من حواسهن، ولكن ثبت أنهن يفقدن حاسة النظر في أقرب وقت. أما القوى العقلية والقوى المماثلة لها فإنها تتأذى أيضاً. ومن ينصرفون في العلم المحض إلى الإخصاء ككثير من الرياضيين والمهندسين والفلكيين يعيشون في العالم كأنهم ليسوا منه، ويدهشون من عاصروهم بغرابة أخلاقهم، وتشتت أفكارهم، وبالجملة فيقضي على كل مخصٍ في العلم أو في الصناعة أن يحرز حظاً من المعارف لأول أمره، وأن يخصي في علمين أو ثلاثة، فإذا مارس أحدها أراح غيره اه.
الصحافة العربية:
نشأت الصحافة، أي نشر صحف الأخبار، بعد انتشار فن الطباعة الحديثة عام 1566م في مدينة البندقية، ولم تلبث أن انتشرت في أوربا، ولكنها لم تُعرف في
ديار العرب إلا في سنة 1799م أنشأها في مصر نابليون بونابرت، ولم تصل إلى الشام إلا في أوائل منتصف القرن التاسع عشر، ففي بدء سنة 1851م أنشأ المرسلون الأميركان في بيروت أول مجلة عربية اسمها مجموع فوائد. وللشاميين الفضل الأول في إنشاء الجرائد، جمع جريدة، وهو الاسم الذي وضعه أديب لبناني للتعبير عن أو ثم وضع لغوي لبناني آخر اسم مجلة للتعبير عن أو أطلقه على هذه الرسائل الدورية التي تضم بين صفحاتها مختلف الفوائد في شتى الموضوعات. وما زال للشاميين الفضل الأكبر في إنشاء الجرائد والمجلات. وقد أنشئوا في الآستانة ومصر وتونس وأوربا وأميركا صحفاً عربية كثيرة، وآزروا في صحف كثيرة، كما أنشئوا في الشام صحفاً كانت تعلو وتسفل بحسب مقدرة القائمين بها، ذلك لأن الأمية كانت غالبة، ولم يكن الإقبال على مدارس المرسلين والمدارس الطائفية وهي التي سهلت درس العربية قبل غيرها، هذا الإقبال الذي شوهد من بعد،(4/80)
وخرج مئات الطلاب الذين كان أقل ما ثقفوه فيها تعلم مبادئ لغتهم ومبادئ اللغات الأجنبية.
ولما احتل البريطانيون مصر وزاد الضغط على الصحافة العربية في الشام، هبط مصر كثير من نبهاء الكتاب الشاميين من أرباب الصحف ومن المترجمين وغيرهم، وأنشئوا جرائد ومجلات ومنها إلى اليوم جريدتا الأهرام والمقطم ومجلات المقتطف والهلال وغيرها من الجرائد والمجلات التي نشرها الشاميون وعاشت مدة ثم احتجبت. وكلها أبلت بلاءً حسناً في خدمة الأفكار ونشر الآراء العلمية والتهذيبية والأدبية والدينية. وقد نشرت في الشام وفي مصر بأقلام الشاميين أنفسهم صحف ومجلات كثيرة لم يكتب لها البقاء، وإن كان بعض القائمين بها على حصة موفورة من العلم والأدب، وقضي عليها لقلة القراء، أو لوفاة أصحابها كمجلة الضياء والمنار ولم يأت من يخلفهم في موضوعهم. وأخرى
أن المجلات المفيدة لم تجد من الحكومات والجمعيات معاضدة فعلية.
ظلت الصحف السياسية والمجلات العلمية مستندة إلى قوى أصحابها فقط، ولو كان في القوم أُناس يحبون حقيقة معاضدة الآداب لألفوا شركات برؤوس أموال كبيرة لإنشاء بضع صحف ومجلات تخدم الخدمة اللازمة، ولا تسف إلى تناول ما يسد بعض عوزها من الحكومات أو من أفراد أو من أرباب المظاهر يعطون المجلات أو الجرائد ما تيسر حتى تسبح بحمدهم وتنشر محامدهم وصورهم فالجرائد والمجلات بذلت الجهد إذاً في نشر الأفكار والتهذيب في الشام على قلة الوسائط، وكان صوتها يسمع أكثر مما سمع لو بذلت الأمة العناية بتعهدها أكثر مما بذلت، نعم كانت خير معلم وأجمل مدرسة للناس، ترشدهم في جميع ما تشتد إليه حاجتهم من المعارف، وتغرس في نفوسهم روحاً وطنياً لا تقوم الأمم بغيره، وتلفن الجمهور على اختلاف نزعاته تربية سياسية صالحة في الجملة لأمة لم تستقر حالتها السياسية.
دخل منذ ثمانين سنة كثير من النبهاء في الصحافة، ولكن المتوسطين الذين خاضوا غمارها كانوا أوفر عدداً، فأفسد المتوسطون عمل الذين كان يرجى من أقلامهم رفع مستوى المعارف. ومع كل الضعف الذي تجلت أعراضه في كل أدوار الصحافة الشامية كان منها أن علمت الناس ما لم يكونوا يعلمونه،(4/81)
علمتهم أن وراء حياتهم المادية حياة معنوية، لا تبقى لهم مادياتهم بدون الأخذ بحظ وافر منها، علمتهم بسائط من التاريخ وحال الأمم وسياسات السياسيين وقوانين المشرعين واستعمار المستعمرين وتدليس المدلسين، وأن أمتهم كانت شيئاً مذكوراً فيما مضى، ولا حياة للأحفاد بدون الأخذ من سيرة الأجداد، والاقتباس من المدنية الحديثة كل ما لا ينزع منهم مشخصاتهم ومقدساتهم، وأصبح بعض العامة ممن أدمنوا تلاوة الصحف وتفهمها، أرقى عقلاً من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة
منذ مائة أو مائتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن نغمة الدين وحدها لا تنجيهم مما هم فيه لأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معاً. علمتهم أن الغرب لا يريد خيراً للشرق، والشرق شرق والغرب غرب، وأن الأقليات التي كانت تصرفها أوربا بحسب أميالها السياسية لا تعيش إلا بالاندماج في الأكثريات، وتوحيد المقاصد الوطنية، وكل أمة تُحكم برأي السواد الأعظم من أبنائها.
علم معظم الناس، إلا أُناساً مأخوذين بتعصبات مذهبية ونعرات طائفية، أن الغرب لتحقيق أغراضه يفادي بكل من يمتون إليه بصلة من صلات القربى المذهبية، وأن الاعتبار عنده للمصلحة كيفما كانت وكان السبيل إلى الحصول عليها، وقاعدتهم كلهم الغاية تبرر الواسطة. ولقد عرفت الحكومات التي استولت على هذه الديار منذ نشأة الصحافة الشامية كيف تستفيد من هذه القوة، فكانت تحتال في أول دور أن تشرّف صاحب الجريدة برتبة لها ووسام، ومن خالف الصدع لأمرها تكسر قلمه وتشرده وتسجنه وتُنزل عليه غضبها، وقد تجلى ذلك في الثلث الأخير من الدور الحميدي، فلما أعلن القانون الأساسي أخذ الأتراك الذين قبضوا بعده على زمام المملكة يتوسعون في هذا المبدأ مبدأ السير بقوة الصحافة إلى الغرض الذي يرمون إليه، فصانعوا بعض أربابها وضحكوا من بعضهم بإكرامهم وإعطائهم مالاً. ولما جاءت الحكومات المنتدبة وهي من أعرف الأمم بتأثير الصحافة في الأفكار لم تقصر في اتخاذ هذه النظرية على طريقة جمعت أيضاً بين الرغبة والرهبة والعطاء والمنع. ولم تخل الشام في كل دور من أُناس باعوا في خدمة صاحب القوة ضمائرهم، شأن كل أمة جديدة في الحياة السياسية، ولكن ظهر ذلك جلياً في صحافتنا لأن الدعاة للقوة ضعاف،(4/82)
حتى في فهم ما انتدبوا إليه، فكانت تنكشف أعمالهم منذ أول يوم يسبحون بحمد من استهووهم.
وبعد فالصحافة العربية في الشام تحتاج إلى أربع أو خمس صحف وبضع مجلات على النمط العالي من نوعها في أمم الحضارة، تصدر في أُمهات حواضر الشام القدس وبيروت ودمشق وحلب وترجع في شؤونها إلى شركات منظمة تدير ماليتها، أو أحزاب سياسية ثابتة تدير حركتها، ويوكل أمرها إلى كفاة ينسجون فيها على أحسن منوال نسجته صحافة أوربا وأميركا، ونحن لا نتطال إلى أن يكون للشام صحافة كصحافة بريطانيا العظمى بوفرة مادتها، وصدق لهجتها لأمتها، وسرعة تناولها الأخبار، وتنويع أساليب التعليم والتفهيم، بل نرجو أن تكون لنا صحافة متناسب مع ماضينا وحاضرنا، بحيث لا تكون الشام أحط من مصر في هذا الشأن على الأقل. الصحافة عنوان ارتقاء الأمة، وليس ما يمنع من إبرازها في قوالب مقبولة لجميع الأذواق، وهذا لا يتم إلا إذا وسدت أعباء الصحافة للعارفين.
قلنا في سنة 1328هـ 1910م من مقالة المجلد السادس من مجلة المقتبس: وقد رأينا هذا التهالك على إنشاء الصحف والمجلات حتى كان لنا منها نحو مائة صحيفة في هذا القطر الصغير، نأسف لأكثرها على الورق الذي تطبع فيه والوقت الذي يصرف عليها، وهي خلو من الفوائد اللازمة، ولولا بضع جرائد ومجلات لا بأس بها في الجملة، لقلنا إننا بعد اشتغال ستين سنة في الصحافة لا نزال في حالة ابتدائية، إن للنجاح في الأعمال أسباباً كثيرة، منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، إذا اختل أحدهما تعذر النهوض بالشق الآخر. وإنشاء الجرائد والمجلات لا يخرج عن هذا المقرر. وهل في الأرض عمل لا يحتاج إلى علم وتجارب ومال واستعداد؟ ولطالما رأينا مصر في الثلاثين سنة الأخيرة، والشام في عهدها الدستوري وغيرهما من الأقطار والأمصار التي يتكلم أهلها بالعربية، تتجرأ على إصدار الصحف بدون حساب ولا روية، وأدركنا العامة أجرأ من الخاصة على
اقتحام هذا المركب الصعب، وليس لديهم في الأغلب من وسائط النجاح كبير أمر، فلا يلبث ما ينشئون أن يظهر إلى الوجود حتى يختفي اضطراراً لا اختياراً. وهذا هو السبب في تعدد الجرائد وقصر أعمارها واشمئزاز(4/83)
الناس منها، إذ توهموها بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم.
ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة، فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسرارها سراً، ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال، قد رأينا أُناساً من الأغمار يدّعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع تأليفها وإصدارها.
كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم، فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه، مدعين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما، ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة. أما الصحافة فيدخل فيها بالفعل أُناس ليسوا منها وليست منهم، ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء، ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولا حياء، كأن طب الأرواح ليس أصعب من طب الأشباح، أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية، يتعلمها المرء بالذوق وتوحي إليه إيحاءً.
من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف بعض أدعيائها في أخلاقهم ومعارفهم وقد شانوا اسمها بجمالها، تذرعاً إلى مطمع ينالونه، وصيت
بالباطل يحصلونه، ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً، ولا الإسكاف نجاراً، ولا الحطاب رساماً، ولا الفحام نظاماً، ولا الجوهري حجاماً. ولكن شهدنا الفلاح صحافياً، والمتشدق مؤلفاً، والثرثار محامياً، والمكثار خطيباً. كما نشهد الأغبياء قد يحاولون مجاراةالأذكياء، والفقراء يقلدون الأغنياء.
بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب، ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل، يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه، كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه إلا باتخاذ الذرائع المنجحة، ونسج حلل مجدهم بأيديهم.(4/84)
رأينا كثيراً ولا سيما في مصر والشام التصقوا بالصحافة وأنفقوا ثرواتهم في سبيلها فلم ينجحوا، ورجعوا بعد العناء الطويل وخسارة المال صفر الأيدي خائبين، لأن مائدة العلم لا يجلس إليها طفيلي، ولأن التمويه إن صعب في عمل فهو في الأعمال العلمية أصعب. . .
ولقد شاهدنا عياناً أن معظم الصحف التي كتب لها البقاء في هذين القطرين الشقيقين خاصة هي التي قام بأعبائها أُناس متعلمون تخرجوا في الكتابة وتدربوا في السياسة وتذوقوا لماظة من العلوم التي لا يسع صاحب جريدة ومجلة جهلها. ومعظم من لم يخادنهم التوفيق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم وقلة معارفهم في صناعة يلزمها ما يلزم لكل صانع من الأدوات إن لم نقل إنها تتوقف على أدوات أكثر. ولو كان قومنا يبالغون في انتقاء الرجال للأعمال، لوضع في قانوننا بند يُلزم كل من تصدّر لمعاناة صناعة القلم، أن يمتحن في الفن الذي يخوض عبابه، كما يمتحن المتطببون والصيادلة، فإنشاء الصحف إن لم يكن أحق بالعناية من معرفة الأمراض والعلل والعقاقير، فلا أقل من أن يكون على مستواها، فكم من جاهل قتل نفساً زكية، ومن صحافي جرع قراءه السم الزعاف، على حين ينتظر
منه الترياق النافع.
هذا ما قلناه ونزيد عليه أن الأخصاء أو الاختصاص العلة الأولى في نجاح الغرب في صحافته يجب أن يكون له في صحفنا المقام المحمود، وفي اليوم الذي أصبحت فيه توسد في مصر أعمال الصحافة إلى أمثال هؤلاء من الحقوقيين والكتاب والسياسيين دخلت مصر في حياة جديدة، وهذا قريب المنال على الشام التي كان لبعض أبنائها خدمة تشكر في تاريخ الآداب والصحافة. ومن أهم مجلاتنا التي تصدر في الشام المشرق مجلة المجمع العلمي العربي المجلة الطبية مجلة المعهد الطبي ومن المجلات المحتجبة الرئيس الطبيب المقتبس الآثار الكلية الحارس الخدر المرأة الجديدة ومن صحفنا اليومية لسان الحال الأحرار القبس ألف باء فتى العرب الرأي العام البلاغ الاستقلال الجوائب فلسطين العهد الجديد البرق الأحوال النهار النضال الكفاح الأيام إلى ما هنالك من جرائد أسبوعية ومنها الجدي والهزلي المصوّر وغير ذلك.(4/85)
وبعد فالواجب على الصحافي قبل كل شيء أن يحسن الكتابة العربية كأحسن منشئيها، وأن يكون قادراً على النقل والاحتذاء من أفكار الغربيين، أي عارفاً بلغة أو لغتين من لغات السياسة والعلم، وأن يكون ممن عانى البحث ملماً بالقوانين الدينية والزمنية وتاريخ الأمة ولا سيما تاريخ هذا القطر عارفاً الاقتصاد والاجتماع وحياة الأمم وتاريخها وثوراتها ونهضاتها ونقاباتها وألوان أحزابها وأوضاعها كل هذه المسائل أقل ما يجب للصحافي المشاركة التامة فيه. أما المباحث المالية والزراعة والتجارة والفنون والأدب والشعر والآثار والتاريخ وغيرها مما يجعل من الصحيفة مدرسة تامة الأدوات لإنارة الأفكار وبث الصحيح منها، فيجب أن يوكل شأنها لأهل الأخصاء من العارفين بها. وبذلك يصح أن يقال إن لنا صحافة راقية، وما دامت الصحيفة الواحدة ينشئها واحد أو اثنان أو
ثلاثة على الأكثر، تضطر الصحف إلى ن تكون ناقلة ضعيفة في مادتها وأخبارها وأفكارها وإذا زاد عليها خدمة غرض سياسي لا يحسن صاحبها التصرف فيه، فهناك البلاء الذي يحول دون الرقيّ.
الطباعة والكتب:
لم يصل إلينا فن الطباعة الحديث أفضل اختراع تم في أوائل النصف الثاني من القرن الخامس عشر للميلاد، إلا في القرن السابع عشر، ومن أوائل الكتب العربية التي طبعت في رومية في القرن الخامس عشر الإنجيل الشريف وقانون ابن سينا، وقام بتأسيس مطبعة في الشوير من لبنان عبد الله زاخر الراهب الماروني سنة 1145 وطبعت هذه المطبعة 34 مؤلفاً خلال ستين سنة وأكثرها ديني وهي مطبعة يدوية على الحجر، وقد طبعت مطبعة الشوير المزامير سنة 1610م، ودخلت الطباعة الآستانة سنة 1135هـ وأول مطبعة أنشئت في بيروت مطبعة القديس جاورجيوس في أواسط القرن الثامن عشر، بل إن فن الطباعة بهذه الحروف المتعارفة لم تثبت قدمه إلا بمجيء الإرساليات والرهبنات الدينية من الغربيين، وإلى اليوم لا تزال المطبعتان العظيمتان في بيروت بل في الشام كله هما لتلك الجمعيات الأميركانية أُسست سنة 1834م واليسوعية 1848م التي كان الغرض الأول منها نشر الكتب المقدسة والدعاية إلى إنجيل المسيح في هذا الشرق(4/86)
القريب بين أبناء العرب، ثم خدمة التهذيب والثقافة الإنكليزية والفرنسية وبعد ذلك تعليم شيء من العربية. والكتب العلمية الحديثة التي ظهرت في هذه المطابع باللغة العربية شاهد عدل على أنه لا يتأتى نشر المبدأ الذي يريدونه قبل أن يخدموا القطر بلغته.
ربما بلغ عدد المطابع في الشام ثمانين مطبعة من أهمها المطبعة الأدبية في بيروت، وقل جداً فيها المطابع التي طبعت الكتب النافعة ولاحظت نفع جمهور
الناس قبل منفعتها الخاصة. طبعت قصصاً معربة وأشعاراً ودواوين قديمة وحديثة وكتباً دينية ورسائل علمية في المعارف العامة وقليلاً من كتب العرب التي لا يزال ألوف منها محفوظاً في خزائننا وخزائن الغرب مما يقبل الغريب على طبعه ويجود العناية به من حيث التصحيح والتعليق. ونحن قلما كتب لمطابعنا أن تتأسى بهم وتتعلم منهم. ولولا ألوف من كتبنا طبعت في مصر والآستانة والهند وأوربا لما وجدنا بين أيدينا من تركة السلف الصالح ما فيه الغناء في العلوم والآداب القديمة، ذلك لأن بعض من يرجى منهم خدمة الطباعة بنشر الكتب النافعة لا يجدون من يطبع لهم ما يريدون إحياءه من كتب القدماء، أو ما يؤلفونه هم على النمط الحديث، لأن الطابعين ينظرون إلى أرباحهم أولاً، وأرباحهم موقوفة على كثرة ما ينصرف من مطبوعاتهم، والجمهور بالطبع كما هو في كل بلد لا يقبل على الجد إقباله على الهزل، ولا يقدر أن المنفعة له في الصعب قبل السهل، وأكبر الظن أن كثيراً من أرباب المطابع هم من العامة أو يقربون منهم في الفكر والتعلم.
ولقد شاهدنا أُناساً من الغُيُر على العلم طبعوا مصنفاتهم بأنفسهم فافتقروا إذ لم يعرفوا تصريفها، والمؤلف غير التاجر، ثم هم لم يجدوا في الأغنياء والحكومات من يناصرهم ولو بابتياع نسخ معدودة من كتبهم. ورأينا أُناساً طبعوا كتباً سخيفة من تأليفهم فروّجوها هم أو أحبابهم بالتجبية والقحة فدرّت عليه أرباحاً لا يستهان بها. فلا عجب إذا أصبح الطابعون والمصنفون يهتمون لمنافعهم الخاصة ولو كان في الطابعين من يخاطرون بطبع كتب العلم والأدب التي لها قراء مخصوصون لزاد عدد الراغبين في المسائل الجدية أكثر من الآن ولارتفع ميزان العقل أكثر مما ارتفع.
نعم لم يطبع كثير من الكتب الخالدة سواء كانت للمعاصرين أو لمن قبلهم في عهد
ارتقاء العلم في العرب، وقل أن طبع كتاب بذاك الإتقان الذي تطبع(4/87)
به الكتب في أرض المدنية اللهم إلا في بضع مطابع لا يهتم أهلها ربحت أم خسرت لأنها لجماعات لا لأفراد. وما عدا عشرات من الكتب التي طبعها في بيروت خاصة علماء المشرقيات أو من أخذوا عنهم طرائقهم في الطبع والنشر. لم يكد يطبع في سائر مدن الشام كتاب يعد نموذجاً في إتقانه ووضعه وتأليفه. وغاية ما نشروه كتب قصص وكتب مدارس ابتدائية أو شعار أُناس تهجموا على التأليف تهجماً، ولما يستعدوا له الاستعداد الكافي، ولم يجوّدوا مصنفاتهم بإنضاجها بالبحث والتنقيب، وإيراد الطريف من المباحث.
فالشام مقصر في هذا الشأن من وجوه كثيرة، ولولا مئات من المجلدات خلفها لنا أجدادنا، وما زالت تطبعها مطبعة ليدن في هولندا منذ أكثر من ثلاثة قرون بمعرفة أفاضل علماء المشرقيات في الغرب، ولولا ما طبعته جمعيات المستشرقين في ممالك أوربا وأميركا لفاتنا الوقوف على أمور كثيرة في مدينة العرب وتاريخهم، وإلى اليوم لم تبلغ مصر على كثرة ما يطبع فيها من الكتب، وبعضها بإتقان زائد في الطبع، كمطبوعات المطبعة الأميرية ودار الكتب المصرية ومطبعة جمعية التأليف والترجمة والنشر مبلغ مطبعة ليدن وليبسيك في الإجادة، ولا سيما في الفهارس والشروح والهوامش والأمانة في النقل الذي أصبحوا به قدوتنا وعنهم يجب أخذه.
تأملنا ملياً فيما تصدره المطابع من الكتب فرأيناها مصنفات هوائية مؤقتة إلا قليلاً، تخدم فكراً خاصاً ولا يتوقع منها إلا الشهرة على الأغلب لا عموم الفائدة، ومعظم من يعدونهم من المؤلفين هم في الحقيقة مترجمون، ومنهم من لا يجيد الترجمة، وكم من تأليف نظرت فيه فانقبضت نفسك مما في تضاعيفه من ضعف التأليف ورداءة الطبع. ومع هذا كان الناس يؤلفون على عهد النهضة الأدبية
الأولى أي في أواخر القرن الماضي أكثر من اليوم، ولقد تسربت روح التفرنج إلى طائفة ممن تلقنوا اللغات الأجنبية، وغدوا لا يهتمون إلا بالأخذ من كتب اللغة التي يحسنونها من لغات الغرب، وفي الغالب تكون الفرنسية أو الإنكليزية وقلما رأينا رجلاً كفوءاً من هؤلاء الذين لا يعتمدون على غير كتب الإفرنج أن نقل، لمن حرموا معرفة اللغات الغربية من بني قومه، موضوعاً نافعاً لهم في اجتماعهم وصناعتهم وتمدنهم، لأن الأثرة زادت بزيادة المدنية.(4/88)
وقد زاد في رداءة التآليف المطبوعة كون المؤلفين، ومنهم الوسط في علمه وتأليفه، يخافون نقد الناقدين عليها، وكون بعض الصحف والمجلات تصانع في الأكثر هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم موضع المؤلفين، وتدهن دهاناً عجيباً لمن كان من أهل دين صاحب الجريدة والمجلة أو على مشربه السياسي!. أو يكون ممن يتوقع منه أن يكتب له ذات يوم مقالة أو يعاونه أدنى معاونة مادية. ولذلك استشرى الفساد وظن كل من طبع شيئاً أنه خدم الأمة خدمة صالحة. والنقد الذي هو من أهم الذرائع في السير نحو الكمال إلى بحابح المدنية مما لا يؤبه له، وربما تعرض صاحبه لمقت هؤلاء الطابعين والمؤلفين. قسم السيد اسعد داغر من يعرضون في سوق الأدب بضاعتهم من ترجمة وتأليف وتصنيف إلى فريقين فريق المحترفين وفريق الهواة، فالمحترفون هم الذين يعملون بالقلم ليتقوا شر المتربة، ويعيشوا من شق تلك القصبة، والهواة هم الذين يشتغلون بالعلم والأدب لأن لهم فيهما حفاوة صحيحة مجردة عن المآرب، ورغبة حقيقية منزهة عن حب الأرباح والمكاسب، ومعظم هؤلاء هواة كانوا أم محترفين يشق عليهم أن تنقد كتبهم ومؤلفاتهم وينظرون إلى الانتقاد والمنتقد بعين الشانئ الكاشح.
ليس في كل ما طبعته المطابع الشامية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو عصر النهضة عندنا، سوى كتب قليلة تستحق العناية وتستوقف القارئ للأخذ
منها مثل كتب محمد عابدين، أحمد فارس، فانديك، ورتبات، بوست، بورتر، لامنس، شيخو، مشاقة، إبراهيم اليازجي، إبراهيم الحوراني، طاهر الجزائري، عبد الرحمن الكواكبي، سعيد الشرتوني، جمال الدين القاسمي، رفيق العظم، شبلي شميل، شكيب أرسلان، نجيب الحداد، يعقوب صروف، عيسى المعلوف، إسعاف النشاشيبي، إبراهيم الأحدب، يوسف الأسير، بطرس وسليمان وعبد الله البستاني، أحمد حمدي الخياط، مرشد خاطر، جميل الخاني، شفيق جبري، سليم الجندي، خليل مردم بك، أمين الريحاني، خليل سعادة وأضرابهم ممن أبرزوا تآليف منقحة، وفي بعضها إبداع وإيجاد، وذلك لأنهم هضموا العلوم التي عُرفوا بها، وجاءوا بالجديد، وفيها أفكار علمية أو مدنية أو دينية صحيحة.(4/89)
الفنون الجميلة
تعريف الفنون الجميلة:
الفنون الجميلة أو الصنائع النفيسة، وأسماها بعضهم نواضر الفنون وقيل إن العرب أطلقوا عليها اسم الآداب الرفيعة هي الصنائع التي من شأنها إدخال السرور بجمالها وجلالها على النفوس البشرية، وتربي ملكة الذوق والشعور، وهي سبعة أقسام: الموسيقى، الغناء، التصوير، النقش، البناء، الشعر والفصاحة، الرقص. وأرجعها بعضهم إلى ثلاثة فروع فقط: التصوير والشعر والموسيقى. ولقد كان لهذه الديار حظ كبير من هذه الفنون بقدر ما ساعدتها بقعتها وطاقتها، وربما تم فيها أشياء لم تصلنا أخبارها، أما الدول التي تعاقبت على الشام بعد الإسلام، فإن ما وصلنا من أنباء هذه الفنون فيها قد تعرّض له كاتبوه بالعرض كأن يكون المشتغل بالموسيقى أو التصوير مثلاً ذا مشاركة في فنون أُخرى من أدب وشعر، وطب وفلك، وحديث وفقه، أو أن القوم دوّنوا عامة سير الموسيقيين والمغنين والمصورين والنقاشين مثلاً فضاع ما دونوه في جملة ما ضاع من أخبار حضارتنا.
الموسيقى والغناء:
نشأت الموسيقى مع البشر ولازمتهم في جميع ما عرف من أدوارهم في حياتهم الخاصة والعامة، وفي مظاهر سلمهم وحربهم، وسعادتهم وشقائهم، وأفراحهم وأتراحهم، وسفرهم وحضرهم، وتعبهم وراحتهم، ودينهم ودنياهم، والمرء من طبعه أن لا يستغني عن رفع صورته، ليطرب نفسه وجليسه، وقلبه(4/90)
يصبو بالفطرة إلى سماع أوتار تهزه وتطربه. فالموسيقى تجمع الحواس وتنشط لها النفوس، وبها يجسر الجبان، ويعطف اللئيم، ويرّق الكثيف، ويلين القاسي، ويقوى الضعيف، ويكف الظالم، ويعتدل المائل، فهي مدعاة السرور، مجلبة الطرب،
مسلاة الحزين، مفرّجة الكروب، مهوّنة الخطوب، عنوان الحياة الداخلية، مظهر الأخلاق القومية، مصورة الانفعالات النفسية، أصدق عامل على التحمس، أقوى دافع إلى النهوض والتحسس، معلمة أنفع الدروس الشريفة مذكرة بالمطالب العالية، فيها يتجلى العقل البشري بإشارات وحركات، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات.
ولقد ثبت أن العنصر السامي من أكثر العناصر ولوعاً بالطرب والخيال، وقيل: إن الحثيين من أقدم شعوب الشام كانوا أقل عناية بالموسيقى والغناء من جيرانهم البابليين والآشوريين والآراميين، ومع هذا كان لهم من الغناء ما ابتدعوه بفطرتهم، ومنه ما أخذوه من مجاوريهم. وكان الآراميون مولعين بالغناء والضرب بالإيقاع على آلات لهم يبوّقون بها ويزمرون، ويطرّبون بها فَيطرَبون، وهي بالطبع على حالة ابتدائية على مثال الشعوب التي سبقتهم إلى سبقتهم إلى سكنى هذا القطر. ومثل هذا يقال في الفينيقيين الذين اقتبسوا مدنية الفراعنة، وهم من أصل سامي، فإنهم كانوا يعرفون الموسيقى، ومنها ما نقلوه عن المصريين لتمازج مدنية السلائل المصرية بمدنية فينيقية الصغيرة، وإذ كان للمصريين عناية فائقة في معابدهم بالموسيقى على ما ظهر من تماثيلهم التي مثلت بها الضاربين والمغنين، تعلم جيرانهم أهل فينيقية بعض هذه العناية، ولكن على طريقة الاحتذاء لا إبداع فيها، ويقال ذلك في الكنعانيين والإسرائيليين فقد أُولعوا بها وظهرت آثارها في معابدهم وبيعهم، وأمام أربابهم ومعبوداتهم، وفي حروبهم وغاراتهم وأعيادهم ومآتمهم واجتماعاتهم، على ما فهم من نصوص التوراة. ومزامير داود مشهورة مذكورة، والآلات التي اشتهرت عند الشعوب القديمة وعانت استعمالها، ترجع في الأكثر إلى شبابة وبوق وصنج وطبل ودف.
ولقد دلت بعض النقوش التي عثر عليها في وادي موسى وجرش وتدمر أن العمالقة والنبط والعرب لم يكونوا أقل من الشعوب التي سبقتهم إلى نزول هذه
الديار ولوعاً بالتلحين والإيقاع والضرب على القيثار والنفخ بالمزمار، وقد(4/91)
نقل اليونان والرومان إلى هذا القطر موسيقاهم وأُصول غنائهم على الأرجح كما نقلوا أربابهم، واقتبسوا أرباباً مع أربابهم، وإذ طال عهد دولتيهم كثيراً تأصلت موسيقاهم، وثبتت مصطلحاتهم، وربما نقلوا بعض مصطلح الأمة التي حكموا عليها، في غنائها وموسيقاها. ولما انتشرت النصرانية في الشام في القرن الثالث للميلاد عُني منتحلوها بالموسيقى في كنائسهم عناية اليهود بها من قبل في بِيعَهم، وإذ اقتبست النصرانية كثيراً من عادات الروم ومصطلحاتها لم تقصر في اقتباس الموسيقى والتلحين والغناء لثبوت فوائدها الروحية.
ولما جلت بعض القبائل العربية إلى الشام يوم سيل العرم وقبله وبعده، حملت معها ما ألفت أن تفزع إليه من اللحون، وتضرب عليه من الآلات، حتى إذا كان الإسلام، وكانت مدنية الفاتحين إلى السذاجة والفطرة، وكان غناؤهم لا يتعدى الحداء والإنشاد يوم الغارة والحَفْل، وفي ظل الخيام والآطام، أخذت موسيقاهم تقتبس من الموسيقى الشامية الرومية كما تقتبس من الموسيقى الفارسية. وقال بعض العارفين: كان اقتباسها من الموسيقى الفارسية فقط. وزعم بعضهم أن أخذها كان من الرومية أكثر. ولا يعقل أن يتأخر العرب في نقل الموسيقى إلى القرن الأول للهجرة واستعدادهم لها كاستعدادهم لغيرها من الفنون، ولهم من فطرتهم ومناخ أرضهم أعظم دافع للولوع بها، وهم المعروفون بحب الارتحال وكانت لهم صلات مع جيرانهم من الأمم الأخرى منذ الزمن الأطول ولم تكن أُمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب.
ومع هذا فنحن مضطرون أن نشايع القائلين بأن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، نقل غناء الفرس إلى غناء العرب. ثم كثر الموالي من الفرس فكانوا يتعلمون في مكة والمدينة، ومنها ينتقلون إلى الشام والعراق ومصر وغيرها
من الأصقاع التي استظلت براية الإسلام. وفي الأغاني أن سعيد ابن مسجح أبو عثمان مولى بني جُمح وقيل إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، مكي أسود مغنٍ متقدم، من فحول المغنيين وأكابرهم، هو أول من وضع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.
وقيل: إن أول من أخرج الغناء العربي جرادة، جارية ابن جدعان وفيه نظر(4/92)
فإن الغناء معهود من عهد عاد، حتى كان من جملة مغنياتهم الجرادتان اللتان يضرب بهما المثل فيقال غنته الجرادتان. وكان النظر بن الحارث بن كَلَدة أول من ضرب على العود أخذه عن الفرس وعلمه أهل مكة فانتشر في الحجاز وكان يتغنى أيضاً. وفي القصة التي ساقها صاحب الأغاني في الدعوة التي دعي إليها حسان بن ثابت في آل نُبيط وقد أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضرباً عجيباً وغنتا بقول حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد
ورواية حسان نفسه أنه كان في الجاهلية مع جبلة بن الأيهم، وقد رأى عنده عشر قيان: خمس يغنين بالرومية بالبرابط الأعواد وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. في ذلك كله إشارة إلى أن الغناء العربي في الشام أقدم من الإسلام.
موسيقى كل أمة ملازمة لها كروحها، وهي مظهر من مظاهر حياتها، فلا يعقل أن تخلو أمة من روح حتى تجئ أمة أُخرى فتقبسها روحها. ولكن الأمة إذا اختلطت بأُخرى، وكان عند الثانية فضل على الأولى في شيء، وفي الثانية طبيعة الاقتباس ومرونة على الاحتذاء والتشبه، قد تحمل الأولى إلى الثانية ما ينمي فيها ذاك الروح فتعدله على أُسلوبها ومناحيها.
ولقد زعم بعضهم أن الإسلام لم يُحِلّ الموسيقى محلها اللائق بها، وادعى بعضهم
أنه حرمها، فكان الحظر أسهل من الإطلاق في نظرهم، بيد أن الإسلام وهو دين الفطرة لا يخرج عن حد قيود العقل، إلا أنه لا يقول بالإفراط في شيء حتى ولا بالعبادة، لأنه يكون قد دعا إذ ذاك إلى البطالة واللهو، وهما مخالفان للشرع، وبذلك تكون الموسيقى وبالاً على من يأخذ نفسه بها، ومصيبة على من ينصرف إلى سماعها، ولو صح ما قالوا فلماذا رأينا جِلّة من الصحابة والتابعين لحنوا وتغنوا، وسمعوا الألحان وطربوا لها، ولو لم يجزها الشارع الأعظم في أوقات معينة وحوادث وقعت، هل كان يجرأ أحد من أصحابه ومن بعدهم على الجلوس في مجالس الطرب، والدين غض والعهد بصاحبه غير بعيد، قال عبد الله بن قيس: كنت فيمن يلقى عمر مع أبي عبيدة مَقْدَمهُ الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلّسون من أهل أذرعات بالسيوف والرّيحان فقال عمر:(4/93)
امنعوهم فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنتهم، أو كلمة نحوها، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم فقال: دعوهم. والتقليس الضرب بالدف والغناء واستقبال الولاة عند قدومهم المصر بأصناف اللهو. وقيل المقلس هو الذي يلبس القالس أو القلنسوة وهي أشبه بقبعات الروم.
ولما استقر الملك لأمية في الشام ودخلت الحضارة كان في جملة ما دخل إليه الغناء على صورة لا خنا فيها ولا تبذل، ولقد روى المبرّد أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان مُلهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر، قال: إذاً فأخثر له من العطاء. وقالوا: إن معاوية قال لما دخل على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جارية وفي حجرها عود: ما هذا يا ابن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروّيها رقيق الشعر فتزيده حسناً بحسن نغمتها قال: فلتقل، فحركت عودها وغنت وكان معاوية قد خضب.
أليس عندك شكر للذي جعلت ... ما ابيض من قادمات الريش كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلقه ... ريب الزمان وصرف الدهر والقدم
فحرك معاوية رجله فقال له ابن جعفر: لم حركت رجلك يا أمير المؤمنين قال: كل كريم طروب.
ورأينا بعض خلفاء بني أُمية في دمشق وأُمراءهم وساداتهم، يضعون ألحاناً ويسمعون الغناء ويولعون بالموسيقى، ويجيزون أربابهم ويواسونهم من غير نكير: ومنهم عمر بن عبد العزيز، وناهيك به من كامل، في جميع الفضائل. فقد دوّنت له صنعة في الغناء أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها، وكان أحسن خلق الله صوتاً. قال أبو الفرج: وأما الألحان التي صنعها فهي محكمة لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق في الغناء. وممن صنع في شعره غناءً يزيد بن عبد الملك الأموي وممن غنى وله أصوات صنعها مشهور وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز، الوليد بن يزيد. وقد ذكروا أنه كان للخلفاء من بني العباس غناء، ومنهم من كان يضرب بالعود، ومن خلفاء العباسيين السفاح والمنصور والواثق وابن المعتز والمعتضد وكثير غيرهم من أبناء الخلفاء، دع سائر الطبقات من أهل(4/94)
الرفاهية والسعة، ممن كانوا في كل زمان ينشطون إلى سماع الأغاني، ويبرون الرجال والنساء من أرباب الموسيقى والغناء، ويغالون بابتياع الجواري اللائي حذقن الغناء، وبرعن في الموسيقى وشدون شيئاً من الأدب.
وكانت تغلو في العادة قيمة مثل هذه الطبقة من الجواري. والسواذج منهن أي غير المثقفات دون من عُني أولياؤهن بثقافتهن في الرتبة والقيمة مهما بلغ من جمالهن، والموسيقى والشعر في مقدمة ما كان يطلب منهن. وذكر المسعودي أن كثيراً من الجواري اشتهرن بالغناء بالمدينة، وكان يقصدهن بعض الناس من بغداد، وربما وافى الواحدة وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، ومنهن القارئة
القوّالة، ولم تكن محبة القوم إذا ذاك لريبة ولا فاحشة. وكان لبعض الموسيقيين والموسيقيات والمغنين من أرباب النباهة والفضل، يد في إصلاح بعض الأحوال وتخفيف النوازل عند العظماء، ولطالما ارتجلوا ألحاناً وأبياتاً ظاهرها طرب وغرام وسلوى، وباطنها وعظ وعبرة وتعريض، ذلك لأن الموسيقى عندهم كانت على الأغلب مرافقة للشعر والأدب، وكم من شاعر تدفقت الحكمة على قلبه، وجاش بها صدره، فهذّب نفساً بل نفوساً بأبيات يقولها.
جاء أبو النصر الفارابي الفيلسوف إلى الشام على عهد سيف الدولة بن حمدان فأدهشه ومن عنده من الموسيقيين على إتقانهم لها، وأقام في دمشق ومات فيها، قال ابن أبي أُصيبعة: إن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه، وإنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحاناً بديعة، يحرّك بها الانفعالات، ويحكى أن القانون الذي كان يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركّب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم. وقد ذكر المؤرخون من تنافس سيف الدولة بن حمدان مع الوزير المهلبي للاستئثار بمغنية أديبة مشهورة اسمها الجيداءُ ما يدلّ على ولوع القوم بالموسيقى، وكان لجيداءُ في مجالس سيف الدولة من ارتجال الألحان والأدب البارع ما اشتهر أمره، وفي عصره اشتهرت في إنطاكية المغنية المشهورة بنت يُحنا.
ولم تبرح الشام تخرج من رجال الموسيقى والغناء رجالاً كانوا بهجة(4/95)
عصورهم، ومنهم أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين من أهل القرن السادس، كان يعرف الموسيقى ويلعب بالعود، ويجيد الإيقاع والغناء والزمر وسائر الآلات، عمل أرغناً وبالغ في إتقانه (1) وحاول أيضاً عمل الأرغن واللعب به أبو زكريا يحيى البياسي من أطباء الناصر صلاح الدين.
وكان من البارعين في هذا الفن من العلماء قسطاً بن لوقا البعلبكي وعبد المؤمن
بن فاخر ونجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة وفخر الدين الساعاتي. وكان رشيد الدين بن خليفة أعرف زمانه بالموسيقى واللعب بالعود، وأطيبهم صوتاً ونغمة حتى إنه شوهد من تأثير الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب المعظم به جداً وحَظيَ عنده. ومنهم علم الدين قيصر أخذ الموسيقى عن الفيلسوف كمال الدين بن يونس في الموصل.
وكان أحمد بن صدقة طُنبورياً مقدماً حاذقاً حسن الغناء ومحكم الصنعة، وكان ينزل في الشام فاستدعاه المتوكل إلى بغداد وأجزل صلته. وكان خلفاء بني العباس كلما سمعوا بنابغة في هذا الفن حملوه من القاصية وأغدقوا عليه الهبات ذكراً كان أم أُنثى، ولهم في ذلك نوادر إن لم تصحّ كلها ففي بعضها إشارة إلى ما كانوا فيه من حب هذا الفنّ.
ومنهم الجمال البستي كان يلعب بالجغانة الأصل الصغانة وهي القيثارة ولي خطابة جامع التوبة بدمشق على عهد الملك الأشرف، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ وكان يتهم باستعمال الشراب، وصاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل. فكتب إليه عبد الرحيم المعروف بابن زويتينية الرحبي أبياتاً، يعرّض بها الرجلين ويرجو أن يعاد جامع التوبة إلى ما كان عليه محله من قبل، وهو خان للفسق والفجور، لأن حظه حتى بعد أن صار جامعاً أن يتولاه موسيقار، وشرّيب عقار، فقال:(4/96)
يا مليكاً أوضح الحقّ ... لدينا وأبانَهْ
جامع التوبة قد ... قلّدني منه أمانهْ
قال قل للملك الصا ... لح أعلى الله شانه
يا عماد الدين يا من ... حمد الناس زمانه
كم إلى كم أنا في ضّرٍ ... وبؤسٍ وإهانه
لي خطيب واسطي ... بعشق الشرب ديانه
والذي قد كان من قب ... لُ يغني بجغانه
فكما نحن فما زل ... نا ولا أبرح حانه
ردّني للنمط الأو ... ل واستبقِِ ضمانه
وكان محمد بن علي الدهان المتوفى سنة 731 شاعراً موسيقياً ملحناً قانونياً دهاناً، وكان الكمال القانوني من المشهورين في عصره بقانونه، وصفه عبد الرحمن بن المسجف 635 الدمشقي فقال:
لو كنت عينت الكمال وجسّه ... أوتار قانون له في المجلس
لرأيت مفتاح السرور بكفه ال ... يسرى وفي اليمنى حياة الأنفس
وذكر ابن حجر في أخبار سنة 779 أن دنيا بنت الاقباعي المغنية الدمشقية اشتهرت بالتقدم في صناعتها، فاستدعاها الناصر حسن على البريد إلى مصر فأكرمها، ثم وفدت على الأشرف فحظيت عنده، وهي كانت من أعظم الأسباب في إسقاط مكس المغاني، سألت السلطان في ذلك فأجابها إليهن واستمر إبطاله في الدولة. واشتهرت في القرن الثامن بدمشق فرحة بنت المخايلة المغنية كما اشتهرت المغنية المعروفة بالحضرمية وهي التي كانت مع عرب آل مِرا يوم وافوا دمشق لحرب التتر في زهاء أربعة آلاف فارس، فكانت تغنيهم من الهودج سافرة وكانوا يرقصون بتراقص المهاري وتقول:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليلي لاقينا جُذاماً وحميرا
لما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جُرداً للمنية ضمّرا(4/97)
لما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تَكسرا
لقيناهم كأسا سقونا بمثله ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
ومنذ الزمن الأطول إلى أيامنا ما خلت الشام من عوادة وطنبورية وكراعة وربابية
وصناجة ورقاصة وزفانة. ولم يخل عصر بعد زهو الشام على عهد الأمويين والعباسيين ومن بعدهم من المماليك وغيرهم من مبرزين في الغناء والموسيقى. واشتهر في دمشق بضرب القانون وكان أستاذاً فيه أحمد التلعفري 813 كان كاتب المنسوب. ومن النابهين ابن القاطر الدمشقي من أهل القرن الحادي عشر كانت له شهرة عند أرباب هذا الفن فإذا حضروا معه مجلساً عظّموه وتراخوا في العمل حتى يشير إليهم، ذكر ذلك المحبي وترجم له ولرجب بن علوان الحموي وقال: إن هذا كان يعرف الموسيقى على اختلاف أنواعها وهو أعرف من أدركه وسمع به، وله أغان صنعها على طريقة أساتذة هذا الفن. ومنهم برسلوم الحلبي رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم كان حسن الصوت عارفاً بالموسيقى. واشتهرت أُسرة بني فرفور في القرنين الماضيين بدمشق بالشعر والآداب وقد أخرجت رجلين من أبنائها عارفين بالموسيقى وهما جمال الدين وعبد الرحمن.
وفي تراجم أهل الغناء الذي كتبه الكنجي المتوفى سنة 1150هـ ترجمة ستة وعشرين مغنياً من معاصريه في دمشق وفيهم المؤذن والمنشد في الأذكار والمغني على الآلات الموسيقية، مما يدل على الإقبال على الموسيقى حتى في أعصر الظلمات فإذا كانوا في عصره على هذا القدر في دمشق فقط فكم كان في حلب وغيرها من المدن، وحلب مشهورة من القديم بغرام أبنائها بالموسيقى منذ عهد سيف الدولة بن حمدان، دع الموسيقيات والمغنيات ممن غفل المؤرخون عن ذكرهم أمثال علوة محبوبة البحتري في حلب التي ذكرها كثيراً في شعره الخالد.
ومن الموسيقيين من كانوا يمارسون الموسيقى للتكسب وهم المحترفون، ومنهم من كان يخدم هذا الفن المهم حباً به وهم الهواة، ومن هؤلاء طبقة من الرجال والنساء لا يستهان بها ولكنها كانت ولا زالت متكتمة، ومنهم من تستعمل من الموسيقى أو
تسمع منها ما لا يعبث بوقارها إن كانت من أرباب(4/98)
المظاهر الدينية أو الدنيوية مخافة أن ترمى بما يثلم الشرف، لأن بعض الفقهاء شددوا على الغناء والموسيقى، وكان بعضهم يعد ساقطاً من العدالة كل من يغني بأجرة من الموسيقيين والمغنين، ويتسامحون مع من يغني في جماعة من أصحابه، ويعون الغناء فناً يفقر صاحبه، وجاء في الأمة مثل شيخ الإسلام عبد العزيز ابن عبد السلام 660 وكان على نسكه وورعه يحضر السماع ويرقص ويتواجد والناس تقول في المثل ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام. وصناعة الغناء كما قال ابن خلدون: آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية، وأول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.
ولقد أدركنا وأدرك أجدادنا أن الشام كلها كانت لا تخلو معظم طبقاتها من موسيقيين، وكل مجلس من مجالسهم أو سهرة من سهراتهم، أو نزهة من نزهاتهم، كانت تضم أُناساً أتقنوا هذا الفن حتى صار لهم ملكة، فكان السرور يملأ القصور والدور، والموسيقى والإنشاد من الأمور المألوفة لا يستغني عنها بحال، أما في القرى والبوادي فكان لهم الغناء والحداء، وضرب الرباب والقيثارة والمزمار والدف والكوبة، أي أن لهم ما يطرب آذانهم وترتاح إليه أرواحهم وتسهل معاناته وممارسته، ومن مشاهير الموسيقيين في النصف الأول من القرن الماضي محمد السؤالاتي الدمشقي أخذ عنه أرباب الموسيقى في عصره من المصريين والشاميين ذكره في سفينة الملك.
ومن أهل المظاهر الذين عُرفوا بالموسيقى في أوائل هذا القرن الشيخ أبو الهدى الصيادي من حلب وعبد الرزاق البيطار من دمشق وكانا من أساتذة هذا الفن الجليل، ومنهم من عُنوا بالموسيقى فبرزوا فيها من أبناء هذه الديار مثل محمود الكحال. أحمد السفرجلاني. عمر الجراح. عبد القادر الحفني. محيي الدين كرد
علي. سامي الشوا. رحمون الحلبي. توفيق الصباغ. علي الدرويش. باسيل الحجار. محمد الشاويش. نجيب زين الدين. مصطفى سليمان بك. شفيق شبيب. محمد علي الأسطه. رضا الجوخدار. مصطفى الصواف حمدي ملص. رجب خلقي. يوسف الزركلي. محمد الأنصاري. محمد محمود الأتاسي. ميشيل الله ويردي. مدحت الشربجي. اليكسي بطرس. اليان نعمة. إسكندر معلوف. بولس صلبان. نصوح الكيلاني. تحسين يوقلمه جي. عباد الحلو. طلعت شيخ الأرض. حسن التغلبي. جميل البربير. أحمد التنير. أمين(4/99)
النقيب. محي الدين بعيون. وديع صبرا. عزت الصلاح. قسطندي الخوري. أحمد الشيخ. محمد الجراح. إبراهيم شامية. فريد الأطرش. وغيرهم ممن جعلوا الموسيقى حرفة أو للتسلية في خلواتهم ومنهم من كانوا صلة بين الموسيقى القديمة والموسيقى الجديدة. ومن المنشدات المطربات فريدة مخيش. رمزية جمعة. خيرية السقا. نادرة. فيروز. أسمهان الأطرش. ماري جبران. ماري عكاوي. لور دكاش.
ولقد أنبغت بيروت وحلب كثيرين من المغنين والغالب أن في هاتين المدينتين خاصية حسن الصوت. سألت صديقنا الشيخ كامل الغزي من أساتذة حلب عن المغنين والموسيقيين في بلده فكتب لي رسالة قال فيها:
إن حلب لا تخلو في أكثر أوقاتها من الشداة والمترنمين الذي يعدون بالمئات ويعرف عند الحلبيين من يأخذ على غنائه أجرة باسم ابن الفن، ومن رجال أواسط القرن الماضي مصطفى يشبك، فتح نادياً لممارسة الفنون الموسيقية دعاه بقاعة بيت مشمشان، كان يختلف إليه في أوقات معينة كثير من المولعين بالموسيقى ليتلقوها عن أستاذها. وما زال الحلبيون يضربون المثل بالمكان الذي تتوفر فيه دواعي الطرب فيقولون: ولا قاعة بيت مشمشان. ومن رجال أواسط القرن الماضي عبد الله البويضاتي ومن رجال القرن الماضي وأوائل القرن الحالي مجمد
بن عبده. إسماعيل السيخ. جبرا الأكشر. آجق باش. طاهر النقش. محمد الوراق. الدرويش صالح قصير الذيل. محمد غزال. باسيل حجار. أحمد سالم. بن عقيل. وممن أخذ عن هذا بعض فصول الرقص المعروف بالسماح السيد أحمد أبو خليل القباني الممثل الموسيقار الدمشقي والسيد عبده الحمولي المطرب المصري وهما من المشاهير. ومن تلامذته امرأة قنصل إيطاليا في حلب كانت تقول إن السيد أحمد بن عقيل يقل نظيره في هذا الفن حتى في أوربا قال: ومن الأحياء في حلب عبده بن محمد عبده وشرف الدين المعري ومن قينات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي الحاجة عائشة المسلمينية.
وقال: إن العود المعروف بالبرط لم يكن معروفاً في حلب في القرن الماضي حتى جاء حلب سنة 1293 هـ رجل من أهل دمشق اسمه سعيد الشامي فأخذ(4/100)
الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا الكمنجاتي وإسحاق عدس ونيقولاكي الحجار. ومن الأحياء سامي الشوا ووالده أنطوان موسيقار أيضاً. والعازفون بالناي المعروف عند العرب بالبراعة كان نابغة فيه أوائل القرن عبده زرزور وكل من في حلب اليوم خريجوه وتلاميذه اه. ومن الموسيقيين الحلبيين أيضاً عبد الكريم بلّة وحبيب العبديني وأحمد مكانس وعمر البطش ومصطفى طمرق توفوا في أوائل هذا القرن.
ولقد بدأت الموسيقى التركية تنازع الموسيقى العربية في أواخر القرن الماضي لأنها خُدمت أكثر من موسيقانا، ثم جاءت الموسيقى الإفرنجية، فأصبحت الموسيقى الشامية مزيجاً لا يقام له وزن، لم يحتفظ بالقديم وهو من روحه وعاداته ولم يحسن اقتباس الجديد لأنه ليس من مصطلحه. ولا يفوتنا القول إن الموسيقى في العصور المتأخرة كان لها في أذكار بعض أرباب الطرق الصوفية مقام رفيع. ومنهم من أتبعها بالصنوج والأوتار، ومنهم من شفعها برقص، وقد قام منهم
مبرزون في صنعتهم، وماتت شهرتهم، يوم سمنت نأمتهم، والموسيقى في الكنائس على اختلاف الطوائف المسيحية وتباين العصور، ما زالت شائعة معتبرة وكم من موسيقار عندهم تقلبت به الحال حتى رقي بفضله إلى أرقى درجات الكهنوت.
التصوير:
أخذ الحثيون التصوير على الأغلب كما أخذوا النقش والبناء عن جيرانهم من البابليين والأشوريين، وربما أخذوا عن المصريين أيضاً، لكنهم لم يجودوه كل الإجادة على ما رأينا من تصاويرهم المكتشفة، وخالفنا رأي بعض المشتغلين بآثارهم المعجبين بمدنيتهم، فإن الآثار التي اكتشفت للحثيين في جرابلس تدل على مبلغ تلك الأمة من الإتقان في النقش والتصوير. وقد قال لنا الأستاذ هروزني التشكي وهو أخصائي بآثار الحثيين: إن عادياتهم مما يعجب منه، ولا تقلّ بجمالها عن بقية آثار الأمم الأخرى، وكذلك فعل الكنعانيون والفينيقيون والإسرائيليون، أخذوا عن آشور وبابل ومصر هذا الفن، ولم يعرف أنه كان لهم طرز خاص في التصوير، وكانوا على ما ظهر دون من اقتبسوا عنهم. أما(4/101)
التدمريين فأجادوا في تصويرهم وكانوا ينقشون على القبور صور من دفن فيها من الرجال والنساء، مثل أهل جنوة في إيطاليا في العصور الأخيرة، ومنها صورة جاريتيت رآهما أوس بن ثعلبة التيمي في القرن الأول وقال فيهما أبياته المشهورة:
فتاتي أهل تدمر خبراني ... ألمّا تسأما طول المقام
قيامكما على غير الحشايا ... على جبل أصم من الرخام
وفي دار الآثار بدمشق مجموعة تماثيل من قبور تدمر كأنها تنطق، ومنها صورة فتاة مزينة الرأس يستدل منها على صورة تصفيف الشعور في ذاك العصر. وكيف كانت أزياء نساء تدمر وبهرجة رؤوسهن وأقراطهن وعصباتهن، وفيما ظهر مؤخراً في مدينة تدمر من تماثيل صاحبتها زينب ووصيفاتها وفي غير ذلك من الشخوص دليل على تبريز التدمريين في هذا الشأن.
أما التصوير عند الروم واليونان في الشام فإن منه نموذجات تأخذ بمجامع القلوب قال الثعالبي: لم يبدع التصوير إبداع الروم والرومان أحد من الأمم، فقد كان لهم إغراب في خرط التماثيل وإبداع في عمل النقوش والتصوير، حتى إن مصورهم
يصور الإنسان ولا يغادر شيئاً إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور وضحك الهازئ، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورة.
والمصانع الشامية من العهد الروماني هي ذات أشكال معتادة في تلك الأعصر لها نقش ظاهر خاص بها من النقوش النباتية الكبيرة المنقولة عن نباتات القطر ولا سيما في فلسطين على عهد الملوك والقضاة ومنها ما يستعمل فيه صور الطيور. قال دوسو: إن في الكتابات التي وجدت في الصفا صورة فرسان مسلحين برماح طويلة على مثال بدو هذه الأيام، وأحياناً تمثلهم وهم يطاردون غزالاً أو وعلاً أو يصطادون أسداً، ومنهم الفرسان يحملون الرماح والمشاة مسلحون بالقوس والنشاب. ولقد غصت فلسطين على عهد الإمبراطور قسطنطين بالمصانع التي تذكر بالحوادث الخطيرة التي وردت في الإنجيل وقد زينت هذه المصانع بالفصوص التي تمثل هذه المشاهد.(4/102)
جاء الإسلام للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام، فحاذر المسلمون إذا أجازوا الرسم المجسم أن يكون في عملهم مدرجة للعرب إلى الرجوع إلى عبادة الأصنام، فجعلوا في التجويز بعض القيود الخفيفة، ولما ذهبت تلك الخشية أخذت مسألة التصوير تنحل شيئاً فشيئاً ويُعمد إلى ما فيه مصلحة منه. ذكر المقريزي أن الرسول عليه السلام أقر نقود العرب في الجاهلية التي كانت ترد إليهم من المماليك الأخرى والدنانير قيصرية من قبل الروم مصورة وأن عمر ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً.
ورأينا زيد بن خالد الصحابي استعمل الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله.
قال صديقنا السيد محمد رشيد رضا في المنار: ومن الآثار في حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد ابن أبي بكر رض الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة الصديقة وأعلم الناس بحديثها وفقهها، ومنها استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رض وخازنه الصور في داره، ومنها صنع الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكل منهما وَليَ إمارة المدينة وكانا من التابعين قال: وعمل مروان يدل على أن التصوير كان مستعملاً في عصر الصحابة، فمن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم منها أن دين الفطرة الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر عن الأمة، لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يجرم ما فيه مفسدة أو ما كان ذريعة إلى مفسدة اه.
ويعجبني ما كتبه أُستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في وصف رحلته إلى صقلية عام 1322هـ 1894م في مجلة المنار وقد ذكر تنافس الغربيين في حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج فقال: إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوين والمبالغة في تحريره خصوصاً شعر الجاهلية، وما عُني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المطبوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم(4/103)
ضرب من الشعر يُرى ولا يُسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى، والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المرجة في هذه الألفاظ، متقاربة لا يسهل عليك
تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهراً باهراً، يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعاً في جمع عينين في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيأة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك.
قال: ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي ما حُكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصور قد محي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي فهو يجيبك مشافهة، فإذا أوردت عليه حديث إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببينك الأول اللهو والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة(4/104)
في نقش المصحف موضع
النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر. . . وبالجملة فانه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل اه.
لما جاء الفاتحون إلى الشام كانت في تصويرها عالة على الروم والفرس وبقيت على ذلك مدة قليلة لأن التصوير لم يكن يعرف أنه كان في متفرق أقطار جزيرة العرب اللهم إلا في اليمن، برع فيه أهلها براعة أثبتتها الآثار والمصانع، وكانت الأثواب اليمانية المزركشة المبرقشة المصورة مما يحمل إلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة وما إليها منذ عهد الجاهلية، وأول ما عرف التصوير في الشام على عهد المسلمي كان في زمن الوليد باني الجامع الأموي بدمشق والمسجد الأقصى في القدس وغيرهما، وما نظن أن جميع من صوروا له ما أراد من الحيوان والنبات والشجر والمدن والأصقاع كانوا من أصول عربية بل كان فيهم الفرس والروم الذين دخلوا في خدمة الدولة العربية، ومنهم من بعثت به مملكة بيزنطية ليساعدوا الخليفة على عمله النافع، وقد وجد الأثري موسيل التشكي في قصير عمرة على سبعين كيلو متراً من قصر المشتى في البلقاء كتابات ونقوشاً تشير إلى فتح الأندلس في أيام الوليد وفيه من النقوش الزاهية والتصاوير العجيبة ما يأخذ بالأبصار. قال صاحبنا شيخو: وفي هذه القصور من الآثار الهندسية ومن التصاوير ومن تمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والمصانع ما أذهل العلماء لوجوده في البراري. ويقول ريسون: إن العرب قد نهجوا في الفنون الجميلة نهج البيزنطيين، ولم يخالفوهم إلا بعد تجسيم الحيوان، ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآكام ومعاهد ساحرة.
وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل. ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في الرسم آثاراً خارقة للعادة، وما بقي من آثارهم وعادياتهم الحجرية وأنواطهم المنقوشة، وعاجهم ومجوهراتهم، يشهد باستعدادهم الفني، فإنهم نقلوا عن غيرهم في هذا الشأن أولاً ثم أخذوا يمرنون أنفسهم على حسن(4/105)
الهندسة بالنقل عما عثروا عليه بادئ بدء ولا سيما عن الآثار البيزنطية، فكانوا يخشون أول أمرهم ثم أخذوا يجرأون فيعدلون ما يريدون احتذاءه بل يخترعون ويبدعون، فظهر لهم علم جديد مستق على غير مثال، قال: ولا نعلم هل كان للعرب قبل الإسلام طرز من البناء الخاص بهم، لأنه لم يبق من الزم السابق للإسلام سوى خرائب مبعثرة، ومن الهجرة إلى القرن العاشر كان عهد الطرز اليوناني العربي، وعلى مثاله جاء بناء المسجد الأقصى في القدس، والجامع الأموي في دمشق، والجامع الأعظم في قرطبة، والتأثيرات اليونانية ظاهرة فيها اه.
وبعد أن ترجم العرب كتب الفنون والصناعات عن الروم والفرس والقبط والسريان والهند، منذ أول النصف الثاني من القرن الأول، أخذوا يزينون كتبهم ببعض الصور، يصورونها لتمثيل المسائل العلمية للأبصار، ولا سيما كتب النبات والبيطرة والحيوان والجراحة والهندسة والفلك والجغرافيا وبعض كتب الأدب والمحاضرات والمقامات، فاستعملوها بحسب الحاجة وأجادوا بالنسبة لعصورهم، على ما ثبت ذلك بشهادة المحفوظ من مخطوطات العرب في متاحف الشرق والغرب، وأكثر من أثر عنهم التصوير والإجادة فيه وصنع التماثيل ووضعها في قصورهم خلفاء بني أمية في الأندلس، ومن جاء بعدهم من الملوك، والصور - كما قال ابن أبي أُصيبعة - إنما جعلت لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها، والصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها، وكذلك
نقشت اليهود هياكلها، وصورت النصارى كنائسها وبيعها، وزوق المسلمون مساجدهم.
نعم زوّق المسلمون مساجدهم، وكانوا أوائل الإسلام يكتفون بالصلاة مساجد أشبه بالأرض القفراء، ويفضلون السجود على الحصا ويعدون فرشها بالبواري بدعة، وذلك لئلا تشتغل العين بشيء يبعد النفس من الخشوع لبارئها، ثم أخذوا يتأنقون في مساجدهم، ويفرشونها بالطنافس والزرابيّ، ويصورون حيطانها، وينقشون فيها آيات ثم مشجرات وأماكن جميلة، ومعظم ما انتهى إلينا أو بلغنا خبره في العصور العشرة الأخيرة في الشام تصوير المسائل العلمية، والأمصار والشجار، والسفن تمخر في البحار، ثم تصوير الحيوان والإنسان ولكن على قلة.(4/106)
لا جرم أن التصوير في هذه الديار كان ضعيفاً بعض الشيء لأن مسألته كان فيها نظر عند بعض الفقهاء الذين جمدوا على ما فهموه من الشريعة، والتصوير عارض على الملة غير مغروس في فطرتها، ولكن المسلمين تطوروا بطور الأمصار التي نزلوها. ولم يتوقف ملوكهم وأمراؤهم على فتاوى الفقهاء لإقامة المعالم واقتباس الحضارة، فقد ذكر ابن بطريق أن بطريق الروم في قنسرين طلب إلى أبي عبيدة ابن الجراح الموادعة على نفسه سنةً حتى يلحق الناس بهرقل الملك، ومن أقام فيها فهو في ذمة وصلح، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك، فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين، وصوّر الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه فرضي أبو عبيدة، ومرّ بالصورة أحد العرب، ووضع زج رمحه في عين تلك الصورة ففقأ عين التمثال عن غير قصد، فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين، ونقضتم الصلح، وقطعتم الهدنة فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ فقال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل
صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم، فقال: لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود، وأقبل رجل منهم ففقأ عين الصورة برمحه فقال البطريق: قد أنصفتمونا.
وذكر المقريزي أن خماريويه بن أحمد بن طولون أمير مصر والشام المتوفى سنة 282هـ عمل في داره في القاهرة مجلساً برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد، المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صوراُ في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكراذن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأخراص الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمّرة في الحيطان ولُونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.(4/107)
كانت هذه القاعة المصورة في القرن الثالث. وظهر في عصر الأيوبيين والمماليك مصورون شاميون أبدعوا في التصوير على الجدران وعلى الكتب، ومنها ما كان إلى القرن السابع في دير باعنتل قرب حمص، كان فيه على رواية ياقوت عجائب منها آزج بيت مستطيل أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها، وصورة مريم في حائط منتصبة، كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك. ومنها ما كان في هيكل دير مران في سفح قاسيون بدمشق من صورة عجيبة دقيقة المعاني. وذكر ابن جبير أنه كان في كنيسة مريم بدمشق في القرن السادس من التصاوير أمر عجيب، وكان مثل ذلك في كنيسة القيامة وغيرها من كنائس فلسطين.
كان اليازوري من وزراء الفاطميين يفضل كثيراً على المصورين الشرقيين وكانوا
من المسلمين. وقد جعل الظاهر بيبرس رنكه أي أشعاره الأسد، وجعل دراهمه على صورته، وجعل أقوش الأفرم رنكه في غاية الظرف وهو دائرة بيضاء يشقها شطب أخضر كأنه مسن عليه سيف أحمر يمر من البياض الفوقاني إلى البياض التحتاني وقال فيه نجم الدين هاشم البعلبكي.
سيوف سقاها من دماء عداته ... وأقسم عن ورد الرّدى لا يردها
وأبرزها في أبيض مثل كفه ... على أخضر مثل المسنّ يحدها
قالوا: وقد كان الخواطئ ينقشن رنكه على معاصمهن وفي أماكن مستورة من أجسامهن.
ومن أجمل ما أبقت الأيام وإن لم يتم لها إلى الآن قرنان، الصورة الباقية في دار أسعد باشا العظم في حماة من أبدع ما حوت من النقوش العجيبة وغيرها، وهي صورة رسمت على قطعتين من الخشب جعلتا في حائط القاعة الكبرى ونقشت عليهما صورة حماة في ذلك العهد بجوامعها ومدارسها، ونواعيرها وقصورها، ظهر منها أن حماة كانت أعمر مما هي عليه الآن عرفنا ذلك بفضل التصوير.
أخذت العرب نقوش الفسيفساء عن الروم وبالغت فيها ولا يزال إلى اليوم قطع في الدور وغيرها، وأهمها ما لا يزال في كنيسة مادبا في البلقاء من مصوّر فلسطين ونهر الأردن يشقها من وسطها والأسماك تعوم فيه، والمدن التي كانت(4/108)
عامرة لعهد واضعها، ولا يزال القسم الأعظم منها بحاله لم يصب بأذى الأيام. وآثار الفسيفساء كثيرة مبعثرة في دور مادبا لم تزل على بريقها، وفي دار سليم الصناع في مادبا بركة ماء معمولة بالفسيفساء الملونة أيضاً تخال ما فيها ماء حقيقياً وعلى جوانبها الثلاثة الباقية رسوم بالفسيفساء تمثل الحيوانات والطيور البرية والداجنة، تسرح في جنينة زاهرة والطيور المائية واقفة في وسط الماء على آنية تشبه الزهرية، وفي كل زاوية من زواياها صورة إنسان تخالف الأخرى. وفي
هذه البليدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسيفساء يطلق الماء عليها لتغسل كما يُغسل بلاط القاعات وأفنية الدور.
قال في مسالك الأمصار: والفسيفساء مصنوع من زجاج يذهب ثم يطبق عليه زجاج رقيق ومن هذا النوع المسحور المسجور وأما الملون فمعجون وقد عمل منه في هذا الزمان 740 - 750 شيء كثير برسم الجامع الأموي وحُصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة أربعين وسبعمائة وعمل منه قِبَل للجامع التنكزي ما على جهة المحراب، غير أنه لا يجيء تماماً مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر، والفرق بين الجديد والقديم أن القديم قطعه متناسقة على مقدار واحد والجديد قطعه مختلفة وبهذا يعرف الجديد والقديم اه.
ووصف ابن فضل الله هذا يمكن أن يستنتج منه أن الفسيفساء كانت تعمل في الشام، وأن هذه الصناعة اللطيفة وإن اختصت بها القسطنطينية قد نقلت إلى الشام وجود عملها. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل الفسيفساء على البريد من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدينة. وكانت الفسيفساء في الجامع الأموي قبل حريقه الأول في القرن الرابع ملونة مذهبة تحوي صور أشجار وأمصار وكتابات، على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة، وقلّ شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان قاله المقدسي وقال غيره: إنه مثلث في صور الجامع صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب وأن الكعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب كما قال فيه بعض المحدثين:
إذا تفكرت في الفصوص وما ... فيها تيقنت حذق واضعها
أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح في مدافعها
كأنها من زمردٍ غرست ... في أرض تبرٍ يُغشى بفاقعها(4/109)
فيها ثمار تخالها ينعت ... وليس يخشى فساد يانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة ال ... أيدي ولا تجتني لبائعها
وتحتها من رخامه قطع ... لا قطع الله كف قاطعها
أحكم ترخيمها المرخم قد ... بان عليها إحكام صانعها
قال صديقنا أحمد تيمور في رسالته التصوير عند العرب بعد كلامه على محاسن الجامع الأموي وما فيه من التصاوير: ولا نعلم إن كانت هذه الصور من عمل العرب فتدخل فيما قصدناه، أو من عمل صناع الروم الذين استعان بهم الوليد بن عبد الملك عند بناء المسجد وقد علل المقدسي زخرف الجامع الأموي فقال: قلت يوماً لعمي: يا عم لَمْ يحسن الوليد حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمّ الحصون، لكان أصوب وأفضل، قال: لا تغفل بُنيّ، إن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلاد نصارى، ورأى لهم فيها بيعاً حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها كالقمامة وبيعة لدّ والرّها فاتخذ للمسلمين مسجداً شغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيأتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى 1هـ. ولذلك حرص المسلمون في كل دور على السير على قدم الوليد في الاحتفاظ بنقوش الجامع وتحاسينه وتزايينه وتزاويقه، ومما أبقته الأيام من نقوش الفسيفساء أو الفصوص حيطان قبة الظاهر بيبرس في دمشق، فإنها الأثر الباقي من هذه الصناعة في هذا الصقع، بعد أن دثرت فسيفساء الجامع بما تعاقب عليه من الحريق في أدوار كثيرة ولم يبق منها إلا ما كشف مؤخراً في الحلئط الغربي من صور الأشجار وغيرها. ومن القصور المصورة الجدران دار الملك رضوان بحلب وفيها يقول الرشيد النابلسي من قصيدة يمدحه بها سنة 589 ويذكر ما على جدران الدار من الصور:
دارٌ حكت دارينَ في طيب ولا ... عطرٌ بساحتها ولا عطار
رفعت سماء عمادها فكأنها ... قطبٌ على فلك السعود يدار
وزهت رياض نقوشها فبنفسج ... غضٌ ووردٌ يانعٌ وبهار(4/110)
نَوْر من الأصباغ مبتهج ولا ... نورٌ وأزهارٌ ولا أزهار
ومنها:
صور ترى ليث العرين تجاهه ... فيها ولا يخشى سطاه صوار
وفوارساً شبت لظى حرب وما ... دعيت نزَالِ ولم يُشَنّ مغار
وموسدين على أسرّة ملكهم ... سكراً ولا خمر ولا خمار
هذا يعانق عوده طرباً وذا ... أبداً يقبّل ثغره المزمار
ثم لما تزوّج بضيفة خاتون ابنة عمه العادل واسكنها في هذه الدار وقعت نار عقب العرس فاحترقت واحترق جميع ما فيها، فجددها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.
ومن القصور المصورة القصر الأبلق الذي بناه الظاهر بيبرس في مرجة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن السابع، وعلى أنقاضه بنيت التكية السليمانية، وكان على واجهته مائة أسد منزّلة صورها بأسود في أبيض، وعلى الشمالية اثنا عشر أسداً منزلة صورها بأبيض في أسود، وهذه الصور أجمل من صور الأسود والنمورة وغيرها من الحيوانات التي كانت في قلعة حلب، ومن الحمامات المصورة حمام سيف الدين بدمشق عثر أحمد تيمور على قصيدة في ديوان عمر ابن مسعود الحلبي الشهير بالمحّار في وصف هذا الحمام جاء فيها:
وخطّ فيها كل شخص إذا ... لاحظته تحسبه ينطق
ومثل الأشجار في لونها ... ولينها لو أنها تورق
أطيارها من فوق أغصانها ... بودها تنطق أو تزعق
وهيئة الملك وسلطانه ... وجيشه من حوله يحدق
هذا بسيف وله عبسة ... وذا بقوس وبه يعلق
ومن التصوير على النسيج على ما ذكره البدري من تصوير الأبيض القطني المصوّر لأحياء القصور وأموات القبور وكان يصنع في دمشق. ومن التصوير في الكتب ما ذكره أبو الفداء في حوادث سنة 642 في ترجمة المظفر صاحب حماة قال: استخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف وكان مهندساً(4/111)
فاضلاً في العلوم الرياضية فعمل له كرة من الخشب مدهونة، ورسم فيها جميع الكواكب المرصودة. وذكر ابن قاضي شهبة أن علي بن محمد بن صالح الرسام عالم صفد المتوفى سنة 749 هـ كان في أول أمره يرسم القماش وقال: إن عنده كتاباً في علم الفلك صورت فيه جميع الأبراج والنجوم بليقتي الكتاب أي بالأحمر والأسود تحت كل صورة أرجوزة بتعريفها. قال القاضي جمال الدين ابن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها وكان المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة منها. وقد اطلع مؤلف كتاب نهر الذهب على مخطوط في وصف شجرة الإفادة التي كانت في الجامع الأموي بحلب وتعد من الذخائر النفيسة العلمية قال: إنها كانت عظيمة الرواء مصنوعة من حجر ونحاس وحديد ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية شبيهة بشجرة ذات جذع وأغصان وأوراق عظيمة في كل ورقة منها أصل من أصول تلك العلوم. وكان الطلبة يقدمون حلب من القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة في هذه الشجرة. واسم غارس شجرة الإفادة خليل بن أحمد غرس الدين على ما في در الحبب.
ويدخل في باب النقش والصنائع الغريبة ما رواه المقدسي في حوادث سنة 990 يوم عُمل ختان ابن درويش باشا والي دمشق، فإنهم صنعوا شيئاً يسمى النقل بجامع المصلى وبجامع ايلخان خارج محلة القراونة وبجامع التوبة، وهو يشتمل
على أربع عشرة قلعة من الورق المحشو بالبارود وأربع عشرة فرساً وأربعة عشر عفريتاً كذلك، وعلى صور طيور ووحوش وكلاب وغي ذلك، وعل قصر عظيم من الشمع الملون المشتمل على صورة أنواع الفواكه والبقول والأزهار والأطيار وغيرها كل ذلك من الشموع المصبغة والتذهيب والتفضيض، وكان ارتفاعه على علو الجملون الذي بجامع المصلى بحيث لم يتأت نقله منه وإخراجه إلا بعد فك الجملون المذكور، وهدم قوس أحد أبواب الجامع المذكور وهدم مواضع متعددة في طريقه إلى دار السعادة، وهدم الحائط الشرقي من باب دار السعادة أيضاً حتى أُدخل، وكان لهذا النقل يوم مشهود خرج للفرجة عليه جميع أهل دمشق رجالاً ونساء لم يتخلف أحد. ثم في اليوم الثاني منه نقل النقل الذي صنع بجامع محلة القراونة وبجامع التوبة وهو يشتمل على قصرين عظيمين من(4/112)
الشمع أيضاً أحدهما أطول من القصر المقدم بنحو أربع أذرع والآخر دونه مشتملين عل ما تقدم وعلى صور أنواع الحيوانات من السكر من الخيل والجمال والفيلة والسباع والطيور وغيرها، كل ذلك من السكر المعقود وعلى النقول والملبسات بالسكر أيضاً.
وكان رشيد الدين بن الصوري يستصحب مصوراً ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه ويُريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه أيضاً وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه أيضاً في وقت ذواه ويبسه فيصوره، ومن ذلك نستدل أنه كان في القطر أكثر من مصور في ذاك
العصر، وأن ذلك التصوير بالأصباغ كان مألوفاً، وقد بلغ من حذق المصورين أن يصوروا النبات على أنحاء شتى، أما عنايتهم بالنبات نفسه فمسألة ينظر فيها علماء النبات يستخرجون منها ما يريدون، وهذا كان في الثلث الأول من القرن السابع للهجرة أي في القرن الثالث عشر للميلاد.
ولا شك أن كل هذه البدائع كانت من صنع صُنُع الأيدي من الشاميين، فمن المصورين على الخزف ومن المصورين على الخشب ومن المصورين على النسيج ومن المصورين على النحاس والحديد، فمن المصورين على الخزف الغيبي قال تيمور: إن له قطعاً بدار الآثار العربية بمصر، عثروا عليها بأطلال الفسطاط وقد كتب عليها اسمه فكتب على بعضها الغيبي فقط وعلى بعضها الغيبي الشامي وإن في دار الآثار العربية أيضاً لوحاً من القاشاني لمحمد الدمشقي عليه صورة مكة المكرمة والكعبة المعظمة صورها سنة 1139هـ وكتب عليها اسمه. وبعد فهذا القليل الذي قرأناه واستأنسنا به يدل على ذوق وإبداع، وإن مشاركة الأمة في هذا الفن كانت على حصة موفورة. وفي هذا العصر نبغ في الشام مصورون لا بأس بهم أخذوا عن إيطاليا وفرنسا وغيرهما وكادوا يجارون(4/113)
مصوري الغرب بإبداعهم، ومنهم من يصور بالأصباغ، ومنها بدونها أي بالسواد، ومنهم من يصور التماثيل من المرمر والرخام والصفر، ومنهم من ينقش فيبدع على الخشب والنحاس، ومن المصورين باليد توفيق طارق، علي رضا معين، نديم بخاش، مصطفى الحمصاني، مصطفى فروخ، عبد الحميد عبد ربه، عبد الوهاب أبو السعود، بشارة السمرة، داود القريم، حبيب سرور، خليل صليبي، سليم عورا، جبران خليل جبران، خليل الغريب، نقولا الصائغ.
النقش:
ويصح أن يعد في باب التصوير نقش البيوت والتماثيل فإن المعروف أنه كان
للشام حظ منه، ولم نر للنقش على الحجر براعة وإبداعاً عند الأمم القديمة بقدر ما رأينا عند اليونان والرومان، فإن النقوش التي عثر عليها في شمالي الشام من أصل حثي مثل الأسود التي كانوا يرسمونها على أبواب مصانعهم وجدرانها وأبي الهول المجنح برأس إنسان أو ثور وهو من نقوش الآشوريين، والنقوش التي عثر عليها في الجنوب من أصل سامي كالكنعانيين والإسرائيليين وما عثر عليه في الساحل من نقوش الفينيقيين وأربابهم ومعظمها منقولة عن المصريين الفراعنة كل هذه النقوش ليست من جمال الوضع وحسن الذوق بحيث يرتاح إليها النظر مثل نقوش الرومان واليونان، ومثال منها الناووس الذي عثر عليه في صيدا من القرن الرابع للميلاد وجعل في دار الآثار في الآستانة وهو يمثل نساء باكيات تمثيلاً كأنك تراهن.
أين جمال نقوش بعلبك من نقوش جبيل، أين نقش الناووس البديع المنسوب للإسكندر المقدوني أو لأحد قواده، وهو مما كان عثر عليه في صيدا أيضاً وحفظ في دار الآثار بالآستانة، من نقوش قبر أحيرام الذي عثر عليه في جبيل وجعل في دار الآثار في بيروت، أو قبر حيرام الذي عثر عليه قرب صور ونقل إلى متحف اللوفر في باريز سنة 1860م.
آثار تدمر وتماثيلها تنم عن ذوق وفضل صناعة أكثر من أرباب الفينيقيين والحثيين، والغالب أن تماثيل الشبه كانت تعمل في قبرس والروم وتحمل إلى تدمر لتزين بها رحباتها وساحاتها، وصناعات جرش ومادبا أجمل من نقوش(4/114)
السهول في حوران والصفا. كأن للإقليم وللعنصر الذي ينزله دخلاً كبيراً في إجادة النقش والتصوير. ومعظم العناصر التي نزلت الشام منذ عهد التاريخ من العناصر السامية، والساميون كما قال بعض علماء الإفرنج ما زالوا ينفرون من الرسم والنقش والتصوير. ولا غضاضة إذ قلنا إن الآريين أفرطوا في الاشتغال بالرسم
والنقش إفراطاً شوهدت آثاره في أمم أوربا التي خلفتهم، فكل شيء إذا لم يرسم الآن عندهم لا يفهم ولا يدرك، فأضعفوا بذلك قوة التخيل وقووا الباصرة.
ومما سيتدل به على أن التماثيل قبل الإسلام كانت تعمل وتنقش في الشام وأن العرب نقلوا عنها في جزيرتهم ما رواه ابن الكلبي من أنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر كانوا يحجونه ويحلقون رؤوسهم عنده. وقال ربيعة بن صُبغ الفزاري:
وإنني والذي نغم الأنام له ... حول الأقيصر تسبيح وتهليل
قال: ووجد عمرو بن لحي أهل البلقاء يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها فغفلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة. ولا شك أن هذه الأصنام تعد من الصناعات الشامية.
ولم يخل عصر في الشام من نقاشين أبدعوا النقش على الحجر والنقش بالأصباغ على الجدران وعلى الخشب يتناقلون ذلك خلفاً عن سلف، والنقش بالجبس على الجدران، ومنها مقرنصات جميلة ذات تعاريش وكتابات حفظت في مدفن أحد الوزراء من القرون الوسطى في صالحية دمشق أمام دار الحديث الأشرفية البرانية وبينهما الطريق وتسمى هذه المدرسة التكريتية. وفي بعض الدور القديمة الباقية من القرن العاشر وبعده في حلب ودمشق كثير من القاعات تدل على ذوق. وفي در الحبب أن أبا بكر بن أحمد النقاش الجلومي الحلبي خدم أساتذة النقاشين من الأعاجم واستفاد منهم ومهر في نقوش البيوت وكتابات الطرازات على طريقة القاطع والمقطوع، وفي نقوشه ما كان لكفّال حلب وغيرهم من الرماح والسروج بالمذهب والازورد مع معرفة طريقة حله وصنعة التركاش وضعاً ونقشاً وصنعة اللوح الذي يكتب فيه وصنائع أخرى تتم عشرين صنعة. ولا يعقل أن يعمل(4/115)
ذلك
مثل هذا المفنن ولا يكون حواليه عشرات من المتعلمين والعاملين.
ومن النقوش الكثيرة التي بقيت محفوظة على بعض مصانع الشهباء نقوش باب إنطاكية وباب النصر وعلى هذا قطعة من إفريز تمثل كرمة معرشة يركض إلى جانبها أرنب. ومن أجمل آثار قلعتها المحراب المنقوش على الخشب من عمل نور الدين زنكي والجزء الثاني الذي أنشأه الظاهر غازي يدل على صورة الهندسة المألوفة في عصر الأمويين: مثلث قائم الزوايا تعلوه قبة بين حنايا واسعة.
ومن المنابر العجيبة الصنع ما عمله نور الدين محمود بن زنكي في حلب برسم المسجد الأقصى عمله حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مرصع بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ سنة 564هـ وقد وضعه صلاح الدين في محله عند فتح القدس وقد عمل في حلب أيضاً محراب الجامع الكبير بحماة صنعه ذاك الفنان الحلبي. ومن أجمل المنابر منبر الحرم في الخليل من صناعة الفاطميين ومنبر جامع الحنابلة بدمشق من الخشب. ومن المحاريب محراب جامع الحلاوية بحلب من الخشب ومحراب الأقصى من الرخام. ومن المحاريب الجميلة محراب جامع الفردوس بحلب الذي أنشأته ضيفة خاتون وهو من عمل حسان بن عنان. وجامع الظاهر غازي في قلعة حلب الذي بناه سنة 610 فيه أجمل ضروب الهندسة من النقوش المعروفة في المصانع الجميلة. ومن أهم الآثار العربية تابوت من الخشب وضع على قبر السيدة سكينة بنت الحسين في مقبرة باب الصغير بدمشق عمله أحمد بن محمد بن عبد الله سنة 560هـ وقد نقش بخطوط كوفية وجعل داخل الحروف نقوش وحروف صغيرة أخرى بالكوفية أيضاً. وتابوت ومحراب ومنبر جامع خالد بن الوليد بحمص من أجمل الآثار العربية. وكذلك تابوت مدفن أبي الفداء صاحب حماة. ومن الآثار العربية ما نقش بالحروف الكوفية على تابوت من الحجر دفنت تحته السيدة فاطمة الصغرى بنت الحسين من
القرن الربع. ومن التوابيت المهمة تابوت سيدي صهيب في حي الميدان بدمشق من القرن السادس ومنها تابوت بخت خاتون المعروفة عند العوام بالسيدة حفيظة في طريق عين الكرش المؤدي إلى حي الأكراد بدمشق.
وذكر القزويني سوق المزوقين في حلب وقال: إن فيه آلات عجيبة مزوقة، وذكر ابن جبير أن أكثر حوانيت حلب خزائن من الخشب البديع الصنعة قد(4/116)
اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش. وقد عُرف الحلبيون من القديم بحسن الذوق في هذه الصناعة كما عُرفوا بحسن الذوق في الخطوط العربية المنوعة الأشكال، وكلها نقوش معرشة تأخذ بمجامع الأبصار، وتعد في باب النقش، وقد كان عدد الخطاطين الذين أنبغتهم حلب على اختلاف العصور أكثر من غيرها من مدن الشام.
ذكر الغزي أن النقاشين في حلب أصناف منهم من ينقش على الحجر وهم نوابغ البنائين وفي المباني القديمة كثير من النقوش الحجرية تشهد ببراعة البنائين الحلبيين في القرون الماضية وتدل دلالة واضحة على نبوغهم بصنعة النقش، من ذلك صورتا وجهي أسدين في حجرين مرصوفين في جانبي أحد أبواب قلعة حلب لا يفرق الناظر إليهما في أول وهلة بي ملامحهما، فإذا أمعن النظر فيهما تبين له أن وجه أحدهما يضحك ووجه الآخر يبكي مما دل على براعة النقاش.
وقال: إن من النقاشين من يعاني النقش على المعادن كالذهب والفضة والنحاس، ومنهم من ينقشون المنازل ويعرفون بالمدهنين ينقشون صور أشخاص وأزهار وطيور وأشجار، وإن هذه الصنعة انحطت في حلب أواخر القرن الماضي حتى سافر جماعة من أهلها إلى أميركا وتلقوا هذه الحرفة من أربابها وعادوا فنشروها بين الناس. ومن أشهر النقاشين يوسف سعد الله الحويّك، ومن الحفارين والنقاشين يوسف الزغبي وبشارة عيسى الزغبي وهذا حفر صورة آل رومانوف في قطعة
صدف من أنفس التحف.
واشتهر في دمشق وحلب وبيروت خطاطون كثيرون في العهد الأخير ومنهم أمين زهدي. مصطفى السباعي. مراد الشطي. مصطفى القباني. محمد علي الحكيم نجيب هواويني. حسين البغجاتي. ممدوح الشريف. سليم الحنفي. محمد علي الخطيب. زكي المولوي. حنا علاّم. يوسف علاّم. نسيب مكارم. مشكين قلم. محمد يحيى. صادق الطرزي. موسى الشلبي.
وكان فن الخط إلى عهد بعيد صناعة يتنافس بها، وكثير من البارعين فيها كانت مدار معاشهم ينسخون الكتب وغيرها فلما جاءت الطباعة ثم الآلات الطابعة بطل التنافس بالخط العربي الجميل وقلّ الراغبون فيه.(4/117)
البناء:
قالوا إن علم المباني فن من الفنون الجميلة بل هو أحسنها، إذا قارنا بينه وبين الموسيقى نجد أن كليهما مطرب للإنسان فالأول مكوّن من نغمات غير متنافرة منتظمة الأوقات، والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء، يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب بها الإنسان، ويظهر الثاني الظلّ والضوء والألوان فتراها العين في أتم ما يكون موضوعة بنسب محفوظة ما بين مزخرف وبسيط تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس، فكلا الفنين جميل غي أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا يشعر بها، وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظل.
مواد البناء الحجر والتراب والخشب والحديد قد توجد كلها في قطر ولا يوجد إلا بعضها في آخر، فمصانع بابل تداعت لأن معوّل البانين كان على الآجر لا الحجر، ومصانع الشام بقيت لأن الحجر فيه كثير مبذول، وإن كان أقدم ما عُرف من آثارنا يُرد إلى زهاء ألفي سنة، وأقدم ما عُرف في بابل وآشور ونينوى من الآجر المكتوب يرجع إلى أربعة آلاف سنة. وما عمل عندنا من الخشب والتراب دثر بعد مدة ليست بطويلة من عهد بانيه.
ولقد ظهر أن الشام في القديم لم يكن له طراز خاص بالبناء. وكان بناؤه بحسب روح الدولة التي تحكم فيه والأمة التي تتغلب عليه: مصرياً أيام الفراعنة، آشورياً على عهد الآشوريين، بابلياً في أيام بابل، فارسياً في دور فارس، رومياً في دولة الروم، رومانياً في عهد الرومان. ولم يكن للحثيين والإسرائيليين هندسة خاصة، بل كان الحثيون يقتبسون عن جيرانهم الآشوريين أصول بنائهم، وليس مما اكتشف منه حتى الآن ما هو خارق للعادة في أشكاله ووضعه بل هو محرف عن الطراز الآشوري تحريفاً كثيراً، وما اكتشف من الصور النصفية وغيرها من عهد الحثيين لا ينم عن ذوق وإبداع على الأكثر. ومصانع الحثيين في الجملة مقتبسة
من مصانع الآشوريين والبابليين اقتباساً رديئاً لا يخلو من جفاء وسذاجة على ما قال الباحثون. وسار الإسرائيليون في صنع مصانعهم على تقليد الآشوريين والمصريين وقلدوا المصريين في الأكثر لقرب فلسطين من مصر، ولاستيلاء المصريين زمناً على فلسطين. وكذلك فعل الفينيقيون والكنعانيون.(4/118)
وعلى عهد الإسكندر دخل الشام طرز جديد في البناء أي أصول الهندسة اليونانية.
غصت جبال الشام بالمغاور الطبيعية والصناعية، ومنها ما كان لسكنى أهلها قبل أن عرف التاريخ، ومنها ما جعلوه قبوراً لموتاهم في الأمم التي عرف بعضها التاريخ، وقد ثبت بهذه المغاور أن الشاميين استعملوا منذ الزمن الأطول آلات من المعادن لقطع الحجر ونحته. ولا يمكن تحديد العصر الحجري في الشام، ويمكن أن يردّ العصر المعدني إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح. وفي غربي الأردن آثار كثيرة من ذلك، وكلها ذات صلة بعبادات الأقدمين. واحترام الأحجار المقدسة كان قديماً منتشراً في جميع أرجاء الشام. ومن المغاور مغاور عدلون بين صيدا وصور ومغاور نهر إبراهيم في لبنان، ومغاور بيروت وجبيل وأنطلياس، ومن مصانع فلسطين الصهاريج ومعاصر الزيت والخمر. وبناء الفينيقيين من هذا النوع أجمل من بناء العبرانيين.
وقد اقتبس العبرانيون في أصول مبانيهم مباني الفينيقيين، وهؤلاء أخذوا على ما يظهر من المصريين، وقد قيل: إن بنائين فينيقيين هندسوا معبدي داود وسليمان. ويقول سنيوبوس: إن القدس كانت بالنسبة لبابل وثيبة عاصمة أقاليم فقيرة، وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران، بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد، ولم يكن في القدس إلا قصر سليمان وهو أول معبد عبراني.
وأخذت الشام أصول الهندسة اليونانية وتناغت بها قبل أن يفتحها الإسكندر. ولم يبق من الآثار اليونانية على كثرتها في الشام بقدر ما بقي من الآثار الرومانية.
فإن الرومان أنشئوا مدناً برمتها خططوها على أصولهم. وكان من هذه المدن ما بني على نفقة أباطرة رومية. ومعلوم أن الرومان تفننوا في البناء وخلفوا في كل مكان امتد سلطانهم عليه آثار الهندسة من طرق وقنوات وأسوار ومسارح وملاعب وحمامات، مما شهد لهم باتساع الفكر ومعرفة الهندسة والمتانة في العمل وجما الأسلوب. لا جرم أن علاقة الشام بإيطاليا أقدم من الإسلام، علاقتها بأرضنا مذ كنا ولاية رومانية تحكمنا رومية عاصمة تلك الأمة العظيمة.
وأخذ النصارى في بناء كنائسهم عن فارس والشرق، ثم اقتبس منهم الرومان أصولهم في البيع، وما لبثت الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت(4/119)
ونشأ منها صناعة جديدة هي الصناعة العربية. وأجمل هذه الصناعات على ما قال هوار الجوامع والقصور، والتقليد محسوس ولكنه تقليد غير أعمى، لأن تأثيرات الأساتذة الأقدمين لا تمنع من البحث العلمي والاختراع الحديث، كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحولان دون التفنن ولطافة الإبداع والاختراع. قال: وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها.
وقال جلابرت: ومن المصانع المنوعة في الهندسة الشامية شيئان يلفتان النظر خاصة وهما البيع والأبنية ذات السطوح. وكان المهندسون الشاميون فيها عالةً على الشرق يسترشدون بآراء مهندسي فارس. وقد أثرت الهندسة الشامية إذ ذاك في هندسة كثير من الأمم ولا سيما في بيزنطية، وأخذت بيزنطية عن الشام أو من طريق مصر عن الشام، أصول كثيرة من الأبنية، وقال لامنس: إن الهندسة والتصوير والنقش وفنون الزينة أخذت تسير في طريق مستقلة عن النموذجات اليونانية والرومانية التي كانت منذ عهد السلوقيين مؤثرة في جميع الصنائع النفيسة، وانشأ المهندس الشامي يرفض استعمال الملاط بين الأحجار ويكتفي بحسن وضعها على صورة متوازية تقوى بها بدون لحمة بين أجزائها، واستعاض
عن الآجرّ المألوف على عهد الرومان واليونان بالحجر النحيت، وبنى الكنائس ذات القباب فكثرت البيع البديعة التي يعجب الأثريون بخرائبها العظيمة اليوم وعنها أخذ بناة الكنائس الرومانية اه.
كان أساتذة العرب في البناء لأول أمرهم أُناساً من الروم، فكان بين أبنيتهم الأولى وأبنية النصارى وجه شبه، فقد بني المسجد الأقصى على مثال كنيسة القبر المقدس، ونقل استعمال القباب من الشرق إلى الغرب، ولم تكن معروفة إلا في هذا الشرق، وقد أفرط العرب كالروم في استخدام الفسيفساء في الجدران والقباب، وزادوا في هذه الفصوص ما ابتدعوه من عندهم، وكان محبباً إلى نفوسهم، جميلاً في عيونهم. ويقول بعض العارفين: إن الشام لا يحوي كثيراً من المصانع الخارقة للعادة من صنع العرب، لأنهم اكتفوا بما وجدوه في القطر من المباني القديمة، فاستعملوها على ما يشاءون، ولطالما بنوا بمواد أخذوها من أبنية قديمة.
أما هندسة الصليبيين فأكثرها حصون وقلاع، ولا يعرف إذا كانت في(4/120)
الأصل من بناء العرب أو الأفرنج، المرجح أن هؤلاء طبعوها بطابعهم، وقالوا لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار، مما جعل لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثوب من ثياب الشرق تفنن حائكه في رقشه ونقشه.
نعم إن العرب لم يخترعوا ولكنهم اقتبسوا بادئ بدء، فإن ابن الزبير لما عمر الكعبة دعا إليها بنائين من الفرس والروم، والوليد لما بنى أُمويّ دمشق وأقصى القدس دعا إليهما بنائين من الفرس والروم والهند. ولا جرم فقد برع مهندسو العرب في هذه الديار في علم عقود الأبنية وهي ما يتعرف منه أحوال أوضاع
الأبنية وكيفية شق الأنهار وتقنية القنيّ وسد البثوق وتنضيد الساكن. ولو لم يبرعوا في كيفية إيجاد الآلات الثقيلة الرافعة لنقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة لما تمكنوا من عمارة المدن والقلاع والأسوار والمنازل والجوامع والمدارس هذا التمكن الذي يبهرنا اليوم أثره.
ومالت الهندسة الشامية إلى السذاجة لأول انتشار النصرانية، فكانوا يجتنبون كل زينة زائدة لتؤثر بمتانة البناء المعمول بالحجارة الضخمة، وجمال الحجم وترتيب الأجسام. ونشأت بين القرن الرابع والسادس للميلاد هندسة متينة تختلف عن الهندسات الأخرى، منها بعض أمثلة في الشام العليا وحوران. ويقول جلابرت: إنه كان لأهالي الشام الوسطى هندسة قائمة بذاتها مباينة لفن البناء الذي أشاعه الرومان في الشام، وهو بناء قديم يدعى بالطراز الشامي لا أثر فيه للطرق الرومانية والشرقية المحضة في البناء، وعلاقته ظاهرة بالهندسة اليونانية الشائعة في إنطاكية، وقد نشأ عنه طرز مركب شاع في القرون الأخيرة، وطرق البناء في حوران تختلف عن الهندسة الشمالية فتألف طرز وطني مباين للطرز اليوناني الذي أدخله السلوقيون.
ومن أهم أبنية القرون الوسطى وتدل على ذوق جميل في البناء، المدارس الكبرى في حلب ودمشق والقدس وغيرها من البلدان، والقليل الباقي منها إلى الآن شاهد على وجه الأيام بما صار للمهندس الشامي من حسن الذوق، ومنها(4/121)
في دمشق مدخل المدرستين العادلية الكبرى والظاهرية والمستشفى القيمري، وفي حلب مستشفى أرغون شاه ومدرسة الفردوس إلى غيرها من الأبنية الكثيرة في القرون المتأخرة.
ومن أهم أبنية القرون الإسلامية بدمشق المئذنة الغربية في الجامع الأموي المعروفة بمأذنة قايتباي وهي من أهم المآذن العربية من حيث الهندسة والنقش
والأصول المعمارية قامت على قصبتين من الأرض 48 متراً مربعاً بارتفاع 66 متراً هندسها معمار عربي اسمه سلوان بن علي وقد تمت عمارتها سنة 885 هـ وبانيها السلطان الملك الأشرف قايتباي كتب اسمه في جهاتها الأربع. وقد أجرى ترميمها وإرجاعها إلى أصلها وإكمال نواقصها المهندس الرسام توفيق طارق سنة 1342هـ وكان على رفرف شرفتها الأولى آية (إنا فتحنا لك فتحاً) الآية وكتبها موسى شلبي وبقي قسم من الحروف القديمة.
وقد دخلت إلى الساحل منذ عهد الحروب الصليبية أصول الهندسة الطليانية في الدور والقصور، وما برحت ترسخ مع الزمن، ولا سيما في طرابلس وبيروت بحيث أن جميع ما نراه في مدن الساحل من الدور هو مما أُنشئ في القرن الأخير وفي هذا القرن هو طلياني الصبغة، وهندسته عارضة على هذه الديار. هذا في الساحل أما هندسة البيوت في الداخل فإنها قديمة لا يعرف زمن الاصطلاح عليها، فقد نقل الرومان هندسة بيوت دمشق القديمة إلى شمالي أفريقية، ثم نقلها العرب بعد قرون إلى الأندلس، ولا تزال هناك إلى اليوم يفاخر بطرازها ويُطرّس على آثارها، كأن تكون الدار ذات مدخل أو دهليز يؤدي إلى فناء واسع فيه حوض ماء وإيوان، وعلى جوانبه أماكن لتربية بعض الأشجار والزهور، والدار ذات طبقتين فقط: السفلى للصيف والعليا للشتاء. وقد رأى ناصر خسرو قبيل منتصف القرن الخامس أن البيوت في طرابلس كانت ذات أربع وخمس وأحياناً ست طبقات. وكثرة الطبقات في الدور لم تعهد إلا في الغرب، وما نظن الشام زادت طبقات بيوتها على ثلاث في معظم أدوار التاريخ.
الشعر والفصاحة:
ظهر كثير من الشعراء والبلغاء في هذه الديار ولا سيما من السريان واللاتين(4/122)
والروم، اشتهروا في العالم وخلدوا آثار نبوغهم، ولطالما أخرجت مدرسة نصيبين
والرّها ومدرسة الفقه في بيروت ومدرسة إنطاكية خطباء هزوا النفوس وعلموها بخطبهم وأشعارهم ومجادلاتهم، وقد كثر سواد هذه الفئة في عهد الدولة العربية الإسلامية أيضاً. والشعر والخطابة مما امتازت به العرب في الجاهلية والإسلام وغالت في الولوع بهما، ولقد أثر القرآن في هداية العرب ببلاغته وفصاحته، تأثيره بحكمه وهدايته. ولطالما كان شعراء العرب يصفون الشام ويتغزلون بها منذ أول يوم عرفوها، حتى إذا كان الإسلام وتبسطوا في أرجائها، أوحت إلى قرائحهم من أساليب الشعر ما يتألف من مجموعه أعظم ديوان بل خزانة عظيمة في الأدب تدل على فضل قرائح، ونبوغ في فنون القول، وتوسع في مجال الخيال، وما هم إلا مبدعون وضعوا ما وضعوه من بنات أفكارهم على غير مثال.
لا جرم أن الشام كانت أول الأقطار التي أخذت الفصاحة عن العرب في جزيرتهم، وبقيت فيها على اختلاف العصور وتعاقب الدول محفوظة في الجملة، فما انقطع منها من ينظمون ويجدون حواليهم من يطرب لنغماتهم ويصفق لنبراتهم وإن لم يعرفوا صحاحها من زيوفها. كان الشعر مبدأ دخول العرب في الحضارة، والأدب مقدمة النهوض في العلوم، ولذلك رأيناهم لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته. وأكثر ما يجيد الشعراء في أرض صح إقليمها، واعتدل نسيمها، وطابت تربتها وأديمها، وصفت أمواهها، وساغ نميرها، وكثرت ظلالها بأشجارها، وغردت أطيارها في أسحارها، وفغم أريج نوارها وأزهارها، وهذا على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها. وقد أنعم عليه الخالق بضروب البدائع والروائع، فكان شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام كما قال الثعالبي. وما زالت بعض قصائد شعراء ذاك الدور مضرب الأمثال في البلاغة، وما برح عرب المدن يتغنون بشعرهم ويعجبون به ويترنمون، ويتوفرون على حل ما
استعجم عليهم من ألفاظه ومعانيه. قال: والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق(4/123)
بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم. . . انبعثت قرائحهم في الإجادة، فقادوا محاسن الكلام، بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا، وكان أبو بكر الخوارزمي قد دوّخ الشام في صباه ولطالما قال وهو أحد أمراء النظم والنثر: ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حدّ لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي.
حكي المازني المتوفى سنة 249 قال: دخلت دير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة وهم متنصرة من بني الصارد وهم أفصح من رأيت فقلت: ما لي لا أرى فيكم شاعراً مع فصاحتكم؟ فقالوا: والله ما فينا أحد ينطق بالشعر إلا أمَة لنا كبيرة في السن فقلت: جيئوني بها فجاءت فاستنشدتها فأنشدتني لنفسها:
أيا رفقةً من دير بُصرى تحملت ... تؤم الحمى لُقيت من رفقة رشدا
إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا
وقولوا تركنا الصاردي مكبلاً ... بكل هوى من حبكم مضمراً وجدا
فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى ... وقد أنبتت أجراعه بقلاً جعدا
وهل أردن الدهر يوماً وقيعة ... كأن الصبا يسدي على متنه بردا
وما برحت الديارات في الشام تقدر الفصاحة كما تقام فيها للموسيقى أسواق.
وظهر الضعف في الشعر خلال القرون الأخيرة، ونسلت عليه القرون إلى أن خلع في أوائل هذا القرن الثوب البالي القديم ولبس ثوباً جديداً فيه من جلال الحديث وعز القديم ما جمع فيه الجسم والروح. بدأ هذا من لبنان وبيروت ثم تناول عامة مدن الشام. أما القرى والبوادي فقد اكتفت بالأزجال، والزجل نوع من الشعر
محدث يصفون فيه أيامهم ومفاخرهم وهو أشبه بالرجز الذي كانت العرب تترنم به في عملها وسوقها وتحدو به في بواديها. وكان للزجالين في القرن الماضي وفي هذا القرن منزلة عند أهل الزرع والضرع، يدعون الزجال إلى الأفراح ليحمل البهجة إليها، وإلى الأتراح ليسري عن النفوس ما نزل بها، ولهم ضروب من المواليا يسمونها العتابي والإبراهيمي يطربون بها ولا تخلو من معانٍ شعرية قال صديقنا الشيخ إبراهيم الحوراني وكان شاعراً مجيداً بالفصحى والعامية: والنصارى واليهود يعتقدون أن بعض الشعر إلهام إلهي ووحي حق كشعر ايوب(4/124)
وداود وسليمان وأشعيا وعدة من كتبة الأسفار الإلهية والشعر بقسميه الفصيح والعامي المعروف عند العامة بالمعنّى يعمل على ثلاثة أبحر الرجز والوافر والسريع، أما أغانيهم التي يسمونها بالقراديات وهواسم خشن سميت مؤخراً بالعديّات وبالقويلات كما يقولون لمن يعانيها القوّال فبعضها لا ينطبق على وزن من أوزان الشعر المعروف، ووزن بعضها المتدارك مع تغييرات أيضاً. وجاءت أغانيهم المعروف بالموالات البغدادية والمصرية والزلاغيط على بحر البسيط اه.
ولا يزال إلى اليوم لكل قبيلة في الشام شاعرها ينشدهم من حفظه أو نظمه من شعر شعراء البادية على نغمات الرباب قصائد يسليهم بها، ولشعر البادية عندهم أوزان خاصة، وإذا قيس على علات لفظه على أبحر الشعر يرى بعضه موزوناً وفي بعضه عيوب بسيطة، ومن أشعر شعراء البادية نمر بن عدوان في عبر الأردن كانت له امرأة اسمها وضحاء تتيم بها كما تتيم قيس بليلاه فرثاها بعد موتها بعشرات من القصائد ومنها ما فيه معانٍ جميلة قاله أديب وهبة.
وإذا انتشرت المدارس في المدن والقرى على حد سوى، وجعل التعليم في كل درجاته باللغة الفصحى يتأصل الغرام في الناس أكثر مما نراه بالفصاحة والشعر فلا تلبث الشام أن تحسدها جاراتها كما كانت في القديم على اختصاصها بذلك،
وكما تحسد هي مصر اليوم على تفنن شعرائها وخطبائها وسريان الفصاحة إلى ألسن من ليسوا من الأدب العربي في العير ولا في النفير.
الرقص:
ربما ينفر بعضهم من سماع هذا اللفظ ونحن لم نتعرض له هنا إلا مجاراة للفرنج في إدماجهم له في الفنون الجميلة. عدّ طاشكبري الرقص من أنواع العلوم فقال: إنه علم باحث عن كيفية صدور الحركات الموزونة عن الشخص بحيث يوجب الطرب والسرور لمن يشاهده، وهذا من العلوم التي يرغب فيها أصحاب الترفه والأغنياء والأمراء ومن يجري مجرى هؤلاء من أصحاب الملاهي اه. وذكروا أن الرقص قديم كقِدم العالم وأن أقدم شعوب الأرض كان لها رقص على أوزان معلومة. فالرقص مرتبط بالموسيقى والإيقاع، وكثيراً ما كانوا يتبعون الرقص بالتصدية والضرب بالأيدي، ثم عرفوا الشبابة حتى جاءت المزاهر(4/125)
والمعازف، وكان الرقص على نوعين: رقص مقدس من توابع الحفلات الدينية، ورقص عالمي لتسلية العامة، أي أن الرقص رقصان رقص ديني أو رقص المآتم ورقص الحبور والابتهاج. وفي التوراة أن الرقص كان شائعاً عند العبرانيين، وقد رقص داود أمام تابوت العهد، ولما خرج بنو إسرائيل من مصر كان لهم نوعان من الرقص، الرقص المقدس المنظم ورقص سريّ له اتصال بالتعبد على نحو ما كانوا يرقصون في التيه حول عجل الذهب. وكان للعبرانيين نوع من الرقص الشريف يرقصه العذارى في الحفلات العامة احتفاءً بذكرى حوادث سعيدة من مثل انتصار على عدو أو تكريم مجد أبطال الوطن. وهكذا كان الرقص شائعاً عند المصريين، ثم شاع عند اليونان وهم المشهورون بتفننهم فبلغ عندهم أقصى درجات رقيه وانتقل إلى الرومان، وإذا كانوا شعباً قاسياً غليظاً فَقَد عندهم بهاءه ورواءه وما يقصد منه. ولكل شعب رقصه الخاص به، عليه صبغة أخلاقه
القومية الثابتة. ولجميع شعوب الغرب والشرق رقصهم الخاص أو رقصات عرفت بهم وأثرت عنهم. والإنكليز أكثر الأمم انحطاطاً في الرقص لم يبرزوا فيه تبريزهم في معظم مظاهر الحياة القويمة.
وكان الرقص عند العرب كالغناء من الفنون الطبيعية استعملوه في كل دور عرف من أدوارهم. والرقص أو الزفن كان عند العرب على ما يظهر على الطراز الذي هو عليه اليوم عند العرب سكان القرى والعرب الرحالة ومنه ما يعرف بالدبكة، فإن وفد الحبشة لما قدم إلى الحجاز جعلوا يزفنون أي يرقصون. وفي حديث فاطمة أنها كانت تزفن للحسن أي ترقص له وفي رواية ترقصه. ومن غريب تفنن العرب في مسائل الظرف والذوق أنهم عرفوا علماً سموه علم الغنج عده صاحب الموضوعات من فروع علم الموسيقى وقال: هو علم باحث عن كيفية صدور الأفعال التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال والمتصفات بالظرف والكمال إلى آخر ما نقله صاحب كشف الظنون.
والغالب أن رقص الشام اقتبس مع الزمن من أوضاع كثيرة، والأمم تقتبس عن غيرها ما يتلاءم مع مزاجها. وكذلك تقبس غيرها بعض ما ألفته في هذا الشأن. من ذلك أن الرقص الإسباني إلى اليوم لم يبر بعد خمسة قرون من مغادرة العرب أرض الأندلس على الطراز العربي وكذلك موسيقاهم إلا قليلاً. وقد(4/126)
أصبح الرقص في الغرب علماً بذاته ولكن العرب لم يقصروا فيه، ولا سيما في عصور البذخ والرفاهية. وبعض المحققين من علماء المشرقيات من الأسبان والبرتغال مجلة الزهراء يبرهنون الآن على أن موسيقى الأوربيين وشعرهم انتقلا من فارس إلى أوربا بواسطة العرب، ومنهم من ينشر منذ سنين قطعاً قديمة ويبين ما فيها من آثار الروح الشرقي، وكان لنا في الشام نوع من الرقص يسمونه بالسماح ولعله السماع يرقصه عدة أشخاص على نغمات متساوقة من الأوتار وترديد جميل من
الموشحات فقط، وهو أشبه بالأوبرا أو الأوبريت عند الإفرنج أي القصائد الملحنة التي تمثل على نغمات الموسيقى فقط، ويزيد رقص السماح على الأوبرا كونه ترفع فيه الأصوات بأنغام مألوفة.
وفي كتاب مفرح النفس: واعلم أن من الرياضيات البدنية التي تختص بالنفس اختصاصاً كثيراً إلى الغاية الرقص، وهو عبارة عن حركة متناسبة من اليدين والرجلين بضرب من الضروب المعروفة في الموسيقى بإرادة النفس وشوقاً إلى محل طلبها الأصلي، قال: إن الرقص مندوب إليه في ترويح الأرواح ونفي كدورة النفس وحصول الإشراق لها، ويجب أن يكون مع سكون وتجمع من الذهن والعقل فتحصل اللذة والبهجة، فالرقص له في إحداث راحة النفس وسرورها قوة عظيمة يعجز اللسان عن وصفها والذهن والعقل عن تصورها اه.
التمثيل:
ويدخل في باب الرقص أو في باب الموسيقى فن التمثيل وهو وإن كان مشهوراً في الشام على عهد الرومان واليونان، بدليل ما نراه من الملاعب الخاصة به وبعرض الحيوانات والصراع في البتراء وعمان وبعلبك وأفامية ولدّ وقيساوية وغيرها من المدن القديمة. إلا أنه لم يعهد على الصورة المعروفة حديثاً، اللهم إلا على الندرة عند عرب الأندلس، وهذا في بعض الروايات. ولقد قالوا: إن إنطاكية أيام عزها ارتقى فن التمثيل فيها حتى كانت تجلب الممثلين من صور وبيروت والمغنين من بعلبك. وقال بعضهم: إن السبب في عدم العناية بالتمثيل في الإسلام حجاب النساء. والتمثيل لا يتم بدون مشاركة الجنس اللطيف. ولما لم يعهد التمثيل عند الجنس السامي لم تخرج العرب عن هدي جنسها. والتمثيل(4/127)
ما عرف إلا عند الجنس الآري فقط. ومن ذلك الفرس وهم آريون خلفوا للعرب كتاب ألف ليلة وليلة وهو اختراع آري فيه شيء من التمثيل.
وكان العرب في الجاهلية والإسلام يرون من سقوط المروءة أن يمثل مجلس الأمير أو الوزير، وإن كان لا يخلو تمثيله من حكمة، فكيف بمجلس صبابة، ومعظم التمثيل يدور عليها، لا جرم أنهم قصروا في التمثيل، وتقاعسوا عن اقتباسه عن الأمم الآرية، وإن عرف من حالهم أنهم لم يأخذوا عن الأمم الأخرى إلا ما اشتدت حاجتهم إليه من أنواع العلوم، أدمجوه في حضارتهم ومزجوه بأجزاء نفوسهم. وإذ كان التمثيل لا ينطبق مع عادات العرب ولا عُرف به مجتمعهم أعرضوا عنه، وجاء الإسلام موافقاً لمصطلحهم وعاداتهم وأخلاقهم في بعض الأحوال.
بيد أن العصر الأخير لم يصنّ على الشام بتجلي الآداب الرفيعة فيه، فقام فيها سنة 1282هـ في دمشق أيضاً رجل من أبنائها هو السيد أحمد أبو خليل القباني من المبرزين في الموسيقى المشود لهم بالإجادة فأنشأ داراً للتمثيل، وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية، من تأليفه ونظمه وتلحينه، ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار، لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في الغرب. واعتاض لأول مرة عن النساء بالمرد، ولما انتقل إلى مصر لنشر فن التمثيل العربي هناك، عاد إلى الطبيعة واستخدم في كل دور من يصلح له من الجنسين، ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له: إن في الغرب فناً هذه صورته فقلده، وقيل: إنه شهد رواية واحدة مثلت أمامه في إحدى المدارس الأجنبية، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها، ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي، ونابغة العرب في الموسيقى والتمثيل، ورواياته التي ألفها ما زالت منذ زهاء ستين سنة وإلى يوم الناس هذا، موضع إعجاب الأمة،
تمثل في دور التمثيل وتلذ الجمهور مثل رواية أنيس الجليس وغيرها.
هذا وإن سبق لمارون النقاش في بيروت في سنة 1848هـ من إحدى(4/128)
اللغات الأوربية بعض الروايات التمثيلية ومَثّلها بالفعل. والإبداع في التأليف والوضع، لا في النقل والاحتذاء، وإن عدّ الناقل صاحب فضل أيضاً.
ولما كان التمثيل كما قلنا عارضاً على مدنيتنا رجع القهقري بعد أبي خليل. وظل إلى يومنا هذا يمشي مشياً ضعيفاً، فلم تقم إلى الآن جوقة تمثيل وطنية تبث في الأمة روح الفضائل والآداب، وتأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فيما يفيدهم فيلهون بما يجلب السرور إلى قلوبهم، والنور إلى عقولهم، وتتهذب في مدرسة التمثيل اليومية عقول الكبار، كما تتهذب في الكتاتيب عقول الصغار. فقد قال فولتير: إن المرء يتعلم بالتمثيل أحسن مما يعلمه إياه كتاب ضخم.
ولعل أبناء الشام إذا قويت فيهم أساليب الثقافة الحديثة، ترتقي فيهم سائر الفنون التي انحطت ولا تزال منحطة، فتكون من العوامل في نهوضها إلى المستوى اللائق بها في سلم الحضارة والهناء. والتمثيل الراقي أنفع لمجتمعنا من ذاك التمثيل الساذج الذي ما زال في أكثر مدن الشام مألوفاً للعامة، ونعني به خيال الظل أو الخيال الراقص المعروف أهله بالمخايلية وعرف هذا الضرب من التمثيل عند الترك، وإن لم يكن من اختراعهم باسم قره كوز. والتمثيل أجدى على أبنائنا وبناتنا من القصاصين أي الحكوية الحكواتية الذين يلهون العامة بغرائب الوقائع في المقاهي ويبثون فيهم سخائف وخرافات.
ومن غريب شأن هذه الأمة أننا رأينا كثيراً من نجباء أبنائها برعوا في التمثيل، ومنهم من يعرف الأدب وما ينبغي له، قد زهدوا في فنهم، وكتموا نبوغهم فيه، شأن كثير من أرباب الصوت الرخيم والغرام بالموسيقى، والضرب على آلات الطرب المتعارفة، يخافون أن يعرفوا بها ويعمدون إلى التقية كأن من العار التلبس
بهذه الفنون الجميلة.
وممن عرفنا منهم نور الدين حقي. حكمة المرادي. صالح الحيلاني. أحمد عبيد. سليم عطاء الله المعروف بكش كش بك. واشتهر أيضاً حمزة الأصيل. صالح شهبندر. حسن الساعاتي. إبراهيم المنجد. إبراهيم نفش. راغب السمسمية. جرجي نفش. درويش البغجاتي. أبو الخير الغلاييني. يوسف مردم بك. خالد السمسمية.(4/129)
متى ترتقي الفنون الجميلة:
لا جرم أن ارتقاء الشام في هذه الفنون على اختلاف فروعها، موقوف على ظهور نوابغ من أبنائنا يرحلون إلى الغرب لنقلها والتشبع بآدابها، ثم يعودون فيلوبون على إحياء ما اندثر أو كاد من هذه الصناعات النفيسة في القطر، وينشرونها على النظام الغربي الحديث على صورة مقبولة، وإذا نشأت بعد ذلك مدرسة واحدة راقية في كل فن من هذه الفنون لا يأتي جيل ثانٍ بعد جيلنا هذا حتى يكون عند أهل القطر العدد الذي يحتاجون إليه من الأعيان الذين لا غنية للمجتمع الشامي عنهم في إنهاضه. ويشترط في من يريدون الإخصاء في هذه الفنون أن يكونوا ممن يحبون أن يُعرفوا بما اختصوا به، أو يسعوا طاقتهم لنشره، ومن لا يحب صنعته ولا يفاخر بها لا يبرز فيها، وعندئذ نعدّ شيئاً مذكوراً بين أمم الحضارة في باب هذه الفنون كما كان أجدادنا.
يقول الجاحظ: إن الضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه، وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدّوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا ليستريحوا، وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة، وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوّز المعاريضن كما أمر بالإفصاح، وسوغ المباح، كما شدد في المفروض، وجعل المباح جِماماً للقلوب، وراحة
للأبدان، وعوناً على معاودة الأعمال اه.(4/130)
الزراعة الشامية
العامر والغامر:
حياة الشام بزراعته ثم بصناعته وتجارته، والقرى والبوادي أوسع بقعة وأوفر سكاناً من المدن والحواضر، ولا نعلم مقدار سكان الشام في القرون التي سبقت الإسلام ولا في القرون التالية، وقال بعضهم إن سكان الشام عند دخول العرب كانوا ستة ملايين على وجه التخمين، ولكن الظاهر من مصانع أهلها وطرقهم القديمة التي كانت تربط أجزاء القطر كالشبكة وآثار عمرانهم مثل حنايا بعض الجسور الكبرى، وخرائب القصور الفخمة، والدّ من التي تشاهد الآن في أواسط الفلوات الخالية، والعاديّات والآثار الجمة، يدل على ارتقاء زراعتهم وكثرة ثروتهم ونفوسهم. فقد كانت حوران أنبار الشام على عهد الرومان لوفرة حبوبها ولا تزال هي والبلقاء على كثرة ما تعاقب عليهما من الأيدي الظالمة في الأكثر، معروفة بهذه الصفة وجودة حنطتهما التي لا مثيل لها، وما يقال عنهما يقال عن جميع الأصقاع الشامية. ولا سيما ما كان بقرب المياه والأدوية فإنه عامر بطبيعته لا يحتاج إلا لأمن ونظام حتى يفيض لبناً وعسلاً.
ومغل حوران كسيل دافق ... يأتم من أرجاء جلق موجلا
ومما أقامه الرومان لحفظ زراعة البلقاء وحوران وما كان على سيف البادية من مرج الغوطة وأداني جبل قلمون وتدمر فحلب فما وراءها، مخافر مجهزة أحسن جهاز لمنع البادية من التسلل إلى المعمور، لأن داء الغارات على الزروع والعيث في العامر من الأدواء القديمة. واعتداء الرحالة من أهل الظعن، على المقيمين من أهل الدساكر والمزارع، النازلين في الدور والمساكن، داء قديم(4/131)
عُقام على ما يظهر. وما اتخذ الروم من الغسانيين في الجنوب، والتنوخيين في الشمال عمالاً لهم إلا ليقوموا بإنفاذ هذا الغرض، ويأمنوا بسلطانهم عيث البادية على أرض الشام
الجميلة.
وليست البادية التي تحد أكثر هذا القطر من الشرق كما قال الدكتور بوست باديةً حقيقية لأنه يقع فيها بعض المطر في فصل الشتاء، وينبت فيها عشب ترعاه المواشي، وتسكنها قبائل شتى من العرب، وتتدرج هذه البادية إلى جهة شمالي الشام، في السهل المتسع الممتد من نواحي حلب إلى ما بين النهرين، وكان هذا السهل مسكوناً في قديم الزمان، ولم تزل فيه آثار عظيمة تدل على كثرة الذين سكنوه ووفرة ثروتهم، إلا أنه أمسى الآن قليل السكان تجول فيه العرب والأكراد. وقد أكد موسيل أن البلاد الواقعة في شرقي الأردن كانت قبل مائة وعشرين سنة عامرة بالسكان وهي اليوم تكاد تكون خالية لعيث البادية.
وأهل الوبر الذي يشتون منذ القديم بمواشيهم فيما وراء بادية الشام من الفلوات تشتد حاجتهم في الربيع إلى أن يدخلوا المعمور، فإذا حصدت الزروع يضطرون إلى رعي أنعامهم وأغنامهم في أرض الحصيد، ومراعي دير الزور والجولان طلباً للماء، والتماساً لبيع حاصلاتهم واستبضاع ما يلزمهم. وإذ كانت أرض السقي أقلّ من أرض العذي بالشام، ومعظم الأنهار لا يستفاد من سقياها اليوم كما كانت الحال عند الأقدمين، زاد اعتداء البادية على مهاجمة البلدان الخصبة.
قلة العناية بالأنهار:
نقول هذا وأهم أنهارنا الفرات وهو نهر يتاخمنا من الشرق، ولا نستفيد منه الاستفادة المطلوبة لأنه منحط عن مستوى أرضنا، ولم يكن كذلك في الدهر السالف بما كان يعهد به من السدود والسكور التي كانت سبب غنى العراق، وبالطبع غنى الأقاليم المتاخمة له من أرض الشام. ولا يستفاد من الأنهار التي تشق قلب القطر الفائدة المطلوبة في الريّ. فالردن مثلاً يشق بعض أرجاء فلسطين والعاصي الذي يجري من سفوح لبنان ماراً بحمص فحماة فإنطاكية حتى
السويدية لا ينتفع بهما على ما كان الحال قديماً. فقد انتهى إلينا من عمل القدماء سد قَدَس بالقرب من قرية قطينة بجوار أرض حمضن وكان أعلى مما هو الآن بحيث يتأتى(4/132)
أن يسقي العاصي بواسطته وما اخترع له من النواعير، جميع الأرض العالية في وادي نهر المقلوب كما كانت العرب تسمي العاصي. ولا تزال إلى الآن آثار السدود والقني في غور الفارعة بادية للعيان، تدل على أن القدماء كانوا ينتفعون من مياه نهر الأردن أكثر منا اليوم. ويقول صديقنا الأمير شكيب أرسلان: إن الأراضي التي لها حظ من الشرب في هذه الغيران جمع غور إنما تسقى من أودية جارية من الجبال مثل سيل الزرقاء، والسائل من جهة عجلون إلى الغرب، ومثل مياه بَيسان المنحدرة من صوب مرج بني عامر إلى الشرق، ومثل ماء الفارعة النازل من الغرب إلى الشرق، ومثل عين السلطان التي تسقي جنان أريحا، ومثل غور نمرين المنحدر من وادي شعيب أسفل الصلت إلى الغرب وماء حسبان وغيرها من المياه، وهذه الجداول كلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذي أصبح عاطلاً من كل عمل اه.
وحالة الإرواء في أكثر الأنحاء البعيدة ما زالت على الفطرة القديمة، فالقريب من الماء يروي أرضه أو بستانه بالقربة أو المدار كأهل الزور وجزيرة ابن عمر في أقصى الشام، فإن هذه الأنحاء في وسط المياه كالفرات والخابور وغيرهما من كبار الأنهار وقلما تستفيد منه، وقد خربت السدود القديمة ولم يعمل غيرها، ذلك لأن الأنهار الكبيرة ولا سيما الفرات قد تتحول عن مجراها في معظم السنين لأنها خالية من الجوانب المتينة المحددة، وهي في أرض رخوة خبار، فإذا فاضت طغت على الأرض اللينة.
وكان نهر بردى ونهر الأعوج يستفاد منهما أكثر من جميع الأنهار التي تعطش الأرض التي حَفافيها، وهي من مجراه على قيد أشبار، أو يترك للبحر يصب فيه
على هينته وهواه، كنهر عفرين والأسود وقاديشا والأولي والأزرق والعوجا وإبراهيم والمقطع والقاسمية وغيرها. وكم في هذه الديار من آثار قنوات عجيبة مثل قناة بسيمة في سَنير، وربما كان ماء عين الفيجة يسيل منها إلى بلد بعيد كما هو المأثور، ومثل قناة مَنين التي جرها المأمون إلى معسكره في أعلى قاسيون بدمشق. وكم من قناة طمت بتهاون الفلاح فهلك مع أرضه عطشاً، لأن الحكومات قلما التفتت في الأدوار الأخيرة إلى العناية بأمرها، والأعمال(4/133)
المشتركة قلما تجد لها نصيراً في هذه الأرض، ولو كانت مياه الشفة فكيف بمياه الري ري الأرض.
خراب الزراعة والمزارع:
ويمكن أن يقال إن القطر خرب بنزول الفاتحين المخربين والعاهات الطبيعية ثم من فساد النظام في الدولتين الجركسية والتركية في القرون الوسطى إلى هذا العهد، وقد كان مسرح الظلم، وميدان حروب وغارات، يهلك الفلاح فيه كما يهلك النمل تحت القدام، وقبل أن يهلك ابن المدن الذي له من اجتماعه بأخيه، واعتصامه وراء حصنه وسوره بعض الوقاية، وكانت القرى التي على جوانب الطرق تخرب قبل غيرها، وعلى نسبة قرب القرية من المدينة أو من الطرق الموصلة أو طرق الغزاة والفاتحين، كان الخراب إليها أسرع من الماء إلى الحدور. وكان من دلائل القوة في تلك الأعصر أن تخرب القرى وتلقى النار فيها إذا غضب الملك أو الأمير أو المقدم أو صاحب القطاع على ذاك الإقليم أو تلك القرية. وكان قطع الأشجار من أبلغ أنواع النكاية في الخصم ولذلك أمثلة كثيرة في القديم والحديث إلى زمن كتابة هذا الفصل. وما أُصيبت به الشجار في غوطة دمشق خلال الثورة الشامية الأخيرة مثال مما تعمله الحكومات حتى باسم الحضارة. فكأن طبائع الحكومات واحد يوم تغضب من شعب أو نريد أن تكره التناء على النزول على إرادتها.
وأهم ما أثر في حالة الفلاح نظام الحكومات، لأن أصول الإدارة لم تؤسس في هذه المملكة على ما يجب، وكانت المظالم الأرضية والمفاسد البشرية أشد تأثيراً في أهل الفلح والكرث والقائمين على تربية الماشية والضرع، من الآفات السماوية، كالزلازل والأوبئة والقحط من قلة أمطار أو فيضان أو انتشار جراد أو ديدان وجرذ وفيران.
هذه العوامل هي جماع الخراب الذي أصاب العامر فدمر القرى والأقاليم، ومنها ما لا تزال دمنه ومياهه شاهدة على ماضيه الزاهر، فقد ذكر الظاهري من أهل المائة التاسعة للهجرة أنه كان على عهده نيف وألف قرية ومدن صغار في حوران، وأنه كان في إقليم غوطة دمشق نيف وثلاثمائة قرية وبه مدن صغار وبلدان تشابه المدن، وأنه كان في وادي التيم وما إليه ثلاثمائة وستون قرية، وإذا(4/134)
أحصيتَ قرى هذه الأقاليم الثلاثة اليوم لا تجدها في حوران تزيد على أربعمائة قرية ومنها الخِرَب، وفي الغوطة على ثنتين وأربعين، وفي وادي التيم على ثلاثين إلى أربعين. وهكذا سائر الشام. فإن حلب كان فيها قبل العثمانيين 3200 قرية فأصبحت 400 في القرن الحادي عشر، ومنها ما ظل خراباً إلى النصف الأخير من القرن الماضي لأن معظم عهد العثمانيين انقضى في مظالم ومغارم، وكان من جندها ولا سيما الإنكشارية في آخر عهدهم أدوات تخريب لم يشهد الناس أفظع منها، لذلك خربت حتى الضواحي والأرباض من المدن الحافلة أمثال حلب ودمشق وحماة وحمص وما شاكلها. وكانت رجل الإنكشاري بل الجندي التركي على الإطلاق حيث دبت يدب الدمار والبوار. ولذلك لا نكاد نرى عمراناً إلى على طول الطرق العامة الكبرى وما إليها من اليمين والشمال، ونشاهد المدينتين العظيمتين حلب ودمشق مثلاً ينقطع في الحال أو على ساعات قليلة عمرانها الذي كان وارف الظلال إلى القاصية وكان هذا بفعل البادية وفعل الجيوش المدمرة.
عوامل الخراب:
ولولا ذلك الظلم المتسلسل قروناً في أعقاب الفلاحين المساكين، وأسواط النقمة التي انهالت على رقابهم الجيل بعد الجيل، لما تيسر اليوم لأحد أن يملك المزرعة والمزرعتين بل ربما العشر والعشرين قرية، وبعض الأسر الحديثة تملك الخمسين والثمانين، والإنسان قد تكفيه المائة دونم أو جريب إذا أحسن تعهدها، فكيف له أن يعمر ألوفاً من الأفدنة، ويتسع وقته وماله لحمايتها وترقيتها؟
نقول حمايتها لأن كثيراً من القرى تنازل عنها مُلاكها لأرباب النفوذ ليحموهم من ظلم الحكام والمرابين، وأخذوا ثمنها بضع عباءات وغلايين، أو قفة من البن أو رطلاً من الدخان أو أقة من الحلوى المعروفة بالبقلاوة، ومن الأراضي ما توسل أهلها إلى أرباب المكانة أن يسجلوها في دائرة التمليك بأسمائهم لما شرعت الدولة العثمانية 1882م بتسجيل الأملاك على أصحابها، وذلك فراراً من ظلم عمال تلك الحكومة ومن وضع الرسم المعتاد، ومنهم من تخلوا للأعيان عن أراضٍ عانوا مع آبائهم زراعتها زمناً طويلاً، تخلصاً من تسجيل نفوسهم(4/135)
لما حررت النفوس، ومن أهل القرى من خرجوا عن ملك أراضيهم لأنه وجد فيها قتيل، وكانت العادة ولا تزال إلى اليوم أن يلزم أهل الأرض بدية من يقتل فيها أو تفرض غرامة ثقيلة عليهم، فمنهم من تركوا أرضهم مخافة أن يُلزموا بمال لا قِبَل لهم بأدائه. ومن القرى ما خرج عن ملك أهله كما وقع لأهل مرج ابن عامر في القرن الماضي لما عجزوا عن دفع الأموال الأميرية فباعته الحكومة التركية بالثمن البخس صفقة واحدة لرجل واحد مقابل رشوة قبضها الوالي.
ومن المرابين من اقتنوا قرى كثيرة في الديار الشامية لأنهم كانوا لا يشفقون على الفلاح باشتطاطهم عليه بأخذ الربا الفاحش. وما زلنا في كل دور نرى الفلاح في أكثر الأقاليم يقترض المائة بمائة وخمسين من الخريف إلى البيدر وأحياناً ترتفع
الفائدة إلى أكثر من هذا القدر، فإذا أُضيف إلى ذلك ظلم الأعشار (1) وتعدد الضرائب على الفلاح حتى كاد يهلك بسببها، لا نستعظم إذا رأينا خراباً، بل نقول: لماذا نرى هذه الرشاشة من العمران قرب المدن والثغور، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات.
ولقد كانت الأوقاف من جملة ما أخر الزراعة، ذلك لأن الأراضي الموقوفة تجمد على حالة واحدة في أشجارها وغلاتها ومجاريها وسكورها وزرائبها، وكل جسم لا ينمو يصيبه الفناء. وعلى كثرة ما وقف المسلمون على أعمال البر وغيرها لا يمضي القرن والقرنان حتى يعود الوقف ملكاً صرفاً، ولولا ذلك لكثر الخراب أكثر مما هو الآن في القرى والحدائق. ولو دام حكم إبراهيم باشا المصري إلى اليوم لأصبحت أرضنا عامرة كمصر لأنه نشط الزراعة وأمر بنشر دود الحرير ودود القز وعلم الأهالي كيفية قطف الزيتون بالأيدي حتى صار شجره يعطي ثمراً كل سنة فاستعادت بعمله أكثر القرى عمرانها القديم.
كتب قنصل بريطانيا في دمشق سنة 1859م بمناسبة زيادة الضرائب على الأهلين وتوكيل الجنود بجبايتها بالعنف: إن الحكومة تأخذ مال الشعب ظلماً وعنفاً، ولا تحميهم من البدو الذين يزدادون جرأة واعتداءً، وعملهم قائم(4/136)
بابتزاز أموال الفلاحين التعساء لما فيه مصلحتها، على حين لا تأتي بدليل على إدراكها وجوب حماية الذين يجب عليهم أن يدفعوا الأموال اللازمة لتحسين حال الولاية، وسد حاجات الحكومة المركزية، وإنما تهمل الاحتياط للأمر. وقال أيضاً: إن جو الشام صاف وهواءها وأرضها خصبة حسنة الري، ففي مكنتها أن تصبر على هذه الحالة أكثر من غيرها من الولايات الأقل خصباً، ولكن لا بد في آخر الأمر من أن تفرغ هذه الموارد.
آفة الهجرة على الزراعة:
ومما أُصيبت به الزراعة من الآفات آفة دونها الآفات كلها، بدأت تدب في جسمها أواخر القرن الماضي بركوب الفلاحين غوارب الاغتراب عن الوطن في التماس الرزق وطرق الغنى. وذلك منذ دهش الناس لأرباح المهاجرة الأول من الشاميين إلى أميركا. أرباح لم يكن لابن هذه الأرض عهد بها وكان ثلاثة وعشرون قيراطاً من أربعة وعشرين قيراطاً منهم يعيش، ولا سيما في الأرض القاحلة، عيش القلة الشديدة. فلم يلبث الناس في الجبال أن حذوا حذو أولئك المهاجرين، فأخذ الناس ينزحون إلى أميركا الجنوبية والشمالية وإلى استراليا وجنوبي إفريقية وغيرها من البلاد المفتتحة حديثاً، حيث يسهل جَني المال، وتزيد أجرة العامل على نفقته كثيراً.
وهاجر ألوف أيضاً إلى مصر والسودان عقبى الاحتلال الإنكليزي سنة 1882م فحرمت الشام في أربعين سنة نحو سبعمائة ألف يد عاملة، كان ثلثهم يستوطن في الأصقاع التي نزلها، تمسك بتلابيبه لكثرة علائقه وطيب العيش فيها، والثلث الثاني يهلك، والثلث الثالث يرجع. ولم تلبث الهجرة أن عمت جميع السكان، اقتصرت على أبناء الجبال أولاً، ثم تناولت ابن السهول، وانتقل الغرام بها من ابن القرية إلى ابن المدينة. ومن جملة ما زاد في عدد المهاجرين سهولة السفر وتأليف شركات للتسفير تسلف المهاجر أجرة طريقه ونفقاته الأولى ريثما يجد عملاً حيث ينزل.
وهذه الهجرة من أعظم ما أخر حال الزراعة في هذا القطر، فأصيبت بضربة مهمة أهمها ارتفاع أجور العملة فيها لأن من عاد منهم يحمل مالاً ولو(4/137)
قليلاً استنكف عن العمل في الزراعة كما كان هو وأبوه، ومنهم من بنوا القصور الغناء والدور القوراء في مزارعهم، وأخذوا ينعمون بطيب العيش، ويبحثون أوقات فراغهم في أمور ما كانت لهم ولا كانوا لها، ويلهون ويلعبون على الطرق التي
اقتبسوها في مهاجرهم. وقد كانت جبال لبنان وعامل والعلويين وقلمون والخليل والسامرة من أشد الأصقاع التي تأذت بالهجرة فتأخرت زراعتها فوق تأخرها. ولقلة اليد العاملة رأينا بعضهم في البقاع يقرن امرأته إلى ثوره تعمل مع فدانه، ورأينا الحورانة يستكثرون من الأزواج يتخذونهن أجيرات في أعمال الحقل وعلف الدواب واستخراج الدرّ وعمل السمن واللبن. ولئن دخلت القطر أموال طائلة بسبب الهجرة فثروة أمة لا تعد بكثرة نقدها بل بكثرة ما يعمل أبناؤها في أساليب الرزق المختلفة، وقلّ أن أُنفق مال يذكر على تحسين الزراعة وإقامة الشركات النافعة، ونحن لم نبرح ننشد مع حافظ إبراهيم:
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها:
يضرب المثل بزكاء منابت الشام واعتدال أهويتها، وجودة مناخها، وكثرة مياهها، على كثرة حزونها وجبالها، وإن أرضاً تعطي حبتها في بعض الجهات مائة حبة، كأرض الرحبة بالقرب من جبال الصفا، لتعد من أخصب بقاع الأرض، وذلك لأن أرضها مستريحة منذ العصور المتطاولة. فإذا كان بنوا إسرائيل قد جعلوا عادة لهم أن يريحوا أرضهم مرة كل سبع سنين، فإننا قد أرحناها منذ قرون، ولذلك لا تضن علينا بخيرات سطحها كلما حرثناها وزرعناها.
وما زالت زراعتنا كما عرفها الأجداد بل كما عرفها الإنسان منذ آلاف من السنين، ليس فيها شيء من العلم إلا التجارب، ولا من التغيير إلا ما تضطر إليه الأحوال وتهدي إليه الفطرة، ولذلك يعوزها كثير مما يجود في غيرها من النباتات والأشجار. قال الرحالة فولني في كلامه على مناخ الشام: إن الأرز يجود زرعه على شواطئ بحيرة تاحولة، والنيلة تنبت بلا عمل على ضفاف نهر الأردن في بَيْسان وهي لا تحتاج إلا قليل من العناية حتى تستوفي الشروط المطلوبة. وبعد أن
أفاض القول على مدن الشام قال: إن دمشق تفاخر وحق(4/138)
لها الفخر بأن فيها كل الثمار التي تحصل في ولايات فرنسا. ثم ذكر أن البن الذي يزرع في تهامة اليمن تلائم زراعته أرض الشام، ومناخها يلائم طبائع الثمار كلها فينبت النخل كما ينبت الصنوبر والسرو.
وقال هوار: لئن كان القطن زرع في أوربا فإن ضواحي هاتين المدينتين دمشق وحلب كانت خاصة بزراعة شجيرة القطن، وهذه الحقول البديعة توجب حيرة السياح، والقطن الصغير الطول ينبت في ضواحي دمشق، وكانت عكا واللاذقية وقبرس تعطي صنفاً ثالثاً من القطن، وكانت أرجاء نابلس إلى عهد قريب تصدر من القطن ما قيمته مئات الألوف من الدنانير.
وقال بوست: تقسم فلسطين باعتبار الفلاحة إلى أربعة أقسام: السواحل كساحل غزة ويافا وشارون وهي صالحة لنمو مزروعات المنطقة تحت الحارة، ووادي الأردن العَربَة وهي تناسب مزروعات المنطقة الحارة والجبال وفيها أودية كثيرة مخصبة كمرج ابن عامر يزرعيل، والأودية المجاورة كالناصرة ونابلس والخليل حبرون وهي تناسب مزروعات المنطقة المعتدلة، والسهول الداخلية وهي تناسب في الأكثر الحنطة والشعير والسمسم. قال: ولا شك بأن هذه البلاد كانت ذات أشجار برية وبستانية أكثر مما هي الآن. وكان التراب على جوانب الجبال أكثر مما هو اليوم، وكذلك العيون فإنها كانت أكثر عدداً وماءً فضلاً عن أن مياه الشتاء كانت تجمع في مساقي وصهاريج. وقال ورن: إن فلسطين شرقي الأردن وغربيه كافية لسكنى خمسة عشر مليوناً من الجنس البشري إذا اعتني بها الاعتناء الواجب. قلنا: إذا كانت الشام على هذه الصفة من الخصب والسعة فكيف لا تسع العشرين مليوناً من الناس وكل إقليم من أقاليمها كالبلقاء أو الجولان مثلاً يعد الصالح من تربته أكثر من مملكة من الممالك الصغرى في أوربا، ولكن السر
بالسكان لا بالمكان.
تقسيم السهول والجبال:
قسم صاحب كتاب الزراعة العملية الحديثة أقاليم الشام الزراعية إلى خمسة أقاليم يتركب كل منها من عدة مناطق تكاد تكون واحدة في درجة الارتفاع عن سطح البحر وهي:(4/139)
1ً إقليم الغور أي شواطئ الأردن وهو يمتد من بحيرة الحولة شمالاً إلى بحيرة لوط جنوباً، أي أراضي جنوب بحيرة الحولة وأراضي البطيحة والغوير وسمخ والقسم الشرقي من بحيرة طبرية وأرض جسر المجامع وبَيسان وجنوب بَيسان وغور الصلت ومنطقة ريحا وشواطئ بحيرة لوط. ومن جملة نباتات هذا الإقليم البردي والأسَل والقصب الفارسي والأكاسيا الشوكي والسوسن وزنبق الماء على شواطئ بحيرة الحولة والسدر الكثير في الأراضي المجاورة لبحيرة طبرية كأرض الغوير والمجدل والبطيحة وغيرها والغار والطرفاء والقصب وأنواع النخيل وسفط السيال والرتم والبان والصلة والغرقد والعوسج والعشر وغيرها على شواطئ الأردن في منطقة بَيسان وشرق الشرعة والصلت وأريحا.
2ً إقليم السواحل التي تمتد من شبه جزيرة العقبة إلى خليج الإسكندرونه ويشتمل على السهول الساحلية من غزة ويافا وحيفا وعكا وصور وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة ويدخل فيه مرج ابن عامر وأراضي جنين وشمال بحيرة الحولة ويجود فيه الليمون والبرتقال والموز والرمان. ومن جملة نباتات هذا الإقليم الطبيعية البلان والصنوبر البحري والقندول والوزال والطرفاء وانواع البرسيم والشقائق والدّفْلى زالأقحوان والقصب الفارسي وأنواع مختلفة من البلوط.
3ً إقليم السهول وتدخل فيه سهول الكرك والبلقاء وحوران وسفوح حرمون والبقاع والجولان والغوطة والمرج والسهول المرتفعة في فلسطين وحمص وحماة
وحلب وما شاكلها من السهول المتقاربة في إقليمها، وتجود في هذا الإقليم الأشجار المثمرة والخضر والتوت واللوز في الأرض البعلية والحور والصفصاف والدلب في شواطئ الأنهار.
4ً إقليم الجبال ويدخل فيه جبال الكرك والصلت وعجلون وقلمون وجبل الشيخ ولبنان ولبنان الشرقي والنصيرية والأقرع، ويجود فيه الزيتون والكرم والتين واللوز والصنوبر والسرو والفستق البري والميس والحبوب وكثير من الأشجار المثمرة، وفيه من النباتات الطبيعية البطم والقَيْقَب والجنستا والخرنوب والزعرور والعليق والشذاب والدردار والزيتون والسنديان والدلب والصنوبر والديشار والآس والسَرْحس، وفي أقسام الجبال المرتفعة بعض أنواع البلوط ثم الأرز والدفران.(4/140)
5ً إقليم الصحراء وتتناول ما نسميه بادية الشام أي الأصقاع الواقعة شرق المعمور من دمشق تنبت فيه بعض النباتات والأعشاب منها ما يزول في الربيع ومنها ما يبقى في الصيف. وليس في هذا الإقليم سكان إلا البدو الضاربون في أرجائه.
من الذين أدخلوا الطرق الجديدة:
أدخل ثلاثة أصناف من الناس في الشام روحاً جديداً في زراعتها، ومنهم مهاجرو قافقاسيا وغيرهم ممن سكنوا قرى كثيرة في عمل حلب ودمشق وعَمّان، فإن هؤلاء أدخلوا أصول الزراعة على طريقتهم وهي أرقى من طريقة من نزلوا عليهم في حمص والبلقاء والجولان مثلاً. ثم إن الألمان الذين أقاموا لهم مستعمرات في حيفا ويافا منذ 1868م قد كانوا مثال الفلاح النشيط، وكان على فلاحنا المجاور لهم أن يتعلم منهم ويعتبر بما يأخذه الفلاح الجرماني من وافر الغلات، ويتعلم منه تنظيم داره وإصطبله وحديقته ومزرعته وتعليم أولاده وغير ذلك مما يعود عليه بالنفع والراحة. وأهم من أدخلوا التجدد في الزراعة في ربوع
الشام الصهيونيون من مهاجرة ألمانيا ورومانيا وروسيا وبولونيا وغيرهم، فإنهم والحق يقال قد أنشئوا بأموال روتشلد وبركم وفيرو وفيتيفيوري وغيرهم من أغنياء الإسرائيليين الذين ابتاعوا الأراضي في فلسطين لأبناء نحلتهم، وأمدوهم بالمال ليتوفروا على استثمارها، مزارع حرية بأن تكون نموذجات الحقول، وقد قامت الجمعيات الصهيونية مثل الجمعيات الصهيونية اليهودية وجمعيات ايكا وفاعوليم والأليانس وغيرها بأعمال مهمة لنشل أبناء دينهم من سقطتهم، وأنشئوا لهم قرى كسارونا وزمارين والخضيرة وملبس والجاعونة والشجرة وغيرها هي كالقرى الأوربية بإتقان أعمالها الزراعية. وممن ساعد على إنجاح الزراعة بعض مهاجري اللبنانيين الشرقي والغربي فإن منهم من وضع مما اقتصد من المال أمواله في الزراعة وأدخل طريقة الأمريكان في أرضه.
درس الزراعة:
وكان من أثر مدرسة الزراعة العملية في نيتر قرب يافا التي أُسست منذ نحو خمسين سنة، وكان يتخرج فيها في السنة على الأقل عشرون تلميذاً يستطيع(4/141)
تطبيق علمه الزراعي على العمل أن نشرت أصول الزراعة الحديثة بين أبناء إسرائيل، وغدا فيهم الكفاة للقيام على الحرث والتسميد والبذر والغرس والتعهد والتقليم والتطعيم، وأصبحت مستعمراتهم تخرج أصنافاً جيدة من الخمور واللوز وغيرها لا تخرجها القرى المجاورة لها.
ومن مدارس الزراعة التي نفعت بعض أبناء سورية وفلسطين مدرسة اللاطرون بين يافا والقدس أنشأها الآباء البيض. ومدرسة تعنايل بين بيروت ودمشق أنشأها الآباء اليسوعيون. وقد أنشأت الحكومة السابقة مدرسة زراعية في سَلَمْية لكنها ضعيفة في تلقين العمليات والنظريات، وقد ألغتها مؤخراً بحجة أن تلاميذها لم يعملوا في الصناعة التي اختصوا بها، وآثروا التوظيف في أعمال الحكومة، وذلك
على شرط أن تؤسس مدارس عملية أخرى ومشاتل في كل قصبة فلم يتم شيء من ذلك.
ومن الغريب أن الزراعة وهي تكاد تكون في هذا القطر المحبوب مورد عيشة الأول، لم يدرسها إلى اليوم سوى أفراد قلائل، ولا أذكر سوى بضعة شبان ممن يملك آباؤهم مزارع واسعة تعلموا فن الزراعة على الأصول في مدارس فرنسا وإنكلترا وتونس ومصر والآستانة، وجاءوا فعنوا بتطبيق ما تعلموه، وكان الواجب أن يكون لكل بضع قرى مهندس زراعي، يعلمها من علمه ويمدها بتجاربه ويدير شؤونها كما يدير أهل البصر في الغرب مزارعهم.
نقص كبير:
إلى اليوم لم تدخل على ما يجب أرضنا الأدوات الزراعية الحديثة التي تقلل عمل الأيدي وتزيد النماء كآلة الحرث والبذر والدرس والتذرية دع غيرها، وما أبقاه لنا بعض علماء العرب من الكتب الزراعية التي طبع بعضها بلغتنا في أوربا دليل كبير على ترقي هذا الفن أيام لم يكن في الأرض من يحسنه. سبق العرب الغرب في كل شيء، وسبقهم هو اليوم ويا للأسف في كل شيء، والدهر دول يوم لك ويوم عليك.
سبق الأجداد في كل شيء، وتأخر الأحفاد في كل شيء، والفلاحة التي هي أشرف الأعمال وضيعة في نظر كثيرين حتى إن بعضهم قال وقد رأى(4/142)
السكة في دار: ما دخلت هذه السكة دار قوم إلا ذلوا، ولو قال: ما خلت هذه السكة من دار قوم إلا ذلوا لكان أقرب إلى الصواب. شعار الغرب اليوم الأرض هي الوطن ومن توفر على تحسينها يخدم وطنه وإذا كانت الفلاحة عندنا ينظر إليها نطر احتقار فمن باب أولى أن ينظر إلى الفلاح كذلك وهو خادم الوطن الحقيقي. وإذا كان الفلاح كالسلطان في مزرعته عند الأمم الممدنة، فهو هنا عبد لقّ لصاحب الأرض
وللحكومة وللمرابي.
وبينا نرى أرباب المزارع في الممالك الراقية، ومصر منها، يُعنون براحة فلاحيهم وتعليم أبنائهم وبناتهم، وتوفير قسطهم من الصحة والهناء، ويجعل لهم حتى في قراهم مدارس ومعابد ودور تمثيل وصور متحركة للتسلية، نجد أكثر المزارعين هنا يجدّون في أن يبقوا فلاحيهم جهلاء أغبياء حتى يخضعوا لهم بزعمهم أبد الدهر خضوعاً أعمى، وقلّ أن سمعت بأن مزارعاً أنشأ لفلاحيه عندنا مدرسة بسيطة أو مسجداً وأتاهم بخطيب يعلمهم أو بطبيب يطبهم، ولذلك تجد القرى التي يملكها أفراد صفراً من هذه الوجهة، لأن صاحب القرية لا يهتم إلا لتكثير الدخل السنوي وإرهاق فلاحه، وابن البادية والقائمون على الزرع والضرع أقل الأمة ويا للأسف حظاً من التفكر بسعادتهم: انهم ليسوا مادة الثروة، إذا اختل نظامهم تطرق الخلل إلى سائر مذاهب المعاش، ومقومات الحضارة ومظاهر الرخاء والهناء.
ولا يزال يدور على الألسن في وصف الفلاحين أنهم غبر الوجوه إذا لم يُظلموا ظَلَموا ولكن تثقيف أودهم بالتربية قلما يخطر ببال، وقطع الجرثومة من أساسها لا نراه دواء عاجلاً!
التحسين الأخير:
على أن من الواجب أن يقال أيضاً: إنه استفادت كثير من قرى الغوطة والمرجين ووادي العجم والبقاع وبعلبك والحولة وجبال عامل وعكار والحصن ونابلس وعكا والخليل وغزة وسهول حمص وحماة وحلب وإنطاكية وإسكندرونة والسويدية عمراناً منذ ثمانين سنة بفضل بعض طبقة الأعيان، لأنهم استطاعوا أن يحموها من عيث البادية وعبث الظلمة من العمال، وأن يمدوها بالمال وقت(4/143)
العسرة فغُرّموا على تحسنها أموالاً، وصرفوا قواهم إلى الانتفاع بها ما أمكن. وكان العربان يداهمون حتى القرى القريبة من الحواضر، ويطلبون منها اخوة أو الخاوة
وهي مبلغ من المال يتقاضونه من الفلاحين البائسين يؤدونه لصعاليك البدو صاغرين، وإذا استنكفوا عن أداء ما يطلب منهم، محتجين بضيق ذات اليد أو رداءة الموسم، نهبوا دورهم وحرقوا عروضهم وغلاتهم واعتدوا على أرواحهم. وقد كانت معظم الأرياف مأوى الأشقياء وعصابات قطاع الطرق، فما كان الفلاح يجسر أن ينتقل من قرية إلى أخرى، أو يحمل محاصيله إلى المدن، ولا أن يعمل في حقله البعيد قليلاً عن القرية أو المزرعة.
فلما طبق قانون الولايات سنة 1281هـ ثم أُنشئت المحاكم النظامية كان من أثرها القضاء على عصابات من أرباب الدعارة، وقلّت الشقاوة، فانصرف الفلاحون كلهم إلى العمل، لأن الأسعار بدت بالارتفاع، فبعد أن كان الحوراني ينقل غلاته على الجمال إلى بيروت أو عكا فلا يتحصل منها غير أجرة النقل، أصبح الفلاح يحمل غلاته إلى المواني البحرية ولا سيما غزة ويافا وحيفا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرية فتأتيه بأرباح طائلة، لأن الحبوب كالثمار، أصبحت تسافر في البحار، ويدفع في ثمنها النضار.
وانتبه الفلاح لحاله بكثرة اختلاطه بابن المدن فعرف بؤسه، فلم يكن على ما كان منذ سبعين سنة مملوكاً لجهله الطبيعي، ولظالميه من المرابين وغيرهم من أدوات التخريب. وكان من تأسيس المصارف الزراعية، وإن كانت قليلة رؤوس الأموال، ويجب أن يكون فيها التسهيل كثيراً، أن أنزلت معدل الربا إلى سبعة في المئة، فخففت من غلواء المرابين والصيارفة. ولو زيد في ترقية المصارف الزراعية وأُنشئت مصارف عقارية تقرض أرباب العقارات أيضاً بفائدة معتدلة لزادت المنافع المطلوبة للزراعة.
وصادف أن قلت آفات الزراعة في العهد الأخير، فأصبحت الأوبئة في البشر والبقر لا تفعل فعلها الشديد كما كانت في الأدوار السالفة، وردمت بعض
المستنقعات الصغيرة التي كانت بجوار بعض القرى، وعني ديوان الصحة بفتح مستوصفات في القصبات ومستشفيات في المدن، فتحسنت الصحة بعض الشيء، وأصبح الفلاح يدرك فائدة التطبب، وإن أعوزه الطبيب أحياناً، وفتحت وزارة(4/144)
المعارف مدارس ابتدائية في بعض القرى الكبيرة فدخلت المدنية قليلاً وزادت النفوس زيادة محسوسة، وربما زادت عما كانت عليه منذ سبعين سنة سبعة أضعاف. وهذه الزيادة أفادت الزراعة أيضاً. ولم تصب بعض الأصقاع الزراعية بالضعف إلا مدة الحرب الأخيرة، وقد كلب عمال الترك فاستلبوا من الفلاح ابنه وبقره وغنمه وخيله وحميره وبذاره وحطبه وقطنه وصوفه وقشره، ولو طالت الحرب سنة أخرى لحصد الوباء البقري الأبقار من أكثر أنحاء الشام، لأن ما بقي سالماً منها كانت الحكومة تأخذه للنقل أو للذبح، فتعطل بعضهم عن الحرث، ولكن من نجحوا من هذه الغوائل ولو قليلاً استفادوا من ارتفاع الأسعار أرباحاً طائلة، فوفوا ديونهم وخرجوا وقد أغنتهم الحرب ولم تفقرهم.
وما زلت أعتقد أن أصحاب الحوانيت مقصرون جداً في تعليم الفلاح، وتحسين حالته المعاشية والمنزلية والصحية، حتى كاد يصبح بطول الزمن شقيق البهائم لا يفرق عنها إلا أنه ناطق، وهذا النقص يحمل عليهم وعلى الحكومة. فقد تجتاز إلى اليوم القرية والقريتين في الأرجاء البعيدة ولا تجد رجلين أو ثلاثة من أهلها يقرءون ويكتبون على ما يجب، فكيف لهم أن يعرفوا مل لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات. ولا يستقيم للزراعة حال فيما رأى إلا إذا عَلّمت كل أُسرة يأتيها رزقها من الزراعة أحد أبنائها هذا الفن الجليل، ولا تمضي بضع سنين حتى تدخل الشام في طور الأقطار الزراعية الراقية، وعندها تتضاعف الثروة مرتين أو ثلاثاً، وينقطع دابر الهجرة ويعمر الغامر كما يزيد عمران العامر. ويعتقد الناس أن العز والغنى معقود بالأرض، وأن الشرف يستمده المرء من عمله الحر
الحلال.
عناية القدمين بالزراعة:
إن ما انتهى إلينا من الكلام القليل على الزراعة الشامية لا يشفي غلة الباحثين اليوم، لأنه مجمل يحتاج إلى تفصيل كثير. وإذا عرضنا له هنا فللاستئناس به في تاريخ الزراعة في الجملة، فقد علمنا أن الإسرائيليين كانوا يريحون الأرض سبع سنين ثم يزرعونها فتأتي غلاتهم مخصبة نامية. وعلمنا أن النبطيين وهم(4/145)
العرب الرحل في أرجاء البتراء في الجنوب كان من المحظور عليهم أن يزرعوا الحنطة ويغرسوا الأشجار المثمرة ويبنوا البيوت إذا كانوا يعتبرون أن الاحتفاظ بهذه الخيرات يحتاج إلى أن يفادي المرء بحريته. وعرفنا أن الفينيقيين كانوا لا يُعنون بالزراعة عنايتهم بالتجارة، فكانوا يجلبون من الداخل ومن السواحل القريبة منهم ما يلزمهم في غذائهم. حتى إذا جاء العرب وأبدوا ما أبدوا من حب التحضر كان قانونهم من أحيا أرضاً مواتاً فهي له واطرد ذلك منذ الفتح. واغتبط العرب بما وجدوه من الخصب في هذه الربوع بعد قحولة الحجاز وبواديه المحرقة فقال زياد بن حنظلة في فتح عمر مدينة إيليا من قصيدة:
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشاً خصيباً ما تعد مآكله
حتى إذا تربعت أُمية في دست الخلافة وأخذ آلهم ورجالهم يقتنون المزارع، ويبالغون في اتخاذ الغروس والزروع المثمرة المغلة، جعلوا القرى مستغلات لهم ونزازها وعُنوا بعمرانها، وتنافسوا في ذلك. فقد ذكر المنبجي أن هشام بن عبد الملك اتخذ المستغلات الكبيرة في أكثر المدن التي في سلطانه، والخانات والحوانيت والحجر والضياع والمزارع، وهو أول من اتخذ الضياع لنفسه من العرب، واشتق أنهاراً كثيرة غزيرة، وهو الذي استخرج النهر الذي فوق الرقة، وغرس غرساً كثيراً بالجزيرة والشامات، فبلغت غلته أكثر من خراج مملكته.
ولطالما عُني الخلفاء بأن لا تبقى أرض شاغرة لا تستغل، فقد أنزل معاوية قوماً من الفرس في طرابلس، وكان الرشيد لما انتشر ذاك الطاعون الجارف في فلسطين على عهده وكان ربما أتى على جميع أهل البيت فتخرب أرضوهم وتعطل، قد وكل بهذه الأرضين من عمرها فكان يتألف الأكرة والمزارعين إليها فصارت ضياعاً للخلافة.
وما زالت العناية بتعهد الأرض متوفرة حتى اغتنى العرب الذين استغلوا هذه الديار بذكائهم وبعد نظرهم. والعرب كما - قال أحد علماء الإفرنج - عمال زراعة ورجال براعة، برعوا في سقي الجنائن واخترعوا النواعير العجيبة بل ووطنوا النباتات والأشجار الإفريقية والآسيوية في أوربا كالنخل والبرتقال والتوت والقطن وقصب السكر والذرة والأرز والحنطة السوداء والزعفران والهندباء(4/146)
والخرشوف والسبانخ والباذنجان والطرخون والبصل والياسمين الخ وينسب إليهم اختراع طواحين الهواء ونواعير الماء. وقال ميشو: ما من دار في أوربا إلا وتعرف اليوم البصل الذي جاء اسمه وأصله من عسقلان. ومعلوم أن الأندلس ابنة الشام فتحها الشاميون ونقلوا إليها مدنيتهم. وهذه الصنوف من الزراعة التي انتشرت في الأندلس ثم في سائر أوربا تكاد تكون خاصة بأرض الشام في تلك القرون.
لا جرم أن الحضارة التي أوجدها العرب كان من أول دعائمها الزراعة فاحتاجت الدول والأمة إلى الاستكثار من الغروس واستجادة الزروع من وراء الغاية. قيل لإسحاق بن يحيى الختلي من ولاة دمشق 235 لٍمَ سكنت دمشق وفلحت أرضها، وأكثرت فيها من الغروس من أصناف الفاكهة، وأجريت المياه إلى الضياع وغيرها؟ فقال: لا يطيق نزولها إلا الملوك قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما ظنكم ببلدة يأكل فيها الأطفال ما يأكله في غيرها الكبار!. ولطالما دهش العرب بغوطة
دمشق لأنها كانت أول ما يقع عليه نظرهم من عمران الشام فيعجبون للأشجار والزروع المنوعة التي لا يُعرف أكثرها في شبه جزيرة العرب ويدهشون للخصب والمياه الدافقة من كل جهة.
أصناف الزروع والأشجار:
ذكر المهلبي أنه من كور حلب وضياعها ما يجمع جميع الغلات النفيسة فإن بلدة معرة مصرين وجبل السماق بلد التين والزيتون والزبيب والفستق والسماق والحبة الخضراء. وقال ابن شداد: وفي بعض ضياع حلب ما يجمع عشرين صنفاً من الغلات. وقال ياقوت: ويزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذياً لا يسقى إلا بماء المطر، ويجيء مع ذلك رَخصاً غضاً روياً، يفوق ما يسقى بالمياه والسيح وقال: إن أكثر مستغل ضياع الغور السكر ومنها يحمل إلى الآفاق، وفي عسقلان نخل كثير وصنوف من التمور والرمان يحمل إلى كل بلد بحبسه، وإنها معدن الجميز كثيرة المحارس والفواكه. واشتهرت نواز في جبل السماق بتفاحها الكبير المليح. وتل أعرن في حلب بعنبها الأحمر المدور. وقال ابن جبير: في بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل(4/147)
التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين. وقال ابن حوقل: وما حول معرة نسرين من القرى أعذاء ليس بجميع نواحيها ماء جار ولا عين، وكذلك أكثر ما بجميع جند قنسرين أعذاء ومياههم من السماء. وقالوا: اشتهرت الفرزل في البقاع بزبيبها الجوزاني، وكان يعنل به الملبن المسمى بجلد الفرس وهو من خصائصها، وأن بعلبك معدن الأعناب والحولة معدن الأقطان والأزهار، واشتهرت بَيسان بالنخيل الكثير كما اشتهرت بيروت وآبل بقصب السكر، يطبخ بها السكر الفائق، وعراق الأمير بسفرجلها، والناعمة بخرنوبها الفائق. وقال المقدسي: إن عسقلان معدن الجميز وأريحا معدن النيل والنخيل كثيرة الموز والأرطاب والريحان. ومعان معدن الحبوب والأنعام، ويُبنى معدن التين الفائق الدمشقي. وأن أشجار جبال فلسطين زيتون وتين وجميز وسائر الفواكه أقل من ذلك. وقال: خير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة وأجود المري ما عمل بأريحا، وأن عنب القدس خطير
وليس لمعنقتها نظير.
وذكر ابن حوقل أن أهل زُغر يلقحون كرومهم وكروم فلسطين كما يلقح النخل بالطلع الذكر وكما يلقح أهل المغرب تينهم بأذكارهم. وقالوا: إن لبنان كثير الأشجار والثمار المباحة يتعبد فيه أقوام قد بنوا لأنفسهم بيوتاً من القش يأكلون من تلك المباحات، ويرتفقون بما يحملون منها إلى المدن من القصب الفارسي والمرسين وغير ذلك.
وقال شيخ الربوة: ولجبل لبنان ولا سيما بقضيبه وأذياله نحو من تسعين عقاراً ونباتاً نافعاً مباحاً بلا ثمن وله قيمة جيدة وثمن يكتفي به الجابي الجامع طول سنته له ولأهله، ومن ذلك الكثيراء والريباس والبرباريس والقاوينا وهو عود الصليب والقيسه والبقس والقبقب الذي يعملون منه المرامل والملاعق والآلات المموهة بالذهب والفضة ويحمل إلى سائر البلاد والأقاليم، وليس عملاً ألطف منه ولا أحسن، ومن النباتات أيضاً شجر المحمودة والاشتوان والزراوند والحماما التي لا توجد إلا في إقليم دمشق وهو معلق في شقيف عالٍ ما يقدرون على جنيه إلا أن يدلوا جانبه بحبال من رأس جبل عالٍ، كما يدلى الدلو في البئر، وهي لأجل الترياق الفاروق والراوندان واللوز المر والحلو والأبهل والقراصيا والزيزفون، وأما الفواكه فكثيرة جداً بلبنان اه.(4/148)
وذكر الثعالبي أن التفاح اللبناني موصوف بحسن اللون وطيب الرائحة ولذاذة الطعم يحمل منه في القرابات إلى الآفاق، وكان يحمل إلى الخلفاء في بغداد منه من خراج أجناد الشام ثلاثون ألف تفاحة. وقال المقدسي في الرملة: إنه ليس أطيب من حواري الرملة ولا ألذ من فواكهها، أطعمة نظيفة وأدمات كثيرة وأنها جمعت التين والنخل وأنبتت الزروع على البعل وحوت الخيرات والفضل. وقال: إن ماء فلسطين من الأمطار والطل وأشجارها أعذاء وزروعها كذلك لا تسقى إلا
نابلس فإن فيها مياهاً جارية. وقال ياقوت: إن ياسوف من قرى نابلس توصف بكثرة الرمان.
وقال أبو الفدا: إن جبال فلسطين وسهلها زيتون وتين وخرنوب وسائر الفواكه أقل من ذلك. وذكر المقدسي أن على نحو نصف مرحلة من كل جانب من حبرون قرى وكروم وأعناب وتفاح يسمى جيل نضرة لا يرى مثله ولا أحسن من فواكهه عامتها تحمل إلى مصر وتنشر. وقال ابن حوقل في زغر: إن بها بسراً يقال له الانقلاء لم ير بالعراق ولا بمكان أغرب ولا أحسن منظراً منه لونه كالزعفران ولم يغادر منه شيئاً ويكون في أربع منه رطل، وبها النيل الكثير المقصر عن صباغ نيل كابل، وفيه لهم تجارة كبيرة واسعة ومقصد كبير. وقال الظاهري: إن غزة كثيرة الفواكه. وقال ابن بطلان في إنطاكية: إن أرضها تزرع الحنطة والشعير تحت شجر الزيتون. وقال ياقوت: وبدمشق فواكه جيدة فائقة طيبة تحمل إلى جميع ما حولها من البلاد من مصر إلى حَرّان وما يقارب ذلك فتعم الكل. ولقد ذكروا في باب خصب أريحا أن الجفنة التي عمرها 42 سنة تكون استدارتها على سطح الأرض مترين وثلاثين سنتيمتراً وتحمل في السنة 1500 كيلو من العنب وأنه يضرب المثل بورودها وأزاهيرها ويخرج منها الزقوم والسدر وهو أشبه بالزيتون الكبير يستخرجون منه زيتاً للجروح. وكذلك النبق وهو بمقام الصبار والزيزفون في بلاد أُخرى يستعمل حيطاناً للحوائط أي للبساتين.
وذكر الثعالبي أن زيت الشام يضرب به المثل في الجودة والنظافة وإنما قيل له زيت الركابي لأنه كان يحمل على الإبل من الشام وهي أكثر بلاد الله زيتوناً(4/149)
وفيه ما فيه من البركة والمنفعة. وقال شيخ الربوة في نابلس: وقد خصها الله تبارك وتعالى بالشجرة المباركة وهي الزيتون ويحمل زيتها إلى الديار المصرية والشامية وإلى الحجاز والبراري مع العربان ويحمل إلى جامع بني أمية منه في كل سنة
ألف قنطار بالدمشقي، ويعمل منه الصابون الرقي يحمل إلى سائر البلاد التي ذكرناها وإلى جزائر البحر الرومي، وبها البطيخ الأصفر الزائد الحلاوة على جميع بطيخ الأرض. والظاهر أن هذه الشجرة المباركة شجرة الزيتون آخذة بالاضمحلال قياساً مع حالهم في القديم، فقد قلّ عدده في فلسطين بعد الحرب العامة واستعيض عن بعضه بما بذلته الحكومة هنا من الجهد لغرس الزيتون والكرمة، أما في أرباض دمشق فهو آخذ بالقلة منذ اشتهرت الفواكه وهي هينة العمل سريعة الغلة، وكان في حمص على ما تبين من الحفريات التي أُجريت زيتون كثير بدليل ما وجد من معاصره التي لم يبقى لها زيتون تعصر منه ولا تجد الزيتون اليوم في أرجاء حمص إلا في بقعة أو بقعتين. واشتهر في القديم زيتون الطفيلة والشوبك اشتهارهما بمشمشهما وكمثراهما ورمانهما. سألنا أحد شيوخ الصلت عن السبب في إحجام القوم هناك عن غرس شجر الزيتون مع أنه يجود كل الجودة فقال: لا تذكرنا بغباوتنا فقد حملنا سعيد باشا شمدين أحد متصرفي البلقاء على أن نغرس في هذه الأدوية التي تراها مائة ألف زيتونة فوقع في أنفسنا أن في الأمر دسيسة من الحكومة تريد بها وضع الضرائب الفاحشة على أملاكنا وتسجيل أراضينا على صورة لا نعود معها ملاكها الحقيقيين فصدعنا بالأمر بالظاهر، وغرسنا أُلوفاً من شجر الزيتون، ولكن أتدري كيف تخلصنا منه بعد؟ كان أحدنا يجيء إلى الغرسة فيحركها حتى لا يطلع جذعها وهكذا لم يبق من كل ما غرسه الصلتيون إلا ما تشاهده اليوم في جوار القصبة وقليل ما هو. قلنا: وعجيب تبدل تصورات الناس فرجال الحكومة بالأمس كانوا يحملون الناس على زرع الأشجار. ويزينون لهم اقتناء الأراضي للزراعة، واليوم يطلب الأهلون في هذا العمل وفي غيره الأرض الموات ليحيوها ولا يعطون طلبتهم! هكذا رأينا أهل الشراة والطفيلة ومعان، على حين يقضي قانون الأراضي بان كل من يحيي
أرضاً مواتاً تبعد عن القرى والدساكر مقدار ما يسمع الصوت فيها من أقصى العامر فهي له. ولقد رأينا كثيراً من(4/150)
أهل القرى استأصلت أشجار التين والكرمة وغيرها لأن العشارين كانوا يتقاضون منهم عشرها فاحشاً أثمرت أم لم تثمر، فعدمت بعض القرى شجرها المثمر بهذا الظلم!.
وما قيل في كثرة الزيتون يقال في كثرة الأعناب واشتهرت بلدان كثيرة بذلك، وقد أكثر شعراء العرب من ذكر خمر بيت رأس ولبنان وغزة وجدر وصرخد وأذرعات والأندرين وبنات مَشايع وبَيسان ولدّ ومآب والخمر المقَدَيّة وخمر الأحصّ وقاصرين في أرجاء حمص وحلب وكان يقال لجبل بيت المقدس جبل الخمر لكثرة كرومه. واشتهرت حلبون في جبل سنير بخمرها وكثرة كرومها. ويظهر أن الزعفران كان كثيراً ما يجود في الشام لأنه كان يدخل في الأطعمة والأشربة كثيراً، ومزارع الزعفران التي كان يطلّ عليها من يدر مرّان في السفح الغربي من قاسيون جبل دمشق مشهورة، والغالب أنها كانت في أرض النيرب، وكان الزعفران يجود في جادية في قرى البلقاء والجادي هو الزعفران. ولم تكن عنايتهم بالنخيل أقل من عنايتهم بالزيتون والكرم مثلاً ولا سيما في جنوب الشام وشرقه.
ولا أثر اليوم لبعض الثمار مثل القراصيا والكستانة والبندق والبيسيم المشمولة وكانت كثيرة مبذولة هي والكراز حتى القرن الحادي عشر وكان القطن يجود في ضواحي دمشق وحماة وحلب. ذكر القلقشندي زروع الشام وفواكهه وريحاينه فقال: إن غالب زروعه على المطر قال في مسالك الأبصار: ومنها ما هو على سقي الأنهار وهو قليل وفيه من الحبوب من كل ما يوجد في مصر من البُرّ. الشعير. الأرز. الباقلاء. البِسِلّة. الجلبان. اللوبياء. الحلبة. السمسم. القرطم. ولا يوجد فيه الكتان والبرسيم. وبه من أنواع البطيخ والقثاء ما يستطاب ويستحسن.
وكذلك غيرها من المزروعات كالقلقاس. الملوخيا. الباذنجان. اللفت. الجزر. الهليون. القُنّبيط. الرّجلة. البقلة اليمانية، وغير ذلك من أنواع الخضراوات المأكولة، وقصب السكر في أغواره إلا أنه لم يبلغ في الكثرة حد مصر.
وأما فواكهه ففيه من كل ما يوجد في مصر كالتين. العنب. الرمان. القراصيا. البرقوق. المشمش. الخوخ - وهو المسمى بالدراقن - والتوت.(4/151)
والفرصاد، ويكثر بها التفاح والكمثرى والسفرجل مع كونها أكثر أنواعاً وأبهج منظراً، ويزيد عليه فواكه أخر لا توجد بمصر، وربما وجد بعضها في مصر على الندور الذي لا يعتد به كالجوز. البندق. الأجاص. العُنّاب. الزعرور، والزيتون فيه الغاية في الكثرة، ومنه يعتصر الزيت وينقل إلى أكثر البلدان وغير ذلك. وبأغوارها أنواع المحمضات كالأترج. اللّيمون. الكباد. النارنج. ولكنه لا يبلغ في ذلك حد مصر. وكذلك الموز ولا يوجد البلح والرّطب فيه أصلاً. قال في مسالك الأبصار: وفيه فواكه تأتي في الخريف وتبقى في الربيع كالسفرجل والتفاح والعنب.
وأما رياحينه ففيه كل ما في مصر من الآس والورد والنرجس والبنفسج والياسمين والنسرين، ويزيد على مصر في ذلك خصوصاً الورد حتى إنه يستقطر منه ماء الورد وينقل منه إلى سائر البلدان. قال في مسالك الأبصار: وقد نسي به ما كان يذكر من ماء ورد جُور ونصيبين.
وبعد فقد دخلت الشام في العهد الحديث عدة ضروب من الزروع والغراس لم تكن فيه من قبل مثل الشوح. الأوكالبتس. الأكاسيا. المشمش الهندي. البندورة الطماطم أو القوطة والبطاطا فكان منهما فائدة جلى وأصبحت البندورة والبطاطا من أهم أنواع التغذية، وسرعان ما انتشر الغرام بهما وعمت القاصية والدانية زراعتهما.
الأشجار غير المثمرة:
كانت الشام مشهورة بسروها وصنوبرها وأرزها، ويقول الشجارون: إنه كان في
غوطة دمشق ألوف من أشجار السرو انقرضت، وأدرك الغزي في حلب من شجر السرو الهرمي والصيواني أشجاراً قليلة ثم فقد عن آخره، وكان يوجد منها بكثرة، وأحسن الجبال في الشام التي احتفظت بغاباتها بعض الشيء جبل لبنان، فإن الصنوبر والرز فيه كثير. وقد أكثر القدماء والمحدثون من الكلام على تاريخ الأرز لورود ذكره في الكتاب المقدس مرات، ولأن من خشبه بني قصر داود وهيكل سليمان والهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربايل وسقف الهيكل المجدد في عهد هيرودوس وقبة القبر المقدس وسقف الكنيسة(4/152)
في بيت لحم، وقالوا: إن الأشوريين والبابليين والفرس والمصريين استعملوه في قصورهم وبناء هياكلهم واستعمله الأسكندر المقدوني في السد الذي أقامه بين الجزيرة والشاطئ من مدينة صور وكذلك السلاقسة أدخلوه في بناء دورهم. وكانت أخشابه تحمل إلى طرابلس وصيدا وصور وبيروت وتعمل منها السفن وفيها عمل معاوية أساطيله لغزو الروم. وما برح كثير من المتدينين بالنصرانية يتبركون بشجر الأرز ويحملون من غصونه قطعاً ينقلونها من مملكة إلى أُخرى. وهو عطر الرائحة إذا وضع في النار ويحسن في المشم إذا مسسته بيدك، ولونه اصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة ولا يفعل فيه السوس. والغالب أن الحكومات السالفة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح باحتكار غيره وبدأ النقص في هذه الأشجار منذ خمسة قرون وقد احتاج اللبنانيون إلى الاحتطاب للدفء والعمارة، وكانوا يسمون رزق الرجل أشجاره، وإذا غضب الحاكم على أحدهم يقطع شجره فيقولون في أمثالهم الدارجة الله يقطع رزقه أي شجره كما يقولون الله يخرب زوقه أي بيته، وربما أسرع اللبنانيون في احتطاب شجر الأرز وغيره لئلا تصدعهم الدولة العثمانية كما أن كثيراً من القرى في القاصية كانت أيام الأعشار تقطع التين والكرم وغيره من
مثمر الشجر لتخلص من ظلم العشارين الذين يتقاضون العشر من الشجر أثمر أم لم يثمر على ما تقدم.
ولم يبرح شجر الرز مشاهداً في عدة أماكن من لبنان على كثرة ما انتابه من البوائق فبالقرب من معاصر الفخار على مقربة من بيت الدين غابة منه فيها نحو 250 شجرة يسمونها الأبهل، وأُخرى فوق قرية الباروك غير ملتفة وضعيفة النمو، لكثرة المطار والثلوج والعواصف في تلك الأرجاء، ومنها ما غرس حديثاً، وثالثة فوق قرية عين زحلتا، وكان أُحرق أكثرها لاستخراج القطران منه، ورابعة بين أفقا والعاقورة في جرد جبيل من جبل كسروان، وخامسة بين قرية تنورين وبشرّي صغيرة الشجر وعدد شجيراتها نحو عشرة آلاف، وسادسة بالقرب من بشري على علو 1925 متراً على سطح البحر وهي مقصد السياح وفيها أضخم أشجار الأرز ويبلغ عددها 397 وقيل 680 شجرة منها 12 كبرى(4/153)
وأكبرها شجرتان دائرة جذع كل منهما نحو خمسة عشرة متراً وارتفاع طولهما خمسة وعشرون متراً وقدروا عمرهما بثلاثة آلاف سنة. وفي تسريح الأبصار أنه لا أثر اليوم في الشام لشجر الأرز إلا في أعالي سير بالضنية في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز على ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر. وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى عند أهله تنوب على أن في جبال قره مورط إحدى شعاب جبل اللكام من عمل إنطاكية غابات من الأرز وغيره من فصيلته. ولو توفرت العناية بأمثال هذه الأشجار وقضت الحكومة على كل فلاح ان يغرس ويتعهد عشر شجرات منها، إذاً لما مضى خمسون سنة حتى تصبح الشام كسويسرا بأشجارها الغضة الملتفة، تحسن المناظر والمناخ ويكون منها عموم النفع، كلما وقع القطع منها في ثلاثين سنة كما تجري فرنسا في غابة فونتينبلو وغيرها من غاباتها البديعة المشهورة. ولا تكون في جمالها أقل من
شجر الأرز الذي يكسو نجاد جبال طوروس الدروب ووهادها فترى فيها تلعة مستطيلة إلى جانبها تلعة هرمية وأُخرى ذات شكل بيضوي وغيرها المحدودب والمربع أو قائم الزوايا ومنفرجها وكلها مزينة بالأشجار.
يقول كاتب جلبي من أهل القرن الحادي عشر: إن غابات الشام كثيرة اشهرها غابة عسقلان وهو حرج كبير يمتد إلى نواحي الرملة. ومن الغابات غابة أرسوف بالقرب من نهر العوجا تمتد إلى عكا وكان يقال له غاب قلنسوة وهذا الحرج يمتد من قاقون إلى عيون التجار، ومن الحراج حرج القنيطرة، وفي أطراف حلب عدة غابات وخصوصاً الغاب الكبير ويقال له الزور واكثر شجره التوت اه. ولقد ثبت أن الغابات كانت في القرون السالفة أكثر من اليوم وان معظم جبالنا التي نراها اليوم جرداء كانت خضراء وأن التجريد من الغابات وقع في أدوار مختلفة فقد ذكر ابن حوقل أن جبل قلمون وجبل المانع وجبل الشيخ المحيطة بدمشق كانت منذ القرن الرابع مجردة من أشجارها قال: إنك إذا كنت في دمشق ترى بعينك على فرسخ وأقل جبالاً قرعاء من النبات والشجر وأمكنة خالية من العمارة.
وتجريد الشام من غاباته دعا إلى زيادة مساحة عدد البطائح والمستنقعات وتاليف صحار من الرمال فقد قالوا: إن الظلال كانت تمتد شرقي قيسارية على ستة أو(4/154)
ثمانية كيلو مترات فأصبحت اليوم عبارة عن كثبان من الرمل. وهكذا سواحل فلسطين بل معظم سواحل الشام طمت عليها مياه البحر فأبقت فيها الرمال وألّفت منها بطائح ومغايض وأفسدت الأراضي العامرة. ولهذا النظر قلّ ولا شك مساحة المزروع من ارض الشام سنة عن سنة والمستنقعات معروف ضررها بحياة الفلاح وإن كانت أقلّ من الكثبان والحرار. وضرر المستنقعات يتناول الأنفس لما ينبعث عنها من الحميات التي كثيراً ما رأيناها تقفر قرى برمتها من سكانها. وقد قال الزراعي أرنزون: إن أهم الآفات التي ابتليت بها الغابات ثلاث: الرعي
المتبادل وحق المرعى في الأراضي الخالية والحيوانات الصغيرة ولا سيما الماعز وفأس الحطابين. ونسب خراب الغابات في فلسطين - وسائر الشام تتصرف عليها - إلى إصدار الخشب والتبن والسماد إلى الخارج، وقال: إن الربح من إصدارها لا يوازي خراب الغابات وقلة غذاء الحيوانات وبوار الأراضي بقلة السماد والسباخ.
الأشجار المثمرة وغيرها:
وكانوا يتفننون بتسمية الفواكه والبقول والورود. قال البدري: والعنب في دمشق فقط أصناف: البلدي. خناصري. عاصمي. زيني. بيتموني. قناديلي. إفرنجي. مكاحلي. بيض الحمام. حلواني. بوارشي. جبلي. قصيف. ابزاز. الكلبة. قشلميش. كوتاني. عبيدي. شحماني. جوزاني. دراقني. مخ العصفور. عرايشي. رومي. شبيهي. ينطاني. عصيري. رناطي. ورق الطير. سماقي. حرصي. مجزع. شعراوي. دربلي. قاري. علوي. عينوني. مورق. مشعر. مسمط. مرصص. محضر. مقوس. حمادي. تفاحي. رهباني. زردي. مبرد. مخصل. مغاربي. شحمة القرط. وقسم المشمش إلى أحد وعشرين صنفاً وهي: حموي. سندياني. أويسي. عربيلي. خراساني. كافوري. بعلبكي. لقيس. لوزي. دغمشي. وزيري. كلابي. سلطاني. حازمي. أيدمري. سنيني. برديّ. مُلَوّح. قرط البخاتي. جلاجل القلوع. الخ. ووصف العماد الكاتب المشمش الدمشقي فقال: طلعت في أبراج الأطباق كأنها كرات من التبر مصوغة، وبالورس مصبوغة، صفر كأنها ثمر الرايات الناصرية، حلا(4/155)
منظراً وذوقاً، ولو نظم جوهره لكان طوقاً، كأنما خرط من الصندل، وخلط بالمندل، وجمد من الثلج والعسل، وتصاحب هو والسلطان في الركوب والجلوس، والتناجي بما في النفوس.
وقال البدري: ومن خصوصيات دمشق الطرخون من بقول المائدة وكان يخرج
فيخا السذاب والرشاد وبقلة الحمقاء والماش والهندباء والكراويا والتوت الأسود والشامي. وكان يكثر فيها الكراز والوشنة وهو فيها سبعة أنواع. وذكر أن الورد جنس تحته ستة أنواع بدمشق ومنه الجوري والنسريني، والنرجس جنس تحته أنواع منها اليعفوري والبري، والمضعف وذكر منثورها وزنبقها وآذريونها وآسها وحبه وريحانها ونيلوفرها وبانها وحيلانها وزنزلختها وتمر حنائها وقراصياها وكمثراها ثلاثة وعشرون صنفاً وتفاحها ودراقها ستة عشر صنفاً وخوخها ثلاثة عشر صنفاً إلى غير ذلك مما كان غي القرن التاسع.
الصناعات الزراعية القديمة:
وكانت الزهور والورود من أهم فروع الزراعة، وللطيوب والعطور ومستقطرات الزهور، شأن وأي شأن منذ الأزمان المتطاولة. وكان للأقدمين على ما يظهر غرام شديد بالملاب العطر المائع والكباد اليابس، ويستعملون المسك والعنبر والزعفران كثيراً، ويولعون بالعَرف والأريجة، وكان لهم طيب يقال له الغالية وهي مسك وعنبر يعجنان بالبان قال ابن سيده: ويقال إن الذي سماها غالية معاوية بن أبى سفيان وذلك أنه شمها من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فاستطابها فسأله عنها فوصفها له فقال: هذه غالية. وقد حفظ لنا شيخ الربوة من أهل القرن الثامن شيئاً من الإشارة إلى كثرة الورد والزهر في دمشق فقال: إن العطر وغيره كان يستخرج في المزة من ضواحي دمشق من زهورها وورودها حتى إن حراقته تلقى على الطرقات وفي دروبها وأزقتها كالمزابل فلا يكون لرائحته نظير ويكون الذّ من المسك إلى مدة انقضاء الورد. وذكر صفة إخراجه في الكركات والأنابيق ورسم صورها والقرع والنبيق آلتان لصنع ماء الورد السفلى هي القرع والعليا على هيئة المحجمة هي الأنبيق قال: وغير هذه الكركة كركة أُخرى يستخرج منها الماورد وغيره من المياه بلا ماء بوقود الحطب وذلك(4/156)
بعد حشو القرع بالورد وبلسان الثور وبزهر النوفر أو البان أو زهر النارنج والشقيق والهندباء أو بورق القرنفل المزروع بدمشق.
قال: ويحمل الورد المستخرج بالمزة إلى سائر البلاد الجنوبية كالحجاز وما وراء ذلك وكذلك يحمل زهر الورد المزي إلى الهند وإلى السند وإلى الصين وإلى ما وراء ذلك ويسمى هناك الزهر. ومما أرخوه أنه كان لقاضي القضاة الحنفية ولأخيه الحريري قطعة بأرض تسمى شُور الزهر طولها مائة وعشر خطوات وعرضها خمس وسبعون خطوة باع منها عشرين قنطاراً باثنين وعشرين ألف درهم وذلك سنة خمس وستين وستمائة وهذا لم يسمع بمثله اه.
وكانت حلب في القديم مختصة بماء الورد النصيبي الذي يستخرج بالباب من أعمالها قال ابن الشحنة: إنه لا يقاربه شيء مما يجلب إلى الديار المصرية من الشام ولا يدانيه مع أن المجلوب من دمشق عند المصريين في غاية العظمة بحيث يصفه أطباؤهم للمرضى فيقولون ماء ورد شامي. وينبت في أرض حلب زهر القرنفل وكان يستقطر ماؤه. واشتهرت في القديم زهور لبنان وما إليه من الجبال كجبل الشيخ فإنها كثيرة مبذولة في الربيع شأنها في مراعي الجولان والعمق والبقاع والبقيعة كما اشتهرت طيوب البلقاء وصموغه وكانت تحمل إلى مصر. وقلّ اليوم من يلتفت إلى هذه الصناعات الزراعية.
ومن صناعاتهم الزراعية في القديم السكّر وكان يعمل في القديم على ضفاف الأردن ولا تزال معامله في جنوبي الغور تدعى إلى اليوم مطاحن السكر، وكان السكر أكثر مستغل تلك الناحية يحمل إلى الشرق والغرب. وكان يصنع السكر في إنطاكية وطرابلس وعكا ويافا ويحمل منها إلى الآفاق. قال القلقشندي من أهل القرن التاسع: في الشام يعمل السكر الوسط والمكرر. وكانت زيوت الشام كخمورها تصدر إلى القاصية. ويعصر السليط أي دهن السمسم في دياف من
حوران وبه اشتهرت. وكان الصابون الحلبي والنابلسي وغيره مما يفيض عن حاجة القطر يباع منه في الأقطار الأخرى. وكان الجبن الكركي مشهوراً يصدر إلى مصر. وقد قامت الحكومة العثمانية إبان الحرب العامة بعمل بعض المحفوظات والمربيات في دمشق فتعمل الحساء ذروراً ثم يذاب في ماء حار وقت الاستعمال فيأتي كأنه طبخ الساعة واستخرجوا من العظام مرقاً معقماً. وأخذوا يعملون(4/157)
من الثمار والبقول مجففات ومحضرات على طريقة لا تنقص من تغذيتها وتكون عند الاستعمال كأنها طرية حديثة عهد بالقطف من الشجرة أو المسكبة. وبلغ عدد البقول المرببة عشرة أنواع كان يتناولها الجندي في كل وقت كأنه على مقربة من الحدائق والمقاتي. واستخرجوا في معامل الفيلق بدمشق أشربة كثيرة من ماء الزهر وماء الورد وشراب قشر الليمون وقشر البرتقال تجعل أرواحها في زجاجات وتكفي القطرة منها كأس ماء لتكون حلوة ذات نكهة تستعمل في أشربة الجيش ولا سيما في مستشفيات البادية. وبالجملة فقد كان لتعقيم السوائل واستخراج الأشربة وتجفيف الثمار والبقول وخبز الأخباز بالآلات الكهربائية الصحية شأن لم يعهد في الشام ثم تنوسي بعدهم.
ومن صناعاتهم العسل وكانوا يغالون بأكله كثيراً واشتهر عسل سنير وجبل الثلج كما اشتهر دبس بعلبك وجبنها وزيتها ولبنها، قال ياقوت: ليس في الدنيا مثلها يضرب بها المثل. وكانت بيسان توصف بكثرة النخل، والنخيل مما يجود غي الأغوار وكان كثيراً في القديم والشاميون يعنون بتعهده من وراء الغاية. ويظهر أن العسل والزعفران والدبس والقنود والتمور كانت مما يعول عليه في الأطعمة والحلواء أكثر من اليوم. ولدينا وثيقة في بعض المأكولات ذكرها أبو القاسم الواساني من شعراء اليتيمة الدمشقيين نظمها منذ نحو ألف سنة في وصف جماعة زاروه في قرية جمرايا على مقربة من الهامة في غربي دمشق، ومما جاء فيها ما
أكلوه من الأطعمة وفيه إشارة إلى كثرة أنواع التمر:
أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن ببنّ تشتاقه العارضان
أكلوا لي أضعافها غير مشطو ... ومالوا إلى سميذ الفران
أكلوا لي من الجداء ثلاثي ... ن قُرَيْصاً بالخل والزعفران
أكلوا ضعفها شواءً وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان
أكلوا لي تبالة تبلت عق ... لي بعشرٍ من الدجاج السمان(4/158)
أكلوا لي مضيرة ضاعفت ض ... ري بروس الجداء والعقبان
أكلوا لي كشكية قرحت قل ... بي وهاجت لفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتاً من النه ... ر طرياً من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلاً من المالح المش ... ويّ ملقى في الخل والأنجدان
أكلوا لي من القريشاء والبر ... نيّ والمعقلي والصرفان
ألف عدل سوى المصقر والبر ... دي واللؤلؤي والصيحاني
أكلوا لي من الكوامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
ومن صناعتهم الزراعية صناعة الصابون وكانت من أنجح الصناعات القديمة ومصابنه في حلب وكلز وإدلب وإنطاكية ودمشق ونابلس وطرابلس واللاذقية وحيفا ورام الله وبعض قرى لبنان. وخير الصابون وأشهره اليوم الصابون النابلسي فيه على ما يظهر خاصية ليست بغيره أو أن السر في جودته إتقانه بدون غش. ومنذ أفلتت الصناعات من رؤساء لها تشرف على أعمال أهلها انحطت في دمشق صناعة الصابون فقد كانت له أماكن خاصة لتجفيفه وكانوا لا يبيعونه إلا بعد ثلاث سنين من صنعه ويصدر إلى أقطار العالم وثمنه يزيد خمسين في المائة على سائر أنواع الصابون وكنت إذا غسلت به الثياب تجد من رائحتها ما ينعش
قلبك(4/159)
من الروائح الذكية، والآن يبيعون الصابون الدمشقي اخضر بدون تجفيف ويزاحمه في عقر داره الصابون الغربي لرخصه وهو مركب من زيوت صناعية على الغالب ليس من الزيت الخالص، وعسى أن يرسل صناع الصابون في نابلس وطرابلس ودمشق وحلب وعكا وحيفا إلى أوربا من يدرسون المادة التي تدخل الصابون الغربي فتزيد رغوته أخضر كان أو يابساً، يعيدون إلى الصابون البلدي رونقه السالف ويخلصون من النكهة الخبيثة في الصابون الغريب.
-
معادن الشام وحمّاتها:
وخليق بنا وقد انتهى بنا نفس الكلام على ما حوى سطح الرض من الخيرات الطبيعية إلى هذا الحد، أن لا نغفل الكلام على ما حوى بطنها من المعادن والأمواه النافعة. فقد أجمع المتقدمون لأنه كان فيها معادن حديد في لبنان كان قدماء المصريين يحملونها إلى قطرهم، وأجمع المتحدثون الذي بحثوا عن طبقات الأرض وتركيبها على أن الشام خالية من الفحم الحجري وما وجد منه لا يوازي ثمنه ما يصرف في تعدينه، وفي لبنان طبقات القضّة فيها فحم خشبي متحجر لنيت يمكن استثمارها وفي قرطبا وميروبا والمنيطرة مناجم من هذا الحجر الخشبي وأشهر طباقاتها الفحم الخشبي المتحجر في قرنايل، وقد صار الاعتناء باستخراجه من سنة 1835م إلى 1838م، ومن مناجم هذا الحجر منجم مارشينا وفالوغا وبزبدين وجزين وزحلتا وعين التغرا وحيطورة ويجوز استخدام هذه المناجم للمعامل الصناعية الصغيرة والحاجات البيتية للوقود.
والفحم الحجري ونظنه من نوع الفحم الخشبي في جبل البشر وأبي فياض شرقي حلب وذكر ياقوت أن في جبل البشر ويمتد إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية أربعة معادن: القار، والمغرة، والطين الذي يعمل منه بواتق لسبك الحديد،
والرمل الذي يعمل منه في حلب الزجاج وهو رمل أبيض كالاسفيداج. وللحُمَّر مناجم في عينبل وحُريقة في جبل عامل وفي أرجاء مرجعيون، وأشهرها منجم حاصبيا، كان يستخرج منه في اليوم 80 صندوقاً وزن كل واحد منها 100 كيلو وكان السلطان عبد الحميد الثاني يستثمره لنفسه، وبعد انحلال دولته أهملته الحكومة لقلة اليد العاملة واضطرت أن تهمل معدن سحمر(4/160)
في البقاع وغيره من المعادن في الشام. فأضر إهمال الحُمّر بأرباب الكروم فتصاعدت أثمانه وهو يستعمل كل سنة عند تأبيرها فلحقته الدودة من أجل ذلك وقلت مداخيله. وفي التاس بين حمص وتدمر معدن للحمر يكاد يوازي معدن حاصبيا بصفائه. وفي المقارن بين درعا وسمخ مناجم كلس ممزوج بحمر، وكذلك في أرباض تدمر وفي الصلت ووادي اليرموك. قال المقدسي: إن في الشام جبال حمر يسمى ترابها الصنغة وهو تراب رخو وجبال بيض تسمى الحوارة فيه أدنى صلابة يبيض به السقوف ويطين به السطوح. ومعدن الحديد كثير في قضض لبنان واتربته، وعلى سطح الجبال وبطون الأودية، لا سيما في ارجاء البترون وكسروان والمتن وفي قرية دومة وبيت شباب وفي عكار ومشغرة والفرزل ومجاري الأنهار مثل نهر الكلب ونهر إبراهيم. ومن هنا كانت تؤخذ مواد المسابك لمعامل الحديد التي كانت في تلك الأرجاء، والمانع من استثمارها اليوم قلة الوقود أي الفحم الحجري، والحطب لا يفي بهذا الغرض على نحو ما كان الحال إلى عهد قريب.
وأهم مناجم الحديد في برمانا وبحمدون ووادي النهر الكبير حجر الصفار الكروم وفي جبال اللاذقية معادن حديد كثيرة وفيها رصاص ممزوج بالفضة وخشب فحمي ونيكل وكان في القديم في ناحيتي باير وبوجاق معدن حجر الصفار يستخرج منه في السنة 2500 طن ولم يبق له أثر، ويوجد حجر الصفار على شواطئ بحرية طبرية ومن نوع البيريت واللنيت في برتي وكفر سلوان ومرجبا
وفي راشيا وسفح جبل الشيخ الغربي وجنوبي حاصبيا وفي عين اللبوة وعين عطا وشوايا وعين قني والروج والكفير.
والنحاس في قرية اهمج في كسروان وفي الجنوب الغربي من حلب وكان منه في عين جر فأكدى لكثرة ما استخرج منه، وكان النحاس الأحمر يحمل من جبل جوشن على قيد غلوة من حلب. وذكر كاتب جلبي أن في بيت حبرون معدن زجاج يستخرج منه فيحمل إلى الأطراف فيباع ويحمل إلى السودان والحبشة من أسورته ويقايض عليها بالتبر.
واستثمر معدن الفحم الحجري في مرجيليا في لبنان أثناء الحرب الكبرى(4/161)
لوقود السكك الحديدية واستخرج منه 1916 ما يقارب 1300 طن. وذكروا أن الطبقات الفحمية في لبنان وجدت في نيحا، المراح، كركبا، زحلتا، عبيه، عرمون، جمهور، عين تراز، بحمدون، القرية، رأس الحرف، مرجيليا، بتبيات، مارحنا، الكنيسة، عين موفق، قرنايل، جورة أرصون، بزبدين، رأس المتن، ترشيش، جوار الجوز، حيطورا، عين تدجورا، عين زحلتا، صيدنايا، قيتولة، بكاسين، جزين، حمصية، مشغرة، قرطبا، حدث الجبة، مزرعة بيت ابن صعب، الديمان، القنيات. ومنه الرديء الذي لا بال له. وفي جهات أبو فياض على 80 كيلو متراً من حلب فحم حجري رديء من اللنيت كما أنه منه في جهات حوران وفي قرية عرنة من إقليم البلان معدن الفحم الحجري قيل: إنه لم ينضج وفي حضر من إقليم البلان معادن أُخرى براقة. وفي جبال الكرك كثير من أنواع المعادن قصدها مؤخراً كثيراً من معدّني الإنكليز لتحليلها ومعرفة أنواعها. والبترول زيت الكاز حول البحر الميت. وفي أرسوس على عشرين كيلو متراً من الإسكندرونة وفي وادي صقلاب من أعمال الكورة في شرقي الأردن وفي المزيريب من عمل حوران وفي أرجاء الإسكندرونة معدن غاز سائل جرى تعدينه فلم يأت بفائدة.
وفي أرجاء طرابلس معدن المغرة ونوع من الصبغ الأصفر
ويوجد الكبريت بكثرة في جهات الباروك وفي قرية عنجرة من جبل عجلون وفي أرجاء البحر الميت وبالقرب من حمة عفرة في الطفيلة معادن الكبريت والقصدير والبترول والنحاس وفي رأس العين من عمل الزور وفي أماكن جبلية عديدة ولا يصلح للاستعمال لامتزاجه بمواد غريبة فحمية وحديدية. ويوجد الزاج في حارم، والنيكل ومنه الفاخر في جبل الأقرع، والفوسفات في جبال السرو بين الصلت وعمان حسبت نفقات استثماره فرأوا أنها لا تفي بها وارداته فترك وشأنه. والفوسفات موجود في شمالي يبرود وبعض جهات فلسطين. والبوتاس حول البحر الميت والإسفلت في جبل الأكراد على ثلاثين كيلو متراً من اللاذقية في قرى كفرية وقصاب وخربة السولاس ويقال: إنه أغنى منجم عُرف من نوعه. وكان في مقاطعة جرش في ارض تسمى تلول الذهب معدن ذهب جاء في الكتاب المقدس أن سليمان عليه السلام كان يستخرج الذهب منها. وفي(4/162)
الجنوب الشرقي من تدمر وفي أرجاء إنطاكية معادن ذهب ولكنها شحيحة. وتكثر الفضة في جبال اللاذقية وشمالي بعلبك ومصياف وعلى ضفاف العاصي فيما يلي إنطاكية معدن ذهب ومعدن رصاص فضي ومعدن إثمد وحجر الكحل ومعدن فحم ومعدن الطفال المعروف بالبيلون في أرجاء كلز وإنطاكية، وفي جبال قره موط إحدى نواحي أنطاكية عدة معادن تستعمل للصبغ وفي جبل بارسال من أعمال كلز معدن مرمر أصفر.
وكان في قرية يعفور من عمل دمشق معدن فضة قاله شيخ الربوة، وبأرض حدث من جبل لبنان جوسية فوق كرك نوح يلتقط حجارة زلطية تكسر مرقشيشا وكل معدن مائل باللونية إلى لون ما هو قسمه، وعد الخوارزمي المارقشيشا من عقاقيرهم فقال: ومنها مربع ومدور وقطع كبيرة غير محدودة الشكل وهي
ضروب فمنها أصفر يسمى الذهبي وأبيض يسمى الفضي وآخر يسمى النحاسي.
ويوجد الملح في مواضع كثيرة ولاسيما في جهات تدمر وجيرود وحماة والخليل وحوالي البحر الميت. وملح جيرود فيه مرارة وأجوده ملح الجبول. وفي حلب عدة ملاحات وأعظمها ما كان في جوار قرية جبول على شكل مخروطي عظيم لا تطاف أطرافها في أقل من ثماني عشرة ساعة ويجمد ماؤها في شهر أيار إلى تشرين الثاني فيكون في هذه الفترة ملحاً، ويسمى هذا النهر نهر الذهب يجري من ناحية باب بزاعا إلى أن ينتهي إلى سبخة الجبول في مساكب يعملها أهل الجبول والقرى المجاورة لها، وكانوا يقولون إن هذا النهر سمي نهر الذهب لأن أوله بالقبان وآخره بالكيل، أي أنه تزرع في أوله الحبوب كالحبة السوداء والأنيسون والكروايا وأنواع الفواكه مما يباع بالرطل، وآخره الملح الذي يباع بالكيل.
ويوجد الزئبق في أرض إنطاكية وغيرها، قال شيخ الربوة: إن معدن الملح الأندراني كان يستخرج من أرض سدوم عند بحيرة لوط وكيف ما تكسرت حجارته ما تكسرت إلا فصوصاً مربعات الزاويا. ويوجد النحاس في ناحية الصور على نهر الخابور ومعدن السوديوم في البصيرة والصور والشدادي والقصبي ويعرف باسم بارود القصبي. والرصاص في إنطاكية والمغرة في جهات حلب وعمان والجبص الجبسين في جهات جيرود وصافيتا وعكار وطرابلس.(4/163)
والرخام الأصفر في جبل الجرمق من عمل صفد وعلى ساعتين من مادبا جبلان أصفر وأحمر والحجارة الكلسية على كثرة في جميع الأرجاء، وأهم أنواع الحجارة الكلسية الرملية الحواري والرخام السماقي والجنس المدعو شحم بلحم وأجمل المقالع ما كان في جوار حلب وفي جبل باريشا من عمل حارم وهو رخام أصفر ومن أجملها الحجر المزي وهو يضرب إلى الصفرة يستخرج من مقلع المزة قرب دمشق والحجر المعرباني وهو أحمر يستخرج من مقلع معربا في
قلمون كما يستخرج من مقالع تلفتا حجر هش وهوشديد البياض يعتمدون عليه اليوم في البناء بدمشق لسهولة نحته وتكثر مقالع الحجر الرملي في منحدرات لبنان السفلي وعلى الشواطئ البحرية ولونه أصفر. وجميع البنيان من صور إلى طرابلس مبنية بحجره وهو سريع التفتت سهل النحت لدى خروجه من المقلع ويتصلب في الهواء ويصلح للملاط اكثر من الحجارة الكلسية الجميلة. والحجارة الكلسية ذات تقاطيع زجاجية في المواضع المنحوتة حديثاً ولونها أبيض كامد تتحول بمرور الزمان بفعل أشعة الشمس إلى شيء من الصفرة الذهبية ولذلك كانت أبنية حلب وبيروت بهذا الحجر الجميل من أجمل أبنية الشام، واشتهرت الداروم في القديم برخامها قال الرحالة ناصر خسرو: والرخام كثير جداً في الرملة وجدران معظم الأبنية والدور مغشاة بصفائح من الرخام مرصعة بإتقان ومغشاة بنقوش ورسوم ويقطع الرخام بمنشار لا أسنان له وبرمل تلك الديار، وبالمنشار تقطع قطع من الرخام بقدر طول السواري والعمد كما تقطع الدفوف من شجره. ولقد رأيت في الرملة رخاماً من كل جنس ومنه المجزع المبقع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض وبالجملة من مختلف الألوان اه.
هذا أهم ما في بطن الشام من المعادن ومهما كانت حالها فهي وافية بحاجة أهلها ولكنها لا تمون أُمماً غيرنا كالمعادن المشهورة في العالم بذهبها وفحمها وغير ذلك، ومعادننا تجزئنا إذا استثمرناها بعض الشيء.
الحمّات الشامية:
الحمة بفتح الحاء وتشديد الميم العين الحارة يستشفي بها الأعلاء والمرضى،(4/164)
وفي الحديث: العالم كالحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء، فبينما هي كذلك إذ غار ماؤها، وقد انتفع بها قوم وبقي أقوام يتفكّنون أي يتندمون. فالحمة هي ما يعرف اليوم بالحمامات المعدنية تكثر في أرض الشام البعيدة عن الساحل، وأهمها حمامات طبرية على شاطئ البحيرة، تنفع النساء في الأمراض التناسلية وتشفي الأوجاع الحادة المزمنة وأمراض الرثية والنقرس والبول السكري وأمراض أعضاء التناسل والمرة والسوداء والتهاب قصبة الرئة المزمن وبعض الأمراض الجلدية وغيرها. قال أبو القاسم في وصف حمة طبرية: وفيها عيون ملحة حارة وقد بنيت عليها حمامات فهي لا تحتاج إلى الوقود تجري ليلاً ونهاراً حارة وبقربها حمة يغتمس فيها الجُرب اه. ويجري الماء إلى الحمامات من أربع عيون حارة وأهمها ما بناه إبراهيم باشا المصري وهو في الشمال ويعرف باسمه وهو عبارة عن حوض كبير تحيط به عمد قديمة من الرخام وعليه قبة عظمى، وهي مثقوبة بثقوب أسطوانية يخرج منها البخار ودرجة حرارة الماء 62 بالميزان المئوي وهو صاف براق في الجملة ملح الطعم مرّ مهوّع وتنبعث منه رائحة شديدة من حامض الكبريت أو رائحة بيض فاسد، وهذه الحمامات ملك الحكومة تؤجرها وموسم الاستحمام فيها من أول كانون الثاني إلى آخر حزيران.
ومنها الحمة حمة جَدَر في وادي اليرموك على الخط الحديدي عند الكيلو متر 93 و95 تنفع في أمراض الجلد وغيرها وهي مياه معدنية حارة تنبجس غزيرة وتجري إلى نهر الشريعة وهي ثلاث حمامات يبعد بعضها عن بعض بضع دقائق يدعى أحدها المقلى أو حمام سليم درجة حرارته 119 والآخران حمام الجرب وحرارته 108، أو حمام الريح وحرارته 82 بميزان فارنهيت وعندها آثار الحمامات الرومانية وبقربها ملعب عظيم وهو ملعب جدر المشهورة في الجاهلية
والإسلام قال أحد واصفيها: ولا أُبالغ إذا قلت إ، معدل قاصديها في شهر نيسان لا يقل عن عشرين ألفاً يقيمون أياماً تحت حر الشمس وهبوب الريح لا بيت يؤويهم ولا نزل يكنهم، فإن كان قاصدوها يبلغون هذا العدد وهي قفراء خربة في شهر واحد فكم يكون عددهم لو تهيأت لهم حمامات منتظمة وأبنية وفنادق وما به تستتب لهم الراحة فيه أأُبالغ إذا قلت إنهم يزيدون على المائتي ألف؟.(4/165)
وحمة زرقا معين في شرقي الأردن تبلغ درجة حرارتها 142 بميزان فارنهيت والمالح في قرية تياسير في غور الأردن من أرجاء نابلس درجة حرارته 98 ف وحمة أبي ذابلة بجانب فحل وحمة أبي سليم في المهد من أرض صنمة، بقرية سحم الكفارات وحميمة بزور النيص من أرض صنمة أيضاً ودرجة حرارتها فوق 100 ف أما حمامات طبرية فدرجة حرارتها 144 ف وماء حمة جَدَر عذب جيد الطعم يشرب سخناً وبارداً بخلاف طبرية.
وحمة أبي رباح من عمل ناحية القريتين في حمص تنفع في الأمراض العصبية وتصلب الأعضاء والتشنج خاصة. وحمة ضمير في جبل قلمون كبريتية، وحمة أرك في جهات تدمر، وحمة أنطاكية وهي كبريتية وفيها مغنيزيا أيضاً. وحمة إسكندرونة بين حلب وإسكندرونة على الطريق. وحمة جسر الشغر وحمة زرقا معين في الكرك وهي ثلاثة حمامات يستحم المستحمون ببخارها ويقصدها السياح من الفرنج كما يقصدون حمة عفرة من بحيرة لوط. وحمام النبي داود في وادي الحسا. وذكر ابن الشحنة أن في السخنة من أعمال قنسرين خمسة حمامات ينتفعون بها من البلغم والريح والجرب. وبناحية العمق حمة أُخرى. وبكورة الجومة من أعمال قنسرين عيون كبريتية تجري إلى الحمة والحمة قرية يقال لها جندراس يأتيها الناس من الآفاق فيسبحون بها للعلل التي تصيبهم. قال الغزي: إن في أطراف حمام العمق عدة عيون كبريتية حارة لو جمعت إلى حوض لكانت
حماماً عظيماً. وفي سنة 1300 بنت بلدية حلب على بعض هذه العيون خلوة وصارت تؤجرها.
وذكر شيخ الربوة أن بين حمص وسلمية كهفاً في جبل يخرج منه بخار أشد من الضباب المتراكم فإذا دخل الإنسان ذلك الكهف خُيل أليه أنه في الحمام لشدة الوهج وكثرة قطر الماء من البخار المتصاعد من البئر الذي في وسط الكهف ويسمع غليان الماء بقعر البئر ولا يمكن النظر فيه لشدة البخار الصاعد من البئر ومن نظر فيه يشيط من الحرارة. ولعله يقصد بذلك حمام أبي رباح. وظهر مؤخراً على كيلو مترين من قرقخان من عمل إسكندرونة نبع ماء معدني درجة حرارته 43 فتهافت الناس على الاستحمام به.(4/166)
هذه أهم حمّات أو حمامات الشام المعدنية وأكثرها كما رأيت لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وحالتها كما عرفت منذ القديم لا نظام فيها ولا أبنية للمستحمين حواليها. وقد عرف من تاريخ الرومان أنهم كانوا يُعنون من وراء الغاية بالحمامات المعدنية، فكانوا يبنون عليها أبنية بحسب مصطلحهم، ولكن لم نر أن العرب في هذه الديار عنوا بشيء من هذا القبيل اللهم إلا إذا كان ضاع عنا خبره لقلة التدوين. ولو أنها وقعت العناية اليوم بحماتنا على النحو الذي ينتفع به بعض الأصقاع التي تنبجس فيها مياه معدنية من إقامة المستحمات والمنازل لنزول طلاب الاستحمام وتدبيرها تدبيراً جديداً مرفهاً صحياً لكان منها منافع كثيرة لأبناء السام ومورد أرباح لها تأتي من ألوف من الغرباء والقرباء يقصدونها للانتفاع بها ويصرفون في جوارها أياماً وشهوراً يجعلون عليها مقاصير للتغميز والتمسيد، وأُخرى للتعريق، وغيرها للتبريد، وفنادق فيها شروط المدنية الحديثة، وحدائق وغابات تغرس بالقرب منها تحسن المناخ وتجمل المناظر الطبيعية
نظرة في الفلاحة الشامية الحديثة
أقاليم الشام:
أولاً: لا تقل حرارة غور الأردن عن مثلها في بعض الممالك العربية الحارة كالعراق ومصر. ففي إحدى السنين كان معدل الحرارة السنوي في طبرية 70 - 21 درجة وهو لا ينقص عن 5 - 21 درجة وقد يبلغ أكثر من 22 درجة لا سيما في مناطق الغور الجنوبية. ولما كانوا يحسبون معدل الحرارة السنوي في القاهرة 5 - 21 درجة وفي بغداد 8 - 22 درجة كانت حرارة الغور كافية لنمو كثير من الزروع والأشجار التي أغنت مصر وستغني العراق وأعظمها شأناً القطن. ويفضل إقليم الغور أقاليم مصر والعراق في أن أمطاره قلما ينقص ارتفاعها في السنة عن 300 ميليمتر ولهذا يمكن زرع الحبوب الشتوية فيه عذياً، على حين لا يستطاع ذلك في مصر وفي معظم العراق لقلة الأمطار فيهما.(4/167)
ثانياً: ليست سواحل الشام أنقص شأناً من الغور من الوجهة المذكورة فمعدل الحرارة في حيفا ويافا وبيروت قلما يقل عن 2050 درجة ولهذا يجود في الساحل كثير من النباتات التي تتطلب حرارة عظيمة كالقطن مثلاً لكنه لا بد من إسقائه في كلا الإقليمين.
أما السهول ففي بعضها من الحرارة ما يكفي لنجاح القطن وهي التي لا تعلو كثيراً عن سطح البحر مثل مرج ابن عامر وسهل الغاب شمالي حماة وسهل العمق وإدلب، ويجب الري إلا في إدلب والعمق. أما في السهول المرتفعة كالغوطة وحوران والبقاع فالقطن ينتج محصولاً متوسطاً إلا أنه لا يجد من الحرارة ما يكفي لتفتح كل ثماره. ولهذا قد لا يأتي زرعه فيها بفائدة من الوجهة الاقتصادية والواجب أن لا يحل القطن مكان القنب في الغوطة مطلقاً. هذا ومن العبث البحث في زرع الأقطان في إقليم الجبال كسهل الزبداني وسفوح سنير وغيرها لأن
نصف ثماره لا يتفتح هنالك لقلة الحرارة. هذا ومن العبث أيضاً البحث في تعميم زرعه في سهول البلقاء وحوران ووادي العجم وحمص وحماة وحلب الشرقية في البعل من الأراضي، لقلة الأمطار السنوية واختلاف مجموعها بين سنة وأُخرى وإن نجحت زراعته بلا ري في بعض قرى حوران كقرية الحراك في وادي الزيدي ضربت مثلاً بها لأنها مجتمع مياه أرضية وحالة كهذه لا تصلح للقياس.
ثالثاً: ليست مقادير الأمطار واحدة في مختلف مناطق الشام. فأغزرها في السواحل دائماً. فقد دلتنا قوائم رصد الجو في مرصد الجامعة الأميركية في بيروت على أن ارتفاع الأمطار السنوية فيها لا يقل عن 700 ميليمتر في أكثر السنين وأنه يبلغ 900 ميليمتر أحياناً وهو رقم كبير. وتثبت أن ارتفاع الأمطار في حيفا ويافا يزيد على 550 ميليمتر في أكثر السنين. وهكذا في باقي سواحل الشام، وفي المناطق القريبة من الساحل. أما السهول الداخلية وهي أعظم المناطق شأناً وأغناها تربة وأوسعها مساحة، فارتفاع أمطارها يختلف بين 200 و500 ميليمتر في السنين العادية. ولما كان ارتفاع المطر الضروري لتكوين محصول متوسط من الحبوب الشتوية لا يقل عن 250 ميليمتر اتضح أن منتوجات الحبوب في تلك السهول تختلف اختلافاً كبيراً من سنة إلى أُخرى، تبعاً لمقادير المطر المنهمر ولتواريخ هطله في خلال السنة. وأمطار غوطة دمشق قليلة، فقد قستها(4/168)
بنفسي خلال عشر سنين متتابعة فرأيت أنها لا يبلغ ارتفاعها 250 ميليمتراً في أكثر هذه السنين، وكان ارتفاعها دون مائتي ميليمتر في ثلاث سنين. فالغوطة إذن كالواحة كادت تكون صحراء لا تصلح للزرع، لولا بردى والأعوج ومشتقاتهما التي قلبتها جنةً ناضرة.
رابعاً: لا يسقط الثلج في إقليم الغور ولا تهبط الحرارة إلى الصفر. ويندر هبوطها إلى الصفر في السواحل. أما في السهول الداخلية فلا تهبط لأوطأ من عشر
درجات تحت الصفر في السنين الاعتيادية ويندر هبوطها إلى هذا الحد. لكن لكل قاعدة شواذّ ففي شتاء سنة 19241925 وكانت سنة قرّ شديد هبطت الحرارة إلى 15 درجة تحت الصفر في دمشق و20 درجة تحت الصفر في سلمية. ودام الصقيع عدة أيام فأتلف الأسباناخ والملفوف والسلق والمقدونس والبيقية والحلبة والفول وغيرها من البقول كما أتلف براعم التين والرمان وأغصان الليمون والبرتقال وبعض ورق الزيتون. وباد كثير من الأزهار والرياحين وأشجار التزيين كالمنثور والكافور والسنط والفلفل الكاذب والخروع والكزورينا وغيرها. أما الحنطة والشعير والمشمش والتفاح والكمثرى والدراق والخوخ والصنوبر والسرو والازدارخت والصفصاف والزيزفون والورد فقد قاومت فلم يمسها الصقيع بأذاه.
وأضر مما ذكر هبوط درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر بضعة أيام في أوائل نيسان من سنة 1925 فتلف أكثر من نصف محصول المشمش في الغوطة، واسودت أفنان الجوز، وبادت نباتات الخيار والكوسى والبنادورى البكيرة، فعاد الزراع إلى بذر بذورها ثانيةً. ولقد ذكرتُ هذه الأحداث لأن الطاعنين في السن من أرباب الفلاحة لم يرو شبيهاً لها منذ ثلاثين سنة ونيف.
خامساً: ليس لبناء التربة في الشام كبير تأثير في إمكان غرس الشجر أو عدمه في إحدى المناطق، بل العامل الأقوى هو الإقليم وذلك أن الأمطار تهطل في الشام خلال شهور معلومة ثم يعقب المطر يبوسة تدوم بضعة شهور. وتكون الرياح شديدة، والحرارة زائدة، في شهور اليبوسة، ومهما كان ارتفاع المطر السنوي كبيراً حتى في سواحل الشام فكثير من أشجار الفاكهة لا يعيش بهناء عذياً، بل لا بد من إسقائه كالبرتقال والليمون والتفاح والكمثرى والمشمش(4/169)
والخوخ، وليس السبب في ذلك قلة مجموع الأمطار السنوية بل انحباسها منذ أواخر الربيع وطول فصل الصيف وأوائل الخريف. فأمطار باريز مثلاً لا تزيد في السنة على أمطار
بيروت أو أمطار طرابلس لكن المطر في باريز يهطل في كل شهور السنة تقريباً فتنمو الأشجار المذكورة دون ري على العكس من حالتها في الشام.
ومن الشجر ما يعيش بلا إسقاء في جميع مناطق الشام الغربية كالزيتون والكرمة واللوز والرمان والفستق والآس والزعرور والعناب. أما مناطقها الشرقية فمنها ما يصلح دون ري للكرمة واللوز والزيتون كشرقي العاصي إلى جبال الشومرية وكالجولان وحوران وجبل حوران وعجلون والبلقاءز ومنها ما أمطاره من القلة بحيث أن الأشجار عموماً لا تنجب بلا ري، كالغوطة والمرج وشرقي سنير منطقة القريتين وبادية الشام. وينمو الكرم واللوز بلا ري بعد أن يكبر في القرى الشرقية من منطقة سلمية والحمراء. أي أن المطر في تلك المنطقة وحالة المياه الأرضية هما بحيث لو سقي الكرم سنتين أو ثلاثاً حتى تضرب جذوره في التراب، لأمكن بعدها أن يعيش بلا ري.
واختلاف الأقاليم في الشام يجعل هذا القطر صالحاً لزرع زروع متنوعة، وغرس أشجار شتى، فالغور والساحل للقطن والنخل والموز والقشطة والبرتقال والليمون والزيتون. والسهول للحبوب والزيتون واللوز والمشمش والخوخ والكرمة. والجبال للتفاح والكمثرى والكرز. وتقل الأصقاع التي تحوي كالشام أقاليم عديدة في مساحات ضيقة. وليس في العالم بلد غيرها يستطيع فيه الإنسان أن يصعد إلى ارتفاع 2800 متر فوق سطح البحر بعد أن يكون في أعمق من مائتي متر من هذه السوية وذلك بقطع مسافة لا تزيد على 65 كيلو متر، هذا شأن الذي يكون في البطيحة أو التابغة على شواطئ بحيرة طبرية مثلاً ويريد الصعود إلى قمة جبل الشيخ فهو يعتلي ثلاثة آلف متر بقطع تلك المسافة الصغيرة.
أتربة الشام:
كثيراً ما نسمع أن الشام قطر زراعي محض وأن تربتها من أخصب الأتربة(4/170)
فما
معنى ذلك وما هو مبلغه من الصحة؟ أما كون الشام محض أرض زراعية فلأنها لا كبير منتوج فيها سوى منتوجات الأرض فهي إذا لم تقس بغيرها تعد قطراً زراعياً ذا شأن كبير. أما إذا قسناها ببعض الممالك الأوربية حيث الأرض خضراء دائماً، والمحاصيل كبيرة بسبب كثرة الأمطار في كل فصول السنة، أو لو قيسنا بينها وبين بعض الأقطار التي فيها أنهار عظيمة تسقي بمياهها ملايين من الهكتارات كمصر اليوم وعراق الغد، إذن لوجدنا أن الشام ليس لها شأن عظيم حتى من وجهة الزراعة لأنها ما برحت ولن تبرح أرض حبوب شتوية كالحنطة والشعير تنتج بالقليل من المطر الذي يهطل فيها. أما الأشجار المثمرة والأقطان والخضر فمقامها في الدرجة الثانية لما تتطلبه من الري على حين لا تروي أنهار الشام مساحات واسعة على ما سيجيء ذكره. ونقول لمن جعلوا ديدنهم التنويه بأن الشام من أعظم الأقطار التي تنتج أقطانا أنهم مدفوعون إلى دعايتهم هذه بعوامل سياسية، لأن القطن في الشام لا يمكن أن يكون له المقام الأول بين الزروع ما دامت معظم سهول هذا القطر لا تروى إلا بما تجود به السماء من المطر القليل الذي يكاد لا يكفي لحياة الحنطة والشعير. ويجب أن لا يتخذ القطن الإدلبي مثلاً لأن صنفه من أردإ الأصناف، ولأن منطقة إدلب وأشباهها ليست سوى جزء صغير من سهول الشام الواسعة الأرجاء. وقولي هذا لا ينفي كون زرع القطن مفيداً اقتصادياً في كل مكان يستطيع أن ينجب فيه. فمما تعنينا معرفته أن الأمكنة التي يستطيع أن ينجب فيها صغيرة إذا قيست بمجموع أراضي الشام الزراعية.
ولئن لم تجعل الطبيعة للشام حظاً كبيراً من المطر والأنهار التي تستطيع أن تروي مساحات واسعة، فلقد جادت عليه بتربة من أجود الأتربة. وهاك خلاصة ما تجب معرفته:
أولاً: تراب أهم سهول الشام طيني كلسي أكثر قرى حوران والغوطة وسهول
سلمية وحمص وحماة وبساتين حارم الخ. . . وتراب بعضها طيني رملي بعض قرى الغور والبقاع الخ. وتراب بعض آخر رملي طيني بعض قرى الساحل والسهول الشرقية القريبة من البادية. ومن المعلوم أن بناء هذه الأنواع الثلاثة يعد جيداً لا سيما الأول منها.(4/171)
أما من حيث غنى أتربة الشام بالعناصر الغذائية. فقد كشف التحليل عن أن معظمها غني بالحامض الفصفوريك والبوطاس. أما الآزوت نيتروجين فمقداره كبير في بعض المناطق كالغور مثلاً، وكاف في أكثرها، وقليل في بعض المناطق التي أنهكها الزرع المتتابع دون مدِّ الأرض بالسماد.
ويفيد أن أذكر كلمتين في الطبقات والأدوار الجيولوجية التي تنتسب إليها أهم المناطق الزراعية فأقول:
الأرض البركانية: إن أتربة حوران وجبل حوران واللجاة والجولان والبطيحة وجبل المانع والصفا وغربي العاصي بين حمص وحماة الخ هي أرض بركانية بزالتية متكوّنة من اندفاعات البراكين.
الأرض الطباشيرية: هي أوسع الأرضين في الشام وإليها تنتسب معظم جبال لبنان وسنير وحرمون وعجلون والكرك والصلت وسهول البلقاء وجبل نابلس وتدمر الخ.
الأراضي المنسوبة للدور الثلاثي: منها معظم جبل العلا الواقع بين حماة وسلمية، ومنها جنوب البقاع بدءاً من مجدل عنجر وسهل متسع حوالي حلب وسواحل فلسطين وقمة جبل قاسيون في دمشق مع امتداده نحو قرية القطيفة، وقسم كبير من قلمون وقسم من الجبل الأبيض بالقرب من تدمر، ومساحة واسعة حول شواطئ الفرات بعد الراسبات الرباعية الخ.
الأراضي المنسوبة للدور الرباعي: في الشام كثير من الطبقات الأساسية سترت
براسبات من الدور الرباعي وأكثر ما تكون الرواسب في السهول كالبقاع والغوطة والمرج ومرج ابن عامر وسهل الرملة ولدّ وسهل عكار وعلى طول الفرات الخ.
حراج الشام:
إذا رجع المرء إلى كتب الأقدمين يرى أنه كان للحراج في الشام شأن وأي شأن. وأهم أشجار هذه الحراج ومواقعها ومساحتها لعهدنا هذا، على وجه التقريب:
أشجار الحراج: أعظمها شأناً أشجار البلوط وهي على قسمين قسم يظل(4/172)
مكتسياً أوراقه في الشتاء وآخر تسقط أوراقه فيه. فمن الأول السنديان والبلوط الأخضر وهي أشجار صعبة المراس جبارة تعيش في الساحل وتعلو مع مختلف المناطق إلى ألف متر عن سطح البحر. ومن الثاني الملول والبلوط المسمى عفصاً. ولأشجار الصنوبر شأن لا يفوقه سوى شأن البلوط. وأهمها الصنوبر المثمر وهو يشاهد في الساحل وفي المناطق التي لا يزيد علوها على ألف متر عن سطح البحر. ويغرس في لبنان حمانا، برمانا، بيت مري، بكفيا الخ لأن خشبه وثماره مرغوب فيها. ويليه الصنوبر الحلبي وهو الأكثر شيوعاً يعيش في كافة الأقاليم الزراعية حتى في ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر. ومنه حراج ملتفة في عكار والضّنّية وقزل طاغ ويستخرج منه القطران ويستعمل في الدباغة.
ومن أشجار الفصيلة الصنوبرية التي تشاهد في غابات الشام السرو والتنوب أو الشوح وهو يكثر في الجبال الشامخة حيث يختلط بالأرز ثم العرعر والدفران والأرز وجميعها تعيش في الجبال العالية.
وكثيراً ما يعثر المرء في غابات الشام على أشجار مثمرة برية مثل الكمثرى والزعرور والخوخ والسدر والزيتون والخروب وغيرها. كما يشاهد أشجاراً مختلفة كالبطم في البلعاس والدلب على شواطئ الأنهار واللبنة أو الأبهر في لبنان ووادي التيم والعجرم وهو مبذول والغار في غور الأردن الخ.
مواقع الحراج: إذا سرنا اليوم من شمال الشام إلى جنوبها نرى الغابات الآتية:
أحراج السفح الممتد بين سلسلتي جبال اللكام مساحتها نحو 10000 هكتار الهكتار عشرة آلاف متر مربع وأهم أشجارها البلوط والصنوبر الحلبي ويليهما الأبهر والأشجار المثمرة البرية. وفي منحدرات الجبال مثل هذه المساحة تقريباً مكسوة بالشجر لكن حالة شجرها سيئة.
ب حراج كرد طاغ وتمتد من راجو إلى الحمام، ومساحة الشجر الملتف فيها ألف هكتار تقريباً وأشجارها السنديان والصنوبر الحلبي. ويلحظ أن فأس المحتطبين لا تكفّ عن العمل بها، وأن أضعاف هذه المساحة كانت فيما مضى حراجاً جميلة.
ج حراج رأس الخنزير قزل طاغ. أهم شجرها الصنوبر الحلبي وأنواع البلوط. تبلغ مساحة ما تلتف أشجاره منها نحو 15000 هكتار إلا أن(4/173)
ضعفي هذه المساحة كانت غابات ملتفة فإذا هي اليوم جرداء أو فيها أشجار حقيرة متفرقة. ويصنع القطران من صنوبر هذه الحراج في أرسوس وأنطاكية.
د حراج الأردو والباير والبسيط: مساحة القسم المكتسي بالشجر اليوم 10000 هكتار تقريباً. وأهم شجرها الصنوبر الحلبي وأنواع البلوط ويليها الدلب فيما انخفض من الأرض. ويجب الاحتفاظ بهذه الغابات من عيث الماشية لأن بعض أشجارها بدأت تتلف.
هـ حراج العمرانية: شجرها السنديان والملول وقليل من الصنوبر الحلبي ومساحتها 20000 هكتار تقريباً، ويلاحظ أن أكثر أشجارها الباسقة قطعت إلا في الماقع الكبيرة الانحدار التي يشق الوصول إليها، فأن أشجارها لا تزال باسقة. ومن المؤسف أن القطع لا يزال متواصلاً في هذه الحراج لنقل الحطب أو لصنع الفحم ونقله إلى حماة وحمص.
وحراج عكار والضنية: هي من أجمل الغابات وأهم شجرها السنديان والملول
ويليهما الصنوبر الحلبي والسرو والعرعر والأرز. ومساحتها 10000 هكتار على وجه التقريب.
ز حراج الهرمل وإهدن وتنورين. تبلغ مساحتها نحو 5000 هكتار.
ح حراج الصنوبر في لبنان: زرع اللبنانيون كثيراً من بزور الصنوبر المثمر وغرسوا كثيراً من غراسه فتكوّن منها حراج جميلة تشاهد في كثير من قرى لبنان. أما حراج الأرز القديمة فقد أتت عليها أيدي الجهل وبعض بقاياها في الباروك.
ط حراج البلعاس: يقع جبل البلعاس على نحو خمسين كيلو متراً شرقي سليمة وفيه أشجار قديمة من البطم. لعبت بها أيدي البدو والمحتطبين الذين يأتون بمركباتهم كل يوم من سلمية إلى البلعاس فيقطعون الشجر ويبيعون الحطب في سلمية وحمص وحماة على بعد المسافة. وقد أكد بعضهم من بدو وحضر وبعض الضباط الذين اخترقوا البلعاس مراراً أن مساحته تبلغ 30000 هكتار تقريباً، وأن الشجر متفرق في أكثر أقسامه لكنه يلتف في بعض المواقع.
ي حراج عجلون: هي من أوسع حراج الشام وأجملها. أشجارها السنديان والملول والصنوبر والحلبي وغيرها. وفيها مواضع أشجارها ملتفة وأُخرى أنهكها القطع.(4/174)
هذه هي أهم غابات الشام وثمة غابات ومحتطبات لا كبير شأن لها اليوم لما لحقها من الأذى بسبب انكباب الإنسان على قطعها أو عيث الماشية بها، مثل غابات بعلبك وسنير وجبل الشيخ والقنيطرة وصفد والناصرة والكرمل والصلت وغزة وغيرها. وكانت الحكومة التركية خلال الحرب الكبرى 1914 - 1918 تأمر بقطع الشجر بلا روية لاستعماله بدلاً من الفحم الحجري الذي كان يعزوها.
الري في الشام:
يروى اليوم في الشام عدا فلسطين وشرقي الأردن مساحة تقدر بنحو 77000
هكتار على وجه التقريب وأهم المناطق التي تروى هي الغوطة والمرج اللذان يسقيان من بردى والفيجة والأعوج ومشتقاتهما ومن قُني موضعية. وتقدر المساحة التي تروى من هذا السهل الواسع بنحو 25000 هكتار ويسقى في وادي العجم من نهر الأعوج نحو 5000 هكتار. ويسقى في حمص بمياه القناة التي تشتق من بحيرة حمص بساتين واسعة. وفي الزبداني سهل يبلغ 1200 هكتار يروى من أنهار صغيرة وينابيع. ويسقى في القنيطرة والزوية نحو 2000 هكتار لا سيما في البطيحة وشمالي بحيرة الحولة إلى الشرق. وفي حماة نواعير لا يقل عددها اليوم عن ثمانين ناعورة تبدأ بين حمص وحماة وتمتد شمالاً إلى العشارنة وتسقي نحو 1500 هكتار. وفي سلمية والقرى التي في تلك المنطقة قنوات عديدة قديمة داثرة أخذ الأكارون منذ بضع سنوات يكرزنها ويعيدونها إلى سالف عهدها وزفي جيرود والنبك ويبرود ودير عطية والقرى المجاورة لها قنوات وينابيع تسقي 2500 هكتار تقريباً.
وفي لبنان نحو عشرة آلاف هكتار من الأرض التي تروي، أهمها 1200 هكتار تقريباً فيها من شجر الليمون والبرتقال في طرابلس. ويتلوها بساتين واسعة حول بيروت وصيدا وصور ورأس العين والهرمل وبعلبك وبعض قرى البقاع الخ.
ومما يسقى سهل عكار والبقيعة وحول اللاذقية وبعض أرض العمق وأرباض(4/175)
أنطاكية ومدينة حلب والإسكندرونة. أما في جنوب الشام فلسطين فأعظم الأرض شأناً ما يسقى شمالي بحيرة الحولة حيث نهر الحاصباني والبانياسي واللَّدان أي أصل الأردن. ثم الغوير ومجدل طبرية ثم بيسان وما حولها مما يسقى من نهر الجالوت ثم سهل عكا ثم ضواحي مدينة يافا حيث يسقى نحو 2000 هكتار من شجر البرتقال والليمون بواسطة آبار ترفع مياهها بالمحركات.
ومما يستطاع إسقاؤه من الأرض في المستقبل إذا وجد رأس المال الكافي للقيام
بأعمال عظيمة للري. حتى لتبلغ مساحته ضعفي المساحة التي تسقى اليوم وربما إلى ثلاثة أضعافها، الأراضي الواقعة حول النهر الأسود عند مصبه وحول نهر عفرين وسهل العمق نحو 200000 هكتار وسهل الغاب الممتد شمالي قلعة شيزر سيجر نحو 60000 هكتار والسهل الواقع شرقي جسر الشُّغُر والسهل الممتد بين صيدا وصور وحول بحيرة الحولة وأرض واسعة في الغور بين بحيرة طبرية وبحيرة لوط الخ.
زروع الشام وأشجارها:
نذكر هنا بإيجاز أهم ما يزرع في الشام من الحبوب والبقول والنباتات الصناعية وما يغرس من الشجر المثمر، ثم ما ينبت لنفسه من النباتات الطبيعية المفيدة.
الحبوب: أهمها الحنطة فالشعير فالذرة الصفراء والبيضاء فالأرز فذرة المكانس.
الحنطة: أعظم الزروع شأناً وأغزرها محصولاً وأعمها انتشاراً. يقدر ما نتج منها في سنة 922 ب 345800 طن الطن أربعة قناطير في الشام عدا فلسطين وشرقي الأردن وأشهر أصنافها الحورانية والبياضية واليبرودية والبقاعية والحمارية والنورسية وحنطة عين غرة والدوشانية والشلمونية والهيتية. فالحورانية تعرف بساق متوسطة وسنبلة غليظة كثيفة مربعة ذات سفا لونها إلى سمرة وحب سمين قاس إلى حمرة. وهي أجود الأصناف وأعمها. تزرع في حوران ووادي العجم وفلسطين والبلقاء وحلب، وبالاختصار في كل أنحاء الشام على درجات متفاوتة. أما موطنها الأصلي فحوران. وللحنطة البياضية سنبلة بيضاء(4/176)
طويلة وَبِرة نصف فَرِقة ذات سفا، وحب أبيض سمين مكسره نصف دقيقي وهذا الصنف يزرع في الغوطة والمرج ووادي العجم خاصةً.
وللقمح اليبرودي ساق طويلة صلبة ثخينة نصف فارغة، وسنبلة مستطيلة كثيفة ذات سفا، وحبات ضاربة إلى البياض مكسرها قرني. وهذا الصنف يزرع في
دومة وقلمون. وللحنطة البقاعية سنبلة دكناء إلى سواد، وحب إلى سمرة وهي تزرع في البقاع. أما القمح الحماري فهو يزرع في جمص وحماة وما جاورهما. وأما النورسي فيزرع في فلسطين وهو يعرف بسنبلة مستطيلة ذات سفا، وحبات مستطيلة حنطية إلى حمرة.
وقمح عين غرة أشهر الأنواع في الغوطة، وله ساق طويلة فارغة. وسنبلة سمراء متوسطة الكثافة ذات سفا إلى سواد، وحب سمين طحيني اللون. أما الدوشاني فله سنبلة فرقة طويلة لا سفا لها، وحب أبيض ثخين، وهويزرع في البقاع وبعلبك وفي الغوطة على الندور. ويزرع السلموني في الأمكنة الجبلية ويعرف بسنبلة مستطيلة فرقة ذات سفا، وحب مستطيل ذي مكسر دقيقي. والقمح الهيتي من الأصناف التي تزرع في الكرك والبلقاء، وسنبلته ذات سفا، وحبه حنطي إلى حمرة. وقد جرب على القمح الطلياني في الغوطة فأتى بأحسن محصول.
الشعير: هو في الشام أشهر الزروع بعد الحنطة وأكثرها منتوجاً، وقد قدرت غلاته في سنة 1922 بنحو 182500 طن في الشام عدا فلسطين وعبر الأردن. وهوعلى صنفين العربي والرومي. فالعربي ساقه قصيرة فارغة وسنبلته على صفين وهي مستطيلة ذات سفا طويل. وحباته أقل غلظة من حبات الشعير الرومي. ينضج قبل الرومي وهو أشهر منه ولا يتطلب مثله أرضاً غنية. أما الشعير الرومي فسوقه غليظة فارغة يتخللها عقد ملآنة وسنبلته على ستة صفوف، وهي متوسطة الطول كثيفة ذات سفا. يكثر هذا الصنف في الغوطة والمرج وهو يتطلب أرضاً غنية مسمدة.
وتزرع الذرة الصفراء في أنحاء الشام في الأرض التي تسقى، أما الذرة البيضاء فتزرع عذياً في أنحاء فلسطين وفي عجلون ولا سيما في مرج ابن عامر. وأما الأرز(4/177)
فيزرع في الحولة وهو قليل الشأن. ومن حبوب الفصيلة القرنية الشائعة ما
تُعلفه الماشية كالبيقية والجلبان والكرسنة والحلبة. ومن الكلإ الفصفصة وهي ذائعة في الأماكن التي تسقى.
البقول: لا تعيش أكثر الخضر والأبازير بلا ري في أقاليم الشام كافةً ولهذا يستدل من وجودها في أرض على كونها مما يمكن إسقاؤه. وأنواع الخضر التي تزرع كثيرة جداً وكلها تستهلك في القطر.
الزروع الصناعية: أشهرها القنب والقطن والسمسم. أما الكتان والنيلة والحناء والخشخاش والخروع فليست ذات بال في الشام. فالقنب يزرع في الغوطة وفي حلب، لكنه في الغوطة أعظم شأناً، إذ تقدر فيها مساحة الأرض التي تزرع قنباً بنحو ألف هكتار في كل سنة، أما في حلب فقلما تزيد على مائتي هكتار. وزراعة القنب رابحة لأسباب شتى أهمها كون هذا النبات لا يتطلب عنايات غير التعطين بعد قلعه، وكونه في مأمن من الأمراض والحشرات حتى إن الماشية لا تأكل ورقه. وقد ألف إقليم الغوطة الوسطى وصار من زروعها الأساسية التي لا يرجح عليها سوى أشجار الفولكه. ومن الغلط الفاحش أن يقوم بعضهم فيبحث في استبدال القطن به، لأن للقطن أقاليم غير إقليم الغوطة، ولأنه تصيبه عاهات لا تصيب القنب. هذا عدا العنايات التي تستلزمها زراعة القطن مما لا لزوم له في زرع القنب.
القطن: يمكن زرع القطن بلا ري في الشمال كمنطقة إدلب ودانة وريحا حيث قدر ما ينتج منه سنة 1923 بنحو 13000 بالة. وقد علمت أنه نتج هنالك وفي باقي المناطق التي يزرع القطن فيها نحو 15000 بالة في سنة 1925. ولكن للقطن الذي ينتج في البعل من أرض منطقة إدلب شعر غليظ مجعد وهو لا يصلح إلا للمنسوجات الغليظة، ولهذا لا يباع إلا بنحو نصف ثمن القطن المصري عادة. أما الأقطان المصرية فلا تنجب إلا في الأرض التي تسقى.
السمسم: زرع السمسم شائع في فلسطين وعجلون ولا سيما مرج ابن عامر حيث ينجب في ألأرض البعل كالذرة البيضاء. ويزرع منه قليل في الغوطة ووادي العجم وهناك يكون زرعاً مسقياً. والغاية من زرعه استخراج زيت الشيرج المعروف من بزوره وتتكون أثناء عصر هذه البزور مادة الطحينة المعلومة.(4/178)
المنتوجات الطبيعية: تُنبت الطبيعة في بعض الأرجاء نباتات طبيعية لها شأن في اقتصاديات البلاد مثل السوس والكمأة. فالسوس ينبت في سهل العمق وجسر الشغر حيث أجود عروقه، ثم في إنطاكية والباب ومنبج ودير الزور والسويدية وكلها في الشمال. وينبت أيضاً في الغوطة والمرج. ويقدر ما يقتلع من عروق السوس في الشمال بنحو عشرة آلاف طن كل سنة، وكلها تنقل إلى إسكندرونة حيث تسحق وتشحن إلى أميركا خاصة. أما في الغوطة والمرج فيقتلع نحو ألف طن سنوياً. وفوائد عرق السوس عظيمة وهو يضاف إلى عدد كبير من الأدوية ويصنعون منه في دمشق شراباً سكرياً لذيذاً يزيد الإدرار.
وليس للكمأة مكانة السوس وهي لا تكثر إلا في السنين الغزيرة الأمطار. وتنبت في قلمون وجيرود وكثير من القرى الشرقية القريبة من البادية. ويختلف مقدار ما يرد منها إلى المدن باختلاف السنين.
الأشجار المثمرة:
أسماها مكانةً الزيتون فالكرم فالبرتقال فالليمون فالمشمش فالتين فالفستق فالحوز. أما باقي الأشجار فتأتي في الدرجة الثانية وأنواعها كثيرة مثل التفاح والكمثرى والخوخ واللوز والرمان والدراق والسفرجل والموز والنخل والآس والصبار والتوت والعناب والخروب الخ.
الزيتون: أفضل الشجر وأعمه في مختلف المناطق. وهو يكثر في جزين والمختارة والشويفات وزغرتة والكورة، وفي الغوطة والمرج، وضواحي طرابلس
وفي طرطوس وصافيتا وجبلة واللاذقية والباير وفي أرباض أنطاكية، وفي السويدية والقصير وكردطاغ، ويقل حول حلب والباب وسلقين وإدلب. وقد اشتهر في الجنوب زيت الرامة كما اشتهر زيتون جبال نابلس والقدس وسهول لدّ والرملة. وينجب الزيتون في البعل من الأرض ولا يسقى إلا في الغوطة والمرج وفي القرى القريبة من البادية. وأصنافه كثار أشهرها في دمشق الدان والأخضر أو المصعبي والجلط والتفاحي. وأشهرها في لبنان الصوري والشامي والمصري والشتوي والعيروني وبيض الحمام والبلدي. وأعمها في اللاذقية الخضيري والطمراني وقلب الطير. وفي الإسكندرونة القرماني والخلخالي والرماني والتفاحي الخ.(4/179)
فالدان أنفع الأصناف بدمشق وأغناها زيتاً 18 - 20 في المئة يستخرج الزيت منه وقلما يؤكل أخضر أو مكبوساً. يبلغ طول ثمرته 20 ميليمتراً وعرضها 13 ميليمتراً وهي تسودّ بعد أن تنضج. وشجرة الزيتون الأخضر أو المصعبي كبيرة أحد طرفيها حاد يبلغ طولها 32 ميليمتراً وعرضها 24 ميليمتراً، وهي تقطف خضراء وتكبس ولا تعصر لاستخراج زيتها. وثمرة الجلط كبيرة مستطيلة سوداء تشبه ثمرة البلح شكلاً طولها 35 ميليمتراً وعرضها 25 ميليمتراً وهذا الصنف أغلى الأصناف وأجودها مكبوساً ويندر عصره لاستخراج زيته منه.
الكرم: الكرم شائع كثير في الشام، وتقدر مساحة الكروم بنحو ستين ألف هكتار عدا فلسطين وشرقي الأردن. وأوسع الكروم اليوم في الصلت ودومة وداريا بالقرب من دمشق وفي زحلة وبحمدون وحمص وتلبيسة بالقرب من حمص وفي حلب الخ. ولا تخلو قرية من قرى لبنان ووادي التيم وجبال النصيرية وقلمون من قليل من الكروم. والكرمة تعيش في البعل من الأرض لا يسقى من الكروم إلا ما كان منها في الغوطة والمرج وفي أرجاء سلمية. وتؤكل الأعناب أو تصنع زبيباً أو دبساً أو خلاً أو عرقاً أو نبيذاً. والكرم أصناف عديدة، أشهرها الزيني والبلدي
والأحمر والأحمر الداراني والدربلي والحلواني والأسود في دمشق والغوطة، والفضي والقاصوفي والشقيفي والقمحاني والمريمي والخانقي وبيض الحمام والزحلاوي في وادي التيم والبقاع، والجحافي والبياضي في سلمية. وعنب الشيخ واصبع الست في الإسكندرونة الخ.
وقضبان الزيني طوال سلاميتها متوسطة وعناقيده ضخمة نصف كثيفة وورقه كبار مشرحة بشقوق عميقة حافاتها مسننة وثمرته مستطيلة قشرتها بيضاء غليظة ولبها مائع. تؤكل ثمار هذا الصنف ولا يصنع منها زبيب أو خمر وهي من أجود الأعناب.
وعناقيد البلدي رَهِلة وثمرته أسطوانية طويلة بيضاء إلى خضرة، ذات قشرة ملتصقة باللب واللب لحمي قاسٍ لذيذ. وثمار هذا الصنف كالسابق تؤكل ولا يصنع منها شيء. وليس العنب الأحمر من الأعناب اللذيذة ويصنع منه زبيب ودبس وخمر وعرق. أما الأحمر الداراني فثمرته قليلة الحمرة مستديرة مع شيء من الاستطالة لبها نصف لحمي لذيذ وهي تؤكل ويصنع منها زبيب ومسكرات(4/180)
ويعادل ثمن هذا الصنف ثمن العنب الزيني.
والفضي من أجود أعناب وادي التيم ثمرته مستديرة متوسطة الجرم قشرتها رقيقة صفراء ولبها يكاد يكون مائياً وبزورها متوسطة. أما القاصوفي فثمرته أسطوانية منتفخة قليلاً في وسطها نصف لحمية بيضاء إلى خضرة وهي أصغر قليلاً من ثمرة العنب الزيني.
البرتقال والليمون الحامض: ذكر علماء النبات أن موطن هاتين الشجرتين الأصلية في شرق آسيا، وأن الفضل يعود إلى العرب في نقلهما إلى سواحل بحر الروم. وهما ينجبان في الغور وسواحل الشام ولا بد من إسقائهما. أما في مناطق السهول المرتفعة والجبال كالغوطة وحوران وحلب والزبداني مثلاً فإن هبوط الحرارة في
الشتاء إلى بضع درجات تحت الصفر يودي بحياتهما، ولهذا لا يزرعان في تلك الأرجاء إلا في حدائق البيوت حيث يكونان بين جدران تقيهما تأثير الرياح الباردة فيهما.
وأوسع بساتين البرتقال والليمون اليوم في يافا نحو 2000 هكتار ثم في طرابلس نحو 1200 هكتار ويليهما منطقة الإسكندرونة درت يول وبياس وبيروت وصيدا وصور وعكا الخ.
وأجود أصناف البرتقال اليافاوي أو اليافوني شموطي ثمرته ضخمة بيضية ذات قشرة غليظة ولب قاسٍ لذيذ، لكنه قليل العصارة لا سيما بعد تمام نضجه. وهو ينقل بسهولة إلى القاصية مثل إنكلترا حيث يرجح على كثير من الأصناف. ومما يستملح فيه سهولة تقشيره دون تلويث اليدين.
ومن أكثر الأصناف انتشاراً البرتقال البلدي وهو ذو ثمرة كروية أصغر من ثمرة اليافاوي قشرتها رقيقة ولبها كثير العصارة. وهذا الصنف لا يصلح للأسفار مثل اليافاوي. ومن أصناف البرتقال الماوردي وهو يعرف بقشرة رقيقة حمراء ملتصقة باللب ولبٍ أحمر كثير العصارة. وهذا الصنف لا يألف الأسفار الطويلة وتقشيره صعب.
كان يقدر محصول البرتقال في يافا في سنة 1914 أي في بدء الحرب الكبرى بنحو 1850000 صندوق، أما بعد الحرب فقد هبط المحصول إلى 1400000 صندوق تقريباً. وقد زاد في العهد محصول البرتقال اليافاوي وبعبارة أصح(4/181)
الفلسطيني أربعة أو خمسة أضعاف ما كان عليه ربع قرن. وكان محصول طرابلس قبل الحرب 800000 صندوق من البرتقال و 240000 صندوق من الليمون الحامض على وجه التقريب يحتوي الصندوق على 150 برتقالة أو 300 ليمونة. أما بعد الحرب فهبطت هذه المقادير إلأى نصفها. ويشحن معظم محصول
يافا إلى إنكلترا ومصر، أما محصول طرابلس فإلى أوديسا وبلغاريا والقسطنطينية ومصر. وكذا محاصيل صيدا والإسكندرونة.
المشمش: يمكن غرس المشمش في جميع أقاليم الشام الزراعية وليس فيها ولا يصلح له سوى الجبال العالية حيث يخشى على أزهاره وفراخه من تأثير الصقيع فيها في الربيع. وهو لا ينجب في غير الأرض التي يمكن إسقاؤها. وأعظم مغروساته في الغوطة والمرج ووادي العجم ووادي بردى وحول صيدا وبيروت وبعلبك وأنطاكية وأرسوس. ومنه قليل في كثير من البلدان التي يمكن فيها إسقاؤه. وأشهر أصنافه اليوم الحموي والبلدي والسندياني والوزري والعجمي والكلابي في دمشق ثم اللوزي في الساحل.
وللحموي ثمرة متوسطة الحجم صفراء ذهبية لامعة تذوب في الفم وتهضم بسهولة وداخلها بزرة حلوة. وهي أجمل ثمار المشمش منظراً وألذها طعماً وأعطرها رائحة وأغلاها ثمناً تؤكل رخصة ولا يصنع منها قمر الدين. أما ثمار المشمش البلدي فكبيرة ضاربة إلى حمرة ضمنها بزور حلوة وتجيء في اللذة بعد الحموي، تؤكل رخصة ويصنع منها ألذّ المفلقات النقوع. وتبلغ أشجار هذا الصنف عشرين في المائة من مجموع(4/182)
شجر المشمش في الغوطة والمرج. أما الحموي فلا يزيد على خمسة في المائة. ويشبه المشمش السندياني الحموي بشكل ثماره وشتان بين الثمرتين في اللذة لأن السندياني هو تقليد الحموي كما يقول الدمشقيون. ونسبة البلدي إلى الوزري من هذه الوجهة كنسبة السندياني إلى الحموي أما المشمش العجمي فثماره كبيرة جميلة المنظر صفراء أي خضرة لبها قاسٍ وطعمها سكري لكنه مجرد عن طعم المشمش الخصوصي بل هو يشبه طعم الدراق، ولهذا لا نستملح هذا الصنف وهو غير شائع. وثمار المشمش الكلابي أصغر الثمار حجماً وأردؤها طعماً وهي صفراء إلى حمرة بزورها مرة، وهذا الصنف أشهر
الأصناف في الغوطتين إذ تبلغ نسبته نحو 70 في المائة من مجموع شجر المشمش، ومنه يصنع قمر الدين المشهور. وهو يولد من بزوره ولا يطعم فهو إذن أقرب الأصناف إلى المشمش البري. وثمرة المشمش اللوزي فس الساحل شبيهة بثمرة الحموي بدمشق ولعلهما صنف واحد.
دمشق مركز تجارة المشمش وما يصنع منه، ومنها يصدر قمر الدين والنقوع وبزر المشمش إلى مصر والأناضول وإلى أميركا الشمالية ويقدر اليوم متوسط حاصلات المشمش في الغوطة والمرج بنحو اثني عشر مليوناً من الكيلو غرامات سنوياً منها نحو 80 في المئة من المشمش الكلابي الذي يصنع منه قمر الدين، ويظهر أن مستغلاته قبل الحرب الكبرى كانت أعظم منها اليوم.
الفستق: إن غابات البطم في البلعاس وبقية أشجار الفستق الهرمة في قرية عين التينة تحمل على دعوى أن الشام من البلاد التي تعد بلاد الفستق الأصلية. وتكاد زراعة الفستق لا تتجاوز اليوم حلب حيث تأتي أجود ثماره وألذّها وأغلاها ومن أصنافه في تلك المدينة الأبيض المراوحي والعاشوري والعليمي والباتوري وناب الجمل والعينتابي، ويقدر ما ينتج من أثماره حوالي حلب بنيف ومائة وألف كيلو في السنة.
الحيوانات الدواجن في الشام:
الخيل: الخيل في الشام ثلاثة أصناف العراب أو الأصيلة، والبراذين أو ما تعرف اليوم بالكدش، والمولدة وهي التي تولد من أُم عربية وأب أعجمي أو على العكس. ففي الحالة الأولى يسمى المولّد هجيناً، وفي الثانية مقرفاً.
تجلب الكدش من الأناضول خاصةً وهي بشعة المنظر إذا قيست بالخيل العراب، لا تركب بل تصلح لحمل الأثقال أو جرها أو درس الحصائد وعددها عظيم يبلغ نحو سبعين في المائة من مجموع خيل الشام. أما الخيل المولّدة فأجمل من البراذين وأقوى وهي تركب أكثر ما تستعمل في جر المركبات في المدن ونسبتها للمجموع نحو 20 في المائة.
وأجمل الخيل في العالم هي العراب وتحليتها علمياً كما يلي: مستقيمة الرأس متوسطة الجثة طول أعضائها متوسط لها رأس مربع وجبهة مسطحة ومقدم مستقيم ووجه متوسط الطول، وفكان متباعدتان ومنخران جامدان ومرنان معاً، وأذنان(4/183)
حساستان وعينان كبيرتان تنمان عن ذكاء، وعنق رشيق شديد العضل، وظهر مستقيم وردف أُفقي مكتنز، وعجزان مستديران وصدر واسع وبطن صغير، وقوائم رشيقة قوية العضل عمودية لا عيب فيها، وأوتار جلية ومفاصل عريضة وجلد رقيق مرن وشعر لامع قصير وعرف وسيب طويلان ناعمان متموجان. ومجموع الجواد العربي آية في انتظام تكوينه فهو جميل قوي شهم، ولا ريب أنه أكمل جواد على وجه الأرض.
ويختلف لون الخيل العراب وقد استفاضت شهرة الشُهْب والشُقْرِ والكُمْتِ. وأجملها الشهب المدنرة أي التي يخالط الشهبة فيها نكَتٌ سودٌ أبيض مبقج أو أزرق مبقج.
وزن الجياد العراب بين 400 و 450 كيلو غراماً ارتفاعها 1. 42 إلى 1. 55 متر، ودورة صدرها 1. 72 إلى 1. 78 متر، وتصلح الخيل العربية للركوب والسباق خاصةً وإن من إسفاد ذكورها على إناث إنكليزية غير كريمة منذ بضعة
قرون تولدت الجياد الإنكليزية الصافية السبّاقة الشهيرة التي يقصر اليوم عن إدراكها كل جواد في حلبة السباق.
وأجمل الخيل العراب ما كان في دمشق وحمص وحماة ولدى بعض الأسر والعشائر القديمة كالدنادشة في تل كلخ والموالي في شمال الشام. ولا تزيد نسبتها على عشرة في المائة من مجموع عدد الخيل لدى أهل الحضر من الشاميين.
الحمير: في الشام ثلاثة عروق من الحمير: الآسيوي والمصري والقبرصي أو الأوربي. فالصنف الأسيوي هو الأشهر تبلغ نسبته 95 في المائة من مجموع حُمر الشام لونه إلى سواد وارتفاعه متر إلى متر وربع، وهو حيوان الفقراء، يصلح للركوب والحمل ولا يوازيه حيوان بصبره وقناعته وفوائده الجمة إذا قيست بالعلف القليل الذي يُعلفه. أما الحمر المصرية فبيضاء اللون ارتفاعها أكبر من ارتفاع الحمر الأسيوية ولا تستخدم إلا للركوب وهي جميلة المنظر سباقة في نوعها وثمن الجيد منها غالٍ لا سيما في المدن. أما الحمر القبرصية فتعرف من كبر قدها إذ يبلغ ارتفاعها 1. 30 إلى 1. 40 متر وهي تستعمل في سفاد إناث الخيل للحصول على بغالٍ عظيمة القد قوية البنية.
البغال: تحصل من إسفاد الحمر القبرصية على البراذين كدش وهي(4/184)
ذات قَدّ يقرب من قد البراذين فهي إذا صغيرة القد وفائدتها بقناعتها وقوتها وتحملها الأتعاب وقيامها بأعمال تشق على كل حيوان غيرها. فهي تستخدم مثلاً في الحرث بمحاريث حديثة لأن بقر الشام صغير الجثة لا يقوى على إثارة الأرض بها. وتحمّل أثقالاً في المناطق الجبلية الوعرة المسالك كوادي التيم والقرى الجبلية من أقليم البلان وتجر المركبات الضخمة المحملة بضاعات ومؤناً على الطرقات المعبدة في لبنان وبين دمشق وبيروت. ومَن منا لم ير في لبنان وبيروت المركبات الشهيرة التي تسمى كارات يجرها أربعة بغال مصفوفة بعضها أمام
بعض على سطر واحد. ولقد ترك الجيش الإنكليزي في الشام عقب الحرب الكبرى عدداً عظيماً من البغال الكبيرة القد لا تبرح بقاياها في دمشق إلى يومنا هذا. وهي تتطلب عنايات كثيرة وعلفاً زائداً ولا تتحمل المشاق بقدر البغال الشامية.
البقر: بقر الشام من العرق الآسيوي القصير الرأس ذي الجبهة المستقيمة العريضة وهو على ثلاثة أصناف: البلدي والعكش والجولاني أو الخميسي فالبقر البلدي شائع في الغوطة وفي أرجاء العاصي ويسميه الحمصيون البقر الحلبي والحمويون البقر الشامي وهو كبير طويل القامة متر وربع إلى متر ونصف صلب العود قصير الرأس والقرون ناعم الجلد تغلب الشقرة على لونه وقد يكون كميتاً أو إلى سواد أحياناً. ووزنه 300 - 500 كيلو غرام وهو بالنظر إلى كِبَر قده أقرب الأصناف إلى البقر الأوربية ولذا يصلح للحرث حرثاً عميقاً إذا علفت أنثاه علفاً غزيراً تحلب في الغوطة طول السنة تقريباً. ويُحسب أنها تدر عندئذ 12 - 15 كيلو في اليوم خلال ستة أشهر عقب الوضع و 8 - 10 كيلو في اليوم في الثلاثة أشهر التي تليها ثم 4 - 5 كيلو في اليوم خلال شهرين آخرين. فيكون الوزن المتوسط لما تدرّه من اللبن في السنة 2500 - 2700 كيلو.
ولا يألف البقر البلدي أقاليم الشام بأسرها بل يتطلب إقليماً معتدلاً ورطباً، ولهذا يندر أن تراه في غير البساتين وهو لا يقاوم الحر في السهول التي لا ماء للري فيها كحوران والبلقاء وسهول حمص وحماة وغيرها. وعدده ليس عظيماً ولا يزيد على 10 أو 12 في المائة من مجموع بقر الشام. ويسمى البقر الجولاني بأسماء مختلفة فيقال له الخميسي في النبك والزبداني والبزري في حماة. ويغلب(4/185)
على الظن أنه حصل من إسفاد الثور البلدي على البقرة العكش ولذا جاء قدره ووزنه وتكوينه وطباعه بين بين. فإن له رأساً قصيراً وجبهة عريضة وقرنين متجهين
إلى الأمام وثوباً أسود في الغالب وقد يكون أشقر أحياناً. وطوله نحو 1. 15 إلى 1. 30 متر ووزنه نحو 250 كيلو. وهو يعد في العوامل وتعطي أُنثاه قليلاً من اللبن. وليس له رقة البقر البلدي وهو أكثر منه تحملاً للحر والقُر والجوع والتعب. ونسبته للمجموع 15 في المائة تقريباً.
وأشهر البقر اليوم هو الذي يدعى البقر العكش في أكثر أنحاء الشام. ويسميه الحمويون القليطي والحمصيون الأناضولي. ولا تختلف تحليته من حيث تكوينه عما ذكر. وله جرم صغير ولا يزيد ارتفاعه على متر وعشرة سنتيمترات إلى متر وربع ووزنه نحو 200 كيلو وقد يكون أقل من ذلك فهو إذن لا يصلح للحرث بمحاريث حديثة تغور في التراب كثيراً. ويغلب عليه اللون الأسود وقليلاً ما يكون أبرش أو أشقر. ويحتمل هذا الصنف من البقر الجوع والتعب والحر واليبوسة ولهذا تبلغ نسبته نحو 75 في المائة من مجموع بقر الشام. ودَرّ أُنثاه قليل ويسهل علفه وتسمينه بالغذاء.
الضأن: ينتسب للضأن في الشام إلى العرق الشامي أو الآسيوي وهاك تحليته فنياً: رأسه طويل قليلاً وجبهته تكاد تكون مستقيمة، وقرناه معقوفان متجهان إلى الوراء، وقد يتفرعان، ووجهه مستطيل، وعظام منخره طويلة، ومنظر رأسه ووجهه ينم عن احديداب قليل، وذنبه عظيم فيه مقدار كبير من الدهن. ووزنه المتوسط نحو 40 كيلو غراماً وطوله 65 - 75 سنتيمتراً. وهو يسمن بسهولة أما مقدار الدَرّ في النعاج فمتوسط.
وفي الشام أصناف للضأن أشهرها المسمى عَوَاس أو ضأن الموصل وهو شائع في حمص وحماة والبقاع ودمشق ولبنان وغيرها. صوفه أبيض يبلغ كيلو غراماً ونصفاً إلى كيلو غرامين وقد يزيد على ذلك. وينقص نحو نصفه إذا غسل ويبلغ وزن إليته 5 إلى 6 كيلو غرامات وطول الشعرة من صوفه 15 - 18 سنتيمتراً.
وما ذكر من الأرقام هو الحد الأوسط، وربّ كبش سمن في لبنان بورق التوت والكرمة فبلغ وزنه ضعفى ما ذكر، وبلغ طول الشعرة من صوفه 30 سنتيمتراً(4/186)
وزاد وزن إليته على ثمانية كيلو غرامات، ورقّ صوفه ومَرِن. ويرد إلى الشام أصناف أُخرى للضأن كالحمراء والبرازية والشقراء والنجدية ثم ضأن أرزنجان أو المور في حلب وهو ذو صوف أحمر أو إلى سواد. وتدر النعجة لبنها 4 - 5 أشهر فتعطي في اليوم نحو 500 غرام. وإذا علفت كما تعلف في حمص والبقاع تعطي 750 غراماً إلى كيلو غرام من الحليب في كل يوم. ويبدأ جز الصوف في آذار وينتهي في أيار في المناطق الباردة، وأكثر ما يكون في نيسان.
ويزيد عدد الضأن في الشام على مليوني رأس وتربيته شائعة لدى العشائر البدوية الضاربة في الشرق ومنها الجزيرة. وقد اشتهرت عشيرة الحديديين بحسن تربية الكباش والنعاج الصالحة للسفاد. واشتهر السمن الحديدي نسبة إلى تلك العشيرة التي تقطن منطقة الحمراء ومعرة النعمان في الصيف. وينقل في كل سنة قطعان عظيمة من الغنم من الروم والعراق إلى الشام حيث يستهلك بعضها ويرسل الآخر إلى مصر وجزر يونان وغيرها.
المعز: معز الشام من العرق الإفريقي وتحت العرق النوبي نسبة إلى النوبة وهي تعرف برأس طويل ووجه قصير على شكل مثلث قاعدته ضيقة، وجبهته محدبة كثيراً. وهي على صنفين البلدية والجبلية، فالمعز البلدية يبلغ ارتفاعها 70 - 75 سنتيمتراً ووزنها 30 - 35 كيلو غراماً، ولها ثوب أحمر أو أحمر ملمع ببياض. وقد تكون شهباء أو سوداء أحياناً وقد تجمع ثلاثة ألوان متفرقة: بياض وحمرة وسواد. وإذا كان لونها أحمر وجبهتها بيضاء سميت صبحاء بدمشق، أما إذا جمعت البياض والحمرة فتسمى عجمية، وهي جمّاء في الغالب. وإذا نجمت لها قرون تظل صغيرة وكثيراً ما تقطع، وينمو لكل منها زَنَمتان طويلتان فتسمى الشاة
قرطاء وهي شية حسنة تزيد ثمنها وأُذناها طويلتان ومتدليتان وكثيراً ما ينيف طول واحدتهما على شبر ويقطعهما الأكارون إذا أفرطتا في الطول. والبلدية من أجود المعزى الحلوبة فهي إذا صادفت عناية تدر في اليوم ليتين إلى ثلاثة من الحليب مدة سنة أشهر وتدر نصف هذا المقدار تقريباً خلال شهرين آخرين. وهي ترعى في الغوطة العشب النامي حول القني ومجاري الماء وترعى أيضاً الفصفصة والبيقية الخضراء، وكثيراً ما تعلف نحو كيلو غرام من حب الجلبان(4/187)
صباح كل يوم قبل تسريحها وهذا خاص بالحلوبة منها.
والماعز الجبلية تشبه البلدية بصفاتها الفنية لكنها أقصر منها، ولها ثوب أكثر ما يكون أسود، وهي ليست دروراً بقدر البلدية. والمعزى الجبلية منترة في أنحاء الشام لا تخلو منها قرية وعى العكس في البلدية التي تكاد لا تخرج عن المدن والمناطق التي يكثر فيها الكلأ في فصول السنة.
الإبل: إبل الشام من ذوات السنام الواحد. أما ذوات السنامين فتوجد في جبال فارس والأناضول وبلاد الكرد وتنقل إليها من آسيا الوسطى. ولما كانت تحتمل البرد والسير في المسالك الوعرة فقد فكر الشاميون في إسفاد فحولها على النوق الشامية فحصلوا على هجن لها سنام واجد كأمهاتها وذات جَلَد على السير في الجبال والأوعار كآبائها. وهذه الهجن شائعة في الجزيرة ولبنان وعجلون وغيرها وهي تعرف بقصر القامة وصغر الرأس.
والركائب من إبل الشام أصناف وأشهرها اليوم إبل الحرة لدى عشيرتي بني صخر والشرارات وغيرهما في البلقاء. وينتقي الجيش ركائبه من هذه الإبل غالباً. ومنها الإبل العُمانيات أصلها من عُمان وهي ذات رأس نحيف وقدّ أهيف ومزاج عصبي. وجيش الهند يبتاع منها ما يلزمه من الإبل، ومنها الإبل التيهية أصلها من السودان وترد إلى فلسطين والبلقاء مع القوافل الآتية من مصر. وقد كانت إبل
الجيش الإنكليزي من هذا الصنف خلال الحرب الكبرى.
ويطلق الأوربيون كلمة مهري على الإبل السباقة عموماً أو على عرق معلوم منها. ويُظن أن هذا الاسم مشتق من الإبل المَهْرِيّة المنسوبة إلى مَهْرَةَ بن حَيْدانَ وهي مشهورة بالسبق.
والبعير صديق البدوي الحميم ولولاه لزالت البدواة، فهو يحمل الخيام والماء في المراحل الخالية من الماء ومؤناً تكفي لستة أشهر يقضيها البدوي مع عشيرته في صحراء الشام، ويحمل البدوي نفسه وعياله وسلاحه وتحلب الناقة بعد الوضع في كل يوم خمسة ليترات إلى عشرة في مدة سنة أو أكثر، وحليب النوق لذيذ ملين، وليس لحم الجمل أردأ من لحم البقر الذي يأكله الأوربيون ووبر الجمل ألين من صوف الضأن ومنه تصنع عباءات الوبر العراقية الشهيرة، وتصنع من جلده قرب عظام منها ما يسع 200 لتر من الماء وتعمل أيضاً نعال(4/188)
قوية لا تفنى من جلد ركبتيه وغيرهما من أعضائه التي تحتك بالأرض بينما يكون الجمل جالساً.
الصناعات الزراعية في الشام:
ليس في الشام اليوم معامل عظيمة المصنوعات الزراعية كما في أوربا، لكن لبعض هذه المصنوعات وإن كانت تصنع على الطرائق القديمة شأناً كبيراً في الحياة الاقتصادية. وأهم هذه المصنوعات قمر الدين والنَقوع والزبيب والدبس والصابون والزيت والسمن والعرق والخمر والجبن والطحين والنشاء.
قمر الدين: يصنع أشهر قمر الدين في الغوطة والمرج وقليلاً في وادي العجم والزبداني وبعلبك وفي كل مكان فيه مقدار من شجر المشمش ويلزم أربعة أرطال إلى أربعة ونصف من المشمش للحصول على رطل من قمر الدين، وهو يصنع من المشمش الكلابي ويندر صنعه من المشمش البلدي، واشتهر منه في دمشق ما يرد من قريتي زملكا وعربيل من قرى الغوطة، وليس صنعه أمراً عسراً
فالمشمش يسحق بالأيدي في غربال موضوع فوق بناء يسمى تيغاراً مفروشة أرضه بالأسمنت ثم يفرغ العصير بكيلة من خشب ويفرش بمهارة على لوح من خشب بعد أن يطلى اللوح بقليل من الزيت، وبعدها يوضع اللوح في الشمس يوماً ونصف يوم فيجف العصير ويصير شرائح وزن كل منها رطل تقريباً وهي لفات قمر الدين المعروفة.
ومعظم القمر الدين المعروفة الذي يصنع حوالي دمشق يشحن اليوم إلى مصر وشمال الشام، ويقدر ما يصنع منه سنوياً بنحو 40. 000 قنطار دمشقي وهو المقدار المتوسط، يساوي القنطار الدمشقي 256 كيلو غرام.
النقوع: هي ثمار المشمش المجففة وتسمى بالعربية المُفَلّق، تصنع من المشمش البلدي وذلك بأن يوضع المشمش في الشمس على مسطح من القش مدة أربعة أيام، ثم تكبش الثما بين الكفين وتترك يومين آخرين، ثم ترقق أطرافها بالأصابع ثم تترك يومين أو أكثر فتجف، ويلزم خمسة أرطال من المشمش للحصول على رطل من النقوع، ويدل إحصاء المكس في بيروت على أنه صدر منها وحدها سنة، 1911 680. 000 كيلو غرام من النقوع ومليون ونيف كيلو غرام(4/189)
من بزور المشمش وهي تصلح لاستخراج زيت منها.
الزبيب والدبس: أجود زبيب في الشام ما يحصل من زبيب العنب الدربلي في جيرود والرحيبة والريحان ودومة، ويليه زبيب الصلت. ويصنع الزبيب في كل القرى التي فيها أعناب، وليس في صنعه صعوبة، فالعنب يغطس بماء فيه شيء من القلي والزيت ثم يفرش على مسطاح مدة ثمانية أيام فيجف. ويحسب أن كل أربعة أرطال من العنب ينتج منه رطل من الزبيب. وللثمار المجففة شأن كبير إذا صحت العزيمة على الاعتناء بصفها وبقطفها وشحنها إلى الديار الأجنبية كما يفعل الزراع حول مدينة أزمير بزبيبهم وتينهم المجفف.
ويصنع الدبس من الزبيب أو العنب، ففي الحالة الأولى يدرس الزبيب في المعصرة بمدرس من حجر حتى يصير كتلة لزجة، ثم يوضع في قدور كبيرة ويغمر بالماء مدة 24 ساعة، ثم يؤخذ ماء الزبيب جلاب أو صليبة ويوضع في مرجل وتضرم النار تحته حتى يتحصل الدبس. ويلزم مائة رطل من الزبيب للحصول على 60 إلى 80 رطل من الدبس. واشتهر دباسو قرى معربا ودومة وعربيل بصنع دبس لذيذ يعطرونه بعطر الورد أحيانا.
الصابون: أشهر مصابن الشام في طرابلس ونابلس ودمشق وحلب وكلز، ويبلغ المقدار المتوسط للصابون الذي يصنع سنوياً في الشام نحو 13. 000 طن. وصناعته على الأصول القديمة.
أشهر الزيوت ما يصنع في معاصر لبنان وفلسطين وأشهرها جميعاً زيت الرامة، واعتاد أرباب الزيتون في دمشق أن يتركوه مدة طويلة في المعصرة، فيختمر ويتعفن ويحصل له طعم كريه، حتى أنه ليشق تصريفه خارج الشام. والداعي إلى ذلك قلة المعاصر بدمشق وخصوصاً اعتقاد الزراع بأنه بقدر ما تطول المدة بين قطف الزيتون وعصره تزداد نسبة الزيت المتحصل بالعصر. واعتقادهم هذا صحيح إلا أن زيادة نسبة الزيت لا توازي هبوط سعره المنبعث عن رداءة طعمه.
ويتوقف استخراج الزيت على الأعمال الآتية: أولاً سحق الزيتون بأسطوانة من حجر يديرها بغل داخل وعاء مستدير من حجر. ثانياً كبس الزيتون المسحوق لتفريق الزيت عن الثفل وذلك بمكبس عادي أو مكبس مائي.(4/190)
ثالثاً تفريق الزيت عن الماء والعناصر الأجنبية المختلطة به وذلك بترك العصير يروق فيفترق الزيت الصافي لأنه يطفو على وجه العصير. أما الثفل فهو يسحق ويكبس فيخرج منه زيت أسود يسميه الدمشقيون زيت الجفت يستعمل في صنع الصابون.
وفي الشام اليوم أكثر من 400 مكبس منها نحو 200 مكبس مائي، ويستدل من
عدد المكابس على عدد المعاصر، وإذا استثنينا فلسطين وشرقي الأردن فإن متوسط ما يستخرج من الزيت في باقي أنحاء الشام يقدر بنحو 10. 500 طن نصفها اليوم في لبنان.
السمن: هو المادة التي يطبخ بها الشاميون أكثر أغذيتهم على العكس من الفرنج فهم يطبخونها بالزبدة ولا يعرفون السمن، ويصنع السمن بمخض اللبن في مماخض من جلد الغنم، تعلق بحبلين يُشدان إلى دعائم ويدوم المخض نحو ساعتين ونصف فيلتصق السمن بداخل الممخضة ويقشط بعد تفريغ اللبن. ويقدر أنه يحصل أربعة أرطال من السمن من مائة رطل من اللبن. والسمن من صناعات البدو، وأجود السمون ما يصنعه عشيرة الحديديين بلبن الضأن.
العرق والخمر: العرق ألذّ المسكرات وأرجحها لدى الشاميين، ويصنع منه ما لا يقل عن 15. 000 هيكتوليتر في كل سنة في دمشق والنبك وحمص وزحلة وكثير من قرى فلسطين ولبنان ووادي التيم. يوضع عصير العنب في دنان عظيمة حتى إذا اختمر يضاف إليه الأنيسون بحيث يكون حظ كل مائة كيلو غرام من العصير ثلاثمائة غرام من الأنيسون، وبعدها يقطر العرق بالانبيق فيكون مقداره ربع العصير تقريباً، وإذا أُريد الحصول على عرق نسبة الكحول فيه أكبر عرق مثلث يعمد إلى العرق الأول فيضاف إليه مقدار من الأنيسون ويقطر منه عرق ثقيل.
وليس شرب الخمر شائعاً في الشام شيوعه في أوربا حيث يقوم مقام الماء أثناء الطعام. وأكبر المعامل لصنع الخمرة هو معمل ريشون في عيون قارة في فلسطين وهو معدود من أكبر معامل العالم ويشحن نبيذه إلى مصر والعراق وإلى أوربا ولا يستهلك من نبيذه في الشام إلا مقدار قليل، ويليه معمل كسارة ومعمل شتورة في البقاع.(4/191)
النشاء: يصنع في الشام لا سيما في دمشق وحلب مقدار من النشاء لاستهلاكه وقاعات النشاء في دمشق معروفة، وهو يستخرج فيها من الحنطة على طريقة قديمة بسيطة لا شأن للآلات الحديثة فيها. تنقع الحنطة في الماء نحو عشرة أيام ثم تسحق بحجر الرحى وتمرس بضع مرات في الماء حتى يخالط النشاء الماء وبعدها يترك المائع فيرسب النشاء في قعر الوعاء، ويحسب أن القنطار من الحنطة يعطي 65 - 70 رطلاً من النشاء بهذه الطريقة، أما الثفل فتعلفه الجمال.
المطاحن: كانت مطاحن الشام إلى عهد قريب عبارة عن أحجار رحى يديرها الماء بقوة انحداره، أما اليوم فيشاهد المرء عشرات من المطاحن البخارية في الأماكن التي لا ماء فيها عدا بضع مطاحن على آخر طراز من الفن أي أن أرحيتها أسطوانات تدار بالكهرباء وهي في دمشق وحيفا ويافا.
الجبن والقشطة: تعزل القشطة عن الحليب فتؤكل وحدها وتضاف إلى بعض الحلواء، وتصنع جبنة لا لذة لها بالحليب الذي فرزت قشطته، وأشهر أنواع الجبن المصنوع في الشام الأبيض والحالوم الحلبي، وقد أخذ الشاميون يصنعون جبن البلقان المسمى قشقوان ولم يتوصلوا إلى تخميره كما في مواطنه الأصلية وجميع أنواع الجبن المذكورة بعيدة عن أن تساوي أنواع الجبن الأوربية بلذتها وتعدد أنواعها.
زراعة الشام من الوجهتين المالية والاقتصادية:
نذكر في هذا البحث أقسام الأرض والضرائب الزراعية وطرائق استثمار الأرض وإقراض الزراع.
أقسام الأرض: تقسم الأرض في الشام من الوجهة القانونية إلى خمسة أقسام وهي الأرض المملوكة والأميرية والموقوفة والمتروكة والموات، ولكل قسم من هذه الأقسام نظام خاص في دفع الضرائب الزراعية. فالأرض المملوكة هي التي
يملكها صاحبها ملكاً صحيحاً تاماً بحيث يستطيع وقفها وعدم زرعها مدة طويلة، ومثالها الحدائق المتصلة بالبيوت وما يسمى الأرض العشرية والخراجية بعض بساتين محيطة بمدينة دمشق الخ. والأرض الأميرية هي التي يعود تملكها رقبتها لبيت المال، وهو يخول الأهلين استثمارها أي حق التصرف بها بصك يسمى(4/192)
سند التصرف. ومعظم الأرض في الشام من هذا القسم. وليس من فرق كبير في الأمور الجوهرية بين المتصرف بالأرض الأميرية وبين مالك الأرض المملوكة، لأن الأول ولم لم يملك الأرض قانونياً فإن له سلطة كافية في استثمارها والنزول عنها حسب إرادته، وهي تنتقل لورثته بعد وفاته، إلا أنه لا يستطيع وقفها إى بإذن وهو إن لم يستثمرها ثلاث سنين بلا عذر مقبول يضطر إلى دفع قيمتها على شكل معلوم، حتى إاذ استنكف من الدفع عدت الأرض محلولة ووجب بيعها بالمزاد العلني. وثمة فرق بين الأرض المملوكة والأرض الأميرية، وهو أن للورثاء من الدرجة الواحدة حصصاً يتساوى فيها الذكر والأنثى في الأرض الأميرية، أما في الأرض المملوكة فللذكر مثل حظ الأنثيين. ولا يسمح للمتصرف بالأرض الأميرية أن يوصي بها بعد مماته وعلى العكس في رب الأرض المملوكة. والأرض الموقوفة هي التي حبست في سبيل البر وليس من شأننا البحث فيها، والأرض المتروكة هي التي تركت للنفع العام كالطرق والساحات والبيادر والمحتطبات ومراعي القرى. وهي لا يملكها أحد ورقبتها لبيت المال والتصرف بها للجماعة. والأرض الموات هي الأرض البعيدة عن العمران التي لا يتصرف بها أحد. والحكومة تعطي رخصاً بإحياء الأرض الموات فبالتصرف بها على شروط موضحة في قانون الأرض.
الضرائب الزراعية:
على الأرض الأميرية في يومنا هذا نوعان من الضرائب، ضريبة تابعة لقانون 7
رمضان سنة 1274هـ وقدرها 4 في الألف من ثمن الأرض، وضريبة أعظم شأناً وأكبر تأثيراً في الزراعة وهي العشر أي استيفاء عشرة في المائة من محاصيل الأرض غير الصافية يضاف إليها اثنان ونصف باسم المعارف والمصرف الزراعي أما الأرض المملوكة وهي كما قلنا قليلة في الشام إلا في لبنان الصغير حيث كل الأرض تعد مملوكة فصاحبها لا يدفع العشر من غلاتها بل يدفع عشرة في الألف من ثمنها في كل سنة.
والعشر من المصائب المزمنة في هذا القطر لأن 12. 50 في المائة من المنتوجات(4/193)
غير الصافية هي نسبة كبيرة في ذاتها، ولأنه يصعب جداً تخمين الغلات عل وجه الضبط لأخذ هذا المقدار منها. فقد حارت حكومات الشام في طريقة استيفاء العشر أو ثمنه ولا تزال حائرة، لأنها خمنت الغلات تخميناً فقد يضل المخمنون أو يتعمدون الخطأ أحياناً فيُظلم الفلاح إذا جاء التخمين زائداً عن الحقيقة، وإلا فيخسر بيت المال. وإذا باعت العشر بالمزاودة العلنية من ملتزمين فهم لا يُقدمون على سوى قرى الفلاحين فيظلمونهم بطرق شتى دون أن يجسروا على المزاودة في عُشْر قرى الوجهاء، فيكون الضرر مزدوجاً على الفلاح وعلى بيت المال معاً. وقد رأت الحكومة أخيراً أن تعمد إلى معدل عُشر أربع سنين ماضية فتقره وتستوفي ضريبة محدودة مساوية له سواء زرع الفلاحون الأراضي أو لم يزرعوها. وهذه الطريقة في استيفاء العشر وإن كانت أصلح من الطريقتين السابقتين إلا أنها ليست عادلة إذا قلّ المطر في إحدى الناطق بعض السنين هذا عدا أن أساسها فاسد، لأن متوسط عُشر سنين أربع في قرى الفلاحين يكون قريباً من العشر الحقيقي غالباً. أما في قرى الوجهاء فيكون أنقص لأن الأعيان لا يدعون الحكومة تصل إلى حقها.
والخلاصة أن مسألة العشر في الشام من أعقد المسائل وكثيراً ما اقترح أرباب
الفلاحة على الحكومة أن تمسح الأرض كما في بلاد الفرنج وتضع على الأرض وما تنتجه ضريبة واحدة لا تتبدل تخلصاً من العشر كما يجري العمل به في أرض مصر. وإن هذا الاقتراح في غير محله أو هو مما يتعذر اتباعه في كل أنحاء الشام على السواء، لأن الأمطار في الشام متفاوتة التهاطل. فقد يهطل في سنة ثلاثة أضعاف ما يهطل في السنة التالية، لا سيما في سهول الشام الشرقية، ولهذا يختلف محصول الأرض اختلافاً عظيماً كل سنة. وقد تمحل منطقة واسعة في إحدى السنين ولذلك لا يجوز أن يستوفى منها في تلك السنة ضريبة كالتي تستوفى في سني الخصب. أما إذا كانت الأرض تسقى بماء نهر أو قناة فعندها يمكن وضع ضريبة ثابتة عليها كما في الغوطة مثلاً.
طرائق استثمار الأرض:
إذا قلنا إن أكثر من ستين في المائة من سكان الشام يعملون في الفلاحة رأساً(4/194)
أو بالواسطة فلا نكون مغالين في قولنا لأن سكان المدن الكبيرة والمتوسطة وإن كان عددهم يقرب من نصف مجموع السكان في الشام فكثير منهم لا عمل له غير الفلاحة. ويتصرف الشاميون اليوم بالأرض على نسبة غير عادلة، ومعنى هذا أن أرباب الوجاهة والثروة على قلتهم يتصرفون بمساحات واسعة جداً في كثير من المناطق، بينا الفلاح يعمل في الأرض دون أن يكون له في تملكها نصيب ففي أطراف حماة مثلاً 124 قرية منها ثمانون في المائة لأرباب الوجاهة من عيال لا تتجاوز عدد الأصابع، والباقي وهو عشرون في المائة يتصرف به الفلاحون ورجال الطبقة المتوسطة من الشعب. وفي أرجاء حمص 176 قرية منها ثمانون في المائة للوجهاء دون غيرهم وعشرون في المائة مشاع بين هؤلاء الوجهاء والفلاحين إلا بضع قرى لم تمتد إليها أيدي المتغلبين فلبثت للفلاحين وحدهم. وهكذا قل عن كثير من مناطق الشام كقرى معرة النعمان وغيرها في حلب.
وليست الحالة كذلك في حوران حيث ترى 95 بالمائة من الأرض موزعة بين سكانه على نسبة عادلة، وكلهم أرباب فلاحة وكذا في جبل حوران وعجلون والبلقاء والكرك ووادي التيم وإقليم البلان، وما من بيت من بيوت دمشق الكبيرة إلا ويملك مساحات واسعة في الغوطة بل نصف الأرض فيها بيد متوسطي الزراع والربع بيد صغارهم والربع الأخير يخص أرباب الوجاهة بدمشق.
وبعد، فقد كان السلطان عبد الحميد العثماني من أقدر السلاطين على تملك الأرضين وجمع الثروة، فقد تملك لشخصه شرقيّ حمص وسلمية نحو ملين هكتار من الأرض تشتمل على جبل البلعاس والشومرية وتمتد إلى مقربة من تدمر، وعمّر فيها نحو مائة وعشرين قرية ومزرعة تستثمر نحو مائة ألف هكتار. وتملّك في أنحاء حلب نحو 500. 000 هكتار فيها اليوم 567 قرية ومزرعة عامرة حوالي منبج والباب وعلى الشاطئ الغربي من الفرات من مصب الساجور إلى مسكنة ويشمل معظم جبل الحاص ومساحات واسعة جنوبي حلب عند مصب نهر قويق واقتنى أيضاً سبع قرى في حوران منها قرية المسمية كما اقتنى بَيسان وبضع قرى بالقرب منها. وكان يوطد الأمن في هذه المملكة الخاصة الواسعة ويعفي الزراع المستأجرين من الجندية ويحميهم من تعدي أرباب الوجاهة ويسلفهم المال بلا ربا(4/195)
حتى عمرت تلك الأنحاء بعد أن كانت منازل للعربان يعيثون فيها فساداً. ولما حصل الانقلاب العثماني سنة 1908 اضطر السلطان المشار إليه إلى التنازل عن هذه المعمورات إلى بيت المال، فأصبحت ملكاً له وأصبح فلاحوها مستأجرين لدى المالك الجديد، وهو بيت المال أو الحكومة. ويدفع الفلاحون إلى الحكومة عشرين في المائة من المستغلات في بعض الأماكن و22. 50 في المائة في أماكن أخرى عشر وأجرة أرض معاً. وهم وإن كانوا مستأجرين لا يملكون الأرض رسمياً فهم يتوارثونها كأنهم مالكون لها والحكومة لا تُخرِج فلاحاً من
قريته إلا إذا أتى عملاً منكراً من إحداث فتنةٍ أو التمادي على الأضرار بالناس. ولما كانت الحكومة تسلف هؤلاء الفلاحين أموالاً بلا ربا وكانت تستوفي من غلات الأرض نسبة أقل منها في قرى الوجهاء، رجحت حالة الفلاح في أملاك الدولة من كل وجه على حالة الفلاح المسكين الذي يستعبده المتغلبون في قراهم ومع هذا اقتُرح على الحكومة منذ نحو سنتين أن تبيع هذه الأملاك من الفلاحين أنفسهم دون سواهم على أن يدفعوا الثمن أقساطاً خلال خمس عشرة سنة، وعلى أن يضمن عدم مد المتغلبة أيديهم لهذه الأرضين، فأقرت الحكومة البيع مبدئياً. وقد أثبتتْ لنا الأيام أنه لا يستطيع أن يزيد في غلات الأرض سوى الذين يملكون فيها مساحات متوسطة أو صغيرة.
ولنرجع إلى طريق استثمار الأرض المتبعة اليوم في الشام فنقول: إذا استثنينا الغوطة والمرج وبعض ما يسقي وما حوالي المدن من المزارع، حيث يستغل بعض أرباب الزراعة أرضهم مباشرةً ويدفعون إلى الفلاحين المشتغلين بها أجوراً مقطوعة سنوية أو شهرية، فإن الأرض في سائر الأنحاء تستغل على طريق المزارعة بشرائط مختلفة بالقسم. ففي حمص وحماة يأخذ صاحب الأرض ربع المحصول فيدفع منه العشر وتبقى الثلاثة الأرباع للفلاح. وفي هذه الحال يُلزم الفلاح بجميع النفقات والأعمال، ولكن صاحب الأرض قد يقرضه البذار بربا في الغالب على أن يستوفيها من البيدر. ويأخذ أصحاب الأرض ربع المحاصيل في بعض قرى حوران ويدفعون منه العشر وضريبة الأرض ويكون الباقي للفلاح مقابل النفقات والأتعاب. لكن الطريقة الشائعة في حوران هي إيجار الأرض بمقدار معلوم من الحب كأن تؤجر الربعة بنحو 50 - 60 مداً(4/196)
من الحنطة، ولما كان يزرع في الربعة أرض تستوعب 50 - 60 مداً من البذار، فإذا أغل المد أربعة أمثاله أو خمسة أمثاله تكون الأجرة التي استوفاها صاحب الأرض معادلة
لربع المحصول أو خمسه.
وكلما كانت القرية في منطقة سكانها كثار وأرضها ضيقة، يزداد المقدار الذي يستوفيه صاحب الأرض من المحصول والعكس بالعكس. ففي البقاع مثلاً يأخذ صاحب الأرض نصف المحصول ويؤدي العشر منه إلى الحكومة. وفي الحولة حيث الأرض تروى تكون حصة صاحب الأرض ثلث المحصول ويكون عشر المحصول عليه. أما في الغوطة والمرج فحصة صاحب الأرض الثلث لكنه لا يدفع إلى الحكومة سوى عشر هذا الثلث، وعلى الفلاح أن يدفع العشر عن ثلثيه.
هذه بعض طرائق استثمار الأرض وتعود فيها جميع النفقات والأتعاب على الفلاح. أما إذا أحب صاحب الأرض أن يكون رأس مال الاستثمار منه فالفلاح الذي يشتغل في أرضه يسمى مرابعاً وهو مطالب بأعمال فدان من البقر زرع نحو ثمانية هكتارات حبوباُ وتجهيز مثلها للسنة القادمة. ويأخذ ربع المحصول أو خمسة بعد رفع العشر من المجموع في الغالب.
إقراض الزراع:
يعوز الفلاحين في الشام النقود الكافية لاستثمار أرضهم عل مقتضى قواعد الفن. وهم كثيراً ما يستدينون المال من المرابين بفوائد فاحشة لا يبعد أن تبلغ 100 في المائة أحياناً. ولهذا ترى غلة أرضهم تكاد لا تكفيهم للإنفاق على حاجياتهم الضرورية وقلما ترى فلاحاً في سعة، يكدحون كلهم طول السنة لتحصيل بُلغة من القوت، وسبب ذلك ضيق ذات يد الفلاح، فهو لا يستطيع أن يحرث الأرض حرثاً عميقاً بأبقاره الصغيرة المهزولة التي لا تُعلف غير التبن، ولا يستطيع أن يبتاع آلات زراعية حديثة أو أسمدة معدنية، ويستحيل عليه أن يخزن محصوله بقصد بيعه عندما يغلو ثمنه، لأنه في حاجة دائمة إلى المال. والسعيد من الفلاحين من لم يثقل الدين كاهله ومن كان مفلتاً من براثن المتغلبين والمرابين.
اتضح للحكومة العثمانية أن الأكارين وأصحاب الأرض في حاجة كبيرة(4/197)
إلى مصرف زراعي يقرضهم المال بفائدة محدودة إلى مدة طويلة فأسست المصرف الزراعي وجمعت له رأس مال صغير بأن أضافت إلى العشر الذي تستوفيه من حاصلات الأرض 50. . في المائة من الريع باسم هذا المصرف، وأنشأت له فروعاً في الأطراف وسنت له قانوناً محكماً بعد درس واختبار فأقبل الفلاحون عليه أيما إقبال. ولما كان رأس ماله قليلاً فقد لبثت فائدته محدودة، فعسى أن تهتم الحكومة الحاضرة بتزييد رأس ماله وهومن أنفع أعمالها ولعلها لا تسمح لبراثن الأجنبي أن يناله أذاها.
الخلاصة:
الشام فقير جداً بمعادنه المفيدة من الوجهة الاقتصادية. ومعناه أن عدد هذه المعادن وإن كان عظيماً وكذا أنواعها فهي لا كبير فائدة منها اللهم إلا معدن الحمر في حاصبيا. والأرجاء التي ليس فيها معادن ذات شأن لا سيما الفحم الحجري الخالص لا اللينيت لا يمكن أن يكون فيها صناعات كبيرة. ولهذا لا نرى في الشام إلا صناعات يدوية كنسج الملبوسات الأهلية في دمشق وحمص وحماة وكالمصنوعات الخشبية والنحاسية وغيرها. فالشام إذن لا يمكن أن يكون له عظيم شأن في المعادن والصناعة، وليس له اليوم شأن يذكر في التجارة لكن له مستقبل حسن في قضية الاتجار بالسيارات مع العراق وبلاد العجم عن طريق بادية الشام. ونستنتج من بحثنا عن الفلاحة أن لها في الشام شأناً غير شأن الصناعة والتجارة. فإذا أحصينا بالمكس مثلاً أنواع الأشياء الأهلية التي تصدر من الشام إلى البلدان الأجنبية نجد أن أكثر من 90 في المائة من هذه الصادرات هي غلات أو مصنوعات زراعية نباتية أو حيوانية. ثم إذا أمعنا النظر في أنواع واردات الحكومة في الشام نرى أن نحو 50 في المائة منها هي واردات زراعية مثل
عشر المستغلات والضريبة على الأرض والماشية وواردات أملاك الدولة وواردات الحراج وغيرها. فزراعة القطر الشامي إذن وإن كانت لا تساوي زراعة الأقطار الغزيرة الأمطار أو التي منحتها الطبيعة أنهاراً كبيرة هي الركن الأعظم في حياة هذا القطر الاقتصادية اه.(4/198)
الصناعات الشامية
مواد الصناعات:
تتوقف الصناعات في بلد على وجود المواد الأولية فيه، وكان ذلك في القديم أقوى عامل في قيام الصناعات، والمواد الأولية في الشام على حصة موفورة لا ينقصها اليوم إلا الفحم الحجري وبعض الأصباغ. وكانت الشام منذ عرف تاريخها مشهورة بصناعاتها لتوفر موادها المستخرجة من سطح أرضها وبطنها. وتسلسلت الثقافة بها تسلسلاً عجيباً في البيوت الصناعية، وكانت الأمة الخالفة تأخذ عن الأمة السالفة هذه الثقافة والدربة على نحو ما يعلم الصناع أبناءهم. والصنائع كما قال ابن خلدون لا بد فيها من العلم، وإنك لتجدها في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل، وعلى نسبة رسوخ الحضارة وطول أمدها تكون جودة الصنائع في الأمصار.
إن قطراً هو معدن الحرير والصوف والوبر والمِرعِزّي والقطن والكتان والقنب يفيض عن حاجياتها وكمالياتها. وفيها الحديد والنحاس والقصدير وغيرها من المعادن، وتجود في سهولها وجبالها الأخشاب على أنواعها، وتكثر في أرجائها الحيوانات الداجنة والمفترسة، وفيها المياه الدافقة والشلالات البديعة. إن قطراً يحوي هذه الخيرات لا يحتاج إلى أيدٍ صناع لصنعها، وعيون عُوّدت النظر إلى الجميل واقتباس النافع منه، ونفوس طبعت على حب التقليد والاحتذاء، حتى تخرج ما به تفاخر، وتعيش من عملها عيشاً غضاً نضراً.(4/199)
الغزل والحياكة والنساجة:
كانت النساجة والحياكة والغزل راقية في معظم ما عرف من أدوار الارتقاء وقلما أخرجت الشام رُذالة المتاع ورديئه، بل كانت تخرج جيده ونفيسه، وكان أهلها ولا
يزالون يحسنون غسلها ونفشها ومشطها وحلجها وفتلها ومشقها وحياكتها ونسجها. واشتهر القطر منذ القديم ببزه وقماشه وديباجه وخزه وبروده وكان للدباجين صناع الديباج والأكسية والمسوح صناعة رابحة، وإلى اليوم لم يبرح حلاجو القطن، ومنهم من يستعمل لها الآلات الإفرنجية الحديثة، ومنهم من اقتصر على القوس والنداف على الطريقة القديمة في الحلج والغزل في مغازل أولية تدار بالأيدي يخرجون بها كل ما يقوم بالحاجة.
أخذت معظم المدن والبلدان حظها من هذه الصناعات، فاشتهرت في غابر الدهر مدينة أعناك في حوران بأكسيتها الجيدة اشتهارها ببسطها، وعرفت بعلبك بثيابها المنسوبة إليها من الأحزام والمشّات وثوبها المعروف بالبعلبكي. وتأفقت شهرة الثياب البلعسية نسبة إلى كورة البلعاس من عمل حمص على الأرجح. وعرفت منبج بالأكسية التي كانت تعمل فيها وتنسب إليها فيقال الأنبجاني والأنبجاني كساء صوف له خمل ولا علَم له وهي من أدون الثياب. ومن ثيابهم الخميصة الشامية وهي بَرْنكانٌ أسود مُعْلَم من المرعزّي والصوف ونحوه أو كساء أسود مربع له علمان، وقد تكرر في الحديث الشريف ذكر الأنبجاني والخميصة. والخميصة قد تكون من الحرير والبَرَنكان والبرّكان والبرَّكاني والبَرَنكاني الكساء الأسود وجمعه برانك.
وكان يعمل في صفد من الثياب ما يقال له الصفدية. وتعمل الثياب الحفية نسبة لكورة الحفة غربي حلب. وكان لأهل رصافة هشام بن عبد الملك في غربي الرقة حذق في عمل الأكسية وكل رجل فيها غنيهم وفقيرهم يغزل الصوف والنساء ينسجن. وكانت تعمل في الشام الأكسية المرنبانية قال ابن سيده: يقال كساء مرنباني ومؤرنب فالمرنباني لأنه لون الأرنب والمؤَرنب ما قد خلط في غزله وبر الأرانب، ويقال بل هو كالمرنباني. وكانت تصنع فيخا القطيفة المخملة أي ذات
الخمل وهي المخمل.
واشتهرت حمص بمصنوعاتها من ثياب وفوط وغيرها وقيل: إن حمص تتلو(4/200)
إسكندرية مصر فيما يعمل فيها من الثياب الفائقة على اختلاف الأنواع، وحسن الأوضاع، لولا قلة مائه، وقحولة جسمه، مع أنه يبلغ الغاية في الثمن، وإن لم تلحق بالإسكندرية فإنها تفوق صنعاء اليمن. وقال الأدريسي في صور: إنه يعمل فيها من الثياب البيض المحمولة إلى الآفاق، كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة، ثمين القيمة، وقليلاً ما يصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها. وكذلك حماة وطرابلس وحلب. ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة تبرع فيها، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق.
فقد ذكر الإدريسي أنها كانت في عصره جامعة لصنوف من المحاسن وضروب من الصناعات وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمن العجيب الصنعة، والعديم المثال، الذي يحمل منها إلى كل بلد، ويتجهز به منها إلى كل الآفاق والأمصار المصاقبة لها، والمتباعدة عنها. ومصانعها في كل ذلك عجيبة، تضاهي ديباجتها بديع ديباجة الروم، وتقارب ثياب دستوا، وتنافس أعمال أصبهان، وتشف على أعمال طُرز نيسابور، من جليل ثياب الحرير المصمتة، وبدائع ثاب تنيس، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة، ومحاسن جمة، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال.
وقيل: إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق. ونقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتان من دمشق فنسبت إليها عندهم وقالوا في فعلها أي عمل ثياباً على النمط الدمشقي. قال البدري: ومن محاسن دمشق ما يصنع فيها من القماش، وهو النسج على تعداد نقوشه وضروبه ورسومه، ومنها عمل القماش الأطلس بكل جنسه وأنواعه ومنها عمل القماش
السابوري بجميع ألوانه وحسن لمعانه، ومنها عمل القماش الهرمزي على اختلاف أشكاله، وتباين أوصاله، ومنها عمل القماش الأبيض القطني. وكان من أنواع الثياب في القديم ما أُنسيناه وأُنسينا أسماءه ومنها المنيّر والمعيّن والمسيّر والمفوف والمسهم والمعمد والمعرّج والمهلهل والمكعب والمطيّر والمخيّل. ولاشتهار دمشق بالحرائر والمنسوجات الغزلية الفائقة بوشيها وحسن طرازها، عرفت هذه الصناعات باسم المدينة فيقال لها الداماسكو والداماسكو ثوب غليظ برسوم جعلت في جسم الثوب ويتفننون في ذلك تفنناً غريباً ويعملون كل(4/201)
ما يجمع إلى المتانة الإبداع في الصناعة. قال ابن عربشاه: إن الحريريين في دمشق نسجوا لتيمورلنك قباء بالحرير والذهب ليس له دِرز فإذا هو شيء عجيب. ولما نجحت الصنائع الإفرنجية - وكانت صنائع الحرائر والطرائف تروج زمناً ثم تنحمق وتكسد - واخترع أحد صناع الإنكليز نسيج الشيت اليمني كاد يقضى على صناعاتنا هذه، لولا رجل دمشقي اسمه عبد المجيد الأصفر من أهل هذه الصناعة، فاخترع القماش المعروف بالديما فحال دون النساجة والبوار دفعة واحدة. ثم إن رجلاً اسمه الروماني من أهل دمشق أيضاً، تفنن في المنسوجات الحريرية تفنناً عجيباً، فلما مات كادت هذه الصناعة تموت معه، وتغلبت المنسوجات الأوربية على منسوجات حلب وطرابلس وحماة وحمص ودمشق لرخص ثمنها، وكثرة تفننهم في تلوينها، وتغيير أشكالها وطرازها، وإن كان البلى يسرع إليها، وعلى الرغم مما تقدم لم تنفك هذه الصناعة متماسكة أحوالها. على ما أصاب القطر من الأزمات الاقتصادية. ويزعمون أن ما يتعلق بها من الصنائع حتى تصلح وتصير أثواباً، يقرب من سبعين صنعة. تصرف مصنوعاتها في الشام ومصر والجزيرة، وكانت قبل الحرب العامة تصرف منها كميات وافرة في آسيا الصغرى والروم ايلي فلما وضعت في العهد الأخير الحواجز الجمركية في وجهها في تركيا عادت إلى
الكساد.
ومع هذا لا يزال بعض أهل هذه الصناعة يصنعون الديما وأنواع الحرير والحبر والشال البديع والأعبئة الحريرية للنساء، ما يتفاخر سياح الإفرنج باقتنائه في بيوتهم، وإلباس أُسرهم منه في السهريات وأوقات السمر، على حين كان الناس هنا ولا سيما في المدن يزهدون فيها على متانتها وجمالها، لأنهم بلوا بداء التقليد يقبلون على كل ما تأتيهم به أوربا ولو كان فيه بوارهم. وأهل معامل الحرير والقطن اليوم في المجدل من عمل غزة وبيروت وبكفيا وزوق مكايل ودير القمر وبيت شباب والكفير وحمص وحماة وحلب وأنطاكية ودمشق، تعمل فيها الأعبئة والكوفيات والزنانير والملاءات والشراشف والديما والألاجة والنمارق والأرائك والسجوف والشفوف واللحف والبرانس والطيالسة والميازر والبراقع والأزر والجلابيب والقطائف المخمل.(4/202)
ومن الصناعات التي كانت الشام وما برحت تفتخر بها صناعة الشقق الحريرية والقطنية، وهي عبارة عن قماش محوك طوله تسعة أذرع في عرض ذراع. ولصناعه تفنن في نقشه وصبغه، يدل على رسوخ قدم في الصناعة، وذوق جميل فيها، واشتهرت مدن الشام بإتقان تلك الصناعة، ومنها دمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس، وأشهرها المسماة بالمصرية والحامدية والحموية والحمصية والحلبية. وتفصيل تلك الشقق على الطراز العربي وهي قطنيها وحريريها على غاية من المتانة والجمال. وكانت قديماً لباساً عاماً للأهلين فقيرهم وغنيهم رجالهم ونسائهم وقل المنفق منها الآن لاعتياد الناس اللباس الإفرنجي، ولا تزال مع هذا لباس أكثرية الأهالي يعملون منها القفاطين القنابيز وتدر تلك الصناعة عليهم أرباحاً وفيرة، وتصدر إلى الأناضول ومصر والحجاز والعراق، ويعد تجار تلك الصناعة من الأغنياء غالباً. ومن الصناعات الدقيقة الصنع أيضاً الشال القطني
والحريري والزنانير والشملات، وأتقنها ما عمل في طرابلس وبيروت وحلب ودمشق، ومن صناعات الشام الكوفيات الحريرية على اختلاف ألوانها ووشيها بالقصب الفضي بنقوش ورسوم غاية في الإبداع وسلامة الذوق والمتانة، وما فتئت هذه الصناعات إلى الآن زاهرة رغم مزاحمة الأوربيين بكل ما عندهم من قوة تجارية وصناعية وتفنن وإبداع.
ومن الصناعات التي كانت من متممات اللباس لكنها ضعفت للغاية صناعة المشدات المعروفة بالكمار وهي تنسج بالصوف والغزل ذات طاقين طويلين تشد على الخصور، ولا تزال لباس الوطنيين الذين لم يتأوربوا أي لم يتشبهوا بالأوربيين فضعفت صناعتها. وقد أحدث السادة كسم وقباني معملاً لحياكة الحرير في دمشق ضاهيا به ما يصنع من نوعه في فرنسا، وكذلك أحدث السادة توفيق وكامل وسعيد الكحالة معملاً لصنع ثياب الكتان والشراشف ينافس مصنوعات أوربا، وأحدث السيد أنطون مزنر في دمشق معملاً لصنع الشال الحرير غاية الغايات إتقاناً وجمالاً. وفي دمشق ثلاثون آلة لغسل الحرير على الطرز الحديث. ومما تمتاز به حماة عن سائر المدن الصناعية نسج المآزر للنساء مما يستعملنه في الحمام وتسمى المناشف، وما تغطى به الفرش ويسمى الشراشف(4/203)
وينسج بالكتان ويوشى بالحرير من كل الألوان وهو غاية الغايات في دقة الصنعة والمتانة يصدر إلى كثير من جهات العالم. وتصنع حلب من هذه المآزر أنواعاً كانت تضاهي بها المآزر التي ترد من العجم إلى أن بذتها وقامت مقامها. ومن المنسوجات الرائجة أيضاً صناعة الأعبثة فهي من أهم الصناعات على اختلاف أنواعها ومنها الخشنة التي يلبسها الفلاحون، وحياكتها غاية في المتانة ولها ألوف من الأنوال في دمشق وحمص وحلب وقرى القلمون، وذلك لتوفر مادتها الأولية ولأنها لباس عامة الفلاحين، ويوجد أيضاً ألوف الأنوال في دمشق وقرية جرمانا
وحمص وهي تصنع أعبئة من الصوف النحيف والوبر برسم الأمراء والكبراء ويصدر منها إلى الخارج ولا سيما إلى فارس ويبتاع الحجاج أيام الموسم من دمشق خاصة من تلك الأعبئة ألوفاً وهي مشهورة بحسن صناعتها وعلى غاية المتانة، مع أنها من النسج النحيف الناعم، ومما يدل على ذوق صناعها تفننهم في ألوانها على اختلاف ضروبها، وفي دمشق وبيروت ولبنان وحمص وحلب من الأنوال لعمل الأعبئة من الحرير وهي على غاية الرواء والجمال والمتانة وفي النهاية من سلامة الذوق بوشيها وألوانها. وتصدر إلى أوربا وأميركا ومصر وإيران. ومما يؤسف له الآن دخول الحرير النباتي إلى الديار الشامية وصنع العباءة منه مؤثرين له لرخص ثمنه مما يكون منه بعد بضع سنوات القضاء على صناعة العباءة الحريرية في الشام إن لم تتدارك بما يحفظ وراءها.
واشتهرت حلب بالمناديل الحريرية والمقصبة المعروفة بالبوشية وفيها 53 معملاً كما فيها 124 للخام و 247 لمنسوجات الغزل و 159 للحرير و117 للأغباني أو تقليد الزنار الهندي، وصناعة الأغباني في دمشق رائجة كل الرواج وهي عبارة عن قطعة ثوب مربعة طولها ذراعان في مثلهما، تعمل من الحرير الدقيق، لونها أبيض وأدكن، وتطرز بألوان الحرير الجميلة، وبأنواع الرسوم التي قد تعجز عنها ريشة المتفننين من المصورين، وكانت تلك الصنعة مختصة أولاً بالهند تصدر منها إلى أطراف العالم، وكان قليل منها يطرز في حلب ويستعمل للعمائم فقط على قماش قطني وبعض الحرير. وأما الآن فقد تناولتها أيدي جميع الشاميين أذكياء وأكثر من يصنعها النساء يطرزن منها أثواباً(4/204)
طول الثوب تسعة أذرع وعرضه ذراع واحد، وتعمل منها القفاطين، وهي الألبسة الوطنية في الشام، وفيه اليوم ألوف من الآلات تصنع هذا النوع من القماش، وتسمى القطعة منه أي ما طوله ذراعان وعرضه كذلك سُلْك أغباني وهو يستعمل في الشام غطاء للرأس أي
كوفية، وزناراً، وملفاً للأولاد الرضع، وعمامة، ويصدر منه إلى الخارج كميات وافرة، وله تجار كثار أخصائيون في دمشق وحلب وبيروت وحماة وحمص وطرابلس وفلسطين وجميع المدن الصغيرة ويصدر إلى الهند وفارس وتركيا والحجاز والعراق ومصر والسودان والصين.
واشتهرت الشهباء بصناعة الأشغال الحريرية المعمولة بالقصب وأقمشة الجوخ المعمولة بالسيم والثياب المفصصة بالجوهر والزّبرج أي الزينة من وشيٍ وذهب ويقال لهذه الصناعة صنعة القصبجية والألتونية فهي ممتازة بعمل الفضي ومشهورة بالزركشة والتطريز، وعرفت زوق مكايل بصناعة الوشي وزركشة القصب والنسيج أيضاً، واهتدى صناعها منذ تسعين سنة إلى رسم الأشكال التي يريدونها على المنوال بالمحواك، واصطنعوا من الأثاث والأكيسة والطنافس ما يأخذ بمجامع القلوب إتقاناً، وعملوا نسائج هذا القز فأبدعوا فيه وأظهروا الصور الشمسية على النسيج فجاءت كأنها لم تمس بيد، صنعوا بها صور العظماء والملوك والأمراء مجسمة، فكانت من أنفس أعلاق القصور. وصناعة زركشة القصب هذه كانت راقية جداً في دمشق، وصفها أحد سياح القرن الحادي عشر بقوله: وبباب جيرون على يسار الخارج منه حارة الذهبيين، وهي أماكن يمد فيها خيوط الذهب غلاظاً أولاً، ثم لا يزالون يعالجونها بالإدخال خرقاً بعد خرق، وكل ثان أضيق من قبله، حتى تنتهي إلى الرقة، إلى أن تصير كالشعر ثم يطرقونها بمطارق لطيفة وصناعة محكمة، ثم يلفون ذلك المطروق على خيوط الحرير فيتركب منه القصب المعلوم ونحو ذلك عملهم للفضة اه. وسمى هذه الصناعة البدري صناعة الذهب المسبوك والمضروب والمجرور والمرفوع والممدود والمرصوع وكان القوم يغالون في لبس الأردية والأكسية والمعاطف والسراويلات التي تعمل من هذا القصب على الجوخ ويلبسه المترفون(4/205)
والعُرُس وأرباب النعيم،
وبقاياها اليوم يلبسها الآذنون عند قناصل الدول والرؤساء الروحيين.
الدباغة وصناعات الجلود:
كان للدباغة شأن مهم في هذا القطر تعمل من الجلود الأحذية والسروج والمطارح والمقاعد والقرب والروايا والمحافظ والمطاهر والركوات والأدوات وما أشبهها، وكانت أهم معامله في حلب وفيها اليوم 40 مدبغة على الطريقة القديمة وفي حماة ودمشق وزحلة ومشغرة والخليل. وتدبغ جلود الثعلب وبنات آوى التي تصلح للفراء في جوار طرابلس وبيروت. ويقدرون عدد ما يدبغ من الجلود في الشام بمليون ومائتي ألف جلد منها مليون من المعزى والغنم. وقد أنشأ في دمشق السادة رومية وعمري معملاً لدبغ الجلود وعمل الشراك والشسوع للأحذية، فجاءت مصنوعاتها كمصنوعات أوربا من كل وجه وزادت عليها رخص أثمانها، فأصبحت تباع حتى في الغرب، ومعظم معدات هذا المعمل الكبير من صنع دمشق ولم يجلب له غير أدوات قليلة، والصناع كلهم من أرباب هذه الصناعة القدماء، وفي دمشق نحو 30 دباغة على الطراز القديم ودباغات الخليل مشهورة وأشهر منها صناعة القرَب في تلك المدينة، تعمل من جلد الماعز وهي صناعة خاصة بها. وفي عكا معمل جيد للدباغة.
وصناعة الأحذية والسروج والكنابيش والبرادع والرباطات والرشمات من أهم صناعات دمشق وحلب. وصناعة السروج من الصنائع المشتركة في الشام، ومما يعد في جملتها لوازم الحيوانات كالعذر والهمايين الخراج والبرادع المراشحط ويعمل كل ذلك على غاية من الإتقان. ومن السروج ما يصنع وجهه من الجوخ، ويطرز أحسن تطريز بالحرير والقصب. والجلد الذي تعمل منه السروج هو غالباً من دباغة الشام.
ومن صناعة السروجيين ايضاً أحزمة الجلد ويسمونه قشاطا وجعاب رصاص
البنادق ويسمونها جناداً وأرسان للخيلن وصناديق للسفر من الجلد وغير ذلك من الحاجيات المحلية، ويصدر ذلك إلى الداخلية فقط وهو يضاهي أعمال الأوربيين أنفسهم من ذلك النوع.
وتعمل الأحذية في جميع المدن ومنها ما تستخدم فيه الجلود الإفرنجية(4/206)
المعروفة بلمعانها ومتانتها وحذاءو الشام مشهورون منذ القدم، وأهل الرفاهية والبذخ اليوم يأتون بأحذيتهم من الغرب جاهزة وخصوصاً النساء يرينها ألطف شكلاً وأدق صنعة ويقبلن عليها وإن كانت أغلى قيمة وأقل متانة مما يعمل هنا. ويلحق بصناعة الدباغة أو القرظية صناعة عمل الأوتار من المصير والمري وهي نافقة يبعثون بها بعد تحضير قليل إلى معامل الغرب فتعمل منها أوتار الأعواد والقيثارات وغيرها.
تربية دود الحرير:
ومن أهم الصناعات تربية دود الحرير الفيالج أو الشرانق وهو عمل خاص باللبنانيين وبسكان أرجاء إنطاكية. وكانت مساحة الأراضي التي تغرس التوت الصالح لتربية دود الحرير واسعة أكثر من الآن في أرجائنا. فقد ثبت أن عمالتي وادي التيم والبقاع كانتا كلتاهما مغروستين بشجر التوت. واقتبس أصحاب تربية الدود في العهد الأخير طريقة باستور في تربية دود القز فزادوه إتقاناً. وتصدر منه كميات وافرة إلى معامل ليون في فرنسا وهناك يصلح الإصلاح المطلوب حتى يكون منه الحرير المعهود في نسج الثياب والطرائف. ومن تربية دود الحرير يعيش عشرات الألوف من الناس في هذه الديار. والغالب أن مناخ لبنان وإنطاكية وما إليها وبعض الأرجاء المعتدلة القريبة من الساحل تصلح فقط لتربيته ومنذ القديم لم يحظّ الحظ سائر الأرجاء أن تشترك في صنعه. وقد أسس في الزبداني في العهد الأخير معمل لحل الحرير على الطرز الحديث وتصدر
مصنوعاته إلى إيطاليا وفرنسا.
النجارة:
لم يكتف الصناع في منجوزاتهم بأخشاب الشام على كثرتها، بل أخذوا يجلبونها من قلقية ورومانيا وغيرهما، ومنهم من يجلبونه من أميركا وهو الجوز الأميركاني. يعتمدون عليه وعلى خشب الحور والجوز والزيتون والشربين والتنوب والميس والعرعر والدردار، وكان اعتمادهم يكثر في القديم على الصندل والصنوبر والسرو. وخشب السرو والصنوبر كما قال قسطا بن لوقا(4/207)
من أشرف الأشجار التي تستعمل أخشابها في البناء يتخذ منها مصاريع الأبواب والدعائم والسفن ويستعان بها في كثير من الأمور.
ينشرون الخشب اليوم بمناشير ميكانيكية بالبخار أو بالكهرباء أو بالطرق القديمة فيعمدون إلى أيدي العملة في إحضارها، يصنعون منها مناضد وأصونة للثياب وإطارات ومقاعد وكراسي ومغاسل وصناديق وتوابيت ورحالاً وألواحاً لدرس الغلة وأعواد الطرب. وهذه الصناعة صناعة الأعواد قديمة جداً في دمشق ودخلت حلب منذ نحو سبعين سنة. وقد اشتهرت دمشق بصناديقها التي كانت تعمل من خشب الجوز وتبقى القرون لا تتشقق ولا يسرع إليها البلى ولا تتآكل، وعليها من النقوش ما يدل على ذوق جميل، كما اشتهرت إلى اليوم بمصنوعاتها الخشبية. وفي حلب معملان للنجارة بأنواعها، وكذلك مدينة بيروت فغن معامل هاته المدن الثلاث كادت تستأثر بتجهيز الدور والقصور والفنادق ومنها ما لا تقل جودته عن أدق ما يعمل من نوعه في الغرب مع الرخص والجودة والمتانة.
وإن ما يسمى بالحلقات في القصور والقاعات القديمة دليل كافٍ على رقي فن النجارة. فإن القصر أو القاعة يبلغ طوله على الاعتدال ستة أمتار في مثلها عرضاً وارتفاعه أيضاً يتسامى إلى الستة أمتار، فجهاتها الأربع وسقفها مما يشهد
للمتقدمين من النجارين بسلامة الذوق وإتقان الصنع، ويباع منجور بعض هذه القصور إذا كانت سليمة من الأوربيين بأثمان باهظة، وهو عبارة عن أخشاب فقط. وصناعة الدهان المدهون به ذلك الخشب هو من أبرع الصناعات يشهد بذلك من له أقل إلمام أو ذوق من الناظرين في المحلات الخصوصية عدا ما كان من نوعه في المساجد وغيرها من المحال العامة وكله يشهد للمتقدمين من النجارين الشاميين بالبراعة والحذق. والنجارون في الشام اليوم من أشهر نجاري العالم باعتنائهم بصنعتهم، والنجار بطبيعته ينبغي له أن يكون ذكياً، لما يقتضي لصنعته من الإلمام بالهندسة والمساحة وضبط المقاييس والحساب وأن يكون على جانب من سلامة الذوق في الوضع والصنع. فالنجار الذي يخلو من هذه الصفات لا يحق له أن يصير نجاراً. إن هذا النجار الشامي الموصوف آنفاً يعمل بيده وتدل عليه آثاره في البناء الخشبي في دور دمشق وحلب وغيرهما(4/208)
وما يسمونه الصلب وغيره من أبواب ونوافذ غاية في الإتقان. ومن صنع النجارين أيضاً قديماً الصناديق الخشبية ومنها ما هو مغشى بالصدف ومنه ما يسمونه بالحفر. ومنذ نحو أربعين سنة دخلت بيروت ودمشق آلات النجارة الحديثة التي تدار بالكهرباء فاستطاع مديرو المعامل أن يقاولوا على بنايات كبيرة لصنع أبوابها ونوافذها بغاية السرعة.
وظهرت صناعة جديدة على الطراز الغربي تسمى صناعة الموبيليا أي فرش الدور وتنضيدها ويتناول اسم الموبيليا جميع أسماء الخزائن والمغاسل والمقاعد الخشبية المغلفة بالنسيج الحريري ولوازم غرف النوم وغرف الطعام وغرف الاستقبال، وكل ذلك يصنع في دمشق وحلب وطرابلس وبيروت، وهي تضاهي المصنوعات الأوربية جمالاً وإتقاناً ومتانةً، وتعد هذه المعامل بالمئات، ومما يدل على الذكاء في الصناعة أن تلميذات المدارس الصغيرات يشتغلن اليوم من جملة
الأشغال اليدوية على اختلاف أنواعها وأوضاعها ما تقر به العيون ويبشر بمستقبل مجيد. وقلما تجد واحدة من النساء إلا وتجيد أكثر من صنعة يدوية.
ومن الصناعات التي تمتاز بها دمشق خاصة، صناعة خشبية تسمى اليوم بالمصري، وهي بواقي خشب الجوز اليابس تفصل حسب المطلوب، وتصقل صقلاً تاماً، ويرسم عليها بالقلم عروق غاية في الإبداع، ويحفر على حسب رسم القلم، وينزل به الغراء وفوقه الصدف. وتقسم قسمين فما كان دقيق الرسم يسمى بالمصري، وما كان رسم عرقه ظاهراً كل الظهور يسمى في عرف الصناع بالعِرق. ويصنعون منع أنواعاً، فمنها ما يسمى بالجاردينيه وهي أثاثة يوضع فيها قحف زهور صناعية، بعرض مترين أو ثلاثة أذرع، ويجعل فوقها إطار من تلك الصناعة النفيسة طوله متران وعرضه متر. وفي داخل ذلك الإطار مرآة وبجانبه من الطرفين جناحان لطيفان لهما رفوف توضع عليها التحف المنوعة، وفوقها تاج على علو متر أيضاً. وكل ذلك محلى بتلك الصناعة الصدفية يتخلله صباغ أسود قليل يزيد في لمعان الصدف.
ويصنع من تلك الصناعة أشكال وأنواع متعددة منها الأصونة خزائن(4/209)
الثياب ومنها ما يسمى بالعرف بالبيرو مكتب وهو عبارة عن أربعة دروج كبيرة فوقها درجان صغيران ويصنع منه إطار للمرآة، وإطارات للصور ومناضد، وجميع ما يصنع من الخشب البسيط. ومنذ خمسين أو ستين سنة كثر طلب هذا الصنف إلى أوربا. ولكن الحكومة والبلدية لم تأخذا تلك الصناعة تحت رعايتهما فكثر الغش فيها، وصارت لى البوار وانقطع عنها الطلب إلى الخارج بتاتاً، وهي لا تروج الآن إلا في دمشق وضواحيها تقريباً، ولو عُنيت البلدية بمراقبة صناعها، وجعت لهم رئيساً مسؤولاً لدرت تلك الصناعة على دمشق أرباحاً هائلة ولأصبحت أجرة الصانع يومياً نصف دينار وراجت في أقطار العالم أجمع لجمالها ودقة صنعها.
ومن أهم معامل النجارة والفرش معامل الياس جرجي السيوفي في بيروت زرتها في سنة 1330هـ 1912م ومما قلته فيها: رأيت صورة مصغرة من صورة الغرب في الشرق، وتمثل لي فضل الذكاء العربي، وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دونه، وأن يد أبنائنا صَناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا، أو تكاد فغي أكثر الأصقاع لا تجد لها أثراً بيننا، وهي ترجع إلى أسباب رئيسة مهمة، أولها الصبر على العمل، وثانيها تجويد العمل، وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة، ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة، وخامسها تنشيط الأهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ على الصادر والوارد، وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن المواد الخارجية في الجملة.
دلت معامل السيوفي على أن الشرقي بمفرده أُمة، وأن الأمة بمجموعها ضعيفة، بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً، وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره، لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه، ولو كانت معامل السيوفي في بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح، وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أثمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها، وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى وأن نقدر لها النجاح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا(4/210)
وتعلمنا تعليماً وطنياً اقتصادياً واحداً.
على هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية، في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر، يطل على سفوح لبنان وبيروت وعلى البحر الرومي من أُخرى، قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخال نفسك
في إحدى معامل الغرب الكبرى، وأول ما يبدؤك بعد الدخول من التاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة، وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبعت عليها ساعات الغدو والغداء والرواح، فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل إشراق في الشتاء مثلاً يضع مقواته في بيتها، فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاء فيها بحروف عربية، وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير المعمل، ويحسب المتأخر من المتقدم، ويعدون ذلك بموجب نظام خاص لهم جروا فيه على مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا. ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلائم هذه الديار وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت.
وهذه الساعة من نفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكية ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة، ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال، ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محدودة متكبراً أو مهوساً.
يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والخريف والربيع على السواء وينقطعون ساعةً وقت الظهر ثم يعاودون العمل إلى قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعاً بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض الممالك كبلجيكا مثلاً زهاء اثنتي عشرة ساعة، ولكثرة الأيدي العاملة وللعادة والإقليم دخل كبير في هذا الاصطلاح.(4/211)
وفي معامل السيوفي اليوم 280 عاملاً مع أن الأدوات التي اقتناها صاحبها تشغل ضعفي هذا
العدد فيستفيدون ويفيدون.
أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت تعمل كما تعمل في الغرب وتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومنها لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره ونقشه وتنشيفه، فترى خشب الجوز والزان من واردات الروم الأناضول والاكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قلقية تُعمل في تلك الأدوات وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق.
قال لنا صاحب المعمل: إن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار 13 فرنكاً من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر من ذلك، وبهذا يستدل أيضاً أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لا سيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم العمال فتجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وقسم النجارة وقسم الحفر وقسم البرداخ، وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي. وتختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشاً ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الاثنين فيه للنزهة، ويقضى على كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة أولاً ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من العمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصحابها معطلين. ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها
العملة طعام الظهر، وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها، وهي من اختراع أحد العمال هنا، وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية المعمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين. ومما رأيته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه على نفقة صاحب المعمل وغرس(4/212)
بعض الأشجار على جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلو مترين.
هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي، ولذلك يصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيراً سنة 1888 في مدينة بيروت وكبره في سنة 1908 في حي الأشرفية على الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة، ولكن لا يتيسر لمن معه مائة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقل من أساليب العمل وتجويده. فليت كل أعمالنا تجري على هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد اه.
ومما يصح أن يلحق بالنجارة صناعة تنزيل الخشب وتنزيل الصدف أو خشب الليمون فيه، وهذه الصناعات كانت رائجة جداً ثم عمدت وجدد شبابها صناع دمشق منذ نحو سبعين سنة حتى أصبح ما يعمل منها مما يتنافس في اقتنائه. ونسبت هذه الصناعة لدمشق فيقال لها بالإفرنجية داماسكينه.
القيانة والحدادة والنحاسة:
كانت العرب تطرق المعادن في دمشق بإتقان أكثر من إتقان الغرب على ما قال ميشو، واشتهرت كثير من مدن الشام بهذه الصناعة منذ عرف تاريخ القيانة أو القردحة أي صناعة عمل السلاح. وذلك لأن الحديد كان يكثر في الجبال ولا سيما في لبنان وحلب. وقد اشتهرت في الجاهلية سيوف مشارف الشام في أقصى تخوم
الجنوب، وكانت تطبع بها السيوف وتنسب إليها فيقال السيوف المشرفية، وكانت حاضرة المشارف مدينة مؤتة قال كثير:
إذ الناس ساموكم من الأمر خطة ... لها خطة فيها السهام الممثل
أبى الله للشم الأنوف كأنهم ... صوارم يجلوها بمؤتة صيقل
والصيقل هو الذي يجلو السيوف. ونسبت السيوف إلى دياف وإلى بصرى وكلتاهما في أرض حوران فيقولون للسيوف البُصرية قال الحصين بن الحمام المرّي:
صفائح بُصرى أخلصتها قيونها ... ومطرداً من نسج داود محكما
والقيون جمع قين صانع السلاح. وسيوف دمشق لا تزال يفاخر بها لتفنن(4/213)
الصياقلة في صنعها، وقد عرفت بصفاء مائها، واخضرار لونها، وإرهاف حدها، ولطف فرندها، وكانت تكتب عليها آيات وأشعار بماء الذهب، وكذلك على الخناجر والرماح، عرفها الصليبيون في القرون الوسطى ونسبوها إلى دمشق وغدوا يفاخرون بتقلدها ولا مفاخرة العرب بالسيوف اليمانية والرماح السمهرية. وصناعة تنزيل الذهب على السيوف والخناجر والمدى والبنادق كانت من أهم الصناعات الدمشقية ويحسب أربابها من أهل اليسار ويعدون اليوم على الأصابع ولا يسع المنصف إلا أن ينحني إعجاباً أمام جمال هذه الصناعة. وقد نقل الفاتحون من العرب إلى الأندلس صناعة صقل السيوف وهي الصناعة التي نسبت إلى دمشق حتى اليوم فقيل لها بالإفرنجية أو أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ وقد اشتق منه الفعل عندهم
وكانت تعمل السيوف في زحلة والشوير ودومة من عمل لبنان وتعمل النبال الفائقة في عمتا من بلاد الغور. وكانت الدروع تسرّد بيد الدارعين والخوذ والسابرية تصنع في دمشق خاصة. ويعمل من الحديد كل ما يلزم من الطبر
والخناجر والمرادن والمغازل والصنارات والأسياخ والعقافات والقيود والزرد والمباضع والمبازغ والمشارط والآنية، يطرق كل ذلك في كيرة الحدادين وسنداناتهم ويضرب بمطارقهم، وكانت وافية بالغرض.
ومن أهم أعمال صناعة النحاس في دمشق حلقة باب المدرسة الخضيرية في حي الخضيرية وكذلك الحلقتان اللتان على بابي المستشفى النوري. والأولى من القرن الثامن والحلقتان الأخريان من القرن السادس وهي آية الإبداع والمتانة وفي هذا البيمارستان أبواب من خشب من عصر صلاح الدين عليها مرايا المفاتيح على طرز الغرب إذ ذاك. وفي مستودع الجامع الأموي بقايا النحاس الذي كان على باب جيرون من أبواب الجامع تصور للمرء نموذجاً من إتقان النحاسين والحدادين لصناعتهم في القديم. وفي بعض مدارس حلب حلقات قديمة من هذا القبيل تدل على مبلغ صناعها من الحذق وفيها أبواب من الحديد صنعت لبعض البيوت والمدارس القديمة آية الجمال الصناعي. ومن صناعة الحديد أمثلة كثيرة مثل أبواب بعض خانات دمشق كخان الحرير وخان أسعد باشا(4/214)
وخان الزيت وأبواب التكية السليمانية وشبابيكها. وشبابيك المدارس والديارات والجوامع والكنائس القديمة وأبوابها ودرفاتها في دمشق وحلب والقدس والناصرة وبيت لحم ولبنان وغيرها وكلها تدل على ترقي الحدادة والنحاسة دلالة عظيمة مثل أبواب القلاع كقلعة عكا وحصن الأكراد وغيرهما. ولكثرة الحديد في أرباض حلب عمل كثير من أبواب حلب القديمة من الحديد.
وكذلك قل عن سائر صناعات الحديد والنحاس وكانت تعمل منها السرج والمصابيح والمواقد والشمعدانات والشبابيك والكؤوس والصحاف والزهريات والمباخر والقماقم وأوعية القهوة الدلاّت والألبان والطسوت والموائد والصواني والصحون والمصافي والمغارف والملاعق والقدور، والقدر الشامية كانت مشهورة
بكونها لا تنش، والسطول والمساخن والهواوين والمدقات والمناشير والجرار والحقاق والأجراس والنعال والمسامير والمعاول والمساحي والمناجل والمطارق والأقفال والمفاتيح والمغالق والمناصب والملاقط والسكاكين والمدى والمقال والمواسي والمبارد والقيود والجواشن والدروع والصنجات والجُرُز العمد والحسك والدرابزون والمناجيق والدبابات.
ومن الصناعات النفيسة صنعة الأجراس أجراس الكنائس فإنها تصنع في بيت شباب، واستأثر بهذه الصنعة لبنان من دون أقطار الشرق الأقرب، وقد دخلت صنعتها أرضنا مع الصليبيين على الأكثر، وكانت البيع قبل ذلك تستعمل أجراساً من الخشب، وما زالت هذه الصناعة محصورة ككثير من الصناعات في أُسرة واحدة. ولما جاء حديد الغرب الرخيص السهل على التطريق كثرت أدوات الحديد وتفنن صناعه في صنعه ومنهم من عمد إلى اتخاذ الأدوات الحديثة كمعامل بيروت، ومنهم من اعتمد على الطرق القديمة في تطريقه، وكثير من الأدوات الزراعية كالفؤوس والقُدُم جمع قدوم والسكك الزراعية والمقاريض وأدوات السيارات تعمل في حلب ودمشق وبيروت والقدس وسائر المدن الشامية. ولا يزال الحدادون على تفننهم حتى يساووا معمولات الغرب. والحاجة أُمّ الاختراع.
وقد قامت دمشق في الحرب العامة بصنع أعمال نفيسة من حاجيات الجيش كالقدوم والمنشار والكلاّب واللولب والفأس والرفش والقدر والمركن والمرجل(4/215)
والدلو والبرميل وعجلة النقل والركوب ومحفة الجرحى والمرضى، كنت إذا رأيتها تظنها لجمالها ومتانتها من صنع الغرب. وقد جلب كثير مما يستعمل في هذه الصناعة من حلب ولبنان وبيروت، ويستعمل فيها الحديد والنحاس والصفيح التنك وتوفر الجيش التركي في تلك الأيام على ملء الخراطيش وصنع القذائف والمدمرات واستجادة أحسنها طرازاً وأفعلها في وقت الحاجة وإصلاح البنادق
والمدافع ما دل على ذكاء ابن هذه الديار إذا عُلّم التعليم العملي المنظم بنظام المعامل الغربية. ولقد صنع أحد مهرة الصناعة مدة الحرب بندقية من الخشب أخف من الماوزر فنال استحسان أهل هذا الشأن في الدولة.
ويصح أن تلحق صناعة النحاسين والصفارين بالحدادة، وكانت في القديم ذات شأن، ولم يبرح في المتاحف والبيوت القديمة في المدن والقرى نموذجات منه صبرت على ممر الأيام بحالها، وما عمل منذ ستة أو سبعة قرون كثير جداً، والقديم أقل منه، وكان ما يصنع منه في دمشق يقال له الظاهري نسبة للملك الظاهر فيما زعموا ولا ندري أي ظاهر هو، لأنه كان من المنشطين لصناعته فنسب إليه تحبباُ، وما فتئت هذه الصناعة رائجة تعمل من النحاس الثريات والمصابيح والفوانيس والتعاليق والجفان والكؤوس والباخر والقماقم والصحاف والصواني والطسوت والأباريق والصنجات، مصنوعة من النحاس الأصفر منقوشة في العهد الحديث حروفاً لا تقرأ إذ تعاور صناعتها أُناس أُميون على الأكثر، وكان يطرز ويرقش في القديم بكل معنى جميل. وفي حلب ودمشق وزحلة وبسكنتا وبتغرين ودومة لبنان مسابك حديد، يقينون فيها الحديد قيناً جيداً، والنحاس يعمل في كل بلد للآنية وامتهانات البيوت، وأجَلُّه ما صنعه صَنَعوا الأيدي في دمشق وحلب. ومن أوسع معامل النحاس الأصفر معمل السادة النعسان في دمشق فقد تفنن بصنع الزهريات والكؤوس والثريات وغيرها والسياح يتنافسون في اقتناء مصنوعاته وكثير من أرباب الثراء في مصر وأميركا وأوربا يزينون ردهاتهم بقطع منه ولا يقل العاملون والعاملات فيه عن مائتي نفس.
وصناعة النحاس المنقوش من الصناعات القديمة في الشام، وكل ما كانت تستعمله قديماً في بيوتها وحوانيتها هو من صنعها، من صحاف كبيرة وصغيرة(4/216)
وبواطٍ على غاية من دقة الصنعة والقديم منها يباع الآن بأثمان باهظة، وبيع من مدة من
أحد تجار الآثار القديمة صحنان من النحاس بسبعين ليرة عثمانية ذهباً ويشتري الأوربيون ذلك تقديراً للفن وخدمة للتاريخ، وفي الشام معامل كثيرة لصنع النحاس المنقوش وله رواج عظيم وهو أنواع كثيرة منها ثريات للتعليق في قصور الملوك والعظماء تزين برسوم جميلة، ومنها ما ينار بالكهرباء ومنها ما ينار بالشموع وصحاف كبيرة وصغيرة وما يلزم للاستعمال والزينة في البيوت وهو أنواع. والمعقول أن يدوم تصدير هذه الأنواع وتزداد، لما في نقوشها من الإتقان ودقة الصنعة والاعتدال في الأثمان.
الزجاجة:
من أهم الصناعات التي اختصت بها الشام من القديم الزجاجة؛ صناعة الزجاج. وعدها
الثعالبي من خصائص الشام وقال: إنه يضرب به المثل في الرقة والصفاء فيقال أرق من زجاج الشام وقال بعض الحكماء: وارفق بالعدو كما برفق بزجاج الشام، إلى أن تجد الفرصة فإما أن يضربه الحجر فيفضه، وإما أن تضربه بالحجر فترضه وربما كانت تعمل من هذا الزجاج المناظير للعيون قال أحمد بن محمد الدنيسري القاهري المتوفى سنة 794.
أتى بعد الصبا شيبي وظهري ... رمي بعد اعتدال باعوجاج
كفى أن كان لي بصر حديد ... وقد صارت عيوني من زجاج
وقد اشتهرت صور منذ القديم بزجاجها، وكان الرمل الذي يعثر عليه في جوارها يزيد الزجاج بهجة ليست له في غيرها من البلدان. وكانت معامل الزجاج في حلب وأرمناز مشهورة تصدر منه إلى العراق ويتباهى به في قصور الخلفاء. واشتهرت معامل الزجاج في عكا إلى القرن الرابع عشر، وعرفت دمشق بزجاجها كما اشتهرت الخليل فكانت الزجاجة من صناعتها وهي مشهورة بعمل المصابيح التي تعمل فيها اشتهارها بأساور النساء. وكان الزجاج معروفاً بالدمشقي يتخذ للزخرفة والزينة ومنه والأكواب والآنية على اختلاف ضروبها ويفهم مما وصفه الشعراء مبلغ تفنن الزجاجين بزجاجهم. واشتهرت الرقة بصنع الزجاج. وفي دار المتحف بدمشق مجموعة من الزجاج الملون المنقوش(4/217)
المرقوش، وهي أثمن المجموعات التي عرفت حتى الآن من نوعها. ومن أجمل النموذجات في هذه الطرائف البديعة، ومنها الأكواب والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي وكانت معاملها في دمشق وحلب والرصافة والخليل وصور وعكا على ما يظهر. وقد انحطت
هذه الصناعة حتى انحصرت في دمشق وأرمناز والخليل بأناس فقراء يعملون من الزجاج القناني والبواطي العادية فقط. ن صنع الزجاج النفيس الذي تعمله البنادقة من معاملنا في الحروب الصليبية وتلقنوه عن معامل صور وانتشر صنعه في أرجاء أوربا بعد أن كانوا يستبضعونه من ديارنا قد نافس هذه الصناعة فقضى عليها أو كاد. وكانت معامل الزجاج ممتدة على طول الجامع الأموي في دمشق رآها الرحالة بوجيبوجي سنة 1346م وبعد أن كانت معامل عكا وصور مما يضرب بمصنوعاته المثل فقدت أسرار الجمال في هذه الصناعة. وقبيل الحرب العامة 1908 أنشأ في دمشق السد مسلم العمري معملاً لصنع الزجاج، أنفق عليه عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، وجرّب عمله بواسطة صناع غربيين فجاء كالزجاج الذي يجلب من الغرب، ووافق الرمل الذي استعمل لكن المعمل لا يزال معطلاً، وكانت الشركة الوطنية بنته على آخر طرز في شرقي المدينة. وفي الحرب العامة الأخيرة قل الزجاج المجلوب من معامل الغرب فهب أرباب معامل الزجاج في دمشق وبيروت وأخذوا يصنعون الأكواب والصحون والأقداح من كسرات الزجاجات القديمة فسدت بعض حاجة الناس.
الدهان:
ومن الصنائع الدهان، وكانت مما تمتاز به بعلبك. قال في مسالك الأبصار: ويعمل في بعلبك الدهان الفائق من الماعون وغيره، ولكن دمشق وحلب وغيرهما من المدن حيث كان للرفاهية أسواق نافقة، لم تكن دون بعلبك في هذه الصناعة، فكان يدهن الخشب والحجر ويبقى بحاله القرون الطويلة. ومن يدخل قاعة من قاعات دمشق وحلب مثلاً يرَ الألوان زاهية باهرة كأنها نقشت الآن، وفي دمشق اليوم قاعات وأبهاء وأواوين مضى عليها زهاء مائتي سنة ولا تزال(4/218)
برونقها تدهشك كما يدهش الداخل إلى متاحف الآثار المصرية من نقوش بيبان الملوك
وبني حسن وسقارة وكتاباتها ورسومها، وقد مضى عليها قرابة أربعة آلف سنة، على حين تنصل الألوان المستعملة لعهدنا وتكمد في سنين قليلة.
والسبب في نصول الدهان الجديد، ومواده تأتي من الغرب، أن الدهانات القديمة كانت من صنع القطر ترجع إلى أصل ثابت ويحافظ عليها من المطر والشمس لأن الأقدمين لم يكونوا يعنون بفتح الطيقان والنوافذ وتوسيع الأبواب مثل المحدثين، ولذلك صبرت الأصباغ على الأيام، زد إلى ذلك عنايتهم في تخير الأخشاب وأكثرها من الدف الرومي أو الجوز أو السرو وهذه مما يصعب تطرق التشقق والبلى إليه كالكريش والشوح وفيه مواد قطرانية أو غيرها، وكانت لهم في دمشق صناعة من الدهان تعمل من الحفر والتنزيل ويقال لها الأبلق وهي أن يرسم الدهان الحجر مما يريد من الأشكال والنقوش ويحفرها النقاش والحفار ثم يدفعها إلى الدهان فيدهنها بصب الأصباغ في الشقوق التي يريدها ثم تجلى وتصقل فيجيء صبغها كأنه من أصل الحجر ثابتاً براقاً، ولا يعما منه شيء اليوم.
وفي دمشق أُسرة عرفت بأسرة الدهان اختصت بصناعة الدهان الذي يقال له العجمي كما اختصت بصنع هذا الأبلق. وتصنع هذه الأسرة مناضد وخزائن واسكملات بهذا الدهان المعروف بالعجمي من النوع المقرنص تكون آية الإبداع وحسن الذوق ويتنافس في اقتنائها العظماء لتزيين قصورهم وتبقى السنين الطويلة زاهية زاهرة. وقد دهنت عدة قاعات فجاءت آية الإبداع. وذكر الغزي أن أحد شبان حلب تعلم في أميركا صناعة الدهان على الأصول الحديثة فجاء عمله غاية في الرونق والإتقان. والمنتظر تعميم هذه الصنعة على هذا المنوال مع مراعاة المعرفة القديمة فيها.
هذا في دهان الغرف والأبهاء والقاعات، وأما صبغ الثياب والحرير والقطن
والغزل، فكان الاعتماد فيها على أصباغ لهم جميلة يعرفونها، ربما كان أكثرها من تركيبهم أو من معادن القطر. وكان للصباغ الدمشقي صيت بعيد في الأقطار، لثبوت ألوانه ولطافة لمعانه، وكانت أصباغه معدنية ونباتية لا غش فيها فلما تغلبت الأصباغ الغربية بطل استعمال القديم منها بل نُسي(4/219)
أمره واعتيض عنه بالحديد. وجودة الأصباغ القديمة كانت السر في اشتهار الديباج الدمشقي قديماً حتى أوشكت لطافته أن تجري مجرى المثل. وفي حلب اليوم نحو 30 مصبغة بالنيل و56 مصبغة للغزل والحرير وفي دمشق مثلها ونحوها وكذلك في كل بلد بحسب حجمه وأرباضه.
وكان من أصباغهم الأصفران أي الزعفران والورس، والبرفير أو الفرفير وهو الأرجوان أحمر وأزرق وكان ولم يزل للنيل الذي يخرج من الحولة أو يؤتى به من الهند، شأن في صبغ ثياب العملة والفلاحين. وانحطت هذه الصناعة تبعاً لانحطاط أكثر الصناعات، لما جاءت الأصباغ الألمانية الحديثة حتى إن بعض معامل ثياب الحرير ترسل حريرها إلى الغرب ليصبغ ويعاد إليها، فتعمل منه الشقق والثياب وتوشى على ما يشاءون، والوشي في الثوب كالرقش في القرطاس والنقش في الحائط، ويحاولون أن تكون ألوانها ثابتة لا تنصل.
الفخارة والقيشاني:
وصناعة الفخارين اشتهرت بها الشام أيضاً وكان في صور الخزافون المبدعون في الأعصر القديمة، وكذلك في كفر طاب، وكانت تعمل فيها قدور الخزف وتجلب إلى غيرها ومنها نموذجات لطيفة حفظت في داري الآثار في دمشق وبيروت، وكان ولا يزال يعمل من الخزف القلل والخوابي والأجانات والدوارق وأصاصي الزهور وغيرها، يصنع ذلك في حلب ودمشق وطرابلس وبيتشباب وصيدا وبيروت وغزة وعيتا وراشيا ويقال لهاتين البلدتين عينا الفخار وراشيا
الفخار وصناعة الفخار على كثرة منافسة الخزف الغربي لها لا تزال متماسكة، لأنه يتيسر جلب كل شيء من الخارج. وأجمل الخزف اليوم ما عمل في حلب من الصيني الجميل.
ومن الصناعات التي كانت تجود في دمشق وحلب من دون سائر البلدان على ما علمنا، صناعة القيشاني التي دثرت وكانت مورد ربح، وعنوان فخر ومباهاة. ترصف بها الجدران والمحاريب والفساقي والسلسبيلات والباذهنجات والقماقم والزهريات والقلل وغير ذلك. وكان يصنع على ما يظهر من الرمل(4/220)
الأبيض والجبس يجبلان معاً ويفرغان في قوالب على الشكل المطلوب، وتكتب على سطوحها آيات وأحاديث أو أشعار، أو ترسم عليها نقوش مختلفة بمواد ثابتة، ويذر عليها مسحوق الزجاج، أو تطلى به ممدوداً بسائل غروي، وتشوى في تنور معدّ لذلك، فيسيل الزجاج ويكسوها قشرة رقيقة تقيها من الغوائل والمؤثرات زمناً طويلاً، وتظهر النقوش والكتابات زاهية بألوانها الطبيعية. وفي سلسبيل جامع الدرويشية بدمشق نموذج منه أُرخ بسنة 982، وقطعة أُخرى كانت على قبر لطفي باشا أُرخت بسنة 998 وهي محفوظة بدار الآثار بدمشق وقد كتبت عليها الآية الكريمة (كل هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) بخط تعليق مشرق وفي أعلاها رحمة المولى عليه كل حين. ولا تزال في بعض الجوامع والمدارس من هذه القيشاني العجيب نموذجات تأخذ الأبصار.
وكان في المسجد الأقصى مصنع للقاشاني له كامل الأدوات وذلك في عهد سليمان القانوني العثماني وهو أول من استعمل القاشاني في زخرفة خارج قبة الصخرة، ولا تزال بعض قطعه محفوظة في المسجد. ويوجد الآن مصنعان فيها لرجلين أرمنيين أتيا القدس من كوتاهيه، وكانت هذه من أشهر معامل القاشاني في الدولة العثمانية، ويشتغل المصنعان بالصنف من القاشاني الذي يرغب الفرنج في اقتنائه
وهي جيدة بعض الشيء لكنها لا تحاكي الأنواع القديمة. ويؤخذ تراب هذا النوع من مطحون حجر الصوان يسح بآلة بخارية قوية.
ومن أجمل النماذج من القيشاني بدمشق عمودان منه على طول متر في محراب جامع التبان في المناخلية جوار باب الفرج، ومنه نموذج كثير ويظن أنه حديث في تربة جامع المرادية، وفي مدخل السويقة في مدرسة أقوش النجيبي كتبت عليه آية الكرسي بالقيشاني البديع. وفي تكيتي السلطان سليمان وسليم وفي قبر في زقاق القرشي بالميدان كتب عليه هذا قبر الجنينين الطفلين يونس وفرج، محفوظ في إدارة الأوقاف، والقيشاني في جامع تنكز مكتوب عليه آية التوحيد وفي مدفن بلال الحبشي الصحابي 146 قطعة من القيشاني المعمول في كوتاهية.(4/221)
ولا يعلم تاريخ اندراس هذه الصناعة، والمشهور أنها كانت خاصة بأهل بيت يتوارثون صنعها خلفاً عن سلف، فدثروا ودثرت معهم منذ أكثر من قرنين. أخبرني أحد أساطين العلم أنه رأى القيشاني في جامع الدرويشية بدمشق مصبوباً على الأحجار طبقة لطيفة وهو في غاية الحسن. ويظهر أن المادة القيشانية كانت تمدّ على الحجر كما تصنع صفائح وألواحاً. وقد قام في العهد الأخير في كثير من المدن أناس لعمل الخزف الملوّن لتبليط البيوت دعوه بالقيشاني وهو لا يشبه القيشاني إلا بالاسم فقط. وانتشر وعم استعماله في الشام كلها ونقل إلى الأصقاع المجاورة.
الوراقة:
فقدت الشام عدة صناعات كادت تكون خاصة بها، وتعد في جملة موارد عيشها، ومنها الوراقة صناعة عمل الورق. فقد كانت من الصناعات التي تعدها من حاجياتها. وكانت العرب تكتب أولاً في أكتاف الإبل والحجارة الرقيقة البيض وعسيب النخل، بعدما كانت الكتابة في الأديم والرقوق على ما قاله المقريزي. وفي أيام بني أُمية عمل الورق من الكتان وسمي بالخراساني. والغالب أن الشام
أخذت في صنع الورق في دمشق وطبرية وطرابلس وحماة ومنبج قبل هذا التاريخ. وعامة المؤرخين من الفرنج على أن الورق من اختراع أهل الصين سنة 123 ق. م ونقل صنعه أسرى من الصين إلى سمرقند في سنة 751 وفي سنة 794م أُسس معمل للورق في بغداد ثم في دمشق ويظهر من بيت طرفة في معلقته أن القرطاس ينسب للشام والبيت:
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد
وأن القرطاس كان يعمل في الشام على عهده أو قبله خلافاً لما قاله مؤرخو الفرنج، وأن الورق من صناعات الجاهلية. وكان يرتفع منه كميات من دمشق ومن طبرية على ما ذكر ذلك المقدسي. وقد تعلم صنع الورق في دمشق أسيران فرنسيان على عهد الحروب الصليبية فلما عادا إلى ديارهما نشرا صناعته في(4/222)
فرنسا، ومنها انتقل إلى جميع أوربا، فلدمشق على فرنسا بل على المدنية بأسرها الفضل الأول في تعليم هذه الصناعة للغربيين، وناهيك بأنها أهم صناعة نشرت العلم والأفكار في العالم. وقد حمل الشاميون الوراقة إلى الأندلس وصقلية في جملة ما حملوه من صناعتهم، على نحو ما حملوها إلى شمالي إفريقية. وكانت شاطبة من مدن الأندلس تصدر منذ سنة 1009م الورق بكثرة ويحمل منها إلى سائر أرض الأندلس.
وكان الورق يصنع أشكالاً في مكابس صغيرة، ويعمل من الخروق البالية أو الحرير واستبدل ورق القطن الذي منه الورق الدمشقي بالحرير في سنة 706م رجل اسمه يوسف بن عمرو، ولا يزال في خزانة دار الكتب العربية بدمشق كتاب كتب سنة 266 هـ على ورق يظن أنه من الورق الشامي وهو أقدم مخطوط عرف بالشام ولا يزال على متانته. وقال الرحالة ناصر خسرو: إن الكاغد الجيد الذي كان يصنع في طرابلس يشبه ورق سمر قند إلا أنه أحسن صنعاً. وذكر القلقشندي
أن الورق المعروف بورق الطير، أي الورق الذي تكتب به البطائق وتعلق في أجنحة حمام الزاجل، وهو صنف من الورق الشامي رقيق للغاية وفيه تكتب ملطفات الكتب وبطائق الحمام. وهذا هو الورق الرقيق، والورق القديم أشبه بالبُردي أو الرقوق بمتانته. ولا نعلم في أي زمن انقرضت هذه الصناعة. وحدثني أحد علماء حلب أن الورق كان يصنع في الشهباء وأن حياً من أحيائها لا يزال اسمه الوَرّاقة حيث كانت معامل الورق. والورق الحلبي الصقيل المتين مشهور إلى عهدنا.
وقد قام في أوائل هذا القرن رجل بيروتي من بيت الباحوط، فأسس معملاً مهماً في أنطلياس على ساحل البحر، وأصدر ورقاً جيداً كورق النمسا وفرنسا، لكن معامل الورق في الغرب أرخصت صادراتها من الورق إلى الشام فاضطر هو أن يُنزل أيضاً ثم خفضت السعر ولم تزل تخفضه، حتى قضت على هذا المعمل النافع في زمن أصبح المجلوب من الورق كل سنة يساوي عشرات الألوف من الدنانير إلى الشام وأصبح الورق حاجة من حاجات المدنية.(4/223)
المرايا:
المرآة بكسر الميم ما تراءيت فيه أو رأيت فيه صور الأشياء وجمعه المرائي والكثير المرايا وصنعها من صناعات هذا القطر كانت تصنع في صيدا على ما قال بلينوس وتصدر إلى الخارج، وقد وجدت في خرائب بومبي ألواح كبيرة من الزجاج وكانت مرايا الأقدمين من صفائح المعدن وهي المعروفة عند العرب بالوذائل واحدتها وذيلة، اتخذوها بادئ بدء من مزيج القصدير والنحاس ثم من الفضة خالصة أو ممزوجة بمعدن أدنى، ومنها مرايا من الذهب، وقد اطلعنا على مرايا من الشَبَه والفضة استخرجت من أرض حمص. وهذه الصناعة مما تعلمه البنادقة على ما يظهر من الشاميين وانتقل إلى الغرب ثم تنوسي عمله عندنا.
وكان يرتفع من فلسطين خلال القرون الوسطى المرايا وقدور القناديل في جملة ما يحمل منها من أنواع الصناعات.
الصياغة:
ومن أهم الصناعات القديمة التي لم تبرح على شيء من العناية الصياغة صياغة الذهب والفضة والتفنن في تصويرها ووضع الأحجار الكريمة عليها، وكانت تعمل هنا أكلة الجوهر وأقرطة الذهب المزينة بالدر والياقوت والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخيل على أشكال ورسوم جميلة. والغالب أن المصنوعات المزيفة من الصياغات الأجنبية نازعت هذه الصناعة وزاد كسادها اختلاف شروط الحياة في هذا العصر عما كانت عليه في الأعصر السالفة، وصارت رفاهية القرون الخالية مما يتعذر على ابن هذا الجيل إلا قليلاً. فصياغة الحلي كما لا يخفى من الصناعات اليدوية الدقيقة جداً، وهي تحتاج إلى ذكاء ومهارة لتغير أوضاعها وأشكالها بحسب ذوق كل عصر ورغبة أهله، وهي تقسم كما أكد العارفون إلى سبعة أقسام رئيسة. الأول ما يحلى به الرأس وأعظمها شأناً ورواء ما يسمى بالتاج، وهو عبارة عن دائرة من الذهب الرقيق، يختلف شكلها بحسب الزمان مرصعة بأحجار الماس المختلفة حجومها، وهي إجمالاً من أحسن ما صنع لتزيين رؤوس السيدات، ويوجد اليوم أسماء كثيرة وأنواع عديدة لما يزين به الرأس، منها ما يسمى بالمشط،(4/224)
والبرش، والقمر، وكثير من أشكال الطيور والحشرات كل ذلك من أبدع الأشكال والصور مرصع بالجواهر الكريمة
ومما تزدان به الصدور من الحلي أنواع متعددة أيضاً منها ما يدعى بحسب صوره وأشكاله مثل قلب، حبة، فراشة زنبقة، غزال، دبوس، كردان، ضفدع كل ذلك جميل في صنع ذهبه وترصيعه، وتناسب تركيب أحجاره يدل على رسوخ قدم في تلك الصناعة، وغالب ما تزين به النحور عقود اللآلئ ومما تحلى به
الزنود أساور الذهب الدقيق الصنع ويرصع غالباً بفَصّ واحد كبير الحجم ورسمه على الأكثر حية أو أفعى، ومما تحلى به المعاصم ويسمى أساور ترسم على أشكال متعددة من الذهب، وترصع بأحجار ماس، ولها بحسب أشكالها أسماء متعددة منها حبة، برغي، ماس، سحب، عصافير وغير ذلك. وكلها بما فيها من دقة صنع تدل على سلامة ذوق صناعها.
وحلي الأنامل وهو ما يسمى بالخواتم، وعامتها من الذهب ويركب عليها غالباً فص كبير الحجم من الماس أو الياقوت أو الزمرد أو الفيروزج أو فصوص صغيرة متناسبة الوضع، ولها أسماء متعددة منها مركيز، زيتونة، فريشة، ذو الثلاثة أحجار ومن أكثر أنواع الحلي الأقراط حلي الآذان وهو أشكال متعددة أيضاً منه ما يسمى قرط كف ماس قفل، طارة، خروسة، عصافير، تركي، بغدادي، حرية، وقرط الطويل، وهو عبارة عن قطعة واحدة من ماس كبير الحجم، معلقة بسلسلة من الذهب، بطول ثلاثة سانتيمات تقريباً لها خفقان على الجيد جميل.
ويجيد فوقه القرط يلوح ... شبه نجم خافق خلف القمر
وفي الشام ألوف من صناع الحلي وتجار الأحجار الكريمة، وليس من بلد في القطر إلا وفيه عدد من أرباب هذه الصناعة النفيسة. ومن غريب الأمر فيها أنك لا تجد شكلاً راج في بلد إلا تجده قد راج في الشام من أقصاها إلى أقصاها خلافاً للباسهم وبقية أزيائهم.
ولا بد من الإشارة إلى سبب ترقي هذه الصناعة، ذلك أن الشام مدينة الفتح العربي بها، فن هذا القطر كما يعلم الباحثون ليس فيه مناجم ماس ولا ذهب(4/225)
ولكن الفاتحين من العرب بعد فتحهم أغلب آسيا وإفريقية وعاصمتهم دمشق هادتهم الملوك، وأغلب هداياهم هي الجواهر الكريمة والذهب حتى امتلأت منها خزائنهم، وكان الخلفاء منهم يهدون منها القواد والأمراء والأطباء والشعراء والعلماء والفقهاء
فكثرت في أيديهم وزادت بطبيعة الحال في أيدي الصاغة، وتنافسوا في إتقان تلك الصناعة حتى صارت كما ترى اليوم في أعلى درجات الارتقاء.
ويمكن ن يعد في جملة الصياغة طبع الدراهم وضرب الدنانير من النقرة المذابة من الذهب والفضة، فإن الشام كانت من أول الأقطار التي طبعت فيها السكة الإسلامية، وكانت الدنانير تضرب في الجاهلية بأيلة على البحر الأحمر، وفي متاحف دمشق وأوربا نقود ضربت في دمشق وحمص وإيليا وإنطاكية وبعلبك وطبرية أيام عمر سنة 17 وعليها كلها رسم ملوك الروم ثم اسم المدينة بالعربية واليونانية.
وكان لهم مهارة في معرفة البهرج والزيوف من النقود الصحيحة ويذهب بعضهم إلى أن الإكسير إذا أُضيف مثقال منه على ألف قنطار من الحديد يستحيل ذهباً خالصاً، ولم يثبت ذلك من طريق الكيمياء وما برح الأحمران الذهب والفضة معدنين خاصين، ويمكن أن يعد في جملة هذه الصناعة صناعة لصق المينا بالمعدن ومنها نموذج في دار الآثار بدمشق. وفي التاريخ العام أن معامل الشام كانت تصنع الخرز والآنية الذهبية ذات الميناء، أما صناعة الجواهر والصياغة فإن ما بقي منها يدل دلالة كافية على رقي العرب في صنعها. وكانت العرب تحسن قطع الأحجار الدقيقة ونقشها بالرسوم وزبرها بالصور.
صناعة الصدف والرخام:
واشتهرت بيت لحم والقدس بصناعة الصدف يعملون منه الصناديق الصغيرة لوضع أدوات الزينة، والمسابح والصلبان والدبابيس والدويّ والمقاطع ورسوماً وطيوراً وحيوانات الفيل والأرنب، وما يصنع من خشب الزيتون أشكالاً دليل على رسوخ الصناعة، وتباع في الغرب كميات كثيرة منها، لما فيها من دقة الصنعة وجمال الأسلوب والتفنن في الوضع والشكل، ويتنافس الغربيون في(4/226)
اقتناء هذه
المصنوعات ويحببها إليهم كونها من الأرض المقدسة.
وتفرد أهل بيت لحم منذ قرون بصنع أدوات التقوى كالسبح والصلبان وبعض مشاهد التوراة، يصنعونها من عرق اللؤلؤ كما يعملون المرجان وحجر الخنزير أو الحجر المنتن، وهو مؤلف من الطباشير والحمر المستخرج من بحيرة لوط.
وكانت عكا في الدهر السالف تعمل صنوفاً من حاجيات الكنائس. ولبعض صناع الرخام صنائع دقيقة في دمشق فمنهم من يعمل أحواض الماء من قطع صغيرة، فيها أنواع الرخام الملون، وقد عمل أحدهم خزانة للكتب من أنواع الرخام الملون لا تتجاوز القطعة الواحدة السنتمتر الواحد فكانت طرفة من الطرائف التي آثروا بها القصر السلطاني في فروق. وهذه الصناعات من الكماليات قلما يرغب فيها حتى الأغنياء أرباب القصور، ولذلك رغب عن صنعها أربابها فكادت تدثر. ولبعض الصناع مهارة في تقليد العاديات القديمة وغيرها من الأعلاق، لا تكاد تختلف عما صنع من نوعها منذ قرون، يقتنيها بعض السياح على أنها من القديم. وتقليد العاديات مما عمت به البلوى في الغرب اليوم وهي مورد من موارد ربح الفقراء من الأغنياء وهي تحتاج إلى معرفة زائدة ومهارة غريبة.
السجاد والحصير:
ومن أهم الصناعات صناعة نسج البسط، يقلدون فيه السجاد العجمي والتركي. وهو أحط من العجمي لأن هذا السجاد الشيرازي والأصفهاني يصعب أن يدانيه سجاد في العالم لا يكاد يفنى حتى بعد استعماله قروناً، كالأعبئة الشامية تلبس عشرين سنة وهي برونقها ومتانتها. وبحق ما يقولون إن السجادات والأعبثة أُجلاء دائمون بلا أُجرة. واشتهرت البسط الشوبكية وبسط أعناك في البلقاء وحوران وسجاد دمشق، ومنها المصور بأشخاص ورسوم.
وفي دمشق وحوران وجبل قلمون ولا سيما في جيرود وفي حمص وحلب ألوف
من الأنوال، تحيك البسط من الصوف الخالص وكانت تصبغ بالأصباغ النباتية الثابتة من استحضار القطر، فتحتفظ بألوانها بعد عشرات من السنين(4/227)
وتصبغ الآن بأصباغ أوربية قليلة الثبات وهي على غاية من دقة الصنعة وتناسب النقوش ومتانة الحياكة بحيث تضاهي أحسن ما يعمل من نوعها في الأقطار الأخرى. ويأتي بعدها صناعة السجاد والطنافس، وتعمل في قرى حمص وحماة وهي المسماة بالحزوري والعدموني، نسبة لقريتي حزور وعدمون، وهي على غاية الجودة والمتانة تعمل من الصوف الخالص، ومما يعاب عليها أنها لم تزل تعمل من لون واحد وهو الأحمر القاني، ونقوشه متشابهة لا تفنن فيها. ودخلت صناعة الطنافس على طريقة أحدث من الطريقة القديمة في حلب وبيروت ودمشق وذلك بدخول جاليات من آسيا الصغرى في السنين العشر الأخيرة، يحسنون صنعه جدّ الإحسان، لكن النفوس لا تزال ترغب في سجاد فارس، فإنه لا يعادله بمتانته وثبات ألوانه وتصويره ورقشه. وفي بعض قرى قلمون يصنعون من الوبر بسطاً غليظة متينة تستعمل في الضياع والبوادي، وتوضع على الأدراج في المدن. ويعملون الجُوالق الشوالات والعدول على شيء من الجودة والمتانة وكذلك البلاس والمسوح.
وكان نسج الحصير والباري من أفضل الصناعات تقوم بالحاجة. واشتهر أنه كان إلى جانب طبرية غابة حلفاء ورفقهم منها، أكثرهم ينسجون الحصر ويفتلون الحبال وقد رأى ناصر خسرو في القرن الخامس حصراً من هذه الحصر الطبرانية تستعمل للصلاة وتساوي الواحدة منها خمسة دنانير مغربية. وقد ضعفت هذه الصناعة بانهيال البسط الإفرنجية والحصر اليابانية الرخيصة، ولكن القرى وكثيراً من المدن ما زالت تعتمد على المصنوع منها في أرض الوطن والحصر البيروتية مشهورة بحسن نسجها ولطافة ألوانها ومتانتها التي تفوق البسط
الإفرنجية كثيراً.
الصناعات المحدثة:
ومن أهم الصناعات المحدثة صناعة القرميد وهو صنو الآجر القديم تقرمد به السطوح، وفي لبنان واللاذقية ويافا معامل منه وفي سنة 1918 أسس رجل فرنسي في اللاذقية معملاً لعمل القرميد، والقرميد الآجرة العظيمة. ويعمل في هذا المعمل الفخار الصيني وبلاط الملاط لجودة التراب الخزفي في تلك الأرجاء(4/228)
وفي القدس معمل للقيشاني أو البلاط الملون. ومن الصناعات الجديدة صنعة لفائف التبغ تصنع منها كميات مهمة في حمانا وبكفيا وزحلة وبعض قرى بيروت الساحلية وتعمل منها كميات عظيمة في فلسطين ودمشق وحلب. وقد استفادت فلسطين في الأيام الأخيرة من الإكثار من زرع الدخان استفادة عظيمة وأخذت تصنع من اللفائف ما يقوم بحاجتها وتبيع منه إلى الخارج. ومنها صناعة الطباعة وصنع الصور والحفر على النحاس والزنك وفي بيروت أحسن مصانعها ودمشق تقلدها. ومن الصناعات المحدثة صنع الجليد وأهم معامله في بيروت وحلب وطرابلس وصيدا واللاذقية ودمشق وحيفا ويافا والقدس وهو يقوم مقام الثلج الطبيعي في التبريد. وكان الثلج السماوي يدخر إلى آخر أشهر الصيف بحاله وكان هذا ينقل في القرون الوسطى على البغال من صيدا وطرابلس إلى قلعة الجبل بالقاهرة في ثلاثة أيام لتبريد المياه في قصر الملك وعظماء الدولة هناك. وفي حيفا معمل للإسمنت المسلح يستخرج من حجر الجبل المتاخم لها ومعمل للبنزين والسبيرتو. وقد أنشئ معملان للإسمنت أحدهما في شقة قرب طرابلس والآخر في دمر قرب دمشق ونجحا نجاحاً باهراً. وفي كل من عكا ويافا معمل للثقاب الكبريت ومثله في دمشق. وأهم ما دخل مجدداً من الصناعات صناعة الجوخ في دمشق أنشئ لصنعه معملان أحدهما شرقي المدينة والآخر غربيها، وأنشئ فيها
معمل لحفظ الفواكه والثمار والبقول نجح نجاحاً كبيراً، وأُسس في حلب معمل عظيم للنسيج أتى بأعظم الأرباح وسد حاجة البلاد في الحرب الأخيرة.
هذه أهم الصنائع الشامية وغالب الصناعات تتبدل عليها أيدي الصناع من الواحد بعد الواحد إلى أن ينيف على عشرة صناع حتى يتم وقد أفاض صاحب قاموس الصناعات الشامية بتعداد هذه الصنائع والحرف في دمشق خاصة على اختلاف اسمائها وضروبها فبلغت نحو 340 حرفة وصناعة. ولابن الصائغ الدمشقي منظومة في ثلاثة آلاف بيت في الصنائع قال ابن جماعة: واعلم أن هذه الصنائع استخرجها الحكماء بحكمتهم ثم تعلم الناس منهم بعضها وصارت وراثة من الحكماء للعلماء، ومن العلماء للمتعلمين، ومن الأستاذين للتلامذة، ومن التلامذة للصناع. وكان ولا يزال لكل حرفة زعيم أو نقيب أو شيخ أو(4/229)
عريف، ويسمى شيخ الحرف كلها بسلطان الحرافيش ثم كني عنه احتشاماً بشيخ مشايخ الحرف والصنائع. وكان لأرباب الصنائع ترتيبات أشبه بالنقابات الصناعية في الغرب ولذلك دام رواجها طويلاً. في العهد الأخير نقبت الصناعات النقابات على مثال النقابات الصناعية في الغرب وأصبحت أصوات العمال تسمع ويزيد صداها رنة كلما كثر الصناع.
تأثير الصناعات في الماديات والأخلاق:
قلت من خطاب في الصناعات يوم الاحتفال بافتتاح الدباغة الوطنية الفنية 5 كانون الأول 1924م - 1343هـ لقد فقدت معظم الصناعات ويا للأسف وآخر ما سيفقد منها صناعة النسيج الضرورية النافعة، فقد كانت صادراته من حلب وحماة وحمص وطرابلس ودمشق تسد جانباً عظيماً مم الموازنة بما تأتي به من الأموال كل سنة، فأصبحت الآن إلى انحطاط ونازعتها الأقمشة الإفرنجية البراقة الدقيقة. قيل: إنه كان في دمشق وحدها ثلاثون ألف نول للنسج قبل الحرب فأصبح عددها
اليوم نحو ثلاثة الآف، ولا تلبث إذا دامت الحال على هذا المنوال أن تضمحل كما اضمحل غيرها من الصناعات، ويفتقر أربابها ويهاجرون أو يهلكون. وفي كل ذلك خسارة وفجيعة، وأي فجيعة أعظم من الفجيعة بالمال أو الرجال أو بهما معاً.
ومما يجنيه القطر من اجتماع الناس على مثل هذه الأعمال الصناعية تربية الروح القومي فيهم وإصلاح ما أمكن من شؤونهم الاجتماعية. وإليكم مثالاً جرى في هذا المعمل يتخذ منه العاقل عبرة. ذكر لي مدير مدبغتنا هذه منذ مدة أن مستشار الأمور الاقتصادية في المفوضية العليا زار المعمل وسر بنجاحه كل السرور ونشطه بالقول والفعل، إلا أنه بدت منه حركة استغربها، وذلك أنه سأل كثيراً من العملة عن مذهبهم، وبالطبع فيهم من أهل الأديان السماوية الثلاثة ومن غير الشاميين أيضاً. فاستغربت مع صاحبي هذا السؤال منه ولم أهتد لتعليله. ولم يلبث المستشار أن زارني من الغد وذكر لي في جملة حديثه سروره بالمدبغة الجديدة، وقال: إنكم معاشر الدمشقيين قد حللتم مسألة من أعضل المسائل في بلدكم لم نتمكن نحن في بيروت من حلها. وذلك أننا أردنا(4/230)
مرة أن نقوم بمشروع صناعي فيها فجاءنا أهل كل مذهب يريدون أن يستأثروا بأكثر المنافع لأبناء طائفتهم. ونحن كنا بالطبع نريد أن ينتفع به من يعمل ويعرف. وهكذا ضاع الوقت في المجادلة على غير طائل ولم نتقدم شبراً واحداً في الموضوع الأصلي، وسقط المشروع وهو جنين لأن الناس هناك يريدون أن يقوم بذلك الروح. ولقد سررت أن رأيت في معملكم المسلم والمسيحي والإسرائيلي على اختلاف مذاهبهم. وكل فرد يعيش مع أخيه متسانداً متعاطفاً قلت له: ولذلك ستغرَب بعض عملة المدبغة سؤالكم ول أمس عن دين من رأيتموه فيه. فقال: ليس في العالم عمل اقتصادي قام على أساس الدين، ولبنان الكبير غريب في حالته هذه فقلت له: هذه قاعدة قديمة سارت عليها دمشق منذ الفتح الإسلامي فكل من يحسن عملاً يوسد إليه
مهما كانت نحلته. فسرّ لقولي وسررت لتوفيقنا.
بقيت هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها وأعني بها تأثير الصناعات في الأخلاق. فقد ثبت أن الأقطار التي تكثر فيها الأعمال الصناعية والزراعية أحسن أخلاقاً من غيرها، ويقل فيها المتشردون والثرثارون، لأن من طبع العاملين الأخذ بالنافع وترك الفضول على الجملة. ولذلك يضعف الشغب في أرباب الصنائع، وتقل الموبقات المهلكات، لأنها لا تبقي للعامل إلا الوقت الكافي لراحته ونومه، وهو على ثقة من أنه إذا لم يحصر ذهنه في عمله يخرجه صاحب المعمل أو الحقل من خدمته. فالحكومة التي تحب أن يقل الشغب بين من وسد إليها أمرهم يجب عليها أن تفكر ليلها ونهارها في إيجاد أعمال رابحة لهم، وبذلك يقل المتشائمون والمشاغبون والمرجفون والناقمون. وليس أحسن ولا أنجح من هذه السياسة.
لا جرم أن اشتراك أهل البلد الواحد بل القطر الواحد والمملكة الواحدة في عمل اقتصادي مما يرفع مستوى القومية أيضاً ويلقن الناس معاني التكافل الوطني. فقد رأينا في الدهر السالف سكان الجنوب وسكان الشمال من فرنسا يقتتلون ويتحاربون ولم تنقطع شأفة الفتن من بينهم إلا عندما اشترك الجنوبي مع الشمالي في الأعمال الاقتصادية، فأصبحت مصلحتهما واحدة وارتفع النزاع من بينهما وأحسا أنهما أبناء أمة واحدة. لذلك نرى إلى اليوم من بقايا تلك الأخلاق(4/231)
أن ابن الشمال يهزأ بابن الجنوب على حين كلهم سواء في مناحيهم ومنازعهم، بل أن أهل شمالي فرنسا لا يعنون بغير صناعاتهم وتجاراتهم على الأكثر ويقلّ فيهم السياسيون والشعراء الأدباء وهم كثار جداً في أهل الجنوب كثرة فاضت عن الحاجة.
فيا حبذا اليوم الذي يشترك فيه قاصينا ودانينا، فقيرنا وغنينا، في إقامة الشركات على أنواعها، إحياء لصناعاتنا واستبقاء للبقية التي صبرت على الأيام من ثروتنا.
فالزراعة عشر الثروة العامة في العادة، والباقي من أسباب السعادة والنماء ثمرة الأعمال الصناعية. وما السكك الحديدية والبواخر والسيارات والقصور والمصانع الفخمة وكل ما في المدينة من ضروب الراحة والرفاهية مما يلذ وينفع، إلا نتيجة عمل العملة في المعامل، وكل ما نشاهده وندهش به من أنواع الصناعات في أميركا وأوربا وفي اليابان والصين والهند هو ثمرة التعاون والعلم العملي. ولذلك ساغ لنا أن نقول: إن كل ما يدفعنا ولو خطوة واحدة إلى الأمام لنقترب بسفينتنا الفقيرة من ساحل السلامة يستحق ثناء الأمة جمعاء ولا رجاء لنا في الحصول على الحاجيات ثم التطلع إلى الكماليات، إلا بتأليف شركات صغيرة بادئ بدء تقوم برؤوس أموال وطنية، وتستعمل من الأدوات الجديدة ما لا غنية عنه، تنمو بنمونا في مظاهر الحياة والانبعاث. فنحن لا نقل عن الغربي ذكاء ونشاطاً وإنما ينقصنا التنظيم والتدريب. وفي أرجائنا أكثر المواد الأولية اللازمة في الصناعات لا تحتاج إلا إلى معرفة قليلة للانتفاع بها والله الموفق والملهم.(4/232)
التجارة الشامية
موقع الشام من التجارة وتجارة القدماء:
كان من وقوع الشام في طرف آسيا وإفريقية، وقربها من الساحل المقابل لبحرها من أوربا، أعظم مركز تجاري في القديم، ومن أهم ما حمل أبناءها على الرحيل بتجاراتهم، منذ عرف التاريخ امتداد سواحلهم. وكثرة الأخشاب التي تجود ف غاباتهم، تساعدهم على صنع السفن المتينة الكثيرة، ثم ن مرونة أخلاقهم تدعوهم إلى الاختلاط بغيرهم، وتقليده وتعلم لغته ومماثلته في عاداته وبهذا كانت شهرة الفينيقيين الذين استولوا على جزء مهم من تجارة شمالي إفريقية وجنوبي أوربا، وبلغوا جزائر وبريطانيا، وأقاموا لهم مكاتب تجارية في كثير من سواحل هذا البحر المتوسط وبحر الظلمات، وما زال الفينيقيون أعظم أُمة تجارية بحرية في الدهر السالف، ينقلون إلى الغرب حاصلات الشرق وإلى الشرق بعض ما كان يعمل في الغرب، إلى أن قامت دولتا الرومان واليونان.
عاش الفينيقيون بالتجارة لازدحام أقدامهم في بقعة ضيقة من الأرض. ولم يكن لسائر شعوب الشرق من مصريين وكلدانيين وآشوريين، ولا قبائل الغرب البربرية الأسبان والغاليون والطليان، عهد بركوب البحار وشق العباب. والفينيقيون وحدهم جرءوا في تلك الأيام على تجشم البحر ومعاركة العباب. فصح أن يُدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القديم وقادة البيع والشراء، يبتاعون من كل شعب سلعه ويقايضونه على غلات البلاد الأخرى. تجارة كانت مستحكمة الصلات مع الشرق براً والغرب بحراً.
واعتاد الفينيقيون أن يرسلوا في البر قوافل تتجه وجهات ثلاثاً. إحداها(4/233)
إلى أرض العرب لتأتي منها بالذهب والعقيق اليماني والبخور والصبر والعطور العربية واللؤلؤ والأبازير والعاج والآبنوس وريش النعام وقرود الهند. والثانية ترحل إلى
بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن والكتان والحمر والأحجار الكريمة والماء العطر وحرير الصين. وتقصد القافلة الثالثة إلى أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخيل والرقيق والأواني النحاسية من مصنوعات سكان جبال القوقاز.
وكانوا يبتاعون محاصيل صناعات الشعوب المتمدنة، ويبحثون في الأصقاع المتوحشة عما يقل الظفر به في المشرق من المحاصيل. يصطادون الصدف من شاطئ اليونان، ومنه يستخرجون صباغاً أحمر وهو الأرجوان. وكانت الأنسجة تستعمل عند الأقدمين كافةً ملابس للملوك والأمراء، ويجلبون الفضة التي يستخرجها أهل إسبانيا وسردانية من مناجمهم. وكان القصدير من ضرورياتهم يستعملونه في صنع النحاس الأصفر، وهو مركب من نحاس وقصدير ولا أثر له في أرض الشرق، يرحل الفينيقيون في طلبه، وينشدونه حتى في شواطئ إنكلترا في جزائر القصدير وحيثما حلوا يتخذون الرقيق يبتاعونه تارة كما كان يبتاع النَّخاس العبيد في ساحل إفريقية. وينزلون طوراً في إحدى السواحل فجأةً فيختطفون النساء والأطفال وينقلبون بهم إلى أهلهم ويبيعونهم في القاصية. وإذا واتتهم الحال ينقلبون قرصاناً، ولا يتحامون طالة أيدي التعدي على غيرهم.
وقد أنشأ الفينيقيون مكاتب تجارية في الأرجاء التي اتجروا فيها، وهي مراكز للبرد حصينة، واقعة على مرفأ طبيعي يخرجون إليها بضائعهم من البحر وهي في العادة أنسجة وفخار وحلي وأصنام، فيأتي أهل تلك الأقطار بغلاتهم يقايضونهم عليها كما يقايض اليوم تجار الأوربيين زنوج إفريقية. وتقام أمثال هذه الأسواق في قبرس ومصر وجميع بلدان البحر الرومي مثل إقريطش ويونان وصقلية وإفريقية ومالطة وسردلنية ومالقة وقادس وربما أقاموها في موناكو من بلاد الغول قاله المؤرخ سنيوبوس.
وكانت الشام في الزمن القديم كثيرة السكان زاهرة على ما يظهر، وهي مدينة
بوفرة سكانها واستبحار عمرانها، لمركزها الطبيعي وتجارتها العجيبة ورباعها الخصيبة. وكان في وسع مصر أن تنازع الشام مكانتها التجارية، بيد(4/234)
أن الحسد المتأصل في الطبقات الدينية والسياسية كان يمزقها ويحول بين المصريين القدماء وبين كل صلة بالشام. فكانت الشام إذاً المستودع الوحيد للعالم المعروف تأتي حاصلات آسيا وإفريقية مع القوافل إلى موانئ الشام حيث تحمل على سفن فينيقية، وأتت أزمان على الشام كانت تخرب بأيدي الفاتحين، وتخرب أيضاً بالحروب المتواصلة بين الممالك الصغرى التي كانت تنازع هذا القطر. فأضاع بها مكانته، خصوصاً منذ تخلصت مصر من نفوذ كهنتها، وغدت منافسة لها بأن جعلت من مركزها الواقع على بحرين مستودعاً سهل التجارة بين أنحاء العالم.
وكان السبب في كثير من الحروب التي نشبت بين الشاميين والآشوريين والبابليين والمصريين ثم مع ممالك الروم في الغرب، مسائل التجارة على الأغلب وإرادة الشاميين أن يفتحوا صدر أرضهم لتنفذ إليها تجارات جيرانهم أو غيرهم من الشعوب. ومن أهم المدن التي استأثرت بالتجارة في القديم البتراء ثم تدمر ثم حلب ودمشق. وكانت مدن فينيقية لولعها بالتجارة تترك الزراعة حتى بلغت الحال بأهل صور أن أغفلوا تعهد الأرض وكانوا يشترون مؤونتهم من الجليل والسامرة واليهودية، ولما حاصر الإسكندر صور اضطر أن يستجلب أزودة جيشه من هذه الحال.
وذكر ديودروس أن ثروة الأنباط أصحاب البتراء كانت من الاتجار بالطيوب والمر وغيرهما من العطريات، يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط، ولم تكن تجارة تمر في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على أيديهم، وكانوا يحملون إلى مصر خاصة القار لأجل التحنيط. ولما استولى الرومان على القطر انتقلت التجارة إلى تدمر وفارس. ووفق الفرس إلى تحويل
التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي. وأخذ الرومان يعنون بإنشاء الطرق المعبدة في الشام، والوصل بين الشام وأقطار الأخرى كالجزيرة والعراق والحجاز ومصر وآسيا الصغرى، ولا تزال إلى اليوم بعض هذه الطرق ماثلة للعيان في صرخد والشراة والكرك وأيلة وجرش، وهذه كانت طرق البتراء إلى داخل الشام، وكانت أنطاكية ترسل إلى رومية الأصواف والأنسجة والحنطة، والشرق يبعث إليها بأدوات الزينة والرفاهية(4/235)
كالعطور والأبازير الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وثياب الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى الإسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى إنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام مع القوافل.
يقول بيرين المؤرخ البلجيكي في كتابه محمد وشارلمان: لقد عظم نفوذ الشاميين من وراء الغاية في رومية جاءوها بكثرة وكان عدة من الباباوات من الشاميين كما كان بعض أباطرة رومية من أصل شامي وإلى الشام تصل قوافل الهند والصين وبلاد العرب وكان الشاميون يومئذ رجال البحر على نحو ما صار الهولنديون في القرن السابع عشر وبواسطتهم تصدر الأبازير وأعمال الصناعة من المدن الكبرى في الشرق كإنطاكية ودمشق والإسكندرية الخ وكنت تراهم في كل الفرض البحرية كما كنت تجد منهم جاليات في داخل البلاد. وكان لهم على عهد ملوك الرومان منازل في إسكندرية ورومية وإسبانيا وغاليا وبريطانيا العظمى حتى مدينة كارنونتوم على نهر الدانوب. ثبت ذلك بنصوص العاديات التي عثر عليها. وفي القرن السادس كثر المشارقة في جنوبي غاليا وكان منهم من يستوطنها ولا سيما في الجنوب من أرجائها وكان سكان أربونة في سنة 589 من القرط والرومان واليهود واليونان والشاميين. وكثر سواد الشاميين في نابل
وفي جوار باريز. قال: وكانت الميناء التي نعرفها أكثر من غيرها مرسيلية ويظهر أنها كانت فرصة كبرى منوعة السكان ويبين عن مكانتها تنافس الملوك في الاستيلاء عليها عند تقسيم الإمبراطورية الرومانية وقد كثر فيها اليهود والشاميون والروم والقوط.
فالتدمريون ومن قبلهم النبطيون عُنوا بالتجارة جد العناية، لأنها مورد معاشهم وعلة حياتهم، لضعف الزراعة في كُوَرهم، فكانت القوافل على عهد ارتقاء تدمر تحمل إليها من جزائر العرب الذهب والجَزْع واليشب واللبان والصمغ والصبر وعود الند، ومن العراع اللؤلؤ، ومن الهند أنواع المنسوجات والقرنفل والبهار والحرير الصيني والنيل والضجاج والفولاذ والعاج والآبنوس. كل هذا يأتيهم من طريق القوافل في البوادي والقفار فيحملونه إلى رومية عاصمة الرومان. أما الأرفاق التي تأتيهم من البحر فكانت دون ذلك قاله رنزفال.(4/236)
وقد اكتشف أمير روسي في سنة 1882 كتابة رسمية كتبت بالتدمرية واليونانية يرتقي عهدها إلى سنة 137 للمسيح فهمت منها أحوال التجارة القديمة ومضمونها تعريف جمركي مطول أصدره مجلس شيوخ تدمر حسماً لفتن وقعت بين التجار وعمال الخزانة، وفيها بيان ما يضرب من المكوس على البضائع والمعاملات التجارية إجمالاً وإفراداً وهي باهظة فكان كل حمل جمل أو حمار يرد أو يصدر تُضرب عليه أولاً ثلاثة دنانير رومانية وكان الدينار الروماني يساوي نحواً من 72 سنتيماً ثم فريضة أُخرى تختلف باختلاف جنس البضائع. والبضائع التي ورد ذكرها في هذه الجريدة كثيرة فمنها الرقيق والجِزَر والأرجوانية والزيوت العطرية المجعولة في قماقم من الرخام الأبيض أو في ظروف من جلد المعز، ثم زيت الزيتون والشحم والملوحات المتنوعة والجلود والثياب والأنسجة والغلال المختلفة والأفاويه والأثمار اليابسة كحب الصنوبر والجوز واللوز والعقاقير والملح إلى غير
ذلك. وينقسم كل حمل إلى ثلاثة أقسام حمل الحمار وحمل الجمل وحمل العجلة، وكان ثقل الأول نحو مائة كيلو والثاني أثقل منه بثلاثة أضعاف والثالث يبلغ نحو ألف كيلو. قال دي فوكيه: وكانت القوافل التي تحمل إلى تدمر خيرات المشرق تستخدم من الدواب الإبل والحمير وإذا وصل التجار إلى حاضرة زينب تدمر أنزلوا عن ظهر الدواب الجوالق والأثقال المختلفة وحملوها على العجلات ليوصلوها إلى جميع أنحاء المملكة على السكك والشوارع الرومانية، فإذا بحثت عن أسباب تقدم تدمر وبلوغها ذروة العمران وجدت لذلك سببين: الأول مرور البضائع بها وإقامتها فيها مدة ودفع المكوس إلى خزانة المدينة، والثاني شهرة أهالي تدمر دون سواهم بقيادة القوافل في المفاوز والصحاري، فلذلك صارت هذه الحاضرة في القرن الثاني للمسيح أشبه بمرفأ عظيم على بحر البراري ترسو عند ساحلها تجارة الأمم فتغني خزائنها كما جرى في القرون الوسطى لمدينة البندقية سلطانة بحر الروم. وقد اكتشف علماء العاديات عمودين نصبا للدلالة على مسافة الطريق ميلاً ميلا عليها اسم زينب واسم ابنها وهبلات. وأول هذين العمودين قريب الجبيل والجسر الواقع على وادي العذار والثاني برج الريحان شمالي الجبيل. وكانت الشام أهم محال الحرير ولا سيما صور وبيروت، والشام من(4/237)
أهم ولايات الإمبراطورية الرومانية. وذكر بروكوب عند كلامه عن إنطاكية أنها أول مدينة رومانية مهمة في الشرق لغناها واتساعها ووفرة نفوسها وجمالها وعادياتها. وتعجب أنطونين الشهيد من الترف الذي كان على أتمه في إنطاكية ومن عظمة أفامية وبيروت وغزة. وقد اضمحل ذلك على عهد يوستنيانوس لأنه أراد أن يضع سعراً وسطاً للحرير فهلك تجاره وصانعوه وخربت معامله. ويرد تاريخ زراعة الحرير إلى القرن الأول للحكم اليوناني على الشام ولا سيما في ضواحي بيروت. قال هيد بعد أن ذكر ذلك: وقد حدا حب الربح تجاراً مسيحيين على أن يبيعوا أبناء
دينهم بيع الرقيق لغرب إسبانيا وإفريقية والشام، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع ذلك.
وقد وجدت في غاليا وغيرها من المدن التجارية في الغرب كتابات فيها أسماء الشاميين الذين كانوا يسكنونها للتجارة منذ الزمن الأطول، ومنها ما وجد في جناي على مقربة من مدينة تريفو ذكر فيها شامي اسمه تَيْم من قرية عتيل من أهل مدينة قنوات في جبل حوران كان يتجر مع غاليا بما يحمله إليه مواطنوه إلى أرل على سفنهم ومنها إلى ليون فما فوقها من مدن فرنسا.
ولم يكن تجار الغرب يهتمون بالسفر إلى الساحل الشامي لأخذ البضائع اللازمة لهم، بل يحمل الشاميون أنفسهم بنشاطهم المعهود تلك البضائع، مع أن حاصلات آسيا كانت مما يلفت نظر الغربيين. واشتهر خمر غزة في فرنسا على عهد الملك كونتران في القرن السادس للميلاد، وحرير الشرق وأحجاره الكريمة تتألف منها زينة العظماء والسادات. قال هيد: إن الشاميين كانوا يرحلون إلى فرنسا على عهد حكومة الميروفنجيين ونزلوا في جنوبي فرنسا مثل ناربون وبوردو بل في أواسطها مثل أورليان وتور وكانت تحمل إلى فرنسا أكياس الأدم من فلسطين. والظاهر أن الشام كان يفوق غيره بأعماله الصناعية والتجارية، وصلات الشاميين محكوة مع الشرق والغرب، وكانت بلادهم على عهد الروم محط رحال قوافل الخليج العربي والخليج الفارسي وأواسط آسيا وهي أهم ولاية تجارية للروم. وفي الحق أن صلاتنا بالغرب زادت لما توطدت أقدام النصرانية، في أوربا، وأصبح زوار بيت المقدس يأتون إلى فلسطين أفواجاً أفواجا ويحملون معهم شيئاً من تجارتهم ويأخذون ما عندنا مما يروج في أسواقهم.(4/238)
تجارة العرب:
العرب أهل تجارة لضعف زراعتهم، وكانوا يوغلون في الشرق والغرب لغرض
الربح، وقد كان لهم أسواق يقيمونها في شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها عامة قبائل العرب ممن قرب منهم أو بعد، فكانوا ينزلون دومة الجندل على سيف بادية الشام أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء والأخذ والعطاء، وكان يعشرهم فيها أُكيدر دومة - وهو ملكها - وربما غلب على السوق كلها فيعشرهم بعض رؤساء كلب، فيقوم سوقهم هناك إلى آخر الشهر ثم ينقلون إلى سوق هجر قاله القلقشندي. وما زال يقام في الشام إلى اليوم في أماكن مختلفة أسواق لبيع المصنوعات والحاصلات أشبه بمعارض هذه الأيام في الغرب. وكانت تقام في دمشق في كانون الأول سوق تعرف بسوق قضيب البان، رواه البيروني، وروى القالي أن قريشاً كانت تجاراً، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، أي تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر وتمكن عنده وقال له: إن قومي تجار العرب فإن رأيت أن تكتب لي كتاباً تؤمّن تجارتهم، فيقدَموا عليك بما يُستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب. فجعل كلما مرّ بحّيٍ من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافاً. والإيلاف أن يأمنوا عندهم في أرضهم من غير حِلف، إنما هو أمان الطريق، وعلى أن قريشاً تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حُملانها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام، حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أُتوا به بركةً، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوّزهم، يوفيهم إيلافهم الذي أخذه لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، فاتسعت قريش في التجارة في الجاهلية. وهاشم هذا هو جد الرسول مات بغزة فنسبت إليه فقيل لها غزة هاشم لأن الروم كانوا يقيمون لهم سوقاً في غزة
في موسم معلوم وكانت قريش في الجاهلية تحضره وتمتار منه.(4/239)
وكانت لهاشمبن عبد مناف رحلتان رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. قال الثعالبي: وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين، إحداهما أن ذؤبان العرب، وصعاليك الأعراب، وأصحاب الغارات، وطلاب الطوائل، كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أُناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء وخثعم وقضاعة. وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله، ليكفيهم مؤونة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤونة الأعداء. فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً. وفي غزة استغنى عمر بن الخطاب في الجاهلية لأنها كانت متجراً لأهل الحجاز.
وخصبت قريش وتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها وطاب عيشها، ولما مات هاشم قام بذلك عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل وكان أصغرهم. وذكر اللغويون من جملة التخريجات في اسم قريش التي كانت سادة العرب جاهلية وإسلاماً، أنها سميت بذلك لتجرها وتكسبها وضربها في البلاد تبتغي الرزق، وقيل: لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب زرع وضرع من قولهم فلان يتقرش المال أي يجمعه. وكان ساداتهم على حبهم للتجارة إذا تولوا أمراً من أمور الأمة تخلوا عنها. ففي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعه وهو واليها، فحدثه محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أيما عامل أتجر في رعيته هلكت رعيته فأمر بما في السفينة فتصدق به، وفكها وتصدق بخشبها على المساكين.
وكان الأنباط يحملون من الشام إلى الحجاز الزيت والدّرمك دقيق الحوّارى ويعودون إلى هذا القطر بحاصلات الحجاز. وفي السنة الثانية للهجرة أقبل أبو سفيان بن حرب والد يزيد ومعاوية من الشام في قريب من(4/240)
سبعين راكباً من قبائل قريش كلهم كانوا تجاراً بالشام. وكانت تجارة أبي سفيان بيع الزبيب والأدم كما كان الصديق وعثمان وطلحة بزازين. وخافت قريش لما اسلموا من انقطاع السفر إلى الشام للتجارات لمخالفتهم أهل الشام بالإسلام فقال عليه الصلاة والسلام: إذا هلك قيصر فلا قيصر، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده معناه لا قيصر ولا كسرى بعدهما في الشام والعراق، ولا ضرر عليكم، فقويت نفوس العرب على الاتجار مع هذين القطرين وكانوا من قبل يملكون المزارع في الشام ويقيمون وينعمون.
واتجر الرسول في الجاهلية وكذلك بعض أصحابه كأبي بكر وعمر وعثمان، ولما رفرف علم الإسلام على الشام اتسعت الدنيا على الصحابة حتى إن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام كان تاجراً كثير الأموال بعد أن كان فقيراً، باع مرة أرضاً له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية، وكان الزبير بن العوام ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة كثير المتاجر والأموال قيل: كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فربما تصدق بذلك في مجلسه، وقدخلف أملاكاً بيعت بنحو أربعين ألف ألف درهم وهذا لم يسمع بمثله قط قاله الذهبي.
وكانت مراكب صور وطرابلس تقلع من هاتين الفرضتين بالتجارة إلى سواحل
خليج القسطنطينية بحر إيجه وخليج البنادقة الأدرياتيك وبحر بنطس الأسود وجزائر قبرس ورودس واقريطش، وكل ما قام به خلفاء المسلمين ووزراؤهم لتسهيل الحج على المسلمين من إنشاء الطرق وإنباط المياه على طول الطريق إلى أم القرى، وإقامة معالم الأمن والراحة فيها للحجاج قد أفاد التجارة.
وكانوا قسموا أرض الشام إلى مراحل وبرد وفراسخ وعُنوا بالأمن من وراء الغاية حتى يتجر الناس. وكانت طريق القوافل إلى مصر على الكرك أو على غزة ورفح. قال ريسون: وكانت دمشق مدينة الصناعة الجميلة(4/241)
مركز تجارة شبه جزيرة العرب ومصر والشام، وإن العرب رقوا الصناعة البحرية ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة واستعاروا بيت الإبرة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أيَّ ضبط وشرحوا الكفالة وأنشئوا المصارف للفقراء ووضعوا السفاتج المألوفة وردود التمسك وبعثوا روح الحركة في مصارفنا الحديثة وكنت تراهم حيثما سكنوا مهدوا السبيل وأمنوها، وعمروا المرافئ والفرض، وأصلحوا وأنشئوا الفنادق والرباطات ورتبوا سير القوافل الاقتصادية ولم تكن المدن الكبرى غير أوساط تجارية كبرى.
وكان الفرات بن حيان أهدى الناس بالطرق وأعرفهم بها وكان يخرج مع عيرات قريش إلى الشام وله يقول حسان:
إذا هبطت حوران من رمل عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
فإنك نلق في تطوافنا وانبعاثنا ... فرات بن حيان يكن وهنَ هالك
ويقول بيكولوتي: إن أربع موانٍ: عكا وبيروت وطرابلس واللاذقية، وخمس مدن داخلية الرملة ودمشق وحماة وإنطاكية وحلب استفادت من التجارة مع اللاتين ولا سيما مع البيزيين والجنوبيين والطسقانيين والبنادقة وكلهم إيطاليون وهذه الجمهوريات الأربع، بيزة وجنوة وطسقانة والبندقية التي كانت تقتسم إيطاليا هي
أول من اتجر مع الشام من أُمم الغرب وجاراهم بعض تجار من أهل بلجيكا وإنكلترا ثم عدلوا لبعد ديارهم. وكان لهؤلاء الطليان ولتجار أمالفي ومارسيليا مكاتب تجارة في الإسكندرية وفي المدن الساحلية والداخلية في الشام، يقايضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب، ولما فتح الجنويون ثم البنادقة جزيرة قبرس زادت صلات الشام مع هذه الجزيرة التي هي على 93 كيلومتراً من ساحل الشام في طرف جون الإسكندرونة وتعد من الشام. وجعل ملوك فرنسا لهم تاجراً إسرائيلياً يذهب كل سنة إلى الشرق يبتاع منه حاصلات آسيا. وكثيراً ما كان اليهود سفراء في المفاوضات مع أمراء آسيا.
وذكر ابن خرداذبة أن التجار اليهود الراذائية، وكانوا يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية الفرنسية والأندلسية الإسبانية أو البرتقالية والصقلبية السلافية يسافرون من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى(4/242)
المشرق براً وبحراً، ويجلبون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف يركبون من فرنجة فرنسا في البحر الغربي فيخرجون بالفَرَما على ساحل مصر إلى القُلزم البحر الأحمر وإن شاؤوا حملوا تجاراتهم من فرنجة في البحر الغربي فيخرجون بإنطاكية ويسيرون على الأرض ثلاث مراحل إلى الجابية في حوران، وأما تجار الروس وهم من جنس الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود، والسيوف من أقصى صقلبة بلاد الروس إلى البحر الرومي والخارج منهم في البر يخرج من الأندلس أو من فرنجة، فيعبر إلى السوس الأقصى فيصير إلى طنجة ثم إلى إفريقية تونس ثم إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى دمشق ثم إلى الكوفة ثم إلى بغداد.
وكان يرتفع من فلسطين الزيت والقطين والزبيب والخروب والملاحم والصابون والفوط والجبن والقطن والتفاح والقريش والمرايا وقدور القناديل والإبر والنيل
والتمور والحبوب والخرفان والعسل وشقاق المطارح والسُّبَح والكاغد والبز والأرز، ومن قدَس حمص وحماة الثياب المنيرة والبلعسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللوز، ومن دمشق المعصور والبلعيس والديباج ودهن البنفسج والصفريّات والكاغد والجوز والقطين والزبيب، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة، ومن بعلبك الملابن. واختصت حلب أيضاً كما قال ابن الشحنة بالصابون الذي يجلب منها إلى ممالك الروم والعراق وديار بكر وهو أفخر صابون، ويباع منه في حلب في اليوم الواحد ما لا يباع في غيرها في الأشهر، ومن خصائصها نفاق ما يجلب إليها من البضائع كالحرير والصوف واليزري والقماش العجمي وأنواع الفراء من السمور والوشق والفُنك والسنجاب والثعلب وسائر الوبر والبضائع الهندية، فإذا حضر إليها مائة حمل حرير فإنه يباع في يوم واحد ويقبض ثمنه اه. وذكر ابن بُطلان من أهل القرن الرابع من عجائب حلب أن في قَيْسارية البز عشرين دكاناً للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعاً قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن اه. وكانت تجارة الشام في هذا القرن والذي يليه(4/243)
زاهرة جداً وقد قسم جعفر بن علي الدمشقي التجار إلى ثلاثة أصناف وهم الخزان والركاض والمجهز.
التجارة في القرون الوسطى:
كانت مراكب باري تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة 875م معاهدة مع العرب كما عقد صلاح الدين يوسف وجمهورية بيزا معاهدة مؤرخة في 15 صفر سنة 569هـ 1172م منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي والمملكة. وحصل الفلورنتيون أهل فلورنسه من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما وضع من الامتيازات الأجنبية للأوربيين في الشرق وكان
المقصد منها ترويج التجارة الصادرة والواردة.
قال أحد كتاب الإنكليز: إن عكا بقيت بخليجها الجون الطبيعي الوحيد على طول ذلك الساحل، وكانت مرسى السفن في العصور الوسطى، ولما كثر اعتماد سكان الشام في طعامهم على الأرز عظم شأن عكا، لأنها كانت الميناء الوحيد لتوريده. وكان الناس يقولون إذا أراد باشا عكا تضرب المجاعة أطنابها في الشام. ولذلك صار امتلاك عكا ضرورياً لكل فاتح يريد امتلاك القطر، فحوصرت أكثر من سائر مدن الشام وكان اتصال أوربا بها أكثر من اتصالها بسواها.
كانت التجارة من أعظم العوامل في الحروب الصليبية، وأكثر أمم أوربا انتفاعاً منها الإيطاليون أهل جنوة وطسقانة والبندقية وبيزا، وهؤلاء كانت لهم قصور في الشام تدل على غنىً، وسفن الطليان هي أهم الأساطيل التجارية في القرون الوسطى.
واعتاد الأوربيون بعد الحروب الصليبية حاصلات الشرق، فلم يعد لهم طاقة على الاستغناء عنها، وملك أزمة التجارة في البحر مع الطليان الكاتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون، وأصبحت جزيرة رودس بمثابة مالطة وجبل طارق اليوم، وكانت قبرس تهدد شواطئ الشام ومنافذ النيل.(4/244)
قال صالح بن يحيى: إن مراكب الإفرنج أخذت تتردد إلى بيروت بعد الحروب الصليبية بالمتاجر قليلاً قليلا. وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرس فيرسل صاحب قبرس بضائعهم في شونتين كانتا له إلى بيروت نقلةً بعد أُخرى، وكان للقبارسة جماعة من التجار يسكنون فيها أي في بيروت، ولهم خانات وحمامات وكنائس ثم بطل ذلك.
وتكاثر حضور مراكب طوائف الإفرنج وكانت ضرائب الواردات والصادرات تؤخذ في بيروت، وهي تبلغ جملة مستكثرة، وكان على باب الميناء دواوين
وعامل وناظر ومشارف وشادّ يوليهم نائب دمشق والمتوفر من المرتبات يحمل إلى دمشق. وذكر لامنس أنه في نحو سنة 1136م جاءت مراكب فرنسية عليها تجار إفرنسيون من مرسيليا ثم أخذت بعض مرافئ جنوبي فرنسا كمونبلية وارل تبعث سفنها، وبذلت جنوة جهدها لتبقى لها الأفضلية في التجارة مع الشام، وكانت عكا المرفأ الأعظم بين المواني وقاعدة التجارة ومركز القناصل العاملين، ثم مرافئ صور وطرابلس والسويدية التي كانت تسمى ميناء مارسمعان ثم بيروت. ومنذ القرن الخامس عشر تقدمت بيروت سائر مواني الشام، وكان تجار الإفرنج يستبضعون من ديارنا الحرير والقطن بكميات وافرة والكتان والخام والأنسجة الكتانية والحريرية، وكانت صور لا تزال تتجر بالأرجوان واشتهرت بآنيتها الصينية وزجاجها الفاخر، ويُقبل الأوربيون على حرير إنطاكية وزجاجها، ويبتاعون السكر بالكميات الكبرى من صزر وطرابلس وغيرهما من مدن الساحل، إلى غير ذلك من ضروب الثمار والعقاقير والحشائش الطيبة والأفاويه العطرية، وكان البنادقة يجلبون من حلب مقادير عظيمة من القطن والشب والبهار، وخيرات الهند والعجم تتدفق إليها. ومبدأُ اشتداد صلات الشام مع الغرب منذ الحروب الصليبية. وقد أخذ تجار الإفرنج أنفسهم بفضل صلاح الدين ثم أخلافه من بعده يغدون ويروحون في هذا القطر، والحرب ناشبة بين الفريقين لا يمس أحدهم بأذىً، ولا يعتدي على حقوقه، حتى اضطر الصليبيون أن يعاملوا تجار العرب على هذه الصورة في الأرض التي بقيت في أيديهم إلى آخر مدة الحرب مثل صور وعكا وإنطاكية لا ينال التجار منهم كبير(4/245)
أذى، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في أرضهم، وتجار النصارى أيضاً يؤدون في أرض المسلمين على سلعهم. وقد تعقد المعاهدات مع الملوك الإفرنج وتذكر فيها أنواع المتاجر التي يحملونها إلى مواني هذا القطر ومنها الخشب والحديد.
ولم تكن جمهوريات إيطاليا في حرب الصليبيين دولاً بحرية من الطراز الأول بل كانت منظمة بأحسن النظم الجمهورية، ومع هذا فكثيراً ما كانت تشب الحرب بينها حتى تستأثر إحداها بالتجارة في الشام، فكان الجنويون أعداء البنادقة، وكذلك كان الكتلانيون، واضطر البروفانسيون أن يدخلوا تجارتهم إلى هذه الديار بواسطتهم، وهم يريدون أن يستأثروا بنقل زوار بيت المقدس وأن تمر تجار ما وراء جبال الألب من مثل جوخ الفلاندر في مواني إيطاليا، وتنقل عن سفنهم وتستوفى عنها رسوماً خاصة. ولما احتل الجنويون الماغوسة في قبرس بدأ اللاتين بزيارة دمشق وبقية الشام، وكانت حال التجارة في الدور الثالث من أدوار القرون الوسطى في دمشق على أحسن ما يكون، فكان التجار الأوربيون إذا انتهوا إليها رأوا فيها عدة زملاء لهم من ممالك مختلفة مثل البندقية وجنوة وفلورنسة وبرشلونة وغيرها، فيبيعون ويبتاعون، وكان اجتماعهم في خان برقوق وقد أقام بعض البنادقة في حماة ومنها كانوا يبتاعون القطن. وكان للأوربيين قناصل في الشام منذ الزمن الأطول وأول قنصل كان للبنادقة في مدينة دمشق سنة 1384م واسمه فرنسسكو داندللو وكانت دمشق مستقر القناصل، إلا أن لامنس يقول: إن أول ما ورد اسم القنصل في جملة النزالة الجنوية التي كانت في عكا أواسط القرن الثاني عشر ودعوه أولاً بنائب القمص - ثم انتشرت هذه الرتبة في أماكن شتى في النصف الثاني من ذلك القرن وعرف أصحابها بالقناصل وأُطلق أولاً على الإيطاليين، وبعد زمن طويل صار للفرنسيس قنصل.
التجارة في القرون الحديثة:
كانت حلب في هذا الدور من أول المدن التي اتجرت مع الطليان،(4/246)
وقد أقام لهم البنادقة فيها منذ عهد المماليك قناصل من الدرجة الأولى وكان البنادقة يتاجرون من مليونين إلى ثلاثة ملايين دوكا مع حلب كل سنة، وقد احتفظت الشهباء
بمركزها التجاري المهم فكانت نقطة الاتصال بين الخليج الفارسي والبحر المتوسط. ثم انتشر فيها الفرنسيون ولكنهم اضطروا أن يغادروها للاضطرابات السياسية إلى إنطاكية، كما اضطر تجار الإفرنج في دمشق إلى مبارحتها إلى صيدا وبيروت وعكا. وفي سنة 1507م عقدت الدولة العثمانية مع فرنسا معاهدة تجارية فكانت سفن فرنسا تأتي إلى مواني الشام ولا سيما طرابلس وصيدا وتأخذ منها حاصلات وتجلب إليها بضائع. وكثُر عديد الإفرنج في حلب أكثر من دمشق، لأنها أقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب، فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم بمحصولاتها ومحصولات الشرق، ولا سيما الهند وفارس والعراق، وكانت فرنسا والبندقية أول الممالك الأوربية التي اتجرت مع حلب وعقدت معها الصلات التجارية وأقامت المكاتب، ثم جاء الإنكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولنديون، وقد تناسل بعض الإفرنج في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها، وكان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بمقادير وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن.
وكان في حلب وكلاء لتجار الهند وبلاد الكرج والفرس والأرمن وغيرهم، وللبنادقة بين أُمم البحر المتوسط موقع ممتاز، ولئن أفقد حلب فتح الطريق البحري إلى الهند الشرقية بعض مكانتها التجارية، فقد كانت في القرنين السابع عشر والثامن عشر زاهرة بتجارتها. وكان في حلب سنة 1775 ثمانون وكالة تجارية لبيوت تجارية أوربية، وأكثر اعتماد الأوربيين على سماسرة من اليهود يتجرون بالصادر والوارد، وكثر تجار افنكليز فيها منذ عهد ملكهم جاك الأول 1613 - 1625.
ونما عدد تجار الأوربيين في عكا وصيدا وبيروت ولا سيما في هذا الثغر، فأصبح على ما روى لامنس في القرن الخامس عشر ولا سيما بعد عهد تيمورلنك
ملتقى شعوب البحر المتوسط. وكنت تشاهد في بيروت مزيجاً يصعب وصفه(4/247)
من العمائم والطرابيش والكوفيات الحرير وأكيسة وبرانس وقفاطين. وفي القرن الثامن عشر اقترح الفرنج أن تعمر ميناء اللاذقية مبينين للحكومة حسن مستقبلها، فلم يقبل المتصرف هذا الاقتراح وقال: ربما أكون غداً في جدة فلماذا أتخلى عن الموجود وأتطلب مستقبلاً مجهولاً.
وممن كان لهم اليد الطولى في تنشيط التجارة في هذه الديار فخر الدين المعني الثاني في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة. وكثيراً ما كانت مراكب الإفرنج تأتي لمشترى الحنطة إلى موانئ عكا وصور والرملة وطنطورة وربما بلغت السفن الصغيرة البرش اراسية في عكا نحو 150. ولقد توسع فخر الدين في الامتيازات الأجنبية فسمح للفرنسيين أن يبنوا خاناً عظيماً في صيدا، ولأهل فلورنسة أن يفتحوا قنصلية، فأصبحت صيدا وميناؤها أوائل القرن السابع عشر أهمّ موانئ الشام.
وفي عصر فخر الدين كان يحمل من دمشق إلى الديار المصرية عشرة قافات كما قال صاحب محاسن الشام: وهي قصب الذهب. قبع. قرضية. قرطاس. قوس. قبقاب. قراصيا. قمر الدين. قريشة. قنبريس. ونقل الغزي عن معجم التجارة العام المطبوع سنة 1723 1136 أن حلب لا تضاهيها بلد بتجارتها الذين يقصدونها من أقطار الدنيا، فإن خاناتها التي لا تقل عن أربعين خاناً لا تزال غاصة بالهنود والفرس والترك والفرنج وغيرهم بحيث لا تقوم بكفايتهم. قال: ومن خصائصها التجارية وجود الحمام الذي يأتي تجارها بالأخبار من إسكندرونة بثلاث ساعات بسبب تربيته بحلب وحمله إلى إسكندرونة بأقفاص، فإذا طرأ خعلقت البطاقة في رقبة الطير وسرح، فيصير إلى حلب طالباً لفراخه.
وفي كتاب الشام على عهد محمد علي: ما زالت حلب ودمشق المركزين العظيمين
للتجارة في الشام، وما برحت حيفا وبيروت وطرابلس وإنطاكية وإسكندرونة هي الموانئ التي يكثر اختلاف السفن الأوربية إليها، وهي المحطات الرئيسة لتجارة الشرق، فتأتي قوافل بغداد إلى دمشق وحلب حاملة من العجم التنباك والسجاد، ومن غيرها اللؤلؤ والأحجار الكريمة، ومن الهند الطيب والعقاقير والأفاويه، وفي عودتها تحمل جوخاً وثياباً من(4/248)
عمل أوربة، وألبسة حريرية من صنع دمشق وحلب، وبضائع منوعة ومصنوعات خشبية وصدفية ونحاسية، وبسوء السياسة المخالفة لما هو جار في أوربا، إذ كان ينشط التجار الغرباء دون التجار الوطنيين، أصبحت معظم التجارة العربية في الشام تجري تحت اسم أوربي. وقبل أن يفتح إبراهيم باشا الشام كان التجار الوطنيون يدفعون إلى الإفرنج ثلاثة ونصفاً أو أربعة في المائة ليتأتى لهم أن يتجروا بأسمائهم، لأن الإفرنج لا يدفعون على الأكثر زيادة على أربعة في المائة من كل ما يطلب من المكوس والضرائب، على حين كانت العرب خاضعة لأداء 18 أو 20 وربما 21 في المائة. وقال: إن عمال إبراهيم باشا كانوا يتجرون ويحتكرون أصنافاً من التجارة.
ولما قلّ الأمن في البحر على عهد نابليون وبسوء الإدارة العثمانية وبثورات الإنكشارية سنة 1814 و 1826 وبزلزال سنة 1822 و27 و32 ووباء سنة 1832 وطاعون سنة 1837 خربت تجارة حلب ودمشق، وكثرت البضائع الإنكليزية التي كانت تباع بأثمان بخسة تجيء من طريق ليفورنا في إيطاليا. وكانت الحاصلات الخام التي تعود إلى الشام معمولةً، سبب خراب هذا القطر، مثل حرائر ليون التي أخذت تسحق حرائر دمشق وحلب، وبمنافسة حرائر ليون التي تقلد حرائر دمشق احسن تقليد وتباع بأثمان بخسة، قضي على صنائع دمشق بعد أن كانت تعمل أكثر من 400 ألف قطعة من الحرير والثياب الحريرية الممزوجة بالقطن. وكانت تجارة الحاصلات التي تبتاع بالسلف والسلم، خراب
الفلاح الشامي البائس. وكان كثير من تجار الأوربيين يستحسنون هذا من التجارة، ومنهم من كان يمقتها وقد يربح المتجر بها خمسة وعشرين في المئة، ويعدها صاحب الذمة غبناً، وكان يصل إلى بيروت كل سنة 1340 سفينة تحمل 7848 طناً ويخرج 805 سفن تحمل 5005 يخرج منها القطن والحرير والتبغ والإسفنج والفوّة والزيت والصابون بمقدار وافر والسمسم والكمون والعفص. وتجارة الواردات تبلغ 44366670 منها نحو 15 مليوناً من مصر وتجارة الصادرات 26874270 منها نحو 13 مليوناً لمصر، فكانت الشام تخسر مسانهة نحو 18 مليون قرش تسدها سبائك ذهب أو نقوداً، وهذا على عهد الحكومة(4/249)
المصرية. وبعض هذه الصادرات قد بطل إصداره اليوم من الشام.
ولقد تضررت حلب ودمشق بفتح البرتقاليين طريق رأس الرجاء الصالح في جنوبي إفريقية سنة 1497م، وكان أول من اكتشفه من البيض الفينيقيون نحو القرن السابع قبل المسيح، وتأذت تجارة حلب ودمشق بفتح الفرنسيين ترعة السويس سنة 1868، وكان من نكبة الشام بفتح هذه الترعة أن انتقل كثير من تجار دمشق وحلب إلى بيروت والإسكندرونة والقاهرة وطنطا وإزمير وسلانيك والآستانة ومانشستر ومارسيليا وميلانو وغيرها من المدن الأوربية والإفريقية والآسياوية، وقد تحولت تجارة الصين والهند إلى البحر، وبطل عمل القوافل التي كانت تغدو وتروح بين الشرق الأدنى والأقصى، وقل عدد الذين يمرون بدمشق من الروم وغربي آسيا للذهاب إلى الحجاز، وأصبح معظمهم يركب البحر إلى البقاع الطاهرة تخفيفاً من عناء الأسفار في القفار وانحصرت التجارة الداخلية في حدود ضيقة، وأصبحت لا تتعدى حد المستهلكات، وصار لها مواسم قلما تروج في غيرها، ولما انتظم سير السفن البخارية، وكثر اختلافها إلى مواني الشام، وكانت رحلاتها من قبل متقطعة مختلفة المواعيد، تجرأ الناس على الاتجار
وتضاعفت الصلات التجارية بين الشام والأصقاع الإفرنجية.
يقول بعض الكتاب: إن التجارة البحرية لم تنقطع في البحر الرومي في القرن الأول للإسلام إلا بما كان يبدو من حركة الأسطول اليوناني، ولكن تجارة الشام أصيبت بالتأخر مع أوربا لما أصبح للشام منافس كالبصرة التي كانت لقربها من الهند أكثر منافسة للشام.
وظهرت ظاهرة مهمة في الشام منذ نحو ثمانين سنة أثرت فيه تأثيراً كبيراً وذلك أن جماعةً من تجار بيت لحم في فلسطين حملوا مصنوعاتهم الخشبية والصدفية إلى معرض فلادلفيا سنة 1876م فربحوا كثيراً ولما عادوا كثر المقتفون لآثارهم من التجار وغيرهم من أهل الشام وبدأ الناس بالهجرة طلباً للربح، وكانت الهجرة مقصورة أولاً على سكان الجبال من لبنان وعامل واللكام ثم تعدت إلى سكان السهول، وكان المستأثر بها سكان القرى فتعدت إلى سكان المدن، وكان التجار على الأغلب مسيحيين فأصبحوا بعدُ من(4/250)
جميع أهل الأديان من الشاميين، ولم يلبث نطاق الهجرة أن توسع، وما نراه في اللبنانيين الشرقي والغربي، وما إليهما من الجبال من الدور والقصور عمر أكثره بدراهم أميركا، ويقدّر اليوم المهاجرون إلى أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا وغيرها من البلاد التي ترحب بالأيدي العاملة بزهاء سبعمائة ألف مهاجر شامي.
وقد ساعد على دوام الهجرة اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية، ثم استرسال الحكومات العثمانية ثم المنتدبة في إهمال الحركة الاقتصادية وإلقاء الحبل على الغارب. وقد كان عمال العثمانيين يودون لو هاجر جميع المسيحيين من الشام، لينجوا من دعوى أوربا في حماية الأقلية ولكن بهرتهم ضعفت التجارة، وكيف تنجح التجارة في أُمة والحكام هم التجار، وقد رأينا من ذلك أمثلة خلال الحرب العامة، فكان عمال الأتراك لا فرق بين الكبير والصغير منهم يحتكرون
معظم الحاجيات دع الكماليات، فكنت تراهم كلهم تجاراً يؤخرون الأرزاق عن الجند في ساحة الحرب ويقطعون مواد الحياة عن الرعية، حتى يشحنوا بضائعهم ويغنموا فرصة ارتفاع أسعارها، فاغتنى بذلك كثير من عمالهم ثم افتقروا بعد حين.
على أن بعض البلدان استفادت كثيراً من الحرب العامة ومعظم المدن التي استفادت حلب ودمشق وبيروت والقدس. قال الغزي: إن التجارة في حلب آخذة بالتقدم منذ ثلاثين سنة ولذا كثر عدد التجار زيادة عظيمة بحيث بلغ ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه قبل هذه المدة، وكان معظم هذه الزيادة في أيام الحرب العالمية فإن أرباح التجارة التي كانت في غضونها جرّت العدد الكثير من ذوي الصنائع اليدوية من صنائعهم إلى الاسترزاق بالتجارة فنجحوا وربحوا أرباحاً طائلة، ونشأ من بينهم أصحاب ثروة تستحق الذكر. إلى أن قال: وفي سنة 1341 بدأ دولاب التجارة يدور ببطءٍ فأخذت الثروة العامة في حلب بالانحطاط لإغلاق الأناضول أبوابه في وجه تجارة البضائع المعدودة من الكماليات وغلاء أُجور النقل في السكة الحديدية وتلاعب الصيارفة والمحتكرين بالأوراق النقدية والنقود الذهبية إلى غير ذلك من الأسباب.(4/251)
ومن أهم الفوائد التي نتجت للشاميين من تعلم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية، أن كان من هؤلاء المتعلمين وأكثرهم من غير المسلمين عمال لتجارة الواردات من الغرب. واستأثر المسلمون بتجارة الصادرات فكان منهم تجار شاميون في الإسكندرية وطنطا والقاهرة والسودان والآستانة وإزمير، وكل بلد في الأرض مهما بعدت الشقة إليه ترى فيه تجاراً شاميين وأنجح تجارهم في مصر والأميركتين وأوستراليا. ولنا تجار في العراق والحجاز وفارس والهند ويابان وجنوبي إفريقية وأواسطها على نحو ما وصفنا شاعر النيل حافظ إبراهيم:
ورجال الشام في كرة الأرض ... يبارن في المسير الغماما
ركبوا البحر جاوزوا القطب فاتوا ... موقع النيرين خاضوا الظلاما
يمتطون الخطوب في طلب العي ... ش ويبرون للنضال سهاما
ومن أهم المواسم التي كانت في فصل مخصوص من السنة تدب فيه روح الحركة في التجارة موسم السياح، فكان سياح الغرب يأتون أوائل الربيع لزيارة الأماكن المقدسة والمصانع التاريخية في فلسطين وبعلبك وتدمر ودمشق وغيرها ويقدرون بخمسة آلاف سائح كل سنة عل الأكثر إلى المدن الوسطى والشمالية وبأكثر من ذلك إلى فلسطين فقط، والموسم الآخر موسم حجاج إفريقية وآسيا وأوربا وكانوا يقدرون بخمسين ألف حاج، والفضل في ذلك يرجع لسهولة المواصلات البرية في السكة الحجازية، ولرخص أجور البواخر في البحر. وموسم الحج بطل بالحرب فنزل معدل من يزورون الشام ويتجرون ويبتاعون. أما موسم فلسطين فإن كثيراً من تجارها أصبح رزقهم موقوفاً على ما يربحونه في موسم الزوار في القدس وبيت لحم والخليل والناصرة وغيرها، وبدأ الشرق العربي يربح كثيراً من السياح الذين يختلفون إلى ذاك الصقع لزيارة جرش وعمان والبتراء وقر المشتى وغيرها، كما تربح سورية ولبنان من القاصدين إلى زيارة بعلبك وتدمر وغيرهما، وصار لموسم الاصطياف في لبنان الغربي والشرقي مكانة اقتصادية ذات شأن كبير في تنشيط الصناعة والتجارة. ومتى انتشر الأمن في القطر، وكثرت الخطوط الحديدية في البر، والسفن التجارية في البحر، وحمت الحكومة التجارة بقوانينها(4/252)
وأحكامها العادلة، ومعاهداتها مع الأمم المجاورة، انتبه التجار إلى التجدد في متاجرهم. ولا نعد تاجراً من يحرق مخزنه أو ما فيه ليربح ضمانه من الشركة الضامنة، أو يتلكأ في أداء الذمم التي عليه، أو يضارب في الأسواق فيؤذي الفقير. أو يعامل صاحب المعمل في الغرب بقليل من الذمة فيتلاعب في الأسعار
والصوافي، فإن هذا مما يؤخر الصادر عنا والوارد علينا، وفي كل ذلك ما يزيد الغبن ويورث الخسارة في العاجلة والآجلة لا محالة.
ولقد ثبت في العهد الأخير، وخصوصاً لما أخذ المسلمون يجارون مواطنيهم المسيحيين في تعلم اللغات الغربية، ويتقنون أصول التجارة على أساليب أُمم الحضارة، ويتعرفون إلى أوضاعهم الجديدة في استثمار أموالهم في مصارف خاصة بهم، أن الغربيين يتعذر عليهم أن يتوسعوا بعد في الاتجار في القطر، وفتح بيوت تجارية على المثال الذي كان لهم وحدهم في القرن الماضي، وقطع أرزاق الشاميين في عقر دارهم. ذلك لأن التاجر الوطني أقل من التاجر الغربي في مطالبه، يكتفي بالربح القليل، ويصبر في الأزمات، وهو في بلده يعرف ما يصلح له ويروج فيه، ونفقاته إجمالاً أقل من نفقات الغريب. وإذا تساوى الوطني والدخيل من كل وجه، فالوطني يؤثر معاملة مواطنه لا محالة.
وإذا جارى التاجر العربيّ التاجر الغربيّ أو كاد، تجلت في ابن الشام أخلاق التجارة، والنفوذ في قاعدة العرض والطلب، وبدا في هذا الميدان ذاك الشرف المغيب الذي كان كامناً في نفسه، وورثه مع الدم المتسلسل فيه من آبائه الأقدمين، عرباً كانوا أو روماً أو فينيقيين، وبذلك أصبح الرجاء معقوداً بأن يستأثر الشاميون بتجارة ديارهم. فإن تعلموا باختلاطهم بالأمم الحية ما ينقصهم من ضبط ونظام، وساعدهم على ذلك قلة من يأتي من الغرب من أرباب الطبقات الأولى في التجارة، وكان التاجر المتوسط الحال بماله ومعرفته منهم أقل حظاً ممن يماثله من الشاميين في أسواق المتاجرات، وإذ كان من البعيد على النوابغ من كل صنف في الغرب أن يَغْشوا بلادنا كان في ذلك كله النفع العظيم لنا في تجارتنا، ومتى حللنا روح الشامي وما انطوى عليه من مراعاة الشرف والاحتفاظ بالثقة، والبعد عن التدليس(4/253)
والمؤالسة، وإرادة النصح في الجملة، كان التاجر كل التاجر، الذاهب في
الأرض بجماع المفاخر، باستقامة تاجرنا في معاملته، يدفع عن وطنه كثيراً من الغوائل الاجتماعية، ولا يهنأُ العيش ويطيب، إلا إذا قلّ توافد الغريب من الجنس الذي قال فيه حافظ:
يُقتّلنا بلا وقَوَدٍ ... ولا دِيةٍ ولا رَهَب
ويمشي نحو رايته ... فتحميه من العطب
التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث:
نشبت الحرب العامة سنة 1914 ولم تكن الشام على استعداد للدخول في غمارها، ولم تأخذ الأهبة الكافية لمقاومة طوارئها، وما لبثت الدولة العثمانية والبلاد الشامية التابعة لها أن دخلت في صفوف المحاربين إلى جانب الدولة الألمانية وحلفائها، فحصرت مواني الشام، وبدأت أسعار البضائع ترتفع تدريجياً، وذلك في أصناف الملبوسات كأنواع منسوجات القطن والصوف على اختلاف أنواعها، أو في المأكولات كأنواع السكر والقهوة والأرز، أو في سائر الحاجيات والكماليات كالبترول الكاز والكحول السبيرتو وأنواع المواد القرطاسية والزجاجية والأصباغ والمواد الكيمياوية على اختلاف أنواعها، وشعر الناس بالحاجة إلى الاقتصاد والتفكر في استجلاب هذه الأصناف من البلاد المجاورة بقدر الإمكان.
وقد اشتدت الأزمة الاقتصادية بفقدان الأيدي العاملة أيضاً من المدن والقرى، بسبب النفير العام والتجنيد في جميع أصقاع الشام، وكان من تخلصوا من التجنيد الإجباري هم الذين لم يتدربوا على التعليم العسكري فدفعوا بدلات نقدية مرات خلال أعوام الحرب. وكانت هذه البدلات تكلف مبالغ طائلة في السنين الأخيرة، وأعلنت الدولة العثمانية بعد دخولها الحرب قانون تأجيل الديون بقواعد مخصوصة أقرتها.
ولم يلبث الضيق أن عمّ والنقد أن قلّ وخصوصاً بعد أن وضعت السلطة العسكرية يدها على جميع وسائط النقل في البلاد مثل السكك الحديدية ودواب(4/254)
النقل والمركبات والسيارات، فكانت أسعار الحاجيات تختلف اختلافاً بيناً في بلاد الشام القريب بعضها من الآخر، وذلك بالنسبة للتشدد أو التساهل الذي كانت تبديه الإدارة العسكرية في استخدام أسباب نقل البضائع. انقضت السنة الأولى للحرب فأصبحت دمشق مركزاً للجيش الرابع الزاحف على ترعة السويس. وأنشأ يعقد البيوع العظيمة والالتزامات الكبيرة سد لحاجات الجيش المذكور، فبدأت هذه
الأزمة الشديدة بالانفراج، وأخذت إدارة الجيش تتساهل باستخدام المجندين في إدارات المتعهدين والملتزمين، ونشطت الحركة التجارية والصناعية في الشام. ولا ينكر أن الجيش الرابع صرف مبالغ طائلة في أسواق التجارة لضمان حاجاته الكثيرة التي لم يتمكن من تأمينها بطرق الإكراه أو بواسطة الضرائب الحربية التي رأى أنها عقيمة لا تفي بالحاجة، وبعدئذ فكر بعض التجار باستجلاب بعض الحاجات الضرورية التي غلت أسعارها وعزّ وجودها من بلاد نجد التي كانت تستورد بضائعها من الهند وفارس على أيسر وجه وطمأنينة، لأن أمير نجد عبد العزيز ابن سعود كان موالياً لإنكلترا لا يجد ضيقاً ولا رهقاً في استجلاب البضائع ومواد الغذاء على اختلاف أنواعها.
ولقد كانت هذه الطريقة من أهم الوسائط لسد حاجات البلاد والجيش، ولإيجاد حركة تجارية جيدة كانت تدرّ ذهباً وهاجاً على المتاجرين والمستوردين، كما أن كثيراً من التجار اتخذوا وسائط عديدة لاستجلاب بعض البضائع الألمانية والنمساوية بواسطة رجال الجيش واستخدام وسائطهم لنقل هذه البضائع بالاتفاق معهم، وبتبادل المنفعة بينهم، وبذلك انفرجت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في السنتين الأوليين من الحرب، واغتنى كثير من التجار والعاملين والوسطاء من رجال الإدارة والجندية باستخدام هذه الوسائط في النقل ونقل أصناف التجارة، والبلاد محصورة لم يرد إليها شيء قط من طرقها البحرية العديدة. وكثرت النقود الذهبية في التعامل بما أنفق من إدارات الجيش، وما ورد البلاد من طرق البر من البضائع، وما كانت بريطانيا العظمى تنفقه في أنحاء البلاد المجاورة عن سعة من الذهب الوهاج لتأييد الثورة العربية، حتى أصبحت البلاد في أواخر الحرب على أحسن حالات اليسر والرخاء.(4/255)
فارتفعت أسعار العقارات والمزارع، وشعر الناس بكثرة النقد الذهب في أيديهم
حتى كان المشتري لا يجد من يبيع عقاراً أو أرضاً إلا بثمن فاحش، إلى أن دخلت الجيوش الإنكليزية والعربية هذا القطر تحمل معها الذهب وتنفقه بلا حساب، ويقدر ما أنفقه الجيش الإنكليزي في سنة 1919 والأشهر الأولى من سنة 1920 في أرض الشام بما يقارب الثلاثة ملايين من الجنيهات المصرية.
الورق النقدي والعوامل في تدني الاقتصاديات:
وحدث خلال الحرب أن اتجر كثير من الماليين بأوراق النقد الدولي على اختلاف أنواعه، وأصبح بعضهم يستورده من طريق ألمانيا والنمسا وسويسرا إلى الآستانة، ومنها توزع في أنحاء بلاد العرب مثل الكورون النمساوي والمارك الألماني والشلن الإنكليزي والفرنك الفرنساوي والروبل الروسي وأوراق النقد التركية والأسهم اليابانية والعقارية المصرية والأرجنتينية على اختلاف أنواعها، وأصبحت تباع بقيم تنحط أحياناً عن قيمتها الحقيقية 25 إلى 50 في المائة. وتدنى سعر الروبل الروسي إلى 10 و15 في المائة وكذلك المارك والكرون، فأقبل عدد كبير من التجار وأرباب الأملاك حتى والنساء على مقتناها وذلك على أمل أن تعود إلى أسعارها الأولى بعد أن تضع الحرب العامة أوزارها. ويُقدر الخبيرون أن الشام أدت قيمة ما ادخرته من أوراق النقد هذه ما يربو على خمسة ملايين ليرة عثمانية ذهباً، كان القوم يأمل بيعها بما يقارب أسعارها الأولى، وبذلك يربحون ربحاً عظيماً من أيسر الطريق
ثم أُعلنت الهدنة عام 1918 وبدأ تجار الشام يستوردون البضائع المنوعة التي اشتدت حاجاتها إليها من البلاد المصرية أولاً ثم عقدوا المبيعات المختلفة من أوربا بأسعار عالية، وقد اضطر أرباب المصانع والمعامل إلى رفع أسعار بضائعهم لعوامل عديدة، ومنها قلة الأيدي العاملة بعد الحرب العامة، وغلاء المواد الأولية للصناعات المنوعة، وارتفاع أسعار الفحم وأجور المواصلات، وراح الكثيرون
بالنظر للحاجة الماسة إلى عقد مبيعات عظيمة من أنواع البضائع المنسوجة والمغزولة على كثرة أنواعها، ومن الأصناف(4/256)
الأخرى كمواد الزجاج والقرطاس والكيمياء وغيرها فأدت الشام أثماناً باهظة وقيماً فاحشةً جداً في ابتياع البضائع المستوردة في سنتي 1919 و 1920 حتى غصت المخازن والمستودعات بهذه الأصناف وضاقت بها الأسواق، وكان لهذا الاندفاع الكلي الذي لا نسبة بينه وبين حاجة البلاد بسبب الأرباح التي كانت تدر أولاً، فعل عنيف وصدمة قوية أُصيبت بها الأسواق فكانت من بوادر الضيق وحدوث الأزمات الاقتصادية للأسباب التالية:
أولاً: إن الشام ولا سيما دمشق كانت تكنز كميات عظيمة من ورق النقد المختلف الضروب فطرأ عليها النزول العظيم وأصبح قسم منها في حكم المعدوم مثل الروبل الروسي والكرون النمساوي والمارك الألماني وغيرها، وكانت خسارة بلاد الشام بها عظيمة ولم تعوض منها شيئاً.
ثانياً: نزول أسعار البضائع المتوالي منذ عام 1920 إلى 1922 وورود كميات كبيرة من البضائع المتنوعة التي ما زالت مخزونة على التوالي عند أصحابها فطرأ النزول التدريجي عليها، وذهب بقسم كبير من ثروة كبار الأغنياء والتجار.
ثالثاً: حدث بعد أن دخلت الجيوش الفرنسية إلى المنطقة الداخلية في أواخر عام 1921 أن وضعت الحواجز الجمركية بين جنوب البلاد وشمالها وشرقها، وكانت من قبل وخصوصاً دمشق مركزاً عظيماً لتصدير البضائع والمصنوعات الوطنية إلى الحجاز وفلسطين وشرقي الأردن والعراق والأناضول فأصبحت بمعزل عن هذه البلاد المجاورة، بالنظر للتبدل السياسي الذي حدث بعد الحرب العامة، وصارت مصنوعات الشام التي كانت تصدر إلى هذه الأقطار حرة لا مراقبة عليها ولا قيد من القيود الثقيلة والحواجز الجمركية فكاد يقضى على هذا
الصناعات وعلى تجارها وعمالها.
الحواجز الجمركية:
عقدت المفوضية الفرنسية العليا في الشام اتفاقاً مع المفوضية الإنكليزية العليا في فلسطين يوم 22 أيلول سنة 1921م لتأسيس جباية الجمارك على(4/257)
البضائع التي تتبادل هاتان المنطقتان التجارة بها، وإحداث دوائر مكس على الحدود وداخل البلاد لما تقتضيه هذه الجباية، وعلى أثر ذلك اجتمع عدد كبير من تجار دمشق وتفاوضوا قضية هذه الحواجز وأضرارها على التجارة والصناعة، وقر رأيهم على انتخاب لجنة من كبار تجار البلاد مؤلفة من عشرة أشخاص للعمل في هذه القضية، فبدأت اللجنة عملها بأن قدمت تقريراً مطولاً للمراجع الرسمية بينت فيه مقدار الأضرار التي تنتاب الشام من وضع هذه الحواجز الجمركية بين جنوبها وشرقها وشمالها خصوصاً الصناعات الوطنية المنوعة وضمنته إحصاءً دقيقاً في أنواع هذه الصناعات ومقدار النفوس والأموال والقيم المقدرة للأنواع المصدرة خلاصته أن في مدينتي دمشق وحمص نحو 10260 نولاً يشتغل بها 46260 عاملاً، وهذه الأنواع تخرج مقدار 4568500 قطعة قماش قيمتها ثلاثة ملايين ليرة عثمانية ذهباً، وذلك للأصناف الآتية فقط: الألاجه الحريرية والقطنية التركية، الديما، الحامدية الملاءات الحريرية والقطنية، العباءات، الستور على اختلاف أنواعها، السلوكات الأغباني، الشال الحريري والصوفي، والكمر والمضربات، وفي مدينتي حماة وحلب مثل هذا المقدار من الأنوال والعمال لمختلف الصناعات الوطنية التي هي برسم التصدير إلى الجهات المجاورة. وتابعت بياناتها في الأضرار التي تعود على البلاد وقدمت احتجاجاً مطولاً بينت فيه الضرار السياسية والإدارية والاقتصادية التي تنتج من موضع هذه الحواجز الجمركية وخلاصته.
أولاً: إنه ليس من مصلحة سورية وفلسطين إلغاء الاتحاد الاقتصادي وفصل
إحداهما عن الأخرى هذا الفصل المضر لأنه يقلل العلائق التجارية ومبادلات الأعمال بين المنطقتين، وهذا يُفضي بالتدريج إلى انقسام هذه الأمة الواحدة إلى أُمتين ويؤدي إلى تباعد المشارب وتباين الأطوار وانحلال الروابط بينهما تدريجياً إلى أن يصبح البون عظيماً وتضعف عرى الألفة والاتحاد المستقرة الآن، والصلات التجارية والمعاملات المدنية هي العروة الوثقى التي تربط بين الشعوب وتقارب بين القلوب، والحواجز الجمركية هي الضربة القاضية على هذه المعاملات والصلات، ولما كان السوريون لا يختلفون في شيء(4/258)
عن الفلسطينيين كما أن الفلسطينيين يحسبون أنفسهم قسماً من الشعب السوري العربي فجميعهم لا يرضون بوجه من الوجوه أن تفتح بينهم هذه الهوة العميقة التي تقوض أركان وحدتهم القومية والعنصرية، وتقضي على آمالهم الوطنية ويرجون من الدولتين المحتلتين أن لا تعاونا الدهر على تفريقهم والإيقاع بينهم.
ثانياً: سلطت السياسية على إخواننا في الجنوب مناظراً شديداً وخصماً لدوداً، ونعني بهم الصهيونيين الذين لا يفتأُون يدسون الدسائس لإضعاف الوطنيين وإذلالهم ليتمكنوا من الاستعلاء عليهم واستلاب أموالهم والأخذ بمخنق أوطانهم. وأي وسيلة أنجح لهؤلاء الصهيونيين من تفريق أهالي فلسطين عن إخوانهم في سورية وقطع العلائق بينهم تدريجياً!.
ثالثاً: ما زالت جمارك البر الموضوعة في داخلية البلاد عرضةً لصعوبات عظمى في ضبطها وجبايتها حتى عند أرقى الدول وأقدرها، والقيام بهذا العمل بين سورية وفلسطين شاق جداً لا يستطاع إتقانه ولا تُرجى سلامته، ولذلك أسباب كثيرة لا تسهل إزالتها، منها أن الوسائط النقلية بالقطر الحديدية بين المنطقتين محدودة جداً، والطرق الأخرى مفتحة على طول الحدود تجتازها الجمال والبغال وسائر حيوانات النقل في الليل والنهار، ولا سبيل لمنع التهريب منها، وقد يكون
المهرب من التجارات أكثر مما يمر بإدارة الجمرك فتكون النتيجة أن الذي يتمكن من تهريب بضائعه بدون جمرك يزاحم التجار الأمين الذي يؤدي جمركها المفروض عليها، ويتعذر بيع البضائع المدفوع رسومها فتضطر الحكومة إلى مراقبة جميع الطرق وإقامة الخفراء على الحدود، وإنفاق الأموال الطائلة في هذا السبيل، وينتج عن ذلك أشياء منها: القتال بين المحافظين والمهربين كما هي الحال في مسائل تهريب الدخان وإفساد ألاق الناس بفتح السبيل أمامهم لمخالفة القانون وارتكاب جريمة التهريب التي تحملهم أحياناً على ارتكاب جرائم أُخرى للفرار بأموالهم، إفساد أخلاق المأمورين الذين يتولون أمر المحافظة بفتح سبيل جديد أمامهم لأخذ الرشوة، والاشتراك مع المهربين كما هو المألوف المعروف في الأعمال التي هي من هذا القبيل.(4/259)
العامل الاقتصادي:
ويقال على وجه الإجمال: إن الحاجز الجمركي بين القسم الشمالي والقسم الجنوبي من سورية يكون سبباً لبقاء عشرات الألوف من الخلق بدون عمل وتتعطل تجارة البلاد وصناعاتها، لأن القسم الأعظم من الغزول والمنسوجات الأوربية التي ترد إلى دمشق وحمص وحماة وحلب ينسج ويفصل ويخاط ويصبغ ويحوّل إلى سلع تجارية من ألبسة وغيرها وأنسجة منوعة وتصدر إلى الجنوب، فإذا وضع عليها ضريبة جديدة بمعدل أحد عشر بالمائة رسماً جمركياً يتعذر تصريفها ويضطر المشتغلون بها إلى ترك هذه الصناعة والتجارة وعددهم عظيم جداً وهذه الصناعات القديمة في سورية هي المورد الوحيد لرزق الكثيرين من السكان، كما أن هذا الضرر يلحق أيضاً سكان فلسطين بحرمانهم من إصدار معمولاتهم ومصنوعاتهم إلينا وكساد العمل عندهم وعندنا في آن واحد.
ويناقض هذا الاتفاق الجمركي نصوص الحقوق الدولية ولا يأتلف مع العادات
المعمول بها ويضر بمصلحة الشاميين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويهدم عمران البلاد، ويودي بالتجارة والصناعة الوطنية، ويضعف العلائق التجارية مع أوربا ويرجع بالصناعة السورية القهقرى.
فأُلغي هذا الاتفاق وحل محله اتفاق آخر عقد بين المفوضيتين في سورية وفلسطين وجعلت فيه الصادرات والواردات بين هاتين المنطقتين حرة غير تابعة لتقاضي الرسوم الجمركية إلا ما كان من استيفاء واحد في المائة على قيمة البضائع الصادرة والواردة رسوماً للبلديات، وعلى التجار أن يقدموا قوائم صحيحة بقيمة البضائع الصادرة والواردة، وعلى أساسها يجري الحساب بين إدارة الجمارك في المنطقتين بنسبة ما يوجد في البضائع من المواد الأولية المؤدى عنها رسوم جمركية، حين دخولها إلى ثغور الشام وهو ما يجعلونه على قاعدة الجمارك المشتركة، وعلى قاعدة الجمارك المشتركة عقد اتفاق مع الشرق العربي أي حكومة شرقي الأردن.
ولما كانت قد حصرت جباية الرسوم الجمركية بجميع الواردات الأجنبية إلى البلاد السورية في الثغور البحرية نشأ خلاف كبير بين حكومتي الاتحاد(4/260)
السوري التي كانت مؤلفة من ولايتي حلب ودمشق والإسكندرونة وإنطاكية ومنطقة العلويين وبين لبنان الكبير، ومع ن هذه البلاد تستهلك القسم الأعظم من الواردات الأجنبية، كانت حصة الجمارك التي تدفعها الإدارة العامة إلى حكومة الاتحاد السوري لا تتجاوز 32 في المائة وهي أقل بكثير مما كانت تدفعه إلى حكومة لبنان الكبير وذلك استناداً على طريقة الإحصاء التي كانت متخذة لمعرفة أنواع البضائع التي ترد إلى بلاد الاتحاد السوري. وبعد أخذ ورد أصدر المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان حكمه في أن تأخذ سورية اثنين وخمسين في المائة والباقي يخصص بلبنان الكبير، كما أنه قرر فساد طريقة لإحصاء المتخذة قبلاً
وإلغاءها.
الواردات والصادرات:
تستورد البلاد السورية البضائع المنوعة اللازمة لأسواقها من الخارج، وأهم وارداتها أنسجة القطن والحرير على اختلاف أنواعها، والأجواخ والأواني البلورية والأدوات القرطاسية والأدوات والآلات من الحديد والكاز ومواد البناء كالخشب والأسمنت المسلح والمواد الكيمياوية وحاجيات الصيدليات وغير ذلك. وتصدر إلى الخارج ما يزيد عن حاجتها من حاصلات الزراعة وبعض المنسوجات من القطن والحرير المعروف بجودة صنعه وإتقانه وجماله في بلاد الشرق، وكذلك بعض المصنوعات من الخشب والنحاس الممتاز بدقة الصنع والسكاكر ومرببات الفواكه والحرير والصوف والجلود والتبغ والصابون وغير ذلك.
ويجري أكثر التصدير والتوريد في أسواق المدن الآتي ذكرها مرتبة حسب مكانتها وهي: بيروت، طرابلس الشام، الإسكندرونة، اللاذقية، صيدا من الثغور البحرية، وحلب ودمشق من المدن الداخلية، ويجب أن لا يفهم أن ما يستهلك في هذه المدن يتبع التصدير والتوريد، بل بالعكس فإن شأن الاستهلاك غالباً في الحواضر الداخلية وما يتبعها من القرى وكثرة السكان كما تقدم في بحث تعيين الحصة الجمركية بين سورية ولبنان، ولكن المعمول في حركة التوريد والتصدير على الثغور البحرية كما لا يخفى وهي واسطة النقل والشحن.(4/261)
وقد تبين أن فرنسا وإنكلترا هما في الدرجة الأولى بالنسبة للصادرات إلى الشام ويأتي بعدهما من إيطاليا وبلجيكا والولايات المتحدة. وكذلك يظهر أن المقايضات في التجارة بين الشام ومصر في تقدم مستمر، وأن حركة التصدير من سورية إلى البلاد المجاورة كفلسطين وشرقي الأردن حسنة جداً وعليها المعول في كثير من المصنوعات الوطنية بالنظر للرغبة فيها والحاجة إليها في تلك البلاد المجاورة،
وكذلك حركة النقل الترانسيت بين الشام والعراق والبلاد الإيرانية فإنها قد ارتفعت وتحسنت، وذلك بعد فتح طريق السيارات بين سورية والعراق.
وقد بلغ محصول الشام من الصوف في سنة 1925 4600 طن، ومن مجموع هذا المحصول الذي كان ينقص 20 في المائة عن محصول سنة 1924 نتج 2300 طن من الصوف المغسول، وكانت الولايات المتحدة هي التي تستورد صوف البلاد الشامية بالدرجة الأولى.
وبلغ الوارد من الحيوانات إلى هذه البلاد خلال سنة 1924 عدد 301643 رأس حيوان والوارد في سنة 1925 184738 رأساً. وأما الصادر في سنة 1924 فكان 201726 حيواناً وفي سنة 1925 كان 284389 حيواناً. وهذه الحيوانات تشمل أجناس الخيل والبغال والحمير والبقر والجمال والخنازير.
صناعة البلاد في سنة 1925:
ولاية حلب: إن التدابير التي اتخذتها الحكومة التركية بشأن تغيير لباس الرأس الوطني قد أثرت تأثيراً سيئاً في نشاط الصناعة الحلبية. فقد اشتغل في حلب 2400 نول في شهر كانون الأول يقابلها 2700 نول في شهر تشرين الثاني، وبلغ معدل ما يحصل منها 7500 ثوب قطني مغزول بطول ستة أمتار و 1200 ثوب بطول خمسة أمتار و 10750 سلكاً أغبانياً كوفيات ومناديل. ويصنع في ديرغطا وأبو الظهور الكتان الأهلي والقماش المستعمل لصنع الخيم الوبر. وقد بلغ محصول الصابون في حلب 126000 كيلو غرام ومحصول الزيت 182500 كيلو غرام والدباغات قد حضرت 7500(4/262)
من جلود الخرفان و 1900 جلد ماعز و 2050 جلد حملان و 30 جلد ثور يكون مجموعها 11480 وطحنت المطاحن في حلب ما يقدر ب 2550 طناً من الطحين وأنواعه. وقد شوهد نقص محسوس في تحضير أدوات التعمير في هذه النسبة بالنظر للأزمة الاقتصادية التي بدأت
فيه.
لواء الإسكندرونة: لا يزال النشاط الصناعي عظيماً في حلالات الحرير في السويدية وجبل موسى وفي معامل الصابون في إنطاكية وفي المطاحن.
حكومة العلويين: قد خطط إنشاء معملين لحلج القطن أحدهما في اللاذقية والثاني في جبلة كما أن المعاصر تعمل عملاً جيداً. وقد أخذت أنوال القطن الخامي في قرى اللاذقية وصهيون تعمل بجد ونشاط وكذلك مدابغ اللاذقية.
ويظهر للناظر الفرق الكبير بين الصادرات والواردات في البلاد الشامية فيحكم بأنها سائرة في طريق الإفلاس، والحقيقة أن الفرق أقل مما يظهر لأول وهلة، لأن للبلاد الشامية موارد أُخرى غير صادراتها وإن كانت لا تسد هذا العجز، ولولا هذه الموارد لوقعت البلاد في هوة الإفلاس منذ زمن طويل، وهي تنحصر فيما يلي:
أولاً: الأموال المرسلة من المهاجرين الشاميين المنتشرين في أنحاء الأرض ولا سيما في البلاد الأميركية حيث أصبح الشاميون يملكون ثروة كبيرة فيعاونوا أهلهم في الشام وتقدر هذه الأموال بمليون ليرة إنكليزية وبحسب إحصاء سنة 1922.
ثانياً: واردات الاصطياف والسياحة وهي تقدر بخمسة عشر مليوناً من الفرنكات.
ثالثاً: فوائد الأموال والأسهم والقطع المالية الموجودة في أيدي السكان وهي تقدر بثلاثمائة وخمسين ألف ليرة إنكليزية. إلى غير ذلك من الموارد الأخرى الضئيلة.
ما يجب للنجاح في الاقتصاديات:
لنجاح تجارتنا ورقي صناعتنا لا بدّ لنا:(4/263)
أولاً: تأليف الشركات الصناعية لتأسيسها على الأصول الميكانيكية الحديثة، ومتى تم لنا الظفر للقيام بمثل هذه المعاهد نعتقد أننا بدأنا نقاوم تيار الصناعات الغربية لتحل محلها صناعتنا الجميلة، الممتازة بقوتها ومتانتها، خصوصاً وإن رخص اليد
العاملة ورخص المواد الأولية كفيلان بنجاح كثير من صناعتنا بالنظر لتوفر هذين الشرطين الأساسيين.
ثانياً: وضع الرسوم الجمركية على قاعدة حماية الصناعة الوطنية.
ثالثاً: العناية الفائقة بتحسين زراعتنا وعلى الأخص منها القطن والقنب والفاكهة والعناية بتصديرها إلى الخارج. وكذلك القول في زراعة التبغ.
وعلى ذكر هذا الصنف العظيم لا بد من القول إن بقاء شركة حصر الدخان أضر بزراعة الدخان ضرراً بليغاً حال دون الاستفادة منه فائدة تعود بالخير والنماء، إذا كانت حرة طليقة من قيود هذه الشركة واستبداد رجالها. ومن المحقق أن تنشيط زراعة الدخان على أنواعه وتشجيعه يقلل من هجرة المهاجرين وتخفيف قوة تيارها الجارف ويقتصد للبلاد مبالغ طائلة تدفعها ثمناً للدخان الأجنبي.
رابعاً: جعل عملة البلاد على قاعدة الذهب، ذلك لأن وضع عملة البلاد الشامية على قاعدة الفرنك الفرنسي واستصدار الأوراق النقدية السورية على هذا الأساس قد أضر الأسواق التجارية ضرراً بليغاً، وسبب لها خسائر كبيرة بسبب صعوده وهبوطه المتوالي.
خامساً: الإقلال من استعمال الكماليات وأدوات الزينة والترف وبذل الغيرة في استعمال المصنوعات الوطنية بقدر الإمكان لا سيما الحلويات والسكاكر الإفرنجية فإن مصنوعات البلاد من هذه الأنواع تفوقها جمالاً وإتقاناً ولذة، وقد ارتقت هذه الصناعة في البلاد رقياً حسناً كان من أثره تصدير كميات كبيرة منها إلى البلاد الغربية أيضاً وخصوصاً أصناف مرببات الفاكهة على اختلاف أنواعها، والاختصار على مصنوعات البلاد من هذه الأنواع يوفر مبالغ طائلة تقدر بمئات الألوف من الدنانير الذهبية.
سادساً: تخفيف الضرائب على عاتق الأهلين فقد أصبحوا لا يطيقون(4/264)
حملها بالنظر
لكثرتها وتعددها وزيادتها بالإضافات التي طرأت عليها، مع قلة أسباب الرزق وضعف موارد الاقتصاد.
تجارة فلسطين في الدور الجديد:
كانت تجارة فلسطين في العهد الأخير في صعود وهبوط وصادراتها أقل من وارداتها لكن التحسن مطرد في حالتها ويؤخذ من تقري إدارة الجمارك والمكوس والتجارة أن مجموع واردات الجمارك والمكوس والمواني كان سنة 1925 1109955 جنيهاً مصرياً يقابله 656880 ج. م في سنة 1924 وقد زاد الدخل من مكوس التبغ على 100 ألف جنيه. وأُعفيت من الرسوم الجمركية الفحم والكاز والوسخ وزيت ديزل وسدلر والمازوت والبراميل والمواد الأولية التي تدخل في الصابون وكسر بزر الزيت والدباغة والنسج. وأُعفيت أيضاً بضائع قيمتها 59244 ج لما تقضي به حقوق المعاهدات الدولية. وبلغ مجموع قيمة الواردات 7338491 ج مقابل 5266349 في سنة 1924 ومجموع قيمة الصادرات من نواتج فلسطين 1297559 مقابل 1200812 في السنة التي قبلها وكانت أهم الزيادة في الواردات الحبوب والدقيق ومواد البناء والبضائع القطنية والأدوات والسيارات وأنواع الكاز. وبلغ ما بيع من الملح 4794 طناً مقابل 3457 طناً في سنة 1924.
إن انتعاش التجارة من أزمة سنة 1923 الذي ابتدأ منذ سنة 1924 قد ظلّ مستمراً بتأثير النازحين الجدد وما جلبوه معهم من رؤوس الأموال التي أودعوها المصارف فسهلوا بذلك إعطاء السلفات وقد هبط معدل الفائدة إلى أدنى رقم منذ الاحتلال، ولكن المشتريات المبنية على المضاربة توقعاً لزيادة الطلب وعلى الخصوص فيما يتعلق بتجارة المباني واستثمار الأموال في أبنية واسعة النطاق مع مشترى الأرض أدت إلى قلة النقد فنتج عن ذلك قبض المصارف يدها عن
التسليف. وقد زاد معدل المعيشة بنسبة 4. 4 بالمائة عن سنة 1924 وارتفعت أسعار الجملة 7. 2 بالمائة.
وبلغت صادرات البرتقال 1868291 صندوقاً مقابل 1880783 في سنة 1924 وكانت الأسعار عالية وكان معدل المبيعات الأولى 12 - 15 شلناً(4/265)
الصندوق. وكسدت تجارة الخمور الصادرة وقل الوارد منها 7850 ج م وصدر من الصابون 5855 طناً قيمتها 247725 وأُدخل تحسين على صناعته فصار يعمل منه الصابون المطيب. وفي فلسطين سبعة معامل للتبغ واللفائف وسبعة معامل للتنباك وكان ناتجها من أول أيار 219800 كيلو غرام من اللفائف و 12000 من التبغ المفروم و 40 في المائة من التبغ المصنوع في المعامل وهو من ناتج فلسطين والمساحة المزروعة تبغاً وتنباكاً في فلسطين هي ثلاثة آلاف آكر الآكر 52 آراً والآر مائة متر مربع وما زال تهريب التبغ مستمراً على درجة واسعة.
وقسمت الواردات المستهلكة في فلسطين في سنة 1925 أربعة أقسام منها 1987110 ج ثمن مأكولات ومشروبات وتبغ و 627518 مواد خام وبضائع أكثرها غير مصنوع و 3967518 بضائع مصنوعة كلها أو معظمها و 756344 صادرات شتى. وأهم مصادر الواردات ونسبتها إلى المجموع بريطانيا العظمى 3083156 ج أي 14. 5 بالمائة وسورية 1017903 أي 14. 5 في المائة وألمانيا 930439 أي 12. 0 في المائة وأميركا 166999 أي 9. 5 وبلدان بريطانية أخرى 583550 أي 7. 5 وفرنسا 563689 أي 7. 5 ومصر 375169 أي 5. 5.
وتقسم الصادرات إلى مأكولات ومشروبات وتبغ وقيمتها سنة 1925 882234 ومواد خام وبضائع أكثرها غير مصنوع 66808 بضائع مصنوعة كلها أو معظمها 300128 وأشياء أُخرى 48339 وأهم موارد الصادرات مصر ويصدر
إليها بما قيمته 577277 ج أي 44. 5 في المائة وبريطانيا العظمى 443774 ج أي 30 في المائة وسورية 158102 أي 12. 5 وأميركا 25600 وفرنسا 22932 وألمانيا 20190 وإيطاليا 11968 وأهم الزيادة في لصادرات التي كانت في البرتقال وصابون الغسيل فزادت صادرات الأول 91115 والثاني 43834 ج.
ويعرف مركز البلاد الحقيقي ويقدر ما لها وما عليها من ميزان تجارة البلاد لسنة 1923 وهو ميزان صحيح في الجملة مأخوذ من قلم إحصائي دائرة التجارة ومن بعض ذوي الخبرة والاختصاص.(4/266)
ومن الأسباب العديدة التي تحول دون الإنتاج في الوقت الحاضر وفي فلسطين قلة الأيدي العاملة من بشر وحيوان وقلة العمال الفنيين في سبيل الإنتاج المختلفة ومشكلة الأرض وخصوصاً المشاع وقلة رؤوس الأموال اللازمة للقيام بالمشاريع الكبرى.
تجارات الأمم المختلفة في الشام:
يقدر الخبيرون الواردات إلى سورية ولبنان من القارات الخمس بثمانية(4/267)
ملايين دينار ذهبي مسانهةً وغالب ذلك من الأشياء الكمالية التي تقتضيها حالة الحضارة والترف، فمن أهم ما تستورده الشام من فرنسا الكتب المدرسية والمطبوعات العلمية والأدبية والسياسية وأدوات الكتابة من أقلام ومحابر وورق وأنوال النسيج الإفرنجية ومواد الصيدلة والعقاقير والمستحضرات الطبية وآلات الجراحة ومعدات موائد الطعام من سكاكين وملاعق ومتممات اخونة الطعام ولوازم القاطرات الحديدية والشاحنات، ومن مواد البناء الترابة الكلسية والطوب والقرميد والبلاط الصناعي وآلات النجارة ومعدات الأبواب والنوافذ الحديدية والآلات الكاتبة من عربية وإفرنجية وأسلحة الصيد والمسدسات مع ما يلزمها من القذائف والبارود،
والأجواخ الصيفية على اختلاف أنواعها، وثياب النساء حريرية وقطنية، وأوان خزفية وبلورية وروائح عطرية على اختلاف أنواعها، والخمور والدقيق والمطابع وما يقتضي لها عن حروف وآلات طابعة والمواد الكيماوية وغير ذلك.
ومن أهم ما نستورد من إنكلترا القصدير والمعادن والأجواخ الشتوية الغالية الثمن، والمنسوجات القطنية وهي أنواع كثيرة والغزل بأنواعه والموسى والسكاكين المعروفة بالإنكليزية وسرر النوم على اختلاف أنواعها المعمولة من الحديد والنحاس وسرر السفر وبعض مطبوعات علمية وأدبية وأسلحة الصيد والمسدسات وما يتبعها وكثير من العقاقير والمستحضرات الطبية وآلات الجراحة والأسلاك النحاسية والمركبات ولوازمها. وأهم ما يرد على الشام من إيطاليا ألبسة الصوف على اختلاف أنواعها وأكسية القطن كالمدام واليمني والأجواخ الرخيصة الثمن والرخام المرمر الملون وبعض مطبوعات علمية وأدبية وقسم من السيارات والمركبات. وأهم ما يردنا من ألمانيا المطبوعات العلمية والأدبية وورق الكتابة وأدوات النجارة على تعدد أنواعها وأشكالها من مناشير ومطارق وأدوات الأبواب والنوافذ الحديدية وسرر النوم من النيكل والحديد والنحاس وسرر السفر والمسامير وأسلحة الصيد والمسدسات وتوابعها والرصاص والقصدير والأواني الخزفية وآلات الجراحة والعقاقير والمستحضرات الطبية والأواني النحاسية من طسوت وأباريق وأواني الحديد المدهون المستعمل في المطابخ والأصباغ على أنواعها والأدوات الكهربائية(4/268)
على تنوع ضروبها والآلات الرافعة للماء وأدوات الزراعة الحديثة والجوخ.
وأهم ما يرد من النمسا صناديق الحديد والمقاعد والكراسي الخشبية المعروفة الخيزران والورق. ومن المجر الكبريت والفاصوليا. ومن روسيا سخانات بشاي الفاخرة السماورات منها الأبيض ومنها الأصفر، وخيطان الفضة المموهة وتدخل
في الصناعة الشامية لوشي الحرير، والبترول والطنافس والبسط الغاليا الثمن، والفراء الفاخرة والأحذية المطاطة. وأهم ما تصدر إلينا بلجيكة بلور المرايا وزجاج النوافذ وأسلحة الصيد والمسدسات وحديد البناء وحديد الصناعة ولوازم حافلات الكهرباء وآلات الزراعة. وثياب وأجواخ كثيرة والصودا والسلك والورق. ومن بولونيا الخشب والمسامير. ومن أسبانيا القمصان والجوارب والفلين والزئبق وبعض الأدهان. ومن سويسرا الساعات الذهبية والفضية للنساء والرجال والمطرزات الصيفية من الأكسية والدنتلا والشوكولاته والجبن واللبن المعقم والزبدة وأدوات النسيج والأحذية. ومن هولاندة الجبن والغليسرين والسبيرتو والجعة والشمع والملبس دروبس والبسكوت والدهان والأواني الخزفية والحليب المعقم والكتب العربية الجيدة.
وأهم ما يردنا من السويد الكبريت والمقوّى. ومن النروج زيت السمك والقطران وزيت النفط التربنتين. ومن الدانيمارك الحليب المعقم والسمك المقدد والمغموس بالزيت والجعة. ومن البرتقال سمك السردين. ومن التشيكو سلوفاكيا السكر والبلور والمالقي والجوخ العربي والجوخ العادي والأزرار والطرابيش والحرامات الصوف والأواني الزجاجية. ومن بلغاريا الجبن البلغاري ومن رومانيا الأخشاب وتعرف بالقطراني والشوح وقليل من البترول. ومن اليونان التبغ والزيوت والكونياك. ومن أميركا الشمالية والجنوبية آلات الخياطة والسيارات وما ينبغي لها والدراجات والمركبات والزيوت المعدنية والبترول والألكحول والبنزين والأحذية والقهوة والخشب المعروف بالأميركاني والساعات الأميركانية وآلات الهاتف والبرق والمطاط وأدوات الكتابة. ومن أوستراليا الدقيق الأسترالي وغير ذلك.
وأهم ما يرد علينا من اليابان والصين الخزف الصيني والياباني وهو أشكال متعددة والحصر المنقوشة والحرير الياباني والصيني والغزل والشاي الصيني(4/269)
والخام من اليابان والصين والحرير من شنغاي. ومن جاوة بطريق الحجاز الشاي والقهوة وثياب الحرير الصفيق المعروفة بالاستكروزة. ومن طرابلس الغرب وتونس والجزائر والغرب الأقصى نسيج صوف فاخر يعرف بالحرام وهو دثار الشتاء وحرير للصناعة هو أحسن أنواع الحرير. ومن الجزائر النبيذ الفاخر. ومن السودان الفول السوداني وبعض البهارات والصمغ والريش والعاج. ومن الحبشة القهوة. ومن مصر الثياب الصوفية يخيطونها عباءات في فلسطين والشال الحريري والأرز والسكر والمطبوعات العربية في مختلف العلوم والفنون.
ويردنا من تركيا الأحجار الكريمة وبعض مصنوعات الصياغ من الأواني الفضية الدقيقة الصنع، والبسط الأورفلية نسبة إلى أورفة والطنافس وغالبها تعرف بأسماء البلدان التي تعمل فيها فيقال لها الرشواني والقيصري والكرداسي وتستورد الشام من بلاد الكرد الغنم والخيل المعروفة بالجلب وهي لحمل الأثقال والحرث والبسط والطنافس واللبد المعروفة بالكردية. وأكثر ما تبعث العراق البسط المعروفة بالبغدادي والعباءات المعروفة بالجيلانية نسبةً إلى جيلان والملاءات الحريرية وتعرف بالبغدادية يتخذها نساء القرى الشامية غطاءً. وأهم ما نتناوله من اليمن والحجاز البن أو القهوة المعروفة بالعدنية، ومن المدينة المنورة بعض الطيوب والمراوح والتمر والحناء. ومن نجد الإبل والخيول العربية المشهورة.
وأهم ما يرد من بخارى الطنافس والبسط المفتخرة وتعرف بأسماء حواضرها. ويرد من الأفغان الطنافس والبسط الجيدة وتعرف بالأفغاني. ومن الخليج الفارسي اللؤلؤ ومصنوعات يدوية من بسط وطنافس وخراج وأعبئة. ومن فارس الشال الثمين والبسط والطنافس وعباءات الوبر وتعرف بأسماء حواضرها فيقال الشيرازي، التبريزي، الهمداني، الخراساني من حواضر فارس، ومن أهم مجلوباتنا التنباك الأصبهاني وهو كثير المقطوعية في الديار الشامية والأسلحة البيضاء من
مدى وخناجر وسيوف وتعرف بالعجمية، والخاويار يجلب الآن من بحر الخزر.
وأهم الوارد من بلاد الهند الطيوب من مسك وعنبر وعود وكافور(4/270)
والنيل والشاي على اختلاف أنواعه ومصنوعات النحاس من أباريق وطسوت وطاسات وأقداح صغيرة وكبيرة وصحاف تعرف بالهندي والبهارات والأفاويه بأنواعها. والشال البديع من صناعة كشمير ولاهور، ويساوي الثوب منه وطوله ثلاثة أمتار بعرض متر ونصف من أربعين إلى خمسين ديناراً.
هذا مجمل ما يأتينا من الأرجاء المختلفة من ضرو بالحاجيات والكماليات، عدا أصناف المأكولات من شوكولاته وثمار محفوظة وبقول وحبوب ودقيق وفاكهة ولحوم مقددة وأنواع السكاكر الإفرنجية، مما يصدر إلينا بحسب اللزوم ورواج سوقه إذا أُصيب القطر بآفة في نواتجه، وهذه الأصناف المجلوبة تدل على دقة نظر تجارها وحسن انتقائهم، وضربهم في طول الأرض وعرضها، حتى لا تكاد ترى فيما نعلم بلداً في الأرض لم ينزله شامي يبيع أو يشتري. ويقال في الأمثال العامة: أعرج الشام وصل الهند، وإذا تأملت هذه المجلوبات الصناعية وجدتها مثال الجمال والمتانة مما يدل على ذكاء مستهلكيها ورسوخ قدومهم في الحضارة والترف. وقطر كهذا بينه وبين الغرب صلات مستحكمة في التجارة منذ أكثر من ألفي عام وبينه وبين الشرق صلات مثلها منذ عرف التاريخ هو عميل قديم أمين جدير بأن ينظر إليه بعين العطف ويهتم بشأنه أهل الغرب اه.
رأي في ازدياد الثروة والتجارة:
بعد أن عرفنا بالفصول السالفة تاريخ التجارة في هذا القطر، وعلائقة مع الأمم في القديم، ووقفنا على حالة تجارته اليوم، وصلاته الاقتصادية مع الشرق والغرب، ورأينا العجز الظاهر في موازنته واختلال مجاريه الاقتصادية وأن دخله أقل من خرجه في الجملة، يجدر بنا أن نلفت نظر أرباب الشأن في الأمة، إلى أن
الشام باعتدال أهويته وجميل طبيعته، وتوسطه بين أقطار الشرق والغرب، وما في تاريخه وآثاره من البدائع والروائع، يستطيع أهله أن يجعلوه محط رحال معظم المسلمين في آسيا وإفريقية، وأقرب السبل إلى ذلك في نظر المفكرين، أن يصلح ما تخرب في الثورة العربية من خط السكة الحجازية الممتد من دمشق إلى المدينة المنورة، ويتم مد الخط الحديدي(4/271)
إلى مكة المكرمة وجدّة، وعندها يستطيع حجاج العراق وفارس وأفغانستان وبلوجستان والهند والصين وغيرها أن يسلكوا إلى الأرض الطاهرة عن طريق الشام من العراق على السيارات ريثما يمد خط حديدي عريض، وتكون دمشق المحطة المهمة للصادرين والواردين، ودمشق هي المدينة الإسلامية الرابعة بقدسيتها، بين أكثر أقطار الشرق الإسلامي وبين الحجاز، فإذا تم ذلك لا يقل عدد الحجاج الذين يؤمون دمشق عن ثلاثمائة ألف كل سنة، فإذا صرف الفرد عشرة دنانير، واصطاف في الشام من العراقيين والمصريين عشرون ألفاً كل سنة على أقل تعديل، وزارها عشرون ألفاً من سياح الإفرنج، لا يقل ربح الشاميين كل سنة عن أربعة إلى خمسة ملايين دينار من هذه الطرق التجارية. ومما يسهل الوصول إليه عقد معاهدة بين حكومة الشام والحكومات المجاورة. حينئذ يعمر الحجاز وتتم للشام سعادتها لأنها بالسكة الحجازية كانت تمون الحجاز قبل الحرب الكبرى فيسافر كل يوم من دمشق سبع مركبات تحمل من الطعام والبضائع ما لا يقل وزنه عن مئة ألف كيلو، وناهيك بذلك من تبادل المنافع بين هذه الأقطار والممالك، وما في ذلك من تيسير سبل الحج على شعوب لا تقل عن مائة وثلاثين مليوناً في العدّ، كانت ترحل الأشهر لتحج واليوم تكفيها الأسابيع القليلة مهما بعُدت عليها الشقة إذا امتطت هذه السيارات وهذه القطارات، ثم إذا تم إنشاء الخط الحديدي بين طرابلس وحيفا تتصل كالة في فرنسا بالقاهرة عن طريق أوربا وتركيا وتصبح الشام نقطة الاتصال بين أوربا وآسيا وإفريقية
وفي ذلك من الفوائد لتجارة الشام ما لا ينكر.
انتهى الجزء الرابع من خطط الشام
ويليه الجزء الخامس وأوله التاريخ المدني - الجيش.(4/272)
التاريخ المدني
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الجزء الخامس كله ساقط، ولعله يتم استدراكه في وقت لاحق إن شاء الله تعالى(5/)
البيع والكنائس والأديرة
بيوت العبادة عند الأقدمين:
لم يخلف التاريخ الصحيح مستنداً يركن إليه في وصف بيوت العبادة عند قدماء سكان أيام كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ثم بعد أن أصبحوا يعبدون النيران. فلا نعرف إذاً شيئاً يعتد به عن هياكل الفينيقيين في صور وصيدا وبيروت وجبيل ولا عن هياكل مشارف الشام الجنوبية ولا عن بيوت النيران في حلب ولا عن بيوت العبادة عند الحثيين والبابليين والآشوريين ولا عن هيكل الرب مرناس الذي كان يعبد في غزة، ويحجون إلى هيكله من الأقطار ولا عن معبد المشتري جوبيتر الذي أنشأه أدريانوس الرومان الذي وجد جبل جرزيم فوق نابلس، ولا عن هياكل المشتري معبود الرومان الذي وجد في السخنة بين تدمر ودير الزور، ولا عن هيكل اليونان في أنطاكية، ولا عن هيكل بزبزة بالغرب من كوسبة في لبنان، ولا عن بعل مرقد في أطلال دير القلعة قرب بيت مري بلبنان، ولا عن هيكل الزهرة في أفقة في جبل كسروان. والهيكل الباقي من هياكل القدماء هو هيكل بعلبك وقليل أمثاله جداً مما صبر على ضربات الدهر.
أما كنائس اليهود فقد تبين أنهم شرعوا بإنشاء كنيس لهم في سبي بابل(6/3)
يجتمعون فيه ويتعبدون. وأهم ما كان من كنائسهم كنيسهم في القدس بنوه بعد رجوعهم من بابل بجانب المعبد وقسموه قسمين قسم للرجال وقسم للنساء، ثم كثرت الكنائس في المدن الصغرى والكبرى في كل بلد كان فيها لليهودية معتقدون وأنصار. ولكل كنيس خزانة مقدسة تقام في داخل البناء على خشب وتجمعل متجهة نحو القدس وهي مغشاة بالكتان وفيها الطوامير المقدسة وأمام الخزانة ستار يذكر بستار المعبد وفي وسطه أمام الخرانة شيء أشبه بمنبر.
هذا غاية ما يقال في هياكل القدماء وبيوت عباداتهم، وكيف السبيل إلى وصف المعابد القديمة والتاريخ لا يعرف شيئاً يعتد به عن العالم الإسرائيلي بل ولا عن نصارى القرون الأولى، وكل ما يعرف عن موسى وعن قضاة إسرائيل وداود أو المسيح والحواريين لا يكاد يملأ سوى صفحات قليلة والنصرانية نفسها لم تنتشر في الشام إلا في اقرن الرابع للميلاد على يد قسطنطين أو أم قسطنطين بن
قسطنطين باني القسطنطينية وهو الذي بني كنائس كثيرة بدمشق وغيرها حتى يقال إنه بني في زمانه اثني عشر ألف كنيسة.
ولا بد لنا قبل وصف الكنائس والبيع والأديار أن نعرفها تعريفاً يقربها من جميع الأذهان ولا يوقع فيها لبساً. فالدير كما قالوا في تعريفه بيت يتعبد فيه الرهبان ولا يكاد يكون في المصر الأعظم إنما يكون في الصحاري ورؤوس الجبال فان كان في المصر كانت كنيسة أو بيعة.
وربما فرق بينهما فجعلوا الكنيسة لليهود. والبيعة للنصارى. وقال بعضهم: البيعة متعبد النصارى وقيل: كنيسة اليهود. والأولى أن تطلق الكنيسة على متعبد النصارى والكنيس على متعبد اليهود. وجاءت لفظة الدير من الدار والجمع أديار والديراني صاحب الدير والذي يسكنه ويعمره. ويقال له ديار. ويقال دير وديرة وأيار وديران ودارة ودارات وديرة ودير ودور ودوران وأدوار ودوار وأدورة.
منشأ الأديار والبيع:
أنشئت الأديار الأولى في الشام، فهي نوطنها الأول، ذلك أن من(6/4)
المسيحيين من أخذوا يألفون العزلة لأول ظهورهم في صعيد مصر وجبال إنطاكية ينقطعون للنسك. ولما زاد عدد هؤلاء الناسكين دعت الضرورة إلى إنشاء أكواخ منفردة أشبه بعمرات جعلت برئاسة رئيس.
وأنشئت دور عظيمة يعيش فيها أولئك الزهاد عيشة مشتركة يجمعهم سقف واحد وتسيرهم إدارة رئيس واحد. ثم اتحدت تلك الأكواخ والبيوت. وأنشئت أديار في المدن تولاها الأساقفة وانتقل ذلك إلى الغرب. وكما كانت الشام منشأ الأديار كذلك كانت أول من وضع هندسة الكنائس ذات القباب، فقد جرت في هندستها لأول مرة على مثال المعابد القديمة، فالشام إذاً أول من أنشأ الأدبار والكنائس كملا قامت فيها النصرانية واليهودية.
قلنا: إنه يرد إنشاء الكنائس إلى عهد قسطنطين أن ثيودوسيوس الكبير حول بعض هياكل الوثنيين في بعلبك إلى كنائس فبنى كنيستين في القلعة إحداهما في وسط البهو الكبير القائم أمام هيكل الشمس. وقال المسعودي: إن هيلاني بنت بإيليا الكنيسة المعروفة بالقيامة في هذا الوقت الذي يظهر منها النار في يوم السبت الكبير الذي صبحه الفصح وكنيسة قسطنطين وديارات كثيرة للنساء والرجال على الجبل المطل على مدينة بيت المقدس المعروف بالطور وهو بإزاء قبة اليهود وعمرت مدينة إيليا عمارة لم يكن قبلها مثلها ولم يزل ذلك عامراً إلى أن أخربته الفرس حين غلبت على مصر والشام.
تكاثرت الكنائس والأديار في الشام فلم يمض على انتشار النصرانية قرنان حتى زاد عدد الأدبار والبيع على صورة مستغربة حتى إن الغسانيين ولعوا أيضاً بعمارة الأديار في الجزء الذي ارتفع سلطانهم عليه في الجنوب على عهد ملوك الروم فشادوا دير حالي ودير أيوب ودير الدهناء ودير ضخم ودير النبوة. واشتهر الغساسنة بإقامة الديرة والبيع وكانوا كما قبل يعتمدون ببنائهم الموضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه ويجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب ومثلهم كان شأن آل المنذر بالحيرة وبني الحارث بن كعب بنجران من بيوتات العرب.(6/5)
أعظم الكنائس وأقدمها:
ويظهر أن كنيسة القبر المقدس في القدس هي أقدم كنيسة في الشام قامت في مكان نظر إليه في كل وقت بأنه مقدس. وذكر الأسقف أو سابيوس القيصري 314 - 340 وهو والد تاريخ الكنيسة أن في الحفريات التي جرت على عهد الملك قسطيطين اكتشفت مغارة المخلص المقدسة. وزاد المؤرخون المحدثون أن الملكة هيلانة والدة قسطنين المتوفاة نحو سنة 326م زارت القدس واكتشفت القبر المقدس وصليب يسوع، فالبنات التي أقيمت في ذاك المكان سنة 336م هي من
البناء المدور قد دعي كنيسة القيامة ومؤرخو المسلمين يسمونها كنيسة القمامة كما كان هناك كنيسة كاتدرائية خاصة برمز الصليب وقد أحرق الفرس هذين المكانين سنة 614م. وأعاد هرقل بناء ما كان خرب كسرى من الكنائس في مصر والشام، وذكر المؤرخون أن الفرس خربوا كنتئس القدس بمعاونة اليهود ومما خربوا كنيسة الجسمانية وكنيسة المنية وظلتا خراباً إلى القرن الرابع من الهجرة، ولما انصرفوا عمر النصارى كنيسة القيامة والمقبرة والاكرانيون وما قسطنطين وأحدث الراهب مودست رئيس دير تيودوس في سنة 616 و626 كنيسة القيامة وكنيسة الصليب وكنيسة الجللجة وأضيفت سنة 670 إلى الجنوب كنيسة للعذراء.
ولما فتحت القدس وجاء الخليفة عمر بن الخطاب أدركته الصلاة فلم يرض أن يصلي في كنيسة القيامة لئلا يكون بعده للمسلمين حجة في أخذها وبني مقابلها جامعاً ومصلى. ولما تنصر الروم على رواية ابن بطريق وبنت هيلانة أم قسطنطين الكنائس في بيت المقدس كان موضع الصخرة وحولها خراب فترك، ورموا على الصخرة التراب وهذه التي بني عليها المسجد الأقصى، ثم ذهب الخليفة إلى بيت لحم فحضرته الصلاة فصلى داخل الكنيسة عند الحنية القبلية، وكانت الحنية كلها منقوشة بالفسيفساء، وكتب عمر للبطرك سجلاً أن لا يصلي في الموضع من المسلمين إلا رجل واحد بعد واحد ولا يجمع فيه صلاة ولا يؤذن فيه ولا يغير فيه شيء. وكنيسة بيت(6/6)
لحم من الكنائس القديمة المشهورة أنشأها قسطنطين سنة330 فكانت كاتدرائية كبرى وأنشأ يوستنيانوس حيطانها وأقيمت فيها أديار وكنائس كثيرة حتى أطلق عليها سنة ستمائة للميلاد اسم المكان الزاهر.
ومن أشهر كنائس الشام كنيسة دمشق المعروفة بكيسة مار يوحنا مكان الجامع الأموي اليوم، صالح المسلمون على نصفها الشرقي لأنهم اعتبروا دمشق بما فتح صلحاً وعنوة، فكان النصف من هذه الكنيسة العظمى، التي كانت أكبر معابدهم
على رواية ابن كثير، في النصف الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف. وكان بدمشق خميس عشرة كنيسة كتب بها عمر بن الخطاب كتاب أمان وأقر ما بأيدي النصارى أربع عشرة كنيسة، فجعل أبو عبيدة من الكنيسة الكبرى مسجداً. فكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الأصلي في القبلة؟ جرجس بن العميد: وقيل إن الوليد بذل للنصارى في كنيسة مار يوحنا أربعين ألف دينار فلم يريدوا أن يأخذوا المال فأخذها فأخربها ولم يعطهم شيئاً. وفي تواريخ دمشق أن النصارى رفعوا إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته ما بيدهم من عهد أبي عبيدة بن الجراح من أن كنائسهم لا تهدم ولا تسكن وان الوليد أخذ كنيسنهم بغير حق قهراً، فلما رأى عمر ذلك منهم دفع لهم مالاً يرضيهم به حتى بلغ مائة ألف فأبوا، فكتب إلى محمد بن سويد الفهري أن يدفع إليهم كنيستهم أو يرضيهم في ذلك. فلما وصل كتاب عمر إلى دمشق أعظم الناس ذلك وفيهم يومئذ بقية من أهل الفقة، فشاورهم محمد بن سويد فقالوا: هذا أمر عظيم ندفع إليهم مسجدنا وقد أذنا فيه بالصلاة وجمعنا فيه يهدم ويعاد كنيسة. فقال رجل منهم: هنا مسألة فإن لهم كنائس عظاماً حول مدينتنا وهي دير مران والكنيسة بباب توما وغيرها من الكنائس أن أحبوا أن نعطيهم كنيستهم فلا يبقوا حول مدينة دمشق ولا بالغوطة كنيسة إلا هدمت أو نبقي لهم جميع كنائسهم ويتركوا هذه ونسجل لهم بذلك سجلاً، فرضي النصارى على أن يسجل لهم الخليفة سجلاً منشوراً بأمان على ما بدمشق والغوطة من كنيسة أن تهدم أو تسكن. وهكذا استحالت كنيسة مار يوحنا إلى مسجد جامع للمسلمين أخذوه بحكم الفتح(6/7)
وأرضوا أنباء ذمتهم على كل حال. وما ندري كيف آل إلى هؤلاء من اليهود أو إلى النصارى من الصابئة وغيرهم. ولعل التقليد القائل بأن في الجامع رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام أتي من كون الكنيسة كانت على اسم مار يوحنا هو يحيى والله أعلم.
وخاصم النصارى حساناً بن مالك الكلبي إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة بدمشق فقال له عمر: إن كانت من الخمس عشرة كنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك إليها. وقال غيره: خاصمت العرب في كنيسة بدمشق يقال لها كنيسة ابن نضر كان معاوية أقطعهم إياها فأخرجهم عمر بن عبد العزيز منها فدفعها إلى النصارى فلما ولي يزيد ردها إلى بني نضر. وفي كتاب سجل يحيى بن حمزة أن النصارى ذكروا لعمر بن عبد العزيز أن عتقاء العرب قد سخروا بهم وبرئيسهم وبدينهم وجماعتهم من أهل القرى وأن أولئك العتقاء أحلاف وفرق وأنهم غلبوا على كنائسهم وسألوا الوفاء لهم بما في عهدهم وبما في الكتاب الذي كتبه لهم خالد بن الوليد عند فتح مدينتهم فأمرهم أن يأتوا بحجتهم فأتوا بكتاب خالد بن الوليد فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق يوم فتحها أعطاهم أماناً لأنفسهم ولأموالهم وكنائسهم لا تهدم ولا تسكن لهم على ذلك ذمة الله وذمة الرسول عليه الصلاة والسلام وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين لا يعرض لهم أحد إلا بخير إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد بهذا الكتاب يوم كتب عمرو بن العاص وعياض بن غنم ويزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح ومعمر بن غياث عتاب وشرحبيل بن حسنة وعمير بن سعد ويزيد بن نبيشة وعبد الله بن الحارث وقضاعي بن عمر وكتب في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة.
قال يحيى بن حمزة فنظرت في كتابهم فوجدته خاصة لهم، وفحصت عن أمرهم فوجدت فتحها بعد حصار، ووجدت ما وراء حائطها آثاراً وضعت لدفع الخيل ومراكز الرماح، ونظرت في جزيتهم فوجدتها وظيفة عليها خاصة دون غيرهم، ووجدت أهلها عند فتحها رجلين رجلاً رومياً قتلته الحرب أو نفته، ومساكنهم قسمة بين المسلمين(6/8)
معروفة لا تخفى، ورجلاً من أهلها حقن دمه هذا العهد، فمساكنهم وكنائسهم مع دمائهم لهم لم تسكن، ولم تقسم معروفة ليس تخفى،
فقضيت لهم بكنائسهم حين وجدتهم أهل هذا العهد وأبناء البلد، ووجدت من نازعهم لفيفاً طرأ وذلك لو أنهم أسلموا بعد فتحها كان لهم صرفها مساجد ومساكن. فلهم في آخر الدهر ما لهم في أوله وأثبت في الأصول قبل وأشهد الله عليه وصالح المؤمنين، وفاء بهذا العهد الذي عهده لهم السابقون الأخيار فلم يكن بينهم خاصة في ذلك اختلاف نظر لهم. . وقضيت لمن نازعهم بما كان لهم فيها من حيلة أو آنية أو كسوة أو عرضة أضافوا ذلك إليها أن يدفع ذلك إليهم بأعيانها إن قدروا عليه وسهل قبضه، أو قيمة عدل يوم ينظر فيه شهد الله على ذلك اه.
هذا ما كان من المسلمين مع أبناء ذمتهم ومراعاة العهود التي قطعوها على أنفسهم. ولم تزل سيرة خلفاء بني أمية وبعض بني العباس مع النصارى وكنائسهم سيرة الخليفة الثاني والفاتحين من الصحابة الكرام. فقد بنى أبو جعفر المنصور كنيسة في دمشق لبني قطيطاني الغوريق، ذكر ذلك ابن عساكر. ولما وقع حريق في كنيسة مريم بدمشق أيام أحمد بن طولون أمر أن تفرق على أهل الحريق سبعون ألف دينار ففضل عنهم أربعة عشر ألف دينار فأمر أن تفرق عليهم على قدر سهامهم ثم أمر ففرق على أهل دمشق وغوطتها مال عظيم فأقل من أصابه من ذلك دينار.
مبدأ هدم الكنائس:
أول حادث وقع في تخريب الكنائس قبل الإسلام كان لما ثار بفلسطين أهل السامرة وهدموا في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة الكنائس كلها وأحرقوها من بيسان إلى بيت لحم وقتلوا النصارى وعذبوهم عذاباً شديداً فأعاد يوستنيانوس الكنائس وكتب إلى عامله في فلسطين أن يعفي أهلها من الخراج ويعمر بها الكنائس والديارات وبني بيمارستاناً للغرباء في القدس.
وبقدر ما رأى النصارى من عدل المسلمين معهم أيام عزهم أخذ بعض ملوكهم
بعد القرن الثالث يحكمون العواطف بدل العقل في الكنائس(6/9)
والبيع، وكان من أثر ذلك أن نالت السياسة من بيوت العبادة فكان إذا أحس القائم بأمر المسلمين أن قومه في شدة في ديار الحرب انتقم من أهل ذمته في ديار الإسلام، وسلط العامة من طرف خفي ليخرجوا كنائس النصارى وبيعهم.
قال القلقشندي: وفي السنة الأخيرة من رياسة البطريرك قسيما وهي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق ونهبوا ما فيها وتتبعوا كنائس اليعاقبة والنساطرة. وقال ابن بطريق: إن هذه الحادثة وقعت في رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وذلك أن المسلمين في دمشق ثاروا فهدموا كنيسة مرتمريم الكاتوليقية، وكانت عظيمة كبيرة حسنة أنفق فيها مائتا ألف دينار، ونهبوا ما كان فيها من آنية وغير ذلك من حلي وستور، ونهبت ديارات وخاصة دير النساء الذي كان في جانب الكنيسة وشعثوا كنائس كثيرة للملكية، وهدموا كنيسة النسطورية. وثار المسلمون بالرملة وهدموا للملكية فيها كنيستين كنيسة مار قزماس وكنيسة مار كورقس وهدموا كنيسة عسقلان وقيسارية وذلك سنة 311. وثار المسلمون بكنيسة بيت المقدس وأحرقوا أبواب كنيسة قسطنطين القبلية سنة 325.
وكان الداعي إلى ذلك ما وقع من اضطهاد المسلمين في الروم على الغالب فلم يجد ملوك الإسلام واسطة لتخفيف الشر الواقع على رعاياهم من أهل الإسلام إلا بالضغط على النصارى في ديارهم والتأثير في ملوك النصارى بضربهم في أكبادهم في كنائس هي مهوى قلوب أبنائهم في بيت المقدس وما إليها بدليل أن ابن بطريق نفسه قال بعد إيراد تلك الحوادث: وقع بين الروم والمسلمين هدنة مرضية في سنة ست وعشرين وثلاثمائة وقال في حوادث السنة التالية: إن المسلمين ثاروا في عسقلان فهدموا كنيسة كبيرة تعرف بكنيسة مريم الخضراء ونهبوا جميع ما
فيها وأحرقت وعاضد المسلمين اليهود في هدمها. وكان اليهود يشعلون النار في الحطب ويجرونه بالبكر إلى أعلا السقوف حتى يحرقوها وينحل رصاصها وتقع عمدها وخرجت الكنيسة وبقيت خربة. وروى أيضاً أن الصناحي والي القدس(6/10)
اضطهد بطريرك القدس فاستعدى عليه ملك مصر فأعداه فلم يستمع الوالي لذلك واختبأ البطريرك في كنيسة القيامة فهاجمها الوالي وأحرقوا أبوابها وسقطت القبة، وتوجه الرعية إلى كنيسة صهيون وأحرقوها ونهبوها. وهدم اليهود وأخربوا أكثر من المسلمين. وأهم ما نال الكنائس في الشام من الأذى، كان على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي فإنه لم يبق في مملكته ديراً ولا كنيسة إلا هدمها. ففي سنة 398 كتب الحاكم إلى دمشق بهدم كنيسة السيدة القاتوليكية فهدمت، وكتب إلى والي بهدم كنيسة القيامة في القدس وإزالة معالمها والقضاء على آثارها، وهدم الاقرانيون كنيسة ماري قسطنطين وسائر ما اشتملت عليه حدودها واستقصوا في إزالة الآثار المقدسة، وكان في جوار المقبرة دير للنساء يعرف بدير السري فهدم أيضاً. وكان ابتداء نقضها سنة أربعمائة ووضعت اليد على الأملاك والأوقاف وجميع ما في تلك الكنائس من آلاتها وحلاها.
وعاد الحاكم بعد أن ضرب النصارى في كنائسهم في جميع أرجاء مملكته فأعطاهم عهداً كما كان يعطي الخلفاء العادلون ومنها هذا المنشور الذي أورده ابن بطريق:
بسم الله الرحمن الرحيم أمر أمير المؤمنين بكتب هذا المنشور لنيقيفور بطريرك بيت المقدس بما رآه من إجابة رغبته، وأطلق بغيته، من صيانته وحياطته، والذب عنه وعن أهبل الذمة من نحلته، وتمكينهم من صلواتهم على رسومهم في افتراقهم واجتماعهم، وترك الاعتراض لمن يصلي منهم في عرصة الكنيسة المعروفة بالقيامة وخربتها، على اختلاف رأيه ومذهبه، ومفارقته في دينه وعقيدته، وإقامة
ما يلزمه في حدود ديانته، وحفظ المواضع الباقية في قبضته، داخل البلد وخارجه والديارات وبيت لحم ولدّ، وما برسم هذه المواضع من الدور المنضوية إليها، والمنع من نقض المصلبات بها، والاعتراض لأحباسها المطلقة لها، ومن هدم جداراتها وسائر أبنيتها، إحساناً من أمير المؤمنين إليهم، ودفع الأذى عنهم وعن كافتهم، وحفظاً لذمة الإسلام فيهم، فمن قرأه أو قرئ عليه من الأولياء(6/11)
والولاة، ومتولي هذه النواحي وكافة الحماة، وسائر المتصوفين في الأعمال، والمستخدمين على سائر منازلهم، وتفاوت درجاتهم، واستمرار خدمتهم، أو تعاقب نظرهم، في هذا الوقت وما يليه، فليعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، ويعمل عليه وبحسبه، وليحذر من تعدى وحده ومخالفة حكمه، ويتجنب مباينة نصه ومجانبة شرحه، ولقرّ هذا المنشور في يده حجة لمودعه، يستعين بها على نيل طلبه، وإدراك بغيته، إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الأخرى سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وفي أعلاه بخط الحاكم توقيع: الحمد لله رب العالمين.
قال ابن بطريق، وانفتح حينئذ باب رجعة الكنائس ورد أوقافها عليها، وأطلق عمارة جميع الكنائس والديارات التي يستدعي منه الإذن فيها وفي عمارتها بمصر وفي سائر بلاد مملكته، وكتب لكل منهم سجلاً لإعادة أوقافها إليها، إلا ما كان من الأوقاف والكنائس قد بيع في وقت القبض عليها في دمشق وفي جميع بلاد الساحل، وصرف ثمنه في النفقات السلطانية، لضيق الأموال وقلتها، أو ما كان منها قد حصل لمن يتوقون شره من المسلمين. ولما تسامح الحاكم بعمارة الكنائس وتجديدها ورد أوقافها عاد الذين أسلموا من النصارى وقت الاضطهاد إلى دينهم لأمره وتسامحه. ولما هلك الحاكم وبويع لابنه الظاهر واستولت عمته على الملك بالفعل تقدمت بمسير نيقيفور بطريرك بيت المقدس إلى حضرة الملك ليطلبه بعودة الكنائس وتجديد كنيسة القيامة ببيت المقدس وسائر البيع في جميع بلاد مصر
والشام ورجوع أوقافها إليها.
وكان البطاركة أشبه بسفراء سلام بين ملوك الإسلام وملوك الروم. إذا وقع حيف على المسلمين في ديار أعدائهم يندبهم ولاة الإسلام إلى مطالعة الروم الواقعين في أسرهم، أو الراحلين إليهم في التجارة. ومما اشترط ملك الروم على الظاهر العبيدي في عقد الهدنة ثلاثة شروط منها أن يعمر الملك الظاهر كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله، ويصيّر بطريركاً على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب(6/12)
التي في بلاد الظاهر. فقبل الظاهر ما شرطه الملك من بناء كنيسة القيامة ومن إقامة بطريرك ومن تجديد النصارى بقية الكنائس سوى ما كان منها قد عمل مسجداً.
وقد علل مجير الدين الحنبلي عمل الحاكم في هدم البيع تعليلاً غير مقبول كثيراً قال: إنه بسبب ما أنهي إلى الحاكم من الفعل الذي يتعاطاه النصارى يوم الفصح من النار يوقدونها في سبت النور يوهمون أنها تنزل من السماء وقال: إن المستنصر بالله أبا تميم معداً، هادن ملك الروم على أن يطلق خمسة آلاف أسير ليمكن من عمارة القيامة التي كان خربها جده الحاكم فأطلق الأسرى. قال: والذي يظهر أن تخريبها لم يكن تخريباً كلياً بل كان في غالبها.
وقد وقع في العصور التالية بعض حوادث من تخريب كنيسة أو بيعة كان السبب فيه داخلياً كأن يميل أهلها إلى عدو خارجي يداهم القطر، فقد استطالوا سنة 658هـ على المسلمين كما يقول المؤرخون فنهبهم المسلمون وخربوا كنيسة مريم بدمشق وكما وقع لهبة الله النصراني متولي خزانة السلطان فإنه كان تمكن من المسلمين وآذاهم، ورفع منار النصارى وتسلطوا بجاهه على المسلمين، وجدد لهم بناء كنيسة مريم وشيد بنيانها، ورفع بابها، وحسن عمارتها، ثم هدم ما زاده، وأعيدت الكنيسة إلى ما كانت عليه، وتولى النصارى هدم ذلك بأنفسهم.
وكل تخريب وقع كان عن دواع كلية في الغالب يرجع في جملته إلى اعتداء النصارى في غير ديار الإسلام على المسلمين. فإن نيقيفور دومستيقس صاحب الروم لما غزا جزيرة اقريطش كريت في أسطول ونازلها في النصف من المحرم سنة خمسين وثلاثمائة وحاصرها ثمانية أشهر وفتحها وخرب ما فيها من المساجد وسبى من أهلها خلقاً كثيراً قام المصريون فخربوا بعض ما عندهم من الكنائس انتقاماً من الروم على فعلتهم وهكذا دواليك في تلك العصور المظلمة.
وفي سنة 856 صدر مرسوم الملك بالكشف على الأديار وبهدم ما استجد بدير صهيون في القدس وانتزاع قبر داود من أيدي النصارى فهدم البناء(6/13)
المستجد، وفيها أخرج المسجد من دير السريان وصار زاوية وهدم البناء المستجد ببيت لحم وفي كنيسة القيامة وكشفت جميع الأديار وهدم جميع ما استجد بها. وفي سنة 895 هدمت القبة التي أحدثها النصارى في دير صهيون. والسبب في ذلك على ما يبدو للنظر أن الدولة في تلك الأيام حاذرت من أن يكون من بعض الأديار والكنائس أماكن يعتصم فيها تساعد في الأيام العصيبة على أن تكون ثكناً وقلاعاً لمن يداهم الشام من غير أهل الإسلام.
ومع هذا لم يخل زمن من ظهور حكام استعملوا العدل في تلك الأعصار مع أبناء ذمتهم فقد ذكروا أن المفرج بن الجراح لما تغلب على أرجاء فلسطين ألزم النصارى ببناء كنيسة القيامة ببيت المقدس، قال ابن بطريق: إنه عاون على بناء كنيسة القيامة وأعاد فيها مواضع بحسب إمكانه وقدرته.
كنائس دمشق:
ولم يحدثنا التاريخ بما كان من أنواع الكنائس بعد القرن الثامن ومعظم الكنائس والأديار في الشام اليوم بعد كنائس القدس وبيت لحم ودمشق هي مما أنشئ في القرون الأخيرة. فالكنائس في دمشق جددت بعد سنة 1860 أي بعد أن خربت في حوادث تلك السنة. فالطائفة الروم الأرثوذكس ثلاث كنائس أكبرها المريمية وهي أعظمها، ومن أقدم كنائس هذه الديار وفيها مقام البطريرك الأنطاكي خربت في أدوار كثيرة وآخر خرابها في وقعة تيمور يبلغ طولها نحو 70 ذراعاً وعرضها نحو أربعين. والثانية كنيسة مار يوحنا الدمشقي أنشئت بعد سنة 1860 وفي جوارها مدرسة الروم. والثالثة كنيسة الميدان في محلة القرشي تم بناؤها سنة 1862. ولطائفة الروم الكاثوليك ثلاث كنائس أيضاً كانت الكبرى كنيساً لليهود القرائين فاشتراها الكاثوليك وأسست أيام الحكومة المصرية تم بناؤها سنة 1840 على اسم السيدة وهي في حارة زيتون قرب سور البلد القديم وحرقت في حادثة سنة 1860 أيضاً وهي متينة راسخة البنيان وفيها مقام البطريرك الأنطاكي لتلك الطائفة. والكنيسة الثانية في باب المصلى على اسم القديس جاورجيوس.(6/14)
والثالثة في القرشي على اسم سيدة النياح. وللسريان الكاثوليك كنيسة على اسم مار موسى الحبشي في حي المسيحيين على الطريق العامة وفيها دار البطريركية ولها مدرسة متصلة بها حرقت في سنة 1860 أيضاً ثم جددت. وللأرمن القدماء كنيسة قرب السور وهي قديمة احترقت في حوادث سنة1860 واسمها مار سركيس ولها مدرسة جدد بناؤها بعد الحوادث. وللسريان اليعاقبة كنيسة بالقرب من الباب الشرقي في محلة حنانيا جددت سنة 1860 باسم جاورجيوس. وللأرمن الكاثوليك كنيسة أمام دير اللعازاريين أنشئت بعد سنة 1860 على اسم القديس غريغوريوس. وللبروتستانت كنيستان بنت إحداهما مسز موط الإنكليزية سنة 1868 والثانية 1864 بناها القس يوحنا كرفورد الأميركاني.
وقد أنشئت عدة كنائس وأديار في دمشق أهمها دير اللعازاريين كان شرع ببنائه قبل حوادث 1860 ثم أحرق وجدد بعد ذلك وفيه مدرستان إحداهما للذكور والثانية للإناث. ولليسوعيين مدرسة للبنات وفيها كنيسة صغيرة. وهناك دير الفرنسيسكان بالقرب من دير اللعازارية قيل: إنه من نحو 350 سنة عقيب حوادث 1860 وفيه مدرسة للصبيان. ولطائفة الموارنة دير على اسم مار أنطونيوس الباردواني حرق 1860 وفيه دار البطريركية. وفي سفح الصالحية كنيسة صغرى للسريان الكاثوليك. وأنشئت في العهد الأخير كنيسة في المدرسة الإيطالية بطريق الصالحية وأخرى وراء المستشفى العسكري لراهبات الفرنسيسكان وغيرها من الكنائس الصغرى.
كنائس حلب:
وليس في الشهباء كنائس قديمة وأقدمها لا يرد عهده إلى قبل منتصف القرن الماضي فمنها كنيسة الأربعين للأرمن الغريغوريين في الصليبة وهي من الكنائس القديمة جددت 1869 وكنيسة السيدة للأرمن الغريغوريين 1850 وكنيسة مار أنطونيوس البادوي للآباء الفرنسيسيين أنشئت 1660 جددت وكنيسة انتقال السيدة للسريان الكاثوليك في حارة الصليبية جددت(6/15)
1850 بعد حريق وقع لها. وكنيسة أم المعونات للأرمن الكاثوليك تم بناؤها 1840 ومنها كنيسة بشارة الإنجيل للبرتستانت في محلة جقور القسطل جعلت كنيسة 1867. وكنيسة مار فرنسيس للآباء الفرنسيسيين في حي جلوم تم بناؤها 1878. وكنيسة السيدة للروم الأرثوذكس في الصليبة جدد بناؤها 1851. وسيدة الانتقال للروم الكاثوليك جددت بعد حريقها 1851. ومار جرجس للروم الكاثوليك في ثرعسوس تم بناؤها 1851. وكنيسة قلب يسوع للآباء اليسوعيين في حي تراب الغربا تمت سنة1881. وكنيسة مار بطرس للكلدان في العزيزية 1882. وكنيسة مار
جرجس للسريان الأرثوذكس في جقور قسطل وهي من الكنائس القديمة اختص بها السريان بعد أن كانت مشتركة بينهم وبين الأرمن في سنة 1893 وكنيسة للموارنة باسم مار الياس الحي في الصليبة تمت سنة 1891، وكنيسة القديس بوناونتورا للآباء الفرنسيين تم بناؤها في حي الرام سنة 1907 وكنيسة للموارنة باسم الياس الحي في الصليبة تمت سنة 1891، وكنيسة الأنفس المطهربة في الحميدية تم بناؤها سنة 1910.
الكنائس والبيع في القدس:
وفي القدس أديار وكنائس كثيرة بحيث يصح أن تدعي بلد الكنائس ولطائفة كاثوليك الرومانيين كنيسة اسمها كنيسة البطريركية ودير المخلص للفرنسيكان وله كنيسة وميتم وصيدلية ومطبعة، وكنيسة القديسة حنة وكنيسة الاكسي هومو أي إيتيان، وكنيسة الاغوني وأديار كنيسة القيامة ودي لا فلاجلاسيون والدومنيكيين وإخوان البعثة الإفريقية واللعازاريين والآباء الباسيونيست والبندكتييين. ودير البندكتيين وأديار الكلرمليين وسيدات صهيون وأخوات القديس يوسف وأخوات الوردية والكلاريس وأخوات ربباراتريس والبندكتيات. ولهم كنائس في المدارس. منها في المدرسة الاكليريكية البطريركية وميتم الأطفال في دير المخلص والمدرسة الصناعية في الدير نفيه ومدرسة الذكور للفرنسيكان والمدرسة الصناعية(6/16)
للذكور لرهبان سيدة صهيون ومدرسة الذكور لإخوان المدارس المسيحية ومدرسة وميتم بنات أخوات القديس يوسف وميتم البنات لأخوات الفرنيسكانيات ومدرسة للبنات لراهبات الوردية ومدرسة وميتم لبنات سيدات راتسبون، ومدرسة البنين والبنات لجمعية الأرض المقدسة الألمانية. ومن المستشفيات مستشفى سان لويس، تعاون فيه راهبات القديس يوسف وملجأ اللقطاء والعجزة والمرض لأخوات الإحسان، وملاجئ الحجاج مثل كازانوفا للفرنسيكان. والملجأ الكبير
الفريس لسيدة فرنسا وملجأ الاغسطينيين والملجأ الكاثوليكي الألماني والملجأ النمساوي والروم المجتمعين أو الروم الكاثوليك كنيسة في البطريركية وبيعة في سانت فيرونيك ومدرسة اكليركية كبرى لرهبان القديسة حنة لإخوان البعثة الإفريقية الآباء البيض ومتيم للبندكتيات وواحد للسوريين المتحدين وله مدرسة اكليركية يديرها الآباء البنديكتيون وقليل من الأرمن المتحدين مع كنيسة سيدة السباسم وبيعة وملجأ ومدرسة متصلة بالكنيسة اللاتينية.
وللطوائف البروتستانتية الألمانية كنيسة المخلص الألمانية وملاجئ فرسان القديس يوحنا ومستشفى الدياكونيس قيصر ورت ودار للبرص للإخوان المورافيين وميتم للفتيات وميتم سوري للأولاد العرب في القديس. وللطائفة البروتستانتية الإنكليزية مدرسة وكنيسة أسقفية وجمعية التبشير الكنائسي لدعوة أبناء العرب من المسلمين واليهود للمذهب ولها كنيسة القديس بولس ومتيم للذكور أسسه أسقف كوبا ومدرسة للذكور والنبات ومدرسة عالية وكنيسة يسوع لجمعية يهود لندرا، وهذه الإرسالية تقوم بنفقة مستشفى كبير وصيدليتين ومدارس للذكور والإناث ومدرسة صناعية ومطبعة. ولرهبتة فرسان القديس يوحنا الإنكليزية مستوصف للرمد وبعض الأدبار والمدارس تنفق عليها جمعية تبرعات فلسطين وجمعية مبرات إرسالية الشرق الإنكليزية. ولطائفة الروم الأرثوذكس عدة أديار وكنائس منها دير هيلانة وقسطنطين ودير إبراهيم ودير جيتسماني والقديس باسيليوس والقديس تيودوروس والقديس(6/17)
جورج والقديس ميشل والقديسة كاترينا واوتيم وسيدة النجا واسبيريدون وكارالومبوس وديمتريوس ونيقولاوس وروح القدس ومدرسة للبنات وأخرى للذكور ومستشفى وغير ذلك. وللبعثة الروسية مدرسة كبرى في حي يافا والبنايات على جبل الزيتون. وكان للجمعية الروسية الفلسطينية ملجأ كبير للحجاج بالقرب من المعهد الروسي، وملجأ للراهبات بالقرب من البيمارستان.
وللأرمن من دير بالقرب من باب صهيون ولهم مدرسة اكليريكية ومدرستان للذكور وللإناث وكنيسة القديس يعقوب ودير للنساء اسنه دير الزيتوني ودير وبيعة جبل صهيون ولهم ملجأ. وللأقباط دير يقيم فيه أسقفهم ودير أخر يقال له دير القديس جورج. وللسريان اليعقوبيين كنيسة صغرى يقيم فيها أسقف لهم. وللحبش دير وكنيسة في الشمال اغربي من المدينة وللإسرائيليين زهاء 70 كنيساً. وكثير من معاهد الخير والإحسان وملاجئ للزوار ومعاهد للفقراء أسس معظمها مونتفيور وروتشيلد وجمعية الاتحاد الإسرائيلي وغيرهم ولهم أربعة مستشفيات ودار للمعتوهين ومدرسة للعميان وملجأ للشيوخ ومدرسة ابتدائية وصناعية تقيم عليها جمعية الاتحاد الإسرائيلي ومدرسة إنكليزية للبنات ومدرسة ألمانية للبنين وملاجئ منها الألماني والإسباني وفي القدس مدرسة البنات لاسوج. ولما زار الإمبراطور غليوم الثاني ملك ألمانيا مدينة القدس أمر بإنشاء كنائس وكلها واقعة في أهم بقعة في المدينة ثلاث منها مشرفة عليها من الخارج والرابعة داخل المدينة أي السور.
وقبل الحرب العامة كان في القدس 8 أديار للذكور و9 أديار للإناث من اللاتين وكنيستان للروم الكاثوليك وواحدة للأرمن الكاثوليك و14 ديراً للروم الذكور و4 أديرة للإناث من الروم و4 أديار للروس و5 للأرمن و3 للأقباط و3 للحبش و2 للبروتستانت الاسقفيين و1 للإنجيليين وللهيكليين من الطواف البروتستانتية و40 كنيساً للإسرائيليين وربما زادت بعض الطواف أماكن أخرى للعبادة.
وكنائس القدس وأديارها وبيعها على غاية من الفخامة لأنها من إنشاء(6/18)
دول كبرى ومكانة القدس في هذا الباب لا تنازعها فيه غير رومية العظمى، وأهم تلك الكنائس في القدس كنيسة القيامة وهي ليست بالكبرى كثيراً بالنسبة لكنائس الغرب المهمة بل هي متوسطة الحجم استأثر أهل كل مذهب من مذاهب النصرانية ببقعة
صغيرة منها لا يتعدونها يسكنونها ويوقدون سرجها ويتعهدونها بما يصلحها. والسدانة للمسلمين حتى لا يقع بين أهل تلك المذاهب شيء من التحاسد الذي أدى في الأزمان السالفة إلى فتن وحوادث، ولكل قطعة من قطع كنيسة القيامة وجدار من جدرانها وعمود من عمدها حادثة تاريخية يذكرونها في تاريخهم الديني.
ولو كان عني بعمران كل بلد على مثل ما عني بإنشاء الأديار والكنائس في القدس وما إليها من الأرض المقدسة لكانت الشام أعمر أقطار العالم بكنائسها وأديارها فقد قدر بعضهم ما أنفق على هذه المعاهد الدينية الكبرى بخمسة عشر مليون جنيه قبل أن يحاول اليهود أن يجعلوا لهم من فلسطين وطناً قومياً، وقبل أن ينشئوا فيها كنائسهم ومعابدهم ويشترك يهود العالم في إتمام مشاريعهم في فلسطين. ولا يدخل في هذا التقدير ما في معابد القدس من العاديات والآثار والتحف والطرف فإن ذلك لا يقوم بثمن. كل هذا بسائق المنافسة السياسية والدينية بين الطواف المسيحية بعضها مع بعض وبين المسيحيين من جهة والموسويين من أخرى.
كنائس فلسطين:
ولو جئنا نستقصي كنائس فلسطين لطال بنا المجال فمن كنائسها كنيسة روسية في يافا مطلة على سهل سارون وكنائس صغيرة ثابتة للفرنسيين والروم الأرثوذكس والكاثوليك والموارنة، وكنيس لليهود. ولهم مدرسة مهمة في تل أبيب وأهم الأديار فيها دير اللاتين وفيها كنيسة للبروتستانت الألمان من طائفة الهيكليين واسمها أحباب القدس وقد كثرت الكنائس في المدن والقرى والغالب أن كنائس القرى سبقت بإنشائها كنائس المدن لأن النصرانية انتشرت أولاً في القرى وعصى أهل المدن على التدين بها لغلبة التعصب عليهم. ومن رأي بعض الواقفين أن النصرانية انتشرت أولاً في المدن(6/19)
كالقدس وإنطاكية والإسكندرية حتى وصلت إلى داخل بلاط القياصرة.
وفي نابلس دير للاتين وكنيسة للروم وكنيس وكتاب للسامرة ومدرسة للإنكليز ومدرسة للراهبات ولها بيع صغير وفي أريحا كنيسة للروم وأخرى للاتين. وكنيسة بيت لحم من أقدم الكاتدرائيات الباقية لم تخرب في جملة ما خربه الحاكم، وقد رممت في أوقات مختلفة وزينت ولا سيما في عهد الصليبيين، وفي بيت لحم عدة أديار وكنائس منها دير للفرنسيسكان مع دار ضيافة ومدرسة للذكور وصيدلية وكنيسة جميلة ولأخوات القديس يوسف دير وميتم ومدرسة للبنات ودير للكرمليات عمر على مثال قصر سانت آنج في رومية وله كنيسة ومدرسة اكليركية لجمعية آباء القلب المقدس وجمعية الأب بيلوني وفيه مدرستان إحداهما صناعية وكنيسة. ولراهبات المحبة مستشفى ولإخوان المدارس المسيحية مدرسة عظمى وللروم دير الولادة وكنيستان إحداهما باسم القديسة هيلانة والثانية باسم القديس جورج ومدرسة للذكور وأخرى للإناث. وللأرمن دير عظيم وهو دير الفرنسيسكان ودير الروم أشبه بقلاع. وللبروتستانت الألمان مدرستان وميتم، وللإنكليز مدرسة للفتيات يضاف إليها دار للمعلمات وكلها تحوي كنائس وبيعاً. وفي الناصرة أربع عشرة بيعة وكنيسة ومعظمها من ضخامة البناء ما يذكر بقصور الملوك، ودير الفرنسيسكان يزار لبعض الآثار التاريخية فيه وهو أثر من آثار القرون الوسطى. وفي صفد كنيسة ومدرسة للروم الكاثوليك وخمس كنائس للإسرائيليين وخمس مدارس ابتدائية دينية ومدرسة عالية للاتحاد الإسرائيلي وكنيسة ومستشفى للبروتستانت. وفي طبريا كنيسة للروم وأخرى للكاثوليك وخمس كنائس لليهود. وللكاثوليك كنائس في حيفا والبصة وشفا عمرو وترشيحة والمقار. وفي الطور دير وكنيسة لكل من الفرنسيين والروم الأرثوذكس، وكنيسة الفرنسيين من أبدع كنائس العالم.
وفي الرملة دير للآباء الفرنسيسكانيين أسس سنة 1400 على يد الأمير فيليب
الأسباني ثم خرب سنة 1700 ثم أعيد بناؤه. وخرب صلاح الدين(6/20)
كنيسة لد التي أنشئت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، كما خرب كثيراً من الكنائس في عهده وخرب بعضها في الحروب وخرب الآخر قصداً لأسباب سياسية وحربية حافزة. وفي جنين دير ومدرسة للذكور وللروم كنيسة وللبروتستانت وللكاثوليك ولكل كنيسة مدرسة تابعة لها.
وبالجملة فكل بلد في فلسطين لا يخلو من دير أو كنيسة أو كنيس مهما بلغ من قلة ساكنيه من المسيحيين والإسرائيليين.
والفضل في إنشاء هذه الكنائس لجماعة الرهبان والمبشرين فهم الذين استوكفوا أكف المحسنين في الغرب وصرفوا عقولهم وأوقاتهم في إقامة تلك المعاهد المهمة، وقد جاء منهم نوابغ في كل قرن خلدوا اسمهم بقدر ما بذلوا من العناية بنشر دينهم وإقامة شعائره ومعابده فاستفاد العمران من عملهم فوائد لا ينكرها منصف. كتب إيليا بطريرك بيت المقدس إلى أنسطاس ملك الروم: قد بعثت إليك بجماعة عبيد الله ورؤساء رهبان بريتنا وفيهم سابا الفاضل الذي قد صير بريتنا مدائن وأعمرها وهو نجم فلسطين.
كنائس الأردن:
وفي عبر الأردن كنائس أهمها كنيسة مادبا أو ميدبا وقد تقدم الكلام عليها في المصانع ونزيد الآن أن ميدبا عن مجلة المسرة فاقت أخواتها بكنائسها الفخمة العشر وأن سرجيوس مشيد الكنائس شيد كنيسة على اسم الرسل القديسين. ومن الكنائس التي بقي ذكرها إلى اليوم كنيسة البتول التي يرجع عهدها إلى أيام القيصر يوستنيانوس. ولما فاضت جيوش الأعاجم على هذه الديار حرقت الكنائس والأديرة وذبحت الألوف من الرهبان والنصارى ثم وطئتها أقدام الفاتحين من المسلمين فدثرت تلك الأسقفية وعادت أخربة ينعق فيها البوم عصوراً طويلة.
وكان في أكثر أمهات قرى حوران كنائس مهمة في الإسلام خربت بطول الزمن حتى قبل إنه كان في إقليم حوران فقط أربع وثلاثون أسقفية وناهيك بما يقتضي لها من الكنائس. واشتهرت اليوم كنائس تبنة وبصير وخبب. وفي جبل عجلون عدة كنائس منها ثلاث في الحصن أكبرها كنيسة اللاتين. وفي عجلون عدة كنائس صغرى جعل بجانبها مدارس.(6/21)
وفي الكرك ثلاث كنائس للروم والكاثوليك والبروتستانت. وقد بلغ الغرام برجال المذاهب المسيحية أن أهل كل مذهب إذا وجدوا خمس عيال في قرية من رعاياهم أنشئوا لهم كنيسة فالكنائس الصغيرة كثيرة جداً في كل بلد وكل قرية أنشأ فيها اللاتين كنيسة أنشأ فيها البروتستانت أيضاً والعكس بالعكس.
كنائس لبنان:
أما كنائس ابنان فكثيرة جداً لا تكاد تخلو قرية من كنيسة أو كنيستين وربما أكثر، وليست كلها على جانب عظيم من العظمة ولا يرد عهدها إلى زمن قديم، فإن معظم ما كان منها في كسروان وما إليه إلى جنوبي الجبل ليس له من العمر أكثر من مائتي سنة، ذلك لأن الموارنة لم شمالي لبنان قبل ذلك. ولقد ترى في بعض المدن اللبنانية كزحلة وهي أكثر القرى سكاناً في الجبل كثيراً من الكنائس التي لم تقم على ما يظهر إلا بسائق المنافسة ففيها 12كنيسة للكاثوليك وكنيستان للأرثوذكس وكنيستان للموارنة وكنيسة ودير لليسوعيين وكنيسة للسريان الكاثوليك وكنيسة للأميركان، وفي زحلة أيضاً دير القديس الياس الطوق للرهبنة الباسيلية وفيها كنيسة في المدرسة الشرقية وغير ذلك من الكنائس الملحقة بالمدارس ولا تقل عن ست وعشرين كنيسة. وفي مدينة بيروت وطرابلس واللاذقية وصور وصيدا كنائس كثيرة لكل طائفة ولكل طائفة ولكل جمعية تبشيرية وأهمها ما كان في بيروت فللروم الأرثوذكس وللروم الكاثوليك وللبروتستانت الأميركيان ولغيرهم
من الطوائف كنائس وبيع مهمة، وأهمها ما كان لليسوعيين أو المرسلين الأميركيان.
وفي الهدنة التي عقدت بين المنصور قلاوون وولده الملك الصالح مبين حكام الفرنج بعكا سنة 682 أن تكون كنيسة الناصرة وأربع بيوت من أقرب البيوت إليها لزيارة الحجاج وغيرهم من دين الصلب كبيرهم وصغيرهم على اختلاف أجناسهم وأنفارهم من عكا والبلاد الساحلية ويصلي(6/22)
بالكنيسة الأقسام والرهبان وتكون البيوت المذكورة لزوار كنيسة الناصرة خاصة، وإذا نقبت الحجارة التي بالكنيسة المذكورة ترمى براً ولا يحط حجر منها على حجر لأجل بنايته ولا يتعرض إلى الأقسام والرهبان وذلك على وجه الهبة لأجل زوار دير الصليب.
ومن كنائس لبنان وما إليه كنيسة معاد وكنيسة رشكيدا وكنيسة حدنون وكنائس أهدن عبدلة وبحديدات وصربا وكفر شليمان وقنوبين وبكفيا واده وبشري وبكركي والديمان وزحلة ودير القمر والشرفة وبرمانا وغزير وبيت خشبو وبزمار وبعبدات والقرية وحريصا وأميون وجزين وجبيل وأفقة والكورة والزاوية وبحنس ودير مار الياس والشوير وبسكنتا وكفتين ودير مار يعقوب المقطع ودير سيدة الرأس ودير حماطورة ودير مار جرجس ودير مار الياس النهر ودير ناطور ودير سيدة النورية عند وجه الحجر ودير كفتون ودير جبرائيل ودير ميخائيل المعظمة في برج صافيتا ودير مار جرجس الحميرا ودير الأحمر. ودير مار شربين ودير مار توما قرب صيدنايا.
وكان الصليبيون أنشئوا عدة كنائس في أرواد وطرطوس وصيدا وبيروت وغيرها من الساحل فهدمت، ثم بنيت مساجد ولأن بعضها كان بمثابة حصون في أيدي الراهبنات المتجندة مثل الهيكليين والاسبتاريين والتوتونيين. وفي أمهات المدن الصغيرة كنائس مهمة مثل بعلبك وعكار والحصن وحمص وحماة ويبرود
والقبيات والإسكندرونة وإنطاكية. وفي هذه فقط تسع كنائس وفيها أنشئت أول كنيسة في الشام وكانت في جميع أدوارها موضع إعجاب المؤرخين والسائحين ومنها ما هو في القرى مثل صدد ومعلولا وصيدنايا وهذه أليق بأن تذكر في باب الأديار لأنها بعيدة عن المدن والدير في الحقيقة كنيسة وزيادة. واليهود في حلب ودمشق عدة كنائس ولكنها ليست من المكانة على شيء ولهم في تادف وجوبر وغيرهما كنائس قديمة ينتابونها ومن عادة الإسرائيليين أن يكون في دار كل غني كنيس وهو عبارة عن غرفة في حلب كنائس مهمة وكذلك في بيروت.(6/23)
عمل الرهبان والراهبات العظيم:
يتصور القارئ مبلغ عناية الرهبان والراهبات بدينهم من إلقاء نظرة على الفصل التالي: للراهبات الألمانيات مدرسة ودار للأيتام في القدس ومستشفى في حيفا ومستشفى ومدرسة ليلية ونهارية للإناث في بيروت ومعهد في دمشق وآخر في حلب وقد جئن القدس سنة 1887. وجاء راهبات السجود القدس سنة 1888 وأسسن فيها ديراً كبيراً ثم جئن بيروت وأنشأن داراً للعبادة. وللعازاريين محال مهمة وهم يقسمون قسمين قسم الرهبان العازريين الألمان جاءوا سورية عام 1890 وأنشئوا في القدس مدرسة، والقسم الثاني رهبان فرنسيون جاءوا سورية منذ نحو قرنين وأخذوا الأديار التي كانت لليسوعيين ولهم مدرسة في بيروت وأخرى في عينطورة وأهدن في لبنان ورابعة في دمشق وخامسة في ريفون.
وجاء الآباء الساليزيون القدس سنة 1891 ولهم دار للأيتام في بيت لحم ودار للأيتام زراعية في بيت جمال وثالثة في الناصرة ومدرسة ابتدائية في بيت لحم. وجاء الراهبات الساليزيات القدس سنة 1891 وهن يشتغلن مع الراهبان الساليزيين. وأتى راهبات صهيون القدس عام1856 وأنشأن معهداً في كنيستهن المسماة اكس هومو. وقدم الآباء البيض القدس عام 1878 وأنشئوا كنيستين فيها.
ونزل آباء القلب المقدس القدس عام 1879 وأنشئوا مدرسة في بيت لحم. ولراهبات الوردية عمل ديني مثل بنات جنسهن. وجاء القدس آباء سيدة صهيون عام 1884. والدومنيكان أو رهبان مار عبد الأحد وردوا على القدس عام 1882 وأسس الرهبان الصعوديون مأواهم في القدس عام 1887 وأسس الآباء الترابيون ديراً في الأطرون وهم معروفون بفن الأبان والزراعة. وجاء الراهبات البند كيتات القدس عام 1896 وراهبات هورتوس كونكلوز وهن أمريكانيات جئن القدس عام 1901.
ولراهبات الناصرة مدرسة في حيفا وأخرى في شفا عمرو وثالثة في عكا ودير الناصرة في بيروت وقد جئن سورية سنة 1855. وقدم الراهبات(6/24)
الكرمليات الشام سنة 1873 وأنشأن ديرهن المعروف في جبل الزيتون في القدس ولهن دير في بيت لحم وآخر في سفح جبل الكرمل قرب حيفا. وجاء رهبان الفرير الشام سنة 1878 ولهم مدرسة في القدس وأخرى في حيفا وثالثة في الناصرة ورابعة في بيت لحم وخامسة في بيروت وسادسة في طرابلس وسابعة في إسكندرونة وثامنة في دمشق وتاسعة في يافا. وجاء رهبان مار يوحنا الإلهي القدس عام 1879 فأسسوا مستشفى في طنطور على طريق بيت لحم ولهم مستشفى وموستوصف في الناصرة.
وجاء راهبات سانت كلير الشام عام 1884 وأنشأن ديراً على طريق بيت لحم ولهن دير في الناصرة. ووردت الراهبات الفرنسيسيات البيض القدس عام 1885 وأنشأن ميتماً ولهن ميتم في بيت لحم وأنشأن مدرسة في دمشق. وجاء راهبات المحبة القدس عام 1886 ولهن مستشفى ودار للأيتام في بيت لحم ومستشفى ومدرسة في حيفا ومستشفى في الناصرة ولهن في بيروت مستشفى عظيم ودار للأيتام ودار للصناعة للذكور والإناث وثلاث مدارس صغرى في بيروت ومكتب
للصنائع في طرابلس ودور نقاهة في أهدن وبحنس من لبنان ومدرسة في برج البراجنة وفي كل معهد منها دار للعبادة يختلف إليها أهل المذهب الذي يبشرون به.
ولقد قالوا: إن عدد الجمعيات الأجنبية التي تسعى لتنوير أفكار النصارى في سورية تبلغ ثمانين جمعية، وأهمها جمعية اليسوعيين وردوا الشام قبل قرنين أو ثلاثة فأسسوا الأديار التي ينزلها اللعازريون ثم غادروا الديار فلم يعودوا إليها إلا عام 1831 فأنشئوا مدرستهم في غزير من لبنان وفي عام 1876 افتتحوا كليتهم العظمى في بيروت ولهم الآن عدة أديار ومدارس في بكفيا والمعلقة وزحلة وغزير ودمشق وحلب وتعنايل وجزين وقد أنشئوا بعد الحرب العالمية مدارس صغرى كثيرة في ربوع جمهورية لبنان ويوشكون أن يتوسعوا في الداخلية كثيراً بمدارسهم وكنائسهم. أما الفرنسيسكان فلم يزالوا في الشام منذ الحروب الصليبية ولهم فيها ستة ملاجئ ولهم أديار وملاجئ في بيت لحم وعين كارم وطبريا وجبل الطور والناصرة وقانا وعكا وصور(6/25)
وصيدا وبيروت وحريصا وطرابلس واللاذقية ودمشق وحلب وإسكندرونة ولهم مدرسة في حلب.
وكان الكرمليون تركوا الشام مع القافلة الأخيرة من الصليبيين ثم عادوا إلى جبل الكرمل عام 1636 وبنو ديراً ومحلاً للضيافة في الجبل ولهم أديار في حيفا وطرابلس والقبيات من إقليم عكار ومدرسة في بشري. وديرهم في الكرمل من أجمل أديار الشام ترى منه أجمل المناظر. وجاء راهبات القديس يوسف أو الراهبات اليوسفيات من مرسيليا إلى القدس عام 1848 ولهن في فلسطين 13 معهداً و3 مستشفيات أحدها في القدس والأخر في يافا والثالث في الناصرة. ولهن في هذه المدن ثلاث دور للأيتام ومدرستان نهاريتان وخمس مدارس دينية ومدرسة في بيروت ودير في صيدنايا ومدرسة فيها دير ومدرسة في دير القمر
وديران ومدرستان ليليتان ومستشفى في حلب ودير ومدرسة في إسكندرونة.
الأديار القديمة في الشام:
ديرإ سحاف كان بين حمص وسليمة في موضع حسن نزه على نهر جار وحوله كروم ومزارع إلى جانب ضيعة صغيرة يقال لها جدر، وهي التي ذكرها الأخطل في قوله:
كأنني شارب يوم استبد بهم ... من قرقف عتقتها حمص أو جدر
وقال فيه أبو عبد الرحمن الهاشمي السلماني من أهل سلمية:
وإذا مررت بدير إسحاق فقل ... جادتك غيث سحائب وبروق
دير يشبه ماؤه بهوائه ... وهواؤه بلطافة المعشوق
وليس لهذا الدير من أثر اليوم.
دير الباعفي كان قبلي بصري من أرض حوران وهو دير بحيرا الراهب كما زعموا ولا يعرف الآن. وبحيرا شخص خيالي.
دير باعنتل من جوسية على أقل من ميل وجوسية على مرحلة من حمص ولا يعرف اليوم هذا الدير.
دير البتراء كان في وادي موسى دير للراهبات وذكر البولنديون(6/26)
ديراً للراهبات في البتراء كان يرأسه القديس موسى أسقف البدو الرحالة يقال: إن بانيه أثينة جينوس أوائل القرن السابع للميلاد. وذكر الرحالة تيتمار أنه طاف تلك الفيافي سنة 1217 وعثر بين أخربة البتراء على كنيسة ودير لم يسكنه بعض الرهبان. وهناك الكنيسة الكاتدرائية المثلثة السواعد وقد كانت أماً لسائر الكنائس الملكية الكاثوليكية في هذه البلاد الشرقية عن مجلة المسرة.
دير البخت كان على فرسخين من دمشق ويسمى دير ميخائيل وكان عبد الملك بن مروان قد ارتبط عنده بختاً وهي جمال الترك فغلب عليها وكان لعلي بن عبد الله بن عباس قربه جنينة يتنزه فيها. وقرية دير البخت معروفة إلى اليوم في الجيدور. ووجه التسمية في هذا الدير بعيد لأنه عرف بهذا الاسم قبل الإسلام على
ما ظهر من رواية ابن عساكر في بعض وقائع عمر بن الخطاب في الجاهلية ومروره بدير البخت واجتماعه براهب أكرامه وتفرس فيه الخير فيما قال.
دير بصرى قيل هو الذي كان فيه بحيرا الراهب في حوران. مجهول محله.
دير بلاض من أعمال حلب مشرف على العمق فيه رهبان لهم مزارع وهو دير قديم مشهور لم يبلغنا أنه موجود.
دير البلمند من أديار الروم الأرثوذكس المشهورة على نشزعال قرب مدينة طرابلس في أقصى حدود جبل لبنان يقال: إنه من أديار الصليبيين وإن اسمه جاء من تركيب بل مونت أي الجبل الجميل وهو اليوم عامر.
دير بلودان مر به ابن فضل الله العمري ونزل إليه فقال فيه: إن بناءه قديم بديع الحسن وافر الغلة كثير الكروم والفواكه والماء الجاري، بقربه قرية بلودان وهي محاذية لكفر عامر تطل من مشترفها على جبة الزبداني وبه رهبان نظاف ونظم فيه أبياتاً ومنها:
حبذا الدير من بلودان دارا ... أي دير به وأي نصارى
فيهم كل أحور الطرف أحوى ... فائق الحسن في حسان العذارى
وقال محاسن الشوا الحلبي:(6/27)
حييا ساكني بلودان عني ... ورجالاً بدير قانون زهرا
ولا يعرف متى زال هذا الدير، ودير قانون من قرى الوادي لا دير فيه اليوم.
دير بولس كان بنواحي الرماة نزله الفضل بن إسماعيل وقال فيه شعراً لم يسمه في أوله:
عليك سلام الله يا دير من فتىً ... بمهجته شوق إليك طويل
ولا زال من جو السماكين وابل ... عليك لكي يروي ثراك هطول
قال البكري: ودير بولس آخر ودير بطرس أو نطرس.
وهما معروفان بظاهر دمشق في نواحي بني حنيفة في ناحية الغوطة وغياهما عني جرير بقوله:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس
ولا نعرف شيئاً عن هذا الدير.
دير البنات وهو دير أبيض البناء مشرف على أرض طرابلس كان للرواهب قال فيه الطيبي:
دير البنات الزاهر أنت المنى ... وأنت من دون الأماني المرام
لم أنس يوماً فيك أذهبته ... باللهو بل ذهبته بالمدام
ونحن في غرة أيامنا ... والعيش مثل الطيف حلو اللمام
والدوح ما جفت له زهرة ... والروض طفل ما جفاه الغمام
وبيننا خود كشمس الضحى ... وأغيد قد فاق بدر التمام
لولا نبات الشعر في خده ... لم تدر أي الأغيدين الغلام
ولا نعرف اليوم أي أديار البنات هذا.
دير يونا أي يوحنا وروى بالباء بدل الياء كان بجانب الغوطة بدمشق ليس بكبير ولا رهبانه بكثير ولكنه في رياض مشرقة وأنهار متدفقة ويقال بأنه من أقدم أديرة النصارى. اجتاز به الوليد بن يزيد فأقام فيه أياماً وقال فيه:
حبذا يومنا بدير يونا ... حيث نسقى براحه ونغنى(6/28)
واستهنا بالناس فيما يقول ... ن إذا خبروا بما قد فعلنا
قال ابن فضل الله وهذا الدير اليوم لا وجود له.
دير حمطورا هو في شرقي طرابلس في جانب الوادي الذي أسفل من طرزيه والحدث. وهو بناء في سفح الجبل من ذلك الجانب قبالة الطريق السالك إلى
طرابلس وهو حصين جداً لا يسلك إليه إلا من طريق واحد وظهر الجبل الذي له ممتنع - قاله ابن فضل الله -.
دير الحنابلة في تاريخ الصالحية لم يكن في الجبل أي قاسيون إلا بناية يسيرة من الناحية الغربية دير أبي العباس الكهفي ودار بيت الضيا وغيرها، ومن الناحية الشرقية دير يقال له دير الحنابله وكان أولاً لناس من الرهبان فاتفق أنهم أحدثوا شيئاً فأخرجوا منه ثم بنى الشيخ أبو عمر المدرسة.
دير حنيناء دير بالشام وهناك مات معاوية بن هشام بن عبد الملك فقال الكميت يرثيه:
فأي فتى دنيا ودين تلمست ... بدير حنيناء المنايا فدلت
تعطلت الدنيا به بعد موته ... وكانت له حيناً به قد تحلت
وقيل: إن الذي رثي بهذا الشعر البطال أحد قواد الأموية وفرسانهم مات بدير حنيناء قافلاً مع هشام من غزوة فأمر معاوية الشعراء برثائه. والرواية في شعر أبي تمام حبيناء بالباء المعجمة ولا عنه شيء في عصرنا.
دير الخمان كان هذا الدير بأرض أذرعات بني بالحجارة السود على نشز من الأرض يشرف على بركة الفوار وهو من البناء الرومي القديم. ولا يعرف اليوم عنه شيء.
دير خالد وهو دير صليبا بدمشق كان مقابل باب الفراديس نسب إلى خالد بن الوليد لنزوله فيه عند حصاره دمشق قال ابن الكلبي: وهو على ميل من الباب الشرقي ولا يعرف عنه شيء آخر وفي هذا الدير يقول محمد ابن علي المعروف بأبي البقاء:
جنة لقبت بدير صليبا ... مبدعاً حسنه كمالاً وطيبا
جئته للمقام يوماً فظلنا ... فيه شهراً وكان أمراً عجيبا
شجر محدق به ومياه ... جاريات والروض يبدو ضروبا(6/29)
من بديع الألوان يضحي به الثا ... كل مما يرى لديه طروبا
كم رأينا بدراً به فوق غصن ... نائس قد علا بشكل كثيبا
وشربنا به الحياة مداماً ... تطلع الشمس في الكؤوس غروبا
فكأن الظلام فيها نهار ... لسناها تسر منا القلوبا
لست أنسى ما مر فيه ولا أج ... عل ندحي إلا لدير صليبا
دير خناصرة ورد ذكره في شعر بني مازن في قول حاصب بن ذبيان المازني مازن بن تميم من عمرو بن تميم لعبد الملك بن مروان في جدب أصاب العرب قال:
وما أنا يوم دير خناصرات ... بمرتد الهموم ولا مليم
ولكني ألمت بحال قومي ... كما ألم الجريح من الكلوم
وخناصرة بلدة في قبلي حلب وليس للدير ذكر الآن.
دير الدواكيس شرقي القدس حسن البناء له سمعة وذكر وكان له وقف يعود منه على الرهبان السكان جليل فائدة ونفع ولابن فضل الله فيه وقد مر به غير مرة أبيات منها:
دير الدواكيس أم ريش الطواويس ... أم الشموس سنا تلك الشماميس
مأوى المياسير لكن بعد أوبتهم ... منه يعدون في حزب المفاليس
فانزل به وأقم فيما تريد وقل ... املأ كؤوسي وفرغ عندها كيسي
واقدح زناد سرور من مدامته ... فهذه النار من تلك المقابيس
دير رمانين جمع رمان بلفظ جمع السلامة يعرف أسضاً بدير السابان وهو بين حلب وإنطاكية مطل على بقعة تعرف بسرمن وهو دير حسن كبير خرب قبل القرن السابع وآثاره باقية كما قال ياقوت وفيه يقول الشاعر:
ألف المقام بدير رمانينا ... وتراه يجني الآس والنسربنا
قال ياقوت ودير السابان وهو دير رمانين وتفسيره بالسريانية دير الشيخ.
دير ساير كان من نواحي دمشق وهو من إقليم خولان سكنه عمر ابن محمد الأموي. كانت بقرب دمشق خربت بها قبر أبي مسلم(6/30)
الخولاني وبها آثار باقية ياقوت. وبيت سابر اليوم قرية في سفح جبل الشيخ من عمل وادي العجم.
دير سعد كان من أديرة الشام نزله عقيل بن علفة المري وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية وهذا كل ما عرف عنه قديماً.
دير سليمان دير بجسر منبج وهو في جبل عال من جبال دلوك كطل على مرج العين وهو غاية في النزاهة قال أبو الفرج أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر عقيب نكبته وزوالها عنه الثغور الجزرية وكان أكثر مقامه بمنبج فخرج في بعض ولايته إلى نواحي دلوك برعبان وخلف بمنبج جارية كان يتحظاها يقال لها غادر فنزل بدلوك على جبل من جبالها بدير يعرف بدير سليمان من أحن بلاد الله وأنزهها ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب:
أيا ساقيينا وسط دير سليمان ... أدير الكؤوس فانهلاني وعلاني
وخصا بصافيها أبا جعفر أخي ... فذا ثقتي دون الأنام وخلصاني
وميلا بها نحو ابن سلام الذي ... أود، وعودا بعد ذاك لنعمان
وعما بها النعمان والصحب إنني ... تنكر عيشي بعد صحبي وإخواني
ولا تتركا نفسي تمت بسقامها ... لذكرى حبيب قد سقاني وغناني
ترحلت عنه عن صدود وهجرة ... فأقيل نحوي وهو باك فأبكاني
وفارقته والله يجمع شملنا ... بلوعة محزون وغلة حران
وليلة عين المرج زار خياله ... فهيج لي شوقاً وجدد أحزاني
فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحاً ... بألمح آماق وأنظر إنسان
لعلي أرى أبيات منبج رؤية ... تسكن من وجدي وتكشف أشجاني
فقصر طرفي واستهل بعبرة ... وفديت من لو كان يدري لفداني
ومثله شوقي إليه مقابلي ... وناجاه عني بالضمير وناجاني
دير سمعان بنواحي إنطاكية على البحر قال ابن بطلان وبظاهر إنطاكية دير سمعان وهو مثل نصف دار الخلافة ببغداد يضاف به المجتازون وله من الارتفاع كل سنة عدة قناطير من الذهب والفضة وقيل: إن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ومنه يصعد إلى جبل اللكام قال هذا في(6/31)
القرن الخامس للهجرة، وفي رواية أن دير سمعان بنواحي حلب بين جبل بني عليم والجبل الأعلى. ودير سمعان أيضاً في قرية تعرف بالبقرة من قبلي معرفة النعمان وبه قبر عمر بن عبد العزيز مشهور لا ينكر ذكره السيد الرضي في رثائه بقوله:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي ... ن فتى من أمية لبكيتك
أنت نزهنتا عن السبب والشت ... م فلو يمكن الجزا لجزيتك
دير سمعان لا عدتك الغوادي ... خير ميت من آل مروان ميتك
وقال أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي وقد مر به فرآه خراباً فغمه:
يا دير سمعان قل لي أين سمعان ... وأين بانوك خبرني متى بانوا
وأين سكانك اليوم الألى سلفوا ... قد أصبحوا وهم في الترب سكان
أصبحت خراباً مثل ما خربوا ... بالموت ثم انقضى عمر وعمران
وقفت أساله جهلاً ليخبرني ... هيهات من صامت بالنطق تبيان
أجابني بلسان الحال إنهم ... كانوا ويكفيك قولي إنهم بانوا
دير السيق كان معروفاً قديماً ويقع قبلي البيت المقدس على نشز عظيم عال مشرف على الغور غور أريحاً يطل على تلك البسائط الخضر ومجرى الشريعة
وبه رهبان ظراف أكياس لا يأتيهم إلا قاصد لهم أو مار في مزارع الغور. تحتهم وفوقهم الطريق الآخذة إلى الكثيب الأحمر. ومشهد موسى عليه السلام في القبة التي بناها عليه الملك الظاهر بيبرس وفي هذا الدير ومشترفه وأطلال قلاليه وغرفه قال ابن الفضل الله العمري:
أرى حسن دير السيق يزداد كلما ... نظرت إليه والفضاء به نضر
بنوه على نجد من الغور مشرف ... كتخت مليك تحته بسط خضر
وأشرف في سود الغمام كأنما ... تشق ليلا عن جلابيبه الفجر
وقام على طود علي كأنما ... مصابيحه تحت الدجى الأنجم الزهر
وزفت إليه الشمس من جنب خدرها ... وناغاه جنح الليل في أفقه البدر
وألقت إليه الريح فضل عنانها ... وأحنى عليها لا تبل له عذر
ولو كان كالنسرين هان ارتقاؤه ... ولكنه قد حط من دونه النسر
علا نهر ريحا والمجرة فوقه ... فمن فوقه نهر ومن تحته نهر(6/32)
دير شق معلولا وهو بباطن جبة عسال وهو بناء رومي بالحجر الأبيض مُعَلق بسقيف وبها صدع فيها ينقط نحو الذي بصيدنايا، ويأخذه النصارى للتبرك معتقدين فيه نحو اعتقادهم في الآخر وإنما الاسم للذي بصيدنايا - قاله في مسالك الأبصار والغالب أنه دير الروم الباقي إلى اليوم.
دير صليبا ويعرف بدير السائمة السائحة؟ وهو بدمشق مطل على الغوطة ويليه من أبوابها باب الفراديس نزل دونه خالد بن الوليد أيام محاصرة دمشق وهو في نزه كثير البساتين وبناؤه حسن عجيب وإلى جانبه دير النساء فيه رهبان ورواهب وإياه أراد جرير بقوله:
إذا تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد النجاءُ بهم ... يا بعد يبرين من باب الفراديس
يا دير باب الفراديس المهيج لي ... بلابلاً بقلاليه وأشجاره
لو عشت تسعين عاماً فيك مصطحباً ... لما قضى منك قلبي بعض أوطاره
قال ابن فضل الله وهذا اليوم أي في الثامن لا عين له ولا أثر وإنما صار دوراً وأبنية ومساجد ومدافن وهي بناحية محلة حمام النحاس اه.
دير صيدنايا يؤخذ مما قاله صاحب مسالك الأبصار أنهما اثنان أحدهما يقصده النصارى بالزيادة وهو في دمنة القرية والآخر على بعد منها مشرف على الجبل شماليها بشرق وهو دير مار شربين ويقصد للتنزه من بناء الروم بالحجر الجليل الأبيض وهو دير كبير وفي ظاهره عين ماء سارحة وفيها ما يطلّ على بواطن ما وراء ثنية العقاب ويمتد النظر من طاقته الشمالية إلى ما أخذ مالاً عن بعلبك. وأما الذي في القرية فمن بناء الروم بالحجر الأبيض أيضاً ويعرف بدير السيدة وله بستان وبه ماء جارٍ بركة علمت به وعليه أوقاف كثيرة وله مغلات واسعة وتأتيه نذور وافرة وطوائف النصارى من الفرنج تقصد هذا الدير وتأتيه للزيارة. وكنت أراهم يسألون السلطان في أن يمكنهم من زيارته وإذا كتب لهم زيارة قمامة ولم يكتب معها صيدنايا يعاودون السؤال في كتابتها لهم، ولهم فيها معتقد. وقال جاءت مرة كتب ريد فرنس(6/33)
ملك فرنسا وكتب الاذفونش ملك إسبانيا على أيدي رسلهم ومما سألوا فيها تمكين رسلهم من التوجه إلى صيدنايا للتبرك بها فأجاب السلطان سؤالهم وحمل الرسل على خيل البريد إليها. وهذا الدير لم يزل عامراً إلى اليوم يزوره الناس وفيه راهبات أرثوذكسيات وفي عيد الصليب من كل سنة تجري فيه قربه اجتماعات وأفراح ويأتيه الناس من الإقليم المجاورة وغيرها.
دير الطور الطور في الأصل الجبل المشرف، والطور هاهنا جبل مستدير واسع الأسفل مستدير الرأس لا يتعلق بع شيء من الجبال وليس له إلا طريق واحد وهو ما بين طبرية واللّجون مشرف على الغور ومرج اللّجون وفيه عين تنبع بماء
غزير كثير والدير في نفس القلة مبنى بالحجر وحوله كروم يعتصرونها ويعرف عندهم بدير التجلي والناس يقصدونه من كل موضع فيقيمون به ويشربون فيه وموضعه حسن يشرف على طبرية والبحيرة وما والاها وعلى اللجون. وما زال هذا الدير عامراً وقد جدد في أدوار مختلفة وفيه يقول مهلهل بن يوسف المُزَرّع:
نهضت الى الطور في فتية ... سراع النهوض إلى ما أحب
كرام الجدودحسان الوجوه ... كهول العقول شباب اللعب
فأي زمان بهم لم يَسُرّ ... وأي مكان بهم لن يطب
أنخت الركاب على ديره ... وقضيت من حقه ما يجب
وأنزلتهم وسط أعتابه ... وأسقيتهم من عصير العنب
وأحضرتهم قمراً مشرقاً ... تميل الغصون به في الكُثب
نحث الكؤوس بأهزاجه ... ومرسوم أرماله بالعجب
وما بين ذاك حديث يروق ... وخوض لهم في فنون الأدب
فيا طيب ذا العيش لو لم يُزل ... ويا حسن ذا السعد لو لم يغَبِ
دير عَمان قال ياقوت: بنواحي حلب وتفسيره بالسريانية دير الجماعة قال فيه الحمدان بن عبد الرحيم الحلبي:
دير عمانٍ ودير سابان ... هجن غرامي وزدت أشجاني
إذا تذكرت منهما زمناً ... قضيته في عُرام ويعاني(6/34)
ومر به أبو فراس بن أبي الفرج البُزاعي فقال ارتجالاً:
ورأينا منازلاً وطلولاً ... دراسات ولم نًر السكانا
وأرتنا الآثار من كان فيها ... قبل تفنيهم الخطوب عيانا
فبكينا فيه وكان علينا ... لا عليه لما بكينا بُكانا
لست أنس يا دير وقفتنا في ... ك وإن أورثتني النسيانا
من أناس حَلوك دهراً فخلّو ... وأمسوا قد عطلوك الآنا
فَرقتهم يدُ الخطوب فأصبح ... ت خراباً من بهدهك أسيانا
وكذا شيمةُ الليالي تميت ال ... حيّ منا وتهدم البنايا
حَرَبا ما الذي لقينا من الده ... ر وماذا من خطبه قد دهانا
نحن في غفلة بها وغرور ... وورانا من الردى ما ورانا
ولا نعرف عنه شيئاً الآن.
دير فاخور وهو الموضع الذي تعمد فيه المسيح من يوحنا المعمدان كما في كتب الجغرافية.
دير فِيق هو في ظهر عقبة فيق - عقبة تنحدر إلى الغور من أرض الأردن ومن أعلاها طبرية وبحيرتها - وهذا الدير فيما بين العقبة وبين البحيرة في لحف جبل يتصل بالعقبة منقور في الحجر وكان عامراً بمن قيه من الرهبان ومن يطرقه من السيّار، والنصارى يعظمونه، واجتاز به أبو نُواس فقال في غلام نصراني فيه قصيدة منها:
بحجك قاصداً ما سرجسان ... فدير النوبهان قدير فيق
وبالمطران إذ يتلو زبوراً ... يعظمه ويبكي بالشهيق
وهذا الدير غير عامر الآن.
دير القاروس قال ابن فضل الله: إنه على جابن اللاذقية من شمالها وهو في أرض مستوية وبناؤه مربع وهو حسن البقعة. وقيه يقول أبو علي حسن بن علي الغزي:
لم أنس في القاروس يوماً أبيضاً ... مثل الجبين يزينه قرع الدجى
في ظل هيكله المَشيد وقد بدا ... للعين معقود السكينة أبلجا(6/35)
واللاذقية دونه في شاطئ ... بلوره قد زَيّن الفيروزجا
ولديّ من رهبانه متنمس ... أضحى لفرط جماله متبرجا
أحوى أغنّ إذا تردد صوته ... في مِسمع رد احتجاج ذوي الحجى
لا شيءَ ألطف من شمائله إذا حث الشمول ولفظه قد لجلجا
فله ولليوم الذي قضيته ... معه بكائي لا لربع قد شجا
دير القديس سابا إلى الجنوب الشرقي من أورشليم على بعد ثلاث ساعات ونصف عنها على الراجل وعلى انخفاض 560 متراً عنها عند الطريق المؤدي منها إلى البحر الميت على مقربة من وادي الراهب النار وعلى عدوة وادي قدرون إلى شمال بيت ساحور الشرقي. وهو أشبه بقلعة منيعة غربية الأبنية. ومن الدير إلى هضم الوادي 275 ذراعاً فيصعد من الوادي إلى الدير بسلالم بعضها منقور بالصخر والآخر مبنى على شكل أدراج ولا يدخل إليه إلا بإذن البطريك الأورشليمي. ورهبانه ستون راهباً يعيشون عشية تقشف منقطعين إلى الصلاة والصوم والعبادة وفي كل يوم جمعة يبعث لهم دير القبر المقدس في أورشليم طعامهم مرة واحدة ولا يسنح للنساء أن يدخلنه، وتلك عادة منذ تشييده إلى اليوم لم تدخله امرأة، وقربه برج مار سمعان وهو دير خرب فيه بيت كبير يشرف على الدير القديس سابا على بعد خمس دقائق فيسمح للنساء أن ينظرن الدير الكبير من بيت هذا البرج وقربه دير على قمة جبل تاودوسيوس وهو عامر الآن وفيه رهبان ويسميه العرب دير عبيد من مجلة النعمة.
دير قِنّسْري على الشاطئ الفرات من الجانب الشرقي من نواحي الجزيرة وديار مضر مقابل جرابلس في الأصل جرباس وجرابلس شامية، وبين هذا الدير ومنبج أربعة فراسخ وبينه وبين سروج سبعة فراسخ، فهو دير كبير كان فيه أيام عمارته ثلاثمائة وسبعون راهباً، ووجد في هيكله مكتوباً:
أيا دير قنّسري كفى بك نزهةَ ... لمن كان بالدنيا يَلَذ ويَطرَبُ
فلا زلت معموراً ولا زلت آهلاً ... ولا زلت مخضراً تُزار وتعجِب
دير كعب كان من أديار الشام وهو الذي جاء فيه المثل أطول من(6/36)
فراسخ دير كعب قال الشاعر:
ذهبت تمادياً وذهبت عرضاص ... كأنك من فراسخ دير كعب
دير كفتون ولعله المعروف اليوم بدير كفتين قال فيه ابن فضل الله: إنه ببلاد طرابلس مبني على جبل وهو دير كبير وبناؤه بالحجر والكلس في نهاية الجودة وبه ماء جارٍ وله حوض كبير مملوء من شجر النارنج يجمل نارنجه إلى طرابلس يباع فيها ويرتفق بثمنه الرهبان مستشرف مطل على البلاد والمزارع ومنه مكان يشرف على بعد على البحر، ولهذا صيت النذور ويقصده كثير من أهل البطالة واللهو للتفرج به والتنزه فيه، وفيه يقول الطيبي:
أدير كفتون تُكفي كل نائبةٍ ... من الهموم وتلقى كل سراءِ
من كل خضراء في الأشجار مائسةٍ ... وكل صهباء في الكاسات حراء
حللت في دير كفتون فلا عجب ... إذ مت سكراً بحمراء وخضراء
دير مارون قال المسعودي في التنبيه والإشراف: وفي أيام موريق من ملوك الروم ظهر رجل من أهل حماة من أعمال حمص يعرف بمارون إليه تنسب المارونية من النصارى. وأمرهم مشهور بالشام وغيرها أكثرهم بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها كحماة وشيرز ومعرة النعمان وكان له دير عظيم يعرف به شرقي حماة ذو بميان عظيم حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيعا الرهبان وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان وهو بقرب نهر الأرنط العاصي نهر حمص وإنطاكية. وكان يقول: إن سيدنا المسيح طبيعتان ومشيئة واحدة وفعل واحد وأقنوم واحد وأكثر من تبعه على مقالته تلاميذه القائلون به أهل
مدينة حماة وقنسرين والعواصم وجماعة من أرض الروم فسموا الموازنة ولما مات مارون بنى أهل حماة بحماة وسموه دير مارون. قلنا ولعله دير آخر غير الدير الذي نشأ فيه مارون شرقي حماة وشيزر. وقد خرب دير مار مارون سنة 75(6/37)
للهجرة لما غزا موريق وموريقان بلاد الشام وحملا على هذا الدير وقتلا منه خمسمائة راهب وهدما بنيانه ثم تحولا من هناك إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن ولم يعفيا عن أحد من أتباع مار مارون. وقال الدويهي: كلان قرب دمشق فوق نهر يزيد دير على اسم القديس مارون. قال: ولقد استدللنا برسومه وأطلاله المائلة إلى اليوم على عظمه وشرفه ذكره ابن الحريري المؤرخ فيما كتبه عن الحاكم بأمر الله سنة 386. ولا أثر اليوم لدير حماة ولا لدير دمشق.
دير مار مروثا وهو دير صغير بظاهر حلب في سفح جبل جوشن على نهر العرجان العوجان؟ وكان سيف الدولة محسناً إلى أهله وقلما مر به إلا نزله ووهب لأهله هبة كبيرة وكان يقول: رأيت أبي في النوم يوصيني به - وفي رواية والدته وله بساتين قليلة ومباقل وفيه نرجس وبنفس وزعفران ويعرف بالبيعتين لأنه فيه مسكنين للرجال والنساء. قال الخالدي وإياه عني الصنوبري بقوله:
كأنما اختيرت الفصوص له ... بين عقيق وبين فيروزج
أما ترى البيعتين أفردتا ... بمفرد الأقحوان والمزوج
أثوابه المزن كيف ما اتصلت ... وناره البرق كيف ما أجج
هذا ما رواه ابن فضل الله في هذا الدير، وفي رواية ياقوت أن هذا الدير ذهب ولا أثر له استجد في موضعه مشهد زعم الحلبيون أنهم رأوا الحسين أبى علي رضى الله عنه يصلي فيه فجمع له المتشيعون بيتهم مالاً وعمروه أحسن عمارة وأحكمها وفيه أيضاً يقول بعض الشاميين:
بدير مارت مروثا ال ... شريف ذي البيعتين
والراهب المتحلي ... والقس ذي الطمرين
إلا رثيت لصب ... مشارف للحين
قد شفه منك هجر ... من بعد لوعة بين
قال وفيه يقول الحسين بن علي التميمي:
يا دير مارت مروثا ... سقيت غيثاً مغيثا(6/38)
فأنت جنة حسن ... قد حزت روضاً أثيثا
دير مارت مريم قال الخالدي: وبالشام دير يقال له مارت مريم وهو من قديم الديرة ونزله الرشيد وفيه يقول الشاعر:
نعم المحل لمن يسعى للذته ... دير لمريم فوق الظهر معمور
ظل ظليل وماء غير ذي أسن ... وقاصرات كأمثال المها حور
دير الماطرون يروى لزيد بن معاوية فيه:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
حرقة حتى إذا ربعت ... ذكرت من جلق بيعا
في قباب حول دسكرة ... بينها الزيتون قد ينعا
قال أبو محمد حمزة بن القاسم قرأت على الحائط من بستان الماطرون هذه الأبيات:
أرقت بدير المارطون كأنني ... لساري النجوم آخر الليل حارس
وأعرضت الشعرى العبور كأنها ... معلق قنديل عليها الكنائس
ولاح سهيل عن يميتي كأنه ... شهاب نجاة وجهه الريح قابس
ولم يبق في الوجود من هذا الدير غير اسمه:
دير المصلبة وهو بظاهر مدينة القدس الشريف في شامها بغرب وهو دير رومي
قديم البناء بالحجر والكلس محكم الصنعة مونق البقعة في بحيرة من أشجار الزيتون والكروم وشجر التين بإزاء قرية تجرى على الدير بمرسوم السلطان. قال في مسالك الأبصار بعدما تقدم: وهذا الدير دخلت إليه ورأيته وفيه صور يونانية في غاية من محاسن التصوير وتناسب المقادير وصعدت إلى سطحه فرأيت له حسن مُشترَف وسعة فضاء ورهبانه من الكرج. قال وكان أخذ وجعل مسجداً للمسلمين ثم أعيد ديراً للنصارى وتوصل إلى هذا بكتاب أخضر من ملك الكرج وأعان عليه قوم آخرون. قال: وحدثته رهبانه بأن على ديرهم وقوفاً في بلادهم منها خيول سائمة أثمان نتاجها إليهم وأنه يجيء منها في كل سنة قدر جليل وإنها تنفق في مصالح الدير وابن السبيل. وفيه يقول أبو علي حسن الغزي:
يا حسن أيام قطعت هنيئة ... بالدير حيث التين والزيتونُ(6/39)
دير المصلبة الرفيعُ بناؤه ... تَفدي عبير ترابه دَارين
في ظل هيكله وأسراب الدّمى ... مَجْلُوة والمرمرُ المسنونُ
ومزنرين إذا تلوا إنجيلهم ... وتعطفوا فحمائم وغصونُ
غزلانُ وجرةَ هم وبين جفونهم ... لأسود بيشة إن عَرَضنْ عرين
نزعوا القلانس والمسح فزحزحت ... منهن عن غرز الشموس دجون
وسعوا بكاسات المدام وما دروا ... أن للكؤوس الدائرات جنونُ
فقضيت بينهم زماناً لم يزل ... عندي إليه تشوق وحنينُ
تلك المنازل قد سفحن مدامعي ... لا مصرُ قاطبةً ولا جيرُونُ
ولا يزال هذا الدير عامراً وهو للروم الأرثوذكس.
دير مرقس الغالب أنه كان من النواحي حلب ورد في شعر حمدان بن عبد الرحيم في قوله:
أسكان عرشين القصور عليكم ... سلامي ما هبت صباً وقبول
ألا هل إلى حث المطّي إليكم ... وشم خزامي حربنوش سبيل
وهل غفلات العيش في دير مرقس ... تعود وظل اللهو فيه طليل
إذا ذكرت لذاتها النفس عندكم ... تلاقي عليها زفرة وعويل
بلاد بها أمسى الهوى غير أنني ... أميل مع الأقدار حيث تميل
دير مُرّان هذا اسم لديرين في الشام كان أحدهما على الجبل المشرف على كَفَرْ طاب قرب المعرة يزعمون أن فيه قبر عمر بن عبد العزيز رض وهو مشهور بذلك كان يزار في عصر ياقوت. والثاني بالقرب من دمشق على تل مشرف على مزارع الزعفران ورياض حسنة وبناؤه بالجص وأكثر فرشه بالبلاط الملون، وهو دير كبير رهبان كثيرة وفي هيكله صورة عجينة دقيقة المعاني والأشجار محيطة به. روى ذلك الخالدي أما محل الدير فمحل خلاف منذ القديم قال ابن فضل الله: والناس في اختلاف أين كان دير مران فمن قائل إنه كان بمشارق السفح نواحي برزة والأكثر على أنه كان بمغاربه وأن مكانه الآن القرن الثامن المدرسة المعظمية، وأما الذي كان بمشارق السفح فهو دير السائمة المسمى دير صليبا. وروى صاحب قضاة دمشق قال: لما وافى المأمون دمشق سنة خمس عشرة ومائتين نزل بدير مران(6/40)
ومكانه المعروف بالسهم إلى قرب النيرب خارج دمشق في سفح قاسيون فعمر المأمون هذا الدير وبنى القبة التي فوق الجبل وهي المعروفة الآن بقبة النصر ولم يعثر على أثر لهذا الدير العظيم. وكان هذا الدير لقربه من دمشق ولجمال موقعه مقصد الملوك والراغبين في النزهة والشراب. قال ابن بطريق: إن كنائس الغوطة ودير مران كان المسلمون ينزلونها ويسكنون فيها. وقد نزل يزيد بن معاوية دير مران ومات فيه الوليد واجتاز به الرشيد والمأمون وقد أكثر الشعراء من ذكره حتى نسب ليزيد قوله وقد أصاب المسلمين سباء بأرض الروم:
وما أبالي بما لاقت جموعهم ... بالغذقدونة من حمى ومن مُوم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير مران عندي أم كلثوم
ومن جملة ما قيل في هذا الدير قول أبي بكر الصنوبري وهو:
أمر بدير مران فأحيا ... وأجعل بيت لهوي بيت لهيا
ويبرد غُلتي بردَى فسقياً ... لأيام على بردى ورعيا
ولي في باب جيرون ظباءُ ... أعاطيها الهوى ظبياً فظبيا
ونعم الدار داريا ففيها ... حلالي العيش حتى صار أريا
سقت دنيا دمشق ليصطفيها ... وليس يريد غير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها ... خلال حدائق يُنبتن وشيا
مظللة فواكهها بأبهى ال ... مناظر في نواظرها وأهيا(6/41)
فمن تفاحة لم تُعد خداً ... ومن رمانة لم تُخط ثديا
وله فيه:
متى الأرحل محطوطة ... وعير الشوق مربوطة
بأعلى دير مران ... فداريا إلى الغوطة
فشطي بردى في جن ... ب بسط الروض مبسوطة
رباع الأنهار من ... ها خير مهبوطة
وروض أحسنت تكتي ... به المزن وتنقيطه
وقال فيه الحسين بن الضحاك:
يا دير مران لا عريت من سكن ... قد هبطت لي حزناً يا دير مرانا
حث المدام فإن الكأس مترعة ... مما دواعي الشوق احيانا
وقال الببغا أبو الفرج عبد الواحد:
ويوم كأن الدهر سامحني به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر
جرت فيه أفراس الصبا بارتياضنا ... إلى دير مران المعظم والعمر
بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر
فمن روضة بالحسن ترفد روضة ... ومن نهر بالغيض يجري إلى نهر
وفي الهيكل المعمور منه انتزعتها ... وصبحي حلالاً بعد توفية المهر
ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها أشرب التبر بالتبر
وقال عون الدين الحلبي الكاتب المتوفى سنة 656 وهو مما يستأنس به من أن هذا الدير كان عامراً إلى أواسط القرن السابع وفيه ذكر ديرين آخرين وهما دير متى ودير حنينا والأول ليس له ذكر في ديرة الشام بل هو من أديار الموصل ولما كانت القصيدة في التشوف إلى الشام استلزم ذلك أن يكون دير متى من جملة أديارها التي ضاع اسمها ورسمها قال:
يا سائقاً يقطع البيداء معتسفاً ... بضامر لم يكن في سيره واني
إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران
واقصد علالي قلاليه تلاق بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان
من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فيا خجلة المران والبان
وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان(6/42)
ورب صدغ بدا في الخد مرسله ... في فترة فتنت من سحر أجفان
فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي من صدغة أنسي وريحاني
وعج على دير متى ثم حي به ال ... ربان بالطرس فالربان رباني
فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان
واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لمذات ما بين قسيس ومطران
واستجل راحاتها تحي النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان
دير المغان بحمص في خربة بني السمط تحت تلهم، وهو دير عظيم الشأن عندهم
كبير القدر فيه رهبان كثيرة وترابه يختم عليه للعقارب ويهدى إلى البلاد قاطبة وتتنافس النصارى في موضع مقبرته ياقوت.
دير ميامس نقلت من ياقوت: بين دمشق وحمص على نهر يقال له ميامس وإليه نسب، وهو في موضع نزه، وبه شاهد على زعمهم من حواريي عيسى عليه السلام زعم رهبانه أنه يشفي المرضى. وكان البطين الشاعر قد مرض فجاءوا به إليه يستشفي فيه فقيل: إن أهله غفلوا عنه فبال قدام قبر الشاهد واتفق أن مات عقيب ذلك فشاع بين أهل حمص أن الشاهد قتله وقصدوا الدير ليهدموه وقالوا: نصراني يقتل مسلماً لا نرضى أو تسلموا لنا عظام الشاهد حتى نحرقها، فرشا النصارى أمير حمص حتى رفع عنهم العامة فقال شاعر يذكر ذلك:
يا رحمتا لبطين الشعر إن لعبت ... به شياطينه في دير ميماس
وافاه وهو عليل يرتجي فرجاً ... فرده ذاك في ظلمات أرماس
وقيل شاهد هذا الدير أتلفه ... حقاً مقالة وساوس وخنائس
أأعظم باليات ذات مقدرة ... على مضرة ذي بطش وذي باس
لكنهم أهل حمص لا عقول لهم ... بهائم غير معدودين في الناس
وحكي أن أبا نواس لما دخل حمص ماراً بها دعاة فتى من أدبائها إلى دير ميماس ودعا معه أشجع السلمي فجلسوا يشربون وأبو نواس ينشدهم له ولغيره فقال أشجع:
صبحت وجه الصباح بالكأس ... ولم تعقني مقالة الناس
ونحن عند المدام أربعة ... أكرم صحب وخير جلاس
ندير حمصية معتقةً ... على نسيم النسرين والآس(6/43)
ولم يزل مطرباً ومنشدنا ... أبو نواس في دير ميماس
دير نجران بأرض دمشق من نواحي حوران ببصرى وهو دير عظيم عجيب
العمارة ولهذا الدير ينادى في البلاد من نذر نذراً لنجران المبارك والمنادي راكب فرس يطوف عامة نهاره في كل مدينة مناد، وللسلطان على الدير قطيعة يأخذها من النذور التي تهدى إليه.
دير النقيرة في جبل قرب المعرة ولا نعرف عنه شيئاً.
دير هزقل قال الخالدي هو بالشام وذكره دعبل بن علي حين هجا أبا عباد كاتب المأمون فقال:
فكأنه من دير هزقل مفلت ... حنق يجر سلاسل الأقياد
قال لبن فضل الله: ولا أدري في قرب أي مدينة هو.
دير يونس ربما كان في جهات الرملة في فلسطين وقد قيلت فيه قصائد كثيرة وما ندري إن كان اختلط بدير في جهات الموصل على جانب دجلة الشرقي وموضعه يعرف بنينوى، ونينوى هي مدينة يونس.
هذا ما أمكن تلقفه عن الأديار في الإسلام وكان قبل الإسلام أديار مهمة ضاعت أخبارها ولا يستغرب ما قيل في هذه الأديار من الأشعار في سالف الأعصار. فقد كان المسلمون يختلفون إلى الديرة يجعلونها محال النزهة لأنها في أماكن نزهة على الغالب تخير بانوها مواقعها، وبالنظر لتحريج الحكومات الإسلامية في الخمور وإباحة شربها وبيعها لأهل الذمة كلن المولعون بالشراب من أهل الشأن وخلعاء الشعراء والأباء يغشون الأديار قيجدون صدوراً رحبة فيشربون ويطربون ولذلك خص الشعراء تلك الأديرة بأشعار لطيفة وقصائد ربما كان فيها شيء من المبالغة ومنها ما نبا عن طور الأدب اليوم ولكنه كان من المألوف في تلك العصور.
وفي ديار الشام اليوم ولا سيما في لبنان وبعض أنحاء فلسطين أديار عظيمة منها ما ورد ذكره في الجريدة التي كتبناها هنا ومنها ما هو من البناء الجديد وفيها
المهم بنيانه وهندسته أشبه بقلاع منه بطرابيل وصوامع للمنقطعين للعبادة والتبتل وقد ظهر في يوم 27 أيار 1945 وقد قذفت فرنسا مدينة دمشق بحمم مدافعها أن معظم كنائس دمشق للآتين كان فيها ورشاشات وسلاح قاتلوا به السكان وعلى رأسهم الراهبات والرهبان.(6/44)
المساجد والجوامع
في أول الفتح:
المسجد بكسر الجيم البيت الذي يسجد فيه وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد. ويقال مسجد الجامع والمسجد الجامع أي مسجد اليوم جامع. فالمسجد قد يكون صغير المساحة والحجم، والجامع مسجد عظيم يجمع المصلين أيام الجمع والأعياد. وأول المساجد التي بنيت في الشام على ما يظهر كانت في البلدان التي سبق فتحها غيرها من أمهات المدن مثل مؤتة والجرباء وأذرح وفحل وأجنادين وبصرى.
ولما كانت السذاجة في كل شيء قد غلبت على العرب لأول عهدهم بالإسلام كانت مصانعهم بحسب الحاجة، وإذا كان من الواجب إذا اجتمع بضعة أفراد منهم أن يقيموا الصلاة جماعة لم تلبث المساجد إن كثرت في الشام في المدن والقرى. وكان الفاتحون يصالحون الأهلين إما على النصف من كنائسهم أو على بعضها أو يكتفون بواحدة أو بنصف واحدة كما اكتفوا بكنيسة مار يوحنا من أصل خمس عشرة كنيسة في دمشق وضاحيتها. وأعطى أبو عبيدة أهل بعلبك وأهل الرستن الأمان على كنائسهم واستثنى عليهن ربع كنيسة يوحنا للمسجد في الرستن. وصالح الفاتح أهل حمص على ربع كنيستهم للمسجد وظلت كذلك إلى القرن الرابع وبعض بيعها المسجد الجامع وشطرها للنصارى وبيعتهم من أعظم بيع الشام. وترك الفاتحون لأهل اللاذقية كنيستهم وبنوا مسجداً جامعاً لصلاتهم ثم وسعوه.
بقيت المساجد على حالة ابتدائية حتى تولى معاوية أمر الشام، وكان بعيد(6/45)
النظر في العمران، فسمت به همته إلى أن يخرج المساجد من دور التأسيس ويدخلها في مظهر مدني فيه الجلال والجمال. ولم يزل بعثمان حتى أذن له أن يبني المساجد ويكبر ما كان ابتني منها قبل خلافته. وهكذا بدأ التوسع في المساجد والجوامع عقيب استقرار الفتح ورسوخ أقدام بني أمية.
واختط سليمان بن عبد الملك لما ولي جند فلسطين مدينة الرملة واختط المسجد وبناه فولي الخلافة قبل استتمامه ثم بني فيه بعد في خلافته ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ونقص من الخطة وقال: أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه. ومعنى هذا أن جوامع القوم ومساجدهم كانت بحسب حاجة من ينزل في كل صقع من المسلمين والتوسع لم يبد إلا مع معاوية بن أبي سفيان وأخلافه.
عرضنا في فصل المصانع لوصف المسجدين الجامعين في هذه الديار المسجد الأقصى وجامع دمشق. ونحن الآن تعرض لغيرهما من المساجد نذكر المهم منها في الحواضر على الأكثر، ونقابل بين قديمها وحديثها، وبديهي أن المساجد لقيت من المصائب السماوية والأرضية ما لقي غيرها من المصانع والعاديات. فإن الزلازل قد نسفت في الإسلام مدناً برمتها فقد تقطع الجبل الأقرع فمات أهل اللاذقية سنة 242هـ وخرجت طرابلس منه وفي هذا الزلزال خرب معظم الساحل وزلزلة سنة 460 خربت فلسطين وزلزال سنة 552 خربت به أمهات المدن الشامية وهكذا يقال في معظم الزلازل التي وقعت بعد إلى القرن الماضي ومن أهمها زلزال سنة 1173 حتى إن من المدن ما لم يبق فيه جدار قائم ولا إنسان سائر. ومساجد الساحل أصيبت في الحروب الصليبية بما نسفها أو غير معالمها فأصبحت كنائس ثم عادت البلاد لسلطان المسلمين أعيدت بعض البيع أيضاً مساجد.
ومن المتعذر أن نعرف ما قام في كل عصر ومصر في الشام من المساجد والجوامع. ومن القرى اليوم ما كان فيه بالأمس عشرة مساجد والعمران يكثر ويقل بحسب حاجة الناس. والغالب أن العناية ببناء المساجد كان لغرض شريف للغاية بادئ بدء يراد به وجه المولى وثواب الآخرة وخدمة الإسلام والمسلمين. فلما أوغل الناس في مضمار الحضارة كان من البانين من يجمعون(6/46)
بيم الدين
والدنيا إذا تعلقت هممهم أن ينشئوا لهم جوامع يقصدون بها تخليد ذكرهم ونيل الثواب والأجر. ثم أتت قرون وقد أخذ بعض الناس ولا سيما الحكام يعمرون المساجد ويقفون عليها حتى يحفظوا بحجتها بعض ثرواتهم لذراريهم، وفي هذه العصور الأخيرة وقع التخليط وكثرت المنافسة في إقامة المساجد والجوامع، حتى في الأماكن التي لا يحتاج فيها الناس إلى مساجد كثيرة إما لكثرتها أو لقلة المصلين في جوارها. وأشبهت دمشق القاهرة في عهد المماليك وبعدهم، فكانوا يعمرون الجامع قرب أخيه على أشبار قليلة منه. وما حدثت البانين أنفسهم أن يشترك في إقامة مسجد جامع بضعة من أهل الخير أو عشرات منهم، لأن المقصد الأول استحال في الآخر إلى إحراز شهرة وإذا عمر إنسان جامعاً بالاشتراك مع غيره يضيع اسمه، وغايته أن يقال بنى فلان مسجداً، وهذا مسجد فلان، أو أن ينتفع هو أو أولاده بمغل وقف الجامع.
وكان للملوك والأمراء في كثرة المساجد وقلتها يد طولي ومنها أن الملك أو الأمير أو غيره من طبقات الحكام والولاة إذا آنس منه قومه رغبة في الاستكثار من المساجد والقربات جاروه على أفكاره وتقربوا إليه بمثل هذه الأعمال الصالحة، وربما تقاضاهم هو ذلك سراً حتى يستخرج بذلك أموالهم وتوزع في الرعية فلا تجمد الثروة في يد واحدة. قال ابن تغري بردي في حوادث سنة 844: لما كانت الملوك السالفة تهوى النزه والطرب عمرت في أيامهم بولاق وبركة الرطلي وغيرها من الأماكن، وقدم إلى القاهرة كل أستاذ صاحب آلة من المطربين وأمثالهم من المغاني والملاهي إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، وسار في سلطنته على قدم هائل من العبادة، والعفة عن المنكرات والفروج، وأخذ في مقت من يتعاطى مسكرات من أمرائه وأرباب دولته، فعند ذلك تاب أكثرهم وتصولح وتزهد، وصار كل واحد يتقرب إلى من تاب وأقلع عما كان فيه، ومنهم من بنى
المساجد، ولم يبق في دولته ممن استمر على ما كان عليه إلا جماعة يسيرة.(6/47)
مساجد حلب:
في حلب اليوم169 جامعاً و182 مسجداً ومنها الجيد بنيانه، وأعظمها المسجد الجامع مسجد زكريا في غربي القلعة. صالح المسلمون أهل حلب على موضع المسجد يوم الفتح، وكان محله حديقة كنيسة الروم القديمة التي بنتها هيلانة أم قسطنطين. قالوا: إنه كان يضاهي جامع دمشق بالزخرفة والرخام والفسيفساء، وإن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل: إن بانيه الوليد نفسه، وإن بني العباس نقضوا ما كان فيه من الرخام والآلات ونقلوه إلى جامع الأنبار في جملة ما نقضوا من آثار بني أمية بالشام. ولما جاء الروم حلب سنة 351 أحرقوا الجامع والبلد فرم بعضه سيف الدولة ثم ابنه سعد الدولة، وأحرقته الإسماعيلية سنة 564 مع الأسواق التي حوله فعمره نور الدين زنكني وقطع الأعمدة الصفر من بعادين ونقل إليه عمد مسجد قنسرين، وأحرقه من الأرمن سنة 679 أيام كانوا محالفين للتتر. وعمره قراسنقر سنة 684 وبنى فيه غيره بعض جهات منه مثل الأمير ألطون بغا الصالحي نائب حلب والأمير يشبك اليوسفي.
ويقول العارفون بالآثار: إن بناء الجامع الحالي قد قام على الصورة التي عملت عليه زمن سابق بن محمود من بني مرداس 468 - 472 على يد القاضي ابن الخشاب وإن في أسفل المنارة كتابة تاريخها سنة 483 ذكر فيها اسم ملكشاه وابن الخشاب وفي جهة أخرى ذكر اسم تتش أخو ملك شاه ويستدل من مجموع البناء، وليس في جدرانه من كتابة مزبورة، أن هذا الطراز قديم صبر على الدهر. ومحرابه من عهد قلاوون والمنبر من عهد الناصر محمد، ويرد عهد الباب الأوسط للحرم إلى أوائل زمن المماليك وإن كانت فيه كتابات أحداث من عهد
السلطان مراد الثالث 996. وأسس المنارة المربعة ذات الخمس طبقات القاضي ابن الخشاب سنة 482 وهي منقوشة أبدع نقش وهي بما كتب عليها من الكتابات الكوفية والنسخية المثال الوحيد من الهندسة الإسلامية. قال أبو الفداء: وكان بحلب بين نار قديم ثم صار أتون حمام فأخذ ابن الخشاب حجارته وعمر منارة جامع حلب.(6/48)
وصف ابن جبير في القرن السادس جامع حلب بقوله: وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها وقد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبواباً قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين باباً، فيستوقف الأبصار حسن منظرها، وفي صحنه بئران معينتان، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه، فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره، فما أرى في بلد من البلاد منبراً على شكله، وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصنعة الغريبة، وارتفع كالتاج العظيم على المحراب، وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة، دون أن يتبين بينهما انفصال، فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف اه.
هذا وصف المسجد الجامع وما كان فيه وليس هو بالعظيم كمسجد دمشق أو المسجد الأقصى وقد رمم في أوقات مختلفة. وفي حلب جامع الصالحين جنوبي المدينة أنشئ سنة 479 أنشأه أحمد بن ملكشاه ومحرابه مهم في بابه وأول جامع بني بحلب فيما قالوا بعد الجامع الكبير جامع ألطون بغا الصالحي تم سنة 723 وفيه يقول ابن حبيب:
في حلب دار القرى جامع ... أنشأه ألطنبغا الصالحي
رحب الذرى يبدو لمن أمه ... لطف معاني حسنة الواضح
مرتفع الرايات يروي الظما ... من مائه السارب والسارح
يهدي المصلي في ظلام الدجى ... من نوره اللامع واللائح
من حوله روض يرى للورى ... من زهرة بالفائق الفائح
لله بانيه الذي خصه ... بالروح للغادي وللرائح
وعد ابن الشحنة من أحسن الجوامع التي بنيت على أجمل الوجوه جامع منكلي بغا الشمسي نائب حلب عمر 778. وعد ابن شداد في باطن حلب مائتي مسجد وسبعة عشر مسجداً داخل سور البلد منها ما نسبه لمنشئه ومنها(6/49)
ما عرفه بالخطة التي هو فيها. وذكر المساجد التي بأرباض حلب وذكر منها ما هو بالحاضر السليماني مائة مسجد وعشرة مساجد، وذكر مساجد الرابية وجورة جغال فعدها مائة وثمانية وستين مسجداً وأتى على ذكر المساجد التي بالظاهرية فعدها تسعة وتسعين مسجداً وعد بالرمادة أربعة وثلاثين مسجداً. وعد ببانقوسا ثلاثة عشر مسجداً وبالفرافرة اثني عشر مسجداً وبالمضيق ستة عشر مسجداً وبالقلعة عشرة مساجد. قال ابن الشحنة وعنه لخصنا إحصاء ابن شداد لمساجد حلب: فجملة هذه المساجد التي داخل حلب وخارجها إلى حين تأليف ابن شداد كتابه سبعمائة وخمسة وعشرون مسجداً. وقد بنى بعض الولاة الأول في الدولة العثمانية جوامع في حلب منهم جامع خسرو باشا 938 وجامع عادلي محمد باشا 957 وجامع بهرام باشا 988 وابشير مصطفى باشا 1061 وجامع عثمان باشا 1150. ومن جوامع حلب التي بقيت عليها بعض الكتابات الحثية جامع القيقان ومن جوامعها الأطروش واشتهر بكتاباته ونقوشه جامع البيادة في شمالي غربي القلعة.
جوامع عمالة حلب:
قامت في أنحاء حلب مساجد كثيرة ومنها مساجد قنسرين وهو البلد القديم الذي كان في الإسلام بمثابة حلب فخرّبه سيف الدولة سنة 351 أو 355 وأحرق مساجده، لما نزل الروم حلب وقتلوا جميع من كان بربضها وذلك خوفاً من سقوطها في أيدي أعدائه. وأنشئت في إنطاكية عدة جوامع بقيت منها بقايا على ما انتابها من الزلازل وأهمها اليوم جامع حبيب النجّار والجامع الكبير والشيخ علي والذخرية. وفي إنطاكية لعهدنا 13 جامعاً و27 مسجداً ومجموع ما في عملها 135 مسجداً وجامعاً وزاويةً وتكية. وأُنشئت منذ الفتح جوامع في مدينة المعرة وصف ناصر خسرو في أواخر منتصف القرن الخامس جامعها الأعظم فقال: إنه مبنى على أكمة قامت وسط المدينة ومن أي جهة اتجهت إلى هذا الجامع كان عليك أن ترتقي سلماً ذات ثلاث عشرة درجة. وقد خربت المعرة بدخول الصليبيين، ثم عاد إليها بعض حياتها وفيها اليوم 23 جامعاً ومسجداً أهمها الجامع العمري الكبير تقام فيه الجمعة دون غيره(6/50)
من المساجد. ومجموع ما في عمل 41 مسجداً وجامعاً. وفي عمل جيل سمعان اليوم 183 جامعاً ومسجداً، وفي بيلان 5 مساجد وجوامع. وفي قضاء إدلب 37 مسجداً وجامعاً وجامعها في القصبة من عهد الفتح يسمونه العمري. وفي معرة مصرين وعملها 11 جامعاً ومسجداً، وفي حارم جامع ومسجد وفي عملها عدة جوامع ومساجد وكذلك في أعزاز، وفي قضاء الباب 15 جامعاً ومسجداً وفي بزاعة وجسر الشغر ومعرة وصرين وسرمين وجبرين وسلقين وخناصرة والفوعة وأرمناز وديركوش والجبول والأثاب ودانيث وكلز وغيرها من البلدان القديمة مساجد وجوامع. ولا تكاد تخلو في يومنا هذا كل قرية من مسجد إلا كانت مزرعة حقيرة لأحد أرباب الأملاك. وفي الشغر اليوم ثلاثة جوامع وخمسة مساجد ولا تخلو المدينة التي كانت عامرة جداً ثم خربت عن آخرها مثل بالس مسكنة ومنبج مثلاً من مساجد لا بأس بها.
ولقد تقلبت الأيام بهذه المساجد والجوامع فكثرت في الأماكن التي اشتدت إليها الحاجة وقلت حيث قل العمران وابذَعَرّ السكان. فقد طانت سرمين مثلاً على طرف جبل السماق من المدن ولها مساجد كثيرة روى ابن شداد أن عددها كان ينيف على ثلاثمائة مسجد، قال: وليس بها الآن أي في عهده مسجد يصلي فيه غير الجامع وأكثر أهلها إسماعيلية ولهم بها دار دعوة. وسواء كان هذا العدد مبالغاً قيه أو غير مبالغ فالمحقق أن الجوامع والمساجد كثرت في الأعصر السالفة في هذه الأرجاء بكثرة السكان وتوفر خيرات الأرض ثم لما خربت المدن دع القرى تراجع أمر بيوت العبادة.
ومن الجوامع القديمة في هذا الصقع جامع اعزاز عرف بالجامع الكبير قال الغزي: وهو صحن واسع فسيح في شماليه رواق وفيه مئذنة ضخمة وفي وسطه حوض يهبط إليه بدركات تجري فيه قناة جرها إليه إسماعيل بن عبد الله العزازي المتوفى سنة 748 وفي جنوبي صحن الجامع قبيلة يبلغ طولها نحو 50 في عرض 15 ذراعاً سقفها قباب محمولة على أعمدة ضخمة وقد كتب على باب الجامع المتجه إلى الغرب: بسم الله الرحمن الرحيم في سنة 644 أمر بعمله مولانا السلطان العالم العادل الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن عبد الملك الظاهر غازي ابن أيوب ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه.(6/51)
مساجد الساحل وجوامعه:
لما كانت مدن الساحل معرضة لهجمات الأعداء كل حين، وكانت الزلازل قد نولت عليها كثيراً وظلت مرسحاً للجيوش الصليبية مدن قرنين أصاب الجوامع والمساجد فيها ما أصاب غيرها من العمائر، فليس في الإسكندرونة اليوم سوى جامعتين وفي عمالتها بعض المساجد الحقيرة، وكذلك الحال في السويدية واللاذقية والمرقب وطرطوس وجبلة وبانياس وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور
وعكا وحيفا ويافا وغزة، خربت جوامعها ومساجدها وعمرت غير مرة في الإسلام. ففي اللاذقية اليوم عدة مساجد وفيها جامع جميل مطل عليها من الهضبة المطلة على الثغر ولها منارة جميلة. وأهم جوامع اللاذقية جامع المغربي ومن جوامعهم جامع جديد والكبير المنصوري وأرسلان باشا والصليبة وصوفان والشيخ ضاهر وجامع الاسكلة والشواف والصغير، وفي اللاذقية اثنا عسر مسجداً غير هذه الجوامع. وفي جبلة جامعان وهما جامع السيد إبراهيم والمنصوري ومن مساجدها القنطاري وبني علي أديب والغزالي والأكراد وجامع واحد في بانياس، وفي طرطوس جامع كان على عهد الصليبيين كنيسة كاتدرائية، وفي صافيتا جامع وثلاثة مساجد في جوارها.
وفي طرابلس عدة جوامع ومساجد ومعظمها من آثار المماليك البحرية والجراكسة، وما تجدد بعدهم فقليل جداً بالنسبة لآثارهم في هذه المدينة، وأكثرها لم يذكر عليه اسم بانيه. ولا ريب أن البواعث كانت دينية محضة ورغبة في ثواب الله بدار الآخرة فكان عدم ذكر الباني على البناء أبعد عن السمعة والرياء، وكان الأمير أو المتمول منهم إذا شيد مسجداً للصلاة جعل في أحد أطرافه مشهداً ليدفن فيه عند موته ولم يزل إلى الآن كثير من قبور المماليك الرخام محفوظاً في المساجد التي أقاموا على الطراز المخصوص بهم كأن يجعلوا في كل زاوية من زوايا القبر قاعدة بارتفاع ثلاثين سانتيماً وأعلاها كروي. وللمماليك من نوع هذه القبور في دمشق صنوف. وإن ما بقي إلى اليوم من الفسيفساء في محاريب تلك المساجد وجدرانها آية في الإبداع وحسن الصناعة.(6/52)
ومن أعظم جوامع هذا الثغر الجامع الكبير بناه السلطان صلاح الدين خليل الأشرفي على ما يرى في الكتابة المحفورة فوق باب الجامع الشمالي وذلك في سنة 693هـ وكان متولي العمارة سالم الصهيوني ابن ناصر الدين العجمي وفي سنة 715 وعلى عهد ولاية السلطان
محمد بن قلاوون للمرة الثالثة بنيت بأمره الأروقة المحيطة بصحن المسجد أيام نيابة المقر السيفي كستاني الناصري وكان متولي العمارة أحمد بن حسن الحرلبعليلي وتسميه أهالي طرابلس الجامع المنصوري وهو غلط بين لأن الملك المنصور قلاوون هو أبو الأشرفي باني الجامع المذكور.
ومنها جامع طينال وتسميه العامة طيلان بناه سيف الدين طينال مملوك محمد الناصري وحاجبه وكان قد تولى ولاية طرابلس مرتين وبنى الجامع المذكور للمرة الثانية سنة 736. وفي منارته هندسة لطيفة ولها من داخلها سلمان أحدهما سقف للآخر، فإذا أراد المؤذن الصعود للأذان من داره الملاصقة للمسجد دخل من باب المنارة صاعداً أعلاها وإذا أراد النزول للصلاة دخل من باب آخر يصل منه إلى داخل المسجد وعلى هذه الصورة فباب المنارة السفلي الخارجي أدنى من أرض المسجد بقدر قامة الإنسان.
ومن جوامعها جامع أرغون شاه وتسميه العامة الفنشا على الطريق الشرقية الآخذة لجبانة باب الرمل ولا يعلم تاريخ بناه وفوق بابه كتابة حفرت أيام قايتباي من الممليك الجراكسة سنة 880 يأمر فيها بحماية زراع أراضي الوقف للجامع المذكور وتسليمها إلى محمود الأدهمي الحسيني وقد بني هذا الجامع حديثاً بعد سقوطه ووضعت له القساطل الحديدية لجر المياه.
ومن جوامعها جامع التوبة وهو ملاصق للجسر الجديد على نهر أبي علي ومن الثابت أنه بني أيام دولة المماليك وطراز هندسته يشبه الجامع الكبير من وجوه كثيرة وقد جدد بناءه بعدما تهدم من الفيضان الكبير الذي وقع في طرابلس سنة 1020 أحمد بن محمد الشربداري الأنصاري كتخدامي حسين باشا السيفي، وتم بناءه في شهر ربيع الآخر سنة 1021 والكتابات الأثرية التي عليه يرجع تاريخها إلى سنة 817 أيام دولة المؤيد أبي النصر شيخ المحمودي من المماليك الجراكسة.(6/53)
ومن جوامعها جامع المعلق بناه محمود بن لطفي الزعيم سنة 967 أيام سليمان القانوني وهو في محلة بوابة الحدادين. وجامع العطار وسط البلد بقرب محلة الملاحة والمشهور عند أهالي طرابلس أنه كان كنيسة في زمن الصليبيين ثم تحول إلى جامع بعد الفتح الإسلامي وكان قد تداعى بناؤه، فأقيم وفي أعلى بابه الشرقي مكتوب هذا التاريخ البسملة. هذا الباب المبارك والمنير من عمل المعلم محمد بن إبراهيم المهندس في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وجامع البرطاسي في جانب الجسر العتيق على نهر أبي علي وفي الكتابة التي فوق بابه يقول: بني هذه المدرسة عيسى بن عمر البرطاسي ووقفها على المشتغلين بطلب العلم على مذهب الإمام الشافعي ولم يعلم الزمان الذي تحولت فيه إلى جامع وقد ذهب من أصل الكتابة التاريخية القسم الذي به زمن البناء غير أن أسلوب تلك الكتابة وطرز بنائه الفخم ودقة الفسيفساء التي على محاربه وفي أرضه تدل على أن بانيه من الأثرياء أيام دولة المماليك البحرية. وجامع الأويسية بني في دولة المماليك غير أنه لم يكن عليه كتابات تاريخية إلا ما كان في أعلى منارته وفيها ذكر أنه جَدد بناءها أيام السلطان سليمان القانوني سنة 941 رجل اسمه حيدرة في وقفية الجامع أن اسم بانيه محي الدين الأويسي.
وجامع عبد الواحد وراء سوق الصاغة بناه عبد الواحد المغربي المكناسي أيام السلطان محمد بن قلاوون للمرة الثالثة سنة 705 وعليه زبرت كتابة تشعر بذلك. وجامع التفاحي يسمى اليوم بالحميدي لم يبق من بنائه الأصلي أثر وتجدد بناؤه حوالي سنة 1310 بمعاونة أهل الخير وإعانة السلطان عبد الحميد الثاني فنسب إليه. وجامع محمود بك السنجق وهذا بناه في طرف البلد تقريباً للجهة الشرقية بالمحلة المعروفة بباب التبانة سنة 1020 في عهد السلطان أحمد من ملوك بني عثمان ووقف عليه أوقافاً كثيرة لم تزل قائمة إلى الآن. وجامع الطحام داخل البلد
ولم يعلم اسم بانيه ولا تاريخ بنائه وشكله وطرز منارته يدل على أنه بني زمن المماليك.
هذه جوامع طرابلس وقد وصف ناصر خسرو المسجد الأعظم فيها أواخر النصف الأول من القرن الخامس بقوله: والمسجد الأعظم قائم في وسط المدينة وهو جميل للغاية، مزدان بأحسن زينة، ومبني على غاية القوة(6/54)
والمتانة، وفي صحنه قبة عظيمة تعلو من المرمر في وسطه فوارة يخرج ماؤها من منقار نحاس أصفر اه. والغالب أن هذا الجامع خرب بخراب تلك المدينة بعد.
وفي جبيل جامع هو مما اتخذ جامعاً بعد الحروب الصليبية. أما مدينة بيروت فكانت فيها جوانع صغيرة بعد الفتح ولم تكن بيروت بالثغر العظيم إذ ذاك ولم يكن للمسلمين جامع فيها أيام استيلاء الصليبيين عليها، فلما انتزعت منهم أخذوا كنيستهم وجعلوا جامعاً، وهي تعرف بكنيسة ماريو حنا الصايغ ويقال لها جامع النبي يحيى أو الجامع الكبير اليوم. وبنى فيها الأمير منصور عساف جامع السراية. وكان جامع الخضر كنيسة للموارنة باسم مار جرجس إلى سنة 1661م فأخذه أحد باشوات الترك وجعله جامعاً. ومنها جامع المجيدية وغيره ومجموع ما في بيروت اليوم من المساجد والجوامع ثلاثون جامعاً ومسجداً.
وفي صيدا سبعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير جامع يحيى وكان كنيسة على الغالب باسم مار يوحنا وفي صور مسجد جامع. وفي عكا بضعة جوامع أهمها جامع الجزار، وفي حيفا وعملها عدة جوامع ومساجد، وفي يافا وعملها كذلك وجوامع يافا قديمة في الجملة، وفي غزة، وكان مسجدها الجامع من الكنائس المهمة في القرن الثاني عشر للميلاد على اسم القديس يوحنا المعمدان، وكان كاتدرائية لأسقف الروم، وفيها جامع هاشم وجامع باب الداروم وغيره من الجوامع التي فيها نقوش بديعة وأنقاض تدل على مجد قديم.
جوامع المدن الداخلية:
وفي الخليل وحبرون جامع فيه مقام الخليل إبراهيم في مغارة تحت الأرض. قال شيخ الربوة: ومن المباني القديمة مقام الخليل عليه السلام طوله ثمانون ذراعاً وعرضه خمسون ذراعاً، في الطول نته عشرون حجراً مدماكاً واحداً، وداخل المقام نصب على الضريح كل واحد حجر واحد، الطول أربعة أذرع والعرض ذراعان وتصف والسمك مثلها وأزيد. ويحتوي اليوم سور الخليل على أساس يبلغ علوه 12 متراً وحجارته ملساء عليها مسحة(6/55)
الإمبراطور هيرودوس. وقد بني هذا الجامع الصليبيون من سنة 1167 إلى 1187، وربما كان إنشاؤه مكان كنيسة يوستنيانوس وجدده المسلمون بعد ذلك. وأقدم ما في الجامع من الترميمات ما قام به قلاوون من سلاطين المماليك. وفي القدس عدا المسجد الأقصى ثمانية جوامع وهي جامع عمر بن الخطاب تهدم ومكانه الآن كنيسة القديسة حنة شمال كنيسة مار يوحنا والجامع الباقي مع المئذنة من آثار قلاوون قاله الأستاذ البرغوثي وجامع عكاشة وجامع سوق البيزار وجامع سلمان الفارسي وجامع الشيخ جراح وجامع سويقة علوان وجامع الخانقاه بالصلاحية قرب الكنيسة وجامع باب خان الزيت. والجوانع الخربة أيضاً تسعة وهي جامع بحارة الحدادين، وآخر قرب دير اللاتين وثالث قرب بطريركية دير اللاتين ورابع اسمه الحيات وخامس جامع اليعقوبي قرب العقوبي قرب القلعة وجامع قرب دير الأرمن وثلة على مقربة من دير السريات وغيره في حارة اليهود وجامع الأزرق. وهناك ثلاثة جوامع معمورة أيضاً وهي جامع البيل وجامع لؤلؤ وجامع أبي قصبة. وبعض هذه الجوامع لا شأن له من حيث النظافة والإتقان شأن المصليات البسيطة.
وفي الرملة عدة جوامع ومساجد قال ناصر خسرو في مسجدها الجامع: إن في وسطه صهاريج واسعة وإن مساحته ثلاثمائة قدم في مائتين. وقال الظاهري: إن
من جملة مزارتها الجامع الأبيض عجيب من العجائب. وكان منارة من عجائب الدنيا بناها قلاوون. وفي لد عدة جوامع ومساجد وكان بها في القرن الرابع جامع يجمع به خلق كثير من أهل القصبة وما حولها من القرى وجامعها الكبير اليوم من عهد الصليبيين كان كنيسة. وفي نابلس تسعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير ومسجد أولاد يعقوب وجامع النصر والخضراء والجامع الكبير بناه يوستينانوس. وعلى قيد غلوة من أرسوف بقايا حرم سيدنا علي بن غليل أو عليم. وفي قاقون بني الملك الظاهر بيبرس جامعاً. والظاهر هذا جدد وبني عدة مساجد وجوامع في الشام ومثله قلاوون وتنكر من المماليك.
ومن الجوامع التي رمها ديوان الأوقاف في فلسطين في العهد الأخير جامع المنشية والعجمي والبحر وأرشيد والطابية في يافا، وجامع العصا في الرملة،(6/56)
وجامع لدّ. ومقام النبي يحيى في قرية المزيرعة ومقام النبي روبين وجامع سويقة علون وجامع باب خان الزيت والزاوية النقشبندية وجامع سعد وسعيد، وجامع بيت لحم ومقام النبي شموبل في القدس وأرباضها. ورمت الأوقاف في نابلس جامع النصر والجامع الكبير الصلاحي وجامع العين وجامع التينة. وجامع قرية رفيديا وقرية عقربة وقرية عصيرة الشمالية وقرية صيدا وجامع البئر في قرية زواتا وجامع سبطية وجامع قرية برقة. وأجريت عدة إصلاحات في جامع الجزار في عكا وأنشئ في حيفا جامع الاستقلال. وأصلحت الأوقاف الجامع الكبير في غزة أصابه خراب كبير بسبب معارك الحرب العامة وهو من المساجد العظمى في فلسطين فخم البناء كبير القيمة الأثرية جميل الشكل والهندسة يحتوي على عدة سلاسل من العقود الحجرية وأصلح جامع سيدنا هاشم وجامع ابن عثمان وجامع المجدل وحرم سيدنا زكريا في الخليل، وشرع أهالي الخليل ينشئون مسجداً فساعدهم المجلس الإسلامي الأعلى.
وكانت المدن القديمة غاصة بالجوامع مثل قيسارية وأرسوف فذهبت بذهاب عمرانها. وفي طبرية اليوم جامعان قديمان الجامع الفوقاني من بناء عرب الزيادنة عام 1156 والثاني جدد بناؤه عام 1280. وفي صفد عدة جوامع ومساجد. وفي قلعة الشقيف بني الظاهر بيبرس جامعاً وكانوا يقيمون الصلوات قي القلاع أيضاً كما بنوا جوامع لهم في قلعة دمشق وفي قلعة حلب.
وفي صرخد عمر الظاهر بيبرس جامعاً، وكذلك فعل في بصرى وعجلون والصلت، وفي هذه البلدان اليوم مساجد صغيرة فقد قضت الأيام على المساجد المهمة. وفي عمان جامع ومسجد وكان فيه في القرن السابع جامع ظريف في طرف السوق مسقف الصحن شبه مكة. وقد أنشئ فيها في العهد الحديث جامع فخم.
وللدروز في الشوف من لبنان ووادي التيم الأعلى والأسفل ومرجعيون وصفد وضواحي دمشق وبيروت والجبل الأعلى وفي بعض قرى عكا خلوات أشبه بالمساجد لا منابر لها ولا مآذن، ويجتمع فيها خاصتهم ليلة الجمعة ويسمونها مجالس كما أن للنصيرية العلويين في جبالهم خلوات صغيرة ذات قباب تكون على الغالب في أطراف قراهم، وكذلك لا تخلو أكثر قرى المتاولة(6/57)
الشيعة في جبل عامل من مساجد صغيرة لهم لا مآذن لها ولا منابر، ومنها ما يسمونه حسينية نسبة للحسين بن علي رضي الله عنهما يقيمون فيها المآتم عليه في أوقات لهم مخصوصة. وفي بعلبك عدة جوامع ومساجدها بقي بعضها من عهد عزها. أيام غلبة مذهب أهل السنة والجماعة على سكانها أكثر من التشييع. وللإسماعيلية مجالس أيضاً كما للنصيرية.
ولقد زيّن بعض عمال السلطنة العثمانية للسلطان عبد الحميد الثاني أن يبني جوامع ومساجد في جبال النصيرية وجبل الدروز عسى أن يثوب أهلها إلى مذهب أهل
السنة والجماعة، بنيت عدة جوامع في هاتين المقاطعتين، منها أربعون جامعاً في جبال العلويين على أمل أن يعود النصيرية والدروز إلى التسنن، فأصبح بعضهم يصلون شبه مكرهين، فلما آنسوا ضعف الحكومة بعد مدة فقليلة أتى جهلاء النصيريين والدروز على ما بني من مساجد الجديدة ودمرها عن آخرها ودنسوا كرامتها بما لا يليق.
ومن الكتابات الأثرية في بعلبك ما زبر فوق باب قبة الأمجد على رابية السيخ عبد الله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر. أمر بعمارة هذا المسجد المبارك الأمير الاسفسهلار الكبيرصارم الدين أبو سعيد خطلخ ابن عبد الله المعري الملكي الأمجدي، ضاعف الله له الثواب وغفر له يوم الحساب، وفي سنة ست وتسعين وخمسمائة.
وكتب في جامع الحنابلة ببعلبك هذا: بسم الله الرحمن الرحيم. جُدّد هذا المكان المبارك في أيام مولانا السلطان الأعظم، شاهنشاه المعظم مالك رقاب الأمم، سيد ملوك العرب والعجم والترك والديلم، الملك المنصور سلطان الإسلام والمسلمين، قامع الكفرة والمشتركين، أبي المعالي قلاوون قسيم أمير المؤمنين، خلد الله سلطانه، وشد أزره ببقاء ولده وولي عهده، مولانا السلطان الملك الصالح علاء الدين، وأدام نصرهما، وجعل البسيطة ملكهما، بتولي الأمير نجم الدين حسن نائب قلعة بعلبك المحروسة ومدينتها، ونظر القاضي بهاء الدين بن خلكان وذلك في العشر الآخر من جمادى الأولى سنة ثنتين وثمانين وستمائة والحمد لله وحده.(6/58)
والمساجد في لبنان قليلة جداً أنشئ بعضها حديثاً كجامع عالية، وأهم الجوامع في هذا الجبل جامع دير القمر للأمير فخر الدين عثمان المعني وعهدي به والمسيحيون من أهل جواره يحافظون عليه إذ ليس هناك من يصلي فيه من أهل الإسلام. وقد كتب على واجهته كتابتان هكذا بالخط العربي النسخي، الأولى: (بسم
الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله أن ترفع ويكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب). والثانية: (بسم الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار). عمر هذا المكان المبارك ابتغاء لوجه الله العظيم ورجاءً لثوابه العميم العبد الفقير إلى عفو ربه القدير المقرّ الفخري الأمير فخر الدين عثمان بن الحاج يونس ابن معن غفر الله له.
وكتب في 5 من شهر الله المحرم الحرام من شهور سنة تسع وتسعين وثمان مائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وكانت الجوامع في حمص مهمة للغاية أوائل الإسلام وقد صالح المسلمون أهلها على ربع كنيستهم وكانت على أربعة أركان وذلك من عجائب بنيان العالم ومسجدها اليوم وسط السوق وليس بالكبير وفيه عقود وعمد ومحراب مزين بالفسيفساء المذهبة القديمة. وفي جهة أخرى محراب قديم معمول بالفسيفساء أيضاً. وأكد الأثريون أن بناء هذا الجامع هو من بناء الكنيسة، والغالب أنه جدد في أدوار مختلفة من عهد نور الدين زنكي إلى زمن قريب. ولا تزال في حمص منارة مئذنة من بناء بكجور الذي استولى على المدينة سنة 367 وعليها كتابة مفيدة في باب الهندسة العربية. ومن جوامع حمص المهمة جامع الرومي. ولم يثبت كون المدفون في هذا الجامع هو خالد بن الوليد الفاتح، لأن هذا على أغلب الروايات مات في مدينة الرسول والغالب أن هذا القبر(6/59)
هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية على ما أكد ياقوت قال: وهو الذي بنى القصر بحمص وآثار هذا القصر
في غربي الطريق باقية. وذكر المؤرخون أنه كان في جامع حمص عمود يقال: إنه من الكحل الأصفهاني.
وفي حماة 34 جامعاً و11 مسجداً ومن أهمها النوري بناه نور الدين زنكي سنة 559. ومنها أبي الفداء الشهير بجامع الدهشة أو الحيات. وقد وصف الأثري هرزفلد المسجد الجامع في حماة وهو الجامع الكبير فقال: إنه أصل حرمه كان كاتدرائية للنصارى غريبة الشكل وله ثلاثة أفنية مختلفة السعة، وثماني دعائم، وخمس قباب، ومن كل ناحية خمسة عقود أو أقبية. ويظهر أن الحائط الغربي كان حائط رواق الكنيسة، والحائط الجنوبي من العهد السابق للنصرانية، كما هو الحال في جامع دمشق كان معبداً ثم بيعة ثم جامعاً. وإلى جهة الشرق قامت منارة قديمة منفردة وهي مربعة الزوايا زبرت عليها كتابة كوفية ربما كانت من القرن الخامس، وتحيط بصحن الجامع الجميل أروقة معقودة، وهناك سدة بمحرابين أمام الحرم وسدة أخرى لها حوض قديمة، وفي الرواق الشرقي تربة ومصلى ولها نوافذ صلبة معمولة من النحاس من عهد المماليك، ومن الرواق الغربي يصل الإنسان إلى قبة الملك المظفر محمود الثالث 683 - 698 وله تابوت معمول بالخشب الجميل المنقوش، وهناك منارة ثانية قامت في الخارج وسط الرواق الشمالي ويستدل من كتابته وشكله أنه من زمن المماليك، وفي جامع حماة تجلت خاصية من هندستها تجلياً عظيماً، وذلك أن ظاهر الحيطان مزين بنقوش رسمت بألوان تشبه الفسيفساء لمراوحتهم في صنعها بين الحجر البركاني الأسود والحجر الكلسي الأبيض.
وفي الجامع النوري على الشاطئ الأيسر من العاصي في أرض منحدرة وعلى بناء تحتي عال هذا الجامع على عهد نور الدين، وعلى ما دخله من الترميمات الكثيرة تشاهد فيه إلى اليوم أجزاء مهمة من البناء القديم، ولا سيما على طول
الحرم، والعقود فيه حديثة العهد بالنسبة لمجموع الجامع، وكذلك ثلاث قباب من الرواق الشمالي مختلفة الأشكال والأبنية التحتانية من الجهتين(6/60)
الشرقية والشمالية والحائط الخارجي الشمالي من الجامع ربما كان الجزء الأسفل من المنارة بما فيه الحجارة المنحوتة البيضاء والسوداء قديم العهد أيضاً. وفي هذا الجامع بقايا منبر جميل عمل من الخشب ويرد إلى زمن نور الدين ثم محراب مزين أجمل زينة له سوار من الخام المجزع من زمن الملك المظفر تقي الدين 626 - 642 وفي مكان آخر من الشرق محراب ذو سوار من المرمر زُبر في تيجانها اسم أبي الفداء.
والجامع الأول هو الذي قام على أنقاض الكنيسة أو حّول منها في زمن الفاتح، وهو جامع السوق الأعلى وجدّد خلافة المهدي من خراج حمص على ما نقش على رخامة فيه، ثم جاء المظفر عمر فزاد فيه وبنى مدرسة بجواره، ثم أتى إبراهيم الهاشمي فأنشأ منارته الشمالية سنة 825 كما زبر ذلك على رخامة فوق بابها، ومن بنائه الحرم الصغير في جانب المسجد من جهة الشرق ورواق الجامع أيضاً بناه سنة 832، وجامع الحيات أو جامع الدهشة الذي بناه الملك المؤيد وبنى لحرمه من جهة الشرق شباكين كبيرين بينهما عمود كبير من الرخام على صورة أفاعي ملتفة ولهذا يسمى جامع الحيات. وقد نقش حرمه بالذهب والفسيفساء والرخام الملون في جدرانه وأرضه وعمل له من الغرب شباكين كما في جهة الشرق، غير أنهما هدما وأدخلا في البساتين المجاور له، ولم يبق غير الشباكين. وذهبت خزانة الكتب الموقوفة وكان فيها سبعة آلاف مجلد. ويرى الداخل إلى حرمه حتى اليوم زناراً على ساريتين محفوراً من الرخام وصورته:
أمر بعمل هذا الجامع المبارك السلطان الملك المؤيد عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك
المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
ومن الجوامع في حماة جامع السلطان في محلة الدباغة وهو متسع، بناه السلطان بدر الدين حسن شقيق أبي الفداء على هيأة جامع الدهشة وفي كل منهما رخام محفور بالآيات القرآنية كتبتها يد واحد، وله رواق كبير وفي محرابه كتبت آيات بالخط الكوفي. وفيها جامع العزة بناه محمد بن حمزة(6/61)
العزي سنة 723 وهو مهجور. وفيها جوامع بناها بعض آل الكيلاني الذين سكنوا حماة منذ القرن السابع ولها أوقاف عظيمة دارة إلى اليوم. ومن الجوامع الحديثة جامع الحميدية الخ.
جوامع العاصمة وضواحيها:
إذا صرفنا النظر عن الكلام على الجامع الأموي مفخرة دمشق على توالي الأيام والمعدومة من المصانع العظيمة في العالم، وعمدنا إلى وصف بعض جوامع العاصمة ومساجدها نجد عدد المساجد في العهد الأخير بحسب إحصاء ديوان الأوقاف ثمانية وخمسين مسجداً وجامعاً، منها الباشورة في الشاغور ومسجد الجديد في مسجد الأقصاب وجامع الأتابكية في الجركسية بالصالحية وجامع حسان في القماحين بباب الجابية ودرويش باشا في الدرويشة 982 واسمه القديم الاخصاصية وسعة درويش باشا، وجامع الدقاق في الميدان الفوقاني والركنية في الصالحية ومسجد رستم في العقبة وزيد بن ثابت في باب السريجة وجامع السقيفة في العمارة وجامع سيدي بشارة في باب المصلى وجامع سيدي صهيب في الميدان التحتاني وجامع السنجقدار وشادي بك في القنوات والطاغوسية في البحصة والعداس في القنوات ومسجد العداس الصغير في العمارة وجامع عبد الغني النابلسي في الصالحية وجامع برسباي المعروف في الورد في سوق ساروجا 852 وجامع كافل سيباي في الدرويشية.
وفي هذا الإحصاء نظر لأن جوامع دمشق ومساجدها أكثر من ذلك ولعل من مصلحة الأوقاف أن تقلل من عددها لكي يتسع لها المجال أكثر مما اتسع لاستصفاء وقوفها فقد فاتها في هذه الجريدة ذكر جامع السنانية عمره يوسف عبد الله سنان باشا سنة 999 في محل مسجد البصل وجامع يلبغا أُنشئ سنة 847 وجامع التوبة في العقبة وجامع الجراح في باب الصغير عمره الملك الأشرف موسى 631 وله منبر جميل مهم. وجامع الجديد وهو جامع المعلق بين الحواصل أجمل بناء في دمشق جدده نائب الشام سنة 1058 ويظن أن أصله من القرن السابع أو السادس. وجامع الحنابلة في الجبل ويقال له جامع المظفري أنشأه ابن قدامة المقدسي 598 وأتمه الملك المظفر كوكبوري صاحب أربل وهو جامع جليل.(6/62)
ومن الجوامع الجليلة جامع المرادية في السويقة له منبر ومحراب بديعان. ومنها جامع منجك في الميدان أنشأه الأمير إبراهيم بن سيف الدين منجك 800. جامع النحاس شرقي الركنية في الصالحية في بستان النحاس عماد الدين بن عبد الله بن الحسين بن النحاس 654. ومن الجوامع التاريخية التي لم تشتهر كثيراً جامع الحشر في الجانب الغربي من القلعة لأرغون شاه جدده سنان جاووش يكيجري 1008. الحيوطية للأمير علي بن حيوط 885 العسالي لأحمد باشا كوجك 1054 أنشأه أخمد بن عبي العسالي شيخ الخلوتية جامع الزاز 813. العزران شاه السيد تقي الدين الزينبي الجنوبي خرب في فتنة تيمور فجدده الطوش مرحاب. جامع الجوزة في العمارة وسعة القاضي ناظر الجيش 830 جامع خليخان خارج باب كيسان من الجنوب أنشأه نجم الدين بن خليخان 726 جامع الكريمي 724 بالقبيبات أنشأه عبد الكريم بن هبة الله المصري. جامع باب المصلى أنشأه 606 الملك العادل أبو بكر بن أيوب. وكان هذا السلطان مولعاً بالعمران أنشئت في
عهده مسجد كثيرة في مملكته. جامع الحاجب في سوق ساروجا 880 جامع السقيفة دفن فيه عثمان السقيفي من الصحابة فيما يقال أنشأه خليل الطوغاني 814 وكان محله يعرف بالسبعة. وهناك مساجد دثرت لأنها ليس في جوارها من يتعدها مثل جامع الأحنر في حي اليهود والبهائية قي باب توما.
وفي مفكرات طارق أن اسم سوق القطن القديم بدمشق سوق النسقار وفيه جامع هشام أنشأه القاضي بدر الدين بن مزهر 830 وأن محراب جامع التوبة مهم وكذلك منبره ونوافذه ومثل ذلك جامع الشامية وجامع التبان في المناخلية فإن فيه عمودين مهمين وفيه قاشاني ومنبر قديم وملاصق جامع السيدة سكينة جامع من بناء الملك الظاهر عليه كتابات وفي جامع ركن الدين منكورش المعروف بالركنية في حي الأكراد نقوش وكتابات مهمة.
هذا غاية ما يقال في مساجد دمشق اليوم. وقد عدد ابن عبد الهادي القسم الأعظم من مساجدها في القرن العاشر نع أنه لم يستقص أسماء كثير من الجوامع في الضاحية بما يناهز خمسمائة قال: فناهيك ببلدة يحتوي واديها فقط على(6/63)
زهاء ألف وخمسمائة مسجد، وأما ما هو محيط بمعاملتها مما وراء جبالها فهو كثير للغاية اه وذيل على كتابة الدكتور أسعد طلس فأورد وصف ثلاثمائة وثمانية مساجد في دمشق زارها كلها وبحث في حاضرها وغابرها وبعضها من المساجد التي عرضنا لها في هذا الفصل وكان فات إدارة الأوقاف ذكرها في المساجد الباقية. قال كانت جلبي في القرن الحادي عشر: إن عدد جوامع دمشق بين كبير وصغير يبلغ مائة وخمسين جامعاً وإن الدولة العثمانية أنشأت فيها عدة جوامع على طرز جوامع ديار الروم فبنت جامع السلطان سليمان بين الشرفين الأعلى والأدني وأنشأت جامع درويش باشا مير ميران ولاية الشام وأنشأت جامع سنان باشا خارج باب الجابية وأنشأت جامع قره مراد باشا مير ميران ولاية الشام خارج
السور فوق طريق الشام على سمت طريق باب المصلى اه
وإذا توغلنا في التاريخ إلى القرن السادس نجد ابن عساكر قد عد من المساجد التي بنيت بدمشق 241 مسجداً وجامعاً في داخلها و184 في ظاهرها مما ليس في قرية مسكونة أو معمورة قال لبن شاكر: وقد أحدثت بعد الحافظ ابن عساكر مساجد كثيرة داخلاً وخارجاً هذا مع ما اختصت به دمشق من كثرة المدارس والأوقاف. ومن المساجد التي عدها الحافظ منسوبة إلى أحد الصحابة مسجد ايمن بن خريم بن فاتك الأسدي الصحابي، الأنصاري قاضي دمشق. ولتعبر المعالم بها لا تعرف أسماء الأحياء التي ذكر أنها كانت فيها. قال ابن شاكر: وأما المساجد الخارجية عن البلد فمنها مسجد بين حجيرا وراوية قبر الست على قبر مدرك بن زياد ومسجد في راوية على أم كلثوم من أهل البيت. ومسجد كنان قبلي قذايا. قرية كانت قبلي مقابر اليهود فخربت، ومسجد في مقبرة باب توماء عند النهر المجدول بقرب الصفوانية يعرف بخالد بن الوليد لأنه صلى به وقت الحصار، ومسجد يعرف بمسجد النبي في أرض المصيصة له منارة. والمصيصة قرية كانت عامرة فخربت شرقي(6/64)
بيت لهيا، ومسجد عند بيت أبيات يعرف بمسجد آدم، ومسجد معاوية من أرض قينية على طريق المزة وداريا، ومسجد الحجر ويعرف بمسجد النارنج قرب المصلى، ومسجد القدم عند القطائع بقرب عالية وعويلية قديم له منارة.
ولقد كانت مساجد الغوطة عامرة كلها إلى دخول العثمانيين ثم أخذت تخرب في عهدهم، فقد كان كل قرية من قرى دمشق مسجد أو مساجد جامعة بحسب ضخامة القرية، وعشرات من هذه القرى خربت برمتها في القرون الأخيرة فذهبت معها الجوامع بالطبيعة. ومن القرى التي مرت بنا وذهب اسمها ورسمها راوية وفذايا والمصيصة وبيت ليها ولبيت أبيات وقينية وعالية وعويلية والنيرب
والربوة. ولقد كان في الربوة عدة مساجد ومدارس. وفي تاريخ الصالحية أن المقاصف كانت تعمر عمائرها للنزهة من غير طين، والعمائر المكلفة كانت للمدارس والجوامع وان قاعة المسجد الديلمي الذي جدده نور الدين في الربوة قد بناها على شعب الجبل، سقفها نهر بزيد، وأساسها نهر ثورا من المقامات التي لا تدرك. قال: وبقي بعد الألف من هذا المسجد المئذنة وأثر العمار ثم دثر.
وكان بالنيرب تسعة مساجد عدها ابن عبد الهادي، والآن ليس فيها أثر لمسجد ولا لقرية. وكان في القابون تافوقاني ثلاثة مساجد وبالقابون التحتاني ثلاثة، وليس فيهما الآن سوى مسجد واحد حقير. وهكذا مساجد قرى الغوطة والمرج وقلمون فإنها كلها ليست ذلت شأن، ومن أجملها اليوم جامع التل وعربيل ودومة وداريا. ومما دثر مسجد خاتون في منتصف الطريق بين دمشق والمزة. كما دثرت مساجد المزة وكانت بضعة مساجد وجوامع، منها مسجد بناه ابن عنين الوزير الشاعر في القرن السابع، وفي هذا القرن أيضاً بنى بها الوزير صفي الدين بن شاكر جامعاً، وهو الذي بلط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه وعمل الفوارة وبنى جامع حرستا. والجوامع والمساجد اليوم صورة من عمراننا، وعمراننا كان متراجعاً إلى عهد قريب، وهو اليوم آخذ بالتقديم فلا يبعد أن تقوم المساجد بعد الآن على قانون ينم عن حسن ذوق في البناء فيعيد الصورة القديمة مضمومة إلى التحسين الحديث.(6/65)
المدارس
نشأة المدارس
اتخذ المسلمون مساجدهم للصلاة والعبادة وتلقي القرآن وعلومه والحديث وفنونه وعلوم اللسان، وما يتعلق بذلك من المطالب التي فيها قيام أمرهم وخدمة دينهم أولاً ولغتهم ثانياً، وظلوا على ذلك في الشان حتى أنشأ بدمشق رشأ بن نظيف بن ما شاء الله الدمشقي سنة 444 مدرسته المعروفة بالرشائية اتخذها دار القرآن، وكان الحسن بن عمار قاضي طرابلس للفاطميين والمتغلب عليها أقام في بلده دار الحكمة أو شبه مدرسة جامعة على النحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة أربعمائة. ولما أراد المعتضد بالله العباسي بناء قصره ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعلمية ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبنيت بها المدرسة البيهقية ثم مدرسة الأمير نصر بن سبكتكين وتبعه غيره. وعُني السلاجقة بإنشاء المدارس في أقطار الشرق، وكان آلب أرسلان إذا رأى في بلد رجلاً متميزاً متبحراً في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفاً وقرر فيها للفقهاء تعاليم وجعل فيها دار كتب، ونظام الملك أحد وزراء السلاجقة الذي أنشأ المدرسة النظامية في بغداد في القرن الخامس أيضاً.
أصبحت طرابلس بدار الحكمة التي أنشأها فيها ابن عمار كعبة علم،(6/66)
كما كانت حلب على عهد سيف الدولة بن حمدان كعبة أدب. ويقال: إنه كان في طرابلس في ذاك القرن عدة مدارس وخزائن كتب لم يبلغنا خبرها. وعلى هذا فالمدارس في الإسلام نشأت في أواخر القرن الرابع وعرفت جيداً في الخامس والسادس.
ونقصد بالمدارس تلك الدور المنظمة التي يأوي إليها طلاب العلم، وتدر عليهم المعالم والأرزاق، ويتولى تدريسهم وتثقيفهم فئة بحسب شروط الواقف ممن يحسنون القيام بالغرض الذي ندبوا للدعوة إليه، ويجازون بما تعلموا من ضروب المعارف الإلهية والبشرية.
ولقد كان من نور الدين محمود بن زنكي لما استولى على الشام همة عظيمة في إنشاء المدارس لأهل السنة والجماعة كما أنشأ القائد جوهر الأزهر في القاهرة، والقاضي ابن عمار دار الحكمة في طرابلس لبث التشيع، وأخذ نور الدين يستدعي فحول العلماء من الأقطار ويبني لهم المدارس ويدر عليهم المشاهرات حتى قالوا: إن الشام أصبح على عهده مقر العلماء والفقهاء والصوفية. بنى سنة 545 في حلب المدرسة العصرونية واستدعى لها من سنجار شرف الدين بن أبي عصرون من أعيان فقهاء عصره وبنى له مدرسة بمنبج وأخرى بحماة وثالثة في حمص ورابعة ببعلبك وخامسة بدمشق، وفوض إليه أن يولي التدريس فيها من يشاء. وبنى لقطب الدين النيسابوري المدرسة العادلية بدمشق ولم يتمها. وأول مدرسة بنيت في حلب أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان ابن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب سنة عشر وخمسمائة وسميت المدرسة الزجاجية. وأول ما عرف من المدارس في القدس ما بناه صلاح الدين يوسف ابن أيوب ونُسب إلى جماعته.
وقد ذكر الرحالة ابن جبير الذي زار دمشق في سنة ثمانين وخمسمائة أنه كان فيها نحو عشرين مدرسة بالإنفاق على من يدخل فيها للتعليم والاستفادة. وقال: إن هذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام والمدارس كذلك وأن الرباطات قصور مزخرفة. وقال في كلامه على مشاهد دمشق: ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباع حتى: إن البلدة تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيها وكل مسجد يستحدث(6/67)
بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها
السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها، وهذه أيضاً من المفاخر المخلدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف، ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك اه.
ومعظم المدن مدارس مدينة دمشق، كثرت في الدولتين النورية والصلاحية وقام بإنشاء بعضها العتقاء والخصيان والإماء والبنات، ومنها ما بني بالمال الحلال من أموال الغنائم، ومنها ما بناه بعض أهل الخير من بنات الملوك والملكات، ومن القواد والسادة، ومنها ما أنشأه أهل اليسار من التجار وغيرهم وأكثر من بنوا المدارس في دمشق هم غرباء عنها، ولولا بضع مدارس أنشئت في القرن الثاني عشر في حلب ودمشق لقلنا: إن تاريخ المدارس فيهما ختم بانقراض ملوك الطوائف ودخول الدولة العثمانية الديار الشامية. ومن رأى كثرة المدارس في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع وقلة ما شيد منها في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، يستنتج معنا أن الأمة إذ ذاك كانت على جانب من التدين والغنى وحب الخير أكثر من القرون التالية، وأن بعض من جمعوا ثروات كانوا يحبون أن يتصدقوا من مالهم بشيء يعتقدون أنه قربى لهم يوم الجزاء، وقد فسد الناس في القرون الأخيرة وتوفروا على التهام تلك المدارس وأوقافها. وهي على الأكثر تقسم إلى أقسام، فمنها مدارس للشافعية يقرأ فيها فقه الإمام أحمد بن إدريس الشافعي، وأخرى للحنفية يتلى فيها الإمام الأعظم أبي حنيفة، وغيرها للحنابلة لفقه الإمام أحمد بن حنبل، وبعضها للمالكية أي فقه الأمام مالك بن أنس، ومنها مدارس أو دور للقرآن يتلقون فيها القراءات على الأصول وما يتعلق بذلك، ومنها دور للحديث يأخذون فيها فنون الحديث ويروونه. وكان في دمشق خاصة مدارس لتعليم الطب والصيدلة والكحالة ومدرسة للهندسة يتخرج فيها مهندسون
وبناءون، ولم يتصل بنا أنه أنشئ في عواصم ذاك العهد: قصبة الوسط دمشق، وقصبة الشمال حلب، وقصبة الجنوب القدس، مدارس لتعليم الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية، ولعل بعض العلوم وخصوصاً الفلك والجغرافيا والتاريخ كانت تدرس في تلك المدارس كما كانت تدرس في الجوامع في بعض الأدوار،(6/68)
وكان أبو شامة في القرن السادس يقرئ التاريخ درساً عاماً في الجامع الأموي بدمشق، وقد وصف أبو الفضل بن منقذ الكناني هذه المدارس بقوله:
ومدارس لم تأتها في مشكل ... إلا وجدت فتى يحل المشكلا
ما أمها مرء يكابد حيرة ... وخصاصة إلا اهتدى وتمولا
وبها وقف لا يزال مغلها ... يستنقذ الأسرى ويغني العيلا
وأئمة تلقي الدروس وسادة ... تشفي النفوس وداؤها قد أعضلا
ومعاشر تخذوا الصنائع مكسباً ... وأفاضل حفظوا العلوم تجملا
وقال السابق أبو اليمن المعري في وصف مدارس حلب ومنه استدللنا أنها كانت تدرس العلوم المختلفة:
فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعي والفلسفي
لا جرم أنه كان لإلقاء العلوم في تلك المدارس نظم ومناهج، ويقرأ الطلبة أشهراً مخصوصة ويفحصون فيما تعلموه، ولا ينال الإجازة بالتدريس والخطابة والإمامة إلا من ثبتت لمشايخه كفايته، وكان على استعداد لأن يزداد علماً بعد إنجاز الطلب وإجازة الطلاب بمسموعات مشايخهم ومروياتهم.
دور القرآن بدمشق:
في مدينة الرسول بنيت أول دار للقرآن في الإسلام. وذكر الواقدي أن عبد الله بن أم كلثوم قدم مهاجراً إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنهما وقيل: قدم بعد بدر بيسير فنزل دار القرآن. وكان في دمشق سبع دور للقرآن على ما في
الدارس وهي:
1 - الخيضرية شمالي دار الحديث السكرية بالقصاعين وتنسب إليها اليوم محلة الخيضرية، أنشأها قاضي القضاة قطب الدين الخيضري الدمشقي سنة 878 ووقف عليها وعلى مسجد آخر أوقافاً جمة، وقد بقي اليوم جزء صغير منها استحال زاوية للشاذلية.
2 - الدلامية بالقرب من الماردانية على الجسر الأبيض بالجانب الشرقي من الشارع الآخذ إليه بالصالحية فوق نهر ثورة على طريق الجركسية، أنشأها زين الدين دلامة بن عز الدين نصر الله البغدادي البصري وكان من أجل(6/69)
أعيان الخواجكية بالشام ووقفها سنة 847 وهي الآن عبارة عن مصلى ومنزلين بالقرب من جامع كعكع. وفي كتاب وقفها أن صاحبها رتب بها إماماً وله من المعلوم مائة درهم، وقيماً وله مثل الإمام، وستة أنفار من الفقراء الغرباء المهاجرين لقراءة القرآن، ولكل منهم ثلاثون درهماً في كل شهر، ومن شرط الإمام الراتب أن يتصدى لإقراء القرآن للمذكورين وله على ذلك زيادة على علوم الإمامة عشرون درهماً، وستة أيتام بالمكتب الذي على بابها ولكل منهم عشرة دراهم في كل شهر أيضاً وقرر لهم شيخاً وله من المعلوم ستون درهماً في كل شهر، ولقراءة البخاري في الشهور الثلاثة وللقارئ من المعلوم مائة درهم، وعاملاً وله من المعلوم كل سنة ستمائة درهم، ورتب للزيت في كل عام مثلها، وللشمع لقراءة البخاري والتراويح مائة درهم، ولأرباب الوظائف خمسة عشر رطلاً من الحلواء ورأسي غنم أضحية، ولكل من الأيتام جبة قطنية وقميصاً.
3 - الجزرية قيل: إنها كانت بدرب الحجر نسب إيقافها لمحمد بن محمد الجزري المقري المحدث. ولعل درب الحجر هو طريق الجركسية قرب اللامية فتكون دار الشيخ محمد في حارة الشرباتي.
4 - الرشائية شمالي الخانقاه السميساطية الملاصقة للجامع الأموي من شماليه أنشأها في حدود سنة أربع وأربعين وأربعمائة رشأُ بن نظيف ابن ما شاء الله الدمشقي المقري. وقد درست الآن وبنيت المدرسة الاخنائية مكانها كما في الكواكب السائرة. وقيل: كانت بباب الناطفانيين أو بالعصرونية. قال المتبي: هي التي جوار الخانقاه السميساطية من الشمال. قال ابن قاضي شهبة: وقد عينها وأدخلت في غيرها.
5 - السنجارية كانت تجاه باب الجامع الأموي الشمالي أنشأها علي بن إسماعيل السنجاري أحد التجار الأخيار المتوفى سنة 375 وهي أمام الاخنائية استحالت داراً ولم يبق غير بابها وعليه وقفها.
6 - الصابونية خارج باب الجابية قبالة تربة الباب الصغير لشهاب(6/70)
الدين أحمد بن علم الدين بن سليمان بن محمد البكري المعروف بالصابوني ثم إنشاؤها سنة 868 وبنى أيضاً تجاهها بشرق مكتباً لأيتام عشرة بشيخ لهم يقرئهم القرآن العظيم بتعاليم شرطها لهم معلومة تصرف عليهم من جهات عديدة منها قرى غربي مدينة بيروت تحت يد أمير الغرب تعرف بالصابونية ولا تزال هذه الدار باقية إلى اليوم وهي مدفن السادة بني البكري.
7 - الوجيهية قبلي المدرسة العصرونية والمسرورية وغربي الصمصامية التي شمالي الخاتونية أنشأها وجيه الدين محمد بن عثمان بن المنجا الرئيس شيخ الحنابلة الدمشقي التنوخي سنة 690 درست وأصبحت مخازن ودوراً.
وفي ترجمة تنكر أنه عمل داراً للقرآن إلى جانب داره دار الذهب بدمشق وعلى ذلك فتكون دور القرآن ثمانية. وما أجمل ما قال علي بن منصور السروجي في دمشق:
في كل قصر بها للعلم مدرسة ... وجامع جامع للدين معمور
كأن حيطانه زهر الربيع فما ... يَملّه الطرف فهو الدهر منظور
يتلى القُرآن به كل ناحية ... والعلم يذكر فيه والتفاسير
دور الحديث بدمشق:
عُني المسلمون أي عناية برواية الحديث الشريف لفهم السنة والكتاب وللتبرك والتفقه. وأول من بنى دار حديث في الشام وربما كانت مدرسته الأولى من نوعها في بلاد الإسلام نور الدين محمود بن زنكي وكثرت دور الحديث بعد ذلك. وكان في دمشق على ما ذكر في الدارس ثماني عشرة داراً للحديث وهي:
8 - الأشرفية جوار باب القلعة الشرقي غربي العصرونية، وشمالي القايمازية الحنفية، وفي رواية أن القايمازية مدرسة، وكانت دار الأمير قايماز ابن عبد الله النجمي فاشتراها الملك الأشرف موسى بن العادل وبناها دار حديث ونجز بناؤها سنة 630، درس بها جلة من العلماء مثل ابن الصلاح وابن الحرستاني وأبي شامة والنواوي والشريشي والفارقي وابن الوكيل وابن الزملكاني والحافظ المزي والسبكي وابن كثير وغيرهم، وكانت يد(6/71)
التعدي تسطو على هذه المدرسة غي أواخر القرن الماضي كما سطت على غيرها من المدارس فقام الشيخ يوسف البيباني المغربي واستخلصها وأعادها مدرسة وسكنها من بعد نجله الشيخ بدر الدين الحسني جعلها مقره تقرأ فيها دروسه وقد حرقت في حريق سنة 1330هـ الذي دمر أربعة شوارع من شوارع المدينة ودمر ما فيها من مدارس ثم رممت ترميماً خفيفاً وعاد بعض الطلبة والغرباء فسكنوها.
9 - الأشرفية البرانية بسفح جبل قاسيون على ضفة نهر يزيد تجاه تربة الوزير تقي الدين التكريتي وشرقي المرشدية الحنفية وغربي الأتابكة الشافعية، بناها الملك الأشرف المظفر موسى بن العادل باني دار الحديث المتقدمة قبل سنة 643 ودرس فيها جلة من العلماء أخذها المجمع العلمي العربي من الأوقاف ليجعل فيها
خزانة كتب يختلف إليها أهل تلك المحلة ولم يتم له ترميمها لقلة المال.
10 - البهائية داخل باب توماء كانت دار بهاء الدين أبي محمد القاسم ابن بدر الدين لأبي غالب المظفر المتوفى سنة723 وليس لها اليوم أقر.
11 - الحمصية كانت معروفة بحلقة صاحب حمص في الجامع الأموي فقدت وجهل مكانها، وفي مفكرات طارق أن الحمصية في سويقة صاروجا أمام جامع الشامية بدئ باختلاسها منذ سنة 900.
12 - الدوادارية دار حديث ومدرسة ورباط داخل باب الفرج وهو باب المناخلية اليوم، لعلم الدين سنجر الدوادار المحدث الحافظ المتوفى سنة 699 من نجباء الترك وعلمائهم وهي غير معروفة لعهدنا ولعهدنا الدار الكائنة أمام بحرة الدفاقة فظاهرها يدل على ذلك.
13 - السامرية وبها خانقاه بالقرب من محله مئذنة الشحم في زقاق الشيخ الدسوقي، أنشأها أحمد بن محمد البغدادي السامري وهو مدفون بها. والسامري نسبة إلى سر من رأى على دجلة. قال الصلاحي الكتبي: إن سيف الدين السامري كان يسكن داره المليحة التي وقف عليها خانقاهاً ووقف عليها باقي أملاكه وكان السلطان صادرها 696. وهي موجودة اليوم ولكن لم يبق منها غير المدفن ويقال للحي زقاق السلمي.(6/72)
ومن دور الحديث الدائرة.
14 - السكرية بالقصاعين وهو أول سوق الخلق القميلة وكان أمس سوق القطن داخل باب الجابية، وهي ما يظهر داخل الدخلة الني شرقي جامع شركس، درست وكان درس بها ابن تيمية ووالده والحافظ الذهبي.
15 - الشقيشقية بدرب البانياسي في ظاهر المدينة أنشأها نصر الله الشيباني الصفار المعوف بابي الشقيشقة وهي من الدوارس، ومن الدوارس أيضاً.
16 - العروية بمشهد عروة من الصحن الشرقي من الجامع الأموي قبالة الحلبية المعروفة قديماً بمشهد علي، أنشأها محمد بن عروة الموصلي ووقف عليها مكتبة عظيمة توفي سنة 620 ومحلها معروف وهي مستودع للجامع.
17 - الفاضلية بالكلاسة منسوبة للقاضي الفاضل البيساني من رجال صلاح الدين والمدرسة جوار تربة هذا السلطان وهي الآن مساكن.
18 - القلانسية غربي مدرسة أبي عمر بالصالحية بها رباط ومنارة يمر في وسطها نهر يزيد، إنشاءُ أبي يعلي حمزة التميمي المعروف بابن القلانسي من كبراء دمشق سنة 729 وكان في رباطه هذا مئذنة ودار حديث وبر وصدقة، وقد جعلت هذه المدرسة مسجداً صغيراً بمعاونة رجل اسمه إسماعيل التكريتي.
19 - القوصية بالقرب من الرحبة قال بعضهم: إنها في الجامع الأموي بجوار الشافعية وهي إحدى حلقات الجامع قديماً.
20 - الكرّوسية غلابي مئذنة الشحم لمحمد بن عقيل بن كرّوس السلمي محتسب دمشق المتوفى سنة 641 كان فيها ثلاثة قبور وجعلت دوراً وهي شمالي السامرية.
21 - النورية وهي من دور الحديث الباقية وأول دار أُنشئت لهذا الغرض أنشأها نور الدين محمود بن زنكي، وهي الآن مسجد جامع وبها قبره يزار ويتبرك به، تولى مشيختها في عصره الحافظ أبو القاسم بن عساكر(6/73)
هذه هي النورية الكبرى.
22 - النورية الصغرى فهي في العصرونية بين دار الحديث الأشرفية ومدرسة العصرونية أمام العادلية الصغرى وقد حرقت في الحريق الأخير. وفي النورية الكبرى فيما تظن يقول عرقلة الدمشقي:
ومدرسة سيدرس كل شئ ... وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكي
يقول وقوله حق وصدق ... بغير كناية وبغير شك
دمشق في المدائن بيت ملكي ... وهذي في المدارس بيت ملكي
23 - النفيسة قبلي البيمارستان الدقاقي كذا وباب الزيادة أي القوافين اليوم على يمنة الخارج منه شمالي غربي المدرسة الأمينية إنشاء النفيس إسماعيل بن محمد الحراني ناظر الأيتام المتوفى سنة 696 حدثنا الثقة أنه رأى حجر بابها باقيا بحاله وقد طمس بالطين حتى لا يظهر أثرها وأصبحت دورا.
24 - الناصرية كان بها رباط قبلي جامع الأفرم بسفح قاسيون وهي الناصرية البرانية إنشاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز سنة 654 أمست حديقة الآن وكانت أنقاضها ظاهرة إلى عهد قريب وأدخلت أحجارها في ترصيف ضفة يويد وفيها جسر معقود جميل ربما كان الموصل إلى دمشق ويتجاوز عرضه ثلاثين مترا.
25 - التنكرية دار قرآن وحديث شرقي حمام نور الدين الشهيد وراء سوق البزورية أنشأها نائب السلطنة تنكر سنة728 وهي الآن مدرسة للصبيان سميت الهاشمية وكان هندسها المعمار أيدمر المعني.
26 - الصبابية دار قرآن وحديث قبلي العادلية الكبرى وشمالي الطبرية أنشأها شمس الدينم بن الصباب. قال في مختصر الدارس إنها احترقت في الفتنة أي فتنة تيمورلنك ولم يبق لها أثر سوى سبيل الماء.
27 - المعبدية دار حديث وقرآن والمشهور إنها دار قرآن، إنشاء الأمير علي بن معبد البعلبكي ليست معروفة.(6/74)
مدارس الشافعية بدمشق:
في الدارس أنه كان في دمشق سبع وخمسون مدرسة للشافعية وهي:
28 - الأتابكية بالصالحية غربيها المرشدية ودار الحديث الأشرفية المقدسية، أنشاتها أخت نور الدين أرسلان بن أتابك صاحب الموصل المتوفاة سنة 640 وبها قبرها وقد جعلت لعهدنا مصلى درس بها زمرة من مشاهير علماء الشافعية.
29 - الاسعردية بالجسر الأبيض بالصالحية دثرت وهي في وسط البساتين، أنشأها إبراهيم بن مبارك شاه الأسعردي من أرباب الثراء والسخاء توفي سنة826 ودفن بتربة مدرسته. قال ابن قاضي شهبة: كان الأسعردي هذا والشمس ابن المزلق أكبر تجار دمشق وله المتاجر السائرة في البلدان قد أعطاه الله المال والبنين، وكان عنده كرم وإحسان إلى الفقراء، وكان صاحب هذه المدرسة الإسعردية يقول: عجائب الدنيا أربعة وأحسنها غوطة دمشق، وأحسن الغوطة الصالحية، وأحسن الصالحية الجسر الأبيض!
30 - الأسدية بالشرف القبلي ظاهر دمشق مطلة على الميدان الأخضر وهي على الفريقين الشافعية والحنفية، إنشاء أسد الدين شيركوه من قواد نور الدين وهي في حديقة الشرف وأنقاضها ماثلة للعيان.
31 - الأصفهانية كانت بمحلة الغرباء بالقرب من درب الشعارين لناجر من أصفهان، وفي رواية أنها خلف المدرسة القاجمازية وغربا، محلتها ومكانها غير معروف على التحقيق، ويذهب بعضهم إلى أنها كانت موضع تكية أحمد باشا أدخلت فيها.
32 - الإقبالية داخل باب الفرج وباب الفراديس وبينهما شمالي الجامع الأموي والظاهرية الجوانية وشرقي الجاروخية وغربي التقوية لشمال، أنشأها جمال الدولة أقبال خادم تور الدين وعتيق ست الشام، وقد استحالت داراً ثم استخلصت على يد الحاكم وألحقت بأملاك المعارف ولم يبق منها إلا الحجر الذي كان على بابها وفيه
أوقافها وهي شمالي حمام العقيقي.
33 - الاكزية قبالة الشبلية الحنفية، إنشاء أكز حاجب نور الدين(6/75)
محمود وهي غربي الطيبة والتنكزية وشرقي أم صالح، غيرت معالمها وبابها موجود، وقد استحالت داراً.
34 - الأمجدية بالشرف الأعلى الشمالي مطلة على المرجة قرب مدرسة التجهيز، إنشاء الملك المظفر عمران بن عبد الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك وهي دار فروخشاه وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، قال ابن الشحنة: دفن الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف بدمشق، وكانت هذه المدرسة عامرة إلى القرن الثاني عشر درس بها إبراهيم بن حمزة، لكثرة ما في جوار هذه الدار من المدارس سمي اليوم الزقاق الموصل إليها وهو الذي يبتدئ من أمام جامع الطاووسية ومستودع الترامواي الكهربائي وينتهي بمستودع البارود بزقاق المدارس.
35 - الأمينية قبلي باب الزيادة المعروف اليوم بباب القوافين من أبواب الجامع الأموي، وهي شرقي المجاهدية جوار قيسارية القواسين بظهر سوق السلاح وكان به بابها وتعرف هذه المحلة قديماً بباب القباب، وهناك دار مسلمة بن عبد الملك، قيل: إنها أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية بناها أتابك العساكر الملقب بأمين الدولة ربيع الإسلام أمين الدين كمشتكين ابن عبد الله الطغتكيتي المتوفى سنة 541 وقد بنيت المدرسة سنة 514 وفي تاريخ دمشق أن الحسن بن محمد النهربيتي المقري الفقيه سمع الحديث بدمشق في المدرسة الأمينية وأول من درس بها علي بن المسلم الدمشقي سنة 514 وهي الآن في سوق الحرير جعلت كتاب صبيان واختلس الجيران بعضها.
36 - الباذرائية جاء في الدارس إنها داخل باب الفراديس والسلامة شمالي
جيرون وشرقي الناصرية والجوانية، وفي المختصر أنها على باب الجامع الأموي الشرقي المؤدي إلى العمارة، وكانت قبل ذلك داراً تعرف بأسامة وهو أسامة الجبلي أحد كبار الأمراء المتوفي سنة 90 إنشاؤها أبو محمد الباذرائي البغدادي المتوفى سنة 65 قال الذهبي: الباذرائي قاضي القضاة سفير الخلافة نجم الدين عبد الله بن الحسين الباذرائي الشافعي صاحب المدرسة التي بخط جيرون. ولا تزال أسوارها باقية وهي سائرة نحو الخراب وقد اقتطع جانب منها وجعل دوراً.(6/76)
37 - البهنسية بسفح قاسيون أنشأها مجد الدين المعروف بأبي الأشبال وزير الملك الأشرف مظفر الدين موسى المتوفى سنة 628 وهي على طريق المهاجرين بطرق السكة بجوار حاكورة العدس.
38 - التقوية داخل باب الفراديس العمارة شمالي الجامع شرقي الظاهرية والإقبالية كانت من أجل مدارس دمشق، بناها سنة 574 الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ودرس بها جلة العلماء عرف بالشام أن المدرسة القصاعية والمدرسة التقوية كانتا عامرتين في القرن العاشر تقام بها الأذكار الآن باسم خانقاه ولها مخصصات شهرية من الحكومة.
39 - الجاروخية داخل بابي الفرج والفراديس وفي حي السبعة بالقرب من الإقبالية الحنفية شمالي الجامع الأموي والظاهرية الجوانية المعروفة. بناها جاروخ التركماني برسم محمود بن المبارك المعروف بالمجير الواسطي البغدادي سنة 590 درس بها كثير من العلماء ومنهم زمرة من الفقهاء بني جهبل. وهي دار بني الكيلاني اليوم.
40 - الحمصية تجاه الشامية البرانية قال ابن كثير: في سنة 726 فتحت المدرسة الحمصية ودرس بها محيي الدين الطرابلسي الملقب بأبي رباح. في مختصر الدارس أنها خربت بعد قليل من تشييدها، والغالب أنها درست وجعلت دوراً ولم
يبق منها إلا قطعة خربة.
41 - الحلبية بمحلة السبعة طوالع وهي خلف دار الكتب الظاهرية أو المدرسية الظاهرية مجهول حالها ومنشئها من القديم. قال في الدارس: إن شهاب الدين ان عبد الخالق المتوفى سنة 815 وقف إلى جانب المدرسة الحلبية مسجداً وأضاف إلى المدرسة ووقف عليها، وممن وقف عليها الأمير سيف الدين من مماليك برقوق.
42 - الحبيصية قبلي الزنجاري، وخان الزنجاري هو جامع التوبة الآن، تولى مشيختها ابن قاضي أذرعات وقد استحالت دوراً.
43 - الخليلية بانيها سيف الدين بكتمر الخليلي المتوفى سنة 746 ولا يعرف عنها شيء.
44 - الدماغية كانت داخل باب الفرج وغربي الباب الثاني الذي(6/77)
قبلي باب الطاحون وهي قبلي وشرقي الطريق الآخذ إلى باب القلعة الشرقي وهذا الطريق بينها وبين الخندق وهي أيضاً شمالي العمادية بين الشافعية والحنفية، أنشأتها عائشة جدة فارس الدين بن الدماغ زوجة شجاع الدين بن الدماغ 638 درس بها جلة من العظماء وهي الآن قاعة النشا التي في المناخلية. وفي الصالحية مدرسة أخرى اسمها الدماغية أنشأها أو درس بها افتخار الكاشغري.
45 الدولعية بجيرون قبلي المدرسة الباذرائية لجمال الدين محمد الثعلبي الدولعي خطيب دمشق، وقد كانت الدولعية والشبلية عامرتين في القرن الحادي عشر، درس بهما إسماعيل الحائك، والدولعية في الدخلة المشهورة بدخله الداغستاني في نصف الطريق الآخذ من دار بني منجك إلى زقاق الباذرائية، اختلست وجعلت دوراً وفي إحدى الدور قبر مدفون فيه واقف المدرسة محمد بن أبي الفضل بن زيد الخطيب التغلي الأرقمي الدولعي ثم الدمشقي635 قاله الصفدي ودفن في
الصفة الغربية من المدرسة وهاك نسخة التوقيع الذي كتب للفخر المصري المتوفى751 بتدريس الدولعية ونظرها: رسم بالأمر العالي لازال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره، ويعيده إلى خير حبر تقتبس الفوائد من نوره وتغترف من بحره، ويحمد الزمان بولاية من هو علم عصره وفخر مصره، أن يعاد المجلس العالي الفخري إلى كذا وكذا وضعاً للشيء في محله، ورفعاً للوابل على طله، ودفعاً لسيف النظر إلى يد هي مألف هزه وسله، ومنعاً لشعب مكة أن ينزله غير أهله، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه حجة، ولبحر مذهبه الزاخر لجة، إلى أن قال: فليباشر ما فوض إليه جرياً على ما عهد من إفادته، وألف من رياسته لهذه العصابة وزيادته، حتى يحيا بدرسه ما درس، ويثمر عود الفروع فهو الذي أنبته بهذه المدرسة وغرس، مجتهداً في نظر وقفها، معتمداً على تتبع ورقات حسابها وصحفها، عاملاً بشروط الواقف فيما شرط، قابضاً ما قبضه وباسطاً ما بسط الخ.
46 الركنية الجواتية شمالي الإقباليتين شرقي العزية الجوانية والفلكية غربي المقدمية، واقفها ركن الدين منكورس عتيق فلك الدين سليمان، درس(6/78)
بها جلة العظماء منهم ابن خلكان وأبو شامة وبنو حمزة وهي اليوم في زقاق بني مفلح أمام المقدمية وبينهما الطريق ويعرف بدخلة بني عبد الهادي في العمارة وهي منضمة إلى دار بني العمري ولم يبق لها أثر.
47 - الرواحية شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه شمالي جيرون وغربي الدولعية وقبلي السيفية الحنبلية. بانيها زكي الدين بن رواحة الحموي التاجر الغني المعدّل المتوفى سنة 622 درس بها ابن صلاح والسهوروردي وابن البازري وابن الزملكاني وأبناء السبكي وغيرهم، وقد أُنشئت هذه المدرسة نحو سنة 600. قال المؤرخون، إن زكي الدين ابن زكي الدين بن رواحة بني بحلب
مدرسة للشافعية وبدمشق مثلها داخل باب الفراديس ووقف عليهما أوقافاً حسنة وقنع بعد ذلك باليسير، وكان يسكن في بيت المدرسة الدمشقية وهو الذي في إيوانها من الشرق ويقابله من الغرب خزانة الكتب التي وقفها وهي كتب جليلة كان من أرباب الثروة. وأصبحت المدرسة الرواحية الآن داراً.
48 - الزاوية الخضراء بمقصورة الخضراء غربي الجامع الأموي وهي مكان داخل الجامع أشبه بالحلقات.
49 - الشامية البرانية بمحلة العقيبة، إنشاء ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شادي المتوفاة سنة 616 وتعرف هذه المدرسة بالحسامية لأن ابنها حسام الدين دفن فيها كما أنها هس أيضاً دفنت فيها. وهي اليوم مدرسة ابتدائية للأيتام تقوم بها جمعية الإسعاف الخيري، وكان درّس بها من المشاهير ابن الصلاح وابن أبي عصرون، وابن الزكي والفارقي والشريشي وابن الوكيل وابن قاضي شهبة وغيرهم.
50 - الشامية الجوانية قبلي البيمارستان النوري، إنشاء ست الشام أيضاً درّس بها عظماء الشافعية ابن الصلاح قال ابن خلكان في ترجمته: إن الملك الأشرف بن الملك العادل بن أيوب لما بنى دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه، ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري، وهي بَنَت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد شيركوه صاحب حمص،(6/79)
فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاثة. قلنا: وكثير من هؤلاء الفقهاء والمحدثين كانوا يدرسون في المدرستين والثلاث وربما أكثر. ومن مدرسيها سالم بن أبي الدر أمين الدين 726 وزين الدين الفارقي شيخ دار الحديث الأشرفية. وقد خربت هذه المدرسة ولم يبق فيها سوى بابها وواجهتها الحجرية
واتخذت داراً. ومن أوقافها قرية جرمانا.
51 - الشاهينية بالقرب من جامع التوبة بحارة العقيبة إنشاء الدوادار شاهين الشجاعي أحرقت 816 فأعاد عمارتها هو أيضاً.
52 - الشومانية إنشاء خاتون بنت ظهير الدين شومان وهي المسماة بالطيبة، والطيبة كما في الدارس قبلي النورية الكبرى ليست معروفة.
53 - الشريفية كانت عند حّي الغرباء بدرب الشعارين عند باب السلام، وفي تاريخ مبرات الشام أنها قبلي الجامع الأموي بالصاغة لم يعرف واقفها، درست وأصبحت حوانيت.
54 - الصالحية غربي الطيبة والجوهرية الحنفية وقبلي الشامية الجوانية بشرف وتعرف بتربة أم الصالح إسماعيل صارت مساكن ولم يعرف لها أثر، وكان من جملة مدرسيها الذهبي وابن كثير.
55 - الصارمية داخل بابي النصر والجابية قبلي العذراوية بشرق، إنشاء صارم الدين أزبك مملوك قايمار النجمي 622 أصبحت دوراً وكان درس بها طبقة عالية من المدرسين.
56 - الصلاحية بالقرب من البيمارستان النوري، وهي من إنشاء نور الدين محمود بن زنكي وإليه نسبها ابن قاضي شهبة ومنسوبة للسلطان صلاح الدين. لم يبق لها أثر.
57 - التقطائية داخل باب الصغير في الشاغور بنحو مائة ذراع إلى شرق شمال غربي بيت الخواجا الناصري قبلي منارة الشحم، عمر بعضها ومجهول بانيها وليس لها أثر.
58 - الطبرية بجوار باب البريد، أنشأها نور الدين الشهيد درّس(6/80)
بها الشرف ابن هبة الله. لا يعرف عنها شيء وليس لها من أثر.
59 - الطيبة قبلي النورية الحنفية وشرقي تربة زوجة تنكز بقرب الخواصين، وهي المسماة بالشومانية وإنما غير اسمها تيمناً، درس بها جلة من الفقهاء، وهي الآن دار لبني العظمة وبني كيوان.
60 - الظبيانية قبلي المدرسة الشامية الجوانية التي هي قبلي البيمارستان النوري وغربي المدرسة الصالحية الواقعة غربي مدرسة الكيبة خربت.
61 - الظاهرية البرانية خارج باب النصر شرقي الخاتونية الحنفية وغربي الخانقاه الحسامية بين نهري بانياس وقنوات بالشرف القبلي، بناها الملك الطاهر بن الملك الناصر صلاح الدين، درّس بها كثير من المشاهير منهم إمام الدين وجلال الدين القزويني وابن صصري وابن جملة. ولم يبق لها أثر
62 - الظاهرية الجوانية وهي للحنفية والشافعية داخل باب الفرج والفراديس جوار الجامع الجواني باب البريد وقبلي الإقباليتين والجاروخية وشرقي العادلية الكبرى، أنشأها مدرسة ودار حديث الملك الظاهر بيبرس وهي التي دفن بها هو وابنه الملك سعيد سنة 676 كتب على واجهتها بنائها جريد وقفها بحروف غليظة وزُبر اسم مهندسها في الزاوية الشمالية من المدخل عمل إبراهيم بن غنائم المهندس، وممن درّس بها نائب السلطة أيدمر الظاهري والأذرعي والإخنائي والسويدي والأسدي والرعيني والواسطي. وهي اليوم بيد المجمع العلمي العربي جعلت مخطوطاتها في القبة الظاهرية المعمولة حيطانها بالفسيفساء البديعة وقد أُنشئت خزانة كتب منذ أواخر القرن الماضي.
63 - العادلية الكبرى شمال الجامع بغرب وشرقي خانقاه الشهابية وقبلي الجاروخية تجاه باب الظاهرية يفصل بينهما الطريق المؤدي إلى باب البريد، بدأ بإنشائها نور الدين محمود بن زنكي ولم تتم، ثم عمل فيها الملك العادل سيف الدين ولم تتم، ثم ولده الملك المعظم، ووقف عليها الأوقاف ونسبها لوالده الذي
دفن فيها. أنشأها نور الدين للإمام قطب الدين النيسابوري فعاجل الأجل الباني والمبني له قبل إتمامها. قال صاحب الروضتين: وقد رأيت أنا ما كان بناه نور الدين ومن بعده منها وهو موضع المسجد والمحراب(6/81)
الآن، ثم لما بناها الملك العادل أزال تلك العمارة وبناها هذا البناء المتقن المحكم الذي لا نظير له في بنيان المدارس، وهي المأوى وبها المثوى، وفيها قدر الله تعالى جمع هذا الكتاب الروضتين فلا أقفر ذلك المنزل ولا أقوى اه. وقال أيضاً: وفي سنة 612 شرع في عمارة المدرسة العادلية المقابلة لدار العقيقي من الغرب وحضر السلطان لترتيب وضعها بين الصلاتين يوم السبت، ثم أحرقت بالنار في رمضان المبارك سنة أربع عشرة. وقال ابن أبي شامة أيضاً في ذيل الروضتين في حوادث سنة 619: وفيها نقل تابوت العادل بن أيوب من قلعة دمشق إلى تربته المقابلة لدار العقيقي، أخرجوا جنازته من القلعة والتابوت مغشي بمرقعة، وأرباب الدولة حوله، إلى أن قال: ولم تكن المدرسة كملت عمارتها وألقى فيها الدرس في هذه السنة القاضي جمال الدين الحصيري وحضر درسه أعيان الشيوخ والقضاة والفقهاء وحضر السلطان المعلم المعظم عيسى بن العادل وتكلم في الدرس مع الجماعة. وكان الاجتماع بإيوان المدرسة وجلس عن يمين السلطان إلى جانبه شيخ الحنفية جمال الدين الحصري ويليه شيخ الشافعية شيخنا فخر الدين بن عساكر ثم القاضي شمس الدين الشيرازي ثم القاضي محيي الدين يحيى بن الزنكي، وجلس عن يسار السلطان إلى جانبه مدرس المدرسة قاضي القضاة جمال الدين الحصري وإلى جانبه شيخنا سيف الدين الآمدي ثم القاضي شمس الدين بن سني الدولة ثم القاضي نجم الدين خليل قاضي العسكر، ودارت حلقة صغيرة والناس وراءهم مصلون ملء الإيوان. وكان في دور تلك الحلقة أعيان المدرسين والفقهاء. وقبالة السلطان فيها شيخنا تقي الدين بن الصلاح وغيره، وكان مجلساً جليلاً لم يقع مثله إلا في
سنة ثلاث وعشرين وستمائة اه. قال ابن كثير: وفي سنة أربع وسبعمائة جلس قاضي القضاة نجم الدين بن الحصيري بالمدرسة العادلية الكبرى وعلمت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة غازان بسبب خرابها. وهذه المدرسة من أعظم مدارس الشافعية بدمشق وكان يحكم قاضي القضاة ويجلس نواب القاضي بالمدرسة الظاهرية المناوحة لها.
درس بها وسكنها جلة من العلماء، منهم ابن خلكان والجلال القزويني(6/82)
والعلاء القونوري وأبناء السبكي وكمال الدين التفليسي وابن مالك النحو وابن جماعة، وممن درس بها وسكنها الشهاب أحمد المنيني صاحب التآليف المشهور من أهل المئة الثانية عشرة وسكنها ودرس بها أولاده من بعده. وقد أخذها المجمع العلمي العربي لما أسس في سنة 1919 وجعلها مقر ورمّها بما يقربها من الهندسة الأصلية. وقد حرقت هذه المدرسة مرتين الأولى في فتنة غازان التتري سنة 699 مع ما حرق من مدارس المدنية، والثانية في سنة 778 ولعلها أحرقت في فتنة تيمور أيضاَ 803 هذا عدا ما تناوبها من تناوبها من الزلازل. ومع هذا لم يزل حائطها القبلي وحائطها الشرقي قائمين، أما الجدران الآخران الغربي والشمالي فقد خربا وما بني بجانبها جديد. ومن الأسف أنا لم نعثر فيها على كتابة ولو ضئيلة تدل على شيء من تاريخها ووقفها وإنشائها حتى ولا على قبر الملك العادل الذي نبش على ما يظهر في القرن الأخير لأخذ الذخائر التي كانت تدفن مع الملوك والعظماء. وكانت فيها خزانة كتب مهمة.
والعادية اليوم العضو الأثري المهم من تلك المدارس التي كانت في القرون الوسطى مفخر الشام والإسلام. قلت في التقرير الرابع للمجمع العلمي عن سنة 1925 - 1927 - 1927: وفي العادلية وضع المقدسي تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين، وفي العادلية عمل ابن خلكان تاريخه المشهور، وعلى باب العادلية
كان يقف ابن مالك النحوي ويدعو الناس لحضور درسه، ينادي هل متن متعلم هل من مستفيد، والتاريخ يعيد نفسه، وفي العادلية تزل ابن خلدون فيلسوف العرب أوائل المائة التاسعة. وكأن المولى تعلقت إرادته فقضى أن لا يخلي العادلية والظاهرية من علم ينشر، وأدب يذكر، فاختارهما مباءة للمجمع العلمي يقيم فيهما سوق العلم والأدب بعد الكساد على النحو الذي كانتا عليه منذ وضع أساسهما نور الدين بن زنكي والظاهر بيبرس.
64 - العادلية الصغرى داخل باب الفرج شرقي باب القلعة الشرقي قبلي الدماغية والعمادية، أنشأتها زهرة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب وقد حرقت مؤخراً وبقيت جدرانها قائمة.
65 - العذراوية بحارة الغرباء داخل باب النصر الذي كان يسمى بباب دار السعادة كما في الدارس، وفي مختصره أنها في جوار دار العدل التي(6/83)
سميت في القرن الماضي دار المشيرية حيث يقيم مشير العساكر في الدولة العثمانية، وجعل في عهد الانتداب مركزاً لدواوينه ودمر بالحريق، إنشاء عذراء بنت السلطان صلاح الدين يوسف في رواية. وهي للفريقين الشافعية والحنفية، درّس بها الفخر ابن عساكر وابن أبي عصرون وابن الزكي والشمس بن خلكان وابن قاضي شهبة وغيرهم. وهي باقية اتخذت داراً يجتمع فيها النساء لسماع الوعظ. وكان فخر الدين بن عساكر أول من درس بالمدرسة العذراوية، ودرس بالنورية والجاروخية وهذه الثلاث مدارس بدمشق، والمدرسة الصلاحية بالقدس يقيم بالقدس أشهراً وبدمشق أشهراً.
66 - العزيزية شرقي التربة الصابلحية وغربي التربة الأشرفية وشمالي دار الحديث الفاضلية، أول من أسسها الملك الأفضل وأتمها الملك العزيز، وممن درس بها سيف الدين الآمدي وغيره من المشهورين، وهدمها ضياء باشا والي سورية
وجعلها حديقة ضمت إلى مدفن صلاح الدين أواخر القرن الماضي. وفي بعض التواريخ أن القاضي ابن الزكي أمر بأن تبنى دار الأمير أسامة مدرسة للتربة. وهي المدرسة المعروفة بالعزيزية ووقفها قرية عظيمة تعرف بمحجة. وذكر ابن خلّكان أن السلطان صلاح الدين بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة في شمالي الكلاسة التي في شمالي جامع دمشق ولها بابان: أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ وهو غير مجاور المدرسة العزيزية، ثم نقل صلاح الدين من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة، ثم إن ولده الملك العزيز عماد الدين عثمان لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية ووقف عليها وقفاً جيداً. وللقبة المذكورة شباك إلى هذه المدرسة وهي من أعيان مدارس دمشق اه.
67 - العصرونية داخل بابي الفرج والنصر شرقّي القلعة وغربي الجامع، لقاضي شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون ابن أبي اليسر التميمي الجوني ثم الموصلي الدمشقي المتوفى 585، درس بها جماعة منهم المشايخ بنو عصرون وغيرهم. حرقت في الحريق الكبير سنة 1328هـ ولم تعد إلى ما كانت وبقي اسم السوق منسوباً إليها ورُمّ قبر من أسسها بعض الشيء.(6/84)
68 - العمادية داخل باب الفرج والفراديس قرب الدماغية من قبلة، بناء عماد الدين والواقف عليها السلطان صلاح الدين درس بها عماد الدين الكاتب وغيره، وهي الآن كتاب الصبيان في زقاق الخندق.
69 - الغزالية في الزاوية الشمالية الغربية شمالي مشهد عثمان بالجامع الأموي وتعرف بالشيخ نصر المقدسي وهو أول من درس بها. وممن درس بها من المشهورين الدولعي وابن عبد السلام والقطب النيسابوري والشرف بن أبي عصرون وأبو حامد الغزالي وهي الآن مشهد من مشاهد الجامع.
70 - الفارسية غربي الجوزية الحنبلية تجاه الخارج من باب الزيادة بالبزورية وقفها فارس الدوادار التميمي808. وفي المدرسة الآن قبران. وهاك أبياتاً من نظم بانيها أمر أن تكتب على تربته بعد وفاته وأظنها لغيره من المتقدمين وقد رأيتها مكتوبة على مدفن بني الشحنة مؤرخي حلب في باب المقام بحلب والأبيات هي:
هذه دارنا التي نحن فيها ... دار حق وما سواها يزول
فاعتمر للممات داراً إليها ... عن فريب يفضي بك التحويل
واعتمل صالحاً يؤانسك فيها ... مثلما يؤنس الخليل الخليل
71 - الفتحية إنشاء الملك فتح الدين صاحب بارين وبها قبرة كانت مدرستين إحداهما للشافعية وثانيتهما للحنفية نسيتا ونسي مكانهما.
72 - الفخرية بين السورين إنشاء فخر الدين، تم بناؤها سنة 821 وهي على أهل المذاهب الأربعة فيما يظهر، وبها درس جماعة منهم عز الدين الإربلي والشيخ المراغي.
73 - الفلكية غربي الركنية الجوانية بالعمارة، إنشاء أخي الملك العادل فلك الدين سليمان، دفن فيها سمة599. وفي بعض المظان أن المدرسة الفلكية بنواحي باب الفراديس تنسب إلى أبي منصور سليمان بن شروه ابن جلدك.
74 - القليجية داخل باب شرقي وباب توماء شرقي المسمارية إنشاء مجاهد الدين بن قليج محمد. قال البوريني: إن أحمد بن سليمان الدمشقي الصوفي عزل التراب الذي في المدرسة القليجية الذي كان من بقايا الخراب(6/85)
في فتنة اللنك أي تيمور لنك وقطن بها وأسكن في حجراتها عدة من الفقراء، والمدرسة المذكورة كانت تعرف في القرن الحادي عشر بمزار سيدي سيف الدين، وسيف الدين هذا هو الأمير سيف الدين الاسفسهلار من الأمراء النورية، ويطل على تربته شبا كان على رأس كل واحد منهما حجر فيه أسطر منقوشة، فأما الأول فعليه من الكتابة هكذا: قال
الأمير الكبير المجاهد المرابط الاسفسهلار سيف الدين علي بن قليج رحمه الله هذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره. وعلى الحجر الثاني الأبيات وذكر الأبيات ادعاها كثيرون وأحبها غير واحد من العظماء.
75 - القواسية بالعقيبة الصغرى قرب مسجد الزيتونة إنشاء الأمير عز الدين بن القواس درس بها جماعة.
76 - القوصية هي حلقة بالجامع الأموي قرب مشهد يحيى، كانت محلاً للتدريس، أنشأها رجل يقال له جمال الإسلام في رواية وقف عليها أوقافاً جمة بها بعض المشاهير.
77 - القيمرية الجوانية بحارة القيمرية، الأمير ناصر الدين القيمر أحد أمراء الجند، درس بها جلة من فقهاء الشافعية ولاتزال معروفة.
77 - القيمرية الجوانية بحارة القيمرية، أنشأها الأمير ناصر الدين القيمر أحد أمراء الجند، درس بها جلة من فقهاء الشافعية ولا تزال معروفة.
78 - القيمرية البرانية ويقال لها القيمرية الغرى في القباقبية العتيقة غربي المقدمية وشمالي الحنبلية، خربت وأنقاضها إلى اليوم ظاهرة. ويقول طارق: إن بانيها الأمير علي بن يوسف بن يوسك القيمري سنة 653.
79 - النجيبية قال ابن كثير في سنة 690: درس الخطيب عز الدين الفارقي بالمدرسة النجيبية عوضاً عن كمال الدين بن خلكان ولم يذكر في الدارس لها وفقاً ولا وقت بنائها ولا محلها.
80 - الكروسية بجانب السامرية الشافعية وقفها سنة 641 محمد ابن كروس محتسب دمشق، وممن درس بها كمال الدين بن الزملكاني والشريشي.
81 - الكلاسية متصلة بالجامع الأموي من شماله ولها باب إليه، أنشأها سنة 555 نور الدين الشهيد سميت بذلك لأنها كانت موضع عمل الكلس(6/86)
أيام بناء
الجامع، ثم أمر بتجديدها السلطان صلاح الدين درس بها جلة من الفقهاء وهي أطلال.
82 - المجاهدية الجوانية بجوار تربة نور الدين وفي الدارس قرب باب الخواصين، واقفها مجاهد الدين أبو الفوارس الكردي أحد أمراء الدولة النورية. وفي الروضتين أنه الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين أحد مقدمي الأكراد المتوفى سنة 555 له أوقاف على أبواب البر بدمشق منها المدرستان المنسوبتان إليه، إحداهما التي دفن فيها وهي لصيق باب الفراديس المجدد، والأخرى قبالة باب دار سيف الغربي في صف مدرسة نور الدين، وله وقف على من يقرأ السبع كل يوم بمقصورة الخضر بجامع دمشق وغير ذلك. وقد درس بها قطب الدين النيسابوري وكثير غيره من الأعلام.
83 - المجاهدية البرانية أيضاً بباب الفراديس كما في الدارس واليوم في زقاق حمام أسامة غربي الباذرائية لواقفها المشار إليه، وفي مختصر الدارس أنها بجوار سوق البطيخ وبها قبر واقفها، درس بها غير واحد من المشهورين وهي جامع السادات.
84 - المسرورية بباب البريد، إنشاء مسرور الخصي الطواشي صاحب خان مسرور بالقاهرة، وقيل: مسرور الملك الناصر العادلي وقفها عليه شبل الدولة الحسامي واقف الشبلية. درس بها جماعة من نبهاء الفقهاء.
85 - المنكلائية لا يعلم عنها إلا كونها قرب المدرسة القيمرية الجوانية كما في مختصر الدارس وإلى اليوم لا يزال في تلك البقعة مقام للشيخ عبد الله المنكلائي.
86 - الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس شمال الجامع والرواحية بشرق، وغربي الباذرائية بشنال وشرقي القيمرية الصغرى والمقدمية الجوانية من آثار الملك الناصر صلاح الدين وهي اليوم دار. درس فيها بعض المشهورين من
العلماء
87 - المقدمية الجوانية إنشاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ولعلها هي التي كانت عامرة في القرن العاشر كما يؤخذ من ترجمة الشمس البهنسي من أن المقدمية والقصاعية والسيبائية كانت عامرة في عصره، وقد(6/87)
خربت المقدمية أوائل هذا القرن واستحالت دورا.
88 - المجنونية شرقي الشامية البرانية بالعقيبة، إنشاء شرف الدين ابن شرف الرازي المعروف بالسبعة مجانين، وهي معروفة بالسبعة المجاهدين أيضاً وذلك بعد الثلاثين والستمائة.
89 - النجيبية ملاصقة للمدرسة النورية وضريح نور الدين من جهة الشمال، أنشأها النجيبي جمال الدين لقوش الصالحي أستاذ الملك الصالح.
مدارس الحنفية بدمشق:
كان بدمشق أوائل القرن العاشر إحدى وخمسون مدرسة للحنفية كما في الدارس وهي:
90 - الأسدية تقدم محلها وهي في المرجة الخضراء في الشرف القبلي.
91 - الإقبالية تقدم محلها وهي على الأحناف والشوافعة، وقد زالت ولا يعرف غير أطلالها وحجر بابها.
92 - الآمدية بالصالحية جوار الميطورية من الغرب، جاء في الدارس أنه مجهول حالها من القديم وهي على ما فهم في بستان الميطور قرب حي الأكراد.
93 - البدرية قبالة الشبلية بالجبل عند جسر كحيل ويعرف بجسر الشبلية، وهي بستان السنبوسكي بطريق عين الكرش، لم يبق منها إلا قبة تهدم أعلاها بجانب ثورا، إنشاء الأمير المعروف بلالا ابن الداية من أمراء نور الدين سنة 638.
94 - البلخية داخل الصادرية وبابها من حمام باب البريد، أنشأها الأمير ككز الدقاق للشيخ إبراهيم البلخي بعد سنة525 درست واتخذت مع الصادرية دوراً في عهدنا.
95 - التاجية بزاوية الجامع الأموي الشرقية غربي دار الحديث العروبية، وكانت زارية للدراويش عرفت قديماً بابن سنان وبالسلارية جددت في سنة624 وهي غير موجودة.
96 - الناشية إنشاء الملك الناشي الدقاقي سنة نيف وخمسين وخمسمائة وهي مجهولة اليوم.(6/88)
97 - الجلالية لقاضي القضاة جلال الدين أبي المفاخر أحمد بن قاضي القضاة حسام الدين الرازي، كانت ملاصقة للبيمارستان النوري وهي الآن خراب.
98 - الجمالية كانت بسفح قاسيون للأمير جمال الدين يوسف وكان يسكنها في القرن العاشر أيام الصيف عبد الصمد العكاري درست مع الدوارس وأخذت
أنقاضها للدور.
99 - الجقمقية هي شمالي الجامع الأموي، أسسها سنجر الهلالي وولده شمس الدين فانتزعها الملك الناصر حسن سنة 761 وأمر بعمارتها فبنيت بالحجر الأبلق وجاءت في غاية الحسن واحترقت في فتنة تيمور فجدد بنيانها سيف الدين جاقماق وخص الخانقاه بالصوفية وأضاف إليها مدرسة للأيتام وتربة، ودرس بها جماعة وجعلت في القرن الماضي مدرسة للذكور وهي اليوم في حالة خراب أو ما يقرب منه، تزعزعت بعض أركانها بمدافع الفرنسيين سنة 1941.
100 - الجركسية ويقال لها الجهاركسية وهي مشتركة بين الحنفية والشافعية وقيل: هي للحنفية فقط، واقفها جركس فخر الدين الصلاحي وكان نائباً عن الملك العادل ببانياس وبلاد الشقيف وتبنين وهونين، وهو من أرباب الهمم العالية مشهور بصداقته وصدقاته، وهذه المدرسة فوق نهر يزيد بالصالحية بالقرب من الجامع الجديد معروفة يأوي إليها المهاجرون والدراويش وتنسب إليها المحلة كلها، اندرست ولم يبق منها سوى قبتين عظيمتين أعلاهما متهدم وجدرانها حجر نحيت.
101 - الجوهرية شرقي تربة أم الصالح داخل دمشق بحارة بلاطة المعروف اليوم بزقاق المحكمة. إنشاء الصدر نجم الدين بن عباس التميمي الجوهري سنة 676 كان بعضهم أواخر القرن الماضي قسمها ثلاث دور وجعل عليها مرصداً، وقام ولداه بعده فأخذا ما أنفق والدهما عليها وأعاداها إلى الوقف فجعلت مدرسة للصبيان وحصل الانتفاع بها.
102 - الحاجبية والخانقاه بها قبلي المدرسة العمرية بالصالحية على(6/89)
مقربة من مرقد الشيخ عبد الغني النابلسي، إنشاء الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك الإينالي سنة 865. وقد تداعت فأخذت أنقاضها منذ نحو سبعين سنة لتبليط الطريق، وهي أمام جامع الحاجب بالجركسية، أصبحت الآن عرصة محاطة
بجدار وحوض مائها لا يزال موجوداً ومئذنتها كانت جميلة.
103 - الخاتونية البرانية مسجد خاتون على الشرف القبلي في مكان كان يسمى صنعاء دمشق مطل على وادي الشقراء، وقفتها زمرد خاتون أخت الملك دقاق صاحب دمشق، وهي أم شمس الملوك إسماعيل ومحمود زوجة تاج الملوك بوري توفيت سنة 557، وكانت حافظة للقرآن سمعت الحديث من أبي الحسن بن قيس واستنسخت الكتب وقد خربت هذه المدرسة في أواخر حكم المماليك فنقلت أنقاضها لتعمر بها مدرسة غيرها في باب الجابية، وكان من مدرسيها علي البلخي وشرف الدين عبد الوهاب الحوراني وصدر الدين البصروي وصدر الدين الأدمي.
104 - الخاتونية الجوانية كانت بمحلة حجر الذهب محلة البيمارستان النوري، إنشاء خاتون ابنة سعيد الدين اتسز وزوجة نور الدين الشهيد، وقفها أخوه سعد الدين عليها، وممن درس بها ابن شداد وابن أبي جرادة.
105 - الدماغية تقدم محلها عند جسر ثورة قرب معمل الغزل القديم وأنها على الفريقين الحنفية والشافعية، درس بها الافتخار الكاشغري والسنجاري وابن سحنون خطيب النيرب وغيرهم، أصبحت اليوم حدائق.
106 - الركنية ويقال لها الركنية البرانيو تمييزاً لها عن الركنية الجوانية المار ذكرها، وهي من إنشاء الأمير ركن الدين منكورش عتيق فلك الدين سنة خمس وعشرين وستمائة، درس بها جلة من الفقهاء وهي في حي الأكراد بالسفح، اختلست منها قطعة وجعلت دوراً، ولا تزال تقرأ في حائطها كتابات كوفية.
107 - الريحانية جوار النورية، إنشاء ريحان الطواشي من أكبر خدام نور الدين سنة 565 وهي كتاب للذكور. ولا يزال على بابها حجر زبر عليه بخط جميل الأوقاف المرصدة لها.
108 - الزنجارية خارج باب توماء وباب السلامة ويقال لها الزنجيلية(6/90)
كانت تجاه
دار الأطعمة من أحسن المدارس. وفي مختصر الدارس أنها هي التي على بابها هذا الرخام من عجائب الدنيا وهذه الصناعة التي كانت كأنها بين أيديهم كالعجين. أنشأها نائب عدن فخر الدين الزنجيلي صاحب اليمن أيام الملك العادل أنشئت سنة 626 وفي رواية أنه الأمير عز الدين عثمان ابن الزنجيلي صاحب عدن، درس بها أجلة الفقهاء ولا يعرف محل هذه المدرسة ولعلها كانت شرقي السقيفة وهي اليوم حدائق.
109 - السيفية بجوار الجامع الأموي ومن القديم لا يعرف عنها غير هذا.
110 - السبائية خارج باب الجابية وشمالي بئر الصارم والتربة والزاوية بها في آخر شارع الدرويشة، إنشاء نائب الشام سيباي أمير السلاح بمصر سنة 921 جعلها جامعاً ومدرسة وزاوية وتربة. قال في المختصر عمرها بالحجر الأبلق ولم يدع بدمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً إلا وأخذ منه من الأحجار والآلات والرخام والأعمدة ما أحب حتى سماها علماء دمشق جمع الجوامع وهي منذ سبعين سنة تكتب ابتدائي للذكور، وتقام فيها الصلوات والأذكار.
111 - الشبلية البرانية الحماسية بسفح قاسيون بالقرب من جسر ثورة، إنشاء شبل الدولة كافور الحسامي الرومي طواشي حسام الدين بن لاجين والدست الشام سنة 626 وقد دفن بها، وهي فوق جسر ثورة من طريق عين الكرش، لم يبق منها إلا قطعة يسيرة، درس بها وأعاد بها عظماء من الفقهاء منهم الصفي السنجاري والشمس ابن الجوزي وابن قاضي آمد وابن الغويرة والبصروي والأذرعي والكاشغري والطوسي والكفيري والتركماني والعماد الجيلي وابن بشارة. قال ابن خلكان: إن ست الشام بنت أيوب أنشأت مدرسة بظاهر دمشق وقد دفن فيها الملك المعظم وهي أيضاً وولده حسام الدين عمر بن لاجين وزوجها ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وحسام الدين هو
سيد شبل الدولة كافور بن عبد الله الحسامي الخادم صاحب المدرسة والخانقاه الشبلية اللتين في ظاهر دمشق على طريق قاسيون، ولها شهرة في مكانهما وأوقاف كثيرة اه. وإلى اليوم لا تزال(6/91)
القبور ظاهرة للعيان، وهناك حوض ماء وإيوان.
112 - الشبلية الجوانية قبالة الأكزية داخل باب الجابية، إنشاء شبل الدولة كافور المعظمي صاحب المدرسة قبلها، وهي أمام محكمة الباب الشرعية القديمة وقد أصبحت دوراً.
113 - الصادرية داخل باب البريد على باب الجامع الأموي الغربي، إنشاء شجاع الدين والدولة صادر بن عبد الله قال صاحب الدارس: وهي أول مدرسة أنشئت في دمشق491 درس بها ابن زنكي الكاشاني والبلخي وأبو العيش وأوحد الدين الدمشقي والغزنوي رشيد الدين وابن مسعود والكعكي والرضي الملتاني الهندي والبرهان الغزنوي المعروف بأبي الهول وابن الشجاع وابن أسد الدين الدمشقي. وهي دور مساكن منذ استصفاها المستصفون من عهد قريب.
114 - الطرخانية قبلي الباذرائية إنشاء ناصر الدولة طرخان أحد كبار أمراء دمشق وهي منازل ومساكن.
115 - الطومانية تجاه دار الحديث الأشرفية غربي الشريفية والفقاعية بسوق العصرونية ولعل واقفها طومان النوري. وقد جعلت في أواخر القرن الماضي حانة تباع فيها الخمور ثم صارت حوانيت وداراً.
116 - العذراوية مر محلها وأنها على الحنفية والشافعية. درس بها العز السنجاري والسمرقندي والرازي.
117 - العزيزية أنشئت635 جوار المدرسة المعظمية إنشاء الملك العزيز عثمان بن العادل شقيق الملك المعظم، وفي العزيزية دفن الملك الناصر صلاح الدين
يوسف بن أيوب ولا يزال قبره معروفاً يزار ويقصده العالم من الأقطار.
118 - العزيزية البرانية بالشرف الأعلى شمالي ميدان القصر خارج دمشق وهي البستان الذي أصبح معملاً للكهرباء وقد زال أثرها. أنشأها الأمير عز الدين استاد دار المعظمي المعروف بصاحب صرخد 626(6/92)
درس بها جماعة منهم محمد الكريمي المتوفى سنة 1068 أي إنها كانت عامرة إلى القرن الحادي عشر.
119 - العزية الجوانية المعروفة بالكوشك أي القصر إنشاء المقدم ذكره وهي غير معروفة.
120 - العزية بجامع دمشق منسوبة له أيضاً، قال في الدارس: وشرط واقفها أنه بنى مدرسة بالقدس الشريف على أنه متى كان القدس بيد المسلمين يكون الوقف على المكان المذكور، وإن تعطل أي تعطيل القدس كان مدرسة بالجامع الأموي المعمور جوار مشهد علي. درس بها حين تعطل القدس القاضي مجد الدين قاضي الطور وهي غير موجودة.
121 - العلمية شرقي جبل الصالحية وغربي الميطورية إنشاء الأمير علم الدين سنجر المعظمي سنة628 لم يبق لها أثر.
122 - الفتحية نسي مكانها منذ قرون قال ابن شداد: وهي برحيبة خالد وهي مجهولة أيضاً، ومنشئها الملك فتح الدين صاحب بارين.
123 - الفرخشاهية تعرف بمعز الدين فرخشاه وواقفتها حظ الخير خاتون ابنة إبراهيم بن عبد الله والدة عز الدين فرخشاه وهي زوجة شاهنشاه ابن أخي صلاح الدين سنة578 وهي مقالبة التكية السيمانية بالشرف الأعلى شمالي حديقة الأمة، دثرت.
124 - القجماسية داخل باب النصر ودار السعادة إنشاء نائب الشام قجماس الإسحاقي الجركسي المتوفى سنة 892. وأول من درس بها شمس الدين أبو تراب
محمد الأمامي وهي عامرة في الجملة.
125 - القصاعية بحارة القصاعين إنشاء خطلشاه خاتون بن ككجا سنة 593 كانت عامرة في القرن العاشر، ودرس بها محب الدين العلواني وهو آخر من درس بها من الفقهاء وهي في جهة الخيضيرية جعلت دوراً.
126 - القاهرية بالصالحية على طريق الترام في الزقاق الذي وراء سوق الجمعة على ضفة نهر يزيد لصيق دار الحديث القلانسية المشهورة بالخانقاه وغربي العمرية يفصل بينهما الطريق، وهي مساكن ولم يبرح اسمها معروفاً بالقاهرية وهي أسرة اسمها بنو القاهرية وهي الآن دار بني الحشاش.(6/93)
127 - الظاهرية الجوانية تقدم محلها في مدارس الشافعية وأنها للحنفية أيضاً، أول من درس بها الصدر سليمان وابن النحاس وابنه شهاب الدين والسمرقندي والجوبري وابن العز وعفيف الدين الآمدي وقوام لطف الله الحنفي.
128 - القليجة واقفها سيف الدين بن قليج النوري بين الخضراء والصدرية السالفتين بالبزورية سنة620، وجدد بناءها قاضي الشام محمد جلبي سنة 923. درس بها الشمس على بن قاضي العسكر وفخر الدين بن خليفة البصروي وتقي الدين أخمد وعلاء الدين القونوي وغيرهم، وهي في سوق التبن اتخذت بيتاً ملاصقاً لدار العظم، ولعلها هي التي كانت مجمع الفضلاء والعقلاء للاستشارة إذا دهم أهل دمشق أمر مهم لا القليجية التي كانت داخل باب توماء كما روى بعض المؤرخين.
129 - القايمازية داخل بابي الفرج والنصر، إنشاء صارم الدين قايماز النجمي المتوفى سنة 596، كان من عمال السلطان صلاح الدين يتولى أسبابه في مخيمه وبيتوتته ويعمل أستاذ الدار، وكلما فتح السلطان بلدة سلمها إليه ليروضها. وهي بالمناخلية درست عندما جرى توسيع الطريق.
130 - المرشدية على نهر يزيد بالصالحية جوار دار الحديث الأشرفية إنشاء خديجة خاتون بنت الملك المعظم بن العادل أخت الناصر داوود سنة656، وهي من المدارس التي بقيت إلا أن داخلها متهدم ومجموعها مختلس.
131 - المعظمية بالصالحية بسفح قاسيون الغربي جوار المدرسة العزيزية، أنشئت 621 نسبة إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل صاحب دمشق وهي مدفن.
132 - المعينية بالطريق الآخذ إلى باب المدرسة العصرونية، إنشاء معين الدين أتسز، وهي دراسة.
133 - الماردانية على ضفة نهر ثورة لصيق الجسر الأبيض معروفة، أنشأتها عزيزة الدين أخشا خاتون بنت الملك قطب الدين صاحب ماردين زوجة الملك المعظم 610 درس بها جلة من الفقهاء، وهي جامع عامر بالصلوات وفيه مدفن بني المؤيد.
134 - المقدمية الجوانية داخل باب العمارة إنشاء الأمير شمس الدين(6/94)
محمد بن المقدم في الأيام الصلاحية أنشئت سنة 575، وهي في حكم المفقود استصفي قسم منها وجعل دوراً وداخلها غرف تؤجر وحرمها مخزن.
135 - المقدمية البرانية تجاه الركنية بسفح قاسيون شرقي الصالحية إنشاء فخر الدين إبراهيم بن المقدم، غير موجودة ولعلها دار الشريباتي وحوض مائها لم يزل كما كان أمام حمام المقدم.
136 - المنجكية بجوار خانقاه الصوفية بالجاقماقية، وفي الدارس أنها بالخلخال. وكان الخلخال حديقة أخذت للثكنة الحميدية غربي المدينة. وهي قبلي الصوفية وغربيها، إنشاء الأمير سيف الدين منجك من مماليك الناصر محمد بن قلاوون أسست سنة 776 وهي اليوم حدائق ولا أثر لها.
137 - الميطورية شرقي جبل الصالحية في حي الأكراد، وقفتها فاطمة خاتون بنت السلار سنة 629 خربت.
138 - المقصورة الحنفية وهي محل التدريس في حرم الجامع الأموي وقف عليها كاتب الممالك القاضي فخر الدين أوقافاً.
139 - النورية الكبرى إنشاء نور الدين سنة 563، والصحيح أنها إنشاء ولده الصالح إسماعيل وهي بعض دار هشام بن عبد الملك الأموي، وفي الدارس أنها كانت قديماً دار معاوية بن أبى سفيان وكانت لمعاوية دار أخرى بباب الفراديس تحت السقيفة يقال: إنها الدار التي كانت معروفة بدار ابن المقدم. ولا تزال المدرسة عامرة إلى يومنا إلا أن بعض جيرانها اختلسوا بعضها من الشمال.
140 - النورية الصغرى كان في القلعة جامع تقام فيه الجمعة إلى القرن العاشر وبه مدرسة حنفية تسمى النورية الصغرى، قال: ابن شداد هي مدرسة بجامع القلعة، وكان مدرس القلعة أوائل القرن التاسع القاضي شمس الدين الزرعي وهو الذي ألزم ببناء مئذنة الجامع بالقلعة سنة 824 التي كانت أحدثت سنة 762.
141 - اليغمورية بالصالحية، إنشاء الأمير جمال الدين بن يغمور الباروقي اختلست.(6/95)
مدارس المالكية بدمشق:
كان بدمشق أربع مدارس للمالكية وهي:
142 - الزاوية المالكية وقف السلطان صلاح الدين ملاصقة المقصورة الحنفية من غربي الجامع الأموي درس بها بعض فقهاء المالكية.
143 - الشرابيشية في القنوات وفي الدارس أنها بدرب الشعارين لصيقة حمام صالح شمالي الميطوريين داخل باب الجابية، وكانت قبل أن تصبح مدرسة للأيتام محكمة شرعية واختلس الجيران بعضها. وهي إنشاء شهاب الدين بن نور الدولة
بن محاسن الشرابيشي التاجر السفّار ولا يعلم عنها غير هذا.
144 - الصمصامية شرقي دار القرآن الوجيهية وقرب المسرورية، وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال الأسلمي، وذكر المؤرخون أن سنان القرماني والد القرماني صاحب التاريخ خرب مدرسة المالكية بالرب من البيمارستان النوري وتعرف بالصمصامية وحصل به الضرر بمدرسة النورية ببعلبك، وولي نظارة البيمارستان ونظارة الجامع الأموي وانتقد عليه أنه باع بسط الجامع وحصره فقتل بسبب ذلك هو وناظر السليمية حسين سنة 966 خنقاً معاً بدار السعادة بشاشيهما وعمامتاهما على رأسيهما. ولو نفذ حكم الشرع هكذا في المختلسين والغاصبين لما ذهبت كل هذه المدارس مع أمس الدابر.
145 - الصلاحية إنشاء السلطان صلاح الدين بالقرب من البيمارستان النوري غير معروفة أيضاً.
وكان في زقاق حمام القاضي مدرسة للمالكية على ما في مفكرات طارق.
مدارس الحنابلة بدمشق:
كان بدمشق عشر مدارس للحنابلة وهي:
146 - الجوزية في البزورية كانت في عهدنا محكمة شرعية ثم جعلتها جمعية الإسعاف الخيري مدرسة للأيتام ثم حرقت في الثورة السورية، إنشاء محيي الدين بن جمال الدين بن الجوزي.(6/96)
147 - الجاموسية غربي العقيبة خارج دمشق ابتلعها وأوقافها كما ابتلع غيرها المتولون عليها.
148 - الشريفية عند القباقبية العتيقة قديماً ودار بني الغزي في العمارة أمام الفرن بالجانب الشرقي وهي الآن دار. من إنشاء شرف الإسلام عبد الوهاب أبي الفرج الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق المتوفى سنة 536 وظلت يتعاقب عليها أولاده
وأحفاده حيناً من الدهر.
149 - الصاحبة بسفح قاسيون من شرق الصالحية. إنشاء ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت صلاح الدين وست الشام، ودفنت في فنائها سنة 653 وجعلت اليوم مكتباً ابتدائياً للذكور.
150 - الصدرية إنشاء صدر الدين أبي الفتح أسعد المنجا التنوخي العدل سنة 630 وكانت بجوار الجامع في زقاق الريحان والعامة تزعم أن قبر معاوية بن أبي سفيان بها وليس بصحيح.
151 - الضيائية المحمدية شرقي جامع المظفرية بجبل قاسيون. إنشاء ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي سنة 620 كان علامة عصره درس بها بانيها أولاً ولا يعرف عنها شيء.
152 - الضيائية المحاسنية بسفح قاسيون شرقي جامع المظفرية وأمام جامع الحنابلة، بقي منها أربع نوافذ وجدار، أنشأها ضياء الدين محاسن ووقفها على من يكون أمير الحنابلة.
135 - العمرية الشيخية وسط دير الحنابلة بسفح الجبل، إنشاء أبي عمر الكبير الحنبلي الزاهد المعروف بابن قدامة سنة 550 وهو الذي نسبت الصالحية إليه لنزوله بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي، وهي الآن خراب أكل النظار عليها أوقافها واستباحوا أخذ خزانة كتبها المهمة. وفي تاريخ الصالحية أنها أكبر المدارس بدمشق والصالحية لأنها مشتملة على ثلاثمائة وستين خلوة على ما قيل، والعامر منها الآن عصر مؤلف تاريخ الصالحية أقل من ذلك اه. قال في تاريخ الصالحية أيضاً: إن أبا عمر بنى المدرسة ووالده الشيخ(6/97)
أحمد بنى المصنع ثم كثر البناء المتسع بالصالحية حول المدرسة حتى بلغ من القبلة حد المدينة ومن الشرق برزة إلى الميطور وبستان الميطور الآن معروف بالقرب من جسر النحاس قرب
حي الأكراد. أما الآن فهي خراب يباب، وقد درس بها أئمة أعلام فيما سلف.
145 - العالمة مدرسة للنحابلة ودار للحديث شرقي الرباط الناصري تحت جامع الأفرم غربي سفح قاسيون، وقفتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي سنة 630 وهي خراب بلقع.
155 - المسمارية قبلي القيمرية الكبرى داخل دمشق قبلي الفتيحة قرب مئذنة فيروز. واقفها التاجر الحسن بن المسمار الهلالي الحوراني المغربي من أهل القرن السادس جعلت الآن مخفراً للشرطة.
156 - المنجائية زاوية بالجامع الأموي تعرف بابن منجا.
157 - المدرسة الحنبلية تولى عمارتها سعد الدين بن عبد العزيز إمام الملك الأشرف موسى بن الملك العادل.
المدارس الحديثة:
هذا ما ذكره صاحب الدارس من دور القرآن ودور الحديث ومدارس الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وقد أنشئت بعد عهده في دمشق عدة مدارس في القرن الثاني عشر وهي:
158 - المرادية جنوب الظاهرية الجوانية وتفصل بينهما الآن سكة ضيقة لصاحبها الشيخ مراد المرادي مراد بن علي بن داود بن كمال الدين بن صالح البخاري النقشبندي سنة 1132 وكانت قبل ذلك خاناً يسكنه أهل الفسق والفجور وقد خربت زمن الحرب العامة وهي الآن خراب.
159 - النقشبندية البرانية هي في سوق ساروجا بناها الشيخ مراد المرادي وكانت داره، وبنى إلى جانبها مسجداً وهي الآن تكية ومنزل لأحفاده.
160 - السيسمانية مدرسة سليمان باشا العظم، أسست في باب البريد 1150 جعلت زمناً مكتباً للإناث وقد رمت بعد خرابها وسكنها دراويش.(6/98)
161 - العبدلية مدرسة عبد الله باشا العظم، أسست في سوق السلاح سنة 1193 ولا تزال موجودة.
162 - الإسماعيلية مدرسة إسماعيل باشا العظم في سوق الخياطين، أسست سنة 1141 والطابق السفلي منها من بناء إسماعيل باشا العظم والعلوي من بناء أسعد باشا العظم، ولكل منهما وقف خاص به، وكانت المدرستان الأخيرتان من المدارس العامرة إلى عهد قريب فأصبحتا مأوى الفقراء وذهبت أوقافهما أو كادت.
وهناك مدارس حدثت بعد عهد صاحب الدارسين يعثر على أسمائها مبعثرة في كتب التاريخ والمدونات الحديثة ولا أثر لها لعدم مكانتها أو لطارئ طرأ عليها. والطوارئ على مثل هذه المدارس قد تحدث في كل عقد أو عقدين من السنين مثل:
163 - المدرسة الحجازية التي نزل بها أحمد بن شمس الدين الصفوري ولا نعرفها الآن.
164 - المدرسة الجوزية انقطع إليها إبراهيم السقا سنة 1058 ودرس بها إبراهيم بن حمزة سنة 1119.
165 - المدرسة الحافظية بصالحية دمشق درس بها حمزة بن محمد نقيب الشام المتوفى سنة 1067.
166 - مدرسة أحمد شمسي باشا في سوق الأروام.
167 - ومن المدارس التي لم يذكرها صاحب الدارس مدرسة السلطان المؤيد التي بناها سنة 817 الملك المؤيد في دمشق وسماهاوأنشأ سوقاً نسب إليه ولا نعلم عنها هذا.
ومنها 168 القارية مدرسة ابن القاري قال ابن طولون: لم يكن في الصف الشمالي مسجد البيع من باب الجابية إلى باب شرقي يوجه إلى القبلة، قيل: إن الصحابة بايعوا فيه، وهو الآن مدرسة بناها الخواجا محمد بن يوسف القاري سنة887 وبني إلى جانبها داراً عظيمة بالغ في إتقانها وقد أصبحت هذه الدار والمدرسة دوراً صغيرة وحواصل للخشب. ومنها 169 المدرسة المزلقية بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى(6/99)
الصابونية، أنشأها تاجر الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابي المزلق ميلاده سنة 754 كان أبوه لباناً حكى عن نفسه أن أول سفرة سافرها في البحر كسب فيها مائة ألف دينار وثمانمائة ألف درهم وانفتحت عليه الدنيا وعمر أملاكاً كثيرة وأنشأ على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر بنات يعقوب وعيون التجار، أنفق على إعمارها ما يزيد على مائة ألف دينار، وكل هذه الخانات فيها الماء وجاءت في غاية الحسن ولم يسبقه أحد من الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك،
وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز ووقف على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة.
ومن المدارس الحديثة بناء مدرسة الحقوق على شاطئ بردى في المرجة وهي من بناء الترك في آخر أيامهم وهي من أجزاء الجامعة السورية. ومدارس الدولة إلى اليوم تقوم على أنقاض البيوت القديمة أو الحديثة أو بقايا الجوامع والمدارس. وهمم الأفراد فاترة لسد هذه الثلمة. ومدارس الطوائف والتبسير تجعل في الكنائس والبيع على الأغلب. ومن أهم مدارس الحكومة مدرسة التجهيز والمعلمين وهي دار خاصة في شرقي المدينة كانت لغني إسرائيلي اسمه عنبر، فوقعت في تلك الحكومة العثمانية لدين كان لها على صاحبها وجعلت مدرسة إعدادية في سنة 1304 شرقية، وفيها من ضروب الصناعات في البناء شيء كثير وقد خلفتها المدرسة التجهيزية غربي البلد على الشرف الأعلى وهي من أجمل أبنية دمشق على عهدها الحديث، أما سائر المدارس الحديثة فيستحي المرء من ذكرها إذا لا شأن لها وليس للآمة ولا للحكومة يد في إنشائها.
مدارس الطب بدمشق:
كان بدمشق أربع مدارس للطب وهي:
170 - الدخوارية بالصاعة العتيقة قرب الخضراء قبلي الجامع وفي رواية شرقي سوق المناخليين: إنشاء مهذب الدين عبد الرحيم بن علي المعروف بالدخوار، وفي رواية: عبد المنعم بن علي المعروف بالدخوار سنة 621 جعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعاً وعدة أماكن(6/100)
يستغل منها ما ينصرف في نصالحها وفي راتب المدرس والمشتغلين بها. ووصى أن يكون المدرس بها شرف الدين علي بن الرحبي. قال ابن أبي أصيبعة في ترجمة شرف الدين بن الرحبي من كبار أطباء دمشق المتوفى سنة 667 إن مهذب الدين عبد
الرحيم بن وقف على الدار الشمالية وجعلها مدرسة للطب وربما هي الدخوارية بعينها. وفي رواية أنها وبستان الدخوار عند أراضي الجامع الأموي من قص اللباد شماليها نهر ثورة، درس بها واقفها وبدر الدين محمد بن قاضي بعلبك والدنيسري وابن حيدرة الرجيحي وكمال الدين الطبيب والجمال أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي وسليمان بن داود ومحمد ابن شهاب الدين أحمد الكحال وعز الدين السويدي. وهي اليوم دور ولا يعلم زمن دمارها.
171 - الدنيسرية غربي باب البيمارستان النوري والصالحية وبآخر الطريق من قبلة لصاحبها عماد الدين محمد الدنيسري من مدرسي المدرسة السابقة ولم يعرف عنها غير هذا.
172 - الربيعة لم يذكرها في الدارس وقال في مختصره: إنها غربي البيمارستان النوري والمدرسة الصلاحية بآخر الطريق قبلة يقال: إنها هي المسجد الذي أنشأه قاضي القضاة محمد بك وكان بها أيضاً صيدلية منظمة إنشاء عماد الدين محمد بن عباس الربعي المتوفى سنة 68. وجاء في الدارس: وفي سنة 749 أقامها جديدة عبد الله بعد أن الرومي الحنفي من مماليك السلطان بايزيد بن عثمان ثم جعلت دار بني البكري ونسفت في الثورة الأخيرة بالديناميت.
173 - اللبودية خارج البلد ملاصقة بستان الفلك وحمام الفلك، إنشاء نجم الدين يحيى بن اللبودي 664 درس بها جمال الدين الزواوي. قال في الواقي: هو يحيى بن محمد الوزير الصدر نجم الدين بن اللبودي الدمشقي الطبيب ترقي بالطب عند صاحب حمص إبراهيم ووزر له ثم اتصل بالناصر صاحب الشام فجعله ناظر الدواوين توفي سنة سبعين وستمائة ودفن في تربته التي بالقرب من بركة الحميريين وجعل تربته دار طب وهندسة وقرر لها شيخاً وقراء. وقال إنه ألف في الرد على الموفق عبد اللطيف البغدادي(6/101)
كتاباً وهو في الثالثة عشرة وهو
صاحب دار الطب والهندسة. ومدرسته اليوم، متهدمة واسم البستان بستان اللبودي شرقي الشموليات من أراضي باب السريجة. هذه هي المدارس الطبية بدمشق وقد دثرت أسماؤها.
ومن عرف أن القدماء كانوا يعنون بالطب أكثر مما نتصور لا يستكثر على دمشق أربع مدارس في الطب في الدهر الغابر. فقد ذكر المؤرخون أنه كان لكل من أبي المجد بن الحكم ومهذب الدين النقاش ورفيع الدين الجيلي مجالس عامة للمشتغلين عليهم بالطب في دمشق. قال السبكي في معيد النعم: ومن حقهم - أي السلاطين - إقامة فقيه في كل قرية لا فقيه فيها يعلم أهلها أمر دينهم، ومن العجب أن أولياء الأمور يستخدمون في كل حصن طبيباً ويستصحبون أطباء في أسفارهم بمعلوم من بيت المال ولا يتخذون فقيهاً يعلمهم الدين، وما ذاك إلا أن أمر أبدانهم أهل عليهم من أمر أديانهم نعوذ بالله من الخذلان اه.
وفي المحرم من عام 1321 صدرت إرادة السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء مدرسة طبية ملكية بدمشق وأن يخصص لبنائها عشرة آلاف ليرة ومثلها لنفقتها السنوية ولوازمها لمنافسة مدرستي الطب في بيروت الأميركية واليسوعية. فشرع في خريف تلك السنة بالتدريس في دار استؤجرت موقتاً في طريق الصالحية ريثما تبنى المدرسة الجديدة.
وفي أوائل دخول الجيش العربي والإنكليزي آخر أيام الحرب العامة أنشئت.
174 - مدرسة طبية على أنقاض مدرسة الأتراك جعلت في مستشفى الغرباء التي كانت في مقابر الصوفية أو مقبرة البرامكة ثم أنشئ لها مدرج باسم مدرج الجامعة السورية.
مدارس حلب:
نشأت المدارس في حلب في العهد الذي أنشئت فيه بدمشق ولكن على(6/102)