صدر الخطط
بِسْمِ اللهِ الرّحَمن الرّحَيم
عونك اللهم يا لطيف
نشرت عام 1317هـ 1899م في مجلة المقتطف تسعة فصول في عمران دمشق صادفت استحسان بعض من قرءوها من خاصة الباحثين، وجمهور المطالعين، فوقع في النفس يومئذ أن أتوسع في هذا البحث، وأدرس عمران الشام كله، لأن صورة العاصمة وحدها لا تكفي للدلالة على حالة القطر، ومن الإشراف على الأطراف، قد تعرف صحة الجسم عامة والقلب خاصة، ومن اهتم بالجزء كان حريا أن يضاعف العناية بالكل.
فشرعت من ثم أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية، وقصدت دور الكتب الخاصة والعامة في الشام ومصر والمدينة المنورة والآستانة ورومية وباريس ولندرا وإكسفورد وكامبردج وليدن وبرلين وميونخ ومجريط والإسكوريال. وكنت كلما استكثرت من المطالعة، تتجلى أمامي صعوبة العمل، هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات، منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي. ولكن الشقاء قد يأتي بسعادة، ورب ضرّ أعقب خيرا. فإن التضييق عليَّ نشأ منه اضطراري إلى الارتحال غير مرة، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر، ونزلت على(1/1)
أمم كثيرة في بلاد الغرب، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا، وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم، وجمودنا اليوم وحركتهم.
رحلت إلى أوروبا ثلاث رحلات، أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر، وزرت أصقاع الشام
لأقابل بين حاضره وغابره، ولما نسجت بآخرة ما جمعت، قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك فيه بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع، وسميته خطط الشام وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين. ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران، والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وحضارته.
أول من صنف في الخطط واستقصى فيها على ما علمنا الحسن بن زولاق المصري المتوفى سنة 387 وقال المقريزي المتوفى في سنة 843 إن أول من صنف فيها أبو عمر بن يوسف الكندي، ثم القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي 454 والذي انتهى إلينا كتاب خطط مصر للمقريزي المنوه به، وهو أجمل مثال في باب الإجادة في التأليف. ولم نعلم أن أحدا من المتقدمين كتب على الشام وخططه، وكتب بعض المتأخرين في موضوع خاص وبلد معين. وما خطط الشام في الحقيقة إلا زبدة الوقائع والكوائن، وأخبار الصعود والتدلي، والمظاهر الغربية التي ظهرت بها هذه الديار، في غابر الأعصار، مقتبسا ذلك مما أبقته(1/2)
الأيام مكتوبا أو مطبوعا على ورق، أو مزبورا على حجر وآجر وبردي ورق.
لا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها، ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه. ومن لم يرزق حظا من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات، وما أتاه أجداده من الأعمال، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد، بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلدا لا يعرفه، ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار إلى ما صار إليه، وهل يُفهم الحاضر بغير العابر،
وهل تنشأُ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة.
كتب الغربيون في آثار هذا القطر وعمرانه وتاريخه واقتصادياته وعادياته أحمالا من الكتب بلغاتهم، وقلما نشرت كتب جامعة لأحد أبنائنا بلغتنا وعلى نهجنا. واستنفض الغربيون كل بقعة من بقاعنا، ومدينة من مدننا، وبادية من بوادينا، ومنهم من أجاد وأفاد، مما يسجل ويا للأسف علمهم بنا، وجهلنا حتى بأرضنا، ويكفي أن يقال إن علماء الغرب وسياحهم صنفوا بين سنتي 1805 - 1903م خمسة وتسعين كتابا فقط في آثار سلع أو البتراء وادي موسى على حين قلّ جدا في الشاميين أنفسهم من زاروا هذه الخرائب المهمة، ومنهم من لم يسمع باسمها.
أخذت مما ظفرت به من الكتب الإفرنجية، وعُنيت أشد العناية بالرجوع إلى ما كتبه الأسلاف في هذا الشأن، على تفرقه، واعتمدت على مؤلفي العرب خاصة لأن كل أمة أعرف على الغالب بحالتها من غيرها، فإن بحث علماء الإفرنج في تاريخ هذا القطر قبل الإسلام، ونبشوا عادياته ومصانعه، وحلوا لغاته ولهجاته، فتاريخه بعد هذا العهد أقرب إلى أن يكون علماؤنا مرجعا فيه، فقد قيل قتل أرضاً عالمها.
جاء الكلام ناقصا في بعض الأدوار المتأخرة، وعُمي عليَّ بعض(1/3)
مواضع مهمة ذات صلة بمدنية الشام، والسبب فيه أن المتأخرين زهدوا في التاريخ حتى كادوا لا يفرقون بينه وبين أقاصيص العجائز، وموضوعات المخرفين والوضاعين، وعنيت بتجريد هذا الكتاب ما أمكن من المبالغات، ونخل لباب الوقائع المهمة الثابتة وحذف ما فيه شيَةُ شبهة، أو شائبة غلو، وإن كان منها ما يروق بعضهم ويتفكهون بسماعه، ويطربون لترداده. فخاطبت ما استطعت العقل أكثر من العاطفة، وعُنيت في قسم التاريخ السياسي أن أبين علل الحوادث، وتسلسل الكوائن، ودواعي الأحوال القريبة أو البعيدة، واستخراج النتائج واستنباط القواعد.
والتاريخ ربيب الحرية لا يتصرف على هوى من يكتبه ويقرءوه ولا على أذواق أهل العصر وأهوائهم. وما دام موضوعه الاعتبار بالخالي لمعرفة الحالي والآتي فهو جدير بأن يتحرى فيه الحق ولا يدون سواه. قال أحد العلماء: عندما نريد أن نصل إلى الحقائق التاريخية، يجب أن تصح همتنا على إزالة الأوهام، ونزع الزوان من الأساطير التي تعلق بالوقائع الثابتة القليلة التي وصلت إلينا.
كان المؤرخون بعد القرون الوسطى بين عاملين قويين، إما أن يكذبوا فيغضبوا الحق، أو يصدقوا فيغضبوا الخلق، والعمال والأعيان منهم خاصة. فقد ألف مثلا ابن زوجة أبي عذيبة المقدسي المتوفى سنة 856 تاريخين مطولا ومختصرا، ولما توفي أطلع بعضهم على الكبير منه، فوجد فيه أشياء توهمها في ثلب أعراض الناس فأتلفه، وصنف عبد الله البصروي من أهل القرن الثاني عشر تاريخا لهذه الديار، فبلغ أعيان دمشق خبره، ولما هلك دخلوا داره وآلو أن لا يأذنوا بدفنه أو يأخذوا التاريخ الذي وضعه، فضبطوه وأحرقوه على أعين القوم، مخافة أن تنكشف سيئات بعضهم. والذي ضاع من مدونات المتقدمين والمتأخرين يعد بالعشرات، لكثرة الجوائح الأرضية والسماوية التي أصابتها. وإذا كتب البقاء لشيء مما كتبه المتأخرون فيكون في الغالب إلى الركاكة لا تسقط فيه على حقيقة. وكثيرا ما كان العقلاء يعلقون على حواشي(1/4)
بعض الكتب تعاليق لحوادث جرت، وأمور اهتم لها الناس وشغلت مجتمعهم، ومن مثل تلك الأوراق ومن العهود والصكوك ضم هذا السفر جانبا.
بحثت جد البحث عما دُوّن في التاريخ العام أو الخاص بتاريخ بلد من أرض الشام، فرأيت يد الضياع قد غالتها إلا قليلا، وقد أهمني منها الاطلاع على تاريخ صفد للعثماني وتاريخ البرزالي وتاريخ حلب الكبير لابن العديم وتاريخها لابن أبي طي وتاريخ حمص لابن عيسى ولعبد الصمد بن سعيد وأخبار قضاة دمشق للذهبي
وتاريخ ابن أبي الدم الحموي وتاريخ قنسرين وتاريخ إنطاكية وتاريخ المعرة لابن المهذب وتواريخ كثيرة في سير مشاهير الفاتحين كتبها أمثال ياقوت الحموي وابن شداد وابن واصل وابن حبيب وابن الداية وابن عبد الظاهر وابن تيمية والجبريني والعسقلاني، فلم أظفر بسوى ورقات من بعضها، أو مختصرات ومنقولات لا تبل غلة، حُرفت بالنقل فتشوهت محاسنها.
ولقد وددت لما تيسر وضع خطط الشام على هذه الصورة لو ساغ لي أن أصبر عليه زمنا آخر حتى يتم التحقيق فيه على ما يجب عملا بالحكمة التي تمثل بها الثعالبي في اليتيمة قال: وكلما أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب، أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم، أنه لا يكتب كتابا فيبيت عنده ليلة، إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة فكيف في سنين عديدة. ولكن رأيت بعد طول التأمل أن من الحزم الاكتفاء بما تهيأ في هذه السنين، والتمحيص بحر لا ساحل له، ولطالما ذكرت وأنا أغوص في الكتب المختلفة التي طالعتها قول المؤرخ فوستيل دي كولانج ليس التاريخ من العلوم السهلة فلأجل يوم واحد يصرف في التركيب ينبغي قضاء أعوام طويلة في التحليل. على أني لما راجعت مسودات ما صنفت ورأيتني قد تذوقتها فهضمتها، أيقنت أنه لا يثقل على القراء في الجملة، فأبرزته خائفا حوادث الأيام، ونزول داعي الحمام، وأنا موقن بأن فوق(1/5)
ما طالعت وبحثت غايات، لم يمكني الزمان والمكان من بلوغها، وعسى أن يقوم غيري بعدي فيتم هذه الخطوط التي رسمتها من بنيان كتاب الخطط، ويصلح بما يتوفر له من المواد ما ربما وقعت فيه من الغلط والشطط، وإذا حصلت الفائدة من عمل استغرق جلب مادته خمسا وعشرين سنة، وكلّف تعبا ونشبا، فهو غاية ما أتطالُّ إليه، وإلا فهو جهد المقلّ، والكمال لله وحده.
وكتب في دمشق في اليوم الرابع من شعبان من شهور سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بموافقة شباط من شهور سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد.(1/6)
تقويم الشام
تعريف الشام للأقدمين:
الشأْم والشأم والشام والشآم هو اسم هذا القطر العزيز على ما عرفته العرب، وهو يتناول عامة الأقاليم الداخلة اليوم في فلسطين وسورية بحسب الاصطلاح الحديث. وسورية اسم غلب إطلاقه على القطر الشامي على عهد الإسكندر مقتضبا مع تخفيفه من اسم آشوري لغلبة الآشوريين عليه والسين والشين تتعاوران في اللغات السامية. قال البكري: سُورية بضم أوله وكسر الراء المهملة وتخفيف الياء أخت الواو وفتحها اسم للشام. وقيل: إن سبب تسميته بسورية نسبة لصور ثغر الشام القديم ومخرج الصاد والسين واحد. وقال آخرون: إن اليونان لما فتحوا الشام رأوا الآشوريين يتولون أمره فسموه أشورية. قال المسعودي: سورية هي الشام والجزيرة وكان الروم يسمون الصقع الذي سكانه المسلمون في عهده 345هـ من الشام والعراق سوريا، والفرس كانوا يسمون العراق والجزيرة والشام سورستان إضافة إلى السريانيين الذين هم الكلدانيون وتسميهم العرب النبط.
ويقال إن فلسطين سميت بفلسطين بن سام أو بفلسطين بن كلثوم، أو بفليستين بن كسلوخيم من بني يافث بن نوح ثم عربت فليشين. وجوزوا في اسم الشام التذكير والتأنيث والمشهور التذكير. وللغويين(1/7)
والجغرافيين في سبب تسميته شاما آراء مختلفة فقيل: سمي لتشاؤم بني كنعان إليه وقيل: بل سمي بسام بن نوح لأنه نزل به واسمه بالسريانية شام بشين معجمة. وقال بعضهم: إن سام بن نوح لم يدخل
الشام قط وقيل: لأن أرضه أي أرض الشام مختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض فسمي شاما لذلك، كما يسمى الخال في بدن الإنسان شامة، وقيل: سمي شاما لأنه عن شمال الكعبة. والشام لغة في الشمال، وقيل: سميت الشام شاما لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات وجوزوا فيه وجهين أحدهما أن يكون من اليد الشؤمى وهي اليسرى والثاني أن يكون فعلا من الشؤم.
معنى الشام وجمعه:
واختصرت العرب من شامين الشام وغلب على الصقع كله ياقوت وهذا مثل فلسطين وقنسرين ونصيبين وحوارين وهو كثير في نواحي الشام. وذكروا أن معنى الشام الطيب، ويقال للشام اللماعة واللماعة بالركبان تلمع بهم أي تدعوهم إليها وتطيبهم، وقد تجمع الشام على شامات وتسمى الشام بذلك، ومن الناس من لا يجعله إلا شاما واحدا، ومنهم من يجعله شامات فيجعل بلاد فلسطين والأرض المقدسة إلى حد الأردن شاما، ويقولون الشام الأعلى ويجعل دمشق وأرجاءها من الأردن إلى الجبال المعروفة بالطوال شاما ويجعل سورية وهي حمص وما ضمت إلى رحبة مالك شاما، ويجعلون حماة وشيزر من مضافاتها ويجعل قنسرين من إقليمها وحلب مما يدخل في هذا الحد إلى جبال الروم والعواصم والثغور. فأما عكا وطرابلس وكل ما هو على ساحل البحر وكل ما قابل شيء منه شيئا من الشامات فيحسب منه.
وإطلاق الشام على دمشق من باب إطلاق العام على الخاص والعرب نالينو كثيرا ما يسمون المدن القواعد بأسماء أقاليمها فكانوا يقولون بلا فرق دمشق أو الشام - الفسطاط أو القاهرة أو مصر - شام أو(1/8)
حضرموت - صحار أو عُمان - الأندلس بدلا من قرطبة - صقلية عبارة عن بلرم.
حد الشام قديما:
وحد الشام من الغرب البحر المتوسط أو بحر الروم أو بحر الملح أو بحر الشام، ومن الشرق البادية من أيلة إلى الفرات. وأيلة مدينة قديمة على البحر الأحمر أو القلزم وهي على مقربة من العقبة اليوم. ثم يذهب الحد من الفرات إلى حد الروم أو آسيا الصغرى وشمالا إلى الروم وجنوبا حد مصر وتيه بني إسرائيل. وأوصلوا الحد من الغرب إلى طرسوس قرب أذنة إلى رفح في أول الجفار بين مصر والشام. وأوسع من هذا التعريف أنه يحيط بالشام من جهة الجنوب حد يمتد من رفح إلى تيه بني إسرائيل إلى ما بين الشوبك وأيلة إلى البلقاء، ويحيط به من جهة الشرق حد يمتد من البلقاء إلى مشاريق صرخد آخذا على أطراف الغوطة إلى سلمية إلى مشاريق حلب إلى بالس. ويحيط به من جهة الشمال حد يمتد من بالس مع الفرات إلى قلعة نجم إلى البيرة إلى قلعة الروم إلى سميساط إلى حصن منصور إلى بهنسي إلى مرعش إلى سيس إلى طرسوس. وهذا الحد للعرب قال به كاتب جلبي في القرن الحادي عشر.
حقيقة حد الشام:
وبموجب الاتفاق الفرنسي التركي الأخير جعلت الحدود في قرية قطمة على طريق السكة البغدادية على أربعين كيلومترا من حلب. ودخلت كليس في حدود الروم وليس هذا هو الحد الجغرافي الطبيعي للشام من الشمال. بل حد الشام ينتهي بسفوح جبال طوروس المعروفة بالدروب عند العرب آخذا إلى ما وراء خليج الإسكندرونة لجهة أرض الروم وكان جبل السياح بفتح السين وتشديد الياء حدا بين الشام والروم ولا نعرف هذا الجبل بهذا الاسم اليوم. ويقول الإدريسي: ومن السويدية إلى جبل رأس الخنزير عشرون ميلا وعلى هذا الجبل دير كبير وهو أول بلاد(1/9)
الأرمن وآخر بلاد الشام. فما كان من جهة الشام على ضفة الفرات فهو
شام، وما كان على الضفة الأخرى من الشرق فهو عراق. فصفين مثلا في الشام وقلعة جعبر في الجزيرة الفراتية وبينهما مقدار فرسخ أو أقل وتدخل بالس أي مسكنة بالشام لأنها من غرب الفرات وتدخل البيرة بيره جك في الجزيرة لأنها على الشق الآخر من الفرات. وما كان من دير الزور على الفرات إلى جهة الشام فهو من الشام، وما كان على الشاطئ الآخر إلى الشرق فهو من العراق. وكذلك يقال في الرَّقة. وتدخل دومة الجندل المعروفة اليوم بالجوف في الجنوب في جملة هذا القطر. كما أن أيلة هي آخر الحجاز وأول الشام. فالعريش أو رفح أو الزعقة هي حد الشام الجنوبي الغربي. ومعان نصفها للشام ونصفها للحجاز، فيقال معان الشامية ومعان الحجازية.
حدوده مع مصر:
وقد اتفقت الحكومتان العثمانية والمصرية سنة 1324هـ - 1906م على تعيين الحد بين مصر والشام من رأس طابا على الساحل الغربي لخليج العقبة ممتدا إلى قمة جبل فورت مارا على رؤوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا، ثم من قمة جبل فورت يتجه إلى الخط الفاصل إلى نقطة المفرق على قمة جبل فتحي حيث ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة. ومن هذه النقطة إلى التل الذي إلى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردادي والمطلة على الثميلة، بحيث تبقى الثميلة غربي الخط. ومن هناك إلى قمة رأس الردادي ثم إلى رأس جبل الصفرة، ومنه إلى رأس القمة الشرقية بجبل قم قف ثم إلى سويلة شمالي الثميلة، ومنها إلى غرب الشمال الغربي من سماوة ومنها إلى قمة التل الواقع إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة في الفرع الشمالي من وادي مايين، ومنها إلى غربي جبل المقراة فإلى رأس العين إلى نقطة على جبل أم حواويط إلى منتصف المسافة بين عمودين قائمين في الجنوب الغربي من بئر رفح، ومنها إلى
نقطة على التلال الرملية في اتجاه 28 درجة أي 80 درجة إلى الغرب وعلى(1/10)
مسافة 420 مترا في خط مستقيم من العمودين المذكورين ثم يمتد الخط مستقيما من هذه النقطة باتجاه 33. 4 درجة من الشمال المغنطيسي أعني 26 درجة إلى الغرب إلى شاطئ البحر المتوسط مارا بتل خرائب على ساحل البحر الأحمر. وتقرر في أيلول 1920 أن تكون حدود حلب شمالا التخوم الشمالية للواء الإسكندرونة والتخوم الشمالية للمنطقة الغربية القديمة آخر نقطة منها تلتقي بالخط الحديدي شرقي محطة هملن، ثم خط الحديد وهو داخل التخوم حتى تل أبيض، ثم خط يجمع بين تل أبيض والخابور شرقا ونهر الخابور حتى مصبه في الفرات، ثم نهر الفرات حتى البو كمال جنوبا وهو الخط المعروف بخط البوكمال إلى تدمر ثم إلى الحدود الغربية الشمالية. وهذا الحد موضوع غير طبيعي. ولعل هذا القطر لن يعدم حده الطبيعي من الشمال فإن الصخور التي تفصل الشام من الشمال عن آسيا الصغرى ليس لها مثيل في التخوم الطبيعية كما قال نابليون. وجعل الجغرافي اليزه ركلو حد الشام من جبال أمانوس اللكام إلى طورسينا وقال: إن طورسينا وإن ضم سياسيا إلى مصر فهو جزء من أجزاء الشام. وقال بوليه: إن حد سورية شمالا آسيا الصغرى. وقال بورتر: إن سورية أي سورية الرومانيين يحدها شمالا آسيا الصغرى. وقال بيدكر: إن حد الشام من طوروس إلى مصر. وبذلك رأينا أن الشام يحيط به من الجنوب رمال من الجفار وتيه بني إسرائيل وجزء من البحر الأحمر فالبادية. ومن الشمال جبال شامخة صعبة المسالك وهي جبل أمانوس أحد سلاسل جبال طوروس. ومن الشرق الفرات ومن الغرب البحر. أي رمال وجبال ونهر وبحر.
مساحة الشام وصورته:
قدر القدماء طول الشام من العريش إلى الفرات بمسيرة نحو شهر وعرضه من
جبلي طي أجإ وسلمى من القبلة إلى بحر الروم نحو عشرين يوما، وجبلا أجإ وسلمى جنوب الشراة وراء البتراء المعروفة عند الرومان باسم بروفنسيا أرابيا أو أرابيا بترا - وقال شيخ الربوة: حد الشام طولا من ملطية إلى العريش ومسافته سبعة(1/11)
وعشرون يوما، وعرضه الأعرض من منبج إلى طرسوس. وعدّ ياقوت من الشام الثغور وهي المصيصة وطرسوس وأذنة وجميع العواصم من مرعش والحدث وغير ذلك.
وقال علماء الإفرنج: إن معدل طول الشام نحو ألف كيلو متر وعرضه نحو مائة وخمسين كيلو مترا ومساحته 183 ألف كيلو متر مربع وقال بعضهم: إن مساحته السطحية نحو 280 ألف كيلو متر، وأبلغه غيرهم إلى ثلاثمائة ألف وأنزله آخر إلى مائة وتسعة وخمسين ألف كيلو متر، وبالغ في تصغيره بعضهم فقال: إن مساحته مائة ألف كيلو متر مربع فقط، ومنهم من قال مائة وخمسة عشر. وقال آخر: إن طوله ينيف على أربعمائة ميل وعرضه يختلف كثيرا ومعدله نحو مائة وعشرين ميلا. ومساحة الشام خمسون ألف ميل مربع. وذكر آخر أن طول الشام المتوسط من الشمال إلى الجنوب نحو سبعمائة كيلو متر وعرضه من الغرب إلى الشرق نحو أربعمائة وخمسين كيلو مترا. وأكد بعضهم أن طوله من طوروس إلى طورسينا لا يقل عن ألف ومائة كيلومتر، وقال غير واحد: إنه لا يقل عن 800 إلى 900 هذا إذا تركت منه البادية ولم يحسب غير الأراضي القابلة للزرع. وقدرت الأرض القابلة للزراعة في الشام بمائة وخمسين ألف كيلو متر مربع. والاختلاف في حد الشام ومساحته بين علماء الجغرافية المحدثين أكثر مما بين علماء تقويم البلدان من العرب الأقدمين. وقد شبّه بعضهم الشام في هيئته الطبيعة بشكل مستطيل طوله ثمانية أضعاف عرضه. وشبهه آخر بأنه شكل مربع الأضلاع مستطيل كثيرا.
مدخل الفاتحين إلى الشام:
جاء الفاتحون الشام بحراً وبراً بل جاءوها من جهاتها الأربع فجاءها الفراعنة من البحر والبر، والبابليون والفرس من الشرق والشمال، والاسكندر والصليبيون والعثمانيون من الشمال، وغازان وهولاكو وتيمورلنك من الشرق، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب، ونابوليون من الجنوب ومن الغرب بحراً، وإبراهيم باشا المصري براً وبحراً أي من الغرب والجنوب(1/12)
الغربي، وجيوش الحلفاء من الإنكليز والفرنسيين والعرب من الجنوب والغرب. وكانت على اعتزالها وراء حدودها الطبيعية مطمح الطامحين، وطعمة الطامعين، لم تدفع عنها حصونها التي فصلتها عن الحجاز بصحار مقفرة، وحرار معطشة، وعن العراق بنهر عظيم وبادية قاحلة، وعن أسيا الصغرى بجبال عالية، وعن مصر وعن برّ إفريقية برمال محرقة. وداست تربتها الجميلة سنابك خيل الفاتحين، وعبثت بجميل محياها سهام النوائب، وأوردتها موارد العذاب الهون، ولم تأمن عادية العادين، على ما فيها من الجبال الشم، ومضايق تضل فيها العصم.
مدن الشام وقراه:
في الشام مدن كثيرة منها ما دثر وانحط بعد أن كان له شأن مهم في الأزمان الغابرة، مثل قيسارية والمعرة وأنطاكية وقنسرين وأفامية وجرش والبتراء وبصرى وصيدا وصور وتدمر وبعلبك وجبيل وسبسطية وأم قيس وصرخد والسويداء وشهبة وعرقا وعمّان وبانياس في الحولة وعسقلان، ومنها ما ثبت على صدمات الأيام والليالي وكان له من موقعه وملاءمة الطبيعة له ما أبقى عليه، كأن يكون وسط ريف خصيب، وماء دافق، كدمشق وحمص وحماة وطرابلس. ودمشق أهم مدن الشام وعاصمته في الإسلام وعلى عهد السريان،
وكانت إنطاكية عاصمته على عهد الروم والرومان. وتجيء بالعظم بعد دمشق مدينة حلب ثم بيروت ثم القدس وسكان دمشق نحو أربعمائة ألف، ومثلهم سكان حلب، وبيروت نحو ثلاثمائة ألف، والقدس أقل من ذلك. وفي الشام عدة مدن تزيد على خمسين ألف نسمة، مثل يافا وحيفا وحماة وحمص ودير الزور، وفيها عدة مدن تختلف بين العشرين والأربعين ألف نسمة، مثل اللاذقية. غزة. صفد. زحلة. صيدا. إدلب. إنطاكية. وعشرات من القرى هي أشبه بمدن أو مدن أشبه بقرى تكون نفوسها بين العشرة آلاف والعشرين الفاً مثل صيدا والخليل والرملة واللدّ والناصرة وطبرية والدامور وبعلبك وحاصبيا وراشيا والصلت ودومة وداريا وجوبر ويبرود ودير عطية وحارم وإدلب وسلمية والشويفات(1/13)
وبشرّي وإهدن والبترون وغيرها. ولا تقل قرى الشام عن ثمانية آلاف قرية ومزرعة وبليدة ومدينة وسكانها نحو سبعة ملايين يدخل فيهم العرب الرحالة ويقدرون بخمسمائة إلى ستمائة ألف.
طبيعة الشام:
قطر تأخذ فيه الفصول الأربعة حكمها، وتتم في قيعانه وجباله أسباب النعيم، معتدل الأهوية، متهاطل الأمطار والثلوج، ممرع التربة، فيه الغابات والمعادن، والحمامات المعدنية والأنهار الجارية، والبحيرات النافعة، والأجواء البهجة، والرباع المنبسطة، والمناظر المدهشة، فيه من الجبال الشراة والخليل وعامل وسنير وحرمون ولبنان وكسروان وحوران وجرش وعجلون وعكار واللكام والأقرع والكلبية والأكراد والقدموس وباير والمنيطرة وصنين والكنيسة والباروك ونيحا والريحان وطابور والجرمق والكرمل وبلودان والنبك والصلت ومؤاب وأنطاكية والقصير وريحا. ومن البحيرات العمق والغاب وأفامية والمطخ واليمونة والعتيبة والهيجانة وطبرية والحولة ولوط. ومن السهول سهل حوران والجولان
والجيدور والغوطة والمرج والبقاع والبقيعة وحمص وأنطاكية واللاذقية وطرابلس والشويفات وصيدا وصور والطنطورة وبيسان وأريحا. ومن المروج مرج ابن عامر وشارون سارون والبلقاء. ومن الأنهار النهر الكبير والأردن واليرموك والعاصي والفرات وقويق والساجور وعفرين والأسود وبردى والبارد وإبراهيم وقاديشا والليطاني والحاصباني والزرقا والعوجا والأعوج والأولي والزهراني والكلب والموجب والدامور والذهب وقنديل وصنوبر وقرشيش وبرغل والمضيق والسن أو الأبتر وحريصون أو مرقبة والجوز والكابري ونعمين والمقطع والأزرق والأخضر وأبي زابورة. ومن المناظر البديعة صنين وظهر القضيب وإهدن والبياضة وإصطبل عنتر والصبر والنبي يوشع وقاسيون وحرمون والطور والهرمل والكرمل.
خيرات الشام:
وفيه تنبت الحبوب والبقول والأشجار على اختلاف أنواعها. ففي(1/14)
جنوبيه وشرقيه النخيل. وفي سواحله الموز والبرتقال. وفي أواسطه السرو والأرز. ويجود فيه القطن والقنب والكتان والحرير والنيل والدخان وقصب السكر والعسل وشجر الأرز والفوة والسماق والسوس. وتصلح مراعيه لتربية ضروب الماشية. وفي أرضه ومياهه أنواع الطيور والأسماك وتعيش فيه الجمال كما تعيش البغال وتسمن فيه الجواميس كما ينمو الغنم والمعزى فيه زهاء مائة وثلاثين منجما لم يستثمر منها إلا القير والفوسفات والحمر، على أن فيه الذهب والفضة والنيكل والحديد والفحم الحجري والرصاص والمغرة والنحاس والكروم والزئبق والكبريت والسنباذج والجبس والنفط والإثمد والزاج والمرمر. ومن الحمامات المعدنية حمام طبرية وحمة سمخ وحمة أبي رباح وحمة ضمير وحمة معلولا وحمة إنطاكية والمرقب وزرقاء معين وعجلون ولها كلها من الخواص الصحية ما اشتهر أمره.
هواء الشام وماؤه:
صُقع حوى غرائب الطبيعة تشهد فيه بردا قارسا بل شتاءً مستوفى في قنن جباله وسفوحه في حين تشهد في أغواره كغور بيسان وغور الصافي وطبرية وأريحا ربيعا تاما بل صيفا معتدلا، وبينما تذيب شمس الصفاة واللجاة رأس قاصدهما، إذا به في ريح بليل عليل إذا قصد الجبال وما إليها. فهو مصطاف ومرتبع ومشتى في آن واحد. وفيه ما لا يكاد يوجد له مثيل في الأرض: بحيرة طبرية تحت سطح البحر على 1316 قدما وفيها أسماك كثيرة، وبحيرة لوط لا يعيش فيها حيوان فكأن نهر الأردن الذي يجري من بحيرة طبرية وينتهي ببحيرة لوط هو في أوله حياة وفي آخره موت، وهذا لا نظير له في العالم.
ومن عجائب طبيعة الشام إن تنبجس في بعض أصقاعه عيون طيبة ثرة في بقعة ضيقة. ففي الجديدة على مقربة من الحولة عشرات من العيون على هضبة سميت بها البلدة مرج عيون وفي جبل ريحا من عمل حلب عيون لطيفة دارة في الأعالي تكاد تخلو منها السهول المنخفضة المجاورة. ومياه الشام على الجملة طيبة لذيذة.(1/15)
خصائص الشام:
قطر هذه مواهبه قامت فيه في الأزمان الغابرة النصرانية واليهودية. وانبعث من أرجائه مجد الإسلام، فكان مباءة أول دولة عربية إسلامية، ثم آوى إليه الشيع الغريبة من النحل والمذاهب التي لا مثيل لها في غيره، كالدرزية والإسماعيلية والنصيرية والسامرة بل معظم المذاهب الإسلامية والنصرانية والإسرائيلية وتبلغ سبعة عشر مذهبا وجملة من العناصر القوية ذات المدنية التي استحالت عربا.
رأى الشام طلعة موسى وعيسى من النبيين، والإسكندر وابن الخطاب وخالد بن الوليد وموسى بن نصير ونور الدين وصلاح الدين وسليم وإبراهيم من الفاتحين.
وعمر بن عبد العزيز والمأمون وابن تيمية من المجددين. وبختنصر وهولاكو وجنكيز وغازان وتيمور من المخربين، وقلَّ في الممالك كما قال كورتيوس ما اندمج فيه كثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه.
الشام مهوى أفئدة الشعوب النصرانية واليهودية، ومجاز حجاج المسلمين إلى الأماكن الطاهرة القدسية والحجازية، بل نقطة الاتصال القريبة بين آسيا وأفريقيا وآسيا وأوروبا، بل بين القارات الثلاث القديمة آسيا وأوروبا وإفريقية، وأجمل مصيف ومشتى للأقطار الحارة المجاورة كالحجاز والعراق ومصر. والشام في أواسط الأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية وهو بلد الخيال والشعر، والهمم العلياء واستقلال الفكر، وأرضه أبدا باسمة طرة كسمائه:
مصحة أبدان ونزهة أعين ولهو نفوس دائم وسرورها مقدسة جاد الربيع بلادها ففي كل أرض روضة وغديرها.(1/16)
سكان الشام
الأمو واللودانو:
من الصعب الحكم على أصول السكان في الشام قبل أن يُعرف التاريخ، وتعيين أول من نزلها في القبائل قبل أن تبنى المدن والحواضر وتعرف المزارع والدساكر. وأقدم ما عرف منها قبائل كانت تعرف بالامو ورد ذكرها في الآثار المصرية ومعناها الشعب باللغة السامية اختلطت على ما يظهر بذرية لاوذ، أو بغيرها من القبائل التي كانت تسكن شمالي الشام، وسمي هذا القبيل بالروتانو أو اللودانو، ويقسمون إلى روتان المغرب ويراد بهم سكان دمشق وأرض كنعان، وإلى روتان المشرق أو الأعلى وهؤلاء كانوا ينزلون في شمالي الشام وجزء من غربي ما بين النهرين ولعل ذلك كان قبل الطوفان، طوفان نوح أو بعده بقليل. وقد حدث الطوفان قبل المسيح بنحو ألفين وخمسمائة سنة، ولم يعم الكرة الأرضية ولا برا من بُرورها المعروفة، بل انحصر في بقعة صغيرة من آسيا على الأرجح أي إنه كان في الجزيرة على ما ذكره أهل الإدراك من المفسرين.
وظهرت بعد الطوفان أمم كثيرة سكنت الشام، بعضها من أصل سامي وبعضها لم يعرف عنه شيء، ومنها ما عرف أنه أتى من الأصقاع المجاورة ومنها من لم يثبت أصله. فقد ظهر بعد الطوفان الآراميون في دمشق والجيدور والجولان والبقاع وحمص ولبنان، وآرام هو الاسم الذي أطلقته(1/17)
التوراة على الشام وبين النهرين، وكان يسكنها أبناءُ آرام الابن الخامس لسام. وأقام الأموريون في الأرض الواقعة بين البحر والأردن، والعمونيون في أرض جلعاد أي في شرقي الأردن، والموآبيون في الجنوب الشرقي من بحيرة لوط، والإسماعيليون من نسل إسماعيل جد العرب في سلع والبتراء وما جاورها. وانتشر الأدوميون من وادي العربة إلى حدود العقبة عقبة أيلة والفينيقيون في صورا وصيدا وجبيل، وتفرعت من هذه
القبائل فروع كثيرة في قرون مختلفة. ولا تعرف أصول أكثر هذه القبائل. وقد قال رولنسون: إن أصل الفينيقيين من سكان البحرين في الخليج الفارسي ظعنوا من هناك إلى ساحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة وأنهم عرب بأصولهم وأن هناك مدنا فينيقية أسماؤها أسماء فينيقية مثل صور وجبيل. وذكر مكالستر أنه سكنت فلسطين شعوب من غير الساميين وربما عني بهم الحثيين والأموريين. والحثيون جنوبيون وشماليون وكان الجنوبيون في جهات فلسطين ونزل الشماليون أولا جبل اللكام امانوس ثم انتشروا بكرور الأيام من الفرات إلى حماة وحمص ومن دمشق وتدمر إلى كبدوكيا، ولم يكن لهم ملك واحد بل كان لكل فصيلة منهم ملك. ولم يعرف شيء عن الحثيين الشماليين قبل أن يمر الرحالة بروكهارت بحماة سنة 1812 ويرى على جدار أزقتها خطوطا قديمة بالخط المسند المصري أي الهيروغليفي تختلف عن الآثار المصرية وعثر على كثير من مثل هذه الآثار في حماة وحمص وحلب ومرعش وكركميش وغيرها، وقد علم من سحنات الحثيين الشماليين على ما رسموا في الآثار المصرية أنهم أقرب إلى الرومان منهم إلى سكان فلسطين ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة.
ومن أقدم شعوب الشام شعب كان ينزل منذ الزمن الأطول في السقي الأسفل من نهري الفرات وقزل ايرمق ويعتصم في مضايق جبال طوروس، عُرف عند اليونان باسم خيطايوس وعند العبران بخطي خطيم وعند الآشوريين بخاطي وعند المصريين بخايطي خاطي وعرفه المتأخرون بالحثيين، وهو شعب غير سامي مجهول اللسان. وأصل العبرانيين أو اليهود سبط من الساميين الذين نزلوا من جبال أرمينية إلى سهول الفرات على عهد مملكة الكلدان(1/18)
الأولى وضربوا نحو الغرب فجازوا الفرات فالبادية فالشام حتى انتهوا إلى عبر الأردن وراء فينيقية. وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر. قال هشام الكلبي: ما
أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب يسمى العبر وإليه ينسب العبريون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات حينئذ. والعبرانيون كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة ولم يحرثوا الأرض، ولا سكنوا الدور والمنازل، وقد دعيت ديارهم أرض الميعاد أو أرض كنعان أو فلسطين. ودعاها اليهود أرض إسرائيل ثم دعيت بعدُ اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة، وكان عدد الإسرائيليين أيام عزهم 601. 700 رجل يحمل السلاح منقسمين إلى اثني عشر سبطا.
الآراميون والعناصر الأخرى:
وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عَمَّ اسم آرام هذه الديار فأصبح القسم الأكبر من سورية يسمى آراماً وسكانها الآراميين وقد ورد اسم آرام في التوراة مضافا عدة مرات مثل آرام رحوب وآرام معكة وآرام صوبا. وقيل إن إرَم الواردة في القرآن مضافة أيضا (إرم ذات العماد) هي دمشق بعينها. وللمفسرين في ذلك أقوال كثيرة ليس هذا محل إيرادها. وفي الشام عناصر منوعة من نسل حام بن نوح وسام بن نوح ويافث بن نوح. أي إن فيها الدم الآري والقافي القافقاسي والعربي والتركي وبعبارة أصرح فيها بقايا من الشعب الآشوري والبابلي والكلداني والكنعاني والفينيقي والعبراني والحثي والفارسي والروماني واليوناني والتتري والعربي. وكانت منذ عهد بني إسرائيل موطن العصبيات وفيها على رأي ابن خلدون قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة واكريكش والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعا في العصبية، ولذلك يتعذر ردُّ كل جنس إلى جنسه اليوم بعد هذا التمازج الذي دام أكثر من(1/19)
ستين قرنا في هذه البوتقة الجميلة مضافة إلى الأصول التي كانت فيها من قبل ونعني بهذه البوتقة الديار الشامية.
العناصر القديمة والعرب:
كل أُمة عظيمة عرفت في الشام طال عمرها بضعة قرون ثم فنيت في غيرها وأُدعم الضعيف في القوي وتمثل المغلوب في الغالب مع توالي الأيام والليالي. وهكذا يقال في السريان والعبران واليونان والرومان. ويمكن أن يقال في الجملة إنه كان في الشام منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد شعوب كثيرة أهمهم الكنعانيون النازلون في الجنوب والوسط والشمال والآراميون، وما وراء ذلك من الشمال يسكنه الحثيون. ولم تطل حياة عنصر في صحة بالشام كما طالت حياة العرب فإنهم فيها على أصح الأقوال منذ زهاء ألفين وخمسمائة سنة وأوصله بعضهم إلى نحو أربعة آلاف سنة، وهم الذين اندمج فيهم عامة الشعوب القديمة واستعربت فلم تعد تعرف غير العربية لسانا ومنزعا. ولذلك كان من المعقول أن يدل الشامي بعربيته أكثر من إدلاله بفينيقيته وروميته وسريانيته وعبرانيته. وفي تاريخ فلسطين أن العرب دخلوا فلسطين قبل الإسلام بقرون. والدليل أن نرحم سين ابن سرجون غزا فلسطين سنة 3800 ق. م. وصادف في سينا حكومة عربية ثم حارب قبيلة معان العربية وأسر أميرها، وقد ظهر من آثار بابل ما يثبت ذلك. ومنها أن سرجون الثاني غزا عرب البادية الذين اعتدوا على السامرة وأخضع قبائلهم ومنها ثمود ومدين ومساكنهم شرقي الأردن وحارب عباديد وأخذ منهم طائفة وأسكنها في السامرة. ولما جاء الإسكندر إلى غزة وحاصرها كانت حاميتها عربا فقاومته أشد مقاومة، ومنها أن أحد تلامذة المسيح بشر بلغات عديدة منها اللغة العربية كما ورد في أعمال الرسل، ومنها أن الحارث حاكم دمشق كان عربيا لما دخلها بولس الرسول كما ورد في رسالته إلى أهل مدينة كورنثوس، ومنها أن تيطس لما جاء لفتح القدس كان معه الحارث ملك العرب يقود فرقة عربية، ومنها أن هركانوس المكابي التجأ إلى الحارث ملك العرب فأنجده وساعده
على أخيه(1/20)
ارستوبولس، ومنها أن فيلبس الروماني الذي صار إمبراطورا في رومية سنة 244 ب. م. كان عربيا من بُصرى في حوران.
والغالب أن في العرب خاصية التمثيل إذا جاوروا شعبا قربوه من مناحيهم وأدخلوا عليه لغتهم، وهم المادة العظمى التي ما زالت تفيض على الشام. وأهل الوبر والمدر أو البادية والحضر منهم، من أصبر الأمم على الحروب والأسفار الطويلة والاكتفاء بميسور العيش، لكنهم لا يصبرون على الضيم والأذى. ولطالما غزوا من جزيرتهم العراق وفارس والجزيرة والشام، ولم يسمع أن حكمتهم أمة وقد تمكنوا كما قال جويدي من غزو الأعداء. ولهم المفازة التي بينهم وبين العراق والشام أي بادية الشام والنفود، ومن هجم عليهم في ديارهم لم تدم سلطنته عليهم كملوك الآثوريين أو رجع بالخيبة والافتضاح كغالوس.
دول العرب الأقدمين:
كانت العرب تختلف إلى الشام قبل الإسلام بقرون طويلة، قامت لهم فيها وفي جوارها دول عظيمة خلقت من آثارها مما دلَّ على عظمتها، فمنها دولة النبط ويغلب في أسماء ملوك النبطيين اسم الحارث وعبادة ومالك وهم عرب من بقايا العمالقة، والعمالقة قوم من عاد وهم القوم الجبارون في الشام. ولم تخلف البتراء غير تدمر وأصل ملوكها من سلالة عربية أيضا. وقد أبقت هاتان الدولتان من أصولهما وحاميتهما جندا كثيرا أصبحوا بعدُ من جملة سكان الشام والمادة الأولى للعربية فيه. قال نالينو: النبط أو النبيط في اصطلاح العرب في القرون الأولى للهجرة اسم أهل الحضر المتكلمين باللغات الآرامية الساكنين في الشام وخصوصا في الصقع الواقع ما بين النهرين، وليسوا النبط أو الأنباط الذين اتسعت مملكتهم في أرض الحجاز الشمالية إلى حدود فلسطين ونواحي دمشق.
سليح وغسان والضجاعم:
وقد ذكر المؤرخون أن نزول العرب في ديار الشام أقدم من ذلك(1/21)
بقرون فإن تكلت فلاسر أحد ملوك أشور غزا الشام مرارا من سنة 743 إلى 732 ق. م. وأخضع في خلال ذلك السامرة ودمشق وصور وحماة وعرب البادية بين فلسطين ومصر وكانت عليهم يومئذ ملكة اسمها حبيبة. وقيل: إن أول من دخل الشام من العرب سليح وهو من غسان - وغسان ماء نزل عليه قوم من الأزد بين رِمَع وزبيد في اليمن فنسبوا إليه - ويقال من قضاعة فدانت بالنصرانية وملَّكَ عليها ملك الروم رجلا منهم يقال له النعمان بن عمرو بن مالك فلما خرج عمرو بن عامر مزيقيا من اليمن في ولده وقرابته ومن تبعه من الأزد أتوا أرض عك في اليمن ثم أرض الحجاز وصار منهم قوم إلى الشام، منهم آل جفنة ملوك الشام فكتب سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم فأذن لهم على شروط شرطها عليهم.
وبنو غسان في الحقيقة حي من الأزد على رواية المسعودي من القحطانية قال أبو عبيد: وهم بنو جفنة والحارث وهو ثعلبة والعنقاء وحارثة ومالك وكعب وخارجة وعون بن عمرو بن مزيقيا. وذكر الحمداني أن في البلقاء طائفة منهم وباليرموك الجم الغفير وبحمص منهم جماعة. وحكم ملوك غسان حوران والبلقاء والغوطة وحمص ودمشق. قال المسعودي: وكانت ديار ملوك غسان باليرموك والجولان وغيرهما بين غوطة دمشق وأعمالها، ومنهم من نزل الأردن وقد أخرجت غسان من الشام سليحا وصاروا ملوكها، وأول من ملك جفنة بن عمرو فقتل ملوك قضاعة من سَليح الذين كانوا يدعون الضجاعمة أو الضجاعم ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم وجميع ملوك جفنة من آل غسان اثنان وثلاثون ملكا لبثوا في ملكهم ستمائة وست عشرة سنة وقيل أربعمائة سنة.
التنوخيون:
هذا في الجنوب أما في الشمال فقد نزل التنوخيون قبل الإسلام بقرون، وسموا تنوخيين لأنهم حلفوا على المقام بالشام، والتتنخ والتنوخ المقام، كانوا قبائل تتاخم منازلها مملكة الروم، فلما غزا ملك الفرس الروم، وأذرع فيهم القتل والسبي وخرب العمائر، أنفذ ملك الروم إلى تنوخ يستنجدهم(1/22)
على ملك الفرس فأنجدوه، وقاتلوا معه قتالا شديدا، ثم سألوا ملك الروم أن يتولوا حرب الفرس منفردين عن جند الروم لتظهر له طاعتهم وغناؤهم فأجابهم إلى ذلك فقاتلوا الفرس وظفروا بهم، فأُعجب بهم ملك الروم وفرق فيهم الدنانير والثياب وقربهم وأدناهم وأقطعهم سورية وما جاورها من الأصقاع إلى الجزيرة. وسورية مدينة بقرب الأحصّ على جانب البرية. قال ابن العديم: هذا منتهى أمرهم في الجاهلية.
ولم يعرف الزمن الذي كان فيه التنوخيون، وبعضهم يقول: إنهم كانوا في أواخر القرن الثالث للمسيح ويقول المسعودي: إن قضاعة بن مالك بن حمير أول من نزل الشام وانضافوا إلى ملوك الروم فملكوهم، بعد أن دخلوا في دين النصرانية، على من حوى الشام من العرب، فكان أول ملوك تنوخ النعمان بن عمرو بن مالك، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان ابن عمرو، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان ولم يملك من تنوخ غيرهم. ثم وردت سليح الشام فتغلبت على تنوخ وتنصرت فملكتها الروم على العرب الذين بالشام. قال: وغلبت غسان على من بالشام من العرب فملكها الروم على العرب وإن من ملكته الروم من اليمن بالشام تنوخ والضجاعم من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وغسان استكفاء بهم من يليهم من بادية العرب.
المهاجرات والايطوريون:
والغالب أن معظم مهاجرات العرب إلى الشام كانت تقع عقيب حوادث طبيعية في
أرضهم من جفاف وطوفان وجدب وموتان، فيستهويهم بخصبه، وينتجعون هناءة العيش في أرجائه. وفي الأغاني لما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب قام رائدهم فقال: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، والديباج والحرير، فليلحق ببصرى والحفير، وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان.
ومن الدول العربية التي اشتهرت زمن دخول الرومان إلى سورية دولة الإيطوريين ومعنى الإيطوريين بالعبرية الجبليون، وهم شعب عربي جاءوا(1/23)
من ايتورة أي الجيدور شمالي حوران واشتهروا برمي النشاب فاستولوا بمضائهم الحربي على جبل الشيخ حرمون والبقاع إلى فينيقية، وبعض أسماء الجنود الجيدوريين التي جاءت في الكتابات اللاتينية باللغة الآرامية وبعضها باللغة العربية. قال دوسو: لم تكن هجرة العرب إلى سورية مما ينسب لإدارة الرومان كما يظن بعضهم بل إن الأحوال قد سهلت طرقها في ذاك العصر وضمنت لهم رسوخ قدمها في ظل السلام. فقد كانت مدينة حمص في يد حكومة عربية قبل وصول القائد بونبيوس إلى سورية وأن الأقيال الذين تولوا أمر تلك الديار لتطلق عليهم ألقاب عربية صرفة، كما يفهم من آثار الصفا. ولما جاء الإسكندر إلى الشام كان العرب يحتلون لبنان.
سليح وعاملة وقضاعة:
وممن يجب عدهم في المهاجرة الأول من العرب إلى الشام سليح الذين أشرنا إليهم آنفا فقد قال البكري: سارت سليح بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة يقودها الحدرجان بن سلمة حتى نزلوا ناحية فلسطين على بني أذينة بن السميدع من عاملة وانتشر سائر قبائل قضاعة في القطر، يطلبون المتسع في المعاش ويؤمون الأرياف والعمران، فوجدوا بلادا واسعة خالية في أطراف الشام قد خرب أكثرها،
واندفنت آبارها، وغارت مياهها، لإخراب بخت نصّر لها، فافترقت قضاعة فرقا أربعا ينضم إلى الفرقة طوائف من غيرها يتبع الرجل أصهاره وأخواله فسار ضجعهم ابن حماطة ولبيد بن الحد رجان السليحي في جماعة من سليح وقبائل من قضاعة إلى أطراف الشام ومشارفها وملك العرب يومئذ ظرب بن حسان بن أذينة ابن السميدع بن هزبر العمليقي فانضموا إليه وصاروا معه فأنزلهم مناظر الشام بين البلقاء إلى حوارين إلى الزيتون جبال فلسطين فلم يزل ملوك العماليق يغزون معهم المغازي ويصيبون المغانم حتى صاروا مع الزباء بنت عمرو بن الظرب اللخمي واستولوا على الملك بعدها وظلوا ملوكا حتى غلبتهم غسان على الملك، قال بعض آل سعد بن ملكيكرب يذكر منازل(1/24)
من خرج من اليمن وقد ذكر غسان وقضاعة وكلبا:
وغسان حيٌّ عزهم في سيوفهم ... كرام المساعي قد حووا أرض قيصر
وقد نزلت منا قضاعة منزلاً ... بعيداً فأمست في بلاد الصنوبر
وكلب لها ما بين رملة عالج ... إلى الحَرَّة الرجلاء من أرض تَدمر
وعالج رمال معروفة في البادية، والحرة الرجلاء في ديار بني القين في أطراف الشام بين حوران وتيماء، والشاعر يقول إنها من أرض تدمر. وفي تاريخ الأمم الإسلامية: إن الضجاعمة ملوك اصطنعهم الرومان ليمنعوا عرب البرية من العبث وليكونوا عدة على الفرس وولوا منهم ملكا ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهبولة.
لخم، جذام، عاملة، ذبيان، كلب:
ذكر الهمداني مساكن من تشاءم من العرب أي دخل الشام فقال أما مساكن لخم فهي متفرقة وأكثرها بين الرملة ومصر في الجفار ومنها في الجولان ومنها في حوران والبثنيّة، ومدينة نوى، وبها خلف بن جبلة القصيري وابن عزير اللخمي مسكنه طرف جبال الشراة، وأما جذام فهي بين مدين إلى تبوك فإلى أذرح ومنها
فخذ مما يلي طبرية من أرض الأردن إلى اللجون واليامون إلى ناحية عكا، وأما عاملة فهي في جبلها مشرفة على طبرية إلى نحو البحر، وأما ذبيان فهي من حد البياض بياض قرقرة - والقرقرة الأرض الملساء - وهو غائط - والغائط كالغوطة المطمئن من الأرض - بين تيماء وحوران لا يخالطهم إلا طي وحاضرهم السواد ومرو والحيانيات - والحيانية كورة بالسواد من أرض دمشق وهي كورة جبل جرش قرب الغور - وأما كلب فمساكنها السماوة - والسماوة الأرض المستوية لا حجر بها وهي البادية بين الكوفة والشام - ولا يخالط بطونها في السماوة أحد. ومن كلب بأرض الغوطة عامر بن الحصين بن عليم وابن رباب المعقلي ومن بني الحارث بن كعب بيت يسكنون بالفلجة من أرض دمشق والفلجات في شعر حسان بالشام كالمشارف والمزالف بالعراق والمشارف جمع مشرف قرى قرب حوران منها بصرى.(1/25)
جهينة، القين، بهراء، تنوخ:
ثم اللخم ومن يخالطها من كنانة ما حول الرملة إلى نابلس ولهم أيضا ما جاز تبوك إلى زغر - قرية بمشارف الشام - ثم البحيرة الميتة. وللخم أيضا الجولان وما يليها من الأرجاء نوى والبثنية وشقص من أرض حوران، ويخالطهم في هذه المواضع جهينة وذبيان ومن القين وعن أيسر جبال الشراة مدائن قوم لوط قال: وفي الحيانيات وما يليها ديار القين حيث كانت بقية من جديس إخوة طسم، فإذا جزت جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما يليها فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم، فإن تياسرت من حمص عن البحر الكبير وهو بحر الروم وقعت في أرض بهراء، ثم من أيسرهم مما يصل البحر تنوخ وهي ديار الفضيض سادة تنوخ ومعكودهم المقيم الملازم، ومنها اللاذقية على شاطئ البحر ثم تقع في نصارى وغير ذلك إلى حد الفرات، وما وقع في ديار كلب من القرى تدمر
وسلمية والعاصمية وحمص وهي حميرية، وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفر طاب لكنانة من كلب.
إياد وطييء وكندة وحمير وعذرة وزبيد وهمدان
ويحصب وقيس:
يؤخذ مما قاله اليعقوبي أن أهل حماة قوم من يمن والأغلب عليهم بهراء وتنوخ وصوران - كورة بحمص - وبها قوم من إياد، وأهل حمص جميعا يمن من طييء وكندة وحمير وكلب وهمدان وغيرهم من البطون، وأهل التمة من أقاليم حمص كلب، وأهل سلمية من ولد عبد الله بن صالح الهاشمي ومواليهم وأهل تدمر كلب، وتلمنس مساكن إياد وتل منس حصن قرب المعرة، ومعرة النعمان أهلها تنوخ وأهل البارة بهراء وفامية عذرة وبهراء، وأهل مدينة شيزر قوم من كندة ومدينة كفر طاب والأطميم، وهي مدينة قديمة وأهلها قوم من يمن، من سائر البطون وأكثرهم كندة وأهل اللاذقية قوم من يمن من سليح وزبيد وهمدان ويحصب وغيرهم، وأهل مدينة جبلة همدان، وبها قوم(1/26)
من قيس ومن إياد، ومدينة بانياس وأهلها أخلاط، وأهل مدينة انطرطوس قوم من كندة.
قال: وكانت دمشق منازل ملوك غسان والأغلب على أهلها أهل اليمن وبها قوم من قيس، وأهل الغوطة غسان وبطون من قيس وبها جماعة من قريش، وجبال ومدينتها عرندل - قرية من أرض الشراة - وأهلها قوم من غسان ومن بلقين وغيرهم ومآب وزغر وأهلها أخلاط من الناس، والشراة ومدينتها أذرح وأهلها موالي بني هاشم، وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده. والجولان ومدينتها بانياس وأهلها قوم من قيس أكثرهم بنو مرة، وبها نفر من أهل اليمن، وجبل سنير - أي لبنان الشرقي ويدخل فيه جبل قلمون
ووادي التيم - وأهلها بنو ضبة وبها قوم من كلب.
واختلف الباحثون في الغسانيين إذا كانوا حكموا دمشق أم لم يحكموها وكون منازلهم كانت بجلق صحيح نقله ثقات العرب وورد في شعر حسان وقال نولدكه: إن بني غسان لم يتولوا الحكم إلا على قبائل حوران وشرقي الأردن. وقد قال الأخنس بن شهاب من شعراء الجاهلية:
وغسّان حيّ عزهم في سواهم ... يُجالد منهم مقنب وكتائب
وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم ... لهم شَرَك حول الرُّصافة لا حب
معناه هم ملوك ولم يكونوا كثيرا، وكانت الروم توليهم وتقاتل عنهم فعزهم في غيرهم، وكانوا نزولا على قوم من العرب. والمقنب الجماعة والشرك اللاحب الطرق المدمثة.
الفرس والزط:
وبعلبك وأهلها قوم من الفرس، وفي أطرافها قوم من اليمن، وجبل الجليل وأهلها قوم من عاملة ولبنان وصيدا وبها قوم من قريش ومن اليمن، وكورة عرقة - شرقي طرابلس - ولها مدينة قديمة فيها قوم من الفرس ناقلة وبها قوم من ربيعة من بني حنيفة، ومدينة طرابلس وأهلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان، كما نقل منهم إلى جبيل(1/27)
وصيدا وبيروت. وقد نقل معاوية قوما من فرس بعلبك وحمص وإنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا سنة 42 ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى إنطاكية جماعة. والغالب أن الفرس عند دخول العرب المسلمين إلى الشام كانوا أصحاب مكانة حتى جرى ذكرهم بالتنصيص في العهد الذي أعطاه أبو عبيدة إلى أهل بعلبك رومها وفرسها وعربها.
وقال البلاذري: نقل معاوية في سنة 49 أو سنة خمسين إلى السواحل قوما من
زط البصرة والسبايجة وأنزل بعضهم إنطاكية، وكان الوليد بن عبد الملك نقل إلى إنطاكية قوما من الزط السند. وكثرت هجرة الناس على اختلاف عناصرهم إلى هذا القطر لأن قصبته أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى.
الأخلاط والسامرة وجذام وعذرة ونهد وجرم والأزد:
وأهل مدينة طبرية قوم من الأشعريين هم الغالبون عليها، وأهل صور وعكا وقدس وبيسان وفحل وجرش والسواد أخلاط من العرب والعجم. وأهل الرملة أخلاط من العرب والعجم، وذمتها سامرة، وأهل مدينة نابلس أخلاط من العرب والعجم والسامرة، وأهل كورة جبرين قوم من جذام، وأهل جند فلسطين أخلاط من العرب من لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة. وذكر القلقشندي أن بني كلب كانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل الجوف كما نزلوا تبوك وشيزر وحلب وبلادها، وفي تدمر والمناظر أقوام منهم، ومن بني عذرة أقوام بالشام، وكذلك من بني نهد وفي غزة جرم طيىء وللأزد بقايا في زرع وبصرى، ولغسان بقايا بالبلقاء واليرموك وحمص وهذا في القرن الثامن للهجرة، وكان غسان وجذام وكلب ولخم وغيرهم من القبائل يعدون من المستعربة، كما قال ابن البطريق، استجلبهم هرقل لما سمع أن المسلمين فتحوا فلسطين والأردن وصاروا إلى البثنية. ولما وصل أبو عبيدة بن الجراح فاتح الشام إلى حاضر حلب وهو قريب منها جمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم، وكانوا أرسلوا إلى خالد بن الوليد أنهم عرب وأنهم إنما حشروا مع الروم ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.(1/28)
قيس ويمن وإحصاء السكان:
رأينا في ما تقدم من النقول أن كل إقليم بل كل بلد ناله حظ من نزول العرب في أرجائه وذلك قبل الإسلام وبعده:
بها غرر القبائل من معد وقحطان ومن سروات فهر ومجموع أصولهم يرجع إلى قيس ويمن، وهم الذين كان يطلق عليهم اسم العشران. وكثيرا ما كانت تقع بينهم حروب أهلية تسيل فيها الدماء وينادي فيها يا للثارات. انتشروا من الجنوب إلى الشمال ودام ذلك إلى العهد الأخير، وكانت بقايا هذه النغمة في لبنان إلى القرن الماضي فدثرت. وآخر حرب نشبت بين قيس ويمن الحرب التي وقعت في قرية خربثة بفلسطين والحرب التي نشبت في قرية عين دارة في جبل لبنان سنة 1710 م. ويتعذر الآن الحكم على أجيال العرب التي نزلت الشام لما طرأ على القطر من ضروب البلاء كالوباء والجدب والزلزال والظلم والجلاء. وقد ذكر لامنس أن العرب المسلمين لما انتهوا من أمر الجابية وعمواس ودابق أي لما فتحوا الشام برمته أنشئوا ينزلون المدن والقرى وقد دخل منهم قبائل برمتها قدرها من مائة إلى مائتي ألف ونظن هذا التقدير أقل من الحقيقة لأن المسجلين بديوان العطاء في دمشق فقط كانوا في الصدر الأول خمسة وأربعين ألفا فما بالك بسائر من كان يجري عليه العطاء في البلدان الأخرى وغيرهم من التجار وأصحاب الزرع والضرع؟ قال: فلو فرضنا أن نصفهم قتلوا في الحروب فيبقى النصف الآخر أمام السكان الأصليين وكانوا من أربعة إلى خمسة ملايين، وكان في الشام على عهد الرومان نحو سبعة ملايين. وقال بعض الباحثين من الإفرنج: إن الشام على عهد الإسكندر أي قبل المسيح بثلاثة قرون كان يسكنها عشرون مليونا من البشر، ولما جاءت العرب في القرن السابع كان سكانها قد نقصوا حتى بلغوا عشرة ملايين وفي عهدنا بلغ عددهم نحو سبعة ملايين.
المردة والجراجمة والأرمن والروم والموارنة:
لقب أهل لبنان بالمردة أي العصاة لعصيانهم أمر ملك الروم في عدم(1/29)
التعرض للعرب. والمردة هم المعروفون في كتب العرب بالجراجمة نسبة لمدينة جرجومة
كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقة قرب إنطاكية وقد صالح الجراجمة المسلمين على أن يكونوا أعوانا لهم وعيونا ومسالح في جبل اللكام، ودخل معهم من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط من أهل القرى ومن معهم في هذا الصلح فسموا الرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم. وكانوا يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم يمالئونهم على المسلمين.
أخذ يوستنيانوس ملك الروم اثني عشر ألف مقاتل من المردة أو الجراجمة على رواية الدويهي إرضاء للخليفة عبد الملك الأموي. وأسكن أبو جعفر المنصور بعض العشائر في الأرض الخالية المجاورة منازل المردة في لبنان. وكان المردة يعتدون على أبناء السبيل بين دمشق وبيروت. ولما جاء المنصور إلى دمشق قدم عليه الأمير أرسلان بن مالك من المعرة ومعه جماعة فشكوا إليه توالي القحط عليهم فأقطعهم جبال بيروت الخالية وعهد إليهم بحفظ الطريق فنزلوا في عشائرهم بحصن أبي الحبيش ثم نزلوا جبل المغيشة ظهر البيدر ومنها امتدوا إلى سن الفيل، وصارت بينهم وبين المردة وقائع. وفي أوائل حكم العباسيين أخرج صالح بن علي قوما من الأرمن واللان ممن كانت الروم تسيرهم من أرمينية مع جاثليقهم وأسكنهم الشام، ومن هذا اليوم امتنع ملوك الروم أن يسكنوا في سلطانهم أحدا من الأرمن ولا سيما في المواضع القريبة من الثغور أي ثغور الشام أو بلاد قيليقية. وفي سنة 189 أرسل هارون الرشيد منشورا إلى ثابت بن نصر الخزاعي أمير الثغور الشامية ومناشير أخرى إلى باقي عمال الشام أن يطلقوا التنبيه في البلاد بالرحيل إلى لبنان لتشتد قوة أمرائه. ومثل ذلك وقع منذ خمسة قرون، فهاجرت مئات من الأسر المسيحية في القرن الرابع عشر وبعده من حوران وما إليها إلى لبنان، واعتصمت في معاقله ولا سيما بعد الفتح العثماني، وذلك تفاديا من قوة
الشيعة في تلك الديار، كما أن الموارنة انتقلوا من أرجاء حمص وجبل سنير وظلوا ينتشرون في شمالي لبنان حتى وصلوا إلى كسروان والمتن والشوف وأقصى لبنان في جزين، كما انتقل الدروز في(1/30)
الأعصر الثلاثة الأخيرة من الشوف ووادي التيم وغيرهما إلى جبل حوران الذي كان يسمى جبل الريان وجبل بني هلال أو امالدانوس وأصبحوا فيه الأكثرية المطلقة. وكما هاجر النصارى الشرقيون إلى القدس من أرض البلقاء وعمان وعرفوا بالمشرقيين ومحلتهم بالمشارقة. وبهذا رأينا أن الهجرة من صقع إلى صقع من أصقاع هذا القطر والهجرة من القاصية والهجرة إلى القاصية لم تنقطع في الإسلام كما أنها كانت كذلك منذ جلاء بني إسرائيل إلى بابل بل قبلها مما لم تبلغنا بالتفصيل أخباره.
التركمان والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم:
نزل التركمان على عهد دولة بني مرداس العربية في شمالي حلب، وسير الأتابك زنكي طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير اليارق إلى الشام وأسكنهم في ولاية حلب وأمرهم بجهاد الإفرنج وملكهم كل ما استنقذوه منهم جعله ملكا لهم. ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة ستمائة. وأسكن صلاح الدين كثيرا من التركمان والأكراد في لبنان وساحله. والتركمان والأكراد كثروا جدا في الشام على عهد الدولتين النورية والصلاحية، وكان قسم عظيم من جند المسلمين إذ ذاك منهم، فتديروا الأقاليم واستعربوا. ولم تجيء دولة المماليك حتى كثر الشراكسة في هذه الديار واستعربوا هم وحكومتهم مع الزمن. وفي عهد العثمانيين نزل قبائل من التركمان في بغراس بيلان وما إليها وعادت هذه فتعربت بمن كان نزلها من الإسماعيلية العرب الذين أخضعوا لسلطانهم تلك الجبال، جبال اللكام وما إليها.
جاء القرن الحادي عشر وفي الشام كما قال كاتب جلبي أنواع الألسنة كالعربية والتركية والكردية والفارسية والهندية والأفغانية والسليمانية وهذا كله في دمشق
قال: وهناك مغاربة وسريان وعرب، وفي الإسكندرونة وطرابلس وصيدا والقدس اليونان واللاتين والطليان والفرنسيون والأسبان والإنكليز والنمساويون والبولونيون والروس والموسكوف والقبط والحبش والأرمن وجميع طوائف النصارى اهـ.(1/31)
ومن أعظم شعوب أوروبا عراقة في هذه الديار البنادقة والبيزان والجنويون والطوسقانيون من أهل إيطاليا وكانت أهم تجارة البحر المتوسط في أيديهم من القرن الخامس إلى القرن التاسع للهجرة ومنهم من توالد في ديارنا وملك الدور والتجارات الواسعة.
المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن:
وفي أواخر القرن الماضي جاء الشام قبائل كثيرة وجاليات مهمة من الطاغستان والبشناق والششن والشركس والمغاربة فنزلوا بعض القرى في فلسطين مثل قيسارية، وبعض بلاد الجنوب مثل عمان وعين صويلح وناعور ووادي السير، وبعض القرى في إقليم الجولان ومنها القنيطرة وما إليها من القرى، وبعض قرى حمص وحلب، فلم يأتِ عليهم بطن حتى استعربوا محتفظين بلغاتهم الأصلية، كما استعرب من قبل التراكمة والأكراد. وهناك بقايا من موظفي الترك سكنوا بعض مدن الشام على عهد العثمانيين وامتزجوا بأهلها وتعربوا.
ومن أهم المهاجرين المتأخرين مهاجرو الصهيونيين من الإسرائيليين إلى فلسطين، وأكثرهم ممن اضطهدوا في روسيا وبولونيا ورومانيا، ومنهم من كانوا من العنصر الجرماني وهؤلاء يتعاصون على التعرب وقد جعلوا من لغاتهم الأصلية واللغة العبرية ألسنهم المدنية والدينية، ويقدرون الإسرائيليين عامة في فلسطين بنحو مليون ونصف مليون كان الألمان كثرتهم الغامرة، وقل عدد العرب فيها بعد أن طردهم اليهود من أرضهم وقدر عدد النازحين من المسلمين والنصارى بتسعمائة ألف تشردوا في الأقطار المجاورة، وما ندري هل يعلم أبناء إسرائيل
العرب لسانهم أم يخضع العبرانيون بحكم الطبيعة إلى التعرب بعد جيلين أو ثلاثة كما جرى في كل مكان وطئتها أقدام العرب. وكذلك يقال في مهاجرة الأرمن والروم في الشام، فقد قذفت الحوادث الأخيرة في قيليقية وأزمير نيفاً ومائة وثمانين ألف نسمة أكثرهم من الأرمن، نزلوا حلب ودمشق وبيروت وغيرها من البلدان الصغرى. وقد عاد قسم عظيم منهم فجلا عن الديار الشامية، قصد بعضهم إلى أمريكا(1/32)
والآخر إلى مملكتهم الجديدة. وما يدرينا أيضا إذا كان من نزلوا الشام يستعربون كما تترك أجدادهم في آسيا الصغرى. وأصبح الأرمني والرومي لا يعرف غير التركية يتكلم بها في داره ويفهم بها صلواته، أم يؤلفون كتلة جديدة في وسط هذا المجموع العربي الكبير.
عوامل النمو:
ولولا أن مضى على الشام إلى قبيل الحرب العامة الأولى خمسون سنة وهو يرسل من أبنائه كل سنة إلى اليمن زهاء عشرة آلاف مجند يهلك أكثرهم كما أكد لي الثقة لقلنا ما زالت جزيرة العرب إلى اليوم ترسل إلى الشام من أبنائها أناسا يسكنونها ويمتزجون بأهلها كأن هذه الجزيرة العظيمة بعض ولايات الشام تعطيها أكثر مما تأخذ منها كما تعطي المدن الصغيرة للعواصم وقلما تعطي هذه لغيرها من أعمالها. ولولا اعتدال المناخ والرضا بالدون من العيش وتعدد الزوجات في الطبقة النازلة من الشعب والاعتقاد بالقدر وترك الأبوين المجال للتوالد لظهر عجز كبير في عدد السكان خصوصا بعد أن مُنيت الشام بالهجرة على مقياس واسع وغفل عن العناية بالأسباب الصحية. والأمم يكثر سوادها على قول سكريتان بأربعة عوامل وهي الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات وبنقيضها تقفز الأرض ويقل ساكنوها. وقد كان أبناء الشام منذ عهد الدولة الرومانية في كل مكان كما تراهم الآن وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب
عندما حمل حملته على الرين. والبشر في فطرتهم التنقل وللسلطان الأرضي والسلطان الطبيعي آثار في ذلك مسطورة مشهورة.
العرب في الشام والاختلاط:
وما زالت إلى اليوم سحنات بعض سكان الأصقاع الشامية كحوران والبلقاء تنم عن أُصول عربية صرفة على ما نرى ذلك ماثلا في الطوائف التي(1/33)
احتفظت بأنسابها العربية ولم يدخلها دم جديد كسكان الشوف ووادي التيم وجبل حوران وجبال الكلبية. وما طول القامات واتساع الصدور ومتانة العضلات والجملة العصبية والأدمغة في الأفراد إلا أدلة ناصعة على ما ورثه الشاميون من الدم العربي. وفي الشام جميع الأمزجة يكثر الدمويون مثلا في داخل القطر كالقدس ونابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأنطاكية، كما يكثر الصفراويون العصبيون في يافا وحيفا وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة من مدن الساحل. وإن ما في تركيب أدمغة السوريين من أشكال الرؤوس كالشكل البيضوي المستطيل المعروف عند الإفرنج ب دوليكوسفال - الشكل المدور المنبسط المعروف ب براكيسفال ليدل كل الدلالة على مبلغ الشاميين من الذكاء والمضاء فقد قال فوليه: إن اتساع الجبهة يشعر باستعداد الحواس العقلية، وامتداد القذال ينم عن استعداد للشهوات الجسمية. وفي وجوه السوريين تقرأُ بعض أصولهم القديمة وما امتزجت به من الدم الحديث فسود الشعور والعيون والبشرة إجمالا هم من أصل عربي، وشقر الشعور وزرق العيون وبيض البشرة فيهم الدم القافقاسي. وفي تراكيبهم دم العبيد والزنوج كما فيهم دم العِرق الأبيض. قال جلابرت: إذا فحصت الصور المكتشفة في صيدا تحققت أنه كان يدخل في خدمة السلوقيين رجال من كل فج وصوب، منهم يونان كأهل لقديمونة واقريطش، ومنهم أسياويون كأهل قارية وبيسيدية وليقية وليدية، وإن العقل ليحار باختلاط كل
هذه الجنسيات في جيوش السلوقيين.
وسكان الحولة وأريحا والغور ويقال لهم الموارنة لا يشبهون بالطبع سكان اللبنانين الغربي والشرقي وجبال اللكام لمكان الهواء واختلاف البعد والقرب عن سطح البحر. وابن ضفاف العاصي وبردى ليس في طبيعته كالنازل على ضفاف الأردن والفرات. والاختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار مشهود في كل أُمة، ومع هذا تساوى سكان هذا القطر من حيث الجملة كما قال الجاحظ في العرب: في التربة وفي اللغة والشمائل، وفي الأنفة والحمية،(1/34)
وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا واحداً، وأفرغوا إفراغا واحدا، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط حتى صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض الأرحام. وبعد فإن من نراهم من أبناء الشام على اختلاف أرجائه وهوائه هم سلالة أولئك الجدود ظهروا على الزمن بمظهر آخر فكانوا كأبدع الفسيفساء في الرقعة الجميلة.(1/35)
لغات الشام
اللغة الآرامية والسريانيية والعبرانية والفينيقية
والعربية:
اللغات التي انتشرت في الشام قبل الإسلام كثيرة أهمها اللغات السامية أخوات اللغة العربية وهي السريانية والعبرانية والفينيقية. وقد قسم جويدي أهل اللغات السامية إلى قسمين أكبرين شرقي وهم أهل أثور أي أهل بابل وأشور، وغربي وهو إما شمالي وإما جنوبي، فأما الشمالي منهما فينقسم قسمين كبيرين أحدهما الكنعاني ويشمل العبراني والفينيقي وغيرهما والآخر آرامي. وأما الجنوبي فهو نوعان النوع الأول العربية المعهودة أي لغة القبائل التي سكنت النواحي الشمالية من جزيرة العرب، والنوع الثاني عربية القبائل الجنوبية كسبإ وحمير ويشبه هذا النوع لغة الحبش القديمة. وقد يسمى النوع الأول لسان العرب المستعربة ويسمى النوع الثاني لسان العرب العاربة. فالعبرانية من لغات كنعان ومن اللغات الكنعانية لغة موآب ومن لغات الكنعانيين لغة الفينيقيين وقال: إن اللسان الآرامي هو النوع الثاني من القسم الشمالي في اللغات السامية، وفي هذا اللسان قسمان أحدهما غربي وهو لسان اليهود المتخلفين في فلسطين وفي مصر وهو لسان عدة أمم كالسامرة(1/36)
والنبط وأهل تدمر، والقسم الثاني شرقي وهو لسان اليهود في بابل ولسان السريان وغيرهم.
قال: ومن اللغات الآرامية الغربية لغة الكتابات النبطية وكان الأنباط أُمة عربية الأصل ولغتهم المأنوسة العربية في التكلم والمحاورة بين الناس. والأحرف الهجائية لم تكن معروفة عند العرب.
-
البابلية والكنعانية والكلدانية:
كان أهل الشام منذ الزمن الأطول قبائل سامية من البابليين ولم يزل يهاجر إليها أجيال من الناس سموا الكنعانيين فغلب الكنعانيون البابليين، وباللغة البابلية كتبت رسائل تل العمارنة التي وجدت في مصر سنة 1888م وهي رسائل صدرت عن عمال الشام إلى ملوك مصر قبل موسى وهارون فاستدل علماء الإفرنج أن اللغة البابلية كانت في ذلك العهد لغة الحكومة بين الدول الراقية، وارتأى بعضهم أن الشام كانت تتكلم إذ ذاك بالبابلية، وكان اللسان الكنعاني أخذ يمتزج بلغة بابل، فتغلب بفرعيه العبراني والفينيقي على لغة أشور وبابل. وكان الكلدانيون يتكلمون بالآرامية على رأي بوست وفقا لعادة ديوان الحكومة ولكنها لم تكن لغتهم الخاصة ولا العلمية، أما لغة الكلدانيين الأصلية فالكلدانية القديمة وهي لغة أكد، وقد استعملها سكان بابل الأصليون إلا أنها كانت على وشك الاضمحلال في زمن يُخْت نصر وقد هجرتها الألسنة لذلك الحين، وكان ظهور اللغة المسماة الآن بالسريانية في القرن الثاني بعد المسيح وهجر أهلها استعمالها نحو القرن الثاني عشر.
الحثية والآرية واليونانية واللاتينية:
أما اللغة الحثية فكانت على قول كروفرد في القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل التاريخ المسيحي لغة مستعملة من اللغات الهندية الأوروبية أي اللغات الأوروبية المشابهة للاتينية والآرية الإيرانية والأرمنية، وأن الحثيين أنفسهم من سلالة آرية أُوروبية، ولكن امتزج بهم مع الزمن دمٌ من(1/37)
غير الدم الآري الأوربي أي إن الحثيين من أصل غير سامي ولم تنتشر لغتهم كما قال حتى بين العامة ولم يتوفق البحاثون إلى حل رموزها حتى الآن. فاللغة البابلية كانت منتشرة في الشام منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ثم تغلبت الكنعانية التي تشمل العبرانية
والفينيقية، ثم تغلبت الآرامية على الكنعانية وهما متشابهتان. ولما صار الأمر إلى الفرس بعد البابليين في الشام بقيت اللغة الآرامية اللغة الرسمية.
وفي دولة الروم السلوقية بث خلفاء الإسكندر المدنية اليونانية في سكان سواحل البحر المتوسط، وكانت مع هذا إلى ضعف ولا سيما في لبنان إذ دام أهله على استعمال الآرامية ممزوجة باللغة الفينيقية، وكانت اليونانية اللغة الرسمية ولغة العلماء على عهد الروم والرومان أيضا منتشرة في كثير من الأرجاء. وكانت مدرسة الفقه في بيروت تدرس باللاتينية مدة أربعة قرون. ولكن اليونانية على تأصلها بالنسبة للاتينية لم تشع في العامة. ولما استولى الإيطوريون على لبنان لم يغيروا شيئا من لغته ولا شك في أن لغتهم كانت العربية الآرامية. أما النبط وهم من أقارب الإيطوريين وجيرتهم فإن لغتهم لم تكن سوى لهجة آرامية.
وذكر أحد الباحثين أن الرومان لما جاءوا الشام واستعمروه انتشرت اللغة اليونانية في المراكز الكبرى حتى نسي كثيرون اللغة الفينيقية واللغة الآرامية ولا سيما في طبقة الأشراف وأصحاب الثروة، وبقيت اللغة اللاتينية لغة الحكومة، وحافظ العامة على اللغة الفينيقية والسريانية، وكان الفقهاء يكتبون باللاتينية لغة الفقه والقضاء، والأدباء والفلاسفة باليونانية، وهي اللهجة العامة في الشرق، واللغة الآرامية هي اللغة الرسمية في دولة تدمر. وظل الشاميون يتكلمون اليونانية على عهد انتشار النصرانية وكذلك عمال الحكومة ورجال القضاء، وكان الآراميون أو الأنباط، كما كان يسميهم العرب، في كل محل ما عدا المدن التي كانت مزيجا من عناصر مختلفة.
تنازع السريانية مع العربية:
كانت السريانية لغة عامة في الشام لم تدثر إلا بتملك الرومان على(1/38)
الشرق ونشرهم لغتهم فيه، فدثر مجد السريانية ولم يبق إلا القليل حتى جاء الإسلام وأدخل
العربية. وكانت السريانية على عهد المسيح اللغة العامة في سورية وفلسطين ممزوجة بقليل من العبرية. ورأى دي فوكويه أن جميع الكتابات التي وفق العلماء إلى اكتشافها لا تتجاوز القرن الأول قبل الميلاد واللغة التي كان شعوب سورية يتكلمون بها إلا ما ندر هي اللغة الآرامية وجميع الكتابات التي عثروا عليها في تدمر وحوران وأرض النبطيين كتبت بهذا الفرع من اللغة السريانية. واللغة التدمرية واللغة اليونانية هما الغالبتان على الكتابات المكتشفة في تدمر. وكانت اللغة اليونانية بمنزلة اللغة الرسمية في جميع الأقاليم الشرقية الخاضعة لدولة الرومان. وأما لسان أهل تدمر فهو لهجة آرامية على غاية الشبه بالسريانية. وقال بعضهم: إن التدمرية من اللغات الآرية الغربية تشبه النبطية وفي بعض هذه الكتابات اسم ملكهم أذينة. ومن اللغات الكنعانية لغة موآب في شرقي فلسطين. وفي متحف باريز كتابة قديمة في هذه اللغة وضعها ملك اسمه ميشع يذكر فيها حروبه مع عمري ملك الأسباط أسباط بني إسرائيل ويقال لهم في كتب العرب ملوك الأسباط.
رأي رنان:
وذكر رنان أن الفينيقيين كانوا الواسطة الوحيدة بين العنصر السامي وسائر العالم، وكثيرا ما عرفوا بأنهم اخترعوا أمورا ما كانوا فيها إلا نقلة. وما الفينيقيون سوى سماسرة مدنية كانت بابل مقرها، وظاهر الحال يدعو إلى الاعتقاد بأن بابل التي علّمت العالم أصول المقاييس والموازين قد اخترعت حروف ألف باء مركبة من اثنين وعشرين حرفا. قال: وكانت اللغة العبرية لغة الشعوب في فلسطين عندما دخل بنو إسرائيل إلى الشام وقد ذكرت أسماء الشعوب المذكورة في الإصحاح العاشر من سفر التكوين بجلاء ووضوح الأمم المجاورة لفلسطين، وجعلت اسم كنعان رابطة من روابط القربى بين جميع شعوب الساحل ولبنان، من مدينة حماة
وأرواد في الشمال إلى جرار في فلسطين والبحيرة المنتنة في الجنوب،(1/39)
وهم مجموعة الشعوب التي كان اليونان يطلقون عليهم اسم الفينيقيين.
آراء أخرى:
وذكر يوسف داود أن لسان أهل فلسطين ولا سيما أورشليم في عصر المسيح الآرامي أي السريانية، فكانت اليونانية لغة أجنبية يتكلم بها كثير من الغرباء النازلين في الشام وهي لغة الحكام والحكومة في عهد تلك الدولة. وكثيرا ما كانوا يكتبون بعض المقدسات على ذاك الدور بالعبراني أو السرياني اللاتيني واليوناني، وكان يحرم على اليهود في فلسطين ولا سيما الرجال أن يتعلموا اللغة اليونانية ويباح للنساء تعلمها من باب التزين الجائز لهن. قلت: وهذا من التحكمات الباردة مثل الأمر الصادر عن أحد خلفاء بني العباس من أخذ أهل الذمة بتعلم اللغة السريانية والعبرانية وترك العربية ولكن أمره لم ينفذ لأنه غير معقول.
وقيل: إن الآرامية كانت لغة العامة في عهد المملكة الآشورية وأن الآشورية اللغة الرسمية، وكان الموظفون في العهد البيزنطي القادمون إلى الشام يعتمدون على التراجمة مع الأهليين المتكلمين بالآرامية. ولما انقضى العصر البابلي الآشوري حلت اللغة الآرامية محل البابلية في السياسة والتجارة، وأصبحت اللغة الرسمية لملوك فارس وآرام وتدمر والبتراء. وكانت اللغة الفينيقية تختلف عن السريانية في القرن الأول قبل الميلاد ثم تمازجتا حتى أصبحتا شيئا واحدا، وكانت اللهجة العامة عند يهود فلسطين وهي أقرب إلى الآرامية منها إلى العبرية، يطلق عليها بين اليهود أنفسهم اسم اللغة العبرية وهي تختلف عن لغتهم المقدسة. وذكر رنان أن اللغة السريانية الكلدانية كانت أكثر اللغات انتشارا في أرض الجليل وأن المسيح كان يتحدث بها إلى الناس، وأن الأناجيل كتبت لأول أمرها باليونانية وأصبحت هذه في الشام لغة عامة ولغة علم، وكان من نتائج ذلك دخول الألفاظ اليونانية في
اللغة السريانية بكثرة زائدة حتى إن اللغة اللاتينية لم يكن لها تأثير البتة بين الشعوب السامية، فمن القواعد العامة أن الفتح الروماني لم يستطع أن يقضي على استعمال اللغة اليونانية في القطر وقد رآها متأصلة فيه،(1/40)
على حين كانت اللغة اللاتينية تنتشر في أرجاء الغرب انتشارا هائلا.
وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عم اسم آرام بلاد الشام، فأصبح القسم الأكبر منها يسمى آرام، وسكانها يدعون بالآراميين وهم الذين اختطوا حلب أو حلبون وعادت اللغة الآرامية إلى شيوعها في جهات حلب تمازجها اللهجة البابلية بدليل ما يشاهد في أرجائها من أعلام الأمكنة التي ما زالت تلفظ على أصلها بالفتح إلى اليوم، وسادت اللغة اليونانية بظهور الدولة السلوقية وكانت لغة الخاصة والعلماء ورجال الدولة. ولما تقلص ظلها عادت السريانية إلى ازدهارها يخالطها فرعها التدمري الذي انتشر إذ ذاك في سورية الشمالية على عهد سيادة تدمر في صدر النصرانية. ومن الأقلام التي بقيت في لبنان الكتابة الكرشونية وهي عربية بأحرف سريانية وقد كتب كثير من كتب الموارنة بالكرشوني.
انتشار العربية:
هذا ما كان من أمر اللغات السامية واللاتينية واليونانية في الشام. أما اللغة العربية فكان يتكلم بها قبل الفتح الإسلامي بزمان طويل لما ثبت من انتشار الغسانيين والتنوخيين والنبطيين والسبأيين وغيرهم في الشمال والجنوب وكانت حوران والبلقاء والشراة من الأصقاع التي سبقت غيرها في هذه السبيل. بدليل ما يشاهد من أسماء بعض قراءها العربية مثل جرش، جاسم، تبنة، أذرعات، أذرع، محجة، السويداء، البتراء، نجران، القسطل، القناطر، الحفير، الخ وذلك لأن هذه الأقاليم الثلاثة كانت أقرب إلى الاتصال بالعرب من الجنوب. وكان السابقين إلى نشر
العربية في ديارنا الوثنيون من العرب أولا ثم نصارى العرب ويرجع إليهم الفضل في نشرها بادئ الأمر، فلم تلبث اللغة ستين أو سبعين سنة للفتح الإسلامي أن عم انتشارها في الشام ونقلت الدواوين زمن عبد الملك من اليونانية إلى العربية ونازعت اللغة العربية السريانية فبذتها على صورة مدهشة، وإن كان الضعف قد دب في هذه قبل الإسلام. وتغلبت العربية لغناها وسلاستها وضبط قواعدها وشدة احتياج الناس إليها في مصالحهم. قال ابن خلدون: ولما(1/41)
هجر الدين اللغات الأعجمية وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة اه.
العربية لغة كاملة وفصاحة الشام:
يقول رنان: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسة غنية وأي غنى، متقنة بحيث أنها من ذلك العهد إلى يومنا هذا لم يدخل عليها أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة، ولا أدري إذا كان وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض دون أن تدخل في أطوار وأدوار مختلفة. قال: وما عهدت فتوح قط أعظم من انبساط ظل العربية ولا أشد سرعة منها، فإن العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم، لم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلافات العناصر إلا لغتان اللاتينية واليونانية، ولكن أين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها.
قلنا: وربما ذهب الشام بفضل هذا الشرف الأعظم، ولعله سبق العراق ومصر في الأخذ بمذاهب العرب. لقرب أهلها من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم، حتى إن كتّاب الدولة الأموية استعملوا من الألفاظ العربية الفحلة والمتينة الجزلة ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية، لأن كتّاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها. وليست استفاضة لغة العرب في العراق كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. وقال اليزه ركلو: إن أهل دمشق أكثر السوريين عراقة في(1/42)
العربية وذلك لعلاقتهم المتصلة بالتجارة مع مكة واللهجة العربية فيها أجمل من سائر لهجات الشام. وكان محمد عبده يقول: إن الفصح في لغة الشام أوفر مما هي في لهجة مصر.
كيف انتشرت العربية:
وإذا أردنا استقراء الطرق في نشر العربية في الشام لم نرها حاربت لغة القطر الأصلية على رسوخها فيها، بل سارت في نشرها سير تعقل، وراعى دعاتها سنن الطبيعة والنشوء، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نحلهم ومللهم. ومنذ عدل في القرن الأول عن اللغة الرومية في الدواوين لم تبرح جميع الحكومات التي تعاقبت على هذه الديار تستعمل اللغة العربية في مفاوضاتها وسجلاتها، على أن منها الكردي والتركي والشركسي إلا الدولة العثمانية في آخر عهدها فإنها ألغت الديوان العربي من مراكز الحكومات السورية والفلسطينية واكتفت بالدواوين التركية، وعلى كثرة عنايتها بلغتها في الثمانين سنة الأخيرة لم توفق إلى نشرها إلا بين الموظفين فقط، فكان شأنها هنا شأنها في رومانيا وصربيا وبلغاريا ويونان وألبانيا، امتد سلطانها عليها قرونا ومع هذا لم تستطع نشر لغتها بين سكانها اللهم
إلا بعض ألفاظ شاعت في المصطلحات اليومية. والعرب أجدر من غيرهم بأن يحرصوا على لسانهم وهو لسان مدنية ودين معا، وأن لا يتخذوا عنه بديلا وهو متأصل في هذه الديار قبل الإسلام.
اللغة الصفوية:
إلى الجنوب الشرقي من دمشق في مدخل بادية الشام حول الصقع البركاني المسمى بالصفا، يعثر الباحث على كتابات كثيرة زُبرت على الصخر البركاني والشعب الذي خط هذه الكتابات في القرون الأولى للميلاد هو من أصل عربي، ولغته من اللهجات العربية، وخطه من فصيلة خطوط ديار العرب الجنوبية. وبفضل هذه الكتابات تعرف إحدى اللغات التي كان(1/43)
يتكلم بها في بادية الشام قبل الإسلام، ونقف على مقام رحالة من العرب كانوا على وشك أن ينتقلوا إلى اتخاذ البيوت وعيش الحضارة في الشام. أما الصفويون فلم يكونوا أول من قصد إلى أرض الميعاد ولا آخرهم، بل هم وحدهم الذين عرفناهم قبل أن يتحولوا تحولا كليا أي عندما كان لهم لسانهم وخطهم وأربابهم وعاداتهم. فمن الخطأ الاعتقاد بأن دخول العناصر العربية إلى الشام يرجع فقط إلى الفتح الإسلامي واختراق المسلمين صفوف الروم في وقعة اليرموك ومهاجمتهم الشام، ثم انتشارهم في الشرق حتى أواسط آسيا، وفي الغرب حتى أقاضي شمالي إفريقية ثم إلى أسبانيا. هذا الهجوم قد دل على بلوغ دولة العرب غاية مجدها، فإذا ظهر أن الفتح الإسلامي قد كان من الحوادث الشاذة فهو في الحقيقة نتيجة حركة عادية طبيعية نشأت من اختلاط العرب على الدوام بسكان الحضر ودخولهم أصقاعهم، هذا رأي دوسو وقال: لا ينبغي أن يفهم من لفظة العرب سكان جزيرة العرب فقط بل إنه يتناول أهل الظعن الذين يطوفون أواسط جزيرة العرب وشمالها وجميع بادية الشام.
الصليبيون ولغاتهم والعربية ولبنان:
وما برحت العربية تتأصل القرن بعد القرن في هذا القطر، حتى كانت الحروب الصليبية فخشي عليها أن تنازعها الأولية لغات الصليبيين، خصوصا بعد أن طال مقامهم في إنطاكية والساحل نحو قرنين يتكلمون بلهجات مختلفة أهمها الطليانية والفرنسية. بيد أن اللغة الفرنسية كانت لغة جميع الغربيين النازلين في الشرق، وكان معظم فرسان الصليبيين من الفرنسيين ومنهم جميع الأسر الحاكمة في الشام، على أن بعض أمراء الإفرنج من الصليبيين كانوا تعلموا اللغة العربية ومنهم صاحب قلعة الشقيف، وجاء منهم من ضرب النقود بالعربية مثل أصحاب عكا وصور وبيروت وطرابلس ورسموا عليها حروفا كوفية على شبه النقود الإسلامية، مع رموز نصرانية كالصليب وآيات من الكتاب المقدس. وأصبح نساؤهم ينتقبن كالمسلمات ويلبسن ثياب المسلمات مثلما كان رجالهن يلبسون ثياب الوطنيين.(1/44)
ثم إن بعض أنحاء لبنان قد تأخرت في التعرب بجملتها حتى القرن الرابع عشر للميلاد فيما قيل، وقلَّ انتشار العربية في أعالي لبنان وظل السكان في عدة قرى يتكلمون بالسريانية وذلك لقلة المخطوطات العربية ولا سيما بين الموارنة. وكان أهل بشرّي وحصرون والقرى المجاورة لهما إلى قبيل مائة سنة يتكلمون بالسريانية، كما بقيت إلى اليوم ثلاث قرى في جبل قلمون أي سنير وهي جيعدين ومعلولا وبخعة يتكلم المسلمون من أهلها والمسيحيون مع العربية باللغة السريانية، وسريانيتهم أفصح من السريانية العامة اليوم في آثور والجزيرة والعراق على ما قاله العارفون.
اللغة التركية:
وبينا كان جبل لبنان الشرقي والغربي يحفظان في مغاورهما بقايا اللغة السريانية التي انحصرت في الأديار والبيع، بعد أن انهزمت أمام العربية، كانت بعض أرجاء جبال اللكام وما إليها تؤوي من اللغات اللغة التركية أو التركمانية. وعندما رحل الأشرف قايتباي سنة 882 هـ من مصر إلى أقصى الشام كان الأهلون من اللاذقية إلى البيرة بيره جك يتكلمون بالتركية. قال مؤلف رحلته: وأهل البيرة يتحدثون بالعربي اللطيف أكثر من التركي بخلاف ما تقدم من البلاد، فإنه من حين توجهنا من اللاذقية والى البيرة لم يكن كلامهم إلا التركي.
ولم نعرف العهد الذي انتشرت فيه التركية في الحدود الشمالية من الشام معرفة أكيدة، والمتكلمون بالعربية في بعض الجهات أكثر من المتكلمين بالتركية. ومن شأن أقاليم التخوم على الأغلب أن تتكلم بلغتين ومنهم من يتكلم بثلاث. ونزول الأتراك في جزء صغير من شمالي الشام أقدم من زمن العثمانيين وربما كانوا من زمن السلجوقيين والأتابكيين. ومدينة حلب برزخ بين الديار العربية والديار التركية. وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقل المتكلمون بالعربية وتصبح الأقاليم إلى التركية أقرب وتتكلم بعض قرى كليس بالعربية والتركية والكردية، وجميع السكان عرب من شرق حلب وغربها، ما عدا بعض قرى من عمل حارم فسكانها من(1/45)
الشركس. وسكان العمق أكراد. وفي قضاء الباب قليل من التركمان والأتراك والأكراد والشركس. وأهل قضاء منبج شركس وفيهم عرب، وتغلب التركية على أهل عمل الإسكندرونة. ومن أهل إنطاكية من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية. فيصح أن يقال فيهم: إن تركيهم تعرب وعربيهم تترك. وبعض أهالي قضاء بيلان بغراس يتكلمون بالتركية وكذلك ناحية أردو، والعربية غالبة عليهم، يتكلم نحو نصف سكان مدينة إنطاكية بالتركية ولكن أصولهم عربية على الأكثر وثمانون في المائة من أهل عملها هم عرب لسانا وجنسا، وهكذا يقال
في بيلان وكليس وأردو، ولا يمكن أن نثبت بإحصاء صحيح أن الأتراك يؤلفون في الشام كتلة واحدة ووسطا واحدا كما أن التركمان والشراكسة والطاغستان والششن والبشناق والأكراد والمغاربة لم يؤلفوا شيئا من ذلك، وتراهم يتمازجون كلهم بالبوتقة العربية ويندمجون في العرب. شأن سكان فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الممالك التي كانت جامعتها لسانها، ولا يزالون في الحدود وأواسط القطر يتكلمون بغير لغة الدولة التي يظلهم علمها.
السواد الأعظم والعربية:
ليست العبرة ببقعة مخصوصة وإنما هي بمجموع القطر الذي يراد أن تعزى إليه جنسية أو قومية معروفة وإلا فقد لزم من ذلك أن تعد ولاية أذنة اليوم أو جزء عظيم منها عربية لأن نحو مائة ألف من سكانها عرب بأصولهم، ولسانهم عربي على تأصل الدول التركية والتركمانية في صقعهم، وهم في بعض الأنحاء المتاخمة للشام من جبال اللكام يؤلفون أكثرية السكان. وإذا كان يغلب على بعض سكان الجهة الشمالية من الشام التكلم بلغات متعددة فإن ذلك نتيجة طوارئ تاريخية ودولية، بل نتيجة حكم الغالب على المغلوب وميل هذا إلى التشبه بغالبه. ومن الثابت أن سكان الحدود آخذون أنفسهم بحكم الضرورة بتعلم لغات السكان المجاورين ليتمكنوا من التفاهم وإياهم في المصالح المشتركة المتبادلة ولا سيما الاقتصادي منها كما هو المشاهد في كل مملكة من الممالك. وما الترك في إنطاكية وإسكندرونة إلا مهاجرون(1/46)
مثل مهاجرة السوريين في نيويورك وسان باولو ومن يحاول أن يلبس إنطاكية والإسكندرونة ثوبا تركيا هو كالواقف أمام البداهة، والأولى أن ينظر إذ ذاك إلى عرب مرسين وطرسوس ويردوهما إلى الشام. وما هما من حيث الجغرافية واللسان إلا شاميتان. وبعد فإذا أردنا أن نحصي المتكلمين فقط بغير اللغة العربية في الشام بحدوده الطبيعية لا نراهم
يزيدون على ستمائة ألف من عناصر مختلفة وسط سكان يربي عددهم على سبعة ملايين. والعربية مع هذا تأخذهم فتعربهم وأكثريتهم يهود ثم أرمن وسريان والباقون مسلمون يرون تعلم العربية فرض عين عليهم أو نصارى من أصول عربية يحرصون على لغتهم كما يحرص المسلمون عليها.
رسوخ اللغة:
إذا عرفت هذا فقد ساغ لك أن تقول: إن اللغة العربية دخلت واسعة النطاق إلى الشام من الجنوب منذ خمسة وعشرين إلى ثلاثين قرنا وزادت بالإسلام رسوخا وانتشارا. ولم يمض القرن الأول حتى استعربت وامتزج العرب الفاتحون والمهاجرون بالسكان من السريان فأصبحوا أكثرية مع الزمن وغلبت على الكافة الصبغة العربية غلبة الإنكليزية على أهل كندا والولايات المتحدة الأميركية في القرون الأخيرة. وما أهل كندا وأميركا الشمالية إلا مهاجرة من إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وأسبانيا والمجر وروسيا وغيرهم من الأمم غدوا أمريكاناً بقوميتهم إنكليزا بلغتهم ومناحيهم. وليس في الأرض فيما نعلم صقع تكوّن أهله من عنصر واحد وخلا من عناصر دخيلة امتزجت فيه، بل إن الأمم الكبرى في الغرب وهي خمس أمم أو ست مؤلفة من بضعة أجناس من الناس جمعتها لغة واحدة، وليس عمر أقدم لسان من ألسنة العالم المتمدن اليوم أكثر من عشرة إلى اثني عشر قرنا، على حين أن عمر العربية في الشام أكثر من ذلك بضعفين على أقل تقدير. وكلما دخل هذا الجسم جسم جديد تلقح به وأدغم في مجموعه فزاده قوة ومضاء.
لم ترسخ اللغتان اليونانية واللاتينية في هذه الديار رسوخ السريانية أولاً(1/47)
والعربية ثانياً، وذلك لأن اليونان والرومان كانوا فيها مستعمرين ولم يكونوا من أهلها كما كان السريان. ومن أجل هذا لم يؤثر حكم الروم والرومان هنا على طول عهدهما
في قلب لغة السكان، بل تعلمها بعض أفراد كما يتعلم بعضنا التركية والفرنسية والإنكليزية وغيرها من اللغات التي حكم أهلها الشام أو كانت لنا بأربابها علاقة تجارية أو سياسية أو علمية، بل كما كان بعضهم يتعلم في القرن الماضي اللغة الطليانية لقلة مدارسنا ومدارس الأمم الأخرى يومئذ.
الشاميون أمة واحدة لسانهم العربية فقط:
قلنا من محاضرة في سكان الشام ولغاته: مهما قيل في كثرة عدد المتكلمين بالفرنسية في بيروت وبالعبرية في القدس وبالتركية في حلب، ومهما اختلفت درجة العواطف من حيث حب العربية، فالبلاد عربية صرفة والسكان عرب مهما ضعفوا وضعفت مشخصاتهم. ولا ينسبون إلى غير أُمهم ولا يدعون إلا لآبائهم. يقولون: إن من تعلم لغة قوم أحبهم فما أحرى أن يحب المرء أولاً أرضاً أنبتته، وأهلاً تجمعه وإياهم جامعة الوطن والجنس واللسان. نحن في الشام أمة واحدة مهما حاول المحاولون أن يجعلوا بيننا فروقا. والمذاهب ما كانت ولن تكون معيارا في هذا الباب. الماروني والكاثوليكي والأرثوذكسي والإنجيلي والعلوي والإسماعيلي والعبري وغيرهم تربطنا بهم رابطة أجمع من كل الروابط، رابطة المصلحة الواحدة والوطن المشترك، وقرابة الجنس وأواصر اللغة.
إن كنت أحب بيتي فما أولاني أن أحب سكانه. إن كنت لا أرى عُدتي في شدتي، غير أُمتي، فما أحراني أن أرعى ذمامها، وأحمي مشخصاتها، وأول المشخصات في شعب هو لغته. ومعظم الأمم الحديثة تكونت تحت رايتها، وسادت وشادت بتأثيرها. من اللغات يا قوم ما لا ينطق به أكثر من بضعة ملايين كالدانمركية والسويدية والفنلندية، مع هذا تجد بين أبنائها - من الصلات على اختلاف في المذهب - ومن التناغي بحب قوميتهم ما لا يقلُّ عن تغالي الإنكليزي والألماني والفرنسي والطلياني(1/48)
والسلافي بحب لغته وقوميته وهو ابن أُمة عظيمة.
ليست العربية من اللغات الميتة حتى يزهد بعض أبنائها فيها. بل هي لغة سبعين مليونا من البشر نازلين في أجمل أقطار الأرض في إفريقية وآسيا، ولسان ديني لثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين. ولسنا معاشر أهلها دون أرقى أُمم الحضارة الحديثة بعقولنا وذكائنا فتاريخنا موضع الدهشة على توالي الأحقاب، وإنا إذا عرانا بعض الضعف فقصرنا عن اللحاق بالسابقين، لا نلبث بتماسكنا وتفانينا بحب قوميتنا ولغتنا أن نساوي غيرنا قريبا. وكم من أمم عراها أكثر مما عرانا من ضعف الملكات، وضياع المقدسات والمشخصات، فنفضت عنها غبار الخمول يوم صحت إرادتها على أن لا تموت بصنعها، وقامت تجادل وتجالد في معترك المدنية فأتت بالعجب العجاب.
نحن أهل الشام أُمة واحدة، ولا خير لأبناء الوطن الواحد إلا من أنفسهم. فقد نزح عنا منذ سبعين سنة إلى أميركا وغيرها نحو مليون من أبنائنا وما زلنا معاشر السواد الأعظم هنا نهتم لهم أكثر من اهتمامنا لأمة لا تربطنا بها جامعة اللسان والجنس. وهم على شاكلتنا يهتمون ببلادهم ولغتهم وما يقوّمها. وما ننس لا ننس يوم كانت اللغة العربية يحفظ تراثها في الأعصر الأخيرة في بيع لبنان وأدياره، أكثر من حفظه في جوامع دمشق وحلب ومدارسهما، ويوم كان في اللبنانيين الغيورون على مجدها العالمون بما يصلحها الساعون إلى نشرها.
لا يفلح قوم لا يتساندون. وكل شعب وضع قوميته في الذروة العليا من الكرامة يوقَّر ويبجَّل. ومن لي يوم الكريهة غير حمى أخي وجاري ألجأ إليه. المرءُ كثير بأخيه. ولن تضام أُمة عرفت نفسها. نحن عرب قبل أن نكون مسيحيين ومسلمين، نحن شاميون قبل أن نكون أُمويين وعباسيين وسلجوقيين وعثمانيين.
سعادتنا مناط الاحتفاظ بأصولنا، ولا تمثلنا إلا قوميتنا، وأعظم قوة لها لغتنا، والسلام.(1/49)
تاريخ الشام قبل الإسلام
أول شعب غزا الشام والحثيون والكنعانيون:
ذكر أهل الأخبار والسير أن الشام كانت يوم عرف تاريخها مغشاة بالأشجار. ولا سيما في اللبنانين الغربي والشرقي، فجاءها من بلاد أشور رعاة نزلوا القسم الشمالي منها وما زالوا يتقدمون في فتوحهم حتى بلغوا معظم سواحل الشام واستولوا على عكا. وانقسم هؤلاء الرعاة واسمهم عمو أي الشعب إلى قسمين: قسم أقام على تربية الماشية في السهول، واحترف القسم الآخر بالاحتطاب في الجبال، أو بالصيد على شواطئ البحر وضفاف الأنهار. وقيل: إن ذلك كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد ولعله يرد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، ولم يعرف من كان سكان القطر يومئذ. والغالب أن من أقدم الشعوب التي استولت على الشام الحثيين في الشمال والكنعانيين في الجنوب. والحثيون لم يعرف عنهم إلا أنهم كانوا وراء جبال طوروس بادئ بدء يسكنون الحوض الأعلى من نهري الفرات وقزل ايرمق خضعوا أولا للكلدانيين، ثم توسعوا في ملكهم، واستولوا بقيادة ملكهم سابا لولو على الشمال، وامتدوا إلى وادي العاصي فاستصفوه برمته، وبنوا مدنا مثل كركميش جرابلس على الفرات وقادس على العاصي، وربما كانت مدينة حلب أيضا من بنائهم. وفي رسائل تل العمارنة التي وجدت في صعيد مصر بيان وافٍ في الجملة لحالة هذه الدولة الحثية(1/50)
التي حاربت فراعنة مصر أربع عشرة سنة فلم يظفر بهم الفراعنة حتى جاء سّي الثاني فحاربهم وقهرهم.
كان الكنعانيون ينزلون في جنوب الشام وفي وسطه. ونسبتهم لكنعان جد القبائل التي سكنت غربي الأردن، قتل الإسرائيليون أكثرهم واستعبدوا معظم من لم يقتل منهم. وكانت حدود أرض كنعان الأصلية من مدخل حماة شمالي لبنان إلى البادية، ولم تمتد إلى ساحل البحر لأن الفلسطينيين ما زالوا إلى أن انقرضوا يسكنون ذلك
الساحل، وقد سكن أرض كنعان عدة أسباط ورد ذكرهم في التوراة كالحثيين واليبوسيين والأموريين والجرجاشيين والحويين والفرزيين والعرقيين والسينيين والارواديين والصماريين والحماثيين. وكان في أرض كنعان 118 أو 119 مدينة ورد ذكرها في جدول عثر عليه في هيكل الكرنك من صعيد مصر يظن أنها المدن التي افتتحها تحوتمس الثالث من ملوك الفراعنة قبل أيام يشوع.
وفي معجم لاروس أن أرض كنعان أو بلاد كنعان يحدها من الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق نهر الأردن، ومن الشمال خط آخذ من الأردن إلى البحر، ومن الجنوب خط يسير من البحر الميت إلى البحر المتوسط. وفي التوراة أن المولى تعالى وعد بني إسرائيل بهذه الأرض ومن ذلك جاء اسمها أرض الموعد. وفي أسفار موسى وسفر يشوع أن بني إسرائيل استولوا دفعة واحدة على هذه الأرض بقيادة يشوع، ولكن تبين من الوثائق التي عثر عليها أن الأمر لم يكن كذلك وأن فتح أرض كنعان لم يكن بهذه السرعة تاما كاملا على ما جاء في التوراة، فقد تمكن بنو إسرائيل من الاستقرار بصورة دائمة بالحرب والحيلة على هذه الأرض التي كان يسكنها قبائل مستضعفة من اليبوسيين والجرجاشيين والفرزيين وغيرهم من أصل كنعاني أو أموري حتى خراب مملكة يهوذا على أيدي الكنعانيين في سنة 588 ق. م.
تعدد الحكام والحكومات:
وعلى كثرة عناية علماء النصرانية بتاريخ الأرض المقدسة أو فلسطين أو(1/51)
أرض إسرائيل أو أرض الموعد لم يبرح تاريخها غامضا بعض الشيء لقلة المصادر التي يركن إليها وأكثرها أشبه بتقاليد وأساطير منها بتاريخ. وهكذا يقال فيما عرف من تاريخ وسط هذا القطر وشماله في العهد القديم. وكان أكثر إماراته مستقلا متعاديا شأن الشطر الجنوبي منها. وإذا لم تكن البلاد كما قال بوست تحت حكم
القضاة والملوك حكومة واحدة كثرت فيها التغيرات وتعددت القضاة كشمشون وجدعون ويفتاح إلى أن اجتمعت كلمة شعب إسرائيل على إقامة ملك، ولما انقضى ملك سليمان وقام ابنه رحبعام انقسمت المملكة إلى مملكتين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وبعد أن تقلبت الأحوال على هاتين المملكتين أخذتا بالانحطاط إلى أن سبي الآشوريون الإسرائيليين والبابليون يهوذا. وجملة الزمن الذي مضى من ملك داود إلى سبي بابل نحو خمسمائة سنة.
الفراعنة والآشوريون:
كانت الشام بين عاملين بل بين سلطانين قويين العامل، الأول دولة الآشوريين والبابليين إذا قويت إحداهما يمتد سلطانها على الشام أو تكتفي من أهله بالجزية وتجنيد بعضهم. وإذا كانت القوة لفراعنة مصر حكموا الشام أو اقتنعوا من سكانها بالجزية وبعض الجند. وقد ظلت الشام تابعة لمصر وأحيانا كانت تبعيتها اسمية نحو أربعة قرون. فقد فتحها تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث، وفي أيام تحوتمس الأول تجلت حدود الشام على الفرات. وظل الشام في حكم الفراعنة إلى عهد رعمسيس الخامس. ولما خلص من المصريين داهمه الآشوريين فاستولوا عليه واعترف الشام كله بسلطة أشور وتجلت سلطة الشام على عهد تغلت فلاسر، وكان المصريون يحتلون بعض القلاع مثل غزة ومجدو تل المتسلم في الداخل وجبيل وصيدا في الساحل على ما ثبت ذلك بالآثار.
كان الفراعنة على الأرجح يداهمون الشام من طريق صحراء التيه والجفار لقلة سفنهم بسبب قلة الأشجار عندهم كما هي قليلة في وادي دجلة والفرات، وربما كان وجود الأشجار في الشام من جملة الأسباب التي حملت(1/52)
أهل بابل وأشور ومصر على مد سلطانهم على الشام. قال أحد الباحثين: كانت الشام في الألف الثالثة قبل المسيح يقطنها خليط من سكان ساميين وهم العموريون والحثيون وهم
غير ساميين فهجموا على بابل. وفي أوائل الألف الثانية هجم الساميون من سكان الشام وربما كان بإيعاز الحثيين على مصر وحكموها، وهذا العهد هو عهد الرعاة الهيكسوس. وما برح ملوك الأشوريين والكلدانيين في القرون الأخيرة يحسنون صلاتهم مع الفراعنة ويرضون بسلطانهم الضئيل على الشام، حتى ثارت الفتن في مصر فاغتنم ولاة الشام من عمال الفراعنة هذه الفرصة وخرجوا عن الطاعة، وجع أحد رؤساء الحثيين قبائله وأسس دولة قوية الشكمية وقاتل المصريين، فلم يكتب لرعمسيس الأول وستي الأول من الأسرة التاسعة عشرة تقويض دعائم تلك الدولة، بل إن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس اضطر بعد حرب عشرين سنة إلى الرضا بما وقع وعامل ختساروا أمير الحثيين معاملة الأكفاء والأقران. ومن ذلك الحين زال حكم مصر عن فينيقية والشام الجنوبي وقامت في الشمال دولة مستقلة فاصلة بين مصر وأشور، وكان ذلك في حدود سنة 1350 ق. م. .
ضعفت دولة الحثيين وعادت أشور تقوى بملوكها على الأطراف أمثال سالامنزار وتغلت فلاسر وسنحاريب يغيرون على الشام فيلقى منهم المصائب وكانوا يريدون إخضاعه ليكون لهم مجازا إلى الاستيلاء على تجارة مصر والحبشة وليبيا طرابلس وبرقة والبحر الأحمر والمتوسط. ولما سقطت نينوى سنة 605 ق. م. وفي رواية سنة 612 باستيلاء ملوك المملكة الكنعانية الثانية خضع الشام زمنا قليلا للفراعنة ثم عاد بعد انهزام نيخو وخلفائه إلى سلطة ملوك بابل، وكان العهد الكنعاني عهد الخراب والدمار لأن بخت نصر ملك الكلدان فعل في بيت المقدس 586 ق. م. أفعالا مدهشة من الهمجية وأجلى بني إسرائيل إلى بابل. ولما غلب بخت نصر فرعون مصر على كركميش استولى على كل ما كان لهذا الملك بين النهرين والشام وأخذ أورشليم وسبى بعض أهلها وساق الأسرى إلى بابل من
اليهودية وفينيقية وسورية ومصر. واليهودية اسم جزء من فلسطين سكنه الراجعون من(1/53)
سبي بابل وسميت في العهد القديم يهوذا، وفي العهد الجديد قد تطلق اليهودية على جميع فلسطين وعلى بعض أرجاء شرقي الأردن، ويرى المحققون أن اليهودية كانت تشمل غربي الأردن وجنوبي السامرة.
الفينيقيون واستقلالهم التجاري:
ولم تكن مملكة إسرائيل بعمرانها وقوتها مثل مملكة فينيقية الصغيرة التي قامت في أرض الشام واشتهرت أكثر من غيرها من الدول الشامية، لأنها كانت دولة بحرية على جانب من الحضارة المقتبسة عن المصريين والآشوريين والبابليين، ومعرفة زائدة بطرق البحار والتجارة في القاصية، فكان الفينيقيون في عهد عظمتهم كالبنادقة في القرون الوسطى ببحريتهم واتساع تجارتهم، أو البريطانيين في القرنين الأخيرين بأساطيلهم وتجاراتهم، مع مراعاة النسبة بين الأقطار والعصور.
والفينيقيون من القبائل السامية التي نزلت أرض آرام أي الشام، وإقليمهم ضيق النطاق طوله خمسون فرسخا وعرضه من ثمانية إلى عشرة فراسخ بين بحر الشام وأعلى سلسلة في جبل لبنان، وتدخل فيه صور وصيدا وأرواد وجبيل وبيروت، ومنهم من أدخل فيه البترون وطرابلس. ولم تكن فينيقية مملكة قائمة برأسها بل كان لكل ناحية مدينة صغيرة تستقل بها، ولها مجالس وملك تحكم نفسها بنفسها، وتبعث بنوابها إلى أعظم مدينة فينيقية لفض المصالح المشتركة. وكانت صور محط رحال النواب منذ القرن الثالث عشر، ولما لم يكن الفينيقيون أمة حربية خضعوا لسطوة الفاتحين من المصريين والآشوريين والبابليين والفرس وأدوا إليهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
هذا رأي سنوبوس وقال مسبيرو: إن تحوتمس الثالث تعب في إخضاع بعض
الفينيقيين وقد استكانت مدائن الوسط والجنوب وهي جبيل وبيروت وصيدون وصور من غير قتال، وأخلص أهلها الطاعة لمواليهم الأجانب إلى ما بعد رعمسيس الثاني وكان هذا عين الحكمة والصواب. فقد ترتب على رضاهم بالعبودية أن توصلوا إلى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر المتوسط ثم نالوا استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل(1/54)
الميلاد لما كف فراعنة مصر عنهم. ولكن حدث في حدود سنة 1210 ق. م. أن أقلع من عسقلان أسطول فلسطيني ولقي أسطول صيدا فدمره فانتقلت العظمة إلى صور. ولما ملكها حيرام الأول من سنة 980 - 946 ق. م. عقد مع داود وسليمان علاقات عادت على مملكته بالثروة والرخاء.
قال: ثم ظهر الآشوريين على الفينيقيين ورضيت صور بدفع الجزية لهم، ثم قام ملكها إيلولي من سنة 728 إلى سنة 692 فحارب شلمناصر الثاني وسرجون وسنحاريب حروبا انتهت بهلاكه وانقراض دولته، فتبعث فينيقية الآشوريين، ولما سقطت نينوى عاد إليها استقلالها ففازت من دفاع بخت نصر بمعاونة الفراعنة الصاويين، واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة وحدثت في فينيقية ثورات في أوقات مختلفة فقمعت وفي سنة 557 أعيدت للكلدانيين، ولما خربت بابل سنة 538 دخلت صور في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال. ومن أهم الأسباب التي حالت دون الفينيقيين وتأسيس مملكة ضخمة مؤلفة أولا من جميع أصقاع الشام ثم من الأقطار المجاورة صعوبة التوغل في الديار الشامية لما فيها من العقاب والشعاب، وهم في قلة وغيرهم في كثرة، فصرفوا نظرهم إلى البحار وكانوا أعظم تجار وسفار.
حروب الفرس والإسكندر:
تخلصت الشام من عوامل كثيرة كانت تتنازعها، منها ما هو داخلي كالفتن الأهلية
والحروب الداخلية. ومنها ما هو خارجي كأن يحكمها المصريون تارة والآشوريون أو البابليون أخرى، ولما تراجعت هذه الأمم قامت دولة الفرس فاستولت على الشام وكانت دمشق وحماة وإرفاد أهم مدنها. ولما فتحها تغلت فلاسر سنة 733 ق. م. عاد الفرس ففتحوها على عهد كسرى.
وعلى عهد دارا من ملوك الفرس جعلت صيدا عاصمة القطر وما برح في قبضة الفرس إلى سنة 333 وقد اجتاز به الإسكندر المكدوني بعد أن قرض مملكة فارس وأباد بين الإسكندرية وجبال اللكام امانوس جيش دارا ملك الفرس وأخرب مدينة صور بعد أن حاصرها سبعة أشهر 332. وكان بخت نصر حاصرها ثلاث عشرة سنة 586 - 573 ولم يستطع(1/55)
فتحها. واستبسل الصيداويون وعرضوا أنفسهم للهلاك مرات في حصار الإسكندر صور، وعمل الإسكندر سدا وبدونه كان يتعذر الدنو من البلد لبعدها عن اليابسة، وبعث السامريون له بثمانية آلاف رجل نجدة، وأبى اليهود الخضوع له بادئ بدء. وفي سنة 351 ق. م. خربت صيدا عقيب انتقاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها أربعون ألف نسمة.
ولما انخذل دارا في وقعة ايسوس على خليج الإسكندرونة إلى الشمال منها، وقع الرعب في قلوب الفينيقيين والسوريين فدان أكثرهم للإسكندر طائعين، ولما وصل إلى جبيل تلقاه أهلها بالبشر والحفاوة. وكان الإسكندر قد أرسل برمنيون إلى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي أرسلها إليها لما سار إلى قيليقية لحرب الإسكندر فاستولى عليها وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل الثمينة ما لا يعد ولا يوصف، فضلا عما كان لبعض أعيان الفرس في دمشق من المتاع والأموال. وخربت الديار التي استولى عليها الإسكندر بأيدي الفرس، وكان من عادتهم أن يحرقوا المدن والقرى قبل أن تسقط في أيدي عدوهم.
دولة السلاقسة وملك الأرمن:
ولما هلك الإسكندر اقتسم المملكة قواده الأربعة المعروفون بالسلاقسة فكانت الشام من حصة سلوقس. وكان من أشهر مدن مملكته إنطاكية التي جعلها عاصمته وسلوقية السويدية وأفامية قلعة المضيق واللاذقية. واستولى بطليموس والي مصر من دولة البطالسة على أرض اليهودية وفينيقية وجزيرة قبرس والمدن الساحلية من الشام. وفتح انتيغونس من خلفاء الإسكندر صور ويافا وغزة، ولم يفتح صور إلا بعد حصارها خمسة عشر شهرا. تعاصت عليه مع أنه لم يكن مضى على فتحها سوى تسع عشرة سنة، فأعادها أهلها إلى حصانتها الأولى وعادت قطب التجارة في الشرق والغرب. وجدَّ بطليموس في صنع أسطول له في جبيل وطرابلس. وجرت وقعة مهمة بين بطليموس وسلوقس وبين ديمتريوس انجلت عن خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير من جيش ديمتريوس، ولما رأى بطليموس أن ليس(1/56)
في قدرته محاربة انتيغونس عاد إلى مصر وهدم قلاع عكا ويافا والسامرة.
كانت الدولة السلوقية اليونانية دولة حرب ونزاع، فغدت الشام في حالة بؤس ونحس، رومية تطالبها ببسط سلطانها عليها، ومصر تحاربها لتضمها إليها، وأهل فارس يجتاحونها، حتى قررت لهم السيادة الاسمية عليها، فمنيت الشام بضعف الحال وقلة الرجال، وضاق ذرع الشاميين بالحروب المتصلة بين ملوكهم من اليونان وعسفهم وإعناتهم وانقساماتهم وقتلهم أولادهم وأبناءهم واخوتهم، فعزموا أن يختاروا ملكا عليهم من الأجانب فكتبوا إلى تغران ملك أرمينية وأرسلوا إليه وفدا يفضون إليه بما عزموا عليه ويكاشفونه في قبوله، فأجابهم إلى طلبتهم وأتى الشام سنة 83 ق. م ولبس تاج ملكها واستمر ملكه فيها ثماني عشرة سنة إلى أن جاءها الرومان سنة 65 ق. م واستخلصوها منه.
-
دولة الرومان:
كان بومبيوس أول قائد روماني استولى على الشام وجعله ولاية رومانية وجعل إنطاكية عاصمتها. ولم تنجح الشام لقربها من البارثيين على نحو ما كان من سائر أقطار المملكة الرومانية. ثم انفصلت مدة عن رومية أعطاها أنطونيوس إلى أحد أولاد الملكة كلوبطرا، وعادت فضمت إلى مملكة الرومان على عهد الإمبراطور أغسطس، وتنقلت بها الأحوال الإدارية على عهد الإمبراطورين فيسباسين وأدريانوس. ولم تكد تطمئن من ناحية البارثيين بفضل الوقائع التي كتب فيها النصر للقائدين تراجان وسبتيم سيفير وانتظمت حالها وانبسط ظل عمرانها وقام منها إمبراطورة شاميون قبضوا على قياد المملكة الرومانية من عهد الإمبراطور سبتيم سيفير إلى إسكندر سيفير حتى كان من عهد تأسيس مملكة الفرس الثانية على انقاض مملكة البارثيين ما جلب المصائب والنوائب لو لم يقم أمثال القواد أدريانوس وديوكلسيانوس ويوستنيانوس ويردوا تلك الغارات.
ذكر مومسن أن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بومبيوس الروماني أصحاب السلطان في الشام، فإن الصحاري الرملية الجافة التي(1/57)
لا تسكن من حدود شبه جزيرة العرب آخذة في الغرب إلى جبال الشام والشواطئ الواقعة من الجهة الشرقية إلى البادية من الفرات الأسفل المخصبة. هذه الصحراء لم تبرح موطن أبناء إسماعيل العرب، ينصبون فيها خيامهم ويرعون أنعامهم ويطاردون على خيولهم المطهمة القبائل المعادية لهم أو يغزون التجار الآتين مع القوافل. ولما كان الملك تيغران قد أخذ بأيدي أبناء البادية لحاجته إليهم في التجارة اهتبلوا الغرة في هذا الاضطراب الذي جعل أمور الشام فوضى ليتوسعوا في الشمال، وكان للقبائل القريبة من الشام ممن كانوا على شيء من الحضارة القدح المعلى في هذا الشأن.
وكان زعماء قبائل البادية أشبه بعصابات منفردة يساوون أبناء البادية ويفوقونهم
في قطع الطرق والإضرار بالسابلة. وهكذا شأن بطليموس بن مينوس، وربما كان أقوى هؤلاء اللصوص وأغنى أهل عصره. وكان يحكم إقليم الإيطوريين، أي الجبليين، وهي كور الدروز اليوم في أودية جبل لبنان، وحكمه نافذ من الشطوط إلى بعلبك، وهكذا حال ديونيزوس وكنيراس صاحبي مدينتي طرابلس وجبيل. ومثل ذلك كان شأن اليهودي سيلاس في قلعته على مقربة من أفامية على العاصي.
مملكة يهودا وانقراض اليهود:
حاول اليهود في جنوبي الشام توطيد سلطانهم السياسي، فأنشأ المكابيون وهم يهود يحترمون عبادتهم ويقدسونها، حتى توصلوا بذلك إلى إنشاء مملكة وراثية، جمعت إلى الرئاسة الدينية الرئاسة الدنيوية، ثم فتحوا كورا في الشمال والشرق والجنوب. ولما مات الشجاع جاني الكسندر سنة 675 كانت مملكة يهودا ممتدة نحو الجنوب إلى جميع أرض الفلسطينيين حتى التخوم المصرية، ونحو الجنوب الشرقي إلى مملكة النبطيين في البتراء، وإلى الجنوب إلى ما وراء السامرة والمدن العشر إلى بحيرة طبرية. فكانت الشواطئ بأيدي اليهود من جبل الكرمل إلى العريش وفي جملتها مملكة غزة. وكانت عسقلان مدينة حرة. وأصبحت مملكة اليهود مرافئ حرة للصوص البحار بعد أن كانت مفصولة عنها فيما غبر من الأيام.(1/58)
ولذلك اضطهد الرومان اليهود كثيرا فنالهم في أيام هيرودس من الاضطهاد وإهراق الدماء ما نالهم، وفي أيام فلورس الوالي الروماني لحقهم في كثير من مدن فلسطين ضروب الأذى والقتل. ونكل السوريون باليهود عملا بإشارة الوالي الروماني. وأحرق الرومان أورشليم ودمروا المدن وسبوا اليهود وثار هؤلاء على الرومان سنة 132 فقتل الرومان منهم 580 ألفا وأحرقوا ودمروا تسعمائة قرية عدا الحصون، وأسروا كثيرا منهم بعثوا بهم إلى رومية حتى انقطعت شأفتهم من
فلسطين مدة خمسة عشر قرنا.
قالوا: لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهودا لأن حروب فسباسين وتيطس وتراجان وأدريانوس واضطهادات ملوك النصرانية لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية، أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح الأربعة، ففقدت في فلسطين جميع التقاليد اليهودية وجماع اليهود الذين تراهم هم من الطراء على فلسطين مؤخرا نزلوها بعد أن بادوا منها مدة خمسة عشر قرنا.
الإيطوريون والنبطيون:
ذكر مومسن في كلامه على الاضطرابات والمنافسات بين الرؤساء في الشام أن المدن الكبرى مثل إنطاكية والسويدية ودمشق هي التي كان ينالها الأذى من جراء ذلك، فيصاب الزراع بزراعتهم، والتجار بتجارتهم البرية والبحرية. ولا يستطيع سكان جبيل وبيروت حماية حقولهم وسفنهم من هجمات الإيطوريين وكانوا استولوا على اللبنانيين الشرقي والغربي ونزلوا فينيقية وجعلوا عين جر عنجر عاصمتهم الأولى، ثم اتخذوا طرابلس عاصمتهم الأخرى، وغدوا يطيلون أيدي التعدي على البر والبحر من حصونهم العالية. ويحاول سكان دمشق أن يدفعوا عن أنفسهم عادية الإيطوريين والبطالسة، وذلك بخضوعهم لملوك القاصية مثل النبطيين واليهود. وتدخل سامسيكراموس وازيوس في إنطاكية في الخلافات المدنية بين الوطنيين فأصبحت هذه المدينة اليونانية عاصمة أمير عربي.
خضع سكان دمشق للنبطيين أصحاب البتراء أو سلع لأنهم أصبحوا(1/59)
أصحاب الحول والطول في الشام ومصر لما دب فيهما من الضعف نحو سنة 110 إلى 120 ق. م. بالحروب المتأصلة. وقد كان النبط يغيرون على أرض مصر والشام بعصاباتهم فحاربوا الأدوميين وأسسوا ملكا بالبتراء. ولم تبرح دمشق ملكا للنبطيين
والأولى أن يقال: إن هذه المدينة أعطاها كاليجولا الروماني إلى الحارث صاحب البتراء 85 ق. م وتراجع أمر النبطيين بسرعة على عهد مالتوس الثاني نحو سنة 48 إلى 70 ق. م فأضاعوا دمشق. ثم فقد النبطيون استقلالهم في سنة 105 م عقيب حملة كرنيليوس بالما حاكم الشام الذي استولى على البتراء، وأصبحت جرش إلى سنة 162 خاضعة لولاية الشام ثم للبتراء، ثم ضمت فينيقية إلى الشام. وكانت لمملكة النبط القديمة بلدتان مهمتان بصرى والبتراء.
وروى بعضهم أن بومبيوس لما فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها أبقى لهذه العاصمة بعض استقلالها وكذلك لبصرى وجرش وعمان، وبعد فتح البتراء وجعلها ولاية رومانية غدت بصرى عاصمة حوران مقر الفيلق فعمرت الأقاليم وكانت ميدان السلب والنهب من قبل، وازدانت المدن بآثار تدهش خرائبها وأطلالها. وغزا أنطوخيوس النبطيين سنة 132 ق. م فلم ينل منهم ثم حاصرهم ديمتريوس.
كانت مملكة النبط على عهد المكابيين ممتدة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر والبحر الرومي، وهي عبارة عن مملكة أدوم قديما ويسميها اليونان مملكة العرب الحجرية وعاصمتها مدينة سلع أو البتراء في وادي موسى، وسماها بعضهم مدينة الرقيم ظناً منه بأنها مدينة أصحاب الكهف. واسم البتراء أقرب إلى الاسم الذي عرفها به اليونان وإن كانت البتراء على ما ورد من وصفها في كتب العرب هي في أرض الحجاز. قامت هذه الدولة العربية على حين غفلة من دولة البطالسة والسلاقسة في مصر والشام وقوي سلطانها في القرن الثاني قبل الميلاد. ولقب الحارث الثالث نحو سنة 85 بمحب اليونان وهو الذي فتح البقاع سنة 85 واستولى الحارث الرابع على دمشق وفي أيامه حدث المصافُّ الأول بينه وبين الرومان فاضطر الحارث أن يؤدي إليهم الجزية. واضطر النبطيون على عهد
الإمبراطور بومبيوس(1/60)
وأخلافه أن يقدموا جنداً من أبنائهم الحين بعد الآخر لمعاونة الرومان وظلت مملكتهم حرة قوية. وأصبحت مملكة النبط ولاية مستقلة برأسها نحو سنة 358 تحت اسم مملكة فلسطين أو فلسطين المسالمة. وحمل الإمبراطور تراجان على النبطيين فبدد شملهم وقضى على مدنيتهم سنة 106م فاندمجوا في غيرهم وعدد ملوكهم أربعة عشر ملكاً منهم من اسمه الحارث ومنهم عبادة ومنهم مالك وبينهم بعض الملكات من النساء.
دولة تدمر:
ولما تراجع أمر مملكة النبط في نحو منتصف القرن الثالث للمسيح، لارتقاء مملكة تدمر ومملكة فارس اللتين نازعتاها التجارة، أخذت تدمر ترتقي بتجارتها وأصبحت زمناً هي ومملكة النبط مركزي التجارة في الشام ونقطة اتصال الشرق بالغرب. وانضمت مملكة تدمر إلى ممالك الرومان نحو السنة السادسة والثلاثين قبل الميلاد. وكان القائد مرقس أنطونيوس عائداً من حرب الملوك الأرشكيين، فحاول الاستيلاء على تدمر فقاومه أهلها على الفرات وتغلبوا عليه. وبعد ذلك توطدت العلائق الحسنة بين تدمر ومملكة الرومان ونالت حقوق مستعمرة رومانية بفضل بعض إمبراطورة الرومان.
ويرى رنزفال أن العهد الذي فيه ارتقت حاضرة زينب أي تدمر إلى أوج التمدن هو نفس الزمن الذي به تواتر على عرش رومية بعض الملوك الشرقيين كسبتيميوس ساويرس وإسكندر ساويرس وفيلبوس العربي، فلا عجب إن جرأ أُذينة الأول على خلع السلطة الرومانية وإقامة دولة مستقلة تضم البادية وديار العرب الشمالية. وكان هذا الرجل ابن خيران ابن وهبلات بن نصور من بني السميدع انتهز الفرصة وادعى الملك سنة 250م فقتله القيصر الروماني. وحارب أُذينة وأخلافه الفرس غير مرة كانوا فيها يستظهرون عليهم ويحرزون رضا
الإمبراطورية الرومانية.
ولقد خرج على أذينة قائد روماني اسمه كياتوس فحاصره أذينة في حمص، فلما ضاقت به الحال خانه قائده كاليستوس وقتله، ففتحت أبواب حمص ثم قتل كاليستوس، فأقر إمبراطور الرومان لأذينة بحق الرئاسة ودعاه(1/61)
إمبراطورا على جميع أنحاء المشرق أي على الشام والجزيرة وآسيا الصغرى خلا بعض نواح في الشام، ودعي ملك الروم. وأول ما سعى له القضاء على الاضطهاد الذي أصاب النصارى في بعض مدن الشام كإنطاكية وحمص ودمشق وقيسارية، فأطلق الحرية الدينية لكل الطوائف، وأوعز إلى الوثنيين ألا يتعرضوا للنصارى في قضاء فروض عبادتهم، ورخص لهم في إقامة البيع والكنائس، وأدب العصاة من بقايا جيوش كاليستوس وكانوا انتشروا في الأرجاء وعكروا صفوها باعتداءاتهم. وقاتل ملك الفرس مرة ثالثة وظفر به ثم قُتل بيد ابن أخيه مَعَنَّى مع ابنه هيروديس وبويع لمعنى. إلا أن أهالي حمص ثاروا به بعد أيام وقتلوه.
زينب أو زنوبيا أو الزباء:
وكانت زينب أو الزباء أو زنوبيا زوجة أُذينة الثاني، فولدت له ثلاثة أولاد أكبرهم وَهْبَلات ثم خَيْران ثم تيم الله، فلما قتل أُذينة أخذت زوجته بأزمة الملك بالنيابة عن وهبلات بكرها، وكان لها مجلس شيوخ ترجع إلى رأيه ولها من الحلم وحسن الإدارة والسياسة والكرم ما عدت به من أعظم الملوك والملكات. وكانت نفسها تحدثها على ما يقال بالاستيلاء على المملكة الرومانية. وعقدت مع سابور ملك الفرس معاهدة وكان يخشى بأسها. وغصت عاصمتها بأجناس الشعوب والعناصر وكان سوادهم الأعظم من العرب والنبط.
وكان بنو السميدع يسكنون بادية الشام في أوائل النصرانية ولهم دولة في تدمر ونواحيها، كما كانت دولة النبطيين في شرقي جنوب الشام. فظهر بنو غسان بعد
خراب سد مأرب وسيل العرم، واستولوا على أرجاء فلسطين ودمشق، وكانت سبقتهم قبيلة بني سليح من قضاعة وسكنت البلقاء فانتشروا في القطر أواخر القرن الثاني للمسيح. وفي خلال تلك المدة قدمت فرقة من بني لخم إلى جنوبي فلسطين وامتدوا في غربي بحيرة لوط، وبرز قوم من مضر يعرفون ببني كلب امتدوا من أنحاء الحجاز إلى جنوبي الشام(1/62)
ونزلوا في جوار دومة الجندل الجوف فأذعنت بقايا هذه القبائل لزينب فاستأجرتهم وأدخلتهم في جملة جيشها. وخاف غاليانس قيصر عادية زينب وقد أصبحت محبوبة من الشعوب فوجه جيشاً لقتالها فغلبه جيشها وانهزم فلُّ الجيش الروماني. ثم حدثتها نفسها أن تستولي على مملكة بيثينية فقهرتها وبلغت خلقيدونة فدعا سكانها القيصر اوريليانس إلى نصرتهم ففاجأ التدمريين في بيثينية نحو 271 - 272 فطردهم عنها، ثم واصل فتوحاته فتغلب على غلاطية وقبادوقية حتى بلغ مدينة أنقرة ففتحت له أبوابها.
وكانت زينب في سنة 271 أمدت عاملها فيرموس على مصر بالقائد زبدا لصد هجمات الرومان الذين قدموا مصر بقيادة بروبس، فنشب بين الفريقين قتال انهزم فيه التدمريون تاركين مصر إلى الأبد، وعاد زبدا مع بقايا عسكره. وكانت زينب أعدت جيوشها لمقاتلة الرومان وقسمتها ثلاثة أقسام بقيادة زبدا وزباي. وجهت القسم الأول إلى طريق حلب، والثاني إلى طريق حمص، والثالث إلى القريتين وهي تتقدمهم بنفسها. وجاءها جيش الرومان من الشمال ففتحوا مدينة طيانة ومدائن جبال طوروس حتى قربوا من إنطاكية، فأمرت زينب قوادها أن يناوشوا الرومان القتال فشتت عساكرها عسكر الرومان في الوقعة الأولى، ثم ارتد عسكر الرومان على التدمريين فكسروهم، فملك اوريليانوس إنطاكية وذهبت زينب إلى حمص فتأثرها الجيش الروماني ففتح في طريقه عدة مدن على ضفة العاصي مثل أفاميا وشيزر لاريسا والرستن وبلغ ربض حمص.
واستعدت زينب لقتال القائد الروماني في سبعين ألفاً، وكان عدد جيشه أقلَّ من جيشها إلا أنه أكثر مراناً على الحرب وأسرع في الكر والفر. فانكسر جيش زينب كسرةً عظيمة واستولى على حمص. فلم يسع زينب إلا أن تسرع إلى تدمر للدفاع عنها، وخف اوريليانس إلى حصار تدمر. وتخلى عن نصرتها حلفاؤها من الفرس والأرمن والعرب ثم وقعت زينب في قبضة القيصر الروماني، وفتح التدمريون أبواب مدينتهم للرومان في أول سنة 273، فوضع أوريليانس حامية قليلة وأخذ معه زينب وأسرى التدمريين إلى آسيا الصغرى، فبلغه في طريقه إلى رومية أن التدمريين ثاروا(1/63)
بالحامية التي خلفها عندهم فكرَّ راجعا عليهم وأعمل السيف فيهم أياما وقوض الأبنية والهياكل ودك الأسوار والقلاع، فخربت تدمر خرابا لم تنتعش منه.
آخر عهد الرومانيين وسياستهم:
كثرت الفتن على عهد دولة السلاقسة خلفاء الإسكندر واستقلت فلسطين في عهد المكابيين 143 ق. م لاشتغال السلاقسة بحروبهم. وامتد سلطانها من البحر المتوسط إلى الفرات. واحتفظت بحريتها حتى تدخَّل بالأمر القائد بومبيوس الروماني وبسط سلطان دولته سنة 63 ق. م ولما أراد الرومان إضافة فلسطين إلى ولاية الشام الرومانية ثار اليهود فأدى ذلك إلى حصار بيت المقدس وخراب معبد سليمان على يد تيتوس سنة 66 ب. م وثار اليهود في فلسطين بقيادة باركوخبا 132 - 135م فحاربهم ادريانوس الروماني وأخضعهم بعد حرب هائلة قتل فيها قائدهم، وأصبحت سورية ولاية رومانية سنة 64 ولما وقعت الفتن بين اليهود والرومانيين في فلسطين سنة 66 لم يبق من مملكة اغربيا وهي الجولان أحد من أهلها. لأن اغربيا مضى لزيارة غلوس والي سورية في قيسارية وأناب عنه رجلا اسمه فاروس، فأتى إليه وجهاء بعض المدن من اليهود يسألونه أن
يرسل إليهم جنودا يسهرون على راحتهم، فبدلا من أن يحسن ملتقاهم بعث قوماً قتلوهم ليلاً عن آخرهم. ثم لم يدع جورا ولا اعتسافا إلا وأقدم عليه. ولما بلغت اغربيا أخبار ظلمه عزله ولم يقتله لاتصال نسبه بأحد ملوك العرب.
وزحف غلوس إلى زابلون فقر أهلها إلى الجبال فانتهبها وأحرق بيوتها التي لم تكن أبنية صور وصيدا وبيروت أحسن منها، ونهب وأحرق القرى المجاورة لها وعاد إلى عكا، فنشط اليهود لعودته وطاردوا السوريين فقتلوا منهم ألفي رجل أكثرهم من بيروت، ثم سار غلوس إلى قيسارية وأرسل كتائب من جيشه إلى يافا فباغتوا أهلها وقتلوهم عن آخرهم ونهبوا المدينة وأحرقوها وكان عدد الفتلى ثمانية آلاف وأربعمائة.
وأرسل غلوس أيضاً حملة إلى السامرة قتلت كثيرين من أهلها ثم(1/64)
أرسل فريقا آخر إلى الجليل ففتحت مدينة صفورية صافوريس أبوابها لجنود الرومانيين واقتدى بها غيرها من المدن، واعتزل المشاغبون في جبل عرقون المقابل لصفورية، فسار إليهم الجند فظهروا عليهم وقتلوا منهم أكثر من مائتي رجل، وأحدقوا بالجبل من كل جهة فقتلوا منهم نحو ألف إنسان ثم أحرق أفيق فقوعة والفولة والقرى المجاورة لها.
وتسلسلت هذه الوقائع الرومانية في هذا القطر، فسار فسبسيان الروماني إلى الكرك تاريكا فقتل منهم وانهزم كثيرون في سفنهم وأبعدوا في بحيرة لوط فكان عدد القتلى من اليهود في البحر والمدينة ستة آلاف وخمسمائة رجل. وبعد أن قهر الرومانيون كرك وجفت - وجفت غربي قانا الجليل على مقربة من جبل كوكب كاران - استسلمت باقي المدن وهلك من أهل كامالا شرقي البحيرة خمسة آلاف، ثم خضعت بعض مدن فلسطين وقتل في القدس ثمانية آلاف وخمسمائة سنة 68 وجعلت القدس مستعمرة رومانية 136 باسم ايليا كابيتولينا، ثم انقضت قرون في
سلام على الجملة، ولم يدخل الشام في حرب خارجية.
كانت معاملة الرومان للشاميين باديء بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب. ولما شاخت دولتهم انقلبت إلى أتعس مما كانت عليه من الرق والعبودية. ولم تضف رومية بلاد الشام إليها مباشرة، ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين، ولا أرضهم أرضا رومانية، وظلوا غرباء ورعايا وكثيرا ما كانوا يبيعون أبناءهم ليوفوا ما عليهم من الأموال. وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام.
وفي سنة 540 جاء ملك الفرس خسرو الأول واسمه عند العرب أنوشروان في جيوشه الضخمة ودخل الشام وظل فيه ثلاث سنين، وطرد بليزير الروماني الفرس سنة 542 وعادوا إليها بعد وفاة يوستنيانوس بزعامة خسرو الثاني، والتحم القتال مع ملوك الساسانيين وطردهم الإمبراطور هرقل(1/65)
إلى ما وراء عبر الفرات. وفي هذه الحقبة خربت إنطاكية بفتح الفرس لها وقتلهم أهلها. وكانت مدة ثمانية قرون من قبل مهد المدنية الشرقية.
حكم الرومان الشام سبعمائة سنة كانت فيه ميدانا للنزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس. وحكم اليونان الشام 269 سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الشاميين في التاريخ العام: نرى العوامل الرومانية والبيزنطية قد أثرت في عرب الشام أخلاف العمالقة القدماء، وكانوا يتقوون كل مدة بمن يهاجر إليهم من اليمن والحجاز، فكانت المملكة الرومانية محتاجة لمعاونتهم سواء كان ذلك لحرب أبناء جنسهم النازلين على ضفاف الفرات، أو لإملاء فراغ الشام وكان يتهدده البارثيون ثم الفرس. ومعلوم كيف قاومت أرملة
أذينة واسمها زينب أو زنوبيا القوى الرومانية في الشرق. ولما انحلت مملكة تدمر عهدت الإمبراطورية الرومانية إلى أسر أخرى بالحكم في تلك الأرجاء وثبتت الإمارة في الغساسنة. ودامت فيهم ثلاثة قرون. ودان رؤساء الغسانيين بالنصرانية فاشتركوا في حرب فارس من القرن الرابع إلى القرن السادس، وكان أحدهم الحارث الخامس من قوام مقام القائد بليزير في حملة آسيا.
بنو غسان والعرب في الشام:
اختلفت روايات مؤرخي العرب في بني غسان وكانوا أقيالا وعمالا لملوك البيزنطيين في هذه الديار. وقد عهد إليهم الدفاع عن تخوم الشام من اعتداء الفرس ورد غارات اللخميين أصحاب الحيرة. وكانت سلطة الغسانيين كما قال شلفير تتناول الولاية العربية أو معظم إقليم حوران والبلقاء وفينيقية ولبنان وفلسطين. وقال حمزة الأصفهاني وأبو الفداء: إن عدد ملوك الغسانيين في الشام أحد وثلاثون ملكا على حين لم يبلغ عددهم في أكثر من عشرة في رواية ابن قتيبة والمسعودي. ويقول الأصفهاني إن الحارث بن جبلة هو من أشهر ملوكهم لم يطل حكمه أكثر من عشر سنين، ويقول مؤرخو الروم: إنه حكم نحو أربعين سنة وهو المحقق. وكان(1/66)
للغسانيين تمدن فاقوا به اللخميين لاختلاطهم بالروم البيزنطيين. ولم تكن لهم عاصمة معينة بل كانوا ينزلون الجولان والسويداء والجابية وجلق. وكان الغسانيون يؤدون الجزية عندما هاجروا من اليمن إلى الشام إلى رؤساء الأسباط من الرومان، ثم امتنعوا من أدائها عندما نالوا من الضجاعم واستولوا على الأمر دونهم، فاضطر الروم أن يقروا الغسانيين على أمرهم لحاجتهم إليهم في رد عادية اللخميين سكان الحيرة. وربما كان ذلك في أواخر القرن الخامس للميلاد.
وفي سنة 529 عهد الإمبراطور يوستنيانوس إلى الحارث بن جبلة - وكان الحرث يدين بالنصرانية على مذهب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح متحمسا لهذا
المعتقد ذابا عنه - بزعامة جميع القبائل العربية في الشام ونال لقب رئيس الأسباط وبطريق. وكان هذا اللقب في مملكة البيزنطيين إذ ذاك أرقى لقب بعد الإمبراطور. وفي تلك السنة اشترك مع البيزنطيين في قمع ثورة السامريين وانقضى معظم عهده في حروب المنذر الثالث ملك الحيرة، وفي سنة 528 تغلب على المنذر، وبعد نحو عشر سنين أصبحت المنافسة بينه وبين المناذرة على أتمها بسبب أراضي التخوم الواقعة بين دمشق وتدمر إلى الرصافة وكان كل واحد منهما يدعيها. قال هوار: إن الحارث الغساني كسر المنذر ملك الحيرة سنة 528 وإنه لما كان والي فلسطين اشترك في إعادة السامريين إلى الطاعة فوهبه يوستنيانوس لقب الملك ليقضي على العرب الذين كانوا إقطاعا لملوك الساسانيين من الفرس، وكان كثيرا ما يجتاز دجلة ويخرب المعمور ويحمي قبائل العرب النازلة في برية تدمر من اعتداء المناذرة. وكانوا يحاولون أن يأخذوا منهم الجزية وحاربهم على الطريق الحربي الذي كان ممتدا من دمشق إلى تدمر.
حارب الحارث مع الرومان في العراق، ثم حارب المنذر الحارث وأسر ابنه وقدمه ضحية للعُزَّى. وفي سنة 554 ظفر الحارث بالمنذر في جهات قنسرين فهلك المنذر في المعركة. وخلف الحارث ابنه المنذر وتغلب على العرب الفرس الذين هاجموا منازل الغسانيين وظفر بملكهم قابوس في عين أباغ على الأغلب. وحاول ملك الروم قتل المنذر فرفع لواء العصيان ثلاث(1/67)
سنين، ولما عصى العرب والفرس على بيزنطية اضطرت هذه أن تعقد الصلح مع المنذر، ثم حمل هذا إلى القسطنطينية أسيرا وانقطعت الأموال التي كانت تعطيها له مملكة الروم فثار أولاده الأربعة بقيادة النعمان بكر أولاد الحارث وهاجموا أراضي الروم وخربوا فيها، فأخذ النعمان أسيرا أيضا. ولكن الفوضى انتشرت في بادية الشام وأخذت كل قبيلة تختار لها زعيما خاصا وهواهم مع الفرس. ولما سقطت دمشق والقدس في يد
ملك الفرس كسرى ابرويز 613 - 614 انهارت مملكة الغسانيين. وقيل: إن جبلة بن الأيهم كان آخر ملوكهم. هذا ما يعرف عن الغسانيين في الجملة نقلا عمن حقق أمرهم من مؤلفي الغرب.
ولما حاصر كسرى مدينة القسطنطينية خلت أرض الشام من جند الروم. وكان في مدينة صور أربعة آلاف يهودي فكتبوا إلى إخوانهم ببيت المقدس وقبرس ودمشق وجبل الجليل وطبرية أن يجتمعوا كلهم في عيد فصح النصارى ليقتلوهم بصور، ويصعدوا إلى بيت المقدس فيقتلوا كل نصراني بها ويغلبوا على المدينة، فبلغ الخبر بطريق صور فأخذ اليهود وقيدهم وسجنهم وأغلق أبواب صور وصير عليها المنجنيقات والعرادات، فلما كانت ليلة الفصح اجتمع اليهود من كل بلد إلى صور وكانوا زهاء عشرين ألف رجل، فحاربوهم حربا شديدة من فوق الحصون، فهدم اليهود كل كنيسة كانت خارج صور فكانوا كلما هدموا كنيسة أخرج أهل صور من اليهود المقيدين عندهم مائة رجل وأوقفوهم على الحصن وضربوا أعناقهم ورموا برؤوسهم إلى خارج، فضربوا أعناق ألفي رجل ثم انهزم اليهود.
كنا نحب التوسع في سرد وقائع تلك الدول لولا الخوف من نقل ما لا يقره المحققون. والتعرض للمجهولات يؤدي إلى السقوط في غلطات ومتناقضات. ولعل بحث علماء العاديات يوصلهم إلى اكتشاف ما كان مجهولاً من تاريخ هذه الديار التي طالما شرقت بدماء الغالبين والمغلوبين وسارت على أديمها دول كان الناس في ظلها ظالمين ومظلومين، وقتل أهلها بالألوف والمئين في سبيل شهوات الفاتحين.(1/68)
الشام في الإسلام
من سنة 5 إلى سنة 18 للهجرة
حالة الشام قبيل الفتح:
دعا الداعي إلى الإسلام في جزيرة العرب وكثر من دانوا به، فكان الشام من أول الأقطار المجاورة للحجاز التي فكر الرسول العربي عليه الصلاة والسلام في فتحها لنشر كلمة التوحيد، وكانت تحت حكم الرومان منذ سبعة قرون، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويعرف عند العرب باسم هرقل. وكان سكان هذه الديار من سريان وعرب وروم وفرس أصحاب علاقات مع الحجاز بالتجارة، كما كانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية كثيرة جداً بأهل هذا القطر، وأهم ما كان يرجى منه تيسير الفتح أن كانت قبائل عربية كثيرة تنزل الشام وتشارك دولة الروم في الأحكام، وأشهرها غسان في الجنوب وتنوخ في الشمال وتغلب في الشرق. وكانت هذه القبائل العربية دانت بالنصرانية وتركت عبادة الأصنام والأوثان. فقويت الروابط بينها وبين البيزنطيين فكانوا يؤدون لزعمائهم الرواتب ليقفوا في وجه البادية في الجنوب حتى لا يهاجموا الشام، وفي وجه الفرس في الشرق حتى لا يهددوا آسيا الصغرى.(1/69)
وكان الفرس قبل الهجرة النبوية بثماني سنين فتحوا الشام سنة 613 - 614م فدافع هرقل عنها سنة 626 وانتصر على كسرى ولكنه فقد بانونيا ودلماسيا من أجزاء مملكته، سقطتا في أيدي الخرواتيين والصربيين وخوى نجم المملكة وساء طالعها وظهرت عليها أعراض الانحطاط، فارتأى هرقل أن يلقي بقياده إلى البطريرك سرجيوس القائل بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح عليه الصلاة والسلام. وكانت النصرانية تشعبت إلى مذاهب مختلفة كنحلة النساطرة واليعاقبة، ويكره جميع أرباب هذه المذاهب حكومة الروم وكانت تضطهدهم باسم المذهب
الأرثوذكسي وعداوتهم لها تزيد على الأيام تأصلاً.
كانت مصر والشام من جملة الأقطار التي تحاول الانفصال عن بيزنطية وشغل الإمبراطور وشعبه بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية، فأخذ ينظر إلى غارات العرب نظر العاجز الضعيف، وزاده ضعفاً شيخوخته واستسلامه لرجال الدين، مع أنه كان على ضعف إرادته شجاعاً عاملاً بعيد النظر. وما حال ملك ينخر جسمه سوس الفساد في الداخل، وهل لمن ضعف جسمه واختلت قواه أن يرسل نظره إلى القاصية فيتقيها وهو على اتقاء ما لديه من المنهكات أعجز؟ فلا عجب أن أصبحت أحوال الشام من أشد ما يكون ملاءمة لفتوح العرب في تلك الحقبة من الزمن، وأسباب الظفر موفورة لهم من كل وجه.
هذا وخزائن هرقل فارغة، ومرتبات الأمير الغساني التي كانت الدولة تجريها عليه منقطعة. والنفوس في الشام مستاءة من المظالم والمغارم، سئمت الحروب والغارات وهي عرضة لمطامع الفرس أو سوء إدارة الروم، والناس يتحدثون بقرب انفراج الأزمة على أيدي الفاتحين من العرب، وكان يبلغهم من أخبار عدلهم ما تثلج له الصدور، وتود لو ترى قبل ساعة طلعة الدولة الجديدة التي أتت من الأعمال ما صعب على الفاتحين أن يأتوا مثله في باب العدل والرحمة والتسامح.(1/70)
صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاس ومؤتة
والجرباء وأذرح ومقنا وجيش أسامة:
لما انتشر الإسلام في جزيرة العرب حجازها ويمنها ونجدها أخذ الرسول يغزو الروم في الشام غزوات قليلة ويرسل سرايا ضئيلة تزيد بحسب الحاجة حتى يتعرف المسلمون طرق الشام وأمصاره ويسبروا غور الروم واستعدادهم. وكانت أول غزواته على رأس تسعة وأربعين شهراً من مهاجره. بلغه أن بدومة الجندل
جمعاً كثيراً وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. فندب رسول الله الناس واستخلف على المدينة وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة فأخذ نعمهم وشاءهم ورجع لم يلق كيداً.
وفي سنة ست ندب الرسول عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل وقال له: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فدعاهم إلى الإسلام فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن بتماضر بنت الأصبغ. وكان صاحب دومة أكيدر بن عبد الملك في طاعة هرقل ملك الروم يعترض سفر المدينة وتجارهم، فصالحه الرسول على الجزية على كل حالم في أرضه ديناراً وكتب له ولأهل دومة كتاباً وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها أن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل(1/71)
والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين.
وأرسل الرسول كتباً إلى هرقل والحارث بن أبي شمر يدعوهما إلى الإسلام وهذا نص الكتاب الذي بعث به مع دحية الكلبي على يد عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل وهو بالشام على ما جاء في الصحاح: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول
الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسْلم تَسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون اه. وكتب الرسول إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق وبعث إليه بشجاع بن وهب. وكان فروة بن عمرو الجُذامي عاملاً لقيصر على عمَّان من أرض البلقاء قد أسلم وأنفله إلى الرسول رجلاً يقال له مسعود بن سعد من قومه، وأهدى الرسول بغلة يقال لها فضة وحماره يعفور وفرساً يقال له الظرب وأثواباً من كتان وقباء من سندس مخرَّصاً بالذهب، فقبل رسول الله كتابه وهديته وكتب إليه جواب كتابه(1/72)
وأجاز رسوله مسعوداً بأثنتي عشرة أوقية ونش وبلغ قيصر إسلام فروة ابن عمرو فحبسه حتى مات فلما مات صلبوه - قاله ابن سعد.
وفي السنة الثامنة للهجرة بعث الرسول سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من ناحية الشام وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات وكان ينزلها قوم من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس، فخرج في خمسة عشر رجلاً فوجد جمعاً، كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب جميعا، وتحامل رجل منهم حتى بلغ المدينة. وفي هذه السنة استنفر الرسول الناس إلى الشام فكانت غزوة ذات السلاسل، والسلاسل ماءٌ بأرض جذام - فوجه عمرو بن العاص في ثلاثمائة مقاتل ثم استمده فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر في مائتين فكان جميعهم خمسمائة، والغالب أنهم رجعوا من هذه الغزاة على غير جدوى.
ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سرية زيد بن حارثة إلى جذام بحسمي وراء
وادي القرى مما يلي فلسطين من أرض الشام. وسببها أن دِحْيَة بن خليفة الكلبي كان أقبل من عند قيصر وقد أجاره وكساه فسلبه أهل حسمي، فغزاهم زيد بن حارثة ثم ردَّ الرسول عليهم أسلابهم. وفي تلك السنة بعث الرسول جيشاً مؤلفاً من ثلاثة آلاف مقاتل بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المنتصرة بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وجعلوا على ميمنتهم رجلاً من عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عبادة بن مالك، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقتل من الأمراء زيد ابن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، فلما فجع المسلمون بثلاثة قواد عظام منهم، وكان خالد بن الوليد من القواد في ذاك الجيش،(1/73)
رأى المصلحة أن يعود إلى المدينة بمن معه. وكان سبب هذه الغزوة أن النبي بعث الحارث بن عمير رسولاً إلى ملك بُصرى عاصمة حوران بكتاب كما بعث إلى سائر الملوك، فلما نزل بمؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله رسول غيره. وقيل: إن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبَلي في مائة ألف منهم.
كانت أخبار الشام عند أهل المدينة كل يوم لكثرة من يرد عليهم من الأنباط فقدمت عليهم قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل صاحب الروم قد رزق أصحابه لسنة، واستنفر العرب المتنصرة فأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وبهراء وكلب وسليح وتنوخ من عرب الشام وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص وضرب الروم على العرب الضاحية البعوث. فرأى الرسول إن لم يبدأ الروم القتال بدءوه به، فأعلم في سنة تسع بالتجهيز لغزو الروم والطلب بدم جعفر بن أبي طالب الذي استشهد
في مؤتة في السنة الفائتة. وكان الرسول إذا أراد غزوة وَرّى بغيرها إلا في هذه، لقوة العدو وبعد الطريق والجدب والحر والناس في عسرة. وكان معه ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف، والجمال اثنا عشر ألفاً، ولقي الجيش حراً وعطشاً. وقد أنفق أبو بكر الصديق في تجهيز هذا الجيش جميع ماله، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة.
خرج المسلمون في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوماً عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة ولذلك سمي جيش العسرة.(1/74)
وبلغ الجيش الحِجْر أرض ثمود فنهاهم الرسول عن مائه، ووصلوا تبوك فأقام بها عشرين ليلة، وسميت هذه الغزوة غزوة تبوك، ولم يلق المسلمون في هذه المعركة كيدا. وأتى يحنة بن رؤبة أُسقف أيلة على البحر الأحمر فصالحه الرسول على الجزية. وكتب له كتابا صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا أمنة من الله ومحمد النبي ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهنم بن الصلت وشرحبيل بن حَسَنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة.
وصالح الرسول أهل جرباء وأذْرُح من أرض الشراة، صالح أهل أذْرُح على مائة دينار، وصالح أهل مَقْنا على مقربة من أيلة على ثلاثمائة دينار على ربع عروكهم وغزولهم وربع كُراعهم وحَلْقتهم وعلى ربع ثمارهم وكانوا يهوداً، وكتب
إليهم هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا سلم أنتم فإنه أنزل عليَّ أنكم راجعون إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله. وإنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وإن رسول الله يجيركم مما يجير به نفسه فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربعَ ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزلت نساؤكم وأنكم قد ثريتم بعد ذلكم ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم(1/75)
كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيراً فهو خير لكم، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل بيت رسول الله وكتب علي بن أبي طالب في سنة 9.
وفي السنة الحادية عشرة ضرب الرسول على الناس بعثاً إلى الشام أيضاً وأمر عليه أسامة بن زيد ندبه إلى البلقاء وأذرعات ومؤتة ثائراً بأبيه ولأسامة يومئذ ثماني عشرة سنة. وفي رواية أن الرسول أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم، وأن يبلغ يًبنى وأشدود من أرض فلسطين، وقيل: أمر أن يوطئ من آبل الزيت بالأردن من مشارف الشام، ودعا الرسول عليه السلام أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل يُبنى وحرّق عليهم، وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك. وبينا الناس يتأهبون للغزاة ابتدأ الرسول شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها. وكان يقول في علته: جهزوا جيش أسامة. ثم سار أسامة إلى يُبنى فشنَّ عليها الغارة وقتل قاتل أبيه ولم
يصب أحد من المسلمين. وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر.
فأول غزوات الشام دومة الجندل والثانية مؤتة والثالثة ذات السلاسل والرابعة تبوك والخامسة آبل الزيت وجملة غزواتهم سبع غزوات. وكلها مقدمات لفتح هذا القطر وأمر قطعي من صاحب الرسالة إلى أصحابه بأن يكملوا العمل الذي وضع أساسه بنفسه الشريفة. عن سلمة بن نُفَيل الحضرمي قال: فتح الله على رسول الله فتحاً فأتيته فدنوت منه حتى كادت ثيابي تحس ثيابه فقلت: يا رسول الله سيبت الخيل وعطلوا السلاح وقال: قد نُفَيل وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله: كذبوا الآن جاء القتال الآن جاء القتال، لا يزال الله يزيغ قلوب أقوام تقاتلونهم ويرزقكم الله عز وجل منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وعُقر دار الإسلام بالشام.(1/76)
جيوش العرب وجيوش الروم نصيحة أبي بكر
الصديق لقواده:
توفي الرسول عليه السلام فارتدت بعض قبائل العرب فقاتلهم أبو بكر الصديق حتى جمع شملهم بالإسلام فلما أمن من ناحيتهم كتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام، ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال، وهم يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حَسنَة وعمرو ابن العاص. وكان أبو بكر أمر عمرو بن العاص أن يسلك طريق أيلة عامداً لفلسطين. وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلكا طريق تبوك، فقصد الجيش فلسطين في الجنوب وقسم منه قلب الشام.
وكان العقد لكل أمير في بدء الأمر على ثلاثة آلاف رجل فلم يزل أبو بكر يتبعهم بالإمداد حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة ثم تتام جمعهم بعد ذلك أربعة وعشرين ألفاً. وكان جيش الروم أربعين ومائتي ألف منهم المسلسل للموت والمربوط بالعمائم والفرسان والرجالة، جمعهم هرقل من أهل الشام والجزيرة وإرمينية، وولى عليهم رجلاً من خاصته وبعث على مقدمته جبلة بن الأيهم الغساني في مستعربة الشام. وأنجد أبو بكر جيوش الشام بخالد بن الوليد من العراق في تسعة وقيل في عشرة آلاف فصار المسلمون ستة وثلاثون ألفاً وفي رواية ستة وأربعين ألفاً. ويقول سيديليو: إن جيش العرب كان على أكثر تعديل مؤلفا من عشرين ألفاً وجيش الروم من ستين ألفاً. قال سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين يوم اليرموك كانوا أربعة وعشرين ألفاً والروم عشرين ألفاً ومائتي ألف عليهم ماهان وصقلان سقلار.
ومهما كان من تقدير الجيشين فالعرب كانوا أقل من الروم. وتقدير مؤرخي العرب للجيش الإسلامي بستة وثلاثين ألفاً ولجيش الروم بزهاء مائتي ألف أقرب إلى الصحة، وهو تقدير معقول لا سيما إذا عرف أنه كان سكان الشام إذ ذاك نحو سبعة ملايين، وأن العرب على بعد الحجاز عن الشام لا يستطيعون أن يجهزوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا يحاربون في جهات أخرى.(1/77)
ولما أنفذ أبو بكر الأمراء إلى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو مشيع له: إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده، وإذا وعدت فأنجز، ولا تكثر عليهم الكلام، فإن بعضه ينسي بعضاً، وأصلح نفسك يصلح الناس لك، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، ولا تجعل سرَّك مع علانيتك فَيْمرجَ أمرك، وإذا استشرت
فاصدق الخَبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قِبلَ نفسك، وإذا بلغتك عن العدو عورة فاكتمها حتى توافيها، واستر في عسكرك الأخبار، وأذكِ حراسك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، واصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبنَ من سواك.
وقد شيع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلاً إلى ما بعد ربض المدينة فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني احتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان. وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تُمَثّل، ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تُحرقن نخلاً، ولا تخربن عامراً، ولا تغُلّ ولا تجبن.
وصل الجيش العربي إلى مشارف الشام فنزل في آبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث. وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يحضون جيش الروم على القتال. وكان هرقل وهو من عظام القواد أدرك الخطر ورأى لما أتاه الخبر بقرب جيش العرب أن لا يقاتلهم وأن يصالحهم. وقال لقومه: فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرَّ بكم جبال الروم خير لكم من(1/78)
أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه تيودورا وأمر الأمراء.
مبدأ الحرب بين العرب والروم:
وأول وقعة كانت بين العرب والروم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن 12هـ كانت بينهم وبين بطريق غزة فاقتتلوا فيها قتالاً شديداً فهزم الروم، وتوجه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق فبلغه أن بالعربة من أرض فلسطين جمعاً
للروم فأوقع بهم وقتل عظيمهم، وانتهى إليه أن ستة من قواد الروم نزلوا العربة في ثلاثة آلاف فسار إليهم المسلمون في كًثْف منهم فهزموهم، وقتل أحد القواد فصار الروم إلى الَّبة فهزمهم المسلمون وغنموا غنماً حسناً. وأول صلح كان بالشام صلح مآب. مرّ أبو عبيدة بهم في طريقه فقاتلوه، ثم سألوه الصلح فصالحهم، وقالوا: إن أول حرب كانت بالشام بعد سرية أُسامة بالعربة ثم أتوا دائن ثم كانت مرج الصُفَّر، وأول مدينة فتحت بصرى قصبة حوران.
لما سار خالد بن الوليد من العراق مدداً للمسلمين في الشام وقد ضاق المسلمون فيه لكثرة جيوش الروم فتح في طريقه ما اجتاز به من شرق الشام، مثل أرك ودومة الجندل وقُصم وتَدمر والقريتين وحَوّارين ومرج راهط، ووجه أحد رجاله إلى غوطة دمشق فأغار على قرى من قراها، وصار خالد إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المشرفة على الغوطة، فوقف عليها ساعة ناشراً رايته وهي راية كانت لرسول الله تسمى العقاب علماً لها. والعرب تسمي الراية عقاباً. وأغار على بني غسان في يوم فِصحهم.
ثم سار خالد حتى انتهى إلى المسلمين بقناة بصرى، ويقال: إنه أتى الجابية من حوران وبها أبو عبيدة في جماعة من المسلمين فالتقيا ومضيا جميعاً إلى بصرى. ولما فتحت بصرى توجه أبو عبيدة بن الجراح في جماعة كثيفة فأتى مآب من أرض البلقاء، وبها جمع العدو فافتتحها صلحاً على مثل صلح بصرى، ثم كانت وقعة أجنادين قرب القدس، شهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم وتجمع باقوهم من النواحي(1/79)
فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة. وقالوا: إن خالد بن الوليد لما جاء بصرى والمسلمون نزول عليها ضايق أهلها حتى صالحهم على أن يؤدوا عن كل حالم ديناراً وجريب حنطة. وافتتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها وقتئذ وذلك في سنة 13.
وقعة اليرموك:
أهم وقائع العرب في الشام التي انهزم فيها الروم شر هزيمة ولحق فَلُّهم بالشمال وقعة اليرموك - واليرموك نهر - فهي الوقعة الفاصلة التي هان بها الاستيلاء بعد ذلك على القدس ودمشق وما إليها، ثم على حمص وحماة وحلب وما إليها من البلدان، وظهر فيها النبوغ العربي في الحرب بأجلى مظاهره. وتبين أن تلك الأمة الفقيرة بمالها، ليست فقيرة بعقل رجالها. وقرأ العرب على الروم يومئذ درساً من مضائهم وحسن بلائهم، وأروهم راموزاً من تضامنهم واستماتتهم، وأتوهم بمثال من طيب أخلاقهم وجودة فطرهم، خلافاً لما كان عليه أعداؤهم من الانقسام وتشتت الأهواء والخصام.
لما قدم خالد بن الوليد مدداً للمسلمين في اليرموك وجد العرب يقاتلون الروم متساندين كل أمير على جيش: أبو عبيدة على جيش: ويزيد بن أبي سفيان على جيش، وشرحبيل بن حسنة على جيش، وعمرو بن العاص على جيش. فقال خالد: إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، فأخلصوا لله جهادكم، وتوجهوا إلى الله بعملكم. فإن هذا يوم له ما بعده، فلا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن مَن وراءكم لو يعلم علْمَكُم حال بينكم وبين هذا. فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه هو الرأي من واليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إن الذي أنتم عليه أشد على المسلمين مما غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم والله، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن علينا بعضنا اليوم، وبعضنا غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني اليوم عليكم. قالوا: نعم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم، فكان الفتح على يد خالد. وجاءه البريد يومئذ بموت(1/80)
أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كله وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في
كنانته ووكل به من يمنعه أن يخبر الناس من الأمر لئلا يضعفوا. وهزم الروم وقتل منهم على الواقوصة ما يزيد على مائة ألف ثم دخل على أبي عبيدة وسلم عليه بالإمارة، وكانت من أعظم فتوح المسلمين وباب ما جاء بعدها من الفتوح، لأن الروم كانوا قد بلغوا في الاحتشاد فلما كُسروا ضعفوا ودخلتهم هيبة.
وفي كتاب أبي حذيفة أن المسلمين أوقعوا بالروم يوماً باليرموك فشد خالد في سرعان الناس وشدّ المسلمون معه يقتلون كل قتلة، فركب بعضهم بعضاً حتى انتهى إلى أعلى مكان مشرف على أهوية فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون. وهو يوم ذو ضباب - وفي رواية ثارت فيه الرياح الهوج - وقيل: كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفاً فما أحصوا إلا بالقضيب، وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ لأنهم واقصوا فيها أي اقتربوا، فلما أصبح المسلمون ولم يروا أعداءهم ظنوا أنهم قد كمنوا لهم حتى أخبروا بأمرهم.
وقال سعيد بن بطريق: بلغ ماهان قائد الروم أن العرب قد خرجوا من طبرية يريدون دمشق، فجمع عسكره وخرج منها وسار يومين حتى نزل على وادٍ كبير يقال له وادي الرماد، ويقال للموضع الجولان ويعرف بالياقوصة، وصير الوادي بينه وبين العرب شبيه الخندق وأقاموا أياماً والعرب بحذائهم. وبعد أيام خرج منصور العامل من دمشق يريد عسكر ماهان ومعه مال قد جباه من دمشق بالمشاعل، فلما قربوا من العسكر ضربوا وبوّقوا وصاحوا، وكان ذلك من منصور مكيدة، فلما نظر الروم إلى المشاعل(1/81)
خلفهم وسمعوا صوت الطبول والبوقات، توهموا أن العرب قد جاءوهم من خلفهم وكبسوهم فوقعت فيهم الهزيمة فسقطوا كلهم في ذلك الوادي أعني وادي الرماد، وهو وادٍ عظيم كبير فماتوا ولم يتخلص منهم إلا نفر قليل، ومنهم من هرب إلى مواضع شتى، ومنهم من تراجع
إلى دمشق، ومنهم من هرب إلى بيت المقدس، ومنهم من هرب إلى قيسارية اه.
وشهد اليرموك ألف صحابي منهم نحو من مائة من أهل بدر، وتهافت في الواقوصة من الروم عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقرّن وأربعون ألف مطلق سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل. ويقول الطبري: إن قتلى اليرموك من الروم سبعون ألفاً، وزعم بعض المؤرخين أن جيش الروم تكامل يوم اليرموك أربعمائة ألف.
فتح فِحل وأجْنَادين وَبيْسان:
ذكروا أن أول كتاب كتبه عمر حين ولى أبا عبيدة الشام: أُصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك. لا تقدم المسلمين إلى هَلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تسْتَرِيده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سريَّة إلا في كَثْف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد ابتلاك الله بي وابتلاني بك، فغمضّ بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، إياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيتَ مصارعهم اه.
توفي أبو بكر الصديق قبل فتح اليرموك بعشر ليال وبعد أن أصيبت الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن الخطاب بخمسة أشهر، ولما انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدس، جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استرده قبل ذلك(1/82)
فصار إلى إنطاكية واستنفر الروم وأهل الجزيرة وبعث عليهم رجالاً من خاصته وثقاته فلقوا المسلمين بفحل فقاتلوهم أشد قتال وأبرحه حتى ظهروا عليهم، وقُتل بطريقهم وزهاء عشرة آلاف معه وتفرق الباقون في مدن الشام ولحق بعضهم بهرقل.
ولما سار المسلمون بعد أن فرغوا من أجنادين إلى فحل نزلت الروم بَيْسان فبثقوا
أنهارها وفي أرض سبخة فكانت وحلاً، ونزلوا فحل وَبيْسان، فلما غشيها المسلمون ولم يعلموا بما صنعت الروم وِحلَت خيولهم، ولقوا فيها عناء ثم سلموا. وسميت بيسان ذات الردغة لما لقي المسلمون فيها، ثم نهضوا إلى الروم وهم بفحل فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل ولحقت رافضة الروم بدمشق، فكانت وقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة. قال الطبري: كان الروم في فحل بعد أن رحلت حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وصيرتهم إلى الوحل فركبوه ولحق أوائل المسلمين بهم وقد وحلوا فركبوهم وما يمنعون يد لامس فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل، وكان مقتلهم في الرَّداغ فأصيب الثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد. وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون: كرهوا البثوق فكانت عوناً لهم على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجداً.
الأردن وفلسطين وجبل اللكام:
افتتح شُرَحْبيل بن حَسنَة الأردن عَنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وفتحت جميع مدن الأردن وحصونها على مثل صلح طبرية فتحاً يسيراً بغير قتال، ففتح بيسان وسوسية وأفيق وجرش وبيت رأس وقَدَس والجولان، وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها وعلى صفورية وعكا وصور، وبفتح هذين الثغرين من الساحل(1/83)
انقطع ما بين الروم في إيلياء وبين خط رجعتهم من البر مع إنطاكية وما وراءها من الدروب. وصالح أبو عبيدة السامرة بالأردن وكانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين، كما صالح الجراجمة في جبل اللُّكام بين بياس وبوقا على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللُّكام، وفتح عمرو ابن العاص غزة ثم سَبَسْطِية ونابلس ولدّ ويُبنى وعَمَواس وبيت جبرين ويافا ورفح، وظلت القدس وقيسارَية محاصرتين، ولم تفتح القدس إلا سنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة ونيف، وطلب أهله من أبي عبيدة أن يصالحهم
على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه بذلك فسار عن المدينة وخرج صفرونيوس بطريق بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فأعطاه عمر أماناً وكتب لكل كورة كتاباً واحداً ما خلا أهل إيلياء. وهذا نص عهد أهل إيلياء:
بِسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت اللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب وحضر سنة 15.(1/84)
وكتب عمر إلى أهل لدّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين مثل شروط أهل إيلياء. واختلف القوم في صلح بيت المقدس فقالوا صالح اليهود وقالوا النصارى، والمجمع عليه أنه صالح النصارى. وفي كتاب عمر صراحة في ذلك. واشترط فيه إخراج الروم الذين ليسوا من أبناء القطر الأصليين. وأتاه جبلة بن الأيهم رأس بني غسان وكان هذا أسلم ثم ارتد وقاتل المسلمين مع الروم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع العرب قال: بل الجزية وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج
في ثلاثين ألفاً من قومه حتى لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره.
فتح دمشق والأحكام العسكرية:
كتب عمر إلى أبي عبيدة وكان كتب اليه في أمر الشام: أما بعد فابدءوا بدمشق وانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت ملكهم. وبعد أن تم للمسلمين ما أرادوا من هزيمة الروم على اليرموك جمعت الروم جمعاً عظيماً وأمدهم هرقل بمدد فلقيهم المسلمون بمرج الصفّر بين دمشق والجولان وهم متوجهون إلى دمشق، وذلك لهلال المحرم سنة 10 فاقتتلوا قتالاً شديداً وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف، وولى الروم مفلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت المقدس. ولما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرح رجعوا إلى مدينة دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة، ونازلوا دمشق وحاصروها من الباب الشرقي وباب توما وباب الفراديس وباب الجابية والباب الصغير وفتح نصفها عنوة والنصف الآخر صلحاً، فأجراها عمر كلها صلحاً. وكتب أهل دمشق كتاباً لأبي عبيدة هو هذا:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا، وإنا اشترطنا لك أن لا نحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسة ولا ديراً ولا قلاية ولا صومعة(1/85)
راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا شيئاً منها مما كان في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، ولا نكتم على من غش المسلمين، وعلى أن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر الصليب عليها، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا ولا نخرج باعوثاً
ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا بموتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً في نادي المسلمين، ولا نرغب مسلماً في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً وعلى أن لا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، ولا نمنع أحداً من قرابتنا إن أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم ديننا حيثما كنا ولا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتسمى بأسمائهم وأن نجز مقادم رؤوسنا ونفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا ننقش في خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نجعله في بيوتنا ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم للطريق، ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوها، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نشارك أحداً من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد، ونطعمه فيها ثلاثة أيام، وعلينا أن لا نشتم مسلماً، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده. ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأرواحنا ومساكننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما اشترطنا لك وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما حلّ من أهل المعاندة والشقاق. على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا فأقرونا في بلادكم التي ورثكم الله إياها. شهد الله على ما شرطنا لكم على أنفسنا وكفى به شهيداً.
وكتب عمر بن الخطاب على النصارى كتاباً في هذا المعنى أيضاً وهذان(1/86)
الكتابان هما من قبيل ما يقرره الفاتحون من الأحكام العسكرية أو الإدارة العرفية كما يسمونها اليوم وهي كما لا يخفى تختلف باختلاف الأمم والحالات وليست أصلاً من أصول الدين لا يجوز تبديله.
وهذا نص العهد الذي أعطاه خالد بن الوليد قبل أن يعلم بما صار إليه حال
المسلمين في الشق الآخر من المدينة مدينة دمشق:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذ دخلها، أعطاهم أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.
وذكر الطبري أن أبا عبيدة بن الجراح دخل دمشق في سنة 14 فشتى بها، فلما ضاقت الروم سار هرقل بهم حتى نزل إنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة، ومن تلك القبائل من قضاعة وغسان بشر كثير، ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، وبعث الصقلار خصياً له فسار بمائة ألف مقاتل معه، من أهل أرمينية اثنا عشر ألفاً ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفاً عليهم جبلة بن الأيهم الغساني وسائرهم من الروم. وسار إليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفاً عليهم أبو عبيدة بن الجراح فالتقوا باليرموك في 12 رجب سنة 15 20 آب 636 فاقتتل الناس قتالاً شديداً. وتدل عبارة الطبري على أن فتح دمشق كان قبل فتح اليرموك والمعقول المعول عليه أن فتح اليرموك كان قبل فتح دمشق.
فتح حمص وشيزر والمعرة وبعلبك وصيدا وبيروت
وجبيل وعرقة:
وبينا المسلمون على حصار دمشق، وقد حوصرت ستة أشهر، أقبلت خيل من عقبة السليمة مخمرة بالحرير فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا قرب دومة والعقبة التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم فتحوا دمشق فقال(1/87)
لهم أهل حمص: إنا نصالحكم على
ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا، ولما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار إلى حمص فاستقراها وأجرى صلحها على مثل صلح بعلبك، ثم مضى نحو حماة فتلقاه أهلها مذعنين، فمضى نحو شيزر وبلغت خيله الزراعة والقسطل.
ومر أبو عبيدة بمعرة النعمان فخرج أهلها يقلسون يلعبون بين يديه ثم أتى فامية قلعة المضيق ففعل أهلها مثل ذلك، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون وعلى الروم رجل يقال له سنان تحدر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل منهم يومئذ جماعة من الشهداء، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء. واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان شقيق معاوية كما وعده بها الصديق، فسار يزيد إلى صيدا وبيروت وجبيل وعرقة ففتحها فتحاً يسيراً، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها، وبعث أبا الزهر القشيري إلى البثنية وحوران فصالح أهلهما.
قنسرين وحلب وإنطاكية وكور الشمال:
وسار أبو عبيدة إلى قنسرين فصالحه أهلها على مثل صلح حمص، وغلب المسلمون على أرضها وقراها، ثم سار إلى حلب وحاصرها ففتحها، وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.
وسار أبو عبيدة إلى إنطاكية وقد لحق بها خلق من أهل جند قنسرين، فلما صار بمهروبة قريب فرسخين من إنطاكية لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة فحاصرها، ثم صالحه أهلها على الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعضهم.
ووجه أبو عبيدة ميسرة بن مسروق العبسي إلى(1/88)
درب بغراس بيلان فلقي جمعاً للروم ومعهم مستعربة من غسان وتنوخ يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. وبلغ أبا عبيدة أن جمعاً للروم بين معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفض ذلك الجيش، وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وعزاز وصالحوا أهل دير طبايا ودير الفسيلة؟ على أن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين، وأتاه نصارى خناصرة في سيف البادية فصالحهم، وفتح أبو عبيدة جميع أرض قنسرين وإنطاكية واللاذقية. وورد عبادة بن الصامت السواحل ففتح مدينة تعرف ببلدة على فرسخين من جبلة وانطرطوس ومرقبة وبانياس، ثم صالح أبو عبيدة أهل قورس وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس إلى آخر حد نقابلس، وفتح منبج ودلوك ورعبان وعراجين وبالس وقاصرين، وبلغ أبو عبيدة الفرات واشترط على أهل رعبان ودلوك أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين.
وقعة مرج الروم وقيسارية:
وفي سنة خمس عشرة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك فنزلوا جميعا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل فبعث تيودرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فنزل أبو عبيدة بمرج الروم فنازله يوم نزل عليه شنس الرومي في مثل خيل تيودرا إمدادا ليتودرا وردءا لأهل حمص فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من تيودرا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر أن تيودرا قد رحل إلى دمشق فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من
خلفهم فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب. وناهد أبو عبيدة بعد خروج(1/89)
خالد في إثر تيودرا وشنس وامتلأ المرج من قتلاهم فأنتنت منهم الأرض وهرب من هرب منهم فلم يفلتهم وركب أكتافهم إلى حمص.
هكذا تم فتح الشام على هذا الوجه المحكم في ثلاث سنين ولم تعص إلا قيسارية فإن معاوية فتحها سنة 19 بعد أن حوصرت نحو سبع سنين، وكان أهلها يزاحفون معاوية وجعلوا لا يزاحفونه مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف الطبري. وكانت قيسارية من أعيان أمهات المدن قيل كان مقاتلة الروم الذين يرزقون فيها مائة ألف، وسامرتها ثمانون ألفا، ويهودها مائة ألف ياقوت. وكان كتاب عمر إلى معاوية: أما بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير.
ومن المدن التي امتنعت وحوصرت زمنا طويلا مدينة عسقلان، كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان سنة 23هـ صلحا بعد كيد. ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط ووكل بها الحفظة.
سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك:
بمثل تلك الجيوش القليلة التي ظهرت على جيوش الروم ومن والاهم فتح العرب هذا القطر العزيز، وكانت قوتهم في معظم الوقائع على نسبة واحد إلى ثلاثة أو أربعة من قوة أعدائهم بعد أن قطعوا بوادي الحجاز والعراق والشام على جمالهم
وخيولهم، قليل عتادهم، جليل جهادهم. وساروا في فلوات لا ماء فيها يستقون منه، ولا مراعي يرعون فيها أنعامهم، ولا ميرة يمتارونها، وكل ما لديهم من الماديات قليل ضئيل، ولكن معنوياتهم كانت فوق معنويات من رحلوا إليهم وكان كل فرد من(1/90)
أفراد جيوشهم يعتقد بأنه إن مات مات شهيدا، وإن عاش عاش سعيدا.
أما الروم فكانوا على كثرة جيوشهم، ووفرة أسبابهم من المؤن والذخائر في أرض عامرة هي وما وراءها إلى أرض الروم، والنجدات تأتيهم أرسالا على أيسر سبيل، ومع هذا فقد كثرت هزائمهم وعد قتلاهم بالألوف وقتلى العرب بالمئات، وتركوا أرضا عرفوا معالمها ومجاهلها فلم تغن عنهم كثرتهم ولا وفرة أسبابهم، فقُهروا وغُلبوا على أمرهم، وهاموا على رؤوسهم لا يلويهم شيء، وذلك لأنهم كانوا متفسخين مشتة أهواؤهم، والناس هنا قد يئسوا من عدل الرومان في أواخر أيامهم حتى إنهم لما طلبوا مالا من منصور عامل هرقل بدمشق لاستئجار رجال يحاربون المسلمين نادى بأن ليس لديه مال، ليسمع الناس وييأسوا ويفتح السبيل للمسلمين. وكان هرقل كتب إلى منصور هذا أن يمسك عليه الرجال بالمال فأبى منصور وقال: إن الملك غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم، وإن العرب قوم غزاة، وهذا العسكر يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم. قال ابن بطريق: أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم فيتفرقوا ويسلَم دمشق إلى المسلمين.
ولعل لتأليف جيش الروم، وكان مؤلفا من أجناس وأخلاط دخلا في الهزيمة، وربما كان رجال الدين من الروم في دمشق يوم الفتح العربي مستائين من القواعد التي سنها هرقل ليضع حدا للمنازعات الدينية، ولعلهم عاونوا على تسليم دمشق للعرب أو تركوا المسائل تجري في أعنتها. ولكن من المحقق أن العرب المتنصرة في الشام عادوا بعد أن صاروا مع الروم فانضموا إلى العرب المسلمين وأخذتهم
النّعرة الجنسية فغلّبوها على النّعرة الدينية وأصبحوا للمسلمين عيونا على الروم وأن اليهود والسامرة كانوا مع المسلمين الفاتحين. قال هوار: توصل الإمبراطور أن يجمع في حمص ثمانين ألف مقاتل نصفهم من جنده والنصف الآخر من معاونين أرمن، وكانت النجدات تتوالى عليه إلا أن الشقاق الداخلي كان يمزق أحشاء الجيش الروماني، وقد شغب الجنود من الأرمن وطلبوا أن يكون ماهان إمبراطورا قبيل وقعة اليرموك.(1/91)
لا جرم أن سلاح الروم كان أمضى من سلاح العرب، ونظامهم الظاهري كان أجلى. قال سيديليو: كان جيش الروم يفوق جيش العرب بلباسه، وخبرة ضباطه، ونوع سلاحه، وغنى دور صناعاته ومناعة حصونه، وسهولة المواصلات والتموين عليه. والروم يعرفون الخطط ويمسكون البحر ولهم من ورائهم ولايات مأهولة مخصبة. أما العرب فكانوا جاهلين معدمين ليس لهم شيء من الأسباب المادية، ولا يحسنون من ضروب الحرب غير حروب العصابات على أصول البادية، وقد يعمدون إلى الفرار أحيانا، ويرى جيشهم لأول وهلة كأنه عصابات مجموعة كيفما اتفق: الفرسان وسط المشاة، ومن الجنود من يسترون بعض أجسامهم ومنهم العراة. وسلاح كل واحد كما يحب من قوس إلى حربة أو دبوس وسيف ورمح. قال: ووجه الغرابة أن يضيف العرب إلى المفاداة احترام النظام يضاف إليهما عظمة العواطف، وهم طالما وصموا بأنهم متوحشون ظلما وتعنتا.
قلنا: وهكذا كان شأن العرب في سائر فتوحاتهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا، كانت معنوياتهم في كل مكان أرقى من معنويات من غلبوهم على أمرهم، ودون ماديات أمم كانت راسخة القدم في أرضها، عزيزة السلطان في ربوعها، وحاجياتها منها على طرف الثُّمام تأتيها بدون تعمل كثير. وكان العرب يتبلغون ودوابهم بميسور العيش. حتى إن خالد بن الوليد لما سار في جيشه من العراق إلى الشام من طريق
البرية لتخرج من وراء جموع الروم لأنه كان يرى أنه إذا استقبلها حبسته عن غياث المسلمين، سقى الجمال مرتين لقلة الماء في الطريق، فكلما نزل منزلا نحر وجعل أكراشها على النار وشرب القوم.
ومن أعظم العوامل في غلبة المسلمين خوف الهزيمة من الزحف، وكانت الهزيمة أو التخلف عن الجهاد من أعظم العار، بل من الكبائر التي لا يرحم فاعلها. فقد ذكروا أن فلَّ جيش مؤتة لما رجع إلى المدينة جعل الناس يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرَّار فررتم في سبيل الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرّار إن شاء(1/92)
الله. هذا وكان في جملة أولئك الفرار خالد بن الوليد سيف الله وعن رأيه رجع الجيش.
وكان للنساء يد طولى في نصرة العرب. فقد تطوع أبو سفيان بن حرب في حرب الشام وكانت له تجارات وأملاك في الجاهلية، وله قرية في البلقاء اسمها نقنّس. وكان شيخ مكة بل شيخ تجار قريش ورئيسهم، ومن أعظم أهل الرأي والمكانة فيهم، وهو كابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما، وقد حارب الرسول كثيرا وقال له الرسول يوم أسلم في فتح مكة سنة ثمان للهجرة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. وجاء الشام في الإسلام في مشيخة من قريش يحارب تحت راية ابنه يزيد وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية بل ولجماعة من أسرته بل للنساء منهن اليد الطولى والكعب المعلى في فتح الشام.
ومما قاله أبو سفيان للنساء اللاتي مع المسلمين، وكان كثير من المهاجرات حضرن يومئذ مع أزواجهن وأبنائهن، وقد أجلسهن خلف صفوف المسلمين فأمر بالحجارة فألقيت بين أيديهن: لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة وقلْتُن له: من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء وهم
أمام العدو. ولما حمي الوطيس واستقبل النساء سرعان من انهزم من المسلمين معهن بعمد البيوت أو عمد الفساطيط وأخذن يضربن وجوههم ويرمين بالحجارة ويقلن: أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. قال البلاذري: وقاتل يوم اليرموك نساء المسلمين قتالا شديدا وفيهن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان. وقال الطبري: وقاتل نساء من نساء قريش يوم اليرموك بالسيوف حتى سابقن الرجال منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام.
وصف رومي العرب، وكان أسيرا في أيديهم فأفلت، وسأله هرقل عنهم فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن،(1/93)
ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين.
ولما انتصر المسلمون بفِحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بإنطاكية دعا رجالاً منهم فأدخلهم عليه فقال: حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا: بل نحن. قال: فما بالكم؟ فسكتوا، فقام شيخ منهم وقال: ألا أُخبرك إنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر. فقال: يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية ومالي في صحبتكم من حاجة، ولا في قتال اليوم من أرب. فقال ذلك الشيخ: أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر. وما زال به حتى ثناه إلى المقام وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجمع الجيوش وقاتل العرب.
وبعث أخو ملك الروم لما تراءى العسكران في اليرموك رجلاً عربياً من قضاعة
وقال له: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر فأقام فيهم ثم أتاه فقال: ما وراءك قال: هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحد. فقال صاحب جيش الروم: لئن كنت صادقاً لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
ومما أعانهم على تأييد سلطانهم تسامحهم مع أهل الذمة وحمايتهم لهم؛ فكانوا كأنهم بين أهلهم وعشيرتهم، لا يرهبون من وراءهم كما أنهم لم يرهبوا من أمامهم. روى البلاذرى أن هرقل لما جمع للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغَشْم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم(1/94)
ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغلب ونجهد.
قال غستاف لبون: لما دخلت العرب الشام كانت رومانية منذ نحو سبعمائة سنة، فأبانوا عن تسامح مع كل مدن الشام ولذلك رضي السكان بسلطتهم مختارين، وانتهت بهم الحال أن اطرحوا النصرانية وقبلوا دين الفاتحين وتعلموا لسانهم. وقال دي توري: إن الخطر الذي اندفع عن الشام من جهة الفرس على يد الإمبراطور هرقل عاد فداهمها من جهة جزيرة العرب، ولكنه خطر كانت فيه سلامتها من الانحلال والاضمحلال، وذلك أن العرب هاجمتها وقد أصبح العرب أمة برسولهم فزعزعوا أركان المملكة الرومانية. وفي سنة 636 فتحت دمشق وبعد سنتين فتحت القدس ولم تدخل سنة 639 حتى فتح الشام كله، وساد فيه السلام بدل الخصام، فمن آمن عصم دمه وماله، ومن لم يؤمن دفع الجزية
واعتصم في الجبال فتركه الفاتحون وشأنه اه.
وداع صاحب الروم وآخر سهم في كنانتهم:
لما دخل اليأس على هرقل من الشام سار عنه إلى القسطنطينية من الرُّها فالتفت إلى الشام عند مسيره وهو على نَشَز وقال: السلام عليك يا سُورِيَة سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي بعدها إلا خائفاً حتى يولد الولد المشؤوم وليته لم يولد فما أجل نفعه وأمرَّ فتنته على الروم. ولم يفسر المؤرخون الذين نقلوا عبارة هرقل هذه معنى الولد المشؤوم وقيل: إنه قال باليونانية سوزه سورية أي كوني بسلام. وقد أخذ هرقل أهل الحصون التي بين الإسكندرونة وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين إنطاكية وأرض الروم، وشعث الحصون فكان المسلمون لا يجدون بها أحداً.
وفي سنة 17 قصدت الروم أبا عبيدة بحمص فضم أبو عبيدة إليه مسالحه وعسكروا بفناء حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بخروج الروم عليه(1/95)
وشغلهم أجناد الشام عنه، وقد كان عمر اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدةً لكون إن كان. فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، فلما وقع الخبر لعمر كتب بأن يسرح الجند منها إلى الشام مدداً لأبي عبيدة. ولما أحيط بالمسلمين جمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حيي منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة. فأحسنوا بالله الظن ولا يُكرِّهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد، وليس أوان الكذب، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وكأنما كان في الناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة وعباس
على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة وانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم، وقد انكسر أحد جناحيه وأوعبوا المدد، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وكان آخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا يلامقهم تخفيفا فأصيبوا وتغنموا. ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال: لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث.
منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر:
توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة 19 وكان من أعماله في الشام وعدله ما حببه إلى الروم حتى إنهم لما فتحوا له باب الجابية بدمشق سنة أربع عشرة للهجرة ودخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي عنوة، قال خالد لأبي عبيدة: اسبهم فإني دخلت وشرحبيل بن حسنة عنوة، فأبى أبو عبيدة. ولذلك كان الروم يميلون إلى أبي عبيدة دون خالد(1/96)
ابن الوليد. ولما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ ابن جبل صلِّ بالناس ومات رضي الله عنه. وكان عهد بولاية دمشق لسعيد العدوي وسويد الفهري وكلهم من الصحابة الكرام. وكان عياض ابن غنم مع ابن عمه أبي عبيدة بن الجراح في الشام، فلما توفي أبو عبيدة استخلفه بالشام فأقره عمر بن الخطاب وقال: لا أغير أميرا أمَّره أبو عبيدة.
ولما ولى أبو عبيدة معاذا قام هذا في الناس فقال: أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحا، فإن عبدا لا يلقى الله تعالى إلا تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والخطب العظيم أنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدا أبر صدرا، وأبعد من الغائلة، ولا أشد حبا للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه رحمه الله تعالى، واحضروا الصلاة عليه.
وأقام معاذ على إمرته ولم تطل مدته حتى مات في طاعون عمواس في هذه السنة واستخلف معاذ عمرو بن العاص. ولما قدم عمر إلى الشام بالجابية أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، ولم يطل أمد ولايته طويلا حتى هلك في طاعون عمواس أيضا. وعمواس من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. والطاعون الذي عرفت به مات به خمسة وعشرون ألفا وطمع العدو في الشام بسببه.
وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان عظيما بإخلاصه للإسلام،(1/97)
عظيما بنفسه وعدله وشجاعته، والشام مدين لفضله بفتحه وتمهيد أموره. ذكر أهل الأخبار عن عائشة أنها قالت: سمعت أبا بكر يقول: لما كان يوم أحد ورمي رسول الله في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر فأقبلت أسعى إلى رسول الله وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله، فإذا أبو عبيدة ابن الجراح قد بدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنيته إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس
أثرم.
هذا مثال من قوة نفس أبي عبيدة وحبه لرسول الله. شهد أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بدراً وأُحداً وثبت يوم أُحد مع الرسول حين انهزم الناس وولوا، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وكان من علية أصحابه. طلب أهل نجران من الرسول أن يبعث معهم رجلاً أميناً. قال: لأبعثن إليكم رجلاً أمينا حقَّ أمين حقَّ أمين حقَّ أمين قالها ثلاثاً: فبعث أبا عبيدة. قال أبو عبيدة وهو أَمير على الشام: يا أَيها الناس إني امرؤ من قريش وما منكم من أحد أحمرَ ولا أسودَ يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه. قال عمر بن الخطاب لجلسائه: تمنوا فتمنوا فقال عمر بن الخطاب: لكني أتمنى بيتاً ممتلئا رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح قال سفيان فقال له رجل: وما ألوت الإسلام فقال: ذاك الذي أردت. وقال عمر بن الخطاب: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله، وفي رواية لو سألني عنه ربي لقلت سمعت نبيك يقول: هو أمين هذه الأمة، وقال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني. أما عمالهم فلا يرفعونها وأما هم فلا يصلون إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين وبالجزيرة شهرين وبمصر(1/98)
شهرين وبالبحرين شهرين وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين. وكان عماله على مثاله من العدل والزهد وحب الحق. قالوا: إنه ولى سعيد بن عامر ابن حذيم حمص وكان لا يقبض رزقه وعطاءه، ولما قدم عمر حمص أمر أن يكتبوا له فقراءهم فرفع الكتاب إليه فإذا فيه سعيد بن عامر، فبكى عمر ثم عدّ ألف دينار فصرّها وبعث بها إليه فبكى سعيد وانتحب ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأعطاهم إياها، ولامته زوجته على عمله وقالت: لو كنت حبست منها شيئا نستعين به فلم يلتفت إلى قولها.
بمثل هؤلاء النوابغ المخلصين فتحت الأمصار وتمهدت، ودخل الناس في الإسلام أفواجا. وبمثل هذه الأمانة والعدل والإحسان استمال العرب القلوب فأصبح أعداؤهم أولياءهم، بعد أن شاهدوا عيانا ما انطوت عليه تلك النفوس الكبيرة. قالوا: إن الأقطار الحارة ضنينة بالنوابغ العاملين فأكذب العرب في هذا المثال من فتوحهم ذاك النظر بمن أخرجوا من رجالاتهم الذين أدهشوا، على قلتهم وفقرهم، العالم المعروف إذ ذاك بشجاعتهم وصبرهم، وقناعتهم وإخلاصهم، وتوجيه قوى الصغير والكبير منهم إلى مقصد واحد، أي إنهم كانوا موحّدين في عقائدهم، موحّدين في مقاصدهم، وهذا غريب من نصف أميين ليس لهم في المدينة قدم راسخة.(1/99)
الدولة الأموية
من سنة 18 إلى 177
إمارة معاوية بن أبي سفيان:
لما هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة 18 ولى عمر بن الخطاب أخاه معاوية بن أبي سفيان فلم يزل واليا لعمر حتى قُتل عمر، ثم ولاه عثمان بن عفان وأقرّ عمال عمر على الشام، فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني وكان على فلسطين ضم عمله إلى معاوية. وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة 21 على دمشق والبثينة وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وإنطاكية ومعرة مصرين وقليقية، ثم جعل عمير في سنة 23 على حمص ومعاوية على دمشق، ثم تولى عمير بن سعيد حمص وقنسرين، وعلقمة بن مجزّز فلسطين، وعمير بن سعيد هو الذي قال على منبر حمص: ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل وبابه الحق، فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام، فلا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.
اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان، أي في السنة الخامسة والعشرين للهجرة أضاف عثمان إلى معاوية حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق ورزقه ألف دينار كل شهر.
وبعث معاوية عمرو بن العاص إلى مصر ومعه أهل دمشق عليهم يزيد(1/100)
ابن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين رجل من خثعم، ومعاوية بن حديج على الخارجة، وأبو الأعور السُّلمى على أهل الأردن، فساروا حتى قدموا مصر فاقتتلوا بالمسناة وعلى أهل مصر محمد بن أبي بكر فهزم أهل مصر بعد قتل في الفريقين جميعا،
قال عمرو: شهدت أربعة وعشرين زحفا فلم أر كيوم المسناة ولم أر الأبطال إلا يومئذ. فلما هزم أهل مصر تغيب محمد بن أبي بكر فأخبر معاوية بن حديج بمكانه فمشى إليه فقتله.
ومن الأحداث مع الروم غزوة معاوية بن أبي سفيان سنة 21 وصلح أبي هاشم ابن عتبة على قليقية وإنطاكية ومعرة مصرين. وجاشت الروم 24 حتى استمد من بالشام من جيوش المسلمين من عثمان مددا فأمدهم بثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فدخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم وشنوا الغارات فأصاب الناس ما شاءوا من سبي وملئوا أيديهم من المغنم وافتتحوا بها حصونا كثيرة، وغزا قبرس 28 فصالحه أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة. وخرج أهل الشام 31 وعليهم معاوية وعلى البحر عبد الله بن سعيد، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية في جمع لم يجتمع للروم مثله قط مذ كان الإسلام فخرجوا في خمس مائة مركب، فربط المسلمون سفنهم بعضها إلى بعض حتى كان يضرب بعضهم بعضا على سفن المسلمين وسفن الروم وقاتلوهم أشد قتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن ويتواجأون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. ثم انتصر المسلمون وانهزم قسطنطين مدبرا فما انكشف إلا لما أصابه من القتل والجرح.
وافتتح معاوية جزيرة أرواد في السنة الثالثة لعثمان وهدم سورها وأحرقها وجلا أهلها إلى الشام. ووجه ملك الروم إلى معاوية يسأله الصلح، فأجاب إليه على أن يكون عنده من أهل بيته رهائن. وفي السنة الثامنة لعثمان وجه معاوية بجيوش إلى جزيرة رودس فأخذوها ورتبوا بها المسالح وجعلوها منظرة للعرب. وفي السنة الثالثة لمعاوية كانت غزوة بسر بن أرطاة الروم دفعة ثانية وسبى بها
وهزمت الروم حتى بلغت القسطنطينية، وفي سنة 48(1/101)
سير معاوية جيشا كثيفا إلى القسطنطينية مع سفيان بن عوف، وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري ودفن بالقرب من سورها. وفي سنة ثلاث عشرة لمعاوية غزا بسر بن أرطاة الروم فقتل وأخرج معه سبيا كثيرا. وفي السنة الرابعة عشرة لمعاوية غزت العرب الروم في البحر وصاروا إلى لوقية فخرج إليهم ثلاثة بطارقة فقتل الروم من العرب ثلاثين ألفا ومن بقي منهم ركب البحر، فلما توسطوه لحقهم بعض الروم في سفينة فألقى النار في سفن فاحترقت كلها وفازت الروم وهم أول من أخرج النار وصارت لهم عادة. وفي السنة السابعة عشرة ركب الروم السفن وأقبلوا فيها في البحر حتى أتوا ساحل صور وصيدا ثم خرجوا من السفن واستولوا على جبل لبنان، وكان الناس يسمونهم الجراجمة وانتشروا من جبل الجليل إلى الجبل الأسود، وذلك أن قسطنطين دسهم ليشغلوا العرب عن الغزو.
ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من عقل وحلم يضع أساس الملك ويسير في رعيته سيرة حسنة حببته إليهم، وكان يتأنى الأمور ويداري الناس على منازلهم، ويرفق بهم على طبقاتهم، فأوسع الناس من أخلاقه، وأفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب واستدعى النفوس، حتى آثروه على الأهل والقرابات وعدّ مربي دول وسائس أمم وداعي ممالك.
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس ولطالما أفضل على أشراف قريش مثل عبد الله بن العباس وعبد الله ابن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبان بن عثمان وناس من آل أبي طالب يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم، ومنهم عقيل بن أبي طالب شقيق علي بن أبي طالب قدم على معاوية بالشام فأمر له معاوية بثلاثمائة ألف دينار وقال له: هذه مائة ألف تقضي بها ديونك ومائة ألف تصل بها رحمك ومائة ألف
توسع بها على نفسك. وكان عقيل قدم من قبل على أخيه في الكوفة فشكا له الضائقة فوعده بأن يعطيه عطاءه إذا خرج فقال عقيل: وإنما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك وماذا يبلغ مني عطاؤك وما يدفع من(1/102)
حاجتي؟ وكان معاوية مدة حكمه في الشام أميرا نحو عشرين سنة، وخليفة مثلها يعمد إلى المال فينفقه إذا رأى هناك مصلحة، وما ينحسم بالمال وحسن التدبير لا يحله بإهراق الدماء إلا بعد الإضطرار الشديد.
مقتل عثمان بن عفان:
وبينا كان معاوية في الشام مستقلا بعض الاستقلال بعيدا عن كل شغب أخذ الناس ينقمون في الحجاز وغيره على عثمان لست سنين من خلافته وتكلم فيه من تكلم. فاجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان سنة رسول الله وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس إفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور. هذه خلاصة دعواهم عليه وقد دفع عن نفسه كل ذلك فما اقتنعوا ولا كفوا عن النيل منه.
وما زال عثمان على شيخوخته مغلوبا لمروان وبني أمية وأهم ما عدوا عليه توسيده الأمور لهم، حتى قتل في المدينة وتولى الخلافة علي بن أبي طالب. وكان معاوية على مثل اليقين من أن عليا لا يقره على الشام فكان كما ظن، وهنا ظهر نبوغ معاوية السياسي حتى بلغ ما أراد وقسم الأمة شطرين له وعليه وكانت كفته
الراجحة. ولما بعث علي عماله على الأمصار كان من جملة من بعث سهل بن حنيف إلى الشام، فأما سهل فإنه لما انتهى إلى تبوك وهي تخوم أرض الشام استقبلته خيول لمعاوية فردوه فانصرف إلى علي فعلم علي عند ذلك أن معاوية قد خالف وأن أهل الشام بايعوه. واختلفت الآراء في تبعة معاوية من مقتل عثمان فقال فريق: إن عثمان كتب إلى معاوية: إن أهل المدينة قد كفروا وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة(1/103)
فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول. فتربص به معاوية وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم فأبطأ أمره على عثمان حتى قتل فيما قيل.
آمال علي بن أبي طالب في الخلافة:
ولم يتخلف معاوية عن مبايعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقط، بل قام يطالب بدم عثمان ويتهم عليا بقتله لأن علياً كان يحتج على الصحابة منذ يوم البيعة لأبي بكر ويقول: أنا أجدر بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح: يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً واضطلاعاً فسلّم لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. وقد وقعت لعلي تأوهات في المطالبة بالخلافة وأنه بُغي عليه في ذلك وغمط حقه في عهد الثلاثة الخلفاء، ولذلك كان في تساهله بالدفاع عن عثمان وجه عند بعضهم على حين ثبت أن علياً قًرّع عثمان على التفريط وأنذره بأن عاقبته تكون القتل بقوله: أُحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة.
وذكر ابن حزم أن امتناع معاوية من بيعة عليّ كامتناع علي من بيعة أبي بكر،
فما حارب أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكرّ أقدر على عليّ من عليّ على معاوية، ومعاوية في تأخره عن بيعة عليّ أعذر وأفسح مغاراً من عليّ في تأخره عن بيعة أبي بكر، لأن عليلً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير، وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه، وما تابعهم فيه إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته، فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك؟ إلى أن(1/104)
قال بشأن البيعة: فصح أن علياً هو صاحب الحق الإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد قال: ولم يقاتل عليٌّ معاوية لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره ولكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته، فعليّ المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى رأي تقديم أخذ القَوَد من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك.
اتفاق معاوية وعمرو بن العاص على المطالبة بدم
عثمان:
اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان ليعيد الأمر إلى بني أُمية ويصبحوا أمراء في الإسلام كما كانوا أمراء في الجاهلية. وكان النعمان ابن بشير أتاه إلى دمشق من المدينة بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضباً بدمه وبأصابع نائلة زوجته فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة في أردانه، وتعاهد الرجال
من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم، وكان ستون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.
وكان عمرو بن العاص لما نشب الناس في أمر عثمان في ضيعة له بالسبع من حيز فلسطين قد اعتزل الفتنة، فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه ووعده بملك مصر إن هو ظفر بعلي. فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينة مدينة يحرض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلهم إلا نفراً من أهل حمص نساكا فإنهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منا.
وذكر المؤرخون أن معاوية قدم بيت المقدس وقدم عليه عمرو بن العاص فبايعه على دم عثمان وكتبا كتاباً بينهما كانت صورته: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص(1/105)
ببيت المقدس بعد قتل عثمان وحمل كل واحد منهما صاحبه الأمانة أن بيننا عهد الله على التناصر والتخالص والتناصح في أمر الله والإسلام، ولا يخذل أحدنا صاحبه بشيء ولا يتخذ من دونه وليجة ولا يحول بيننا ولد ولا والد أبداً ما حيينا فيما استطعنا.
وهكذا أخذ معاوية يحرك النفوس ويطالب بثأر عثمان ومما كتب به إلى علي: ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان. فأجابه عليّ: زعمت أنه إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرت فيلزمني خطيئته عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. . . وأما قولك تدفع إليك قتلة عثمان، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أُمية وبنو عثمان أولى بعثمان منك.
حرب صِفّين:
وما برحت الحزازات تشتد بين عليّ ومعاوية يريد الأول أن يبايع له الثاني، ويطالب الثاني بدم عثمان وهو مستقل بالشام، حتى التقيا سنة 37 في صِفِيّن من أرض الشام بجيشيهما وكانت بينهما وقائع سالت فيها الدماء كالأنهار، فقتل من أهل الشام جيش معاوية خمسة وأربعون ألفاً، ومن أهل العراق والحجاز جيش عليّ خمسة وعشرون ألفاً، وكان معاوية في مائة وعشرين ألفاً، وعلي في تسعين ألفاً، وجسّر عليٌّ الجنود حتى قُتل من أبطال الإسلام في تلك المعارك ألوف ولم يكترث بقتلهم وإن علياً لينغمس في القوم فيضرب بسيفه حتى ينثني ثم يخرج متخضباً بالدم حتى يسوى له سيفه ثم يرجع فينغمس فيهم. ويقول الدينوري: كان أهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر فلا يعرض أحد لصاحبه، وكانوا يطلبون قتلاهم فيخرجونهم من المعركة ويدفنونهم. وروى ابن سعد قال: اقتتل الناس بصفين قتالاً(1/106)
شديداً لم يكن في هذه الأمة مثله قط حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال وملوه من طول تبادلهم السيف. فقال عمرو بن العاص وهو يومئذ على القتال لمعاوية: أنت مطيعي فتأمر رجلاً بنشر المصاحف، ثم يقولون: يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن والى ما في فاتحته إلى خاتمته، فإنك إن تفعل ذلك يختلف أهل العراق ولا يزيد ذلك أمر أهل الشام إلا استجماعاً، فأطاعه معاوية ففعل، وأمر عمرو رجالاً من أهل الشام فقرىء المصحف ثم نادى يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن، فاختلف أهل العراق فقالت طائفة: أولسنا على كتاب الله وبيعتنا؟ وقال آخرون كرهوا القتال: أجبنا إلى كتاب الله، فلما رأى علي عليه السلام وهنهم وكراهتهم للقتال قارب معاوية فيما يدعوه إليه واختلف بينهم الرسل فقال علي عليه السلام: قد قبلنا كتاب الله فمن يحكم بكتاب الله بيننا وبينك، قال: تأخذ رجلاً منا نختاره ونأخذ منكم رجلاً
تختاره، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار علي أبا موسى الأشعري. وجرت المهادنة بين علي ومعاوية على وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، فأقام معاوية بالشام يجبيها وكان ذلك سنة 40.
كانت حرب صفّين من أشأم الحروب على الأمة، وهي في أول شبابها، التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح، واقتتلا قتالاً شديداً، وهلكت من الفريقين نفوس زكية، فيهم الصحابة والقراء والعلماء، ولو لم يشغل بال معاوية بمقتل عثمان ثم بمدافعة عليّ لكان تفرغ للقضاء على الدولة البيزنطية آخر الدهر. خصوصاً وقد كان من أكبر همه أن يغادي الروم القتال ويراوحهم منذ استقل بإمارة الشام. يغزوهم براً وبحراً ويصيب منهم وقلما يصيبون منه، وربما توفق معاوية وآله لولا هذه الغائلة الأهلية إلى استصفاء معظم أقطار الأرض ونشر الدين واللغة فيها، واضطرت حوادث عليّ معاوية أن يهادن صاحب الروم ويرضيه بمال عظيم ريثما يتفرغ له. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: كما بدأت الفتنة اكتب إلى قيصر الروم تعلمه أنك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم وتسأله المواءمة والمصالحة تجده سريعاً إلى ذلك راضياً بالعفو منك.(1/107)
صلح الحسن مع معاوية:
ومن أهم الأحداث في زمن معاوية قيام الحسن بن علي في العراق عقيب مقتل أبيه علي بن أبي طالب، فسار معاوية إلى الموصل والتقى العسكران، فوجه معاوية إلى قيس بن سعد أمير جيش الحسن يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف فأبى، ويقال: إنه أرسل إلى عبد الله بن عباس وبذل له مثل هذا المال فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه وهم من شيعة الحسن، وأقام قيس على محاربته حتى اضطر الحسن إلى صلح معاوية بعد أن رأى
أصحابه تفرقوا عنه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وقد سالمت معاوية وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
يقول الدينوري: لما رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل إلى عبد الله ابن عامر بشرائط اشترطها على معاوية على أن يسلم له الخلافة، وكانت الشرائط ألا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ويجعل له خراج الأهواز مسلماً في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين بن علي في كل عام ألفي ألف درهم، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، فكتب عبد الله بن عامر بذلك إلى معاوية فكتب معاوية جميع ذلك بخطه وختمه بخاتمه وبذل له العهود المركبة والأيمان المغلظة وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه إلى عبد الله بن عامر فأوصله إلى الحسن رض فرضي به وكتب إلى قيس بن سعد بالصلح ويأمره بتسليم الأمر إلى معاوية والانصراف إلى أعدائه، فلما وصل الكتاب بذلك إلى قيس بن سعد قام في الناس فقال: أيها الناس اختاروا أحد أمرين: القتال بلا إمام أو الدخول في طاعة معاوية فاختاروا الدخول في طاعة معاوية. فسار حتى وافى المدائن وسار الحسن بالناس في المدائن حتى وافى الكوفة ووافاه معاوية بها فالتقيا فوكد عليه الحسن رض تلك الشروط والأيمان اه. قال الأحنف بن قيس وقد أتاه كتاب الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يستنصره: قد بلونا الحسن(1/108)
وآل الحسن فلم نجد عندهم إيالة الملك ولا صيانة المال ولا مكيدة الحرب. ولم يجبه إلى ما طلبه إليه.
ولما مات الحسن بعد شهرين وقيل أربعة أشهر من استيلائه على العراق صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس فملك العراق والحجاز ومصر، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعاً أو كرهاً. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن
العاص عامله على مصر، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة.
خلافة يزيد ورأي ابن خلدون:
أوعز معاوية سراً إلى ولاة الأمصار أن يوفدوا الوفود إليه يزينون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعوه والسيوف مسلولة فيما قيل على رقاب الصحابة في مسجد الرسول. وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وكانت بالعهد لأفضل الصحابة أو بالشورى بينهم لمن يقع اختيارهم عليه، وجعلها كالملك يورثها الأب ابنه أو من يراه أهلاً لها من خاصته، أو كسروية أو قيصرية على سنة كسرى وقيصر كما قالوا. وبذلك نقم على معاوية بعض الصحابة والتابعين من الأنصار والمهاجرين.
والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه - كما قال ابن خلدون - إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره مما يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور الأكابر لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله ابن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من(1/109)
الأمور مباحاً كان أو محظوراً. كما هو معروف عنه، ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير. وندور المخالف معروف.
ثم قال: إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق
ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثارهم أبناءهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك. وكان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره. ووكلوا كل من يسمو ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك؛ والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
ومن جملة وصايا معاوية لابنه يزيد في أهل الشام: أنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك ورعيتك، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم. ولما قدم مشيخة أهل الكوفة على معاوية كان فيما سألهم عنه رأيهم في أهل الأحداث من الأمصار فقال أحدهم: وأما أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.
غزوات معاوية وأعماله ووصيته:
ومما يجب أن يذكر لمعاوية أنه مع اشتغال ذهنه بالملك لم يغفل قط عن إنشاء أسطول عظيم غزا به الروم وغزا القسطنطينية غير مرة وأغزى الروم مراراً، وكان يغزو الصوائف والشواتي أي غزوات الصيف والشتاء، وخص قوماً من رجاله بتولي هذه الغزوات وبلغه أن الروم سنة 41 قد زحفت(1/110)
في جموع كثيرة فخاف أن يشغلوه عما يحتاج إلى تدبيره وأحكامه خصوصاً بعد خروجه من وقعة صفين فوجه إليهم فصالحهم على مائة ألف دينار. وكان معاوية أول من صالح
الروم، فلما استقام له الأمر أغزى أمراء الشام على الصوائف فسبوا في الروم سنة بعد سنة، وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه، ورضي مرة بصلح ملك الروم على أن يكون عنده من أهل بيت ملكهم رهائن.
وحدث سنة 34 أن معاوية كان يستعد لقصد القسطنطينية ويعد السفن الكثيرة بمدينة طرابلس ويحمل من السلاح أمراً عظيماً أن أخوين لرجل يقال له بقنطر، وكانا في خدمة العرب، فلما نظر ما أعده معاوية أخذتهما الغيرة فأتيا السجن ففتحاه وأخرجا من فيه من الروم وقتلوا عامل البلد وأحرقوا السفن والعدة وركبوا البحر. فلما بلغ معاوية ذلك جهز جيوشاً كثيرة إلى الروم فافتتح أرضاً كثيرة. وسبي من أهلها مائة ألف إنسان وبعث أخاه على البحر فانهزم الروم بحراً أيضاً، ثم تعددت وقائعه مع الروم. ومن وقائعه وقعة سنة 31. ولولا النار التي اخترعها الروم لإحراق السفن، وبها حرقت سفن كثيرة للعرب وهلك ألوف من رجال بحريتهم، لامتدت الفتوحات ولسهل على معاوية فتح القسطنطينية كما سهل عليه غزو الروم لتحصينه سواحل الشام وإقامته الصناعة في صور وعكا وغيرها من مدن الشام.
توفي معاوية سنة 60 بعد أن وطأ أكناف الملك وابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، منها أنه أول من وضع الحشم للملوك ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلي الملك أو الخليفة بها في الجامع منفرداً عن الناس، وهو أول من وضع البريد، واخترع ديوان الخاتم واستخدم النصارى في مصالح الدولة، فعهد بنظارة المالية إلى منصور وسرجون من نصارى العرب الشاميين. أوصى معاوية بني أمية فقال: إنه لما قرب مني ما كان بعيداً، وخفت إن يسبق الموت إليّ ويسبقكم بي سبقته إليكم بالموعظة لأبلغ عذراً، وإن لم أردَّ قدراً، إن الذي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه أو تقبلون عليه، وإن الذي أخلف لكم من(1/111)
رأيي مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي، قبول نصيحتي، وإن قريشاً شاركتكم في أنسابكم، وتفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم ما تقدمتم فيه إذا أخر غيركم ما تأخروا له، ولقد جُهر لي فعلمت، وفُهم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أولادكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول ذلك اختلافكم بينكم، واتفاق المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد ما أقبل به، فلست أذكر عظيماً يُنال منكم، ولا حرمة تُنتهك لكم، إلا وما أكف عن ذكره أعظم منه، فلا معوّل عليه عند ذلك أفضل من الصبر، واحتساب الأجر، فيا لها دولةً أنست أهلها الدولَ في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فيمادُّ كم القوم دولتكم تماد العنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الأمر مداه، وجاء الوقت الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضعفت الحيلة، وعزب الرأي، وصارت الأمور إلى مصايرها، فأوصيكم عندها بتقوى الله عز وجل الذي يجعل لكم العاقبة إن كنتم متقين.
خلافة يزيد ومقتل الحسين ووقعة الحرة:
تولى يزيد بن معاوية الخلافة بعد أبيه ثلاث سنين وستة أشهر، وسار على خطته في جهاد الروم وكان جلدا صبورا، ولم تمنعه فتن ابن الزبير وشيعة العراق عن قتالهم، وأهم الأحداث في زمانه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء من العراق، وحمل رأسه الشريف إلى الشام، وإهانة أسرته الطاهرة، وقتل بعض رجالها. فارتكب ابن زياد(1/112)
عامل العراق ليزيد من ذلك أمرا نكرا أكبره أهل الإسلام وزادت بذلك شيعة علي وآله حنقا وشدة. ولم يكن يزيد يريد قتل الحسين عملا بوصية والده له، فإن زحر بن قيس لما حمل من العراق إلى الشام أهل بيت الحسين ودخل على يزيد وبشره بذلك دمعت عينه وقال: قد كنت أرضى من
طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية يعني ابن زياد، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين. ومن الأحداث في أيام يزيد تسييره بالجيش إلى نواحي حماة وتصدي أهل لبنان له وهزيمته. وغزا الروم في ولايته للعهد ثم غزاهم في خلافته وعد ذلك من مزاياه ومزايا أبيه.
واتفق أهل المدينة سنة 62 على خلع يزيد فأخرجوا عماله وآله فجهز جيشا مع مسلم بن عقبة وأمره بقتال أهل المدينة فإذا ظفر بها أباحها للجند ثلاثة أيام، وأن يبايعهم على أنهم خول وعبيد ليزيد. فقاتل جند الشام أهل المدينة في الحرَّة واستباح مسلم المدينة، وكان قتلى الحرة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار وعشرة آلاف من وجوه الموالي، ثم بايع من بقي من الناس.
حنقت نفوس الأمة من وقعة الحرة لأن فتنتها التهمت بضع مئات من علية قريش، وكانت غلطة زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقولوا عليه وحطوا من كرامته، مع أنه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم. أما وقعة الحرة فإن أهل المدينة استطالوا على يزيد وحاسنهم فخاشنوه وأحرجوه حتى أخرجوه.
عهد معاوية الصغير:
توفي يزيد بن معاوية سنة 64 وبويع ابنه معاوية بن يزيد ثالث خلفاء بني أمية، ولما استخلف لبث شهرين وليالي محجوبا لا يرى، ثم خرج بعد ذلك فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني نظرت فيما صار إليَّ من أمركم، وقلدته من إمارتكم، فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم وفيهم من هو خير مني، وأحقهم بذلك وأقوى على ما قلدته، فاختاروا مني إحدى خصلتين إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضىً ومقنعا، ولكم الله
عليَّ لا آلوكم نصحا في الدين والدنيا، وإما أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني(1/113)
منها، فأنف الناس من قوله، وأبوا من ذلك وخافت بنو أمية أن تزول الخلافة منهم وماج أمرهم واختلفوا.
وقيل: إنه خطب الناس وقال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا فو الله لئن كانت الدنيا مغنما فقد نلنا منها حظا، وإن تكن شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: سنها فينا سيرة عمرية قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا. ولما حضرته الوفاة بعد خلافته بأربعة أشهر وقيل أقل من ذلك، وله عشرون سنة وقيل إحدى وعشرون سنة، لم يرض أن يعهد بالأمر من بعده. وقال: أتفوز بنو أمية بحلاوتها، وأبوء بوزرها وأمنعها أهلها، كلا إني لبريء منها. قال المسعودي: إنه أراد أن يجعلها إلى نفر من أهل الشورى ينصبون من يرونه أهلا لها. وقيل: إن معاوية بن يزيد كان قدريا، لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك، فدان به وتحققه، فلما بايعه الناس قال للمقصوص: ما ترى؟ قال: إما أن تعتدل أو تعتزل. فخطب الناس يستعفي من بيعتهم، فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلمته فطمروه ودفنوه حيا. ويقول الطبري: وكان معاوية بن يزيد بن معاوية فيما بلغني أمر بعد ولايته فنودي الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس وتغيب حتى مات. فقال بعض الناس: دس إليه فسقي سماً وقال بعضهم: طعن.
قيام ابن الزبير وخلافة مروان بن الحكم ووقعة مرج
راهط:
وكان عبد الله بن الزبير قد تغلب على مكة وتسمى بأمير المؤمنين ومال إليه أكثر النواحي. ابتدأ أمره في أيام يزيد بن معاوية فلما توفي يزيد مال الناس إلى ابن الزبير. وكان بفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري، وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري،(1/114)
وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وثب على سعيد بن بدل الكلبي وأخرجه منها، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي بمعنى أن الناس افترقوا ثلاثا: فرقة بحدلية وهو اسم لبني حرب، وفرقة زبيرية، وفرقة لا يبالون لمن كان الأمر.
وقدم مروان بن الحكم، وأمر الشام مضطرب ومعظم أجنادها مبايعة لابن الزبير، فدعا مروان إلى نفسه وهو من أعظم رجال أمية عقلا ودهاء وسياسة وحنكة. واجتمع الناس بالجابية من أرض حوران فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم من بني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، فكان روح ابن زنباع الجذامي يميل مع مروان فقام خطيبا فقال: يا أهل الشام هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والمطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل ويوم صفين، فبايعوا الكبير واستنيبوا للصغير. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون فقال: نقصد دمشق فإنها دار الملك ومنزل الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتيتهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بجيش من شمالي الشام، فكان في ثلاثين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا أكثرهم رجالة، والتقوا بمرج راهط فاقتتلوا قتالا شديدا ودام القتال عشرين يوما فقتل الضحاك بن قيس وخلق من
أصحابه، وهرب من بقي من جيشه. وبلغ الخبر النعمان بن بشير وهو بحمص فخرج هاربا، فتبعه قوم من حمير وباهلة، وقيل من أهل حمص فقتلوه في البرية، وكان من أخطب أهل الدنيا، وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا على الخابور.
وأقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمعت إليه بنو أمية بعد وقعة مرج راهط التي انقسمت بها الشام فرقتين قيسية ويمانية،(1/115)
وغلب اليمانية وكان بنو أمية يبغضون اليمانية. قال المسعودي: وكانت هذه الوقعة سبب رد ملك بني أمية، وقد كان زال عنهم إلى بني أسد ابن عبد العزَّى، ولذلك رأى قوم أن مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف. وهذه الوقعة من الوقائع المشهورة التي تفتخر بها اليمانية على النزارية، وقد أكثرت شعراؤها الافتخار بذلك. ولما بويع لمروان بن الحكم اشترط حسان بن مالك، وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام، على مروان ما كان لهم من الشروط على معاوية وابنه يزيد وابنه معاوية بن يزيد، منها أن يفرض لهم لألفي رجل، ألفين ألفين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي وصدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة، فرضي مروان بذلك وانقاد إليه. وكان هذا أول قانون عربي وضع للتشريفات بروتوكول وضع أساسه القحطانية، وكانوا اصطلحوا على ذلك منذ عهد معاوية، أرضاهم بهذا التصدر فدخل مصطلحهم في طور الدساتير المعمول بها.
ولم يلبث مروان أن وجه جيشاً إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير ثم خرج يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس متغلباً على البلد فحاربه، فهرب ولحق بابن الزبير، وسار مروان إلى مصر فصالحه أهلها. وأرسل عبيد الله بن زياد إلى العراق لقتال الشيعة، ولما صار مروان إلى الصِّنَبْرَة من أرض الأردن
منصرفاً من مصر بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد بن العاص، فأحضره فأنكر وبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، وكانت ولاية مروان تسعة أشهر وقيل ثمانية وقيل ستة. وبايع أهل الشام بعده لابنه عبد الملك وكان مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف كرهاً، على ما قيل بغير رضى من عصبة من الناس، بل كل خوّفه إلا عدد يسير حملوه على وثوبه عليها، وقد كان غيره ممن سلف أخذها بعدد وأعوان. لا جرم أن مروان سيد بني عبد مناف في عصره كان من الرجال العظام وكان مولعاً بالشورى في إمارته المدينة وكان يجمع في ولايته عليها أصحاب رسول الله يستشيرهم ويعمل بما يجمعون له عليه، ومثل هذا الرجل بطول تجربته وحنكته(1/116)
وأخذه بالآراء السديدة ينجح ولا شك في عمله، فهو مفخرة من مفاخر الأمويين وبنو أمية مدينة بالخلافة له.
خلافة عبد الملك بن مروان:
كان عبد الملك بن مروان بعد مهلك أبيه بعيداً عن دمشق فأقبل مسرعاً خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، وكان عمرو بن سعيد من أحب الناس إلى أهل الشام يسمعون له ويطيعون. واجتمع الناس على عبد الملك فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان فقالوا: والله لتقومنَّ إلى المنبر أو لنضربن عنقك، فصعد المنبر وبايعوه.
وتفرغ عبد الملك لاستصفاء العراق من شيعة علي فاستخلصها منهم بعد أن قتل من الطرفين جمهور كبير، وقتل أشراف أهل الشام وكان جيشهم ثلاثين ألفاً. وذكر اليعقوبي وأكد روايته غير واحد من المؤرخين أن عبد الملك منع أهل الشام من الحج وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة ووجه وجوه الناس إلى مسجد بيت المقدس فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سَدَنة وأخذ الناس بالطواف حولها كما تطوف حول الكعبة. قلنا: وكذلك فعل بنو
أمية في الأندلس في الغرب، فإنهم منعوا الناس عن الحج مدة ملكهم أوائل عهد بني العباس مخافة أن يأخذهم العباسيون بالبيعة لهم.
ومن الأحداث في أيام عبد الملك تجهيز يوحنا أمير جبل لبنان اثني عشر ألف فارس وذهابه إلى البقاع ونزوله في قب الياس، وغزوة الجبل الشرقي وشنه الغارات على الحجاج حتى ضاقت به الرعية وقطعت الطرق وخربت المسالك. وكان أمير لبنان مرتبطاً مع صاحب الروم بعهود فسار قائد جيوشهم لاون سنة 65 وضم إليه عساكر الجبل. وغزا أرض العرب واسترد منهم ما كانوا أخذوه، فاضطر عبد الملك بن مروان إلى تجديد الهدنة مع ملك الروم على أن يدفع له كل يوم ألف دينار وفرساً ومملوكاً(1/117)
ويقاسمه على خراج قبرس وأرمينية على شرط أن يخرج اللبنانيين من جبلهم، فأجابه ملك الروم إلى ذلك.
الجراجمة والمردة في جبل لبنان:
ويؤخذ مما قاله ابن عساكر أن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعه مدائن الساحل، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل، ووجه ملك الروم قلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر فسار بهم حتى أرسى بهم بوجه الحجر وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ إنطاكية وغيرها من الجبل الأسود، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يخرج في ناحية من رجال ولا غيرها إلا بالسلاح، فغلبت الجراجمة على الجبال كلها من لبنان وسنير وجبل الثلج وجبال الجولان، فكانت بالسبل مسلحة لنا، وفي الرقاد وعقربا الجولان مسلحة، حتى جعلوا ينادون عبد الملك بن مروان من جبل دير مران من الليل، وبعث إليهم عبد الملك بالأموال ليكفوا حتى يفرغ إليهم، وكان مشغولاً بقتال أهل العراق ومصعب بن الزبير وغيره. قال: ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر في مدينة
طرابلس وكان أميرها يتواعده ويأمره بالخروج إليهم، فلم يزل سحيم ينتظر الفرصة منهم ويسأل عن أخبارهم وأمورهم حتى بلغه أن قلقط في جماعة من أصحابه، وتهيأ بهيئة الروم في لباسه وهيئته وشعره وسلاحه، متشبهاً ببطريق من بطارقة الروم قد بعثه ملك الروم إلى جبل اللكام في جماعة من الروم فغلب على ما هنالك، فلما دنا من القرية خلَّف أصحابه فقال: انتظروني إلى مطلع كوكب الصبح فدخل على قلقط وأصحابه وهم في كنيسة يأكلون ويشربون، فمضى إلى مقدم الكنيسة فصنع ما يصنعه النصارى من الصلاة والقول عند دخولهم كنائسها، ثم جلس إلى قلقط فقال له: من أنت فانتمى إلى الرجل الذي يشبه به فصدقه، وقال له: إنما جئتك لما بلغني عن جهاد سحيم وما اجتمع عنده من العساكر للخروج إليك، فأتيت لأخبرك به وأكفيك أمره، إياك أن(1/118)
تتناول من طعامهم. ثم قال لقلقط وأصحابه: إنكم لم تأتوا هنا للطعام والشراب، ثم قال لقلقط: ابعث معي عشرة من هؤلاء من أهل النجدة والبأس حتى نحرسك الليلة، فإني كئيب أن تأتيك بلية، فبعث معه عشرة وأمرهم بطاعته، فخرج بهم إلى أقصى القرية وقام بهم على الطريق الذي يتخوفون أن يُدخل عليهم منه، فأقام حارساً منهم وأمر أصحابه فنانوا، فأمر الحارس إذا هو أراد النوم أن يوقظ حارساً منهم وينام هو، فحرس الأول ثم أقام الثاني ثم قام سحيم ثم قال: أنا أحرس فنم فلما ثقل نومهم قتلهم بذبابة سيفه رجلاً بعد رجل، فاضطرب التاسع، فأصاب العاشر برجله، فوثب إلى سحيم فأخذه وصرعه الرومي وجلس على صدره وأخرج سحيم سكيناً ومقلها في نحره فقتله، ثم أتى الكنيسة فقتل قلقط وأصحابه رجلاً بعد رجل، ثم خرج إلى أصحابه العشرين فجاء بهم وأراهم قتله وقتل الحرس وقلقط ومن في الكنيسة ووضعوا سيوفهم فيمن بقي فنذر بهم من بقي منهم، وخرجوا هراباً حتى أتوا سفنهم بوجه الحجر فركبوها، ولحقوا بأرض الروم ورجع أنباط جبل لبنان إلى
قراهم.
ورواية البلاذري في هذه الوقعة هكذا: وأقبل طاغية الروم يريد الشام وخرج أيضاً قائد قواد الضواحي في جبل اللكام فاتبعه خلق من الجراجمة والأنباط وأبّاق عبيد المسلمين وغيرهم، ثم صار إلى لبنان فأقبل عبد الملك مغذاً للسير حين أتاه كتاب ابن أم الحكم بذلك، فلما ورد دمشق وجه حميد بن خريث بن بحدل الكلبي بهدايا وألطاف إلى طاغية الروم وكتب إليه معه يسأله الموادعة على إتاوة وأعطاه إياها كما فعل معاوية حين أراد، إتيان العراق فقبل الطاغية الهدايا وما بذل له عبد الملك من الإتاوة وأعطاه رُهناء من أبناء الروم وصيرهم ببعبلك، ووادع عبد الملك الذين خرجوا بلبنان وجعل لهم في كل جمعة ألف دينار فركنوا إلى ذلك ولم يعيثوا بفساد، ثم دس إليهم سُحيم بن المهاجر فتلطف حتى وصل إلى رئيسهم متنكراً فأظهر ممالأته وتقرَّب إليه بذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح الذي بذل له، ثم عطف عليه وهو وأصحابه غارون غافلون بجيش من موالي عبد الملك وبني أمية وجند من(1/119)
ثقات جنده وكماتهم كان أعدهم لمحاربته وأكمنهم في مكان بالقرب منه خفيّ فقتل أولئك الروم وبشراً من الجراجمة وغيرهم ثم أذن بالأمان فيمن بقي من الجراجمة ومن سواهم فتفرقوا في قراهم ومواضعهم، فلما أصلح عبد الملك أموره استخلف ابنه الوليد على دمشق ومعه سعيد بن مالك بن بحدل. قال: وأمر عبد الملك فنادى من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا مع أولئك القوم فهو حر وله أن أثبته في الديوان، فانفض إليه خلق منهم كانوا ممن قاتل مع سحيم وقد وفى لهم وجعل لهم رَبْعاً على حدة فهم يسمون الفتيان إلى الآن.
ولما كانت سنة 89 اجتمع الجراجمة إلى مدينتهم وأتاهم قوم من الروم من قبل الإسكندرونة ومرسين، فوجه الوليد بن عبد الملك إليهم مسلمة ابن عبد الملك فأناخ
عليهم في خلق فافتتحها، على أن ينزلوا بحيث أحبوا من الشام، ويجري على كل امريء منهم ثمانية دنانير وعلى عيالاتهم القوت من القمح والزيت وهو مدان من قمح، وقسطان من زيت، وعلى أن لا يكرهوا ولا أحد من أولادهم ونسائهم على ترك النصرانية، وعلى أن يلبسوا لباس المسلمين ولا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية، وعلى أن يغزوا مع المسلمين فينفلوا أسلاب من يقتلونه مبارزة، وعلى أن يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال المسلمين، فأخرب مدينتهم وأنزلهم فأسكنهم جبل الحُوّار وسنح اللولون؟ وعمق تيزين وصار بعضهم إلى حمص ونزل بعضهم بطريق الجرجومة في جماعة معه من إنطاكية ثم هرب إلى الروم. قال ياقوت: واستعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيام بني أمية وبني العباس وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة.
قتل ابن الزبير في مكة بعد أن كانت خلافته تسع سنين والفتنة بينه وبين عبد الملك سبع سنين، فبويع لعبد الملك بالحجاز واليمن وصفا له ملك مصر والشام والحجاز والعراق واليمن وغيرها. وفي سنة 75 وصل موريق وموريقان من قواد الروم إلى الشام وحملا بجيوشهما على دير القديس مارون في جهات حماة وقتلا منه خمسمائة راهب وهدما بنيانه، ثم تحولا(1/120)
من هناك إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن ولم يعفيا أحداً من أتباع بطريرك الموارنة، ثم انتهى جيشهما إلى طرابلس فخضع لهم أهل الكورة، ثم قوي الجبليون على عسكر الروم ثم قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. دعا الروم إلى قتال الموارنة لقولهم بالطبيعتين والمشيئتين ثم وفد وفد منهم مع لاون القائد يبيح أن يحارب الجيش الموجه عليهم، فلما عرف الجبليون وأهل العواصم بهذا انهالوا على الأروام من أعالي الجبل فقاتلوهم حتى قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. قال الدويهي: وبسبب هذه
الحملة على يوحنا مارون ولا سيما بسبب الوقعة التي جرت بين أهل الكورة وجبة بشري كان بدء التفرقة بين الموارنة والملكية. لأن الذين اتبعوا جيش الروم وانقادوا لرأيهم سموا ملكية تبعاً للملك، والذين ثبتوا في الأمانة تحت طاعة البطريرك يوحنا مارون سموا موارنة.
وقال ابن القلاعي: إن الموارنة في دخول المسلمين إلى الشام كانوا يسكنون جبل لبنان، ويتولون الجبال والسواحل التي تجاورهم، وبلادهم من حدود الشوف إلى بلاد الدريب، وأميرهم يسكن قرية بسكنتا نزل إلى البقاع في رجاله ونهبها وقتل كثيرين ولبث أياماً في قب الياس، فلما انتهى خبره إلى عبد الملك بن مروان أرسل اليه هدية ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره، وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع، ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين المسلمين والموارنة إلى نحو ثلاثين سنة ثم ابتنى الموارنة حصناً فوق نهر الكلب جرت عنده موقعة هائلة.
عهد الوليد:
توفي عبد الملك في سنة 86 بعد أن ولي الخلافة منذ قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر، وكان من الحزم وسعة الصدر وجمال العلم والأدب على جانب عظيم، ويعد من فقهاء المدينة وهو أول من حولت الدواوين في أيامه إلى العربية، وفي عهده نقشت الدنانير والدراهم بالعربية 76 وكان قبل ذلك نقش الدنانير بالرومية ونقش الدراهم(1/121)
بالفارسية، وهو أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس قبل ذلك يراجعون ويعترضون عليهم.
وبويع للوليد بن عبد الملك. وكانت أيامه من أبرك أيام بني أمية عمّر الجوامع العظام، وكتب إلى الأمصار بهدم المساجد والزيادة فيها، وبث في الأمة روح العمران، فكان الناس إذا التقوا في زمانه، يسأل بعضهم بعضاً عن الأبنية
والعمارات في كل مكان، وكان أول من عمل أعمالاً جسيمة ابتدعها في الصدقات والقربات، هذا مع أن الخراج انكسر في أيامه فلم يحمل كثير شيء من العراق وغيره، فاضطر إلى إحصاء أهل الديوان، وألقى منهم بشراً كثيراً بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وأجرى الوليد على زمني أهل الشام كالمجذّمين والعميان وكساهم وأمر لكل منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزاد الناس جميعاً في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف، وكان وهو ولسّ عهد، يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلاً، ويطعم من صدر عن الحج بمنزل زيزاء في البلقاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابهم، ولم يقل في شيء يسأله: لا. فقيل له: إن في قولك أنظر عدة ما، يقيم عليها الطالب فقال: لا أعوّد لساني شيئاً لم أعتده وقال:
ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
سيوشك إلحاق معاً وزيادة ... وأعطية مني عليكم تَبرّع
محرّمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتاب شهراً وتطبع
وقد بلغ بنو أمية في عهد الوليد أقصى درجات عزهم، واعتز بحكمه الإسلام والمسلمون، وفتحت الفتوح العظام وتغلغلت جيوشه في أرض الترك والروم والهند، وفتحت الأندلس وجاء فاتحها موسى بن نصير إلى دمشق يضع بين يدي الخليفة الأموال والجواهر، ويعرض أبناء ملوك البربر والجزائر والروم والأسبان والإفرنج يلبسون تيجانهم، ويقف أبناء ملوك أوروبا في باب الخليفة الأموي بحالة الأسر. وبعث الوليد أخاه مسلمة(1/122)
لغزو الروم فقتل منهم أربعين ألف رجل، وغزا قلقية وفتح فيها حصوناً كثيرة بالأمان، وحمل أهلها إلى الشام وفتح أمسية وحصوناً كثيرة.
سليمان بن عبد الملك:
توفي الوليد سنة 96 فبويع أخوه سليمان بن عبد الملك سابعهم، وكان حسن السيرة فصيحاً مفوّهاً، أتته بيعة الأجناد وهو بالبلقاء فأتى القدس وأتته الوفود بالبيعة، فلم ير الناس وفادة أحسن منها، جلس في قبة صحن المسجد، وقد بسطت البسط لديه والنمارق عليها والكراسي، فجلس وأذن للناس أن يجلسوا على الكراسي والوسائد، والى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة والدواوين، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده ويقول: إن من جندنا كذا ومن حاجتهم كذا وكذا ومما يصلحهم كذا، فيأمر سليمان بذلك كله.
ردّ المظالم وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجن العراق، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم، وكانت أيامه ذات فتوح متوالية، جاء الخبر إلى سليمان بن عبد الملك أن الروم خرجت على ساحل حمص، فسبت امرأة وجماعة، فغضب سليمان وقال: والله لأغزونهم غزوة افتتح بها القسطنطينية أو أموت دون ذلك، فأغزى جماعة أهل الشام والجزيرة والموصل في البر في نحو مائة وعشرين ألفاً، وأغزى أهل مصر وإفريقية في البحر في ألف مركب، وعلى جماعة الناس مسلمة بن عبد الملك، وأغزى داود بن سليمان في جماعة من أهل بيته، وقدم سليمان من القدس إلى دمشق، ومضى حتى نزل مرج دابق فأمضى البعث وأقام بالمرج. واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً وأوصى له سليمان بالخلافة، فسمي سليمان مفتاح الخير لاستخلافه عمر بن عبد العزيز.
عهد عمر بن عبد العزيز وسيرته:
لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز أوائل سنة تسع وتسعين أبطل سب علي رضي الله عنه على المنابر، وكان من العادة سبه عقيب كل خطبة(1/123)
منذ عهد
معاوية بن أبي سفيان الذي قدم الخطبة على صلاة الجمعة، لأن الناس كانوا يكرهون سماع اللعن، فكانوا إذا أدوا الصلاة خرجوا من المسجد. أراد معاوية من ذلك كما قال ابن أبي الحديد: تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف، وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لاحظ لهم في هذا الأمر، وأن سيدهم الذي به يصولون، وبفخره يفخرون، هذا حاله وهذا مقداره، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح. على أن الطالبين كانوا يقنتون عقيب كل صلاة ويلعنون أيضاً بني أمية.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى نوابه بإبطال السب وكانوا يقولون: لعن الله أبا تراب. ولما خطب يوم الجمعة، أبدل السب في الخطبة بقوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). وقيل: بل جعل مكان ذلك قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). فاستمر الخطباء على قراءتها إلى هذا اليوم، وشكر سعيه كل عاقل. وردّ عمر بن عبد العزيز المظالم، وسار سيرة عمر بن الخطاب جده لأمه، واستعمل أصلح من قدر عليه، فسلك عماله طريقته، واستدعى الجيش الإسلامي من حصار القسطنطينية ساعة ولي الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وكان قد بلغ منهم الجهد، ولم يغفل مع ذلك عن غزو الروم عند الاقتضاء الشديد. ولو طال أجله لأجلي المسلمين عن الأندلس لأنه رأى مقامهم فيها غير طبيعي لإحاطة الأعداء بهم، وردّ جيوش المسلمين من الشرق ومنعهم من التوغل فيه قائلاً: يكفي ما فتح الله على المسلمين من الفتوح.
ويرجع الفضل في العهد لعمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن عبد الملك الذي عرف بحكمته أن ابن عبد العزيز أعدل رجل وأعقل رجل في بني أمية، فعهد إليه
بالخلافة فأحسن للأمة وأي إحسان، وحنق عليه بعض المتلاعبين من أهل بيته فسقوه السم فيما قيل فهلك سنة 101، وخلافته(1/124)
سنتان وخمسة اشهر. وكانت سيرة عمر بن عبد العزيز مضرب الأمثال في القاصية والدانية، وقدوة السلف للخلف في كل عصر ومصر. قال عمرو ابن ميمون: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة.
بعث عمر بن عبد العزيز وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين وحق يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسر عليه، وهو جالس على سرير ملكه والتاج على رأسه، والبطارقة عن يمينه وشماله، والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوا له فتلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غدٍ أتاهم رسوله فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج على رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة فقال: هل تريدون لماذا دعوتكم؟ قالوا لا: قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا فقال: لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم. فإنه قد خرج إلى خير مما خلف. قد كان يخاف أن يدع طاعة الله فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا والآخرة لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه. ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعة، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدمه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا.
يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد:
تولى الخلافة يزيد بن عبد الملك تاسع الأمويين، وقد لقب الوليد وسليمان ويزيد وهشام أبناء عبد الملك بالأكبش الأربعة، ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة اخوة إلا هؤلاء. فعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعا وأعاد سب علي على المنابر، ودام ذلك إلى(1/125)
انقضاء أمر بني مروان، يربو عليها الصغير ويهرم الكبير. ولم يكن يزيد بن عبد الملك بالخليفة الذي تحمد سيرته كثيرا، وتوفي بعد أن تولى الخلافة أربع سنين وشهرا وعهد بها إلى أخيه هشام وهو عاشرهم، وكان هشام يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقني في طريق مكة وغير ذلك. وكان لا يدخل بيت ماله مال حتى يشهد أربعون قسامة لقد أخذ من حقه وأعطي لكل ذي حق حقه. وظهر في أيامه بخراسان سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه يدعون إلى بني هاشم سنة 111 فانتشرت دعوتهم وكثر من يجيبهم، وأرادوا خلع بني أمية وبيعة بني هاشم، فقاتلهم وقاتل الخوارج على ملكه في أقطار أخرى، وكان قد بلغ ملك بني أمية فارس والسند وشمالي إفريقية والأندلس.
وغزا هشام وهو من أحزم بني أمية الروم مرات وأسر قسطنطين ملكهم وحارب الترك كما حاربهم من قبله من الخلفاء وتوفي سنة 125 فبويع بعده للوليد بن يزيد فاضطربت المملكة في عهده، لأنه كان مهملا قليل العناية بأطرافه وقيل: إنه كان صاحب ملاهٍ وضم ذلك إلى ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله والإساءة إليهم وتنفيرهم فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته وهجموا عليه وقتلوه بعد سنة وخمسة أشهر من ولايته وكانت تتابعت منه فعال أنكرها الناس عليه فدب يزيد بن الوليد في الدعاء إلى خلعه فأجابته اليمن بأسرها وعاضدوه ووثبوا معه على عامل الوليد بدمشق فأجابوه وبايعوا يزيد ثم ساروا إلى الوليد فقتلوه.
وكان اجتمع من بأقطار الشام من اليمانية فخرج إليهم الوليد بمضر واقتتلوا،
وأثخنت اليمانية القتل في مضر فانهزمت مضر وأخذوا نحو دمشق، ودخل الوليد قصره فتحصن فيه فبايعوا يزيد بن الوليد وبايعه أشراف المضريين طوعا وكرها وخلعوا الوليد بن يزيد فلبث مخلوعا أياما كثيرة وهو خليع بني أمية ثم قتلوه.
وفي سنة 126 اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان، وكان قد حبسه الوليد بها، فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل(1/126)
إلى دمشق. وفي هذه السنة أمر الوليد بن يزيد على جيوش البحر، الأسود بن بلال المحاذي وسيره إلى قبرس ليخير أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فاختارت طائفة جوار المسلمين فسيرهم إلى الشام، واختار آخرون الروم فسيرهم إليهم وأسكنهم الماحوز على ساحل البحر بين صور وصيدا.
يزيد بن الوليد:
وكان من أمر يزيد بن الوليد وهو ثاني عشر خلفائهم أن نقص الناس من عطائهم فسمي يزيد الناقص، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون: عير بعير وزيادة عشرة.
اضطربت البلدان على يزيد ولما قتل خرج أهل حمص وأغلقوا أبواب المدينة وأقاموا النوائح والبواكي عليه وطالبوا بدمه، وقتلوا مروان بن عبد الله بن عبد الملك وكان عامل الوليد على حمص وهو من سادة بني مروان نبلا وكرما وعقلا وجمالا، ولما أجمع الحمصيون على محاربة يزيد بدمشق جهز جيشا قاتلهم قريبا من ثَنِيَّة العقاب فانهزم الحمصيون واستولى على المدينة وأخذ البيعة عليهم. قال الدينوري معللاً سر قيام الحمصيين: إن المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد فدب بعضهم إلى بعض، واجتمعوا من أقطار الأرض، وساروا حتى وافوا مدينة حمص وبها مروان بن محمد بن مروان
ابن الحكم وكان يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم وكان ذا أدب كامل، ورأي فاضل، فاستخرجوه من داره وبايعوه وقالوا له: أنت شيخ(1/127)
قومك وسيدهم فاطلب بثأر ابن عمك الوليد بن يزيد. فاستعد مروان بجنوده في تميم وقيس وكنانة وسائر قبائل مضر وسار نحو مدينة دمشق.
ولما بويع يزيد بن الوليد خطب وذكر الوليد بن يزيد فقال على رواية ابن الطقطقي: إن سيرته كانت وكان خبيثة منتهكا لحرمات الله فقتلته ثم قال: أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجرا فوق حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغره، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقلته إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا أغلق بابي دونكم، ولكم أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم ما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني، إلا أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أن أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم، وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم، إنه لا طاعة لمخلوق، في معصية الخالق.
وخرج على يزيد بن الوليد بشر بن الوليد بقنسرين وعمر بن الوليد ويزيد بن سليمان بفلسطين، ووجه إلى الأردن أخاه إبراهيم ولي عهده، وقد أمروا عليهم محمد بن عبد الملك فاستمال الثائرين بالمال فتفرقوا، وكانت ولايته خمسة أشهر والفتنة في جميع الملكة عامة، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي وكانوا انتخبوه واليا على جندهم، ولما توفي يزيد بن الوليد ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك فامتنع أهل حمص من البيعة فجاءهم الجند من دمشق وحاصرهم.
مروان بن محمد:
وقدم مروان بن محمد بن مروان من أرمينية خالعا ليزيد بن الوليد، فلما صار
بحران دعا إلى نفسه فبايع له أهل الجزيرة سراً، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسرورا ابني الوليد بن عبد الملك معسكرين بحلب فهزم عسكريهما وأسرهما، ثم مضى حتى أتى حمص، وبلغ إبراهيم الخبر فوجه إليه سليمان بن هشام، وكان سليمان في مائة وعشرين ألفا،(1/128)
فلقي مروان وكان في ثمانين ألفا ومن معه من أهل الجزيرة وقنسرين وحمص فالتقوا بعين الجر فتناوشوا القتال 127 وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام وأصحابه فلحقوا بإبراهيم وأقبل مروان فبايع له أهل دمشق ودخلها فخلع إبراهيم نفسه وبايع لمروان. وقد قتل في وقائع عين جر وما تقدمها وتأخر عنها ثمانية عشر ألف مقاتل. وروى الطبري أنه لما قيل قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيب، فأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل دير العالية من ضواحيها.
ولما ملك مروان بن محمد كتب إلى عمال البلدان فأتته كتبهم بالسمع والطاعة، ولم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى أتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على المعصية، فسار إليهم فحاصرهم حتى فتح المدينة، وقاتل الثائرين وقتل خمسمائة أو ستمائة صلبوا حول مدينة حمص، وهدم من حائطها نحواً من غلوة. وثار أهل الغوطة فولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة خرج عليهم من فيها فانهزموا واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن فوجه إليه جيشاً، وكان مروان عند دخوله دمشق ترك لأهل كل جند من
أجناد الشام أن يختاروا عمالهم فوقع اختيارهم على هؤلاء العمال الذين ثاروا بهم بعدُ على مروان، وممن ثار سليمان بن هشام في أهل حمص وقنسرين، وقصد حمص فحصنها فبايعه أصحابه بالخلافة، وخرجوا قاصدين مروان وكمنوا له في طريقه في قرية تعرف بتل مير من عمل معرة النعمان فالتقى العسكران وقتل منهما خلق كثير فانهزم سليمان إلى حمص. فجاء مروان(1/129)
إليها وحاصرها ثانيةً عشرة أشهر ثم صالحها وتسلمها، وكان سليمان بن هشام في سبعين ألفاً وقتل زهاء ثلاثين ألفاً.
إدبار الأمويين:
وما زالت الحال على ذلك حتى استقامت لمروان الشام كلها، ثم قوي أمر أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية بخراسان، ودعا علناً لبني هاشم وقتل عسكر الأمويين. ولما بايعوا بالخلافة في الكوفة لأبي العباس سراً وجه عمه عبد الله بن علي لقتال مروان، وكان مع مروان مائة ألف مقاتل ولا يكون مع عبد الله بن علي إلا الأقل من ذلك، فلقيه بالزاب قرب الموصل، فحاربه عبد الله بن علي فهزمه، ثم لم يزل في إثره وهو منهزم لا يلوي على شيء حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى الشام، فجعل مروان لا يمرًّ بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، فلما اجتاز بقنسرين وحاضر حلب أوقعت تنوخ القاطنة بقنسرين بساقته ووثب أهل حمص وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال فناشدهم فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال وأثار كمينين من خلفهم وكان قد نصبهما فهزمهم وقتلتهم خيله.
وسار مروان إلى دمشق فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمر العنسي والَمذْحِجيون أي اليمانيون جميعاً، ثم مرَّ بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع لما رأوا من إدبار الأمر
عنه. قال الدينوري: جعل مروان يستقري مدن الشام فيستنهضهم فيروغون عنه ويهابون الحرب فلم يسر معه منهم إلا قليل. قالوا. ولما صار مروان إلى دمشق وهو مضمر أن يتحصن بها لولا ما انتهبه أهلها ووثب عليه من بها من قيس فدخلها عبد الله بن علي العباسي عنوة، ومضى مروان إلى فلسطين هارباً حتى جاء مصر، فقاتل مروان في قرية بوصير قرب القاهرة حتى قتل وذلك في ذي الحجة 132، وبموته انقرض ملك بني أمية في المشرق وهو الرابع عشر من خلفائهم. وكان من رأيه أن(1/130)
يقطع الدرب وينزل بعض حصون الروم ويكاتب ملكها ويجمع عليه رجاله وشيعته إلى أن يرتئي في أمره، ولكن حُمَّ القضاء ولا رادَّ لحكمه.
دولة بني مروان وحسناتها:
انقضت دولة بني مروان، وكانت دولة عربية صرفة سارت مع المدنية أشواطاً مع انشغالها بالفتح وقيام الخارجين عليها، ولم يبطلوا في كل دور غزو الروم، وكانوا على الأكثر يَسْبُون ويقتلون ويغنمون ويخربون حصونهم، والروم يغزون الشام وآسيا الصغرى وقد يصلون إلى إنطاكية ودُلوك مرعش. وكان أكثر ملوك الأمويين من الحزم والعلم وحسن السياسة والإدارة على جانب عظيم، والسواس منهم معاوية وعبد الملك وهشام، وليس كالوليد في باب الاضطلاع بإقامة المصانع، ولا مثل عمر ابن عبد العزيز في تطهير المملكة من المظالم وإحياء سنن العدل والمراحم ولا كسليمان ببعد النظر، وما منهم إلا العالم والشاعر والخطيب والسياسي، وقد فتحت عليهم الأقطار فنشروا فيها اللغة والدين على أيسر سبيل، وهذا مما لم يوفق إلى مثله غيرهم، ووضعوا أسس النظام في الممالك التي دوخوها وعرفوا ما يصلحها، وكانت إرادتهم أشبه باللامركزية في عهدنا، يبعثون بالعامل فيحل المسائل باجتهاده على رأي أهل الشرف والمكانة في القطر
الذي يتولاه، ولا يفاوض مقر الخلافة إلا في عويص الأمور، وقد نصب علم الأمويين الأبيض في المشارق والمغارب، نصب في الصين كما نصب في بواتيه في فرنسا، هذا وقد كثر المخلصون لدولتهم إلى أواخر أيامهم وقل المنتقضون عليهم المتوثبون على خلافتهم.
للدول كما للأفراد أعمار طبيعية. وملك بني أمية لم يطل أكثر من ألف شهر كاملة لأنهم ملكوا تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، يوضع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام، وأيام عبد الله بن الزبير إلى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام. فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
ذهب بنو أمية بالفضل في جمع الشمل، ولولا قيامهم هذا القيام(1/131)
المحمود يحدوه الانتباه لكل ما يعلي شأن دولتهم. لما ثبتت الدولة الإسلامية هذا الثبات الذي استغرب منه الخُبر والخبر. قال المقريزي: أظهر الرسول بني أمية لجميع الناس بتوليتهم أعماله مما فتح الله عليه من البلاد، فقوي ظنهم وانبسط رجاؤهم وامتد في الولاية أملهم، وضعف أمل بني هاشم وانقبض رجاؤهم وقصر أملهم. قال: وقد ظهر لي أن ولاية رسول الله بني أمية الأعمال كانت إشارة منه إلى أن الأمر سيصير إليهم. قال: إنه عليه السلام توفي وثلاثة أرباع عماله منهم.
وطد مؤسس ملك الأمويين السلطان بالشام وبجند من أهله قاتل هو وأخلافه، واشتهر جند الشام بالطاعة حتى تمنى علي بن أبي طالب لو يقايض على عشرة من جنده بواحد من جند معاوية، فقال في إحدى خطبه: لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم. فتحت هذه الفتوح بنفس قوية وعقول راجحة وسياسة حازمة، وقاتل زعماؤهم وأبناؤهم بل بناتهم ونساؤهم حتى فتحوا الشام. وكان من جملة توفيق معاوية أنه
عرف طبائع هذا القطر وخصائصه من أبيه وآله وكانت لهم به علائق كثيرة في الجاهلية، ثم درس أحواله بنفسه فكان يعرف قوته معرفة حقيقية، ولذلك لم ينل منه علي بن أبي طالب منالاً لأنه كان أخذ لهذا الأمر عدته وتدبره ودبّره كان يأخذ بآراء أشراف القوم والنزول على حكم وفود الأرجاء، وكانت وفودهم تشبه ما يسميه الإفرنج بمجالس الولايات. وكان لمعاوية وآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع تدور حول سياسة الأمة في الأكثر، وخطاب الخليفة يوم الجمعة بمثابة ما نسميه في عرف سياسة اليوم خطاب العرش، ومجالسهم أشبه بمجالس النواب والشيوخ والولايات، فلم يكونوا إلى الاستبداد بالرأي في معظم حالاتهم.
وفي الحق أن معاوية بن أبي سفيان أورث الإسلام مجداً، وأولى العرب عزَّة ومنعة، وكان العربي حيث نزل من الأرض محترماً، مرعي الجانب آمناً على نفسه وحقه، ولم يوفق إلى ذلك إلا بحسن السياسة وصائب التدبير. ذكر المسعودي، وهو من المنحرفين عن بني أُمية، أن(1/132)
المسلمين غزوا في أيام معاوية فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك فتكلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرَّ وجهه فآلمه، وكان رجلاً من قريش فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا، وضيعت ثغورنا، وحكمت العدو في ديارنا ودمائنا وأعراضنا. فنمي الخبر إلى معاوية وغضب وأقام الفداء بين المسلمين والروم وفادى بذلك الرجل، فلما صار إلى دار الإسلام دعاه فبرَّه وأحسن إليه. وبعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور وكان به عارفاً كثير الغزوات في البحر، صُمُلّ من الرجال مرطان بالرومية، وأعطاه كل ما طلب، وهيأ له مركباً وأوعز إليه أن يتظاهر بأنه يتاجر مع روم القسطنطينية، وما زال على ذلك سنين حتى أسر الصوريّ البطريق الرومي الذي كان لطم القرشي وأتى به إلى معاوية في قصة طويلة. فقال معاوية: عليَّ بالرجل
القرشي فأتى به وقد حضر خواص المسلمين وقال له: قم واقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظم الروم فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه. وانقلب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها وقال: ما أضاعك من سوّدك، ولا خاب فيك أمل من أمَّلك، أنت ملك لا تستضام، تمنع حماك وتصون رعيتك. وأحسن معاوية إلى البطريق وحمل معه هدايا إلى الملك وقال له: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، فقال ملك الروم: هذا أمكر الملوك وأدهى العرب. ولهذا قدمته العرب عليها فساس أمورها والله لو همَّ بأخذي لتمت له الحيلة عليّ.
قواد الأمويين وأسباب انقراضهم:
نشأ للأمويين رجال عظام في الحرب والسياسة والحكم، مثل زياد بن(1/133)
أبي سفيان وعتبة بن أبي سفيان وموسى بن نصير وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وعقبة بن نافع الفهري وبُسْر بن أبي أرطأة وشرحبيل بن السمط وحبيب بن مسلمة ومسلمة بن عبد الملك وأسد بن عبد الله وعبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ومالك بن عبد الله الذي كان أميراً على الجيوش في غزوة الروم أربعين سنة أيام معاوية وقبلها وأيام يزيد وأيام عبد الملك بن مروان ولما مات كسر على قبره أربعون لواء لكل سنة غزاها لواء. وروح بن زنباع وزفر بن الحارث الكلابي والجراح بن عبد الله الحكمي وحُبَيْش بن دلجة القيني وحسان بن مالك بن بحدل الكلبي وميمون بن مهران وخالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعمر بن عبيد الله بن معمر وخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن الوليد ويزيد بن المهلب والمهلب بن أبي صفرة وعمرو بن هبيرة الفزاري وعبد الله بن أبي بكرة والقاسم بن محمد الثقفي والعباس بن الوليد ومروان بن الوليد وخالد بن كيسان وعبد الله ابن عقبة
بن نافع ومعاوية بن هشام وعبد الرحمن بن معاوية بن خُدَيج وإسحاق بن مسلم العُقَيلي ونصر بن سيار وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومعاوية بن حُدَيج وعبد الرحمن بن حبيب وزهير بن قيس البهلوي وحسان بن النعمان وميسرة بن مسروق العبسي وعبد الله بن قيس ومالك ابن هبيرة السكوني وفضالة بن عبيد الأنصاري وسفيان بن عوف وعبد الله ابنمسعدة الفزاري وجنادة بن أُمية الأزدي ومحمد بن مالك وعمرو بن مرة الجهني وعلقمة بن يزيد الأنصاري والضحاك بن قيس ويزيد بن شجرة وعياض بن الحارث والمخارق بن الحارث الزُّبَيْدي وزامل بن عمر العذري وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان وسبيع بن يزيد الأنصاري ويزيد بن الحر العبسي وعلقمة بن حكيم الكناني ويوسف بن عمر ومحمد بن القاسم الثقفي ومالك بن عبد الله الخثعمي وحمزة بن مالك الهمداني وغيرهم.
دوَّخ هؤلاء القواد الأقطار على بعد المواصلات مع مركز الخلافة وفتحوا الفتوح العظام بهمة لم تعرف الملل، وأدخلوا فيها نظامهم وعاداتهم وأداروها أي إدارة، فامتد ملك الأمويين كما قال أحد كتاب الإفرنج من أقاصي جبال هملايا في الشرق إلى أداني جبال الألب في الغرب. ثم انحلت هذه(1/134)
المملكة المساوية تقريباً لمملكة قياصرة رومية على وجه غريب من السرعة.
وكان مروان بن محمد الجعدي الذي لقب بالحمار لصبره على الحرب من أمثل خلفائهم وكان سديد الرأي ميمون النقيبة حازماً، فلما ظهرت المسوِّدة ولقيهم كان ما يُدبّر أمراً إلا كان فيه خلل. فما السر يا ترى في انحلال هذا الملك الضخم والقوة تدعمه وفيه أفراد أفذاذ مثلوا النبوغ العربي أجمل تمثيل لا تستطيع دولة من دول الحضارة الحديثة أن تقوم بأحسن منه، مع اعتبار الفرق بين عصر الدولة الأموية وهذا العصر؟. نظن السر في ذلك أن بني العباس كانوا قد أجمعوا أمرهم وهيئوا أسباب قيام دولتهم على صورة متينة جداً، وكان منشؤها من خراسان
والعراق وهما القطران اللذان أفحش القتل فيهما الحجاج بن يوسف الثقفي حتى قتل من أهل العراق مائة وعشرين ألفاً مدة حكمه، واشمأز الناس من بني أمية بسببه وسبب من يستسهلون من قوادهم إهراق الدماء فكثرت الأحقاد والحفائظ ونغلت نيات الأمة، واختلف الأمويون بينهم وأصبحوا في هرج يقتل بعضهم بعضا.
وقد نسب الخضري أسباب سقوط دولة بني أمية إلى استيلائهم على الخلافة بالقهر والغلبة لا عن رضا ومشورة، فإن معاوية بن أبي سفيان استعان بأهل الشام الذين كانوا شيعته، على من خالفه من أهل العراق والحجاز حتى تم له الأمر ورضي الناس عنه، والقلوب منطوية على ما فيها من كراهية ولايته، وكان في الأمة فريقان لا يرضيان عنه: الخوارج وشيعة بني هاشم، واستعمل ضروب السياسة مع رؤساء العشائر وكبار الشيعة فألان شكيمتهم وأسكن ثورتهم. ومن رأيه أن معاوية زل زلة كبرى قللت من قيمة عمله وهي اهتمامه بالغض من علي بن أبي طالب على منابر الأمصار هو وأمراؤه حتى تأججت النيران في صدور شيعته وأن عدة عيوب كانت سبباً في القضاء عليهم. الأول: مسألة ولاية العهد، فإن بني مروان اعتادوا أن يولوا عهدهم اثنين يلي أحدهما الآخر، فانشق بيتهم على نفسه. الثاني: إحياء العصبية الجاهلية التي جاء الإسلام مشدداً النعيَّ عليها. الثالث: تحكيم بعض الخلفاء من بني أمية أهواءهم في أمر قوادهم(1/135)
وذوي الأثر الصالح من شجعان دولتهم، ففسدت قلوب الناس، حتى كانوا ينتظرون من يجمع كلمتهم على الانتقام من بني أمية.
وعلل رفيق العظم سقوط الدولة الأموية بارتكاب الأمويين أغلاطا منها المبالغة باضطهاد العلويين، وتسميم أبي هاشم بأمر سليمان بن عبد الملك، ومنها أنهم فقدوا أعاظم الرجال الذين كانوا يخدمون بإخلاص، فأخرجوا خالد بن عبد الله
وقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وموسى بن نصير ففقدت الدولة بفقدهم وفقد أمثالهم جانبا لا يقدر من قيمتها وانحطت هيبتها، ومنها تباعد أطراف مملكتهم حتى تعذر ضبطها مع صعوبة المواصلات، وأن الأمويين حافظوا على خشونتهم إلى خلافة هشام، وأخذ الخلفاء بعد الوليد بن يزيد يميلون إلى الترف والراحة، يضاف إلى ذلك انقسام العرب في خراسان إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم. قال: إن ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحا فهو في نظر المؤرخ ثانوي. والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس، وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة.
سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم، ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال: جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقتهم على منافعنا، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا.
قد يغتر بعض من لم يساعدهم الوقت أن يمحصوا الحقائق ليصلوا إلى لباب التاريخ الصحيح، فيأخذون روايات بعض المؤرخين الذين كتبوا بعوامل المذاهب السياسية أو نقلوا الأخبار على علاتها كما رأوها في مصادر ضعيفة وأخذوها قضية مسلمة، من ذلك الطعن في أخلاق يزيد بن معاوية، فإن الروايات المنقولة في هذا الشأن لو نقدت نقدا صحيحا لرأينا أنها مدخولة(1/136)
على الأكثر أملتها أهواء الخصماء، ولطالما رأينا الناس إذا أرادوا النيل من أحد العظماء ينخدعون بأقوال
يلفقها عليهم خصومهم، وربما نسبوا لبعضهم الفسق والفجور وأكل الأموال بالباطل، وهم من أكمل الناس أخلاقا وفضلا. إذا سلمنا أن معاوية أخطأ بحسب ما يقوله الفريق المعتدل بتوسيده الخلافة إلى يزيد وفي العرب يومئذ من هم أفضل منه فإنه كان يعتقد أن ابنه يصلح للخلافة وأن قوة الأمة مجتمعة على آل أبي سفيان. والدليل أنه كان إذا عرض لمعاوية مشكلة من المشكلات بعث إلى يزيد يستعين به على استيضاح شبهاتها واستسهال معضلاتها، فلم يكن يزيد إذاً بالصورة التي صورها بها أعداؤه. خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لوده وأنه ليس لما صنعت به أهلاً فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.
قال الطبري: إن يزيد كان صاحب رَسلة أي كسل وتهاون، وإنه كف عن كثير مما كان يصنع أي لما وسدت إليه الخلافة. وقال غيره: إن يزيد كان يحب الصيد ويربي القرود والكلاب مما عدوه عليه. وهذا لا يقدح في العدالة، بل ربما كان مما يعين على الجهاد لترويضه الجسم والذهن، أما الفسق والفجور فلم يثبت من طريق مؤتمن، فإذا فرضنا أن معاوية أخطأ في إعطائه ولاية العهد لابنه بطرق استعمل فيها بعض الشدة، وأن يزيد ارتكب عماله من قتل آل بيت الرسول أمراً نكراً فلا يجوز من ذلك الطعن بشخصيات كبيرة، والعقل يستبعد التصديق بما قاله خصوم بني أمية عنهم، ولو كان يزيد شريباً خميراً كما يزعمون أو يرتكب أموراً لا تسمح بها الشريعة ولا تليق بشأن الملك، والدين، وأصحاب أصحاب رسول الله أحياء، وأعداؤهم من العلويين بالمرصاد، لقتلته أسرته نفسها، كما فعلت بالوليد بن يزيد بعد ستين سنة من مهلك يزيد بن معاوية. والغالب أن يزيد أدخل في العادات كأبيه أشياء أنكرها بعضهم، ووجدوا السبيل إلى الطعن فيه، وكان تعلمها من عشرته بعض أبناء الروم في الشام.(1/137)
سُئل عبد الله بن عباس عن معاوية فقال: سما بشيء أسرَّه واستظهر عليه بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرق، فاستقام له أمره وجرى إلى مدته. قيل: فأخبرنا عن ابنه قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونهاه فتعلق بذلك وسلك طريقاً مذللاً له. وسئل علي رض عن بني أمية فقال: أشدنا حُجَزاً صبراً وأطلبنا للأمر لا ينال فينالونه.
الخلاف بين الأمويين وخصومهم من العلويين ما زال يقوى ويضعف، وما هو إلا خلاف سياسي نشأ من النزاع على الملك، وليس من الدين في شيء. فليس إذاً من العقل أن تتسلسل هذه الأحقاد في الأمة وتتفرق شيعاً، وتظهر بمظهر النصب أو التشيع، ويزكي فريق من يحبهم حتى يخرجهم عن طور البشر، ويطعن في آخرين حتى يسلخ عنهم كل ما يمتازون به من الصفات الكاملة ويخرجوهم عن الملة. أهل الإسلام يحبون الخليفة الرابع، ويعرفون له صفات غرّاً يفاخرون بها على غابر الدهر، ولكن من تحبه لا يجوز لك أن تغضي عن هفواته، أو أن تذكر لخصمه مزاياه.
أريد أن أقول: إن مسألة الخلافة بين علي ومعاوية قد مضى عليها الزمن، وكان لكل منهما اجتهاده، وهي من المسائل المؤلمة في تاريخنا ينبغي لنا أن ندرسها بإنصاف لا أن نقول مع القائلين ونسكت عما شجر بينهم، ولا أن نبالغ فيما وقع ونتعصب لفريق على آخر، فالأمة يجب عليها أن تعرف مواطن الضعف والقوة من جسمها، وتكشف حقائق ماضيها لأنها ابنة حوادث ماضية، والواجب في البحث أن لا يثير في النفوس أحقاداً، ولا ينشيء في أجزاء الأمة فرقة متلفة، ولا يُرتكب معه سوء أدب مع عظماء أسسوا مجد الأمة على أمتن الدعائم، ووضعوا بناءها على القومية العربية، وكانوا مثال التساهل مع أبناء الأديان الأخرى.
أهل الإسلام في الشرق جديرون بأن يكونوا كأهل النصرانية في الغرب، تحاربوا حروبا دينية سالت فيها الدماء أنهاراً بين البابوي والبرتستانتي، ثم(1/138)
جاءت القرون الحديثة فقضت على التحزبات، وصاروا في المسائل الوطنية والقومية متلازمين تلازم اللام للألف، وإذا ذكروا ما ارتكبه أجدادهم في هذا الشأن خجلوا ووجموا. الأمويون كالعلويين بشر يخطئون ويصيبون، فلا يليق بنا أن نغض من الأمويين لأنهم لم يتنازلوا عن ملكهم للعلويين، ولا ننكر أن إصابتهم كانت كثيرة جداً في جنب خطيئاتهم، وأهل الشام قبل كل شعب عربي يجب عليهم أن يفاخروا بتاريخ الأمويين ويمعنوا النظر فيه طويلاً، ويعرفوا أن لكل دولة كما لكل فرد ما يعدُّ لها وعليها.
بنو أُمية أسسوا دولة عظيمة وفتحوا الفتوح ونشروا كلمة التوحيد وبثوا اللغة العربية في الممالك التي دوَّخوها فماذا عمل خصومهم لو أنصف المتشيعون لهم؟ لم يوفقوا من قبل ولا من بعد إلا أن يُدلوا على الأمة بشرفهم، وأنهم خير من أُمية في الجاهلية والإسلام، وأن الواجب على المسلمين أن يخضعوا لهم مهما كانت حالهم لشرف هذه النسبة فقط، ولقد قامت لهم عدة دول في أقطار مختلفة وكان مصيرها كلها الانحلال، ولذلك كان من المعقول أن لا يغض من قدر العاملين خصوصا من كانت حسناتهم تربو على سيئاتهم، إن كان هناك ما يتجوز في تسميته سيئات. الملك لا يقوم بالزهد والتقوى ولزوم المساجد والخطب والحماسة والإدلال بصفات طبيعية اتصف بها صاحبها. الملك يحتاج كما كان الأمويون إلى بذل وتسامح وتماسك وعمل نافع بعيد عن الدعوى. في الصفات الأولى تتمثل حالة العلويين، وفي الثانية تتمثل حالة الأمويين.(1/139)
دور الدولة العباسية
إلى ظهور الدولة الطولونية من سنة 132 - 254هـ
مبدأ الدعوة العباسية:
كانت دولة الأمويين الشرقية، كدولة الخلفاء الراشدين، عربية إسلامية صرفة، لم تنتشر كلمتها، ولم تتوزع سلطتها، أما الدولة العباسية فكانت دولة عناصر، والحاكم فيها العنصر العربي أو من دخل في خدمته وطاعته من الفرس والترك والديلم والموالي، ولقد قال المؤرخون: في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف، ويملكهم بالقهر.
كان أهل البيت بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يعتقدون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش، فكانوا يرون في بني أُمية غاصبين حقهم في الخلافة، فبدأوا يدعون سراً لذلك منذ وقعت الحرب بين علي ومعاوية في صفين وتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان على الخلافة. فكان معاوية على ما رزق من صدر رحب يَرُوض من شماس أهل البيت، ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم، ولا يهيج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك. وكان(1/140)
خلفاؤه من صلبه أو من بني مروان يعمدون إلى القسوة على القائمين بالدعوة لآل البيت تارة وإلى الإغضاء زمن العجز طوراً، وكان شيعة عليّ مقهورين، وأقاموا على شأنهم وانتظار أمرهم والدعاء لهم في النواحي، يدعون للرضا من آل محمد ولا يصرحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة.
وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت يرون أن الأمر بعده لابنه أبي هشام عبد الله وكان كثيراً ما يغدو على سليمان بن عبد الملك في الشام. فمرَّ في
بعض أسفاره بمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس بمنزلة بالحُمَيْمَة فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلَم شيعته بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى ولد محمد ابن علي هذا، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سراً وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق فأجابه عامة أهل خراسان، وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك، وتوفي محمد سنة أربع وعشر ومائة وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمونه الإمام وهو الذي دعا إليه أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة.
عند تمام المائة سنة صحت نية بني العباس على تأليف جمعية سرية تدعو لهم، وبثت في الآفاق بغض بني مروان وبلفظ أعم بني أمية. وكانت الدعوة مقبولة في العراق وخراسان عند كل من تعرض عليه. ورأس الدعوة في أرض الشام مهد عصبية الأمويين وفروعها في خراسان. فانبثت دعوة العباسيين من قطر وسط بين الأقطار العربية وهو الشام لقرب اتصالها مع الأقطار الأخرى ولا سيما بالعراق ثم بخراسان، ولم تقم الدولة من الحجاز لأنه بعيد عن القاصية تحيط به من جهاته الثلاث صحارٍ وبوادٍ محرقة، والاستناد على أهل الحجاز كالاستناد على أهل العراق لا يخلو من أخطار. فقد أراد أهل المدينة أن لا يبايعوا يزيد بن معاوية بالخلافة، فضربهم ضربة قاضية، ولم يستطع أن ينجدهم أحد من العراق أو اليمن لبعد الشقة. وخذل أهل العراق علياً وابنه الحسين، فلم يتمكن أهل الحجاز واليمن أن ينجدوا آل البيت فوقع ما وقع.(1/141)
كان دعاة آل البيت يغدون من الحميمة وقيل: من كرار من جبال الشراة في الشام وبنو أمية غافلون عنهم وخليفة المستقبل الذي يدعى له على أيام من دار ملكهم كبعض الرعية، والناس في خراسان يصدرون عن أمره ويقدسون خلافته، وكأن الأقدار خصت الشام بقيام دولتين عظيمتين فيه الأموية والعباسية، وكانت عصبية
الأمويين أهل الشام وعرب الحجاز واليمن، وعصبية العباسيين أهل خراسان والعراق وقيس، ومن أهم العوامل في نجاح بني هاشم في دعوتهم الجديدة، اتفاقهم مع الطالبيين على هذا المقصد، وهو نزع الخلافة من بني مروان، فكان البيتان لأول الأمر كأنهما بيت واحد، ولذلك أثمرت الدعوة سريعاً.
بعد نيف وثلاثين سنة من الدعوة لأبناء العباس وربما قبل ذلك بقليل انتبه الأمويون في الشام إلى مقاصد أعدائهم، وأنهم في صدد تأسيس دولة للقضاء على دولة الأمويين، وفي ذلك دليل ظاهر على ضعف أصحاب الأخبار في أيامهم، وعلى تساهلهم وعنايتهم بتدويخ الأقاصي والغفلة عن أحوال الدواني، أبلغ ذلك مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية عامله على خراسان نصر بن سيار وقد كتب إليه:
أرى تحت الرماد وميضَ جمرٍ ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى ... وإن الشر مبدؤه الكلام
وقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أُمية أم نيام
فإن يقظت فذاك بقاءُ ملك ... وإن رقدت فإني لا أُلام
فإن يك أصبحوا وثووا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
فكتب مروان إلى عامله بدمشق الوليد بن معاوية يأمره بتوجيه أحد ثقاته إلى الحميمة أو كرار ليأتيه بإبراهيم الإمام، فحمله إلى مروان فحبسه في المحرم من سنة 132 وقتل في محبسه بعد شهرين، وعهد بالأمر بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وهو ابن الحارثية أول خلفاء بني العباس نسبة إلى جده الأعلى علي أبو محمد السجاد بن عبد الله بن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. قتل إبراهيم الإمام فكان قتله داعياً إلى التعجل بالمناداة علناً بالخلافة العباسية. وذلك أن إبراهيم الإمام لما قبض(1/142)
عليه مروان نعى إلى أهل بيته، وأمرهم بالسير إلى
أهل الكوفة مع أخيه السفاح وبالسمع له والطاعة، وأوصى بالخلافة إلى أخيه السفاح وأوصاه بالقيام بالدولة والجد والحركة، وأن لا يكون له بعده بالحميمة لبث ولا عرجة حتى يتوجه إلى الكوفة، فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة، وأنه بذلك أتتهم الرواية وأظهره على أمر الدعاة بخراسان والنقباء، رسم له في ذلك رسماً أوصاه أن يعمل عليه ولا يتعداه. فسار السفاح بأهل بيته منهم أخوه أبو جعفر المنصور وغيره إلى الكوفة فأقام فيها شهراً مستخفياً ثم ظهر وسلموا عليه بالخلافة وعزوه في أخيه إبراهيم الإمام ودخل دار الإمارة. وفي خلال ذلك زاد نفور المتطلعين إلى العباسيين من أهل خراسان والعراق، وذكر الناس شدة بني مروان في الضرب على أيدي كل من خالفهم، وكان الناس منذ أمد طويل يتمنون لو يديلهم الله بغيرهم وإن كانوا دونهم، فكيف ببني العباس ومنزلتهم من الشرف منزلتهم. والبشر ميال إلى التجدد ولكل جديد طلاوة.
ومن الغريب على ما قال الطقطقي أنه لما قدر انتقال الملك إلى بني العباس، هيئت لهم جميع الأسباب، فكان إبراهيم الإمام بالحجاز أو بالشام جالساً على مصلاه مشغولاً بنفسه وعبادته ومصالح عياله، وليس عنده من الدنيا طائل، وأهل خراسان يقاتلون عنه، ويبذلون نفوسهم وأموالهم دونه، وأكثرهم لا يعرفه، ولا يفرق بين اسمه وشخصه، لا ينفق عليهم مالاً، ولا يعطي أحدهم دابة ولا سلاحاً، بل يجبون إليه الأموال، ويحملون إليه الخراج كل سنة، ولما خذل مروان وأشرف ملك بني أمية على الانقراض، كان مروان خليفةً مبايعاً ومعه الجنود والأموال والسلاح، والدنيا بأجمعها عنده، والناس يتفرقون عنه، وأمره يضعف، وحبله يضطرب، فما زال يضمحل حتى هزم وقتل.
والثوب إن أنهج فيه البلى ... أعيى على ذي الحيلة الصانع
فتح العباسيين عاصمة الأمويين:
اضطرب نظام المملكة الأموية على عهد مروان بن محمد، وكانت(1/143)
كلما عراها الضعف والانحلال، يزيد خصوم الأمويين شدة وقوة. ولما بويع بالخلافة لأبي العباس بالكوفة كانت جيوش خراسان تطارد جيوش الأمويين مطاردة، وينتثر سلك الملك على صورة مستغربة. ولم يكد العراق يدخل في طاعة العباسيين، حتى ولى أبو العباس عمه عبد الله بن علي الشام فسار من حران إلى منبج وقد سوّد أهلها، وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم ثم سار حتى نزل حمص ثم سار إلى بعلبك ثم جاء عين جر، وكان مروان بن محمد آخر الأمويين لما انهزم على الزاب أتى من حرّان إلى حمص بأهله، فجاء عبد الله بن علي إلى حمص فرحل مروان عنها إلى دمشق، فتبعه فهرب إلى فلسطين في بقايا جيشه، وهناك جيش جيشاً آخر، وكان اجتمع للأمويين في دمشق جيش قدّر بخمسين ألف مقاتل. وكان جيش عبد الله بن علي لا يمر ببلد إلا ويخرج أهلها مسوّدين أي حاملين شعار العباسيين وهو السواد يبايعونهم عن رضىً، هذا وجيشه أقل من ثلث جيش مروان المنهزم وربما كان الربع. فلما جاء عبد الله بن علي دمشق من ناحية المزّة نزل بها يومين، ثم جاءه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مدداً من السفاح على طريق السماوة، فنزل صالح بمرج عذراء ثم نزل على باب الجابية، ونزل عبد الله بن علي على الباب الشرقي، ونزل أبو عون على باب كيسان، وبسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توماء، وعبد الصمد ويحيى ابن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصروها أياماً ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان 132، أي بعد ستة أشهر من مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة في مدينة الكوفة.
أباح الفاتح دمشق ثلاث ساعات، وقيل: أنهبها ثلاثة أيام، ووضع السيف في أهلها، ولم يزل جماعته يحزون الرؤوس في الطرق والمنازل، ويأخذون الأموال،
حتى جاء الظهر فأمر برفع السيف، وقتل والي المدينة فيمن قتل من الأمراء والعلماء في المسجد الجامع. وممن صلب عبد الله بن عبد الجبار. ودخلت أباعر العباسيين إلى صحن الجامع الأموي وظل إصطبلاً لدوابهم وجمالهم سبعين يوماً، وقتل يومئذ على رواية(1/144)
المنبجي من النصارى واليهود خلق كثير، ونبشت قبور بني أمية في دمشق وغيرها وأحرقوهم بالنار، ولم يبقوا على غير قبر عمر بن عبد العزيز في دير سمعان، اعترافاً بفضله وتقواه، ونقضوا سور دمشق حجراً حجرا.
قيل: إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله بن علي، اختلفوا فيما بينهم ما بين عباسي وأموي، وقيل: وقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار، ونزار على اليمن، حتى اقتتلوا، فقتل بعضهم بعضاً، وذكروا أنه قتل فيها في هذه المدة نحو من خمسين ألفاً. ولما جاءها عبد الله ابن علي وحاصرها فضيق حصارها، بلغ بالناس الجهد فاستغاثوا، ووجهوا إليه يحيى بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج إليه فسأله الأمان، فأجابه إليه فدخل فنادى في الناس بالأمان، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا أيها الأمير كتاب الأمان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، وإذا بالسور قد غشيه المسوّدة عسكر بني العباس فقال له: قد دخلتها قسراً. فقال يحيى: لا والله ولكن غدراً. فقال عبد الله: لولا ما أعرف من مودتك لنا أهل البيت لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم فقال: يا غلام خذ هذا العلم فأركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن، فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد، ونادى المنادي بعد أن قتل خلق كثير: الناس آمنون إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن معاوية، وأبان ابن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكريا.
وصار عبد الله بن علي إلى المسجد فخطبهم خطبته المشهورة، التي يذكر فيها
بني أمية، وجورهم وعداوتهم، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمآثم، قال ما يقوله العدو في عدوه. وأي عداوة أعظم من عداوة المتنازعين على الملك والسلطان، وبينهم الطوائل والأحقاد القديمة والجديدة؟ وهذه الخطبة أشبه بكلام العلويين في الأمويين، والأمويين في العلويين، يقصد بها إثارة النفوس، لينزع منها حب الدولة السالفة، ويفسح مجال الأماني للناس ويرغبوا في الدولة الخالفة.(1/145)
فتح فلسطين وإهلاك رجال الأمويين:
أقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، رويت خلالها سيوفه من أعداء دولته، ثم سار وراء مروان بن محمد في خمسين ألف مقاتل، وأخذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك، فحملهما إلى أبي العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة، وأمر أبو العباس عمه عبد الله بن علي أن يجدّ السير نحوها، وهنأه بما أصاب من أموال بني أمية، فسار يريد فلسطين فنزل نهر الكسوة ووجه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردن فأتوه وقد سودوا، ثم نزل بيسان، ومنها سار إلى مرج الروم فنهر أبي فطرس، ولما قدم فلسطين أظهر للناس أن أمير المؤمنين وصاه ببني أمية، وأمره بصلتهم وإلحاقهم في ديوانه ورد أموالهم عليهم، فقدم عليه من أكابر بني أمية وخيارهم ثلاثة وثمانون رجلاً، وفي رواية الطبري أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلاً وقد أعد لهم مجلساً على نهر العوجاء فيه أضعافهم من الرجال ومعهم السيوف والأجرزة، فأخرجهم عليهم فقتلهم وسحبوا، وطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام فأكل وجماعته، وما زال بعض القتلى يئن، وقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان في جملة قتلاه عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وكان قد بذّ العابدين في زمانه، وسبق المجتهدين في عصره، واتخذ أموالاً معجبة، تطرد فيها المياه والعيون، فقتله، ثم استقصى ماله ومال من قتل من سادات بني
أمية وصناديدهم، ومنهم من قتلوا لأنهم أبوا أن يصيروا أموالهم إلى السفاح. وقد قتل في قلنسوة شمالي العوجاء بعض بني أمية. وقصارى القول أن فاتح الشام للعباسيين بطش في الأمويين ومن والاهم من أهل هذه الديار بطش الجبارين. وسار من الجور سيرة لم يسرها أحد قبله.
تتبع العباسيون بني أمية في الحجاز والعراق فقتلوا منهم أناساً كثيرين ولم يفلت إلا أفراد، منهم عبد الرحمن بن معاوية الذي فر إلى الأندلس وهناك أقام الخلافة الأموية الغربية، فدامت مائتين وثماني وستين سنة،(1/146)
ولم تطل إليه ولا إلى آله أيدي العباسيين حتى انقرضت دولتهم. ومنهم من فرّ إلى الحبشة، وبقي فيها هو وذريته إلى خلافة المهدي العباسي. وبعد مقتل بني أمية واشتداد خوفهم، وتشتت شملهم، واختفاء من قدر على الاستتار منهم، أصدر السفاح إلى سليمان بن علي كتاباً عاماً إلى البلدان يعطي فيه الأمان للأمويين. فكان هذا أول أمان بني أمية. وكان سليمان بن علي كتب إلى السفاح أنه وفد وافد من بني أمية علينا، وأنا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبلّ توصل ولا تقطع، وترفع ولا توضع.
انتقاض الجنوب والشمال والاعتقاد بالسفياني:
لما أفنى بنو العباس بني أمية في فلسطين ندمت عرب الشام على ما فعلت لما ركبهم من العار، وتسليط العجم من أبناء خراسان عليهم، ينزلون منازلهم، ويأخذون أموالهم، فهاجت لذلك واضطربت، وامتنعوا من البيعة. وفي السنة التي دخل فيها العباسيون أرض الشام، بَيَّضَ حبيب ابن مرة المريُّ، وأها حوران والبَثَنّية، ومدينتها أذرعات، أي لبس شعار الأمويين وهو البياض، ونصب رجلاً من بني أمية، فقاتلهم عبد الله ابن علي بأرض البلقاء والبَثَنّية وحوران، وكان بينه وبينهم وقعات. وحبيب بن مرة من قواد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه
الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، فلما بلغ عبد الله بن علي تبييضُ أهلِ قنسرين في الشمال، دعا حبيب بن مرة إلى الصلح وأمنه ومن معه.
وكان الداعي إلى خلع قنسرين طاعة بني العباس، قائد من قواد مروان أيضاً اسمه أبو الورد الكلابي وكان دخل في طاعتهم، ثم نزع الطاعة لما قدم أحد قواد عبد الله بن علي إلى بالس والناعورة، وأتشأ يَعْبَث بولد مَسْلَمة بن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، وكان قد اجتمع معه جماعة من أهل قنسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد زياد بن عبد الله بن(1/147)
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ودعوا إليه. وقالوا هذا السفياني الذي كان يذكر.
والغالب أن أنصار الأمويين وضعوا بعد سقوط دولتهم ملحمة زعموا فيها أنهم يعرفون ما يحدث في المستقبل من الزمان والآتي من الأيام، من ظهور أمرهم ورجوع دولتهم، وظهور السفياني في الوادي اليابس من أرض الشام، في غسان وقضاعة ولخم وجُذام وغاراته وحروبه، ومسير الأمويين من بلاد الأندلس إلى الشام، وأنهم أصحاب الخيل الشهب والرايات الصفر، وما يكون لهم من الوقائع والحروب والغارات والزحوف، على ما نقله المسعودي. والاعتقاد بظهور السفياني كما قال صديقنا أحمد تيمور باشا يشبه الاعتقاد بظهور المهدي ويروون فيه أحاديث وأقاصيص الله أعلم بها. وفي البدء والتاريخ أن الروايات بشأن السفياني فيها حشو كثير ومحالات مردودة. ومسألة السفياني تدبير للأمويين حتى لا ينقطع الأمل من رجوع دولتهم ويخيفوا أعداءهم على الدوام. وربما كانت دعوى قرب ظهور السفياني أيضاً واسطة لفتك العباسيين بكل من توهموا فيه شيئاً من الرائحة السفيانية ولم تكد تنقطع هذه النغمة في الشام. وفي سنة 294 زعم
رجل أنه السفياني فحمل هو وجماعة معه من الشام إلى باب السلطان فقيل إنه موسوس.
كان أتباع زياد في نحو أربعين ألفاً فعسكروا بمرج الأخرم بنواحي سَلَمْيَة ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف. وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال. فناهضهم وكثر القتل في الفريقين، وانكشف عبد الصمد ومن معه وقتل منهم ألوف، ولحق بأخيه عبد الله فأقبل عبد الله معه وجماعته القواد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالاً شديداً وثبت عبد الله فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمَّن عبد الله أهل قنسرين وسوَّدوا وبايعوه ودخلوا في طاعته، ثم رجع إلى دمشق وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً، ونهبوا أهل عبد الله بن علي، فلما(1/148)
دنا عبد الله من دمشق هربوا ثم أمَّنهم، قال المؤرخون: إن العباسيين قتلوا من الشاميين ما لا يحصى، ثم أذكوا العيون على الأمويين يقتلون رجالهم ونساءهم، وينبشون عن قبورهم فيحرقونهم، فمن ثَم سمي عبد الله ابن محمد بن علي السفاح وفيه يقول الشاعر:
وكانت أُمية في ملكها ... تجول وتظهر طغيانها
فلما رأى الله أن قد طغت ... ولم تطق الأرض عدوانها
رماها بسفاح آل الرسول ... فجزَّ بكفيه أذقانها
انتقاض العباسيين على أنفسهم:
هذا ما كان من أمر من خلعوا طاعة بني العباس من عصبية بني أمية في الجنوب والشمال، ولم يكن أثر تلك العصبية قد زال على شدة العباسيين في قطع شأفة الأمويين. ولما هلك أبو العباس السفاح، قام عمه عبد الله ابن علي عامل الشام،
يدعو إلى نفسه بالخلافة، وقد استمال من معه من جنود خراسان فمالوا معه، وكان صالح بن علي بمصر على طاعة أبي جعفر، فلما بلغه أن عبد الله بن علي، قد خلع أبا جعفر وأنه قد عزم على حربه أقبل بمن معه من أهل خراسان، منكراً لفعل عبد الله بن علي، حتى لقي الحكم بن ضبعان الجذامي، ومع الحكم خلق كثير من أهل الشام في طاعة عبد الله بن علي، فهزمهم صالح باللجون وقتل منهم ناساً كثيراً وأفلت الحكم حتى أخذه بعدُ يزيد بن روح اللخمي بأرض بعلبك، وكان يزيد عاملاً لصالح بن علي ببعلبك، فضرب عنق الحكم وبعث برأسه إلى صالح بن علي، ونقل يزيد بن روح عند قتله الحكم بن ضبعان إلى ولاية دمشق. هذه رواية ابن عساكر، وقال غيره: إن صالح بن علي لما جاء فلسطين من مصر طلب أحياء العرب، وجعل يذبحهم حتى أتى على آخرهم وانتهب أموالهم ومواشيهم.
وعلل صاحب البدء والتاريخ خروج عبد الله بن علي، على أبي جعفر بقوله: إنه لما مات أبو العباس، ادعى الخلافة عبد الله بن علي وبايعه أهل الشام والجزيرة، وذلك أن أبا العباس لما ظهر أمره، وضع سيفاً(1/149)
وقال: من تقلد هذا السيف وسار إلى مروان فقاتله فله الخلافة بعدي، فتحاماه الناس وقام عبد الله بن علي فتقلده، وسار فقاتل مروان فقتله، فلما مات أبو العباس قام بالخلافة وبايعه الناس على ذلك، وكان أجلدهم وأشجعهم، فهال ذلك أبا جعفر واستشار أبا مسلم فقال: الرأي أن تعاجله ولا تتأنى به، وكان عبد الله بن علي في مائة ألف مقاتل ومائة ألف من الفعلة، وحفر الخندق من جبل نصيبين إلى نهرها، وجعل فيه ما يحتاج إليه من العدة والآلة، ونصب المجانيق والعرّادات وبث الحسك، وسد الطريق على من يقصده من العراق، وجعل الخصب والقرى وراءه.
ولما وجه أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني قال له: أيها الرجل إنما هو أنا
أو أنت. فإما أن تسير إلى الشام، فتصلح أمرها أو أسير أنا. قال أبو مسلم: بل أسير أنا. فاستعد في اثني عشر ألفا من أبطال جنود خراسان، حتى إذا وافى الشام انحاز إليه من كان بها من الجنود جميعهم، وبقي عبد الله بن علي وحده، فعفا أبو مسلم عنه، ولم يؤاخذه بما كان منه وقيل: بل أسيره وحمله إلى أبي جعفر، فخلده الحبس إلى أن مات، وهذا هو الأصح، وأبو مسلم من أقرب الناس إلى سفك الدماء، وقد قتل في دولته ستمائة ألف إنسان، ولكنه تحامى أن يقتل عم الخليفة، واكتفى من عقوبة الثائر بالاستيلاء على خزائنه، وكانت عظيمة، لأنه استولى كما تقدم على ذخائر خلفاء بني أمية ونعمتهم، وذلك بعد حروب كثيرة في أرجاء نصيبين في الموضع المعروف بدير الأعور، وصبر الفريقان شهورا على حروبها. ومع هذا تعاقب على حلب كثير من ولد عبد الله بن علي بن العباس نحو مائة سنة. وكان هوى أهل الشام مع عبد الله بن علي يوم قام على المنصور، فلما هزم عبد الله عفا المنصور عن الشاميين، وكان العباسيون كالأمويين يولون في مبدإ أمرهم الولايات لآل بيتهم وأولياء عهد الخلافة.(1/150)
نزع اللبنانيين والفلسطينيين طاعة العباسيين:
ومن كوائن هذا الدور ما وقع في سنة 135 من نهب المقدم الياس في لبنان البقاع ونهب قراها وأهلها، فأرسل والي الشام من قبل أبي العباس إليه رسلا لعقد الصلح، ثم هاجمه في قرية المرج وقتله، وبعد رجوع عسكر الشام، رجع أصحابه ودفنوه بقرب الجامع الذي في القرية. ثم أقيم مقدما على الجيش سمعان ابن أخت المقتول فسارت إليه عساكر الشام، وكانت الحرب بينهم في قرية الشوير، فانكسر العسكر الشامي وارتد راجعا، ودام القتال على ما في تواريخ الموارنة بين عساكر المسلمين ونصارى تلك الكورة مدة طويلة.
ويقول البلاذري: إنه خرج قوم بجبل لبنان شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح
بن علي من قتل مقاتلتهم وأقر من بقي منهم على دينهم، وردهم إلى قراهم، وأجلى قوما من أهل لبنان. وقد كتب الإمام الأوزاعي إلى صالح رسالة طويلة في تخطئته في طريقته التي سار عليها في مقاتلة اللبنانيين، حفظ منها ما يأتي: وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان، ممن لم يكن لهم ممالئا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم، ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى أنْ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وهو أحق ما وقف عنده، واقتدي به وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه. ثم ذكر كلاما.
روى ابن عساكر أن الروم دخلوا طرابلس في زمان واليها رباح بن عثمان لصالح بن علي أمير الشام ومصر، ثم ظهر رجل من أهل المنيطرة، وذلك في سنة اثنتين أو سنة ثلاث وأربعين ومائة، وسمى نفسه الملك، ولبس التاج وأظهر الصليب واجتمع عليه أنباط جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فسبوا بعض قرى البقاع، فقتلوا المسلمين وأخذوا ما وجدوا وكتب بندار(1/151)
الملك إلى أهل بعلبك يعلمهم بمصيرهم ويأمرهم بقتالهم، فتأهبوا وقاتلوهم في أسفل جبل لبنان، ثم أظهروا الهزيمة فأمعنوا في الطلب، فلما بعدوا عن الجبل كرت عليهم خيل بعلبك، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانهزم بقيتهم، ثم هاجموهم في قلعتهم فظهروا عليهم وامتلكوها منهم، وهرب بندار إلى ملك الروم، فكتب حينئذ صالح بن علي يأمر بإخراج من بقي في الجبل، وتفريقهم في كور الشام. وصالح بن علي من أعظم رجال العباسيين هو الذي كسر الروم في نوبة مرج دابق وكانوا في مائة ألف أو يزيدون. وبعد صالح بن علي وجه أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث إلى الشام، وكتب إليه أن يخرج عمال صالح بن علي، فجهزه وعقد له وضم إليه من
قواده جماعة، وكتب أمير المؤمنين إلى صالح بن علي أن يسلم دمشق إلى محمد بن الأشعث، فأتاها فأقام بها مدة، ثم أتاه كتاب أمير المؤمنين يأمره أن يسير إلى الأردن ويخرج عمال صالح بن علي من الأردن والبلقاء وفلسطين فأخرجهم.
قيس ويمن والفتن الداخلية والخارجية:
وفي سنة 168 نقض الروم الصلح، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر في سرية إلى الروم، فغنموا وظفروا. ولم يغفل العباسيون عن غزو الروم الصوائف وغيرها على مثال بني أمية. وفي هذه السنة رد المهدي ديوان أهل بيته من دمشق إلى المدينة. ومن الفتن فتنة سنة 176 هاجت بدمشق بين المضريين واليمانيين، وكان على دمشق عبد الصمد، فسعى الرؤساء في الصلح فأجاب بنو القين، واستمهلت اليمانية ثم ساروا إلى بني القين وقتلوا نحو ستمائة، فاستنجدت بنو القين قضاعة وسليحا فأبوا، فاستنجدوا قيسا فساروا معهم إلى الصواليك، من أرض البلقاء، فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثر القتل منهم، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق، وولاها إبراهيم بن صالح، وكان هواه مع اليمانيين، واستخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم، ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس العبسي فقتلوه، واستنجد(1/152)
أخوه بالزواقيل اللصوص من حوران فأنجدوه، وقتلوا من اليمانية نفرا. قال ابن كثير في حوادث سنة 176 إنه وقعت فتنة بين النزارية واليمانية، وهذا كان بدء العشران بحوران وهم قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الأوان، فقتل منهم بشر كثير، فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة، واستقام أمر الشام، وحملوا جماعات من رؤساء الفتنة إلى مدينة السلام، فرد أمرهم الرشيد إلى عامله خالد فعفا عنهم وأطلقهم ففي ذلك يقول بعض الشعراء:
قد هاجت الشام هيجاً ... يشيب رأس وليده
وصبّ موسى عليها ... بخيله وجنوده
فدانت الشام لما ... أتى نسيج وحيده
دامت هذه الفتنة نحو سنتين، وسببها فيما قيل أن رجلا من بني القين قطع بطيخة من حائط بالبلقاء لرجل من لخم أو جذام. وفي رواية أن الفتنة لما هاجت بالشام بين النزارية واليمانية، وولى الرشيد سنة 176 موسى بن يحيى الشام جميعه، أقام به سنتين حتى أصلح بينهم. قال ابن الأثير: إن سبب هذه الفتنة بين المضرية واليمانية، ورأس المضرية أبو الهيذام عامر بن عمارة أحد فرسان العرب المشورين، أن عاملا للرشيد بسجستان قتل أخاً لأبي الهيذام فخرج أبو الهيذام بالشام وجمع جمعا عظيما. وهذا السبب أرجح إذ لا يعقل أن تنشب الفتنة بين قبيلين من أجل بطيخة قطعت من بستان. أما أبو الهيذام فاستولى على دمشق، وقاتل في قومه فهزم أكثر الجيوش التي قابلته، وكان معه فريق كبير من أعراب الشام.
وفي سنة 180 تفاقم أمر هذه الفتن، فعقد الرشيد، أيام عصيبة أبي الهيذام، لجعفر بن يحيى البرمكي على الشام، فأتاهم وأصلح بينهم وقتل المتلصصة منهم، ولم يدع بها محاربا ولا فارسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة وقال بعض الشعراء في ذلك:(1/153)
لقد أوقدت بالشام نيرانُ فتنةٍ ... فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل جعفرٍ ... عليها جنت شهبانها وشرارها
رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ... وفيه تلاقي صدعها وانجبارها
رماها بميمون النقيبة ماجدٍ ... تراضى به قحطانها ونزارها
وفي سنة 187 ثارت العصبية أيضاً بالشام بين المضرية والنزارية وجمعوا جموعاً كثيرة، وكانت بينهم في ذلك فتن قتل فيها من المضرية نحو من
خمسمائة، والوالي على دمشق شعيب بن حازم، قال ابن عساكر: وذكروا منه تعصباً فوجه أمير المؤمنين الرشيد محمد بن منصور بن زياد إلى أهل دمشق، وأمره بدعاء الفريقين جميعاً إلى الرجوع عما هم عليه، على أن يحمل من بيت ماله ما كان بينهم من الدماء ويعفو عنهم ويولي من أحب الفريقان، فاطفئت الفتنة. وفي سنة 881 كان غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، أدرب من درب الصفصاف فيما ذكر أربعون ألفاً وسبعمائة.
الحمصيون وفتنة السفياني:
وفي سنة 190 وثب أهل حمص بواليهم فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم فعفا عنهم. وفي سنة 191 خرج أبو النداء بالشام، فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام. وفيها نقض أهل قبرس العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها. وفي سنة 194 اختلف أهل حمص مع عاملهم إسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين، واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم، ثم هاجوا فضرب أعناق عدة منهم. وفي سنة 195 أي في أيام الخليفة الأمين، ظهر بالشام السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية الملقب بأبي العَمَيْطر كسفرجل لأنه زعم أنها كنية الحرذون فلقبوه به. وكان من بقايا بني أمية بالشام، ومن أهل العلم والرواية، فدعا إلى نفسه وسمي خليفة، وكان أصحابه يوم ادعى الخلافة يدورون في أسواق دمشق ويقولون للناس:(1/154)
قوموا بايعوا مهدي الله. وكان يفتخر بقوله: أنا ابن شيخي صفين يعني عليّاً ومعاوية، لأنه كان ينتسب لبني أمية من جهة أبيه ولآل أبي طالب من جهة أمه، وكان أكثر أصحابه من كلب، وتعصب له اليمانية، وقاومه القيسية فنهب دورهم وأحرقها وقتلهم وفتك بأهل دمشق، وطرد منها سليمان بن أبي جعفر المنصور عاملها بعد حصره إياه،
وكان عامل الأمين عليها، فلم يفلت منها إلا بعد اليأس، وأعانه الخطاب بن وجه الفُلس مولى بني أمية، وكان قد تغلب على صيدا، وقاومه محمد بن صالح بن بيهس الكلابي فخرج إلى قرية الحرجلة، فقتل من ظفر به من بني سليم ونهبها وأحرقها، وجعل يطلب من بدمشق من القيسية. وكان القرشيون وأصحابه من اليمن يمرون بالدار من دور دمشق فيقولون: ريح قيسي نشم من هذه الدار، فيضربونها بالنار، فهرب القيسية من دمشق، وكان من لم يبايعه سمَّر عليه بابه، وكان إذا خرج من الخضراء وهو راكب يمشي بين يديه خمسمائة رجل على رؤوسهم القلانس الشاميات وفي أيديهم المقارع.
كتب أبو العَمَيْطر إلى ابن بَيهس الكلابي: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فالعجب كل العجب لتخلفك عن بيعة أمير المؤمنين، يعني نفسه وجحدانك نعم آبائه عليك، ولست ولا أحدٌ من سلفك إلا في نعمته، وأنت تعلم مكان حرمتك بقرية تلفياثا، وأن عشيرتك بالغوطة كرش منثورة، وأمير المؤمنين يحلف لك بالله لئن سمعت وأطعت، ليبلغن بك أقصى غاية الشرف، وليولينك ما خلف بابه، ولئن تخلفت وتأخرت ليبعثن إليك ما لا قبل لك به من الزحوف، التي تتلوها الحتوف، بشاهد السلاح المعدّ لأهل الخلاف والمعصية. وقد بعث إليك أمير المؤمنين شعراً فتدبره وكتب في أسفل كتابه:
لئن كان هذا الجد منك لقد هوى ... بك الحَيْن في أهويّة غيرَ طائل
أبعد اجتماع الشام سمعاً وطاعة ... إليَّ وإذلالي جميع القبائل
وتوجيهيَ العمال في كل بلدةٍ ... وزحفي إليها بالقنا والقنابل
رجوت خلافي أو تمنيت جاهلاً ... إزالة ملك ثابت غير زائل(1/155)
فإن تعط سمعاً أو تعلقْ بطاعة ... تُقَلْ من ملمات شداد الزلزل
وإن تعصِ لا تسلم وفي السيف واعظ ... لذي الجهل ما لم يتعظ بالرسائل
فلم يجبه ابن بيهس على كتابه، وأقبل أبو العَمًيْطر على طلب القيسية فكتبوا إلى ابن بيهس، فاقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه، واتصل الخبر بأبي العميطر فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفاً فاقتتلوا، فلم يزل القتل في أصحاب يزيد بن هشام حتى دخلوا أبواب دمشق، فبلغ القتلى ألفي رجل وأسر ثلاثة آلاف، فدعا بهم ابن بيهس فحلق رؤوسهم ولحاهم، وأحلفهم بأنهم يصيرون إلى باب أبي العَمَيْطَر فيصيحون نحن عتقاء ابن بيهس، فاشتدت شوكته وتوهن أمر أبي العميطر السفياني، فجعل ابن بيهس يغير كل يوم على ناحية فيقتل ويأسر. ولما فرغ ابن بيهس من حرب يزيد بن هشام، نزل قرية سكا، واجتمع إلى أبي العميطر وزراؤه فقالوا له: لا يهولنك محاصرة ابن بيهس إياك فإن الحرب سجال، فكتب أبو العميطر إلى السواحل والبقاع وبعلبك وحمص فأتاه خلق عظيم، واشتبكت الحرب بين شبعا وقرحتا وتقاتلوا قتالاً طويلاً. واجتمعت نمير على مسلمة بن يعقوب، وبذلوا له البيعة بالخلافة، فقبل منهم وجمع مواليه ودخل على السفياني أبي العميطر في الخضراء فقبض عليه وقيده، وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه وأدنى قيساً وجعلهم خاصته.
وجمع ابن بيهس رؤساء بني نمير فقال لهم: قد كان من علتي ما ترون فارفقوا ببني مروان بن الحكم وألطفوا بهم، وعليكم بمسلمة بن يعقوب فبذل له بنو نمير البيعة. وبعث مسلمة إلى رؤساء بني أمية عن لسان أبي العَمَيْطر يأمرهم بالحضور فجعل كل من دخل يقال له: بايع، والسيف على رأسه فيبايع. وأدنى مسلمة القيسية، ولبس الثياب الحمر، وجعل أعلامه حمراء، وأقطع بني نمير ضياع المرج، وجعل لكل رجل من وجوه قيس بمدينة دمشق منزلاً وولاهم، ثم أقبل ابن بيهس حتى نزل قرية شبعا وأصبح منها غادياً إلى دمشق، وصاح الديدبان بالسلاح، وخرج مسلمة وخرجت معه القيسية، فتقاتلوا ذلك اليوم مع(1/156)
مسلمة قتالاً شديداً وكثرت الجراحات في الفريقين، وانصرف ابن بيهس وخاف القيسية على أنفسهم، وذهبوا إلى ابن بيهس وأحكموا الأمر معه، وصبح دمشق بالخيل والرجالة والسلالم، ونشب القتال وصعد أصحاب ابن بيهس السور بناحية باب كيسان فلم يشعر بهم أصحاب مسلمة، واستولى ابن بيهس على دمشق لعشر خلون من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، ولم يزل يحارب أهل المزة وداريا وبيت لهيا إلى أن صالحه أهل بيت لهيا، وأقام على حرب أهل المزة وداريا وهو مقيم بدمشق أميراً متغلباً عليها، إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق سنة ثمان ومائتين وخرج إلى مصر ورجع إلى دمشق سنة ست عشرة ومائتين، وحمل ابن بيهس معه إلى العراق. وولى الأمين 196 عبد الملك بن صالح بن علي على الشام، وأمره بالخروج إليها. وفرض له من رجالها جنوداً يقاتل بها طاهراً وهرثمة. وعبد الملك هذا هو الذي كان يقول في أهل الشام: قوم قد ضرستهم الحروب وأدبتهم الشدائد، وإن أهل الشام أجرأ من أهل العراق، وأعظم نكاية في العدو. ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين وأهل الشام وكثر القتل، وأظهر عبد الملك النصرة للشاميين، وانتصر الحسين بن علي للخراسانيين وتنادى الناس بالرجوع، فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام واتصلت الحروب 198 بين سكان الشام وجماعة العباسيين، وكان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر حاضر حلب، فلم يبق منهم وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قِنَّسْرين، وضرب يعقوب الحاضر وكان فيه عشرون ألف مقاتل.
وذكر المسعودي أن عبد الملك بن صالح توفي بالرقة سنة 197، وكان العامل على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور، واضطربت البلدان بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين، حزب يظاهر بمحمد، وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون، لا سلطان يمنعهم ولا شيء
يدفعهم. ولما أفضت الخلافة إلى المأمون كان بقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قِنسرين عثمان بن عثامة العبسي،(1/157)
وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي. وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فهرب أهل قنسرين، وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن خيطان التنوخي. وبحماة وما والاها حراق البهرائي، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من رؤساء القبائل حتى ولى المأمون عبد الله بن طاهر.
ولم تكد الشام تستريح من فتنة أبي العميطر حتى قام في أول عهد المأمون بدمشق رجل من بني أمية أيضاً، أسمه سعيد بن خالد الأموي العثماني الفدّيني، وادعى الخلافة، قام بعد أبي العميطر وأغار على ضياع بني شهيب شرنبث؟ السعديين، وتطلب القيسية وقتلهم، وتعصب ليمن، فجهز له محمد بن صالح ابن بيهس أخاه يحيى بن صالح، فلما صار بالقرب من حصنه المعروف بالفدّين هرب، فوقف يحيى حتى هدمه وخرب زيزاء، وتحصن سعيد في قرية ماسوح، ثم إنه جمع عليه جمعاً عظيماً زهاء عشرين ألفاً، فلم يجد محاربه إلى أن أجلاه عن مكانه وصار بعد ذلك إلى حسبان وفيه حصن حصين، فأقام به وتفرق عنه أصحابه.
فتنة نصر بن شبث:
وهكذا لم يخل عهد السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون من خلفاء بني العباس من فتن في هذه الديار، وبقيت نار العصبيات تتأجج. واليمانيون مع الأمويين، والقيسيون مع العباسيين، والدعوة للسفياني الذي وعد بإرجاع ملك بني أمية تهب وتنام، وقد ابتدأت أوائل خلافة المأمون بشيء من هذا القبيل. فقد عصى عليه نصر بن شبث العقيلي، وكان يسكن كيسوم شمالي حلب،
وكان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى، فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب وتغلب على ما جاوره من الكور، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي،(1/158)
وحدثته نفسه بالتغلب عليه. فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت عليه وقوي أمره 199 بالجزيرة وأتاه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا: قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم، وأعلقت عنهم العرب فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك فقال: من أي الناس؟ قالوا: نبايع لبعض آل علي بن أبي طالب فقال: أبايع أولاد السوداوات، فيقول إنه خلقني ورزقني. قالوا: فنبايع لبعض بني أمية فقال: أولئك قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل أبداً، ولو سلّم عليّ رجل مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدّمون عليهم العجم.
قوي أمر نصر فأرسل عليه المأمون أحد عظام قواده طاهر بن الحسين فلقيه نصر وكسره، فسير إليه المأمون عبد الله بن طاهر القائد العظيم ابن ذاك القائد العظيم، فحصره في كيسوم من مدن العواصم وأخذه بعد وقائع كثيرة، واحتوى على الشام جميعه وهدم عدة أسوار من المدن المجاورة لحلب ومنها كيسوم. وسار عبد الله بن طاهر يستقري الشام بلداً بلداً، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك اللصوص، وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعاً، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا عاص إلا خرج من قلعته وحصنه، وعاد عبد الله بن طاهر إلى مدينة السلام يحمل معه المتغلبين على الشام، أمثال ابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصقر، ودام عصيان نصر خمس سنين.
المأمون وحكمه على قيس ويمن:
لم يطفئ الفتنة التي أثارها نصر بن شبث في الشمال والتي أثارها غيره(1/159)
في الوسط والجنوب غير أعاظم قواد بني العباس، أطفئوها بالعقل والتؤدة، وقد رأينا أن عصبية الأمويين لم تنقطع على شدة العباسيين في استئصالها، وكان كل حين يثور ثائر باسم السفياني، ويثور معه جماعته ولا سيما من أهل القرى والبوادي. وكانت الأحوال أخذت تهدأ على عهد الرشيد والمأمون، فتفرغا لإجراء الإصلاح. وكان الرشيد تولى شمال الشام أيام كونه ولياً للعهد، والمأمون زار الشام ثلاث مرات يقيم فيها نصاب العدل، ويوطد دعائم المدينة، وعدّ عهده أبيه من أجمل عصور التاريخ الإسلامي. المأمون الخليفة العادل، وممثل التسامح المحمدي العجيب، ومحكّم العقل في أحكامه ومعتقداته، وقلما اجتمعت صفات كصفاته وعقل كعقله وعلم كعلمه لخليفة من خلفاء الإسلام.
وكأن ما وقع في أوائل عهد العباسيين من الغوائل التي غالت أهل البوادي والحواضر في هذه الديار كان عقوبة لأهلها عما قدمت أيديهم من خيانة عهد بني أمية ونفض أيديهم من مروان بن محمد لأول ظهور قوة خصمه وإدبار الأمر عنه، حتى قاتلوه وطاردوه، على مثل ما قاتله جيش خراسان العباسي وزيادة، فتعجلوا انقراض دولة الأمويين معلقين آمالهم على الدولة الفتية. ولذلك زعم بعضهم أن الملك في الشام لا يثبت، لعدم الثبات المغروس في فطرة أهله، ولتلون الطبائع فيه تلوّن أقاليمه وسمائه وهوائه. وكان من أثر العادة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم، وهي عادة الغزو المتأصلة في غير سكان المدن، أن نشبت الثورات وكثر قتل الأنفس وغرست هذه الاضطرابات في أرض الشام فنمت، خصوصاً وجبالها أكثر من سهولها على الأكثر، وتصلح للدفاع والهزيمة والاستمرار على المشاكسة لصاحب القوة.
بالغ العباسيون في إهراق الدماء لأول أمرهم، وقضوا على آثار بني أمية، وهي
كثيرة جداً، ومع ذلك كان اسم الأموي والسفياني يرنّ في الآذان، والمستعدون للثورة يمتشقون الحسام عند أول داعية يسمعهم صوته، أو ثائر يستتبع الناس ويعدهم الوعود الخلابة. نعم إن التنازع بين القيسيين واليمانيين كان في هذا القرن على أشد حالاته، وهذه العداوة(1/160)
بين الفريقين العظيمين من العرب أضرت ضرراً بالغاً. وكان القيسيون حزب العباسيين على الأغلب واليمانيون حزب الأمويين والمنافسة بينهما على الملك والسلطان.
تعرض رجل للمأمون بالشام مراراً فقال له: يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان فقال: أكثرت عليّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيساً من ظهور الخيل إلا وأرى أنه لم يبق من مالي درهم واحد، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما ثائراً، أعزب فعل الله بك.
سبب تباغض النزارية واليمانية وحكمة حكيم:
تأصلت البغضاء بين النزارية واليمانية منذ كان للعرب في الشام سلطان. وكثيراً ما تظهر بوادر هذه العداوة لسبب تافه. فقد ذكروا أن الكميت الشاعر المعروف، مدح النزارية فأفحش في مدحه، ففخروا بذلك على اليمانية، وأغدق بنو هاشم المال على الكميت مكافأة له، وقام دعبل الخزاعي يمدح اليمانيين ويعيب غيرهم، فكان هذا أول الشنآن بين النزارية واليمانية، ومنها تخرب الناس بالمناقب وثارت بينهم في البدو والحضر، إلى أن قام محمد الجعدي متعصباً لقومه، فانحرف الناس للدعوة العباسية وتقلقل الأمر إلى انتقال الدولة من بني أمية إلى بني هاشم، ولم يبق معهم إلا من فرّ بنفسه مستخفياً.
وكان رجال الإدارة والسياسة إذا أحبوا نشر العدل بين هذين الحيين العظيمين من
أحياء العرب يتعذر عليهم ذلك إلا بغمط حقوق الفريق الثاني، ولذلك عدّ من حسن سياسة إبراهيم بن محمد المهدي المنبوز بأبن شكلة الهاشمي أخي الخليفة الرشيد لما ولي دمشق، ما اتخذه أو ابتدعه من طريقة(1/161)
جديدة أرضى بها قيساً ويمناً، فإنه لما جاء غوطة دمشق وافاه الحيان من مضر ويمن، فلقي كل من تلقاه بوجه واحد، فلما دخل المدينة أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، وأن يأتيه بذلك، فلما أتاه به أمر بتصيير أعلى الناس من الجانب الأيمن مضرياً، وعن شماله يمانياً، ومن دون اليماني مضري، ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري، ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئاً: إن الله عز وجل جعل قريشاً موازين بين العرب فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خؤولتها وافترض عليها حب العمومة والخؤولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه. ثم قال: يا معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن: قد قدَّم أميرنا مضر على يمن، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريا، وبجانب المضري يمانيا، فقلتم: يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلى من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم. ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن. وهذان الجانبان يتناوبان بينكما يكون كل من كان في جهته متحولا عنه في غده إلى الجانب الآخر. فانصرف القوم وكلهم حامد. وهذا من ألطف أساليب السياسة واستمالة القلوب بدون خسارة.
فافتخر إبراهيم بن المهدي بقوله: ما أعلم أحدا ولي جند دمشق فسلم من لقب يلقبه به أهل ذلك الجند غيري، وذلك أن كل ملقب ممن ولي إمرة الشام، لم يكن إلا
ممن ينحرف عنه من اليمانية أو المضرية، فكان إن مال إلى المضرية لقبته اليمانية، وإن مال إلى اليمانية لقبته المضرية، فعاملهم إبراهيم معاملة واحدة في الاجتماع وقضاء المصالح. فكانت الحاجة تعرض لبعض الحيين فيسأل قبل أن يقضيها له، هل لأحد من الحي الآخر حاجة تشبه حاجة السائل، فإذا عرفها قضى الحاجتين في وقت واحد. قال: فكنت عند الحيين محمودا لا أستحق عند واحد منهم ذمّاً(1/162)
ولا عيباً ولا نبزاً أنبز به. وقال إبراهيم: إنه ولي دمشق سنتين ثم أربع سنين بعدهما لم يقطع على أحد في عمله طريق. وأخبر أن الآفة كانت في قطع الطريق في عمل دمشق من ثلاثة نفر: دعامة والنعمان موليان لبني أمية، ويحيى بن أرميا من يهود البلقاء، وأنهم لم يضعوا أيديهم في يد عامل قط، فكاتبهم فارعوى الاثنان وأبى الثالث أداء الجزية فقتل في معركة، وساد الأمن في القطر.
ولكن هذه السياسة لم يجر العمل بها دائما، فقد ذكروا أن إبراهيم ابن صالح والي دمشق في خلافة الرشيد لما خرج منها في الوفد الذي قدم به على الرشيد استخلف ابنه إسحاق على دمشق، وضم إليه رجلا من كندة يقال له الهيثم بن عوف. فغضب الناس وحبس رؤساء من قيس، وأخذ أربعين رجلا من محارب فضربهم وحلق رؤوسهم ولحاهم، وضرب كل رجل ثلاثمائة، فنفر الناس بدمشق وتداعوا إلى العصبية ونشبت الحرب ورجعوا إلى ما كانوا عليه من القتل والنهب فلم يزالوا على ذلك أشهراً.
قيس ويمن وفتنة المبرقع:
ولي دمشق بعد إبراهيم بن المهدي سليمان بن المنصور فانتهبه أهل دمشق وسبوا حريمه، وولي بعده منصور بن المهدي، وكانت على رأسه الفتنة العظمى ولم يؤد القوم طاعة بعد ذلك، إلى أن افتتح دمشق عبد الله ابن طاهر في سنة عشر ومائتين. ووقعت بدمشق فتن على عهد الأمين، وسببها على ما ذكروه أنه كان
يعجبه البلور فدس عامله فأخذ له قلة دمشق من جامعها فلما شعر الدمشقيون قالوا: لا صلاة بعد القلة فصارت مثلا وافتتن الناس وامتدت فتنتهم، ولما ولي المأمون أرجع القلة إلى محلها. ولعل مسألة القلة أوجدها أنصار المأمون على الأمين حتى لا تبقى ناحية في المملكة إلا وتشعر بكراهة الأمين. وكتب المأمون في سنة 218 إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المؤونة وكف الأذى عن أهل محله. قال: فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال خراجك بمثل ذلك. وكتب بهذا إلى جميع(1/163)
عماله في أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين.
وفي أيام المعتصم 224 خرجت رجال دمشق على أبي المغيث الرافعي واليها في طلبهم محمد بن أزهر، وكان قد عاث في مرج دمشق ونفر أهلها وأجلاهم عنها، فخرج رجل من بني حارثة اسمه يزيد في جماعة وغيرهم من يمن، واجتمعت قيس بمرج دمشق وأقبل محمد بن أزهر، فلما صار إليهم خرجوا عليه وجرح وقتل من الجند خلق، ووثب ابن لمحمد بن صالح على بعض أمراء السلطان وأخذه في جماعة من قيس بحوران، وأقبل إلى مرج دمشق وصار مع يزيد وحاصر دمشق حصارا شديدا، وغلقت أبواب دمشق ولم يخرج أحد إلا اختطف. ولما مات المعتصم 227 ثارت القيسية بدمشق وعلى رأسهم ابن بيهس الكلابي فعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم فبعث الواثق إليهم رجاء بن أيوب، وكانوا معسكرين بمرج راهط، فنزل بدير مران ودعاهم إلى الطاعة فلم يرجعوا، فواعدهم الحرب بدومة فوافاهم فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم نحواً من ألف وخمسمائة، وقتل من أصحابه نحو من ثلاثمائة وهرب مقدمهم ابن بيهس وصلح أمر دمشق. وقال ابن عساكر: إن الذين ثاروا هم أهل الغوطة والمرج، ومن قرى الغوطة الثائرة كفر بطنا وجسرين وسقبا وقرى جرش ومن انضوى إليهم،
وأصيب من ذلك جماعة كثيرة، وقاتلهم العامل في مجمع عسكرهم بكفر بطنا وهي لقيس، وثار الناس من النواحي، وقتلوا الأطفال وجرحوا النساء وهزمهم.
وسار رجاء إلى فلسطين لقتال تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب ويلقب بالمبرقع الخارج بها في لخم وجذام وعاملة وبلقين، فقاتله فانهزم المبرقع وأخذ أسيراً سنة 227، وكان المبرقع من أهل الغور خلع الطاعة ودعا إلى نفسه فتبعه خلق كثير من الحراثين وغيرهم وقالوا: هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام، واستفحل أمره جدا واتبعه نحو مائة ألف فأنفذ المعتصم إليه جيشا، فلما قدم الأمير رأى أمة كبيرة قد اجتمعت حوله، فخشي أن يناجزه والحالة هذه فانتظر حتى جاء وقت حرث الأرض، فتصرَّم عنه الناس إلى أرضهم، وبقي في شرذمة قليلة من(1/164)
أصحابه فناهضه فأسره. وروى الطبري: أن سبب خروج المبرقع على السلطان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك فضربها بسوط أصاب ذراعها فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غارٌّ فضربه حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعاً كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، ولما كثرت غاشيته من الحراثين استجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وأرباب البيوت منهم. وروى أيضا أن خروجه كان في سنة 226 بالرملة وصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، وأن القائد العباسي قاتله بالرملة فقتل من أصحابه في وقعتين خمسة وعشرون ألفاً حتى أسر.
فتن أهلية وعصبيات حمصية ولبنانية ودمشقية
وفلسطينية ومعرية:
في سنة 231 جرى بين الأمير هانيء والمردة حروب في جبل لبنان، انتصر عليهم ولقب بالغضنفر أبي الأهوال، وبلغ خبره خاقان التركي خادم الرشيد، فكتب كتابا يشكره على ما فعل ويحثه على الحرب، ويخبره أنه بلغ حسن سلوكه إلى مسامع الخليفة. ومن أهم الأحداث في سنة 240 وثوب أهل حمص بعاملهم، فوجه المتوكل محمد بن عبدويه عاملا عليهم، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور، ثم وثبوا فشغبوا عليه، فسكنهم ومكر بهم وأخذ جماعة منهم، فحملوا إلى باب المتوكل ثم ردوا إليه فضربهم بالسياط حتى ماتوا، وصلبهم على أبواب منازلهم، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم.
ووثب أهل دمشق بعامل المتوكل سالم بن حامد لظلمه وعسفه فيهم وقتله جماعة من أشرافهم ورؤسائهم، فقتلوه على باب الخضراء. قال ابن عساكر: إن سالما كان سيئ السيرة أذل قوما من أهل دمشق، كان بينه وبينهم طائلة ودماء في أول دولة بني العباس وآخر دولة بني أمية. وكان لبني بيهس ولجماعة من قريش دمشق وسائر العرب من(1/165)
السكون والسكاسك وغيرهم قوة ونجدة، فقتلوه على باب الخضراء وقتلوا من قدروا عليه من رجاله، وسلطوا الموالي على رجالهم وأموالهم فسلبوها.
وغضب المتوكل لمقتل عامله وقال: من لدمشق وليكن في صولة الحجاج؟ فقيل له: أفريدون التركي. فأمره وجهزه إليها في سبعة آلاف، وأحلَّ له القتل والنهب ثلاثة أيام، فنزل بيت لهيا فبات بها، فلما أصبح قال: يا دمشق إيش يحل بك اليوم مني. فقدمت له بغلة وهمَّ ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب ضربته بالزوج في صدره، فسقط ميتاً. وبعد ثلاث سنين جاء المتوكل ليسكن دمشق هرباً مما كان يحاذره من شدته على العراقيين فنقل دواوين الملك إليها ثم رجع بعد أشهر وهناك قتل.
وفي سنة 248 شغب أهل حمص على عاملهم أيضاً، فوجه الخليفة إليهم عاملاً آخر فأخذهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل مائة رجل من عيونهم إلى سامرّا. وفي هذه السنة غزا الصائفة وصيف، وكان مقيماً بالثغر الشامي ثم دخل أرض الروم وفتح بعض الحصون. وفي السنة التالية كان غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصناً ومطامير، ثم غلب وقتل جماعة كثيرة من جيشه. وفي سنة 250 وثب أهل حمص بعاملهم فقتلوه، فوجه إليهم المستعين من حاربهم فهزمهم بين حمص والرّستن، وافتتح حمص وقتل من أهلها وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها، فقتل مقتلة عظيمة وأحرقها. وكان المتوكل أمر بإخراج النصارى من حمص، لأنهم كانوا يعينون الثوار. ووثب أيضاً أهل حمص بعاملهم مرة أخرى فقتلوه. وخافوا عامل دمشق فزحفوا إليه فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم فهزموهم وانصرفوا إلى حمص. وثاروا مرة فأرسل عليهم الخليفة عاملاً آخر فدخل بلدهم عنوةً وأباحها ثلاثة أيام وطرحت النار في منازلها. وكان الواثب بحمص العطيف بن نعمة الكلبي في خلق عظيم من عشيرته وغيرهم. وكثر وثوب أهل حمص، وبعبارة أعم، وثوب أهل جند حمص بعمالهم، لأنهم يمانية نزاع إلى الثورة، ونار الإحن بينهم وبين القيسية لا تزال موقدة، ثم إنه كان لهم من السكان(1/166)
الأصليين من غير المسلمين من كانوا يحرضونهم على شق عصا الطاعة، فلذلك كثرت ثوراتهم وما برحوا يثورون حتى أيام المهدي. فقد ثاروا بمحمد بن إسرائيل، فخرج هارباً ولحقه ابن عكار، فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار، ورجع ابن إسرائيل على البلد.
وفي أيام المستعين وثب بالأردن رجل من لخم، فطلبه صاحب الأردن فهرب، فقام مكانه رجل يعرف بالقطامي وكثف جمعه، فجبى الخراج وكسر جيشاً بعد جيش أنفذهم إليه عامل فلسطين. فلم تزل هذه الحالة حتى قدم مزاحم بن خاقان
التركي في جمع من الأتراك وغيرهم، ففرق جمعهم ونفاهم. ووثب بالمعرة المعروف بالقصيص وهو يوسف بن إبراهيم التنوخي فجمع جموعاً من تنوخ، وصار إلى مدينة قنسرين فتحصن بها، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد مولى أمير المؤمنين فاستماله، واستعمل عطيف بن نعمة وصار إليه، ثم وثب بعطيف بن نعمة فقتله، وهرب القصيص فصار إلى الجبل الأسود واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد، فسار إليهم فواقعهم فكانت عليهم، ثم ثابوا عليه فهزموه وقتلوا خلقاً عظيماً من أصحابه، وانصرف إلى حلب في فلّه، ورجع القصيص إلى قنسرين والتحم مع كلب، وعزل المولد وولي أبو الساج الأشروسي وكتب إلى القصيص يؤمنه وصير إليه الطريق والبذرقة ثم ولاه اللاذقية ونحوها.
وفي سنة 252 عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني على الرملة فأنفذ خليفته أبا الغراء إليها واستولى على فلسطين جميعها، وتغلب على دمشق وأعمالها وامتنع من حمل المال إلى العراق، فحمل ابن مدبّر، صاحب خراج مصر إلى العراق سبع مائة ألف وخمسين ألف دينار فنهبها عيسى بن الشيخ في الطريق. وفي سنة 256 عزل عيسى عن الشام، وولي أماجور الشام فسار واستولى عليه بعد قتال بينه وبين أصحاب عيسى على باب دمشق وانتصر أماجور واستقر، وكان عيسى يومئذ في زهاء عشرين ألفاً، وأماجور في مائتين إلى أربعمائة وقيل ألف، فتغلب قليله على كثير خصمه. وكان أماجور أميراً مهاباً، ضابطاً لعمله، حشماً شجاعاً،(1/167)
لا يتجاسر أحد على أن يقطع الطريق في جميع أعماله، وله في باب تأديب العصاة وسلبة الطرق حكايات أثرت عنه.
الحكم على الدور الأول للعباسيين:
مضت اثنتان وعشرون ومائة سنة على الشام بعد انقراض دولة بني أمية، وهو لا يخلو من فتن وتسمع فيها اسم السفياني والأموي العثماني أو غيرهم من أرباب
العصبيات من العرب، قيس ويمن. فتن أهلية يثور بركانها، ثم يهمد إلى حين، ونزّاع إلى الملك والسلطان، ولم يسد السلام إلا على عهد الرشيد والمأمون وكانت الفتن في أيامهما لا شأن لها لأنهما كان يوليان على الشام أقدر رجالهما. والشاميون يرضيهم من الخلفاء حسن سياستهم، والنظر بعطف على مصالحهم.
ولقد كانت الشام أوائل الفتح العباسي تتناوبها يدا عبد الله بن علي وصالح بن علي العباسيين وأولادهما، ثم أخذ عقلاء الخلفاء منهم يولون أولادهم واخوتهم شؤونها. فقد رأينا المهدي ولى ابنه هارون الرشيد أيام كونه ولياً للعهد ولاية قنسرين أو شمالي الشام، ورأينا الرشيد ولى أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق، ورأينا الرشيد ندب أحد عظام رجاله يحيى البرمكي إلى دمشق، كما رأينا ابنه عهد إلى طاهر بن الحسين بولاية مصر والشام، وسوّغه خراج مصر سنة وهو ثلاثة آلاف ألف دينار ففرقه على الناس وهو على المنبر، ولم ينزل منه إلا وقد اقترض عشرة آلاف دينار ليعطيها لرجل جاء متأخراً والمصلحة تقتضي برّه.
وقد رأينا حسن أثر السياسة التي اتبعها إبراهيم بن المهدي في وضع التوازن بين القيسيين واليمانيين في الشام، فدل على عقل راجح، وإرادة هاشمية قوية، وكان بسياسته حائلاً دون المشاغبات الباطلة، ونشر الأمن مدة ست سنين، وكانت الشام من قبل تأجج فيها نيران العصبيات الجاهلية. ولكن المتوكل الخليفة المحمق، أوسع مجال الخلف بينه وبين رعيته، وأكبر أمر فتنة حدثت في دمشق، فأباحها لعامله التركي، فأطلّ الشعب في بغداد دمه لخرقه، وهلك عامله قبل أن يباشر بجبروته فتكه(1/168)
وسبيه ونهبه، على نحو ما ارتكب العمال قبله في المتوثبين على العمال من أهل حمص.
وأهم الأغلاط التي ارتكبها المعتصم إدخال الأتراك في جنده، فكان الاعتماد عليهم في الجيش العباسي كالاعتماد على أهل خراسان الأعاجم لأول الفتح من أهم
الدواعي في إغضاب العرب، فأدى هذا الإيثار إلى نزع الحكم من العباسيين، حتى دخل الوهن بدخول الأتراك على الدولة، فآضت الخلافة العباسية بصنيعهم اسمية دينية فقط لا تتعدى قرى بغداد إلا قليلاً، وغدا الحكم الفصل لمن قويت شكيمته من الدخلاء واستجاش الأنصار والأعوان. وبعد أن كانت بغداد ترسل إلى الشام أولاد خلفائها وأعاظم قوادها من الأصول أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي فظهر الفرق في صورة الحكم، لأن الحكم كان في الغالب فردياً لا علاقة للجماعة به إلا إذا أحبّ صاحب الأمر استشارة أهل الرأي استشارة خاصة ودية وله الحرية أن يعمل بما ارتأوه، ولا أحد يكرهه على قبول رأيه. فمن ثم اقتضى أن يكون العامل في الغاية أصالة ونبالة وعلماً ونزاهة.
أفضى هذا التساهل مع الأعاجم والاعتماد عليهم، إلى جر البلاء على الخلفاء من بني العباس، وبعد أن كانت وصية إبراهيم الإمام الذي مات في سجن مروان الجعدي إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة: انظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم، واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله أصبحت تفتح للأتراك أبواب دار الخلافة ولكل دخيل على العرب ولم يعد حكم لقيس ولا يمن بل للأعاجم من الفرس والترك والديلم. وفي أيام المأمون نشأت الدعوة الشعوبية أي الحط من قدر العرب وتفضيل العجم عليهم، فتبدلت روح الدولة، وأخذ العربي يبغض العجمي والعجمي ينال من العربي، منذ كانت السلطة لأبناء خراسان، أما بدخول(1/169)
الأتراك فالمسألة بلغت أقصى حدودها الخطرة، وكادت مقاليد الخلافة تخرج من أبناء هاشم بعد عصر المعتصم.
كانت مسألة دخول الأتراك في الدولة بادئ بدء لا شأن لها في الظاهر وهي أن المعتصم جمع الأتراك وشراهم من أيدي مواليه فاجتمع له منهم أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج، والمناطق والحلية المذهبة، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده واصطنع قوماً من اليمن وقيس وسماهم المغاربة وأعدّ رجال خراسان من الفراعنة وغيرهم والأشروسية فلما تم هذا كثرت شكاية الناس أولاً من إيذاء الأتراك لعوام بغداد، وكلما زادت الشكاية توغل الأتراك في جسم المجتمع العباسي. وحاول من جاء بعده مثل المعتز أن يتخلص منهم، ولكنهم كانوا تأصلوا في جسم الدولة وأفسدوا عليها أمرها، ولكل أجل كتاب.(1/170)
ظهور الدولة الطولونية وانقراضها
من سنة 254 إلى 292
بداية الطولونيين:
ظهرت بوادر الضعف في العباسيين، وكادت تصبح سلطتهم اسمية، وخلافتهم دينية لا دنيوية، ساعد على ذلك اشتغال الخلفاء بعد المعتز بأنفسهم، وتغلب كثير من الأمراء على الأطراف، وأصبحت البلاد رهن أيدي المتغلبة من العمال، وكان معظم الخلفاء الأول إلى ما بعد المعتصم على غاية من العلم والأخلاق وحسن السياسة، ومن النادر أن يتسلسل هذا الرقي في الأخلاق في آل بيت واحد على اطراد جميل، كما تسلسل في بني هاشم لأول أمرهم، ولكن منهم من ساعدهم الطالع ومنهم من خانه، والسعادة أكثر من الشقاء في الجملة.
وبينما كانت دولة الأمويين في الأندلس في إبان عزّها في القرن الثالث، كانت دولة العباسيين تضطرب وتضيق بقعتها في هذا الشرق القريب، خصوصاً في النصف الثاني من المائة الثالثة، وعمال فارس ومصر والشام وغيرها يقطعون الخراج عن دار الملك، ويستبدون بالأمر، وليس للخليفة العباسي إلا الخطبة والسكة، وقد يقرن المتغلب على قطر اسمه إلى اسم الخليفة في الدعاء، ويضرب السكة باسمه أو باسميهما معاً. وكانت الدولة إلى هذا العهد لا تقوم لها قائمة إلا إذا جمعت بين السلطتين الدينية والدنيوية، فإذا ضعفت إحداهما في القائم بأمر المسلمين، أصاب القوة الثانية ضعف عطلها عن العمل النافع.(1/171)
وكلما اعتمد خلفاء بني العباس على الأعاجم، في ولاية عمالاتهم ومقاطعاتهم وقيادة جيوشهم، كانت الدولة العباسية تقترب من الانقراض، فسدت عصبية العرب كما قال ابن خلدون في بني العباس لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، لاستظهارهم بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية أي التركمان وغيرهم،
ثم تغلب الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة، فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائف في حكمهم. وقال المقريزي: اختص المعتصم الأتراك ووضع من العرب وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته وأعلام دعوته، وكان من عظمت عنده منزلته قلده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة، فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره ويحمل إليه ماله ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وقصد المعتصم ومن بعده من الخلفاء بذلك العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد بعبد الملك بن صالح والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك فقلد اشناس، وقلد الواثق إيتاخ، والمتوكل بغا ووصيف، وقلد المهتدي أماجور وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم، فضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكل فتغلب على النواحي كل متملك.
أحمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى:
وكان من أهم من فتوا في عضد الخلافة أحمد بن طولون في مصر والشام، وكان في ظاهره يظاهر الخليفة، فهو أول متغلب ظفر حقيقة بالانفراد بالسلطة، فما وسع العباسيين إلا مصانعته بعد أن حاولوا محاربته فعجزوا، كانت ديار مصر قد أقطعها بايكباك من قواد الأتراك وكان مقيماً بالحضرة أي في عاصمة الملك فاستخلف بها من ينوب عنها، وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضاً من الأتراك ومن أنسبائه، وقد نشأ بعد والده على طريقة مستقيمة، وسيرة حسنة، فالتمس بايكباك من يستخلفه بمصر فأشير(1/172)
عليه بأحمد بن طولون فولاه المعتز بالله سنة 254 مصر. وفي سنة 264 توفي أماجور بدمشق واستخلف ابنه علي، فحرك ذلك أحمد بن طولون على فتح الشام فكتب إلى عليّ يخبره بأنه سائر إليه
وأمره بإقامة الأنزال والميرة لعساكره، فرد علي بن أماجور أحسن جواب، وخرج ابن طولون في المطوعة من مصر وفلسطين فبلغ الرملة فتلقاه محمد بن رافع خليفة أماجور عليها وأقام الدعوة بها فأقره عليها، ومضى إلى دمشق فتلقاه علي بن أماجور وأقام له بها الدعوة واحتوى على خزائن أماجور وأقام بها أحمد حتى استوثق له أمرها، ثم استخلف عليها احمد بن دوغباش، ومضى إلى حمص فلقيه عيسى الكرخي خليفة أماجور عليها فسلمها إليه، ثم بعث إلى سيما الطويل التركي وهو بإنطاكية يأمره بالدعاء له فلم يجبه سيما، فتحصن بإنطاكية في جيش من الأتراك وغيرهم، وامتنع، فحاصره أحمد ورمى حصنها بالمنجنيق، وطال حصاره لها فاشتد ذلك على أهلها فبعثوا إلى أحمد بن طولون فخبروه بالموضع الذي يمكنه أن يدخل إليها منه فقصده، وعاونه أهلها على سيما فدخلها في المحرم سنة خمس وستين ومائتين فقتل سيما واستباح أمواله ورجاله. وكان قبل نزول ابن طولون على إنطاكية 264 وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروب كثيرة ببلاد جند قنسرين والعواصم، وكان سيما قد عم أذاه أهلها فعاث ابن طولون ساعة بإنطاكية ثم ارتحل يؤم الثغر الشامي، وبهذا استولى ابن طولون على الشام أجمع والثغور وامتد حكمه من مصر إلى الفرات، ومن مصر إلى المغرب، وكان ذلك مدة اشتغال لموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بحرب الزنج.
كان ابن طولون أول من اقتطع جزءاً من المملكة الإسلامية عن الخلافة، وجمع بين ملك مصر والشام في الإسلام، فكان لمن بعده من المستبدين بالنواحي قدوةً ومثالاً. وأخذ يستكثر من مشترى المماليك والديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفاً من الزنج، واستكثر من العرب حتى بلغت عدتهم سبعة آلاف. وذكر بعض المؤرخين أن ابن طولون كان أعد بأمر الخليفة جيشاً مؤلفاً من مائة ألف إنسان لقتال أحد الخوارج على الخلافة في الشام، وكانت
هذه الكتلة من(1/173)
الجند سببا في قوته وسلطانه فأخذ ملك الروم يهاديه ويطلب رضاه لاتساع مملكته ومكانتها بين مملكة الشرق ومملكة الغرب الإسلاميتين، ولم يلبث أحمد بن طولون أن أخذ على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه ويحاربوا من حاربه من الناس جميعاً. وانفرد بخراجها، وأدرك رجال السياسة في بغداد أن ابن طولون التركي لم يقضِ على دولة سيما الطويل التركي حباً بسواد عيون الخلفاء، بل ليستأثر بالأمر دونهم عندما تسنح الفرص.
وكان ابن طولون لعدله وحسن سياسته يفضله الناس على بعض الخلفاء، وفي الحق أنه كان على جانب من العدل، وحسن السيرة، وعلو الهمة وبعد النظر، والتفكر في عمران مملكته حتى زاد خراجها، وكان هديه في ذلك هدي المعتصم العباسي، وكان هذا يحب العمارة ويقول إن فيها أموراً محمودة أولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه. فاستعان ابن طولون بما تدر عليه مصر من الخراج على تقوية سلطانه وكثرت صدقاته، وما يجريه على القراء والفقهاء، حتى كان يرسل كل سنة مائة ألف دينار لفقراء بغداد عدا كساوي الصيف والشتاء وعدا ما يرسل به إلى الثغور وإلى الحرمين.
وجاء المعتضد إلى الخلافة وهو من أعقل خلفاء العباسيين فعرض عليه أبو الجيش خمارويه بن طولون أن يصهر إلى ولي عهد الخلافة ويزوجه ابنته قطر الندى، فقال الخليفة: بل أنا أتزوجها وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار بني طولون لأنهم يضطرون أن يجهزوها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل، وكان
الأمر كما قال، فإنها جهزت بما استفرغ خزائن صاحب مصر والشام. قيل: إنه كان في جهازها ألف هاون ذهبا. . وكانت قطر الندى من أجمل بنات عصرها، وأكثرهن أدباً وفضيلة. وقد عقد لها على المعتضد سنة 281 وشرط المعتضد على أبيها أن يحمل كل سنة بعد(1/174)
القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار. وفي رواية أن المعتضد جعل لخمارويه الصلاو والخراج والصلاة وجميع الأعمال على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلاثمائة ألف للمستقبل، وأن وزير المعتضد عبيد الله بن سليمان سعى مع أبي الجيش خمارويه، على أن يقتصر على حمص ودمشق والأردن وفلسطين ومصر وبرقة وما والاها، وينجلي عما كان في يده من ديار مضر وقنسرين والعواصم وسقي الفرات والثغور، فأجاب إلى ذلك وكتب سجلاً أشهد فيه على المعتضد وعلى خمارويه.
دام ملك أحمد بن طولون في مصر والشام اثنتي عشرة سنة، ومات لست عشرة سنة من ولايته مصر، ولولا سفكه الدماء لعدَّ بعدله وعقله وسخائه من أفراد العالم. ومن الأحداث في عهده ما وقع من العصبية بفلسطين 257 بين لخم وجذام فتحاربوا حرباً أخذت من الفريقين. وما وقع بين الأمير نعمان الذي حصن سور مدينة بيروت وقلعتها وبين المردة في لبنان من قتال على نهر بيروت دام أياماً حتى انهزموا، وقتل بعضهم وأسر بعضاً، فأرسل الرؤوس والأسرى إلى بغداد، فعرض الأمر على الخليفة وأكرموا رُسُله، وكتب المتوكل إليه كتاباً يمدح شجاعته ويحرضه على القتال، وأقره على ولايته هو وذريته، وأرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود، وكتب إليه الموفق وغيره كتباً يمدحونه بها فاشتد أمره وعظم شأنه، وفي بعض الروايات أن القتال على نهر الكلب دام سبعة أيام، فانكسر عسكر المسلمين وقتل المقدم سمعان وأقيم مكانه خاله المقدم كسرى وهو الذي ذهب إلى
القسطنطينية ثم عاد إلى بلاده، وكانت خربت من تواتر الغارات عليها فعمرها وسميت باسمه كسروان. ومنها خروج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي، يقال له بكار بين سَلَميْة وحلب وحمص فدعا سنة 268 لأبي أحمد الموفق، فحاربه ابن عباس الكلابي فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً في عسكر كثيف، فرجع وليس معه كثير أحد.
ومنها مخالفة لؤلؤ غلام ابن طولون على مولاه سنة 269 وكان في يد لؤلؤ(1/175)
حمص وقنسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وسار إلى بالس ونهبها، وكاتب ابن طولون الخليفة المعتمد في المصير إليه، فمنعه الموفق واشتد الخلاف بين الموفق ولي عهد الخلافة وبين ابن طولون، فخلع ابن طولون الموفق من ولاية العهد في مدينة دمشق وأقبل يلعنه على منابر مصر والشام والموفق يلعنه على منابر العراق وما إليها، وابن طولون يوهم أنه ينصر الخليفة.
وفي سنة 269 غزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً وغنم الناس. وبلغ ابن طولون قدوم عرب من الحجاز إلى حوران، فأرسل إلى صحراء أذرعات نحو خمسين ألفاً فتلقاهم الأمير عامر الملقب بالأذرعي بخمسة عشر ألفاً فكسرهم. والأمير عامر هو من نسل الحارث بن هشام المخزومي، الذي أرسله الخليفة الثاني إلى الشام مع أبي عبيدة بن الجراح أميراً على بني مخزوم فسكن ولده حوران وتولوا الأعمال للأمويين، ثم للعباسيين وسموا ببني شهاب نسبة للأمير شهاب المخزومي والي حوران المتوفي سنة 173.
عهد أبي الجيش خمارويه وجيشه:
خلف أحمد بن طولون ابنه أبو الجيش خمارويه، وكان على قدم أبيه في الاستكثار من العَدد والعُدد وترتيب الرواتب الدارة والمشاهرات والجرايات لجيشه وغيره.
وقد بلغ جيشه في الشام ومصر نحو أربعمائة ألف فارس على ما روى بعض أصحاب السير، وهو عدد مبالغ فيه كثيراً والغالب أن جيشه لم يتجاوز المائة ألف، ولا شك أن مثل هذا الجيش، وما يلحقه من الرجالة والمتطوعة تفتح به ممالك الخلافة العباسية كلها. وربما كان جيشه وجيش أبيه من قبله أول جيش جعل على الدوام تحت السلاح.
ولما بايع الجند أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد وفاة أبيه، أمر بقتل أخيه العباس لامتناعه عن مبايعته، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطي على جيش الشام، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر، وبعث بمراكب(1/176)
في البحر لتقيم على السواحل الشامية، فنزل الواسطي فلسطين وهو خائف من خمارويه أن يوقع به لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس، فكتب إلى أبي أحمد الموفق يصغر أمر خمارويه ويحرضه على المسير إليه، فأقبل من بغداد وانضم إليه إسحاق بن كنداج ومحمد بن أبي الساج، ونزل الرقة فتسلم قنسرين والعواصم وسار إلى شيزر، فقاتل أصحاب خمارويه وهزمهم ودخل دمشق، فخرج خمارويه في جيش عظيم، فالتقى وأحمد ابن الموفق بنهر أبي فُطرس واقتتلا، فانهزم أصحاب خمارويه وكان في سبعين ألفاً وابن الموفق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه ومضى خمارويه إلى الفسطاط، وأقبل كمين له، عليه سعد الأعسر، ولم يعلم بهزيمة خمارويه فحارب ابن الموفق حتى أزاله عن المعسكر وهزمه اثني عشر ميلاً ومضى إلى دمشق فلم يفتح له، وسار سعد الأعسر والواسطي، فملكا دمشق، وخرج خمارويه من مصر فوصل إلى فلسطين، ثم عاد إلى مصر، ثم خرج سنة 272 فقتل سعداً الأعسر ودخل دمشق.
قال ابن عساكر: وسعد الأعسر ويقال الأعسر التركي ولي إمرة دمشق من قبل أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون 272، ولما قتل في قصر نخلة فيما بين
الرملة وبيت المقدس اضطرب الناس بدمشق. وكان سعد الأعسر قد فتح طريق الشام للحاج، لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولايته، وكان قد بطل الحج من طريق الشام قبل ثلاث سنين، فخرج سعد إلى الأعراب وواقعهم وقتل منهم خلقاً عظيماً وفتح الطريق للحاج، وكانت وقائعهم في المحل المعروف بالقسطل، فأحبه أهل دمشق، واغتموا لقتله، فصاح الناس بدمشق وضجوا في المسجد الأموي ودعوا على من قتله، وافتتن البلد حتى وافاهم أبو الجيش ابن خمارويه فمهد الأمور وبعث إلى طريق الحاج من أصلحها، وفرق في دمشق مالاً عظيماً على الفقراء والمساكين والمستورين وأهل العلم، ومال إليه أهل دمشق وأحبوه. ولما تغلب الأعراب على بعض النواحي وجه(1/177)
إليهم طباره جي، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم سار أبو الجيش خمارويه لقتال ابن كنداج، ثم اصطلحا وتظاهرا وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح فأجابه إلى ذلك، وكتب له كتاباً بولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات، أي أنه ولاه من الفرات إلى برقة، فأمر خمارويه بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وترك الدعاء عليه بعد أن كان خلعه أبوه من ولاية عهد الخلافة. ثم بلغ خمارويه مسير محمد بن أبي الساج إلى أعماله الشمالية، فخرج إليه ولقيه في ثنية العقاب من دمشق فانهزم أصحاب ابن أبي الساج وثبت هو، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة، واستبيح عسكره قتلاً وأسراً، واتبعه جيش إلى الفرات. وفي ذلك يقول البحتري:
وقد تولت جيوش النصر منزلة ... على جيوش أبي الجيش بن طولونا
يوم الثنية إذ ثنى بكرته ... خمسين ألفاً رجالاً أو يزيدونا
عهد جيش بن خمارويه وظهور القرامطة الطولونية:
وفي أيام خمارويه بن طولون استقامت شؤون الديار المصرية، ومع أن أيام
المعتضد العباسي كانت أيام فتوق فقد حمدت سيرته. وليَ والدنيا خراب، والثغور مهملة، فقام قياماً مرضياً حتى عمرت مملكته، وكثرت الأموال، وضبطت الثغور، وكان قوي السياسة، شديداً على أهل الفساد، حاسماً لمواد أطماع عساكره عن أذى الرعية، محسناً إلى بني عمه من آل أبي طالب. وفي سنة 282 ذُبح أبو الجيش خمارويه في دمشق على فراشه، ولما بلغ المعتضد ذلك قتل من خدمة الذين باشروا قتله نيفاً وعشرين خادماً. وكان مقتل خمارويه في قصره بسفح قاسيون، بعد أن فتح الشام كله، ولم يسع الخليفة إلا إقراره على عمله والاكتفاء بمال يحمل إليه في بغداد، وخلفه ابنه جيش بن خمارويه فخلعه طغج بن جف أمير دمشق سنة 283 واختلف جيش جيشٍ عليه لتقريبه الأرذال وتهديده قواد أبيه، فثاروا عليه وقتلوه، ونهبوا داره ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه في الولاية، وعصى هارون بن خمارويه على الخليفة، وبعد حروب(1/178)
كثيرة عقد الصلح بين الخليفة العباسي وبين هارون سنة 286، فبقيت حلب للخليفة وما زالت الدولة بالفعل بالشام ومصر لبني طولون وبالاسم لبني العباس حتى سنة 292، وقد بعث المكتفي العباسي، مع محمد بن سليمان جيشاً فاستولى على دمشق، ثم سار إلى مصر وذبح بني طولون وهم عشرون إنساناً، ذبحهم بين يديه هم وقوادهم كما تذبح الشياه، وأشخص من أبقى عليه من آلهم وقوادهم إلى بغداد، فانقرضت بذلك الدولة الطولونية.
لا جرم أن روح الطولونيين هي روح العباسيين تطورت بتطور الأقطار التي استولوا عليها. وعلى كثرة ما بذل الطولونيون من أسباب التقرب من خلفاء بغداد لم يسكت العباسيون عنهم. تقربوا إليهم بالصهر والأموال والطاعة فلم يرضوا عنهم. ولما قوي جيش العباسيين قرضوهم وقتلوا قوادهم. وفي استيلاء الطولونيون على الشام شعرت الأمة أنها مستقلة عن العباسيين، وأن في
استطاعتها إذا جهزت لها جيشاً عظيماً كجيش أحمد ابن طولون وابنه خمارويه أن تستقل، لأن قوة بني العباس لم تعد كما كانت، بمعنى أن ابن طولون هتك ستر الخلافة، فطمع فيها عمال الأطراف. والدولة الطولونية دولة عمران، عمرت الأرجاء في أيامها، ورأت مصر والشام أنهما إذا ألفتا حكومة واحدة تصبحان دولة قوية يرهب بأسها. وقد أكثر الشعراء من رثاء الدولة الطولونية ومما قاله بعضهم:
فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزناً على مصر
ليبك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر(1/179)
دور الدولة العباسية الأوسط
الإخشيدية والحمدانية والفاطمية 292 - 364
القرامطة والبوادي والخوارج:
اشتدت شوكة القرامطة 289 في الشام جاءوها من المطرق، وهزموا جيش طغج بن جف أمير دمشق للأمويين بوادي القردان والأفاعي ثم حاصروا دمشق فاجتمعت عليهم العساكر وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ فقام في القرامطة أخوه الحسين وتسمى بأحمد وأظهر شامة بوجهه زعم أنها آيته فسمي بصاحب الشامة، وكثر جمعه فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه، وتقرمط أكثر من حولها من أهل الغوطة وغيرها وعاضدوه، ثم انصرف عن دمشق إلى حمص فغلب عليها وخطبوا له من منابرها وتسمى بالمهدي أمير المؤمنين، ثم سار إلى حماة والمعرة وغيرهما وقتل أهلها حتى الأطفال والنساء وأخذ سلمية بالأمان فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم وأباد أهل بعلبك، وعندها صحت(1/180)
جماعة فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم وأباد أهل بعلبك، وعندها صحت عزيمة الخليفة المكتفي فأرسل من العراق جيشاً، والى الطولونيين فأرسلوا من مصر جيشاً آخر فواقعوهم في كناكر وكوكب، فأصبح القرامطة بين جيشين جيش الطولونيين من أمامهم وجيش الخليفة من ورائهم. وكان من أمر جيش العراق أن وصل من طريق الموصل إلى وادي بطنان قرب حلب وفي جملة قواده أبو الأغر فنزع فيما ذكر جماعة من أصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادي يتبردون بمائه، وكان يوماً شديد الحر، فبينما هم كذلك إذ وافى جيش القرمطي فكبسهم على تلك الحالة فقتل منهم خلقاً كثيراً، وانتهب العسكر وأفلت أبو الأغر في جماعة من أصحابه، فدخل حلب وأفلت معه مقدار ألف رجل، وكان في عشرة آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضمّ إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد
الفراغنة ورجالهم، فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم صار أصحاب القرمطي إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة، ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهى إلى الرقة فنزلها وسرّح الجيوش إلى القرمطي جيشا بعد جيش.
وفي سنة 290 أيضا تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى من سلم منهم نحو البادية فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.
وكان المكتفي عهد بإمارة الشام إلى أحمد بن كيغلغ سنة 291 وصار هذا إلى مصر لقتال الخليجي الثائر، فواقعه بالقرب من العريش فانهزم أقبح هزيمة فطمعت القرامطة في دمشق لغيبة ابن كيغلغ عنها، فنهبوا فيها وساعدهم أن بعض السكان دانوا بمذهبهم، ثم سار القرامطة إلى طبرية 293 وقتلوا أكثر أهلها رجالا ونساء وأولادا. وقال المسعودي: إن القرمطي الذي خرج يكنى أبا غانم وقد خرج في جمع من كلب وقوي أمره وكثر أتباعه، فوجه الخليفة إلى القرامطة الحسين بن حمدان بن حمدون فحاربهم إلى أن ظفر بهم وأحضر رأس صاحبهم إلى بغداد، وكان القرمطي في طريقه إلى طبرية مر بمدينتي بصرى وأذرعات(1/181)
فحارب أهلها ثم أمنهم، فلما استسلموا له قتل مقاتلهم وسبى ذراريهم واستاق أموالهم، ثم نهض إلى دمشق فخرج إليه من كان بقي بها مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بم كيغلغ، فقتل صالحا وفض عسكره، ولم يطمع في دمشق إذ دافعهم أهلها عنها.
وبالحزم الذي أظهره المكتفي في قتال القرامطة بالشام وبالجيوش التي سرحها من بغداد وسرحت له من مصر اضمحل أمر الباطنية، ولم يبق لهم أمل في ملك، وانقض عنهم الأعراب والمتلصصة ومن قال بقولهم وشايعهم على قيام أمرهم:
ولولا الحزم لأوشكوا أن ينشئوا لهم ملكا بالشام، كما حاول الزنج في العراق أن ينشئوا لهم دولة لولا قيام الموفق ولي عهد الخلافة العباسية ذلك القيام المحمود في قمع شأفتهم. وكان ادعى القائمون بالقرمطة الشرف وأنهم يمتون بالقرابة إلى آل البيت. قال بعض المؤرخين: إن القرمطي في الشام المكنى أبا القاسم كان ينتمي إلى آل أبي طالب.
وفي سنة 291 سار نائب طرسوس المعروف بغلام زرافة نحو بلاد الروم ففتح مدينة إنطاكية وقتل خمسة آلاف وأسر مثلهم واستنفد من الأسارى خمسة آلاف وأخذ لهم ستين مركبا فحمل فيها ما غنم من الأموال والمتاع والرقيق وقدر نصيب كل رجل ألف دينار فاستبشر المسلمون بذلك. عاث بنو تميم في أعمال حلب وأفسدوا إفسادا عظيما وحاصروا واليها زكا ابن الأعور. فكتب المقتدر بالله إلى الحسين بن حمدان في إنجاد زكا بحلب، فكانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كلب والنمر وأسد وغيرهم 294 فاجتمعوا عليه وهزموه حتى بلغوا به باب حلب ثم أسر منهم وقتل. وفي سنة 298 كان دخول الروم إلى ساحل الشام فافتتح صاحبهم حصن القبة بعد حروب طويلة وعدم مغيث يغيثهم من المسلمين وافتتح مدينة اللاذقية فسبى منها خلقا كثيرا.
ومن أهم الأحداث ما وقع من الهيج بدمشق في زمن وصيف البكتمري الذي ولي إمارة دمشق في أيام المقتدر بعد هلال بن بدر 316 وفي أيامه خلع المقتدر المرة الثانية ثم رجعت إليه الخلافة فطلب الأولياء من(1/182)
البكتمري البيعة له بدمشق فامتنع عليهم، فركبوا إلى داره بالسلاح والنفاطات. وكانت دار الإمارة في تلك الأيام خارج لؤلؤة الصغيرة على نهر بانياس فأحرقوها وبقيت عرصته. وفي هذا الدور سار 319 طريف بن عبد الله السبكري الخادم والي حلب إلى بني القصيص التنوخيين وحاصرهم في حصونهم باللاذقية وغيرها فحاربوه حربا شديدة ثم نزلوا
على الأمان.
ومن أهم الكوائن في خاتمة القرن الثالث ظهور ابن الرضا وهو محسن ابن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في أعمال دمشق، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة فقتل صبرا، وقيل قتل في المعركة وحمل رأسه إلى مدينة السلام فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي ذكر ذلك المسعودي. ولو تم الأمر لابن الرضا لقامت دولته قبل دولة الفاطميين.
الدولة الإخشيدية:
ظن بنو العباس أنهم نجوا من ثائر يناصب دولتهم العداء في الشام ومصر يوم قضوا على أبناء طولون وقوادهم وقرضوا الدولة الطولونية آخر الدهر، وقتلوا ابن الرضا القائم بتأسيس دولة علوية جديدة، كما قتلوا القرمطي القائم بدعوة متدرعة بالعلوية، وقضوا على صاحب الزنج في البصرة، وما كانوا يظنون أن تظهر لهم في الحال دولة أخرى قامت على أنقاض الطولونية وإن لم تكن مثلها استعدادا وعدلا فليست دونها من أكثر الوجوه والاعتبارات. ظهرت لهم الدولة الإخشيدية أو دولة بني طغج. والإخشيد كلمة فارسية معناها ملك الملوك ومعنى طغج عبد الرحمن، ورأس هذه الدولة أبو بكر محمد بن طغج بن جف بن بلتكين بن فوري ابن خاقان. وكان جف جد الإخشيد قد سار من فرغانة إلى المعتصم العباسي، فأكرمه وأقام معه إلى أن توفي المعتصم، فصحب ابنه الواثق إلى أن توفي، ثم صحب أخاه المتوكل إلى أن توفي جف. ولما توفي ابن طولون صار طغج مع ابنه أبي الجيش فولاه دمشق وطبرية إلى أن(1/183)
قتل أبو الجيش. ولما بويع هارون بن أبي الجيش، ولى طغج دمشق وطبرية، وتولى طغج قتال صاحب الخال القرمطي سنة تسعين ومائتين إلى أن ظفر به. وكان لطغج من الولد سبعة ذكور الإخشيد أحدهم.
ولم يزل طغج على دمشق وطبرية وابنه محمد المعروف بالإخشيد يخلفه على طبرية. وكان بطبرية أبو الطيب محمد بن أبي حمزة العلوي، وكان وجه طبرية شرفا وملكا وقوة وعفافا. فكتب الإخشيد إلى أبيه طغج يذكر له أنه ليس له أمر ولا نهي مع أبي الطيب العلوي، فكتب إليه أبوه: أعز نفسك. فأسرى محمد بن طغج على أبي الطيب في بستان له فقتله. ولم يزل طغج أيام أبي الجيش على دمشق وطبرية وأيام جيش وأيام هارون ابن أبي الجيش إلى أن قتل هارون وانقرضت الدولة الطولونية. فمات طغج في حبس العباس بن المحسن وزير العباسيين، ونجا من محبسه بعد مدة ابنه الإخشيد، وهرب إلى الشام قاصدا أحمد بن بسطام عاملها، وبقي معه يخدمه ثم تقلد ابن بسطام مصر فسار معه الإخشيد، وكان معه إلى أن توفي سنة سبع وتسعين ومائتين، فصار مع ابنه أبي القاسم علي وحضر الإخشيد مع تكين الخاص وقعة حسن فيها أثره، فولاه تكين عمَّان وجبل الشراة. واتفق له وهو على عمان والشراة في سنة 306 أن حاج الشام، وفيهم جماعة من أهل العراق قعد له جمع من لخم وجذام فجمع عسكره ولقيهم ومعه أخوه علي بن طغج فهزمهم فصار له شأن في العراق وذاعت كفايته وأمانته.
وتقلد محمد بن طغج الملقب بالإخشيد مصر من جهة الراضي، وكان قبل ذلك تولى مدينة الرملة سنة 316 من جهة المقتدر وأقام بها إلى سنة 318 فوردت إليه كتب المقتدر بولايته دمشق فسار إليها وتولاها، وكان حينئذ المتولي على مصر أحمد بن كيغلغ، فلما تولى الراضي عزل أحمد بن كيغلغ وولى ابن طغج مصر وضم إليها البلاد الشامية، فاستقر ابن طغج بها سنة 323 وما نشب - وهو يتولى أعمال المعاون في الشام علاوة على أعمال المعاون في مصر، وقلد بدراً الخرشني دمشق، وأحمد بن سعيد الكلابي شيخ قبيلة بني كلاب حلب، حتى كثر بذلك الكلابيون(1/184)
وزاد نفوذهم - أن خلع طاعة الخليفة العباسي، فندب الخليفة محمد
بن رائق إلى الشام وأقطعه إياها على أن يستخلصها من الإخشيدية، فاستولى ابن رائق سنة 328 عليها وطرد بدراً نائب الإخشيد وولي إمرة دمشق محمد بن يزداد الشهرزوري، فلم يزل عليها إلى أن قتل محمد بن رائق بالموصل 330 فقدم الإخشيد محمد بن طغج فاستأمن إليه محمد بن يزداد فأقره على إمرة دمشق خلافة له. وبلغ ابن رائق العريش يريد مصر، فخرج إليه الإخشيد واقتتلا فانهزم ابن رائق إلى دمشق.
ثم جهز الإخشيد إلى ابن رائق جيشا مع أخيه واقتتلوا، فانهزم عسكر الإخشيد وقتل أخوه، فأرسل ابن رائق يعزي الإخشيد في أخيه ويقول له: إنه لم يقتل بأمري، وأرسل ولده مزاحم وقال له: إن أحببت فاقتل ولدي به. فخلع الإخشيد على مزاحم وأعاده إلى أبيه. فاستقرت مصر للإخشيد إلى حد رملة فلسطين، والشام لابن رائق من طبرية. وفي السنة التالية بعث الإخشيد من مصر قائده كافورا إلى الشام في جيش عظيم، فهزم عامل ابن رائق واستولى على حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي وقطعت الأشجار التي كانت بظاهر حلب وكانت عظيمة جداً، ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذاهم.
وبعد سنة عقد الصلح بين الإخشيد وابن رائق، فاستأثر هذا بولاية حلب، وانفرد الإخشيد بدمشق يصادر أغنياءها ويستصفي أموالها، وكان ظالما مستبدا. وقد وجد بداره قبل مسيره عن مصر إلى الشام رقعة مكتوب عليها: قدرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت عليكم الأرزاق، فقطعتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفوا أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات، وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجعتموها، وأجساد أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل، ولو دامت
لمن مضى ما نالها من بقي، فكفى بصحبة ملك يكون في زوال ملكه فرح للعالم، ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى(1/185)
منهم أحد، ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قالوا: وقد بقي الإخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر، وسافر إلى دمشق فمات فيها سنة 334 ولم تطل دولته غير سنتين، فهو في الحقيقة مؤسسها سنة 323 وأيام حكمه من حيث المجموع كانت إحدى عشرة سنة سافر فيها خمس مرات من مصر إلى أعداء يقاتلهم. لما زحف عليه سيف الدولة بن حمدان فخف إليه واقتتلا بقنسرين ثم اصطلحا وتصاهرا وتقاربا.
وفي أواخر أيام الإخشيديين 352 خرج في برية الشراة خارجي من بني سليم يسمى محمد بن أحمد السلمي، واجتمع إليه خلق كثير من العرب ومن غيرهم ومن أهل الطمع، وقوي أمره وكثر جمعه، فبلّغ كافور الإخشيد خبره وكان الشام يومئذ بيده، فأنفذ عسكراً خوفاً من حادث يحدث، وتقدم إلى أصحابه أن لا يبتدئوه بحرب ولا قتال، وطال مقامه وإياهم على تلك الحال، فأسرى إليه في بعض الليالي رجل من العرب يعرف بثمال الخفاجي من بني عقيل وأخذه أسيراً وحمله إلى مصر فشهر بها راكباً فيلاً، واعتقل مدة ثم عفي عنه وخلي سبيله.
ولما تفرد كافور بالأمر 355 جعل الحسن بن عبيد الله بن طغج على الشام مستخلفاً من قبله، وكان في بيت المقدس وال يعرف بمحمد ابن إسماعيل الصنهاجي اضطهد بطريق القدس، وكان أبي مقابلته فهجم عليه الوالي في أشياعه وأحرق أبواب كنيسة القيامة، وسقطت قبتها، ونهبوا كنيسة صهيون وأحرقوها. قال ابن بطريق: وهدم اليهود وخربوا أكثر من المسلمين، ثم قتل البطريق ولما مات كافور 356 ونصب مكانه أحمد بن علي الإخشيد، وكان عمره إحدى عشرة
سنة، على أن يخلفه ابن عم أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج وكان بالشام، فوقع الخلاف بين الإخشيدية، وصار كل واحد يتسمى بالأمير وكثر التحاسد، فكتب جماعة منهم إلى المعز الفاطمي صاحب المغرب يستدعون منه إنفاذ(1/186)
جيشه إلى مصر ليتسلمها، وضمنوا له المعونة، وعلى هذا انتهت أيام الإخشيديين.
الدولة الحمدانية:
بعث الخليفة العباسي محمد بن رائق لينقذ الشام ومصر من الإخشيد محمد بن طغج، فلم يضرب ابن رائق ابن طغج ضربة قاسية، واكتفى بأن ترك له مصر إلى الرملة، رملة فلسطين 329 وقعد في القسم الأكبر من الشام - مقابل جزية سنوية قدرها مائة وأربعون ألف دينار - أميراً يحاول أن يقيم له فيه دولة، عصى بالشام فقام يناجزه ناصر الدولة ابن حمدان القتال، وكان هذا استأثر بالموصل والجزيرة، فقتل ابن رائق 330 وكتب بالأمر إلى الخليفة المتقي بالله، فحل ذلك من نفسه محلاً عظيماً، ولقبه ناصر الدولة ولقب شقيقه علياً سيف الدولة وهذا هو صاحب الدولة التي اشتهر أمرها في حلب وما إليها. وبنو حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية.
سار سيف الدولة 333 إلى حلب فلقي فيها يأنس المؤنسي، ففارقها يأنس، واستأمن إليه في قطعة من الجيش، فاستولى عليها سيف الدولة، وسار إلى دمشق وأقام الدعوة للمستكفي ولأخيه ولنفسه، فخلع المستكفي على سيف الدولة وعلى الإخشيد لأن هذا أقام الخطبة له بمصر وما تحت حكمه من الأصقاع. ولما بويع للمطيع بالخلافة سار مع الإخشيد وابن حمدان بسيرة المستكفي على قدم التوازن السياسي، فكتب إلى الإخشيد بالتقليد، فتكافأ الإخشيد وسيف الدولة، وهدأت الفتن واستقامت الطرق.
ولما بلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص جرد عسكراً كبيراً وجعل عليه
أربعة قواد، فساروا إلى دمشق وعبوا عساكرهم، ثم ساروا إلى حمص، فالتقوا مع سيف الدولة بالرّستن من أرض حمص فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق ثم خرجوا عنها يريدون الرملة، ثم قصدوا إلى مصر وسار سيف الدولة في إثرهم يريد دمشق، وكتب إلى(1/187)
جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين كتاباً قرىء على منبر جامعها وفيه:
وقد علمتم أسعدكم الله، تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة، وسبيهم وقتلي فيهم، وأخذي أموالهم، وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القوانين؟ في هذه السنة، وما أولانا الله وخولناه، وأظفرنا به، واستعملت فيهم السّنّة في قتال أهل الله فما أتبعت مدبراً، ولا ذففت على جريح، حتى سلم من قد رأيتم، وقد تقدمنا إلى وشاح بن تمام بصيانتكم وحفظكم، وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين، وإقامة الأسواق، والتصرف في المعاش، إلى حين موافاتنا إن شاء الله.
كتب الرجحان لجيش سيف الدولة على جيش الإخشيدية، وسار كافور بعساكر مولاه إلى مصر، فأقام سيف الدولة بدمشق وجبى خراجها، وجعل يطالب أهلها بودائع الإخشيد وأسبابه، وكان أحداث دمشق قد نهبوها في يوم موت الإخشيد، وظن ابن حمدان أن الأمر تم له فجمع إلى ملكه في الجزيرة ملك الشام، وربما تطالّ بعد ذلك إلى مصر ولم يعرف ما خبأته له الأقدار حتى زحزحته عن ملك دمشق، واقتصرت دولته على حلب وما إليها. وذلك أنه اتفق أن كان يسير هو والشريف العقيقي بضواحي دمشق، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد. فقال له العقيقي: هي لأقوام كثيرة فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبرءوا منها.
فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه من مصر، فجاءهم ومعه أنوجور بن الإخشيد فخرج سيف الدولة إلى اللّجون، وأقام أياماً قريباً من عسكر
الإخشيدية بقرية أكسال وكان في خمسين ألفاً، وتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به الإخشيدية فرجعوا، وركب سيف الدولة فرآهم زاحفين في تعبية، فعاد إلى عسكره فأخرجهم فنشبت الحرب فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك، وانهزم سيف الدولة إلى دمشق وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالوقعة 335 وجاء إلى حمص وجمع جمعاً لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني(1/188)
كلب وبني كلاب، وخرج من حمص، وشخص عساكر الإخشيدية من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء على ساعتين من دمشق، وكانت الوقعة أولاً لسيف الدولة ثم آخرها عليه، فانهزم وملكوا سواده، وتقطع أصحابه فهلكوا وتبعوه إلى حلب فعبر الرقة.
لم يستطع سيف الدولة بعد وقعة أكسال ومرج عذراء أن ينال من الإخشيدية، وبقيت لهم دمشق وما وراءها حتى مصر لأن أهل دمشق خافوا من مصادرات سيف الدولة، يوم طالبهم بودائع الإخشيد وأحب أن يملك غوطتهم، فقلبوا له ظهر المجن، ولم يغنه جيشه العظيم لانصراف القلوب عنه، فاقتضى له أن يقاتل جيشين: جيش الطامعين في تلك الديار وجيش البلاد نفسها، وظلت حلب لسيف الدولة لأنه لم يأت فيها باديء بدء ما أتاه من أفعال الظلم. وحلب أقرب إلى مهد عصبيته وهي الثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار بكر. واصطلح سيف الدولة والإخشيد وصاهره وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وإنطاكية، ومن الأحداث في هذه الحقبة أن شبيب بن جرير العقيلي تقلد عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال - على عهد كافور فعلت منزلته واجتمعت إليه العرب وكثرت حوله وسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها وغلقت أبوابها، فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلى يشغلهم بهم، ودار هو
حتى من الحميريين على القنوات حتى انتهى إلى باب الجابية وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها فهلك وانهزم أصحابه لما رأوا مصرعه فخالفوا إلى الموضع الذي دخلوا منه فأرادوا الخروج منه فقتل أربعمائة فارس وبضعة عشر. وكانت علائق الإخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الإخشيديون وهم عجم بشحهم، والحمدانيون العرب بكرمهم، وكان الإخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون يرون رأي الشيعة.(1/189)
مغازي سيف الدولة:
كان سيف الدولة يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، ولطالما حارب الروم وغزاهم، ومن الأحداث في أيامه إحراق حصن فامية سنة 338 نازله الدوقس في ثلاثين ألفا وحاصره سبعة أشهر وأشرف على أخذه فدفعه عنه صمصامة والي دمشق فقتل الدوقس وقتل من عسكره أربعة عشر ألفا وأسر منهم خلق كثير وكسروا بعد أن ظهروا. ومنها أخذ سيف الدولة حصن برزويه من الأكراد بعد أن قاتلهم مدة. وفي السنة التالية خرج بسيل ملك الروم إلى الشام وفتح شيزر بالأمان لقلة رجالها. وفي سنة 345 سار سيف الدولة إلى الروم فغنم وسبى وفتح عدة حصون ورجع إلى أذنة فأقام بها ثم ارتحل إلى حلب. ومن غزواته غزوة سنة 349، أوغل في الروم وفتح حصوناً، فلما أراد الخروج من أرضهم أخذوا عليه الدرب الذي أراد الخروج منه، فقطعوا الأشجار وسدوا بها الطرق ودهدهوا الصخور في المضايق على جيشه، والروم وراء الناس مع الدمستق يقتلون ويأسرون. وكان مع سيف الدولة أربعمائة أسير من وجوه الروم فضرب أعناقهم، وعقر جماله وكثيراً من دوابه. وأحرق الثقل وقاتل قتال الموت ونجا في نفر يسير قيل في ثلاثمائة من غلمانه، واستباح الدمستق أكثر الجيش وأسر الأمراء والقضاة، ووصل سيف الدولة إلى حلب ولم يكد، وكان جيشه ثلاثين ألفا. وأرسل
الدمستق إلى سيف الدولة يطلب الهدنة فلم يجبه إليها مع ما حل به منه، ثم جهز سيف الدولة جيشاً فدخلوا بلد الروم من ناحية حران فغنموا وأسروا، وغزا أهل طرسوس أيضا في البر والبحر، ثم سار سيف الدولة من حلب إلى آمد ديار بكر فحارب الروم وخرب الضياع. قال مسكويه في وقعة 349: وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا، والسبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة، أن هذا الرجل كان معجباً، يحب أن يستبد برأيه، وألا تتحدث نفسان أنه عمل برأي غيره، وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم، لأنهم علموا أن الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه(1/190)
وشحنوه بالرجال، فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم، وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه.
وأغار الروم مرة على أطراف الشام فسبوا وأسروا، فساق وراءهم سيف الدولة ولحقهم فقتل منهم مقتلة واسترد ما أخذوه. واستولى الروم سنة 351 على حلب دون قلعتها وعلى الحواضر، وحصروا المدينة وثلموا السور، وقاتل أهلها الروم أشد قتال فتأخر الروم إلى جبل جوشن، ثم وقع بين الحلبيين نهب فلم يبق على السور أحد، فهجم الروم على البلد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السيف وسبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية وغنموا كثيراً وأحرقوا ما بقي. وكان سيف الدولة غائباً وقاتل الدمستق عند عودته فقتل غالب أصحابه، وظفر الدمستق بدار سيف الدولة في الدارين من أرض حلب فأخذ منها ثلاثمائة وخمسين بدرة من الدنانير ما عدا السلاح والدواب. وكانت عدة عسكر الروم مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألفاً بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد. وفي رواية أن جيش الروم كان ثمانين ألف فارس ما عدا السواد وهو كثير جداً، وأن سيف الدولة نادى في حلب من لحق بالأمير فله دينار، وأنه انهزم إلى ناحية بالس بعد أن قتل من جيشه من أهل حلب مدة ستة أيام جملة
كثيرة من الناس. قال الذهبي: وقتلوا الأسرى ثم عادوا إلى القلعة فإذا طلائع قد أقبلت نحو قنسرين، وكانت نجدة للروم، فتوهم الدمستق أنها نجدة لسيف الدولة فترحل خائفاً.
وفي سنة 355 سار صاحب الروم إلى الشام فعاث وأفسد، وأقام به نحو خمسين يوماً فنزل على منبج وأحرق الرّبض وخرج إليه أهلها، فأقرهم ولم يؤذهم، ثم سار إلى وادي بطنان وسار سيف الدولة متأخراً إلى قنسرين، وقد ضيق رجاله والأعراب الخناق على الروم، وأخذت(1/191)
الروم أربع ضياع بما حوت، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالاً يعطيه إياه في ثلاثة أقساط فقال: لا أجيبه إلا أن يعطيني نصف الشام، فإن طريقي إلى ناحية الموصل على الشام. فقال سيف الدولة: لا أعطيه حجراً واحداً. ثم جالت الروم بأعمال حلب، وتأخر سيف الدولة إلى ناحية شيزر، وأنكب العرب في الروم غير مرة وكسبوا كثيراً، ونزل عظيم الروم على إنطاكية يحاصرها ثمانية أيام ثم رحل عنها.
قل المنتقضون على سيف الدولة لبطشه، وممن خالفه بنو كلاب 343 فحاربهم وكان اصطنعهم حتى استطالوا على العرب، وأوقع ببني عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب حين عاثوا في عمله وخالفوا عليه. وهذه الغزوات تعد في باب المناوشات لا الحروب مثل غزوة سيف الدولة للمبرقع الذي دعا الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرى سيف الدولة من حلب حتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق فأوقع به ووضع السيف في أصحابه فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل وبين يديه رأس الخارجي على رمح. وممن خالفه أهل إنطاكية سنة 354 وعليهم رشيق النسيمي فسار إلى جهة
حلب وحاصر قلعتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وقاتل قرعويه غلام سيف الدولة وعامله قتالاً شديداً، وكان هذا بميافارقين، فأرسل عسكراً مع خادمه بشارة فقتل رشيق وهرب أصحابه إلى إنطاكية، ولما عاد سيف الدولة اجتمع على حرب ابن الأهوازي والديلمي اللذين قاما مقام رشيق، فقتل هذا الثائران، وقتل من ولاتهما وقضاتهما وشيوخهما خلق.
وذهب قرعويه إلى إنطاكية فجرت بينه وبين الديلمي وقعة انهزم فيها قرعويه وعاد إلى حلب، وسار الديلمي في أثره إلى حلب، فلقيه أصحاب قرعويه ودفعوه إلى إنطاكية. قال ابن قاضي شهبة في حوادث سنة 355: إن أهل إنطاكية خرجوا عن طاعة سيف الدولة لاشتغاله بنفسه، فتفرغ لهم وقاتلهم قتالاً شديداً ثم انتصر وأسر خلائق من أهلها، فصادر أعيانهم(1/192)
وأخذوا خطوطهم بأموال عظيمة وقتل خلقاً منهم، حتى قيل: إنه قتل نحو خمسة آلاف رجل، وكتب إلى ولده أبي المعالي كتاباً يبشره بذلك وقال فيه: ما شاهدت عسكراً، على كثرة مشاهدي للحرب، استولى على جميع رؤسائه وأتباعه مثل هؤلاء، ولا غنم عسكر مثل ما غنم منهم.
وسار ملك الروم بجيوشه إلى الشام 355 فعاث وأفسد، وقيل: إن أهل إنطاكية راسلوه وبذلوا له الطاعة وأن يحملوا إليه مالاً، وكان الذي حركه وأحنقه إحراق بيعة القدس، وكان البطريق كتب إلى كافور صاحب مصر يشكو قصور يده عن استيفاء حقوق البيعة، فجاءه من الناس ما لم يطق دفعه وقتل البطريق، وأحرقت البيعة وأخذوا زينتها، فراسل كافور ملك الروم بأن يرد البيعة إلى أفضل ما كانت فقال: بل أنا أعيدها بالسيف. فلما خرج ملك الروم أصعد سيف الدولة أهل المدينة إلى قلعة حلب، وانجفل الناس وعظم الخطب، وأخليت نصيبين، ونزل صاحب الروم على منبج وأحرق الربض، وخرج إليه أهلها فأقرهم ولم يؤذهم، وأنكت العرب في الروم غير مرة وكسبوا ما لا يوصف، وحاصر الروم إنطاكية ثمانية
أيام ليلاً ونهاراً، وبذل الأمان لأهلها فأبوا فقال: أنتم كاتبتموني ووعدتموني، فردوا عليه رداً قبيحاً وحاربوه أشد حرب.
محاسن سيف الدولة ومقابحه:
توفي سيف الدولة بن حمدان سنة 356 بعد أن غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، فحفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في الشام، وربما استصفوها كلها بعد ما ثبت من ضعف العباسيين. وكان جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده فنفذت وصيته في ذلك. ترجمه الأزدي بقوله: كان معجباً برأيه، محباً للفخر والبذخ، مفرطاً في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه، والعجب بآرائه،(1/193)
سعيداً مظفراً في حروبه، جائراً على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.
نعم كان سيف الدولة جائراً على رعيته يخرب قرية ليجيز شاعراً، ولما تربع في دست الملك بحلب استكثر من القصور له ولآله وقواده، وجعلها كحضرة بني العباس كعبة العلم والأدب، فوافاه الشعراء والعلماء من الأقطار، وكان كريماً مفضلاً خصوصاً على مداحه. ينفق نفقات طائلة على علماء بغداد ومهاداة وزرائها وأرباب النفوذ فيها، فكان حماته في دار الخلافة كثاراً استمال بهم الرأي العام البغدادي، فرضي الخلفاء ولم يخالفوه لأنه أبقى لهم الخطبة وإن ضرب السكة باسمه.
ولقد استحل سيف الدولة للقيام بهذه الأبهة الضخمة في مملكته الصغيرة مصادرة رعيته، فكان قاضيه أبو الحصين يقول: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك ولذلك كثرت مصادرة كل غني من التجار وغيرهم، فخربت الأصقاع الشمالية في أيامه. وذكر المؤرخون أن أبا الحصين الرقي قاضي حلب قتل في إحدى المعارك، فداسه سيف الدولة بحصانه وقال: لا رضي الله عنك فإنك كنت تفتح لي أبواب
الظلم. على أن هذا لا ينجي سيف الدولة من المؤاخذة لأنه كان يتيسر له صرفه عن القضاء، وليس أبو الحصين من أرباب العصبيات حتى يخافه. ومن كثرة مظالم سيف الدولة أن بني حبيب وهم أبناء عم بني حمدان، كانوا ينزلون نصيبين فأكبَّ عليهم بنو حمدان بصنوف الجور، حتى خرجوا بذررايهم في اثني عشر ألف فارس إلى الروم. وتنصروا بأجمعهم، ثم عادوا إلى بلاد الإسلام على بصيرة بمضاره، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقداً على ما قال ابن حوقل، وأخذوا يخربون القرى في الجزيرة والشام وأطمعوا صاحب الروم بإنطاكية وحلب.
وكانت لسيف الدولة طرق غريبة في الرحمة، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء، ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين ديناراً حتى نفد ما عنده من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته درعه الجوهر المعدومة(1/194)
المثل ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح. قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة. ومن حسناته أنه أنفق في سنة 355 على فداء الأسرى خمسمائة ألف دينار، وكان ورث هذا المبلغ من أخته.
وذكر المؤرخون أنه كان يقف على مائدة سيف الدولة أربعة وعشرون طبيباً، لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه، وأنه كان من أهل الأدب وغيرهم من يتناول رزقين وثلاثة. وفي باب كرمه وإسرافه غرائب، منها أنه أنفق تسعمائة ألف دينار في جهاز ابنته وعرسها، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثون ديناراً وعشرون وعشرة. قال الأزدي: ويقال إنه جاد بما لم يجد به أحد. قالوا: إنه كان لا يملك نفسه، ويجود بكل ما لديه إذا قصده من يريد إكرامه، كل هذا على ما فيه من
المفاخر يحمل في مطاويه الظلم وإعنات الرعية. فسيف الدولة ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وحسناته أكثر.
ابتداء الدولة الفاطمية:
كان كافور آخر ملوك الإخشيديين مملوكاً حبشياً ذا عقل ودراية وحسن إدارة، استولى بالفعل على زمام الحكم في مصر والشام على عهد أبي القاسم أنوجور محمود وأبي الحسن علي، ولدي محمد بن طغج الإخشيدي رأس الدولة الإخشيدية، ثم تولاه مستقلاً بنفسه، وقام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد، بمعنى أن الدولة الإخشيدية امتدت أربعاً وثلاثين سنة من سنة 323 إلى 357 ولما آذنت شمسها بالأفول انتشرت الفوضى في المملكة، فرأى عقلاء مصر أنه لا ينجيها مما صارت إليه إلا إلقاؤها في أحضان دولة قوية فتية تنقذ الأمة من بلائها، وكان للقائم بالدولة الفاطمية أو العُبَيدية التي نشأت في المغرب وامتد سلطانها هوى في هبوط مصر ففاوضوه في أمرها، وكان حاول غير مرة أن يستولي عليها فرده عنها جيش بني العباس.
وبلغ المعز الفاطمي اختلاف الأهواء وتفرق الآراء، فجهز العسكر(1/195)
إليها بإشارة المصريين، فهربت العساكر الإخشيدية من القائد جوهر الذي جاء مصر في مائة ألف محارب وألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب والفضة، واتفق أن ورد القرامطة إلى دمشق، وأتوا عليها وعلى سائر أعمالها، وساروا إلى الرملة ولقيهم الحسن بن عبيد الله بن طغج، ووقع بينهم حرب عظيمة بظاهر الرملة في ذي الحجة سنة 357، فانهزم ابن عبيد الله من الشام ودخل إلى مصر، فاستولت القرامطة على الرملة واستباحوها، فقاطعهم أهلها على مائة وخمسة وعشرين ألف دينار، شروا بها أنفسهم منهم وأخذوا من أعمالهم بشراً كثيراً. وإذ رأى الروم أن مصر قد عبثت بها الفوضى، وأن الشام في ضعف ووهن، أغاروا على الشام
358 فقتلوا وسبوا في حمص والثغور وقتلوا خلائق وسبوا نحو مائة ألف إنسان، وخاف المسلمون، ولم يشكوا في أن الروم يملكون الشام ومصر والجزيرة وديار بكر لخلو الجميع عن المانع. فأقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي. قال المسبّحي: لما استقر المعز بمصر انفرد بها ولم يدخل تحت طاعة الخلفاء العباسية وادعى الخلافة لنفسه بمصر وقال: نحن أفضل من الخلفاء العباسية لأننا من ولد فاطمة بنت رسول الله. ولما استقرت قدم جوهر بمصر، سير جمعاً كثيراً مع جعفر بن فلاح إلى الشام فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبيد الله بن طغج، وجرت بينهما حرب أُسر عقيبها ابن طغج واستولى جعفر على فلسطين، وجبى أموالها ثم سار إلى طبرية، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله، فجهز منها من استمال من بني مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه، فواقعوا بني عقيل وهزموهم إلى أرض حمص، وسار هو من طبرية إلى دمشق، فقاتله أهلها فظفر بهم وملكها بعد فتن وحروب ونهب بعضها وأحرق الآخر. وأقام الخطبة للمعز سنة 359 وقطعت الخطبة العباسية، واستقرت دمشق للمعز الفاطمي. وأصبح بنو عبيد الفاطميون خلفاء مصر والشام والمغرب.
وكان رئيس الثورة بدمشق سيدها وصدرها في عصره أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي العباسي. فأخذه جعفر بن فلاح وشدَّه على جمل،(1/196)
وفوق رأسه قلنسوة، وفي لحيته ريش، وبيده قصبة وبعث به إلى مصر. وضرب الفاطميون على دمشق دية عم الناسَ البلاء في جبايتها، وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم، وضرب أعناقهم وصلب جثثهم، وعلق رؤوسهم على الأبواب.
وفي سنة 360 أنفذ جعفر غلامه فتوحاً على عسكر إلى إنطاكية، وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين، وسير إلى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال، وبعث عسكراً بعد عسكر إلى إنطاكية، وكان الوقت شتاء فنازلوها
حتى انصرم الشتاء وهم مُلِحُّون في القتال، فلم يظفر بطائل، وانهزم عسكره آخر الأمر وقتل منهم كثيرون. وبلغ جعفر بن فلاح مسير القرامطة إلى الشام وقد أمدّهم صاحب بغداد لقتال جيش الفاطميين فاستهان بهم وواقعهم. فانهزم منهم قرب دمشق وقتل في المعركة، وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا إلى الرملة فملكوها واجتمع إليهم كثير من الإخشيدية. قتل القرامطة جعفر بن فلاح مخافة أن يفوتهم حمل المال الذي كان تقرر بينهم وبين ابن طغج، وهو ثلاثمائة ألف دينار في السنة، وساروا يريدون الرملة، وعليها سعادة بن حيان فالتجأ إلى يافا، ونزل عليه القرمطي، وقد اجتمعت إليه عرب الشام فناصبها القتال حتى أكل أهل المدينة الميتة وهلك أكثرهم جوعاً، وسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين غنمتهما مراكب الروم.
اصطلح قرعوية 360 مولى سيف الدولة بن حمدان متولي حلب وأبا المعالي شريف بن سيف الدولة، فخطب له قرعوية بحلب، وخطبا في معاملتيهما لإمام المعز الفاطمي بحلب وحمص. بمعنى أن بني حمدان وهم شيعة أسرعوا في نزع أيديهم من أيدي العباسيين، ووضعوا أيديهم في أيدي الفاطميين الشيعة، بيد أن الفاطميين لم يجدوا نصيراً قوياً في الشام، لأن السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة كانوا يخالفونهم في مذهبهم، وقد بلغهم ما صارت إليه مصر من تغيير مذهب أهلها ومصطلحهم في(1/197)
أذانهم وصلواتهم، فشق عليهم ذلك وعزموا أن يقفوا للفاطميين بالمرصاد. ومن ذلك ما وقع سنة 361 من التقاء سعد أمير عرب الشام بحسان بن جراح الطائي في عربه، واتفقا على أن ينزعا حكم مصر من الشام، وكان جيش المعز حارب عرب الشام في حوران حرباً دامية، فأرسل المعز إلى حسان ووعده بمائة ألف دينار إن خذل أمير الشام. ولما دارت الحرب بينهما
انهزم حسان بالعرب فضعف جانب سعد وقوي عليه المعز وكسره. وقطعت خطبة المعز من دمشق أيام القرامطة وبقيت إلى أن استردها سنة 363 وأرسل المعز قائده ظالم بن موهوب والياً على دمشق فعظم أمره وكثرت جموعه ثم وقع بينه وبين أهلها فتن دامت إلى سنة 364.
وتفصيل ذلك أن المعز سير القائد أبا محمود يتبع القرامطة فنزل بظاهر دمشق، وامتدت أيدي أصحابه بالعبث والفساد وقطع الطرق، فاضطرب الناس وخافوا، فوقعت فتنة عظيمة بين عسكره وبين العامة، وجرى بين الطائفتين قتال شديد وظالم بن موهوب مع العامة، فأحرق جانب من المدينة وهلك جماعة من الناس، وعادت الفتنة بعد أن اصطلح المتقاتلون إلى شدتها بينهما 364 واتفقوا على إخراج ظالم من البلد، ووليه جيش بن الصمصامة، وعاد المغاربة أي جيش الفاطميين وعاثوا وأفسدوا فثار العامة وقاتلوهم، ثم زحف جيشه في العسكر إلى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم، وأحرق من المدينة ما كان سلم، ودام القتال بينهم أياماً، فاضطرب الأهلون وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد، وانقطع الماء والميرة عن البلد، وهلك الفقراء على الطرقات جوعاً وبرداً، ووصل الخبر إلى المعز فأنكر ذلك واستبشعه، فأرسل إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أُمور أهلها.
واتفق أن أفتكين غلام عضد الدولة انهزم في خلال هذه الأيام من المدائن فنزل على حمص في طائفة من الترك والأعراب، وكان الأحداث قد غلبوا على دمشق وليس للأعيان معهم حكم، فخرج أشرافها وشيوخها يظهرون السرور بمقدم أفتكين ويبايعونه على الطاعة لينقذهم من المصريين، فنزل على دمشق وأخذها من ريان الخادم. وأقام العدل في الناس وكفَّ(1/198)
أيدي الأعراب الذين كانوا عاثوا في الأرض فساداَ، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ودخل البلد وخطب للطائع العباسي، وأبان
في جميع مواقفه عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير، فأذعنت له العرب، وأقطع الأرضين، وكثر جمعه، وتوفرت أمواله وثبتت قدمه، وكاتب المعز يداريه ويظهر له الانقياد.(1/199)
دور الفاطميين
من سنة 364 - 394
الدول الثلاث وغزوات الروم:
تقلبت على الشام ثلاث دول في مُدَد متقاربة، وهي الإخشيدية والحمدانية والعبيدية. انبثقت الدولتان الأوليان من أصل الدولة العباسية، بمعنى أن الإخشيديين والحمدانيين كانوا كالطولونيين من عمال العباسيين، قوي أمرهم فاستبدوا بالشام. وأنشئوا لهم ملكاً لم يتعاقب فيهم عدة بطون وأجيال. أما دولة العبيديين فعلى خلاف هذا، كانت دولة شيعية قامت سنة 296 بالمغرب، وأول من ولي منهم أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، دعا الدعاة أولاً بالمغرب إلى محمد والد المهدي عبيد الله وكان أولاً بسَلَمْيَة من الشام، ولما توفي أوصى إلى ابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة. وشاع ذلك في أيام المكتفي فطُلب فهرب عبيد الله وابنه أبو القاسم محمد الذي ولي بعد المهدي وتلقب بالقائم، وتوجها نحو المغرب ونزل تاهرت، وعظم شأنه في القبائل واستجابت لدعوته، وملك ومن بعده معظم شمالي إفريقية وجزائر البحر المتوسط مثل صقلّية وساردنية ومالطة وغيرها. والخليفة المعز الذي فتح مصر والشام هو رابع خلفائهم.
نشأت الدولة العبيدية أو الفاطمية أو العلوية كالدولتين الأموية والعباسية(1/200)
بالشام، وقامت بالمغرب، ونمت في مصر، وماتت فيها. ولم تكن على نسبة تينك الدولتين بقوة سلطانها وتأثيراتها، ولذا ظلت دولة أخرى في أقصى الشام تقاسمها السلطة، وهي الدولة الحمدانية، اتفقت معها سياسةً اتفاقها معها مذهباً.
وفي سنة وفاة كافور 357 جرت بين فنك بن عبد الله مولى كافور الإخشيدي،
وكان جهزه مولاه لأخذ دمشق ثانية، وبين أهل هذه المدينة مناوشة وقتال وإحراق ونهب، وبلغه خبر الروم وأخذهم حمص فنادى في دمشق بالنفير إلى ثنية العقاب بسبب الروم فخرج الناس إلى دومة وحرستا وانتهز الفرصة في خلو دمشق ورحل عنها وتوجه بأثقاله نحو عقبة دمر متوجهاَ إلى الساحل، فنهب أهل دمشق بعض أثقاله وقتلوا من بقي من رجاله.
لما هلك كافور وهلك سيف الدولة وتولى الفاطميون أمر مصر وفتحوا الشام بقي سعد الدولة 356 ابن سيف الدولة في مملكة حلب، ولم يكن كأبيه عقلاً وتدبيراً فعصى عليه جند حلب سنة 357، فنازلها وبقي القتال عليها مدة واستولى الرعيلي على إنطاكية، وجاءت الروم فنزلوا عليها وأخذوها وهرب الرعيلي من باب البحر هو وخمسة آلاف إنسان ناجين بأنفسهم من الروم، فأسر هؤلاء أهل إنطاكية وقتلوا أُناساً من أكابرها. وقال عظيم الروم لما ضيقوا عليه: أرحل وأخرب الشام كله وأعود إليكم من الساحل، ورحل في اليوم الثالث ونازل معرة مصرين، فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة آلاف ومائتي نسمة، ثم سار إلى عرقة فافتتحها، ثم سار إلى طرابلس فأخذ ربضها، وأقام في الشام أكثر من شهر ورجع فأرضاه أهل إنطاكية بمال عظيم. وأحرق حمص وقد أخلاها أهلها وملك ثمانية عشر منبراً، وعاد إلى بلاده بالأسرى والأموال.
وقال الإنطاكي: إن نقفور لما توجه إلى الشام، خافه سعد الدولة، فخرج عن حلب إلى بالس، واستخلف فيها قرعويه الحاجب، ونزل الملك على إنطاكية وأقام يومين ورحل في اليوم الثالث، ونزل على معرة مصرين وأمن أهلها من القتل، وكانت عدتهم ألفاً ومائتي نفس وسيرهم(1/201)
إلى بلد الروم، وفتح معرة النعمان وحماة وحمص، وأخذ منها رأس القديس يوحنا المعمداني، ونزل على طرابلس، وأحرق ربضها وحاصر مدينة عرقة تسعة أيام، وكان لها حصن منيع ففتحه بالسيف
وأخذ منها خلقاً كانوا التجئوا إليه من الأقاليم المجاورة وأخذ منه مالاً كثيراً، وكان في الحصن أمير طرابلس أحمد بن تحرير الأرغلي، وكان أهل طرابلس قد طردوه لجوره، وكان مأسوراً ومعه مال جزيل، فأسره وأخذ جميع ماله، ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها، وحصل في يده من السبي ما لا يحصى عدده، وفتح حصن انطرطوس ومرقبة وحصن جبلة، وصالح أصحاب اللاذقية عليها، وخرب كثيراً من القرى، وعبر بإنطاكية وميز السبي الذي معه وأعتق عليها من الشيوخ والعجائز زهاء ألف نفس، وبنى حصن بغراس مقابل إنطاكية في فم الدرب ورتب فيه رئيساً يقال له ميخائيل البرجي، ورسم لسائر أصحاب الأطراف طاعته ورتب معه ألف رجل ورجع إلى القسطنطينية.
وفي تاريخ العلويين أن اليهود كانوا يقطنون في القرن الرابع في أرجاء صهيون، وينزل النصارى في اللاذقية، والنصيريّة في الجبل، ولما استولت الروم على أرجاء اللاذقية في سنة 357 شعر العلويون - أي النصيرية - بالتنظيمات الإدارية والعسكرية وأعلنوا الثورة على الروم وكان يرأسهم حسين ابن إسحاق الضلعيني العلوي ففاز واستقل باللاذقية سنة 368، ثم حكم محمد بن إسحاق التنوخي ثم أخوه إبراهيم.
وفي سنة 359 ملك الروم إنطاكية بالسيف، وقتلوا أهلها وسبوا وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة، وملكوا المدينة بعد حصارها 27لا يوماً، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه كل سنة وقدره ثلاثة قناطير ذهب عن حق الأرض، وسبعة قناطير ذهب عن خراج حلب وقنسرين وحمص وحماة وجوسية وسلمية والمعرة وكَفْرطاب وأفامية وشيزر وجبل السماق ومعرة مصرين والأثارب وغيرها، وعن كل حالم دينار في السنة سوى ذوي العاهات، وأن يكون لملك الروم صاحب يقوم بحلب يستخرج أعشار الأمتعة الواردة إليها، فرحلت الروم
ومعهم الرهائن على ذلك،(1/202)
وقد عقدوا هدنة مؤبدة وصارت الكور سائبة لا مانع للروم عنها، فطمع نقفور ملك الروم في ملك الشام جميعه، ولم يعترف سعد الدولة بالمعاهدة التي جرت بين قرعوية وبين الروم، وظل في معرة النعمان، فأخرب الروم حمص حتى يضطروه إلى الإذعان، ولكن جاءته نجدات فعمرها، وفي سنة 363 سار أبو محمود بن جعفر بن فلاح إلى الشام، في عسكر يقال إنه عشرون ألفاً ودخل دمشق وتمكن بها، وغادر الروم أرض الشام سنة 364 بعد أن فتحوا بعلبك وأخربوها وأخذوا جماعة من أهلها وصالحتهم صيدا وافتتحوا بيروت عنوة وسبوها ونهبوها، وجرى مثل ذلك على جبيل. وقاطعوا أهل دمشق على ستين ألف دينار يحملونها إليهم في كل عام، وكتبوا عليهم بذلك كتاباً وأخذوا فيه خطوط أشرافهم وأخذوا جماعة منهم رهينة وأنفذوا إليهم صليباً بالأمان فتلقوه بالإكرام. ثم انقطع حمل المال المفروض على الشام للروم، فأغضوا عن ذلك لاشتغالهم بالحرب في آسيا الصغرى.
وفي سنة 365 وصل بارقطاش مولى سيف الدولة إلى شريف ابنه وهو بحماة من حصن برزويه وخدمه وعمر له حمص بعد خراب الروم، وتقوى بكجور مولى قرعويه ونائبه، وقبض على قرعويه بحلب وحبسه بالقلعة واستولى على حلب، فكاتب أهلها أبا المعالي شريفاً فجاءهم، وأنزل بكجور بالأمان وولاه حمص واستقر أبو المعالي بحلب. ومن الأحداث في هذا الزمن أن وشاح السلمي ولي إمارة دمشق من قبل الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم، وكان الوالي إذ ذاك بها صالح بن عمير العقيلي البدوي فخرج صالح عنها، فلما رجعت القرامطة إلى الأحساء رجع صالح بن عمير إلى دمشق وتعصب له أحداثها فأخرجوا وشاحاً عنها قهراً وسلموها إلى صالح 368. ومنها أن بسيل الملك ردّ ولاية اللاذقية إلى كرمروك لشنه الغارة على طرابلس وما يليها وقتله وأسره من
أهلها ومن المغاربة خلقاً كثيراً. وورد عسكر المغاربة إلى عمل إنطاكية مع أمير لهم يعرف بالصنهاجي، فاستظهر عليه كرمروك وقتل جماعة من أهله، فسار نزال وابن شاكر من طرابلس إلى اللاذقية 370 وحاصر حصنها(1/203)
وسار الدمستق الدومستيقس إلى حلب 371 ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله. وطالب سعد الدولة بمال الهدنة على أن يحمل للروم في كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة نقية صرف كل عشرين درهماً بدينار.
وخالف مفرج بن دغفل بن الجراح على العزيز بالله وجاهر بخلع الطاعة فسير إلى الشام رشيقاً العزيزي 371 فطرده عنها وهزمه. وسار ابن الجراح بعد هزيمته يريد الحجيج ليقطع عليهم الطريق عند رجوعهم، فأنفذ العزيز مفلح الوهباني في عسكر ليلقاهم ويدفع عنهم، فأوقع به ابن الجراح بأيلة وقتله وجميع من معه، وعاد الحجيج إلى مصر فعاود ابن الجراح الشام فلقيه رشيق الحمداني دفعة ثانية وهزمه ودخل إلى البرية والتجأ إلى بكجور في حمص فأجاره، وقصد إنطاكية ملتمساً من بسيل الملك النجدة فأطلق له صلة ودفعه إلى الشام والتمس من العزيز الأمان فأجابه إليه.
ولما تفرغ الروم من مشاكلهم قصدوا إلى الشام سنة 371 فاضطر سعد الدولة إلى تمديد الهدنة معهم معترفاً لهم بالسيادة، ومتعهداً بأداء الجزية ليتخلص من حكم الفاطميين 373. ثم عاد فأبى أداءها، فاستولوا على كليس وأوقعوا بجماعة من الحمدانية وحاصروا أفامية وقاتلوها أشد قتال، وجاءوا إلى حلب، وسار قرعويه إلى دير سمعان فحاصره ثلاثة أيام وفتحه بالسيف وقتل جماعة من رهبانه، وسبى خلقاً التجئوا إليه من إنطاكية ودخلوا بهم إلى حلب وأشهروا بها وأنفذ الدومستيقس سرية من عسكره إلى كفرطاب فأوقعت بجماعة العرب والحمدانية، واستولى المغاربة على حصن بانياس ولم يقبل الروم بالصلح مع صاحب حلب
سنة 376 إلا على شرط أن يدفع ما تأخر عليهم من الجزية لهم، ورحل بسيل ملك الروم إلى الشام فحاصر حلب وفتح حمص وشيزر وأقام على طرابلس، ودامت معاهدة صاحب حلب مع الروم إلى حين وفاته سنة 392. وهكذا أصبحت الدولة الحمدانية بعد عزها على عهد سيف الدولة، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في عهد خلفه.(1/204)
تجاذب السلطة بين العباسيين والفاطميين:
هلك المعز الفاطمي وتولى ابنه العزيز 365 فقصد أفتكين المستولي على دمشق سواحل الشام وعمد إلى صيدا فحاصرها وبها ابن الشيخ ومعه رؤوس المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلهم، وكانوا في كثرة فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف، وطمع في أخذ عكا، فتوجه إليها وقصد طبرية ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا وعاد إلى دمشق.
ثم أرسل العزيز القائد جوهراً في العساكر إلى الشام، فلما سمع أفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وعاهدهم فبايعوه على الطاعة وبايعهم على الذبّ عنهم، فوصل جوهر إلى دمشق 365 ورأى من قتال أفتكين ومن معه ما استعظمه، ودامت الحرب شهرين قتل فيها عدد كثير من الطائفتين، فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على أفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي ملك القرامطة واستنجاده، فجاءهم القرمطي واجتمع إليه من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفاً، فرحل جوهر من دمشق خوفاً من أن يبقى عدوين، وتبعه أفتكين والقرمطي والتقوا بيافا وحصروه في عسقلان فعاين الهلاك هو وأصحابه من الجوع نحو سبعة عشر شهراً، فبذل لأفتكين مالاً ليمنّ عليه ويطلقه، فرحل أفتكين عنه وسار جوهر إلى مصر، وأعلم العزيز بالحال، فسار العزيز بنفسه إلى الشام
في سبعين ألف مقاتل، ووصل الرملة، فقاتله أفتكين والقرامطة بظاهرها قتالاً شديداً، فنصر العزيز وقتل وأسر كثيراً المحرم 367 وقد قتل من المغاربة جيش الفاطمي نحو من عشرين ألفاً.
وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، وطلب أفتكين في هزيمته بيت صاحبه مفرج بن دغفل الطائي، فأسره مفرج في بيته وأعلم العزيز به فأعطاه الجعل، وأحضر أفتكين 368 فأطلقه العزيز وأصحابه، وبقي عنده معظماً حتى مات بها. وبعث العزيز إلى الأعصم زعيم القرامطة وهو منهزم فأدركه بطبرية وأعطاه عشرين ألف دينار فسار إلى الأحساء.(1/205)
ودلّ العزيز بكفه عن قتل أفتكين على بعد نظره، وانه أثر فيه ما أسداه من الجميل لقائده جوهر في نوبة عسقلان بإطلاقه سراحه وسراح من معه، فقابل العزيز أفتكين على جميله بمثله. خصوصاً وأن أفتكين لم يقصر منذ استولى على دمشق بمجاملة خليفة مصر العلوي، وإن كان من جهة ثانية نزع خطبته وأرجع الخطبة العباسية في كثير من مدن الشام، وأكرم العزيز ملك القرامطة الذي ندبه الدمشقيون على لسان أفتكين أن يعاونهم على الخلاص من الدولة المصرية لظلم عمالها ومخالفتها لهم في المذهب، وذلك ليستميل قلبه حتى لا يعود ثانية إلى نصرة أحد من أهل بلاده عليه.
سوء حالة دمشق واضطراب الأحكام المصرية:
لما فارق أفتكين دمشق إلى فلسطين قدّم على أهلها رجلاً اسمه قسام الحارثي من الأبطال المعروفين، وقيل: من أرباب الدعارة العيارين، كان أصله من قرية تلفيتا في سنير، يعتاش بنقل التراب على الحمير، وتنقلت به الأحوال حتى صار له ثروة وأتباع، وغلب على دمشق وما إليها من الأصقاع، بحيث لم يبق معه لنوابها من الفاطميين أمر ولا نهي، ودام ذلك سنين. وكان القائد أبو محمود بن إبراهيم المغربي قد عاد إلى البلد والياً عليه للعزيز فلم يتم له مع قسام أمر، وامتدت أيدي
أصحاب أبي محمود بالعيث والفساد وقطع الطرق فاضطرب الناس وخافوا، وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم وظلمهم لهم، ووقعت فتنة عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة، فألقى عسكره النار من باب الفراديس فأحرقوا تلك الناحية، وكانت فيها أجمل قصور دمشق، وحرق كثير من أحياء البلد، وهلك فيه جماعة وما لا يعد من الأثاث والأموال، ثم صالحوا القائد أبا محمود ثم انتقضوا ولم يزالوا كذلك إلى سنة 364.
ولما خاف الفاطميون عاقبة قسام الحارثي؛ إذا استلذ طعم الانتصار غير مرة، سيروا لحربه الأمير الأفضل فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال، فخرج قسام متنكراً فأخذته الحرس فقال: أنا رسول. فأحضروه إلى(1/206)
الأفضل فقال له: أنا رسول قسام إليك لتحلف له وتعوضه عن دمشق بلداً يعيش به وقد بعثني اليك سراً، فحلف الأفضل، فلما توثق منه قام وقبل يديه وقال: أنا قسام. فأعجب الأفضل ما فعله وزاد في إكرامه ورده إلى البلد وسلمه إليه، وقام الأفضل بكل ما ضمنه وعوضه موضعاً عاش به، فلما بلغ ذلك العزيز أحسن صلته. ذكر هذا القفطي وأورد الذهبي رواية أخرى في أمر قسام قال: إنه تقدم لقتاله سليمان بن جعفر بن فلاح إلى دمشق فنزل في ظاهرها ولم يمكنه دخولها فبعث إليه قسام بخطه أنا مقيم على الطاعة، وبلغ العزيز ذلك فبعث البريد إلى سليمان يرده فترحل سليمان من دمشق وولى العزيز عليها أبا محمود المغربي ولم يكن له أيضاً مع قسام أمر ولا حل ولا عقد. قال ابن تغري بردي: ولعل الذي ذكره الذهبي كان قبل توجه عسكر أفتكين والأفضل، فإن الأفضل لما سار بالجيوش أخذ دمشق من قسام وعوضه بلداً آخر وهو المتواتر.
وكان من سياسة قسام الحارثي أن كان يدعو للعزيز بالله العلوي على المنابر. وقبل أن يحاربه المصريون وصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل
وحط رحاله في حوران، فمنعه قسام من دخول دمشق، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، فرحل أبو تغلب إلى طبرية، وورد من عند العزيز القائد الأفضل في جيش فقاتله وجماعته حتى قتل في الرملة 369 وخلت الديار، وأتت بنو طيىء على الناس وشملهم البلاء منهم.
خوارج على دولة الجنوب ودولة الشمال:
كان مفرج بن الجراح أمير بني طيىء وسائر العرب في فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته، وعاث في فلسطين وخربها، وهلك من فيها فكان الرجل يدخل إلى الرملة يطلب فيها شيئاً يأكله فلا يجده، ومات الخلق بالجوع وخربت الأعمال، فخاف العزيز عاقبة أمره بعد أن رأى ما أتعب دولته من أمر الخوارج أفتكين والأعصم وقسام وابن حمدان، فجهز العساكر لحربه مع قائده بلتكين التركي فسار إلى الرملة، واجتمع(1/207)
إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجراح وقد كمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى إلى إنطاكية فأجاره صاحبها. وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى الشام فخاف ابن الجراح وكاتب بكجور عامل حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة ولجأ إليه فأجاره. وكان بكجور والي حمص يمد دمشق أيام هذه الفتن والغلاء ويحمل الأقوات من حمص إليها. وكانت دمشق في هذا العهد قد خربها العرب وأهل العيث والفساد، وانتقل أهلها إلى حمص فعمرت. وربما كان هذا القرن أشأم القرون السالفة في الشام ودمشق خاصة، وكان كل أذى ينزل بها وبأهلها. قال ابن بطريق: سار بكجور إلى أبي المعالي بن سيف الدولة من حلب وهو يومئذ بحمص فخلع عليه أبو المعالي وولاه حلب، وعاد بكجور إلى حلب وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر أعمالها، ووافق بكجور سائر غلمان الدولة على القبض على قرعويه، وسار أبو المعالي إلى حلب وأخرجه من حمص وقبض على قرعويه، وسار أبو المعالي من حلب وفتح
المعرة وما يليها في شوال سنة 366، ونزل إلى حلب ومعه بنو كلاب، ووقع القتال بينه وبين بكجور، واستظهر أبو المعالي عليه واستقر الأمر بينه وبين بكجور على ولاية حمص. ثم عصى بكجور على سعد الدولة واستدعى جيوش العزيز فسارت معه ونزل على حلب وتحاربوا يومين، سار الدمستق إلى حلب، وورد خبره على بكجور فرحل إليه، فوقع القتال وجرى بينه وبين سعد الدولة مراسلة واستقر الحال بينهم على أن يحمل إليه سعد الدولة مال سنتين أربعين ألف دينار، وسار الدمستق وقصد حمص وسبى أهلها، وأحرق بها جماعة اعتصموا في المغاور وسار بكجور إلى دمشق وتقلدها.
وكان بكجور يكاتب العزيز الفاطمي بما يقوم به من الخدم فاستنجز وعد العزيز إياه بولاية دمشق فولاه إياها سنة 73 إلا أنه أساء السيرة في أهلها وقتل أناساً وصادر آخرين وجمع الأموال لنفسه، فجهزت العساكر عليه من مصر مع منير الخادم وكتب إلى نَزّال عامل طرابلس بمظاهرته. وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم، ثم خاف من وصول نزال(1/208)
فاستأمن إليه، وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقر في ولايتها وأحسن السيرة في أهلها، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب.
وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق سأل سعد الدولة العودة إلى ولايته حمص فمنعه لأنه كان نزع يده من الدولة الحمدانية ووضعها في يد الدولة الفاطمية، فلما أخفق عاد إلى دولته الأولى فرفضته وأجلبت عليه، فاستنجد بكجور الملك العزيز لحرب سعد الدولة فبعث إلى نزّال بمظاهرته، فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حلب للقائه وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، واستعد سعد الدولة للقائهم، وقد استمد عامل إنطاكية للروم فأمده بجيش كبير، وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه وكانوا وعدوه ذلك من أنفسهم، فلما تراءى الجمعان وشعر
بكجور بخديعة العرب استمات وحمل على الصف بقصد سعد الدولة فقتل لؤلؤاً الكبير مولاه، ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب ثم حمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقة فملكها وقبض جميع أمواله وكان شيئا كثيرا.
وزاد مسكويه في تفاصيل هذه الحادثة ما يلي: كان لبكجور رفقاء بحلب يوادونه فكاتبوه وأطعموه في الأمر، وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذات، فاغتر بأقوالهم وكتب إلى صاحب مصر يبذل له فتح حلب، ويطلب منه الإنجاد والمعونة، فأجابه إلى كل ملتمس، وكتب إلى نزّال الغوري والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير معاودة. وكان نزّال هذا من قواد المغاربة وصناديدهم، فتلكأ نزّال، وكاتب سعد الدولة بسيل ملك الروم يعلمه عصيان بكجور عليه، وسأله إنجاده بالبرجي صاحبه بإنطاكية فسار إليه، وبرز سعد الدولة في غلمانه وطوائف عسكره، ولم يكن معه من العرب إلا خمسمائة فارس إلا أنهم أولو بأس. وتقارب العسكران ووقع الطراد، وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد(1/209)
إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه. وكان بكجور شحيحاً فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا في أمره. فقضى شح بكجور عليه حتى أسلمه إلى خصمه فقتله.
وقد أعطى سعد الدولة سلامة الرشيقي عهدا بالإبقاء على آل بكجور وأموالهم على أن يسلمه حصن الرافعة، وهو بلد متصل بالرقة، فخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر في عين سعد الدولة، فإنه كان يشاهدهم من وراء سرادقه، وبين يديه ابن أبي الحصين القاضي. وقال له: ما ظننت أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأثقال والأموال. فقال ابن أبي الحصين: إن بكجور وأولاده مماليكك وكل ما ملكه وملكوه فهو لك، لا حرج عليك فيما تأخذه منهم، ولا حنث
في الإيمان التي حلفت بها، ومهما كان من وزر وإثم فعليَّ، فلما سمع هذا القول أصغى إليه، وغدر بهم وقبض جميع ما كان معهم.
قال مسكويه: فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسن لسعد الدولة تسويل الشيطان، وأفتاه بنقض الأيمان، ثم لم يقنع بما زين له من غدره، ولبّس عليه من أمره، حتى تكفل له بحمل وزره، وهل أحد حامل وزر غيره، أما سمع قول الله تعالى في أهل الضلالة: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون).
حملة الفاطميين على الحمدانيين واستنجاد هؤلاء
بالروم:
مات سعد الدولة فقام بعده ابنه أبو الفضائل ووصيه لؤلؤ فأخذ هذا العهد على الأجناد لأبي الفضائل، وتراجعت العساكر إلى حلب، فرأى العزيز أن الوقت قد حان لاستصفاء الشام بأسرها وإنقاذها من هذا التذبذب بين الدولتين، جنوبها للعزيز وشمالها للحمدانيين، ولا يفتأ كل فريق يدس للآخر، فسير جيشا كثيفا على حلب وعليه منجوتكين أنفق عليه ألف ألف دينار ونيفا، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها وقوادها وعساكر الشام كلها، فأقام بها مدة ثم رحل إلى حلب. قال ابن ميسر:(1/210)
بل كانت بينه وبين أهل دمشق حروب آلت إلى ظفره. وقد استعد واحتشد ونزلها في ثلاثين ألف رجل، وتحصن بها أبو الفضائل ولؤلؤ.
ووقع القتال بين منجوتكين والحمدانية على أفامية فانهزم الحمدانية 382 وقتل وأسر جماعة منهم، ونزل منجوتكين على حلب ووقع الحرب في جميع جوانب المدينة ودخل إلى أعمال الروم بسبب اعتقال البرجي لرسوله، ونزل على حصن عم ضيعة البرجي في بلد أرتاح فقاتله وفتحه وسبى وقتل وسار إلى إنطاكية
فرشقه الإنطاكيون بالنشاب وعاد منجوتكين إلى منازلة حلب وراجع القتال. وعصى المسلمون في اللاذقية فسار البرجي إليهم وسباه وحملهم إلى الروم، وعاد منجوتكين من دمشق ونزل على أفامية فسلمها إليه وفاء خادم سيف الدولة 383 ورحل إلى شيزر وقاتلها وتسلمها من سوسن غلام سعد الدولة وعاد إلى منازلة حلب.
وكان أبو الفضائل كتب إلى بسيل ملك الروم يستنجده وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بإنطاكية ميخائيل البرجي يأمره بإنجاد أبي الفضائل؛ فسار في خمسين ألفا حتى نزل على الجسر الحديد بالعاصي، فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي وأوقع بالروم فهزمهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية وكثر القتل فيهم، وجمع من رؤوس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس وحملت إلى مصر. قال الإنطاكي: قتل من الروم في هذه الوقعة التي دعيت بوقعة المخاضة 384 زهاء خمسة آلاف ويمم منجوتكين إلى إنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها، وكان وقت إدراك الغلة فأنفذ لؤلؤاً وأحرق ما يقارب حلب منها إضرارا بالعسكر المصري. وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فقلت الأقوات فيها وعاد صاحب حلب إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، فلما قلت الأقوات إلى العزيز على نفسه أن يمد عسكره بالميرة من غلات مصر، فحمل مائة ألف تلّيس في(1/211)
البحر إلى طرابلس ومنها على الظهور إلى أفامية. فكان يوقع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلى أفامية على خمسة وعشرين فرسخا فيمضون ويقبضونها ويعودون بها. وبنى وأصحابه الحمامات والخانات والأسواق.
وعاد منجوتكين إلى منازلة حلب ومحاصرتها وفتح حصن إعزاز وملك سائر أعمال حلب وولى عليها وبنى حصنا مقابل حلب، وأنجد ملك الروم صاحب حلب
وكان قد استنجده وأرسل إليه ملكوثا السرياني، فقطع المسافة من بلاد البلغار إلى حلب وهي ثلاثمائة فرسخ في بضعة أيام. ولما أقبل الروم أحرق منجوتكين الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ورحل في الحال منهزما ووافى بسيل فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه، ثم عاد ورحل في اليوم الثالث إلى دمشق وفتح حمص ونهب، ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه، فأقام نيفا وأربعين يوما فلما أيس منها عاد إلى الروم، وعاد منجوتكين غازيا إلى إنطاكية، ثم سار إلى حلب ورحل عنها إلى أنطرطوس، وقاتل الحصن أياما وسار عامل الروم إلى أنطرطوس ليدفع عنها، وأرسلت مصر أسطولا مؤلفا من أربعة وعشرين مركبا مشحونا بالرجال فكسر الأسطول بريح عاتية، وخرج رجال المراكب إلى البر، فانهزم منجوتكين وجميع عسكره وخرج المقيمون في أنطرطوس وأخذوا ما سلم من المراكب وأسروا من رجالهم خلقا.
الخوارج على الفاطميين واستنجاد أمراء المسلمين
بالروم:
ظن بعد انصراف ملك الروم عن الشام ورجوع الحمدانيين إلى حلب أن الدولة الفاطمية يطمئن بالها، وما كان يجول في الفكر أن ينقلب عليها أحد قوادها الذي كانت اصطفته ليدفع عن القطر ما يتهدده من الشر وأعني به منجوتكين. فقد عصى على خليفته وأراد أن يستنجد الروم فلم يلتفتوا إليه، فندب الخليفة العساكر من مصر لقتاله وقدموا أبا تميم بن جعفر عليها، وأمدوه من الأموال ما أسرفوا فيه، وسار أبو تميم من مصر، ورحل منجوتكين من الرملة بعد أن ملكها. والتقى الجيشان بعسقلان وتواقعا فأجلت الوقعة عن هزيمة منجوتكين وأصحابه، فأسر وحمل إلى(1/212)
مصر، وسار أبو تميم فنزل طبرية وأنفذ أخاه عليا إلى دمشق، فامتنع
أهلها عليه ومنعوه الدخول، وكاتب أخاه بعصيانهم، واستأذنه في قتالهم، فكتب أبو تميم إلى متقدميهم من الأشراف والشيوخ، وحذرهم عواقب فعل سفهائهم، فخافوا وخرجوا إلى علي مذعنين بالطاعة ومنكرين لما فعله أهل الجهالة، فلم يعبأ بقولهم وزحف إلى البلد فملكه، وأحرق وقتل وعاد إلى معسكره.
ووافى أبو تميم في غد فأنكر على أخيه ما فعله، وتلقاه وجوه الناس فشكوا إليه ما أظلهم، فأحسن لقاءهم وأمنهم، فسكنوا وعادوا إلى معايشهم. وركب أبو تميم إلى المسجد الجامع في يوم الجمعة بزي أهل الوقار، واجتاز في البلد بسكينة، وبين يديه القراء وقوم يفرقون الدراهم على أهل المسكنة، وصلى الجمعة وعاد إلى القصر الذي نزله بظاهر دمشق، وقد استمال قلوب العامة بما فعله، ثم نظر في الظلامات وأطلق من الحبوس جماعة من أهل الجنايات فازدادوا له حبا، واستقرت قدمه واستقام أمره، وعدل من بعد إلى النظر في أحوال الساحل فهذبها، وولى أخاه طرابلس وصرف عنها جيش بن الصمصامة.
ذكر كل هذا مسكويه، وزاد أن أبا تميم كان مع سياسته مستهترا باللذات، فلم يشعر إلا بهجوم المشارقة والعامة على قصره فخرج من دمشق هاربا، ونهبوا خزائنه وأوقعوا بمن كان معه من كتامة، وعادت الفتنة واستولى الأحداث على دمشق، وثار أهلها مع ما كان فيها من الأولياء المشارقة على ابن فلاح فخرج عن البلد هاربا إلى مصر، وتغلب الأحداث ورأسهم رجل منهم يعرف بالدهيقين، فسارت جيوش الحاكم إلى دمشق مع محمد بن الصمصامة للقاء الدمشقيين والدهيقين، فسار الدهيقين إلى مصر وطلب الأمان. وقال ابن ميسر في حوادث سنة 387: إنه كانت وقعة بين منجوتكين وبين ابن فلاح في الرملة قتل فيها نحو مئة ألف كذا من أصحاب منجوتكين وانهزم ابن الجراح.
وفي سنة 388 وقعت النار في أفامية واحترق ما كان فيها من القوت فسار أبو
الفضائل بن سعد الدولة صاحب حلب في عسكر الحلبيين،(1/213)
وقاتلها مدة ثم رجع عنها لما سار إليها دوفس إنطاكية، وحاصرها هذا أشد حصار، فاستنجد الملايطي المقيم بها بجيش بن الصمصامة بدمشق، فسار إليه في عساكر ضخمة، وانتشبت الحرب بينهم، واستظهر عليه الدوقس، وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت البادية سواد عسكر المغاربة، وبلغت الهزيمة إلى بعلبك، وقتل الدوقس فعادت الهزيمة على الروم فقتل منهم زهاء ستة آلاف وأسر أبناء الدوقس وجماعة من رؤساء عسكره، وحملوا إلى مصر وأقاموا بها عشر سنين ثم فودي بهم.
وسار جيش بن الصمصامة إلى شيزر فخف ملك الروم بنفسه ففتحها وشحنها بالأرمن، وسار عنها إلى حصن أبي قبيس فأخذه بالأمان وسار إلى حصن مصيات. فملكه أيضاً وأخربه وسار إلى رفنية فأحرقها وسبى أهلها وتوجه يحرق ويسبي إلى أن بلغ حمص فنزلها وتحصن منها نفر في كنيسة مار قسطنطين تحرماً بهاً. فلما علم الرؤوس من أهل عسكره أحرقوها، وكانت كنيسة معجزة وحمل نحاسها ورصاصها، وسار الملك إلى قرب بعلبك واستصرخ جيش من دمشق إلى مصر بكتبه ووصف كثرة الجموع التي للروم فجردت إليه العساكر وكوتب كل والٍ بالشام بالمسير معه، فساروا حتى اجتمع بدمشق من العساكر كما قال الأنطاكي ما لم يجتمع فيها للإسلام مثله، ورجع ملك الروم عن طريق الساحل وأحرق عرقة وهدم حصنها ثم نزل على طرابلس 389 وحاربها براً وبحراً، ثم رحل إلى إنطاكية، وافتتح حصن أبي قبيس بالأمان.
وامتدت ولاية منجوتكين في إمرة الجيوش الشامية إلى ما بعد سنة 386 وكان ظالماً جباراً ساءت سيرته في ولايته دمشق وحمص وكثر ظلمه. وولي إمرة دمشق بشارة الإخشيدي من قبل برجوان الخادم الحاكمي 388 وكان ولي طبرية قبل أن يلي دمشق مدة سنين. وكان أهل صور قد عصوا 387 وأمَّروا عليهم
رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة. ضرب السكة باسمه وكتب عليها عز بعد فاقة الأمير علاقة فأرسل عليه الفاطميون أسطولاً فاستجار علاقة بملك الروم فأنفذ إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال والمقاتلة، والتقت هذه المراكب بمراكب المسلمين فاقتتلوا فظفر المسلمون(1/214)
وملكوا مركباً من مراكبهم، وقتلوا من فيه وانهزمت بقية المراكب. وهكذا استنجد بالروم في هذه الحقبة أميران على بني جنسهما ودينهما ليستمتعا بالملك وهما أبو الفضائل في حلب وعلاّقة بصور.
وكان المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة وعاث فساداً في أرضها، وانضاف إلى حادثته وحادثة علاّقة نزول الدوقس صاحب الروم في عسكر كثيف على حصن أفامية، فاصطنع برجوان جيش بن الصمصامة وقدمه، وجهز معه عسكراً وسيره إلى دمشق، وبسط يده في الأموال ونفذ أمره في الأعمال، وسار جيش بن الصمصامة ونزل على الرملة وعليها وحيد الهلالي والياً فتلقاه طائعاً وصادف أبا تميم بها فقبض عليه قبضاً جميلاً، وندب الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر إلى صور بعد أن كان أنفذ إليها مراكب في البحر مشحونة بالرجال فأحاطت العساكر بها براً وبحراً وضعف أهل صور عن القتال وأخذ علاقة فحمل إلى مصر فسلخ وصلب بها وأقام ابن حمدان والياً عليها.
وسار جيش بن الصمصامة لقصد مفرج بن دغفل فهرب من بين يديه وعاذ بالصفح فكف جيش عنه، وعاد سائراً إلى عساكر الروم النازل على حصن أفامية، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها في أشرافها ووجوه أحداثها مذعنين له بالانقياد، راغبين في استصحابهم للجهاد، فجزاهم خيراً فأقبل جيش على رؤساء الأحداث وبذل لهم الجميل، ونادى في البلد برفع المؤن، وإباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد، فاجتمعت الرعية وشكروه، وسألوه دخول البلد والنزول بينهم فلم يفعل، ثم سار ونزل بحمص واجتمعت العساكر وتوجه إلى حصن أفامية، فوجد
أهلها وقد اشتد بهم الحصار، فنزل بإزاء عسكر الروم بينه وبينهم نهر العاصي. ثم التقى الفريقان من بعد، وكان المسلمون يومئذ في عشرة آلاف من الطوائف وألف فارس من بني كلاب، فحملت الروم على المسلمين فزحزحوهم عن مصافهم، وانهزمت الميمنة والميسرة، واستولى الروم على كراعهم وعطفت بنو كلاب على أكثر ذلك فنهبوه، وثبت بشارة الإخشيدي(1/215)
في خمسمائة فارس، ورأى من في حصن أفامية من المسلمين ما أصاب إخوانهم فأيسوا من نفوسهم.
قالوا: وكان الدوقس عظيم الروم في هذه الوقعة بعد أن تراجع المسلمون على رأسه راية وبين يديه ولداه وعشرة خيالة، فقصده أحمد بن الضحاك الكردي على فرس جواد، فظنه عظيم الروم مستأمناً، فلما قاربه طعنه الكردي فقتله فانهزمت الروم وتراجع المسلمون فركبوا أقفيتهم قتلاً وأسراً وألجئوهم إلى مضيق في الجبل وأسروا ولد الدوقس، وحمل إلى مصر من رؤوسهم عشرون ألف رأس وألف أسير.
وعاد جيش إلى دمشق فاستقبله أهلها، فخلع على وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال، ووهب لهم الجواري والغلمان، وعسكر بظاهر البلد وأخلوا له قرية بيت لهيا ليكون مقامة بها، وتوفر على استعمال العدل وتخفيف الثقل، فاستخص رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم، ثم أوقع بهم كلهم، ودخل البلد وثلم السور من كل جانب، واستغاث الناس به ولاذوا بعفوه، فكفّ عنهم واستدعى الأشراف استدعاء حسن ظنهم فيه، فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث وأمر بضرب رقابهم بين أيديهم، ثم صلب كل واحد في محلته. وجرد إلى المرج والغوطة قائداً وأمره بوضع السيف فيمن بها من الأحداث فقال: إنه قتل ألف رجل منهم، حتى إذا فرغ من ذلك كله قبض على الأشراف وحملهم إلى مصر واستأصل أموالهم ونعمهم، ووظف على البلد خمسمائة ألف دينار. وكان عدد من
قتلهم ثلاثة آلاف رجل، واحتال للقضاء على هؤلاء الأحداث بأن جعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيءُ معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة يغسلون أيديهم فيها، وأمر أصحابه إذا دخل رؤساء الأحداث الحجرة أن يغلقوا بابها عليهم ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل.(1/216)
تولى جيش نيابة دمشق غير مرة، وكان ظالماً سفاكاً للدماء ظلم الناس كثيراً. قالوا: وعم الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال حتى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلا امتلأ من جوره؛ خلا من كان ظالماً يعينه على ظلمه. وممن ولي دمشق للمصريين وساءت سيرته ختكين القائد ثم القائد طرملة بن بكار البربري، وكان عبداً أسود، فجار على أهلها كما جار ختكين وظلمهم وأخذ أموالهم، وفر إلى مصر وحمل بعض ما كان معه إلى الحاكم، فتمكنت حاله عنده وولاه دمشق فأقام والياً عليها إلى سنة 394، ثم صرف عنها بخادم من خدم الحضرة.(1/217)
تتمة دور الفاطميين من سنة 394 - 463
خوارج ومذاهب جديدة وفتن:
ظهر في أعمال حلب سنة 395 رجل اسمه احمد بن الحسين ويعرف بالأصفر تزيّا بزي الفقراء وتبعه خلق من العرب وسكان القرى، وصحبه رجل من وجوه العرب يعرف بالجملي، ونازل شيزر وأسرى في جماعة من العرب وغيرهم ممن اجتمع إليه ولقي عسكر الروم وكبس والي أرتاح وسار نحو جسر الحديد يريد
إنطاكية، في مهروية على فرسخين من إنطاكية بطريق يقال له بيغاس في عسكر كان معه، فقتل الجملي وانهزم الأصفر إلى سروج، ونزل قرية كفر عزون وكانت حصينة، ففتحها العامل الرومي وأسر منها اثني عشر ألف أسير وأخذ غنائم كثيرة، وكان قد اجتمع عرب بني نمير وبني كلاب مع وثاب بن جعفر صاحب سروج في زهاء ستة آلاف فارس على الرومي فلقيهم وهزمهم، وتوسط لؤلؤ صاحب حلب أن يعتقل الأصفر بقلعة حلب فأخذ واعتقل، وبقي فيها معتقلاً إلى أن دخلت حلب في حكم الفاطميين 406.
وأمر الحاكم 404 باروح التركي الملقب علم الدولة على جيوشه ولقبه أمير الأمراء وولاه الشام وسيره إليها وحمل باروح معه زوجته وهي ابنة الوزير يعقوب بن يوسف بن كلس وحملا معهما أموالهما في قافلة مع التجار، فاعترضهم ظاهر غزة المفرج بن دغفل بن الجراح وأولاده فأوقع بهم وحاز جميع ما كان معهم وأخذ باروح أسيراً وقتله. وسار ابن الجراح(1/218)
إلى الرملة ودخلها، وأباح للعرب نهبها وصادر الأموال وأقام الدعوة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني أمير مكة يومئذ وأسماه أمير المؤمنين ولقبه الراشد لدين الله، وضرب له السكة واستحوذت العرب على جنوب الشام وملكوه من الفرما إلى طبرية وحاصروا حصون السواحل مدة طويلة ولم يمكنهم أخذ شيء منها.
واستدعى ابن الجراح أبا الفتوح الحسني من مكة فسار إلى الشام ووصل إلى الرملة ودخلها راكباً فرساً ونزل في دار الإمارة بها، وأنشأ كتاباً قرىء على الناس بأن لا يقبل له أحد الأرض، وأن هذا شيء ينفرد به الله عز وجل، وجلب معه أموالاً كثيرة من الحجاز فأكلها العرب وحجزوا عليه وأشرف على ضعف أمره. وقد كان الحاكم بذل فيه أموالاً جسيمة لحسان بن المفرج فأشار على أبي الفتوح بالرجوع إلى طاعة الخليفة العلوي وأوصلوه إلى مأمنه، فلما عاد إلى مكة
أقام الدعوة للحاكم على الرسم السالف بعد أن كان أقامها لنفسه، وكتب إلى الحاكم يعتذر فقبل عذره ووصله وأحسن إليه.
وحصل الشام في أيدي بني الجراح وأقاموا متغلبين عليه إلى المحرم سنة أربع وأربعمائة وعظمت مصادرتهم للناس مرة بعد أخرى وعسفهم إياهم، فهرب من النصارى خلق كثير توجهوا إلى الروم وقصد أكثرهم اللاذقية وإنطاكية وقطنوهما. استقل ابن الجراح سنتين وخمسة أشهر في الشام ولم يرسل الحاكم عليه عسكراً، ثم سير القائد علي بن فلاح في جيش كبير جمع فيه معظم رجال مملكته، وكوتبت الجيوش في دمشق والسواحل بلقائه، وسارت العساكر من الجهتين نحوه فاتفق في الحال أن مات المفرج بن دغفل بن الجراح واتصل بأولاده، قصد العساكر إليهم فذهبوا مع العرب إلى البرية وتخلوا عن الرملة وغيرها من الأقاليم التي غلبوا عليها.
ولى الحاكم عهده لأبي القاسم عبد الرحمن بن الياس وجعله الخليفة بعده 404 ودعي له على المنابر ونقش اسمه على السكة، وحصل بدمشق وفسح لأهلها في شرب القهوة وسماع الأغاني فأحبوه ومقته الجند(1/219)
لشحه، وأذاع بعض الدرزية دعوته في قوم من المسلمين في وادي التيم، فتجاهر الذين استجابوا لدعوته بمذهبهم، فغزاهم أمير الأكراد ابن الشليل فقتل منهم وسبى وأحرق وأهلك خلقاً. واستشعر ولي العهد بعد ما جرى في أمرهم إنكار الحاكم ما فعل بهم، وحذر أن يحنق عليه بسببهم، فأنفذ صاحباً له يعرف بابن الخرقاني إلى حسان بن المفرج بن الجراح ليقرر له معه أن يكون من جهته، فشغب عليه الجند وقتلوا الخرقاني بدمشق ونهبوا دار ولي العهد، فاستغاث بالدمشقيين والغوطيين، فأحاطوا بالقصر الذي ينزله بظاهر دمشق فانتشبت الحرب بينهم وبين الجند واندفع الدمشقيون عنه ونهب الجند القصر، وكان عند تواصل الأخبار إلى الحاكم بعصيان ولي العهد
ندب صاعد بن عيسى بن نسطورس للخروج إلى الشام، وأعطاه من العدد السلطانية والآلات الجليلة ما لم يعط لغيره، وتقدمت مكاتبة الحاكم إلى ولي العهد يأمره بالحضور إلى مصر فبادر بالرحيل وسار العسكر معه إلى الرملة ولما أيقن الحاكم امتثاله أمره زالت الشبهة عنه من نفسه، وكتب يرسم له بالرجوع إلى دمشق وقلد تقليداً ثانياً.
وثار بدمشق بعد مسير ولي العهد عنها رجل من أهلها يعرف بمحمد بن أبي طالب الجزار، واجتمع إليه جمع كثير من أحداثها ومن رعاع أهل حوران امتعاضاً لولي العهد، وحاربوا الجند، وطرح العسكر النار في المدينة فأحرقت منها قطعة كبيرة، ولما عرف محمد بن أبي طالب الجزار عودة ولي العهد سار للقائه واجتمعوا في لدّ وسار محمد بن أبي طالب إلى دمشق، وقد اجتمع إليه خلق كثير ودخل دمشق بغتة، وراجع الحرب واستظهر على الجند وأخرجهم من المدينة، وأرسل إليه ولي العهد في تسكين الفتنة فلم يطعه وقتل قاضي دمشق وتسلط هو والأحداث عليها، وقتل أيضاً جماعة من الناس ونهبهم، وتوقاه أهل السلامة وخافوا منه، وغلت الأسعار بقيام الفتنة فاجتمع على الناس الجوع والحريق والنهب والقتل. وكان محمد بن أبي طالب قد سدّ الباب الشرقي، فوجد الدمشقيون فرصة وفتحوه، وقبضوا عليه وقتلوه وصلبوه على باب الجابية، وقتلوا جمعاً ممن كان على رأيه، واستقام أمر دمشق وصلح حال ولي(1/220)
العهد وأطلق يده في مصادرة جماعة من الدمشقيين والمتهمين بقيام الفتنة فتنكروا عليه وأبغضوه واجتمع أهل البلد والجند على كراهيته.
تقسيم الأقاليم بين القبائل ودولة بني مرداس:
كان لؤلؤ غلام ابن حمدان وولده منصور بن لؤلؤ قد استوليا على حلب بعد موت أبي الفضائل بن سعد الدولة، وضيق منصور بن لؤلؤ على ابني أبي الفضائل
فقصدا الحاكم في مصر، وهرب أبو الهيجاء بن سعد الدولة من حلب أيضاً في زي النساء والتجأ إلى بسيل ملك الروم ومات لؤلؤ في المحرم سنة 399 وآلت الإمارة لولده الصغير منصور بن لؤلؤ، وكرهه كثير من الحلبيين ورغبوا في أبي الهيجاء، وكذلك أمراء بني كلاب المدبرون بلد حلب، وسار أبو الهيجاء إلى ميافارقين فأنفذ معه حموه ابن مروان صاحباً له في دون المائتي فارس وسار إلى الجزيرة، ولقيه جماعة أمراء بني كلاب وضمنوا له أن يعاضدوه، وخافه منصور بن لؤلؤ فاستصلح بني كلاب وشرط لهم أن يعطيهم الإقطاعات الكثيرة ويجعلهم مساهمين له في الضياع والأعمال ظاهر حلب، واستنجد بالمغاربة جيش الفاطميين، فأسرع إليه علي بن عبد الواحد بن حيدرة قاضي طرابلس في عسكر منيع، فاتفقت موافاته حلب مع نزول أبي الهيجاء، فانهزم هذا وذهب إلى القسطنطينية، ومات فيها عند صاحب الروم، وعاد ابن حيدرة إلى طرابلس، وأقام منصور بن لؤلؤ يخطب لصاحب مصر ولقبه الحاكم مرتضى الدولة، ثم فسد ما بينه وبين الحاكم وعاد الكلابيون يلتمسون من منصور بن لؤلؤ ما شرط لهم، فحضر منهم زهاء سبعمائة رجل فيهم جميع أمراء بني كلاب وذوي الرئاسة والشجاعة جميعاً وأمر ببذل السيف فيهم، وحبس منهم جماعة، وكان في جملة المحبوسين صالح بن مرداس فتوصل في الحبس إلى أن صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، فسار إلى أهله وجمع ألفي فارس وأسر ابن لؤلؤ وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبته الحديد.
وكان لابن لؤلؤ أخ فنجا وحفظ المدينة، وبذل ابن لؤلؤ لصالح(1/221)
ابن مرداس مائتي ألف دينار فأطلقه على شرط أن يطلق كل أسير عند ابن لؤلؤ من بني كلاب. وبنو كلاب بطن من عامر بن صعصعة ملكوا حلب ونواحيها، وأول من ملك منهم صالح بن مرداس هذا، وكان لهم في أيام سيف الدولة بن حمدان شأن،
وغزاهم غير مرة بعد أن اصطنعهم واصطفاهم من بين قبائل العرب.
انقرضت دولة بني حمدان سنة 406 وآخرهم في حلب المنصور، وقد دامت حكومتهم في حلب وحماة وحمص والمعرة وإنطاكية زهاء سبعين سنة عزيزة مستقلة في أولها، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في آخرها. وفي شوال 411 سلم محمد بن خليد النهراني إلى الروم حصن الخوابي في جبل نهران ومدينة مرقبة على ساحل البحر وكانت خراباً فأحسن إليه بسيل الملك. وتسلم نواب الفاطميين الشام حتى موت الحاكم بأمر الله 411هـ - 1021م وعندها اجتمع حسان أمير بني طيىء، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان أمير بني كلب، فتحالفوا واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح بن مرداس، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فقصد صالح حلب وبها رجل يقال له ابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، فسلم أهل البلد لصالح لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المصريين معهم، وسلمت القلعة إليه سنة 414 وملك من بعلبك إلى عانة وأقام بحلب ست سنين.
افتتح حسان بن المفرج بن الجراح أمير الطائيين مدينة الرملة 415 وأتى عليها حريقاً ونهباً وأسراً. وحاصر سنان بن عليان مدينة دمشق 416 وجرت بينه وبين أهلها حرب شديدة وخرب داريا وأعمالها. وبقيت حال الشام على هذا إلى سنة 419 وقد مات سنان بن عليان أمير الكلبيين، ودخل ابن أخيه رافع بن أبي الليل بن عليان إلى الظاهر الفاطمي فاصطنعه وعقد له الإمارة على الكلبيين وسير معه عسكراً، وانضافت إليه العساكر المقيمة في الشام، واجتذب إليه جماعة من العرب، وقصدوا بأجمعهم حرب حسان بن المفرج بن الجراح وورد إليه صالح بن مرداس وبنو كلاب لمعاونته، واتفقا على لقائهم وتصافوا للحرب في طبرية في(1/222)
موضع يعرف بالأقحوانة 420 وقتل صالح ومع علم حسان والعرب بقتله
انهزموا بأسرهم إلى الجبال وقتل منهم جماعة، ولما عرف أصحاب صالح المقيمون في بعلبك وحمص وصيدا ورفنية وحصن ابن عكار قتله تخلوا عن جميعها واستعادها أصحاب السلطان. واستولى نصر وثمال ابنا صالح على حلب وأعمالها وعلى الرحبة وبالس ومنبج.
وكان بإنطاكية عامل للروم فجمع جيشاً وسار قاصداً حلب بغير أمر ملكه، فتلطف معه ابنا صالح بعد أن كبست العرب معسكره وقتلت منه جماعة، ثم سار ملك الروم بنفسه 421 إلى غزو حلب واتصل بحسان ابن الجراح ما عزم عليه ملك الروم من غزو الشام، فأنفذ إليه جماعة من أهله برسالة يقوي بها عزمه على ما همّ به ويبذل له الخدمة في غزاته والمسير بين يدي جيوشه بعشيرته وأصحابه، وأنفذ أيضاً نصر وثمال ابنا صالح بن مرداس مع آل جراح ابن عمهما مقلد بن كامل بن مرداس يبذلان مثل ذلك عن نفوسهما وعشيرتهما وأصحابهما، وأن يعطي جميعهم رهائنهم على مناصحتهم إياه، وصحة وفائهم بما بذلوه، ووفد جميعهم إلى الملك فنزل هذا بجيشه على تبّل من بلد أعزاز فطاردهم العرب وانهزم أكثر المقاتلة وثبت بعضهم وقتل من الفريقين جماعة، وأسرت العرب من الروم المنهزمين عدداً كبيراً وعاد الباقون إلى معسكرهم، ثم اضطر الملك إلى العودة إلى دياره، وكان معه جماعة كثيرة من الأرمن فوضعوا أيديهم في النهب وزادت الفتنة، ثم كتب نصر بن صالح إلى ملك الروم يستعطفه ويعتذر إليه ويلتمس منه أن يجريه على ما كان أبوه عليه وغيره، ممن ملك حلب مع من تقدمه من أسلافه الملكين الماضيين بسيل وقسطنطين.
قال ابن الأثير: لما خرج ملك الروم بنفسه من القسطنطينية إلى الشام هذه المرة كان في ثلاثمائة ألف مقاتل، فلما بلغ قريب حلب نزل على يوم منها، ولحقه عطش شديد فهلك كثير من جيشه عطشاً، فعاد وجماعته أدراجهم. وقيل في
عوده: إن جمعاُ من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فانهزموا لا يلوون على شيء. وذكر ابن(1/223)
المهذب المعري أن خروج أرمانوس ملك الروم إلى حلب في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكانوا ستمائة ألف، ومعه ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج وغنم المسلمون منهم ما لا يحصى وأسرت جماعة من أولاد ملوكهم. وفي قول ابن المهذب نظر. لأن هذا الجيش العظيم وهذه الأمم التي عدها يستحيل أن تسير مع ملك الروم إلا إذا كان دعاهم باسم حماية النصرانية في الأرض المقدسة، ويستحيل أن تقترب منها أو أن تفتحها وفي الشام أمامها دول وإمارات.
وملك الروم 422 قلعة أفامية، وسبب ملكها أن الظاهر الفاطمي سير إلى الشام الدزبري وزيره فملكه، وقصد حسان بن المفرج الطائي، فألح في طلبه فهرب منه ودخل بلد الروم، ولبس خلعة ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب، ومعه عسكر كثير، فسار إلى أفامية فكبسها وغنم ما فيها وسبى أهلها وأسرهم.
وفي سنة 423 اجتمع في جبل السماق جماعة من الدرزية وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد، وتحصن دعاتهم وكثير من عوامهم في مغاور شاهقة منيعة، وقصدهم وانضوى إليهم خلق كثير من أهل نحلتهم، وتوفر عددهم واستضاموا المسلمين المجاورين لهم من أهل بلدان حلب، ووعدوا أنفسهم وأطمعوا عوامهم بقوة أيديهم وكثرة استيلائهم على الأعمال القريبة والبعيدة. فرأى قطبان إنطاكية مبادرتهم قبل تفاقم أمرهم وتخطيهم إلى الفساد والعيث، ورسم لمن يجاورهم من طراخنته قصدهم برجاله وأصحابهم، فتلطفوا في أن قبضوا على دعائهم وأماثلهم وقتلوهم، وحاصروا باقيهم في تلك المغاور، فنصبوا عليها القتال اثنين وعشرين يوماً إلى أن التمسوا الأمان وخرجوا منها هاربين، وتتبع الروم المسلمين في أعمالهم وأخذوهم واضمحلوا ودثروا. وهذه ثاني وقعة للدروز في الشام والوقعة
الأولى في وادي التيم بعد قيام دعوتهم على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي.(1/224)
وكان الحاكم هذا في جملة تحكماته الباردة على سكان مملكته أن أمر بهدم الكنائس، فهدم كنيسة في دمشق وكنيسة القيامة بالقدس وغيرها من الكنائس العظمى، ونقض بعض الكنائس بيده، وأمر بأن تعمر مساجد للمسلمين، وأمر بالنداء: من أراد الإسلام فلسلم. ومن أراد الانتقال إلى الروم كان آمناً إلى أن يخرج، ومن أراد المقام على أن يلتزم ما شرط عليه فليقم. وبعد أن مضى الحاكم لسبيله اشترط ملك الروم على الظاهر 424 في الهدنة التي عقدها معه أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير بطريركاً على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب التي في مملكة الظاهر.
بقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة 429، فأرسل إليه أنوشتكين الدزبري العساكر المصرية، فلقيهم عند حماة فقتل في المعركة، وملك الدزبري حلب، وصفت له الشام بأجمعها، وأباد المفسدين ومهد الأمور، حتى أمنت السبل، وعظم أمره وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك، فبلغ المصريين أنه عازم على العصيان فتقدموا إلى أهل الشام بالخروج عن طاعته ففعلوا، فقصد حماة فعصى عليه أهلها، فكاتب محمد ابن منقذ الكفرطابي فحضر إليه في نحو ألفي رجل فاحتمى به وسار إلى حلب 433 وتوفي بعد شهر واحد. وكان أنوشتكين نائب الشام للمستنصر، شجاعاً مقداماً، عظيم الهيبة، حسن السياسة، طرد الأعراب من الشام، وأباد المفسدين ومهد أحوال القطر وفسد بموته الشام وزال النظام، وخرجت العرب في الأقاليم، فخرج أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة وجاء حلب فملكهاً تسليماً من أهلها، وسار 440 ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق وشجاع الدولة جعفر بن كلشيد والي حمص بجماعة من الجند وقبائل العربان من الكلابيين وغيرهم إلى حلب، لقتال متوليها ثمال بن
صالح بن مرداس، فخرج أهل حلب فهزمهم واختنق بالنهر منهم جماعة فرجع بغير طائل، ثم قلد قطز الصقلبي دمشق وقبض على ابن حمدان وصادره واعتقله بصور ثم بالرملة، وقبض على(1/225)
راشد بن سنان أمير بني كلاب وحمله إلى صور فاعتقله بها، وخرج أمير الأمراء رفق الخادم على عسكر تبلغ عدته نحو ثلاثين ألفاً بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام ومحاربة بني مرداس، فحاربه الحلبيون فانهزم المصريون وأُسر رفق ومات في حلب. قال ابن ميسر: وتقدم المستنصر إلى جميع ولاة الشام بالانقياد لرفق، فوافى بالرملة رسول ملك القسطنطينية واصلاً بالصلح بين المستنصر وبني مرداس فقتل رفق، وجرت بالرملة ودمشق أمور آلت إلى حرب بين العسكر مدة أيام بباب توماء من دمشق.
وجهز ثمال إلى معرة النعمان والياً أساء التدبير فانحرف عنه القوم وآل أمره إلى الهرب، فبادر جعفر أمير حمص وتجهز إلى المعرة بنفسه ولقيه مقلد بن كامل بن مرداس فأوقع به وقتله وشهر رأسه بحلب. وحصر ثمال امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً وملكها سنة 434. وكان ثمال جمع للمصريين خمسة آلاف فارس وراجل فقاتلهم ثلاثة أيام، فلما رأى المصريون صبر ثمال وكانوا ظنوا أن أحداً لا يقوم بين أيديهم، رحلوا عن المدينة. والسبب في قتال ثمال أنه كان قرر على نفسه أن يحمل كل سنة عشرين ألف دينار عما في يده ويد عشيرته إلى صاحب مصر، فتأخر الحمل سنتين. ثم أرسل الهدايا إلى المصريين وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فانفذوا إليها الحسن بن علي ابن ملهم فتسلمها من ثمال سنة 449 بعد حروب طويلة.
وفي سنة 446 نقض الروم الهدنة مع الخليفة الفاطمي وكانوا تعهدوا بأن يطلقوا له أربعمائة ألف أردب من الغلال بسبب الغلاء في مصر، ولم يوفوا بالعهد، فجهز المستنصر عسكراً قدّم عليه ابن ملهم لقصد اللاذقية، فخرج في عساكر
جمة وحاصرها وأتبعهم بعسكر ثان وعسكر ثالث، ونودي في الشام بالغزو إلى الروم، وحاصر ابن ملهم قسطون بالقرب من أفامية، وضيق على أهله، وجال في أعمال إنطاكية ونهبها وسبى منها.
وفي سنة 447 سير المستنصر فقبض على جميع ما في كنيسة القيامة بالقدس، لأن صاحب الروم أذن لرسول طغرلبك السلجوقي أن يصلي في(1/226)
جامع القسطنطينية، فخطب للقائم العباسي، فغضب الخليفة الفاطمي. قال ابن ميسر: وكان هذا من الأسباب الموجبة لفساد ما بين المصريين والروم. وفي هذه السنة تجمع كثير من التركمان بحلب وغيرها، فأفسدوا في أعمال الشام.
حدثت فتنة بين بعض السودان وأحداث حلب، فسمع ابن ملهم أن بعض الأحداث من سكانها قد كاتب محمود بن شبل الدولة ليسلموا إليه البلد، فقبض على جماعة منهم فاجتمع أهلها، وراسلوا محموداً وهو منهم على مسيرة يوم يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، فسيرت مصر ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق لقتال من بها لأجل قطع خطبة المستنصر، فلما قارب البلدة خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، ولم يمكن ناصر الدولة أصحابه من دخول حلب ونهبها، وسار في طلب محمود فالتقيا بالفُنَيْدق، فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو فخرج وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها وملك القلعة في سنة 452 فجهز المصريون ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب النميري صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيؤه سار عن حلب إلى البرية 453 وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود، فمضى إلى أخواله بني نمير بحران. وتسلم ثمال حلب وخرج إلى الروم فغزاهم. وذكر ابن ميسر: أن البازوري وزير مصر سير أموال الدولة جميعها
لفتح بغداد، وكان ذلك سبباً لخروج الغز إلى الشام وملكهم إياه. وقال في حوادث سنة 451 إن حادثة قتل البساسيري وقطع خطبة المستنصر من بغداد وإعادتها للقائم، كانت آخر سعادة الدولة المصرية، فإن الشام خرجت من أيديهم بعدها بقليل ولم يبق لهم سوى ملك مصر.
ولما توفي ثمال 454 أوصى بحلب لابن أخيه عطية بن صالح فملكها، ونزل به قوم من التركمان فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحَرّان،(1/227)
واجتمعوا معه على حصار حلب فحصرها وملكها. وفي سنة 455 نُدب بدر الجمالي لولاية دمشق على حربها وندب معه على الخراج أبو الحسين الزيدي، ولم يلبث بدر أن انصرف عن ولاية دمشق هرباً من أهلها، فولى المستنصر عليها حصن الدولة حيدرة، ثم ولاه الشام بأسره 458.
وفي سنة 459 بعث المستنصر إلى محمود بن الروقلية المتغلب على حلب يطالبه بحمل المال وغزو الروم وصرف ابن خاقان ومن معه من الغز فلم يجبه وقال: إنه لا مال له وأنه هادن الروم وأعطى ولده رهينة على مال اقترضه منهم فندب المستنصر بدرا الجمالي إلى محاربته فدخل ابن عمار صاحب طرابلس بينهما وأصلح الحال. وفي سنة 460 كانت حرب دمشق بين أمير الجيوش وبين عسكريته.
وفي سنة 461 وقع الخلف بدمشق بين العسكرية وبين أهلها وطرحت النار في جانب منها فاحترقت، واتصل الحريق بالمسجد الجامع من غربيه ولم يبق منه إلا حيطانه الأربعة. واستولى في هذه السنة على دمشق معلى ابن حيدرة الكتامي من غير أن يؤمر له بذلك عند خلو دمشق من متول بعدما هرب أمير الجيوش بدر الأرمني، فأساء السيرة في أهلها وصادرهم وبسط العقوبة عليهم، إلى أن خربت
أعمال البلد وجلا كثير من أهلها، ووقعت بينه وبين حامية البلد وحشة خاف منهم على نفسه فهرب إلى بانياس فصور فطرابلس فأخذ واعتقل ومات من الضرب.
وفي سنة 463 استولى القفي على دمشق وطرد نواب أمير الجيوش واستولى على صور ابن أبي عقيل، وعلى طرابلس قاضيها ابن عمار، وعلى الرملة والساحل ابن حمدان، ولم يبق غير عكا وصور، ونزل هذه السنة أمير الجيوش في العسكر المصري على صور محاصراً لابن أبي عقيل القاضي الغالب عليه، فاستنجد هذا الأمير ترلو مقدم الأتراك بالشام، فأنجده بستة آلاف فارس، فرحل عنها أمير الجيوش ثم عاودها وحاصرها من البر والبحر سنة بدون طائل. وفتح الروم منبج وأحرقوها وبقيت معهم سبع سنين.(1/228)
آخرة الفاطميين:
كان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدي، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدث نفسه بالعصيان، فلاطفته ست الملك عمة الظاهر لإعزاز دين الله وكفيلته، وهي التي قامت بتدبير مملكة الفاطميين بعد مهلك الحاكم، وساست الناس أحسن سياسة أربع سنين، أعادت الملك فيها إلى غضارته وعمرت الخزائن بالأموال واصطنعت الرجال - فلاطفته وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه حتى أفسدت غلاماً له يقال له بدر فقتله وحفظ الخزائن ووهبت له جميع ما خلفه وقلدته حلب. ولو لم يقبض الله لملك الفاطميين مثل هذه السيدة بعد الأحوال التي تمت على عهد الحاكم لكان الانقراض إلى دولتهم قريباً جداً. ثم جاء ابنه الظاهر لإعزاز دين الله وكان حسن السيرة فرفع أيدي المتغلبين على الملك، المتوثبين على سلطان الفواطم، واستقام له الأمر مدة. أما أيام الخليفة المستنصر بالله خامس خلفائهم الذي بقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر فقد كانت على هذا المنوال من التسرع في نصب العمال وصرفهم والشام
تشكو وتئن. والبؤس أكثر من السعادة، والمتغلبة منذ الثلث الأول من القرن الرابع كل يوم في شأن، تارة يقوم فيها مثل سيف الدولة الذي كان يُلبس على علاته، وتارة يقوم ابنه ومملوكه يستنجدان بالروم على المسلمين. ويرضيان بإعطاء الجزية لهم، ويدلانهم على عورات الجيران، بعد أن كان مؤسس دولتهم سيف الدولة يقاتلهم، ويظهر لهم من الشمم حتى يوم هزيمته ما يبيض وجه العرب والمسلمين.
كان الفاطميون زمن المعز والعزيز على جانب من القوة، فتح المعز مصر فدخلها من الغرب في مائة وقيل في مائة وأربعين ألف مقاتل، واستكثر من العساكر من كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة، حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي، وربما فاقت بعددها الجيوش التي جمعها أبو الجيش(1/229)
خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر والشام في القرن الثالث.
فبمثل هذه الجيوش استقام أمر الفاطميين لأول عهدهم في مصر والشام، فحكموا إلى الفرات ومكة والمدينة والقدس والخليل وصارت مصر والمغرب مملكة واحدة، والخلفاء من بني العباس يحكمون من الفرات إلى بغداد وأعمالها إلى سائر المشرق، ويخطب لكل خليفة منهما في الجهات التي تحت حكمه باسمه فقط، ولما ضعف أمرهم أصبح يحكم دمشق حمال التراب، ويحكم صورا الملاح، وثلاثة من البدو يتقاسمون ملك الشام، والعباسيون في الشرق والفاطميون في الجنوب لا يبدون ولا يعبدون، وعندهم القواد والأجناد، وللأحداث أي فتيان العامة في حلب ودمشق القول الفصل، يرفعون ويضعون، ويتحكمون ويعبثون بالناس وأموالهم، ويا بؤس بلاد يكون القول الفصل فيها لفوضى العامة.
كان حكام الشام يأتونها من الحجاز والعراق، فأصبحوا يكتسحونها في هذه
الأعصار من مصر والشمال، وكان العمال والقواد عربا من بني أمية وبني هاشم ومن والاهم، فصاروا مزيجا من العجم والتركمان، وكلهم سواء في ارتكاب المظالم والمغارم، متى قوي سلطان الجار يهاجم جاره، فتطل دماء الأبرياء على غير طائل. ولم تستقر المملكة على حالة معينة بضع سنين فكانت العوامل الجنسية والمذهبية تتنازعها وأهلها، وبعد أن كانت الشام في القرن الأول وثلث القرن الثاني مصدر الحياة العربية، ومنبعث القوة الحربية، أمست في القرون التالية ألعوبة أهواء الدخلاء، وطعمة الطامعين من أهل البوادي ومن جرت عليهم أحكام الرقيق من العبيد والبرابرة، وبعد أن كان للعصبيات فيها شأن في القرنين الأولين أصبحت في القرون الثلاثة التالية ضعيفة ضئيلة، لا يتعدى تأثيرها المصالح الخاصة، ولا يفكر القائمون بها في غير السلب والاعتداء.
إن تسامح العباسيين بإدخال أهل غير عصبيتهم فيهم أدى إلى انتشار كلمتهم وتمزيق جامعتهم، وما كل القواد والعمال كإبراهيم بن المهدي وجعفر بن يحيى وطاهر بن الحسين وعبد الله بن طاهر، ولا كل المتوثبين على الملك في عقلهم وسياستهم كأحمد بن طولون وسيف الدولة بن حمدان.(1/230)
دثرت تلك الطبقة الممتازة المختارة، وخلف من بعدها خلف من القواد والرجال ليسوا في الأكثر على شيء من حسن السياسة والإدارة. إذا كان لهم جيش عظيم رهبهم الناس، وإلا فالحكم للصعاليك والسلبة، وهم أول الطامعين في السلطان، العاملين على نقض بنيان الأوطان، والناس بين مظلوم وظالم، ومتخوف ومخيف. والمنافسة بين الأمراء على أشد حالاتها، والشام مقسم الأجزاء بين كثيرين في سياسته الداخلية والخارجية، مصر من الجنوب تشده، وبغداد من الشرق تريد أن تسترده، والطامعون فيه من الترك والتركمان والروم والقرامطة والعبيد والخدم والمماليك يسطون عليه فيدمرون عمرانه، ويهلكون أهله وسكانه، والناس في الواقع لا
يعرفون لهم سيدا معينا لتفرق قلوبهم، وتباين منازعهم. وصاحب حمص غير صاحب حلب، وصاحب دمشق غير صاحب صور أو الرملة، مملكة هذا حالها تموت بحكم الطبيعة، ولا تستريح من الغوائل نحال. والجسم يعيش بروح واحد وتعدد الأرواح يستلزم تعدد الأجسام.
بعد أن قتل القرامطة الباطنية أهل مدن برمتها من هذا القطر استنجد أهل أعظم مدينة فيه بهم، فوافوا يجوسون خلال ديارهم لينقذوها من دولة الفاطميين المسلمين، وبعد أن ثبت أن الروم هم أعداء الشام بلا مراء، أصبح أمراؤه يستغيثون بهم على أبناء ملتهم ليصفو لهم ملكهم الذي يريدون أن يعيشوا فيه قيد الأسر لعدوهم الخارجي، ويستكثروا من القصور والجواري والمماليك والحاشية والغاشية ليكون كل صاحب مقاطعة في أبهته كخليفة الوقت وزيادة. يسلبون نعمة الرعية لينعموا بما سلبوا، كمن يحاول نقض أساس بيته، يجمل خارجه بإطار جميل، أو يذهب شرفته، وجدرانه. وبينما كان العزيز الفاطمي يبث دعاته لنشر التشيع في الأقطار التي انضوت إلى علمه، ويقتل هو وآله علماء المالكية لتشددهم في التسنن، كان جمهور المسلمين غاضبين في مصر والشام لأنه وسد الأمر بمصر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام لإسرائيلي اسمه منشا يجمعان الأموال، يوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكتاب والمتصرفين من المسلمين، فعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة(1/231)
من حديد وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره وهي: بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس وأعز جميع اليهود بمنشا وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم وأزحت عنهم هذه المظالم فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس بالعفو. فحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده إلى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين في
دواوينه وأعماله. أما منشا فقتل إذ لم يستشفع فيه أحد. تناقض في التسامح غريب في بابه، وأصول في الإدارة لم يلاحظ فيها نزع العلة التي يشتكي منها، بل كان ينظر فيها لمنفعة الخزانة، أما الرعايا فأمرهم لله، وحسابهم على سواه.
ولقد جاء في الفاطميين وزراء عقلاء مثل الوزير ابن كلس المتوفى سنة 380 الذي نصح للعزيز في مرض موته بقوله: سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة وكان ذلك غاية الغاية في سياسة الملك لأن الروم أُمة قوية عزيزة لا تخنع لجيرانها خلفاء مصر ولا لخلفاء بغداد، وهي تراهم مختلفة كلمتهم جد الاختلاف متعبين في داخليتهم، مشتغلين بالمنتقضين على سلطانهم، فقد أجاب العزيز الروم سنة 377 إلى الصلح واشترط شروطاً شديدة التزموا فيها كلها. منها أنهم يحلفون أنه لا يبقى في مملكتهم أسير إلا أطلقوه. وأن يخطب للعزيز في جامع قسطنطينية كل جمعة، وهادنهم سبع سنين. أما الدولة الحمدانية فإنه على ما يظهر لم يعجل انقراضها إلا اعتصامها في آخر أمرها بالروم، ونفضها يديها من طاعة العباسيين وطاعة الفاطميين معا، فاستهان بها عدوها وصديقها، ودب الفساد ودخلت الدسائس وكان في ذلك زوالها، وأما المفرج بن دغفل أمير بني طيىء وسائر العرب بأرض فلسطين، فإنه كان عدوا لدودا للفاطميين، قريبا من دار ملكهم يهددهم كل يوم، وربما استطاع أن يستنجد بملوك الشرق على نقض عرى الملك الفاطمي. فهو بدوي والأعراب أي البادية ما دخلوا بلدا إلا أسرع إليه(1/232)
الخراب، وقيام الملك يحتاج إلى حسن تدبير وتقدير أكثر من البطش والجبرية، ولذلك لم تتم لأمراء بني طيىء في الجنوب، ولا لبني مرداس الكلابيين في الشمال دولة تعاقبت عليها بطون كثيرة في الشام وكيف في الشام وكيف كان حال هذا الدول فإن قاعدة الحكيم ابن خلدون في أن للدول
أعمارا طبيعية كالأشخاص لا تنتقض في الدول التي يحكمها الأفراد حكما استبداديا، وسعادة الدولة لا تدوم كالأفراد أكثر من أربعة بطون: الأول يفتح ويجمع، والثاني ينظم ويرتب، والثالث ينعم ويتمتع، والرابع يفرق ويخرب، تعالى الله.(1/233)
دور السلجوقيين
من سنة 463 - 490
أصل السلجوقيين والتركمان والفتح السلجوقي:
كانت الشام في معظم دور الفاطميين ككرة الصوالجة تتقاذفها القوات المختلفة. وقد قام الفاطميون بعقب انقراض الدولة الإخشيدية في مصر، وورثوا تراثهم في قسم من هذه الديار، ثم انقرضت دولة الحمدانيين في الشمال، وكانت في آخر أمرها تفزع إلى دولة الروم البيزنطية لتحميها بأس خلفاء المصريين من بني عبيد. وقامت دولة بني مرداس ودولة بني الجراح ودولة بني سنان أي دول بني كلاب والطائيين وبني كلب إلى غيرهم من الدول الجديرات بأن يطلق على القائمين بها خوارج على الفاطميين، وكلهم أمراء عرب البادية أخضعوا المدن لسلطانهم مدة، وكان قيامهم دليلا على ضعف الدولة وسوء سياسة عمالها.
انقضى عهد الفاطميين أو كاد وكانت معظم أيامهم فتوحا وفتوقا، ولم يخفق علمهم على الشام كله مدة طويلة، بل كان إذا خضع الساحل خاصم الداخل، وإذا أطاع الجنوب نشز الشمال. وهكذا كان الشقاء في أيامهم أكثر من السعادة، والأهواء مشتتة، والآراء ممزقة، ولئن كان أول خافائهم ممن ملك الشام المعز ثم العزيز يحبان العدل والإنصاف، ولهما من الحزم قسط وافر، إلا أن الولاة الذين تولوا الشام على عهدهما أيضا كانوا في الأكثر ظلمة يسفكون الدماء ويستحلون أموال الرعية. فخرب القطر(1/234)
في أيامهما وضعف أهله وغلت الأسعار ولا سيما على عهد العزيز، وكانا يبادران حالا إلى إبدال العمال مخافة أن ينزعوا إلى العصيان. أما عهد الحاكم فكان الخلل المطلق، لخلل في عقله وخرق في سياسته، وكانت الشام بعده تختلف باختلاف العامل الذي ترسله مصر.
وبينا القطر متقلقل في سياسته أقبلت من الشرق قوة عظيمة لا قبل له بدفعها. قوة
الدولة السلجوقية التركمانية الجديدة جاءت لتقضي على الدولة الفاطمية العربية التي نزل بها الهرم أو كاد. والسلجوقيون نسبة لسلجوق من صغار أمراء الترك في أرجاء بخارى، يقسمون إلى ثلاثة فروع، فرع العجم وهذا الذي استولى على العراق والجزيرة، ثم على الشام والحجاز واليمن، وفرع الروم أي آسيا الصغرى، وفرع كرمان. والتركمان قبائل كانت لأول أمرها تنزل بين بحيرة آرال وبحر الخزر، وهم من أول الأتراك الذين دانوا بالإسلام وخدموا بني العباس، هاجروا إلى فارس والعراق وآسيا الصغرى. وهم أصل الترك العثمانيين سكان الأناضول، وأعظم الشعوب التركية. والفرق طفيف بين لسانهم ولسان اويغور أي الجغتاي. وتنقسم الألسنة التركية إلى خمسة أقسام وهي الجغتاي أو اويغور والنوغاي أي التتري والقرغيز والياقوت واللسان العثماني. فإذا أطلق اسم الترك فالمقصود منه الجنس الجامع لهذه الشعوب الخمسة، وإذا قيل التركمان أريد به أعظم شعب في الترك، وكلا الإطلاقين جائز. والتركمان على جانب عظيم من الشجاعة والفروسية، أظهروا من الجلادة منذ وطئوا هذا القطر ما خلدوا به أعظم المفاخر، وأسسوا في الشام حكومات منها المحمود، ومنها دون ذلك.
لما سار السلطان آلب أرسلان ثاني ملوك السلجوقيين بجيوشه إلى الشام، كانت مملكته تمتد إلى الصين شرقاً، ومن أقصى ديار الإسلام شمالاً، إلى أقصى اليمن جنوباً، وجاء إلى حلب وأقام الحصار عليها وعظم القتال بين عساكره وحامية حلب لصاحبها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس، ثم استسلم هذا وخلع عليه السلطان آلب أرسلان، وأعاده إلى بلده فبعث إليه مالاً جزيلاً. وفي تلك السنة 463 قطع خطبة المستنصر العلوي(1/235)
وخطب للقائم العباسي، وبدأ ظل الدولة الفاطمية يتقلص، وكان الحامل لآلب أرسلان على فتح الشام أن ناصر الدولة بن حمدان الحاكم المتحكم في الدولة المصرية أرسل يسأله أن يسير له عسكراً من
قبله ليقيم الدعوة العباسية وتكون مصر له، فتجهز آلب أرسلان من خراسان في عساكر جمة، وكان جيشه فيما قيل لا يقل عن أربعمائة ألف.
وخلف آلب أرسلان في الشام طائفة من عسكره فجمع أتسز بن اوق من أمراء السلجوقيين الأتراك الغز، وسار إلى فلسطين ففتح الرملة، وسار منها إلى بيت المقدس وحصره، وفيه عسكر المصريين ففتحه، وملك ما يجاوره ما عدا عسقلان، وقصد دمشق فحصرها وتابع نهب أعمالها حتى خربها وقطع الميرة عنها، فضاق الأمر بسكانها فصبروا ولم يمكنوه من ملك البلد فعاد عنه، وأدام قصد أعماله وتخريبها كل سنة حتى قلّت الأقوات عندهم، فكان يأخذ الغلات عند إدراكها فيقوى بها هو وعسكره ويضعف أهل دمشق وجندها.
ولما ملك السلطان ملكشاه بن آلب أرسلان 465 سير أخاه تاج الدولة تتش إلى الشام، وقرر معه فتح ديار مصر والمغرب واستخلاصهما من العلويين، وأمر مملوكيه بزان صاحب الرّهما وآق سنقر صاحب حلب أن يطيعاه على هذا الغرض. وكان ملكشاه الملقب بالسلطان العادل وأبوه آلب أرسلان من قبل المثل السائر في آل سلجوق بعدلهما، ولم يكن للخليفة العباسي معهما سلطان في الحقيقة، على نحو ما كان العباسيون في الدهر السالف مع سلاطين بني بويه الأعاجم. عرفت الشام ذلك وكان مما يفتح القلوب لحكم السلجوقيين أنهم من أهل السنة يخطبون بأسم بني العباس. وجميع هذه المزايا كانت مفقودة في الدولة العلوية المصرية.
فتح دمشق:
وفي سنة 467 حاصر السلاجقة ثغر عكا وقتلوا واليها وساروا عنها إلى طبرية، وسار أتسز إلى دمشق فحصرها وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر ولم يقدر عليها فانصرف عنها، وكان المعلى أساء(1/236)
السيرة مع الجند
والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه وثار به العسكر، وأعانهم العامة فهرب منها، فخرجت دمشق وأعمالها وجلا عنها أهلها، وهان عليهم مفارقة أملاكهم وسلوهم عن أوطانهم، بما عانوه من ظلمه، وخلت الأماكن من قاطنيها، والغوطة من فلاحيها. ولما رحل المعلى عن دمشق اجتمعت المصامدة الفاطميون وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي وغلت بها الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، ووقع الخلاف بين المصامدة وأحداث البلد، وعرف أتسز ذلك فعاد إلى دمشق فحصرها، فعدمت الأقوات وبيعت غرارة القمح إذا وجدت بأكثر من عشرين ديناراً، فسلموها إليه بالأمان وخطب بها للخليفة العباسي، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين. وتغلب على أكثر الشام ومنع الأذان بحي على خير العمل، ففرح أهلها فرحاً عظيماً، وظلم أهلها وأساء السيرة فيهم.
قال ابن عساكر: إن أتسز التركماني لما دخل دمشق وكان حاصرها دفعات، أنزل جنوده دور الدمشقيين، واعتقل من وجوههم جماعة، وشمسهم بمرج راهط حتى افتدوا نفوسهم بمال أدوه له، ورحل جماعة منهم عن البلد إلى طرابلس إلى أن أريحوا منه بعد. وقال ابن الأكفاني: نزل أتسز محاصراً لدمشق ثم انصرف عنها، ثم عاد إلى منازلتها، ثم رحل عنها، ثم رجع إليها فحاصرها، ثم إنه فتح البلد صلحاً، ودخلها هو وعسكره سنة 468 وسكن دار الإمارة وخطب بها للمقتدي العباسي، وكتب إليه يذكر له تسليمها إليه، وغلو الأسعار بها، وموت أهلها، وأن غرارة القمح بيعت بمائتي دينار مما لم يعهد مثله. وأن أتسز نظر في أمور دمشق بما يعود بصلاح أعمالها، وأطلق لفلاحي المرج والغوطة الغلات للزراعات فصلحت الأحوال ورخصت الأسعار.
ولما فتح أتسز دمشق وأقام الخطبة العباسية طمعت نفسه في ملك مصر، فسار 469 من دمشق فيمن استطاع من الأحداث والجند ورجع خائباً بعد أن قتل من
جنده جملة كثيرة جداً، ثم أقام بدمشق وجاءه التركمان من الروم ولم يستخدم غيرهم، وعصى عليه الشام وأعيدت خطبة صاحب(1/237)
مصر في جميع الشام، قام بذلك المصامدة والسودان. وكان أتسز وأصحابه تركوا أموالهم بالقدس، فوثب القاضي والشهود ومن بالقدس على أموالهم ونسائهم فنهبوها واستعبدوا الأحرار، فخرج من دمشق فيمن انضوى إليه، ودخل القدس فقتل ثلاثة آلاف إنسان، واحتمى قوم بالصخرة والجامع فقرر عليهم الأموال لأنه لم يقتلهم وأخذ مالا كثيرا، وسار إلى الرملة فلم ير فيها من أهلها أحدا، فجاء إلى غزة وقتل كل من فيها فلم يدع بها عينا تطرف، وجاء إلى العريش فأقام فيه وبعث سرية فنهبت الريف وعادت، ثم مضى إلى يافا فحصرها وهدم سورها، ثم عاد إلى دمشق ولم يبق من أهلها عشر العشر من الجوع والفاقة، بل لم يبق من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة ألف أفناهم الوباء والغلاء والجلاء. وكان بها مائتان وأربعون خبازا فصار بها خبازان والأسواق خالية، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادي عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار، وأكلت الكلاب والسنانير والفيران، وكان الناس يقفون في الأزقة الضيقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم.
وعاد الفاطميون يحاولون فتح دمشق وعليهم ناصر الدولة الجيوشي فحاصروها مدة 471 وترحلوا، ثم حاصروها مرة ثانية واستولوا على أعمالها وأعمال فلسطين، فاضطر صاحبها أتسز إلى الاستنصار بتاج الدولة، فلما عرف ناصر الدولة الخبر رحل عن دمشق وقصد الساحل. وكان ثغرا صور وطرابلس في أيدي قاضييهما قد تغلبا عليهما، ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش الفاطمي، ويصانعان الأتراك بالهدايا والألطاف. ووصل تاج الدولة إلى عذراء في عسكره لإنجاد دمشق فخرج أتسز إليه وخدمه ثم قبض عليه وقتله وملك تاج الدولة
دمشق، واستقام له الأمر وأحسن السيرة في أهلها بالضد من فعل أتسز وملك أعمال فلسطين، ثم قصد حلب وملك حصن بزاعة 470 وقتل جميع من فيه، وملك البيرة وأحرق ربض عزاز وغيرها من الحصون مع ما غلب عليه من القلاع المجاورة.(1/238)
أول جمهورية عربية ومقتل آخر أمير عربي:
وفي سنة 472 انقضت دولة بني مرداس بحلب، وكان قصدها تتش ابن آلب أرسلان فحاصرها أربعة أشهر ونصفا، ثم رحل عنها فنازلها مسلم ابن قريش صاحب الموصل، وتعهد لملكشاه السلجوقي أن يحمل إليه كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فكتب له تقليدا، وعادت رياستها شورى في مشيختها وطاعتهم لمسلم بن قريش. ومعنى أن حلب أصبحت رياستها شورى في مشيختها أن الحلبيين لما نفضوا أيديهم من حام يحمي بلدهم ألفوا جمهورية من شيوخهم أدارت شؤونهم زمنا، وجعلوا ملكهم صاحب الموصل. وذكر المؤرخون أن الحلبيين أحسنوا في هذه الحكومة ولم يختلفوا ونفذت قواعد العدل واستقر الأمر في نصابه. وسبب ميل الحلبيين إلى مسلم بن قريش أن تتش بن آلب أرسلان حصر مدينتهم المرة بعد المرة واشتد عليها الحصار، فكان ابن قريش يواصلهم بالغلات وغيرها، ولما دخلها حصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس، وأنفذ إلى السلطان يخبره بملك البلد، وأنفذ مع الرسول شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها، وسأل أن يقرر عليه الضمان، فأجابه السلطان إلى ما طلب. وفي سنة 473 ملك جلال الملك ابن عمار قاضي طرابلس وصاحبها حصن جبلة. وكان ابن عمار غلب على تلك الأصقاع سنين وعجز والي الفاطميين بدر الجمالي عن مقاومته.
وفي سنة 475 جمع تاج الدولة تتش جمعا كثيرا وسار عن بغداد وقصد بلاد
الروم إنطاكية وما جاورها، فلما سمع شرف الدولة صاحب حلب الخبر خافه فجمع أيضا العرب من عقيل والأكراد وغيرهم، فاجتمع معه خلق كثير، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق فوعده بذلك. فلما سمع تاج الدولة الخبر عاد إلى دمشق وحصرها وقاتله أهلها. وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه، وحملوا على عسكره حملة صادقة فانكشفوا وتضعضعوا، وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة وأشرف على الأسر وتراجع إليه أصحابه. فلما رأى ذلك(1/239)
ورأى أن مصر لم يصل إليه منها عسكر وأتاه من بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه، رحل عن دمشق إلى بلاده وأظهر أنه يريد بلاد فلسطين. رحل أولا إلى مرج الصفر فارتاع أهل دمشق وتاج الدولة واضطربوا، ثم سار من مرج الصفر مشرقا في البرية، وجد في مسيره فهلك من المواشي الكثير مع عسكره وانقطع خلق.
وكان مسلم بن قريش الذي أحبه أهل حلب وأطاعوه من جملة عمال آلب أرسلان، وكان سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصرا وملاطية ومن عمال السلجوقيين وأنسبائهم أشار إليه ملك السلجوقيين الأكبر السلطان ملكشاه أن يستولي على إنطاكية 477 ففعل، ولما استقر فيها بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه المال الذي كان يحمله صاحب إنطاكية الرومي إليه فأبى وقال: أنا لا أدفع الجزية لأني مسلم، فنهب مسلم بن قريش إنطاكية، ونهب سليمان بن قتلمش حلب، ثم جمع مسلم ابن قريش الجموع من العرب والتركمان ومعه أمير التركمان جبق في أصحابه وسار إلى إنطاكية ليحصرها، فسار إليه سليمان بن قتلمش فالتقيا على نهر سبعين في موضع يقال له قُرزاحل واقتتلا، فمال تركمان جبق إلى سليمان فانهزمت العرب وتبعهم مسلم بن قريش منهزما، فقتل بعد أن صبر وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وسار سليمان إلى حلب فحصرها 478 ولم يبلغ
منها غرضا.
وفي هذه الوقعة التي قتل فيها سليمان بن قتلمش التركي مسلم بن قريش العربي انتقل ملك الشام من أيدي العرب إلى الترك ولم يحكم في الشام بعده إلا أمراء وملوك من التركمان والأتراك والشراكسة والأكراد. وكان الأتراك يأتون الشام منذ أوائل القرن الثالث عمالا للعباسيين، فلم تكن مقاتلهم بادية للعيان لأنهم كانوا يحكمون باسم الدولة التي يعملون لها، وكان أكثرهم على جانب من حسن الأدب والإدارة نشأوا نشأة عربية، وها قد جاء دور يعمل الأتراك فيه أحراراً لحساب أنفسهم، بعد أن ختم الحكم العربي بمقتل مسلم بن قريش العقيلي.
وعاد سليمان بن قتلمش في السنة التالية وقصد حلب فبلغه أن تاج الدولة(1/240)
تتش قد تأهب لقصده فرحل عنها، والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سيلم على ثلاثة أميال من حلب، فكسر جيش تاج الدولة عسكر سليمان وقتل هذا في الهزيمة وملك تاج الدولة عسكره وسواده ونزل على حلب فتسلمها. ثم وصل ملكشاه وانهزم أخوه تاج الدولة من حلب وملكها ملكشاه مع إنطاكية. أي إن سليمان بن قتلمش أحد عمال السلطان ملكشاه السلجوقي، قتل بأمر مولاه مسلم بن قريش ليأخذ بلاده، فقام تتش أخو ملكشاه فقتل سليمان، ثم قام تتش يريد الاستئثار بالملك دون أخيه، وقد فاته أن ملكشاه تهتز الدنيا من جيوشه، وأخوه في الشام لا يخرج عن كونه واليا من ولاته، والغالب أن تاج الدولة عرف هذا من نفسه فلم يسعه إلا أن يخدم أخاه.
ولما نزل ملكشاه بحلب دخل ابن منقذ صاحب شيزر في طاعته، وسلم إليه اللاذقية وكفرطاب وأفامية، فأقره السلطان على سيزر وسلم حلب إلى قسم الدولة آق سنقر جد البيت الأتابكي أصحاب الموصل والشام، ووالد عماد الدين زنكي، وجد نور الدين محمود بن زنكي. ولما استقر آق سنقر في حلب وأعمالها بسط
العدل في أهلها، وحمى السابلة وتتبع المفسدين وأبادهم. وكان ملكشاه في سنة 479 مَلَك حران وقلعة جعبر على الفرات، ثم ملك منبج وحلب، أما دمشق فكانت بيد تاج الدولة تتش منذ سنة 471 أقطعه إياها أخوه السلطان ملكشاه مع ما يفتحه من بلاد الخليفة العلوي. وكانت جيوش الفاطميين تغزو بعض المدن الساحلية وتستردها من التركمان أحياناً، وسلطة الفاطميين تتقلص اللهم إلا من فلسطين، فإنهم بعد أتسز الخوارزمي أخذوا يستردونها وخرج 478 أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر فحصر دمشق وبها تاج الدولة تتش وضيق عليه فلم يظفر بشيء فارتحل عائدا إلى مصر.
-
تنازع السلجوقيين والفاطميين وانقسام السلجوقيين:
لم ينقطع أمل الفاطميين من ملك الشام بعد أن قطعت خطبتهم من أهم(1/241)
مدنها مرات ثم عادت إليها، وبعثوا سنة 482 جيشاً قصد الساحل وفتح ثغر صور، وكان تغلب عليها ابن أبي عقيل وامتنع عليهم ومات فوليها أولاده ودخلوا تحت راية تاج الدولة تتش، فلما حصرهم عسكر المصريين سلموها إليهم، ثم فتح الجيش الفاطمي صيدا وعكا وجبيل.
ونزل تاج الدولة 483 على حمص ومعه آق سنقر وبزان وفيها خلف بن ملاعب الكناني، فضايقوها إلى أن ملكوها بالأمان. وخرج ابن ملاعب وسافر إلى مصر، ثم عاد وأعمل الحيلة حتى ملك حصن أفامية، واستخلصه منه قسيم الدولة آق سنقر في السنة التالية. وقيل: إن القتال كان على بعلبك وإن من حاربوا خلف ابن ملاعب قالوا له: أنت خطبت للمستنصر العلوي، فلما أخافوه طلب الأمان.
وفي سنة 484 فتح تاج الدولة عرقة وقلعة أفامية، ثم سار إلى طرابلس فحصرها وبها صاحبها ابن عمار ابن أخي القاضي أبي طالب بن عمار قاضي طرابلس
والمتغلب عليها، وكان معه آق سنقر وبزان ونصب عليها المجانيق. فاحتج عليهم ابن عمار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على طرابلس فلم يقبل منه تتش ذلك وتوقف آق سنقر عن قتاله فقال له تتش: أنت تبع لي فكيف تخالفني؟ فقال: أنا تبع لك إلا في عصيان السلطان. فغضب تتش ورجع إلى دمشق. وذكر ابن الأثير: أن ابن عمار لما رأى جيشاً لا يدفع إلا بحيلة أرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً، وكان مع آق سنقر وزير له اسمه زر بن كمر فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه فسعى مع صاحبه آق سنقر في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان.
وفي سنة 486 خرج من مصر عسكر كثير إلى صور لما عصى واليها منير الدولة، وكان أهل صور أنكروا عصيانه فحين اشتد القتال نادوا بشعار المستنصر بالله العلوي، فهجم العسكر المصري على البلد وأخذها، وفرض على أهلها ستين ألف دينار، وفي هذه السنة تحرك تتش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه الذي توفي في السنة الماضية، واتفق(1/242)
معه آق سنقر صاحب حلب، وباغي سيان صاحب إنطاكية، وبزان صاحب الرُّها، وسار معه آق سنقر فافتتح نصيبين والموصل وديار بكر، وسار إلى أذْرَبيجان، وكان بركيارق بن ملكشاه قد استولى على جانب كثير منها، فلما رأى آق سنقر ذلك تخلف عن معاونة تتش وقال: نحن إنما أطعنا تتش لعدم قيام أحد من ألاد السلطان ملكشاه، أما إذا كان بركيارق بن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره. وخلى آق سنقر تتش ولحق ببركيارق فضعف تتش لذلك، وعاد من أذْرَبيجان إلى الشام وأخذ في جمع العساكر وكثرت جموعه 487 وجمع آق سنقر العسكر بحلب، وأمده الأمير بركيارق بالأمير كربغا صاحب الموصل، فاجتمع كربغا مع آق سنقر، والتقوا مع تتش عند نهر سبعين
على ستة فراسخ من حلب واقتتلوا، فخامر بعض عسكر آق سنقر مع تتش وانهزم الباقون، وثبت آق سنقر فأخذ أسيراً وأحضر إلى تتش فقال تتش لآق سنقر: لو ظفرت بي ما كنت صنعت، قال: كنت أقتلك، قال تتش: فأنا أحكم عليك بما تحكم عليّ به. فقتل آق سنقر وسائر أصحابه صبراً، وسار تتش إلى حلب فملكها.
ورحل تاج الدولة عن حلب بعد أن ملكها وحصونها إلى الفرات، واستولى على حران وسروج والرُّها وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام، فسار إلى حلب ومنها إلى العراق فالري، واستصحب معه جماعة من أُمراء العرب وأتراك حلب القسيمية، نسبة لقسيم الدولة آق سنقر، فجرت وقعة بين السلطان بركيارق بن ملكشاه وبين عمه تاج الدولة تتش على عانة من عمل الجزيرة، فانفلَّ عسكر هذا وتفرق ونهب سواده، وأسر أكثر جنده وقتل منه خلق كثير. واغتال بعض أصحاب آق سنقر تاج الدولة تتش فقضى عليه. ولما بلغ الخبر فخر الملوك رضوان في دمشق ما تم على أبيه تاج الدولة أغذّ السير إلى حلب ففتحت له أبوابها، ووصل إليه أخوه شمس الملوك دُقاق من ديار بكر، وراسله الأمير ساوتكين الخادم المستناب في قلعة حلب والبلد، وقرر له ملك دمشق سراً، فخرج في الحال من حلب، وجلس على سرير أبيه في دمشق، واستقام له الأمر واستمرت على السداد(1/243)
الأحوال. وفي سنة 490 قدم على الأفضل بمصر رسل فخر الملوك رضوان بن تتش صاحب إنطاكية، يبذل له الطاعة في إقامة خطبة المستعلي بالشام، فأجيب بالشكر والثناء وخطب للمستعلي.
تطال تتش إلى ملك أخيه ملكشاه فصده عنه ابنه بركيارق وقتله. وقتل تتش آق سنقر لأنه لم يوافقه على رغائبه من نزع الملك السلجوقي من ابن ملكشاه، وحنق تتش على آق سنقر منذ قال له يوم طرابلس وهو يريده على قتال صاحبها: نحن نطيعك إلا في عصيان السلطان. فقتل آق سنقر وجوزي تتش بأن قام من صنائع
قتيله من يأخذ بثأره فقتله أيضاً واستراح آل ملكشاه من تصدي تتش للملك وهو الذي لم يقنع بملك الشام، وكان فيه الملك الأعظم بعد مقتل آق سنقر. وتصرفت الأقدار بأن تتسلم زمام الأمر في هذا القطر ذرية تاج الدولة تتش، ريثما ينتقل منها الحكم إلى مملوك آخر اسمه طغتكين، وهو يسلمه إلى حفيد آق سنقر نور الدين محمود بن زنكي.
-
الدولة الأتابكية وطغتكين وبنو أرتق:
كان آق سنقر زبُزان صاحبا حلب وإنطاكية من مماليك السلطان ملكشاه، وكان من أمرهما في الغناء والوفاء ما كان في الشام حتى مضيا لسبيلهما. ثم قام مملوك آخر طالت مدته أكثر منهما وكان له في الدولة بالشام اليد الطولي والكعب المعلى، ونعني به أبا منصور ظهير الدين أتابك طغتكين، من مماليك تاج الدولة تتش بن آلب أرسلان ملك الشام، ومعنى أتابك مربي أولاد الملك أو قائد الجيوش. قال ابن القلانسي: حظي هذا الأمير وهو في حداثة سنه عند السلطان تاج الدولة فقدمه على أبناء جنسه من خواصه وبطانته، وسكن إلى شهامته وصرامته، وسداد طريقته، فجعله مقدم عسكره، واستنابه في تدبير أمر دمشق، وحفظها أيام غيبته، فأحسن السير فيها، وأنصف الرعية من أهلها، وبسط المعدلة في كافة من بها، فكثر الدعاء له والثناء عليه، فعلت منزلته وامتثلت أوامره، ولم يلبث أن شاع ذكره بنجابته، وأشفقت(1/244)
النفوس من هيبته، فولاه ميافارقين وديار بكر وهي أول ولايته؛ وسلم إليه ولده شمس الملوك دقاق واعتمد عليه في تربيته وكفالته، فساس أمرها بالهيبة والتدبير، وأصلح فاسدها وقوّم منآدها.
قال: وتنقلت به الأحوال إلى أن توجه مع تاج الدولة إلى الري وشهد الوقعة التي استشهد فيها تاج الدولة، وحصل في قبضة الاعتقال مع من أُسر من المقدمين،
وأقام مدة إلى أن أفرج عنه 488 فتلقاه شمس الدولة دُقاق بدمشق وعسكره وأرباب دولته، وبولغ في إكرامه واحترامه، ورد إليه النظر في قيادة الجند، واعتمد عليه في تدبير المملكة، وسياسة البيضة، واقتضت الحال فيما بينه وبين الملك وأمراء الدولة العمل على الأمير ساوتكين والإيقاع به، وتمم عليه الأمر وقتل، وعقدت الوصلة بينه وبين ظهير الدين أتابك وبين الخاتون صفوة الملك والدة شمس الملوك دقاق ودخل بها، واستقامت له الحال بدمشق وأحسن السيرة فيها، وأجمل في تدبير أهليها، وسكنت نفس شمس الملوك إليه اه.
فانظر إلى غرائب التوفيق في الأرض كيف ينشأ مملوك، ربما كانت يد النخاس مرت على رأسه، يكفل ابن السلطان ويربيه ويتزوج بأمه ويتصرف في ملكه ويدبر أمره، ثم يصبح بتجاربه وعقله ملكاً ترغب الملوك في التقرب منه، ويخاف العدى بأسه وسطوته، ويظهر في مظهر من طيب الأخلاق لا يضاهيه من تسلسل فيهم الحكم والملك، وتنقلوا في السلطان كابراً عن كابر، لكن هي التربية إذا حسنت أتى صاحبها بالعجائب، والنفوس إذا صفت جبل الخلق على حبها، والإرادات متى سلمت استمات الناس دونها، وبهذا كان الناس ولا يزالون يحكم كبارهم صغارهم، ويصبح المملوك ملكاً مطاعاً والمسود الخامل سيداً نابهاً، وكم من عصامي أفلح، ومن عظامي أخفق.
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خَلَق وجيب قميصه مرقوع
ومن المماليك حكموا في الشام فأصبحوا ملوكاً في هذا الدور أيضاً بنو أُرْتُق، نسبةً لجدهم أُرتق بن أكسك وقيل أكسب التركماني ومن مماليك ملكشاه بن آلب أرسلان. تغلب أُرتق على حلوان والجبل(1/245)
وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، ثم أمره مولاه ملكشاه سنة 477 أن يذهب مع فخر الدولة بن جهير لضبط الموصل، وبينما كان مسلم بن قريش محصوراً في آمد، راسله أُرُتق وأخذ
منه مالاً وافراً وفتح له طريقاً سار منه، فأنهى ابن جهير ذلك إلى ملكشاه فخاف أُرُتق وذهب إلى دمشق والتحق بصاحبها تاج الدولة تتش، وعاونه على الاستيلاء على حلب، وساعده في كثير من المواقف، فأقطعه فلسطين، أخذها من أصحاب أتسز أرتق الخوارزمي 584. فلما توفي صارت القدس وعملها لولديه ايلغازي وسقمان ابني أُرتق، حتى خرج عسكر خليفة مصر فاستولوا على القدس بالأمان في سنة 489 بعد أن بقيت في حكم الأرتقية ثلاث عشرة سنة وأياماُ. وسار سقمان وأخوه إيلغازي من القدس فاجتاز سقمان بدمشق وكان صاحبها متغيباً عنها فقاتله أهلها ومن فيها من الأجناد.
وفي سنة 490 برز الملك رضوان صاحب حلب وياغي سيان صاحب إنطاكية إلى ناحية شيزر وعزما على معاودة دمشق لفتحها، فوقع الخلف بين مقدمي العسكر فرجع ملك حلب، وورد عليه كتاب المستعلي بالله الفاطمي يريده على الدخول في طاعته، وإقامة الدعوة لدولته، وكذلك كتاب الأفضل يتضمن مثل ذلك، فأجابهما إلى ما التمساه وأمر أن يدعى للمستعلي على المنبر وللأفضل بعده، ثم يدعى له بعدهما، ودامت الخطبة على ذلك أربع جمع. وكان الملك رضوان قد بنى الأمر في ذلك على الاجتماع مع العسكر المصري والنزول على دمشق لأخذها من أخيه الملك دقاق. فأنكر سقمان بن أرتق وياغي سيان على الملك الدخول في الأمر، واستبدعاه من فعله، وأشارا عليه بإبطاله واطراح العمل به، فقبل ما أشير عليه وأعاد الخطب إلى ما كانت عليه أي للعباسيين. وجرى الاتفاق على أن يخطب في دمشق لرضوان قبل أخيه دقاق، وذلك بعد أن يخطب للخليفة ثم للسلطان، وفي هذه السنة خرج العسكر من مصر ونزل على صور بعصيان واليه المعروف بالكتيلة، ولم يزل منازلها إلى أن فتحها بالسيف قهراً وقتل فيها خلق كثير، ونهب منها المال الجزيل، وأخذ الوالي فقتل.(1/246)
-
الحروب الصليبية
من سنة 490 - 500
الحملة الصليبية الأولى:
لم يخل الجو لملوك التركمان السلاجقة وأتباعهم في الشام زمناً طويلاً بعد مقتل مسلم بن قريش العربي، فكانت المدة بين مقتله وورود الأخبار بخروج عسكر الصليبيين إلى الأرض المقدسة ثلاث عشرة سنة كما مضى مثل هذا العدد من السنين بين استيلاء أول تركي واستيلاء أول إفرنجي. وكان القطر خلال ذلك في هرج ومرج، يتطاحن أمراؤه يمزق بعضهم بعضاً. تتعاوره أيدي ملكشاه وأخيه تتش بن آلب أرسلان ثم أولاده رضوان ودقاق والمماليك آق سنقر وبزان وطغتكين وأولاد أرتق ايلغازي وسقمان، والسلاجقة هنا يميلون إلى الخلافة العباسية، وإذا رأى بعضهم القوة لأصحاب الخلافة المصرية يغمضون الطرف عنهم، والفاطميون لا يملكون غير بعض الساحل، وأصبح القطر للتركمان، ويصعب على عرب الجزيرة إنجاده لبعد المسافات، وبغداد مهد العرب مشتغلة بنفسها.
ربما كان في استيلاء التركمان على الشام خير لم تعرف حكمته إلا بعد حين، وهو قيام دولة فتية لها جيش جرار اشتهر بالشجاعة حتى قيل: إن آلب أرسلان لما جاء المرة الأولى إلى شمالي الشام كان في أربعمائة ألف مقاتل، ومثل هذا الجيش لا تستطيع العراق والشام والجزيرة أن تجنده لدفع جيوش الفرنج الجرارة، هذا على فرض أن قواها موحدة، وروحها(1/247)
في الدفاع واحد، فالشام إذاً اعتز بالتركمان. ثم إن السلجوقيين كانت بأيديهم الدروب أو المنافذ إلى آسيا الصغرى أو طريق الإفرنج من أوروبا إلى الشام على طريق البر، فتولي دولة التركمان القيادة العامة جمع بالطبيعة حولهم العرب من سكان هذه الديار وما إليها. إن حكم
التركمان الشديد عجل على ما يظهر في خروج الصليبيين إلى الشام. وإليك البيان:
أثخن بنو سلجوق أصحاب آسيا الصغرى في جيش صاحب قسطنطينية بإيعاز السلطان ملكشاه، وضايق الأمير برسق الروم، حتى قرر على القسطنطينية في كل سنة حمل ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، وثلاثين ألف دينار له، جزية يؤديها، فخاف ملك القسطنطينية كثيراً على مملكته من هجوم المسلمين، فكتب يستنهض ملوك أوروبا أن يأتوا لمساعدته، ورضي بطريرك القسطنطينية بأن يقدم خضوعه لبابا رومية، إذا كانت ممالك أوروبا تجهز جيشاً لتخليص المملكة اليونانية مما يتهددها من هجوم التركمان والمسلمين، فكاتب ملوك أوروبا بذلك.
قال صالح بن يحيى في سبب استيلاء الصليبيين على ديار المسلمين: إنه لما قويت دولة بني سلجوق ضعفت حال الخلافة ببغداد، فلما مات ملكشاه السلجوقي سنة خمس وثمانين وأربعمائة وقع الخلف بين ولديه محمد وبركيارق، ودام الحرب بينهما نحو اثنتي عشرة سنة فاضطربت ممالك الشرق لذلك، ووافق هذا خلافة الآمر بأحكام الله بمصر وكان صغيراً، ولما كبر كان مستهتراً بالمملكة فخلا للصليبيين الجو.
وفي التاريخ العام أن حجاج النصارى كانوا يرمون إلى أخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين، وإن كان هؤلاء يتركونهم وشأنهم يقومون بعبادتهم بسلام، ولكن كان يتراءى للنصارى أن سيدهم المسيح يرضى عن عملهم إذا أنقذوا قبره من غير المؤمنين بدينه. وروى بعض المؤرخين أن الفاطميين هم الذين فاوضوا الصليبيين وأرادوهم على غزو الشام لينجوا من السلجوقيين الذين كانت قويت دولتهم. وهذا مما يستبعد، وإن كان العقل لا يستبعد شيئاً في السياسة، ولكن ظهر أن الفاطميين حاولوا غير مرة رد الصليبيين عن السواحل وعن فلسطين.(1/248)
واتفق أن بعض زوار الأوروبيين في الأرض المقدسة شاهدوا شيئاً من العنف في
بيت المقدس لم يكن لهم عهد به في أدوار الحكومات العربية القوية، وانقلبت سماحة العرب بجفاء من خلفوهم من التركمان، فعاد الزوار إلى ممالكهم يقصون ما لقوا من الشدة في الشام ويعظمون الأمر، وكان التعصب الديني يومئذ على أشد حالاته في الغرب، ومعظم حكوماته تدين بدين البابا وتخضع لسلطانه القاهر، ولم يكن ظهر إذ ذاك المذهب الإنجيلي، وكان مذهب الروم الأرثوذكس آخذاً بالضعف ليس له روابط الكنيسة البابوية ولا سلطتها على الأرواح والأشباح، فأوعز البابا إلى أمم النصرانية في الغرب ليهبوا كلهم إلى إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين. وقد ذكر أهل الأخبار من الأوروبيين في تعليل الحروب الصليبية، أن المسيحيين والمسلمين كانوا حتى القرن الحادي عشر للميلاد على صلات سلمية إلا قليلاً، يحمل العرب إلى مصر والقسطنطينية حاصلات مختلفة من بلاد الهند والشرق الأقصى، فتستبضعها من المدن الإيطالية باري وبيزة وجنوة وأمالفي والبندقية فيبيعونها في أوروبا. وكان العرب يسمحون للزوار أن يأتوا زرافات إلى فلسطين، فيشخص إليها جماهير عظيمة من عامة نصارى الغرب يسجدون أمام القبر المقدس. وتضاعفت الحماسة الدينية في ذاك الزمن وتداعى الحكم العربي القائم على التسامح في قارة آسيا، وقام مقامه المحاربون من الترك المعروفين بتعصبهم وبسالتهم. فاستولى السلجوقيون على أرمينية والشام ونيقية ودانت لهم في سنة 469هـ - 1076م القدس فاختلت العلائق الاقتصادية بين آسيا وأوروبا، وخافت المدن التجارية في البحر المتوسط أن يغلق الأتراك أمامها أسواق الشرق.
نعم نشأت الحملة الصليبية الأولى من الحماسة الدينية بصنع البابوية التي كانت إذ ذاك الحاكمة المتحكمة في كل شيء. ولقد تأثر البابا أوربانوس الثاني بشكاوي الزوار القادمين من فلسطين. وقلق للارتقاء المخوف الذي بلغه المسلمون في الأندلس، ولا سيما عقبى وقعة الزلاقة سنة 480هـ - 1087م وقد أثبت العرب
فيها كفاءتهم الحربية، كما أثبتوا من قبل ومن بعد كفاءتهم المدنية، واغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم الذي التأم في مدينة(1/249)
كلرمون وحضره ألوف من الفرسان، ليحرض المؤمنين من النصارى على حمل الصليب لفتح القبر المقدس. فوعد جمهور كبير من جميع طبقات الشعوب أن يرحلوا إلى فلسطين. واتخذوا شعار الحملة الصليبية صليباً من القماش الأحمر يجعل على الكتف الأيمن. وكثر المشتركون بهذه الحملة في إيطاليا وإنكلترا ولا سيما في فرنسا. ومنحهم البابا غفراناً عن جميع خطاياهم، وشجب كل من يمس أموالهم مدة سفرهم. ولم ينتظر العامة ريثما تجمع الجيوش المتحدة التي أبطأ تنظيمها، بل سافروا بدون سلاح، غير آخذين بالحزم في التأهب للرحلة. وكان هذا شأن عصابات البائسين الذين جمعهم بطرس الراهب وغوتيه المعدم سانزافور ومن لم يهلك من هذه العصابات في الطريق أهلكه الترك.
وفي أواخر سنة 490هـ - 1096م اجتمع في القسطنطينية أربعة جيوش متحالفة من اللورين والألمان بقيادة بودوين دي هينو، وفرنسيين من الشمال بقيادة القومس فرماندوا ودوق نورمنديا، وبرفنسيون بقيادة قومس طولوز، ونورميون من إيطاليا بزعامة بوهيموند دي ترانت وتنكري ولم يكن مع هذه الأمم ملك من ملوكهم، ولم يتفق رأي الغزاة على نصب ملك يرتضونه ويرجعون إليه. وكان الأمير الكسيس كومنين ملك الروم يرجو استخدام الجيوش الصليبية لفتح آسيا الصغرى، واسترجاعها من أيدي المسلمين، فصانعوه ولكن ما لبث البيزنطيون واللاتين أن تباغضوا واحتقر بعضهم بعضاً. وبعد سنتين ونصف مضت في المصائب الهائلة والجدال العنيف، استولى الصليبيون في طريقهم على نيقية لحساب الإمبراطور، وكسروا جيش سليمان في دوريليوم أسكيشهر واستولوا على الرُّها 1097 وعلى إنطاكية 1098 وبلغوا القدس واستولوا عليها 492هـ 1099م. وربما هلك في هذه
الحملة نصف مليون من(1/250)
الرجال حتى تهيأ للصليبيين أن ينشئوا أربع إمارات: إمارة القدس وإمارة إنطاكية وإمارة الرها وإمارة طرابلس، قسمت أقطاعاً على الفرسان الغربيين. أما المدن الكبرى في الساحل الشامي فقسمت مستعمرات أوروبية أنشأت فيها مارسيليا والمدن الإيطالية أحياء برمتها.
وبذا رأينا أنه دعا إلى الحملات الصليبية تعصب أوروبا الديني، وحب الغارة والتجارة، والأسباب التي دعت إليها واهية لا محالة. قال أحد كتاب روسيا: كان في الإمكان اجتناب وقوع الحروب الصليبية، وساعد على حدوثها الجهل والأوهام الدينية والسياسية ومصلحة البابوية. وكم من أحزان وآلام وجرائم جديدة كان يمكن أن تتوفر على الإنسانية لو لم يوقف شارل مارتل العرب سنة 110 للهجرة فإن المدنية الزاهرة التي كان يحملها أولئك الذين دعاهم الصليبيون في حال سخطهم وبغضهم بأبناء إسماعيل عبدة الأصنام والكفار والوثنيين، كانت هذه المدنية تؤثر في أوروبا الغربية وتعمل عملها في المدنية الفرنجية والرومانية.
-
الصليبيون في شمالي الشام:
هذا ما كان من جهة الغرب وسر الحملة الصليبية الأولى على هذا الجزء الصغير من الشرق، ولو كانت كلمة القابضين إذ ذاك على زمام الأمر في آسيا الصغرى وأرض الشام متحدة، وحكوماتهم قوية منظمة، لتعذر كل التعذر على الصليبيين أن يزحفوا على إنطاكية، ثم يسير جيشهم حتى يأخذ الساحل ويبلغ البيت المقدس على كثرة عدده، فقد قيل: إن الحملة الأولى كانت مليون محارب ومحاربة، لأن بعض الصليبيين كانوا يصحبون معهم أزواجهم وأولادهم. وفي رواية ميشو أن الحملة الأولى كانت ستمائة ألف محارب على حين كان جيش الإسكندر الذي فتح به آسيا ثلاثين ألفاً فقط. ومع هذا فإن الشام كان في ذاك العهد بحالة من تجزؤ الحكم
بحيث لا تستطيع أن تجهز نصف جيش الفرنج، وهي تحتاج إلى حاميات عظيمة في الثغور والحصون والمدن الكثيرة. وكان المسلمون إذ ذاك كنصارى الأوروبيين مشتتة أهواؤهم غير منظمة قواهم. ومع(1/251)
هذا فقد روى مؤرخونا أن الأخبار لما وصلت سنة 490هـ إلى الشام بظهور عسكر الفرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرة، شرع الملك داود بن سليمان بن قتلمش، وكان أقرب إليهم داراً في الجمع والاحتشاد، واستدعى التركمان فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وعادوا إليه، واستظهروا عليه، وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا، ونهبوا وسبوا، وانهزم التركمان واشترى ملك الروم من السبي خلقاً كثيراً وحملهم إلى القسطنطينية.
ولما اتصلت هذه الأنباء بأمراء الشام، قر رأي أصحاب إنطاكية وحلب ودمشق وغيرهم من صغار الأمراء على الاستصراخ والاستنجاد، وتحصين إنطاكية وإخراج النصارى منها، ولم تلبث عساكر الفرنج أن نزلت على حصن بغراس وأعادوا الكرة على أعمال إنطاكية فعصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لها، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها، وفعل أهل حصن ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج. وكان نهض من عسكر الفرنج فريق يناهز الثلاثين ألفاً فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى حصن البارة وفتكوا بأهله، وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لإنجاد ياغي سيان، فقتل الفرنج منهم جماعة، وعاد الفرنج إلى الروج بين حلب والمعرة، وتوجهوا إلى إنطاكية وجعلوا بينهم وبينها خندقاً لكثرة الغارات عليهم من عسكرها.
وكان الفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا نيقية فلم يسلموها إليه على الشروط المقررة، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب وفتحوا الرها وما إليها وجاءوا إنطاكية
فحاصروها تسعة أشهر حتى واطأهم قوم من الزرادين ومنهم أرمن على تسليم إنطاكية إليهم، وذلك لإساءة صدرت من صاحبها ياغي سيان إلى الأرمن فصادرهم وأرهقهم، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل فباعوه من الفرنج وأطلعوهم إلى البلد منه. فانهزم ياغي سيان بعد أن ظهر من شجاعته وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص، ولما حصل بالقرب(1/252)
من أرمناز قرب معرة مصرين سقط عن فرسه فمات. وقد قتل في إنطاكية وأسر وسبى من الرجال والنسوان والأطفال خلق كثير.
ولما سقطت إنطاكية عادت عساكر الشام فتجمعت، وحاصر المسلمون إنطاكية حتى عدم القوت منها، وأكل الفرنج الميتة، فزحفوا وهم على غاية من الضعف إلى عساكر الإسلام، وهم في الغاية من القوة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم. والسبب في هذه الهزيمة أن كربوغا صاحب الموصل كان في عسكره على حصار إنطاكية مع أمراء دمشق وحلب حمص وغيرهم، فأساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء وتكبر عليهم، فخبثت نياتهم على كربوغا فهزمهم عدوهم وهو في ضعف وهم في قوة. قال صاحب التاريخ العام: وكان الجيش الإسلامي الذي دافع عن إنطاكية وأنجد صاحبها مؤلفاً من مائتي ألف محارب، ولو استطاع هذا الجيش أن يصل كله إلى إنطاكية لقضى على الصليبيين جملة، ولم تلبث الحرب أن نشبت بين الصليبيين فاختلف البرفنسيون والنورميون، حتى إن الفرسان هددوا المتحاربين من الفرنج أن يخربوا المدينة التي كانوا يتنازعون ملكها. وظلت الحرب على إنطاكية أربعة أشهر ففتحت بعد مذبحة هائلة قتل فيها من الفريقين أُلوف.
ولما انهزم المسلمون أمام الفرنج على إنطاكية، سار هؤلاء بجملتهم إلى المعرة
وضموا إليهم الأرمن الذين كانوا في طاعتهم وبعض النصارى الشاميين، فاستولوا عليها ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا منها ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وسبوا مثلهم وأقاموا بالمعرة أربعين يوماً، ثم زحفوا عنها بعد أن قتلوا أهلها وقطعوا أشجارها. قال ميشو: إن الفرنج قتلوا جميع من كان في المعرة من المسلمين الذين اعتصموا بالجوامع واختبئوا في السراديب، فأصبحت خاوية على عروشها، وفقد الفاتحون كل زاد وساءت حالهم، ثم وقع الخلاف بينهم وصاروا في رواية يأكلون جثث الموتى، وهدموا أسوارها وأبراجها، وأحرقوا المساجد وكسروا المنابر وهدموا الدور، ثم ساروا إلى عرقة وحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، ثم ساروا إلى حمص فصالحهم(1/253)
أهلها وراسلهم صاحب شيزر على الصلح وعصت طرابلس عليهم لما بدا من شمم صاحبها ابن عمار واستنجاده بالملوك، فصالحه صاحب إنطاكية وهاداه على أن يكون للفرنج ظاهر طرابلس ولا يقطع الميرة والمسافرين عنها، وبهذا تيسر للفرنج أن يحفظوا خط رجعتهم في طريقهم براً إلى القدس. وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها.
فتح الصليبيين القدس والساحل:
وبعد فتح الفرنج المعرة وغدرهم بأهلها ومن احتمى فيها، وقطعهم على أهل البلد القطائع التي لم يفوا بشيء مما قرروه فيها، ومطالبتهم للناس بما لا طاقة لهم به، رحلوا إلى بيت المقدس على طريق الساحل فأجفل الناس، وكانت حلب على قيد غلوة من خطر استيلاء الفرنج، ولكنهم أعلنوا يوم وصولهم أنهم لا يقصدون إلا الاستيلاء على ما كان للروم من المدن، ليصرفوا فكر حكام الشام عن نجدة أهل إنطاكية، ولكن أمراء الأقاليم لم يصغوا لهذه الدعوة، ونزل الفرنج بعد أن اجتازوا معظم الثغور على الرملة فملكوها، وانتقلوا إلى بيت المقدس فضيقوا عليه، فجاءهم
الأفضل في العسكر الدثر من مصر للإيقاع بهم وإنجاد البلد، فشدوا في قتاله ولازموا حربه، فانهزم الناس وملك الفرنج البلد ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أُسبوعاً، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء. وجمع الفرنج اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المساجد وقبر الخليل، وأحرقوا المصاحف.
قال ميشو: وقد ارتكب الصليبيون في فتح القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير، حتى شكا من ذلك المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يُكرِهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت والبروج ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم كما اتفق على لك مؤرخو الشرق والغرب سبعين(1/254)
ألف نسمة، واليهود كالعرب لم ينجوا من الذبح أيضاً، فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجأ إليه أبناء إسرائيل وأهلكوهم كلهم بالنار.
ذكر ابن خلكان أن الأفضل كات تسلم القدس من سقمان بن أُرتق وولى فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منهم، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين. وكان الأفضل راسل الأمير سقمان وإيلغازي ابني أُرتق ليسلماه بيت المقدس بدون حرب فلم يجيباه، فقاتل البلد ونصب عليها المجانيق وهدم منها جانباً فلم يجد بداً من الإذعان له فسلماه إليه، وكان الأمير أتسز بن أُوق الخوارزمي انتزع القدس من يد المصريين سنة نيف وستين وأربعمائة قبل ملكه دمشق، ثم لما كسر بمصر سنة 469 قام على أصحابه فئة فأخرجوهم ثم أعاد
الدعوة العباسية، ولم يزل القدس بيده إلى أن قتله تاج الدولة تتش بن أرسلان سنة 472 ثم انتزعه تاج الدولة سنة 474 ثم سلمه إلى الأمير ظهير الدين أُرتق أواخر سنة 478 فعمره وأسكن به ولده، ولم يزالوا به إلى سنة 491 حتى تسلمه المصريون. وجاء الأفضل وقد فات الأمر فانضاف إليه عساكر الساحل، ونزل بظاهر عسقلان منتظراً وصول الأسطول في البحر، فنهض عسكر الفرنج إليه وهجموا عليه في خلق عظيم، فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ودخل الفرنج إليها، وتمكنت سيوفهم من المسلمين، فأتى القتل على الرجالة والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ونُهب العسكر الإسلامي، وتوجه الأفضل في خواصه إلى مصر، وضايقوا عسقلان فقتل من أهلها وغيرهم سوى أجنادها ألفان وخمسمائة نفس.
ولما توغل الصليبيون في الشام، وكانوا في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله، ويخربون عمرانه، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره، هام الناس على وجوههم في البراري ومنهم من قصد إلى داخلية الشام، ومنهم من فرَّ إلى مصر على حالة رثة. وفي سنة 485 ملك الفرنج ما حول بيت المقدس مثل صور وعكا والرملة ويافا، أما بقية الساحل كطرابلس وبيروت واللاذقية فبقيت تقاوم إلى حدود سنة 500 معتصمة وراء أسوارها محصورة في بقعة ضيقة من أرباضها، معتمدة على معاونة الفاطميين لها من البحر.(1/255)
وكان الفرنج أول ما ملكوا من هذه الأرجاء الرُّها وما حولها من الحصون الفراتية قبل ملكهم إنطاكية والمعرة. وظلت بيروت في أيدي المسلمين إلى سنة 503 حتى فتحها بغدوين بعد أن حاصرها حصاراً شديداً وقتل من أهلها عالماً كثيراً. ودام ملوك الفاطميين ينجدون الساحل والداخل بجنودهم، ولولاهم لتيسر للفرنج اكتساح هذه الأرجاء بمجرد سير جيوشهم الجرارة، وحالت أسوار المدن بينهم وبين ما كانوا يؤملون، وصحت نيات القائمين
بالأمر فيها، ولا سيما في المدن الداخلية، على الدفاع، فكانت هجمات العدو يُبددها في الغالب دفاع السكان على ضعف قواهم وتشتت أهوائهم، وموقف المدافع أسهل من موقف المهاجم.
ومن أهم الأحداث بعد دخول الفرنج إنطاكية خروج صاحبها بيمند سنة 493 إلى حصن أفامية، فوصل الخبر إلى الدانشمند التركماني صاحب ملاطية وسيواس وعسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا، فقتل من عسكر الفرنج عدداً عظيماً، وحصل بيمند في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه، ونفذت الرسل إلى نوابه في إنطاكية يلتمسون تسليمها. قال صاحب الكامل: لم يفلت أحد من الفرنج في هذه الوقعة وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين. ووصل كدفري صاحب بيت المقدس إلى عكا، وأغار عليهم فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري، فلما قتل كدفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرُّها إلى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فجمع صاحبا دمشق وحمص الجموع ولقياه بالقرب من بيروت، فسارع نحوه صاحب حمص في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الفرنج حيفا على ساحل البحر وأرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وفتحوا قيسارية وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها. وكان الجنويون والبيزيون يبعثون كل سنة بمراكب إلى ثغور الشام.
وأرسل عبد الله بن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى صاحب دمشق، يلتمس منه إنفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه جبلة، فانتدب ولده تاج الملوك فتسلمها، وأساء هو وأصحابه إلى أهلها وظلموهم، فشكوا حالهم(1/256)
إلى ابن عمار صاحب طرابلس فأنهض إليهم عدة وافرة من عسكره، فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على التركمان فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه، وحملوا تاج الملوك إلى طرابلس
فدمشق معززاً. وفي رواية أن الفرنج استولوا على جبلة هذه السنة. وفيها خرج من مصر عسكر كثيف مع سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل إلى عسقلان لجهاد الفرنج ورحل عنها، فنهض من الفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين واستشهد سعد الدولة وعاد المسلمون على الفرنج وتذامروا عليهم وتحاضوا على قتالهم، وبذلوا النفوس في الكرة عليهم فهزموهم إلى يافا وقتلوا منهم وأسروا. وفيها نزل صنجيل على طرابلس، وكان جاءه أربعون مركباً مشحونة بالرجال والمال، فعطب بالرياح أكثرها، فكتب صاحبها إلى دمشق يستصرخ، فسار عسكرها مع صاحب حمص إلى أنطرطوس والتقوا بالفرنج، فانهزم صاحب حمص وعاد الفرنج إلى قتال طرابلس وعاد ابن عمار إلى الاستصراخ بصاحبي حمص ودمشق، فدفعوا الفرنج عنه بعد أن قتل من أهل طرابلس سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى، ثم هادنهم على مال حملة أهل طرابلس إلى صنجيل، فسار إلى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين، ثم رحل إلى حصن الطوبان وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض فقاتلهم فنصر عليه أهل الحصن وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك. ثم سار صنجيل وحاصر حصن الأكراد فجمع تاج الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه فوثب به باطني واغتاله، ولما بلغ صنجيل ذلك رحل عن حصن الأكراد إلى حمص ونازلها وملك أعمالها. وفي هذه السنة أطلق الدانشمند صاحب سيواس بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية من الأسر وأخذ منه مائة ألف دينار، ولما خلص من الأسر عاد إلى إنطاكية فقويت نفوس أهلها به،(1/257)
ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالأتاوة، فورد
على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
تخاذل أمراء المسلمين وبلاد طغتكين وابن عمار:
جهز ملك مصر في سنة 496 عسكراً بقيادة ابنه شرف المعالي، وسير الأسطول في البحر فاجتمع بالعسكر الذي خرج سنة 495 وعليه سعد الدولة القوامسي بيازور على ساحل الرملة، والتقيا مع عسكر الفرنج فهزموهم، وحاصروا شرف المعالي قصراً كان الأفشين قد بناه قريباً من الرملة وملكه قهراً، وقتل من كان به من الفرنج فحضر في البحر عدة مراكب نجدة لهم وحاصروا عسقلان، فرحل شرف المعالي من الرملة إلى عسقلان، فارتحل الفرنج عنها، وكتب الأفضل إلى شمس الملوك دُقاق صاحب دمشق يستنجده على الفرنج فاعتذر عن ذلك.
وفي سنة 497 وصلت مراكب الفرنج في البحر إلى ظاهر اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، فاستنجد بهم صنجيل المنازل لطرابلس في مضايقتها والمعونة على ملكها، فاجتمعوا معها على منازلتها، فقاتلوها أياماً ورحلوا عنها، ونزلوا على ثغر جبيل، فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان ثم غدروا بأهله وصادروهم، واستنفذوا أموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب. وفيها التقى عسكر الأميرين سقمان بن أرتق صاحب آمد وجكرمش صاحب الموصل بعسكر بيمند وطنكري في عسكريهما من ناحية إنطاكية فانتصر المسلمون.
ونزل بغدوين صاحب بيت المقدس على ثغر عكا - وواليها من قبل المصريين زهر الدولة الجيوشي - ومعه الجنويون والمراكب في البحر والبر، وهم الذين كانوا ملكوا ثغر جبيل في نيف وتسعين مركباً فحصروه من جهاته، ولازموه بالقتال إلى أن عجز واليه ورجاله عن حربهم، وضعف أهله عن المقاتلة وملكوه بالسيف قهراً. ونزل الفرنج على حصن بَسَرفوت ورموه بالمناجيق ففتحوه بالأمان وأطلقوا من كان فيه، وكان من أمنع حصون جبل بني عليم من حيز حلب. وظهر
ابن عمار صاحب طرابلس(1/258)
في عسكره وأهل البلد وقصد الحصن الذي بناه صنجيل عليهم، وهجم على غرة ممن فيه، فقتل من به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة، هذا وملوك الإسلام إذ ذاك مشتغلون بقتال بعضهم بعضاً وقد تفرقت الآراء وتمزقت الأموال. وقصد الفرنج حران فاتفق صاحب الموصل وصاحب حصن كيفا وماردين ومعهم العرب والتركمان واجتمعوا بالفرنج على الخابور على نهر البليخ فهزم الفرنج وأسر ملكهم القومص.
وفي سنة 498 خرج صاحب حلب عازماً على قصد طرابلس لمعاونة صاحبها ابن عمار على الفرنج النازلين عليه، وكان الأرمن في حصن أرتاح قد سلموا إليه الحصن لما شملهم من جور الفرنج ونزل عليها فوقع المصافُّ بين المسلمين والفرنج عند شيزر، فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل، ووقع القتل في الرجالة ولم يسلم منهم إلا القليل ووصل الفلُّ إلى حلب، وحين عرف ذلك من كان في أرتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها فملكها الفرنج، ثم قصدوا حلب فأجفل أهلها منهم واضطربت أحوال من بالشام.
وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع شرف المعالي ولد الأفضل، وكوتب صاحب دمشق بالاستدعاء للمعونة فنزل هذا على بُصرى ثم قصد ظاهر عسقلان، فتجمع الفرنج وقصدوا عسقلان فالتقى الفريقان بين يافا وعسقلان، واستظهر الفرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان، وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان، وعسكر دمشق إلى بصرى، وكان صاحبها أيتكين الحلبي راسل بغدوين ملك الفرنج للاستنجاد به، وتوجه أيتكين وأرتاش بن تاج الدولة نحو بغدوين، وأقاما عنده مدة يحرضانه وقومه على المسير إلى دمشق، ويبعثانه على الإفساد في أعمالها فلم يجبهما، فلما يئسا توجها
إلى ناحية الرحبة.
وتوجه صاحب دمشق إلى بعلبك، وقرر أمورها وكف الأذى عن واليها كمشتكين الخادم التاجي، وتوجه إلى حمص وقصد رفنية ونزل عليها، ووفد عليه خلق كثير من جبل بهراء في عمل حمص، فهاجموا رفنية على حين غفلة من أهلها، وغرة من مستحفظيها، وقتلوا من بها(1/259)
وبأعمالها وأحرق ما أمكن إحراقه من الحصن المحدث عليها من الفرنج وغيره، وملكت أبراج رفنية وهدم الحصن وقدم من كان فيه.
وفي سنة 499 سار الفرنج إلى أفامية وحاصروها وملكوا البلد والقلعة وقتلوا القاضي المتغلب عليها، وكان هذا كتب إلى صاحب حلب لإنقاذ البلاد من المستبد بها خلف بن ملاعب الكلابي الذي كان دأبه إخافة السبل، فقتله والتجأ ابنه مصبح إلى طنكري صاحب إنطاكية وحرضه على العود إلى أفامية وأطمعه في أخذها لقلة القوت بها، فنهض إليها ونزل عليها وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان. والغالب أن الإسماعيلية هم الذين ملكوا حصن أفامية باسم الملك رضوان صاحب حلب، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة وهو أول من عملها. وكان بأفامية رجل من دعاتهم، يقال له أبو الفتح السرميني فقرر ذلك لمنه أهلها، فنقبوا السور وهجموا على ابن ملاعب وقتلوه ونادوا بشعار الملك رضوان. وبقي الحصن في أيديهم حتى أخذه الفرنج منهم في سنة 500.
وفي سنة 499 ملك صنجيل مدينة جبلة، ثم سار وأقام على طرابلس فحصرها وبنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً وهو المعروف بحصن صنجيل، فخرج صاحب طرابلس فأحرق الربض وهلك صنجيل على أثر حرق بجسمه ودام الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين وظهر من صاحبها ابن عمار صبر عظيم، وقلَّت الأقوات بها وجلا الفقراء وافتقرت الأغنياء. قال ابن الأثير:
وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلي والأواني الغريبة ما لا حد عليه حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار.
حرب طغتكين للصليبيين:
خرج الفرنج إلى سواد طبرية 499 وشرعوا في عمارة حصن علعال بين السواد والبثنية، أو بين الغور وجبل الشراة، وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة، فلما عرف صاحب دمشق هذا العزم منهم نهض، فملك الحصن وقتلهم وأسرهم. قال ابن الأثير: وقد قال طغتكين للمقاتلة يومئذ:(1/260)
من أحسن قتال الفرنج وطلب مني أمراً فعلته معه. ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير، فبذل الرجالة نفوسهم وصعدوا إلى الحصن وخربوه وحملوا حجارته إلى طغتكين فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي وأسروا من بالحصن فأمر بهم فقتلوا كلهم واستبقى الفرسان، ثم سار إلى حصن رفنية فحصره وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
وفي السنة التالية 500 زاد عيث الفرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف عجلون، فنهض صاحب دمشق بالعسكر وخيم في السواد. وهجم عز الملك والي صور على ربض حصن تبنين في جبل عامل من عمل الفرنج وقتل من كان فيه، فنهض بغدوين من طبرية، وسار صاحب دمشق إلى حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الفرنج فقاتله وملكه وقتل من كان فيه. وأقطع صاحب دمشق الأمير الأصفهيد التركماني وادي موسى ومآب والشَّراة والجبال والبلقاء، وكان الفرنج قد نهضوا إلى هذه الأعمال وقتلوا من فيها وسبوا ونهبوا، فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية الخوف من الفرنج، ونهض هؤلاء لما عرفوا خبره من ناحية البرية وكبسوه على غرة، فانهزم واستولى الفرنج على سواده.
وتتابعت المكاتبات من صاحبي دمشق وطرابلس إلى محمد بن ملكشاه السلجوقي
بعظيم ما ارتكبه الفرنج، وتملك الحصون والمعاقل، والفتك بالمسلمين ومضايقة ثغر طرابلس، والحض على تدارك الناس بالمعونة، فوقع خلاف بين الأمراء الذين انتدبهم صاحب حلب ودمشق وغيرهما في جهات الرحبة، والتقوا مع عسكر قلج أرسلان في أراضي الموصل، ونسوا الغرض الذي نُدبوا إليه. وقلج أرسلان التركماني هو الذي أعان ملك الروم في القسطنطينية على بيمند ملك الفرنج، فاستظهر الروم والتركمان على الفرنج وكسروهم كسرة شنيعة أتت على أكثرهم بالقتل والأسر وتفرق الباقي منهم عائدين إلى ديارهم.(1/261)
حروب الصليبيين ودولة طغتكين
وبقايا السلجوقيين من سنة 500 إلى 522
هدنة طغتكين للصليبيين وشدته عليهم:
انسلخ القرن الخامس، وأهم ما دهم القطر فأوقع الاضطراب فيه، انهيال جيوش الصليبيين عليه، وتبلج القرن السادس والصليبيون في الشام، منذ عشر سنين، استصفوا الساحل وبعض الداخل، والحرب بين أمراء الشام وبين الفرنج على أشد حالاتها، وشعر أمراء المسلمين بالخطر المداهم لكن القوى لم توحد، وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق أو صاحب حلب لصاحب الموصل؛ وكل منهم يدعي التفوق ويود لو ينال من جاره ليكون له الأمر كله، وكان طغتكين صاحب دمشق يحمل العبء الثقيل لأن مملكته تتاخم أرض فلسطين، وملوك الأطراف أبعد دياراً، وكان همه قتال الأعداء من الجنوب والغرب، وحفظ الموازنة مع صاحب حلب حتى لا يستخذي فتسقط دمشق بل الشام بأسره.
وأهم الأحداث في العقد الأول من هذا القرن إقامة صاحب القدس على تل المعشوقة في صور 501 بناء، ومصانعة واليها على سبعة آلاف دينار، واشتداد الأمر بابن عمار في طرابلس لحصار الفرنج ومضيه إلى بغداد مستنجداً، وقد استناب ابن عمه أبا المناقب، فنادى بشعار الأفضل صاحب مصر، فقبض عليه وحمل إلى حصن الخوابي. وطال مقام ابن عمار في مدينة السلام على غير طائل، وأنفذ الأفضل من مصر إلى طرابلس(1/262)
في البحر الغلة والميرة ووالياً من قبله فتسلم البلد. وأسرى صاحب دمشق إلى طبرية وفرق عسكره فرقتين، نفذت إحداهما إلى فلسطين، وأغار بالثانية على طبرية، وأحاطت الخيل بصاحب طبرية وبأصحابه فقتل أكثرهم. ونهض صاحب القدس إلى صيدا براً وبحراً ونصب برج الخشب عليه، ووصل الأسطول المصري فظهر على مراكب الفرنج وعسكر البر
واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا فرحلوا عنها.
وتسلم الفرنج عرقة بالأمان 502، وكان أنجدها صاحب دمشق فعاقته الثلوج والأمطار عن الوصول إليها، فرجع إلى حصن الأكمة مقاتلاً، ثم رحل عنه شبه المنهزم إلى حمص. ونزل الفرنج على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها زهاء أربعة أشهر، فشمل اليأس أهلها لتأخر وصول الأسطول المصري في البحر، فملكها الفرنج بالسيف ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها، وما كان منها في خزائن أربابها، ما لا يحد عدده ولا يحصر، ونزل بأهلها أشد البلاء، وتقرر بين الفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نهب منه، والثلثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به. وذكر النويري أن السبب الذي دعا أهل طرابلس إلى التسليم، أنهم بينا كانوا ينتظرون وصول النجدة بحراً من مصر، جاءهم رسول منها على مركب يطلب منهم لاسم الخليفة الفاطمي جارية جميلة كانت في طرابلس وخشب مشمش يصلح لعمل عود وغيره من آلات الطرب.
وبعد فتح طرابلس سار الفرنج إلى جبلة، وسار جاولي إلى بالس، فهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها. وافتتح السرداني المتغلب على عرقة حصن بانياس، ونزل على ثغر جبيل وفيه ابن عمار فخرج منه بالأمان، ووصل الأسطول المصري بعد أخذ طرابلس فأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها، وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت، وشكوا ضعفهم عن مقاومة الفرنج. وفيها كان المصاف بين جاولي وبين(1/263)
طنكري صاحب إنطاكية، وسبب ذلك على ما رواه ابن الأثير أن الملك رضوان كتب إلى طنكري يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع
ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه، فأجابه طنكري إلى منعه، وبرز من إنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس. ولما وقعت الحرب لم يبق غير هزيمة صاحب إنطاكية، ثم انهزم جاولي وبقية عسكره، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب إنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر، والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم.
وفيها كانت حرب شديدة بين طغتكين والفرنج على طبرية، واشتد القتال فانهزم المسلمون، ثم نادى طغتكين بالمحاربين وشجعهم، فعاودوا الحرب وكسروا الفرنج وأسروا ابن أخت ملك القدس، وحُمل إلى طغتكين فعرض طغتكين عليه الإسلام فامتنع، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام وقتله بيده. ثم اتفق طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين. ولما انهزم طغتكين على طرابلس ووصل إلى حمص بعسكره على أقبح حال أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظنن أنني أنقض الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
وهادن صاحب دمشق ملك بيت المقدس على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثاً، للتركمان الثلث وللفرنج والفلاحين الثلثان. وجاء ابن عمار إلى دمشق فأقطعه صاحبها الزبداني وأعمالها 503 وكان لابن عمار البلاء الحسن بل الأحسن في دفع عادية الصليبيين عن بلده، لم يترك باباً من أبواب الخلاص ليصدهم عن طرابلس إلا طرقه، حتى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملكها عشر سنين. وكان
في طريق رجعتهم كالحسكة(1/264)
في الحلق، وفي معاملة ملوك الأطراف نموذج الدهاء السياسي، وهو على صغر جرم مملكته يطاول ويحاول وينازل ويصاول ويلين ويقسو.
ونهض الفرنج 503 إلى رفنية وترددت بينهم وبين أمراء الشام مراسلات أفضت إلى تقرير الموادعة على أن يكون للفرنج ثلث مغل البقاع، ويسلم إليهم حصن المنيطرة وحصن عكار، وأن لا يتعرض لحصن مصياف والخوابي وحصن الأكراد وحصن الطوبان، وأن يحمل إليهم مال عنها وعن حصن الطوبان، وأقاموا على ذلك مدة ثم عادوا إلى الفساد، وخرج صاحب إنطاكية واستولى على طرطوس وقرر على شيزر عشرة آلاف دينار وتسلم حصن الأكراد وعاد إلى إنطاكية، ونزل بغدوين صاحب القدس وابن صنجيل صاحب طرابلس إلى بيروت، وسار إليهم جوسلين صاحب تل باشر لمعاونتهم واستنجادهم على الأمير مودود ابن التونتكين صاحب الموصل. وجاء الأسطول المصري مؤلفاً من 19 مركباً وفيه الرجال والميرة فدخلوا ثغر بيروت فقويت نفوس أهلها، فبعث بغدوين إلى الجنوية في ثغر السويدية فجاءوا في أربعين مركباً، وزحفوا براً وبحراً وفعلوا ما فعلوه في طرابلس من القتل والحرق والنهب وملكوا بيروت، ثم نزل بغدوين على صيدا فسلمها أهلها واستمهلوه مدة عينوها فأجابهم وأخذ منهم إتاوة. وراسل والي بعلبك كمشتكين الفرنج بالتماس المصافاة، وبعثهم على شن الغارات على الأطراف، فزحف صاحب(1/265)
دمشق عليه فجنح المقاتلة إلى الدخول في الطاعة، واستولى على البلد وعوض واليها عن بعلبك بحصن صرخد.
اجتماع كلمة أمراء المسلمين وإنجاد بغداد الشام:
اجتمع صاحب أرمينية وميافارقين وصاحب الموصل وغيرهم على جهاد الفرنج، وقصدوا الرها وضايقوها فأشرف من بها على الهلاك لقلة القوات، فشرع
أصحاب إنطاكية وطرابلس والقدس بالذود عنها، ونهض صاحب دمشق في عسكره وخيم على سَلمية، وظهر الفرنج في رَفَنية فقاتلهم واليها شمس الخواص، ورحل الفرنج إلى قصد الرُّها فخف صاحب دمشق إلى الرقة وقلعة جعبر وقطع الفرات، وتلوَّم هناك إلى أن عرف خبر الفرنج وأنهم قد أحجموا عن العبور لتفرق سرايا العساكر الإسلامية وطلائعهم في عامة المسالك إلى الفرات. ولما أدرك المسلمون قرب الفرنج منهم اتفقت الآراء على الإفراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات، ورحلوا عن الرُّها ونزلوا أرض حران مكراً وخديعة، ففطن الفرنج لهذا التدبير فأجفلوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطئ الفرات، فنهض المسلمون في أثرهم وغنموا سواد الفرنج وأثقالهم، وأتوا على العدد الدثر من أتباعهم قتلاً وتغريقاً في الفرات. وفي هذه الأيام تأكدت أسباب الألفة بين صاحب دمشق وملوك الشمال.
لما تفرقت العساكر الإسلامية أغار بغدوين على الرها، وكانوا رتبوا فيها جماعة من الأرمن لحفظها، وبلغ ذلك صاحب حلب وما أصاب الفرنج من الهزيمة فاستعاد ما كان غلب الفرنج عليه وأغار على إنطاكية. ثم جاء الفرنج عقيب ذلك فأفسدوا في أعمال حلب وقتلوا واسروا خلقاً كثيراً. وعاد طنكري على الأثارب وملكها بعد طول حصارها كما ملك زردنا، واستقرت الموادعة بعد ذلك بين صاحب حلب وطنكري على أن يحمل إليه الأول من مال حلب كل سنة عشرين ألف دينار وأن يفك الأسرى.
ووصل بعض ملوك الفرنج في البحر في نيف وستين مركباً مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في ديار الإسلام، فاجتمع مع صاحب بيت المقدس ونزلا على صيدا وضايقاها براً وبحراً، فلما عاين من بصيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم ما أصاب بيروت، وقد قتل الفرنج يوم أخذوها واليها وأعيانها، فخرج
إليهم قاضيها وجماعة من شيوخها وطلبوا الأمان، فأمنهم فاستحلفوه على ذلك، وخرجت الحامية وخلق من أهلها إلى دمشق، وقرر بغدوين على من أقام بها نيفاً وعشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم.
وأغار بغدوين على عسقلان 504، وكان صاحبها شمس الخلافة يراسله، فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ويرحل عنه، وانتهى(1/266)
الخبر إلى الأفضل بمصر فأنكر ذلك، وجهز عسكراً كثيفاً إلى عسقلان، فلما قرب منها أظهر شمس الخلافة على الأفضل فغالطه الأفضل، وخاف شمس الخلافة من أهل البلد فاستدعى جماعة من الأرمن فأثبتهم في عسقلان، ثم وثب به قوم من كتامة وقتلوه. وسار إلى بغداد رجل من أشراف الهاشميين في حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء، وانزلوا الخطيب في جامع السلطان عن المنبر وكسروه، وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الفرنج، ومنعوا الناس من الصلاة، وعملوا في الجمعة التالية مثل ذلك في جامع الخليفة، فأوعز السلطان إلى الأمراء المقدمين بالتأهب للمسير إلى الجهاد.
ووصل رسول ملك الروم بمراسلات للبعث على قصد الفرنج والاجتماع على طردهم قبل إعضال خطبهم، ويقول إنه منعهم من العبور إلى أرض المسلمين وحاربهم، وإذا ضعفت عزائم قومه عن المقاومة، اضطر إلى مداراتهم وإطلاق عبورهم الديار الإسلامية، وبالغ في الحث على حربهم، ونقض بغدوين الهدنة المستقرة بينه وبين صاحب دمشق، فخرج هذا إلى اللجاة ونهض الفرنج في أثره إلى الصنَمين، ففرق صاحب دمشق العسكر من عدة جهات، وبث في المعابر والمسالك خيلاً يمنعهم من حمل الميرة إليهم حتى ألجأهم إلى المسالمة، على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل عوف والسواد والحيَّانية مضافاً إلى ما في يده من هذه الأعمال التي تليها في أيدي العرب من آل جراح.
لما قرر ملك بغداد إنهاض العسكر عقيب استغاثة الشاميين بالخليفة والسلطان تقدم من الأمراء لإنجادهم على قتال الصليبيين صاحب الموصل، فافتتح تل مراد وعدة حصون هناك بالسيف والأمان. ووصل إليه الأمير أحمديل الكردي في عسكر كثيف، والأمير قطب الدين سقمان من بلاد إرمينية وديار بكر وصاحب همذان فنزلوا على تل باشر ونقبوه فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر إلى الأمير أحمديل يلاطفه ويهاديه ويبذل له الكون معه والميل إليه، وكان أكثر العسكر مع أحمديل وسأله الرحيل عن الحصن فأجابه إلى ذلك على كراهية من باقي الأمراء، وعادوا عن(1/267)
تل باشر إلى حلب وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل الفرنج، ووصل إليهم في حلب صاحب دمشق ومعه رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية، فلم ير منهم عزيمة صادقة في جهاد ولا حماية بلاد، واستجرهم إلى المعرة فظهر له من سوء نية المتقدمين فيه ما أوحشه منهم، وجعل يحرضهم على قصد طرابلس فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبا، فلما علم الفرنج برحيل العساكر نزلوا أفامية وفي رأسهم أصحاب القدس وطرابلس وإنطاكية، وقد صاروا بعد التباين والمنافرة والخلف يداً واحدة على المسلمين، وكانت خيل هؤلاء مثل الفرنج إلا أن راجلهم أكثر، وناوشوا الفرنج على غير طائل.
غارات المسلمين وغارات الصليبيين:
وملك فرنج إنطاكية حصن الأثارب وقتلوا منه ألفي رجل وأسروا الباقين، ثم ملكوا زردنا ففعلوا كذلك وقصدوا منبج وبالس فوجدوهما خاليتين فعادوا أدراجهم. ووقع الخوف في قلوب أهل الشام من الفرنج، فبذل لهم المسلمون أموالاً وصالحوهم، صالحهم صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار، وأهل صور على سبعة آلاف دينار، وصاحب شيزر على أربعة آلاف دينار، وصاحب حماة على ألفي دينار. وذلك لأن الفرنج امتنعوا من مهادنة ملوك الشام إلا على قطيعة
يأخذونها إلى مدة يسيرة. ولو كان ملوك الشام إذ ذاك على شيء من الوحدة في الرأي، لما أقطعوا الفرنج القطائع، ولما هادنوهم، خصوصاً وقد خرق الفرنج مرات قانون المهادنات والموادعات، وبعض المنكرين يعذرونهم على عملهم الفظيع في تلك العصور لأنهم كانوا دون المسلمين في كل أمر من أمورهم العلمية والحربية والاجتماعية.
وفي هذا العقد 505 جهز السلطان محمد عسكراً، فيه صاحب الموصل وغيره من أصحاب الأطراف إلى قتال الفرنج بالشام، فساروا ونزلوا على الرها فلم يملكوها، ووصلوا إلى حلب فخافهم صاحبها ولم يفتح لهم أبوابها، ثم ساروا إلى المعرة وتفرقوا. وفيها أنجد صاحب(1/268)
دمشق أهل صور، وكان أغار عليهم بغدوين، وسار وخيم ببانياس وبث سراياه ورجاله في أعمال الفرنج، ونهض إلى حصن الحبيس في السواد، فملكه بالسيف وأغار على صيدا وأحرق عشرين مركباً من مراكب الفرنج، وبعد أن عمل الفرنج كباشاً كبيرة لتعلق على السور رماها أهل صور بالنفط والزيت مرات، وأقاموا على محاصرة صور أربعة أشهر ونصف، ثم قصدوا عكا وتفرقوا في أعمالهم.
نزل أهل صور 506 عن بلدهم لصاحب دمشق لما أعيتهم الحيل في الدفاع فتسلمها، وأقام الدعوة والسكة على ما كانت عليه لصاحب مصر ولم يغير لهم رسماً، مع أن سائر الشام كانت طاعتها للعباسيين ودعوتها لهم، وذلك حباً بدوام الصلات مع صاحب مصر حتى لا ينقطع مدده عن الساحل. وضبط صاحب القدس القافلة الدمشقية بينا كانت سائرة إلى مصر، بدلالة أناس من العرب البدو، واشتمل الفرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع، وحصل لبغدوين منها خمسون ألف دينار وثلاثمائة أسير، ولم يبق بلد في الشام إلا أصيب بعض تجاره وأهله بأموالهم.
وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية، وجمع صاحب الموصل عسكره من الأتراك والأكراد وقطع الفرات إلى الشام، وكذلك صاحب سنجار وصاحب ديار بكر، وكان الصليبيون يكاتبون صاحب دمشق على أن يتركوا له حصن تبنين وجبل عامل ويعوضوا عن ذلك بحصن الحبيس حبيس جلدك الذي في السواد ونصف السواد من البلقاء ويتركوا التعرض لشيء من أعمال دمشق، ولا يعرض هو لشيء من أعمال الفرنج، فلم يجب إلى ذلك، ونهض في جيشه للقاء صاحب الموصل والاجتماع به على الجهاد، فاجتمعا بمرج سليمة واتفق رأيهما على قصد بغدوين، وسارا وقد استصحب صاحب دمشق جميع العسكر ومن كان بحمص وحماة ورفنية، ونزلا بقدس فعين الجر بالبقاع فوادي التيم ثم نزلا على بانياس، ونهضت فرقة من العسكر فقصدت ناحية تبنين، فلم يظفروا منها بمراد، ووصل إليها بغدوين، وقد كان لما يئس من إجابة صاحب دمشق إلى(1/269)
الموادعة واصل الغارات والفساد، ثم نهض صاحب دمشق ونزل على الأقحوانة على بحيرة طبرية، فنشب الحرب بين المسلمين والفرنج غربي جسر الصنبرة مقابل عقبة أفيق، فانتصر المسلمون بعد ثلاث كرات وغرق من الفرنج خلق كثير في البحيرة، وقتل نحو ألفي رجل من أعيانهم وأبطالهم، وأقام المسلمون على الجبل وطلع الفرنج إليه وتحصنوا به وهو من غربي طبرية، واستنفر أمير دمشق العرب الطائيين والكلابيين والخفاجيين فوصلوا بخلق كثير بالمزادات والروايا والإبل لحمل الماء، وصعدت الطلائع إلى الجبل من شماله، وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله، والعدو قد ذل، وأغارت بعض سرايا المسلمين على أرجاء القدس ويافا ونهبت بيسان ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة. ثم تفرق المسلمون وعادوا إلى كورهم.
وأرسل ملك القدس إلى والي صور 507 يريده على المهادنة والموادعة لتحسم
أسباب الأذية عن الجانبين فأجابه إلى ذلك، وأمنت السابلة والتجار والسفار، واستقرت الحال بينهما على المهادنة فأمنت المسالك وصلحت الأحوال، بعد أن ذاق الفرنج بأس ملوك الشام والجزيرة على الأقحوانة. وكان صاحب القدس من أعظم ملوك الفرنج بالشام جيشاً ومكانة. وكان من جملة من حضر في هذه الوقعة عند طبرية الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل. وفي سنة 508 قُتل آلب أرسلان بن رضوان صاحب قلعة حلب، قتله غلمانه بقلعتها وأقاموا بعده أخاه سلطانشاه بن رضوان، وكان لما ملك حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة، فطلبوا منه أن يعطيهم القلعة فأجابهم إلى ذلك، فقبح عليه القاضي ابن الخشاب فعله، فأخرجهم بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد.
وأمر السلطان محمد بن ملكشاه 508 الأمراء وأصحاب الأطراف بالمسير صحبة آق سنقر البرسقي لقتال الفرنج بالشام، وجرى بين البرسقي وإيلغازي بن أرتق صاحب ماردين قتال انتصر فيه إيلغازي وهرب البرسقي، ثم خاف إيلغازي من السلطان، فسار إلى صاحب دمشق فاتفق(1/270)
معه وكاتبا الفرنج واعتضدا بهم. قال ابن الأثير: وكان طغتكين قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود، فاتفقا على الامتناع والالتجاء إلى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب إنطاكية وحالفاه، فحضر عندهما على بحيرة قدس في حمص وجددوا العهود، وعاد إلى إنطاكية وعاد طغتكين إلى دمشق.
وأرسل السلطان محمد ملكشاه 509 عسكراً ضخماً لقتال صاحب دمشق وصاحب ماردين فعبروا الفرات من الرقة وقصدوا حلب، فعصت عليهم، ثم فتحوا حماة عنوة ونهبوها ثلاثة أيام ثم سلموها إلى قيرخان ابن قراجة صاحب حمص، واجتمع بأفامية طغتكين وإيلغازي وملوك الفرنج صاحب إنطاكية وصاحب
طرابلس وغيرهم، وأقاموا بأفامية ينتظرون تفرق المسلمين، ثم تفرق وسار طغتكين إلى دمشق وإيلغازي إلى ماردين.
وفتح المسلمون كفرطاب وقتلوا من بها من الفرنج وساروا إلى المعرة ثم إلى حلب فكبسهم صاحب إنطاكية في الطريق فانهزموا، ووضع الفرنج السيف في المسلمين فهرب من سلم منهم. واستولى الفرنج على رفنية فاسترجعها منهم صاحب دمشق وقتل من بها منهم، وهادن الأفضل مدبر مملكة الآمر الفاطمي بغدوين صاحب القدس، وكان قد أخذ قافلة عظيمة من المسلمين بالسبخة فرأى الأفضل مهادنته لعجزه عنه. وجمع صاحب طرابلس 510 جموعه ونهض إلى البقاع لإخرابه، فخف إليه صاحب الموصل وصاحب دمشق في بعض عسكرهما، وسارا إلى البقاع، والفرنج غارّون في مخيمهم، فأطلق السيف فيهم قتلاً وأسراً ففقد منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف وعاد صاحب الموصل إلى بلده بعد استحكام المودة بينه وبين صاحب دمشق، والموافقة على الاعتضاد في الجهاد، متى حدث أمر أو حزب خطب.
بقية الغارات:
وفي العقد الثاني من القرن السادس هادن 511 المتولي أعمال حلب(1/271)
الفرنج ووادعهم وسلم إليهم حصن القبة، وهجم الفرنج على ربض حماة وقتلوا من أهلها، وخاف أهل حلب من الفرنج فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً ولا ذخيرة لأن الخادم لؤلؤاً الذي كان مستولياً على صاحبها سلطانشاه بن رضوان كان فرق كل ما فيها. وسار طغتكين 512 عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل فخفيت عنه وفاة بغدوين ملك القدس، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج بطلب المهادنة فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل
عوف والحيانية والصلت والغور فلم يجب إلى ذلك وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان وسلم بنو أخي القاضي شرف الملك بن الصليعة حصن بلاطنس لروجار صاحب إنطاكية فأقطعهم في أعمال اللاذقية عوضاً منه وسكنوا تحت يده.
وبرز 513 صاحب إنطاكية فيمن حشده من طوائف الفرنج ورجالة الأرمن في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل سوى الأتباع إلى سرمد وقيل دانيث البقل بين إنطاكية وحلب وقيل تل عفرين، فطار إليهم المسلمون بقيادة صاحبي حلب والموصل في عساكر التركمان والأكراد والعرب في عشرين ألفاً، فقتلوا الفرنج بحيث لم يفلت منهم غير من يخبر خبرهم، وقتل ملوكهم روجر وبقيت إنطاكية شاغرة من حماتها، ثم فتح المسلمون الأثارب وزودنا.
وعاد إيلغازي إلى حلب وقرر أمرها وأصلح حالها بعد أن أخربها الفرنج ونازلوها، وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم حملوا إلى حلب فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم. قال ابن الأثير في وقعة الفرنج في تل عفرين وكانوا يظنون أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين.
وسار جوسلين صاحب تل باشر ليكبس بني ربيعة، فوقع بينهم قتال انتصر فيه أمير بني ربيعة، وأسر من الفرنج عدة كثيرة. وجمع صاحب(1/272)
ماردين التركمان وغيرهم والتقى مع الفرنج عند دانيث البقل وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه صاحب ماردين وانهزم الفرنج. ووصل كندهري ملك الفرنج في المراكب، وملك أكثر المعاقل، ووقعت الهدنة بين صاحب حلب وبين الفرنج وتقررت المسالمة، وقيل: إن جوسلين أغار على العرب والتركمان النازلين بصفين قرب قرية جعبر على الفرات وغنم منهم وفي عوده خرب حصن بزاعة.
وأغار كندهري على أذرعات وأطراف دمشق وكان صاحبها بالبثنية فبعث بولده بوري مع الجيش وأقام هو موضعه ردءً له فالتقوا فظهر الفرنج على بوري، فعاد إلى أبيه ودخلا دمشق، ومضى طغتكين إلى حلب مستصرخاً بنجم الدين إيلغازي وكان أول ما ملكها فأقام عنده وشرع بجمع العساكر، واغتنمت الفرنج غيبته فقصدوا دمشق، ووصلوا إلى حوران فالتجأ أهله إلى اللجاة، فتأثرهم الفرنج إلى وعرة اللجاة فقتلوا وأسروا، ولما بلغ أهل إنطاكية هذا جمعوا وحشدوا وقصدوا حلب في خمسة آلاف فارس وثمانية آلاف راجل فخرج إيلغازي وعمل كميناً، فلما التقى الفريقان ظهر الكمين وضربوا البوقات والطبول فظنوه صاحب دمشق قادماً من ورائهم، وكان نجم الدين إيلغازي أشاع أن طغتكين واصل من دمشق وما كان إلا جريدة عنده فانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف قتلاً وأسراً.
وفي سنة 514 نهض الأمير معن من البقاع بعشيرته ورهطه ونزل في جبل الشوف، وكان قفراً خالياً من السكان، وجعل له مودة مع آل تنوخ أمراء عرب جبل لبنان، وكان أميرهم إذ ذاك الأمير بحتر التنوخي فبنى له ولخاصته دوراً ليستعيض بها الأمير معن عن المضارب، وأخذ يقصد دياره أهل كل ديار استولت عليها الفرنج وبقي أميراً فيه نحو ثلاثين سنة وهو أصل الأمراء آل معن وإليه ينتسبون. وصار الجبل ينسب إليهم فيقال جبل بيت معن كما يقال جبل بني عوف وجبل بني هلال.
وكان بين نور الدين بلك بن أرتق 515 وبين جوسلين على(1/273)
الرها حرب انتصر فيها بلك وقتل من الفرنج، وأسر جوسلين وأسر معه ابن خالته وأسر جماعة من فرسانه المشهورين عند سروج وبذل جوسلين في نفسه أموالاً كثيرة فلم يقبلها بلك وسجنه وأصحابه في قلعة خرتبرت، وفي سنة 515 عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب، حسن له ذلك إنسان من حماة من بني قرناص، وكان
قدمه إيلغازي على أهل حلب، وبلغ إيلغازي ذلك فسار مجداً من ماردين وهجم حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه وسمل عينيه، وهرب ابنه إلى طغتكين بدمشق واستناب ابن أخيه عبد الجبار، وخرج صاحب حلب 516 في عسكره وقطع الفرات وصادف الفرنج فأتلف ما ظفر به في أعمالهم. وتوفي إيلغازي بن أرتق وكان بحلب ابن أخيه سليمان بن عبد الجبار فبقي فيها إلى أن أخذها ابن عمه، فسلم سليمان قلعة الأثارب إلى الفرنج، فعظم ذلك على بلك بن بهرام وعلم عجزه عن حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها، فسار إليها ونازلها وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان سنة 517.
ووصل الأسطول المصري إلى صور، وحمل والي صور سيف الدين مسعود إلى مصر، وكانت عاقبة خروجه منها خروجها بالأمان من أيدي المسلمين إلى الفرنج بعد سنتين. ونهض بغدوين 517 في عسكره إلى ناحية حلب، وصاحبها منازل حصن كركر، فالتقيا بالقرب من منظرة فكسره وأسره مع جماعة من وجوه عسكره، واعتقله في جب قلعة خرتبرت مع جوسلين ومقدمي الفرنج الذين كان أسرهم قبل عامين، واستنجد صاحبا دمشق وحلب بالخليفة الآمر في مصر فجهز أسطولا مؤلفاً من أربعين شينياً فيها عشرون أميراً وهدايا فسار العسكر إلى يافا وأقام عليها ستة أيام ورحل عنها، وقد تخاذل عنه ملوك الشرق ورجع إلى مصر، فوافاه الفرنج على يبنى، فانكسر العسكر المصري من غير مصاف. وملك الأمير بلك حصن البارة وأسر أسقفها. وهرب بغدوين وجوسلين وغيرهما من مقدمي الفرنج من أسر الأمير بلك في خرتبرت وملكوا القلعة فاستعادها الأمير من الفرنج الواثبين عليها. وهزم جيش الفرنج جيش(1/274)
المسلمين، وفيهم جيش دمشق على قلعة عزاز، وتفرق المسلمون بعد قتل من قتل وأسر من أسر.
قلنا: إن الفرنج ملكوا مدينة صور 518 بالأمان بعد حصار طويل، وكانت للخلفاء
العلويين أصحاب مصر، وقد ثبت أهل صور نحو خمس وعشرين سنة على قتال الفرنج مع قلة المنجد لهم من مصر، يقول ابن تغري بردي: إن سبب سقوط صور خروج سيف الدين مسعود منها، وكان قد حمل إلى مصر وأقام الوالي الذي بها في البلد، وهذه زيادة في النكاية للمسلمين من صاحب مصر فإن سيف الدين المذكور كان قائماً بمصالح المسلمين، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدة الطويلة، فأخذوه منها غصباً ودخلوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج، فكان حال المصريين في أول الأمر أنهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين والآن بأخذهم سيف الدين من صور صاروا نجدة للفرنج. وكانت صور آخر ما ملكه الفرنج من الساحل.
وفي سنة 518 ملك آق سنقر البرسقي حلب وقلعتها وسبب ذلك أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور، طمعوا وقويت نفوسهم، وتيقنوا الاستيلاء على الشام كله، ثم وصل إليهم دبيس بن صدفة صاحب الحلة فأطمعهم طمعاً ثانياً لا سيما في حلب وقال لهم: إن أهلها شيعة وهم يميلون إلي لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرة، وقال: إنني أكون ههنا نائباً عنكم ومطيعاً لكم، فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالاً شديداً، ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل.
وأخذ الفرنج في بناء بيوت لهم ظاهر حلب فعظم الأمر على أهلها، ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق لإيثاره الدعة والرفاهة، فكاتب أهل حلب آق سنقر البرسقي صاحب الموصل فسار إليها، فأجفل الفرنج منهزمين، ثم صلحت أحوال حلب وعمرت أعمالها بعد أن حاصرت مدة ولقي أهلها شدة حتى أكلوا الميتة، ولم يكن عندهم أمير، وإنما تولوا حفظ الأمن بأنفسهم وأبلوا بلاءً حسناً حسنت به العاقبة. وأخذ البرسقي(1/275)
519 كفرطاب من الفرنج وسار إلى
عزاز، فاجتمعت الفرنج لقتاله فاقتتلوا، فانهزم البرسقي وقتل من المسلمين خلق كثير وانهزموا راجعين أدراجهم. وقصد صاحب بيت المقدس حوران للعيث فيها فخرج إليه صاحب دمشق في التركمان وأحداث دمشق والغوطة والمرج وأحداث الباطنية فانهزم المسلمون وتتبع الفرنج المنهزمين حتى وصلوا إلى عقبة سحورا وقربوا من شرحوب مع بعد المدى. وقصدت الفرنج رفنية واستعادوها من المسلمين. واجتمع المسلمون والفرنج في مرج الصفر عند قرية شقحب من عمل دمشق واشتد القتال فانهزم صاحب دمشق والخيالة وتبعهم الفرنج، ونهب بعض الجند مخيم الفرنج وأثقالهم، ورجع الفرنج في أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة وظلوا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
مزايا حكم طغتكين:
كان الفرنج منذ وطئوا تراب الشام أوائل العقد الأخير من القرن الخامس إلى أواخر العقد الثاني من القرن السادس يتساندون وقل أن يقع شغب بينهم، وربما تقاتلوا ثم اجتمعوا على سلام، وتواكلوا وتآنسوا لأن موقفهم يدعوهم إلى جمع الكلمة، ولئن ألفوا أربع إمارات متحدة فهي إمارة واحدة في الواقع، والنجدات تأتيهم بحراً على مراكب أهل بيزة وجنوة مرة ومرتين في السنة، لتعذر قطع البحار إلا في فصل الصيف. فرجال الحملة الصليبية الأولى هي التي كانت افتتحت ما افتتحت من الأصقاع ومادتها القليلة من الزوار والتجار من البحر. وملوك الشام يأتيهم المدد من مصر والعراق والجزيرة وديار بكر وديار مضر. ولو كتب للشمال أن يكون في عاصمته حلب رجل عاقل كما كتب لدمشق أن يكون فيها مثل طغتكين، لتيسر إنقاذ البلاد والإجهاز على أعدائها، ولما استطاع الفرنج أن يجبوا إتاوة من حلب وحماة وحمص ولنجت كما نجت دمشق من
إرضاء الفرنج بالمال على عهد طغتكين.
حكم طغتكين دمشق منذ سنة 497، وحكمه كان في الحقيقة قبل عشر(1/276)
سنين من تاريخ حكومته، حكمها بصورة شرعية بعد وفاة الملك دقاق ابن تتش بن آلب أرسلان وكان خطب أولاً لابن دقاق، وكان دقاق خلف طفلاً له سنة واحدة، فقطع طغتكين وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل، ثم قطع خطبة بكتاش وأعاد خطبة الطفل، وهو آخر من خطب له بدمشق من بني سلجوق، واستوحش بكتاش من طغتكين خوّفته والدته منه وقالت: إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف وحسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج، وكان بكتاش في الثانية عشرة من عمره ومعه ايتكين الحلبي صاحب بصرى.
استمر طغتكين في ملك دمشق خمساً وعشرين سنة حتى مضى لسبيله سنة 522 وكان على غاية العدل والبعد عن الظلم، أعاد إلى الرعية كثيراً من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأراضي المعطله، وباع ما كان منها شاغراً للناس ليعمروه، وصرف ما حصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد، فعمرت عدة ضياع وأجريت عيون، وحسنت بإيالة طغتكين دمشق وأعمالها، وعمرت الأقاليم بجميل سياسته وحسن تدبيره، وكثرة إحسانه، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها، ولذلك اشتد حزن الدمشقيين عليه، ولم تبق محلة ولا سوق إلا والمآتم قائمة فيه عليه. قال ابن عساكر: كان طغتكين شهماً مهيباً مؤثراً لعمارة ولايته، شديداً على أهل العيث والفساد. وقال آخر في وصفه: إنه لا يشبه غيره من ملوك الطوائف، وكان على شيء من التدين حتى إنه لما عاون أهل صور على دفع الصليبيين سنة 505 ولم يفوا له بما كانوا بذلوه له من تسليم البلد
قال: إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا لرغبة في مال ولا مملكة.
وكأن طغتكين كان مبشراً بظهور آل زنكي وآل أيوب في هذه الديار يردون حملة الغرب عن الشرق، ويكفونها معرّة التفرق، ويجمعون كلمتها على الحق والمطالبة به فتصبح مملكة برأسها، تأتمر الأقطار المجاورة(1/277)
بأمرها، وتسير معها إلى الغاية التي هي تنشدها من رد عادية الصليبيين. وكان في حذقه بسياسته كما قيل يستخدم الفضائل والرذائل في الناس كما تستخدم الطبيعة فضول الأغذية فتجعلها في أشياء تنتفع بها. ولقد أوقف طغتكين سير الصليبيين عن التوغل في أحشاء المملكة، وقصر حكمهم على الساحل وعلى إنطاكية والقدس وطبرية، ولولا قيامه ذاك القيام المحمود لفتح الصليبيون دمشق وحلب، وكثيراً ما كانوا يغزون ربضهما وضاحيتهما، واكتفى المسلمون والفرنج بإضعاف قوى بعضهم بعضاً تارة، وعقد المهادنات طوراً، ولم تسفّ دمشق إلى دفع الغرامات للصليبيين على عهد طغتكين معتبرة نفسها الأم والعاصمة أكثر من غيرها من حواضر الشام، ولو أخذت دمشق لاستصفي الشام كله ولا نقطع ما بين مصر وهذا القطر من الاتصال، وصعب بعد ذلك إخراج الفرنج منه، فبقاء الرابطة مع مصر من البر ومن البحر إلى أن سقطت صور، حصر الفرنج في بقعة معينة لا تتعدى الطريق إلى بيت المقدس عن طريق الساحل.
ولو كان جميع أمراء الشام على مثل سيرة طغتكين، لخلفت وطأة الفرنج كثيراً في هذه الثلاثين سنة، وماذا يرجى من خير الأمراء إذا كان صاحب بعلبك يطلعهم على عورات المسلمين، وصاحب أفامية يقطع السابلة وابنه يحث الفرنج على قصد بلد أبيه، وصاحب حمص يشارك قطاع الطريق وكذلك ابنه خير خان، وبأمثال هذه الطبقة لا تخلص الرعية ويتعذر سوق القوم إلى طريق الخير، وهم لا يزالون مختلفين لأنهم يرون من عملهم أن يستبعدوا من صاروا إليهم وينعموا ولو
بإهلاكهم، لا أن يحافظوا على ملك ويدافعوا عن ذمار. ولذلك كان ظهير الدين بسياسته الحسنة مع ملوك الأطراف المرجع في الشام، أطلق الخليفة العباسي يده فيه منذ سنة 509 حرباً وخراجاً، وجعل ارتفاعه على إيثاره واختياره، لما بان من حسن بلائه وجميل سيرته في رعيته. على حين بدلت حلب عدة ملوك خلال دوره، وكان بعضهم يتنازعون ويتفاشلون ويتقاتلون.
كانت أخبار المسلمين تصل إلى الفرنج بسرعة، والغالب أن هؤلاء برعوا في التقاط الأخبار أكثر من الذين نزلوا عليهم، فكان الفرنج عندما(1/278)
يبلغهم حادث في المسلمين يغيرون خططهم الحربية، وبالطبع كانوا يستخدمون لذلك أناساً من أبناء نحلتهم من الأرمن وغيرهم، وربما كان للمسلمين أيضاً شأن في ذلك طمعاً في مال أو انتقاماً من سلطان، ولعل الصليبيين وفقوا إلى إمساك بعض ما كان ملوك الطوائف، يطيرونه من حمام الزاجل، ويحلون البطائق الصادرة عن بعض الأمراء والقواد، فتنكشف لهم أسرار خصومهم. فقد ذكر المؤرخون أن صاحب إنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود صاحب حلب يخبره بقتل والده قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل بيد الباطنية قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج:
ولقد آخذ المؤرخون الدولة الفاطمية على تهاونها في الغزو والجهاد حتى روى ابن تغري بردي، أن الآمر كان يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد، حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه، ولئن كان وقع لأبيه المستعلي أيضاً فأخذ القدس في أيامه، فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل بدراً الجمالي بالعساكر فوصلوا بعد فوات الوقت أما الآمر فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكراً فهو كلا شيء. قال: ولم ينهض أحد من المصريين
لقتال الفرنج لما دخلوا الشام، فعلمت الفرنج ضعف من بمصر، وظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه. الأول من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة، والثاني لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج عن البحر، والثالث عدم خروج الوزير الأفضل بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر، هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة.
ويغلب على الظن أن الفاطميين دهشوا لغزو الفرنج الشام ولم يريدوا أن يثيروا حفائظهم لئلا يحصروا وكدهم بفتح دار ملكهم، وفتح مصر أسهل من الشام، لأنها سهول ليس فيها حصون طبيعية، وأفضل للبيت(1/279)
العلوي أن تبقى له الديار المصرية ولو ذهب الشام بما فيه، ولذلك كان الفاطميون ينجدون الشام في الأحايين لأول عهد دخول الفرنج إليه إنجاداً ضعيفاً، وأكثر نجداتهم وحملاتهم لم تثمر الثمرة المطلوبة بل خففت جزءاً صغيراً من الشر مدة، وقوّى ذلك قلوب بعض أهل الأرجاء المحصورة، ونفّس خناقهم، وأوهمهم أن وراءهم قوة الفاطميين عند مسيس الحاجة يستصرخون بها فتنجدهم. والحقيقة أن الفاطميين على قوتهم من العدد والعدد لم يستطيعوا أن يذبوا حقيقة عن عسقلان، ولا عن صور وصيدا وبيروت وطرابلس دع الأصقاع الأخرى، وإذا عرفنا أن الدولة الفاطمية كانت في أواخر أيام ضعفها هان علينا أن لا نطلب منها أن تعمل عمل الشباب.
وقد أنجدت الدول المجاورة الشام نجدات مهمة على بعد المدى وقلة المواصلات. وأبلى جند التركمان والأكراد مع عرب الشام والموصل البلاء الحسن في هذه السبيل، ولكن كانت القوى الصليبية عظيمة جداً لا قبل لهم بدفعها، فكان موقف المسلمين على الأغلب موقف المدافع لا المهاجم، وكان لأمراء التركمان في هذا
الدور غيرة شديدة في الجهاد، ولم يكن داخلهم الفساد الذي يدخل على البيوت والدول، ولو كانت الآراء متجهة إلى مقصد واحد لاستطاع المسلمون أن يدفعوا الفرنج عن هذا القطر على كثرة جيوشهم الجرارة قبل أن يتأصلوا فيه، ويطلعوا على مبلغ قوات أُمرائه، ويتعلموا بحكم المجاورة ما كان ينقصهم من أصول الحرب، وبعض الصناعات وأعمال المدنية التي وجدوها في الشام يومئذ على حصة موفورة، فاقتبسوها ونقلوها بعد إلى أُممهم غنيمة نافعة من الشرق.
وقد حرص الفرنج أن يستولوا على قرى حلب والبقاع وحوران والسواد والبلقاء في الأكثر ليتقووا بغلاتها لأن معظم القرى في فلسطين كانت ساحات حرب لا تقوم بإطعام جيوشهم. وكان الفرسان في حصون الفرنج يملكون القرى ويحبون الأموال من أهلها الأصليين، ويسلبون قوافل المسلمين. وفي التاريخ العام: كانت الحرب في الشرق كما هي في الغرب تجارة رابحة، يقوم فرسان الفرنج ويغزون أرض المسلمين، وينهبون(1/280)
القرى ويخطفون السكان ويأخذونهم أسرى ويضطرونهم إلى أن يفتدوا أنفسهم.
وعلى الجملة فإن أُمراء المسلمين في هذا الدور لم يتلكئوا في الحقيقة عن تخفيف بلاء المهاجمين عن الشام، وقاتلوا فانهزموا وهزموا، وطاولوا وراوغوا، وهادنوا وعاهدوا، وقاربوا وسادوا. ولكن الشام والجزيرة، ومعهما العراق ومصر على قلة، لا تستطيعان دفع جيش مؤلف من أكثر أُمم أوروبا، ومتى كانت قوة قطر صغير، توازي قوى برّ كبير، ومن أين لأمراء صغار لا تربطهم رابطة محكمة، أن يقفوا في وجوه ملوك من ورائهم قوة الباباوية، وناهيك بها من قوة في ذاك العصر.
انتهى الجزء الأول من خطط الشام
ويليه الجزء الثاني وأوله الدولة النورية.(1/281)
الدولة النورية
من سنة 522 إلى سنة 569
فتنة الإسماعيلية ووقعة دمشق
لم يكف الشام تفرق كلمة أمرائه واستصفاء الفرنج لسواحله في الربع الأول من القرن السادس، حتى مُني بعدو داخلي يقاتل أهله في عُقر دارهم ويستنجد بالفرنج على إرهاقه، ونعني بهم الباطنية الذين كانوا يسمون القرامطة قديماً ويدعون في هذا الدور بالباطنية أو الإسماعيلية. فقد انتشر مذهبهم في كل بلد وكثر الدعاة إليه، وكانت دار الدعوة في حلب ودمشق، موطن التنفيذ والعمل. فإن أَبناءَ هذا المذهب ودوا لو يؤسسون دولة في العراق أو الشام، ولكنهم أخفقوا غير مرة، ولما شعروا بضعف أمراء الشام وتشتتهم، واشتغال قلوب معظمهم بقتال الصليبيين، أَيقنوا أن الفرصة قد سنحت فسار داعيتهم بهرام من العراق إلى الشام، ودعا بدمشق إلى مذهبه، فتبعه خلق كثير من العوام وسفهاء الجهال والفلاحين، وواثقه الوزير المزدقاني فأظهر دعوته علناً، بعد أن كان يختفي ويطوف المعالم والمجاهل ولا يعلم به أحد، فعظمت به وبشيعته المصيبة. وسكت عن هؤلاء الباطنية العلماء وحملة الشريعة خوفاً من بطشهم، ولما استفحل أمرهم في حلب ودمشق اضطر صاحب دمشق طغتكين أن يسلمهم قلعة بانياس دفعاً لشرهم، ليسلطهم على الفرنج ويقطع تسلطهم على المسلمين، فعدَّ الناس ذلك من غلطاته.
عظم أمر بهرام بالشام وملك عدة حصون بالجبال وقاتل أهل وادي التيم، وكان سكانه من النصيرية والدروز والمجوس وغيرهم، واسم أميرهم الضحاك بن جندل، ثم قتل بهرام وقام مقامه في قلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل، وأقام الوزير(2/3)
المزدقاني عوض بهرام بدمشق رجلاً اسمه أبو الوفا، وعظم أبو الوفا حتى
صار الحكم له بدمشق، فكاتب الفرنج ليسلم إليهم دمشق، ويعوضوه بصور، وجعلوا موعدهم يوم الجمعة ليجعل أصحابه على باب الجامع، وعلم صاحب دمشق بالأمر فقتل الوزير المزدقاني وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية فقتل بدمشق ستة آلاف إسماعيلي 523 وقال سبط ابن الجوزي: وكان عدة من قتل من الإسماعيلية عشرة آلاف على ما قيل ولم يتعرضوا لحُرمَهم ولا لأموالهم، ووصل الفرنج في الميعاد وحصروا دمشق فلم يظفروا بشيءٍ، واشتد الشتاء فرحلوا كالمنهزمين، وتبعهم صاحب دمشق بالعسكر فقتلوا عدة كثيرة منهم، وسَلّم إسماعيل الباطني قلعة بانياس إلى الفرنج وصار معهم.
قال ابن الأثير: ولما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك وتأسفوا على دمشق إذ لم يتم لهم ملكها، فاجتمعوا كلهم صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم من البحر للتجارة والزيارة في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يحصى. وروى ابن القلانسي أنهم كانوا يزيدون على ستين ألفاً فارساً وراجلاً، وساروا إلى دمشق ليحصروها، ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج فنازلوا البلد وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والغارة على الكور، فلما سمع تاج الملوك أن جمعاً كثيراً قد سار إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة، كما نهب صاحب القدس 521 وادي موسى وسبى أهله وشردهم، سير إليهم أميراً من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع من المسلمين، فلقوا الفرنج فواقعوهم واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلاً، وأخذوا ما معهم وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح، فلما علم من عليها من الفرنج ذلك داخلهم الرعب فرحلوا عنها شبه منهزمين، فتبعهم المسلمون
يقتلون كل من تخلف منهم.
ولما استولى الفرنج على قلعة بانياس بنزول صاحبها الباطني عنها وانضمامه إليهم وسقطت بأيديهم أيضاً قلعة القدموس وكانت للباطنية. وبإحراز هاتين القلعتين قوي أمر الفرنج وإن عظمت خسائرهم المادية، وعاد الناس فأمنوا وخرجوا بعد فشل(2/4)
الصليبيين في فتح دمشق وأيقنوا أن الفرنج لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل لفناء أبطالهم واجتياح رجالهم وذهاب أثقالهم.
دخول آل زنكي الشام:
كانت مملكة حلب للبرسقي وبها ولده مسعود فلما قتل البرسقي استخلف مسعود الأمير قيماز بحلب وسار إلى الموصل ثم استخلف على حلب قتلغ أبه السلطاني فأساء السيرة ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات، وتقرب إليه الأشرار فنفرت قلوب الناس منه. وكان سليمان بن عبد الجبار ابن أُرتق الذي كان صاحبها أولاً مقيماً بحلب، فاجتمع إليه أحداثها وملكوه المدينة وقتلغ في القلعة، وسمع الفرنج اختلافهم فجاءهم جوسلين صاحب إنطاكية فصافوه بمال، فرحل بعد أن خندق الحلبيون حول القلعة، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد، وأشرف الناس على الخطر العظيم، وأرسل عماد الدين زنكي صاحب الموصل عسكراً مع القائد قراقوش إلى حلب، ومعه توقيع السلطان محمود بالشام فأجاب أهل حلب إليه، وتقدم عسكر زنكي إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى زنكي فأجابا، فلما وصلا الموصل أصلح زنكي بين سليمان وقتلغ ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسار زنكي إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاعه وتلقاه أهل حلب ودخل ورتب الأمور وملكها وقلعتها 522. قال ابن الأثير: ولولا أن الله تعالى قد منّ على المسلمين بملك أتابك لبلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية.
ثم عزم عماد الدين زنكي على الجهاد وأرسل صاحب دمشق يلتمس منه المعونة على حرب الفرنج، وبادر إلى تجريد وجوه عسكره، وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره والاختلاط بالعسكر الدمشقي، فخرج من حماة إلى مخيم عماد الدين أتابك فأحسن لقاءه ثم غدر به وقبض عماد الدين على سونج وعلى جماعة المقدمين واعتقلهم في حلب، وزحف من يومه على حماة وهي خالية من حماتها فملكها، ورحل إلى حمص، وكان صاحبها قيرخان بن قراجه معه، وطلب منه تسليم حمص فراسل نوابه وولده فيها فلم يلتفتوا إلى مقاله،(2/5)
فأقام عماد الدين عليها مدة طويلة يبالغ في محاربة أهلها فلم يتهيأ له ما أراد فرحل عنها إلى الموصل.
وطلب صاحب دمشق إلى صاحب الموصل أن يطلق ولده ومن اعتقلهم من الأمراء والمقدمين فطلب عنهم خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى تحصيلها، ولم يطلق عماد الدين ابن تاج الملوك سونج ومن معه من الأمراء إلا في سنة 525. ومات الخصي صاحب صرخد فاستولت سُرِّيّته على قلعتها، وأرسلت إلى دُبيس بن صدقة صاحب الحلة تستدعيه من العراق للتزوج به، وتسليم صرخد بما فيها من مال وغيره إليه، فسار دبيس إلى الشام فضلَّ به الأدلاء بنواحي دمشق فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة فحملوه إلى صاحب دمشق تاج الملوك، ولما سمع عماد الدين زنكي بأسر دبيس أرسل إلى تاج الملوك يطلبه، ويبذل له إطلاق ولده سونج ومن معه من الأمراء فأجابه تاج الملوك إلى ذلك وأطلق عماد الدين سونج ورفاقه.
وفي سنة 524 جمع عماد الدين عساكره وسار من الموصل إلى الشام، وقصد حصن الأثارب، وكان أهله على اتصال بالفرنج يقاسمون الحلبيين على جميع أعمال حلب الغربية، فالتقوا وعسكر عماد الدين واشتد القتال وانتصر المسلمون
وانهزم الفرنج ووقع كثير من فرسانهم في الأسر وكثر القتل فيهم، وأخذ المسلمون الأثارب عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيها ثم خربها عماد الدين.
استنجاد بعض الصليبيين بالمسلمين واستقرار حال
دمشق:
بينا كانت دمشق مغتبطة بتاج الملوك بوري لشجاعته، وقد سد مسد أبيه في كفايته وكفاحه، ناداه الأجل سنة 526 عقيب جرح كان به من الباطنيّة، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد. ولما استقر إسماعيل بن بوري في ملك دمشق، واستقر أخوه في بعلبك استولى محمد على حصن الرأس وحصن اللبوة، فكاتب إسماعيل أخاه في إعادتهما فلم يقبل، فسار صاحب دمشق وفتح حصن اللبوة ثم فتح حصن الرأس وقرر أمرهما، ثم حصر أخاه في بعلبك فسأله الصلح فأجابه إليه، وأعاد عليه بعلبك وأعمالها واستقرت أمورهما.(2/6)
ودخلت سنة 527 فسار إسماعيل صاحب دمشق على غفلة من الفرنج إلى حصن بانياس وفتحه، وذلك لما بلغه من عزمهم على نقض الموادعة المستقرة، وهال الفرنج ما وقع لقلعة بانياس وأكثروا التعجب من تسهل الأمر في فتحها مع حصانتها وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة. وفتح إسماعيل حماة وقلعتها وقتل من كان بها، وحصر قلعة شيزر فصانعه صاحبها بمال حمله إليه. وفي هذه السنة اجتمعت التراكمين وقصدوا طرابلس، فخرج من بها من الفرنج إليهم واقتتلوا فانهزم الفرنج، وسار القومص صاحب طرابلس ومن في صحبته فحصرهم التركمان في قلعة بعرين وهرب القومص منها. ثم جمع الفرنج جموعهم وقصدوا التركمان ليرحلوهم عن بعرين فاقتتلوا وانحاز الفرنج إلى نحو رفنية وعاد
التركمان عنهم.
وقع الخلاف بين الفرنج من غير عادة جارية لهم بذلك، ونشبت الحرب بينهم وقتل منهم جماعة، والسبب في ذلك اختلاف طفيف نشأ بين أمرائهم حدا بصاحب يافا على أن يستنجد بالمسلمين في عسقلان فساعدوه حتى خربت تلك الأرجاء إلى حدود مدينة أرسوف، وعقد صاحب يافا معاهدة مع المسلمين فجاء صاحب القدس وحاصره، ولكن المسلمين اهتبلوا الغرة فجاسوا خلال ديار الفرنج وأخذوا يناوشونهم القتال، فخاف صاحب بيت المقدس العاقبة وأراد مشاغلة المسلمين فأغار على أطراف حلب، فنهض إليه الأمير سوار النائب في عسكر حلب ومن انضاف إليه من التركمان وتحاربوا أياماً وتطاردوا إلى أن وصلوا إلى أرض قنسرين، فحمل الفرنج عليهم فكسروهم كسرة عظيمة، فعاود سوار النهوض إليهم في من بقي من عسكره والأتراك، فلقوا فريقاً من الفرنج فأوقعوا به وكسروه، فانكفأت الفرنج إلى أرضها مهزومة، وانتهى إلى سوار خبر خيل الرُّها فنهض هو وحسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم، وأغار سوار على الفرنج في تل باشر فقتل منهم ألف فارس وراجل وقاتلهم أيضاً في موضع يعرف بنوار في عسكر حلب وما انضاف إليه من التركمان، وكانت الحرب بين الفريقين سجالاً. واشترى الإسماعيلية قلعة القدموس من صاحبها لبن عمرون وصعدوا إليها وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج، وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم.
وفي سنة 528 سار صاحب دمشق إلى شقيف تيرون وانتزعه من ابن ضحاك ابن جندل التيمي المتغلب عليه. وانتهى إليه أن الفرنج اعتزموا على نقض المستقر(2/7)
من الهدنة وقصد أعمال دمشق، وشرعوا بإخراب أُمهات الضياع في حوران، فوقع التطارد بين الفريقين عدة أيّام، ثم أغفلهم صاحب دمشق وقصد بلادهم عكا والناصرة وطبرية وما جاورها فظفر وغنم وسبى ورجع سالماً في نفسه وجملته،
فذل الفرنج وطلبوا تقرير الصلح بينهم.
خيانة صاحب دمشق وقتل أمه له:
ومما خدم عماد الدين زنكي أن شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق كان لأول جلوسه على عرش أبيه أقر الولاة على حالهم وسار بسيرته مدة، فنفس من خناق الأهلين وساعده اختلاف الصليبيين ثم تغيرت نيته وكثرت قبائحه ومصادرة المتصرفين، والأخيار المستورين، بفنون قبيحة في العقوبات، وأضمر السوء لأصحاب أبيه وقبض على خواصهم وأركان دولته فنفرت القلوب منه. وكان 527 وثب عليه أحد مماليك جده طغتكين وهو في الصيد بناحية صيدنايا وجبة عسال فأخطأه، وقرره شمس الملوك فقال: ما أردت إلا راحة المسلمين من شرك وظلمك ثم أقرّ على جماعة من شدة الضرب فضرب شمس الملوك أعناقهم من غير تحقيق، وقتل أخاه الأكبر سونج صاحب حماة الذي كان في أسر عماد الدين، قتله بالجوع في بيت، فعظم ذلك على الناس، ونفر من ظلمه المساكين والضعفاء والصناع والمتعيشون والفلاحون وامتهن العسكرية والرعية.
وأهم ما قضى عليه على ما يظهر اضطهاده رجال الدولة فتآمروا عليه ورأوا السبيل إلى النيل منه، خصوصاً لما بعث إلى عماد الدين زنكي حين عرف اعتزامه على قصد دمشق لمنازلتها يحثه على سرعة الوصول إليها ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم، وكتب إليه أنه إذا تأخر استدعى الفرنج وسلم إليهم دمشق بما فيها، وأسرّ ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من وجوه دولته وأهل بطانته، وشرع في نقل المال والمتاع إلى حصن صرخد. فاجتمع أعيان الدولة وأنهوا الحال إلى والدته الخاتون صفوة الملك، فدبرت عليه من قتله من غلمانها، غير راحمة له ولا متألمة لفقده، لما عرفت من قبيح فعله وفساد عقله وسوء سيرته. ونودي بشعار
أخيه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك. وجاء عماد الدين زنكي وخيم بأرض عذراء، فلما طال الأمر(2/8)
راسل في طلب الصلح على أن يخرج شهاب الدين محمود إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده، فلم يجب إلى ذلك، وتقررت الحال على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه.
قُتل شمس الملوك باتفاق رأي والدته مع أرباب الدولة في دمشق لما بدا من ظلمه واستصراخه الإفرنج بعد يأسه من معونة عماد الدين زنكي، وكان جده طغتكين مثلاً سائراً في غزوة لهم المرة بعد المرة، ومداراتهم أحياناً بالحيلة، وجمع أمراء الشام على قصدهم أبداً، ومصانعة خلفاء بغداد وخلفاء مصر طلباً لنجدتهم، ولو بالقليل من قوتهم المادية والمعنوية، ولكن ابن ابنه سلك غير طريقته فقتلته أمه ورجال دولته. وكانت هذه الأعمال المنكرة من بعض صغار الملوك الذين لا يحرصون إلا على مصلحتهم الخاصة، وإذا تأثرت أقل تأثر عمدوا إلى وضع أيديهم في أيدي أعدائهم من موجبات بقاء الأفرنج في ثغور الشام وإنطاكية والرُّها وطبرية والناصرة والقدس واستيلائهم على كثير من المعاقل. ولو لم يكن شجر الخلاف بين ملوك الفرنج في هذا الدور لسهل عليهم ملك المدن الأربع دمشق وحماة وحمص وحلب، بالنظر لخلل الدول المستولية عليها واضطرارها إلى قتال أعدائها من المسلمين وأعدائها من الصليبيين، بل وأعدائها في الداخل أمثال شمس الملوك. وللناقد البصير بعد هذا أن يقول إن دولة أتابك طغتكين كانت عزيزة الجانب في أولها فأصبحت ذليلة وعبئاً ثقيلاً على الشام بعد بطنين من مؤسسها.
توحيد الحكم على يد زنكي وقضاؤه على إمارة
صليبية:
بعد تقلقل أمر آل طغتكين أخذت روح آل زنكي تسري في القطر، فنهض سوار
نائب زنكي في حلب سنة 530 فيمن انضم إليه من التركمان، وجرد جيشه على الأعمال الفرنجية فاستولى على أكثرها، وغزا اللاذقية وأعمالها بغتة، وعاد من هذه الغزاة إلى شيزر ومعه زيادة عن سبعة آلاف أسير بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف دابة، واجتاح أكثر من مائة قرية كبيرة وصغيرة فامتلأت الشام من الأسارى ورجعوا بهم إلى حلب وديار بكر والجزيرة.
هذا ما وقع من الأحداث في العقد الثالث من القرن السادس، وأهم ما حدث ظهور دولة عماد الدين زنكي صاحب الموصل في حلب وإيقانه أنه لا سبيل إلى دفع(2/9)
الصليبيين عن الشام إلا إذا رجع أمر المسلمين إلى ملك واحد، وأنه إذا تقدم بجيشه قليلاً بعد أخذه حلب يستولي على دمشق، وينقذ الأمة من فوضى آل أتابك طغتكين وضعفهم، وكثر هجوم عماد الدين على حمص 530 فتسلمها صاحب دمشق من أولاد قيرخان بن قراجه وعوضهم عنها تدمر، فتابع عسكر زنكي بحلب وحماة الغارة على حمص لما رأوا خروجها إلى صاحب دمشق، فأرسل هذا إلى عماد الدين في الصلح فاستقر بينهما. وكف عسكر عماد الدين عن حمص وحدثت فتنة بدمشق بين صاحبها والجند وعاد عماد الدين فنازل حمص 531 وبها صاحبها معين الدين أتسز فلم يظفر بها، فرحل عنها إلى بعرين وحصر قلعتها وهي للفرنج وضيق عليها، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين، فلما وصلوا إليه جرى بينهم قتال شديد فانهزمت الفرنج، وعاود عماد الدين حصار الحصن فطلب الفرنج الأمان، فقرر عليهم تسليم الحصن وخمسين ألف دينار فأجابوا إلى ذلك، وكان زنكي مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح من الفرنج المعرة وكفرطاب، ومنع زنكي في هذه الوقعة عن الفرنج كل شيء حتى الأخبار، فكان من بحصن بعرين منهم لا يعلم شيئاً من الأخبار لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنوده. وملك زنكي حصن المجدل 532 وكان لصاحب دمشق،
ودخل مستحفظ بانياس إبراهيم بن طرغت تحت طاعته، وسار إلى حمص وحصرها ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول ملك الروم على حلب، ثم عاد إلى حمص فسلمت إليه المدينة وقلعتها، وكان شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها، وأغارت خيل الصليبيين على أطراف حلب، وتملكوا حصن بزاعه ثم نصبوا خيامهم على نهر قويق فخرجت إليهم فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت بهم، ونهض سوار في عسكر حلب وأدرك الصليبيين في الأثارب، فأوقع بهم وقهرهم ونزل ملك الروم هذه السنة 532 على بزاعة وحاصرها حتى ملكها بالأمان وأسر من فيها ثم غدر بهم، ونادى مناديه من تنصر فهو آمن ومن أبى فهو مقتول أو مأسور، فتنصر منهم نحو أربعمائة إنسان منهم القاضي والشهود ثم رحل عنها إلى شيزر وترك فيها والياً يحفظها مع جماعة وأقام عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فيها جماعة فهلكوا بالدخان وكان سكان بزاعة خمسة آلاف وثمانمائة نسمة، وعاد زنكي وحاصرها حتى ملكها وخرب الحصن والبلد عامر. وفي(2/10)
سنة 533 سار من مصر عسكر إلى وادي موسى فحاصر حصن الوعيرة ثمانية أيام، وعاد بعد ما توجه إلى الشوبك وأغار عليها وترك هناك أميرين على الحصار. وتزوج عماد الدين أم شهاب الدين محمود صاحب دمشق زمرد خاتون بنت جاولي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل وذلك طمعاً من عماد الدين في الاستيلاء على دمشق لما رأى من نفوذ هذه المرأة في الدولة. وكثيراً ما كانت الكلمة النافذة للنساء من آل بيت الدولة والغيرة الصادقة في وقايتها من السقوط.
وكان متملك الروم خرج في السنة الفائتة واشتغل بقتال الأرمن وصاحب إنطاكية وغيره من الفرنج وعمر ميناء الإسكندرونة ثم سار إلى بزاعة وملكها وغدر بأهلها ثم رحل عنها إلى حلب، فجرى بينه وبين أهلها قتال كثير فعاد عنها إلى
الأثارب وملكها وسار نحو شيزر وحاصرها أربعة وعشرين يوماً فأنجدها عماد الدين حتى اضطر متملك الروم إلى الرحيل فظفر عماد الدين بكثير ممن تخلف منهم. وكان يرسل إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه تخلفوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً، فاستشعر كل من صاحبه فرحل ملك الروم عنها. ونهض هذه السنة الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي والتركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره. ونهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه.
قويت دولة عماد الدين زنكي بعد استيلائه على حلب وحماة وحمص والمعرة وكفرطاب وبعلبك وغيرها، وإفحاشه القتل في الفرنج واستيلائه على بعض معاقلهم، فلم يسع شهاب الدين محموداً صاحب دمشق إلا مهادنته على قاعدة أحكمت بينهما، وأصبح القول الفصل لعماد الدين دون شهاب الدين في شؤون الشام. أما الفرنج في إنطاكية فلما ارتاح بالهم من جهة ملك الروم وصالحوه على ما اشترط، عادوا هذه السنة فنقضوا الهدنة مع عماد الدين وقبضوا على إنطاكية على خمسمائة رجل من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار.
وبينا كان عماد الدين يدبر ويفكر ويهتم لأخذ دمشق نعى الناعي 533 شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، قتله غلمانه في فراشه فتولى بعده أخوه جمال(2/11)
الدين محمد صاحب بعلبك فبعثت والدته الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين إلى زوجها عماد الدين زنكي، وهو على الموصل، تبعث همته على النهوض لطلب الثأر، فجاء وفتح الأثارب وبعلبك. وقال بعض المؤرخين: إن زنكي أمن قلعة بعلبك وتسلمها ثم غدر بأهلها فأمر ببعضهم فصلبوا فاستقبح الناس ذلك منه.
ولما رأى صاحب دمشق أن دولة عماد الدين زنكي ستكون لها الغلبة على دولته اعتضد بالفرنج على مال يحمل إليهم ليدفعوا عن دمشق عادية عماد الدين، فسار هذا طالاً للقاء الفرنج إن قربوا منه ثم عاد إلى الغوطة ونزل بعذراء فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة إلى حرستا التين ورحل متثاقلاً. وكان الشرط بين الفرنج وصاحب دمشق أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد إبراهيم بن طرغت، فاتفق أن نهض هذا إلى ناحية صور للإغارة عليها، فصادفه ريمند صاحب إنطاكية واصلاً في الفرنج على إنجاد أهل دمشق، فالتقيا فكسره وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من أصحابه، وعاد من بقي منهم إلى بانياس فتحصنوا بها وجمعوا إليها رجال وادي التيم فنهض إليها معين الدين أتسز في عسكر دمشق وحارب بانياس بالمنجنيقات، ومعه فريق وافر من عسكر الفرنج ففتحها وسلمها إليهم.
وجاء عماد الدين بعسكره هذه السنة أيضاً إلى دمشق وقرب من السور، وكان قد فرق عسكره في حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة، ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق، ثم سار عائداً على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة. وسار عماد الدين إلى أرض الفرنج فأغار عليها واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه. وفي الروضتين أنه لقيهم بالقرب من حصن بارين وهو للفرنج، فصبر الفريقان صبراً لم يسمع بمثله، فحاصره حصراً شديداً فراسلوه في طلب الأمان، وكان حصن بارين من أضر كور الفرنج على المسلمين، فإن أهله كانوا قد خربوا ما بين حماة وحلب من الأرضين ونهبوها وتقطعت السبل، كان عماد الدين استولى على هذا الحصن سنة 531 وأعطى الأمان لمن فيه وقرر عليهم تسليمه، ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه. وظهرت عسكرية عسقلان على خيل الفرنج 535 الفائزين عليها فعادوا مفلولين. وملك الباطنية حصن مصياف، وكان واليه
مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه(2/12)
وأغار الأمير لجه التركي 536 النازح عن دمشق إلى خدمة عماد الدين على بلد الفرنج وظفر بخيلهم وفتك بهم فقتل منهم سبعمائة رجل. وظهر 537 صاحب إنطاكية في ناحية بزاعة فثناه عنها النائب في حفظ حلب وحال بينه وبينها. وظهر متملك الروم في الثغور دفعة ثانية وبرز إليه صاحب إنطاكية وأصلح أمره معه. وفي سنة 537 خرجت فرقة وافرة من الفرنج إلى ناحية بعلبك للعيث فيها فقتل المسلمون أكثرهم وعادوا إلى بعلبك سالمين. وظفر عسكر بفرقة كبيرة من التجار والأجناد خارجين من إنطاكية تريد أرض الفرنج فأوقعوا بها وقتلوا من كان معها من فرسانهم.
وفي سنة 539 فتح عماد الدين زنكي الرّها من الفرنج ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات. وكان لا يمر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها فينزل عليه إلا سلم إليه في الحال، وهزم التركمان الفرنج الذين انتدبوا من إنطاكية لإنجاد أهل الرّها شر هزيمة، وتمكن السيف في أكثر الراجل وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم مفلولين. أي أن عماد الدين أتى ببأسه على إمارة الشمال الصليبية برمتها وهي إحدى الإمارات الأربع التي أقامها الصليبيون في الشام، فلم يبق لهم إلا إمارة إنطاكية وهي تمتد إلى قيليقية وإمارة طرابلس وإمارة القدس.
الحال بعد نصف قرن من نزول الصليبيين:
نصف قرن مضى على دخول الصليبيين الشام وهي إذا ما خلا فيها سيد قام سيد، يشتد في دفعهم أو يحافظ على الحالة الحاضرة، وكلما رأى من يعتد بعقلهم وغيرتهم من أمراء المسلمين عدم وفاء الصليبيين للعهود زادوا في قتالهم وأمعنوا في تخريب حصونهم وأرضهم، وهذه الأراضي أي القرى والمزارع كانت ملك
الفلاحين من المسلمين والمسيحيين، والويل لمن كان صعقهم في طريق المهاجمين والمدافعين فإن مزرعته وداره إلى بوار، ولا سيما في أعمال حلب وطرابلس لقربهما من إمارتين إفرنجيتين قويتين وأعمال حوران والسواد والبلقاء وجبل عوف وجبل الشراة فإن المتكفل بغزوها صاحب القدس وهو أقوى ملوك الفرنج في الشام. وإليه يرجع في المهمات والقضايا العظيمة، وهو ينجد أصحاب الرها وإنطاكية وطرابلس يوم الشدائد.(2/13)
وكان آل تنوخ وآل معن حجازاً في أعالي سواحل لبنان بين أملاك الصليبيين وأملاك صاحب دمشق ولهم الأثر المذكور في ذلك، ولذلك كان يتنازعهم المستولي على دمشق والمتولون للساحل ولكن خدمتهم للمسلمين أكثر بالطبع وهواهم مع أبناء دينهم وعلى نحو ذلك كان الدروز وقد قاتلوا في صفوف المسلمين فأظهروا من الشجاعة والنجدة ما تقر به العيون. ومن الغريب أن شيعة جبل عاملة كانت مع الصليبيين على إخوانهم المسلمين إلا قليلاً، وكأنهم اضطروا إلى ذلك اضطراراً لأن أرضهم في قبضة الصليبيين، كما كان هوى الموارنة لمكان الدين مع الصليبيين، ومن الموارنة أدلاء لهؤلاء وعمال وتراجمة، وكان بطاركة أهل الصليب ينتقلون في قرى لبنان الساحلية ولهم السلطان الأكبر على أمراء الفرنج.
وكانت قوى فريق المسلمين وفريق الدخلاء متعادلة في الغالب، ينال كل منهما من جاره ويغزوه في عقر داره، ويعود وقد ملئت أيدي المتحاربين بالغنائم والأسرى. والفرنج يأتيهم المدد كل سنة على طريق البحر، والبحر لا يحمل الناس كالبر، والمسلمون تأتيهم النجدات من مصر في الجنوب ومن العراق في الشرق ومن ديار بكر وديار مضر وآسيا الصغرى. والفرنج مؤلفون بحسب عناصرهم من طليان وفرنسيين وألمان، وجيوش المسلمين مؤلفة من تركمان وأكراد وعرب.
وما غفل فريق عن فريق سنة واحدة خلال هذه المدة. ولم يكتب لأحد عظماء الأمراء من أهل الإسلام أن يطول عهده وترسخ قدمه في الملك والسلطان حتى يحمل حملة رجل واحد على الفرنج، فإن دمشق وحلب وعليهما في الجنوب والشمال المعول في الحرب لأنهما المعسكران العظيمان كثيراً ما شغلا بأنفسهما ورد دسائس الذين يتربصون الدوائر بملوكهما، والفرقة الباطنية التي كان المقصد من الإغضاء عنها أن تقف سداً في وجه الأعداء لما عرف به أربابها من الشدة والمضاء، أصبحت آلة شر على المسلمين لا لهم في أكثر الأحيان، ولم يخلصوا لمن انشقوا عنهم مذهباً وإن لم ينشقوا عنهم قوميةً.
فاقتضت الحال أن يتولى أمر الأمة بعد تتش وآق سنقر وبزان وابن عمار وابن منقذ ومسعود وطغتكين وبوري وزنكي أمراء من عيار أرقى وبسلطة أعظم، تكون اجزاء حكومتهم أكثر تجانساً من ذي قبل، وليس الزمن زمن ملك وإمارة، ولا عهد سكة مضروبة، وخطبة مخطوبة، بل العهد عهد عمل بالقرائح والعقول،(2/14)
وعمل بالسلاح والكراع، وعمل بالخطط العسكرية والخدع الحربية، وقت كله جد في جد، وإلا فالعدو يتقدم، والإسلام يهلك ويعدم، وعمل عظيم كهذا متوقف على قيام زعيم كبير يلتف الناس حوله عن رضى، ويجذب قلوبهم بصالح أعماله لا ببهرج مقامه ولطف مقاله، ويبهرهم بلامع إخلاصه، لا ببريق الذهب على كرسيه وتاجه.
صفات عماد الدين زنكي وتولي ابنه نور الدين:
بدأ العقد الرابع من القرن السادس وفيه قتل عماد الدين زنكي على قلعة جعبر بيد جماعة من مماليكه. وكانت صفاته صفات حربية راقية اشتهر بشجاعته ونجدته، اشتهاره ببطشه وشدته، وكان يحب التوسع في الملك والذَّب عن حوزة الإسلام، ويدرك بثاقب نظره أن الأعداء محيطة بمملكته لا ينجيها منهم إلا القضاء على إحدى إماراتهم في الرُّها وما إليها، ولا يتقى بأسهم بمناوشات وحروب تستصفى معها بعض القلاع والحصون ثم يستعيدونها وبالعكس، وما دامت دمشق لم تدخل في سلطانه لا يقوى ملكه بالشام الإسلامية مع ملكه الموصل على ردّ عوادي الدهر ودفع غوائل العدو. توفرت في شخصه شروط التوسع في الملك، وعرف إدارة الممالك بالعمل ورثها من أبيه آق سنقر وبذَّه فيها، فكان مربياً فاضلاً شهماً مشهوداً له بذلك، دفع إليه السلطان محمود لما تولى الموصل ولديه آلب أرسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي ليربيهما فلذا قيل له أتابك.
ومن صفات عماد الدين أنه كان ينهى أصحابه عن شراء الملك ويقول: إن الأقطاع تغني عنها، ومتى كانت البلاد لنا فلا حاجة إليها، ومتى ذهبت البلاد منا ذهبت الأملاك معها، ومتى كان لأصحاب السلطان مِلك تعدوا على الرعية وظلموهم، على حين كانت الاقطاعات في عهده للأمراء والقواد وأرباب الدولة شائعة غير منكرة عند المسلمين وعند الصليبيين في هذه الديار. قيل للشهيد أتابك زنكي: إن هذا كمال الدين بن الشهرزوري يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي؟! إن كمال الدين يقلُّ له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار. فإن شغلاً واحداً يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما(2/15)
قال. وهذا أكبر دليل على حرصه على رجاله وإيقانه أن الدولة لا تقوم إلا بأمثال الوزير الشهرزوري.
وكانت لعماد الدين عناية بأخبار يتنشّدها ويغرّم عليها الأموال الطائلة، فيقف على أخبار الملوك ساعة بساعة، وإذا جاءه رسول لا يمكنه من الحديث مع أحد الرعية لئلا ينتشر الخبر في البلد. وكان يفرق الأموال في القلاع والبلدان فلا يجعلها في مكان واحد ويقول: إذا كانت الأموال في موضع واحد وحدث حادث وأنا في موضع آخر وذهبت لم انتفع بها، وإذا كانت متفرقة لم يحل شيء بيني وبينها رجعت إلى بعضها. وكانت المملكة قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلاً وسكاناً، وقبل أن يجيء زنكي إلى الشام اشتدت صولة الصليبيين واتسعت مملكتهم من ناحية ماردين وشيحان إلى عريش مصر وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر، وجعلوا على كل بلد جاورهم خراجاً وإتاوة يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم. وكان مهيباً شديد الوطأة على من يعبثون بحياة الأمة. بلغه أن بعض الولاة تعرض لامرأة فقلع عينيه وجب مذاكيره فخاف الولاة وانزجروا، وكان شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد. وكان يقول: إن لم تحفظ نساء الأجناد وإلا فسدت لكثرة غيبة أزواجهن في الأسفار. ترجمة العماد الكاتب بقوله: كان زنكي ابن آق سنقر جباراً عسوفاً، بنكباء النكبات عصوفاً، نمري الخلق، أسدي الحنق، لا ينكر العنف، ولا يعرف العرف، قد استولى على الشام من سنة 522 إلى أن قتل في سنة 541 وهو مرهوب لسطوه اه. وبعض هذه الصفات تنزهت منها نفس ابنه نور الدين محمود وهذا الرجل الذي كان ينتظر لإنقاذ الشام مما حل به من الويلات، فإنه جمع الصفات الحسنة في أبيه وتجرد عن الصفات الرديئة فيه.
كان نور الدين في قلعة جعبر يوم مقتل أبيه عماد الدين بيد المماليك فسمي الشهيد، فأخذ في الحال خاتمة وهو ميت من إصبعه وسار إلى حلب فملكها، وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه الحال
وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها. قال ابن عساكر: وسير نور الدين الملك آلب أرسلان بن السلطان محمود بن محمد إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه وقال لهم: إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له، وأنتم في(2/16)
خدمته، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ولما انتهى نعي عماد الدين إلى صاحب دمشق خف في الحال إلى حصن بعلبك وحصره وكان متوليه نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين يوسف، فخاف أن لا يتمكن أولاد زنكي من إنجاده بالعاجل فصالح صاحب دمشق وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعاً ومالاً وملكه عدة قرى من عمالة دمشق.
ولم يكد نور الدين يتربع في دست الحكم بحلب حتى بدت آيات فضله، وصحة حكمه وعقله وحزمه، وباستيلائه على الأعمال ظهر نبوغه فدخلت الشام في حياة سياسة جديدة، بعد تقلقل أمر الدولة الأتابكية بدمشق، ودخول الوهن على فروعها بزوال أصلها الثابت ظهير الدين طغتكين. وسار نور الدين على قدم أبيه عماد الدين في التقرب من ملوك الأطراف فخطب ابنة معين الدين أتسز الملك الحقيقي لدمشق، والحاكم المتحكم في سياستها ليتم له بالصهر والقرابة ما كان أبوه يرمي إليه بزواجه بأم شهاب الدين محمود فلم يتم له، وتزوج نور الدين بعد ذلك بابنة صاحب قونية واقصرا فأمن بهذا الزواج من غارة يغيرها صاحب آسيا الصغرى على الشام، ونم تسرب عسكر الصليبيين عن طريق الروم إلى مملكته.
بعد أن أصيب جوسلين صاحب الرها بتمزيق شمل إمارته قبل سنتين على يد عماد الدين زنكي، جمع الفرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة النصارى المقيمين بها فاستولى عليها وقتل من بها من المسلمين. فنهض نور الدين 541 فيمن انضاف إليه من التركمان فاستعاد البلد وقتل كثيراً من أرمنها، ومحق السيف كل من ظفر به من نصاراها. واستنجد صاحب دمشق
بنور الدين على قتال والي صرخد الذي كان خرج إلى ناحية الفرنج للاستنصار بهم، فجاء نور الدين في عسكر حسن فاجتمع الجيشان على حلب، وبلغ صاحبي حلب ودمشق أن الفرنج احتشدوا قاصدين بصري فحال عسكر المسلمين بينهم وبين الوصول إليها، واستظهر عسكر المسلمين على الفرنج فولوا الأدبار فتسلم صاحب دمشق حصني بصرى وصرخد.
الحملة الصليبية الثانية وغزوتها دمشق:
وفتح نور الدين في السنة التالية 542 مدينة ارتاح بالسيف وحصر ثامولة؟(2/17)
وبسرفوث وكفرلاما من أعمال الفرنج. قال صاحب الكامل: كان الفرنج بعد قتل والد نور الدين قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد وخاب ظنهم وأملهم وبينا كان نور الدين يجمع شمله لضرب الفرنج في مقتل من مقاتلهم للقضاء على قوتهم التي ظهر له ضعفها يوم استرد أبوه منهم الرّها، وردت الأخبار من قسطنطينية أن حملة عظيمة قادمة من بلاد الفرنج وهي المعروفة بالحملة الصليبية الثانية مؤلفة من فرنسيس بقيادة لويز السابع، وألمان بزعامة كونراد الثالث، وفي الجيش إنكليز وفلامنديون وطليان، ومن هؤلاء البنادقة والجنوية والبياسنة البيزيون وذلك لإنجاد الصليبيين في الشام، إذ ساءت حالهم بعد سقوط الرّها وقلّ فارسهم وراجلهم لأن سيوف التركمان والأكراد والعرب قد حصدتهم، وعلى كثرة تناسلهم مدة نصف قرن اصبحوا في قلة وأصبح أعداؤهم في كثرة.
تجمعت هذه الحملة بتحميس القديس برناردوس في الغرب، وكان له كما لرؤساء الدين السلطان الأكبر على النفوس يصرفها كما يشاء. وذكر المؤرخون أن عدد هذا الجيش كان ألف ألف عنان من الرجالة والفرسان وقيل أكثر من ذلك. وفي التاريخ العام أن كلاً من الجيش الألماني والجيش الفرنسي كان مؤلفاً من سبعمائة
ألف فارس ما عدا الرجالة الذين لا يحصى عددهم، وأن الروم قدروا مجموعه سبعمائة ألف رجل. قال وهو تقدير ظاهر المبالغة. واختار هذا الجيش طريق البر وعرض عليه روجر صاحب بوليه وصقلية أن يسافر بحراً لأنه كان ينوي الاستعانة بجيش الصليبيين ليدفع المسلمين عن دياره، وكانوا احتلوا سركوزة، فلقي جيش الصليبيين من صاحب القسطنطينية وأمراء بني سلجوق في آسيا الصغرى ضروب القهر والموت. قال مؤرخونا: واستمر القتل فيهم أي في الصليبيين إلى أن هلك العدد الدثر منهم، وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر ما أفنى الكثير منهم.
وصلت مراكب الفرنج 543 إلى ساحل البحر كصور وعكا، وأجمع من كان بها من الفرنج بعدما فني منهم أي من القادمين من طريق البر بالقتل والمرض والجوع نحو مائة ألف إنسان أن يقصدوا بيت المقدس. ولما قضوا مفروض حجهم عاد من عاد بعد ذلك إلى أوطانهم في البحر، وبقي ملك الألمان أكبر(2/18)
ملوكهم ومن هو دونه، وصلى الصليبيون في القدس صلاة الموت، وعادوا إلى عكا وفرقوا المال في العسكر وكان مقدار ما فرقوه سبعمائة ألف دينار ولم يعينوا لهم وجهة وما كانت وجهتهم إلا فتح دمشق فورّوا بغيرها وهرّبوا المسلمين بين أيديهم. ولم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان قد ضرب خيمته على باب مدينتهم في الميدان الأخضر. وكان الفرنج في نحو خمسين ألفاً من الخيل والرجل وقيل أكثر من ذلك. ويقول ابن منقذ: إن ملك الألمان لما وصل إلى الشام اجتمع إليه كل من في أرجاء الساحل من الفرنج، فقصدوا أولاً المنزل المعروف بمنازل العسكر فصادفوا الماء مقطوعاً عنه، فقصدوا ناحية المزة ووصلت طلائعهم إلى الميدان الأخضر فنشبت الحرب بين الفريقين، واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك والتركمان وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجمّ الغفير، وكانت المكاتبات قد نفذت
إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ، وأخذت خيل التركمان تتواصل، فلما ضاق الأمر بالفرنج بعد أربعة أيام ورأوا شدة عزيمة المسلمين في قتالهم رحلوا مفلولين.
ويرى مؤرخو الحروب الصليبية من الفرنج أن جيش الحملة الصليبية الثانية كان أكثر نظاماً وقيادة من جيش الحملة الأولى، ليس فيه المتشردون والأشقياء، وكان مؤلفاً من فرسان وبارونات وغيرهم أخذوا بالحماسة الدينية وساروا في قيادة ملكين عظيمين. وفي التاريخ العام أن هذه الحملة الصليبية الكبرى لم تجد نفعاً البتة حتى استغربت حالها أمم النصرانية فبحث بعضهم عن الخطايا التي استحقت بارتكابها هذه الكارثة، ونسبت أخرى هزيمة الحملة لخداع الروم أو لخيانة نصارى الشرق وذكروا أن الصليبيين في القدس قد ارتشوا من أمير دمشق بمبلغ مائتين وخمسين ألف دينار وأن الأمير أرسل المال زيوفاً أو نحاساً طلي بالذهب.
انكسر الجيش الذي قاتل دمشق بقيادة كونراد الألماني ولويز السابع الفرنسوي وبودوين الثالث ملك القدس في بساتين المزة ولحق فلّهم بالساحل، بعد أن قطعوا أشجار الحدائق للتحصن بها وأحرقوا الربوة والقبة المهدوية. وقد وصف أبو الحكم الأندلسي جيش الفرنجة على دمشق في مخيمه ومعتركه ومجتلده ومنهزمه وصفاً جميلاً قال:
بشطى نهر داريا ... أمُورٌ ما تؤاتينا
وأقام رأَوا سفك ال ... دما في جِلَّقٍ دينا(2/19)
أتانا مائتا ألفٍ ... عديداً أو يزيدونا
فبعضهمُ منَ اندلسٍ ... وبعضٌ من فلسطينا
ومن عكا ومن صورٍ ... ومن صيدا وتَبنينا
اذا أبصرتهم أبصر ... ت أقواماً مجانينا
ولكن حرقوا في عا ... جل الحال البساتينا
وجازوا المرج والتعدي ... ل أيضاً والميادينا
تخالهمُ وقد ركبوا ... قطائرها حراذينا
وبين خيامهم ضموا ال ... خنازر والقرابينا
وراياتٍ وصلباناً ... على مسجد خاتونا
ومن توفيق صاحب دمشق يومئذ وهو مجير الدين أبق أن تدبير المملكة كان لمعين الدين أتسز مملوك جده طغتكين، وكان عاقلاً ديناً محسناً لعسكره فاستنجد بصاحب الموصل سيف الدين غازي وصاحب حلب نور الدين محمود، فجاء الشقيقان في جيش لجب، وانضم جيشهما بل روحه وروح أبيهما إلى روح مملوك طغتكين مؤسس الدولة الأتابكية، مع تحمس الأمة ومعرفتها حق المعرفة أن الفرنج إذا أخذوا دمشق سقطت الشام كلها، وربما تعدوها إلى الحجاز وهناك الطامة العظمى على المسلمين، وكان اجتماع آل زنكي الأقوياء مع صاحب دمشق الضعيف في سلطانه فاتحةً لعمل عظيم يتوقع منهم في الشام، وأن ملكها سيؤول إليهم بحكم الطبيعة. ولم يرض سيف الدين ولا نور الدين أن يناقشا مجير الدين ومعين الدين الحساب عما قدماه وقالاه، بل مرا بالأحقاد مرّ الكرام، وجعلا الأقاويل دبر آذانهما وعند الشدائد تذهب الأحقاد.
ذكروا أن معين الدين أتسز كان قد كاتب سيف الدين غازي صاحب الموصل قبل نزول الصليبيين على دمشق، يستصرخ به ويخبره بشدة بأسهم ويقول له أدركنا، فسار سيف الدين في عشرين ألف فارس ونزل في إقليم حمص وبعث إلى معين الدين يقول: قد حضرت بجند طمّ ولم أترك ببلادي من يحمل السلاح، فإن أنا جئت الفرنج وكانت علينا الهزيمة وليست دمشق لي ولا لي بها نائب لم يسلم منا أحد وأخذت الفرنج دمشق وغيرها فإن أحببت أن أقاتلهم فسلم البلد إلى من أثق به، وأنا أحلف لك إن كانت النصرة لنا عليهم أنني لا أدخل إلى(2/20)
دمشق وأرجع إلى
بلادي فمطله معين الدين وبعث إلى السواحل يقول: هذا ملك الشرق نازل على حمص وليس لكم به طاقة، فإن رحلتم وإلا سلمت دمشق إليه وهو يبيدكم وأنا أعطيكم بانياس أي إن معين الدين أتسز آثر أن يتخلى عن بانياس مفتاح دمشق الأكبر من جهة الفرنج، ولا يجعل لسيف الدين غازي إصبعاً في بلده، لعلمه أن دولة آل زنكي في عنفوان أمرها غضة الإهاب ودولتهم هرمة، والفتى يغلب الهرم ويخلفه بحكم الطبيعة.
تقدم نور الدين في فتوحه:
ولما رحل الفرنج عن دمشق كتب القومص صاحب طرابلس إلى معين الدين وإلى نور الدين يستنجدهما على ولد ألفنس صاحب صقلية الذي أخذ منه حصن العريمة، ويريدهما على أخذه خوفاً منه على بلده، وكتبا إلى سيف الدين يطلبان منه المدد فأمدهما، فحصروا الحصن ونقبوا السور، فأذعن الفرنج واستسلموا وألقوا بأيديهم، فملك المسلمون الحصن وأخربوه وأخذوا كل من فيه.
وعاد عسكر سيف الدين إلى الموصل وعسكر نور الدين إلى حلب وأخذ هذا بجمع أطرافه وتوجه إلى ما دانى أرضه من أرض الفرنج وظفر بعدة وافرة منهم، وجمع صاحب إنطاكية رجاله فصد نور الدين على حين غفلة منه، ونال من عسكره حتى اضطر نور الدين أن يهرب بنفسه وعسكره إلى حلب. وفي هذه السنة 543 نادى منادي نور الدين في حلب بإبطال الأذان بحي على خير العمل في أواخر أذان الغداة، وأعاد أذان أهل السنة ففرح الناس وأبطل بذلك أثراً عظيماً من آثار الدولة العلوية الفاطمية.
لم تثبط هزيمة نور الدين يوم إنطاكية من عزيمته، وقصد الفرنج فكان بينه وبينهم مصاف بأرض يغري من العمق فانهزم الفرنج إلى حصن حارم وكانوا هزموا المسلمين أولاً بهذا الموضع، وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة فأرسل منهم جماعة
مع غنائم كثيرة إلى أخيه سيف الدين صاحب الموصل. وفي هذه السنة سار نور الدين إلى بصري وقد اجتمع الفرنج قضهم وقضيضهم، فالتقى بهم هنالك واقتتلوا أشد قتال فهزمهم نور الدين.
وكثر عيث الفرنج في صور وعكا والثغور 544 بعد رحيلهم عن دمشق(2/21)
وفساد شروط الهدنة المستقرة بين صاحب دمشق وبينهم، وكانوا يعيثون في عمل دمشق، ويفحشون في التخريب ويمعنون في الغارة، فأغار عليهم العسكر الشامي والتركماني والأعراب إلى أن اضطروا إلى تجديد الهدنة مع صاحب دمشق سنتين. وأغار صاحب إنطاكية على الأعمال الحلبية فدفعه نور الدين صاحبها، وكان عسكر نور الدين يناهز الستة آلاف فارس سوى الأتباع والسواد، والفرنج في زهاء أربعمائة فارس طعانة وألف راجل مقاتلة سوى الأتباع، فلم ينج منهم إلا نفر يسير ثم نزل نور الدين في العسكر على باب إنطاكية وقد خلت من حماتها فاستمال أهلها في التسليم فأمهلوا، ثم نهض إلى أفامية فسلم الفرنج إليه البلد بعد حصارها واجتمع من بالشام من الفرنج وساروا نحو نور الدين ليرحلوه عنهم، فلم يصلوا إلا وقد ملك حصن أفامية وملأه ذخائر وسلاحاً ورجالاً، واقتضت الحال بعد ذلك مهادنة من في إنطاكية وتقرر أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية لنور الدين، وما قرب من إنطاكية لهم. وقد عاون نور الدين في هذه الوقعة الأمير بزان في عسكر دمشق وعسكر أخيه سيف الدين غازي والجزيرة، وقتل من الفرنج ألف وخمسمائة وأسر مثلهم، وقتل البرنس وحمل رأسه إلى نور الدين. قال العماد: وكانت هذه الكسرة على إنب، وإنب حصن من أعمال عزاز.
وظهرت الفرنج في الأعمال الدمشقية للعيث فيها واتصل بنور الدين إفسادهم في الأعمال الحورانية بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم فسار وكف أيدي أصحابه عن العيث والفساد في الضياع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين
والتخفيف عنهم. وكتب إلى دمشق يستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس، وقد كان رؤساؤها عاهدوا الفرنج أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين فاحتج عليه وغولط، فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس وبعض العسكر بيعفور، ثم رحل من منزله بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العسكر، وراسل مجير الدين والرئيس بدمشق بأنه لم يقصد محاربتهم وإنما دعاه إلي ذلك كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان وعجز أمراء دمشق عن حفظ أعمالها واستصراخهم بالفرنج على محاربته، وبذلهم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلماً لهم، فكان الجواب عن هذه الرسالة ليس بيننا وبينك إلا السيف وسيوافينا من الفرنج ما يعيننا على دفعك إن(2/22)
قصدتنا ونزلت علينا فلما عاد الرسول بهذا الجواب أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى دمشق. وما ندري إذا كان ذلك الجواب صدر قبل وفاة معين الدين أتسز والي دمشق وصاحب أمرها نيابة عن أولاد طغتكين، وكان أتسز صالحاً عادلاً محسناً كافاً عن الظلم متجنباً للمآثم، محباً للعلماء والفقراء، بذل مجهوده في حفظ بيت سيده طغتكين فلما مات أخذ ملك مجير الدين في الانحلال.
انحلال دولة مجير الدين وتوفيق نور الدين:
آذنت شمس دولة أبناء طغتكين بالمغيب، لهلاك الرجال الغيورين عليها، ولأن أربابها أخذوا يتقوون بالفرنج على أبناء نحلتهم حباً بأن يبقوا في ملكهم ورفاهيتهم. ولكن دولة نور الدين التي أصبح لها المقام الأسنى في الشام بعد أن حالف التوفيق أعلامها أكثر من مرة في سنين قليلة أخذت النفوس تتطلع إليها، وتعلق الآمال الطيبة عليها. وقد كانت دمشق التي أجابت نور الدين بهذا الجواب الفظ نشبت فيها هذه السنة فتنة بين الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وذلك لاستيحاش الرئيس في دمشق من مجير الدين صاحبها، ولم تزل الفتنة ثائرة إلى أن أبعد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة.
ولكن هذه الفوضى في دمشق يصعب دوامها، وليست المسألة مسألة تقريب رجل أو رجال من أركان الدولة أو اصطلام ثائر وخارج على الجماعة، وقد سرت روح الغضب حتى إلى أقرب الناس من الآل الملوكي، وقوة نور الدين تشتد وشائجها، ودعوته تزداد انتشاراً اليوم بعد اليوم، فلم يسع أولي الأمر في دمشق سنة 540 إلا تقرير الصلح بينهم وبينه، فأقيمت الخطبة لنور الدين على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وضربت السكة باسمه وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة السلطنة والطرق والسوارين وخلع على الرئيس ابن الصوفي خلعة الوزارة فبذلا له الطاعة وأعادهما إلى عملهما وطيب قلوبهما ورحل إلى حلب والقلوب معه لما غمر العالم من خيره. عمل مجير الدين وابن الصوفي هذا العمل مكرهين أمام قوة قاهرة، عملاه وهما يسران حسراً في ارتغاء، على أمل أن ينتقما من نور الدين باعتصامهما بالصليبيين حتى اضطر في السنة التالية 546 أن يسوق عسكره إلى دمشق فنزل أوائل جنده على أرض عذراء، وقصد فريق وافر منهم ناحية السهم(2/23)
والنيرب في سفح قاسيون، وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق، ثم وصل نور الدين في جنده ونزل على عيون فاسريا بين عذراء ودومة،
وامتد عسكره إلى ضمير ونزلوا في أرض حجيرا وراوية في خلق كثير، ثم نزل في أرض مشهد القدم وما والاه من الشرق والغرب، وكان منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد أي أن العسكر النوري أحاط بدمشق من أطرافها الأربعة فنزل كما قال المؤرخ منزلاً ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين، وأرسل نور الدين إلى مجير الدين يقول: كنت اتفقت معكم وحلفت لكم، والآن قد صح عندي أنكم ظاهرتم الفرنج فإن أعطيتموني عساكركم لأجاهد في سبيل الله رجعت عنكم فلم يرد جواباً. وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ولم يزل نور الدين مهملاً للزحف على البلد إشفاقاً من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة الجهتين حتى انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في العيث، وحصدت زراعات المرج والغوطة وضواحي البلد، وخربت مساكن القرى ونقلت أنقاضها إلى بلد، وزاد الإضرار بأربابها من التنّاء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي والفساد، ثم رحل العسكر النوري ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتا المصاقبة للبلد، ونشبت المطاردة وكثرت الجراح في خيالة البلد ورجالته، ثم رحل نور الدين إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الفرنج من البلد للإنجاد ليكون قريباً من معابرهم، وبعد ذلك رحل إلى ناحية الزبداني استجراراً لهم، وجعل من عسكره أربعة آلاف فارس ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد الفرنج ولقائهم، ونزل الفرنج على نهر الأعوج، وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما واجتمعا بملكهم وما صادفوا عنده شيئاً مما هجس في النفوس من كثرة ولا قوة، وتقرر بينهم النزول بالعسكريين على حصن بصرى لتملكه واستغلال أعماله. ثم رحل عسكر الفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم، وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب ناحية الفرنج للإيقاع بهم فالتجأ
عسكر الفرنج إلى اللجاة للاعتصام بها. ثم زحف نور الدين على دمشق وقد رأى خيانة صاحبها ومماشاته للفرنج حرصاً على هذه العاصمة من السقوط في يد العسكر النوري البالغ ثلاثين ألفاً يزداد كل يوم قوة وعسكر دمشق ضعفاً. وتحرج نور الدين من(2/24)
قتال المسلمين وما زال يميل إلى حقن الدماء لعلمه بأن خيانة حكومتها لا تكون ولن تكون سبباً للعبث بالغرض المقدس الذي يرمي إليه من إنقاذ الأمة ولطالما قال: إني أرفه المسلمين ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة أعدائهم.
ولما تجلت لمجير الدين غلطته في مفاوضة الصليبيين للخلاص من نور الدين لم يستطع حفظاً لملكه إلا قبول الشروط التي وضعها نور الدين عليه، ودخل مجير الدين على نور الدين في حلب فبالغ هذا في إكرامه وقرر معه تقريرات اقترحها.
مقاصد نور الدين وفتحه دمشق:
كانت همة نور الدين منصرفة في كل أطواره إلى توحيد الإمارات الإسلامية وهذه، كما في التاريخ العام، كانت على عهد الحروب الصليبية تتألف وتتمزق على الدوام بحسب طوالع الحروب والدسائس التي تقوم ثورتها بين الأمراء، وبحسب انتقال الملك وتقسيمه، وامتيازات الأسر. وكان في جبال الشام خاصةً من الأمراء من لم تكن أرضهم تتجاوز ربض قلاعهم وضاحيتها كصاحب شيزر، ولذلك عامل نور الدين مجير الدين صاحب دمشق على ما بدر منه من الأغلاط النابية عن حد الوطنية والقواعد الشرعية معاملة رفق وإغضاء، لأن المقصد جمع الشمل والسؤدد مع السواد. ومما أفاد في هذا العقد وصول الأسطول المصري إلى الساحل في سبعين مركباً حربياً مشحوناً بالرجال واقترابه من يافا فقتل وأسر وأحرق واستولى على عدة وافرة من مراكب الفرنج والروم، ثم قصد ثغر عكا وصيدا وبيروت وطرابلس وفعل فيها مثل ذلك. قال ابن ميسر: وظفر الأسطول المصري بجماعة من حجاج الفرنج فقتلوهم عن آخرهم، وبلغ ذلك نور الدين
محمود بن زنكي ملك الشام فهمّ بقصد الفرنج في البر ليكون هو في البر والأسطول المصري في البحر فعاقه عن ذلك الاشتغال بإصلاح دمشق، ولو اتفق مسيره مع الأسطول لحصل الغرض من الفرنج، وكان من جملة ما أنفقه العادل بن السلار على هذا الأسطول ثلاثمائة ألف دينار.
لم تقف همة نور الدين عند هذه الغاية بل اهتبل الغرة وشغل المحتلين في الساحل بما نزل عليهم من بلاء الأسطول المصري، فغزا الشمال وأسر جوسلين صاحب تل باشر وملك قلاعه وهي تل باشر - وكان الأمير حسان المنبجي قد فتحها بأسم نور الدين وهو على أبواب دمشق 546 - وعينتاب ودلوك - وكان القتال على هذه شديداً جداً - وعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وكفرسود وحصن بسرفوت بجبل بني عليم وكفرلاثا ومرعش ونهر الجوز وذلك في أيام يسيرة. وهذا الفتح والفتح الذي تم على يده في السنة الفائتة 545 من تسلم قلعة أفامية جعل نور الدين صاحب الشام. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي، سار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير، وكان في جملتهم سلاحدار نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وقال له: هذا سلاحدار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.
فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه وأعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره. وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه لأنه علم بعجزه عنه في القتال فيما قيل، فجعل التركمان عليه العيون فخرج متصيداً فظفر به طائفة منهم وحملوه إلى نور الدين أسيراً. وقال ابن الأثير: وعظمت على الفرنج المصيبة بأسر جوسلين،(2/25)
وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها، وسهل أمرهم على المسلمين بعده، وكان
جوسلين كثير الغدر والمكر، لا يقف على يمين ولا يفي بعهد، طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر، فلقيه غدره، وحاق به مكره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. فلما أُسر تيسر فتح كثير من بلاد الفرنج وقلاعهم. وعني نور الدين بتجهيز ما فتح من الحصون بالميرة والسلاح، وكان كلما فتح حصناً نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون خوفاً من نكثة تلحق المسلمين من الفرنج فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو. وكان نور الدين وأبوه إذا فتحا قلعة جعلا فيها من المؤنة والذخائر ما يكفيها عشر سنين.
وأغار هذه السنة فريق وافر من التركمان على ظاهر بيسان فقتلوا من الفرنج وأسروا ولم يفلت منهم غير الوالي ونفر يسير. وقصد الفرنج ناحية البقاع فاستباحوا عدة وافرة من الضياع من رجال ونسوان وشيوخ وأطفال فلحقهم صاحب بعلبك واسترجع منهم بعض ما أخذوا وعادوا على أقبح صفة من الخذلان.(2/26)
وافتتح نور الدين 547 حصن انطرطوس وقتل من كان فيه من الفرنج وطلب الباقون الأمان، وملك عدة من الحصون بالسيف والسبي والإحراق والخراب والأمان ومنها دلوك ويحمور، بعد أن اقتتل مع الفرنج أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج، وتوجه مجير الدين في العسكر إلى ناحية حصن بصرى ونزل عليه محاصراً واليه لمخالفته وجوره، وما زال به حتى نزل على حكمه. وأراد مجير الدين المصير إلى حصن صرخد لمشاهدته فاستأذن مجاهد الدين واليه في ذلك، إذ لا سبيل إلى استقرار حالة دمشق إذا كان المستولون على بصرى وصرخد يمتّون إلى الفرنج بصلة من الصلات للاحتفاظ بمعاقلهم في أيديهم كما فعل سيف الدين الطنطاش نائب صاحب بصرى وصرخد واستعان بالفرنج على
المسلمين فاضطر معين الدين أتسز إلى قتاله ونازل القلعتين فملكهما. وقوي عزم نور الدين 548 على جمع العساكر والتركمان من البلدان للغزو ونصرة أهل عسقلان على الفرنج، وكان هؤلاء شغلوا بأمر عسقلان منذ السنة الغابرة لإمداد صاحب مصر فظفر المسلمون بمن كانوا مجاورين لهم، ووصل الأسطول المصري إلى عسقلان فقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال وظفروا بقوة وافرة من مراكب الفرنج ثم هجم الفرنج على عسقلان وداهموها من جوانب سورها فهدموه وقتل من الفريقين خلق كثير، وألجأت الضرورة إلى طلب المال فأجيبوا إليه فخرج أهلها في البر والبحر إلى ناحية مصر فملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر والوزراء يجهزون إليها المؤن والسلاح، ولو لم تختلف أهواء أهل الدولة المصرية ويقتل العادل ابن السلار لما جرأ الفرنج على حصر عسقلان والظفر بمن فيها والتحكم في ضرب غرامة عليها.
وملك نور الدين 548 حصن أفليس وقتل من كان فيه من الفرنج والأرمن ونهض عسكره طالباً بانياس. وفي سنة 549 وصل نور الدين في عسكره لإمداد أسد الدين شيركوه وكان أرسله إلى دمشق في كتيبة، وخيم بناحية القصب من المرج. ونزل نور الدين بعيون فاسريا ورحل في الغد ونزل بأرض بيت الآبار من الغوطة وزحف إلى البلد من شرقيه، وخرج إليهم من عسكره وأحداثه الخلق الكثير، ووقع الطراد بينهم ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه، ولم يبرح نور الدين يزحف يوماً بعد يوم حتى افتتح دمشق على أيسر وجه، والنفوس فيها متطلعة(2/27)
إلى طلعته لما كان يبلغ القاصي والداني من عدله وحسن سيرته، ولما أحس صاحب دمشق مجير الدين أبق بالغلبة انهزم في خواصه إلى القلعة فأنفذ إليه وأمنه على نفسه وماله فخرج إلى نور الدين فطيب نفسه، ونادى نور الدين بالأمان وخرجت دمشق من أيدي أحفاد الأتابك طغتكين آخر الدهر بعد أن دانت لسلطانهم اثنتين
وخمسين سنة.
الداعي لنور الدين على فتح دمشق:
والسبب في فتح نور الدين دمشق تغلب الفرنج بناحية دمشق بعد ملكهم عسقلان حتى استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً منهم كل من أراد الخلاص، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فاستمال أهلها في الباطن ثم حاصرها وفتحها. وفي الكامل أن سبب حرصه على ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان ولم يكن لنور الدين طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق. وعلل هذا الفتح سبط ابن الجوزي بما ظهر من مجير الدين من الظلم ومصادرة الدمشقيين وسفك دمائهم وأخذ أموالهم، وقبضه على جماعة من الأعيان واستدعى سيف الدولة بن الصوفي الذي ولاه رئاسة دمشق لما أخرج أخاه وجيه الدولة منها فقتله في القلعة ونهب داره وأحرق دور بني الصوفي ونهب أموالهم. وتكاثرت مكاتباته إلى الفرنج يستنجدهم ويطمعهم في البلاد. وكان مراد نور الدين من أخذ دمشق إنقاذ القدس من الفرنج والساحل وكانت دمشق في طريقه. وطمع الفرنج في مجير الدين وكان قد أعطاهم بانياس، فكانوا يشنون الغارات إلى باب دمشق فيقتلون ويأسرون ويسبون، وكان مجير الدين قد جعل للفرنج كل سنة قطيعة يأخذونها منه، وذل الإسلام وأهله في أيامه، وساءت سيرته وكثر فساده، فكان الأمراء والأعيان بدمشق أصحاب نور الدين يقولون: الغياث الغياث وقالوا: إن شئت حصرناه في القلعة. فرأى نور الدين أخذ مجير الدين باللطف وقال: إن أخذته بالقوة استغاث بالفرنج وأعطاهم البلاد فيكون وهناً عظيماً على الإسلام.
وكان من أشد الأمور على الفرنج أن يأخذ نور الدين دمشق لأنه كان أحرق(2/28)
قلوبهم وحرق أرضهم، وكان في كل وقعة يغني غناء حسناً، هذا ودمشق ليست له
فكيف إذا أصبحت في حكمه، لا جرم أنه يتقوى بها وتقوى كلمته ولذا عدل إلى ملاطفة مجير الدين ومكاتبته وبعث إليه بهدايا فأنس به وصار يكاتبه ويستشيره فكان نور الدين يكتب إليه إن فلاناً يكاتبني فتارة يقبض مجير الدين عليهم وتارة يبقيهم، فخلت دمشق من الأمراء ولم يبق عنده غير عطاء بن حفاظ، وكان صاحب بعلبك قد رد إليه مجير الدين أمر دولته وكان ظالماً، فكتب نور الدين إلى مجير الدين يقول: قد نفر عليك عطاء بن حفاظ قلوب الرعية فاقبض عليه لعلم نور الدين أنه لا يتم له أمر في دمشق مع وجود عطاء فقبضه مجير الدين وأمر بقتله فقال له عطاء: لا تقتلني فإن الحيلة قد تمت عليك وذهب ملكك وسترى، فلم يلتفت إليه وقتله وحينئذ قوي طمع نور الدين في دمشق، وأرسل إلى أحداثها وأعيانها فأجابوه، فسار إليها ونزل عليها وكتب مجير الدين إلى الفرنج يستنجد بهم وبذل لهم بعلبك وأموالاً كثيرة، وبلغ نور الدين فأرسل إلى الأحداث ففتحوا له الباب الشرقي فدخلها وحصر مجير الدين في القلعة، وبلغ ذلك الفرنج فتوقفوا ولما دخل نور الدين صاح أصحابه نور الدين يا منصور وامتنع الأجناد والرعية من القتال لما هم عليه من بغض مجير الدين وظلمه وعسفه للرعية ومحبتهم لنور الدين لعدله وخيره.
سئمت النفوس في دمشق من سوء إدارة المتغلبين على أحكامها أمثال الوزير حيدرة ومجاهد الدين بزان وعطاء وغيرهم، ممن لم يكونوا يهتمون بغير إملاء بطونهم وجيوبهم من دماء الرعية، ولو أصبحوا عبيداً أرقاء لأعدائهم. أما مجير الدين آخر ملوك الأتابكية في دمشق فإن نور الدين لما غلبه بذل له إقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين وسار إلى حمص فلم يعطه إياها وأعطاه عوضها بالس فلم يرضها مجير الدين وسار عنها الى العراق وأقام ببغداد حتى مات بها. وهذا من غريب ما يحكى في باب العدل فإن الملوك
جرت عادتهم في تلك العصور إذا أخذوا ملكاً أن يقتلوه فلم يفعل ذلك نور الدين تحرجاً من إهراق الدم الحرام واستحكام الطوائل والثارات والأحقاد في أمة أشد ما تكون إلى التضافر. أعطى نور الدين حمص أقطاعاً لمجير الدين حتى لا يقطع له أمله ثم عوضه عنها ببالس لأن حمص على مقربة من كور الصليبيين.(2/29)
ومن خان أمته وهو في عهد عزه أقرب إلى خيانتها في دور شقائه وذله، أما بالس مسكنة فبعيدة عن حركة التطاحن بين الشرق والغرب. وماء الفرات أسوغ للعاصي مجير الدين من ماء بردى والعاصي. والمقصد في الحقيقة من الفتح توحيد كلمة الإسلام، وهذا قد تم لنور الدين بفتح أبواب دمشق لعدله العمري، وخروج آخر الأتابكيين من أولاد طغتكين منها بسلام.
لم يتبدل شيء بفتح نور الدين دمشق إلا إبطال المظالم والمغارم، ورفع الحيف عن الضعاف، وجمع القوة إلى مقصد واحد لا تتزلزل بالتردد والدسائس، كانت معظم وقائع نور الدين يحالفها التوفيق وفي السنة التي وصفت الديار له أخذ من الفرنج تل باشر. وفي سنة 550 تقررت الموادعة بين نور الدين وبين ملك الفرنج مدة سنة، وقبض نور الدين على ضحاك والي بعلبك وتسلم القلعة وفي السنة التالية 551 ظفر عسكر نور الدين بالفرنج الذين عاثوا في أعمال حلب تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبينهم مدة سنة وان المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية، ثم نقض الفرنج الهدنة لوصول عدة وافرة من الفرنج في البحر وقوة شوكتهم بهم، ونهضوا إلى الشعراء المجاورة لهم ووقع من المندوبين لحفظ أهل القرى من الأتراك تقصير، فانتهز الفرنج الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه مع ما أسروه من تركمان وغيرهم. وأغار الفرنج 552 على أرجاء حمص وحماة وأطلقوا أيديهم بالنهب، وأغاروا على بانياس، فانتصر المسلمون، ومحقت السيوف عامة رجالة الفرنج ومسلمي جبل
عاملة المضافين إليهم، وملك الفرنج جبلة وكانت في أيدي المسلمين منذ سنة 473 وثب عليها قاضيها ابن ضليعة التنوخي واستعان بابن عمار صاحب طرابلس فأخرج منها الروم، وكانت بيدهم منذ سنة 357، وظفر أسد الدين في جماعة من شجعان التركمان بسرية وافرة من الفرنج في ناحية الشمال فانهزمت. وافتتح نور الدين بانياس قهراً عسكره في ناحية هونين بسرية من أعيان مقدمي الفرنج وأبطالهم فلم يفلت منهم إلاّ اليسير، وعسكر الفرنج على الملوحه بين طبرية وبانياس فنهض إليهم نور الدين في عسكره من الأتراك والعرب فكتب له النصر عليهم، وشاغل نور الدين الفرنج هذه السنة للزلازل التي حدثت في الشام ولكنهم شغلوا أيضاً(2/30)
بما أصابهم من أضرارها في الساحل. وملك نور الدين بعلبك وقلعتها، وكانت بيد الضحاك البقاعي فامتنع بها فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج فتلطف معه حتى ملكها. وفيها كان انفساخ الهدنة بين الفرنج وملك مصر فبعث بسرية إلى غزة نهبت أطرافها وسارت إلى عسقلان فأسرت وغنمت وعادت بالغنائم إلى مصر، ثم سيّر عسكر آخر فمضى إلى الشريعة فأبلى بلاء حسناً، وندب مراكب في البحر فسارت إلى بيروت وغيرها فأوقعت بمراكب الفرنج فأسرت منهم وغنمت، وسيّر عسكر إلى الشوبك والطفيلة فعاثوا في أرجائهما ورجعوا بجر الحقائب يحملون الأسرى، وسير الأسطول المصري إلى عكا فأسر من أهلها نحو سبعمائة نفس بعد حروب، وندب سرية أردفها بأخرى فوصلت غاراتهم إلى أعمال دمشق فغنموا وعادوا.
وملك الفرنج حصن حارم 553 وشنوا الغارة على الأعمال الشامية وأطلقوا أيديهم بالنهب والإخراب في أعمال حوران والإقليم، وقصدوا داريا وأحرقوا منازلها وجامعها وتناهوا في إخرابها، فخرج إليهم من العسكرية والأحداث العدد الكثير فهموا بالرجوع. وأغار عسكر نور الدين على أعمال صيدا وما قرب منها،
فغنموا أحسن غنيمة وخرج إليهم من كان بها من خيالة الفرنج ورجالتها وقد كمنوا لهم فغنموهم وقتل أكثرهم وأسر الباقون. وتجمع الفرنج فنهض نور الدين للقائهم فانهزم هذه المرة نور الدين لتفرق عسكره وسار عسكر مصري إلى بيت المقدس فعاث وخرب، وجرت وقعة على طبرية انكسر فيها الفرنج وأقلعت خمس شوان من مصر فدوخت ساحل الشام وظفرت بمراكب الفرنج وعادت بالغنائم والأسرى. وفي سنة 554 حشد ملك الروم ووصل إلى الشام وجمع نور الدين عليه العساكر فعادوا من حيث أتوا وغنمهم المسلمون.
مرض نور الدين وإبلاله وتتمة فتوحه وهزيمته في
البقيعة:
من أعظم البلاء على ممالك الإسلام قديماً مسألة وراثة الملك، فلم تكن قائمة على قاعدة ثابتة لا تتصل فيها إلا القوة، وصاحبها قد يحرم غيره ممن هم أقرب نسباً من السلطان المتوفى، فلقد مرض نور الدين 554 مرضاً شديداً وأرجف بموته بقلعة حلب فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعاً وحصر هذه القلعة وكان(2/31)
شيركوه بحمص وهو من أكبر أمراء نور الدين فسار إلى دمشق ليستولي عليها. وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات، فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد شيركوه إلى حلب مجدّاً، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير ميران. ولما أبّل نور الدين من مرضه واستقامت الأحوال أخذ حران من أخيه لطمع هذا في ملك نور الدين عندما كاد الناس ييأسون من سلامته. وقصد صاحب صيدا 556 من الفرنج نور الدين محموداً ملتجئاً إليه فأمنه وسير معه عسكراً يمنعه من الفرنج أيضاً فظهر عليهم في الطريق كمين للفرنج فقتلوا من المسلمين جماعة وكان زهر الدولة بن بحتر التنوخي والياً على ثغر بيروت ومقيماً بحصن سرحمور فولاه نور الدين القنيطرة وثعلبايا بالبقاع وظهر الأحمر من وادي التيم وبرج صيدا والدامور والمعاصر الفوقانية وشارون ومجدل بعنا وكفرعميه ورتب له علائف لمحاربة الفرنج، وكان أبوه شرف الدولة قاطناً في عرمون الغرب فربط له طريق الدامور على الفرنج.
نازل نور الدين 557 قلعة حارم وهي للفرنج مدة فاجتمع الفرنج وراسلوه ولاطفوه وكانوا خلقاً عظيماً فرحل عنها، ومن أعظم الوقائع التي أصيب بها نور
الدين بالفشل أكثر من كل وقعة له مع الفرنج هزيمته 558 يوم البقيعة بينا كان نازلاً تحت حصن الأكراد فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أطلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين فركب نور الدين فرسه بسرعة وفي يده السّبحة فنزل إنسان كردي فقطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي وسار نور الدين إلى بحيرة حمص فنزل عليها وتلاحق به من سلم من جيشه. وقد نقل سبط ابن الجوزي في تعليل هذه الكسرة بأنه لم يكن للمسلمين برك أثقال ولا طليعة ظناً من نور الدين أنهم لا يقدمون عليه قال: وكان ذلك من قلة الحزم حيث غفلوا عن العدو ولم يستظهروا بالبرك والطلائع قال: وكان من عزم الفرنج قصد حمص فلما بلغهم نزول نور الدين على البحيرة قالوا: ما فعل هذا إلا عن قوة، وتوقفوا ثم تفرقوا وخاطبوه بالصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى أرضهم.(2/32)
ولما أصيب نور الدين يوم البقيعة استنجد أصحاب الموصل وماردين والحصن وذكر لهم ما تم عليه فأنجدوه بجيوش ضخمة وكانت سنة 559 كلها فتوحاً نافعة كان فيها مبدأ سعادة نور الدين، فتح فيها حارم وقتل بالقرب منها عشرة آلاف وأسر ألوفاً ومن جملتهم صاحب إنطاكية والقومس صاحب طرابلس والدوك مقدم الروم وكثر الأسرى من الفرنج حتى بيع الواحد بدينار ثم فاداهم نور الدين. وكان قد استفتى الفقهاء فقال قوم: يقتل الجميع وقال آخرون: يفادى بهم. فمال نور الدين إلى الفداء فأخذ منهم ستمائة ألف دينار معجلاً وخيلاً وسلاحاً وغير ذلك. فكان نور الدين يحلف بالله أن جميع ما بناه من المدارس والربط والمارستانات وغيرها من هذه المفاداة وجميع ما وقفه منها وليس فيها من بيت المال درهم واحد.
قال المؤرخون: وكان الصليبيون جاءوا لنجدة حارم في حدهم وحديدهم وملوكهم
وفرسانهم وقسوسهم ورهبانهم وكان الصليبيون استولوا على حارم سنة 491 وزادوا في تحصينها وجعلوها ملجأ لهم إذا شنوا الغارات فحاصرها نور الدين سنة 551 وسنة 557 ثم فتحها هذه السنة، وكانت قلعة حصينة في نحور المسلمين. وفي سنة 559 فتح نور الدين قلعة بانياس بعد عودته من حارم وكان الفرنج والأرمن على حارم ثلاثين ألفاً ووقع بيمند في أسره وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
حملة نور الدين على مصر:
فتح نور الدين تلك الفتوح ورايته منصورة وسطوته محذورة، استصفى من ضعاف أمراء المسلمين ما اتصل إليهم بالإرث من الأقاليم فنزلوا له عنها طوعاً أو كرهاً، واقتصد في إهراق دماء المسلمين وأسرف في إزهاق أرواح الصليبيين، واسترجع من الأعداء مدناً وحصوناً مهمة جعلت إماراتهم الثلاث الباقية تهتز أعصابها، وتخاف بأس حملاته وغزواته، ولم يخامرهم شك وهم يستنشئون أخباره أنهم ابتلوا برجل وحّد قوى الشام وجمع القلوب ووجّهها إلى قتالهم واسترجاع القطر منهم.
ولما تمّ له هذا وقع خلاف في مصر بين شاور وضرغام من وزرائها 559(2/33)
وكانت غدت الوزارة في دولة الفاطميين أشبه بالوزارة في دولة العباسيين يتولاها من يستطيع أن يستجيش له أنصاراً وأعواناً. ولما استلب ضرغام من شاور وزارته وعجز في مصر عن مقاومته لحق بنور الدين صاحب الشام ليعينه على خصمه باذلاً له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن هو أعاده إلى الوزارة. فرأى نور الدين أن معاونة الوزير المستنجد به لا تخلو من فائدة عظيمة أقلها أنها تفتح له سبباً إلى التدخل في شؤون مصر ربما أعقب استيلاءه عليها وضمها إلى مملكته أو تقاضي ما وعد به شاور من الأموال ينفقها في وجوه المصالح
والمرافق في الدولة. فإرسال حملة على مصر محسوسة الفائدة لنور الدين بل للإسلام من عدة وجوه.
اقتضى رأي نور الدين بعد تدبّر أمر مصر أن يندب لها رجلاً من أعظم رجاله دهاء وحنكة، فأرسل أسد الدين شيركوه بن شاذي وأصحبه بابن أخيه صلاح الدين يوسف، وكانت كفاية هذا أخذت تبدو لرجال الدولة واستخصه نور الدين وألحقه أي صاحب شرطتها بخواصه فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر وكان في تلك السنة شحنة دمشق فأخاف اللصوص وقضى على نائره الفتن وفي تلك الفتن قال عرقلة الشاعر:
ذر الأتراك والعَرَبا ... وكن في حزب من غلبا
بجلّق أصبحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا
لئن تمت فوا أسفا ... وإن تخرب فواعجبا
ذهبت الحملة إلى مصر وأعاد أسد الدين شيركوه الوزير شاوراً إلى وزارة العاضد العلوي، ولما قبض على زمام الوزارة لم يف لنور الدين بشيء مما شرط على نفسه، فشق ذلك على أسد الدين، وسار فاستولى على بلبيس والشرقية فأرسل شاور واستنجد بالفرنج على إخراج أسد الدين شيركوه من الديار المصرية فسار الفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر وحصروا شيركوه ببلبيس ثلاثة أشهر. وبلغ الفرنج ما أصابه نور الدين في الشام من التوفيق وأنه أخذ حارم فراسلوا شيركوه في الصلح وفتحوا له طريقاً فخرج من بلبيس يمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين.
هذا ما كان من مبدإ دخول الجند النوري إلى مصر وما لقيه من الشدائد بمبدأ أن قائدهم عرف أمراضها وخللها واطلع على مداخلها ومخارجها، فكان إنجاد(2/34)
نور الدين شاوراً واستنجاد هذا بالفرنج درساً نافعاً لدولة نور الدين أدركت به أنه لا
سبيل إلى إنقاذ الشام إلا بالاستيلاء على مصر خصوصاً والفاطميون كانوا يخافون الفرنج خوفاً شديداً ولا يطيقون مقاتلتهم. كان هذا أيام كان لهم شيء من السلطان على النفوس وقوة على التناحر والتغادر فما بالك بهم وقد دب الضعف في كيان دولتهم وعبث العابثون بعزتها ومنعتها. وإلا كان نصيب خطته المرسومة في قتال الصليبيين عقيماً، لأن الروح الخبيث سرت لصغار الأمراء من المسلمين في الاعتصام بأعدائهم إذا ضاقت بهم حالهم وأتاهم سلطان أعظم من سلطانهم، ولئن كانت الشام قد تطهرت من جراثيم هؤلاء العمال بفضل الدولة النورية فمصر إذا استهانت بمقدساتها أيضاً يصبح البقاء في الشام خطراً دائماً.
وبينا كان نور الدين يحرّق الأرّم على شاور وفي نفسه منه حزازات لأنه لم يف له بما وعده، واستعان على قتال جيشه بالصلبيين، عاد شاور على عادته يظلم ويقتل ويصادر ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي فبعث يستنجد بنور الدين على شاور، فما عتم نور الدين أن جهز أسد الدين شيركوه ثانية 562 إلى مصر بعسكر جيد عدتهم ألفا فارس وأمر أيضاً أن يخرج معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف إلى مصر فامتنع صلاح الدين وقال: يا مولانا يكفي ما لقينا من الشدائد. فقال: لا بدّ من خروجك، فما أمكنه مخالفة نور الدين. وكان في ذهاب صلاح الدين إلى مصر سعادته وسعادة أمته إذ فتح مصر وأصبح بعد ذلك ملك مصر والشام على ما سنلم به في الصفحات المقبلة. قال المؤرخون: أحب نور الدين مسير صلاح الدين إلى مصر وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه. ورب زارع لنفسه حاصد سواه. فاستولى أسد الدين على الجيزة وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم فساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد فهزمهم واستولى شيركوه على إقليم الجيزة واستغلها ثم سار إلى الإسكندرية وملكها.
وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في الإسكندرية وعاد إلى الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية ثلاثة أشهر، فسار شيركوه إليهم فاتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية وعاد شيركوه إلى دمشق، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج(2/35)
بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.
ولكن الحال في مصر لم يسر سيراً حسناً لأن الفرنج لم يخلصوا، ومن الخطأ الفاحش استنجاد شاور وزيرها بهم واستعانته بهم على إخراج أسد الدين شيركوه منها فأرسل الخليفة العاضد يستغيث بنور الدين 564 ثانية وكان الفرنج ملكوا بلبيس وحصروا القاهرة، فأحرق شاور مصر لئلا يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار.
ولما قارب شيركوه مصر للمرة الثالثة هرب الفرنج وخلع عليه العاضد وأجرى عليه الإقامات، وماطله شاور فيما كان بذل لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث خراج مصر، وعزم شاور أن يقبض على شيركوه فقبض العسكر النوري عليه وقتل، ودخل شيركوه القصر فخلع العاضد عليه خلع الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وتولى شيركوه الأمر شهرين وخمسة أيام ثم هلك، فأحضر العاضد صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر، وثبتت قدم صلاح الدين بمصر أنه نائب لنور الدين، وتمكن منها وضعف أمر العاضد فكان لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين، وأصبح يدعى له على منابر مصر بعد نور الدين.
بعض غزوات نور الدين:
ولم يغفل نور الدين في غضون ذلك عن الإثخان في الفرنج وإرهاف الحد في قتالهم، وقويت عزيمته بعد أن أخذ حارم وبانياس 559 على التقدم في فتوحه وكان كلما طالت أيامه أيقن أن القوة القليلة المنظمة أفعل من القوة الكبيرة المبعثرة. ولم ينغصه في عمله سوى مقاومة أحد اخوته أمير ميران له حتى اضطره إلى حربه فمضى أخوه أمير ميران إلى صاحب الروم وعفا عنه نور الدين. كأن السعادة التي أقبلت على هذا الفاتح من كل وجه أبت الطبيعة إلا أن تكدرها عليه بمشاكسة أحد اخوته له، وكان بالأمس لما أُرجف بموت نور الدين في حلب قام يطالب بمملكة أخيه فحاربه، واليوم يحمل أخاه على دفع عاديته ثم يتجاوز عما بدر من سيئاته.(2/36)
وفي سنة 561 فتح نور الدين حصن المنيطرة وخرب قلعة اكاف في البرية وفتح العريمة وصافيتا وحاصر حلبة وخربها وحاصر عرقة وعصا عليه غازي بن حسان صاحب منبج فأعطاه الرقة. واجتمع بأخويه 562 قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة وساروا إلى بلاد الفرنج فخربوا هونين. وفي سنة 565 سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها خمسين يوماً وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر وغرم على ذلك أموالاً عظيمة، وخرج نور الدين فأغار على كورهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. وفيها سار نور الدين إلى الكرك وحاصرها فجمع ملوك الساحل فجاءوه فتأخر إلى البلقاء وقال بعضهم: إن الفرنج أغاروا على حوران وهم في جمع غلبت كثرته الخبر والعيان، ونزلوا في قرية شمسكين فركب نور الدين وهو نازل بالكسوة ثم نزلوا بالشلالة ونزل نور الدين في عشترا. وبينا هو في البلقاء حدثت زلزلة هائلة في الشام فخربت معظم أسوار الحصون ففرق عساكره في القلاع خوفاً عليها من العدو وكانت قلاعهم المجاورة لبعرين ولحصن الأكراد وصافيتا وعريمة وعرقة في
بحر من الزلازل غرقى ولا سيما حصن الأكراد، فإنه لم يبق له سور وأغارت سرية لنور الدين 565 في بعلبك فانهزم الفرنج وعمهم القتل والأسر لم يفلت منهم إلا من لا يعتد به وقتل فيمن قتل رأس مقدم الاسبتار صاحب حصن الأكراد وكان من الشجاعة بمحل كبير وشجىً في حلوق المسلمين.
وغزا نور الدين 566 الفرنج قرب عسقلان وعاد إلى مصر ثم حصر أيلة في العقبة المصرية بحراً وبراً وفتحها. وغزا عرقة 567 وفتحها وغنم الناس غنيمة عظيمة. واستولى نور الدين على صافيتا وعريمة عنوة، وقارب طرابلس وهو ينهب ويخرب ويحرق ويقتل وفعل جيشه في أرجاء إنطاكية مثل ذلك، فراجعه الفرنج وبذلوا له جميع ما أخذوه من المركبين اللذين خرجا هذه السنة من مصر إلى اللاذقية وأخذهما الفرنج وهما مملوءان من الأمتعة والتجارة، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة فنكثوا وغدروا فلما خربت عمالتهم أذعنوا.
قيام بني شهاب من حوران وحربهم الصليبيين:
وفي سنة 568 كان قيام آل شهاب من حوران إلى وادي التيم قال الشهابي:(2/37)
وكان الكبير منهم في ذلك الوقت الأمير منقذ، ولما عزموا على القيام جمع الأمير منقذ الأمراء من بيت شهاب ووجره القبيلة وقال لهم: أنتم تفهمون النفور الكائن بين السلطان نور الدين سلطان الديار الشامية والحلبية والسلطان صلاح الدين سلطان الديار المصرية ولا بد أن السلطان نور الدين يتمم ما ينويه وقد دس العساكر في حوران وتعلمون ما لنا عند السلطان صلاح الدين من المحبة والمنزلة الرفيعة وأنا أرى أنه يلزم علينا القيام من حوران قبل ظهور حال من تلك الأحوال، فلما سمع الحاضرون ما قاله الأمير منقذ قالوا له: هذا هو الصواب وليس فينا أحد يخالف مقالك، ثم عزموا على القيام وشدوا ظعونهم وحملوا أحمالهم، ورحلوا من حوران بعشائرهم وقصدوا غربي الديار الشامية ونزلوا حذاء الجسر اليعقوبي.
ولما سمع السلطان نور الدين بقيام آل شهاب من حوران أرسل يسألهم عن السبب الداعي لقيامهم، وأرسل لهم الخلع والعطايا النفيسة، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أوطانهم آمنين، فأبوا الرجوع بسبب خراب ديارهم، وطلبوا أن يسمح لهم بالذهاب إلى مكان آخر فسمح لهم بذلك، فنزلوا في وادي التيم وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة إلى الجديدة وكانوا في خمسة عشر ألفاً والأرض التي نزلوها تحت استيلاء الفرنج، فلما سمع هؤلاء بنزول آل شهاب جيشوا عليهم نحو خمسين ألفاً بين فارس وراجل. وكان بطريقهم الكبير يقال له قنطورا استمد من صاحب قلعة الشقيف فأمده بخمسة عشر ألفاً فالتقوا مع عسكر الفرنج ودام القتال ثلاثة أيام قتل من الفرنج ثلاثة آلاف ومن آل شهاب ثلاثمائة، ونقب بنو شهاب حيطان قلعة حاصبيا مدة عشرة أيام وأخذوا قنطورا وجماعته، وكانوا ثلاثمائة وقتلوهم وأرسلوا رؤوسهم إلى نور الدين فسر كل السرور وأعطى ذاك الإقليم لآل شهاب ملكاً لهم. ولما سمع صاحب قلعة الشقيف ما حل بالفرنج في حاصبيا أرسل للأمير منقذ يطلب منه الصلح.
وهكذا أدى بنو شهاب خدمة عظيمة للدولة، قاموا لما شعروا بجفاء بين السلطانين نور الدين وصلاح الدين، والغالب أن صلاح الدين كان استمال قلوب رؤسائهم حتى لا يسهلوا لنور الدين طريق الحملة على صلاح الدين في مصر، فلما رأو أنهم لا قبل لهم بنور الدين عرجوا على وادي التيم فكان في ذلك خيرهم وخير دمشق خاصة لأنهم وقفوا في غربها وقفة محمودة وردوا عنها عادية الصليبيين.(2/38)
الفتور بين نور الدين وصلاح الدين:
قلنا إنه حدث جفاء بين السلطانين والسبب فيه أنه لما قويت سلطة صلاح الدين في مصر وولي ملكها بعد مهلك عمه أسد الدين شيركوه وأصبح الآمر الناهي أرسل نور الدين إليه يأمره بقطع الخطبة العلوية وإقامة الخطبة العباسية، فراجعه
صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر عليه فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيئ العباسي فامتثلوا، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته ولما هلك جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه وكان شيئاً كثيراً جداً فقويت بذلك شوكته وأصبح ملك مصر حقاً وصدقاً.
وضيق على آل الخليفة الفاطمي حتى لا يتطال أحدهم لدعوى الخلافة بعد العاضد واستدعى من الشام أباه واخوته، وكان نور الدين مع هذا لا يخاطبه تواً بل يخاطب أمراءه بمصر ومن جملتهم صلاح الدين، ولقد توطد ملك مصر لصلاح الدين والخطبة له فيها بعد نور الدين يدعى لهذا بعد الخليفة العباسي، وكلما مضى شهر يزداد نور الدين استيحاشاً من صلاح الدين مع أن صلاح الدين سد أبواب الشك على نور الدين، فقام بجميع رسوم التعظيم له، وكان معه كقائد مع سلطانه، وكان صلاح الدين نازل الشوبك وهي للفرنج ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه نور الدين، واعتذر بأنه ربما نشبت الفتنة في تغيبه عن مصر ودعا دعاة العبيديين إلى إرجاع دولتهم.
ولما جاء نور الدين الكرك من قابل وحصرها 568 كان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين واعتذر بمرض أبيه وأنه يخشى أن يموت فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وفي الواقع أن أيوباً والد صلاح الدين قضى نحبه في تلك المدة. كان في نفس كل من نور الدين وصلاح الدين شيء على صاحبه، فلم يخرج صلاح الدين بعساكره إلى الشام لحصار الكرك والشوبك ونهب أعمالها إلا لما أيقن أن نور الدين ابتعد عن سمت الشمال وقصد بلاد قليج أرسلان ملك الروم لفتح مرعش وبهسنا حتى لا(2/39)
يجتمع
به. والسبب الذي دعا صلاح الدين إلى حصار الكرك والشوبك وقتل بعض العربان ونهب ديارهم هناك أن جماعة من الأعراب النازلين بأرض الكرك كانوا ينقلون الأخبار إلى الفرنج وإذا أغاروا على البلد دلوهم على مقاتل المسلمين. وكان الكرك والشوبك طريق الديار المصرية ويغير أهلها على القوافل منها فقصد تسهيل الطريق لتتصل البلاد بعضها ببعض.
وكان صلاح الدين منذ تأيد سلطانه في مصر يخاف وآله من نور الدين، وكان استقدمهم إليه فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر وإذا قصدهم نور الدين في مصر قاتلوه، فإن هزمهم التجئوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة فلم تعجبهم ثم سيره بعسكر إلى اليمن ففتحها واستقرت اليمن في ملك صلاح الدين يخطب فيها للخليفة العباسي ثم لنور الدين ثم لصلاح الدين على أن صلاح الدين لم يستطع إرسال العسكر من مصر لأول مرة إلا بعد استئذان نور الدين. فهذا وغيره من الأسباب التي أقلقت نور الدين على ملكه وحاذر أن تكون عاقبة هذا الأدب والخضوع انتزاع ملكه منه أو إنشاء صلاح الدين مملكة جديدة أعظم وأغنى من مملكة نور الدين القديمة.
وفاة نور الدين وصفاته الطيبة:
بينا صلاح الدين يحاذر من نور الدين وهذا يتجهز للدخول إلى مصر لأخذه أتى نور الدين اليقين، ومملكته الحقيقية لم تتعد الشام والجزيرة وخطب له بمصر واليمن والحرمين، ففرق الموت شمل من كان يتخوف أحدهما من صاحبه، وبكت الأمة الملك العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن عماد الدين أتابك لما ظهر من عدله وحسن سيرته بحيث قلَّ في الملوك الغابرين أمثاله. قال ابن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين،
ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه، فلو كان في أمة لافتخرت به فكيف ببيت واحد، أما زهده وعبادته وعلمه فإنه كان مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها، لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما(2/40)
يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره البتة. وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات وكتب أكثر من ألف منشور بذلك. وأطلق المظالم بحلب ودمشق وحمص وغيرها وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس وحرمها على كل متطاول إليها، فكان مبلغ ما سامح به في حلب وما إليها فقط في السنة 156 ألف دينار وما وقفه وتصدق به مائتي ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاعه في كل سنة ثلاثون ألف دينار، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج وجدد قني السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقراء. ولقد رأى أصحابه على ما روى ابن الأثير كثرة خرجه فقال له أحدهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما أنتم ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطيء وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطيء. وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟
وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والبيمارستانات وأخذ من أحد ملوك الفرنج ثلاثمائة ألف دينار وشرط عليه أن لا يغير على ديار الإسلام سبع سنين
وسبعة أشهر وسبعة أيام وأخذ منه رهائن على ذلك وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق، ولما بلغ الملك الفرنجي مأمنه هلك. وكان يبعث بما يصل إليه من هدايا وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئاً، وأمر بإحصاء مساجد دمشق فأحصيت مائة مسجد فوقف الأوقاف على جميعها، وكانت وقوفه في الشام سنة وفاته 108 آلاف دينار صورية ليس فيها ملك فيه كلام بل حق ثابت بالشرع باطناً وظاهراً صحيح الشراء. وكان آية الرحمة على الفقراء والعدل في الرعية غضيضة عن الشر عينه ثقيلة عن الباطل قدمه. حضر جماعة من التجار عنده وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار وتزيد وتنقص فيخسرون فسأل الملك العادل عن كيفية الحال، فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار(2/41)
ولا يرى الدينار في الوسط وإنما يعدون إلى القراطيس بالسعر تارة ستين بدينار وتارة سبعة وستين بدينار، وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية وتبطل القراطيس بالكلية، فسكت ساعة وقال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني ضربت بيوت الرعية. فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس، أي شيء يعمل به فيكون سبباً لخراب بيته.
قالوا، والحق ما قالوا، إن نور الدين جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات وعاقب من يأتيها، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى جاء الله بدولته فكانت مصباح الحق ومنار العدل، وقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه فاقتدى به غيره منهم، وكان يروي الحديث ويرويه، وقد ألف كتاباً في الجهاد، وكان يباشر الإشراف على خيل الجند وسلاحهم بنفسه، ولا يتكل على خواده، ولا يقطع أمراً قبل أن يستأذن الخليفة ببغداد. وكان في السياسة والدهاء
على جانب عظيم، تجلى ذلك يوم خيانة مجير الدين صاحب دمشق ولما أخذه أغضى عنه، وكان يكره إهراق الدماء والحرب على غير طائل، مع شجاعة ليس بعدها مزيد ومعرفة بالرماية تضرب بها الأمثال، ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن قيون ملك الأرمن صاحب الدروب فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في لدمته سفراً وحضراً؛ وكان يقاتل به الفرنج ويقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام، فإذا طُلب انحجز فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الأقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. وكان متملك الروم خرج من القسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعاً في تسلم إنطاكية فشغله عن مرامه بالمراسلة إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة وجمع له الجيوش والعساكر، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو وتمنى منه الصلح فاستقر رجوعه إلى بلاده.
وقال مترجموه: إنه كان يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم بهذه الأساليب، أما أعماله في رد المظالم وتخفيف المغارم(2/42)
فسيرته فيها سيرة عمرية، وأما إنشاؤه المدارس والجوامع وعمارة الطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات فمما لنم يسبق إليه، أقام الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج جعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي أي الزاجل فإذا رأوا من العدو أحداً أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم واحتاطوا لأنفسهم، وبنى مكاتب للأيتام وأجرى عليها وعليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة فصارت الشام بعد خلوها من العلم وأهله مقر العلم ومباءة الفقه.
هذه حال ملك القرون الوسطى وحسن بلائه في خدمة أمته وهو يقاتل الأعداء في الغرب والجنوب، وقد فتح نيفاً وخمسين حصناً وأقام المعالم وهو مشتغل بحفظ
الأوطان، لم يدخل اليأس على نفسه ولم يخامره الشك بأن العاقبة المحمودة تكون له وللمسلمين، وأنه سيظهر على عدوه فيدفعه عن حماه. مع أن مدة ملكه في الشام لم تتجاوز أربعاً وعشرين سنة. لا جرم أن ظهور بني زنكي نعمة أنعمت بها الأقدار على هذه الديار، فخرجت بها من انقسام الكلمة وتشتت الأهواء والآراء، ومن خيانة الملوك والأمراء، والاعتضاد بالمحاربين من الأعداء إلى تماسك وتعاضد، ومن ظلمة الجهل والغرور إلى ضياء العلم والنور، ومن سلب أموال الأمة إلى إمتاعها بالعدل الشامل والأمن الكامل. بسقت فروعها في أيسر زمن وأحرج العصور، فخطب الناس ودها في كل مكان وودوا لو كان لها الحكم عليهم، ورجا أولياؤها أن تطول أيامها لأنها لا تسوق الناس إلا إلى طرق فلاحهم وسعادتهم.(2/43)
الدولة الصلاحية
من سنة 569 إلى سنة 589
أولية صلاح الدين والملك الصالح:
توفي نور الدين محمود بن زنكي وكان له السلطان الأكبر على القلوب تحبه رعيته ويخافه أعداؤه ويحترمونه، وبعدله وسيرته وجميل سياسته وإداراته، وطد أساس ملكه، ووحد كلمة الشام ومصر والجزيرة، وأنشأ عظماء في دولته كانوا ساعده الأيمن وعضده الأقوى ففتحوا الفتوح باسمه ويُمن نقيبته، وصدروا كلهم عن رأيه ومشورته، ومن أعظمهم بل أعظمهم صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب. وأصل صلاح الدين من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج وهم أكراد زوادية وهي قبيلة كبيرة تعد من أشراف الأكراد، وانتقل أهله من هناك إلى العراق ثم عين نجم الدين أيوب والد صلاح الدين محافظاً لقلعة تكريت وفيها وُلد ابنه هذا، وكان نجم الدين أيوب بن شاذي حسن الخلق عادلاً شجاعاً كريماً ديناً محسناً ربي في الموصل ونشأ شجاعاً باسلاً وخدم السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فرأى منه أمانةً وعقلاً وسداداً وشهامة، فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام، حتى عمرت أرضها وأمنت سبلها ثم أُضيفت إليه ولايتها، وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، واتصل بنور الدين محمود فكان من جملة قواده ونوابه. وهذا الرجل العظيم هو الذي أولد رجلاً أعظم وهو صلاح الدين.
وكأن الزمن العصيب الذي ظهر فيه ظهير الدين ثم نور الدين ثم صلاح الدين كان يتطلب ملوكاً كفاة أثبتوا بالعمل مقدرتهم السياسية والحربية، وأبرزوا(2/44)
من آثار نجدتهم وجلادتهم ما تطأطىء أمامه الرؤوس فلا يصفق الناس لهم زوراً ورياء ولا يدعون لهم على المنابر بما لا يقبل ولا يسمع إن لم يكن بين جنوبهم نفوس
عالية ممتازة قلَّ في طبقة قواد الأمم مثلها. ولم يبق في الحقيقة بعد نور الدين من يصلح لهذا الأمر مثل صلاح الدين لأنه أنبغ رجاله وأكبرهم مقاماً وشأناً وأقربهم إلى قلوب الأمة، وهو ملك مصر حقاً، ومن ملك مصر كان حرياً بأن يملك الشام، خصوصاً والشام يحبه، لما بدا من غنائه ومضائه في نصرة الملة والدولة.
ولكن نور الدين قد خلف ولداً يقضي قانون الوراثة في الملوك في تلك الأعصر بأن يرث الابن ملك أبيه كما يرث قصره ومزرعته مهما كانت سنه، ويتولى رجال الدولة أمره ويكفله من يعطفون على دولته ومن غذوا بنعمة أبيه وآله، بيد أن الحالة السياسية في الشام ومصر وما إليهما من الممالك كانت بحيث يقتضي الشذوذ عن هذه القاعدة ولو إلى حين، فيوسد الملك إلى من جمعت أشخاصهم الكفاءة قبل كل شيء لتخرج المملكة من مأزقها الحرج، وهذا لا يتيسر أن ينهض به ولد يافع بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، ونعنى به ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل. فانظر كيف تصرفت الأقدار بما فيه الخير، ولم تترك مصالح الدولة للأصُول السخيفة في توسيد الملك للكبير والصغير على السواء.
توفي في دمشق نور الدين في سنة 569 وبالحال ملك ابنه الصالح إسماعيل وحلف له العسكر بدمشق وأطاعه صلاح الدين وخطب له بمصر وضرب السكة باسمه، ودبر دولته شمس الدين بن المقدم من أعظم أُمراء أبيه، واستولى سيف الدين غازي شقيق نور الدين محمود على الديار الجزرية وهي لنور الدين، وكان صلاح الدين في مصر، فجعل الملك للملك الفتى كما كان لأبيه من قبل. بيد أنه من المتعذر إدارة المملكة في ذاك العصر إذا لم يحكمها رجل عظيم استوفى شروط الحكم، فيصدر عن رأي واحد يمحضه أولاً بمشورة رجال دولته ويكون هو المرجع فيه والمسؤول عنه، يهتم لملكه اهتمامه بابنه وابنته، وهل يتيسر ذلك إذا تشعبت الآراء. وكان صاحب الملك الرسمي قاصراً وأوصياؤه يدبرونه وربما
كان فيهم من تطمح نفسه إلى الاستئثار بالسلطة، ومتى كان الوكيل كالأصيل، والمتنفل كالمكلف:
ممالكٌ لم يدبرها مدبّرها ... إلا برأي خصيِّ أو بعقل صبي(2/45)
اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام:
ولما بدأت نواجذ الاختلاف تبدو بين الأمراء في الشام شعر صلاح الدين وهو بمصر أن هذا الفراغ الذي حدث بموت نور الدين يستلزم أن يملأه رجل تجمع القلوب على حبه، وأن يصل السلسلة المقطوعة بمهلكه وإلا انفرط العقد كله، وتصبح الديار فوضى وتفتح أبوابها على مصاريعها لدخول الدخلاء يستصفونها وتصبح بالشقاق الداخلي أبشع صورة مما كانت على عهد أواخر الدولة الأتابكية أخلاف الأتابك ظهير الدين.
واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس فخرج إليهم شمس الدين بن المقدم وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين لأرضهم وقال لهم: أنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف لأن يجتمع بنور الدين، والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم لا يمتنع، فعلموا صدقه وصالحوه، وتكلموا في الهدنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها واستطلقوا عدة من أُساراهم وتمت المصالحة. وفي تهديد ابن المقدم للفرنج بصلاح الدين أعظم دليل على مكانته في قلوب رجال الدولة وأن الصليبيين عرفوا أنهم ابتلوا بداهية لا يقل عن نور الدين بحسن تدبيره وشجاعته.
بلغ صلاح الدين ما تم بين ابن المقدم والفرنج فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتاباً يقرعهم فيه ويلومهم، ويقول إنه تجهز وخرج وسار أربع مراحل ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام فعاد إلى مقره. وقد استصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم وقال: إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة
المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام. قال ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلاً لا ينهض بأعباء الملك، ولا يستقل بدفع العدو عن البلاد تجهز للخروج إلى الشام إذ هو أجلُّ بلاد الإسلام. وقد كان صلاح الدين ينوي أن يتولى تربية ابن مخدومه نور الدين وكتب: إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. ولكن الأمراء في الشام أخذ كل منهم يعمل على شاكلته، ويريد أن يستأثر بالأمر دونه وهو أحق منهم وأولى.(2/46)
ثم إن شمس الدين بن الداية مقدم العساكر المقيم بحلب ورضيع نور الدين وأكبر أُمرائه أرسل سعد الدين كمشتكين إلى دمشق يستدعي إلى حلب الملك الصالح بن نور الدين ليكون مقامه بها، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين قبض على شمس الدين بن الداية واخوته وعلى الرئيس ابن الخشاب وإخوته، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح مخافة ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين في مصر واستدعوه ليملكوه عليهم 570 فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس فوصل إلى بصرى وكان صاحبها يستحثه على القدوم، ولما بلغ دمشق خرج كل من كان بها من العسكر والتقوه وخدموه، وعصت عليه القلعة وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال. ثم كتب إلى الملك الصالح بن نور الدين كتاباً يتواضع له فيه ويخاطبه بمولانا وابن مولانا ويقول: إنما جئت من مصر خدمة لك لأؤدي ما يجب من حقوق المرحوم، فلا تسمع ممن حولك فتفسد أحوالك وتختل أُمورك، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الفرنج. فعرض الملك الصالح ذلك على أُمراء دولته فأشاروا عليه بأن يكاتبه بالغلظة فكتب إليه منكراً عليه، وينسبه إلى كفر النعمة وجحد إحسان والده ووعده
وهدده فساء ذلك صلاح الدين وأغضى على القذى وكظم غيظه.
ولما قرر صلاح الدين أمر دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وسار إلى حمص وكانت حمص وحماة وبارين وسلمية وتل خالد والرُّها في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين المقام بحمص وحماة لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه العمالة له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الإبارين، فملك صلاح الدين مدينة حمص وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها ودكوها ورحل إلى حماة فاستغاث صاحبها بالإسماعيلية وأعطاهم ضياعاً ومالاً ليستعين بهم على صلاح الدين، فلم يلبث أن ملك مدينة حماة وكان بقلعتها عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل وإنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستخلفه جرديك على ذلك(2/47)
وسار إلى حلب برسالة صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين، ثم سار هذا إلى حلب وحصرها وبها الملك الصالح إسماعيل، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين وصدوه عن مدينتهم، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة ليقتلوا صلاح الدين فأرسل سنان جماعة فوثبوا بصلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، فعاد إليهم فرجعوا أدراجهم، ووصل صلاح الدين إلى حمص فحصر قلعتها وملكها ثم سار إلى بعلبك فملكها.
تملك صلاح الدين ومحاولة اغتياله وسر نجاحه:
ولما استقر ملك صلاح الدين أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي
صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فجهز جيشه، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ليسير في النجدة أيضاً فامتنع مصانعة لصلاح الدين، ووصل عسكر الموصل وانضم إليه عسكر حلب وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة وأن تقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوا إلى ذلك وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة فانهزم عسكر الموصل وحلب، وحينئذ قطع صلاح الدين خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال اسمه عن السكة واستبد بالسلطنة فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك ورحل ثم ملك قلعة بارين كما صالح بني رزيك على أن يكون له إلى حد المعرة ولهم ما يلي ذلك فنقض الحلبيون الصلح الذي كان بينهم وبين صلاح الدين وجاء سيف الدين غازي في عساكر الموصل وديار بكر وحلب وعدتهم عشرون ألفاً بين فارس وراجل، وعسكر صلاح الدين ستة آلاف عدا ما جاء بعد من مصر. وقال رسول سيف الدين لصلاح الدين إنه رأى صلاح الدين في خيمة صغيرة على بساط لطيف وتحته سجادة وبين يديه مصحف وهو مستقبل القبلة وإلى جانبه زرديته وسيفه وقوسه وتركاشه جعبته معلق في عمود الخيمة،(2/48)
فلما رأيته وقع في خاطري أنه المنصور لأنني فارقت سيف الدين والأمراء وهم على طنافس الحرير والخمور تراق والطبول تعمل، وليس في خيامهم خيمة إلا وفيها أنواع المحرمات، فأديت إليه الرسالة وجاء وقت الظهر فضج العساكر بصوت الآذان وفي كل خيمة إمام. قال سبط ابن الجوزي: إن صلاح الدين لما هزم جيش سيف الدين عاد إلى خيامهم فوجد سرداق سيف الدين مفروشاً بالرياحين، والمغنون جلوس في انتظاره، والخمور تراق ومطابخه بقدورها، وفيه أقفاص الطيور فيها أنواع من القماري والبلابل والهزارات، فأرسل صلاح الدين
بما كان في السرداق من المغنين والخمور والطيور إليه وقال للرسول: قل له اشتغالك بهذا أليق من مباشرتك الحروب ولا تعد إلى مثلها. وكان هذا المصاف بين السلطان صلاح الدين وسيف الدين غازي في سنة 571 فهرب سيف الدين والعساكر التي كانت معه وكان استنجد بعد هزيمته في قرون حماة بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما ثم سار صلاح الدين إلى بزاعة فحصرها وتسلمها وقصد منبج فحصرها وافتتحها عنوة. ولما جلس يستعرض أموال صاحبها وذخائره كان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار، فحانت من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوباً يوسف فسأل عن هذا الاسم فقيل له: ولد يحبه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له فقال السلطان: أنا يوسف وقد أخذت. خبيء فتعجب من ذلك رواه ابن أبي طي.
ثم سار السلطان إلى عزاز ونازلها وتسلمها فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره عزاز فضربه بسكين في رأسه فجرحه فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال ووثب آخر عليه فقتله أيضاً وجاء السلطان إلى خيمته مذعوراً وعرض جنده وأبعد من أنكره منهم. وهكذا فإن صاحب حلب أو نائبه أو جماعة دولته، وصاحب حماة أو نائبه أو حملة غاشيته صمموا على اغتيال صلاح الدين بأيدي الخوارج حرصاً على ملك قد يسلم لهم فيستمتعون به زمناً أو لا يستمتعون، ولو وفقوا إلى قتله لقتلوا به أمة بأسرها حتى يعيشوا سنين في دعة ومجد، وما أكثر الأدعياء في كل زمن في حب دينهم وقوميتهم، فإذا لم ينالوا رغائبهم ساروا على العمياء لحظ أنفسهم فقط.(2/49)
وبعد تسليم عزاز لصلاح الدين جاء حلب فحاصرها وبها الصالح بن نور الدين
فسألوا صلاح الدين في الصلح فأجابهم إليه وسألوه قلعة عزاز فسلمها إليهم، ورفع على حلب علمه الأصفر، ورحل عنها في المحرم 572 ورجع من كورة الإسماعيلية وحصر قلعة مصياف، فسأله خاله شهاب الدين الحارمي صاحب حماة الصفح عنهم بسؤال سنان فرحل عنهم إلى مصر، وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام وإليه تنسب الطائفية السنانية وهو الذي كتب إلى صلاح الدين جواب كتاب كان هدده فيه على ما نقل ذلك ابن خلكان وافتتحه بقوله:
يا ذا الذي بقراع السيف هدَّدنا ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدّده ... واستيقظت لأسود البرّ أَضْبُعه
أَضحى يسدّ فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين وقد كتب إليه مرة أخرى:
بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخرَّ عمودها
فأصبحت ترمينا بنبلٍ بنا استوى ... مغارسها منا وفينا حديدها
وفي ذلك بيان لقوة الإسماعيلية في عصر صلاح الدين وكانوا يتهددونه كما يتهددهم ولذلك كان يغضي في الغالب عنهم وإن حاولوا اغتياله غير مرة. ولما بلغ عسقلان 573 وشن الغارات على الفرنج طلعوا عليه وهو في بعض العسكر فقاتلهم أشد قتال، وقاربت حملات الفرنج السلطان فانهزم إلى مصر على البرية ومعه من سلم، فلقوا مشقة وعطشاً وأسر الفرنج العسكر المتفرق في الإغارة، وأسر الفقيه عيسى من أكبر أصحاب صلاح الدين فافتداه بعد سنين بستين ألف دينار هذا مع أن جيش صلاح الدين كان نحو عشرين ألفاً وقعت الكسرة عليهم لأنهم كانوا متفرقين في الغارات وكسروا ومعظمهم لم يعلم بالهزيمة. وفي هذه السنة حصر الفرنج حماة طمعاً بهزيمة صلاح الدين وبعده وكادوا يمكلونها فجد
المسلمون في القتال ثم رحلوا عنها إلى حارم. وفيها قبض الملك الصالح على كمشتكين متغلباً على الأمر وكانت له حارم فعذب كمشتكين وأصحابه ليسلموا(2/50)
قلعة حارم فأصروا على الامتناع حتى مات من العذاب، ووصل الفرنج من حصار حماة، وحصروا حارم أربعة أشهر فداراهم الصالح بمال فرحلوا عنها بعد بلوغ أهلها الجهد، ثم أرسل الملك الصالح عسكراً فحصروها وملكوها.
فتوح صلاح الدين ووفاة الملك الصالح:
أرسل صلاح الدين 574 إلى شمس الدين بن المقدم ليسلم بعلبك إلى توران شاه فعصى بها فحصروه صلاح الدين تسعة أشهر ثم عوض عنها وسلمها إلى توران شاه 575 وبعث السرايا والغارات إلى أرض الفرنج بعد موت ملكهم، وكان هذا يريد أن يغير على دمشق فأخذه رجال صلاح الدين وأسروه وغنموا ما مع جماعته، وفتح صلاح الدين حصناً كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان بالقرب من بانياس، وكان الفرنج انتهزوا فرصة مقام صلاح الدين على بعلبك واشتغاله بأمرها فبنوا حصناً على مخاضة بيت الأحزان وبينه وبين دمشق مسافة يوم وبينه وبين صفد وطبرية نصف يوم، فراسل السلطان الفرنج في هدمه فأجابوا أنه لا سبيل إلى هدمه إلا أن يعطينا ما غرمنا عليه فبذل لهم السلطان ستين ألف دينار فامتنعوا فزادهم إلى أن بلغ مائة ألف دينار، وكان الداوية أصحاب الحصن يقطعون هناك الطرق على القوافل فخربه المسلمون، وكانت الحرب بين عسكر صلاح الدين ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين عمر وبين عساكر قليج أرسلان يبن مسعود صاحب الروم، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم فطمع فيه قليج أرسلان وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه وكانوا قريب عشرين ألفاً فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم وكان تقي الدين يفتخر ويقول هزمت بألف عشرين ألفاً. وفي هذه السنة أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر
أهلها بذلك وكانت إحدى الجوائح التي أصابت الشهباء وسكانها. وسار صلاح الدين 576 إلى مملكة قليج أرسلان صاحب الروم ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا فقصد صلاح الدين ولاية ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقهم.
وفي سنة 577 عزم صاحب الكرك الفرنجي على المسير إلى المدينة المنورة للاستيلاء على تلك النواحي، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه نائب عمه صلاح(2/51)
الدين بدمشق فقصد الكرك وأقام عليها، ففرق صاحب الكرك جموعه وانقطع عزمه عن الحركة. وفي هذه السنة توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وعمره نحو 19 سنة وأوصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل فسار إليها بعد موت الصالح ومعه مجاهد الدين قيماز واستقر في ملكها فكاتبه أخوه زنكي بن مودود صاحب سنجار على أن يعطيه حلب ويأخذ سنجار وأشار قيماز بذلك فأجاب وعاد إلى الموصل.
قال ابن الأثير: إن بعضهم قال للملك الصالح وهو يوصي بالملك بعده: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً وهو زوج أختك وكان والدك يحبه ويؤثره وهو تولى تربيته وليس له غير سنجار فلو أعطيته البلد حلب لكان أصلح ولعز الدين من الفرات إلى همذان ولا حاجة به إلى بلدك فقال له: إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين فعجز عن حفظها ملكها صلاح الدين ولم يبق لأهلنا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وأرضه فاستحسنو قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه.
وفي سنة 578 قصد صلاح الدين الشام من مصر وأغار في طريقه على الفرنج وغنم، واجتمع الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقه لما سار، فانتهز فرخشاه
نائب صلاح الدين بدمشق الفرصة وفتح بعسكر الشام الشقيف وأغار على ما يجاوره وفتح دبورية وجاء إلى شقيف حبس جلدك بالسواد من أعمال طبرية وهو حصن يشرف على أرض المسلمين ففتحه. ونزل صلاح الدين قرب طبرية وشن الغارات على بيسان وجنين واللجون والغور من مملكة الفرنج حتى بلغت عساكره مرج عكا فغنم وقتل وحصر بيروت وأغار على تلك الأرجاء ونهب بلدها وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها فساروا ونازلوها وأغاروا عليها وعلى بلدها، وكان عازماً على ملازمتها إلى أن يفتحها فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى إلى دمياط بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم كانوا قد خربوا لزيارة بيت المقدس فأسروا من بها بعد أن غرق منهم كثير، فكان عدة الأسرى 1676 أسيراً. ثم عبر السلطان الفرات إلى البيرة فصار معه مظفر الدين كوك بوري صاحب حران واستمال ملوك الأطراف فصار معه نور الدين محمد بن(2/52)
قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وحاصر الرها وملكها وسلمها إلى كوك بوري ثم أخذ الرقة وقرقيسيا وماكسين وعربان والخابور جميعاً ثم ملك نصيبين وقلعتها ثم حصر الموصل وبها صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز وقد شحنت رجالاً وسلاحاً وحاصر سنجار وملكها وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم: إن أخربتم الجامع جددنا عمارته وأخربنا كل بيعة لكم في أرضنا ولا نمكن أحداً من عمارتها فتركوه.
قصد الفرنج المقيمون بالكرك والشوبك المسير لمدينة الرسول لينبشوا قبره الشريف وينقلوا جسده الكريم إلى بلادهم ويدفنوه عندهم ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلا بجعل فأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك أسطولاً في بحر أيلة العقبة وجعله فرقتين فرقة حصرت حصن أيلة وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في
السواحل بغتة، ولم يعهد بهذا البحر فرنج قط، فعمر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائب الناصر بمصر أسطولاً في بحر عيذاب وأرسل به مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب متولي الأسطول بمصر، فأوقع لؤلؤ بمحاصري أيلة فقتل وأسر، ثم طلب الفرقة الثانية وقد عزموا على دخول المدينة ومكة فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحوراء وقاتلهم أشد قتال فقتل أكثرهم وأسر الباقين وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين فقتلوا عن آخرهم بمصر.
وملك صلاح الدين آمد 579 وكان وعد بها محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وسقط فيها على خزانة كتب فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب فوهبها لوزيره القاضي الفاضل فانتخب منها حمل سبعين جملاً، وكان فيها من الذخائر ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، فوهبها لابن قرا أرسلان هذا، فلما قيل له في ذلك قال: لا أضن عليه بما فيها من الأموال فإنه قد صار من أتباعنا وأصحابنا ونحن إنما نريد أن يسير الناس معنا على قتال الأعداء فقط، وليس قصدنا من الفتح البلاد بل العباد، هذا وبعد مدة قلّ المال لنفقة الجند فاستدان صلاح الدين من أخيه العادل 150 ألف دينار لإطعامهم. وفتح صلاح الدين تل خالد من أعمال حلب ثم عينتاب ثم تسلم بعد المحاصرة حلب من زنكي بن مودود وأعطاه سنجار، وشرط عليه الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره إذا(2/53)
استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك. ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها:
وفتحكم حلباً بالسيف في صفرٍ ... مبشرٌ بفتوح القدس في رجب
فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ثم سار صلاح الدين من حلب بعد أن تسلم حارم ونظم أمر تلك الأرجاء وتجهز من دمشق فأحرق بيسان وشن الغارات على تلك النواحي وأرسل إلى أخيه العادل بمصر أن يلاقيه
إلى الكرك فاجتمعا عليها وحصراها ثم رحلا عنها. وسار في السنة التالية 580 من دمشق فنازل الكرك وكتب إلى مصر فسار إليه عساكرها فضيق على من به وملك ربض الكرك، ولم يتيسر له الاستيلاء على قلعتها فرحل عنها لامتناعها عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر ثم سار إلى سبسطية فاستنقذ من بها من أسرى المسلمين. وفي سنة 581 حصر الموصل مرة ثانية فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته ومعها ابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن إليه اعتذر بأعذار غير مقبولة وأعادهن خائبات فأسف العامة لرده النساء، وندم صلاح الدين بعد ذلك على ردهن، وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبحون فعله وينكرونه. وسار صلاح الدين عن الموصل إلى خلاط وملك ميافارقين. وغزا صاحب الكرك 582 وأسر قافلة من المسلمين فطلبهم السلطان بحكم الهدنة فأبى فنذر صلاح الدين قتله بيده. وكان أرنلط من أغدر الفرنجة وأنقضهم للمواثيق المحكمة والأيمان المبرمة. وكان كفيل القومص صاحب طرابلس قد حنق على جماعته الفرنج لأن زوجة ريمند بن ريمند الصنجيلي هويت رجلاً من الفرنج اسمه كي وأخرجت كفيل ابنها من ملك طرابلس وكان طمع فيه، فراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك ووعده النصرة والسعي له في كل ما يريد، وضمن له أن يجعله ملكاً مستقلاً للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القومص فأطلقهم، فحل ذلك عنده أعظم محل، وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج فاختلفت كلمتهم. قال صاحب الكامل:(2/54)
وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح
بلادهم واستنقاذ البيت المقدس منهم.
وقعة حطين وفتح فلسطين:
كانت سنة 583 سنة مباركة جداً على صلاح الدين وعلى المسلمين، كما كانت عليه سنة 564 بفتح مصر وإنقاذها من أيدي الفاطميين. ضرب صلاح الدين الفرنج ضربة لم ينلهم مثلها منذ وطئوا أديم الشام سنة 491 فبدأ بمضايقة الكرك 583 خوفاً على الحجاج من صاحبها فأخرب كما قال من رسالة إلى أخيه سيف الإسلام عماراتها وأحرق غلاتها، وقطف ثمراتها، وأزعج ساكنيها، وأخاف آمنيها، وأجلى عنها فلاحيها، وأقام النوائح عليها في نواحيها. وأغار بعض عسكره على عكا وغنموا ثم حصر مدينة طبرية ومعه الجاندارية والخراسانية والحجارون والنقابون ففتحها بالسيف وكانت للقومص صاحب طرابلس، وكان مهادن السلطان فاجتمع إلى الفرنج للحرب - وكانت طبرية تقاسم على نصف مغل الصلت والبلقاء وجبل عوف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وما يقربها إلى كورة حوران.
واجتمعت ملوك الفرنج فارساً وراجلاً وساروا إلى صلاح الدين فركب إليهم من طبرية، والتقى الجمعان واشتد القتال بينهم وأحدق المسلمون بالفرنج من كل ناحية وأبادوهم قتلاً وأسراً على قرية حطين بالقرب من طبرية وأسر في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير وصاحب الكرك وصاحب جبيل وغيرهم من قمامصتهم وأمرائهم. وكان الفرنج في حطين خمسة وأربعين ألفاً فلم يسلم منهم سوى الفلّ وقتل الباقون واستأسروهم فقتل منهم أربعون ألفاً وقيل أقلّ من ذلك، ولما انقضى المصاف جلس السلطان خيمته وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه وكان الحر والعطش به شديداً فسقاه السلطان ماءً مثلوجاً وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه على غدره غير مرة وعلى قصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه فارتعدت فرائص ملك
الفرنج فسكن جأشه.
قالوا: وقد عرض السلطان الإسلام على الداوية والإسبتار، فمن أسلم منهم استبقاه، ومن لم يسلم قتله فقتل خلق عظيم، وبعث بباقي الملوك والأسارى إلى(2/55)
دمشق. ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان وكان فيها ثلاثون ألف إفرنجي وأربعة آلاف أسير مسلم، وأرسل أخاه الملك العادل فنازل مجدل بابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية والفولة وجنين وزرعين والطور واللّجون والقيمون والزيب ومعليا والبعنة وإسكندرونة ومنواث وأرسوف وعقربلا وأريحا سنجيل والبيرة وقلونية وصرفند ومجدل الحباب وجبل الجليل وتل الصافية والتل الأحمر وقريتا وصوبا وهرمس والسلع عدا ما تخللها من القرى والأبراج والقلاع. فتح كل ذلك بالسيف وفتح عسكره سبسطية ونابلس وقلعتها بالأمان، وفتح العادل يافا عنوة ثم فتح السلطان تبنين، وتسلم صيدا خالية ثم بيروت بالأمان بعد حصارها. وكان من جملة الأسرى صاحب جبيل فبذل جبيلاً فأطلق. وحضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين وأقلع إلى صور فاجتمع عليه الفرنج الذين بها وملك صوراً. وذكر المؤرخون إن إطلاق أمراء الفرنج من الأسر وحملهم إلى صور كان من أعظم أسباب الضرر وقوة الفرنج ورواح عكا.
فتح القدس والرملة:
حصر السلطان عسقلان وتسلمها ثم فتح الرملة والداروم وغزة وبيت لحم وبيت جبريل وتبنين والنطرون ومشهد الخليل ولدّ وغيرها ثم نازل القدس وبه من الفرنج عدد لا يحصى وضايقه بالنقابين واشتد القتال، وطلب الفرنج الأمان فقال: آخذها مثل ما أخذت من المسلمين بالسيف فعاودوه فأجاب بشرط أن يؤدي كل
رجل عشرة دنانير وكل امرأة خمسة وكل طفل دينارين ومن عجز أسر وتسلم المدينة في رجب وكان فيها بالضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من تبعهم من النساء والولدان قال ميشو: إنه كان فيها مائة ألف صليبي وكان عددهم لما فتحوه 6100 فارس و 48 ألف راجل ولم يكن فيها لما فتحها صلاح الدين سوى ربان واحد من اليهود وكان يدفع إتاوة كبيرة في السنة للملك حتى يبقى فيها.
قال ابن الأثير في معنى ارتضاء صلاح الدين بالفداء من الفرنج في القدس: إن الفرنج لما رأوا شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك، وتمكن(2/56)
النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان فأبى السلطان وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنه إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي فقال له باليان: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا ديناراً ولا درهماً ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو امرأة، فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى. ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء ونظفر كرماء، فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج.
وكان رأي صلاح الدين أخذ الفداء فتغلب رأيه على ما كان يراه بعض جماعته أولاً من إهراق دماء الفرنج كما أهرق أجدادهم دماء المسلمين، وهذا التهديد من
سفير الصليبيين في الصلح لا شأن له مع صلاح الدين، وهو في تلك القوة والمنعة، ولكن صلاح الدين يرمي إلى مقصد أعلى من جميع مقاصد جماعته وجماعة الصليبيين، كان يريد بما فعل من قبول الفداء تعليم الصليبيين درساً في سماحة الإسلام، وأن لا يثير الحفائظ وهو على يقين من أن أوربا ما جيشت إلا قليلاً لفتح القبر المقدس فإذا قتل من فيه وفيهم الأمراء والسادة والقادة وغيرهم يقيم في كل دار في الغرب مأتماً وتزيد الطوائل بين الفريقين، ويهب الفرنج في الغرب إلى جمع شملهم، أكثر مما جمعوا في القرن الماضي ومنتصف هذا القرن وتعود الشام إلى خرابها.
وما الفائدة من القتل إذا كان يجلب الويلات على فاعله وعلى ذويه. على أن صلاح الدين لو قتل فرنج القدس لما كان خرج عن مألوف عادة تلك العصور وما عُدَّ عمله شيئاً فرياً، إذ يكون قد كال لهم بالكيل الذي كالوا به لأمته. بيد أن السماحة التي بدت منه أكسبته وقومه في الغرب اسماً عطراً لا يزال يردد بالخير على كرور الأيام، ودب الفشل في نفوس القابضين على زمام الأمر فلم(2/57)
يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة البابوية، ويحسمون الناس ليسيروا بهم على العمياء إلى الأرض المقدسة. وبهذا العمل انحلت العقدة المهمة الأولى من حروب الصليبيين، وكان الخطب سهلاً بعد ذلك في عهد صلاح الدين وأخلافه فصدق في وصفه شاعره عبد المنعم الجلياني حيث قال من قصيدة:
وفيت لهم حتى أَحبوك ساطياً ... بهم ووفاءُ العهد قيد المخاصم
فخانوا فخابوا فانتدبوا فتلاوموا ... فقالوا خُذلنا بارتكاب الجرائم
وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتى ... بقلبٍ سليمٍ راحماً للمسالم
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قسٌّ ويرقي بوصفها ... ويكتبه يشفى به في التمائم
مر الرحالة ابن جبير الأندلسي بالشام وصلاح الدين محاصر للكرك فتعجب من أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين وإفرنج وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم، وأرفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار الصليبيين أيضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والارتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب. قال: وهذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا والتجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً أو حرباً. وقال بعد أن ذكر استيلاء صلاح الدين على نابلس وإطلاق أيدي جيشه في جميع ما احتازته: وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسببهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة.
وبعد أن قرر السلطان أمور القدس، وأمر بعمل الرُّبُط والمدارس الشافعية، رحل عنها ولم يبق معه مما أخذه من مال الفداء شيء وكان مائتي ألف دينار وعشرين ألفاً ففرقها على الأمراء والعلماء والفقراء، وأطلق كثيراً من الفقراء بدون فداء، وأدى أخو السلطان الملك العادل فدية عن ألفي صليبي، واقتدى به(2/58)
السلطان نفسه، وعفوا عن كثيرين، فلم يبق سوى أربعة عشر ألفاً يخرج منهم الصبيان والبنات الذين أدى الصليبيون فداءهم، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، فكان يخرج من القدس حراً بدون منازع، وعامل النساء من الفرنج معاملة لا تصدر عن أرقى رجل مهذب في القرون الحديثة. ذكروا أنه كانت
بالقدس ملكة رومية متعبدة مترهبة استعاذت بالسلطان فأعاذها، ومنَّ عليها وعلى من معها بالإفراج، وأبقى عليها من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها، وكذلك خرجت زوجة الملك المأسور كي وهي ابنة الملك أموري وكانت مقيمة في جوار القدس مع مالها من الخدم والخول والجواري فاستأذنت بالإلمام بزوجها وأقامت عنده، وكان مقيماً في برج بنابلس أسيراً يرسف في قيده. وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع والمساجد منها الصخرة والأقصى والقيامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين فقال: لا أغدر به ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير إلى غير ذلك من مزاياه العالية التي علم بها أعداءه كيف تكون مكارم الأخلاق.
رحل السلطان إلى عكا ومنها إلى صور، وقد حصنت بالرجال وحفر خندقها من البر إلى البحر، ونزل على صور وحاصرها وضايقها وطلب الأسطول فوصل إليه في عشرة شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذ خمسة شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ الباقون، وطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في الشتاء وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكا وقد قنع الفرنج بصور، وأرسل إلى هونين ففتحها بالأمان كما فتح قلعة أبي الحسن من عمل صيدا وشقيف أرنون وأقام رجالاً على صفد وكوكب يحاصرونهما وهما حصنان عظيمان للداوية والاسبتارية وكان شديداً على رجال هاتين الرهبنتين لما عرفوا به من الشجاعة والمكر ويقتلهم في الغالب إذا وقعوا في يده فلم يبق للفرنج من كل ما كان لهم في فلسطين من المدائن والثغور سوى صور استصفيت كلها. ولما انسلخ الشتاء 584 سار السلطان من عكا بمن معه بعد أن ولى أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها، وأمر بنقل
الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين وإعانة المقطعين وكذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى(2/59)
أعمال عسقلان ليعيد إليها الزراعة والعمران. ومن كتاب فاضلي يصف فيه بعض مدن فلسطين في الفتح الصلاحي: وهذه البلاد مدن ما كان عزم قبل منها مدنياً. وعمارات ما كان أمل إليها مفضياً. بل طال ما كان عنها مغضياً. مثل بيسان وكفربلا وزرعين وجينين كلها بلاد مشاهير لها قرى مغلة، وبساتين مظلة، وأنهار مقلة، وقلاع مطلة، وأسوار قد ضربت على جهاتها، وأحاطت بجنباتها، واتخذتها المدن سياجاً على قصباتها.
بقية الفتوح الصلاحية:
اتجهت همة صلاح الدين العالية إلى فتح ما بقي في أيدي الصليبيين من ثغور الساحل. وقصد إلى دمشق ولما اجتمعت العساكر من الأطراف سار منها فنزل على بحيرة قدس غربي حمص وأتته العساكر بها فرحل ونزل على أنطرطوس فوجد الفرنج قد أخلوها فأحرقها وأحرق البسية وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطارهم. وسار إلى مرقبة فوجدهم قد أخلوها أيضاً وسار إلى المرقب وهو للإسبتار فوجده لا يرام وتسلم جبلة وبلدة من غربي النهر على شاطئ البحر وسار إلى اللاذقية ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليهما فطلب أهلهما الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين وعمر البلد وحصن قلعتها.
ولما كان على اللاذقية طلب مقدم أسطول صقلية من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه وحضر وقبل الأرض بين يديه وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم كريم وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم الممالك وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر وأنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من
القتل والأسر ورحل السلطان إلى صهيون فتسلمها بالأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدونه فأجابوه إلى ذلك وتسلم قلعة صهيون، ثم فرق عسكره في تلك الجبال فملك حصن بلاطُنُس وكان الفرنج قد أخلوه، وملك حصن العيذو وحصن الجماهيرية، ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر فحصرها ووجدها منيعة فضايقها فطلب أهلها الأمان، وحصر ابنه الملك الظاهر غازي قلعة سرمين وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم وهدم(2/60)
القلعة وعفى أثرها. وكان في هذه القلعة وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأُطلقوا وأُعطوا الكسوة والنفقة، ثم سار من الشغر إلى بَرْزُيه وملكها بالسيف وسبى وأسر وقتل أهلها وأسر السلطان صاحب برزيه هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض، فلما قارب إنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها. وكانت امرأة صاحب برزيه أخت امرأة بيمند صاحب إنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر فأُطلق هؤلاء لأجلها.
ثم سار فنزل على جسر الحديد ومنه إلى دربساك فتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط. وسار إلى بغراس وحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك. وأرسل بيمند صاحب إنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، ثم عاد إلى دمشق فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا فقال السلطان: أن العمر قصير والأجل غير مأمون. وكان صلاح الدين لما سار إلى الشمال قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلّى أخاه العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فتسلمها صلاح الدين مع
الشوبك وما إليها، ثم سار السلطان إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان وشخص إلى كوكب فضايقها وتسلمها بالأمان وسير أهلها إلى صور.
ولما سقطت القدس واستولى صلاح الدين على جميع الأقاليم التي كانت بيد الفرنج ولم يبق لهم إلا يافا وصور وطرابلس تجمع أهل الأقاليم التي أخذها صلاح الدين في ثغر صور فكثر جمعهم، وأرسلوا إلى الغرب يستصرخون وصوروا صورة المسيح وصورة عربي يضربه وقد أدماه وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح. فخرجت النساء من بيوتهن. ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور ونازلوها وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر ووقعت وقائع على عكا قتل فيها من الفرنج نحو عشرة آلاف ومن المسلمين ألوف أيضا، وعاد السلطان في السنة التالية 586 إلى قتال الفرنج على عكا.(2/61)
الحملة الصليبية الثالثة:
بينا كان صلاح الدين على عكا يغادي الفرنج القتال ويراوحهم، جاءت الأخبار من الروم أن ملك الألمان قام لنجدة الصليبيين في الشام في مائة ألف محارب، فدخل اليأس على الناس وهذه هي الحملة المعروفة عند الفرنج بالحملة الصليبية الثالثة، ولكن سلط على ملك الألمان الوباء والغلاء وغرق في نهر كان يغتسل فيه في الروم، ولم يصل مع ابنه سوى ألف مقاتل فقط. يئس النس لأنهم ذهبوا إلى أن الفرنج لا تقوم لهم قائمة بعد وقعة حطين بل بعد استصفاء أكثر المدن والمعاقل التي كانت لهم ولا سيما القدس العلة الأولى في هذه الغزوات التي ألبسوها لباس الدين، وكانت هذه الحملة الثالثة مؤلفة من ثلاثة ملوك: فريدريك باربروس ملك ألمانيا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريشاردس قلب الأسد ملك إنكلترا. فخف الأول إلى نجدة فرنج الشام قبل صاحبيه فكان من أمره ما كان أما الآخران فجاءا إلى عكا في البحر، وبعد أن فتح ريشاردس جزيرة قبرس تمكن الصليبيون من
أخذ عكا وقتل من المسلمين جمهور كبير.
قال ميشو: إن الوقعة التي حارب فيها ريشردس في بحر صور سفينة كبرى للعرب، كانت من أول الانتصارات ومقدمة الغنائم للبحرية الإنكليزية، وقال أمغلطاي: إن الفرنج حاصروا عكا من البر ومن البحر، وكانت عدتهم مائتي ألف وأربعين ألفاً، ونصبوا عليها المجانيق من كل جهة، وفتحوا فيها مواضع كثيرة حتى خربت ودثرت وصارت مثل الطريق، فغُلب المسلمون وطلبوا الأمان. وقال غيره: إن السلطان كان عمر في بيروت بطسة وشحنها بالعُدد والآلات، وفيها نحو سبعمائة رجل مقاتل، فلما توسطت في البحر صادفها ملك الإنكليز وأحاطت بها مراكبه وحصل القتال بين الفريقين، فلما رأى مقدمها اشتداد الأمر، نزل فخرقها حتى غرقت، وكانت هذه الحادثة أول حادثة حصل بها الوهن للمسلمين.
ثم رحل الفرنج عن عكا نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم(2/62)
سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها، ورأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة فخربها وخرب الرملة وكنيسة لدّ وكان هدم سور طبرية وهدم يافا وأرسوف وقيسارية وهدم سور صيدا وجبيل ونقل أهلهما إلى بيروت، وكان معظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مسلمين وكانوا في ذلة من مساكنة الفرنج. وسار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون. ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك إنكلترا ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا، فأنكر القسيسون عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال.
وذكر بعض المؤرخين أن ملك إنكلترا هو الذي عرض على العادل أخته، وكانت
أرملة ملك كبير من ملوكهم وهو صاحب صقلية توفي عنها، ورغب أن يتزوجها العادل ويجعل له الحكم على الساحل، وهو يُقطع الداوية والاسبتار من المدن والقرى دون الحصون، وتكون أخته مقيمة بالقدس وأن الإنكليز لما عنفوا المرأة واتهموها في دينها، اعتذر ملك إنكلترا بعدم موافقتها إلا أن يدخل العادل في دينها فعرف أنها خديعة كانت منه.
قال ابن شداد في وصف ريشاردس ملك الإنكليز: وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوي الهمة، له وقعات عظيمة، وله جسارة على الحرب، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة، لكنه أكثر مالاً منه، وأشهر في الحرب والشجاعة. قال: وكانوا ملوكهم يتواعدوننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنه أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد أي عكا حين قدومه، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. وقال بعد أن ذكر كيف كان ملك الإنكليز يكرر الرسائل إلى الملك لتعرف قوة النفس وضعفها، وكيف كان يوهن المسلمين على تعرّف ما عنده من ذلك أيضاً: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أُخرى، وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره، والله الولي في أن يقي المسلمين شره، فما بلينا بأعظم حيلة وأشد إقداماً منه.
بقي صلاح الدين في كل يوم يقع بينه وبين الفرنج مناوشات فلقوا من ذلك شدة شديدة واستولوا سنة 588 على قلعة الداروم وخربوها وأسروا من فيها.(2/63)
عرض لملك انكلترا ما يشغل قلبه من جهة بلاده فأحب أن يصالح صلاح الدين، فرضي السلطان بالصلح بعد الذي أصاب جيشه من الفشل على عكا، وفشل عكا هو الوحيد الذي أصابه، وذلك لتكاثر جيوش الصليبيين عليه، وقد ملّ الجند الحرب التي دامت أعواماً، وخرج المسلمون من عكا وأخذوا أمان الفرنج على أن
يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة أسير من المجهولين ومائة أسير من المعروفين وصليب الصلبوت، وعشرة آلاف دينار للمركيس وأربعة آلاف دينار لحجابه، وعقدت بين الصليبيين والمسلمين هدنة عامة في البحر والبر جعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيسارية وعملها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول عمالة الإسماعيلية في أرض الهدنة، واشترط الفرنج دخول صاحب إنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون لدّ والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك. واتفقت وفاة السلطان بعد الصلح بيسير، فلو اتفق ذلك في أثناء وفاته كان الإسلام على خطر.
وفي التاريخ العام أن صلاح الدين لما فتح القدس بهت المسيحيون في أوربا فأخذ أوربانوس الثالث يحمس الناس في الغرب. وأن إمارات الصليبيين لم تقاتل مدة نصف قرن سوى صغار أمراء سورية والموصل. وكان مسلمو مصر يعيشون بسلام معهم، وهذا كان عهد نجاح تلك الإمارات، ولما قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية وقامت مقامها دولة حربية من المماليك، لم يستطع المسيحيون، ومصر تهاجمهم، أن يقاوموا زمناً طويلاً، على ما ظهر من انتصارات صلاح الدين، وإذا احتفظوا ببقايا الإمارات قرناً آخر فذلك لأن ملوك الإسلام لم يرضوا أن يقضوا عليها. لا جرم أن هذه الحرب كانت حرباً مقدسة في نظر المسلمين والمسيحيين اه.
مزايا صلاح الدين ووفاته:
ولا عجب إذا انتثر سلك الإمارات الصليبية في الجنوب والغرب جملة فإن تنظيم الجيش الصلاحي كان آية الآيات، والنجدات كانت تأتيه سراعاً دراكاً،(2/64)
والفكر
متجه إلى مقصد واحد. استمات المسلمون في تأييد سلطانهم، وحاربوا بكل ما لديهم من ضروب الكر والفر وصنوف الدهاء والخديعة، وما الحرب إلا خدعة - قاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين، مرة بالأبراج، وأُخرى بالمنجنيقات، ورادفة بالدبابات، وتابعة بالكباش، وآونة باللوالب، ويوماً بالنقب، وليلاُ بالسرابات، وطوراً بطم الخنادق، وآناً بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار، وحالة في البحر بالمراكب، ولكن الحرب سجال والدهر دول، وما كل يوم يكتب النصر للغزاة، ويحالف التوفيق أعلامهم، وما كل خطة يقررها صاحب الأمر بادئ الرأي تكون سديدة من كل وجه، فقد انتقدوا على صلاح الدين بعد وقائعه مع الصليبيين وظفره الباهر بهم في الأردن والجليل وبيت المقدس كيف فتح لأعدائه السبل ليذهبوا إلى صور، ويجتمع هناك فلّ جيوشهم حتى تألفت منهم كتلة قويت بما جاءها من البحر من الإنكليز والفرنجة، فكان ما كان من هزيمة جيشه على عكا، ولو كان حياً لدافع عن نفسه دفاعاً معقولاً مقبولاً فيما نحسب، ولعلَّ ذلك يدخل في باب مراحمه التي تجلت فيها نفسه العظيمة يوم فتح القدس، فلم يعامل أعداءه إلا بما اقتضته سياسته وسيرته.
كان صلاح الدين يُعنى بجنده ويتعهده ويسأل عن صحة أمرائه ومن دونهم في راحتهم ومنامهم وأكلهم وشربهم، يحارب المحارب ساعات مخصوصة من النهار أو الليل ثم يستريح أو يحارب مدة معينة ثم يذهب إلى ذويه، على أرقى الأصول المتعارفة في الحروب الحديثة. والغنائم تقسم بين المحاربين بحيث يغتني أفرادهم وجماعاتهم دع ما لهم من الأموال الدارة من أموال الجباية والرسوم على التجار وما خصوا به من الحرمة ورفعة الشأن، يأخذون إما رواتب أو إقطاعات، ولم تكن إقطاعاتهم كإقطاعات الغرب تورث على الأغلب بل تزول عن صاحبها بموته أو بعزله، ولذلك كان المحاربون متعلقين أبداً بسلطانهم وأميرهم، متفانين
في إحسان الخدمة كأنهم يدافعون عن بيوتهم وأطفالهم.
جاء صلاح الدين إلى دمشق بعد عقد الصلح مع الفرنج في فلسطين، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها. فلقي الأهل والولد بعد تغيب أربع سنين وذهب يتصيد مع أخيه الملك العادل خمسة عشر يوماً فكان عمله كأنه وداع لأهله وأولاده ومرابع نزهه وأنسه. ثم مرض أياماً وهلك حميد الأثر فضجت الأمة لفقده،(2/65)
وبكت العيون، وانتحبت النفوس، لأنه لم يحي مصر والشام، بل أحيا بعمله المسلمين والإسلام، وكان كما ذكره ابن شداد: رؤوفاً رحيماً، ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً، على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصداً أبداً، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.
مات صلاح الدين وقد ملك مصر أربعاً وعشرين سنة والشام تسع عشرة سنة، وملك الجزيرة واليمن، ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، فإن صدقة النفل استنزفت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وجرماً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وكان رحمه الله يهب الأقاليم، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم مهمٌّ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وكان كثيراً ما يقول: إن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا
زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها. وقد ذكر القاضي ابن شداد وعماد الدين الكاتب من خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية، وعدله وكرمه وشجاعته، واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه، وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة، ما هو العجب العجاب، وبعضه إذا جمع في شخص كان مفخراً من المفاخر على توالي الأحقاب.
ملأت خيرات صلاح الدين جميع الأقطار التي خفق علمه عليها، وملأت أوقافه مصر والشام وهي غير منسوبة إليه. قال ابن خلكان: ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر اهـ.(2/66)
بل قد تجد لمماليكه وخواصه أوقافاً نسبت إليهم ولم ينسب إليه إلا قليل وكان مماليك صلاح الدين وخواصه وأمراؤه وأجناده أعفّ من الزهاد والعباد، والناس على دين ملوكهم. ومن كرم صلاح الدين أنه أخرج في مدة مقامه على عكا ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت حصر، وما كان يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيه لطالب من جماعته، وقد فرَّق من ذخائر الفاطميين لما فتح مصر ما يفوق الإحصاء ولم يبق منه قليلاً ولا كثيراً. ومن رسالة له إلى الديوان العزيز ببغداد: فقد علم أن الخادم بيوت أمواله، في بيوت رجاله، وأن مواطن نزوله، في مواقف نزاله، ومضارب خيامه، أكنة ظلاله، وأنه لا يذخر من الدنيا إلا شِكَّته، ولا ينال من العيش إلا مسكته. كان صلاح الدين يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، ويكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء ومحافله حافلة بأهل الفضل، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء
ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان. كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر. وصل في ليلة واحدة من الفرنج نيف وسبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس، وكان يعطي دستوراً أن يسرح عسكره في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف فيما قالوا، ومع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعاً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله، ووقعت الكوسات والعَلَم وهو ثابت القدم في نفر يسير، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو(2/67)
في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة، إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة، والمسلمون لا يتوقعونها، وكانت المصلحة في الصلح.
سئل ابن بيرزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس فقال للترجمان: قل له كانوا خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم. وكان صلاح الدين يدور على الأطلاب أي الكتائب
ويقول وهل أنا إلا واحد منكم.
وذكروا من مراحم صلاح الدين أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج في الليل ويسرقونهم، فسرقوا ليلة صبياً رضيعاً، فباتت أُمه تبكي طول الليلة فقال لها الفرنج: إن سلطانهم رحيم القلب، فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها، فأخبروه بقصتها فرق لها، ودمعت عيناه، وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل، ولم يزل واقفاً حتى أحضروه، فلما رأته بكت وأخذته فأرضعته ساعة وضمته إليها، وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا.
قال سبط ابن الجوزي: ويقال إن صلاح الدين فتح ستين حصناً وزاد على نور الدين بمصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج وديار بكر ولو عاش لفتح الدنيا شرقاً وغرباً. قلنا: إن نابغة الدهر السالف صلاح الدين يوسف كان في أُمته صلاحاً لدينها ودنياها.(2/68)
الدولة الأيوبية
من سنة 589 إلى سنة 637
أبناء صلاح الدين واختلافهم ودهاء عمهم العادل:
اهتزت أعصاب المملكة لمهلك صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والبلاد الشرقية لأنه الفاتح الثاني لبيت المقدس كما كان عمر بن الخطاب الفاتح الأول. وقد خلف صلاح الدين سبعة عشر ذكراً وابنة واحدة، وناب بعض أولاده عنه في أكثر أقاليمه وخلف أخاه الملك العادل أبا بكر، وكان ينوب عنه في مصر والشام في حياته فوقع الخلف بين بنيه وعمهم في الباطن أولاً، ثم أعلن كل واحد لصاحبه خصومته. وكان كثير ممن ربوا في نعمة الدولة الصلاحية ورأوا من عدلها ما لم يكد يسبق له مثيل إلا في دولة نور الدين، يتخوفون أن تصير حال الدولة بعد صلاح الدين إلى الشقاق والنزاع، ومن الذين أوجسوا خيفة من ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأكبر فقد كتب إلى ولده الملك الظاهر ساعة موت السلطان من كتاب إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم.
وكان الملك الأفضل نور الدين علي أكبر أولاد صلاح الدين قد حلف له الناس عندما اشتد مرض والده فاستقر في ملك دمشق وما إليها، وبالديار المصرية الملك العزيز عماد الدين عثمان، وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي، وبالكرك والشوبك والأقاليم الشرقية الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن(2/69)
محمد، وببصرى الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وكان في
خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة مدن وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية وبيده حصن شيزر وحصن أبي قبيس، وناصر الدين بن كورس وبيده صهيون وحصن برزية، ودلدرم بن بهاء الدين ياروق وبيده تل باشر، وأسامة الحلبي وبيده كوكب وعجلون، وإبراهيم بن شمس الدين ابن المقدم وبيده بعرين وكفرطاب وأفامية. ولما ألقي للملك الأفضل زمام السلطنة بعهد أبيه استوزر ضياء الدين بن الأثير الجزري فحسن له طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز بمصر والظاهر بحلب، ولما اجتمعوا بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل فحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز واستحكم الفتور 590 بينهما فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق عشرة أشهر وقطع الماء عنها. فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين وعاد كل ملك إلى بلده. قال العماد الكاتب: ولما انفصلت العساكر عن دمشق شرع الأفضل في اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لذاته، فسمي الملك النوّام، وفوض الأمر إلى وزيره الجزري، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمي، فأفسدا عليه الأحوال وكانا سعيا لزوال دولته واستبدلا أراذل الناس بكبراء الأمراء والأجناد ففسدت أمور العباد. وفي هذه السنة استعادت الفرنج حصن جبيل وأخذ الأفضل من الفرنج جبلة واللاذقية.
وفي السنة التالية عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الفوار من أرض السواد فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه وهم طائفة من الأمراء الأسدية وفارقوه فعاد العزيز إلى مصر. وكان الأفضل استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل
الملك الأفضل وعمه العادل ومن إليهما من الأسدية، وساروا في أثر العزيز طالبين مصر فنزلوا على بلبيس، وقصد الملك الأفضل مناجزة من فيها من جند العزيز فمنعه عمه العادل وقال: مصر لك متى شئت. وكاتب العادل العزيز وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين. وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابسة أولاد صلاح الدين لما رأى من فساد أحوالهم على ما رواه(2/70)
المؤرخون - والقاضي الفاضل هو الذي كان صلاح الدين يقول في ملإ من الناس: لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل وكان يستشيره في أموره - فدخل الملك العزيز على القاضي وسأله أن يتوجه من القاهرة الى الملك العادل ففعل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما وأقام العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته وعاد الأفضل إلى دمشق وأموره بيد الجزري يدبرها برأيه حتى كثر شاكوه وقل شاكروه. وكان الاعتماد على مشورة الوزير الجزري الذي زين للملك الأفضل إقصاء أمراء أبيه ليخلو له الجو أول خطوة نحو خراب بيت بني أيوب، وبعبارة أصح أبناء صلاح الدين يوسف. وقوة الدولة على نسبة عقل القائمين بها، الدافعين عن حوزتها، الغيورين على بقائها، وقد خالف الملك الأفضل سيرة أبيه فأقصى العقلاء وكان أبوه يفادي بكل مرتخص وغال لاستمالة قلوبهم وكان لسان حال العادل وقد رأى اختلاف أبناء أخيه المثل المأثور لم آمر بها ولم تسؤني. قال سبط ابن الجوزي لما عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزري من الأفعال القبيحة وآذى أكابر من الدولة، والأفضل يسمع منه ولا يعدي أحداً ولا يخالفه، فكتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السيئ التدبير القليل التوفيق فلم يلتفت، واتفق مع العزيز على النزول إلى الشام فسار إلى الشام فاستشار الأفضل أصحابه فكل أشار عليه أن يلتقي عمه وأخاه ولا يخالفهما إلا الجزري
فإنه أشار عليه بالعصيان فاستعد للحصار وحلف الأمراء والمقدمين وفرقهم في الأبراج وعلى الأسوار.
اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل لتكون الخطبة والسكة للعزيز في جميع المملكة كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر فأرسل الأفضل إليهما فلك الدين وهو أحد أمرائه وهو أخو الملك العادل لأمه ونزل العادل والعزيز على دمشق وقد حصنها الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد العادل وصاروا معه وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف العادل والعزيز فدخل الأول من باب توما والثاني من باب الفرج، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخذت بصرى من الملك الظافر خضر أخي الأفضل وكان معاضداً له، وأعطي الأفضل صرخد(2/71)
فسار إليها بأهله، واستوطنها وأخرج وزيره الجزري في الليل في جملة الصناديق خوفاً عليه من القتل فأخذ أموالاً عظيمة وهرب إلى بلده.
سلم الأفضل دمشق لعمه العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، فتسلمها العادل على أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان، ورحل العزيز وأبقى له العادل السكة والخطبة بدمشق.
استئثار العادل بالملك الصلاحي:
توفي الملك العزيز عثمان في مصر 595 وعمره سبع وعشرون سنة وأشهر وكان في غاية السماحة والكرم والعدل. والرفق بالرعية والإحسان إليهم ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة لأنه شبل من أسد، وكان الغالب على دولته فخر الدين جهاركس فأقام في الملك ولد العزيز الملك المنصور محمد واتفقت الآراء على إحضار أحد بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى
مصر على أنه أتابك أي مربي الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وأشهراً. ولما وصل الأفضل إلى بلبيس التقاه العسكر فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام، وكاتبوا العادل وهو محاصر ماردين، وأرسل الظاهر إلى أخيه الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بماردين، فبرز الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، فبلغ العادل مسيره، ونزل الأفضل على دمشق وجرى بين العم وابن أخيه قتال، وهجم بعض عسكر الأفضل المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الأفضل أخوه الظاهر فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند العادل وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف.
روى سبط ابن الجوزي أنه لما اشتد الحصار على دمشق وقطعت أشجارها(2/72)
ومياهها الداخلة إليها وانقطعت عن أهلها الميرة وضجوا، بعث العادل إلى الظاهر يقول له: أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان وتكون دمشق لك لا للأفضل، فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرني بدمشق. فقال: دمشق لي من أبي وإنما أخذت مني غصباً فلا أعطيها أحداً، فوقع الخلف بينهما ووقع التقاعد. وكان إلقاء الخلف بين الأخوين من جملة دهاء عمهما.
ودخلت سنة 596 والأفضل والظاهر يحاصران دمشق، وقد أحرق جميع ما هو خارج باب الجابية من الفنادق والحوانيت، وأحرق النيرب وأبواب الطواحين،
وقطعت الأنهار وأحرقت غلة حرستا في بيادرها، وحفر على دمشق خندق من أرض اللوان إلى أرض يلدا شرقاً احترازاً من مهاجمة من دمشق لهما، ولما تغير الظاهر على أخيه الأفضل ترك قتال العادل، فظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصُّفَّر، ثم سار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، ولما تفرق خرج العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، وضرب مع الأفضل مصافاً فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازلها العادل ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وخاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به، ثم سار الأفضل إلى صرخد وأقام العادل بمصر على أنه أتابك الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال العادل الملك المنصور، واستقل العادل في السلطنة، فقطع أولاً خطبة ولد العزيز بعد أن جمع الفقهاء وقال هل يجوز ولاية الصغير على الكبير فقالوا: الصغير مولى عليه وقال: فهل يجوز لكبير أن يولي عليه وينوب عنه قالوا: لا لأن الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصح النيابة. فقطع خطبة ابن العزيز وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد من بعده، وكان ذلك على الحقيقة مبدأ سلطنة العادل الكبرى، فإن استئثاره بالخطبة والسكة في مصر سهل عليه فيما بعد ملك الشام وما إليها من ديار الشرق.
لما تم الأمر بمصر للعادل كاتب الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل عمه بالمعنيين شقيق أبيه وأبو امرأته وصالحه وخطب له بحلب وأقاليمها وضرب السكة باسمه، واشترط العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار(2/73)
عسكر حلب في خدمة العادل كلما خرج إلى الحرب والتزم الظاهر بذلك إلا أنه أخذ بتحصين حلب خوفاً من عمه العادل وأرسل المنصور للعادل يعتذر مما وقع منه من أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل العادل عذره وأمره بردها إلى
صاحبها الأول. وسار 597 الظاهر وملك منبج وخرب قلعتها وملك قلعة نجم وأفامية وكفرطاب من ابن المقدم، وأرسل إلى المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين في عنقه العادل، فلما أيس الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع إقليمها واستولى على كفرطاب، ثم سار إلى أفامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، فلم يسلم هذا القلعة إلا بعد الحرب الشديدة، فرحل الظاهر وتوجه إلى حماة وقاتلها أشد قتال، فلما لم يحصل على غرض صالح المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون ألف دينار صورية، ثم رحل الظاهر إلى دمشق وبها المعظم ابن العادل فنازلها الظاهر هو وأخوه الأفضل، وانضم إليهما ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من العادل ويتسلمها الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الظاهر، بحيث تبقى مصر للأفضل، ويصير الشام جميعه للظاهر.
وفي سنة 598 سار العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون وقام المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب فاستعد للحصار، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات ووقع الصلح وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمنصور صاحب حماة، وأخذت من الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الأفضل، وكان له سروج وسميساط، وسلم العادل حران وما معها لولده الأشرف موسى وسيره إلى الشرق. ولما استقر الصلح بين العادل وابن أخيه الظاهر، رجع العادل إلى دمشق وأقام بها وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها وضربت
السكة فيها باسمه.
الأحداث في عهد العادل واهتمامه بحرب الصليبيين:
مضت تسع سنين على وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف حتى استقر ملك الشام لأخيه العادل أبي بكر بن أيوب وتخلص من أبناء أخيه الأفضل(2/74)
والظاهر وغيرهما بل توفق إلى مقاصده باستفتاء العلماء بأن ملك مصر وأنقذها من حفيد أخيه صلاح الدين، وكان أخذه مصر مقدمة لاستيلائه على ملك أخيه إلا قليلاً، ومقدمة لتسلسل الملك في أولاده، إذ ليس في أبناء أخيه من يدانيه في الحقيقة بحسن السياسة وبعد النظر وكثرة التجارب والدهاء، وكان صلاح الدين يحبه ويحترمه ويستشيره في معضلات الأمور فيبين عن رأي وحنكة وسار بعض الأمراء الصلاحية الذين غذوا بنعمة صلاح الدين سيراً لا يدل على غمط نعمة ونكران جميل، ولكن كان الأفضل والظاهر والعزيز متخالفين متشاكسين، وكل منهم يطمع في الملك ويسر لأخيه وعمه حسواً في ارتغاء، فكان اختلافهم من حظ عمهم العادل وهو بتجاربه يشبه أخاه صلاح الدين من أكثر الوجوه. أما الأفضل فقد ركب هواه، وأخلد إلى اللذات والمنكرات لأول مرة واستسلم لوزيره ابن الأثير، وكان هذا صاحب دعوى عريضة، لا يراعي الحال ولا يعرف الزمان، فكتبت الغلبة للعادل، ولو ترك الأخوان الأفضل والظاهر وشأنهما بدون أن يعدل عمهما من جماحهما لاشتد غزو أحدهما لأخيه، وهلك الناس بسببهما، وكثرت الغوائل والحصارات، هذا إن لم نقل إنه كان للعادل يد في توسيع شقة الخلاف بين أولاد أخيه، فقد اتخذ العادل سياسة غريبة معهم يريد أن يوفق بينهم في الظاهر ولكن انتهى توفيقه بالاستيلاء على مصر والشام وبلاد الشرق، وذلك بأن أخذ بعض المشاكسين لحزبه وكان بعد ذلك يغتنم فرصة حمل الأخ على أخيه فيملك الولايات على نحو ما ملك مصر، ويخطب له فيها وتضرب السكة باسمه
ويزال اسم أبناء صلاح الدين.
مثل أبناء صلاح الدين صورة من خلاف الإخوة بعد موت أبيهم، والسبب في ذلك أن أباهم على بعد نظره لم يكتب لهم عهداً يبين لكل واحد حقه من هذا الملك الذي فتحه ووطد أساسه، بل ترك الأمر للأقدار. وإذا خلف العسكر في دمشق لأكبر أولاده الأفضل فإن المملكة ليست عبارة عن دمشق، بل حلب والقاهرة تنازعانها فضل التقدم، ولو كانت أصول الوراثة في الملك متبعة في ذلك العصر لتوفر على الأمة وأبناء الدولة عناء كبير وشر مستطير، ولما تعب الفتح بفتوحه وخلف لأبنائه ميراثاً يورثه هماً وغماً، ويجنون بعملهم على الأمة الجناية بعد الأخرى.(2/75)
هذا وبقايا الصليبيين لم تبرح نازلة في عكا وصور وطرابلس، ومن حسن الطالع أنهم لم يتحركوا للفتنة طول هذه المدة سوى مرة واحدة 593 وقد وصل جمع عظيم منهم إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، فسار العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر ووصل إليه سنقر الكبير من القدس وميمون القصري من نابلس، ثم سار العادل إلى يافا وهجمها وملكها بالسيف وخربها وقتل المقاتلة، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها. وخرب صيدا أيضاً ونازلت الفرنج تبنين فأرسل العادل إلى العزيز صاحب مصر فسار العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر، واجتمع بعمه العادل على تبنين فرحل الفرنج إلى صور ثم عاد العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل وجعل إليه أمر الحرب والصلح، فطاول العادل الفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين ورجع إلى دمشق.
ومن الأحداث على عهد العادل بعد أن صفا له ملك الشام ومصر وخضع أبناء أخيه صلاح الدين له ظاهراً وإن لم يخضعوا باطناً، حصار ابنه الأشرف ماردين وسعى الظاهر 599 في الصلح، فأجاب العادل إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين
مائة وخمسين ألف دينار ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجيب إلى ذلك. وسار المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وكتب العادل إلى أميري بعلبك وحمص بإنجاده فأنجداه، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرهما وقصدوا المنصور ببعرين واتقعوا معه، فانهزم الفرنج ثم خرج الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب، وانضم إليهم جموع من الساحل والتقوا مع المنصور وهو على بعرين فانتصر عليهم ثانياً، وأسر منهم عدة كثيرة وهادنهم 600 وأرسل العادل وانتزع ما كان بيد الأفضل وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم ولم يترك بيده غير سميساط وتوسلوا إليه في إبقاء ما كان بيده فلم يجب إلى ذلك.
وخرج الفرنج 600 لقصد بيت المقدس فهرع العادل من دمشق ونزل على الطور وجرت الهدنة بينه وبينهم وسلم إلى الفرنج يافا والناصرة ونزل عن مناصفات لدّ والرملة. جاءت الفرنج 601 إلى حماة بغتة وأخذوا النساء(2/76)
الغسالات من باب البلد على العاصي وامتلأت أيديهم من الغنائم وخرج إليهم المنصور بن تقي الدين وأبلى بلاء حسناً، وكسر عسكره، وحاصر الحلبيون المرقب وكادوا يفتحونها لولا قتل مقدمهم مبارز الدين، ثم هزمت فرنج طرابلس الحلبيين وقتل خلق من المسلمين وصالح العادل الفرنج، ووقعت الهدنة بين صاحب حماة وبينهم. وأغارت الأرمن 602 على أعمال حلب فتسارع إليهم العسكر فبيتوهم وهزموهم، وذهب الأرمن بالغنائم، ثم تتابعت الغارات من صاحب سيس ابن لاون الأرمني على الديار الحلبية وهابته العسكر. قال سبط ابن الجوزي: وبلغ الظاهر صاحب حلب إغارة ابن لاون على حلب فخرج من حلب ونزل مرج دابق، وجاء إلى حارم فهزم ابن لاون إلى بلاده وكان قد بنى قلعة فوق دربساك فأخربها الظاهر وعاد إلى حلب. ونازل العادل 603 عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من
الأسرى ثم سار إلى حمص واستدعى العساكر فأتته من كل جهة ونازل حصن الأكراد وفتح برج اعناز وأخذ منه خمسمائة رجل، ثم نازل طرابلس وعاث العسكر في ربعها وقطع قناتها وأخذ بالأمان القليعات وخربه، حتى وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج 604 واستولى الملك الأوحد أيوب بن العادل على خلاط، ووصل للعادل التشريف من الخليفة الإمام الناصر وتقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين، وكثر هذه السنة الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الغارة على حمص وولايتها فأنجد الظاهر غازي صاحب حلب صاحب حمص فمنعوا الفرنج عن ولايته.
وقطع العادل 606 الفرات وجمع العساكر والملوك من أولاده ونزل حران ونازل سنجار ثم خامرت العساكر التي صحبته، ونقض الظاهر الصلح معه، فرحل عن سنجار واستولى على نصيبين والخابور وعاد العادل 607 إلى دمشق وقصدت الكرج خلاط وحصروا الملك الأوحد بها وبعد أن نال ملكهم منه حمل ملك الكرج إلى الملك الأوحد فرد على الملك الأوحد عدة قلاع وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف دينار وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة وشرط أن يزوج ابنته من الملك الأوحد فتسلم ذلك منه(2/77)
وتحالفا، وتوفي الملك الأوحد من قابل فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط عاصمة إرمينية الوسطى، واستقل بملكها مضافاً إلى ما بيده من الأرجاء الشرقية.
وفي سنة 607 أرسل نساء دمشق إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور شعورهن لتستعمل في الأدوات اللازمة للجهاد فعمل منها شكالاً للخيل وكرفسات ولما صعد المنبر في الجامع الأموي أمر بإحضارها فحملت على الأعناق وكانت ثلاثمائة شكال فلما رآها الناس صاحوا صيحة عظيمة وقطعوا مثلها ثم المجاهدون ولحقوا بالملك المعظم بنابلس فخربوا في الأقاليم الواقعة تحت حكم الفرنج وقطعوا
أشجارها وأسروا جماعة منهم ولم يجسر أحدهم أن يخرج من عكا وخاف الفرنج فأرسلوا إلى العادل وصالحهم.
وقبض المعظم 609 على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون بأمر العادل متهماً بمكاتبة الظاهر، فقال له المعظم بعد أن لاطفه: أنت شيخ كبير وبك تقوس وما تصلح لك قلعة سلم إليّ كوكب وعجلون وأنا أخلفك على مالك وملكك وجميع أسبابك وتعيش معنا مثل الوالد، فامتنع وشتم المعظم وذكر كلاماً قبيحاً فلما أيس المعظم منه اعتقله في الكرك واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره وخيله، فكانت قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار. وحبس أُسامة في الكرك إلى أن مات، وأمر العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها فخربت، وأبقى عجلون ومَلّك المعظم عمالة جهاركس وهي بانياس وما معها لأخيه العزيز عماد الدين، وأعطى صرخد مملوكه أيبك المعظمي، وأعطى العادل ولده المظفر غازي الرُّها وميافارقين، وفيها استولى البال القبرسي على إنطاكية فرميت تلك الأعمال منه بداهية، وتابع الغارات على تركمانها فشردهم فتجمعوا وأخذوا عليه المضايق وحصل في واد فقتلوه وجميع رجاله وطافوا برأسه في أعمالهم ثم حملوه في البحر إلى العادل بمصر.
واستولى 612 الملك المسعود ابن الملك الكامل على اليمن واستولى ابن لاون الأرمني على إنطاكية من الفرنج وتوفي 613 الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب وأوصى بالملك لولده الصغير الملك العزيز محمد لأنه من بنت عمه العادل وطلب بذلك أن يستمر الأمر له لأجل جده العادل وأخواله وأولاده وبعد ذلك يكون الملك لولده الكبير الصالح صلاح الدين(2/78)
أحمد، وبعدهما لابن عمهما المنصور محمد بن عبد العزيز بن عثمان، وحلف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم، وكانت
مدة ملك الظاهر لحلب إحدى وثلاثين سنة، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي ولكن اختلافه مع أخيه الأفضل كان من أهم الأسباب في زوال الملك من ذرية صلاح الدين وكان الظاهر ذكياً فطناً. قال سبط ابن الجوزي: كان مهيباً له سياسة وفطنة وكانت دولته معمورة بالعلماء والفضلاء، مزينة بالملوك والأمراء، وكان محسناً إلى الرعية ملجأ الفقراء والغرباء وكهفاً للملهوفين.
الحملة الصليبية الخامسة:
بينا كانت المملكة مشتغلة بالنصب والغزل وتقاتل أبناء البيت الواحد على الملك والسلطان، اجتمعت الفرنج من داخل البحر ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم وهذه هي الحملة الصليبية الخامسة 1219 - 1221م وكانت مؤلفة من ألمان ومجر أما الحملة الرابعة فكانت توقفت في طريقها إلى الشام واستولت 1204 - 1261م على القسطنطينية فانفسخت بذلك الهدنة بين المسلمين والفرنج وخرج العادل بعساكر مصر ونزل على نابلس فسارت الفرنج إليه، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فاندفع قدامهم إلى عقبة فيق فأغاروا على أرض المسلمين وكانوا في خمسة عشر ألفاً ووصلت غارتهم إلى نوى ونهبوا ما بين بيسان ونابلس وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من المسلمين شيئاً كثيراً وبلغوا خربة اللصوص والجولان ثم صعدوا إلى الطور ثم رجعوا إلى عكا ووصلت حملة منهم قدرها خمسمائة من صيدا إلى جزين فانهال عليهم الميادنة من الجبال فلم يفلت منهم سوى ثلاثة أشخاص.
قال المؤرخون: لما قتل كند من أكناد الفرنج المشهورين على الطور تشاءموا بالمقام عليه، ورجعوا إلى عكا واختلفوا هناك فقال ملك الهنكر: الرأي أنّا نمضي إلى دمشق ونحاصرها فإذا أخذناها ملكنا الشام، فقال الملك النوّام، قالوا: إنما سمي
بذلك لأنه كان إذ نازل حصناً نام عليه حتى يأخذه أي أنه كان صبوراً على حصار القلاع واسمه دستريج ومعناه المعلم بالريش لأن أعلامه كانت الريش فقال: نمضي إلى مصر فإن العساكر مجتمعة عند العادل(2/79)
ومصر خالية، فأدى هذا الاختلاف إلى انصراف ملك الهنكر مغاضباً إلى بلده فتوجهت باقي عساكرهم إلى دمياط فوصلوها، والعادل نازل على خربة اللصوص بالشام وقد وجه بعض عساكره إلى مصر. وأقام العادل بمرج الصُّفّر وأرسل إلى ملوك الشرق مستحثاً لعساكرهم. ثم سار الفرنج إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط وسار الكامل من مصر ونزل قبالتهم، وأرسل العادل العساكر التي عنده لدفعهم.
وخرب المعظم قلعة الطور 615 بعد أن غرم المسلمون على بنائها أموالاً كثيرة واشتغلت فيها جيوش، وذلك مخافة أن تكون سبباً للاستيلاء على دمشق. ولما مات الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز وكان طفلاً، طمع صاحب الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، وكان موت الملك ونصب طفل من أبنائه سبباً كبيراً لطمع أعداء المملكة بأخذها. فاستدعى الأفضل صاحب سمسياط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وعمالتها ويسلمها إلى الأفضل، ثم يفتح الأصقاع الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك فاستولى كيكاوس على رعبان وسلمها إلى الأفضل، فمالت إليه القلوب لذلك، ثم سار إلى تل باشر فأخذها لنفسه فنفر الأفضل منه وتغيرت الخواطر عليه، ووصل الأشرف إلى حلب لدفع كيكاوس عن المملكة، ووصل إليه بها مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم وكان كيكاوس سار إلى منبج وتسلمها لنفسه، واتقع بعض عسكر الأشرف مع عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة هذا فولى كيكاوس منهزماً، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها مع رعبان وغيرها وتوجه الأفضل إلى سميساط. وفي هذه السنة ورد الأمر إلى المعتمد والي دمشق بالاهتمام والاستعداد
واستخدام الرجال وتخريب دروب قصر حجاج والشاغور وطرف البساتين ونقل غلة داريا إلى القلعة وتغريق أراضيها بالماء فإن الفرنج مظهرون قصدها. والتقى المعظم بالفرنج على القيمون فانتصر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر من الداوية.
وفاة العادل:
توفي الملك العادل في عالقين في الجيدور 615 وكان نازلاً بمرج الصفر وقد أرسل العساكر إلى مصر وولده الكامل بالديار المصرية ومدة ملكه نحو 19 سنة. وكان حازماً متيقظاً غزير العقل سديد الآراء ذا مكر وخديعة، توصل بدهائه إلى أن يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والمصنوعات الدمشقية(2/80)
فيخدمنه مقابل ذلك بخدمات مهمة ويتجسسن له على قومهن. وكان صبوراً حليماً يسمع ما يكره ويغضي عنه، واتته السعادة واتسع ملكه وكثرت ذريته وخلف ستة عشر ذكراً عدا البنات، ورأى في أولاده ما يحب ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولاده من الملك والظفر ما رآه الملك العادل في أولاده وقد خلف آثاراً مهمة في الولايات التي تولاها، لا يزال بعضها ماثلاً وطهر جميع ولاياته من الكرخ إلى همدان والجزيرة والشام ومصر والحجاز واليمن من النساء والخمور والخواطي والقمار والمخانيث والمكوس والمظالم، وكان الحاصل من هذه الجهات من دمشق على الخصوص مائة ألف دينار. واستمتع العادل بالملك وخدم الدولة خدمة طيبة، وساعده على ذلك ضعف الصليبيين عن الحرب بعد إيقاع أخيه بهم وتشتت كلمة أبناء صلاح الدين.
ولما هلك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضراً فحضر إليه ابنه المعظم عيسى وكان بنابلس وكتم موته، وأخذه ميتاً في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى المعظم على جميع ما كان لأبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير
ذلك، وكان في خزائنه سبعمائة ألف دينار، وحلف له الناس وكتب إلى الملوك من اخوته وغيرهم يخبرهم بموته، ولما بلغ الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج عظم عليه جداً واختلفت العساكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين المشطوب وكان مقدماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فعزم على خلع الملك من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كثير، حتى عزم الكامل على اللحوق باليمن. وبلغ المعظم ذلك فرحل من الشام ووصل إلى أخيه الكامل وأخرج عماد الدين ونفاه من العسكر إلى الشام فانتظم أمر الكامل، وقويت مضايقة الفرنج لدمياط وضعف أهلها بسبب الفتنة التي حصلت في عسكر الكامل من ابن المشطوب.
وكان العادل قد قسم المملكة في حياته بين أولاده فجعل بمصر الكامل محمداً وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها ابنه المعظم عيسى، وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها(2/81)
لابنه الأشرف موسى وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه. فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه إياها أبوه واتفقوا اتفاقاً حسناً، ولم يجر بينهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره ولا يخافه. قال ابن الأثير: فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري إنهم نعم الملوك فيهم الحلم والجهاد والذب عن الإسلام.
ودخلت سنة 616 والأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والكامل بمصر في مقابلة الفرنج وهم محاصرون لثغر دمياط، وكتب الكامل متواصلة إلى اخوته في طلب النجدة، ثم سقطت دمياط في أيدي الفرنج، فأرسل
المعظم عيسى وخرب أسوار القدس مخافة أن يصيبها ما أصاب دمياط، ولما استولى الفرنج على دمياط، عظم الأمر على آل أيوب فكتب المعظم إلى الواعظ سبط ابن الجوزي: أريد أن تحرض الناس على الجهاد وتعرفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط، وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية، وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم الأصاغر منهم والأكابر. فأجابوا بالسمع والطاعة ثم تخلفوا، فأخذ الثمن والخمس من أموالهم لتقاعسهم، ثم فتح المعظم قيسارية وسار إلى النهر ففتحه وهدمه وخرب في بلاد الفرنج. وفي تاريخ العلويين أن النصيرية هدموا جبلة في الحروب الصليبية ولم يبق سوى تل التويني قرب جبلة واتحد الإسماعيليون مع الأكراد في الحروب الصليبية على العلويين فاستنجدوا بالأمير حسن المكزون السنجاري فجاءهم سنة 617 في خمسة وعشرين ألفاً من العلويين ونزل على عين الكلاب بقرب قلعة أبي قبيس وعلى سطح جبل الكلبية فتجمع الإسماعيلية مع حلفائهم الأكراد واجتمعوا في مصياف وأغاروا ليلاً على جناح الأمير وعساكره وغلبوه فرجع إلى سنجار خائباً.
-
فتح الصليبيين دمياط وذلتهم بعد العزة:
وفي سنة 618 قوي طمع الفرنج المتملكين دمياط في مدينة المنصورة التي(2/82)
بناها الكامل، وأشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً وكتب الكامل إلى اخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده فسار المعظم عيسى صاحب دمشق والأشرف صاحب الولايات الشرقية وأصحاب حلب وحماة وبعلبك وحمص فوصلوا القطر المصري والقتال مشتد بين المسلمين والفرنج، ورسل الكامل وأخويه مترددة إلى الفرنج في الصلح وقد بذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة
وجميع ما فتحه صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك، على أن يجيبوا إلى الصلح ويسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب أسوار القدس، وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك.
وبينا الأمر متردد في الصلح عبر جماعة من عسكر المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج من بر دمياط ففجروا فجرة عظيمة من بحر النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، فركب الماء تلك الأرض وصار حائلاً بين الفرنج وبين دمياط، وانقطعت عنهم الميرة والمدد فبعثوا يطلبون الأمان على أن ينزلوا عن جميع ما بذله المسلمون لهم ويسلموا دمياط ويعقدوا الصلح. فنجت الشام ومصر من الفرنج في هذه النوبة بفضل فرجة من النيل دهمتهم ولم يكونوا من المعرفة بحيث يقدرون منازلهم، ومُنازلهم، فخابت آمالهم وخذلتهم قوتهم وتحكم فيها من كانوا يستطيلون عليهم ويشتطون في مطالبتهم وكانت مدة إقامتهم في ديار الإسلام ما بين الشام والديار المصرية أربعين شهراً وأربعة عشر يوماً.
ولما انكسر الفرنج على دمياط دخل الناس كما قال ابن أبي شامة كنيسة مريم بدمشق بفرحة وسرور ومعهم المغاني والمطربون فرحاً بما جرى وهموا بهدم الكنيسة قال: وبلغني أن النصارى ببعلبك سودوا وسخموا وجوه الصور في كنيستهم حزناً على ما جرى على الفرنج فعلم بهم الوالي وأمر اليهود بصفعهم وضربهم وإهانتهم.
اختلاف بين أبناء العادل وتقدم الكامل عليهم:
وقصد المعظم عيسى حماة، لأن الناصر صاحبها كان قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك جماة فلم يف، ونزل بعرين وغلقت أبواب حماة فجرى بينهما قتال قليل. ثم ارتحل المعظم إلى سلمية فاستولى على حواصلها(2/83)
وولى عليها، ثم توجه إلى
المعرة فاستولى عليها. وبلغ الأشرف ما فعله أخوه المعظم بصاحب حماة فعظم عليه ذلك، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على المعظم وترحيله فأرسل إليه الكامل ناصح الدين الفارسي فوصل إلى المعظم وهو بسلمية وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل فقال: السمع والطاعة، وكانت أطماعه قد قويت في الاستيلاء على حماة فرحل عنها مغضباً، وتسلم المظفر سلمية من أخيه الناصر، واستقر بيد هذا حماة والمعرة وبعرين، ثم سار الأشرف من مصر واستصحب معه خلعة وسناجق سلطانية من أخيه الكامل العزيز صاحب حلب وعمره عشر سنين، ووصل الأشرف بذلك إلى حلب وأركب العزيز في دست السلطنة، ولما وصل الأشرف بالخلعة إلى حلب اتفق مع كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية فأرسلوا عسكراً وهدموها إلى الأرض.
كان الأشرف أنعم على أخيه المظفر غازي بخلاط الأرمنية وهي مملكة عظيمة، وكان قد حصل بين المعظم عيسى صاحب دمشق وبين أخويه الكامل والأشرف وحشة بسبب ترحيله عن حماة، فأرسل المعظم وحسّن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الأشرف، فأجاب المظفر إلى ذلك وخالف أخاه الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم والمظفر غازي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري فسار مظفر الدين وحصر الموصل عشرة أيام ليشغل الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها وسار الأشرف إلى خلاط وحصر أخاه شهاب الدين غازي فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل فنزل من القلعة إلى أخيه الأشرف واعتذر إليه فقبل عذره وعفا عنه وأقره على ميافارقين وارتجع باقي الإمارات منه.
وذكر أبو شامة في حوادث سنة 620 أن الأشرف بن العادل عاد من مصر إلى الشام قاصداً بلاده بالشرق، فالتقاه أخوه المعظم ملك الشام وعرض عليه النزول
بالقلعة فامتنع. وبعد أن ذكر كيف عصا أخوه عليه في خلاط قال: إنه كتب إلى أخيه شهاب الدين غازي يطلبه فامتنع من المجيء إليه فكتب إليه: يا أخي لا تفعل أنت ولي عهدي والبلاد والخزائن بحكمك فلا تخرب بيتك بيدك وتسمع كلام الأعداء فوالله ما ينفعوك، فأظهر العصيان فجمع الأشرف(2/84)
عساكر الشرق وحلب وتجهز للمسير إلى خلاط، وكان صاحب حمص قد مال إلى الأشرف فسار المعظم إلى حمص ووصل إلى حماة ونزل على بعرين وعاد إلى حمص وخرج إليه العسكر فظهروا عليه ونهبوا أصحابه فعاد إلى دمشق ولم يظفر بطائل.
وفي سنة 622 توفي الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف وليس بيده غير سميساط، وكان حسن السيرة وتجمعت فيه الفضائل والأخلاق الحسنة وكان مع ذلك قليل الحظ وله شعر جيد.
وفي سنة 622 كان بأيدي الإسماعيلية ثمان قلاع وهي قلعة الكهف والعليقة والقدموس والخوابي والمينقة والمصياف والرصافة والقليعة فإن ابن صباح لم يمت حتى ملك جبل عاملة وتلك الحصون. قال ابن ميسر: إن الذين بالشام منهم يقال لهم الحشيشية، ومن كان بألموت يقال لهم الباطنية والملاحدة، ومن كان بخراسان يقال لهم التعليمية وكلهم إسماعيلية.
وفي سنة 623 سار المعظم عيسى بن العادل ونازل حمص وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق، وورد عليه أخوه الأشرف طلباً للصلح وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً وهو في الباطن كالأسير معه، ولما رأى الأشرف حاله مع أخيه المظفر وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد إجابة 624 كالمكره إلى ما طلبه منه وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم. قال ابن الأثير: إن
اتفاق الملوك أولاد الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان سبباً لحفظ بلاد الإسلام وسر الناس أجمعون بذلك. وفي سنة 624 قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج البحرية على المعظم بدمشق بعد اجتماعه بالكامل، يطلب منه الإمارات التي كان فتحها عمه صلاح الدين، فأغلظ له وقال: قل لصاحبك ما أنا مثل العزيز ما له عندي إلا السيف.
ولما استقرّ الأشرف بأرضه رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الكامل صاحب مصر اعتضاد أخيه المعظم بجلال الدين خاف من ذلك، وكاتب الأنبرور ملك الفرنج(2/85)
في أن يقدم إلى عكا ليشغل أخاه المعظم عما هو فيه، ووعد الأنبرور أن يعطيه القدس، فسار الأنبرور إلى عكا فبلغ المعظم ذلك فكاتب أخاد الأشرف واستعطفه.
قال ابن الأثير: إن الكامل لما سار من مصر إلى دمشق خاف المعظم أن يأخذ دمشق منه، فأرسل إلى أخيه الأشرف يستنجده فسار إليه جريدة فدخل دمشق، فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم إليه لأن البلد منيع وقد صار به من يمنعه ويحميه، وأرسل إليه الأشرف يستعطفه ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة وموافقة لأغراضه والاتفاق معه على قتال الفرنج فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح بيت المقدس فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي أدخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى، ثم ما يقنعون حينئذ بما أخذوه ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني أني
قاتلت أخي أو حصرته حاشا لله تعالى، وتأخر عن نابلس إلى الديار المصرية.
وانتزع هذه السنة الأتابك طغريل الشغر وبكاس من الصالح أحمد بن الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان وفيها توفي المعظم عيسى ابن العادل، وكان شجاعاً عالماً وعسكره في غاية التجمل، يجامل أخاه الكامل ويخطب له ولا يذكر اسمه معه ولا يحب التكلف والعظمة. ذكر سبط ابن الجوزي أن المعظم كان في أيام الفتح من الفرنج يرتب النيران على الجبال من باب نابلس إلى عكا وعلى عكا جبل قريب منها يقال له الكرمل كان عليه المنورون وبينهم وبين الجواسيس علامات، وكان له في عكا أصحاب أخبار وأكثرهم نساء الخيالة فكانت طاقاتهم في قبالة الكرمل، فإذا عزم الفرنج على الغارة فتحت المرأة الطاقة، فإن كان يخرج مائة فارس أوقدت المرأة شمعة واحدة، وإن كانوا مائتين شمعتين، وإن كانوا يريدون قصد(2/86)
حوران أو ناحية دمشق أشارت إلى تلك الناحية، وكذا إلى نابلس، فكان قد ضيق على الفرنج الطرق وكان يعطي النساء والجواسيس في كل فتح جملة كثيرة. وترتب في مملكة المعظم وأعمالها ولده الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره عز الدين أيبك وكان لأيبك صرخد. ولم يطل الأمر على الناصر داود في دمشق حتى طلب منه عمه الكامل صاحب مصر حصن الشوبك فلم يعطه الناصر ذلك ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر إلى الشام ونزل على تل العجول بظاهر غزة وولى على نابلس والقدس وغيرهما من أملاك ابن أخيه الناصر داود، فاستنجد الناصر بعمه الأشرف فجاءه من الشرق فوقع الاتفاق أن يسير الناصر داود والمجاهد شيركوه مع الأشرف إلى نابلس فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة، شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود ففعلوا ذلك، ولما وصل الأشرف إلى أخيه الكامل وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما
الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من أملاك الأشرف، وأن تستقر دمشق لالأشرف ويكون له إلى عقبة فيق، وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للكامل وأن ينتزع حماة من الناصر قليج أرسلان وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود وكانت إقطاعه ويعطي لشيركوه حمص. ووقعت سنة 625 وقعة بين المسلمين والفرنج على باب صور فلم يسلم من الفرنج سوى ثلاثة أنفس وكانت وقعة عظيمة وذلك لتحرك الفرنج في الساحل بسبب انقضاء الهدنة.
الحملة الصليبية السادسة:
كانت الحملة الصليبية السادسة 1228 - 1229م بزعامة الأنبرور فريدريك الثاني وكان سياسياً داهية فلم يدخل في حرب مع المسلمين بل فاوض الكامل وتسلم القدس وبيت لحم والناصرة لمدة عشر سنين وإليك ما قاله مؤرخونا في هذا الشأن:
استولى الأنبرور فريدريك صاحب صقلية وبولية وانكبرديه على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب فعمر الفرنج سورها واستولوا(2/87)
عليها، وتم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها تبنين وهونين وغيرهما. وبينا كانت الرسل تتردد بين الملك الكامل وبين الأنبرور رحل الناصر داود وهو بنابلس إلى دمشق وكان قد لحقه بالغور عمه الأشرف وعرفه ما أمر به عمه الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه فلم يلتفت الناصر إلى ذلك فسار الأشرف في أثره وحصره بدمشق، وكانت الفتنة بين الملكين الكامل والناصر قبالة باب الجديد وفي الميدان وما بين ذلك والنصر فيه لأهل دمشق، ووقع الحريق والنهب في باب توما، وأحرقت بعض الطواحين ونهبت الدور ووقع الجرح والقتل وخربوا بعد أيام قريات من قرى الغوطة وأخرجوا منها أهلها مثل جوبر وجدبا وزملكا وسقبا وغيرها. قال في الذيل: وسمعت والدي وجماعة من المشايخ الذين
شاهدوا الحصارات المتقدمة في دولة أولاد صلاح الدين يحكمون أنهم ما رأوا أشد من هذا الحصار. وفي هذا الحصار أحرق الناصر للتحصن مدرسة أسد الدين وخانقاه خاتون وما يليهما من الخانات والدور والبساتين والحمامات والخانقاهات.
طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة فأجاب الأنبرور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين ويكون لهم من القرى ما هو على الطريق من عكا إلى القدس فقط، ووقع الاتفاق على ذلك وتحالفا عليه وتسلم الأنبرور القدس فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام واشتدت العظائم، وأقيمت المآتم وقال الوعاظ والعلماء: يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة. قال ابن أبي شامة: جاءنا الخبر بأن الكامل أخلى البيت المقدس من المسلمين وسلمه إلى الفرنج فصالحهم على ذلك وعلى تسليم جملة من القرى فتسلموه ودخلوه مع ملكهم الأنبرور، وكان هذا من الوصمات التي دخلت على المسلمين، وكانت سبباً في أن توغرت قلوب أهل دمشق على الكامل ومن معه وقد ذكر سبط ابن الجوزي نكتة في تساهل الغالبين والمغلوبين إذ ذاك قال ما نصه: كان الكامل قد تقدم إلى شمس الدين قاضي نابلس أن يأمر المؤذنين ما دام الأنبرور في القدس أن لا يصعدوا المنائر ولا يؤذنوا في الحرم، فأنسي القاضي أن يعلم المؤذنين وصعد عبد الكريم المؤذن في تلك الليلة في وقت السحر والأنبرور نازل في دار القاضي فجعل يقرأ الآيات التي تختص بالنصارى مثل(2/88)
قوله تعالى: ما اتخذ الله من ولد. ذلك عيسى بن مريم ونحو هذا. فلما طلع الفجر استدعى القاضي عبد الكريم وقال له: إيش عملت السلطان رسم كذا وكذا قال: فما عرفتني النوبة فلما كانت الليلة الثانية ما صعد عبد الكريم المئذنة، فلما طلع الفجر استدعى الأنبرور القاضي، وكان قد دخل القدس في خدمته وهو الذي سلم إليه
القدس فقال له: يا قاضي أين ذاك الرجل الذي طلع البارحة المنارة وذكر ذاك الكلام، فعرفه أن السلطان أوصاه، فقال الأنبرور: أخطأتم يا قاضي تغيرون أنتم شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي هل أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون عندنا، ثم فرّق في القوّام والمؤذنين والمجاورين جملة أعطى كل واحد عشرة دنانير ولم يقم بالقدس سوى ليلتين وعاد إلى يافا وخاف من الداوية فإنهم طلبوا قتله.
اختلافات جديدة بين آل العادل:
بعد أن أحيط بدمشق من كل جانب وحلّ بها من الخراب والفساد العجائب. واشتد عليها الحصار عوّض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر وهي حران والرّها وغيرهما التي كانت بيد الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف الديار الشرقية المذكورة، ولما سلم الكامل دمشق إلى أخيه الأشرف سار من دمشق ونزل على مجمع المروج ثم نزل على سلمية وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الناصر قليج أرسلان. وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص فاستسلم إليه وأخذه الى الكامل وهو نازل على سلمية فشتمه وأمر باعتقاله وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للناصر يلقب المعز بن الملك المنصور صاحب حماة فملكوه حماة، وقالوا للكامل، لا نملك حماة لغير واحد من أولاد تقي الدين.(2/89)
فأرسل الكامل يقول للملك المظفر محمود صاحب حماة: اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة وكان المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي
فراسل المظفر الحكام بحماة فحلفوا له وواعدوا المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له فدخل البلد وتسلم القلعة، وفوض تدبير حماة إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، ولما استقر المظفر في ملك حماة انتزع الكامل سلمية منه وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص ورسم الكامل لأخيه المظفر أن يعطي أخاه الناصر قليج أرسلان بعرين بكمالها، ولم يبق بيد المظفر غير حماة والمعرة، ثم رحل الكامل عن سلمية إلى الديار الشرقية التي أخذها من أخيه الأشرف عوضاً عن دمشق، وأرسل الأشرف أخاه صاحب بصرى الصالح إسماعيل بن العادل بعسكر فنازل بعلبك وبها الأمجد بهرام شاه، ولما طال الحصار عليها سلمها الأمجد، وعوضه الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق ومواضع أخر. وقصد الفرنج حصن بارين ونهبوا بلاده وأعماله وأسروا وسبوا ومن جملة من ظفروا به طائفة من التركمان كانوا نازلين في ولاية بارين فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا النادر الشاذ.
وفي سنة 627 شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميس فأراد المظفر صاحب حماة منعه من ذلك ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الكامل. وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة فخرج إليهم صاحبها المظفر محمود والتقاهم عند قرية بين حماة وبعرين يقال لها أفيون وكسروهم كسرة عظيمة.
وفي سنة 628 سار الكامل من مصر إلى دمشق فسلمية واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها المسعود ابن الملك الصالح محمود، وكان سبب انتزاع الكامل آمد من المسعود لسوء سيرته وتعرضه لحريم الناس، وحاصر المظفر صاحب حماة أخاه الناصر ببعرين بأمر العادل خوفاً من أن يسلمها للفرنج لضعفه عنهم، وانتزعها منه وأكرمه وسأله
الإقامة عنده بحماة فسار إلى أخيه الكامل في مصر. وسار الكامل من مصر 631 إلى قتال كيقباذ ملك الروم وقد استصحب معه ستة عشر ملكاً من ملوك الشام والجزيرة من أخوته وآل بيته في عسكرهم وقطعوا الفرات وانهزم العسكر الكاملي على خرتبرت، وذلك لأن الملوك الذين في خدمته(2/90)
خامروا عليه خاتلوه وتقاعدوا عن الحرب لأن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى ملك بلاد الروم فرقها على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم فرجع الكامل إلى مصر وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده. وفي سنة 633 سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف من عمه الكامل. وسار الكامل من مصر واسترجع حرّان والرّها من كيقباذ صاحب الروم، وكان استولى عليهما في السنة الماضية بعد رحيل الكامل عن أرضه. وبدت في هذه السنة طلائع الشر قال سبط ابن الجوزي: وكانوا في مائة طلب كل طلب خمسمائة فارس.
وتوفي العزيز صاحب حلب حفيد صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان حسن السيرة في رعيته عن ثلاث وعشرين سنة وستة أشهر، وتقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف وعمره نحو سبع سنين وقام بتدبير الدولة شمس الدين لولو الأرمني وعز الدين عمر بن مجلي وجمال الدين إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل. وقويت الوحشة بين الكامل وبين أخيه الأشرف وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص لما قصد الكامل بلاد الروم فاتفق الملك مع صاحبة حلب ضيفة خاتون أخت الكامل ومع باقي الملوك على خلاف الكامل خلا المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق، وحلف للملك
الأشرف ووافقه على قتال الكامل وكاتب الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم واتفق معه على قتال أخيه الكامل إن خرج من مصر. وتوجه عسكر حلب مع المعظم توران شاه عم العزيز فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداوية بعدما فتحها صلاح الدين يوسف وخربها وأشرف عسكر حلب على أخذها ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب إنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.(2/91)
توفي الأشرف 635 وتملك دمشق بعده أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه. قال أبو الفداء: وكان الأشرف مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة لم تنهزم له راية، وكان سعيداً ويتفق له أشياء خارقه للعقل. وعلّل الأشرف سبب الوحشة بينه وبين أخيه الكامل ثم صاحب مصر أن الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وعمالتها، وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت قدوم أخيه الكامل إلى دمشق، ولما فتح الكامل آمد وما إليها لم يزده منها شيئاً وبلغه أن الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام وينتزع دمشق منه فتغير بسبب ذلك، ولما بلغ الكامل في مصر وفاة أخيه الأشرف سار إلى دمشق وكان الصالح إسماعيل قد استعد للحصار ووصلت إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، فنازل الكامل دمشق وأخرج الصالح النفاطين فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة الحصار وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين رجلاً نجدة للصالح إسماعيل، فظفر بهم الكامل فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للمظفر صاحب حماة بسلمية ثم سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى الكامل وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافاً إلى
بصرى. قال ابن أبي شامة في هذا الحصار: إنه كان أكثر خراباً في ظاهر البلد وحريقاً ومصادرة وأقل غلاءً ولم تطل مدته فإن الصلح جرى، ووافق اليوم الذي كسرت فيه الفرنج على دمياط اليوم الذي فتحت فيه آمد.
وفاة الملك الكامل وحال الشام بعده:
توفي الكامل بدمشق هذه السنة 635 بعد أن حكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، حكم نائباً نحو عشرين سنة وملكاً نحو عشرين، وكان ملكاً جليلا مهيباً حازماً حسن التدبير أمنت الطرق في أيامه وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه. قال ابن خلكان: كان سلطاناً عظيم القدر جميل الذكر، محباً للعلماء متمسكاً بالسنة النبوية حسن الاعتقاد، معاشراً لأرباب الفضائل، حازماً في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار. وكان يخطب له بمكة: مالك مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها الخ.(2/92)
وكان مع الكامل بدمشق الناصر داود صاحب الكرك فاتفقت آراء الأمراء على تحليف العسكر العادل أبي بكر بن الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر فحلف له جميع العسكر وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود بن العادل نائباً عن العادل أبي بكر بن الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الناصر داود بالرحيل عن دمشق وهددوه إن أقام، فرحل إلى الكرك وتفرقت العساكر. وأرسل صاحب حمص فارتجع سليمة من صاحب حماة، وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع نهر العاصي عن حماة فسدّ مخرجه من بحيرة قدس بظاهر حمص فبطلت نواعير حماة والطواحين.
لما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة ثم أخذ حماة من صاحبها المظفر لموافقته الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد المظفر وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة عن ملك المظفر، ثم
سار العسكر الحلبي ونازلوا حماة ونهبوا أرجاءها، ولما لم يبق بيد المظفر غير حماة وبعرين خاف أن تخرج بعرين بسبب قلعتها فتقدم بهدمها فهدمت إلى الأرض.
وجرى بين الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المتولي على دمشق مصاف بين جينين ونابلس، انتصر فيه الجواد يونس وانهزم الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوي الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وكان في عسكر مصر والشام، وتمكن من دمشق ونهب عسكر الناصر وأثقاله. واستولى الصالح أيوب بن الكامل على دمشق وأعمالها بتسليم الجواد يونس وأخذ العوض عنها سنجار والرقة وعانة، ولما استقر ملك الصالح بدمشق وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، فذهب وجعل نائبه في دمشق، ولده الملك المغيث فتح الدين عمر، وكان الجواد لما يئس من ملك الشام فرق الضياع على الأمراء وخلع عليهم، وفرغ الخزائن وكان فيها تسعمائة ألف دينار. وفي رواية أنه فرق من خزائن دمشق ستة آلاف ألف دينار وخلع خمسة آلاف خلعة.
وفي سنة 637 هاجم الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ومعه شيركوه(2/93)
صاحب حمص مدينة دمشق وحصروا القلعة فخربت بذلك دور ومدارس تحت القلعة ثم تسلم الصالح إسماعيل القلعة وحاصر الصالح نجم الدين أيوب حمص. ولما بلغ استيلاء عمه إسماعيل على دمشق رحل من نابلس إلى الغور، وكان هناك قاصداً إلى مصر للاستيلاء عليها، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون نقاراتهم ويرحلون مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه فأصبح لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فأمسكه الناصر داود صاحب الكرك واعتقله عنده مبجلاً. وقصد الناصر داود القدس وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الكامل
فحاصرها وفتحها وخرب القلعة وضرب برج داود. وتوفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص وكان عسوفاً لرعيته وملك حمص نحو ست وخمسين سنة ملكه أياها صلاح الدين يوسف.(2/94)
انقراض الأيوبيين وظهور دولة المماليك البحرية
وظهور التتر من سنة 637 إلى سنة 690
ظهور الخوارزمية:
بينا كان أبناء أيوب يتقاتلون على الملك والصليبيون قد أخلدوا إلى السكون بعد هدنة صاحب مصر معهم واكتفوا بما ملكوه من مدن الساحل والقدس، جاء الخوارزمية يعيثون في الديار الشامية ويروعون أهلها ويقتلون فيهم ويخربون العامر. الخوارزمية عسكر جلال الدين منكبرتي أحد ملوكهم الذي استولى على إيران والعراق وأذربيجان وكرجستان، وكانت عاصمة ملكه تبريز. جاءوا سنة 634 إلى البلاد الشرقية فاستخدمهم الصالح أيوب بن الكامل وكان في آمد وحصن كيفا وحران وغيرها نائباً عن أبيه. جاءوا بعد أن قتلوا ملكهم وانضموا إلى كيقباذ ملك الروم وخدموا عنده وكان فيهم عدة مقدمين، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركت خان أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته وساروا عن الروم ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له واستخدمهم، فما زال هؤلاء العسكر يتقدمون حتى نازلوا حمص مع صاحب حماة الملك المظفر.
كثر عيث الخوارزمية وفسادهم بعد مفارقة الصالح أيوب البلاد الشرقية وساروا إلى قرب حلب 638 فخرج إليهم عسكرها مع المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين ووقع بينهم القتال فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة وقتل منهم(2/95)
خلق كثير، منهم الصالح بن الأفضل بن صلاح الدين، وأسر مقدم جيش المعظم، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين وأسروا منهم عدة كثيرة. وكانوا يقتلون بعض الأسرى ليشتري غيره نفسه منهم بماله فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية على حيلان وكثر عيثهم وفسادهم ونهبهم في أرجاء حلب، وأحرقوا
الأقوات في القرى، ودخلوا مدينة حلب واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سار الخوارزمية إلى منبج وفعلوا فيها من القتل والنهب مثل ما تقدم ورجعوا إلى حران وما معها. ثم قصدوا إلى الجبول ثم إلى تل عزاز ثم إلى سرمين ودخلوا دار الدعوة الإسماعيلية ووافوا المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، وقد جفل الناس من بين أيديهم.
وكان قد وصل المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها المظفر إلى الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية فالرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم ولحقتهم العرب فألقت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب وأطلقوا الأسرى.
ووصلت الخوارزمية إلى الفرات ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص قاطع صفين فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية واتقعوا قريب الرها، فولى الخوارزميون وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون. ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى عانة وبادر صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانت للخوارزمية فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم المعظم توران شاه أسيراً في دارا من حين أسروه في كسرة الحلبيين، واستولى عسكر حلب على الرقة(2/96)
والرها وسروج ورأس عين وما مع
ذلك. واستولى المنصور إبراهيم على الخابور ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم وحاصروا المعظم ابن الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم.
-
اختلاف بني أيوب واعتضاد بعضهم الفرنج وعودة
الخوارزمية:
كان الملك الجواد يونس بن مودود قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه وسار لولو صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس غائب عنها فاستولى عليها ولم يبق بيد يونس من الملك شيء، فسار على البرية إلى غزة وأرسل إلى الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المصير إليه فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل عكا، وأقام مع الفرنج فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج وتسلم الملك الجواد من الفرنج واعتقله ثم خنقه 638.
وكان قد قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر فسلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه ويكونوا معه على ابن أخيه صاحب مصر مما لم يعهد له مثال في تاريخ بني أيوب اللهم إلا ما كان من مفاوضة الكامل صاحب مصرب لملك الفرنج سنة 624 في أن يَقْدُم إلى عكا ليشغل أخاه المعظم عما هو فيه ووعده له بإعطائه القدس، وكان ذلك خديعة من الكامل لأخيه المعظم حتى لا يستنجد بأحد من ملوك الأطراف عليه إذا لم يتم شيء من ذلك. وقد أنكر على الصالح إسماعيل كل من شيخ الشافعية والمالكية بدمشق فعزلا من وظائفهما وسجنا بقلعة دمشق.
وكان في سنة 640 مصاف بين الخوارزمية، ومعهم المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، وذلك بالقرب من الخابور، فانهزم الخوارزمية وصاحبهم أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم.(2/97)
وتوفيت هذه السنة ضيفة خاتون والدة الملك العزيز وابنه الملك العادل، وكانت تصرفت في ملك حلب تصرف السلاطين وقامت بالملك أحسن قيام، وكان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف بن العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ وحكم واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني.
وفي السنة التالية قصدت التتر مملكة صاحب الروم السلجوقي فاستنجد بالحلبيين فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي فانهزم الروم والحلبيون. وسار الصالح وحاصر عجلون ولم يقدر على فتحها. وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق في الصلح، واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك واعتضدا بالفرنج وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلان وطبرية. فعمر الفرنج قلعتيهما وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات.
ووصلت الخوارزمية 642 إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والرُّوج إلى أطراف دمشق حتى وصلوا إلى غزة ودمروا بيت لحم، ووصل إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية، وأرسل الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع صاحب حمص ودخل عكا، فاستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم ووعدهم بجزء من مصر وكان أعطاهم الشقيف فخرجت الفرنج بالفارس والراجل، واجتمعوا أيضاً بصاحب
حمص وعسكر دمشق والكرك ولم يحضر الناصر داود ذلك، والتقى الفريقان بظاهر غزة فانهزم الفرنج وولى عسكر دمشق وصاحب حمص والكركيون، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقاً عظيماً. قيل: إن القتلى زادوا على الثمانمائة وإنه أسر من الفرنج ثمانمائة. قال ابن أبي شامة: كسرت الفرنج ومن انضم إليهم من منافقي المسلمين كسرة عظيمة في عسقلان وغزة وغنم منهم أموال عظيمة وأُسر من الفرنج خلق من ملوكهم وكبرائهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واستولى الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس ثم أرسل باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر(2/98)
مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها صاحبها الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ولما ضاق صاحب دمشق ذرعاً بحصار صاحب مصر له سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة إلى العراق مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك. وتسلم عسكر الملك الصالح أيوب دمشق من الصالح إسماعيل بن الملك العادل على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد وتستقر حمص وما هو مضاف إليها بيد صاحبها. ثم إن الخوارزمية خرجوا من طاعة الصالح أيوب فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من الإقطاعات ما يرضي خاطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا من طاعة الصالح أيوب وصاروا مع الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك وساروا إلى دمشق وحصروها فقاسى أهلها شدة عظيمة. قال الذهبي: واشتد البلاء بدمشق واحترقت العقيبة والخوانيق، ودام الحصار والويل خمسة أشهر، وهلك العوام موتاً وجوعاً، وقل الشيء بالبلد حتى بلغت غرارة القمح ألفاً وستمائة درهم وأُبيع الخبز كل أوقيتين بدرهم، وأكلوا الميتة وأُبيعت الأملاك
والأمتعة بالشيء اليسير، وأُبيع رطل اللحم بتسعة دراهم، وأنتن البلد بالموتى على الطرق، وعظم الخطب وأُولئك يقاتلون على الملك، والخمور الفاحشة مضمنة بالبلد والمكوس شديدة. وقال غيره: وقطعت الخوارزمية على الناس والطرق وزحفوا إلى البلد من كل ناحية ورموا النيران في قصر حجاج وضربوا بالمناجيق وكان يوماً عظيماً، وبعث الصالح إسماعيل الزراقين فأحرقوا جوسق العادل وزقاق الرمان إلى العقيبة بأسرها، ونهبت أموال الناس واحترق بعضها. وزاد سبط ابن الجوزي: إنه أحرق قصر حجاج والشاغور واستولى الحريق على مساجد وخانات ودور عظيمة، ثم نصبت على دمشق المناجيق ورميت به من بابي الجابية والصغير، ونصبت مناجيق أيضاً من داخل البلد، وترامى الفريقان وأمر بتخريب عمارة العقيبة خارج باب الفراديس وباب السلامة وباب الفرج وأحرق حكر السماق وخارج باب النصر. وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق والده العادل. قال المؤرخون: وجرى بدمشق أمور شنيعة بشعة جداً لم يتم عليها مثلها قط.(2/99)
وفي هذه السنة تسلمت نواب المنصور صاحب حماة سلمية وانتزعوها من صاحب حمص وفي سنة 642 اجتمعت الفرنج من بلاد الشقيف وبلاد عامل وقصدوا وادي التيم فجمع الأمير عامر الشهابي عساكره وفرسان عشيرته ونهض لملتقاهم، واستنجد بالأمير عبد الله المعني فجمع أهالي الشوف وسار لنجدة الأمير عامر، والتقى الجمعان في مرج الخيام وصدمتهم الفرنج ودام القتال ثلاثة أيام، وهلك من الفريقين خلق كثير وفي اليوم الرابع هجمت عساكر آل معن وآل شهاب على الفرنج فنكسوا أعلامهم وولوا مدبرين، عظمت بعد ذلك إمارة الأمير عامر واشتهرت صولته وأخذ قطائع في البقاع وأنشأ فيها مغارات عديدة.
وفي سنة 644 اتفق الحلبيون والمنصور صاحب حمص وصاروا مع الصالح
أيوب وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشق وساروا نحو الحلبيين وصاحب حمص، والتقوا على بحيرة قدس فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها، ومضت طائفة من الخوارزمية إلى التتر وصاروا معهم وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام وخدموا به. ورحل حسام الدين الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق، ونازل بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وحاصرها وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الصالح أيوب بديار مصر فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث بأمين الدولة وزير الصالح إسماعيل فاعتقل، فلم يبق في دمشق وعملها من يدفع عنها، فأرسل صاحب مصر عسكراً مع يوسف ابن الشيخ إلى الناصر داود صاحب الكرك فاستولى فخر الدين على بلاده وحاصر الكرك وخرب ضياعها وضعف الناصر ولم يبق بيده غير الكرك، وصادف وفاة صاحب عجلون سيف الدين بن قليج فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً.
وفتح 645 ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية بعد محاصرتهما مدة وكان عمّرها الفرنج بعد استيلائهم عليهما سنة 641. وسلم الأشرف صاحب حمص قلعة شميميس للملك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للصالح في ملك باقي الشام. وفي سنة 646 أرسل الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لولو الأرمني فحاصروا الأشرف بحمص فسلمهم إياها،(2/100)
وتعوض عنها بتل باشر مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة. ولما بلغ ذلك الصالح أيوب شق عليه وسار من مصر إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين ونصب عسكره عليها منجنيقاً مغربياً يرمي بحجر زنته مائة وأربعون رطلاً بالشامي مع عدة منجنيقات أُخر، ثم رحل عنها لمرض عرض له، ولوصول الفرنج إلى دمياط ولمجيء رسول الخليفة والسعي في الصلح بين الصالح أيوب والحلبيين وأن تستقر
حمص بيد الحلبيين. ثم استولى الصالح أيوب على الكرك أعطاه مفاتيحها الأمجد فوهبه خمسين ألف دينار.
وفاة الملك الصالح ومبدأ دولة المماليك:
توفي الملك الصالح أيوب في سنة 647 وكان ملك مصر والقسم الأعظم من الشام. وصفه أبو الفداء بأنه كان مهيباً عالي الهمة عفيفاً شديد الوقار والصمت جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه دعوا بالبحرية لأنهم كانوا ينزلون في ثكنات لهم في جزيرة الروضة على البحر بحر النيل وكانوا أول كتلة اجتمعت من هذا الجيل من الناس وألفوا دولة المماليك البحرية. مات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد فأحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين بن الطواشي وجمال الدين محسناً وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجرة الدر الأمراء وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده المعظم تورانشاه المقيم بحصن كيفا، فجاء وتسلم ملك مصر إلا أنه مدته لم تطل أكثر من شهرين وأياماً، فقتله المماليك البحرية الذين أنشأهم والده، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطاناً فيما بعد ولقب بالملك الظاهر، والسبب في قتله أنه اطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه واعتمد على بطانته التي وصلت معه من حصن كيفا وكانوا أرذال. وأقام رجال الدولة شجرة الدر زوجة الملك في المملكة وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها، وأرسل المصريون رسولاً إلى من بدمشق من الأمراء في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه، وكاتب الأمراء القيمرية الناصر يوسف صاحب حلب فسار إليهم وملك(2/101)
دمشق وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على
من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.
ثم اتفق كبراء الدولة على إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة فسلطنوا الملك الأشرف موسى بن يوسف. وكان بغزة جماعة من عسكر مصر فسار إليهم عسكر دمشق فاندفعوا إلى الصالحية واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك وخطبوا له بالصالحية، ولما جرى ذلك اتفق كبراء الدولة بمصر ونادوا أن المملكة للخليفة المستعصم، ثم جددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة ولأيبك التركماني بقيادة الجيش، ورحل فارس الدين أقطاي الصالحي مقدم البحرية متوجهاً من مصر إلى غزة ومعه تقدير ألفي فارس فلما بلغها اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه.
وبعد مقتل المعظم تورانشاه بيد المماليك البحرية غضب معظم رجال الدولة في مصر والشام، وكاد الإجماع يقع على سلطنة أحد من آل أيوب حتى لا يخرج الأمر عنهم بالمرة، وهذا ما حدا ببعض بقايا الأيوبيين في الشام إلى أن يجمعوا شملهم ويسيروا إلى مصر للمطالبة بسلطنتهم وسلطنة آبائهم. فسار الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب دمشق بعساكره من عاصمته وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل والأشرف موسى تورانشاه وأخوه نصرة الدين والأمجد حسن والظاهر شاذي أبناء الناصر داود بن المعظم وتقي الدين عباس بن العادل قاصدين مصر لفتحها فاهتم المصريون لقتالهم، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسية فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر، ولما انكسر المصريون تبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر، بقي الناصر تحت السناجق السلطانية فحمل المعز التركماني بمن معه عليه، فولى الناصر منهزماً طالباً الشام وأسر معظم أهل بيته من الملوك واستقر الصلح 651 بين الناصر يوسف صاحب الشام وبين البحرية بمصر على أن يكون للمصريين إلى نهر
الأردن وللناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين الباذرائي رسول الخلافة هو الذي حضر من جهة الخليفة وأصلح بينهم على ذلك ورجع كل منهم إلى مقره.(2/102)
ثم اغتال المعز أيبك المستولي على مصر خوشداشه أقطاي الجمدار، فلما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام، وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الأسم للأشرف موسى فلما قتل أقطاي استقل المعز بالسلطنة وأبطل الأشرف موسى منها بالكلية، وبعث به إلى عماته، والأشرف آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر.
ولما وصلت البحرية إلى الناصر يوسف صاحب الشام أطمعوه في ملك مصر فرحل من دمشق بعسكر ونزل الغور وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسية، ومشى نجم الدين الباذرائي في الصلح بين المصريين والشاميين واتفقت الحال أن يكون للناصر الشام جميعه إلى العريش ويكون الحد بين الورادة والعريش، وقتلت شجرة الدر المعز أيبك التركماني الصالحي، وكانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب ثم تزوج بها، وكان سبب ذلك أنه بلغها أن المعز أيبك قد خطب بنت بدر الدين لولو صاحب الموصل فقتلته في الحمام، ونصبوا نور الدين علي بن المعز أيبك ولقبوه الملك المنصور سلطاناً على مصر والشام.
ونقل إلى الناصر يوسف صاحب دمشق أن البحرية يريدون أن يفتكوا به فاستوحش منهم وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق فساروا إلى غزة، فأرسل عسكراً في أثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه. ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة كسروا البحرية فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعر ملتجئين إلى المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه. وسارت البحرية إلى جهة مصر وخرجت عساكر مصر لقتالهم، والتقى
المصريون مع البحرية وعسكر المغيث، فانهزم عسكر المغيث والبحرية، وفيهم بيبرس البدقداري إلى جهة الكرك. وكان المغيث خيم بغزة وجمع الجموع ومعه البحرية وخرجت عساكر مصر مع مماليك المعز أيبك فالتقى الفريقان فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال.(2/103)
هولاكو التتري
وبينا كان آخر ملوك الشام ومصر من بني أيوب يتنازعون مع المماليك البحرية وقد خرجت مصر عن حكم الأيوبيين، وكانت دخلت في حكمهم أولاً فأسسوا هناك بنيانها ولما انهار البناء كانت البِنْيَة الأولى أول ما هدمت وبقيت بعدها الأطراف وهي الشام وما إليها مدة قليلة جاء هولاكو التتري 656 واستولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله وقرض الخلافة العباسية، ثم أخذ التتر يتقدمون إلى الجزيرة فأرسل الناصر يوسف صاحب دمشق ولده العزيز محمد وصحبته زين الدين محمد المعروف بالحافظي بتحف وتقادم هدايا إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر، وكان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم مجير الدين بن أبي زكري مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين، وقوي أمر البحرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العيث والفساد، وسار الناصر يوسف، وقد عرف ما تم على جنده، ومعه صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزاء محاصراً للمغيث صاحب الكرك بسبب حمايته البحرية، فقبض المغيث على من عنده من البحرية، وعلم ذلك في الحال ركن الدين بيبرس البندقداري فهرب في جماعة من البحرية، ووصل بهم إلى الناصر يوسف فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية وأرسلهم إلى الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الناصر وبين المغيث
صاحب الكرك.
وقدم هولاكو 657 إلى شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على الديار الجزرية وأرسل ولده سموط إلى الشام فوصل إلى ظاهر حلب وكان الحاكم فيها المعظم توران شاه نائباً عن ابن أخيه الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج المعظم ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في باب الله فتقاتلوا عند بانقوسا فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد. ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم، اختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى عزاز فتسلموها(2/104)
بالأمان، ولما بلغ الناصر يوسف قصد التتر حلب برز من دمشق 658 إلى برزة وجفل الناس بين أيدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري فاجتمع عند الناصر ببرزة أُمم عظيمة من العساكر والجفال، وبلغ الناصر أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به فهرب من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهزموا إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى غزة وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الناصر إنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الظاهر غازي، ولما جرى ذلك هرب الظاهر هذا خوفاً من أخيه الناصر فوصل إلى غزة واجتمع عليه من بها من العساكر وأقاموا سلطاناً، وكاتب بيبرس البندقداري المظفر قطز صاحب مصر فبذل له الأمان ووعده الوعود ففارق بيبرس الشاميين وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه.
وسبب استيلاء التتر على حلب أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل إلى الملك المعظم تورانشاه نائب السلطنة يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة
شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على الإسلام كانت البلاد لنا، وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف. فتعجب هولاكو من هذا الجواب وتألم، لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك.
وأحاط التتر بحلب وقتلوا مقتلة عظيمة حتى لم يسلم من أهلها إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين ودار البازيار ودار علم الدين قيصر وخانقاه زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود وذلك لفرمانات كانت بأيديهم. وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس. ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها ومضايقة التتر لها نحو شهر ثم سلمت بالأمان، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وأن لا يعارض وجعل النائب(2/105)
بحلب عماد الدين القزويني.
قال ابن العديم: واحترز نواب حلب وجمعوا أهل الأطراف والحواضر واجتمعوا كلهم داخل البلد، وكانت حلب في غاية الحصانة والقوة لأسوارها المحكمة البناء وقلعتها العظيمة، ولم يكن في ظن أحد أنها تؤخذ بسرعة قال: وخرج العوام والسوقة واجتمعوا كلهم بجبل بانقوسا ووصل جمع التتر إلى أسفل الجبل، وكمنوا على القرية المعروفة ببابلا ثم كر التتر منهزمين ثم رجعوا وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً من الجند والعوام. وقتل هولاكو في حلب أكثر ممن قتل في بغداد. وقال ابن تغري بردي: إن هولاكو حاصر حلب ستة أيام ثم أوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص موسى بن إراهيم فأكرمه وأعاد عليه حمص، ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فأحضره
هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبى النساء، ثم رحل هولاكو إلى الشرق وجعل مكان عماد الدين القزويني بحلب رجلاً أعجمياً وأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها وأمر الأشرف موسى صاحب حمص بإخراب سور قلعة حماة فخربت وأُحرقت زردخانتها، ولم تخرب أسوار المدينة لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الفرنجية بذل لخسروشاه نائب هولاكو في حلب جملة كثيرة من المال وقال: الفرنج قريب منا في حصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب الأسوار وكان قد أمر هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً لأنها بلده، وأما دمشق فإن نائب هولاكو قدم إلى أهلها بالفرمان والأمان فتلقاه كبراء المدينة وأنفذت مفاتيح دمشق إلى هولاكو. قال سبط ابن الجوزي: وكثرت الأراجيف بدمشق بسبب التتر فهرب كثير من الدمشقيين وباعوا أصلهم وخرجوا على وجوههم متفرقين في البراري والجبال والحصون، وصادف ذلك أيام الشتاء وقوة البرد فمات كثير منهم ونهب آخرون. وقال القلقشندي في كلامه على البيت الهولاكو هي:(2/106)
ولو تمكنوا من دمشق لمحو آثارها وأنسوا أخبارها، وأن ملكها يومئذ صاهر صاحب قبرس ليتقوى به.
ولم يتعرض عسكر هولاكو إلى قتل ولا نهب وعصت قلعة دمشق عليه فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، ثم تسلموا القلعة بالأمان ونهبوا جميع ما فيها، وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها وأخذوا نابلس بالسيف وتسلموا قلعة عجلون واستولوا على قلاع الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموها ووقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم، وغنموا
أولادهم ونساءهم وأنعامهم واستاقوا الجميع، وهرب سلطان تلك الأرجاء الناصر يوسف بن محمد إلى البراري فساقوا خلفه وأخذوه ثم قتلوه. واستولى التتر من أرض الفرنج على صيدا ونهبوها وأسروا منها ثلاثمائة أسير. وعاثوا في حوران ونابلس وبلغت غاراتهم غزوة وبيت جبريل والخليل والصلت وما إليها وجاءوا بالأسرى إلى دمشق فمنهم من افتدى نفسه ومنهم من هرب.
وظل التتر يتنقلون في الشام حتى فتحوه إلى غزة واستقرت شحائنهم فيه لأن الناصر صاحب دمشق لما بلغه أخذ حلب رحل من دمشق في عسكره إلى الديار المصرية وفي صحبته المنصور صاحب حماة، فلما رأى كبراء حماة تخلي ملكهم عنهم توجهوا إلى حلب ومعهم مفاتيح بلدهم وحملوها إلى هولاكو وطلبوا منه الأمان لأهل حماة وشحنة تكون عندهم فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً اسمه خسروشاه فقدم حماة وأمن الرعية. واستولى التتر 658 على ميافارقين بعد أن حاصروها سنتين حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها بالوباء والقتل فقتلوا صاحبها الكامل محمد بن المظفر ابن العادل أبي بكر بن أيوب وحملوا رأسه على رمح وطافوا به في الأرجاء فمروا بحلب وحماة ودمشق بالمغاني والطبول وعلقوه في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين.
قال الذهبي: إن نصارى دمشق شمخت أثناء مجيء هولاكو إلى البلاد ورفعوا الصليب في البلد وألزموا الناس بالقيام له من الحوانيت، ونقضوا العهد(2/107)
وصاحوا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فلما انتصر المسلمون على هولاكو على عين جالوت بين بيسان ونابلس وقتل مقدمهم كتبغا جاء الخبر إلى دمشق في الليل فوقع النهب والقتل في النصارى وأُحرقت كنيستهم العظمى. وقال أبو الفداء: إن النصارى استطالوا بدمشق على المسلمين بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع.
قال في المذيل: إن النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتر وتردد ايل شبان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاء من عنده بفرمان لهم اعتناء منهم وتوجه في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتقاء دينهم دون دين الإسلام، ويرشون الخمر على الناس بأبواب المساجد، فركب المسلمين من ذلك همٌّ عظيم، فلما هرب التتر من دمشق أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا فيها وخربوا كنيسة اليعاقبة وأخربوا كنيسة مريم حتى بقيت كوماً والحيطان حولها تعمل النار في أخشابها، وقتل منهم جماعة واختفى الباقون وجرى عليهم أمر عظيم اشتفى به بعض الاشتفاء صدور المسلمين، ثم هموا بنهب اليهود فنهب قليل منهم ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر منهم ما صدر من النصارى اه.
اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر هرباً من التتر، فلما انتظمت أحوالهم واستجمعوا قواهم عزم المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار معه صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي حتى التقى مع التتر في الغور، وكان كتبغا نائب هولاكو على الشام ومعه صاحب الصبيبة الملك السعيد فانهزم التتر هزيمة قبيحة على عين الجالوت وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتفرقوا في الأرجاء ومنهم من قصد الشرق فأفناهم المسلمون، وجرد قطز ركن الدين بيبرس في أثرهم فتبعهم إلى أطراف الأصقاع الشرقية، وكان في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب الأمان من المظفر قطز فأمنه، وأقره على ما بيده وهو حمص ومضافاتها، وأسرا صاحب الصبيبة وضربت عنقه، وأقر المنصور على حماة وبارين والمعرة وأخذ منه سلمية وأعطاها أمير العرب، ودخل دمشق فتضاعف شكر المسلمين على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر(2/108)
لاستيلائهم على
معظم ديار الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، وما تواقعوا مع عسكر إلا هزموه. قال ابن أبي شامة: ومن العجائب أن التتر كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وقيل في ذلك:
غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدد شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه
وقد رتب المظفر قطز شمس الدين أقوش البرلي أميراً بالسواحل وغزة وجهز عسكراً إلى حلب لحفظها، وفوض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي ونيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لولو صاحب الموصل ولما استقر هذا في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية.
مقتل المظفر قطز وسلطنة الظاهر بيبرس وأحداث:
سار الملك المظفر قطز إلى مصر بعد أن ظفر بالتتر ورد فلّهم إلى الشرق وكان اتفق بيبرس البندقداري وبعض أعيان الدولة على قتله، فساروا معه وقتلوه في القصير وتسلطن بيبرس البندقداري وتلقب بالملك الظاهر، ودخل مصر ففتحت له واستقرت قدمه في المملكة. ولما بلغ نائب السلطنة بدمشق علم الدين سنجر قتل قطز وسلطنة الظاهر جمع الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، فأجابوه إلى ما أرادهم عليه، ولم يتأخر عنه أحد ولقب نفسه الملك المجاهد وخطب له بالسلطنة وضربت السكة باسمه وكاتب المنصور صاحب حماة في ذلك فلم يجبه وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان. أما السعيد نائب السلطنة بحلب فحمله أمراؤها إلى الشغر وبكاس معتقلاً لما اندفع العسكر الحلبي من بين أيدي التتر على البيرة، وقدموا عليهم حسام الدين الجوكندار العزيزي. ثم سار التتر إلى حلب وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا شرقي حلب، فأفنوا غالبهم بالسيف، واستولوا على اعزاز وخربوا قلعتها، واستولوا على حارم وقتلوا أهلها عن آخرهم وسبوا النساء، وملكوا حلب وأعمالها نحو أربعة أشهر. وقارب التتر حماة فخرج منها صاحبها وباقي العسكر واجتمعوا بحمص مع سائر الأجناد فوقع بين التتر(2/109)
وعساكر المسلمين مصاف في حمص، وكان التتر أكثر من المسلمين فانهزم التتر وهاموا على وجوههم إلى أفامية ومنها إلى الشرق، ومنهم من دخل في خدمة المسلمين. وجهز الملك الظاهر 659 صاحب مصر عسكراً إلى الشام لقتال علم الدين سنجر المستولي على دمشق، فخرج هذا لقتالهم فانهزم إلى جهة بعلبك فتبعه العسكر وقبضوا عليه وحمل إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أطلق واستقرت دمشق في ملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها وبحلب وحمص وغيرها، ثم استقر أيدكين البندقداري الصالحي في دمشق لتدبير أمورها. وفي سنة 660 وصل من مصر إلى دمشق عسكر مقدمه الأمير عز الدين الدمياطي وقبض على علاء الدين
طيبرس الوزيري نائب السلطنة بدمشق وقبض حواصله، وكان طيبرس قد أهلك أهل دمشق بإخراجهم من بلدهم والترسيم عليهم وإخراج عيالهم وإهانتهم، وضيق على الناس وخوفهم من التتر.
ولما بلغ هولاكو وهو في بلاد العجم كسرة عسكره بعين جالوت وقتل نائبه كتبغا ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً غضب من ذلك وأحضر الناصر ابن أيوب وأخاه الظاهر غازي وكانا في أسره وقال للناصر: أنت قلت إن عسكر الشام في طاعتك فغدرت بي وقتلت المغول فقال الناصر: لو كنت في الشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام؟ فضربه هولاكو. فقال الناصر: يا خَوَند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت ثم رماه فقتله. ثم أمر بضرب رقاب الباقين فقتلوا الظاهر أخا الناصر والصالح ابن صاحب حمص والجماعة الذين كانوا معهم واستبقوا العزيز بن الناصر لأنه كان صغيراً. وكان الملك الناصر يوسف هو آخر من ملك دمشق من بني أيوب. قبض عليه لما دخل دمشق جيش هولاكو فجهز وولده وأخوه ومعهم جماعة من أعيان أهل دمشق إلى مخيم هولاكو فأمر بقتلهم.
والملك الناصر هو صاحب حلب تملك حران والرها والرقة ورأس عين(2/110)
وحمص ودمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه وكسر عساكر مصر وخطب له بمصر وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته وقتل مدبره شمس الدين لولو الأرمني ومخامرة مماليك أبيه العزيزية. وكان الناصر حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة فكان إذا حضر إليه القاتل عفا عنه وقال: الحي أفضل من الميت. فانتشرت اللصوصية وأصبح المسافر في أيامه من دمشق إلى حماة وغيرها لا يقدر على السفر إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه.
وبقتل الناصر والظاهر قل الرجال الذين يصلحون للملك من آل أيوب وضعفت عصبيتهم وأنصارهم من الأكراد وغيرهم، وكان انقراضهم بيد المماليك البحرية الذين غذوا بنعمتهم فلم يعرفوا لهم بيض أياديهم وبيد السفاك هولاكو وجماعة من التتر. وكان شأن بني أيوب في هذا المعنى شأن بني عباس مع الأتراك أدخلوهم في خدمتهم وأحسنوا إليهم ورفعوا منزلتهم وولوهم الأعمال، فما كان منهم إلا أن نقضوا بنيان تلك الدولة وفتحوا السبيل لعدوها يستبيح حماها ويستصفي أرضها.
ولم يشبع المغول بما سفكوا من الدماء، وعادوا سنة 659 إلى حلب فانهزم جميع أهل القرى والمدن فتقدم قائدهم أن يخرج أهل القرى والمدن إلى ظاهر البلد ويبقى أهل كل مدينة وقرية بمعزل بحيث يعدّونهم ويسيّرون كل قوم إلى مكانهم وموطنهم، ويسلمهم المغول كأنهم يسيرون إلى ضياعهم وعندما يبعدون يقولون لهم: أنتم لو كانت قلوبكم معنا صافية لما انهزمتم من قدامنا فقتلوهم عن آخرهم ولم يفلت منهم غير أهل حلب لأنهم لم ينتقلوا عنها.
حروب الظاهر وفتوحه:
وكان الملك الظاهر صاحب مصر والشام بين عاملين في خلال هذه المدة. عامل دفع المغول وعامل دفع الصليبيين، والغالب أنه ترجح عنده معاناة الثاني فأفلح فيه. وقد جهز سنة 659 من مصر بدر الدين الأيدمري فتسلم الشوبك من المغيث صاحب الكرك ثم سير حملة إلى حلب 660 وكان مقدمهم(2/111)
شمس الدين سنقر الرومي فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح بعد إفساد المغول فيها، ثم أوعز إلى صاحب حماة وصاحب حمص وسنقر الرومي أن يسيروا إلى إنطاكية للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوها ولم يتيسر لهم فتحها. وقبض الظاهر على نائبه بدمشق علاء الدين طيبرس الوزيري وكان رديء السيرة في أهل دمشق حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وقتل الظاهر صاحب الكرك المغيث بتهمة أنه
كتب إلى التتر يطمعهم في ملك مصر والشام وقيل: لأنه أكره امرأة الملك الظاهر لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الظاهر وبقيت امرأته في الكرك، فانتقم الظاهر منه بأن أسلمه إلى زوجته في قلعة الجبل بمصر وأمرت جواريها فقتلنه بالقباقيب.
وفي سنة 661 أرسل الظاهر وهو نازل على الطور عسكراً هدموا كنيسة الناصرة وأغاروا على عكا فغنموا وعادوا، ثم ركب الظاهر بنفسه وأغار ثانية على عكا وهدم برجاً كان خارج البلد. وأغار صاحب سيس على العمق والمعرة وسرمين والفوعة. ومات هذه السنة الملك الأشرف صاحب حمص وكان آخر من ملكها من بيت شيركوه فانقرض بموته ملكهم، وأولهم شيركوه بن شاذي. وكانت بقيت في أيدي الإسماعيلية إلى آخر سنة 662 ثمان قلاع بالشام وهي الكهف والعليقة والقدموس والخوابي والمينقة ومصياف والرصافة والقليعة. وروى ابن ميسر أن التتر لما ملكوا الشام سلموا إليهم أربع قلاع، فلما كسرهم قطز عادت الأربع قلاع إليهم فتسلمها رئيسهم وقتل أصحابه الذين سلموها للتتر قال: وكان الضرر على المسلمين وملوكهم منذ خرج ابن صباح وإلى سنة بضع وعشرين وستمائة عظيماً. وقد استخدمهم الظاهر في قتل صاحب مرقبة والأمير ادوارد من أمراء إنكلترا.
وفي سنة 663 سار الملك الظاهر من مصر ونازل قيسارية وضايقها وفتحها من الفرنج وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها وفتح القليعات 664 وحلبا وعرقة ونزل على صفد وضايقها وفتحها ثم قتل أهلها عن آخرهم. وجهز عسكراً ضخماً من دمشق وقدم عليهم المنصور صاحب حماة وأمرهم بالمسير إلى عمالة الأرمن فانهزموا وأسر ابنان لصاحبهم وامتلأت(2/112)
أيدي العسكر الإسلامي من الغنائم. وعندما توجه الملك الظاهر من دمشق لملتقى عساكره العائدة من غزوة
سيس أصدر أمره لما نزل على قارا بين دمشق وحمص بنهب أهلها وقتل كبارهم فنهبوا وقتل منهم جماعة، وكانوا نصارى يسرقون المسلمين ويبيعونهم خفية من الفرنج. وأخذت صبيانهم مماليك فتربوا بين الترك في الديار المصرية فصار منهم أجناد وأمراء. وشن الظاهر الغارة على الفرنج 665 من أطرافهم واستدعى بالمجانيق من دمشق. وفي سنة 666 توجه الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من مصر إلى الشام ففتح يافا من الفرنج وهدمها وقلعتها وملك الباشورة بالسيف وعوض أهل القلعة أربعين ألف درهم، ثم قصد قلعة الشقيف تيرون فنزل تحتها في وادي العواميد وحاصرها فلم يقدر على أخذها، ثم صعد إلى أعلاها وكشف ماءها وبعد هزيع من الليل ذبح في قناتها عدة من الغنم والبقر وقطع كروشها ورماها فيها، فلما أصبحوا وجدوا ماءهم منتناً وهودم عبيط فسلموها بعد حصار عشرة أيام، ووجد بها أربعمائة وثمانين رجلاً فأرسلهم إلى الفرنج في صور، ورتب عليها قوماً من جماعته وبني برجاً على باب القلعة.
ثم أغار الظاهر على طرابلس فقطع أشجارها وغور أنهارها وضرب أربعاً وعشرين من قراها. فانهالت عليه المردة من الجبال فذهب إلى حصن الأكراد، ومن هناك زحف على إنطاكية فنازلها بغتة، وبعد حصار أربعة أيام ملكها بالسيف فقتل أهلها وأحرق كنائسها وغنم منها أموالاً كثيرة، وأحصي من قتل بإنطاكية هذه المرة فكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ثم أطلق من كان بها م ن الأسرى، وفي رواية أنه قتل من حماتها بين 16 و17 ألف صليبي وأخذ مئة ألف أسير وأحرقها وقلعتها، ونال من غنائمها ما لا يدخل تحت حصر، وخرج جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب الظاهر إليها وزحف عليها فملكها. وكانت إنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند وله معها طرابلس، ولما فتحت إنطاكية هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً فأرسل الظاهر واستولى عليه.
ووقع الصلح بين الظاهر وهيتوم صاحب سيس الأرمني على أنه إذا أُحضر(2/113)
صاحب سيس سنقر الأشقر من التتر، وكانوا أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو، وسلم مع ذلك بهسنى ودربساك ومرزبان ورعبان وشيح الحديد يطلق له ابنه ليفون الذي كان في أسر الملك الظاهر، فسلمه صاحب سيس البلاد خلا بهسنى ودخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر وطلب منه سنقر الأشقر فأعطاه إياه، وتسلم الظاهر بلاطنوس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وأغار 668 على عكا وتسلم حصن مصياف من الإسماعيلية وفتح من حصونهم الكهف والقدموس والمنيقة والعليقة وأمّر عليهم حسن بن المشغراني، وفرض عليه أن يرفع إليه في كل عام مئة ألف درهم. ونازل السلطان 669 حصن الأكراد فملكه بالأمان وملك حصن عكار بعد حصاره له بالأمان، فتذلل له صاحب طرابلس وبذل له ما أراد وهادنه عشر سنين وتسلم حصن القرين بالأمان وهدمه. وأغارت التتر على عينتاب وعلى الرّوج وقسطون إلى قرب أفامية ثم عادوا. فاستدعى الظاهر عسكراً من مصر وتوجه بهم إلى حلب ونازل التتر على البيرة وأراد عبور الفرات إلى بر البيرة ونصبوا عليها المجانيق وضايقوها فقاتله التتر على المخاضة فاقتحم الفرات وهزم التتر فرحلوا عن البيرة. وشنّ الغارة 669 بفرقة من العسكر ومعه ولده الملك السعيد بفرقة أخرى على جبلة واللاذقية والمرقب وعرقة والقليعات وحلبا وصافيتا والمجدل وأنطرطوس. وفي سنة 673 توجه السلطان إلى ديار الأرمن ودخلها بعساكره المتوافرة وغنموا ثم عادوا إلى دمشق. وعاد التتر 674 ونازلوا البيرة فتوجه الظاهر إليهم وبلغه رحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب وعاد التتر 675 فزحفوا على الشام وخرج إليهم الظاهر وقاتلهم فكسرهم وقتل منهم خلائق وتبعهم إلى نحو الابلستين فكانت بينهما هناك وقعة قيل إنه قتل فيها من الفريقين نحو مئة ألف إنسان. ثم سار إلى قيسارية
واستولى عليها ووصل إلى عمق حارم فدمشق.
وفاة الملك الظاهر وسلطنة ابنه الملك السعيد ثم
سلطنة المنصور قلاوون:
توفي الملك الظاهر 676 بعد أن بطش البطشة الكبرى بالصليبيين في الشام، ودفع عادية المغول عنه ما أمكن، وغزا الأرمن الذين أصبحوا يبدون(2/114)
لدولته نواجذ الشر، فخرب ديارهم وأباد خضراءهم وغضراءهم. وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً وصل إلى الملك بقتل آخر ملوك بني أيوب، وما زال يتدرج في مراتب القوة حتى ملك الديار المصرية والشامية وفتح الفتوح الجليلة. أصله مملوك قبجاقي الجنس وقيل برجعلي وكان ذا همة شماء يتنقل في ممالكه فلا يكاد يشعر به عسكره إلا وهو بينهم، ولولا أنه جد في قتال الصليبيين لما كفّر عما أتاه من قتل ابن أيوب، وبنو أيوب أحبهم الناس على علاتهم لغناء أكثرهم في خدمة الملة والدولة.
ترجم سوبرنهايم في المعلمة الإسلامية للظاهر بيبرس بقوله: إنه كان السبب بتوسيد ملك الشام إلى قطز لما أبلى البلاء الحسن في وقعة عين جالوت فأقطع قطز الأمراء من بني أيوب الإقطاعات التي كانت لهم قبل غارات المغول، ولكن بيبرس الذي كان يرجو أن توسد إليه حلب مكافأة على شجاعته لم ينل شيئاً فعزم على الانتقام لنفسه من هذا الظلم، فقتل السلطان في الصيد ونادى به زعماء الجند وغيرهم سلطاناً، وكانت المملكة المصرية والشامية محاطة من كل جانب بالأعداء: في الشمال ملك أرمينية المسيحي، وفي الغرب الصليبيون ينزلون على جميع شاطيء الشام، وفي الداخل الحشيشية الإسماعيلية الأشداء، ومن الشرق المغول الطامعون في الغنائم والانتقام، وفي جنوبي مصر أهل النوبة المجاربون،
وفي الغرب البربر الصعب قيادهم، وكان يخشى أن ينجم له ناجم في الداخل من بني أيوب ويسمو إلى السلطنة، فيجد على دعوته أنصاراً على أيسر وجه، فرأى أن يبايع لأحد ذرية بني العباس بالخلافة بعد أن قرضها المغول من بغداد، فتوفق إلى ذلك وبايع له في مصر، لأن من مصلحته أن يظهر أمام العالم الإسلامي بأنه حامي الخلافة، وبذلك أصبح له نفوذ على حكومات مكة والمدينة، وعرف كيف يداري معظم أمراء الفرنج الشرقيين.
هادن الظاهر الاسبتار بحصن الأكراد والمرقب سنة خمس وستين وستمائة لمدة عشر سنين متوالية وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات على أن يكون النصف من غلات قرى جميع المملكة الحمصية والشيزرية والحموية وبلاد الدعوة للملك الظاهر، والنصف لبيت الاسبتار. واستقرت الهدنة بين الملك الظاهر بيبرس أيضاً وبين ملكة بيروت في سنة سبع وستين وستمائة(2/115)
حين كانت بيدها لمدة عشر سنين متوالية على أن يكون جميع المترددين من بلاد الملكة إلى بلاد الظاهر وبالعكس آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم وبضائعهم براً وبحراً ليلاً ونهاراً، وعلى أن الملكة لا تمكن أحداً من الفرنج على اختلافهم من قصد مملكة السلطان من جهة بيروت وما إليها، وتمنع من ذلك وتدفع كل متطرق بسوء وتكون الأقاليم من الجهتين محفوظة من المتجرمين المفسدين. وعقدت هدنة بين الظاهر وولده الملك السعيد وبين الفرنج الاسبتارية على قلعة لدّ في سنة تسع وستين وستمائة على أن تكون قلعة لدّ والجهات المذكورة إلى آخر الزائد للملك الظاهر ولا يكون لبيت الاسبتار ولا لأحد من الفرنجة فيها تعلق ولا طلب بوجه ولا سبب.
وعقد محالفات مع الملك مانفريد دي هوهانستوفن، ثم عقد محالفة مع شارل دانجو وجاك داراغون والفونس دي كاستيل، وعقد معاهدة مع ميشل باليولوغ الرومي الذي طرد الصليبيين، وكانت له صلات حسنة مع ملوك السلاجقة في
آسيا الصغرى ومع صاحب اليمن. ثم إن الظاهر رأى في الصليبيين أشد الأعداء خطراً على المملكة واستفاد من تفرق كلمتهم وكان المدد الذي يأتيهم من أوروبا قد ضعف، وكان في موت شارل التاسع إنقاذ بيبرس من أعظم خصومه من الفرنج، وهكذا فإن الظاهر ظلّ ظافراً بجميع أعدائه، ولم يتوقف عن شيء لبلوغ غايته، وكثيراً ما كان يعد وعوداً كاذبة ويكتب كتباً مزورة ليحمل فيها قواد الحصون على الاستسلام له، وكان نجاحه مناط قريحته في التنظيم وسرعته وشجاعته المتناهية، وكان البريد يدور ويروح في المملكة بسرعة حتى ليصل الخبر من مصر للشام في ثلاثة أيام وكان أسعد سلطاناً من سلاطين المماليك وأقدرهم. وروى شمس الدين سامي أن السلطنة الإسلامية صارت ذات بهاء في أيامه وأنه مات مسموماً بدمشق.
كان الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس ولقبه الملك السعيد وجعله ولي عهده إلا أنه خبط وخلط وأراد تقديم الأصاغر على الأمراء الأكابر ففسدت نيات الكبار عليه وقرروا خلعه من السلطنة، بعد أن دخل سيس 677 وشن الغارة عليها وغنم، فحصره العسكر في قلعة الجبل بالقاهرة فخلع نفسه على أن يعطى الكرك فأجابوه إلى ذلك فلحق بها وهلك بعد قليل.(2/116)
واتفق الأمراء لما خلع الملك السعيد نفسه على إقامة بدر الدين سلامش ابن الظاهر بيبرس في المملكة، ولقبوه العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، ثم خلعوه وأجلسوا على تخت السلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي. ولما اضطرب أمر المملكة استأثر بالشام سنقر الأشقر الذي كان الظاهر اشترط على صاحب سيس أن يتوسط لدى ملك التتر لإطلاقه من الأسر ففعل، ونسي سنقر هذه اليد للظاهر، وجلس على سرير السلطنة بدمشق وحلف له الأمراء والعسكر وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر، فجهز المنصور قلاوون عساكر الديار المصرية مع علم
الدين سنجر، فبرز سنقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان فولى الشاميون وسنقر منهزمين، فجعل الأمير لاجين المنصوري نائب السلطنة بالشام، وهرب سنقر الأشقر إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في هذه الديار، وكان عيسى بن مهنا ملك العرب في الشام مع سنقر الأشقر وقاتل معه وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً، موافقةً له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون واستولى عليها وعلى برزيه وبلاطنس والشغر وبكاس وعكار وشيرز وأفامية وصارت هذه القلاع له.
وأحرق 677 عسكر الشام عمالة الغرب وجبيل وبيروت وذلك أن قطب الدين السعد بعد أن استقطع قرية كفر عمية من أمراء الغرب آل تنوخ وجد فيها ذات يوم مقتولاً فاتهم بقتله نجم الدين بن جحى وكان أبوه وذو قرابته معتقلين في مصر فتوجهت اليه العساكر والعشران من ولاية بعلبك والبقاع وصيدا وبيروت وأحرقت قراه، وتفرق التنوخيون أيدي سبا إلى أن أمنهم الملك فرجعوا إلى مساقط رؤوسهم.
وجاء التتر إلى حلب 679 فعاثوا وقتلوا من كان بظاهرها وملكوا ضياعها ونهبوا وسبوا وأحرقوا الجامع والمدارس المعتبرة ودور السلطنة والأمراء وأقاموا بها يومين وعادوا من حيث أتوا، فهب الملك المنصور قلاوون إلى غزة لدفعهم فرحلوا قبل أن يوافيهم، قال ابن أبي الحديد: وكانت للتتر نهضات وسرايا كثيرة إلى الشام، قتلوا ونهبوا وسبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب، فأوقعوا بها وصانعهم عنها أهلها وسلطانها، ثم عمدوا إلى بلاد كي خسرو صاحب الروم فجمع لهم هذا قضه وقضيضه وجيشه ولفيفه،(2/117)
واستكثر من الأكراد العتمرية من عساكر الشام وجند حلب فيقال إنه اجتمع مائة ألف فارس وراجل فلقيه التتر في عشرين ألفاً، فجرت بينه وبينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته، وكانت المقدمة
كلها أو أكثرها من رجال حلب وهم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم وانكسر العسكر الرومي، وهرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له على البحر تعرف بإنطاكية فاعتصم بها، وتمزقت جموعه وقتل منهم عدد لا يحصى.
واستأذن نائب السلطنة بحصن الأكراد في الإغارة على المرقب لما اعتمد أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب فأذن له السلطان في ذلك، فجمع عساكر الحصون فاتفق هروب المسلمين ونزول الفرنج من المرقب فقتلوا من المسلمين جماعة. وترددت الرسل بين السلطان وسنقر الأشقر، واحتاج السلطان لمصالحته لقوة التتر وتفادياً من الاشتغال بالعدو الداخلي والعدو الخارجي، ووقع بينهما الصلح على أن يسلم سنقر قلعة شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا منه وحلفا على ذلك واستقر الصلح بينهما، كما استقر الصلح بين المنصور قلاوون وبين خضر بن الظاهر بيبرس صاحب الكرك.
وبعد أن استقر الصلح بين الأميرين المتوثبين على السلطنة كان المصاف العظيم 680 بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، فجمع قلاوون العساكر من مصر والشام ومن جملتهم عسكر سنقر الأشقر، وجاء الأمراء كلهم في جيوشهم، وكان التتر في ثمانين ألف فارس وفي رواية مائة ألف منهم خمسون ألفاً من المغول والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم، والمسلمون في خمسين ألفاً فانهزم التتر وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. وعقد قلاوون هدنة مع المقدم افرتر كليام ديباجون مقدم بيت الداوية بعكا والساحل وبين جميع الإخوة الداوية بأنطرطوس لمدة عشر سنين، لا ينال بلاده ولا بلاد ولده ولا حصونهما ولا قلاعهما ولا ضياعهما ولا عساكرهما ولا عربهما ولا تركمانهما ولا أكرادهما ولا رعاياهما على اختلاف الأجناس ضر ولا سوء ولا غارة ولا تعرض ولا أذية.
وسارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبهة بشري 681 وحاصروا إهدن(2/118)
حصاراً شديداً وبعد أربعين يوماً ملكوها فنهبوا وقتلوا وسبوا وهدموا القلعة التي في وسط القرية والحصن الذي على رأس الجبل، وفتحوا بقوفا وقضوا على أكابرها وهدموها وضربوا حصرون وكفر حارون وخربوا حدث البشري وبنوا برجاً قبالة المغارة ووضعوا فيه عسكراً يكمنون للعصاة وهدموا جميع الأماكن العاصية وملكوا قلعة حوفا بتسليط الماء عليها من فوقها فملكوها بقوة الماء لأنها داخلة الشير. وتوجهت العساكر أيضاً إلى أرض الأرمن فخربت فيها وسبت عقوبة لهم عمّا أتوه من معاونة المغول على المسلمين.
وقصد المغول دمشق في سنة 683 ثم ذهبوا إلى وادي التيم فأحرقوها وسبوا أهلها وقتلوا منهم سبعمائة نفس وملكوها وفتح السلطان حصن المرقب 684 بعد أن نقب جنده حصنها بسرعة، وكان هذا الحصن للاسبتار فنزل أهله بالأمان. في هذه السنة عقد الملك المنصور وولي عهده الملك الصالح وولده الأشرف صلاح الدين هدنة مع دام مرغريت بنت سير هنري ابن الابرنسي مالكة صور جاء في كتابها وليس للفرنج أن يجددوا في غير عكا، وعثليث وصيدا مما هو خارج عن الأسوار في هذه الجهات الثلاث سوراً لا قلعة ولا برجاً ولا حصناً قديماً ولا مستجداً، وعلى أن شواني مولانا السلطان وشواني ولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية التي انعقدت الهدنة عليها، وإذا قصدت الشواني المذكورة جهة غير هذه الجهات وكان صاحب تلك الجهة معاهداً للحكام بمملكة عكا فلا تدخل إلى البلاد التي انعقدت عليها الهدنة ولا تتزود منها، وإن لم يكن صاحب تلك الجهة التي تقصدها الشواني معاهداً للحكام بمملكة عكا فلها أن تدخل إلى بلادها وتتزود منها، وإن انكسر شيء من هذه الشواني والعياذ بالله في مينا من المواني التي انعقدت الهدنة عليها وسواحلها فإن كانت قاصدة إلى من له مع
مملكة عكا أو مع من له عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى بلاد إسلامية ويبطل حركة ما انكسر منها أو يرميه في البحر، فإن لم يكن للذي تقصده الشواني معهم عهد وانكسرت فلها أن تتزود وتعمر رجالها من البلاد المنعقدة عليها الهدنة وتتوجه إلى الجهة المرسوم بقصدها ويعتمد هذا الفصل من الجهتين. وفتح(2/119)
حصن الكرك 685 بالأمان وجهز عسكراً كثيفاً من العساكر المصرية والشامية إلى قلعة صهيون فتسلمها من سنقر الأشقر بالأمان. ثم سار جيش السلطان إلى اللاذقية، وكان بها برج للفرنج يحيط به البحر من جميع جهاته، فركب طريقاً إليها في البحر بالحجارة وحاصروا البرج وتسلموه بالأمان وهدموه وفتح طرابلس 688، وكان البحر يحيط بغالب أطراف هذه المدينة ولا تقاتل إلا من جهة الشرق، ولما نازلها نصب عدة منجنيقات كبيرة وصغيرة وألح عليها بالحصار ففتحها بالسيف، ودخلها العسكر عنوةً بعد حصار 33 يوماً، فهرب أهلها إلى المينا وركبوا في المراكب وقتل غالب رجالها وسبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمة عظيمة، وأمر السلطان فهدمت طرابلس ودكت إلى الأرض. وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس وبينها وبين طرابلس المينا، فلما أخذت طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالم عظيم من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر وعبروا بخيولهم سباحة إلى الجزيرة، فقتلوا جميع من فيها من الرجال وغنموا من بها من النساء والصغار - نقلت معظم هذا من تاريخ أبي الفداء، ويقول ميشو: إن المسلمين لما استعادوا طرابلس أهلكوا ساكنيها من الصليبيين إلا قليلاً وأمر السلطان بإحراق المدينة وهدمها وكان فيها مصادر الثروة والرخاء وكل ما يزهو به السلام ويستخدم في الدفاع زمن الحرب فخرب كل ذلك تحت الفأس والمطرقة قال: لما
أنزل الصليبيون عسكرهم على سواحل الشام سنة 1366م واستولوا على طرابلس أوقدوا النار فيها وكان حظ طرطوس واللاذقية وعدة مدن فينيقية مثل ذلك.
ولما فتحت طرابلس كتب محيي الدين بن عبد الظاهر كتاباً يصف هذا الفتح قال فيه: إن الحصار استمر من مستهل ربيع الأول إلى يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر فزحف عليها في بكرة ذلك النهار زحفاً يقتحم كل هضبة ووهدة، وكل صلبة وصلدة، وطلعت سناجق الإسلام الصفر على أسوارها. وكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة في يوم الثلاثاء واستردت في يوم الثلاثاء وفي رسالة أخرى أنها قامت بيد الإفرنج مائة سنة وستاً وثمانين سنة.(2/120)
وقال مؤرخو لبنان: إن الكسروانيين والجرديين نزلوا من الجبال لنجدة الفرنج في طرابلس وقتلوا من عسكر السلطان خلقاً كثيراً فبرز الأمر من حسام الدين باستئصالهم. ومن ذلك الوقت خربت كسروان والذين سلموا من أهلها تشتتوا في كل صقع. قالوا: ومن جملة أوامر حسام الدين إلى أمراء غرب بيروت التنوخيين إذا توجهوا إلى كسروان وجرده بجموعهما، أن كل من سبى امرأة منهم كانت له جارية، أو صبياً كان له مملوكاً، ومن أحضر منهم رأس رجل فله دينار. وذكروا أن الخراب استولى على الأقطار الشمالية بسبب تقلقل أحوال ملوك مصر والشام، والحروب الثائرة مع التتر من جهة ومع الفرنج من أخرى، فكان الناس يرغبون في سكنى الجبال العالية الصعبة المسالك وقدم إلى جبل لبنان في ذلك الحين خلق كثير ومنهم أهل وادي التيم وخلا هذا الوادي من السكان خمسة أعوام ولم يكن فيه بلد عامراً سوى حاصبيا وكذلك البقاع. ثم عاد الناس وعمروا بعض القرى في جبل حاصبيا فقط.
وفاة قلاوون وسلطنة ابنه الأشرف خليل وإثخانه في
فرنج الساحل:
توفي المنصور قلاوون 689 وكان ملكاً مهيباً حليماً قليل سفك الدماء كثير العفو، شجاعاً أقام منار العدل وأحسن سياسة الملك أحسن قيام وفتح الفتوح الجليلة التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على مثلها وهو الذي وطد حكم المماليك على الشام وأصلح كما في المعلمة الإسلامية بالتدريج ما أحدث المغول فيه من التخريب، وقام بأعمال مهمة من مثل ترميم قلعة حلب وبعلبك ودمشق. وهو الوحيد من ملوك المماليك الذين تسلسل الملك في أعقابهم وألفوا دولة فإن أعقابه حكموا إلى سنة 783هـ 1382م خمسة بطون. وقد عقد معاهدات مع الدول التي يخشى بأسها ويمكن الانتفاع بحسن الصلات معها، مثل المعاهدة التجارية مع جمهورية جنوة ومعاهدة دفاعية مع الملكين الفونس ملك قشتاله وجاك ملك صقلية. وعقدت هدنة بين الملك المنصور قلاوون الصالحي وولده الملك الصالح علي ولي عهده وبين حكام الفرنج بعكا وما معها من بلاد سواحل الشام في شهور سنة اثنتين وثمانين وستمائة وهي يومئذ بأيديهم لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر(2/121)
ساعات على أن لا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعين فيها من البلاد، وعلى أن الفرنج لا يجددون في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن أسوار هذه الجهات الثلاث المذكورات لا قلعة ولا برجاً ولا حصناً ولا مستجداً. ومما جاء فيها أن شواني السلطان وولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية وإن انكسر شيء من هذه الشواني في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها فإن كانت قاصدة من له مع مملكة عكا ومقدمي بيوتها عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى
البلاد الإسلامية، ومتى تحرك أحد من ملوك الفرنجة وغيرهم من جُوّا البحر لقصد الحضور لمضرة السلطان وولده في بلادهما المتفقة عليها هذه الهدنة فيلزم نائب المملكة والمقدمين بعكا أن يعرفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة لمدة شهرين وإذا قصد البلاد الشامية عدو من التتر وغيرهم في البر وأغارت العساكر الإسلامية من قدام العدو ووصل العدو إلى القرب من البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرة فيكتب إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها أن يدرأوا عن بيوتهم ورعيتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه. وإن حصل جَفل من البلاد الإسلامية إلى البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة فيلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر ويكونون آمنين مطمئنين بما معهم.
وعقد الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب مع الأشكري صاحب القسطنطينية سنة 680 هدنة على أن لا يحارب أحدهما الآخر ويرعبا التجار في بلادهما. وكانت سفراؤه تغدو وتروح إلى أمبراطور بيزنطية والأمبراطور رودولف دي هابسبورغ وملك اليمن وأمير سيلان وغيرهم من أمراء الشرق. ولهذا السلطان آثار جليلة في العمران في القدس ودمشق وغيرهما من ربوع الشام تدل على بعد نظره وحبه للمصالح.
وجلس في السلطنة بعد قلاوون ابنه الأشرف صلاح الدين خليل وسار على قدم أبيه في جهاد الصليبيين. وكان أول عمل اتجهت إليه همته بعد أن قدم تجار الفرنج إلى عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين 689 أن نهض(2/122)
من مصر لفتح عكا بالعساكر المصرية والشامية فهرب جماعة من أهلها من الفرنج في المراكب لما هاجمها المسلمون كما فعلوا في طرابلس على عهد والده واستنزل الأشرف جميع من عصى بالأبرجة التي كانت داخل البلد، وهي بمنزلة قلاع دخلها عالم
عظيم من الفرنج وتحصنوا بها فاستنزلهم السلطان وأمر بضرب أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بالمدينة فهدمت إلى الأرض ودكها دكاً. وكانت كما قال الذهبي من أحسن المدائن بالعمارة والبناء الفاخر فلما فتحها الأشرف وهدم سورها هرب أهل المدينة منها وصارت خراباً، وصار الناس من حينئذ ينقلون منها الرخام الملون مدة طويلة. ومما وجد مكتوباً على باب كنيسة من كنائس عكا أبيلت لابن ضامر الضبع:
أم الكنائس إن تكن عبثت بكم ... أيدي الحوادث أو تغير حال
فلطال ما سجدت على أبوابكم ... شمُّ الأنوف جحاجح أبطال
صبراً على هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال
ولما فتحت عكا رُعب الفرنج في الساحل فأخلوا صيدا فأخربها السلطان وجزيرتها وقلعتها الجنوبية والشمالية. واستولى على بيروت فهدم سورها ودك قلعتها وكانت حصينة جداً واستولى على صور وكان أهلها مثل سائر الساحل. وكذلك عثليث وكانوا أوقدوا فيها النار. وسلمت أنطرطوس بالأمان وطرد السلطان الفرنج من جبيل وهدمها ودك قلعتها. وهربوا من أنفة والبترون وصرفند وإسكندرونة بالقرب من عكا وذلك في مدة سبعة وأربعين يوماً وكان فتحاً مبيناً.
خرب الساحل كما رأيت بهذه الضربة الأخيرة ولكن استقلت الشام ونجت من بقايا الصليبيين الذين كانوا ينغصون عيش الدولة والأمة، ولا يؤخذ على الأشرف استئصاله شأفة أعدائه وإهلاكه لهم عن آخرهم، فقد كان على الصليبيين بعد وقعة حطين وفتح القدس أن يغادروا القطر جملة واحدة وظنوا تسامح صلاح الدين يوسف معهم يومئذ ضعفا وأدرك كل من تولى زعامة الشام بعده أنه يستحيل الخلاص من الفرنج إلا بإفنائهم، وآخر الدواء الكي.
الحملة الصليبية السابعة وانتهاء الحروب الصليبية:
دخلت الجيوش الصليبية الشام سنة 491 وخرج منها آخر المنهزمين سنة(2/123)
690 أي إنهم ظلوا مئتي سنة يحاربون الشام ومصر. تعاقبت فيهما عدة دول إسلامية على البلاد، وكلها حاربت هؤلاء الدخلاء بما وسعها أن تحارب، وربما قتل من الفريقين خلال ذينك القرنين ما لا يقل عن بضعة ملايين من الأنفس، ولو لم تنقطع الرغبات في الغرب وتبطل النجدات بل الحملات الكبرى التي أصبح الباباوات والملوك يوجهونها في وجهات أُخرى لقتال المسلمين لطال أمدها أكثر مما طال.
قلنا: إن الحملة الصليبية السادسة كانت بقيادة الأمير فريدريك الثاني، وهي الحملة التي عقدت معاهدة مع ملك مصر والشام تنازل فيها هذا عن القدس وبيت لحم والناصرة عشر سنين، فلما انتهت المدة عادت القدس إلى المسلمين وعندها عمد سان لوي ملك فرنسا أن يسترجعه منهم، وكان السبب في تأليف الحملة الصليبية السابعة والثامنة. جاء في الأولى إلى دمياط وانهزم مع جيشه هزيمة فاضحة في المنصورة بمصر وأُسر هو وجميع من معه من الرجال وعدتهم ثلاثون ألفاً، فاضطر أن يدفع فدية عظيمة عن نفسه وعن جماعته ثم عاد إلى فرنسا فزين له أخوه أن يغزو تونس ومنها يذهب ليفتح مصر والشام فهلك في تونس بالطاعون 1270م وبذلك انتهت الحروب الصليبية. نشأت في فرنسا وانتهت بفشل ملكها ثم بهلاكه.
ولقد عدّ الفرنج من الفوائد التي جنوها من الحروب الصليبية أنهم أوقفوا سير المسلمين عن التقدم، وتعلم ملايين منهم أُموراً ما كانوا يحلمون بوجودها، وأخذوا عن الروم والعرب ما كان عندهم من أسباب المدنية التي لم يكن للفرنج عهد بها. فإن كثيراً من أصناف البقول نقلوها إلى أوروبا وشاعت هناك ولم تكن تعهد عندهم، وقد تعلم صناعة الورق رجلان إفرنسيان كانا أسيرين في دمشق، وأدخلا
صناعته إلى فرنسا، فكان للشام على فرنسا هذا الفضل، ومنها شاع صنعه في سائر ممالك الغرب، وتعلموا صنع الأقمشة الدمشقية والسيوف وغيرها من الصنائع الجميلة.
قال مكسيم بتي في تاريخ الشعوب العام أثناء كلامه على إخفاق الحملة الصليبية الأولى ما تعريبه: لئن كان الصليبيةن متحمسين تحمساً دينياً فقد كان ينقص هذه الستمائة ألف رجل وحدة القيادة والتجانس والامتزاج،(2/124)
وما كان لنواب البابا أدنى سلطة أدبية ولم تكن وحدة الغاية المراد بلوغها لتحول دون ظهور المطامع والمنافسات والدسائس. ويضاف إلى هذا السبب في الضعف أسباب أخرى مادية وهي صعوبة الطريق وقلة أسباب التموين وتدني القوى الحربية بسبب تفوق الجيوش في المدن المفتوحة أو رجوع بعض الصليبيين إلى الغرب إلى ما هنالك من قحط وأوبئة وخسائر في الحرب. وقال في الحملة الصليبية الثانية: إن قلة إيمان الكسيس وصعوبة التموين وقلة المؤنة جعلت الحملة شؤمى فقتل الثلاثمائة والخمسون ألف رجل الذين كانت تتألف منهم قتلاً ذريعاً في مريسوان واركلي.
ومع كثرة ما بذله أخلاف صلاح الدين من الجهد في قتال الصليبيين أمثال العادل والكامل وبيبرس وقلاوون وابنه صلاح الدين خليل، فإن الصليبيين كان يتعذر القضاء عليهم في الشام لو لم ينقطع المدد عنهم من البحر وتنصرف وجهة الصليبيين إلى قتال العرب في الأندلس. وفي الحق أن تلك الحملات الصليبية كانت شعبة من شعب الجنون فقدت فيها أوروبا أكثر مما ربحت من الأنفس والأموال. وما يدرينا أن تتقدم دولة السلاجقة في آسيا الصغرى على سمت الشمال وتقضي على مملكة الروم البيزنطية ثم تتقدم في فتوحها إلى أوروبا لو لم يشتغل ملوك المسلمين بهذه الحملة قرنين كاملين. وكانت الشام من جملة ممالك السلجوقيين وربما تبعتها مصر ففتحها صلاح الدين أو غيره باسمهم بدلاً من أن
يفتحها باسم نور الدين، وما نور الدين إلا صنيعة السلاجقة، وما جده وأبوه إلا عاملان من عمالهم.
شغلت أوروبا بمسألة إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين قرنين، وتطوعت شعوبها في هذه السبيل، ومن الأمم من لم ينلها إلا قتل رجالها وذهاب أموالها وكان الرابح على الأكثر أهل إيطاليا فإنهم حاربوا حرباً تجارية ربحوا من سفنهم وتجارتهم وخصوصاً البنادقة والجنويون والبيسيون. أما الألمان والبريطانيون والفرنسيون والهولانديون والسويسريون والنروجيون فإنهم خسروا خسارة كبيرة.
ساق الفرنج إلى الحروب الصليبية الدين والتجارة فلما فترت نغمة الدين بهلاك من كانوا يحسنون هناك الضرب على أوتارها، ولم ير التجار في هذا(2/125)
الشرق ما يكفي لسد نهمتهم وأيقنوا أن الأمر يطول إذا أرادوا القضاء على جميع الممالك الإسلامية في آسيا فترت هممهم بالطبع، لكن الشام بعد ذلك وإن كانت الدول الأتابكية والنورية والصلاحية ودولة بيبرس وقلاوون وابنه يعمدون حالاً إلى ترميم ما خربه الأعداء لإيقانهم أنها بلادهم ولا بدلهم من دفع أعدائهم عنها، وأنهم يسترجعونها لا محالة وسيدالون منهم، مهما طال مقام من استصفوا بعض السواحل وبيت المقدس فكان الأمر كما اعتقدوا.
وكلما طال احتلال الصليبيين كانت الأمة تستمرىء طعم الموت لطردهم، وكلما رأت من ملك أو أمير تغاضياً عنهم أو اتقاء عاديتهم بالمعاهدات والمهادنات كانت تستهين به وتدعو أن لا تدوم أيامه. وعلى ما بذل الصليبيون من استمالة جيرانهم ما عدّهم هؤلاء قط إلا غاصبين أرضهم، دخلاء على الملك الإسلامي. ولو لم يؤسس الدولة في الشام ومصر ملك عاقل عادل مثل نور الدين ويتم عمله عاقل عادل من طرازه أي صلاح الدين لما تمّ الفتح الأخير على يد الأشرف خليل، ولما تمم أخلافه بعده الخطة المرسومة. ولو كان الملك لا يوسد إلا للكفاة من أبناء
الملك أو لأكبرهم سناً، ولو لم يكن شجر الخلاف بين آل أيوب، لضرب الصليبيون الضربة القاضية الأخيرة بعد مهلك صلاح الدين بعشر أو بعشرين سنة على الأكثر، إذ كان يتأتى للمسلمين أن يجمعوا قواهم بعد فشل جيش صلاح الدين على عكا بما جاء الصليبيين من النجدات العظيمة في البحر. ولكن مات صلاح الدين قبل أن يطبق خطته، وشغل أخوه وأولاده بالتنازع على الملك، وعدوا الهدنة الطبيعية التي مضت بين أخذ عكا واستلام القدس ثانية من المسلمين نعمة عليهم لتشبع نفس كل طامع منهم بالملك والسلطان، وغفلوا عن أعدائهم الذين لم يكد يغفل عنهم نور الدين وصلاح الدين سنة واحدة إلا ريثما يجمعان قواهما، وقد كانا لهذا الغرض يصانعان ملوك الأطراف ليسيروا معهما على قتال الأعداء، أما أخلافهم فكانت سياستهم في الأكثر موجهة إلى اختراع الطرق لقضاء بعضهم على بعض، أو لاستئثار قويهم بملك مصر أو دمشق أو حلب أو الكرك والشوبك أو ماردين أو خلاط، فشغلوا بداخليتهم أكثر من اشتغالهم بأمور الجهاد وهي أهمّ وأعظم، هذا وأكثر أولئك الملوك كانوا قد تشبعت نفوسهم بالتربية العالية والعلم والأدب الغزير،(2/126)
وكانوا على معرفة تامة بفتح المعاقل والحصون، ومعرفة بعلل الحروب وقواعد السلم، وإعطاء العهد وعقد الهدنة والصلح، ورثوها واقتبسوها من أخلاق البانيين لمجدهم نور الدين وصنيعته صلاح الدين.
ومما أخر القضاء عشرات من السنين على بقايا الصليبيين في الساحل ظهور التتر في القطر بعد قضائهم في منتصف القرن السابع على الخلافة العباسية، فأصبحت الشام بين عدوين أتى الأول من الغرب فأقام وطال مقامه، وجاءها الثاني من الشرق، والشر قد يأتي من الشرق، فكان يخرب في أصقاعها ويغنم ويقتل ثم يذهب ثم يعاودها. ولكن ما حدث من حروب الخوارزمية ثم أخلاف هولاكو في هذا القطر يعدّ مناوشات إذا قيس بالحروب والخراب الذي حدث بعد ذلك فأهلك
الأخضر واليابس، وغدا القطر غرض النابل، وفريسة الصائل.
وفي التاريخ العام أنه كان من نتائج الحروب الصليبية إذا صرف النظر عمن هلك فيها من ملايين الخلق، إحداث إمارات كاثوليكية في الشرق انتزعت من المسلمين والبيزنطيين واحتلها فرسان فرنسيون وتجار طليان. وقد طرد هؤلاء الأوروبيون لقلتهم بدون أن يتركوا سوى آثار معاقلهم في المواني وعلى صخور يونان والشام، ولكن هيأ الصليبيون لنصارى أوربا أن يكونوا على صلات متصلة مع الشرق مدة قرنين اه قلنا: وهذه النتيجة من ربط الصلات مع الشرق كان يتأتى لأوروبا الحصول عليها بدون إهراق هذه الدماء وإتلاف الأموال العظيمة وغرس البغضاء في نفوس من نزلوا عليهم.
وفي تاريخ الشعوب العام أن من جملة فوائد الحروب الصليبية أنها أوقفت سير المسلمين نحو أوروبا، وقربت بين شعوب أوروبا وجمعتهم تحت لواء واحد وأشعرت قلوبهم حب الوحدة الأدبية وساعدت على إيجاد فكرة أوربية. وأخذ المسلمون والنصارى يعرف كل منهم الآخر ويعرفون كيف يحترم بعضهم بعضاً، وعقدت بينهم المعاهدات والصلات خلال المهادنات والانقطاع عن استعمال السلاح. وقد جهز ريشاردوس فئة من العرب جعلهم فرساناً، وعقد أنكحة بين الطائفتين ودخل التسامح المتبادل في الأخلاق. وما خلت الصناعات والهندسة والفنون والأزياء واللباس والفنون الحربية من تأثيرات الشرق وقد دخلت المدنية الشرقية في مدنية الغرب دون أن تستغرقها أهـ.(2/127)
وفي تاريخ فلسطين أن من أضرار الحروب الصليبية في الشام إيقاد جذوة التعصب الديني بين المسلمين والمسيحيين، ورأى هؤلاء أن مسلمي العرب أحسنوا إليهم يوم الفتح أكثر مما رأوا من هؤلاء الفرنج الذين أنكروا أبناء دينهم. ومنها تخريب البلدان وقطع الأشجار حتى زادت الأسعار ستة أضعاف ما كانت عليه
ومنها تلطيخ الدين المسيحي والازدراء بتعاليمه، لأن مسيحيي الصليبيين كانوا أبعد الناس عن دينهم. وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين تقيدوا بالفضائل الدينية وراعوا المصلحة الإنسانية أكثر من الفرنج الناكثي العهود والقاتلي الأسرى، والذين أفحشوا في سفك الدماء لما دخلوا القدس وحقروا الديانة المسيحية اه.
لا جرم أن الصليبيين افتضحوا في هذا الشرق بأخلاقهم وقلة معرفتهم، وعرفوا بعد أن أخفقت الحملة الثامنة واصطلموا من الساحل مبلغ قوة أعدائهم، وأنهم في أرضهم، وهم يحتاجون إلى الرحيل أشهراً في البر وفي البحر. وذكر ميشو أن الفرنسيس والنور مانديين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد كانوا في حالة البداوة وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولاً إلى الملوك أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم ولا الشعوب أن تفارق مساقط رؤوسها، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة وتقاليد كل شعب وقطر والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غيّر من أخلاق الفرنج وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وقد كتب التوفيق للملاحة في القرن التالي واكتشفت أميركا واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح فنشأ من هذه الاكتشافات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والوقائع. فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب اهـ.(2/128)
هذا ما قاله مؤرخ ثقة من مؤرخيهم في القرن الماضي، وإليك ما قاله أديب كبير
من أدبائهم المحدثين كلود فارير: في سنة 732 للميلاد حدثت فاجعة ربما كانت من أشأم الفجائع التي انقضت على الإنسانية في القرون الوسطى، فغمرت العالم الغربي مدة سبعة أو ثمانية قرون إن لم نقل أكثر في طبقة عميقة من التوحش، لم تبدأ بالتبدد إلا على عهد النهضة، وكاد عهد الإصلاح يعيدها إلى كثافتها الأولى، وهذه الفاجعة هي التي أريد أن أمقت حتى ذكراها، وأعني بها الغلبة المكروهة التي ظفر فيها على مقربة من بواتيه برابرة المحاربين من الفرنج بقيادة الكارولنجي شارل مارتل على كتائب العرب والبربر ممن لم يحسن الخليفة عبد الرحمن جمعهم على ما يقتضي من الكثرة فانهزموا راجعين أدراجهم.
وفي ذلك اليوم المشئوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء، ويكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين العاديات التي لا تزال تأخذ بالأبصار مما يبدو من عواصم السحر والخيال إشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطله ليشاهد والألم الغريب آخذ منه ما عساها أن تكون بلادنا الفرنسية لو أنقذها الإسلام الصناعي الفلسفي السلمي المتسامح - والإسلام مجموعة كل هذا - من الأهاويل التي لا أسماء لها، وكان منها أن أنتجت خراب غاليا القديمة التي استعبدها أولاً لصوص أوسترازيا ثم اقتطع جزءاً منها قرصان النورمانديين ثم تجزأت وتمزقت وغرقت في دماء ودموع، وفرغت من الرجال بما انبعث في أرجائها من الدعوة للحروب، ثم انتفخت بالجثث بما دهمها من الحروب الخارجية والأهلية الكثيرة، حدث ذلك على حين كان العالم الإسلامي من نهر الوادي الكبير إلى نهر السند يزهر كل الإزهار في ظل السلام تحت أعلام أربع دولات سعيدة: الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية.(2/129)
دولة المماليك
من سنة 690 إلى 790
فتوح أرمينية وعصيان الموارنة بعوامل صليبية:
أصبحت مصر والشام بعد انقضاض الصليبيين من السواحل، ووضع السيف في بقاياهم، واعتصام جزء قليل منهم بالموارنة في لبنان مملكة واحدة لا يتخللها أرض لغير مالكها، ولا ينازعها سلطان من غير المسلمين، وأصبحت حوادثها وطنية محلية يدور محورها على الاستئثار بالملك، والذهاب بفضل السبق، والتفكر فيما يدفع العوادي عن حدود القطر أو يوسعها إلى المدى المقدّر لها، وبعد أن كانت الشام مصدر الأعمال والسياسة نازعتها مصر في هذا الشأن، فابتلع القطر المصري الشام وعده كما كان زمن الفاطميين جزءاً متمماً لمصر لا قطراً مستقلاً بنفسه وسياسته. أي إن القوة أصبحت بعد عهد العادل تستمد في الشام من مصر لأنها مقر السلطان، ومصر بين أقطار تحيط بها الصحاري من أطرافها، لا سبيل كل حين إلى غزوها كما تغزى الشام من أطرافها الأربعة، وليس في أمراء برقة وطرابلس وتونس والنوبة والسودان والحبشان من يستطيع أن يغزو مصر ويحلم بفتحها، ولذلك كانت الشام بعد غهد الأمويين أشبه بإمارة سلطانها الأكبر في مصر ويتولاها نائبه أو نوابه.
ولم يكتب للشام أن تصبح دار ملك بعد عهد الدولتين النورية والصلاحية، وكان أهم عدو مجاور لها صاحب سيس، فإن الأرمن كانوا قد جمعوا شملهم بعد أن قضت على سلطانهم الدولة الأيوبية، وانتزعت منهم خلاط أوائل(2/130)
القرن السابع، وكانت خلاط قاعدة أرمينية الوسطى أخذها بنو أيوب لمكانهم فيها من عصبية الأكراد، وهي قسم من أرمينية الكبرى وقاعدتها سيس، وقد ذهب الملك الأشرف سنة 691 في عساكره المصرية والشامية وقصد قلعة الروم وهي على جانب
الفرات يقيم بها خليفة الأرمن كيتاغيكوس فأخذه ومن معه أسرى، ورمَّ ما تخرب من تلك القلعة الحصينة.
تقدم أن فرنج الساحل لما أصابتهم الضربة القاضية اعتصم بعضهم بأهل جبل لبنان ونزلوا عليهم، وعاد آخرون إلى بلادهم في المراكب، وقد أثار هذا القسم اللاجئ إلى لبنان في نفوس بعض أهله فكره العصيان فعصوا، فتوجست دولة الأشرف منهم خيفة فأرسلت عليهم حملة من دمشق 691 بقيادة بدر الدين بيدرا، فسار إلى جبل كسروان في العسكر وعدة من الأمراء فانحل عزمه لما تمكن الكسروانيون من بعض العساكر في تلك الجبال ونالوا منهم، وعاد العسكر شبه المكسور وحصل لأهل الجبل الطمع والقوة، فأطلق محابيس لهم بدمشق من أرباب الجرائم العظيمة، وحصل لهم من جميع المقاصد ما لم يكن في حسابهم. قال مغلطاي: وكل ذلك من الطمع وسوء التدبير.
وفي كتاب الهدنة التي عقدت بين الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية بين حاكم الريدارغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس وأخويه دون وفلدريك ودون بيدرو وبين صهريه دون شانجه ملك قشتالة وطليطلة وليون وبلنسية وقرطبة وأشبيلية ومرسية وجيان والغرب الكفيل بمملكته أرغون وبرتقال دون ألفونس ملك برتغال في تاريخ 692 أمر الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كل منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج أنهم يجلبون من الثغور الآسيوية الحديد والبياض والخشب وغير ذلك. وأن سائر أصناف البضائع المتأخرة على اختلافها تستمر على حكم الضرائب المستقرة في الديوان المعمور.
وجاء الأشرف 692 لتجهيز العسكر لقصد سيس فوردت عليه رسل صاحبها يطلب الصلح ورضا السلطان عليهم، فرضي على أن يسلموا لنواب(2/131)
السلطان ثلاث
قلاع وهي: بهسنى ومرعش وتل حمدون. وكانت بهنسى قلعة حصينة في فم الدربند وباب حلب، فلما انتقلت من أيدي المسلمين إلى أيدي الأرمن وقت مجيء التتر كان منها على المسلمين أذى، فلما فتح السلطان قلعة الروم وأخذ خليفة الأرمن حصل للأرمن خوف عظيم فصانعوا عن أنفسهم بهذه القلاع. قال مغلطاي: ورسم السلطان في هذه السنة للأمير عز الدين الأفرم بأن يسافر إلى الشوبك وأن يخرب قلعتها فراجعه في إبقائها فنهره فسافر وأخربها وكان هذا غاية الخطأ وسوء التدبير فإن هذا الملك كان طالعه يقتضي الخراب فإنه أخرب في قلعة الجبل أكثر بنيانها، وكذلك في قلعة دمشق أخرب قاعات كثيرة وبظاهر دمشق من حد الميدان إلى تحت القلعة، وكان على يده خراب جميع الساحل وتعطلت بلاده من جميع الأصناف التي تجلب من البحر وبقيت الشام معطلة. قلنا: ولكن هذا السلطان وأبوه دفعا الصليبيين عن القطر واجتثا أصولهم وفروعهم وأدخلاه في عهدهما في دور عز وقوة ووحدة حقيقية. واتسعت مملكة قلاوون حتى خطب باسمه في إفريقية تونس قال ابن إياس: وكان من أجل الملوك قدراً وأعظمهم نهياً وأمراً وأكثرهم معروفاً وبراً، وقد جبلت القلوب على محبته سراً وجهراً اه. وقد خلف آثاراً مهمة ومصانع خالدة في مصر وبعض الشام تدل على ذوق وحسن هندسة، وتسلسل الملك في أولاده وأحفاده لأن الرعية كانت تحبه فأحبت آل بيته، وخفت وطأة المماليك في أيامه ثم عادت تدريجياً إلى القوة والعرامة.
اغتيل 693 الأشرف صلاح الدين خليل بيد بعض أعيان الدولة بمصر واتفق قاتلوه على سلطنة بيدرا وتلقب بالقاهر، ثم اتفق الحزب القوي منهم فبايعوا للناصر ولد المنصور ثم تغلب 694 زين الدين كتبغا نائب السلطنة على سرير المملكة، واستحلف الناس على ذلك وخطب له بمصر والشام، ونقشت السكة باسمه
وجعل الناصر في قلعة الجبل وحجب الناس عنه فتزعزعت أعصاب المملكة لهذه الحوادث المشئومة التي تورث النفوس كآبة وأعمال الناس فتوراً.
ولما عاد العادل كتبغا من دمشق إلى مصر بالعساكر 696 ووصل إلى نهر العوجا تفرقت مماليكه وغيرهم فركب حسام الدين لاجين المنصوري نائب(2/132)
الملك العادل كتبغا ومعه فريق من الأمراء فهرب كتبغا إلى دمشق ودخل قلعتها واهتم في جمع العساكر والتأهب لقتال لاجين فلم يوافقه عسكر دمشق ورأى منهم التخاذل فخلع نفسه من السلطنة وأرسل إلى لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه فأعطاه صرخد. وأما حسام الدين لاجين فإنه لما هزم العادل كتبغا نزل بدهليزه على نهر العوجا واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك، وشرطوا عليه شروطاً التزمها، منها أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا. فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، ورحل بالعساكر إلى الديار المصرية، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري وجعله نائب السلطنة بالشام.
ومن أهم ما وقع من الحوادث في عهد هذا الملك دخول غازان من أحفاد هولاكو 696 دمشق ثم ارتجاعه عنها بعد أن بذل له أهلها مالاً عظيماً. ثم تجريد السلطان العسكر الكثيف من مصر والشام 697 لشن الغارات على سيس فضاقت على الأرمن الأرض بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل المسلمون منهم، وغنموا حتى اضطر ملكهم أن يبذل الطاعة لصاحب مصر والشام، والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وإلى الاعتراف بأنه نائب السلطان في بلاده فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن يسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والمدن، فأجاب عظيمهم إلى ذلك وأخذ حموص وتل حمدون
وسرفندكار ومرعش وحجر شغلان وغيرها من الحصون والقلاع. وفي سنة 697 أيضاً وفد أحد مقدمي المغول إلى المنصور لاجين وطلب نجدة ليعود إلى الروم فجرد معهم من حلب عسكراً مقدمهم بكتمر الجلمي، وساروا مع المقدم سلامش المغولي حتى تجاوزوا بلد سيس فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي وهرب الباقون.
وفي سنة 698 وحشت نفوس الدولة مما يأتيه منكوتمر من إمساك الكبار وسقي بعضهم، وذهب نائب دمشق قبجق بالعساكر فنزلوا بأرض حمص وهناك بكتمر السلحدار بطائفة من المصريين فتكلموا في مصلحتهم، وأن(2/133)
منكوتمر لا يفتر عنهم فاتفقوا على المسير إلى غازان ملك التتر لعلمهم بإسلامه فسارا إلى حمص ونزلا بخواصهما، فأخذا على ناحية سلمية وعديا الفرات فلم يكن بعد عشرة أيام من مسيرهم إلا وقد جاء البريد بقتل المنصور حسام الدين لاجين المنصوري وقتل منكوتمر نائبه وعلم الأمراء المخامرون بقتلهما، فاتفق رأي أرباب الدولة في مصر على إعادة الناصر محمد إلى مملكته فجيء به من الكرك وجلس على سرير سلطنته للمرة الثانية. ووصلت هذه السنة إلى بيروت مراكب كثيرة وهي ثلاثون بطسة وفي كل واحدة سبعمائة مقاتل من الفرنج للطلوع إلى الساحل والإغارة على ديار المسلمين فأصابتهم عاصفة أغرقت سفنهم ورجع الباقون خائبين.
وقائع التتر:
لم تكد نازلة الصليبيين تنحسم حتى كان المصاف العظيم بين المسلمين والتتر في سنة 699 فسار غازان بن أرغون خان بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان، بجموع عظيمة من التتر والكرج والمزندة وغيرهم وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ونزل على وادي مجمع المروج، وسارت العساكر صحبة
الناصر إلى جهة المجمع، وكان سلار والجاشنكير متغلبين على المملكة فداخل الأمراء الطمع ولم يكملوا عدة جندهم فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر. والتقوا بالقرب من مجمع المروج شرقي حمص فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة وثبت القلب وأحاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم وتأخر السلطان إلى جهة حمص، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر وانهزم السلطان إلى نحو بعلبك بعد أن تلاقى عسكر مصر وعسكر التتر على مرج راهط تحت جبل غباغب جنوبي دمشق ووقعت بينهما وقعة عظيمة. وكان مع العسكر المصري من العسكر الشامي وعربان من جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان في بعض الروايات ومع غازان مثل ذلك أو أكثر.
تتبع التتر المنهزمين من المسلمين في وقعة مجمع المروج حتى بلغوا دمشق واستولوا عليها ونهبوا ضياعها وسبوا أهلها، وساروا في أثر الجفّال إلى غزة(2/134)
والقدس والكرك. ولما استولى غازان على دمشق أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهلها ولغيرهم منه. وكانت قلعة دمشق عصت على غازان فحاصرها وكان الأمير بها أرجواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها - هذا ما قاله أبو الفداء وابن إياس -. ووصف مغلطاي ما حل بدمشق وضواحيها من التتر وما جرى على العساكر المصرية والشامية، وما تم من تخريم الدور والمساكن بظاهر دمشق مثل الصالحية والحواضر البرانية من العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر السماق وقد خرب منها واستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن قال: إنهم أسروا من الصالحية نحو أربعة آلاف نسمة وقتلوا نحو ثلاثمائة أو أربعمائة أكثرهم في التعذيب على المال. ودام التتر نحو أربعة أشهر. وكان عدد من دخلوا دمشق من التتر أربعة آلاف مقاتل. وقد احترقت
أماكن حول قلعة دمشق منها دار الحديث الأشرفية وما قبالتها إلى العادلية الصغرى والعادلية الكبرى وأحرقت دار السعادة وكانت مقر نواب السلطنة وما حولها، واحتاط التتر بهذه النواحي والأماكن التي لم يصل إليها الحريق فنهبت ونقضت أخشابها، وقلع ما فيها من الرخام وأخذ ما فيها من الأثاث، وكذلك فعل بجميع الصالحية.
وعقيب أن تم كل هذا الحيف جاء رسول التتر إلى دمشق بالأمان ومما شرطه في تقليده وكان مكتوباً بالعربية، أن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان على اختلاف أديانهم من اليهود والنصارى والصابئة، فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم من الوظائف الشرعية. وقال صاحب التتر: إنه حارب حكام مصر والشام لأنهم خارجون عن طريق الدين غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي العادية إلى حريمهم وأموالهم، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. قال مغلطاي: إنه حمل إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى ما لحق من التراسيم المقررات والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك. وقال الصفدي: وإلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية ما قيمته ستمائة ألف درهم وإلى الأصيل بن نصير الدين الطوسي مائة ألف درهم.(2/135)
ولعلي الأوتاري الدمشقي في هذه الموقعة من قصيدة:
أحسن الله يا دمشق عزاكِ ... في مغانيك يا عماد البلادِ
وبرستاق نيربيك مع المز ... ة مع رونق بذاك الوادي
وبأنس بقاسيون وناس ... أصبحوا مغنماً لأهل الفساد
طرقتهم حوادث الدهر بالقت ... ونهب الأموال والأولاد
وبنات محجبات عن الشم ... تناءت بهن أيدي الأعادي
وقصور مشيدات تقضت ... في ذراها الأيام كالأعياد
وبيوت فيها التلاوة والذك ... وعالي الحديث بالإسناد
حرقوها وخربوها وبادت ... بقضاء الإله رب العباد
وكذا شارع العقيبة والقص ... ر وشاغورها وذاك النادي
أقام غازان بمرج الزنبقية من ضواحي دمشق. ثم عاد إلى بلاده تبريز وقرر في دمشق قبجق ولم يستفد إلا التخريب وقتل بعض جيشه وجيشي مصر والشام، فلما بلغ العساكر مسير غازان عن الشام خرجوا من مصر وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية ومسير سلار وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام فسارا بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر والالبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم، فلما خرجت العساكر من مصر هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر وساروا إلى مصر، وبلغ التتر بدمشق ذلك فخافوا وساروا من وقتهم إلى الشرق، ورتب جمال الدين أقوش الأفرم في نيابة السلطنة بدمشق، وأقر سنقر في نيابة السلطنة بحلب، وقطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون، والأمير كتبغا زين الدين المنصوري بحماة. وسار جمال الدين أقوش من دمشق وصحبته من الرجالة والفلاحين جمع كثير إلى جبال كسروان لقتال أهلها عقوبة لهم عما قدمت أيديهم مما كانوا فعلوه مع المسلمين وأخذ عددهم، فدخل الكسروانيون تحت الطاعة وقرر عليهم جملة مستكثرة من المال فالتزموا به وحملوه وأقطعت ديارهم وأراضيهم.
وكان الأرمن لما وصل غازان بجموع المغول إلى الشام طمعوا في الأرجاء التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها، فتركها الذين بها من(2/136)
العسكر والرجالة فاستولى الأرمن عليها، ولم يبق مع المسلمين من تلك القلاع غير قلعة
حجر شغلان، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والعمالات التي كانت جنوبي نهر جيحان، فجردت مصر والشام عسكراً إلى سيس ونهبت وخربت. وعاد المغول فجرد صاحبهم غازان 700 مرة ثانية عسكراً على الشام بدعوى أن عساكر صاحب مصر والشام أغارت على ماردين وبلادها فطرقت القطر على حين غفلة من أهلها وهتكوا المحارم فأتاه أهل ماردين وما إليها مستصرخين ملهوفين فحركته الحمية الإسلامية - وكان دان بالإسلام حديثاً - فلاقى العسكر وفرق شملهم، وسبب رحيله المرة الأولى عن الشام أن الرعية تضررت بمقامه لكثرة جيوشه ومشاركتهم الرعية في الشراب والطعام، فرحل وترك عندهم من يحرسهم من تعدي بعضهم على بعض ويحفظ الشام من أعدائه المتقدمين وأكراده المتمردين.
ولما عبر المغول الفرات في المرة الثانية جفل الناس منهم، ودخلوا حلب وعاثوا في أرجائها، وسار نائب السلطنة بحلب إلى حماة ووصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بظاهر حماة وأقام المغول بأرجاء سرمين والمعرة وتيزين والعمق وجبال أنطاكية وجبل السماق ينهبون ويقتلون، وسار السلطان من مصر بالعساكر المصرية ووصل إلى نهر العوجا فلم يمكنه اطراد السير لكثرة الأمطار والأوجال فرجع إلى مصر. وأقام المغول يتنقلون في الديار الحلبية نحو ثلاثة أشهر ثم عادوا إلى مواطنهم. والمغول هم والتتر شيء واحد والتتر صنف من أُمم المغول. فقول المؤرخين المغول أو التتر من الألفاظ المترادفة تقريباً.
وفي سنة 702 فتحت جزيرة أرواد وهي ليعقوب الطرطوسي وكان اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج وبنوا فيها سوراً وتحصنوا وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين المترددين في ذلك الساحل، فأقلع أسطول من مصر فجرى بين الفرنج والمسلمين قتال شديد انتصر فيه المسلمون وملكوا الجزيرة وقتلوا
وأسروا جميع أهلها وخربوا أسوارها، وكان القتلى نحواً من ألفين والأسرى نحو خمسمائة. وفي هذه السنة نزلت الفرنج على نهر الدامور بين صيدا وبيروت، ورفعت الشكايات إلى نائب دمشق الأفرم في الجرديين(2/137)
والكسروانيين - وكانوا أعواناً للفرنج والحكومة في دمشق تعمل جهدها لمنع الفرنج عن الاجتماع بأهل كسروان - فحشدت جيوش الشام لمقاتلتهم، فحمل الكسروانيون على الجيش الشامي فقتلوا أكثره وغنموا أمتعتهم وسلاحهم، وأخذوا أربعة آلاف رأس من خيلهم وقدمت الأكراد لنجدتهم، فصدهم كمينان في الفدار والمدفور فلم يخلص منهم إلا القليل وخربوا بعض الغرب، وكان أمراء الغرب التنوخيون مع جيش دمشق فعاد الجرديون فغزوا عين صوفر وشليخ وعين زيتونة وبحطوش وغيرها. ويقول صالح بن يحيى: إن السبب في قتالهم أن الهاربين من وجه التتر من العسكر 699 حصل لهم أذية من المفسدين وخصوصاً من أهل كسروان وجزّين وأكثرهم أذية للهاربين أهل كسروان فإنهم بلغوا إلى أن أمسكوا بعضاً منهم وباعوهم للفرنج، وأما السلب والقتل فكان كثيراً إلى أن عاملت الدولة الكسروانيين بما تقدم.
وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها وسار منهم عشرة آلاف فارس، وكانوا كلهم نحواً من خمسين ألفاً عليهم خطلوشاه نائب غازان، وأغاروا على أحد أرجاء القريتين وكانت العساكر قد تجمعت في حماة بقيادة أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل ومعاونة عسكر حلب وحماة فاقتتلوا مع التتر في الكوم قريب من عُرض بين تدمر والرصافة فانهزم التتر وقتلوا عن آخرهم، وكان المسلمون ألفاً وخمسمائة فارس والتتر ثلاثة أضعافهم.
ثم سار التتر بجموعهم العظيمة صحبة قطلوشاه نائب غازان بعد كسرتهم على
الكوم ووصلوا إلى حماة فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم، واجتمعت عساكر مصر والشام بمرج الزنبقية ثم ساروا إلى مرج الصفّر لما قاربهم التتر وبقي العسكر منتظرين وصول الناصر، وسارت التتر إلى دمشق طالبين العسكر ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفّر فالتقى الفريقان واشتد القتال فانهزم التتر ولحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون فيهم ويأسرون. ووصل التتر إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك، فساروا على جانبها إلى بغداد فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة ورجع غازان من حلب(2/138)
في ضيق صدر من كسرة أصحابه وتمزقهم لبعد المسافة وتخطف أهل الحصون لهم. قال شرف الدين الوحيد في انتصار التتر مرة وكسرتهم تارة أُخرى.
وجاءت ملوك المغل كالرمل كثرة ... وقد ملكت سهل البسيطة والوعرا
فأنصفت الأيام في الحكم بيننا ... فكانت له الأولى وكانت لنا الأخرى
وقال شمس الدين السيطي:
يا مرج صفر بيضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام يؤتنف
أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رؤوس فيك تقتطف
غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بمياه الغل تغترف
دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منهم وقد زحفوا
ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا
ففي جماجمهم بيض الظبا زبر ... وفي كلاكلهم سمر القنا قصف
فروا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما ثقفوا
فما استقام لهم في أعوج نهج ... ولا أجارهم من مانع كنف
غزوة الأرمن والكسروانيين وتزعزع السلطنة:
ولما ارتاح ذهن صاحب مصر والشام من التتر عاد فجرد عسكراً من مصر وحماة وحلب 703 ودخلوا سيس وحاصروا تل حمدون وفتحوها بالأمان وارتجعوها من الأرمن وهدموها إلى الأرض. ووقع الاتفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيحان إلى حلب وللأرمن حد النهروان. وكان من نتائج معاونة التنوخيين في غرب لبنان لجيش دمشق على قتال الكسروانيين أن تأصلت العداوة بين الفريقين حتى إذا كانت سنة 704 أرسل أقوش الأفرم نائب دمشق إلى الجبليين والكسروانيين الشريف زين الدين عدنان، يأمرهم أن يصلحوا شؤونهم مع التنوخية ويدخلوا في طاعتهم، ثم أرسل إليهم الأمام ابن تيمية في صحبة بهاء الدين قراقوش فلم يحصل اتفاق، فأفتى العلماء حينئذ بنهب ديارهم بسبب استمرارهم على العصيان وإبائهم الدخول في الطاعة، وفي الدر المنظوم أن أقوش فتح كسروان من جهتها الشمالية ولذلك دعيت فتوحاً وقال آخر: إن الأفرم جمع رجال الدروز 706(2/139)
وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل والتقت الجموع عند عين صوفر وجرى بينهم قتال عظيم وكانت الدائرة على الأمراء فهربوا بحرمهم وأولادهم وأموالهم ونحو ثلاثمائة نفس من رجالهم واجتمعوا في الغار غربي كسروان المعروف بغار تيبية فوق أنطلياس فدافعوا عن أنفسهم، ولم يقدر الجيش أن ينال منهم. ثم بذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سداً من الحجر والكلس وهالوا عليه تلاً من التراب وجعلوا قطلوبك حارساً عليهم مدة أربعين يوماً حتى هلكوا داخل الغار، ثم أحاط العسكر بتلك الجبال ووطئوا أرضاً لم يكن أهلها يظنون أن أحداً من خلق الله يصل إليها، فخربوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا البيع وقتلوا وأسروا جميع من صادفوا من الدروز والكسروانيين وغيرهم فذلت تلك الجبال المنيعة بعد عزتها.
ويقول مؤرخو لبنان: إن الأفرم في هذه الحملة كان في خمسين ألف فارس
وراجل. ويقول أبو الفداء وابن الوردي: إن هذه الحملة 705 كانت على بلاد الظنينين غيرهم من المارقين عن الطاعة وكانوا يتخطفون المسلمين ويبيعونهم من أعدائهم ويقطعون الطرق. وفي تاريخ بيروت أن سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كان نسب إلى مباطنة الكسروانيين فأفحش فيهم القتل لينفي عنه هذه التهمة اللاحقة به وأن الكسروانيين بادوا وتشتتوا وأقطع هذا النائب بعضهم أملاكاً من حلقة طرابلس وجازى بعضهم بالرواتب.
وفي سنة 705 أرسل نائب السلطنة بحلب مع طشتمر مملوكه في عسكر حلب للإغارة على سيس أيضاً، وكان ضعيف العقل قليل التدبير، ففرط في حفظ العسكر ولم يكشف أخبار العدو واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعاً كثيرة من التتر وانضمت إليهم الأرمن والفرنج ووصلوا على غرة إلى طشتمر فالتقوا بالقرب من أياس فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم فتولوا يبتدرون الطريق. وتمكنت التتر والأرمن منهم فقتلوا وأسروا غالبهم واختفى من سلم في تلك الجبال.(2/140)
ولم يحدث بعد ذلك من الكوائن المهمة شيء يستحق التدوين حتى سنة 708 وقد خرج الناصر محمد بن قلاوون من مصر يظهر التوجه إلى الحجاز، فلما وصل إلى الكرك أمر الأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك. وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور، وتجاوزا الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي، ولم يتركا له غير الاسم فاشتور الأمراء فيما بينهم واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير، فجلس على سرير السلطنة على أن يكون سلار مستمراً على نيابتها.
وفي السنة التالية سار جماعة من المماليك على حمية من الديار المصرية مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر، ووصلوا إلى السلطان بالكرك
وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته، فأعاد السلطان خطبته بالكرك ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه وأنهم باقون على طاعته، وكذلك وصلت إليه المكاتبات من حلب ثم جاء من الكرك إلى حمان، وعاد فرجع إلى الكرك واستمرت العساكر على طاعته وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير وجاهره الناس بالخلاف بعد أن ساعفته الأيام، ولم يهم أنه ستخونه الأقدار، ولا تظنى أن ما بناه على شفا جرف هار.
ولما تحقق الملك الناصر صدق العساكر الشامية وبقاءهم على طاعته وولائه عاود المسير إلى دمشق فسار إلى البرج الأبيض من أعمال البلقاء، فأطاعه جند دمشق وجند حماة والساحل، وطلب نائب السلطنة الأفرم الأمان فأمنه، ولما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق سار إلى مصر وبلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك فجردا عسكراً ضخماً أقاموا في الصالحية بطريق مصر. ولما وصل السلطان إلى غزة قدم إلى طاعته عسكر مصر أولاً فأولاً ثم تتابعت الأطلاب والكتائب، وبويع له بالسلطنة للمرة الثالثة، ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك خلع نفسه من السلطنة وطلب الأمان وأعطاه السلطان صهيون ومئة مملوك ثم قبض عليه وقتل، وكذلك فعل بسلار. وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
وفي سنة 709 وقعت فتنة في حوران بين اليمنية والقيسية وحشدوا وبلغت(2/141)
المقتلة ألف نفس وكانت بقرب السويداء. وفي سنة 710 أقام السلطان ملكاً على حماة إسماعيل بن علي الملقب بأبي الفداء وهو آخر من بقي من سلالة الملوك الأقدمين في الشام. ولولا حسن سياسة أبي الفداء ما وصل إلى هذا المنصب لأن الدور أصبح دور المماليك والدخلاء وجميع مواطن النيابة أصبح فيها مماليك السلطان أو مماليك والده أو مماليك مماليك والده، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة. ولم يكن كل ملك أو قيل من هؤلاء الملوك والأقيال حراً بمملكته كما زعم بعضهم، بل
كانوا حتى من تسلسل فيهم الملك في بلدان صغيرة من الشام أشبه بأصحاب إقطاعات لا يزالون في حربهم وسلمت تحت أمر السلطان. وإذا شذ في الأحايين بعضهم وعدوا على سلطانهم فإنهم لم يخرجوا عن كونهم ولاة أو عمالاً خرجوا على السلطان ليس إلا.
الغزوات في الشمال وظهور دعوة جديدة:
وفي سنة 711 قصد قراسنقر كبير الأمراء في حلب أمير العرب مهنا بن عيسى وكان على مسيرة يومين من حلب يستنصره، وكان في ثمانمائة مملوك على الملك وكان يريد أن يبطش به. فركب مهنا فيمن أطاعه من أهله، واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفاً، وقصدوا حلب وأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها، واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك ودخلت سنة 715 فأرسل السلطان محمد بن قلاوون عساكر الشام ومصر إلى ملطية ففتحوها، وسبب ذلك أن حكومتها كانت تعتدي على أبناء السبيل ومن جاورها من سكان القلاع، وأن المسلمين كانوا بها يختلطون بالنصارى حتى إنهم زوجوا النصراني بالمسلمة، وثبت أنهم كانوا يطلعون التتر والأرمن على أخبار المسلمين، ثم رجع الجيش إلى مرج دابق قرب حلب، وترددت الرسل إلى صاحب سيس الأرمني في إعادة ما في جنوبي جيحان من البلدان وزيادة القطيعة أي الإتاوة، فجعلها نحو ألف ألف درهم. وصدر أمر السلطان بأن لا تكون بحماة حماية لدعوة الإسماعيلية أهل مصياف، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك.
وأغار سليمان بن مهنا بن عيسى بجماعة من التتر والعرب على التراكمين(2/142)
والعرب النازلين قريب تدمر ونهبهم ووصل في إغارته إلى قرب البيضاء بين القريتين وتدمر وعاد بما غنمه إلى الشرق. وجهز نائب السلطنة 717 بحلب عدة كثيرة من عسكر حلب وغيرهم من التركمان والعربان والطماعة ما يزيد على عشرة آلاف فارس فساروا إلى آمد ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى وبالغوا في النهب الحرام فخلت آمد من أهلها.
وظهر في جبال بلاطنس من عمل اللاذقية رجل من النصيرية وادعى أنه محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وقيل: زعم تارة أنه المهدي
المنتظر، وأخرى أنه علي بن أبي طالب، وطوراً أنه محمد المصطفى وأن الأمة كفرة. فتبعه خلق من النصيرية نحو ثلاثة آلاف، وهجم مدينة جبلة والناس في صلاة الجمعة فنهب أموال أهل جبلة، وجرد إليه عسكر من طرابلس فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال فتتبع وقتل وباد جمعه ولم يعد لهم ذكر، بعد أن قتل مائة وعشرون رجلاً من رجاله.
وفي سنة 720 تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على سيس فسار الجند الشامي من الساحل ودمشق وحماة وحلب فنازلوا قلعتها حتى بلغوا السور، وغنموا منها وأتلفوا الزراعات وساقوا المواشي ونهبوا وخربوا. وسار جمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في أثر آل عيسى، وكانت منازلهم في سليمة، حتى وصلوا إلى الرحبة فعانة فهرب آل عيسى إلى ما وراء الكبيسات، وأقام السلطان موضع مهنا محمد بن أبي بكر، ثم رضي السلطان 722 على الأمير فضل بن عيسى وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر أمير آل عيسى. وجردت بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية إلى سيس ونازلوا اياس فهربت الأرمن منها وأخلوها وألقوا النار فيها فملكها المسلمون، وخربوا ما قدروا على هدمه وعاد كل عسكر إلى بلده. وهدأت الأحوال في هذه الحقبة ولم يحدث سوى أمور طفيفة مثل قدوم مراكب فرنج جنوية 734 إلى بيروت، قاتلوا أهلها يومين ودخلوا البرج وأخذوا الأعلام السلطانية والمراكب. وكان السلطان يعتقل بعض الخوارج عليه أو من يرى في سيرهم ما يدعو إلى الشبهة ثم يطلقهم وينعم عليهم، وربما أخر(2/143)
إهلاك من يخافهم على السلطنة مثل تنكز نائب الشام عشر سنين ثم قتله، وكان قتل خلقاً فارتاحت الناس، وما كانت أفكار السلطنة موجهة إلا إلى قتال الأرمن، فكانوا يغزون كل مرة وآخر ما نالهم من غزوة المسلمين غزوة عسكر حلب 735، وكان الأرمن ملكوا مدينة سيس وطردوا من كان بها من
المسلمين فخربوا في أذنة وطرسوس وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي وغنموا وأسروا وما عدم سوى شخص واحد غرق في النهر، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل اياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم وحبسوهم في خان ثم أحرقوه وقلّ من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار والبغاددة وغيرهم. وبعد مدة سار العسكر من مصر والشام بقيادة ملك الأمراء بحلب علاء الدين ألطنبغا إلى بلاد الأرمن 737 ونزلوا على مينا أياس وحاصروها ثلاثة أيام، ثم قدم رسول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم على أن يسلموا المدن والقلاع التي شرقي نهر جيحان، فتسلموا ذلك منهم وهو ملك كبير ومدن كثيرة كالمصيصة وكوبرا والهارونية وسرفندكار واياس وباناس ونجيمة والنقير وغير ذلك، فخرب المسلمون برج اياس الذي في البحر. قال ابن الوردي: وهذا فتح اشتمل على فتوح، وترك ملك الأرمن جسداً بلا روح.
وفي سنة 740 وقع حريق بقيسارية القواسين والكفتين وسوق الخيل من دمشق دام يومين بلياليها فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس وعدم الناس أموالاً عظيمة منها للتجارة ما مبلغه ألف ألف وستمائة ألف دينار وخربت أماكن كثيرة فوقعت التهمة على بعض كتاب النصارى وأقروا أن اثنين قدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقدما نفسيهما على ذلك وأنهما يعلمان صناعة النفط فقتل أحد عشر رجلاً وأنكر صاحب مصر على نائب دمشق تنكز قتل النصارى قائلاً إن ذلك إغراء لأهل القسطنطينية.
سياسة المماليك مع أكبر عمالهم ووفاة الناصر وتولي المنصور:
كانت حكومة المماليك تكثر من نصب الولاة وعزلهم ولا سيما في دمشق فتولي في كل وقت نائباً جديداً وربما في كل شهر، ولم تطل مدة واحد من(2/144)
الولاة كما
طالت نيابة تنكز فإن ولايته دامت من سنة 712 إلى 740 قال الكتبي: وهابه الأمراء بدمشق ونواب الشام وأمن الرعايا، ولم يكن أحد من الأمراء ولا أرباب الجاه يقدر أن يظلم أحداً آدمياً أو غيره خوفاً من بطشه وشدة إيقاعه. قال: وكان الناس في أيامه آمنين على أموالهم ووظائفهم. وهو صاحب الأبنية العظيمة في دمشق وغيرها من الشام وكان ممن ينشط الزراعة ولما أخذه ملك مصر وقتله في الإسكندرية تأسف عليه أهل دمشق.
وتوفي الناصر محمد بن قلاوون سنة 741 بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه كما يضرب له بالشام ومصر، وتألم الناس لفقده لأنه أبطل المكوس وأنشأ جوامع ومدارس وكانت أيامه أيام أمن وسكينة، فتولى الملك بعده ابنه المنصور أبو بكر وكان تسلطن قبل موت والده. وملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاث مرات مدتها ثلاث وأربعون سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، تملك المرة الأولى بعد وفاة أخيه الأشرف سنة كاملة، والمرة الثانية بعد قتل لاجين، ومدة ملكه ثانيةً عشر سنين وستة أشهر واثنا عشر يوماً، والدولة الثالثة أقام بها ثنتين وثلاثين سنة وثلاثة شهور وخمسة أيام، وكان في الثالثة حاكماً متصرفاً ليس له منازع يخالف أمره بخلاف المدتين الأوليين. وشأن ابن قلاوون قليل في الملوك، لأنه ندر من يتخلى عن الملك أو يخلع من الملوك أن يعود إلى دست السلطنة مرة ثانية فكيف بثلاث مرات. ومن غريب ما وقع له أيضاً أنه تسلطن ثمانية من أولاده لصلبه، وهذا مما يعد في باب سعادة آل قلاوون.
وفي سنة 741 فتح علاء الدين أيدغدي الزراق ومعه عسكر حلب قلعة خندروس من الروم، وكانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات، وفي السنة التالية 742 بايع المنصور أبو بكر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد بن المستكفي
بالله أبي الربيع سليمان وكان قد عهد إليه والده بالخلافة فلم يبايع في حياة الناصر فلما ولي المنصور بايعه بمصر وجلس معه على كرسي الملك وبايعه القضاة وغيرهم، وكان الخليفة من أولاد العباس يقيم في مصر كعامل كبير محترم من عمال السلطنة ويبايع السلطان عند جلوسه(2/145)
خلع الملك المنصور ومقتل غير واحد من اخوته
الذين خلفوه:
خلع المنصور أبو بكر فاحتج عليه قوصون الناصري ولي نعمة أبيه بحجج ونسب إليه أموراً، فأخرجه إلى قوص فقتله واليها، وأقام الملك أخاه الأشرف كجك وهو ابن ثمان سنين. أي إن الخوارج على السلطنة بعد أن سكنوا بحسن سياسة الناصر محمد بن قلاوون مدة بعد خلعه نفسه ومكثه في الكرك حتى رجع إلى السلطنة وقد أطاعه عسكر الشام ومصر، ثم عادوا يبدون نواجذ الشر ويقتلون ملكهم، فقتل الملك الجديد ونصب أخوه الصبي ليكون الحكم لقوصون الناصري كما وقع ذلك في أدوار مختلفة، ثم أرسل قوصون مع قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار أحمد بن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب، لأن هذا أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر وهرب هذا إلى الروم، واستمال الناصر في الكرك قطلبغا الفخري، وكان ذهب لقتاله وحاصره أياماً فبايعه وبايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب صحبة الطنبغا، ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق مالاً ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق رجع على عقبه فأرسل إليه الفخري لما قرب من دمشق القضاة، وطلب الكف عن القتال، فقويت نفس الطنبغا
وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر فلما تقاربوا بعضهم من بعض لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري ثم الميمنة، وبقي الطنبغا وجماعته في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا ومن معه من القواد إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك وقد خطب له بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون تغير أمر قوصون. وكان قد غلب على الأمر لصغر الملك الأشرف، ثم قبض جماعة الأمراء على قوصون وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها، وقبضوا على الطنبغا وحبسوه، وسافر الناصر أحمد من الكرك وعمل أعزيه لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور وخلع الأشرف الصغير، وجلس الناصر على الكرسي هو والخليفة ثم أعدم الطنبغا وغيره، وتواتر عزل الولاة والنواب بحلب، جرى كل هذا في مدة يسيرة. وجرى(2/146)
في هذه السنة 742 من تقلبات والنواب واضطرابهم ما لم يجر في مئات من السنين على رأي ابن الوردي.
ولم يصف جو السلطنة للناصر أحمد في مصر، وسافر إلى الكرك وحصنها واتخذها مقاماً له، ولما حصل بها وقتل بها طشتمر والفخري قتلة شنيعة 743 أنقلب عليه عسكر الشام وهو بالكرك وكاتبوا مصر فخلع الناصر، وأجلس أخوه الملك الصالح إسماعيل، واستناب آل ملك وحصر الملك الناصر بالكرك، واجتمع عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال، وخرج بيبرس الأحمدي من مصر بعسكر لحصار الكرك وكذلك من دمشق، فحاصروا الناصر بالكرك ووردت المراسيم إلى الأعمال الشامية بتجريد العشران وغيرهم إلى الكرك، فذهبوا إليها سنة 743 ووجدوا في القلعة مع السلطان أحمد خلقاً كثيراً، وقد نصبوا على القلعة في أعلاها خمسة مجانيق ومدافع كثيرة، وأغار التركمان مرات على سيس فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان، وعاد العسكر
744 المجهز إلى سيس وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة وجفال من الأرمن، فارتشى أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها. وحاصر يلبغا النائب بحلب قراجا بن دلغادر التركماني بجبل عسر إلى جانب جيحان فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً فكبر قدره بذلك واشتهر اسمه وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا ثم أوقع دلغادر بالأرمن وفتح قلعة كابان 746 وبعد فتحها قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكراً لهدمها ثم أخذتها الأرمن. وفي سنة 745 حوصرت الكرك ونقبت، وأخذ الناصر أحمد وحمل إلى أخيه الصالح بمصر فكان آخر العهد به، وفي هذه السنة كانت الوقعة بين أهل البقاع ووادي التيم وقتل من الفريقين خلق كثير، وأحرق ابن صبح قرية من وادي التيم، وانقطعت السبل. وتوفي الصالح إسماعيل بن الناصر محمد ابن قلاوون 746 وجلس مكانه أخوه الكامل شعبان. وفي سنة 747 خرج نائب الشام يلبغا إلى ظاهر دمشق وشق عصا الطاعة وعاضد أمراء مصر حتى(2/147)
خلع الكامل شعبان وأجلسوا مكانه أخاه المظفر أمير حاج، وسلموا إليه أخاه الكامل فكان آخر العهد به، وكان هذا الكامل شعبان سيىء التصرف يولي المناصب غير أهلها بالبذل، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان.
وفي سنة 748 سافر ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس. وفيها عزمت الأرمن على نكبة اياس، فأوقع بهم أمير اياس محمد بن داود الشيباني، وقتل من الأرمن خلقاً وأسر خلقاً، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب واقتتل سيف الدين بن فضل أمير العرب وأتباعه مع أحمد فياض من الأمراء في جمع عظيم
قرب سلمية فانكسر سيف الدين ونهبت أمواله، وجرى على المعرة وحماة وغيرهما من العرب أصحاب سيف وأحمد فياض من النهب وقطع الطرق ما لا يوصف، وكانت هذه الحرب ضربة قاضية على بادية حماة فطفق البدو ينهبون القرى، ويغيرون على حماة والمعرة ففر الفلاحون ودرست القرى. وفي هذه السنة قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج بمصر وأقيم مكانه أخوه الناصر حسن، وكان الملك المظفر قد أهلك أخاه الأشرف كجك وفتك بالأمراء وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميراً.
أحداث وكوائن وعصيان ومخامرات:
ومن الأحداث أن نائب الشام يلبغا اليحياوي هرب فتبعه جماعة من عسكر دمشق فتقاتل معهم فقتل. وفي مصر سنة 750 دخل جبغا نائب طرابلس مدينة دمشق في جماعة كثيرة، وكان أرغون شاه نائب الشام مقيماً بالقصر الأبلق فدخل عليه الأمير جبغا وهو نائم بين عياله وقبضه، فلما أصبح الصباح طلب جبغا القضاة والأمراء بدمشق وأخرج لهم مرسوم السلطان بالقبض على أرغون شاه فسكن ما كان بين الناس من الاضطراب، وظنوا أن ذلك صحيح فسجنه واحتاط على موجوده، ثم وجدوا أرغون شاه مذبوحاً في السجن فشاع بأن ذلك من فعل جبغا فوثب عليه عسكر دمشق وحاربوه فهرب فلم يتبعه أحد من العسكر وخافوا عقبى ذلك، وكاتب أمراء دمشق(2/148)
السلطان بما وقع من جبغا فأنكر ما وقع لأرغون شاه، ورسم لأمراء دمشق أن يحاربوا جبغا فخرج عليه عسكر دمشق قاطبة، وحاربوه وهو في طرابلس فانكسر وقبضوا عليه وشنقوه. وفي سنة 754 قدمت على رواية ابن سباط مراكب الفرنج إلى صيدا فقتلوا طائفة من أهلها وأسروا جماعة وقتل منهم خلق كثير وكسر مركب من مراكبهم، فوصل الصريخ إلى دمشق، فاجتمعت العساكر من صفد ودمشق وأسرعوا إلى فك الأسرى، وأخذوا من ديوان
الأسرى ثلاثين ألفاً وأعطوا عن كل رأس خمسمائة درهم.
وإن الخلل الذي طرأ على السلطنة بمصر بعد ذهاب عظماء السلاطين من أولاد قلاوون وسرعة قتلهم واستخلاف غيرهم من المماليك، قد سرى من شرارته شيء كثير في هذه الحقبة من الزمن، ومسألة اليحياوي مع أرغون شاه مثال منها. ومن أمثلة الخلل في تلك الدولة خروج بيبغا أروس نائب حلب عن الطاعة، وكذلك بكلمش نائب طرابلس، وأحمد نائب حماة، الطنبغا برقاق نائب صفد، ولم يبق على الطاعة إلا نائب دمشق أرغون الكاملي، فأرسل يخبر السلطان في مصر بما جرى من النواب، ثم اضطر نائب الشام إلى الهرب تحت الليل هو ومماليكه وتوجه إلى غزة، ليعلم السلطان والأمراء بما جرى، والتف على بيبغا أروس العربان والعشائر مع العساكر الحلبية والشامية وكان معه نحو ستين أميراً لما فتح دمشق واستعرض العساكر بها ثم أرسل إلى نائب قلعة دمشق يطلب منه إطلاق أمير كان مسجوناً فيها فاعتذر عن ذلك إلا بمرسوم السلطان، وحصن القلعة تحصيناً عظيماً، وركب عليها المكاحل بالمدافع، وأرسل يقول لأهل المدينة: لا تفتحوا دكاناً ولا سوقاً ولا تبيعوا عسكر حلب شيئاً، فلما بلغ بيبغا ذلك اشتد به الغضب، وأمر عسكره بأن ينهبوا ضياع دمشق والبساتين ويقطعوا الأشجار، فلما سمعوا هذه المناداة ما أبقوا مكناً من الأذى والفساد، فنهبوا حتى النساء والبنات والقماش، وجرى على أهل دمشق من بيبغا ما لم يجر عليهم من عسكر غازان لما دخل دمشق.
ثم إن سلطان مصر جهز عسكراً عظيماً وجعل عليهم من أمراء الطبلخانات(2/149)
والعشراوات نحو ثمانين أميراً وكان صحبته القضاة الأربعة والخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله فأمر بقتال جماعة بيبغا فانهزم هذا ولحق ببلاد التراكمة، وجيء بجماعته في القيود يرسفون.
وهذا السلطان هو الصالح صلاح الدين صالح وهو العشرون من ملوك الترك وأولادهم، والثامن من أولاد الناصر محمد بن قلاوون. ثم قتل نائب حلب بيبغا ونائب طرابلس بكلمش ونائب حماة أحمد وكانوا هربوا إلى التركمان.
وخلع السلطان على أرغون الكاملي واستقر به نائب حلب وجرد أرغون إلى قراجا بن ذي القدر أمير التركمان في مرعش وحواليها، وذنبه أنه وافق بيبغا أروس على العصيان، فلما وصل إليه أرغون هرب منه فتبعه إلى أطراف الروم فقبض عليه وأرسله إلى السلطان بمصر فسمره على جمل.
وفي سنة 760 توجه بيدمر الخوارزمي نائب حلب إلى سيس وحاصر أهلها فطلبوا منه الأمان فتسلمها وكذلك المصيصة، وفتح في تلك السنة عدة قلاع ثم رجع إلى حلب. وفي سنة 762 أظهر بيدمر الخوارزمي نائب الشام العصيان وملك قلعة دمشق وقتل نائب القلعة وقد وافقه على ذلك جماعة من النواب فاضطرب السلطان بمصر لهذه الأخبار وخرج قاصداً الشام، ولما بلغ دمشق أرسل له أماناً فقبض عليه وقيده.
وفي سنة 765 جاء الفرنج إلى قلعة اياس وحاصروها فخرج إليهم نائب حلب فلما سمعوا به رحلوا عنها ثم قصدوا نحو طرابلس وكانوا ثلاثة ملوك وهم صاحب قبرس وصاحب رودس وصاحب الاسبتار فجاءوا في مائتي مركب حربي إلى طرابلس، وكان النائب غائباً عنها فطمعوا في أخذها ثم خرج إليهم بعض عسكرها فانكسر عسكر طرابلس ودخل الفرنج المدينة ونهبوا أسواقها وقتلوا بها من المسلمين نحو ألفي إنسان فقاتل الأهلون الفرنج وكسروهم فرحلوا عن طرابلس.(2/150)
وفي سنة 767 عصا على السلطان نائب دمشق بيدمر واجتمع إليه مقدموا البلدان فأرسل السلطان إليه جيشاً وبعد حصار شهرين تسلم دمشق وقبض على النائب
وقتله. وفي سنة 771 تشاجر الأمير جبار من آل الفضل ونائب حلب طشتمر المنصوري فخرج هذا بالعساكر الحلبية وقاتل الأمير جبار فقويت العربان على نائب حلب فقتل في المعركة.
قتل الأشرف شعبان والأحداث بعده:
وفي سنة 778 قتل في القاهرة الأشرف شعبان، قال ابن إياس: وكان من محاسن الزمان في العدل والحلم وكان ملكاً هيناً ليناً محباً للناس منقاداً للشريعة محسناً وكانت الدنيا في أيامه هادئة من الفتن والتجاريد إلى الديار الشامية فساد العرب وساس الناس أحسن سياسة. وتولى الملك بعده ابنه الصالح أمير حاج وله من العمر نحو إحدى عشرة سنة وهذا آخر من تولى السلطنة من ذرية بني قلاوون وبه زال الملك عنهم وقد أقامت السلطنة في قلاوون وذريته مائة سنة وثلاث سنين وأشهراً.
وفي سنة 776 خرج نائب حلب إلى سيس وفتحها وكانت في أيدي الأرمن. وفي سنة 779 خامر جميع نواب الشام وخرجوا عن الطاعة فساقت مصر تجريدة عليهم. وفي سنة 780 خرج نائب الشام بيدمر الخوارزمي عن الطاعة وقصد الهرب إلى التركمان ببركه ورجاله فقبضه عسكر دمشق وسجنوه فأرسل سلطان مصر وأخذه منها وسجنه ثم أطلقه بعد ثلاث سنين وأُعيد إلى منصبه. وفي سنة 780 نازل الفرنج طرابلس في عدة مراكب فالتقاهم يلبغا الناصري فهزمهم، ثم أمر العسكر أن يتأخروا فطمع فيهم الفرنج وتبعوهم إلى أن أبعدوا عن البحر فرجع عليهم بالعسكر فهزمهم وقتل منهم جمع كبير وقبض على أكثرهم وأقلع من بقي في المراكب. وثار أقبغا عبد الله 781 وجماعة معه على نائب دمشق وكان قد تجرد مع نائب حلب في عسكر البلدين بسبب التركمان فوقعت بينهم وبين أقبغا ومن معه وقعة فكسرهم نائب الشام وهرب أقبغا إلى نعير أمير عرب الفضل.
وفي سنة 783 نهبت طائفة من التركسان بعد ضياع حلب وعاثوا وأفسدوا وعَين لهم الأتابك برقوق في مصر تجريدة(2/151)
وخرج إليهم ثلاثة من الأمراء المقدمين وخمسمائة مملوك فالتقوا مع التركمان وكسروهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة ونهبوا أموالهم وطردوهم إلى ملطية.
وفي سنة 784 حضر إلى القاهرة رسول صاحب سيس ومعه كتاب يخبر فيه أن الأرمن مات كبيرهم فأمروا عليهم زوجته فحكمت فيهم مدة ثم عزلت نفسها، فاتفق رأيهم أن يفوضوا أمرهم لصاحب مصر فيختار لهم من يوليه عليهم، فانتقى لهم ملك مصر أحد الأسارى الأرمن ممن يسكنون ظاهر القاهرة ويبيعون الخمور فأخذوه معهم فملكوه عليهم، وفي السنة التالية جاءت رسل أصحاب سنجار وقيسارية وتكريت يسألون صاحب مصر أن يكونوا تحت حكمه ويطبوا باسمه فأجيب سؤلهم وكتب لهم بذلك تقاليد وخلع عليهم. وفي هاتين الواقعتين دليل على أن صاحب مصر والشام في تلك الفترة كان أقوى من جاوره من الملوك خطب وده الأتراك والأكراد والأرمن من مجاوريه.
وفي سنة 785 وقعت بين قبلاي نائب الكرك وخاطر أمير العرب بها مقتلة عظيمة فانكسر قبلاي. وفيها نازل الفرنج بيروت في عشرين مركباً فراسلوا نائب الشام فتقاعد عنهم واعتلّ باحتياجه إلى مرسوم السلطان فقام إينال اليوسفي فنادى الغزاة في سبيل الله فنفر معه جماعة فحال بين الفرنج وبين البحر وقتل بعضهم ونزل إليه بقية الفرنج فكسرهم وقبض من مراكبهم ستة عشر مركباً. وكان الفرند دخلوا صيدا فوجدوا المسلمين قد بدءوا بهم فخبئوا أموالهم وأولادهم بقرية خلف الجبل فوجد الفرنج بعض أمتعتهم فنهبوها وأخذوا ما وجدوا من زيت وصابون وأحرقوا السوق وقصدوا بيروت فتداركهم المسلمون وانكسر الفرنج ثم عادوا إلى مباهلة بيروت فتيقظ لهم أهلها فحاربوهم.
وفي سنة 785 وقعت فتنة بين نعير بن مهنا أمير العرب وابن عمه عثمان ابن قارا، فساعد يلبغا الناصري عثمان فكسر نعير ونهبت أمواله. وفيها سار يلبغا الناصري بالعساكر الحلبية وبعض الشامية إلى جهة التركمان، فنازلوا أحمد بن رمضان التركماني عند الجسر على الفرات فكسر التركمان وأُسر إبراهيم(2/152)
ابن رمضان وابنه وأبوه، فوسطهم يلبغا الناصري، ثم تجمع التركمان وواقعوا الناصري عند أذنة فانكسر العسكر وقلعت عين الناصري وجرح ثم تراجع العسكر ولم يفقد منه إلا العدد اليسير، فطردوا التركمان إلى أن كسروهم فغدر التركمان بنائب حماة وبيتوه فانهزم ثم ركب يلبغا الناصري فهزمهم.
وفي سنة 787 توجه نواب الشام إلى قتال التركمان فانكسر العسكر وفتك فيهم التركمان وقتلوا سودون العلائينائب حماة وغيره. وكان السلطان أمر نواب الشام بالتوجه إلى قتال سولى بن دلغادر ومن معه من التركمان فوصلوا إلى طيون بين مرعش وابلستين فالتقى بهم سولى فقتل سودون نائب حماة في المعركة وكذا سودون نائب بهسنى فشق ذلك على السلطان ولم يزل يعمل الحيلة حتى دس على سولي من قتله وقتل أخاه.
سلطنة برقوق وحالة المماليك البحرية والشراكسة:
دخل الهرم في دولة الأتراك المصرية وزاد فساد العربان في البلاد، وخامر غالب النواب في الشام وخرجوا عن الطاعة، فاجتمع الأتابك برقوق متولي الأمر والقضاة مع الخليفة وسائر الأمراء في مصر فرأوا الحاجة ماسة إلى سلطان كبير تجتمع عليه الكلمة ويسكن الاضطراب فتكلم القضاة الأربعة مع الخليفة في سلطنة الأتابكي برقوق فخلعوا الملك الصالح أمير السلطنة وسلطنوا الأتابك برقوق 784 وهو أول ملوك الشراكسة بمصر والشام.
وكانت هذه الدولة التركية الشركسية عجباً في ضعف الإدارة وقيام الخوارج لأن
الملك على الأكثر كان ضعيفاً يُنزله عن عرشه كل من عصا عليه، واستكثر من المماليك وقد أن يتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة والطمع من الناس والمماليك السلطانية الذين جرت العادة على أنهم يفعلون الأمور المشهورة عنهم من أخذ أموال الناس وهتك حريمها. والقاهرة لا شأن لها بعد أن يتقاتل المتقاتلون على الملك أو يقاتل القواد العصاة ويظفر أحد المتنازعين على السلطنة، أو الأمير الذي وسد إليه اجتثاث دابر العاصي، إلا أن تزين أسواقها سبعة أيام أو ثلاث أيام على الأقل. تفعل ذلك لأقل حادث يحدث حتى ولو قبض جماعة السلطان على أحد صعاليك المماليك ممن خامر(2/153)
عليه واستتبع أُناساً من الغاغة. وكانت دمشق في أيام الأتراك ثم في أيام الشراكسة أخلافهم تزين سبعة أيام لأقل ظفر يقع، فيفرح السلطان وتدق البشائر. وكان من سلاطين المماليك أهل خير تغلب عليهم الرحمة وحسن السياسة، وكان ضعفهم آتياً من جماعتهم المماليك لأن لكل أمير منهم جوقة يتفانون في حبه إذا تغلب عليه خصمه سجنهم أو أقصاهم أو نكبهم، فلا يزالون يعملون على إثارة الخواطر حتى يطلق سراحهم ثم يعودون إلى ما نهوا عنه وهكذا دواليك. والأمة من أجل هذا تخرب ديارها، وتهلك أبناؤها وتذهب أموالها وعروضها، حتى يسعد الطالع أحد المتخاصمين فيتغلب على من يريد التغلب عليه. وهناك خليفة في مصر يعتضد به السلاطين يوم الشدائد، ويبايعهم يوم تنصيبهم، وربما سجنوه وأقصوه عن أنظار الأمة إذا شعروا بأن هواه مع غيرهم أو يمكن أن يكون كذلك: اتخذوه آلة كما كان خلفاء العباسيين مع المتغلبة من سلاطين السلجوقيين والبويهيين وغيرهم في بغداد.(2/154)
وقائع تيمورلنك
من سنة 790 إلى 803
بداءة تيمورلنك ومناوشة جيشه:
بينا كانت أمور الدولة في الشام ومصر مختلة معتلة، لا تستقر على حال، والمتوثبون على السلطنة يكثرون ويقلون بضعف الملك وقوته، جاء تيمورلنك من الشرق، بجيوش جرارة لا قبل للمالكين زمام الأمر بدفعها فأصبح الشام بين عدوين داخلي وخارجي، كما أصبحت في أواسط القرن السابع بين عدوين أحدهما من الشرق وهم التتر والآخر من الغرب وهم الصليبيون. وتيمور هو ابن ترغاي بن أبغاي مؤسس مملكة المغول الثانية، ومعنى تيمور الحديد واللنك الأعرج أو الكسيح بلغتهم. سمي بذلك لأن راعياً ضربه فيما قيل بسهم في فخذه أدخله به في زمرة العرجان، وفي رواية أنه أصيب بسهم في الحرب في صباه. ولد تيمورلنك في قرية خواجه أيلغار من أعمال كش من مدن ما وراء النهر سنة 737هـ 1336م ومات في اوترار سنة 807 - 1405 بينا كان ذاهباً لفتح بلاد الخطا في الصين وجيء به إلى سمر قند فدفن فيها.
وكان تيمورلنك يمتُّ بقرابة بعيدة إلى آل البيت الملوكي من المغول ذرية جنكيز خان، وذلك من جهات الأمهات لا الآباء، ورأس أبوه قبيلة برلاس التركية وحكم ولاية كش وقد تيتم صغيراً وسلبه جيرانه إمارته، فتوسل تيمور إلى أمير كشغر ملك الجغتاي فأنعم عليه بولاية ما وراء نهر جيحون، ثم نزع يده من يد أمير كشغر وانضم إلى عمه حسين، ولما ماتت زوجته، وقيل إنه هو الذي قتلها بيده، أصبح تيمور في حل من أمره وداهم حسيناً وتغلب عليه واستولى على بلخ فاصبح ملكاً على بلاد الجغتاي كلها،(2/155)
ولما استولى على ما وراء النهر وفاق الأقران تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه كوركان وهو بلغة المغول الختن
وكان عهد تيمور كله عهد حروب وفظائع يقتل الناس بالألوف وعشرات الألوف، إذا لم يخضعوا لسلطانه في الحال قال السخاوي: وكان يقرب العلماء والسمراء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه، فكانت هيبته لا تدانى بهذا السبب، وما أخرب البلاد إلا بذلك، فإنه كان من أطاعه من أول وهلة أمن، ومن خالفه أدنى مخالفة وهى، أنجد تيمور أحد الخانات على اوروس خان ملك قسم من روسيا الجنوبية الشرقية ثم فتح خراسان وهرات وطوريس وقارص وتفليس وشيراز وأصفهان وكشغر ومازندران والعراق بأسره، وخرب حفيده محمد بولونيا وروسيا ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها وفتح أفغانستان وجلب من الهند إلى مملكته المهندسين والنقاشين. ثم حارب السلطان بايزيد العثماني 805 وغلبه. وباستيلائه على إزمير اضطر إمبراطور القسطنطينية أن يؤدي إليه الجزية.
هذا الفاتح خرب عاصمتي الشام حلب ودمشق، وكم خرب من مدن عامرة في آسيا، وكان ملوك أوربا يخافونه وكثيراً ما أرسلوا الوفود لتهنئته بانتصاراته. هذا الرجل الجبار لم يحمل على الشام حملته المشئومة إلا بأسباب أوجدها النواب والأمراء والملوك على الأرجح، فقد كان ذكر ابن حجر في حوادث سنة 798: أن اطلمش قريب تيمورلنك قبض عليه قرا يوسف التركماني صاحب تبريز وأرسله إلى الظاهر فاعتقله، فكانت هذه الفعلة أعظم الأسباب في حركة تيمورلنك إلى الديار الشامية. وقال في حوادث سنة 799 وصلت كتب من تيمورلنك فعوقت رسله بالشام وأرسلت الكتب التي معهم إلى القاهرة ومضمونها التحريض على إرسال قريبه اطلمش الذي أسره قرا يوسف، فأمر السلطان اطلمش المذكور أن يكتب إلى قريبه كتاباً يعرفه فيه ما هو عليه من الخير والإحسان بالديار المصرية، وأرسل ذلك السلطان مع أجوبته ومضمونها إذا أطلقت من عندك من
جهتي أطلقت من عندي من جهتك والسلام.
فالقائمون بالأمر هم الذين فتحوا لتيمورلنك السبل للغزو فيما بعد،(2/156)
غزوة أذلت العزيز وأفقرت الغني وخربت العامر. قال ابن حجر أيضاً: لما رجع تيمورلنك إلى الشرق وكان هذا دأبه إذا بلغه عن مملكة كبيرة وملك كبير لا يزال يبالغ في الاستيلاء عليها إلى أن يحصل مقصوده فيتركها بعد أن يخربها ويرجع، فعل ذلك بالمشرق كله وبالهند وبالشام وبالروم.
أرسلت مصر في سنة 790 عسكراً على تيمورلنك في سيواس فانكسر عسكر تيمورلنك وهذه الوقعة من الوقائع الأولى بين تيمورلنك وعسكر الشام.
القتال على الملك:
خامر يلبغا الناصري نائب حلب 791 وخرج عن الطاعة وقتل سودون المظفري نائب حلب قبله، وأمسك حاجب الحجاب بحلب وجماعة من أمرائها، وأظهر يلبغا العصيان والتف عليه جماعة كثيرة من مماليك الأشرف شعبان، وكان من جملة من التف على يلبغا تمربغا الأفضلي المدعو منطاش مملوك الظاهر برقوق، وعهد سلطان مصر إلى إينال أتابك العساكر بدمشق ليكون نائب حلب وحلّف السلطان الأمراء من الأكابر والأصاغر بأن يكونوا معه على يلبغا الناصري فحلفوا على ذلك جميعهم، وأرسل إلى يلبغا تجريدة.
وانتشب القتال بين أمراء الغرب التنوخية وبين عشران البر أهل كسروان والأمراء أولاد الأعمى، وكان التنوخية ميالين إلى الملك الظاهر والكساروة مع أرغون نائب منطاش في بيروت، فاستظهر أهل كسروان على أمراء الغرب وقتلوا منهم نحو 90 نفراً وأمسكوا جماعة فسمروا بعضهم ووسطوا آخرين وأحرقوا عدة قرى من الغرب وتلقبوا بعشران البر. ثم إن العساكر الظاهرية زحفت على تركمان كسروان وجرت بين الفريقين وقعة في الساحل فقتلوا منهم
جماعة كثيرة، ولما استولى كمشبغا على قلعة حلب عمر أسواق هذه المدينة أحسن عمارة في أسرع وقت وكانت من وقعة غازان خراباً، فلما انتصر كمشبغا على أعدائه قتل غالب أهل محلة بانقوسا وكانوا زيادة على أربعة آلاف نفس وقتل كبيرهم أحمد بن الحرامي وخربها إلى أن جعلها دكاً.
عوامل الخراب قيس ويمن:
ذكر الأسدي أن السبب في خراب الشام في القرن الثامن انتشار الشرور(2/157)
بين قيس ويمن ووقوع الحرب والقتال بينهم، والسبب في ذلك تغيير العوائد والتدليس على الملوك والحكام وولاة الأمور، بالإغراء والتسلط على الفلاحين بالظلم وطلب العاجل، والعسف في الحكم والميل مع القوي، وإنهاك الضعيف وعدم رد لهفة الملهوف، ومع تغيير العوائد وقع التحاسد بينهم فاضطر كثير من أهل الزرع والضرع إلى التمرد والتشرد وتسلطت العربان والعشران وتراكمت الأهواء ووقع التحاسد والإغراء، فنهبت الأموال وقتلت الرجال وتخلت العشائر وعظمت الفتن بين القبائل، وجلا أهل الزرع والضرع من الفلاحين عن أراضيهم فأوجب ذلك الخراب في كثير من أرجاء الشام، وصارت دمناً يشهد لذلك الديوان من أسماء القرى التي صارت مزارع وتسمى بالخراب الدائر، والموجب لهذا جميعه سوء التدبير مع نقص القوة ونقض سنة العدل، إلى أن صار الحكم لمقدمي الفلاحين ورؤساء العشران، وصار الأعيان منهم يظهرون الطاعة للسلطان ويبطنون المخالفة والعصيان، ويستخرجون الأموال بالظلم والطغيان، ويرضون ببعضها من له في الدولة سلطة، وبما يحملونه للأعوان من الهدايا والأموال، فيسعى لهم ويلبسون التشاريف الملوكية بين يدي الملك والأمير والسلطان، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وسلطان، وسطوة وأعوان، وإقطاعات ونعم وديوان.
قلنا: وهذا الاختلاف الدائم بين قيس ويمن كان يقوى ويضعف بحسب الوازع، فإذا وفقت الديار إلى حاكم يسوي بينهم ويعدل فيهم تسكن نغمة القيسي واليماني، وإلا فيتقاتلون ويخربون العمران ويقتلون الإنسان. وكانت هذه النغمة شديدة في أرض دون أُخرى من أرض الشام، فقد كانت في القديم في حمص حتى ضرب المثل بها فقالوا: أذلُّ من قيسي بحمص وذلك أن حمص كلها لليمن ليس بها من قيس إلا بيت واحد. ثم كانت ترى آثارها في حوران ولبنان وربما انتقلت نغمتها من حوران منذ جلاء كثير من الأسر المسيحية إلى جبل لبنان وبقيت في هذا الجبل إلى القرن الماضي ثم اضمحلت.(2/158)
وفي هذه الأثناء ركب عسكر طرابلس على النائب وقتلوا من أمراء طرابلس جماعة، وركب مماليك نائب حماة مع عسكر حماة وأرادوا قتله فهرب إلى دمشق، فوقعت الفتنة. ولما تحقق برقوق أن المملكة افتتنت خاف وأمر نائب القلعة بمصر بأن يضيق على الخليفة ويمنعه من الاجتماع بالناس، وكان مسجوناً بالقيد في برج القلعة، وأصدر أمره بالتضييق على السادة أولاد السلاطين في دور الحرم، ووصلت التجريدة من مصر إلى دمشق والتقى عسكر مصر مع عسكر يلبغا الناصري فأوقعوا معه بظاهر دمشق واقعة عظيمة حتى جرى الدم بينهم وقتل من الفريقين كثيرون، فانكسر عسكر السلطان وانتصر عليهم يلبغا، ثم جيش يلبغا وساق جيشه إلى مصر فالتف أكثر أمراء مصر عليه وقاتل قليلاً حتى اضطر السلطان برقوق إلى ترك سرير السلطنة وأُعيد الملك الصالح أمير حاج بن الأشرف شعبان سلطاناً على مصر والشام، وأخذ الظاهر برقوق إلى قلعة الكرك فسجن فيها ثم انتدبوا لقتله رجلاً فقتل الرجل، واستولى برقوق على القلعة بعد أن قاسى من المحن أمراً عظيماً، وأتاه مماليكه الذين كانوا بقوص وقتلوا واليها والتحقوا به، والتف عليه العربان وقصد دمشق فجاءه نائب غزة في خمسة آلاف
مقاتل فأوقعوا مع الظاهر برقوق وقعة عظيمة انكسر فيها نائب غزة، فنهب عسكر برقوق عسكر غزة فتقووا بتلك الغنيمة، وكان الظاهر كلما مر بقرية يخرج إليه أهلها ويلاقونه ومعهم العلف والضيافة، ولما بلغ برقوق قرية شقحب خرج إليه عسكر دمشق فتقاتلوا فقتل من أمراء دمشق ستة عشر أميراً، ومن المماليك نحو خمسين مملوكاً، وقتل من عسكر برقوق نحو ذلك.
وصادف أن خرج عن الطاعة كمشبغا الحموي نائب حلب واستولى أبناء اليوسفي على قلعة صفد وهو من جماعة الظاهر فقويت شوكته ودخل الظاهر برقوق دمشق، ونزل في الميدان فكبس عليه أهل دمشق وأخرجوه من المدينة إلى ظاهر البلد، لأن بعض مماليكه عبث ببعض السوقة وأخذ منه شيئاً من البضائع بالغصب فاستغاث ذلك السوقي فحضر إليه جماعة وتعصبوا له فاستطال ذلك المملوك وضربهم فرجمه أهل دمشق، فرمى المماليك على عوام دمشق بالنشاب، وتكاثرت على المماليك العوام بالحجارة والمقاليع،(2/159)
فكسروا المماليك كسرة قوية فركب الظاهر برقوق ومن معه من الأمراء وخرجوا من دمشق إلى قبة يلبغا فدخل العوام إلى الميدان ونهبوا بَرَك برقوق وأُغلقت أبواب دمشق، وكان برقوق أشرف على أخذ قلعة دمشق وراج أمره فتعطل بسبب ذلك.
ثم جرد المنصور أمير حاج عسكراً من مصر وجاء الشام لينزع الملك من برقوق، فلما وصل العسكر إلى غزة تسحب أكثر عسكر المنصور إلى برقوق لأن هواهم كان معه، ووقعت بين عسكر المنصور وعسكر الظاهر وقعة شقحب 792 فانكسر برقوق كسرة قوية وهرب برقوق في نفر قليل من العسكر وتوارى خلف الجبل الذي تحته الملك المنصور والخليفة والقضاة، فأتى إليه بعض العرب وأخبره بأن الملك المنصور تحت ذلك الجبل، وكان على يوم من دمشق فكبس عليهم برقوق بمن معه من العسكر وكانوا نحو أربعين إنساناً فذُعر عسكر
المنصور وغُلت أيديهم عن القتال، فنزل عليهم برقوق كالباز على الطائر واحتوى على كل ما معهم من البرك والأثقال والقماش والسلاح وخزائن المال، وتسامع بذلك الناس فجاءوا إليه أفواجاً من كل مكان، وبلغ ذلك منطاش وحضر ومعه عساكر دمشق وغيرهم فوقعت بينهم واقعة أعظم من الواقعة الأولى وقتل بها كثير فانكسر الأتابكي منطاش وعسكر دمشق فولوا هاربين وأقام برقوق بمنزلة شقحب، ثم إن شخصاً من الصالحين يقال له الشيخ شمس الدين الصوفي مشى بين الظاهر برقوق وبين المنصور حاج في أن يخلع هذا نفسه ويسلم الأمر إلى برقوق، فأجاب المنصور إلى ذلك، وأحضر الخليفة المتوكل والقضاة الأربعة وخلع نفسه من الملك وأشهدوا عليه بذلك. فبايع الخليفة الظاهر برقوق بالسلطنة وذلك بمنزلة شقحب ثم رحل إلى مصر فدخلها بلا منازع، وكان مماليكه قد وطدوا له الأمن قبل وصوله وخطبوا له على المنابر فعاد واستولى على مصر والشام. وبرقوق هو الذي قرض جيش المماليك البرجية.
الخوارج على ملوك مصر:
وملك منطاش 792 مدينة بعلبك والتف عليه جماعة من عسكر دمشق(2/160)
وصفد وطرابلس ومن عربان جبل نابلس ونهب عدة ضياع، وأرسل منطاش شخصاً يسمى تمان تمر الأشرفي إلى مدينة حلب، وكان نائب حلب كمشبغا الحموي قد ثقل أمره على أهل حلب فما صدقوا بهذه الحركة فحاصروا نائب حلب أشد المحاصرة وتعصبوا لمنطاش فنقبوا القلعة من ثلاثة مواضع، فصار كمشبغا نائب حلب يقاتلهم من داخل النقب على البرج، واستمروا على ذلك نحو ثلاثة أشهر، فانتصر كمشبغا نائب حلب على تمان تمر الأشرفي الذي ولاه منطاش على حلب فانكسر تمان تمر وولى هارباً ثم توجه منطاش إلى طرابلس فحاصرها حتى ملكها وهرب من كان بها من الأمراء والنائب وهرب أكثر أهلها إلى دمشق، ثم حاصر
منطاش دمشق فاتفق عوامها على أن يسلموه المدينة ليلاً وكانوا يحبونه أكثر من برقوق.
فما بلغ ذلك أمراء برقوق خرجوا إلى ظاهر دمشق وأوقعوا مع منطاش ومع عوام دمشق واقعة قتل فيها من الفريقين نحو ألف إنسان، ثم رجع عسكر دمشق إلى المدينة وتوجه منطاش إلى عينتاب فالتف عليه جماعة من التركمان، فحاصر المدينة حصراً شديداً فملكها وهرب نائبها، فلما دخل الليل جمع نائب عينتاب جماعة من التركمان وكبس منطاش فقتل من عسكره نحو مائتي إنسان وهرب منطاش نحو الفرات، ثم إن منطاش جمع قوته وخامر على السلطان أكثر التركمان والعربان والتفوا على منطاش 793 فتوجه إلى دمشق وحاصرها فخرج إليه نائبها فهرب منطاش إلى جبل يقرب من طرابلس فتبعه نائب دمشق، فجاء منطاش من وراء ذلك الجبل وجاء إلى دمشق فلم يجد بها أحداً من الأمراء ولا النائب، ففتح له عوام دمشق باباً فدخل منه إلى المدينة ونهب الأسواق وأخذ أموال التجار والخيول، والتف عليه جماعة من عسكر دمشق فقويت شوكته.
بلغ السلطان في مصر ما وقع في الشام فقوي عزمه على الخروج إلى منطاش في دمشق، ونادى فيها الأمان لأن أهلها لما خرج الظاهر برقوق من الكرك ودخل مدينتهم رجموه وأخرجوه هائماً على وجهه ونهبوا أثقاله وقماشه، فضج أهل دمشق له بالدعاء، وسكن ما كان عندهم من الاضطراب، ولما(2/161)
توجه إلى حلب جاء نعير بن جبار أمير آل فضل ونهب ضياع دمشق، وكان نعير عاصياً على السلطان وهو من أنصار منطاش وأخرب غالب إقليم دمشق ونهب ضياعها، فلما بلغ نائب دمشق مجيء نعير خرج إليه وأوقع معه واقعة قوية في قرية الكسوة فانكسر نائب دمشق وقتل من عسكره جماعة. أما منطاش فلما بلغه مجيء السلطان من مصر هرب إلى التركمان.
ولما عاد سلطان مصر إلى عاصمته 794 هجم نحو خمسة عشر مملوكاً وقيل خمسة أنفس على نائب قلعة دمشق وتوجهوا نحو السجن الذي بها وأخرجوا من كان به من المحابيس من عصبة منطاش وكانوا نحو مائة مملوك، فقويت شوكتهم بالسجناء وهجموا على نائب القلعة وقتلوه وملكوا القلعة، فقاتلهم عسكر دمشق وحاصروا من بالقلعة فقتل من عسكر دمشق جماعة ثم هجم العسكر على باب القلعة وأحرقوه ودخلوا إليها وقبضوا على المماليك كلهم ووسطوهم أي قطعوهم نصفين تحت باب القلعة وأمسكوا الثائرين فلم يبق منهم إلا من هرب.
وعاد منطاش 794 فحاصر حلب مع التركمان فخرج إليه عسكرها وأوقعوا معه واقعة فكسروه ورجع هارباً إلى الفرات، ثم اتفق منطاش ونعير بن جبار أمير العربان 795 بمن معهما من العسكر وحاصروا حماة فخرج إليهم نائبها فأوقع معهم واقعة قوية فانكسر نائب حماة وهرب، فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار، فلما بلغ ذلك نائب حلب ركب هو في عساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أورده ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه كثيراً، فأرسل نعير يطلب من نائب حلب أولاده ونساءه الذين أسرهم فأرسل نائب حلب يقول له: ما أُطلق لك أولادك ونساءك حتى تسلمنا منطاش. وكان منطاش قد تزوج من بنات نعير واستنسل منهم. فلما رأى نعير أن السلطان ونائب حلب عليه وقد نهبوا أمواله ومواشيه وأسروا أولاده ونساءه، قصد أن يرضي السلطان بإمساك منطاش حتى يزول ما عنده مما جرى منه في حق السلطان، فندب نعير إلى منطاش أربعة قبضوا عليه فلما وقع في أيديهم أخرج من تكته حجراً شق به بطنه فغشي عليه فحمله العبيد وأتوا به إلى نعير فقيده وأرسله إلى نائب(2/162)
حلب ثم حمل إلى القاهرة، وجعل الموكل بحمله يعاقبه ويعصره ويقرره على الأموال التي غصبها فلم يقر بشيء، ودخل عليه النزع فقطع رأسه ووضعه
في علبة وحمله إلى السلطان في مصر ثم أرسل السلطان إلى نعير خلعة وأقره على عادته أمير آل فضل.
قال ابن إياس، وعنه أخذنا هذه الحوادث: فما صدق الناس بأن فتنة منطاش قد خمدت عنهم حتى استؤنفت لهم فتنة أُخرى، فوردت الأخبار بأن تيمورلنك أخذ تبريز وشيراز، وركب برقوق إلى الشام وجاءه في حلب قاصد من عند ابن عثمان ومعه مطالعات مضمونها أن يكون هو والظاهر يداً واحدة على دفع تيمورلنك فأجابه الظاهر إلى ذلك ورد له الجواب بما يطيب به خاطره، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان فأجابه الظاهر كما أجاب ابن عثمان. فلما أقام الظاهر بحلب بلغه أن أعلام عسكر تيمورلنك قد وصلت إلى البيرة. ثم بلغه أن تيمورلنك رجع إلى مملكته، فلما تحقق ذلك عاد هو إلى مصر. وفي سنة 799 أخذ عسكر تيمورلنك مدينة أرزنجان وقتل أهلها ونهب ما فيها، فلما بلغ سلطان مصر والشام ذلك أرسل إلى نوابه في الشام أن يتوجهوا إلى شاطئ الفرات فخرجوا كلهم وأقاموا هناك، وكانت أرزنجان من جملة الأصقاع التي خطب بها للملك الظاهر برقوق كما خطب له في تبريز والموصل وماردين وسنجار ودوركي، وضربت السكة باسمه في هذه الأماكن.
وفي سنة 801 تحرك ابن عثمان ملك الروم على بلاد السلطان سكان مصر والشام ووصلت طلائعه إلى الابلستين، وهو قاصد حلب فوقع الاتفاق في مصر على محاربته والخروج عليه، وأن يؤخذ من أجرة الأملاك شهر واحد يتقوى بها العسكر على دفع العدو، ثم ظهر أن ابن عثمان وصل إلى ملطية وملكها ولم يشوش على أحد من أهلها وأمر عسكره بأن لا ينهبوا لأحد من الرعية شيئاً، فأقام بملطية أياماً ثم رجع إلى مملكته فبطل أمر التجريدة عليه.
وفاة برقوق وسلطنة ابنه الناصر فرج والخوارج
على الملك:
وفي سنة 801 توفي الظاهر برقوق وتولى السلطنة بعده ابنه الناصر فرج(2/163)
وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة فكانت وفاته من سوء طالع الشام، كَثُر طمع القريب والبعيد في اكتساحها. وكان من ذلك الحظ الأكبر لتيمورلنك حتى إنه لما بلغه موت الظاهر برقوق فَرِحَ وأعطى من بشره بذلك خمسة عشر ألف دينار، وتهيأ للمسير إلى الشام فجاء إلى بغداد وأخذها ثانية.
وفي سنة 802 خامر نائب الشام وأظهر العصيان وأطلق من كان مسجوناً من الأمراء بقلعة دمشق ثم جمع النائب وكان اسمه تنم عسكراً عظيماً من الشام وقصد نحو الديار المصرية ووصل أوائل عسكره غزة، فجيش الملك الناصر فرج وسار إلى الشام، فلما وصل كان أقبغا اللكاش نائب غزة خرج هو ونائب حماة ونائب صفد إلى قتال الملك فدهش النواب، فكان أول من دخل تحت طاعته نائب حماة ثم نائب صفد. فلما رأى عسكر الشام دخول النواب تحت طاعة السلطان - وكان مع تنم نائب الشام نواب طرابلس وحلب وحماة وصفد وكثير من العربان وظن نفسه أنه أصبح سلطاناً - خامر الجميع على تنم نائب الشام وتوجهوا إليه في غزة فملك السلطان غزة وبلغ ذلك نائب دمشق فخرج منها هو وبقية الأمراء وأتوا إلى الرملة فصار السلطان في غزة وهم في الرملة، فراسلهم السلطان في الصلح فأبوا فتلاقى العسكران على مكان يسمى الحبتين فكان بينهم وقعة عظيمة كُسر بها تنم وأمسك واحتاطوا على بركه ودوابه، وقبض الناصر فرج على جملة من الأمراء الذين خامروا عليه وقيدهم وحبسهم في قلعة دمشق. ودخلها في موكب عظيم وقدامه تنم نائب دمشق. وهو مقيد راكب على كديش أبلق ومعه عشرة من أمراء
دمشق وهم في قيود فحبسهم في القعلة، ثم قتل وخنق عدة أمراء منهم.
الحرب الأولى مع تيمورلنك:
وفي هذه السنة انكسرت طليعة جيش تيمورلنك في وقعة صاحب بغداد القان أحمد بن أويس وقرا يوسف أمير التركمان، فلما انكسر التتر أتوا ملطية وكانوا نحو سبعة آلاف إنسان فأرسلوا إلى نائب حلب يقولون له عين لنا مكاناً ننزله، فلما سمع نائب حلب بذلك ركب هو ونائب حماة فتوجهوا إلى عسكر تيمورلنك فأوقعوا معهم وقعة عظيمة فانكسر نائب حماة وقتل من عسكر(2/164)
حلب جماعة فأمر السلطان نواب دمشق وصفد وطرابلس بأن يجمعوا العساكر ويتوجهوا إلى حلب يقيمون بها، فأرسل تيمورلنك إلى دمرداش نائب حلب يعده بأن يبقيه على نيابته بشرط أن يمسك سودون نائب الشام، فأطلع دمرداش على ذلك سودون فوثب على الرسول فضرب عنقه، فلما بلغ ذلك تيمورلنك نازل حلب، ولكن تيمورلنك إذا تظاهر الشراكسة بالقوة أمامه يعرف ما تندمج عليه نفوسهم وتصل إليه قرائحهم، وإذا انكسر له فيلق صغير لم يكن إلا على أتم المعرفة بما عند من يريد فتح ديارهم، وكان له جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها، فكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ويكاتبونه بجميع ما يروم، فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها، وبلغ من دهائه أنه كان إذا أراد قصد جهة جمع أكابر الدولة وتشاوروا إلى أن يقع الرأي على التوجه في الوقت الفلاني إلى الجهة الفلانية، فيكاتب جواسيس تلك الجهات فتأخذ الجهة المعينة حذرها ويأمن غيرها، فإذا ضربوا النفير وأصبحوا سائرين ذات الشمال عرّج بهم ذات اليمين، فإلى أن يصل الخبر الثاني يكون دهم هو الجهة التي يريد وأهلها غافلون.
وذكر ابن حجر أنه كان ابتداء حركة تيمورلنك إلى البلاد الشامية في سنة اثنتين وثمانمائة. وأصل ذلك أن أحمد بن أويس صاحب بغداد ساءت سيرته وقتل
جماعة من الأمراء وعسف على الباقين، فوثبوا عليه فأخرجوه منها، وكاتبوا نائب تيمورلنك بشيراز أن يتسلمها فتسلمها، وهرب أحمد إلى قرا يوسف التركماني بالموصل فسار معه إلى بغداد فالتقى به أهل بغداد فكسروه، واستمر هو وقرا يوسف منهزمين إلى قرب حلب، وقيل بل غلب على بغداد وجلس على تخت الملك، ثم صار صحبة قرا يوسف فوصلا جميعاً إلى أطراف حلب وسألا أن يطالع السلطان بأمرهما فكاتب أحمد بن أويس يستأذن في زيارته مصر، فأجيب بتفويض الأمر إلى النائب فخشي دمرداش نائب حلب أن يقصد هو وقرا يوسف حلب فسار نائب حلب ومعه طائفة قليلة منهم نائب حماة ليكبس أحمد بن أويس بزعمه، فكانت الغلبة لأحمد فانكسر دمرداش وقتل من عسكره جماعة، ورجع منهزماً وأُسر نائب حماة وفدي بستمائة ألف درهم، ثم جمع نعير والنائب ببهنسي جماعة والتقوا مع أحمد بن أويس(2/165)
فكسروه واستلبوا منه سيفاً يقال له سيف الخلافة وصحفاً وأثاثاً كثيرة. فوصلت الأخبار إلى القاهرة فسكن الحال بعد أن كان أمر السلطان بتجريد العساكر لما بلغه هزيمة دمرداش وأرسل بريدياً إلى الشام بالتجهيز إلى حلب.
تيمورلنك على أبواب حلب:
وصل تيمورلنك بعد فتح عينتاب إلى الباب وبزاعا بالقرب من حلب وأرسل إلى نائب حلب قاصداً ومعه المكاتبات من تيمورلنك فيها عبارة خشنة لنائب حلب. وذكر ابن حجر أن كتاب تيمورلنك إلى نائب حلب جاء فيه: إنا وصلنا في العام الماضي إلى البلاد الحلبية لأخذ القصاص ممن قتل رسلنا بالرحبة ثم بلغنا موته يعني الظاهر، وبلغنا أمر الهند وما هم عليه من الفساد فتوجهنا إليهم فأظفرنا الله تعالى بهم، ثم رجعنا إلى الكرج فأظفرنا الله بهم، ثم بلغنا قلة أدب هذا الصبي ابن عثمان فأردنا عرك أذنه فشغلنا بسيواس وغيرها من بلاده ما بلغكم، ونحن نرسل
الكتب إلى مصر فلا يعود جوابها فنعلمهم أن يرسلوا قريبنا أطلمش وإن لم يفعلوا فدماء المسلمين في أعناقهم والسلام.
حنق نائب حلب وأمر بضرب أعناق قصاد تيمورلنك، فاضطربت عند ذلك أحوال مدينة حلب وحصنوا سورها بالمدافع والمكاحل والمقاتلين، وقد ارتكب نائب حلب خطأ فاحشاً بقتل الرسول، ظاناً وجماعته من الحلبيين أن لهم قوة تقاوم قوة تيمورلنك. قال بعض المؤرخين: لما كان أهل حلب وصاحبها يتشاورون في دفع عادية تيمور عنهم قال نائب طرابلس: إننا نطير إلى الآفاق أجنحة البطائق إلى الأعراب والأكراد والتراكمة فيتسلطون عليه من الجوانب. وفي ذلك دليل آخر على جهل أمراء الشام بقوة تيمورلنك وعجزهم عن كشف أخبار جيوشه وتقدير مبلغ قوته. وذكر بعض المؤرخين أن عسكر تيمورلنك كان لما أسر سلطان العثمانيين أربعمائة ألف فارس وستمائة ألف راجل وقيل: إن ديوان تيمور اشتمل على ثماني مائة ألف مقاتل.
لما بلغ تيمورلنك ما فعله الحلبيون بقصاده زحف إلى قرية حيلان وأحاط بمدينة حلب ونهب ما حولها من الضياع فخرج عساكر حلب وسائر النواب(2/166)
بعساكرهم، وخرج لقتال تيمور حتى النساء والصبيان من أهل حلب، وأوقعوا مع تيمور فكان بينهم ساعة تشيب منها النواصي، وقد دهمتهم عساكر تيمور كأمواج البحر المتلاطمة، فلم تثبت معهم عساكر حلب وولوا على أعقابهم مدبرين إلى المدينة، وقد داست حوافر الخيل أجساد العامة، وكان احتمى بالمزارات والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال، فدخل التتر إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال، وصارت الأبكار تفتض في المساجد وآباؤهن يشاهدونهن، ولم يرعوا حرمة الجوامع وأصبحت كالمجزرة من القتلى واستمر ذلك أربعة أيام.
وفي كنوز الذهب أن جيش تيمورلنك لما دخل إلى حلب نهب وأحرق وسبى وقتل وصاروا يأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفعلون بها ما لا يليق ذكره، فلجأ النساء عند ذلك إلى جامعها ظناً منهن أن هذا يقيهن من أيدي الكفرة وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها، فيأتي عدو الله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع. قال: وحكى بعض من حضر الوقائع بأن تيمور عرض الأسرى من ديار الشام ونواحيها فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير.
رأى دمرداش نائب حلب عين الغلب فنزل من القلعة هو وبقية النواب، وأخذوا في رقابهم مناديل وتوجهوا إلى تيمورلنك يطلبون منه الأدمان؛ فلما مثلوا بين يديه خلع عليهم أقبية مخمل أحمر وألبسهم تيجاناً مذهبة، وقال لهم: أنتم صرتم نوابي، ثم أرسل معهم جماعة من أمراته يتسلمون القعلة، وكان فيها من الأموال والذخائر والحلي والسلاح ما تعجب الفاتح من كثرته، حتى أخبر بعض أخصائه أنه قال: ما كنت أظن أن في الدنيا قلعة فيها هذه الذخائر، فاستنزلوا ما كان بها وهم في قيود وغدر بهم بعد أن أمنهم، وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والمتاع ثم خرب القلعة وأحرق المدينة. واستمر مقيماً على حلب نحو شهر، وعسكره ينهبون القرى التي حول المدينة ويقطعون الأشجار التي بها ويهدمون البيوت، وقد أسرفوا في القتل ونهب الأموال، وصارت الأرجل لا تطأ إلا على جثة إنسان لكثرة القتلى، حتى قيل: إنه بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن، دور كل مئذنة نحو عشرين ذراعاً، وصعودها(2/167)
في الهواء مثل ذلك، وجعلوا الوجوه فيها بارزة تسفو عليها الرياح، وتركوا أجساد القتلى في الفلاة تنهشها الكلاب والوحوش. فكان عدة من قتل في هذه الواقعة من أهل حلب من صغار وكبار ونساء ورجال نحواً من عشرين ألف إنسان، عدا من هلك من الناس تحت أرجل الخيول عند اقتحام أبواب
المدينة وقت الهزيمة وهلك من الجوع والعطش أكثر من ذلك - هذا ما قاله ابن تغري بردي وابن حجر وابن إياس -. وقال ابن حجر: إن أعظم الأسباب في خذلان العسكر الإسلامي ما كان دمرداش نائب حلب اعتمده من إلقاء الفتنة بين التركمان والعرب حتى أعانه بعض التركمان على أموال نعير فنهبها فغضب نعير من ذلك وسار قبل حضور تيمورلنك فلم يحضر الوقعة أحد من العرب. وقال بعضهم: إن دمرداش كان باطن تيمور لكثرة ما كان تيمورلنك خدعه ومناه.
تيمورلنك على حماة وسليمة وحمص:
ووصل تيمورلنك إلى حماة وسليمة فأرسل جماعة من عسكره إلى نحو طرابلس فتاهوا عن الطريق فدخلوا في وادٍ بين جبلين فوثب عليهم جماعة من عربان جبل نابلس فقتلوا منهم جماعة كثيرة بالنشاب والحجارة فولوا مدبرين. وذكروا أن ابن رمضان أمير التركمان جمع عساكره وجاء حلب بعد رحيل تيمورلنك وطرد من بها من عساكره بحلب. وفعل تيمورلنك بأهل حماة كما فعل بأهل حلب من القتل والنهب وأحرق معظمها، ولم تطل يده إلى حمص فوهبها كما قال لخالد بن الوليد. قال ابن حجر: وذكر بعض من يوثق به أنه قرأ في الحائط القبلي بالجامع الأموي النوري بحماة منقوشاً على رخامة بالفارسي ما نصه: إن الله يسر لنا فتح البلاد والممالك حتى انتهى استخلاصنا إلى بغداد، فحاورنا سلطان مصر والشام فراسلناه لتتم المودة فقتلوا رسلنا، فظفرت طائفة من التركمان بجماعة من أصلنا فسجنوهم، فتوجهنا لاستخلاص قريبنا من أيدي مخالفينا واتفق في ذلك نزولنا بحماة في العشرين من شهر ربيع الآخرة.
تيمورلنك على دمشق:
وجاء تيمورلنك دمشق فنزل عند سفح جبل الثلج الشيخ في قطنا وإقليم البلان(2/168)
ميسنون وقوي عزمه على فتح دمشق لما بلغه أن الملك فر منها إلى مصر، فأرسل تيمورلنك إلى نائب دمشق رسولاً من قبله فقتله قبل أن يسمع كلامه. جرى في ذلك على ما جرى عليه نائب حلب فزاد تيمورلنك حنقاً. ومن الغريب أن نائبي حلب ودمشق لم يقدرا قوة تيمورلنك حق قدرها وهي منهما على قيد غلوة وظنا أنهما باعتصامهما في قلعتي المدينة، وبالقليل ممن عندهما من العسكر وأحداث البلدين يستطيعان أن يتغلبا على جيوش تيمورلنك المؤلفة كما قال عربشاه: من رجال توران، وأبطال إيران، ونمور تركستان، وفهود بلخشان،
وصقور الدشت والخطا، ونسور المغول وكواسر الجتا، وأفاعي خجند، وثعابين أبدكان، وهوام خوارزم، وجوارح جرجان، وعقبان صغانيان، وضواري حصار شادمان، وفوارس فارس، وأسود خراسان، وضباع الجبل، وليوث مازندران، وسباع الجبال وتماسيح رستمدار وطالقان، وأهل قبائل خوز وكرمان، وطلس أرباب طيالس أصبهان، وذئاب الري وغزنة وهمدان، وأفيال الهند والسند وملتان، وكباش ولايات اللور وتيران، وشواهق الغور، وعقارب شهرزور، وحشرات عسكر مكرم وجندي سابور.
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
مع ما أضيف إليهم من أعيار الخدم، وفواعل التراكمة والأوباش والحشم، وكلاب النهاب من رعاع العرب وهمج العجم، وحثالة عباد الإنسان، وأنجاس مجوس الأمم، ما لا يكتنفه ديوان، ولا يحيط به دفتر حسبان اه.
غلطة ارتكبها نائب دمشق المغرور بقوة سلطانه ومن معه من المتعصبة والمتلصصة وأرباب الدعارة من الشطار والأحداث الأغيار، قضت على أعظم مدينة في الأرض كانت في غابر الأيام. كان بين أهل دمشق وبين عسكر تيمورلنك في أول يوم واقعة فقتل من عسكر تيمورلنك نحو ألفي إنسان، فأرسل يطلب من أعيان دمشق رجلاً من عقلائهم، يمشي بينه وبين أهل دمشق في الصلح، فلما أتى قاصد تيمورلنك بهذه الرسالة اشتور أهل دمشق فيمن يرسلونه فوقع الاختيار أن يرسلوا القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي، فإنه كان إنساناً طلق اللسان يعرف بالتركي وباللسان العجمي، فأرخوه من أعلى السور بسرياق ضخم، ومعه خمسة أنفس من أعيان دمشق، فغاب عند(2/169)
تيمورلنك ساعة ثم رجع من عنده فأخبر بأن تيمورلنك تلطف معه في القول وقال له: هذه بلد فيها الأنبياء وقد أعتقها لهم. وشرح من محاسن تيمورلنك شيئاً كثيراً وجعل يخذل أهل الشام
عن قتاله ويرغبهم في طاعته، فصار أهل البلد فرقتين فرقة ترى ما رآه ابن مفلح وفرقة ترى محاربته، وكان أكثر أهل البلد يرون مخالفة ابن مفلح، ثم غلب رأيه ورأي أصحابه، فقصد أن يفتح باب النصر فمنعه من ذلك نائب قلعة دمشق وقال لهم: إن فعلتم ذلك أحرقت البلدة جميعها، ولكن نائب القلعة لما رأى عين الغلب سلم إليهم القلعة بعد ستة وعشرين يوماً قال: ثم قبض تيمورلنك على ابن مفلح وأصحابه وأودعهم في الحديد.
وصف أفعال تيمورلنك في دمشق:
ذكر ابن تغري بردي أنه لما قدم الخبر على أهل دمشق بأخذ حلب نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة والاستعداد لقتال العدو، فأخذوا في ذلك فقدم عليهم المنهزمون من حماة فعظم خوف أهلها، وهموا بالجلاء فمنعوا من ذلك، ونودي من سافر نهب فعاد إليها من كل خرج منها، وحصنت دمشق ونصبت المجانيق على قلعتها ونصبت المكاحل على أسوارها واستعدوا للقتال، ثم نزل تيمورلنك بعساكره على قطنا، فملأت الأرض كثرة، وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيئوا للقتال، وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كل من العسكريين ساعة فكانت بينهم وقعة انكسرت فيها ميسرة السلطان، وانهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران وجرح جماعة، وحمل تيمورلنك بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه، ونزل كل من العسكريين بمعسكره وبعث تيمورلنك إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضاً يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في واقعة حلب. ثم هرب الملك لأنه بلغه أنهم يسلطنون غيره في مصر فاراً بجماعته.
وكان اجتمع في دمشق خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلاً من تيمور، ما عدا العساكر الدمشقيين الذين(2/170)
تخلفوا في دمشق ولما أصبحوا وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب المدينة، وركبوا الأسوار ونادوا بالجهاد، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمورلنك بعساكره فقاتل الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال، وردوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة وقتلوا منهم نحو الألف وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، ولما أعيا تيمور أمرهم جعل يخادعهم فأرسل يريد الصلح.
وطلب تيمور الطقزات أي التسعة الأصناف من المأكول والمشروب والملبوس وغيره وهذه كانت عادته في كل بلد يفتحه صلحاً. فأجابه الدمشقيون إلى ما طلب بإقناع ابن مفلح لهم، وتقرر أن يجبي تيمور من دمشق ألف ألف دينار ففرض على الناس فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم، فلم يرض تيمور وقال: إن المطلوب بحساب له عشرة آلاف ألف دينار أو ألف تومان والتومان عشرة آلاف دينار من الذهب. قال ابن حجر: واستقر الصلح على ألف ألف دينار فتوزعت على أهل البلد ثم رجع تيمور فتسخطها وقال: إنه طلب ألف تومان فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانياً بلاء عظيم، ولما أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور قال هذا لابن مفلح وأصحابه: هذا المال لحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف دينار؟ وظهر لي أنكم عجزتم، ثم سلمت أموال المصريين وكراعهم وسلاحهم وأموال الذين هربوا من دمشق، ولما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح فأخرجوه، فلما فرغ من ذلك، قبض على ابن مفلح ورفقته وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم فساروا إليها بمماليكهم
وحواشيهم، ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وجرى عليهم من أنواع العذاب وهتك الأعراض شيء تقشعر منه الجلود، واستمر هذا البلاء تسعة عشر يوماً فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم، ثم أمر أمراءه فدخلوا دمشق ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال(2/171)
وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوماً عاصف الريح فعم الحريق جميع البلد حتى كاد لهيب النار أن يرتفع إلى الحساب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها، ثم رحل تيمور عنها بعد أن أقام ثمانين يوماً وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتقطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية ولم يبق بها إلا أطفال. قال ابن تغري بردي: ولقد ترك المصريون دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
قال بهاء الدين البهائي ير في دمشق المظلومة ويصف ما حلّ بها من التتر في سنة ثلاث وثمانمائة ويذكر حلب وحماة:
لهفي على تلك البروج وحسنها ... حفت بهن طوارق الحدثان
لهفي على وادي دمشق ولطفه ... وتبدل الغزلان بالثيران
وشكا الحريق فؤادها لما رأت ... نور المنازل أبدلت بدخان
جناتها في الماء منها أضرمت ... فعجبت للجنات في النيران
كانت معاصم نهرها فضية ... والآن صرن كذائب العقيان
ما ذاك إلا تُركهم ولجت بها ... فتخضبت منها بأحمر قان
كرهت جداولها حوافر خيلهم ... فتسابقت هرباً كخيل رهان
خافت خدود الأرض من أفعالهم ... فتلثمت بعوارض الريحان
لو عاينت عيناك جامع تنكز ... والبركتين بحسنها الفتان
وتعطش المرجين من أورادها ... وتهدم المحراب والإيوان
لأتت جفونك بالدموع ملوناً ... دمعاً حكى اللولو على المرجان
قطرات جفن ترجمت عن حرقتي ... فكأنهن قلائد العقيان
أبني أمية أين يُمن وليدكم ... والمغل تفتل في ذرى الأركان
شربوا الخمور بصحنه حتى انتشوا ... ألقوا عرابدهم على النسوان(2/172)
ومنها:
لهفي على كتب العلوم ودرسها ... صارت معانيها بغير بيان
أعروسنا لك أُسوة بحماتنا ... في ذا المصاب فأنتما أختان
غابت بدور الحسن عن هالاتها ... فاستبدلت من عزها بهوان
ناحت نواعير الرياض لفقدهم ... فكأنها الأفلاك في الدوران
حزني على الشهباء قبل حماتنا ... هو أول وهي المحل الثاني
لا تدّعي الأحزان يا شقراءنا ... السبق للشهباء في الأحزان
رتعت كلاب المغل في غزلانها ... وتحكمت في الحور والولدان
لهفي عليك منازلاً ومنازهاً ... ومقام فردوس وباب جنان
ثم رجع ورثي دمشق فقال:
لم أدر من أبكي وأندب حسرة ... للقصر للشرفين للميدان
للجبهة الغراء أم خلخالها ... للمزّة الفيحا أم اللوّان
-
الخراب الأعظم وأخلاق تيمور ونجاة فلسطين منه:
وعلى ما منيت به دمشق من قتل سكانها وسبي نسائها وأولادها، وإحراق مصانعها وبيوتها، واستخراج أموالها وطرائفها، أصابتها من تيمور مصيبة لا تقل عن تلك في إرجاعها القهقري وإضعافها إضعافاً لا يجبر كسره في قرون وإليك ما قاله ابن عربشاه في تفصيل هذا الهول العظيم: وبينا كان رجال يحاصرون قلعة دمشق أخذ هو يتطلب الأفاضل وأصحاب الحرف والصنائع، واستمر نهب عسكر تيمور لدمشق ثلاثة أيام، وارتحل وجماعته وقد أخذ من نفائس الأموال فوق طاقتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل، وذلك لكثرة الحمل وقلة الحوامل، وأصبحت القفار والبراري، والجبال والصحاري، من الأمتعة والأقمشة، كأنها سوق الدهشة، وكأن الأرض فتحت خزائنها، وأظهرت من المعادن والفلزات كامنها، وأخذ تيمور كل ماهر في فن من الفنون بارع من النساجين والخياطين والحجارين والنجارين والاقباعية والبياطرة والخيمية والنقاشين والقواسين والبازدارية وبالجملة أهل أي فن كان، وأخذ جملة من العلماء والأعيان والنبلاء، وكذلك كل أمير من أمرائه(2/173)
وزعيم من زعمائه، وأخذ من الفقهاء والعلماء، وحفاظ القرآن والفضلاء، وأهل الحرف والصناعات، والعبيد والنساء والصبيان والبنات، ما لا يسعه الضبط.
ولما رحل تيمور عن دمشق، وقد أصبحت أطلالاً لا مال ولا رجال ولا مساكن ولا حيوان، صار من بقي فيها من عسكر السلطان ومن أهلها يجتمعون ويترافقون، ويخرجون من دمشق إلى الديار المصرية فيخرج عليهم العربان والعشير، وينهبون ما معهم ويعرونهم ولم يتركوا لهم غير اللباس في وسطهم، فجرى عليهم من العربان والعشير ما لم يجر عليهم من عسكر تيمور، فذهبت حرمة المملكة ولم يبق للسلطان قيمة ولا للترك حرمة، فعزم السلطان الناصر على العود إلى دمشق، ثم بلغه أن تيمور رحل عن دمشق وهو مريض فعدل عن
حملته، وأرسل تيمور إلى صاحب مصر سودون نقيب قلعة دمشق يعتذر له مما قد جرى، ويطلب قريبه الذي كان أسر في أيام الظاهر برقوق، وأنه إذا أطلقه يطلق ما عنده من الأسرى، فأطلقه وكساه السلطان وأحسن إليه، فلما وصلوا إلى تيمور أكرمهم وقبل مراسيم السلطان وتفارش وبكى واعتذر مما وقر منه وقال هذا كان مقدراً.
رحل تيمور عن دمشق ولم يتعدها إلى فلسطين، وكان علماء القدس انتدبوا رجلاً وجهزوه بمفاتيح الصخرة إلى تيمور لما بلغهم أخذه دمشق فلما كان بالطريق بلغه رجوعه فرجع.
وكانت أكثر المدن الصغرى في أواسط الشام قد خضعت وصافت بحكم الطبيعة ومنها طرابلس أحضر له منها مال وقد اجتاح بعلبك ونهبها، ولما وصل الجبول في عودته لم يدخلها وأمر بتخريبها وإحراقها، وحرق حلب مرة ثانية وهدم أبراج القلعة وأسوار المدينة والمساجد والجوامع والمدارس، وقتل وأسر كل من وجدهم في طريقه، وأخذ من كان في قلعة حلب من المعتقلين خلا القضاة فأطلق موسى الأنصاري وعمر بن العديم وجماعة معهما، وأخذ بقيتهم فمنهم من هرب من الطريق، ومنهم من وصل معه. قفل تيمور راجعاً بعد أن أذاق الشام كأس الذل والحمام، وربما إذا جمعت جملة تخريباته لا يتأتى وقوع مثلها في مئات من الأعوام عملها بجيشه الجرار في عشرات من الأيام وقال: إن ما فعله كان مقدراً فكأنه شعر بعظم تبعته على عادة الفاتحين السفاكين، بيد أنه كان مغرى(2/174)
بغزو المسلمين والتخلي عن غيرهم، صنع ذلك في الروم والهند وغيرهما، ولكن ما فعله لم يكن كله عن غير علم بل أخذ بما يؤخذ به كل من تفانى في الوصول إلى غرض، ويستحيل بعد أن فتحت عليه الأقاليم وفتح ثلث آسيا تقريباً بالقهر والسيف وجعل جيشه مؤلفاً كالجيش العثماني من جميع العناصر التي كانت تحت حكمه أن
لا يكون على شيء من العلم وبعد النظر. وكان يصحب معه في رحلاته زمرة من العلماء المحققين.
ولو قدّر للدولة أن يكون فيها سلطان يحسن الانتفاع بالقوة، ويحالف ابن عثمان صاحب الروم وغيره من أمراء الشرق الذين فاوضوا ملك مصر والشام في أمر تيمور قبل انهيال جمهرة جيوشه على ديارهم ونظموا قواهم واستعملوا اللين تارة والشدة أخرى، ولم يفتحوا للفاتح العظيم باباً من أبواب الحجج التي يحجهم بها في عرف السياسة والفتح، لأمنت هذه الديار عادية تيمور أو لكان اكتفى بمعاهدة تضمن له بعض الغرامات فرحل بسلام، لأن تيمور يعرف بأن مملكته أوسع مجالاً يتيسر بقاؤها لآله لقربها من مهد عصبيته ودار ملكه.
بيد أنه لم يكن في مصر ولا الشام على ذاك العهد رجل سياسي بعيد النظر والغور في السياسة كالظاهر برقوق والظاهر بيبرس مثلاً فكان ما كان لأن الديار أصبحت بلا راع يرعاها، وغدا الحكم لمماليك الطبقة الثانية من عماله، ولمن يتحمسون لأول وهلة ثم يقودون أمتهم بجهلهم إلى الخراب، والغالب أن السبب في رجوع تيمور انتشار الجراد حتى أكل الناس أولادهم فأصبح من المتعذر عليه بعد ذلك تموين جيشه العظيم، وبهذا الرأي قال ابن حجر فذكر أن رحيل تيمور إنما كان لضيق العيش على من معه فخشي أن يهلكوا جوعاً. وقيل: إن تيمور أراد أن يفتح مصر فأرسل جماعة من قواده يكشفون له الطرق فلما عادوا قصوا عليه ما رأوه وهو ساكت حتى أتوا على حديثهم فقال لهم: إن مصر لا تفتح من البر تحتاج إلى أسطول لتفتح من البحر ولذلك صرف النظر عن فتحها، وهكذا نجت مدن الجنوب في الشام من تخريبه وكذلك مصر وما إليها من بلاد إفريقية وسلمت الدولة الشركسية.(2/175)
عهد المماليك الأخير
من سنة 803 إلى 922
البلاد بعد الفتنة التيمورية ومخامرة العمال:
خرجت حلب وحماة ودمشق خصوصاً من بين مدن الشام بعد فتنة تيمور كالهيكل من العظم لا لحم ولا دم، وأصيبت بنقص في الأنفس وخراب في العمران، يبكي لها كل من عرف ما كانت عليه من السعادة قبل تلك الحقبة المشؤومة، ولم يقيض للقطر سلطان عاقل قوي يداوي جراحاتها وينهض بها نهضة تنسيها آلامها. ولما رحل تيمور عن دمشق نصب صاحب مصر المقر السيفي تغري بردي في نيابة دمشق ورسم له أن يخرج إلى الشام من يومه ليعمر ما أفسده تيمور في دمشق، ونصب نواباً آخرين على نيابات الشام ممن كانوا في أسر تيمور فأطلقهم، مثل نواب الكرك وطرابلس وحماة وبعلبك وصفد وغيرهم، وأمرهم أن يعمروا البلاد المخربة، وهيهات أن يعمر في قرن ما خربه تيمور في ثلاثة أشهر.
وبعد حين رجم أهل دمشق 804 نائب الشام تغري بردي وأرادوا قتله فهرب إلى نائب حلب، فلما بلغ سلطان مصر ذلك أرسل تقليداً إلى أقبغا الجمالي بنيابة الشام. وخامر أمير غزة وخرج عن الطاعة واسمه صرق، فقتل في المعركة، وخرج أيضاً عن طاعة نائب طرابلس شيخ المحمودي. وخرج دمرداش نائب حلب إلى الأمير دقماق المحمدي الذي خلفه في نيابتها وأوقع معه واقعة قوية فانكسر دمرداش.
وفي سنة 806 نازل الفرنج طرابلس فأقاموا عليها ثلاثة أيام فبلغ ذلك نائب الشام فنهض إليهم مسرعاً فانهزموا فأوقع بهم وكان ذلك مبدأ سعادته.(2/176)
ثم توجه الفرنج إلى بيروت وكانوا في نحو من أربعين مركباً فواقعهم دمرداش ومن معه من الجند والمطوعة وقتل بعض الناس من الفريقين وجرح الكثير، وكان نائب الشام ببعلبك
فجاءه الخبر فتوجه من وقته وأرسل إلى العسكر يستنجد به ومضى على طريق صعبة إلى أن وصل إلى طرابلس ثم توجه من فوره إلى بيروت فوجدهم قد نهبوا ما فيها وأحرقوها وكان أهلها قد هربوا إلى الجبال إلا المقاتلة منهم، فوقع بين الفريقين مقتلة عظيمة فأمر النائب بإحراق قتلى الفرنج، ثم توجه إلى صيدا ومعه العساكر فوجدهم في القتال مع أهلها ولم يتقدمه أحد بل كان معه عشرة أنفس، فحمل على الفرنج فكسرهم وفروا في مراكبهم راجعين إلى ناحية بيروت ثم نزلوا لأخذ الماء فتبعهم بعض أصحاب النائب فغلبوه على الماء وأخذوا حاجتهم وتوجهوا إلى جهة طرابلس.
ودامت الفوضى في القطر حتى خامر النواب إلا قليلاً في الشام 806 وأصبح الناس فرقتين فرقة مع الملك الناصر وفرقة عليه إلى أن خلع سنة 808 وفي سنة 806 أوقع نائب الشام بعرب آل فضل وكان كبيرهم علي بن فضل قد قسم الشام سنة ثلاث وثماني مائة فطمع أن يفعل ذلك هذه السنة، فقبض عليه النائب ونهب بيوته، ووقع بين نعير أمير عرب آل فضل وبين حجا بن سالم الدوكاري وقعة عظيمة قتل فيها ابن سالم وانكسر عسكره وغلب نعير وأرسل برأس ابن سالم إلى القاهرة. وكان عسكر ابن سالم طاف في أعمال حلب كعزاز وغيرها وأفسد فيها الفساد الفاحش، وكان وقع بينه وبين نعير قتال بين جعبر وابلستين واستمرا أياماً إلى أن قتل ابن سالم. وقع بين دمرداش والتركمان وقعة عظيمة فانكسر دمرداش. وفي أيام الناصر فرج نصب نوروز الحافظي على دمشق وجكم العوضي نائباً على حلب، فلما توجها إلى عملهما أظهر كل منهما العصيان والمخامرة على السلطان فتسلطن جكم العوضي بحلب وقبل الأمراء الأرض بين يديه وتلقب بالملك العادل ووضع يده على البلاد الحلبية وكتب إلى نواب الشامات فأطاعوه إلا القليل منهم، وأخرج أوقاف الناس وجعلها إقطاعات وفرقها مثالات على عسكر
حلب وصار يحكم من الشام الى الفرات فانتزعت يد الناصر من الديار الشامية والحلبية وصار حكمه لا يجاوز غزة.(2/177)
وفارق جكم حلب 807 فثار بها عدة من أمرائها ورفعوا لواء السلطان بالقلعة فاجتمع إليهم العسكر وتحالفوا على طاعة السلطان، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظي وامتدت أيدي عرب ابن نعير والتركمان إلى معاملة حلب فقسموها ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئاً. ومدحه المؤرخون بأنه كان يتحرى العدل ويحب الإنصاف، ولا يتمكن أحد معه من الفساد.
وفي سنة 807 حاصر دمرداش نائب حلب إنطاكية وبها فارس ابن صاحب الباز التركماني فأقام مدة ولم يظفر بها بطائل وكان جكم مع فارس فتوجه جكم بعده إلى طرابلس فغلب عليها ثم توجه إلى حلب فنازلها وبها دمرداش فالتقيا وجرى بينهما قتال فانكسر دمرداش وخرج من حلب فركب البحر إلى القاهرة. وملكها جكم ثانية ثم خرج إلى جهة البيرة وغزا التركمان وأسر منهم جماً كبيراً. والتف نوروز الحافظي على شيخ المحمودي نائب طرابلس وأظهرا العصيان والتف عليهما جماعة من النواب وصاروا يأكلون الأقاليم الشامية والحلبية من غزة إلى الفرات وليس بيد الملك الناصر سوى مصر. وخربت صفد وأعمالها خراباً شنيعاً وذلك لأن شيخاً المحمودي ومن معه من النواب والتركمان حاصروها مدة لأن واليها بكتمر جلق لم يوافقهم على رغائبهم من جهة سلطان مصر. وخرج نعير بن مهنا الحياري البدوي 808 على أعمال دمشق فأخرج يلبغا العساكر وتواقعوا بالقرب من قرية عذراء خارج دمشق فانهزمت عساكر الشام وأمراء غرب بيروت واستولت العرب على دمشق وزادوا في الجور والضرب. واستولى التركمان على كثير من العمالات بقيادة رأسهم اياس ووصلوا إلى حماة فغلبوا عليها ثم ردوا عنها.
وقائع التركمان مع الناشزين على السلطان:
وفي سنة 808 كانت الوقعة العظمى بين جكم نائب حلب والتركمان ورئيسهم فارس ويدعى إياس بن صاحب الباز صاحب أنطاكية وغيرها، وكان قد غلب على أكثر الأصقاع الشمالية ودخل حماة وملكها، وعسكره يزيد على ثلاثة آلاف فارس غير الرجالة فواقعه جكم بمن معه فكسره كسرة فاحشة، وعظم قدر جكم بذلك وطار صيته، ووقع رعبه في قلوب التركمان(2/178)
وغيرهم، ثم إنه واقع نعيراً ومن معه من العرب فكسره، ثم توجه جكم إلى إنطاكية وأوقع بالتركمان فسألوه الأمان وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال مواطنهم القديمة ويسلموا إليه جميع القلاع التي بأيديهم، فتقرر الحال على ذلك وأرسل إلى كل قلعة واحداً من جهته ودخل إلى حلب مؤيداً منصوراً، فسلم فارس بن صاحب الباز لغازي بن أوزر التركماني وكان بينهما عداوة فقتله وقتل ولده وجملة من جماعته. وكان قد استولى على معظم معاملة حلب ومعاملة طرابلس فصار في حكمه إنطاكية والقصير والشغر وبغراس وحارم وصهيون واللاذقية وجبلة وغير ذلك، فلما أحيط به تسلم جكم الكور ورجعت معاملة كل بلد على ما كانت أولاً.
وبرز جكم إلى دمشق فالتقى مع ابن صاحب الباز وجمعهم من التركمان فكسرهم كسرة ثانية وضرب أعناق كثير منهم صبراً وقتل نعيراً وأرسل برأسه إلى القاهرة، واستعد نائب الشام لقتاله، ووصل دمرداش توقيع بنيابة حلب عوضاً عن جكم من القاهرة، فتجهز صحبة نائب الشام ثم وصل إليهم المعجل بن نعير طالباً ثأر أبيه وكذلك ابن صاحب الباز طالباً ثأر أبيه وأخيه، وكان معهم من العرب والتركمان خلق كثير، ووصل توقيع المعجل بن نعير بأمرة أبيه ووصل نائب الشام ومن معه إلى حمص وكاتبوا جكم في الصلح ووقعت الواقعة بينهم فانكسر عسكر دمشق، ووصل إليها شيخ ودمرداش منهزمين، وكانت الواقعة في الرستن
ثم رحل نائب دمشق إلى مصر، ودخل جكم إلى عاصمة الشام وبالغ في الزجر عن الظلم، وعاقب على شرب الخمر فأفحش، حتى لم يتظاهر بها أحد، وكانت قد فشت بين الناس.
ذكر هذا ابن حجر، وقال في وفيات سنة 808: إن فارساً صاحب الباز التركماني كان أبوه من أمراء التركمان فلما وقعت الفتنة اللنكية جمع ولده هذا فاستولى على إنطاكية ثم قوي أمره فاستولى على القصير ثم وقع بينه وبين دمرداش في سنة ست وثماني مائة فانكسر دمرداش، وكان جكم مع فارس ثم رجع عنه، فاستولى فارس على البلاد كلها وعظم شأنه، واستولى على صهيون وغيرها من عمل طرابلس، وصارت نواب حلب كالمحصورين معه لما استولى على أعمالهم، فلما ولي جكم ولاية حلب تجرد له وواقعه فهزمه ونهب ما معه(2/179)
واستمر جكم وراءه إلى أن حاصره بإنطاكية سنة ثمان وثماني مائة، ولم تزل الحروب بينهما إلى أن طلب فارس الأمان فأمنه ونزل إليه وسلمه لغازي بن أوزر، وكان عدوه فقتله وقتل معه ابنه وجماعة منهم، واستنقذ جكم الأقاليم كلها من أيدي صاحب الباز وهي إنطاكية والقصير والشغر وحارم وغيرها وانكسرت بقتل فارس شوكة التركمان.
وفي سنة 809 بعث شيخ إلى نابلس جيشاً قبضوا على عبد الرحمن ابن المهتار وأحضروه له إلى صفد فقتل بحضرته، وكان قد عصى بأخرة على الناصر، واتفق شيخ ونوروز فأرسله إلى نابلس فصادر أهلها وبالغ في ظلمهم فكانت تلك عاقبته. ووقعت وقعة بين شيخ والحمزاوي عند حلبين فقتل في المعركة أناس من الأمراء وقبض على الحمزاوي. واستولى تمربغا المشطوب على حلب وذلك أنه لما هرب من الوقعة التي كانت بين جكم وبين قرابللك جاء مع طائفة من المغل إلى جهة حلب فوجد ابن دلغادر قد جمع التركمان وحاصرها فأوقع بهم وكسرهم
ودخل البلد وعصت عليه القلعة. ولما بلغهم قتل جكم سلموها فاستولى على ما بها من الحواصل وعلى ما بحلب أيضاً من الخيول والمماليك المخلفة عن جكم. ثم قدم الملك الناصر من مصر فانهزمت العرب ودخل السلطان دمشق وبنى ما كان هدم. وفي سنة 809 ثارت طائفة من المماليك ومعهم عامة حلب على شركس المصارع.
وهكذا كثرت الفتن في الشام في العقد الأول من القرن التاسع وكلما قوي أمير قتل رجال الأمير الذي كان قبله، وشأن الظلم في الرعايا عجيب، والمصادرات قائمة على ساق وقدم، وبالجملة فقد كانت الدولة التي تولت أمر مصر والشام على حالة سيئة وكثير من ملوكها لم يتم لهم في الملك أشهر معدودة، وناهيك بهذا التبدل قال ابن تغري بردي: وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها في أيام هذه الفتن 810 وأُخرجت الأوقاف عن أربابها وخربت بلاد كثيرة بمصر والشام، لكثرة التجاريد وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع. وقال ابن حجر: وفيها كملت عبارة قلعة دمشق وكان ابتداؤها في العام الماضي وصرف على عمارتها مال كثير جداً، وظلم بسببه أكثر الخلق من الشاميين وغيرهم. وبسط نوروز يده في المصادرات بدمشق(2/180)
فبالغ في ذلك حتى إن بعض التجار كانوا يترحمون على تيمور وفرض على جميع الجهات مثليها، وتناول حتى الخانات والحمامات وأرباب المعايش حتى انقطعت الأسباب وتعطلت الأرزاق.
ونازل التركمان حلب 810 فحصرها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر ومعه عدة من أمراء التركمان وعدة من أمراء العرب ونازلوها أياماً وقاتلهم العوام ومن بها، وكان بها يومئذ تمربغا المشطوب فدخلوا ولم يظفروا بطائل، وكان لعلي بك ولد محبوس بقلعة حلب فصانع أهل حلب أباه بإرساله مكرماً فما أفاد ذلك وجد في الحصار ونازل المعجل بن نعير حماة وحاصرها ونهب علي
بك ومن معه القرى التي حول حلب وجدوا في الحصار، وبالغ أهلها بالذب عن أنفسهم واشتدوا للقتال وهان عليهم الأمر خشية على أموالهم وحريمهم بحيث أنهم كانوا كل يوم لا يرجعون إلا وقد أنكوا في التركمان نكاية كبيرة، وأوقع نوروز بالمعجل ومن معه من العرب على حماة وكسرهم.
وجرت في هذه السنة وقعة في وادي عقيبة من كروم بعلبك بين أنصار السلطان وبعض أمراء المماليك الفارين من القاهرة فكاثرهم نوروز وقتل منهم وحملت رؤوسهم إلى مصر. وتصافى شيخ ونوروز بعد الخلاف وتوجها بعسكرهما إلى أقليم ابن بشارة ونهبوه وهرب ابن بشارة. وقصد تمربغا المشطوب نائب حلب النزول على التركمان فبيتوه وكسروه ورجع منهزماً، ونهب نوروز للعرب إبلاً كثيرة فكبسوا عليها واستنقذوها وحاصر شاهين دويدار شيخ صهيون فغلب عليها فضربت البشائر بدمشق.
وجاء الأمير شيخ والأمير نوروز من غزة في عساكر كثيفة 811 فلما سمع الناصر بذلك خرج هو والأمراء على الهجن فتلاقى العسكران على السعيدية وكان بينهما واقعة عظيمة فانكسر الناصر ورجع إلى القاهرة وهو مهزوم، فتبعه شيخ ونوروز ودخلا إلى القاهرة، ثم قوي حال الناصر على شيخ ونوروز فكسرهما فرجعا إلى الشام مهزومين، وقتل في هذه الحركة جماعة كثيرة من الأمراء والمماليك. وفيها تعين نوروز لنيابة الشام ثم تنحى عنها، وأرسل السلطان تقليداً إلى شيخ بنيابة الشام وتقليداً إلى دمرداش بنيابة حلب، ثم عين نوروز إلى القدس بطالاً، ثم كتب إلى دمرداش نائب حلب بالحضور إلى مصر ورسم(2/181)
لشيخ بنيابة طرابلس مع نيابة حلب وخامر شيخ بعد ذلك على السلطان فجرد إليه ورجع على غير طائل.
ثم إن نوروز قصد صفد ليحاصرها فقدم عليه الخبر بحركة شيخ إلى دمشق وكان
قد جمع من التركمان والعرب جمعاً وسار من حلب فرجع نوروز فسبقه إلى دمشق، فتراسل شيخ ونوروز في الكف عن القتال ولم ينتظم لهما أمر، وصمم شيخ على أخذ دمشق وباتا على أن يباكرا القتال فأمر شيخ بإيقاد النيران في معسكره واستكثر من ذلك، ورحل جريدة إلى سعسع فنزلها، وأصبح نوروز فعرف برحيله وسار نوروز إلى سعسع فلقي بها شيخاً وهو في نفر قليل نحو الألف فالتقيا فانكسر نوروز ويقال: إنه كان معه أربعة آلاف نفس ولم يكن مع شيخ سوى ثلاثمائة نفس، وركب شيخ أقفيتهم ودخل دمشق ثم رحل إلى ملطية وأرسل شيخ عسكرا ورحل نوروز إلى حلب لمحاصرتها ثم لحق عسكر شيخ بالتركمان بأنطاكية وأوقعوا بهم واستنقذوها منهم.
وألزم النائب أهل دمشق بعمارة مساكنهم والأوقاف التي داخل البلد وضرب فلوساً جدداً ثم نودي عليها كل مائة وأربعين بدرهم، وكتب الناصر إلى الشام بإسقاط ما على الناس من البواقي من سنة ثمان وتسعين إلى سنة اثنتي عشرة وفي السنة التالية ألزم الناس في دمشق بعمارة ما خرب من المدارس. وفيها توجه الدويدار إلى البقاع للاستعداد لبرديك لما طرق الشام، فوصلت كشافة برديك إلى عقبة سحورا ثم نزل هو شقحب، فتأهب من بالقلعة بدمشق وخرج العسكر مع سودون وحمل هو على عسكر برديك فكسرهم ثم انهزم برديك على خان ذي النون ورجع إلى صفد. واشتد الحصار على نوروز ودمرداش بحماة فقتل بينهما أكثر من كان معهما من التركمان وانضم أكثر التركمان إلى شيخ ووصل إليه المعجل بن نعير نجدة له بمن معه من العرب فخيم بظاهر حماة، فوقع القتال بين الطائفتين واشتد الخطب على النوروزية فمالوا إلى الخداع والحيلة ولم يكن لهم عادة بالقتال يوم الجمعة فبينما الشيخية مطمئنين هجم النوروزية عليهم وقت صلاة الجمعة فاقتتلوا إلى قبيل العصر فكانت الكسرة على النوروزية وتفرق أكثر العساكر عن نوروز
ولحق كثير منهم بشيخ، وكتب إلى دمشق فدقت بشائره وزينوا البلد وكبس أصحاب نوروز(2/182)
المعجل بن نعير ليلاً فأنجده شيخ وكتب دمرداش إلى الناصر يستنجده ويحثه على المجيء إلى الشام وإلا خرجت عنه كلها فإنه لم يبق بيده منها إلا غزة وصفد وحماة وكل من بها من جهته في أسوأ حال.
قال ابن حجر في حوادث سنة 813: إنه وصل الفرنج الذين استأذنوا الناصر في العام الماضي لما دخل القدس أن يجددوا عمارة بيت لحم فوصلوا إلى يافا ومعهم عَجَل وصناع أخشاب فأخرجوا المرسوم فاستدعوا الصناع للعمل بالأجرة فأتاهم عدة وشرعوا في إزاحة ما بطرقهم من الأدغال ووسعوا الطريق بحيث تسع عشرة أفراس ولم تكن تسع غير فارس وأحضروا معهم دهناً إذا وضعوه على الصخر سهل قطعها، فلما رجع الناصر إلى دمشق عرفه نصحاؤه بسوء القالة في ذلك فكتب إلى أرغون كاشف الرملة بمنعهم من ذلك والقبض عليهم وعلى من معهم من الصناع والآلات والسلاح والجمال والدهن فختم على مخازنهم وحملهم ومعهم ما رسم به الناصر.
وفي سنة 814 ارتفع الطاعون عن دمشق وما حولها وأحصي من مات من أهل دمشق خاصة فكانوا نحواً من خمسين ألفاً وخلت عدة من القرى وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها.
الملك السكير وقتله:
وبقي أمر الشام متقلقلاً لأن ملك مصر على هذه الصورة من السخافة والضعف وهو شارب الليل والنهار تصدر الأعمال عنه مختلة كلها، فقطع شيخ المحمودي ونوروز الحافظي اسم الناصر من الخطبة بدمشق وأعمالها، ونفرت قلوب المماليك من الناصر وصار منهم جماعة 814 يتسحبون تحت الليل ويتوجهون إلى نوروز الحافظي وشيخ المحمودي، يأتون الشام من العقبة إلى غزة فتسحب
من العسكر نحو الثلث، فقويت شوكة الحافظي والمحمودي والتف عليهما سائر النواب في الشام وغالب عسكر مصر وكثير من العشير وعربان نابلس، واجتمع عندهما من الأمراء ما يزيد على أربعة وعشرين أميراً. ولما تحقق الناصر ذلك جرد عليهم جيشاً فكانوا يتوجهون في كل يوم من بلد إلى بلد والناصر خلفهم ليلاً ونهاراً فأتعب العسكر وانقطع(2/183)
منهم جماعة من شدة السوق والتعب. ووصل الناصر إلى اللجون 815 فتلاقى والنواب بعد العصر وكان الناصر قد اصطبح وهو لا يعي من شدة السكر فأراد الكبس على النواب في تلك الساعة فمنعه الأمراء فأبى، فلما رأوا ذلك تسحبوا من عنده مع عسكره فلم يبق معه إلا القليل من العسكر فكبس على النواب فانكسر الناصر وهرب بمن بقي معه من العسكر إلى نحو دمشق، واستولى شيخ ونوروز على أثقاله وخزائن المال وانتصرا عليه.
فلما دخل شيخ ونوروز إلى دمشق طلعا إلى دار السعادة واجتمع هناك الأمراء وأحضروا القضاة الأربعة ورسموا بأن يكتبوا محضراً بأفعال الناصر بأنه سفاك للدماء مدمن للخمر فكتبوا محضراً بذلك وشهد فيه جماعة كثيرة من أعيان الناس، ثم خلعوا الناصر من السلطنة واشتوروا فيمن يولونه فقال نوروز لشيخ: لا أنا ولا أنت نتسلطن. ولكن اجعلوا الخليفة العباسي هذا هو السلطان، ويكون الأمير شيخ أتابك العساكر ومدبر المملكة في مصر، ويكون الأمير نوروز نائب الشام ويحكم في الديار الشامية من غزة إلى الفرات، يولي من يختار ويعزل من يختار، فتراضوا على هذا وحلف جميع الأمراء وتعاهد شيخ ونوروز ثم سلطنوا الخليفة واستمر نوروز الحافظي نائب الشام.
وأما ما كان من أمر الناصر فرج بعد الكسرة التي وقعت له على اللجون فإنه ولى منهزماً إلى نحو دمشق، وأرسل إلى شيخ يطلب منه الأمان، وكان نوروز صهر الناصر زوج أخته، فلو طلب منه الأمان أولاً لما أصابه شيء ولكن قصد شيخاً
فأرسل إليه من قيده وأحضره إلى السجن بقلعة دمشق، ثم إنهم أثبتوا عليه الكفر كما قيل ودخل عليه بعد أيام جماعة من الفداوية وقتلوه بالخناجر وهو بالبرج بقلعة دمشق، وألقوه على مزبلة خارج البلد وهو عريان مكشوف الرأس، ليس عليه غير اللباس في وسطه، وصار الناس يأتون إليه أفواجاً ينظرون إليه، ولو أمكن مماليك أبيه أن يحرقوه لفعلوا به ذلك مما قاسوه منه فأقام على ذلك ثلاثة أيام ثم دفنوه وكانت الدنيا على أيامه حائلة وحقوق الناس ضائعة، وقد خرب غالب البلاد الشامية في أيامه من تيمورلنك ومن عصيان النواب وخربت أوقاف الناس في الشام، وكم قتل من أبطال ويُتم من أطفال، وجرت في أيامه أمور شتى يطول شرحها قال المقريزي:(2/184)
لم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء. طرق الشام تيمور فخربها كلها وحرقها وعمل بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات وتمزق أهلها في أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء، فاشتد الغلاء على من تراجع إليها من أهلها وشنع موتهم واستمرت بها مع ذلك الفتن.
الخليفة السلطان وسلطنة شيخ:
عهد الأمراء الذين قضوا على سلطان الناصر بالسلطنة إلى الخليفة العباسي وكان المسكين أشبه بعامل محترم من عمال الشراكسة لا عصبية له ولا جيش، والغالب أن العهد بالسلطنة إليه كان دسيسة سياسية من الأميرين نوروز وشيخ يوم قال الأول للثاني وهما يتفاوضان فيمن يوسدان إليه السلطنة: لا أنا ولا أنت نتسلطن فاستولى شيخ على ملك مصر بالفعل وإليه قيادة الجند، واستولى نوروز على الشام يحكم فيها حكم الملك، وبقي الأمر على ذلك إلى سنة 816 وقد بلغ نوروز الحافظي أمير الشام أن المؤيد شيخ خلع الخليفة العباسي في مصر وتسلطن عوضه، فعزّ عليه ذلك ولم يقبل الأرض للملك المؤيد شيخ وأظهر العصيان
واستمر نوروز يخطب باسم الخليفة العباسي على منابر دمشق وأعمالها ولم يخطب باسم المؤيد شيخ ولا ضرب باسمه سكة، واستمر مستأثراً بملك الشام من غزة إلى الفرات.
وفي سنة ست عشرة وثمانمائة ظهر الخارجي الذي أدعى أنه السفياني قال ابن العماد: وهو رجل عجلوني يسمى عثمان بن ثقالة اشتغل بالفقه قليلاً في دمشق، ثم رجع إلى الجيدور ودعا إلى نفسه فأجابه بعض الناس فأقطع الإقطاعات ونادى أن مغلّ هذه السنة مسامحة ولا يؤخذ من أهل الزراعة بعد هذه السنة التي سومح بها سوى العشر، فاجتمع عليه خلق كثير من عرب وعشير وترك، وعمل له ألوية خضراء وسار إلى وادي الياس وبث كتبه في النواحي يحث الناس على الانضمام إليه فارسهم وراجلهم مهاجرين إلى الله ورسوله ليقاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فثار عليه غانم الغزاوي وجهز إليه طائفة وطرقوه بجامع عجلون فقاتلهم فقبضوا عليه وعلى ثلاثة من أصحابه(2/185)
فاعتقل الأربعة وكتب إلى المؤيد بخبره فأرسلهم إلى قلعة صرخد.
وفي سنة 817 خرج المؤيد شيخ من مصر في العساكر قاصداً إلى دمشق للقضاء على نوروز. وكان قد حصن دمشق وركب على سورها المدافع من كل جانب، فحاصره المؤيد شيخ حصاراً طويلاً ونصب حول دمشق عدة مجانيق حتى غُلب نوروز وسلم نفسه إلى شيخ فقطع رأسه، وكان نوروز مهاباً شديد البأس سفاكاً للدماء، ما كان في عسكر إلا انهزم ولا ضبط أنه ظفر في وقعة قط، وهو الذي عمر قلعة دمشق بعد تيمورلنك. ومهد المؤيد شيخ الديار الشامية وعزل من عزل وولى من ولى، وخلع على قانباي المحمدي واستقر به نائب الشام وخلع على إينال الصصلاني واستقر به نائب حلب، وخلع على سودون بن عبد الرحمن واستقر به نائب طرابلس، وخلع على جاني بك البجاسي واستقر به نائب حماة، ولم يلبث
هؤلاء النواب 818 أن خامروا على الملك المؤيد شيخ وخرجوا عن الطاعة، فجرد إليهم المؤيد ثانياً، وخرج إليهم بنفسه وأوقع معهم فانتصر عليهم، وقبض على قانباي المحمدي نائب الشام وقطع رأسه، ثم قبض على إينال الصصلاني وقتله على صدر أبيه ثم قتل الأب بعد ذلك، ثم ولى جماعة من الأمراء نواباً غير هؤلاء ورجع إلى الديار المصرية، فلم يقم سوى مدة يسيرة حتى خامر النواب أيضاً فجرد إليهم ثالث مرة وخرج بنفسه فلما بلغ النواب مجيئه هربوا من وجهه وتوجهوا إلى قرا يوسف أمير التركمان فنصب الملك المؤيد نواباً غيرهم ممن يثق بهم، ومهد الأقاليم الدمشقية والحلبية وقطع شأفة النواب الذين عصوا سلطانه، ومن الأحداث في هذا الدور دخول قرا يوسف التركماني من العراق إلى حلب 821 في نحو ألف فارس فجفل من كان خارج مدينة حلب بأجمعهم، واضطرب من بداخل سور حلب وألقوا بأنفسهم من السور ولم تسكن الحالة إلا بعد رحيله.
هلاك المؤيد شيخ وسلطنة ابنه في القماط:
هلك الملك المؤيد شيخ سنة 824 وكان ملكاً جليلاً كفؤاً للسلطنة وافر العقل مقداماً في الحرب عارفاً بمكايدها وحيلها وقت التقاء الجيوش(2/186)
حتى ضرب به المثل فكان يقال: نعوذ بالله من ثبات شيخ ومن حطمة نوروز الحافظي. هذه رواية ابن إياس بيد أن المقريزي يقول: إنه حدث في أيام هذا الملك أكبر خراب مصر والشام لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق، ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه من غير وازع ولا عقل ولا ناه من دين. وتولى بعد الملك المؤيد شيخ ابنه المظفر أبو السعادات أحمد وهو في القماط فخامر نائب دمشق جقمق الأرغوني ونائب حلب يشبك المؤيدي وكذلك بقية النواب في الشام، وكان الأتابكي ألطنبغا القرشي لما توجه في العسكر المصري أوقع معهم بمن معه
من الأمراء فهربوا إلى نحو صرخد، ثم إن الأتابكي ألطنبغا جمع العربان والعشير ورجع إلى دمشق وأوقع مع نائب الشام جقمق فانكسر جقمق، فملك الأتابكي دمشق وقلعتها، فلما بلغه وفاة الملك المؤيد وسلطنة ابنه أظهر العصيان وأقام بدمشق وحصنها ونصب على سورها المكاحل بالمدافع، والتف عليه العربان والعشير، وبلغ الأمراء بمصر ذلك فخلعوا على ططر واستقروا به أتابك العسكر عوضاً عن ألطنبغا القرشي. ثم اتفق الحال على أن الأتابكي ططر يأخذ السلطان معه في محفة ويتوجه هو والعسكر إلى دمشق بسبب ألطنبغا القرشي والنواب، فخرج ططر من القاهرة وصحبته المظفر أحمد في محفة والمرضعة معه، وكانت أمه خوند سعادات صحبة ابنها في المحفة لما خرج إلى الشام لتأمن عليه من القتل، فدخل المظفر إلى دمشق وألقى الرعب في قلب ألطنبغا وجقمق فحضر ألطنبغا وفي رقبته منديل فقبل الأرض قدام الملك المظفر وهو في المحفة، فلما وقعت عليه عين الأتابكي ططر قبض عليه وسجنه بقلعة دمشق، ثم قبض على جقمق وأمر بخنق جقمق وألطنبغا، ثم قبض على جماعة من النواب وقتل منهم البجاسي نائب دمشق، وقبض على أربعين أميراً من الأمراء المؤيدية وعلى جماعة من المماليك المؤيدية. ثم خلع المظفر أحمد من السلطنة وتسلطن عوضه بدمشق وخطب باسمه على المنابر وكان معه الخليفة المعتضد بالله داود، فكان مثل ططر في هذه الحيلة مثل أكثر عمال هذه السلطنة الشركسية متى اشتد ساعدهم استأثروا بالملك والسلطان.(2/187)
وفاة ططر وسلطنة ابنه ثم تولي الأشرف برسباي:
هلك ططر بعد أن ملك ثلاثة أشهر وأياماً وخلفه في السلطنة ابنه الصالح محمد وله من العمر نحو من إحدى عشرة سنة وجعل جاني بك الصوفي أتابكه ومدير مملكته، فعز ذلك على بقية الأمراء فوثب برسباي وقيده وسجنه فاجتمعت الكلمة
على برسباي وصار صاحب الحل والعقد فتعصب له جماعة من الأمراء وخلعوا الصالح وسلطنوا برسباي 825 فكانت مدة سلطنة الصالح ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً. وخلع برسباي على المقر السيفي جاني بك البجاسي واستقر به نائب الشام واستقامت أحواله في السلطنة.
وفي سنة 836 سار الأشرف برسباي في حملة من مصر قيل أنه غرّم عليها خمسمائة ألف دينار وقصد الشام وسار منها إلى آمد فحاصرها وكانت لابن قرابلك فلم ينل منها طائلاً، فمشى بعض الأمراء بالصلح على أن لا يتعدى على بلاد السلطان فحلف صاحب آمد على ذلك. ولما عاد الجيش المصري عاد صاحبها إلى العصيان قال ابن إياس: والملك الأشرف هو آخر من جرد من الملوك وخرج بنفسه إلى البلاد الشامية.
توفي الأشرف برسباي سنة 841 وقد ساس الملك ونالته السعادة ودانت له البلاد وأهلها وخدمته السعود حتى مات، وفتحت في أيامه أقاليم كثيرة استرجعت من أيدي الباغين من غير قتال، وفتحت قبرس وأسر ملكها. قال المقريزي: وكانت أيامه أيام هدوء وسكون إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع مع الجبن والحذر وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل مصر والشام في أيامه الخراب وقلت الأموال بها وافتقر الناس، وساءت سيرة الحكام والولاة مع بلوغ آماله وقهر أعاديه وقتلهم بيد غيره. وقد عقد برسباي معاهدة مع فرسان رودس وقهر صاحب مملكة ذي القدرية وكان الذي يثير عليه الفتن في الشام شاه رخ بن تيمورلنك لأن سفراءه أُهينوا في مصر كما أُهين تجاره في جدة، وأبى عليه صاحب مصر أن يكسو الكعبة المشرفة. وقال ابن إياس: إن الملك الأشرف كان منقاداً إلى الشريعة، وكانت معاملته أحسن المعاملات من أجود الذهب والفضة ولا سيما(2/188)
الأشرفية
البرسبيهية فإنها من خالص الذهب، وكان عنده معرفة بأحوال السلطنة كفؤاً للملك، كثير البر والصدقات، وله معروف وآثار، لكنه كان عنده طمع زائد في تحصيل الأموال محباً لجمعها من المباشرين وغيرهم قال: وكان من خيار ملوك الشراكسة.
وكان تولي رجل عظيم مثل برسباي زمام السلطنة بعد سخافة فرج وأبنه الطفل وسخافة ططر وأبنه من أجمل الموافقات. لأعاد إلى السلطنة عزها الذي أولاها إياه مؤسسها برقوق. وبرسباي لا يقلّ عنه تدبيراً وحنكة وربما أمتاز عنه بأمور.
الملك العزيز يوسف والملك الظاهر جقمق:
تولى الملك بعد الأشرف برسباي ابنه يوسف وسمي الملك العزيز وله من العمر أربعة عشرة سنة وجعل الأتابكي جقمق العلائي نظام المملكة ثم خلع 842 وجعل جقمق سلطاناً ولم يملك العزيز سوى ثلاثة أشهر وخمسة أيام. وفي سنة 837 ندب السلطان العساكر إلى قتال الأرمن فملكوا مدينة إياس. وفي سنة 843 خرج إينال الجكمي نائب دمشق عن الطاعة وأظهر العصيان على السلطان وكذلك تغري برمش نائب حلب فعين السلطان لهما تجريدة من مصر، وخلع على المقر السيفي أقبغا التمرازي واستقر به نائب دمشق عوضاً عن إينال الجكمي، وخلع على المقر السيفي يشبك السودوني واستقر به أتابك العساكر عوضاً عن أقبغا التمرازي فأوقعا مع النائبين العاصيين وأسراهما وقطعا رأسيهما وأرسلاهما إلى القاهرة.
وفي سنة 855 طرق صور زهاء عشرين مركباً للفرنج ونهبوا من بها فأدركهم ابن بشارة مقدم العشير وقاتلهم قتالاً شديداً حتى أزاحهم عن البلد بعد أن قتل من الفريقين جماعة وأمسك من الفرنج جماعة وقطع رؤوسهم. وفي سنة 856 ركب طوغان نائب الكرك بمماليكه فكبس بعض عرب الطاعة وقاتلهم حتى ظفر
بجماعة منهم فأسرف في قتلهم ثم نزل بمكان هناك فكثر عليه جماعة منهم فقاتلهم ثانياً فكسروه وقتلوه أسوأ قتلة. وهدأ القطر من الفتن والتجاريد على عهد الظاهر جقمق المتوفى سنة 857 وكانت مدة سلطنته(2/189)
بالديار المصرية والبلاد الشامية وما مع ذلك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وكان ملكاً جليلاً ديناً خيراً متواضعاً كريماً وفعل الخير وقد كانت علائقه حسنة مع سلطان العثمانيين وملوك آسيا الصغرى.
المنصور والأشرف والمؤيد والظاهر خشقدم
والظاهر بلباي والأشرف قايتباي:
وخلف الظاهر جقمق المنصور فخر الدين عثمان فخلع بعد ثلاثة وأربعين يوماً وتسلطن بعده الأشرف إينال العلائي وكانت أيامه لهو وانشراح وقيل: إنه لم يسفك دماً بغير وجه شرعي فعد ذاك من النوادر وتوفي سنة 865 وخلفه المؤيد أحمد وكان حسن السياسة بصيراً بمصالح الرعية قمع مماليك أبيه عما كانوا يفعلونه من الأفعال الشنيعة إلا أن مدته لم تطل سوى أربعة أشهر وثلاثة أيام، وخلفه الظاهر خشقدم وكان أهل الدولة يريدون سلطنة جانم نائب الشام، فلما أبطأ عليهم سلطنوا الظاهر خشقدم 865 يقول ابن إياس: إن الملك الناصر أبي سيف الدين خشقدم الناصري المؤيدي هو الثامن والثلاثون من ملوك الترك وأول ملوك الروم بمصر إن لم يكن أيبك التركماني من الروم ولا لاجين من الروم فخشقدم أول ملوك الروم بمصر وأصله رومي الجنس.
وسار جانم إلى مصر فأرجعه الملك الجديد إلى الشام، ولما بلغها أرسل السلطان إلى نائب قلعة الشام مراسيم بأن يقبض على جانم نائب الشام فرمى عليه بالمدافع وهو جالس في دار السعادة فهرب إلى الرها، وأستمر في هياج وعصيان وأرسل عليه سلطان مصر تجريدة بقيادة جاني بك وعين المقر السيفي تنم المؤيدي نائب
الشام.
وفي سنة 872 تحرك شاه سوار صاحب مملكة ذي القدرية على حلب فرسم خشقدم للأمير برديك الجمقدار نائب حلب أن يخرج إليه فخرج، ثم التف عليه وأظهر العصيان على السلطان وقصدا التوجه إلى الشام، فأرسل سلطان مصر عليهما تجريدة وانهزم الجند الذين أرسلتهم مصر لقتال شاه سوار ودخلوا حلب وهم في أسوأ حال، ثم أرسل السلطان تجريدة أخرى فهزمها سوار أيضاً، فاحتال عليهم حتى أدخلهم في مواضع ضيقة بين أشجار فخرج عليهم السواد الأعظم من التركمان بالقسي والنشاب والسيوف والأطبار فقتلوا من العسكر عدداً كبيراً(2/190)
وقتل من مشايخ جبل نابلس وعربانه والعشير والتركمان والغلمان عدد كبير وأشرف سوار أن يأخذ حلب ثم خمدت نائرتة. توفي الظاهر خشقدم، وملكه نحو ست سنين ونصف، وخلفه الظاهر بلباي وخلع بعد سلطنة ستة وخمسين يوماً وبه زالت الدولة المؤيدية، وخلفه الأتابكي تمربغا ودامت سلطنته ثمانية وخمسين يوماً وخلفه الملك الأشرف قايتباي.
مصائب القطر الطبيعية ثم السياسية:
بعد أن نجت الشام من فتن التتر وتيمور خاصة، ووقائع الصليبيين وويلاتها عاودتها الأوبئة والمجاعات والزلازل فزلزلت حلب مرات سنة 806 فخرب كثير من معابدها ومساجدها وكانت كثيرة جداً، وفي سنة 820 كان بحلب غلاء عقبه طاعون مات فيه سبعون ألفاً وخلا البلد من السكان، وفي سنة 863 وقع الطاعون بحلب فأربى من هلك فيها وفي ضواحيها على مائتي ألف إنسان، وفي سنة 874 اشتد الغلاء والفناء بحلب وكانت الحال في القطر كله على ذلك فجارت عليه الطبيعة وكانت من قبل يجور عليها أمراؤها. وقال الدويهي في حوادث سنة 875: ومن أخبار هذا العصر يستدل على أنه في دولة المقدمين وأحكامهم العادلة توفرت الراحة لأهل لبنان وكثرت عندهم المدارس والكنائس.
وبينا كانت الشام تدافع الخارجين على المماليك أو تشترك معهم أحياناً وقد غضب عليها جبار الأرض وجبار السماء، ظهر لها بل لدولة المماليك الشركسية في مصر والشام عدوان لدودان أو حكومتان مسلمتان نجت من شر الأولى ووقعت في شر الثانية ونعني بهما دولة حسن الطويل ودولة ابن عثمان. ودولة حسن الطويل هي المعروفة بدولة الحمل الأبيض آق قيونلي. استولى حسن الطويل على ديار بكر سنة 871 وقتل جهانشاه ومرزا حاكم دولة الحمل الأسود قره قيونلي وأبا سعيد حفيد تيمور فأصبح ملك العراقيين العربي والعجمي وفارس وكرمان، وأنشأ دولة كبرى جعل تبريز عاصمتها. أما دولة ابن عثمان في الروم أي الأناضول فقد قويت على ذاك العهد ولا سيما بعد أن غلب السلطان محمد الثاني حسناً الطويل أوزون حسن سنة 877.(2/191)
في سنة 872 أرسل سلطان مصر والشام عسكراً على شاه سوار فانكسر كسرة شنيعة وقتل وجرح كثير من أمراء المماليك ونهب أثقال الأمراء والعسكر قاطبة وعاد الذي سلم إلى حلب في أسوأ حال، وقد قوي أمر سوار وتوجه إلى عينتاب
وحاصر قلعتها ثم قوي عسكر سوار بما نهبه من عسكر الشام ومصر وكان جيشاً جراراً فقوي عزمه على مداهمة حلب، فجرد سلطان مصر تجريدة ثانية فكسرها عسكر سوار وفي هذه السنين كثر تبديل نواب حلب وفي شبه هذا قال ابن الوردي:
هذي أمورٌ عظامٌ ... من بعضها القلب ذائب
ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب
وفي سنة 875 تحرك حسن الطويل لأخذ الديار الحلبية وأظهر العداوة لسلطان الشام ومصر وقد طمع في عسكر مصر لما رأى من هزيمتهم وهزيمة الشاميين مرتين أمام شاه سوار، واستظهر عليهم فثار السلطان لهذا الخبر وقصد أن يخرج إلى حلب بنفسه خصوصاً لما بلغه أن سواراً استولى على سيس وقلعتها، وأرسل السلطان إلى شاه سوار الأمير يشبك الدوادار الكبير وفوض إليه أمور البلاد الشامية والحلبية وغيرها وجعل له التصرف في جميع النواب والأمراء ما خلا نائب حلب ونائب دمشق، ففلّ يشبك عسكر شاه سوار على نهر جيحان، وقتل منهم جمهور كبير، وأرسل سوار يطلب الصلح من الأمير يشبك وأن يكون نائباً عن السلطان في قلعة درنده وأنه يرسل ولده بمفاتيح القلعة فما وافق السلطان إلا أن يحضر سوار بنفسه ويقابل السلطان، ثم قبض عليه في قلعة زمنوطو وحمل إلى مصر فقتله سلطان مصر هو واخوته وأقاربه.
وخمدت فتنة سوار كأنها لم تكن بعد ما ذهبت فيها أموال وأرواح وقتل جماعة كثيرة من الأمراء وكسر الأمراء ثلاث مرات ونهب بركهم، وانتهكت حرمة سلطان مصر عند ملوك الشرق وغيرهم، حتى إن الفلاحين طمعوا في الترك وتبهدلوا عندهم بسبب ما جرى عليهم من سوار، وكادت تخرج المملكة عن الشراكسة، وقد أشرف سوار على أخذ حلب وخطب له.
وفي سنة 877 جمع حسن الطويل ملك العراقيين جنداً جراراً وزحف(2/192)
على الشام واستولى في طريقه على كخيا وكركر فانتدب ملك مصر الأمير يشبك الدوادار لقتاله كما كان انتدب لقتال سوار في السنة الفائتة. وقبض نائب حلب 877 على بعض رجال حسن الطويل في حلب وجماعة آخرين نسبوا إلى المواطأة معه وكانوا يكاتبونه بأخبار المملكة، فأمر نائب حلب بصلبهم، وأرسل الأمير يشبك نائب حلب جيشاً إلى البيرة لقتال الطويل فخذل عسكره بعدما عدوا الفرات وطرقوا الأصقاع الحلبية من أطرافها، وتلاشى أمر حسن الطويل فأرسل يكاتب الفرنج ليعينوه على قتال عسكر مصر، وأرسل ابن عثمان ملك الترك قاصده إلى الأمير يشبك بأن يكون عوناً على قتال حسن الطويل وكان هذا استعان بالفرنج ليقاتلوا صاحب مصر والشام وصاحب الروم ابن عثمان بحراً وهو يقاتلهم براً ولكنه عاد في سنة 879 يرسل إلى سلطان مصر معتذراً عما كان منه حتى عفا السلطان عما بدر منه. وفي سنة 880 صدرت من برهان الدين النابلسي وكيل السلطان قايتباي قبائح عظيمة بأهل دمشق فرجموه ورموا عليه السهام وأحرقوا داره وأرادوا قتله، فركب نائب قلعة دمشق وتلطف بالعوام حتى سكنت هذه الفتنة قليلاً، وقد كادت أن تخرب دمشق في هذه الحركة بسبب ظلم النابلسي وكان قد طغى على الناس وتجبر.
وكان النابلسي يخرب البلاد الشامية بنفسه وبولده أحمد وقد قال ابن عربشاه في كتابه إيضاح الظلم والعدوان، في تاريخ النابلسي الخارجي الخوان؛ ووصف مظالم ابنه بما تقشعر منه الأبدان: وكان طالع النابلسي أحمد الخراب، صادر أهل طرابلس وهتك ستر نائبها وصادر كثيرين في دمشق، وأراد أن يعرج على حلب فمنعه صاحبها من إتيان ما عمل في دمشق. أما ابنه فاحتكر الأقوات وطفف الكيل وغش الحبوب وأدار باسمه الطواحين والأفران وتسبب في الجزية على
المدارس وأنقص معاليم الطلبة وجمع من الأموال ما لا يحصيه العد، وكثر تظلم الناس من ظلمه حتى أرسل ملك مصر قاصداً حاسبه على الأموال فظهر اختلاسه فنكل به، وأقام الناس عليه الشكاوي كما نكل بأبيه في مصر لما أتى من المساويء هناك، وقبض عليهما في وقت واحد.
وذهب نائب حلب تمرباي في العسكر إلى التركمان وانكسر عسكر(2/193)
حلب كسرة عظيمة، وفيها بعث ابن حسن الطويل يستنجد بنائب حلب على أبيه فجهز نائب حلب معه جنداً فقاتلوا عسكر الطويل فانكسر عسكر حلب وقتل منهم جماعة.
وفي سنة 883 خرج سيف بن نعير الغاوي وقرابته عن الطاعة فقاتله نائب حماة فكسر النائب وقتل من عسكره كثير، ثم خرج إليه نائب حلب وأوقع معه ففر منه فتبعه، وقد اضطربت أحوال حماة بسبب ذلك.
مات حسن الطويل ملك العراقيين 883 وكان انقراض دولة بني أيوب على يده، وتحرش بابن عثمان ملك الروم يأخذ من ملكه شيئاً فما قدر عليه، ثم تحرش بسلطان مصر وجرى له مع الأشرف قايتباي أمور وكان الأشرف يخشى من سطوته لأنه كان ملكاً جليلاً عاقلاً سائساً كثير الحيل والخداع. وفي سنة 885 كبس عمرو بن غانم في جماعة من العرب محمد بن أيوب نائب القدس بأريحاء الغور وحصلت فتنة قتل فيها جماعة.
وقعة مشؤومة وأحداث:
كانت سنة 885 من أشأم السنين على دولة الأشرف قايتباي فإن يشبك الدوادار كان قد ندب أيضاً من مصر لقتال سيف أمير آل فضل، فسار ومعه جيش من مصر في صحبته نواب دمشق وحلب وطرابلس وحماة مع العسكر الشامي والمصري وغيرهم من العساكر فتوجه إلى الرها واجتمع معه نحو عشرة آلاف رجل، وكان المتولي أمر الرها شخص يقال له بابندر أحد نواب يعقوب بك بن
حسن الطويل، فحصر يشبك مدينة الرها وكان يريد بعد أخذها أن يسير لفتح العراق فعاد عليه بابندر وكسر جيشه وأسره مع النواب الذين في جملته وشتت شمل جيشه وأخذ يشبك وقتله وقتل من أمراء الشام عدداً كبيراً وكذلك من العسكر حتى كانت حوافر الخيل لا تطأ إلا على جثث القتلى. قال ابن إياس: وكانت هذه الكسرة على عسكر مصر من الوقائع الغريبة وكانت مصيبة عظيمة هائلة. وكان يشبك باغياً على بابندر فإنه قصد محاربته من غير سبب ولا موجب لذلك فكان كما قيل:
من لاعب الثعبان في وكره ... يوماً فلا يأمن من لسعته(2/194)
اضطربت الشام ومصر من غزوة عسكر يعقوب بن حسن الطويل حلب ودمشق، فإن النواب قاطبة كانوا في أسره وسحق جيش سلطان مصر والشام، فأعد السلطان له جيشاً آخر قال ابن إياس: ولولا فعله ذلك لخرجت من يده غالب جهات حلب. وثار عامة حلب بمحمد بن الصرا نائب قلعة حلب بسبب مظالم أحدثها فقتلوه وقتلوا حاجب الحجاب بحلب. وفي سنة 878 وقعت فتنة بين طائفة الدارية وطائفة الأكراد بالقدس فحصل بينهما تشاجر فقتل من الفريقين ناس واستنفر كل من الطائفتين من ينتصر لها من العشير، فدخلوا المدينة ونهبوا ما فيها إلا القليل وخربت أماكن وكان الأمر عظيماً.
أول مناوشة مع الأتراك العثمانيين:
وفي سنة 889 قتل كثير من أمراء حلب والشام في الوقعة التي جرت بين المصريين والتركمان، وفيها خرج نائب حلب وتقاتل مع علي دولات أخي سوار وأمده ابن عثمان بجمع كثير من عساكره ووقعت بينهما وقعة انهزم فيها العسكر الحلبي وقتل نائب حلب وجماعة من العسكر الحلبي والمصري. وكانت هذه الوقعة أول فتنة تحرش فيها ابن عثمان بملك الشام ومصر. ولما حصلت هذه الكسرة
لعسكر حلب ركب تمراز هو وأزدمر والعسكر المصري وتوجهوا إلى علي دولات فقاتلوه فانكسر هو وعسكره وعسكر ابن عثمان ونهبوا جميع بركهم وأخذوا سناجق ابن عثمان ودخلوا بها إلى حلب وهي منكسة واستمرت الفتن يومئذ بين السلطان وابن عثمان.
وفي سنة 890 استولى جند ابن عثمان على قلعة كولك من حلب وفي السنين التالية استولى على سيس وطرسوس وغيرهما وطمع في الاستيلاء على عمالات من الشام فأخذت حكومة مصر ترسل بالتجريدة إثر التجريدة فساءت حال الشام وخربت الأصقاع الشمالية منها. ولكن الجند المصري أو جيش المماليك الشركسي وقع له مصاف سنة 891 في أرض حلب مع عسكر ابن عثمان وانتصر عليه وقتل منهم جماعة كثيرة قدروهم بأربعين ألفاً وأسر أحمد بك هرسك قائد جند ابن عثمان ومن أجل أمرائه وصفدوا عدة من أمرائه في الحديد. قال ابن طولون: إنه شاع(2/195)
أن بايزيد بن عثمان أرسل إلى أهل دمشق نحو ثلاثين اتفاقية من النصارى ووضع عنهم جزية ثلاث سنين لقتال أهلها، وكل إشاعة من هذا القبيل كانت تفتح السبيل لنائب دمشق فيجمع من أهلها مالاً فإذا صحت استعان بها والغالب أنها لا تصح. وفي هذه الأثناء 892 فحش أمر خضر بك نائب القدس وتزايد ظلمه وسفكه الدماء وأخذ أموال الناس. وفي سنة 893 استقر الأمير دقماق في نظر الحرمين ونيابة القدس والخليل ببدل عشرة آلاف دينار للخزائن الشريفة غير ما تكلفه لأركان الدولة قال ابن أبي عذيبة: وكان ذلك من أقبح الأمور وأبشعها فإن ناظر الحرمين ناصر الدين بن النشاشيبي كان من أهل الخير والصلاح فأبدل بظالم فاجر.
وفي سنة 893 استولى عسكر ابن عثمان على قلعة اياس من غير قتال وبعث ستين مركباً من البحر مشحونة بالسلاح والعسكر إلى جهة باب الملك ليقاطع بها
على العسكر المصري فما تم له ما أراد. واستخلص جيش السلطان باب الملك من ابن عثمان فجاءت العاصفة وغرقت غالب المراكب ومن طلع إلى البر من العسكر العثماني قتله العسكر المصري. قال ابن إياس: وكانت لهم النصرة على الجنود العثمانية وكانت على غير القياس.
ووقعت 893 معركة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان في أطراف الولاية الحلبية قتل فيها من الفريقين ألف وانهزم العثمانيون، وشرع العسكر المصري في حصار الجند العثماني في أذنة، ودام حصارها ثلاثة أشهر قتل فيها من الفريقين خلق حتى استولى عليها عسكر المماليك، ثم رجع في السنة التالية فطمع عسكر ابن عثمان في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ مدينة حلب ثم جرد تجاريد أخرى على ابن عثمان. قال ابن إياس: وطال الأمر بين السلطان وبين ابن عثمان في أمر هذه الفتن فزحف العسكر المصري والعسكر الشامي على أطراف مملكة ابن عثمان ووصلوا إلى قيسارية وأحرقوها وفتكوا بأهلها وكذلك فعلوا في كثير من عمالاته.
وفي سنة 894 كان الفناء العظيم والغلاء الشديد في الديار المصرية والشامية ومات خلق لا يحصى، واشتد ظلم نائب القدس على من اتهم بالتقصير في المهم الشريف ببلاد الروم، وقبض على بني إسماعيل مشايخ جبل نابلس، ومن الناس(2/196)
من تسحب وقبض على من يكون منسوباً إليه من أقاربه وأصحابه وجيرانه وباع بعض بناتهم بيع الرقيق وتفاحش الأمر. وفي سنة 896 حدثت في حلب فتنة كبيرة بين نائبها وجماعة من أهلها فقتل سبعة عشر من مماليك النائب وخمسون من أهل حلب ثم أحرق جماعة من حاشية النائب بالنار، وكادت حلب أن تخرب عن آخرها فأخمد هذه الفتنة قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب، وضاق الأمر بالناس لأن المماليك أو سلاطينهم كانوا كلما أرادوا إرسال تجريدة على عدو لهم
يضربون الضرائب الفاحشة على الناس ويسلبون أموال التجار والمساتير.
وفي سنة 897 اشتد الوباء بالقدس ودمشق وحلب وبلغ عدد الهالكين بدمشق كل يوم ثلاثة آلاف وبحلب في كل يوم ألفاً وخمسمائة وبغزة في كل يوم أربعمائة. وبالرملة مائة. وفي سنة 898 ثارت فتنة كبيرة بدمشق ورجم أهلها قانصوه اليحياوي. وفي سنة 899 تغلب العربان على الكرك والشوبك وحدثت فتن هائلة. وكان في سنة 900 وقعة بين أهل داريا وغوطة دمشق فخرج العسكر وقتل ما يربو على مائة قتيل، وتوفي نائب دمشق وخلت من الحكام وكثر النهب والفسق ووقع الاختلاف بين القيسية واليمنية، ولما بلغ السلطان قانصوه خرج بالعساكر المصرية فالتقى الجمعان عند جب يوسف فكانت الهزيمة على المصريين.
وفاة الأشرف قايتباي وتولي ابنه ناصر الدين محمد:
توفي الأشرف قايتباي المحمودي سنة 901 وخليفة الوقت بمصر الإمام المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز العباسي. وكانت مدة سلطنة الأشرف بالديار المصرية والبلاد الشامية تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوماً وهو الحادي والأربعون من ملوك الترك وأولادهم في العد، والخامس عشر من ملوك الشراكسة وأولادهم بالديار المصرية، وكان كفؤا للسلطنة وافر العقل سديد الرأي، عارفاً بأحوال المملكة يضع الأشياء في محلها، ولم يكن عجولاً في الأمور، بطيء العزل لأرباب الوظائف يتروى في الأمور قبل وقوعها، وكان لا يخرج إقطاع أحد من الجند إلا بحكم وفاته، ولا من أبناء الناس المقطعين إلا(2/197)
بحكم وفاته. قال ابن إياس بعد إيراد ما تقدم: ولكنه كان محباً لجمع الأموال ناظراً لما في أيدي الناس، ولولا ذلك لكان يعد من خيار ملوك الشراكسة على الإطلاق، ولكنه كان معذوراً في ذلك، تحرك عليه في أيام سلطنته شاه سوار وحسن الطويل وابن عثمان وغيرهم من ملوك الشرق وجرد عليهم تجاريد وهو ثابت على سرير ملكه
ولم يتزحزح، حتى قيل ضبط ما صرفه على نفقات التجاريد التي جردها في أيام سلطنته إلى أن مات فكانت نحواً من سبعة آلاف ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار خارجاً عما كان ينفقه عند عودهم من التجاريد. وهذا من العجائب التي لم يسمع بمثلها. وكان قايتباي أعظم ملك في المماليك البرجية وكان في الخارج أعظم ملك في الإسلام، قال فيه سوبرنهايم في معلمة الإسلام بأنه كان محتاجاً لعمارته وحملاته إلى مواد كثيرة وتحلل في المالية لم يستطع جباية الخراج إلا بالقوة، وقد انتقده المؤرخون انتقاداً شديداً ونرى أن ما عمله من الواجب عليه وأنه أمر مفهوم بذاته في مملكته ليهيئ الأسباب اللازمة للدفاع عنها، وقد أدى قلة النظام في الجباية إلى خراب مملكة المماليك من أجل هذا كان السلطان مضطراً إلى استعمال الشدة في جباية الأموال.
وكان مغرماً بشراء المماليك حتى قيل لولا الطواعين التي وقعت في أيامه لكان تكامل عنده ثمانية آلاف مملوك. وكان مولعاً بالبنيان الفاخر خلف آثاراً كثيرة في أرجاء مملكته، وصادر اليهود والنصارى مرتين في أيامه، وخلفه ابنه ناصر الدين محمد، وبدأت أمارات الضعف في أعصاب المملكة لصغر سنه وكان أبوه لا يريد سلطنته بعده، ولكن عاجله النزع فعمل الأمراء من عند أنفسهم، وكان الفساد مستشرياً في مصر منذ تولي، وكثيراً ما كان السلطان يتخوف على نفسه من الأمراء فيحضر لهم المصحف العثماني ويحلفهم وقد حلفهم أربع مرات وكانت أيمانهم كاذبة فاجرة.
وكان هذا الضعف ينال الشام منه قسط عظيم حتى خرب ولا سيما شماله لكثرة غارة الأعداء. قال ابن طولون في حوادث سنة 906 وقفت حال الناس وقطعت الطرق من كثرة العرب المفارجة وبني رام خارج دمشق وأطرافها وكثر الظلم والاختلاف والناس مرتقبون الفتن. وفي هذه السنة وقع قتال بين الأمير علي
الشهابي في جماعة من وادي التيم ورجال الشوف وبين الأمير بكر(2/198)
الشهابي عمه في مرج الشميسة فنال ابن الأخ من عمه وقتله بيده مع ثلاثين من أصحابه وسار إلى حاصبيا فالتقاه بقية الأهلين والأمراء وساس الرعية أحسن سياسة.
الملوك المتأخرون وآخرهم الغوري:
توفي الناصر محمد وكانت مدة سلطنته نحواً من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوماً وكانت أيامه كلها فتناً وشروراً وكان في ذاته سيئ التدبير. وتسلطن بعده الملك الظاهر قانصوه ولم تطل مدته أكثر من سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وكان ملكاً مسلوب الإرادة مع الأمراء وتسلطن بعده الأشرف جان بلاط بن يشبك وكانت مدة سلطنته ستة أشهر وسمي بالملك العادل طومان باي من قانصوه أبي النصر الأشرفي قايتباي وفي سنة 906 تولى السلطنة الأشرف قانصوه الغوري.
وفي سنة 903 عصا اقبردي الدوادار وذهب إلى الشام فاستولى على غزة، ثم جاء دمشق وحاصرها فلم يقدر عليها فنهب الضياع التي حولها وخرب غالبها وحاصر حماة وأخذ منها أموالاً لها صورة وحاصر حلب شهرين وأحرق من قراها، وكان إينال السلحدار يومئذ نائب حلب وكان من عصبة أقبردي، فقصد أن يسلمه المدينة فرجمه الحلبيون وطردوه من بلدهم وحصنوها بالمدافع على الأسوار، ثم هرب أقبردي إلى علي دولات بعد أن جرد السلطان حملة عليه. وفي هذه السنة زحف ابن عثمان على الشام وأرسل إلى نائب حلب يقول له: اغزل ابن طرغل فأجابه إلى ما طلب، وكثر تبديل النواب وساءت الحال وبطلت التجارة بين مصر والشام. ولما بلغ عسكر ابن عثمان رجوع العسكر المصري طمع في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ حلب، ثم تفاوض صاحب الروم وصاحب مصر والشام في الصلح وحمل ابن عثمان إلى صاحب مصر مع قاصد
مفاتيح القلاع التي كان ابن عثمان قد استولى عليها، فسلمها إلى السلطان في القاهرة. وفي سنة 904 أغار كرتباي الشركسي نائب دمشق على عرب هتيم بأرض الزرقاء وكان كرتباي على رواية الغزي حسن السيرة بالنسبة إلى غيره من الأمراء. وجرى الصلح بين الأمراء المصريين(2/199)
وبين أقبردي الدوادار، وكانوا انتدبوا لقتاله فوجه عليه السلطان نيابة طرابلس بعد أن ساءت الحال بفتنته.
وفي سنة 905 خرج قصروه نائب الشام عن الطاعة وأظهر العصيان واستولى على قلعة دمشق وأموالها وطرابلس وقلعتها، وكان السلطان حاول أن يولي قصروه الشام فاختفى السلطان في الفتنة وخلفه في الملك الأشرف أبو النصر جان بلاط، فلما تسلطن السلطان أرسل إلى قصروه في الشام بالبشارة فلم يزدد إلا عصياناً. وفي هذه السنة ولي نيابة الشام قانصوه المحمدي فأتى إلى البقاع فهرب منه مقدمها ابن حنش، وجرت بينهما أمور. ثم وقعت الفتنة بين أهل دمشق ونائبها فأحرق حي الشاغور وجرت بينهم غوائل ثم وقع الصلح عن يد ابن الكسيح شيخ الإسلام بدمشق.
وفي سنة 907 هجم العربان على أطراف دمشق ونهبوا مغلاً كثيراً وخربت بلدان، ذكر هذا ابن طولون.
سلطنة طومان باي:
وانتدب السلطان أحد المقدمين إلى الكرك لقتال بني لام واجتمع السلطان بالأمراء وتشاوروا في أمر قاصروه نائب الشام فأشاروا عليه بأن يرسل قاصداً، وكان قصروه قد استولى على غزة وأعمالها والقدس وغير ذلك من النواحي، فعزم السلطان على إرسال تجريدة لنائب الشام، وكان دولات باي نائب حلب معه في شق عصا الطاعة، ولكن لم تنفع التجريدة وأعلن طومان باي سلطنته بالشام وتلقب بالملك العادل، وكان العسكر المصري نزل بسعسع بالقرب من دمشق فركب
قصروه نائب الشام في نفر قليل من عسكره وأظهر أنه طائع فاطمأن له العساكر، وكان غالب الأمراء من ندمائه، ولما حضر إليهم دخل معهم إلى دمشق واجتمعوا في القصر الأبلق، ثم ثارت فتنة بالقلعة، وأمر قصروه وطومان باي بالقبض على جماعة من الأمراء وسجنهم.
وحضر إلى دمشق دولات باي بن أركماس نائب حلب الشهير بأخي العادل وتعصب لطومان باي وتكلم في سلطنته فأحضر قضاة الشام وكتب(2/200)
صورة محضر في خلع الأشرف جان بلاط من السلطنة وبايعوا طومان باي من غير خليفة وتلقب بالملك العادل أبي النصر وأحضر له شعار الملك فأفيض عليه. فلما تم أمره عين لأتابكية مصر قصروه نائب الشام وعين لنيابة الشام دولات باي نائب حلب وعين لنيابة حلب أركماس بن ولي الدين وهكذا عين سائر نواب الشام وخطب باسمه على منابر دمشق. ثم ذهب إلى مصر مع من أطمعهم بالمناصب من الأمراء وكان تقدم إلى من في مصر من الأمراء فخلع عليهم ونصبهم قبل حضوره وتسلطن فيها.
وفي سنة 908 حدثت فتنة بالشاغور بدمشق حرقت فيها المحلة وقتل أناس وضرب النائب على أهل دمشق مالاً لأجل مشاة تخرج معه إلى حلب تجريدة لقتال الخارجي حيدر الصوفي وذلك مع وقوف حال الناس من الظلم وكثرته - قاله ابن طولون - وزاد أن ورد المرسوم الشريف من مصر بأن يرمي على كل سكرة دراهم ليستفاد بها على إزالة ضرر العرب بالحجاز قال: وهذه رمية أخرى غير الرمية التي أخذت بحجة حيدر الصوفي.
وفي سنة 909 جهز ابن حنش مقدم البقاع خمسة آلاف مقاتل على عبد الساتر ابن بشارة في قرية شيحين فقتل من جماعة ابن حنش نحو مائتين.
ومن الأحداث في هذه الأيام تجهيز نائب دمشق العسكر على جوان بك الفرنجي
الدوادار سنة 910 إلى البقاع فقتل الدوادار عند جسر كامد اللوز وقتل معه نحو ثلاثمائة شخص وكانت الوقعة بينهم وبين فخر الدين بن معن أمير الشوف. قال ابن طولون: في حوادث هذه السنة: اتفق رأي المباشرين أن تعرض المشاة من كل حارة بدمشق وكذلك الجند إرهاباً للعدو فعرض عليهم غوغاء ميدان الحصا والقبيبات بالميدان الأخضر وازداد طغيان زعرهم أحداثهم وعلموا عجز أرباب الدولة ثم قام بالشاغور أزعرهم أبو طاقية وجمع زعر الغوغاء وما حولها من القرى وزعربقية حارات دمشق وأخذوا من أموال الناس شيئاً كثيراً وأعاره الأمير أركماس شيئاً كثيراً من آلة الحرب ثم خرجوا أطلاباً أطلاباً بترتيب يعجز عنه أرباب الدولة حتى عرضوا بالميدان الأخضر فاستقل الترك بأنفسهم ولم يعد لهم حرمة ثم ركب متسلم دمشق ودار بهم حول(2/201)
المدينة وبين يديه منادٍ وينادي بالأمان وترك حمل السلاح، وكثرت بعد سنة 911 الرميات والغرامات على حارات دمشق فهاج الناس وصعد أهل القبيبات إلى مئذنة الجامع الأموي وكبروا على المتسلم حتى أفرج عن المحبوسين. واشتد الجور سنة 916 في لبنان فهجر أكثر الناس مواطنهم إلى البلدان البعيدة ومن اللبنانيين من هاجر إلى قبرس، ثم عادوا منها بعد ثلاث سنين للضيق العظيم الذي حصل فيها بسبب الجراد وكثرة الضرائب التي فرضها الحكام على الرعية.
القضاء على مملكة ذي القدرية وطبيعة دولتي
المماليك البحرية والبرجية:
وأهم ما وقع من الحوادث التي عجلت في سقوط الشام بعد ذلك في أيدي العثمانيين استيلاء السلطان سليم سنة 921 على مملكة ذي القدرية التركمانية وكانت عاصمتها مرعش تارة والبستان تارة أخرى، واستولت على بهنسي
وملاطية وخربوت، قامت هذه الدولة سنة 780 وتولاها عشرة أمراء أولهم زين الدين قره جه وآخرهم علاء الدولة بن سليمان الذي قتله سنان باشا وأخاه وبعض أولاده في المعركة واستولى على ديارهم باسم سلطان العثمانيين، فبذلك سقطت الأنحاء الشمالية من الشام في يد عدوة الدولة الشركسية، وكان أمراء ذي القدرية يغزون الشام حتى استولوا على مملكة حماة فردهم الظاهر برقوق. ومنها ذهب سلطان مصر إلى دمشق سنة 922 فنثر على رأسه بعض تجار الفرنج ذهباً وفضة، وفرش برسباي تحت حافر فرسه الشقق الحرير وخرج إلى المصطبة التي يقال لها مصطبة القابون ورسم لبعض حجاب دمشق بعمارتها وأقام بها تسعة أيام. وكان ذلك الذهب المنثور شؤماً على السلطان ومملكته انتثر بعدها سلك ملكه.
هذه أهم الأحداث التي حدثت قبيل دخول العثمانيين إلى الشام وخروجها من ملوك الشراكسة بعد أن ملكوها بسلطنة الأتابك برقوق 139 سنة وكان المماليك البحرية ملكوها منذ سنة 651هـ والاختلاف لا يكاد يذكر بين روح دولة المماليك البحرية ودولة الشراكسة فكلتاهما أعجميتان، ولكن القائمين بهما لا يخرجون في التخاطب والتكاتب والأصول عن اللغة العربية(2/202)
والشريعة الإسلامية، وقد كان من تينك الدولتين المماليك والأتراك والشراكسة رجال عظام مثل بيبرس وقلاوون وابنه وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي ولكن جاء بعدهم ملوك ممخرقون وصبيان آل إليهم الأمر فأفسدوه أو من كفلوهم فلم يحسنوا كفالتهم من رجال الدولة. وقد وفقت هذه الدولة أي المماليك البحرية والبرجية لإخراج بقايا الصليبيين من الساحل فنجحت في التنكيل بهم حتى دثرت بقاياهم، ولكنها لم تقو على إنقاذ الشام من غارات التتر والمغول فقاست منهما ألوان العذاب والخراب.
وكان سلطان مصر والشام متى دهم الشام مداهم يعتصم بمصر وينعم ويلذّ في قصوره، ويكتفي بإرسال تجريدة قد تكون ضعيفة، أو يصدر أمره لنائب حلب أن
ينجد دمشق ولنائب دمشق أن ينجد حلب مثلاً، ولا يخرج الأعداء من هذه الديار إلا إذا أرادوا، وأتوا على الناطق والصامت وألحقوا العامر منها بالغامر، وباتت أمور السلطنة ألعوبة في كثير من الأدوار بأيدي ضعاف الأحلام من أسرة ذاك المملوك فتهيأت السبل لقيام دولة أخرى وهي الدولة العثمانية.
أما قانصوه الغوري آخر ملوك الشراكسة الذين حكموا الشام، ومن حكمه انتقلت إلى العثمانيين، فلم يكن بالذي ترجح حسناته على سيئاته، بذل جهده لدفع عادية العثمانيين فلم يفلح وطال عهده نحو ست عشرة سنة فكانت أيامه فتناً وغوائل ومخاوف، حتى قضى الله في دولته بأمره، واستطال عليها سلطان أقوى.
ولقد رأينا في دولة المماليك البحرية والبرجية أو التركية أو الشركسية عجائب القوة وعجائب الضعف، رأينا منهم أغلب الذي طالت أيامه يعمل كل نافع للقطرين، ورأينا الملك المأمون منهم يتولى الملك أشهراً ولا يسجل له الفوضى وسوء الإدارة، وقليل ممن لم تطل أيامهم من هؤلاء الملوك الصعاليك من جمع في نفسه أدوات السياسة والإدارة، وكان النواب في هذه الحقبة كما يفهم من ابن طولون إذا ظفر نائب دمشق أو أحد قواده ببعض الناشزين عن الطاعة من العربان تزين دمشق سبعة أيام على غلاء النفط وسوء حالة البلاد وكانت نفقة أحد النواب بدمشق أي واليها كل يوم ألف دينار. وقال في(2/203)
حوادث سنة 909 أمر النائب بإنهاء النائب والنداء بصيام ثلاثة أيام والتوبة والخروج إلى الصحراء وزيارة المزارات لينقطع الوباء قال الشافعي المولوي ابن الفرفور: قد كثر الظلم فلو أبطلتموه كان حسناً. فلم يسهل على النائب ذلك وأسمعه ما يكره.(2/204)
-
الدولة العثمانية من سنة 922هـ إلى 1000هـ
حالة الشام قبيل الفتح العثماني:
كانت الشام أخت مصر في آخر الدولة الشركسية تقاسمها شقاءها شق الأبلمة، فيستبد المتغلبة من المماليك بالأحكام بحسب ضعف صاحب مصر وقوته، والصالح في نوابها وملوكها قليل. ولم يسعد القطران بعد فتنة تيمورلنك بسلطان عادل يطول عهده ليعرف مواقع الضعف فيسد خللها، ويزيح بحسن الإدارة عللها. وشغل ملوك الشراكسة بالتجاريد على حسن الطويل وشاه سوار وابن عثمان من الملوك في شمالي المملكة وشرقها يجردونها فيجردون بها الرجال والأموال، وقد خرج الناس بعد وقائع الصليبيين والمغول وما أعقبها من الأوبئة والزلازل والمجاعات أعرى من مغزل، وأزمنت الفوضى في أرجائها فساءت حالتها الاقتصادية والاجتماعية.
أحي أكثر الناس بما عرض للدولة من الضعف فأخذوا يتطلعون إلى الدولة العثمانية، وكانت إلى الشام ومصر أقرب الدول الإسلامية الكبرى، هذا والدولة العثمانية إذ ذاك في إبان شبابها، وقد وقرت في النفوس منذ أسس بنيانها السلطان عثمان التركماني سنة 699 على أنقاض دولة السلجوقيين، ولا سيما بما قام به محمد الثاني فاتح القسطنطينية من الغزوات والفتوحات، وتوفق له من فتح عاصمة الروم البيزنطيين بعد أن حاول كثير من ملوك العرب وغيرهم ذلك فلم يفلحوا لبعدها عن مواطن قواتهم، ولقوة سلطان القسطنطينية في تلك العصور، والأمور مرهونة بأوقاتها.(2/205)
هذا والناس لا فرق عندهم إذا استولى عليهم الترك الأعاجم، وقد حكمهم أجناس من المماليك زمناً طويلاً ما داموا كلهم غرباء يستعبدونهم وينالهم من ضعفهم ضعف، ومن قوتهم بعض راحة وسعادة، ولا فرق في الإسلام بين عربي
وأعجمي في الحقوق والواجبات، وأقصى ما يتطلبه الناس سلطان عادل عاقل في الجملة، وكانت الأمة تفنى بأسرها في سلطانها خلال القرون الوسطى.
مقاتل الغوري ومقدمات الفتح:
كان السلطان قانصوه الغوري آخر من ملكوا الشام من الشراكسة على شيء من الدهاء، أعدَّ للأيام عدتها وأدرك ما يحيق بمملكته من خطر ابن عثمان، ولكن ما ينفع التدبير إذا كانت المعنويات في حكومته مريضة ضئيلة، والقوى في جيشه غير موحدة، وداء الهرم قد استحكم منه ومن دولته. كان في الثمانين من عمره يوم صحت نية السلطان سليم العثماني، رجل الإرادة القوية والجيش الجرار، على أخذ الشام ومصر، والقضاء على دولة المماليك. وكان الغوري على رواية كامل باشا لا يعرف على من يعتمد عليه من رجاله وأمرائه غريب الأطوار في ذاته، فكان ذلك من دواعي خروج الأمر عنه ووقوع الخلل في جيشه، وكان يعتقد بعلم الجفر، وقد ذكر أحد أدعياء هذا العلم أن الشر يأتيه من رجل يبدأ سمه بحرف السين، فصار يتطير من كل من يبدأُ اسمه بذلك الحرف، ومنهم سيباي كافل الشام.
ترجم للغوري أحد من عاصروه من الفرنج بقوله: إنه من مماليك الغور في أفغانستان، كان حاجب الحجاب في حلب سنة 893هـ 1490م ورأس محكمة عسكرية ووفق إلى قمع ثورة فأبان فيها عن كفاءة، وكان وزيراً لما حنق المماليك على طومان باي واختاروه للملك، فتردد كثيراً في قبوله لأنه كان تجاوز الستين من عمره وأخذ مكوساً وضرائب من كل إنسان حتى من البوابين وضرب نقوداً زائفة أضرت بالتجارة الداخلية والخارجية، فاستلزم عمله حنق الناس وانتقاد من عاصروه فعجل بخراب المالية وذلك لوضعه رسوماً فاحشة على البضائع، وعلى البضائع التي تمر بأرضه واستعمل جزءاً من هذه الضرائب(2/206)
في إقامة القلاع ولا
سيما في حلب وأنشأ طرقاً وآباراً في الحجاز. وكانت المكوس التي تجبى في المواني ورسوم البضائع الصادرة من الهند إلى أوروبا من طريق مصر آتية من عدن وجدة والسويس وإسكندرية، أو من طريق الشام ذاهبة من البصرة وحلب من أهم واردات المملكة. وتفادياً من أداء هذه الرسوم الفادحة حرص البرتغاليون على أن يكشفوا طريقاً في البحر إلى الهند على يد ملاحهم فاسكو دي غاما وكتب لهم النزول إلى شاطئ الهند وبعثوا إلى أوروبا تواً بسفنهم النقالة الكبرى عن طريق رأس الرجاء الصالح، فتحاموا أداء المكوس الفاحشة التي كانت تؤخذ في المواني المصرية عن البضائع التي ينقلونها وعن نفقات النقل في البر فاستفاد البرتغاليون من ذلك، ولم يسع الغوري أن يسكت عما يلحق المسلمين من مظالم البرتغاليين فحارب الأسطول البرتقالي غير مرة في بحري الهند والأحمر ونال منهم ونالوا منه قليلاً. قال: وساءت حالة الغوري حتى لم يستطع أن يدفع رواتب المماليك في أوقاتها بحيث فقدت حكومته كل معاونة قوية، وكانت سياسته الخارجية تعسة لأنه اضطر أن يحالف عدوه اللدود إسماعيل شاه خوفاً من السلطان سليم العثماني ولم يخْفَ ذلك عن السلطان سليم عرفه بواسطة جواسيسه اه.
وبينا كان قانصوه الغوري يغوص في أحلامه وأوهامه، كان سليم الأول وهو التاسع من آل عثمان الملقب بياوز أي الشديد الجبار يجيش الجيوش ويُعدّ الزحوف ويستجد السلاح، فبدأ بقتل الشيعة في تخوم الأناضول وكانوا أربعين ألفاً، ثم زحف سنة 920 على الشاه إسماعيل الصفوي صاحب شروان وأذربيجان وتبريز والعراق العجمي وفارس وكرمان وديار بكر وبغداد وباكو ودربند وخراسان وانتصر في وقعة جالديران المشهورة، وانهزم عسكر الشاه إسماعيل شر هزيمة وجرح الشاه في المعركة وفتح السلطان سليم ديار بكر والأقاليم الكردية، فهب قانصوه الغوري من مصر لإنجاده فيما قيل والأرجح أنه هبّ للدفاع عن مملكته.
وكان نائب سلطان مصر على البيرة رجلاً اسمه علاء الدولة بن سليمان وهو صاحب مرعش والبستان فلما اجتاز السلطان سليم بالبيرة يريد قصد الشاه الصفوي أمر علاء الدولة أهل مرعش أن لا يبيعوا شيئاً لعسكر سليم، فهلك كثير من رجالهم ودوابهم جوعاً، فشق ذلك على(2/207)
السلطان وشكا ما وقع له إلى الغوري فقال: إن علاء الدولة لم يصدر عن أمره وأنه عاصً عليه وأنه إذا قتله يكون له شاكراً، وكتب الغوري إلى علاء الدولة يحمله على متابعة عمله، فأحس سليم بأن الغوري يكيد له وزاد علاء الدولة بأن سرق بعض أحمال من ذخائر عسكر سليم، فلما عاد هذا من غزاته قتل علاء الدولة وأولاده وأرسل رؤوسهم إلى الغوري. بمعنى أن سنان باشا استولى سنة 921 باسم السلطان سليم على مملكة ذي القدرية التي كانت في مرعش والبستان وملطية وبهنسي وخربوت وما إليها، وكانت الدولة العثمانية جعلت حكومة أبناء رمضان التركمانية التي نشأت سنة 780 في جهات أذنة وطرسوس وسيس تحت ظلها، وكانت علائق أمرائها الثلاثة الأول مع دولة المماليك الشركسية أصحاب الشام ومصر مسترخية، ففتحت السبل والمنافذ إلى الشام وصارت الجيوش العثمانية تأمن على مقدمتها وعلى خط رجعتها.
ولما أضعف السلطان سليم مملكة كبرى وهي مملكة الصفوي، وقضى على مملكة صغرى وهي مملكة ذي القدرية، طمحت نفسه إلى فتح الشام ومصر ونزعهما من دولة المماليك ليضمهما إلى مملكته فتدخل في طور العظمة وتكون ممالك في مملكة. وكان أبوه وجده من قبله يقاتلان بعض حاميات الشام يتعرفان بذلك مبلغ قوة المماليك، ويدفعان أمراء الأطراف أمثال أمراء ذي القدرية وغيرهم إلى مجاذبة ملوك الشراكسة حبل السلطة على التخوم. وكان أولئك الأمراء كثيراً ما يسيرون مع المماليك سيرة الصغير مع الكبير، لعلمهم بأن إثارة العثمانيين لهم على المماليك لا لخيرهم بل لينتقموا بهم ثم ينتقموا منهم ويضعفوهم ويضعفوا بهم.
صلات العثمانيين مع المماليك ووقعة مرج دابق:
وذكر مؤرخو الترك أن الصلات السياسية بين ملوك الشراكسة أصحاب مصر والشام وبين سلاطين آل عثمان كانت مسترخية منذ عهد محمد الفاتح، ولما سمت همة السلطان سليم إلى فتح الشام ومصر 922 أرسل جيشاً إلى ديار بكر يورّي بأنه يريد قصد إيران، ولأدنى سبب أخذ الجيش يتوجه صوب الجنوب، فبعث قانصوه الغوري بعض رجاله يتوسطه في الصلح فقتل(2/208)
السلطان سليم رجال السفير وأراد أن يقتل السفير نفسه فوقع وزيره على قدميه وشفع فيه، وقال له: إن ذلك مخالف لحقوق الدول فالسفراء لا يقتلون، فاكتفى السلطان بحلق شعر السفير ولحيته، وأركبه على حمار أعرج أجرب إلى صاحبه الغوري جزاء ما قدمت يداه فيما يقال من امتهان الغوري رسل السلطان العثماني.
وترددت الرسل بين السلطانين في مرج دابق أولاً، وكان ابن عثمان فوض إلى رسله أن يتظاهروا بطلب سيدهم للصلح ليثني بذلك عزم الغوري عن القتال، وقد أحضر سلطان العثمانيين فتاوي من علماء مملكته يجيزون له قتل الشاه إسماعيل الصفوي، وأرسل يقول للغوري: أنت ولدي وأسألك الدعاء لكن لا تدخل بيني وبين الصفوي - بينا الأمر على ذلك - وقد خلع الغوري على قصاد ابن عثمان الخلع السنية، وأرسل إليه ابن عثمان يطلب منه سكراً وحلوى وأرسل له منها مائة قنطار في علب كبار عدا الهدايا والتحف، هجم سلطان العثمانيين على ملك الشراكسة وكسره شر كسرة في وقعة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر، فقتل من عسكر ابن عثمان ومن عسكر الغوري خلق كثير، فلما تحقق الغوري أنه غُلب أصابه للحال فالج أبطل شقه وأرخى حنكه، واستعد للركوب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض وفاضت روحه من شدة قهره، وأكثر المؤرخين على أنه لم تظهر جثته في المعركة. ويقول بعض مؤرخي الترك: إن جاويشاً من
الجيش العثماني أُمر بأن يبحث عن جثة قانصوه الغوري فقطع رأسه وقدمه إلى السلطان سليم، فامتعض منه السلطان وأمر أن يُضرب عنقه لتزلفه إلى مولاه بقطع رأس الملك المقتول، ولولا أن الوزراء توسطوا له لما صرف السلطان النظر عن قتل الجاويش مكتفياً بعزله.
وذكروا أن الغوري قد خانه لأول الأمر ثلاثة عشر ألفاً من جيشه، وامتنعوا عن الحرب عند الصدمة الأولى وأبوا قتال الأتراك، ومن الأمراء الذين كانوا موالسين على الغوري وضَلْعهم مع السلطان سليم خير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي نائب حماة، فإن السلطان سليماً كان فاوضهما(2/209)
سراً ليوليهما الشام ومصر على ما قيل إذا ساعداه على فتح هذا القطر، فلما انهزمت ميمنة الغوري وقتل الأتابكي سودون العجمي وملك الأمراء سيباي نائب الشام، انهزم جانب كبير من العسكر وانهزم خير بك وهرب فانكسرت الميسرة وكان ابن معن وأمراء الساحل صحبة خير بك والغزالي فقال الأمير ابن معن لمن معه من رجاله وقومه: دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فتقاتل معه. ولما اضطرمت نار الحرب فرّ الغزالي وخير بك إلى ناحية عسكر السلطان سليم بمن معهم من أمراء الديار الشامية وبقي الغوري بعسكر المصريين أي عسكر الشام والمغول عليهم من أمرائها من الشراكسة والوطنيين قد استمالهم السلطان فقاتلوا في صفوفه بدلاً من أن يقاتلوه، ونائب الشام سيباي الذي كان يتطير منه الغوري لأن اسمه يبدأ بحرف السين قد هلك دونه في المعركة يدافع عن ملك سيده لا كما كان هذا يتوهم.
قوة الغالب والمغلوب:
اختلف تقدير المؤرخين لقوة العثمانيين والمماليك فأغلبهم على أن ابن عثمان كان في أربعين ألف مقاتل مجهزين بمدافع حسنة، وروى نامق كمال أن العثمانيين كانوا في ثمانين ألفاً وثمانمائة مدفع، وأن الغوري كان في خمسين ألفاً لا مدافع
لهم. وذكر الغزي أن الغوري أتى من حلب إلى دابق في ثلاثين ألفاً وقال ابن طولون: إن السلطان سليماً وصل إلى دمشق في عساكر عظيمة لم تر العين مثلها يقال: إن عدتها مائة ألف وثلاثون ألفاً. وذكر بعض المؤرخين أن السلطان سليماً أمر أن تعد القتلى من الفريقين في مرج دابق فكان قتلى الشراكسة ألف نفس وقتلى الروم أي الترك أربعة آلاف. وكان فقدان المدافع من جيش الغوري وخيانة ربع جيشه وعدم ثقته بأحد من دواعي القضاء عليه وعلى سلطانه، وأهم ذلك خيانة بعض قواده وامتناع الأمراء عن الدفاع في صفوفه أو يظهر لهم الغالب
قويت نفس السلطان سليم بما أصاب جماعته من الانتصار الباهر، وما قتل من رجال الغوري، ثم تحول من مرج دابق ودخل حلب من غير ممانع، ونزل في الميدان الذي كان السلطان الغوري نزله، وانتشر خبر الهزيمة وقتل(2/210)
الغوري في أنحاء الشام، فوثب الناس بعضهم على بعض ونهبوا الزروع وأخذوا الأموال، واضطربت العمال أيما اضطراب، ونهبت حارة السمرة بدمشق وقتلوا جماعة وأخذوا أموالهم، وكذلك فعلوا بتجار الفرنج ونهبوا أموالهم، وكانت فتنة هائلة ونهبوا بيوت أعيان دمشق من القضاة والتجار، فخرج غالب الصدور منها بسبب ذلك وبسبب فتنة ابن عثمان وفساد الأحوال بمصر والشام وتوجه أمراء الغوري وعسكره المهزوم إلى حلب، فوثب عليهم أهل حلب قاطبة، وقتلوا جماعة من العسكر ونهبوا سلاحهم وخيولهم وأثقالهم، ووضعوا أيديهم على ودائعهم التي كانت بحلب، وجرى عليهم من أهل حلب ما لم يجر عليهم من عسكر ابن عثمان كما قال ابن إياس. وكان بين أهل حلب والمماليك السلطانية إحنٌ منذ توجهوا قبل خروج السلطان من القاهرة إلى حلب فنزلوا في بيوت أهلها واغتصبوا نساءهم وأولادهم، وآذوا الحلبيين كل الإيذاء، فما صدق أهل حلب أن وقعت لهم هذه الكسرة حتى يأخذوا بثأرهم.
وعلى الجملة فإن ما نال السكان أواخر حكم المماليك مما عجل بالقضاء على الدولة المالكة وفتح القلوب للسلطان سليم الأول، وخدمه كثير من أهل الشأن قبل مجيئه فكانوا يوافونه بالأخبار تترى عن مقاتل الغوري ومواطن الضعف من دولته، وقد بدءوا يتجسسون للعثمانيين منذ أواخر القرن الماضي فكان ذلك من العوامل القوية في الفتّ في عضد الجيش الشركسي وإمالة القوة إلى الجيش التركي ففتحت الشام في وقعة واحدة ولم يبك على دولة المماليك إلا من كانوا باسمها يتمتعون بالخيرات وينالون مظاهرها ويسلبون نعمة الأمة.
دخول السلطان سليم حلب ودمشق:
وافى السلطان سليم مدينة حلب فاستقبله أهلها بالمصاحف والأعلام يجهرون بالتسبيح والتكبير ويقرءون (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنعم عليهم ثم أخذ يجمع مالاً من التجار سماه مال الأمان ورأى خلفاء أرباب الطرق الصوفية فسأل عنهم وهم يحملون أعلامهم ويرحلون إلى دمشق وأشار عليه خير بك بأن يقتلهم وكانوا نحو ألف نفس، واستسلم(2/211)
نائب قلعة حلب فأرسل السلطان إليه شخصاً من جماعته أعور أعرج وفي يده دبوس خشب ليقول بلسان الحال إنه أخذ حلب بأضعف جنده. وطلع السلطان سليم إلى القلعة فرأى فيها ما أدهشه من مال وسلاح وتحف وكان بها على رواية ابن إياس نحو مائة ألف ألف دينار وثمانمائة ألف دينار. وقال مؤرخو الترك: إنه كان فيها مليون دوكا. ورأى السلطان سليم من أنواع الأسلحة والزينة ما جمعه الغوري من وجوه الظلم والجور والتحف التي أخرجها من الخزائن من ذخائر الملوك السالفين من عهد ملوك الترك حكام مصر والشام الأيوبيين وذلك عدا ما كان في بيوت الأمراء وغيرهم من رجال الدولة. ووجه ابن عثمان الجيش إلى مرعش ففتحها وملك معها ثلاث عشرة قلعة من مملكة الغوري وأحرز ما فيها من مال وسلاح.
وذكروا أن العثمانيين عثروا في خيمة الغوري في مرج دابق على مائتي قنطار من الفضة ومائة قنطار من الذهب وفي رواية أن هذه الخزينة كان فيها ما قيمته مليون ليرة وقيل: إنه وجد في قلعة حلب ثلاثمائة ألف ثوب كامل.
وأقام السلطان العثماني في حلب ثمانية عشر يوماً وبايعه أهلها بحضور واليها خير بك، وتوجه إليه أمير المؤمنين المتوكل على الله العباسي، وكان جاء مع الغوري من مصر ومعه القضاة الثلاثة فأجلس السلطان الخليفة وجلس بين يديه وخلع عليه وأنعم عليه بمال ورده إلى حلب، ووكل به أن لا يهرب أي إنه أسره بأسلوب لطيف، وصلى الجمعة في الجامع الكبير فأطلق الخطيب على السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين فكان ذلك كما قال راسم فأل خير بأن السلطان سليماً سيكون صاحب دولة إسلامية كبرى. قال: وكان خيره باي خير بك أحد أمراء الغوري استأمن السلطان العثماني لما تقهقر جيش مصر فأنقذ نفسه. وولى السلطان على حلب قراجا باشا. وسار في جيشه إلى حماة وحمص ففتحت له أبوابهما، وبايعه أهلهما على الطاعة كما بايعه أهل طرابلس والقدس. وجاء السلطان دمشق فاستقبله أهلها ورضوا به ملكاً عليهم، فكأنه بدخوله دمشق عاج ببعض بلاده القديمة. قال ابن طولون: وفي يوم الخميس الثامن والعشرين شعبان 922 وصل متسلم ملك الروم الأتراك إلى القابون الفوقاني واسمه مصلح ميزان، ثم وجه من يكشفون له هل يسلم أهل دمشق أم يقاتلون،(2/212)
وقد كانت اتفقت أكابرها ومشايخ الحارات على تسليمها فسلموها. وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين منه دخل نائب دمشق الجديد من قبل ملك الروم واسمه يونس باشا، وخطب في هذا اليوم في الجامع الأموي المولوي ابن فرفور باسم ملك الروم وكذلك في سائر الجوامع، ثم تتابع دخول العسكر، وفي يوم السبت مستهل رمضان منها وصل ملك الروم إلى المصطبة السلطانية بأرض برزة في عساكر عظيمة يقال: إن
عددها مائة ألف وثلاثون ألفاً وعزل عن نيابة دمشق يونس باشا وولى مكانه أحمد بن يخشي. وفي يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة وهو خامس شهر كانون الأول ورابع الأربعينيات الشتوية سافر ملك الروم من دمشق إلى مصر لأخذها من يد الشراكسة.
مقابلة أمراء البلاد سلطانهم الجديد وتغير الأحكام:
قابل الأمراء السلطان سليماً ومنهم الأمير فخر الدين المعني الأول أمير الشوف فخطب أمامه بالنيابة عن أمراء البر خطبة جميلة استمالت بها قلب الفاتح، فأحسن إليه وخلع عليه وسماه سلطان البر وأفضل عليه وعلى رفاقه من الأمراء مثل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني الذي جعله والياً على بلاد الغرب والأمير عساف التركماني أمير بلاد كسروان وبلاد جبيل، وأمرهم أن يحسنوا السياسة لقومهم وأن يسعوا بكل ما يؤول إلى عمران بلادهم، وقدمت إليه الناس من كل جانب إلا الأمراء التنوخيين القيسيين فإنهم لم يأتوا لأنهم كانوا من حزب الدولة الشركسية. وقال كامل باشا: أن أمير العرب ناصر الدين ابن الحنش وكان عهد إليه الدفاع عن دمشق من قبل الشراكسة قَبِل بالصلح الذي اقترحه عليه خيرباي وخضع للسلطان سليم، فنزل هذا في القصر الأبلق فجاءه محافظو قلاع سورية وأمراء العرب والدروز يعرضون الطاعة له. ويقول ابن إياس: إن الأمير ناصر الدين بن الحنش، أمير عربان حماة لما بلغه أن ابن عثمان أرسل طلائع عسكره وقد وصلت إلى القابون بالقرب من دمشق، لقيهم ابن الحنش وحصل بينه وبين عسكر ابن عثمان مقتلة عظيمة وقتل منهم جماعة وأطلق عليهم الماء من أنهر دمشق حتى صار كل من دخل في تلك المياه بفرسه يوحل فلا يقدر على الخلاص فهلك من عسكر ابن عثمان جماعة كثيرة.(2/213)
ولما استقرت الحال بالشام ضرب السلطان سليم المكوس على الناس وعلى
الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود. قال الغزي: ولما بلغ الإمام علي بن محمد المقدسي أن العثمانيين ضربوا الجزية حتى على المومسات تنخع الدم من كبده وتمنى الموت، للقهر الذي أصابه وللغيرة على دين الإسلام وتغير الأحكام وقال في دخول السلطان سليم دمشق هذه الأبيات:
ليت شعري من على الشام دعا ... بدعاء خالص قد سمعا
فكساه ظلمة مع وحشةٍ ... فهي تبكينا ونبكيها معا
قد دعا من مسه الضر من ال ... ظلم والجور اللذين اجتمعا
فعلا الحجب دعا فانبعثت ... غارة الله بما قد وقعا
فأصاب الشام ما حل بها ... سنة الله التي قد أبدعا
هذا ما رواه مؤرخ ذاك العصر، وربما وكان فيما بلغه مبالغة نشأت من تعصب للدولة الشركسية أو رجاء أخفق، وكان يظن أنه يتم على يد ابن عثمان من إقامة الحدود ورفع المظالم شيء كثير في مدة قصيرة، وما خلت دولة مهما بلغ من سخفها وسخف القائمين بها من أنصار لها على الحق والباطل، وكثير من الأمور إذا نظرت إليها من وجهها راقتك، وإذا ملت إلى الوجه القبيح أحصيت عليها بعض العيوب.
السلطان في دمشق وفي الطريق لفتح مصر:
جهز السلطان سليم جيشه في دمشق وقضى فصل الشتاء فيها يعمر بعض المباني. وقال صولاق زاده: إن السلطان سليماً كان مدة إقامته في دمشق يختلف في الأوقات الخمسة إلى الشيخ محمد بلخشي في جوار جامع بني أُمية وإن السلطان سليماً لما كان يعتقد بالاستمداد من أرواح الأنبياء العظام الطاهرة، وأرباب المقامات الشريفة لم يغفل هذا المقصد مدة إقامته في دمشق، ولما رأى قبر العارف بالله محيي الدين بن عربي قد تداعى وخربت تربته أمر بتعميره على
ما يجب، وأنشأ بجواره جامعاً على أجمل طرز، وعمر زاوية بقربه، ووقف على ذلك عدة قرى ومزارع. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً صرف الأمراء(2/214)
والجند فأخذوا دستوراً إلى مواطنهم ليقضوا فيها فصل الشتاء بعد أن استراح اثني عشر يوماً في المصطبة.
وذكر ابن طولون أن النائب بدمشق ابن يخشي نادى في 2 ذي الحجة 922 بالأمان والاطمئنان، وأن لا ظلم ولا عدوان، ولا يحمل أحد سلاحاً، وأن لا يتكلم أحد فيما لا يعنيه.
سار السلطان عن طريق البر إلى غزة فعصت عليه ففتحها حرباً، والتقى جيش العثمانيين مع جيش المصريين في خان يونس بين غزة والعريش، فشتت الجيش العثماني الجيش المصري، ثم عصت غزة والرملة فقمع ثائر الغزاة فيها، وكانت الوقعة المهمة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان على الشريعة بالقرب من بيسان اندحر فيها المصريون وقاد جندهم الغزالي. قال ابن طولون: وفي 16 ذي الحجة 922 التقى سنان باشا الوزير الأعظم لملك الروم مع جان بردي الغزالي وكسر الغزالي فدقت البشائر بقلعة دمشق وسيب بها نفط كثير ثم نادى النائب بالزينة واستمرت مدة أسبوع.
ذهب السلطان سليم في جيشه إلى مصر وقتل الملك الذي كان بايع له المصريون بعد هلاك السلطان الغوري واسمه طومان باي، ففتح القطر المصري على أيسر سبب، قال ابن طولون: ولما وردت البشائر بفتح مصر زينت دمشق سبعة أيام ودارت مبشرو الأورام على بيوت الأكابر والحارات بالطبول والنايات ثم أتبعوها بزينة سبعة أيام لما ورد الخبر بأن السلطان سليماً أفنى الشراكسة.
وعاد السلطان عن طريق البر إلى الشام بعد تغيبه ثمانية أشهر ودخل دمشق 11 رجب 923 وفي يوم 22 منه طلبت العساكر النزول في البيوت فهجموا على
النساء وتضرر الخلق بذلك ضرراً زائداً وتحقق أن السلطان عزم على الإقامة بدمشق فغلت الأسعار وعند ذلك شرع بعمارة تربة ابن عربي وصرف عليها عشرة آلاف دينار. ومن غريب التوفيق أن السلطان سليماً كان أعد في ذهابه إلى مصر خمسين ألف جمل لحمل المياه في الصحراء التي تفصل الشام عن مصر فأمطرت السماء مطراً غزيراً أغنى جيشه من ماء الروايا، وسهل عليه قطع صحراء التيه.
وبينا كان السلطان سليم سائراً إلى مصر تأخر من جماعته من في الرملة، أناساً(2/215)
فشاع الخبر أن أهل المدينة قتلوهم، وبلغ ذلك السلطان فأمر بقتل أهل البلد فقتلوا عن آخرهم ولم يبق فيها ديار ولا نافخ نار. ويقول القرماني: إن السلطان أمر بقتل عامة أهل الرملة عند عودته من مصر وقد بلغه الثقات أن أهلها قتلوا من كان عندهم من العسكر المجروحين. وقال ابن إياس: إن الغزالي لما تلاقى مع سنان باشا على الشريعة أشيع في غزة أن الغزالي قد انتصر على عسكر ابن عثمان وقتل سنان باشا وعسكر ابن عثمان، فبادر على باي دوادار نائب غزة وأجناده فنهبوا وطاق العثمانيين وأحرقوا خيامهم وقتلوا ممن كان في الوطاق والمدينة من العثمانية نحو أربعمائة إنسان ما بين شيوخ وصبيان وممن كان بها مريضاً، فلما ظهر أن الكسرة على عسكر مصر وقتل من قتل من الأمراء رجع سنان باشا إلى غزة فوجد من كان بها قد قتل ونهب الوطاق، فجمع أهل غزة قاطبة وقال لهم: من فعل ذلك بنا؟ قالوا: علي باي دوادار نائب غزة، وأجناد غزة، ولم نفعل نحن شيئاً من ذلك، فأمر سنان باشا بكبس بيوت غزة فوجدوا فيها قماش العثمانية وخيولهم وخيامهم فقال لهم سنان باشا: نحن لما دخلنا غزة هل شوشنا على أحد منكم قالوا: لا. فقال لهم: كيف فعلتم بعسكرنا ذلك، فلم يأتوا بجواب ولا عذر ولا حجة فعند ذلك أمر عسكره أن يلعبوا فيهم بالسيف فقتلوا
منهم كثيرين وراح الصالح بالطالح.
ونصب السلطان والياً على مصر خير باي نائب حلب، ووالياً على دمشق جان بردي الغزالي نائب حماة، وأضاف إلى هذا القدس وغزة وصفد والكرك، وأما حمص وطرابلس والمدن البحرية فجعلها بأيدي عماله من الأتراك، وبقي الحال على ذلك مدة طويلة. وكانت ولاية دمشق تمتد من المعرة إلى عريش مصر على مال معين قدره مائتا ألف دينار وثلاثون ألف دينار. قال شمس الدين سامي: إن جانبردي الغزالي كان قائداً عاماً للجيش الذي أرسله طومانباي لقتال السلطان سليم فغُلب في الوقعة التي جرت في غزة وفرّ ثم رأى أن يستأمن السلطان سليماً ويخدمه، فأعانه على قهر طومانباي وفتح مصر ثم كان سبباً لقتل طومانباي. ومكافأة لخدمته نصبه السلطان والياً على دمشق، أما حلب فقد نصب عليها قره جه أحمد باشا ودام فيها والياً ثلاث عشرة سنة لغنائه وكفايته في خدمة دولته.(2/216)
فتوق وغارات وتأذي السكان:
ولما مهد السلطان سليم الديار الشامية والمصرية عصى عليه محمد بن الحنش المتغلب على صيدا والبقاعين وشيخ الأعراب 924 ثم هرب واتهم الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير علم الدين سليمان أنهم من حزبه فقبض عليهم الغزالي وبعث برأس ابن الحنش ورأس ابن الحرفوش إلى السلطان سليم في حلب وأطلق سراح هؤلاء المعتقلين، وكان ابن الحنش كثير العصيان على نواب حلب وعلى سلاطين مصر. ولما ملك ابن عثمان دمشق امتنع من مقابلته، ثم اضطربت أحوال جبل نابلس وصار العربان ينهبون الضياع التي حول حاضرتها ويقتلون أهلها. وفي مدة إقامة السلطان سليم في حلب لدن عودته من فتح دمشق ومصر قتل بعض أشرار حارة بانقوسا، ولما بلغه أن الشاه إسماعيل الصفوي يريد أن يهاجم حلب أخذ يطيب خاطر الحلبيين ورفع عنهم ما كان أثقل كواهلهم به من الضرائب والمكوس وأنشأ يعنى بتحصين حلب.
ومن أعمال الغزالي استيلاء العربان 925 على الحاج الشامي فخرج إليهم ومعه نائب غزة ونائب الكرك، فاقتتل مع العربان وقتل منهم جماعة وغنم أموالهم. وفي السنة التالية أتى الفرنج إلى ساحل بيروت وحاصروا من بها فكسروهم وملكوا بيروت وظلوا فيها ثلاثة أيام، فلما بلغ نائب الشام ذلك عين دواداره ومعه الجمّ الكثير من العساكر فتوجهوا إلى بيروت واقتتلوا مع الفرنج. وكان بين الفريقين واقعة قتل فيها كثير منهم وأُسر ثلاثمائة إنسان منهم وغنموا منهم أشياء كثيرة من سلاح وقماش، وقيل: أسروا جماعة من أولاد الملوك الفرنج وملكوا ثلاثة من كبار مراكبهم. ويقول ابن طولون: إنه قتل من المسلمين مائة ومن الفرنج أربعمائة جاءوا في زي الأورام وجيء برؤوس الإفرنج إلى دمشق 926.(2/217)
وفي ذهاب السلطان إلى مصر وعودته إلى الشام قاسى الشاميون من اعتداء جنده كثيراً، فقطع الأجناد الأشجار ورعوا الزروع وأخرجوا أهلها من بيوتهم في كل
بلد واحتلوا وتعدوا على أعراض الناس، فتضرر الناس بذلك وعرفوا أنهم أخطئوا في نفض أيديهم من أيدي الشراكسة لأول ما بدا لهم من قوة العثمانيين، وخاب رجاؤهم في أن تغيير الدول قد يكون منه رحمة، خابت الظنون لما جاء دور العمليات وغلط في الحساب من كانوا يتوقعون من الدولة الجديدة كل الخير وأن الحظ يحظهم متى خفقت أعلامها عليهم، وكانوا يرقبون طلعة العثمانيين منذ سنين رقبة هلال العيد، للاستمتاع بحكمهم الرشيد وعهدهم السعيد، ولطالما ساء فأل من يهتمون للأمر الجديد، ويفتحون له قلوبهم وصدورهم بادئ الرأي مع علمهم أحياناً بتهورهم، وأي فشل أعظم لمن كانوا يطلعون الدولة الخالفة على عورات الدولة السالفة، حباً بأن يكون لهم شيء من الراحة والهناء إذا تغيرت الدولة.
محاسن السلطان سليم ومساويه ومهلكه:
صرف السلطان سليم سنة وشهراً في فتح الشام ومصر وهلك بعد مغادرته القطرين بنحو ثلاث سنين 926 وقد بالغ مؤرخو الترك في وصف فضائله خصوصاً من كتبوا بلسان الرسميات. وكثيراً ما يكون في الروايات الرسمية نظر كبير إذا وضعت على محك النقد التاريخي. وكان مؤرخو العرب أقرب إلى الثقة في وصف هذا الفاتح الذي هو بلا أمراء نابغة العثمانيين أو من نوابغهم بعد محمد الفاتح. ترجمه النجم الغزي في الكواكب السائرة بقوله: كان السلطان سليم سلطاناً قهاراً، وملكاً جباراً، قوي البطش، كثير السفك، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس، عظيم التجسس عن أخبار الملوك والناس، وربما غير لباسه وتجسس ليلاً ونهاراً، وكان شديد اليقظة والتحفظ، يحب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك، وله نظم بالفارسية والرومية التركية والعربية.
ومما قال ابن إياس فيه: إنه لم يجلس بقلعة الجبل بمصر على سرير الملك جلوساً عاماً، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلوماً من ظالم، بل كان مشغوفاً(2/218)
بلذته وسكره،
وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه، فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء الشراكسة، وما كان له أمان، وكلامه ناقض ومنقوض، لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً قتل يونس باشا الصدر الأعظم وكان مقرباً جداً عنده ولكن ابن عثمان ليس له صاحب ولا صديق ولا أمان منه لأحد من وزرائه ولا من عسكره ومن طبعه الرهج الشغب والفتنة والخفة، ويحب سفك الدماء ولو كان لولده، ويقال: إنه قتل أباه واخوته، لأجل مملكة الروم، وآخر الأمر إنه قتل يونس باشا لكونه صار له عليه يد قديمة.
وفي الواقع أن السلطان سليماً قتل وزيره حسن باشا في رحيله إلى مصر لأن هذا لاحظ أن في قطع الصحراء هلاك الجيش فضرب السلطان عنقه، ولما غادر السلطان مصر وألف جمل تحمل أمامه منها إلى الأستانة ما غنمه من الذهب والفضة قتل وزيره الآخر يونس باشا في صحراء قطبة والسبب في ذلك أن السلطان اقترب من الصدر الأعظم وهو سائر معه وقال له: أرأيت كيف مصر الآن وراءنا وغداً نبلغ غزة. فلم يتمالك الصدر أن أجاب السلطان: نعم ولكن أي ثمرة حصلت من هذا التعب والمشقة، إن لم يكن هلاك نصف الجيش السلطاني في الحروب ووسط الرمال، وبقيت حكومة مصر بعد هذا في أيدي الخونة. فلما قال الصدر ذلك استشاط السلطان غضباً فضرب عنق الوزير في الحال ودفن في الخان الذي كان أنشأه بين مصر والشام يونس بن عبد الله التركي الدوادار بالقرب من غزة، فدفن يونس باشا في خان سميه يونس الدوادار، وعهد السلطان بالصدارة إلى بيري باشا.
وقال الشرقاوي: إن خير بك لما دفع إلى السلطان سليم مفاتيح مصر ردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت فشاوره على أن أبناء الشراكسة يريدون الدخول في
جملة الأجناد فأجازه بذلك، وشاوره في إبقاء أوقاف الشراكسة وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر فأجازه بإبقائها على ما كانت عليه، فتشوش وزيره وقال: فني مالنا وعساكرنا، وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها، فقال السلطان سليم: أين الجلاد وكانت إحدى رجليه في الركاب فضرب عنق(2/219)
الوزير ووضع رجله الثانية في الركاب. وقال: عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها وجعلناهم أمراءها، فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في جندنا فهم أولاد مسلمين ويغارون على ديارهم، وأما أراضيهم فأصلها ملك القائمين ومنهم من وقف معهم من قامت ذريته عليه من بعده، فهل يجوز أن ننازع الملاك في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير عليَّ اعتقادي بتكرار كلامه اه.
كان القتل عند السلطان سليم أسهل أمر وألطفه، وكان شديداً جداً على وزرائه قتل منهم سبعة لأسباب تافهة. وقال القرماني: إنه خنق اخوته وغيرهم من أهل بيته وعددهم سبعة عشر نفراً وذلك حين توليه الملك وجرى عند الأتراك في حكم الأمثال قولهم: من أراد الموت فليكن وزيراً للسلطان سليم، لأن لقب وزير كان شهادة على الموت العاجل. وقال صولاق زاده: في عصر سليم كان الوزراء أبداً عرضة للتنحية ثم للقتل بعد شهر من تنصيبهم، ولذلك اعتادوا أن يحملوا معهم صكوك وصاياهم، وكلما كانوا يخرجون من مجلس السلطان يعتقدون أنهم عادوا إلى الحياة بعد الموت. وقد وصفه فوسكولو المؤرخ البندقي بأنه أقسى قلباً لا يحلم بغير الفتوح والحرب اه. ولم يكن السلطان سليم يراعي من جميع رجاله إلا المفتي الأعظم زنبيللي علي أفندي، وكان هذا قوالا بالحق وكثيراً ما كان يرده عن مظالمه، ويحول بينه وبين إزهاق النفوس بلا حق، وقد أنقذ بعمله من القتل مئات من البشر، وهذا المفتي العظيم تولى مشيخة الإسلام ستاً وعشرين سنة على عهد
ثلاثة سلاطين وهم بايزيد الثاني وسليم الأول وسليمان الأول.
لم يطل عهد هذا الفاتح الجبار أكثر من ثماني سنين وثمانية أشهر، ولم يعمل في الشام إلا أن أقرَّ القديم على قدمه في أُسلوب الأحكام، وغنم ما تيسر من ثروة المماليك والأغنياء، وزاد في الضرائب والمكوس، ونصب حكاماً ممن استأمنوا إليه أو خانوا الدولة الأولى وتقربوا إليه منذ دخل حلب ووضع قيد الأسر للخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله آخر خلفاء بني العباس بمصر، وأخذه معه لما انصرف إلى الأستانة، ثم ألقى الاختلاف بينه وبين أولاد عمه أبي بكر وأحمد. وقال ابن إياس: إن السلطان سليماً تغير خاطره على الخليفة(2/220)
المتوكل على الله وأرسله إلى مكان عسر يقال له الست أبراج والمظنون أنه كان هناك آخر العهد به فقتله وأشاع بين الملإ أنه مات، ولا يستكثر ذلك من ملك قتل أباه لأجل الملك فضلاً عن اخوته وآله. ويقول نامق كمال: إن الخليفة العباسي قد تخلى لآل عثمان عن حقه في الخلافة في جامع أياصوفيا علناً. وفي رواية أن الخليفة بقي إلى زمن السلطان سليمان وأنه أطلق من سجنه ووسع عليه وقال بعضهم: إنه أذن له بالسفر إلى مصر فسافر إليها ومات بها.
وروى المؤرخون أن السلطان سليماً كان يريد أن يعمل عملاً نافعاً للأمة بأسرها. كان ينوي أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية بدلاً من التركية فعاجلته المنية قبل إتمام هذا العمل الجليل. والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام وخطب له في الحرمين الشريفين فسمي فاتح ممالك العرب، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها، وأن الترك هم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا دع سائر العناصر من البشناق والأرناءوط والكرد واللاز والشركس والكرج. ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة، ودخلت في جملة
العرب عناصر كثيرة مهمة، ولزاد انتشار اللغة العربية فأصبحت الأستانة موطناً لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة.
خارجي خان أولاً وثانياً:
أصبحت الشام بالفتح العثماني آمنة غزوات الشمال والشرق والجنوب، وصارت بين أملاك الدولة الفاتحة فأمنت من هذه الوجهة ولكن أصبح أعداؤها في داخلها ومن أهل دولتها. فتحت الشام ومصر في وقعتين مهمتين وما عداهما فمناوشات لا يؤبه لها. فلما رحلت القوة وخلا الجو لجان بردي الغزالي نائب دمشق حدثته نفسه بالخروج عن الطاعة وصعب على طبعه إلا أن يخون سيده الثاني كما خان سيده الأول:
ومن يتعود عادة ينجذي لها ... على الكره منه والعوائد أملك
ففاوض بعض أمراء لبنان والعربان فوعدوه أن يمالئوه على عمله، ودعا لنفسه بالسلطنة في دمشق وبايعه الناس على ذلك طوعاً أو كرهاً، ووافقه على(2/221)
عصيانه الأعراب والمماليك ولقب نفسه بالملك الأشرف صاحب الفتوحات، وزينت له دمشق ثلاثة أيام وأوقدت له الشموع على الدكاكين، وقبل له الأمراء الأرض وقد جمع العسكر الكثير، وخطب باسمه على منابر دمشق وضربت السكة باسمه على الذهب والفضة. وأرسل إلى أمير الأمراء بمصر ليقوم معه لنزع حكم العثمانيين عن مصر والشام فنمَّ عليه للسلطان، فقام الغزالي وحده مدفوعاً بتنشيط زعانف السكان والمماليك والعربان والأكراد أتباع كل ناعق، وكثر الملتفون عليه حتى تسحب المماليك إليه من مصر وكثروا سواده. وذكروا أن من اجتمع عليه من الجند كان خمسة عشر ألفاً من المماليك والتركمان وثمانية آلاف ممن يضربون البنادق.
ولما بلغ قراجه باشا والي حلب موت السلطان كان بعسكره في حيلان فرجع إلى
حلب وحصنها واستخدم خلقاً كل إنسان بثلاثمائة درهم، وأنفق عليهم من مال السلطان شهرين، وأعطى الانكشارية كل واحد ألفين والاصباهية كل واحد ألفاً زيادة على الراتب، وخرج إلى قرية سرمين وقرية داريخ ونهبهما، فخرج إليه أمير شيزر من جهة الغزالي فأخذ منه جميع المكسب وغنم منه جماعة وجهز رؤوسهم إلى دمشق، ودخل نائب حلب إليها مكسوراً ووصل عسكر الغزالي إلى الأنصاري وخرج إليه عسكر حلب. فأرسلت الدولة على الغزالي فرهاد باشا في ثمانية آلاف انكشاري عدا من انضم إليه من قوى الأناضول وكان معهم ثمانية عشر مدفعاً كبيراً.
سار الغزالي إلى حلب ليستولي عليها فحاصرها مدة ولم يقدر عليها لصدق أهلها في قتاله، وداهمه الجيش العثماني بما أتاه من المدد فانكسر، وجاء إلى حماة فتبعه العسكر العثماني واقتتلوا معه فهرب منهم، وقصد التوجه إلى دمشق وخرَّب في طريقه قناطر الرستن على العاصي فتبعوه فكانت بين الفريقين معركة دارت خارج دمشق قتل فيها نحو عشرة آلاف إنسان وقيل أكثر من ذلك، بينهم عربان ومماليك وجماعة من عوام دمشق وفيهم أطفال وصغار من أهل الضياع وغيرهم ممن حضر القتال. قال ابن إياس: وكانت هذه الوقعة تقرب من وقعة تيمورلنك لما ملك الشام وجرى منه ما جرى من قتل ونهب وسبي وحرق ضياع وما أبقوا في ذلك ممكناً. وليس الخبر كالعيان.(2/222)
ثم نودي في دمشق بالأمان سنة 927 وقد خرب نحو ثلثها من ضياع وحارات وأسواق وبيوت، وأصاب حلب وحماة وحمص من خراب القرى وهلاك الأنفس وذهاب الأموال شيء كثير.
كان الغزالي لما جاء دمشق مهزوماً من الجيش العثماني قتل خمسة آلاف انكشاري جعلهم السلطان سليم حامية عندما فتحها، وذلك مخافة أن يلتحقوا بجيش فرهاد باشا فأولم لهم وليمة وقتلهم على بكرة أبيهم شر قتلة. ثم دارت الدائرة عليه
وتشتت جيشه فقتله خازن أمواله وجاء برأسه إلى القائد التركي، فذهب ودولته الموهومة لم ينل الشام منه إلا الضغط والشدة بعدها.
قال المقار: إن الغزالي استولى على دمشق وطرابلس وحمص وحماة وحلب وخطب له بالجامع الأموي بأنه سلطان الحرمين الشريفين ولقب بالأشرف، وأن الدولة أرسلت عليه جيشاً من ثلاثين ألفاً وأربعة آلاف انكشاري ومعهم مائة وثمانون عربة، فالتقى عسكره وعسكرها عند قرية الدوير، وتواصل العسكر الرومي وركب السلطان من المصطبة ببقية عسكره فما كان لحظة حتى انكسر وقطع رأسه، ثم تلاحق العسكر الرومي ببقية العسكر الهاربين إلى الصالحية ونواحي دمشق وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شباب الصالحية نحو الخمسين ومن كل حارة نحو المائة وكذا من القرى، وقيل: إن عدد القتلى 7070، وهجم العسكر على الصالحية والأحياء والقرى، فكسروا الأبواب وحواصلها وبيوتها ودكاكينها وغير ذلك وآذوا النساء فضلاً عن الرجال فلم يحترموا صوفياً ولا فقهياً ولا كبيراً، وكانت النساء قد اجتمعن بجامع الحنابلة ومدرسة أبي عمر وغيرهما فهجموا عليهن وعروهن وأخذوا بعض نساء وجوارٍ وعبيد وصبيان، وجهز الباشا رأس الغزالي ومعه نحو ألف أذن من المقتولين إلى السلطان سليمان. وبعد هذه الوقعة اقتسم العثمانيون نيابات الشام فجعل إياس باشا في دمشق، وفرحات بك في طرابلس، وقره موسى في غزة. أما فرهاد باشا فاتح الشام ثانية ومنقذها من الغزالي فقد ضج الناس من شدته وبأسه وتمثيله بالبريء والمجرم على السواء.(2/223)
طبيعة الدولة العثمانية:
بقي أرباب المقاطعات في الدولة العثمانية كما كانوا في دولة المماليك. يضمنون الجراج مقابل أموال يتعهدون بها، ويعرقون اللحم والعظم بعد ذلك لحسابهم، مثل
أمير عرب الشام مدلج بن ظاهر بن آل جبار وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة، والأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف، وجمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب، وبني شهاب في وادي التيم، وبني الحرفوش في بعلبك، وبني ساعد أُمراء البر وحوران وعجلون وغيرهم في غيرها، وكلهم أشبه بأمراء صغار يخضعون الخضوع التام لحكام المدن، والمقتدر منهم الذي كان على صلات حسنة مع الوالي التركي القريب من عمله، ومن يجعل له وكيلاً يرجع إليه في أعماله في دار السلطنة، وإذا غضب الوالي على الأمير المتغلب يرسل عليه جيشاً من الانكشارية كما فعل والي دمشق سنة 930 مع أمير الشوف، فيخرّب العسكر قراه ويستصفي أمواله ويأسر أهله ورجاله ويسبي نساءه، فعلوا ذلك مرات في لبنان والبقاع وبعلبك ووادي التيم وغيرها، وينشأ هذا الغضب من تأخرهم عن تأدية الجراج، أما المظالم التي تنزل بالناس فحدث ما شئت أن تحدث عنها.
كان من قواعد الدولة العثمانية إذا فتحت مصراً أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها والصغرى لأبناء البلد المفتوح، وتلقي حبلها على غاربها لا تهتم لتنظيمها اهتمامها لفتح أراض جديدة، وإذ كان الولاة يبتاعون مناصبهم على الأغلب بالمزاد في دار الملك، كان المزايدون في الأكثر من الساقطين في أخلاقهم، لا يتأخرون عن ارتكاب كل محرم ليسلبوا الرعية ما أمكن فيملئوا خزائنهم وخزائن من حملوهم على رقاب الأمة. وساعد على إيغال العمال في الفساد قلة المواصلات، وبعد دار السلطنة عن أكثر الولايات، فبين دمشق والأستانة مثلاً 1100 كيلومتراً و 386 ساعة، وإن قدّر لأرباب الظلامات فوصلوا العاصمة رغم هذه المصاعب لبث شكواهم إلى السلطان، كان بعض أصحاب الشأن يحولون دون ذلك، فكانت الشام كله يستأثر بها والٍ أو واليان يحكمان فيها بحسب مزاجهما بدون مراقب إلا من ذمتهما، فإذا(2/224)
كانا ممن تجردا
منها فهناك البؤس والنحس، وضياع الحقوق وفساد النظام.
قال جودت في تاريخه: إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى دور الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع راوتبهم فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم الأقاليم وإقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى الخارج، وترك غيرهم القرى وجاء الآستانة فراراً من الظلم فلم يبق مكان في الآستانة، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة، وصعب تدارك ما يلزم هذه المدينة الضخمة من الحبوب فأصبحت الحكومة تأتي بها من القاصية، والتجارة ليست من شأن الحكومة اه.
من أمثال الترك السمكة تفسد من رأسها، وحقيقة أن فساد الولايات كان ينبعث من العاصمة أيام كان يقبض فيها على زمام الأحكام غالباً جهلاء ظلام وصموا بسلب الناس بكل حيلة، حتى ينعموا بما يجمعون في قصورهم ومصايفهم على ضفاف الخليج والمضيق في فروق. وإذا صادفت العناية أن تولى الصدارة رجال عظام على شيء من حسن الإدارة وقوة الإرادة، فإن رئاسة النظار كثيراً ما تولاها في السلطنة العثمانية الندماء والسخفاء بل الطباخون والطبالون والمزينون والبساتنة وغيرهم من المقربين من نساء القصر الملوكي، أو الزنوج الخصيان الذين كانوا يولون ويعزلون كما يشاءون ويشاء ضيق عقولهم.
ولا عجب في حكومة هذا شأن نصب الرئيس فيها إذا كان الوزراء والعمال على هذا النحو، فلطالما ولي المشيخة الإسلامية في الترك أغبياء أدنياء في منشئهم ومسلكهم ممن ليس لهم من العلم الديني إلا قشوره وشارة أهله وعلى نسبة وسائط
بعضهم وكثرة ما يعرف من المقربين من السلاطين كان ارتقاء أحدهم إلى المناصب العليا، وهذه الطبقة لا تقرب إلا من كانوا على شاكلتها من الجهل والفساد. ومثل هؤلاء الرجال إذا كان لهم قوة يستندون(2/225)
إليها وهي جيش الانكشارية فهناك الخراب بلفظه ومعناه. فإن هذا الجيش الذي قدم للدولة لأول أمره خدمات جلى وفتحت به الفتوحات عاد فمحق باختلاله واعتدائه على الرعايا كل حسنة سلفت له.
ولئن خلف السلطان سليماً ابنه السلطان سليمان القانوني وهو العاشر من ملوك آل عثمان سنة 926 وكان على جانب من العقل وحب القانون، إلا أن الشام أصبحت في أيامه الطويلة التي دامت 48 سنة في معزل لأن السلطان مشغول بفتوحاته حارب اثنتي عشرة مرة وخرج في أكثرها ظافراً، فلا يهمه كأكثر أجداده وأحفاده من كل ما يفتح إلا أن تضرب السكة وتقام الخطبة باسمه وتجبى الجبايات ولا يتأخر الولاة عن إنفاذها إلى دار الملك، فكانت الشام جزءاً صغيراً بالنسبة لضخامة ملكه، فلم ينلها منه شيء من العدل والإشراف ينسيها ما لاقته في القرن السالف من التقلقل والانحلال.
وكان السلطان سليمان بطاشا كأبيه ولكن لم يشتهر شهرته، هاج مرة أهل حلب في أوائل حكمه وقتلوا في الجامع القاضي والمفتي فصدرت إرادته السنية بقتل جميع أهل حلب لولا أن كان في الصدارة إذ ذاك رجل عاقل اسمه إبراهيم باشا، فألغى هذا الأمر البربري واكتفى بقتل زعماء الثورة. وإبراهيم باشا كان على جانب من الأخلاق الحسنة والذكاء تولى الصدارة من سنة 929 - 942 أي 17 سنة وقام بإصلاحات مهمة ثم قتله السلطان وندم على قتله، ولا عجب إذا استسهل سليمان القتل فقد قتل ابنه الأكبر مصطفى وحفيده وابنه بايزيد وأولاده الخمسة على أفظع صورة.
كوائن داخلية وأمراء المقاطعات:
ومن الأحداث في الشام بعد فتنة الغزالي ما وقع في سنة 927 من ثورة جماعة من عربان دمشق على النائب اياس باشا، خرج إليهم فانكسر وجرح ورد إلى دمشق وهو مكسور وقتل من عساكر دمشق كثير ومن عربان نابلس أيضاً، وكانت فتنة بدمشق. وفي سنة 928 كان مقتل حسن وحسين أولاد الأمير عساف في بيروت، وذلك لما كان من الاختلاف بينهما وبين أخيهما الأمير قائد بيه على الحكم فتوسط بينهما حتى طلبا الصلح ونزلا على أخيهما قائد بيه(2/226)
فغدر بهما وقتلهما فحكم قائد بيه جبل كسروان حتى مات سنة 930 وخلفه الأمير منصور ابن أخي الأمير حسن وامتد حكمه إلى عكار. وكانت طرابلس بيد النواب يستأجرها محمد أغا شعيب من أهل عرقة ويستأجر الأمير منصور جبيل والبترون وجبة بشرة والكورة والزاوية والضنية. وفي سنة 930 جهز والي دمشق خرم باشا حملة لقتال الدروز في الشوف فانتصر عليهم وأحرق قرية الباروك وثلاثاً وأربعين قرية، وأرسل إلى دمشق أربعة أحمال من رؤوسهم فعلقت على القلعة ورجع ومعه مجلدات من كتب الدروز، ثم أرسل أربعة أحمال من رؤوسهم وأحرق نحو ثلاثين قرية ونهب قرية البرج وسبى نحو 360 من النساء والأطفال وغنم ما لا يحصى من البقر والجمال والغنم وغير ذلك.
وفي سنة 935 وقع قتال بين أولاد شعيب وأولاد سيفا أمير التركمان وقتل علي الشعيبي في عرقة وتولى أولاد سيفا عكار، ثم قتلوا محمد آغا شعيب حاكم طرابلس قدام القاضي فأعطاهم القاضي فتوى بأنهم أبرياء من دمه وأنه هو ألزمهم بذلك. وفي سنة 940 وقعت فتنة أهلية في العاقورة وجبة المنيطرة في لبنان نشأت من خصام بين مالك اليمني وهاشم العجمي من مشايخ العاقورة، وكثرت الدسائس بين بني الحرفوش أمراء بعلبك وآل سيفا حكام طرابلس، وأخذ
أبناء العم يقتلون أولاد عمهم للاستئثار بالإمارة، وخربت بعض تلك الديار ومن القرى ما نزح سكانه عنه. قال الشهابي: وكبر قدر بني حبيش عند ابن سيفا وصاروا متصرفين في تدبير حكمه وبقيت العاقورة خراباً سبع سنين لم يقطن فيها أحد. ثم إن القيسية سكنوا في طرابلس واستحصل اليمنية أمراً من نائب دمشق ورجعوا فبنوا العاقورة ثانية وفي سنة 951 توفي الأمير فخر الدين بن عثمان بن معن الذي حكم من حدود يافا إلى طرابلس وبني بنايات وقلاعاً عظيمة واستراح الناس في حكمه وأطاعته العرب وخلفه ولده الأمير قرقماز، وبعد وفاة فخر الدين امتد حكم الأمير منصور بن عساف من نهر الكلب ببيروت إلى حدود حمص وحماة وقوي بماله ورجاله.(2/227)
مهلك السلطان سليمان وتولي سليم السكّير:
توفي سليمان القانوني سنة 974 ولا شأن للشام في عهده إلا أن تظهر شعورها بأخبار انتصاراته وغاراته، وفتح قلاعه ومعاقله التي كان يملأها بجند الانكشارية ولكي يكون له جيش دائم على استعداد للحرب كل ساعة كان يقتضي له من النفقات الباهظة ما تنوء به قوة الرعايا، كان أهل الإسلام يودون بعد تكبير رقعة الملك في آسيا أن تصح إرادة الدولة على فتح فارس وقد بدت أمارات الهرم فيها فتتصل بالهند، وذلك خير من أن تفتح المجر وتحارب إمبراطور ألمانيا وتؤلب عليها دول أوربا. ذكر ضياء باشا أن الأتراك بددوا شملهم في الحروب والقلاع والأرجاء البعيدة وجعلوا أنفسهم في أوربا وراء سور من المرابطين يقلي علمهم وتربيتهم يوماً فيوماً، وفيه أمم من الخرواتيين والبلغار والروم لم تختر ملة الإسلام، وفي آسيا العرب والأكراد والزيدية والشيعة نشئوا وكبروا ببذر الفساد الذي بذره الشاه إسماعيل، فكان الأولون خصماء للإسلام والآخرون خصوم الأتراك، كانت مناداتهم بنصر السلطان من الألسن لا من القلوب اه.
خلف السلطان سليمان ابنه سليم الثاني، وهذا لم يذكر اسمه في الشام إلا على منابرها فقط لأنه كان شريباً خميراً حتى لقب بسليم السكير وله من أعمال الخلاعة ما يخجل منه، ولم يخرج من الآستانة للغزاة، وهو أول ملك من آل عثمان تخلى عن الحراب بنفسه، ومات على سريره في قصره، على حين كان أجداده يموتون في الحرب وفي طريق الغزو والفتح. وفي أيام سليم الثاني فتحت قبرس وكانت للبنادقة وهلك وأسر من أهلها نحو ثلاثمائة ألف إنسان في بعض الروايات.
هلك سليم الثاني سنة 982 بعد أن حكم ثماني سنين وستة أشهر وخنقوا أولاده الخمسة يوم دفنه على ما جرت بذلك عوائدهم القبيحة. وفي أيامه جاء أمثال محمد الباشا الصقللي من الصدور العظام، الذي تدارك بعمله الدولة من السقوط بما قام به من الإصلاحات، وأهمها إثخانه في العصاة وأرباب الدعارة، وجاء غيره من الرجال الذين يعدهم الأتراك من العظام. ولكن الشام لم تر(2/228)
طلعة هذا الملك كما أنها لم تشهد من والده من قبل شيئا من خطط الإصلاح ولا من القوانين النافعة، ولا شاهدتهم أو وكلاءهم يشرفون على الشام ليرفعوا الضيم عن أهله، وفي عهده 980 وزع القشلق أي العساكر المشتية على الشام ونهب عسكر الدولة لبنان وما إليه وسلبوا سائمته وأسرفوا في الظلم، حتى كادت الناس تسأل الموت لنفوسها، وأقفرت في لبنان قرى كثيرة وفي الدر المنظوم أنه قتل من الموارنة في تلك المعمعة نحو ثلاثين ألفاً كذا عدا الذين قتلوا في ليماسول في جزيرة قبرس حين حاصرها الأتراك وفتحت سنة 978.
عهد السلطان مراد الثالث وحملات على أرباب
الدعارة:
وفي سنة 982 تولى الملك مراد الثالث فقتل اخوته الأربعة وكانت همته مصروفة إلى توسيع حدود مملكته أيضاً وفي أيامه 991 وجه عسكراً إلى لبنان لحرب الموارنة للشكاوي التي قدمت إليه من طائفة الروم في سواحل طرابلس بأنهم أخربوا تلك الكور. وفي سنة 993 ولي السلطان خسرو باشا إيالة الشام وجاء دمشق وتخاصم مع محمد علي باشا الوند الوالي السابق مدة شهر، ثم استقرت الحال على تولية علي باشا وانفصل خسرو باشا، وكانت مدة ولايته سبعة أشهر فعزل ثم خلفه جامورجي محمد باشا وبقي في الولاية أربعة أشهر ثم خلفه علي باشا مرة ثانية وبقي والياً أربعة أشهر. وفيها سرقت الخزينة السلطانية في جون عكار في طريقها من مصر إلى الآستانة فوجهت الدولة إبراهيم باشا وضربت على أيدي المعتدين، وسار جعفر باشا حاكم طرابلس وأحرق إقليم عكار، وتقدمت الشكايات من حاكم طرابلس على الأمير محمد بن عساف وعلى أمراء الدروز بأنهم هم الذين سلبوا الخزينة، فسار إليهم إبراهيم باشا ولما وصل إلى عين صوفر حضر إليه عقال الدروز فغدر بهم وقتل منهم نحو ستمائة رجل. ويقول كامل باشا: إن إبراهيم باشا لما جاء من مصر إلى الشام كان في عشرين ألف جندي ودعا أمراء الدروز إلى المعسكر فأبى ابن معن أن يجيب الدعوة لأن والي دمشق مصطفى باشا كان استدعى أباه وغدر به وقتله فأقسم هو ألا يجيب دعوة أحد من رجال العثمانيين، فأحرق الجيش العثماني 24 قرية من قرى ابن معن وقتل الدروز القائد أويس باشا مع خمسمائة(2/229)
من جنده، وطلب إبراهيم باشا ترحيله فأرسل إليه ابن معن مئة ألف دوكا و480 بندقية وخيلاً وأشياء ثمينة، ولما تسلمها الوزير العثماني أمر بإحراق 19 قرية من قرى ابن معن وأعدم ثلاثمائة من رجاله، وفي خلال ذلك كان الأسطول العثماني أخرج إلى صيدا أربعة آلاف جندي وضرب الساحل وأخذ ثلاثة آلاف أسير. قال البوريني: إن إبراهيم باشا لما
خرج من مصر خرج بأموال عظيمة وتحف كثيرة منها أنه جعل للسلطان مراد تختاً من الذهب مرصعاً بالجواهر العظيمة ورجع ومعه عساكر مصر، وجمع عساكر الشام وحاكمها إذ ذاك أويس باشا وكبس جبل الشوف فقتل ونهب وحرق وأخذ منهم أموالا جمة وحاصرهم محاصرة عظيمة حتى إن أميرهم قرقماز بن معن مات قهراً.
وفي سنة 944 أراد جماعة من أقارب الأمير علي الحرفوش صاحب بعلبك أن ينزعوا حكومتها من يد أبي علي الشهير بالأقرع بن قنبر لأنه من غير أولاد الأمراء، وحكومة بعلبك متوارثة لبني الحرفوش، فعرف ابن الأقرع ما دبّر له فجاءه ألفا رجل جمعهم بنو حرفوش من كسروان والشوف وعين دارة وأرادوه على أن يخرج بعياله وبمن يلوذ به حيث شاء فأبى إلا قتالهم، واستنجد بالأمير قرقماز بن الفريخ أمير البقاع وبغيره من التركمان والعرب فولى الدروز هاربين فتبعهم أهل بعلبك يقتلونهم، وقتلوا منهم ألفاً وثمانين قتيلاً ولم يقتل من جماعته سوى شخص واحد. قال البوريني: وكان أصلح له ولجماعته طعاماً قبل المعركة فقاتل أعداءه ورجع والطعام لم يبرد وأرسلت الرؤوس لدمشق لتعرض فيها. ثم قتل علي بن الحرفوش ابن الأقرع وندم على قتله، وأخذت الدولة بعد ذلك الأمير ابن الحرفوش إلى دمشق بالأمان وقتلته وقتلت معه عسافاً الكذاب الذي ادعى انه ابن طرباي أمير اللجون.
بنو عساف وبنو سيفا وابن فريخ وخراب البلاد:
وفي سنة 999 جمع الأمير محمد بن عساف الرجال وسار لطرد يوسف باشا بن سيفا من عكار، فلما بلغ يوسف باشا ذلك جمع رجاله وكمن له في العقبة بين البترون والمسيلحة وقتله هناك، ولم يكن له ولد فانقطع نسله، وكان لبني(2/230)
عساف في كسروان 232 سنة فانقرضت دولتهم تلك السنة. ذكر المؤرخون في حوادث
سنة 999 أن منصور بن فريخ أعيد إلى لواء صفد وأعطى قرقماز لواء نابلس وصاحبه الدالي على لواء عجلون، وذلك بالتزام مال لجهة السلطنة قدره ثمان كرات كل كرة مائة ألف دينار غير ما ينوبها من الكلف. وقد خرب ابن فريخ هذا كوراً كثيرة وقتل خلقاً، وكان في أول أمره بدوياً من خدام ابن الحنش فترقى به الحال إلى أن التزم مالاً عظيماً على لوائي صفد ونابلس وإمارة الحج وعمر عمارات عظيمة بالبقاع بقرية قب الياس، وشرع في عمارة دار عظيمة خارج دمشق واستعمل فيها العملة بالسخرة، وقد خنق في قلعة دمشق لظلمه وتخريبه العمالات التي استولى عليها خصوصاً البقاع وصفد ونابلس.
وفي سنة 1000 أمر قاضي دمشق مصطفى بن سنان بقيام النواب من المحاكم وإغلاق أبوابها فأغلقت أسواق البلد كلها، وسبب ذلك أن الدفتردار محموداً ارتشى من ابن الأقرع بخمسة عشر ألف دينار وولاه على بعلبك بدل ابن الحرفوش فأدى ذلك إلى خراب بعلبك ظاهرها وباطنها، ورحل أكثر أهلها حتى تعطلت الأحكام الشرعية بها وعتا بها ابن الأقرع وأتباعه وصادر الناس مصادرة ليوفي بها المال الذي التزم به للسلطنة.
وكان المكس في هذه الحقبة حتى على الخمور والخمارات يتقاضاه كل من كان باشا دمشق يلتزمه صاحب الشحنة وهو من كبراء الانكشارية بمال كبير يدفعه للباشا ويحرق الأخضرين في جبايته، وكان من الولاة في ذلك الدور في الشام الصالح والطالح مثل سليمان بن قباد باشا الذي تولى نيابة القدس وقطع دابر المفسدين ثم تولى محافظة دمشق 990 وكان ينوع العذاب للسراق وقطاع الطريق.
ومنهم من خلفوا آثاراً مثل خسرو باشا وعادلي محمد باشا وبهرام باشا من ولاة حلب فإنهم بنوا مدارس وجوامع فخمة في الشهباء ومنهم لالا مصطفى باشا الذي
ولي دمشق سنة 981 خمس سنين وقد مدحه ابن بدير والمقار ووصفه هذا بأنه صاحب الخيرات والحسنات وأنه عمر تحت القلعة بدمشق الخان والحمام اللذين لا نظير لهما وأثنى أيضاً على مراد باشا الذي(2/231)
تولى دمشق سنة 976 وعمر جامعاً في السويقة المحروقة وهو صاحب خيرات وحسنات أيضاً.
وأثنى المؤرخون على أحمد بن الأمير قانصوه الغزاوي الساعدي الذي تولى إمارة عجلون وما والاها من كور الكرك والشوبك بعد وفاة أبيه، وباشر الإمارة في هاتيك النواحي في زمن سلطنة مراد بن السلطان سليم وقالوا: إنه كان قليل الأذى للرعايا وهو من قوم لهم قدم في الإمارة في هاتيك الديار، كانوا في زمن الشراكسة أمراءها وكان من أجداده محمد بن ساعد أميراً في جبل عجلون. ومنهم درويش باشا نائب دمشق وصاحب الجامع المنسوب إليه وخان الحرير 987 ومن ظلمتهم والي حلب حسين باشا المتوفي 949 كان كثير القتل سفاكاً للدماء على صورة قبيحة من تكسير الأطراف والإحراق بالنار والمحرق حي وغير ذلك، متناولاً للرشى لا نفع له سوى مضرة اللصوص، ومن سفاكيهم العظام سنان باشا فاتح اليمن وصاحب الجامع المنسوب إليه بدمشق وقد ذكر ابن المقار جريدة مخلفاته التي أرسلت إلى الاستانة بعد موته فإذا هي تساوي بضعة ملايين من الدنانير. وقد قال مؤرخو الترك: إن الخيرات التي قام بها سنان باشا في ممالك مختلفة من جوامع ومدارس وتكايا وخانات تقدر نفقاتها بمليوني ليرة ذهب بسكة زماننا، وإن ما عمره من المعاهد والمباني الفخمة في الأقطار التي نزلها تناهز المائة. لا جرم أنه من العتاة الطغاة الذين يجيزون خراب الولايات ليعمروا جيوبهم وخزائنهم، وأعمالهم الخيرية قد تأتي بالعرض أو لحب الشهرة. وأقبح بصدقة أو عمل خير يكون أصل ما أنفق عليه من قتل الأنفس والمال الحرام.
حالة البلاد في الحكم العثماني:
حكم الشام في هذه الحقبة من الزمن أي مدة 78 سنة أربعة من ملوك آل عثمان وهم سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث، وظلت روح الدولة في هذه الديار لم تتغير. ولئن جاء فيهم واضع القوانين المدعو بالقانوني السلطان سليم وطال عهده على ما لم يقع له مثال في تاريخ هذه الدولة، فإن الشام كانت حالة بعد الفتح العثماني تنتقل من سيئ إلى أسوأ، والوالي أو(2/232)
الولاة في هذه الديار يكونون على الأغلب ممن لا ذمم لهم ولا قدرة إلا على جلب المغانم لأنفسهم، وإزهاق الأرواح في ذاك العصر من الأمور الهينة التي لا تستغرب.
بعد الفتح العثماني واندحار المماليك في مرج دابق والضرب على أيدي العصاة في فلسطين، كان الرجاء معقوداً أن تخلد الشام إلى الراحة ويرفرف عليها طير السعد، فزادت المكوس والضرائب على وجهٍ قاسٍ، وكثر فساد جيش الدولة من الانكشارية والسباهية، فكان يأتي على الأخضر واليابس في المدن والقرى، خصوصاً إذا جاء البلاد منهم فوق حاميتها كتائب أخرى لتشّي فيها، وهناك يزيد الاعتداء على البيوت والأعراض والأموال. وربما تخطفوا النساء والأولاد في الأزقة رابعة النهار، وفي أول حكم السلطان سليمان أي بعد أربع سنين من الفتح كان ما كان من عصيان الغزالي فهلك كثير من الأبرياء في دمشق وحلب، وارتكب الوزير فرهاد باشا لتسكين الفتنة والضرب على يد الثائر من الشدة ما عج بالشكوى منه كل إنسان.
ويمكن حصر مصائب هذا الدور في أمور ثلاثة: ظلم الوالي ويكون في الغالب عاتياً مرتشياً، وظلم الجند في حلهم وترحالهم، وشقاء الديار بصغار الأمراء من أهلها، في الجبال والسهول، وكبار أرباب النفوذ في المدن. وهذه الطبقة تطورت تطوراً جديداً في عهد العثمانيين فكانت من أكبر الأسباب في فساد البلاد، ولو صلحت وسلمت من ظلم بعضها بعضاً لما استطاع الوالي التركي والقاضي التركي
والقائد التركي أن يعملوا مباشرة في هذا القطر عملاً مضراً. وأهمُّ من هذا وذاك أن الدولة العثمانية على عهد عزها لم تفكر إلا في الفتوح، وفي حرب من يجاورها من صغار الأمراء والملوك، حتى إذا كانت أيام إدبارها وهي تبدأ من أواخر سلطنة سليمان القانوني، كانت همتها مصروفة إلى قمع الفتن الأهلية، ورد عادية أعدائها عن مملكتها الواسعة.
إن ابن الشام لا يهتم كثيراً إذا بلغت جيوش الدولة العثمانية أواسط أوربا في فتوحها وفتحت بودابست وأشرفت على فينا، وإذ فتح سليمان زهاء ثلاثمائة حصن وقلعة، وأصبح اسمه في الغرب مضرب الأمثال في الرهبة، فكانت بعض الأمهات يخوفن أبناءهن باسمه إذا أردنهم على الرقود والكف علن البكاء،(2/233)
ولا يهتم ابن الشام أيضاً إذا كثرت الخيرات على العاصمة بما يصرف فيها من أموال المغانم والمغارم، ما دامت طرق الجباية عنده منهكة لقواه، وما دام الولاة يسفون لأخذ المكوس لأنفسهم من الحانات ومن المسكرات، وما دامت الضرائب تستوفي حتى من المغنيات والمومسات، وما دامت المناصب الكبيرة دع الصغيرة يتوصل إليها بطرق دنيئة على سبيل الضمان والإيجار، وما دام الأمن مختل النظام وأهل البادية ولصوص الأعراب على عاداتهم في السلب والنهب، ومن المتعذر أن ينتصف المظلوم من الظالم، وأن تعمل الدولة في باب العمران جزءاً مما تأتي في تخريبه.
وضع السلطان سليمان قوانينه وما ندري إذا كانت وصلت إلى هذه الديار، وهب أنها انتهت إليها فهي في السجلات محفوظة، لم يطبق منها إلا ما لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل بمضامينه. وما دام القانون السماوي الذي عملت الشام به منذ الفتح الإسلامي غير نافذ على ما يجب، فما الحال بقانون يعمله رجال قد يغيرون من الغد اجتهادهم وهو يتعذر تطبيقه وإنفاذه؟ بدأت الدولة منذ دور سليمان
بالرسميات وأخذت تلقي الشغب بين العلماء، وذلك برتب اخترعتها لهم وجرايات أدرتها عليهم، فزادت لأجل هذه النفقات الضرائب والخراج على الأمة وكثر التنافس بينهم، وقلّ القولون بالحق من رجال العلم، وأنشأ معظمهم يدلسون ويوالسون ويمتدحون السلطان مهما ضل وغوى، وسهل بعد ربط العلماء بروابط الرتب والرواتب أن يستصدر السلاطين كما قال ضياء باشا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة، وكان الذين يقتلون كل سنة على هذه الصورة عدداً من الناس لا يستهان به وفيهم العاقل والراكة، وكل من في قتله راحة للدولة أو مصلحة يتوهمها السلطان وبعض الزبانية الطغاة من ولاته، وقد تعاقب على دمشق خلال القرن العاشر أي مدة 78 سنة خمسة وأربعون والياً وعلى حلب سبعة عشر، ولم يحس الناس بتبدل نافع في حكم العثمانيين من عهد المماليك حتى بعد ثمانية عقود من السنين.(2/234)
العهد العثماني من سنة 1000إلى 1100
عهد محمد الثالث وأمراء الإقطاعات وفتن:
دخل القرن الجديد والشام تسير من بؤس إلى بؤس، وتعاقب تبدل الولاة عليها والسعيد منهم من كان يحول عليه الحول، وأكثرهم يقيمون فيها أشهراً ثم يصرفون ويستبدل غيرهم بهم، ومنهم من كان يقيم أياماً ومنهم سبعة أيام ومنهم ثلاثة، وتعاقب على دمشق خلال هذا القرن واحد وثمانون والياً وعلى حلب تسعة وأربعون والياً، فكان الوالي لا يتمكن من الإصلاح إن أراده وقلبه متعلق أبداً بثبات منصبه، والغالب أنه لا يتوفر على غير جمع المال بالطرق المنوعة ليوفي ما عليه من المقرر لجماعة الآستانة من الأموال، وكان الولاة يبتاعون الولاية ابتياعاً والمزايد الأكبر هو الذي توسد إليه قال راسم في تاريخه: أمر السلطان مراد أن يكتب إلى أحمد باشا كوجك والي الشام بأن يدفع إلى السلحدار باشا عشرين ألف ليرة ويبقى في منصبه فاضطر الوالي أن يؤدي المبلغ.
ومن أهم أدوات التخريب في هذا القرن خروج جند الانكشارية عن حد الاعتدال وكثرة اعتدائهم على الرعية، يستطيلون على أموالها وأعراضها ويثلمون شرفها ويذلون أعزتها، وهم القوة القاهرة وأذاهم لاحق بالكبير والصغير. وكثيراً ما حاول الولاة أن يخففوا من غلوائهم ليستأثروا بالقوة دونهم أو يرفعوا عن عاتق الأمة التعسة بعض شرورهم، فيسفر قتالهم عن زيادة إيصال الشرور إلى الناس على ما يأتي تفصيله في هذا الفصل المغموسة حوادثه بالدماء.(2/235)
كان المتغلبون على أكثر البر في أوائل القرن، الأمير شديد بن الأمير أحمد حاكم العرب من آل جبار وكان كلقبه واسمه ظالماً جباراً عنيداً. قال كاتب جلبي: وما زال آل عثمان يعطون لواء سلمية لأمراء العرب وأمراؤهم هم عرب آل جبار وهم قبيلتان آل حمد وآل محمد يمتد حكمهم إلى أرجاء حلب والرقة. وكان قرقماز
المعني في لبنان، وأحمد بن رضوان في غزة بعد قانصوه أمير عجلون وما والاها من الكرك، والأمراء بنو الحرفوش في بعلبك، والأمراء بنو شهاب في وادي التيم، وأحمد بن طرباي أمير اللجون في نابلس، ومنصور بن فريخ البدوي على البقاع تغلب عليه بعد ابن الحنش وحكم نابلس وصفد وعجلون وانحاز إليه جماعة من جند دمشق، وأخاف الدروز ثم شن الغارة وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقد خرب العمران وقتل الخلق حتى أخذه وزير دمشق وقتله في سنة 1002 وذهب على حصار قلعة الشقيف النفوس والأموال، حاصرها والي دمشق ونازل قلعتي الشقيف وبانياس، وبلية القلاع كبلية المدن غرض لهجمات المهاجمين فقد أخذ المحارزة قلاع القدموس والعليقة والمينقة مراراً، وكان الإسماعيليون يستردونها بعد مدة، وفي سنة ألف تقريباً هجم الإسماعيليون على القدموس عندما كان العلويون مشغولين بالعبادة في يوم الغدير وقتلوا من المشايخ ثمانين شخصاً عدا العوام وتملكوا القدموس قاله في تاريخ العلويين.
وفي سنة 1003 توفي مراد الثالث وخلفه ابنه محمد الثالث فقتل يوم جلوسه تسعة عشر أخاً له وعشر جوار حاملات من أبيه ثم ابنين له، وكان مع ذلك على رواية المحبي صالحاً عابداً ساعياً في إقامة الشعائر الدينية وأوصافه كلها حسنة وهو مظفر في وقائعه عالي الهمة. ولم ينل الشام شيء من تدين محمد الثالث، وطالبت الحكومة الأهلين بأموال سنتين فلقوا شدة وعنتاً.
ذكر المقدسي في حوادث سنة 1004 أنه جاء ساع من الباب العالي يأمر بأن يجتمع العلماء والصلحاء والمشايخ والفقراء وأولاد المكاتب في الجامع الأموي، ويقرأوا القرآن ويدعوا لعساكر الإسلام بالنصر، وما أعجبها من قضية جمع فيها بين ظلم المذكورين وطلب الدعاء منهم، فليت شعري بأي لسان يدعون وقد اشتهر أنهم يطالبون الرعايا بعوارض سنتين جديدة وعتيقة وطالبوا(2/236)
اليهود بمال عظيم اهـ
وقال أيضاً في حوادث سنة 1005. إنه استقر في دمشق كيوان منشئ الظلم بالشام قائداً بباب صاحب الشحنة، فشرع يصادر ويسلب، وكثرت القتلى في أزقة دمشق، وكان الإنسان يمشي فلا يسمع إلا من يقول غرموني أربعين قرشاً ومن يقول سبعين قرشاً وثلاثين وعشرين وأكثر وأقل. واصطلم الناس من كثرة الظلم وبقي من يخشى الفضيحة يحمل الجزية إلى كيوان المذكور قبل أن يرسل إليه. هذا ما كان يجري في عاصمة الشام على مرأى ومسمع من القريب والغريب، فما بالك بما كان يجري في الأقاليم التي تقل فيها المراقبة وتضعف المقاومة، فقد تهيأ لأخبارها هنا من دونها أو بعضها حتى وصلت إلينا، وهناك ضاعت أخبارها لقلة المدونين.
وظهر في أيام أحمد مطاف باشا كافل حلب 1005 - 1008 فساد كثير من العربان في أنحاء حلب فأرسل عليهم ابنه درويش بك فاقتتلوا فانهزم عسكر حلب وكانوا ألف فارس وأخذ عرار أمير العرب يتبعهم ويقتل منهم ويغير عليهم.
وفي سنة 1007 كانت الواقعة في نهر الكلب بين ابن معن وابن سيفا فانكسر ابن سيفا وتشتتت جيوشه، وتولى فخر الدين المعني كسروان وبيروت. واستولى يوسف باشا سيفا على جهات طرابلس لما أهلك رؤساء عصاة ابن جانبولاذ التركماني، واستقل بها وأخرج بواسطة عسكر السكبان جند الانكشارية من عمالته ونكل بهم وصار له بذلك نفوذ وسلطان.
وقال نعيما في حوادث سنة 1008: إن عسكر الانكشارية في دمشق جاءوا حلب بحجة جباية أموال الدولة، وتسلطوا على فقرائها وعملتها وتجاوزوا الحدود في الاعتداء، وأساءوا استعمال سلطانهم في الرعية، فقطع والي حلب رأس سبعة عشر رجلاً منهم، ودام الشقاق بين الأهالي والانكشارية مدة طويلة أدى إلى سفك دماء كثيرة بغير حق اه. ومن ذلك اعتداء خداويردي قائد حلب على الناس وفتكه
ونهبه وتعديه حتى ضجر منه أهاليها وحكامها، حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا، وبينه وبين ابن جانبولاذ، وكان هو وأحفاده قد عاثوا في الأرض فساداً ومنه نشأ طغيان العسكر الشامي.
ومن فتن هذه الأيام خروج عبد الحليم اليازجي رأس جماعة درويش(2/237)
الرومي حاكم صفد، وإرسال خسرو باشا نائب الشام عسكراً إلى درويش ليسلم الولاية إلى آخر، فقاتل اليازجي عن مخدومه بالسيف فأخذ درويش إلى دمشق وصلب بأمر السلطان. أما اليازجي وجماعة درويش فساروا على ساحل البحر إلى طرابلس ثم إلى جانب حلب ودخلوا مدينة كلز فتنبه لهم نائب حلب وأرسل جيشا لمحاربتهم، فقتلوا من أصحاب اليازجي مقتلة عظيمة، وخرج بمن بقي معه من أصحابه المفلولين، وما زال يحارب جيوش السلطنة في الأناضول حتى هلك سنة 1010.
وفي سنة 1011 باغت الأمير يونس بن الحرفوش جبة بشري، فلما بلغ ذلك يوسف باشا سيفا جمع السكبان الذين عنده وهاجم مدينة بعلبك فاجتمع ببيت الحرفوش في القلعة، ونهب بنو سيفا بعلبك وحاصروا قلعة حدث بعلبك خمسين يوماً وملكوها ثم نادوا بالأمان. وفي سنة 1014 كانت وقعة جونيه بين يوسف باشا سيفا والأمير فخر الدين المعني فانكسر عسكر سيفا.
عهد أحمد الأول وفتنة ابن جانبولاذ وغيرها:
في سنة 1012 توفي محمد الثالث وخلفه أحمد الأول ولم يتغير شيء في الشام وغاية الأمر أن الخوارج في أيام السلطان الجديد اشتدت شوكتهم فنال الأمة منهم كل حيف، ودخل القطر في هرج ومرج. وفي أيامه ظهرت الخوارج في جهات حلب وما زالت الأمور في تخبط حتى خرج جانبولاذ وادعى السلطنة واضطربت الأحوال على ما سيجيء. قال القرماني: وفي أيام هذا السلطان قام الطغاة والبغاة، وانمحت من الوجود أمهات الأمصار وشملها البوار، أما القرى والقصبات
والرساتيق والمزدرعات فأكثر من أن تحصر.
وقال العرضي: كانوا يرسلون من قديم الزمان في دولة بني عثمان شرذمة من عساكر دمشق وعليهم شوربجي بحوالات أموال السلطنة فيحصل لهم الانتفاع ويخدمون عند الدفتردار وفي دار الوكالة وفي باب القنصل الفرنجي وفي كل مدة يرسلون غيرهم وعليهم شوربجي، حتى قطن بحلب أعداد كثيرة منهم واتسعت أموالهم وكبر جاههم، واستولوا على أغلب قرى السلطنة يعطون مال السلطان عن القرية ويأخذون من أهلها أضعافاً مضاعفة،(2/238)
وتبقى أهل القرية جميعاً خدمة لهم وجميع ما يجمعونه لغيرهم لا لأنفسهم.
ومن الكوائن أن خارجياً من السكبانية اسمه رستم جاء إلى كلز ومعه من البغاة أجناد كثيرة، وكان ضابط كلز عزيز كتخدا من جماعة حسين باشا بن جانبولاذ أمير الأمراء بحلب، فبعث واستنجد بعسكر حلب ومنهم العسكر الجديد فخرجوا لنصرته، فتقابلت الأجناد وقامت بينهم سوق الحرب والضرب فانتصر رستم على عسكر كلز وحلب وقتل عزيز كتخدا وقتل من العسكريين كثير وولوا منهزمين فنهب الخارجي كلز وصادر أعيان القرى.
ولما ولي نصوح باشا نيابة حلب - وكان متغلباً في حكمه عسوفاً قوي النفس شديد البأس كما قال المحبي - كان لجند دمشق أي الانكشارية الغلبة والعتو يذهب منهم كل سنة طائفة إلى حلب وينصب عليهم قائد من كبارهم وكان بعض عظماء الجند قد تقووا في حلب وفتكوا وجاروا خصوصاً طواغيتهم خداويردي وكنعان الكبير وحمزة الكردي وأمثالهم، حتى رهبهم أهلها وصاهرتهم كبراؤها، واستولوا على أكثر قراها، فلما رأى نصوح باشا ما فعلوه حتى قلّت أموال السلطنة، وصارت أهالي القرى كالأرقاء أجلاهم عن الأقاليم ووقعت بينه وبينهم فتنة بل فتن، وعجز عن إخراجهم فاستعان بحسين بن جانبولاذ فبعث هذا ابن أخيه الأمير
علي بعسكر عظيم، فاستولى نصوح باشا على قلعة حلب ووضع متاريس تحتها واستعد للقتال، فأخذ العسكر الدمشقي باب بانقوسا وجمعوا جموعهم، وهم لا يعلمون أن حسين باشا جانبولاذ بعث عسكره، ودخل الأمير علي في اليوم التالي بالعساكر المتكاثفة فتبعهم نصوح باشا والأمير علي إلى قرية كفر طاب فوقع بينهم حرب فانهزم الدمشقيون بعدما قتل منهم جم غفير. ثم خرج نصوح باشا في عسكره إلى كلز فقابل حسين باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح باشا وقتل أكثر عسكره ودخل حلب منهزماً وأخذ في جمع الأجناد وبذل الأموال لتكثير العدد والأعتاد. وبينا هو على ذلك جاء الأمر بأن حسين باشا عين كافلاً للممالك الحلبية وعزل نصوح باشا، فلبس نصوح باشا جلد النمر، وامتنع من تسليم حلب لحسين باشا، وأقبلت بعد أسبوع عساكر الوالي الجديد حسين باشا إلى قرية حيلان فاستقبلهم نصوح باشا بالحرب فانكسر أيضاً،(2/239)
ونزل حسين باشا بعساكره في أحياء حلب خارج السور وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدها بالأحجار، وفتح باب قنسرين وحرسه، وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن المدينة، ونصب نصوح باشا المتاريس على الأسوار وصف عسكره عليها مع المكاحل، وقامت بين الواليين حرب شعواء، وأخذ حسين باشا في حفر الخنادق والاحتيال على أخذ البلدة، وأنشأ نصوح باشا يحفر السراديب، وعم الحلبيين البلاء من المبيت على الأسوار وحفر السراديب، ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام عسكر السكبان وعلوفاتهم، وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات، وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة، واشتد غلاء الحاجيات وعدم قوت الحيوان والإنسان واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياماً، ثم تصالح نصوح باشا وحسين باشا فخرج الأول واستولى حسين باشا على الديار الحلبية، وشحنها بالسكبان وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان.
ولما قتل حسين باشا خرج ابن أخيه علي بن طاعة السلطنة، وجمع جمعاً عظيماً من السكبانية حتى صار عنده منهم ما يزيد على عشرة آلاف، ومنع المال المرتب عليه، وقتل ونهب في تلك الأطراف، إلى أن تعهد ابن سيفا صاحب عكار للسلطنة بإزالة الأمير علي عن حلب فجمع له الجند من دمشق وطرابلس والتقى بابن جانبولاذ جانبلاط قرب حماة فكانت الغلبة على ابن سيفا، فاستولى ابن جانبولاذ على مخيمه ومخيم عسكر دمشق واستولى ابن جانبولاذ على طرابلس، واستخرج الأموال من أهلها وأخذ دفائن كثيرة لهم، ولم يستطع فتح قلعتها، ثم سار مع حليفه ابن معن وكان هو وابن شهاب وابن الحرفوش خرب بعلبك وأحرق قراها، وخرب ابن جانبولاذ البقاع ووصل إلى دمشق، واقتتل ابن جانبولاذ مع العسكر الدمشقي فانفل العسكر الدمشقي وأرضوا ابن جانبولاذ بمال حتى فرج عن دمشق، واستمر النهب في أطرافها ثلاثة أيام، ثم سار إلى حلب وجاءته الرسل من السلطنة تقبح عليه فعله في دمشق، فكان تارة ينكر فعلته، وطوراً يحيل الأمر على عسكر دمشق، ويشرع بسد الطرق ويقتل من يعرف أنه سائر إلى أطراف السلطنة إبلاغ ما صدر منه، حتى أخاف الخلق ونفذ حكمه من أدنة إلى نواحي غزة، وصاهر ابن سيفا(2/240)
فامتثل هذا أمره، وانقطعت أحكام السلطنة عن هذه الديار نحو سنتين، وكان ابن سيفا بعد أن غلبه ابن جانبولاذ على دمشق ونهب ولايته التجأ إلى أحمد بن طرباي الحارثي أمير لواء اللجون. قال القرماني: إن ابن جانبولاذ لما ولي حلب جمع كل شقي من القبائل والعشائر، ليأخذ ثأره من جماعة الإنكشارية فالتقوه في مدينة حماة ومعهم محمد باشا الطواشي نائب دمشق وعامة الجيوش من الكماة، فانهزم عسكر الدولة واستمر ابن جانبولاذ في أثرهم إلى حدود دمشق فاستقبله الأمير فخر الدين بن معن بمن معه من الدروز وطائفة السكمانية، ثم التقى ابن جانبولاذ مع العساكر الشامية فاستولى على أموالهم.
ولما حدث ما حدث من الفتن والغوائل عهد السلطان إلى مراد باشا أن يعيد الشام إلى حكم الدولة لأنه ثبت أنه خرج عن حكمه، فجاء في عشرين ألف فارس وعشرين ألف راجل وقيل في أكثر من ذلك، فبرز إليه ابن جانبولاذ في أربعين ألفاً فُغلب ابن جانبولاذ وهرب إلى الآستانة وأقنع السلطان بحسن حاله، وجاء مراد باشا بعد أن كسر ابن جانبولاذ في سهل الروج قرب المعرة وقتل من جماعته أحد وعشرين ألفاً وتسلم قلعتها بالأمان، وبالغ في قطع شأفة الأشقياء والسكبانية. وكان علي باشا جانبولاذ لما انكسر مع مراد باشا حصن قلعة حلب ورفع إليها عياله وأسبابه وولى عليها أطلي طوماش باشا وأمره بحفظها لمدة ثلاثة أشهر ريثما يرجع إليه بالنجدة من سلطان العجم، ثم تجهز للسفر وحال خروجه من أراضي حلب وصل مراد باشا الوزير ومعه أحمد باشا حافظ الشام ويوسف باشا سيفا وشددوا الحصار على حلب وافتتحوها، ووعد أطلي طوماش بالنيابة على حلب فاطمأن وسلم القلعة ثم قبض عليه وقتله وضبط القلعة، وباع عيال علي باشا جانبولاذ بيد الدلال فبيعت والدته بثلاثين قرشاً، ثم وقعت المناداة على المحافظين فقتلوهم في أماكن مختلفة وأتوا برؤوسهم إلى الوزير ولم ينج منهم إلا القليل، وكان الرجل يقتل العشرة منهم، ومهد الوزير أمور حلب وخدمته أمراء العرب. وقالوا: إن الأمير فخر الدين فرَّ إلى البادية في جماعة الدروز والعربان بعد تلك الوقائع لأنه أعان الخوارج على السلطنة. وللقيم محفوظ الدمشقي مرتجلاً(2/241)
ومؤرخاً واقعة دخول السكبانية مع ابن جانبولاذ إلى دمشق في أوائل سنة ست عشرة بعد الألف نقلها في التذكرة الكمالية.
دخل الشام جيوش ... كجمال قد رغوا
كل كردي غبي ... بهم الناس لغوا
ودروز ولئام ... لمقال ما صغوا
نهبوا الشام وآذوا ... وعلى الناس بغوا
نهبوها في جمادى ... أفحشوا أرخ طغوا
ولم تقتصر فتنة ابن جانبولاذ على دمشق وحلب بل تناولت بعلبك والبقاع وطرابلس وغيرها. قال النجم الغزي: إن كافلي الشام وطرابلس دخلاً على أهل حماة وحمص وأمرا أهلهما بإخلاء المدينتين وكان ابن جانبولاذ في أثرهما، فدخل هو وعساكره حماة وحمص ونهبوهما ونهبوا قراهما، واتفق كيوان رئيس سرية دمشق مع ابن معن على العصيان وعلى مساعدة ابن جانبولاذ، فذهبا إليه واجتمعا به في الجون بالقرب من نهر البارد، فاستولوا على حماة وحمص وعكار وجبلة واللاذقية والحصن وطرابلس وغزير وبيروت، ثم اجتمع ابن جانبولاذ وابن معن وكيوان وحاصروا دمشق على ما تقدم قال: وكان الأمر مهولاً واجتمع أكثر الناس بدمشق. وقال ابن المقار في حوادث 1016: إنه ظهرت طائفة من الخوارج يقال لهم السيمانية أظهروا في الأرض أنواع الفساد، وحدث بين أمراء الشام حروب وفتن عظيمة عم فيها النهب وخربت أكثر البلاد.
ومن الأحداث في تلك الأيام ما رواه مؤرخو لبنان في حوادث سنة 1016 من أن الجند المشتى قيشلق السلطاني تفرق على البلدان من حلب إلى الشوف، وكان عدده نحو أربع كرات والكرة مائة ألف. كذا قالوا وكانت الناس في ضيق عظيم من الغلاء ومن الضرائب التي كانت على الضياع والأدبار. ووقع في زمن تولية كوجك سنان باشا دمشق وكان يتولاها سنة 1017 أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق فوصلوا إلى تدمر، وانضم إليهم قوم من طائفة السكبانية المنهزمين من وقعة علي بن(2/242)
جانبولاذ. فعاثوا في تلك الديار وقطعوا الطريق، ولما ورد من حلب العسكر المصري الذي كان قد طلب لقتال كبير السكبانية محمد بن قلندر والأسود سعيد، التقى جيش السلطان مع جيش البُغاة
فغُلب عسكر السلطان وهرب منهم جمع، ومن جملة الهاربين الجماعة المذكورون وكانوا نحو أربعمائة سكباني، فلما انضموا إلى العرب المذكورين كان السكبان يضربون بالبندق والعرب يضربون بالرماح والسيوف، وأخذوا قلعة القسطل وقلعة القطيفة ونهبوا المعصرة وقتلوا من بها من الرجال والنساء. فلما بالغوا بالقتل والنهب والغارة والعدوان قصدهم سنان باشا ومعه العسكر الدمشقي، وانضم إليهم عرب المفارجة وكبيرهم عمرو بن جبير فأدركوا العرب والسَّكبان في نواحي قلعة القطرانة، فقتلوا من السكبان نحو ثلاثمائة رجل وقبضوا على آخرين ودخلوا بهم إلى دمشق على متون الجمال وعلى كتف كل واحد منهم خشبة طويلة وهي وتد خازوق وفي اليوم الثاني أتلفوهم وفرقوا أجسادهم على أحياء دمشق.
الأمير فخر الدين المعني وآل شهاب وفتن:
تخوفت الدولة من الأمير فخر الدين المعني الثاني لتحصينه القلاع وامتداد سلطته في أصقاع الشام، فأرسلت عليه في سنة 1020 الحافظ أحمد باشا كافل دمشق وكافل حلب وكافل ديار بكر وكافل طرابلس وأمراء الأكراد في جيوشهم ونحو النصف من الفرسان في جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً، وحاصر ابن معن تسعة أشهر فلم يقدر أن يأخذ قلعة من القلاع، فلما أعيته الحيلة أرسل رجلاً من جماعته لمن في القلاع يقول: أنا مالي عندكم غرض بل إن للوزير الأعظم شأناً مع الأمير فقولوا له أن ينزل إلى خيامنا وعليه أمان الله ونأخذ منه دراهم للسلطان وللوزير ونُقرّه في أماكنه فقالوا: الأمير ذهب في المركب إلى ديار الفرنج فلما تحقق ذلك رضي بنزول أم فخر الدين فقالت: نحن ما ضبطنا بلداً بغير اسم السلطان، ولا انكسر عندنا مال، فعند ذلك أعطت السلطان مائة ألف قرش وأعطت الوزير خمسين ألفاً والحافظ أحمد باشا مثلها وانفصل الأمر على ذلك.
هرب الأمير فخر الدين إلى إيطاليا تاركاً الحكم في لبنان وما إليه لابنه(2/243)
الأمير علي
وأقام فيها خمس سنين وشهرين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانه من أسرة ميديسيس المشهورة في فلورنسة، وأطلع على طرف من المدنية الأوربية ثم عاد إلى وطنه بعد مهلك خصمه والي دمشق فاستلم زمام الأحكام ولا سيما المسائل الحربية، بقوة أعظم وتدبير أحكم، مستصحباً معه كثيراً من المهندسين لبناء القلاع وعمل الذخائر الحربية، وكان ابنه الحاكم في الظاهر وهو الحاكم في الحقيقة، وأخذ يحصن كوره ويكثر الصلات الحسنة مع الفرنج ولا سيما مع الطليان، وعقد معاهدة دفاعية هجومية مع أصحاب طسقانه كأنه ملك مستقل، فخافت الدولة منه وكانت تعده من قبل عاصياً قوي الشكيمة، وأخذت تحاذره وتنظر إليه نظرها لعاص عارف بمقاتلها، وأنه لا بد له يوماً أن يستقل عنها ببلاد الشام، إذ بلغ أتباعه نحو مائة ألف من الدروز والسكبان ولم يستول فقط على الشوف وجبل عاملة بل تعداهما إلى عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب وسليمة، وسرى حكمه من صفد إلى أنطاكية وملك نحو ثلاثين حصناً مثل صفد ونيحا وشقيف تيرون وعجلون وقب الياس وبعلبك والمرقب والبترون.
وفي سنة 1021 خرج أحمد باشا بالعساكر من دمشق إلى وادي التيم ونزل في خان حاصبيا وهرب بين شهاب أصحاب وادي التيم منها فهدم دورهم وأتلف أملاكهم ونهب حاصبيا 1022 وفي سنة 1023 خرج الحافظ أحمد باشا من دمشق إلى قب الياس واجتمع إليه حكام صفد وصيدا وبيروت وغزة وحماة وعشائرهم وأمراء الغرب وبعلبك ووادي التيم، فوقع بين أهل الجرد والغرب والمتن وأهل الشوف قتال بقرب نهر الباروك انكسر فيه أهل الغرب والجرد والمتن وعسكر الدولة كسرة عظيمة، فأحرق أحمد باشا قصر بيت معن في دير القمر وكان رئيسهم إذ ذاك الأمير يونس كما أحرق قرية عبيه. ثم جرت وقعة بين جماعته وجماعة من حزب المعنيين على قلعة الشقيف فانكسر جماعة أحمد
باشا وقتل منهم نحو خمسمائة قتيل وأكثرهم من السكبان وكان عسكر الدولة نيفاً وعشرين ألفاً ثم امتنع 1024 يوسف أغا من أن يتسلم حصن الشقيف وحصن ارنون إلى أن يخرج منهما بنو معن أولاد العرب ويتصرف بهما الأتراك تمام التصرف، فشق ذلك على الأمير يونس وأخذ في(2/244)
هدمهما، ولما انتهى الخبر إلى الوزير فرح جداً وأمر بخرابهما، ولبث المسلمون في تخريبهما أربعين يوماً. وجرت 1025 وقائع بين أولاد ابن معن وأصحاب المقاطعات في لبنان وحرق الشوف والجرد والغرب والمتن وهلك كثيرون وكانت النصرة للقيسية خربت بيت معن، وكان بنو تنوخ أمراء الغرب منذ سنة 542 يميلون إلى بني معن، فلما حاربتهم الدولة انتهز علي بن علم الدين اليمني والي الشوف الفرصة وقبض على أعيان المعنيين وقتلهم واستصفى أموالهم، ثم سار إلى قرية عبيه فدعاه الأمراء التنوخيون إلى مأدبة في سرايتهم فاغتالهم وقتلهم كلهم صغاراً وكباراً فانقرض التنوخيون بموتهم.
عهد مصطفى الأول وعثمان الثاني:
في سنة 1026 توفي أحمد الأول وخلفه مصطفى الأول المعروف بالأبله فخلع بعد ثلاثة أشهر وخلفه عثمان الثاني ولم يجر في أيامه ما يستحق أن يدون في الشام اللهم إلا ما كان من حرب بين ابن معن وابن سيفا 1028 فخرب ابن معن قرية عكار وسرايا بيت سيفا في طرابلس وخرب هذه كما خرب قلعة جبيل. ثم عاد مصطفى الأول سنة 1031 فتولى الملك أربعة عشر شهراً وخلع بعدها. إذ لم يعد في الإمكان ستر نقصه الذي كان يتولاه العلماء ليحكموا باسمه فأبرزوه في صورة ولي من الأولياء وما هو إلا أبله من البلهاء. فزادت الدولة خلال هذه الحقبة تغاضياً عن الشام حتى قويت شوكة المتغلبين وأرباب النفوذ في المدن والقرى والسهول والجبال، وأصبح القطر بلا راعٍ خصوصاً بعد الضعف الذي
ظهر من الدولة في العقد الثاني من هذا القرن في فتنة ابن جانبولاذ وحصار حصون ابن معن، وتجلى لأذكياء المتغلبة موقف الدولة معهم، فأصبحوا يزدادون في إرهاق الرعية. والولاة ليسوا دونهم في العنت والتخريب والقتل والنهب.
وكان نائب حلب محمد باشا 1031 ظلوماً غشوماً أخذ أموالاً كثيرة من كل قرية من غير سبب، وقضى أن لا تباع البضائع كلها إلا لمن عينه من جماعته ثم تباع من أحد السوقة بعد ذلك، فكان ظلمه مزدوجاً على المدني والقروي، وفي هذه السنة خرب صاحب الشرطة جميع قرى القنيطرة(2/245)
وفي السنة التالية 1032 خرب الأمير فخر الدين بن معن كرك نوح وسرعين نكاية ببني الحرفوش.
عداء على الفرنج وفتن داخلية:
وبينا كان ابن معن يهيئ السبل للفرنج حتى تزيد متاجرهم مع أهل الساحل ويكثر سوادهم في مدنها ولا سيما في موانيها، ويرخص لهم بتأسيس قنصليات ويدخل المبشرين إلى لبنان، ارتكب ابن سيفا حاكم طرابلس سنة 1032 أمراً عظيماً نفر الفرنج من غشيان المواني لاستبضاع القطن والحبوب، وذلك أنه ضبط مركبين فرنساويين كان معهما ثمانون ألف قرش لابتياع بضائع، فأرسل ابن سيفا وأمسك ولدين صغيرين من المركبين وعلمهما أن يقولا: إن المركبين للقرصان، وإنهما أخذا في طريقهما مركب تجارة للمسلمين، وزعم أنه وجد في المركبين أساباً لمداخلة المسلمين، ولم يكن ذلك صحيحاً ولكنه جعل ذلك طريقاً لضبط جميع ما في المركبين من البضائع والأموال، وأمسك جميع من فيهما من التجار والنوتية وقتلهم جميعاً. وبعد ذلك باع المركبين بثلاثة آلاف قرش. قال الشهابي: ومن حين حدوث هذه الفعلة لم يدخل ميناء طرابلس من تجار الفرنج أحد، وتوجه أناس من الفرنج إلى الباب العالي للشكوى على ابن سيفا، ولكن لكثرة عزل الوزراء لم يلتفت أحد إليهم وراحت على من راح.
ومن الفتن الأهلية ما حدث سنة 1032 من دخول أحمد الشهابي وحسن الطويل بلاد عجلون ومقابلة أهل القرى لهما وتجمع أهالي نابلس وعربها، وحرقت من القرى فارا والخزبة وحلاوى وكانت من أكبر قرى عجلون، وحرق الأمير علي الشهابي قرية سرعين في البقاع وجميع قرى بعلبك وتحصن أهل بعلبك في القلعة. وجرت فتنة بين عساكر دمشق والأمير يونس الحرفوش - وكان هذا ظالماً متجاهراً بالظلم - وكرد حمزة سنة 1033 فاغتنم الانكشارية الفرصة وأغاروا على المستضعفين من الأهلين وتعاقب تغيير الولاة وانحاز بعض الخوارج إليهم ونقل الناس أمتعتهم وأثقالهم من خارج مدينة دمشق إلى داخلها مراراً، وحارب العسكر الدمشقي أولاد الحرفوش لإخراجهم من بعلبك.(2/246)
وكان كيوان أحد كبراء الأجناد في دمشق خلال هذه المدة ينزع إلى التعدي ولا شكيمة ترد جماحه، ولا وازع يكف من غربه، فأخذ الناس بالتهمة وتطاول إلى أخذ أملاكهم حتى استولى على أكثر بساتين الربوة والمزة من ضواحي دمشق وضم بعضها إلى بعض، وكان إذا أخذ حصته من مكان احتال على الشركاء فيه حتى يأخذ حصصهم طوعاً أو كرهاً، وكان نواب محكمة الباب وأعيان شهودها يساعدونه على عدوانه حتى أهلك الحرث والنسل. وذكر الغزى أن كيوان الطاغية أعيا أهل دمشق ظلماً وفتنة، وكانت بداية كيوان نهاية أويس ثم تجاوز عنه بمراتب، فطمع هو وقائد الصالحية أولاً في أملاك الفلاحين، واستخلاص ما ملكوه بالشراء أو بالمغارسة، فكان يعمل الحيلة لأحدهم حتى يوقعه في مخالب صاحب الشحنة ولو بالتهمة والاستتباع. وقد اقترف يوسف السقا من الأجناد الدمشقيين ضروب المظالم، وصادر الناس في أموالهم وعقارهم، وقبض على غالب أعيان دمشق وشيوخها وهرب بعضهم، واغتصب من تجارها المشاهير وبعض أهلها الضعفاء مالاً جزيلاً أناف على مائتي ألف دينار ومن التحف والأقمشة ما لا
يحصى. ومثل هذه الشؤون كانت تجري على مشهد من الولاة ويتغاضون عنها لأنها قد تكون بإيعازهم وهم لا محالة شركاء أولئك الزعماء.
حملات على الأمير فخر الدين المعني وغيره:
أدركت الدولة أن خطر فخر الدين المعني على حياتها في هذه الديار زاد عن سنة 1020 وأنه تأصلت أحكامه بعد عودته من إيطاليا، وما كانت في حملتها الأولى والثانية لتغضي عن تخريب الأقاليم إلا اضطراراً، فساق هذه المرة مصطفى باشا والي دمشق 1033 جيشاً على فخر الدين فاستظهر هذا بالأمير محمد الشهابي حاكم وادي التيم كما استظهر حاكم الشام بابن سيفا حاكم طرابلس وابن الحرفوش صاحب بعلبك فهلك جمهور من عسكر دمشق قدر بمائتي قتيل ولم يقتل سوى رجال قلائل من جماعة ابن معن، وكانت الوقعة في عين الجر عنجر. وقبض جماعة ابن معن على والي دمشق فجاء الأمير فخر الدين وقبل ذيله، وقيل شفع بالوالي علماء دمشق(2/247)
وكبراؤها لدى ابن معن، ورجع عسكر دمشق مفلولين وفي رواية أنهم خامروا على الوالي وأطلق الأمير فخر الدين والي دمشق مكرماً، فعاد إلى الفيحاء ينتقم ممن كان السبب في غزو ابن معن. وهذه الوقعة زادت في مكانة أمير لبنان في نظر الدولة والأمة، ودلت على أنه كان مع قوته عاقلا بعيد النظر، وأنها عاجزة عن أخذه إلا بتجهيز جيش عظيم لأنها حاولت غير مرة ذلك فرجعت بالخيبة خصوصاً وقد علمت محالفته لكوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه، وأن فخر الدين لما استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني استولى على ساحل الشام وغلب جيش الدولة غير مرة.
وفي سنة 1033 أيضاً جلس جماعة الوالي بدمشق على الطرق ومعهم الريش يضعونه على رأس كل من يرونه وينادون عليه مستاهل لم يقدر أن يرفعها من شدة الخوف قال المقار: فلما كملوا أرسلوهم إلى اليمن فقتلوا كلهم هناك. ومعنى ذلك أن الدولة كانت تريد تجنيد أناس لترسلهم من الشام إلى اليمن فلم تر أظرف ولا أعدل من هذه الطريقة في التجنيد. وفي سنة 1038 عين والي دمشق شرذمة من العسكر لمنازلة بني شهاب في وادي تيم الله بن ثعلبة فنهبوا قراهم وأحرقوها.
وقد وزعت الدولة عسكرها على كور الشام ليشتي فيها سنة 1041 وكان جيشاً كبيراً فخض دمشق منهم أثنا عشر ألف جندي ما عدا أتباعهم، وكان مأكلهم ومشربهم من أهل دمشق وأقاموا بها أربعة أشهر، فلما عزموا على السفر أخذوا ترحيلة من أهل دمشق خمسين قرشاً من كل دار فاضطرب أهل دمشق اضطراباً عظيماً. وقال أبو بكر العمري من قصيدة وصف بها سنة القشلق:
قوم من الأتراك عاثوا بها ... على خيول ضمّر شبق
من جهة الشرق لقد أقبلوا ... والشر قد يأتي من المشرق
في رقعة الشام غدت خيلهم ... وذلت الأرخاخ للبيدق
أجلوا أهالي الدور عن دورهم ... بالسيف والدبوس والبندق
واتخذوها مسكناً دونهم ... بالفرش من خز واستبرق
وحملوهم كلفاً أعجزت ... غنيهم جهداً فكيف الفقير(2/248)
قال المحبي: أن القشلق من عسكر السلطان مراد بن أحمد كانوا عينوا لمحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاء دون الوصول إلى خطة العجم فأمروا أن يشتوا في دمشق وأطرافها من القرى وضيقوا على الناس أمر المعيشة وبالغوا في التعدي ونهب أموال الناس.
وفي سنة 1043 جاء السردار الأعظم محمد باشا إلى حلب يحمل مرسوماً سلطانياً بقتل نوغاي باشا لأنه تهامل في قتل من يجب قتلهم من الأشقياء واكتفى منهم بمصادرة أموالهم، فقتل وأرسل رأسه بلحيته البيضاء إلى جانب السلطنة. قال نعيما: وهذا الوزير ممن سبقت لهم خدم جلي للدين والدولة وهو من أقدر الوزراء. وفي هذه السنة تجمع نحو خمسمائة من أرباب الفساد من الانكشارية وثاروا بوالي حلب فقتل منهم خمسون وجرح كثيرون، ثم جاء رؤساؤهم معتذرين للوالي بما صدر من أوباشهم فتأثر جميع النافخين في بوق الفتنة وقتل الجرحى
والهاربين منهم فسكنت الثائرة. وفي هذه السنة خرجت عساكر من دمشق وباغتوا أمير وادي التيم فنهبوها وأحرقوا قراها وباغت صاحبها العسكر الدمشقي فظفر بهم ورجعوا عن أقليمه.
القضاء على الأمير فخر الدين المعني:
فس سنة 1043 قويت كلمة فخر الدين بن معن الثاني وكانت الدولة منذ ثلاث وعشرين سنة تنظر إليه نظر الخارج عن طاعتها، وحاولت غير مرة أخذه فلم تستطع لأنه كان بجيشه أقوى من الجيوش التي تساق عليه، وأرضه حصينة بطبيعتها وحصونه كثيرة ممتنعة، ولولا أن الدولة مرتبكة بغوائل خارجية لضمت قوى كثيرة من قوتها وأخذته أخذ عزيز مقتدر، فلما استراح بالها من مشاكلها أرسلت عليه جيشاً من الأناضول بقيادة أحمد باشا الأرناؤدي كافل دمشق فانتصر عليه الأمير فخر الدين في وقعتين قرب صفد، ثم انتصر عليه القائد العثماني في وادي التيم وقتل ابنه علياً وتوفي أخوه متأثراً من جراحاته، وكانت أرسلت الدولة عليه أسطولاً من البحر فغلب على أكثر سواحله وعاون بنو سيفا وأصحاب الأحزاب بعسكر وافر الجيوش العثمانية ومشوا مقابل المراكب على طريق البرفتشتت المعنيون،(2/249)
وكانت الدولة تحاذر من معاونة أسطول البنادقة أو الطسقانيين له، ولجأ الأمير إلى شقيف تيرون فضاقت نفسه وفي رواية أنه هام على وجهه في الجبال سنة ودل جماعته عليه، ثم عمد إلى مغارة في جزين فاضطر أن يسلم نفسه إلى الوزير العثماني فدخل به إلى دمشق بموكب حافل وهو مقيد على الفرس خلفه، ثم حمل إلى الآستانة فقابله السلطان مقابلة لا بأس بها ولامه على أفعاله فقدم أعذاره، واحتج بأنه جمع الرجال لأمور مختصة بالوزراء والنواب وما قتل غير العصاة على السلطنة، وأن القلاع التي استولى عليها وفتحها كانت بيد العصاة وسلمها للسلطنة فاقتنع السلطان من كلامه وعفا عنه ولكنه أبقاه
مخفوراً. ولما قام حفيده الأمير ملحم وكسر جيش والي دمشق ونهب صور وبيروت وعكا صدر أمر السلطان بقطع رأس الأمير فخر الدين وخنق ابنه الأكبر.
وذكر الشهابي أن الأمير علي بن علم الدين اليمني الذي وسد إليه حكم لبنان بعد أسر الأمير فخر الدين قد ضبط جميع أرزاق بيت معن وقبض على تابعيهم وقتل بعضهم، ثم باغت الأمراء بيت تنوخ وكانوا في الحمام في السراي التي تحت القرية فقتلهم وردم البرج على أولادهم الصغار، ولم يترك من بني تنوخ ذكراً يخلفهم، ولما بلغ ذلك الأمير ملحم بن معن جمع من كان معه من القيسية وركب على اليمنية فقتل منهم كثيراً وقدر من قتل من الفريقين بنحو أربعمائة نفس، وانهزم الأمير علي بن علم الدين إلى دمشق وخرج منها بعسكر نحو خمسمائة رجل وعندما وصل تحت قب الياس نزل سعيد أحمد أبو عذرا إلى مقاتلتهم برجال العرقوب في نحو أربعمائة رجل، فأخلت له الدولة الخيام حتى دخل بالرجال ثم أطبقوا عليه فما سلم منهم إلا القليل، فرجع الأمير ملحم واختبأ في الشوف وتجددت عند ذلك الشكايات على الأمير فخر الدين وعندها أمر السلطان بقتله. قال المرادي: إن أملاك الأمير فخر الدين وهبها السلطان مراد إلى أحمد باشا الكوجك، وكان عمر التكية خارج باب الله بالقرب من مسجد القدم بدمشق فوقف عليها ذلك من متعلقاته في بلعلبك وصيدا وريشيا وحاصبيا وكانت أملاكاً لفخر الدين.
وبهلاك الأمير فخر الدين وضعف سلطة الأمراء المعنيين استراح الأمراء المجاورون أمثال بني سيفا في طرابلس والأمير أحمد بن طرباي الحارثي أمير(2/250)
اللجون في نابلس، وقد وقعت بين هذا وبين الأمير فخر الدين حروب كثيرة، وكان ابن معن توجه لقتاله ثلاث مرات ورحل ابن طرباي إلى الرملة وكان في
كل مرة يكسر عسكر ابن معن ويدحره، وأشهر وقعاته معه وقعة يافا وكان هو وحسن باشا حاكم غزة محمد بن فروخ أمير نابلس فقتل من جماعة ابن معن مقتلة عظيمة وغنم غنيمة وافرة. وحارب مرة بدو الساحل على نهر العوجا وبدد جموعهم ولكن أهل كورة حارثة في جينين حاصروه في قلعة هذه المدينة وأخرجوه منها.
هلك فخر الدين بن معن الثاني بعد أن كاد يستولي على أكثر الأقاليم بأخذه أملاك بني سيفا وبني الحرفوش في طرابلس وبعلبك، وقد كان واسع الصدر بعيد الغور والنظر متسامحاً يسير مع المدنية سير تعقل، وأخذ في آخر أمره يعمر في بيروت حديقة للوحوش تقليداً لملوك إيطاليا، وعمر قلعة صرخد وقلعة شميميس وقلعة فوق أنطاكية وجهزها بالعساكر. فشكته حكومة حلب للباب العالي. قال المحبي: إن ابن معن بلغ مبلغاً لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة، وعلل البوريني سبب أخذ الدولة له أنه أخذ يحصن قلعة الشقيف عدة أعوام وأخذ لواء صفد، فعظم شأنه وارتفع مكانه وبعد وصيته، وكثرت أمواله لأنه تصرف في أرض ما خطر في بال أحد من الأمراء التصرف فيها، وكان ملك كفر كنّه وعكا والساحل وصفد وبلاد ابن بشارة والشقيف وبيروت وصيدا وجبل كسروان وجبة المنيطرة وجبيل وأنطلياس والبترون والجرد والغرب والمتن والشوف والمقيطع والشحار والبقاع وبعلبك وصور والمعشوقة، وحصن قلعة الشقيف وجددها وشحنها بالأرزاق الكثيرة وجعل بها من آلات الحصار شيئاً كثيراً واستمر في ذلك التحصين نحو عشرة أعوام فتفطن له الأمراء والوزراء.
وقال نعيما: إن قلاع الشقيف وبانياس ودير القمر كانت محصنة في عهد ابن معن فصعب استيلاء الجند العثماني عليها لما عصى على الدولة، وإن من قتلوا في برهة قليلة من عصاة الدروز بلغ نحو ثلاثة آلاف وأُحرقت بيوتهم وقراهم، وإن
عهده وما بعده في الجبل مضى مع الدولة تارة في حرب وطوراً في سلم وصلح اه. ومن الحصون التي رممها وأنشأها قلعة قب الياس وبانياس وبرج الكشاف في بيروت وبرج البحصاص في طرابلس ورأس بعلبك واللبوة وحدث(2/251)
بعلبك والصلت وحيفا ونوله وسمر جبيل وطرابلس وصافيتا والمرقب وحصن الأكراد.
وكانت له في باب قوة الإرادة آيات منها أنه لما حدث اختلاف بينه وبين بيت سيفا أصحاب طرابلس، أتى بنو سيفا وأحرقوا ونهبوا الشوف فأقسم كما قيل هكذا: وحق زمزم والنبي المختار لعمرك لأعمرك يا دير بحجر عكار. وهكذا كان فإنه لما فاز على بني سيفا وحاصر قلعة الحصن وأخذها وهدمها، جعل الجمال بالألوف تجلب الحجارة من عكار إلى دير القمر وبني الدور القديمة في الدير ووزع في جدرانها من حجارة عكار الصفراء.
كان ابن معن يجمع إلى الحسنات سيئات فمن حسناته أنه كان يميل إلى عمران إماراته ويتسامح مع الأجانب حتى تكثر صلات الشاميين بهم للتجارة، وكان عنده على الدوام عشرة آلاف جندي تحت السلاح ويستطيع أن يجند مثلها وقيل: إنه كان يستطيع أن يجند أربعين ألفاً. وقد سئل لما كان في إيطاليا كم يقدر أن يجهز من العسكر فقال: كنت أجمع نيفاً وعشرين ألفاً ما عدا الذين يتأخرون في البلاد للمحافظة، وكان يفضل على الأدباء والعلماء وكذلك كان يفعل خصومه بنو سيفا. أما سيئاته فكان مفرطاً بأخذ الأموال من الناس ولا سيما بعد أن زار إيطاليا وتعلم منها البذخ حتى اشمأزت منه رعيته، وقد بلغت جبايته تسعمائة ألف ليرة يعطي الدولة نحو ثلثها ويتمتع بالباقي. وكان نزوعاً إلى العلى محافظاً على صلواته مع الجماعة وعلى عاداته الإسلامية حتى في إيطاليا، وبنى جامعاً ومئذنة في البلدة التي نزلها، ولما كان في الغرب عرض عليه ملك اسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف. ذكر هذا مؤرخه الخالدي إلا أن
المعلمة الإسلامية تقول: إن الأمير فخر الدين لما وفر إلى ليفورنا 1022 واستقبله كوسموس الثاني الدوق العظيم باحتفال حافل لم يتحقق الأمل الذي كان عقده من العودة في الحال بجيش معاون من المسيحيين للقضاء على السلطة التركية في الشام. وعبثاً حاول أن يظهر أن الدروز من نسل مسيحي اسمه الكونت دي درو وأنه هو أيضاً من أبناء كودفري دي بوليون من أمراء الصليبيين. ولم يوفق أن يحمل المسيحيين على إعلان حرب صليبية جديدة. وربما كانت قواه إذا قيست بقوى ابن سيفا صاحب طرابلس(2/252)
متكافئة لأن الدولة كانت تعضد ابن سيفا سراً حتى لا يتعاظم نفوذ ابن معن، ولكن شتان بين الرجلين في الغناء وبعد النظر.
فتن في الساحل:
وفي سنة 1044 حارب الأمير عساف بن يوسف سيفا الأمير علي بن عساف وأحرق بلاد جبيل والمنيطرة وقتل من جماعة عساف كثيرون، وكثرت الحكام والأحزاب في لبنان وظلموا الرعايا وأخذوا المال الأميري مرتين، وقبضوا على رؤساء القرى وشددوا عليهم ليخبروا عن أرزاق بيت معن وبيت الخازن، وفي السنة التالية باغت الأمير علي بن سيفا قرية أميون وأحرقها، فجمع خاله الأمير عساف الرجال ودارت الحرب بينهما في أرض عرقة فانكسرت جماعة الأمير علي، ثم أعاد هذا الكرة على خاله في عناز من بلاد الحصن فظفر به الأمير عساف وقتل من جماعته مقتلة كبيرة واشتد الضيق بالناس.
وفي سنة 1046 قصد أحمد الشمالي آغا الانكشارية مقاتلة الأمير علي بن علم الدين لتأخره في أداء المال السلطاني ومعه متولي صفد وبيروت وطرابلس فانهزم قدامهم، ورحل معه يمنية الغرب والجرد والمتن والشحار والشويفات بعيالهم ومواشيهم وكانوا نحو سبعة آلاف نفس فدخلوا كسروان، وانهزم من قدامهم القيسية وكسروهم في مرحاتا، ثم طردوهم من كسروان فساروا إلى عكار وسار
عسكر الدولة على طريق الساحل ودخلوا طرابلس وخرجوا إلى نهر البارد فانهزموا من أمامهم ولحقوهم بأرض الجون فكسروهم وسبوا حريمهم وأخذوا مواشيهم، ثم إن طروبه البدوي تداخل بالصلح بين الأمير عساف وابن أخته علي فرجع ابن علم الدين إلى بيروت. ولما حدث ذلك الاختلال في الساحل ظهر الأمير ملحم بن معن وحكم الشوف، وجمع بيت الحرفوش سكمانهم وعربانهم لاسترجاع بعلبك فخرج إليهم نائب دمشق بعسكره ووقع بينهم الحرب فظفر النائب ببيت الحرفوش وقتل منهم مقتلة عظيمة. أي إن الحال لم تستتب في لبنان بهلاك الأمير فخر الدين المعني، وقد جرت شؤون كثيرة من خراب وقتل وشنق في السنين التي أعقبت قتله حتى آخر عهد مراد الرابع.(2/253)
وكان الوالي بدمشق سنة 1046 درويش محمد باشا الشركسي ففتك بأهلها وتجاوز في ظلمهم الحد وفي آخر أيام 1047 اجتمع العامة على القاضي واشتكوا من الظلم وبالغوا في التوسل، فلما بلغه ركب وكان مخيماً في الوادي الأخضر بدمشق وأتى مغضباً وسفك دم بعضهم ثم عزل وصار أمير الأمراء بطرابلس. وهذه القاعدة مما كانت تسير عليه الدولة في نقل الولاة فمن ترتضيه ويوافق مصلحتها تنقله إلى مكان آخر إذا قامت عليه الشكايات مهما عظمت وثبتت لديها، كأن الولاية الأخرى ليست من ملكها ولا يهمها أمر أهلها، وأن الوالي بمجرد نقله يغير أخلاقه.
إبراهيم الأول وسفاهته:
توفي مراد الرابع سنة 1049 بعد أن حكم سبع عشرة سنة وكان من الشدة على جانب عظيم منهمكاً في شهواته ولذاته، قيل إنه قتل مائة ألف إنسان منهم خمسة وعشرون ألفاً بنفسه وأمام عينيه ولكنه أمن على حدود الولايات الشرقية باستيلائه على بغداد، وهو الذي قضى على فخر الدين المعني الثاني، ولولا ذلك لاستقل هذا
بالشام وربما امتد حكمه إلى أبعد من ذلك من الأقطار والممالك، ولم ترتح هذه الديار بعد مراد الرابع، كما أنها لم ترتح على عهده فخلفه السلطان إبراهيم وكان خالعاً ماجناً فسدت المملكة في أيامه بأخلاقها ومشخصاتها، وكان أبداً في شاغل عن الأمة إلا بما كان من تحقيق شهواته، وكان غريباً فيها. وقد عقد مراد بك في تاريخه أبو الفاروق فصلاً في سلطنة النساء استغرق جزءاً برمته نلخصه هنا ليتبين للقارئ كيف يكون حال مملكة سلطانها سخيف ضعيف.
ومما ذكر فيه استرسال السلطان أحمد في الشهوات حتى قضى في الثامنة والعشرين شهيد الغواني والكؤوس، أما السلطان إبراهيم هذا فهو أعظم زير ابتلي بحب النساء حتى كان كل أسبوع يبني ببكر ويجرى له عرس وتقام الأفراح في قصره، وكان كلما سمع هو أو والدته كوسم والدة أو أحد حاشيته وحملة حاشيته ووزراؤه وعماله بغانية حسناء يقدمونها لسلطانهم، حتى عجز سلطان عن ملامسة النساء لكثرة إفراطه فجاء جنجي خواجه وكتب نسخ(2/254)
الأدوية والعقاقير النافعة في القوة حتى أصبحت المملكة تفاخر بأن سلطانها يستطيع أن يقترب من أربع وعشرين بكراً في الأربع والعشرين ساعة! وأصبح القول الفصل في القصر السلطاني للجواري والسراري، وكان على نسبة اشتداد أعصاب السلطان يضعف عقله وهو لا عمل له إلا الأفراح والنساء والغناء والخلاعة ودخول الحمام واقتناء الجواري والحلي والزهور والأموال والطرائف، وإصدار الأوامر بقتل الأنفس بمعنى وبلا معنى، وأخذ يستريح إلى رؤية المناظر الفظيعة من القتل شأن قياصرة رومية في أواخر أيامهم.
وكان تقرر جعل النساء الرسميات أربعاً ثم أبلغت والدة السلطان عددهن إلى ثمان نساء، لأن نسل بني عثمان كاد ينقرض، وأحبت كوسم والده تكثير نسلهم على هذه الصورة، ولكل واحدة من تلك الجواري من الخدم والخادمات والوصيفات
والندماء والنديمات والخازنات والملبسات عشرات وربما مئات، تجبى واردات الولايات العظيمة لتعطى إلى المقربين والمقربات، والوظائف تباع بيع السلع بالمزاد ولا سيما على عهد الأغوات بكتاش آغا ومراد آغا ومصلح الدين آغا وأمثالهم، ولم يبق أحد لا يرتشي من الصدر الأعظم فنازلاً، لأن السلطان يطلب من كل عامل عنده جعلاً يليق بشأنه سلطانه، حتى تعدت الحال في طلب الأموال إلى كبار التجار في الاستانة، وأخذ رجال القصر ونساؤه يسلبون من الأمة ما يقدرون عليه، واضطر كثير من التجار إلى الاختفاء وإغلاق حوانيتهم تخلصاً من مطالب جماعة السلطان، ولا تسل عن رواج سوق الحليّ والجواهر والعربات المرصعة والطسوت المحلاة والنعال المزينة بالأحجار الكريمة والإسراف في استعمال الذهب واللؤلؤ والزبرجد وسائر المعادن النفيسة في الآنية والزينة والنقش فإنه مما لا تتصوره العقول.
وكانت واردات لواء سنجاق تعطى من قبل نفقة لنساء القصر فأصبحت أيالة الشام على طولها وعرضها يخصص ريعها وجبايتها للمرأة السابعة بحسب الأصول الحديثة على العهد الإبراهيمي. ولم يرض النساء أن تجبى لهن الأموال الولاة وبكوات الألوية، بل كنّ يعين جباة من قبلهن يجبون باسمهن ريع الولاية أو اللواء. وقد كان الذي عهدت إليه جباية واردات الشام محمد آغا الذي اشتهر فيما بعد في التاريخ العثماني باسم محمد باشا الكوبرلي الكبير،(2/255)
وهو ممن حالوا بتدبيرهم دون سقوط الدولة العثمانية. قال أبو الفاروق: ولا غرو فقد توجد الدرة النفيسة بين الكناسات والقمامات.
ولم يكتف السلطان بما كان يقدم له من النساء بل كان يطوف العاصمة وضواحيها، فإذا رأى من أعجبته وتردد وليها في إرسالها يلقى جزاءه في الحال. وبلغ السلطان مرة أن امرأة ايبشر مصطفى باشا في جهات سيواس على غاية من
الجمال، فأرسل إلى واردار علي باشا ثلاثين ألف ليرة ليبعث إليه بزوجة مصطفى باشا فنفر علي باشا من اقتراح سلطانه وأجاب بالرفض، فقرر السلطان إهلاكه، ولكن علي باشا رفع راية العصيان وجعل عالي الأناضول سافلها، وقرر السلطان أن يأتي بزوجة ايبشر مصطفى باشا ويعريها ويجعلها في أحد الشوارع المهمة بين عمودين يربط إليهما رجلاها ويداها ويطلق للعامة والعسكر أن يلمسوها حتى تموت، فلم يقنع السلطان أصحابه بالرجوع عن هذا العمل البشع إلا بعد اللتيا والتي.
وقرر هذا السلطان الأخرق يوماً أن يقتل النصارى بأسرهم في مملكته فاحتال عليه شيخ الإسلام قائلاً: إن في قتلهم نقص واردات السلطنة، وإن مائتي ألف إنسان إذا قتلوا في العاصمة تخف الجباية لا محالة، وبهذا استرجعوا من هذا المعتوه الفاجر إرادته المختلة وهكذا حتى خلع وقتل سنة 1058 بعد سلطنة ثمان سنين وتسعة أشهر. وقد قتل عدة من رجاله وقتل الصدر الأعظم مرة لأنه بعث في طلبه لتدارك حطب للقصر فقال له الوزير: إن هذا الطلب ليس من الأمور المهمة التي يفكر فيها من يفكر في أمور السلطنة فمثّل به في الحال ولم يجرأ بعدها على تولي الصدارة إلا من كان على جانب من الرياء والنفاق ليرضي السلطان.
وذكر مؤرخو الترك أن سلطان زاده محمد باشا الذي تولى الصدارة على عهد السلطان إبراهيم ثلاث سنين خرب خلالها في جسم الدولة ما لا يقع مثله في ثلاث قرون، وبلغ من ريائه مع سلطانه ما لم يوفق إليه أحد، وجاءه أمر من السلطان ذات يوم يقول فيه: إن الخزينة نضبت أموالها ولا بد أن يسترجع ما أهداه أجداده السلاطين إلى حرمي مكة والمدينة من المجوهرات ليسد العجز فقال الصدر الأعظم على دهائه وريائه وهو يقرأُ هذه الإرادة السلطانية:(2/256)
لقد سقطت الدولة إلى
هذه الحالة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس وبولونيا والمجر وفرنسا.
ومما ذكروه في باب إسراف ذاك الدور أنه كان عند دفتر دار محمد باشا 47 طاهياً و 7 رؤساء طهاة ولكل طاه خدامه وخيامه وأشياؤه وبغاله وجماله حاضرة على الدوام وفي بيت مؤنته من الأواني المرصعة والمذهبة والمفضضة وغيرها ما يبلغ مجموع ثمنه ثروة كبرى. وهكذا أسرف السلطان ورجاله في كل شيء وفسدت الأخلاق ولا من يجسر أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر حتى قال أبو الفاروق: إن معظم كبراء الأمة ومن كان لهم علاقة بقصر السلطان إبراهيم كانوا يتقربون إليه بتقديم الأبكار الحسان فرأوا القيادة والدياثة أحسن شافع لهم عنده للترقي والاغتناء.
فإذا كان على هذا النحو حال دار الملك وحال قدوة رجال الأمة فيها، فما الحال بالولايات ولا سيما البعيدة كهذا القطر، وكان ولاته كولاة غيره من جماعة القصر ينصب أكثرهم بشفاعة النساء والقوادين والقوادات. على هذا المثال كان أغوات القصر الأغبياء ينصبون الولاة ولا يتركون لهم مجالاً ليقفوا على حال البلد الذي يقضي عليهم إدارته، بل يبدلونهم بغيرهم بعد مدة وجيزة ويبعثون بآخر من هذا الطراز. كل ذلك من مقتضيات الجهل والطمع والشفاعة، فاقتضى أن يكون الوالي من صنائع بعض العظيمات أو العظماء، وكثيراً ما يكون ما جمعه من المال في ولايته داعياً إلى توجيه النظر إليه فيقتل لتصادر أمواله، ولطالما كان قتل العمال مما يروق السلطان لأنه يقبض على أكثر موجودهم، وكم من مرة كانت امرأة أحدهم أو قصره البديع في المضيق في فروق سبباً في الغضب عليه والحسد له، حتى يورده الوزير الأكبر أو غيره حتفه ليتمتع بعده بزوجته أو ليسكن قصره أو ينال غير ذلك.
وذكر أبو الفاروق عند كلامه على مصطفى سلطان وكيف تجرد في قصره عن العالم وحصر وكده في شهواته أن آل عثمان من القديم تفردوا بغلبة شهواتهم عليهم، وقد وقع عارض لمراد الثالث فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.(2/257)
فتنة والٍ أخرق في حلب:
ومن الأحداث في أيام السلطان إبراهيم فتنة ثار وقدها بين الانكشارية ورؤسائهم في حلب، كان السبب فيها أن الانكشارية طلبوا من رؤسائهم أن يعطوهم غروشاً بدلاً من الأقجات، وطلبوا عزل وكيل رئيسهم وكاتبه، فقتل منهم جملة، ثم وقعت بينهم وبين رجال الصدر الأعظم فتنة قتل فيها نحو خمسين رجلاً من الطرفين وانتهت القضية بقتل آغتهم ووكيله وكاتبه. ومنها ما رواه نعيما في حوادث سنة 1054 قال: إنه كان في بر حلب رجل اسمه الأمير عساف يتولى إمارة البادية، وقد أخذ يسلب أرباب القرى أموالهم وسلط أشقياء العربان عليهم، فأنشئوا يقطعون السابلة حتى عم شرهم وصعب استئصال شأفتهم، فدبر والي حلب إبراهيم باشا تدبيراً أخرق وذلك بأن دعاه إلى مأدبة ليغتاله في خلالها، وعلم الوالي أن الرجل لا يوافي حلب فارتأى أن يأدب المأدبة على خمس ساعات من المدينة، فخرج الوالي في جنده وخرج عامة أهل البلد لابسين أحسن بزة، راكبين الخيول المطهمة، حتى وافوا محل الضيافة التي أقامها الوالي لأمير البر، وكان الوالي أوعز إلى جنده أن يطلقوا النار على الأمير عندما يقترب منه لتقبيل الركاب على العادة فأتمروا بأمره، ولكن الأمير كان يلبس ثلاث دروع فلم يؤثر فيه سلاحهم وركب فرسه من ساعته، وكان معه زهاء ستة آلاف فارس مدججين بالرماح، فحملوا على جند الوالي حملة منكرة وقتلوا منهم جماعة، وأحاطوا بالأهالي فسلبوهم ثيابهم وخيولهم، ولم يكونوا أقل من خمسة آلاف وقد جُرح أكثرهم،
ورجع الوالي إلى حلب لم يظفر بمبتغاه فأثرت هذه الحادثة، وأخذ الأمير عساف يعادي الدولة العثمانية علناً وطمعت البادية فأخذوا يطيلون أيدي اعتدائهم أكثر من قبل فاضطرت الدولة إلى تنحية واليها الفاسد الرأي السيئ التدبير، وبذل الوالي اللاحق وجماعته أنواع اللطف مع الأمير عساف حتى أعادوه إلى حظيرة الطاعة للسلطنة في الجملة، وطفق يهادي عمال السلطنة بالخيول ويرسل إلى الحكومة جزءاً من الجباية. وما كان يألفه بعض العمال من إعطاء الأمان للخوارج أو غيرهم ثم اغتيالهم في مائدة أو إدخال السم عليهم أو صلبهم علناً قد أدى إلى رفع ثقة الناس من عهودهم ومواثيقهم. وغلطة(2/258)
واحدة ارتكبها والي حلب الأحمق أدت إلى ما أدت إليه من الفساد والبلبلة.
قال الشهابي في حوادث 1054 أنه عزل محمد باشا الأرناؤوط عن إيالة طرابلس وتولاها حسن باشا وكانت الناس لكثرة المظالم تبيع كل ثلاثة شنابل قمح بقرش، ثم أعيد إلى طرابلس محمد باشا الأرناؤوط وأجرى المظالم على الرعايا حتى خربت قرى كثيرة ورحل أهلها.
محمد الرابع وصدارة كوبرلي:
بويع محمد الرابع بالسلطنة سنة 1058 بعد السلطان إبراهيم فطال عهده إلى سنة 1099 أي إحدى وأربعين سنة، وإذ كان طفلاً عهدت والدته، بعد تغيير كثير من الصدور، بالصدارة العظمى إلى رجل عاقل من رجال الدولة وهو محمد باشا كوبرلي وكان أمياً إلا أنه أتي بأعمال وطدت دعائم الملك بعد تزعزعه في عهد السلطان السابق بسلطة النساء، واشترط في تولي الصدارة أن يكون حراً في عمله لا ينازعه منازع، ولا تقبل فيه وشاية ولا يعين للمناصب إلا من يريد، وقتل ستة وثلاثين ألف إنسان حتى ألقى الرهبة في النفوس، وأمن قيام الخوارج والنزاع إلى الثورة من الزعماء وأرباب الدعارة والجند والعصاة، وخلفه ابنه أحمد باشا كوبرلي الذي كان حاكم دمشق وقاتل الدروز وانتصر عليهم. وكان على غاية من العلم والعمل. ثم خلفه في الصدارة قره مصطفى باشا فأخرج الصدارة عن طورها لأنه كان جماعاً للمال له وعنده ألوف من الخيل وكلاب الصيد والبزاة و1500 حصان و1500 سرية و700 خصي.
وخلفه مصطفى زاده من أسرة كوبرلي أيضاً وكان من المضاء والشجاعة وحسن الإدارة والاستقامة على جانب عظيم، واشتد على المزورين والمرتشين وقضاة السوء وملأ خزانة الدولة بأموال اللصوص. وكان يقتل من يتناول التبغ من قبل، فجعل تجارته حرة على أن توضع عليه رسوم فاحشة، وقضى أن لا يؤخذ من الرعايا مسلمين كانوا أم مسيحيين غير المقرر من الجزى والخراج، وقسم المكلفين إلى ثلاثة أقسام يدفع الأول منهم دوكاً واحدة، والثاني دوكاً اثنين، والثالث أربع دوكات، وهذا هو النظام الجديد الذي بقي بعد هذا الوزير(2/259)
زمناً، وخلفه صدر آخر كان ابن أخت الكوبرلي الأول اسمه حسين عموجه زاده وكان على قدم أجداده بعد نظر وحسن إدارة، فصح في هذه الأسرة ما قاله أحد مؤرخي الفرنجة من أن الوزير الأول منهم لقب بالكبير أو القاسي والثاني بالسياسي والثالث بالصالح
والرابع بالحكيم. ولكن تأثيرات هؤلاء العظماء من الصدور لم تكن إلا في الشام لبعد المسافة عن العاصمة، ولأن طريق الالتزام في جباية الأموال كانت سقيمة تدعو إلى إضعاف المملكة، ولأن الوالي كانت له لا مركزية واسعة يعمل بقريحته على الأغلب.
وفي تاريخ فلسطين أن حكومة سورية في القرن الثامن عشر كانت حكومة لا مركزية أي إقطاعات أو حكومة أمراء ومشايخ يقوم كل منهم بحكم منطقته. فكان مشايخ أبو غوش أو البراغثة يحكمون بني مالك وبني حسن وبني زيد وبني مرة وبني سالم، فإذا اختلف اثنان كانا يتقاضيان عند الشيخ ويقبلان حكمه لا محالة، ومن خالف العادات أو أخلّ بتقاليدهم يسجن في سجنهم، وكان الشيخ أو الأمير يجبي الضرائب ويقدم المقطوع عليه للوالي ويأخذ الزيادة، وإذا حدثت فتنة أو خيف من وقوعها كان يطلب الوالي المعاونة من أمراء منطقته فيخرجون بأنفسهم ومن ورائهم رجالهم وفرسانهم. وكثيراً ما كان يستبد هؤلاء المشايخ بالفلاحين ابتغاء مرضاة الأمراء والولاة فأدى هذا النظام إلى انتشار الفوضى واختلال الأمن وسبب للحكومة خسراناً كبيراً في الأموال والرجال.
ولقد حاول السلطان محمد الرابع لما كبر وترعرع أن يقتل شقيقيه سليمان وأحمد فمنعته والدته من قتلهما وحال بينه وبين القتل المفتي الأعظم، مورداً له كلام الله مخوفاً له من عذابه، وبذلك انقضى دور قتل أبناء ملوك آل عثمان وتسلطن شقيقاً محمد الرابع بعده. ووقعت في سلطنة أحمد الرابع في الشام كوائن كثيرة منها الوقعة التي حدثت سنة 1600م في وادي القرن من عمل لبنان الشرقي، وذلك أن ابن علم الدين أغرى ابشير باشا والي إيالة الشام بالزحف على ابن معن حاكم لبنان فالتقت عساكر الشام والمعنية عند وادي القرن وكانت الدائرة على عسكر الشام. ويقول مؤرخو الترك: بل كانت على عسكر ابن معن وكان اسم ابن معن
الأمير ملحم ولي كما قال(2/260)
المحبي بلاد عمه أي الشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان وكان حازم الرأي عاقلاً حسن التصرف فلهذا أبقي مدة تزيد على عشرين سنة لم ينغص له فيها عيش إلا مرة واحدة لما قصده ابشير باشا وكان ذلك بإغراء بعض المفسدين وانتصر في تلك الوقعة. وفي خلال ذلك كان درويش الشركسي المعروف بالمجنون والياً على تدمر فكان يغير على العربان وينهبهم ويأسر منهم ويدخل إلى دمشق بالمواكب الحافلة، ثم ولي لواء عجلون فثار بينه وبين أهلها حروب كثيرة وكسروه.
وروى نعيما 1065 عند كلامه على والي حلب ابازه حسن باشا أنه كان من أبناء الجد بلغ المناصب بصور غريبة وهو شقي يميل إلى الفساد والمظالم، وإذا أريد تسطير ما أتاه من الجور على الرعايا لاستلاب أموالهم اقتضى ذكر مجمله كتاباً ضخماً. وأن الحكام كانوا يجبون الجباية ضعفين فيأخذون ممن يقضي عليه أداء عشرة آلاف عشرين ألفاً، ومن يغرم الخمسين مائة أو مئات، ولم يكن لتعديهم غاية ولا لظلمهم حد يقف عنده، فتهلك القرى والدساكر بمظالم الجند الذين يرسلهم الولاة والقضاة ممن كانوا يبتاعون بالرشاوى مناصبهم فيغضي عنهم الكبراء لأنهم شركاؤهم فكان من يرفعون ظلاماتهم إلى الآستانة لا يجدون أذناً صاغية وربما انعكس الأمر عليهم وصدّق رجالها الوالي الظالم وسفه أحلام المتظلمين فيزيد الظالمون في ظلمهم. قال: وكان الفقراء يرتحلون عن أراضيهم فأصبحت القرى المعمورة والقصبات المشهورة مروجاً ينعق فيها غراب الخراب، وإذا كان من يحاولون الجلاء عن أرضهم أغنياء يسوق الوالي عليهم الأربعمائة والخمسمائة من جنده ينهبهم ويسبيهم اه. ومن الغريب أن يكون حسن أبازه باشا والياً على حلب على عهد صدارة الوبرلي الذي يقدسه العثمانيون بإدارته ولعلهم يحكمون على الرجل من رجالهم بحسن الإدارة والإصلاح بمجرد بطشه بالعصاة وإجهازه على
من لا تروقه أعمالهم أو ينازعونه في سلطانه، أما تقاضي الجباية مرتين من الرعايا وإلقاء الفتن الدائمة بينهم فليس من المسائل الجوهرية في قائمة أعمالهم! وحسن أبازه باشا، خرج عن طاعة الدولة في حلب ومات في تلك النواحي وانضم إليه السكبان وخمسمائة جندي كانوا مع نائب دمشق أحمد باشا الطيار فعينت الدولة(2/261)
لقتاله الوزير مرتضى باشا فتقابل الجيشان وانكسر مرتضى ثم أخذ بالحيلة وقتل هو وأعيان جماعته وتفرق عسكره وكان ذلك سنة 1069.
وفي سنة 1071 قدم والياً على دمشق أحمد باشا كوبرلي ابن الصدر الأعظم محمد باشا وكان في الخامسة والعشرين من عمره. قال المحبي: وكانت الشام مختلة فأصلحها وركب على أولاد معن وبني شهاب فأزالهم عن بلادهم وقمع أهل الفتن. وذكر المؤرخون أن هذا الوالي لما كان بسعسع كاتبه بنو شهاب وعرضوا عليه جانباً من المال فما قبل وسار إلى وادي التيم فهدم سرايات بيت شهاب في حاصبيا وراشيا وبيوت مدبريهم وقطعوا نحو خمسين ألف شجرة من توتهم في مرج عيون والبقاع، وأعطى ولاية وادي التيم لأولاد علم الدين مع المقدم زين الدين وابن أخيه عبد الله. فزال بذلك حكم الشهابيين عن وادي التيم. وما أسخف هذه الطريقة في التأديب التي هي عبارة عن تخريب العمران. هذا وابن الكوبرلي من خير من ولي الشام ومن رجال الإصلاح والعلم. وأقام ابن الكوبرلي على صيدا باشا وجعلت باشاوية من ذلك الوقت حتى يرفع حكم أولاد العرب وأعطاها علي باشا الدفتردار. ولما بلغه ما صار من والي طرابلس واليمنية من حرق دور بيت أبي اللمع وبيت الخازن وبيت حمادة وقطع أرزاقهم وما وقع من الخراب في وادي علمات وإتلاف حراج مشمش ولحفد وأرض جبيل والبترون وجبة المنيطرة والعاقورة، ولما بلغه ذلك وأن الرعايا ضاقت به وخربت ديارها أمر بصرف العساكر ورجع إلى الشام، وعلي باشا هو الذي طلب مالاً من ناظر كنيسة مار
جرجس في بيروت وإذ لم يقبل النصارى أمر أن تصير الكنيسة جامعاً وبنى لها مئذنة وسميت مقام الخضر. وفي سنة 1071 قدم علي باشا إلى صيدا وهو أول من تولاها من الباشاوات وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتأولة فأوقع بالقيسية ونهب إقليمهم فارتحلوا عنه وبعد سنتين نصر الوالي القيسية.
وفي سنة 1073 قتلت الدولة منصور بن شهاب أمير وادي التيم والأمير علي ابن عمه لموافقتهما رؤساء جند دمشق في وقعة مرتضى باشا لما ولي نيابة دمشق وقارب أن يدخلها، فأرسلا جنداً من وادي التيم تجمع في دمشق وانضم إلى من قام فيها من رؤساء الأجناد والأوباش والتقوا مرتضى باشا في القطيفة فهرب(2/262)
منهم. ولما كتب النصر للدولة نزلت العقوبة بالثائرين وفي مقدمتهم الأمير منصور وأخوه والشهابيون على ما قاله المحبي في وصف إدارتهم وسيرتهم على عهده: وجورهم بالنسبة إلى أمراء بلاد الشام كالدروز بني معن والرافضة بني الحرفوش وبني سرحان مقصور على أنفسهم من حيث المعتقد فحسب، ومالهم في القديم والحديث كثرة أذية للمسلمين.
ومن مساوي حكومة الإقطاعات أن صغار أمرائها من الشاميين كانوا يضطرون كل الاضطرار إلى المصانعة فتراهم أبداً مع القوي الذي تدوم سعادته إذا ولت عنه ولووا وجوههم، وفي هذا السبيل كانوا يقتلون رجالهم بل يقتل أبناء الأسرة الواحدة بعضهم بعضاً وتخرب بيوتهم وبيوت شملهم وحاشيتهم. والولاة يشدون مع هذا ويرخون لذاك شأنهم مع كل صاحب سلطة وقوة. وهكذا كانوا في معاملتهم لليمنية والقيسية يقوى تارة هؤلاء وطوراً أولئك، فقد وقعت سنة 1075 في الغلغول عند برج بيروت وقعة بين القيسية واليمنية قتل فيها عبد الله بن قائد بيه ابن الصواف وانكسرت اليمنية وانهزموا إلى دمشق. واشتدت الحالة على الشام في هذه السنة بسبب الطاعون المنتشر في أرجائها الذي أقفلت به بيوت كثيرة لموت جميع
سكانها حتى إن قاضي حلب ضبط الأموات في حلب فبلغوا 140 ألفاً وكان القحط عم القطر قبل أربع سنين فجيء بالقمح من مصر وبيعت غرارة الحنطة بثمانين قرشاً. ولم تفتر الحكومة مع ذلك عن حرق الدور والقرى فقد استنجد 1082 بنو حيمور أمراء البقاع بحكومة دمشق فأنجدتهم بعسكر فداسوا وادي التيم وحرقوا دور بني شهاب وقراهم. واشتد ظلم بني حمادة في عمل طرابلس وظلموا الرعايا، فخربت القرى وكان في خلال ذلك 1081 والياً في حلب حسين باشا المعروف بصاري حسن يتلطف بالرعايا وينتقم من ذوي الكبر والمناصب. كما أن ظلم والي دمشق ومتسلمه اشتد سنة 1083 فأغلقت المدينة مرتين احتجاجاً على عمله.
وفي سنة 1086 - 1087 حرقت قرى البترون وفي السنة التالية حرقت قرى جبيل والبترون أيضاً وخلت جبيل من سكانها. وفي سنة 1087 أمر والي طرابلس بحريق وادي علمات وهي فرحة وعلمات وعشاق وطورزيا والحصون(2/263)
واهمج وجاج وقرى جبة المنيطرة وهي كفر جال والمغيرة ولاسا والمنيطرة وأفقا ولما رجع للعسكر جاء مشايخ بيت حمادة وأحرقوا قصوبا وتولا عبد الله وبسبينا وصغار وشبيطن. وفي سنة 1090 تولى خليل بن كيوان على صيدا فظلم الرعية كثيراً. وفيها كانت التجريدة على الأمراء آل شهاب من والي صيدا ووالي دمشق وكان النصر للباشاوات. وفي السنة التالية باغت الأمير عمر الحرفوش مع آل حمادة جماعة الأمير فارس شهاب في نيحا قرب الفرزل فقتله وقتل خمسين رجلاً من شيوخ وادي التيم، فجمعت أسرة شهاب العساكر وساروا إلى بعلبك فتداخل الأمير أحمد بن معن بالصلح وجعل جزية على آل الحرفوش كل سنة خمسة آلاف قرش ورأسين من أطايب الخيل. وفي سنة 1096 تولى ابن معن صاحب الشوف جميع مقاطعات بيت حمادة فأحرق ايليج ولاسا وأفقا والمغيرة وقطع أملاكهم. وفي سنة 1098 لما وفر الأمير شديد إلى جبيل نزل إلى العاقورة فأحرق من
ضياع بيت المشايخ بيت حمادة نحو أربعين ضيعة وقطع أشجارها.
وكانت مصيبة القطر في هذا الدور واحدة في الظلم، فكان الوالي في حماة مثلاً إذا غضب على رجل يضعه على الخازوق، وإذا غضب على امرأة وضعها في خيش مع شيء من الكلس وألقاها في العاصي، وأصبح الناس لكثرة المصادرات يكتمون أموالهم ويدفنونها في الأرض لتنجو من المصادرات والسرقات ويتظاهرون بالفقر، وربما مات أحدهم فجأة ولا يعلم أولاده بدفينته في جدار البيت أو الحائط فيقع المال بعد مدة في يد من تنتقل إليهم الدار. قال المحبي: ولكثرة جور الحكام في حماة على الأهلين في القرن الحادي عشر هاجر أغلب سكانها إلى دمشق.
أما في جهات لبنان الغربي والشرقي فإن الوالي أو المتسلم أو المستبد إذا غضب على رجل أحرق قريته كلها أو عاقبه بقطع شجره، ولذلك كان من الدعاء على الرجل في لبنان الله يقطع رزقه أي أشجاره أو يخرب زوقه أي بيته، والزوق البيت، وفي سنة 1098 ورد الأمر لعلي باشا النكدلي متولي إيالة طرابلس أن يقتصّ من الأمير شديد الحرفوش لتخريبه قرية رأس بعلبك وهدمه حصنها، فكتب إلى الأمير أحمد بن معن أن يوافيه بالرجال فلجأ(2/264)
الأمير شديد إلى المشايخ الحمادية فأحرق علي باشا قرية العاقورة وأربعين قرية من قرى بني حمادة، ثم نزل عسكر للباشا على عين الباطية فباغته ليلاً آل حمادة والحرافشة وقتلوا منهم خمسة وأربعين رجلاً وانهزم العسكر.
عهد سليمان الثاني والحكم على الخوارج:
توفي محمد الرابع سنة 1099 وتولى السلطان سليمان الثاني والأمور في عهده الطويل لم تتبدل والمرض واحد، وهو سوء الإدارة وخراب العمران وهلاك المال وهتك الأعراض وقتل الرجال. وتم القرن والشام غرض الرماة تصيبها مطامع
الولاة والأمراء وأرباب الإقطاعات والألوية وأهم ما كان فيه مظالم بني سيفا وبني معن وثورة ابن جانبولاذ، والولاة نسق واحد لأنهم نسخة من عصرهم، وإذا كانت أحوال القصر السلطاني ومن فيه مختلة كانت الولايات حقيقة بأن تباع فيها الأرواح بيع السماح، تساوى في ذلك البوادي والحواضر، والناس في أمر مريج لا يستقرون في بلد ويتنقلون في الأرجاء وإذا اشتد الظلم في مكان هجروه إلى موطن يتوهمونه أقل مظالم ومغارم، وأنى لهم مكان يسكنون إليه ويأمن فيه سربهم. وإذا امتاز هذا القرن بنبوغ آل الكوبرلي الذين تولوا الصدارة فإن ما أصاب الشام من عنايتهم جزء صغير جداً لا يكاد يشعر به، وعهد أولئك السلاطين كإبراهيم الفاجر ومصطفى الأبله ينسي عهد محمد الرابع ومراد الرابع.
ولم يؤثر عن هذا القرن أنه أنشئ فيه غير قليل من الجوامع والمعاهد مثل جامع ابشير باشا وخان الوزير بحلب وكان بعض الولاة في القرن الذي قبله يرهقون الرعية ويقيمون شيئاً باسم العمران أما هذا القرن فغاية ما يقال فيه أنه تخريب الموجود. وممن حمدت سيرته من الولاة حسين باشا البالجي أمير صفد ثم طرابلس 1002 فقد كان من أنصف الحكام على ما قال المؤرخون، وإذا كتب لأحدهم أن كان على شيء من الأخلاق ينازعه المنازعون على ولايته في الآستانة فلا يتقلد زمامها إلا بمقدار ما يتعرف إلى أهلها ويدرس طبائعهم ويستقري ديارهم ثم يشخص إلى العاصمة ويستبدل غيره به وهكذا دواليك.
هذا وأهمّ ما كان من حوادث هذا القرن فتنة ابن جانبولاذ التركماني(2/265)
التي زال بها حكم الدولة عن القطر سنتين وذلك من أذنة إلى غزة ولم يطل أمد هذا الاستيلاء كثيراً إذ كانت دعامته القوة الموقتة، وهو ابن ساعته لم تعدّ له الأسباب بجملتها. أما الأمير فخر الدين بن معن الثاني فإنه كاد يستولي بالفعل على الديار لتنظيم جيشه وتعزيز قلاعه وبسط يده بالعطاء حتى استمال رجال الآستانة أنفسهم،
وعني بإدخال روح التجدد في إمارته ودعي سلطان البركجده الأمير فخر الدين الأول ولو كان لحلفائه دوجات طسقانه إذ ذاك شيء من القوة وأنجدوه بقليل من رجالهم وذخائرهم، ولو لم يشتغل بال البابا وملك إسبانيا وكبير دوجات فلورنسة بحرب الثلاثين سنة لكانوا أعانوه على نيل أمانيه في الاستقلال خصوصاً وهم الذين كانوا يزينون له من قبل الاستيلاء على أنطاكية، فلو قدّر لهم أن ينجدوه لسهل عليه الاستقلال بالشام من عريشه إلى فراته بعد أن تمت له كل معداته، والعقل رائده والحزم قائده، خصوصاً وكان معوّله في قوته على الدروز وهم في هذه الديار على التحقيق منذ القديم من أشجع العناصر التي عرفت بمتانتها ومضائها في الحروب. وكان كثير من مدبريه ورجاله من المسيحيين ولمحبة قومه له ادعته أهل المذاهب الثلاثة في إمارته، فالموارنة يقولون له كان مارونياً والدروز درزياً والحقيقة أنه مسلم سني - خلافاً للمحبي والمرادي - يحسن السياسة والإدارة وينظر إلى رعيته نظر المساواة ويأخذ لخدمته الكفاة من كل طائفة. فهو بلا مراء مثال الأبطال في عصره، وكان على أتم الاستعداد للحرب وعلى معرفة بالإدارة وطبائع الأمة، ولو لم تصرف الدولة العثمانية قوتها كلها في قتاله لعمل في الشام في القرن الحادي عشر ما عمله محمد علي الكبير في مصر في القرن الثالث عشر ولم يكن دونه ذكاء ومضاء ودهاء.(2/266)
العهد العثماني من سنة 1100 إلى 1200
حال الشام أول القرن الثاني عشر:
تبلج فجر القرن الثاني عشر للهجرة والدولة لا تفكر في غير مصائبها الخارجية، والمملكة التي كانت تمتد من أسوار فينا إلى جنوب جزيرة العرب، ومن فارس إلى الغرب الأقصى لا وحدة فيها، ولا جامعة تجمعها، وليست متجانسة ولا متماثلة، تكافحها الثورات الداخلية، وتساورها الحروب الخارجية فلا تهتم للأولى اهتمامها للثانية، وتفني في سلطانها ويستعبدها أرباب الأقطاعات ويستبد بها الجند والولاة، وسكان هذا القطر كسائر الأقطار العثمانية كأرقاء لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء، ولم يكن اختلاف العناصر أقل ضرراً عليها من اختلاف الطبقات العسكرية أوجاقات من الانكشارية واللوند والسكبان والقبوقول، والنزاع بين هؤلاء الجند وبين رجال الإدارة قائم على ساق وقدم في أغلب السنين، بل بين كل صنف من أصنافهم ورؤسائه، والأرواح في هذه السبيل تباع بالمجان، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه، وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة، ليزيد الأخذ والعطاء معاً.
وندر أن يجيء من الآستانة رجل صالح في أخلاقه، معروف باستقامته وكبر عقله وسعة معرفته، يحسن إدارة الناس ويكف الظالم عن ظلمه، وهل(2/267)
يفارق فروق إلا من أكره، وهناك النعيم والهناء وضروب الشهوات البشرية، وإذا جاء هذه الديار والٍ كبير من العمال فلإملاء هميانه على الأكثر بأموال الأمة ليعود إلى العاصمة سريعاً، يعيش عيشاً طيباً وينعم في قصورها بأمواله وطرائفه، ويجني في سنة ثروة كبرى تكفيه وأولاده وأحفاده على غابر الدهر.
لم يكن ابن الشام يتبرم بنظام الدولة لزيادة في الجباية، بل لأن الجباية كانت على
غير قاعدة مطردة، قد تجبى جباية سنتين أو ثلاث في غير أوقاتها في آن واحد، ولا تراعى في الجبايات أعوام القحوط والجدوب والمصائب، وإذا ضاقت الحال بأحد العقلاء أو ببعض الجماعات فرفع صوته بالشكوى عدوه خارجياً وقاتلوه وحرَّفوا دعوته على ولاة الأمر في الاستانة، ولبّسوا على العامة في أمره، حتى يسكتوا نأمته ويزيفوا دعوته، وإلا فلا يعقل أن يسكت جميع الناس عما ينال الأمة من هذه الطريقة المعوجة في الإدارة، فالخير في الناس ما انقطع ولن ينقطع، ومهما بلغ من انحطاط شعب لا يخلو من نبهاء يجاهرون بالحق، ولو كان في المجاهرة حتفهم أحياناً.
وقد مهر رجال هذا الدور في تزيين الباطل وإلباسه ثوب الحق، وتقليل عدد الهالكين والشاكين والثائرين والناقمين، وإذا نشبت ثورة أو حدثت فتنة أو تألف جماعة لمقصد شريف، وكثيراً ما يصورون العذاب الأليم في صورة نعيم مقيم، ولا يعرضون على السلطان إلا المسائل الكبرى، كأن تتقد ثورة في الشام لا يمكن تلافيها إلا بإرسال جيش كبير من آسيا الصغرى، وتحتاج إلى مال لا بد من استصدار إرادة سنية بأدائه من خراج الولاية الفلانية. وغدا قتل الإنسان وسبي النساء والصبيان وخراب العمران، من الأمور المألوفة في تلك الأزمان. وفي هذا القرن بدأ الحكام وأرباب المقاطعات ينوعون أسماء الجباية كأن يقولوا الشاشية والبزرية، لسد عوزهم والقيام بواجب الضمانات الدولية، وكثير من الفتن كان الداعي إليها تأخر المقطعين عن تأدية ما عليهم من الجباية للدولة في أوقاتها، فتعدهم عصاة عليها وتسوق عليهم قوة تكون عاقبتها نكالاً على صاحب الإقطاع أو المتسلم، وخراباً على البلاد وأهلها من كل وجه.(2/268)
والدولة قلما سعت إلى استئصال شأفة الشر، وما بحثت في أسبابه قط فتلافتها قبل وقوعها، وقلما اهتمت للفتن إلا إذا التهب شرارها وخشي منها على سلطانها،
وندر أن أعدت المستعدين، ورفعت ظلامة المظلومين، ولماذا تهتم وكل قطر نشز عليها تضر به بعسكر من أهل القطر الأقرب إليه، إن لم تستطع ضربه بأبناء بلده أنفسهم، وإذا خافت من والٍ أو صاحب إقطاع قوة تسلط عليه خصمه أو جاره، فالناس أبداً متعادون متشاكسون، والألفة ارتفعت من بين أهل البلد الواحد فكيف تأتلف العناصر، وما ذلك إلا لتنفيذ رغائب السلطان الذي لا يرى لمملكته بقاء إلا إذا تباغض الناس وتربص كل فريق بالفريق الآخر الدوائر.
بدأ القرن وعبدون باشا والي صيدا يوغل في مظالمه، وجعفر باشا والي دمشق ليس دونه في إنشاء المظالم، أما الأمراء المتغلبة من أبناء الأقاليم فكان أكثرهم من أحفاد الذين سبقوهم في غزة ونابلس وعكار ولبنان ووادي التيم وبعلبك وحوران والكرك وسليمة. قال راشد: إن بعض أعيان دمشق أغراهم المال والإقبال فأرادوا الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، فكادوا لواليهم حمزة باشا وطردوا عسكره إلى خارج دمشق وقاموا بأفعال شنيعة رافعين علم الثورة، فنقل حمزة باشا إلى إيالة طرابلس وأخذ الأهلون عند رحيله يطالبونه بما كانوا أهدوه إليه من الكراع والبسط وغيرها ونهبوا أتباعه. ثم عين أحمد باشا مكانه فلم يساعده الوقت على التنكيل بهم وخلفه مصطفى باشا مكانه فاضطر أيضاً لإلقاء حبلهم على غاربهم. ولما عين كورجي محمد باشا أجريت عليه التنبيهات اللازمة ليطهر الأرض من هؤلاء الأعيان فدعا الوالي تسعة منهم كما دعا العاصين محمد آغا صدقة ومحمد آغا قوشجي وبطش بهم وأرهب غيرهم من الخوارج. هذا ما قاله راشد في هذه الفتنة، ولم يقل إن والي دمشق ارتشى من الناس وظلمهم حتى ثاروا عليه، بل قال: إنهم أهدوا إليه أيام ولايته وطالبوه بهداياهم لما رحل عنهم فأبانوا عن صغر نفوسهم، وهذا مما يظهر ذهنية الدولة في تلك الأيام، وأن الوالي يجب أن تهدى إليه الخيول والطنافس والأعلاق وربما الدنانير والدراهم من غير نكير. وما ندري
كيف تكون الرشوة إن لم تكن هذه الهدايا هي الرشوة بعينها.(2/269)
وفي تقرير لأحد قناصل البندقية أن منصب الوالي كان في الاستانة يكلف من 80 إلى 100 ألف دوكا ومنصب الدفتر دار يباع من 40 إلى 50 ألف دوكا ومنصب القاضي يساوي أقل من هذه القيمة، وكلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له يسلبون النعمة ويعرقون اللحم ويكسرون العظم.
دور أحمد الثاني وفتن:
توفي سليمان الثاني سنة 1102 فتولى السلطنة أخوه أحمد الثاني وهو الحادي والعشرون من ملوك آل عثمان والسادس عشر منهم في القسطنطينية. وفي أيامه 1103 عاقبت الدولة أعيان دمشق على ما بدا منهم في معاملة حمزة باشا على ما تقدم، وأرسلت حملة على أبناء سرحان حمادة 1103 النازلين في جبال طرابلس وكان لهم قبائل وعشائر، فاتفقوا مع أبناء معن حكام صيدا وبيروت، فصاروا يلتزمون أموال الحكومة ولكن لا يؤدون إليها مطاليبها في آخر السنة، حتى قلت واردات الدولة فأوعزت إلى محافظ الإيالة المذكورة الوزير علي باشا فجمع ما تيسر له من الأجناد وذهب إلى جبالهم التي امتنعوا فيها فقتل منهم كثيرين وأخذ زعماءهم وجعلهم طعاماً لسيوف رجاله، وطلب أبناء معن الأمان فأجيبوا إليه وتخلصت المقاطعات من تعديهم وظلمهم. ونزع الحكم من آل حمادة وكانوا في بعلبك والهرمل وعكار وجبيل والبترون والضنية والزاوية والجبة وانهزموا على طريق العاقورة فلحقتهم العساكر ومات منهم ومن عيالهم نحو مائة وخمسين نفساً من الثلج، ولما وصلوا إلى قرية الفرزل أتتهم العساكر وأبادتهم ولو لم يعف عنهم المشايخ الخوازنة ما سلم أحد منهم، وحُرّقت القرى وفتشوا عنهم وقرضوهم على بكرة أبيهم. وتوجه 1103 الأمير يونس شهاب من وادي التيم ودخل بلاد بشارة بعسكر عظيم فقتل ونهب ثم أرسل والي طرابلس إلى ابن معن يعرض عليه
القطائع التي كانت لآل حمادة فلم يقبل وأجاب أنه لا يمكنه إجابة الطلب بسبب خراب الأقاليم، وأخذ والي طرابلس يتأثر من بقي من بني حمادة في السهل والجبل حتى أفناهم واستعان بولاة دمشق وصيدا وحلب وغزة على(2/270)
قتال ابن معن فساقوا عليه ثلاثة عشر ألفاً فهرب ووُسد الأمر إلى الأمير موسى اليمني بن علم الدين.
في سنة 1105 على رواية راشد رأت الحكومة أن أبناء سرحان حمادة عادوا فنجم ناجم شرورهم، وأخذوا يتقوون بمعاضدة ابن معن لهم، فأقامت الدولة الوزير طوسون باشا قائداً عاماً عليهم، فجمع من أطراف سورية ألف مقاتل من العرب والأكراد ثم جمع ما قدر عليه من الجند هو وحكام سورية فالتقى عشرون ألف مقاتل في بعلبك والبقاع، فلما علم العصاة بذلك أوجسوا خيفة وتأثرهم العسكر فقبضت عليهم وأوردتهم حتفهم وطهرت تلك الأرجاء منهم اه.
وفي سنة 1106 عينت الدولة متسلماً على حماة اسمه سعد بن مزيد فأكثر التعدي والظلم فقام الحمويون وأخرجوه من البلد قهراً، فذهب إلى المعرة وأرسل شكاية إلى الدولة ينسب فيها التعدي للحمويين، وأن حسناً الدفتري المشهور بابن قنبق هو مثير الفتنة، فجاء الأمر بقتله فقتل في داره سنة 1106. وكأن لسان حال الدولة يقول: أيها الرعايا المستعبدون اخضعوا لعمالي مهما كانت سيرتهم وإلا قاتلتكم، ومن فتح فاه بالشكوى أنتقم منه بما يستحقه، فهذه خطتي، وبالرضى عنها تنالون حظوتي.
دور مصطفى الثاني وانقراض دولة بني معن:
توفي أحمد الثاني سنة 1106 وكانت مدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر، فتقلد السلطنة بعده مصطفى الثاني فكتب مصطفى باشا والي صيدا إلى السلطان الجديد يقول: إنه لا يمكن أن يحكم قطر الدروز سوى بيت معن وأظهر استعداد الأمير
أحمد بن معن لذلك ودفع مائتي كيس للمطبخ، فورد العفو لابن معن مع أوامر الولاية على بلده، وزاد أرسلان باشا والي طرابلس 1108 في طلب المال فتشتت كثير من الرعايا عن مواطنهم من شدة الغلاء والظلم وركب والي دمشق على حاصبيا وقطع توتها.(2/271)
توفي أحمد بن معن 1109 فانقرضت بموته الدولة المعنية لأنه لم يكن له ولد ذكر، فاجتمع المشايخ من السبع المقاطعات وهي الشوف والمناصف والعرقوب والجرد والمتن والشحار والغرب واختاروا الأمير بشير بن شهاب من أمراء وادي التيم على لبنان، فتولاها وأحبته الناس وأطاعوه لعدله وكرمه، وكانت البلاد يومئذ حزبين قيس ويمن والقيسية أكثر وأقوى وكانوا راضين بولاية الأمير بشير، وأما اليمنية فلم يرتضوا به ولكن لم يمكنهم التظاهر بالتعصب عليه لضعفهم وقلتهم.
وفي سنة 1110 تولى إيالة طرابلس أرسلان باشا وإيالة صيدا أخوه قبلان باشا، وكان الشيخ مشرف بن علي الصغير حاكم بلاد بشارة قد قتل أناساً من رجال للدولة وقصد العصيان فاستنجد قبلان باشا بالأمير بشير الشهابي، فجمع الأمير بشير ثمانية آلاف رجل وكبسوا مشرفاً في مكان يقال له المزريعة، فقبض عليه الأمير بشير وعلى أخيه محمد وعلى حسين المرجي وسلمهم إلى الباشا فأمر بشنق حسين المرجي وأعطى الأمير بشير إيالة صيدا من صفد إلى جسر المعاملتين، وآجر قبلان باشا مقاطعة آل علي الصغير للأمير بشير فأقام عليها متسلماً الشيخ محموداً أبا هرموش. وفي هذه السنة أطالت عنزة وبنو صخر أيديها على الحجاج، وكان يعهد إلى هاتين القبيلتين بتسفير الحاج ولهما رواتب مقررة عليه، وقتل منهما خمسون رجلاً في القيود فانتقموا من الحجاج وأخذوا أموالهم وعروضهم، ودخل محمد باشا أبو قاوق إلى دمشق بصعوبة. وحوادث البادية تتكرر في العقد الواحد مرة أو مراراً فيهلك فيها من العربان وأبناء المدن خلائق وعيش البادية
منذ القديم من الغزو، والدولة لم تفتح لهم موارد ليعيشوا منها ويكفوا أذاهم عن الحاج والتجارة. وتولى سنة 1114 إيالة الشام محمد باشا بيرام قال الناس وظلمه ماديكان وكان حبسه انحلال الحديد الأوطان من غير خيمة وكانت شمس النهار تؤذيهم وبرد الليل أعظم وكان يسمى حبسه المسطاح ولما عزل شكا أهل دمشق إلى الدولة وأنهم نهبوه وقتلوا من جماعته وأخذوا من خزنته أربعة جمال. ولقد أثنى الأجانب على وال من ولاة حلب اسمه يوسف باشا جاء في أوائل المئة السابعة عشرة للميلاد وقالوا إنه كان يحكم بدون أن يظلم ويسلب، وإن استقامته جلبت الخير والبركة(2/272)
وقد جاء حلب في تلك الحقبة واليان اسم أحدهما قائم مقام يوسف باشا تولاها سنة 1112 ثلاث سنين والآخر اسمه طوبال يوسف باشا تولاها سنة 1125 ولا نعلم أيهما أثنى عليه الفرنج.
عهد أحمد الثالث وسياسة الدولة مع من ينكر الظلم
ووقعة عين دارة:
وفي سنة 1115 خلع مصطفى الثاني بعد أن حكم ثمان سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وتولى السلطان أحمد الثالث وهو الثالث والعشرون من آل عثمان. وفي تاريخ راشد أن محمداً نقيب أشراف القدس تغلب سنة 1118 على الحاكم والوالي وأخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء فأرسلت الحكومة ألفي انكشاري وثلاثمائة جبه جي ومائة مدفعي لتقوية مركزها في القدس فوقع بينه وبين عسكر الدولة وقائع كثيرة فركن إلى الفرار واختفى في قلعة طرطوس، فبلغ واليها أمره فأرسل فقبض عليه وأرسله إلى الآستانة فقتل. وما ندري معنى لقول المؤرخ إن نقيب القدس أخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء، بل نعتقد أن ثورته لرفع فساد العمال وسوء الإدارة، يعرف ذلك من عرف أن القوم اعتادوا في كتاباتهم الرسمية أن يلقبوا بالمفسدين كل من كانوا من المصلحين، بيد أنهم مفسدون لأمرهم، عاملون على نقض أساس مجدهم. كما وقع في هذه السنة أيضاً وقد أراد سليمان باشا البلطجي كافل دمشق أخذ قرض من تجارها وإحداث بعض مظالم، فمنعه أعيان دمشق ومنهم أسعد البكري وعبد الرحمن القاري المحاسني فنفاهم إلى صيدا وعرض للدولة أموراً عنهم لم يأتوها ثم أعيدوا إلى بلدهم واعتذر الوالي عما عزا إليهم.
وفي سنة 1119 توفي الأمير بشير الشهابي وخلفه الأمير حيدر الشهابي فركب في السنة التالية لغزو المتاولة لأن المشايخ بني علي الصغير كانوا أخذوا بعد وفاة الأمير بشير بلاد بشارة من بشير باشا وبقي في يد الأمير حيدر حكم بلاد الشوف وكسروان، فغزاهم الأمير حيدر وتجمعت المتاولة في قرية النبطية فأوقع بهم هناك وظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى موطنه فعظم ذلك على بشير
باشا فأرسل يقوي الأمراء اليمنية في الغرب والجرد(2/273)
من بني علم الدين وغيرهم. وفي سنة 1121 تعاظم أمر اليمنية في الشوف وتظاهر الأمراء بنو علم الدين بذلك وساعدهم الأمير يونس أرسلان حاكم الشويفات ومال إليهم من القيسية الشيخ محمود أبو هرموش، ثم وسد الحكم إلى الأمير يوسف علم الدين وأخيه منصور، وكان زمام ولايتهما بيد الشيخ محمود أبو هرموش فجاروا على القيسية وظلموهم ولم يبقوا لهم منزلة ولا حرمة. وفي هذه السنة أحرق الأمير يوسف مع عسكر الدولة بلدة غزير ونهبها، وسار والي دمشق إلى جبل عجلون وباغت نابلس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وسبى عسكره نحو سبعمائة امرأة.
وفي سنة 1122هـ 1711م أنفذ الأمير حيدر الشهابي أمراً إلى قيسية الشوف فتجمعوا في رأس المتن، فلما بلغ اليمنية ذلك أرسلوا إلى بشير باشا والي صيدا فحضر إلى حرج بيروت، وأرسلوا إلى نصوح باشا والي دمشق فحضر إلى البقاع واجتمع القيسية من الغرب والجرد والشوف إلى عين زحلتا في العرقوب، ثم انتقلوا إلى عين داره، وجرى الاتفاق أن تطلع عساكر الدولة المجتمعة في حرج بيروت إلى بيت مري في أول المتن، وأن يطلع نصوح باشا إلى المغيثة في طرف المتن، واليمنية إلى حمانا في وسط المتن، وتمشي الثلاث فرق في يوم واحد على القيسية، فأجمع رأي القيسية مع الأمير حيدر الشهابي أن يباغتوا اليمنية في الليل في عين دارة، فباغتوهم وأعملوا فيهم السيف، وقاتلت اليمنية أشد قتال وما زالوا كذلك حتى ملكت القيسية عين دارة، وما سلم من اليمنية غير قليل. وفي تلك الليلة قتل خمسة أمراء من بني علم الدين وأمسك الشيخ محمود أبو هرموش وقطع الأمير لسانه وأباهم يديه، فقويت شوكة القيسيين وعظم أمرهم، ونزح من كان يمنياً وخربت ديارهم، وزال ذكر اليمنيين من الشوف وحكم الأمير حيدر وأعطى الذين كانوا معه كل ما كان وعدهم به، وكثرت المشايخ في أيامه.
وتعرف هذه الوقعة بوقعة عين دارة التي قتل فيها جميع الأمراء من آل علم الدين بيد الأمير حيدر الشهابي فانقرضت سلالتهم كما ضعفت شوكة اليمنيين.(2/274)
فتن ومظالم مستجدة وظهور آل العظم:
وفي سنة 1122 ركب نصوح باشا على الكرك وعمل لغماً ووضع فيه البارود وأعطاه النار فانهدم جانب من السور فصاح أهلها بالأمان وخرجوا عن القلعة فقتلهم وأسر الأولاد وسبى النساء. وفي سنة 1123 باغت ناصيف باشا والي دمشق المتن وأسر منها أُناساً وسبى النساء والأولاد. وفي سنة 1124 عهد والي صيدا بولاية بلاد بشارة إلى الأمير قاسم الشهابي حاكم حاصيبا فأنشأ بها مظالم كثيرة.
وفي سنة 1129 تولى دمشق عبد الله باشا الكمركجي وكان عادلاً حكيماً لكنه لم تطل مدته أكثر من سنة. وفي سنة 1131 كانت وقعة القرية بين الأمير حيدر الشهابي والمشايخ المتاولة وكانت النصرة للأمير حيدر. وفي سنة 1133 كانت الفتنة بين مشايخ المتاولة والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وجرى بينهم قتال شديد فانهزم عسكر الصفديين وقتل منهم خلق كثير، ثم خرج عثمان باشا والي دمشق بالعسكر على صفد وقتل منهم أكثر من ثلاثمائة رجل وقتل البشناق أولاد مشايخ صفد. وفي سنة 1136 كان الظلم يداً وكثرت العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم في شرورها وكثر الظلم واستلاب الأموال. وثارت 1137 فتنة بين القبوقول والانكشارية وظلت دمشق ثلاثة أيام مقفلة وقتلت فيها جماعات من القول والرعية وكذلك الحال في حلب. وفي تاريخ العلويين أن الحرب دارت بين الكلبية وبني علي من عشائر النصيرية مدة سبع سنين بدأت سنة 1140 ثم اتحدت العشائر الكلبية النراصرة والقراحلة والياشوطية والجهينية وبيت محمد وهجمت على عشيرة بني علي بالاتفاق وحرقوا قراها وحاصروا قلعة عين الشقاق لما
تجمع بنو علي فيها بعد أن هدموا جميع قراها ولم يبق ملجأ لبني علي سوى الحصار، وداموا على الدفاع في القلعة. ثم دكتها الدولة العثمانية. قال صاحب تاريخ العلويين الذي أورد هذا: لم يكن العلويون يحاربون الأتراك فقط، بل كانوا يحارب بعضهم بعضاً أيضاً لأن المنطقة ضيقة والنفوس كثيرة، وفي عهد الأتراك أصبح الأخ يقتل أخاه ليأكل ما عنده.
وعرف هذا الدور بظهور آل العظم حكاماً في الشام، واختلف الباحثون في أصلهم فمن قائل إنهم أتراك من قونية، ومن زاعم أنهم عرب من المعرة(2/275)
معرة النعمان. تولى دمشق 1137 إسماعيل باشا العظم وكان من قبل والياً على طرابلس وهو أول من تولى إيالة دمشق من بني العظم، وقال بعض المؤرخين: إن ناصيف باشا كان والياً على دمشق وقتل في الرملة سنة 1130 وعلى هذا فيكون هو أول من تولى دمشق من هذه الأسرة. ذكر ابن ميرو أن والد إسماعيل بن إبراهيم العظم كان جندياً سكن معرة النعمان وكان لأهلها مع التركمان التي ترد إلى جبلها شتاء وقائع جرح في بعضها والد المترجم فتوفي وأعقب المترجم إسماعيل وسليمان وموسى ومحمداً وكلهم أعقب خلا محمداً وكانت ولادة إسماعيل قبل السبعين وألف بالمعرة وبها نشأ، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار حاكماً ببلده ثم بحماه، وأنعمت عليه الدولة بطوخين رتبة روملي ومالكانة حماة وحمص والمعرة وعلى أخيه سليمان، ومنصب طرابلس عليه وسر عسكر الجردة فبعد عوده من الجردة سنة 1138 تولى الشام وإمرة الحاج بالوزارة وحج ست سنين وحارب في السنة السادسة عرب حرب بين الحرمين وامتحن سنة 1143 وحبس بقلعة دمشق واستأصلوا أمواله مع أموال ذويه ثم أفرج عنه وأعقب السيد إبراهيم وأسعد وسعد الدين ومصطفى ومعظمهم تولوا الوزارة.
وفي سنة 1143 توفي الأمير حيدر الشهابي حاكم لبنان بعد أن حكم ستاً وعشرين
سنة على رواية المؤرخ الشهابي بالعدل والحلم والكرم وحسن التدبير وخلفه ابنه الأمير ملحم، والأمير حيدر هو الذي أحيا ذكر القيسية وألقى ابنه الفتنة بين المشايخ فاختلفوا، وكانت الدولة لا تقدر عليه على بغض أسعد باشا العظم والي صيدا له وسعيه به.
عهد محمود الأول:
تنازل أحمد الثالث عن ملكه باختياره 1143 بعد أن حكم ثماني وعشرين سنة وتسلطن محمود الأول وهو الرابع والعشرون من آل عثمان والتاسع عشر منهم في القسطنطينية، وكان السلطان أحمد الثالث غريباً في أطواره يحب الطيور والأزهار، ويقضي أوقاته في تسلية سراريه بالأفراح(2/276)
والزين، ومع هذا يسجل له الفضل ورجاحة العقل في حسن اختياره صدوراً عظاماً شرفوا بأعمالهم عهده فلم يكن كبعض أجداده لا يعمل ولا يترك أحداً يعمل.
وفي هذه السنة وقع بين القبوقول والانكشارية الحرب والقتال وأغلقت دمشق أربعة أيام وقتل من الفريقين شرذمة. وقعت بين رجال والي طرابلس عثمان باشا والانكشارية فتنة وضد الانكشارية قتل بها من الفريقين ناس، ثم تصالح الجندان على أن يلزم الانكشارية حماية الوالي ويعزل قائم مقامه وبعض الضباط ويخرج عسكره من المدينة. وفي سنة 1144 استأجر الأمير ملحم الشهابي بلاد بشارة وقبض على الشيخ نصار بن علي الصغير وباغت إخوته فهربوا ونهبت الدروز ذاك الإقليم وعاد أولاد الشيخ نصار واستأجروا المقاطعات من الأمير ملحم.
قال الشهابي في حوادث سنة 1147 انتقل أسعد باشا العظم من صيدا إلى إيالة دمشق وكان والياً عليهما منذ سنة 1143 وتولى إيالة صيدا أخوه سعد الدين باشا والي طرابلس وتولى طرابلس سليمان باشا العظم وقويت شوكة بني العظم في بلاد العرب وعظمت دولتهم اه. عظمت دولتهم لأنهم أخلصوا في الغالب للدولة
كل الإخلاص حتى أمنتهم ووسدت إليهم الأحكام في الشام وتركتهم يعملون ما يشاءون، وجاء دور وهم حكامها من أقصاها إلى أقصاها، وقل جداً في هذا القرن من تولى ولاية حلب أو دمشق أو طرابلس أو صيدا أو اللاذقية أو غزة بضع سنين. ومن بني العظم من زاد زمن ولايته على عشر سنين، فإن إسماعيل باشا العظم تولى دمشق ست سنين 1137 - 1143، وسليمان باشا العظم تولاها خمس سنين للمرة الأولى 1146 - 1151 وثلاث سنين للمرة الثانية 1154 - 1156 وأسعد باشا العظم تولاها أربع عشرة سنة 1156 - 1170 وكان تولى صيدا أربع سنين ومحمد باشا تولى دمشق مرتين اثنتي عشرة سنة، وكان بنو العظم كسائر الأسر القديمة التي تغلبت على بعض أصقاع الشام أمثال بني معن وبني شهاب وبني الحرفوش وبني سيفا وبني طرابيه ومنهم الصالح والطالح وهل هم إلا نموذج من عصرهم، ولا شك أنهم جمعوا أموالاً كثيرة لأن حكوماتهم طالت أيامها والولاية(2/277)
بالالتزام، فكان الوالي منهم كسائر الولاة يرضي الآستانة بمبلغ ويبقى له بعد كل إسراف مبلغ كبير، وهو المتحكم في الأفراد والجماعات. وقد صادرت الدولة سليمان باشا العظم لما توفي سنة 1156 وعذب المفوض بذلك أسرته على أبشع وجه، وكذلك ضبطت أموال ابن أخيه أسعد باشا وأخرجت الدفائن من قصره وكان بعضها مخبوءاً في الأرض والجدران والأحواض وبيوت الخلاء وفعلت مثل ذلك بأتباعه ورجاله. قال الشهابي: إن أسعد باشا العظم بنى أبنية عظيمة في دمشق وجمع مالاً لا يحصى وسار بالحج مرات فأنعمت عليه الدولة العلية برتبة علامة الرضى وأمرت أن لا يشهر عليه سلاح ولا يقتل، ثم أرسلت إليه فقتلته في الحمام طمعاً بكثرة أمواله وضبطت ماله وأملاكه وقال: إنه كان جليلاً عاقلاً حسن التدبير مولعاً بالخيل الجياد حتى قيل: إنه كان عنده خمسمائة فرس من جياد الخيل لأجل ركوبه.
وذكر الدويهي أن السلطان محموداً أنعم على عبد الرحمن أفندي 1165 محصل حلب بالولاية فوجه في الحال متسلمه حسن اغا إلى طرابلس فأمن الخواطر ونادى بالأمان وصار الفلاح ينزل إلى طرابلس آمناً على نفسه وأرخص الأسعار ومهد الأمور التي كانت متبلبلة من ظلم بيت العظم، وكذلك فعلوا بإسماعيل باشا في دمشق وبأخيه سليمان باشا والي صيدا وبياسين بك بن إبراهيم باشا والي اللاذقية من قبل أبيه وأسعد بك بن إسماعيل باشا والي حماة وحسن بك أخي إسماعيل باشا حاكم المعرة هؤلاء جميعاً سجنوهم وأخذوا أموالهم للسلطنة وولوا على صيدا أحمد باشا بن عثمان باشا أبو طوق اه. وقال فولنيه الرحالة الفرنسي: إن بني العظم كانوا من أحسن من جاء دمشق من الولاة.
وترجم ابن ميرو أسعد باشا العظم فقال: إنه لما وسدت إليه الدولة مالكانة حماة سار فيها سيرة حسنة وعمر بها خانات وحمامات وبساتين ودوراً ليس لذلك كله في البلاد الشامية نظير، ثم ولي صيدا فاستعفى منها وطلب حماة منصباً بعد أن كانت مالكانة له ولعمه، فرفعت منه المالكانة ووجهت له منصباً ودخلها سنة أربع وخمسين ومائة وألف، وبذل الأموال إلى أن جعلها مالكانة له بعناية الوزير الكبير بكر باشا. وفي سنة ست وخمسين تولى دمشق وإمرة الحاج(2/278)
لموت عمه سليمان بات الوزير وحج بالحجيج أربع عشرة حجة وعزل عن دمشق وإمرة الحاج بالوزير حسين باشا مكي وولوه حلب ثم عزل عنها ونفي إلى جزيرة كريت ونسبوا له ما وقع بالحجيج وقتل بمدينة أنقره. وقال في ترجمة أسعد باشا أيضاً: إنه كان محموداً في ولايته وأهل الشام في زمانه في راحة وأمن وطمأنينة، وكان صبوراً صبر على الأشقياء حتى أخذهم الله على يده، وآذاه عرب حرب فصبر على أذاهم حتى انتقم الله له منهم عن يد الوزير عبد الله باشا جته جي. وقال جودت في وقائع سنة 1197: وفيها توفي والي الشام وأمير الحاج محمد باشا
العظم بعد أن أقام في وظيفته اثنتي عشرة سنة ولما كان وزيراً مشهوراً من أهل الثروة والغنى عين مباشرون مخصوصون من الآستانة لضبط أمتعته وأمواله. وقد أثنى المرادي على محمد باشا العظم هذا فقال: إن له من المآثر في كل ولاية وليها ولا سيما في دمشق ما يحسن ذكره وأنه رفع المظالم وأنشأ المعالم قال: وبالجملة فهو من أحسن من أدركناه من ولاة دمشق وأكملهم رأياً وتدبيراً.
والغالب أن الدولة كانت مرتاحة البال من ناحية بني العظم في الشام يقاتلون الخوارج عليها ولا تحدثهم أنفسهم بنزع أيديهم من يدها ويدفعون إليها الخراج في أوقاته ولذلك كانت ترعاهم على الجملة في حياتهم وتتركهم يستمتعون بنعمها، فإذا هلكوا جاءت ووضعت يدها على عروضهم وأموالهم كما هي عادتها، ولعلها استبطأت أسعد باشا في الولاية فخشيت شره فخنقته. وبالجملة فإن أحوال ذاك العصر يصعب الآن الحكم عليها لقلة من نظر في المؤرخين في الحوادث نظر الاستنتاج الصحيح.
-
فتن ومشاغب:
رجع إلى سلسلة الحوادث. فقد توفي سنة 1048 الأمير محمد فروخ النابلسي وكان من شجعان الدنيا، تولى حكومة القدس ونابلس فأرهب العربان وكبر صيته وبقي في إمارة الحج ثماني عشرة سنة، وألقيت رهبته في قلوب العربان وكانوا إذا أرادوا أن يخوفوا أحداً منهم يقولون ها ابن فروخ أقبل(2/279)
فتتلوى قوائمه. وفي سنة 1152 كبس وزير صيدا مقاطعة الشقيف وقتل الشيخ أحمد فارس وأولاده ورفعت القبو قول والأورط من الشام 1152 لخبث سيرتهم وهاجم 1156 الأمير ملحم الشهابي إقليم المتاولة ووصل إلى قرية نصار فالتقى بعساكرهم وانتشب بينهم القتال فكسرهم كسرة هائلة وقتل منهم ألفاً وستمائة قتيل وقبض منهم أربعة
مشايخ ونهب أرضهم وأحرقها، وباغت والي صيدا ووالي طرابلس ووالي دمشق إمارة الأمير ملحم الشهابي في لبنان لتأخره عن أداء المال السلطاني وأحرقوا إقليم التفاح ومرج بشرة ثم وقع الصلح وأدى ما عليه. وجهز 1156 سليمان باشا العظم والي دمشق عسكراً على الظاهر عمر الزيداني بعد أن قبض على أخيه مصطفى وشنقه بدمشق، فلما وصل الوزير إلى قرب عكا لحصارها رشا ظاهر العمر أتباعه فأدخل على سليمان باشا السم في طعامه فمات وجيء به إلى دمشق في أكثر الروايات، وسليمان باشا هو ابن إبراهيم ولي طرابلس وصار جرداوياً لأخيه شقيقه الوزير إسماعيل ثم ولي صيدا، وبها صارت له الوزارة ثم ولي صيدا ثانية ثم ولي دمشق 1146 بإمارة الحج وحج خمساً بالحج الشامي ثم ولي مصر وعاد إلى دمشق فوليها سنتين.
وفي سنة 1157 كانت الموقعة في مرج عيون بين المشايخ المتاولة وأهالي وادي التيم ومعهم دروز جبل الشوف وكانت الكسرة على الدروز وعسكر وادي التيم وقتل منهم نحو ثلثمائة قتيل وحرقت المتاولة جميع قرى مرج عيون.
وفي سنة 1158 ملك الدالاتية قلعة دمشق فقاتلهم الانكشارية، وأمر أسعد باشا العظم حاكم دمشق أن يقصدوا سوق ساروجا وأطلقت المدافع فخربت الدور ونهبت دار رئيس الفتنة وخربت، وجرَّت القافية بقية الدور ولم يبق من سوق ساروجا إلا القليل وأعمل اسعد باشا السيف بكل عاص وقتل عسكره أناساً، وسلبوا الدور وأحرقوا بعضها، ثم صلب كثيرين وبقيت المشنقة أياماً لا تخلو من مصلوب اتهم أنه كان يمالئ أرباب الدعارة على رغائبهم، وتركت جثثهم أياماً أمام السراي تأكلها الكلاب وسلخت رؤوسهم وجعلت أكواماً، وصارت المدافع تطلق بكرة وعشية مدة شهرين، وكثر العزف بالأبواق وإطلاق السهام النارية في الفضاء.(2/280)
وفي سنة 1160 غزا أسعد باشا العظم البقاع فركب الأمير ملحم الشهابي بعسكره إلى المغيثة ونزل إليه عند بر الياس فانكسر الباشا ووصل الأمير ملحم إلى سهل الجديدة ثم رجع وأحرق جميع قرى البقاع ورجع إلى إمارته منصوراً وهابته الدولة. والسبب في هذه الفتنة تأخر الأمير ملحم في دفع الأموال الأميرية علة العلل وأصل معظم الفتن، وغضب سليمان باشا العظم 1161 على الانكشارية في دمشق فأخرجهم عنها، فحضر رئيسهم أحمد آغا القلطقجي ومعه عدة أغوات إلى جبل الشوف، واجتمعوا عند المشايخ بني يزبك وكانوا ينزلون وينهبون من نواحي دمشق ويقطعون الطريق، وأحرق الأمير ملحم ديار بني تلحوق في الغرب وديار بني عبد الملك في الجرد.
وحاصر سليمان باشا العظم الشيخ ظاهر العمر في قلعة طبرية 1160 ثلاثة أشهر فأدركه ركب الحج فارتفع عنها، ولما خرج الباشا إلى الحج أرسل الأمير ملحم عسكراً إلى بعلبك فطرد الأمير حيدراً الحرفوش وولى مكانه الأمير حسيناً، وخربت الدروز أرجاء بعلبك وقطعت أشجارها. وفيها حضر خط شريف بقتل أغوات الانكشارية بدمشق فقبض الوالي على بعضهم وقتل ابن الفلاقنسي. وذكر ابن بدير أنه بلغ متسلم دمشق سنة 1162 أن بعض الدروز من جماعة ابن تلحوق جاءوا دمشق ينهبون ويحرقون فأرسل إلى الموالي والمفتي والقاضي يأمرهم بأن يأخذوا معهم الأعلام وينادوا: هؤلاء خوارج فمن كان يحب الله والسلطان ليخرج إلى قتالهم. فخرج الناس فقتلت الحامية زمرة وكان الدروز يحتجون بأن قدومهم كان لإخراج إخوان لهم كانوا مسجونين فلما موطلوا نادوا في حارة الميدان والقبيبات كل من لا يخرج للقتال معنا ننهب ماله وداره، فانضم جماعة من الحارات ونزلوا إلى السويقة ووقع القتال بينهم وبين القبوقول والدالاتية، وأغلقت البلد حوانيتها وحصرت الحارات ونبه المتسلم على أهلها أن لا يخرجوا إلى الأزقة
ليحرسوا دورهم، ثم جرت مقتلة بين الفريقين قتل فيها نحو خمسين قتيلاً من جماعة المتسلم والقبوقول، وفتح عسكر الباشا الدكاكين في باب الجابية ونهبوا ما فيها من طعام وهدموا مصاطبها وصيروها متاريس ومن الغد باكروا القتال(2/281)
وزحفوا إلى السويقة ومعهم العملة والبناءون فحرقوا الدور والقصور وأطلقوا المدافع على الأشقياء فولوا الأدبار، فأمر المتسلم عسكره أن يقعوا في نهب الدور والدكاكين. وروي أنه أخرج فتوى وحجة وأمراً قاضياً بأن ينهب الجند من حد السويقة ويقتلوا ويهدموا ولا يعفوا عن إنسان فسلبوا الأموال وسبوا الحريم. ولما هرب الدروز نودي في البلد بالأمان وأن تفتح الأسواق ويكف عن النهب قال ابن بدير: وقد سرت مع من سار فرأيت فضائح الميدان، والقتلى مجدلة، والأبواب محطمة، والدكاكين مقفرة، ثم اضطرب أهل القبيبات والميدان والسويقة وباب المصلى وأخذوا ينقلون أثاثهم إلى داخل المدينة مثل باب السريجة والقنوات وغيرهما من الحارات. وخاف الأكابر والحكام والعامة فجعلوا يعزلون الدكاكين ويخبأون ما حوته في البيوت وبلغ عدد الدور المنهوبة في هذه الوقعة كما قيل ألفاً وتسعمائة دار وأما الحوانيت فكثيرة جداً.
هذا وقد أخذ القبوقول يمسكون الناس ويأتون بهم إلى الحكام ويقولون: هذا كان يقاتل مع الأشقياء فيقتلهم المتسلم من غير حجة ولا إثبات، ولا قصد للقبوقول إلا أخذ ثارات لهم مضت مع الإنكشارية، إلى آخر ما أصاب دمشق في ذاك العام من حرق ونهب وغلاء وفضائح وفظائع. وكان من العادة أن تغلق أرتجة الفيحاء وحوانيتها جملة عند اندلاع لسان الفتن بين القبوقول والإنكشارية وبينهم وبين الدالاتية والأشراف والأكراد والدروز، حتى ينادي منادٍ من قبل الحاكم يأمر بفتح الدكاكين ويطمن الناس.
وجاء دمشق 1161 أحد موالي أسعد باشا العظم وكان نقل بعد ولايته دمشق إلى
حلب، فذكر الإنكشارية والعامة ظلمه أيام كان سيده حاكماً في دمشق فقاموا قومة رجل واحد فالتجأ إلى القلعة وحماه القبوقول، ولما أُريد على الخروج من دمشق أبى فأغلقت البلدة دكاكينها ومحالها وتجمع الإنكشارية وتبعهم الناس وتعصب العناتبة والأكراد والدالاتية مع القبوقول وأهل حارة العمارة وحدثت غارة في سوق الدرويشية وأُطلقت النيران على الإنكشارية ثم قاموا على أهل حي العمارة فانهزم أهلها منها وأحرقوها حتى صارت بلقعاً وراح أهلها إلى الجامع الأموي، ودامت الفتنة أياماً حتى قر رأي الأكابر والأمراء على إخراج مولى ابن العظم من دمشق فأخرج ولم تطفأ جذوة الفتنة، لأن(2/282)
الثائرين ما زالوا يتلمظون بطعم الغنائم ويزدردون حلوى الغارة. وجاء الخبر بأن الجالين عن دمشق نهبوا الضياع في طريقهم وقتلوا الأنفس وهتكوا الأعراض وصادفوا جماعة من طائفة الحكام فسلبوهم وقتلوا منهم فريقاً. وأخذ القبوقول يطلقون النار على الرعية وظلت الفتنة قائمة في البلد بين القبوقول والإنكشارية والأشراف فقتل من هؤلاء نحو ثلاثين وبضعة أولاد وشبت الحرب في شوارع المدينة أياماً ثم عتا الإنكشارية على حاكم دمشق فصاح في جنده وركب إلى الميدان فهربوا أمامه فأعمل هو وجنوده السيف فيهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً ومن لم يمت بالسيف قادوه بالسلاسل والأغلال، وعم نهب العسكر الكبير والصغير والناس بين قتيل وأسير، ونهبت الدور والدكاكين وانتكبت نكبة عظيمة فعريت النساء وخطفت الجواري والعذارى، وتمنى العقلاء الموت، ثم نهض جماعة الحاكم إلى النهب فمنعهم وأمر بجمع ما نهبوه فما وصل إلا القليل أودعه بعض الجوامع وأمر منادياً ينادي لتأخذ الأسباب أصحابها، فأخذ بعضها وذهب الأكثر، وأما أتباع الوالي فطفقوا يقتلون كل من يصادفونه ويقطعون رأسه أو يحبسونه، وتناول أذاهم من في الدور وتعست الحال.
ووصف ابن النجار هذه الفتنة فقال: إن السلطان أرسل والياً آخر غير الذي كان
وجرت هذه الوقعة في عهده، فقتل الأشقياء من المسلمين والدروز والنصارى وخربوا وحرقوا الدور ونهبوا الأماكن قال: وتعطلت الأسواق والمعاملات بسببهم في دمشق قريباً من سنة لا تقام جمعة ولا يسمع آذان ولا يفتح جامع ولا يتمكن أحد من الخروج من منزله لحاجة ولا لغيرها، لفسادهم وإفسادهم وتعديهم على الخاص والعام. وإنما كان بسبب تمكنهم من ذلك عدم وجود وال بدمشق فإن واليها كان خرج منها إلى الحج أميراً فجاء الوالي الثاني وقتل منهم من قدر عليه وفر منهم من فر وسلب دورهم ومتاعهم وأثاثهم، ولحق دمشق وأهلها من ذلك الوالي وحاشيته وجنده كل بؤس، وذلك بسبب قيامهم على أولئك الأشقياء، وانتهبت غالب المنازل في دمشق وقتل خلق كثير من الأبرياء، نزل هذا الجند الكثير من دور الناس، وأخرجوا أهلها منها بالعنف وظهر من أتباع هذا الوالي ما أنسى أهل دمشق ما كانوا(2/283)
فيه من الضنك والشدة قبل قدوم هذا الجند إليهم وقال: إن هذه الفتن وقعت سنة 1170 وأرسل عبد الله باشا الشجي والياً ليرفع الحيف عن الدمشقيين ويعيد الأمن إلى طريق الحج، واشتبك القتال كما تقدم بين القبوقول والإنكشارية ثم فرّ الإنكشارية طالبين البراري والقفار فتبعهم نفر من الجند وقتلوا منهم عدداً، ثم إن الجند أخذ في قتل من يراه كائناً من كان وشرعوا في النهب والسلب فانتهبوا معظم المنازل والحوانيت من الحقلة إلى باب الجابية، والجند يأتون بالرؤوس إلى الوزير، فقتل من الرعايا على هذه الحال عدد كثير وانتهب المال والمتاع، وظلم رئيسهم وحواشيه واختطفت النساء والغلمان جهاراً من غير مدافع، والجند يقولون إن جميع الدمشقيين كفرة وإنهم قوم يزيد. قال الشهابي في دخول والي دمشق الجديد إلى المدينة: إنه كان مع الشتجي ثلاثة عشر ألف رجل فاجتمعت أهالي دمشق إلى الميدان ليمنعوه من الدخول فدهمهم ليلاً وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وفي سنة 1163 حصل بين سعد الدين باشا العظم وبين أهل حلب وحشة فرحل عنها جرداوياً وكان عرض عليه منصب حوران فاستعفى من ذلك لأنه لم يتول هذه الإيالة في الدولة العثمانية أحد استقلالاً لقلة دخلها ووفرة خرجها فولوه طرابلس جرداوياً لأخيه أسعد باشا الوزير فأقام جرداوياً فيها وفي صيدا وحلب اثنتي عشرة سنة روى الشهابي في حوادث سنة 1171 أنه وقعت شرور كثيرة بين إنكشارية دمشق والقبوقول وكانت دروز الجبل تعين الإنكشارية في القتال فانتصروا وحاصرت القبوقول في القلعة وجرى بينهم أربع وقائع، والإنكشارية تنتصر بإمداد الدروز، ثم وقعت الفتنة بين عسكر الباشا وعسكر الإنكشارية فانكسر عسكر الوزير وخرج الإنكشارية من دمشق نحو ألف فارس ووقع القتال بين أهل البلد وعسكر الوزير فقتل من أهل البلد نحو مائة قتيل ثم نادى الباشا بالأمان.
وعدد ابن بدير كثيراً من مظالم الدفتردار فتحي أفندي ومما قال: إن الأهلين لما ضاقوا به ذرعاً استعدوا الباب العالي فأعداهم فأحضر إلى العاصمة ليمثل بين يدي السلطان، فأخذ يمنح المنائح لأرباب المظاهر حتى أدخلوا على السلطان شخصاً آخر بدلاً منه وأوهموه أنه هو المشتكى منه فأمر(2/284)
بقتله فقتل. أما فتحي فسفره أعوانه من النظار تحت جنح الدجى فآب إلى دمشق يفعل الأفاعيل المنكرة، حتى إذا ضاق الخناق ورد الأمر بقطع رأسه فقطع وجرّ في شوارع المدينة وترك للكلاب تنهشه ومثل ببعض أعوانه وصودرت أمواله.
عهد عثمان الثالث ومصطفى الثالث وبعض الأحداث في أيامهما:
وبينا كانت دمشق تموج بالفتن وتستل فيها الأرواح بسوء إدارة الولاة وتلاعب رؤساء الجند كان لبنان وهو ربيب القوة والمقاومة لا يخلو على ذاك العهد من فتن تدك العمران، وتفني الإنسان والحيوان، فقد ذكر المؤرخون أن المشايخ
المناكرة تطاولوا 1163 على إقليم جزين فعظم ذلك على الأمير ملحم الشهابي وركب لحرب جباع الحلاوة فهربت المتاولة من وجهة وأحرق أكثر ضياعهم، وكان قد أصاب منهم جماعة في جبل الشوك فوق جباع وقتل من المتاولة نحو ثلاثمائة نفس وحرق حارة جباع وقطع الأشجار، وأحرق قليمي الشقيف وبشارة، ثم حدث بين جماعة الأمير ملحم الشهابي ووالي دمشق وقائع طفيفة بسبب الظلم الواقع في البقاع على المسافرين في طريق دمشق فقتل أناس من عسكر الفريقين، ثم وقع الصلح بين أمير لبنان ووالي دمشق على أن يؤدي الأول للثاني نفقة الحملة. وفي سنة 1165 وقعت فتنة بين المشايخ بني أبي نكد فغضب الأمير ملحم الشهابي عليهم وأرسل فنفاهم من البلاد فنزحوا إلى وادي التيم وهدم منازلهم في دير القمر ثم رضي عنهم. وكانت للسيد أحمد باشا الذي كان والياً في حلب سنة 1165 الحظوة عند رجال الآستانة قال أبو الفاروق: فعينوه والياً على قونية فسبقه إليها زوربا كورد محمد، وأثار أفكار أهلها عليه لما عرف به من مظالم، فحاربوه وهلك أناس في هذا السبيل، ثم عينته الدولة والياً على حلب فسبقه إليها كورد محمد أيضاً ومثل الرواية التي مثلها في قونية فحاصرت حلب لذلك خمسة أشهر. ودامت الحرب فيها مدة وأُحرقت البيوت وخربت البساتين وقطعت المياه عن البلدة.
وفي سنة 1168 توفي محمود الأول بعد سلطنة خمس وعشرين سنة وتولى السلطنة السلطان عثمان الثالث وهو الخامس والعشرون من آل عثمان ولم يعمل(2/285)
عملاً يذكر اللهم إلا ما كان من تبديل وزرائه والإفراط في هذا التبديل، وكان يميل إلى الطرب والصفا ويعمر الأبنية في العاصمة وأسس بعض دور الكتب وفي خلال ذلك تولى دمشق وإمارة الحاج حسين باشا مكي ولم يكن شرهاً في جمع المال ويميل إلى العدل وحسن الرياسة غير أنه كما قال المرادي: كان بطيء
الحركة عن شهامة الوزراء، فيسبب ذلك حصل من الجند الوطني والقبوقول الحرس وغيرهما من طوائف الأكراد والعسكر فتن وحروب وحصل للأعيان والرؤساء الضيق العظيم وقامت عليهم الناس.
وفي سنة 1172 هلك السلطان عثمان بعد أن ملك ثلاث سنين وثمانية أشهر وخلفه مصطفى الثالث فافتتح بالإعلان بتبديل السياسة ولكن كان عهده كما قال مؤرخوا الفرنج عهد انهيار المملكة الانهيار التام وسيادة الاشمئزاز على الناس، ووضع ثقته في وزيره رجب باشا فأحسن وكان رجب ذكياً ومخلصاً. وفي سنة 1174 كان والياً على دمشق عثمان باشا الكرجي وكان يلقب بالصادق، وسبب هذا اللقب أنه كان من بعض مماليك أسعد باشا العظم وهذا يحبه لنباهته، ولما قتل أسعد باشا وضبطت الدولة داره وأمواله طلبوا عثمان هذا فأخبرهم بخزائن مولاه، ثم وجدت قائمة بين تلك الأموال فكانت مطابقة لكلامه فأنعمت عليه الدولة ولقبته بالصادق، وتولى ولاية دمشق إحدى عشرة سنة 1174 - 1185 ومما وقع في أيامه ركوبه لحرب محمد الجرّار إلى قلعة صانور، أرسل إلى الأمير يوسف فبعث بعسكره والتقى به عثمان باشا فعظم أمره عنده وأكرمه، وأصلح الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا قلعة بانياس وبنى ما كان قد هدم منها من زمان ابن معن وأقام بها فحاصره عثمان باشا الصادق مدة وجيزة ثم سلمه القلعة ونهب عثمان باشا كل ما كان فيها وأمر بهدمها.
سيرة ظاهرة العمر الزيداني وسياسته:
استراحت الدولة من ناحية الشام لوجود والٍ مخلص لها في دمشق عثمان باشا الكرجي الصادق، فتركته وشأنه يعمل باسمها ويقاتل أعداءها، فطالت ولايته على حين تقلبت حلب في مدة حكمه على دمشق إحدى عشرة سنة في أيدي(2/286)
عشرة ولاية. وكانت الشام تتمخض في خلال ذلك بظهور رجلين في العقدين الأخيرين
من هذا القرن كما تمخضت أواخر النصف الأول منه بظهور آل العظم، ونعني بهذين الرجلين الشيخ ظاهر العمر الزيداني وأحمد باشا الجزار. وقد اهتمت لعظم شوكتها الأمة والدولة، جاء الثاني على أثر الأول فبزه ظلماً وعدواناً. ولم يكن قيام أمر الرجل في ذاك العهد يتوقف على نباهة فيه وعلم وسياسة، بل غاية ما يحتاجه شيء من المعرفة بطبائع من يقوم فيهم، وتلطف باستمالة قلوب أفراد يعوّل عليهم، ورأس مال قليل يؤديه ثمن إقطاع أو نفقة الظهور، ومهارة في البطشة الكبرى الأولى ودهاء وحيلة، وعندها يزيد كل يوم قوة، ولا تلبث الدولة أن ترعاه، والأهلون أن يتفيأوا ظله وحماه.
في أواسط القرن الحادي عشر جاء إلى جهات فلسطين الشمالية من الحجاز رجل يدعى زيدان وله ولد اسمه عمر ولعمر ولدان اسمهما ظاهر وسعد. ظعنوا عن ديارهم لخصومة وقعت بينهم وبين عدو أقوى منهم مراساً، فجاءوا وضربوا خيمتهم في الأطراف الشمالية من سهل البطوف في أرض يقال لها مسلخيت من عمل نابلس. ولما كانت قرية عرابة أقرب القرى إليهم جاء وجهاء القرية وزاروهم وحيوهم وسألوهم أن يأتوا إلى قريتهم يضربون خيامهم في أرضها لأنهم كانوا على أربعة أميال منها. وكان في قرية سلاّمة المعروفة اليوم بخربة سلامة الواقعة على منحدر الوادي المسمى بهذا الاسم شيخ درزي قوي الجانب برجاله الأشداء باسط أجنحة نفوذه على ما جاوره. مر بعرابة ذات يوم ووقع نظره على فتاة أعجبه حسنها وطمع فيها لنفسه. ونزل بيت أحد وجهاء القرية ودعا إليه الزعماء وطلب منهم الفتاة، فشق على سكان عرابة ذلك خصوصاً وهو درزي وهم سنة. وارتبك أهل القرية فسألهم زيدان عن السبب فذكروا له ما وقع فقال لهم: الخطب سهل على أن تعاهدوني أن تعملوا ما أسألكم إياه ولا تبوحوا به فقال: أجيبوا الدرزي إلى ما طلب وعينوا له وقتاً يوافيكم فيه لأخذ العروس، وإذا جاء
مع جماعته رحبوا به فإذا استقر بهم المقام خذوا أسلحتهم ثم اتركوهم يهزجون ويرقصون إلى حين الرقاد، وكل واحد منكم يأخذ واحداً إلى داره ليؤويه ولما رقد الجميع هبَّ زيدان وأفنى جماعة الدروز، ثم أغار هو وجماعته على سلامة مع سكان(2/287)
عرابة فبطشوا بمن بقي فيها وخربوها فعظم قدر زيدان وانضم إليه أُناس ممن يحبون الغزو والشقاوة، وألف منهم جيشاً يغزو بهم، فينزل بأرباب العمل الويل والخراب. ثم قتل زيدان بعض رجال المقادحة وكان منهم حاكما طبرية والناصرة، فأضحى المقادحة بلا زعماء فاحتل أهل عرابة نمرين وغيرها. ورزق ظاهر ستة أولاد ذكور وكفله سكان عرابة لدى والي صيدا فالتزم الجباية، وكان بعض السنين يتلكأ عن أداء ما تعهد به وأحياناً يؤدي للدولة حقها، حتى نمت ثروته وأقام في عكا فجعل أخاه سعداً في دير حنا، وأولاده علي في صفد، وعثمان في شفا عمرو، وسعيد في الناصرة وجهات مرج ابن عامر، وصليبي في طبرية، وأحمد في تبنة وجبل عجلون.
كانت جبال بيروت وأعمالها بيد حكامها الأمراء الشهابيين يدفعون الأموال لوالي صيدا المعين من قبل الدولة، وكانت صور وعملها بيد المتاولة يضمنون أموالها من والي صيدا، وأما جبال عكا وما إليها فكانت بيد مشايخها ومن جملتهم بيت أبي زيدان كانوا يضمنونها من والي صيدا أيضاً، فما زال الأمر كذلك حتى ظهر الشيخ ظاهر العمر فصادق مشايخ المتاولة وتزوج نساء كثيرات فتكاثر بنوه وأقرباؤه حتى بلغوا مقدار خمسمائة نفس، وعمروا قلعة طبرية وقلعة صفد وغيرهما وبدءوا يسطون على عكا وصور، وأظهروا الشقاوة وقطع الطرق فضجر منهم والي صيدا واضطر أن يضمن مدينة عكا إلى الشيخ ظاهر العمر ويضمن صور للمشايخ المتاولة، وابتدأ الشيخ ظاهر العمر يبني في عكا سرايا عظيمة وسوراً وأبراجاً ويجمع إليه العسكر وانتشرت أعلامه في تلك البقعة
وأطاعته مشايخ المتاولة ودخلت عرب البادية تحت حكمه وكان عادلاً في الرعية وسار معهم سيرة مرضية وساعدته المتاولة في أطراف لبنان فخافه السلطان وأوهمه أنه يجعله نائبه في القدس ويوليه عكا والناصرة وطبرية وصفد وسائر البلدان التي في تلك الأطراف وأنه أمير العرب فصدق وكف عن المحاربة. وذكر شوفيه وايزامبر: أن ظاهر العمر نشط الزراعة وقضى على غزو القبائل المجاورة له من العرب فوفق إلى توطيد الأمن في الأقاليم فكان المسيحيون والمسلمون يهرعون إلى نزول أرضه من جميع أطراف الشام لينعموا فيها بالراحة والتساهل الديني.(2/288)
وقال واصفوه: إنه ما زال في ظهور حتى نشبت الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية فضعفت الدولة في الأقطار الشامية، فزاد ظاهر العمر قوة وعدا على والي صيدا وطرده منها وتملكها وأرسل لها حاكماً من عنده، واستمر يحارب الوزراء سبع سنين ولم يدفع مالاً للدولة، وله معهم وقائع انتصر فيها على عساكر الترك وعسكر الدروز والعربان. وفي هذه الأثناء صادق دولة روسيا بمشورة وكيله الخاص إبراهيم الصباغ من أهل عكا، وكان هذا صاحب عقل وتمييز إلا أنه يحب المال كثيراً، كما حالف الأمير فخر الدين المعني الثاني في القرن الماضي أمراء طسقانة.
واستمر الشيخ ظاهر حاكماً على عكا نحو أربعين سنة إلى سنة 1189. والسبب في وقوع الفتن بين الشيخ ظاهر العمر وولاة الأطراف أن عثمان باشا الصادق والي دمشق لما وليها سنة 1174 وكان شديد المكر كثير الدهاء، ولى أولاده الاثنين صيدا وطرابلس، فصار يظلم رعية الشيخ ظاهر العمر ويطلب المال للسلطان، فبدأت الحرب بينهما فانكسر عثمان باشا وخلت خزائنه فأخذ يلح على الأهالي في طلب المال، فضج الناس من ظلمه، وعصاه أهل الرملة وغزة ويافا
ولم يطيعوه إلا بعد حروب كثيرة، فوقعت البغضاء في قلوب إقليم القدس وتمنوا حكم علي بك صاحب مصر عليهم، وكان هذا قد قوي فأطاعته البلاد المصرية.
وحاول عثمان باشا سنة 1183 أن يغزو ظاهر العمر بالاتفاق مع أمراء جبل الشوف فأرسل ظاهر يستنجد بوالي مصر علي بك، وكان هذا عزم على رفع لواء العصيان على الدولة، وفي قلبه حقد على عثمان باشا، فهش لاقتراح الشيخ ظاهر لأنه كان يريد امتلاك الأمصار من عريش مصر إلى بغداد، وكان قد راسل الملكة كاترينا المسكوبية طالباً منها أن تمده بالمراكب والرجال وهو يملكهم المدن البحرية في الشام. ولما وصلت إليه رسالة الشيخ ظاهر جهز له ستة سناجق كبار ورأس عليهم إسماعيل بك وأصحبهم بعشرة آلاف من الغز والعربان والمغاربة وأمرهم أن يكونوا في طاعة الشيخ ظاهر العمر وساروا إلى أراضي المزيريب في حوران، وكانوا نحو عشرين ألفاً، لقتال عثمان باشا فعدل إسماعيل بك عن الغزاة لما لاقى من تمرد أولاد الظاهر وعشيرته، فشكا(2/289)
الشيخ ظاهر إلى الأمير علي بك ما لقي من إسماعيل بك فابتدأ الأمير علي يجهز العساكر والجنود على نية الخروج لتملك الشام.
وفي هذه السنة قبض الأمير يوسف الشهابي على عدة من مشايخ آل حمادة فالتجئوا إلى وزير طرابلس وأتوا بعسكر إلى قرية بزيزا ووقع القتال بينهم في قرية ميون فانكسر عسكر طرابلس وحاصر بعضهم في برج في أسفل القرية ثم سلموا وساروا إلى طرابلس، وفيها بلغ الباب العالي ما فعله علي بك، فأمر والي دمشق أن يسير بخمسة وعشرين ألفاً لمنع جنود عكا من معاضدة علي بك فسار الوالي بالعساكر، فوافاه الشيخ ظاهر العمر في ستة آلاف بين جبل النيران وبحيرة طبرية ورده على أعقابه.
حملة أبي الذهب على الشام:
استكثر أمير مصر علي بك 1184 من جمع طوائف العسكر وأمر بسفر تجريدة إلى الشام وأميرها إسماعيل بك وكان أرسل أحد رجاله فقتل سليطاً شيخ عربان غزة هو واخوته وأولاده، فذهبت تجريدة من البر وأُخرى من البحر ووقعت بين جنده وحكام الشام وأولاد العظم حروب ومناوشات. وفي سنة 1185 أخرج علي بك من مصر تجريدة عظيمة وأميرها محمد بك أبو الذهب في جند كثير من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة، وسافرت من طريق دمياط في البحر، فلما وصلوا إلى الديار الشامية حاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها، ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة فهزموا وقتلوا وفروا من وجه الجيش المصري، فاستولى على الممالك الشامية إلى حدود حلب. قال هذا الجبرتي، وقال غيره: إن محمد بك أبا الذهب لما وصل إلى الشام حضر إليه أولاد ظاهر العمر ومشايخ المتاولة وانضموا إلى عسكره فصار جيشاً عظيماً ينيف على الستين ألفاً، فسار محمد بك أبو الذهب طالباً دمشق، وكان عثمان باشا قد رجع من الحج فجمع العساكر لقتاله، فما لبث عثمان باشا أن انكسر فخيم أبو الذهب حول المدينة قاصداً حصارها، وأرسل إلى أهلها كتاباً يشير فيه إلى ما أتاه عثمان باشا من الظلم وإهانة الحجاج والزوار وظلم المسافرين والتجار، وأنه يريد أن يطهر هذه(2/290)
الأرض منه نصرة للدين وغيرة على المسلمين، ويذكر ما فعله بعلماء غزة في العام السابق من دفنهم في الأرض أحياء، وأنه أخذ فتوى المذاهب الأربعة في قتاله، وصرف الأموال والعساكر ليردوا الظالم ويستردوا المظالم، فخرج العلماء والعوام من أهل دمشق كافة إلى محمد بك أبي الذهب وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأكرمهم، ودخل المدينة وجلس في دار الوزارة ونادى بالأمان، وكانت القلعة لم تزل محاصرة فأمر بإطلاق المدافع عليها وطلب المحاصرون الأمان فتسلم القلعة. وتراجع عثمان باشا إلى حمص وجهز العساكر الكثيرة. وابتدأ
إسماعيل بك يغير قلب محمد بك أبي الذهب على الشيخ ظاهر العمر فحصل بينهما فتور وخوفه عاقبة التمرد على السلطان فنهض بعساكره ليلاً من دمشق وسار طالباً الديار المصرية، وشاع رحيله من الغد فتعجب الأهلون من ذلك ولم يعلموا السبب فيه، ورجع أولاد ظاهر العمر والمشايخ والمناولة كل منهم إلى مكانه وقد تأسفوا على سعيهم.
وفي رواية أن السبب في ترك العسكر المصري بزعامة محمد بك أبي الذهب حصار دمشق أن عثمان باشا واليها لما أشرف على الهلاك بعث إلى قائد المماليك بصرة ثقيلة بالدنانير للرجوع عن محاربته فارتشى منه، وأمر عسكره بترك المحاصرة وتركوا حصار قلعة دمشق، فلما رأى ظاهر العمر خيانتهم، وأنهم قد فارقوه وتركوه وحده عجز عن فتح القلعة فرجع إلى دياره، فتخلص عثمان باشا وعاد يجهز العساكر بعد مدة قليلة للخروج لمحاربة ظاهر العمر ودخل أراضيه وحاصره في عكا وجدّ في الحصار حتى صعب الحال على الشيخ، وكاد عثمان باشا يفتح عكا، فما نجا الشيخ في هذه المرة إلا بمساعدة ولديه. فقد جمعا العرب وهجما على الترك ليلاً فكسروهم وشردوهم فهرب منهم عثمان باشا، ثم جمع الشيخ ظاهر عساكره وحارب الدروز فغلبهم وتملك قراهم التابعة لعامل صيدا. ولما بلغ السلطان خبرُ فتوجه وهو مشتغل بحرب روسيا صعب الحال عليه، فأرسل السلطان إلى الشيخ يعرض عليه الصلح، وقد عزل عثمان باشا وولديه عن ولاية دمشق وصيدا وطرابلس، وأما الشيخ ظاهر فقد أضمر في نفسه أن يدخل في طاعته الشام كله وهو يستند في ذلك على مساعدة علي بك أمير مصر.(2/291)
وذكر المرادي أنه كان مع محمد بك أبي الذهب تسعة ألوية وخمسة من أولاد الظاهر أمير بلدة عكا ومشايخ المتاولة والصفدية ونحو ثمانين مدفعاً وأربعون ألف مقاتل، وعينت الدولة لقتاله وال حلب ووالي كليس ووالي طرابلس فخرجوا مع
وزير دمشق بالعساكر الشامية والأجناد، وصارت المعركة في سهل داريا وفي أقل من ساعة انكسر العسكر الدمشقي وفر هارباً كل من والي كليس، والي حلب وعساكرهما، وقتل منهم شر ذمة قليلة وثبت كافل دمشق عثمان باشا وولده محمد باشا والعساكر الدمشقية ودام القتال ثلاثة أيام، وفر أعيان البلد إلى حماة واستولى الفزع على الناس، وغص الجامع الأموي بأهالي القرى فنزلوا بأهلهم وأمتعتهم ومواشيهم إليه. ولما عاد أبو الذهب عن دمشق رجع عثمان باشا وولده محمد باشا ورئيس اليرلية يوسف أغا جبري من جبل الدروز ومعه خمسة آلاف درزي وبعد مدة ضرب عثمان باشا عنق ابن جبري، لأنه كان السبب في تقوية الدولة المصرية على العساكر الشامية طمعاً في قتل عثمان باشا وصيرورته مكانه كافلاً بدمشق.
عاد أبو الذهب إلى مصر ورجع إلى دمشق عثمان باشا وحضر إليه الأمير يوسف الشهابي لأنه كان قد أرسل إليه نائبه يوسف أغا جبري يستنجده، وكان الأمير يوسف قد جمع عسكراً وتجهز للمسير فاتفق قيام أبي الذهب عند ذلك. ولما فرغ بال عثمان باشا وقتل نائبه يوسف أغا جبري رئيس الإنكشارية ونهب أمواله أقام مكانه رجلاً من أهل دمشق يقال له عثمان آغا شبيب، ثم خرج بعسكر عظيم إلى أرض الحولة يريد قتال الشيخ ظاهر العمر والمتاولة الذين كانوا السبب في تلك الفتنة فجمع ظاهر العمر رجاله واجتمعت المتاولة وكبسوا عثمان باشا في الليل فذعرت عساكره وقتل منهم خلق كثير. وهزمهم الشيخ ظاهر وما زال في إثرهم حتى وصلوا إلى بحيرة الحولة فألقى كثير منهم أنفسهم في البحيرة وماتوا غرقاً. وهرب عثمان باشا بنفر قليل فاستولى ظاهر العمر والمتاولة على أسبابه. وكتب الشيخ ظاهر إلى الأقاليم الشامية ودخل الناس كافة في طاعته. فخرج علي بك من مصر فالتقاه ظاهر العمر بالإكرام ودخل به إلى عكا فأرسل كتباً منه 1185 ومن
الشيخ ظاهر العمر إلى ملكة المسكوب يسألانها معاضدتهما على الدولة العثمانية، وأن ترسل(2/292)
إليهما المراكب الحربية ليسلماها الديار المصرية. وأقام علي بك ينتظر الجواب وقويت مشايخ المتاولة على الدولة، وتطاولت على أطراف جبل الشوف ومرج عيون والحولة، فاتفق الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل حاكم وادي التيم الأدنى وجمع الأمير يوسف نحو عشرين ألف جندي وسار قاصداً قرية جباع الحلاوي وأحرق إقليم التفاح وحرق جباعاً وقطع أشجارها وهدم بنيانها.
وكان عسكر المتاولة المجتمع في النبطية نحو ثلاثة آلاف، ولما وصل الأمير يوسف الشهابي إلى كفر دمان أحرقها وتوجه إلى النبطية فالتقى بشر ذمة من عسكر المتاولة نحو خمسمائة خيال ووقع بينهم قتال انكسر فيه عسكر الأمير يوسف كسرة هائلة، ومات كثير من عسكره تعباً وعطشاً ومنهم من اختلت عقولهم، وفقد من عسكره في هذه الوقعة أكثر من ألف وخمسمائة قتيل، وركب الشيخ كليب نكد من حاصبيا إلى دير القمر وغزا المتاولة في قرية علمان فهزمهم ومنعهم من الحضور إلى إقليم الخرنوب وتلك الأطراف، وسارت عساكر الدولة مع عسكر الأمير يوسف لحصار مدينة صيدا وإنقاذها من يد ظاهر العمر وكانوا في أكثر من عشرين ألفاً معهم المدافع والزنبركات فأقاموا على حصارها سبعة أيام. وجاءت المراكب الروسية إلى عكا التي استنجد بها ظاهر العمر فأرسلها إلى صيدا فأطلقت مدافعها على جيش الدولة وجيش لبنان، وساق ظاهر العمر عسكره وقدروه بعشرة آلاف جندي والتقى بعسكر لبنان وجيش الدولة في سهل الغازية، وانتشب القتال فانكسر عسكر الدولة وقتل منه نحو خمسمائة نفس وانقلب راجعاً إلى دمشق، وأما المراكب الروسية فسارت إلى بيروت وملكت جانباً منها وأحرقت بعض الأبراج، فهربت الشهابية من المدينة وخرج أهلها إلى البر، ودخلت الفرنج بيروت ونهبت كل ما وجدته فيها، ثم رحلت إلى عكا بعد أن أعطاها حاكم لبنان
7500 قرش تعويضاً، ثم عادوا وأطلقوا على بيروت ستة آلاف مدفع دفعة واحدة كذا قال المؤرخ، حتى ظن الناس أن القيامة قامت وسمع صوت المدافع على ما قيل إلى قبة اليسار فوق دمشق كالرعد القاصف، وأحاطوا بالمدينة بحراً مدة أربعة أشهر ليل نهار، فتضايق المتحاصرون فيها ونفد ما عندهم من الزاد فكانوا يأكلون لحوم(2/293)
الخيل والحمير والكلاب، وهناك اضطر الجزار إلى التسليم وطلب الأمان عن يد ظاهر العمر وتسلم الأمير يوسف بيروت وغرم المسلمين ثلاثمائة ألف قرش وسلمها للسفن المسكوبية. قال أحد المؤرخين: ضرب الروس بيروت ونهبوها في القرن الثامن عشر وكانت فيها بيوت أمراء الجبل ومشايخه، وكانوا بنوا فيها خانات وقيساريات وكان الفرنسيون يدعونها باريز الموارنة الصغرى وكثير من الموارنة كانوا قناصل لفرنسا.
ووقعت هذه السنة بين الشهابيين والحماديين في العاقورة والقلمون واقعة. وفي سنة 1186 أخذ سيد أحمد من والي دمشق حكم البقاع فتوجه إلى قب الياس وبنى ما كان هدم فيها من الزلازل وحصنها بالمدافع والرجال. وفي هذه السنة أحرق يوسف الشهابي بعض قرى الضنية لما بلغه من خيانة المشايخ بني رعد حكام الضنية مع المشايخ بني حمادة. وفي سنة 1187 حمل عثمان باشا والي دمشق في خمسة عشر ألف جندي على الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان في جهات البقاع. وجرت عدة وقائع بين العسكرين وانهزم والي دمشق في الليل تاركاً المدافع والذخائر ثم انفصل الفريقان على غير نتيجة.
عهد عبد الحميد الأول وتتمة أخبار أبي الذهب:
هلك أحمد الثالث 1187 وخلفه ابنه عبد الحميد الأول وفي أيامه استولى العجم على العراق ولم يبلغه الخبر إلا بعد خمس سنين، وهو السابع والعشرون من آل عثمان، مضت مدة على رحيل أبي الذهب من الشام وبقي ظاهر العمر بعد
اعتصامه بروسيا وكسرته والي دمشق غير مرة واتهام أبي الذهب بالخيانة أمام والي مصر ممتعاً بولايته حتى سنة 1189، وفيها سافر أبو الذهب إلى الديار الشامية - رواية الجبرتي - لمحاربة ظاهر العمر واستخلاص ما بيده من الأقاليم، وكانت الدولة أذنت له بالمسير إلى ظاهر العمر وخراب أرضه، فوصل إلى أرجاء غزة وارتجت الديار لوروده، ولم يقف أحد في وجهه وتحصن أهل يافا بها وكذلك ظاهر العمر تحصن في عكا، فلما وصل إلى يافا 1188 حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا هم أيضاً عليه وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج، وألقى عليهم المدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليال،(2/294)
فكانوا يصعدون إلى أعلى السور ويسبون المصريين وأميرهم سباً قبيحاً، فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوةً ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم بالحبال والسلاسل وسبوا النساء والصبيان وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم جمعوا الأسرى خارج البلد وأعملوا فيهم السيف وقتلوهم عن آخرهم ولم يميزوا بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم. وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوهها بارزة تنسف عليها الأتربة والرياح والزوابع، ثم ارتحل عنها طالباً عكا. ولما بلغ ظاهر العمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هارباً فوصل إليها أبو الذهب ودخلها من غير مانع، وأذعنت له باقي المدن ودخلت تحت طاعته وهدم قلعة دير مار يوحنا ودير مار الياس في صفد وقتل رهبانهما.
ويقول جودت: إن أبا الذهب قام من مصر في ستين ألف جندي إلى يافا، وبعد حصارها خمسين يوماً استولى عليها وأعمل السيف في أهلها كبيرهم وصغيرهم، وأن ظاهر العمر طلب مدداً من الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان فأبى أن يمده فلم يسعه إلا الهرب من عكا والتجأ إلى عرب غزة، ولما حصل أبو الذهب في
عكا استولت الدهشة على الناس حتى إن بعض الأسر الكبيرة هاجرت بيروت خوفاً وهلعاً، أما الأمير يوسف حاكم لبنان فقدّم هدايا إلى أبي الذهب طيب بها قلبه، وجاء متسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي ملتمساً رضاه مظهراً طاعته، فأمنه على نفسه ومركزه، كما جاء مشايخ بني متوال فأكرمهم أبو الذهب ثم استدعى أن يولى أمور مصر والشام فجاءه من السلطنة المنشور بذلك ولكن كان قد قضى نحبه وتفرقت جموعه وعادوا إلى مصر، فلم تنل الدولة مأربها من ظاهر العمر ولم تستفد الشام سوى أن قتل من أهلها جمهور كبير ولا سيما في حصار يافا. وجرى على أثر هذه الواقعة بين المتاولة والغز الذين في صيدا قتال عظيم فانكسرت المتاولة كسرة هائلة وقتل منهم جماعة.
خاتمة ظاهر العمر وولاة حلب:
قال جودت: لما سمع ظاهر العمر بوفاة أبي الذهب عاد إلى عكا وأخذ(2/295)
يطيل أيدي الأذى أكثر من قبل، فأرسلت عليه الدولة سنة 1189 قائد البحر حسن باشا الجزائري، وكتب إلى والي دمشق إذ ذاك محمد باشا العظم وإلى والي صيدا وإلى الجزار أحمد باشا الذي نُصب محافظ السواحل الشامية وإلى متصرف القدس، فبعث قائد البحر أولاً يطلب من الظاهر ما في ذمته للدولة من الأموال الأميرية وهي خراج سبع سنين فلم يوافق على ذلك مستشار ظاهر العمر إبراهيم الصباغ، وكان بيده جميع أموال ظاهر العمر، وقال له: إن الدولة لا يرضيها شيء وأراد سيده على المقاومة ولكن استمال متسلم صيدا عسكر ظاهر العمر وقال لهم: لا يجوز مقاتلة عسكر السلطان فأبوا أن يقاتلوه. فلما علم ظاهر العمر بالأمر فرّ على وجهه لا يلوي على شيء هو وأولاده، فضبط قائد البحر أمواله وذخائره وجيء بإبراهيم الصباغ فأخذت منه أموال ظاهر العمر ثم قتل. ويقول بعض المؤرخين: إن ما وجد من أموال ظاهر العمر اثنان وثمانون ألف كيس من النقد
قال جودت: سبحان الله! بمثل هذا المال والنوال ومتسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي يطلب عشر معشاره لإرضاء الدولة فتشح نفس إبراهيم الصباغ فيجلب البلاء على نفسه ويكون سبباً لخراب بيت مولاه بيت آل زيدان.
وذكر بعض من استوفوا سيرة ظاهر العمر أنه في أواخر سنة 1189 حضر قائد البحر حسن باشا الجزائري بالأسطول لأن السلطان عبد الحميد الأول لما عقد الصلح مع الدولة الروسية سنة 1187 التفت لتنظيم الولايات فوجه قائد البحر إلى حيفا، وذلك بعد موت أبي الذهب ورجوع العساكر المصرية بمدة قليلة، وأن مطالب القائد كانت أموال سبع سنين متراكمة، فادعى الظاهر أن ليس عنده مال وأنه مستعد لحرب قائد البحر لأن عنده باروداً وقذائف وثلاثة مدافع، فأطلق قائد البحر أربعة أيام النار على عكا، وكان عدد قنابله 7750 قنبلة ولم يحدث منها ضرر بل هدمت قليلاً من المحلات، وقيل بل سقطت قنبلة على مخزن البارود فاحترق، فخرج الشيخ ظاهر بعياله فقتله أحد المغاربة في الطريق في محل يسمى الرقايق، وكان قاتله عبداً من عبيده منذ خمس عشرة سنة فقتله القائد التركي به لخيانته سيده، وحزوا رأسه وحمل إلى الآستانة ونهب العسكر المدينة ساعتين. وكان قائد السفينة الفرنسية التي جاءت(2/296)
لحماية تجار عكا الفرنسيين وحملتهم إلى وطنهم نبه على التجار الفرنسيين بأن كل من عنده وديعة لإبراهيم الصباغ ولكل من يلوذ به ملزم بحسب أوامر السلطان أن يقدمها إلى قائد البحر العثماني فأعطوها وكانت 36 ألف كيس ذهب عدا الجواهر والتحف، وضبطت حواصله وكانت مشحونة بأصناف البضائع وضبط مبلغ كبير ممن يلوذ بإبراهيم الصباغ الذي أخذ وقتل في الآستانة، وكذلك أحمد آغا الدكزلي الذي خان مولاه فقد صلبه قائد البحر في صاري المركب، وسلم قائد البحر ولاية عكا إلى أحمد باشا الجزار، سلمه عكا وصيدا وما يليهما، فاحتال الجزار على أولاد ظاهر العمر وأقام الشيخ
عثمان الظاهر شيخ المشايخ ويقول مشاقة: إن حسن باشا طلب من ظاهر العمر خمسين ألف قرش تبلغ بأسعار ذاك الوقت خمسة وعشرين ألف ريال فرنسا فأشار أكثر معتمدي الشيخ بالدفع إلا الطبيب التاجر إبراهيم الصباغ فإنه خالف رأي الجماعة، وقيل: إنه وصل من أموال ظاهر العمر وأولاده وإبراهيم عبود الصباغ إلى خزينة السلطان ثلاثمائة وثمانون ألف كيس تساوي خمسة ملايين ليرة وخمسة وعشرين مليون فرنك خلا ما اختلسه حسن باشا لنفسه.
وفي أوائل 1190 رجع حسن باشا الجزائري بالأسطول إلى عكا وحضر محمد باشا العظم والي دمشق بعسكره وإبراهيم باشا والي القدس بعسكره ونصبوا معسكراتهم خارج مدينة عكا وطلع معهم أحمد باشا الجزار بعساكره وساروا جميعاً مع أمير البحر قاصدين البطش بأولاد ظاهر العمر فأمنوهم وحملهم قائد البحر إلى الآستانة وقتل في الطريق أحدهم واسمه أحمد لأنه طعن فيه جهاراً وبقي أحد أولاد الظاهر واسمه الشيخ علي يتنقل في البراري، فبلغ الدولة خبره فأرسلت إلى محمد باشا العظم أن يرسل إليها رأس علي الظاهر أو يقتل هو به، فأرسل والي دمشق رأس ابن الظاهر مع ثلاثة رؤوس من جماعته وأنكر جماعة أحمد باشا الجزار الرأس المحمول، وقالوا: إنه ليس رأس الشيخ علي الظاهر فأحضرت الحكومة ولديه الحسن والحسين وكانا في الآستانة وقالت لهما هل تعرفان هذه الرؤوس المقطوعة فلما رأياها بكيا فقيل لهما: ما يبكيكما؟ فأجابا هذا رأس والدنا علي الظاهر وقد عرف من كبر عارضيه لأنه كان يدعى أبو سبعة شنبات، وبذلك انقضت دولة الظاهر واندثر ذراريها(2/297)
وقامت دولة الجزار أحمد باشا الذي ضيق على أولاد الظاهر وذراريه وبعث أحد جواسيسه إلى ابنه علي وقتله في مرج علما الخيط.
والغالب أن الشيخ ظاهر العمر الذي حكم صيدا وعكا ويافا وحيفا والرملة ونابلس
وإريد وصفد وجميع المتاولة كانت تحت أمره، كان إلى السذاجة والفطرة، استسلم لوكيله إبراهيم الصباغ، وكان هذا مثلاً سائراً في الإمساك وحب المال، فحاول أن يخلص سيده من دفع خمسة آلاف كيس مع أن لديه أضعاف أضعافها من الذهب، دع سائر العروض والجواهر، واغتر ظاهر العمر بقوته الضئيلة فكان في ذلك ذهاب دولته وهلاكه وهلاك وكيله، ولم يثمر جمع الأموال الثمرة المرجوّة، ولو قدرّ له أن يعمل بما رسمه له السلطان سنة 1188 من العفو عن جميع ما تقدم من ذنوبه وذنوب غيره على شرط أن يؤدي الخراج لبقي في عزه إن كانت الدولة تريد دوام العز لأحد.
كانت الشكوى قليلة من إدارة ظاهر العمر فإن ما جمعه في أربعين سنة قد جمع غيره من حكام الأقاليم مثله في مدة قليلة. ذكر فولنه أن علي باشا المعروف بجتالجه لي الذي تولى حلب مرتين آخرها سنة 1193، وكان معاصراً للجزار جمع في خمسة عشر شهراً زهاء أربعة ملايين ليرة الغالب أن الليرة هي الفرنك الطلياني وأنه سلب جميع أرباب الحرف حتى انتهى سلبه إلى منظفي الغلايين. وقال غيره إن مدينة حلب التزمها ملتزم من الآستانة بثمانمائة كيس أو نحو أربعين ألف جنيه ويعطي الوالي 8330 جنيهاً في السنة لنفقات الولاية لكنه يكثر ابتزاز الأموال الطائلة من الأكراد والتركمان وسائر السكان، وقد جمع منهم عبدي باشا الذي كان والياً قبل عهد فولنه 160 ألف جنيه في سنة واحدة وضرب ضريبة على كل واحد وكل صناعة.
قال بعض من عاصره: وقد فر من حلب غالب تجارها ووجوه الناس ومن له شهرة وسجن الأعيان، وأن الكوسح خادمه لما خرج إلى قتال التركمان صار يخرب القرى ويسلب أموالها حتى قام أهالي حلب وحاصروه وأخرجوه من البلدة. ونقل في أعلام النبلاء في حوادث سنة 1194 أن عبدي باشا والي حلب جاء في
جيش عظيم إلى كلز لتأديب الأشقياء وأصدر أمره إلى أهل البلدة أن يخرجوا منها أهل العرض والرعايا إلى طرف الباشا ويبقي الأشقياء، فأجابوه(2/298)
بلسان واحد: ليس في بلدتنا أهل عرض أصلاً بل كلنا أشقياء، فزحف الوالي على البلد فحاصرها وفتحها ووقع القتل والنهب في كلز، وهتكت الأعراض وذبحت الأطفال. وأن الوالي أخذ يسلب أموال الناس في حلب وفي سجونه من الأكابر والمشايخ والأشراف خلا الرعايا وأهل الذمة مقدار عظيم، وعسكره كثير يرتكب في حلب أنواع الرذائل، وبلغ من سوء فعل أتباعه أن كسروا غراريف بساتين حلب ودواليبها وأخشاب بيوتها وطياراتها من حدود قرية بابلا باب الله إلى قرب بستان الدباغة، وحرقوها وحرقوا أخشاب قرى البلد بأجمعها، وسلبوا متاعها ونهبوا مواشيها وتركوها قاعاً صفصفاً إلا ما حماه الله من القرى البعيدة، وجاء الوالي الجديد فنبه أن لا يحمل أحد سلاحاً وكل من وجد من أهالي المحلات خارجاً عن الطريق المستقيم فعلى جيرانه أن يخبروا عنه ليقتله، ومن شهد جيرانه بحسن حاله فلا سبيل لأحد عليه، وصار يقتل كل من أخبر بسوء حاله، وأمر الناس أن يفتحوا دكاكينهم وأرباب القرى أن يتعاطوا زراعتهم وأن ما مضى لا يعاد، ومن لم يفتح دكانه ينهبها ويشنق صاحبها.
وروي في أخبار الحاج يوسف باشا ابن العظم الذي تولى حلب بعد عبدي باشا أنه صار يأخذ بالمجان مماليك وجواري من أصحابها قهراً، ويحضر التجار وغيرهم ويكرمهم ويقول لهم: أنا وزير إقشعوا خاطري، لا يعلم بها أحد حتى لا يمشيها غيري وأرسل فطلب من كل بلداً حصاناً. وجاء بعده عبدي باشا وسار على أقدام سميه الأول في الظلم والجور على صورة لم يسبق لها مثيل، وأنشأ يأخذ بدل القرش أربعة، وصادر القوم وعذبهم وصارت حبوسه ملأى بالناس.
وصف فولنه ظاهر العمر بأنه لم تشهد له الشام مثيلاً في الأزمان الغابرة، وكان
داهية باقعة في السياسة حكيماً محنكاً ولكنه كان طماحاً طماعاً، ومن محاسن صفاته أنه لم يكن يحب الاحتيال ويجاهر بما يضمر ولو قاسى من ذلك العنت وأنه أحب المسيحيين ورفع شأنهم وعدل في الناس.
وقال من عاصره: حكم الظواهرة البلاد نحو ثمانين سنة وامتد نفوذهم من حدود جبل عامل شمالاً إلى أطراف جبال القدس جنوباً ومن البحر(2/299)
المتوسط غرباً إلى جبل عجلون شرقاً، وكانوا يرجعون في أحكامهم إلى أصول العشائر حسبما توحيه إليهم ضمائرهم، وقد شادوا في الأقاليم أبنية ضخمة فرم ظاهر العمر بعض ما تمكن من ترميمه مما خربته الحروب الصليبية ورفع سور عكا الداخلي، وشاد فيها جامع محلة الجرنية وبنى علي في صفد القلعة الباقي شيء من آثارها إلى اليوم، وبنى صليبي في طبرية السرايا المعروفة اليوم باسم الصقرية نسبة إلى عرب الصقر الذين صال عليهم صليبي واكتسحهم، وعمر الجامع الواقع جنوب السراي، ورم عثمان قلعة قرية شفا عمرو وعمرها، وبنى أحمد قلعة تبنة، وشيد سعد قلعة دير حنا. وهذه القلاع الثلاث لا تزال موجودة، وعمر في دير حنا الجامع الموجود إلى اليوم وكان بناؤه سنة 114هـ.
أولية الجزار:
أخذ الجزار بعد استلام ولاية صيدا سنة 1191 يقوى وتشتد شكيمته خصوصاً وقد ولي دمشق مع بقاء عكا عليه، ثم استقل بولاية عكا وأخذ يغزو متغلبة تلك الأرجاء فوقعت بينه وبين الأمير يوسف الشهابي وقعة سنة 1191 في نقار السعديات بين صيدا وبيروت فلم يسلم من جماعة الشهابي إلا القليل، وأحرق عسكر الجزار المكاس والجديدة والدكوانة في لبنان وقتل أناساً من أهلها، ثم وقعت بين عسكر الدولة عسكر لبنان في المغيثة عدة وقائع انتصرت الدولة فيها على أهل الجبل وقتل منهم قتلى كثيرة وأكثرهم من المتن وداهم عسكر الدولة بني
الحرفوش في بعلبك وأحرقت الدولة زحلة. وقوي الجزار بمجيء ستمائة فارس من اللوند وكانت الدولة أمرت بقتل جماعتهم وكانوا ستة عشر ألفاً، فلم يسلم منهم إلا الذين جاءوا الجزار، ولما عزم على الإقامة في عكا ابتدأ بإصلاح أسوارها وإتقان بنيانها وجعل على كل قرية أن يحضر أهلها جميعاً ثلاثة أيام في الأسبوع بالسخرة لأجل العمارة.
وجرت حروب كثيرة بين الشيخ علي بن الشيخ ظاهر العمر وعساكر الجزار حتى قتل على ما سلف، وكذلك بين الجزار والأمير يوسف الشهابي والتقى مرة في طريق صيدا وعسكر الجزار بالنكدية وكانوا يكمنون له فقتل(2/300)
الجزار أكثرهم وقبض على بعض أعيانهم، فجعل الأمير يوسف يعتذر للجزار ويستشفع في إطلاقهم مقابل مئة ألف قرش، ولما طلب الأمير المال من الجبل أبى الأمراء الدفع فطلب الأمير من قائد عسكر الجزار أن يتلف أشجار بيروت ففعل وقتل جماعة من رجالهم، ثم سار إلى بعلبك وعظم أمره، وحينئذ خرجت بيروت من يد الأمير يوسف ودخلت في حكومة الجزار، واقتتل الأمير يوسف مع الجزار فانهزم في عدة مواقع ثم تصالح الشهابي والجزار.
وأرسل أحمد باشا الجزار 1191 أحد رجاله من الأكراد في جماعة منهم فاجتازوا قب الياس فعلم أهلها فحصنوها، وردوهم عنها بإطلاق المدافع فذهب الأكراد إلى بعلبك وصادروا كبار المتاولة، ولا سيما الأمير محمد الحرفوش وسجنوه، ثم شنوا الغارة على سعد نايل وقتلوا بعض سكانها ونهبوها، ثم حاربوا الدروز في البقاع وقتلوا بعضهم وأحرقوا قرى كثيرة في البقاع وهاجموا سغبين ثم عادوا عنها، وقد قتل منهم نحو مائتين ثم أمرهم الجزار فعادوا إليه، وكان سبب إرسالهم أن الأمراء اللمعيين لم يدفعوا الضريبة الشاشية التي فرضها الجزار على اللبنانيين في السنة السابقة. وفي سنة 1192 أو 93 نقل الجزار مركزه إلى عكا لحصانتها. وزاد
الجزار 1194 المكوس والمغارم على لبنان.
وفي سنة 1195 وقعت فتن ومناوشات بين عسكر الجزار وعسكر الأمير سيد أحمد وعسكر دمشق في أرض قب الياس في البقاع قتل فيها كثيرون وانتصر الجزار ووقعت وقعة في الظهر الأحمر في وادي التيم، وفي سنة 1197 استولى الجزار على بلاد بشارة بعد وقعة مع مشايخها من بني متوال، وتسلم هونين وتبنين وشقيف أرنون، أخذ هذه القلعة الأخيرة بالأمان وقتل من بها وتسلم جباعاً وباد اسم بني علي الصغير وبني منكر. وفي هذه السنة توفي محمد باشا العظم وكان وزيراً عادلاً مهاباً على قول ميخائيل الدمشقي وقال المرادي: إنه كان من رؤساء الوزراء عقلاً وكمالاً وعدلاً وديناً وسخاء ومروءة وشجاعة وفراسة وتدبيراً وكان واسع الرأي مهاباً وضرب على أيدي البغاة وقطاع الطريق، وراقت دمشق وما والاها في أيامه، وصفا لأهلها العيش ونامت الفتن، وعين محمد بن عثمان باشا وكان ظالماً قاسياً ثم تولى أخوه درويش(2/301)
باشا ثم تولى محمد بطال باشا وكان حدثاً جاهلاً ليست له خبرة بالمقاطعات. وقتل 1197 الوزير حسين مكي باشا والي غزة وصادرت الدولة أمواله وكان حارب بني صخر وعرب الوحيدات بعسكره فاستأصلهم.
وفي سنة 1198 تولى أحمد باشا الجزار ولاية دمشق وفي سنة 1199 وقعت فتن أيضاً بين عسكر الدولة واللبنانيين قتل فيها فريق من الطرفين. ومن جملة الفتن ما ذكروه من عصيان يوسف الجرار وتحصنه في قلعة صانور، فحاصرها الجزار بنفسه فلم يظفر بطائل فطمع أهل نابلس وأخذوا ينهبون الناس، فذهب الباشا ونهب بعض قراها وقتل أناساً كثيرين ثم حاصر صانور ثانية، وأصبحت مقاطعة نابلس في فوضى والجزار كل مرة يغزوها ويخرب في قراها ويقتل من أهلها ولم ينل أحمد الجزار من يوسف الجرار ما كان يتطال إليه حتى مات
الجرار. قال بعضهم: إن نابلس لم تبرح بعصيانها تقلق الإدارة التركية وكان العصاة فيها يعتصمون بقلعة صانور. هذا وقد تولى حلب في هذا القرن سبعون والياً قضى معظمهم أشهراً في الولاية وأكثرهم لم يتجاوز الخمس سنين وكان ولاة دمشق في هذا القرن ستة وأربعين والياً كان منها نحو خمس وأربعين سنة في حكم آل العظم.
الحكم على القرن الثاني عشر:
قرن كله ذل ومسكنة، وتقاتل وتشاحن، عرف بتغلب القيسية على اليمنية بعد وقعة عين دارة، ورجوع ابن معن إلى الإمارة في لبنان، وانقراض دولة المعنيين بموت الأخير منهم، وظهور بني شهاب حكام وادي التيم بمظهر جديد خلفوا المعنيين في لبنان، وبظهور أبناء علي الصغير في بلاد بشارة وانقراضهم كانقراض آل حمادة من شمالي لبنان، وظهور بني العظم حكاماً في الولايات الشامية وتراجع أمرهم، ثم ظهور ظاهر العمر في عكا وما إليها ودوام حكومته أربعين سنة، ثم إرسال والي مصر تجريدة بقيادة إسماعيل بك وأخرى بقيادة محمد أبي الذهب ورجوع هذا عن الديار الشامية بعد أن فتحها إلا قليلاً، واعتصام الظاهر عمر بملكة روسيا وحصار أسطول الروس بعض الساحل ولا سيما بيروت، ثم ظهور الجزار الذي قرض بيت ظاهر العمر.(2/302)
والدولة قلما جهزت جيشاً خاصاً للقضاء على سلطة أحد المتغلبين اللهم إلا جيوشاً أشبه بنجدات يوم مجيء أبي الذهب لفتح الشام، واستغاثت بأبي الذهب لتنقذ الشام من ظاهر العمر فجاء بجيش من مصر، أي إن الدولة كانت تستعين بالجار على جاره وبابن العم على ابن عمه وتضعفهم جميعاً، ومعظم حملاتها كانت للانتقام ممن يتلكأ في تأدية الجباية لها، وقلما سمع بأنها نحت عاملاً كبيراً لسوء إدارته، وكثرة نهمته في جمع ثروته، والعاقل المستقيم من ولاتها لا تطول ولايته كثيراً
حتى يتمكن من إصلاح بعض الشؤون، وكان الولاة في الحقيقة يستمتعون بلا مركزية واسعة لا يحتاجون معها إلى مراجعة الآستانة في كل أمر، ولكن أين العامل النشيط فيهم الذي يعرف يدبر أمور الناس، وإذا تهيأ الرجل فلا تحدثه نفسه بذلك حتى يتهم حالا بإدارة الاستقلال ويشي فيه جيرانه والطامعون في ولايته.
أما سلاطين هذا القرن فكانوا وسطاً والوسط لا يعمل عملاً نافعاً، ولم ينشأ للسلطنة صدور عظام عرفوا بالمضاء وحب العمل أمثال أبناء كوبرلي وصوقوللي في القرن الماضي، بيد أن أعمالهم لم يصل إلى الشام منها إلا الصدى، ولم يخرج من الشام نابغة بعقله وإدارته من أرباب الإقطاعات وغيرهم كما كان في القرن المنصرم، وجل همهم مصروف إلى دفع عادية خصمائهم من أقربائهم أو غيرهم، وكانوا دون من يأتي من الآستانة من الولاة عقلاً وعدلاً، ومما ظهر في هذا القرن من النقص المحسوس قلة السكان فقلق العقلاء، وكان في حلب قبل استيلاء العثمانيين 3200 قرية يتقاضى منها الخراج فنزل عددهما إلى أربعمائة قرية حتى إن ابن معن لم يقبل أن يتولى مقاطعة بني حمادة لأنها خربت، وهام الفلاحون على وجوههم في المدن والجبال وهكذا الحال في ولاية دمشق وفلسطين. وقال فولنه: إن سكان كسروان وحده ضعفا سكان فلسطين. وهكذا كان السكان يكثرون في المقاطعات التي تتخلص مباشرة من إدارة الباب العالي مثل لبنان ووادي التيم ونابلس وعجلون، وإن لم تكن حالتها مما يستحب.
أما أعمال العمران فلم يقم فيها إلا قصور لأرباب الدولة أمثال قصر لأسعد باشا العظم في دمشق وقصره في حماه إلى غير ذلك، وقامت من المدارس مدرسة(2/303)
إسماعيل باشا العظم ومدرسة سليمان باشا العظم في دمشق، وبعض مدارس في حلب، ولكن بدأ خراب المدارس القديمة العظيمة بمقياس واسع، وتداعت المساجد والجوامع، ولم يقم من المشاريع النافعة ما يستحق الذكر كأن القطر لا صاحب له
يغار عليه، فالمتغلبة من أبنائه والقادمون من الولاة عليه، لا يهتمون لمثل هذا الشأن، وسلاطينها ضعاف إن أفلح أحدهم فعمر له جامعاً ومقبرة خاصة في دار الملك عدوه محباً للعمران، متقرباً بعمله الصالح من البارئ الديان.
انتهى الجزء الثاني من خطط الشام ويليه الجزء الثالث وأوله العهد العثماني من سنة 1200.(2/304)
العهد العثماني من سنة 1200 إلى 1247
الجند أداة الظلم والتدمير:
كان الشام في هذا القرن مهد القلاقل والثورات، يقع الاعتداء في الأكثر على النصارى واليهود وأهل السكينة من المسلمين. وأكثر الفوضى ناشئة من الجند الجاهل الذي تمادى في اللؤم والدناءة حتى آض كالوحوش الضارية. ويقسم هذا الجند إلى ثلاثة أقسام: الإنكشارية والقبو قولي وهما القسمان القويان، والقسم الثالث حرس الولاة الخاص وهو يتألف من المغاربة والتكارنة والترك والأرناؤد والدالاتية وغيرهم، والعداوات متأصلة بينهم. ولطالما قامت بسبب ذلك فتن، ووقعت ويلاتها على الشعب فيهرق دمه وتنهب أمواله، وتغلق حوانيته، وتقف الأعمال، ولا سيما في الحواضر كدمشق وحلب. ولا تنفض هذه المشاكل إلا بتدخل الولاة أو أحد الأعيان، ويتكرر ذلك أبداً لأن العلة الأولى فيها لم تستأصل ما دام المجرمون لا يعاقبون والأوباش لا يُحملون على حرمة الشريعة. ولذلك كانت شوارع المدن وأحياؤها كثيرة الأبواب والأرتجة وتقفل أيام الثورات، وساعة المخاصمات والمشاغبات، والأزقة ضيقة معوجة لتصلح لحرب المتاريس.
وأكثر رجال الجندية نفوذاً الإنكشارية لكثرتهم وشدتهم وصداقتهم للوالي. وكان زعماء الجند يلقبون بالأغاوات. ويرسمون على أيديهم الوشم شعار الفرقة التي
ينتمون إليها، ويرسم على أبواب المقاهي اسم الفريق الذي يختلف إليها، وليس لهم نظام خاص. والمحلات تخضع للأغا المقيم فيها(3/3)
وهو يخضع لزعيم الفرقة. ولم تكن تكفيهم إدارتهم التي يتناولونها من مال الخزينة لكثرة أتباعهم، فيضطرون للعمل يذهبون إليه وهم مسلحون ليسهل عليهم الانضمام إلى فرقتهم متى دعت الحاجة، ولا شأن للخاملين وأهل الفسق إلا الاجتماع في المقاهي والحانات، وإطالة أيدي الأذى على الناس يصادرون أموالهم ويفترسون نساءهم وصبيانهم، وكثيراً ما يقتلون أحد أبناء السبيل لغير سبب كأن يجربوا بنادقهم أو سيوفهم في أول من تقع أعينهم عليه.
تمادى الرعاع في قحتهم وفجورهم إلى الغاية، لضعف الحكام وقصورهم عن ردع القوي عن الضعيف، فنشأت فئة من الناس مسلمين ومسيحيين، اتكلوا في حفظ أنفسهم وأهلهم على أنفسهم وشدة بأسهم في الدفاع. وكان القوم يحترمون هؤلاء الأشداء ويخافونهم، وكان منهم من عرف بالشهامة والشمم بما يغبطون عليه ويخفف ويلات الشرور اللاحقة بالرعايا من اعتداء الجند أحياناً. وبلغ التعصب الديني أقصى شدته في هذا العصر حتى تجاوز القوم فيه حد الإفراط، يحسب المرء كل من لم يتدين بدينه ممن يجوز له قتله أو الاعتداء عليه، وابتزاز ماله وانتهاك عرضه، وانتشر هذا الروح حتى عمّ السواد الأعظم من الناس. قال مشاقة بعد إيراد ما لخصناه: وكان فريق من العلماء وأهل التقوى يرون معاملة الذمي بالحسنى تبعاً لقواعد الدين الشريفة ولكنهم لم يوفقوا لردع الرعاع في زمن عمت فيه الفوضى وساد الجهل والهمجية على القوم.
من أجل هذا ساغ لنا أن نستنتج أن الشام كان أهلها وحكومتها بين ظالم ومظلوم، يشتد الوالي في إعنات الرعية لسلب أموالهم ويرسل إلى العاصمة بالمقرر عليه، وكثيراً ما يشاكسونه فلا يدفعون المفروض عليهم، أو ينتقضون عليه بإيعاز بعض
أهل النفوذ وقد يكون الحق معه، والرعايا عرضة لاعتداء الجند وأغواتهم والأعيان وأتباعهم، تساوى في النظام المدني والقروي، وربما كان المدني أكثر تعرضاً للمهالك لقربه من هذه العوامل التي أخذت على نفسها تمثيل التخريب في مسارح الجهل على ضروبه وأشكاله. ظلمات بعضها فوق بعض، وسلاسل مفرغة من المصائب لا يدري أين طرفاها. وليت(3/4)
شعري ما يرجى من عناية دولة بأُمتها وهي تعطي الوزير ثلاثة أطواخ والأطواخ أذناب خيل فالذنب معلق من أسفله في رأس عصاً وطولها نحو ثلاثة أذرع وشعره مسدول عليها، فإذا سافر الوزير يرسل الطوخ الواحد قبل سفره بيوم إلى محل نزوله فيستعدون لاستقباله وتهيئة ما يلزمه من المآكل والعلف للدواب بلا ثمن. وأما الطوخان الباقيان فيحملان أمام الوزير في السفر. ومعنى الأطواخ أن الدولة تحكم البلاد بأذناب خيلها قاله مشاقة ونحن نقول: إن الدولة التي يبلغ من غرورها هذا المبلغ لا تنجح في الحكم بحال.
قال جودت في حوادث سنة ألف ومائتين: إن وظيفة جابي المال في حلب كانت منذ أربعين سنة مطمح أنظار الموظفين في الدولة لأنها تأتيهم بثروات إذا جاءوا بها إلى الأستانة ينالون بواسطتها رتبة الوزارة ورتبة ميرميران، وممن كان منه ذلك أحمد باشا فإنه أخذ العلم والطوخ واشتهر شهرة عظيمة، وما برحت هذه الوظيفة تباع وتشترى بالمزاد، وكثيراً ما كانت الدولة ترسل بمفتشين يشاركون المرتكبين من هؤلاء الجباة، وكثيرون ممن يتولون هذه الوظائف يرحلون بالأموال ينفقونها في شهواتهم حتى يهلكوا فقراً وقهراً، ولذلك كانت أموال الدولة تبدد ويسرف فيها.
حوادث الجزار وفتن الإنكشارية وغيرها:
بدأ القرن وأعظم وزير مسموع الكلمة في الأستانة قوي الشكيمة في ظلم الرعايا
بالشام، أحمد باشا الجزار، تولى دمشق بعد ولاية عكا، وذهب أميراً مع الحج فرفع الدمشقيون الشكاوى عليه إلى دار الملك فعزل وذهب إلى الأستانة فعينته الدولة وزيراً على صيدا، وأقام في عكا وحصنها وضبط أملاك بيت شهاب في بيروت ورفع أيديهم عن حكمها، وأنشأ للثغر أرتجة وسوراً فسُر المسلمون بذلك، ونُصب على دمشق إبراهيم دالاتي باشا سنة إحدى ومائتين وألف وكان جسوراً مهيباً فحدث بينه وبين الأهالي اختلاف وتعصبوا عليه وحدثت فتنة، فأغلق أحمد آغا الزعفرنجي شيخ الإنكشارية القلعة وقتل من عسكر الوالي ثلاثمائة رجل وأراد لأن يضرب الوزير، فخرج(3/5)
هذا إلى حمص وحماة وجمع عسكراً كثيراً، وأوعزت الدولة إلى الجزار وإلى الأمير يوسف الشهابي أن يعاوناه بعسكرهما ففعلا، وعاد الوالي إلى دمشق فارتاع أهلها وأرسلوا النساء إلى الجامع الأموي فكلمه أعيان المدينة فاشترط عليهم أن يلتزم الرحمة إذا خرج الزعفرنجي من القلعة وتسلمها رجاله، ودخل البلد وقتل بعض الأردياء قيل: إنهم مائة وخمسون رجلاً من جماعة القلعة، وكان جاء الوالي في عسكره إلى باب الله واجتمع العسكران ووقع قتال فهلك فيه من الفريقين خلق. وملك الوالي الميدان، واستمر ذلك مدة والعسكر محيطة بالقلعة حتى سُلمت. وأقام هذا الوالي أربع سنين في دمشق، وذهب أمير القلعة إلى أمير عرب الموالي فارّاً منه فأوعز إلى متسلم حماة أن يقتص من عربه لفسادهم في تلك الأرجاء، فساق عليهم من حلب وحماة جيشاً قتل منهم نحو ألف إنسان وانهزم الباقون. وكان عرب الموالي ثاروا هذه السنة في ضواحي حمص وحماة فنهبوا القرى وفتكوا بأغوات الدنادشة حكام المدينتين منهم وقتلوا كلاً من شيخ الكلبيين وشيخ النصيرية وعاثوا في تلك الجهات وفتكوا بأعيانها. وفي سنة 1201 دخل عثمان باشا إلى إنطاكية ونزل عسكره على الحريم وفعل فيها أفعالاً قبيحة، وأتى إدلب وصادرها وخرب جميع القرى التي مر
عليها، وخرب الراموسة، واشتبك القتال بينه وبين أهل الشيخ سعيد عدة أيام فقتل من عسكره بالطاعون والسلاح عدد كبير، ونهب قرى في تلك الأرجاء، هذا والطاعون في حلب وأرجائها يفتك فتكاً ذريعاً. وخربت القرى وهلك الفقراء في فتنة الأمير جهجاه الحرفوش 1202 وكان قوي على إبراهيم باشا والي دمشق، وسرت شرارة فتنة الزعفرنجي إلى أهل دمشق حتى طلب الوالي عسكراً من جبلي نابلس والشوف ودقت طبول الوالي 1203 من دومة وفرق العساكر ثلاث فرق فدخل عمر آغا من الزفتية، وابنه على صفّ الجوز، والوزير على السلطاني، وأحرقوا القبيبات وحارة التركمان، وجرت الدماء من الصباح إلى العصر حتى أطاع أهل دمشق السلطان عبد الحميد الأول، وخرب الوالي القلعة وأهلك متوليها بمدافعه شرذمة قليلة من عسكر الوزير، وبقيت الحرب بين الفريقين ستة أيام بلياليها.
وفي أيام إبراهيم باشا الكردي 1203 انتشبت الحرب في وادي أبي(3/6)
عباد فوق كامد اللوز في البقاع بين عسكر الجزار وعسكر الشهابين أُمراء لبنان ووادي التيم انكسر فيها عسكر الجزار كسرة عظيمة. ووقع بين عسكر الجزار والهوارة والدروز في جب جينين قتال انكسر فيه عسكر الأمير وقتل منه مقتلة عظيمة، ثم جمع الأمير يوسف عسكر لبنان وأرسلهم مع سليمان باشا والهوارة إلى عين دارة، فالتقوا بعسكر الجزار في قب الياس فانكسر أيضاً عسكر الأمير يوسف وحدثت عدة وقائع بين عسكر الأمير في جزين وعسكر الجزار في جباع كسر فيها عسكر الأمير يوسف. وكان عسكر الزعفرنجي يعيث خلال ذلك في مرج الغوطة، فيهلك الفلاحين ولا إهلاك الأوبئة ويرعى رجاله الزروع ولا أكل الجراد.
عهد سليم الثالث وفتن وكوائن:
هلك السلطان عبد الحميد الأول سنة 1203 وخلفه السلطان سليم الثالث وكانت
أيامه كلها غوائل وفتناً: استقلت فيها القريم وأصبحت روسيا بما أخذته من أملاك الدولة على البحر الأسود دولة بحرية مهمة، وقبل بمعاهدة كوجك قينارجه 1188 مع روسيا وبها انحط مقام الدولة، وحارب روسيا مرتين. وقال مترجموه من الترك: إنه كان عادلاً حليماً تحبه الرعية. ويقول من عاصره: إن عبد الحميد الأول كان أخرق للغاية وإنه كان جاهلاً وليس فيه من الجودة الرأي والحزم والمضاء شيء، ولم يستطع أن يستفيد من الثورة السياسية والدينية التي نشبت في القافقاس، ولم يحسن الانتفاع من أسباب النجاح التي كانت متوقعة من بحريته وجيشه.
وفي سنة 1204 وقعت فتنة بين الأمير قاسم الحرفوش وابن عمه جهجاه في سهل أبلح بالبقاع، فدحر قاسم عسكر الأمير بشير الشهابي فشق عليه فأرسل نجدة أخرى للأمير قاسم، فلما علم ذلك جهجاه هرّب سكان بعلبك وأتلف ما فيها ولم ينالوا من جهجاه، ثم استُصرخ الجزار فأمر بأن يمد بجيش فأرسل معه عسكر المغاربة والدولة ومشايخ الدروز فانتشبت الحرب بينهم وبين جهجاه فاندحروا وقلق الناس، ورحل كثير من السكان من تلك(3/7)
الأرجاء، ثم تغلب جهجاه على قاسم. وفي السنة التالية وقعت وقعة بين جهجاه وحاكم بعلبك إسماعيل فانهزم هذا وقتل من رجاله نحو مائتي رجل ولم يقتل من رجال جهجاه أحد. وفي سنة 1205 أحرقت عساكر الدولة وقيل عسكر الأمير بشير حاصبيا وأكثر القرى التي حولها.
مظالم الجزار واختلال الإدارة:
تولى أحمد باشا الجزار دمشق للمرة الثانية سنة 1205 وظل مقيماً في عكا وأرسل متسلمين منهم أُرفه أميني وكان كما قال مشاقة ظالماً قاسياً يشبه أُستاذه في إنشاء المظالم والحوادث الصعبة على المسلمين والنصارى واليهود. وكان
الجزار مغتاظاً من أهل دمشق لعرضهم على الدولة مساوئه مما أدى إلى تنحيته عن عمله سنة إحدى، فأراد الانتقام من الساعين به هذه المرة. وبالحقيقة أن مدة حكم الجزار في دمشق وهي خمس سنين لم يرتح فيها الناس شهراً واحداً من طلب الأموال ظلماً وطرح المعاملة المتصل التي حدثت بها خسائر عظيمة وطرح بضائع متنوعة، ينهبها من جهات ويطرحها بأسعار زائدة على أخرى، وليس هناك صغير ولا كبير إلا ويناله الظلم والقهر، ونزح كثير من السكان وتركوا أوطانهم وعيالهم. سلسلة من المظالم لا حد لها. وكان كل سنة يقتل في قلعة دمشق بدون تحقيق أُناساً وقد قتل في إحدى السنين مائة وستين رجلاً خنقاً وذلك في ثاني سنة من ولايته. وفي السنة الثالثة قتل نحو ستين وكان كلما جاء دمشق مرة في السنة وهو ذاهب ليحج بالناس أو آيب منه يعمل هذه الأعمال للإرهاب ولم يقف أمر المظالم عند حد أوامر الجزار المجنونة، بل كانت الفتن في جهات أخرى من الشام على عادتها في القرون الماضية، من ذلك أنه جرت سنة 1206 عدة وقائع كانت سجالاً بين الجبل وعسكر الدولة الذين كانوا مع الأمير بشير، وأحرقت عسكر الدولة غريفة وبست نساء وأولاداً. واشتد الخصام بين بشير قاسم وحيدر ملحم الشهابين على الإمارة في لبنان، وكان بشير تعهد للجزار بخمسة آلاف كيس على مثل ما تعهد به يوسف، فأخذ يصادر كل من مالأ الأمير يوسف،(3/8)
ومال الناس إلى الأمير حيدر للتخلص من الضرائب التي سامهم الأمير بشير دفعها، وسادت الفتن في اللبنانين الغربي والشرقي، وهاجم والي دمشق بعلبك للانتقام من الأمير جهجاه لأنه لم يخلد إلى السكينة، وقتل عشرات من الناس في بعلبك وسغبين وقتل من المعسكر أكثر من ذلك.
وهجمت أهالي حلب على بطال آغا نوري ومحمد آغا وعلى عسكره وحصل بينهما مناوشة أدت إلى انهزامه خارج حلب، وتوجه إلى عينتاب وحاصرها خمسة
أشهر إلى أن قتل وحمل رأسه أربعة وعشرين من العصاة إلى الأستانة. قال جودت: وكان هؤلاء الخونة يقتربون إلى رجال الأستانة بالأمور الدنيئة فينصبونهم حكاماً في بعض المقاطعات فيفسدون في الأرض ويتسلطون على عباد الله حتى ترفع الرعية علم العصيان وتقاوم الحكومة ولا تبعة في ذلك إلا على رجال الدولة.
وفي سنة 1206هـ 1791م أخرج الجزار الفرنج من بيروت وبنى السور بحجارة أبنية الشهابية التي دكها ودك كنائسهم وجعلها إسطبلات. وفي هذه السنة قتل رجل من أهل بيروت خارج البلد فأغلقوا الأبواب وقبضوا على كل من وجدوه من أهل الجبل وكانوا نحو ستين رجلاً فقتلوهم جميعاً. وحدثني الثقة من أهل بيروت عن أبيه عن جده أن حكام بيروت المسيحيين اشتدت مظالمهم وعتوهم على المسلمين فكان الأمير يمر في شهر رمضان في المدينة يحملون أمامه الغليون للتدخين فينتصب المسلمون على الأقدام يحيونه فلا يتنازل أن يجيبهم بل يقول الخادم من ورائه: سلّم الأمير. فضاقت الحال بالمسلمين فشكوا أمرهم إلى قائد الأسطول العثماني وكان يأتي كل سنة ليحمل الأموال المقررة فقال لهم: الخطب سهل وهو أن تغلقوا أبواب المدينة متى رأيتمونا أقلعنا بسفننا وتذبحوا النصارى وبذلك ترتاحون منهم ففعل غوغاء المسلمين وقتل بهذا التدبير الجائر كثير من الأبرياء، وبذلك تبين أن الدولة لم تكن تهتم إلا لجبايتها، فإذا استوفتها فسواء لديها تقاتل رعاياها أم تصالحوا، والغالب أنها تحبهم أن يكونوا على خصام أبداً حتى يخلو لها الجو، وقاعدة فرق تسد من أهم قواعد حكمها.
وفي سنة 1207 وهب الشهابيون الهرمل للأمير جهجاه الحرفوش فلم(3/9)
يذعن له سكانها فحاربهم وقتل منهم نحو أربعين رجلاً وحرق البلدة وفي سنة 1208 قامت الفتن بين الأشراف والإنكشارية في حلب دامت عشرين يوماً قتل فيها بعض أهل
اليسار والشرف ثم انكسر الأشراف وحصرهم الإنكشارية في جامع الأطروش وجرى من القبائح ألوان وأشكال.
وفي سنة 1209 صدر أمر الجزار بمصادرة بعض صيارف دمشق من الإسرائيليين وقتل بعضهم وأدخل الرعب على أبناء نحلتهم، ونال مثل ذلك بعض أغنياء الأهالي على اختلاف مذاهبهم، وبدأ القتل والصلب وقطع الأنوف وحبس خلق وجرم الأبرياء وهام الناس على وجوههم، وفي هذه السنة غزا عسكر دمشق بعلبك فهرب الأمير جهجاه إلى رأس بعلبك فأحرق بعض بيوتها وكان رجال الدولة يحاذرون من شيء يقع على الشام بعد أن اعتصمهم الظاهر عمر بروسيا فقد ذكر شاني زاده أن والي صيدا عبد الله باشا كتب إلى الدولة بأن كنيستي عكا والناصرة وقلعة حيفا كلها مستحكمة البناء لا تخلو من محذور فاستفتى السلطان فأفتى بأن تهدم الكنيسة القديمة والجديدة معاً لثبوت مضرتها ونفذ الحكم. وكثيراً ما كان الولاة في العهد العثماني يوجسون خيفة من الديارات والبيع إذا كانت مستحكمة البناء فقد أخرج السلطان سليمان النصارى من ديرهم في سفح جبل بالقرب من قرية البعنة في صفد وكان قديماً يعرف بدير الخضر وأمر أحمد بن أسد البقاعي من الصوفية بالإقامة فيه مع أولاده. وفي سنة 1210 تولى دمشق عبد الله باشا العظم والقطر في حالة مزعجة وقد دام في ولايته هذه ثلاث سنين وبقي الجزار في عكا وفي هذه السنة وقع القتال بين عسكر أولاد الأمير يوسف في جبيل وبين الذين كانوا في قلعتها من عسكر الأمير بشير وكسروهم. وفي سنة 1211 أرسل عبد الله باشا العظم عسكراً إلى البقاع فأرسل الأمير بشير والجزار والي عكا عسكراً فالتقاهم الجزار، ووقع القتال في مندرة من قرى البقاع، فانكسر عسكر دمشق كسرة عظيمة وقتل منه جماعة. ولم يزل عسكر لبنان والهوارة مجداً في آثارهم إلى وادي المجدل وغنموا خيلهم وسلاحهم وذهب بعض اللبنانيين
وأحرقوا البترونة قرب الزبداني. وفي سنة 1212 توجه والي دمشق إلى التفتيش كالعادة فلقي الطريق ممسوكة منافذها من عسكر الجزار فساءت حال رجاله ثم توجه إلى جنين(3/10)
فطمع الأهلون فيه ولم يعطوه مال الدورة، فألحق به الجزار جنده قاصداً قهره وعسكره. فركب وركب العسكر وتوجه نحو عسكر الجزار فدارت بين الفريقين حرب انتصر فيها والي دمشق على الجزار، وقتل الأول من عسكر الثاني خلقاً، ورجع لم يعترضه أحد وقد جمع الأموال الأميرية برمتها. وفيها قامت الإنكشارية على أعيان حلب وقتلوا كثيراً منهم حتى كانوا يقتلون السيد وهو يصلي في المحراب، فعرض الحال على الدولة فجاء شريف باشا والياً على حلب فمنعته الإنكشارية من دخولها، فتعهد بأن يكون مسعفاً لهم فدخل وأتته الأشراف فقوي بأسهم على الإنكشارية وبعد ذلك أرسل إلى الإنكشارية سراً أن يثوروا بالسادات فكبسوهم ليلاً وقتلوا منهم مائتين وخمسين نفساً وأخذ منهم شريف باشا خمسمائة ألف قرش وقدمها للدولة، وقويت شوكة الإنكشارية في حلب.
وفي سنة 1213 ضرب الجند الدالاتية جميع قرى دمشق وأكلوا مغلها وحرقوا دوابها وصار منهم قتل وسلب. قال ابن آقبيق: وقال أيضاً في حوادث هذه السنة: إنه كثرت الفتن وانحل الحكم حتى بقي إطلاق البارود من القلعة سبعة أيام. وانتشرت الفوضى في الأحياء والبلاد لا حكم فيها لحاكم ولا متسلم، وأفندية البلد دمشق مسجونون عند الباشا في المخيم وبقي ذلك حتى رحل الباشا، وبقي عسكره يومين وليلتين نهبوا في خلالها ما في القرى من مأكول ومنظور وعزم غالب أهلها على الرحيل لما أوقع فيهم الجند من الضرر.
محاولة نابوليون فتح الشام واستيلاؤه على غزة
ويافا:
بينا كانت الفتن الأهلية بين العمال على المال، والشام قد ضعفت فيها كل قوة، والدولة كلما رأت عاملاً قوياً تكتفي بأن تضع في جواره عاملاً آخر تملي له من قوتها حتى يظل في خصام مع جاره، والضعف في الإدارة ظاهر كل الظهور، والناس من الجزار في قسم عظيم من ديار الشام في أمر مريج، وهي مفتحة الأبواب خالية من أسباب الدفاع إلا ما كان من أسوار(3/11)
أُمهات مدنها أتى نابوليون بونابرت مصر 1213 وفتحها ولما شعر باجتماع الجيوش لمحاربته وأنه إن لم يفاجئ الدولة العلية في الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية تكون عواقب الأمور وخيمة عليه وأن من يحتل مصر لا يكون آمناً عليها إلا إذا احتل القطر الشامي فلهذه الدواعي قام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصداً الشام من طريق العريش.
ولما بلغ أحمد باشا الجزار قدوم الجيش الفرنسي من مصر إلى عكا أسرع - على رواية نقولا الترك - بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار، وأرسل إلى يافا العسكر وحصنها بالمدافع والقنابر، وامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشائره ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش. وأقاموا فيها وتنبهت الغز للجهاد. وفي شهر شعبان سنة 1213 خرجت العساكر الفرنسية إلى مدينة بلبيس والصالحية وكتب إلى الجنرال كليبر أن يتوجه من دمياط في البر على طريق قَطية. ولما سيّر بونابرت العساكر أحضر علماء الدين وقال لهم: إن الغز المماليك الهاربين مني قد التجئوا إلى أحمد باشا الجزار فجمع لهم العساكر وحضر إلى العريش وعزموا على الحضور إلى الديار المصرية فلذلك أخذتني الغيرة وعزمت أن أسير إليهم بالعساكر وأن أخرجهم من قلعة العريش، ثم جاء الفرنسيون إلى هذه القلعة وكان فيها ألف وخمسمائة مقاتل فحاصرها ثمانية أيام، ولما فرغت مؤونتهم وبارودهم أرسلوا يطلبون الأمان، وأن يخرجوا من القلعة بغير سلاح، وبعد ذلك حضر قاسم بك
المسكوبي في عسكر ومهمات فبلغ بونابرت وصوله وربطوا عليه الطريق وكبسوه ليلاً وذبحوا عساكره ولم يسلم منهم إلا القليل. وعندئذ أمر الجنرال دوكوا قائد مصر ووكيل بونابرت التجار أن تسير بالقوافل إلى الشام لينتفع بالمكاسب أصحاب التجارة وينتفع سكان الشام ببضائع مصر حسب العادة السابقة. وسار أمير الجيوش بالعساكر من قلعة العريش إلى خان يونس واستخلص غزة من الغز عساكر الجزار فوجد في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعاً ومستودعاً كبيراً من الخيام والقنابر. ولما بلغ يافا بني المتاريس أمامها وأرسل يطلب إلى حاميتها التسليم وكانت نحو ثمانية آلاف فأبت وقتلت الرسول فأدار عليها المدافع وقوي الصدام فقتل(3/12)
من العسكر ما ينيف على خمسة آلاف ومن أهالي البلد ألفان وهجم الفرنسيون على المراكب التي في الميناء وأخذوا منها بضاعة ثمينة. ومن الغد أطلق أمير الجيوش الأسارى وسرح الشاميين والمصريين وأمر بقتل الهوارة والأرناؤد جميعاً لأن بعضهم كان في قلعة العريش وحين أطلقهم أمرهم أن يذهبوا إلى بيوتهم فأتوا يافا وحاصروا بها فقتلهم واستبقى بعض الأغاوات الكبار. وجد الفرنسيون في قلعة يافا ثمانين مدفعاً وغنموا غنائم كثيرة من المراكب وغيرها.
وقائع نابليون على عكا وفي مرج ابن عامر:
وسار بونابرت بالعسكر قاصداً مدينة عكا على طريق الجبال، ولما وصلوا إلى ارض قاقون كانت عساكر الجزار والنابلسيون في الوادي، وحينما بلغهم قدوم الفرنسيون أخرجوا منهم من فم الوادي خمسمائة مقاتل وبدروا يرمحون تجاه العسكر وكان قصدهم أن يجروهم إلى ذلك الوادي، فلما علم أمير الجيوش مقصدهم قسم عساكره أثلاثاً ونشبت الحرب فقتل من عسكر المسلمين وولى الباقون منهزمين، ومن الغد سار عسكر الفرنسيين إلى وادي لاملح وكان بلغ
الجزار اقترابهم من تلك الديار فأرسل إلى حيفا فأحضر الذخائر الحربية والعسكر، وعندما وصل الفرنسيون إلى حيفا خرج أهاليها لمقابلتهم وسلموا أمير الجيوش مفاتيح البلد والقلعة، ودخل الفرنسيون إلى حيفا فوجدوا بها قارباً صغيراً فيه جماعة من مراكب الإنكليز فأخذوهم أسرى، وبعد ذلك انتقل أمير الجيوش بالعساكر إلى مدينة عكا ونصبوا المضارب والخيام في محل يقال له أبو عتبة، وبنوا المتاريس الحصينة ووضعوا فوقها المدافع وسار الجنرال كليبر والجنرال منو إلى الناصة ونصب حاكم فرنسي على شفا عمرو وابتدأت الحرب على عكا خامس يوم من شوال سنة 1213 ودامت أربعاً وعشرين ساعة والجيش الفرنسي يضرب المدافع والقنابر، والمراكب العثمانية والإنكليزية تطلق المدافع من البحر حتى خيل للناظرين والسامعين أن مدينة عكا لم يبق فيها حجر على حجر، وهمّ الجزار أن يخرج فطمنه(3/13)
الإنكليز وقالوا له: إننا أسرنا في عرض البحر ثلاثة مراكب مشحونة ذخيرة فضعف أمرهم، ثم أسر الفرنسيون مركبين كانا قادمين من الأستانة فيهما ذخائر ومدافع وستة وثلاثون ألف دينار مرسلة للجزار فسرّي على الفرنسيين، وحضر إلى أمير الجيوش قرب عكا الشيخ عباس بن ظاهر العمر فرحب به وأعطاه السلاح والكسوة وعشرة أكياس وكتب له أن يكون متولياً على مقاطعة أبيه. وحضر أيضاً مشايخ بني متوال فوسد إليهم حكم إقليمهم وساروا من عند أمير الجيوش إلى صور وقدموا له الذخائر وتسلموا القلعة التي كانت لآبائهم.
وكان قد اجتمع من دمشق جند من المغاربة والهوارة والعربان والغز بلغوا ثلاثين ألف مقاتل بين فارس وراجل وانتهوا إلى مرج ابن عامر فبلغ كليبر خبرهم فسار إليهم في ألف وخمسمائة مقاتل، وحينما وصلوا وشاهدتهم تلك الجموع انهزموا أمامهم مكيدة لهم، ولم يزل الفرنسيون في أثرهم حتى وصلوا إلى أطراف المرج ومن هناك أحاطوا بالفرنسيين من كل جانب، ولما رآهم القائد كليبر قد أحاطوا
بالعسكر قسم رجاله أربعة أقسام مع كل قسمة منهم مدفع. شاهد أهالي الناصرة كثرة جيوش دمشق وأن الفرنسيين إلى قلة فبادروا وأخبروا أمير الجيوش فأحضر حالاً القائد لتُرك وأمره بتحضير ثلاثة آلاف عسكري وأخذوا معهم أربعة مدافع، وأمر الجنرال بونابرت أن يسيروا على وادي عبلين وبعد ثلاث ساعات من مسيرهم ركب أمير الجيوش وسار وراءهم طالباً أثرهم، ووصل في منتصف الليل بعسكره إلى بئر البدوية وعند الصباح سار بالعسكر إلى أن نفذ إلى مرج ابن عامر وصعد إلى تل عال فكشف أرض المرج ونظر إلى الجنرال كليبر في وسط البيداء وعساكر المسلمين محيطة به والهجوم من كل ناحية وليس لهم عليه سلطان، ثم نشاهد جبلاً بعيداً وعليه المضارب والخيام وكان هذا جيش الغز، فنزل أمير الجيوش وعزل خمسمائة مقاتل، وأمرهم أن يقصدوا الجبل ويكبسوا الجيش وتوجه قسم منه حتى صارت العساكر المحاربة في وسطهم وأحاطوا بهم، ولما وصل أمير الجيوش إليهم ضرب مدفعاً واحداً ثم ضرب القسم الثاني ثم الثالث وحينما سمعت العساكر المحاربة المدافع ورأوا قدوم النجدة وعلموا أنهم صاروا(3/14)
في وسطهم ولوا منهزمين، ولما أصبح الصباح أرسل خمسمائة جندي إلى جنين وأمرهم أن ينهبوها ويحرقوها وأخرب قرى جبل نابلس لأنهم لم يطلبوا منه الأمان.
ولما بلغ أمير الجيوش قدوم عسكر دمشق إلى صفد أمر الجنرال مُرات أن يسير بخمسمائة راكب فرحل بعسكر دمشق إلى جسر بنات يعقوب، وعلم الجنرال منو وهو في الناصرة أن في مدينة طبرية عسكر الجزار فنشب القتال بينهم، فانكسر عسكر الجزار وانهزم بعد أن قتل منه مائتا جندي، وظهر الطاعون في عسكر فرنسا فمات منهم خلق. وكانت الحروب قائمة على مدينة عكا الليل والنهار وهم يهجمون على الأسوار والقنابل تنهال عليهم كالمطر، وقد أهلكوا من العساكر
الإسلامية والإنكليزية خلقاً كثيراً وهدموا أبراج عكا وأسوارها. ولما هلك بعض قواد الفرنسيين على أسوار عكا مع جملة صالحة من جندهم بدأ بونابرت يرجع إلى وطنه لأمر طرأ على مركزه هناك.
وكانت إنكلترا أهاجت ملوك الفرنج على فرنسا فاضطر الفرنسيون أن يرجعوا عن عكا بعد أن فقدوا على سورها ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، ومات في الطاعون وعلى الطريق ما ينيف على ألف. وفي 11 ذي الحجة أمر أمير الجيوش بالقيام بجميع المضارب والخيام وانتقل إلى مدينة حيفا وكان فيها عدة حواصل قطن للجزار فأمر بإحراقها. وسار إلى يافا فأخذ ما كان لهم من الأمتعة والمدافع الكبار ودفنوها في الرمال، وقد كانوا أخذوا من العساكر العثمانية أربعة آلاف بندقية فألقوها في البحر وأحرقوا المراكب التي كانوا غنموها من المسلمين وأخذوا من فيها أسرى وسخروهم في نقل الجرحى والمرضى من عسكر الفرنسيين يحملونهم على ألواح خشب إلى مصر.
خطيئات نابليون في الشام:
هذا ما رواه المؤرخ نقولا الترك في دخول نابليون جنوب الشام وخروجه منها وما وقع له من الوقائع وكانت مدة مقامه في الشام شهرين لم تستفد منها(3/15)
فرنسا سوى قتل بعض أبنائها، وكذلك خسرت الشام خسارة الضعيف مع القوي. ونابليون وإن عدوه نابغة القواد في عصره أخطأ كثيراً في توسعه في فتوحه. وفتحه الشام ومصر من جملة خطيئاته، ولم تربح أمته من حملتها على هذين القطرين إلا نشر مدنيتها على أيدي من استصحبهم نابوليون معه من العلماء والمهندسين والطبيعيين، وكانت مصر مباءة علمهم وعبقريتهم. وقد آخذ صاحب تاريخ الدولة العلية القائد بونابرت بأنه ارتكب قبل مغادرته يافا أمراً شنيعاً لم يسبق في التاريخ وهو قتله الجرحى والمرضى من عساكره حتى لا يعوقوه في سيره. وفي تاريخ فلسطين أن جنود الجزار في يافا يوم نابوليون كانت مؤلفة من عرب وأتراك ومغاربة وأرناؤد وأكراد وجركس، فانسحبوا لما فتحها نابوليون إلى بعض الحانات وأبوا التسليم قبل أن يؤمنهم على حياتهم فأجابهم القائد الفرنسي إلى طلبهم فاستأمن له أربعة آلاف شخص فساقهم إلى المعسكر. ولما رآهم نابوليون سأل قائده عن هذه الجموع المحتشدة فأخبره أنها حامية المدينة التي سلمت إليه أماناً وقبلهم حقناً للدماء فبهت وحار في أمره وقال: ماذا تريدون أن أفعل بهذا العدد أعندكم زاد يكفيهم ألكم مراكب تنقلهم إلى مصر أو فرنسا؛ ومن يتولى خفارتهم إذا أرسلناهم؟ يجب أن تعطوا الأمان إلى الأطفال والنساء والشيوخ لا للرجال الأشداء المقاتلين، ثم استشار ضباطه في قتلهم فخالفوه ولكنه أصر على رأيه وأمر بهم فقتلوا رمياً بالرصاص في 10 آذار سنة 1799 1هـ.
ويقول مشاقة: إن بونابرت أمر قبل أن يغادر يافا إلى عكا بقتل الأسرى الذين وقعوا في قبضته ثلاثاً: في العريش وفي غزة وفي يافا، وكان يطلق سراحهم كل مرة بعد أن يأخذ عليهم العهود أن لا يعودوا إلى قتاله، ولما أسرهم هذه المرة
وعددهم يربو على ثلاثة آلاف حنق عليهم وعلم أنهم لا يراعون ذمة ولا يحترمون الشرف العسكري، فأمر جنوده بإطلاق النار عليهم ولم يواروهم التراب، وبقيت أجسامهم طعاماً للطيور، وظلت رفاتهم مكشوفة مدة 1هـ. وهذا السبب معقول وله من القوانين الحربية ما يشفع به بعض الشيء أكثر من الرواية الأولى. وانتقد مستر مان على نابوليون ذبحه حامية يافا وكانت مؤلفة من أربعة آلاف أرناؤدي ووضعه السم لجنوده لدن عودته لأنهم أُصيبوا(3/16)
بالطاعون. وفي رواية أنه وجد فيها ألفين من الأسرى الذين أطلقهم وكانوا عاهدوه في العريش ألا يحاربوه فقتلهم والحرب غشوم.
وقال مشاقة: إن بونابرت بعد أن فرق جموع الأتراك على الحدود السورية أرسل كتاباً إلى الجزار ينصح له أن يجنح معه إلى السلم فلم يتنازل الجزار إلى إجابته، فأرسل إليه رسولاً ثانياً فقتله الجزار فحنق نابليون وتقدم برجاله البالغ عددهم آلاف مقاتل إلى غزة، وهزم من رجال الجزار أربعة آلاف فارس، وأسفرت وقعة يافا عن قتل ثلاثة آلاف من الجنود التركية، ودخلت رجال نابليون يافا، وتصرفت بما عثرت عليه من مال ومتاع، وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي سمح بها نابليون لرجاله بالتصرف والتمتع بمال المغلوب وأملاكه. وقال الشهابي: إن العساكر الفرنسية حاصرت يافا ثلاثة أيام وملكوها بالسيف، وكان عسكر المسلمين فيها ينيف على اثني عشر ألفاً فما سلم منه إلا القليل، وقتل كثير من النساء والأولاد حتى جرى الدم في أسواق يافا، وأرسلت دمشق عشرين ألف جندي إلى عكا فالتقاها ألف جندي من الفرنج وكسروها وقتلوا منها مقتلة عظيمة.
ولما جاءت الأخبار إلى دمشق بأن عسكر الجزار وعسكر الإنكليز قتلوا من جند نابلين ثلاثة آلاف جندي زينت دمشق وضربت المدافع من قلعتها، وقد أصيبت الأقاليم التي وقعت فيها تلك الوقائع وما إليها بالخراب، ومن أهم خرابها تسلط
الجند على ضعاف الرعايا فقد نهبت العساكر التي ذهبت من دمشق لمقاتلة الفرنسيين 1213 مدينة صفد وعملوا المنكرات أثناء طريقهم. فأصيبت فلسطين هذه المرة بغوائل كانت سواحل فينيقية وأعمالها تصاب بمثلها أو أكثر منها في القرنين الماضيين. وأصبحت مثل هذه الوقائع في هذا الجزء من الشام أي في اللبنانيين الغربي والشرقي وما جاورهما من الأمور العادية، وما ذلك إلا لقيام أمثال بني حمادة وبني معن وبني حرفوش وبني شهاب ممن كانوا يحاولون أن يظهروا بمظهر كبار الأمراء وهم صغار بمواقعهم ونقص تربيتهم الحربية وضعف أخلاقهم وقلة معارفهم، فكانوا بمقاومتهم(3/17)
بعض المقاومة لعمال الدولة من الترك يخربون ديارهم، ويهلكون من أخذوا على أنفسهم حمايتهم من ضعاف السكان.
حال الشام بعد رحيل نابليون عنه:
كان يظن بعد رحيل نابليون ومعاونة الإنكليز للدولة العثمانية على إخراجه من الشام، أن الدولة تبدل شيئاً من أصول إدارتها وترجع عن استسلامها لعمالها الذين يجبون الجبايات ويرضونها بجزءٍ منها ويحتفظون بالباقي لأنفسهم. ولكن الأحوال بقيت بحالها، وظن الجزار نفسه أنه هو الذي دفع جيش نابليون عن الشام، فعاد يمثل مظالمه ويحمل على الناس مغارمه، ويتناول استبداده المسلمين والنصارى واليهود على السواء، وجنونه فنون.
ولم يكف فلسطين ما حلّ من ظلم الجزار ثم وقائع نابليون حتى قام محمد باشا أبو المرق يسومها العسف والخسف، يجور على أهل بيت المقدس والخليل وغزة والرملة ولدّ، حتى اضطر السادات الأشراف الأبرياء لكثرة مظالمه أن يبيعوا أولادهم كما تباع العبيد والجواري على ما ذكر ذلك أحمد باشا الجزار في كتاب صدر عنه سنة 1217 إلى وكيله في دمشق.
ومن أحداث هذا الدور نهب العسكر الدمشقي 1214 جميع القرى في طريقه إلى غزير في لبنان، وتفرقت عساكر الدولة في ضياع كسروان ونهبوا كل ما وجدوه وذلك للضرب على أيدي الأمير بشير الذي كان على ما يظهر يحاول أن يأكل الخراج، ولذلك قاتله جيش الدولة 1215 مرة أخرى لما جاء إلى نواحي بعبدا في لبنان وقتل من أدركه في المتن، ورجع بشير إلى عاريا وكان عسكر الدولة أحرق عدة بيوت من بعبدا والحدث وسبي النساء وقتل العجائز والأولاد فاجتمع معه أربعة وخمسون رأسا من القتلى فأرسلوها إلى الجزار ونهبوا أموالا ومواشي وأحرقوا عاريا. وذهب والي دمشق سنة 1217 إلى حماة وفتحها وبالغ في الظلم حتى فر غالب أهالي حماة عن بلدهم اتقاء شره، وتفرقوا في دمشق وحلب وطرابلس وأصبحت حماة كالقرية لقلة سكانها.(3/18)
قال ابن آق بيق: وفي سنة 1217 شغلت دمشق بالظلم وإكرامية الباشا من البلاد واشتغل حسن آغا بالظلم في دمشق وإرهاق القرى بالطروحة والإكراميات وفرض الذخائر ومعاونة الجردة وغير ذلك من المظالم التي لم يسمع لها أثر في السابق قال: ولما خرج عبد الله باشا العظم من دمشق سنة 1218 قاصداً إلى طرابلس ليحارب أهلها، وضرب عسكره بعض القرى ونهبها وظلوا على هذا التخريب حتى بلغوا طرابلس فحاصرها وخرج أهلها هائمين على وجوههم ووقع القتال بين عسكره وعسكر المتسلم وقتل من الفريقين خلق. وكان أحمد باشا الجزار يرسل النجدات إلى عبد الله باشا العظم.
وقال أيضاً: إن الجزار كان يطلب من الأغنياء أموالا يأخذها منهم بعد الحبس والضرب وبقي الطرح على جميع الأصناف وأغلقت الدكاكين بدمشق وبات الناس في كرب والعسكر يحيط بالبلد، والأكراد والشيخ طه الكردي وجنوده يعذبون الخلق أنواع العذاب حتى يقروا لهم بالأموال، والطرح على الخلق أشكال
وضروب من بنّ وتنباك وألاجه وحرير وشاشات وزنانير واستصفاء بيوت وخانات وبساتين وغير ذلك، وظهر في دار ابن عقيل وكيل الجزار بدمشق طمائر ذهب قدرت بنحو خمسمائة كيس. ولم يمن يمر يوم دون أن يقبض على أربعة أو خمسة من أرباب الوجاهة والثروة يسجنون في سجن القلعة ويعذبهم أكراد الجزار بالكماشات والحديد والعصي إلى أن يشرف المعذَّبون على الموت ويشتط العمال في طلب المال من المصادرين ويطوفون بهم في المدينة، فيضطرون إلى بيع جميع ما يملكون ليكفّ عنهم، ووصلت الحال بالأغنياء إلى التسول، وكان قتل النفوس على الأكثر في سبيل أخذ المال مشروعاً كان أو غير مشروع. فقد حدثت فتنة طفيفة بين ملتزم أموال بلاد بشارة، فأرسل الجزار على العصاة عسكراً قتلوا منهم ما ينيف على ثلاثمائة رجل وأسروا عدة، وأرسلوهم إلى عكا جعلوا على الأوتاد ثم أخذ الجزار أموالاً جزيلة من السكان.
ومن الحوادث في أيام عبد الله باشا العظم بدمشق أن القبو قول قصدوا إثارة فتنة 1214 فأغلق آغا القلعة بابها، وحاصره الباشا فاضطر إلى التسليم بعد مدة، فقتل آغا القلعة وهمدت الفتنة، ثم سار عبد الله باشا لمحاربة(3/19)
مصطفى بربر متسلم طرابلس وحاصر قلعتها بشدة، وطال الأمر فالتجأ بربر إلى الجزار فسكت ولم يجبه لأنه كان يفاوض الأستانة لأخذ ولاية دمشق، وبينا الحال مشتدة على بربر وعبد الله باشا يحاصره بعسكره أرسل الجزار إلى وكيله بدمشق محمد بن عقيل ألفي جندي وأمره أن يقبض على عبد الرحمن المرادي وحسن دفتر دار المتسلم وابن سبح متسلم حمص ويقتلهم حالاً ونادوا باسم الجزار والياً. فبلغ ذلك عبد الله باشا وعلم أن الدولة متغيرة عليه، فخاف كثيراً وهام على وجهه في البادية يختبئ عند العرب. أما بربر طرابلس فرضي عنه الجزار وأقره متسلماً على بلده، ثم لامت الدولة الجزار على ما أتاه من قتل ابن المرادي كما يقتل العامة فتخلص
الجزار مما أتاه وألقي تبعة قتله على وكيله ابن عقيل وقطعه إرباً مع أن الجزار هو الذي أمره خطاً بقتله.
مساوئ أحكام الجزار:
توفي الجزار سنة 1219 1804 بعد أن ضرب الأهالي ضربةً لم تصب بمثلها منذ أزمان. أصله بشناقي من جماعة علي بك أمير مصر هرب إلى الشام لما قتل مولاه، وأقام يختلف إلى لبنان فاطلع على أحواله وأحوال الديار التي كانت تحت حكم الظاهر عمر من أرض الجليل. ثم توجه إلى الأستانة فعين وزيراً على صيدا وحصّن عكا ورفع عن بيروت حكم بيت شهاب وضبط أملاكهم. وكان أحمد البشناقي هذا جزاراً سفاكاً لأنه لما كان كاشف البحيرة في مصر عهد إليه الانتقام من عربها لقتلهم عبد الله بك من المماليك فأسرف في القتل فلقب بالجزار. ولا غرو فالدم البشري في نظر احمد باشا الجزار، كدم الخرفان في نظر القصاب والجزّار. هاج المماليك على الجزار مرة يريدون قتله فيما يقال ولولا حذره الشديد لقتل، وتحصنوا في برج داخل عكا فطلبوا الأمان، ولما علم أن خيانتهم كانت بالاتفاق مع بعض سراريه غضب عليهم جميعا وخنقهم بالماء الحار. حج الجزار مرة بالناس فلما عاد ترامى إلى سمعه اتهام مماليكه بحريمه فلم يلبث أن أرسل المماليك في حملة على لبنان وأوقد ناراً كبيرة في داره، فكان خصيانه يأتونه بنسوته واحدة بعد(3/20)
أخرى فيقبض بنفسه على عنق الواحدة ويطرحها في النار على وجهها، ويدوس على ظهرها ويضغط على رأسها، حتى يتم شيّها في النار وتهلك فيرفعها ويحضر غيرها، وعلى هذه الصورة الشنعاء أهلك الجزار سبعاً وثلاثين امرأة ولم تنج غير فتاة في الثامنة من عمرها.
كان الجزار يقتل الكبير والصغير من وزراء وأفندية وعلماء وأغواتن ويرضي السلطان بالمال ويداريه فيتغاضى عنه، وكان إذا عامل أحد المغضوب عليهم
بالرفق وعزف عن قتله يجذم أنفه، ثم يصلم أذنه اليمنى ثم يقلع عينه اليمنى ولو كان من خواص خدامه. وكم من بيت خربه بسلب ماله ظلماً، وكم من رجل قتله بعد أن صادره، وكان لا ذمة له ولا ذمام، خدمه رجال من بيوت معروفة فلما بدا له قتلهم وصادرهم واختلق لهم ذنوباً والقاهم في البحر. ولقد أكرمه الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان لما كان الجزار صعلوكاً متشرداً لأول أمره وعاونه لما أصبح والياً، فكانت النتيجة أن شنقه وألقاه ثلاثة أيام معلقاً، ولطالما أخذ النوتية والركاب في مراكب كانت قادمة من مصر قبل مجيء الفرنسيين إليها، وقتل جميع من فيها من أبناء مصر أو الشام وصادر جميع ما يحملون من البضائع.
تفنن الجزار في إهراق الدماء وحكم المؤرخين عليه:
وكان من عادة الجزار بعد أن يصادر المصادرين أن يقتلهم كما فعل سنة 1205 فقبض في دمشق على أولاد عبيد وأخذ منهم ستين ألف قرش ففروا إلى حلب ثم قبض على ثلاثين من أتباعه وسجنهم في القلعة ففدوا أنفسهم بمائتين وخمسين ألف قرش ثم قتلهم ليلاً، وقبض على خازن أمواله وأسبابه ونفاه إلى مصر، وقبض على مفتي عكا وإمامها وعلى رئيس مينائها فقتلهم صبراً. وظلم جميع أكابر دمشق وسلب أموالهم.
وخرج ذات يوم في عكا قبل الشمس إلى باب السراي وأمر بإغلاق أبواب المدينة وقبض على كثيرين من العمال والكتاب والأهالي فسجنهم، وكانوا مائتين وثلاثين إنساناً وقبض على النواب وسجنهم، وكان كلما تقدم إليه(3/21)
إنسان يكشف رأسه وينظر في وجهه فالذي يقول فيه نيشان يرجعونه إلى السجن، والذي يقول ما فيه نيشان يطلق، ثم أنه أحضر الفعلة أيضاً وصنع بهم كذلك وقبض منهم جملة وأحضر التجار وأرباب الصنائع والحمالين وعلى هذا المنوال عامل الجميع فامتلأت السجون، ومن الغد أحضر المغاربة وأمر أن يخرجوا السجناء كلهم
خارج البلد ويقتلوهم ففعلوا ما أمرهم به؛ قال مدوّن وقائعه: وكان يوماً عصيباً لم تكن تسمع فيه إلاّ صراخ المقتولين ظلماً وعويلهم وأنينهم، وبقي القتلى كالغم مطروحين خارج البلد، ثم أمر أن ينادي المنادي في شوارع عكا ليخرج أهل القتلى لدفن موتاهم، وأشار إلى أن كل امرأة ترفع صوتها تُقتل حالاً، فخرج الناس ودفنوا القتلى. ثم ابتدأ يرسل جنوده يقبضون على الفلاحين ومشايخ القرى وأصحاب المقاطعات فمنهم من يقتله ومنهم من يصم أُذنه ويجدع أنفه ويطلقهم.
ولم يذكر المؤرخون علة استرسال الجزار في قتل الناس على هذه الصورة من غير سبب ولعله أُصيب بمسٍ من الجنون أو أن جنونه أطبق هذه المرة فأزهق الأرواح، وإن امتاز في أدوار حياته بالفك والفتك. وذكر المؤرخون أن الجزار قبيل وفاته أمر أن يغرقوا من كان في سجنه في البحر فنفذ أمره. وفي التاريخ العام أن الجزار أوقد جذوة التعصب بين المسلمين في بيروت وأغراهم بقتل الموارنة حتى يضمن حكمه على بيروت. ولم يكن يُعرف فيما إذا كان الجزار خادماً مخلصاً للسلطان أو عاصياً وقحاً. وكان كثيراً ما تجيئه رسل جاويشية من الأستانة تحمل أبيه بعض الأوامر فيجز رأس القادم ويبعث به إلى ديوان الأستانة، وهناك يغدق الذهب على الوزراء والخصيان ونساء الحرم السلطاني. وكثيراً ما كان يقول وهو في حال السكر للمسيو دي توليس: السلطان كالبنات يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر، فإذا حاول أن يقاومني فأنا أرده إلى الصواب بأن أهيج عليه مصر والشام وآسيا الصغرى، وأزحف على الأستانة في جيش القابسز وأكون قادراً مثل لويس الكبير إمبراطور فرنسا.
وقد وصف كشاقة الجزار وصفاً معقولاً قال فيه: إنه كان داهية ذا بأس وحنكة واسعة، سلمت إليه الدولة إدارة شؤون إيالتها وعولت عليه في(3/22)
إخضاع الشام وضمه تحت جناحها، على طريقة الغدر والخداع وإلقاء الفتن والحروب الأهلية
بين الأمراء والمشايخ الذي كانوا يحكمون الرعية بالجور والعسف ويسومونهم الذل أنواعاً والظلم أشكالاً، وشريعة الرجل منهم إرادته السخيفة، والحاكم يشنق ويقتل ويشوه أخلاق الشعب، وكأن الحال قيضت لهم رجلاً كالجزار ينتقم منهم، وكان هؤلاء العتاة لاهين بالمنازعات العائلية والحروب الأهلية يكرهون العدل ويعشقون الظلم، لا يرحمون ضعيفاً ولا قريباً، ولم تكن معاملة الجزار للأمير يوسف أقسى من معاملة هذا الأمير لأنسبائه وإن ما لحقه من الجزار هو مما يستحقه. وقس على الأمير بقية المشايخ والأمراء الذين كانوا يستبيحون أموال الرعية وأعراضهم في سبيل أهوائهم. قال أن الجزار ظلم ولكنه خدم الدولة والشعب، وعادت خدماته على الدولة بالنفع فأخضع القطر لشوكتها فأطاع، ورد عنها بثباته أمام نابوليون خطراً كان يهددها يوم حصار عكا، وأفاد الرعية بأن أزال عنهم ضغط المشايخ والأمراء المستبدين فكان جوره بالنسبة لجور الأمراء والمشايخ قبله أقل وطأة. ولما جاءهم وضع حداً لظلمهم وزعزع سلطتهم وأرغم أنوفهم وأطلق الفلاح من عقالهم. وعلى الجملة فأنه عمل بما يوافق عصره وينطبق على أبنائه، فبموته سُرِّي عمن كان غضبه يهددهم ويوشك أن يوقع بهم. وقال أن الجزار على قبح أعماله حفظ المساواة بين الرعية مع تفرق مذاهبها، فيحبس علماء المسلمين وقسوس النصارى وحاخامي اليهود وعقال الدروز سوية، وهكذا في إجراء العذابات الجهنمية عليهم لا يفرق بينهم، وأكبر ما يحصى عليهم من الذنوب التوقف عن أداء الأموال التي يطلبها منهم وربما نشأ تلكؤهم من عجزهم.
وقال إن الجزار كان يتأخر عن دفع الأموال الواجب عليه أداؤها للسلطنة ويعتذر عن الدفع بأنه محتاج إلى العساكر لإدخال لبنان في الطاعة، فسئمت الدولة من تعللاته الطويلة وكتبوا له أن المدة طالت ويظهر أنك غير قادر على تمهيده، فلذلك
صممت الدولة على إرسال وزير مقتدر بعساكر كافية لإخضاع لبنان لسطوتها فكان جوابها أنني بعد أيام قليلة إن شاء الله أبشركم بفتحه لأنه ظهر عليهم الضعف عن المقاومة، وقد منعنا وصول الذخائر إليهم من البقاع والسواحل وهم لا يقدرون على العيش بدونها، لأن أراضي الجبل قليلة بالنسبة(3/23)
لسكانه. وبعد مدة وجيزة بشر الدولة بشارة كاذبة مع الساعي فادعى أنه فتح الجبل وأنه وجد فيه من السكان النصارى مائة وعشرين ألف رجل ومن الدروز ستين ألفاً ومن الشيعة ثلاثين ألفاً ومثلهم من السنة، فأتحفته الدولة بسيف مجوهر ومدحته على همته، وأرسلت إليه بعد مدة أوراق جزية النصارى المعتادة وزادوا عليها مائة وعشرين ألف ورقة برسم نصارى لبنان، فسقط في يد الجزار واستدعى المعلم حاييم فارحي مدير خزانته واستطلعه طلع رأيه في هذه القضية فأجابه يجب الآن دفع هذه القيمة من خزانتك لما عرضته الدولة عن فتح الجبل وعن عدد النصارى فيه. ثم ننظر في هذه الزيادة فدفع ثمن هذه الأوراق. وبعد أشهر أرسل بشارة للدولة بأن نصارى الجبل دخلوا في الإسلام. ولما دخلت السنة الثانية أرسلت الدولة للجزار أوراق جزية لبنان كالسنة الماضية فأرجع الزيادة بقوله: إن نصارى لبنان تقدم العرض عن دخولهم في الإسلام وارتفعت عنهم الجزية شرعاً. قال: وهكذا كانت أمور الدولة في ذاك العهد تجري بلا تحقيق في صحة ما يعرضه عليها مأمورها.
ولما هلك الجزار أرسلت الدولة راغب أفندي الذي صار والياً على حلب بعد ذلك لضبط متروكاته، وكانت قوانين الدولة يومئذ تقضي بأن يؤخذ كل ما يخلفه مستخدموها من أملاك وأموال وعروض، فحررت التركة مع سندات الأموال التي كان يحررها على الأمراء والمشايخ عدا الأموال الأميرية، فحسبت هذه الديون الظالمة من حقوق الدولة، ولما رأوا أنها وافرة وأنه من المتعذر تحصيلها جعلوها
مقسطة على رعايا أُولئك الأمراء والمشايخ على عدة سنين، فكان لبنان يدفع المال مضاعفاً، فالمال الواحد يبلغ أربعمائة كيس وكان يجبى من لبنان مال الجوالي على النصارى ومال فريضة على الدروز، فكان القسط الواجب على اللبنانيين أداؤه من مطلوبات الجزار يبلغ مقدار ستة أموال أميرية وصار الأهالي يدفعون كل سنة مالين. ولم يعلم ما خلف الجزار من الأموال بعد حكم تسع وعشرين سنة ولكن الذي قاله المؤرخون أن أحد رجاله الشيخ طه الكردي أخذ ألف كيس وأرسلت الدولة رجلين من الأستانة للبحث عن موجوده، فما رأوه شيئاً مهماً غير ما كان أرسله إسماعيل باشا للدولة مع القبطان باشي في أول الأمر من مال(3/24)
وتحف، يقال إنها بلغت ثمانية آلاف كيس بيد أن إسماعيل باشا صرف أموالاً كثيرة على العساكر والأغوات، وعلى كل فهي قليلة بالنسبة لطول عهده، والغالب أنه كان معتدلاً في أخذ المال غير اعتداله في سفك دماء الرجال، أو أنه ادخر كميات من الذهب غير ما عثر عليه منها فضاعت عند وكلائه وخواصه.
قاعدة المبالغة في الثروة والفقر، والظلم والعدل، والعلم والجهل، والقبح والجمال تناولت أعمال الجزار أيضاً، ولو كان في قلبه بعض الرحمة وعزوف عن سفك الدم الحرام إلا بما تقضي به الشريعة لعد مصلح عصره قياساً مع الصفات التي أوردها مشاقة. لا جرم أن التبعة في بعض أعماله تعود على عماله ورجاله، وأكثرهم من أبناء الديار.
المتغلبة على الأحكام بعد الجزار:
خرج الشام بعد هلاك الجزار مقلَّم الأظفار، معروق العظام، بل مقطع الأوصال، سيئ الحال، وأحدث موته فراغاً ففقدت به الدولة أعظم قوة تمثلها ونُفّس بهلاكه خناق أرباب المقاطعات المتغلبين من الأعيان، وكان في سجن الجزار في عكا رجل يقال له إسماعيل باشا أرناؤطي الأصل، وأصله من جملة عساكر الوزير
الأعظم حين حضر إلى مصر لاستخلاصها من الفرنسيين. ولما قام الفرنج على المسلمين وأخرجوهم من مصر وتشتت العساكر في تلك الأقطار قصد إسماعيل باشا أحمد باشا الجزار، فدعاه إلى فتح يافا فظهرت منه خيانة مع محمد باشا أبو المرق فقبض عليه الجزار وسجنه وعذبه، كما كان يفعل بمن يقبض عليه وبقي في سجن الجزار إلى أن هلك هذا، فخرج إسماعيل باشا من حبسه وجعل مكان الجزار فاستولى على متروكاته حتى اضطرت الدولة إلى قتاله لعصيانه في قلعة عكا وأرسلت عليه حملة ودام الحصار أربعة أشهر حتى أُخذ وقتل فاستراحت الأمة من أحمد الجزار ومن خلفه.
وعصا أهل وادي التيم فأرسل عليهم إسماعيل باشا جنداً كبس القرى وقتلوا زهاء مائتي قتيل وأخذوا مائتي أسير، وكبس الأمير بشير جنبلاط(3/25)
بعساكر الدروز بعض قرى عكا وقتل من عساكر إبراهيم باشا جماعة، وإبراهيم باشا هو إبراهيم باشا الحلبي الذي نصبته الدولة مرة ثانية على دمشق وكان والياً على حلب. وكان حدث بموت الجزار اضطراب وخلت دمشق من الأحكام، فمهد الأمور وعهدت إليه الدولة مع ولاية دمشق بصيدا وطرابلس وأوعزت إلى الأمير بشير الشهابي حاكم الجبل أن يكون في طاعة إبراهيم باشا وعوناً له على إصلاح حال صيدا والساحل، فصدع والي الجبل بالأمر لأنه كان داهية يراعي الدولة ولا يتأخر عن قضاء لبانتها، ولا سيما الخراج والجزية يؤديهما في أوقاتهما.
حاولت الدولة غير مرة القبض على مصطفى بربر متسلم طرابلس وظل في منصبه يسوم الناس مظالمه، وما لبد خصمه اللدود عبد الله باشا العظم أن تولى دمشق للمرة الثالثة بعد أن كانت الدولة غضبت عليه بوشايات الجزار وشردته في البادية ولكنه دعاها إلى الرضا عنه وداواها بما تداوى به في العادة بأكياس بينه وبين الوهابيين أمور عظيمة، وكانوا قد استولوا على الحجاز وتقدموا إلى الشام
فهلك غالب عسكره وانتهب الحاج.
عين سليمان باشا الكرجي من مماليك الجزار والياً على عكا فأقام حاكماً على يافا وعلى غزة محمد آغا أبو نبوت أحد مماليك الجزار، وبقي حاكمها إلى أن طمع بالاستقلال فيها، وعندما تحقق سليمان باشا ذلك ركب عليه بالعسكر فهرب إلى مصر ثم إلى الأستانة وشفع فيه الشافعون فنال رتبة الوزارة. وسليمان باشا هو الذي أراد أن يرفع بعض المظالم عن الرعايا ويحملها على الأجانب في عكا كأن يبيع الغلات والقطن والزيت من الأجانب فقط، تبتاع الحكومة ما يفضل عن عوز الأهلين وتخزنه في مخازن لها تبيعه من التجار الأجانب القادمين في مراكبهم بالأسعار التي تريدها.
ومن الأحداث في سنة 1221 ما حدث من فتنة بين العسكر الوطنيين وجند الحرس في دمشق، فحاصرت القلعة وأغلقت المدينة كلها، ووضعت المتاريس داخل المدينة، وجرت بين العسكرين حرب المتاريس في الأزقة والشوارع والسطوح والمآذن فغلب الوطنيون الحرس وكسروهم(3/26)
وهزموهم إلى مئذنة الشحم ثم ارتدوا عليهم وأخذوا طالع الفضة، ونهب الخلق تلك الجهة كلها، وراح الحرس مكسورين ثم عادوا وهزموا الوطنيين عند الشيخ عمود فنال الفريقان أحدهما من الآخر على غير طائل. ولم يقف شقاء دمشق عند حد التقاتل بين الجند بل أسرف الوالي كنج يوسف باشا 1222 في ظلم الناس وأراد ستر ذنوبه فأرسل إلى الدولة ألف كيس من المال لإنعامها عليه بإمارة الحج وإيالة طرابلس مع ولاية دمشق وذهب إلى نابلس وقهر أهلها وجبى منهم أموالاً عظيمة ثم ذهب إلى جبل النصيريين وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم، وكان خيّرهم بين الدخول في مذهب أهل السنة والخروج من جبالهم فامتنعوا وحاربوا وخذلوا، وبيعت نساؤهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا التسنن فعفا عنهم وتركهم في
أرضهم بعد أن حاربهم شهرين ونهب قراهم، ثم رحل إلى طرابلس ليقبض على مصطفى بربر متسلمها، فتحصن هذا في القلعة فوقع القتال، وكان الحصار أحد عشر شهراً وطرابلس خلال هذه المدة خالية من سكانها وقد جمعوا في الخانات سلعهم ومتاعهم وماعونهم، ثم دخل يوسف باشا البلد وأطلق لعسكره الأكراد والأرناؤد وغيرهم النهب فلم يبقوا على شيء فيها وأنزل عسكره في الدور فخربوها بأخذ خشبها للدفء والوقود. وتوسط سليمان باشا والي صيدا عند الدولة فعفت عن مصطفى بربر وتسلم يوسف باشا القلعة. وكان مصطفى بربر من خدام الأمير حسن أخي الأمير بشير فتوصل بذكائه وشجاعته إلى المناصب العالية وحاز اعتبار الوزراء وخشية الرعية.
مقتل سليم الثالث ومصطفى الرابع وتولي محمود
الثاني:
في غضون سنة 1221 خلع سليم الثالث بيد الإنكشارية وقتل لأنه أراد أن ينفذ خطة في إصلاح الإدارة على الرغم من حروبه مع روسيا والنمسا وغيرهما من دول الغرب، وينشئ عسكراً جديداً يستعيض به عن الإنكشارية وكان هذا السلطان واسع النظر لكن الدهر خانه فلم يقدر أن يطبق إصلاحه،(3/27)