منه الوسخ فرديء لأنه يغش بزفت يخلط فيه.
قال: وقد يكون في بلاد صقلية رطوبة تطفو على مياه العيون، يستعملها الناس في السراج عوض الزيت، ويسمونه دهنا صقليا، ويغلطون في ذلك، إنما هو نوع من القفر الرطب «1» ، ويدعى سطالاطس «2» .
وقال جالينوس في الحادية عشرة: القفر اليهودي هو أحد الأنواع المتولدة في ماء البحر وغيره، وكذلك صار يوجد طافيا على مياه الحمامات «3» وما دام فوق الماء، فهو رطب سيّال، ثم إنه يجف بعد ذلك حتى يصير أصلب من الزفت اليابس، وقد يتولد منه مقدار كثير جدا في البحيرة المنتنة بغور الشام.
وقوته تجفف وتسخن في الثانية، ولذلك يستعمله الأطباء في إلزاقات الجراحات الطرية بدمها، وفي سائر ما يحتاج إلى التجفيف مع الإسخان اليسير.
(167) وقال حنين «4» : قفر اليهود، وهو الخمر، وهو أرفع ما يكون من المومياء. إذا كان خالصا نفع بإذن الله من رضاض «5» اللحم، ومن الكسر إذا ضمد به من خارج، ويغلى بالزيت الخالص، ويسقى للمرضوض اللحم، ويؤخذ المشاقة «6» وشيء منه، ويوضع عليه من خارج فيبرأ.
وقال ديسقوريدوس: ولكل قفر قوة مانعة من تورم الجراحات، ملزقة للشعر النابت في الجفون، ملّينة محلّلة، وإذا احتمل أو اشتم أو تدخن به كان صالحا(22/297)
للأوجاع العارضة في النساء اللواتي يعرض لهن الاختناق، ولخروج الرحم. وإذا تدخن به صرع من به صرع، وإذا شرب بجندبادستر «1» وخمر أدرّ الطّمث، ونفع من السعال المزمن، وعسر النفس، ونهش الهوام، وعرق النسا، وأوجاع الجنب.
وقد يحبّب ويعطى لمن به إسهال مزمن. وإذا شرب ذوّب الدم «2» المنعقد، وقد يحتقن به مع الشعير لقرحة الأمعاء. وإذا استنشق [دخانه] «3» نفع من النزلات، وإذا وضع على السّن الوجعة سكن وجعها. واليابس من القفر إذا سحق واستعمل ألزق الشعر النابت من العين، وإذا تضمد به مع دقيق الشعير ونطرون نفع المنقرسين «4» ، ووجع المفاصل.
وقال التميمي: يحلل الأورام الحلقية «5» الباردة، ويحلل القروح، ويلين ويمدد، ويجلو البياض من العين، ويجفف رطوبات القروح الرطبة تجفيفا شديدا ويدملها، مع فضل حرارة فيه، وقوة قوية [ويبس] . ويقتل الديدان في الشجر، ويمنعها من أكل عيون الكرم أول ما تعيّن، ويقتل ما في الآبار والصهاريج من الديدان الصغار الحمر، ويدخل في كثير من المراهم المنبتة للحم المدملة للقروح.
وهو طرّاد للرياح الغليظة الكائنة في المعدة والشراسيف «6» ، حتى إنه يخرجها بالجشأ. ويدخل في سفوفات الأطفال ووجوراتهم «7» ، وفي سفوفات «8» الرجال(22/298)
والنساء، المعينة على هضم الطعام، المحللة للنفخ والقراقر. وقوم (168) يدخلونه في الدخن، وإذا بخّر به المنزل طرد الحيات والعقارب وسائر الهوام المؤذي، ويسميه الصيادلة الإسقرطم «1» .
وقال ابن سينا: يقوي الأعصاب، وينفع من بياض الأظفار لطوخا، وينضج [ويفتح] «2» الخنازير، ويطلى على القوابي، [وينفع من قروح الرئة ويعين على النفث وبخرج المدة من الصدر] »
وينفع من أمراض اللوزتين، [و] من الخناق، وصلابة الرحم.
قلى «4»
قال أبو حنيفة: القلى يتخذ من الحمض، وأجوده ما يتخذ من الحرض وهو قلى الصبّاغين وسائر ذلك للزجّاجين.
وقال مسيح: القلى حار في [الدرجة] «5» الرابعة، ومنافعه كالملح، إلا أنه أحدّ من الملح. ينفع من البهق والقروح، وينفع من الجرب، ويأكل «6» اللحم الزائد «7» .
وقال في كتاب العجائب «8» : يدق مع الثوم، ويعجن بالنفط الأبيض، ويطلى به لدغ العقرب، فإن وجعه يسكن في الحال بإذن الله تعالى.(22/299)
قيراطير «1»
قال أرسطو: هو حجر مدور مثل الحصى، يخرج من البحر، شبيه بالبنادق «2» . خاصيته أنه إذا سحق وشربه من به الحصى في المثانة أخرجه قطعا كالرمل.
قيشور «3»
قال أرسطو «4» : القيشور حجر خفيف متخلخل، يقوم على الماء، ولا يغوص. وله معادن كثيرة في بلاد سقلية «5» وبلاد أرمينية، ويسمى أيضا حجر الدفاتر لأن المكتوب في الدفاتر إذا حك به محاه.
وقال ديسقوريدوس في الخامسة: وينبغي أن يختار منه ما كان خفيفا جدا، كثير التجفيف «6» ، مسفقا «7» ليس له كثافة ولا صلابة الحجارة، هشا أبيض.
وينبغي أن يحرق على هذه الصفة، [بأن] يؤخذ [منه] أي مقدار كان، ويدفن [في] جمر، فإذا حمى أخذ وطفىء في خمر ريحاني؛ ثم يدفن ثانية، فإذا حمى(22/300)
أخرج عن النار، وترك حتى يبرد من تلقاء نفسه، ثم يرفع ويستعمل وقت الحاجة.
وله قوة تقبض اللثة، وتجلو غشاوة البصر والآثار مع إسخان. وقد يملأ القروح الغائرة ويدملها، ويقطع اللحم الزائد فيها. وإذا سحق ودلكت به الأسنان جلاها، (169) ويسحق ويستعمل في حلق الشعر.
وزعم أوليطس «1» أنه إن ألقي في خابية خمر تغلي سكّن غليانها على المكان.
وقال جالينوس في التاسعة: قد يقع في الأدوية التي تبني اللحم، وفي الأدوية التي تجلو الأسنان، إذا كان على مثال الأدوية التي تحرق، ولكنه يكتسب في الإحراق شيئا حارا حادا يخرج منه إذا غسل، وهو عند الناس يجلو «2» الأسنان ويجعلها براقة، لا بقوته فقط بل بحسب خشونته أيضا، كالساذج والخزف وغير ذلك وما أشبهه من جلاء الأسنان. ونفعه ذلك للخلّتين «3» جميعا، أعني لأن فيه شيئا «4» من الجلاء والخشونة، وعلى هذا النحو صارت القرون إذا أحرقت صار منها دواء يجلو الأسنان.
كرسيان «5»
قال أرسطو: هو حجر يوجد بأرض الهند، أخضر اللون، شفاف صاف، ثقيل الجسم في ثقل الرصاص. إذا أخذ هذا الحجر وكلّس حتى يبيض، وحمّر(22/301)
حتى يحمر، ويصير في وزان الزنجفر، فإذا انحل، ألقى عليه مثله مغنيسيا «1» ، وأذيب البلور بالنار، وألقي عليه من هذا الكرسيان المدبر عشر شعيرات على عشرة أساتير صبغه وجعله في لون الياقوت. وإذا علق على إنسان منه، ولو وزن قيراط، أمن من الحمّى وغائلتها.
كرسباد «2»
قال أرسطو: هو حجر يوجد بأرض الهند «3» . أسود اللون، يجتمع عليه الحيتان. وهو خفيف، خشن «4» المس، شديد السواد، صلد لا يعمل فيه المبرد.
إذا كلّس تكلس في سبع مرار، ويصير كلسه أبيض. [و] إذا خلط مع هذا الكلس شيء من نشاذر، وألقي منها جزء على سبعة أجزاء زئبقا، عقده وصيره حجرا يصبر على المطارق.
كرماني «5»
قال أرسطو: هو حجر أسود تشوبه كمودة، يصاب في الآجام والدحل «6» ، وقد يكون على لون الطحال، إذا سحق منه بالشب واللبن وأسعط المجذوم (170) برأ من جذامه بإذن الله تعالى.(22/302)
كدامى «1»
قال أرسطو: هو حجر يوجد على سواحل البحر، أخضر يشوبه سواد، وهو خشن خفيف إذا سحق أو برد على المبرد، وطرح على الرصاص القلعي المنقّى أذهب ضرره ونتن رائحته وصيّره صابرا.
كلس «2»
هي الجير «3» والنؤورة أيضا. قال ديسقوريدوس في الخامسة: قد يعمل على هذه الصفة، [بأن] يؤخذ صدف الحيوان الذي يقال له قروقش «4» البحري فيصير في نار أو تنور محمّى، ويترك فيه ليلة، فإذا كان من غد، نظر إليه فإن كان مفرط البياض أخرج من النار، أو من التنور، وإلّا فليبرّد ثانية، ويترك حتى يشتد بياضه، ثم يؤخذ فيغمس في ماء بارد في فخّارة جديدة، ويستوثق من تغطيته لخرق «5» ويترك في الفخار ليلة، ويخرج منها غدا وقد تفتت غاية التفتت، فيرفع.
وقد يعمل أيضا من الحجارة التي يقال فوخلافس، وهي فيما زعم قوم حجارة مستديرة بالطبع مثل الفهور «6» ، ويعمل أيضا من رديء الرخام. والذي يعمل من رخام يقدّم على سائر الكلس.(22/303)
وقوة كل كلس ملهبة ملذعة محرقة تكوي. وإذا خلط بمثل الشحم أو الزيت يقدم على سائر الكلس الحديث «1» الذي لم يصبه ماء أقوى من الحديث الذي أصابه ماء.
وقال جالينوس: أما النؤورة التي لم يصبها ماء فتحرق إحراقا شديدا حتى إنها تحدث في المواضع قشرة محرقة. وأما النؤورة المطفأة فهي في ساعة تطفأ تحدث قشرة، ثم من بعد يوم أو يومين يقل إحراقها ويقل إحداثها القشرة المحترقة إذا مرت عليهما؛ فإن غسلت النؤورة مرارا أزالت تلذيعها في الماء، وصار ماؤها المعروف بماء الرماد، وصارت هذه تجفف بلا لذع، فإن غسلت مرة ثانية أو مرارا شتى صارت لا لذع لها أصلا، وصارت تجفف تجفيفا شديدا من غير أن تلذع «2» .
وقال ابن سينا: النؤورة تقطع نزف (171) الدم من الجراحة، وإذا نقعت بالماء مرارا كثيرة نفعت من حرق النار» .
كهرباء «4»(22/304)
فائدة: اعلم أن التراجمة لمتن كتاب ديسقوريدوس وجالينوس زعموا أن عندهما أن الكهرباء هو صمغ الحور «1» الرومي، وليس كما زعموا وغلطوا عليهما في ذلك، والدليل على ما أقوله أن الفاضل جالينوس لما ذكر الحور الرومي قال فيه ما هذا نصه: ورد هذه الشجرة قوته حارة في الدرجة الثالثة، وصمغتها أيضا قوتها شبيهة بزهرتها، وهي أسخن من الزهرة.
وأما ديسقوريدوس فإنه قال: وصمغ الحور الرومي إذا فرك فاحت منه رائحة طيبة. هذا قول الرجلين الفاضلين في صمغ الحور الرومي، وليس في الكهرباء شيء من هذه الأوصاف التي وصفناها، لا في المائية «2» ولا في القوة، ولا من طيب الرائحة، ولا من الإسخان أيضا؛ فقد ظهر من كلام التراجمة ما أوردته أنهم يقولون «3» على ديسقوريدوس وجالينوس ما لم يقولاه فتأمل ذلك.
وقال الغافقي: والكهربا صنفان، منه ما يجلب من بلاد الروم والمشرق، ومنه ما يوجد بالأندلس في غربيها، عند سواحل البحر تحت الأرض، وأكثر ما يوجد عند أصل الدوم «4» .
ويزعم جهّال الناس أن تلك المواضع كانت قبورا في القديم، وأن ملوك الروم كانوا يذيبونها ويصبونها على موتاهم، لأنها تحفظ جثة الميت، وتبدي صورته(22/305)
بأشفافها، وهذا القول كذب! لأن المواضع التي توجد فيها آثار القبور أكثر ما تصاب في البراحات «1» وهذه يجمعها الحرّاثون، وتوجد قطرات كالصمغ، وهو أحسن وأصفر وأصلب من المشرقية وأقوى فعلا.
وأخبرني بها الخبير أنها رطوبة تقطر من ورق الدوم [لأنه هناك] «2» في هذه الناحية عند طلوعه من الأرض يقطر منه رطوبة شبيهة بالعسل، يكون منها هذا الدواء، وقد يوجد في داخلها الذباب والنتن والمسامير والحجارة (172) والنمل.
وقال ابن سينا: هو صمغ كالسّندروس مكسره «3» إلى الصفرة والبياض، شفاف «4» ، وربما كان إلى الحمرة، يجذب التبن والهشيم من النبات، ولذلك يسمى كاه ربا أي سالب التبن بالفارسية.
وقال في الأدوية القلبية: لها خاصية في تقوية القلب وتفريحه معانة بتعديلها وتمتينها «5» الروح.
وقال إسحاق بن عمران: الكهرباء بارد يابس، وإذا شرب منه وزن نصف مثقال بماء بارد حبس الدم الذي ينبعث من انقطاع عرق في الصدر، ويحبس نزف الدم من أي موضع خرج من الجسد، وينفع من سيلان البطن والمعدة.
وقال علماء الخوز وثاوفرسطس الحكيم «6» : إذا علق الكهرباء على صاحب(22/306)
الأورام الحارة نفعه منها، وإذا علّق على الحامل حفظ جنينها، وإن علّق على صاحب اليرقان نفع منه جدا، وإن سحق ولطخ به حرق النار، نفعه جدا.
وقال ماسرجويه: وإذا شرب منه مثقال حبس التحلب من الرأس والصدر إلى المعدة.
وقال أنطليلس الآمدي «1» : إنه يبرئ من عسر البول. وإذا شرب معه المصطكي نفع من أوجاع المعدة.
وقال أبو جريج «2» : له خاصية في إمساك الدم، وخاصة الزحير.
وقال الرازي: جيد لسيلان الدم من الطمث والبواسير والخلفة شربا، وإذا شرب منه نصف مثقال بماء ورد حبس القيء، ونفع من الكسر والرّض.
وقال بديغورس «3» : وبدل الكهربا إذا عدم وزنه مرتين من الطين الرومي، وثلثا وزنه من السليخة «4» ، ونصف وزنه من البزرقطونا «5» المقلية.
وقال سادوق «6» : بدله وزنه من السندروس.(22/307)
لازورد «1»
قال ديسقوريدوس: في الخامسة: أرمانيا، وينبغي أن تختار منه ما كان لينا، لونه لون السماء، مشبعا، وكان مستويا ليس فيه خشونة من حجارة، هين التفتت، يتفتت سريعا، وقطعه كبار.
واعلم أن أرمانيا «2» هذا ليس هو اللازورد على ما ظنه (173) غالب المتأخرين وفهموه من كلام ديسقوريدوس، وإنما هو الحجر الأرمني، لأن اللازورد حجر صلب، وهذا رخو؛ ويدل على صحة هذا القول، أن صاحب كتاب الأحجار قال ما لفظه: هذا الحجر طبعه البرد واليبس، ويجب أن يختار منه ما كان أرزق شديد الزرقة، معتدلا، وفيه تعريق الذهب، قوي الجسم صلب، ليست فيه جروشة ولا تفتيت، أملس. وأصناف هذا الحجر اثنين «3» ، شديد وصاف.
قال: ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه ولا تبلغ درجته، والفرق بينه وبين أشباهه، أن اللازورد إذا وضعت منه قطعة على جمر ليس له دخان، خرج منه لسان نار صابغ محرق ما يلقاه. ويؤتى به من بلاد العراق وهمدان(22/308)
وبلاد الموصل.
وقال جالينوس في التاسعة: وقوة هذا الحجر تجلو مع حدة يسيرة وقبض شديد جدا، فلذلك صار يخلط مع أدوية العين، وقد يسحق وحده ويستعمل ذرورا، فتربى به الأشفار التي انبترت من الأخلاط الحادة، وبقيت لا تزيد ولا تكثر، وكانت دقاقا صغارا. فاللازورد في هذا الموضع يفني رطوبات الأخلاط الحادة، فيرد العضو إلى مزاجه الأصلي الذي يكون فيه نبات الأشفار، فيزيد نماها وتقويتها.
وقال ديسقوريدوس: قوته شبيهة بقوة لزاق الذهب إلا أنه أضعف منها وقد ينبت شعر الأشفار.
وقال ديسقوريدوس: قوته شبيهة بقوة لزاق الذهب إلا أنه أضعف منها وقد ينبت شعر الأشفار.
وقال الغافقي: واللازورد أشبع لونا من الحجر الأرمني، وقوته شبيهة بقوته، إلا أن اللازورد أضعف منه. وهو مسهل للمرة السوداء، وكل خلط غليظ مخالط للدم، وينفع أصحاب المالنخوليا وأصحاب الربو. والشربة منه أربع كرمات «1» .
ويدر الطمث إدرارا صالحا، وينفع من وجع المثانة، ويقطع الثآليل، ويحسن الأشفار، ويجعد الشعر.
وقال بعض علماء الأحجار: إن حجر اللازورد الذي فيه عيون الذهب إذا سحق مع سحيره بخلّ «2» فهو أجود ما يكون (174) للقرحة التي تأكل اللحم، وتجري في الجسد. وإذا طلي مسحوقا بالخل على البرص أبراه.
وقال أرسطو «3» : ومن تختم به نبل «4» في أعين الناس.(22/309)
لاقط الذهب «1»
قال أرسطو: والحجر الذي يلقط الذهب معدنه بالمغرب في بعض جباله. وهو حجر أصفر، مشوب بغبرة قليلة، أملس، ليّن المجس، من نظر إليه ظنه تبرا.
وخاصيته أنه إذا برد الذهب بالمبرد، واختلطت برادته بالتراب، وأمر عليها هذا الحجر لقطها وأخرجها من التراب، حتى لا يبقى في التراب منها شيء.
لاقط الرصاص «2»
هو حجر سمج اللون، منتن الرائحة، مشوب بشيء من البياض. والرصاص مع ثقل جسمه فإن هذا الحجر يجذبه ويعلقه، فإذا وقع في موضع تشم منه رائحة الحلتيت «3» ، وإن ألقي في النار حتى يصير كالفحم وألقي عليه «4» الزئبق صبر على السبك والطرق بالمطارق، ويكون منه فضة جيدة.
لاقط الشّعر «5»
قال أرسطو: الحجر يلقط الشعر. وهو حجر متخلخل الجسم، وليس في جميع الأحجار أخف جسما منه، ولا أقل وزنا. إذا أمرّ «6» على بدن الحيوان تحلق الشعر منه مثل الكلس والزرنيخ. وإذا أمر على شعر مطروح على الأرض لقطه، وإن سحق وطلي به الموضع الذي حلق شعره يبقى أملس مثل (عضو) »(22/310)
صاحب داء الحية والثعلب، فإن أصاب رائحة هذا الحجر الذهب المسبوك أفسده وفتته عند الطرق كما يتفتت الزجاج، ولا حيلة في إصلاح ذلك.
لاقط الصوف «1»
قال أرسطو: هذا الحجر أخضر، يشوبه عروق خضر وصفر. وهو خفيف الجسم، مائل «2» إلى البياض، مدور صغار وكبار. إذا أدني منه الصوف التف عليه حتى يغوص فيه. وسحوقه يذهب البياض العتيق من العين اكتحالا، وإذا كلس وعقد معه زبد البحر، عقد الزئبق عقدا شديدا.
لاقط الظّفر «3»
قال أرسطو: هذا الحجر أبيض مشوب بغبرة «4» ، لين جدا أملس، لا يصاب فيه نقطة (175) ولا شق ولا ثقب، وإن أمرّ على ظفر سلخه وذهب به، وإن أمر على القلامات التي قصت وألقيت على الأرض جمعها، وإن أمر على الماس هشمه، وإن نضح على هذا الحجر دم الحائض فتته حتى يصير كالرمل، وإن شرب شارب من مائه تمعط لحمه وفتت مثانته وكبده.
لاقط العظم «5»
قال أرسطو: هذا الحجر خشن المجس، أصفر. يجلب من بلاد بلخ إذا أدني من العظام لقطها.(22/311)
لاقط الفضة «1»
قال أرسطو: هو حجر أبيض مشوب بغبرة «2» ، إذا غمز عليه بالمسن صرّ كما يصرّ الرصاص القلعي. إن أخذ إنسان من هذا الحجر قدر أوقية، ووضعه من الفضة على خمسة أذرع، انجذبت إليه، وإن كانت مسمّرة انقلع المسمار، وليس من المغناطيسات أقوى من هذا.
لاقط القطن «3»
قال أرسطو: هذا الحجر يوجد على سواحل البحر، وهو حجر أبيض إذا أدني من القطن أو الخرق اختلسها. ومن خواصه أنه إذا حل «4» في الزبل وألقي على النحاس صبغه كالفضة، وإن كان مع إنسان برأ من الماء.
لاقط المسن «5»
قال أرسطو: هذا حجر يلقط النحاس والصفر، وفي لونه يسير غبرة. وإذا أخذ منه زنة دانق «6» ، وألقي عليه عشرة دراهم فضة محلولة بعد سبكها، وقبل أن تجمد، أحدث فيها صفرة ذهبية، فإن أعيدت إلى السبك لم تنتزع عنها زمانا طويلا، إلا أنها لا تكون ذهبا. وإذا سعط صاحب الصرع منه وزن شعيرة مسحوقا مذابا بماء العنب، نفعه ذلك بإذن الله تعالى.(22/312)
لحاغيطوس «1»
قال أرسطو: هو حجر أسود اللون تشم منه رائحة القار «2» ، شديد اليبس، يلحم الجراحات الشديدة الغور، وينفع أصحاب الصرع، ويطرد الهوام.
لحام الذهب «3»
ولحام الصاغة أيضا. قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجوده ما كان من أرمينية، وكان لونه شبيها بلون الكرّاث، وكان مشبع اللون؛ وبعده ما كان ببلاد ماقدونيا «4» وبعده (176) ما كان بقبرص، ولنختر من هذه الأصناف كلها ما كان نقيا، وأرذله ما كان فيه حجارة وتراب.
قال: وقد يغسل لزاق الذهب على هذه الصفة، بأن يؤخذ ويدق، ويلقى في صلّاية، ويصب عليه ماء، ويدلك باليد على الصلاية مع الماء دلكا شديدا، ويودع الماء حتى يصفو، ثم يصب عليه ماء آخر ويدلك أيضا، ولا يزال يفعل ذلك به إلى أن ينقى، ثم يؤخذ ويجفف في الشمس ويستعمل. وقد يحرق بأن يؤخذ ويسحق ويقلى على الجمر «5» ويعمل فيه ما وصفنا من الكلام في غيره.
وقال جالينوس في التاسعة: وهذا الدواء أيضا من الأدوية التي تذوّب اللحم، ولكنه ليس يلذع لذعا شديدا. وأما تحليله فيحلل تحليلا شديدا، وكذلك تجفيفه. وفي الناس قوم يسمّون بهذا الاسم الدواء الذي يتخذ في هاون من(22/313)
نحاس ودستج «1» من نحاس، تبول فيه الأطفال. وقوم آخرون يدخلون هذا الصنف في عداد الزنجار، ويجعلونه نوعا من أنواعه. والأجود أن يتخذ المتخذ له في وقت الصيف، والأجود أن يكون الهاون والدستج نحاسا أحمر، فإنه إذا كان كذلك كان ما ينحل منه جيد للجراحات الخبيثة، إن استعمل وحده، أو مع غيره.
وقال ديسقوريدوس: وله قوة تجلو بها اللثة، ويقلع اللحم الزائد في القروح وينقيها، ويقبض ويسخن ويعفن تعفينا برفق، مع لذع يسير. وهو من الأدوية التي تهيج القيء وتغثي «2» .
تنبيه «3» : اعلم أن لحام الذهب عند كثير من الناس هو تنكار الصاغة الذي يلحمون به الآن «4» ، لكن اللحام الذي تقدم القول فيه عن ديسقوريدوس وجالينوس ليس هو التنكار، بل هو دواء غيره، فاعلم ذلك.
لوفقرديس «5»
قال الشيخ الرئيس: إنه حجر مصري يستعمله القصّارون لتبييض الثياب.
وهو حجر رخو ينماع «6» في الماء سريعا، وهو جيد لنفث (177) الدم.(22/314)
لينج «1»
قال ديسقوريدوس في الخامسة: قرايص «2» قد يكون بعضه في معادن النحاس القبرسية بقبرس، وبعضه وهو أكثره يعمل من الرمل الموجود في مغائر وحفر البحر، وأكثره يوجد في جوف البحر، وهو أجوده. ولتختر منه ما كان مشبع اللون جدا. وقد يحرق كما يحرق القليميا، ويغسل كما يغسل.
وقال جالينوس في التاسعة: قوته حادة تنقص وتحلل أكثر من الزّنجفر، وفيها أيضا بعض قبض.
[و] قال ديسقوريدوس: وله قوة تقلع به اللحم، وتعفن تعفينا يسيرا، وتحرق وتقرح.
ماس «3»
قال في كتاب الأحجار «4» : أنواع الماس أربعة، أولها الهندي، ولونه إلى البياض، وعظمه في قدر باقلاء، وفي قدر بزر الخيار والسمسم، وربما كان بقدر الجوزة إلا أن هذا قليل الوجود، ولونه قريب من لون النشادر الصافي.(22/315)
والثاني الماقدوني، لونه شبيه اللون الذي قبله، لكنه أعظم منه وأكبر.
والثالث المعروف بالحديدي، لأن لونه يشبه لون الحديد، وهو أثقل من الحديد، يوجد بأرض اليمن، وفي بلاد سوقه يشبه المغنيسيا «1» .
والرابع القبرسي، موجود بالمعادن القبرصية، ولونه كلون الفضة، إلا أن سوطافوس الحكيم لا يرى هذا النوع من الماس، لأن النار تناله.
ومن خاصية هذا الحجر أنه لا يلصق به حجر إلا هشّمه، فإذا ألح عليه كسره، وكذلك يفعل بجميع الأجساد الحجرية المتخذة إلا الرصاص، فإن الرصاص يفسده ويهلكه. ولا يعمل فيه النار ولا الحديد، وإنما يكسره الرصاص.
وقد يسحق هذا الحجر بالرصاص، ثم يجعل سحيقه على أطراف المثاقب من الحديد ويثقب به الأحجار واليواقيت والدر.
وزعم قوم أنه يفتت حصى المثانة، إذا ألزقت حبة منه في حديدة بعلك البطم، وأدخلت في الاحليل حتى يبلغ إلى الحصاة فيفتتها، وهذا (178) خطر.
وإن أمسك هذا الحجر في الفم كسر الأسنان «2» .
قال أرسطو: إن الإسكندر كان معجبا بخواص الأحجار، وسببه أنه أوتي بإنسان كان في مجرى بوله حجر، فأخذت قطعة من الماس وألصقتها بقليل مصطكي وأدخلته في إحليله فجذبه وفتته بإذن الله.
وقال: والموضع الذي فيه الحجر لا يصل إليه أحد من الناس، وهو واد بأرض الهند لا يلحق البصر أسفله، وفيه أصناف من الأفاعي، فلما انتهى الإسكندر إلى هذا الموضع، أراد أن يخرج منه، فامتنع الناس من النزول، فراجع رأي الفلاسفة(22/316)
فأمروه أن يرمي فيه قطاع اللحم حتى يلزق فيها الحجر، والطير ينزل فيأخذه ويخرجه من الوادي، فيأخذ ما لزق باللحم منه. فأمر الإسكندر بذلك، ثم أمر باتباع الطير، والتقاط ما يتناثر من الماس؛ وأكثر ما يوجد بقدر الباقلاء، لأن هذا المقدار يتشبث باللحم فيخرجه النسور «1» .
وذكر أن في الوادي قطعا كبارا جدا لكن لا وصول لأحد إليها، ولا خلاف في أنه يكسر الأسنان إذا أخذ في الفم، وإنه سم قاتل جدا، ومن لبسه كان موقى من الأعداء وكيدهم، ولا يقدر أحد على الوصول إليه بأذى، وتهابه العامة، ولا تعدو عليه الخاصة، ويدفع عنه السحر والسوء وما أشبه ذلك.
مانطس «2»
قال أرسطو: هو حجر هندي لا يخاف الحديد إذا ضرب به، وإذا وضع في موضع بطل عمل الشياطين والسحر فيه، وإذا علق على إنسان أمن من الجن.
قال: والإسكندر لما ظفر به أمر عسكره باستصحابه لدفع الجن والسحرة، ففعلوا ذلك فأمنوا.
ماهاني «3»
قال أرسطو: هو حجر أبيض وأصفر. يوجد بأرض خراسان. ينفع من السكتة، وإن أحرق بالنار وجعل على البواسير أبرأها، ومن تختّم به أمن من الرّوع والهم والغم والجزع.(22/317)
ماورز
قال أرسطو: هذا حجر إذا خلط بالإثمد المشوي أذهب بياض العين (179) .
مراد
قال أرسطو «1» : حجر عجيب يوجد بناحية الجنوب، إن أخذ من معدنه والشمس في الجنوب كان طبعه حارا يابسا، وإن كانت في الشمال، كان حارا رطبا «2» . وهو أحمر اللون والشمس جنوبية، وأخضرها وهي شمالية «3» .
ويسمى باليونانية سروطاطيس، وتفسيره الحجر الطيار، وذلك أن الحجر يتولد في الهواء من لطيف البخار الصاعد من الأرض، فتقلعه الرياح وتدفعه من جهة إلى جهة، وهو يدور في الهواء. ولونه مثل لون النيل الذي يصبغ به، وإذا كثرت رياح الجو كثرت حركات تلك الحجارة، وإذا غربت الشمس سكنت، فتسقط بعض تلك الحجارة إلى الأرض فتصاب. وهو أبدا مصعد منحدر، فمن أخذ حجرا منها واستصحبه معه تبعته الشياطين وعلّموه ما كان يريد أن يتعلم منهم.
مرجان «4»
قال في كتاب الأحجار: المرجان طبعه اليبس والبرد، ويختار منه ما كان أحمر شديد الحمرة، متناسب الأجزاء، غليظ الأغصان والشّعب، حسن اللون، براق.
وأصنافه خمسة، وهي نوع واحد، أحمر وأبيض وسيركوني وزنجفري(22/318)
وقرمزي، والفرق بينه وبين أشباهه، أن المرجان له رائحة كرائحة حشيش البحر زهمة زفرة، وأغصان مثل أغصان الشجر ونباته.
قال أرسطو: إذا كلّس عقد الزئبق. يستخرج من موضع يسمى مرسى الحرز، وهو بقرب ساحل مدينة أفريقية، يجتمع البحار بها، ويستأجرون الغواصين لاستخراج المرجان من قلع البحر؛ وليس في ذلك الموضع على مستخرجه ضريبة ولا للسلطان فيه حصّة، فيتخذ الغواص صليبا من خشب طوله نحو ذراع، ويشد فيه حجرا، ويبعد عن الساحل نصف فرسخ، ويرسل الصليب إلى القعر، ثم يمر بالصليب وفيه معلق ركوة يمينا وشمالا، ليعلق المرجان بدوالب الصليب، ثم يقلعه بقوة ويرقيه، فيخرج وقد تعلق بالصليب جسم مشجّر أغبر اللون، فإذا حك (180) زال عنه الغبرة، وخرج أحمر اللون.
وقيل: إن الغواصين ينزلون إليه ويستخرجونه، وفي بحر الطور منه شيء ولكن ليس بنافع.
قال في كتاب الأحجار: إذا سحل منه شيء، وذرّ على موضع نزف الدم قطعه. ومن سحقه وأذابه بدهن بلسان «1» ، وقطّر منه في أذن مسحور أفاق وبرئ بإذن الله. ومتى علق على مولود كان له وقاية من العين والنظرة. وهو يزيل الصّمم من الأذن، ويحفظ الأطفال من أرواح السوء. ومن استنّ بسحالته نفعه من نزف الدم والحفر في أسنانه وأوجاع اللثة. وإن سقي منه إنسان قطع نزف الدم، وإن اكتحل به جلا الغشاوة المتولدة من البخار، وجلا البياض العارض في العين. ومن شرب منه وزن درهم بماء بارد نفع من نفث الدم من الصدر، ومن لطخ بسحيقه داء الثعلب «2» أبرأه، ومن شرب منه نصف مثقال بماء، من أي(22/319)
شراب كان نفع من ورم الطحال والحمرة، ويفعل ذلك مرارا، ويداوم عليه يبرأ بإذن الله تعالى.
وقد ذكرنا خواص أخر في حرف الباء، في ترجمة السيد، فلينظر هناك، وإنما ذكرناه هنا لأن المرجان هو النبات نفسه، والبسد هو أصول ذلك النبات المغيبة في قعر البحر. والمرجان يظهر على وجه أرض البحر مشعّبا كما ذكرنا.
مرداسنج «1»
وهو المرتك «2» . قال ديسقوريدوس في الخامسة: منه ما يعمل من الرمل الذي يقال له موليدانيطس، ومعناه الرصاصي. ومنه ما يعمل من الفضة، ومنه ما يعمل من الرصاص، وقد يكثر منه ما يعمل من الرصاص المحرق، ومنه ما لونه أحمر ويقال له حورنيطس، ومعنى هذا الاسم الرمدي «3» ، وهو أجود أصناف المرتك، وبعده الفضي.
وقال جالينوس في التاسعة: هذا أيضا يجفف، كما يجفف جميع الأدوية المعدنية الأخر، وجميع الأدوية الحجارية والأرضية، إلا أن تجفيفه قليل جدا، وهو في كيفياته وقواه الأخر كأنه منها في الوسط، (181) وذلك أنه ليس يسخن إسخانا بينا، ولا يبرد. وجلاؤه أيضا وقبضه يسيران، فهو لذلك دون الأدوية التي(22/320)
تجلو جلاء معتدلا، ودون الأدوية التي تجمع وتقبض. وهو دواء نافع للسحج الحادث في الفخذين.
وقال ديسقوريدوس: وقوة جميع المرداسنج قابضة ملينة مسكنة مبردة «1» ، تملأ القروح العميقة لحما، وتذهب اللحم الزائد في القروح وتدملها. وقد يحرق على هذه الصفة، فيؤخذ فيرض حتى يصير كقطع «2» الجوز، ثم يصير على جمر، ثم ينفخ عليه إلى أن يصير نارا، ثم يؤخذ ويترك حتى يبرد، ثم ينقى من الوسخ، ويرفع. ومن الناس من يطفئه في الخل والخمر، يفعل ذلك مرارا، وقد يغسل كما يغسل الإقليميا. وقد يقال بأن المرداسنج المغسول يستعمل في الأكحال، وإنه يجلو الآثار السمجة العارضة من القروح التي في الوجه، من الكلف وما أشبه ذلك.
وقالت الخوز: المرداسنج المبيض «3» يقطع رائحة الإبط ويحبس العرق.
وقال بليناس: إن طرح في الخل أبدل الحموضة حلاوة، وإن طرح في نؤورة الحمام سوّد الجلد.
وقال إسحاق بن عمران: يدخل في بعض الحقن التي تقطع الخلفة. وإذا أخذ مرتك وكبريت أصفر بالسوية، وسحقا مع خل ودهن الآس حتى تكون كثخن العسل، ولطخ به الشرى والنفاخات نفع منها.
وقال ابن سينا: والنساء في بلادنا يسقينه للصبيان للخلفة وقروح الأمعاء، وقد يلقينه في كيزان الماء ليقل ضرره. وهو قاتل، يحبس البول، وينفخ البطن(22/321)
والحالبين، ويقبض اللسان، ويخنق ويضيق النفس.
وقال في التجربتين: المرداسنج ينفع من حرق النار وحرق الماء منفعة بالغة، ولا سيما من حرق النار. وإذا نثر على القرحة المتولدة بين أصابع القدمين من قلة غسلهما، ومن انضمامهما على الوسخ المجتمع بينهما، أزالها ونفع منها. وإذا خلط بسائر أدوية الجرب والحكّة نفع منهما. وإذا طلي الرأس بمرتك مع خل (182) وزيت نفع من القمل، وإن سحق وطبخ بأربعة أمثاله في زيت حتى يصير في قوام الزّفت الرطب، وقطّر وهو حار في الشقاق المزمن الواغل في اللحم، نفع منه.
وقال ديسقوريدوس: إن شرب المرتك كثيرا حصل منه ثقل في البطن والمعدة مع مغس شديد وربما انشق المعي من ثقله «1» وانتفخ الجسم كله، ويجعل لونه مثل لون الأبار، وينفع صاحبه بعد التقيؤ ببزر أرمنين «2» بري ومر زنة ثلاثة عشر مثقالا وافسنتين وزوفا وبزر الكرفس، أو فلفل وفاغية الحنّا «3» مع طلاء، وذرق الحمام البري اليابس مع ناردين طلاء.
وقال الرازي في الحاوي: يجب أن يقيّأوا بماء الشبت المطبوخ والتين، ويسقوا من المر وزن ثلاثة دراهم بماء فاتر، والزمهم لحوم الخرفان، واسقهم خل خمر أسود وأدر «4» عرقهم.(22/322)
وقال أرسطو: إن اتخذ منه مرهما أبرأ القروح وألحم الجروح، وأذهب الرائحة الزفرة من جميع الجسد.
وقال الشيخ الرئيس: إنه يطيب رائحة البدن والإبط ويجلو الكلف والآثار السود والدم الميت وآثار الجدري ويمنع الفزع ويجلو العين. وهو قاتل يحبس البول.
وقال بعض الحكماء: من خواصه أنه إذا طرح على الخل حلا، وإذا طلي به شيء من البدن سوّده، وإذا طلي به الإبط أزال رائحته، لكن يرد الفضلة إلى القلب، فينبغي أن يخلط بدهن الورد حتى يأمن غائلته.
مرطيس «1»
قال في كتاب الأحجار: هذا حجر فيه خشونة الصخور، ولونه اللازورد وليس به. يوجد بمصر وبنواحي بلاد المغرب. إذا سحق خرج منه شيء شبيه برائحة الخمر، وإن شرب منه وزن ثلاث شعيرات بماء بارد نفع من وجع الفؤاد.
مرقشيثا «2»
قال في كتاب الأحجار: من المرقشيثا ذهبية ومنها فضية ومنها نحاسية ومنها حديدية، وكل صنف منها يشبه الجوهر الذي نسب إليه في لونه، وكلها يخالطها الكبريت، وهي تقدح النار (183) مع الحديد النقي.
وقال ديسقوريدوس في الخامسة: هو صنف من الحجارة يستخرج منه(22/323)
النحاس؛ وينبغي أن تختار منه ما كان لونه كلون النحاس، وكان خروج شرر النار منه هيّنا، وينبغي أن يؤخذ فيحرق على هذه الصفة، يؤخذ فيغمس في عسل، ويوضع على نار جمرلينة، ويروح دائما إلى أن يحمر ويخرج. ومن الناس [من] يضعه مغموسا بالعسل في نار كثيرة، فإذا بدأ يحمر لونه أخرج عن النار، ونفخ عنه الرماد، ثم أعاده إلى النار، نار الجمر، وقد غمسه أيضا بالعسل، ولا يزال يفعل ذلك به إلى أن تصير أجزاؤه هشة. وربما احترق ظاهره دون باطنه، فإذا احترق على هذه الصفة وجفف «1» ، فإن احتيج إليه أن يغسل فليغسل كما يغسل الإقليميا.
وقال جالينوس في التاسعة: هو واحد من الحجارة التي لها قوة شديدة جدا، ونحن نستعملها بأن نخلطها بالمراهم المحللة، ونلقي معها أيضا من الحجر المسمى سخطيوس «2» . وقد حلل هذا المرهم مرارا كثيرة القيح والرطوبة الشبيهة بعلق الدم، إذا كان كل واحد منهما مجتمعا في المواضع التي بين «3» العضل.
وقال ديسقوريدوس: وقوته محرّقا كان أو غير محرّق مسخنة محللة تجلو غشاوة البصر، منضجة للماء وللأورام الجاسية إذا خلطت بالراتينج. وقد يقلع اللحم الزائد في القروح، مع شيء من تسخين وقبض. ومن الناس من يسمي هذا الحجر إذا أحرق دياقروخس «4» .
وقال الرازي في المنصوري: يقوي العين مع جلاء يسير «5» .(22/324)
وقال في الحاوي: إنه إذا علّق على الصبي لم يقرع «1» ، وإنه يجعد الشعر، وإن سحق بالخل وطلي به البرص أبرأه.
وقال غيره: يحلل المرة الكائنة في العين، ويقوي البصر. ويطلى بالخل على النمش فينفعه.
وقال ابن ماسة البصري: المرقشيثا فيه تنشيف للقيح والرطوبة الشبيهة بعبيط الدم، الحادثة بين العضل، ويتلوه في القوة حجر الرحى «2»
مرمر «3»
قال (184) الغافقي: قيل إنه صنف من الرخام أبيض، أكثر ما يوجد في معادن الجزع، وهو أفضل أصنافه، ويسمى باليونانية الأشطريش.
وزعم قوم أن الأشطريش هو الجزع.
وقال نوفرسطس: الأشطريش «4» حجر يوجد في أرض الشام ودمشق، وهو أبيض، في لونه خطوط كمناطيق، يؤخذ فيحرق، ويجعل معه ملح دراني «5» ، وسحق سحقا ناعما، ويدلك به الأسنان واللثة فينفعها، ويشد اللثة، وينفع من حرق النار أيضا. وربما يوجد بمصر.(22/325)
وقال جالينوس في التاسعة: إذا أحرق هذا الحجر نفع في الطب. وقوم يسقون منه من هو عليل فم المعدة.
وقال ديسقوريدوس في الخامسة: إذا أحرق هذا الحجر وخلط بالراتينج والزيت «1» حلّل الأورام الصلبة، وإذا استعمل بقيروطي سكّن وجع المعدة وهو يشد اللثة.
مرهيطس «2»
قال في كتاب الأحجار: هذا حجر أسود رخو، عليه خطوط ثابتة. وهو يبرئ من النملة التي تخرج في الرأس إذا حمله الإنسان معه، وكذلك يبرئ أيضا من العجر القبيحة «3» التي تكون في أطراف الأصابع.
مسن «4»
قال ديسقوريدوس في الخامسة: مسن الماء إذا سن عليه الحديد، وأخذ ما ينحل منه، ولطخ على داء الثعلب، أنبت فيه الشعر. وإذا لطخ على ثديّ الأبكار منعها من أن تعظم. وإذا شرب بالخل حلل ورم الطحال، وينفع من الصرع.
وقال جالينوس في التاسعة: ومحكه ينفع ثدي البكر من أن يعظم قبل وقته، ويمنع خصى الصبيان من ذلك من طريق أن قوته تبرّد.
وقال الغافقي: قال بعض القدماء مسن الماء الأغبر الذي يفنى سريعا من حكه(22/326)
بنحاس قبرصي، وأخذ ما خرج من مائه، ولطخ به القروح التي تكون بالأسنان فجأة، جففها «1» وأبراها.
وأما مسن الزيت الأخضر، فإنه إذا كسر ثم شوي بالحجر، وسحق بالخل والنطرون، فإنه نافع للحكة والقوباء والخنازير والسرطان والآكلة. (185) وإذا سحق هذا الحجر واكتحل به نفع من البياض في العين.
وقال في التجربتين «2» : حكاكته تحد البصر وتقوي العين، ولذلك يجب أن تحك الشيافات عند عملها عليه. وإذا سحق ونثر على قروح حرق النار جففها.
مسحقونيا «3»
قال الرازي في كتاب القرى «4» والدساكر: هو ماء الزجاج، أو ماء الجرار الخضر.
وقال في الحاوي: هو ماء الزجاج.
وقال في كتاب أهرن «5» القس: إنه ماء الجرار الخضر حين تعمل.
وقال سليمان بن حسان: المسحقونيا هي الشحيرة، وهو خلط يقوم مع الملح والآجر يعرفه أهل صنعة تخليص الذهب.
وغيره زعموا: أن المسحقونيا حار جدا، وكذلك يقلع البياض من العين،(22/327)
ويجفف الرطوبة، وقد ينفع من الحكة والجرب إذا طلي به الجسم في الحمام.
مسهل الولادة «1»
قال أرسطو: هذا حجر هندي، إذا حركته سمعت في وسطه حجرا آخر.
ومعدنه بأرض الهند، في جبل بين البحر وبين مدينة قمار «2» . وإنما عرفت خاصيته في تسهيل الولادة من النسر، إذا جاءت وقت بيضها تبلغ الموت مع غاية العسر، وربما ماتت، فعند ذلك يذهب النسر الذكر إلى ذلك الجبل، ويأخذ من ذلك الحجر ويجعله تحتها، فعرفت الهند ذلك من النسر، فإذا وضع هذا الحجر تحت المطلقة سهلت ولادتها، وكذلك تحت كل حيوان.
مغرة «3»
قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجودها ما كان كثيفا ثقيلا. ولونه شبيه بلون الكندر، وليست فيه حجارة، ولا مختلف اللون، وإذا بلّ ربا. وله قوة قابضة مجففة مغرية، فلذلك يقع في أخلاط المراهم المليّنة، وفي أخلاط أقراص مجففة. يحبس البطن. وإذا تحسّي ببيضه أو احتقن بها عقلت البطن، وقد تسقى لوجع الكبد. وأما المغرة الذي يستعملها النجارون فهي أضعف من الأولى، وأجودها المصرية.
قال ابن سينا: باردة (186) في الأولى، يابسة في الثانية.
وقال البصري: تدخل في أدوية لزجة لاصقة، وتقتل حب القرع.(22/328)
وقال في التجربتين: إذا حلّت في الخل، وطلي بها الجمرة والأورام الحارة «1» كلها، مع تقرح أو بغير تقرح، وعلى حرق النار، ردع المادة، وأضمر الورم، وجفف التقرح. وإذا سحقت وخلطت بالبيض النيمبرشت «2» وتحسّيت قطعت الدم من أي موضع انبعث. وكذلك إذا أخذت مع لسان الحمل نفعت من قروح الأمعاء والمثانة، وأمسكت الطبيعة والمأخوذ منها من درهمين إلى نحوهما «3» ، ويتمادى عليها بحسب الشكاية في الضعف والقوة. وكذلك إذا احتقن بها بماء لسان الحمل وما أشبهه قطع إفراط الدم من الحيض. وكذلك إذا احتقن بها لقرحة الأمعاء، والدم المنبعث من المعى السفلى، قطعه.
مغناطيس «4»
وهو الحجر الذي يجذب الحديد. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: أجوده ما يكون منه قوي الجذب للحديد، وكان لونه لازورديا كثيفا، ليس بمفرط الثقل. وهذا الحجر إن سقي منه مقدار ثلاثة أوثولوسات بالشراب الذي يقال له مالقراطن «5» أسهل كيموسا غليظا. ومن الناس من يحرق هذا ويتبعه بحسيات «6» الشاذنه «7» .(22/329)
وقال جالينوس في التاسعة: قوته مثل قوة الشاذنة.
قال البصري: قال الأنطيلس «1» الآمدي عن بعض الناس إنه قال: إذا أمسك بالكف نفع من وجع اليدين والرجلين، وينفع من الكزاز.
وقال الطبري: حجر المغناطيس يابس جدا، وهو جيد للذي في بطنه خبث الحديد، نافع لعسر الولادة إذا ما وضع على المرأة النفساء أو أمسكته.
وقال بعضهم: يذهب بالإسهال من شرب خبث الحديد، وإن ذرّ على جرح بحديد مسموم أبرأه.
وقال في كتاب الأحجار: قال هرمس: إن هذا الحجر طبعه الحرارة واليبس.
ويجب أن يختار منه ما كان فيه سواد مشرب بحمرة مثل المغرة الصافية «2» .
وأصنافه (187) ثلاثة، لازوردي، ومشرّب بحمرة، ورمادي منقّط بسواد.
والفرق بينه وبين أشباهه أن المغناطيس إذا مرّ بشيء من الحديد مسموم جذبه إليه، وإن كان الحديد مختلطا بشيء من الأجسام وأشباهه لم يفعل ذلك. ويؤتى به من بلاد الهند، وإن أخذ منه حجر جسيم قوي الفعل ومرّ به على قفل فتحه.
وكذلك يخرج النصول والحديد من الأجسام من غير أذية ولا تعب. وإن سحق بخل وملح وورس «3» ودهن ورفعه ولطخ به مكان الخنازير المتولدة «4» في جسد الإنسان أزالها بإذن الله تعالى.
وزعموا أن السفن التي تعبر في البحر إذا قربت من جبل الحجر، طارت(22/330)
كالطير وتطبقت بالجبل، ولهذا المعنى لا تسمر سفن البحر إلا بمسامير خشب.
ومن عجيب شأن هذا الحجر أنه إذا أصابته رائحة الثوم أو البصل بطل فعله، ولا يجذب الحديد حتى ينقع في الخل أو دم التّيس طريا. وإذا علّق على إنسان نفعه من وجع المفاصل، فإذا أمسك باليد نفع من الكزاز. ومن علقه في عنقه زاد في ذهنه، ولم يكد أن ينسى شيئا.
مغنيسيا «1»
قال الرازي: المغنيسيا أصناف، فمنها تربة سوداء وفيها عيون بيض لها بصيص، ومنها قطع صلبة وفيها تلك العيون، ومنها مثل الحديد، ومنها حمراء.
وقال غيره: وهو حجر لا يتم عمل الزجاج إلا به، وهو ألوان كثيرة، وقد يستعمل في الأكحال. وقوته تقبض وتبرد وتجفف وتأكل الأوساخ.
ملح «2»
قال ديسقوريدوس في الخامسة: أقوى ما يكون منه المعدني. وزعم بعض الناس أن المعدني الأندراني. وأقوى المعدني ما كان متحجرا صافي اللون كثيفا متساوي الأجزاء، وأقوى ما كانت فيه هذه الصفة ما كان من المواضع التي يقال لها أمونيا «3» ، وكان يتشقق، وكانت عروقه متساوية.
قال حنين: ملح أمونيا هو النوشادر المعدني، (188) والماء الملح البحري،(22/331)
فإنه ينبغي أن يستعمل منه ما كان أبيض «1» متساوي الأجزاء؛ وقد يكون منه شيء جيد بقبرص الذي يقال له سالامنتي «2» ، والموضع الذي يقال له ماغرا. وقد يكون منه شيء جيد بصقلية، [و] بالبلاد التي يقال لها لينوي منه شيء جيد، إلا أنه دون الأول. وينبغي أن يختار منه ما كان موجودا في مواضع المياه القائمة.
وقال جالينوس في الحادية عشرة: الملح المحتفر والملح البحري قوتهما واحدة [بعينها] في نفس الجنس، وإنهما يختلفان في أن جوهر الملح المأخوذ من الأرض لا يعرض له ذلك. والملح المتولد في البحيرات، والنقائع التي فيها ملوحة، نوعه شبيه بنوع الملح البحري، وهذا الملح المتولد في البحيرات والنقائع إنما يكون عند ما يفنى الماء في الصيف فيها كأنه تحترق [مياهها، فتتحجر الحمأة الشديدة الحرارة] «3» بمنزلة الملح الذي يكون في طراغيسون بالقرب من منيس، وذلك أنه يجتمع هناك من مياه الحماءات الشديدة الحرارة شيء كثير، ومجتمعها واستنقاعها في موضع ليس بالواسع كثيرا، ولا يزال هذا الماء في جميع أوقات الصيف يفنى ويجف بحرارة الشمس أولا فأولا، ولأن في الموضع نفسه ملوحة طبيعية تصير جميع ما يبقى من الماء هناك ملحا يسمى باسم مشتق من اسم الموضع، ومن اسم ذلك الماء ملح طراغيسي، لأن الماء الذي في ذلك الموضع من الحماءات يسمى ماء طراغيسيا، وقوته قوة مجففة جدا، والأطباء يستعملونه في ذلك البلد للتجفيف.
وقد كنت قلت في الملح الذي بسدوم، وفي البحيرة المعروفة بالمنتنة، في(22/332)
المقالة الرابعة من هذا الكتاب «1» ، قولا لا يحتاج معه من كان قد نظر فيه نظر عناية واهتمام إلا إلى التذكرة فقط، فمتى وصفت لك كيفية الملح في المذاقة والطعم وعرفتك «2» قوته على المكان. ومن شأن الكيفية المالحة أن تجمع وتحل مع «3» جوهر الجسم الذي تدنو منه.
وإنما (189) الخلاف بين الملح وبين البورق الإفريقي، أن البورق الإفريقي إنما الغالب عليه طعم واحد فقط، وهو الطعم المر البين فيه، وقوة ما هو من قوة محللة، وليس له قوة تجمع جوهر الجسم الذي يلقاه فيما هو منه رطب، حتى لا تدع فيه شيئا البتة «4» منه، ويجمع باقي جوهره الصلب بقبضه، ولذلك صار الملح يجفف الأجسام التي تعفن، وإنما تعفن من قبل رطوبة فيها فضل، وجوهرها جوهر منحل غير كثير «5» ، وبهذا السبب صارت الأجسام التي فيها رطوبة فضل بمنزلة العسل الفائق، والأجسام التي جرمها كبير «6» ، بمنزلة الحجارة ليس يمكن أن تعفن. والملح بهذا السبب ليس يمكن أن يستعمل في هذه الأجسام، لكن في الأجسام التي يخاف عليها أن تعفن.
فأما المحرّق من الملح فله من التحليل أكثر ما للملح الذي لم يحرق، وجرمه أيضا يصير ألطف بسبب القوة التي اكتسبها من النار، كما يعرض لسائر ما يحرق من جميع الأشياء على ما بينا، ولكنه ليس يمكن فيه أن يجمع، ويكثر جوهر الجسم الصلب الذي يلقاه كما يفعل الملح الذي لم يحرق.(22/333)
وقال في موضع آخر قبله: وأما الملح المتولد في البحيرة المنتنة المعروفة ببحيرة الزفت، وهي بحيرة مالحة في غور «1» بلاد الشام، ويسمى ملح سدوم باسم الجبال المحيطة بالبحيرة، وهي بلاد سدوم، فقوته قوة تجفف أكثر من تجفيف سائر أنواع الملح، وهي مع ذلك ملطّفة، وذلك أن هذا الملح قد ناله من إحراق الشمس أكثر مما نال غيره من أنواع الملح، وليس هو مر الطعم فقط، لكنه مر المذاق، وذلك لأن موضع هذه البحيرة موضع غائر تحرقه الشمس «2» ، وهو لهذا السبب في الصيف أشد مرارة منه في الشتاء، فإن ألقيت في ماء هذه البحيرة ملحا لم يذب، لأن الذي قد خالط ذلك الماء من الملح مقدار كثير، وإن انغمس فيه إنسان تولد على بدنه عند خروجه (190) منه غبار رقيق من غبار الملح كالسورج «3» ، ولذلك صار ماء هذه البحيرة أثقل من كل ماء في مياه البحار، ومقدار ثقله على مياه البحار كمقدار ثقل ماء البحر على مياه الأنهار، ومن أجل ذلك إن أنت وقعت في ماء هذه البحيرة ثم رمت أن تغوص فيه إلى أسفل لم تقدر، وإن أنت أخذت حيوانا فربطت يديه ورجليه، وألقيته في ماء تلك البحيرة، لم يغرق ولم يرسب، لكثرة ما يخالط ماء هذه البحيرة من جوهر الملح الذي هو أرضي ثقيل.
وقال ديسقوريدوس: وقوة الملح قابضة تجلو وتنقّي وتحلل وتقلع اللحم الزائد في القروح وتكوي، وقد يمنع القروح الخبيثة من الانتشار، وقد يقع في أخلاط أدوية الجرب. وقد تقلع اللحم النابت [في العين] «4» وتذيب الظفرة، وقد(22/334)
يصلح للحقن. وإذا خلط بزيت وتمسح به أذهب الإعياء والحكّة. وهو صالح للأورام البلغمية العارضة للذين بهم الاستسقاء، وإذا تكمّد به سكّن الوجع، وإذا خلط بالزيت والخل وتلطخ به أحد بقرب النار إلى أن يعرق سكّن الحكة؛ وكذلك يفعل أيضا بالجرب المتقرح وغير المتقرح والجذام والقوابي. وإذا خلط بالخل والعسل والزيت وتحنك به سكن الخنّاق، وإذا خلط بالعسل نفع ورم اللهاة والنغانغ. وقد يتضمد به مع الشعير محرقا بالعسل للآكلة والقلاع واللثة المسترخية. وقد يتضمد به أيضا مع بزر الكتان للدغة العقرب، ومع فوتنج الجبل والزوفا «1» لنهشة الأفعى الذكر، ومع الزفت والقطران أو العسل لنهشة الحية التي يقال لها قرسطس «2» ، وهي حية لها قرنان، ومع الخل والعسل لمضرة الحيوان المسمى أم أربعة وأربعين، ولدغ الزنابير، ومع شحم العجل للبثور التي يقال لها سورداقيا إذا خرجت في الرأس، أو اللحم الزائد في ظاهر البدن الذي يقال له يوميا، وإذا تضمد به مع الزبيب والعسل حلل الدماميل، وإذا خلط (191) بفودنج الجبل وخل أنضج الأورام البلغمية العارضة في الأنثيين. وقد ينفع من نهشة التمساح الذي يكون في نيل مصر، وإذا سحق وصيّر في خرقة كتان وغمس في خل حاذق، وضرب «3» به ضربا رقيقا العضو المنهوش من بعض الهوام نفع من النهشة، وإذا استعمل بالعسل نفع من كمنة «4» الدم التي تحت العين، وقد ينفع من مضرة الأفيون والفطر القتال إذا شرب بالسكنجبين، وإذا خلط بالعسل والدقيق نفع من التواء العصب، وإذا خلط بالزيت ووضع على حرق النار لم يدعه ينفط، وقد يوضع على النقرس على صفة ما ذكرنا فينتفع به،(22/335)
ويستعمل بالخل لوجع الأذن، وإذا تضمد به مع الخل ولطخ به مع الزوفا منع الحمرة والنملة من الانتشار في البدن. وقد يحرق على هذه الصفة، يؤخذ فيصير في إناء من فخار جديد، ويستوثق من تغطية الإناء ليلا يندر الملح منه إذا أصابته حرارة النار، ويطمر الإناء في جمر، ويترك إلى أن يحمى الملح، ثم يخرج من النار.
ومن الناس من يأخذ الملح المعدني ويضعه في عجين، ويضعه على الجمر ويتركه إلى أن يحترق العجين. وقد يستقيم بأن يحرق سائر الملح على هذه الصفة: يؤخذ الملح فيغسل بالماء غسلة واحدة ثم يترك حتى يجف ثم يصير في قدر، ويغطى القدر، وتوقد تحته النار، ويجعل حول القدر من الجمر، ولا يزال الملح يحرك إلى أن يسكن من حركته «1» .
وقال أبو جريج: الملح يابس إذا خلط بالأغذية الباردة، كالجبن والسمك والكواميخ، أحالها عن طباعها حتى تصير حارة يابسة. ويعين على الإسهال والقيء، ويحلل الرياح، ويقلع البلغم اللزج من المعدة والصدر، ويغسل الأمعاء، ويهيج القيء ويكثره، ويعين الأدوية التي تقلع السوداء على قلعها من أقاصي البدن.
وقال الرازي في المنصوري: الملح يذهب بو خامة الطبيخ، ويهيج الشهوة ويشحذها، والإكثار منه (192) يحرق الدم، ويضعف البصر، ويقلل المني، ويورث الحكّة والجرب.
وقال في [دفع مضار] «2» الأغذية: الملح يعين على هضم الطعام، ويمنع سريان العفونة إلى الدم، ويذهب بوخامة الدسم؛ وهو لأصحاب الأبدان الكثيرة(22/336)
الرطوبة موافق، وأما النحفاء فضار لهم.
وقال غيره: الملح أنواع، فمنه ملح العجين، ومنه نوع يحتفر من معدنه، ومنه الأندراني الشبيه بالبلور، ومنه أسود نفطي، سواده من أجل نفطية فيه، وإذا دخن حتى طارت عنه النفطية صار كالأندراني «1» . ومنه أسود ليس سواده لنفطية فيه، بل في جوهره، ومنه الهندي الأحمر اللون.
وقال البصري: ملح العجين حار في الدرجة الثالثة، وأما الملح الأسود الذي ليس سواده شديدا، ولا [له] رائحة النفط حار في المثانة، يسهّل البلغم والسوداء. وأما النفطي فيسهل الماء والسوداء والبلغم العفن، والأندراني فحار يابس في الثانية، وأما المر فحار يابس في الثالثة، وهو مسهل للسوداء بقوة. وأما الهندي الأحمر فحار يابس في الثالثة، مسهل للكيموسات المختلفة.
وقالت الخوز: الملح الهندي يسهّل الماء الأصفر، ويطرد الرياح، ويلين البطن، ويذهب البلغم، ويحد الفؤاد، وينفع من وجعه، ويشهي الطعام، ويذهب بالصّفرة من الوجه.
وقال غيره: الملح الأندراني يحد الذهن، والملح المرّ يسحق بشيء من صمغ الزيتون، ويحشى به الجرح الغض من ساعته فيلحمه.
وقال في التجربتين: الملح إذا حلّ بالخل وتمضمض به، قطع الدم المنبعث من اللثات «2» ، والمنبعث أيضا بعد قلع الضرس، وإذا سخنا وأمسكا في الفم نفعا من وجع الضرس، وإذا تغرغر بهما جلبا بلغما، ونقّيا الدماغ وورم النغانغ. (وإذا غمست فيه صوفة ووضعت على الجراحات الطرية قطعا دمها المنبعث) «3» ، وإذا(22/337)
غسل بالخل والملح المذكورين كل يوم الآكلة والنملة الساعية وبتور «1» الأعضاء وتمودي على ذلك أبرأها، وإذا خلط بالملح وحده (193) مع الأدوية المسهلة قطع الأخلاط وسهلها للاندفاع، وإذا خلط الصافي في القوام منه جدا، وهو الأندراني في أدوية العين، أحدّ البصر، وأضعف الظفرة، ورقق البياض الحادث على العين، ونفع من السبل. وإذا خلط بالصبر ووضع على الدماغ نفع من النزلات، وإذا سحق وسخّن ووضع على الفسخ والونى «2» والرّض في أول حدوثها، بعد أن يدهن الموضع بزيت أو عسل، ويعصب عليه، سكّن وجعها. وإذا حلّ في الخل، نفع من الورم والرخو، ومن تهيج الأطراف إذا كمدت بهما حارين، وإذا حل في شراب السكنجبين، أو شرب في الماء وحده، فتح السدد حيث كانت، وقلع البلغم اللزج. ويؤخذ منه من درهمين إلى نحوهما لذلك.
مها «3»
قال في كتاب الأحجار: هو صنف من الزجاج، غير أن يصاب في معدنه مجتمعا بالمغنيسيا، ويوجد في البحر الأخضر، وقد يوجد أيضا بصعيد مصر.
وهو حجر أبيض بهي جدا لا يخالطه لون غير البياض. ومنه صنف أقل صبغا وحسنا وأشد صلابة، إذا نظر إليه الناظر ظن أنه من جنس الملح، وإذا قرع به الحديد الصلب أخرج نارا كثيرة. والصنف الأول هو البلّور، يستقبل به عين الشمس، فينظر إلى عين الشعاع الذي خرج من الحجر مما شفته النفس بضوئها،(22/338)
فيستقبل بذلك الموضع خرقة «1» سوداء، فيأخذ فيها النار حتى يحرقها، ومن أراد أن يشعل من ذلك نارا فعل.
وقال كسوفراطيس «2» : المها نافع من الرعدة والارتعاش والسل العارض للصبيان، ويمسح به ثدي المرأة إذا عسر عليها لبنها [ويقوي] .
ويقول دواوسطوس الجوهري: إن دم التيوس إذا كان سخنا، وصير فيه، أذابه وحلّه.
وذكر هرمس: إنه جيد لمن ثقل لسانه وكاد كلامه يفسد، [و] إذا سحق بخل وملح ومر وزعفران ونشادر، وحلّ بعسل، وعرك به اللسان مرارا، أزاله.
وقال أبو طالب (194) ابن سليمان: يسهل الولادة بخاصة، وإن علقته المرأة في حين الطلق على وركها سهل الولادة بإذن الله.
وقال التميمي: وإذا سحق وصوّل بالماء قلع البياض من العين.
مولوبدانا «3»
قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجود ما يكون ما كان لونه شبيها بلون المرداسنج، وكان إلى الحمرة ما هو، وكانت له صقالة. وإذا سحق كان لونه ياقوتيا، وإذا طبخ بالزيت كان لونه شبيها بلون الكندر. وأما ما كان لونه شبيها بلون الهواء ولون الرصاص، كأنه الدخان، فإنه رديء، وقد يكون منه أيضا شيء من الذهب والفضة. ومنه ما يخرج من المعادن هو حريف. [و] جوهره معدني(22/339)
موجود في المكان الذي يقال له سرسطي «1» ، والمكان الذي يقال له قوروفس «2» .
وأجود هذا المعدني ما لم [يشبه] خبث الرصاص ولم يكن متحجرا، وكان لونه أحمر، وكانت له صقالة.
وقال جالينوس في التاسعة: قوة هذا شبيهة بقوة المرداسنج، وهو بعيد قليلا عن المزاج الوسط، مائل إلى البرودة، لأن فيه أيضا قوة تجلو، وهذان الدواءان كلاهما يذوبان وينحلان، وليس ما ينحل ولا يذوب، كالحجارة والقليميا والرمل. وأسرع ما ينحلان ويذوبان متى وقعت في الزيت الذي يذوبان وينحلان به «3» ، وفيما يذوبان وينحلان أيضا [متى طبخا بالماء] أفضل طبخ.
وقال ديسقوريدوس: وقوة المولوبدانا أصلح لأن يخلط بالمراهم التي تجلو «4» .
موميا «5»
قال ديسقوريدوس في الأولى: ويكون بالبلاد التي يقال لها أقولونيا «6» ، ينحدر من الجبال التي يقال لها الصواعقية مع الماء، ويلقيها الماء إلى الشواطئ وقد جمدت وصارت قارا تفوح منه رائحة الزفت المخلوط بالقفر مع نتن.(22/340)
وقوة الموميا مثل قوة الزّفت والقفر إذا خلط. قال ابن البيطار: الموميا يقال على هذا الدواء المقدم ذكره، وعلى الدواء المعروف بقفر (195) اليهود، وعلى الموميا القبوري «1» ، وهي موجودة بمصر كثيرا، وهو خلط كانت الروم قديما تلطخ به موتاهم حتى تحفظ أجسادها بحالها لا تتغير. ويقال على حجارة تكون بصنعاء اليمن، وهي حجارة سود، وفيها أدنى تجويف، وهي [إلى] «2» الخفة ما هي، تكسر فيوجد في ذلك التجويف شيء سيال أسود، وتقلى هذه الحجارة إذا كسرت في الزيت فتقذف جميع ما فيها من الرطوبة السيالة. وأكثر «3» ما يوجد منها متوفرة إذا كانت السنة عندهم كثيرة المطر، وهذه جميعها تجبر الكسر، وهي مجربة في ذلك.
وقال الرازي في الحاوي: حكى لي بعض الأطباء عن منافع الموميا، قال: هو نافع للصداع البلغمي والبارد من غير مادة، والشقيقة والفالج واللقوة والصرع والدوار، يسعط لهذه العلل بحبة منه بماء مرزنجوش. ولوجع الأذن تذيب منه حبة بدهن ياسمين ويقطر فيها. ولوجع الحلق يذاف منه قيراط بربّ التوت أو بطبيخ العدس والشونيز «4» . ولسيلان القيح من الأذن يذاب شعيرة بدهن ورد وماء حصرم، ويجعل فيها فتيلة. ولثقل اللسان يذيب «5» منه قيراط بماء قد طبخ فيه صعتر فارسي «6» ، وللسعال بماء عناب، أو بماء الشعير وسبستان «7» ، ويسقى(22/341)
ثلاثة أيام على الريق. وللخفقان قيراط بماء سوسن «1» أو بماء النعنع. وللريح والنفخة في المعدة قيراط بماء كمون أو كراويا «2» ، أو بماء النانخواه «3» . وللصدمة الواقعة بالمعدة والكبد قيراط مع دانقي طين أرمني، ودانق زعفران بماء عنب الثعلب، أو خيار شنبر «4» . وللفواق حبة تطبخ «5» ببزر الكرفس وكمون كرماني. ولوجع الرأس العتيق يؤخذ منه حبة ومسك وكافور، وجندبادستر حبة بدهن، بأن يسعط. وللخناق قيراط بالسكنجبين. ولوجع الطحال قيراط بماء الكزبرة. وللسموم حبتان «6» بماء طبيخ الحسك والأنجدان. وللعقارب قيراط بخمر (196) صرف، ويوضع على الموضع بسمن بقر.
وقال أبو جريج: إنه يصلح للكسر [والرّض] «7» والوهن داخل البدن وخارجه، وينفع الصدر والرئة. وهو قريب من الاعتدال، إلا أنه له خصوصية في تسكين أوجاع الكسر إذا شرب أو تمرّخ به أو حقن به. وينفع قروح الإحليل والمثانة إذا سقي منه قيراط باللبن.
وقال الطبري «8» : الموميا حار لطيف، جيد للسقطة والضربة والرياح.
وخبّرت أن رجلا نفث الدم فلم ينقطع بشيء من أدويته، وكان قد سقيها كلها،(22/342)
حتى سقيناه موميا ثلاث شعيرات، زعموا «1» بنبيذ فانقطع ذلك عنه. وقال: إنه أبلغ دواء في نفث الدم، وإنه إن حلّ بزئبق، وتحمل به، نفع من قلة الصبر على البول.
وقال غيره: ويسقى للفالج واللقوة والبرد والرياح، ويتمرخ به لذلك، نافع.
والخلع والهتك في الأعصاب الباطنة. ويشرب مع طين مختوم بشراب قابض للسقطة الشديدة.
وقال ابن سينا في الأدوية القلبية: الموميا حار في آخر الثانية، يابس كما أظن في الأولى، أما خاصيته فتقوية الروح كله، وتعينها لزوجة «2» الممتنة.
نطرون «3»
قال أرسطو: إن النطرون وإن كان من جنس البورق فإن فعله غير فعل البورق، فإنه يغسل الأجسام من الوسخ، ويقيم أودها، ويحسّن وجوهها، وينورها. وهو نافع لأرحام النساء المرطبة، ينشفها ويقويها.
والبورق الأرمني ينفع من القولنج الشديد المبرّح، ويقلع بياض القرنية. وإذا ألقيته في العجين يبيض الخبز ويطيبه، وإذا ألقيته في القدر يهري اللحم وينضجه. وقد تقدم في ذكر البورق ما فيه كفاية.(22/343)
نفط «1»
قال ديسقوريدوس في الأولى: هو صفوة القير «2» البابلي، ولونه أبيض، وقد يوجد أيضا ما هو أسود. وللنفط قوة تسلب بها النار، فإنه يستوقد من النار وإن (197) لم يمسها. وهو نافع من الماء النازل في العين والبياض.
وقال مسيح [ابن الحكم] «3» : النفط حار في الدرجة الرابعة، يدر الطمث والبول، وينفع من السعال العتيق والبهر واللهب ووجع الوركين ولسع الهوام طلاء.
وقال الطبري: النفط لونان أسود وأبيض، وكلاهما حارّ، والأبيض قوي فعلا، وهو صالح للشقيقة من الديدان الكائنة في الشرج إذا استعمل بفرزجة، والأسود أضعف. وقال في موضع آخر: إنهما محللان نافعان من برد المثانة والأعضاء ورياحها.
وقال ابن سينا: النفط لطيف وخصوصا الأبيض، محلل مذيب مفتح للسدد، نافع من أوجاع المفاصل، ويسكّن المغص، ويكسر من برد الرحم ورياحها. والنفط الأزرق ينفع من أوجاع الأذن الباردة قطورا «4» .
وقال غيره: يخرج المشيمة والأجنة الموتى، ويدخّن به لاختناق الرحم.
وقال الرازي: وبدلهما ثلثا وزنهما دهن بلسان، وثلثا وزنهما من حب الصنوبر، ووزنه من صمغ الجاوشير «5» .(22/344)
نؤورة «1»
من الأجسام الحجرية المحترقة، تقطع نزف الدم إذا جعلت على الموضع، وينفع من حرق النار جدا، وإذا طلي في الحمّام لإزالة الشعر، أبرزت ما تحت الشعر والجلد، فينبغي أن يدهن بعدها بدهن البنفسج والماء ورد.
وقد حكي أن إزالة الشعر بالنؤورة مما علم من الجن، وذلك أن سليمان بن داود- عليهما السلام- لما تزوج بلقيس ملكة اليمن، وجدها كاملة الصورة، إلا أن ساقيها كانتا كثيرتي الشعر، فسأل الجن: هل من ذلك من حيلة؟ فذكروا له استعمال النؤورة.
وإذا فرشت النؤورة في مكان لم يقربه البراغيث البتة، وقد ذكرنا في الكلس ما فيه كفاية «2» .
نوشادر «3»
قال ابن التلميذ: النوشادر نوعان، طبيعي وصناعي فالطبيعي ينبع من عيون حمئة في جبال بخراسان يقال إن مياهها تغلي غليانا (198) شديدا، وأجود النوشادر الطبيعي الخراساني، وهو الصافي كالبلور.
وقال الغافقي: هو صنف من الملح منه محتفر يستخرج من معدنه حصى صلبا، ومنه شديد الملوحة يحذي اللسان حذيا شديدا، أو منه ما يكون من(22/345)
دخان الحمامات التي يحرق فيها الزبل خاصة.
وأصناف النوشادر كثيرة، فمنه المنكت بسواد وبياض، ومنه الأغبر، ومنه الأبيض الصافي التنكاري الذي يعرف من شبه المها، وهو أجودها. والنوشادر حار يابس في آخر الثالثة، ملطف مذيب، ينفع من بياض العين، ويشد اللهاة الساقطة إذا نفخ في الحلق. وينفع من الخوانيق، ويلطف الحواس. وخاصته الجذب من عمق البدن إلى ظاهره، فهو لذلك لا يجلو ظاهر البدن ولا يغسله، وإذا حلّ بماء ورشّ في بيت لم تقربه حية، وإن صبّ في كوّها «1» ماتت، وإذا سحق بماء السذاب وتجرع منه قتل العلق.
وقال الشريف الإدريسي: وإذا أذيب بدهن ولطخ به على الجرب السوداوي في الحمّام جلّاه وأذهبه، وإذا مضغ النوشادر وتفل في أفواه الحيات والأفاعي قتلها وحيا «2» . وإذا خلط بدهن البيض ودهن به البرص بعد الإنقاء أبرأه ونفع منه نفعا بينا لا سيما إذا أدمن عليه.
قال الرازي: وبدله وزنه شب «3» ، ووزنه بورقا، ووزنه ملحا أندرانيا.
نوني «4»
قال أرسطو: إنه حجر لين المجس، ومعنى النوني النافي للجسم. وهو نافع من سائر السموم، إلا انه يعمد إلى القلب والكبد فيذوبهما، وإلى العروق فيفسد كيفية ما فيهما من الدم. وقد يسد مجاري الروح الحيواني فيغشى على الإنسان(22/346)
إلا انه يدفع غائلة السم قبل نفشها في البدن نفعا بينا، وإن كان بعد ذلك أضر، والله أعلم.
هادي «1»
قال أرسطو: هذا الحجر يوجد بناحية الجنوب والشمال (199) جميعا، ولونه لون الطحال، إذا علق على إنسان لم تنبح «2» عليه الكلاب، وإذا كلس وألقي عليه زاج منقى عقد الزئبق، ولم يدعه أن يفر من النار.
ودع «3»
قال الخليل بن أحمد: الودع واحده ودعة، وهي مناقف صغار يخرج من البحر يزين بها العثاكيل «4» ، وهي بيضاء في بطونها مشق كمشق «5» النواة، وهي جوفاء، يكون في جوفها دودة كلحمة.
وقال بعض الأطباء: الودع صنف من المحار يشبه الحلزون الكبير، إلا أن خزفه أصلب، وكلاهما يدخل في علاج الطب محرقا وغير محرق. وبعض الناس يسمي الودع سوار السّند «6» .
وقال مسيح بن الحكم: الودع والحلزون إذا أحرقا جففا البلّة، ونفعا من قروح(22/347)
العين، وقطعا الدم.
وقال البصري: لحم الودع صلب عسر الانهضام، فإذا انهضم غذّى [غذاء] «1» جيدا وليّن الطبيعة. وإذا أحرق الودع تولدت فيه مرارة ويبوسة، وحلّل البهق والقوابي وجلا البياض من العين «2» وفي الأعضاء المترهلة، وهو [صالح] لأصحاب الحبن. ولرماده تجفيف كثير، وتسخين يسير. وإذا شرب بشراب أبيض نفع القروح الكائنة في الأمعاء قبل أن يحدث فيها عفونة.
قال ابن البيطار: والسّبج «3» أيضا من جملة الودع.
ياقوت «4»
لم يذكره ديسقوريدوس ولا جالينوس. وقال أرسطاطاليس: الياقوت ثلاثة أجناس، أصفر وأحمر وكحلي، فالأحمر أشرقها وأنفسها. وهو حجر إذا نفخ عليه بالنار «5» ازداد حسنا وحمرة، وإن كانت فيه نكتة شديدة الحمرة، وأدخل النار انبسطت في الحجر، فسقته من تلك الحمرة وحسّنته، وإن كانت فيه(22/348)
نقطة «1» سوداء، نقص سوادها. والأصفر منه أقل صبرا على النار من الأحمر، فأما الكحلي فلا صبر له على النار البتة. وجميع أنواع اليواقيت لا تعمل فيها المبارد [الفولاذ] «2» . ويقال إن الياقوت يمنع جمود الدم إذا علّق [على من به ذلك] «3» .
وقال في كتاب الأحجار: (200) إن الياقوت طبعه الحرارة واليبس، ويجب أن يختار منه ما كان مشرق اللون، شديد الصبغ جدا، متناسب الأجزاء، ليست فيه كدورة ولا نكتة ولا زجاجية ولا تضريس. وأصنافه خمسة، أحمر ورماني وأصفر وأكحل وأبيض. ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجنسه، ولكن ليس تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن الياقوت إذا دخل النار ازداد حسنا، ولم تضره النار شيئا. وإن سحل بالمبارد، لم تؤثر فيه، وأشباهه ليست كذلك.
وذكر أرسطاطاليس في بعض كتبه: إن من الياقوت ما يكون أخضر، وطبعه مثل طبعهم، وفعله مثل فعلهم، ويؤتى [به] من أقصى جبال الهند.
وقال الشيخ الرئيس في كتابه الأدوية القلبية: أما طبعه فيشبه أن يكون معتدلا. وأما خاصيته في تفريح القلب وتقويته، ومقاومة السموم، فأمر عظيم.
ويشبه أن تكون هذه الخاصية قوة غير مقتصرة على جزء فيه، بل فائضة منه، كفيضانها من المغناطيس في جذبه الحديد من بعيد.
قال: ومما يقنع به في هذا الباب في أمر الياقوت، أنه يبعد أن نقول «4» إنّ(22/349)
حرارتنا الغريزية تفعل في الياقوت المشروب إحالة وتخليطا وتمزيجا بجوهره «1» بجوهر البخار «2» الروحي كما تفعل في الزعفران وغيره. وبالجملة فبعيد أيضا أن نقول إن الياقوت ينفعل في صورته عن الحار الغريزي، ثم يحدث منه فعله، فإن جوهره- كما يظهر- جوهر بعيد جدا عن الانفعال، فيشبه أن يكون فعل الحرارة الغريزية غير مؤثر في جوهره، ولا في أعراضه اللازمة لصورته، ولا في أعراضه اللازمة، ولكن في آنيته «3» ومكانه العرضيين، أما في آنيته فبأن ينفذه مع الدم إلى ناحية القلب، فيصير أقرب من المنفعل، فيفعل فعلا أقوى.
وأما في كيفيته فتسخّنه، ومن شأن السخونة أن تثير الخواص، وتنبه «4» القوى كالكهرباء «5» ، فإنه إذا قصّر في جذب التبن حكّ «6» حتى يسخن، ثم قوبل به التبن فيجذبه، فيشبه أن يكون غاية تأثير طبيعتنا (201) في الياقوت.
هذا ويكون فعله زيادة إفاضة لما يفيض منه طبعا وزيادة تقريب. وما شهد به الأوّلون من تفريح الياقوت إمساكا في الفم دليل على أنه ليس يحتاج في تفريحه إلى استحالة في جوهره وأعراضه اللازمة، ولا إلى مماسة المنفعل عنه، بل قوته المفرحة قابضة عنه إلا أنا نقوي «7» فعلها بالتسخين والتقريب كما في سائر الخواص. ويشبه أن تعلل «8» هذه الخاصية بما فيه من التنوير بشفّه والتعديل بمزاجه «9» .(22/350)
وقال أرسطو «1» : إن الياقوت حجر صلب، شديد اليبس، رزين «2» صاف، شفّاف، مختلف الألوان؛ وأصل ذلك كله ماء عذب صاف وقف في معادنها بين الحجارة الصلدة زمانا طويلا، فغلظ وصفا وثقل، وأنضجته حرارة المعدن بطول وقوفه، فيصير صلبا لا تذيبه النار لقلة دهنيته، ولا يتفتت لغلظ رطوبته، بل يزداد لونه حسنا وصفاء، ولا تعمل فيه المبارد لصلابته ويبسه، إلّا الماس والسّنباذج. ومعدنه بالبلاد الجنوبية عند خط الاستواء.
وزعموا أن من تختّم به، ووقع في بلده طاعون ووباء، لم يتعلق به، وسلم منه، ونبل في أعين الناس، وسهلت عليه أمور المعاش.
وقيل إنه يمنع الماء من الجمود. [و] من ترك تحت لسانه حجرا من الياقوت الأرزق أمن من العطش في شدة هيجان الحر الشديد، خاصية فيه، لتبريده الكبد.
يشب «3»
ويقال يشف. قال ديسقوريدوس في الخامسة: أناسيس «4» زعم أنه جنس من الزبرجد، ومنه ما لونه شبيه بلون الزبرجد، ومنه ما [يكون] لونه شبيه بلون الدخان، كأنه شيء مدخّن. ومنه ما فيه عروق بيض صقيلة؛ ويقال له(22/351)
أسطروس «1» ومعناه الكوكبي. ومنه ما يقال له طرمينون، ومعناه الشبيه في لونه بالحبة الخضراء.
قال: وقد يظن أن هذه الأصناف كلها تصلح أن تعلّق على الرّقبة أو على العضد للتعويذ، أو على الفخذ لعسر (202) الولادة.
وقال جالينوس في التاسعة: وقد شهد قوم بأن في الحجارة خاصيّات مثل هذه الخواص التي في حجر اليشب الأخضر، لأنه ينفع المريء وفم المعدة إذا علق في الرقبة. وقوم ينقشون عليه ذلك النقش الذي له شعاع على ما وصف تاجاسيوس «2» . وقد امتحنت أنا هذا الحجر واختبرته بالتجربة اختبارا شافيا «3» ، وذلك أني (اتخذت مخنقة «4» من حجيرات حالها هذه الحال، وعلقتها في العنق) «5» ، وجعلت طولها طولا معتدلا، لا يبلغ إلى فم المعدة، فوجدته ينفع نفعا ليس بدون ما ينفع إذا كان منقوشا عليه. تاجاسيوس.
وقال الغافقي: زعم قوم أن حجر اليشب هذا هو الدّهنج.
وزعم قوم: أنه ياقوت حبشي ملوّن، ويسمونه أبو قلمون، وقوم يصحفونه فيقولون حجر البسذ «6» وهو خطأ.
وقال أرسطو «7» : هو حجر أبيض مشهور، قيل إنه شفاء لأمراض المعدة، وهو(22/352)
حجر الغلبة، من استصحبه لم يغلب في الحرب ولا بالحجّة، ولهذا المعنى يجعله الملوك في مناطقهم.
وزعموا: أن العطشان إذا أمسكه في فمه سكّن عطشه «1» .
وقال في كتاب الأحجار: قال هرمس إن هذا الحجر طبعه الحرارة والرطوبة، مائل إلى الحر، ويجب أن يختار منه ما كان معتدل البياض، حسن البريق، متناسب الأجزاء، ليست فيه كدورة. وأصناف هذا الحجر أربعة، أبيض، وأخضر فيه سواد، ورمادي وزمردي.
قال: ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه، ولا تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن اليشب له رائحة كرائحة الدخان، وإن علّق على امرأة سهلت ولادتها. ويؤتى به من بلاد الهند، ومن بلاد قبرص، وأفضله القبرصي. ومن خواصه أن من لبسه هيّج عليه الجماع، وحرك شهوة العشق، ومن وضعه تحت رأسه جامع ما شاء، ولم ير في منامه ما يكره قلبه، ويضيق صدره.
يقظان «2»
قال أرسطو: هو حجر يتحرك ولا يهدأ، حتى يمسه (203) إنسان فعند ذلك يسكن. وهو صالح لخفقان [القلب و] ، الفؤاد والارتعاش واسترخاء المعدة والأعضاء «3» . وإذا علّق على إنسان لم ينس شيئا. والفلاسفة قد رمزوا إليه، وستروه عن العامة.(22/353)
فائدة
اعلم أن العزيز من هذه الأحجار الغالي الثمن، القليل الوقوع، قد يعرض له ما يفسده، فيحتاج إلى إصلاحه، وتدبير مرضه، ليرجع إلى الصحة والحسن.
أما اليواقيت جميعا، فإذا تغيرت ألوانها، وفسدت أفعالها، فإنها تترك في النار لحظة يسيرة، لكل حجر منها على قدر ثبوته في النار، ولا ينفخ عليه نفخا شديدا، لكن لينا يسيرا، في نار لينة غير قوية. وأقواها على النار الأحمر، ثم الرماني، ثم الأصفر، ثم الأكحل، ثم الأبيض.
فأما أشباه الياقوت، فإنها إذا شمّت النار تفتت لساعتها، وأما إصلاح ما يفسد من الجوهر أجمع، إذا استحالت ألوانها، وضعفت أفعالها، فإنها تؤخذ وتترك في بصلة بيضاء، ثم تجعل البصلة في شيء من خمير، وتلصق في تنور حتى تحمر، ثم يخرج، فهو برؤه وصلاحه.
وأما الدّر فإنه إذا تغير، فانه ينقع في ماء النطرون، ثم يخلّى في خرقة صوف خشنة بيضاء مرارا، فإنه ينصلح.
وأما البادزهر والزّمرّد والزّبرجد والدّهنج والفيروزج، فإذا استحالت ألوانها، وضعفت أفعالها، فإنها تزفّر بلحوم الضأن والمعز والدجاج، صغيرة وكبيرة، ثم تغسل «1» على العادة.
وأما الماس، فإنه إذا فسد فعله، وضعف لونه، فإنه يلقى في دم إنسان حار، ويبقى فيه أياما، فإنه ينصلح.
وأما المغناطيس، فإنه إذا تغير لونه، وفسد وضعف عمله، فإنه يلقى في دم(22/354)
تيس كبير حين النحر لوقته، يفعل به ذلك مرارا، فإنه ينصلح.
وأما الذهب، فإنه إذا تغير لونه وفسد، وضعف فعله، واضطرب حاله، فإنه يدخل النار، ويلقى عليه التنكار والزاج والكبريت، فإنه إصلاحه.
النوع الثالث في الأجسام الدهنية «1»
زعموا (204) أن الرطوبات المحتقنة «2» تحت الأرض تسخن في الشتاء وتبرد في الصيف، بسبب أن الحرارة والبرودة ضدّان، فلا يجتمعان في مكان واحد؛ فإذا جاء الشتاء وبرد الجو فرّت الحرارة، وأسخنت باطن الأرض (وكهوف الجبال) «3» ، فاكتسبت الرطوبات المنصبة إلى تلك المواضع بواسطة الحرارة دهنية، فإذا أصابها نسيم الهواء، أو برودة الجو، فربما انعقدت، وربما بقيت على ميعانها، فتصير كبريتا أوزئبقا أو قيرا أو نفطا أو ما شاكل ذلك، بحسب اختلاف البقاع وتغيرات الأهوية.
وزعموا أن أول هذه القوى- أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة- في تكوين المعادن، الزئبق، وذلك أن الرطوبة المخفية التي في باطن الأجسام الأرضية، والبخارات المحتبسة فيها، إذا تعاقب عليها حر الصيف وحرارة المعدن، لطفت وخفت وتصاعدت إلى سقوف الأهوية «4» والمغارات، وتعلقت هناك زمانا، فإذا تعاقب عليها برد الشتاء، غلظت وجمدت وتقاطرت إلى أسفل تلك المغارات(22/355)
والأهوية، واختلطت بتربة تلك البقاع، ومكثت زمانا هناك، وحرارة المعدن تعمل دائما في إنضاجها وطبخها وتصفيتها، فتصير تلك الرطوبة المائية بما تخلّط بها من الأجزاء الترابية، وما يكتسب من ثقلها وغلظها بطول الوقوف وإنضاج الحرارة لها، كبريتا محرقا. فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة ثانية وتمازجا، والتأثير بحالة تركب من امتزاجهما «1» الجواهر «2» المعدنية وأنواعها، كما ذكرنا من قبل، فلا نعيده.
أما الزئبق، فإنه يتولد من أجزاء مائية، اختلطت بأجزاء أرضية لطيفة كبريتية، اختلاطا شديدا، حيث لا يتميز أحدهما من الآخر، وعليه غشاء ترابي «3» ، فإذا اتصلت إحدى القطعتين بالأخرى، انفتح الغشاء وصارت القطعتان واحدة، والغشاء محيط بها كقطرة الماء، (إذا وقعت على التراب فإنها قد تبقى (205) مدورة، وتحيط بها الأجزاء الترابية، وربما أصاب تلك القطرة قطرة أخرى، وانشق ذلك الغلاف «4» ، وصارت القطرتان [قطرة] واحدة، وأحاط بها الغلاف البرّاني) «5» . وأما بياضه فبسبب صفاء ذلك الماء، ونقاء التراب الكبريتي الذي ذكرناه.
قال أرسطو: الزئبق من جنس الفضة إلا أن الآفات دخلت عليه في معدنه، والآفات ما ذكرناه في الرصاص.
وقال في بعض كتبه «6» : حجر الزئبق حجر ينحل في تركيبه، ويكون في(22/356)
معدنه كما تكون سائر الأحجار. وهو جنس من الفضة لولا آفات دخلت عليه في أصل تكوينه، منها تخلخله، وأنه شبيه بالمفلوج. وله أيضا صرير ورائحة ورعدة، وهو يحمل «1» أجسام الأحجار كلها إلا الذهب، فإنه يغوص فيه.
وقال الطبري: الزئبق من آذربيجان من كورة تدعى السين «2» . وقال المسعودي: وبالأندلس معدن للزئبق ليس بالجيد.
وقال ابن سينا: منه ما يسقى من معدنه، ومنه ما هو مستخرج من حجارة معدنه بالنار، كاستخراج الذهب والفضة. وحجارة معدنه كالزنجفر.
قال: ويظن ديسقوريدوس وجالينوس أنه مصنوع كالمرتك، لأنه يستخرج بالنار، فيجب أن يكون الذهب مصنوعا أيضا.
وقال ديسقوريدوس: الزئبق يصنع من الجوهر الذي يقال له متينون على هذه الصفة: يؤخذ طبخهارة «3» من حديد ويصير في قدر من نحاس، ويجعل في أتون في الطبخهارة فساماراى «4» ، ويركب عليه إنبيق، ويطين حول الأنبيق، وتوضع القدر على جمر، فإن الدخان الذي يتصاعد إلى الأنبيق إذا اجتمع يكون زئبقا. وقد يوجد أيضا زئبق «5» في سقوف معادن الفضة، مدورا جامدا، كأنه قطر الماء إذا تعلق.
ومن الناس من يزعم أنه يوجد في الزئبق في معادن له خاصة. وقد يوعى(22/357)
الزئبق في أوان متخذة من الزجاج والرصاص والآنك والفضة، (206) فإنه إن أوعي في أوان غير هذه الجواهر، أكلها وأفناها.
وقال جالينوس: لم أجرّبه أنه يقتل إذا شرب أم لا، ولا ما الذي «1» يفعل إذا وضع من خارج البدن.
وقال الرازي: الزئبق بارد مائي غليظ، فيه حدة وقبض، ويدل على ذلك جمعه للأجساد، وأنه يصلح ريحه، فإذا صعّد استحال فصار حارا حريفا محللا مقطعا، والدليل على ذلك إذهابه للجرب والقمل.
وقال ماسرجويه: تراب الزئبق ينفع من الجرب والحكة، إذا طلي عليها مع الخل.
وقال أرسطاطاليس: تراب الزئبق يقتل الفأر إذا عجن له في شيء من طعامه.
ودخان الزئبق يحدث أسقاما رديئة مثل الفالج ورعدة الأعضاء وذهاب السمع والعقل والغشاوة وصفرة اللون والرعشة وتشبيك الأعضاء وبخر الفم ويبس الدماغ. والموضع الذي يرتفع فيه دخانه تهرب منه الهوام، من الحيات والعقارب، وما أقام منه قتلها. والزئبق له خصوصية في قتل القمل والقردان المتعلقة بالحيوان.
وقال بلوس: أما الزئبق فقلّما يستعمل في أمور الطب لأنه من الأشياء القتّالة. ومن الناس من يحرقه حتى يصير كالرماد، ويخلط [هـ] مع أنواع أخر، ويسقيه أصحاب القولنج وأصحاب العلّة التي تسمى إبلاوس «2» .
وقال ديسقوريدوس: وإذا شرب قتل بثقله، لأنه يأكل ما يلقاه من الأعضاء(22/358)
الباطنة بثقله، وقد ينفع من مضرته اللبن إذا شرب منه مقدار كثير يقيء، والخمر أيضا ينفع من مضرته إذا شرب بالأفسنتين وبزر الكرفس أو بزر النبات الذي يقال له أرمنين. وإذا شرب الخمر أيضا مع الفوذنج «1» الجبلي، أو مع الزوفا «2» ، ينفع من مضرته.
وقال الرازي: أما الزئبق العبيط فلا أحسبه كثير مضرة، إذا شرب أكثر من وجع شديد في البطن والأمعاء ثم يخرج كهيئته، لا سيما إن تحرّك الإنسان. وقد سقيت منه فردا كان (207) عندي فلم أره عرض له إلّا ما ذكرت، وعلمت ذلك من تلويه وقبضه بفمه، ويديه على بطنه. وقد ذكر بعض الأطباء أنه يعرض [منه] «3» مثل أعراض المرتك، فإنه ينبغي أن يعالج بعلاجه. وأما إذا صبّ منه في الآذان، فإنه له نكاية شديدة. فأما المفتول «4» منه والمتصاعد «5» خاصة، فإنه قاتل رديء، حادّ جدا، يهيّج منه وجع شديد في البطن ومغس «6» وخلفه الدم.
قال أرسطو: من صب في أذنه زئبق فإنه يختلط عقله، ويحس بثقل عظيم في جانبيه، وربما أدى إلى الصرع والسكتة. وطريق إخراجه أن يعجل على فرد رجل «7» يميل رأسه إلى الشق الذي فيه الزئبق.
وأما الكبريت «8» ، فإنه يتولد من أجزاء مائية وهوائية وأرضية، إذا اشتد(22/359)
اختلاط بعضها بالبعض، بسبب حرارة قوية ونضج تام، حتى يصير مثل الدهن، وينعقد بسبب برودة حرسه «1» .
قال: الكبريت له ألوان، فمنه الأحمر الجيد الجوهر، وليس هو بصافي اللون، ومنه الأبيض الذي هو كالغبار. فأما الأحمر فمعدنه في مغرب الشمس، لا ساكن في موضعه، بقرب بحر أقيانوس، على فراسخ؛ (فإذا أخذ من موضعه لم تر «2» له خاصية في الحال) . وهو نافع من الصرع «3» والسكتات والشقيقة، ويدخل في أعمال الذهب. والأبيض منه يسوّد الأجسام البيض، وقد يكون كامنا في العيون التي يجري منها الماء الجاري مشوبا بالماء، ويوجد لتلك المياه رائحة منتنة، فمن اغتمس في هذه المياه في أيام معتدلة الهواء، برأ من الدماميل والجراحات كلها، والأورام والجرب والسّلع «4» التي تكون من المرّة «5» السوداء، وينفع من رياح الأرحام.
وقال الشيخ الرئيس: إن الكبريت من أدوية البرص ما لم تمسه النار، وإذا خلط بصمغ البطم قلع الآثار التي على الأظفار، وبالخل على البهق، ويجلو القوباء، خصوصا مع علك البطم. وهو دواء النقرس مع النطرون والماء، (208) ويحبس الزكام بخورا، وتهرب من رائحته البراغيث والحيات والعقارب، سيما مع شيء من الدهن وحافر حمار. وهو يبيض الشعر بخورا، وإذا دخّن به تحت شجرة الأترج يسقط الأترج كله من الشجرة «6» .(22/360)
وقال ابن سمجون: قال الخليل بن احمد: الكبريت عين تجري فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أصفر وأبيض وأكدر. ويقال إن الكبريت الأحمر هو من الجواهر في وادي النمل الذي مرّ به سليمان بن داود- عليهما السلام- وتلك النمل أمثال الدواب تحفر أسرابا، فتمر «1» على الكبريت الأحمر.
وقال أرسطاطاليس: الكبريت ألوان «2» كثيرة، فمنه الأحمر الجيد الحمرة الذي ليس بصاف، ومنه الأصفر الشديد الصفرة الصافي اللون، ومنه الأبيض القليل البياض الحاد الريح، ومنه المختلط بألوان كثيرة. والكبريت يكون كامنا في عيون يجري منها ماء حار، يصاب في ذلك الماء رائحة الكبريت. والكبريت الأحمر يسرج بالليل في معدنه كما تسرج النار، يضيء ما حوله على فراسخ، وإذا أخذ من معدنه ارتفعت تلك الخاصية. ويدخل في أعمال الذهب كثيرا، أو يحمّر البياض جدا ويصبغه.
وقال ماسرجويه: هو ثلاثة ضروب، أحمر وأبيض وأصفر، وكلها حار يابس لطيف.
وقال إسحاق بن عمران: هو أربعة ضروب، أحمر وأسود وأبيض، وهو حجر رخو من جواهر الأرض، والمطبوخ منه أغبر إلى السواد، والمحترق منه أسود.
وقال الرازي: الكبريت حار يتولد من البخار اليابس الدخاني إذا ماس شيئا من البخار الرطب، لأن البخار بخاران، بخار رطب، وبخار حار لطيف يابس، فيطبخ البخار الرطب كطبخ حرارة الشمس لرطوبة الماء، حتى يحيله قارا أو نفطا أو ما أشبه ذلك. والكبريت من البخار الدخاني والرطب امتزجا وطبخهما حر(22/361)
الشمس حتى صار ما فيه من الرطوبة دهنا لطيفا حارا خفيفا، ولذلك أسرع إيقاده «1» لأنه شديد الحر «2» ، فتسرع إليه النار بمرة، لأن النار تطلب من الرطوبة آخرها لقربها منه بطريق واحد، والدليل على ذلك أن الأشياء الرطبة الباردة اليابسة لا تحرق لمضادتها النار بطرفيها، والأشياء الباردة لا تحرق لأنها لا رطوبة فيها، وإنما غذاء النار الرطوبة لأنها صاعدة لا تقيم في أسفل إلّا معلقة بماء يجذبها إلى أسفل، كما لا يقيم الحجر في الجو إلّا بما يعمده.
وقال جالينوس في كتاب الأدوية الموجودة بكل مكان: الكبريت النهري هو كبريت القصّارين. وقال مرة أخرى: كبريت القصارين هو كبريت الماء. وقال في المقالة السابعة من مفرداته: كل كبريت قوته قوة جلائه، لأن مزاجه وجوهره لطيف، ولذلك صار يقاوم ويضاد سم ذات السموم والهوام. واستعماله بأن يسحق ويذر على موضع اللسعة، أو يعجن بالدقيق، ويوضع عليه؛ أو يعجن بالبول أو بزبل أو عسل أو علك البطم. وقد يسقى منه للجرب وللعلة التي يتقشر معها الجلد، والقوابي إذا عولجت به مع علك البطم يشربها «3» مرارا كثيرة، فإنه يجلو، ويقلع هذه العلل كلها من غير أن يدفع شيئا منها إلى عمق البدن.
وقال ديسقوريدوس في الخامسة: يعلم أن أجوده ما لم يقرب من النار، وكان صافي اللون صقيلا، ليس بمتحجر، وأما إذا قرب من النار فينبغي أن يختار منه الأحمر الذي فيه دهنية. وقد يكون كثيرا في المواضع التي يقال لها موم(22/362)
ملصق «1» والمواضع التي يقال لها لينارا «2» . والصنف الأول يسخّن ويحلل وينضج السعال ويخرج القيح الذي في الصدر سريعا، وإذا صيّر في بيضة وشرب أو تدخن به نفع من الربو، وإذا تدخنت به المرأة طرح الجنين، وإذا خلط بصمغ البطم قلع الجرب والقوابي والبهق، وإذا خلط بالراتينج أبرأ لسعة العقرب، وإذا خلط بالنطرون وغسل به البدن سكن الحكة العارضة فيه. (210) وإذا أخذ منه مقدار فوجلياريوس «3» وشرب بماء، أو بيضة حسوا، نفع من اليرقان. ويصلح الزكام والنزلة، وإذا ذرّ على البدن قطع العروق «4» ، وإذا لطخ على النقرس مع النطرون والماء نفع منه، وإذا تدخن به نفع من الطرش، وقد يقطع النزيف. وإذا خلط بالعسل والخمر ولطخ على شدخ «5» الآذان أبرأه.
وقال أرسطوطاليس: والكبريت الأحمر ينفع من داء الصرع والسكتات والشقيقة إذا أسعط به.
وقال الدمشقي: وقوة الكبريت في الحرارة واليبوسة من الدرجة الرابعة يذهب بالبرص ويجلو الكلف ويذهب بضربان الآذان.
وقال في التجربتين: الكبريت إذا خلط بأدوية قروح الرأس العتيقة جلاها وأدملها، وإذا حلّ في زيت قد غلي فيه إشقيل «6» ، وغلّظ «7» بشيء من الشمع،(22/363)
نفع من نوعي الجرب الرطب واليابس، ومن الحكة، منفعة بالغة. وإذا خلط بالطفل «1» وحل بالخل، أو بحماض الأترج، وطلي على السعفة العتيقة «2» حللها «3» وأدملها، إذا واظب عليها، وإذا عجن بالحناء، أو بسائر أدوية القوابي، جلاها وأذهبها؛ وكذلك إذا خلط بعصارة ورق المر، ثم فعل ذلك فعلا قويا، وإذا خلط بالقطران نفع من القروح الوسخة جدا والمترهلة [والأواكل] «4» ، وإذا خلط بالعاقر قرحا وعجنا بعسل، ثم حل بالخل، وطليت به القروح المتولدة في أجسام بدت بها العلة الكبرى، وفي قروح تشبه القوابي [خشنة] «5» يخدر بها الجلد، ويذهب حسه «6» ، نفع منها منفعة عجيبة.
وأما القفر «7» ، فقد ذكرنا فيما تقدم ما فيه كفاية، وذكرنا أن منه ما ينبع في بعض الجبال، ومنه ما ينبع في الماء، فيفور مع الماء الحار في العين، ويطفو كالدهن، فما دام مع الماء يكون لينا، فإذا فارق الماء وجف فيغرف بالقفاف ويطرح على الأرض، ثم يطرح في القدر، ويطرح عليه من الرمل مقدار معلوم ليختلط به، كما ذكر، ويحركونه تحريكا شديدا (211) متداركا، فإذا بلغ حد استحكامه «8» ، صب على وجه الأرض قطعا، فيجمد وتقيّر به السفن والحمّامات.(22/364)
واما النفط «1» ، فقد ذكرنا قريبا أنه يطفو على الماء، وأن منه أبيض «2» ، ومنه أسود. قيل: وقد يصاعد «3» الأسود بالقرع والأنبيق، فيخرج أبيض، وينفع إذ ذاك من أوجاع المفاصل واللقوة والفالج وبياض العين والماء النازل فيها. وإذا شرب منه نصف مثقال نفع من المغص والرياح «4» ، ويخرج الأجنة الموتى والمشيمة، ويقتل الدود وحب القرع، وينفع الملسوع طلاء، فلينظر ما قيل فيه قبلا.
واما الموميائي «5» ، فقد ذكرناه فيما تقدم، وهو شبيه بالزفت والقفر، إلا أنه عزيز جدا. قيل: ومعدنه بأرض الموصل وبأرض فارس بأرّجان «6» ، فيما زعم بعضهم. وقد ذكرنا أنه ينفع من الكسر والوهن والخلع والوهن «7» والضربة والسقطة والفالج واللقوة، شربا وتمريخا، ومن الشقيقة والصداع البارد والصرع والدوار سعوطا بماء المرزنجوش، ويشرب قيراط منه لثقل اللسان والخنّاق والخفقان. وزعموا: أنه يخلط بالسمن ويجعل على موضع اللسع فيبرئه.
وأما العنبر «8» ، فقد ذكرناه أيضا، وذكرنا الخلاف فيه. وقد زعم بعض التجار أن بحر الزّنج قذف في بعض السنين قطعة عظيمة شبه تل. وأكثر ما يرى قدر الجمجمة، أكبرها زنة ألف مثقال. وكثيرا ما يبتلعه الحيتان «9» فتموت، وتلك الدّابة تدعى العنبر «10» . وقد ورد ذكر هذا الحوت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وهو معروف.(22/365)
خاتمة تتعلق بما تقدم
اعلم أن الأرض جسم بسيط قام البرهان على أن طبعها بارد يابس، وهي كما زعموا متحركة إلى الوسط. وزعموا أن شكل الأرض قريب من الكرة، والقدر الخارج (212) محدّب، لأنهم اعتبروا خسوفا واحدا، فوجدوا في البلاد الشرقية والغربية في أوقات مختلفة، فلو كان طلوعه وغروبه دفعة واحدة، لما اختلف بالنسبة إلى البلاد.
وإنما خلقت باردة لأجل الغلظ والتماسك، إذ لولاهما لما أمكن قرار الحيوان على ظهرها، وحدوث المعادن والنبات في بطنها.
وزعموا أنها ثلاث طبقات: طبقة قريب من المركز، وهي الأرض الصرفة، وطبقة طينية، وطبقة انكشف بعضها وأحاط البحر بالبعض الآخر وهي مركز الأفلاك واقفة في الوسط بإذن الله تعالى. والهواء والماء يحيطان بها من جميع الجهات. والإنسان في أي موضع وقف على سطح الأرض يكون رأسه مما يلي السماء ورجلاه مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها، وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من السماء مقدار ما خفي له من الجانب الآخر، لكل تسعة عشر فرسخا درجة. ثم إن البحر المحيط أحاط بأكثر وجه الأرض، والمكشوف منها قليل ناتئ عن الماء على هيئة بيضة غاطسة في الماء، خرج من الماء محدّبها، وليست منظمة ملساء، ولا مستديرة، بل كثيرة الارتفاع والانخفاض. أما باطنها فكثير الأودية والأهوية والكهوف والمغارات، ولها منافذ وخلجان كلها ممتلئة مياها وبخارات ورطوبات دهنية ينعقد منها الجواهر المعدنية. وتلك الأبخرة والرطوبات دائما في الاستحالة والتغير والكون والفساد. أما ظاهرة فإنها كثيرة الجبال والأودية والجداول والبطائح والآجام والدحال «1» والغدران، وفيها منافذ(22/366)
وخلجان تجري بعضها إلى بعض في دائم الأوقات، والرياح والغيوم والأمطار لا تنقطع عنها في شيء من الأوقات، ولكن في أماكن مختلفة البقاع شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، مثل الليل والنهار (113) والصيف والشتاء، وفي بلدان شتى.
والمعادن والنبات والحيوان قائم في الكون والفساد، فما في الأرض موضع إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان، باختلاف صورتها ومزاجها وأجناسها وألوانها وأنواعها لا يعلم تفصيلها إلا الله، وهو صانعها ومدبرها، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، إلّا في كتاب مبين.
تتمة لا تقطع السياق
فالذي يعتمد عليه جماهيرهم، أن الأرض مدورة كالكرة موضوعة في جوف الفلك كالملح في البيضة، وأنها في الوسط، ولا ينكر هذا إلّا جاهل بالبرهان والعقل، هكذا وضعها الحكيم العليم، وبعدها في الفلك من جميع الجوانب على التساوي، هذا هو الحق.
وزعم هشام بن الحكم المتكلم «1» أن تحت الأرض جسما من شأنه الارتفاع.
قال: وهو المانع للأرض من الانحدار، وهو ليس محتاجا إلى ما يعمده، لأنه ليس يطلب الانحدار بل الارتفاع. وقال أبو الهند: إن الله وقفها بلا عماد. وعلّله ديمقراطيس بأنها تقوم على الماء، وقد حصر الماء تحتها حتى لا تجد مخرجا فتضطر إلى استقلال، وهذا الرأي قريب من رأي هشام بن الحكم. وقال بعض المتكلمين(22/367)
إنها واقفة على الوسط، على مقدار واحد من كل جانب، والفلك يحد بها من كل وجه، فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون أخرى، لأن قوة الأجزاء مكافئة؛ مثال ذلك حجر المغناطيس وجذبه الحديد، فإن الفلك بالطبع مغناطيسيّ للأرض، فهو يجذبها، فإذا كان كذلك فهي واقفة في الوسط كقنديل النصارى. ومنهم من قال إنها واقفة في الوسط، وسبب وقوفها سرعة تدوير (214) الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط، من ذلك أنك إذا جعلت ترابا أو حجرا في قارورة، وأديرت بقوة في الحرط «1» والتدوير، فإن التراب والحجر المذكورين يقوم في الوسط.
وقال محمد بن أحمد الخوارزمي «2» : الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفل بالحقيقة «3» ، وأنها مدورة مضرّسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة، وذلك لا يخرجها عن الكرة إذا اعتبرت جملتها، لأن مقادير الجبال، وإن شمخت، يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض، فإن الكرة التي قطرها ذراع أو ذراعان، إذ نتأ منها شيء أو غار فيها، لا يخرجها عن الكرة ولا هذه التضاريس، لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها، بحيث لا يظهر منها شيء، فحينئذ تبطل الحكمة المودعة في المعادن والنبات والحيوان، فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلّا هو.(22/368)
إشارة غير مقصودة
قال وهب بن منبه «1» : كانت الأرض كالسفينة تذهب وتجيء، فخلق الله ملكا في نهاية العظم والقوة، أمره أن يدخل تحتها ويجعلها على منكبه، فأخرج يدا من المشرق، ويدا من المغرب، وقبض على أطراف الأرض فأمسكها، ثم لم يكن لقدميه قرار، فخلق الله تعالى صخرة مربّعة من ياقوتة خضراء، في وسطها سبعة آلاف ثقبة، يخرج من كل ثقبة بحر لا يعلم عظمه إلا الله. ثم أمر الصخرة حتى دخلت تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق الله تعالى نورا عظيما له أربعون ألف عين، ومثلها آذان وأنوف وأفواه وألسنة وقوائم، ما بين كل اثنين منها مسيرة خمسمائة عام. فأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة فحملها على ظهره وقرونه، واسم هذا الثور كيونان. ثم لم يكن للثور قرار، فخلق الله تعالى حوتا عظيما لا يقدر أحد أن ينظر إليه، (215) لعظمه وبريق عينيه وكبرهما، حتى قيل لو وضعت البحار كلها في إحدى مناخره لكانت كخردلة في فلاة. فأمر الله تعالى الحوت أن يكون قواما لقوائم الثور، واسم هذا الحوت بهموت. ثم جعل قراره الماء، وتحت الماء هواء، وتحت الهواء ماء، وتحت الماء ظلمات، ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمات، هذا آخر كلامه.
وينبغي أن يعلم أن هذا من الإسرائيليات على تقدير صحته عن وهب، وعلى تقدير أن وهبا نقله عمن يوثق به، لكن البراهين تقتضي ترجيح أحد القولين في رده، بدليل نص القرآن في قوله تعالى وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ(22/369)
تَمِيدَ بِكُمْ
«1» ونحوه من الآيات الكريمة التي تدل على أن الأرض إنما كان «2» سبب ثباتها على الحال التي عليه من السكون وعدم الاضطراب والحركة، هو أن الله تعالى أرسى فيها الجبال فسكّنها عن الاضطراب. نعم إن التحقيق أقرب في قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
«3» . وإذا كان قد قال سبحانه خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها
«4» فالأرض كذلك، وإنما دخل الداخل بين المسلمين مما نقلته اليهود، وتلقاه من [في] قلبه مرض ممن يعتقد أن الله في جهة، فانشرح صدره لمثل هذه الأحاديث ونقلها عند المسلمين، فتقبلها العامة حتى النساء والصبيان ينقلون معتقدين صحتها، فنسأل الله العفو والعافية من البدع المضلة.
عاد الكلام ورجع إذا تقرر ما تقدم، فقد زعموا أن الأبخرة والأدخنة الكثيرة إذا اجتمعت تحت الأرض فلا تقاومها برودة، حتى يصير ما قد تكون مادتها كثيرة لا تقبل التحليل بأدنى حرارة، ويكون وجه الأرض صلبا لا يكون فيه منافذ ولا مسام، فالبخارات إذا قصدت الصعود (216) لا تجد المسام والمنافذ، فتهتز منها بقاع الأرض وتضطرب، كما يرتعد بدن المحموم من شدة الحمى، بسبب رطوبات عتيقة اختبأت في خلل أجزاء البدن، فتشتعل «5» بها الحرارة الغريزية، فتذيبها وتحللها وتصيرها دخانا وبخارا، فتخرج من مسام جلد الإنسان فيهتز من ذلك البدن ويرتعد، ولا يزال كذلك إلى أن تخرج تلك المواد كلها، فإذا خرجت سكن البدن ورجع إلى حال الصحة، فهكذا حركات بقاع الأرض(22/370)
بالزلازل، فربما ينشق وجه الأرض فيخرج من ذلك الشق المواد المختنقة المختبئة دفعة واحدة، وقد يكون خروجها ببلدة فتخسفها، وذلك بأن تكون تحت الأرض تجاويف، فعند انشقاق الأرض ينزل فيها الجبال والبلاد الظاهرة على وجه الأرض مما يشاء الله تعالى.
قالوا: وإذا امتزج الماء بالطين، وفي الطين لزوجة، وأثرت فيه حرارة الشمس مدة طويلة، صار حجرا كما ترى أن النار إذا أثرت في الطين جعلته آجرا، والآجر ضرب من الحجر، وكلما كانت النار فيه أكثر كان أصلب، وأشبه بالحجر.
فزعموا أن تولد بعض الجبال من الماء والطين وحرارة الشمس. وأما سبب ارتفاع بعضها وشموخه على تقدير أن يكون مما ذكر فهو أنه يجوز بسبب زلزلة فيها خسف، فينخفض بعض الأرض ويرتفع بعضها، ثم ذلك البعض المرتفع يصير حجرا لما ذكرنا. وجاز أن يكون بسبب أن الرياح تنقل التراب إلى مكان فتجذب تلال ووهاد، ثم تتحجر بسبب ما قلنا.
ثم قد زعم صاحب كتاب المجسطي «1» أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة تنقل أوجات «2» الكواكب ويدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فإذا انتقلت من الشمال إلى الجنوب تختلف مسافات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض (217) ، فيختلف بها الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحر والبرد، وتتغير أرباع الأرض، فيصير العمران خرابا، والخراب عمرانا، والبراري بحارا، والبحار براري، والجبال سهولا، والسهول جبالا.(22/371)
أما صيرورة الجبال سهولا، فإن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها، بطول الزمان، تنشف رطوبتها، وتزداد جفافا ويبسا، وتتكسر عند الصواعق خاصة، فتصير أحجارا وصخورا ورمالا، ثم السيول تحمله إلى بطون الأودية والأنهار، ولشدة جريان الماء تحملها إلى البحار، فتنبسط في قعر البحار جبال وتلال، كما يتولد من هيوب الرياح دعاص «1» الرمال في البر.
وكذلك قد يوجد في أجواف الأحجار إذا كسرت، أنواع من الأصداف والعظام، وذلك بسبب اختلاط طين هذا الموضع بالصدف والعظم؛ وأيضا فقد يوجد بعض الجبال ذو أطباق، بعضها فوق بعض، وسبب ذلك وصول السيول إليه بالطين مرة، فإن ماء السيل إذا انتقل من موضع إلى موضع يحمل طين الموضع الذي مرّ عليه، فتصير كل طبقة من ذلك بمرور الزمان حجرا بالسبب الذي قلنا، ولا تزال السيول تأخذ من الجبال وتحط حتى ترتفع من البحر الوهاد وتنخفض في البر الجبال والله أعلم بالحقائق.
وأما كيفية صيرورة البحار يبسا، واليبس بحرا، فإنه كلما انضمت من البحر قطعة على الوجه الذي ذكرناه، فالماء يرتفع يطلب الاتساع على سواحله، يغطي البر بالماء، ولا يزال ذلك دأبها بطول الزمان حتى تصير مواضع البر بحرا، وهكذا لا يزال الجبال تتكسر وتصير حصى ورمالا تحمله السيول إلى قعر البحار مع طين ممرها، وينعقد فيها كما ذكرنا، حتى يستوي مع وجه الأرض فتجف وتنكشف، فينبت فيها العشب والأشجار، فتصير (218) مكانا للوحوش والسباع، ويقصدها الناس لطلب الصيد والعشب والحطب، فتصير مسكنا للناس وموضعا للزرع والغرس والقرى والمدن، فسبحان من لا يعتريه التغير والزوال، وكل ما سواه يتغير من حال إلى حال.(22/372)
واعلم أن هذا المذكور إنما هو في بعض الجبال والأماكن المكتسبة ما ذكرنا، أما الجبال الأصول التي قال الله تعالى في حقها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
فتلك أصول وقواعد لا تتغير للحكمة المودعة فيها، التي لولاها لكانت الأرض متحركة.
وقال بعضهم: لولا الجبال لكان وجه الأرض مستديرا، وكان ماء البحار يغطيها من جميع جهاتها، وأحاط بها الهواء بالماء، وبطلت الحكمة في المعادن والنبات والحيوان.
وقال بعضهم: الجبال سبب لوجود الأنهار السائحة على وجه الأرض الذي هو مادة حياة النبات والحيوان، وذلك لأن سبب هذا الماء هو انعقاد البخار في الجو سحابا. والجبال الشامخة الطوال الأصول على بسيط الأرض شرقا وغربا ويمينا وشمالا تمنع الرياح أن تسوق البخار، بل يجعلها منحصرة بينها، حتى يحلقها برد الشتاء، فيصير مطرا وثلجا، فلو فرضت الجبال غير مرتفعة عن وجه الأرض لكانت الأرض كرة لا غور فيها ولا نتوء، فالبخار المرتفع لا يبقى في الجو «1» منحصرا إلى وقت يضربه البرد، بل يتحلل ويستحيل هواء، فلا يجري الماء على وجه الأرض إلا قدر ما ينزل من المطر، ثم تنشفه الأرض، فكان يعرض من ذلك أن النبات والحيوان يعدم لعدم الماء في الصيف عند شدة الحاجة إليه، كما في البوادي البعيدة والمغارات المعطشة، فاقتضى التدبير الإلهي وجود الجبال لحصر البخار المرتفع من الأرض بين أغوارها، ويمنعه من السيلان، ويمنع الرياح أن تسوقها كما يمنع السّكر «2» الماء فيبقى فيها محفوظا إلى أن يلحقه البرد زمان(22/373)
الشتاء، فيجمده (219) ويعصره فيصير ماء، ثم ينزل مطرا وثلجا. والجبال في أجرامها مغارات وأهوية وأوشال وكهوف، فتقع على قللها الأمطار والثلوج، فتنصب إلى تلك المغارات والأوشال، فتبقى مخزونة، ويخرج من أسافلها ضيقة، وهي العيون، فيسيح منها الماء على وجه الأرض، فيحيي به العباد والبلاد، وما فضل ينصب إلى البحر. فإذا فني ما في الجبال من المياه النازلة فيها من الأمطار لحقها نوبة الشتاء فعادت إلى ما كانت، ولا تزال هكذا دائبا إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فسبحان من لا يطلع على دقائق حكمته ومصنوعاته إلا هو.
فإذا وقعت الأمطار والثلوج على الجبال تنصب الأمطار إلى المغارات، وتذوب الثلوج، وتفيض إلى الأودية التي في الجبال، فتبقى مخزونة فيها وتمتلئ الأوشال منها في الشتاء، فإذا كان في أسافل الجبال منافذ ضيقة تخرج المياه من الأوشال في تلك المنافذ، فيحصل منها جداول، وتجتمع بعضها إلى بعض، فيحصل منها أودية وأنهار، فإن كانت تلك المياه في أعالي الجبال يستمر جريانها أبدا، لأن مياهها تنصب إلى سفح الجبال، ولا تنقطع ماديتها لوصول مددها من الأمطار، وإن كان في أسافل الجبال فتجري منها الأنهار عند وصول مددها، وتنقطع عند انقطاع المدد، وتبقى المياه فيها واقفة كما ترى من الأودية التي تجري في بعض الأيام وتنقطع عند انقطاع مادتها.
قال صاحب جغرافيا «1» : إن في هذا الربع المسكون مقدار مائتين وأربعين نهرا طوالا، منها ما طوله من خمسين فرسخا إلى مائة فرسخ، إلى ألف فرسخ، فمنها(22/374)
ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري من المغرب إلى المشرق، ومنها ما يجري من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب، وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار وإلى البطائح، وفي ممرها المدن والقرى، وما فضل (220) ينصب إلى البحار، وتختلط بالماء المالح، ثم يرق ويلطف ويتصاعد في الهواء بخارا، وتتراكم منه الغيوم، فتسوقه الرياح إلى الجبال والبراري وينزل هناك، ويجري في الأودية والأنهار ويسقي البلاد، ويرجع فاضلها إلى البحر، ولا يزال هذا دأبها، وتدور كالدولاب بتقدير العزيز العليم إلى أن يبلغ «1» الكتاب أجله.
ثم لا يشك في أن في جوف الأرض مسام ومنافذ، وفيها إما ماء وإما هواء، على ما قدمنا ذكره، فإن كان هواء فإنه يصير ماء، ويسير ويلحقه، أو بغير ذلك من الأسباب، أو ماء على حاله ومائيته مدد صلبة، فتمنعه من جهة أخرى، فلا يسع ذلك الأرض، فيشقها ويظهر على وجهها إن أمكن، وله قوة الخروج وليست للأرض.
تتميم لما سبق
ذكر أبو الريحان الخوارزمي «2» في كتابه الآثار الباقية «3» : أن باليمن ربما حفروا فبلغوا صخرة عرفوا أن تحتها ماء، فنقروها نقرة يعرفون بصوتها مقدار الماء،(22/375)
ثم ينقبونها نقبا صغيرا ويرونها، فإن كانت سليمة قوّروها، وإن كانت مجوفة عجلوا سدّها بالجص والكلس، فإن منها ما يخشى منه مثل سيل العرم، وإن لم يكن لها قوة الخروج. أو كانت الأرض صلبة فتحتاج إلى العلاج، وهو أن ينحى عنه التراب حتى يظهر كماء الآبار والقنوات، هذا إذا لم تكن مادتها كما ذكرنا من الأوشال بطريق النز «1» ، فسببها ظاهر.
أما سبب اختلاف العيون التي في جوف الأرض وكهوف الجبال، من الملوحة والعفوصة والكبريتية والنفطية، فعلّة حرارتها أن المياه تسخن في الشتاء تحت الأرض وتبرد في الصيف، بسبب أن الحرارة والبرودة ضدّان، فلا يجتمعان في مكان واحد، في زمان واحد. فإذا جاء الشتاء، برد الجو، وقرت الحرارة، وأسخنت باطن الأرض وكهوف الجبال، فإن كانت مواضعها كبريتية بأن تنصب إليها رطوبات دهنية، كما قدمنا ذكره، بقيت الحرارة فيها دائمة (221) بواسطة تلك الرطوبات الدهنية، فلو جاز بهذه المواضع مياه أو جداول أو عروق نافذة، تسخن لمرورها هناك، وجوازها عليها، ثم تخرج على وجه الأرض حارّة حامية.
وان أصابها نسيم أو برد الجو فربما جمدت، أو كانت غليظة، وانعقدت فصارت زئبقا أو قيرا أو نفطا أو كبريتا أو ملحا أو بورقا أو ما شاكل ذلك، بحسب اختلاف تربها، وتغيرات أهوية أماكنها، كل ذلك بتدبير الحكيم العليم.(22/376)
فهرس المحتويات
مقدمة 5
نماذج المخطوطات 11
كزبرة 15
كزبرة الثعلب 18
كشوت 19
كمأة 20
كمافيطوس 22
كمادريوس 24
كمّون 25
كندس 27
لبلاب 29
لبسان 30
لحية التّيس 31
لسان الحمل 32
لسان الثور 35
لوبيا 35
لوسيما خوس 36(22/377)
لوف 37
لينابوطس 40
ماهوبدانه 43
ماهيزهره 44
مازريون 45
ماميثا 48
ماش 52
مثنان 54
مخلّصة 56
مزرنجوش 57
مرو 59
مزمار الراعي 62
نانخواه 63
ناركيوا 65
نرجس 66
نسرين 68
نعنع 69
نمّام 71(22/378)
نيلوفر 72
هايسمونا 74
هليون 75
هندبا 77
هيوفاريقون 79
وجّ 81
ورد 82
ياسمين 84
يسبروح 85
يتّوع 88
ينبوت 91
أسترغار 95
بيش 97
بيش موش بيشا 99
تنبل 99
تربد 101
حزاء 104
ريباس 106(22/379)
سنبل 107
طاليسفر 110
قرنفل 111
كاشم رومي 112
كنهان 113
وخشيزق 114
أرجيقنه 118
أنتلة سوداء 119
أوقيمويداس 121
سقولوقندريون 122
سليخة 123
عاقر قرحا 125
فروقوديلاون 128
فشغ 130
قرثمن 132
كبيكج 133
لوسيماخيوس 135
مورفا 136(22/380)
يربطون 137
بربه شانه 140
بشنين 144
صام ثوما 145
قضّاب 147
كتّان 148
كصنيثون 151
الكلام على المعادن 155
النوع الأول: الفلزات 159
الذهب 160
الفضة 162
النّحاس 163
الحديد 164
الرصاص 166
الأسرب 167
الخارصيني 168
النوع الثاني: الأحجار 169
إثمد 172(22/381)
أرميون 173
إسفيداج 173
الإسرنج 176
إقليما الذهب 176
أكتمكت 177
بادزهر 178
باهت 180
بسّد 181
بلّور 182
بورق 183
بيجاور 187
تدمر 187
تراب صيدا 187
تراب الشاردة 188
تنكار 188
توبال 189
توتيا 191
جالب النوم 192(22/382)
جبسين 193
جزع 194
جمست 195
جوز جندم 196
حجر 197
حجر أبيض 197
حجر النحر 198
حجر البحيرة 198
حجر البرام 199
حجر البسر 199
حجر البقر 199
حجر الحبارى 201
حجر الحبش 201
حجر الحصاة 201
حجر الحمّام 201
حجر الحوت 202
حجر الحيّة 202
حجر أخضر 203(22/383)
حجر الخطّاف 203
حجر أرمني 204
حجر الرّحاء 204
حجر إسفنج 205
حجر آسمانجوني 205
حجر أسود 206
حجر السامور 206
حجر السلوان 207
حجر السّم 207
حجر بارقي 201
حجر بولس 210
حجر الأثداء 210
حجر الدجاج 210
حجر الديك 211
حجر أصفر 211
حجر أغبر 211
حجر حبشي 212
حجر الشياطين 212(22/384)
حجر الصرف 213
حجر الصنوبر 213
حجر عاجي 213
حجر غاغاطيس 214
حجر عراقي 214
حجر عسلي 214
حجر العقاب 215
حجر فدامي 215
حجر الغار 216
حجر قبطي 216
حجر القمر 216
حجر القير 217
حجر القيء 217
حجر الكرك 217
حجر الكلب 218
حجر لبنى 219
حجر المثانة 219
حجر مشقّق 219(22/385)
حجر المطر 220
حجر النار 220
حجر الناقة 220
حجر الإنسان 221
حجر هندي 221
حجر يهودي 221
حجر يتولد في الماء الراكد 222
حجر يقوم على الماء وضده 222
خبث الطين وغيره 223
خرسواسون 224
خزف 225
خماهان 225
خصية إبليس 226
خوساي 226
خوص 226
در 226
دهنج 230
ديفروحس 232(22/386)
ديماطي 233
رخام 233
رمل 234
زاجات 235
زبد البحر 238
زبد البحيرة 240
زجاج 240
زرنيخ 241
زفت 243
زفتي 245
زمرد 246
زنجار 248
زنجفر 250
زهرة الملح 251
زهرة النحاس 252
زنوس 252
شادروان 252
سيج 254(22/387)
سرطان بحري 254
سلسيس 256
سنباذج 256
شاذنه وشاذنج وحجر الدم 257
شبّ 258
شل 261
سنج 261
صدف 262
صدف البواسير 263
صمغ البلاط 264
طارد النوم 264
طاليقون 265
طلق 266
طوسوطوس 268
طين مختوم 268
طين مصر 274
طين شاموس 275
طين جزيرة المصطكي 277(22/388)
طين قيموليا 278
طين كرمي 281
طين أرمني 282
طين نيسابوري 284
عقيق 286
عنبر 288
عنبري 290
فرسلوس 290
قرطاسيا 291
فيلقوس 293
فيهار 293
قرياطيسون 294
قروم 294
قفر 294
قلى 299
قيراطير 300
قيشور 300
كرسيان 301(22/389)
كرسباد 302
كرماني 302
كرامى 303
كلس 303
كهرباء 304
لازورد 308
لاقط الذهب 310
لاقط الرصاص 310
لاقط الشّعر 310
لاقط الصوف 311
لاقط العظم 311
لاقط الفضة 312
لاقط القطن 312
لاقط المسن 312
لحاغيطوس 313
لحام الذهب 313
لوفقرديس 314
لينج 315(22/390)
ماس 315
مانطس 317
ماهاني 317
ماورز 318
مراد 318
مرجان 318
مرداسنج 320
مرطيس 323
مرقشيثا 323
مرمر 325
مرهيطس 326
مسحقونيا 327
مسهّل الولادة 328
مغناطيس 329
مغنيسيا 331
ملح 331
مها 338
مولوبدانا 339(22/391)
موميا 340
نطرون 343
نفط 344
نؤورة 345
نوشادر 345
نوني 346
هادي 347
ودع 347
ياقوت 348
يشب 351
يقظان 353
فائدة 354
النوع الثالث: في الأجسام الدهنية 355
خاتمة تتعلق بما تقدم 366
تتمة لا تقطع السياق 367
إشارة غير مقصودة 369
تتميم لما سبق 375.(22/392)
[الجزء الرابع والعشرون]
المقدمة
هذا هو السفر الرابع والعشرون من موسوعة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري، ويتألف الكتاب من سبعة وعشرين سفرا سجل فيه تراث الأمة على مدى سبعمائة عام أو يزيد، فقد حفظ وسجل الجوانب الحضارية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتحدث عن الدول التي قامت ثم اندثرت وترجم لرجالها وعلمائها من الفقهاء والقراء والمحدثين والفلاسفة والأطباء والمؤرخين والشعراء والأدباء والمغنين، وتحدث فيه عن البلدان والمواضع وعادات الشعوب والأديان والنحل والفرق الإسلامية وغير الإسلامية.
واختص هذا الجزء بتاريخ الدول العربية الإسلامية من بني هاشم وبني أمية في الشام والعراق ومصر والأندلس، مصورا حياة الدول في جوانبها السياسية والإدارية والحضارية، في أحوالها الزاهية المزدهرة في عهود تقدمها، وكذلك أحوالها في حال تخلفها وتضعضعها وانحدارها نحو السقوط بسبب التناحر على السلطة واقتطاع الممالك وتجزيئها ثم اندثارها، وقد امتدت حياة هذه الدول قرابة سبعة قرون ابتداء من حكم معاوية بن أبي سفيان وانتهاء بسقوط الدولة العباسية على يد التتار سنة 656 هـ(24/5)
مؤلف الكتاب:
مؤلف مسالك الأبصار هو ابن فضل الله العمري «13» القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلي دعجان بن خلف، يتصل نسبه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصفه خليل بن أيبك، وكان صديقه وأهم من ترجم له ترجمة مستفيضة، بقوله: (هو الإمام الفاضل البليغ المفوّه الحافظ حجّة الكتّاب، إمام أهل الأدب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، وتوصلا إلى غايات المعالي وتوسلا) .
ولد بمدينة دمشق في شوال سنة سبع مائة، وسمع بالقاهرة ودمشق من جماعة، وتخرج في الأدب بوالده، وبالشهاب محمود، قرأ العربية أولا على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد عبد الله، وعلى الشيخ برهان الدين، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والعروض والأدب على الشيخ شمس الدين الصايغ، وعلاء الدين الوداعي، وقرأ جملة من المعاني والبيان على العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه جملة من الدواوين وكتب الأدب، وقرأ بعض شىء من العروض على الشيخ كمال الدين(24/6)
ابن الزملكاني، والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وأخذ اللغة عن الشيخ أثير الدين: سمع عليه (الفصيح) ، و (الأشعار الستة) ، و (الدريدية) ، وأكثر (ديوان أبي تمام) ، وغير ذلك، وسمع بدمشق من الحجار وست الوزراء وابن أبي الفتح، ورحل إلى بلاد كثيرة طلبا للعلم، فسمع في الحجاز ومصر والإسكندرية وبلاد الشام، وأجاز له جماعة.
شغل أعمالا كثيرة وتقلب في وظائف الدولة، فباشر كتابة السير للسلطان الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، نيابة عن والده محيي الدين الذي ولي كتابة سر دمشق، ثم لما ولي والده كتابة السر بمصر أيضا، صار هو يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفذ المهمات، واستمر كذلك في ولاية والده الأولى والثانية، ثم إنه فاجأ السلطان بكلام غليظ، فقد كان قوي النفس، وأخلاقه شرسة، فتغير عليه السلطان فأبعده، وصادره وسجنه بالقلعة سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة، ثم ولي كتابة السر بدمشق، وعزل ورسم عليه أربعة أشهر، وطلب إلى مصر، فشفع فيه أخوه علاء الدين، فعاد إلى دمشق، واستمر بطّالا من أعمال الدولة، ولكنه انصرف إلى التأليف والتصنيف إلى أن مات.
علمه وأدبه:
انتهت إليه رياسة الإنشاء، وكان يشبه القاضي الفاضل في زمانه، كان حسن المحاضرة والمذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء، يقول الصفدي: (رزقه الله أربعة أشياء، لم أرها في غيره، وهي: الحافظة، قلّما طالع شيئا إلا وكان مستحضرا لأكثره، والذاكرة التي إذا أراد ذكرى شىء من زمن متقدم كان ذلك حاضرا، كأنه مرّ به بالأمس، والذكاء الذي تسلط به على ما أراد، وحسن القريحة في النظم والنثر،(24/7)
أما نثره فلعله في ذروة كان أوج الفاضل لها حضيضا، ولا أرى أحدا يلحقه فيه جودة وسرعة عمل لما يحاوله في أي معنى أراد، وأي مقام توخاه، وأما نظمه فلعله لا يلحقه فيه إلا الأفراد، وأضاف الله تعالى إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن) «1» .
كان ابن فضل الله العمري ذا ثقافة واسعة، قل أن يتحصل عليها غيره في شتى العلوم والفنون، كان علمه بالتاريخ منقطع النظير، فهو على دراية واسعة بتواريخ ملوك المغول من لدن جنكيز خان وهلمّ جرا، وكذلك بملوك الهند والأتراك، فضلا عن ملوك العرب من الخلفاء والأمراء، وكان متفردا بمعرفة المسالك والممالك وخطوط الأقاليم، ومواقع البلدان وخواصها، يشهد على ذلك كتابه (مسالك الأبصار) هذا، وكذلك علمه بمعرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب، وبخطوط الأفاضل وأشياخ الكتابة.
انصرف العمري إلى الكتابة والتأليف، وترك وظائف الدولة، وأتيحت له حياة مستقرة مرفهة، فقد رتبت له مرتبات كثيرة بعد تركه عمل السلطان، وعاش في نعمة، وعمّر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية في شرقيها، ليس بالسفح مثلها. ولو امتد به العمر لأعطى عطاء كثيرا فوق عطائه الغزير، فقد توفي وهو في أوج نضجه الفكري والعلمي في الخمسين من العمر، وكانت وفاته بالطاعون، فقد وقع الطاعون بدمشق سنة تسع وأربعين وسبع مائة، ففرق من ذلك وعزم على الحج، واشترى الجمال وبعض الآلات، ثم إنه ترك ذلك وتوجه بزوجته ابنة عمه إلى القدس ومعهما ولداه، وصاموا هناك، فماتت زوجته بالقدس في شهر رمضان، وحضر إلى دمشق وهو طائر العقل، فيوم وصوله برد وحصل له حمّى أضعفته، فتوفي رحمه الله يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع(24/8)
مائة، ودفن عند والده وأخيه بدر الدين محمد بالصالحية.
صنف العمري كتبا كثيرة، وترك تراثا ضخما جليلا بلغت بعض كتبه مجلدات ضخام، ومن أهم كتبه وأوسعها كتابه هذا (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، في عشر مجلدات كبار، وفي سبعة وعشرين سفرا في التقسيم الأخير الذي منه هذه المصورات، وصنف: (فواضل السمر في فضائل آل عمر) في أربع مجلدات، و (الدعوة المستجابة) في مجلد، و (صبابة المشتاق) وهو ديوان كامل في المدائح النبوية، و (سفرة السفر) ، و (دمعة الباكي) ، و (يقظة الساهر) ، و (نفحة الروض) ، و (مختصر قلائد العقيان) ، و (النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية) ، و (الشتويات) وهو مجموع رسائل، و (الدائرة بين مكة والبلاد) ، و (ممالك عبّاد الصليب) ، و (التعريف بالمصطلح الشريف) ، وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الملوك، وغير ذلك، ونثره وأسلوبه واضح في كتاب مسالك الأبصار، وخاصة حين يترجم لعلم أو يعلق ويفسر.
أما شعره، فقد نظم أشعارا كثيرة منها ما ذكرها في تضاعيف كتبه وفي هذا الكتاب خاصة، ومنها في كتابه صبابة المشتاق، وما ذكرته كتب التراجم التي ترجمت له، ومن أهمها كتاب الصفدي: الوافي بالوفيات والصفدي معاصره وصديقه، نظم العمري القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت والموشح والزجل، ومن مختار شعره قصيدة في المديح النبوي، نقتطف منها هذه الأبيات:
جنحت إليّ مع الأصيل المذهب ... والركب ممتدّ الخطى في المذهب
واليوم مبيضّ الإزار وإنّما ... جنب الإزار مطرّز بالغيهب
وعلى الأصائل رقّة فكأنّما ... لبست نحول العاشق المتلهّب
هذي المدينة أشرقت أعلامها ... يهنيكم فزتم بأشرف مطلب(24/9)
هذي القباب كأنّهنّ عرائس ... مجلوّة سفرت ولم تتنقّب
هذا رسول الله جدّوا نحوه ... تجدوا النّوال الجمّ والخلق الأبي
هذا رسول الله هذا أحمد ... هذا النقيّ الجيب هذا مطلبي
هذا صباح المهتدي هذا ربي ... ع المجتبي هذا شفيع المذنب
هذا النّبيّ الهاشميّ المجتبى ... من نسل إبراهيم أكرم من أب
هذا المصفّى من سلالة آدم ... الطيّب بن الطيّب بن الطيّب
شرفت به آباؤه وأتت به ... أبناؤه والكلّ مثل الكوكب
واختاره الله المهيمن ربّه ... وحباه بالقربى وعزّ المنصب
وصف مخطوطة الكتاب:
يتألف هذا الجزء من 169 ورقة في 338 صفحة، في الصفحة 23 سطرا، وفي السطر حوالي 9- 11 كلمة، خطها نسخ واضح مقروء، والعنوانات بخط كبير، بعض الكلمات غير معجمة، فيها شكل قليل، يكثر فيها التحريف والتصحيف واللحن، مما يدل على أن الناسخ غير ضليع بالعربية، أو أنه متعجل فيقع في الوهم والخطأ، ليس في هذا الجزء صفحة العنوان ويبدأ الجزء في الصفحة الثانية بعد البسملة بقوله: (على الله توكلت، وهذا ذكر من تنبّه من أهل هذا البيت، وملك ملكا، وإن كان القليل المنقص، والحقير المنغص، وكيف يرثون الأرض وما ترك جدهم لهم تراثا، أو تعطف عليهم الدنيا وقد طلقها أبوهم، وما ضرهم أن يكون لغيرهم الدنيا وتكون لهم الآخرة، وفيهم النبوة الدائمة، ولسواهم الدول الدابرة، وأول ما نبدأ بالحسنيين ثم بالحسينيين، ثم بمن تعلق بهما) . وينتهي الجزء في الصفحة 338 وفيها نقص إذ لم ترد فيها الخاتمة ولا اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وختامها بقطعة من شعر المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وهي قطعة غزل يقول(24/10)
فيها:
طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدّ
يا غزالا نقض الود ... د ولم يوف بعهد
أنسيت العهد إذ ... بتنا على مفرش ورد
واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد
وتعانقنا كغصني ... ن وقدّانا كقدّ
ونجوم الليل تحكي ... ذهبا في لازورد
وفي آخر الصفحة تعقيبة تقول (وقد تقدم) مما يدل على أن هناك حذفا والكلام موصول.
المخطوطة كاملة من الداخل ليس فيها حذف أو بياضات إلا بعض الكلمات في مواضع قليلة، وفي الصفحة 219 بياض بقدر نصف الصفحة، هناك بعض الخرجات والتصويبات في الحواشي وليست كثيرة.
وعلى الرغم من جودة الخط وجماله ووضوحه، إلا أن الناسخ كان متعجلا، وهو قليل الدراية باللغة العربية، فقد جاء في المخطوطة شكل قليل، إلا أن كثيرا منه غير صحيح فلم نعتمده، وكلماتها معجمة ولكن هذا الإعجام غير مضطرد، ففيها كثير من الكلمات المهملة، والإعجام فيها لا يعتمد عليه ففيه كثير من التضليل فقد يكتب الياء ويريد التاء، ويكتب النون ويريد الباء، وهكذا، أما الأخطاء النحوية فكثيرة كثرة ملفتة للنظر، وقد نبهنا إلى بعضها وصححنا البقية دون تنبيه، وكثير من الأشعار المستشهد بها فيها نقص أو تحريف أو خلل في الأوزان، وكذلك أسماء الأعلام فيها المحرف والمغيّر.(24/11)
الكتاب ومنهج مؤلفه:
تناول هذا الجزء الدول التي قامت في المشرق والمغرب، وبدأ بذكر دول الهاشميين وأولها دولة الحسنيين والحسينيين وتبدأ بدولة المهدي محمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، ثم دولة بني طباطبا العلويين، وتداول الحكم من خلفاء هؤلاء اثنا عشر خليفة، ثم الدولة الطبرستانية من أولاد الحسن وأولاد الحسين بن علي بن أبي طالب، وهم ثلاثة خلفاء، ثم دولة الأدراسة بالمغرب، وأول خلفائها إدريس المغرب ابن عبد الله بن الحسن المثنى، وهم خمسة عشر خليفة، ثم الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وأولهم المهدي بالله عبيد الله بن محمد الفاطمي، وتداول الحكم من الفاطميين في مصر أربعة عشر خليفة، ثم خليفتان من الحسينيين في الكوفة والحجاز وهما محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، ومحمد بن جعفر الصادق بالحجاز، وذكر بعد ذلك دولة الزنجي علي بن محمد العلوي الذي ظهر في البصرة، أما القرامطة فقد ذكر حركتهم وصفاتهم ومن ولي الأمر منهم وهم سبعة ظهروا بسواد الكوفة، وكل هؤلاء الخلفاء هم من بني هاشم، واستكمالا للهاشميين، بدأ بعد هؤلاء بذكر دولة بني العباس الهاشميين، وهم سبعة وثلاثون خليفة أولهم أبو العباس السفاح عبد الله بن محمد، وآخرهم المستعصم بالله عبد الله بن منصور المستنصر العباسي الذي به انتهت الدولة العباسية وقد قتله المغول واحتلوا البلاد وسبوا العباد، ثم يتسلل من بقي من العباسيين إلى مصر، وينشئون الدولة العباسية في مصر، وكان الخلفاء تحت إمرة الولاة الحاكمين وليس للخلفاء إلا الاسم والرسم، وهم خمسة خلفاء أولهم المستنصر بالله أحمد بن محمد الظاهر العباسي، وبسقوط الخلفاء العباسيين في العراق ومصر تنتهي الدولة العباسية الهاشمية.(24/12)
أما بقية الخلفاء الذين جرى ذكرهم في هذا الجزء، فهم خلفاء الدولة العربية الأموية القرشية في الشام وفي الأندلس، وتبدأ الدولة الأموية بالفرع السفياني وهم ثلاثة خلفاء، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم معاوية بن يزيد، ثم تنتقل الخلافة إلى الفرع المرواني من بني أمية، وأولهم مروان بن الحكم، وآخرهم مروان بن محمد، وعدد من حكم من الأمويين بالشام أربعة عشر خليفة، يقضي على آخرهم بنو العباس.
ثم ينتقل بنو أمية إلى الأندلس، وتقوم لهم دولة يشيّدها صقر قريش عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ويتوالى على الحكم خمسة عشر خليفة آخرهم المعتد بالله هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، الذي انتهت حياته سنة 428 هـ، وبموته انتهت الدولة الأموية بالأندلس.
لقد حوى هذا السفر تراجم لأكثر من 127 خليفة، عرض المؤلف لظروف قيام كل دولة، وسير الخلفاء وحياتهم الخاصة والعامة، والأحداث التي جرت في كل دولة، وعرض للجوانب السياسية والاجتماعية والحضارية، وأسباب ازدهار الحكم، وعوامل سقوط الدول، والمؤلف في كل ذلك يروي الأخبار ويصور السير والأحداث، ويستشهد بالأشعار التي قيلت، ويبين خصائص كل دولة وصفات كل حاكم، مصورا الجوانب الرفيعة المشرقة، وكذلك الجوانب الفاسدة الهابطة من انحراف بعض الخلفاء وميلهم إلى اللهو والمجون والعنف والفساد، وعلى الرغم من كثرة الجوانب السلبية، وفساد الحكم، والصراع على السلطة والقتل والغدر بين الأقارب والأباعد، على الرغم من كل ذلك، فقد تجلى لدى بعض الخلفاء الميل إلى الخير والعدل والزهد والتقوى، وكان منهم من يتأسى ويتابع عمر بن عبد العزيز في زهده وورعه وعدله، سواء من الخلفاء الأمويين أم من العباسيين(24/13)
مثل يزيد بن الوليد بن عبد الملك من الأمويين، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم من الأمويين بالأندلس، والمهتدي بالله محمد بن هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، من العباسيين على الرغم من تأخر عهدهم وضعف دولتهم.
إن هذا السّفر صورة صادقة للحياة العربية في ازدهارها وحضارتها وغناها وانتشارها، وصورة لحياة الأمم وسقوطها وتشتتها وانهيارها، وللمؤلف ابن فضل الله العمري منهج متميز في دراسته وعرضه للأحداث والأخبار، فهو يبدأ كل ترجمة بمقدمة يعرض فيها ملخصا لسيرة صاحب الترجمة، وأهم مميزاته، والظروف والأحداث التي مرت به، بأسلوب أدبي يغلب عليه السجع، وهو أسلوب جميل رفيع يدل على ثقافة عالية ودراية واسعة ومحفوظ كثير، من الأشعار والأمثال والخطب، التي يستعير بعضها ويضمّنها في أسلوبه، ثم بعد هذه المقدمة التي قد تطول وقد تقصر، يذكر أهم صفات الخليفة وسيرته، والأحداث التي شغلته، وبعض رجال عصره، ينقل ذلك من المصادر التي سبقته أو التي عاصرته، ينقل أحيانا ما يختاره نقلا حرفيا، ويلخص في أحيان أخرى، ويصوغ بعضها بأسلوبه، ويشير في كل ذلك إلى الكتب التي أفاد منها، ونقل عنها، وقد ينفرد بمعلومات لا نجدها في كتب التاريخ والأدب، وهو في كل ذلك يلتزم جانب الحياد والموضوعية دون ميل أو تعصب، إلا في الحالات التي يرى أن الفساد قد عمّ فيها وطمّ، وهو في منهجه هذا مثال الباحث الفذ الأصيل الذي يصلح قدوة لكثير من الباحثين المحدثين الذين تنقصهم الأمانة والعدل والموضوعية.(24/14)
منهج التحقيق:
على الرغم من سعة هذا السفر وضخامته، وما فيه من تراجم كثيرة ونصوص وأشعار غزيرة، وأعلام بعضهم مغمور أو مجهول، لم أجد لهم ترجمة في المصادر المتاحة، وعلى الرغم من الصعوبات التي تعترض كتابا كهذا يتعلق بالتاريخ ورجاله وأحداثه وأزمانه، على الرغم من كل ذلك، فقد وجدت في هذا الكتاب متعة في قراءته وتحقيقه وجلاء غامضه، لما فيه من جيد الأخبار، وجميل الأشعار وجودة المختار من تراجم الأعلام، وقد سرت في التحقيق على الوجه الذي يخدم النص تصويبا وتقويما، وغايتي في ذلك أن أحرّر نصا هو أقرب إلى ما أراده مؤلفه، وقد سرت في التحقيق على الوجه الآتي:
1- صحّحت النص وقوّمت ما فيه من أخطاء لغوية ونحوية ووهم وتصحيف وتحريف، وقد جاء كثير من الألفاظ والعبارات محرفة أو خالية من الإعجام، أو أن إعجامها غير صحيح، أو كان فيه لحن أو سهو أو خطأ أو نقص، فاستدركت كل ذلك، وأشرت لبعض التصويبات، وقد صححت الأخطاء وأشرت إلى التصويب في الهامش، وقد أغفل الإشارة حرصا على عدم إثقال الهوامش بالتصويبات المتشابهة، وهي كثيرة، ويبدو أن الناسخ كان قليل الدراية بالعربية، وقد تعزى بعض الأخطاء إلى السهو والعجلة، وقد وضعت كل إضافة أو استكمال أو تصويب بين عضادتين [] .
2- ضبطت الشعر بالشكل وكذلك أسماء الأعلام والكلمات التي بحاجة إلى الضبط دفعا للوهم واللبس، وقد جاءت بعض الكلمات مضبوطة في الأصل وخاصة في الشعر، ولكن بعضها غير صحيح الضبط، وقد يكون ضبطه(24/15)
مدعى إلى اللحن.
3- أكثر الكلمات في الأصل معجمة، وبعضها مهمل، ولكن الإعجام في كثير من الكلمات غير صحيح، فأعجمت المهمل وصوبت المحرف والمصحف.
4- في بعض الأشعار نقص أو خلل في الوزن، فأتممت النقص وصححت الوزن، وأشرت إلى الأبيات التي لم أهتد إلى وجه الصواب فيها.
5- خرّجت الشعر بالرجوع إلى الدواوين والمصادر بالقدر الذي أسعفت فيه المصادر، وبينت بحور الشعر لكل قصيدة أو قطعة أو بيت.
6- بيّنت معاني الكلمات الغامضة والعبارات التي تحتاج إلى شرح وتوضيح.
7- ترجمت للأعلام الذين لهم صلة بالمضمون، وقد جاءت بعض أسماء الأعلام محرفة، فصحّحتها بالرجوع إلى كتب التراجم.
8- ترجمت للمواضع والبلدان، وعرفت بالجماعات أو الشعوب حين تدعو الضرورة لذلك.
9- هناك نقص في بعض نصوص الكتاب نتيجة للاختصار أو التلخيص أو السقط، فأكملت النقص بالرجوع إلى كتب التاريخ المنقول عنها، وقد ترد عبارات هي خلاف المعنى المراد، فصحّحت ذلك وأرجعت العبارات إلى أصلها ووجّهتها الوجهة الصحيحة بالرجوع إلى المصادر، وقد نبّهت إلى كل ذلك في الهامش.
وبعد، فبتوفيق من الله تعالى، لم آل جهدا، ولم أدخر وسعا في سبيل خدمة هذا السفر الجليل، وقد انصرفت إليه بكلي، وأعطيته عزيز وقتي وبقية(24/16)
عمري، مقرنا ليلي بنهاري، راجيا أن أكون قد أدركت بعض ما سعيت إليه من خدمة تراث الأمة الجليل، فإذا بلغت الغاية أو بعضها فلله الحمد على ما أعان ووفق، وإن قصرت وضللت، فسبحان من له الكمال وحده، ومن الله العون، وبه التوفيق.
والحمد لله أولا وآخرا.
3 جمادى الآخرة 1422 هـ 22 آب (أغسطس) 2001 حقّقه يحيى وهيب الجبوري(24/17)
صور من الأصل المخطوط(24/19)
صورة الصفحة الثانية من بداية الكتاب(24/21)
صورة الصفحة 92 وفيها الدولة العباسية(24/22)
صورة الصفحة 220 وفيها الدولة الأموية(24/23)
الصفحة 338 وهي الأخيرة من الكتاب(24/24)
[دولة حسنيين]
بسم الله الرحمن الرحيم [ص 2] على الله توكلت وهذا ذكر من تنبه من أهل هذا البيت، وملك ملكا، وإن كان القليل المنقص، والحقير المنغص وكيف يرثون الأرض، وما ترك جدهم لهم تراثا، أو تعطف عليهم الدنيا وقد طلقها أبوهم ثلاثا، وما ضرهم أن يكون لغيرهم الدنيا، وتكون لهم الآخرة، وفيهم النبوة الدائمة ولسواهم الدول الدائرة، وأول ما نبدأ بالحسنيين ثم بالحسينيين، ثم بمن تعلق بهما.
فدول الحسنيين أولها، وفيها من تقدم في النسب ذكرهم.
1- ذكر دولة المهديّ
محمد بن عبد الله «1» بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، تقدم(24/25)
ذكره في موضعه من النسب، وكان يلقب النفس الزكية، وكان أبو جعفر المنصور قد بايعه في الدولة الأموية، وأعطاه يمينه، وأعطاه في عقد المبايعة يمينه، وكان برّا تقيا طاهرا زكيا، ولهذا كان يسمّى النفس الزكية، ولم يقدر له ظهور في تلك الأيام الأول، ولا على عهد السفاح، فلما قبض المنصور على أبيه خرج عليه بالمدينة، واحتج عليه بمبايعته المتقدمة، ودارت بينهم كتب بديعة في إقامة الحجج، وكان المنصور فيها الألد الخصم والأشد عقدا لا ينفصم، وكان محمد بن عبد الله أيّدا «1» ، شرد لأبيه جمل فعدا جماعة خلفه فلم يلحقه أحد سواه، فأمسك بذنبه، فلم يزل يجاذبه حتى انقلع، فرجع بالذنب في يده، وكان يطلب الخلافة أيام بني أمية ويزعم أنه المهديّ المبشّر به، وكان نهاية في العلم والزهد والشجاعة، وأقام سنين مستترا في جبال طيء «2» ، مرة يرعى الغنم ومرة يعمل في المهن، وأمسك المنصور أباه وعمه وطائفة من أهله لاحضاره وإحضار أخيه إبراهيم فجحدوا معرفتهما، فحبسهم عليه، ويقال إن المنصور كان قد بايع أباه عبد الله ومحمدا ابنه بعده، وكانت له جارية معها ابن له صغير برضوى «3» ولد له في حال تستره [ص 3] فردّى «4» نفسه من الجبل، فقال فيه أبوه:
[السريع]
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تبكيه أطراف مرو حداد(24/26)
شرودة الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
رواها له ابن مسكويه، وقد رويت لغيره، ولمّا أتاه جيش المنصور تقدمه عيسى بن موسى «1» ، خندق عليه الخندق النبوي، وكان يبرز ويرتجز، وهو يقول:
[الرجز]
لا عار في الغلب على الغلّاب ... والليث لا يخشى من الذئاب
فلما رأى تضاؤل أمره أقال الناس بيعته، وكسر ذا الفقار «2» وكان قد صار إليه، وأحرق الكتب التي كانت ترد عليه بالبيعة خوفا عليه من المنصور، ثم قاتل حتى غدا حجار الزيت، وحزّ رأسه وحمل إلى المنصور، وقال المنصور لإسحاق بن منصور العقيلي، وكان ذا تجريب لا يكهم «3» ، وتدريب له يلهم: أشر عليّ في خارجي خرج عليّ؟ قال: صف لي الرجل؟ فقال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو علم وزهد وورع، قال: من تبعه؟ قال: ولد علي، وجعفر، وعقيل، وعمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار، فقال: صف لي البلاد التي خرج فيها، فقال: بلد(24/27)
ليس فيه زرع ولا ضرع ولا تجارة واسعة، قال: يا أمير المؤمنين، اشحن البصرة بالرجال، فقال المنصور: هذا شيخ قد خرف، أسائله عن خارجي المدينة فيقول:
اشحن البصرة بالرجال، فلم يكن إلا يسيرا حتى أتاه الخبر بخروج إبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فقال المنصور: عليّ بالعقيلي، فذكّره بما كان قال، ثم قال له: هل كان عندك من هذا علم؟ قال: لا، ولكني لما ذكرت لي خروج رجل إذا خرج مثله لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت البلد الذي خرج به، فإذا هو لا يحتمل الجيوش، فعلمت أنه سيطلب غير [ص 4] بلده، ففكّرت في مصر، فوجدتها مضبوطة، وفي الشام والكوفة فوجدتهما كذلك، ثم فكرت في البصرة فوجدتها خالية، فخفت عليها، فقال له المنصور: أحسنت، وقد خرج بها أخوه، فما الرأي في صاحب المدينة، قال ارمه بمثله، إذا قال هذا: أنا ابن بنت رسول الله، قال الآخر: أنا ابن عم رسول الله، فقال المنصور لعيسى بن موسى:
أما أني أخرج إليه أو أنت، فقال: بل أنا أفديك بنفسي، فخرج فنصر عليه، كما تقدم ذكره.
2- ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن «1»
وكان خروجه بالبصرة، وكان لعيسى بن موسى عليه النصرة، وكان(24/28)
مدره «1» خصام، وبدرة صمصام «2» بقلب قلّب، ولسان ليست عارضته بخلّب «3» ، وجبل يدق على الكيد، ويقوى على الأيد، لولا إفراط شغفه بالنساء، وكلفه بذوات السناء، وما اقتفاه «4» من سنة مصعب بن الزبير في المغالاة في مهورهن، وترك بوارق السيوف لإيماض ثغورهنّ، وإلا فقد كان طعم علقم إذا غضب، ومس أرقم «5» إذا وثب، ومن كنوز المطالب أنه كان تلو أخيه في شدة البدن والعبادة، وحب العزلة وطلب العلم، وهو أشعر من أخيه، وظهرت له شجاعة وطول صبر على الاغتراب برا وبحرا، حتى إنّه دخل على المنصور في هيئة منتصح، وقد أخفى شكله، وقال له: مالي عندك إن جئتك بإبراهيم بن عبد الله، فوعده بإحسان جزيل، فطلب منه أن يكتب إلى ولاة البحر الفارسي بالإعانة في مقاصده حيث توجه، فكتب له الكتب وأوصى الولاة به فتمكن بذلك من الهرب، وبث الدعوة إلى أن أحكم أمره، ثم أتى البصرة، حتى أبطل بناء بغداد، وأعد الجهازات للهرب إلى خراسان، لما رأى من إفراط إقبال الناس عليه وإعراضهم عنه، إلى أن هزمه عيسى بن موسى، وقتله في المعركة، فعاد المنصور إلى بناء مدينته، وقال: الآن عرفت رأسي أنه لي، ولم يخطب له بإمرة أمير المؤمنين إلا بعد مقتل [ص 5] أخيه، وكان خروجه وخروج أخيه في سنة خمس وأربعين ومائة. ومن كتاب تجارب الأمم أنه قاسى شدائد في اختفائه، حتى إنه أكل على موائد المنصور، ووجد في بيت مال البصرة ألفي ألف درهم، فتقوّى بها، وصارت له فارس والأهواز، وكان الملتقى بينه وبين(24/29)
جيش المنصور على باخمرا «1» من بلاد الكوفة، فانهزم حميد بن قحطبة، وناشده عيسى بن موسى في الثبات، فلم يثبت، ولم يبق معه إلا ثلاثة، واتفق من الحديث الغريب أن المنهزمين من جيش المنصور رأوا قدامهم نهرا لم يقدروا على خوضه، فرجعوا فظن أصحاب إبراهيم أنهم قد ردوا عليهم، فانهزموا بعد أن حصلوا على الظفر، ومن شعره قوله في رقية بنت الديباج العكانية وكان قد تزوج بها، وكان كلفا بها:
[الطويل]
رقيّة همّ النفس لا ذقت فقدها ... فها أنا ذا شوق لها وهي حاضر
وقالوا غدت شغلا له عن أموره ... ولو أبصروها لم يردوا معاذر
وقوله وقد اعتلّ أخوه:
[الطويل]
شكوت فعمّ السّقم من كان مؤمنا ... كما عمّ خلق الله نائلك الغمر
فيا ليتني كنت العليل ولم تكن ... عليلا وكان السّقم لي ولك الأجر
وقوله في رثاء أخيه:
[البسيط]
أبا المنازل ما هلك الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... أوانس القلب من تلقائهم فزعا(24/30)
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعا أو نموت معا
وقوله فيه:
[الطويل]
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإنّ بها ما يدرك الواتر الوترا
وإنّا أناس لا تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظّهرا
ولسنا كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصّرها من جفن مقلته عصرا [ص 6]
ولكنني أشفي فؤادي بغارة ... تلهب في قطري كتائبها جمرا
ومن نثره قوله: «وقد قيل لقد تهتكت في النساء، حبّ النساء سنّة نبوية، لم تعطّل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدراك الظفر، ولم تحل بينه وبين بلوغ الوطر، وإنّ أعجز الناس من قعدت به لذات الدنيا عن البلوغ إلى مراقي العليا، و [ما] انهضم من جمع بين إدراك لذاته والفوز بالبلوغ إلى غاياته، عقد الله عنا ألسنة العوام، وأغمد عنهم سيوفنا بالطاعة وحسن الالتئام» .
وقوله في خطبة خطبها يوم عيد: «اللهمّ إنّك اليوم ذاكر أبناء بآبائهم، فاذكرنا عندك بمحمد صلى الله عليه وسلم، يا حافظ الآباء في الأبناء احفظ ذرية نبيك» ، قال: فلم يقلها حتى اشتد بكاء الناس.
وقوله وقد قيل له حين أشرف على القتل: ألا تفر وأمامك فارس والأهواز، وهما تحت طاعتك؟
فقال: «من فرّ من أهل بيتي حتى أفرّ، أتريدون أن أكون أول من فتح هذا الباب على الفاطميين؟ لا والله، إن خلقت إلا لسلّ السيوف، وشقّ الصفوف، وتجرع الحتوف، والمعاد إلى الله، وهو أعدل الحاكمين» .(24/31)
وقوله: «كلّ منطق ليس فيه ذكر فهو لغو، وكلّ نظر ليس فيه عبرة فهو غفلة، وكلّ سكوت ليس فيه تفكّر فهو سهو، فطوبى لمن كان منطقه ذكرا، ونظره عبرا، وسكوته تفكّرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه» .(24/32)
ذكر بني طباطبا
ومنهم الأئمة باليمن، وليس بغير اليمن إلا الخارج بالكوفة، وهو المبدا بذكره:
3- محمّد بن إبراهيم العلويّ
بهذا يعرف، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم «1» طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بويع بالخلافة يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة، وكان إمام صدق لو قام، وغمام ودق لو دام، أزهد من أويس «2» ، وأحلم [ص 7] من(24/33)
قيس «1» ، وأكرم من حاتم «2» ، وأشجع من قاسم «3» ، وأشبه بآبائه من الغراب بالغراب، وفي آبائه من الناب بالناب، عليه من سيماء سلفه شمائل، ومن بقايا سيف جده ذي الفقار مثله، إلا أنه لم يعلق بحمائل، إلا أنه كان غرا شابا برونق شبابه مغرى، ما عركته الأيام عرك الأديم، ولا عرفته كيف يخادع اللئيم، حتى يحذر من يأمن، ويتشاءم بمن يتيامن، فلا يدخل عليه داخل، ولا يغتال من داخل.
قال الطبري: ووافاه في ذلك اليوم أبو السرايا السري بن منصور «4» ، ولقبه(24/34)
الأصفر، فقام بحربه وتدبيره، وكان سبب قيامه ومبايعة أهل الكوفة إياه، أن المأمون عزل طاهر بن الحسين «1» عما كان عليه من أعمال البلدان التي افتتحها، وصرفها إلى الحسن بن سهل «2» ، فتحدث الناس بأن ابن سهل غلب على المأمون، وحجر عليه، واستبد عليه بالأمور، فهاجت الفتنة بالأمصار، وكان أول من خرج وثار ابن طباطبا، فبايعه أهل الكوفة، واستوسق له «3» أمرها، وأتته الوفود، وكثرت له الجموع، وكان عامل الكوفة من قبل سليمان بن جعفر «4» ،(24/35)
وخليفته عليها خلاد بن محجن الدؤلي، فلما سمع ابن سهل بثورة ابن طباطبا، كتب إلى سليمان المذكور يعنفه ويضعفه، وجهز جيشا من عشرة آلاف فارس وراجل، وأمّر عليهم زهير بن المسيب «1» وأمره بقتال ابن طباطبا، فسار زهير بجيوشه حتى نزل قرية ساهي، قريبا من الكوفة، فخرج إليه محمد ابن طباطبا، ومعه أبو السرايا، واقتتلوا قتالا شديدا، أذابوا فيه جندلا وحديدا، ثم انهزم زهير هزيمة شنيعة، واستباح ابن طباطبا عسكره جميعه، وأخذ ما كان معه من مال وسلاح وكراع، ثم إن أبا السرايا ندم على إقامة ابن طباطبا فسمّه، فأصبح ميتا، ومن كنوز المطالب أنه مرض وأتاه أبو السرايا يعوده، وقال له: أوصني، فأوصاه وصية بليغة «2» ، وذكرها وذكر له شعرا منه قوله:
[الوافر]
أينقص حقّنا في كلّ وقت ... على قرب ويأخذه البعيد [ص 8]
فياليت التقرب كان بعدا ... ولم تجمع مناسبنا الجدود
قال الشريف الغرناطي «3» : ثم قام من بعده رجل من بني الحسين يأتي ذكره(24/36)
إن شاء الله تعالى.
وقال مؤلف كنوز المطالب، وقد ذكر بني الحسن المثنى، فذكر منهم إبراهيم الغمر، قال: ولقّب بهذا لسعة جوده، وكان فيمن حمل مصفدا بالحديد من المدينة إلى الأنبار، وكان يقول لأخويه عبد الله والحسن: أعوذ بالله من منى طبهن منايا، تمنينا ذهاب سلطان بني أمية، واستبشرنا بسلطان بني العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال إلى ما نحن عليه، والعقب منه، فمنى ابنه إسماعيل الديباج، ولقّب بهذا لجماله، كما لقّب محمد بن عبد الله «1» بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكذلك كان يقال لمحمد بن عبد الله بن الحسن، والعقب منه في رجلين، وهما: إبراهيم طباطبا، والحسن تج «2» .
فأما طباطبا ففي بنيه كان طلب الإمامة والنباهة، والعلم والشعر والأدب، وذكر بنيه فقال: أصل هذه الشجرة أبو محمد القاسم الرسي بن طباطبا «3» ، والرس «4» ضيعة كانت له بالمدينة، لم يسمح له المنصور بالمقام بها، في كفاف(24/37)
من العيش، حتى طلبه ففر إلى السند «1» وقال:
[البسيط]
لم يروه ما أراق النعي من دمنا ... في كل أرض ولم يقصد من الطلب
وليس يشفي غليلا في حشاه سوى ... ألا ترى فوقها ابنا لبنت نبي
وكتب صاحب السند إلى المنصور يخبره أنه وجد في بعض خانات الموليان مكتوبا بقول القاسم بن إبراهيم طباطبا العلوي: انتهيت إلى هذا الموضع بعد أن مشيت حتى انتعلت الدم، وقد قلت:
[الطويل]
عسى منهل يصفو فيروي ظميه ... أطال صداها المنهل المتكدر
عسى جابر العظم الكسير بلطفه ... سيرتاح للعظم الكسير فيجبر
عسى صور أمسى لها الجور دافنا ... سيبعثها عدل يجيء فيظهر
عسى الله لا ينأى من الله إنه ... ييسّر منه ما يعزّ ويعسرا [ص 9]
فكتب إليه المنصور: قد فهمت كتابك، وأنا وعليّ وأهله كما قيل:
[الطويل]
يحاول إذلال العزيز لأنه ... بدأنا بظلم واستمرت مرائره
ولما أنشد مؤلف الكنوز للقاسم بن طباطبا قوله:
[الوافر]
أرقت لبارق ما زال يسري ... ويبكيني بمبسم أمّ عمرو
فلم يترك وعيشك لي دموعا ... بأجفاني ولا قلبا بصدر(24/38)
قال: والعقب منه في ثمانية، أولاهم بالتقدم:
الحسين الزاهد ومن نسله أئمة صعدة، قلت: هم الأئمة باليمن إلى زماننا، وأصل شجرتهم المباركة:
4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا «1»
خطب له بإمرة المؤمنين في حال أبيه، وكان يقال له في الدعاء على المنبر:
اللهم اهد لطاعتك وأقم بالعدل في بريتك الإمام الهادي أمير المؤمنين يحيى بن الأمير الزاهد العالم الحسين بن أبي محمد القاسم، ثمرة الشجرة النبوية، وبركة الذرية الفاطمية.
وبويع بعده لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين، والخليفة إذ ذاك المعتضد «2» ، وكان أول ما عرف من أدبه، وعلم من شرف مطلبه أن أهديت إليه جارية تليق به، فقال:
[الكامل]
كفّي لحاظك ليس هذا وقتها ... بل وقت كلّ مهنّد وسنان
أمطاعن الآساد في غاباتها ... حاشا ترود مرابض الغزلان
ثم أعادها إلى سيدها، وقال له: هذه بضاعتك ردت إليك، وهذا نظير ما(24/39)
رمته من الفائدة في إهدائها، وله مصنفات في الفقه وأدب طائل، قال وهو يخطب: من كمال «1» إيمانك أن تكون مأموما لرجل اجتمعت فيه شروط الإمامة، التي أولها النسب العلوي، فما استحقنا من قبلنا إلا بما رووه عن جدنا صلى الله عليه وسلم: «قدموا قريشا ولا تقدموها» «2» فكيف لا تقدم قريش أبناء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل غمطوهم حقهم، ومنعوهم فيئهم، وتقدموا بهم عليهم [ص 10] ، وله شعر، منه قوله:
[الطويل]
بني حسن إني نهضت بثأركم ... وثأر كتاب الله والحقّ والسنن
وصيّرت نفسي للحوادث عرضة ... وغبت عن الإخوان والأهل والوطن
لأدراك ثأرا أو لأقمع ظالما ... أشدّ على الإسلام من عابد الوثن
فإن يك خيرا فهو خير لكلكم ... وإن تكن الأخرى فإنّا ذوو محن «3»
وتوفي بصعدة «4» في ذي الحجة سنة ثمان ومائتين. وولي بعده ابنه:
5- محمّد المرتضى «5»
وكان خطيبا شاعرا، ولما قام بالأمر اضطرب عليه الناس، ومن شعره قوله:(24/40)
[الرمل]
كدر الورد علينا والصدر ... فعل من يدرك حقا وكفر «1»
أيها الأمة عودي للهدى ... ودعي عنك أحاديث السّمر
عدمتني البيض والسمر معا ... وتبدلت رقادي بسهر
لأجرّنّ على أعدائنا ... نار حرب بضرام وشرر
وتوفي في عاشوراء سنة عشرين وثلثمائة.
وولي بعده أخوه:
6- أحمد النّاصر ابن الهادي «2»
وله شعر فائق، منه قوله يخاطب أسعد بن يعفر التبعي ملك صنعاء:
[الطويل]
أعاشق هند شفّ قلبي المهنّد ... به أبصرت عيني المعالي تشيّد
إذا جمعت قحطان أنساب مجدها ... فيكفي معدّا في المعالي محمّد
به استبعدت أقيالها في بلادها ... وأصبح فيها خالق الخلق يعبد
وسرنا لها في حال عسر ووحدة ... فصرنا على كرسي صعدة يصعد
فإن رجعوا للحقّ قلنا بأنّنا ... لدين الهدى وجه ومنهم لنا يد(24/41)
ولكن أبوا إلا لجاجا وقد رأوا ... بأنّ عليهم كلّ حين نسوّد
ولا منبر إلا لنا فيه خطبة ... ولا عقد ملك دوننا الدهر يعقد
وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاث مائة، وولي بعده ابنه الحسين [ص 11] المنتجب، ومات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وولي بعده أخوه القاسم المختار بن الناصر، وقتله أبو القاسم ابن الضحاك الهمداني في شوال سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، وولي بعده أخوه محمد الهادي، ثم أخوه العباس الرشيد، ثم استولى عليهم بنو حمزة الآتي ذكرهم، وشردوا هؤلاء إلى جبل قطابة «1» باليمن، ولم يزل لهم به إمام قائم، وبنو حمزة تحاربهم، حتى قام منهم أحمد بن الحسين «2» المرطي سنة خمس وأربعين وست مائة، وأخذ صعدة كرسي آبائه، وأذهب دولة بني حمزة، واستولى على قريب [من] عشرين حصنا، وخطب خطبة عاب فيها بني العباس لتعطيلهم الحج على سعة ما لهم وملكهم، ثم قالوا: إنّا لا نملك إلا هذه الرقعة القريبة، وقد علت همّتنا لأن نقيم مسار الإسلام، ونعزم على الحج في هذا العام، فاستعدوا له كل الاستعداد،(24/42)
فاحتاج المظفر بن رسول «1» صاحب اليمن إلى مداراته، وكتب إلى المستعصم، يحركه على إقامة الحج، وله شعر منه قوله:
[الكامل]
ولقد أقول لهم غداة المنحنى ... والخيل تعثر بالقنا المتحطّم
أنا أحمد سأقيم سنّة أحمد ... ووصاته بين الحطيم وزمزم
7- ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمّد بن الحسن «2»
ابن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب ثار بالمدينة وتغلب عليها، وبويع بها، وسوّد السيرة وأساء في قبح الفعال مسيره، وقتل كثيرا من أهل المدينة، وسبى نساءها، ونهب أموالها، وأظهر الفسق والفجور، وأنواع اللهو وشرب الخمور، وتظاهر بهذه الفضائح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارا وزنى فيه، وما تخفى استتارا، وأباد الناس بالسيف والجوع، ولم يدع إلا من بان أنه الموجوع، ومنع الجماعة والجمعة، ودنس شرف تلك البقعة، ولم ير في أيامه صلاة قائمة في المسجد تؤدى نافلة ولا فرضا، ولا من يذكر الصاحبين [ص 12] رضي الله عنهما إلا بما(24/43)
لا يرضي، فضاق الخلق ذرعا، ولم يطيقوا له دفعا، فغزاه المعتمد «1» ، فظفر به وقتله، وكانت مدته في هذا النسق سنة وأشهرا، فسبحان من لا يعجل بمؤاخذة من اجترأ، وفي الحديث: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يكن يفلته) «2» ، ولهذا كل ظالم يطرقه ضحى، إن لم يبيته.
8- ذكر دولة السّفّاك إسماعيل «3»
ابن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون، ذكره مؤلف الكنوز، وحل في ذكره(24/44)
الرموز، قال: كان يلقب نفسه السفاك، ويرضى هذا الاسم لنفسه، ويقول:
ابتديت دولة بني العباس بالسفاح، ويبتدي دولة بني علي بالسفاك، وكان يرحل وينزل في أكناف الحجاز، وثار في جموع جمعها، وجنود معه أطمعها، وزحف على المدينة ليطرد عنها ولاة المعتز، فحموها، فأتى مكة وملكها، وخطب لنفسه بها بالخلافة، وسفك الدماء، ومنع الحجاج الوقوف، ووقف بالمأزمين «1» ، وقال: من تبرأ من العمين وسب بني العباس وبني أمية خلّي، وإلا فالسيف، وقيل له أسرفت في قتل المسلمين، فقال: لو اعتقدت أنهم مسلمون ما قتلت منهم أحدا، ثم كان ينشد شعرا منه:
[الوافر]
بنو العباس لو أني بسيفي ... قتلت جميعهم لم أشف نفسي
9- ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع
وسنذكر من أين نمي أصلهم، وهم من ولد أبي الكرام عبد الله بن موسى «2» الجون بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى، وكان عبد الله هذا له(24/45)
صيت بالحرمين، فلما حج الرشيد وزار، أبصر ميل الناس إليه فحمل، حقد هذا عليه، ثم أتى الرشيد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال كالمتكبر على رؤوس الأشهاد: السلام عليك يا ابن عمّ، فعارضه لوقته أبو الكرام، وقال: السلام عليك يا أبة، فكاد الرشيد يتميز من الغيظ، وقال: بهذا ارتكبنا من بني علي ما ارتكبناه، ثم طرده، فمات لا يعرف له مكان.
ومن بنيه الكراميون [ص 13] ، ومنهم الصالحيون، وصالح وابنه شاعران جليلان، فأما صالح بن أبي الكرام، فهو الجوّال، وسمّي بذلك لأنه جال أقطار الأرض لخوفه، ونشأ بالمدينة والإمامة في رأسه والدعا [ة] تأتيه، ولم يمكنه الخروج لجزيرة العرب، فخرج بخراسان، فحمل إلى المأمون، فلما دخل عليه لامه، وقال: ما حملك على الخروج عليّ، وأنت القائل:
[الطويل]
إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... وخمر تقضّي همّ قلبي إذا اجتمع
فلست تراني سائلا عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع
ثم حبسه.
وأما ابنه محمد بن صالح، فهو شاعر مذكور، وبطل مشهور، وكان يعرف بالأعرابي للزومه البادية، ومن شعره:(24/46)
[الكامل]
طرب الفؤاد فعاده أحزانه
وكان قد أخذ أيام المتوكل لخروجه، فحبس ثم أطلق، لقصيدة عرضها له الفتح بن خاقان، ومما كتب به من حبسه إلى امرأته، قوله:
[الطويل]
لو انّ المنايا تشترى لاشتريتها ... لأمّ حميد بالغلاء على عمد
ولكنّ بي أني أعيش بغبطة ... وقد متّ أن يحظى بها أحد بعدي
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في الشعراء، وفي هؤلاء الصالحين ملك متوارث بغابة «1» وقد ذكرناه مكانه.
ومنهم السليمانيون، من ولد سليمان بن أبي الكرام المذكور، ومنهم الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسين بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن أبي الكرام، ومن هؤلاء السليمانيين والهواشم ملوك مكة والينبع «2» ، ومنهم- أعني بني أبي الكرام- العمقيون من ولد علي العمقي بن أحمد بن أبي الكرام، ومنهم الحرانيون من ولد القاسم والحسن ابني محمد بن أبي الكرام،(24/47)
ومنهم الأحمديون من ولد أحمد بن موسى الجون، ومنهم الإدريسيون من ولد إدريس بن أبي الكرام، وقد ذكروا، ومنهم المترفيون من ولد علي المترف بن أحمد بن أبي الكرام، ومنهم الفاتكيون، من ولد الفاتك بن سليمان بن عبد الله الكامل [ص 14] ، ومنهم المصحفيون، من ولد محمد المصحفي بن سليمان المذكور، ومنهم الحنظليون، من ولد أبي حنظلة محمد بن يحيى بن عبد الله الكامل.
فأما أصحاب الدول من السليمانيين والهواشم فسنذكرهم، فأما السليمانيون، فأول مذكور من أمرائهم:
10- أبو عزيز قتادة بن إدريس
ابن مظاعن «1» بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان المذكور، وهو أساس البيت، جوار البيت المحرم، ومبتني المجد بفناء الحرم المكرم، قال الشريف الإدريسي النسابة: لا أعرف من يساوي أبا عزيز في القعدد «2» إلى أبي طالب، ورث دولة القواسم وليس منهم، إلا من جهة النساء، وكلهم إلى أبي الكرام، وساد الكراميين، وملك معظم الحجاز، واقتنى مماليك من الأتراك رماة أذل بهم(24/48)
العرب، وذكر الريحاني: أن العرب لما فتكت بالركب العراقي سنة ثلاث وستمائة بنجد لما «1» بين الحرمين، كتب الإمام الناصر إلى أبي عزيز كتابا بخط ابن زيادة: «وغير خفي عن سمعك، وإن خفي عن بصرك فتك الأجاودة في آرام بكل ريم، وعيث بني حرب بين الحرمين حين غمّوا قلب كل محرم بالغميم» ، فأعجب هذا أبا عزيز فقال:
[الوافر]
[أ] يا رام فتنت بكل ريم ... كما غمّوا فؤادي بالغميم
وفي وادي العقيق رأوا عقوقي ... كما حطموا ضلوعي بالحطيم
ثم بدت الوحشة بين أبي عزيز والناصر، وأسرّها البغاددة «2» ، فلما أتى أمير الركب إليه بالخلع، سامه التوجه معه، فقال له: حتى أنظر، فلما نكر عليه، فأنشده:
[الطويل]
ولي كفّ ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع «3»
تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجدبين ربيع
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ... لها خلصا إني إذا لرقيع
وما أنا إلا المسك في كلّ بلدة ... يضوع وأما عندكم فيضيع [ص 15]
فقال له أمير الركب: هذا لا أبلّغه عنك، وأشار عليه بتجهيز ولد له في مشايخ من الشرفاء، يدخلون بغداد، وأكفانهم بأيديهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبّلون العتبة، ويتوسلون برسول الله صلى الله عليه وسلم في(24/49)
الصفح، فلما دخلوا على هذه الهيئة، والخلائق تضج بالبكاء، فعوملوا بكل حسنى، فلما بلغ ذلك أبا عزيز، كان يقول: لعن الله أول رأي عند الغضب، وتوفي أبو عزيز في عز سلطانه بمكة، سنة سبع عشرة وست مائة، وكانت مدته نحو تسع عشرة سنة، وهي السنة التي استولى فيها المسعود بن الكامل على مكة، وفر منها أمامه إمامها حسن بن أبي عزيز «1» ، وكان قد واطأ جارية لأبيه، حتى أدخلته إليه فخنقه، وأعانته الجارية، لأنها كانت قد طمعت منه بمال وعدها، وآمال جحدها، وخرج فقعد مكان أبيه والقلوب منه نافرة، والنفوس له عن البغضاء سافرة، وأكبّ عليه أخوه راجح بن أبي عزيز ووجوه الأشراف، أمير الركب العراقي، في حين قدم وقال كل منهم فيه بما علم، فغلق أبواب مكة وجمع للامتناع، ثم انسلّ من الجمع فريدا ونسل من جناح بني أبيه في البر المقفر طريدا، وأتى بغداد فمرض بها، وكان لا يزال يرى أباه يتردد إليه في منامه، ويضع يده في خناقه، فينتبه مذعورا، ويسمعه من معه في البيت يصيح وهو كالمتخبط، ويقول: بالله لا تفعل، ومات سنة ثلاث وعشرين وست مائة، وقام بعده أخوه راجح بن أبي عزيز «2» ، وكان لوفور عقله راجحا، ولحسن فعله حيث(24/50)
يمم ناجحا، أخذ نفسه بسلوك الطاعة، ولزوم الجماعة، ثم ولي أبو سعيد الحسين بن علي بن أبي عزيز، وكان جوادا أبيا شهما وفيا أديبا فصيحا عربيا، ثم أتى دمشق جماز بن حسن بن أبي عزيز، وأبوه حسن المتقدم الذكر، وقد طن في رأسه طلب ملك أبيه بعد كلام [ص 16] شجر بينه وبين قريبيه، وكان قد انحمل على ابن عمه أبي سعيد الحسين بن علي بن أبي عزيز، وكان قد امتد أمره إلى مكة «1» ، وطلب من الناصر بن العزيز أن يجهزه بمال وعسكر ليخطب له بمكة، فامطله حتى ضجر، ثم بعثه مع الركب، فأفسد حال ابن عمه أبي سعيد، ثم آل الأمر إلى أنه وثب عليه فقتله واستولى على مكة، وخطب بها للناصر سنة إحدى وخمسين وست مائة، ثم كان يقول: كنت أود لي بملك أبي سعيد، مثل قوله:
[الطويل]
إلى الخيف من وادي منى والمحصب ... أحنّ بقلب فوق جمر مقلب
وأشتاق من أرض الحجون معالما ... ببطحائها والسوق مذ كنت مذهبي
وبي رشأ أحلى بقلبي من الغنى ... لدى قلب ذي بخل [وحرص] مجرب «2»
وأما الهواشم فأول مذكور منهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم «3» ، وهو(24/51)
سيّد سادة، ورأس سيادة، ومثقف رأي لم يعدم سدادة، ومسدد سهم لم يحظ حظه سعادة، قال ابن الحصين: دخلت مكة سنة أربع وخمسين وأربع مائة، والفتنة قائمة بين الحسنيين والسليمانيين منهم، ولم يكن للسليمانيين رأس يقوم بهم بعد الأمير شكر، فتقدم محمد بن جعفر، وأوقع بين بني سليمان، واستولت الهواشم على مكة، وطردوا السليمانيين إلى اليمن، واستقلّ بالأمر وخطب للمستنصر الفاطمي، ثم خطب للقائم العباسي، وأبدل بياض الشعار الفاطمي بسواد الشعار العباسي «1» ، وقال وهو يخطب: الحمد لله الذي هدانا أهل بيته للرأي المصيب، وعوض بيته بلبسه السواد بعد لبسه المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومبايعة إمام الجماعة، ثم تكلم بعد هذا بما يناسب، فلما انتهى قام محمد بن إبراهيم الأسدي «2» أمام قبة العباس وأنشد:
[الوافر]
بني العباس عاد الأمر فيكم ... وإرث أبيكم أضحى مستقيما
فزمزم ليس تروي غير تال ... مديحكم وفخركم القديما(24/52)
فأظهر له القبول، ثم طلبه خفية، وقال له: ما يدخلك بين بني فاطمة وبني العباس، ثم طرده، ثم هجم المدينة وأخذها وخطب للقائم بها، وسمّي أمير الحرمين، وتوفي سنة سبع وثمانين وأربع مائة
وكانت مدته ثلاث وثلاثين سنة، ثم قام بعده ابنه قاسم، قال مؤلف الكنوز:
فزاد في الاضطراب في الخطبة على أبيه، وقطع مدته بما أسأل الله مسامحته فيه، ومات سنة ثمان عشرة وخمس مائة بعد عمر متّع به في القصف والتقلب بلغ إحدى وثلاثين سنة، ثم قام بعده أبو فليتة، فأحسن السياسة، وأحسب «1» في الرياسة، وأسقط المظالم، وأسخط بمراضي الله الظالم، وكان جوادا لا يحتجب، وشجاعا لا يغفل عما يجب، وقال يوما: اعلموا يا بني حسن، إني وجدت الرقاب ثلاثا، رقبة ملكتها بالمنن، ورقبة ملكتها بالصفع، ورقبة لم ينفع فيها إلا السيف، فقالوا: والله إنك لأعرف بما تقول وتفعل، وتوفي قتيلا بسكاكين الباطنية سنة ست وخمسين وخمس مائة، ومدته عشرون سنة، ثم قام بعده ابنه عيسى، كان صديقا للملك الناصر بن أيوب صداقة لا ينفصم عراها، ولا يوقظ كراها، وفي أيامه كان أخذ الأصطول الناصري لأصطول صاحب الكرك الفرنجي، الذي قصد ما رده الله بغيظه دونه، وأخذ ونحر من فيه بجمرة العقبة حيث تنحر البدن، ثم عزله الإمام الناصر لتقصيره في خدمة أمّه لمّا حجّت، وولى أخاه المكثر، ولم يتقدم في أهل بيته أجلّ منه ولا أجل سنا فما يؤثر عنه، هذا على قصر مدته، وتخاذل زمانه، وبنى قلعة مكة على جبل أبي قبيس «2» ، قال الريحاني: كان ذا شهامة بعيد الصيت والغور، وشعره كثير،(24/53)
ومن حر الكلام قوله: [ص 18]
[الكامل]
لا تصبحنّ أخا يريد لنفسه ... ما لا تريد ولا يعاد قديرا
إلا إذا أبصرته متجنبا ... فاركب له حدّ الحسام طريرا
وتوفي سنة تسع وثمانين وخمس مائة، قال الريحاني: وبموته انقرض ملك الهواشم، وصار في بني مظاعن من السليمانيين المذكورين من قبل، فأما من ملك قبل هؤلاء، فمن بني داود بن الحسن المثنى، وهم أول من ملك، ثم الهواشم، ثم السليمانيون.
وأول قائم من بني داود:
11- النّاهض بأمر الله محمّد بن سليمان بن داود «1»
نهض لملك أدركه، وبلد ملكه، ظهر بالحجاز وخطب لنفسه بالإمامة بالموسم على رؤوس الأشهاد، وقال: الحمد لله الذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من كمامه، وكمل دعوة خيرة الرسل بأسباطه «2» لبني أعمامه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين، وكف عنهم ببركته أيدي المعتمدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين:
[المجتث]
لأطلبنّ لسيفي ... ما كان للحقّ دينا
وأسطونّ بقوم ... بغوا وجاروا علينا(24/54)
يهدون كلّ بلاء ... من العراق إلينا
ثم:
12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر «1»
ابن الحسن بن محمد بن سليمان، كان جميل الوفاء، جليل القدر في الشرفاء، كتب إليه القادر سنة إحدى وثمانين وثلاث مائة بولاية مكة، فأنفذ كتابه إلى العزيز فوقّع له العزيز بولاية مكة، وأرسل له بمال وخلع للشرفاء، فحضرتهم عند الكعبة، وقسم فيهم المال، وقال عندما ألبس الكعبة الكسوة البيضاء: الحمد لله يا بني فاطمة الزهراء، وأصحاب السنة الغراء، على أن زيّن بيته بلبسه السرور بعد لبسه الحزن، وجعل ملك الحرمين لبني بنت رسوله من بني [ص 19] الحسين وبني الحسن، فأرضى الفريقين، واتصلت إمارته، وأتاه كتاب الحاكم بالبراءة ممن غصب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه في الخلافة، ومنع فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حقها في فدك «2» ، فغضب أبو الفتوح وقال: قوم قام بهم منار الإسلام بعد نبيّه عليه السلام، يذكرهم بما لا يجب، أهكذا فعلت النصارى بالحواريين «3» ، بل جعلوا قبر كل واحد منهم مزارا لحج وعبادة، والله لو أمرني أن(24/55)
ألعن قوما على غير الملّة لما ارتضيت أن أكون لعّانا وو الله إن من حقوق جدنا علي بن أبي طالب وصفه بالعجز، قام بهذا وخطب على رؤوس العلوية، فقام إليه رجل منهم وقال: أيها الأمير، هذا مقال من يجب عليه أن لا يرجع عما قاله، قال صدقت، ثم شرع في مباينة الحاكم، وأتاه الوزير أبو القاسم يحرضه على طلب الخلافة، فخطب لنفسه بها وتلقب بالراشد، وأتى الرملة «1» فبايعه بنو الجراح أمراء طيء، ودعي أمير المؤمنين، فما زال الحاكم يتحيل على العرب بالرغبة والرهبة، حتى انفردوا عنه، فرجع إلى مكة، ولم يجد بدّا من إعادة الخطبة للحاكم، فقيل له أترضى بأن تكون تابعا بعد أن كنت متبوعا، فقال: ما أحب أحد الحياة في عافية إلا رضي ببعض الدرجة، وامتد عمره إلى سنة ثلاثين وأربع مائة، وإمارته مدتها ستة وأربعون سنة، وهو القائل:
[المجتث]
أهوى الكؤوس فمنها ... إلى السرور أسير
عجبت منها شموسا ... حفّت بهنّ بدور
عجبت منها خدودا ... لاحت عليها ثغور
حكي أنّ الوزير أبا القاسم كانت عنده محاككة «2» وموافقة، فقال يوما لأبي الفتوح بمحضر من الأشراف وأمراء العرب: ما رأيت أشعر منك في قولك، وأنشد هذه الأبيات، فخجل أبو الفتوح، وعلم أنه أراد إعلامهم أنه يشرب الخمر، فقال لأحد حجابه: عليّ بالمصحف، فلما حضر فتحه [ص 20] وقال:(24/56)
وحق ما احتوى عليه، ما شربتها قط، ولا حضرت عليها، وتوحش لأبي القاسم، ففر منه، ولأبي الفتوح شعر كثير، منه ما أنشده الباخرزي في الدمية وهو:
[الخفيف]
وصلتني الهموم وصل هواك ... وجفاني الرقاد مثل جفاك
حكى لي الرسول أنّك غضبى ... كفى الله شرّ ما هو حاكي
ثم ولي بعده ابنه شكر «1» ، وكان نصلا لا يثلمه الضراب، ورمحا لا يحطمه الحراب، وجرت له خطوب ملك في أثنائها المدينة، وجمع بين الحرمين، ولما وقعت الحرب بينه وبين عمّه من بني موسى الجون، الذين كرهوا دعوة المصريين، وأرادوا الخطبة لبني العباس، وعاضدهم بنو الحسين وبنو جعفر، قال:
[الطويل]
بني عمّنا الأدنين قربا تأمّلوا ... غرايب ما يأتي به البغي في الأهل
نسيتم دماء بالمدينة أهدرت ... وما كان في فجّ من الأسر والقتل
فميلوا لهم لا درّ لله درّكم ... وعاطوهم كأس المودّة والوصل
وخلّوا بني بنت النّبيّ بجانب ... ولا تقصروا حتى تروا فرقة الشّمل
وتأخذكم أيدي الشتات وتخرجوا ... من الحرم الشامي والحرم القبلي
وأمّا أنا ما دام للسيف قائم ... فلا أشتري عزّ العشيرة بالذلّ
ولا أرتقي إلا ذرى كل منبر ... ولا أرتضي إلا الذي يرتضي مثلي(24/57)
أمهّد للأبناء ما يتبعونه ... وأتبع آبائي الذين مضوا قبلي
ثم لما خاف غلبة الرجال أسلم الحجاز ذاهبا إلى مصر، وقال:
[البسيط]
قوّض خيامك عن أرض تضام بها ... وجانب الذّلّ إنّ الذّلّ مجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل العرف في أرجائه حطب «1» [ص 21]
ولم يزل في خطوب وحروب تنوب إلى أن مات في رمضان سنة ثلاث وخمسين وأربع مائة، ومدته نحو ثلاث وعشرين سنة، وبه انقرضت دولة الداوديين بالحجاز، وفر بيت أهل الإمارة منهم إلى اليمن، ولها منهم أمراء.
ذكر الدّولة الطّبرستانيّة «2»
تداولها ستة رجال، منهم ثلاثة من بني الحسن، وثلاثة من بني الحسين، فأما الدولة الحسنية، وهي كانت الأولى بها أسست الوطاة «3» العلوية هنالك، وأولها:
13- الدّاعي إلى الحقّ «4»
أبو محمد الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد الجواد(24/58)
بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أمضى من صارمه، وأخلع للدعة من خاتمة، نهض للملك حتى أخذه، وأمسك بطرف ردائه وجبذه «1» ، ومنّى نفسه بالعراق وشمّر لها اضبعه «2» ونغر لأجلها فاه «3» وحرش سبعه، وسلّ لها عزمه، من حد باتكة «4» ، وأعمل فيها خدعة ناسكة لا فاتكة، حتى لولا ميل المقادير، وإن كل بتقدير، لأطاحها عن بني العباس وابتزها، وألبسهم ذلها ولبس عزها، وخطب له بالخلافة في أول خلافة المستعين «5» سنة خمس ومائتين بالري والديلم، وكان مهيبا عظيم الخلق عطس يوما عطسة ففزع رجل وهو في المنارة قائما يؤذن فيها، فوقع منها فمات، وكان أقوى البغال لا تحمله أكثر من فرسخين، وغيل «6» في آخر عمره بدنه، حتى كان يشق بطنه ويخرج منه الشحم، ثم يخاط، وكان أول أمره بالعراق في ضيق حال، وكان كثيرا ما يسأل عن البلاد الممتنعة الوعرة التي أهلها أهل سلامة وقبول لما يدعون إليه، فدلّ على بلاد الديلم وطبرستان، فأتاها وفيها قوم لم يكونوا أسلموا،(24/59)
فأسلموا على يده، وتمذهبوا [ص 22] بمذهبه، حتى أسس التشيع هناك، وكان جوادا ممدّحا، وله شعر فائق، فمنه قوله:
[الوافر]
وما نثر المشيب عليّ إلا ... مباشرة السيوف لذا الصفوف
فأنت إذا رأيت عليّ شيئا ... فمكتسب من الوان السيوف
وله فطنة مليحة في الانتقاد على الشعراء، وحكي أنّ رجلا من بني أمية أتى إليه وهو في مجلسه فسأله عن نسبه، فقال له: رجل من بني أمية، فقال رجل من أهل المجلس: لا أهلا بك ولا بمن أنت منهم، ثم لم يبق أحد حتى أخذ في سبه، وسب بني أمية، وقال رجل: دعني وإياه فلأضربن عنقه، فقال الداعي إلى الحق: لبئس الجلساء أنتم، ثم التفت إلى القائل وقال: دعني وإياه، وقال له يا هذا أتظنك بقتله تدرك ثأر من سلف؟ لا والله لا على هذا ولا علينا مما شجر بين أولئك، ثم قال للأموي: أيها الرجل، ماذا تريد؟ فقال: وفاء ديني وكفاف أهلي، فقال: حبّا وكرامة، كم دينك؟ وكم كفاف أهلك؟ فقال:
ألف دينار وخمس مائة لهذا وخمس مائة لهذا، فقال: بل لكل منهما ألف دينار، ثم أمر له بألفي دينار، فأخذها وكساه وحمله وجهزه إلى مأمنه.
ثم قام بعده أخوه:
14- القائم بالحقّ «1»
أبو عبد الله محمد، وكان ممن يحمد، ظهر بحلية تنسك، ووقوف مع الحق(24/60)
وتمسك، وكان يهب على ضيق ذات يده، ومضيق رقعة ملكه وبلده بدرا وألوفا، ويرهب أعداء وصفوفا، كان يغزو وهو في الوطن، ويسكن وتحت سكونه حركات الفطن، وكان قائما بالحق قائلا له وقائلا في ظله، لا يفارق ظله، وأوت الرعايا منه إلى أب برّ تميل على جوانبه، وإمام عادل لا يكف عن الأرض مطر سحائبه،
فكأنما كانوا في أيامه لمنّها في الحلم، ولأمنها في الأشهر الحرم، هذا مع شراسة خلق، وشكاسة عضب لا ينجاب لها أفق يحتاج من حضره وقد حضره ذلك الخلق الشرس والغضب اليبس [ص 23] أن يغيب عنه وجهه مقدار حلب لقاح، أو ما يجف الندى عن الإقاح، وقد تجلت تلك الغيابة العارضة، وهدأت شقاشق تلك الغمامة العارضة، وعاد إلى أحسن خلقه، وأعاذ بإحسان نبته من أساءة خرقه، وتسفر تلك الرياض الدمائث، ويتضوع كالمسك في ند مائث «1» ، ومن كنوز المطالب أنه وصل إلى الري في جموع عظيمة هال أمرها، وآل الأمر إلى أن هزمه كوبكين صاحب الري، ثم جلس كوبكين لضرب أعناق الأسرى، فوثب منهم ديلمي على السياف فاستلب سيفه من يده وعلاه به فقتله، ومر هاربا، فلم يلحق وكوبكين ينظر إليه ويضحك، ثم هبّت للقائم بالحق سعادة ملك بها جرجان وبعض خراسان، وظهرت أشعته في تلك الأقطار، ثم هزمه عسكر السامانية، فقتلوه سنة ثمان وثمانين ومائتين، ثم كانت بعده ثمّ حروب يطول شرحها، وللقائم هذا أدب، ومن شعره قوله:
[الخفيف]
إن يكن نالك الزمان بصرف ... أضرمت ناره عليك فجلّت
فاخفض الجأش واصبرنّ رويدا ... فالرزايا إذا تجلّت تجلّت(24/61)
ولما كسر أسر ابنه أبو الحسن زيد، ولم يزل مكرما عند إسماعيل، وكتب إليه المكتفي يحمله إليه فدافعه، وله شعر منه قوله:
[الكامل]
ولقد تقول عصابة ملعونة ... ضوضاء ما خلقت لغير جهنّم
من لم يسبّ بني النبيّ محمد ... ويرى قتالهم فليس بمسلم
عجبا لأمّة جدنا يجفوننا ... ويجيرنا منهم رجال الدّيلم
وتوفي ببخارى سنة أربع عشرة وثلاث مائة.
ثم قام بعده ببرهة ابن ابنه:
15- المهديّ أبو محمّد «1»
الحسن بن زيد بن محمد القائم بالحق، وقام من بني الحسين من قاومه ودان بحربه وداومه، واشتجرت بينهما حروب، وخطوب على ضروب، صرّح فيها السيف وما ورّى «2» ، وروى فيها السهم كبد قوسه [ص 24] الحرّى وتصاول فيها الفحلان، وكان أن ينصرعا، وتناضل النصلان وما بقي إلا أن يتقطّعا، ثم دالت الدولة للقائم من بني الحسين، وقال القائل ما بعد غائب نقل إلى القلب من العين، وذلك بعد حروب تلاقى بها مرج البحرين، ومرّ جلم «3» الحديد على(24/62)
النحرين، وذبحت الرجال ذبح الغنم، وأشارت أطراف الرماح بالعنم، ومرّت الأعلام على كل شاهق كالعلم، وخلفت حوافر الخيل وجود الأرض كالعدم، ثم تولى البيت الحسني بإحسان أنساهم مصابهم وألهاهم عن عظيم ما أصابهم، وأجري لكل منهم ما كان له في دولتهم الماضية، ولم يبق منهم إلا راض أو راضية، وسنذكر دولة هؤلاء الحسينيين مع بني أبيهم، ومن شعبة هؤلاء الحسينيين الذين ذكرناهم فرقة ثمانية ما هذا موضع ذكرهم، وأنشد له البيهقي هجاء في أهل الري، وأنشد له في الغزل قوله:
[الكامل]
كفي لحاظك إنهنّ سهام ... رمت الفؤاد وكان ليس يرام
ما ذلّ مثلي قطّ مذ خلق الورى ... إلا لمثلك والغرام إمام
ذكر دولة الأخضريّين
وهم من ولد إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى، وهم قوم توارثوا الإمامة باليمامة، ولم تلم بي من تفضيل أخبارهم إلمامة، وصار لهم بقم وقاشان «1» ذكر نابه، ووصف متشابه.
ذكر دولة الأدراسة ببلاد المغرب
وأول من هبّت له بها ريح، ونشبت مصابيح، حتى وسعت اللجج قربها، وقطعت الحجج قضها، ووثبت ببقايا بني أمية بقيتها، وفلت الأرض حتى(24/63)
حصلت لقيتها هو:
16- إدريس المغرب «1»
ابن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي [ص 25] ابن أبي طالب، وإليه تنسب الأدراسة وهو الجد الأكبر والعقاب المحلق الأكدر، حلّق فانتهز فرصة، وحصل قنصه، وقد تقدم ذكر دخوله المغرب وبهذا عرف، فرّ من وقعة فج وقال:
[السريع]
غرّبت كي أغرب في ثورة ... أشفي بها كلّ فتى ثائر
لا خير في العيش لمن يغتدي ... في الأرض جارا لأذى جائر
والأرض ما وسّعها ربّها ... إلا لتبدو همة السائر
لا بلغت لي مهجة سؤلها ... إن لم أوفّ الكيل للغادر(24/64)
فسار حتى أتى بلاد البربر، فتابعوه وبايعوه، فقال فيهم:
[الطويل]
وأصبحت في شمّاء بالغرب عند من ... يذبّون عنّي بالمثقّفة الملد «1»
رعوني لمّا ضيّعتني أقاربي ... وما اطّرحوا ما كان أوصى به جدّي
فلم يزل الرشيد يستطلع علمه، فدسّ عليه حجّاما سمّه في سنون «2» استنّ به، فسقطت أسنانه ومات في سنة ثمانين ومائة، وعمره ثمانية وخمسون سنة، وإلى ميتته هذه أشار أشجع السلمي في قوله: «3»
[الكامل]
أتظنّ يا إدريس أنّك مفلت ... كيد الخليفة أو يقيك حذار
هيهات إلا أن تكون ببلدة ... لا يهتدى فيها إليك نهار
ثم قام بعده ابنه:
17- إدريس بن إدريس «4»
وهو الغر الذي ختل ودسّ عليه الكيد حتى قتل، وكان قد علا أمره،(24/65)
وأضاء جمره، وتهمّم يغزو أفريقية، وكان مؤيّدا بجده لأمه راشد «1» مولى أبيه، وهلول بن عبد الله رأس ثقاته، فعمل إبراهيم بن الأغلب على راشد، حتى هلك واستفسد باطن هلول، وقال:
[الطويل]
ألم ترني بالكيد أوديت راشدا ... وإني بأخرى لابن إدريس راصد
تناوله عزمي على نأي داره ... بمختومة في طيّهنّ المكايد
ثم لم تزل مكايد ابن الأغلب تخب إليه وتضع، حتى قتله ثقاته وبعثوا رأسه [ص 26] إليه، فبعثه إلى الرشيد، فكتب لابن الأغلب بإفريقية، فتوارثها بنوه، ولإدريس المثنى شعر:
بان الأحبّة واستبدلت بعدهم ... سقما وشملا غير مجتمع
وما استرحت إلى ناس ليسلبني ... إلا تحول لي يأسي إلى الطمع(24/66)
وكيف يصبر من ضمّت أضالعه ... على وساوس همّ غير منقطع
إذا الهموم توافت بعد هد أتها ... عادت عليه بكأس مرّة الجزع
وترك إدريس عشرة بنين كان كلّ واحد منهم يخالف الآخر وينازعه سلطانه، وكان أجلهم القاسم، وفي القاسميين كان معظم الإمامة فيهم، وكان:
18- القاسم بن إدريس
القائم بعد أبيه، خطب له ببلد سبتة وما يليه، وجرت بينه وبين عمال بني أمية حروب، وتساهم هو وإياهم غمرات كروب، وإليه ينسب الحوطيون شرفاء فاس، والكريون وبنو فنون جلة كومية، وأشهرهم في القديم جنون بن أبي العيش عيسى بن جنون بن محمد بن القاسم، صاحب بصرة المغرب «1» ، وكان له خمسة وعشرون ذكرا، منهم الحسن الأعور، وادعى النبوة في بلاد البربر، وعظم أمره فيهم، وذكر ابن حيان وقائعه مع عسكر المستنصر الأموي «2» حتى(24/67)
امتنع بحصن الكرم، وبويع المستنصر ثم آل الأمر إلى أنه وفد على المستنصر طائعا بقرطبة، واحتفل له المستنصر وتلقاه، وجلس له، وأنشدت الشعراء، ومنهم ابن شخيص، وقال:
[الطويل]
أمية قد عادت بنو حسن لكم ... كما كان فيما قد مضى حين سلموا
فعودوا عليهم بالذي قد تعودوا ... من الحلم والرحمى فذلك أكرم
قال: وكان معه جمع من الحسنيين فيهم صبي لم يبلغ الحلم فلما رأى ما عوملوا به من الإكرام، بكى فقال له بعض أقاربه: ما يبكيك [ص 27] وأنت ترى هذه النعم؟ فقال: النقم في عزنا حيث كنا، خير من هذه النعم في ذلنا لبني أمية، قال: وافترقت الأدراسة فرقتين، فالمحمديون من ولد محمد بن إدريس المثنى، مالوا إلى ابن عمهم المهدي عبيد الله بأفريقية، والعمريون من ولد عمر بن إدريس، مالوا إلى الناصر الأموي، وكتب إليه رئيسهم كتابا قال فيه: وقد أنعم الله علينا يا أمير المؤمنين بأن صرف همّتك إلى ناحيتنا، ووكل عزمك بعدوتنا، ولقد كنا نتمنّى ذلك ونستبطئه منك إلى أن تمم الله عزمك، ويسرك إلى توفيقه، مما نرجو أن نرتقي فيه بك إلى أفضل المحطّ «1» وأشرف المنازل، وقال فيه: إن بلد البربر تغلّب عليه قوم ملكوا أنفسهم من زمن عمر بن عبد العزيز وجرت عادتهم بجحد السلاطين، ودفع الأئمة، إلى أن دخل إليهم جدنا إدريس بن عبد الله، هاربا من عبد الله الملقب المنصور، بعد أن قتل أخويه محمدا وإبراهيم، وشرّد أهلهم، فلما صار إليهم جدنا، واستجار بهم، أجاروه ورعوا(24/68)
حقه، ووضعوا له ببلدهم فرضا من غير أن يضبطهم ضبطا بسلطان، وقد تناسلنا منه، وقمنا بعده، وسلكنا سبيله، فالبربر إلى اليوم على عادتهم الأولى، إن هممنا بتشديد السلطان عليهم هربوا عنا، ونفروا منا، واتخذوا الحصون علينا، فمرة نذهب إلى محاربتهم، وتارة نعدل إلى مداراتهم، ولا نطمع مع الأيام في ضبطهم وكف عاديتهم، ونحن مستبشرون بما خاطبنا به أمير المؤمنين، من أنه قد فرغت أسبابه من الأندلس، وأنه على عزم التوجه لرد ما كان لآبائه، ثم كتب في آخره:
[الطويل]
إليك أمير المؤمنين رفعناها ... رؤوسا تروم الأمن والمنّ والجاها
نفتنا بنو العباس عن شرق أرضها ... وآل حسين [قد] قلتنا بقرباها «1»
ولم يبق إلا أن تكرّ أميّة ... بأحلامها لا أبعد الله مثواها
ثم قدر الله أن كان خراب دولة بني أمية على أيدي هؤلاء الأدراسة [ص 28] العمريين، على ما هو مذكور في موضعه، وكان السبب أن ولي أحمد بن حمود سبتة «2» وقبائل العدوة «3» ، فتلقفها تلقف الأكياس وقال: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) «4» ، لأمر أريد بظهور الدولة الحمودية، وأولها:(24/69)
19- دولة النّاصر عليّ بن حمّود «1»
ابن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقال الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي: هو علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن أبي العيش بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي الطالبي الفاطمي الإدريسي السرغيني، وهو الصحيح وميمون بن حمود هو ثا [ئر] سرغين، وأمه البيضاء القرشية، واسمها حيونة بنت عم أبيه، ولد سنة أربع وخمسين وثلاث مائة، كان هو وأخوه القاسم من جند سليمان بن الحكم، فنهضا عليه فقتلاه في المحرم سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، وانقطعت الدولة الأموية بالأندلس بمقتله، وخلا وشيجها من منبت أسله «2» ، وبويع له يوم تغلبه بالبرابر على قرطبة وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من المحرم سنة سبع وأربع مائة، وقولنا الأول عن صاحب بلغة الظرفاء «3» ، والثاني عن الغرناطي، قال: وتسمى بالناصر،(24/70)
وتوفي قتيلا في حمام القصر بقرطبة صبيحة يوم الأحد ثاني ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، وهو ابن تسع وأربعين سنة، وكانت مدته سنة وأحد عشر شهرا، غير أيام، وكان أسمر أعين تلفاعة «1» ، لا ينظر شيئا بعينه إلا أسرعت الآفة إليه، انتهى كلامه.
قلت: وكان غشوما ظلوما سفاكا للدماء، نهّابا للأموال، منتهكا للحرمات، فاشتد على أهل قرطبة [ص 29] البلاء، فلزموا البيوت، وتغيبوا في المطامير «2» ، وتعلقوا بذوائب الجبال، إلا اليسير، وانبسطت أيدي البربر على الخلق، واتسع الخرق، فأغلقت الحوانيت، وانقطعت الطرق والسباريت «3» ، حتى وثب عليه الصقالبة في الحمام، فعجلوا له الحمام، فقتله الله بأضعف خلقه، في وسط داره، بأقرب فتيانه، من غير روية ولا تدبير، إلا ما ألقى الله في نفوسهم، واجتمع في قتله ثلاثة مرد من المقربين إليه، كان قد عشق أحدهم وراوده عن نفسه، فامتنع ورد عن نفسه ودفع، فأبى إلا أن يعتلجه «4» ، وذاك إلا أن يجزيه أجر ما صنع، فتقدم واحد منهم اسمه منجح، فضربه على دماغه بكوب نحاس، فصرعه، وابتدره الاثنان: لبيب وعجيب، فوجأوه بخناجرهم وقطعوه فباد الزاجرهم «5» ، وكف الله عاديته، وصرف رائحته وغاديته، وذلك يوم الأحد غرة ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، وفرّ قتلته ونجوا، وقيل قتلوا، وقد ذكر ابن بسام، أن المستعين الأموي «6» لما تمالأ عليه بنو عمه، وأمل علي بن حمود(24/71)
ليستجيش به، وجعل له العهد بعده، ثم قال: وولاه طلب دخله هيج الحفائظ القرشية، وحرك الطوائل الطالبية فرماهم يمنى بنى عمه من هذا على ثالثة الأثافي، طوى كشحه منها على مستكنّة «1» أرجأها لوقتها، قلت: فهذا كان سبب ثورته واستشاطه غضب سورته، وبقي تلك المدة، ثم قام أخوه:
20- المأمون «2»
أبو محمد القاسم، وبويع بعد أخيه، وما «3» أقدره العجز عن شد(24/72)
أواخيه «1» ، قال الغرناطي: وأمه أم أخيه البيضاء، وكان أسمر أعين أكحل مصفرّ الوجه، خفيف العارضين، قلت: وكان سيفا مخذما وصلا أرقما، ونسرا قشعما، مشمرا عن ساق، مشددا بعزائم لا يحل عليها نطاق، وكان وقورا حسن السمت، محسن التكلم والصمت، حنكته التجارب، وحركته لبلوغ المآرب، وتسويغ للشارب، [ص 30] كان بأشبيلية، فأرسل إليه بعد مقتل أخيه، فجاء فعقدوا له البيعة يوم الثلاثاء، ثاني عشر ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، فأقام ثلاث سنين وأربعة أشهر وعشرين يوما، ثم خلعه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود وكان سبب خلعه أن يحيى بن علي، كان ولي عهد أبيه، وكان أبوه قد ولاه المغرب، فلما مات أبوه بقرطبة، دعا البربر أخاه القاسم بن حمود، وأدخلوه إلى القصر وبايعوه، فأنف ولي العهد يحيى من ذلك وتظافر هو وأخوه إدريس واتفقا على أن يعبر يحيى إلى الأندلس، طالبا لحقه راغبا في التلطف له بحذقه، فعبر البحر إلى أشبيلية سنة أربع عشرة «2» وأربع مائة، ثم سار إلى قرطبة ففرّ منها القاسم والمأمون، ودخل يحيى قرطبة، وبويع له بعهد أبيه، وخطب له بها، ثم اضطرب عليه البربر، ففر من قرطبة إلى مالقة، ورجع عمه القاسم إلى قرطبة وجدّدت له البيعة، ثم رجع يحيى ففرّ أمامه القاسم من قرطبة إلى أشبيلية، فأقام بها إلى [أن] أخرجه منها أبو القاسم محمد بن عباد إلى شريش فملكها، فأتاه يحيى وحاصره، وظفر به وسجنه بها وتخلص الأمر ليحيى.
21- ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن عليّ بن حمّود «3»
وقيل يكنى بأبي محمد، وأمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن فنون(24/73)
الفاطمية، ولدته بقرطبة سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وبويع له بقرطبة بعد عمه القاسم يوم السبت الثامن من ربيع الآخر سنة أربع عشرة وأربع مائة، وكانت مدته سنة وسبعة أشهر، ثم بويع عمه القاسم، كما تقدم ذكره، ثم رجع إليه يحيى وبويع، واستوسق»
له [ص 31] الأمر، واستوثق له عهد البيعة وأمر بعز قاهر، وعزم تتخازر له طرف الرق الشاهر، وبأس لو صك به الماء للفح، أو حيا الصخر بأمر منه لجرح، ثم قتل عند قرمونة وترك فأكله السباع، وشبعت بطون ليست بجياع.
قال الغرناطي: كان سمينا معكن البطن بارز الثديين صابي البياض، خيرا من مخدرة، وعادت دولة بني أمية إلى قرطبة، وفاضت في الأندلس، وسيأتي ذكر هذا في ذكر أوائل القروم الشّمس.(24/74)
22- ذكر دولة المتأيّد أبي العلى «1»
إدريس بن علي بن حمود، وكان أبوه قد ولاه سبتة وأعمالها، فلما مات أخوه المعتلي، ثار بسببه ودعا إلى نفسه على بغتة، وأخذ الناس بالبيعة، فأخذتهم بهتة، وأعطوه أيمانهم البتة، وعبر البحر إلى مالقة، فاجتمع عليه أهلها، وبايعوه وعقدوا له ولاء هم، وتابعوه وخطب له، وخوطب بالخلافة، وتسمى بالمتأيّد وبايعه أهل المرية ورندة والجزيرة الخضراء، وكان شهما سريا، سهما يفري فريا، كريما معطاء عظيما، يوسع الناس عطاء، حسن الرأي والسيرة بالرعية، وقافا مع الأحكام الشرعية، ولم يزل على أحسن أحواله مستقلا، ولطود ما حمل مقلا، إلى أن مات في السادس عشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة، وجعل في تابوت وحمل إلى سبتة، فدفن بها، وغيّب كوكبه الدري في تربها، وكانت مدته أربع سنين وشهرا وأياما.
23- ذكر دولة القائم أبي زكريّاء «2»
يحيى بن إدريس بن علي بن حمود، بويع له بالخلافة في اليوم الذي(24/75)
مات [ص 32] فيه أبوه المتأيّد، وكان غير مسدد، ولا مشدد، خفيف الحصاة مخوف النادرة، ولا يضع سيفه ولا عصاه، طائش الثبات في حركاته، طائر الأناة في شكاته، تقدم بتقديم وزير أبيه وكاتبه أبي جعفر بن أبي موسى، يوم الاثنين سادس عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة، وتمّت له البيعة، وخطب له بمالقة وأعمالها، وسائر أعمال أبيه، وكان رأيه لا تعلو به قوادم، ولا يقرع سن نادم، فنازعه عمه الحسن، فحاصره حصارا ضيّق عليه مهب أنفاس الهواء، وضيّع صبره في طول الثواء، فطلب منه الصلح على أنه ينخلع ويبايعه، ويسلم له منبر الخلافة ولا ينازعه، وذلك في جمادى الأولى «1» من السنة المذكورة، وكانت مدة القائم أربعة أشهر إلا أياما، ثم بقي يحيى بن إدريس خاملا لا يرفع له رأس، ولا يجتمع عليه ناس، إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وأربع مائة.
24- ذكر دولة المستنصر أبي محمّد «2»
الحسن بن يحيى المعتلي بن الناصر علي بن حمود، صاحب سبتة، لما وصله التابوت بأخيه إدريس دفنه من ساعته، وأخذ على البيعة أيدي جماعته، ثم ركب البحر في يومه إلى مالقة، فملكها وضبطها بعد ما انخلع له ابن أخيه يحيى القائم، واستوزر كاتب أخيه أبي جعفر [بن] أبي موسى بن بقية(24/76)
[وكانت ضغينة] على أخيه «1» في صدره منه يجدها، ومحنة تقدمت له به لا يجحدها، فإنه كان هو المقدم لابن أخيه، فأسرّها له في نفسه ضغينة حقدها، ونيّة أقبرها له في باطنه وألحدها، وطاوله بها إلى السنة الثالثة، ثم قتله، وأنزل به الحادثة، وكان ذلك في يوم عيد الفطر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مائة [ص 33] فأشام عيده، وشام من بارق المهند وعيده، بعد أن استخرج منه أموالا بسط عليه في المطالبة فيها أنواع العذاب المهين، وأبرز له فيها كوامن الداء الدفين، ثم بايعه أهل غرناطة، وبلاد أخرى من الأندلس، وانقادت له بطاعة قلوبها، وعقد نياتها التي بين جنوبها، فثبّت المملكة وشد أواصرها، ورفع قصورها ومقاصرها، ورد كيد عدوها في نحره، وأغرق راكب ثبج العزاء «2» في نحره، وعدل في أحوال الرعية، وجبى الأموال وقسمها بالسوية، ثم توفي في جمادى الأولى «3» سنة أربع وثلاثين وأربع مائة، وكانت مدتها أربع سنين كأنها يوم واحد، لأسف الناس على قصر مدتها وطيبها، وأوقاتها التي كأنما غربت شمس النهار بغروبها، ولم يترك من ورثته إلا ولدا صغيرا «4» ، فاعتقله نجا الصقلبي، وغلب على مالقة وأعمالها، واستبد بتدبير المملكة، إلى أن شحط بها قتيلا في دمه، ووضع رأسه الشامخ تحت مواطئ قدمه.
حكي أن بعض ندماء المستنصر حضر إليه، واليوم قد طرّ بالليل شارته، والأصيل قد كرع في الراح شاربه، والشمس قد اعتلت وما بها سقم لشلوه، والنهار قد قارب وحضر عود النجوم ليبكوه، فدام عنده في جنة تنعم في وطوفها، ومنة تكرم بصنوفها، حتى أقبل الليل ثم ذهب، وأطوله كاللمح(24/77)
بالبصر، وأبعده قمر نشر بين العشاء والسحر، فما كان بأسرع من أن أصبح، وطرحت العين لحظها كل مطرح، فلما أراد المقام، دعا بالصبوح فسقاه، وفدّاه بأبويه ووقّاه، فقال: دامت لك الدنيا ودمت لأهلها، ثم أرتج عليه فقال المستنصر: حتى تجود لهم بما تحويه، فقام النديم ثم قال: ماذا أقول وهذه نية صدق ظهرت، وبارقة بر ستكون لما بعدها [ص 34] فقال له حسبك، لقد أبلغت، ثم أمر له بألف دينار، وحمله على بغلة من مراكيبه، وصرفه مكرما إلى منزله، مكررا له فضل تطوله.
25- ذكر دولة أخيه العالي «1»
أبي العلى إدريس بن يحيى بن علي بن حمود، وهو الذي سجنه نجا الصقلبي، وغصبه من أصل جده النبي، ونسبه الأبوي مشتق من فعله الأبي، ومحتده الأصيل، يعرف بعطائه الذهبي، وكرمه العلوي ينطق به لسان قراه اللهبي، وأنه يصحح طرف النجم السقيم، ورايته تدمر كل شيء أتت عليه كالريح العقيم، برقه لا يخلف وعدا ولا وعيدا، وأفقه يمطر تارة فضة وذهبا، وتارة حجارة وحديدا، وبويع في اليوم الذي قتل فيه السطيفي وذلك أن نجا لما اعتقل هذا العالي، واستبد بالأمر، خرج من مالقة في جنوده، واستخلف عليها رجلا من خاصته يعرف بالسطيفي، وقصد الجزيرة الخضراء ليقبض على محمد والحسن ابني القاسم بن حمود ولم يظفر بهما، فرجع إلى مالقة خائبا وقد حان حينه أن يزور ثرى الأرض دفينه، فاغتاله ليلا في خبائه بعض عبيد القاسم بن(24/78)
حمود، فقتله واحتز رأسه، ورفعه على عود وأطيف به في تلك البلاد كأنه هدي تزف، لا يمل بالتشفي رؤيته طرف، ثم أدخل مالقة فثارت العامة على السطيفي فقتلوه، ونصبت رؤوسهما وعلقت، وركبا على خشبتين، وركبا منهما مطيتين بوارك لا تسير بهما، ولا تدني نوى مغتربهما، إلا أنهما من جذوع الرواحل، لا تطوى بها المراحل، أو قواعد وعمد، إلا أنها ليست ممدودة كأنهما عليها خشب مسندة، قيدت لهما من مرابط النجار [ص 35] ، ونيطت بهما لما يجمع بينها وبينهما من قرب النّجار، وأخرج إدريس العالي من السجن، وبويع يوم الخميس سادس إحدى شهري جمادى سنة أربع وثلاثين وأربع مائة، ثم بويع بغرناطة قرمونة وما بينهما من البلاد، أنارت بالعدل مشارق زمانه، وأنالت من الفضل بوارق إحسانه، ثم أمطرتهم ديمة دراكا، وأرتهم غرّ الثنايا، فما استسقوا بشاما ولا أراكا «1» .
قال الشريف الغرناطي: وكان عدلا خيّرا، لم يزل على أحسن الأحوال، إلى أن ثار عليه ابن عمه محمد المهدي، فجرت بينهما حروب، كان الظهور فيها لابن عمه، فانخلع له، فسلم له الأمر، وذلك في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة، وكانت مدته ثلاث سنين وستة أشهر، ومات بعد ذلك بيسير.
26- ذكر دولة المهديّ «2»
أبي عبد الله محمد بن إدريس المتأيّد، بويع له بمالقة يوم خلع ابن أخيه(24/79)
العالي، وكان نبيه المعالي، وكانت بيعته في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة، فتمت له الأمور، وتابعته البلاد فضبطها وكف عن أطرافها جور العدى وشططها، وأحسن تدبيرها، وكان سنوسيا نبيلا، رئيسا جليلا، فطنا بالصواب، لا يخطئ مواقعه، ولا يخلي من صفو المناهل مشارعه، أذكى قلبا من السراج، وأشف بصرا من الزجاج، محصنا للملك، مسكنا للفتن، مؤثرا للخير، مثمرا للجاني [أي مصلحا له] معمرا للنواحي، مصلحا لأمور الجند، منجحا لمقاصد الأمل، كانت أيامه هادئة مطمئنة، لا تنجم في دولته فتنة، ولم يزل كذلك إلى أن مات بمالقة، سنة أربع وأربعين وأربع مائة، وكانت مدته ست سنين وستة أشهر، وكلها محمودة ممدوحة ممنونة ممنوحة، كأنها أعياد، أو في جفون الزمن الوسنان رقاد، ينهل نداها سلكبا، ويجل قدر [ص 36] دولتها فلا يمر بها السحاب إلا راحلا لا راكنا.
27- ذكر دولة الموفّق
أبي علي إدريس بن علي بن إدريس بن علي بن حمود بن أخي المهدي، وكان ندي الندى، يفوت كربة كل سخي، وعيش زمانه كل رخي، وعزم ضاربه كل نخي، لا يتأخر جوابه عن المصطرخ، ولا تأفل أهلة شهوره الحسان ولا تنتسخ، إلا أنّ الأقدار لم تسعده بمطلعها، ولم تبعده من اجتذاب منازعتها، بويع سنة أربع وأربعين وأربع مائة، ولم يخطب له خطيب، ولا هتف باسمه داع في بعيد ولا قريب، وبقي أشهرا كان زمانه فيها بالطاعة والعصيان مستمرا، ثم ثار عليه إدريس العالي بن يحيى بن علي بن حمود المخلوع المقدم ذكره، فخلعه وقسره عليه كالليث القسورة وما خدعه، وانتزع الملك، ثم عادت دولة العالي، وما بقيت إلا أياما وليالي، ثم أتاه الموت، وأجاب الصوت، فترك منبره، ونزل المقبرة. ثم كانت:(24/80)
28- دولة المستعلي «1»
أبي عبد الله محمد بن إدريس المتأيد بن الناصر علي بن حمود، وكان ممن يسود ولا يسود، يتساقط ضعفا، ويتقدم خلفا، بويع سنة ست وأربعين وأربع مائة، وخطب له بمالقة ومرية وزبدة وغيرها من البلاد، فتمهّد له الأمر وما كاد، وأراد التشبه بسيرة أبيه فما أطاق، ولا قدر أن يفتح بها فما، ولا يشد له بها نطاق، وضيق عليه باديس بن حيوس الصنهاجي صاحب غرناطة، فقهره وخلعه، وابتزه ملكه وما جمعه، وذلك في سنة تسع وأربعين وأربع مائة، وكانت مدته سنة واحدة، تنبّه عيونها وهي راقدة، ثم سار إلى المرية، قال [ص 37] الغرناطي: فأقام سنة أذلّ من سائل، وأحقر من جاهل، فاستدعاه أهل مليلة ليملكوه، فعبر البحر فبايعوه في شوال سنة تسع وخمسين، ثم بايعه بنو ورتيدي وقلوع حاره ونواحيها، وأقام بها مملكا إلى آخر سنة ستين، ومات، وكانت مدته بها سنتين وثلاثة أشهر، وانقرضت دولتهم، وفني ملكهم، فسبحان من لا يفنى ملكه، بيده أخذ كل شىء وتركه.
29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت «2»
ويكنى بأبي عبد الله، وهو المدعو له على منابر الغرب وبإفريقية خاصة إلى(24/81)
الآن، تقول الخطباء: الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وقال لي الإمام أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي: إنه ربما دعي له إلى اليوم على منابر الأندلس، ولكن لا يزاد على قول المهدي المعلوم، وهو حسني من ولد الحسن بن علي عليهما السلام، ومن الكنوز: أنه إدريسي، قال مؤلفه: هو من بني إدريس بن إدريس، وقال: وبنو عبد الله بن إدريس بن إدريس في السوس، عدد وخلق، قلت: ولم أقف على نسبه الموصول، ولا عرفت فرعه اليانع من أي الأصول.
وكان ابن تومرت داهية لا يعد معاوية بن أبي سفيان تربه، ولا مثله المغيرة بن شعبة، يقصر عنه دهاء عمرو، وسميّه ابن العاصي في آخر الأمر، أو قيس به زياد لما زاد، أو أبو جعفر المنصور لخاف على جعفره من مكاثرة الأمداد، وكانت(24/82)
همّته لا تحدثه بما دون النجم، وعزمته لا يلين عودها بالعجم، أبصر بمقاصده [من] زرقاء اليمامة، وأجدى على مؤمّله من أنواء الغمامة، وكان قد ساح في الأرض ورأى دنسها، وشمّر ذيله لما عرف نجسها، فأورد [ص 38] خيله المجرّة «1» ، وصعد أبنية البروج المشمخرّة، ونازع النجوم في رتبها، ونصل سها «2» بشهبها، وافترس الأسد بالأسد، واقتبس جمرة المريخ في سنان ذابله وقد وقد، وكان قد قدم الصعيد في الدولة العبيدية، والرفض «3» قد ملأ الملا واعتلى العلى، وعم الديار المصرية، حتى طبق مفاصلها وطرّق بالبدعة الشنيعة مواصلها، فنزل بمسجد هناك، رأى مكتوبا عليه: (لعن الله الصحابة) رضوان الله عليهم، فنزله، وهو من الحق تغلي مراجله، وود لو قد يساور كاتبه ويعاجله، فكتب عليه:
[البسيط]
إني وفي النفس أشياء مخبّأة ... لألبسنّ لها درعا وجلبابا
حتى أطهّر هذا الدين من نجس ... وأوجب الحقّ للسادات إيجابا
والله لو ظفرت كفّي ببغيتها ... ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبى
ثم قام وهو لا يتهدّى ولا يعرف أي بحر يجاوره ويتعدّى، ثم أتى مكة وشهد الموسم بمنى، وشاهد من فيه الغناء لا الغنى، واتخذ لعبة من الزجاج المذهب ووضعها على جمرة العقبة «4» ، وقعد أيامها وعينه مرتقبة، وبقي كلّ ما(24/83)
مرّ به مارّ قال له: هذه صورة فاكسرها، فلا يجيبه، ويقول: لعل لهذه صاحبا إذا كسرتها طالبني بثمنها، إلى أن مرّ به مغربي من أهل الجبل الذي آوى إليه، فلما قال له ما تأبّى أن كسرها وما تأتّى، فقال ابن تومرت: هؤلاء أريد لسرعة تلقيهم لما يقال لهم بالقبول، وترك القائل لهم وما يقول، وقضيته معروفة لم يخل منها مجالسة جليس، ولا مؤانسة أنيس، ولا سمع مرءوس ولا رئيس لما فيها من دقائق التلطف في المراد، والتوصل إلى ما في النفس والتهيؤ «1» للاستعداد، بهمة تقسر المآرب، وتعتذر على المطالب، وكان ابن تومرت واحد زمانه، وفريد عصره حتما وحزما وعزما وجزما وعلما [ص 39] وحلما وعدلا، لا يدع ظلما ولا جورا، إلا ما يسمى في عيون الغيد حورا، ويدعى في ريق الغواني ظلما، مع الزهد والورع والقنع، ولو شاء لما اقتنع، والعفاف وما تلبس منه وادّرع، وكان لا يمل صاحبه ولا يسأمه، ولو تركه مغيرا لوجه ساحبه.
قال مؤلف الكنوز: كان ربعة قصفا «2» أسمر عظيم الهامة حديد النظر، كثير الإطراق سجّاعا عالما، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة «3» ، ومن الأشعار لابن العديم قال: لحق إلى المشرق ولقي الغزالي «4» وأخذ معه فيما يرومه فصعّبه عليه، وقال له: لو كان هذا أمرا ممكنا لما سبقت إليه، فلما خرج الغزالي رحمه الله لوداعه قال ابن تومرت فيه:(24/84)
[المتقارب]
أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلّفك القوم إذ ودّعوا
فكم أنت تنهى ولا تنتهي ... وتسمع وعظا ولا تسمع
فيا حجر الشحذ حتى متى ... تسنّ الحديد ولا تقطع
قال: وأقام بمكة مدة يلاحظ أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتمثل طريقته، وينسج على منواله، فأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قد اطلع على الجفر «1» ، وعلوم أهل البيت، وأتى مراكش فرأى زينب بنت أمير المسلمين علي بن تاشفين «2» ، وحولها جوار لها يرفلن بالحلي والحلل، وهن حاسرات، فأنكر عليهن وضربهن بعصاة، فلما بلغ هذا أباها، عقد له مجلسا، وجمع فيه العلماء وأحضره، فتكلم بكلام أنكى به ابن تاشفين، فأشار عليه مالك بن وهب بسجنه، وقال: هذا لا يجري منه خير على الدولة، فقام الوزير وقال: هذا أضعف من أن يخاف منه، فخلصه الله منه، فقال لأصحابه: إن ابن وهب لا يبرح يضرب الأمثال فينا لعلّي حتى يبدو له رأي آخر، والرأي أن يعتصم بالجبل، فصعدوا إلى درن «3» وبايعه أصحابه على أنه(24/85)
المهدي المبشّر به، وذلك سنة [ص 40] خمس عشرة وخمس مائة، فلما صعد الجبل رأى زرقة في أبنائهم، فقال: من أين هذه الزرقة في بنيكم؟ قالوا علوج ابن تاشفين، تأتينا فتأخذ النساء وتنهب الأموال، فقبّح هذا وأكبره، وأمرهم بمنع ما كانوا يؤدونه، وقتل من أبى منهم، وظهرت على يده خوارق، يقول أولياؤه إنها كرامات، ويقول أعداؤه إنها مخاريق ميز في أهل الجبل المنافقين، وقال: قد عرّف بهم، يعني يكشف، ثم أخذ يضرب عنق كل متلو عليه فيشتد له أمر الجبل، وطفق يغزو بهم بلاد ابن تاشفين، وكانت عليه أول مرة، فطيّب قلوب أصحابه، وعرّفهم أن الكرّة لهم.
قلت: وله التصانيف المفيدة النافعة لمن تعلم الجامعة، في بعضها محاسن ما تقدم، واستفسد بالغرب أمما، بل استصلح واستبهم أمره بالكتمان حتى استصبح، ثم حارب لمتونة «1» ، واستحوذ على ملكهم بلا مؤونة، لكنه مات وما فتح بلدا شهيرا، ولا معقلا منيعا اتخذه ظهيرا، وكان قد عهد إلى عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي «2» ، وكان أخص أصحابه المعتبرة لصحابته، وأقرب(24/86)
مكانهم منه إلى ظل سحابته، وكان إذا رآه مقبلا قال، إما له وإما متمثلا، شعر:
[البسيط]
تكمّلت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة ... والصدر متسع والوجه منبسط
فاستخفه الطيش وتسمّى بأمير المؤمنين، وما هو من قريش، وتداول بنو عبد المؤمن ملكا سموه الخلافة، وعظم شأنهم، وملكوا من حدود مصر إلى البحر المحيط في نهاية المغرب وجزيرة الأندلس، وإنما أجهد ابن تومرت نفسه، وركب الأخطار، حتى سبّب لهم هذا الملك العتيد، ونظم لهم هذا السلك الفريد، أذاعوا عنهم تلك السمعة التي أحوجت السلطان صلاح الدين رحمه الله، إلى أنه كاتبهم وراود كاتبه الفاضل بأن يخاطب قائمهم إذ ذاك بإمرة المؤمنين، فتأبّى عليه وامتنع، وقال: مثل [ص 41] هذا ما وقع ولا يقع، وقال: متى كتبنا لهم بهذا حتى قرئ الكتاب على منبر من منابر الغرب، جعلونا لهم خالعين، ولهم لا لبني العباس طائعين، واقتصر على أنه كتب نسخة إلا موضع هذه الكلمة، وخاطبهم وما أطلق ولا أمسك قلمه، بل هو في الرتبة الوسطى، لا يتمحّص فيها أنه أصاب ولا أخطأ، ثم توسل إلى صلاح الدين بأن لا يكون الكتاب بخطه، وقال له والخادم يستجير هو وذريته بالمولى من هذا، وكان مضمون الكتاب الاستنجاد بابن عبد المؤمن، وطلب الإمداد على الفرنج بما يمكن، ثم جهّز على يد ابن منقذ، فما كان بمنقذ، فاستصرخ به وما هو بمصرخه، ولا بواضع وزر همّه، ولا مفرخه، وإن كان هذا ما هو موضع ذكر بني عبد المؤمن، وإنما ذكر ابن تومرت اقتضاه، وهو الذي سلمهم السيف وانتضاه.
فهذه مشاهير دول بني الحسن بن علي عليهما السلام، سوى من تقدم(24/87)
ذكره فيما تقدم من ذكر ولد الحسن، أو من لا يؤبه إليه، ولا امتد لملكه رسن، وأمراء مكة هم أمراء لا خلفاء ولا ملوك،
وما لذكرهم في هذه الطريق سلوك، وسيأتي في ذكر مملكة مصر والشام من التلميح بحديثهم ما فيه مقنع، ولمن أمال إليه صغوه مسمع.
30- فأما دول بني الحسين بن عليّ
كرم الله وجههما، فمنها دولة زيد بن علي بن الحسين بن علي «1» ، وهو الخارج على هشام، ثم دولة ابنه يحيى الخارج على أثره، وكلاهما قتل، أما زيد فقتل وصلب، وأما يحيى فقتل ثم أحرق هو وجثة أبيه، كما تقدم ذكره، وأما بقية دولة الحسينيين فأبعدها صيتا، وأوقدها سهاما، كانت لنار الحرب كبريتا هي الدولة العبيدية، التي طاولت الأيام، وحاولت عمر الدوام، واستولت على الغرب ومصر والشام والحجاز [ص 42] واليمن إلى أطراف العراق، ولزّت الدولة(24/88)
العباسية منها بضرة، إلا أنها غير حسناء، وابتزت بصفيحة صقيل إلا أنها ليست بخشناء، فأما المغرب إلى آخر حدود مصر، فما زعزع لهم فيها سرير، ولا نزع لهم فيها طاعة أمير، وأما الحجاز واليمن والشام فكانت تكون بينهم وبين الدولة العباسية، أو الناجمين فيها دول الأيام، ثم أصحب اليمن لدعاتهم، وسهّل ما استصعب لدعاتهم، وكانوا في أول الحال ملوك استقلال، ثم غلبت عليها الوزراء، ورمت حينها من الاعتلال، ونحن نذكر دول الحسينيين ممن اشتهر وتراءى فجر ملكه وظهر، ولا أقول إلا موجزا، ولا أعد من أخبارهم إلا بما أؤمّل أن أكون له منجزا، وأبدأ بالدولة العبيدية، وها أنا أذكرها وأصفها، وإن كنت لا أشكرها، وأصف بعض أيامها وإن لم يبق منها إلا تذكرها، وبالله التوفيق ومنه المدد، والهدى إلى الجدد.
ذكر الدّولة العبيديّة
نشأت بالغرب، ثم كانت بمصر، ولبثت أحقابا، وعبثت عفوا وعقابا، وعطلت فيها الشرائع، وبطلت الذرائع، وشدد فيها على المحدثين والمؤرخين وعلماء الأنساب، لئلا يظهر بهرج نسبهم الدعي، وزيف مذهبهم غير الشرعي، نسبوا علم الرفض، ودعوا الناس إلى هذا الشنار، وادعوا أنهم أئمة ولكنهم يهدون إلى النار، فلقد كانت ظلامات رفض، وظلمات بعضها فوق بعض، على أن من ردد في معتقدهم النظر، علم أنما غاب عنه منهم أكثر مما حضر، فإنهم طائفة ممن يعتقد الحلول «1» ، وتعتضد بما لا يعقد عليه من المعتقد المحلول، ممن تقول بتناسخ الأرواح «2» ، وتناسي بعض النفوس لهياكل الأشباح، ولهم على(24/89)
زعمهم أئمة خفاء وظهور، وإن الزمان في كل سبعة يدور، وقد صنف [ص 43] القاضي أبو بكر الباقلاني كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار «1» في سوء معتقدهم ومرادهم، ووقفت على سجلات وتواقيع عن بعض أئمتهم، بعضها يحط صلوات، وبعضها بإقطاع في الجنة، أو رفع درجات، ولكثرة كلام الناس فيهم، نقنع باليسير، ولا حاجة إلى التفسير.
فأما نسبهم، فللناس فيه اختلاف كثير، فأما هم فادّعوا أنهم من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وأما الناس، فمنهم من أفرط حتى قال إنهم من ولد رجل يهودي من أهل سلمية، ومنهم من قال: إنهم من ولد رجل خياط من بعض عامة المسلمين، وقال بعضهم: كان الداعية لهم داعيا لرجل شريف من آل البيت، فمات وقد اجتمعت زمر الشيعة، ولم يبق إلا الظهور، فلم يمكنه إطلاعهم على موت ذلك الشريف، لئلا تتقلل عزائمهم، وينفض جمعهم، فأخذ صبيا أراهم إياه، وقال لهم: إن الإمام مات وهذا ابنه، وقد أوصى إليه، ثم من قال إن ذلك الصبي ابن امرأة كان الداعية قد تزوج بها، وثبت في بغداد محضر بأنهم أدعياء، وأتي به إلى الشريفين المرتضى والرضي الموسويين «2» ، فأبيا أن يشهدا فيه، وكان هذا أقوى حجج العبيديين على دعواهم، وكذلك لهم(24/90)
شهادة صريحة شهد بها الشريف الرضي في قوله:
[الخفيف]
ما مقامي بأرض بغداد رشد ... وبمصر الخليفة العلويّ
من أبوه أبي ودعواه دعواي ... ومن جده وجدي النبيّ
ألبس الذّلّ في ديار الأعادي ... وابن عمّي له المكان العليّ
إن عرقي بعرقه سيد النا ... س جميعا محمد وعليّ
وأما حجة الخصم عليهم، فامتناع آل أبي طاهر من تزويج المعز أبي تميم معد، وكان السبب «1» في خطبته إليهم أنهم أعرق بيت في أهل مصر شرفا، فلما قدم المعز مصر ألقيت إليه ورقة فيها: [ص 44]
[السريع]
إن كنت من أبناء أهل العبا ... فاخطب إلى آل أبي طاهر
فان رآك القوم كفؤا لهم ... في باطن الأمر وفي الظاهر
و «2» ......
فخطب إليهم فاعتذروا إليه، وقالوا إنه لا بنت لنا، فسكت على مضض يتجرعه ولا يكاد يسيغه، وجرد كان لا يتوقعه ولا يزيغه، ثم ألقيت إليه بعدها أوراق فيها مذمة وعار وملمّة، لا يعرف لها شعار، ومن جملة [ذلك] :
[السريع]
إن كنت فيما تدّعي صادقا ... فانسب لنا نفسك كالطائع(24/91)
فإنّ أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع
وأنت فيما تدعي عاجز ... فاذكر أبا بعد الأب الرابع
أو فدع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع
فصعد المنبر، وأخذ في إحدى يديه سيفا وفي الأخرى دينارا، ثم قال: أما بعد فقد كتبت لنا ورقة، يسأل فيها عن نسبنا، وهذا نسبي، وأشار إلى السيف، وهذا حسبي، وأشار إلى الدينار، فمن أقر بنسبي أدخلته حسبي، ومن لم يرد حسبي قتلته بنسبي، والسلام، ثم نزل.
وكانوا يكرمون الغرباء، وينعمون إنعاما يعمّ الناس، ويخصون الأدباء مع ما كان فيهم من احتقاب إفك «1» ، واختضاب سيف بسفك، واتخاذ شيعة تسترك عقود الأنام، وتأخذ بالألباب أخذ النعاس بعين النيام، وفيهم يقول ابن قادوس «2» ، ويعرّض بالعباسيين وشعارهم، وهو:
[الكامل]
أنتم بنو الزهراء أوضح نوركم ... للناس بهجا نائل ورشاد
وهم لما خوّلتم في مأثم ... جمعوا العبوس إلى لباس حداد [ص 45]
وقد ذهب بعض الناس إلى أن هذه الدولة من بني أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم، وقيل بل هم من حمير ثم من صنهاجة، والخلاف فيهم كثير، وها أنا(24/92)
أذكر أمر هؤلاء من أوله:
كان ابتداء أمرهم على يد أبي عبد الله الشيعي الملقب بالمحتسب «1» ، واسمه: الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الداعي ببلاد المغرب، والقائم بدولتهم، أصله من الكوفة، وقيل من رام هرمز من كور الأهواز، قال الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي: وكان رافضيا خبيثا ذا عقل ودين صليب، وعلم بارع، وورع حاذق، كدهن على ورم، وكان [له] أخ اسمه أحمد، أسن منه وأعلم وأورع، يقال له أبو العباس المخطوم وكان بدء أمره بمكة، وتمامه بأيكجان من بلاد كتامة، حجّ فالتقى في مكة بقوم من كتامة سبعة، كانوا يتشيعون للحواني داعية المغرب قبله بأزيد من مائة سنة، فلما سمعوا كلامه أحبوه وتقربوا إليه واتبعوه، فخرج معهم إلى بلادهم أيكجان نصف ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، فقال لهم: أين فج الأخيار؟ «2» فعجبوا من علمه، فقالوا له: عند بني سكان، فقال: لهم نقصد وعندهم ننزل، فلما قارب المكان قال لهم: هذا فج الأخيار، وقال له موسى بن حريث: من أين علمته ونحن ما(24/93)
ذكرناه لك؟ فقال:
أنتم الأخيار وبكم سمّي، فلما نزل به تسامع به الناس ودخلوا إليه، فكان يخبرهم بفضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده عليهم السلام، فكثر جمعه، وجيّش جيشا، وقاتل أهل أفريقية، فافتتح ميلة ثم سطيف ثم طيبة ثم بلزمة ثم دار ملوك ثم بيحس؟ ثم باغاية ثم قسطيلة ثم قفصة ثم الاربس «1» ، وهرب زيادة الله بن الأغلب من رقادة «2» ، فدخلها الشيعي يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين، ثم جمع جموعه [ص 46] وعبّأ عساكره، وخرج يريد سجلماسة «3» يوم الخميس العشرين من رمضان منها، واستخلف على رقادة وسائر أفريقية أخاه المخطوم وأبا زاكي تمام بن معارك الأيكجاري، وكان هذا أبو زاكي تمام بن معارك أول من لاقى الشيعي، فقال له ما اسمك يا فتى؟ فقال: تمام، [فقال] : بك تتم أمورنا، فما اسم أبيك؟ قال: معارك، فقال الشيعي: لكن بعد عرك عظيم، فلما أتى سجلماسة أرسل يقول لصاحبها اليسع بن مدرار: إننا ما جئنا لقتال، ولكن بحاجة ولك الأمان والبر والإنعام، فرمى اليسع الكتاب، وضرب(24/94)
أعناق محضريه، فكتب إليه ثانيا، ثم ثالثا، ففعل كفعله الأول فيهما، فناجزه الحرب، فانهزم اليسع ودخل المدينة مهزوما، ثم خرج منها فارا، فدخلها الشيعي، وأخرج المهدي، وأطلق الخيل في طلب اليسع، فأدركوه فأخذوه هو ومن كان معه، وأتوه به، فأمر باليسع فضرب بالسياط، وطيف به في العسكر، ثم أمر به وبمن كان معه فضربت أعناقهم، وذلك في ذي الحجة من السنة المذكورة، ثم أقعد المهدي وأخذ له البيعة على الناس، وقدم به دار الملك رقادة، فدخلها في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين، وأقام بها الشيعي إلى أن قتل هو وأخوه العباس المخطوم، قال: وكان سبب قتلهما أنهما ندما على إقامة المهدي وأرادا خلعه.
قلت: ولنذكر هنا ما قاله الغرناطي، وقد ذكر فرق الشيعة بعد قتل الحسين عليه السلام، فقال: تفرقوا أربع فرق، هم الأصول: علوية، وفاطمية، وحسنية، وحسينية، فالعلوية رأت الإمامة في ولد علي عموما دون تخصيص، وهم الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية، كما نبهنا عليه، والفاطمية رأت الإمامة في ولد الحسن والحسين ولدي فاطمة عليهما السلام، وهم الزيدية، والحسنية: وهم الذين رأوا الإمامة في الحسن ثم في ولده، ثم في عبد الله [ص 47] بن الحسن بن الحسن والد إدريس صاحب المغرب، ثم في الأدارسة بنيه أبدا، والحسينية: وهم الذين رأوا الإمامة في ولد الحسين، ثم في ولده علي زين العابدين، ثم في ولده محمد الباقر، ثم في ولده جعفر الصادق، ثم افترقوا، فرأت فرقة أن الإمامة في ولد موسى الكاظم، ثم من بعده في ولد علي الرضا، ثم في ولده علي الجواد، ثم في ولده علي بن علي الهادي، ثم في ولده الحسن العسكري، ثم في ولده محمد المنتظر، وكان حينئذ في بطن أمه، وهم الإمامية، ورأت فرقة: أن الإمامة في إسماعيل بن جعفر الصادق، وهم الإسماعيلية، وأهل هذه الدولة منهم، وها أنا أذكرهم، فأولهم: هذا القائم بالمغرب:(24/95)
31- المهديّ بالله «1»
أبو محمد عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان رجلا حازما عازما عارفا عالما، أتقن جانبا من علم الأوائل، وأجاد في فن الروحاني، وحذا شعبة من السحر، وأورثه بنيه، وكان لا يودع إلا الأئمة منهم، وكان يشبّه في أمره بالسفاح، لقيامه بدولة أقامها بالصفاح، وكان أبو عبد الله الشيعي داعيته وساعيته حتى حاز الملك وكاده «2» ، وكان رجلا حازما بريئا من التكلف، غنيا بما يظهره من التعفف، لا يتعمق في متاع الحياة الدنيا، ولا يتعرض إلى زايد عما يحتاج إليه مدة ما يحيا، وكان يجلس على اللبود، ويأكل الخشن من الطعام، ويكتفي بجارية واحدة وغلام، وكان يظهر مظاهر الزهاد، ويقف مع ظاهر النساك على رؤوس الأشهاد، مع ما في باطنه من الداء الدوي، والمعتقد البئيس الردي، والإعلان بالسب، والإمعان في الطعن فيمن دب، وإظهار الإيمان، وإبطان الكفر، وتمزيق أهل جلدة الإسلام بالناب(24/96)
والظفر، مع عدل بسط بساطه، وكان به فتور [ص 48] فكأنما حلّ من عقال نشاطه، وكانت الكتب لا تنفذ في أيامه إلا باسم ولده محمد القائم، وكان لا يسمى المهدي فيها، وبعث دعاته إلى الأرض، وبث فيها عقاربه، وبعث أقاربه، بل أراقمه، ونفث سمه من سوء الاعتقاد أو ما قاربه.
قال ابن سعيد: وعبيد الله المهدي أول خلفائهم، تشبه بالسفاح أول خلفاء بني العباس، فإن السفاح خرج من الحميمة بالشام «1» طالبا للخلافة، والسيف يقطر دما من أصد «2» ، وأبو سلمة الخلال «3» يؤسس له الأمن، ويثبت دعوته، وعبيد الله المهدي خرج من سلمية بالشام «4» ، وفي رأسه طلب الأمر، والعيون قد أذكيت عليه، وأبو عبد الله الشيعي يسعى في تمهيد دولته، وكلاهما تم له الأمر، وبايعه صاحب دعوته، وقتل عبيد الله أبا عبد الله الشيعي القائم بدولته، وأصبح أبو سلمة مقتولا في حضرة السفاح، فنسب قتله إليه، قلت: بل هو الصحيح أنه دسّ عليه من قتله، ونصب له المكيدة حتى ختله، وذكر الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي خلافا كبيرا في أمر المهدي المذكور، في تاريخه، ثم قال: ولد بسلمية، وقيل ببغداد سنة ستين(24/97)
ومائتين، وبويع له برقادة يوم الخميس الموفي بعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وهو باني المهدية وغيرها، ولما ظهر أمر الشيعي القائم بالمغرب بدعوته، جعل الخليفة عليه عيونا بمصر، فوقع المهدي بمصر في زي التجار بيد صاحبها عيسى النوشري «1» ، فقال له: أنت الذي طلبه أمير المؤمنين؟ فقال: إنما أنا رجل تاجر، فاتق الله في دمي، فخلى سبيله، فخرج في قافلة يريد أفريقية، ثم أنه فقد كلبا كان يصيد به، فرجع في طلبه، وإن صاحب مصر ندم على تخليته، فخرج في طلبه فاذا [هو] راجع في طلب كلبه، فقال: لو كان هذا هو المطلوب لطلب النجاة لنفسه، ولم يرجع في طلب كلب، فانصرف وتركه، فسار حتى نزل [ص 49] طرابلس، وكان زيادة الله بن الأغلب قد أرصد عليه عيونا، فخاف عبيد الله على نفسه، فأخذ طريق قصطيلية حتى أتى سجلماسة في يوم الأحد السابع من صفر ستة وتسعين ومائتين، ومعه ابنه أبو القاسم محمد القائم، فوشى به واش إلى صاحبها اليسع بن مدرار، فأحضره بين يديه واستفهمه عن حاله، فقال: أنا رجل تاجر، فقال له: لا إنما أنت المهدي الذي يدعو إليه هذا الشيعي، فأظهر البراءة منه، وأنكر ذلك، فجعله في دار ورسم به، وأجرى عليه الأرزاق، وبلغ الشيعي خبره، فبعث أبا زاكي بمال وطرف من طرف الملوك، فأوصلها إليه مستخفيا، وسلم عليه ثم رجع إلى الشيعي فأعلمه بصحة الخبر، فسار إلى سجلماسة بجيوشه حتى استخرجه منها، كما تقدم ذكره، ثم ما زال يكلأه حتى تم أمره، وانقاد له الملك عنوة، وركب من منابره الغارب والذروة، وأطاعه الناس رهبا ورغبا، وبايعه(24/98)
الخلق والسيف على عنق من أبى، ثم ما برح جده يعلو، وورده يحلو، حتى كان قائم دولة شاطرت المعمور، وشارطت السنين لا الشهور، ثم كان والد أملاك، وقاعدة ممالك باهرت الأفلاك، ولولا علم الله السابق ولطفه، لبلغت دولتهم أقصى الشرق في مذهبها، وعجلت الآية الكبرى بطلوع الشمس من مغربها.
وذكر القرطي في تاريخ القوم أن المهدي فيما كتب إلى القرامطة قبل انفراقهم عنه: وأنا أحلف أيها المؤمنون بأجل مما يحلف به لما اتبعته مما أطعنا الله عليه من غيبه الذي استأثرته، وآثر بعلمه أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أنه لابد من أن يحل ولاتنا بخضراء بني أمية بالشام، وبخضراء بني العباس بالعراق ويكون لنا من الخلفاء مثل من كان لبني أمية، قال: فقد والله إن كان جميع ما ذكره هو ما دوّن من كلامه ما وقّع به لقاضي قضاته أبي المنهال، وقد أعاده إلى القضاء بعد عزله، وهو: إنما عزلتك للينك ومهانتك، ورددتك لدينك وأمانتك، وتوفي نصف ربيع الأول سنة [ص 50] اثنتين وعشرين وثلاث مائة، ثم ابنه:
32- القائم بأمر الله «1»
أبو القاسم محمد، وكان لا يرضى إلا قائم السيف صاحبا، ولا يعدل عن(24/99)
الليل والخيل والبيداء مصاحبا، بعزم لا يقصف سمهريّه، ولا يقصى عن عاتقه مشرفيّه، وكان قد وجّه إلى بغداد قصيدة يفخر ببيته، ويسمع بها مبلغ صوته، ويذكر فيها ما فتح من البلاد التي ملك، وقدح بسنابك جياده في كلما سلك، فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها، بصّر بحسنها ووريها، وصبر القائم على منافذ طعانها، ومآخذ لعانها، وكان منها قوله:
[الطويل]
ولو كانت الدنيا مثالا لطائر ... لكان لكم منها بما حزتم الذّنب
وسيأتي ذكر هذا البيت في موضعه من الإنصاف بين المشرق والمغرب، فحرّك هذا همّة القائم بالله على قصد جهة المشرق، [وقال] : والله لا أراك حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت، وإلا أهلك دونه، فكابد على مصر من الحروب أهوالا، وجاهد فيها رأيه وأنفق أموالا، ومات ولم يظفر بحضرتها، ولا اقتات طرفه بنظر نضرتها، مع كونه عاث في أطرافها، وعام في بحرها العباب وما التحف بطرفها.
حكى مؤلف الكنوز: أنه اشتد حزنه على موت أبيه، وأقام مدة يخفيه، ولم يرق بعده شهرا، ولا ركب من قصره مذ صار إليه الأمر إلا مرتين، مرة صلى على جنازة، ومرة صلى بالناس العيد، وبدأ أمره بأن أمر عماله بعمل السلاح، والاستعداد للقاء، وجهز بعوثه إلى بلاد فاس وما حولها من بلاد المغرب، فدوّخها، ومولده بسلمية سنة ثمان ومائتين، وبويع يوم أبيه، وتوفي يوم الأحد ثالث عشر شوال سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر.
ثم ابنه:(24/100)
33- المنصور بالله «1»
أبو الطاهر إسماعيل، وكان قد أوصى إليه أبوه بقصد مصر واستضافتها، وإعداد القرى لقري إضافتها، فشغلته الفتن التي قامت بأفريقية واستأصلت [ص 51] لولا عوارضها المستبقية، فإنها ثارت ثوايرها في كل قطر، وطارت بواترها في ظل السيوف البتر، وكان جهد المنصور أن يرقع خروقه، ويخيط بإبر الرماح فتوقه، ولم تعدّ همّته قدر الاستصلاح، ولم تعل عزمته على الدفع بالراح، وكان أقصى اجتهاده أن يذود عن حوضه الغرائب، ويذوب خوفا يخرج من بين الصلب والترائب، إشفاقا على ملكه من تجاذب الأطراف وتجابذ الأطراف، خشية أن ينتزع، وحذرا من قاصد بسيفه أن يزع.
قال ابن سعيد: وهذا المنصور مشبّه بالمنصور، لأن كلا منهما اختلت عليه الدولة، وأصفقت عليه الحروب، وكان يسلّ من الخلافة، فهبّ له ريح النصر، وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف، وحين [أراد] لبنيه ختانا لم تسمو همّة ملك إليه «2» ، أمر بأن يكتب له أولاد قواده وأجناده، وسائر رجاله وعبيده وأهل بلاده، وكساهم وكانو زهاء مائة ألف، ثم فرّق فيهم أموالا جزيلة وبدأ بالختان(24/101)
لست بقين من ذي الحجة سنة أربعين وثلاث مائة، ودام إلى سابع المحرم من السنة المقبلة، والجزر تنحر وسائر الذبائح والولائم تعمل، ويقال إنه أنفق نحو ألف ألف دينار في هذه الأيام، ولم ير كصبره يوم القيروان وهو يعامل أبا يزيد النكاري، وقد ذكر حسن موقفه شاعره محمد بن الحارث «1» ، فقال:
[الطويل]
ولم أر كالمنصور بالله ناصرا ... لدين وأحمى منه ملكا وأمنعا
ألم تر يوم القيروان وقوفه ... وقد كادت الأكباد أن تتقطّعا
وأبرز عن وجه من الصبر أبيض ... يقابل وجها للكريهة أسفعا
إذا استقبل الأبصار وهي طوامح ... ثناها فلم تستكمل اللحظ خشّعا
وولد بالمهدية سنة اثنتين وثلاث مائة، وولي وله اثنتان وثلاثون سنة [ص 52] ، وتوفي يوم الجمعة سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت ولايته سبعة أعوام.
ثم كانت خلفاؤهم بمصر، وأولهم:
34- المعزّ لدين الله
أبي تميم معد «2» بن أبي الطاهر إسماعيل المنصور، وهو الذي ظفر بحضرة(24/102)
مصر وملكها، وحصل له حظوة ملكها وأدركها، ووصلت إليه جيوشه، وحصلت على معاقد شرفاتها عروشه، وقدم أمامه القائد جوهر فاختلط القاهرة وبنى له بهما القصرين، وإلى الآن بعض آثارهما الظاهرة، وقسم بناء المدينة على من كان في جملة المعز من القبائل، واتخذ الكافوري بستانا ترق به الجداول، وتزف الخمائل، وشرع أبواب المدينة، ولم يكمل لها سورا يدور بنطاقها، ولا أقام لها جدرا يستند إليه ظهور أسواقها، ثم مدنت بعد ذلك التخطيط، وأدير بها سور اللبن المحيط، وذلك لما أناخت القرامطة بساحتها، وأنامت المعز وهو يعتقد أن روحه في راحتها، ثم بنى في الأيام الصلاحية السور الحجر الدائر، وضرب عليها مثلها الساير، ثم لما كمل القائد جوهر بناء ما شرعه، أتم قصر المعز وموضعه، استخلف المعز بالمغرب بعض أشياعه، وقدم مصر وقد شرق صدر البر والبحر بأتباعه، وأتى الإسكندرية وخيّم بظاهرها، وجثم أسده الهصور يزأر، إلا على زائرها، وتلقاه إليها أهل مصر من القواد والوزراء والقضاة والعلماء ووجوه الناس، فبسطهم بالإيناس، وتلقاهم بالرحب والسعة، وأمر لهم بالخلع والأنزال الموسعة، ثم سار حتى أتى مصر ودخل القاهرة، ونزل بقصره بها في يوم الثلاثاء لتسع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة، وتوفي في يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاث مائة.
وذكر ابن الأثير: أن ملك الروم كان أرسل إلى المعز رسولا بالمهدية، ثم كان(24/103)
يتردد إليه، فأتاه وهو بمصر فخلا به بعض الأيام، فقال له المعز: [ص 53] أتذكر إكرام [ي لك إذ] «1» أتيتني رسولا وأنا بالمهدية، فقلت لك: لتدخلنّ عليّ بمصر وأنا خليفة؟ فقال له الرسول: إن أمنتني على نفسي ولم تغضب قلت لك ما عندي، فقال له المعز: قل وأنت آمن، فقال له: لما بعثني الملك إليك ذلك العام، وأنت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه، ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نورا عظيما «2» أشخص بصري، ثم دخلت عليك فرأيتك على سرير (....) «3» ، فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لظننت ذلك، ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئا، وأشرفت على مدينتك فرأيتها مظلمة، ودخلت عليك فما وجدت لك من المهابة ما وجدته ذلك العام، فقلت: كان ذلك أمرا مقبلا، وهذا أمر مدبر، ولا أخالك إلا ميتا، فلم تلبث بعدها المعز الحمى ومات، وقد كان المعز احتفر له سردابا، وقال لأصحابه: إن بيني وبين الله عهدا، وإني ماض إليه، وقد استخلفت عليكم ابني نزارا، ثم تغيب سنة في السرداب ثم ظهر وهو متعلل، فمات، وكان أحد المغاربة إذا رأى سحابا نزل وأومأ إليه بالسلام، ظنا منه أن المعزّ فيه، وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام.
ثم ابنه:
35- العزيز بالله
أبي المنصور نزار «4» ، وكانت أيامه أيام دعة، وتمام سعة، والناس فيها في(24/104)
هدوء لا يقلقل له مضجع، ولا يساء به قلب ولا مسمع، وما برح أهل مصر في كل جيل يضرب به المثل، فيقول لما يستطيب من الأيام: كأنها أيام العزيز، لأنه كان لين الجانب يعنيه، حسن المناقب عن خشن المقانب يغريه، كرم سجيته بالندى الغمر، ويعزه في الندى هزة الخمر، ووقفت على تاريخ ضبط له، فما رأيت في رسوم ما يحيي من الرعايا مثل عدل أمر به، وظلم بطله، وأمن أراح سيفه، وأنام بطله، وتفسح العزيز في بلاده، وتلقح على العراق ليوطئه سنابك جياده، ودعي له على منابر الشام، وذكر له على منابر المساجد، وحيي بالسلام، وبلقبه لقّب السلطان الدّين ابنه العزيز عثمان، ترجّيا [ص 54] أن تكون أيامه شبيهة بأيامه في الرخاء والأمان، فكانت مثلها في الأمان لا في الرخاء، ونظيرها في الامتنان والسخاء، فإن في أيام العزيز عثمان حدث بمصر غلاء، وارتفع السعر وكان له علاء، ثم عظم أيام عمه العادل، مما ليس هذا بموضع ذكره، ولا تشويش هذا التصنيف بنكره.
قال ابن سعيد: وسفرته من أفريقية إلى مصر وما ظهر منه من حسن التدبير، وهبوب النصر والحزم في الاستيلاء. كسفرة المأمون من خراسان إلى بغداد. قال الروذباري في تاريخهم: حضرت الخطبة للحاكم ابن العزيز، فما قدر أحد يفهم ما يقول الخطيب، لضجيج الناس وبكائهم على العزيز، كان محسنا إلى الخاص والعام، شاملا بالبر للقريب والبعيد، مبذول اليد بالكرم، مسبل الذيل بالفضل، كثير العفو، قليل الانتقام، عوادا بالجميل، منيبا إلى الحق، غير متظاهر بما يذم،(24/105)
ولا داع إلى ما يكره، وتوفي سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وولد بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، وولي العهد بمصر يوم الخميس عاشر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاث مائة، وولي الخلافة في اليوم الثاني، وله اثنان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر.
ثم ابنه:
36- الحاكم بأمر الله
أبو علي المنصور «1» ، ولي وكان صغيرا، وأوتي ملكا كبيرا، ولما طلب للبيعة [كان] قد صعد شجرة جميز في داره بالقصر يلعب فيها مع الصغار، وملك وما كلف خيله اضطراد ولا جشّمها المغار، ثم كبر وظهرت منه أمور ينكرها العاقل، ويكرهها الناقل، لكثرة ما كان عليه أمره من الاختلال، وفكره السقيم من الاعتدال، فإنه كان في كل حين يحدث حكما محدثا، وعلما كأنما كان بها محدثا، فانه كان مع إفراطه في التهور، وخباطه في أموره التي تدل على(24/106)
عدم التصور، ربما حدث بأنواع من [ص 55] الحدثان، وتكلم بأسجاع مثل سجع الكهان، وعبدة الأوثان، وبلغ مدة في الكبرياء، ثم بقي مدة لا يأنف من مخالطة الأدنياء، وكان يركب حمارا له ويدور، وقدامه عبدان بأيديهما حربتان، ويشق القاهرة ومصر، ويخالط العامة، ويخرج إلى الحاجر، ويطلع إلى الجبل، ثم ربما ردّ العبدين وسار وحده، وغاب اليوم واليومين والمدة، ثم يلاقيه الموكب إلى مكان يكون قد واعد إليه العبدين، في وقت يوقته، وميعاد لا يفوته، ثم كشف الغطاء وباح، وقال علوه واستراح، وادّعى فيه الألوهية، وقال مقالة فرعون، ونصب نفسه للناس طاغوتا، وأخذ بعض الناس بالقول أخذا مبغوتا، وأمر بعض أشياعه بأن يحتال له في إظهار هذه المقالة، وضم إليه قوما من الرجال القالة، فأتى ذلك الداعي الشيطان الرجيم، وأمر بأن يكتب: (بسم الله الحاكم الرحمن الرحيم) ، وجرى في هذا من الفتن ما ذهبت به نفائس ونفوس، وانتهبت به أموال ورؤوس، ودارت به دوائر سعود ونحوس، وأماير نعيم وبؤس، مما هو ملء التواريخ، وتتضع له غرّ الذرى الشماريخ، تبارك الله وتعالى جده، ولا إله غيره، وتقدس اسمه عما يقول الظالمون، ويجهل الجهال، أو يزل العالمون، ثم لما عظم البلاء به، فتفاقم وسقم به الملك أو تساقم، خافت أخته أمة العزيز المعروفة بست الملك، أن يقفر منهم دست الملك، فتلطفت في تلك الحيلة، وأكمنت له رجالا حتى قتلته غيلة، وكان قد خرج في بعض مخارجه، وتعرض في نواحي حلوان، وطلب جهة برّ لا يأنس بها آنس ولا غيره من الحيوان، ثم طالت غيبته، وخالف عادته في ملاقاته، في الوقت الذي كان يوقته، فتعهد المكان الذي واعد فيه للملتقى، وتفقّد ففقد إلى يوم اللقا، ووجد هناك حماره وجبابه مزررة، كأنها عليه وما فكّت أزراره، إلا أن فيها آثار ضربات بالسكاكين، ولا عليها دم ولا [ص 56] آثار لوث يبين، فقال الناس مات، وقال أهل شيعته غاب وهو آئب.
قلت: وإلى يومنا هذا، وأظن إلى يوم النشور، ثمّ من يقول بغيبة(24/107)
الحاكم، وإنه لابد أن يرجع ويكون له ظهور، وفيما بين البقاع وبيروت أمم تدين بهذا الدين، وتعتقد ألوهية ذاك اللعين، وكان الحاكم كريما سفاكا، لا يمنع مورده عن الظماء، ولا مهده عن الدماء، لكنه في جميع أموره ثارات، ومرة في اختلاف الأحوال ينفذ فيها العبادات، وولد بمصر في ليلة الخميس الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاث مائة، وولي بعهد من أبيه، وبويع يوم الخميس سلخ رمضان سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وله أحد عشر سنة، وكانت خلافته إلى أن فقد خمسا وعشرين سنة.
قال صاحب بلغة الظرفاء: وسبب عدمه أنه خرج في ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال، بعد أن طاف ليلته كلها على رسمه، وأصبح عند قبر الفقّاعي، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع تسعة من العرب السويديين، وأمر لهم بجائزة، ثم أعاد الركابي الآخر، ولما عاد ذكر أنه خلفه عند القبر والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون يلتمسون رجوعه بدواب الموكب كل يوم خميس، إلى سلخ الشهر المذكور، ثم خرج يوم الأحد ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة، وحظي الصقلبي، ونسيم متولي السير، وابن سبكتكين التركي صاحب الرمح، وماضي القرشي، مع جماعة كلهم من خواص دولته، فبلغوا دير القصير، والموضع المعروف بنسيوان؟ ثم أمعنوا في الدخول في الجبل، فبينما هم كذلك، إذ بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بالسيف، فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فتتبّع الأثر، فاذا أثر الحمار في الأرض، وأثر راجل خلفه، وراجل قدامه، فما برحوا في طلب الأثر إلى أن انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزلها [ص 57] راجل من الرجالة، فوجد فيها ثيابه، وهي سبع جبب، وجدت مزررة لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فأخذها ماضي وجاء بها إلى القصر، فلم يشك في قتله.(24/108)
قلت: وقد قيل إن أخته لما خافت على ذهاب الملك لاختلال الأحوال به رتبت له رجالا تقتله، ثم رتبت رجالا لتقتل قتلته، ثم رتبت رجالا لتقتل قتلته، هكذا سبعة أدوار، لتخفي قتله فخفي، [وكانت] امرأة حصيفة وافرة العقل، رأت الهلاك في الأعضاء، فقطعت عضوا لحفظ سائر الأعضاء.
ثم ابنه:
37- الظّاهر بإعزاز دين الله
أبو الحسن علي «1» ، وكان صغيرا، قدّمته عمّته، ورأت أن تحفظ لأبيه نعمته، فبدأت به قبل كبار بيته، ورعت للحي حق ميته، ثم كان له الاسم، ولها التصرف الوافر القسم، وكانت ذات رأي سؤوس «2» وحفظ لما تدبر وتسوس، فقامت قيام أردشير، ونهضت نهوض خاقان صاحب السرير، وأفكرت فكر بلقيس، وفعلت ما يعجز عنه إبليس، حتى مشت الأمور، ومرت أخلاف «3» الدهور، ثم كان الظاهر من ذوي السياسات المحمودة، والرياسات المشهودة، والمنافسات على الهمم التي أفنت ماله، وأبقت جوده.(24/109)
قال مؤلف الكنوز: كان حسن السيرة، كريم النفس، إلا أنه يخلي بلدانه، وولي وهو يحاكي البدر صورة، وكانت الأمور أولا بيد عمّته ست الملك، وهي التي عدلت بالخلافة إليه عن ولي العهد أبي هاشم العباس بن داود بن المهدي، وجىء إليه بأبي هاشم، فبايع والسيف على رأسه، ثم حبس وكان آخر العهد به، وكان يشار بالخلافة إلى عبد الرحيم بن الياس بن أحمد بن المهدي، فأدخل عليه الشهود وهو يتشحط في دمائه، فأشهد عليه أنه فعل ذلك بنفسه، ثم قضى نحبه، واستند ابن دواس «1» وعمار بن محمد الوزير «2» ، وهما عن رأي ست الملك، حتى خرج من القصر خصي بسيف مسلول، فدعا بوجوه الدولة، والوزير(24/110)
قاعد، وابن [ص 58] دواس، إلى أن جاء فقال: أمر مولانا أن يقتل بهذا السيف قاتل مولانا الحاكم، فنادوه بالسمع والطاعة، ثم صبّه علي بن دواس فلم يختلف فيه اثنان، وتفرّد الوزير بالأمور والخاطر معمور به، ثم استدعي به للعادة وقد رتب له في دهليز القصر من قتله. وتحدث حسن بن موسى الكاتب، والأمر لست الملك، ولسانها ويدها أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي الأقطع «1» ، داهية الأرض، ثم استقل لما ماتت، وعمّر حتى وزر للمستنصر، وولد بمصر يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان سنة خمس وتسعين وثلاث مائة، وبويع يوم عيد النحر سنة إحدى عشرة وأربع مائة، وله من العمر ثلاثون سنة، وكانت خلافته ست عشرة «2» سنة، قال صاحب بلغة الظرفاء: كانت خمس عشرة سنة «3» [في الأصل: خمسة عشر سنة] وثمانية أشهر إلا أياما.
ثم ابنه:
38- المستنصر بالله
أبو تميم معد بن الظاهر «4» ، وهو الذي تباينت أحواله وتناوبت أفراحه(24/111)
وأهواله، وطالت مدته، فكانت ستين سنة، وتنوعت سنين سيئة وسنين حسنة، ولم يسمع بمثلها لخليفة ولا لملك مشهور في هذه الملة، ولا امتدت لأحد ممن كان بعده ولا قبله، وكاد في وقت تملك الأرض كلها، وتكفل البلاد وأهلها، وخطب له ببغداذ، وكان نصيبه إرقال وأغذاذ، حتى كان يعدّ مع الاسكندر، ويحسب أنّه تبّع حمير، ثم ضعف أمره حتى كاد لا تطيعه أمته، ولا تجاب برجع الصدى كلمته، وكان كالطيف له وجود ولا حقيقة له، وكالعدم هو شىء وما قدر أحد أن يمثله، ولما ملّكت له بغداد، ونسخ براياته البياض السواد، قال أبو دلف الخزرجي:
دار السلام مشاء بدعوة ابن الرسول ... جاء النهار وولّى ظلام تلك الذحول
ما إن رأيت خضابا جماله في النصول ... نور من الله وافى يهدى لكل جهول
وجاءه الحسن بن الصباح القائم بالدعوة الراديّة؟ من خراسان، في زي [ص 59] التجار، ودخل عليه فقرر معه ما يمثل، وقال له في آخر كلامه: ومن ولي عهد المسلمين؟ فقال: ولد في نزار، فمضى ابن الصباح إلى بلاد العجم، وأقام الدعوة التي دامت إلى عصرنا هذا، وقامت بعد ذلك بالشام بقلاع الدعوة.
قال ابن سعيد: إنه جاوز في أمد الخلافة ستين سنة، ولم يبلغ هذه المدة خليفة بالمشرق، وكانت له من خزائن الأموال، وعظم الأمر ونفوذه، واتساع(24/112)
الخطبة وفيضها على أقطار المشرق والمغرب ما يطول ذكره، ثم انعكس عليه ذلك، فاقتنصت البلاد منه واضطرمت الفتن بحضرته بالقاهرة، وافتقر وضعف أمره، وآل حاله إلى أن قال لشخص من خواصه طالبه بشىء: والله لقد أصبحت لا ينفذ لي أمر [من] مكاني إلى باب قصري، ولا أملك مالا إلا ما تراه عليّ وتحتي، ورأيت بخط قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن خلكان «1» ، أن المستنصر كان في الغلاء قد صار لا يملك إلا فرسا واحدا، وقنيت دوابه الناس، وكان إذا أراد الركوب استعار بغلة صاحب الإنشاء ليركبها حامل المظلة معه.
قال صاحب بلغة الظرفاء: ولد سادس عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربع مائة، وبويع له في نصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربع مائة، وهو في سن التمييز، وتوفي ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربع مائة، وله من العمر تسع وستون سنة وخمسة أشهر.
ثم ابنه:
39- المستعليّ
أبو القاسم أحمد «2» ، وهو قد كان مستعليا ببذل نشبه، لا بأصل نسبه،(24/113)
قيل: إنه دعيّ في أولئك الأدعياء، ومدخول النسب في أولئك الأشقياء، قيل في أمّه قولا، وإن كان لا يصرّح بمثله، ولا يلوّح به، إلا ليتحرز من قبح فعله، وكان الحجر عليه مضروبا، وليس بيتيم ولا سفيه ومضرورا، وله من الملك محق ما يكفيه، لكنه لغلبة الوزراء وعزل بصيرته في دفع الضراء، وولد في العشرين من المحرم سنة سبع وستين [ص 60] ، سنة كأنما كانت بأنواع الضوائق مئين.
ثم ابنه:
40- الآمر بأحكام الله
أبو علي المنصور «1» ولي وهو ابن خمس، وبويع وما أنزل أبوه الرمس، وقام(24/114)
بدولته الأفضل ابن أمير الجيوش «1» وزير أبيه، وكان هو وزيره والذي يربيه، وكان أبا برا، إلا أنه أبى أن يفك عنه حجرا، ولم يزل يربيه على الشهامة، ويرتبه ترتيب الإمامة، إلى أن اشتدت ساعده، فرماه وأصابه من حيث لا يرى فأصماه، وكان الآمر أسمر «2» شديد السمرة، شهما لا تخمد له جمرة، عليّ الهمة، بليّ العزمة، لا يبعد عليه منال، مهما رام نال، وكان الأفضل مدة وزارته له، قد عامل الرعية بإحسان، وأبرز أيامه فيما يروق من الاستحسان، وكان من قلوب الرعايا بمحل، ما ثوى في غيره ولا حل، فلما مات وجدت لفقده، وجدّت في البكاء عليه والوقوف على لحده، وخلف من خزائن الأموال المملوءة ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وكذلك وجد له من الجواري وحلى النساء، ما لو كوشف به الليل لمحا آية المساء، ويحكى من حسن اهتمامه بعمارة الأرض وتغليقها، ببذل البذار وتنميقها، بما لا يزال ولاة الأعمال منه على جانب الحذار، أنه استجلب أردبين قمحا غرائب الزريعة، أراد أن يجعلهما للاختبار الذريعة، فأخرهما حتى فرغ أوان الزرع، ولم يبق لمحراث في الأرض قرع، ثم بعث بالأردبين أحدهما إلى الصعيد، والثاني إلى أسفل مصر، وكتب إلى والي كل عمل منهما، بأن يبذر إردبّه ويستكمل زرعه، ولا يؤخر منه حبة، فأجابه أحدهما بأنه قد فعل، وأجابه الآخر بأنه اجتهد على تحصيل أرض فارغة لبذارها فما حصل، فعرف اهتمام الأول بتغليق عمله، وإهمال الثاني، حتى(24/115)
وجد لذلك الأردب مكانا من معطله، فأنعم على الأول وشكره، وقبض على الثاني وسمّره، ثم لما مات وزّر الآمر المأمون بن البطائحي، وأقامه وفوّض إليه الزعامة، وكان هو المتقلد [ص 61] بالتفويض، وبه نجز الأمر يزجر ويغيض، وهو يراجع في الأمر الآمر، ويرجع إلى ما يأمر به ويستأمر، والآمر يركب وينزل ويتصيّد، ويتخلّى عن موضعه ويتفرّد، وكان يتحدث في أمور ما يكون، وما يتجدد من الحركات والسكون، وحكى بعض من كان له به اجتماع، أنه أراه كتابا فيه صور مصورة، ومنيّات مختلفة، وفيها صورته قد قتل وهو على فرس أشهب، وألقي إلى جانب جسر أكهب «1» ، ثم قال لي أتعرف هذه الصورة؟
فقلت: لا، فقال: بل تعرف هذه الصورة، وما أظنه إلا وقد آن الوقت، فما مضت سنة حتى رأيت الآمر راكبا بالجيزة على فرس أشهب مارّا مع الجسر كأنه ذلك المصور ثم تفرد، وانقطع عنه الموكب، فخرج عليه جماعة رجال في سلاح كانوا قد اتّعدوا على قتله، فرقبوه حتى تفرد عنه جسر الجيزة وقطعوه بأسيافهم.
قال الحاكي: فجئت حتى كنت فيمن وقف عليه على تلك الصورة، ما أخطأ منها شيئا، وحكي أن الآمر بينا هو في موكبه قبلي بركة الحبش «2» ، إذ تقدّمهم، فمرّ رجل على باب بستان له، وحوله عبيد وموال له، فاستسقاه ماء، فسقاه، فلما شرب قال: يا أمير المؤمنين، قد أطمعتني في السؤال، فان رأى أن يكرمني بنزوله لأضيفه، فقال: ويحك، معي الموكب، فقال: وليكن يا أمير المؤمنين، فنزل فأخرج الرجل مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة وفرشها، فصارت مدّ البصر، ثم أخرج مائة طبق بوارد، ومائة طبق فاكهة، ومائة جام(24/116)
حلوى، ومائة زبدية أشربة سكرية كلها، فبهت الآمر، ثم قال له: أيها الرجل خبرك عجيب، فهل علمت بهذا فأعددت له؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنما أنا رجل تاجر من رعيتك، لي مائة حظية، فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي أخذت من كل واحدة شيئا من فرشها، ورأيت أكلها وشربها [ص 62] ولكل واحدة في كل يوم طبق طعام، وطبق بوارد، وطبق فاكهة، وجام حلوى، وزبدية شراب، فسجد الآمر شكرا وقال: الحمد لله الذي في رعايانا من يسع حاله هذا، ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم، ضرب تلك السنة، فكان ثلاثة آلاف ألف وسبع مائة ألف درهم، ثم لم يركب حتى أحضرها فأعطاها للرجل، وقال له: استعن بهذه على حالك ومروأتك، ثم ركب وانصرف.
ومن الكنوز قال: وحكاياته مع البدوية التي عشقها وتزوج بها عند أهل مصر شبيهة بالخراف، قال ابن الفوطي: هي العالية، وكانت قد وصفت للآمر، فتزيّا بزي العرب حتى رآها، ثم أرسل لها خاطبا لها إلى أهلها وتزوج بها، فلما وصلت إليه صعب عليها فراق البرّ، فبنى لها بالجزيرة البناء المعروف بالهودج، وكانت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه:
[الرمل]
يا بن ميّاح إليك المشتكى ... من مليك بعدكم قد ملكا
كنت في حبّي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيسا ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوي ... حيث لا يخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمي ... حيثما شاء طليق سلكا(24/117)
فكتب إليها:
[الرمل]
بنت عمرو والتي عذبتها ... بالهوى حتى علا واحتنكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى
مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا
شأن داود غدا في عصرنا ... مبديا يا ليته قد ملكا
فبلغت الآمر، فقال: لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع [ص 63] لرددتها إلى حيّها وزوجتها به.
وولد الآمر يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربع مائة، وقتل يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمس مائة، وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته تسعا وعشرين سنة، ولم يعقب. ثم ابن عمه:
41- الحافظ لدين الله
أبو الميمون عبد المجيد «1» بن أبي القاسم محمد بن المستنصر معد، وأبوه لم(24/118)
ينل، وعلى كاهل المنبر لم يعتل، وبويع له في اليوم الذي مات فيه الآمر بولاية العهد، ولم يصرح له بالخلافة ليروا رأيهم فيما بعد، واستولى على ملكه أبو علي أحمد بن الأفضل أمير الجيوش، وارتقى منه مرتقى عليّا، وكان إماميا لا إسماعيليا، فأسقط اسم الحافظ عن المنابر ودعا لأئمة الإمامية والمهدي المنتظر، وأرى الإسماعيلية الموت وكل سرب محتضر، ثم تقدم إلى المؤذنين بأن لا يذكر أحد آل إسماعيل في الأذان، ويبطلوا ما كان زاد فيه من قولهم: محمد وعلي خير البشر، ثم قتل أحمد بن الأفضل ورجع الأمر إلى الحافظ، وسلّم الملك منه إلى الحافظ، وبويع البيعة العامة، وصرح باسم الخلافة، ولقّب ذلك اليوم بالحافظ، وسلّم عليه بإمرة المؤمنين، وهو أول يوم لقب بهذا اللقب، وسلم عليه ذلك السلام، وأنجز له منه أمله المرتقب، وكان الحافظ لا قدر عنده لمال، ولا صدر بعض بآمال، لأنه كان يسابق بداية الأمل، فبدأ به على كل عمل بما نقل له كل كثير المواهب، ويصغر كبير النعم الذواهب، ولما استقل أعاد الدعوة الإسماعيلية، وشد حبلها المنتكث، وقوي سم أفعوانها المنبعث، وأزال دعوة الإمامية وما طيب سميه إلا بسميه.
ومن الكنوز قال: كان موصوفا بالبطش والتيقظ حتى إنه سطا على ولده وولي عهده، قال: وللشعراء [ص 64] فيه أمداح فيها غلو لا يحل سماعه، ولا روايته، وكان لهم نفاق «1» في مدته، وجعل لهم صناعا ورواتب، وأنزلهم في مراتب على قدر أقدارهم. قال القوطي: كان شديد المنافسة لا يريد لأحد فعلا غيره، كان وهم بما رده الله دونه من نقل ساكن المدينة الشريفة زادها الله به تشريفا، فخسف الله بمن جهّز لذلك في سرابهم «2» الذي حفروه، وقيل بل(24/119)
هلكوا بريح خرجت عليهم، وأنشد أمثلة مما قيل فيه أكثرها لأبي الحسن الأخفش المغربي وأقربها قوله:
[الرمل]
فترى الناس جميعا خلقوا ... من ضلال وهو من نور الهدى
فادخلوا الباب وقولوا حطّة ... سمع الله لمن قد حمدا
وولد في سنة سبع وستين وأربع مائة، ومات في نصف جمادى الآخرة سنة ثلاث، وقيل أربع وأربعين وخمس مائة، وكان في سنة موته قد بلغ النيل في زيادته الباب الحديد، فطولع بذلك، فقال: أعدوا لي الأكفان، ثم أخرج كتابا عنده من كتب الحدثان فيه: إذا وصل الماء إلى الباب الحديد فليتجهّز إلى الله الإمام عبد المجيد، وكان الأمر هكذا، لم يلبث أن مات.
ثم ابنه:
42- الظّافر بأمر الله
أبو الطاهر إسماعيل «1» ، وكنّاه مؤلف الكنوز أبا منصور، وهكذا كناه الجليس في شعر ذكره فيه، وكان في ميعة الشباب مغرى بمتعة الشباب، مولعا بحب الأحداث، وموضعا لا يبالي بغرة الأحداث، ووزر له علي بن السلار،(24/120)
وحمله أوق أثقاله «1» ، وقلده طرق أعماله، وسوّغه فوق ما في احتماله، ثم قتله على يد ابن امرأته عباس بن تميم الصنهاجي واستبدله عوضه، وألقى إليه أمر الملك وفوّضه، ثم كلف الظافر بابن وزيره وشغف به شغفا حل في شغاف ضميره، فكان لا يرى السرور إلا في مداناته، ولا الراحة إلا في الوجد به ومعاناته، ثم حفر سرابا «2» [ص 65] بين داريهما، وكانا فيه يلتقيان ويفعلان وما يبقيان، وشاع خبرهما، وبقي الوزير منكس الرأس لا يرفع طرفا حياء، ولا يجد الدنيا عليه إلا ظلاما لا ضياء، فأعمل في اغتياله الحيل، وأسرع إليه، وما طالت به الطّيل، وتوصل إليه بابنه فقتله، واتخذ ذلك السراب موضع دفنه.
ومن الكنوز: إنه لما تم لعباس الأمر في قتل الظافر ركب القصور وقال:
بلغني أن أخوي الظافر يوسف وجبريل، وابن أخيه أبا البقاء بن حسن بن الحافظ قتلوه بمواطأة مفلح زمام القصر، ثم أحضرهم وضرب أعناقهم، وحمل من القصر ما أراد، ولم يخف عن الناس أنها من فعلاته، وصنعت المراثي فيهم واستنجد بابن رزّيك وهو يمنيه ابن خصيب، وممن كتب إليه في هذا الجليس بن الحباب.
وحكي أن عباسا جلس للمنادمة، فلما أخذت الكأس منه قال: تبّا لمن يعتقد إمامة هؤلاء، ويقول إنه لا يكون إمام إلا بوصية، والله لقد قتلت الظافر ولا علم عنده بذلك حتى يوصي، ولقد استعرضت أقاربه كالغنم إهانة وذبحا، وقدمت هذا الملقب بالفائز وعمره خمس سنين، وعلى يدينا ذهبت دولتهم بالمغرب، وكذلك تذهب بالمشرق، فقتله الله وقتل ولده بالظافر، وكان قتله في نصف المحرم سنة تسع وأربعين وخمس مائة، ومدة خلافته خمس سنين وستة أشهر وأيام.(24/121)
ثم ابنه:
43- الفائز بنصر الله
أبو القاسم عيسى «1» وكان لا يخب إلى غاية قلوصا ولا عنسا «2» ، لا يخرج به ولا يوسى، ولا يزجر بطير سعودا ولا نحوسا، وبويع بعد أبيه، فطلب الوزير عباس بن تميم قاتله وسن شفاره، وقصد مقاتله فهرب قدّامه، فقتله الفرنج وطلب النجاة، فلم ينج، واستوزر الفائز أبا الغارات طلائع بن رزيّك «3» ، وخاطبه بالتمليك، وسمّاه الملك الصالح، وأنزله منه بمكانة لا يؤثر فيها قدح(24/122)
القادح [ص 66] ، وكان له اسم الملك، وهو المالك الحائز، وله لا لأمرة الأمر الجائز، والغنى والغناء، وسواه العائز، وكان الفائز معه كالظل كيف ما مشى يتبعه، وكالجليس مهما قال يسمعه، أطوع له من الشراك، وأسرع من فيه الظبى في الأشراك، وكان ابن رزيك من أجل وزراء تلك الدولة، وأسبغهم إنعاما، لا يقصّر طوله، وكان عارفا بالأدب، مكرما لأهله، منعما عليهم بفائض سجله، وله شعر لا يؤخر جواد قريحته، ولا يشم دخان الند «1» إلا من ريحته، ولا تتفجر المعاني إلا من فجر صبيحته، ولا تصاب المفاصل إلا بصقال صفيحته «2» ، ووفد في زمانه الفقيه عمارة اليمني «3» ، ونوّله ما يرتجيه من غاية الأماني، وفيه يقول:
[الطويل]
دعوا كل برق شمتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط بارق نشره
وزوروا المقام الصالحي فكلّ من ... على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتحنو على مجد المقام وفخره(24/123)
ولكن سلوا منه العلى تظفروا بها ... فكلّ امرئ يرجى على قدر قدره
وأراده الصالح على الدخول في مذهبهم للدخول، وراوده من يلزمه به أن يقول، وكتب إليه:
[الكامل]
قل للفقيه عمارة يا خير من ... أضحى يؤلّف خطبة وخطابا
أقبل إلينا لا تحد عن هدينا ... قل حطّة وادخل علينا البابا «1»
تجد الأئمّة شافعين ولا تجد ... إلا لدينا سنّة وكتابا
وعليّ أن يعلو محلّك في الورى ... وإذا شفعت إليّ كنت مجابا
وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة ... ذهب وحقّك لا تعدّ ثوابا
وكان الفقيه عمارة شافعي المذهب، لا يحول عنه ولا يذهب، فكتب إليه ما يدلّ على حسن معتقده، ونفض ذلك الزخرف من يده:
[الكامل]
يا خير أملاك الزمان نصابا ... حاشاك من هذا الخطاب خطابا [ص 67]
لكن إذا ما أخربت علماؤكم ... معمور معتقدي فصار خرابا
فاشدد يديك على قديم مودّتي ... وامنن عليّ وسدّ هذا البابا
فسكت عنه لسان إكراهه، وسكن مثل هذا القول وأشباهه، وبقي عمارة أدنى جليس إلى رتبهم، وأنيس على مباينته لمذهبهم، وأتى يوما إلى حضرة الصالح بن رزيّك فأسدى إليه صنيعا قبّل به يده، ثم خرج فرأى ممّن يؤمله من قبّل ومجّده، فقال:(24/124)
[الكامل]
ملك إذا قابلت نور جبينه ... فارقته والنور فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني
ولمّا طال بعمارة العمر، وذاق طعم عيشها المر، رثى بني رزيّك بمراث عوتب عليها، فقال إيها وأنشد: [البسيط]
زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذمّ فيها غير منصرم
كان صالحهم يوما وعاد لهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
ولم يكونوا عدوا لان جانبهم ... وإنما غرقوا في سيلك العرم
فلو فتحت فمي يوما بذمهم ... لم يرض برّك إلا أن تسدّ فمي
ولو ذكرت لياليهم ونضرتها ... وحسنها لم يكن بالدهر من قدم
ثم ابن عمّه:
44- العاضد لدين الله
أبو محمد عبد الله بن يوسف «1» ابن الحافظ عبد المجيد، بويع له بعد الفائز سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ولم يك أبوه [في] الخلافة، ولا دارت في(24/125)
جلده، ولا كان يظنها تصل إليه ولا إلى ولده، وبايعه الناس وهو طفل لا قدر عليه ولا كفل، وقام بأمره الصالح طلائع، وقرر له المصالح الروائع، ودام على مراعاة حاله ونهايته في التدبير نهاية العمل عليه في التدمير، وقيل إن العاضد لما فعل كان كالمتعاضد «1» حتى أكمنت له المنايا كمون الشجاع، ووثبت له وثبة الأسد المفترس إذا جاع، وغالته [ص 68] حيث لا يقدر على الارتجاع، ولا يقتدر على الانتجاع، ولبدت له في دهليز قصره، وفي موضع حصره، فقتل في الدهليز، وقيل: من أين أتي في هذا الكنف الحريز، وما أتي إلا من ذلك الكنف، ولا لحقه لولا تلك الحياة التلف، ولا خطّ طائره إلا من موضع أسف، وأظهر عليه العاضد الأسف، وكمدوا لبدره كيف انخسف، ثم استوزر العاضد ابنه رزيك بن طلائع «2» ، ولقّبه بالملك العادل، وقال: هذا لهذا يعادل، ثم قتل رزيك بعد سنتين، وكان هو وأبوه بالنسبة إلى ملوكهما حسنتين لا سيئتين فإنهما كانا ممن يتوسع في العطايا، ويترفع عن المؤاخذة بالخطايا، وكان قتله بأيدي العرب لما أخرجه شاور قريبا من القاهرة، وأسف العاضد عليه، وخاف أن يتكلم إن تكلّم، فوزّر شاور «3» ولقّب أمير الجيوش، وكان داهية ثلّالا للعروش،(24/126)
فلّالا للعزائم ولم يخل الفروش، قلّابا للدول غلّابا على الملوك والخول، إلا أنه كان قصير الباع في الدفاع، حقير الرباع في اليفاع، لكنه كان ذا كيد ينصب أشراكه، ويلقي له عمامته وشراكه، لم يخف نقيصة تنسب إليه فيما فعل، ولا فيما وضع له نفسه وجعل، ومدحه عمارة على كرهه له ولأيامه، وأنفته منه ومن أنعامه، ولكنه خافه فداراه، وكان يود ألا يراه وما تراه، ومما قال فيه:
[الكامل]
ضجر الجديد من الحديد وشاور ... في نصر دين محمد لم يضجر
هانت عليه النفس حتي إنه ... باع الحياة فلم يجد من يشتري
حلف الزمان ليأتينّ بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفّر
وكان بعد ذلك في تقريب عمارة، ويخصه بمحل القرب والإشارة، ثم غلب ضرغام بن سور على الوزارة وابتزها وقطع دونها غلاصم المطامع واحتزّها، وأخرج شاور من القاهرة يتعثر بأذياله ويتخيّر [ص 69] طريق احتياله، ولقب ضرغام بالملك المنصور، وكتب له السجل الأشرف المنشور، ووجّه شاور وجهه إلى الحضرة النورية، فوفد عليها وفادة حسان «1» على أهل جلّق، ورأى نورها رؤية الحطيئة لنار الملحق «2» ، ثم خرج في الصحب الأسدية الشير كوهية إلى(24/127)
مصر، وخرج ضرغام وتلاقيا على بلبيس «1» وأجلت الوقعة عن قتل ضرغام وانتصار الأسد الهمام، وانهزم جيش ضرغام إلى القاهرة، ودخل شاور القصر ووزر الوزارة الآخرة، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمس مائة، ونكث عهود شيركوه ومواثقه وساسي تجشمه المشقة وطريقه، ثم خاف شاور فراسل الفرنج مستنصرا، فجاءه الملك مري في خلق كبير، فتحصن شيركوه في قلعة بلبيس، واجتمع شاور ومري عليه، وأحدق به العدو وحصره، وأنجز الله وعده وأيد شيركوه «2» ونصره، وخرج سالما إلى دمشق، ثم لم يعلم به حتى وصل إلى إطفيح «3» وعدّى إلى الجيزة، وأقام بها مدة وأنفذ شاور إلى مري واستصرخه، وملأ زقه الفارغ ونفخه، وبذل له مالا عظيما ووعده بمشاطرة(24/128)
البلاد، فحمى لأجله ووافاه بخيله ورجله، ثم عدّى إلى الجيزة واندفع شيركوه إلى الصعيد «1» فلحقوه في الناس قريب منية ابن خصيب، ووقف لهم شيركوه وواقفهم، فانكسر شاور والفرنج، وأخذ صاحب قيسارية أسيرا، ووصل إلى شاور بالفرنج إلى القاهرة مهزومين، وسار شيركوه إلى الاسكندرية فدخلها وأقام بها مدة، وسمع بها شاور والملك مري، فجيّشوا جيوشا عظيمة وأتوا الإسكندرية في طلبه، فنزل بها ابن أخيه صلاح الدين في شرذمة قليلة وأصعد هو وعسكره إلى الصعيد، فجبى منه مالا جليلا، وأقام شاور على الإسكندرية خمسة وسبعين يوما، ثم رجع شيركوه حتى نزل على [ص 70] القاهرة ونازلها، وضيق على من فيها، فصالحوه على أنه يرتفع عنها، ويرتفع شاور عن الإسكندرية، ثم خرج صلاح الدين واجتمع بعمه شيركوه، وأتى شاور القاهرة وأقام مدة فوافاه الملك الرومي صاحب الشام والسبتار في جمع عظيم، فنزلوا على بلبيس وفتحوها عنوة وقتلوا رجالها وعجلوا آجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأبكوها بكاء التوجع والتوعج فعدت آمالها، وسمع شاور فخرج إلى مصر وأحرقها ونهبها، ونكر محاسنها وأذهبها، وترك الرومي على القاهرة وعوّل على فتحها، ثم عدل على صلحها، فبذل له أهلها مائتي ألف دينار، فما قنع بها، وطلب ألفي ألف، فرأى العاضد ووجوه دولته أن يستعينوا بشيركوه، فأتى هو وجيوشه العاضد وأدركوه وراسلوا نور الدين فأمدهم بجيوش ما سمعوا بخبرها، حتى رأوا طلائع عسكرها، فلما سمع به الفرنج ارتحلوا لا يلوون على شىء، ودخل شيركوه القاهرة، وخلع عليه العاضد خلعا سنية، وأضافه ضيافة تامة، وأقام له الأتراك، ونزل بظاهر القاهرة، ثم كان شاور يتردد إليه، فخرج إليه يوما مسلما فأوقع به صلاح الدين ومن معه، وقتل ابنه شجاع الملقب بالكامل، وكان خيرا(24/129)
من أبيه يأمره بالخير، وأشار عليه ألا يستنجد بالفرنج، فقال: دعني من رأيك فإنني أخاف ألا أملك، فقال له: أن تهلك وأنت وحدك خير من أن تهلك أهل مصر كلهم، وكذلك قتل ابنه احرطي الملقب بالمعظم، وأخوه فارس المسلمين، وطيف برءوسهم على الرماح، وخلع على شيركوه بالوزارة في سابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمس مائة، وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من رجب منها، ثم وزر بعده صلاح الدين يوسف، ثم قطع خطبة [ص 71] العاضد بعدها، وخطب للمستضىء، ولم يعش العاضد بعدها إلا أياما يسيرة ثم مات، ومشى صلاح الدين وعليه طيلسان وعمامة في الجنازة، وقعد للعزاء وبكى بكاء لم يشف به الحزازة، فانه ندم على ما كان من خلع رداء تلك الدولة خوفا من نور الدين لا يقصده ويطلب ما يحتج به فلا يجد ما كان يجد بالعبيديين من الحجة في ملاواته «1» والتستر بهم من سهام مناواته، ثم كان يقول: لو علمت بسرعة أجله ما روعته بالخلع، واختلف في موته، فقيل: إنه علم بالخلع فسمّ نفسه، والجمهور على أنه كان عليلا وأخنى عنه ضر الخلع، ومات حتف أنفه، وأخذ أهل القصر وحبسوا، وفرّق بين الرجال والنساء قطعا لنسلهم واجثاثا «2» لشجرتهم الخبيثة من أصلهم، وكانت مدة ملكهم منذ فتحوا مصر إلى أن خلع العاضد مائتين وخمس عشرة سنة، وكان صلاح الدين يشكر العاضد ويصف كرمه ويقول: استمددته بمال لسداد دمياط فأمدني بألف ألف دينار من العين والعروض، وكان لا يزال يتذكره ويتندم على فعله، حيث لا يمكنه استدراك الفارط، ولا يقدر على استرجاع الفائت، ومرّ عمارة بالقصر «3» فرآه خاوي الأركان خالي الأقطار من السكان، وكان يعهده لسجود(24/130)
الجباه قبلا، ولعقود الشفاه ينظم قبلا، وتذكر سالف إحسانهم، وتبصر طائف طيف زمانهم، فما ملك عبرته ولا مل حسرته، وقال:
[البسيط]
رميت يا دهر كفّ المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
سقيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات الدهر فاستقل
خدعت مارنك الأقنى بأنفك لا ... ينفك ما بين أمر الشين والخجل [ص 72]
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سقيت مهلا أما تمشي على مهل «1»
لهفي ولهف بني الأملاك قاطبة ... على فجيعتها في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم وما أربى على أملي
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... تمامها أنّها جادت ولم أسل
وكنت من وزراء الدست حيث سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش مكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت في عذل
بالله جز ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفّين والجمل
وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمّد وأبوكم غير منتحل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجه خوف منتقد ... من الأعادي ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسفي دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السّبل(24/131)
أبكي على خضرات من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... فالآن أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن أضحت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورثّ منها جديد عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدين كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في يوم الغدير كما ... تهتزّ ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شبه ... مثل العرائس في حلي وفي حلل
وما حملتم قرى الأضياف من سعة ... الأطباق إلّا على الأكتاف والعجل [ص 73]
وما خصصتم ببرّ أهل ملّتكم ... حتّى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للوافدين ولل ... ضيف المقيم وللطاوي من الرسل
ثم الطرار بتنّيس التي عظمت ... من الصّلات لأهل الأرض والدول
وللجوامع من أخماسكم نعم ... لمن تصدّر في علم وفي عمل
وربّما عادت الدنيا فمعقلها ... منكم وأضحت لكم محلولة العقل
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب النار غير ولي
ولا سقي الماء من حرّ ومن ظمأ ... من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل
أئمّتي وهداتي والذخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي
تالله لم أوفهم في المدح حقّهم ... لأنّ فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واستبقت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النجاة فهم دنيا وآخرة ... وحبّهم فهو أصل الدين والعمل
نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل ... الغيث إن وثب الأنواء في المحل(24/132)
أئمّة خلقوا نورا فنورهم ... من نور خالص نور الله لم يغل
والله لا زلت عن حبّي لهم أبدا ... ما أخّر الله لي في مدّة الأجل
وذكر ابن الأثير أنه لما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم عليه وعلى تخلفه عنه.
وحكى مؤلف الروضتين قال: اجتمع بي الأمير أبو الفتوح ابن العاضد وهو محبوس مقيّد سنة ثمان وعشرين وست مائة، فأخبرني أبو الفتوح قال: إن أبي لما مرض استدعى صلاح الدين فحضر، ثم جمعنا وأحضرنا، يعني أولاده، ونحن صغار، فأوصاه بنا، فأكرم إكرامنا واحترامنا، قال قاضي القضاة جمال الدين محمد بن واصل لما جرى لمؤتمن الخلافة ما جرى، وقيل: وكل صلاح الدين بالقصر قراقوش الأسدي «1» ، وجعله بزمام [ص 74] القصر مقامه، فرتب في القصر، فما كان يدخل إلى القصر شىء ويخرج إلا بمرأى منه ومسمع، فضاق خناق أهل القصر بسببه، فلما مات العاضد، عرض صلاح الدين من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدد والآلات، والذخائر النفيسة، فأطلق من ثبتت حريته، ووهب الباقي، وأخلى الدور، وأغلق القصور، وأخذ ما صلح له(24/133)
ولأهله وأمرائه وخواص مماليكه وأصحابه من نفائس الذخائر والجواهر والملابس، ومن جملة ذلك الدرة اليتيمة والياقوتة الغالية القيمة، والمصوغات العنبر، والأواني الفضية، والصواني الصينية، والمنسوجات المغربية، والممزوجات الذهبية، وغير ذلك مما لم يقع عليه الإحصاء، وأسرف في العطاء والبذل، وأطلق البيع بعد ذلك فيما دون ذلك، واستمر البيع مدة عشر سنين، وكانت خزانة الكتب تزيد على مائة ألف وعشرين ألف مجلدة، وفيها من النفائس التي لا يكاد يوجد مثلها، ومنها ما هو مكتوب بالخطوط المنسوبة التي لا توجد في خزانة أحد من الملوك، فتملك صلاح الدين الأملاك التي كانت لهم، وضربت الألواح على رباعهم ودورهم، ثم ملك بعضها خاصته وأمراؤه، وبعضها أذن ببيعه، ووهب الفاضل من الكتب عن آخرها، وأزال مبسم تلك الأنام، ومحا رسوم تلك البنية، فتكدرت مواردهم المشرعة، وتعفّت آثارهم بالكليّة، إن في ذلك لموعظة وذكرى لأولي الألباب.
قال ابن مماتي «1» : ولم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون، قال: واتفقت بعدهم غرائب، فمنها أن بعض أمراء المصريين صار نوّابا على باب داره في خدمة من أعطيت له، وآخر صار أمينا في بعض ما كان في إقطاعه، قال ابن مماتي: وجرى [ص 75] يوما(24/134)
حديث المصريين في مجلس القاضي الفاضل، فسألته: كم كانت عدتهم في عرض ديوان الجيش لما كان متوليه أيام رزيك بن صالح؟ فقال: كانت أربعين ألف فارس ونيّفا وثلاثين ألف من السودان. وحكى أن الأمير الكبير باركوج اشترى من الديوان السلطاني عدة آدر وخرابات بمصر ليستعين بأنقاضها على عمايره، وكان من جملتها دار كبيرة وصفت له وذكرت عنده، فتوجه إليها، وتسرع الغلمان لإزعاج من فيها، فسمعهم يبكون فسئل عن ذلك، فقيل له:
هؤلاء بعض عيال المصريين، فلما أخرجوا من دورهم بالقاهرة آووا إلى هذه الدار، وهم لا يعرفون أين يذهبون إذا خرجوا، فبكى واستدعى بعضهم برفق وأطاب قلوبهم ووهبهم الدار، وكتب لهم خطة بها، وجعلهم على ثقة من التصرف فيها، وما فسح لهم في بيعها أن آثروا الانتفاع بها، وانصرف عنهم معتذرا. وقال ابن مماتي: حدثني الشريف النسابة النقيب أسعد بن الحواتي، قال: سكنت في مصر بدار عتيقة الأشرف، وكانت لي زوجة كنت أبات أنا وإياها في بادهنج بها، فاستيقظت ليلة فقالت: رأيت في النوم قائلا يقول لي: احفروا تحت الطيلسان الرخام الذي تحتكم وخذوا ما تجدونه من المال تنفقوا به، فقد آن ظهوره، فقلت لها أنا رجل فقير، وهؤلاء الأشراف لا يطاقون، وأخاف أن ينكسر الطيلسان في قلعه ولا نصيب شيئا فأتعجل الغرامة، ومنعتها منه بكل حيلة، ثم رأت المنام بعينه مرة أخرى، وجريت على العادة في الامتناع، ثم رأت المنام ثالثا وكأنه يقول لها: أنتم محرومون، وما مضت إلا أيام يسيرة حتى أحرقت مصر، فما شعرت إلا وجماعة كبيرة من السودان قد هجموا الدار وقصدوا البادهنج فقلعوا الطيلسان واستخرجوا من تحته سماوية نحاس يكون فيها قدر مائة ألف [ص 76] دينار فأغمي عليّ وكدت أقتل نفسي غيظا لما فاتني من الغنى، وسألتهم أن يعطوني ولو مائة دينار، فما فعلوا، وخرجوا كأنهم دخلوا دارهم وأخذوا مالهم.(24/135)
وقال ابن مماتي: ومن غريب ما جرى في حريق مصر أن رجلا عمد إلى برنية «1» صير، فجعل فيها ألف دينار لتسلم من الريب، فما لبث أن هجم الغوغاء عليه بيته، فلم يكن له همّ إلا النجاة بنفسه، فتحامل إلى باب زويلة «2» ، فبينا هو قاعد يستريح، وإذا ببعض من كان هجم عليه ومعه برنية الصير، فاشتراها منه بدر همين، ثم ذهب فاستخرج منها الذهب، وشرى به جميع ما أخذ له، ولم يزل يضارب فيه حتى نما وارتزق به.
وقال ابن مماتي: حدثني القاضي الفاضل قال: كان من أهل مصر رجل وله ابنة مستحسنة، فلما أحرقت مصر ونهبت أموال أهلها، خرج إلى البر العربي، وسكن في بعض الضياع، وقعد في حانوت، واتفق لنائب القطع أن رأى الابنة فهويها فتعلق قلبه بها فضيق عليها وتعرض لها، فما ظفر بمقصوده، وخطبها من أبيها فما رضي أن يكون زوجا لها، فتسلط عليه وقصده وآذاه، ولم يزل يدقق عليه الحيل إلى أن كتب عليه وثيقة بعشرة دنانير إلى أجل مسمى، وقدر أنها تتعذر عليه، فجدّ «3» السبيل إلى أخذ البنت، قال: فلما كان في اليوم الذي يجب عليه فيه المبلغ، وقد أيس الرجل من نفسه، وأيقن بالشر، جاء إليه شاب فاشترى منه بدرهم عسلا وانثنى عنه، فسقطت منه خرقة مشدودة، فأخذها وحلها فوجد فيها عشرة دنانير، فأخفاها معه وقال: أخلّص بها نفسي من هذا الظالم، وأجتهد في تحصيل العوض وإيصاله إلى صاحبها، فلما كان غير ساعة حتى حضر إليه الخصم وطالبه، ورفعه إلى القاضي، فأعطاه العشرة دنانير التي وجدها، وأخذ الشهادة عليه بها، وعاد إلى حانوته وقد كفاه الله ما كان(24/136)
يخشاه [ص 77] من أذاه، فما استقر جالسا حتى جاء إليه الشاب الذي وقعت منه الخرقة، فقال:
اجعلني في حل، فإنني كنت اشتريت منك العسل ووقعت مني خرقة فيها عشرة دنانير، فظننت أنك أخذتها، ولما جئت إليك وجدتها الساعة مرمية في طريقي، فعجب الرجل، وحضر الخصم فقال له: اجعلني في حل فقد تبت إلى الله من الظلم والذهب الذي أخذته منك وقع مني لأنه كان حراما، وكنت فيه ظالما، فأقبل الرجل على شكر الله تعالى، وذكره وشاع في أهل الناحية أن الله سبحانه وتعالى أعانه على ما فك به نفسه، ثم أعاده إلى صاحبه، عناية منه به، وكانت وفاة العاضد سنة سبع وستين وخمس مائة.
[دولة الحسينيين]
45- ذكر دولة الزّيّديّ القائم بالكوفة
وهو أبو عبد الله محمد بن محمد «1» بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أقامه أبو السرايا «2» بالكوفة بعد ابن طباطبا،(24/137)
وأقامه على منبر الخلافة خاطبا، غلب على الكوفة وسادها، واستوثق له أمر رعيتها وأجنادها، وقام أبو السرايا ينفذ الأمور بأمره، ويعمل لمكايد الحرب جهد فكره، ثم إن الحسن بن سهل «1» لما بلغه هزيمة زهير، وعزيمة أبي السرايا على قذفه بموج الضير، جهز إليه جيشا أمّر عليه عبدوس بن محمد، وأمره بقتاله، فأقبل حتى نزل قرب الكوفة، وزحف إليه أبو السرايا واقتتلوا قتالا شديدا فأسر عبدوس وقتل جميع من كان معه، وأحضر أبو السرايا عبدوس «2» وضرب عنقه،(24/138)
وملك جميع ما كان معه وفرقه، ثم أقبل أبو السرايا حتى نزل قصر ابن هبيرة، وبث عساكره إلى البصرة وواسط ودخلوها واستباحوهما، فوجه إليه ابن سهل هرثمة بن [ص 78] أعين «1» في جيش عظيم، وبلغ أبا السرايا قدوم هرثمة، فسار بمن معه حتى نزل صرصر «2» ، وجاء هرثمة حتى نزل من العدوة الأخرى والنهر بينهما، وكان علي بن سعيد معسكرا بكلواذا «3» ، فخرج منها ثاني شوال، فقاتل أصحاب أبي السرايا وهزمهم، ورجع أبو السرايا إلى قصر ابن هبيرة، وهرثمة في اتباعه، فأدرك جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم وبعث رؤوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم نزل على أبي السرايا بقصر ابن هبيرة فقاتله، وقتل كثيرا من أصحابه، فلما رأى أبو السرايا أنه لا طاقة له بهرثمة، خرج إلى الكوفة فدخلها، وقد كان هذا الزيدي ومن معه من العلويين قد وثبوا على من بالكوفة من العباسيين ومواليهم، فنهبوهم وأحرقوا ديارهم بالنار وجلوهم عن(24/139)
الكوفة، وأتوا أمورا قبيحة ثم إن أبا السرايا لما دخل الكوفة وجّه حسين الأفطس «1» الآتي ذكره إلى مكة ليقيم للناس الحج، ثم إن ابن هرثمة ناشب أبا السرايا الحرب بقرية شاهي»
، حيث حاربه زهير بن المسيب «3» ، فدارت الهزيمة أول النهار على هرثمة، ثم دارت آخره على أبي السرايا، فقتل أصحابه وفلّ عزمه، ودخل هرثمة الكوفة ليلة الأحد السادسة عشرة من المحرم، ومضى أبو السرايا هاربا إلى القادسية «4» ، ولم يتعرض هرثمة لأهل الكوفة بمكروه، بل أمنهم وأقام بالكوفة يوم الأحد إلى العصر، وخرج إلى عسكره، واستعمل عليها غسان بن الفرج «5» ، فنزل إلى دار أبي السرايا، ثم إن أبا السرايا خرج من(24/140)
القادسية متوجها إلى واسط، فعبر دجلة أسفل منها ثم توجه إلى السوس فنزل بها، وأقام بها أربعة أيام، وأعطى الجند أرزاقهم، ألف للفارس، وخمس مائة للراجل، فلما كان اليوم الرابع، أتاه من الحسن بن علي المعروف بابن المأموني «1» ، أن اخرج من عملي، فأبى أبو السرايا إلا قتاله، فتقاتلا، فانهزم أبو السرايا واستبيح عسكره، وجرح جراحا كثيرة، ففر يريد رأس العين «2» ، فأخذه حماد الكندغوسي «3» بجلولاء «4» ، وأخذ معه رجلين من أصحابه، أحدهما [ص 79] محمد بن محمد الزيدي «5» ، والآخر رجل يقال له أبو الشرك، وحملهم إلى الحسن بن سهل، فأمر بضرب عنق الزيدي فضربت عنقه بالنهروان «6» يوم(24/141)
الخميس عاشر ربيع الأول سنة مائتين، فكانت مدته ثمانية أشهر وعشرة أيام، ثم قدم بعده أبو السرايا ليضرب عنقه، فخرج جزعا شديدا، واضطرب اضطرابا عظيما، ثم ضربت عنقه، وبعثت برءوسهما إلى المأمون، وحملت أجسادهما إلى الجسر، فصلبا على الجسر، فكانت أيامه عشرة أشهر.
46- ذكر دولة محمّد بن جعفر الصّادق
ابن محمد الباقر «1» علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى بأبي عبد الله، بويع بمكة في ربيع الآخر سنة مائتين لما زاد اجتراء الحسين بن الحسن الأفطس بن علي بن الحسين بالناس، وافتراء من حوله من سفالة الأجناس، وكان هذا محمد بن جعفر شيخا صالحا فاضلا عالما، يحدث عن أبيه، وقد روى من منهله، وتضوّأ بكوكبه، وكان قد تأبى وامتنع حتى ألزمه بها بنوه وأهله، ومن ملّ سيرة الجور وغلب عليه ابنه علي، وما كان كأبيه ولا له مثل هديه، وكان حوله من ذوي قرابته من يبعد بينه وبينهم تباين الأخلاق، ثم إن الحسن بن(24/142)
سهل أغزاه جيشا عليه إسحاق بن موسى «1» ، فخندق محمد بن جعفر على مكة، وحشد الأعراب وقاتلهم إسحاق بن موسى أياما، ثم كره قتالهم، فرحل عائدا إلى العراق، فلقيه ورقاء بن جميل «2» في أصحابه، وأصحاب الجلودي، فقالوا له: ارجع ونحن نكفيك قتالهم، فرجع معهم حتى نزلوا المشاش «3» ، وجمع محمد بن جعفر جمعه، ونهد بهم إلى بئر ميمون «4» ، وتلاقوا، ثم انهزم محمد بن جعفر، وجمع جمعا زحف به إلى المدينة المشرفة، فخرج إليه واليها هارون بن المسيب، فاقتتلوا، فأصيبت عين محمد بن جعفر بنشابة، فكر راجعا إلى مكة، واستأمن إلى [ص 80] واليها عيسى بن زيد الجلودي «5» ابن عم ابن سهل، فأمّنه وصعد المنبر فخلع نفسه وبايع المأمون، ثم خرج الجلودي إلى العراق، فأسلمه إلى الحسن بن سهل، وكان آخر العهد به.(24/143)
47- ذكر دولة الزّنجيّ
وعزيز عليّ والله أن أذكره في هذا النسب الشريف، وإن كان من شىء في هذا البيت فهو الكنيف، حاشى لله أن يكون هذا الرجس من أولئك، أو يعد فيهم، إلا كما يعد إبليس في الملائك، عجبا لهذه القعدة بالأرض كيف يطول، وكيف يكون هذا الرجس من أهل البيت، والله يقول: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«1» أما هو فادّعى أنه علي بن محمد «2» بن جعفر بن الحسن بن طاهر بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسن. وقال نسابتهم أنه من ولد العباس بن علي عليه السلام، والصحيح أنه من عبد القيس، ولا يبعد أن يكون من ولد الشيطان الرجيم، وإبليس الأثيم، لفعله الذميم، وعقله السقيم، راصدا لله بكل مرصد، وعقد الخلاف للقرآن في كل مقصد، وأراد مناقضة الإسلام ومناقلة المشرع عليه أفضل الصلاة والسلام، وشبّ لهذه الأمة نارا على كل ثنية، وصب إلى كفران هذه الملة كل عقد ونية، وقعد كالشيطان للدين صراطه المستقيم، واقتحم بأتباعه نار(24/144)
الجحيم، فله في الدنيا خزي، وله في الآخرة عذاب عظيم، فكبكب فيها هو والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، أضل جبلّا كثيرا، وظل للبلايا مثيرا، وأصله من قرية من أعمال الري، ومولده بطبرستان، ثار على المهدي سنة ست وخمسين ومائتين، وكان يرى رأي الأزارقة، ويستبيح الدماء والأموال والفروج، ولا يردّ القتل عن صغير ولا كبير ولا بهيمة، ويرى الذنوب كلها شركا، ويلعن المتشرف بالادعاء إليه عليا عليه السلام، ومعاوية بن أبي سفيان [ص 81] وعائشة أم المؤمنين، وطلحة والزبير، وكل من شهد الجمل «1» وصفين، ويتعدى هذا إلى جميع الصحابة رضي الله عنهم، ثم يتعرض إلى الجناب الشريف زاده الله شرفا، ويتعرض في أمور، وكان أموره وقيامه في اثني عشر رجلا من الزنج، كانوا يعملون في غابة البصرة نفوسهم، وانضاف إليه أهل الفساد، وكان بالبصرة ثلاثون ألف جنان «2» في كل جنان أسود وأسودان وثلاثة وأكثر، فاجتمعوا إليه، فلهذا سمي الزنجي، فتتبع الخلق بالقتل والفتك في الحرمة وافتضاض الأبكار، حتى بلغ القتل مائتي ألف، وخلت الديار من أهلها، وتخفّى من سلم في الآبار والسروب «3» ، وكانوا يخرجون بالليل يطلبون الكلاب والسنانير ليأكلوها، ومن مات منهم أكله أهله، ومن قدر على أحد قتله وأكله، حتى إن امرأة قاربت الموت فاستبطأ أهلها موتها، فقطعوها وأكلوها، فخرجت أختها برأسها تغسله في الفرات، فقيل لها ما هذه الرأس «4» فقالت رأس أختي، أهلي ظلموني لم يعطوني منها إلا هذه الرأس، ومن مثل هذا كثير.
قال الشريف الغرناطي: وكانت المرأة الشريفة من ذرية الحسن أو الحسين أو(24/145)
العباس، ينادى عليها في السوق: هذه فلانة الحسنية أو الحسينية أو العباسية بدرهمين أو ثلاثة، فيشتريها الزنجي برسم النكاح، وكان الزنجي الواحد يكون له من هذه النسيبات نحو العشرة والعشرين والثلاثين، والأقل والأكثر يخدمن الزنجيات، فجهز المعتمد لحربه جيشا كثيفا مع قائد اسمه مفلح، فقاتله قتالا كثيرا، فظهر مفلح عليه، ثم أصاب سهم صدغ مفلح فقتله، ثم جهز المعتمد أخاه الموفق «1» في جيش آخر، فقاتله مرات، وواقفه مواقفا كثيرة، وأصاب الموفق سهم في صدره، فكتمه أياما، وعالجه حتى أخذ في البرء، ثم خرج لمحاربة الزنجي، ولم يزل الموفق إلى أن قتله في صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت مدة هذا الزنجي الخبيث [ص 82] أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، وأدخل رأسه بغداد في جمادى الآخرة من هذه السنة، وأراح الله من كفره وفتنته وطائفته اللعينة وفتنه، واختلف الناس في مقدار ما قتل في مدة فريه «2» ، فمنهم المكثر والمقلل، قال الغرناطي: فأما المقل فقال: أفنى خمس مائة ألف ألف وخمس مائة، ألف، وأما المكثر فقال: أفنى ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى، فسبحان الحكيم الذي له في كل مقدر حكمة قد تلتبس على البصير وتنعمي، وكل شىء عنده إلى أجل مسمى، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه المصير.(24/146)
48- ذكر دولة القرامطة وأوّلهم ذكر فرية قرمط
وهم أضر طائفة «1» خرجت على بني العباس، بل شر دولة أخرجت للناس، أخذهم الله بمكرهم، وأخذهم بكفرهم، ولكن بعد حروب شمرت عن ساقها، وأثمرت برءوس لم تتصل بأعناقها، هم الكفرة الملاعين، والأعادي الطواعين، بئس الملة وسوس الأمة، كانوا على ذهاب هذه الملة أحرص من حوافي النمل، وفي تعطيل منابتها أشد من سوافي الرمل، ما زالوا في مسارب الملك كالأفاعي ساعين، وإلى غير كلمة الحق، كالنواقيس داعين، وألصقوا بهذا البيت الطاهر دعوتهم، وألفوا في هذا الفناء الشريف عقوتهم «2» ، وبينهما من البون مثل ما بين الفساد والكون، وإنما ذكرتهم هنا، لادعائهم، كما ذكرت الزنجي، على أنهما كسراب بقيعة، أو كظلمات في بحر لجيّ، كان ظهور هؤلاء بسواد الكوفة سنة ثمان وتسعين ومائتين في السنة التي مات فيها الموفق، اسمه الفرج زكرويه بن يحيى ويدعى بقرمط «3» ، أصله من بصرى من الشام، وإنما قال الخراساني،(24/147)
ويكني بأبي زكرياء، منهم بالنهروان، فأظهر الزهد والتقشف وأكثر الصلاة، وكان يأكل من عمل يده، وإذا جلس إليه إنسان زهده في الدنيا وأعلمه أن المفترض عليه خمسون صلاة في اليوم والليلة [ص 83] وأنه يدعو إلي إمام من أهل البيت، فاستهوى خلقا كثيرا، وكانت لرجل معروف يقال له الهيصم ضياع، فأعلم أن القائمين عليها اشتغلوا عنها برجل صفته كذا ويقول كذا، وأخبر خبر الرجل، فسار إليه وأخذه، وحلف ليضربن عنقه، ثم جعله في بيت ورمى عليه قفلا، وألقى المفتاح تحت وساده، وشرب فلما سكر ونام، أخذت جاريته المفتاح وفتحت البيت وأخرجت الرجل وأطلقته، وردت المفتاح في موضعه، فلما قام من سكره وفتح البيت فلم يجد الرجل، فأصابه وهم، وقال:
هذا الرجل صالح، وأشاع الأمر، فتسارع الناس إلى الرجل، فعظم شأنه، واستفحل أمره، وصنع لهم دينا وقرآنا أوحاه إليه شيطان، ومما تضمنه قرآنه:
يقول الفرج بن عثمان وهو من قرية يقال لها بصرى إنه داعية المسيح عيسى بن(24/148)
مريم، وهو الكلمة وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وإن المسيح تصور له في صورة إنسان فقال له: أنت الداعية وأنت الحجة، وأنت روح القدس، وأنت يحيى بن زكريا، وأن الصلاة ركعتان «1» قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الأذان: الله أكبر الله أكبر أربعا، أشهد أن لا إله إلا الله أربعا، أشهد أن محمدا رسول الله أربعا، أشهد أن موسى رسول الله أربعا، أشهد أن رسول الله، «2» أشهد أن محمد بن الحنفية رسول الله أربعا، والقراءة في الصلاة بسورة الافتتاح المنزلة على محمد بن الحنفية، وهي الحمد لله بكلمته تعالى، باسمه المستحمد لأوليائه، والأهلّة مواقيت للناس ظاهرها، لتعلموا عدد السنين والحساب، وباطنها لأوليائي الذين عرفوا عبادتي، واتقون يا أولي الألباب، فأنا الذي أسأل عما أفعل، وهم يسألون، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي، وأمتحن خلقي، فمن صبر في بلائي ومحنتي واختياري، ألقيته في جنتي، وأدخلته في نعمتي، ومن مال عن أمري وكذب رسلي، ألقيته مهانا في عذابي، وأنا الذي أتممت أجلي، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل عليّ جبار، إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس [ص 84] مثوى الذي أصرّ على أمره، ودام على جهالته، وقال لن نبرح عليه عاكفين إلا في النار أولئك هم الكافرون، ثم يركع فيقول في ركوعه:
سبحان رب العزة تعالى عما يقول الظالمون، يقولها مرتين ثم يسجد، فيقول في سجوده: الله أعظم، الله أعظم، يقولها مرتين، ومن أحكامهم أن القبلة إلى بيت المقدس، وإليه حجهم، وأن الصيام يومان في السنة، وهما يوم النيروز»
،(24/149)
ويوم المهرجان «1» ، وأن لا غسل من الجنابة إلا الوضوء فقط، وإن الخمر والزنا واللواط حلال، والنساء كلهن أمهات وبنات وأخوات حلال، وبويع هذا زكرويه بأنه الخليفة القائم بالحق سنة ثمان وسبعين ومائتين، ويسمى القائم بالحق، وكان يرى رأي الخوارج والأزارقة «2» ويلعن الصحابة، ويرى قتل المسلمين رجالهم ونسائهم وصبيانهم وشيوخهم وزمناهم، فعتا في الأرض، وسفك الدماء، وسبى الذرية، ونهب الأموال، واشتد بلاؤه على المسلمين، وكان يقول لأعوانه وأجناده: من لم يتبعني فاقتلوه، واسبوا أهله، وكان ابتداء أمره في أيام المعتمد، ثم قاتله جيش المعتضد، فقتل في حدود سنة أربع وثمانين ومائتين.
ثم قام بعده ابنه:
49- يحيى بن قرمط
وكنيته أبو القاسم، وبويع يوم قتل أبيه، وكان قتل الأمة المحمدية كلها، وسار بسيرة أبيه، وأصاب شكلها، وكان هو وشياطينه المردة في الأرض، وعقاربه المبددة في البلاد، إذا علوا على قرية قتلوا أهلها حتى البهائم، كالحمير والقطط والكلاب، وحاصر دمشق فصالحه أهلها على مال يؤدونه، وأي أمر جاءه منهم يعتمدونه، وكان يقول: لا أشير بيدي إلى ناحية إلا فتحت، ولا تكر جنودي على صفقة بلاد إلا خسرت وربحت، فلما ولي المكتفي خرج إليه في جنوده(24/150)
وعساكره، فقتل رجاله وفرق أحزابه أيدي سبأ، وأخذ اللعين أسيرا، وسيق إلى بغداد خاسئا حسيرا.
ثم قام بعده أخوه:
50- الحسين بن قرمط
زكرويه [ص 85] ويلقب بالمهدي «1» ، وتكنى بأبي علي، ثم تسمى بأحمد بن عبد الله، وتكنى بأبي العباس، قاله الطبري، بويع بالخلافة بوصية أخيه يحيى، وكان شرا منه، وكان يقول: أنا المدثر الذي في القرآن، وحاصر مدينة هجر أربع سنين إلى أن دخلها عنوة بالسيف، وقتل منها ثلاث مائة ألف، وعتا في الأرض، يقتل هو وأشياعه يمينا وشمالا، وينكحون الأبكار، ويذبحون النساء والأطفال والشيوخ والبهائم، فقاتلهم المكتفي كرّة أخرى، فقتلهم وكسر(24/151)
مهديهم الضال، وأمسك جماعة من شيعة أهل الضلال، وأدخلهم مقرنين في الأصفاد، والمهدي على فيل لتراه الناس، ثم قطع يديه ورجليه وضرب رقبته ورقاب أصحابه، سنة إحدى وتسعين ومائتين، وفي ذلك يقول ابن المعتز يمدح المكتفي ويذكر جميل فعله، يقول: «1»
[مجزوء الرمل]
لا ورمان النهود ... فوق أغصان القدود
وعناقيد من أصدا ... غ وورد من خدود
وبدور من وجوه ... طالعات بالسعود «2»
ورسول جاء بالمي ... عاد من بعد الوعيد
وبشير بوصال ... قد نفى طول الصدود
ما رأت عينيّ كظبي ... زارني في يوم عيد
في قباء فاختيّ ال ... لون من لبس الجدود
كلما قاتل جنديّ ... بسيف وعمود
قتل الناس بعيني ... ن وجفنين وجيد
قد سقاني الراح من في ... هـ على غيظ الحسود
وتعانقنا كأني ... وهو في عقد شديد
نقرع الثّغر بثغر ... طيّب عذب الورود [ص 86]
مرحبا بالملك القا ... دم بالجدّ السعيد
يا مذلّ البغي يا قا ... تل حيّات الحقود(24/152)
عش ودم في ظلّ عزّ ... خالد باق جديد
فلقد أصبح أعدا ... ؤك كالزرع الحصيد
ثم [قد] صاروا حديثا ... مثل عاد وثمود
جاء هم بحر حديد ... تحت أعلام البنود
فيه عقبان خيول ... فوقها أسد جنود
وردوا الحرب فهدّوا ... كلّ خطيّ مديد
وحسام شره الحدّ ... إلى قطع الوريد
فاحمد الله فإنّ الحم ... د مفتاح المزيد
ثم قام بعده ابنه:
51- أحمد بن الحسين
الملقب زكرويه «1» ، ويكنى بأبي غانم، قام بقرية يقال لها زابوقة «2» من سواد(24/153)
الكوفة، وكان معلما للصبيان، ودعا إلى نفسه، وبايعه خلق كثير، فسار بسيرة أبيه في العتو والاستكبار، ثم قتل وحمل رأسه إلى كيداح عامل المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين، ومن سخافاته وتمويهه وشعوذته وتشبيهه، ما كتب به إلى بعض عماله: من عبد الله أحمد بن عبد الله حسين المهدي المنصور بالله، الناصر لدين الله، العالم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حريم الله، من ولد رسول الله، أمير المسلمين، وإمام المؤمنين، ومذل المنافقين، وخليفة الله على العالمين، ومبيد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومهلك الملحدين، وقاتل القاسطين، وسراج المتبصرين، وضياء المستضيئين، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين، وسلم كثيرا، إلى جعفر بن محمد الكردي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على جدي رسول الله، أما بعد، فإنّه نمي إليّ ما حدث [ص 87] قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك، وأظهروا من الظلم والعنت، فأعظمنا ذلك، وأردنا أن ننفذ ما هنالك من جيوشنا، من ينتقم الله من أعدائه الظالمين، الذين يسعون في الأرض فسادا، وقد أنفذنا جماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص، وأمددناهم بالعساكر، ونحن في اثرها، ونرجو أن يجزينا الله في أعداء الله على أفضل عوائده عندنا في أمثالهم، فشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وبادر إلينا بأخبار الناحية كل حين، إن شاء الله، سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على جدي رسول الله، وشرّف وكرّم وحيّا وسلّم.
ثم قام:(24/154)
52- الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ
أبو سعيد «1» ، ثار بمدينة الأحساء «2» واستوطنها، وعتا وأفسد وسفك الدماء، وخرّب البلاد، وأباح قتل كل من خالف مذهبه، وكان ظهوره سنة ست وتسعين ومائتين، وغلب على بلاد اليمن، وحبّبت إليه الأموال، وكثرت جموعه، وعظمت جيوشه، وأباح الزنا واللواط والخمر، وكان يتعشق غلاما خصيا، وهو الذي قتله سنة إحدى وثلاث مائة، وكانت مدته ست سنين.
ثم قام ابنه:
53- سليمان بن الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ
ويكنى بأبي طاهر «3» ، وكان أحد المفسدين في الأرض، وأسرع من المقراض(24/155)
في القرض، بويع بالأحساء يوم موت أبيه، ثم جددت له البيعة سنة سبع عشرة وثلاث مائة، وكان أظلم وأغشم وأجور وأفسق ممن تقدّمه، ولم يزل يطوي البلاد طيّا، يقتل ويسبي وينهب إلى أن صار من بغداد على ستة أميال، فخافه أهلها، ثم دخل، فدخل الرحبة وغيرها من البلاد الفراتية سنة خمس عشرة وثلاث مائة،
ثم عاود ما وراءه من البلاد فدمّرها وأخذ منها [ص 88] أموالا عظيمة، أوسق «1» منها مائتين من الإبل وأوقرها ثم دخل مكة المعظمة سنة سبع عشرة وثلاث مائة، فقتل في الحرم وجوانب مكة من الحاج وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا، واستحر القتل في الشعاب وقنن الجبال، وبطون الأودية والظواهر، حتى قتل أكثر من مائة ألف، وسبى النساء والصبيان، وردم زمزم بجثث ورؤوس القتلى، وفرش المسجد بأجسادهم، وأخلى جمعا ومعرّفا ومكة، حتى لم يكن من الحجون إلى الصفا «2» ، ووقف على الكعبة وأنشد:(24/156)
[الرمل]
أنا لله ولله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وذلك يوم الأحد سابع ذي الحجة، ثم رحل عنها في المنتصف، وحمل معه الحجر الأسود وقناديل الكعبة، وكانت من ذهب وفضة، وقرن كبش الذبيح، وكان مغشى بالذهب، مكللا بالجواهر والياقوت، وميزاب الرحمة، وكان وزنه ثلاثة قناطير من الفضة، والدرة اليتيمة، وكان وزنها أربعة عشر مثقالا، وكانت في جوف الكعبة، ثم لم يرجع من ذلك كله شىء إلا الحجر الأسود، فإنه أعيد إلى مكانه على ما أشير إليه، وكانت إعادته في خامس ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، وكانت مدة غيبته عن البيت الحرام اثنتين وعشرين سنة، ثم توجه هذا القرمطي اللعين بجيوشه من مكة إلى البحرين، فنزل الأحساء، وما أبقى فيما أساء، ثم ابتلاه الله بداهية في جسده فتقطت أعضاؤه، ومات في السابع والعشرين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ثلاثين سنة.
ثم قام بعده:
54- الأعصم
وهو الحسن بن أبي منصور «1» أحمد بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنّابي،(24/157)
ويكنى بأبي محمد، ثار بالأحساء وزحف لقتال المصريين وطردهم من المقام سنة ستين وثلاث مائة، فخرج إليه من مصر [ص 89] جعفر بن فلاح الكتامي «1» ، فالتقيا يوم الأربعاء الخامس من ذي القعدة سنة ستين وثلاث مائة، فقتل جعفر وكثير ممن معه به، وملك الأعصم الشام كله، إلا يافا، ثم زحف إلى مصر ونزل الحب غرة ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاث مائة، فهلك من المصريين خلق كثير حتى أشرفوا على الهلاك، فغدرت العرب بالأعصم، وأخذوا فساطيطه، فانهزم راجعا إلى الأحساء، ثم عاد على أثره إلى الشام، ولم يزل بها إلى أن وصل المعز من القيروان إلى القاهرة يوم الأربعاء سادس رمضان سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، فخرج لحرب الأعصم بنفسه، فهزمه الهزيمة الشنعاء التي شردهم بها عن المقام، وذلك يوم الخميس سادس شعبان سنة ثلاث وستين وثلاث مائة، ومات الأعصم في طريق الأحساء في هذا الشهر، فحمل ودفن بالأحساء، وحل بجهنم، وقيل له اخسأ.
فهذه مشاهير الدول المنسوبة إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، تشتمل على حملة النسب، والدعي، والسقيم المائل، والصحيح السوي، وبها ثم ما(24/158)
أشد من العصابة العلوية وقدمتهم على بني العباس لما تقتضيه الأولوية.
فأما خلافة الاجماع والإمامة التي ختمت كالشمس، ومدت أطناب الشعاع، فهي بعد خلافة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم، الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، وما سواهما كالشذوذ، وكل عقد إلا لهما فهو في حقيقة الحال منبوذ.
وأول ما نبدأ بذكر الدولة العباسية، فإنها وإن كانت المعقبة لبني أمية والآتية بعدها على ما قد كان، فأبتدئ بالأقرب مخرجا من النبعة النبوية، والأدنى إلى مناسبها الزكية، ونحن نذكر إن شاء الله تعالى دولها الشهيرة ثم نصلها بما وصل إلى مصر في أيام ملوك الأتراك وتعلل فيها دماؤهم حتى مات وقبر هناك، ثم نذكر الدولة الأموية [ص 90] ونصلها بمن دخل الأندلس وكان بها، حتى انكدر أفقهم، وطمس وهوى منهم الرفيع ودرس، إن في ذلك لعبرة، وإن فيه لما يجري للعبرة، وهي عوائد عوادي النوب، أخمدت نار كسرى، ورمت تاج قيصر قسرا، وأماتت افراسياب على شاطئ النهر قهرا، أذلت عزة بني عبد المدان، وحطت تخت تبّع من رأس غمدان «1» ، وكان الأول في ذكر سكان الأرض أن تقدم في صدر الملة الإسلامية هاتان الدولتين، ونعزل مما أناف لآل عبد المناف الذروتين، لأن أهل هاتين الدولتين من بني أمية ثم من بني العباس هم الخلفاء حقا بعد الراشدين وصدقا، لولا كذب ادعاء المعاندين، وقد ذكرنا سكان الأرض، وهذا الاسم أصدق ما أطلق على الخلفاء، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم لسان) «2» ، فهذا نص على أنهم ولاة(24/159)
أمر الناس، وجميعهم لهم أتباع، وإذا كان هذا الأمر لقريش فلابد أن يكون منهم واحد يجمع أمرهم، وهو الإمام، وما من البشر مطيعهم وعاصيهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا مأموم به، وإن كان منهم عصاة أو خالع لربقة الطاعة، فإنه يلزمهم حكمه بشريعة الدين وعقيدة الإسلام، ولا يقدر يخالف في هذا أحد من المسلمين ولا ينازع مؤمن أنه داخل في إمرة أمير المؤمنين، فحينئذ الأئمة هم سكان الأرض وبقية من فيها ضميمة لهم أو كالضميمة، وعلى هذا الرأي بنينا هذا القسم من أوله، وبيّنا كثيرا من تفاصيله وجمله، فذكرنا ما نقل إلينا مما كان من بداء الخلق، ومن كان في زمان كل من الأنبياء صلوات الله عليهم والملوك المؤمنين والكفار، فإن قال قائل: فلم ذكرت الملوك قبل الإسلام مع وجود الأنبياء، ومن أولئك الملوك كفار، لا بل غالبهم، ولم نذكرهم مع الخلفاء، والأنبياء أعلا درجة من الخلفاء، وملوك الإسلام خير من ملوك الكفار؟ الجواب:
أن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولا [ص 91] تتعدى دعوته مكان بعثته، والأرض مملوءة بالملوك، ومنهم من لم يرسل في ذلك الوقت إليه، ولا إلى قومه، فاحتجنا إلى أن نذكر الملوك لهذا السبب، إذ كنا بصدد ذكر سكان الأرض، وليس في أولئك الأنبياء من له دعوة عامة، فإذا ذكر هو أو خليفة اكتفي به عن سائر الناس، ونبينا صلى الله عليه وسلم دعوته عامة، فإذا ذكر هو أو خليفته اكتفي به عن سائر الناس، كما قال تعالى مخاطبا عنه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
«1» ، فلما كانت دعوته عامة، كانت دعوة خلفائه عامة، فلهذا لم يبق مقتض لذكر أحد معهم، فإن قال: كيف تتكلم في سكان الأرض، وإنما أنت تتكلم في واحد منهم؟ فالجواب: إنّا لو أردنا ذكر الناس رجلا رجلا، لأردنا ما ليس في الإمكان، وإنما إذا ذكرنا الخلفاء نكون كأنا ذكرنا(24/160)
كل سكان الأرض لأنهم نواب الله في أرضه وخلفاء نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته، وهو المبعوث إلى الأسود والأحمر، والقاصي والداني، وهم القومة بدينه، والدعاء بدعوته العامة، وجميع أهل الأرض ملزمون بها، من آمن منهم أو كفر، فلهذا وجب إفرادهم بالذكر، وأطلق على الجزء منهم اسم الكل، وبالله التوفيق.
وأما الملوك شكر الله عن الإسلام سعيهم، وبوّأهم المغفرة والرضوان، فإنه سيأتي ذكرهم في قسم التاريخ وهو أمسّ بهم، لأنه أكثر ما دار على ذكر أيامهم، ونوب الدهر بيّنة، وفيهم من جاهد في الله وقاتل في سبيله، وسهّد جفونه في جهاد أعدائه، وأغضّ الكفر وأماته بدائه، وضارب حتى ملّت السيوف مضاربها، وكرهت الخيل الماء وعافت بالدماء مشاربها، وحامى عن رأيه وإمامه، وواصل طلائع راياته وآرائه، وأعملوا سيوفهم وأقلامهم في تمهيد البلاد، وتوطيد الملك فناضلوا وناظروا وجالدوا وجادلوا، وفعلوا ما قدرت عليه مكنة هممهم، وظفرت به أيدي مطالبهم، وسروا السرايا لإفاضة هذه الدعوة النبوية، وإفاءة الأرض بظلال [ص 92] عصائبها المحمدية، وسنذكر من هذا مما نثبته في موضعه ونبينه في مواضعه، ونبيع زهره لمطالعه، وزهره بمطالعه، ونشرح به صدر رائيه وقاريه وسامعه، فأما ما ذكرنا من بني إسماعيل، فإنما أردنا به في النسب الشريف النبوي زاده الله شرفا اتصال سببه وإيضاح كيف كان نور مظهره، ليعرف تقدم آبائه في النسب اللباب، وخروج درته اليتيمة من قرارة ذلك البحر العباب.
وهذه الدّولة العبّاسيّة
سقاها الله صوب رحمته، ولقاها نضرة نعمه، وأول ما نبدأ بذكر العباس بن(24/161)
عبد المطلب «1» كان رحمه الله بهيا جميلا رئيسا في الجاهلية، كريما مهيبا، وكان لا يرفع مائدته حتى تأكل منها الطير والسباع، وكانت له ثياب للعاري، ومائدة للجائع، وسوط للسفيه، وجاء الإسلام وهو على ذلك، وكان جهوري «2» الصوت، ربما صاح بالأسد فتفطر مرارة كبده، وصاح يوما: وا صباحاه، فأسقطت الحوامل، وفي الحديث (عم الرجل صنو أبيه) ، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إذا رأياه نزلا له إلى الأرض وسلّما عليه، واستسقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين، وقيل: من أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أنا أسن وهو أكبر مني، وقال أكثم بن صيفي «3» : حججت سنة فرأيت بني عبد المطلب كأنهم بروج فضة، فقلت: من هؤلاء؟ قيل: بنو عبد المطلب، فقلت: هؤلاء غرس الله لا غرس البشر، وكان أجلّ بنيه حبر هذه الأمة عبد الله بن العباس(24/162)
رضي الله عنهما، وفي الحديث: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) «1» ، والبيت في ولده علي، وسماه علي بن أبي طالب باسمه وكناه بكنيته، وكان يدعى زين العابدين، وكان مجتهدا في العبادة، وكان عبد الملك [ص 93] بن مروان يكرمه ويعظمه، ثم البيت في ولده محمد بن علي، وهو الذي أصار عليه ابن الحنفية الأمر، ثم ظهرت شيعة بني هاشم بخراسان، ووجه محمد بن علي مولى له اسمه سلام بن العاري، وأمره أن يبثّ خبرهم هناك ففعل حتى تحدث به الكبير والصغير، ولم يسم الإمام ولا أين هو، وكان بالحميمة «2» ، فتبع سلاما كثير منهم، ثم مات سلام، فلم يعرفوا أين الإمام، فأتوا جعفر الصادق «3» فقال:
أخطأتم المقصد، اقصدوا الحميمة فيها شيخنا وابن عمنا، وهذا الأمر فيه وفي عقبه، فأتوه فأكرمهم وقال: أنا ضالتكم المنشودة، وبغيتكم المقصودة، ثم تأملهم فلم يجد فيهم صفة أبي مسلم، فعلم أنه سيأتي، ثم بعث معهم أبا عكرمة بن زياد بن دوهم داعيا، ثم أتى أسد بن عبد الله القسري واليا على خراسان لبني أمية، فقبض عليه وقتله وتتبّعهم بالقتل والعقاب، وهم لا يزدادون إلا غلوا، وكتبوا إلى الإمام بمقتل أبي عكرمة، فبعث مكانه كثير بن سعد، ثم أقدمه وبعث مكانه عمار بن داود فغير اسمه فتسمى خداش بن زيد، فأخذه(24/163)
أسد القسري وقطع لسانه، وسجن سليمان بن كثير، فانفلت من السجن، ولحق بالإمام، فبعث عليهم بكر بن وائل، ثم أخذه القسري في قوم من أصحابه وقررهم على الإمام، فلم يقروا، ثم قدّم الإمام أبا سلمة الخلال، واسمه حفص بن سليمان، ثم قدمت الشيعة وفيهم أبو مسلم، فلما عرفه بصفته، وكان اسمه عبد الرحمن بن عثمان العجلي السراج «1» ، وكان يعمل السروج، وسنه يومئذ ثمانية عشر سنة فقال لهم الإمام: هذا سيدكم والقائم مقامي فيكم، ثم استخلف ابنه إبراهيم وأوصاه بأخويه أبي العباس وأبي جعفر، وأخبره أنه ميت، وأن إبراهيم يموت بعده، وأن علامة القائم مع أبي مسلم، ثم خلا به وعرفه بما يكون، فما استقر بهم القرار بخراسان حتى بلغهم موت الإمام، يقال إن هشاما أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات، فأقاموا العزاء، فصبّرهم أبو مسلم، وجمع مالا عظيما وطرفا جليلة [ص 94] وقدم بها على الإمام إبراهيم بن محمد، فقرر أمره، ثم عاد وعزل أسد بن عبد الله القسري وولى نصر بن سيار، فوقع إليه كتاب من أبي مسلم إلى الإمام فبعث به مع حامله إلى مروان فاستصلح مروان حامل الكتاب وأمره بأن يذهب به إلى الإمام إبراهيم، ثم يأتيه بجوابه، فأتاه بجوابه إلى أبي مسلم ويحثه فيه على الحرب، والأخذ بالجد، ثم كتب فيه:
[الرجز]
دونك أمرا قد بدت أشراطه
إن السبيل واضح سراطه
لم يبق إلا السيف واختراطه
فبعث مروان من أتى به فحبسه بحراب وبقي مسجونا سنتين، ثم لما أيقن(24/164)
مروان بزوال أمره، قتله نحو قتلة أبيه سنة ثلاثين ومائة، ثم لما سمع أبو مسلم بحبس الإمام، جمع شيعته وخطبهم وقال: لا خفاء بعد اليوم، فعقد اللواء المسمى بالسحاب، وكان أسود مكتوبا عليه بالذهب: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) «1» ، وكان الإمام محمد بن علي «2» أعطاه له، وجنّد الجنود وأظهر الدعوة ولبس السواد هو وشيعته، ثم ظهر بمرو «3» في يوم عيد وصلى بالناس، وخطب ولعن بني أمية، ودعا لعلي رضي الله عنه، ودعا لبني العباس، وكانت أول خطبة أقيمت لهم، ثم وجه قحطبة بن شبيب، وبث جنوده في البلاد، ثم جهز نصر بن سيار جيشا إلى أبي مسلم، وكتب إلى مروان بن محمد كتبا آخرها قال فيه «4» :
[الوافر](24/165)
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام
فإن لم يطفئوها تجن حربا ... مثمرة يشيب لها الغلام [ص 95]
فلم يفد هذا بني أمية تيقظا ولا هاج لهم حفيظة ولا تحفظا، ثم إن أبا مسلم جهّز مالكا الخزاعي للقاء نصر بن سيّار «1» ، فسار في عدة قليلة، والنصر يقدمه، والسعود تخدمه، فالتقوا قريب سمرقند «2» ، فما كان إلا أن تراءى الجمعان، فولّى جيش ابن سيار الأدبار قتلا ذريعا، وأخذ قائد الجيش أسيرا، وحمل إلى الخزاعي، فحمل إلى أبي مسلم، فمنّ عليه وأعاده إلى ابن سيار مكرما، فجعل يتحدث بمحاسن أبي مسلم، فمال إليه أكثر الناس، ثم خرج على ابن سيار رجل بكرمان، وكان سببا لتمام أمر [أبي] مسلم، لأنه اشتغل به عنه، فكتب يستمد مروان، فكتب إليه: إن حاجتنا بأهل الشام، فاكتف «3» بما(24/166)
عندك، فأيقن نصر بالخذلان، وقال: ذهبت والله خراسان، وسيذهب مروان، ثم خرج أبو مسلم إلى مرو لقتال ابن سيار، حتى إذا قاربها فتح خزائنه، وفرق أمواله على رجاله تفريقا خرق به عادته، فسمع بذلك جند ابن سيار فتساقطوا عليه تساقط الفراش، وتسارعوا إليه لطلب المعاش، فأعطاهم مثل ما أعطى رجاله، وبسط يده بالإعطاء، واستدعى بكرمه حركات البكاء، ثم قدم عليه ابن الكرماني، وكان نصر قد قتل أباه، ثم إنه كان مختصا به اختصاص الكف بالبنان، والنطق باللسان، فضاقت بنصر الأرض بما رحبت، وجزم بأن طائفته غلبت، وقدّم أبو مسلم ابن الكرماني، وأمره بمحاربة ابن سيار لأخذ ثأر أبيه، فحاربه محاربة فات معها نصرا النصر، ثم جاء أبو مسلم فدخل مرو على حين غفلة، وأخذ البيعة على أهلها، ورتب وظائف الملك، وأما ابن سيار فإنه فرّ إلى الجبال واستوطنها، ثم إن أبا مسلم قتل ابن الكرماني، وجهز قحطبة لقتال نصر، فأخرج عامله من طوس «1» وقتل مقاتلتها، ثم طلب ابن سيار فأخرج له ابنه تميما في جيش عظيم، فلما رآه جزع، فلما تلاقت الجيوش قتل، وخرج ابن سيار هاربا إلى قومس «2» ، ثم إلى جرجان «3» ، ولقاه قحطبة «4» فهزمه [ص 96] ، وهرب ابن(24/167)
سيار إلى الري «1» ، وأتبعه قحطبة بن الحسن، فكتب ابن سيار إلى مروان:
[السريع]
كنّا نرجّيها وقد مزّقت ... فاتّسع الخرق على الراقع
كالثوب إذ أنهج فيه البلى ... أعيا على ذي الحيلة الصانع
ثم مات ابن سيار بعد كتابة هذا بيومين وتفرّق أصحابه، ودخل الحسن بن قحطبة الري، فخرج إليه ابن هبيرة، وكان على العراق. هذا ما كان من هؤلاء.
وأما ما كان من بني العباس، فإنهم لما أمسك الإمام، فروا إلى أحياء العرب، فمروا بماء لهم متجسسين فإذا هما «2» بامرأتين مقبلتين، فوقفتا عليهم، وقالتا:
ما رأينا أكرم ولا أصبح من خليفة وأمير، فانتهرهما عبد الله بن علي، فقالتا: لا وأبيكم، إن هذا لخليفة، وأشارتا إلى السفاح، وهذا الأمير، وأشارتا إلى المنصور، فانتهروهما، وساروا إلى الكوفة، فلقيهما داود بن علي وابنه موسى، وهما متفرقان في موال لهما من العراق إلى الحميمة، فأخبروه أنهم يريدون الكوفة للوثوب عليها، فقال داود: فكيف ومروان بن محمد في جنوده مطل على العراق، وشيخ العرب يزيد بن عمرو بن هبيرة عامل العراق، فقال له: يا عم، من أراد الحياة ذل، فقال داود لموسى: يا بني صدق ابن عمك، ارجع بنا معه، فانصرفا معهم، فلما أتوا الكوفة سألوا عن أبي سلمة، وأتوه، فأخلى لهم دارا وأنزلهم فيها في صفر سنة اثنين وثلاثين ومائة، وأجرى عليهم الأرزاق، ومنعهم من التصرف، فكانوا إذا أرادوا الظهور منعهم، وقال لهم: ابن هبيرة قريب منا،(24/168)
وأمير المؤمنين واصل إلينا مكرا بهم، لميله إلى الطالبيين.
وأما أبو مسلم «1» ، فإنه بعث أبا النجم إلى الكوفة ليتعرف له خبر السفاح، فأتاها، وأتى أبا سلمة عنه فأنكره ليدير في صرف الأمر إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن، فتوسل أبو النجم ابن السفاح وأعلمه أن أبا محمد مسلم كتب إلى قحطبة أن يسير إلى الكوفة ويسأل عن الصغير من ولد الإمام محمد الذي اسمه عبد الله وكنيته أبو العباس، فإذا وجده يبايع له بالخلافة، فهو الإمام، أحب أبو مسلم أو كره [ص 97] فجهزه السفاح إلى ابن قحطبة، فسارع في خمسة آلاف، فدخل الكوفة ليلا، وأتى الدار فقال: أيكم أبو العباس، فقالوا:
كلنا أبو العباس، وكان كل منهم طامع فيها لنفسه، فقال: أيكم «2» بنو محمد بن علي، فيئس منها جميعهم وطمع فيها بنوه الثلاثة: السفاح والمنصور(24/169)
ويحيى، فقالوا: نحن، فقال: من منكم عبد الله؟ فيئس يحيى وطمع الاثنان، فقالا: كلانا عبد الله، فقال: أيكما ابن الحارثية؟ فيئس منها المنصور، وقال:
هذا ابن الحارثية، وأشار إلى أخيه، فقال: أكشف لي عن ظهرك حتى أرى العلامة التي فيه، فكشف له عن ظهره فرآها وقبلها، ثم قال له: امدد يدك أبايعك، فمد يده فبايعه إخوته وأهل بيته ورجاله، ثم ألبسه السواد، وركبه فرسا أشهب، وأركب أهله الخيل ملتئمين «1» بالسلاح، ثم أتى به المنبر يوم الجمعة، فمنع الخطيب الصعود، وصعد أبو العباس السفاح، ومعه عمه داود دونه بدرجة، فلما أراد السفاح الكلام أرتج عليه، فخطب عمه داود خطبة بليغة، ثم أخذ الناس بالمبايعة، وأهله حوله بالسيوف مسلولة بأيديهم، ثم أقام ثلاثة أيام، وخرج في جيش عظيم، فنزل الهاشمية، ثم فرّق جيشه، فأرسل أخاه أبا جعفر مع الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، ووجه موسى بن عيسى إلى المدائن مع حميد بن قحطبة، واستخلف عمه داود على الكوفة.
وأما ما كان من مروان، فإنه لما أتاه الخبر خرج من حرّان «2» ، فنزل منزلا سأل ما اسمه؟ فقالوا: بلوى، فتطير منه، فقال: بل بشرى، ثم سار حتى أتى الموصل، فأتى السفاح الخبر، فجمع أهله وقال: من يلقى مروان دوني؟ فقال له عمه عبد الله بن علي: أنا له كفء، فقال: صدقت وبذلك أخبر الإمام إبراهيم، فعقد له لواء أسود، وألبسه السواد، وأنهده إليه، ثم أنشد السفاح مرتجلا:
[البسيط]
يا آل مروان إن الله مهّلكم ... ومبدل منكم خوفا وتشريدا [ص 98](24/170)
لا عمّر الله من أنسابكم أحدا ... وبثّكم في بلاد الله تطريدا
ودفعها إلى رجل حصيف، وقال له: تحيّل في إنشادها في عسكر مروان من حيث لا يعلمون، كأنك هاتف، وسار عبد الله بن علي، وجرت بينهم حروب، ثم إن ذلك الرجل الذي حمّله السفاح البيتين، تحيّل في سرب «1» احتفره حتى نفذه إلى قرار شجرة في معسكر مروان، واتخذ منها حروفا خفية يخرج الصوت، ثم قام بهما ليلا ينشدهما، وظنوه هاتفا هتف بهم، فتفللت عروتهم، وكان ذلك مع تقدير الله سبب الهزيمة، ويقال: إن مروان لما رأى المسودة خارت عزائمه، فقال له كاتبه عبد الحميد بن يحيى: ما هذا الذي أراه منك؟ أطربت للقاء أم جزعت من الموت؟ فقال له: والله لوددت أني في قلهم ويكون لي سعدهم، وما يغني هذا العسكر العظيم مع الإدبار، ولئن قاتلونا بعد الزوال، فهي لنا، وإن قاتلونا قبل الزوال، فهي لهم، فناجزهم عبد الله بن علي القتال، وكانت له، وانهزم مروان إلى الجسر، فغرق أكثر من معه، وانهزم مروان، فعقد عبد الله بن علي على الجسر، وعبر النهر، وهو يقرأ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
«2» ، ثم أتى مضارب مروان فنزلها، واستولى على ما فيها، ثم كتب إلى السفاح بالخبر، وكتب فيه:
[البسيط]
لجّ الفرار بمروان فقلت لهم ... عاد الظلوم ظليما همّه الهرب «3»
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... بك الهوينى فلا دين ولا حسب
شبيه فرعون في ظلم وفي غرق ... وفي بذاءة كلب ما [به] كلب «4»(24/171)
ثم سار يريده، وما مرّ ببلد إلا وأطاعه، وأتى دمشق، فخرج إليه عاملها الوليد بن معاوية بن عبد الملك، في وجوه أهلها، فبايعوه، وامتنع من كان بها من بني أمية، فقاتلهم ودخلها بالسيف، واعتقل الوليد بن معاوية ومن كان خرج معه من بني أمية، وقتل العصاة وصلبهم، ثم سار في طلب [ص 99] مروان، وما مر ببلد إلا وفتحه، حتى أدركه ببوصير قوريدس «1» من صعيد مصر، فبينا هو نازل إذا بالمسودة قد غشيته، فسير مروان يقول لعبد الله: الله الله في حرمي، فقال: قل له، لنا الحق في دمك، وعلينا في حرمك، وكان مروان إذ ذاك في جند كثيف، فأسلموه وفروا، فقاتل فيمن بقي معه حتى قتل، وخرج من سرادق مروان شيخ مسن فقال: أيكم الأمير؟ فأرشد إليه، فأتى بهم موضعا في الرمل بعيدا من القرية، فاحفروه فأخرجوا منه القضيب والبردة والقعب والمخضب، واحتز رأس مروان «2» ، وجهر به وبمكان دفنه إلى السفاح، ثم أحسنت(24/172)
حياطة أهله وحرمه، فلما أتى السفاح رأس مروان، سجد شكرا، ثم أنشأ يقول:
[الطويل]
تناولت ثأري من أميّة عنوة ... وحزت تراثي اليوم عن سلفي قسرا
وألقيت ذلّا عن مفارق هامهم ... وألبستها عزّا ولم آلها فخرا
فهذه جملة جميلة من أخبار هذه الدولة حتى قامت، وهذا ذكر خلفاء هذه الدولة واحدا واحدا، إلا إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن المعتز، فإني لا أذكرهما إلا في أخبار المأمون والمقتدر، إذ كان وثوبهما في ذينك الخليفتين، وأولها:
55- دولة السّفّاح
أبي العباس «1» عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو أول(24/173)
خلفاء بني العباس، وهو أول من تلقى بصدره الباس، ولبس الشعار العباسي، فزرر ليله على قمره، وعقد ظفائر أعلامه السود على فرسان عسكره، وكشف كما ذكرنا قناعه لمجاهرته لبني أمية، وثار وقد توقدت به الحمية، وخرج فيمن قل من عمومته وأهله في شفق نهار، والشمس قد فتحت في ساعة الأصيل وردتها في خده الأسيل، وسار حتى أتى الكوفة وصعد منبرها، وأرتج عليه فخطب عمه داود- وهو واقف دونه بدرجة- خطبة بليغة، اقتضبها بديها، ثم وافت عساكر أبي مسلم [ص 100] الخراساني تنسف رمل الأرض جيادها، ويخطف بصر البرق ومض حدادها، وصرّح الشر فأمسى هو عريان «1» ، وأصبح ومقل أسنته ترمق وجه العدو وهو خزيان «2» ثم كانت وقعة الزاب «3» ، وغلب الشيطان وانهزمت تلك الأحزاب، وولى عسكر الشام، وقد تفلل مضاؤه، وتفلل جمعه وضو ضاؤه، وحاق بمروان بن محمد مكره، وحار فكره، ورأى الأرض أضيق عليه من مفحص القطاة، وأقصر عن مدى خطاه، وأدرك كما ذكرنا مروان ببوصير، واستقر به فيها(24/174)
المصير، ثم لم تحوجه الأقدار بعدها إلى تجهيز جيش، ولا استعمال أناة ولا طيش، وكان السفاح يسفح نوالا، ويرى ألا يرد سؤالا، مع ما كان فيه من وفاء جرى إليه سيوقا، وشمخ غصنه الرطيب سموقا مع مكارم أخلاق فاقت أشباهها، وراقت أمواهها، فما شاءه طلب بلوغا، ولا لاواه نزوغا، ولا بدأ بأمر إلا وأتمه فروغا، ولا أهمه مهم إلا وعاجل نجمه بزوغا، وقد كانت ملوك بني أمية ترى أنه سيكون الأمر في رجل من بني العباس أمه من بنات الحارث بن عبد المدان، فكانت تمنعهم من الزواج إليهم، حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاستأذنه علي بن عبد الله في التزوج بريطة، فقال له: تزوج بمن شئت، فأولدها أبا العباس السفاح.
وحكى ابن ظفر: أن أبا سلمة الخلال وسلمان بن كثير كانا يفدان في كل عام على إبراهيم الإمام، فيأتيانه بهدايا أهل الدعوة وبكتبهم ويستأمرانه، ولم يكن أحد من أهل بيته يعرفهما ولا يعرف الأمر الذي يأتيان فيه، فقدما سنة من السنين فرأيا أبا العباس وأبا جعفر أخوي إبراهيم الإمام، وهما إذ ذاك غلامان، فأعجباهما، فقال سليمان بن كثير لأبي سلمة: إني مسر إليك أمرا مهما، فاحلف لي على كتمانه، فحلف له أبو سلمة بأيمان رضيها، فقال له سليمان بن كثير: إني أرى عند هذين الصبيين من إمارات الاستقلال ما لا كفاء له، فقال له أبو سلمة: هما والله أولى من صاحبنا، يعني إبراهيم [ص 101] الإمام «1» ، فقال(24/175)
له سليمان: ما منعني من ذكر هذا إلا التقية والتستر، وبينا هما يتفاوضان في هذا مرّ أبو العباس وأبو جعفر وهما يضربان كربا «1» ، فدعاهما أبو سلمة، فأتياه فقال لهما: إني أنشدت صاحبي شعرا أنا به معجب، فلم يرضه، وقد رضينا بحكمكما فيه، فقالا: انشده، فأنشدهما:
[الطويل]
أمسلم فاسمع يا ابن كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي
ونوهت من ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فقال له أبو جعفر: من يقول هذا؟ قال: يقوله أبو نخيلة «2» ، قال: فعض أبو جعفر على اصبعه وقال: أأمن هذا العبد أن تدول لبني هاشم دولة فيولغوا(24/176)
الكلاب دمه، فقال له أبو العباس: مه يا أخي، فإنه كان يقال: من أظهر غضبه ضعف كيده، ثم أقبل أبو العباس على أبي سلمة، فقال له: هذا شعر أحمق في أحمق، كيف يقول لرجل هو في سلطان غيره وتابع له: يا جبل الأرض مرسيها وممسكها، فلا يصح أن يقال هذا لمن هو في سلطان غيره وتابعا له، وأين يقع تعظيمه وتفخيمه من نقص اسمه، وانطلق أبو العباس فقال له أبو جعفر: هلمّ يا أخي نلعب، فقال أبو العباس: هل أو لغت الكلاب دم أبي نخيلة؟ قال: لا، ولكنك آذيتني فتأذيت، وذهبا، فقال أبو سلمة لسليمان: بمثل هذا يطلب الملك ويدرك الثأر، وما زالا بإبراهيم الإمام حتى عهد إلى أبي العباس، ويقال إنه وعدهما أن يعهد إليه ولم يفعل حتى قبض عليه مروان فأمضى العهد لأبي العباس.
قال: ثم إن أبا نخيلة وفد على أبي العباس السفاح عندما أفضت الخلافة إليه، فلما مثل بين يديه استأذنه في الإنشاد، فقال له: من أنت؟ قال: عبدك وشاعرك أبو نخيلة، فقال أبو العباس: لا قرب الله من أبعد نوى ولعنه، ألست القائل: آمسلم فاسمع يا بن كل خليفة. وأنشده الأبيات، فقال أبو نخيلة:
[الرجز]
كنّا أناسا نرهب الأملاكا ... ونركب الأعجاز والأوراكا
من كل شىء ما خلا الإشراكا ... وكلما قد قلت في سواكا
زور فقد كفّر هذا ذاكا ... إنّا انتظرنا زمنا إياكا
ثم انتظرنا بعده أخاكا ... ثم انتظرنا لهما أباكا
فكنت أنت للرجاء ذاكا
فعفا عنه أبو العباس السفاح ووصله.(24/177)
وعن سعيد بن سالم البابلي قال: حدثني من حضر مجلس السفاح، وهو أحفل ما يكون بوجوه قريش وبني هاشم والشيعة، وأعيان الناس، فدخل عبد الله بن حسن «1» وبين يديه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، اعطنا حقّنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق من أن يعجل السفاح بشىء إليه، فلا يريدون ذلك في شيخ من بني هاشم، أو يعيى بجوابه فيكون ذلك نقصا له وعارا عليه، فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا مزعج وقال له: إن جدك عليّا «2» عليه السلام، وكان خيرا مني وأعدل، ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك شيئا؟ وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فما رد عليه عبد الله جوابا وانصرف، والناس يعجبون من حسن جوابه.
وذكر الغرناطي قال: كان السفاح أبيض «3» طويلا جميلا معبل الجسم»
أقنى الأنف أكحل العينين، كث اللحية مستديرها، سريع الغضب، قريب الرضى، كثير الجود، سديد الرأي، وصولا للرحم شجاعا، تقصّى في قتل بني أمية، قتل منهم ومن أتباعهم أربعين ألفا، وأما جملة من قتل أبو مسلم فألف(24/178)
ألف وست مائة ألف، وأخذ السفاح نفسه بمحو «1» آثار بني أمية وهدم ديارهم، ونبش عبد الله بن علي قبورهم، إلا قبر عمر بن عبد العزيز، وكان السفاح يقول: [ص 103] ما أبالي بالموت متى طرقني، وقد نلت أملي في بني أمية، أحرقت هشاما بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي الإمام إبراهيم، ثم ينشد: «2»
[البسيط]
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ثم كان إذا ذكرهم أنشد قول جده العباس بن عبد المطلب: [الطويل]
أبى قومنا أن ينصفونا [فأنصفت] ... قواطع في أيماننا تقطر الدما «3»
إذا خالطت هام الرجل تركتها ... كبيض نعام في الوغى قد تحطّما
وأمر يوما بجمع من بقي من بني أمية فجمعوا، وفيهم عمر بن عبد الملك بن مروان، فأكرمه وأجلسه معه على سريره، فغاظ ذلك أبا مسلم، فأمر سديفا «4» فأنشده شعرا منه:
[الخفيف]
لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضلوع داء دويّا(24/179)
فضع السيف وارفع الصوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا «1»
فتنفس السفاح الصعداء ثم التفت إلى عمر بن عبد الملك وقال له: كيف رأيت هذا الشاعر، فأنطقه الحين فقال: شاعرنا أشعر منه حيث قال فينا:
[البسيط]
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأرجح الناس أحلاما إذا قدروا
فغضب السفاح وكل من حضره من أهل بيته، وقالوا: تحدثهم أنفسهم بالأمر، فألقى السفاح قلنسوة الأموي، وأمر العبيد فوضعوا فيهم السيوف وقتلوهم عن آخرهم، ثم التفت إلى عمر وقال له: ما أظن الأمير يحب البقاء بعدهم، فقال: لا، فأمر بإقامته، فأقيم، وضربت عنقه، وجروا بأرجلهم حتى ألقوا في رحبة القصر، وعليهم سراويلات الوشي، ثم إن سليمان بن هشام قدم على السفاح، وكان قد فرّ منه إلى السند، فأكرمه وأعظمه وقربه وصيّره في جلسائه، لظرفه [ص 103] وعقله وآدابه وفصاحته ودماثة خلقه، فحسده أبو مسلم، فأمر سديفا فأنشده:
[الخفيف]
أظمأتنا بنو أمية حتى ... ما غبطنا مسوغا للحياة
كيف بالعفو عنهم وقديما ... قتلونا بالضرب والمثلات
أين زيد وأين يحيى بن زيد ... يا لها من مصيبة وترات
والإمام الذي أصيب بحرّان ... إمام التقى ورأس الهداة
لا تزال الصدور آلمة ما ... لم تنل من أميّة الثارات
فتنفس السفاح الصعداء، ثم أمر بسليمان وابنيه فقتلوا، ثم إن شاعرا من(24/180)
بني أمية صنع هذه الأبيات، وتلطف في إيصالها إليه، وهي:
[الرمل]
ولقد أبصرت لو تنقضي عبرا ... والدهر يأتي بالعجب
أين زرقاء عبد شمس أين هم ... أين أهل الباع منهم والحسب
كلّ سامي الجد محمود الجدا ... واضح الغرّة بدر منتجب
لم يكن أندبهم عندكم ... ما فعلتم يالعبد المطلب
إن تجدّوا الأصل منهم سفها ... يا لقومي للزمان المنقلب
إنّ هذا الدهر لابد له ... بخيار الناس يوما ينقلب
فغض السفاح من فعله وألان جانبه وفلّ غرب سطوته، ومولده سنة خمس ومائة، وتوفي بالجدري سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره واحد وثلاثون سنة، ومدته أربع سنين وتسعة شهور وأيام، وقبره بالأنبار.
ثم:
56- دولة المنصور
أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد «1» ، وكان منصور اللواء، مقصور الرأي(24/181)
على دفع اللأواء، لا ينثني عوده بالالتواء، ولا يستحوذ عليه بالاحتواء، لا يمل طول الثواء ولا يلم برده على تأخير الدواء، لا تزعجه تظافر الأشياء والأسواء، ولا تردعه تغاير الأهواء، أوقع على مقاصده من مواطن [ص 105] الأنواء، وأبصر بمصالحه من نواظر الصحة عداوة الأدواء، لا يفكر في عباد يهلكها، لبلاد يملكها، ولا يستأثر بدماء يسفحها لنعماء يمنحها، حتى توطدت قواعد ملكه، وتوطنت فرائد الأقاليم في سلكه، فما أعجزه مرام، ولا أعجزه حافز أمر عن تمام، ولم يكن في بيته أقوى منه شكيمة، ولا أورى زناد عزيمة، ولا أغزر علما، ولا أوفر حلما، إلا أنه كان مبخلا لا يرشح له صلد تبدى، ولا يفيض له بحر بجدا، ونجمت في مدته خوارج فرماها بغوائله، وماراها حتى شفى منها صدور مناهله، فاستقام له غويها، ودخل في ذمام طاعته عصيّها، ومن نأت عليه أنهد إليها جيوشه فأوطاها أحداثا، وأوطنها أجداثا، ثم بعث إلى الأطراف فسدد ثغورها، وشد سعورها، وبنى المدن ومدنها، وسجن المعاقل وحصنها، وكان لا يطمع في اهتبال غرته، واحتلال أسرته، فما لانت حصاته لماضغ، ولا هانت حصانته على رائغ، فلم يتخلص من قبضته نازغ، ولا قصده إلا من عاد بقلب ملآن فارغ، ودام الملك في بيته تتوارثه، وينتقل إليهم عنه موارثه، وهاهم إلى اليوم في بقايا نعمه التي أحرزها، وذخائره وهي الخلافة التي في بيته أكثرها، وهو داهية القوم وقلّبته الأحوال أكثر من كل بني أبيه، واضطر في دولة بني أمية إلى أنه قصد شيعتهم بالعراق، فمر في طريقه بقصر خالد بن عبد الله القسري «1» ، فلما رآه خالد لم(24/182)
يكن يعرفه، طالبه وسأله عن نسبه وأين يريد، فأخفى نسبه وقال: إني أريد العراق لدين عليّ، وحقوق لزمتني، فأمر له بمال جليل وأعاده، فراعاها له أبو جعفر، فلما أفضت إليه الخلافة رد على آل خالد بن عبد الله نعمتهم «1» ، وألجأته الضرورة إلى أنه تزوج امرأة من الأزد، وأكرى نفسه مع الملاحين، يمد في الحبل، وأولد تلك الامرأة ولدا كتب في دولة أبي جعفر عند أبي أيوب المورباني، وهو [ص 106] لا يدري ولا الصبي أنه ابن أبي جعفر، فرآه أبو جعفر، فهفت إليه نوازعه، فسأله عن أبيه فقال: رجل شريف تزوج بأمي، فسأله عن أمه وأهله ومكانه، فعرفه وعرف أنه ابنه، فأمره بحمل أمه وأهله إليه، فلما سافر لهذا، بعث أبو أيوب من تتبعه وقتله غيلة، خوفا منه لما كان اطلع عليه من معابثه؟ وأمسك أبو جعفر المنصور في آخر سلطان بني أمية بسبب مال، وضربه عامل البصرة بالسياط، وكان أبو أيوب المورياني يكتب لعامل البصرة، فقام وأكب على أبي جعفر وخلصه، وكان أبو جعفر يرعى له هذا الود، ثم كان منه ما كان إليه، على ما يأتي في موضعه، ولما مات السفاح خرج عليه عبد الله بن علي «2» بالشام، وكان ليه من قبل السفاح، وقال إن السفاح عهد قبل موته إن(24/183)
الأمر لقاتل مروان، وأنا قاتله، فقالوا صدقت وبايعوه، فبعث إليه المنصور أبا مسلم، فالتقوا ببلاد نصيبين، وكانت بينهم حروب عظيمة دامت شهورا، ثم انهزم أصحاب عبد الله بن علي إلى البصرة، وكان عليها أخوه سليمان بن علي، فأنزله وأخبر المنصور فأمره بحبسه، ثم كان آخر العهد به، ثم إن أبا مسلم شمخ بنفسه فأرسل إليه المنصور يقطين بن موسى ليقبض ما أصاب، فرده ردا قبيحا، ثم سار أبو مسلم من الجزيرة وقد أزمع على الخلاف، وبلغ الخبر المنصور وهو بالمدائن فاغتم لذلك، وسار إلى مدينة رومية، وكتب إليه أني أريد أن أشاورك في أمر لا أستطيع أن أكتمه، فأتني مسرعا، فلم يلتفت على الكتاب، فدس عليه صاحبا له، فأتى به فقتله على الصورة المعروفة، ولما قتله التفت إليه، ثم قال يرحمك الله أبا مسلم، لقد بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووافيتنا ووفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك.
وحكي أن أبا مسلم كان يجد خبره في الكتب [ص 107] السابقة وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلد الروم وهي من المدائن من العراق، ولما ضربه المنصور أول ضربة، قال له: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك، فقال: لا أبقاني الله إن أبقيتك، وأي عدو أعدى لي منك، وكان مقتله سنة سبع وثلاثين ومائة، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة، ذكره الغرناطي، ولما رآه المنصور طريحا بين يديه قال:(24/184)
[السريع]
زعمت أنّ الدّين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
واشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
فاضطرب أصحاب أبي مسلم، فنثرت «1» عليهم الأموال وأعلموا بقتله، فأمسكوا رغبة ورهبة، ومضى أبو مسلم لسبيله لم يغن عنه كثرة قبيله، ولا توقد بصر كان يسري بقنديله، ولا نجاة بعد غور كانت السفن تغرق في ضحضاحه، وتدلج ولا تظفر بصباحه، فلم ينفع بحذار، ولم يدفع بحذر لمقدار، وحكت سلامة أم منصور قالت: رأيت حين حملت به أسدا خرج من قبلي فأقعى وزأر وضرب الأرض بذنبه، فاجتمعت إليه الأسود، وكان كلما جاءه أسد سجد له، وكان المنصور فقيها عالما حافظا، قال مالك بن أنس: ما اجتمعت قط بأبي جعفر المنصور إلا احتقرت نفسي، وادّعت الراوندية «2» فيه الألوهية، وخرج لدفعهم، فأرادوا قتله، وقالوا: نريد يخرج الجزء الإلهي من هذا الناسوت، فخافهم، فاختط مدينة بغداد وانتقل من الهاشمية إليها، وقد تقدم ذكر بغداد في موضعه من تقسيم الأقاليم، وكان أبو حنيفة ممن على عملها. وعن عمير المديني قال: قدم علينا المنصور المدينة ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون عليه في شىء ذكروه، فأمرني أن أكتب إليه كتابا(24/185)
بالحضور معهم وإنصافهم، فقلت: تعفيني [ص 108] من هذا فإنه يعرف خطي، فقال: اكتب، فكتبت ثم ختمه، فقال: لا يمضي به والله غيرك، فمضيت به إلى الربيع «1» ، وجعلت إليه اعتذر، فقال «2» : لا عليك، فدخل عليه بالكتاب، ثم خرج الربيع فقال للناس: أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا أعلمن أحدا قام إلىّ إذا خرجت أو بدأني بالسلام، ثم خرج والمسيب بين يديه، والربيع وأنا خلفه، فسلم على الناس، فما قام إليه أحد، ثم مضى حتى بدأ بالقبر فسلم ثم التفت إلى الربيع وقال: يا ربيع ويحك، أخشى إن رآني عمران أن يدخل قلبه لي هيبة فيتحول عن مجلسه، وتالله إن فعل لا ولي لي ولاية أبدا، فلما رآه وكان متكئا، أطلق رداءه عن عاتقه ثم احتبى به، ودعا بالخصوم وبالحمالين، ثم دعا بالمنصور فسوّى بينهم، ثم ادعى عليه القوم، فقضى لهم، فلما دخل الدار قال للربيع: اذهب فاذا قام وخرج من عنده الخصوم فادعه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ما دعا بك الا بعد أن فرغ من أمور الناس، فمضى ودعاه، فلما دخل عليه سلم فقال له: جزاك الله عن دينك وحسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك.
وحكى البلاذري قال: ما كان المنصور يستصبح إلا بالزيت في القناديل،(24/186)
وإنما خرج إلى المسجد ومعه من يحمل سراجا بين يديه، ثم إنه حمل بين يديه ما فيه الرطل والمن، وكان إذا أراد قراءة الكتب أو كاتبها أحضر شمعة في تور «1» ، ثم إذا فرغ رفعها، وكان لا يرى إلا الاقتصاد في كل أموره، والاقتصار على الضروري الذي لابد منه، وكان أبو عبيد الله الكاتب يقول: كان المنصور يعطي الناس في حق، وأعلمهم «2» بحرمه، وأشدهم شكيمة على عدو، وكان أمره جدا كله، وسمع المنصور جلبة في داره، فقال: ما هذا؟ فاذا خادم له قد جلس وغلمة حوله وهو يضرب لهم بطنبور «3» وهم يضحكون منه، فأخبر بذاك، فقال: وما الطنبور؟ فوصفه [ص 109] له عماد التركي، فقال له: وما يدريك به؟ فقال: رأيته بخراسان، فقال: نعم، ودعا بنعله وقام يمشي رويدا حتى أشرف على الغلمان، فلما أبصروه تفرقوا، فقال: خذوا الخادم فاكسروا ما معه على رأسه، ثم قال: يا ربيع، أخرجه من قصري، وابعث إلى حمران النخاس حتى يبيعه، فوجه به الربيع من ساعته فبيع.
وعن رجل من حشم المنصور قال: كان المنصور يقسم علينا الأرزاق وما في الخزائن حتى القانيد «4» والدرياق «5» ، وركب المنصور يوما نحو باب قطربل «6» حتى دخل من ناحية باب حرب «7» ، فأساء بعض أحداث مواليه، وسار في ناحية(24/187)
مثيرا، لا يسير فيها أحد كراهة للغبار، فالتفت إلى عيسى بن علي وهو يسايره، فقال: والله ما ندري يا أبا العباس ما نصنع بهولاء الأحداث، إن حملناهم على الأدب وأخذناهم بما نحب ليقولن جاهل لم يحفظ أباهم فيهم، وإن تركناهم وركوب أهوائهم ليفسدنّ علينا غيرهم وسئل عنه إسحاق بن مسلم [قال] : لقد سبرت «1» أبا جعفر فوجدته بعيد الغور، وعجمت عوده فوجدته صلب المكسر، ولمسته فوجدته خشن الملمس، وذقته فوجدته مر المذاق، وإنه وما حوله لكما قال ربيعة: «2»
[الطويل]
سما بي فرسان كأنّ وجوههم ... مصابيح تبدو في الظلام مزاهر
يقودهم كبش أخو مصمئلة ... حليف سرى قد لوّحته الهواجر «3»
وقال: يقول للمهدي: يا بني استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع لله، والرحمة للناس، ولما أتاه مخرج محمد بن عبد الله «4» بالمدينة سن عليه درعه، وتقلد سيفه، ولبس خفّه، وصعد المنبر، فحمد(24/188)
الله وأثنى عليه، ثم قال:
[البسيط]
ما لي أدافع عن سعد ويشتمني ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا «1»
جهلا عليّ وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن [ص 110]
أما والله، لقد عجزوا عمّا قمنا به، فما عضدوا الكافي، ولا شكروا المنعم، فماذا حاولوا، أأشرب رنقا على غصص، وأبيت منهم على مضض، كلا والله، إني لا أصل ذا رحم بقطيعة نفسي، وإن لم يرض بالعفو مني ليطلبن مالا، يوجد عندي، ولأن أقتل معذورا أحبّ إليّ أن أحيا مستذلا، فليبق ذو نفس على نفسه قبل أن يقضي نحبه، ثم لا أبكي عليه، ولا تذهب نفسي حسرة لما ناله، ثم دقّ بيده على صدره، وأنشد:(24/189)
[الوافر]
فكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمي اللقاء
فردّ رعيلها حتى ثناها ... بأسمر ما يرى فيه التواء
ثم أنشد:
[الكامل]
ونصبت نفسي للرماح دريئة ... إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول «1»
ثم لم يلبث أن أتاه الخبر بمخرج إبراهيم بن عبد الله «2» إثر أخيه، جمع المنصور بني أبيه وقال: ما ترون؟ فقالوا: توجه موسى بن عيسى، فقال:
يا ولدي على ما أنصفتم وجهت إياه وأوجه ما يجوز، قالوا: فوجه عبد الله بن علي واصطنعه، قال: هيهات، أبعث عليّ حربا أخرى، إن خافني مالأ عدوي عليّ، وإن ظفر أعاد الحرب بيني وبينه خدعة، وقد سمعتكم تذكرون أن له أربعة آلاف مولى يموتون تحت ركابه، فأي رأي هذا، والله لو دخل عليّ إبراهيم بسيف مسلول لكان أهون عليّ من تقبيل عبد الله بن علي رأسي، ثم جهز إليه موسى بن عيسى «3» .(24/190)
وحكى المنصور قال: رأيت كأني حول الكعبة، فنادى مناد من جوف الكعبة: أبا العباس، فنهض أخي فدخل الكعبة، ثم خرج وبيده لواء، فمضى فنادى مناد: يا عبد الله، فنهضت أنا وعمي عبد الله بن علي نبتدر، فلما استوينا على الدرجة العليا دفعته عن الدرجة فهوى، ودخلت الكعبة، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فعقد لي لواء طويلا على قناة، وقال:
خذها حتى تقاتل بها [ص 111] الدجال.
وحكى عنه شبيب بن شبة الأهتمي التميمي قال: حججت في العام الذي ولد فيه الوليد بن يزيد، فبينا أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبوابه فتى كأن عينيه لسانان ناطقان، يخلط أبّهة الأملاك بزي النساك، فما ملكت نفسي أن نهضت في إثره سائلا عن خبره، فسبقني فتحرم بالطواف، فلما سبّع «1» قصد المقام فركع، ثم نهض منصرفا، فكأنّ عينا أصابته، فكبا كبوة ذهب لها إصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا له، أمسح عن رجله التراب فلا يمتنع، فشققت حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، فما تأفف، ثم نهض متوكئا عليّ، حتى أتى دارا بأعلى مكة، فابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب، فاجتذبني، فدخلت بدخوله، ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجزهما في تمام، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم تخف عني مكانك بعد اليوم ولا فعلك بي، فمن تكون يرحمك الله؟ فسميت له نفسي، فرحّب وقرّب، ووصف قومي بخير، فقلت له: أنا أجلّك يرحمك الله عن السؤال،(24/191)
وأحبّ المعرفة، فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فقلت له: بأبي أنت وأمي، ما أشبهك بنسبك، وأدلك على منصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك، قال:
فاحمد الله يا أخا بني تميم، إنما يسعد الله من أحببنا بحبه، ويشقى ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ورسوله وأهل بيته، ومهما ضعفنا عن جزائه قوّى الله على أدائه، قلت إن أيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء أحب أن أسأل عنها أتأذن فيها؟ فقال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن يكون للسر موضعا وللأمانة واعيا، فإن كنت كما رجوت فافعل [ص 112] ، فقدمت من وثيق القول والأيمان ما سكن إليه، وتلا قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)
»
، ثم قال: سل عما بدا لك، قلت: ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان محمد بن يوسف الثقفي «2» ، فتنفس الصعداء، وقال: أعن الصلاة خلفه تسألني؟ أم كرهت أن يتأمر علينا أهل البيت؟ قلت: عن كلا الأمرين، قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرض الله تعبد بها خلقه، فأدّ ما فرض عليك في كل وقت مع كل أحد، فإنه لو كلفك أن لا تؤدي نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، لضاق عليك الأمر، فاسمح يسمح لك، ثم سألته عن أشياء من أمور ديني، فما(24/192)
احتجت أن أسأل أحدا بعده، ثم قلت: يزعم أهل العلم أنه سيكون لكم دولة، قال: لا شك فيها تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها، فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها، قلت: وإنه يبتلى بكم من أخلص المحبة، قال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره، قال: فقلت له إني لأخاف ألا أراك «1» بعد اليوم، قال: أرجو أن أراك وتراني كما تحب إن شاء الله، قلت: عجل الله ذلك، قال: آمين، فقلت:
ووهبني السلامة منكم، فإني من محبيكم، قال: آمين، وتبسم، ثم قال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث، قلت: ما هن؟ قال: قدح في الملك، دهنك في الدين، أو تهمة في حرمه، ثم قال: احفظ عني: لا تجالس عدونا وإن أخطبناه، فإنه مخذول، ولا تخذل ولينا فإنه منصور، واصحبنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال، وأنا رائح من عشية، فهل من حاجة، فنهضت لوداعه، فلما خرجت أتبعني مولى له بكسوة، وافترقنا، فوالله ما رأيته، إلا وحرسيان قابضان عليّ يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه، فلما نظر إليّ قال: خليا عمّن صحت مودته، وتقدمت [ص 113] خدمته، وأخذت قبل اليوم بيعته، ثم قال: أين كنت عني أيام أخي العباس، فذهبت أعتذر، فقال: أمسك فإن لكل شىء وقتا لا يعدوه، فاختر بين رزق يشغلك، أو عمل يرفعك، قلت: أنا حافظ لوصية أمير المؤمنين، قال:
إنما نهيتك أن تخطب الأعمال، ولم أنهك عن قبولها، قلت: الرزق مع قبول أمير المؤمنين أحب إليّ، قال: هو أجمّ لقلبك، وأحب إليّ لك، ثم قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، وفرسك بأفراسنا، ثم ضمه إلى المهدي، فكان معه.(24/193)
ورأى المنصور قبل موته بيسير أعاجيب كثيرة مؤذنة بهلاكه، منها أنه لما دخل آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزله، فاذا فيه مكتوب:
[الطويل]
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنية مانع
فأقرأ متولي المنزل البيتين، فقال: ما أرى شيئا فأقرأ حاجبه فقال كذلك، قال: اقرأ آية من كتاب الله تشوقني إلى الغاية، فقرأ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«1» فقال له: أما وجدت آية غيرها، قال: والله لقد محي القرآن من قلبي غيرها، وهتف به هاتف قبلها بهذه الأبيات:
[البسيط]
أما وربّ السكون والحرك ... إنّ المنايا كثيرة الشّرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان من ملك ... قد انتهى ملكه إلى ملك
ثم رأى بعد ذلك كأنّ منشدا ينشده:
[مجزوء الكامل]
أأخي حفص من مناكا ... فكأنّ يومك قد أتاكا
ولقد أتاك الدهر من ... تصريفه ما قد أتاك [ص 114]
وإذا رأيت الناقص ... العبد الذليل فأنت ذاكا
ملّكت ما ملّكته ... والأمر فيه إلى سواكا(24/194)
وذكر عنه أنه كان في مجلس من أعلا باب خراسان إذ جاء سهم عائر «1» فسقط بين يديه، فذعر وجعل يقلبه، فاذا بين الريشتين مكتوب:
[الوافر]
أتطمع في الحياة إلى المعاد ... وتحسب أنّ مالك من نفاد
ستسأل عن ذنوبك والخطايا ... وتسأل بعد ذاك عن العباد
ثم قرأ عند الريشة الثانية:
[البسيط]
أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ثم قرأ عند الريشة الثالثة:
[البسيط]
هي المقادير تجري في أعنّتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال
يوما تريك خسيس الناس ترفعه ... إلى السماء ويوما تخفض العالي
وإذا على جنب السهم: رجل من همدان مظلوم في حبسك، فبعث من فوره، ففتش عليه، فوجده، فأنصفه وأزال ظلامته، ولما رأى ما رأى من العجائب المنذرة بهلاكه، قال لحاجبه الربيع: إني أتخوف على هذا الأمر، قال له: من يا أمير المؤمنين؟ تعني عيسى بن موسى «2» وهو معك بالحضرة، فأمرني فيه بأمرك حتى أنفذه، فقال: كلا يا ربيع، رجل ما أعطى الله عهدا إلا وفى به،(24/195)
وإنما أتخوف صاحب الشام عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام «1» ، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم اكفني عبد الوهاب، قال الربيع: فلما مات المنصور ودليته في القبر، وعرضت عليه الحجارة، سمعت هاتفا يهتف من القبر: مات عبد الوهاب وأجيبت الدعوة، قال الربيع: فهالني ذلك الصوت، وجاء الخبر بعد سابعة بوفاة عبد الوهاب، ومولده «2» سنة خمس وتسعين، وتوفي في ذي الحجة لست خلون منه سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدته [ص 115] نحو اثنتين وعشرين سنة، وقبره ببئر ميمون قرب مكة المعظمة.
ويروى له من الشعر قوله:
[مجزوء الكامل]
المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مرّه
وتصرف الأيام حت ... ى ما يرى شيئا يسرّه(24/196)
كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل لله درّه
ثم:
57- دولة المهديّ
أبي عبد الله محمد بن المنصور «1» ، وكان أبوه قد قرر أموره، وقرّب له مد الخلافة، وما مات حتى أكد له البيعة، ووثق له أسباب الملك، وكان مما بالغ فيه من التمهيد له، أنه آثره دونه بحسن السمعة، وخلاص الذمة، فإنه أخذ أموالا حسنة من الناس وأودعها «2» بيت المال في أكياسها، وكتب على كل مال اسم صاحبه، ثم لما عزم على الحج، قال له: يا بني، إذا أنا متّ ردّ كل مال على صاحبه ليحبّوك، فلما مات رد الأموال على أهلها. وقالوا: ظلمنا أبوه وأنصفنا هو، فأحبّوه وتيمنوا بأيامه، ولما ولي نفّس خناق الناس، وحل عقد أبيه، وأزال تشدده، وأطلق ما أمسك به يده، ولم يحرم طالب ثواب ولا آخذ بطائل عقاب، وكانت أيام هدوء وأعوام خصب، رقت بها حواشي الحنو، وردت الأمة مناهلها صفوا، وردت نقمها عفوا، وورفت ظلال حلمها، فلم يدع هفوا،(24/197)
وأكثر نقلة الأخبار على أنه كان لا يرتضع كأسا، ولا يكاثر لهوا، ولا يقبل فيما ينشد لغوا، يربأ بنفسه أن يتشاوس نظره زهوا، ويأبى أن يقارف عزيمته، وكان قويا مهيبا متوسطا في أموره، متناسبا في أحواله، وفي المهدي يقول ربيعة الرقي: «1»
[السريع]
قد بسط المهديّ كفّ الندى ... للناس والعفو عن الظالم [ص 116]
فالراحل الصادر عن بابه ... مبشّر للوارد القادم
وكان المنصور يريد أن يجعل العهد إليه، وكان إلى عيسى بن موسى، فتحيّل له بأنواع الحيل حتى جعله إليه، وعوض عيسى بن موسى بعشرة ألف ألف درهم، وجعله بعد المهدي (........) «2» :
[الرجز]
قل للأمين الواحد الموحد ... إنّ الذي ولّاك ربّ المسجد
ليس وليّ عهدنا بالأسعد ... عيسى فردها إلى محمد
فرواها الخدم والبطانة وبلغوها بإذنه المنصور، فدعي به في مجلس حافل وفيه عيسى بن موسى، فاستنشده فأنشده إياها، وكان فاتحة لكلام المنصور، ثم إن عيسى بن موسى دسّ على أبي نخيلة من قتله وسلخ وجهه.
وعن سوّار قال: انصرفت يوما من دار المهدي إلى منزلي، فدعوت بالغداء،(24/198)
فجاشت نفسي، فدعوت بالنرد، فلم تطب نفسي، فدخلت القائلة، فلم يأخذني النوم، فنهضت فركبت بغلة لي وخرجت، فاستقبلني وكيل لي بألفي درهم، فقلت دعها معك واتبعني، ثم خليت رأس البغلة حتى انتهيت إلى باب دار لطيف عليه شجرة، وعليه خادم، فوقفت وقد عطشت، فقلت للخادم:
أعندك ماء؟ قال: نعم، وقام فأخرج قلّة نظيفة طيبة الرائحة، عليها منديل، فشربت، وحضرت العصر، فدخلت مسجدا هناك، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يلتمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، فقلت: وما حاجتك؟ فقال: أرأيت باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعم، فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئا يوصلني إلى سوّار فإنه كان صديقا لأبي، فقلت:
ومن أبوك؟ قال: فلان، فعرفته، فقلت: إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والنوم حتى جاء به إليك، ثم أخذت الدراهم من الوكيل [ص 117] فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غد فصر إلى المنزل، ثم أتيت المهدي، فطرفته بحديثه، فأعجبه، وأمر له بألفي دينار، فنهضت فقال لي: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: خمسون ألف دينار، فأمسك، وجعل يحدثني ساعة، ثم أتيت منزلي، فإذا خادمه معه خمسون ألف دينار، قال: يقول لك أمير المؤمنين، اقض بها دينك، ثم لما كان الغد أبطأ عليّ الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني، فجئته، فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى العوض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى، فقبضتها وانصرفت، فأتاني الأعمى، فقلت له: قد رزق الله بكرمه بك خيرا كثيرا، فأعطيته صلة المهدي، ومن عندي مثلها.
وعن هشام الكلبي قال: طلبني المهدي فلما صرت إليه، أقرأني كتابا،(24/199)
فألفيته يتضمن شتمه وسبّه، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، وقلت: من كاتب هذا الملعون الكذاب؟ فقال: هذا الأموي صاحب الأندلس، فقلت: فهو وآباؤه وأمهاته، والله أهل لذلك، فسرّ بقولي، ثم قال: أقسمت عليك لما أمللت مثالهم كلهم على هذا، وأشار إلى كاتب من كتاب السر فأمللته، ولم أبق شيئا، فلما فرغت منه عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم ختم الكتاب وجعله في خريطة، ودفعه إلى صاحب البريد، وأمره بتعجيله إلى الأندلس، ثم أمر لي بألفي دينار وعشرين ثوبا وبغلة شقراء بسرجها ولجامها من مراكبه، وأقطعني أرضا بالبصرة، ثم قال: اكتم ما سمعت.
وعن عبد العزيز بن الماجشون «1» قال: سألني المهدي فقال: ما قلت حين فقدت أصحابك، يعني الفقهاء، قال قلت:
[البسيط]
يا من لباك على أصحابه جزعا ... قد كنت أحذر ذا من قبل أن يقعا
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا
فقال: والله لأعيننك، فأجازه بعشرة آلاف دينار، فقدم بها [ص 118] المدينة فأنفدها في السخاء والكرم.
وعن واضح قهرمان المهدي قال: كنت معه بما سبذان «2» ، فلم أزل معه إلى بعد العصر، ثم انصرفت إلى مضربي، فلما كان وقت السحر الأكبر، ركبت(24/200)
لإقامة الوظائف، فسرت منفردا من غلماني، فلقيني أسود عريان على فرد رجل، فدنا مني ثم قال: أعظم الله أجرك في مولاك المهدي، فهممت أن أعلوه بالسيف، فغاب عني، فلما انتهيت لقيني مسرور، فأعلمني بموته، فدخلت فإذا به مسجى، وقيل: مات لأنه طرد ظبيا، فاقتحم خربة، فدخلها ورآه، فدق ظهره باب الخربة فمات، ومولده سنة سبع وعشرين ومائة، ووفاته في المحرم سنة تسع وستين ومائة، وعمره اثنتان وأربعون سنة، ومدته عشر سنين «1» وشهر وأيام، وقبره بما سبذان من (.....) «2» ولما قارب دنو أجله، رأى قائلا ينشده، يسمع صوته ولا يشهده:
[الطويل]
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادى عليه معولات حلائله
فما بقي إلا عشرة أيام ومات، واختطفه عقاب الملمات، كنّ حظاياه قد بكرن في الوشي وقت الصبوح، ثم عدن قبل الظهيرة وعليهن المسوح، فقال أبو العتاهية: «3»
[مجزوء الرمل]
رحن في الوشي وأقبل ... ن عليهن المسوح
كلّ نطّاح من الدن ... يا له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عم ... رت ما عمّر نوح(24/201)
فعلى نفسك نح إن ... كنت لابدّ تنوح
ثم:
58- دولة الهادي
أبي محمد «1» موسى بن محمد المهدي [ص 119] ، كان كريما غيورا حاد المزاج، شرس الخلق، له بادرة لا تؤمن، وإقدام لا يطمئن به، وقد أراد الرشيد على خلع نفسه من ولاية العهد، وراود في ذلك يحيى بن خالد غير مرة، وهو ممتنع عليه، ويقيم له الأدلة على زيف رأيه في ذلك، على ما سيأتي ذكره في مواضعه من هذا الكتاب، ولم يطل بالهادي فسيح أجل، ولا تراخى به عنان مهل، حتى ساورته المنون، وسارعته الشهور لا السنون، فمال عرشه في أقرب وقت، ومات وأبقى له المقت، واختلف في موته بأي سبب كان، فقيل: أكل رمانا فشرق منه بحبة فمات، وقيل: وقع على قصب فارسي فدخل في دبره فمات، وقيل:
مرض أياما ومات، وقيل: غمّته أمّه الخيزران «2» لإفراط تحجره عليها، وتبرمه من(24/202)
شفاعاتها، ولما أراد عليه أخاه هارون الرشيد، وكان هارون أحبّ إليها وأكرم منه عليها، فطلبت في الحال يحيى بن خالد ونعته إليه، نعي غير ثكلى ولا فاقد، وكان يحيى عنده محبوسا، فبادر إلى هارون بخبر موسى، فصادف خادما يريد يبشره بولادة مولود ذكر، ولد له تلك الليلة، وهو المأمون، فسابقه في الدخول عليه وبادره بالسلام وقال: أهنيك بالخلافة وغلام.
وعن الحسن بن معاذ بن مسلم وكان رضيع الهادي، قال: رأيتني أخلو مع موسى الهادي ولا أجد له هيبة في قلبي، لما كان يبسطني، وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فاذا ابليس لبسه الخلافة، ثم جلس مجلس الأمر والنهي، قمت على رأسه، فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة.
وقال إبراهيم المؤذن إن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، لا يضع رجله في الركاب، وكان مقتفيا لآثار أبيه في تطلب الزنادقة والإيقاع بهم، لأن أباه أوصاه بذلك، وكان كريما خرقا، وذكر الطبري في حكاية طويلة أنه وهب عبد الله بن مالك، وكان على شرطته أربع مائة بغل دراهم، وعن أبي محمد اليزيدي، قال: دخلت على الهادي فإذا بين يديه سيف عريض كأنه بغلة «1» ، فقلت يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ [ص 120] قال هذا سيف عمرو بن معديكرب «2»(24/203)
الصمصامة، فاستحسنته، فقال لي: قد كنت سألت المهدي أن يهب لي هذا السيف، فضن به عني ومنعنيه، فآليت إن بلغني الله أملي أن أمتحنه، وقد عزمت على أن أدعو غلامي طرخان الخزري، وهو جيد الذراع أن يحضر لي صخرة سوداء طولانية من حجارة القصارين، فأتقدم إليه أن يجمع يديه في السيف ثم يضرب به الرأس الدقيق من الصخرة، فإن سلم سلم، وإن يقطع تقطع، قال: فلم أزل أسأله إعفاء السيف من الامتحان، وأقول شرف من شرف العرب، وسيف لا يوجد مثله، فأبى ودعا غلامه طرخان، فجاء بالصخرة، فقلت:
يا أمير المؤمنين، فإذا لم تطعني فاعمل له ما تبقي على الدهر، تدخل من بالباب من الشعراء حتى يحضروا امتحانه، فإن سلم وصفوه، وإن تقطع رثوه، فأمر بإحضارهم، ثم أمر طرخان بامتحانه، فحسر عن ذراعيه وهزه، وجمع يديه في قائمه، ثم ضرب به الصخرة فمضى فيها، حتى قطعها، ولم يصبه شىء، فلم يقل أحد أرضى من قول أبي الغول، قال:
[الخفيف]
حاز صمصامة الزبيدي عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما علمنا ... خير ما أغمدت إليه الجفون
أخضر اللون بين حدّيه برد ... من دباج تميس فيه المنون
أوقدت قومه الصواعق نارا ... ثم شابته بالذعاف القيون(24/204)
وكأنّ الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضريبة خانت ... أشمال سطت به أم يمين
فوصله بعشرة آلاف درهم، وخلع عليه وحمله، ثم أمر لكل واحد من الشعراء خمسة آلاف درهم.
وأدخل عليه رجل جعل يقرره بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل اعتذاري مما تقول رد عليك وإقراري به يوجب عليه ذنبا، ولكني أقول: إن كنت ترجو في العقوبة رحمة فلا تزهدنّ عند [ص 121] المعافاة في الأجر، فأمر بإطلاقه.
وعن علي بن يقطين قال: إني لعند الهادي مع جماعة إذ أتاه خادم، فساره بشىء، فنهض سريعا وقال: لا تبرحوا، ومضى، ثم جاء وهو يتنفس، فاستلقى على فراشه، ثم قال لخادم معه، على يده طبق مغطى بمنديل: ضع ما معك، فوضع الطبق وكشف المنديل، فاذا رأسا جاريتين، لم أر والله أحسن من وجوههما، ولا من شعورهما، وإذا على رؤوسهما الجوهر المنظوم على الشعر، وإذا رائحة الطيب تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: تدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما يتحابان، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إليّ أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد، فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارجع بالرأسين، قال: ثم رجع في حديثه كأن [لم] يصنع شيئا.
وعن عمر بن شبّة أن علي بن الحسين بن الحسن بن علي، تزوج رقيّة بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي، فأرسل إليه فحمله، فقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي صلى الله عليه وسلم، فأما نساء غيره فلا ولا كرامة، فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمس مائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها، فلم يفعل، فحمل في نطع وألقي ناحية، وكان في يده خاتم كسرى، فرآه بعض(24/205)
الخدم، وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح فأتى موسى فأراه، فاستشاط وقال: أتفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي، فقال: سله ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك، ففعل فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، وأنا أشهد أنه ابن عمي، ولو لم يفعل لانتفيت منه، ثم أمر بإطلاقه ووصله.
وذكر سعيد بن سالم قال: كنت مع الهادي بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد في قوم معه، فسرنا بين بساتين جرجان، فسمع صوتا فيها من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: عليّ بالرجل [ص 122] الساعة، قال: فقلت ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك، بينما هو في متنزه له ومعه حرمه، فسمع في بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: عليّ بصاحب الصوت، فأتي به، فلما مثل بين يديه، قال: ما حملك على الغناء، وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما سمعت أن الرماك «1» إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه؟ يا غلام جبه، فجبّ الرجل، فلما كان في العام المقبل، رجع سليمان إلى ذلك الموضع فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به فقال: عليّ بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضروه، فلما مثل بين يديه قال: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال: يا سليمان، إنك قطعت نسلي، وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك أو بعت فوفيناك، لا والله حتى أقف بين يدي الله، فقال الهادي: يا غلام، ردّ صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل.
وولد الهادي سنة ست وأربعين ومائة، وتوفي سنة سبعين ومائة، وعمره أربع(24/206)
وعشرون سنة «1» ، وكانت مدته سنة وأربعة أشهر، وقيل دونها، وقبره ببغداد.
ثم:
59- دولة الرّشيد
أبي جعفر هارون بن محمد المهدي «2» ، وهو الذي لم يستقص لأحد من الخلفاء مثله، ولا شاع نظيره، حتى إن العامة تنسب إليه كل حكاية تحكى عن الخلفاء الأمويين والعباسيين، وتنتحل له ما فعله غيره، وتتمحل له ما لا فعله هو ولا أحد سواه، وما ذاك إلا لكثرة محاسن أيامه، ومن كان فيها من أفاضل الناس، كالبرامكة في الكرماء ومالك والشافعي وأحمد ونظرائهم في العلماء، وغير هؤلاء مما لا يسع هذا الموضع استقصاؤهم، ولا يدع عددهم الجم أن يمكن إحصاؤهم، من أعيان الكبراء وحذاق الشعراء والمجودين في الغناء والمجدين من أهل النجدة والغنى، وكانت أيام دولته مجمع الأفاضل [ص 123] ومطلع نجم كل(24/207)
فاضل، وكان أول من سنّى الجوائز، وسنّ عوائد الكرم، وقسم للخير زمانه، ووسم في غرر الدهر إحسانه، كان لا يزال في حج أو جهاد، ولا يزل عن ذرى مطية أو جواد، قد ضرب بسهم في كل فضيلة، وقسم من كل جميلة، وقد ذكر ابن عبدوس أن الكلف كانت قليلة في أيامه، فإنه ما زاد المقررات كبير زيادة على ما كان، إلا أنه كان يهب هبات لا ينهض بها عبء إمكان، فإذا أعطى استوصلت البحار، واستبسلت بعجزها الأمطار، ووسع عقود المنن، ووسّع برود دولته بمحاسن السنن، وآثاره في غزو بلاد الروم ظاهرة، وأخباره فيها لوامع في أيامه الزاهرة، وكذلك لم يخل الترك من غزوات سلت في وجوههم السيف، وسلطت عليهم حتى الطيف، إلا أن قضية البرامكة جرحت القلوب ونفّرتها، وقرحت العيون وأسهرتها، ثم ندم عليهم ندما أكل عليه يديه، وقرع سنّه مما جرى بسببهم عليه، على أن الندم لا يرد به فائت، ولا يصح به من هو في القبور بائت.
وذكر أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاتها، وكان إذا حج أحج معه من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاث مائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة، وكان يقتفي أخلاق المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه لولي، ثم المأمون بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في كل ما يحب ثواب، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شىء لا نتيجة له، وبالأولى أن لا يكون فيه ثواب، وكان لا يحب إلا المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي الربيح، ودخل عليه مروان بن أبي حفصة فأنشده شعره الذي يقول فيه: «1» [ص 124](24/208)
[الطويل]
وسدّت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
وكلّ ملوك الروم أعطاه جزية ... على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر
لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ... كأن لم يدمّثه من الناس حاضر
تسوق يداه من قريش كرامها ... وكلتاهما بحر على الناس زاخر
أمور بميراث النبي وليتها ... فأنت لها بالحزم طاو وناشر
عليّ بني ساقي الحجيج تتابعت ... أوائل من معروفكم وأواخر
فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا ... مدى شكر نعمائكم وإني لشاكر
حصون بني العباس في كل مارق ... صدور العوالي والسيوف البواتر
فطورا بهارون القواطع والقنا ... وطورا بأيديهم تهزّ المخاصر
بأيدي عظام النفع والضر لا يني ... بهم للعطايا والمنايا بوادر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشم ... وإن رغمت من حاسديك المناخر
فأعطاه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعة، وأمر له بعشرة من رقيق الدوم، وحمله على فرس من خاص مراكبه.
وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدائني، وكان مضحكا له محادثا فكها، كان لا يصبر عنه، ولا يمل محادثته، وبوّأه منزلا من قصره، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة، فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره وقال: كيف أصبحت؟ وقال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاءه غلامه فقال: يا أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام(24/209)
وألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) «1» فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله، وقد ملكك الدنيا كلها، فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته [ص 125] ، ثم التفت إليه وهو كالمغضب وقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا، قال: يا هذا وما صنعت، قال: قطعت عليّ صلاتي، قال: والله ما فعلت، وإنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: وما لي لا أعبد الذي فطرني، وقد ملكك الدنيا، فقلت لا أدري والله، فضحك الرشيد، ثم قال له: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وذكر زيد بن علي الحسيني أن الرشيد [أراد] أن يشرب دواء فقال له يا بن أبي مريم هل لك أن تجعلني حاجبك إذا أخذت الدواء وكل شىء أكتسبه بيني وبينك، فقال: أفعل، وبكر ابن أبي مريم ووضع له الكرسي، وأخذ الرشيد الدواء، فجاء رسول أم جعفر يسأل عنه، فأوصله إليه، وعرفه حاله وانصرف بالجواب وقال: اعلم السيدة بما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل ذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما سهل إذن أحد منهم، إلا بصلة جزيلة، فما صلى العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما نقي الرشيد، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال:
يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فقال: أين حاصلي، قال: معزول، قال:
لا وقد وهبته لك، ولكن اهد لي عشرة آلاف تفاحة.
وذكر مصعب بن عبد الله الزبيري، عن أبيه: أن الرشيد قال له: ما تقول(24/210)
في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وأما الذين كانوا معه، فهم أهل الجماعة إلى اليوم، فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد اليوم عن هذا، وذكر عنه قال: سألني الرشيد: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقلت: كانت منزلتهما منه في حياتهما منزلتهما [ص 126] في مماته، فقال:، كفيتني فيما أحتاج إليه، وسئل مالك بن أنس عن هذا أيضا فقال له مثل هذا القول: منزلتهما منه في حياته مثل منزلتهما منه في مماته، فقال له: شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك.
وذكر الليث بن عبد العزيز الجوزجاني عن بعض الحجبة، أن الرشيد دخل الكعبة، وقام على أصابعه وقال: اللهم يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، وبكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنا سيئاتنا، يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء الحسنى، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وخر لي في جميع أموري، يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونك الحاجات، إن من حاجتي عندك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي، اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق، اللهم صلّ على محمد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له جزاء وأجزه عنا الجزاء الأوفى، اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين، وكان يقول: والله إني لأعرف في عبد الله، يعني(24/211)
المأمون حزم المنصور، ونسك المهدي، وعز نفس الهادي، ولو شئت أنسبه إلى الرابع لفعلت، يعني نفسه، وفي ذلك يقول:
[الطويل]
لقد بان وجه الرأي لي غير أنني ... غلبت على الأمر الذي كان أحزما
وكيف يردّ الدّر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهبا مقسما
أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما
واصطبح الرشيد قرب رمضان وقد قرب أن يرسي به زورق هلاله، فكتب إلى جعفر بن يحيى: [ص 127] [الخفيف]
سل عن الصوم ابن يحيى تجده ... راحلا نحونا من النهروان
فأتنا نصطبح ونله جميعا ... لثلاث بقين من شعبان
فأجابه في رقعة كتبها، ثم ركب إليه واستصحبها، فلما قرأها الرشيد استطار قلبه، واستبشر بها ساعفه «1» (ساعة) قربه، وكان فيها:
[الخفيف]
إنّ يوما كتبت فيه إلى عب ... دك يوم يسود كلّ زمان
فاغتبق واصطبح فقد صانني ... الله إذا صنتني من الحدثان
وكان الرشيد بعد هذا يقول لما قتله تلك القتلة التي شوّه بها الجود، ونبه بها دمه للطلول بسلاف العنقود، والله ما صانه الله لي من الحدثان، بل كمنت له كمون الأفعوان في أصول الريحان، فلما تعرض للشم قابله بالسم، وسيأتي ذكر جعفر في موضعه، وكان الرشيد قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينا يأتيه(24/212)
بما يقول، فأخبره يوما أنه كتب على الحائط: «1»
[الوافر]
أما والله إنّ الظلم لوم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
فاستحضره الرشيد واستحله وأعطاه ألف دينار، ثم أمر بمجلس فزخرف، وبالطعام فأحضر، وأحضر أبا العتاهية فقال له: صف ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال: «2»
[مجزوء الكامل]
عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيت ... لذي الرواح وفي البكور
فقال: ثم ماذا، فقال:
وإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال: يا فضل، دعه، وإنّا في عمى، فكره أن يزيدنا.
وعن القاضي [ص 128] أبي يوسف «3» قال: بينا أنا البارحة قد أويت إلى(24/213)
فراشي، فإذا هرثمة بن أعين «1» يدق الباب دقا شديدا، فكلمته فقال: أجب أمير المؤمنين، فسألته الإمهال إلى غد، فقال: ما إلى هذا سبيل، فاغتسلت وتحنطت، ثم صرنا إلى الرشيد، وإذا بعيسى بن جعفر بن المنصور على يمينه، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: أظننا روعناك، قلت: إي والله وكذلك من خلفي، قال: اجلس، فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إليّ فقال: أتدري لم دعوتك؟ فقلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إني سألته جارية عنده أن يهبها لي فامتنع، فسألته أن يبيعها فأبى، وو الله لئن لم يفعل لأقتلنّه، فالتفت إلى عيسى وقلت: وما تبتغي بجارية تمنعها أمير المؤمنين؟ فقال: عجلت عليّ قبل أن تعرف ما عندي، قلت: فما الذي عندك؟ قال: إنّ عليّ يمينا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فقلت: تهب له نصفها وتبيعه نصفها فتكون لم تهب ولم تبع، فقال: أشهدك أني وهبته نصفها وبعته نصفها بمائة ألف دينار، ثم أتى بالجارية وأخذ المال، فقال الرشيد:
بقيت واحدة، فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها مملوكة ولابد لها من الاستبراء، وو الله إن لم أبت معها ليلتي، إني أظن أنّ نفسي ستخرج، قلت: يا(24/214)
أمير المؤمنين، تعتقها وتتزوجها، فإنّ الحرة لا تستبرأ، قال: قد أعتقتها، فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، قال: افعل، فدعا بمسرور وحنين الخادمين، فخطبت فحمدت الله ثم زوجته بها على عشرين ألف دينار، ودفع إليه المال، ثم قال:
انصرف الآن، وأمر لي بمائتي ألف درهم، وعشرين تختا ثيابا، فحمل ذلك معي، فالتفت إليّ هرثمة وقال: فأين حقي؟ فقلت: خذ العشر، ثم إذا بعجوز فدخلت فقالت: يا أبا يوسف، إن ابنتك تقرئك السلام وتقول: لك ما وصل إليّ من أمير المؤمنين إلا المهر، وقد حملت إليك النصف وتركت الباقي لما تحتاج إليه، فو الله لا قبلته، أخرجتها من الرق وزوجتها [ص 129] أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم تزل بي الجماعة حتى قبلت، وأمرت لهرثمة منها بألف دينار أخرى.
وذكر محمد بن علي، عن أبيه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي، فإذا هو في هيئة الصيف في بيت مكشوف، وليس فيه فرش وغلالة رقيقة عليه وإزار عريض الأعلام، وكان لا يجلس في بيت الخيش، لأنه كان يؤذيه إفراط الهواء، ولكنه كان يجلس ظاهره فيأتيه برد الخيش، وكان له تغار من فضة يعمل فيه الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل سبع غلائل قصب رشدية تقطيع النساء تغمس الغلالة في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فيخلع عن الجارية ثيابها ثم يخلع عنها غلالة، ويجلس على كرسي مثقب، فيرسل الغلالة على الكرسي متحللة، ثم يبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر ابدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن ويغلق البيت فيعبق بالبخور والطيب.
وذكر بعضهم أنهم كانوا مع الرشيد بالرقة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لابن نهيك: خذه إليك حتى أنصرف، فلما رجع هارون أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل(24/215)
وشرب، دعا به فقال: يا هذا، انصفني في المخاطبة والمسألة،
قال: قل ما تحب، قال: فأخبرني أيما أشر «1» وأخبث، أنا أم فرعون، قال:
بل فرعون قال أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إله غيري، قال:
صدقت، قال: فأخبرني فمن خير أنت أم موسى بن عمران، قال: موسى كليم الله وصفيه اصطنعه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلمه من خلقه، قال:
صدقت، أفما تعلم أنه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما: فقولا قولا لينا، وهذا في عتوه وجبروته «2» على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحال التي تعلم أكثر فرائض الله أؤديها ولا أعبد سواه، أقف عند أكثر حدوده [ص 130] فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا، فقال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا استغفر الله، قال: قد غفر الله لك، وأمر له بعشرين ألف درهم، فقال: لا حاجة لي بالمال، فزجره هرثمة، فقال له الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألا يخاطب الخليفة أحد إلا وصله، فاقبل من صلتنا ما شئت، فضعها حيث أحببت، فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على من حضره.
وذكر ابن بختيشوع «3» قال:(24/216)
كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، وكنت أول من يدخل عليه فأتعرف خبره في ليلته، ثم ينبسط فيحدثني بخبر جواريه ومجلسه وشربه، ثم يسألني من أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فرأيته عابسا مفكرا مغموما، فوقفت بين يديه مليا وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه فقلت:
يا سيدي، جعلني الله فداك، ما حالك هكذا، فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤه، فقال: ويحك يا جبريل، ليس غمي وفكري لشىء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه فأفزعتني، وملأت صدري، وأقرحت قلبي، فقلت: فرّجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت فقبلت رجله وقلت: هذا الهمّ كله لرؤيا، والرؤيا إنما تكون في خاطر أو من بخارات ردية من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله، فقال: أنا أقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة، فقال: بطوس وغابت اليد، وانقطع الكلام، فقلت «2» : يا سيدي أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان، وما ورد عليك من انتقاضها، قال: قد [ص 131] كان ذلك، قال فقلت:
فلذلك رأيت هذه الرؤيا، وما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه ذلك اليوم في لهوه، ومرت الأيام، فنسي ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين تحرك رافع، فخرج فلما صار في بعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تزيد(24/217)
حتى دخلنا طوس، فنزل في منزل لحميد بن عبد الحميد، في ضيعة له تعرف بسر آباد، فبينا هو يمرض في البستان في ذلك القصر، إذ ذكر تلك الرؤيا، ووثب متحاملا، يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول له: يا سيدي ما حالك، وما دهاك، فقال: يا جبريل، تذكر رؤياك بالرقة في طوس، ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذه الأرض، فجاءه بها في كفه، حاسرا عن ذراعيه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي أريتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء، ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.
وذكر علي الربعي عن أبيه قال: لما وصل الرشيد إلى طوس قال: احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفر له، فقال: احملني، فحملته في قبّة أقود به، حتى إذا نظر إليه قال: يا بن آدم، تصير إلى هذا، قالوا: ولما فرغ من حفر القبر أنزل فيه قوما فقرأوا فيه القرآن، حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
قال الطبري: ومات هارون وفي بيت المال تسع مائة ألف ألف ونيّف، وقال أبو الشيص يرثي الرشيد: «1»
[مجزوء الرمل]
غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع
ما رأينا قطّ شمسا ... غربت من حين تطلع
وقال أبو نواس:
[مجزوء البسيط]
جرت جوار بالسعد والنّحس ... فنحن في مأتم وفي عرس [ص 132](24/218)
القلب يبكي والسنّ ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس
يضحكنا القائم الأمين وتبكينا ... وفاة الرشيد بالأمس
بدران بدر أضحى ببغداد ... وبدر بطوس في الرمس
ومولده سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، وعمره أربع وأربعون سنة، ومدته اثنتان وعشرون سنة، وأربعة أشهر، وقبره بقرية سناباد من طوس.
ثم:
60- دولة الأمين
أبي موسى محمد «1» بن هارون الرشيد، وما قدمه أبوه إلا لإرضاء أمه أم جعفر «2» وخؤولته على أنه يكلف أخاه حمل مؤونته، وكان من(24/219)
نوكى «1» القوم، وأولى أهل بيته باللوم، لا يقيل رأيه من عثراته، ولا يجمّ جفنه لمقيل عبراته، فانهمك في اللذات، وانتهك حرمة الملك واللدات، وحفر لأخيه المأمون قليبا «2» وقع فيها قريبا، وكان ذا أيد وقوة، حكي أنه وثب على أسد فصرعه وقرب مصرعه، ولكنه لم يؤيد بحزم يحوط به تدبيره، ويحول بينه وبين ما قضى تدميره، ولكن الله إذا أراد أمرا بلغه، ومن قصد أخاه بسوء دمر الله عليه ودمغه، وكان كريما يهب البدر بالمئين، ولا يسمح أن يمد إلى مائدته يمين، وكان يبخل بالطعام، وينحل في الشح أخلاق الطغام، وكان عنده رغيف الخبز كرغيف الأسد، لا يطاق مهاجمته، ولا يستطاع أن يقتحم أجمته.
وقال علي بن إسحاق: لما أفضت الخلافة إلى الأمين وهدأ الناس، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، وأمر جواريه بأن تهدي إليه غزلان تسيّب فيه، فأهديت له، فقال شاعر من أهل بغداد:
[السريع]
بنى أمين الله ميدانا ... وصيّر الساحة بستانا(24/220)
فكانت الغزلان فيه بأن ... تهدى إليه فيه غزلانا
وذكر محمد بن يحيى النيسابوري قال: لما نعي علي بن عيسى «1» وقتله إلى الأمين [ص 133] وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك [في الأصل:
الضمد، ولم أجد لها معنى] فقال للذي أخبره، ويلك فإن كوثرا قد أصاب سمكتين، وأنا ما صدت شيئا بعد، وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص للقاء جيش المأمون، دخل على الأمين فقال: ليوصني أمير المؤمنين، قال: أوصيك بخصال عدة، إياك والبغي فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلا بعد إنذار، ومهما قدرت عليه باللين فلا تنفذه إلى الشدة، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، ولا تستبقها فيما يتخوف رجوعه علي، وكن لمن تقدمك أخا، ولا تخذله إذا استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة، ثم قال: سل حوائجك وعجل السراح إلى عدوك، فدعا له أحمد بن مزيد وقال: يا أمير المؤمنين، بكر لي في الدعاء ولا تقبل فيّ قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بذنبي، ولا تنقص على ما استجمع من رأي، ومنّ عليّ بالصفح عن ابن أخي عبد الله بن حميد، وكان قد أمره الأمين بالخروج فتشرط فحبسه.
وحكي أنه لما كان محصورا، خرج يوما خادمه كوثر، وكان مضنى به حبا(24/221)
كلفا به غراما، فأصابته جراحة أدمت حر وجهه، ونثرت ورد دمه على ياسمين خده، فقال:
[مجزوء الرمل]
ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناس جرحوه
وكان أبو نواس قد اعتقله الرشيد على كلمة قالها تعرض فيها إلى النقص بقريش، فلما ولي الأمين وكانت لأبي نواس به ذمة قديمة، فقال: [الطويل]
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضّر
ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم ... فيا من رأى درا على الدر ينثر
أبوك الذي لم يملك الناس مثله ... وعمك موسى عدله متخيّر [ص 134]
وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل منصوريك منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عدّ مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهمك في العلى ... وعبد مناف والداك وحمير
فغنت جارية بهذه الأبيات بين يدي الأمين، فقال: لمن هذه الأبيات، فقيل له: لأبي نواس، قال: وما فعل، فقيل له: محبوس، قال: ليس عليه بأس، قال: فبعث إليه رجل من المجلس يعلمه بما قال، وقال:
[الوافر]
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام الساهرون ولم يواسوا
أمين الله قد ملّكت ملكا ... عليك من التقى فيه لباس
كأنّ الخلق في تمثال روح ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن السجن بأس ... وقد أرسلت ليس عليك باس(24/222)
فلما أنشدته قال: صدق والله، عليّ به، فجيء به في الليل، فكسرت أقياده وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشده:
[الخفيف]
مرحبا مرحبا بخير إمام ... صيغ من جوهر الخلافة نحتا
يا شبيه المهدي بذلا وجودا ... وشبيه المنصور هديا وسمتا
ثم كان في صحبته حتى أخذ من السفين، وأودع أحشاء الأرض منه الدفين.
وذكر عمر بن شبة أن أحمد بن محمد الهاشمي حدثه أن لبابة بنت علي بن المهدي قالت حين قتل الأمين وكانت تحته ولم يكن دخل بها ولا ضمها فراش حظي فيه بقربها ووضعت له سجوف نقبها:
[البسيط]
أبكيك لا للنعيم والغرس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
وولد في شوال سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفي في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وعمره سبع وعشرون سنة، ومدته أربع سنين وتسعة أشهر، وقبره ببغداد.
ثم:
61- دولة المأمون
أبي العباس [ص 135] عبد الله «1» بن هارون الرشيد، هو أجمع القوم(24/223)
لفضل، متنوع من العلم والحلم، والكرم والشجاعة والوفاء، والنظم والنثر والآداب، إماما مقدما في كل هذه الفضائل، ومعظما في علوم المتأخرين والأوائل، مع ما طبع الله عليه من كرم الأخلاق، وخصه به من تمام السعادة، ومضاء المهابة، لا يعدله في القوم نظير فيما جمع من المناقب الثاقبة، والخلائق الجميلة، أربى علمه على اليونان، وحلمه على ثهلان، وكرمه على ابن مامة، وشجاعته على فارس النعامة، ووفاؤه على السموأل، وشعره على جرول، ونثره على سحبان، وآدابه على ملوك آل ساسان، وقد صفح عن عمه إبراهيم بن المهدي «1» ، وقد واثبه في خطواته، وابتز الخلافة من لهواته، ولما ظفر به تغمده(24/224)
بحلمه، وتعهده بالعفو على علمه، وعمل في هذا ما لم يسمع مثله قبله ولا بعده، وخلد له ذكرا لا يبلى لديباجة جده، وكذلك عامل أم جعفر بإكرام برّد حرارة حزنها، وخفف حزازة شجنها، حتى سلّ سخيمة صدرها، وحل عقدة الحزن عن فكرها، وألهاها ببره لها عن ابنها، ونهاها نهى حلمه عن تشويش الدموع في جفنها، فأسلاها مصاب ولدها، وأنساها ذهاب قطعة من كبدها، فأخذها في أمره بالمغالطة، واستدرك لها بالمجالسة مهجته الفارطة، فتسلت به سلوة الحزين، وتعوضت ببقاء المأمون عن الأمين، فعاودت مقلتها هجوع الكرى، وقالت: وفي الحي بالميت الذي غيّب في الثرى، وسارت سيره وصارت لا يمل منها مطالعها، ولا يحل بأنه كلما فارقها نظره يراجعها، يصبح حيث أمسى في سطورها المحبرة، وصدورها المجوهرة، ويرود منها روضة أدبية تتحير فيها من مشارق التصنيف حتى الأنوار، ويتحير بها لؤلؤ الطل في حدق النوار، وعهد إلى علي الرضا، وأصارها علوية، ثم عاجله الموت، وما كان في سعادة الناس تمام تلك القضية، إلا أنه أبلى الناس بالمحنة [ص 136] في القول بخلق القرآن، ولم تطهر منها أيامه، ولها قرؤ ولا قرآن، وذلك عن نظر نظره، ورأي نبه على نفسه خطره، ومن أخباره أنه لما خرج من خراسان شيعه حميد الطوسي «1» ، فسار معه فراسخ، فالتفت إليه المأمون وقال: ارجع أنا غانم:(24/225)
[الكامل]
عجبا لقلب متيّم أحبابه ... ساروا وخلف كيف لا يتضرع
ارجع فحسبك ما تبعت ركابنا ... إن المتيم لا محالة يرجع
وشكى اليزيدي «1» إلى المأمون دينا لحقه فقال له ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين إن غرمائي قد أرهقوني، قال:
انظر لنفسك أمرا تنال به نفعا، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك ندماء فيهم من إن حركته نلت به نفعا، قال: أفعل، قال: إذا حضروا إليك مر فلانا الخادم يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها فأرسل إليّ دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت، قال: أفعل، فلما علم اليزيدي بجلوس المأمون مع ندمائه بعث إليه مع خادم رقعة فيها:
[السريع]
يا خير إخواني وأصحابي ... هذا الطفيلي على الباب
فصيّروني واحدا منكم ... أو فأخرجوا لي بعض أترابي
فقرأها المأمون عليهم، فقالوا: ما ينبغي يدخل علينا على هذه الحال، فأرسل إليه المأمون:
دخولك متعذر فاختر لنفسك من أحببت، فقال: ما أريد إلا عبد الله بن(24/226)
طاهر «1» ، فقال له المأمون: قد اختارك فصر إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، أكون شريك الطفيلي، فقال المأمون: ما يمكنني رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج إليه، وإلا فافتد نفسك منه، فقال: عشرة آلاف درهم، قال:
لا تقنعه، فما زال يزيد عشرة عشرة، والمأمون يقول: لا تقنعه، حتى بلغ مائة ألف، فقال له: عجلها، فكتب بها إلى وكيله ووجّه معه رسولا، وأرسل إليه المأمون: اقبض هذه الدراهم في هذه الساعة فهي أصلح لك [ص 137] من منادمته وأنفع لك.
وعن محمد بن عمر الواقدي «2» قال: أوصلت إلى المأمون رقعة أشكو فيها الدين فوقّع عليها: فيك خلتان، الحياء والسخاء، فأما السخاء فهو الذي أخرج ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي قطعك عن إطلاعنا على حالك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فإن كانت فيها بلغة فذاك، وإن يكن غير ذلك، فهذه ثمرة ما جنيت على نفسك، فأنت حدثتني وأنت قاض للرشيد، عن محمد بن(24/227)
إسحاق عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: مفاتيح الرزق بها متوجهة نحو العرش، فينزل الله تعالى على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدي: وكنت قد أنسيت هذا الحديث حتى حدثني به المأمون، فكان أحظى عندي من الصلة.
وألّف سهل بن هارون «1» كتابا يمدح فيه البخل ويذم الكرم، ليظهر قدرته على البلاغة «2» ، ورصع درته في ألطف الصياغة، ثم قدمه إلى المأمون على يد الحسن بن سهل، فوقّع عليه: لقد مدحت ما ذمه الله، وحسّنت ما قبح، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا نوالك عليه قبول قولك فيه.
وقال ظفر: وبلغني أن الرشيد أمر جماعة من العلماء بمبايعة المأمون وهو غلام، ليقتبس من آدابهم وعلومهم، فبات عنده ليلة الحسن بن زياد اللؤلؤي، فبينا هو يحادثه نعس المأمون، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير، فاستيقظ وقال: سويقي ورب الكعبة، يا غلام خذ بيده، وأخرجه، فبلغ ذلك الرشيد فأعجبه، وقال متمثلا:
[الطويل]
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل(24/228)
قال محمد: إنما فعل ذلك المأمون لسوء أدب اللؤلؤي، ووجه الأدب مع الرئيس إذا نام أن يتنحى عنه جلساؤه، فيكونوا بموضع يقرب منه.
قال ابن ظفر: ومما قيل إن الكسائي كان لا يفتح على ولد الرشيد إذا غلطوا، إنما كان ينكس طرفه، فاذا غلط أحدهم نظر إليه، وربما ضرب الأرض [ص 138] بخيزرانة في يده، فإن سدد القاري للصواب مضى، وإلا نظر في المصحف، فافتتح المأمون عليه يوما سورة الصف، فلما قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
«1» ، نظر إليه الكسائي، وتأمل المأمون، فإذا هو مصيب، فمضى في قراءته، ولما انقلب إلى الرشيد، قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت وعدت الكسائي وعدا فإنه يستنجزه، قال: إنه كان استوصلني للقراء فوعدته، فهذا هو الذي قال لك، فقال المأمون: إنه لم يقل لي شيئا، وأخبره بالأمر، فتمثل الرشيد بقول القائل في ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام:
[الطويل]
ورثت أبا بكر أباك ثباته ... وسيرته في ثابت وشمائله
وأنت امرؤ ترجى بخير وإنما ... لكل امرئ ما أورثته أوائله
وقيل: إن الرشيد ناظر يحيى بن خالد فيمن يعهد إليه من ولده أولا، وعلم يحيى ميله إلى زبيدة أم الأمين، وأنه يؤثر هواها، فحطب في حبلها، فأحضر الرشيد الأمين والمأمون وهما صبيان، فأغرى بينهما، فأسرع الأمين إلى المأمون فنال منه، وكان المأمون أحلمهما، ثم إنه أمرهما أن يتصارعا، فوثب الأمين ولزم المأمون مكانه، فقال له الرشيد: ما لك لا تقوم يا عبد الله، أخفت ابن الهاشمية، أما إنه أيّد، فقال المأمون: وهو على ما ذكره أمير المؤمنين، ولكني لم أخفه،(24/229)
وإنما قبض يدي عنه ما قبض لساني حين أسمعني، فقال له الرشيد: فما الذي قبض يدك ولسانك عنه، قال: قول الأموي لبنيه يوصيهم:
[الكامل]
اتقوا الضغائن بينكم وتواصلوا ... عند الأباعد والحضور الشّهد
فصلاح ذات البين طول بقائكم ... ودماؤكم بتقطّع وتفرّد
فلمثل ريب الدهر والكف بينكم ... بتعاطف وترحم وتودد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسوّد منكم وغير مسوّد
إن القداح إذا جمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيّد
عزّت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد [ص 139]
فرقّ الرشيد رقة شديدة، واغرورقت عيناه بالدموع فكفكفها، ثم أقبل على الأمين فقال: يا محمد، ما أنت صانع إن صرف الله إليك أمر هذه الأمة؟
فقال: أكون مهديا يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: إن تفعل فأهل ذاك أنت، ثم أقبل على المأمون فقال: يا عبد الله، ما أنت صانع إن صرف الله إليك أمر هذه الأمة، فابتدرت دموع المأمون، وفطن الرشيد لما أبكاه ولم يملك عينيه، فأرسلهما، وبكى يحيى، فلما قضى من البكاء إربا عاد الرشيد لمسألة المأمون، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال الرشيد: عزمت عليك أن تقول، فقال: إن قدر الله ذلك جعلت الحزن شعارا، والحزم دثارا، واتخذت سيرة أمير المؤمنين مشعرا لا تستحل حرماته، وكتابا لا تبدل كلماته، فأشار الرشيد إلى الأمين والمأمون بالانصراف، ثم ذهبا، ثم أقبل على يحيى وأنشده بيت صخر بن عمرو:
[الطويل]
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان(24/230)
فقال له يحيى: قد هيّأ الله لأمير المؤمنين من أمره رشدا، وكان محبا في لعب الشطرنج، وكان يقول: هو فكري يشحذ الذهن، ولم يكن فيه حاذقا، وكان يقول: أدير أمر الدنيا فأتسع فيه وأضيق في تدبير شبرين في شبرين، وفيه يقول:
[البسيط]
أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين إلفين مخصوصين بالكرم
تذاكرا الحرب فاحتالا لها مثلا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم
وأما خروج عمه إبراهيم بن المهدي عليه، فكان سببه أن المأمون لما أراد أن يصرف الخلافة إلى علي بن موسى الرضا «1» ، وبدّل السواد بالخضرة، نقم عليه بنو أبيه، فلما كان بخراسان خلع أهل بغداد طاعته وبايعوا ابن المهدي، ولقبوه بالمبارك، فلما تمهد له الأمر أساء إلى الجند ومنعهم أرزاقهم، فاضطربوا عليه وخلعوه يوم الجمعة سنة ثلاث ومائتين، وكانت [ص 140] مدته نحو سنة، واختفى، وبلغ المأمون الخبر فأتى بغداد فدخلها يوم السبت سادس عشر صفر سنة أربع ومائتين، ولم يزل ابن المهدي مختفيا إلى أن خرج متنقبا على هيئة امرأة بين امرأتين ليلة السابع عشر من ربيع الآخر سنة عشرة ومائتين، فأخذه(24/231)
الحرس على أنهم عواهر، فأعطاهم خاتما من ذهب فصه ياقوت يساوي مالا عظيما فأنكروا ذلك وحملوه إلى صاحب الشرطة فعرفه، وحمله إلى المأمون فأمر به، فجعل في مكان، فلما كان من الغد أخرج وأظهر للناس على ما أمسك عليه، فقال له المأمون: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، وقد جعلك الله فوق كل ذنب، كما جعل كل ذنب دونك، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، فقال له المأمون: بل نعفو يا إبراهيم، فكبّر، ثم خرّ ساجدا، فلما رفع رأسه أنشده:
[الطويل]
يا خير من وخدت به شدنية ... بعد الرسول لآيس أو طامع
متيقظا حذرا وما يخشى العدى ... يقظان من وسنات يوم الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
نفسي فداؤك أن تضيق معاذري ... والود منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفضائل شيمة ... رفعت ثناءك بالمحل النافع
فبذلت أفضل ما تضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عن من لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكن خاضع
ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع
الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تقودني ... أسبابها إلا بنية راجع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردا إلى حفر المنية هانع [ص 141]
لم أدر أنّ لمثل جرمي غافر ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي
ردّ الحياة عليّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع(24/232)
أحياك من ولّاك أطول مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع
أسمام ما أدلى إليك بحجة ... إلا التضرع من مقر خاضع
كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا ثابت إليّ مطامعي
أسديتها عفوا إليّ هنيئة ... فشكرت مصنعها لأكرم صانع
إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
جمع القلوب إليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع
فلما فرغ منها قال له: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) «1» ، ثم أمر بالخلع فخلعت عليه، وصرف عليه أمواله وضياعه، فأنشده:
[البسيط]
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فبؤت عنك وما كافأتها بيد ... هما حياتان من موت ومن عدم
البرّ منك وطّا العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعدل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به ... فلا عدمناك من عاف ومنتقم
ثم شفعت فيه بوران، فقربه ونادمه، ولم يزل مكرما مبرورا إلى آخر عمره.
وكان سبب موت المأمون أنه كان على نهر البذندون «2» مدليا ساقيه في الماء،(24/233)
قال: ما رأيت أبرد من هذا الماء، ثم ذاقه وقال: ما أطيب طعمه، ثم التفت إلى سعيد بن الصلاف قال: أي شىء يصلح أن يؤكل عليه، قال: أمير المؤمنين أعلم، قال: الرطب الأزاد، قال: أنّى لنا به في بلاد الروم، فما تم كلامه حتى سمع لجم البريد، فالتفت فرأى على أعجازها أحقاب فيها ألطاف، ومنها رطب أزاد، فحمد الله هو ومن كان معه، فما قام أحد ممن أكله إلا محموما، فكان ذلك أول علته، ثم ظهرت له في رقبته نفخة، كانت تعتاده، فأخطأ [ص 141] الطبيب في فتحها قبل النضج فهلك، ويقال إنه لما خرج في تلك الغزاة، صاح في أحد تلك الليالي لغلام اسمه سقير، وقال له: ويلك من يغني، قال: ما يغني أحد، قال: ثم تسمعت فلم أسمع شيئا، فقلت: ما أسمع حسا، قال:
بلى والله إنه كان يغني:
[الوافر]
ألم تعجب لمنزلة ودور ... خلت بين المشقر والحرور
كأنّ بقيّة الآثار فيها ... بقايا الخطّ من قلم الزبور
ثم اعتل في الليلة الثالثة. وحكى ابن المهدي قال: رأيت في منامي كأن جارية من جواري الرشيد، وفي يدها عود، وهي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تنشد:
[الخفيف]
سوف يأتي الرسول من بعد شهر ... بنعيّ الخليفة المأمون
قال: فقلت هذه مفسرة، فجاء نعيه بعد شهر، وولد سنة سبعين ومائة، وتوفي سنة ثمان عشر ومائتين، وعمره ثمان وأربعون سنة وشهور، ومدته عشرون سنة وستة أشهر، وقبره على البذندون بطرسوس من بلاد الروم.(24/234)
ثم:
62- دولة المعتصم بالله
أبي إسحاق محمد «1» بن هارون الرشيد، عهد إليه أخوه المأمون وشهد بأهليته هو والمسلمون، ونطقت أسنة السنة فما كذبت، وصدقت مضارب سيوفه فما نبت، وكان فارسا شجاعا بطلا مناعا، راميا محاميا بصيرا بمواقع الحرب، وترتيب الجيوش، وقتل الأعداء، وحملهم من رماحه على النفوس، وكان كما يوسم اخوه مخيلة عارضه الهتون، وخميلة أرضه الهرون، واستكثر من الغلمان الأتراك، وأحل كبراء هم منه بمكان الاشتراك، حتى حدث بعده منهم ما حدث، وأحدثوا ما لو شعر به لقام لا يواريه حدث، فإنهم فعلوا ما كانوا دون قدره، وقتلوا من بنيه من يلوث بدمه الصباح وهاطراطيشه «2» على شفق فجره، فأما في زمان المعتصم، فإنهم كانوا في مزيد الاستطاعة(24/235)
عبيد [ص 143] الطاعة، إلا أن منهم من قسا ووكل السيف في عقابه لما أسى، ويكفي المعتصم نوبة عمورية «1» ، وما ظهر فيها من عزيمته المصممة، وشكيمته المهيمنة، وأنه لما هتفت باسمه تلك المرأة مرة، هفت إليها طلائع الممرة، وقال:
لا يكشف الغمى إلا ابن حرة، وقاد إليها عسكرا يتشكى الشتاء البارد حره، فأتى عمورية وهو يرى غمرات الموت، ثم يزورها وقاسم أهلها سيوفه، فكانت في عساكره غواشيها، وفيهم صدورها، حتى يسر الله له فتحها، وقدر له منحها، ويقال إنه افتر في يوم شديد البرد من أيامه عليها أربعة آلاف قوس، ورمى على كل قوس منها سهما، وكان يوما يود بياض نهاره لو كان لوقود النار فحما، ولم يكن المعتصم يعاب إلا بأمية فيه، وبأنه عمل في المحنة بوصية أخيه، فأخذ الناس بها، وواخذ من امتنع ودعاهم إليه بالسيف والسوط، وجرى زمانه كله لا يني على هذا الشوط، حتى ألزم بكلمتها، وشوه وجوه أيامه البيض بظلمتها، على أنه لم يكن إذا علم عمل به فاتبعه، وعلم أنه الحق فشرعه، إلا أنه سمع قولا ظنه الصدق فأيده، وتلقى وصيته عن أخيه فعمل بها وقلده، وسئل أحمد بن حنبل «2» فأيده الله بالقول الثابت، وأبلاه بأنواع البلاء وهو بمواجهته بالإنكار لقوله متكلم لا ساكت.
وكان مغرى بالاستكثار من الأتراك، ما مات حتى كمل ثلاثين ألفا منهم، وكان معظما لهم موفرا نصيبهم، حكي أنه أجلس مملوكه أشناس إلى جانبه على كرسي، وتوجه بتاج من ذهب، ووشحه بوشاحي ذهب مرصعين بالجواهر، وطوّقه بطوق ذهب مجوهر بقطع يواقيت أصغرها زنة عشرة مثاقيل، وسؤّره بسواري ذهب، وعقد له ثلاثة ألوية، وحمله على فرس أدهم أغر من مراكيب(24/236)
الخلافة بسرج ثقيل ذهب مرصع بالجوهر واللؤلؤ الثمين، وقاد خلفه سبعة أفراس، وعمل له موكبا يحمل فيه السلاح والعمد والطبرزينات «1» والتراس والخزانة، وغير ذلك من شعار الملوك، وخاطبه بملك الأمراء [ص 144] ، وكذلك صنع ببابك الخرمي في التعظيم والتكريم، حتى اطلع على سوء معتقده، فجعله همّه، حتى أصاره إلى ما صار، وأحله وبعض ما يستحق دار البوار.
وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوما إلى خاقان يعوده، فرأى ابنه الفتح وهو صغير لم يتعد، فمازحه ثم قال: أيما أحسن دارنا أم داركم، فقال الفتح: يا سيدي، دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح أو ينثر عليه مائة ألف درهم، فأحضرت ونثرت عليه.
وحكى علي بن الحسين بن عبد الأعلى: أن عبد الله بن طاهر أهدى إلى المعتصم شهرس «2» ملمع من ذكران خراسان لم يخرج مثلهما، فسأله بغا «3» أن يحمله على أحدهما، فأبى وقال: تخيّر غيرهما ما شئت فخذه، قال: فخرجنا ولم نأخذ شيئا، فلما صرنا بطبرستان «4» عرض له قوم من أهلها، فقالوا له: إن في بعض هذه الغياض سبعا قد استكلب على الناس وأفناهم، فقال: إذا أردت الرحيل غدا كونوا معي حتى أقف على موضعه، فأخذوه في عشرين فارسا من(24/237)
غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، فصاروا به إلى مكانه، وثار السبع في وجهه، فحرك فرسه من بين يديه، وأخذ نشابة من النشابتين فرماه في لبّته، فمرّ السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، قال: وعاد بغا إليه فما اجترأ أحد على النزول إليه، حتى نزل بغا فوجده ميتا، قال: فشبرناه فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبرا، ووجدناه أحص الشعر «1» ، إلا معرفته «2» ، قال:
فكتبنا بخبره إلى المعتصم، فلحقنا جواب كتابنا بحلوان «3» يذكر فيه أنه قد تفاءل بقتل السبع أن يكون من علامات الطف ببابك، ووجه إلى بغا بالشهرس وسبعة أفراس من خاصة مراكيبه بمراكب يقال من الذهب، وسبعة خلع من خاصة خلعه، وخمس مائة ألف درهم صلة له وجزاء على قتله السبع.
قال زنام الزامر «4» : أفاق المعتصم في علته التي مات فيها [ص 145] فركب في الزلال «5» في دجلة، وأنا معه فمر بإزاء منازله، فقال: يا زنام ازمر لي:
[السريع]
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى(24/238)
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لابد للمحزون أن يسلى
قال: فما زلت أزمر هذا الصوت وأكرره، وقد تناول المعتصم منديلا بين يديه، فما زال يبكي وينتحب حتى كاد بدموعه ينتقب، ثم رجع إلى منزله فاحتضر، وجاءه من الموت أمر قد قدر، وجعل يقول: ذهبت الحيلة، ليست حيلة، إلى أن مات لثمان عشرة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين بسامراء، ومدته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومان، ومولده سنة سبع وتسعين ومائة، ولما مات صنع للواثق لحنا وغنى به فيه وهو:
[الوافر]
أبت دار الأحبّة أن تبينا ... أجدك ما رأيت بها معينا
تقطّع حسرة من حبّ ليلى ... نفوس ما أثبن وما جزينا
ثم:
63- دولة الواثق بالله
أبي جعفر هارون «1» بن محمد المعتصم، ولما ولي استمر بعوائد أبيه وعمه(24/239)
المأمون، ولاب على موارد المحنة، ولاث مفارق من خالفه بعصائبه المهينة، واشتد في التحرج بهذا المذهب، والتولج في ظلمة هذا الغيهب، وكان كريما جوادا وله اعتلاء في الأدب واعتناء به، ينسل إليه أهله من كل حدب، وكان له صنعة في الموسيقى، وروي له فيها أعمال تحرك الصخور، وتحرض سامعها على اغتنام أيام السرور، وكان مع هذا مهيبا موقرا في الصدور، موقى بمهابة أمنع من النسور، وكانت له على الأتراك حرمة خطرت على خواطرهم الخطرات، وقصرت لواحظهم تحت سجف العبرات، وكان إذ اذكر لهم تريع بهم أوهامهم وترتعد [ص 146] مفاصلهم فما تقلهم أقدامهم.
وحكى ابن أبي داود «1» عنه كلاما معناه: حضرته وهو قاعد يتنفش، وبيد بعض الغلمان مرآة كأنها درهم في كف مرتعش والغلام يتجلل فرقا، ويتكلل جبينه عرقا، كأنه في عقابيل حمّى، أو في وبيل حمّى سقي به سما، قد نكس إلى الأرض كأنه راعف، أو كأنه ينظر موضع مصرعه وهو واقف، وحكي أنه مات وأكلت السنور عينه، وغلمانه صفوف وقوف على بعد منه، فما منهم من تجاسر أن يتقدم إليه ويكشف خبره، ولا يرفع إليه طرفه ويتحقق نظره.
وعن أبي مالك جرير بن أحمد بن أبي دواد قال: قال الواثق يوما لأبي تضجرا بكثرة حوائجه، يا أحمد، قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك، والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق إيصال الألسن بحلو المدح فيك، قال: يا أبا عبد الله، والله لا يمنعك ما يزيد في عشقك، ويقوي من(24/240)
همتك فينا ولنا، ثم لم يتضجر بعدها بحاجة يعرضها عليه.
وحكي أنه لما ثقل في علته التي مات فيها خيّل إلى الأتراك وقد أغمي عليه أنه قضى، فدنا منه تركي يقال له إيتاخ ليعلم هل مات أم لا، فلما دنا منه فتح عينيه ونظر إلى إيتاخ فرجع القهقرى، فانتشب طرف سيفه بالباب فاندق وسقط إيتاخ على قفاه لما نظره هيبة له، ورعبا لما داخله من النظر إليه، ثم لم يمر على الواثق إلا ساعة حتى مات، فأخذ وجعل في بيت، فما أقام إلا يسيرا فوجد وقد أخرجت الفارة عينه، فسبحان القادر الفعال لما يريد، لا إله إلا هو، ثم كان بموته قوة شوكة الأتراك.
ثم:
64- دولة المتوكّل على الله
أبي الفضل جعفر «1» بن محمد المعتصم، بدأ أمره بكشف المحنة، ودحا مجاري سبيلها، ومحا آية ليلها، وأطلق من ضاقت بهم السجون من المصرّين على إنكارها، والمصرحين [ص 147] بسوء آثارها، ونزه القرآن الكريم، وقال:
إنه منزل غير مخلوق، وصفة من صفات الله القديمة سابقا، غير مسبوق، فأيد(24/241)
الحق ونصره، وسدد إليه رأيه وبصره، إلا أنه كان مزورا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويرمى ببغضه، ويغري من لا خلاق له بحط مقداره وغضه، حتى قيل إنه كان يأمر مخنثا كان عنده اسمه عبادة، أن يصنع له بطنا تشبها بعلي رضي الله عنه، ثم يأمره بأن يرقص ويغني له بما ننزه كتابنا عن ظلمه، وندع قائله وما باء بإثمه، وكان يتمضمض بذكره بكذب يضعه، واختلاق يرفعه الله به، كلما أراد أنه يضعه، حتى قيل إن ابنه المنتصر كان يحرج قلبه هذا الاستهتار، ويقدح عنده نارا طار منها ذلك الشرار، وأنه دخل عليه يوما وذلك الممسخر قد تلبس بهذه الحال، ونمق وقته بزخرف ذلك المحال، والمتوكل قد استغرب ضحكا، واستعذب بذوقه السقيم ما يحكى فنهى الممسخر وزجره، ثم تقدم إلى أبيه ولامه وما عذره، وقال له: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولو لم يكن له ما له من الفضل لكان ابن عمك، وإنما تأكل قطعة من لحمك، ثم وعظه ونهاه ونصحه، لو قبل نصحه، أو وعاه فما صبر إلا ريثما ولى، ثم أمر ذلك الممسخر الطرف الوضيع الساقط، أن يغني ويقول:
[مجزوء الكامل]
غضب الحبيب لابن عمّه ... رأس الفتى في كس أمه
قد قال تأكل لحمه ... فأجبته يا طيب لحمه
وأمره أيضا أن يغني ويقول:
غار الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرّ أمه
فلما قتل المتوكل والفتح بن خاقان، قتل معهما ذلك الساقط الحقير، وعجل بروحه إلى النار وبئس المصير، وكان المتوكل مغرى بالبناء، وأنفق [ص 148] فيه خزائن آبائه، وأسرع فيه دبيب الفناء، فبنى من المنازل قصورا تتضاءل لها المنازل قصورا، ولما أزال المحنة جمع الناس على مذهب مالك بن أنس رحمه الله، وإنما(24/242)
كان في الانحراف عن علي كرم الله وجهه في الغاية التي ما بعدها، وأمر بهدم قبر السيد الحسين بن علي عليهما السلام، وخراب ما حوله من المساكن، وأن تحرث وتزرع، فعمل فيه الناس أشعارا، من أحسن قول بعضهم:
[الكامل]
تالله إن كانت أمية قد جنت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد رماه بنو أبيه بمثلها ... أضحى حسين قبره مهدوما
أسفوا على ألا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما
ولد في (............) «1» وقتل ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالسيوف في مجلس الشراب، باتفاق مع ابنه المنتصر وبغا التركي.
ثم:
65- دولة المنتصر بالله
أبي جعفر محمد «2» بن جعفر المتوكل، انتصر لابن عم نبيه، وانتصب له انتصاب حمي الأنف أبيّه، وانتصف لذي قرابته من أبيه، وأرتعه في وبيل(24/243)
المرعى وبيّه «1» ، وانتضى له سر العهد والعمد، وطوقه بجنيه، وأوطى عليه صوارم الأتراك، ووالى إليه عزائم الإدراك، حتى قتل تلك القتلة، وبرد غيظه، وشفى الغلة، لهذا منّي بالهلك بعده، وما هنّئ بالملك ولا طالت له مدة، فكانت قضيته شبيهة بقضية شيرويه «2» ، كلاهما قتل أباه، فما قبل الملك بملكه وأباه، فما سعى إلى السرير السرير حتى قصرت خطوة أجله، وقصرت سطوة المنايا على عجله، فحقرت كتب التهاني بالتعازي، ووسمت سمة فعله بالمحاسن والمخازي، فمن حمله على أنه غار لله لابن عم رسوله شكره، ومن حمله على أنه غال أباه للملك لم يكفر له ذنوبه المعذرة، ومن يوم مدت الأيدي بالمبايعة إليه قال الناس: هذا لا تزيد أيامه على مدة [ص 149] شيرويه، وكان من غريب الاتفاق أنه بسط في ذلك اليوم بساط، جاءت قدام مقعد المنتصر صورة مصورة، وحولها أسطر مسطرة، فأحضر من قرأ له ذلك الخط وعرّبه، فوجد مضمون أحرفه المكتتبة، هذه صورة شيرويه قتل أباه، فما دامت أيامه، ولا هنّئ بالملك بعده، فتطير المنتصر من ذلك، وتقرر عنده أنه هالك، فلما هلك، عجب الناس من ذلك الوفاق، حتى ظن بعضهم أن هذا وقع بالقصد لا بالاتفاق.
وحكى أحمد بن الخصيب، خرج يوما مسرورا، فقال: إن أمير المؤمنين رأى كأنه صعد درجة، حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة، ثم قيل له قف، هذا آخر عمرك، فتأولها ابن الخصيب الخلافة، وإنما كانت جميع عمره، فعاش بعد(24/244)
ذلك أياما ومات، وحسب عمره فكان قد أكمل خمسا وعشرين سنة حصل له ورم حار فيه البتة من نزلة حادثة، فمات بعد ثلاثة أيام، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وعمره خمسا وعشرين سنة ونصفا، وكان أعين أقنى قصيرا مهيبا، عظيم الجثة من حدوثها، وقيل، وهو الأكثر، إنه وجد حرارة ففصد بمبضع مسموم، فمات، ومن العجب أن الطبيب الذي فصده احتاج إلى الفصد، فأمر تلميذه بفصده، فأخرج له مباضع، وفيها ذلك المبضع المسموم، وقد نسيه، ففصده به فمات، وقيل: بل أصابته علة في رأسه فقطر الطبيب ابن طيفور في أذنه دهنا، فورم رأسه ومات، وقيل: غير هذا، وكان ينشد لما اشتدت به العلة:
[الطويل]
فما فرحت بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
وما كان ما قدمته رأي فلتة ... ولكن بفتياها أشار مشير
ويروى أنه قال لابنه لما أحس بالموت: عالجت فعولجت.
ثم:
66- دولة المستعين بالله
أبي العباس أحمد «1» بن محمد المعتصم [ص 150] ولي بالمشاورة، وبلي(24/245)
بالمساورة، وغالبه المعتز حتى غلبه، وناصبه حتى ابتز منه الملك وسلبه، وكان ألثغ اللسان لا ينعش الألفاظ من عثراتها، ولا ينعم النظر في تجنب معراتها، وكان يجعل الشين ثاء، وزبد كلامه الغث كله زبدا غثاء، وكان من سفلة الخلفاء، لا يصعد به جده هاشم، ولا جده الذي هو لمعاطس الأعداء مرغم ولوجوههم هاشم، لا يطاوعه على الحزم الرأي الرائن «1» والعزم الخائب الحائن «2» ، وكان أردى في هذا من الأمين حالا، وأكدى محالا، واستوزر وزيرا ناسبه في هذه الأحوال، وحاسبه على فعله حالا فحال، حتى انحل سياج دولته، وانفل جيش صولته، وآل أمر المستعين إلى ما آل، ومال إلى سوء رأيه في سوء مآل، وكان مع هذا غير مقبول الصورة، ولا مأمول السورة، إلا أنه لم يخل من مجالس أنس، وندمان ونفس تبادر ببذل المال صرف الزمان، فكان يهب البدر «3» ، ويعد بأمثالها إذا قدر، وكان لا يمل ود الصديق، ولا يميل إلى من وشى به إصغاء التصديق، فكان فيه مما يحمد هاتان الخلتان، والحسنتان الحسنتان، وكان ينظم الشعر، إلا أنه من سقط المتاع، ويجيء به بلا كلفة، إلا أنه مما تجود به الطبيعة، وكان قد بويع بالخلافة يوم الاثنين لست خلون من ربيع(24/246)
الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، ثم بايع الأتراك أخاه المعتز، فأرسل المعز أخاه الموفق، فنزل بغداد وحاصرها، فلم يزل أمر المستعين يضعف، وأمر المعتز يقوى، فبعث إلى المعتز.
يسأله أن يعطيه خمسين ألف دينار، ويقيم حيث شاء، وعلى أن يكون بغا ووصيف اللذين كانا صنيعة له أحدهما على الحجاز وما والاه، والآخر على الجبل وما والاه، ثم خلع سنة اثنتين وخمسين، وأراد أن ينزل البصرة، فقيل: إنها حارة، فقال: أتراها أحر من فقد الخلافة، ثم اختار نزول واسط، فلما صار بقرب سر من رأى، تلقاه سعيد الحاجب، فباتا بها، فأصبح المستعين ميتا [ص 151] ولا أثر به، وقيل غير هذا، فقال جنيد الكاتب المعروف بباذنجانة:
[الكامل]
إيها بني العباس إنّ سبيلكم ... في قتل أعبدكم سبيل ممنع
رقّعتم دنياكم فتمزقت ... بكم الحياة تمزقا لا ترقع
ثم:
67- دولة المعتزّ بالله
أبي عبد الله الزبير «1» بن جعفر المتوكل، وقد أشرنا في ذكر المستعين إلى أن(24/247)
المعتز ناصبه حتى ابتز منه الملك، واهتز له اهتزاز سيف لا يعوقه المسك، ناصبه على الأمر حتى قوم أوده، ونصبه وقدم مدده إليه ونصبه، وجهز إليه أخاه الموفق فكسر، ثم أجهز عليه فنصر بعد حروب أفنيا فيها الأعمار، وبنيا فيها صروحا تسلق عليهما منها الأغمار، لكثرة ما طاح بينهما من جائل مهج، وطاف من حائل رهج، وطيّب المعتز سقام الملك، وشفى وصبه، وكفى عصبه، فاستعاد سلطانه ممن غصبه، واستقاد شيطانه المريد ورجمه بشهب نباله وحصبه، ورجمه فأنفاه، ثم بدا له فشفى غليله، وإن كان قد قطع عصبه، وكان المعتز أحسن خليفة رئي كأن البدر طالع من طوق قبائه، والظبي راتع حول خبائه، برز يوما في ثوب أخضر مذهب، فأشبه غصنا وريقا تلص إليه الأصيل، ولم يذهب، وكان يتعشق يونس بن بغا، وكان مثله في حسنه وحسناه، ونظيره في سنه وسناه، حتى كان يقال إنه ما رأى أحد مثلهما عاشقا ومعشوقا، توافقا جمالا وتناسقا كمالا، وتقارضا شغفا وتقاربا كلفا، فكانا غصنين سمقا، وبدرين اتسقا، وكلف المعتز به حتى كان لا يقدر يصبر عنه لحظة، ولا يضيع مع غيره لفظة، واشتغل به عن كل ما سواه، وجد به وجدا قل من قاربه فيه أو ساواه، وغاب عنه ساعة يرى فيها أمه وهي تموت، فقال: [مجزوء المتقارب]
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح [ص 152]
وإن جئت عذبتني ... بأنك لا تسمح
فأصبحت ما بين ذين ... ولي كبد تجرح
على ذلك يا سيدي ... دنوك لي أصلح
وقد قيل إن اسمه الزبير، وكان يوصف بالحزم والعزم على صغر سنه، فلما(24/248)
ولي الخلافة صغيرا استقل بأعبائها، وكان قد بويع بعده لأخويه المؤيد ثم الموفق، ثم اجتمع الأتراك عليه وطالبوه أن يخلع نفسه، ولم يزالوا يضربونه «1» حتى أجاب إلى الخلع، وكتبوا بذلك كتابا على نفسه، ثم أدخلوه على المهتدي، فقال له أخلعت نفسك، قال: بل خلعت، فوجئ في قفاه حتى سقط، ثم أقيم فقال: خلعت نفسي وسلمت ورضيت، ثم أخرج في الحر حافيا، فطلب نعلا فلم يعطاه، فأرخى سراويله ومشى عليه، ثم عذب بأنواع العذاب، وأدخل حماما وهو عطشان، ثم أخرجوه فطلب ماء فجىء بماء مثلوج فشربه فمات، وذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ومدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر، وكان عمره أربعا وعشرين سنة، وكان أبيض اللون أسود الشعر جميل الصورة.
ثم:
68- دولة المهتدي بالله
أبي عبد الله محمد «2» بن هارون الواثق، وكان كلقبه مهتديا، وبالسلف الصالح مقتديا، وللعفاف تابعا، وبالكفاف قانعا، نحا منحى عمر بن عبد(24/249)
العزيز، وسلك مسلكه الحريز، فما تكثر من الدنيا ولا تكبر بالعليا، وأقبلت عليه الأيام فما اغتر بخداعها، ولا اعتز بمتاعها، ولا أصباه بديع رونقها، ولا سباه صنيع تأنقها، وأخرج ما اكتنز الخلفاء من آنية الذهب والفضة وضربها نقودا، وفرقها حقوقا لا جودا، وأمر بالعدل، ورجع إليه قضاياه، وطبع عليه سجاياه، فلم يوافق صلاحه زمانه الفاسد، ولا نفّق إصلاحه سوقه الكاسد [ص 153] ، ولم يكن من أرباب الدولة إلا منهمك في فساد، ومنسلك في سلك لا يطمئن به الوساد، فكرهوا أيامه، وودوا لو انقضت وأنها لا تكون قد أقبلت حتى مضت، فعابوه بما فعل مما يمدح، وقالوا إنه لا يستصلح، وقد حكى عنه بعض العلماء قال:
حضرت المهتدي يوما من رمضان بعد العصر، وطال مجلسي عنده، فلما أردت القيام قال: قد حانت المغرب وآن فطور الصيام، فهل لك في أن تفطر عندي الليلة، فما وسعني إلا أن أجبت قوله، فلما أذّن المؤذن أجابه، ثم دعا بكوز ماء فشرب منه وسقاني، ثم قمنا إلى الصلاة فأديناها وأعقبناها بركعتي السنة، وذيلناها، ثم قال: يا جارية العشاء، فجاءت بسكرجتين «1» في إحداهما جريش ملح، وفي الأخرى زيت وخل، ومعهما رغيفان، فتقدم وقال: كل ثم قال:
باسم الله، ثم أكل وأكلت، وأنا أظنه شيئا قدمه قبل طعامه، فرفعت يدي، فقال لي: ألست كنت صائما، فقلت: نعم، فقال: أولست تصبح غدا صائما، فقلت: بلى، قال: فما هذا الأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، أوهذا هو طعامك، فقال: نعم، فإن الحلال المحض لا يحتمل أكثر من هذا، فدعوت له وأكلت، ثم انصرفت، وقد استحوذ على قلبي استحواذا، ثم أذنت العشاء الآخرة، فقمنا إلى الصلاة، فصلينا المكتوبة، وما معها، ثم قمنا بالتراويح، فكملناها أجمعها، ثم أخذت مضجعي، ثم بقيت أنتبه الفينة بعد الفينة،(24/250)
فأجده قائما في مكانه يصلي، فوالله ما زال هكذا حتى أصبح.
قال عبد الله بن إبراهيم الإسكافي: حبس المهتدي للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر، وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهما، فقال الرجل للمهتدي: والله ما أنت إلا كما قال القائل: [السريع]
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي عنت الخاسر [ص 154]
فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل، فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
«1» ، قال: فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم، وكان يقول: ألا يستحي بنو العباس أن [لا] يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز، ولما ولي اطرح الملاهي وحرّم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، رحمه الله.
ثم:
69- دولة المعتمد على الله
أبي العباس أحمد «2» بن جعفر المتوكل، وكان أخوه(24/251)
الموفق «1» أبو أحمد طلحة بن المتوكل الملقب بالناصر قائما بأمر الدولة كلها، قائلا في برد ظلها، والمعتمد ليس له من الأمر شىء، كأنه ميت وهو حي قد وطئه الموفق على أم رأسه، وغلب على ملكه وناسه، وغل يده على ما أشغلها به نكل [في الأصل الكلمة غير معجمة ولعلها النكل بمعنى القيد] جواريه وكاسه، وكان هم الموفق جيوشا يجهزها، وممالك يحرزها، وأمور لا يكنزها، وأعمالا ملوكية يرقم بها السير ويطرزها، وهم المعتمد تنميق بناء وتأنيق غناء، وارتياد روضة غناء، واعتقاد كأس مدام وجارية حسناء، ثم ندم المعتمد حيث لا ينفعه الندم، وعلم أن وجوده كالعدم، فبقي يتنفس تنفس المصدور، ويتأوه تأوه المحرور، ويهم بأمر الحزم لو يستطيعه، ويحاول حالا ولا يجد من يطيعه، وكتب سرا إلى ابن طولون وإلى صاحب أفريقية يشكو إليهما حاله مع أخيه، ثم مع ابن أخيه، ويصف لهم سوء حاله وما هو فيه، فهموا بما حالت بينهم وبينه عوارض القدر وشقة البعد، وكان الموفق لا يفك عنه وثاق حجره، ولا يرفع يد قهره، وذكر ابن الأثير عنه، أنه احتاج إلى ثلاث مائة دينار فلم يجدها، فقال: «2»
[الوافر]
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه(24/252)
ويوكل باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شىء في يديه [ص 155]
إليه تحمل الأموال طرا ... ويمنع بعض ما يجنى إليه
قال: وكان آخر من سكن من الخلفاء بسر من رأى، ثم لم يسكنها بعده أحد منهم.
قلت: دام على ما به مدة أيام أخيه الموفق، ثم مات الموفق، وقام ابنه المعتضد، فكان أشد شجى في حلق المعتمد، وما مضت سنة حتى سمّه وكفاهم همّ الدنيا، واكتفى همّه، يقال: إن المعتضد سمّه، وقيل بل أفرغ في حلقه رصاصا مذابا، وقيل: لا، بل ملأ له حفرة من ريش، ورماه فيها، فمات غما.
ثم:
70- دولة المعتضد بالله
أبي العباس أحمد «1» بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، كان أبوه في(24/253)
خلافة المعتمد قد اعتقله لما خافه واعتمده حذرا أن يسابقه إلى الخلافة، وذلك لسعي إسماعيل بن بلبل الوزير بينهما بالنمائم، ووعى قلب الموفق عليه بالسمائم»
، وما شعر أن أمامه منصب الإمامة، وإن الخلافة لا ينبغي خلافه، وأن الملك معصم لا ينزل منه بغير سوار، ومعقل لاعلى منه بلا أسوار، فلبث في الاعتقال مضيقا عليه، في مكان أقصر من طول العقال، وبيض له المعتقل ليبهر نظره البياض، ويخطف بصره بالإيماض، حتى تحيل له مشرف العماير، فلبس سراويل أخضر «2» ، ودخل المعتقل على أنه يتفقد العمارة، فتفقدها، ثم دخل الطهارة فنزع ذلك السراويل وخرج، فلما وجده المعتضد سر به وابتهج، فكان يدعه على عينيه، ويعده بينه وبين الحائط، وينظر إليه، فوجد بحوة «3» لونه حفا لصحوة عينيه، ولم يكن عنده إلا فرد غلام لا يغني في رد كلام، وكان المعتضد يشغل وقته بمصحف يقرأ منه القرآن العظيم، ودعاء يقرع به باب السميع الكريم، ودخل عليه الوزير ابن بلبل يوما، والمعتضد يقرأ، فوضع إلى جانبه المصحف، وأخذ بأنه يخضع للوزير [ص 156] ويتلطف، وكان يدخل عليه ليجد ما ينم به، وينمي أحاديث كذبه، وكان الموفق قد خرج إلى الجبل فزاد خوف المعتضد من غرّة فيه تهتبل، وكان يتخوف دخوله عليه على غفلة، ويشفق لا يكاتب أباه عنه بكذب يعجل نقله، ويجعل نظره إليه نسله، ويخلي به مثله مثلة، فيأمر بقتله ولا يكشفه، ولا يجد من يثنيه عنه ولا يصرفه، قال المعتضد ما معناه: وكان ابن بلبل يجيئني في كل يوم مراعيا خبري، وساعيا في قص أثري، ويظهر أنه يتردد إليّ خدمة يؤديها، وإنما يردد نقمة يردّيها، فلما دخل عليّ ذلك اليوم قال: إيها، أعطني المصحف لأتفاءل لك إن كنت تبلغ مؤملك،(24/254)
فلم أجبه بشىء، ولم أجبه بموافقة ولا لي، فأخذ المصحف وفتحه فكان أول سطر تصفحه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
«1» فاسودّ وجهه واربد حتى كان كالليل أو شبهه، ثم أطبق المصحف وفتحه ثانيا، فخرج منه باديا: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
«2» ، فازداد قلقا واضطرابا واضطر أن يفتح بابا، ثم فتح المصحف ثالثا فوجد عاجلا لا نائيا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«3» ، فوضع المصحف والخوف قد جلله، وألحف ثم قال: أيها الأمير، أنت والله الخليفة بلا شك، فما حق بشارتي وحال قبولك لإشارتي، فقلت: الله الله في دمي، وما عليك ألا تكون السبب في عدمي وأسأل الله أن يبقي أمير المؤمنين، والأمير الناصر الموفق، وما أنا وهذا، ولم أزل به أوثق وأقول: مثلك في عقلك لا يطيق القول بمثل هذا الاتفاق، وأنا أحوج منك إلى غير هذا من الارتفاق فأمسك عني، وقد كان يأخذني منى، ثم ما زال يحادثني ويخرجني من حديث ويدخلني في آخر إلى أن جرى حديث ما بيني وبين أبي، وأنه ربما كان يؤاخذه بسببي، ثم أقبل يحلف بالأيمان الغليظة [ص 157] أنه ما سعى عليّ بمكروه، وأنه ممن لم يحرجوا صدره عليّ، ولم يغروه، فصدقته خوفا أن تزيد وحشته مني فيسرع إلى التدبير في تلفي، وأريته من الود ما لم يكن له في، ثم صار كلما جاء أخذ معي الاعتذار والتنصل، كأنما أبلغه مني الإنذار، وإنما أظهر له التصديق وأبسط معه مباسطة الصديق حتى سكن قلق راحته، وما(24/255)
شك أني أعتقد براءة ساحته، وما كان بأسرع من أن جاء الموفق من الجبل وقد اشتدت به علته، ومات، وأخرجني الغلمان من الحبس وأروني مكانه، وأورثوني سلطانه، وقاد الله الخلافة إليّ، ومكنني من ابن بلبل، فأخذت ثأري بيدي، وكان المعتضد ملكا مهيبا، إذا اغتاظ توقد لهيبا، وبويع بالخلافة وقد تمزقت كل ممزق، وتوزع ملكها وتفرق، وقد صار كل طرف بيد ثائر، وكل إقليم تحقق عليه نبذ كل ملك جائر، واضمحلت الحرمة كأنها لم تكن، وصعبت الأمة كأنها لم تهن، فقام حتى جمع شلوها المبدد، ومنع أديمها المقدد، وكان في الغنية مثل موافقه في الكنية أبي العباس السفاح في تعريض وجهه للكفاح، وكل منهما أقام دولة أبي العباس، وأقاد لها أنف كل ذي باس، وكلاهما كانت خلافته للخلافة العباسية بانية، ذاك أوله وهذا ثانيه، وكانت له على الأتراك وأرباب دولته سطوة تخاف بها أبصارهم أن تختطف، وأعمارهم أن تقتطف، حذرا من ضيغمة المفترش المفترس، وأرقمة المنتهش المنتهس، وعقابه الخطوف الكاسرة، وعقابه الممثل بعذاب الآخرة، فإنه كان أليم العذاب، عقيم العقاب، وكان يدلي عليهم الحرس، ويذكر لهم من أمورهم وبيوتهم ما يلجمهم بالخرس، وما عرف أحد بعد المعتصم أخف منه إلى العدو ركابا، ولا أمد على بلد انسكابا، ولا يحط له سرج، ولا يحل له عن موكب طوق ورهج، وقد حكى ابن ظافر في سياسة الملوك أنه كان لا يبرز إلا مخفا، ولا [ص 158] يستصحب ثقلا ولا خفا، وقرر النوروز «1» ، وأقر عليه رزق الجند المفروز، وتبعه عليه من بعده من الخلفاء ووفوه حسابه، وما قدروا على الوفاء، وكان غاية في الحزم والعزم، حكى شارح العبدونية قال: لم تزل الأتراك مذ مات الواثق يتحكمون عليهم في(24/256)
خلافتهم، يعني تحكم الرجال على صبيانهم، حتى كان أيام المعتضد فغلبهم الغلبة التي يجب أن تكون لمثله على مثلهم وأذلهم وردهم إلى مراتبهم من العبودية، وكان المعتضد مهيبا لا يقدم أحد على أمر من أموره إلا مغرورا، وكان يسمى السفاح الثاني، لأنه جدد ملك بني العباس ووطده بعد أن كانت أخلقته الأتراك، وفي ذلك يقول ابن الرومي: «1»
[الطويل]
هنيئا بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى والجود في ذاك يشهد
كما بأبي العباس أسس ملكهم ... كذا بأبي العباس أيضا يجدد
ولقد اتفق في أيامه أمر فظيع «2» كشفه الله له فعظم في نفوس أتباعه، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتمه ما في نفسه مخافة صولته، وكان أحد كبراء دولته قد بنى بناء عاليا مشرفا على منازل جيرانه، فلم يقدر أحد يعارضه، فأشرف منه فرأى جارية بارعة الجمال، فسأل عنها، فقيل: ابنة تاجر، فخطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوجها من تاجر مثله، فلم يزل يغريه «3» ويأبى، فزوّر كتاب تزويج بشهادة عشرة من المعدلين، ثم أخذها بظاهر الشرع، فتحيّل أبوها حتى دخل في زي فعلة البناء في قصر كان المعتضد قد شرع فيه، فأتاه يوما يشرف عليه، فوقف له وذكر له حاله، فأرسل في طلب الزوج والشهود، وسألهم كيف كان الحال، فما استطاع أحد منهم أن ينكره، فوضع ذلك الزوج في جلد ثور طري، وضرب بالأرازب «4» حتى اختلط لحمه ودمه، ثم أمر به فأفرغ بين يدي(24/257)
نمور عنده، ثم [أمر] بالشهود فصلبوا، وأمر لذلك الرجل بالبيت وبجميع ما تركه زوجها [ص 159] من صامت وناطق، وكان بما لا يحصر.
وحكى ابن ظفر: أن قطر الندى «1» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما زفت إلى المعتضد أغرم بها، فوضع رأسه في حجرها يوما فنام، فأزالته عن فخذها بلطف، ووسدته وخرجت من البيت، فاستيقظ المعتضد فذعر وناداها فأجابته من قرب، فقال لها: أسلمت إليك نفسي فذهبت عني، فقالت: لم أذهب عن أمير المؤمنين، ولم أزل كالئة له، قال: فما أخرجك؟ قالت: إن مما أدبني به أبي أن لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجالسين، فاستحسن ذلك منها.
وحكى صافي الحرمي: أنه لما مات المعتضد كفنه في ثوبين قوهي «2» قيمتها ستة عشر قيراطا وولد، ولما حضرته الوفاة قال، وأراه له:
[الطويل]
تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرّنقا
ولا تأمننّ الدهر إني أمنته ... فلم تبق لي حالا ولم ترع لي حقّا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة خلقا
فلما بلغت النجم عزّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذي في حفرتي عاجلا ألقى «3»(24/258)
فياليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة لله أم ناره ألقى
ثم:
71- دولة المكتفي بالله
أبي محمد علي «1» بن أحمد المعتضد، وكانت له مما أبقى أبوه جيوش تضيق بها جيوب العراق، وتضيع بها هبوب النسيم في الآفاق، خلا أنه كان عقير عقار، وسمير دفوف وأوتار، وأليف ندمان، وحليف إدمان، لا يخلع عنه ثوب عناق، ولا يخدع عن النفاق ساق بساق، لم يؤخذ الملاح من مقلتيه ولا كؤوس الراح من شفتيه، دأبه في هوى، وآدابه في جوى، لا يقصر عن حبّ أغيد وغيداء، وأجيد وجيداء، فلهذا ما عسكر إلى الأعداء رأيا ولا راية [ص 160] ، ولا أثر جنانا ولا جناية، على كثرة الفتوق في جيب ملكه، والانفراط في جيب سلكه، فتسلطت القرامطة، وتبسطت في البلاد بلا رابطة، وصرخت تلك الدعوة في أذان الأنام، وزادت في أذان الإسلام، ثم فعلت تلك الفعلة في الحجر الأسود، وابتزت خاله من وجنة البيت الحرام، مع أنه قاتل القرامطة مرتين، وكرّ عليهم جيشه الحويل كرتين، وعاد بالنصر في كل مرة، لكنه لم يجتثهم، ولا قطع نسلهم وحرثهم.(24/259)
ثم:
72- دولة المقتدر بالله
أبو الفضل جعفر «1» بن أحمد المعتضد، بويع صغيرا، وتوبع أمره وهو غرير «2» ، وكانت أمه هي التي تصدر الأمور، والقهرمانة أم موسى تدبر المعمور، وجلست في دار العدل، وقرئت عليها القصص، وأوقرت الصدور بالغصص، وكان الوزير إذا قيل له في شىء، قال: حتى أراجع السيدات، والتواقيع تخرج إليه عنهن، وأكثرها بالسيئات، فكانت أيامه دولة النساء، ودولة السفلة لا الرؤساء، فكان الناس كأنهم فوضى لا يعرف خليفة، تتبرض له ثمدا ولا حوضا، لا تجد إلا ضياعا، ولا تردّ يد تملكت أرضا ولا ضياعا، أعراض موهوبة، وأعراض منهوبة «3» ، وشكايا «4» مرقوعة، وبلايا موضوعة، وخلائق تتظلم،(24/260)
وخلائف سلف كريم تتألم، وكان المقتدر عقله عقل أمثاله من الصغار لا ينتخي لملكه ولا يغار، مشغولا وراء حجبه، مشغوفا بلعبه، يتشبه في ملكه العقيم بالسوقة، ويتخذ له من جوارية معشوقة، ويقف تحت طاقتها يغمزها، ويترقب لها غفلات رقباء ينتهزها، وربما وقف اليوم الكامل وهي لا تجيبه، ورأى جارية فاختفى كأنه وافى إليه رقيبه، فمرة تصله، ومرة تهجره، وآونة تتعرف به، وآونة تنكره، وتارة تتعذر بزوجها، وتارة يتستر بأوجها، كل هذا شىء افتعله، وظنه لذة له ففعله، وكان ربما ركب حمارا وأردفها وراءه، ومر بسوق عمله في قصره، وأسكنه الجواري وأوطنه كواعب كالدراري، وجعل عندهن أنواع الطعام، ومنهن الخباز والطباخ واللحام [ص 161] والخمار، وعنده الخمارة والمدام، فيقف على الحانوت ويشتري قدر ما يحتاجه من القوت، وكذلك ما يريد من الخمر، فإذا اكتفى حمل الكل في الخرج ومر، ثم ينطلق إلى مكان اتخذه في القصر شبيها بالقرية، ونزل به، وقضى معها يومه كله في أكله وشربه، ثم إما تجئ جارية على أنها عاشق لتلك الجارية الأخرى التي يتعشقها، يريد ما أراده منها، فيقوم يدرأ عنها، فتارة غلب، وتارة يغلب، وتارة تجىء جارية على أنها صاحب الشرطة، فيأخذهما ويذهب، ثم يأمر بالمقتدر بأن يطاف به في شوارع بغداد، فيطاف به في رحاب القصر، وينادى عليه: هذا جزاء من يتظاهر بالمحرمات، في مثل هذا العصر. وكان المقتدر منقطعا إلى أمثال هذا اللعب، ما اجتهد في سواه ولا رغب، ولهذا اختلت حاله مرات، وخلع ثم عاد كرات، لكنه مع هذا اللهو المفرط، واللعب وهو ما بلغه منبسط، ولا لحقه بعده منتهك، ولا سبقه إليه قبله سوقة ولا ملك، كان سعيدا محظوظا، شديدا أدرك من المرام حظوظا، وكان واسع النفقات، شائع الصدقات، ودانت له الآفاق شرقها وغربها، وبعدها وقربها، ولم يبق شىء مما كان في ملك الخلفاء الأول إلا مذعنا لأمره، ممعنا للتأهب لنصره، لا تحمي أطرافها إلا بعسكره، ولا تشمخ أسرّة ملوكها إلا بالخضوع(24/261)
لمنبره.
واتفق في أيامه عجائب وغرائب، منها أنه بعث له من مصر طرائف، منها تيس يحلب منه اللبن، وبعث إليه من عمان طائر صيني أسود يتكلم بالهندية والفارسية أفصح من الببغاء، وورد عليه البريد الدينور يذكر أن بغلة له وضعت فلوة، ونسخة الكتاب: «الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد بآياته بصائر العارفين، الخالق ما يشاء بغير مثال، ذلك الباري المصور، له الأسماء الحسنى، ومما قضاه الله المصور في الأرحام ما يشاء، أن الموكل بخبر التطواف ذكر أن بغلة لرجل يعرف بأبي [ص 162] بردة، وضعت فلوة، ووصف اجتماع الناس لذلك وتعجبهم مما عاينوه، فوجهت من أحضرني الفلوة والبغلة، فوجدتها كميتا، ورأيت الفلوة سرية الخلق، تامة الأعضاء، منسدلة الذنب، يشبه ذنبها أذناب الذئاب، فسبحان الذي لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب» «1» قال شارح القصيدة العبدونية «2» : وقد حكي أنه اتفق مثل هذا سنة خمسين وخمس وأربع مائة بطليطلة «3» ، وكانت البغلة شهباء، كانت لإنسان سقّاء، وفلوها إلى الصفرة. قلت: وحكى لي صهرنا الصاحب شمس الدين محمد بن الشيرازي، أن مثل هذا اتفق في بعض بلاد حلب، وسمى لي المكان وأنسيته، قال: ورأيت ذلك بعيني، وأثبت به محضر على الحاكم، ومما اتفق في زمان المقتدر أنه وجد بمصر كنز قديم ومعه ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا، وعرضه شبر.(24/262)
73- وأمّا خروج عبد الله بن المعتزّ عليه
وكان سببه «1» أنه لما ولي المقتدر، استصغر، فجاء محمد بن داود الوزير فأخرجه من داره إلى دار إبراهيم الماذرائي، ووجهوا إلى القاضي محمد بن يوسف، يوم السبت العشرين من ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، وحضر جماعة العلماء والقواد، فخلعوا المقتدر وبايعوا ابن المعتز إلا بعضهم، ولقب بالمنتصف بالله، المنتصف بالله، فلما أذنت المغرب ضربت الدبادب «2» له، وضربت من قصر المقتدر، واشتغل الوزير بكتب الكتب إلى النواحي، وكاد الأمر أن يتم لو أراده الله، فنقض العزائم وأبطل التدبير، لأن سوسن الحاجب كان قد عاقد ابن المعتز على أن يكون حاجبه ويمكنه من المقتدر، فبلغه في تلك الليلة أن ابن المعتز استخلص يمنا الكيفوني فجاء به، فانتقض سوسن عليه، وأحكم الأمر للمقتدر، فلما أصبح ابن المعتز خرج قاصدا قصر المقتدر، فلما بلغ الحسنى خرج عليه العبيد والرجالة فمنعوهم، وأعانهم العامة، فرجع ابن المعتز إلى داره، وعلم من أين أصيب، ثم أن المقتدر جهز جيشا غريبا في الخيل والرجال، فأحاطوا [ص 163] بدار ابن المعتز، ففر من كان فيها، وبقي ابن المعتز وحده، فتسلل هو ووزيره، وثبت الحسين بن حمدان «3» ، فقاتلهم إلى الظهر، فأصابه سهم، ففر إلى(24/263)
داره، وأخذ منها ما يريد، ثم خرج إلى سر من رأى، وأما ابن المعتز فإنه هرب، وأتى دار ابن الجصاص الجوهري، وكان ممن بايعه، فعرف خادم، فنمّ به، فأخذ وألقي في صهريج ثلج فمات به، وهو ذو الأدب الغض والتشبيه المصيب، ومن بدائعه قوله: «1»
[الطويل]
وجردت من أعمال كلّ مرهف إذا ما ... انتضته الكفّ كاد يسيل
ترى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفس فيه القين وهو صقيل
وقوله: «2»
[البسيط]
ظبي مخلّى من الأحزان ودعني ... ما يعلم اللهف من حزن ومن قلق
كأنه وكأنّ الكأس في يده ... هلال أول شهر غاب في شفق
وقوله: «3»
[المنسرح]
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد(24/264)
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
وقوله: «1»
[المتقارب]
إذا ما طعنا بطون الدنا ... ن سال دم الكرم منهنّ سورا
كأنّ خراطيمها في الزجاج ... خراطيم نحل ينقّين نورا
وقوله: «2»
[الطويل]
ولما تلاقينا وهزت رماحنا ... وجرّد منها كلّ أبيض باتر
رأوا معشرا لا يبصر الموت غيرهم ... فما برحوا إلا برجم الحوافر
ولما بويع ابن المعتز، دخل على أبي جعفر الطبري، فقال له: كيف تركت الناس؟ قال: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ فقال: محمد بن داود الجراح [ص 164] ، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال: الحسن بن المثنى، فأطرق قليلا ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، فقيل له: وكيف؟ قال: لأن كل واحد من هؤلاء متقدم في معناه على أبناء جنسه، والزمان مدبر، والدنيا مولية، وكان هذا على ما قال، ولم يكن في ابن المعتزما يعاب به سوى نقص حظه، وكمال أدبه.
وكان سبب قتل المقتدر بموضع يعرف بالتل، فجعل يوجه نحو باب الشماسية «3» أن يأتيه جنده منها والناس في ذلك يتسللون نحو(24/265)
مؤنس»
، وكان مؤنس قد جاء ليصرفه المقتدر في مهماته، غير أنه من كان يحسبه مؤنسا، أغروه به، وقالوا له: إنما جاء ليقتلك، ولكن غلب عليه عبيده، وكانوا قد غضوا بمؤنس، وقالوا له إما أن تخرج لقتاله، وإلا أخذناك وسلمناك إليه، فخرج وهو مكره، وقد كانت أمه تمنعه، فلما لم ير بدّا من الخروج ودع أمه، وتمثل بقول ابن الرومي: «2»
[الكامل]
طامن حشاك فانّ دهرك موقع ... بك ما تحبّ من الأمور وتكره
وإذا حذرت من الأمور مقدرا ... فهربت منه فنحوه تتوجه
فلما خرج إليه جعل أصحابه يتسللون منه، حتى بقي وحده، فقصده عبد أسود، فضربه على عاتقه، فصاح: ما هذا ويلك، ثم تعاوده حتى قتله بالضرب، ثم أمسك مؤنس قاتله وقتله، إذ لم يكن غرض مؤنس قتله، وإنما غرضه أن يكون صاحب أمره، وإنما المقادير تنفذ أحبّ العبد أم كره. «3»
ثم:
74- دولة القاهر بالله
أبي المنصور محمد «4» بن أحمد المعتضد، كان [لا] يستقل لسانه من(24/266)
عوج، ولا زمانه من هوج، ولم يكن له يوم بويع ما يلبس، حتى ألبسه جعفر بن ورقاء «1» ثيابه، وقدمه للمبايعة، وتقدم، وطفق الناس في المتابعة، وكان أحط رتبة من إخوته [ص 165] وأرفع رتبة في نخوته، لولا طيش لا ترفع معه منار، وتهافت أوقع به من الفراش على النار، قدام مدة خلافته وأيامه سنون، وأحكامه جنون، وتصديقه ظنون، وتحقيقه منون، لا يقف مع تدبير سوس، ولا يتوقف في تدمير نفوس، وكان يتطاول إلى فعل آبائه بهمة خانها الرأى الثاقب، وعزمة أنها لا تفكر بالعواقب، فعاجل أقواما ما كان لو طاولهم، وأكمن لهم حتى استأصلهم، لكنه كان خائر العزيمة، خائف الفوات على أول ما يظفر به من الغنيمة، يورطه عظيم تهوره، وتسلطه على ما يريد سقيم تصوره، فأدى به تفريطه إلى أنه خلع وسمل، ثم الحق بسخط الراضي وشمل، ثم عطف عليه فتعرض لأمر اطّرح به وأهمل، وكان في داره ماله رزق يقيته، ولا رزء يميته، فقام يستعطي في المسجد الجامع، حتى أعطي ما لو أنه الحياة لما أمسكت بها الأرماق، أو الدمع لما بلّت به الآماق.
ثم:(24/267)
75- دولة الرّاضي بالله
أبي العباس محمد «1» بن جعفر المقتدر، وكان مطاعا صؤولا، قطاعا وصولا، وهو آخر من جمع من الخلفاء شعره في ديوان، وجلس لهم جلوسا عاما في إيوان، وقام خطيبا على المنبر، وفعل أفعال من برّ، وحاضر الندماء، وسامره منهم كواكب ثقلها الأرض لا السماء، وكان يتحرى عوائد سلفه في ترتيب الخلائف، وتبويب الوظائف، وكان عارفا بلغة العرب، عاكفا على ما لا حرج فيه من الأرب، مولعا بالأدب، ولوع القشيري «2» بريّا، والمغيري «3» بالثريا، وجميل بن معمر ببثينة، ومصعب بن الزبير بسكينة «4» وله فيه تفنن ينسي به حبيب، وينسج نظرته ما ذكر عن عريب، مما لو يوصف بأكثر منه علي بن جريج، ولا صنف في أحسن منه إسماعيل بن سريج، وكان جوادا طلق اليمين، يهب الآلاف الذهب لا المئين، مع ما أوتي من خلق وصبى، وخلق رضى، وكان الراضي لا يرى بسخط أحد ساخطا [ص 166] ، ولا لضغن بين(24/268)
جنبيه ضاغطا فلا يشوب له نعماء، ولا يزال الراضي راضيا بموهبة من أفاد المعاني لأسماء.
وحكي عن أبي الحسن العروضي مؤدب الراضي أنه قال: غدا عليّ الراضي يوما وفي يده درج، فوضعه، وأقبل على ما كنت وظفته له، فأسرع يحصله، ثم انحاز عني، وأخذ ذلك الدرج يتصفحه، فقلت له: ما درجك أيها الأمير، فقال: حكمة من حكم الفرس مما ترجم لأمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وانتسخته، فقلت: أسمعني ما فيه، فقرأ عليّ أنه لا يضر فساد الملك مع صلاح وزرائه، كما لا ينفع مع فساد وزرائه كبير نفع، وينبغي للملك أن يسوس وزراءه بثقة يكمن فيها احتراس لا يوجد معه حذر، وليس «1» تسوء به هيبته، وليحذر كل الحذر من اختصاص بعضهم دون بعض، وتفضيل بعضهم على بعض، فالوزراء للملك كالطبائع للجسم، صلاح الجسم باعتدال طبائعها وتساويها في القوة، كما أن عطبها في قوة بعضها على بعض. قال العروضي، فقلت: أيها الأمير إنك اليوم غير محتاج إلى هذا وشبهه، فقال: كلا إني إليه لمحتاج، وإن كان عندك علم منه فأفدناه، وإن لم يكن عندك فاستفده لكي تفدناه. قال: فعلمت بذلك سمو همته، وثقوب فطنته.
وحكي عن العروضي أنه قال: أمليت على الراضي في صباه كلاما لقتيبة «2» ، وهو أن قتيبة شاور أصحابه في رجل يؤّمره على جيش أراد أن يبعث به لمحاربة بعض من جاور خراسان من الكفار، فقيل له: هل لك في فلان؟
فقال: ذاك رجل ذو كبر، ومن تكبر أعجب برأيه، ومن أعجب برأيه لم يؤامر نصحاءه، ومن تحلى بالإعجاب، ودبر بالاستبداد، كان مع الصنع بعيدا، ومن(24/269)
الخذلان قريبا، ومن تكبر على عدو احتقره، ومن احتقر عدوه [قل] احتراسه منه، ومن قل احتراسه كثر عثاره، وما رأيت محاربا قط تكبّر على عدوه، إلا كان مخذولا مهزوما مفلولا، لا والله حتى يكون أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من [ص 167] قطاة، وأحذر من عقعق، وأجرأ من أسد، وأوثب [من] فهد، وأحقد من جمل، وأزوغ من ثعلب، وأسخى من ديك، وأشح من صبي، وأخرس من كركي، وألح من كلب، وأصبر من ضب، وأحمل من نمل، فإن النفس إنما تسمح بالعناية على مقدار الحاجة، وإنما نعني بالتحفظ على مقدار الخوف، وقد قيل: على وجه الدهر ليس لمعجب رأي، ولا لمتكبر صديق، ومن أحب أن يحبّ تحبب. قال العروضي: فكتب الراضي ذلك بخطه، وعكف على دراسته حتى حفظه في مجلسه ذلك، فلما حصله ارتاح وطرب، وأقبل عليّ وقال: لعل الزمان أن يبلغ بي إلى أن أتأدب بهذه الآداب.
ثم:
76- دولة المستكفي بالله
أبي القاسم عبد الله «1» بن علي المكتفي بن المعتضد، كان لا يكف ذيله عن فجور، ولا يعف ليله عما لا يصح له ديجور، لا ينفك في غيابة ظلام، ولا(24/270)
ينتقل عن بطن جارية، إلا على ظهر غلام، ولا تزال يده مقرّطة بمنديل، متوجة بكأس، إلا أنها غير سلسبيل، وكان مجلسه معمورا بالقيان مغمورا بالدنان، كأنه حانة نباذ، أو في قطربل «1» لا بغداد، وكان ربما لم يكتف بمن عنده، فيطلب له من نساء المدينة العواهر، ومن أبناء أهلها من يكلفه عمل النساء الفواجر، لا يعرف برا ولا حنثا، ولا يخف محمله عن ذكر ولا أنثى، هذا مع عدم قدرة على حكم ولا سماع لأمره، إلا إذا سمعت الصم البكم، وكان في جميع أموره، كأنه لم يرعه واعظ دين، ولم يردعه من له معتقد به بدين، حتى كان شبّه من بني أمية بالوليد بن يزيد «2» ، وما ينقص عما يريد بل يزيد، وتلاشت في أيامه الخلافة واضمحلت، وانتكثت عقدتها الوثيقة وانحلت، فأصبحت واهية القوى، ضعيفة لا تتماسك من شدة الجوى، أما قمرها فسقط، وأما نجمها فهوى.
ثم:
77- دولة المطيع لله
أبي القاسم «3» الفضل [ص 168] بن جعفر المقتدر، ولم يكن له من الأمر(24/271)
شىء، ولا له فيها ممتد ظل ولا فيّ، لم يكن له من الخلافة إلا رسمها، ولا من الممالك إلا أن يضاف إليه اسمها، قد شبع مما لا يستطيب، وقنع باسمه على سكة نقاش ومنبر خطيب، وكان في الخلافة كأنه سر مخفي، وعلى المنابر اسم شىء غير مرئي، ما فرح بأن ينفذ له أمر وراء بابه، ولا حكم حتى ولا في أسبابه، فما له ذكر خارج حجابه، ولا شىء يتحدث به عند حجابه، قد جعل قصره محبسه، وقيده مجلسه، وأكثر ما يتحصل له من أجل بلاده، مقدار ملء خاصرته من زاده، بل كان في بعض الأوقات ربما راجع من حجر عليه في نزر به يتوسع، ونزر منه يتجرع، فوقتا يعطى، ووقتا يمنع، سوى أنه ما منح في العطاء، ولا فسح له في كثرة الخلطاء، وكان عليه مما يعد ولا يستطيع، ولا يمكنه إلا أن يكون لما يقال له السامع ولما يؤمر به المطيع، إلا أنه طالت مدته وهو على هذه الحال المقضي، والأمر غير المرضي، ولا عير له ولا نكير، ولا توسيع له في مجال الحيلة ولا تفكير، ثم كانت آخرته أن خلع نفسه وولى ابنه، وخلى فكره مما كان فيه، وأخلى ذهنه، ثم ما عاش إلا أياما، وخلف أولاده أيتاما، ونساءه أيامى.
ثم:
78- دولة الطّائع لله
أبي بكر عبد الكريم «1» بن الفضل المطيع، ولم يكمل السنتين، ولم يعمل(24/272)
بأمره إلا فيما وقعت عليه نواظر المقلتين، وكانت دولته بعد دولة أبيه ثانية اثنتين، وهو وأبوه سواء في الحالتين، فما قطع ولا وصل، ولا اتصل به أحد ولا انفصل، وكان يحدث بأساه أنه يهم ثم يحدث له أنه لا يتم، وكان المتبوع التابع، والمطاع الطائع، لا يكلف حمل عبء، ولا يكفل إخراج خبء، بل هو معهم على قدره الكبير كالبعير، كيف ما صرفوه انصرف، ومهما قارفوه به اقترف، إن وقفوه لا يتهمم للحرك، وإن مشوه مشى [ص 169] وإن برّكوه برك، وكان شاهدا كأنه غائب، وزاهدا إلا أنه راغب، ثم خلع وسمل وسجن، ومكث نحو عشرين سنة في داره حيّا قد دفن، إلى أن أتاه الموت المريح، ونقلوه من قبر إلى آخر، من داره إلى الضريح.
ثم:
79- دولة القادر بالله
أبي العباس أحمد «1» بن إسحاق بن جعفر المقتدر، بويع بالمشاورة وأبوه(24/273)
حي، وأومئ إليه بالإشارة وما أقفر حي، وكان لما أجمعت عليه الشورى وحنت إليه الآراء إربا وشورى، قد لبس بالبطائح ثياب طائح، فجهز إليه الشعار الخليفيّ، وأتاه بالسواد في حلية الشباب الفتيّ، ومما بعث إليه من الإرث الأبوي، والأثر النبوي، فلما قدم تلقي بإجلال الخلفاء، وحمالة المواكب بالسادات والشرفاء، حتى إذا دخل القصر من سعة الفضاء إلى ضيق الحصر، وطالت سني ملكه، حتى جاوزت إحدى وأربعين، وتغيرت دول الملوك ولا يجد من على الأرب يعين، فكان كلما أتى آت سلك سبيل من كان قبله من التضييق، وتركه من قبله في قصره المتسع في مضيق، وكان في صباه مقصورا على جوب وهيام، وحور مقصورات في الخيام، له كلف بالجواري والعذارى الهيف، ذات كل ردف ثقيل وخصر لطيف، وله بكؤوس المدام اهتمام، وبكوب السابقين إلى حل الغرام التيام، وبما ينفق من عمره من غير الندام اغتمام، فكان لا يبرح صريع جام ملآن، أو في استجمام لرحيق ريق فلانة أو أم فلان، فما نهضت له قط كلمة، ولا قط بالسيف رأس عدوه ولا قلمه، فكان مدة ولايته لا يضر ولا ينفع، لا ولا يرشح، لأنه يأمر لا ولا أن يشفع، فما كان على شىء كما قال قادرا، ولا وفيا ولا غادرا، ثم مات حتف أنفه، ولا شكر الناس من لينه، ولا شكوا من عنفه «1» .
ثم:
80- دولة القائم بأمر بالله [ص 170]
أبي جعفر عبد الله «2» بن أحمد القادر، ولي بعد أبيه القادر، وعهد زمانه(24/274)
يعد فيه أمور كلها في النادر، ولي مرتين، وسار فيها سيرتين، فأما الأولى:
فكان فيها لصيد وقنص، وأما الثانية فكان فيها لقصيد «1» وقصص، وامتدت أيامه أكثر من أبيه، وكثر فيها تخليط أعدائه ومحبيه، وكان أرضى من أبيه نبا، وأمضى سنا، وأهب صبا، وأشب إلى العلو على صبى، وكانت همته ملوكية، وإن لم يجد سبيلا إلى اقتداح زنادها، ولا رسيلا إلى قراح عهادها «2» ، وكان لا يقنع إلا بما كان عليه أوله، ويقرع باب عزائمه، والأقدار لا تنوله، وكان لا يزال يشم من نفسه دخان أواره، ويظهر على وجهه شعاع ما لم يواره، ويكتم حاله والله مبديه، ويخاف الناس والله أحق أن يخافه ولا يخفيه، وكان ربما ألم بهبة من الطرب ونغبة «3» لا ترويه من ماء العنب، فكان ربما بسطه المدام فتحدث، ونشطه من عقال المداراة فعجل ولم يتلبث، وكانت عليه عيون موكلة بما ترى، ومسامع لا تكذب خبرا، فأغرى به قلب من كان في يديه موقرا كالمرتهن، ولديه موفرا كالممتهن، وأعان عليه حاشية سوء كانوا حوله، وأعوان سيئة لا تطيق قوته ولا حوله، وكان منهم ابن رئيس الرؤساء، وكان عدوا لأرسلان البساسيري «4» ، وهما للخلافة فالا قفي أو سيري، فظفر ابن رئيس الرؤساء(24/275)
بأرسلان البساسيري، وملك فلم يسجح، وأفسد ولم يصلح، وكان الأولى بمثله وهو رب القلم، وذاك رب السيف، أن يعفو إذا قدر، ويصفو إذا كدر، إلى ما هو به جدير، ولا عاقب إلا معاقبة ضعيف لا قدير، فنكل به أشد التنكيل، ومثّل به أقبح التمثيل، وبسط عليه العذاب الأليم، وسلط العقاب على الحريم، وفعل في ذلك فعل من طنخ «1» ونوّخ بعيرا فلم ينخ، فما قنعت تلك الشوكة إلا بخلع الخليفة، والقبض عليه وإرجافه بالخيفة، وتعويقه من سما عليه في دار بالحديثة، [ص 171] وسعت في أعضاء خوله تلك الشوكة الخبيثة، وخطب ببغداد والعراق للمستنصر «2» أبي تميم معد بن الطاهر العبيدي، خليفة مصر، وحمل على أعناق المنابر ثقل ذلك الإصر «3» ، إلى أن تقضّت سنة، وما غمضت مقلا سنة «4» ، ثم انتحى له ملوك المشرق، وردوا زمانه المشرق، ومدوا ظل عصره الموفق، فتوجوا رؤوس المنابر والمرفق وأعيد إلى بغداد وأعلامه تثنّى ارتياحا وترسل للبشرى بين يديها رياحا، فدخل إلى قصره، وتوقل «5» رتبته، وخل في صدرها، وحلّى جيده بدررها، وجل به منصب الخلافة، على ما كان أو أسنا، وجدّ حتى ظفر بأعدائه، وبلغ ما تمنى، وانقرضت في أيامه دولة العجم، وانقضت بغير عود من النصال عجم، فطلع طالع الخلفاء ونجم، وصار مستقلا لو أراد الولوج على الأسد لهجم، أو العروج إلى السحاب لصار وصاب وانسجم،(24/276)
وأما ابن رئيس الرؤساء، فإنه أكل مما طبخ، وأرق بما نفخ، هذا قبل أن يدال القائم، ويدار له الدور على الظالم، لكن البساسيري لم يلج في تقاضي دينه، ولا كفر بهلاكه ريب رينه «1» ، بل قنع بالاقتدار بأنه أظهره، ولبّسه طرطورا «2» وركبه على جمل وأشهره، ثم لما ثبت ملك القائم، عهد إلى ابنه ذخيرة الدين أبي العباس محمد، فعجل الزمان بإنفاق الذخيرة، وقدر بانتقالها إلى الله الخيرة، فأودع القائم ربه من الذخيرة ما كان ذخر، وودع إلى الضريح قلبه وما كان به قد فجر، ورجع البكاء ثم استرجع من ابنه المقتدي لين الذخيرة أشياعه الأخر، وعهد إليه وعقد، لنجم سما، وغيث همى، وبحر زخر.
ثم:
81- دولة المقتدي بأمر بالله
أبي القاسم عبد الله «3» بن محمد الذخيرة بن القائم، وكان تحت كنف بني بويه، كأنه صبي ضرب الحجر عليه، مع ما كان فيه من عقل وسكينة، وفضل يصلح دنياه ودينه، وكان لإفراط التضييق عليه، لا يأخذ لقلبه فضاء، ولا ينفذ حكما ولا قضاء، ثم غضّى على ما تكره عينه، ولم يدر كيف يتقاضى دينه، إلا [ص 172] أنه استروح بمراسلة يوسف بن تاشفين، وبرد حرقه بمكاتباته وما(24/277)
شفين وهيهات، بينهما عرض الأرض، ومر البر، ونحر البحر، وملوك العبيديين بمصر بين بحريهما حاجز، وحائل بينهما لا يزيله عاجز، وإنما كان يعلل نفسه بالمنى، ويؤمل مدد النصر من هنا ومن هنا، فلم تنقطع بينهما المكاتبات، ولا حجبت أرواح الابتداآت والمجاوبات، ولا يرغد عيشنا بعلالتها، ويتملأ ريا ببلالتها، وربما كتب إلى ملوك ما وراء النهر، فعومل الرسول بالرد والنهر، وقيل له: لو قمتم بأمور الدين، وتركتم أباطيل السفه، وأقاويل الشبه، وأخذتم بما تبين لا بما اشتبه، وبما تحتم من الحق أو الخير لما تسلطت عليكم حكام الجائرين، ولا سطت بكم أيدي الحكام المجاورين، لكنكم فعلتم وفعلتم، وعلمتم وحهلتم، وعدّد عليهم قبائح ما ارتكبوا وفضائح ما احتقبوا، وكان المقتدي ممن يرتاح للندى، ويلتاح نجم هدى، وله هدي مأثور، يفاوح أرج المنشور، كأنه بالعنبر نسخ، وبرشاش ماء الورد نفخ، يؤثر الخير ولا يلتقي عليه مساعدا، ويؤثر الجود ولا يخلف عليه مواعدا، ويقارب حال السلف ولا يكون مباعدا، ويقارن هام الغمام ولا يقدم راعدا، وكان أبوه أبو العباس محمد الذخيرة قد مات، كما ذكرنا في زمان أبيه القائم، وتلقى من رضوان ربه تحية القادم، فلم يكن للقائم دأب إلا تأديب المقتدي، وقراءة سير الخلفاء الصالحين عليه، كعمر بن عبد العزيز، والمهتدي، وإعلامه بأحوال الدول، مسيئها ومحسنها، وأمره بتصفحها، والأخذ بأحسنها، حتى كان لو تمكن ناذره، وخاتمة لأول الغيث أو بادره، وقد ذكر ابن الأثير «1» أنه مات فجأة، قال: كان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركياروق ليعلم فيه، فقرأه وتدبره وعلم [بما] فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما لهؤلاء الأشخاص [ص 173] الذين قد دخلوا عليّ بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئا، ورأيته(24/278)
قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية لحقته، فحللت ثوبه فوجدته عليه إمارات الموت، فتماسكت وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، فأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعمرت محال بغداد، وتوفي في [يوم السبت خامس عشر المحرم سنة سبع وثمانين وأربع مائة] «1»
ثم:
82- دولة المستظهر بالله
أبي العباس أحمد «2» بن عبد الله المقتدي، ولم يكن مثل أبيه في تأبّيه، بل كانت له يقظة نبيه، وكان مقبلا على لهوه، مشتملا على زهوه، يميل إلى الخمر، ويميل به سكرا، ويميد بمعطفه، فيسجد ثملا لا شكرا، لا يعرف راحة إلا موصولة براح، ولا اقتداح مسرة إلا بأقداح، فلا يعطل حبب الكؤوس، ولا حبب عقد العجوز العروس، أوقاته كلها طرب وانتشاء، وحرب في كؤوس تدور بها أيدي بدور بكرة وعشاء، وكان ذا حظ من الأدب، وحضّ إليه وندب، وباسمه ألف أبو محمد القاسم بن محمد الحريري كتاب المقامات، بأمر وزيره(24/279)
شرف الدين أبو شروان بن خالد، وكان ابن جهور يقول: إن الذي أشار عليه بها في قوله، فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إنه المستظهر، قال ابن الشريشي: وكان للمستظهر رعية في الطلب، وعناية بأهل العلم، قال: وحدث ابن جهور أنه دخل بغداد في أيامه، وبها ألف وخمس مائة رجل حامل علم، وكلهم قد أثبت أسماءهم السلطان في الديوان، وأجرى على كل واحد من المال بقدر حظه من العلم، قال: وكان ابن جهور يحدث أن الحريري ألف المقامات كلها على الركاب، وذلك أن المستظهر لما أمره بصنعها، خرج كالحافظ على العمال، وكان يخرج في الأبردين، يتشهى [ص 174] في ضفتي دجلة والفرات، يصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه، فلم ينقض فصل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة، فخلص منها خمسين وأتلف الباقي، وصدر الكتاب ورفعه، فبلغ عنده أعلا المراتب، انتهى كلامه.
قلت: وفي أيام المستظهر أخذت الفرنج بيت المقدس وأكثر بلاد الشام، وظهر التهتك بالقبائح وقلة الاحتشام، وفشا أمر الربا وشرب الخمر والزنا، فكثرت الملاهي، وقلت النواهي، وعظمت تلك الدواهي، فعجل لهم العقاب، وعذبوا بأخذ البلاد منهم، وهو أخف العذاب، وكان المستظهر ذا نادرة، كتب إليه الأبيوردي «1» قصة، وكتب على رأسها: الخادم المعاوي، فكشط الميم، فصارت العاوي.
ثم:(24/280)
83- دولة المسترشد بالله
أبي منصور الفضل «1» بن أحمد المستظهر، وكان مع الملوك كشأن الخلفاء قبله، وعلى ما كان عليه من كان مثله، وكان الغالب عليه جمال الدولة سنجر عليه من يحجب ويحجز، والمسترشد يظهر إعراضا في ابتغاء، ويسر حسوا في ارتغاء «2» ، كأنه زند النار، ظاهره حجر، وباطنه أوار، وبقي يتربص بسنجر الدوائر، ويوقد له النوائر، وسنجر لا يقع في حبالته، ولا يلين له جانب حالته، إلى أن قدر لسنجر أجل أجله وأتيح، وألقي في مرط أمله وأطيح، فخفّ عن صدر المسترشد ثقل ذلك الطود، وأمن تحطم ذلك العود، وقام نور الدولة مسعود بن سنجر، ولم يكن المسترشد ممن يتقيه ولا يخافه، ويجد في توقيه، فطمح إلى الوقوف على أمر مملكته، وعمل على موت مسعود وهلكته، ليخلو له الجو، ويتبع الأسد الذاهب بالبو «3»
قال الشريف الغرناطي: فصنع المسترشد دعوة عظيمة لنور الدولة مسعود بن(24/281)
سنجر، ووجوه الدولة، وينوي قتلهم، ففطن لذلك مسعود، فدخل عليه في [ص 175] رجلين من قرابته، وأومى إلى تقبيل يده، فجبذه بها جبذة شديدة ألقاه بها عن السرير إلى الأرض، وألقى عمامته في عنقه، وأراد خنقه، ثم كف عنه وخرج، وفي قلبه منه ما فيه.
قلت: وبقيا على ازورار البغضاء، وانحراف يقلهما على مثل الرمضاء، ثم قتل بعد ذلك بأيدي الباطنية، «1» وأورد أجل المنية، قتل بأرض الأعاجم، ودخل عليه الأجل الهاجم، وكانت قتلته بحي أصفهان القديمة، وثوت بها ركائبه المقيمة، وكان يمنّي نفسه الاستقلال بالخلافة من غير تشريك، ولا مزاحمة تكون لمليك، وكان المسترشد ينشد عند تزايد كربه، وترافد الرجال في حربه:
[الطويل]
أنا الأشقر الموعود بي [في] الملاحم
وكان هكذا أشقر أبيض، كأنّ لؤلؤا على صفحاته ترقص، وأتى نعيه بغداد، فأظلم جوّها لملمّ مماته، وأظل أهلها غم وفاته، وارتجت لمهلكه أكناف العراق، وفاضت دجلة بالدموع التي تراق، ولم يبق بها ناحية، إلا وبها نائحة، ولا جارحة إلا وفيها جارحة، لما فقدت من بعد سوقه، وعدل أمات العدو بخوفه.
وحكى مؤيد الدولة أسامة بن منقذ قال: كان المسترشد يلحق بالصدر الأول من سلفه، في علو الهمة وحسن السيرة والإقدام العظيم، فإنه لما التقى هو وعماد الدين زنكي بن آقسنقر في المصاف بعقرقوب «2» ، وأنا حاضر المصاف، ضرب له(24/282)
خيمة من أطلس أسود «1» ، ووضع له فيها تخت، وجلس عليه، والخيل تطرد فكسر عسكر زنكي في يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمس مائة، فاستولى على ما فيه، وانهزم زنكي إلى الموصل، وذلك الإقدام سبب تلفه، وأنشد القاضي جمال الدين محمد بن واصل للمسترشد:
[الطويل]
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم [ص 176]
ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضي ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي
ثم إن المسترشد حاصر في العشرين من رمضان سنة سبع وعشرين وخمس مائة مدينة الموصل، فقصد باب المسترشد جماعة من الأمراء السلجوقية وخدموه وقوي بهم، واتفق اشتغال السلاطين بالحلف الواقع بينهم، فأرسل المسترشد أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ، إلى جمال الدين زنكي، برسالة فيها خشونة، وزادها أبو الفتوح زيادة في الخية «2» ، ثقة بقوة الخليفة، وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه، ثم دام الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر، فلم يظفر منها بشىء، فعاد إلى بغداد.
وحكى الأمير سديد الدولة أبو محمد بن الأنباري، كاتب الإنشاء، قال:
وقع بين السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، وبين المسترشد خلف، وخرج المسترشد لقتاله مرتين وكسر، فلما مات السلطان محمود، وولي أخوه السلطان مسعود بن محمد، استطال نوابه بالعراق، وعارض الخليفة في خاصه، فوقعت بينهما وحشة، وتجهز المسترشد للخروج، وجدّ في ذلك، فدخل إليه الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وكمال الدين صاحب المخزن، وأنا معهما،(24/283)
وكان المسترشد قد طرد نواب السلطان عن البلاد، ورتب صاحب المخزن للنظر في المظالم، فلما دخلنا قال له الوزير: يا مولانا، في نفس المملوك «1» شىء، فهل يؤذن له في المقال؟ فقال: قل، فقال: إلى أين نمضي وبمن نعتضد، وإلى من نلتجئ، ومقامنا ببغداد أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق ففيه لنا الكفاية، فإن الحسين بن علي عليهما السلام، لما خرج إلى العراق، جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكة، ما اختلف عليه أحد من الناس، فقال لي الخليفة: ما تقول يا كاتب؟ فقلت يا مولانا، الصواب المقام، وليت العراق يبقى لنا، فقال لصاحب المخزن: يا وكيلي، ما تقول؟ فقال ما في نفسي، وأنشد الخليفة قول المتنبي: «2»
[الخفيف] [ص 177]
وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العار أن تموت جبانا
وخرج، وخرجنا معه، فلما قاربنا همذان وقع المصاف بين الخليفة والسلطان مسعود بن محمد، بمكان يسمى داي مرك قرب همذان، فلما اصطفت العساكر فر من معسكرنا جميع الأتراك إلى ناحية السلطان، ثم وقع القتال، فانهزم الخليفة وأرباب المناصب، وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهك قريب قزوين، وبقي الخليفة مع السلطان، وسار معه في بلاد أذربيجان، إلى أن وصلوا إلى مراغة، فهجم على الخليفة ثلاثة نفر من الملاحدة والباطنية، وهو في خيمته، فقتلوه، وقتلوا معه ابن سكينة، وكان يصلي به، وذلك في يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مائة، فلما قتل الخليفة أظهر السلطان مسعود الجزع العظيم والحزن الكثير، ودفن(24/284)
الخليفة بمراغة، ووصل الخبر بذلك إلى العراق، فحزن الناس عليه حزنا عظيما، وبويع بالخلافة ولده الراشد «1» ببغداد، واستقرت خلافته بها.
وذكر الشريف الغرناطي أن المسترشد عهد إلى الراشد حين بلغ، وإنه بلغ لتسع سنين، وإنه لو كان يمكن أعادها سفاحية منصورية. قلت: ثم قدم السلطان مسعود «2» وضرب عنق دبيس بن مزيد صاحب الحلة.
قال ابن الأنباري: لما قتل المسترشد أحضرنا السلطان مسعود وقال: ما التدبير في أمر الخلافة، وبمن ترون؟ فقال الوزير: الخلافة لولي العهد، يعني الراشد، وقد بايعه الناس ببغداد، وجلس واستقر، وبويع له من قبل قتل أبيه بولاية العهد، وبويع له الآن بالخلافة، فقال السلطان: ما لي إلى هذا سبيل أبدا، ولا أقره عليها، فإنه تحدثه نفسه بالخروج مثل أبيه، كان قد خرج على أخي محمود مرتين، وعليّ مرة، وهذه أخرى، فتم عليه ما تم، وبقيت علينا شناعة عظيمة، وسبّة إلى [ص 178] آخر الدهر، فإنه يقال: قتلوا الخليفة وهم كانوا السبب في عود الخلافة إلى هذا البيت، ولا أريد أن يلي الأمر إلا رجل لا يدخل في غير أمور الدين، ولا يجند، ولا يجمع، ولا يخرج عليّ، ولا على أهل بيتي، وفي دار الخلافة جماعة، فاعتمدوا على شيخ منهم صاحب عقل ورأي وتدبير، يلزم نفسه ما يجب من طاعتنا، ولا يخرج من داره. قال ابن الأنباري: وأرسل السلطان مسعود إلى عمه السلطان سنجر بن ملكشاه يستشيره فيمن يولي الخلافة، فأرسل إليه يقول: لا تولي الخلافة إلا من يضمنه الوزير صاحب المخزن، وكاتب الإنشاء، فلما وصل السلطان همذان، اجتمع بنا، وأشار بهارون بن المقتدي، وعرفنا بما أمره به عمه السلطان سنجر، فقال الوزير: إذا كان الأمر(24/285)
يلزمنا فنحن نولي من نريد، وهو الزاهد الدّيّن الذي ليس في الدار مثله، فقال السلطان: من هو؟ فقال: الأمير أبو عبد الله محمد بن المستظهر، فقال:
وتضمن ما يجري منه، فقال الوزير: نعم، وكان الأمير أبو عبد الله صهر الوزير على ابنته، وأنها دخلت يوما الدار في خلافة المستظهر، فرآها الأمير أبو عبد الله فطلب من أبيه تزويجها، فزوجه بها، فدخل بها، وبقيت عنده، ثم توفيت، فقال السلطان: ذلك إليكم، وكتموا الحال لئلا يشتهر الأمر فيقتله الراشد، ثم رحل السلطان والجماعة نحو بغداد، فأما الراشد فإنه لما بويع ببغداد بالخلافة بعد مقتل أبيه المسترشد بالله، أرسل إلى الأمير عماد الدين زنكي آقسنقر يستدعيه ليحدثه، وضمن له أن تكون السلطنة والملك للملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملكشاه الذي عند أتابك، وأن تكون أتابكة السلطنة والخلافة بحكم عماد الدين.
ثم:
84- دولة الرّاشد بالله
أبي جعفر منصور «1» بن الفضل المسترشد، وكان بأبيه يسترشد، وعلى نحو ما قرره يحل ويعقد [ص 179] ويعد وينقد، ووجد لمهلك أبيه مالا قدر بملك(24/286)
ناره، ونسب إلى مسعود بن محمد قتلته، وأنه الذي قرر غيلته، وهو لا يجد سبيلا، ولا يستجد قبيلا، خشية أن يتفطن لمرامه فيعاجل قبل إبرامه، ثم صرفه القدر عما أراد، وأبكى السيف والنجاد، وبويع بعد أبيه المسترشد، وكان لتأبّيه لم ينشد، وضلالته لا تعان بولي مرشد، وضالته لا تعرف لناشد ولا ينشد، فكان يبيت على مثل حسك السعدان، ويتململ كلما حضر الأبردان، وفطنت الملوك لما تتناجى به وساوسه، وتتنادى به ضمائره وهواجسه، وكان طائشا عجولا، يركب معارف وهجولا «1» ، فخافت ابتداره، وخشيت إذا تمكن اقتداره، لأنه أسد أهيج، وأرقم حرك لأمر مريج، فما تمكن ولا تفرغ، لأن يساور ولا يلدغ، بل خلع خلع الرداء، وألقى إلقاء الذراع للأمة الحصداء «2» ، وأثبت عليه محضر بأنه فسق، ولولا الملة لقالوا إنه مرق، وفارق الدين وقطع حبله من حيث رق، وقد تقدم في ترجمة أبيه المسترشد الخبر الغريب في سرعة البلوغ مبالغ الرجال، وما كان من مبايعته بعد مقتل أبيه، وإباء السلاجقة له، لإفراط خوفهم منه، وجرأة الراشد وتسرعه وحدة نفسه، وأهمّ السلاجقة أمره، وجعلوه نصب عينهم، ومن الغرائب أن المسترشد كان أعطاه عدة جواري، فحملت منه جارية حبشية صفراء وهو إذ ذاك ابن تسع سنين، فأنكر المسترشد هذا، ثم أمر بأن يطأ جارية حمّلت قطنا، فوطئها فلما قام عنها أخرج القطن وعليه المني، فأرى المسترشد، ثم أمر بأن يفعل كذلك في جارية أخرى، فكان الأمر كذلك، فحينئذ أيقن ببلوغه، وألحق الولد.
ثم:(24/287)
85- دولة المقتفي بأمر بالله
أبي عبد الله محمد «1» بن أحمد المستظهر، وكان ممن يبطن، خلاف ما يظهر، كان يظهر قبل مصير الخلافة إليه [ص 180] الانقطاع والعبادة، وملازمة السجود والسجادة، مع سوء معتقد وطوية، وقبح عقد ونية، وظلم لا يأمن معه برىء، وتسلط كالأسد الجرىء، لم يكن فيه ثراء للمعتفي، ولا كان لأمر الله المقتفي، بل كان يتخفى ببوائقه ولا يختفي، ويخرج ويشره إلى خارج قصره ولا يكتفي، وهو مع ذلك يصانع ويداري، ويستر العار بالعواري، ولا يظهر له من ريبة ثوبا، ولا ينتظر له بتوبة أوبا، بل هو في دنس لا ينقى، وذنوب لا توقى، وملازمة زخارف لا تبقى، وسماع ملاه لا تلقى، بين ضروب ملاح بريقهنّ يستقى، ولهيب راح لا يصلاها إلا الأشقى، هذا إلى ما فيه من نكوب عن الرشاد، ونكول عما شيّد سلفه وشاد، ولم يكن بعيدا من أبيه المستظهر في مواصلة اللهو ومواقيته، والخمر وترصيع أوانيه بيواقيته، لكنه كان يزيد عليه بأنه كان ظالما عسوفا، حاكما جائرا عنيفا، طالت مدته وثقلت، وقطعت أعمار الخلق حتى انفصلت، هذا كله وعارضه أشيب، وقد آن له على أنه أيّد من عون(24/288)
الدين أبي المظفر يحيى بن هبيرة بوزير لا يصادمه شيئان، رأيه وصارمه، وشتان مواصله ومصارمه، ما قرر مثله أبو مسلم في خراسان، ولا فعل نظيره في الأندلس عبد الرحمن، ولا قام مثله في أول الدولة فتى شيبان، ولا في مملكة الفرس رستم بن دستان، ولا سلك إلا سبيل آصف تبع سليمان، فكان نعم العون، في منع الصون، فقد كان يجهد ولا يعيى، ويميب الأعداء وهو يحيى، فستر عوار المقتفي وواراه، وقدح زناد سعادته وأوراه، حتى وطئ ملوك آل سلجوق، ووطد ملوك الدول ودوّخها، ومحا بصباح رأيه آية ليلها ونسخها، فأعاد إلى رؤوس الدولة العباسية نخوتها وأعزها شيما، وبقية قريش احوتها، ثم لما مات المقتفي، وقام بعده ابنه أبو عبد الله محمد، وتلقب بالمأمون، فما تمت بيعته ولا سالمته المنون، عاش بعده [ص 181] نحو شهر وما كمله، ولا تمّ له منذ ذكر ما أمّله، بل لم يزل الحبل محمولا «1» على غاربه، طرفه بيده والطرف الآخر بيد جاذبه، حتى بويع أخوه المستنجد، ودفع الأمر إلى المنجد.
قال ابن الأنباري: ولما كان يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمس مائة، مضينا مع الوزير ابن طراد الزينبي «2» إلى دار السلطان مسعود بن محمد، ونحن معه، فأخذ السلطان خطوطنا بالضمان، ثم أصبحنا فحضرنا عند الأمير أبي عبد الله محمد بن المستظهر، وشرطنا عليه مطاوعة السلطان على ما(24/289)
ضمناه عليه، فرضي به، ثم مضينا إلى السلطان فأعلمناه بما كان، فأمر بمبايعته، فلما كان من الغد، صعدنا إلى الدار فأخرجنا منها أشياء لآلات الغناء وما لا يليق، وشهد جماعة من أهل الدار أن الراشد كان يشرب الخمر، فأفتى الفقهاء بخلعه، وحكم القضاة بذلك فخلعوه، ودخلت إلى الأمير أبي عبد الله محمد، أنا والوزير وصاحب المخزن، وتحدثنا معه، وناولته رقعة فيها ما يلقب به، فكان فيها: المقتفي لأمر الله، والمستضىء بنور الله، والمستجير بالله، فقال الخليفة:
ذلك إليكم، ثم قال لي الخليفة: ماذا ترى؟ فقلت: المقتفي لأمر الله، فقال:
مبارك، ثم مد يده، فأخذها الوزير وقبلها، وقال: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاده، ثم أخذها صاحب المخزن، وقبلها وبايعه على مثل ذلك، ثم أخذت يده وقبلتها، ثم قلت: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على ما بايعت عليه آباءه وأخاه وابن أخيه في ولاية عهده، ثم قمت من عنده، ودخل الأمراء والقضاة والعلماء وأكابر الناس فبايعوه، ثم حضر السلطان مسعود عنده، وكلمه المقتفي بكلام وعظه فيه، ثم عرفه ما يلزمه من طاعة الخليفة، وأمره بالرفق [ص 182] بالرعية والإحسان إليهم، وخوّفه عاقبة الظلم، فبايعه السلطان، وقبّل يد الخليفة، ورجع إلى دار السلطنة، وأما الراشد فإنه أقام بالموصل مع عماد الدين أتابك زنكي، ثم أرسل زنكي إلى بغداد القاضي كمال الدين محمد بن الشهرزوري، فلما حضر قيل له: بايع أمير المؤمنين، فقال: أمير المؤمنين عندنا بالموصل، وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة، وطال الكلام، ثم عاد إلى مثله، فلما كان الليل، جاءته امرأة عجوز سرا وأبلغته رسالة عن المقتفي مضمونها عتابه، فقال: غدا أخدمه خدمة يظهر أثرها، فلما كان الغد، أحضرت إلى الديوان، وقيل لي في معنى البيعة، فقلت:(24/290)
أنا رجل قاض، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدم، فأحضروا الشهود، وشهدوا عنده بما أوجب خلعه، فقال: هذا قد ثبت، ولكن لابد لنا في هذه الدعوة من نصيب، لأن أمير المؤمنين قد حصلت له خلافة الله في أرضه والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده، فنحن بأي شىء نعود، فرفع الأمر إلى الخليفة، فأمر بأن يقطع عماد الدين زنكي صريفين «1» ودرب هارون، وجرى ملكا وهي من خاص الخليفة، وأن يزاد في ألقابه، وقال: هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون له نصيب من خاص الخليفة، وعاد وقد حصل على جملة صالحة من الأموال والتحف، وكان المقتفي من ذوي الهمم العالية والآراء السديدة، والسياسة الوازعة من رجال بني العباس الأفراد، مكث في الخلافة أربعا وعشرين سنة، بها سبع عشر سنة في مداراة الملوك السلجوقية وسبع سنين وشهورا، مستندا بنفسه مقارعا للسلاطين، قامعا لمردة أولئك الشياطين، مدوخا للبلاد، قامعا للخوارج عليه، وحضر مصافاة عدة، وثبت في حصار بغداد، وكان ذلك شهورا يجري في كل يوم منها مصافاة، وهو رابط الجأش ثابت الجنان، منشرح الصدر، منبسط الأمل، وكان في [ص 183] نفسه قساوة وغلظة، وأيد بوزيره عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، وزره رابع ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمس مائة، وهذا وزير لو كان كالوزراء لذكرته كأحدهم، ولكنه كان أجل، وفعله دليل عليه، وما ذكرته مع الوزراء في الإنصاف لا أسوة لهم للسميّة، ولكنه يعد من عظماء الخلفاء وكبراء الملوك، لعظيم ما فعل، وجليل ما صنع، وهو الوزير الذي أنطق الدولة العباسية(24/291)
بعد الخرس، وأجرى في عودها الماء بعد اليبس:
[الكامل]
ومعرّف الخلفاء أن حظوظهم ... في حيّز الإسراج والإلجام
فورى به زناد المقتفي وشد أزره فيما كان يعتلج في صدره، ويتمناه من علو قدره، ولم يزل يشخت «1» الدولة السلجوقية سحب المبادرة، ويدلف لها في أري النحل سم الأساود، وينبه ولاة الأطراف على ما فرض الله عليهم من نصر الأئمة، ويوقظ مصابيح بصائرهم في كشف ليالي الفتن المدلهمة، وتوبيخهم على ما قنعت به هممهم الدنية، وما نشبهم من الذل والصغار في طاعة السلجوقية، حتى شذب عن دولة العجم من كان ينصرها على الخلفاء، ويفعل في تفريق تلك الجموع، ولا فعل قصير مع الزباء «2» حتى صار كل من كان للسلجوقية على الخلافة عونا، قد أصبح للخلافة على من عاداها عينا، وهو يسلك في ذلك إلا المسالك المرضية، ولا يدعو إلا بالنصائح الوعظية، ولا يحض على نصر كتاب الله وسنة نبيه المثلى، ولا يبعث الهمم إلا لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض «3» ، ولا يرسل سهم قول فيقنع بما دون الغرض إلا لانتهاك محارم الله وتعدي حدوده، ولا ينهى عن منكر إلا محذرا لمرتكبه من عذاب الله ووعيده، ولا ينجح له سعي فينسب النعمة إلى غير الله تعالى، ولا يقوم مقاما فينسب له مع التبرير مقالا ولا [ص 184] فعلا، ولا رئي، ولا سمع برجل ولي عظائم الأمور الدنيوية، والممالك السلطانية،(24/292)
وحزم الجيوش خائضا لغمراتها، معرضا وريده لاستنهاء وطباتها، كان أشد تبريا إلى الله من حول نفسه وقوتها، ولا أكثر اعترافا لفعل الله فيه فيما يصدر بالمباشرة عنه، فما ادعى لنفسه فعلا ولا قولا، ولا اعتقد لها قوة ولا حولا، لكنه يذكر كفاية الله التي جبرت نقصه، وقومت خطاه، وقدمت على المشرفية سطاه ويقول: ما رأيت في هذا الأمر الذي لابسته أنفع من دعاء وجدته في مجموع لابن سمعون، ولا أبلغ من ذكر رأيته في كتاب فضائل الأعمال لابن أبي الدنيا «1» ، ولا كان في قلبي أوثق من ركعات تعلمتها من فلان المجاور بجامع المهدي، وذكره الوزير أبو غالب عبد الواحد بن مسعود الشيباني بهذا وقال:
لقد كان لهذه المحاسن من أفعاله وأقواله هيئة وصنعة، لا تنهض العبارة بأدائها، ولا تؤدي الحكاية جزءا من أجزائها، وللصدق عليها شواهد من جنس ما تسميه الصوفية ذوقا لا يدركه إلا من خالطه، ورأى هديه وسكينته وخضوعه لله واستكانته، وإعزازه بالله في كل مقام تتخاذل فيه القوى، وتنفصم فيه إلا من استمسك بالله العرى:
[الكامل]
وهو مع الله على علاته ... ماض مضاء المشرفيّ الصارم
وقصد السلطان مسعود بن محمد بغداد سنة خمس وأربعين وخمس مائة، وتلقاه ابن هبيرة بالنهروان، وأبلغه سلام الخليفة واستبشاره بمقدمه، وانتظاره لتقدمه، ثم عاد وقد ملأ الصدور بما شاهده أرباب الدولتين من قوة جنانه، وطلاقة لسانه، ومهابته التي ظهرت على السلطان مسعود إعظامها، وهان عليه(24/293)
ملك ممالك أهل بيته ونظامها.
قال أبو الفضل:
[الطويل]
ولما رأى السلطان عزتك التي ... هي السعد أغشاه عن اللحظ نورها
وما زال من فرط المهابة مطرقا ... بعينيه حتى ما يكاد يديرها [ص 185]
ثم باكر إليه ثاني يوم دخوله مهنيا بالاستقرار والإياب الذي قربه القرار، ثم خطب خطبة أبلغ فيها موعظة السلطان وتذكيره بآخرته، وتمثيل مقامه بين يدي الله عز وجل ومساءلته، وعدد ما له فرض الله عليه لخليفته وخليقته، وما طوقه من فخار الملك دون حقيقته، وشرح له المظالم التي تلزمه إثمها، وإن غاب عنه علمها، ويناط به وزرها، وإن خفي عنه أمرها، وختم ذلك بدعاء له بالصلاح والهداية، والنجاح والكفاية، فظن كل من حضر ذلك الموقف أنه لا يسلم من بطشه، ولا يسام من إثارة البلاء له ونبشه، حتى توهم قوم أن موجدته منه سيتعدى إلى الخليفة ضررها، ويستطيل في الدولة شررها، فلما استتم كلامه، رفع السلطان طرفه وقال: (عهدي بعيد بسماع هذا الكلام، وأرجو أن يظهر على بركتك، فلا تقطع عني تذكيرك في كل وقت) ، وانصرف، وأتبعه السلطان بحلل وقماش وخيل ومماليك أتراك، وجارية تركية، فوصلت إليه الهدية وهو جالس في داره، بين سمّار مجلسه وحضاره، وفرقها كلها عليهم، ولم يمسك لنفسه شيئا سوى الجارية، ثم بعث إليه هدية يسيرة لا يكون لبعضها مجازية، وقصد البقش كونخر في أمراء السلجوقية فسأل المقتفي، فخرج إليهم ومعه ابن هبيرة، وبان فيها من هذا الوزير وإقدامه، وزئير ضرغامه، لا صرير أقلامه، ما أقام الهيبة في صدور الأعداء، وحسم الداء بالداء، فإنه خاض تلك الحروب، وتلقى الأسنة بنحره، يرتب الميامن والمياسر، ويبوّئ مقاعد الحرب بين(24/294)
يديه تلك العساكر، شاهرا سيفه بجأش رابط، وعزم ضابط، وطليعة كل نجم صاعد لا هابط، بتدبير صائب، وتدمير على الأعداء لا يرعى صحبة صاحب، وكانت النصرة للخليفة وعساكره، وتردت برد التهاني ببشائره، ونهب عسكر الخليفة مالا يتناوله الحصر ولا يتأوله [ص 186] إلا النصر.
قال الوزير أبو غالب: حتى كان الفرس الجيد يباع ببغداد بدينار، والبغل الجيد بدينارين، فأما الغنم فبلغت كل عشرين شاة بدينار، ودامت بهذا الرخص والكثرة نحو شهرين، ثم عاد الخليفة وقد خشع بصر الأعداء لمهابته، واتسع أمله باعتزازه على العدو وإهانته، ثم في سنة خمس وخمس مائة، وصل سليمان شاه بن محمد شاه إلى خدمة المقتفي، ملتجئا إليه، فأكرمه ووسع ضيافته، وصدق في قبوله بفراسته وعيافته «1» ، ومال الخليفة إلى تمليكه، ولم يكن ذلك من رأي ابن هبيرة، وعاود الخليفة فيه مرارا، وقال: هذا أمر دفع الله عن الخليفة شره، وكشف عنهم ضره، فلا تجدد ما اطمأنت النفوس على تعطيله، وسكنت إلى ما جهدت في تبطيله، فقال الخليفة: هذا قد لجأ إلينا، وسلك غير مذاهب أهل بيته، في الاستكانة والخضوع، ولو أراد جمع عسكرا وفسادا في الأرض لقدر عليه، وحيث قد أتى الأمر من بابه، فلا بد من إجابته، فاستدعي إلى باب الخلافة، وجلس له الخليفة جلوسا عاما في مجلس عظيم، حضره أرباب الدولة والمناصب، والأمراء والخدام والقراء والفقهاء، كلهم متأهبون بالسواد، وجلس الخليفة من وراء شباك، وقام ذلك الجمع بين يديه سماطين طويلين، ووقف الوزير ابن هبيرة على كرسي بين يدي الخليفة، وحضر سليمان شاه، فقبل الأرض ثم عدل به إلى بيت أفيضت عليه الخلع فيه بالطوق والسوارين والتاج والخلع التامة،(24/295)
وقدم له فرس الخليفة بمركبه، وقلد بسيفين، وعقد له لواء ان، وأقيمت له الخطبة على منابر ولاية الخليفة كلها، وبعث بغياث الدنيا والدين قسيم أمير المؤمنين، وعاد إلى دار السلطنة التي بأعلى بغداد، وحمل الخليفة إليه من الثياب والمال، والخيل والبغال، والأعلام والسلاح، ما لا حدّ له، وكذلك حمل إليه الأمراء. وكانت وفاة المقتفي بعلة التراقي، وهو خراج من كتفيه، مكث [ص 187] به خمسة عشر يوما، ومات في يوم الأحد، ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن ثاني يوم، وصلى عليه ابن هبيرة.
ومما يحكى أنه كان قد أخرج عشر حبات أطلس لتطرى من المخزن المقتفوي، فسلمت إلى المطري ولم تثبت في دساتير الديوان، وسهوا عنها، حتى طلبت في السنة التالية، فأحضر المطري وتوعد وهدّد، فاعترف أنه باعها، وجهز بها بنتين له، فكتب إلى المقتفي، فوقع لهم: لا ذنب للذيب حيث افترس، وإنما الذنب للراعي حيث نعس، والذي صرفها المطري في حقه، أحق من أربابها، فيفرج عنه ولا يتعرض إليه، والسلام.
قال ابن واصل: كان المقتفي فاضلا حسن العقيدة، وله شعر حسن، من جملته:
[السريع]
قالت أحبك قلت كاذبة ... غرّي بذا من ليس ينتقد
قالت فمن أدراك قلت لها ... الشيخ ليس يحبه أحد
ثم:(24/296)
86- دولة المستنجد بالله
أبي المظفر يوسف «1» بن عبد الله المقتفي، كان أبوه احتفر أوزارها، واحتقب سلمتها وإزارها، لم يهب أن هجر الفحشاء أوزارها، ولا خاف مهاجمة الأسود أو زارها، تحلى بالعدل ولزمه، وتجلى في الوبل كالازمة، فلم يزل يكفّر سيئات تلك الذنوب، ويغسل أدناس تلك العيوب بالذنوب، إلى أن نسيت القروح، وأسيت الجروح، وتداول الناس شكر المستنجد، وتحدث به المغير والمنجد، فكأنما بعث للأدواء مسيحا، ومن اللأواء «2» مريحا، وللآلاء مميحا، وكان يتأمل القصص ويوقع عليها بيده، لحق يحقه بكلماته، وباطل يبطله بإزالة ظلاماته، يقوم الليل ويحييه بتهجده، ولا ينتقل إلا من موضع سريره إى مسجده، لا يعدو يمينه، ولا يعد ما ملكت يمينه مع اقتصار، وقصر طمع واختصار، لا يطلب الدنيا إلا لبذلها [ص 187] ، ولا يجمع الأموال إلا لتشتيت شملها، وهو في هذا كله بقدر محدود، وظل لا ينقبض ولا ممدود، بل لا يأخذ شيئا إلا من حلّه، ولا يصرفه إلا في أهله، لا جرم أنه ضرب به المثل الشرود، وسحب له أمثل البرود، مع أنه استفاد من عدوه وانتقم، وشرب دمه والتقم، إلا أنه كان يغلب حلمه على غضبه، وجده على لعبه، فلهذا قيل إنه فريد وقته، ولم يمثل بعد سمت ذي وقار إلا بسمته، بويع يوم موت أبيه، فقبض على(24/297)
جماعة من أهل الظلم، وأسقط ما استجد من المكوس، وأذهب لسعود أيامه النحوس، وكان المستنجد قد نشأ مع الأتراك وتكلم بلغتهم، ولعب معهم الصوالجة، وبعد خلافته بشهرين اصطدم في الميدان هو وقائماز الأرجواني أمير الحاج، فوقع قائماز وفرسه ميتين، وتوفي ابن هبيرة سنة ستين بالفالج، واستولى عضد الدين أبو الفرج بن المظفر بن رئيس الرؤساء بعده على الدولة، وأجرى على إقطاعه، وكان مائة ألف دينار، وتوفي على فراشه يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مائة، قيل مات على فراشه، وقيل إن بعض من كان أحفظهم من الأمراء بإمساك من كان أمسك من أصحابهم لتمهد دولته وتسلط ابن البلدي في ظلم الناس، راقبوا المستنجد حتى مرض، فهجموا عليه، وحملوه بفراشه إلى حمام وأغلقوها عليه وأوقدوها، فمات، ثم أخذ ابن البلدي ومثّل به، وألقيت جثته في دجلة.
ثم:
87- دولة المستضىء بأمر بالله
أبي محمد الحسن «1» بن يوسف المستنجد، دولة أضاءت الأيام بإشراقها، وصحت الدنيا بأفراقها، وانجابت الظلماء لدعوتها، وأجابت مصر وجميع(24/298)
الأمصار لدعوتها، وقومت عوج اليماني، وأقامت ميل الرديني، وغزت الأعداء بغير كتائب، وركبت إلى الهيجاء سوى الجنائب، وعاجت على الديار لإبلاء صدور الركائب، وما قنعت هممها بالشرق وممالكه الفساح [ص 189] والعراق وسكانه الفصاح، وما في بلاده من جنوب وشمال، واتساع ما فيه من كور أعمال وعمال، وما حواه البحران، ودنا دونه النهران، حتى استعاد بالتقدمات النورية إخذته، واسترد ذخيرته وخيرته، وفتح مصر واسترجع منها ما كان في أيدي العبيديين، ونسخ بالدين المحمدي ذلك الدين، وغلب منها على ما لاوت عليه الدهور، حتى فنيت مددها، وبليت على الجدين جددها، وقهر الخليفة السوء وزراؤه، ورزي بملكه، وسر الناس إرزاؤه، وكان صلاح الدين إذ ذاك الوزير، وحل في لبدته أسد مزير، فخلا القصر من شياطينه، وبدل رعاعه بسلاطينه، وغلب الدست لانحصار شاته بفرازينه «1» ، وظهور الحق على تسويل إبليسه وتزيينه، وذهبت تلك الدولة ببقايا السقم وقد أضنت، وبلايا النقم وقد عنت، وانتقم الله ممن جاذبه رداء كبريائه، وخلص الخلاص الهاشمي من وضر أدعيائه، ورميت عن سلافة العصر حثالة ذلك العصر، وطفئت لأهل القصر نار ترمي بشرر كالقصر، وتجردت العزيمة النورية لكشف لمم يلمها، وكشط غمائم غمّها عار، فأزالت عنها غمّ ذلك النسب حتى كفت الدولة العباسية أمرهما، ونفت ما نسب من الدناءة إلى ابن عمها، فأزالت عنها عار ذلك النسب المدخول، والحسب المعروف المجهول، وأصبحت مصر في حلل الشعار العباسي ترفل إلى أقاصيها، وتخطر في حلية الشباب ما شاب من لمم نواصيها، ثم شرع التصميم الصلاحي في بلاد الفرنج، وسرة فم قوسه لاكل بلادهم، واستعد منجل سيفه لحصادهم، وتنازل رمحه لحمل رؤوسهم لا أجسادهم، وتحطمت(24/299)
قروم مجانيقه لدك أطوادهم، ولو كان هذا موضع استقصائه لأتينا العجائب في قصّه، وبيّنا على الهلال مقدار زيادتها ونقصه، وبويع المستضىء بالله ثاني يوم موت أبيه، واستوزر عضد الدين بن رئيس الرؤساء بعد عظائم جرت بسببه، ثم أراد عضد الدين الحج فقفز عليه شيخ متصوف [190] فقتله، وقفز آخر على صاحب الباب فقتله، وقتل ابن عضد الدين بيده قاتل أبيه، وفي سنة سبع وتسعين أتته البشرى بقطع خطبة العاضد العبيدي بمصر، وإقامة الخطبة له، ومات المستضىء في أواخر شوال سنة خمس وسبعين وخمس مائة.
ثم:
88- دولة النّاصر لدين الله
أبي العباس أحمد «1» بن الحسن المستضىء، وهو الذي شد الخلافة وقوّاها، وعدّل الدولة وسوّاها، وتداركها وهي رمق فأنعشها، ولحقها وهي دفين فنبشها، وخاشن الملوك ونابذهم في الحفاظ، وواخذهم حتى بالألفاظ، وناقشهم(24/300)
في لقب، ونافسهم وما ارتقب، وأظهر قوة من ضعف، ورسم خلافه كأنه لم يعف، وكان قد أخذ الناس بالأرصاد، وتعمد أخبارهم بالاقتصاد، فكان يكاد لا يخفى عليه بواطن أمورهم، وما يخفى بحيطان دورهم، ثم يحدثهم بها كأنه يكاشف، أو كأنه بخبايا أسرارهم عارف، لكنه كان طامح النظر إلى الحريم، لا تقنعه ظباء الحريم، ولا يرده حور الخلدان بحور في بغداد حور، وولد مع تشيع، إلا أنه ليس برفض وتسبّع، لو خلي لأكل الأرض، وكان بادي الرأي، له في كل يوم عزل وولاية، وبه عزّ وذل إلى غاية، وعهد إلى ولده الظاهر أبي نصر محمد، ثم عزله، ورفع اسمه على المنابر، ثم أنزله، وكان السبب في هذه، تميزه عليه خلقا وخلقا، وعلما وعدلا ورفقا، وبأسا صارع به بحضرة أبيه الجاموس، وضارع لو شاء الليث العبوس، كان قد خرج الناصر وهو معه إلى البطائح، فرأى جاموسا عصّب رأسه الهوى وهو طائح، وقد أوى إلى بطيحة اشتبك شجرها، واحتبك ماؤها ومحجرها، فقال لا يعرض أحد إلى هذا الجاموس، فإنه لا يخلو من بادرة وبوس، وكان جاموسا قد تأسد، لو عاث لأفسد، فنزل إليه الظاهر غير مكترث، وأبرم له عزما، غير منتكث، فلما رآه [ص 191] الجاموس، صوّب إليه روقيه، وطأطأ ينطحه بقرنيه، فجرد الظاهر سيفه وتقدم إليه، وضربه ضربة قطع بها عنقه إلى ظلفيه، فحقدها عليه الناصر ونقمها، وأراده بها، ودفع الله نقمها، مع ما كان يؤثره الناصر من تقديم ابنه الثاني عليّ عليه، والله يؤخره ويهيئ الأمر للظاهر ويدخره، ومع هذا فما قدر الناصر على شىء أكثر من أنه عزله عن ولاية العهد وصرفه، ثم أحوجه الله إليه فولاه وصرفه، ثم تذكر بقية حال الناصر تفنّى وتفقه في هذا وأفتى، ووضع ترتيب الرفاق، ورضع معهم كؤوس الوفاق، ولبّس السراويل ولبّسه لأهل ذلك الجيل، ورمى البندق وبرز له، واختط الخطة ورمى الوجهين، ووضع له في أحكامه المقترح، واستباح في تشريعه ما لم يبح، وادعى(24/301)
في الرمي وادعي له، وسلك مدة في هذا سبيله، لا يخلي الطير حينا من الحين، ولا يزال قسي بندقه ينظرها طائرة في السماء، فيصيبها بالعين، قد جعل الجلاهق «1» حد سلاحيه، لا يدع الصباح والعشاء من اغتباق راحيه، لا يريح الرفاق من رواحيه، ولا طائرا يطير بجناحيه، وقصد السرداب «2» المعد عليه النوبة للمنتظر، ووقف عليه ونادى لو أسمع، وقال: أنا ابن عمك بغير مدفع، ودينك ديني، وما بعد اقتداري في الأرض وتمكيني، فهذا أوان ظهورك، فاخرج فأنا القائم بأمورك، فلما لم يجب، ولا قام من غير قلبه بما وجب، علم بطلان ما كان يخيل له من خرافات تلك المخاريق، وضلالات ما خرج به عن الطريق، فترك سوء ذلك التشيع، وتقلل من التكثر في التروي بها والتشيع، ثم ما كان إلا متسننا، وفي مذاهب أهله متفننا، ومات ولده عليّ، ووجد عليه وجدا كاد يذهب بحبله، وينتزع من صدره سويداء قلبه، وأعاد الظاهر إلى ولاية عهده، وقدم من صهوة المنبر ما لا يصلح إلا للبده، بويع يوم موت، ونثرت الدنانير والدراهم يوم [ص 192] بيعته، ومدحه الشعراء، فممن أجاد ابن التعاويذي بقوله:
[الحفيف]
ورأى الغانيات شيبي فأعرضن ... وقلن الشباب خير لباس
كيف لا يفضل السواد وقد أضحى ... شعارا على بني العباس
أمناء الله الكرام وأهل الجود ... والعلم والتقى والباس
ولقد رتبت الخلافة منهم ... بإمام الهدى أبي العباس(24/302)
ملك جلّ قدسه عن مثال ... وتعالت آلاؤها عن قياس
يا لها بيعة أجدت من الإسلا ... م بالي رسومه الأدراس
ولي الله أمرها فله المنّ ... ة فيها عليه لا للناس
ثم أخذ أمره بالحزم، إلا أنه كان له اختلاط بالعوام، لبس الفتوة من عبد الجبار مقدم الفتيان، وله رفاق، كان متدينا صالحا، وبنى له صومعة بباب كلواذى «1» ، ومضى قاصدا الحج، فدرج «2» ، ودفن في المعلّا «3» ، ورمى الناصر البندق وخالط قدماه، ووضع في أيامه: المقترح «4» في تشريع الرمي والرماة، وكان الناصر بصيرا بالأدب، له اليد الطولى إن نظم أو كتب، كتب إليه سعد الدين بن شبيب صاحب المخزن، يذكر حال مجد الدين ابن الصاحب، قبل أن ينقم عليه، وقال: إنه صبي يجهل الأمور لعدم خبرته بها، والدول تحتاج إلى الشيخ الحول القلب وما يناسب هذا المعنى، فوقع الناصر عليها:
[المديد]
كم بذي الدوح أثلة من قضيب
ثم أوقع بعد ذلك بابن الصاحب، ثم استوزر جلال الدين بن يونس، وخلع عليه، ومشت القضاة وأرباب الدولة في خدمته، وكتب إليه...... «5»(24/303)
الأنصاري: إن المملوك قديما ولي أمير المؤمنين، وقد تاب على يد ابن الجوزي، وترك الخدمة، فوقع عليها: (ما يصلح للمولى على العبد حرام) وكتب إليه رجل يسأل المساواة بابن ساوا، فوقع عليه: (ابن ساوا لا يساوى) ، ثم إنه نقم عليه، وقتله شر قتلة، وكتب إليه عن السلطان [ص 193] صلاح الدين:
[المديد]
الفتى في لظى فإن أحرقتني ... فتيقن أن لست بالياقوت
كل من جاءك يدّعي النسج لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
فكتب جوابه:
[المديد]
نسج داود لم يفد صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في حومة النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت «1»
واستبصر في بعض أوقاته بمن أجابه إلى موعد أخلفه في ميقاته، فكتب إليه بيتي أسامة بن منقذ:
[الكامل]
ومماذق رجع النداء جوابه ... فاذا عرا خطب فأقعد من دعي «2»
مثل الصدى يخفى عليّ مكانه ... أبدا ويملأ بالإجابة مسمعي
وقد ذكره ابن واصل قال: كان الناصر عظيم الهيبة، عالي الهمّة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا لا يفوته أمر مما يجري في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام، وكان له أصحاب أخبار يطالعونه بما يحدث من الأمور في كل صقع،(24/304)
فخافه الناس خوفا شديدا وهابوه، وكان الإنسان في العراق، لا يجسر أن يجري في بيته وخلوته ما يخاف الإنكار عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به، أن ينقل خبره إلى الخليفة، وفتح في أيامه فتوحات كثيرة، واتسع ملكه جدا، واستولى على خوزستان والجبل، وفتح كثيرا من بلاد العجم، وقامت للدولة العباسية حشمة لم يكن مثلها موجودا إلا في الزمن القديم قبل استيلاء الملوك على العراق، لكن الفقهاء أهينوا في زمانه، إهانة بالغة، لاستظهار الشيعة به عليهم، فقال صاحب المخزن:
[الكامل]
أحبابنا نوب الزمان كثيرة ... وأمرّ منها رفعة السفهاء
هل يستفيق الدهر من سكراته ... وأرى التهوّد بذلة الفقهاء
وفي جمادى سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة، حكم أهل النجامة أنه يكون هواء [ص 194] عظيم يهلك أكثر الناس فيه، وترمى الجدران، لاقتران الكواكب في برج الميزان، فدخل للناس منه رعب عظيم، واستعد بعض الملوك لعمل سراديب تحت الأرض، وأعد فيه الأقوات والعطر لأجل وخم الهواء، فقضى الله بأن الهواء انقطع تلك الليالي البتة، حتى إن ضوء الشمع ما كان يميل، فقال ابن المعلم شعرا منه:
[البسيط]
قل لأبي الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب
وما جرت زعزع كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب
يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب
فارم بتقويمك فالاصطر ... لاب خير من صفره الخشب(24/305)
ثم:
89- دولة الظّاهر بأمر الله
أبي نصر محمد «1» بن أحمد الناصر، وتقدم له في ذكر أبيه أرج لا يركد نسيمه، وتحرك روض لا يمل شميمه، ووصف طود لا يرقى صاعده، وبحر لا يتعب وارده، وسحاب لا يعيى رائده، ومقسط يأتي يوم القيامة على منبر من نور، ومنصف لو أبهم عليه وجه الحق، لشق عن سنا فجره قلب الديجور، كان إمام عدل، وغمام وبل، وقيم دين، وضيغم عرين، وكافلا بإزالة كل شنيعة، وكاسرا لصولة بدع الشيعة، وكل شيعة، كشف على تمويهات المذاهب ونقب، وأتي على ما أخّر أبوه من رقيق غيمها وعقب، برأي رام لا تخطئ صوائبه، وذكاء فطن لا تلتبس مذاهبه، وكان لله منه جانب لا يضيعه، وسر كالمسك يجتهد في كتمانه فيذيعه، وقد أومينا بطرف الإشارة إلى ما كان من مصارعته بحضور أبيه الجاموس، حتى أكمن له هذا في قلب أبيه غلّا من الحقد، وأمكن لأجله من ساقه قيدا كالخلخال، ومن عنقه كالعقد، مع ما كان في نفس أبيه من تقديم أخيه عليّ على هواه، ومباينته [ص 195] في المعتقد، لما طواه،(24/306)
لأن الظاهر كان على خلاف الباطن من عقيدة أبيه، كان كل منهما في طرف لا يخادع فيما عرف، فأما الابن فاستقام على الطريقة، وأما أبوه فانحرف، فأمسكه وكبّله بالحديد، وثقفه وألقى عن عاتقه نجاد ولاية العهد، ونزع مطرفه، ثم لما مات أخوه عليّ، وأقفر بيت أبيه من ولد له يلي، وارجحنّ عقله الذاهب، وكان أثرا لمصائب، كأنه قد كان بلي بذهاب لبه، وأصيب بكل عقله، لا ببعض قلبه، أعاد تقليد ولده الظاهر ولاية العهد، وأعد له المنبر كمينة النهد هىء له، والسرير ما لم يكن إلا له، من حين فارق حجور المراضع، وقاطع ذروة المهد، وخطب له ببغداد، ثم صار إلى الأمصار، وضرب اسمه على السلك، وأنار وجه الدرهم والدينار، وهو مع هذا كله مرتهن عند أبيه في التعويق، مثقّف في الحديد بالقيد الوثيق، موكلا به في دار ترك عنده جارية، ورتب له فيها كفاية جارية، قد أيقظ عليه عيونالا تهجع، حتى توقظ أخرى، ورقيا لا تغفل شفقا ولا فجرا، حتى شاء الله أن يشق صدفته عن درتها، وتتصدع صخرته عن زبرتها، وتنفرج أفنان غابته عن قسورتها، وتتمحّص مدرة أرضه ليخرج مدرتها، فمات أبوه ورغم معطس من كان يأباه، يريد أن لا يكون أخوه، وخرج من معتقله خروج الأسد من وجاره «1» ، والكوكب الدري من حجب أفوله، والبدر التمام من خدور سراره، وانتضى انتضاء المشرفي المرهف، وخلص من السقيف خلوص السمهري المثقف، وأصفقت الأيدي على مبايعته بالإمامة، ورقى ذروة المنبر وعليه لواء الكرامة، وهيّأ الله له ما أراده من الخير، وأحسن له الحسنى، وأحل الغير بالغير، وأعادها عمرية ليس فيها جناح، وقمرية خدم فيها البدر من العشاء إلى الصباح، ولم يكن في حظ زمانه أن تدوم وأن تتم، وعدله قمرها المنبر، وعيون أخباره النجوم، فكنت [ص 196] لا ترى في مدته إلا سنّة(24/307)
وكتابا، وإماما ومحرابا، وسيئة محيت وبدلت ثوابا، وعدلا فتح له بابا، وظلما سد له بابا، وقائلا يهدي وقائلا «1» كان في حر الهجير أطل عليه ندى، ورفقا أرأف بالأمة من الوالدات على الفطيم، ولطفا يصد سموم الشمس فيأذن للنسيم، وشكرا يروع العذارى فيلمس جانب العقد النظيم، وقد ذكر الوزير أبو غالب نسخة من كتب عن الناصر بخلع ولده الطاهر لما خلعه، بخط المكين ابن العلقمي «2» ، ومنه: (وقد كان أمير المؤمنين قلّد ولده أبا نصر محمدا ولاية عهده، ورشحه من بعده، مؤملا منه التخلق بشريف أخلاق أمير المؤمنين التي هي من أخلاق آبائه مقتبسة، وعلى أساس التقوى مبنية ومؤسسة، فلما أن وقت بكامل رشده، رأى من نفسه القصور عن التزام شروط هذا الأمر، واستقال منه، وسئل أمير المؤمنين نزع لباسه عنه، وكتب خطه عن ذلك وتركه، وحل ما عقد له منه وفكه، وتيقن من حاله وأمره، أنه لا يصلح لخلافة المسلمين في الحاضرة، ولا في بقية عمره، وأشهد بذلك عليه، وخلع نفسه عما كان فوّض إليه، وأمير المؤمنين لم يخل في كل وقت باعتبار طرائقه واستقرائها، وتتبع خلائقه واستبرائها، إلى أن استبان ما كان من أحواله يلوح، وتألق نجمه من مراصد الوضوح، فلم يسع أمير المؤمنين إلا استخارة الله في إقالته، وطلب رضاه سبحانه في حل عقد ولايته، وأقال ولده، وحل ماله من ولاية العهد في المسلمين عقده، ونقض ما إليه عهده، وأسقط ذكره من الخطب، ومحا اسمه من السكك، اجتنابا من تقلد أوزاره، وتحمل أثقال إثمه وآصاره «3» ، وأمير المؤمنين قد شهد لله بما علمه، وإن كان على ولده، ولم تأخذه لومة لائم في لزوم منهج الحق وجدده، «4»(24/308)
قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)
«1» ، وحيث أقال أمير المؤمنين أبا نصر محمدا وخلعه، ونضا عنه جلباب [ص 197] ولا [ية] عهده ونزعه، لم ير أن يعين على أحد يعينه تحوبا لاحتساب ما تحمل الأوزار، وتوخيا لما هو أسلم من الأخطار) .
ثم:
90- دولة المستنصر بالله
أبي جعفر المنصور «2» بن محمد الظاهر، جهد في طريقة أبيه وما بلغها، وحام على مناهله وما سوغها، لكنه قارب معناها، وقام حتى داناها، وأسغب شهواته من المظالم وفطمها، وزمّ نظراته عن المحارم وخطمها، وأظهر السنّة وأقامها، وسمك في أعلا السماء مقامها، فكان لا يكبر رأس متشيّع إلا رضّه، ولا يتشاوس نظر مبتدع إلا غضّه، ولا يستكثر رافضي إلا رفضه، وحل عقد سبعه وفضه، سوى أنه أفرط في كبرياء الحجاب، وخالف أباه لا آباءه في فرط الإعجاب، وكانت الملوك تحب المستنصر وتستطيل أمد عوارفه ولا تستقصر، وكأنما جاء عقيب جده الناصر، لأن أيام آبائه كانت كأن لم تكن، لأنه ما بزغ(24/309)
قمره حتى غاب، ولا أصحر ضيغمه حتى واراه الغاب، فأراح من تجني الناصر تعب خواطرهم، ومن تعني الرسل بينهم وبينه نظر نواظرهم، وكان قد أمر بوظائف الرسل، ورتب لطائف الأنزال في السبل، فسارت إليه بهم ركائبهم الذلل الصعاب، وتحدرت إليه قصاده بطون الأودية وشعاف الشعاب، ثم انتقل إلى الله مبوّأ في لحده الكرامات، ممرضا بعده الصبر والكرى مات.
ثم:
91- دولة المستعصم بالله
أبي أحمد عبد الله «1» بن المنصور المستنصر، وهو آخر الخلفاء في بغداد، بل آخرهم في سائر البلاد بالاستبداد، وكان محدثا سنيّا، محمدا سنيّا، تفقه على مذهب أحمد، وتشبّه في أوله في كل ما هو أحمد، وكان من ذوي العقول، إلا أنّ باريه كاده، والبصائر إلا أن الله أعماه ليمضي مراده، وأغري باللعب [ص 198] بالحمام، فجلب على المسلمين جالب الحمام، جمع منها(24/310)
عشرين ألف طائر، إلا أنها كانت مياشيم أكثرها قلابات، قلبت الدولة، وانتهكت الحريم، ومني بوزير بل كلب خنزير، رافضي خبيث، غير مأمون حتى ولا على حديث، فرتع في سوام المال ذيبه، ونفق على الخليفة كذبه لا تكذيبه، وجلب بمواطأته التتار ما أضر بالأمم قتله لا تعذيبه، ولم يجد حمد كمده ريح فطنة تحلله ولا تذنبه، فغطى على بصر الإسلام تلبيس تدليسه، وغط دماء آلامه تسليط أباليسه، فكان في دبيبه أرقما، وسقى كؤوس الضراء لطعم أبيه علقما، فلا كان العلقمي «1» وما ولد، لقد ولد أفعى، وألقى عصا قلمه فإذا هي حية تسعى، لقد أتى شيئا نكرا، وأطعم الناس من طعامه العلقمي مرّا، فحسّن للخليفة جمع المال، وكاتب التتار سرا ومد لهم الآمال، وبقي يقطع ألفا فألفا من الجند ويوفر مالهم للديوان، وإنما يريد إضعاف جانب الخليفة، وإرجاف جوانب الأرض، يوهن قوته الضعيفة، فلما فلّ حدّ العسكر، وقلّ عديدهم الأكثر، استقدم عسكر العدو وترسله وتكتبه، واستدعى بره الفسيح بوهاده وكثبه، فجاء من لا قوة للبلاد بحمل بعضهم، ولا طاقة للتخوم بمثار ركضهم، ففرق جدول الإسلام في تيارهم، وأحرق نور الإيمان بنارهم،(24/311)
وبدأت الخلافة «1» بعبد الله السفاح، وختمت بعبد الله المستعصم، ولم تدر الملة لمن تستخصم، وأخذ رحمه الله وقتل، وهو جمت بغداد، وقتل الرجال، وسبي النساء والأولاد، وألقت الهاشميين في دجلة بأرواحها، وارتجت النواحي بنواحها، وكاد الإسلام يذهب بجملته، والدين المحمدي يطوي ملاءة ملته، وانقرضت الدولة العباسية، إلا بقية أتت مصر، ونويض «2» سراجها ثم انطفى، وأومض بريقها في أخريات الليل ثم اختفى، وكان المستعصم يسكن إلى وزيره المؤيد ابن العلقمي ويسيل بضبعه ويميل إلى اعتلاء قدره ورفعه، ولا يزال يلاطفه [ص 199] ويهاديه، ولا يقطع مكاتباته، إما يجاوبه أو يباديه، أهدى إليه مرة قصب أقلام، وكتب معها: بعثنا إلى الوزير أعزه الله بقصب يراع، مؤذنة بأنه لدينا في المحل الأقصى لا يراع، فليكتب بها مشرفا، وفي الأرض وسكانها على رغم من يشناه مصرفا، فلما أتت ابن العلقمي، قام لها وقبّل الأرض وقبّلها، واعتقل خطيها المتفقة وأسلها، ثم كتب: (قبل المملوك شكرا للإنعام عليه بأقلام قلمت أظفار الحدثان، وقامت له في حرب صرف الزمان، مقام عواسل المران «3» ، وأجنته ثمار الأوطار من أغصانها، وحازت له قصبات المفاخر يوم رهانها، فيالله كم عقد ذمام في عقدها، وكم بحر سعادة أصبح من مدادها ومددها، وكم منآد خط استقام بمثقفاتها، وكم صوارم خطوب قلت مضاربها بمطروف مرهفاتها، فالله تعالى ينهض المملوك بمفروض دعائه، ويوفقه للقيام بشكر ما أولاه من جميل رأيه وجزيل حبائه) .
وكانت آفته بل آفة الإسلام وزيره، ولما قدم هولاكو لإزاحة الباطنية عن(24/312)
قلاعهم، امتد إلى استكمال البلاد ووطأه ذلك الوزير الذميم، حتى طوى البلاد إلى العراق، ثم أوهم المستعصم أنه قد أكد له سبب الصداقة معه، فخرج لملتقاه في الفقهاء والأدباء وأهل الشرف في يوم الاثنين، سابع عشر صفر سنة ست وخمسين وست مائة، فلما رآه أمر به فرفس حتى مات، فديس بحوافر الخيل، ثم وقع السيف، وعظم الخطب، وامتهنت المصاحف حتى عملت للخيل معالف، وهدمت المساجد، ولم يبق متظاهر بالصلاة إلا حائط جدار ساجد، وخلت المنابر والأسرة، وخلع الخلافة خلع النعل، وطفي نور الحق، وطمس معلم الهدى، وكور الليل على النهار، وغال خوف الشموس والأقمار، ولو شاء ربك ما فعلوه، وولد المستعصم «1» [سنة تسع وست مائة] ، وقيل في [ص 200] [......] وكان عمره [إحدى وثلاثون سنة] ، ومدته [ست عشرة سنة] ، ثم لم يبق للخلافة بقية ذكر، إلا لمن وصل منهم إلى مصر، واتصل بالظاهر بيبرس البندقداري بها، وها أنا أذكرهم.
فأولهم
[الخلفاء العباسيون في مصر]
92- المستنصر بالله
أبو القاسم أحمد «2» بن محمد الظاهر بن أحمد الناصر، وصل إلى مصر(24/313)
وبايعه قاضي القضاة، تاج الدين عبد الوهاب العلامي المعروف بابن بنت الأغر، ثم الظاهر بيبرس، ثم عامة العلماء، وأهل الشرف، ووجوه قريش، وعامة أرباب الدولة، وكان شهما لا يطاق، وشيهما ما لسمه درياق، وراميا رام أن يصمي بسهمه من مصر من بالعراق، وضاق الظاهر به لما رأى منه ومن وقاره المبثوث في نفوس الخلق، فما صدق أن وردت على المستنصر كتب أهل العراق باستقدامه، فجهزه في جيش استخدمه له، وخرج معه إلى دمشق، وكان الظاهر يركب إلى خدمته في كل يوم، ثم سار إلى العراق في دولة كاملة، بأرباب الوظائف، والشعار الكامل، ففتح كثيرا من البلاد الفراتية، حتى أتى العراق، فجاءه أهلها، وتلك شميتهم من قديم، ونصرهم لكل قائم بدعوة حق، وخرج له التتار فقاتلهم وثبت حتى قتل، واستحر القتل في عسكره، إلا من عجل الهزيمة، وكان قدومه مصر [سنة 659 هـ] ...... «1» ومبايعته في [العام نفسه] ...... «2»
ثم:
93- الحاكم بأمر الله
أبو العباس أحمد «3» بن محمد بن الحسن علي بن الحسن بن الراشد بن(24/314)
المسترشد، ومن هناك يلتقي بعمود النسب المستعصمي، وكان غاية في الخير، والفضل والثبات، ولما قدم أتى الحسام البرؤلي وقد تملك البيرة، فبايعه واستخدم له، ثم أتى عيسى بن مهنا أمير آل فضل، فقام في ناصره، وقاد له جمهور عسكره، فخاف الظاهر بيبرس عاقبته، وخال أنه يجتثّ باقيته، فلاطف عيسى بن مهنا، وراسله في تجهيزه إلى مصر ليبايعه، وأنه [ص 201] لا يجد حرجا في صدره أن يطاوعه، وكان للظاهر على عيسى بن مهنا يد يرعاها، ولكتبه عنده نجاح لا يخيب مسعاها، ورأى في هذا صلاحا للناس وجمعا لكلمة الإسلام، فعمل على هذا، وقدم الحاكم مصر وبايعه الظاهر بيبرس، إلا أنه يحجر عليه، وبعد مدة أسقط اسمه من السكة، وأبقاه في الخطبة، ودام مكرما إلا أنه ممنوع، وموسعا عليه، إلا أنه مضيق له بالنسبة إلى ما يستحق، فلما أتى اللهب الدولة الشريفة الملكية الأشرفية الصلاحية، سقى الله عهدها، فسح له، وأخلى له قصر الكبش، وبوّأه منزله، وكان العزم الأشرفي كله مصروفا إلى استفتاح العراق وإعادة الخلافة إلى مقرها في صدر ذلك الرواق، وتصريف حكم الحاكم في البلاد وإقامة الدولة العباسية على ما كانت عليه، بالأمراء والوزراء والأجناد، ثم توفي.
ثم قام ابنه:
94- المستكفي بالله
أبو الربيع سليمان «1» ، [قام] بعهد أبيه، وكان حسن الجملة، لين الحملة،(24/315)
مع فروسية كانت فيه، لو وجد لها حين إبراز، أو أضفي حد لإحراز، إلا أنه لم يجد لغصته مساغا، ولا لقصته بلاغا، فكان لا يرى لسهولة الجانب، ومداهنة المجانب، إلا أوطأ من رمله، وأضعف من نمله، وأكثر توقيا ممن عرفت عليه عمله، عهد إليه أبوه الحاكم بالخلافة بعد ابنه المستمسك، الأمير أبي عبد الله محمد، حين توفي المستمسك وتجرع أبوه صاب مصابه، وطوى حوائجه على داء أوصابه، ثم جعل بعده العهد إلى إبراهيم ولد المستمسك، ظنا أنه يصلح لأن يصرح باسمه على المنابر، ويجيء على أذيال آبائه الأكابر، فلما توفي الحاكم وخرج سلار كامل الممالك، فمن دونه في جنازته، وقاموا نحو كرامته وغرارته، بويع المستكفي بيعة طوقت الرقاب، وطولت له ذيل الخلافة على الأعقاب، وكان هو وسلطاننا كأنهما أخوان، لما بينهما من إلفة جامعة، ومودة لفراق الأعداء قامعة، وحضر نوبة مرج الصفر، وكان [ص 202] على عهد الله المظفر، سار سلطاننا به فأيّد الله بهما هذه العصابة، وكان يومهما بمرج الصفر باني يوم الصحابة، كل منهما هدّ أركان العدو، وهدم بنيان أهل العتو، ثم لم يزل به لدم الخلافة آثار باقية، وشىء يحفظ به تلك البقية المتلاشية، حتى كان من نزول السلطان عن الملك سنة ثمان وسبع مائة ما كان، وحصل الاجتماع على المظفر بيبرس، فقلده المستكفي وسوّره، وصيّره حيث صيره، فنقمها عليه(24/316)
السلطان، وأسرّها، ثم لما قام السلطان لاسترجاع ضالته، وإنباه المظفر من كرى ضالته، استجاش المظفر بالمستكفي يجدد له الولاية، ونسبت في السلطان أقوال إليه، حملت السلطان على التحامل عليه، فلما عاود الزمان عقله، وحل من الحظ الناصري عقله، وعاد السلطان سنة تسع وسبع مائة إلى تخته، وعاد ما ألّف من بخته، أعرض عن المستكفي كل الإعراض، ودبّت بينهما الأمراض، فلم يزل يكدر على المستكفي المشارب، ويقف دونه في وجوه المآرب، حتى تركه في برج في القلعة، في بيته وحرمه، وخاصة من يلوذ بحرمه، وبقي على هذا مدة، حتى قام قوصون، ورجل آخر معه لا أسميه، ولم يزالا يلاطفان السلطان حتى أنزله إلى داره، وأطلع هلاله، نضوا من سراره، ثم نسب إلى ابنه صدقة، التعلق ببعض خاصة السلطان، وتردد ذلك الغلام إليه، فنفي الغلام، وأصعد بالخليفة إلى قوص، فقدمت إليه مطايا السفين، وأنزل معه بعض حرمه وقد حفين، ثم أقلعت بهم تلك السواري، وعادوا أجنة في بطون تلك الجواري، إلا أنه لم ينقص من روايته، ولا أسقط اسمه عن المنابر، وغبر عن هذا مدة، يعلل فيها نفسه، إلى أن علقت بابنه صدقة أشراك المنون، وجالت في منيته الظنون، فجزع عليه جزعا شديدا، استخف وقاره، وحركه بل أطاره، ثم لم تطل به المدة، ولا بقي إلا قليلا بعده، وكانت وفاته سنة أربعين وسبع مائة، ودفن بقوص، وذلك بعد أن أذن إلى ابنه الحاكم أبي العباس، لكنه لم يجد عهده راعيا، ولا [ص 203] ابنه بعده لوصيته واعيا.
ثم قام ابن أخيه:
95- الواثق بالله
إبراهيم «1» بن المستمسك، أبي عبد الله محمد بن الحاكم، وقد تقدم القول(24/317)
فيما أصاره إليه جده، من العهد بعد المستكفي، ظنا أن يكون صالحا، أو يجيب لداعي الخلافة صالحا، فأنشأ إلا في تهتك، ولا دان إلا بعدم تنسك، أغري بالقاذورات، وفعل ما لم تدع إليه الضرورات، وعاشر السفلة الأراذل، وهان عليه من عرضه ما هو باذل، وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وعمي عليه فلم ير مسنا إلا محسنا، وغوي باللعب بالحمام، ومشترى الكباش للنطاح، والديوك للنقار، والمنافسة في المعز الزرابية الطوال الآذان، وأشياء من هذا ومثله، ما يسقط المروءة، ويثل عرش الوقار، إلى أن صار لا يعد [إلا] في سفلة الناس، هذا إلى سوء معاملة، ومشترى سلع لا يوفي أثمانها، واستيجار آدر لا يقوم بأجرها، وتحيل على درهم يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم منه ويطعم حرمه، حتى كان عرضه عرضة للهوان، وأكله لأهل الأوان، فلما توفي المستكفي، والسلطان عليه في حدة غضبه، وتيّاره المتحامل عليه في شدة غليه، طلب هذا الواثق المعتر، والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكايده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه، وأحضر معه عهد جده فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم بعض ذلك العهد ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمرو بن جماعة، في صرف رأي السلطان على إقامة الخطبة باسم الواثق، فلم يفعل، فاتفق الرأيان على ترك الخطبة للاثنين، واكتفى فيها بمجرد اسم السلطان،(24/318)
فترجل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر، كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب، كأنه ما فرغ بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس، وشعارها عليه لباس الحداد، وعمود تلك [ص 204] السيوف الحداد، ثم لم يزل الأمر على هذا، حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به، رد الأمر إلى أهله، وإمضاء عهد المستكفي لابنه، وقال:
الآن حصحص الحق، وحنا على مخلفيه ورقّ، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى رعي الهمم، وستر اللوم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق، وأين هو من صاحب هذا الاسم، الذي طالما سرى رعبه في القلوب، وأمنت هيبته العيوب، وهيهات لا يقد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل، وإنما سوء الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، وقد عاد الآن بعضّ يديه، ومن يهن يسهل الهوان عليه.
ثم قام:
96- الحاكم بأمر الله
أبو العباس أحمد ابن المستكفي «1» ، إمام غصنها، وغمام مصرنا، قام على غيظ العدى، وعرف بفيض الندى، صارت به الأمور إلى مصائرها، وسبقت أمل مصابرها، فأحيا رسوم الخلافة، ورسم بما لم يستطع أحد خلافه، وسلك(24/319)
مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمناهج أنبائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال غرزهم وقد اختلفت الشيات، ورفع اسمه على ذرى المنابر، وقد غبر مدة لا تطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسح من سحبه تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت سلطاننا تغمده الله برحمته، وأنفذ حكم وصيته في تمام مبايعته، والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعهد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم سلطن الملك المنصور أبا بكر بن السلطان، وعمّر له من تحت الملك الأوطان.
قلت: وقد كان حين طار الخبر إلى مصر بموت أبيه، أشيع أنه لم يعهد إليه، وإنما الناس قد يقع اجتماعهم عليه، فكتب صورة مبايعة له، وهي:
[صورة المبايعة للحاكم]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» ، هذه بيعة [ص 205] رضوان، وبيعة إحسان، وجمعة رضى، يشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها، وتحمل أنباءها البراري والبحار، مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، وتتجازى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم زمر الكواكب على حوض المجرة الدفاق، بيعة سعيدة ميمونة، بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، بيعة ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق على الاجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الاجماع، فاعتقد(24/320)
صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، حصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه، وأقر الخصم وانقطع النزاع، يضمها كتاب مرقوم، يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون، و (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) «1» ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، والينا ولله الحمد وإلى بني العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيما قل وجل، وولاة الأمور والحكام، وأرباب المناصب والأحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش، ووجوه بني هاشم، والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة، وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتتعرف عرفات بركاتها، وتعرف بمنى، ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، ويؤم ما بين الركن والمقام والقبر، ولا ينبغي بها إلا وجه الله الكريم......... «2» بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متعبة مريحة، [ولا من يوصف بعلم] «3» ولا قضاء ولا من يرجع إليه في إيقاف ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا [ص 206] ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا من جنبي المساجد، ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم أو حديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام، ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع بقدم، ولا طائر بجناح،(24/321)
ولا مخالط للناس، ولا قاعد في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يقل فوق الفرقد ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسرّ في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي أبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد «1» ولا جدار، ولا ملجلج في البحار الزاخرة، والبراري القفار، ولا من يتوقل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار، ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها، وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى أمن بهذه البيعة وأمّن عليها، وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها وأقرّ بها وصدق، وغضّ له بصره خاشعا، وأطرق ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه، وأمضاها، ودخل تحت طاعته، وعمل بمقتضاها، وقضى بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين.
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله، أمير المؤمنين، كرم الله مثواه، وعوضه عن دار السلام، بدار السلام، ونقله مزكّي يديه عن شهادة الإسلام، بشهادة الإسلام، حيث آثره بقربه ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، الله أكبر ليومه يوما لولا محلفه، كانت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبّأ كل سريرة ما ادخرت [ص 207] وما جنت، لقد اضطرم سعير، إلا أنه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسرير، لولا خلفه الصالح،(24/322)
لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، لقد غاضت البحار، لقد غابت الأنوار، لقد غالت البدور وعوارض ما يلحق الأهلة من المحاق، وتدرك البدور من السرار، نسفت الجبال نسفا، وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى، وجاء ربك والملك صفا صفا، لقد جمعت الدنيا أطرافها، وأزمعت على المسير، وخضت الأمة لهول المسير، وزاغت يوم موته الأبصار، إنّ ربّهم يومئذ لخبير، وقفت الألباب حيارى، وتوقفت تارة تصدق وتارة تتمارى، لا تعرف قرارا، ولا على الأرض استقرارا، إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولم يكن في النسب العباسي، ولا في جميع من في الوجود، ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود، ولا من بلدة أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقد نياتها، وسر طوياتها، إلا واحد، وأين ذاك الواحد، هو والله من انحصر فيه استحقاق، ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده، ولا شىء هو إلا ما اشتملت عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأيام، فرد هو الأنام، وواحد وهكذا في الوجود الإمام، وإنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء، هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين، ونعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله، وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يغره عاذره، ولا يعيره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر، بحضرة سلطان زمانه، إلا قال ناصره، وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه [ص 208] ما خاف مستكفيه، ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله صلى الله عليه وسلم، وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح،(24/323)
ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكبّ بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض مما لا بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود، وجمع له أنظاره.
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد، ولقي أسلافه، ونقل إلى سور الجنّة عن سرير الخلافة، وخلا القصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه، استغنى الوجود بعد ابن عمه، خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، عن نبي يقفي على آثاره، ونسي ولم يعهد، فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعلته كانت الخلافة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم يربأ معه وقد مدّ يده طائعا، لمن مدها، وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد، استخاروا الله فيه فخار، وأخذ يمين تمد لها الأيمان، وتشدّ بها الإيمان، وتعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى، ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف، أن النية في يمينه، نية من عقدت له هذه البيعة، ونية من [ص 209] حلف له وتذمم بالوفاء له في ذمته، وتكفله على عادة أيمان(24/324)
البيعة وبشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة، ولا يفارق الجمهور، ولا يظهر عن الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان، المكتتب فيها أسماء من حلف عليها، مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول والثقات، عن من لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب المغدق غمامها، وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الموافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب ألا يقاتل أعداء الله بأمدادها، ويرأب بها من أثر في منابر ممالكه، ما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله، كلمة لا نمل من تردادها، ولا يخل بما يفوت السهام من سدادها، ولا يطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تتقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتتنافس طرر الشباب، وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها، صلى الله عليه وعلى جماعة أهله، ومن سلف من أبنائها، وسلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة، ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني، ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير، بما يتحمله حمائم البطائق من بدايع البيان، وسخّر له من البريد على متون(24/325)
الخيل، ما سخره [ص 210] من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء، ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به، ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على كحل الأهداب ما فضل عن سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان حله، دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليله السجاد، وفي نهاره العسكري، ومن كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه.
ونبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال، فيما تتحلى به الأيام، ويقدّم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده، ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين، يحمله غصبا على الرأس ويعجل أمير المؤمنين بما تستقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرعايا، وهو غني عن هذا، ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه بأنه أقرّ ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله، تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات الممالك والثغور، برا وبحرا وسهلا ووعرا، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملّك وأمير، وجندي، يبرق له سيف شهير ورمح ظهير، ومع من هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء، وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه، ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس، والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، استمرارا بكل أمر على ما هو عليه، حتى يستخير الله تعالى، ويتبين له ما(24/326)
[ص 211] بين يديه، فمن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدا في دين، ولا يحابي في حق، فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن، مستقر على حكم الله، مما فهمه الله له، وفهّمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك، ولا في بعضه مغيرا، شكرا لله على نعمه، وهكذا يجازي من شكر، ولا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية به عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول، إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله، ونعيذ أيامه من الغير، وأمر أمير المؤمنين، أعلى الله أمره، أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن يصرف باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وتتهيأ به وتتناهى المنابر ودور الضرب هائل يرفع اسمهما على أسرة مهودها، وهذه أعلا أسارير يقودها، فالخطب والذهب معدنهما واحد، وبهما يذكر الله، فهما مساجد، وهذه تقام بسببها الصلاة، وتلك تدام بها الصلات، وكلاهما مما تستمال به القلوب، ولا تلام على ما تعيه الآذان وتوعيه، وما منهما إلا ما تحذف بجواهره الأحداق، وتميل إليه الأعناق، وتبلغ به المقاصد، وكلاهما أمر مطاع، وإذا لمعت بارقة الخطب، طار للذهب شعاع، ولولا [هـ] ما اجتمع جمع ولا انضم، ولا عرف الإمام ممن يأتم، ولولا الأعمال ما رتبت الأموال، ولولا الأموال ما وليت الأعمال، ولأجل ما بينهما من هذه النسبة، قيل إن الملك له السكة والخطبة، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر، ونهى بنواه، وهو رقيب، وستفرع الألباب لها [ص 212] السجايا، وتفرع الخطباء لها شعوب الوصايا، وتتكمّل بها المزايا، وتخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، ويسمر بها السمار، ويترنم الحادي والملاح، ويرق(24/327)
سحرها في الليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، وتعطر بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قباه، ويلقنها كل أب فهّم ابنه، ويسأل كل ابن يجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين مرشد وعليكم بيّنة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة، ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر، ودحا الأرض، وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق، وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه، ولم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها.
وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله «1» لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم، وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما يسعد به من يحيا «2» أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده، ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، ويقيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد أمير المؤمنين، يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل ببره سكان الحرمين الشريفين، وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على ضاله، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، وتتدفق في هذين المسجدين «3» بحره الزاخر، ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام ويقيم بعدله «4» قبور الأنبياء، صلوات الله عليهم أين ما كانوا، وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على(24/328)
قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضمّ إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار، ويسلم منهم على يديه.
وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن [ص 213] أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكّل منه- خلد الله ملكه وسلطانه- عينا لا تنام، وقلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، فإنه حقه، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى، وانتزاع ما بأيديهم من بلاد الإسلام، فإنه حقه، وإن طال عليه المدى، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلا وأسرا، ولا يفك أغلالا ولا إصرا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانا، وفي البحر غربانا، يحمل كل منهما من كل فارس صقرا، ويحمي الممالك ممن يتخوف أطرافها بإقدام، ويتجول أكنافها بأقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور، وما يحتاج إليه من آلات القتال، ويحتاج به الأعداء، وتعجز حيلة المحتال، وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة والجناح الممدود، وتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موصوف، وبيض مسها ذائب ذهب، فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح بسيب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسي وتفارقها، فتحنّ حنين مفارق، وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطول على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم، على مقدار ما يخفي منكم ويظهر، وأما جزئيات الأمور فقد علمتم بأن من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى، ومنى حقا(24/329)
لا تستغل بتطلب شىء نكرا، وفي ولاة الأمور، ورعاة الجمهور لمن هو سداد عمله، ومزاد أمله، ومراد من هو منكم معشر [ص 214] الرعايا، وأنتم على تفاوت مقاديركم عندهم وديعة أمير المؤمنين، ومن خوله، وأنتم وهم فما منكم من سيعرف أمير المؤمنين ويمشي في مراضي الله على خلقه، وينظر ما هو عليه، ويسير سيرته المثلى في طاعة ولي خلقه، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله «1» عليكم أداء النصيحة وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة، فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقّه، ولزمه حكم بيعته، والتزم طائره في عنقه، وسيعمل كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا [عظيما] .
هذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال، وتحمل منه ما يصلح له به المال، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال، ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله، وهو من الخلق أحمد، وقد آتاه الله ملك سليمان، والله ممتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض، ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، فلا يزال على سدّة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة، كأنه ما مات منصوره، ولا أودى مهديه، ولا ذهب رشيده...... «2» . [ص 215] أدام الله أيام الديوان العزيز المولوي السيدي النبوي الإمامي الحاكمي، ونصر به جمع الأيمان، وبشر به بأيامه الزمان، ومتعه بالملك السليماني الذي لا ينبغي لأحد من بعده،(24/330)
بما ورثه من سليمان، ولا زال يخضع لمقامه كل جليل، ويعرف لأيامه كل وجه جميل، ويعترف بشرفه كل معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذي نسبه الشريف كل أخ وخليل، ولا كان إلا كرمه المأمول، ودعاؤه المقبول، وعدوه المصروع، ووليه المحمول، ولا برحت طاعته يعقد عليها كل جمع، ومراسمه ينصت إليها كل سمع، وطوائف الذين كذبوا لا يتلى عليهم آياته، إلا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع..... «1» المماليك يقبلون الأرض بالأبواب الشريفة، التي هي خطة شرفهم، ومكان تعبد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعودون بذلك الحزم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام، ويؤملون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصباح أشايره، وفي وجه العشاء بشائره، فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا يا سعد لا يعنون إلا تلك الأيام، وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من ثبت لديه تقديم عبوديته ورقه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسيفه، فتح له عينه، وظن أنه حاكم، وامتثلوا أمره، وكيف لا تهتبل الرماة أمر الحاكم، لا سيما ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الحاكم، وأجلوه عن رفعه على العين، إذ كانت تلك منزلة الحاجب، وقدموا إليه خوافق قلوبهم الطائرة، وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب، ووقفوا على أحكام حاكمه، فما شكوا أن زمان هذا الفتى بحياة ناصره في بغداد قد عادوا مثاله الممثل في سواد الحدق، مما حملته أيامه العباسية من شعار السواد، وعلموا ما رسم به في معنى محمد بن الحمص الذي [ص 215] ما نورت الليلة الظلماء أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه، بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده، إلا على أنه مشعلة، وما كان أنهاه(24/331)
بالديوان العزيز ما لم يذكر الخواطر الشريفة بأنه فيه المقتدري، وأنه صاحب القوس إلا أنه ماله سعادة المشتري، وأنه موه تمويه الجاحد، وتلون مثل قوس قزح، وإلا فقوس البندق قوس واحد، وأدلى بغروره وعرض المحضر الذي حمله على تغريره، وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان نبّأ بخبره وأحسن بالإعلام بسوء محضره، وتحيل لأخذ الخط الشريف الذي لو عقل لكان حجة عليه، ومؤكد الأبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه، لما تضمّنه الخط الشريف المقيد اللفظ بعد الاسوله «1» المكتتب على المصطلح الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدي إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليماني الذي أوتى من كل شىء، وعلم منطق الطير، فإنه لم يلبث إلا بأن يرمى على الوجه المرضي، واستبقى شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال، عملا بقواعده، وهذا الذي كتب له يكتب ويستمر قعوده، ويبكت ويعلم به أنه ما رعي حق قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلي بشعار الصدق في خدمته، وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكل لكنه ندب، وذلك بعد أن عمل جمع برماة البندق، وسئل فأجاب بأنه سالم من كل إشكال يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى، وحمل وحمل فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين، ومن حضر وكتبوا خطوطهم في المحضر، وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدسة، ووضوح قضيته المدنسة من التعجب من اعتراف المماليك، لكونهم زموا معه بعد أن رأوا الخط الشريف، وهو لفظ مفيد، وأمر أيد فيه رأي الإمام الحاكم بأمر الله، المسترشد بالله والمؤيد، وكل ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن صرفه، ولا جدال إلا به، إذا ألزم كل [ص 217] أحد طائره في عنقه، وأمر أمير المؤمنين بحر لا مدد إلا(24/332)
من علمه، وهو الحاكم، ولا راد لحكمه، وإنما ابن الحمص المذكور عدم السداد، وخالف جاري العادة، فإنه الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد، ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا رآهم من برقه المهلك غير ومضه، والذي أوقفهم عليه من أن يرمي محمد الحمص، ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مسمعة، ومن اسمه متبعة، وإذا تقدم كان كل الناس تبعه، غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صارجا الحاكم في البندق، كان في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمت فيها بسيفه، وانتقل عنه غلمانه، وثقل عنه زمانه، ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وخرج بخطإ بندقه جرحا لا يوسى، ثم بعد مدة سنين توسل لولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصل به إلى مراميه، فأمر بأن يرمى معه، وهدد المخالف بالضرب ولم يرم معه أحد برضاه، إلا خوفا أن توقد عليه نار الحرب، فلما مضت تلك الأيام وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين أبي الأبوبكري الحاكم الآن في البندق من رماة البندق جمعا كثيرا، واهتم به اهتماما كبيرا، وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور، فلم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادعى له، وادعى عنده بحور الأباطيل، وتحقق أن الحق فيما حكم به عليه فسمع، وترجح أن لا يقام معه من أقعد، ولا يوصل ما قطع، فنفذ حكم الحاكم المتقدم واستمر بقعوده المتحتم، ووافقه على هذا سائر الرماة بالبلاد الشامية وحكامها، ومن يرجع إليه في الرماية وأحكامها، وبطلت قدمة المذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن بائعا، ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف، زاده الله شرفا، قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمى، فوقف له وعليه، وجمع له [ص 218] جمعا لم يدع فيه من الرماة(24/333)
معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا فقد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمن، ودعوا لأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن، وتضاعف سرورهم بحكمه الذي دفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف، والإمام الذي عدل، وبقي ابن الحمص مثلة، ونودي عليه أنه من رمى معه كان متخطيا مثله، ووقرت هذه المناداة في كل مسمع، وقرت استقرارا انفصل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين، ونص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم، والله أحكم الحاكمين، وطالعوا بها، وأنهوا صورة الحال، ووجهوا في إمضائه الآمال، لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزهة عن الشبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، تحصل كل رمية عن كثب، ولا يرى في كل أمنية إلا كل مصطحب، ما عبّ في السماء المرزم، ووقع العقاب على ثنية، يقرع سنه ويتندم، وعلا السن الطائف، والواقع على آثاره، وسائر طيور النجوم الحوّم..... «1» [ص 219] ، يقبل اليد الشريفة، لا زال اعتناؤها أحد النجاحين، وأحد السلاحين، وأقوى القوادم، إذا جنى الحين حص «2» الجناحين، وتقدم شكرا يعجله لما يؤمله من نواله قبل سؤاله، ويرجوه بإمامه بجاهه، أو بما له بسبب ناصر الدين محمد بن الحمص أحد قدماء البندق، فقد علم ما جرى له مع رفاقه وكساده عندهم بعد نفاقه، وأنهم نتفوا ريشه، ثم عادوا عليه ورشقوه، وأوقدوا له النار، ثم جابوا الحمص الحزين وسلقوه، ثم إنهم لما سلقوه، أكلوه بألسنتهم الحداد، وطحنوه بسواعدهم الشداد، وهو المعتر الآن بينهم في غاية الإضامة، وقد تنقّلوا بعرضه وجعلوه قضامة، وما تكلم في الجمع الذي جمع له، حاشا مولانا الا فشّروه، وقالوا نحن(24/334)
أخبر بك يا حمص، ثم إنهم قشّروه، وعملوا معه عمل رماة البندق، حتى رموه في وسط الموجلة، وقرعوا من كل أحد وخلّوه لهم مشغلة، وما رئي من الريحة الحمص إلا الصارخ، ولا عرفوا قدره إلا بالكسرة فحصّلوا القدرة، وقدموا النافخ، وقد مضى عليه زمان وهو كبير الجماعة وجائل القدر بينهم، قبل أن يأكلوا الحمص بينهم هذا الأكل من المجاعة، وما فطن لهم، وقد حطبوا عليه هذا التحطيب فرّط، وأوقدوا جمرته وغطوا عليه القضية حتى طخوا «1» قدرته، وصادفوا كل الطير بمعاداته، واستراحوا من الملق بابطال عاداته، وقد زمن المسكين من طول القعود، وندس لما لم يخرج إلى البرزات في الربيع، وقد دب الماء في العود، وقد قتله طول الاختشاء، وذهب عمره وما سرّ له قلب في وجه صباح، ولا وجه عشاء، وكلما أراد أن ينطق، قيل له اسكت لا تتكلم، واستمرّ قاعدا مكانك لا تتقدم، والمذكور له منذ طار بجناح المولى نجاح، وقد أصيب وله سوابق، فيحمل بالسبق وبالجناح، وقد آن لهذا الزّمن المقعد أن يقف على قدمه، ولهذا الطير المذبوح بلا سكين أن يسكن مما يتخبط في دمه، وسيقف مولانا على ما يرد من الجواب، وما فيه وارد، ويرى كيف [ص 220] تجمعت الرماة عليه ورموه عن قوس واحد «2» ، ويعوزه عناية تمد لها هذه الطيور أعناقها، وتعجل له من أحواله المسترقة أعناقها، وذلك بجمع يجمع بالديار المصرية، بحضرة الإمامة، ومكان لا يغمّ على أحد فيه إلا أوقات الهجير ظل الغمامة، فقد ضجر هذا الذاهب المهجر في حب البندق، مما يصبر ومما يؤجر، وقد يبس قوسه، وصار حطبة مما هو مفكوك ما يوتر، وهو مما لا ينقلب من غير مرامي البندق إلى أهله مسرورا، وممن يهون عليه إذا أخذ قوسه أن يفقد عينيه ويكون موتورا، وقد قنع من المملوك بالشفاعة، وبان يتلطخ بندقه بالدم ويقنع(24/335)
بالشناعة، فقد شكا في هذه المدة لعدم الحمل كمندانه «1» وقعوده وقد برز إلى البر جماعة أخدانه، وهو الآن مما طحنوه مثل هشيم المحتضر، وقوسه قد التوى عنقه، لكن إلى صوب مولانا لما ينتظر، وفي الحديث: (استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها) ، وهذا في صنعة البندق هو الصالح الفاسد، وله في كثرة رمي البندق ما لا تنكره الحاسة، وأعجب الأشياء أن اللحم بعده قد قل، ومع هذا الحمص كاسد، وعلى هذا فقد طالت على هذا الشيخ الصالح كما تقدم الخلوة، فقد نضج الحمص، وأما السلق الذي دقوا به قفاه، فبعد عليه غلوه، وقد مزقوا جلده أضعاف ما قدّ لعلائق جراوته من السيور، ودقّ دقا ناعما مثل القضامة «2» وجعل في معالف الطيور، ولا يرد المولى له الشفيع المشفع، ويخفف ما به، فكله حتى عين قوسه بكاء ما يجف لها مدمع.(24/336)
وهذه الدولة الأموية
وانساق فيها ذكر ابن الزبير، لأن أيامه تخللتها وشغلتها مدة ما أخلتها، وأتينا بهذه الدولة الأموية مؤخرة هنا، وهي مقدمة [ص 221] في الزمان على حسب النسب، والكل من جوهر منه ما طفا، ومنه ما رسب.
97- دولة معاوية بن أبي سفيان
صخر بن حرب بن أمية «1» ، الأمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، وزعم قوم أن لهم ألقابا مثل ألقاب بني العباس، يجري إلقاؤها بينهم على القياس، وهذا لمن كان منهم بدمشق، ولا يدعي في هذا قول حق، فأما من كان منهم في الأندلس، فإنهم تعرفوا بعواري أعلامها، وتشرفوا بطوارق أحلامها، ونحن لا نذكر معهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ لم يكن لذكره هنا معنى، ولا مع الخلفاء الراشدين مجنى، وإنما نذكر دولة بني حرب(24/337)
ومروان من لدن معاوية إلى آخر أوان.
كان معاوية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي منذ أسلم، ثم كانت له منزلة قريبة وصلة بأم حبيبة، أسلم يوم فتح مكة، وفتّ في مهاب الكفر شركه، وكان يقول إنه أسلم من قبل، وإنما كان يكتم إسلامه ويظهر لأبيه مطاوعته واستسلامه، وإنما هي دعوى الله أعلم بغيبها، وأحكم بما فيها جلاء ريبها، وإنما إجماع المحدثين والقديمين والمحدّثين على أنه هو وأبوه وأخوه وذووه من مسلمة الفتح قولا ثبتا، وقطعا بتا، طلقاء الفتح، وعتقاء الصفح، أخذ العباس رضي الله عنه لأبي سفيان الأمان، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل إسلامه على ما كان، وكرّمه بأمور منها أنه كل من دخل دار أبي سفيان على ما تقدم من السيرة، ثم كانت إلى الله السريرة، فأما الظاهر فإنهم من المؤلفة قلوبهم، والمؤلّبة على أول الإسلام وآخره حروبهم، وكان معاوية رضي الله عنه كثير السؤدد لا يخف كالجبل القردد «1» بحر لا يدرك قراره، وطود لا يدهك «2» وقاره، وفحل لا يرد نفاره [ص 222] ، ومنصل لا يحد غراره، طبع الحلم فيه غريزة، ووضع السداد فيه نحيزة «3» ، ولم يكن أوسع منه بطانا ولا أمنع منه سلطانا، لا يؤثر ذنب في غزير حلمه، ولا يؤاخذ مسيئا بكبير جرمه، لو أن أمله في النجم لبلغه، أو في اليم لسوغه، بحيل أصيد من الفخاخ، وأجول في الفضاء من الرخاخ «4» ، بتلطف لو أراد لتشرب في مسام الزجاج، وعذب به مذاق البحر الأجاج، أمّره أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه(24/338)
بعد أخيه يزيد، وقرره على الشام كما يريد، فقرت بها قرارته، وأقمرت فيها دارته، وتحبّب إلى أهلها حتى كأنه بينهم ربي، أو لهم خبي، لتألفه لأهوائهم، وتعرفه لأدوائهم، بما دخل به على قلوبهم، لسد خلل مطلوبهم، فاستحمل طوياتهم، واستعبد نياتهم، حتى اتخذهم شيعة، وأنفذهم سهاما في كل وقيعة، واستمر حتى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقام يطلب بدمه، ويبدي التغصص بندمه، وشهر بالبكاء دمعته، وشهر بالانتكاء سمعته، وقال:
أنا ولي عثمان، لا أرجع بأربع ولا بثمان، لا أبيع دمي بالأثمان، ولا أتبع قدمي إلا المضرج بدمه ذلك الجمان، وذلك دين لم يقره أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه على الشام واليا، ولم يقله للإسلام كاليا.
قال ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، ولّه شهرا واعزله دهرا، فقال: (وما كنت متخذ المضلين عضدا) «1» ، وكذلك قد كان، قال له المغيرة «2» ، وهو أحد العرب دهاء، وأحق بحد لا يطرف عنه عينه التهاء، فأجابه بنحو فحوى ذلك الجواب، وكان سوى ما قصد الصواب، فلما رأى المغيرة أنه لا يقبل رأيه، تركه وصوب له رأيه وهو مهلكه، فأتاه ابن عباس والمغيرة قد خرج(24/339)
من عنده وما حرج نار رأيه من زنده، فلما دخل عليه قال له: ما قال لك المغيرة وما أجبته؟ فلما قص عليه القصص، قال: ولم خالفته وقد [ص 223] نصحك والله أولا، وغشك ثانيا، وقرب له الرأي فلم يكن له مدانيا، فلما أتى كتاب عليّ معاوية ألقاه، وقبله صدر الحيل ولقاه، وأيّد بعمرو بن العاص رضي الله عنه، وأدرج طلب الخلافة في أمر القصاص، فنشاب تلك الحروب السجال، والحرور المتلفة لمهج الرجال، حتى كادت تأتي على الإسلام، وتحوي في حضانه السيوف من لم يبلغ الاحتلام، وبإجماع العلماء أن حزب الشام هم البغاة الناطق كتاب الله بحربهم المصيب عليّ رضي الله عنه في قتال حزبهم، ولا يعدّ أهل الحق لمعاوية خلافة، إلا منذ سلم إليه الحسن، فسلم من الفتن.
وكانت أمه هند «1» بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان له بيت للأضياف يغشاه الناس فيه بغير إذنه، فقعد فيه يوما ومعه هند، ثم خرج عنها وتركها به نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت فدخل عليها، وخرج فجاء الفاكه ونبهها وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟
قالت له ما انتبهت حتى نبهتني، فقال لها: الحقي بأهلك، فخاض الناس في أمرهم، فقال لها أبوها: أتبيني شأنك؟ فقالت: والله يا أبة إنه لكاذب، فخرج(24/340)
به وهند معه ليحاكمه إلى بعض كهان اليمن، فلما قاربوه تغير وجه هند، فقال أبوها: ألا ذلك قبل أن يشتهر خروجنا في الناس، قالت: والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنا نأتي بشرا يخطئ ويصيب، ولعله يسمني بميسم يبقى عليّ، قال: صدقت، وسأختبره، فأصفر لفرسه فأدلى، فعمد إلى حبّة برّ فأدخلها في إحليل الفرس، ثم أوكأ «1» عليها، فلما نزلوا على الكاهن قال له: إنّا قد أتيناك في أمر وقد خبّأت لك شيئا أختبرك به، فما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قال:
أبن «2» ما هذا؟ قال: حبة بر في إحليل مهر، قال: صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يمسح على رأس كل امرأة منهن ويقول: قومي لشأنك، حتى بلغ هندا [ص 223] مسح على رأسها وقال: قومي غير رشحاء ولا زانية، وستلدين ملكا اسمه معاوية، فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فأزالت يدها من يده وقالت: والله لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فولدت له معاوية.
وعن أبي السائب قال: كان رأس معاوية كبيرا، فقال أبو سفيان: والله ليسودنّ قريشا، فقالت هند: ثكلته إن لم يسد «3» العرب قاطبة، وحكي أن هندا لما فارقها الفاكه ورآها الكاهن اليمني، قالت لأبيها: إنك زوجتني ولم تؤامرني في نفسي، فعرض ما ترى، فلا تزوجني أبدا زوجا حتى تعرض عليّ خصاله، فخطبها بعد ذلك سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها فقال:(24/341)
[الطويل]
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضى لك يا هند الهنود ومقنع
فما منهما إلا كريم مرزّأ ... وما منهما إلا أغرّ سميدع
فدونك فاختاري، فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع
قالت: فسّر لي خصالهما، فبدأها بذكر سهيل، فقال: أما إحداهما ففي ثروة وسيطة من العشيرة، إن تابعته يأتيك، وإن ملت عنه حط إليك تحكمين عليه في ماله وأهله، وأما الآخر فموسع عليه، منظور إليه في الحسب الحسيب، والرأى الأريب، مدره أرومته، وغرّة عشيرته شديد الغيرة كثير النظرة، لا ينام عن ضبعه، ولا يرفع عصاه عن أهله، قالت: أما الأول، فسيد مصناع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساءت عند ذلك وقبح هناك دلالها، فإن جاءت بولد من هذا أجمعت، وإن نجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عنّي، وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة، وإني التي لا تريب له عشيرة فتغيره، ولا يصيبه مذعر فيضيره، فزوجنيه، فزوجها من أبي سفيان، ويقال إنه أهديت [ص 225] للكعبة جزر من أحد ملوك الهند، وقال: لا ينحرها إلا أعز من بمكة، فقالت له هند وهو في سابعها، اخرج لئلا يسبقك أحد إلى هذه الكرامة، فقال لها: دعيني وشأني، والله لا ينحرها أحد إلا نحرته، فربطت الجزر بفناء الكعبة حتى خرج أبو سفيان من سابعه فنحرها.
وأما ما كان بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فلا حاجة لنا إلى ذكره لشهرته، إلا أن الإجماع على أن عليا رضي الله عنه، قاتل الفئة الباغية حزب معاوية، ولما استثبت له الأمر، دخل عليه سعد بن أبي وقاص «1» رضي الله عنه،(24/342)
فقال: السلام عليك أيها الملك، فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق رحمك الله، لو قلت يا أمير المؤمنين، فقال: أتقولها جذلان ضاحكا، والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به.
وقال معاوية: لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، ويقال إنه [أول] من حول الخلافة ملكا، وأول من ترك حدا من حدود الله، ترك رجلا وجب عليه القطع، وأما بعد غوره، فقد حكي أنه قال لعمرو بن العاص «1» : أينا أدهى، قال: أما في البديهة فأنا، وأما في الأناة فأنت، قال معاوية: اصغ لي أسارك بشىء، فأدنى رأسه، وكانا خلوين يتساران، فقال له معاوية غلبتك. أيها الداهية، هل هاهنا أحد أسارّك دونه، وقال له يوما: ما بلغ(24/343)
من دهائك؟ فقال: لم أدخل في أمر إلا خرجت منه، قال معاوية: لكني لم أدخل في أمر فاحتجت إلى طلب الخروج منه، وحكي أنه أسر رجل من قريش فحمل إلى صاحب القسطنطينية، فكلمه ملك الروم، فأجابه بجواب لم يوافقه، فقام إليه رجل من بطارقته فوكزه، فقال القرشي: وا معاويتاه فقد أعقلت أمورنا وأضعتنا، فأتاه الخبر، فطوى عليه، حتى احتال في فدائه، فلما وصل سأله عن اسم البطريق، فلما عرفه أرسله إلى رجل من قواد صور، وكان من قواد البحر المشاهير بالنجدة والبأس، وقال له: أنشئ مركبا يكون له مجاذيف [ص 226] في جوفه وسافر إلى بلاد الروم، على أنك سافرت مستترا منا، وتوصل بملك الروم ومكّنه، واحمل الهدايا إلى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان، يعني الذي لطم القرشي، واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلمك وقال لك: لأي معنى تهادي أصحابي وتتركني، اعتذر إليه وقل له، أنا رجل أدخل إلى هذه المواضع متسترا ولا أعرف إلا من عرفت به، فلو عرفت بك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكني إذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك، فلما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه، وأربى في هديته على أصحابه، حتى اطمأن إليه البطريق، ثم قال له: كنت أحب أن تجلب إليّ من بلاد المسلمين بساط ديباج يكون على ألوان الزهر، فقال له: نعم، ثم رجع إلى معاوية فأخبره بما طلب، فأمر أن يشترى له بساط على ما وصف له، وقال له: إذا دخلت وادي القسطنطينية أخرج البساط وابسطه على ظهر المركب، وتربص حتى يصل إليه الخبر، لعله يحمله الشره على الدخول إليك، فاذا حصل عندك، عرّفت رجالك بالإمارة ليخرجوا المجاذيف المخبأة وتكر به راجعا إلى بلاد الإسلام، ففعل ما أمره به، فلما بسط ذلك البساط على مركبه، وأتى البطريق الخبر، فحمله الحرص والنشاط إلى أن دخل إليه، فلما حصل في المركب أظهر الإمارة التي كانت بينه وبين رجاله، وكرّ به راجعا إلى بلاد الإسلام، حتى وصل به إلى معاوية، فأحضر معاوية القرشي، وقال له: هذا(24/344)
صاحبك؟ قال: نعم، قال: فقم فاصنع به مثل ما صنع بك ولا تزد، فقام القرشي فوكزه كما كان فعل به العلج، ثم قال معاوية للعلج: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتص ممن حولك، ثم قال للذي أتى به انصرف به إلى أول أرض الروم واتركه واترك له البساط، وكل ما سألك أن تحمله إليه من هدية، فانصرف به إلى فم وادي القسطنطينية فوجد ملك الروم قد صنع [ص 227] سلسلة على فم الوادي، ووكل بها الرجال، فلا يدخل أحد الوادي إلا بإذنه، فأخرج به العلج وكل من كان معه ومن معه، فلما وصل إلى ملكه وصف له ما صنع به معاوية، قال: هذا ملك كثير الحيلة، فعظم معاوية في أعينهم، وفي نفوسهم، فوق ما كان.
ومن حيله التي انعكست عليه أمر زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلام القرشي، وكان واليا على العراق لمعاوية، وكانت زينب مثلا في نساء زمانها، جمالا ومالا وشرفا وأدبا، وكان يزيد بن معاوية قد سمع بما هي عليه، ففتن بها، فلما عيل صبره فاستراح بالحديث إلى بعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصي خاصا بمعاوية، فذكر له ذلك، فبعث معاوية إلى يزيد، فسأله، فبث له حاله، فقال: مهلا يا يزيد، فقال: أتأمرني بالمهل وقد عيل الصبر، فقال: اكتم يا بني أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ثم أخذ معاوية في الحيلة ليزيد، فكتب إلى عبد الله بن سلام أن أقبل حين تنظر كتابي هذا لأمر فيه حظك، فلما قدم عليه ابن سلام، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له، وأعد فيه نزله، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء، وكانا يومئذ عنده: إن الله قد قسم بين عباده نعما أوجب عليهم فيها شكرها، وحتم عليهم حفظها، فحباني منها بأتم الشرف ليبلوني، أشكر أم أكفر، وأول ما ينبغي للمرء أن ينفّذه أمر من لا غناء به عنه، وقد بلغت لي ابنة أريد إنكاحها، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام القرشي، لشرفه ودينه وفضله، ثم قال لهما، ألا فاذكرا ذلك له، وكنت قد(24/345)
جعلت لها في نفسها شورى، غير أني أرجو أن لا تخرج من رأيي، فأتيا ابن سلام، فذكرا ذلك له، ثم دخل على ابنته فقال لها: إذا دخل إليك أبو هريرة وأبو الدرداء، فعرضا عليك أمر ابن سلام، قولي لهما: عبد الله كفء كريم، وقريب حميم، غير أن تحته زينب [ص 227] بنت إسحاق، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأتناول منه ما يسخط الله فيه، ولست بفاعلة حتى يفارقها، فلما ذكرا ذلك لابن سلام قال لهما: حبذا ذلك، ومن لي به، فجاءا معاوية فذكرا له ما قال، [قال] : فدخلا إليها فاستأمراها، فلما دخلا إليها، قالت لهما ذلك القول، فقال: اذهبا فأعلماه، فلما أتياه فأعلماه، ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب، أشهدهما بطلاقها وبعث بهما إليه خاطبين، فلما أتياه أظهر الكرامة لفعله، وقال: ما كنت لأستحسن له طلاق امرأته، فانصرفا إلى غد ثم استأذناها، ثم كتب إلى ابنه يزيد بالخبر، ثم شرع في مطل ابن سلام والأخذ به من يوم إلى يوم، ثم أبت بنت معاوية إلا المنع، فعلم أنه إنما خدع، فقال: ليس لأمر الله راد، ولا لما لابد منه صاد، فإن المرء وإن كمل له حلمه، واجتمع له عقله، واستد «1» رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد، ولعل ما سولوا به، واستجدلوا به «2» ، لا تدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره، فلما انقضت أقراؤها، وجه معاوية أبا الدرداء «3» إلى العراق خاطبا(24/346)
لزينب على ابنه يزيد، خرج حتى قدمها، وبها يومئذ الحسن بن علي رضي الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فلما رآه قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته، ثم قال له: ما أتى بك يا أبا الدرداء؟ قال: وجهني معاوية خاطبا على ابنه يزيد، زينب بنت إسحاق، فقال له الحسن، لقد كنت أريد نكاحها، وما أخرته إلا لينقضي إقراؤها، فاخطب رحمك الله عليّ وعليه، وابذل لها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه، فقال: أفعل، فلما دخل عليها أعلمها بما كان، فقالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءني وأنت غائب، لأشخصت فيه الرسل إليك واتبعت فيه رأيك ولم أقطعه دونك، فأما إذا كنت أنت المرسل، فقد فوضت أمري بعد الله إليك، وجعلته في يديك، فاختر لي أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض في قصدي بالتحري ولا يصدّنّك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيا، ولا أنت عما طوقتك [ص 229] غنيّا، فقال أبو الدرداء:
أيتها المرأة، إنما عليّ إعلامك، وعليك الاختيار لنفسك، قالت: عفا الله عنك، إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لي عنك فلا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حملتك، والله خير من روعي وخيف، إنه بنا خبير لطيف، فلما لم يجد بدّا من القول قال: أي بنية، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسن، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه، قالت: قد اخترته، فتزوجها الحسن عليه السلام، وساق لها مهرا عظيما، وبلغ معاوية ما فعل أبو الدرداء فتعاظمه جدا، ولامه شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى ركب خلاف ما يهوى، وكان عبد الله بن سلام قد استودعها مالا قبل شخوصه إلى الشام، مالا عظيما، فلما طال مكث ابن سلام بدمشق، جفاه معاوية لقوله فيه إنه خدعه، فشخص إلى العراق، وهو لا يظن إلا جحودها الوديعة لطلاقه لها من(24/347)
غير ما سبب، وبقي لا يعرف ما يصنع، فأتى الحسن رضي الله عنه، فأخبره بخبر الوديعة ليقول لها، فلما أتاها قال لها إن ابن سلام أتاني فذكر لي أنه كان استودعك مالا فأد إليه أمانته، فإنه لم يقل إلا صدقا، ولم يطلب إلا حقا، قالت: لعمري لقد صدق، ولقد أودعني مالا لا أدري ما هو، فادفعه إليه بطابعه، فأثنى عليها الحسن خيرا، ثم قال لها: ألا أدخله عليك حتى تبرئي إليه منه كما دفعه إليك، ثم لقي عبد الله وقال له ما قالت، فادخل عليها وتوفّ مالك منها، ثم أخذه ودخل به عليها، فأخرجت إليه المال، فشكر وأثنى، ثم أعطاها بعضه وقال: خذي فهذا مني، فبكيا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به من الفراق، فرقّ الحسن لهما ثم قال: اللهم [ص 230] أنت تعلم أني لم استنكحها رغبة في مالها، ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها، وأنا أشهدك أنها طالق ثلاثا، فشكراه، فسألته زينب أن تعيد إليه ما كان ساق إليها، فأبى، فلما انقضى إقراؤها تزوجها ابن سلام، ثم بقيا زوجين متصافيين إلى أن فرّق الموت بينهما، وحرمها الله يزيد بن معاوية.
وكان معاوية يقول: لا أضع سيفي حين يكفيني سوطي، فإذا لم أجد بدا من السيف ركبته، ومما روي من حلمه أنه كلّم الأحنف «1» يوما كلاما عاتبه(24/348)
فيه، فقال له الأحنف: مهلا يا أمير المؤمنين، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جنوبنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي عواتقنا، وإن الخيل التي طاردناك بها لعلى مرابطنا، وإن الرجال الذين دهمناك بهم لحول بيوتنا، فإياك وما يردها فتية، فقال: عذرا يا أبا بحر.
وبعث معاوية إلى رجل من الأنصار بخمس مائة دينار فاستقلها، فأقسم على ابنه أن يأتي معاوية فيضرب بها وجهه، فانطلق حتى أتاه، فقال: ما جاء بك يا ابن أخي، قال: يا أمير المؤمنين، إن لأبي طرّة، وقد قال لي كيت وكيت وعزمة الشيخ على ما قد علمت، فوضع معاوية يده على وجهه، وقال: افعل ما أمرك به أبوك، وارفق بعمك، فرمى بالدنانير، وأمر معاوية للأنصاري بألف دينار، وبلغ الخبر يزيد، فدخل على معاوية مغضبا، فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا، فقال: أي بني، إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة.
وذكر [أبو] عمرو بن العلاء أن جابر بن عبد الله الأنصاري، وفد على معاوية فاستأذن، فأبطأ عليه الأذن، ثم أذن له، قال له: ويلك يا معاوية، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حجب ذا حاجة وفاقة حجبه يوم حاجته وفاقته) ، فقال له معاوية: وأنت [أما] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستلقون بعدي يا معاشر الأنصار أثرة) ، فلم لا صبرت يا جابر [ص 231] ، فخرج جابر مغضبا، فركب ناقته يريد المدينة، فأقبل يزيد على أبيه وقلّ ما تكلم بخير، قال: بعيد الشقة أتى للزيارة أتاك فحجبته(24/349)
وتجهمته، قال: لم أصبر عندما سمعت كلامه، قال: الحقه، فأعطه خمس مائة دينار، فلحقه يزيد، فقال له: إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذه على بعض سفرك، فقال له جابر، ارددها عليه وقل له:
[الطويل]
وإني لأختار الحياء على الغنى ... إذا اجتمعا والصبر بالبارد المحض
وأنزع أثواب الغنى ولقد أرى ... مكان الغنى ألا أهين لها عرضي
فجاء يزيد فأخبر أباه بشعره فقال: ارجع إليه فارددها عليه، وقل له:
سأمنحكم عرضي ولو شئت مسكم ... قوارع تبري العظم من كلم مضّ
ولا أحرم المعترّ إن جاء طالبا ... ولا البخل فعل من سمائي ولا أرضي
فعاد يزيد فأخبر جابرا بشعر أبيه، فقال: ارددها عليه وقل له: ما كنت أرى يا بن آكلة الأكباد في صحيفتك حسنة أنا سببها.
وبلغ معاوية أن يزيد ضرب غلاما له، فقال: يا بني كيف طوعت لك نفسك قتل من لا يستطيع امتناعا منك. ولما قدم عبد الرحمن بن حسان على معاوية، طال مقامه، فقال شعرا شبّب فيه بأخت معاوية، فغضب يزيد بن معاوية، فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، اقتل عبد الرحمن بن حسان، قال: ولم يا بني؟ قال: لأنه شبّب بأختك، قال: وما قال، قال قال:
[الخفيف]
طال ليلي وبتّ كالمحزون ... ومللت الثواء في جيرون
قال: وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله، قال: إنه يقول:
ولذاك اغتربت بالشام حتى ... ظنّ أهلي مرجمات الظنون
قال: وما علينا من ظن أهله، قال: إنه يقول [ص 232](24/350)
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص ميزت من جوهر مكنون
قال: صدق يا بني، وإنها لمن جوهر مكنون، قال: وإنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
قال: بحمد الله هي كذلك، قال: إنه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبّة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون
قال: ولا كل هذا، وضحك، وقال: ما قال أيضا، قال قال:
فيه من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون «1»
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإذا كنت خارجا عن يميني
تجعل النّد والألوة والمس ... ك صلاء لها على الكانون
وقباب قد أسرجت وبيوت ... يطيفوها [كذا] بالآس والزرجون
قال: يا بني، لا يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل تغريه فيزيد في قوله، ولكن نلقه بالتجاوز والصلة، فوصله وصرفه.
وعن زيد بن عياض قال قال معاوية: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فالفضل منّي، قال صعصعة بن صوحان: «2» بل أنت وأقصى الأمة سواء، ولكن من ملك استأثر، فغضب معاوية وقال:(24/351)
لهممت بك، فقال صعصعة: ما كل من همّ فعل، قال: ومن يحول بيني وبينك، قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال له: صدقت. ولم يعرض له.
ودخل عليه أبو الأسود الدؤلي «1» ، فإنه ليحدثه إذ حبق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عائذ بالله وبسترك، ثم خرج، ودخل عمرو بن العاص فحدثه، فبلغ أبا الأسود، فأتاه فقال: يا معاوية، إن الذي قد كان مني قد كان مثله منك ومن أبيك، ومن لم يؤمن على ضرطة لجدير أن لا يؤمن على أمر الأمة.
وأتى معاوية رجل، فسأله بالرحم، فقال معاوية: ذكرتني رحما بعيدة [ص 233] ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرحم شنّة إن بللتها ابتلّت، وإن تركتها تقصفت، ثم أخذ يغلظ القول، فقال له معاوية: دع عنك هذا وسل حاجتك، قال: مائة ناقة متبع، وألف شاة ربيّ، فأمر له بذلك.
وعن عنبر القسيم قال معاوية: ما شىء أعجب إليّ من غيظ أتجرعه، أرجو بذلك ثواب الله عز وجل.
وزوّج معاوية ابنته رملة من عمرو بن عثمان بن عفان، فسمعت مروان بن الحكم يقول له وقد عاده: إنما ولي معاوية الخلافة بذكر أبيك، فما يمنعك من النهوض لطلب حقك، فنحن أكثر من آل حرب عددا، فما أظهرت «2» أنها(24/352)
تسمع، ومكثت إلى أن خرج عمرو بن عثمان حاجا، فاستأذنته في زيارة أبيها، فأذن لها، فأتته فقال لها: ما لك، أطلقك زوجك؟ قالت: الكلب أضنّ بشحمته، وحدثته حديث مروان واستكباره إلى آل أبي العاص، واستقلاله آل حرب، فكتب معاوية إلى مروان:
[الطويل]
أواضع رجل فوق رجل تعدّنا ... كعدّ الحصا ما إن نراك تكاثر
وأمكم تزجي تؤاما لبعلها ... وأمّ أخيكم نزرة الولد عاقر
ثم لم يحقدها عليه.
ودخل أعرابي المسجد ومعاوية يخطب، فقال: أيها المتكلم اسكت أنشد جملي، فسكت معاوية، فقال الأعرابي: أيها الناس، أيها الناس، من دعا إلي جمل عليه قتب، فردد القول مرارا، فقال معاوية: أيها الأعرابي، حله حلية سوى القتب، فلعل القتب قد ضاع، ثم مضى في خطبته.
ودخل على معاوية عدي بن حاتم «1» ، وعنده ابن الزبير، فقال ابن الزبير: إن عند هذا الأعور جوابا فأحركه؟ قال: نعم، فقال له: يا عدي، أين ذهبت عينك؟ قال: يوم ذهب أبوك هاربا، وضربت أنت على قفاك موليا، وأنا يومئذ مع الحق [ص 234] ، وأنت على الباطل.(24/353)
وعن حبيب بن مسلمة الفهري قال: ركب معاوية وأنا معه، فبينا نحن نسير إذ طلع علينا رجل جميل الهيئة، فلم أره أكبر معاوية ولا اكترث له، وأكبره معاوية وأعظمه إعظاما شديدا، ثم قال: أجئت زائرا أم طالب حاجة، قال: لم آت لشىء من ذلك، ولكني جئت مجاهدا، وأرجع زاهدا، فمضى معاوية عنه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذا عقبة بن عامر الجهمي، قلت: ما أدري ما أراد بقوله، خيرا أم شرا، قال: دعه، فلعمري إن كان أراد الشر إن الشر لعائد بالسوء على أهله، قلت: سبحان الله، ما ولدت قرشية أذل منك، فقال:
يا حبيب أأحلم عنهم ويجتمعون خير، أم أجهل ويتفرقون، قلت: بل تحلم ويجتمعون، ثم قال: امض، قلما ولدت قرشية قرشيا له مثل قلبي، قلت: إني أخاف أن يكون ما تصنع ذلا، قال: وكيف وقد قاتلت عليا فصبرت على مناوأتهم وبغضهم.
وعن سحيم بن حفص قال: كانت لعبد الله بن الزبير أرض إلى جانب أرض معاوية، فاقتتل غلمان معاوية وغلمان ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى معاوية:
أما بعد، فقد غلبتنا بحمرانك وسودانك، ولو قد التقت حلقتا البطان «1» ، فاستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمرانك وسودانك لا يغنون عنك شيئا، فقرأ معاوية الكتاب ثم رمى به إلى ابنه يزيد فقال: ما عندك؟ قال: تبعث إليه من يقتله فتستريح من حمقه وعجبه، قال: يا بني، له بنون وعشيرة تمنعه إن بعثت بمائة رجل، أعطيت كل رجل ألفا، فبلغ ذلك مائة ألف، ولا أدري على من تكون الدائرة، فإن غلبوا بعثت ألفا وأعطيتهم ألف ألف، ولكنني أكتب إليه: من معاوية أمير المؤمنين إلى عبد الله بن الزبير، أما بعد، فقد جاءني(24/354)
كتابك، تذكر أنّا غلبناك بحمراننا وسوداننا [ص 235] ، وأنه إن التقت حلقتا البطان واستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمراننا وسوداننا لا يغنون عنا شيئا، وإني قد وهبتك ذلك المال بحمرانه وسودانه، فخذه خضرا نضرا، والسلام.
فكتب إليه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من عبد الله ابن الزبير، أما بعد، فقد غلبتنا بحلمك، وجدت لنا بمالك، فجزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فلما أتى الكتاب معاوية قال ليزيد: يا بني، أهذا خير، أم ما أردت.
وأنشد معاوية رجل شعرا قاله عبد الله بن همام السلولي: «1»
[الوافر]
حشينا الغيظ حتى لو سقينا ... دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم ... تصيدون الأرانب غافلينا
فقال: ما ترك ابن همام شيئا، وذكر أنه لو شرب دماءنا ما اشتفى، اللهم اكفناه.
وعن المدائني قال، قال معاوية: إني لأرفع نفسي عن أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة لا تمحوها حسناتي.
وكان يقول: لو أن بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، قيل له كيف؟ قال:
إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جذبتها.(24/355)
ومما يؤثر عنه أنه قال لابنه يزيد: اتخذ المعروف عند ذوي الأحساب، لتستميل به مودتهم، وتعظم به في أعينهم، ويكف به عنك عاديتهم، وإياك والمنع فإنه مفسدة للمروءة، وإزراء بالشرف.
ونظر معاوية إلى الهجار العدوي في عباءة فازدراه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.
وقال يوما: أعنت على عليّ بكتمان سري، وفشي أسراره، وبطاعة أهل الشام لي، ومعصية أصحابه له، وبذلي المال، وإمساكه إياه.
وكان معاوية أكولا نهما، وهو أول من نوّع في [ص 236] هذه الأمة المطاعم.
وحج معاوية، فلما كان بالأبواء «1» ، خرج يستقري مياه كنانة، حتى إذا صار إلى عجوز، فقال لها: من أنت، فقالت: من الذين يقول فيهم الشاعر:
[الطويل]
هم منعوا جيش الأحابيش عنوة ... وهم نهنهوا عنهم غزاة بني بكر
فقال لها معاوية: فإذن أنت دؤلية، قالت: فإني دؤلية، قال: أعندك قرى؟ قالت: عندي خبز خمير، وحيس «2» كثير، ولبن حزير «3» ، وماء نمير، فأناخ وجعل يأخذ الفلذة من الخبز فيملؤها من الحيس فيغمسه في اللبن ثم يأكل، حتى إذا فرغ قال: حاجتك؟ قالت: حوائج الحي، فنودي فيهم فأتاه الأعراب فرفعوا حوائجهم فقضاها، وامتنعت العجوز أن تأخذ شيئا لنفسها،(24/356)
وقالت: لا آخذ لقراي ثمنا.
وكان معاوية يجوع في رمضان جوعا شديدا، فشكا ذلك إلى ابن أثال الطبيب، فاتخذ له الكنافة، فكان يأكلها في السحور، فهو أول من اتخذها.
وحكي أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر صفين، فكان يصلي خلف عليّ، ويأكل على سماط معاوية، فاذا قامت الحرب اعتزل الفئتين، وقعد على تل هناك ينظر إليهما، فقيل له: ما رأينا رجلا يصنع مثل صنيعك، فقال: الصلاة خلف عليّ أفضل، وطعام معاوية أدسم، والقعود فوق التل أسلم وكان يقال: إنه على سعة كرمه ربما بخل على الطعام. حكي أن رجلا أكل معه فنظر معاوية إلى الرجل فرأى شعرة في لقمة تناولها من الطعام، فال له: أزل الشعرة، فألقاها من يده، ثم أبى أن يأكل، وقام وهو ينشد:
[الطويل]
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وأكل معه صعصعة بن صوحان، فتناول شيئا بين يديه، فقال له معاوية:
لقد أبعدت النجعة، فقال: من أجدب انتجع. وتغدى [ص 237] معه يوما عبيد الله بن أبي بكر، ومعه ابنه بشير، فأكثر ابنه من الأكل، ومعاوية يلحظه، فلما خرج ابن عبيد الله لامه أبوه على ما صنع، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة، قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
ولد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وتوفي في رجب سنة ستين، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة تقريبا، ومدة خلافته تسع عشرة سنة وأشهر، وقبره خارج باب الصغير بدمشق.(24/357)
ثم
98- دولة ابنه يزيد بن معاوية
أبي خالد «1» فتى ألف صباه، وكلف بنجد وصباه، ونام على فراش الرفاهة، ونادم أهل الفكاهة، وهام بما يهيم به الكلف، ويدوم عليه الشعف «2» ، لا يرد عن جماع غوايته، ولا يرتد عن طماح غايته، وعمر أيام الشبيبة بالمام الحبيبة، وتيم قلبه بالنساء، تتيم ذي الرمة بالخنساء «3» ، ووجد بكل غانية سمع بها وجد الفرزدق بنوار، وعمرو بعرار، وكان من دمشق في عرايش الكروم، وعرائس الدوم، من جني أعناب كأنّ عصارتها جني عنّاب، فعكف عليها مثواه، وعطف إليها هواه، وثوى يهتصر قطوفها، ويعتصر صنوفها، وزفّها أوقات أنسه عروسا، وحفّها حول مجلسه شموسا، وأقام لا يريم بين كأس وريم، لا يرى إلا بنانا مخضوبا بالعنم، أو بحمراء صافية كالعلم، ويروى له شعر أكثره لا يصح له بكبره من جهله، وكان أبوه يؤثره، ويعظم قليله ويكثره، يتوسم مخايل نجابته،(24/358)
ويتسم لدلائل أجابته، فمهد له في تقدمه، ووطد أكناف السرير لقدمه، ولما خاف ألا يتم له ما أراد، ولا يلم فيه رأيه بالمراد، بذل له جهد سيفه ودرهمه، فكفّ جهل عذاله ولوّمه، ولم يبق إلا ثلاثة قريش شرفا وسؤددا، وسلفا يخرس لددا، الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر [ص 238] وعبد الله بن الزبير، فجدّ في مداراتهم فما قدر، وجهد على إرادتهم وما قسر، فنصب مصايد حيله، ومكايد طيله، وأمر بأن يجمع الناس بالمدينة وفيهم أولئك الأماجد، وأوقف على رؤوسهم رجالا بأيديهم السيوف جرايد ثم أمر بأخذ البيعة ليزيد، وأخذ من خالف الأخذ الشديد، وقال: من كلّم هؤلاء، وأشار إلى الثلاثة، واضرموا بحدوة السيف حنقه، فلما اجتمع الناس قام فيهم مروان وقال: «1» أيها [الناس] إن هؤلاء رؤوسكم وسادتكم، وقد أعطوا البيعة، فقوموا فبايعوا، فما منهم إلا من بايع ومن تابع، إلا أولئك النفر، إلا أنهم ما استطاعوا أن يتكلموا، ولا استطالوا إلى أكثر من أن يتألموا، ثم كان من خروج الحسين وابن الزبير ما كان، هذا إلى العراق وهذا إلى مكة، وما فينا فيما يزعزع ملكه، إلا أن الحمام عاجل سيد الشهداء الحسين، وأدلى له الحين، وفزع ابن الزبير لمنابذته، وقرع ظبة الحرب لمؤاخذته، ثم لم يتمكن من قتاله، ولم يتبين له وجه احتياله، فأخرها إلى أوانها، وادخرها إلى إبّانها، ثم وثب إليها وثوب الفهد، ودأب لها دؤوب الفرس النهد، وأما ابن عمر، فدخل فيما أجمع الناس عليه وبايع، وجمع أطراف قومه وما نازع، ثم كان من مصرع الحسين ما صرع الدموع، وصدع الضلوع، وكسر القلوب كسرا لا يجبر، وأمات للإسلام ميتا لا يقبر، فآها لها رزية فتّت العضد، وفلّت السيف والغمد، لقد أنضبت(24/359)
الثّمد، وأنضت بطلاب مثلها المهرية الأجد «1» ، فيا لها فجيعة، ويالها من مصيبة وجيعة، لعمر أبيه لقد نبذ غير مليم، ولقد عكفت الطير منه على لحم كريم، وقد تقدم منه طرف في ذكره وهذا الآن موضع شرحه، وسنذكر منه ما يزيد القلب قرحا على قرحه، ويتبعه وما اندمل الأول جرحا على جرحه [ص 329] وصفا الأمر ليزيد، ليته ما صفا، واشتفى ليته لو كان أصبح على شفا، فكم أساء على قصر مدة أيامه مرة، وأذاب القلوب وأسال عن المدامع الحرة، فأما كربلاء، فتلك كرب وبلاء، وبالطف ما طف، وكم بوارق بات يوقدها، وبوائق مات وهو يحقدها، هذا كله من وراء تخلف لا كفاية، وتعسف لابد راية، كان يلعب بالنرد، وينادم القرد، ويشتري لهو الحديث بمال الله لا بماله، ويسخط الله بعمله هذا وسائر أعماله، ودام على قبيح فعلاته، وفضوح ضلالاته، حتى مات، وليته لا ولد ولا ولا عرف، فلا ذم ولا حمد، أتاه وهو بحوارين «2» [نعي] أبيه معاوية، فجاء وقد دفن، فقال: «3»
[البسيط]
جاء البريد بقرطاس يحثّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقلعا
ثم ابتعثنا على خوص مزممة ... نرمي العجاج بها لا نأتلي سرعا(24/360)
وما نبالي إذا بلّغن أرحلنا ... ما مات منهن بالبيداء أو ظلعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
ثم ارعوى القلب منّي بعد طيرته ... والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعا خليطا قاطنين معا
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
ثم صعد الضحاك بن قيس الفهري «1» المنبر، وفي يده أكفان معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية أمير المؤمنين، كان عود العرب، وحدها ونابها، قطع الله به الفتنة، وجمع به الكلمة، وملّكه حرايم العباد، وفتح له البلاد، إلا أنه قد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، ثم مدلجوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، ثم هو الهرج «2» إلى يوم [ص 240] القيامة، فمن كان يريد أن يشهده فليحضر عند الظهر، ثم أتى يزيد بن معاوية قبر معاوية وترحم عليه، ثم أتى المنبر فخطب، ثم قال: إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله، فهو أعلم به، فإن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وإني لن آبى عن طلب، ولا أعتذر(24/361)
من تفريط، وعلى رسلكم، إذا أراد الله شيئا كان. فقام إليه عطاء بن أبي صيفي الثقفي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رزيت الخليفة، وأعطيت الخلافة، قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، وأنت أحق بالسياسة، فاحتسب عند الله عظيم الرزية، واشكره على حسن العطية، أعظم الله على أمير المؤمنين أجرك، وأحسن على الخلافة عونك. ثم أتاه عبد الله بن همام السلولي فقال: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في الخليفة، وبارك لك في الخلافة، ثم أنشد:
[البسيط]
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر عطاء الذي بالملك أصفاكا
أصبحت لا رزء في الأقوام تعلمه ... كما رزيت ولا عقبى كعقباكا
أعطيت طاعة أهل الأرض كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية [الآتي] لنا خلف ... إذا قعدت ولا نسمع بمنعاكا «1»
وأرسل يزيد إلى الوليد بن عقبة «2» بأخذ البيعة على الحسين وابن عمر وابن الزبير، ثم سائر الناس، فقال لمروان: ما عندك في هذا؟ قال: اطلبهم ليلا(24/362)
وخذهم بالبيعة، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم، فطلبهم ليلا فأتوه، فطلبهم بالبيعة، فخاف ابن الزبير أن يهنأ، فبدر فقال: ما عندنا خلاف، ولكن يقال إنما بايعوا خوفا، وإنما ادعوا الناس إلى المسجد لنبايع، تشهد الناس وبايع الناس، فقال: أفعل، فأوتي إليه مروان أن اضرب أعناقهم، فأبى، وخرجوا من عنده، فقال له مروان: والله لا أصبح منهم بالمدينة أحد [ص 241] ، فكان هكذا، خرجوا ليلتهم تلك من المدينة، فأما ابن عمر فذهب إلى مال له، وبعث يقول:
إذا اجتمع الناس بايعت، فتركوه لعلمهم بزهده، وأما ابن الزبير فانطلق إلى مكة، وأما الحسين فألهاهم عنه طلبهم لابن الزبير، ثم سار الحسين يريد مكة، فقال: ما كنت لأنطلق على مكان به ابن عمر ولا أراه، فأتاه فأعلمه أن أهل العراق بعثوا له كتبا وقر جمل، فقال: إياك وهم، فهم أهل غدر، ولقد كان أبوك أكرم عليهم منك وما وفوا له، فلما أتى عانقه وقال: استودعك الله من قبيل، ثم أتى الحسين عبد الله بن مطيع العدوي، فقال له نحو قول ابن عمر، فأبى وأتى مكة، فرأى ابن الزبير انه لا يتم له مع وجود الحسين، فحسّن له قصد العراق، حتى ذهب فقتل كما تقدم في ذكره «1» ، ثم قام ابن الزبير يذكر مقتله، ويلعن قتلته، ويدعو إلى الشورى، ويستر أمره ويقول: أنا عائذ بهذا البيت، ثم باح ومد يديه للمبايعة فبويع. واعر له يريد الحيس «2» ، ثم لم تحن منيته إلا في زمن عبد الملك، على ما يأتي ذكره.
وحكى البلاذري عن يزيد أنه أول من أظهر شرب الشراب، والاشتهار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة، ثم جرى في زمنه قتل الحسين ابن علي(24/363)
عليهما السلام، وقتل أهل الحرة، ورمي البيت وإحراقه، وكان مع هذا صحيح العقيدة، ماضي العزيمة، لا يهمّ بشىء إلا ركبه، ووقع بين غلمانه وغلمان عمرو بن سعيد الأشدق فأغضبه ذلك وأمر بإحضار أولئك الغلمان، فلما أتي بهم قال: خلوا سبيلهم، ثم قال: إن القدرة تذهب الحفيظة.
وأخطأ يزيد في شىء وهو صغير، فقال له مؤدبه: أخطأت يا غلام، قال يزيد: الجواد يعثر، قال المؤدب: اي والله ويضرب، قال يزيد: اي والله ويرمح سائسه فيحطمه. وكان يزيد على علاته جوادا كريما، فيما روي أنه أجار عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أربعة آلاف ألف درهم، وكان لا يعد وعدا بكرم إلا أنجزه، وفيه يقول [ص 242] عبيد بن حصين الراعي: «1»
[البسيط]
راحت كما راح أو تغدو بغدوته ... عنس وخود عليها راكب يفد
تنتاب آل أبي سفيان واثقة ... بسيب أبلج منجاز لما يعد
وكان أيام أبيه معاوية خير من يحضره من جلسائه.
حكي أن عقيل بن أبي طالب «2» دخل يوما على معاوية وقد كفّ بصره،(24/364)
فأجلسه إلى جانبه على سريره، ثم جاء بعده عتبة «1» أخو معاوية، فأجلسه بينه وبين عقيل، فلم يره، فقال له معاوية: أنتم يا معشر بني هاشم لم تصابون في أبصاركم، فقال عقيل: كما تصابون يا معشر بني أمية في بصائركم، فتنحنح عتبة ليتكلم بشر، فأومأ إليه معاوية أن اسكت، فقال عقيل: من هذا الذي أجلسته يا معاوية إلى جانبي، فقال معاوية: هو أخوك وابن عمك عتبة، فقال عقيل: لئن كان أقرب مني إليك، فإني أقرب منه ومنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سماء، وكان يزيد غلاما واقفا في الشبيبة، فابتدر فقال: يا عم، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمر أمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره، فأسكت عقيلا، وكان لسان قريش.
وولد يزيد [سنة خمس أو ست وعشرين] «2» ، وركب «3» فرسا فرداه، فمات يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ومدة عمره تسع وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون، ومدة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر تقريبا، وقبره بحوارين، وقيل إنه نقل إلى مقبرة دار الصغير بدمشق.(24/365)
ثم:
99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية
أبي عبد الرحمن، «1» ويعرف بأبي ليلى، وهو در تكشف عنه صدف، وفجر تكشط عنه سدف، وتبر أخرجه رغام، وزهر أنبته ركام [ص 243] ، أتى وبنو حرب قد أسرت على الرقاب ظباهم، وعقدت على الملك حباهم، فما أهمّه زخرفهم، وما أعظمه أن أعرضوا مصرفهم، فكان عجبا في أولئك، وعجلا إلى الاتكاء على الأرائك، زهد فيما رغب فيه بنو أمية، وغرب نجمه وما طلع على ما كانوا فيه، أتته الدنيا منقادة فردها، وجاءته مواصلة فصدها، فما غرّه بردها القشيب، ولا سرّه وردها قبل المشيب، عصمة من الله، وقته سهام عواديها، وكفته سهام أعاديها، وكان أجله قصيرا، ما أجله إلا يسيرا، أقام أربعين يوما، ثم انتقل وتزوّد شكرا، ولا لوما، ومات ولم يعهد، ومال سريره ولم يشهد، ولقد قالت له أمه: يا بني اعهد، فبالغ في ردّها، وقال: ما كنت لأذهب بحرّها، ويذهب بنو حرب ببردها، فأبى أن يتطوق بها، لا حيا ولا(24/366)
ميتا، أو يتعلق بها لا منجزا ولا موقنا، وبموته انقضت دولة بني حرب، ونقضت حبالها في كل شرق وغرب، ثم لم تقم لهم قائمة إلا من نجم وما طلع، وتحامل فأعجزه الظلع، إلا ما وضعه خالد بن يزيد، أن سيكون لهم دولة يقوم بها قائم يسمى السفياني، أراد بهم أن لا تنقطع منهم الأماني، ولقد خرج منهم بأطراف الشام من تسمّى بهذا، ثم ما طار حتى وقع، ولا أسفر محياه حتى امتقع، ولا أشرف رأسه حتى خضع، ولا أسرف حتى بطل، ما خلد خالد وما وضع.
ذكر البلاذري أن أباه يزيد بن معاوية، كان قد مرض بعد ولايته بسنتين من كبده، فلما برئ واستقل، أتاه ابنه معاوية، وأمه أم هاشم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عنده، وكانت امرأة برزة عاقلة، فقالت له: لو عهدت إلى معاوية، فقال: هكذا أفعل، ثم قال لحسان بن مالك بن بحدل: إني أريد البيعة لمعاوية بن يزيد [ص 244] ، فقال: افعل، فدعاه يزيد فصافقه «1» بولاية العهد، وبايع له حسان بن مالك والناس، وهو كاره، وكان معاوية بن يزيد فتى صالحا متألها، كثير الفكر في أمر معاده، ولا يكاد يلتفت إلى أمر الدنيا، ولا يبالي كيف تقضت به، وإنما كني أبا ليلى للينه، وهي كنية كل ضعيف، ثم جدد يزيد له البيعة حين احتضر، فلما مات بايعه الناس، وأتته بيعة الآفاق، إلا ما كان من ابن الزبير، ولما أفضى الأمر إليه، قام خطيبا فقال: أيها الناس، إن يكن هذا الأمر خيرا فقد استكثر منه آل أبي سفيان، وإن يكن شرا، فما أولاهم بتركه، والله ما أحب أن أذهب إلى الآخرة وأدع لهم الدنيا، ألا فليصل بكم حسان بن مالك، وتشاوروا في أمركم، عزم الله لكم الرشد، والخيرة في قضائه، ثم نزل فأغلق بابه وتمارض فلم ينظر في شىء، ولم يعزل معاوية أحدا من عمال أبيه، ولا حرّك شيئا، ولا أمر ولا نفى، وكان حسان يصلي بالناس، وهم منكرون(24/367)
لأمرهم حتى مات، ولما مرض قيل له: لو بايعت لأخيك خالد بن يزيد، فإنه أخوك لأبيك وأمك، فقال: يا سبحان الله، كفيتها حياتي وأتقلدها بعد موتي، يا حسان بن مالك، اضبط ما قبلك، وصل بالناس، إلى أن يرضى المسلمون بإمام يجتمعون عليه، واخلعوني فأنتم في حل من بيعتي. فقالت له أمه أم هاشم: لوددت يا بني أنك كنت نسيا منسيا، قال: وددت والله أني كنت نسيا منسيا ولم أسمع بذكر جهنم، ثم دخل عليه مروان بن الحكم، وكان قد قدم من دمشق، فقال له: لقد أعطيت من نفسك ما يعطى الذليل المهين، ثم رفع صوته فقال: من أراد أن ينظر في حالته إلى حرب بن أمية فلينظر إلى هذا، فقال له معاوية: يا بن الزرقاء اخرج عني، لا قبل لك عذرا يوم القيامة.
ويقال: إنه لما مات، قام مروان على قبره وقال: أتدرون من دفنتم؟ [ص 245] قالوا: نعم، معاوية بن يزيد، قال: بل دفنتم أبا ليلى، فعرف فيما بعد بها.
ثم كانت لبني أسد بن عبد العزّى دولة قام بها:
100- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه
وكانت دولة صلاح «1» ، ومدة فلاح، وزمان ملك شجاع، غير كريم، زنده شحاح، وعهده ما فيه سوى صوب دم سحاح، وهو أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة للمهاجرة، وضجت بالتكبير لمولده أرجاء تلك الحاضرة، وقد كانت يهود زعمت أنه لا يولد لهم ولا ينتج طير طيبة نسلهم (كذا) ، وكان [الزبير] زعيم يوم الجمل، وكان هو الذي يصلي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مدة تلك الوقيعة الدائرة بمحنها والنوبة التي أشابت نواصي الليالي أيام فتنتها،(24/368)
ثم كانت مقدمة لبلية صفين، وشفاء صدور قوم ما شفين، ودامت مدته ثم لم تزل إلا على يد الحجاج زمان عبد الملك بن مروان، ستذكر عند انتهائها في ذلك الأوان، ثم لما انقضت دولة بني حرب، وفرغت منها الأيام، ونزعت في صدور الزمان شياطين أنصارها اللئام، أعقبتها الدولة المروانية، تنزوا قردتهم على المنابر، ويعلوا صغارهم مكان الأكابر، إلا فرد رجل واحد غلب عليه شيمة خاله لا عمه، وما مال إلى جده لأبيه إلا لأمه.
وأولها:
101- دولة مروان بن الحكم
ابن أبي العاص «1» بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو عبد الملك،(24/369)
كان أبوه الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن تلقى عثمان الأمر وتسلم، وهو أحد ما انتقد على عثمان، وحقد على أبي سفيان، كان معاوية [ص 246] يعاقب بينه وبين سعيد بن العاص، ويراقب منه سطوة الأسد على القناص، خوفا من توثبه، وخوضا في حديث كان يخشى تسببه، فكان يداريه ويدرأ حده بشبهة أنه يوليه، ولم يزل مذ كان عيبه عناد وغيبة، ما توارى في زناد يقدح كل شر، ويجدح حماه كل ضر، ويقسو في موضع اللين، ويعتو في متبع الدين، إلا أنه كان من رجال قريش حزما لا يغلط، وعزما لا يغمط، ملقح حرب حيال، وملحق ترح بحي حلال، يلف آخر الخيل بأولها، ويدير مدبرها على مقبلها، تعرض للحرب حتى صلي بها، وبلي لما بلي عجم عيدانها بصليبها، أخرجه عمال ابن الزبير على المدينة في بني أمية، وأحوجه الاستعجال إلى الخروج على عمّيه، فخرج أجرأ من ابن سميّة «1» ، وأجرأ من عمرو بن أمية، قال منتهكا وآب ملكا، ما برح يسول له القيام ويناجي ضمائره، وينادي سرائره، حتى أخرج هذا المخرج، خرج لضائقة المخرج، فسار يريد الشام، وهو لا يعرف كيف يسير، ولا على رشد يمشي أم تغرير، فلما كان بالطريق، وهن لقلة ناصره، وذلة أهل أواصره، فهمّ أن يعطي بالمبايعة يده، ويعرى من لبوس المقارعة حسده، فقال له رجال: أو مثلك وأنت شيخ بني عبد مناف ترضى أن تكون لفتى من بني أسد مربوبا، ومعه هذه الرماح ما قصف من صلبها أنبوبا، وهذه الأسنّة تتقد ولا تدع جمر الحرب مشبوبا، فحينئذ ألوى بأنفه الشمم، وبعطفه التيه على منابت اللمم، ودعا إلى نفسه، وسعى كالأرقم بكشر أنيابه لنهشه،(24/370)
وكان الأمر قد كاد يتم لابن الزبير ويدوم من أجمع على خير، ومما دان له دمشق وسائر الشام، إلا حمص، ولم يكونوا على نزاعه أهل حرص، إلا أن عامل بني أمية كان بها متماسكا، وبزمام حزبها ماسكا، هذا مع ما كان قد اجتمع له من طاعة أهل الحجاز والعراق، وقلة [ص 247] طماعه من تظاهر له بالشقاق، وإنما مروان قام غير متكل، بسير ولا ضجر ولا وكل، وعضده من ذوي قرابته، رجال بل نصال، لا مجال معها لانفصال، وقامت اليمانية معه على القيسية، وصوب كل قبيل إلى الآخر سهامه وقسيه، وكانت اليمانية أموية، والقيسية زهرية بلا مثنوية، ودخل مروان دمشق، ثم أتى تل راهط، يحاشي حل كل رابط، هنالك كان موعد اللقاء، ومورد عدم البقاء، وشبت الحرب العوان، وشبّت بعد المشيب همّة مروان، حتى أحرز من الملك ما ورثه بنوه بعده، ومات وأورثه ولده، وأمه آمنة بنت علقمة الكناني، وأمها الزرقاء التي يعيرون بها، وهي مارية بنت موهب الكندي، وكان موهب قينا، وكان مروان يسمى خيط باطل لطوله ودفّته، شبّه بالخيط الأبيض الذي يرى في الشمس، وكان قارئا للقرآن حازما حزما.
كان كما قلنا رأس كل هوى، وأسّ كل بلوى، ولما نهضت سمعة ابن الزبير، كتب إلى عبد الله بن مطيع «1» ، وكان عامله على المدينة، في نعي بني أمية، ومروان يومئذ شيخهم، وابنه عبد الملك ناسكهم وموضع رأيهم، وكان بعبد(24/371)
الملك جدري، قد ظهر به، فوجدوا مشقة عظيمة لمخرجهم، فحمل عبد الملك على جمل شدّ عليه شدا، وأكبر قريش هذا على ابن الزبير، وقالوا له: إنما بعثت عليك أراقم لا يرقى سليمها، فكتب إلى ابن مطيع بإقرارهم بالمدينة، فبعث يردهم، فأبوا أن يردوا، وقد سول لمروان الأمر، فأتوا الشام وقد بايع الناس لمعاوية، وهو كاره لذلك، ثم لم يلبثوا أن مات معاوية، وظن ابن الزبير أن قد صفا له الأمر، وبث ولاته، وأطاعه أكثر أهل الشام، إلا حسان بن مالك بن بحدل «1» وقوما معه، فإنهم دعوا لخالد بن يزيد، فقال له ابن غضاة الأشعري:
أراك تريد هذا الأمر لخالد بن يزيد [ص 248] وهو حديث السن، فقال: إنه معدن الملك، ومقر السياسة والرياسة، فأتى ابن غضاة خالدا فوجده نائما ضحى نهار، فقال: يا قوم، أنجعل نحورنا أغراض للأسنة والسهام لهذا الغلام وهو نائم في هذه الساعة، وإنما صاحب هذا الأمر المجد المشمر الحازم المتيقظ، فأتى مروان بن الحكم، فألفاه في فسطاط، وإذا درعه إلى جنبه، وعليه سيفه والرمح مركوز بفنائه، وفرسه مربوط إلى جانب الفسطاط، والمصحف بين يديه، وهو يقرأ القرآن، فقال ابن غضاة: يا قوم هذا صاحبنا الذي يصلح له الأمر، فرجعوا إلى حسان بن مالك، فأخبروه بخبر خالد ومروان، وأعلموه أنهم مجمعون على مروان، فقال ابن بحدل: رأيي لرأيكم تبع، إنما كرهت أن تخرج الخلافة من أهل هذا البيت، ثم قام حسان خطيبا، فحمد الله، ثم ذكر مروان وأثنى عليه، وقال: قوموا فبايعوا، فقاموا فبايعوه، وأقبل الضحاك حتى نزل مرج راهط «2»(24/372)
داعيا إلى ابن الزبير، وقد اجتمعت بنو أمية بالجابية «1» ، فقال مالك بن هبيرة «2» للحصين: هلم نبايع لخالد بن يزيد، فقد عرفت مرتبتنا كانت من أبيه، فقال الحصين: لا والله، لا يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي، فقال مالك: ويحك، إن مروان وآل مروان يحسدونك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تظل بها، وهو أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، فقال:
مروان شيخ قريش ومن يديرنا ويسوسنا، خير ممن نديره ونسوسه، فأجمعوا على مروان على أن يكون بعده خالد بن يزيد، ثم عمرو بن سعيد، فبويع مروان ولم يقع لهما اسم معه، فلما دان لمروان أصحابه، سار بهم يريد تل راهط، وعلى ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زحر بن أبي شمر الهلالي، وثار يزيد بن أبي اليمن على دمشق، فغلب عليها [ص 249] ، ودام القتال بين مروان والضحاك «3» عشرين ليلة، وكان مروان يرتجز فيها ويقول:(24/373)
[الرجز]
لما رأيت الأمر أمرا صعبا ... سيرت للقوم سراة غلبا
لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيس فقل لا قربى
ثم كانت آخر تلك الأيام ونهاية ذلك القتال اللزام، أن انجلت سحابة الحرب العوان عن تبلج النصر على قسمات مروان، ودخل دمشق فبايع له أهلها، واستوسق له الشام والجزيرة، وأنشده بعض الأنصار:
[السريع]
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
وأنشده زياد الأعجم: «1»
[الوافر]
رأيتك أمس خير بني لؤي ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف خيرا ... كذاك تكون سادة عبد شمس
فأجازه ألف دينار، وقيل بل كان إنشاده إياهما بالمدينة، ولما انجلت نوبة تل راهط عن نصرة مروان، فرّ زفر بن الحارث «2» إلى قرقيسياء «3» ، فدخلها وجعل(24/374)
يرثي قتلى راهط، فمن ذلك قوله:
[الطويل]
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيننا متساويا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ما هيا
وقد ينبت المرعى على دمن الربى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أبعد ابن صقر وابن عمرو تتابعا ... ومصرع همّام أمنّا الأمانيا
فأجابه ابن مخلاة الكلبي:
[الطويل]
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفر فردا من الداء باقيا
تبكّي على قتلى سليم وعامر ... وذبيان معروفا تبكّي البواكيا [ص 250]
ومما قال زفر أيضا:
[الطويل]
ويوم ترى الرايات بيضا كأنها ... حوائم طير مستدير وواقع
مضى أربع بعد اللقاء ورابع ... وثول أطلته السيوف القواطع «1»
طعنا زيادا باسته وهو مدبر ... وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع
ونجّى حبيبا ملهب ذو غلالة ... وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع
وقد شهد الصفّين عمرو بن مخدم ... فضاق عليه المرج والمرج واسع
ثم استخلف مروان ابنه عبد الملك بدمشق، فسار إلى مصر، وكان عليها عامل ابن الزبير، فافتتحها، ثم تزوج أم خالد ليغضّ من ابنها خالد بن يزيد، وكان هو وعمرو بن سعيد يدعيان أن الأمر لهما بعد مروان، فكلم حسان بن(24/375)
مالك في ذلك وقال: إني أريد أن أعهد إلى ابني عبد الملك ثم عبد العزيز، فقال: أنا أكفيك هذا الأمر، فلما اجتمع الناس عند مروان، قام ابن بحدل فقال: إنه يبلغنا أن رجالا يتمنون أماني، ويدعون أباطيل، فقوموا فبايعوا لعبد الملك ابن أمير المؤمنين بالعهد، ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس مسارعين من عند آخرهم، وكان مروان قال لحسان: بلغني أنك تقول أنك اشترطت على مروان أن يولي خالد بن يزيد الخلافة بعده، فحداه ذلك على الجد، وتبعه عبد الملك ما أبلغ مروان عنه، ثم عقد مروان لعبيد الله بن زياد على العراق والجزيرة، ووجهه فقتل بالموصل قتله إبراهيم بن الأشتر، وبعث إلى ابن الزبير جيشا عليه يوسف بن الحكم الثقفي، ومعه يومئذ ابنه الحجاج، فأتوا وادي القرى «1» ، فهرب عامل ابن الزبير عليها، ووضعوا عليها ضريبة أدوها إليهم، ثم نزلوا بذي المروة «2» فلقي أهلها منهم عنتا، وبلغ أهل المدينة ما نابهم، فبعث بشر من الصالحين، وقيل لسعيد بن المسيب «3» : لو تغيبت أو أتيت البادية، فقال: فأين فضل الجماعة، والله لا رآني الله والناس أخوف عندي منه، ثم ساروا [ص 251] حتى أتوا المدينة، ثم صعد يوسف بن الحكم الثقفي المنبر، فقال: يا أهل المدينة، يقول الله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ(24/376)
والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) «1» ، فكيف رأيتم ما صنع الله بكم، والله لا يتكلم أحد منكم بكلمة إلا ضربته بسيفي هذا، ثم لاقوا بالربذة «2» جيشا كان قد أقدمه ابن الزبير من البصرة، وكانت الدائرة على جيش مروان، وفر يوسف الثقفي ورديفه ابنه الحجاج على فرس، وكان الحجاج يقول: ما أقبح الهزيمة، لقد كنت ورجل آخر- يعني أباه- فانهزمنا على فرس، فركضنا ثلاثين ميلا، حتى قام بنا الفرس، وإنه ليخيل إلينا أن رماح القوم في أكتافنا، وجعل ابن الزبير لمن يأتيه بيوسف الثقفي وابنه جعلا، فلم يقدر عليهما.
ثم كان بين مروان وبين خالد بن يزيد «3» كلام، فقال له يا ابن الرطبة، فقال خالد: والله لقد أضعت الأمانة، وفضحت الستر، ثم دخل عليها فقال: يا أماه، ماذا ألحقت بي من العار، قالت: وما ذاك يا بني، فقال لها ما كان من قول مروان، فقالت: أما والله لا تسمع منه شيئا تكرهه بعدها أبدا، فلما دخل عليها «4» مروان، قال لها: قد كان مني إلى خالد كلام، فهل قاله لك، فقالت:
أنت يا أمير المؤمنين أجل في صدر خالد وأكبر في عينه من ذلك، ثم تركته(24/377)
حتى نام، وعمدت إلى مرفقة محشوة ريشا، فجعلتها على وجهه وجلست عليها حتى مات غمّا، ثم صرخت وجواريها وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة، وقيل: بل كان يعجبه اللبن فجاءته بلبن مسموم، فقال: ايتوني به إذا أفطرت، فلما أفطر أتوه به فشربه، فاعتقل لسانه، وصرخ جواريها، وأقبل يشير إلى من اجتمع إليه من ولده وغيرهم، أنها قتلتني، وجعلت هي تقول: أما ترونه يوصيكم بي ويشير إليكم بحفظي [ص 252] .
وولد مروان لثلاث من الهجرة، وتوفي في رمضان سنة خمس وستين، وهو في ثلاث وستين سنة، ومدة خلافته تسعة أشهر وأيام، وقبره بدمشق.
ثم:
102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان
ابن الحكم «1» ، أبو الوليد، الفحل الذي لم يخطم، والرمح الذي لم يحطم، سهم لا تعدله خطا، وسيف لا يحدث لنبوته نبا، ثارت عليه ثوار فوطئهم بميسمه، وأبكاهم دما بدوام تبسمه.
كان ابن الزبير بمكة، وأخوه مصعب بالعراق، وخرج عليه عمرو بن(24/378)
سعيد «1» بدمشق، وكاد يصيبه الرشق، ويصل إليه من تغريق الخطبة المشق، وأحاط به البلاء، وادّاركت عليه النّوب الولاء، وظن أنه قد أخذ، وأن ملكه قد تمزق، وهو مع هذا جمل تحمل ما حمل، وجبل لو تقسمه أهل الأرض ما حوّل، فجثا على ركبتيه، وجفا المنام مقلتيه، وادّكر تحيف القوم لممالكه، وتحيّن الأوقات لمهالكه، فشمر لطلابها، وضمّر خيله لغلابها، وبدأ بالعود إلى دمشق وخادع عمرو بن سعيد حتى استنزله عن سريرها، واستقلّه أن يبيت ضجيع سرورها، وما زال به حتى استدعاه خاليا، واستدناه مماليا، حتى إذا كان قريبا منه وثب عليه، وبث سر حنقه إليه، ثم أشرف فهاله تجمع أصحابه بداره ليوقع ما به وبداره، وكان لا طاعة له على جمعهم، ولا طاقة له بدفعهم، فوجد الحيلة أنصر له وأقدر على هدر دم من قتله، فكأنما كان سكر أصحابه، فألقى رأسه إلى أصحابه، مقرونا بنثار من الذهب، شغلهم لقطه عن أخذ ثأر من ذهب، فراح دمه مطلولا، وطاح لا يجد عنه سائلا ولا مسئولا، ثم يطلب الاثنين ولم يبد اكتراثه، ولا قال: وما شر الثلاثة «2» ، فوجه الحجاج نحو ابن(24/379)
الزبير، يمحو بقية ذلك الخير، ففعل تلك القبائح [ص 253] وأكثر بمكة لا بمنى تلك الذبايح، من دماء محرمات سفكها، وحرمات انتهكها، ورمى بخطارة المنجنيق، حجارة البيت العتيق، نصبها على أبي قبيس وقيقعان «1» ، ورمى الكعبة فتحامتها الحجارة، ورامتها فما أومى إليها بناؤها بإشارة، وحمت الملائكة حماها، وصانت عن تقبيل ثغور تلك الحجارة لماها، ففطن أن الملائكة تدفع عن أركانها، وتمنع من مكانها، فلطخ الحجارة بالعذرة، وألقاها إذ كانت الملائكة تتوقاها، فأصاب جدارها، وأصار إلى الأرض أحجارها، فأحل من الحرم ما لم يحل، واستحل ما لا يجوز لمستحل، وبث الأضاليل، ونصب حبائل الأباطيل، وقصد بيت الله بأشد مما قصده إبرهة عام الفيل، إلا أن حرمة تسميته بالإسلام، دفعت عنه عاجل البلاء، وأخّرته وما تقول إنها سامحته، ولكنها أنظرته، ثم لما قتل ابن الزبير، أمر له بجذع فنصب، ومنّ به إليه فصلب، وكانت أمه قد قالت له: يا بني لأن تقتل خير من أن تختل «2» ، فقال: أخشى أن يمثلوا بي، فقد نمي إليّ أنهم تقبّلوا له بصلبي، فقالت: يا بني لا يضرك هرير النبح، فالشاة لا يؤلمها السلخ، بل الذبح، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:
جنبوني خشبة ابن الزبير وتجنّبها، ويحس بها ولا يقربها، فعبر ليلة عليها فوقف عليه مترحما، وقال: والله لقد عهدتك صوّاما قوّاما، وإنما أعجبتك بغلات معاوية، وولى ودموعه هاوية.
وذلك بعد أن نهد عبد الملك إلى مصعب، ونهض كأنه جمل مصعب، فسار يتقدم فرسانه، ويتخطم في أرسانه، ولم يثن همّته فيما يصان به عرينها حصان عليها عقد در يزينها، إذ كان من قوم من عهد لؤي بن غالب، ما لوى به(24/380)
غالب، إذا حاربوا شدوا دون النساء مآزرهم، وشد بصدق الحفيظة موازرهم، وأعمل الحيلة على مصعب، بكتب إلى أصحابه كتبها، وأعاجيب كذب كذبها [ص 254] وكان الملتقى، فخذل مصعبا أصحابه، وخزل جمعه حتى خلت منهم رحابه، فتركوه وأسلموه، وخلوه لمضارب السيوف وسلموه، وكان عبد الملك يكنى بأبي الذباب لبخره، كانت لثته تدمى دائما فيتغير ريحها، وكان مظفرا على أعدائه، فإنه غلب في أيامه على عدة رجال أكابر كلهم كانوا في زمانه يبارونه في السلطان، مثل عبد الله بن الزبير، والمصعب أخوه، وعمرو بن سعيد الأشدق، وعبد الرحمن بن الأشعث، فكل واحد منهم ما قام له معه قائمة، وكلهم قتل وحكم قاضية، ومع هذا فلم ينفعه ولا أغنى عنه شيئا، حتى تمت أيامه، وأتاه حمامه، ويؤيد هذا خبر الرجل الذي ورد على معاوية وكان من أهل الكتاب والعلم بالحدثان، فقال له معاوية، أتجدني في شىء من كتاب الله، قال: أي والله، حتى لو كنت في أمة من الأمم لوضعت يدي عليك من بينهم، قال: فكيف تجدني، قال: أول من يحول الخلافة ملكا، والخشونة لينا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال له معاوية: ثم يكون ماذا، قال: ثم يكون منك رجل شرّاب للخمر، سفّاك للدماء، يصطنع الرجال، ويحتجن الأموال، ويجنب الخيول، ويبيح حرمة الرسول، قال: ثم ماذا، قال ثم تكون فتنة تتشعب تقوم حتى يفضى الأمر إلى رجل أعرفه بعينه، يبيع الدار الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس فيجتمع عليه من آلك، وليس منك، لا يزال لعدوه قاهرا، وعلى من ناوأه ظاهرا، ويكون له قرين أمين مبين، قال: أفتعرفه إن رأيته، قال: أشد ما أراه من بني أمية بالشام، قال: ما أراه هاهنا، فوجهه إلى المدينة مع ثقات من قومه، فبينما هو يمشي في أزقة المدينة إذ رأى عبد الملك يلعب بطائر على يده، قال: ها هو ذا، ثم صاح به، أبو من، فقال: أبو الوليد، فقال: يا أبا الوليد، إن بشّرتك ببشارة تسرك ما [ص 255] يكون لي عندك، فقال: وما(24/381)
مقدارها حتى أرى ما يكون مقدارها من الجعل، قال: أن تملك الأرض، قال:
مالي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلا أتاني ذلك قبل وقته، قال: لا، قال: إن حرمتك أيؤخر ذلك عن وقته، قال: لا، قال: فحسبك.
وكان عبد الملك من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا، وأحسنهم ديانة في شبيبته، وكان يواضب المساجد حتى سمي حمامة المساجد، وكان لا يعيى بجواب إلا إن كلم أخاه عبد العزيز. حكي أن عبد الملك استقبل أخاه عبد العزيز حين رجع من مصر على ألف جمل، فقال له: على كم كانت البدأة، فقال: على مائة، فقال عبد الملك: ما عير أحق بأن يقال لها: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)
«1» من عيركم هذه، فقال له عبد العزيز: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)
«2» .
وحكي عن عبد الملك أنه لما أراد الخروج إلى مصعب، تعلقت به عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وجعلت تبكي، حتى بكى لبكائها حشمها، فقال: قاتل الله كثيرا، كان يرى موقفنا هذا حيث يقول: «3»
[الطويل]
إذا همّ بالأعداء لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها
نهته فلما لم تر النّهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم خرج يريد مصعبا وكثيّر في موكبه، فقال: يا أبا جمعة، ذكرتك الساعة بيتين من شعرك، فإن أصبتهما فلك حكمك، قال: نعم، أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد، وبكى حشمها، فذكرت قولي، وأنشده البيتين، قال:(24/382)
نعم، وأعطاه ما طلب، ثم نظر إليه في عرض الناس مفكرا، فقال: عليّ بأبي جمعة، فجىء به، فقال: إن عرفتك بفكرتك فيم هي فلي حكمي؟ قال: نعم، قال: قلت في نفسك: أنا في شر حال، خرجت مع رجل من أهل النار، وليس على نحلتي، وربما أصابني سهم غرب «1» فأتلفني لغير معنى، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أخطأت ما في نفسي، قال: فاحتكم، قال: حكمي أن آمر لك بعشرة آلاف درهم [ص 256] وأردك إلى منزلك، ففعل به ذلك، فمدح كثير عبد الملك، فمما قال فيه: «2»
[الطويل]
يجيئون بسّامين طورا وتارة ... يجيئون عبّاسين شوس الحواجب
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرّت لنجواهم لؤي بن غالب
كريم يؤول الراغبون ببابه ... إلى واسع المعروف جزل المواهب
إمام هدى قد سدد الله رأيه ... وقد أحكمته ماضيات التجارب
والتقى عبد الملك ومصعب «3» بالجاثليق، فبقي مصعب كلما قال لرجل:(24/383)
احمل في خيلك، اعتل عليه، ولحق غالبهم بعبد الملك وبقي مصعب في شرذمة قليلة، وحمل عليه عبد الله بن زياد بن ظبيان، فرفع يده ليضربه، فبدره مصعب فضربه على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك، فخرّ ساجدا، فقال عبيد الله: ما ندمت على شىء ندمي على عبد الملك حين سجد، إذ لم أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد، وفي ذلك يقول:
[الطويل]
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه
وأما حديث قتل عمرو بن سعيد الأشدق، وأبوه سعيد بن العاصي، وكان يقال لعمرو لطيم الشيطان، فهو أن مروان لما قام بطلب الأمر عضده عمرو بن سعيد، واتفق معه على أن يكون له الأمر بعده، فلما كبر أمر مروان، صيّر الأمر لابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، على أن يصير الأمر لعمرو بعدهما، فلما كاتب أهل العراق عبد الملك خرج نحوهم، وكان في العراق مصعب، فقال له عمرو:
إن الأمر كان لي بعد مروان، ثم صيّره لك، ولكن اكتب لي أنت به بعدك، فسكت عنه عبد الملك، وخرج لوجهه نحو مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل، كرّ عمرو راجعا في الليل إلى دمشق، وغلق أبوابها في وجه عبد الملك، وتسمى بالخلافة، فرجع عبد الملك [ص 257] حتى نزل على دمشق وحاصرها، فصالحه عمرو على أن يكون له الأمر من بعده، وأله مع كل عامل عاملا، ففتح دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو، فأرسل إليه عبد الملك، أن أخرج أرزاق الحرس، فقال عمرو: إن كان له حرس، فإن لنا لحرسا، قال: وأخرج لحرسك أيضا، فلما كان ذات يوم، أرسل عبد الملك إلى عمرو أن ايتني يا أبا(24/384)
أمية حتى أدبر معك أمرا، فقالت له امرأته: لا تذهب إليه، فإني أخافه عليك، فقال: أبو ذبّان، والله لو كنت نائما ما أيقضني، فقالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم، فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، وقام فلبس درعه تحت ثيابه، فلما أراد الخروج عثر بالبساط، ثم مضى، وكان معه أربعة آلاف في السلاح، وكان عمرو عظيم الكبر، لا يلتفت وراءه ولو انطبقت الأرض إعجابا وزهوا، فلما وصل القصر الذي فيه عبد الملك، غلّقت الأبواب، فلم يدخل معه إلا غلام، وهو لا يدري، فلما حصل لعبد الملك قال لغلامه: اذهب للناس ما به بأس، فقال عبد الملك: تريد أن تخدعني، خذوه، فلما أخذوه، قال له عبد الملك: إني أقسمت أن أعمل في عنقك جامعة، وهذه جامعة من فضة، أريد أن أبر بها قسمي، فطرحها في عنقه، ثم جذبه إلى الأرض بيده، فضرب فمه في جانب السرير، فانكسرت ثنيته، فجعل عبد الملك يتأملها، فقال عمرو:
لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر، ثم قال له: سألتك بالله يا أمير المؤمنين لا تخرجني إلى الناس على هذه الحالة، فقال له: مكرا أبا أمية، وأنت في الحديد، فبينما هو في ذلك، إذ جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة، فقام إليها، وقال لأخيه عبد العزيز: اقتله، فقال عمرو: يا عبد العزيز، لا تكن أنت من بينهم قاتلي، فتركه، فلما رآه عبد الملك جالسا، فلام عبد العزيز، ثم أخذ الحربة بيده وقال: قربوه إليّ، فقال عمرو: فعلتها يا بن الزرقاء [ص 258] ، فقال له عبد الملك:
لو علمت أنك تبقى ويسلم لي ملكي لفديتك بدم النواظر، ولكن قلّ ما اجتمع فحلان على مذود «1» إلا بغى أحدهما على صاحبه، ثم ضرب بالحربة في صدره فلم تغن شيئا، فضرب بيده على عاتقه، فأصاب الدرع تحت ثيابه، فقال: لقد كنت معتدا أبا أمية، اضربوا به الأرض، فصرع له، ووقف على صدره فذبحه، ولما(24/385)
لم يخرج عمرو إلى الصلاة، قاتل أصحابه البوابين، وشج الوليد بن عبد الملك، فلما رأى ذلك قبيصة بن أبي ذؤيب، قال لعبد الملك: ارم لهم بالرأس وانثر الدنانير عليهم ليشتغلوا ويتفرقوا، ففعل، وكان الأمر على ما قال ابن أبي ذؤيب، وذهب دم عمرو هدرا.
ويحكى أنه لما قتل عمرو بن سعيد وتسمى بالخلافة سلم عليه «1» أول تسلمه، فالمصحف في حجره، فأطبقه وقال: (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)
«2» ، وكان في عنفوان نسكه، صديق من أهل الكتاب يقال له يوسف، وكان قد أسلم، فقال له عبد الملك يوما، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري يريد المدينة الأخيل عدو الله، كيف يقصد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له يوسف: حسبك والله إلى حرم الله أكبر من جيشه إلى حرم رسول الله، فقال عبد الملك: عياذا بالله، «3» ، فقال له يوسف: والله ما قلت شاكا ولا مرتابا، وإني لأجدك بجميع أوصافك، قال عبد الملك: فيكون ماذا، قال: يتداولها رهطك إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.
وأما:
103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه
وكان يكنى أبا بكر «4» ، ويكنيه من ذمه أبا خبيب، فإنه لما قتل أخوه(24/386)
مصعب، وبايع الناس عبد الملك، ودخل الكوفة، قال له لحجاج: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدمه، فقال له عبد الملك: أنت [ص 259] صاحبه، فأخرج معه الجيوش، فسار بها حتى نزل على مكة، ونصب المجانيق على أبي قبيس وعلى قيقعان، وما زال يحاصره ويضيق عليه، فلما كان في الليلة التي قتل في صبيحتها، جمع القرشيين، فقال لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقتلا، والله لئن صرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج، فقال له رجل:
اكتب إلى عبد الملك، قال: كيف أكتب، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان، فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، من عبد الله بن الزبير، فو الله، لئن تقع الخضراء على الغبراء أهون عليّ من ذلك، فقال له عروة بن الزبير، وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة، قال: ومن هو، قال: الحسن بن علي، خلع نفسه وبايع معاوية، فرفع عبد الله رجله وركضه في رجله أرماه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلا قليلا، وقد أخذتني الدنية، ولئن أضرب بسيف من عز، خير من أن ألطم في ذل، فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم بنت منظور، وهي التي يقول فيها الفرزدق، إذ نافرته زوجته النوار إلى عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله بن الزبير، ونزلت زوجته النوار على بنت منظور بن زبان، فكان كلما أصلح(24/387)
حمزة من شأن الفرزدق عند أبيه نهارا، أفسدته زوجته أم هاشم ليلا، حتى غلبته النوار، ففي ذلك يقول:
[البسيط]
أما البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفّعت بنت منظور بن زبّانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا [ص 260]
فلما دخل ابن الزبير على أم هاشم قال لها اصنعي لي طعاما، فلما صنعت له ذلك، أخذ منه لقمة فلاكها ثم لفظها، وقال: اسقوني لبنا ثم اغتسل وتحنط وتطيّب، ثم أتى أمه أسماء ذات النطاقين، فقال: ما ترين يا أماه، فقد خذلني الناس، فقالت: لا يلعب بك صبيان بني أمية، عش كريما، ومت كريما، قال لها: إني أخشى أن يمثّل بي بعد الموت، فقالت: إن الشاة لا تألم بالسلخ بعد الذبح، فقبّل بين عينيها وودعها وخرج، وأسند ظهره إلى الكعبة، وجعل يقاتل، فلا يؤم جمعا إلا هدّه، فقال رجل شامي اسمه خليوب: ألا يمكنكم أخذه إذا ولّى، قيل له: فخذه أنت إذا ولّى، قال: نعم، وهو يريد أن يحتضنه من خلفه، فعطف عليه فقطع ذراعيه، فصاح فقال: اصبر خليوب، ثم جعل يقول: «1»
قد جدّ أصحابي ضرب الأعناق ... وصارت الحرب بينهم على ساق
فبينا هو يقاتل جاءه حجر من حجارة المنجنيق [وهم] يرتجزون:
خطّارة مثل الفنيق المزبد ... يرمى بها عوّاذ أهل المسجد
ولما صرعه حجر المنجنيق، اقتحم عليه أهل الشام، فحملوه فذهبوا به إلى(24/388)
الحجاج «1» ، فدعا بالنطع وحزّ رأسه بيده، وبعث به إلى عبد الملك، ثم أتى الحجاج أمه ليعزيها فيه، قالت له: يا حجاج أقتلت عبد الله، قال لها: يا بنة أبي بكر، إني قاتل الملحدين، قالت له: قاتل الموحدين، قال لها: كيف رأيتني صنعت بابنك، قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير إن الله أكرمه على يديك، وقد أهدي رأس زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان قد استخلف عبد الله بن الزبير على الدار، فبذلك ادّعى الخلافة. ثم لما صلب ابن الزبير كان عبد الله بن عمر يقول لقائده: جنبني خشبة ابن الزبير، فوقف ودعا له وقال: إن علتك رجلاك- وكان [ص 261] منكسا- لطالما وقفت عليهما في صلاتك، وإن قوما كنت شرهم لقوم كلهم أخيار، ثم قال لأصحابه: أما والله، ما عرفته إلا صوّاما قوّاما، ولكن ما زلت أخاف عليه مذ رأيته أعجبته بغلات معاوية الشهب، وكان معاوية قد حج، فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري، عليهن الحلي والمعصفرات، ففتنت الناس.
وإذا انتهينا في ذكر ابن الزبير، فلنعد إلى تتمة أخبار عبد الملك بن مروان:(24/389)
قال المدائني: دخل عبد الملك على يزيد بن معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك أرضا بوادي القرى لا غلة لها، فإن رأيت أن تأمر لي بها، فقال يزيد: إنا لا نخدع عن صغير، ولا نبخل بكبير، قال: فإنها تغل كذا وكذا، قال: هي لك، فلما ولّى قال يزيد: هذا الذي يقال إنه يلي بعدنا، فإن كان ذلك باطلا، فقد وصلناه، وإن كان حقا، فقد صانعناه.
وعن ذكوان قال: كان فقهاء المدينة يعدون أربعة منهم عبد الملك بن مروان.
وعن نافع قال: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا، ولا أملك لنفسه، ولا أظهر مروءة، من عبد الملك، قال: وكان يقال لعبد الملك حمامة المسجد لعبادته. وشكى بعض العمال إلى ابن عمر، وعبد الملك يصلي إلى سارية، فقال ابن عمر: لو وليهم عبد الملك هذا ما رضوا به، يضرب به المثل في الفضل والصلاح.
قال الشعبي: دخلت على عبد الملك فقلت: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين، فقال: لو لم نعرفك لم نأذن لك، فلم أدر ما أقول، ثم قال: علّم بني الشعر، فإنه ينجدهم ويمجدهم. وقال: وفدت على عبد الملك، فما أخذت بحديث أرى أنه لم يسمعه، إلا سبقني إليه، وربما غلطت في الشيء وقد علمه، فيتغافل عني تكرما.
وقال عبد الملك: شممت الطيب حتى ما أبالي رائحة ما وجدت، وأتيت النساء [ص 262] حتى ما أبالي أرأيت امرأة أم حائطا، وأكلت الطعام، حتى ما أبالي ما أكلت، وما بقيت لي لذة إلا في محادثة رجل ألقي التحفظ بيني وبينه.
وأوصى أهل مكة فقال: يا بني مروان، ابذلوا معروفكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإنه من ضيّق ضيّق عليه، ومن وسّع وسّع عليه.(24/390)
وقيل له: لقد شبت يا أمير المؤمنين، فقال: وكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة، يعني الخطبة. وقال وقد قيل له هذا مرة أخرى: لقد شيبتني قعقعة لجام البريد، وصرير أعواد المنابر. وعن جويرية بن أسماء قال: كان لعبد الملك بيت مال لا يدخله إلا مال طيب، لم يظلم فيه مسلم ولا معاهد، قد عرف وجوهه، فكان يصدق منه النساء، ويشتري منه الإماء اللاتي يتخذهن أمهات أولاد، ويقول: لا أستحل أنكح إلا طيّبا، فإن ذلك في الأولاد.
وحكى البلاذري أن عبد الملك كان يشتو بالصنبرة «1» من الأردن، فاذا انسلخ الشتاء نزل الجابية «2» ، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق، حتى إذا حان حمّارة القيظ أتى بعلبك، فأقام بها، حتى تهيج رياح الشتاء، فيرجع إلى دمشق، فإذا اشتد البرد، خرج إلى الصنبرة.
وعن المدائني قال: رأى عبد الملك كأنه بال في الكعبة، فبعث إلى سعيد بن المسيب من سأله عنه، وقال له: لا تخبره أنني رأيته، فقال له الرجل: رأيت كذا، فقال له سعيد: مثلك لا يرى هذه الرؤيا، فرجع إلى عبد الملك فأخبره فقال: ارجع إليه فأخبره أني رأيتها، فرجع إليه فأخبره، فقال: يخرج من صلبه من يلي الخلافة.
وعن حبيب بن منيع قال: جلست إلى سعيد بن المسيب يوما، والمسجد خال، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد، رأيت في النوم كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فوتدت في ظهره أربعة أوتاد، وتدا بعد وتد، فقال: ما أنت [ص 263](24/391)
رأيت هذه الرؤيا، فأخبرني من رآها، قال: ابن الزبير، قال: الآن صدقت، وإن صدقت الرؤيا قتل عبد الملك عبد الله بن الزبير، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة، قال: فرحلت إلى عبد الملك فدخلت عليه، وهو في الخضراء بدمشق، فأخبرته الخبر، وسألني عن ابن المسيب، ثم سألني عن ديني، فقلت: أربع مائة دينار، فأمر لي بها من ساعته، ومائة دينار أخرى، وإبل أحملني عليها، وحمّلني طعاما وزيتا وكساء، فانصرفت راجعا إلى المدينة.
وقال عبد الملك بن مروان لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد، صرت أعمل الخير فلا أسرّ به، وأفعل الشر فلا أسأله، قال: الآن تكامل فيك موت القلب.
وكان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم، وكان على ديوان الصدقة حتى كانت الفتنة.
وذكر البلاذري أنه لما ورد كتاب الحجاج على عبد الملك في أمر ابن الأشعث «1» ، نزل عن سريره، وبعث إلى أبي هاشم خالد بن يزيد، فأقرأه(24/392)
الكتاب، فلما رأى ما به من الجزع والارتياع قال: إنما نخاف الحدث من خراسان وهذا الحدث من سجستان فلا تخفه، ثم خرج عبد الملك على الناس، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق قد استطالوا عمري، فاستعجلوا قدرتي، فسلّط اللهم عليهم سيوف أهل الشام حتى تبلغ رضاك.
وصار الحجاج إلى البصرة فأقام بها، وعزم على لقاء ابن الأشعث، وجعل فرسان أهل الشام يأتونه أرسالا، في اليوم المائة والعشرة وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج فنزل الأهواز، وتلاقت المقدمتان، فانتصرت مقدمة الحجاج، فلما رأى ابن الأشعث ما فعل بأصحابه، عبر إلى أصحاب الحجاج، فاقتحم الناس خيولهم في دجيل «1» ، حتى صاروا إلى موضع الوقعة في يوم ضباب، لا يكاد الرجل يتبين فيه صاحبه، فهزم ابن الأشعث أصحاب الحجاج، ودخل ابن الأشعث البصرة، ونزل الحجاج الزاوية «2» ، ثم اقتتلوا، وكان النصر لأصحاب الحجاج، وفقد ابن الأشعث [ص 264] ، فأمر الحجاج فرفعت راية أمان، فأتوه طائعين، ودخل البصرة، وخطب خطبة قال فيها: إن الله عز وجل لم ينصركم بأهل الشام على عدوكم، ولكنكم كنتم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، فنصركم(24/393)
بغير حول منكم ولا قوة، فاحمدوا الله على نعمه، ولا تبغوا ولا تظلموا، وإياكم وأن يبلغني أن رجلا منكم دخل بيت امرأة، فلا يكون له عندي عقوبة إلا السيف» ، ثم أتى الحجاج بآل الأشعث، فلم يقتل إلا عبد الرحمن بن محمد الأشعث وابن عمه عبد الله بن إسحاق.
ودخل البراء بن قبيصة الثقفي على عبد الملك، وكان الحجاج قد طلبه لخروجه مع ابن الأشعث، فأنشده قوله:
[الطويل]
أرى كل جار قد وفى بجواره ... وجار أمين الله في الأرض يخذل
فما هكذا كنتم إذا ما أجرتم ... وما هكذا كانت أمية تفعل
فقال عبد الملك: صدقت، وأمر الحجاج أن يمسك عنه. وكان عبد الله بن أنس قد قتل مع الجارود، وكان شجاعا شديد البطش، حمل بخراسان بدرة بفمه فعبر بها نهرا، فلما بلغ الحجاج خبر مقتله، قال: لا أرى أنسا إلا بعين عليّ «1» ، فلما دخل البصرة استصفى مال أنس، فلما دخل عليه قال: لا مرحبا ولا أهلها إيها يا شيخ ضلالة، جوال في الفتن مع أبي تراب مرة، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن جارود، أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصمغة، فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال:
إياك، أصمّ الله صداك، فرجع أنس فأخبر [عبد الملك] بما لقي من الحجاج، فأجابه عبد الملك جوابا لطيفا، وكتب إلى الحجاج: «أما بعد، يا بن أم الحجاج، فإنك عبد طمّت بك الأمور حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، وأيم الله يا بن المستعجمة بالزبيب، لأغمرنّك غمرة كبعض غمرات الليوث للثعالب، ولأخطبنّك خطبة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر(24/394)
حال آبائك بالطائف [ص 265] حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومناهلهم، أم نسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلع، وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظن أنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره، فتعلم إنكاره أو إغضاءه عنه، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه إقداما فعليك لعنة الله من عبد أخفش «1» العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين «2» ، ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب كثر في الكتاب من الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك، لأتاك من يسحبك على ظهرك وبطنك، حتى يأتي بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقه، وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصر في شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فنبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام» . وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك إليه فقرأه، ثم أتى الحجاج بالكتاب إليه، فجعل يقرأه ووجهه يتغير ويتمعر»
، وجبينه يرشح عرقا وهو يقول: يغفر الله لأمير المؤمنين، فما كنت أظنه يبلغ مني هذا كله، ثم قال لإسماعيل: انطلق بنا إلى أنس، قال إسماعيل، فقلت: يأتيك، قال: فقم أذا، فأتى أنسا، فأقبلا جميعا حتى دخلا على الحجاج، فرحب به الحجاج وأدناه، وقال: يا أبا حمزة، عجلت يرحمك الله باللائمة والتنكية «4» إلى أمير المؤمنين قبل أن يعلم كل الذي لك عندي، إن(24/395)
الذي فرط مني إليك عن غير نية ولا رضى بما قلت، ولكني أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما [ص 266] كان إذا بلغت منك ما بلغت كنت بالغلظة والعقوبة أسرع، فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ الحقد، وقد زعمت أننا الأشرار، وسمانا الله جل وعز الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على العز لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة، فوكلتك إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقي ما لم تحفظه، فوالله إن النصارى على كفرهم، لو رأوا رجلا خدم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام يوما واحدا، لعرفوا من حقه ما لم تعرفه من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عز وجل عليه، وإن رأينا غير ذلك صبرنا والله المستعان، فرد الحجاج عليه ما كان قبض من أموالهم.
وأراد عبد الملك أخاه عبد العزيز على أن يخلع نفسه، فأبى، فكتب إليه يعتبه ويقول: احمل إليّ خراج مصر، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إنّا قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه بعدها قليلا، وإنّا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت ألا تغثت «1» عليّ بقية عمري فافعل، فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا فعلت ذلك ولا سؤت أخي، وقال لبنيه: إن يرد الله يعطكم إياها، ثم لم يلبث أن أتاه نعي عبد العزيز، فاسترجع وبكى، ووجم ساعة ثم قال: رحم الله عبد العزيز، فقد مضى لسبيله، ولابد للناس من علم يسكنون له وقائم يقوم بالأمر بعدي، وكان مؤثرا للوليد من بنيه على حبه لكلهم، وكان الحجاج يكتب إليه بأن يعهد إلى الوليد، فعهد إلى الوليد ثم إلى(24/396)
سليمان، وكتب ببيعته إلى المدينة وسائر الآفاق [ص 267] . ثم مرض عبد الملك مرض موته، فقال بعض الأطباء إن شرب الماء مات، فاشتد عطشه، فقال: يا وليد اسقني، قال: لا أعين عليك، فقال: يا فاطمة اسقني، فقامت لتسقيه فمنعها الوليد، فقال للوليد «1» لتدعنها أو لأخلعنك، فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته، فخمد، وكان عبد الملك قد كرب للموت، فقال: اصعدوا بي أعلا الدار، فصعد، فرأى من كوة فيها قصّارا وحوله حمار له يرتع، فقال: يا ليتني كنت قصارا، يا ليتني كنت حمار القصار، فأتى الوليد يسأل عنه، وفاطمة بنت عبد الملك تبكي، ففتح عبد الملك عينه وأنشد:
[الطويل]
ومستخبر عنّا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والدموع تسيل
ثم طلب ابنه الوليد وقال له: إذا أنا مت فضعني في قبري ولا تعصر عينيك عصر الأمة، ولكن شمّر وابرز والبس للناس جلد نمر، فمن قال برأسه كذا، فقل بسيفك هكذا، فقلّ ما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا بغى أحدهما على الآخر، فكن أنت الباغي، ثم بقي بمنتبهه يقول: إنه لا يجتمع فحلان في ذود، ولا سيفان في غمد.
ولد عبد الملك في رمضان سنة عشرين، وتوفي في نصف شوال سنة ست وثمانين، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدة ولايته بعد مقتل ابن الزبير، وهي الخلافة المجمع عليها، ثلاث عشرة سنة، وثلاثة أشهر، وخمسة عشر يوما، وكانت الفتنة نحو تسع سنين، وقبره خارج باب الجابية بدمشق.
وقال شاعر يرثيه:(24/397)
[الطويل]
سقاك ابن مروان من الغيث مسبل ... أجشّ سماحيّ يجود ويهطل
فما في حياة بعد موتك رغبة ... لحر وإن كان الوليد يؤمّل
ثم:
104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك
أبي العباس «1» ، عمّر بيوت الله التي أذن أن ترفع، وسطر في صحفه من أجرها [ص 268] ما ينفع، عمّ المساجد الثلاثة التي تشدّ لها الرحال، ولمّ شعثها في أيسر حال، وعني بمسجد دمشق، حتى انتاش من أيدي النصارى شطره، وكمل بالمساجد قطره، فقوّم شقه المائل، واستسلم كافره المتحايل، فقام المؤذن لا يشوش عليه صوت ناقوس، والإمام لا يخلط عليه ترنم قسوس، وحسم في الشق المائل منه العلة، ونصب وجه المذبح إلى القبلة، وأصبح الدين كله لله من بعد ما أعرض ونأى بجانبه، وساء كفره جهد مناصبه، وعوض النصارى بما كان للمسلمين من نصف كنيسة مريم، وعوّل على ما رآه، وصمم ثم أغرب بناءه، وأغرب سماءه، حتى رفع على السماك سمكه، ووضع بإزاء السماء حبكه، ولو(24/398)
كان هذا موضع القول لأطلت وأطنبت وأمللت، إلا أن الوليد كان يعاب لبه بالفراغ، ورأسه بخفة الدماغ، كان أخف من خطرة نسيم، وأطيش من نار في هشيم، وكان يتلجلج لحنا، ويتحرج ولا يقول كلاما لا معنى لغالبه، مثل كلام النائم أو السكران، هي ألفاظ إلا أنه لا يفهمها الإنسان، فكان خفيفا لحّانا، لا يقيم لسانه خطاء، ولا عقله امتحانا، وكان على هوجه الشديد، وعوجه عن النهج السديد، شديد المهابة مجيد الإصابة، سعادة أخدمته بها الأقدار، وقدمته إليها أضعاف المقدار، وكان معظما لجانب الحجّاج، حتى إنه كان أمكن عنده بما كان عند أبيه عقدة، وأقرب مكانا ومودة، وإمكانا في رخاء وشدة، وكان الوليد إذا ذكره قال: هو الذي مهّد لمنابرنا، وسهّد جفونه لنوم أكابرنا، يعدد صنعه السالف، وردعه المخالف، ويرى أنه من أكرم زلفه، وأعظم ما جاءه الدهر به من تحفه، وكذلك كان الحجاج له صدق ولاء لا يكذب، وإجماع لا يشذب، حتى إنه لما احتضر كتب إليه كتابا أودعه، ما فارقه به وودعه، زعم فيه أن رضى الوليد سبب مفازه، وموجب دخوله إلى الجنة وجوازه، وقال فيه: [ص 269]
[الطويل]
إذا لقيت الله عني راضيا ... فإنّ سرور النفس فيما هنالك
ولما رجع الوليد من جنازة أبيه، صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: «لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثله ثوابا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لعظم المصيبة، والحمد لله على حسن العطية، إني قد كفيت ما كانت الخلفاء قبل تتكلم به، فمن كان في قلبه خبّ «1» فليمت بدائه، ومن مال أدبه أملنا رأسه» .
وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمره أن يبني مسجدها ويجعله مائتي(24/399)
ذراع، وبعث بالفعلة من الشام، وكتب إلى ملك الروم بأن يعينه في بنائه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، ومائة فاعل، وأربعين حملا فسيفساء «1» مذهبة، وبعث إلى عامله بمكة في عمل الفسيفساء، وترخيم الجدر بالمسجد، وبعث في عمارة المسجد الأقصى، وشرع هو في عمارة مسجد دمشق، وقال لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل واحد منكم بلبنة، فجعل رجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال من أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شىء حتى في الطاعة.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أصبغ بن محمد بن محمد بن لهيعة السكسكي، أن الوليد حين بنى مسجد دمشق، مر برجل ممن يعمل فيه وهو يبكي، فقال: ما قصتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كنت رجلا جمّالا فلقيني يوما رجل فقال لي: أتحملني إلى مكان كذا، وذكر لي موضعا في البرية، فقلت: نعم، فلما سرنا بعض الطريق التفت إليّ فقال: إن بلغنا الموضع الذي ذكرته لك وأنا حي أغنيتك، وإن متّ فاحمل جثتي إلى حيث أصف لك، فإن ثمّ قصرا خرابا، فإذا بلغته فامكث إلى ضحوة نهار، ثم عد سبع شرفات من القصر، واحفر تحت ظل السابع قدر قامة، تجد بلاطة، فاقلعها تجد مغارة، ترى فيها سريرين على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على السرير الآخر، واحمل ما معك مالا من المغارة وارجع إلى بلدك، فمات الرجل في الطريق، ففعلت ما أمرني به، وكان معي أربعة جمال وحمارة، فأوسقتها كلها مالا [ص 270] من المغارة، وسرت بعض الطريق، وكانت معي مخلاة، نسيت أملأها، وداخلني الشره، فرجعت بها، وتركت الجمال والحمارة، فلم أجد المكان، ورجعت فلم أجد الدواب، فبقيت أدور أياما، فلما يئست رجعت إلى دمشق، ولم أحصل على(24/400)
شىء، واضطرني الأمر إلى ما ترى أعمل في التراب كل يوم بدرهم، وكلما ذكرت حالي لم أملك نفسي أن أبكي، فقال الوليد: لم يقسم الله لك من تلك الأموال شيئا، وإليّ صارت وبنيت بها هذا المسجد.
وعزل المجذمين في مكان، وأعطاهم، وقال: لا يسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان عند أهل الشام من أفضل خلفائهم. قال ابن الأثير: وفتح في ولايته فتوحات عظام، منها الأندلس وكاشغر والهند، ثم قال: يمر بالبقال فيقف عليه يأخذ حزمة بقل فيقول: بكم هذه، فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. قلت: وقد قيل إنه أول من تجبّر من الخلفاء، وقال الوليد: أنا أنفق على الكعبة وأكسوها وأطيبها، فعلام يأخذ بنو شيبة هداياها، لأمنعنّهم إياها العام فأرمضهم، وخرج الوليد حاجا، فخرجوا يتلقونه، فوجدوا الحجاج معه، فقالوا له: أنت وإن كنت معزولا عنا، فإنك محمود عندنا، وحرمتنا ما لا تنكر، وقد بلغنا كذا، ففزعنا إليك، فقال: إذا دخلتم على أمير المؤمنين فتجنبوني عنده، ثم سلموا عليه خالي الوجه، ودعوني أكفيكموه، ففعلوا، فلما خرجوا قال الحجاج: على ما يدع هؤلاء وهدايا الكعبة، قال: قد أجمعت على أخذها، قال: فافعل، فاني أشرت بهذا على أمير المؤمنين عبد الملك فقال: أنا أبرأ إلى الله من هذا، فقال الوليد:
أنا أبرأ مما برأ منه أمير المؤمنين عبد الملك، وتركها لهم.
واستعمل عاملا له فأتاه رجل بنصيحة، قال: إن كانت لك رددناها عليك، وإن كانت لنا، فلا حاجة لنا فيها، قال: جار لي أخلّ بمركزه، فقال: بئس الجار أنت، نحن ناظرون فيما ذكرت، فإن كنت صادقا [ص 271] مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن أحببت أن نعفيك عفيناك، قال: اعفني، قال: قد فعلت.
وعن عامر بن عبد الأعلى، قال: حدّث الوليد أن جمع بين هند بنت الحسن(24/401)
العميلقي، وبين جمعة بنت عابس الإيادي، فقيل لجمعة: أي الرجال أحبّ إليك، [قالت] : الغليظ الكتد «1» ، الظاهر الجلد، الشديد الحدب المسد، ثم قيل لهند: أي الرجال أحب إليك، قالت: القريب الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يفد، فقال الوليد: من هذا الرجل، فقال له هشام بن عبد الأعلى الفزاري: أنت يا أمير المؤمنين.
وحكى المدائني قال: مرض الوليد بن عبد الملك فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج بذلك، فاسترجع ثم أمر بحبل فشد في يده، ثم أوثق إلى اسطوانة، ثم قال: اللهم لا تسلط عليّ من لا رحمة له، فطالما سألتك أن تميتني قبل أمير المؤمنين، فبينا هو كذلك، إذ قدم عليه بريد بإفاقته، فخرّ ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وتصدق بصدقة كبيرة، ولم يكن أحد أسرّ بعافيته من الحجاج، وبعث إليه كتابا بالتهنئة، ومعه من تحف الهند وخراسان، ثم لم يمت الحجاج، حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضّيه يوما لصلاة الغداة، إذ مد يده، فجعلت أصب عليها الماء وهو ساه، والماء يسيل، ولا أقدر أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: أناعس أنت، ثم رفع رأسه إليّ فقال: ويلك، أتدري ما جاء الليلة؟ قال: ويلك مات الحجاج، فاسترجعت، فقال: اسكت، فما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها، وأنه لم يمت، ثم قال: رحم الله الحجاج، لقد كان منا أهل البيت.
وحج الوليد فوافاه محمد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين بنت عبد العزيز امرأة الوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر [ص 272] بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن(24/402)
يوسف بقبض الهدايا، فأبى وقال: لا أسلمها حتى يراها أمير المؤمنين، فغضبت ودخلت على الوليد فقالت: [لا حاجة] «1» لي في هدايا محمد، فإنه بلغني أنه أخذها من الناس ظلما وغصبا، وإنه يسخرهم لعملها، فلما حملها إلى الوليد قال له: بلغني أنك اغتصبتها الناس وكلفتهم عملها وظلمتهم، فقال:
معاذ الله، فأحلفه خمسين يمينا بين الركن والمقام أنه ما ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد، وبعث بها إلى أم البنين. ومات محمد بن يوسف باليمن، أصابه داء انقطع منه.
واستند [الوليد] إلى حائط يلي زمزم، والفضل بن عباس بن أبي لهب يستسقي من زمزم ويقول:
[الرجز]
يا أيها السائل عن عليّ ... تسأل عن بدر لنا بدريّ
مردد في المجد أبطحيّ ... زمزم يا بوركت من طويّ
بوركت للساقيّ والمسقيّ ... أسقي على مأثرة النبيّ
ثم أتى الوليد منها بماء فشربه ومسح منه على وجهه، ولم ينكر عليه قوله، إلا أنه لم يصله حتى كلّم فيه.
وعن مدرك بن حجوة، أن قوما دخلوا على الوليد وعنده أخوه مسلمة، فشكوا أمرا من أمرهم، فلم يبينوا ولا أحسنوا العبارة، فتكلم رجل منهم فأفصح وأوضح، وعبر عن نفسه وعن القوم، فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا الرجل إلا بسحابة لبدت عجاجا. ولما مرض الوليد بن عبد الملك ذكر له موسى بن نصير طبيبا قدم معه من المغرب روميا، فأدخله عليه، وعنده ابن رأس البغل، ويقال:(24/403)
ابن رأس الحمار «1» طبيب عمه عبد العزيز بن مروان، وكان من أهل الإسكندرية، فتراطنا بالرومية، فقال أحدهما لصاحبه: ما تؤوّله؟ قال: السلّ، قال: صدقت، ودعا له صاحب موسى بفرخ، فطبخ، وألقى عليه مرقة دواء، وحشّاه منه جرعا، فلم يثبت في جوفه وقاءه، وقال: لا أرى هذا وافقك، وعندي [ص 273] ما هو أسهل منه، وأنا آتيك به غدا، فخرج من عنده وقال:
والله لا يصبح حيا، فمات في السحر، وتوفي سنة ست وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين، وملك تسع سنين، ودفن خارج باب الصغير بدمشق، وكان نقش خاتمه: اذكر الموت يا وليد، وقيل: بل كان: يا وليد إنك ميت.
ثم:
105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان
أبي أيوب «2» ، وكان ألذ من غفوة النّوم، وحفوة اللّوم، لطيب زمانه، ووطي المخاوف بأمانه، وكان مفرط الغيرة، يؤاخذ بالظنون، وينابذ بريب المنون، سمع رجلا يرجّع في الغناء فتوجّع وقال: هذا رائد الزنا، وأمر بأن يخصى فجذ أنثييه، وبذ السوابق بما جنى عليه، وكان مدة أبيه عبد الملك، وأخيه(24/404)
الوليد مغرى بعيب الحجاج، معنّى منه بما يكثر ريب اللجاج، وكان ينوي إن صارت إليه نوبة الخلافة، له نومة كل آفة، فمات قبل ذلك الحجاج، وفات الحجاج، فسبقت نية سليمان فعله، وسيفه عدله، وكان سليمان نهما لا يشبع، ملتهما يأكل مع اللقمة الإصبع، حتى استأسد واستسبع، وأكل ما طار بجناح أو مشى على أربع، وأمه وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزي العبسي، نشأ في أخواله بني عبس، ونأى في أحواله عن اللبس، وكان أبيض جعدا، كاد محياّه يندى، نظر يوما إلى المرآة وقد لبس حلة خضراء، رفل في سندسها، ونحل نوار الخمائل من أنواره ضوء مشمسها، فقال: أنا الملك الفتى، أو قال: أنا الملك الشاب، لما داخله بالملك الإعجاب، ومرّ في خروجه إلى مصلاه بجارية له كان بها كلفا، وبحبها شغفا، فلما قال لها هذا القول قالت:
[الخفيف]
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان [ص 274]
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
فتطير من قولها وتشاءم، وراجع الفكر في هذا وداوم، ثم أتى المنبر فخطب فأسمع، ثم تقدم إلى المحراب، وصوته لا يتعدى له خرق مسمع، فعاد إلى منزله ساكنا يتوجع، وطلب تلك الجارية كالمنكر عليها، فأقسمت أنها لم تره ذلك اليوم أجمع، فعلم أنه نعي، وأنه إنما خرج ليودع، وكان ملك حسن وإحسان، وخليفة يمن وأمان، ولي سنة ست وتسعين، فجاء جميل المذهب، كأنما أيامه الطراز المذهب، أبقى من حسن السيرة ذكرا لا يبلى، وأثرا لا يذهب، ملك أمره فما شعّث ولا تشعب، وأنصف من الظالم فأخمد سورة من تشغب، وأخرج من الحبوس، ونزع عن المستورين لباس البوس، وكساهم حلل الكرامة، وأنساهم بعدله ما مسّهم من السآمة، ورد عنه بردهم الملامة، وأخذ الظلامة، وراقب الله(24/405)
كأنما يتمثل وقوفه بين يديه يوم القيامة.
وكان الوليد أخوه ولاه فلسطين فأحدث مدينة الرملة، وبنى مسجدها، وأتاه نعي الوليد، وكان ولي العهد بعده، فخرج من فلسطين إلى دمشق، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، فأسف الرعايا على ملكه القصير، وزمانه الغض النضير، ولكن ليالي الوصل فيهن تقصير، ومات بدابق، ودفن بها وكفّن، ثم وسّد في مضاجع تربها، وذلك في سنة تسع وتسعين، وكان يوم مات ابن خمس وأربعين، وحسبه من حسن الخاتمة في الدنيا والإمارة الدالة على تنقله في الدرجات العليا، أن صلى عليه الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ورحل من حرم الخلافة المستباح، إلى حرز الله الحريز، وكان له أولاد، منهم أيوب المكنى به، وكان من قريش عفافا وأدبا، وكان أبوه قد بايع له بالعهد، وكان مؤدبه وحاضنه عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وقال فيه جرير:
[البسيط]
إن الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام ولي العهد أيوب [ص 275]
وهلك في حياة أبيه، ورثاه عبد الله بن عبد الأعلى، بقصيدة يقول فيها:
[الكامل]
قد بان أيوب الذي لفراقه ... سرّ العدوّ غضاضتي وتخشّعي
أيوب كنت تجود عند سؤالهم ... وتظل منخدعا وإن لم تخدع
قال البلاذري: خرج سليمان إلى دابق «1» ليغزي منها، فأغزاهم وعليهم ابنه أيوب، ومعه مسلمة بن عبد الملك، وكان أيوب ولي عهده، فلما احتضر(24/406)
سليمان قال: إن ابني أيوب بإزاء عدو، ولا أدري ما يحدث به، فإن أهمل الأمر إلى قدومه ضاع وانتشر، ولم تؤمن الفتنة على الناس في جميع الأقطار، ولعل الحدثان أن يكون قد غاله، على أني قد وليته العهد وأنا أظن أن عمري يطول وهو حدث، فولى عمر بن عبد العزيز، ولقد وفق في نظره الوجيه ورأيه الوجيز، فارق الناس على وجه جميل، واختار لهم إماما لا يمين مع الهوى ولا يميل، عمر وما أدراك ما عمر، نزع من جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، إلى أحسن السير، وعهد سليمان بعد عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك ثم أيوب إن كان بعد يزيد، وكره أن يخرجها من ولد عبد الملك فيختلفوا، وصوّب رجاء بن حيوة «1» رأيه في ذلك، وقوّى عزمه وهو هالك، وتوفي أيوب في غزاته، وقيل إن أباه علم بمماته قبل وفاته، ففعل ما فعل، وما عسى يغني قول ليت أو لعل.
وقال المدائني: دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فتكلم، فإذا أن يسبر عقله، فإذا هو مضعوف، فقال سليمان: زيادة منطق على عقل خدعة، وزيادة عقل على منطق هجنة، وأحسن ذلك ما زان بعضه بعضا، ومن كلامه: الحسود لا يسود. وقال سليمان ليزيد بن أبي مسلم: ما تقول في الحجاج، قال: يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه حيث شئت. وقال المدائني: دخل أيوب بن سليمان على أبيه فقال: ما لك يا بني، قال: خدرت رجلي، فقال: يا بني اذكر أحب الناس إليك، فقال: صلى الله [ص 276] على محمد، فقال سليمان:(24/407)
ابني سيد، وإني عنه لفي غفلة، فولاه عهده. وتذاكر هو ورجل كان يأنسه الملاذ، فقال سليمان: والله لقد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وامتطينا الصافن، وأتينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفظ. وضم سليمان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إلى ابنه أيوب، فأتاه فحجبه، فجلس في بيته، فعتب أيوب عليه، فعاتبه عون، فغضب وشكاه إلى أبيه ولامه، فقال: ضممتني إلى رجل إن أتيته حجب، وإن جلست عنه عتب، وإن عاتبته غضب.
وكان سليمان يؤتى في كل يوم صلاة الغداة بعشر رقاقات وخروفين عظيمين ودجاجتين سمينتين، فيأكل ذلك كله [لم] يخل فيه مرى. وحجّ سليمان، فقال لقيّمه على طعامه: اطعمني من خرفان المدينة، أو قال من جدائها، ودخل الحمام ثم خرج، وقد شوي له أربعة وثمانون خروفا، أو جديا، فجعل القيّم يأتيه بواحد واحد فيتناول جرما جزّه، ويضرب بيده إلى شحم كليته، فأكل أربعة وثمانين جرما زجه بشحم أربعة وثمانين كلية، ثم قال: ادع يا غلام عمر بن عبد العزيز، وأذن للناس، ووضع الطعام فأكل معهم كما أكلوا. وأتى الطائف، فلقيه ابن أبي زهير الثقفي، رجل من أهلها، فسأل أن ينزل عليه، قال:
إني أخاف أن أنهمك، قال: قد رزق الله خيرا كثيرا، فنزل عليه، فجعل يأتيه من حائطه وهو فيه بخمس رمانات خمس رمانات، حتى أكل مائة وسبعين رمانة، ثم أتي بخروف وست دجاجات، فأكل، ثم أتي بمكوك «1» زبيب فأكله ثم وضع الطعام فأكل وأكل الناس، وفتح ابن أبي زهير أبواب الحيطان، فأكل الناس من الفاكهة، فقال سليمان: قد أضررنا بالرجل، وأقام بالطائف سبعا ثم صار إلى مكة، فقال: الحقني، فلم يفعل، فقيل له لو لحقته، قال: أقول ماذا،(24/408)
أعطني ثمن طعامي.
وأتاه وهو بدابق رجل نصراني كان منقطعا [ص 277] إليه من قبل الولاية، فقال له: هل أهديت لي شيئا، قال: نعم، وأتاه بزنبيل مملوءا بيضا مطبوخا، وزنبيل ملؤه تينا، فجعل يقشر له البيض، فيأكل بيضة بتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا مخلوطا بسكر، فأكل ذلك ومرض فمات.
وقال سليمان وقد ذكر عنده تشقيق الخطب والإسهاب: من أكثر القول وأحسن، قدر على أن يقل فيحسن، وليس من قصر فأحسن بقادر على أن يطيل فيحسن.
وقام إليه رجل وهو يأكل فقال: إني زوجت ابني، وليس عندي ما أجمع به أهله إليه، فاسلفني من بيت المال، فقال: ما يزال ماص لبظر أمه يقوم إلينا فيفسد علينا طعامنا، فتنحى الرجل وجلس، فلما فرغ من طعامه قال: قلت ماذا لله أبوك، فرد عليه مسألته، فقال: فكم عطاؤك؟ قال: مائتا دينار، فقال: يا قسامة، أعطه مائتي دينار، ومائتي دينار، ومائتي دينار، وطوّل نفسه وطوّل نفسه حتى انقطع، فنظر فاذا جميع ذلك قيمة اثنين وسبعين ألف درهم، ثم قال: أيا رجل رضيت؟ قال: نعم، فرضي الله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: يا قسامة، اضعفها له، فأخذ مائة ألف وأربعين ألف درهم.
وحدّث محمد بن سعد عن الواقدي قال: انصرف سليمان من صلاة الجمعة، فأكل شحم كلي أربعين جديا، وصحيفة مملوءة مخا، وغير ذلك ثم جامع، فقام «1» عن الجارية موعوكا، فمات بدابق. وقال جرير: فياقوم، ما بالي(24/409)
وبال ابن نوفل وبال بكائي نوفل بن مساحق «1» ، ولكنها كانت سوابق عبرة على نوفل من كاذب غير صادق:
[الطويل]
فهلا على قبر الوليد سفحتها ... وقبر سليمان الذي عند دابق
قال المدائني: الثبت أن أيوب بن سليمان توفي بالشام، ولم يكن غازيا، إنما كان الغازي مسلمة بن عبد الملك، وكان سليمان أراد أن يغزيه [ص 278] على الجيش فمرض، فلما احتضر أيوب، دخل عليه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، فجعل ينظر في وجهه فتخنقه العبرة فيردها، فلما قضى نحبه ودفن، وقف على قبره وقال:
[الطويل]
وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيوب:
[السريع]
كنت لنا أنسا ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مرّ المذاق
ثم ركب دابته وقال:(24/410)
[البسيط]
فإن صبرت فلم ألفظك من جزع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا
[ثم] :
106- دوّلة عمر بن عبد العزيز
ابن مروان «1» ، أبي حفص، ناهيك بفرد «2» لا يقرن بتوأم، وملك كانت أيامه كالمنام، ورعاياه نوّم تقابل في منابت أبيه وأمه، وتماثل بمناصب خاله وعمه، تكنّفه من قبل الأبوّة النسب الأموي، ومن قبل الأمومة الحسب العدوي، فطابت تبعته وطافت الأرض بأغضر الأنفاس سمعته، وأخذ نفسه بسلوك سيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقارب فعل سميّه، وقارن منهم ذلك الولي بوسميه «3» ، وجدّ فما قصّر، ووجد محاسن ما تبصّر،(24/411)
وقد كان من آثق بني أبيه تمتعا، حتى شمّر وأنف إخوانه تمنعا حتى تأمّر، فلما ولي ولي بتلك الزخارف، ولوى ورقات تلك المطارف وسئل عن مذاهب الراشدين ثم ما تعداها، وتجلبب تلك الخلائق الطاهرة وترداها، وأول ما بدأ به أمره أن بدّل سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«1» ، وأبدل تلك السيئة بهذه الحسنة الباقية الإحسان «2» ، وأزال تلك السيئة ومحاها، وأزاح ليلها الداجي بارتفاع ضحاها، فخلصت الذمم من إرهاقها، واستراحت المنابر مما كانت تحمله من إثم [ص 279] الخطيئة في أعناقها، وقنع بالقليل من القوت، طلبا لحلّه، وسببا لتخفيف حمله، وهجر النساء منذ ولي، وقال لزوجته: إن رضيت بهذا وإلا فاعتزلي، ثم أمرها أن تردّ إلى بيت المال ما كان أبوها عبد الملك نحلها، وألزم بمثل هذا سائر بني أمية واستعاد نفلها، وقال: هذه فواضل أموال لبيت المال لا تجوز أن تحتجز، ولا أن يؤخذ بأيديكم عبثا وتكتنز، ولقد أعطاكموها أئمة جور، أعطت ما لم تملك، وأعدت بالهلاك بها ما لم تهلك، وأخلص لله كل عمله، وخلّا كل أمله، وكان يبرد البريد إلى المدينة لإبلاغ سلامه لساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام، لا لشغل آخر له غيره خاصة، ولا لعامة الإسلام، ودام حميدا حتى وفي وما بلغ الأربعين، وأنشد باب الخير فلا له فاعل ولا عليه معين، ما طالت مدت، فما سلم حتى ودع، ولا أومض بارقه حتى انطوى، وكأنه لم يلمع، دفن بخناصرة «3» ، وغيب الحق في ذلك الثرى ناصره، ولم يقم بعده ملك لا إمام،(24/412)
ولم يتم مثله في موضعه سقاه الغمام، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى، وأمها بنت الأمراء، التي كانت تمذق اللبن بالماء، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهاها فتنتهي بمحضره، ثم تعاود فعلها في مغيبه، وحديث ابنتها معها مشهود، وهو كان سبب تزويج عاصم بن عمر بها برأي أبيه عمر.
قال البلاذري: ولّى سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز الخلافة، وكتب كتابا سمّاه فيه ويزيد بن عبد الملك إن كان من بعده، فلما مات سليمان أخرج رجاء بن حيوة الكتاب، وأظهر اسمه، وبايعه الناس بدابق، فقال لرجاء ذبحتموني بغير سكين، وكان عمر بن عبد العزيز أشج، ضربه حمار وهو بمصر، فلما رآه أخوه الأصبغ «1» ، قال: هذا والله أشج بني أمية الذي يملأ الأرض عدلا، وكانت خلافته ثلاثين شهرا، ووفاته وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وتوفي في سنة إحدى ومائة، ودفن بدير سمعان «2» ، وكان نزوله بخناصرة من عمل جند قنسرين، وبها وفاته، وصلى عليه رجاء بن حيوة الكندي، ويقال مسلمة(24/413)
بن عبد الملك، ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخير، يبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ويدلنا من العدل على ما لم نهتد له، ويؤدي الأمانة إذا حملها، ويعيننا على الخير ويدع ما لا يعنيه، فمن كان كذلك فحي هلا به، ومن لم يكن كذلك فلا يقربنا» . قال أبو سنان ضرار: فحجبوا والله دونه، قال: وهذا والله أول كلام تكلم به حين استخلف.
ولما ترعرع عمر بن عبد العزيز استأذن أباه في إتيان المدينة وقال: أحب أن أكتب العلم، وأحضر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عليّ الحج، فأذن له في ذلك، فأتى المدينة. وقال الواقدي: أذن له أبوه في إتيان المدينة وقال له: اجتنب آل عبد الرحمن بن عوف، وآل سعيد بن العاص، فإن ثمّ شرارة وشرارة وسوء أخلاق، فكان يجالس أهل الفقه والورع. قال المدائني: أوصى عبد العزيز لعمر بأربعين ألف دينار، ودفعها إلى ابن رمانة، مولى لبعض أهل المدينة، فلما توفي عبد العزيز أتاه المال فقبضه، ثم ذهب ابن رمانة فحدث بذلك أبا بكر بن عبد العزيز، فغضب وكتب إلى عمر: إنك أخذت هذا المال دوننا، ثم شخص عمر من المدينة فقدم الشام، فلما استخلف الوليد بن عبد الملك وهو صهره، كانت أم البنين بنت عبد العزيز عنده، ولاه الوليد المدينة فأحسن السيرة، إلا أنه كان لبّاسا عطرا، وإنما تقشف بعد ذلك، فكان يعمل له ثوب الخز بمائة دينار فيستحسنه، ثم إنه كان يؤتى بالثوب الخشن بأقل من دينار أو بدينار، فيقول: ما أصنع بهذا، ايتوني بأخشن منه وأقل ثمنا، وكان ابن رمانة لمغاضبته إياه يرفع على عماله ويقع فيهم حين عزل عن المدينة، فقال عمر: لو أشاء أن آخذ كتاب الوليد إلى عامل المدينة في ضرب ابن رمانة مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، فقلت: ولكني رأيته يتقي الله منجّى، وفي ولاية عمر المدينة يقول(24/414)
الأحوص: «1» [ص 281]
[الكامل]
وأرى المدينة إذ وليت أمورها ... أمن البريء بها وخاف المذنب
وقال أيضا:
وأرى المدينة حين كنت أميرها ... أمن البرىء بها ونام الأعزل
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل «2»
وكان عمر يساير سليمان بن عبد الملك، فرعدت السماء وبرقت، فقال عمر: يا أمير المؤمنين، هذه قدرة الله عند الرحمة، فكيف بها عند العذاب.
وقال عمر لرجل: من سيد قومك، فقال: أنا، قال: لو كنت كذلك ما قلته.
وقال المدائني: جمع عمر بني مروان، فقال: يا بني مروان، إني أظن نصف جميع مال الأمة عندكم، فأدوا بعض ما عندكم إلى بيت مال المسلمين، فقال هشام: لا يكون والله ذاك حتى تذهب أرواحنا، فغضب عمر وقال: أما والله يا بني مروان، إن لله فيكم ذبحا، ولولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا المال منه لأضرعت خدودكم.
وقال المدائني: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا تحتاج إلى مرمّة، فكتب إليه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، فحصن مدينتك بالعدل، ونقّها من الظلم، والسلام» . وقال: كتب عمر إلى عبد الحميد «3» بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عامله على الكوفة:(24/415)
اجتنب الحاجات عند حضور الصلوات، والسلام. وقيل لعمر: أي الجهاد أفضل، قال: جهاد المرء هواه.
وقال المدائني، قال رجاء بن حيوة: كنت عند عمر فكاد المصباح يطفى، فقمت لأصلحه، فقال: مه، إن جهلا بالرجل أن يستخدم ضيفه، ثم قام، فوجد غلامه نائما فلم يوقظه، وتولى صلاح المصباح، ثم عاد، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وقعدت وأنا ذاك.
قالوا: وكان عبد الملك «1» ابنه زاهدا خيّرا، فقال له: يا بني: لأ [ن] تكون في ميزاني أحبّ إلى أن أكون في ميزانك، فقال: ولأن تكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن تكون ما أحب، فلما مات عبد الملك خرج عمر إلى الناس وقد اكتحل، فسئل عنه فقال: [ص 282] قد سكن ورجاه أهله، وما كان في حال أحب إليّ من حاله، ثم علم بموته، فقيل له: فعلت ما فعلت وقد مات، فقال:
أحببت أن أرغم الشيطان، وانصرف من جنازته، فرأى قوما ينتضلون، فقال لبعضهم: أخطأت، فافعل كذا، فقيل له في ذلك، فقال: ليس في موت عبد الملك ما يشغل عن نصيحة المسلم، وكان سعيد بن مسعود المازني عاملا لعدي بن أرطاة على عمان، فأخذ رجلا من الأزد مائة سوط في ناقة أرادها منه، فأتى إلى عمر، وشكا إليه، وأنشده قول كعب الأشقري: «2»(24/416)
[الكامل]
إن كنت تحفظ ما يليك فإنّما ... عمّال أرضك بالعراق ذئاب
لن يستقيموا للذي تدعو له ... حتى تضرب بالسيوف رقاب
بأكفّ منصلتين أهل بصائر ... في رفعهن مواعظ وعقاب
لولا قريش نصرها ودفاعها ... أمسيت منقطعا بي الأسباب
فقال عمر: لمن هذا الشعر، فقال: لرجل من أزد عمان يقال له كعب فقال:
ما كنت أظن أهل عمان يقولون بمثل هذا الشعر، فكتب إلى عدي بن أرطاة «1» :
إن استعمالك سعيد بن مسعود قدر من الله قدره عليك، وبلية ابتلاك بها، فإذا أتاك كتابي، فابعث إليه من يعزله، وابعث به إليّ مشدودا موثقا، فعزله واستعمل عبد الرحمن بن قيس، وحمل سعيدا إلى عمر، فلما دخل عليه، كلمه عمر فقال: أصلحك الله، أتكلمني وأنا موثق، أطلق عني حتى أتكلم بحجتي، فأطلق عنه، وقال للأزدي اضربه، فقال قمير بن سعيد: أنا الذي ضربته، ولم يضربه أبي، قال: فاعط الأزدي سوطا، وقال عمر: قم فاجلده كما جلدك، فجلد قميرا مائة سوط، فقال له أبوه: يا قمير اصرر أذنيك إصرار الفرس الجموح، وعضّ على نواجذك، واذكر أحاديث عدو أتاك، وذكر الله فإنه معجزة.
وقال المدائني، قال عمر: ما قرن شىء إلى شىء أحسن من علم إلى حلم، وعفو إلى مقدرة. قال، وقال عمر: تعلموا العلم فإنه زين للغني، وعون [ص 283] للفقير، لا أقول إنه يكسب به، ولكنه يدعوه إلى القناعة. وقال البلاذري: قدم(24/417)
وفد على عمر من العراق، فنظر إلى شاب منهم يتهيّأ للكلام، فقال عمر:
ليتكلم أكبركم سنا، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، ليس الأمر بالسن، ولو كان كذلك، لكان في المسلمين من هو أسنّ منك، قال: صدقت، فتكلم، فقال:
إنّا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فأتتنا في بلادنا، ودخلت علينا منازلنا، وأما الرهبة فإنّا قد أمناها بعدلك، قال: فما أنتم، قال: نحن وفد الشكر، فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهالة القوم، بل معرفتك بنفسك، فإن من الناس ناسا غرهم الستر، وخدعهم حسن الثناء، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم، فبكى عمر رحمه الله.
وقال البلاذري: وفد جرير على عمر بن عبد العزيز، فغبر حينا لا يصل إليه، ثم رأى ذات يوم عون «1» بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، يريد الدخول عليه، وقال: وكان قارئا، فقام إليه جرير فقال له:
[البسيط]
يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمقرون في قرن
فقال له عون: إن أمكنني ذلك فعلت إن شاء الله، فلما دخل عون على عمر، سلم وجلس، حتى فرغ من حوائج الناس، ثم أقبل عون عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن ببابك جرير بن عطية الشاعر، وهو يطلب الإذن، فقال عمر:
أويمنع أحد من الدخول عليّ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه يطلب إذنا خاصا(24/418)
ينشدك فيه، فقال: يا غلام، ادخل جريرا، فأدخل عليه، وعون جالس، فأنشد جرير: «1»
[البسيط]
أأذكر الجهد والبلوى التي شملت ... أم أكتفي بالذي أبليت من خبري
كم بالمواسم من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممّن ترجّى له من بعد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
فبكى عمر حتى بلّت دموعه لحيته، وأمر بصدقات تفرق على الفقراء [ص 283] ، فقال جرير:
هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فقال له: يا جرير، أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد الأنصار؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد التابعين بإحسان؟ قال: لا، قال: أفمن فقراء المسلمين فنجزيك على ما نجزي عليه الفقراء؟ قال: قدري فوق ذلك، فقال: يا جرير، ما أرى لك بين الدفتين حقا، فولى جرير، فقال عون: يا أمير المؤمنين، إن الخلفاء كانت تعوّد الإحسان، وإن مثل لسانه يتّقى، فقال عمر:
ردّه، فردّ، فقال: يا جرير، إن عندي من مالي عشرين دينارا، وأربعة أثواب، فأقاسمك ذلك؟ فقال: بل نوفر يا أمير المؤمنين ونحمد، فلما خرج تلقاه الناس فقالوا: ما وراءك، قال: خرجت من عند رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني له لحامد، ولم يذكره بسوء، ورثاه حين مات.
وقال البلاذري: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر يستأذنه في عذاب قوم من عمال الخراج امتنعوا في أداء ما عليهم، فكتب عليه: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنّة لك من عذاب الله، أو(24/419)
كأنّ رضاي ينجيك من سخط الله، فمن أعطاك ما قبله عفوا فاقبله منه، ومن قامت عليه البيّنة، فخذه بما تثبت البينة عليه، ومن أنكر فاستحلفه، فوالله لأن تلقوا الله بجناياتهم، أحب إليّ من أن ألقاه بعذابهم، والسلام» .
وقال كاتبه إسماعيل بن أبي حكيم «1» : ما كتبت له قط في أكثر من شبر، حتى خرج من الدنيا. ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك «2» في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي بمعروف يا أمير المؤمنين؟ قال: بم أوصي، والله ليس لي مال، قال مسلمة: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، قال: أو تفعل؟
قال: نعم، قال: ترد على من أخذت منه ظلما، فبكى مسلمة وقال: رحمك الله، لقد ألنت منّا [ص 285] قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
[ثم] :
107- دوّلة يزيد بن عبد الملك بن مروان
أبي خالد «3» ، عريق في العظام البالية، حقيق بالملك، أبواه مروان ومعاوية، بايعه بالعهد أخوه سليمان، وقد كان همّ بهذا أبوه عبد الملك بن مروان، وقال(24/420)
سليمان: إذ عهد إليه بعد عمر بن عبد العزيز: لولا إني أخاف اختلاف بني مروان ووقوع الفتنة، ما وليت يزيد، ولاقتصرت على عمر بن عبد العزيز، وقال عمر حين احتضر: لو اخترت للأمة غير يزيد كان ذلك أولى، ولكني أخاف إن أخرجها من بني عبد الملك أن تقع فتنة وفرقة، وأنا أولي سليمان ما تولى «1» ، والمسلمون أولى بالنظر في أمرهم.
وهو «2» أول من غالى بالقيان، وعالى بتشييد هذا البنيان، وما منع هواه عن قينة، ولا قطع في غير مناه آونة ولا فينة، وانعكف على اللهو والطرب، والزهو بخرائد العرب، ولبث مدة ملكه بين النساء يجر ذيول الغانيات، ويسرهن باينات ودانيات، عشق سلامة «3» وحبابة «4» ، وطفق على المدامة والصبابة، فظل(24/421)
يرتشف ثغر قدح أو جارية، لا يطبي شيخ ولا جازية، كأنّ العرب ليسوا من آبائه، أو بالعرب ليسوا على آبائه، وعمد يزيد إلى كلما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لا يوافق رأيه، ولا يوافق تنكبه عن الحق ولاءه، فرده إلى ما كان عليه قبل عمر، وعدّه من إحسان ما أمر، ولم يخف فيه إثما في دنيا ولا آخرة، ولا كلما ظلما تبع به أوائله واستلحق أواخره إصرارا على الحنث العظيم، واغترارا بالله الحليم، هذا وهو كريم يقفى على منهجه، ويعفى صنايع السحاب بانصباب خلجه، وله فتوة ما أخلق انهماكه على الطرب بردها، ولا أخلف عهدها، لما خلق في عنصره القرشي طباعا، وأطبق على جوهره الأموي شعاعا.
حكى المدائني عن محمد بن خالد، قال: [ص 286] كان لسعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد قصر بحيال قصر يزيد بن عبد الملك، فكان يزيد إذا ركب إلى الجمعة، توافيا إلى موضع واحد، فقال له يزيد في بعض الجمع: ما أراك تخل في جمعة واحدة، فقال له سعيد: إن قصري بحيال قصرك، فاذا ركبت ركبت فتلاقينا في هذا الموضع، فقال يزيد: فإن لي إليك حاجة، قال:
إذا لا يرد عليها أمير المؤمنين، قال: تهبني قصرك، قال: هو لك يا أمير المؤمنين، قال يزيد: فلك به خمس حوائج، قال سعيد: أن تردّ قصري عليّ، قال:
نعم قد فعلت، فاذكر الأربع، فذكرها سعيد، فقضاها له يزيد.
وها أنا أذكر شيئا من أمره مع سلامة وحبابة: أما سلامة فكانت لرجل من أهل الكوفة اشتراها سهيل الزهري، ثم اتصلت بيزيد، وكان يعرف بسلامة(24/422)
القس، لأنه كان يهواها صفوان بن أمية الجمحي العابد المسمى بالقس «1» لعبادته، هوى لا يكدره أثام، ولا يغيره إن هواؤه مرت ريحه على حرام، وله فيها شعر منه:
[الكامل]
ما بال قلبك لا يزال يهيجه ... ذكرى عواقب غيهنّ سقام
باتت تعللنا وتحسب أنّنا ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتى إذا سطع الصباح لناظر ... فإذا وقربك بيننا أحلام
قد كنت أعذر في السفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقام
وأما حبّابة فكانت تسمى العالية، كانت لرجل من الموالي بالمدينة، ثم اشتراها يزيد وكان بكل واحدة منها كلفا هائما لا يقبل فيها عاذلا ولا لائما، قد قصر على مجالستهما زمانه، وعلى مؤانستهما بيانه، صادف هواهما قلبه فارغا فتمكن في سويدائه، وتوطن به شغفه بهما حتى صار أكبر دائه.
[ثم]
108- دوّلة هشام بن عبد الملك
أبي العباس [ص 287] ملك همام «2» ، وفلك لا يطاوله يذبل ولا(24/423)
شمام «1» ، بعزمة لا يفرى فريها، وهمة لا يقصر عبقريها، هو الأحول الحوّل، المنوّه والمنوّل، وهو واحد القوم ولا لوم، لم يكن في القوم أحوط منه حزما، ولا أحوج إلى أن لا يجد عزما، بما طاوعته المقادير وتابعته، لا يلوي بالمعاذير، ومنه البقية الأموية الداخلة إلى الأندلس أيام السفاح الداخرة، لخوفها في قصوره تحت العمد والصفاح، حتى هبّت ريحها، وذهبت فيحها، وإنما كانت بقية من سعادته ردت على الأعقاب، وردت ملابس الملك الجدد للأعقاب، حتى توقد جمرهم الخامد.
وكان هشام فحل بني مروان، عزمة لا يفت في عضدها، وهمة لا يفوت حصول مقصدها، ولقد كان المنصور على اتساع علمه، وإجماع الناس على حزمه، يعظم شأن هشام إذا ذكره، وإذا ذكر في مجلسه شكره، ولا يكشف العوائد إلا من دواوينه، وثوقا بضبطه، ووقوفا في أمور الملك على شرطه، وجمع هشام من الأموال ما طاول جدر الخزائن اعتلاء، وأخرج صدور البيوت امتلاء، وأحوج الشمس أن لا يظهرها اجتلاء، إلا أنه كان مفرطا في البخل، لو تخيّل أن له شبيها في ضنانته بخل، كانت يده مغلولة، ومدده كلها لا يرى له فيها صرّة محلولة، ما عرفت أنامله يوما بسطا، ولا نائله مكانا إليه يتخطى، إلا أن رأيه(24/424)
كان يصيب المقاتل، ويصيد المخاتل، بتوفيق ما خانه منذ عاهده، ولا حل رأيه بتأييده منذ عاقده، فما حال حائل بينه وبين من عانده، ولا حوّل حتى راجع ما أراده وعاوده.
وكانت خلفاء بني العباس تؤامر دواوينه، وتداوم قوانينه، وثوقا بحزمه الذي لم يكن فيه مطمع، وعزمه الذي ما رآه السيف إلا أوى إليه بالسجود وانحنى ليركع. قال البلاذري: كنيته أبو الوليد، وكان أحول بخيلا، وأمه أم هشام بنت الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ويقال: عائشة بنت هشام، ويقال: مريم بنت هشام، وكانت أمه حمقاء، وكانت تثني الوسادة ثم تركبها [ص 288] وتزجرها، فطلقها عبد الملك، وسار إلى مصعب وهي حامل، فلما قتله، بلغه مولد هشام فسماه منصورا تفاؤلا بذلك، وسمته أمه هشاما باسم أبيها، وولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب سنة اثنتين وسبعين، وأتته الخلافة وهو بالزيتونة «1» ، ومات بالرصافة التي بقرب الرقة في شهر ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه ابنه مسلمة، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر، ومات ليلة الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
قال المدائني: لما خلع يزيد بن المهلب «2» ، وجه إليه يزيد بن عبد الملك(24/425)
مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك «1» ، وقال: أمير الجيش مسلمة، فإن حدث به حدث، فالعباس بن الوليد، فقال العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قوم غدر كثيرا زحافهم، وأنت توجهني محاربا، والأحداث تحدث، ولا آمن أن يزحف أهل العراق ويقولوا: مات أمير المؤمنين ولم يعهد، فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام، ويدخلهم له الوهن والفشل، فلو بايعت لعبد العزيز بن الوليد، قال: غدا إن شاء الله، وبلغ مسلمة ذلك، فدخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أولد عبد الملك أحب إليك، أم ولد الوليد؟
قال: ولد عبد الملك إخوتي وأحب إليّ، قال: أفابن أخيك أحب إليك وأحق بالخلافة من أخيك؟ قال: لا، قال: أفتبايع لعبد العزيز؟ قال: لا، غدا أبايع لهشام أخي، وبعده للوليد ابني، وبلغ عبد العزيز قوله، وأتاه مولى له وهو لا يعرف الخبر، فقال: يا أبا الأصبغ، غدا نبايع لك، فقال عبد العزيز: هيهات، أفسد ذلك علينا مسلمة ونقضه، فلما كان الغد، بايع لهشام، ومن بعده لابنه الوليد بن يزيد، فكان يزيد إذا نظر إلى الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما [ص 289] بيني وبينك.(24/426)
وقال المدائني: كتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إن بغلتي عجزت عني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة، فكتب إليه: «قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وقد ظن أمير المؤمنين أن عجز بغلتك عنك من قلة تعهدك لها، وإن علفها يضيع، فتعهد دابتك وقم عليها، وسيرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك إن شاء الله، والسلام» . وقال: كتب بعض عمال هشام إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة فيها درّاقن، يعني الخوخ، فليكتب إليّ بوصولها، فكتب إليه: «قد بلغ أمير المؤمنين كتابك، ووصل إليه الدراقن وأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه واستوثق من الوعاء الذي توعيه إياه، والسلام» . قال: وكتب إلى بعضهم: «قد أتت أمير المؤمنين الكمأة التي بعثت بها إليه، وهي خمسون، وقد تغير بعضها، ولم يؤت ذلك إلا من قبل حشوها، فاذا بعثت إلي أمير المؤمنين بشىء من الكمأة، فأجد الحشو في طرفه بالرمل حتى لا يضطرب، ولا يصيب بعضها بعضا إن شاء الله» .
قال: وقال الأبرش، وهو سعيد بن الوليد بن عبد عمرو، لهشام وكان جليسه وأنيسه: يا أمير المؤمنين، لو ينادي رجل في عرض الناس: يا مفلس، فسمع رجل من جلسائك نداه، ما ظن أنه عني غيره. ودخل أبو النجم العجلي «1» على هشام فقال له: كيف رأيك في النساء؟ قال: ما لي عندهن خبر، ولا لهن عندي خبر فقال: ما ظنك بأمير المؤمنين، قال: مثل ظني بنفسي، فبعث هشام إلى جواريه فأخبرهن بما قال أبو النجم، فقلن: كذب عدو(24/427)
الله، ما منا جارية تصلي صلاة حتى تغتسل، فوهب لأبي النجم جارية منهن، ثم سأله عما صنع، فأنشده: «1»
[الكامل]
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا ينوء بخصرها ... ثقلا وأخثم في المجسة رابيا
ورأته منتشر العجان مقلصا ... رخوا حمائله وجلدا باليا [ص 290]
أدني له الرّكب الحليق كأنّما ... أدني إليه عقاربا وأفاعيا
وهمّ هشام أن يكتب إلى عامله على المدينة بإشخاص أشعب الطامع إليه، فقال له الأبرش: تتحدث الناس بأنك كتبت إلى «2» عاملك بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشخص منها مضحكا لتلهو به، فقال: امسكوا امسكوا، فإنها وصمة عظيمة، ثم قال بيتا زعموا أنه لم يقل قط بيتا غيره، ويقال إنه تمثل به: «3»
[الطويل]
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
فقال المدائني: رأى عبد الملك بن مروان كأن ابن هشام بن إسماعيل فلقت رأسه، فلطعت منه عشرين لطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب من قصّها عليه، فقال: تلد غلاما يملك عشرين سنة، فولدت له هشاما.
وقال المدائني: كان هشام يتكلم بكلمات في العيدين في خطبة لا يقولهن(24/428)
في غير هذين اليومين، ثم يخطب بعد ذلك: «الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء خفض، ومن شاء رفع، ومن شاء ضر، ومن شاء نفع» . وقال المدائني وغيره: قال مسلمة بن عبد الملك لهشام، وتلاحيا في شىء: كيف ترجو الخلافة وأنت جبان بخيل، فقال: لأني عفيف حليم. وقال المدائني: كان المنصور يذكر هشاما فيقول: كان رجل القوم.
قال: وبعث هشام إلى أبي حازم الأعرج «1» ، فأبطأ عليه، ثم أتاه فقال: ما منعك من إتياني، قال: والله لولا مخافة شرّك ما أتيتك، قال: ما ترى في إنفاق هذا المال، قال: إن أخذته من حلّه ووضعته في حقّه سلمت، وإلا فهو ما تعلم.
قال: وكان هشام إذا حدّث قال: القوا عنّي مؤونة التحفظ. قال: وكان المنصور إذا ذكر بني مروان يقول: أما عبد الملك فكان جبّارا، لا يبالي ما أقدم عليه، وأما الوليد فكان مجنونا [ص 291] ، وأما سليمان فكان همّه بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد العزيز فكان أعور بين عميان، ورجل القوم هشام.
قالوا: وكان الجعد بن درهم «2» مؤدب مروان بن محمد ومعلمه، وكان(24/429)
دهريا، ويقال له معتزليا، شهد عليه ميمون بن مهران «1» ، وعدة شهدوا عند هشام على الجعد بن درهم بالكفر، وطلبه هشام فهرب إلى حرّان، ثم إنه ظفر به، فحمل إلى هشام، فأخرجه من الشام إلى العراق، وكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو عامله على العراق بأن يحبسه، فلم يزل محبوسا حينا، ثم إن امرأته رفعت إلى هشام في أمره، تعلمه بطول حبسه وسوء حال عياله، فقال: أو حيّ هو، وكتب في خالد في قتله، فقال خالد في يوم أضحى: أيها الناس، انصرفوا إلى أضاحيكم، فإني مضح بعدو الله الجعد بن درهم. قالوا:
وكان غيلان يقول: كلمت جعدا فوجدته معطّلا.
قال المدائني: وكان عقال بن شبة يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشو عقلا. قال البلاذري: بعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء، يخرج طرفاها من الكف، وحبة لؤلؤ من أعظم ما يكون من الحب، قال الرسول: فدخلت على هشام، فدنوت منه فلم أر وجهه من السرير وكثرة الفرش، فلما تناول الحجر والحبة قال: كتب معك بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هما أجل بأن يكتب بوزنهما، ومن أين يؤخذ مثلهما، قال: صدقت، وكانت الياقوتة لرابعة جارية خالد بن عبد الله القسري اشتراها بثلاثة وتسعين ألف دينار.(24/430)
ومات هشام بالذبحة، فروي عن سالم أبي العلاء أنه قال: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، يعرف ذاك فيه، مسترخي الثياب، قد أرخى عنان دابته، فقال: ادعوا الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك ما غمّني، قال: ويحك يا أبرش، وكيف [ص 292] لا أغتم وقد زعم أهلي أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما، قال الأبرش: فلما انصرفت إلى منزلي كتبت: زعم أمير المؤمنين أنه يسافر يوم كذا، فلما كانت ليلة اليوم الذي كمل الثلاثة والثلاثين، أتاني رسول هشام، فقال: أجب واحمل معك دواء الذبحة، وقد كانت الذبحة عرضت له مرة فتداوى بذلك الدواء فانتفع به، قال: فأتيته ومعي الدواء، فتغرغر به، فازداد الوجع شدة ثم سكن، فقال: قد سكن بعض السكون، فانصرف إلى أهلك، وخلف الدواء عندي، فما استقررت في منزلي حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات أمير المؤمنين، فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه ماء لغسله فما وجدوه حتى استعاروا قمقما. وكان الوليد شخص عن الرصافة لكثرة عبث هشام به، وخلف عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان، وهو كاتبه بالرصافة، وأمره أن يكتب إليه الأخبار، فعتب عليه هشام فضربه وحبسه، وأفاق هشام إفاقة فطلب شيئا، فمنعه، فقال: أرانا إنما كنا خزّانا للوليد، ثم مات من ساعته، فخرج عياض من الحبس وختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه وحازها فما وجد له كفن، حتى كفنه غالب مولى هشام، فتّبا لدنيا متاعها قليل، وعزيزها ذليل، بينما المرء خليفة فإذا به جيفة.
ومن كلام هشام: اثنان يتعجلان النصيب، ولعلهما أن لا يظفرا بالبغية، الحريص في حرصه، ومعلم البليد مالا يبلغه فهمه.
[ثم] :(24/431)
109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
الجبار العنيد «1» ، لقبا ما عداه، ولقما سلكه فما هداه، حقيقة تمهجها، وطريقة تهجمها، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعايب، يأتي يوم القيامة يقدم قومه فيوردهم النار، ويرديهم العار، فبئس [ص 293] الورد والمورود، والبرد المودي في ذلك الموقف المشهود، رشق المصحف بالسهام، وفسق ولم يخف الآثام، وكفن وهو يدعى بالإمام، يسعى بما لم يحمده الله ولا الأنام، وأبرز جارية وطئها لتصلي بالناس في زي غلام، ورضيها استخفافا من بذلك المقام، لكنه كان فتى من فتيان قريش، يرتاح للندى، ويلتاح قمرا إذا بدا، لم يكن في بني مروان أفخم منه وسامة، ولا أفخر إذا لبس العمامة، يعطي الألّاف الآلاف، ولا يبالي في التلاف، جودا خلق من عنصره، وخلّق وهو نطفة من عنبره، استنشد طوائف الشعراء وأجازهم، واستقدم أهل الغناء ليكمل به مجلسه، وما عازهم، وما سمع بفتاة ذات جمال إلا هام بها، وهان عليه ما(24/432)
يبذل بسببها لإفراط ولعه بالقيان، ونزوعه إلى المشاهدة لهن والعيان، هوى سلمى وسعدى، وفني بهما تيتما ووجدا، خطبهما في آل عثمان أختين كلف بكل واحدة منهما كلفا، انتهب خلبه، وشغف شغفا سلب من صدره قلبه، حتى كانت تلك الميتة ميتته، وتلك البيتة التي صبح في غداتها بيتته، ولحب عليه الدار، ولحّت عداته في طلبه بالدمار، فلما علم أن الموت قد أبرز له من خبّ الضلوع دفائنه، وأنشب به من مدى الأعداء براثنه، تاب حين لا متاب، وعتب حين لا ينفع الإعتاب، ولا يسمع العتاب، وأخذ المصحف وقعد يقرأ القرآن، ويدرأ الحد بالتظاهر بالإيمان، وبعد عن نفسه حين لا ينفع نفسا إيمانها، ولا يكفر سيئات إحسانها، ظنا أنه يقيه الإيمان ويقول يوم كيوم عثمان، وهيهات وقد حضرت المنية، ونظرت إلى مواضعها في بيوته الرزية، ونضحت على وريده رشاش البلية، وإنما عوقب بحق واضح، وحوب فاضح، انتهك حرمة الإسلام، فأخذ تلك الأخذة الرابية.
وحكى ابن الأثير: أن الوليد هذا قال: الغناء يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وينوب عن الخمر، ويفعل ما لا يفعل السكر، فإن كنتم [ص 294] ولابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء فيه الزنى، وإني لأقول ذلك على أنه أحب إليّ من كل لذة، وأشهى لنفسي من الماء إلى ذي الغلّة، ولكن الحق أحق أن يتّبع.
حكى البلاذري قال: وكانت عنده ابنة سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فزارتها أختها سلمى بنت سعيد، وكانت من أحسن الناس وجها، فبصر بها الوليد فأعجبته، وذلك قبل الخلافة، فطلّق أختها، ثم خطبها إلى أبيها، فامتنع عليه وقال: إنك «1» تريد مني أن أتخذك فحلا لبناتي، فكان يهجوه، ثم ما زال(24/433)
يشكو حبّها حتى افتضح، وفيها يقول: «1»
[الوافر]
تذكر شجوه القلب القريح ... فدمع العين منهمل سفوح
ألا طوقتك بالبلقاء سلمى ... هدوّا فالمطي بنا جنوح
فبتّ بها قرير العين حتى ... تكلّم ناطق الصبح الفصيح
وبلغه أن هشاما همّ بخلعه، واجتثاث أصله وقلعه، فقال: «2»
[الطويل]
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... بيانا يساوي ما حييت قبالا
ذروا لي سلمى والطلاء وقينة ... وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
أبا لملك أرجو أن أعمّر فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا
إذا ما مضى عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا
قالوا: ولما ولي الخلافة بعث إلى سعيد بن خالد، فقسره على أن زوّجه بسلمى ابنته، فلما حملت إليه من المدينة، اعتلّت في الطريق، وماتت ليلة أدخلت عليه، ولم يزل على هذا حتى وثبت اليمانية فقتلوه، وبايعو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان على هناته مدره جدال، وندرة رجال، لا يقطع باحتجاج، ولا يقنع بما دون الحجاج. قال له هشام يوما كالعاتب به، المعير بمدامه، اللابث على شربه: ما شرابك يا أبا العباس؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا، فقال هشام: أهذا الذي تزعمون أنه أحمق، ما هو والله بأحمق، ولكني أظنه على غير الملة.(24/434)
ومن حديث المدائني قال: [ص 295] دخل الوليد يوما، فجلس [مجلس] هشام، ثم أقبل هشام، فما كاد الوليد يتزحزح له عن صدر المجلس، فزحل قليلا، وجلس هشام، فقال: كيف أنت يا وليد، قال: صالح، قال: ما فعلت برابطك، قال: معلمه، قال: فكيف ندماؤك؟ قال: لعنهم الله إن كانوا شرا من جلسائك، فغضب هشام، وقال: أوجئوا عنقه، فلم يفعلوا، ودفعوه دفعا رفيقا، فقال الوليد: «1»
[البسيط]
أنا الوليد أبو العباس قد علمت ... عليا معدّ مدى كري وإقدامي
أكون في الذروة العلياء إن نسبوا ... مقابلا بين أخوالي وأعمامي
وقال: «2»
[الطويل]
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي ... ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزّها ... ثقيف وفهر والرجال الأكابر
نبيّ الهدى خالي ومن يك خاله ... نبيّ الهدى يعل النهى في المفاخر
ولما زاد ضرر هشام به، ونظر إلى ما يغشاه من قطيعته وسبّه، كتب إليه يقول: «3»
[الطويل]
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... فلو كنت ذا عقل لهدمت ما تبني(24/435)
ستترك للباقين عني ضغينة ... وويل لهم إن متّ من شرّ ما تجني «1»
وقال الهيثم بن عدي: كان الوليد يسمى البيطار، لأنه كان يصيد الحمر الوحشية، فيسمها بالوليد، ثم يخليها، فوجدت في أيام السفاح والمنصور موسومة باسمه. وكان يحب دخول الكوفة والحيرة، فخرج كالمسدي «2» ، ثم أتى الكوفة، فنادمه سراعة ومطيع بن إياس، وحماد الراوية، وحماد عجرد، واك «3» عبد الله بن مطيع، وكان ممن سمع بها فأعجبه غناء قينتين لعبد الله بن هلال الهجري، المعروف بصديق إبليس، فقال «4» :
[الكامل]
يا أهل بابل ما نفست عليكم ... من عيشكم إلا ثلاث خلال
خمر العراق وليل قيظ بارد ... وسماع مسمعتين لابن هلال [ص 295]
وروى البلاذري عن إسحاق بن محمد قال: دخلت على منصور بن جمهور «5» وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال: اسمع ما يحدثانك به، فقالتا: كنا آثر جواريه عنده، فوطئ هذه، فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة، فأخرجها(24/436)
وهي جنب متلثمة، فصلت بالناس. وحكى أن نقش خاتمة كان: (أؤمن بالله مخلصا) ، وإنه كان يقول عقب كل حوب: استغفر الله.
قال البلاذري: كان الوليد شديد البطش، طويل أصابع اليدين والرجلين، توتد له سكة الحديد وفيها خيط، ويشد الخيط في رجله، ويؤتى بالدابة فيثب عليها، فينزع السكة، ويركب ما يمس الدابة بيده. وروى مسلمة بن محارب، أن أيوب السختياني قال حين بلغه مقتل الوليد: ليتهم تركوا لنا خليفتنا فلم يقتلوه.
قلت: وإنما قال ذلك خوفا من الفتنة. وقال المهدي يوما وقد ذكر الوليد رحمه الله، ولا رحم قاتله، فإنه قد كان إماما مجمعا عليه، فقيل له إن الوليد كان زنديقا، فقال: إن خلافة الله عز وجل [أجل] «1» من أن يوليها من لا يؤمن به. قلت: ولئن صح أن المهدي قال هذا، مع سوء رأي القوم في أخبار بني أمية، كيف في شرارهم، فإنما قاله إقامة لحرمة الخلافة أن تنتهك.
وللوليد: «2»
[الطويل]
وأقسم ما أدنيت كفّي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
[ثم] :(24/437)
110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
أبي خالد «1» ، وكان أقبل وأمه ساهقريد بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار، مقابل في الملك بين أبيه وأمه، وعربه «2» وعجمه، تطرف بجلبابي تقى ونسك، وخلافة وملك، يحاذيه طرفا شرف، حل فيهما وما حل في طرف [ص 297] وكان يلقب بالناقص، لأنه نقّص في العطاء، وغصّص على البعداء والخلطاء، وما أراد إلا مناقضة الوليد ومعارضة سفاهته بالرأي السديد، فكره على عظيم شرفيه، وكريم فخاره الملتقيين من طرفيه، وما كان موسوما به من الجمال الفائق، ومعلوما منه من الكمال اللائق، ومعروفا به من النسك والتأله، وموصوفا به من التخلق بأخلاق السلف الأول والتشبه، فأداه فعله إلى خلاف ما يريد، وعداه الغرض في الاقتصاد إلى التسديد «3» ، وإفراطه في التواضع، حتى كأنه ما امتاز عن الناس، ولا حاز ما يشمخ بدونه الراس، على أنه تذكر يوما سلفه، فذكر شرفه فقال «4» :(24/438)
[الرجز]
أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان
قلت: وإنما جعل قيصر وخاقان جديه، لأن أم فيروز بن يزدجرد بن كسرى شرويه أم أبيه، وأمها ابنة قيصر، وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك، ذكره ابن الأثير «1» ، وكان أبوه الوليد بن عبد الملك يذكر ولده فيقول: «عبد العزيز سيدهم، والعباس أفرسهم، ويزيد ناسكهم، وروح عالمهم، وعمر نجلهم، وبشر فتاهم.
ولقي يزيد بن الوليد أيوب السختياني في السنة التي حج فيها، فكتب عنه، وكان كثير الصلاة طول الليل. وقال ابن الأثير عنه: قيل إنه كان قدريا، وكان أسمر طويلا صغير الرأس جميلا، وقال: إنه أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفين عليهم السلاح، وقال: وكان آخر ما تكلم به، يعني عند موته، وا حسرتاه وا أسفاه. وكان نقش خاتمه (العظمة لله) .
ولما ولي الخلافة عاتبته امرأته هند الكلبية، التي تدعى بنت الحضرمية، فقالت: أوسع علينا، فقال لها: لقد فسدت عليّ فيمن فسد، أما لو علمت أنكم تميلون إلى الدنيا هذا الميل، لكان أن أخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليّ من أن أتلبّس بما تلبست به، وما لك في هذا المال إلا ما لسوداء أو حمراء من المسلمين، ولكن ايتيني بثيابي، فجاءت تنحب، فقال لها: هذه ثياب كنت أتزين بها، فشأنك فخذيها [ص 298] فإنه لا حاجة لي اليوم بها، فأما مال المسلمين، فلا حق لي ولك فيه إلا مثل ما للمسلمين.
ولما ولي خطب الناس فقال: «أيها الناس، إني والله ما خرجت بطرا، ولا(24/439)
حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما أقول هذا إطراء لنفسي، إني لظلوم لها إن لم يرحمني ربي، ولكن خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى الله وكتابه، وسنة نبيه، لما هدمت معالم الدين، وعفا أثر الحق فأطفأ نور الهدى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، الراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفيّي في الحسب، فلما رأيت ذلك، استخرت الله في أمره، حتى أراح الله منه، بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي، أيها [الناس] إن لكم أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري فيكم نهرا، ولا أبني قصرا، ولا أكنز مالا، ولا أوثر به زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد، حتى أسد ثغره، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضل، نقلته إلى البلد الذي يليه، مما هو إليه أحوج، وعليكم أن لا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادكم، وعندي إدرار عطاياكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت، فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أفعل، فلكم أن تخلعوني» .
ثم لما مات يزيد بن الوليد، انبثقت البيوق «1» ، وكثرت الخوارج، ودعا كلّ إلى نفسه.
111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
أبي إسحاق «2» ، وكان مغلّبا لا يغلب، ومضعّفا لا يرغب ولا يرهب، عدما(24/440)
في ذي وجود، ومعدما في مثل ذي مال وجنود، بايعه الناس لما ولي أخوه يزيد بالعهد بعده، وعقدوا له عقده، وما أحكموا شده، فلما مات يزيد، جدّدت له بيعة ما تمّت، وجنّدت له قلوب ما خصّت مولاتها ولا عمّت، وكان [ص 299] بدمشق ما نفذ له أمر وراء سورها، بل ولا جاز فناء دورها، وكان يخاطب تارة بالخلافة، وتارة بالإمارة، وهو كالبعير لا عير لديه ولا نكير، ولا رمح صرير، ولا سيف شهير، ولا اتباع مأمور، ولا متابعة أمير.
وقد كان حين وثب أخوه على الوليد حصاة لا يستلينها نفس بازغ، لكنه مني بعوائق الخذلان، ورمى سوابق الخلّان، خذله أصحابه، وهزله أربابه، فما همّ بأمر، فقدر عليه، ولا قهر سواه، حتى وصل إليه، ولم تكن متابعته إلا شقوة طبع بطابعها، وهفوة ضربت عنقه بأسياف مطامعها، ودام ملك بني أمية على هذا الهوان، حتى ملك مروان ورفع بالسيف هذا العار، ونزع ما جللهم من شبه هذا الرداء المعار.
وقال البلاذري، قالوا: بويع إبراهيم- وهو المخلوع، وأمه أم ولد- بالخلافة في أول سنة سبع وعشرين ومائة، بعد موت يزيد أخيه الناقص، وكان نقش خاتمه (إبراهيم يثق بالله) ، وكان مروان بن محمد بن مروان حين قتل الوليد، قدم الجزيرة فدعا إلى نفسه سرا، وسمي الوليد الخليفة المظلوم، وأظهر أنه يطلب بدمه، وقال: إنما قتلته قدرية غيلانية، فبايعه خلق من أهل الجزيرة، ثم أظهر(24/441)
أمره بعد بيعة إبراهيم بنحو شهر بحرّان «1» ، وقال: أمري شبيه بأمر معاوية، حين طلب بدم الخليفة المظلوم عثمان، ثم إنه سار بأهل الجزيرة وقنسرين وحمص يريد إبراهيم، وبعث إلى الناس أن انهضوا لمحاربة هذا القدري أخي القدري الغيلاني، المبتز لأمور الناس بالبدعة والضلالة، فإن جهاده واجب على كل مسلم، فقد كنت على مجاهدة أخيه، فسبقني به أجله، فوجه إليه إبراهيم أخويه بشرا ومسرورا ابني الوليد، فأسرهما وفض عسكرهما، فوجه إليه إبراهيم بن سليمان بن هشام بن عبد الملك [ص 300] في خيول أهل دمشق، فالتقيا بعين الجر «2» من البقاع من عمل بعلبك، في صفر سنة سبع وعشرين، فتناوشوا يومهم، ثم بكروا على الحرب، فاقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه فلحق بإبراهيم. وكتب مروان إلى وجوه أهل دمشق يعلمهم أن الذين بايعوا يزيد الناقص شرارهم ورعاعهم وغواتهم، ودعاهم إلى طاعته ووعدهم ومناهم على الوفاء والإحسان، فانتقضوا على إبراهيم، ونزل مروان بن محمد الغوطة «3» ، فخرج إليه خلق فبايعوه، فلما رأى ذلك عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، أخذا عثمان والحكم ابني الوليد فقتلاهما في محبسهما، وخافا أن يتخلصا، فكان الناس يقولون: يا معشر الفتيان أين الحكم وعثمان، وقال الشاعر حين أقبل مروان:(24/442)
[الرجز]
أتاك مروان شبيه مروان ... يجر جيشا غضبا للرحمن
بتغلب الغلبا وقيس عيلان
ووهن أمر إبراهيم واستخفى، ثم أخذ له الأمان، وظهر فكان مع مروان في طاعته، ولم يزل حيا حتى قتله عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس «1» ، مع من قتل من بني أمية.
وكانت أيام إبراهيم أربعة أشهر، ويقال ثلاثة أشهر، وبعضهم يقول: أربعين يوما. ولما دخل مروان دمشق، طلب عبد العزيز بن الحجاج ويزيد بن خالد القسري، فظفر بهما فقتلهما، بعثمان والحكم، وصلبهما على باب الجابية «2» ، أو باب الفراديس «3» .
112- دولة مروان بن محمّد
أبي عبد الملك «4» المنبوز بالجعدي، وبالحمار، أما قولهم الجعدي، فنسبة إلى(24/443)
الجعد بن الدرهم، لأنه كان على مثل رأيه المبهم، وأما قولهم الحمار، فقيل:
لشدة في الحرب، تشبيها بحمار الوحش، إذ كان أحمى حام لسربه، ومحام عن أجمة [ص 301] الغرايب له في شربه.
وكان مروان بن محمد رجل الدهر، إلا أنه خانه، وبطل الكتيبة، إلا أن الحظ ما أعانه، كان بالجزيرة ورعى كلأها، وهو بأطراف الأسنة وبيل وحمى ملأها، وما لمدارج الرياح إليها سبيل، ثم كان بأرمينية يسد ثغرها، وهو يهتمه ويشد أمرها وهو يهدمه، ثم آب إلى دمشق وفي ظنه لمّ شعثها، ويرمّ منتكثها، حتى تفرقت بها الآراء المجتمعة، وتمزقت الأمراء في طلب الدعة، وقوي هيج الرعايا للرعاع، وموج الثعالب الحقيرة لأكل السباع.
وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره شكره وقال: هو فحل القوم، وإنما غلبناه بالجد لا باليد. وكان عبد الملك بن صالح رجل بني العباس، أمه أم ولد، كانت لمروان بن محمد، ثم صارت إلى صالح بن علي، فولدت له عبد الملك، ويقال:
إنها حملت به من مروان وولدته على فراش صالح، فلما كان من توهم الرشيد منه ما كان، قال له يوما كالمعير له: أنت لمروان، لست لصالح، فقال: لا أبالي لأي الفحلين كنت، فلما غاب عنه قال الرشيد: لعمري إنه لا يبالي لأيهما كان.(24/444)
وقدم مروان دمشق، وقد تضرمت فتنها وتضررت بحمل الحقود إحنها، فهدى به اضطرابها، وبالغت به بنو أمية وبدا اقترابها، ولكن بعد دماء طلّها، ودأماء «1» ساوى بالقتلى مطلها، فلما ظن أن السيف له قد دوخ، والمغير عليه قد نوّخ، واطمأنّ به وساده القلق، وعفي بالمسالمة عن جفنه الأرق، ثارت عليه من خراسان تلك الثائرة، وانقلبت عليه تلك الدائرة، وأظلت عليه الرايات العباسية، ليالي تطلع بدورا، ولمم شبيبة تتلألأ بها الوجوه نورا، فتراكم بسواد الشعار العباسي السيل، وأدبر بياض العلم المرواني في النهار، لإقبال الليل.
قال البلاذري: أم مروان كردية، أخذها أبوه من عسكر [ص 302] ابن الأشتر، وكان مروان بخيلا، وبويع لأربع عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومائة. وكان أبيض أحمر أزرق، أهدل الشفة، لا يخضب، ولم يكن بالذاهب طولا، وكنت إذا استدبرته ظننت أن على كتفيه رجلين جالسين، واسع الصدر. وكان يقول: اللهم لا تبلني بطلب ما لم تجعل لي فيه رزقا، وكان يقول في خطبته: اللهم اعلم بولينا وعدونا منا، فكن لنا وليا وحافظا، وكان غيورا جدا، وجد كتابا إلى جارية له من أمها، فقال: من أدخل هذا الكتاب، فقال خصي له: أنا، رحمت أمها لبكائها، فأخذت كتابها، فقطع يد الخصي.
وعرض الجند، فشكوا في حلية رجل فأسقطه، فقال: هلا بعين الجر خليتني، لما توافى القوم في الخندق فأجازه، وهو أول من حلى الجند، وفيه يقول الشاعر:
[الرجز]
يا أيها السائل عن مروانا ... دونك مروان بعسقلانا «2»
يجيد ضرب القوم والعطانا ... حتى ترى قتلاهم ألوانا(24/445)
قال البلاذري: لما سار مروان بجند أهل الجزيرة، وتفرق أصحاب بشر ومسرور من غير قتال، وجه إبراهيم المخلوع سليمان بن هشام «1» ، فنزل بعين الجر في خلق كثير، فنزل مروان بدير الأبرش، في زهاء سبعين ألفا، وبينهما ثلاثة أميال، وكتب مروان كتابا منه إلى أهل فلسطين: «إني نزلت بدير الأبرش، وسليمان بعين الجر، وطالعت عسكره بنفسي، فرأيت جمعا كثيفا، وأنا متوجه إليكم في طريق كذا» ، ودفع الكتاب إلى رجل وقال له: تعرض لهم، ففعل، فأخذ وأتي به سليمان، فلما قرأ الكتاب قال: أنا أبو أيوب، هرب مروان، والله لأحولن بينه وبين ذلك، وقال مروان لابنه: إني مرتحل غدوة، فان ارتحل سليمان من هذا المنزل، فانزله وخلفه في غيضة هناك، كامنا في ألفين، وأصبح مروان يوم الأربعاء قعدا متوجها في طريق العرب، وخرج سليمان زعم يبادره إلى الطريق التي ذكر مروان في كتابه [ص 303] أنه يسلكها، وأقبل ابن مروان فنزل معسكره، وسرح إلى أبيه رسولا يعلمه ذلك، فلما أعلمه الرسول، رجع وقد سار ستة أميال، فصار في عسكر سليمان، فقال سليمان: مكر بنا مروان، وإنما فعل مروان ذلك، لأن عسكر سليمان أخصب وأحصن وأكثر مياها، فقاتلهم مروان فظفر بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يقال: عشرة آلاف، ومضى(24/446)
سليمان منهزما إلى دمشق، فأخذ مالها وقسمه، ثم كان ما كان من انتهاء الأمر من يد المخلوع إبراهيم إلى مروان، وكان دخوله دمشق من باب الجابية، وأتاه إبراهيم وخلع نفسه، فأمّنه، وجاء سليمان بن هشام فأمّنه، ثم حمل مروان ما كان بدمشق من الأموال، وتحوّل إلى الجزيرة، فنزل حران، وأقام بها ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم بلغه أن ثابت بن نعيم عامله على فلسطين قد خلع، فسار يريده.
قالوا: وكان «1» سبب خلع ثابت بن نعيم، أن عطية بن الأسود «2» قال:
[البسيط]
يا ثابت بن نعيم دعوة جمعت ... عقّت أباها وعقّت أمها اليمن
أتارك أنت مال الله تأكله ... عير الجزيرة والأشراف تمتهن
أوقد على مضر نارا يمانية ... تشفي العليل وتحيا بعدها السنن
قلت: وأقبل ثابت في زهاء خمسين ألف من لخم وجذام وغيرهم، فحضروا طبرية مدينة الأردن «3» ، وبها الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك عامل مروان، فسار إليه أبو الورد، فلما التقوا خرج إليهم الوليد عامل طبرية في أهل الأردن، فهزموا ثابتا وقتلوا أصحابه، وتفرق من بقي منهم عنه، ومضى ثابت إلى فلسطين وأتبعه الورد، ولحق ثابت بجبال الشراة «4» ، فظفرت به خيل(24/447)
لمروان، قد كان وجهها مادة لأبي الورد، فأخذوه وأتوا به مروان، وهو بدير أيوب، فقتله، وأفلت ابنه رفاعة.
ثم كانت من أحوال مروان المتناقضة وأموره المتعارضة، وخلافته المحلولة المعاقد، ومملكته المتجاذبة بأيدي الثواير، وجنوده المختلفة الآراء، وبنوده [ص 304] المنكسة بالخذلان ما كان، حتى ابتزت منه الدولة العباسية الخلافة قهرا بالسيف.
وحكى الحسن بن زيد بفرغانة «1» ، قال: بلغني أن مروان بن محمد، مر على راهب في صومعة، وهو هارب من جيش أبي مسلم، فأشرف عليه الراهب، فسلم عليه فقال له: يا راهب، هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم، عندي من تلونه ألوان، قال: هل تبلغ الدنيا من الحر أن تجعله مملوكا؟ قال: نعم، قال:
كيف؟ قال: هل تحبها؟ قال: نعم، قال: فأنت مملوك لها، قال: فكيف السبيل إلى العتق؟ قال: تبغضها والتخلي منها، قال:
هذا ما لا يكون، قال الراهب: أما تخليها منك فسيكون، فبادر بالهرب منها قبل أن تبادرك، قال: هل تعرفني؟ قال: نعم أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد السودان، وتدفن بلا أكفان، ولولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك.
قلت: ولمروان شعر، يروى منه: «2»
[الطويل]
وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى ... فآبى ويدنيني الذي لك في صدري(24/448)
سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر
ويقال: إن نقش خاتمه كان: (رضيت بالله العظيم) ، وقتل مروان ببوصير «1» ، وصار آخره إلى ذلك المصير على ما هو ملمح في ترجمة أبي العباس السفاح «2» وملمع بخلوق دمه درع ذلك الصباح، وبهزيمة مروان على الزاب «3» زال عن جمهور المعمور ميسم بني مروان، وطالما افترّ بدولتهم مبسم الزمان، إلا أنها الأيام لا يطمئن إلى خداعها، ولا يوثق بعواري متاعها، لا تبقي أحدا ولا تثبت على حالة أبدا، ومهما نوّلت في اليوم، سلبت غدا، فسبحان الباقي بلا زوال.
ولما قتل مروان قصد عامر بن إسماعيل قاتله الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن مروان خادما له وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر، وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين [ص 305] ، حفظ الله من أمرك ما تحب أن تحفظ، نحن بناتك، وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذا لا أستبقينّ منكن واحدة، ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الأشتر، ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في الكوفة، ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان، ألم يقتل(24/449)
زياد الدعي مسلم بن عقيل، ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي، ألم يخرج إليه بحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا، فوقفهن موقف السبي، ألم يحمل إليه رأس الحسين فقرع دماغه، فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن، قالت: فليسعنا عفوكم، قال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل، قالت: وأي حين عرس هذا، بل تلحقنا بحران، فحملهن إليها مكرمات، فلما دخلنها ورأين منازل مروان، رفعن أصواتهن بالبكاء.
قلت: وهيهات البكاء، والبكاء لا يرد الغائب، ولا ينقع الغليل، فأفّ للدنيا، وتبّا لخدع الغرور، مرت ببني مروان ونسفت ملك آل أبي سفيان، وخضبت دما شيب عثمان، وفعلت ببني آمنة ما فعلت وتفعل بسائر أبناء الزمان.
وإذا انتهينا إلى آخر دولتهم التي لم يبق لهم بعدها إلا ما برقت لهم به بارقة بالأندلس، فنقول وبالله التوفيق:
ثم كانت:
الدولة الأموية بالأندلس
نهض غدها وهو عاثر، ونظم عقدها وهو متناثر، وأضاء خلل الرماد لها وميض جمر «1» ، وأطل لها نهوض أمر، وذلك بدخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إلى الأندلس، مصمما، كالمشير بالعضب، متمما رقى ذلك الهضب، بهمّة لو قذف بها البحر لما عبّ زاخره، أو الفلك الأعلى لما دارت دوائره،(24/450)
ووجد بالأفق العربي مواليه، ومن مر النسب العزي من يواليه، من صدم بهم صدور الخيل الشزّب، حتى أدفا صدور الرحال العزّب، واجتلى النصر [ص 306] تبرق أسرته، وتحدق مسرته، وتعبق بأطراف الأسنة رائحته، وتعلق بأطراف الأعنة بساتينه، واقتطع من المعمورة، ذلك الإقليم الجليل، وصيّره له دار خلافة، طالت ذوائبها، وصالت كتائبها، ودان له أهل تلك الجهة وذلت له مناكبها، وظلت تقدم لها منابرها، ويعلن باسمه خاطبها، خلافة ابتزّها من بني العباس، قهرا بالأيد وقسرا بالكيد، ونصرا لم تحتج إلى سلم، ولم يحتج إلى زيد ولا عمرو، أخذها غصبا من أفواههم الفاغرة، ونهبا من أيديهم وأعناقهم صاغرة، بعزائم ما فلّت السيوف ضرابها، ولا ملّت السيول غلابها، حتى اجتمعت له دائرتها، وارتفعت به نائرتها، وخشعت الدولة العباسية خوفا لا تهب الدولة الأموية وتثور ثائرتها.
وها أنا أذكر هذه الدولة ما زخر به في الأندلس بحرها، وفخر بما تحلى به من مآثرهم نحرها، وأولها الباني لها، وموج المنايا حولها متلاطم، وفوج الرزايا ببابها متزاحم، المنقض بأفقها عقابه القشعم، المنبت بأرضها شجاعه الأرقم.
هي:
113- دولة عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان
الداخل «1» الحق المطرّف، رجل العالم، وبطل بني آدم، خلص من لهوات(24/451)
القواضب، وهفوات العدو المغاضب، وعبر الفرات يشقها عوما بذراعه، ثم الفلاة يقطعها فردا من أصحابه وأتباعه، حتى أتى المغرب، وبلغه اختلاف المضرية واليمانية بالأندلس، فبعث بدرا مولاه، ليستميل أي الفريقين والاه، فأتى اليمانية إثر نوبة كانت للمضرية عليهم، فاستمالهم، ووعدهم عنه، ومنّى آمالهم، ولما أراد الحرب عقد نقيبه عبد الله بن خالد لواءه، وكان أبوه خالد عقد لواء مروان بن الحكم يوم المرج، فكشف لأواه فتيمن بتلك النقيبة ولهذا خص بعقد اللواء نقيبه. وخرج يوسف بن عبد الرحمن «1» فيمن بقي من طاعته،(24/452)
ووفى بأس التفرق من جماعته، وكان الزمان ربيعا [ص 307] جاء إثر جدب، ما مر النسيم على مخلصه، ولا رم شعث الناس إلا ما كل نقله، وسارا على نهر أشبيلية «1» ، كل منهما على ضفة منه، ثم تقابلا مقابلة كادت تكون اجتماعا وتراسلا، لا لشىء إلا خداعا، وكان ذلك يوم عرفة، فبات يوسف بن عبد الرحمن همّه ذبح الجزر وتهيئة الطعام، وعبد الرحمن الداخل همّه في تسوية الصفوف، وإثارة القتام، فلما أصبح يوم الأضحى جازت خيل عبد الرحمن النهر، وجادت بالحديد مثقلة الظهر، وتناوش الفريقان الحرب، يشعبون شعب رماحهم، ويهيجون شعب صفاحهم.
وكان عبد الرحمن على فرس سابق، فخاف أهل معسكره أن ينهزم، «2» وحار من كان له بينهم، وقالوا: شاب غر وتحته فرس يرمي به المرامي، نخاف إن عضت الحرب أن يطير عليه على بعض الموامي، فلما نمي إليه هذا الخبر، استدعى بغلا أشهب كان معه، وركب عليه لا يفارق موضعه، فاطمأنوا إلى الثبات، وارجحنوا كالجبال لولا الوثبات، فانهزم يوسف هزيمة لم ير بعدها جدا مقبلا، ولا حدا إلا مقللا، ودخل الداخل قرطبة، وحل بها صدر المرتبة، ثم كان آخر أمر يوسف بن عبد الرحمن مع عبد الرحمن أنه انتظم في جنده، وارتطم بالأرض خضوعا تحت بنده.(24/453)
قال صاحب المقتبس: ولما كان يوم المضارة واستحر القتل، مشى العلاء بن جابر العقيلي إلى الصميل بن حاتم «1» ، وكلاهما من عسكر يوسف بن عبد الرحمن، فقال له: يا أبا جوشن، اتق الله، فوالله ما أشبه هذا اليوم إلا بيوم المرج «2» ، وإن عاد ذلك لباق علينا إلى اليوم، وإن الأمور لنهتدي إليها بالأشباه والأمثال، أموي وفهري، وقيس ويمن، ووزير الفهري ذلك اليوم قيسي وهو زفر بن الحارث، ووزير هذا اليوم أنت، وأنت قيسي، ويوم عيد في يوم جمعة، ويوم المرج يوم عيد في يوم جمعة، الأمر والله علينا ما أشك فيه، فاتق الله واغتنم بنا تلافيه، فلم يفد كلامه.
وفي هذه الوقعة يقول ابن السنبسية:
[الكامل]
أهداك ربك رحمة لعباده ... لما تضرّمت البلاد وقودا [ص 308]
فسلقت أطراف الأسنة في العدى ... حتى روين فما يرون مزيدا
والخيل تعثر بالقنا وكأنّما ... فوق السنابك إذ حنين قيودا
والمشرفية لن تبيد صقالها ... مثل الكواكب يتّقدن وقودا
حتى أطرن جماجما مكنونة ... تحت المغافر فانكفأن سجودا(24/454)
كان عبد الرحمن يدعو إلى أبي جعفر المنصور، حتى دخل الأندلس عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم، ووافى عبد الرحمن فآواه وعززه وكرم مثواه، فلما حضر له الجمعة وسمع الدعاء لأبي جعفر المنصور أنكره، وقال: إن من الحكم جهلا، وأي هوادة بيننا وبين هؤلاء عدوا علينا فلم يرقبوا إلا ولا ذمة، واستحلوا منا كلّ حرمة، وأخرجونا من أرض الله الواسعة فألجأوا فلّنا إلى هذه القاصية الشاسعة، ثم ها نحن الآن نسايرهم فيها ونمد لهم خيط باطلهم بالدعاء لهم، أعطي الله عهدا، لئن لم تحول الدعوة لهم إلى البراءة منهم، لأنقلبن على وجهي مبادرا في هذه الأرض العريضة، وقد كان من هوى عبد الرحمن الداخل، إلا أنه آثر الأناة إلى أن استضاء برأي ابن عمه، فترك الخطبة لأبي جعفر وتفرد بالدعاء لنفسه، وذلك بعد سنة من دخوله الأندلس.
ثم شرع في تعظيم قرطبة «1» ، فجدد مغانيها وشيد مبانيها، وحصّنها بالسور حتى أشرف بناؤه، وابتنى بها قصر الإمارة والمسجد الجامع، وكان سلف المسلمين قد اقتصروا عند افتتاحهم لقرطبة، حتى اتخاذهم مسجدهم الجامع، فيما خصهم من سطر الكنيسة العظمى بها المعروفة بشنت، بحيث كما كان بدمشق، ودام الأمر على هذا تهالك الولاة بالأندلس على الإمارة، وهويهم في ضلال الشحناء إلى أن جمع شتاتهم عبد الرحمن الداخل، وسمت نفسه إلى ما تسمو إليه أنفس الخلفاء، فصالح النصارى على شطرهم بمواضع مما كان أخذ(24/455)
بالعنوة من كنائسهم، وذلك سنة تسع وستين ومائة، ثم لما وسع قناءه، ووسع بناءه، تخطى بنظره إلى مساجد الكور بالأندلس، ثم ابتنى منية الرصافة «1» متنزها له، تشبها [ص 309] بجده هشام، واتخذها قصرا حسنا، ودحا بها جنانا واسعة، نقل إليها غرائب الغراس وأكارم الشجر، من كل ناحية مما أتت به رسله من الشام، فمثلت أشجارا معتمة أثمرت بغرائب الفواكه، وعجائب الثمرات، ورأى أول ما نزل هذه الرصافة نخلة فذة ذكرته باغترابها غربته، وبنأيها عن أشباهها أحبته، فقال: «2»
[الطويل]
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنّوى ... وطول انثنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسحّ ويستمري السماكين بالوبل
وحكى صاحب المقتبس ما معناه: أن عبد الرحمن الداخل في سنة ثلاث وستين ومائة، أشاع الرحيل إلى الشام لانتزاعها من يد الدولة العباسية وإدراك ثأره، وذكر أن كتب جماعة ممن بها من أهل بيته ومواليه وشيعته، توالت عليه بضعف المسوّدة، وفتور فورتهم، ونقل ذلتهم على الناس، فعمل على أن يستخلف ابنه سليمان الأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه وكمل من ضروب المماليك أربعين ألفا، فاخترم دون ذلك.(24/456)
وتوفي يوم الثلاثاء لستة بقين من ربيع الآخر سنة سبعين ومائة، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر، ومولده قريب تدمر «1» من الشام سنة ثلاث عشرة ومائة، ولبث من يوم بويع إلى أن مات ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودفن في القصر، وصلى عليه ابنه عبد الله بن عبد الرحمن المولود ببلنسية «2» ، وكان يقال له صقر قريش، وكان أصهب خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتان. وحكى الحافظ أنه كان أخشم، لا يشم رائحة.
114- دولة ابنه هشام بن عبد الرّحمن [ص 310]
أبي الوليد «3» ، وولد بالأندلس، ووجد أبوه به الأنس، وكان يفضله على ولده الأكبر سليمان، وكان سليمان ممن ولد بالشام، وقدم الشام إلا أنه لم يطال(24/457)
همّة هشام، ولما مات أبوه عبد الرحمن حتى ذكره، وحني من ورق الحديد الأخضر نصره، ونازعه أخواه، فلم يجدا في قوسه منزعا، ولا في قوله الفصل مطمعا، حتى أتاه الأمر طائعا، ووافاه سرير الملك وقد مد عنقه خاضعا، واستهل ذلك الجو سحابا دوى الأوام، واستقل في ذلك الأفق بدرا ينجاب عنه الظلام، وجرت له أمور، ووجبت عليه نذور لموافقة السعادة لمراده، ومؤازرة النصر لأمداده، ومساررة الصواب لنجوى فؤاده، فكان لا ينقض إبرامه مريرته، ولا ينقل مرامه عن الحسنى سريرته، فكان يعد من خير أملاكهم حظا سعيدا، ولفظا سديدا، تسع الدنيا همّة العوال ويجمع النعماء بعض ما تهبه من النوال، وكان على هذا كله تقي الورع، نقي المجتمع، لا تحضر مجلسه الغيبة، ولا تحل ملبسه الريبة، مع رأي أسد من السهم نفاذا، وأشد من الوهم بالضمير ملاذا، وكان أبوه عبد الرحمن بن معاوية يحضره مشورته، وينظره من الرأى صورته، وربما تكلم بين يدي أبيه فقال صوابا، وقاس الأمور على أشباهها فبرع جوابا، ولهذا كان أبوه يقدمه ويثقفه تثقيف السمهري ويقومه، ويؤاخذه في الأمور وما يريد إلا أنه يبصره ويفهمه.
حكى صاحب المقتبس ما مضمونه، أنه كان عند وفاة أبيه عبد الرحمن بمدينة باردة، وكان أخوه بمدينة طليطلة، وكان أخوهما عبد الله البلنسي حاضرا بقرطبة، فشهد موت أبيه دونهما، وشد الأمر بعده، وبادر بالكتابة لأخيه هشام، يعلمه أن أباه مات وعهد إليه، وحثه على البدار نحوه، فخرج من فوره إلى قرطبة، وتسلم الملك، وبويع على الإمارة، وكان أول من بايعه أخوه عبد الله على زعل نواه، وغلّ بين جوانحه طواه.
وحكى محمد بن حفص: أنه لما انكشف وجه هشام من غمة حروبه مع أخويه سليمان وعبد الله [ص 311] صفت له الأندلس جميعا، واجتمع له(24/458)
طاعة أهلها طرّا، وكانت يومئذ أكثر ما كانت، فسما لجهاد عدوهم سموّا استفرغ فيه وسعه، فأعطى فيهم نصرا لا كفاء له، وافتتح مدينة أربونة «1» ، وبلغ من تحكمه فيهم أن اشترط على المعاهدين من أهل جليقية «2» لما سألوه المسالمة، نقل عدد من أحمال التراب من سور أربونة إلى باب قرطبة، فلما أكمل نقل هذا التراب، ابتنى منه مسجدا قدام باب الجنان «3» ، وهو الذي كان يصلي فيه من حضر باب السلطان.
قلت: وأربونة كانت فتحت قبل هذا الفتح، ودامت بأيدي بلاد الإسلام حتى عبد الرحمن الداخل، وأقر عليها عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، عامل يوسف بن عبد الرحمن الفهري، ثم غلب عليها العدو، واجتذبها من يد الإسلام إلى أن فتحت هذا الفتح.
وحكى محمد بن عمر بن القوطية كلاما ما معناه: أن هشاما سأل الضبّى المنجم عما تقتضيه النجامة من أمره، وكان الضبي بطليموس عصره حذقا وإصابة، فسأله الإعفاء، فلم يجبه، فلما لم يجد بدا من إخباره قال له: نعم، أصلح الله الأمير، سوف يستقر ملكك سعيدا، وجدك لمن ناواك إلا أن مدتك تكون ثمانية أعوام، فأطرق هشام ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ضبّي، ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك، والله لو كانت المدة كانت في سجدة واحدة لله لقلّت طاعة له، ووصل الضبي وصرفه، ثم شمّر هشام للعمل(24/459)
لمعاده، وضمّر بطنه لتحصيل زاده، حتى مضى وهو على جهاده.
وكانت وفاته بمرض سوداوي لحقه ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة، وكان ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، لبث بها خليفة سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام. وكان أبيض مشربة حمرة، بعينيه حول، وقال بكر الكتاني يرثيه:
[الطويل]
لقد فجع الإسلام موت هشام ... نجيب قروم منجبين كرام
هشام لعمري كان للدين راعيا ... بعين مراعاة وحدّ حسام [ص 312]
إذا صال كان الليث يحمي عرينه ... وغيثا إذا ما كان يوم سلام
115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ «1»
وكان حميّ الأنف «2» ، عزما يتوقد صرامة ابى الآبقة عدا «3» لا يستسهل(24/460)
مرامه، لا يستلان له جانب، ولا يستهان به إلا دهيا أو مقانب بصوارم فللت الصفوف «1» ، ومكارم قللت الألوف، فكلما أتاه جمع عدو ولا مال إلا فرّقه، ولا قاواه جلد وطيش، ولا لبس إلا مزّقه، وسعد جده المقبل، وصعد رفده على الغمام المسبل، ولم يبق له معاند إلا احترق بناره، أوصادف جدوله فغرق في تياره، في عدة نوب عدمت البصيرة فيها حذارها ثم قدمت السهام إليها ارتدادها، ثم أقدمت السيوف وأبلت فيها عذارها، وخفقت فيها أعلامها الأموية بريحها التأييد، ويصبحها النصر مستطيرا من برق الحديد، في حروب منها ما باشره، ومنها ما قعد عنه، وعقد له لواء لم يكن سواه ناشره، فما عادت عساكره إلا وقد شفّت مناه، وكفت همة ما عناه، حتى أودع بطون الثرى أعداه، وودع القيام، فما استسقى لمنابت الرماح أنداه، وصفا له الأندلس من شوائب الأعداء، ونوائب الإعداد للأعداء، واستقر سريره لا يقلقل له إلا في دور ملكه مضجع، ولا يقلّب له إلا بين جواريه ذهاب أو مرجع، واستوفد إكرامه طوائف العلماء، واستبيح كرمه قرائح الشعراء، فغصّت أبوابه بالوفود، وقصّت أجنحة زواره، وما قصها سوى الجود، وكان أول أموي باح في الأندلس بمكنون سره، ومضمون ما كان يلجلج في فكره، ولم يخش دولة بني العباس أن ترمي إليه مدنها، أو ترسي عليه سفنها، وما راعه سواد ذلك العلم، ولا أقلقه تبكي ذلك الألم، ولا خاف أن تصيبه من العراق سهم أصاب وراميه بذي سلم «2» كل هذا مع بصيرة بالعواقب، كأنما ناجته بما يكون وسريرة لا تراقب، إلا ما لم يألف من السكون، لكن الأقدار(24/461)
ما أسعفته بتمام هذا الأمل، ولا [ص 313] كمّلت له، ومن ذا الذي تم أمره أو كمل. وكان ذا دولة خدمتها الأكابر، وما منهم إلا من أغدق كرمه وشرق وغرّب مدحه، فمنهم عبد العزيز بن أبي عبدة، وفيه يقول بكر بن قيس:
[الطويل]
ألكني إلى عبد العزيز أخي الندى ... ثناء وقولا قلته متعرّقا
لعمري لنعم المستغاث وجدته ... لدن جئته صفرا من المال مملقا
لأضحى وزيرا للخليفة حاجبا ... ترى رأيه رأيا إذا قال صدّقا
فهذا يرى وجه النصيحة قوله ... وهذا يرى قول النصيحة موثقا
لفازت بنو حسان منه بسابق ... هنيئا مريئا أن يفوز ويسبقا
ومنهم عبد الكريم بن مغيث، وهو الذي أمن طليطلة «1» ، وبذل لأهلها مع القدرة من غير مسألة، إلا أنه اشترط عليهم شروطا خافوا منها العنت، لكتاب جاءه من الحكم، جاريه فيما احتكم، وفيه يقول غربيب بن عبد الله:
[البسيط]
يا فارس الناس في الهيجا ومعقلهم ... هنّاك ربّك ما أعطى وأولاكا
حفظت في نسله قيسا وحطتهم ... كأنّ قيسا بنا إذا مات أوصاكا
إن كان سرّك ما جاء البريد به ... فلا لعمر أبي ما سرّنا ذاكا
بل سرّنا منك نعماء بدأت بها ... ما كان ضرّك لو أتممت نعماكا
وفي أيامه في سنة سبع وتسعين ومائة كانت الشدة التي عمّت أرض(24/462)
الأندلس أجمعها، ومات منها أكثر الخلق، واجتاز بعضهم البحر إلى العدوة لانتجاع خصبها، وارتجاع ما فاتها بأرض الأندلس من جدبها.
قال صاحب المقتبس: وكان المقلّون يطوفون الأيام دون تعلل بطعام، وفي سنة اثنتين ومائتين كانت الوقعة العظمى بقرطبة، وهي المعروفة بوقعة الربض، وهي نوبة كانت من أهل قرطبة، هاجوها يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان غب أحقاد حملوها على الحكم بن هشام، فحملوا السلاح بغتة، وزحفوا إلى قصره جملة، فلم يتزحزح عن سريره، وإنما بعث مواليه وأهل ولائه فقاتلوهم [ص 314] حتى هزموهم، واستمروا بالطلب لهم ولزموهم، وأمسك منهم خلقا كثيرا «1» ، وصلب منهم ثلاث مائة رجل صفوفا أمام قصره، وأعظم فيهم الحادثة، وأفشى المثلة، ثم أمر بالكف، ونادى فيهم بالجلاء فتفرقوا في بلاد الأندلس أيدي سبأ، وعبر إلى بر العدوة، منهم فل ممن لا قتل ولا سبي، وقال الحكم في ذلك:
[الطويل]
رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا
وسائل على الأرض الفضاء جماجما ... كأحقاف شريان الهبيد لوامعا
ينبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقدما كنت بالسيف قارعا
وإني إذا حادوا جزاعا عن الردى ... فما كنت ذا حيد عن الموت جازعا
حميت ذماري فاستبحت ذمارهم ... ومن لا يحامي ظل خزيان ضارعا
ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم سجلا من الموت ناقعا(24/463)
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فلاقوا منايا قدّرت ومصارعا
فهاك سلاحي إنني قد جعلتها ... مهادا ولم أترك عليها منازعا
وحكى عامر بن المنبّي النحوي المؤدب قال: قدم علينا بعد الوقعة عباس بن ناصح قرطبة أيام عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم بن هشام في الهيج، فأنشدته إياه، فلما بلغت قوله:
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم البيت
قال عباس: لو أن الحكم حوبي للخصومة بينه وبين أهل الربض لقام بعذره فيهم هذا البيت.
وقال أبو بكر بن القوطية: لم يتملّ الحكم حلاوة العيش بعد وقعة الربض، وامتحن بعلة صعبة طاولته أربعة أعوام في آخر عمره فلّت غربه، وأطالت ضناه، واحتجب فيها آخر مدته، واستناب ولده عبد الرحمن في تدبير ملكه، فمات أسيفا على توبة من ذنوبه، وندم على ما اقترف، وعرضت له رقّة شديدة ألانت صلابته، وطفق يكثر الذكر ويفزع إلى استقراء القرآن، ويأنس بالتلاوة إلى أن مات على حاله [ص 315] تلك، فكانوا يرجون «1» له خيرا.
ولما أحسّ بدنو المنية، عهد إلى ولديه: عبد الرحمن والمغيرة عهدا أشهد عليه الأشهاد، ثم نزل المغيرة لأخيه عبد الرحمن عن طيب نفس وإذعان، ونقل الحكم ابنه عبد الرحمن إلى القصر، وقام بالأحكام معه ودونه.
وأول ما أحدثه وأبوه حي أن صلب ربيع بن ندار رأس النصاري بقرطبة، وكان جديرا بالصلب والمثلة، لسوء أثره في المسلمين، فقال في ذلك عبد الله بن(24/464)
الشمر النديم:
[الرمل]
يا ولي الأمر من بعد الحكم ... بك جاد الصنع للخلق وتم
خذ بشكر نعمة الله التي ... هي من خير العطايا والفسم
واشكر الله على نعمته ... إنّ في الشكر مزيدا للنعم
فلقد قربت قربانا به ... تلج الفردوس من طاغي العجم
كافرا سلّمه أشياعه ... وبه حلّت من الله النّقم
ثم تخلّى له أبوه الحكم عن النظر في أمور الخلافة، وأراد أن يخلي له قصر الإمارة فأبى ابنه عبد الرحمن، وقال: بل أكتفي بالقعود على باب السدة مقعد صاحب المدينة، فاستحسن رأيه، وبدأ بتغيير المنكر، وأمر بهدم الفندق السلطاني المعد لبيع الخمور وسكن المومسات الخواطي، فهدمت بنيته، وصبّت أشربته، وكسرت آنيته، وخليت من العواهر أفنيته، فضجّ الناس بالدعاء له وعلت أصواتهم حتى سمعها الحكم، فارتاع وسأل عما أوجب ضجيج الرعاع، فلما أعلم بما صنع ابنه سكن وقال: هو أعلم بما صنع.
وتوفي الحكم يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين، ومولده سنة أربع وخمسين ومائة، ومدة خلافته نحو ست وعشرين سنة وشهر ونصف شهر، وسنّه ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الرحمن، [وكان] طوالا أشم نحيفا لا يخضب.
116- دولة ابنه عبد الرّحمن بن الحكم
أبي المطرف «1» [ص 316] ، كان أثيرا عند أبيه الحكم، كثيرا مما يظهر به من(24/465)
الحكم أشبه في حكمته بالمأمون، وفي حرمته هارون، وتطلّب الكتب القديمة، وتطبّب بها من عدوى الأفهام السقيمة، وطالع كتب الأوائل، وطالب بإقامة الدلائل، وبعث إلى العراق في طلب الكتب الحكمية، وغالى في أثمانها، ووالى في ذخائر البيوت استخرج جمانها رغبة في إقامة براهينها وإدامة الوقوف على قوانينها، حتى نأى بها إلى الأندلس عن أوطانها، ورأى بالعقل أنه لا ينفذ إلا بسلطانها، فغلب بحججها القاطعة وبلغ الغاية بأنوارها الساطعة.
وكان هو أول من أدخل الحكمة، ويثها في أقطارها، ومد إليها بعثها حتى جاس خلال ديارها، فأعاد عصر الأوائل جديدا، وعصر الفضائل زاد ضحى قريبا بعيدا، بل زاد حتى سطا بأرسطاطاليس، وفلّ أفلاطون بجيش لا يفله الخميس، فما جاء معه أبقراط بقيراط، وبطل بطليموس فيما أحاط به علما ومالا أحاط، فذكت قريحته، وزكت صبيحته، وكان أبوه الحكم لما سمع كلامه في هذه الدقائق، وعرف مرامه في معرفة هذه الحقائق، يتضاعف به سروره، ويتماثل لديه أموره، ولهذا انتعش لديه حظه من خاطره، وجاد أفقه صوب ماطره، فكان(24/466)
لا يبرح يحبوه من الشكر بعاطره، ويجلوه في حلل اغنته عنها فطره، هذا مع استقلال بجنوده، صاب نوؤه وأصاب سدد الظلام ضوؤه.
قال الرازي: عبد الرحمن بن الحكم، أول من فخّم الملك بالأندلس من خلفاء بني مروان، وكساه أبهة الجلالة للأعمال، واستوزر الأكفاء، فعظم شأنه، وكاتبته ملوك البلاد، ثم شيّد القصور، واتخذ المصانع وجلب الماء.
وحكى معاوية بن هشام: أنه كان يتشبه بالوليد بن عبد الملك في شرف نفسه، وعلاء همّته، وفخامة سلطانه، ودعة أيامه، وما شاد من البناء، وشق من الأنهار، وغرس من الأشجار، وزاد في المسجد الجامع، وفيه قال عبد الله بن الشمر:
[الطويل]
بنى مسجدا لم يبن في الأرض مثله ... وهل مثله في حوزة الأرض مسجد [ص 317]
له عمد حمر وخضر كأنّما ... تلوح يواقيت بها وزبرجد
قال الرازي: وفي أيامه أحدث بقرطبة وغيرها من بلاد الأندلس الطرز لأنواع الكسوة والوطاء، واستنبطت فيها الأعمال، وتدرج فيها إلى التجويد في ذلك، وقال الرازي: وفيها اتخذت بقرطبة السكة، وقام فيها ضرب الدراهم، ولم يكن فيها دار ضرب منذ فتحها العرب، وإنما كانوا يتعاملون بما يحمل إليهم من دراهم أهل المشرق.
قلت: وهذا أوان صارت الأندلس مصرا، وصارت تعد بستانا، وقصرا بعد أن مضت برهة من الدهر لا يوصف إلا بأنه يصفق في جنباتها النهر. وكان عبد الرحمن أشم أقنى أسود العينين طوالا ضخما مسبلا عظيم اللحية.(24/467)
117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن
وهي المتصرمة «1» عن افتراق الجماعة، المقسمة في آخرها بفراق الطاعة المسلمة من يده إلى الإضاعة المحومة لا إلى منهل عذب، المحولة رداها لا بمنصل عضب، بل يتحوم النفاق بكل جهة، وعدم الوفاق على ما تكون به السرائر مرفهة لقضاء سبق علمه لا لاقتضاء بسوء فعل، إلا أنه قسمه، وقد كان ذا كرم غمر اليدين، وهمم تسع صدر الفرقدين، وبصيرة ثاقبة، وسريرة لله مراقبة، إلا أنها الأقدار لا تعاند، والأسرار لا تبيد ذممها ولا تعاهد.
استخلف يوم مات أبوه، ودخل القصر على ملأ من الناس، وحماء ممن يريد هدّ ذلك الأساس، وقيل: بل دخل متخفيا، ثم أصبح على السرير جالسا، ثم علا صهوة المنبر فارسا، وتولى أخذ البيعة له ابن شهيد «2»(24/468)
بمشهده، واستناب يده له عن يده، وقام لديه مؤمن بن سعيد «1» منشدا:
[الطويل]
تهلّل بطن الأرض لما ثوى بها ... إمام الهدى الثاوي بها بطن ملحد
وزلزلها موت الإمام وفقده ... فقال لها الله اسكني بمحمّد [ص 318]
ثم كان من أكثر القوم تأنيا، وأوفر لما في النفوس تمنيا، وصفا العيش في ظل خلافته، وكفى المسىء اعتذارا فضل رأفته، وكان له في مدته الآثار الجميلة، والفتوح العظيمة، والعناية التامة بمصالح المسلمين، والاهتمام بالثغور وحفظ الأطراف، والتحرز من قبل البحر.
قال الرازي: كانت لا تجري في بحره جارية إلا عن معرفته. قال: وهو الذي قسم مراتب أهل الخدمة، وإعلاء رتبة الوزارة، ورجّح أهل الشام على أهل الأندلس، وأعلى رتبة الوزراء منهم في الجلوس، انتهى كلامه.
قال صاحب المقتبس: وزاد في توسعة الجامع بقرطبة، فقال العباس بن فرناس «2» :(24/469)
[البسيط]
محمد خير مسترعى ومؤتمن ... للمسلمين جميعا حيث ما كانوا
بنى لهم مسجدا جلّت عجائبه ... لولا السماء لما ضاهاه بنيان
قال: وكان مجبول الطباع على حب البنيان، مسعوفا بتشييد مبانيه، مبالغا في إتقانه، سخيا بالإنفاق عليه، منه قصور قرطبة والرصافة، وفيها يقول أحمد بن عبد ربه: «1»
[الطويل]
ألمّا على قصر الخليفة وانظرا ... إلى منية زهراء شيدت لأزهرا
مزوّقة يستودع النجم سترها ... فتحسبه يصغي إليها لتخبرا
بناء إذا ما الليل حلّ قناعه ... بدا الصبح من أعرافه الشّمّ مسفرا
ترى المنية البيضاء في كل شارق ... تلبس وجه الشمس ثوبا معصفرا
ودونك فانظر هل ترى من تفاوت ... به أو رأت عيناك أحسن منظرا
تذكر بالفردوس من كان لاهيا ... وتلهي عن الفردوس من قد تذكّرا
كأنّ السماء استوهبت لون أرضها ... وأنجمها من نورها حين نوّرا
وكان ممدّحا. ومما قال فيه عمار بن المنبي:
[الطويل]
غدا في أسارير الأمير محمد ... إمام الهدى بدر وفي كفه بحر(24/470)
فلو ملّك الله الرعية عمرها ... لكان له من ذلك العمر الشطر [ص 319]
إذا ذخر الأملاك مالا فما له ... سوى المجد فالمعروف كنز ولا ذخر
مهيب إذا أبصرت غرّة وجهه ... تكاد له من هيبة يصدع الصدر
وكان كثير الخروج إلى الصحراء للتنزه في نواحيها، والتوسع في سعة ضواحيها، وكان معجبا بدربد وهو مكان قتلى أشبيلية، مرج أخضر كأنه زمرد شارب، ونهر يتكسر ماؤه كأنه عسل ممزوج لشارب، فابتنى به أبنية رفيعة، إلا أنها خيام، وقرّض هناك قراره إلا أنه هيام، فقال الوزير تمام بن أحمد:
[الطويل]
لعمري لما يوم من الدهر كله ... بأنعم من يوم حللنا بدربد
لدن روضة خضراء ما أن تخالها ... لعمرك إلا معدنا للزمرد
ودام في بلهنية من الملك إلى أن ثارت إليه الثواير، ودارت عليه الدواير، وسار إلى مغالبته كل ساير، وطار لمواثبته في البر والبحر كل طاير، ولم يكفه انفتاق الفتوق، وانبثاق البثوق، واختلاف كلمة أهل ملكه، حتى قصدته ملوك الكفار، وأجهدته بالنهود إلى الأسفار، وما رمي بأهل الصليب على انفرادهم، حتى مني بالمجوس من أقصى بلادهم، وكان في هذه النوائب تارة وتارة، ومرة ومرة، آونة حلاوة، وآونة مرارة، وفي بعض غزواته التي أثخن فيها في أهل الخلاف، وأمعن في زيادة الاختلاف، قال مؤمن بن سعيد:
[البسيط]
دع اللهى يفنها محمدها ... أسنى بني غالب وأمجدها
أشياع لب سنابل خشعت ... أعناقها فالسيوف تحصدها
دانوا له وهو وارد بهم ... حياض حتف يعاف موردها(24/471)
كعابد النار وهي تحرقه ... بعدا لمثواه حين يعبدها
ساؤوا ملوكا هم لهم خول ... وهل يسامي الملوك أعبدها
أضحوا أحاديث للمواسم عن ... ظبى السيوف استفاض مسندها
وعارضه محمد بن عبد العزيز القيسي فقال: [ص 320]
[البسيط]
دع الوغى لمم يزل محمدها ... يوقد نيرانها ويخمدها
فليس تروى السيوف إن ظمئت ... إلا إذا علّها محمّدها
سيف هدى تشهد السيوف له ... يوم الوغى أنه مهنّدها
تقيل في ظله المنون إذا ... هاجرة الحرب حار موقدها
فتلك دار العدو خالية ... أو حين نور الأنيس معهدها
أطفأ عنا بسيفه فتنا ... أوقدها في البلاد أعبدها
ثم طغت الفتنة ومرد النفاق، وانبعث الفساد، ودبّ الوهن في أقطار الدولة، حتى وهت أركانها، وهوت أقمارها، وعمي المبصر، وصم السامع، وخرس الناطق، وعم الأندلس بلاء أطل سحابه، وعظم شتات، لم يدر له امرؤ كيف ذهابه.
ثم توفي محمد بن عبد الرحمن ليلة لخميس، ليلة بقيت من صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين «1» ، ومولده في ذي القعدة سنة سبع ومائتين، وبلغ من السن خمسا وخمسين سنة وثلاثة أشهر، منها مدة خلافته نحو أربع وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا حمرة، مستدير الوجه، ربعة تام اللحية أصهبها به شىء من وقص «2» ، يخضب بالحناء والكتم.(24/472)
118- دولة ابنه المنذر بن محمّد
استفتح خلافته بالإحسان «1» ، واستمنح رأفته كل إنسان، فاستصبح الهلال بجبيته، واستصلح الاختلال بجود يمينه، واستقبح مقابلته العدو خوفا، وما أصحر ليثه من عرينه، زمانه ما طال، وليانه ما جلا فجره الكاذب من مطال على أنه منذ ولي شد نطاقه، واحتزم وجدّ انطلاقه، واعتزم حتى كاد يستقيم الأود، ويستديم صلاح ما فسد، وكان على نقص حظه من الأدب، يكرم أهله الكرام إكراما تتطامن له الأقدار، وتتفاطن به الأغمار، لكرم كان عليه مجبولا، وجود كان به [ص 321] كلفا متبولا.
قدم قرطبة بعد موت أبيه، فصح المعتل، وصلح المختل، وخضع من كان رفع رأسه، وخلع نجاده من تقلد السيف، وقرث أفراسه «2» ، وبويع البيعة العامة، وتتبع التبعة الطامة، وبقي ينقب عمن قصد عنادا، وقصّر على البغي مرادا، وكان يتدفق مروّة، أحدق ببني مروان موكبها، وأشرق من عبد شمس لعبد شمس كوكبها، فما ورثها من آبائه الغطاريف الألى، عن كلالة ولا استحقها إرثا بالولا.(24/473)
قال صاحب المقتبس: وكان سبب وفاته أنه افتصد يوم السبت للنصف من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو يوم العنصرة مهرجان الأندلس، وكتم موته، وأبردوا بريدا إلى أخيه عبد الله بن محمد، فوافى سريعا، وبادر بدفن أخيه المنذر بن محمد، وكانت خلافته سنتين إلا خمسة عشر يوما، وكان سنه ستا وأربعين سنة، وكان أسمر طوالا، جعد الشعر، كث اللحية، بوجهه آثار جدري، يخضب بالحناء والكتم.
119- دولة أخيه عبد الله بن محمّد
أتاه نعي أخيه وهو غائب «1» ، ووافاه الطلب بالخلافة وهو آئب، فلما فشا في العسكر موت أخيه الذاهب، تفرقت أهواؤهم، وشقشقت أنواؤهم، ورام كل منهم أمرا قصيا لم يدرك تمامه، وراض صعبا أبيا لم يملك زمامه، ولم يبق إلا من نزا به شيطانه، ونزل بداره سلطانه، ظنا هووا في أوديته، وحووا سوء الذكر في أنديته، حتى أشار عليه بعض نصحائه، بغض برحائه «2» ، ومواراة أخيه(24/474)
الهالك هنالك، واللحاق بقرطبة مسرعا، والسباق إليها قبل أن لا يجد موضعا، فقال: هيهات أن أتدنّس بهذه الدنيّة، وأتلبّس بقبح هذه المزية، ثم سار ومعه جثّة أخيه على أتانه، واستقام أمره على هناته، ودخل قرطبة وصلى [ص 322] على أخيه بها، وأودع ذهبه المكنوز في تربها، ودفنه في القصر بالروضة مقبرة الخلائف، ومأثرة تلك اللطائف، ثم بويع البيعة التي استقامت له على ظلعها، واستدامت على ولعها، وأخذ في حسم أدواء الخلاف، وحصد رؤوس منهم أينعت لقطاف «1» ، وكان أمر الفتنة قد استحكم واستفحل داؤه فلم، يحسم، وكثرت على مثل أولئك وأشباههم، وكبرت منها كلمة تخرج من أفواههم، فأعيا سقمها الطبيب المداوي وأعدى فيها ذا الرشد الغاوي، ويتيح لها في كل نائحة نائح، إلا أنه العاوي، ونضنض أفعى «2» ، إلا أنه مما لا يدخل في سلة الحاوي.
وذكر صاحب المقتبس عن الرازي عن أبيه قال: كانوا يعدون عبد الله من أصلح خلفاء بني أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة، وأمتنهم ديانة، كان يتهجد بالليل، ويقوم ليالي شهر رمضان بالنافلة مع الأئمة المرتبين لها بالمسجد الجامع، وكانت نيته في ذلك نية المخبت «3» الورع الراغب في الخير.
حكي عن بعض الفتيان الخاصة أنه كان كثير التلاوة للقرآن، متأثرا على درسه، محبا لمن حفظه، قال: وكان لا يقدم أمرا ولا يؤخره، إلا عن مشورة أهل العلم والفقه. قال أبو صالح أيوب بن سليمان: أنه كان متصرفا في فنون العلم، محققا للسان العرب، بصيرا بلغاتها وأيامها، حافظا للغريب، آخذا من الشعر(24/475)
بنصيب، ولم يسمع أحد مثل إنجازه إذا أمّل، ولا مثل بلاغته إذا [تمثّل] «1» ، وكان على كمال فضائله مسرعا إلى سفك الدماء، حتى من ولديه وأخويه، وخاصة صحبه.
وتوفي في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثلاث مائة، لبث منها خليفة خمسا وعشرين سنة ونصف.
120- دولة ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد النّاصر
ولي بعد جده «2» ، ووطئ أسارير مهده، ووافق زمانه زمان المقتدر،(24/476)
وقد [ص 323] ضعفت الخلافة ببغداد، ووهت قواها، ووهنت الدولة العباسية، حتى طمع فيها من سواها، فابرز عبد الرحمن ما عنده وباح، ومال علوه وكشف الغطاء واستراح، وأظهر التسمية بالخلافة، وسمي بأمير المؤمنين، وهو أول من تسمّى في الأندلس بها، وسما بالتحلي بلقبها، وكان رجل حزم، ورجل عزم، وبارق مضاء، وسابق قضاء، وبطل إقدام، وعطل مقدام، وسيف جلاد، وطيف رعب تجنه ضمائر بلاد، فلهذا قدح لهذا الرأي زنده، وفتح الباب لمن جاء بعده، ولم يكن في سباقه «1» من كشف هذا الغطاء، ولا كف عن ذروة السرير هذا الامتطاء، وإنما كان الواحد منهم، وإن عظم شأنه، وكرم سلطانه، لا يزيد في التسمية على الأمير، ولا يريد أكثر من هذا الخطاب المميز حتى اتخذها هذا الناصر عبد الرحمن عليه معلما، وأنطق بها لسانا وقلما، وسيرها في الآفاق كلما، وصيرها في الأندلس شبيهة بالعراق معلما «2» .
وقد ترجم له صاحب المقتبس وقال: ذكر الدلالة على عظم شأن الخليفة الناصر في سلطانه، وإجرائه إلى الإيفاء على من تقدمه من الخلفاء، وجده في جمع الأموال وبذله لها في ابتغاء دول الآمال وتوسعه في إنجاب طبقات الرجال، وانتقائه منهم لجلة الوزراء المشاركين في الحال، وقسره لعويص الأشياء، وتفخيمه لصنائع البناء، وشد الفروج دون الأعداء، وتوقله لقلل الاعتداء، وكان لا يهيب خطرا يركبه، ولا يستكثر شيئا يهبه، وبنى المباني العجيبة، والمنارة البديعة، وشيد الخلافة بقرطبة، وعمل الناعورة «3» المحكمة الصنعة المضروب بها المثل، والبيضاء والزهراء وغير ذلك مما ذكره، وفي ميزة هذه الناعورة قال أبو نهمان(24/477)
عبيد الله بن يحيى:
[الطويل]
تبؤّأ بين الحزن والسهل منزلا ... بأفيح فضفاض البساط على النهر
تصعّد في ساحته الخضر ماؤه ... تصعد أنفاس المتيّم بالذكر [ص 324]
ترقّى بها في الجو ثم تعيده ... إلى مستقر الأرض ناعورة تجري
تردد تغريد الطيور وتارة ... ترجع ترجيع الأهازيج في الزمر
وكان ممدحا، فمما قال فيه أبو عثمان هذا، وقد رآه في موقف حرب، أبان فيه قمرا من وجهه يغطي ضوء القمر ويخفيه:
[الكامل]
أغمامة بين البوارق تهمع ... أم شارق وسط الكتائب يلمع
أم غرّة القمر المنير يحفها ... زهر النجوم أم الهصور الأروع
لا بل هو الملك الذي في درعه ... ونجاده هذي الصفات الأربع
وتوفي الناصر عبد الرحمن في شهر رمضان سنة خمسين وثلاث مائة.
121- دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر
أبي العاص «1» ، وهو الحكم العادل، والعلم الذي لا تطاوله الجنادل، والكرم(24/478)
الذي لا يصغي إلى قول العاذل، ولا يبغي طاقة الباذل، ونطق منذ كان صبيا بالحكم، وصدّق فكان في بيته يؤتى الحكم «1» ، ونفقت في أيامه سوق الفضائل، ووثقت بأنعامه الطآيل [كذا] ، ولم يكن فيه عيب إلا قصر أيامه، وقصور مدته عن مرامه، وأهل الأندلس تعده من أصلح خلفائها، وأرجح أهل وفائه بها، ولم يكن من أهل الفضل إلا من يزدلف إليه بما لديه، ويقرب كرمه السابغ عليه من يديه، وكان الناظر لا يكاد يرى إلا عالما ومعلما، أو مقدما أو متقدما، وما بقي من رعاياه إلا من رعاه حرمه، ودعاه كرمه، فلم يدع منهم إلا راضيا عن زمانه، أو قاضيا له منه بأمانه، ثم ما زال مزيدا في الصلاح، ومتجددا به عموم الفلاح، حتى أتاه اليقين، وأراه موضعه في أماكن المتقين، وأجرى مرة خيله للسباق، فأحرز قصباته، وغبر في وجوه السباق، فقال محمد بن حسين الطبني: «2»
[الرجز]
أعارض عجلان في البحر خفق ... أم نفس الريح تجاري واستبق [ص 325](24/479)
أم الجياد أحضرت بلا عنق ... تطلب عند البعد ثارا بحنق
وطارت الحصباء عنهن فلق ... وثار مجموع الغبار وافترق
يرفع ثوب الصدع من ثوب الغسق ... لو خطرت على لياه لاحترق «1»
من لهب الشدّ وحر المنطلق ... حتى إذا ما سكبت ماء العرق
وسرن سير الطير ينفضن اللثق ... قد بلغت من زيد أسنى البلق «2»
وانغمس الأدهم في لون نهق ... كالورق المنسوج أمثال الورق «3»
وماح منهن اللواء والتصق ... وازدحمت فيه عليهن الحدق «4»
من زمن لو سابق الريح سبق ... طرف كلحظ الطّرف أوهى فرتق
أو لحظة البرق مع الريح برق ... أو خطفة الجني للسمع استرق
أو سرعة الطيف إذا الطيف طرق ... من نازح يعدي الكرى على الأرق
لعبشمي كان بالسبق أحق ... كأنما غرته نور الفلق
نواله في الناس فيض ودفق ... ممسكه من كل نفس برمق
للمرتجي أمن وللمال فرق ... وبأسه أشبه شىء بالصعق
إذا تدافعن الرماح والدرق ... كأنما ماذيه إذا نطق
يبثّ في الناس أفانين العبق ... مستنصر بالله يرعى من خلق
لخيله فضل على الخيل نسق ... كفضل ما بين الملوك والسوق
وحكى صاحب المقتبس عن المستنصر هذا سعادة فيما يطلبه من الأمور، وما عقد له به لواء الظفر والتأييد، وأنشد كثيرا مما مدح به في وقائعه التي كان له(24/480)
فيها الغلب، وبان لأعين النظارة له فيها حسن المنقلب، فمنها قول محمد بن المحاسن:
[الطويل]
أقمت حدود الله حتى تحددت ... معالمه فينا وأشرق نورها
وألبست دنياك شبابا وبهجة ... فراق جمالا سوؤها وسرورها
نهجت لغاويها الطريق فلم يحد ... ولا ضلّ أعماها فكيف بصيرها [ص 326]
وجرّدت سيف الحقّ في كلّ بدعة ... تعفّي على آثارها وتبيرها
وثقنا مذ استنصرت بالله إنه ... نصيرك مما تتّقي ونصيرها
عن الله ترمي فهو عنك مدافع ... ودائرة السوء على من يديرها
ومنها قول سعيد بن عبد الملك:
[الطويل]
إمام جلا عن أرضنا الظلم عدله ... فعاد إلى معناه من كان جاليا
إذا ما بدا يوما لعين فقد رأت ... به كلّ شىء تملأ العين باديا
من العبشميين الذين أكفّهم ... سحائب تنسيك السحاب الغواديا
لقاؤهم يغنيك إن كنت مملقا ... وبشرهم يرويك إن كنت صاديا
ومنها قول محمد بن شخيص:
[الطويل]
كأنك اليوم المعجل للعدى ... بوضع الحبالى أو تشيب المراضع
تواضعت كي تزداد عزّا وإنّما ... يقدم عند الله عز التواضع
وقمت بما أدّى عن الله أحمد ... وأدّيت حقا ضائعا غير ضائع
ومنها:(24/481)
رأى ولد الفاروق بيعة جده ... فبايع تبصيرا لمن لم يبايع
وقد زمّها مروان في يوم راهط ... برأي لأهواء الجماعة جامع
وراية شورى لو أعيدت لما دعت ... لدعوته الآذان دعوى منازع
ولا شاع في مصر لصحب محمد ... أذى لم يكن من قبل فيها بشائع
ومنها قول يوسف بن هارون الرقاشي ملمحا في بعض أغزاله، وملمحا بها لحلو مقاله، وقد أبرز للقاء جعفر المفارق لمعد صاحب أفريقية جيشا أبرقت مناصله، وبرزت سهامه، كأنها لواحظ أغيد لا تخطي مقاتله، وهو:
[الكامل]
ولقد عجبت لغفلة المستنصر ... إذ أبرز الجيش الهمام لجعفر
ولو أن من أهواه يبرز وجهه ... قامت لواحظه مقام العسكر [ص 327]
وقد ذكر صاحب بلغة الظرفاء الحكم المستنصر، وأورد له شعرا ورد به منهل الشعرى، وهو قوله:
[الطويل]
ألسنا بني مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منّا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
بويع المستنصر في رمضان سنة خمسين وثلاث مائة، ولد مستهل رجب سنة اثنتين وثلاث مائة، وتوفي في صفر سنة ست وستين وثلاث مائة، وكانت مدته نحو ست عشرة سنة، وكان أبيض طوالا، شثن اليدين جسيما وسيما، أسود العينين، أصهب عظيم اللحية، يخضب بسواد.(24/482)
122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم
امتدت الأيدي لمبايعته «1» ، وسنه لعشرة أعوام وغصنه ما أميطت من تمائمه الأكام، قوى عزيمة أبيه الحكم على العهد إليه النساء والخدم، فعهد إليه ثم داخله الندم، فما استحسن أن يخلع عن معطفيه ذاك الرداء، ولا أن يقطع عن المنابر من اسمه ذاك النداء، وقد كانت طوائف الشعراء عرّضت بذكر هشام لأبيه تقربا إلى خاطره، وتجنبا إليه أن لا يخرج عنه شطر مشاطره، فمنها قول محمد بن حسين الطنبي، مما يخاطب به أباه:
[الكامل]
حسّن به دين النبيّ محمد ... وأقم به أود الزمان الأعوج
لهجت ببيعته النفوس فأخذها ... من أوجب الأشياء لو لم تلهج
عود النبوة والخلافة عوده ... فالفرع من تلك العروق الوشّج(24/483)
وإذا تبلّج وجه صبح مقبل ... فالشمس تحت ضيائه المتبلّج
هو زهرة الدنيا وباب سرورها ... فاعهد وسرّ به البرية وابهج
وارم المشارق باسمه فليفتحن ... ما بين مصر إلى بلاد الزّنج
يا ربّ بلّغه جميع رجائه ... لأبي الوليد وزده ما لم يرتج «1» [ص 328]
ليدم سراج الله في هذا الورى ... فضياؤه من نور [هـ] المسرّج
وفيه يقول أيضا:
[الكامل]
وأشد بذكر أبي الوليد فشد به ... مجدا هشاميا وعزّا أغبطا
ما فوق بيعته مدى أمنية ... فيمن تسامى في المنى وتشططا
نعم الذخيرة للعزائم ينتضى ... دون الخلافة والمنابر تمتطى
نظرت قريش في كريم نظامها ... فرأته منها في القلادة أوسطا
هي بيعة الرضوان تحيي كل من ... أصفى ويقبل سعيها من خلّطا
اربط به الأيدي فإن قلوبنا ... مكفيّة بودادها أن تربطا
شرطت محبّته على أهل النّهى ... ما لا يكاد موثق أن يشرطا
ثم لما مات الحكم المستنصر، وبويع ابنه هشام المؤيد، لان جانبه حتى ذلّ، وكثر حلمه حتى قل، وعقد انتقامه بالعفو فحل واستقام بقدمه على منهج المسالمة، فزلّ على أنه أول من بويع بالخلافة، كان يخلط بالعسل صابه، وبالشفاء أوصابه، وفيه قال محمد بن شخيص:
[الطويل]
وجدنا هشاما للأئمة عاشرا ... إذا كمل التسعين فالملك تاسع(24/484)
أتانا بتصديق الرواية مذ أتى ... به أوّل الشهب الدراري رابع
فسارت بأعراق النجابة إذ سرت ... من الحكم المهدي فيه طبائع
يحلّ به نجم على أنجم الدّجى ... منيف ومن شرخ الخلافة طالع
ومن فخره أن العبيد بظله ... ملوك كما أن الملوك صنائع
وشافع آمال البرية إنها ... إلى عهده المأمول صور نوازع
وكان المؤيد هشام مغلبا منذ ولي استحجب المنصور أبا عامر محمد بن عامر «1» ، فحجبه وقام دونه، ثم استحجب ابنه المظفر عبد الملك بن محمد بن عامر، فسلك سبيل أبيه، ثم استحجب أخاه عبد الرحمن، وكان ثالثهما، وغزا أسابيه، وأوغل في بلاد الجلالقة، فلم يقدم ملكها على لقائه، وتحصن منه في رؤوس الجبال، ولم [ص 329] يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار، وكثرة الثلوج، فأثخن في البلاد التي وطئها، وخرج موقورا، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام»
بن عبد الجبار بن الناصر بن عبد الرحمن بقرطبة، وأخذه(24/485)
المؤيد أسيرا، ففرق عنه عسكره، ولم يبق إلا في خاصته، فسار إلى قرطبة ليلاقي ذلك الخطب، فخرج عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة، وطافوا به، ثم صلبوه، وكان ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه اثنا عشر رجلا، فبايعه الناس، وتلقب بالمهدي، وملك قرطبة، وأخذ المؤيد وتركه في محبسه حيث لا جليس سوى رجع نفسه، وقام هذا محمد بن هشام بن عبد الجبار بالأمر مستبدا لرأيه، مستمدا إلى أن قتل تلك القتلة الشنيعة، وكانت مدة استيلائه ستة عشر شهرا بزّ بها سرير الملك قهرا، ونجسه لو لم يجد له نجاء الماضيات طهرا.
حكى ابن الأثير «1» : أن محمد بن هشام «2» بن عبد الجبار أخذ المؤيد وحبسه معه في القصر، ثم أخرجه وأخفاه، وأظهر أنه مات، وقد كان مات(24/486)
إنسان نصراني يشبه المؤيد، فأبرزه للناس في شعبان، وذكر لهم أنه المؤيد، فلم يشكوا في موته، وصلوا عليه ودفنوه في مقابر المسلمين، ثم إنه أظهره على ما نذكره، وأكذب نفسه، وكانت مدة المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر.
وخرج هشام بن سليمان بن الناصر عبد الرحمن، لأن أهل الأندلس أبغضوا ابن عبد الجبار، فأخرجوه من داره وبايعوه ولقبوه بالرشيد، في شوال سنة تسع وتسعين، واجتمعوا بظاهر قرطبة، وأحضروا ابن عبد الجبار، وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك، على أن يؤمنه وأهله، ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه، وأخذ هشاما أسيرا فقتله ابن عبد الجبار، وكان عم هشام، ثم إن سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وهو ابن أخي هشام المقتول، خرج وتلقب بالمستعين، ثم تلقب بالظاهر، وساروا إلى النصارى فأنجدوهم، وساروا معهم إلى قرطبة، فاقتتل هو وابن عبد الجبار بقنتيج «1» وهي الوقعة المشهورة عزوا إليها، وقتل [ص 330] ما لا يحصى، فانهزم ابن عبد الجبار، وتحصن بقصر قرطبة، ودخل سليمان القصر، وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربع مائة، وبقي بقرطبة أياما وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفا، ثم لما أخفى ابن عبد الجبار سار سرا إلى طليطلة، وأتاه واضح العامري في أصحابه، وجمع لهم النصارى وسار بهم إلى قرطبة، فخرج إليهم سليمان، فالتقوا بقرب عقبة الورق، واقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربع مائة. ومضى سليمان إلى شاطبة ودخل ابن عبد الجبار قرطبة، وجدد البيعة لنفسه، وجعل الحجابة لواضح، وتصرف بالاختيار.(24/487)
ثم إن جماعة من الفتيان العامرية، منهم عنبر وعمرون وغيرهما كانوا مسلمين، فأرسلوا إلى [ابن] عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم، وأن يجعلهم في جملة رجاله، فأجابهم إلى ذلك، وإنما فعلوا هذا مكيدة به ليقتلوه، فلما دخلوا قرطبة واستمالوا واضحا، فأجابهم، فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربع مائة اجتمعوا بالقصر فملكوه وأخذوا ابن عبد الجبار أسيرا، وأخرجوا المؤيد من محبسه، وأجلسوه في صدر مجلسه، وبايعوه بالخلافة بيعة ثانية، وتابعوه سرا وعلانية، وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه، فعدد ذنوبه عليه، ثم قتله وطيف برأسه في قرطبة، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة.
قلت: وهذه الأخبار شرطها كان أن تذكر مفصلة، وقد ذكرناها الآن مجملة، لتعلق بعضها ببعض، وسأذكر ما تخلل في أنباء دولة هشام المؤيد بتراجم مفردة، ثم ألمّ بذكر هشام المؤيد ثانيا، حيث عادت دولته، وأنبهت إليه في الملك ثانيا نوبته.
حكى ابن الأثير في حوادث سنة أربع مائة، وقد ذكر عود هشام المؤيد ما معناه: وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته إلى واضح العامري، وأدخل إليه أهل قرطبة، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى بربر سليمان بن الحكم، ودعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فأمر بالاحتياط، ثم شعر بأن نفرا من الأمويين، قد اجتمعوا فركب هشام إليهم، فعاد البربر واستنجدوا بملك الفرنج، فأرسل يعلم هشاما بذلك ويستنزله [ص 331] عن حصون تجاوره، ففعل، فيئس البربر من إنجاد الفرنج، فنزلوا قرب قرطبة، وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا، فعمل هشام على قرطبة أمام السور الكبير سورا وخندقا، ثم نازل سليمان قرطبة، ثم الزهراء، فسلمه بعض الحفظة باب الزهراء «1» ، فملكها، واشتد الأمر بقرطبة، وظهر في(24/488)
هذه المدة بطليطلة عبيد الله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم هشام جيشا، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيد الله، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربع مائة، ثم قاتل هشام البربر، فقتل منهم أمما، وغرّق في النهر مثلهم، فرحلوا إلى أشبيلية، فجهز هشام جيشا فحماها، فسارت البربر إلى قلعة رباح «1» ، فملكوها وغنموا ما فيها، واتخذوها دارا، ثم عادوا إلى قرطبة فحضروها وملكوها، ودخلها سليمان بن الحكم عنوة، وأخرج هشام من القصر، وحمل إلى سليمان في منتصف شوال سنة ثلاث وأربع مائة. وبويع سليمان، ثم جرت لهشام المؤيد معه قصص طويلة، ثم خرج إلى شرق الأندلس، فكان آخر خبره ونهاية أمره، ثم عمّى الخفاء على أثره، وها أنا أذكر:
123- دولة محمّد المهديّ بن هشام بن عبد الجبّار بن عبد الرّحمن النّاصر
المتخللة لدولة المؤيد هشام «2» ، المخلة بشروط الوفاء والذمام، قد كدنا نأتي على المقصود منها في تلك الترجمة، ونجلي بصباح البيان أمورها المظلمة، كان هذا محمد المهدي خفيف العقل طائش الرأي، لا يتمسك بدين، ولا يتنسك كالمهتدين. قال ابن الأثير عنه ما معناه: إنه اتخذ النبيذ في بيته، حتى سمّي نبّاذا، وتصرمت أيامه وهو على هذا، وابتز الملك، وما هني بملبسه، ولا هيء له إلا المأ ثم ليلة عرسه، وبما تقدم اكتفاء لمن أراد الوقوف على خبره، وجلاء البصيرة من لم يره حقيقة ببصره، وكان خليقا أن لا يذكر مستقلا، ولا يذكر إلا في بعض حوادث دولة هشام، بل لا، وأما ما كان بعد هشام المؤيد(24/489)
فسأذكره بمشيئة الله تعالى، فأقول: [ص 332]
124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر
قد قدمنا ما كان «1» بينه وبين هشام من نوب الأيام، ثم لما كانت له هذه الكرة، ودانت له قرطبة هذه المرة، وهي ولايته الثانية، وإيالته الدانية، تلقب بالمستعين، وتغلب بعد ما غلب بعد حين، وكانت ولايته هذه منتصف شوال سنة ثلاث وأربع مائة، وبايعه الناس بيعة عنوة لا عناية، وخافوا تبعة السيف، تصريحا لا كناية، وكان أديبا خطيبا شاعرا، فاتكا باتكا داعرا، خرج إليه أهل قرطبة للسلام عليه، فلما مثلوا لديه، ابتدأ مميلا، وأنشد متمثلا: «2»
[الطويل]
إذا ما رأوني طالعا من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني(24/490)
ثم تمت له المبايعة، وانقادت له أهل قرطبة بأنفس طائعة، ونخوة أحماها ما كانت بالكف قانعة، وبالصغار تحت غاء الذل مصانعة.
وقد حكى صاحب بلغة الرفاء أنه تلقب أولا بالمستعين، ثم تلقب بالظافر بحول الله، وأنشد قول هارون الرشيد رحمه الله:
[الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
فقال سليمان المستعين:
عجبا يهاب الليث حدّ سنان ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حسنا وهذي أخت غصن البان [ص 333]
حاكمت فيهن السلوّ إلى الصبى ... فقضى لسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وثنينني ... عن عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكا تذلل في الهوى ... ذلّ الهوى عز وملك ثان
إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهنّ فلست من مروان
قلت: وخلا المستعين هذا يوما بلذاته، واقتصر على لداته، وقد برز الجو في ممسك طرازه قوس قزح، والنور قد قلد جنده من لؤلؤ الطل سبح، وقد مد الغمام ستارة طرزت رفرفها البروق، وطرفت جانبي يومها كؤوس الصبوح(24/491)
والغبوق، ثم وافى الليل فصدم جيشه كتائب تلك السحائب فمزقها، ولطم بحره أفواج تلك الأمواج ففرقها «1» ، وتوقدت لوامع النجوم للاقتباس، ولاح الهلال كأنه سطر طوق في جيد زرقاء اللباس، فقال:
[الكامل]
عرّى النهار الليل ملبس دجنة ... وغزا غمائمه بجيش مقبل
عجبا له من سيف يوم مذهب ... لولا الظلام يدوسه لم ينجل
أو ما ترى زهر النجوم كأنّها ... هي والهلال أسنّة في قسطل
قال ابن الأثير ما ملخصه: إن خيران «2» العامري لم يكن راضيا بولاية سليمان بن الحكم، لأنه كان من أصحاب هشام المؤيد، فلما ملك انهزم، وكاتب له كاتبه، ثم أتى شرق الأندلس، فكثر به جمعه وقاتل البربر، وملك المرية «3» ، وتراسل هو وعلي بن حمود العلوي صاحب سبتة «4» ، ووافقه على أن المؤيد كان قد عهد إليه، ودعا له بولاية العهد، فعبر علي بن حمود إليه، وأتى(24/492)
مالقة «1» فسلمها إليه عامر بن فتوح، ثم سار خيران إليه، وتلاقيا بالمثلث سنة ست وأربعمائة، وبايعوا علي بن حمود على طاعة المؤيد هشام الأموي، فلما بلغوا غرناطة «2» ، وافقهم أميرها وساروا إلى قرطبة، فخرج [ص 334] إليهم سليمان بالبربر، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم سليمان فأخذ أسيرا، فحمل إلى ابن حمود، ودخل ابن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع وأربع مائة، وداروا القصور طمعا أن يكون بها المؤيد فلم يجدوه، ورأوا قبرا منبوشا وجدوا به جثة ميت، قالوا إنه المؤيد، ولم يكن به، إنما قالوه خوفا من علي بن حمود، لأنه طمع بالاستقلال، فأخذ ابن حمود سليمان بن الحكم فقتله، واستولى ابن حمود على قرطبة، وبدّلت الخلافة الأموية بالخلافة العلوية «3» ، على ما ذكر في مكانه، ثم أنّه تنكر لخيران، فتنكر له خيران، وأظهر عليه الخلاف، وأرسل يسأل عن بني أمية، فدلّ على عبد الرحمن بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وكان قد خرج إلى حبّان، وكان أصلح بني أمية، فبايعه خيران ولقبه المرتضى، وراسل شرفاء قرطبة «4» والثغر الأعلى وشاطبة «5» وبلنسية وطرطوشة «6» ،(24/493)
فأجابوا إلى بيعته، ثم ساروا إلى صنهاجة على قصد غرناطة، وحصل من المرتضى إعراض عن خيران، فتخلى عنه، وانجلى حصارهم لغرناطة عن هزيمتهم، وقتل المرتضى، ثم استقل علي بن حمود، ثم أخوه القاسم، ثم يحيى بن علي ابن حمود، ثم عادت دولة بني أمية على ما نذكره، فكان أولها بعد الدولة العلوية:
125- دولة المستظهر عبد الرّحمن بن هشام
ابن عبد الجبار «1» بن عبد الرحمن الناصر، أبي المطرف، وكان سبب ملكه ما قدمناه، وموجب تقديمه التيمن بسناه، وحب أهل قرطبة لبني أمية، الحب الذي تمكن في حشاهم وملأهم به شغفا وحشاهم، فلما غشيهم موج الفتنة وغشّاهم، وأرحل [ص 335] ذلا فوارسهم ومشّاهم، صافحوا بالبيعة يمناه، ونافحوا من حال دون ما تمناه، هوى أمويا علقوه، وجوى خفيا عاهدوا الله عليه لو صدقوه.
بويع في شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربع مائة، وعمره اثنتان وعشرون سنة، واختان القدر ملكه وما مكنه، وأظن الأدب أدركه بحرفته، وأملكه بذنب معرفته، لأنه كان شاعرا مجيدا رقيق الطبع، لا تبلى بأيدي من دموعه الربع، ولم تتم ولايته، ولم تقم للخلافة حوايته، وكانت مدته شهرا واحدا وسبعة عشر(24/494)
يوما، ثم قتل، ورد عهده بعد أن قتل، وكانت جالبة حمامه، وخالبة روحه باعتلاق سمامه، جهالة أركبه الشيطان غرورها، وأكسبه محذورها، وكان السبب أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم لميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من السجن، وصدعوا حباله مزقا كالعهن، وألّبوا الناس عليه، وتأهبوا لاستلال روحه من جنبيه، فأهانهم صاحب شرطته فأهين، وجرّع كأس ردائه في الحين، وكان ممن وافقهم على فعلتهم وواثقهم على مثل مثلتهم أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي، في جماعة كثيرة، وطاعة جعلت إلى الأمر مصيره.
وكان أبيض أشقر أعين العين شثن الكفين رحب الصدر.
126- دولة محمّد بن عبيد الله بن عبد الرّحمن النّاصر
أبي عبد الرحمن المستكفي «1» ، ولم يكن من رجال بيته في شىء من الأشياء، ولا كان إلا ميتا في صورة الأحياء، لعدم ضرامه، وعظم خمود(24/495)
لشهامه [ص 336] كأنه ما مر مروان من أمامه «1» ، ولا قدم عبد الرحمن الداخل قدامه، ولا عدّ من هذا البيت هشامه، عدا عبد الملك فعلا ومعاوية فضلا، وكان همّه فرجه وبطنه، وعزمه عينه وأذنه، لا يفكر في شىء إلا ما يهمه، ولا يلم إلا بما لا يفارقه ملمه، إلا أنه ممن أقامه الحظ السابق على من تقدمه، حتى تأخر لامتداد الأجل وقدمه.
بويع في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربع مائة، وبقي سنة وأربعة أشهر وأياما، ثم خلعوه خلع الحذاء، ودفعوه دفع الذباب عن الغداء، فخرج في جماعة ممن حفظ عهده المضاع، ولحظ وده ملاحظة الطفل لأيام الرضاع، فأتى بهم مدينة سالم «2» ، وأقام بها غير مسلّم ولا مسالم، فضجر منه بعض أصحابه ممن هجر، أو أن اتساع رحابه فعمد إلى دجاجة فحمى فشواها، وعمل فيها سمّا رمى بها مهجته فأصاب شواها، فأراح الدنيا من تخلفه وخفف أثقالها بما كانت تحمله من تكلفه.
وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة سبع وأربع مائة، وكان ربعة أشقر أزرق مدور الوجه ضخم الجسم، قارب في العمر الخمسين سنة، ثم أقيمت الدعوة ليحيى بن علي بن حمود، ثم آل أمره إلى أن قطعت دعوته، ومنعت أن تستجاب لها دعوته، ثم أعيدت الدولة أموية، وحمدت «3» عهودها المذكورة بسحب الدموع الروية، وها أنا أذكرها فأقول:(24/496)
127- دولة هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرّحمن النّاصر
أبي بكر «1» ، قام بنصرة أبي الحزم جهور «2» ، وقام بالحزم وما تهور، راسل أهل الثغور المتغلبين فوافقوه، ورأوا رأيه وما واقفوه، [ص 337] وكتبوا ببيعتهم إلى هشام بن محمد، وكان مقيما ببعض الثغور منذ قتل أخوه الرضى، وقيل: قد أغمد سيفه المنتضى، ثم أصفقت أيدي الناس ببيعته، وصانت عهده المحفوظ(24/497)
من ضيعته، ولقّب بالمعتمد، وكان أسنّ من أخيه المرتضى، وأشد منه في كل مقتضى، فنهض إلى الثغور، وطلع فيها نجمه لا يغور، وجرت له فيها فانعقدت بالسماء عنان عجاجتها، وعلقت في مجرى الأسماء بنان مجاجتها، وقوي هنالك هيج الاضطراب، وأخذ موج السيوف في الضراب، ثم ساروا إلى قرطبة وسالوا في تلك الشعاب، سيلان جيش قحطبة، فأتاها مثل أوله، ووافاها حالا في صدر منزله، وأقام منذ بويع نحو خمسين سنة، حتى خلع رداؤه، وقطع عن مسامع المنابر نداؤه، وكان موجب النقمة عليه سوء تدبير وزيره أبي العاص سعيد لأنه أخذ أموال التجار وأعطاه البربر، فنفرت خواطر أهل قرطبة لهذا وأنكروه، ووضعوا عليه أناسا قتلوه، ثم خلعوا هشاما، ونبذ عهده فريق منهم، واتخذ عهده الوثيق ما رفعه قلم التكليف عنهم، وقام ابنه عبد الرحمن بن هشام في جماعة من الأحداث فتسوروا القصر، وعلوا شرفاته، وتصوروا له أمرا أدركه وفاته، وبايعه كثير من سواد الناس، ونهض بهم، فما قام منهم جسد بلا رأس، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولّت عنكم، فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غدا، فأنفذ أعيان قرطبة إليه وإلى ابنه المعتمد بالخروج عن قرطبة، فأودع المعتمد أهله، وخرج إلى حصن ابن الشوب، فاعتقلوه، ثم أخرجوه [ص 338] إلى حصن آخر فحبسوه فيه، فتحيّل للخروج حتى خرج منه ليلا، [وولج والخمول يسحب عليه ذيلا] «1» وسار إلى سليمان بن هود «2» ، وبقي عنده حتى مات في صفر سنة ثمان(24/498)
وعشرين وأربع مائة، ودفن في ناحية لاردة «1» ، وسكن بها صوت سحبه الراعدة، وماتت دولة بني أمية في الأندلس وسائر أقطار الأرض بموته، وخمد حسها بخمود صوته، فسبحان الحي الباقي وكل شىء هالك، الملك الدائم ملكه، بعد ذهاب [ما] ملكه الملوك، والممالك تعوذ به، وتتوكل عليه، ونسأله من خير ما لديه، إنه لا حول ولا قوة إلا به.
وقال ابن بسام وقد ذكر قصر مدة المستظهر عبد الرحمن الذي تقدم ذكره:
لم تنشر له فيها طاعة، ولا تتامت جماعة، وكان على حدوث سنه ذكيا يقظا لبيبا أديبا حسن الكلام حاد «2» القريحة، يتصرف فيما شاء من الخطاب بذهنه ورويته، ويصوغ قطعا من الشعر مستجادة، بطهارة أثواب وعفة وبراءة من شرب النبيذ سرا وعلانية، وكان نسيج وحده، وبه ختم فضلا أهل بيته الناصريين.
ومن شعره:
[مجزوء الرمل]
طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدّ
يا غزالا نقض الود ... د ولم يوف بعهد
أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد
واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد
وتعانقنا كغصني ... ن وقدّانا كقدّ(24/499)
ونجوم الليل تحكي ... ذهبا في لازورد
قال محقق الجزء الرابع والعشرين: انتهى هذا السفر، ويبدو أن هناك صفحة أو صفحات ناقصات بدليل أن نهاية هذه الصفح رقم 338 في آخرها تعقيبة الصفحة التي تليها وهي قوله بداية الصفة المفقودة: [وقد تقدم] ولذلك لا يعرف اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ.(24/500)
مصادر التحقيق
- إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس- عبد الرحمن بن زيدان.
ط الرباط 1347- 1352 هـ.
- اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الحنفا- المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ.. طبع مصر 1367 هـ.
- الإحاطة في أخبار غرناطة- ابن الخطيب: لسان الدين محمد بن سعيد (ت 776 هـ) .
طبع منه جزآن في مصر 1319 هـ، وأعيد طبع المجلد الأول سنة 1375 هـ/ 1955 م.
- أخبار الراضي بالله والمتقي بالله من كتاب الأوراق- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 336 هـ)
طبع مصر 1935.
- الأخبار الطوال- الدينوري: أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 هـ) .
ط مصر 1330 هـ.
- أخبار القضاة- وكيع: محمد بن خلف بن حيان (ت 306) ..
ط مصر 1366- 1369 هـ.
- أخبار مصر- ابن ميسر: محمد بن علي بن يوسف) ت 677 هـ) .
ط القاهرة 1919 م
- أزهار الرياض في أخبار عياض- المقري: أحمد بن محمد (ت 1041 هـ) .
ط مصر 1358- 1361 هـ.(24/501)
- أسد الغابة في معرفة الصحابة- ابن الأثير: علي بن محمد الجزري الشيباني (ت 630 هـ) .
مصر 1280 هـ.
- أسماء المغتالين من الأشراف- ابن حبيب: محمد بن حبيب البغدادي (ت 245 هـ) .
طبع ضمن نوادر المخطوطات تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة
- الإشارة إلى من نال الوزارة- ابن الصيرفي: علي بن منجب بن سليمان (ت 542 هـ) .
ط مصر 1924 م.
- أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 335 هـ) ، وهو جزء من كتاب الأوراق، نشر هيورث دن، ط مصر 1355 هـ/ 1936 م.
- الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ) .
ط السعادة مصر 1329 هـ، وتحقيق علي محمد البجاوي، ط مصر 1971 م.
- الأعلام- الزركلي: خير الدين بن محمود بن محمد (ت 1396 هـ) .
الطبعة الثالثة، بيروت 1389 هـ/ 1969 م.
- أعلام المؤلفين الزيدية- عبد السلام بن عباس الوجيه.
- أعلام النساء- كحالة: عمر رضا.
ط دمشق 1359 هـ.(24/502)
- أعيان الشيعة- محسن الأمين: محسن بن عبد الكريم بن علي (ت 1371 هـ) .
طبع منه 35 جزءا في دمشق ابتداء من 1353 هـ/ 1935 م.
- الأغاني- الأصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) .
ط دار الكتب المصرية، وط ساسي، وط دار الكتب العلمية، بيروت.
- ألف باء- البلوي: يوسف بن محمد بن عبد الله بن يحيى (ت 604 هـ) .
ط مصر 1287 هـ.
- أمالي المرتضى- المرتضى: الشريف علي بن الحسين (ت 436 هـ) .
تحقيق أبي الفضل إبراهيم، ط القاهرة 1954 م.
- إمتاع الأسماع- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) .
تحقيق محمود محمد شاكر، ط مصر 1941 م.
- أمراء البيان- كرد علي: محمد بن عبد الرزاق (ت 1372 هـ/ 1953 م) .
ط مصر 1355 هـ/ 1937 م.
- إنباه الرواة على أنباه النحاة- القفطي: جمال الدين علي بن يوسف (ت 646 هـ) .
ط دار الكتب المصرية 50- 1955 م.
- ابن إياس بدائع الزهور
- البدء والتاريخ- المقدسي: مطهر بن طاهر (ت 355 هـ) .
طبع في شالون 1916 م.(24/503)
- البداية والنهاية- ابن كثير: الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (ت 774 هـ) .
ط السعادة، مصر 1932 م، وط مكتبة المعارف، بيروت 1966 م.
- بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس: محمد بن أحمد بن إياس الحنبلي (ت 930 هـ) .
- الثلاثة أجزاء الأولى ط مصر 1311 هـ، والرابع والخامس ط في استانبول 31- 1932 م.
- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس- الضبي: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة (ت 599 هـ)
ط في مجريط 1884 م، وط دار الكتاب العربي، القاهرة 1967 م.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ)
ط مصر 1329 هظ، وتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964 م.
- بلغة الظرفاء في ذكر تواريخ الخلفاء- الروحي: علي بن محمد بن أبي السرور ط مصر 1327 هـ.
بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب- الآلوسي: محمود شكري (ت 1342 هـ) .
بعناية محمد بهجة الأثري، ط القاهرة 1342 هـ/ 1924 م.
- بلوغ المرام في شرح مسك الختام، فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام- العرشي: حسين بن أحمد (ت 1330 هـ) . ختم حوادثه سنة 1318 هـ،(24/504)
وزاد عليه الأب أنستاس ماري الكرملي فأوصله إلى 1358 هـ، ط مصر 1939 م.
- البيان والتبيين- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) .
تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، مصر 1968 م.
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب- ابن عذاري المراكشي: محمد بن محمد (ت 695 هـ) .
أربعة أجزاء، طبع الأول والثاني في ليدن 48- 1951 م، والثالث في باريس 1930 م، والرابع في تطوان 1956 م.
- تاج التراجم- قاسم بن قطلوبغا الحنفي
ط ليبسك 1862 م.
- تاج العروس من جواهر القاموس- الزبيدي: محب الدين محمد مرتضى الحسيني (ت 1205 هـ) .
ط الوهبية، مصر 1286 هـ.
- تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام- الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ)
ط السعادة، مصر 67- 1969 م.
- تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (ت 463 هـ) .
ط مصر 1349 هـ، وط دار الكتاب العربي، بيروت.
- تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين.
الترجمة العربية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض(24/505)
1983 م.
- تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر) - ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد (ت 808 هـ)
ط مصر 1284 هـ، وط مصر 1355 هـ.
- تاريخ الخلفاء- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر الشافعي (ت 911 هـ) .
تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1993 م.
- تاريخ الطبري- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) .
ط الحسينية، القاهرة 1939 م، وتحقيق أبو الفضل إبراهيم، ط دار المعارف مصر 60- 1969.
- تاريخ العراق بين احتلالين- العزاوي: عباس بن محمد ثامر (ت 1391 هـ/ 1971 م) .
ثمانية أجزاء، ط بغداد 1353- 1376 هـ.
- تاريخ الكوفة- البراقي: حسين بن أحمد بن الحسين (ت 1332 هـ)
ط النجف 1356 هـ.
- تاريخ ابن الوردي (تتمة المختصر في أخبار البشر) - ابن الوردي: عمر بن المظفر (ت 749 هـ) .
ط مصر 1285 هـ، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1996 م.
- تاريخ اليمن- الواسعي: عبد الواسع الواسعي.(24/506)
ط مصر 1346 هـ.
- تذكرة الحفاظ- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) .
ط حيدرآباد 1333- 1334 هـ.
- التعازي والمراثي- المبرد: محمد بن يزيد الثمالي (ت 285 هـ) .
تحقيق محمد الديباجي، ط مجمع اللغة الربية، دمشق 1976 م.
- التنبيه والإشراف- المسعودي: أبو الحسين علي بن الحسين بن علي (ت 346 هـ) .
ط مصر 1357 هـ/ 1938 م.
- تهذيب تاريخ دمشق (تاريخ دمشق لابن عساكر) - ابن هبة الله: أبو القاسم علي بن الحسين (ت 571 هـ)
بعناية عبد القادر بدران، ط دمشق 1329- 1351 هـ.
- تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (ت 852 هـ) .
ط حيدرآباد، الهند 25- 1327 هـ.
- تواريخ آل سلجوق- جزء مشتمل على كتاب زبدة النصرة ونخبة العصرة- عماد الدين الأصفهاني
اختصار الفتح بن علي البنداري الأصفهاني، ط ليدن 1889 م.
الجداول المرضية في تاريخ الدول الإسلامية- دحلان: أحمد بن زين دحلان المكي (ت 1304 هـ)(24/507)
ط مصر 1396 هـ.
- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس- الحميدي: محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي (ت 488 هـ)
ط مصر 1372 هـ/ 1952 م.
- جزيرة العرب في القرن العشرين- حافظ وهبة
ط مصر 1354 هـ/ 1935 م.
- جمهرة الأنساب (جمهرة أنساب العرب) - ابن حزم الأندلسي: علي بن أحمد بن سعيد (ت 456 هـ)
ط مصر 1948 م، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار المعارف، مصر 1971 م.
- حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة- الموستاري: علي فهمي.
ط الآستانة 1324 رومية.
- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) .
ط مصر 1299 هـ.
- الحلة السيراء- ابن الأبار: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر البلنسي (ت 658 هـ)
قطعة منه طبعت في ليدن 1837- 1851 م، وحققه حسين مؤنس، ط القاهرة 1963 م.
- الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية- منسوب للسان الدين ابن الخطيب:
محمد بن عبد الله بن سعيد (ت 776 هـ) .(24/508)
ط تونس 1911 م، وأعيد طبعه في الرباط 1936 م.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء- الأصبهاني: أبو نعيم أحمد بن عبد الله (ت 430 هـ) .
ط مصر 1351 هـ.
- حلية المحاضرة- الحاتمي: محمد بن الحسن (ت 388 هـ)
تحقيق جعفر كتاني، ط بغداد 1979 م.
- الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة- ابن الفوطي: عبد الرزاق بن أحمد (ت 723 هـ) .
طبع قسم منه في بغداد 1351 هـ.
- الحور العين- نشوان الحميري: أبو سعيد نشوان بن سعيد اليمني (ت 573 هـ) .
ط مصر 1948 م.
- الحيوان- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) .
تحقيق عبد السلام هارون ط مصر 1965 م.
- خريدة القصر- العماد الأصفهاني: محمد بن محمد (ت 957 هـ) .
قسم شعراء مصر، ط مصر 1951 م، قسم شعراء الشام، ط دمشق 1955 م، قسم شعراء العراق،
ط بغداد 1955 م.
- خزانة الأدب- البغدادي: عبد القادر بن عمر (ت 1093 هـ)
ط السلفية مصر 1347 هـ، وتحقيق عبد السلام هارون ط مصر 1968 م.(24/509)
- خطط المقريزي المواعظ والاعتبار.
- خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال- الخزرجي: أحمد بن عبد الله بن أبي الخير (ت 923 هـ) .
ط مصر 1322 هـ.
- خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام- أحمد بن زيني دحلان المكي (ت 1304 هـ) ..
ط مصر 1305 هـ.
- الخلاصة النقية في أمراء أفريقية- المسعودي: أبو عبد الله محمد التونسي الباجي (ت ق 3 هـ) .
ط تونس 1283 هـ.
- دائرة المعارف الإسلامية- نقلها إلى العربية محمد ثابت الفندي، وأحمد الشنتناوي، وإبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، توقفوا عند حرف العين، ط مصر 1957 م.
- الدر الفريد وبيت القصيد- محمد بن أيدمر (ت النصف الثاني من القرن السابع هـ) .
مخطوط، تصوير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 88- 1989 م.
- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور- زينب فواز: زينب بنت علي بن حسين (ت 1332 هـ/ 1914 م) .
ط مصر 1312 هـ.(24/510)
- دول الإسلام- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) .
ط حيدر آباد، الهند 1337 هـ.
- الديارات- الشابشتي: علي بن محمد (ت 388 هـ) .
تحقيق كوركيس عواد، ط بغداد 1951 م.
- ديوان الأحوص الأنصاري- تحقيق عادل سليمان، ط القاهرة 1990 م، وط بيروت 1994 م.
- ديوان الأعشى ميمون بن قيس- نشر أدولف هلز هوسن، ط بيانة 1927 م، تصوير بيروت 1993 م.
- ديوان جرير بن عطية بن الخطفى- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م.
- ديوان الحماسة (حماسة أبي تمام الطائي) - تحقيق عبد الله عسيلان، ط الرياض 1981 م.
- ديوان زهير بن أبي سلمي- ط دار الكتب المصرية 1944 م.
- ديوان الراعي النميري- تحقيق راينهر فايبرت، ط بيروت 1980 م.
- ديوان أبي العتاهية- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م.
- ديوان كثير عزة- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة بيروت 1998 م وط دار الجيل، بيروت 1995 م.
- ديوان مروان بن أبي حفصة- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1993 م.
- ديوان ابن المعتز- تحقيق يونس السامرائي، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م.
- ديوان أبي النجم العجلي- جمع وتحقيق علاء الدين أغا، ط الرياض(24/511)
1981 م.
- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة- ابن بسام: علي بن بسام الشنتريني الأندلسي (ت 542 هـ) .
أقسام منه في ثلاثة أجزاء، ط مصر 58- 1364 هـ، وتحقيق إحسان عباس،
ط بيروت 1979 م.
- الذريعة إلى تصانيف الشيعة- أغا بزرك الطهراني: محمد بن محسن (ت 1389 هـ/ 1970 م)
ط النجف بداية من سنة 1936 بعد توقف ثم واصلت إلى سنة 1971 م ظهرت تسعة أجزاء، ثم وصلت إلى عشرين جزءا.
- ذيل الروضتين- أبو شامة المقدسي: عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت 665 هـ) .
ط مصر 1366 هـ.
- ذيل المذيل في تاريخ الصحابة والتابعين- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ)
مختارات منه طبعت في مصر 1326 هـ في آخر كتابه تاريخ الأمم والملوك.
- رغبة الآمل من كتاب الكامل- سيد بن علي المرصفي (ت 1349 هـ) .
ط مصر 46- 1948 م، وط 2 صورتها مكتبة البيان، بغداد 1969 م.
- رقم الحلل في نظم الدول- لسان الدين بن الخطيب: أبو عبد الله محمد بن سعيد (ت 776 هـ) ..
ط تونس 1317 هـ.(24/512)
- الروض الأنف، في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة النبوية لابن هشام- السهيلي: عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي (ت 581 هـ) .
ط مصر 1332 هـ/ 1914 م.
- سمط اللآلي- البكري: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز (ت 478 هـ) .
تحقيق عبد العزيز الميمني، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 م.
- السلوك لمعرفة دول الملوك- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) .
طبع الجزء الأول في مصر 34- 1939 م والقسم الأول من الجزء الثاني في مط 1941 م.
- سير أعلام النبلاء- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) .
طبع الجزء الأول والثاني في مصر
- السير (في رجال الإباضية) - الشماخي: أحمد بن سعيد بن عبد الواحد (ت 928 هـ) ..
طبع على الحجر بقسنطينة، الجزائر.
- السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون) - الحلبي: علي بن إبراهيم بن أحمد (ت 1044 هـ) . ط مصر 1292 هـ.
شرح المقامات الحريرية- الشريشي: أحمد بن عبد المؤمن القيسي (ت 619 هـ) .
ط مصر 1300 هـ.
- شرح المعلقات العشر- الشنقيطي: أحمد بن الأمين (ت 1331 هـ) .(24/513)
ط دار الكتاب العربي، بيروت 1985 م.
- شعر أشجع السلمي- تحقيق خليل بنيان، ط بيروت 1981 م.
- شعر ربيعة الرقي- تحقيق يوسف بكار، ط دار الأندلس، بيروت 1984 م.
- شعر زياد الأعجم- تحقيق يوسف بكار، ط وزارة الثقافة، دمشق 1983 م
- شعر أبي الشيص الخزاعي (أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره) .
- جمع عبد الله الجبوري، ط النجف 1967 م.
- الشعر والشعراء- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) ،
ط ليدن 1902 م، وتحقيق أحمد شاكر، ط دار المعار، القاهرة 1966 م.
- شعر الوليد بن يزيد- جمع حسين عطوان، ط عمان 1979 م.
- شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام- الفاسي: محمد بن أحمد التقي (ت 832 هـ) ..
ط مصر 1956 م.
- صبح الأعشى- القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي (ت 821 هـ) . ط مصر 1331- 1338 هـ.
- صحيح مسلم- مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) .
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط الحلبي، مصر 1955 م.
- صفة الصفوة- ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 هـ) ،
ط حيدر آباد، الهند 1355 هـ.(24/514)
- الصلة في تاريخ أئمة الأندلس- ابن بشكوال: أبو القاسم خلف بن عبد الملك (ت 578 هـ) .
ط مجريط 1882 م، وط الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر 1966 م.
- صلة تاريخ الطبري- عريب بن سعد القرطبي (ت 369 هـ) .
ط مصر 1326 هـ باسم الجزء الثاني عشر من تاريخ الطبري، وط ليدن 1897 م.
- طبقات السبكي طبقات الشافعية.
- طبقات ابن سعد (الطبقات الكبير) - محمد بن سعد (ت 230 هـ)
تحقيق سخاو، ط ليدن 1904 م، صور في بيروت 1957 م.
- طبقات الشافعية الكبرى- السبكي: تاج الدين عبد الوهاب بن عليبن عبد الكافي (ت 771 هـ) .
ط مصر 1324 هـ.
- طبقات الشعراء- ابن المعتز: أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي (ت 296 هـ) .
تحقيق عبد الستار فراج، ط دار المعارف، مصر 1956 م.
- طبقات فحول الشعراء- الجمحي: محمد بن سلام (ت 232 هـ) .
تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة 1974 م.
- عريب صلة تاريخ الطبري
- العقد الفريد- ابن عبد ربه: أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328 هـ) .(24/515)
ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1359- 1372 هـ/ 1948- 1950 م.
- العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية- الخزرجي: علي بن الحسن (ت 812 هـ) .
ط مصر 1329 هـ/ 1911 م.
- عنوان المعارف وذكر الخلائف- الصاحب: إسماعيل بن عبّاد بن العباس (ت 385 هـ) .
ط النجف 1371 هـ/ 1952 م في المجموعة الأولى من نفائس المخطوطات.
- العيني المقاصد النحوية.
- عيون الأخبار- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) .
ط دار الكتب المصرية، القاهرة 1967 م.
- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية- ابن الطقطقي: محمد بن علي بن طباطبا (ت 709 هـ) .
ط مصر 1340 هـ، وط صادر بيروت 1966 م.
- الفهرست- ابن النديم: محمد بن إسحاق (ت 380 هـ)
ط فلوجل، ليبسك 1871 م، وط رضا تجدد، طهران 1971 م.
- فوات الوفيات- ابن شاكر الكتبي: محمد بن شاكر الحلبي (ت 764 هـ) .
تحقيق إحسان عباس، ط بيروت 73- 1974 م.
- الكامل في التاريخ- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني(24/516)
(ت 630 هـ) .
ط صادر، بيروت 1965، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1995 م.
- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين- أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 665 هـ) .
ط مصر 1287 هـ.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي (1067 هـ) .
ط استانبول 1360 هـ/ 1941 م.
- الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية- المناوي: عبد الرؤوف بن تاج العارفين (ت 1031 هـ)
ط مصر 1357 هـ.
- اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني (ت 630 هـ) .
ط مصر 56- 1369 هـ.
- لسان العرب- ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري (ت 711 هـ)
ط صادر، بيروت 1968 م.
- لسان الميزان- ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852 هـ)
ط حيدر آباد، الهند 1331 هـ،(24/517)
- مجمع الأمثال- الميداني: أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري (ت 518 هـ) .
ط السعادة، مصر 1959 م.
- المحبر- ابن حبيب: محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي (ت 245 هـ)
ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند 1361 هـ/ 1942 م.
- المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) - أبو الفداء: الملك- المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود صاحب حماة (ت 732 هـ) .
ط مصر 1325 هـ.
- مرآة الجنان- اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 678 هـ)
ط بيروت 1970 م.
- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزا أوغلي (ت 654 هـ)
طبع المجلد الثامن وهو الأخير في حيدر آباد، الهند 1370 هـ/ 1951 م.
- المرزباني معجم الشعراء
- مروج الذهب ومعادن الجوهر- المسعودي: أبو الحسن علي بن أبي الحسن (ت 346 هـ)
- ط باريس 1930 م، وط محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1958 م.
المستقصى في أمثال العرب- الزمخشري: جار الله محمود بن عمر (ت 538 هـ)
ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، صورتها دار الكتب العلمية،(24/518)
بيروت 1987 م.
- مطالع البدور في منازل السرور- الغزولي: علاء الدين علي بن عبد الله البهائي (ت 815 هـ) .
ط مصر 1299- 1300 هـ.
- مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس- الفتح بن خاقان:
الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي (ت 529 هـ) ط الجوائب 1302 هـ، وط بيروت 1983 م..
- المعارف- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) .
ط مصر 1934 م
- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص- العباسي: عبد الرحيم بن عبد الرحمن (963 هـ) . أحمد
ط مصر 1376 هـ.
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب- المراكشي: عبد الواحد بن علي التميمي (ت 647 هـ)
ط مصر 1368 هـ/ 1949 م، وط دار الكتاب، الدار البيضاء، 1980 م.
- معجم الأدباء- ياقوت الرومي الحموي (ت 626 هـ) .
ط دار المأمون، مصر 1936 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار المغرب الإسلامي، بيروت 1993.
- معجم البلدان- ياقوت الرومي الحموي (السابق)
ط صادر، بيروت 1957 م.(24/519)
- معجم الشعراء- المرزباني: أبو عبيد محمد بن عمران (ت 384 هـ)
تحقيق عبد الستار فراج، ط الحلبي، القاهرة 1960 م.
- المعرّب من الكلام الأعجمي- الجواليقي: أبو منصور موهوب بن أحمد (ت 540 هـ) .
تحقيق أحمد شاكر، ط القاهرة 1361 هـ.
- المغرب في حلي المغرب- ابن سعيد المغربي: أبو الحسن علي بن موسى (685 هـ) .
ط الجزآن الأول والثاني في مصر 1953، 1955، وطبع جزء منه وهو السابع في ليدن 1898 م، وطبع جزء منه بمصر 1953 م بعنوان: الجزء الأول من القسم الخاص بمصر تحقيق شوقي ضيف، ط دار المعارف، مصر 1964 م.
- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب- ابن واصل: محمد بن سالم المازني (هـ 697 هـ) .
ط مصر 53- 1957 م الجزآن الأول والثاني.
- مقاتل الطالبيين- أبو الفرج الأصفهاني: علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) .
ط النجف 1353 هـ، وتحقيق أحمد صقر، ط مصر 1368 هـ/ 1949 م.
- المقاصد النحوية- العيني: محمود بن أحمد (ت 855 هـ) .
طبع على هامش خزانة الأدب للبغدادي، مصر 1299 هـ.
- المقتبس في تاريخ رجال الأندلس- ابن حيان: حيان بن خلف بن حسين القرطبي (ت 469 هـ) .(24/520)
ط باريس 1937 م، وطبعت القطعة الثانية منه في بيروت 1973 م.
- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 هـ) .
ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند 1357 هـ.
- منهاج السنة- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (ت 728 هـ) .
ط بولاق مصر 1321 هـ.
- الموسوعة العربية الميسرة- بإشراف محمد شفيق غربال.
ط دار الشعب 1965 م.
- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (يعرف بخطط المقريزي) - المقريزي:
تقي الدين أحمد بن علي
(ت 845 هـ) . مطبعة النيل، القاهرة 1325 هـ.
- مورد اللطافة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) .
طبع جزء منه في كيمبرج 1792 م
ميزان الاعتدال في نقد الرجال- الذهبي: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ) .
ط البابي الحلبي مصر 1325 هـ.
- النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس- ابن دحية: عمر بن الحسن بن علي الكلبي (ت 633 هـ) .(24/521)
ط بغداد 1365 هـ.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) .
ط دار الكتب المصرية 1930 م.
- نزهة الألباء في طبقات الأدباء- الأنباري: أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد (ت 577 هـ)
ط مصر 1294 هـ وتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط القاهرة 1967 م..
- نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس- الموسوي: العباس بن علي بن نور الدين (ت 1148 هـ) .
ط مصر 1393 هـ.
- نسب قريش- الزبيري: المصعب بن عبد الله (ت 236 هـ) .
ط دار المعارف، مصر 1953 م.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ) .
ط دوزي وآخرين، ليدن 1861 م، وتحقيق إحسان عباس، ط صادر، بيروت 1968 م..
- النقائض (نقائض جرير والفرزدق) - أبو عبيدة: معمر بن المثنى التيمي (ت 210 هـ) .
ط ليدن 1905- 1912 م.
- نكت الهميان في نكت العميان- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك(24/522)
(ت 764 هـ) .
تحقيق أحمد زكي، ط مصر 1329 هـ/ 1911 م.
- الوزراء والكتاب الجهشياري: أبو عبد الله محمد بن عبدوس (ت 331 هـ) .
تحقيق السقا والأبياري وشلبي، ط مصر 1357 هـ/ 1938 م.
- وفيات الأعيان- ابن خلكان: شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681 هـ) .
ط مصر 1948 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1973 م.
- وقعة صفين- نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 هـ) .
تحقيق عبد السلام هارون، ط مصر 1365 هـ/ 1945 م..
- الولاة والقضاة- الكندي محمد بن يوسف بن يعقوب (ت 350 هـ) .
ط بيروت 1908 م.
- يتيمة الدهر- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ) .
ط القاهرة 1956 م، وط بيروت 1983 م.(24/523)
فهرس الموضوعات
مقدمة التحقيق دولة الحسنيين 25
1- دولة المهدي محمد بن عبد الله بن الحسن 25
2- دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن 28
ذكر بني طباطبا:
3- محمد بن إبراهيم العلوي 33
4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا 39
5- محمد المرتضى بن يحيى بن الحسين 40
6- أحمد الناصر ابن الهادي 41
7- دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمد بن الحسن 43
8- دولة السفاك إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل 44
9- دولة الكبير ومنهم أهل ينبع 45
10- أبو عزيز بن قتادة بن مظاعن 48
الهواشم:
11- الناهض بأمر الله محمد بن سليمان بن داود 54
12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر 55
الدولة الطبرستانية 58(24/525)
13- الداعي إلى الحق الحسن بن زيد 58
14- القائم بالحق محمد بن زيد 60
15- المهدي أبو محمد الحسن بن زيد 62
دولة الأخضريين 63
دولة الأدراسة ببلاد المغرب 63
16- إدريس المغرب ابن عبد الله بن الحسن المثنى 64
17- إدريس بن إدريس 65
18- القاسم بن إدريس 67
19- الناصر بن علي بن حمود 70
20- المأمون القاسم بن حمود 72
21- دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن علي بن حمود 73
22- دولة المتأيد أبي العلى إدريس بن علي بن حمود 75
23- دولة القائم أبي زكريا يحيى بن إدريس 75
24- دولة المستنصر أبي محمد الحسن بن يحيى 76
25- دولة العالي إدريس بن يحيى 78
26- دولة المهدي محمد بن إدريس المتأيد 79
27- دولة الموفق إدريس بن علي 80
28- المستعلي محمد بن إدريس المتأيد 81(24/526)
29- دولة المهدي محمد بن تومرت 81
30- دول بني الحسين بن علي 88
الدولة العبيدية 89
31- المهدي بالله عبيد الله بن محمد الفاطمي 96
32- القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله الفاطمي 99
33- المنصور بالله إسماعيل بن محمد الفاطمي 101
34- المعز لدين الله معد بن إسماعيل الفاطمي 102
35- العزيز بالله نزار بن معد الفاطمي 104
36- الحاكم بأمر الله منصور بن نزار الفاطمي 106
37- الظاهر بإعزاز دين الله علي بن منصور الفاطمي 109
38- المستنصر بالله معد بن علي الفاطمي 111
39- المستعلي أحمد بن معد بن علي الفاطمي 113
40- الآمر بأحكام الله منصور بن أحمد بن معد الفاطمي 114
41- الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد 118
42- الظافر بأمر الله إسماعيل بن عبد المجيد الفاطمي 120
43- الفائز بنصر الله عيسى بن إسماعيل الفاطمي 122
44- العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف الفاطمي 125
[دولة الحسينيين](24/527)
45- دولة الزيدي القائم بالكوفة محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين 137
46- دولة محمد بن جعفر الصادق 142
[دولة الزنجي] 47- دولة الزنجي علي بن محمد العلوي 144
[دولة القرامطة] 48- دولة القرامطة 147
49- يحيى بن قرمط 150
50- الحسين بن قرمط 151
51- أحمد بن الحسين زكرويه 153
52- الحسن بن بهرام الجنّابي القرمطي 155
53- سليمان بن الحسن بهرام الجنّابي القرمطي 155
54- الأعصم الحسن بن أحمد القرمطي 157
الدولة العباسية 161
55- دولة السفاح عبد الله بن محمد العباسي 173
56- دولة المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد العباسي 181
57- دولة المهدي محمد بن عبد الله المنصور العباسي 197
58- دولة الهادي موسى بن محمد بن المهدي العباسي 202(24/528)
59- دولة الرشيد هارون بن محمد المهدي العباسي 207
60- دولة الأمين محمد بن هارون الرشيد العباسي 219
61- دولة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد العباسي 223
62- دولة المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد العباسي 235
63- دولة الواثق بالله هارون بن محمد المعتصم العباسي 239
64- دولة المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم العباسي 241
65- دولة المنتصر بالله محمد بن جعفر المتوكل العباسي 243
66- دولة المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم العباسي 245
67- دولة المعتز بالله محمد بن جعفر المتوكل العباسي 247
68- دولة المهتدي بالله محمد بن هارون الواثق العباسي 249
69- دولة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل العباسي 251
70- دولة المعتضد بالله أحمد بن طلحة بن المتوكل العباسي 253
71- دولة المكتفي بالله علي بن أحمد المعتضد العباسي 259
72- دولة المقتدر بالله جعفر بن أحمد المعتضد العباسي 260
73- خروج عبد الله بن المعتز عليه 263
74- دولة القاهر بالله محمد بن أحمد المعتضد العباسي 266
75- دولة الراضي بالله محمد بن جعفر المقتدر العباسي 268
76- دولة المستكفي بالله عبد الله بن علي المكتفي العباسي 270
77- دولة المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر العباسي 271(24/529)
78- دولة الطائع لله عبد الكريم بن الفضل المطيع العباسي 272
79- دولة القادر بالله أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر العباسي 273
80- دولة القائم بأمر الله عبد الله بن أحمد القادر العباسي 274
81- دولة المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم العباسي 277
82- دولة المستظهر بالله أحمد بن عبد الله المقتدي العباسي 279
83- دولة المسترشد بالله الفضل بن أحمد المستظهر العباسي 281
84- دولة الراشد بالله منصور بن الفضل المسترشد العباسي 286
85- دولة المقتفي لأمر الله محمد بن أحمد المستظهر العباسي 288
86- دولة المستنجد بالله يوسف بن عبد الله المقتفي العباسي 297
87- دولة المستضىء بأمر الله الحسن بن يوسف المستنجد العباسي 298
88- دولة الناصر لدين الله أحمد بن الحسن المستضىء العباسي 300
89- دولة الظاهر بأمر الله محمد بن أحمد الناصر العباسي 306
90- دولة المستنصر بالله منصور بن محمد الظاهر العباسي 309
91- دولة المستعصم بالله عبد الله بن منصور المستنصر العباسي 310
[الخلفاء العباسيين في مصر] 92- المستنصر بالله أحمد بن محمد الظاهر العباسي 313
93- الحاكم بأمر الله أحمد بن الحسن العباسي 314
94- المستكفي بالله سليمان بن أحمد بن علي العباسي 315(24/530)
95- الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك العباسي 317
96- الحاكم بأمر الله أحمد بن سليمان المستكفي العباسي 319
الدولة الأموية 97- دولة معاوية بن أبي سفيان 337
98- دولة يزيد بن معاوية 358
99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية 366
100- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه 368
101- دولة مروان بن الحكم 369
102- دولة عبد الملك بن مروان 378
103- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه 386
104- دولة الوليد بن عبد الملك 398
105- دولة سليمان بن عبد الملك 404
106- دولة عمر بن عبد العزيز 441
107- دولة يزيد بن عبد الملك بن مروان 420
108- دولة هشام بن عبد الملك 423
109- دولة الوليد بن يزيد بن عبد الملك 432
110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك 438
111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك 440(24/531)
112- دولة مروان بن محمد 443
الدولة الأموية بالأندلس 113- دولة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان 451
114- دولة هشام بن عبد الرحمن 457
115- دولة الحكم بن هشام الربضي 460
116- دولة عبد الرحمن بن الحكم 465
117- دولة محمد بن عبد الرحمن 468
118- دولة المنذر بن محمد 473
119- دولة عبد الله بن محمد 474
120- دولة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد الناصر 476
121- دولة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر 478
122- دولة هشام بن المؤيد بن الحكم 483
123- دولة محمد المهدي بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر 489
124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر 490
125- دولة المستظهر عبد الرحمن بن هشام 494
126- دولة محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر 495
127- دولة هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر 497
مصادر التحقيق 501(24/532)
[الجزء السابع والعشرون]
[هذا الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فهذا هو السفر السابع والعشرون والأخير من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى بها سنة 749 هـ/ 1349 م، وهو عبارة عن قطعة من التاريخ تبدأ بسقوط طرابلس الغرب في أيدي الفرنجة (النورمان) في سنة 541 هـ/ 1146 م، وتنتهي بسنة 744 هـ/ 1343 م من أيام السلطان المملوكي الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون، وما بين السنتين المذكورتين تنضوي جملة من تواريخ الدول التي ظهرت إبان تلك الفترة، وغمرت بأحداثها مشرق العالم الإسلامي ومغربه على حد سواء، بحيث يمكن النظر إلى هذا السفر مع ما تميز به من الاختصار، والاختصار الشديد أحيانا كدائرة معارف تاريخية «ميسرة» لتلك الدول، نشوئها وتطورها واضمحلالها.(27/5)
هذا، ويعد تاريخ أبي الفداء الشهير «المختصر في أخبار البشر» «1» المصدر الرئيس لكتابنا حيث واصل فيه المؤلف النقل عن التاريخ المذكور من سنة 541 هـ/ 1146 م «2» حتى سنة 692 هـ 1293/م، ولولا بعض الإجراءات الشكلية التي أدخلها العمري على التاريخ المذكور من مثل: تناوله تاريخ كل عشر سنوات على حدة (اعتماد نظام العقود) ، وعبارة واحدة (فقط) تعود إليه وتدل عليه «3» ، وحذف بعض الحوادث والتراجم وخصوصا تراجم الفقهاء والعلماء والأدباء، وزيادة في بعض الأشعار والمكاتبات الخاصة بمناسبات معينة «4» ...
أقول: لولا ذلك لظن أن الكتاب إنما هو نسخة أخرى من نسخ «المختصر» ، وأن نسبته إلى العمري إنما تمت عن طريق الخطأ، فقد ظل الكتاب- بالرغم مما تقدم- يحتفظ بجميع الوشائج والصلات التي تشده إلى «المختصر» إن على صعيد العبارة الواحدة المشتركة بين الاثنين، وهي عبارة أبي الفداء أولا وأخيرا، أو على صعيد المواقع التي ظل أبو الفداء يحتفظ بها لنفسه داخل السياق وتنطق بحضوره الشخصي فيها، من مثل:
- قوله بعد الفراغ من ترجمة نور الدين محمود بن زنكي: «ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله» «5» .
- وقوله في الاختلاف الواقع في نسب أبي دبوس آخر ملوك بني عبد المؤمن:
«فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن أن أبا دبوس هو ابن إدريس(27/6)
المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ... » «1» .
- وحديثه عن دخول الملك المظفر تقي الدين محمود إلى حماه ومضيه إلى دار الوزير المعروفة بدار الإكرام التي قال: «وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور» «2» .
- وقوله: «وفي هذه السنة- 635 هـ- ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي بن المظفر صاحب حماه» «3» .
- ويدخل في ذلك أيضا الإحالات نفسها التي أحال بها أبو الفداء القارئ إلى ما تقدم من أجزاء «تاريخه» واحتفظ بها العمري بالرغم من اتصالها بسنوات خارجة عن دفتي الكتاب «4» ، فضلا على الإحالات المبثوثة داخل السياق.
ولعل العمري لم يمهل الوقت (بسبب وفاته) لاستخلاص «المختصر» واستصفائه لنفسه، وتنقيته من «البصمات» الخاصة بأبي الفداء تماما كما لم يمهل لاستكمال بعض أجزاء الكتاب.
أما لماذا لم يواصل العمري المضي قدما في الاتكاء على تاريخ أبي الفداء حتى نهايته في سنة 732 هـ/ 1332 م، ولماذا آثر الانسحاب من هذا التاريخ بعد أن سلخ منه هذه الصفحات الطوال ومعها هذه السنوات الطوال أيضا (152 سنة) ؟.(27/7)
لعل الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في ظهور شخصية أبي الفداء على مسرح الأحداث وتحوله من ناقل أو ناسخ لما سبقه من التواريخ إلى راو لما عاينه وشاهده أو قام به من أحداث، وتمثل سنة 684 هـ/ 1285 م أول إطلالة تاريخية لأبي الفداء على العالم الخارجي، ففي هذه السنة حضر أبو الفداء مع والده الملك الأفضل نور الدين علي فتح حصن المرقب من فرسان الإسبتارية وكان وقتها في الثانية عشرة من عمره، وقال: «وهو أول قتال رأيته» «1» .
كما حضر فتح طرابلس من الصليبيين في سنة 688 هـ/ 1289 م «2» .
واشترك أبو الفداء في فتح عكا من الصليبيين أيضا في سنة 690 هـ/ 1291 م، وكان إذ ذاك «أمير عشرة» «3» .
وفتح قلعة الروم من الأرمن في السنة التالية «4» ، لتتوالى بعد ذلك مشاركاته في معظم الوقائع الحربية التي دارت على الجبهة الشامية ضد التتار، إضافة إلى الحملات والغارات الإسلامية (المملوكية) على بلاد الأرمن وما والاها من القلاع والحصون الشمالية.
وقد تحدث أبو الفداء عن نفسه وعن دوره في هذه الوقائع والحملات، كما تحدث بلسان العسكر الحموي الذي كان يقاتل في عداده وبصورة بات يصعب معها على العمري أو على غيره من المؤرخين فصل السياق عن صاحبه دون أن تلحق أضرار بالغة بأحدهما أو كليهما معا.(27/8)
أما ما يتصل ببقية سنوات الكتاب (693- 744 هـ/ 1293- 1343 م) فقد سلخها العمري جملة وتفصيلا عن «دول الإسلام» «1» لمعاصره شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ/ 1347 م) .
ولا شك أن خسارة العمري كانت كبيرة للغاية بعد انقطاعه عن «المختصر» ، وما نظن أن تحوله للتاريخ المذكور قد قلل من هذه الخسارة نظرا للفارق المنهجي الكبير بين التاريخين خاصة إذا علمنا أن «دول الإسلام» لا يعدو أن يكون «تاريخا صغيرا» استله الذهبي من تاريخه الكبير «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» ، وقصره على أبرز الحوادث والوفيات، ولعل العمري كان معنيا بالرقي بتاريخه- بأي ثمن- إلى أيامه وذلك جريا على عادة معاصريه من المؤرخين الحوليين الذين اعتادوا أن يكتبوا تواريخهم سنة فسنة حتى آخر أيامهم أو قبيلها بقليل «2» ، ولعل هذا ما يفسر قيام العمري بضم أخبار (حوادث ووفيات) ما نظن أن بصره قد وقع عليها من قريب أو بعيد، وإن وقع فإنه لم يمهل النظر ثانية فيها (بسبب وفاته) ، تماما كما لم يمهل النظر في تاريخ أبي الفداء على ما أسلفنا، وها نحن نراه يتحدث عن وقعة مرج الصّفّر (شقحب) بين المسلمين والتتار (702 هـ/ 1303 م) كمن واقع أيامها بحلوها ومرها في الوقت الذي لم يكن فيه قد تجاوز الثانية من عمره:
«وطلع الضوء من بكرة الأحد والمسلمون محدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة إلا وقد ركن التتار إلى الفرار وولوا الأدبار، ونزل النصر ودقت البشائر وزين(27/9)
البلد، فأين غمرة السبت من سرور يوم الأحد، فوالله ما ذقنا يوما أحلى منه ولا أمرّ من الذي قبله» . «1»
وتبدو المفارقة كبيرة حينما نمر على ترجمتي عمه شرف الدين عبد الوهاب (ت 717 هـ/ 1317 م) ووالده محيي الدين يحيى (ت 738 هـ/ 1338 م) فلا نلحظ فيهما أي إشارة تند عن قربى أو صلة بين العمري والمترجم لهما، وما ساقه من وصف لهما لا يتعدى الوصف التقليدي الذي يمكن أن يحمل عليهما وعلى غيرهما، وما أكثر ما تحفل به وبمثله المصادر التاريخية المملوكية، فقد كان عمه شرف الدين «كبير القدر، مصونا، دينا، كامل العقل» «2» ، وأما والده محيي الدين فله «رواية عالية ومحاسن وأموال» «3» هذا في الوقت الذي كان يؤمل فيه من العمري أن يفيض في الحديث عنهما وعن مكانتهما في الدولة المملوكية بوصفهما من أعيان الكتاب فيها، وما ذكرناه عن تعاطيه مع عمه ووالده ينسحب على العديد من الشخصيات التي مرّ عليها كأن لم يكن بينه وبينها «مودة» ، هذا مع معرفته الواسعة برجال عصره بحكم منصبه الرفيع كرئيس لديوان الإنشاء في القاهرة، وقربه من الفعاليات المتنفذة في السلطنة، وهو ما أدى في النهاية إلى حرمان القارئ من الانتفاع ب «شهادته» ومن ثمّ النظر إلى تاريخه كصورة مكرورة عن غيره من التواريخ.
على أنه من الإنصاف أن نشير إلى أن العمري لم يكن بدعا بين مؤرخي عصره فيما جرى عليه من الجمع والانتقاء والاختصار فهذه الأمور تكاد تكون(27/10)
من السمات التي تواضعت عليها المدرسة التاريخية المملوكية بجناحيها المصري والشامي. إنّ عبارات من مثل: هذا آخر ما وجدته بخط فلان، أو آخر ما جمعته، أو انتقيته، أو سلخته من تاريخ كذا ... تبدو مألوفة في سياق المجهود التاريخي المملوكي، ولدينا تواريخ ربما لم ينشئ أصحابها فيها صفحة واحدة، وإنما قاموا بتركيبها أو تلفيقها من تواريخ متعددة، بل إن بعض هؤلاء ما كان ليرسل نظره فيما ينقل كما حكى ابن حجر العسقلاني عن معاصره بدر الدين العيني:
« ... وذكر أن الحافظ عماد الدين بن كثير عمدته في تاريخه، وهو كما قال، لكن منذ أن انقطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق حتى كان يكتب منه الورقة الكاملة متوالية، وربما قلده فيما بهم فيه حتى في اللحن الظاهر مثل: أخلع على فلان ... ، وأعجب منه أن ابن دقماق يذكر في بعض الحادثات ما يدل أنه شاهدها، فيكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه، وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر، وهو في عينتاب ... » «1» !(27/11)
منهج التحقيق
1- وصف النسخة المعتمدة
اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على مصورة الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد سزكين عن نسخة آيا صوفيا باستانبول، رقم: 3439 «1» ، وهي نسخة ملفقة من قطعتين:
الأولى: وتقع في (351) صفحة بما فيها صفحة العنوان، وتضم مسطرتها (17) سطرا، وتشتمل على السنوات (541- 680 هـ/ 1146- 1281 م) .
والثانية: وتقع في (67) صفحة من الصفحة (352- 418) ، وتضم مسطرتها (21) سطرا، وتشتمل على السنوات (681- 744 هـ/ 1282- 1343 م) ، أما تاريخ نسخها كما يستفاد من الصفحة الأخيرة فيعود إلى سنة 819 هـ/ 1416 م وهو التاريخ نفسه الذي تحمله النسخة المؤيدية لكتاب «المسالك» ، والتي كان الملك المؤيد شيخ بن عبد الله المحمودي (ت 824 هـ/ 1421 م) قد أوقفها على طلبة العلم بجامعه (المؤيدي) في القاهرة، فلعل نسختنا تنتمي إليها.
وبالرغم من التباين ما بين القطعتين في صورة الخط (قارن بالنموذجات المصورة) إلا أنه ينبغي أن ينظر إليهما كنسخة واحدة من حيث اشتراكهما- على الغالب- بمجمل السمات العامة لرسوم الكتابة المملوكية السائدة آنذاك، مثل:
- إهمال همزة القطع في الأفعال والأسماء والحروف، والهمزة في وسط الكلمة وفي آخرها.(27/12)
- إهمال الألف المتوسطة في الأسماء ذات الرسم القرآني.
- كتابة المئة مائة، والأعداد من (300- 900) موصولة.
- إثبات النون في العددين عشرين وثلاثين بالرغم من وقوعهما في حالة الإضافة.
- عدم التحري التام في مسألة تذكير العدد وتأنيثه.
هذا فضلا على إهمال تنقيط بعض الكلمات والحروف أو وضع النقاط في غير أماكنها الصحيحة.
كما اعتمدت في تحقيق الكتاب على «المختصر في أخبار البشر» ، وبخاصة ما يتصل منه بتاريخ السنوات (541- 692 هـ/ 1146- 1293 م) ، واعتبرته نسخة ثانية، ورمزت له على مدار التحقيق باسم صاحبه (أبي الفداء) .
ولا شك أن التطابق شبه التام ما بين كتابنا و «التاريخ» المذكور قد أدى دورا بالغ الأهمية في عملية التحقيق.
واعتمدت أيضا على «الكامل في التاريخ» لابن الأثير الجزري (ت 630 هـ/ 1233 م) بوصفه المصدر الأم لتاريخ أبي الفداء عن الحقبة- موضوع الكتاب- حتى سنة 628 هـ/ 1230 م، واعتبرته نسخة ثالثة، وغالبا ما كان يتم الاستئناس به في ضبط بعض الأسماء والكلمات، أو توضيح بعض الحوادث التي أخل الاختصار الشديد من جانب أبي الفداء بتفاصيلها.
أما ما يتعلق بالسنوات (693- 744 هـ/ 1293- 1343 م) والتي تشكل جزءا(27/13)
من القطعة الثانية لنسخة آيا صوفيا المعتمدة في التحقيق، فقد عولت في تحقيقها على «دول الإسلام» للذهبي، واعتبرته نسخة ثانية عن تاريخ هذه السنوات، ورمزت له على مدار التحقيق باسم صاحبه (الذهبي) ، ولا أعدو الحقيقة إذا ما قلت إنه لولا هذا التاريخ لما أمكنني الوصول إلى الصورة الصحيحة للنص، ذلك أن دور الذهبي هنا لا يختلف عن دور أبي الفداء فيما يخص السنوات السابقة، بل إن تأثير الذهبي كان أشد، لأننا لم نلحظ أدنى تدخل للمؤلف في كل ما نقله عنه، وإذا كانت هناك فروق طفيفة في قراءة بعض الكلمات والأسماء ما بين نسختنا وتاريخ الذهبي تصل أحيانا حد التناوب في التصحيف والتحريف وحتى في الخطأ، فالأولى أن يعزى ذلك إلى اختلاف النّسخ والنّساخ.
2- خطة العمل
لا تختلف خطتنا في تحقيق هذا السفر عن سابقتيها في تحقيق السفرين الرابع والسادس والعشرين من هذه «الموسوعة» طالما أننا نتجه في النهاية نحو غاية واحدة محددة هي: إثبات ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله، كما أن خطواتنا للوصول إلى هذه الغاية تكاد تكون متطابقة في الأسفار الثلاثة على صعيدي الشكل والمضمون.
فعلى الصعيد الأول: «1»
1- احتفظت بالترقيم الأصلي للمخطوط، وذلك بتخصيص قوسين داخل السياق لهذا الغرض.
2- كتبت النص على وفق الرسم الكتابي الحديث والمتداول متداركا بذلك ما قد سلف من الرسوم، وهو ما تطلب مني تحقيق الهمز، وإثبات الألف المتوسطة(27/14)
في الأسماء، وحذف ألف «مائة» والفصل بينها وبين العدد، كما حذفت النون من العددين عشرين وثلاثين لدواعي الإضافة، وضبطت العدد في حالتي التذكير والتأنيث.
3- نقلت الحواشي إلى مواضعها المشار إليها في المتن ووضعتها بين حاصرتين: [] .
4- أصلحت المواضع التي خرج فيها النص عن أحكام الإعراب، ونبهت إليها في الهامش.
5- ضبطت بالشكل ما قد ينبهم على القارئ ضبطه من الأسماء والألفاظ العربية والأعجمية.
6- صوبت الأخطاء الكتابية التي لا يخفى صوابها على أحد، والتي لا يمكن أن تقرأ بغير الوجه الذي أثبتها عليه، ولم أر ضرورة للتنبيه إليها فهي لا تعدو أن تكون نظير الأخطاء الطباعية في وقتنا الحاضر.
7- أضفت إلى السياق ما احتيج إليه من حروف أو كلمات وميزتها من المتن بوضعها بين قوسين مكسورين: ()
وأما على الصعيد الثاني: 1- فقد قمت بمناظرة الحوادث والأخبار الواردة في النص بما ورد بشأنها في المصادر التاريخية، وأشرت إلى ما بين رواية المؤلف وبين هذه المصادر من فروق واختلافات، ورجحت ما رأيته منها صوابا.
2- رددت النصوص المنقولة إلى مصادرها الأصلية، ونبهت إلى طريقة المؤلف في استخدامها.(27/15)
3- أصلحت الأخطاء التاريخية الناجمة عن السهو، أو التي دلت قرينة واضحة من النص نفسه أو مصدر آخر على صوابها ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إلى الأصل في الهامش.
4- حاولت ربط القارئ بصورة مستمرة بتطور الأحداث، وذلك بالإحالة إلى مراحلها السابقة، وهي خطوة رأيتها ضرورية للإمساك بوحدة الحدث أو الموضوع في مواجهة المنهج الحولي (ترتيب الحوادث على السنين) الذي يقوم عليه هذا التاريخ.
5- خرجت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وما قدرت عليه من الأشعار والبيانات والوثائق الرسمية، وضبتها بالشكل.
6- عرفت أسماء الأعلام والشعوب والجماعات والأمكنة، فضلا عن الألفاظ والمصطلحات الفنية والحضارية التي تعود إلى عصر المؤلف.
وأخيرا ...
فإذا كانت غاية التحقيق ترمي في النهاية- كما أسلفت- إلى إثبات ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله، فإني لأرجو أن أكون قد بلغت هذا القصد، أو شارفته، وبالصورة التي تحقق النفع للآخرين.
والله الموفق للصواب، وهو يهدي إلى سبيل الرشاد.
د. حمزة أحمد عباس
ثغر الحديدة
غرة شهر المحرم 1423 هـ
15 آذار (مارس) 2002 م(27/16)
3- الرموز المستعملة في التحقيق
الأصل: الجزء السابع والعشرون من نسخة آيا صوفيا، رقم: 3439
المؤلف: ابن فضل الله العمري.
(أبو الفدا 3- 4/ ... ) : الجزءان الثالث والرابع من «المختصر في أخبار البشر» .
(الذهبي 2/ ... ) : الجزء الثاني من «دول الإسلام» .
() : هذان القوسان العاديان لحصر أرقام صفحات المخطوطة.
() : هذان القوسان لحصر الآيات القرآنية الكريمة.
"": هاتان الفاصلتان المزدوجتان لحصر:
- الأحاديث النبوية الشريفة.
- النقول والاقتباسات الحرفية.
- أسماء الكتب.
... : هذه النقاط تستخدم للدلالة على الكلمات غير المقروءة، أو البياض الواقع في الأصل بحيث تدل كل ثلاث نقاط على كلمة واحدة.
[] هاتان الحاصرتان تستخدمان لحصر:
- ما نقل من حاشية المخطوط إلى المتن.
- ما زيد على النص من مصادر أخرى.
- ما صوب من أخطاء من قبلنا، أو من مصادر أخرى.
() : هذان القوسان المكسوران يستخدمان لحصر كل ما احتيج إليه من حروف أو كلمات اقتضاها السياق.(27/17)
الصفحة الأولي من المخطوط(27/19)
الصفحة الثانية من المخطوط(27/20)
الصفحة ما قبل الأخيرة من المخطوط(27/21)
الصفحة الأخيرة من المخطوط(27/22)
بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على محمد وآله وسلّم
سنة إحدى وأربعين [وخمس مئة] «1» إلى سنة خمسين وخمس مئة
[ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمس مئة «13» ] «2» ذكر استيلاء الفرنج على طرابلس «3»
وسبب ذلك أنهم نزلوا عليها وحاصروها، فلما كان اليوم الثالث من نزولهم سمع الفرنج في المدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، [وكان] «2» سببه أن أهل طرابلس اختلفوا، فأرادت طائفة منهم تقديم [رجل من الملثمين ليكون أميرهم، وأرادت طائفة أخرى تقديم] «2» بني مطروح، فوقع الحرب بين الطائفتين، وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة، وطلعوا بالسّلالم وملكوها بالسيف في محرم هذه السنة، وسفكوا دماء أهلها، وبعد أن استقرّ الفرنج في طرابلس بذلوا الأمان لمن بقي من أهل طرابلس، وتراجعت إليها الناس، وحسن حالها.
وفيها، سار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها، وصاحبها عليّ بن مالك(27/23)
ابن سالم بن بدران بن المقلّد العقيلي «1» ، وأرسل عسكرا إلى قلعة فنك «2» وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضا وصاحبها حسام الدين الكرديّ البشنوي «3» .
ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسان البعلبكيّ «4» الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر، قل لي من يخلصك؟ فقال صاحب جعبر: يخلصني «3» منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق «5» ، وكان بلك محاصرا لمنبج فجاءه سهم فقتله، فرجع حسان إلى زنكي ولم يخبره بذلك، فاستمر زنكي منازلا قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر هذه السنة بالليل، وهربوا إلى قلعة جعبر، وصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد(27/24)
وخطه الشيب، وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها، كان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشام خلا دمشق، وكان شجاعا، وكانت الأعداء تحيط بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم.
ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضرا عنده، وأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه، وسار إلى حلب فملكها وكان صحبة زنكي أيضا الملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملك شاه السلجوقي، فركب في يوم قتل زنكي واجتمعت عليه العساكر، فحسن بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني، فسار ألب أرسلان إلى الرّقة وأقام بها منعكفا على ذلك، وأرسل كبراء دولة زنكي (4) إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي «1» ، يعلمونه بالحال، وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها، وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر، وسار إلى الموصل يريد ملكها، فلما قرب منها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل «2» ، واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وبلادها.
وفيها، أرسل عبد المؤمن بن علي «3» جيشا إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولى عليها.(27/25)
وفيها، بعد قتل عماد الدين زنكي قصد مجير الدين ابن صاحب دمشق «1»
حصن بعلبك وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي «2» مستحفظا، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعا ومالا وملكه عدة قرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق و [سكنها] «3» .
وفي سنة اثنتين وأربعين [وخمس مئة «13» ] «4»
دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج ففتح منها أرتاح «5» بالسيف، و [حصر] «6» مأمولة «7» وبصرفوث 4، وكفرلاثا «8» .(27/26)
[ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة «13» ] «1»
وفيها، ملك الفرنج المهدية بأفريقية.
كان قد حصل بأفريقية غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضا، ودام من سنة سبع وثلاثين وخمس مئة إلى هذه السنة، ففارق الناس القرى، ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلّية، فاغتنم رجّار «2» الفرنجيّ صاحب «5» صقلّية هذه الفرصة، وجهز أصطولا نحو مئتين وخمسين [شينة] «3» مملوءة رجالا وسلاحا، واسم مقدمهم جرج «4» وساروا من صقلّية إلى جزيرة قوصرة، وهي ما بين المهدية وصقلّية، وساروا منها وأشرفوا على المهدية [ثاني صفر] «5» هذه السنة، وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس الصنهاجي «6»
صاحب أفريقيّة، فجمع كبار البلد، واستشارهم، فرأوا ضعف حالهم، وقلة(27/27)
المؤونة عندهم، فاتفق رأي الأمير حسن على إخلاء المهدية، فخرج منها، وأخذ ما خف حمله، وخرج أهل المدينة على وجوههم بأهليهم وأولادهم، وبقي الأصطول في البحر يمنعه الريح من الوصول إلى المهدية، ثم دخلوا المهدية بعد مضيّ ثلثيّ النهار المذكور بغير مانع ولا مدافع، ولم يكن قد بقي من المسلمين بالمهدية ممن عزم على الخروج أحد، ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن فوجده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله، ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن والذخائر مملوءة من الذخائر النفيسة من كلّ شيء غريب، وسار الأمير حسن بأمواله وأولاده إلى بعض أمراء العرب «1» ممن كان يحسن إليه، وأقام عنده، وأراد الحسن السير إلى الخليفة الحافظ العلوي «2» صاحب مصر، فلم يقدر على ذلك لخوف الطرق فسار إلى ملك بجاية يحيى بن العزيز «3» من بني حمّاد، فوكّل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم من التصرف، ولم يجتمع يحيى بهم، وأنزلهم في جزائر بني مزغنّان «4» ، وبقي حسن كذلك حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين وخمس مئة، وأخذها هي وجميع ممالك بني حمّاد، فحضر الأمير حسن عنده فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه، واستمر في خدمة عبد المؤمن إلى أن ملك عبد المؤمن المهدية فأقام(27/28)
حسن فيها، وأمر عبد المؤمن الوالي الذي ولاه على المهدية أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله، وكان عدة من ملك من بني باديس «1» [من] «2» زيري ابن مناد إلى الحسن تسعة ملوك.
وكانت ولايتهم في سنة إحدى وستين وثلاث مئة «3» ، وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة.
ثم إن جرج بذل الأمان لأهل المهدية، وأرسل وراءهم بذلك، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، فتراجعوا إلى المهدية.
وفيها، سار ملك الألمان «4» ، والألمان بلادهم وراء بلاد القسطنطينية حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم ونزل دمشق وحصرها، وصاحبها مجير الدين أبق(27/29)
ابن جمال الدين محمد بن بوري، والحكم وتدبير المملكة لمعين الدين أنر «1» مملوك جدّه طغتكين «2» ، وفي سادس [ربيع الأول] »
زحفوا على دمشق، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر «4» ، وأرسل أنر إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فسار بعسكره وسار معه (7) أخوه نور الدين محمود ونزلوا على حمص، ففتّ ذلك في أعضاد الفرنج، وأرسل أنر إلى فرنج الشام يبذل لهم قلعة بانياس فتخلّوا عن ملك الألمان، وأشاروا عليه بالرحيل، وخوفوه من إمداد المسلمين فرحل عن دمشق إلى بلاده، وسلّم أنر قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرّطه لهم.
وفيها، كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصافّ بأرض يغرى «5» من العمق، فانهزم الفرنج، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل.
وفيها، ملك الفرنج من الأندلس مدينة طرطوشة «6» وجميع قلاعها، وحصون(27/30)
لاردة «1» .
وفيها، كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى المغرب.
وفيها، قتل نور الدين شاهنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين، قتلته الفرنج في منازلتهم لدمشق، فجرى بينهم وبين المسلمين مصافّ قتل فيه شاهنشاه وهو أكبر من صلاح الدين «2» ، وكانا شقيقين.
وفي سنة أربع وأربعين وخمس مئة «13»
توفي غازي بن عماد الدين أتابك زنكي «3» صاحب الموصل بمرض حادّ في أواخر جمادى الآخرة وكان ولايته ثلاث سنين وشهرا و [عشرين] «4» يوما، وكان حسن الصورة، ومولده سنة خمس مئة، وخلف ولدا ذكرا فرباه عمّه نور الدين، وأحسن إليه وتوفي المذكور شابا، وانقرض بموته عقب (8) سيف الدين غازي.
وكان سيف الدين كريما يصنع لعسكره كلّ يوم طعاما كثيرا بكرة وعشيا، وهو أول من حمل على رأسه السّنجق في ركوبه، وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبوس «5» تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به(27/31)
أصحاب الأطراف.
ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مودود بن زنكي «1» مقيما بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير «2» وزين الدين «3» أمير الجيش على تمليكه فحلفاه، وحلفا له ولطاعة جميع بلاد سيف الدين أخيه، ولما تملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش «4» صاحب ماردين، وكان أخوه سيف الدين قد ملكها، ومات قبل الدخول بها، وهي أمّ أولاد قطب الدين.
وفيها، توفي الحافظ العلوي «5» صاحب مصر، كانت خلافته عشرين سنة إلا(27/32)
خمسة أشهر، وعمره نحوا من سبع وسبعين سنة، ولم [يل] «1» الأمر من الخلفاء العلويين بمصر من أبوه غير خليفة غير الحافظ والعاضد «2» على ما سنذكره.
ولما توفي الحافظ بويع بعده ولده الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل «3» ، واستوزر ابن مصال «4» فبقي أربعين يوما وحضر الإسكندرية العادل بن السّلّار «5» وكان قد خرج ابن المصال في طلب بعض المفسدين، فأرسل العادل ابن السّلّار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس(27/33)
الصنهاجي «1» ، وكان أبوه (9) أبو الفتوح «2» قد فارق أخاه علي بن يحيى «3» صاحب أفريقية، وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها، فتزوج العادل بن السّلّار بزوجة أبي الفتوح ومعها ولدها عباس، فرباه العادل، وأحسن تربيته، ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الوزارة أرسل ربيبه [عباسا] «4» في عسكر إلى ابن مصال فظفر به عباس وقتله وعاد إلى العادل بالقاهرة فاستقر العادل في الوزارة وتمكن، ولم يكن للخليفة معه حكم وبقي كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمس مئة فقتله ربيبه عباس «5» وتولى الوزارة على ما سنذكره «6» .
وفيها، حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم، فجمع البرنس «7» صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين واقتتلوا، فانتصر نور الدين وقتل البرنس، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند «8»(27/34)
وهو طفل، وتزوجت أمه برجل آخر وتسمى بالبرنس «1» .
ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى فهزمهم وقتل منهم وأسر وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند فتمكن حينئذ بيمند في ملك أنطاكية.
وفيها، زلزلت الأرض زلزلة شديدة.
وفيها، توفي معين الدين أنر «2» [نائب أبق] «3» صاحب دمشق، وهو الذي كان ينسب إليه الحكم فيها، وإليه ينسب قصر معين الدين الذي في الغور «4» .
وفيها، تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة «5» وزارة الخليفة (10) المقتفي «6»(27/35)
يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر، وكان قبل ذلك اليوم صاحب ديوان الزمام «1» .
وفي سنة خمس وأربعين وخمس مئة «13»
في رابع عشر المحرم، أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة، فهلك أكثرهم، ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل.
وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى فامية «2» ، وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج، وحصّنها بالرجال والذخائر، وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها، فملكها قبل وصولهم، فلما بلغهم فتحها تفرقوا.
وفيها، سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاثة أشهر، ولم يملكها ورحل عنها.
وفي سنة ست وأربعين وخمس مئة «14»
انهزم «3» نور الدين من جوسلين «4» ، ثم أسر جوسلين، وكان جوسلين من(27/36)
أعظم فرسان الفرنج قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي، وكان نور الدين قد عزم على قصد بلاده، فجمع جوسلين الفرنج وأكثر وسار نحو نور الدين والتقوا فانهزم المسلمون، وأسر منهم جمع كثير، وكان من جملة من أسر منهم السلاح دار، ومعه سلاح نور الدين فأرسله جوسلين إلى مسعود بن قليج أرسلان «1» صاحب قونية وأقصرا، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك، وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه، فعظم ذلك على نور الدين، وهجر [الملاذ] «2» وأفكر في أمر جوسلين، وجمع التركمان، وبذل لهم الوعود إن ظفروا به إما (11) بإمساك أو بقتل، فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد فكبسه التركمان وأمسكوه، فبذل لهم مالا فأجابوا إلى إطلاقه، فسار بعض التركمان إلى أبي بكر بن الداية «3» نائب نور الدين بحلب، فأرسل عسكرا كبسوا التركمان الذين عندهم جوسلين، وأحضروه إلى نور الدين أسيرا، وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح، وأصيب النصرانية كافة بأسره.
ولما أسر سار نور الدين إلى بلاده وقلاعه وملكها، وهي «4» :
تلّ باشر، وعين تاب، ودلوك، وأعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج(27/37)
الرّصاص، وحصن البارة، وكفر سود «1» ، وكفر لاثا، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك في مدة يسيرة.
وكان نور الدين كلما فتح منها موضعا حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر.
وفي سنة سبع وأربعين وخمس مئة «13»
سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد، وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز آخر ملوك بني حماد، وكان يحيى المذكور مولعا بالصيد واللهو ولا ينظر في شيء من أمر مملكته، ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى هرب وتحصن بقلعة [قسنطينة] «2» من بلاد بجاية، ثم نزل يحيى إلى عبد المؤمن بالأمان، فأمنه وأرسله إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه عبد المؤمن رزقا كثيرا، وقد ذكر في «تاريخ القيروان» «3» أن مسير عبد المؤمن، وملكه تونس وأفريقية إنما كان في سنة أربع وخمسين [وخمس مئة] «4» .
(12) وفي هذه السنة [وقيل في أواخر سنة ستّ وأربعين] في أول رجب توفي السلطان مسعود بن محمد بن السلطان ملكشاه «5» بهمذان، ومولده سنة(27/38)
اثنتين وخمس مئة في ذي القعدة، ومات معه سعادة ألبيت السّلجوقي، فلم تقم لهم بعده راية يعتدّ بها، وكان حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، كريما، عفيفا عن أموال الرعايا، ولما مات عهد بالملك إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود «1» ، فقعد في السلطنة، وخطب له، وكان المتغلب على الملك أمير يقال له خاص بيك «2» ، وأصله صبيّ تركمانيّ اتصل بخدمة مسعود فتقدم على سائر أمرائه، ثم إن خاص بيك المذكور قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجنه «3» ، وأرسل إلى أخيه محمد بن محمود «4» وهو بخوزستان فأحضره وتولى السلطنة وجلس على السرير وكان قصد خاص بيك أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة فبدره السلطان محمد ثاني يوم وصوله فقتل خاص بيك وقتل معه زنكي الجاندار وألقى [برأسيهما] «5» فتفرق أصحابهما.
وفيها، جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين وهو محاصر دلوك، فرحل عنها،(27/39)
وقاتلهم أشدّ قتال وهزمهم، وقتل وأسر منهم خلق كثير، ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها، ومما مدح به في ذلك «1» : (المتقارب)
أعدت بعصرك هذا الجد ... يد فتوح النبيّ وأعصارها
(13) وفي تلّ باشر باشرتهم ... بزحف تسوّر أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... شددت «2» فصدّقت أخبارها
[ذكر] «3» ابتداء ظهور دولة الغوريّة وانقراض آل سبكتكين
أول من اشتهر من الملوك الغوريّة أولاد الحسين، وأولهم محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود «4» صاحب غزنة من آل سبكتين، وسار محمد بن [الحسين] «5» إلى غزنة مظهرا الطاعة لبهرام شاه ويبطن الغدر، فأمسكه بهرام وقتله [ولما قتل ملك بعده أخوه سام بن الحسين فمات بالجدري] «6» ، فتولى بعده في الملوك الغوريّة أخوه سودى»
بن الحسين، وسار إلى غزنة طالبا بثأر أخيه، وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه، فظفر به بهرام شاه(27/40)
وقتله، وانهزم عسكره «1» .
واستمر بهرام شاه في ملك غزنة، ثم توفي بهرام شاه وتولى بعده ابنه خسرو شاه «2» ، وتجهز علاء الدين (بن) الحسين «3» ملك الغوريّة وسار إلى غزنة في سنة خمسين وخمس مئة فلما قرب (14) [منها] «4» فارقها صاحبها خسرو شاه بن بهرام شاه وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام، وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم، وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية، وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل على غزنة ابني(27/41)
أخيه غياث الدين محمد بن سام «1» ، و [أخاه] «2» شهاب الدين محمد بن سام «3» ثم جرى بينهما وبين عمّهما علاء الدين حرب انتصرا فيها وأسرا عمهما ثم أطلقاه وأجلساه على التّخت ووقفا في خدمته، واستمر في السلطان، وزوج غياث الدين بابنته، وجعله وليّ عهده، وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين في سنة ستّ وخمسين على ما سنذكره «4» ، وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، وخطب لنفسه بالغور وغزنة بالملك، ثم استولى الغزّ على غزنة وملكوها منه مدة خمس عشرة سنة، فأرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة فهزم الغزّ عنها، وقتل منهم خلقا كثيرا، واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد مثل كرمان وسزران «5» وماء السند، ورود نهار وبها خسرو شاه بن بهرام شاه السبكتكيني فملكها شهاب الدين [في سنة تسع وسبعين وخمس مئة بعد حصار] «6» ، وأعطى خسرو شاه الأمان، وحلف له، فحضر خسرو شاه عند شهاب الدين [بن سام المذكور، فأكرمه شهاب الدين وأقام خسرو شاه على ذلك شهرين، ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك أرسل إلى(27/42)
أخيه شهاب الدين] يطلب منه خسرو شاه، فأمره شهاب الدين بالتوجه، فقال له خسرو شاه: (15) أنا ما أعرف أخاك ولا أسلمت نفسي إلا إليك، فطيّب خاطره، وأرسل معه ولده مع أبيه «1» إلى غياث الدين، وأرسل معهما عسكرا يحفظونهما، فلما وصلا إلى الغور لم يجتمع بهما غياث الدين، وإنما أمر بهما فرفعا إلى بعض القلاع، وكان آخر العهد بهما.
وخسرو شاه المذكور هو ابن بهرام شاه بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وهو آخر ملوك سبكتكين، وكان ابتداء دولتهم سنة ستّ وستين وثلاث مئة، وملكوا مئتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبا فيكون انقراض دولتهم سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم.
وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، وقيل: إن خسرو شاه توفي في الملك، وملك بعده ولده ملكشاه «2» على ما نشير إليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ولما استقر ملك الغوريّة بلهاوور واتسعت مملكتهم، وكثرت عساكرهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة، وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام، قسيم أمير المؤمنين، ولما استقرّ ذلك سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، وسارا إلى خراسان، وقصدا مدينة هراة وحصراها، وتسلمها غياث الدين بالأمان، ثم سار وأخوه بعساكرهما إلى بوشنج فملكاها، ثم إلى باذغيس وكالين وبيوار (16) [فملكاها] «3» ثم رجع غياث الدين إلى بلده فيروزكوه، ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة.(27/43)
ولما استقرّ شهاب الدين بغزنة قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر «1» ، ثم رجع إلى غزنة، ثم قصد الهند فذلل صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادها، ودوخ ملوكها، وبلغ منها كلّ مبلغ، ولما كبر فتوحه للهند اجتمعت الهند مع ملوكهم في خلق كثير والتقوا شهاب الدين، وجرى بينهم قتال عظيم، فانهزم المسلمون، وجرح شهاب الدين وبقي مع القتلى، ثم اجتمعت عليه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر، واجتمعت عليه عساكره، وأقام في آجر حتى اجتمعت عليه أمداد أخيه غياث الدين، ثم اجتمعت الهنود وتنازل الجمعان وبينهما نهر، فكبس عسكر المسلمين الهنود، وتمت الهزيمة عليهم، وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر، وقتلت [ملكتهم] «2» ، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك «3» مدينة دلهي وهي من كراسي ممالك الهند، فأرسل أيبك عسكرا مع مقدم يقال له محمد بن بختيار «4» فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين.
وفيها، توفي حسام الدين تمرتاش بن إلغازي «5» ، صاحب ماردين وميّافارقين، وكانت ولايته نيفا وثلاثين سنة لأنه تولى بعد موت أبيه في سنة ستّ عشرة وخمس مئة (17) حسبما تقدم «6» ، وتولى بعده ابنه نجم الدين ألبي «4» .(27/44)
وفي سنة ثمان وأربعين وخمس مئة «13»
في المحرم انهزم السلطان سنجر «1» من الأتراك الغزّ، وهم طائفة من مسلمي الترك كانوا بما وراء النهر فلما ملكهم الخطا أخرجوهم منه، فقصدوا خراسان، وأقاموا بنواحي بلخ مدة طويلة، ثم عنّ للأمير قماج «2» مقطع بلخ أن يخرجهم من [بلاده] «3» [فامتنعوا] «4» فسار إليهم في عشرة آلاف فارس، فحضر إليه كبراء الغزّ وسألوه أن يكفّ عنهم ويتركهم في مراعيهم و [يعطوه] «5» من كلّ بيت مئتي درهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وأصرّ على إخراجهم أو قتالهم فقاتلوه وهزموه وتبعوه يقتلون ويأسرون ثم عاثوا في البلاد، فاسترقّوا النساء والأطفال وخربوا المدارس، وقتلوا الفقهاء، فسار قماج إلى السلطان سنجر منهزما، وأعلمه بالحال، فسار إليهم سنجر في عساكره وهم نحو مئة ألف فارس، فأرسل الغزّ يعتذرون إليه مما وقع، وبذلوا له بذلا كثيرا ليكفّ عنهم فلم يجبهم وقصدهم ووقعت بينهم حرب شديد (ة) فانهزم عسكر سنجر وتبعهم الغزّ يقتلون ويأسرون فقتل علاء الدين قماج وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء فضربوا أعناقهم، وأما سنجر فإنهم لما أسروه اجتمع رؤساء الغزّ وقبلوا(27/45)
الأرض بين يديه، وقالوا: نحن عبيدك، ولا نخرج عن (18) طاعتك وبقي معهم كذلك ثلاثة أشهر، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسيّ ملك خراسان فطلبها منه بختيار رئيس من رؤساء الغزّ إقطاعا فقال سنجر: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعا لأحد، فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى سنجر ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانقاه «1» مرو وتاب من الملك.
واستولى الغزّ على البلاد فنهبوا نيسابور، وقتلوا الكبار والصغار، وقتلوا القضاة والعلماء [والصلحاء] «2» الذين بتلك البلاد، فقتلوا الحسين بن محمد الأرسابندي «3» ، والقاضي عليّ بن مسعود «3» ، والشيخ محيي الدين محمد بن يحيى «4» الفقيه الشافعيّ الذي لم يكن في زمانه مثله، كان رحلة الناس من الشرق والغرب، وغيرهم من الأئمة والفضلاء، ولم يسلم شيء من خراسان من النهب غير هراة ودهستان لحصانتهما.
ولما كان من هزيمة سنجر وأسره ما كان اجتمع عسكره على مملوكه أي به «5» ولقبه المؤيد، واستولى المؤيد على نيسابور، وطوس، ونسا، وأبيورد، وشهرستان، والدامغان، وأزاح الغزّ عنها، وأحسن السيرة في الناس، وكذلك استولى في(27/46)
السنة المذكورة على الريّ مملوك لسنجر اسمه اينانج»
، وهادى الملوك، واستقرت قدمه، وعظم شأنه.
وفيها، قتل العادل بن السّلّار «2» وزير الظافر العلويّ، قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح (19) الصنهاجيّ بإشارة أسامة بن منقذ، وكان العادل قد تزوج أم عباس المذكور وأحسن تربيته، فجازاه بقتله، وولي مكانه، وكانت الوزارة في مصر لمن غلب.
وفيها، كان بين عبد المؤمن ملك الغرب وبين العرب حرب شديد (ة) انتصر [فيها] «3» عبد المؤمن «4» .
وفيها، مات رجّار الفرنجي «5» ملك صقلّية بالخوانيق وعمره نحو ثمانين سنة وملكه [عشرون] «6» سنة، وملك بعده ابنه غليالم.
وفيها، في رجب توفي بغزنة بهرام شاه بن مسعود السبكتكينيّ «7» صاحب غزنة، وقام بالملك بعده ولده نظام الدين خسرو شاه، وكانت مدة ملك بهرام نحو(27/47)
ست وثلاثين سنة، وذلك من حين قتل أخاه أرسلان شاه في سنة اثنتي عشرة وخمس مئة، [و] «1» كان ابتداء ولايته من حين هزم أخوه قبل ذلك بثلاث سنين حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة «2» ، وكان بهرام حسن السيرة.
وفيها، ملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر، والوزراء يجهزون إليها المؤن والسلاح، فلما كانت هذه السنة قتل العادل بن السّلّار، واختلفت الأهواء بمصر، فتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها.
وفيها، وصلت مراكب من صقلّية فملكوا مدينة [تنيس] «3» بالديار المصرية.
وفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة «13»
في المحرم، قتل الظافر بأمر الله أبو منصور (20) إسماعيل بن الحافظ العلوي «4» ، قتله وزيره عباس الصنهاجيّ، وسببه أنه كان لعباس ولد حسن الصورة اسمه نصر «5» ، فأحبّه الظافر وما بقي يفارقه، وكان قد قدم من الشام مؤيّد الدولة أسامة بن منقذ الكنانيّ في وزارة العادل، فحسّن للعباس قتل العادل فقتله وتولى مكانه، ثم حسّن له قتل الظافر، لأنه قال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ فقال له عباس: ما هو؟ فقال: إن الناس يقولون إن الظافر يفعل بابنك نصر، فأنف عباس، وأمر ابنه نصرا فدعا الظافر إلى بيته وقتلاه وقتلا(27/48)
كلّ من معه، وسلم خادم صغير فحضر إلى القصر وأعلمهم بقتل الظافر، ثم حضر عباس إلى القصر وطلب الاجتماع بالظافر، وطلبه من أهل القصر فلم يجدوه، فقال: أنتم قد قتلتموه، وأحضر أخوين للظافر يقال لهما يوسف وجبريل وقتلهما عباس، ثم أحضر الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل «1» ثاني يوم قتل أبيه وله من العمر خمس سنين «2» فحمله عباس على كتفه، وأجلسه على سرير الملك، وبايعه الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر النفيسة شيئا كثيرا، ولما فعل عباس ذلك اختلفت عليه الكلمة، وثار عليه الجند.
وكان طلائع بن رزّيك في منية ابن خصيب «3» واليا عليها، فأرسل إليه أهل القصر من النساء والخدم يستغيثون به (21) وكان فيه شهامة فجمع جمعه وقصد عباسا فهرب عباس ومن معه إلى الشام بالأموال والتحف التي لا يوجد مثلها، ولما كان عباس في أثناء الطريق خرجت عليه الفرنج فقتلوه وأخذوا ما كان معه، وأسروا ابنه نصرا.
وكان قد استقرّ طلائع بن رزّيك بعد هروب عباس في الوزارة، ولقب الملك الصالح، فأرسل إلى الفرنج وبذل لهم مالا، وأخذ [منهم] «4» نصر بن عباس وأحضر [هـ] «4» إلى مصر [وأدخل القصر] «4» فقتل وصلب «5» على باب(27/49)
زويلة «1» .
وأما أسامة بن منقذ فإنه كان مع عباس، فلما قتل عباس هرب أسامة ونجا إلى الشام، ولما استقرّ أمر الصالح بن رزّيك وقع في الأعيان بالديار المصرية وأبادهم بالقتل والهروب إلى البلاد البعيدة «2» .
وفيها، سار المقتفي لأمر الله بعساكر بغداد وحصر تكريت وأقام عليها عدة مناجيق، ثم رحل عنها ولم يظفر بها.
ذكر ملك نور الدين محمود دمشق
كان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم عسقلان حتى إنهم استعرضوا كلّ جارية ومملوك بدمشق من النصارى وأطلقوا قهرا كل من أراد منهم الخروج من دمشق واللحوق بوطنه، شاء صاحبه أو أبى، فخشي نور الدين محمود بن زنكي أن يملكوا دمشق، فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن، ثم سار إليها وحصرها (22) ففتح له باب الشرقي فدخل [منه] «3» وملك المدينة، وحصر مجير الدين آبق بن محمد بن بوري بن طغتكين في القلعة، وبذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص، فسلّم مجير الدين، وأعطاه «4» عوضها بالس «5» ، فلم يرضها مجير الدين وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى(27/50)
دارا بقرب النظامية «1» وسكنها حتى مات بها.
وفيها، أخذ نور الدين قلعة تلّ باشر من الفرنج.
«2» [ثم دخلت سنة خمسين وخمس مئة «13»
في هذه السنة سار الخليفة المقتفي إلى دقوقاء «3» فحصرها، وبلغه حركة عسكر الموصل إليه، فرحل عنها ولم يبلغ غرضا.
وفيها، هجم الغزّ نيسابور بالسيف، وقيل: كان معهم السلطان سنجر معتقلا وله اسم السلطنة ولكن لا يلتفت إليه، وكان إذا قدّم إليه الطعام يدّخر منه ما يأكله وقتا آخر خوفا من انقطاعه عنه لتقصيرهم في حقه] .
سنة إحدى وخمسين وخمس مئة إلى ستين وخمس مئة
في سنة إحدى [وخمسين وخمس مئة «14» ] «4»
ثارت أهل بلاد أفريقيّة على من بها من الفرنج فقتلوهم «5» .(27/51)
وسار عسكر عبد المؤمن فملك بونة، وخرج جميع أهل أفريقية عن طاعة الفرنج ما عدا المهديّة وسوسة.
وفيها، قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل على الملك سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي «1» ، وكان سليمان المذكور قد قدم بغداد وخطب له بالسلطنة في هذه السنة، وخلع عليه الخليفة [المقتفي] ، وقلده السلطنة على عادتهم، وخرج من بغداد بعسكر الخليفة ليملك به بلاد الجبل فاقتتل هو و [ابن أخيه] «2» السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه، فانهزم سليمان شاه وسار يريد بغداد على شهرزور، فخرج إليه [علي] «3» كوجك بعسكر الموصل فأسره وحبسه بقلعة (23) الموصل مكرما إلى أن كان منه ما نذكره في سنة خمس وخمسين «4» [وخمس مئة] «5» .
وفيها، (في) تاسع جمادى الآخرة توفي خوارزم أطسز بن محمد بن أنوشتكين «6» ، وكان قد أصابه فالج فاستعمل أدوية شديدة الحرارة، فاشتدّ مرضه وتوفي، وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربع مئة، وكان حسن السيرة،(27/52)
وملك بعده ابنه أرسلان «1» .
وفيها، توفي الملك مسعود بن قليج بن أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق «2» صاحب قونية وغيرها من بلاد الروم، ولما توفي ملك بعده ابنه قليج أرسلان «3» .
وفيها، في رمضان هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغزّ، وسار إلى قلعة ترمذ، ثم إلى جيحون، ووصل إلى دار ملكه مرو، وكانت مدة أسره من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين.
وفيها، بايع عبد المؤمن لولده محمد «4» بولاية العهد، وكانت ولاية العهد بعده لأبي حفص عمر «5» وكان من أصحاب ابن تومرت «6» من أكبر الموحدين، فأجاب إلى خلع نفسه والبيعة لابن عبد المؤمن.
وفيها، استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ابنه عبد الله «4» على بجاية وأعمالها، وابنه عمر «4» على تلمسان وأعمالها، وابنه عليا على فاس وأعمالها، وابنه أبا سعيد على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة، وكذلك (24)(27/53)
غيرهم.
وفيها، سار الملك محمد بن السلطان [محمود] «1» السلجوقي من همذان بعساكره إلى بغداد، وحصرها، وجرى بينهم قتال، وحصّن الخليفة [المقتفي] «2»
دار الخلافة واعتدّ للحصار، واشتدّ الأمر على أهل بغداد، وبينا الملك محمد على ذلك إذ وصل إليه الخبر أن أخاه ملك شاه وإلدكز «3» صاحب بلاد أران ومعه الملك أرسلان بن طغريل بن السلطان محمد «4» ، وكان إلدكز مزوجا بأم أرسلان المذكور قد دخلوا إلى همذان، فسار الملك محمد من بغداد إليهم في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة.
وفيها، احترقت بغداد، فاحترق درب فراشا، [ودرب الدواب] «5» ، ودرب اللبان، وخزانة ابن جرد «6» ، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأزجّ، وسوق السلطان، وغير ذلك.(27/54)
وفيها، قتل مظفر بن حماد «1» صاحب البطيحة «2» في الحمام، وتولى بعده ابنه.
وفي سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة «13»
في رجب كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماه وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية وغيرها من البلاد المجاورة لها حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين بن زنكي في ذلك القيام الرضيّ من تداركها بالعمارة وإغارته على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، وهلك تحت الروم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتّاب كان بمدينة حماه فارق المكتب، وجاءت الزلزلة (25) فسقط المكتب على الصبيان كلّهم فلم يحضر أحد يسأل عن صبيّ هناك لهلاكهم.
ولما خربت [قلعة] «3» شيزر بهذه الزلزلة وسقط سورها بادر إليها «4» [نور الدين محمود بن زنكي، وكان بالقرب منها فصعد إليها وتسلمها وتملكها] «5» ، وعمّر أسوارها.
وكانت «6» شيزر لبني منقذ الكنانيين يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس «7»(27/55)
هكذا ذكر ابن الأثير في «الكامل» «1» أن بني منقذ المذكورين ملكوا شيزر من أيام صالح بن مرداس، فكان ملك صالح بن مرداس حلب في سنة أربع عشرة وأربع مئة، وانقضى ملكه سنة عشرين وأربع مئة، وقد ذكر «2» القاضي شمس الدين بن خلّكان «3» ، والقاضي شهاب الدين بن أبي الدم الحموي «4» وغيرهما ما يخالف ذلك، ونحن نذكر ما قالوه مختصرا ثم نرجع إلى ما ذكره ابن الأثير، قالوا:
وفي سنة أربع وسبعين وأربع مئة استولى بنو منقذ على شيزر وأخذوها من الروم، قال ابن أبي الدم: وكان فتحها منهم علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ «5» ،(27/56)
قال: وورد كتاب إلى بغداد يشرح قصته، فمنه بعد البسملة «1» :
«كتابي من حضرة شيزر حماها الله تعالى، وقد رزقني الله عزّ وجلّ من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يأت لمخلوق في هذا الزمان، وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هاروت هذه الأمة، وسليمان الجنّ والمردة، ولأني أفرق بين المرء وزوجه، وأستنزل القمر من محلّه، أنا أبو النجم وشعرى «2» [هذه الأمة] «3» نظرت إلى هذا الحصن فرأيت (26) أمرا يذهل الألباب، يسع ثلاثة آلاف بالأهل والمال، وتمسكه خمس نسوة، فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالخراص «4» ، ويسمى هذا التلّ تلّ الجسر، فعمرته حصنا، وجمعت فيه أهلي وعشيرتي وقفزت قفزة على حصن [الروم] «5» فأخذته بالسيف من الروم، ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي، وخلطت خنازيرهم بغنمي، ونواقيسهم بصوت الأذان، فرأى أهل شيزر فعلي ذلك، وأنسوا بي، ووصل إليهم من الإكرام والإتحاف، فوصل إليّ منهم نصفهم، فبالغت في إكرامهم، ووصل إليّ مسلم بن قريش «6» فقتل منهم(27/57)
من أهل شيزر نحو عشرين رجلا، فلما انصرف عنهم مسلم سلّموا الحصن إليّ» .
هذا خلاصة ما ذكره القاضي شهاب الدين المذكور وبين ما ذكره وما ذكر ابن الأثير من التفاوت أكثر من خمسين سنة.
قال الملك عماد الدين «1» : والذي يخطر لي أن ما ذكره ابن الأثير أولى، لأنّ حماة وشيزر فتحتا مع الشام على يد أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، واستمرّ الشام للمسلمين إلى سنة تسعين وأربع مئة، فسار الفرنج إلى الشام، وملكوا غالبه بسبب اشتغال ملوك المسلمين بقتال بعضهم بعضا، ولم يذكر ملكهم لشيزر.
قال ابن الأثير: فلما انتهى ملك شيزر إلى نصر بن علي بن منقذ استمرّ فيها إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربع مئة «2» ، فلما حضره الموت استخلف (27) أخاه مرشد بن عليّ «3» على حصن شيزر، فقال مرشد: والله لا وليته ولأخرجنّ من الدنيا كما دخلتها، ومرشد هو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فلما امتنع(27/58)
مرشد من الولاية ولاها نصر أخاه الصغير سلطان الدولة بن عليّ «1» ، واستمر مرشد مع أخيه سلطان على أجمل صحبة مدة من الزمان، وكان لمرشد عدة أولاد نجباء ولم يكن لسلطان ولد، ثم جاء لسلطان الأولاد فخشي عليهم من أولاد أخيه مرشد، وسعى المفسدون بين مرشد وسلطان فتغير كلّ منهما على صاحبه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبياتا يعاتبه، وكان مرشد عالما بالأدب والشعر، فأجابه مرشد بقصيدة طويلة منها «2» : (الطويل)
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين فيّ وطالما ... عصيت عذولا في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه [لي] «3» والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حينا لأنّه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وقلت: أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلّم مني صارما كان ماضيا
تنكرت حتى صار برّك قسوة ... وقربك مني «4» جفوة وتنائيا
(28) على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
وكان الأمر بين مرشد وأخيه سلطان فيه تماسك إلى أن توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة، فأظهر سلطان التغير على أولاد أخيه مرشد،(27/59)
وجاهرهم بالعداوة، ففارقوا شيزر، وقصد أكثرهم نور الدين محمود بن زنكي، وشكوا إليه من عمّهم سلطان، فغاظه ذلك ولم يمكنه قصده لانشغاله بجهاد الفرنج، وبقي سلطان كذلك إلى أن توفي وولي بعده أولاده، فلما خربت القلعة هذه السنة بالزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين كانوا بها أحد، فإنّ صاحبها «1»
كان قد ختن ولده، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ في داره، وجاءت الزلزلة فسقطت القلعة والدار عليهم فهلكوا عن آخرهم، وكان لصاحب شيزر ابن منقذ حصان يحبّه، ولا يزال على باب داره، فلما سقطت الدار سلم من بني منقذ واحد وهرب يطلب باب الدار فلما خرج [من الباب] «2» رفسه الحصان المذكور فقتله، وتسلم نور الدين القلعة والمدينة. «3»
وفي هذه السنة توفي السلطان سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق «4» ، وأصابه قولنج ثم إسهال فمات منه، ومولده بسنجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربع مئة، استوطن مدينة مرو من خراسان، وقدم بغداد مع أخيه السلطان محمد (29) واجتمع بالخليفة المستظهر «5» ، فلما مات محمد خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعته السلاطين، وخطب له على منابر الإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة،(27/60)
وكان قبلها يخاطب بالملك نحو عشرين سنة، ولم يزل أمره عاليا إلى أن أسره الغزّ، ولما خلص من أسرهم وكاد يعود إليه ملكه أدركه أجله، وكان مهيبا كريما، وكانت البلاد في زمانه آمنة، ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته، ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغرا خان «1» ، وهو ابن أخت سنجر، فأقام خائفا من الغزّ.
وفيها، استولى أبو سعيد بن عبد المؤمن على غرناطة من الأندلس وأخذها من الملثمين، وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم غير جزيرة ميورقة، ثم سار أبو سعيد في جزيرة الأندلس وفتح المريّة، وكانت بأيدي الفرنج مدة عشر سنين.
وفيها، أخذ نور الدين بعلبك من إنسان كان استولى عليها، يقال له الضحاك البقاعيّ، وكان قد ولاه صاحب دمشق «2» عليها، فلما ملك نور الدين دمشق استولى الضحّاك على بعلبك «3» .
وفيها، قلع الخليفة باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالفضة والذهب، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه.
وفي سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة «13»
قصد السلطان ملكشاه بن محمود السلجوقيّ قم وقاشان (30) ونهبهما، وكان أخوه السلطان محمد بن محمود بعد رحيله عن حصار بغداد قد مرض(27/61)
وطال مرضه، فأرسل إلى أخيه [ملكشاه] «1» أن يكفّ عن النهب، ويجعله وليّ عهده فلم يقبل ملكشاه ذلك، ثم سار ملكشاه إلى خوزستان فأخذها من صاحبها شملة التركماني «2» .
وفي أواخر سنة أربع وخمسين وخمس مئة «13»
نزل عبد المؤمن (بن) عليّ مدينة المهديّة وأخذها من الفرنج يوم عاشوراء سنة خمس وخمسين وملك جميع أفريقية، وكان قد ملك الإفرنج أفريقيّة في سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة، وأخذوها من صاحبها الحسن بن عليّ بن يحيى بن تميم الصنهاجي «3» ، وبقيت في أيديهم إلى هذه السنة ففتحها عبد المؤمن، فكان ملك الفرنج للمهديّة اثنتي عشرة سنة تقريبا، ولما ملكها عبد المؤمن أصلح أحوالها واستعمل عليها بعض أصحابه وجعل معه الحسن بن عليّ الصنهاجيّ الذي كان صاحبها، وكان قد سار إلى بني حماد ملوك بجاية ثم اتصل بعبد المؤمن حسبما تقدم، فأقام عنده مكرما إلى هذه السنة، فأعاده عبد المؤمن إلى المهديّة، وأعطاه بها دورا نفيسة وإقطاعا، ثم رحل عبد المؤمن عنها إلى المغرب.
وفيها، توفي السلطان محمد بن [محمود] «4» بن محمد بن ملكشاه السّلجوقي «5» في ذي الحجة، وهو الذي حاصر بغداد، ولما عاد عنها لحقه سلّ(27/62)
وطال به فمات بباب همذان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وكان كريما (31) عاقلا، خلف ولدا صغيرا، ولما حضره الموت سلم ولده إلى آقسنقر الأحمديلي «1» ، وقال: أنا أعلم أنّ العساكر لا تطيعه لأنّه طفل فهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك، فرحل به آقسنقر إلى بلد مراغة.
ولما مات السلطان محمد اختلفت الأمراء، فطائفة طلبت ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان الذي كان اعتقل في الموصل «2» وهم الأكثر، ومنهم من طلب أرسلان بن طغريل الذي [كان] «3» مع إلدكز «4» ، وبعد موت محمد سار أخوه ملك شاه إلى أصفهان وملكها.
وفيها، مرض نور الدين محمود بن زنكي مرضا [شديدا] «3» أرجف بموته [وكان] «5» بقلعة حلب، فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي»
جمعا وحصر قلعة حلب، وكان شير كوه «7» بحمص، وهو من أكبر أمراء نور الدين، فسار إلى(27/63)
دمشق ليستولي عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب [ذلك] «1» ، وقال: أهلكتنا، المصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت، وإن كان ميتا فأنا في دمشق أكفيكها، فعاد شير كوه إلى حلب مجدّدا، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، [فكلمهم] «2» فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أمير ميران واستقامت الأحوال.
(ذكر دولة بني مهدي في اليمن)
وفيها، استقرّ في ملك اليمن عليّ بن مهدي «3» ، وأزال ملك بني نجاح على ما قدّمنا ذكره في سنة اثنتي عشرة وأربع مئة «4» .
وعلي «5» بن مهديّ المذكور (32) من حمير من قرية يقال لها العنبرة «6»(27/64)
من سواحل زبيد، كان أبوه مهديّ رجلا صالحا، ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح، ثم حجّ واجتمع بالعراقيين، وتضلع من معارفهم، ثم صار واعظا، وكان فصيحا صبيحا حسن الصوت، عالما بالتفسير، غزير المحفوظات، وكان يتحدث في شيء من أحوال المستقبلات فيصدق فمالت إليه القلوب، واستفحل أمره، وصار له جموع، فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، ثم عاد إلى أملاكه، وكان يقول في وعظه: «أيها الناس! دنا الوقت [وأزف] «1» الأمر، كأنكم بما أقول لكم [وقد] «2» رأيتموه عيانا» ، ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف «3» ، وهو لبطن من خولان فأطاعوه وسماهم الأنصار، وسمى كلّ من صعد معه من تهامة المهاجرين، وأقام على خولان رجلا اسمه سبأ وعلى المهاجرين رجلا اسمه النويتي وسمى كلا [من] «4» الرجلين بشيخ الإسلام وجعلهما نقيبين على الطائفتين فلا يخاطبه [ولا يصل] «5» أحد [إليه] «4» غيرهما، وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين [وكلام الطائفتين] «6» وحوائجهما إليه «7» ، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على(27/65)
التهائم حتى أخلى البوادي، وقطع الحرث والقوافل، ثم إنه حاصر زبيد (ا) ، واستمرّ مقيما عليها حتى [قتل] «1» فاتك بن محمد «2» آخر ملوك بني نجاح قتله عبيده، وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب شديدة وآخرها أنّ ابن مهديّ انتصر عليهم (33) وملك زبيد (ا) واستقرّ في دار الملك يوم الجمعة رابع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين، وبقي ابن مهديّ في الملك شهرين وأحدا وعشرين يوما، ومات عليّ بن مهديّ في السنة التي ملك فيها [في شوال] «3» ، فملك اليمن بعده ولده مهديّ «4» ثم عبد النبيّ بن مهديّ بن عليّ بن مهديّ «5» ، وخرجت المملكة عن عبد النبيّ إلى أخيه عبد الله ثم عادت إلى عبد النبيّ واستقرّ فيها حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمس مئة، وفتح اليمن، واستقرّ في ملكه، وأسر عبد النبيّ، وهو آخر ملوك اليمن من آل مهدي.
وكان مذهب عليّ بن مهديّ التكفير بالمعاصي، وقتل من خالف اعتقاده من أهل القبلة، واستباحة وطء سباياهم، واسترقاق ذراريهم، وكان حنفيّ الفروع، وكان أصحابه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن مذهبه قتل من يشرب ومن يسمع الغناء.(27/66)
وفي سنة خمس وخمسين وخمس مئة «13»
[ذكر مسير] «1» سليمان شاه إلى همذان وما كان منه إلى أن مات
وسببه أنه لما مات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقيّ أرسلت الأمراء وطلبوا عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وكان قد اعتقل في الموصل مكرما فجهزه قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل بشيء كثير، وجهاز يليق بالسلطنة، وسار معه (34) زين الدين عليّ كوجك بعسكر الموصل إلى همذان، وأقبلت العساكر إليه، كلّ يوم تلقاه طائفة وأمير، ثم تسلطت العساكر عليه، ولم يبق له حكم، وكان سليمان شاه فيه تهور وخرق، وكان يدمن شرب الخمر حتى [إنه] «2» شرب في رمضان نهارا، وكان يجمع عنده المساخر، ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر [أمره] «3» ، وكانوا لا يحضرون بابه، وكان قد ردّ جميع الأمور إلى شرف الدين [كرد بازو] «4» الخادم، وهو من مشايخ خدام السّلاجقة يرجع إلى دين وحسن تدبير، فاتفق أن سليمان قعد يشرب بالكشك ظاهر همذان، فحضر إليه كرد بازو ولامه، فأمر من عنده من المساخر فعبثوا بكرد بازو أيضا حتى إن بعضهم كشفوا له سوءته فاتفق كرد بازو مع الأمراء على قبضه، وعمل كرد بازو دعوة عظيمة،(27/67)
فلما حضرها سليمان شاه قبض عليه كرد بازو «1» ، وحبسه وبقي في الحبس مدة، ثم أرسل إليه كرد بازو من خنقه، وقيل: سقاه سما فمات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين «2» .
ولما مات إلدكز بعشرين ألفا ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان، ووصل إلى همذان، فلقيه كرد بازو وأنزله بدار المملكة، وخطب لأرسلان شاه (35) بالمملكة، وكان إلدكز متزوجا لأمّ أرسلان شاه فولدت لإلدكز أولادا منهم البهلوان محمد «3» وقزل أرسلان عثمان «4» ابنا إلدكز، وبقي إلدكز أتابك أرسلان وابنه البهلوان [وهو] «5» أخو أرسلان لأمه حاجبه.
وكان إلدكز أحد مماليك السلطان مسعود اشتراه في أول أمره، ثم أقطعه أرّان وبعض بلاد أذربيجان فعظم شأنه، وقوي أمره.
ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد أرسل إلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة على عادة الملوك السلجوقية، فلم يجب إلى(27/68)
ذلك، وقد قدمنا موت سليمان وولاية أرسلان لتتصل الحادثة.
وفيها، توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل «1» خليفة مصر، وكانت خلافته ستّ سنين وشهرين، وكان عمره لما ولي [ثلاث سنين، وقيل:] «2» خمس سنين، ولما [مات] «3» دخل الصالح بن رزّيك القصر، وسأل عمن يصلح فأحضر له منهم إنسان كبير السنّ، فقال بعض أصحاب الصالح: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير، فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأحضر العاضد لدين الله [أبا] «4» محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ «5» ولم يكن أبوه خليفة.
وكان العاضد ذلك الوقت مراهقا فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح ابنته، ونقل معها الجهاز ما لا يسمع بمثله.
وفيها، في ربيع الآخر توفي (36) الخليفة المقتفي «6» لأمر الله [أبو] «4»
عبد الله محمد بن المستظهر أبي العباس أحمد بعلة التراقيا.(27/69)
خلافة المستنجد بالله بن المقتفي «1» ثاني ثلاثي خلفاء بني العباس رضي الله تعالى عنهم
وبويع له لما توفي أبوه المقتفي، وبايعه أهله وأقاربه فمنهم عمه أبو طالب «2» ، ثم أخوه أبو جعفر «2» ، وأمّه أمّ ولد يدعى طاوس (؟) ، ثم بايع الوزير بن هبيرة وغيرهم.
وفيها، في رجب توفي السلطان خسرو شاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود «3» بن سبكتكين «4» صاحب غزنة، وكان عادلا حسن السيرة، وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ولما مات ملك ابنه ملكشاه، وقيل: إنّ خسرو شاه مات في حبس غياث الدين الغوريّ، وأنه آخر ملوك سبكتكين حسبما تقدم في سنة سبع وأربعين «5» .
وفيها، توفي السلطان ملكشاه بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب(27/70)
أرسلان «1» بأصفهان مسموما.
وفيها، حجّ أسد الدين شير كوه بن شاذي مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي.
وفي سنة ستّ وخمسين وخمس مئة «13»
في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين [الحسين] «2» بن الحسين الغوريّ ملك الغور، وكان عادلا حسن السيرة، ولما مات ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد «3» ، وقد قدّمنا ذلك في سنة سبع وأربعين «4» .
وفيها، تقدم المؤيد أي به السّنجري بإمساك أعيان (37) نيسابور لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين، وأخذ المؤيد بقتل المفسدين فخربت نيسابور، وكان من جملة ما خرب مسجد عقيل وكان مجمعا لأهل العلم، وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة، وخرب من مدارس الحنفية [ثماني مدارس، ومن مدارس الشافعية] «5» سبع عشرة مدرسة، وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب.(27/71)
وأما الشاذياخ «1» فإن عبد الله [بن] «2» طاهر بن الحسين بناها لما كان أميرا للمأمون على خراسان، وسكنها هو والجند، ثم خربت بعد ذلك، ثم جددت في أيام ألب أرسلان السلجوقي «3» ، ثم تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور أمر المؤيد آي به بإصلاح سور الشاذياخ، وسكنها هو والناس، فخربت نيسابور كل الخراب ولم يبق بها أحد.
وفي هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزّيك الأرمني وزير العاضد العلويّ، جهزت عليه عمة العاضد من قتله بالسكاكين وهو داخل في دهليز القصر فحمل إلى بيته وبه رمق، فأرسل يعتب [على] «4»
العاضد، فأرسل العاضد يحلف له أنه ما علم بذلك، وأمسك العاضد عمته فأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولي ابنه رزّيك «5» الوزارة ولقب العادل، ومات طلائع، فاستقر ولده العادل رزّيك في الوزارة.
وفيها، ملك عيسى «6» مكة شرفها الله تعالى، وكان أمير مكة قاسم بن أبي(27/72)
فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلويّ [الحسنيّ «1» ، فلما سمع قرب الحاج من مكة صادر المجاورين وأعيان مكة وأخذ أموالهم وهرب إلى البرية] «2» [خوفا من أمير الحاج [أرغش] «3» .
فلما وصل أمير الحاجّ إلى مكة (38) رتب عوض قاسم عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن أبي فليتة جمع العرب وقصد عمه عيسى، فلما قارب مكة، رحل عنها عيسى، وعاد قاسم إلى ملكها ولم يكن معه ما يرضي به العرب، فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه، وقدم عيسى إليهم وهرب قاسم وصعد إلى جبل أبي قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه، فغسله عيسى ودفنه بالمعلى «4» عند أبيه أبي فليتة «5» ، واستقرت مكة لعيسى.
وفيها، عبر عبد المؤمن بن علي على المجاز إلى الأندلس، وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة، وأقام بها ستة أشهر وعاد إلى مراكش.
وفيها، ملك قرا أرسلان «6» صاحب حصن كيفا «7» قلعة شاتان وكانت(27/73)
لطائفة من الأكراد، ولما ملكها خربها وأضاف أعمالها إلى حصن طالب «1» .
وفي سنة سبع وخمسين وخمس مئة «13»
نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم وهي للفرنج مدة ثم رحل عنها ولم يملكها.
وفيها، سارت الكرج في جمع عظيم ودخلوا بلاد الإسلام وملكوا مدينة دوين من أعمال أذربيجان ونهبوها، ثم جمع إلدكز صاحب أذربيجان جمعا [عظيما] »
وغزا الكرج وانتصر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وفيها حج الناس، فوقع فتنة وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج، فرحل الحجاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد (39) الوقوف.
قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف جدته أم أبيه، فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها «3» فاستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي «4» فأفتى أنها إذا دامت على إحرامها إلى قابل وطافت كمل حجها الأول، ثم تفدي وتحل، ثم تحرم(27/74)
إحراما ثانيا، وتقف بعرفات وتكمل مناسك الحج فيصير لها حجة ثانية، فبقيت على إحرامها إلى قابل وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني «1» .
وفيها، مات الكيا الصّبا [حي] «2» الصنهاجي «3» صاحب ألموت مقدم الإسماعيلية، وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة «4» .
وفي سنة ثمان وخمسين وخمس مئة «13»
في صفر، وزّر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزّيك فولاه الصعيد، وكانت الصعيد أكبر المناصب بعد الوزارة، ولما جرح الصالح أوصى ولده العادل أن لا يغير على شاور شيئا لعلمه بقوة شاور،(27/75)
فلما تولى العادل بن الصالح الوزارة كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه وسار نحو العادل إلى القاهرة فهرب العادل فطرد شاور وراءه وأمسكه وقتله «1»
وانقضت بمقتله دولة بني رزّيك.
واستقر شاور في الوزارة وتلقب أمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزّيك وودائعهم.
ثم إن أبا الأشبال [ضرغاما] «2» جمع جمعا ونازع شاور في الوزارة في شهر رمضان، وقوي على شاور، فانهزم شاور إلى الشام مستنجدا بنور الدين (40) ولما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيرا من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد فضعفت الدولة لهذا السبب حتى خرجت البلاد من أيديهم.
وفيها في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وأفريقية والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات.
ولما حضر الموت جمع جيوش الموحدين وقال لهم: قد جربت ابني محمدا فلم أجده يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف فقدموه وبايعوه، ودعي بأمير المؤمنين، واستقرت قواعد ملكه.
وكانت مدة ولاية عبد المؤمن ثلاثا وثلاثين سنة وشهورا، وكان حازما، سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير سفك الدم على الذنب الصغير، وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة، بحيث إنه من رؤي في(27/76)
وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس في المغرب على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول.
وفيها، ملك المؤيد آي به السّنجري قومس «1» ، فلما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه خلعة وألوية وهدية جليلة فلبس ألوية الخلعة، وخطب له في بلاده.
وفيها، كبس الفرنج نور الدين محمود (ا) وهو نازل بعسكره في البقيعة تحت حصن الأكراد «2» ، فلم يشعر نور الدين إلا وقد أطلت عليهم صلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك (41) ركب نور الدين فرسا، وفي رجله الشّبحة «3» فنزل كردي وقطعها، فنجا نور الدين وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلّفيه ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحق به من سلم من المسلمين.
وفيها، أمر المستنجد بإخلاء بني أسد وهم أهل الحلّة المزيديّة فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون، وتشتتوا في البلاد، وذلك لفسادهم في البلاد، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف «4» .(27/77)
وفي سنة تسع وخمسين وخمس مئة «13»
سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرا مقدمهم أسد الدين شير كوه بن شاذي إلى الديار المصرية ومعهم شاور، وكان قد سار من مصر هاربا من ضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده وبذل له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن أعاده إلى الوزارة، فوصل شيركوه إلى مصر، وهزم عسكر ضرغام [وقتل ضرغام] «1» عند قبر السيدة نفيسة «2» ، وأعاد شاورا إلى وزارته، وكان مسير أسد الدين في جمادى الأولى لهذه السنة، واستقر شاور في الوزارة، وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب هذه السنة، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار أسد الدين واستولى على بلبيس «3» والشرقية، فأرسل شاور يستنجد بالفرنج ليخرجوا أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر، وحصروا شير كوه ببلبيس، ودام الحصار ثلاثة أشهر، وبلغ الفرنج حركة (42) نور الدين وأخذ حارم فراسلوا شير كوه في الصلح، وفتحوا له فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر، ووصلوا إلى الشام سالمين.
وفيها، في شهر رمضان فتح نور الدين محمود قلعة حارم وأخذها من الفرنج بعد مصافّ جرى بينه وبين الفرنج، فانتصر نور الدين وقتل وأسر من الفرنج عالما(27/78)
كثيرا، وكان في جملة الأسرى البرنس صاحب أنطاكية «1» ، والقومص صاحب طرابلس «2» ، وغنم منهم المسلمون شيئا كثيرا.
وفيها في ذي الحجة، سار نور الدين وفتح بانياس وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين [وخمس مئة] «3» إلى هذه السنة.
وفيها، توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني «4» وزير قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في شعبان مقبوضا عليه، وكان قد قبض عليه قطب الدين في سنة ثمان وخمسين [وخمس مئة] «5» . وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور وأسد الدين شيركوه أنه من مات منهما قبل الآخر ينقله الآخر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيدفنه بها، فنقله شيركوه، وقد ذكرنا طرفا من أخباره مع الوزراء. «6»
وفي سنة ستين وخمس مئة «13»
في ربيع الأول، توفي بمازندران شاه رستم بن علي بن شهريار بن قارن «7»(27/79)
وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن «1» .
وفيها، ملك المؤيد آي به مدينة هراة.
وفيها كان بين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان (43) صاحب قونية وما جاورها من بلاد الروم وبين [ياغي أرسلان] «2» [بن الدانشمند] «3»
صاحب ملطية وما يجاورها حروب شديدة انهزم فيها قليج أرسلان، فاتفق موت ياغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة وملك بعده ابن أخيه إبراهيم بن محمد بن الدانشمند واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساريّة، وملك شاهنشاه بن مسعود أخو قليج أرسلان مدينة أنكورية، واصطلح المذكورون على ذلك، واستقرت بينهم القواعد واتفقوا.
وفيها، توفي الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة «4» في جمادى الأولى.
سنة إحدى وستين وخمس مئة إلى سنة سبعين وخمس مئة
في سنة إحدى وستين وخمس مئة «13»
فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة «5» من الشام وكانت بيد الفرنج.(27/80)
وفي سنة اثنتين وستين وخمس مئة «13»
عاد أسد الدين شير كوه إلى الديار المصرية، جهزه نور الدين بألفي فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم وجمعهم وساروا في أثر شير كوه إلى جهة الصعيد «1» ، والتقوا بموضع يقال له ايوان «2» فانهزم الفرنج والمصريون، واستولى شير كوه على بلاد الجيزة واستغلها، ثم سار إلى الإسكندرية وملكها، وجعل فيها ابن اخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شير كوه إلى جهة الصعيد (44) ، واجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة [ثلاثة] «3» شهور فسار شير كوه إليهم، فاتفقوا إلى الصلح على مال [يحملونه] «4» إلى شير كوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام، ويسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شير كوه إلى الشام، فوصل دمشق ثامن عشر ذي القعدة، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مئة ألف دينار.
وفيها، فتح نور الدين صافيتا و [العريمة] «5» .(27/81)
وفيها، عصى غازي بن حسان «1» صاحب منبج على نور الدين بمنبج، فجهز إليه نور الدين عسكرا أخذوا منه منبج، ثم أقطعها نور الدين لقطب الدين ينال ابن حسان «1» [أخي] «2» غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة [إحدى وسبعين] «3» .
وفيها، توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «4» صاحب حصن كيفا، وملك بعده [ولده] «5» نور الدين محمد «6» .
وفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة «13»
فارق زين الدين علي كوجك بن بكتكين نائب قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة قطب الدين، واستقر بإربل، وكانت في إقطاعه، وكانت له إربل مع غيرها فقنع بها وسكنها «7» ، وسلّم ما كان من ضمن البلاد إلى قطب الدين، وكان زين الدين قد عمي وطرش.(27/82)
وفي سنة أربع وستين وخمس مئة «13»
ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها (45) من شهاب الدين مالك ابن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران العقيلي «1» ، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه «2» ، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين فاجتهد به على تسليمها، فلم يفعل، فأرسل عسكرا تقدمهم فخر الدين مسعود بن [أبي] «3» علي الزعفراني «1» وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر بن الداية وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا فيها بشيء، ولم يزالوا على صاحبها مالك حتى سلّمها وأخذ عوضها مدينة سروج «4» مع أعمالها والملّوحة «5» من بلد حلب، وعشرين ألف دينار معجلة، وباب بزاعة.
وفيها في ربيع الأول، سار أسد الدين شير كوه بن شاذي إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من الديار المصرية وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهرا في مستهلّ صفر هذه السنة، وقتلوا كلّ من فيها، ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحاصروها وأحرق(27/83)
شاور مدينة مصر خوفا من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها وأنقلهم إلى القاهرة فبقيت النار تعمل أربعة وخمسين يوما، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم، فحمل إليهم مئة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال، فرحلوا «1» ، وجهز نور الدين العسكر مع شير كوه (46) وأنفق فيهم المال وأعطى شير كوه مئتي ألف دينار سوى الخيل والدواب والأسلحة، وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه.
أحبّ نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
«2» ، ولما قرب شير كوه من مصر رحل الفرنج على أعقابهم إلى بلادهم، وكان هذا لمصر فتحا جديدا، ووصل أسد الدين شير كوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شير كوه فيما بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك [فكان] «3» شاور يركب كلّ يوم إلى أسد الدين شير كوه ويعده ويمنّيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
«4» ، ثم إنّ شاور عزم على أن يعمل دعوة لشير كوه(27/84)
وأمرائه ويقبض عليهم فمنعه ابنه الكامل «1» بن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على قتله، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعزّ الدين جرديك «2» وغيرهما، وعرفوا شير كوه بذلك فنهاهم عنه، واتفق أن شاور قصد شير كوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه فلقي صلاح الدين وجرديك شاورا وأعلماه برواح (47) شير كوه إلى الزيارة، فساروا جميعا إلى شير كوه، فوثب صلاح الدين وجرديك [ومن معهما] «3» على شاور ورموه عن فرسه إلى الأرض، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر «4» هذه السنة، فهرب أصحابه عنه وأرسلوا أعلموا شير كوه يطلب منه إنقاذ رأس شاور فقتله وأنفذ رأسه إلى العاضد، ودخل عند ذلك شير كوه إلى قصر العاضد فخلع عليه [خلع الوزارة] «5» ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور واستقرّ في الأمر، وكتب له منشور «6» بالإنشاء الفاضليّ، وكتب له بعد البسملة:(27/85)
«من عبد الله ووليّه الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجلّ الملك المنصور سلطان الجيوش وليّ الأئمة مجير الأمة [أسد الدين] «1» أبي الحارث شير كوه العاضديّ عضّد الله به الدين، وأمتع [بطول بقائه] «2» أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين وسلّم تسليما» .
ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا، وكتب العاضد بخطّه على طرة المنشور:
«هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فنقلّد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها، [فخذ] «3» كتاب أمير المؤمنين بقوة، وأسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت (48) خدمتك [إلى] «4» بنوة النبوة [واتخذه للفوز سبيلا] «4» » .
ومدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح العماد الكاتب قصيدة أولها «5» : (البسيط)
بالجدّ أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم [راحة] «6» جنيت من دوحة التّعب
يا شير كوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادى [فعرّف] «7» خير ابن لخير أب(27/86)
جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلا ما حزت بالخبب
تملّ من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد فبادر نحوها وثب
وفي شير كوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي «1» : (الطويل)
لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شير كوه العاضديّ وزير
هو الأسد الضاري الذي حلّ خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير
فأما الكامل بن شاور، فإنه لما قتل أبوه دخل القصر وكان آخر العهد به.
ولما لم سبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً
«2» فتوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمس مئة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام «3» .
وكان شيركوه وأيوب [ابنا] «4» شاذي من بلد دوين «5» ، قال ابن الأثير:
وأصلهما (49) من الأكراد الرواديّة «6» ، فقصدا العراق وخدما بهروز «7»(27/87)
شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شير كوه فجعله بهروز مستحفظا قلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة «1» ومرّ على تكريت خدمه أيوب وشير كوه، ثم إن شير كوه قتل إنسانا بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظا عليها فلما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلّمها أيوب إليهم عن إقطاع كبير، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شير كوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي وأقطعه نور الدين حمص والرّحبة لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمر شير كوه فكاتب أخاه أيوب فساعد نور الدين على فتح دمشق، وبقيا معه إلى أن أرسل شير كوه إلى مصر مرة بعد ما جرى حتى ملكها، وتوفّي هذه السنة على ما ذكرناه.
ولما توفي شير كوه كان معه صلاح الدين يوسف بن أخيه أيوب، وكان قد سار معه على كره، قال صلاح الدين:
أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شير كوه، وكان قد قال شير كوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدا (50) فقال لنور الدين: لا بدّ من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل، وقال نور الدين: لابد من مسيرك مع(27/88)
عمك، فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت.
ولما مات شير كوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي «1» ، وقطب الدين المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكّاري «2» ، وشهاب الدين محمود الحارمي «3» خال صلاح الدين، فأرسل العاضد طلب صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه الملك الناصر، فلم يطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكّاري «4» ، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك وعزه وملكه لك فمال إليه أيضا، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام، وثبت قدم صلاح الدين على أنه نائب لنور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار «5» ويكتب علامته على رأس(27/89)
الكتاب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل: الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله فأرسلهم نور الدين إليه فأعطاهم الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر (51) العاضد «1» .
ولما فوّض الأمر إلى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله عز وجل.
قال ابن الأثير في «الكامل» : رأيت أكثر ما يقع ممن ابتدئ الملك منه ينتقل إلى غير عقبه، فإنّ معاوية تغلب وملك فانتقل الملك إلى بني مروان بعده، ثم ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى بني أخيه المنصور، ثم السامانية «2» أول من استبد بالملك منهم نصر بن أحمد «3» ، فانتقل الملك إلى عقب أخيه إسماعيل «4» ، ثم عماد الدولة ابن بويه «5» ، ملك فانتقل الملك إلى بني أخيه ركن الدولة «6» ، ثم ملك طغرلبك(27/90)
السلجوقي «1» فانتقل الملك إلى بني أخيه جقر «2» ، ثم شير كوه ملك فانتقل الملك إلى ابن أخيه صلاح الدين، ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى بني العادل أبي بكر «3» ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى أولا وأخذه الملك وعيون أصحابه فيه فيحرم على عقبه ذلك «4» .
ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة «5» وهو مقدم السودان، فاجتمعت السودان وهم حفاظ القصر في عدد كبير وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين «6» ، فانهزم السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلا وتهجيجا، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي «7» وكان خصيا أبيض،(27/91)
وبقي لا (52) يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
وفيها، كان بين إينانج السّنجري صاحب الري وبين إلدكز حرب انتصر فيها إلدكز وملك الري وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع فبعث إلدكز، ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إينانج فقتلوه «1» ولحقوا بإلدكز [فلم يف لهم وقال:] «2» ، فإن مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحقوا بخوارزم شاه «3» ، فصلب الذي تولى منهم قتل إينانج لخيانته أستاذه.
وفيها، توفي ياروق (بن) أرسلان التركماني «4» ، وكان مقدما كبيرا، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، سكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عمائر كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية «5» مشهورة هناك.(27/92)
وفي سنة خمس وستين وخمس مئة «13»
سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج عن ذلك أموالا عظيمة، فحصروها خمسين يوما، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها.
قال صلاح الدين:
ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية، سوى الدواب «1» وغيرها.
وفيها، سار نور الدين وحاصر الكرك مدة ثم رحل عنها.
وفيها، كانت زلزلة عظيمة خربت الشام، فقام نور الدين في عمارة الأسوار وحفظ البلاد أتم قيام، وكذلك خربت بلاد الفرنج، فخافوا من نور الدين، واشتغل كل منهم (53) بعمارة ما يليه من بلاده عن قصد بلاد غيره.
وفيها، في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر «2» صاحب الموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي «3» إلى أخيه الذي هو(27/93)
أصغر منه سيف الدين غازي بن مودود «1» ، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصرا به، وتوفي قطب الدين وعمره أربعون سنة، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، وكان من أحسن الملوك سيرة.
وفيها، توفي الملك طغرلبك بن [قاورت] «2» بيك صاحب كرمان، واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر، واستنجد كل منهما وطلب الملك، فاتفق موت أرسلان شاه في تلك المدة، فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان «3» .
وفيها، توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية «4» رضيع نور الدين، وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه، فأقرّ نور الدين أخاه عليا «5» على إقطاعه.
وفي سنة ست وستين وخمس مئة «13»
في تاسع ربيع الآخر توفي الخليفة المستنجد أبو المظفر يوسف بن المقتفي «6» ، وكان سبب موته أنه مرض، واشتد مرضه، وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد(27/94)
الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء «1» ، وقطب الدين قيماز المقتفوي «2» وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد فاتفقا ووضعا للطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم إنه (54) دخلها وغلق عليه الباب فمات، فلما مات أحضر عضد الدين وقطب الدين:
المستضيء بالله [أبا] «3» محمد الحسن بن المستنجد بالله «4» وهو ثالث ثلاثي خلفاء بني العباس رحمه الله
وشرطا عليه شروطا أن يكون عضد الدين وزيرا، وابنه كمال الدين أستاذ دار (هـ) ، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يل الخلافة من اسمه الحسن غيره وغير الحسن بن علي رضي الله عنهما، وبايعوا المستضيء بالله بالخلافة يوم موت أبيه بيعة خاصة، وفي غده بيعة عامة.
وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل وهي بيد ابن أخيه غازي ابن مودود فاستولى عليها نور الدين وملكها، فلما ملكها أطلق المكوس منها،(27/95)
وقرر أمورها، ثم وهبها لابن أخيه غازي المذكور، وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مودود وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي، فقال له كمال الدين الشّهرزوري «1» : هذا طريق إلى أذى يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة أخيه غازي وهو صغير، وسيف الدين غازي هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف ويطمع الأعداء.
وفيها، سار صلاح الدين عن مصر فغزا الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر ثم رجع إلى أيلة وحصرها، وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي، ونقل إليها المراكب، وحصرها برا وبحرا وفتحها في العشر الأول من ربيع [الآخر] «2» ، واستباح أهلها وما فيها «3» ، وعاد إلى مصر ولما (55) استقر بمصر كان بها دار للشّحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها «4» [من يريد حبسه] «5»
فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية، وكذلك بنى دار الغزل «6» مدرسة [للمالكية] «7» وعزل قضاة المصريين، وكانوا شيعة، ورتب قضاة شافعية، وذلك(27/96)
في العشرين من جمادى الآخرة.
وكذلك اشترى تقي الدين عمر «1» ابن أخي صلاح الدين منازل العز «2»
وبناها مدرسة للشافعية.
وفي سنة سبع وستين وخمس مئة «13»
ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله، وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أنه لما تمكن صلاح الدين من مصر وحكم على القصر وأقام فيه قراقوش الأسدي وكان خصيا أبيض، وبلغ نور الدين ذلك، فأرسل إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة العلوية وإقامة الخطبة العباسية فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر عليه، وكان العاضد قد مرض، فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء ويقطعوا خطبة العاضد فامتثلوا ذلك، ولم تنتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته فتوفي العاضد يوم عاشوراء»
، ولم يعلم بقطع خطبته.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه، وكان [من] «4» كثرته يخرج عن الإحصاء، وكان فيه أشياء نفيسة من(27/97)
الأعلاق والكتب والتحف (56) فمن ذلك الحبل الياقوت، وكان وزنه سبعة عشر درهما [أو سبعة عشر مثقالا] «1» ، قال ابن الأثير في «الكامل» :
أنا رأيته ووزنته، ومما حكي أنه كان بالقصر طبل للقولنج إذا ضرب به الإنسان ضرط فكسر ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل [صلاح الدين أهل] «2»
العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة فباع البعض وعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، وندم على تخلفه عنه، وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة سنة ست وتسعين ومئتين «3» إلى أن توفي العاضد في هذه السنة سنة سبع وستين وخمس مئة، مئتان واثنتان وسبعون سنة تقريبا، وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت، ولم تحل إلا وتمررت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر.
ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد ضربت البشائر ستة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل «4» وهو من خواص الخدم المقتفوية إلى نور الدين وصلاح الدين والخطباء، وسيرت الأعلام السود «5» .
وكان العاضد قد رأى مناما أن عقربا خرجت من مسجد بمصر معروف ذلك(27/98)
المسجد للعاضد ولرعيته فاستيقظ العاضد مرعوبا واستدعى ممن يعبر الرؤيا وقصه عليه فعبر له بوصول (57) أذى إليه من شخص بذلك المسجد، فتقدم العاضد إلى والي مصر بإحضار أهل ذلك المسجد فأحضر إليه شخصا صوفيا يقال له نجم الدين [الخبوشاني] «1» ، فاستخبره العاضد عن مقدمه وسبب مقامه بذلك المسجد وأخبره بالصحيح في ذلك، ورآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه فأمر له بمال، وقال: أدع لنا يا شيخ، وأمره بالانصراف، فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية استفتى الفقهاء [في ذلك، فأفتاه جماعة من الفقهاء] «2» ، وكان نجم الدين الخبوشاني المذكور من جملتهم فبالغ في الفتيا وصرح بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام فوق ذلك فصح به رؤيا العاضد.
وفيها، وقع بين نور الدين وصلاح الدين وحشة في الباطن، فإن صلاح الدين سار ونازل الشّوبك وهي للفرنج، ثم رحل عنه خوفا أن يأخذه ولم يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر فتركه ولم يفتحه لذلك، وبلغ نور الدين ذلك فكتمه، وتوحش خاطره لذلك، ولما استقر صلاح الدين بمصر جمع أقاربه وكبراء دولته وقال: بلغني أن نور الدين يقصدنا فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه نقاتله ونصده، وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب، فأنكر على تقي الدين ذلك، وقال: أنا والدكم لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه، بل اكتب وقل لنور الدين، لو جاءني إنسان واحد من عندك وربط المنديل في(27/99)
عنقي وجرني إليك سارعت إليك (58) وانفضوا على ذلك، ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة، وقال: لو قصدنا نور الدين أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله، ولكن إذا أظهرنا ذلك يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا ولا ندري ما يكون من ذلك فإن جميع عسكرنا إنما هم أمراء نور الدين وغلمانه، وإن أظهرنا الطاعة تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله تعالى فكان كما قال.
وفيها، توفي الأمير محمد بن مردنيش «1» صاحب شرقي بلاد الأندلس وهي مرسبة وبلنسية «2» وغيرهما، فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب وسلموا إليه بلادهم «3» ، فسرّ بذلك يوسف وتسلمها منهم، وتزوج أختهم وأكرمهم، ووصلهم بالأموال الجزيلة، وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مئة ألف مقاتل فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا.
وفيها، عبر الخطا نهر جيحون فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد ابن أنوش تكين عساكره، وسار إلى لقائهم فمرض ورجع مريضا، وأرسل عسكرا مع بعض المقدمين فقاتلوا الخطا فانهزم عسكر خوارزم شاه، وأسر مقدمهم، ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك.
وفيها، اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي ويسمى المناسيب لنقل البطائق والأخبار. وفيها، عزل المستضيء وزيره عضد الدين بن رئيس الرؤساء مكرها لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله فلم يمكنه مخالفته.(27/100)
وفي (59) سنة ثمان وستين وخمس مئة «13»
توفي خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين «1» ، وكان قد عاد من قتال الخطا مريضا، ولما مات ملك بعده ابنه الصغير سلطان شاه محمود «2» ، ودبرت والدته «3» المملكة، وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما بجند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه وولاية أخيه الصغير أنف من ذلك، واستنجد بالخطا وسار إلى أخيه سلطان شاه وطرده ثم إن سلطان شاه قصد ملوك الأطراف واستنجدهم على أخيه تكش وطرده، وكانت الحرب بينهم سجالا حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمس مئة، واستقر تكش في ملك خوارزم.
وفي تلك الحروب بين الأخوين قتل المؤيد آي به السّنجري «4» ، قتله تكش صبرا، وملك بعده ابنه طغان شاه بن المؤيد أي به «5» .
وفيها، سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب [أخو] «6» صلاح الدين الأكبر من مصر إلى النّوبة للتغلب عليها، فلم تعجبه تلك البلاد، فغنم وعاد إلى مصر.(27/101)
وفيها، توفي شمس الدين إلدكز «1» بهمذان وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان إلدكز هذا مملوكا للكمال السّميرمي «2» ، وزير السلطان محمود ثم صار للسلطان محمود، فلما ولي مسعود ولاه وكبره حتى صار ملك أزربيجان وغيرها من بلاد الجبل وأصبهان والري، وكان عسكره خمسين ألف فارس، وكان يخطب في بلاده (60) بالسلطنة للسلطان أرسلان ابن طغريل «3» ولم يكن لأرسلان معه حكم، وكان إلدكز حسن السيرة.
وفيها، سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع مملوك لتقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب اسمه قراقوش «4» إلى أفريقية، ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصروها مدة، ثم فتحها قراقوش واستولى عليها، وملك كثيرا من بلاد أفريقية.
وفيها، غزا أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بلاد الإفرنج من الأندلس.
وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود، واستولى على مرعش وبهسنا ومرزبان وسيواس، فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويسأل الصلح، فقال نور الدين: لا أرضى إلا أن ترد ملطية على ذي النون بن الدانشمند، وكان قليج أرسلان قد أخذها منه، فبذل له سيواس واصطلح مع نور الدين، فلما مات نور الدين عاد قليج أرسلان واستولى على(27/102)
سيواس، وطرد عنها ذا النون بن الدانشمند.
وفيها، سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها، وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، وكان نور الدين قد وصل إلى الرقيم وهو بالغرب من الكرك، فرحل صلاح (الدين) عن الكرك عائدا إلى مصر، وأرسل تحفا إلى نور الدين واعتذر أن أباه مرض وهو يخشى موته فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وعلم المقصود في الباطن.
ولما وصل (61) صلاح الدين إلى مصر وجد أباه نجم الدين أيوب بن شاذي قد مات، وكان سبب موته أنه ركب بمصر فنفرت به فرسه، فوقع وحمل إلى قصره فبقي أياما ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة «1»
وفي سنة تسع وستين وخمس مئة «13»
ملك توران شاه اليمن، وكان صلاح الدين وأهله خائفين من نور الدين فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب إلى النّوبة فلم تعجبه بلادها، ثم سيره في هذه السنة بعسكره إلى اليمن «2» ، وكان صاحب اليمن حينئذ عبد النبي المقدم ذكره في سنة أربع وخمسين وخمس مئة، فجهز توران شاه ووصل اليمن وجرى بينه وبين(27/103)
عبد النبي قتال، فانتصر توران شاه وهزم عبد النبي، وهجم زبيد (ا) وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن وكان صاحبها اسمه ياسر «1» فخرج لقتال توران(27/104)
شاه فهزمه توران شاه، وهجم عدن وملكها وأسر ياسر (ا) واستولى توران شاه على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين، واستولى على أموال عظيمة من عبد النبي، وكذلك من عدن.
وفيها، في رمضان صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين، فإنهم قصدوا الوثوب عليه وإعادة الدولة العلوية، فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم، فمنهم عبد الصمد الكاتب، والقاضي (62) العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بن علي اليمني «1» .
وفي هذه السنة توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ابن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق بقلعة دمشق المحروسة، وكان نور الدين قد شرع بتجهيز الدخول إلى مصر وأخذها من صلاح الدين وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدين غازي [بن مودود] «2» بالشام، ويسير هو بنفسه إلى مصر فأتاه أمر الله الذي لا يرد، وكان نور الدين أسمر طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، حسن الصورة، وكان قد اتسع ملكه جدا وخطب له بالحرمين واليمن لما ملكها توران شاه بن أيوب، وكذلك كان يخطب له بمصر، وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وطبق الأرض ذكره بحسن السيرة والعدل «3» ، وكان من الزهد والعبادة على قدر عظيم، وكان يصلي غالب الليل كما قيل: (الكامل)(27/105)
جمع الشجاعة والخشوع لربّه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة وليس عنده تعصب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل دمشق وحماة وحمص وشيزر وبعلبك وغيرها لما تهدمت بالزلازل، وبنى المدارس الكثيرة الحنفية والشافعية، ولا يحتمل هذا «المختصر» »
ذكر فضائله.
ولما توفي نور الدين قام (63) ابنه الملك الصالح إسماعيل «2» بالملك بعده وعمره إحدى عشرة سنة، وحلف له العسكر بدمشق وأقام بها، وأطاعه صلاح الدين بمصر وخطب له بها، وضربت له السكة، وكان المتولي لتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم «3» ، ولما مات نور الدين وتولى ولده الملك الصالح سار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك جميع البلاد الجزرية.(27/106)
وفي سنة سبعين وخمس مئة «13»
في أولها اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز «1» جمع عظيم، وأظهر الخلاف على صلاح الدين، فأرسل إليه صلاح الدين عسكرا فقتل الكنز وجماعة معه، وانهزم الباقون.
وفي سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق وحمص وحماة، وسببه أن شمس الدين بن الداية المقيم بحلب أرسل سعد الدين كمشتكين «2» يستدعي الملك الصالح بن نور الدين من دمشق إلى حلب ليكون مقامه بها، فسار الملك الصالح مع سعد الدين إلى حلب، ولما استقر بحلب تمكن كمشتكين وقبض على شمس الدين بن الداية وإخوته، وقبض على الرئيس ابن الخشاب «3» وإخوته وهو رئيس حلب.
واستبد سعد الدين [كمشتكين] «4» بتدبير الملك الصالح فخافه ابن المقدم وغيره من أمراء دمشق، فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار صلاح الدين (64) جريدة في سبع مئة فارس، ولم(27/107)
يلبث فوصل إلى دمشق وخرج كل من بها من العسكر والتقوه وخدموه ونزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي «1» ، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال، ولما ثبت قدمه في دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب «2» .
وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص، وحماة، وقلعة بارين «3» ، وسلمية، وتل خالد، والرّها من بلد الجزيرة في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزّعفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماة لسوء تدبيره مع الناس، وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين، وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم إلّا بارين فإن قلعتها كانت له أيضا، فنزل صلاح الدين على حمص في حادي عشر جمادى الأولى وملك المدينة، وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها، ورحل إلى حماة فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من السنة وكان بقلعتها(27/108)
الأمير عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ بلاد الملك الصالح عليه، وإنما هو نائبه وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستحلفه جرديك على ذلك (65) وسار جرديك إلى حلب برسالة من صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين فملكها، ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين وصدوه عن حلب، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالا عظيمة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسل سنان جماعة ليقتلوا صلاح الدين ووثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصرا لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاح الدين إلى حماة ثامن رجب وسار إلى حمص فرحل الفرنج عنها، ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها وملكها في حادي عشري شعبان، ثم [سار] «1» إلى بعلبك فملكها.
ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي [صاحب الموصل] «2» يستنجده على صلاح الدين، فجهز جيشه صحبة أخيه مسعود بن مودود بن زنكي «3» [وجعل] «1» مقدم الجيش عز الدين محمود (ا) المعروف بسلفندار وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن(27/109)
مودود ليسير في الصحبة فامتنع مصانعة لصلاح الدين، فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار، ووصل عسكر الموصل صحبة عز الدين مسعود بن مودود وسلفندار إلى حلب، وانضم (66) إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة، وأن تفرد بيده دمشق، ويكون فيها نائبا للملك الصالح، فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا لقتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم بحلب وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام، ويكون للملك الصالح ما بقي بيده منها، فصالحهم على ذلك، ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال هذه السنة أعني سنة سبعين وخمس مئة.
وفي العشر الآخر من شوال ملك السلطان صلاح الدين بارين وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزّعفراني، وكان فخر الدين من أكابر الأمراء النورية.
وفيها ملك البهلوان بن إلدكز مدينة تبريز وأخذها من ابن آقسنقر الأحمد يلي.
وفيها، مات شملة التركماني «1» صاحب خوزستان وتولى ولده.
وفيها، وقع بين الخليفة وبين قطب الدين قيماز مقدم عسكر الخليفة ببغداد فتنة، فنهبت دار قيماز، وهرب إلى الحلّة ثم إلى الموصل، فلحقه في الطريق عطش شديد وهلك أكثر أصحابه، ومات هو قبل وصوله إلى الموصل، فحمل(27/110)
ودفن بظاهر باب العمادي «1» .
ولما هرب (67) قيماز خلع الخليفة على عضد الدين «2» ، وأعاده إلى الوزارة.
سنة إحدى وسبعين وخمس مئة إلى سنة ثمانين وخمس مئة
في سنة إحدى وسبعين وخمس مئة «13»
في عاشر شوال كان المصاف بين السلطان صلاح الدين وبين غازي صاحب الموصل بتل السلطان «3» ، فهرب سيف الدين غازي والعساكر التي كانت معه، فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين «4» وغيرهما، وتمت على سيف الدين الهزيمة حتى وصل إلى الموصل مرعوبا، وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع فسكنه وزيره، وأقام بالموصل.
واستولى صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرها وغنم ما فيها، ثم سار صلاح الدين إلى بزاعة فحصرها وتسلمها، ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال وصاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي وكان شديد البغض لصلاح الدين، وفتحها عنوة، وأسر ينال وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه، فسار ينال إلى الموصل فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة، ثم سار السلطان صلاح(27/111)
الدين إلى أعزاز ونازلها ثالث ذي القعدة وتسلمها حادي عشر ذي الحجة فوثب إسماعيلي على صلاح الدين فضربه بسكين في رأسه وجرحه فمسك صلاح الدين يد الإسماعيلي [وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي] «1» على تلك الحال، ووثب آخر عليه فقتله، وثالث فقتل، وجاء السلطان إلى خيمته مذعورا (68) وأعرض جنده وأبعد من أنكره منهم، ولما ملك السلطان أعزاز رحل عنها ونازل حلب في منتصف ذي الحجة وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين، وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب فسألوا صلاح الدين في الصلح فأجابهم و [أخرجوا] «2» إليه بنتا صغيرة لنور الدين فأكرمها وأعطاها شيئا كثيرا وقال لها: ما تريدين؟ فقالت قلعة أعزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها السلطان إليهم واستقر الصلح، ورحل صلاح الدين عن حلب في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين.
وفيها، نازل طاشتكين «3» أمير الحاج العراقي مكة وكان قد أمره الخليفة بعزل مكثر بن عيسى «4» صاحب مكة فجرى بين الحجاج وبينه قتال، فانهزم مكثر في البرية، وأقام طاشتكين أخاه داود «5» مقامه بمكة.(27/112)
وفيها في ذي الحجة «1» قدم توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام، وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بالحال، وكتب إليه أبياتا من شعر [ابن المنجّم] «2»
المصري «3» : (الكامل)
وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع
جزعا لبعد الدار عنه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع
ولأركبنّ إليه متن عزائمي ... ويخبّ ركب للغرام ويوسع «4»
ولأسرينّ الليل لا يسري به ... طيف الخيال ولا البروق اللمّع
وأقدّمنّ إليه قلبي مخبرا ... أني بجسمي عن قريب أتبع
(69) حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
وفي سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة «13»
قصد السلطان صلاح الدين بلد الإسماعيلية في المحرم فنهبه وخربه وأحرقه وحصر قلعة مصياف، وأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة يسأل أن يسعى في الصلح، فسأل(27/113)
الحارمي الصفح عنهم فأجابهم صلاح الدين وصالحهم ورحل عنهم، وأتم السلطان صلاح الدين مسيره إلى مصر فإنه كان قد بعد عهده بها بعد أن استقر له ملك الشام.
ولما وصل إلى مصر في هذه السنة أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على الجبل المقطم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع [وثلاث مئة ذراع] «1» بالهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفيها، أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الإمام الشافعي بالقرّافة «2» ، وعمل بالقاهرة مارستان «3» .
وفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة «13»
في جمادى الأولى سار السلطان إلى الساحل لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في رابع عشريه، فنهب وتفرق عسكره في الإغارة، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه فقاتلهم أشد قتال، وكان لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه أحمد وهو من أحسن الشباب أول ما تكاملت لحيته، فقال له أبوه تقي الدين (70) احمل عليهم فحمل على الفرنج وقاتلهم وأثر فيهم أثرا جميلا وعاد سالما، وأمره أبوه بالعود فقتل رجلا من الافرنج وقتل شهيدا، وتمت الهزيمة على المسلمين، وقاربت حملات الفرنج السلطان فولى منهزما إلى مصر على البرية ومعه من سلم ولقوا في طريقهم مشقة(27/114)
من العطش، وهلك كثير من الدواب، وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا تفرقوا للإغارة أسرى، وأسر الفقيه عيسى «1» ، وكان من أكبر أصحاب السلطان فافتداه السلطان من الأسر بعد (سنتين) «2» بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، قال ابن الأثير:
رأيت كتابا بخط يد صلاح الدين إلى أخيه توران شاه نائبه بدمشق يذكر له الواقعة، و [في] «3» أوله: (الطويل)
ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السّمر
ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا الله تعالى منه إلا لأمر يريده سبحانه وتعالى" وما ثبتت إلّا وفي نفسها أمر" «4»
وفيها، سار الفرنج وحصروا مدينة حماة في جمادى الأولى، وطمعت الفرنج بسبب بعد صلاح الدين بمصر وهزيمته من الفرنج، ولم يكن غير توران شاه بدمشق ينوب عن أخيه صلاح الدين وليس عنده كثير من العسكر، وكان توران شاه أيضا كثير الانهماك في اللذات مائلا إلى (71) الراحات، ولما حصروا حماة كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين وهو مريض، واشتد حصار الفرنج لحماة وطال زحفهم عليها حتى إنهم هجموا بعض أطراف المدينة وكادوا يملكون البلد قهرا بالسيف، ثم جد المسلمون في القتال وأخرجوا الفرنج إلى ظاهر السور، وأقام الفرنج كذلك على حماة أربعة أيام ثم رحلوا عنها إلى(27/115)
حارم، وعقيب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي «1» ، وكان له ابن من أحسن الناس شبابا فمات قبله بثلاثة أيام.
وفيها، قبض السلطان الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب على سعد الدين كمشتكين، وكان قد تغلب على الأمر وكانت حارم لكمشتكين، فأرسل الملك الصالح إليهم فلم يسلموها إليه فأمر لكمشتكين أن يسلمها فأمرهم بذلك فلم يقبلوا منه، فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة فعذب وأصحابه يرونه ولا يرحمونه حتى مات في العذاب «2» [وأصرّ أصحابه] «3» على الامتناع.
ووصل الفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة وحصروا حارم أربعة أشهر وأرسل الملك الصالح مالا للفرنج وصالحهم، فرحلوا عن حارم وبلغ أهلها الجهد، وبعد أن رحل الفرنج عنها أرسل إليها الملك الصالح عسكرا وحصروها فلم يبق بأهلها ممانعة فسلموها إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك.
(72) وفيها، وفي المحرم خطب للسلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل ابن السلطان محمد بن السلطان ملك شاه «4» المقيم ببلاد إلدكز «5» . وكان أبوه(27/116)
أرسلان الذي تقدم ذكره قد توفي «1» .
وفيها، في ذي الحجة قتل عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله «2» وزير الخليفة، وكان قد عبر دجلة عازما على الحج، فقتله الإسماعيلية، وحمل مجروحا إلى منزله فمات به، وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمس مئة.
وفي سنة أربع وسبعين وخمس مئة «13»
طلب توران شاه من أخيه صلاح الدين بعلبك، وكان السلطان أعطاها شمس الدين محمد بن عبد الملك (بن) المقدم لما سلّم دمشق إلى صلاح الدين، فلم يمكن صلاح الدين منع أخيه عن ذلك، فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك فعصى بها ولم يسلمها فأرسل السلطان وحصره ببعلبك فطال حصارها، فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض فعوض عنها «3» وتسلمها السلطان فاقتطعها أخاه توران شاه.
وفيها، كان بالبلاد غلاء عام «4» وتبعه وباء عام.
وفيها، سير السلطان صلاح الدين ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه «5» إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما،(27/117)
فاستقر كلّ واحد منهما بحفظ بلاده.
وفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة «13»
سار صلاح الدين وفتح حصنا كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان «1» بالقرب من بانياس عند بيت يعقوب، وفي ذلك يقول (73) علي بن محمد الساعاتي الدمشقي «2» : (الطويل)
أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
وفيها، كانت حرب بين عسكر السلطان صلاح الدين ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين عمر وبين عسكر قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم، وسببها أن حصن رعبان «3» كان بيد شمس الدين بن المقدم، وطمع فيه قليج أرسلان، وأرسل إليه عسكرا ليحصروه، وكانوا قريب عشرين ألفا، فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم، وكان يفتخر ويقول: هزمت بألف عشرين ألفا.
وفيها، في ثاني ذي القعدة توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد [الحسن] «4» ابن يوسف «5» وكان قد حكم في دولته ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر(27/118)
المعروف بابن العطار «1» بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء قام ظهير الدين بن العطار وأخذ البيعة لولده الناصر لدين الله «2» .
خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء «3» رابع ثلاثي خلفاء بني العباس
ولما استقرت بيعة الناصر حكم [أستاذ الدار] «4» مجد الدين أبو الفضل «5» ، وقبض على ظهير الدين بن العطار في سابع ذي القعدة ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتا على رأس حمال ليلة الأربعاء ثاني عشر [ذي] «6» القعدة «7» ، (74) فثارت به العامة وألقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره(27/119)
حبلا وجروه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة تعني أنها قلم وقد غمست في العذرة، ويقولون: وقّع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به مع حسن سيرته وكفه عن أموالهم «1» ، ثم خلص منهم ودفن.
وفيها، في ذي القعدة نزل توران شاه، أخو صلاح الدين عن بعلبك، وطلب عوضا عنها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب «2» فسار فرّخشاه إلى بعلبك، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية وأقام بها إلى أن مات.
وفي سنة ستّ وسبعين وخمس مئة «13»
في ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي «3» صاحب الموصل والديار الجزرية وكان مرضه السّل، وطال وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة أشهر، وكان حسن الصورة، مليح الشباب، تام القامة، أبيض اللون، عاقلا عادلا عفيفا، شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغارا، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفا عن أموال الرعية مع شح كان فيه، و [حين حضره الموت] «4» أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه(27/120)
عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه «1» ، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدبر الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز «2» .
وفيها، سار السلطان صلاح الدين (75) إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا، فقصد صلاح الدين إلى جهة بلاد ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقهم.
وفيها، توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب «3» أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما «4» ، وكان أجود الناس وأسخاهم كفا يخرج كل ما يحمل إليه من الأموال اليمنية، ودخل الإسكندرية ومع هذا لما مات كان عليه [نحو مئتي] «5» ألف دينار مصرية دينا فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما وصل إلى مصر هذه السنة في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.(27/121)
وفي سنة سبع وسبعين وخمس مئة «13»
عزم البرنس صاحب الكرك «1» على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع بذلك عز الدين فرّخشاه نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك وأغار عليها، وأقام في مقابلة البرنس ففرق البرنس جموعه وانقطع عزمه عن الحركة.
وفيها، وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف كثير، فخشي السلطان صلاح الدين [على اليمن] «2» فجهز جيشا مع جماعة من أمرائه «3»
فوصلوا إلى اليمن وأسرعوا واستولوا عليه.
وكان نائب (76) توران شاه على عدن عز الدين عثمان بن الزّنجيلي «4» ، وعلى زبيد خطّاب «5» بن كامل بن منقذ الكناني من بيت صاحب شيزر.(27/122)
وفيها، في رجب توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر «1» صاحب حلب وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليما عفيف اليد والفرج واللسان، ملازما لأمور الدين، لا يعرف له [شيء] «2» مما يتعاطاه الشباب، وأوصى بملك حلب إلى [ابن] «3» عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب واستقر في ملكها، وكاتبه أخوه عماد الدين [زنكي] «4» بن مودود صاحب سنجار في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك فلم يمكن مسعود إلا موافقته، وأجاب إلى ذلك فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها وسلم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل.
وفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة «13»
خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى الشام ومن عجيب الاتفاق أنه لما برز من القاهرة وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل [منهم] «5»
يقول شيئا في الوداع وفراقه، وفي الجماعة معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد «6» : (الوافر)
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار(27/123)
فنظر صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين (77) فلم يعد بعدها صلاح الدين إلى مصر مع طول المدة.
وسار السلطان وأغار في طريقه على بلاد الفرنج وغنم ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر، ولما سار السلطان إلى الشام اجتمعت الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقه فانتهز فرّخشاه ابن أخي السلطان الفرصة وسار إلى الشّقيف بعساكر الشام وفتحه وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك.
وفيها سيّر السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكها ويقطع الفتن عنها، وكان بها خطّاب بن منقذ الكناني وعز الدين عثمان الزّنجيلي [وقد عادا] «1» إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان قد سيره السلطان نائبا إلى اليمن تولى وعزلهما ثم توفي «2» فعاد بين خطّاب وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد فتحصن خطّاب في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه فأحسن صحبته. ثم إن [خطّابا] «3» طلب دستورا ليسير إلى الشام فلم يجبه إلا بعد جهد فجهز خطّاب أثقاله قدامه، ودخل خطّاب ليودع سيف الإسلام فقبض عليه وأرسل فاسترجع أثقاله وأخذ جميع ماله، وكان فيما أخذه سيف الإسلام من خطّاب [سبعون غلافا] «4» زردية مملوءة ذهبا عينا، ثم سجن [خطّابا] «2» في بعض قلاع اليمن فكان آخر العهد به «5» .(27/124)
وأما عثمان (78) الزّنجيلي فإنه لما جرى لخطّاب ذلك خاف وسار نحو الشام وسير بأمواله في البحر فصادفها مراكب سيف الإسلام فأخذوا كل ما لعثمان الزّنجيلي، وصفت اليمن لسيف الإسلام.
وفيها سار السلطان صلاح الدين من دمشق في ربيع الأول ونزل قرب طبرية وشن الإغارة على بلاد الفرنج مثل بيسان «1» وجينين والغور فغنم وقتل، وعاد إلى دمشق ثم سار إلى بيروت وحصرها وأغار على بلادها ثم عاد إلى دمشق، ثم سار إلى البلاد الجزرية وعبر الفرات من البيرة فسار معه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك بن بكتكين «2» ، وكان حينئذ صاحب حران وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب كيفا وصار معه، وحاصر السلطان الرّها وملكها وسلمها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل، وسار السلطان إلى الخابور وملك فرقيسياء وماكسين وعربان واستولى على الخابور جميعه ثم سار إلى نصيبين وحاصرها وملك المدينة ثم ملك القلعة وأقطع نصيبين أميرا كان معه يقال له أبو الهيجاء السّمين «3» ، ثم(27/125)
سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود (79) ومجاهد الدين قيماز للحصار وشحنوها بالرجال والسلاح فحصر السلطان الموصل وأقام عليها منجنيقا، فأقاموا من داخل المدينة تسعة مناجيق وضايق الموصل فنزل السلطان محاذيا باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا [على] «1»
باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري «2» أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم وكان ذلك في شهر رجب، فلما رأى حصارها يطول رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنر «3» وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى.
ثم سار السلطان إلى حران وعزل في طريقة أبا الهيجاء السمين عن نصيبين.
وفيها، عمل البرنس صاحب الكرك أصطولا في بحر أيلة وساروا في البحر فرقتين: فرقة أقامت على حصن أيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين بتلك النواحي فإنهم لم يعهدوا بذلك البحر فرنجيا قط، وكان بمصر الملك العادل [أبو] «4» بكر نائبا عن أخيه السلطان صلاح الدين فعمل أصطولا في بحر عيذاب وأرسله مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب «5» وهو متولي الأصطول، بمصر وكان مظفرا فيه شجاعة فسار حسام(27/126)
الدين مجدا في طلبهم وأوقع بالذين يحاصرون أيلة فقتلهم وأسرهم، وسار في طلب الفرقة الثانية وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز الشريف مكة والمدينة حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم فبلغ [رابغ] «1» فأدركهم (80) بساحل الحوراء «2» وتقاتلوا في البحر أشد قتال وظفر الله تعالى المسلمين بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم وأخذ الباقين أسرى، وأرسل منهم ألفي رجل إلى منى لينحروا بها «3» وعادوا بالباقين إلى مصر فقتلوا عن آخرهم.
وفيها، توفي عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب «4» صاحب بعلبك وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق وهو ثقته من بين أهله، وكان فرّخشاه شجاعا كريما فاضلا وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين وهو في البلاد الجزرية فأرسل إلى دمشق [شمس الدين] «5» محمد بن عبد الملك (بن) المقدّم ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرّخشاه «6» المذكور.(27/127)
وفي سنة تسع وسبعين وخمس مئة «13»
ملك صلاح الدين حصن آمد بعد حصار وقتال في العشر الأول من المحرم وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب كيفا، ثم سار إلى الشام وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عين تاب وحصرها وبها ناصر الدين محمد «1» [أخو] «2» الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عين تاب إلى إسماعيل المذكور فبقيت معه إلى الآن، فملكها بتسليم صاحبها إليه فأقره صلاح الدين عليها وبقي من جملة أمراء السلطان، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها وبها عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثرت اقتراحات أمراء حلب وأهلها عليه، وقد ضجر من ذلك، وقد كره حلب لذلك (81) فأجاب السلطان صلاح الدين إلى تسليم حلب على أن يعوض عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وسروج واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين: يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين زنكي الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره متى استدعاه ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن عجيب الاتفاق أن محيي الدين بن الزكي «3» قاضي(27/128)
دمشق مدح السلطان بقصيدة منها «1» : (البسيط)
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... [مبشر] «2» بفتوح القدس في رجب
فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وكان في جملة من قتل على حلب تاج الدين بوري «3» أخو السلطان الأصغر وكان شجاعا كريما طعن في ركبته فانفكت فمات منها.
ولما استقر الصلح عمل زنكي دعوة للسلطان واحتفل فيها فبينما هم في سرورهم إذ جاء إنسان فأسرّ إلى السلطان بموت أخيه بوري فوجد عليه قلبه وجدا عظيما وأمر بتجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحدا ممن كان في تلك الدعوة كيلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان السلطان يقول: ما وقعت علينا حلب رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم.
ولما ملك السلطان حلب أرسل إلى حارم وبها سرخك الذي ولاه الملك الصالح بن نور الدين في تسليم حارم وجرى (82) بينهما مراسلة فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج فوثب عليه أهل القلعة وقبضوه وسلموا [حارما] «4» إلى السلطان فتسلمها وقرر أمر بلاد حلب واقطع أعزاز أميرا يقال له سليمان بن جندر «5» .(27/129)
وفيها، قبض عز الدين صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قيماز.
وفيها، لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب جعل فيها ولده الملك [الظاهر] «1» غازي وسار إلى دمشق، وتجهز منها للغزو، وعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة، وأغار على بيسان وأحرقها، وشن الإغارة على تلك النواحي.
ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بمصر يأمره أن يلاقيه إليها، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر نائبا له موضع العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى [أخاه] «2» العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها وسيره إليها في شهر رمضان، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
وفيها، توفي [شاه أرمن سكمان] «3» بن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي «4» صاحب خلاط، وكان عمره لما توفي أربعا وستين سنة. ولما توفي شاه(27/130)
أرمن كان بكتمر «1» مملوك أبيه بميّافارقين. فلما سمع بكتمر بموته سار من ميّافارقين إلى خلاط، وكان أهلها يريدونه ومماليك شاه أرمن (83) متفقين معه فأول وصوله تملك خلاط وجلس على كرسي شاه أرمن واستقر في مملكة خلاط حتى قتل سنة تسع وثمانين.
وفي سنة ثمانين وخمس مئة «13»
سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب إلى بلاد الأندلس وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره وقصد بلاد الفرنج وحصر شنترين «2» من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكان حسن السيرة واستقامت له المملكة لحسن تدبيره.
ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف وكنيته أبو يوسف وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة.
وفيها، في ربيع الآخر سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزاة، وكتب إلى مصر فسارت عساكره إليها ونازل الكرك وضيق عليه وملك ربضه، وبقيت(27/131)
القلعة وليس بين القلعة والربض إلا خندق خشب «1» ، وقصد السلطان أن يطمه فلم يمكنه لكثرة المقاتلة فجمعت الفرنج فارسها وراجلها وقصدوه فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل [عن الكرك وسار] «2» إليهم وأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وسبى فأكثر، فسار إلى صبصطية «3» (84) وبها مشهد زكريا فاستنفذ من بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جينين وعاد إلى دمشق.
وفيها، مات قطب الدين إلغازي بن نجم الدين ألبي بن حسام الدين تمرتاش ابن إلغازي بن أرتق «4» صاحب ماردين وقد تقدم في سنة سبع [وأربعين] «5»
وخمس مئة ملك ألبي بن تمرتاش»
، وبقى ألبي في ملك ماردين حتى مات وملك ولده قطب الدين إلغازي، ولما مات إلغازي المذكور كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين يولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة مملوك والده نظام الدين ألبقش «7» حتى كبر يولق أرسلان، وكان به هوج وخبط فمات يولق «8» وأقام [ألبقش] «5» بعد [5] «5» أخاه [الأصغر] «5» أرتق أرسلان ولقبه(27/132)
ناصر الدين «1» ولم يكن له الحكم بل الحكم إلى ألبقش وإلى مملوك لألبقش اسمه لؤلؤ كان قد تغلب على أستاذه ألبقش بحيث كان لا يخرج ألبقش عن رأي لؤلؤ المذكور، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وست مئة «2» فمرض النظام ألبقش، وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله وعاد إلى ألبقش فضربه بسكين فقتله أيضا، واستقل ناصر الدين أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع.
وفيها، سار شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم «3» من عند الخليفة إلى صلاح الدين في رسالة ومعه شهاب الدين بشير الخادم «4» ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل فلم ينتظم (85) حالهما، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق وسارا في الحر، فمات بشير بالسّخنة «5» ، ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرّحبة ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا.
وفيها في المحرم، أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز(27/133)
من الحبس وأحسن إليه.
سنة إحدى وثمانين وخمس مئة إلى سنة تسعين وخمس مئة
في سنة إحدى وثمانين وخمس مئة «13»
حصر السلطان صلاح الدين الموصل وهو حصاره الثاني فأرسل إليه عز الدين مسعود والدته [وابنة عمه] «1» وابن عمه «2» نور الدين محمود بن زنكي وغيرها من النساء يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم فردهم واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين لا سيما والشفعاء بنت نور الدين وأخوها «2» ووالدة عز الدين، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاه أرمن صاحب خلاط في ربيع الآخر هذه السنة «3» فسار عن الموصل إلى جهة خلاط وملكها.
وفيها، توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «4»
صاحب حصن كيفا وآمد وملك بعده ولده قطب الدين سقمان «5» وكان صغيرا فقام بتدبيره القوام بن سماقا الإسعردي «6» ، وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين، وهو نازل على ميّافارقين، فأقره على ما كان بيد والده نور الدين(27/134)
محمد بن قرا أرسلان (86) وأقام معه أميرا من أصحاب والده.
ملك صلاح الدين ميّافارقين
لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميّافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي وبها من يحفظها من جهة شاه أرمن صاحب خلاط المتوفى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل فجاءته رسل عز الدين مسعود تسأل الصلح، واتفق أن السلطان مرض ورجع من كفر زمار «1» عائدا إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك، واستقر الصلح وأمنت البلاد.
ووصل السلطان إلى حران وأقام بها مريضا، واشتد به المرض حتى إنهم أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة.
ولما اشتدّ مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه صاحب حمص إلى حمص وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان.
وفيها، ليلة عيد الأضحى شرب بحمص صاحبها ناصر الدين (87) محمد ابن شير كوه بن شاذي فأصبح ميتا «2» ، قيل: إن السلطان صلاح الدين دسّ عليه من سقاه سمّا فمات لما بلغه مكاتبة أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان(27/135)
حمص وما كان بيد محمد على ولده شير كوه «1» وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئا كثيرا من الدوابّ والآلات وغيرها، واستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عوده من حران وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
في سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة «13»
أحضر السلطان ولده الملك الأفضل «2» من مصر وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان كان نائب عمه بمصر ومعه الملك الأفضل، فأرسل الملك المظفر يشتكي من الأفضل: إنني لا أتمكن من استخراج الخراج لأنني إذا أحضرت من عليه الخراج وأردت عقوبته يطلقه الملك الأفضل، فأخرج ولده من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين في الباطن لأنه ظنّ أنه إنما أخرج الأفضل من مصر ليتملّكها إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه العزيز عثمان «3» ولده نائبا عنه بمصر،(27/136)
واستدعى تقي الدين من مصر فتوقف عن الحضور، وقصد اللحوق بمملوكه قراقوش المستولي على بلاد برقة وأفريقيّة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين ويلاطفه فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان زاده حماة وعليها منبج والمعرة، (88) وكفر طاب، وميّافارقين، وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العزيز عثمان ولد السلطان بمصر هو والعادل، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل عوضه عنها حران والرّها.
وفيها، غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، وأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك فلم يفعل، فأنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده.
وفيها، توفي البهلوان محمد بن إلدكز «1» صاحب بلد الجبل همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلا حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان عثمان، وكان السلطان طغريل [بن أرسلان بن طغريل] «2» بن محمد بن ملكشاه السّلجوقي مع البهلوان، وله الخطبة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان خرج طغريل عن حكم قزل وكثر جمعه واستولى على بعض البلاد، وجرى بينه وبين قزل أرسلان حروب.
وفي سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة «13»
كانت مبادئ غزوات صلاح الدين وفتوحه.
ففيها، جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك خوفا على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل(27/137)
فأغازوا على بلاد عكّا وتلك الناحية وغنموا شيئا كثيرا، ثم سار السلطان ونزل طبرية وحصر مدينتها، وفتحها عنوة بالسيف (89) وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس «1» ، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص القسوس والبطاركة ينهونه عن موافقة السلطان، ويوبخونه فصار معهم، واجتمع الفرنج لملتقى السلطان فكانت وقعة حطين، وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس.
لما فتح السلطان طبرية اجتمعت الفرنج بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من طبرية وسار إليهم يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتدّ بينهم القتال، فلما رأى القومص شدة الأمر حمل على من قبله من المسلمين، وكان هناك تقي الدين عمر صاحب حماة فأفرج له ثم عطف عليه فقتل ألف فارس من أصحابه، ونجا القومص من المعركة، ووصل إلى طرابلس وبقي مدة ومات، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كلّ جانب وأبادوهم قتلا وأسرا، وكان من جملة من أسر ملك الفرنج الكبير «2»
والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل «3» والهنفري بن هنفري «4»(27/138)
ومقدم الدويّة «1» ، وجماعة من الإسبتارية «2» ، وما أصيب الفرنج من حين خرجوا إلى الشام وهي سنة إحدى وتسعين وأربع مئة بمصيبة مثل هذه الواقعة.
ولما انقضى المصافّ جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه (90) وكان الحرّ والعطش شديدا فسقاه ماء مثلوجا فسقى ملك الفرنج منه البرنس أرناط صاحب الكرك، فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أمانا له، ثم كلم السلطان البرنس ووبّخه وقرّعه على غدره وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه «3» بيده فارتعدت فرائص ملك الفرنج فسكّنه السلطان.
ثم عاد السلطان إلى طبرية، وفتح قلعتها بالإمان، ثم سار إلى عكّا وحاصرها وفتحها بالأمان ثم أرسل أخاه الملك العادل فحاصر مجدل يابا «4» وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيساريّة وحيفا وصفّورية ومعليا «5» والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكّا بالسف، وغنموا وقتلوا وأسروا(27/139)
أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس ففتحوا قلعتها بالأمان، ثم سار الملك العادل بعد فتح مجدل يابا إلى يافا وفتحها بالسيف، وسار السلطان إلى تبنين وفتحها بالأمان، ثم سار السلطان الملك الناصر صلاح الدين إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله لتسع بقين من جمادى الأولى هذه السنة، ثم سار إلى بيروت وحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، [وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى فبذل [جبيلا] «1» في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك] «2»
وكان صاحب جبيل من أعظم الفرنج وأشدهم عداوة للمسلمين ولم تك عاقبة إطاقه (91) حميدة، وأرسل السلطان من تسلم [جبيلا] «3» وأطلقه.
وفيها، حضر المركيس «4» في سفينة إلى عكّا، وهى للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكّا يقترح أمانا فكتب له الملك الأفضل أمانا فرده يشترط فيه شروطا فأجيب إليها، فراسل الملك الأفضل يعمله أن يدوس بساطه في يوم معلوم فصبر عليه الملك الأفضل، فاتفق في ذلك اليوم تحرك الهواء فأقلع المركيس إلى صور واجتمعت عليه الفرنج الذين بها وملك صور.(27/140)
وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين أخذ السلطان بلادهم بالأمان ويطلقهم [إلى صور] «1» من أعظم أسباب الضرر التي حصلت حتى راحت عكّا وقوي الفرنج بذلك.
ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوما وتسلمها بالأمان سلخ جمادى الآخرة، ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والدارون، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون، وغير ذلك.
(فتح بيت المقدس)
ثم سار السلطان ونازل القدس وبه من النصارى عدد يفوق الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين واشتد القتال بينهم وغلقوا السور. فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إليه، وقال: لا آخذها إلا بالسيف مثل ما أخذها الفرنج من المسلمين فعاودوه بالأمان وعرفوه ما هم عليه من الكثرة وأنهم إن أيسوا من الأمان قاتلوا خلاف ذلك فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها (92) من الرجال عشرة دنانير، ومن النساء خمسة، ومن الطفل دينارين، ومن عجز عن الأداء كان أسيرا، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة سابع وعشري رجب، وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور فخان المرتّبون في ذلك ولم يقبضوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب فتسلق المسلمون وقلعوه، وسمع لذلك ضجة عظيمة لم يعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور ومن الكفار التفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في الجامع الأقصى هريا ومستراحا فأمر السلطان بإزالة ذلك، وإعادة الجامع إلى ما كان(27/141)
عليه.
وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبرا بحلب وتعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل صلاح الدين من أحضره من حلب وجعله في الجامع الأقصى.
وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يدبر أمور البلد وأحواله، ويقوم بعمل الربط والمدارس للشافعية، ثم رحل إلى عكّا ومنها إلى صور وصاحبها المركيس قد حصنها بالرجال وحفر خنادقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها وطلب الأصطول فوصل إليه في عشر شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم وأخذوا خمس شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ (93) الباقون فطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في آخر شوال وكان أول كانون الأول، وأقام بعكّا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكّا في حلقته وأرسل إلى هونين فتحها بالأمان.
وفيها سار شمس الدين محمد بن عبد الملك (بن) المقدم حاجا، وكان هو أمير الحاج الشامي ليجمع بين الغزاة وزيارة القدس والخليل والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات ولما أفاض أرسل إليه مجير الدين طاشنكين أمير الحاج العراقي بمنعه من الإفاضة قبله فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون وارتفقوا مع الشاميين فقتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال ولو مكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيدا ودفن بمقبرة المعلى «1» .
وفيها، قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان(27/142)
محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن جقربك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق وملك كثيرا من البلاد، وأرسل قزل أرسلان بن إلدكز يستنجد الخليفة ويخوفه عاقبة أمر طغريل.
وفيها، سار شهاب الدين الغوري [ملك غزنة] «1» وغزا بلاد الهند.
وفيها، قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل مجد الدين بن الصاحب «2»
ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة فأخذت جميعها.
وفيها استوزر الخليفة الناصر جلال الدين [أبا المظفّر] «3» عبيد الله بن يونس ومشى أرباب (94) الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة «4» .
وفي سنة أربع وثمانين وخمس مئة «13»
شتّى السلطان في عكّا، وسار بمن معه إلى كوكب وجعل على حصارها الأمير قيماز النجمي «5» ، وسار منها في ربيع الأول ودخل دمشق وفرح الناس(27/143)
بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق خمسة أيام، وسار منها في ربيع الأول من السنة ونزل على بحيرة قدس غربي حمص وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت العساكر رحل ونزل تحت حصن الأكراد وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على انطرطوس سادس جمادى الأولى «1» [فوجد الفرنج قد أخلوا انطرطوس، فسار إلى مرقيّة «2»
فوجدهم قد أخلوها أيضا، فسار إلى تحت المرقب «3» وهو للاسبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى] ، وتسلمها ساعة وصوله، فجعل لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية «4»
صاحب شيزز، ثم سار السلطان إلى اللاذقية ووصل إليها رابع عشري جمادى الأولى ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليها فطلب أهلها الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين، ولما تسلمهما سلمهما إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب [فعمرها وحصن قلعتيها] «5» ، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها كما فعل بقلعة حماة.(27/144)
ثم رحل السلطان عن اللاذقية سابع عشري جمادى الأولى إلى صهيون «1»
وحاصرها وضايقها وطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدون، فأجابوا إلى ذلك وتسلم السلطان قلعة صّثيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له (95) ناصر الدين منكورس «2» صاحب قلعة أبي قبيس «3» ، ثم فرق عساكره في تلك الجبال فملكوا حصن بلاطنس «4» ، وكان الفرنج الذين به قد هربوا وأخلوه، وملكوا حصن [العيذو] «5» وحصن هونين.
ثم سار السلطان عن صهيون [ثالث] «6» جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشّغر فحاصرها السلطان ووجدها منيعة وضايقها فأرمى الله في قلوبهم الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم الجمعة [سادس عشر] «7» جمادى الآخرة، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب فحصر [سرمينية] «8» وضايقها واستنزل أهلها على قطيعة قررها(27/145)
عليهم وهدم الحصن وعفى أثره، وكان في هذه وفي جميع الحصون المذكورة من [أسرى] «1» المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة.
ثم سار السلطان من الشّغر إلى برزية «2» ورتب عسكره ثلاث فرق وداومها بالزحف وملكها باليف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة وسبى وقتل من أهلها غالبهم، قال ابن الأثير في" الكامل":
كنت مع السلطان في فتحه لهذه البلاد طلبا للغزاة فنحكي ذلك عن مشاهدة «3» .
ثم سار السلطان ونزل على جسر الحديد وهو على العاصي بقرب أنطاكية، فأقام عليه أياما حتى تلاحق به من تأخر من العسكر.
ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب.
ثم سار إلى (96) بغراس وحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك، وأرسل بينمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجيب إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية «4» [حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل(27/146)
طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها على ما ذكرناه «1» فجعل بينمد صاحب أنطاكية] ابنه في طرابلس.
ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة سار إلى حلب ودخلها ثالث شعبان «2» ، وسار منها إلى دمشق وأعطى عماد الدين زنكي (بن مودود) دستورا وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره «3» ، وزار الشيخ أبا زكريا المغربى «4»
وكان مقيما هناك وكان من عباد الله الصلحاء وله كرامات ظاهرة وكان مع السلطان الأمير أبو فليتة قاسم بن مهنا الحسيني «5» صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في [شهر] «6»
رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان:
العمر قصير والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها وخلى أخاه العادل بتلك الجهات فباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسليمها فسلّموها وهي: الكرك والشّوبك وما بتلك الجهة من البلاد.
ثم سار السلطان (97) من دمشق المحروسة في منتصف رمضان إلى صفد(27/147)
وحصرها وتسلمها بالأمان.
ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النّجمي يحاصرها «1» فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان في منتصف ذي القعدة وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد.
ثم سار السلطان إلى القدس فعيّد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكّا فأقام بها حتى انسلخت السنة.
وفيها، أرسل قزل بن إلدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر على طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن السلطان ملك شاه السّلجوقي ويحذره عاقبة طغريل، فأرسل الخليفة عسكرا إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة فغنم طغريل أموالهم وأسر مقدمهم الوزير جلال الدين «2» .
وفي سنة خمس وثمانين وخمس مئة «13»
سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون وبذل له تسليم الشقيف بعد مدة عيّنها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان وكان اسمه أرناط، وقال له في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعث به إلى دمشق فحبس.(27/148)
وفيها، كان حصار الفرنج عكّا
كان قد اجتمع بصور أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان فكثر (98) جمعهم حتى صاروا في عدد لا يحصى، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا المسيح وصوروا [عربيا] «1» يضرب المسيح وقد أدماه، وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من البحر عالم لا يحصى كثرة وساروا من صور إلى عكّا ونازلوها في منتصف رجب هذه السنة، وضايقوا عكّا وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار السلطان ونزل قريب الفرنج وقاتلهم في مستهل شعبان وباتوا على ذلك وأصبحوا، وحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج فأزالهم عن موقعهم والتزق بالسور وانفتح الطريق إلى المدينة فأدخل السلطان إلى عكّا عسكرا نجدة، وكان من جملتهم أبو الهيجاء السّمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى عشري شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم الوقعة العظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وحملوا على السلطان في القلب فأزالوه عن موقفه، وأخذ الفرنج يقتلون المسلمين إلى أن بلغوا خيمة السلطان فانحاز السلطان هو وخاصته إلى جانب وانقطع مدد الفرنج واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا الميمنة وعطف الجيش عليهم وأفنوهم قتلا، فقتل في ذلك الوقت من الفرنج قريب الثلاثين ألفا «2» .
ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية وبعضهم إلى دمشق (99) وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض القولنج وأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الوضع فوافقهم ورحل عن عكّا رابع عشر رمضان هذه السنة(27/149)
إلى الخرّوبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكّا وانبسطوا في تلك الأرض، ووصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب فظفر بأصطول الفرنج وأخذه وأخذ من الفرنج أموالا عظيمة ودخل بالكل إلى عكّا، فقوى به قلوب المسلمين وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر بالسلاح إلى أخيه السلطان فقويت قلوب المسلمين بوصوله.
وفي سنة ست وثمانين وخمس مئة «13»
بعد دخول صفر رحل السلطان من الخرّوبة وعاد إلى قتال الفرنج بعكّا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكّا ثلاثة أبرجة طول البرج ستون ذراعا جلبوا خشبها من جزائر البحر وعملوها طبقات وشحنوها بالسلاح [والمقاتلة] «1»
ولبّسوها جلود البقر والطين بالخل لئلا تعمل فيها النار، فتحيل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصلت إلى السلطان عساكر البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان «2» ، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل واغتم المسلمون لذلك وأيسوا من الشام بالكلية،(27/150)
فسلط الله على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم (100) إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فهلك غرقا، وأقاموا ابنه «1»
مقامه فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة اختارت أخا ابن الملك المذكور فرجعوا مع ابن الملك «2» ، ووصل مع ابن الملك المتولي أولا إلى فرنج عكّا ألف مقاتل وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان وفرنج عكّا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة فخرجت الفرنج بالفارس والراجل من خنادقهم وأزالوا الملك العادل عن موقفه وكان معه عسكر مصر، فعطف عليهم المسلمون وقتلوا من الفرنج قريب عشرة آلاف فارس فرجعوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة ولولا ذلك كانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له.
وفيها، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج [المحاصرون عكّا] «3»
مراكبهم إلى صور خوفا أن تنكسر فانفتحت الطريق إلى عكّا في البحر، وأرسل السلطان إليها البذل فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها فحصل التفريط لذلك.
وفيها، [في] «4» ثامن شوال، توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك «5» صاحب إربل، وكان مع السلطان بعسكره، ولما مات أقطع السلطان(27/151)
إربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد المظفر وهو حران والرّها، وسار مظفر الدين إلى إربل وملكها.
(101) وفيها، استولى الخليفة الناصر على حديثة عانة «1» بعد أن حصرها مدة.
وفيها، [أقطع] «2» السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرّها وسميساط «3» [والموزر] «4» الملك المظفر تقي الدين عمر زيادة على ما بيده وهو: ميّافارقين ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم «5» وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك.
وفي سنة سبع وثمانين وخمس مئة «13»
كان استيلاء الفرنج على عكّا
واستمر حصار الفرنج لعكّا إلى هذه السنة وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقا فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم وكانوا محاصرين لعكّا وهم كالمحصورين من خارج بالسلطان، واشتد حصارهم لعكّا وطال، وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع(27/152)
العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكّا يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة وقت الظهر، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصلبوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك (102) فعلم منهم الغدر واستمر أسرى المسلمين بها، ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكّا وتقرير أمرها رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيساريّة والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيساريّة إلى أرسوف «1» ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن مواقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا خلقا كثيرا أكثرهم من السّوقة، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة لئلا يحصل لها ما حصل لعكّا، فسار إليها وأخلاها ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكّها إلى الأرض، فلما فرغ من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون ثامن رمضان.
ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار «2» ، ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكّا،(27/153)
فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثامن ذي القعدة، وبقي كل يوم يقع بينهم وبين المسلمين مناوشات، ولقوا من ذلك شدة شديدة (103) ، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم.
ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر أعطاهم الدستور وسار إلى القدس لتسع بقين من ذي القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه وأمر العسكر بنقل الحجارة وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم [لعدة] «1» أيام.
وفيها، كانت وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر «2» .
كان تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاورة، واستولى على السويداء «3»
وحاني «4» واتقع مع بكتمر صاحب أخلاط فكسره وحصره في أخلاط وتملك معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد وهي لبكتمر وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد «5» فعرض للملك المظفر مرض شديد وتزايد(27/154)
به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان هذه السنة، فأخفى ولده المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد، ووصل به إلى حماة ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة وهو مشهور هناك.
وكان المظفر شجاعا شديد البأس، ركنا (104) عظيما من أركان بيت أيوب، وكان عنده فضل وأدب وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر توفي حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين «1» وأمه ست الشام بنت أيوب «2» أخت السلطان فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته.
ولما مات الملك المظفر راسل ابنه الملك المنصور السلطان صلاح الدين واشترط شروطا نسبه السلطان فيها إلى العصيان فكاد أمره أن يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور الملك العادل [أخا] «3» السلطان في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور حتى أجابه وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة وقلعة نجم ومنبج، واسترجع منه البلاد الشرقية وأقطعها أخاه الملك العادل بعد أن شرط السلطان على الملك العادل أن ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام خلا الكرك والشّوبك والصّلت والبلقاء ونصف خاصّه، بمصر وأن يكون عليه في كل سنة خمسة آلاف «4»(27/155)
غرارة تحمل من الصّلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية وقرر أمورها، وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة أعني سنة ثمان وثمانين.
ولما قدم الملك العادل (105) على السلطان كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين نهض واعتنقه وغشيه البكاء [وأكرمه] «1» وأنزله في مقدمة عسكره.
وفيها، في شعبان قتل قزل أرسلان عثمان بن إلدكز «2» ، ملك أذربيجان وهمذان والري وأصفهان بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره «3» ، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل طغريل بن أرسلان شاه في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصبهان وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف من قتله.
وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان «4» صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية ثم تغلب بعض إخوته على أبيه قليج أرسلان وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور «5» فخاف من ذلك، وسار إلى السلطان مستجيرا فأكرمه السلطان(27/156)
وزوجه بابنة أخيه الملك العادل وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة وقد انقطعت أطماع أخيه منه.
قال ابن الأثير: لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع (106) معز الدين قيصر شاه المذكور ترجل معز الدين له فترجل السلطان، فلما ركب السلطان عضده معز الدولة وركّبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود «1» صاحب الموصل مع السلطان إذ ذاك فسوى ثياب السلطان، فقال بعض الحاضرين:
أما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويصلح ثيابك ابن أتابك زنكي «2» !
وفي سنة ثمان وثمانين وخمس مئة «13»
سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها والسلطان في القدس.
وفيها، قتل المركيس «3» صاحب صور قتله الباطنية، وكان قد دخلوا في زيّ الرهبان إلى صور.
وفيها، عقدت الهدنة مع الفرنج، وعاد السلطان إلى دمشق، وكان سبب ذلك أن ملك الانكتار مرض فطال عليه البيكار «4» فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجب السلطان إلى الصلح، ثم اتفق(27/157)
الأمراء عليه لطول البيكار وضجر العسكر فأجاب السلطان واستقر أمر الهدنة يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الانكتار بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع بذلك السلطان، وحلف الكندهري «1» ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج (107) ووصل ابن الهنفري وباليان «2» إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من مقدمي الفرنج فأخذوا يد السلطان على الصلح واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والأفضل والظاهر ابني السلطان، والملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر صاحب حماة، والملك المجاهد شير كوه صاحب حمص، والأمجد بهرام شاه ابن فرّخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين دلدرم «3» الياروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البر والبحر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر «4» أولها [يوافق أول] «5» أيلول الموافق لحادي عشري شعبان وكانت الهدنة على أن تستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيساريّة وأرسوف وحيفا وعكّا بأعمالهم، وأن تكون عسقلان خرابا، وشرط السلطان دخول(27/158)
صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم وأن تكون لد والرّملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله، وأمر بتشييد أسواره، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يملك الفرنج القدس (108) ، ثم لما ملك الفرنج القدس سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة وفوض تدريسها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد «1» .
ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مئة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك.
ثم فنده الأمراء، وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفا من غدرهم، فانتقض عزمه، ورحل عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم إلى بيسان، ثم إلى كوكب وبات بقلعتها، ثم رحل إلى طبرية، ولقيه بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكّا لما أخذها الفرنج مع من أسر «2» فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق ثم [سار منها قراقوش] «3» إلى مصر، ثم سار [السلطان] «3» إلى بيروت، ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي عشري شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم،(27/159)
وسار السلطان إلى دمشق، ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال، وفرح الناس به لأن غيبته عنهم كانت أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى العساكر دستورا فودعه الملك الظاهر وداعا لا لقاء بعده، وسار إلى حلب وبقي مع السلطان (109) بدمشق ولده الملك الأفضل والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان، وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالبا الديار الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين عمر، فوصل إلى دمشق حادي عشري [ذي] «1» القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه.
وفيها، وقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي الأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب «2» [وأميرين معه] «1» .
وفيها، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق «3» ، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين قد ولى كل واحد منهم قطرا من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه «4» ، وكان أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكان، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة(27/160)
قونية وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته أنا بين يديك أنفذ أوامرك، ثم إنه أشهد على والده أنه قد جعله ولي عهده، ثم مضى ملكشاه إلى حرب أخيه (110) نور الدين سلطان شاه «1» صاحب قيساريّة ووالده في القبضة معه وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيساريّة لقتاله، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة فهرب إلى ابنه سلطان شاه صاحب قيساريّة فأكرمه وعظمه كما يجب عليه فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية، وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده كلما ضجر منه واحد منهم تنقل إلى آخر حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو «2» صاحب برجلو فقوى أباه قليج أرسلان وأعطاه وجمع له وجيّشه وسار [معه] «3» إلى قونيه وملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مات في التاريخ المذكور فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها، [واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل فاستقر كيخسرو في ملك قونية] «3» وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان.
ثم إن ركن الدين سليمان «4» أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو وأخذ منه قونية فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيرا بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ست مئة وملك بعده ولده(27/161)
قليج أرسلان «1» فرجع غياث الدين كيخسرو إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان، وملك بلاد الروم جميعها واستقرت سلطته ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل وملك بعده ابنه عز الدين كيكاوس «2» ثم توفي كيكاوس (111) وملك بعده أخوه علاء الدين كيقباذ، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وست مئة «3» ، وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ «4» ، وكسره التتر سنة أربع وأربعين وست مئة، وتضعضع حينئذ ملك السلاجقة ببلاد الروم، ثم مات كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور ملك سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له في السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين «5» هما ركن الدين «6» وعز الدين «7» فملكا بعده معا(27/162)
[مدة] «1» مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين معين الدولة البرواناه «2» والبلاد في الحقيقة للتتر ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابنا لركن الدين «3» يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه وهو نائب التتر على ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى.
وفيها، غزا شهاب الدين الغوري الهند، فغنم وقتل ما لا يحصى.
وفيها، خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس بعد قتل قزل أرسلان بن إلدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمس مئة «5» .
وفي سنة تسع وثمانين وخمس مئة «13»
كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيوب تغمده الله برحمته.
(112) دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق على أكمل [ما يكون(27/163)
من] «1» المسرّة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيدا، وغاب خمسة عشر يوما، وصحبته أخوه الملك العادل، ثم عاد إلى دمشق، وودعه أخوه الملك العادل وداعا لا لقاء بعده، وسار إلى الكرك، وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان وأقام السلطان بدمشق، وركب يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكانت عادته [أن] «1» لا يركب إلا وعليه الكزاغند، فركب ذلك اليوم وقد اجتمع بسبب اجتماع الحجاج وركوبه عالم كثير، ولم يلبس الكزاغند ثم ذكره وهو راكب فطلبه فلم يجده لأنه لم يحمل معه «2» ، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن، ثم عاد السلطان بين البساتين على جهة المنيبع «3» ، ودخل إلى القلعة على الجسر، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وفصده الأطباء في الرابع «4» فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة وغاب ذهنه، وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين فاستراح بدنه، وتناول من ماء الشعير مقدارا صالحا ثم لحقه عرق عظيم حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة ثاني عشر مرضه وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر «5» إمام الكلّاسة ليبيت عنده في القلعة (113) بحيث إن(27/164)
احتضر بالليل لقنه الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة وهي المسفرة عن نهار الأربعاء ثامن عشري صفر «1» بعد صلاة الصبح سنة تشع وثمانين، وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته، وغسله الخطيب الدولعي «2» بدمشق وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب [فوط] «3» وجميع ما احتاجه من ثياب تكفينه أحضرها القاضي الفاضل من جهات حلّ عرفها.
وصلى عليه الناس ودفن بقلعة دمشق في الدار التي كان مريضا فيها وكان نزوله إلى قبره بعد صلاة العصر من النهار المذكور.
وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له عندما اشتد بوالده المرض، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل الكتب بوفاة والده إلى أخيه الملك العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، وإلى عمه الملك العادل بالكرك، ثم إن الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع وكانت دارا لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة ومشى الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث «4» إلى باب البريد،(27/165)
وأدخل الجامع ووضع قدام النسر «1» وصلى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي ثم دفن، وجلس ابنه الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وانفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النّوبة أموالا عظيمة.
(114) وكان مولد السلطان بتكريت في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة فكان عمره سبعا وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه بالديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه للشام قريبا من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا وبنتا واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسة مئة، وكان العزيز عثمان أصغر منه نحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت «2» حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل «3» صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهما وجرم واحد صوريّ، وهذا من رجل له البلاد المصرية والشام واليمن والشرق دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف دارا ولا عقارا، قال العماد الكاتب «4» :
حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش(27/166)
فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله ولا يفضل [يوما] «1» على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصرا في الفقه تصنيف سليم الرازي «2» ، وكان حسن الخلق، صبورا على المكاره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا (115) يتغير عليه، وكان يوما جالسا فرمى بعض المماليك بسر موجه فأخطأ به ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت قريبا منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها.
وكان طاهر المجلس لا يذكر أحدا في مجلسه إلا بخير، وطاهر اللسان فلا يولغ بشتم أحد قط.
قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بفواته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه.
ولما توفي السلطان الملك الناصر استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها ولده الأفضل نور الدين علي.
وبالديار المصرية الملك العزيز عماد الدين عثمان.(27/167)
وبحلب الملك الظاهر [غياث الدين] «1» غازي.
وبالكرك والشّوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب.
وحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر.
وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب.
وبحمص والرّحبة وتدمر الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شير كوه شاذي.
وبيد الملك الظافر خضر «2» بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل.
وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون منهم:
سابق الدين عثمان بن الداية (116) بيده شيزر وأبو قبيس.
وناصر الدين منكورس بن خماردكين بيده صهيون وحصن برزية.
وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر.
وعز الدين [سامة] «3» بيده كوكب وعجلون.(27/168)
وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم «1» بيده بعرين وكفرطاب وفامية.
والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة.
واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير «2» مصنف" المثل السائر" «3» وهو أخو عز الدين بن الأثير مصنف" الكامل" فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر.
قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير بوزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت الأمراء بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة ووقعوا في أخيه الأفضل فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز.
وفيها، وبعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي هي وراء الفرات.
وفي هذه السنة لما مات صلاح الدين كاتب عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل ملوك البلاد المجاورة للموصل يستنجدهم، واتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، وسار إلى حران وغيرها فلحق عز(27/169)
الدين مسعود إسهال قوي، وضعف (117) فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل وصحبته مجاهد الدين قيماز فحلف العساكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود «1» وقوي بعز الدين مسعود المرض وتوفي في السابع والعشرين من شعبان هذه السنة «2» ، وكانت مدة ما بين وفاته ووفاة صلاح الدين نصف سنة، ومدة ملك عز الدين الموصل ثلاث عشرة سنة وتسعة أشهر، وكان دينا خيرا عادلا كثير الإحسان، أسمر، ميلح الوجه، خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي بن آقسنقر، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القائم بأمره مجاهد الدين قيماز.
وفي هذه السنة أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر «3» صاحب خلاط، وبين قتله وموت السلطان شهران، ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين أسرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وعمل تختا وجلس عليه، [ولقب] «4» نفسه السلطان المعظم [صلاح الدين] «5» ، وكان اسمه بكتمر فسمى نفسه عبد العزيز «6» وكأنه قد فعل ذلك، فلم يمهله الله تعالى. وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاه أرمن. وكان له(27/170)
خشداش «1» اسمه هزار ديناري «2» ، واسم هزار ديناري آق سنقر ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى خلاط فاشتراه منه شاه أرمن بن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاه (118) أرمن فجعله ساقيا له ولقب هزار ديناري وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر وخلّف بكتمر ولدا «3» وأخذ هزار ديناري ولد بكتمر وأمه واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وعمر ابن بكتمر سبع سنين، واستقرّ بدر الدين آق سنقر هزار ديناري في مملكة خلاط حتى توفي سنة أربع وتسعين وخمس مئة على ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى.
وفيها، شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصورا.
وفيها، توفي سلطان شاه بن أرسلان بن خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين «5» ، وكان قد ملك خراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمس مئة «6» .(27/171)
وفيها، مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم «1» أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة ولأخيه مكثر تارة حتى مات.
وفي سنة تسعين وخمس مئة «13»
قتل طغريل بن أرسلان بن طغريل بن السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جقربك داود بن ميكائيل بن سلجوق «2» ، وكان قد حبسه قزل أرسلان بن إلدكز، وخرج طغريل من الحبس سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، وملك همذان وغيرها، وجرى بينه وبين مظفر الدين أزبك بن محمد البهلوان (119) بن إلدكز «3» حرب، وقيل: بل هو قطلغ إينانج «4» أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش وخاف منه فلم يجتمع بخوارزم شاه تكش، وملك الري وذلك سنة ثمان وثمانين، وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قصد خوارزم فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه سنة تسع وثمانين، وتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد ابن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه «5» مرو.(27/172)
ولما دخلت سنة تسعين سار تكش ليحارب طغريل السلجوقي فسار طغريل إلى لقائه قبل اجتماع عسكره، والتقى العسكران بالقرب من الري وحمل طغريل بنفسه فقتل، وكان قتله في رابع وعشري ربيع الأول هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش فأرسل إلى بغداد فنصب بهاد عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان واقطتع الباقي لمماليكه، ورجع تكش إلى خوارزم.
وهذا طغريل هو آخر من ملك بلاد العجم من السلاطين السلجوقية، وقد تقدم ذكر ابتداء دولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة «1» وأول من ملك منهم العراق وأزال دولة بني بويه طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق «2» ، ثم ملك بعده ألب أرسلان (120) بن جقربك داود بن ميكائيل «3» ، ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان «4» ، ثم ابنه محمود بن ملكشاه «5» ، وكان طفلا، فقام بتدبير الدولة والدته تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه «6» ، ثم أخوه محمد بن ملكشاه «7» ، ثم ابنه(27/173)
محمود بن محمد «1» ، ثم ابنه داود [بن محمود] «2» بن محمد مدة يسيرة «3» ، ثم عمه طغرلبك بن محمد، ثم أخوه مسعود بن محمد، ثم ابن أخيه ملكشاه ابن محمود بن محمد أياما يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر، وقام من بني سلجوق ثلاثة أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور والثاني سليمان شاه بن محمد بن السلطان ملكشاه الأكبر وهو عم محمد المذكور والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن السلطان ملكشاه، وكان إلدكز مزوجا بأم أرسلان شاه المذكور فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همذان سنة خمس وخمسين وخمس مئة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وسم ملكشاه بن محمود ومات بأصفهان في سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وانفرد أرسلان شاه بن طغريل ربيب إلدكز على السلطنة، ثم ملك [بعده] «2» ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل في سنة [ثلاث وسبعين] «4» وخمس مئة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة أعني سنة تسعين وخمس مئة، وانقرضت به دولة السلجوقية من تلك البلاد.
وفيها، أرسل الخليفة الناصر عسكرا مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي المعروف بابن القصاب «5» (121) إلى خوزستان وهي بلاد شملة وأولاده من(27/174)
بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة واختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خوزستان وملك مدينة تستر في محرم سنة إحدى وتسعين وغيرها من البلاد، وملكوا قلعة الناظر وقلعة كاكرد وقلعة لا موج وغيرها من البلاد والحصون وأنفذوا بني شملة أصحاب خوزستان إلى بغداد.
وفيها، أعني سنة تسعين استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، وسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق وأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الأفضل بدمشق على الشرب وسماع الأغاني ليلا ونهارا وأشاع ندماؤه أن عمه العادل حسن له ذلك فكان يعمل بالخفية، فأفسده العادل! «فلا خير في اللذّات ما دونها ستر»
فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري يديرها برأيه الفاسد، ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكر، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.(27/175)
سنة إحدى وتسعين وخمس مئة إلى سنة ست مئة
(122) في سنة إحدى وتسعين وخمس مئة «13»
سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد مملكة خوزستان إلى همذان، وملكها وأخذ يستولي على تلك البلاد للخليفة فتوفي مؤيد الدين بن القصاب في أوائل شعبان سنة اثنتين وتسعين.
وفيها، غزا يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب بالأندلس الفرنج وجرى بينهم مصاف عظيم انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمون ما لا يحصى «1» .
وفيها، جهز الخليفة الإمام الناصر عسكرا مع مملوك له اسمه سيف الدين طغريل «2» فاستولى على أصبهان.
وفيها، قدّم مماليك البهلوان عليهم مملوكا من البهلوانية اسمه ككجا «3» ، فعظم أمره، واستولى على الري وهمذان.(27/176)
وفيها، عاود الملك العزيز عثمان قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، وسار ونزل الفوّار من أرض السواد من بلاد دمشق، واضطرب بعض أمرائه عليه وهم طائفة من الأسدية وفارقوه، فبادر العزيز إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الأفضل قد استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه العزيز، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل العادل والأفضل ومن انضم إليهما من الأسدية في أثر العزيز طالبين مصر، وساروا حتى نزلوا على بلبيس، وقد ترك العزيز فيها جماعة من الصلاحية، وقصد الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه عمه العادل، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليها، فمنعه عمه العادل أيضا، وقال: مصر (123) لك متى شئت، وكان العادل مع العزيز في الباطن، وقال: أرسل لي القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهما لما رأى من فساد أحوالهما، فدخل عليه الملك العزيز وسأله فتوجه من القاهرة إلى الملك العادل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما، وأقام العادل بمصر عند العزيز على حسب تقرير أمور المملكة، وعاد الأفضل إلى دمشق.
وفيها، كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة انتصر فيها يعقوب وانهزم الفرنج.
وفي سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة «13»
سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كواكير «1» بينهما نحو خمسة أيام(27/177)
فصالحه أصحابها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة.
وفيها، سلّم صدر الدين محمد بن عبد اللطيف الخجندي «1» ، رئيس الشافعية أصفهان إلى عسكر الخليفة فقتله سنقر الطويل «2» شحنة الخليفة بأصبهان بسبب منافرة جرت بينهما.
وفيها، نقل الملك الأفضل أباه صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، وكان مدة لبثه في القلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة وأموره مسلّمة إلى وزيره (124) ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه، فلما بلغ العادل والعزيز بمصر اضطراب الأمور على الأفضل اتفق العادل والعزيز على أن يأخذا دمشق [وأن يسلمها العزيز] «3» إلى العادل، وتكون السكة والخطبة للعزيز بسائر البلاد كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الملك الأفضل إليهما فلك الدين «4»
أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخا الملك العادل لأمه «5» ، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه، وأظهر الإجابة لما طلبه، وأتم العادل والعزيز السير حتى نازلا دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل فكاتب بعض الأمراء من داخل [البلد] «6» الملك العادل وصاروا معه أنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك(27/178)
العادل والعزيز ضحى يوم الأربعاء سادس عشري رجب هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج «1» . والعادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير [مختفيا] «2» في صندوق خوفا عليه من القتل، وكان الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضدا له، فأخذت منه بصرى أيضا فلحق بأخيه الملك الظاهر فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق (125) يوم الأربعاء رابع شعبان ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه اتفاقهما، وتسلمها الملك العادل ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهرا، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز.
ولما استقر الملك الأفضل بصرخد كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه أبي بكر وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب «3» : (البسيط)(27/179)
مولاي إنّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حقّ علي
فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فكتب الملك الناصر جوابه: (الكامل)
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق يخبر أنّ أصلك طاهر
غصبوا عليا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبيّ له بيثرب ناصر
فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر
وفي سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة «13»
توفي في نيسابور ملكشاه بن تكش «1» ، وكان أبوه خوارزم شاه تكش قد جعله فيها، وجعل له الحكم على تلك البلاد «2» وجعله ولي عهده، وخلف ملكشاه ولدا اسمه هندوخان «3» ، فلما مات ملكشاه جعل تكش بنيسابور ولده الآخر قطب الدين محمد (ا) وهو الذي ملك بعد أبيه تكش، وجعل لقبه علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه ومحمد عداوة مستحكمة.
(126) وفيها، توفي في شوال سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب «4» صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام كان ولده الملك المعز «5»(27/180)
إسماعيل بالسمرين فبعث إليه جمال الدولة كافور جماعة من الجند فعرفوه بوفاة والده، ومضوا به إلى ممالك أبيه فسلموها إليه.
وكانت وفاة سيف الإسلام [بالمنصورة] «1» ، وكان شديد السيرة مضيقا على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه، ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى حتى إنه [من كثرته] «2» كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره.
وفي سنة أربع وتسعين وخمس مئة «13»
في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «3»
صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة، متواضعا يحب العلم وأهله إلا أنه كان شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين محمد «4» ، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين [يرنقش] «5» مملوك أبيه.
وفيها، في جمادى الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود(27/181)
ابن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين فأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد ابن زنكي، فأرسل قطب الدين واستنجد الملك العادل فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية ففارق نور الدين أرسلان نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وملك نصيبين.
وفيها، سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى وهي للخطا وحاصرها وملكها وكان تكش (127) أعور فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلبا أعور وألبسوه قباء [وقلنسوة] »
، وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم ورموه في المنجنيق إليهم، فلما ملكها تكش أحسن إلى أهل بخارى، وفرق فيهم أموالا ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه.
وفيها، وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، فسار الملك العادل ونزل على تل العجول «2» وأتته النجدة، ووصل إليه سنقر الكبير «3» صاحب القدس، وميمون القصري «4» صاحب نابلس، وسار الملك العادل إلى يافا وفتحها بالسيف وقتل مقاتلتها وسبى نساءها وصبيانها، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، وسار الملك العزيز بعساكره واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور، ثم رحل الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه وجعل إليه أمر الحرب والصلح.
ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العادل أمر القدس إلى صارم(27/182)
الدين قطلق «1» مملوك عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب.
ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المرة مدحه القاضي ابن سناء الملك بقصيدة منها «2» : (السريع)
قدمت بالسّعد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدم «3»
أغثت تبنين وخلّصتها ... فريسة من ماضغي ضيغم
(128) شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر لا تعرف من أخزم
مقدّم «4» صار جمادى به ... كمثل ذي الحجة في الموسم «5»
ثم طاول الملك العادل الفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق.
ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ حسام الدين يولق أرسلان بن ألبي بن تمرتاش بن إلغازي بن أرتق، وليس ليولق من الحكم شيء وإنما الحكم إلى مملوك اسمه ألبقش «6» .
وفيها، توفي بدر الدين هزار ديناري صاحب خلاط آقسنقر «7» ، وقد تقدم ذكر تملكه لخلاط سنة تسع وثمانين وخمس مئة «8» .(27/183)
ولما توفي هزار ديناري استولى على خلاط خشداشه قتلغ «1» ، وكان مملوكا أرمني الأصل من سناسنة فملك خلاط سبعة أيام ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة وقتلوه واتفق كبراء الدولة وأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلا فيها واسمها [أرزاس] «2» وأقاموه في مملكة خلاط [ولقبوه] «3»
الملك المنصور وقام بتدبيره شجاع الدين قتلغ الدوادار، وكان قتلغ المذكور قفجاقي الجنس دوادار (ا) لشاه أرمن سكمان بن إبراهيم، واستقر محمد بن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وست مئة، فقبض على أتابكه قتلغ الدوادار، وحبسه ثم قتله، فخرج عليه مملوك لشاه أرمن يقال له عز الدين بلبان، واتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا (129) على محمد بن بكتمر وحبسوه ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل، وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان صاحب أرزن «4» ، وقصد طغريل أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها وعصوا عليه فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب «5» وتسلم خلاط وملكها [قريب] «6» [ثماني] «7» سنين «8» .(27/184)
وفي سنة خمس وتسعين وخمس مئة «13»
منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب «1» ، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، وتقنطر وحمّ في سابع المحرم بجهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حمّاه، ودخل القاهرة يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في الأمعاء، واحتبس طبعه فمات في التاريخ المذكور، وكانت مدة ملكه ست سنين إلا شهرا، [وكان] «2» عمره سبعا وعشرين سنة وأشهرا، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل والرفق بالرعية والإحسان إليهم ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز فخر الدين جهاركس «3» فأقام في الملك الملك المنصور محمد بن الملك العزيز واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد فأرسلوا إليه، فسار (130) محثا ووصل القاهرة على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وشهورا، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر في تسعة(27/185)
عشر نفرا متنكرا خوفا من أصحاب عمه العادل فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الآخر، ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه فترجل عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك الأفضل إلى بلبيس التقاه العسكر فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه فتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل وهو محاصر ماردين، وأرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير [عليه] «1» بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل [مسيره] «2» إلى دمشق فترك على ماردين ولده الملك الكامل «3» ، وسار الملك العادل وسبق الأفضل إلى دمشق فدخلها قبل نزول الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره إلى المدينة حتى وصلوا إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد ثم (131) تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند الملك العادل وعلى أهل دمشق وأشرف الأفضل والظاهر على أخذ دمشق وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى.(27/186)
وفيها، قصد الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن المقدم وحاصرها، وكان الأمير عز الدين مع الملك العادل محصورا بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المناجيق وجرح حال الزحف، ثم فتحها تاسع عشري ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها.
وفيها، في جمادى الآخرة «1» ، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة «2» ، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك، وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك ابنه محمد «3» ، وتلقب بالناصر، ومولد محمد سنة ست وسبعين وخمس مئة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين.
وفيها، رحل عسكر (132) الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين.
وفيها، كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين محمد ملك الغورية وهو بفيروز كوه، وسببها أن الإمام فخر الدين الرازي محمد بن عمر «4» كان قد قدم(27/187)
إلى غياث الدين فبالغ غياث الدين في إكرامه، وبنى له مدرسة بغرب جامع هراة فعظم ذلك على الكرامية وهم كثيرون بهراة ومذهبهم التجسيم والتشبيه وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا الإمام فخر الدين لكونه [شافعيا] «1» وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشفعوية حضروا بفيروز كوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر الإمام فخر الدين الرازي والقاضي عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة «2» وهو من الكرامية الهيصمية وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه، فتكلم الرازي فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام فقام غياث الدين فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه وبالغ في أذاه وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل مولانا [إلا] «3» وأخذك الله، فصعب على الملك ضياء الدين «2» وهو ابن عم غياث الدين وزوج ابنته، وشكا إلى غياث الدين فخر الدين الرازي ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة فلم يصغ إليه غياث الدين، فلما كان الغد وعظ الناس [ابن عم المجد] «4» بن القدوة بالجامع، وقال بعد (133) حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ
«5» .
أيها الناس: إننا لا نقول إلا ما صحّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأيّ حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذبّ عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية معه واستغاثوا وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة وبلغ(27/188)
ذلك السلطان غياث الدين فبعث جماعة سكّنوا الناس، ووعدهم بإخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم إلى فخر الدين بالعود إلى هراة، فعاد إليها.
وفيها، في ربيع الأول توفي مجاهد الدين قيماز «1» بقلعة الموصل وهو الحاكم بدولة نور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكما على عز الدين مسعود والد نور الدين أرسلان حتى قبض عليه مسعود ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلا أديبا فاضلا في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وبنى عدة جوامع وربط ومدارس.
وفيها، فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية، وصار شافعيّ المذهب.
وفي سنة ست وتسعين وخمس مئة «13»
كان في أوائلها الملكان الأفضل والظاهر على دمشق محاصريها، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين (134) الأفضل والظاهر وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجدا عظيما وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل يكشف خبره، واطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول: إن محمود بن السّكّري (؟) أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن السّكّري فظهر المملوك عنده، فتغير على أخيه الأفضل وترك قتال الملك العادل، وظهر الفشل في العسكر فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصّفّر «2» إلى أواخر صفر، ثم سارا إلى رأس الماء(27/189)
ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما، وسار الأفضل إلى مصر، والظاهر إلى حلب على القريتين ولما تفرقا خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، فلما وصل العسكر إلى مصر تفرقت عساكره لأجل الربيع وأدركه عمه العادل فخرج الأفضل وضرب معه مصافا، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام فأجاب الأفضل إلى تسليمها على أن يعوض عنها ميّافارقين وحاني وسميساط فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في حادي عشري ربيع الآخر هذه السنة.
قال ابن الأثير:
كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت [ثامن عشر] «1» ربيع الآخر، وتوفي القاضي الفاضل (135) [ليلة سابع ربيع الآخر] «2» ، ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد وأقام العادل بمصر على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد (ا) واستقل العادل بالسلطنة. «3»
ولما استقرت المملكة للملك العادل أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه مما وقع منه بسبب أخذه بارين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره وأمره برد بارين إلى ابن المقدم فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضا عن بارين فرضي ابن المقدم بذلك لأنهما خير من بارين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن شمس الدين(27/190)
محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم، وكان له أيضا فامية وكفرطاب وخمس [وعشرون] «2» ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه وخطب له بحلب وبلادها وضرب السّكّة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمس مئة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل كلما خرج إلى البيكار، والتزم الملك الظاهر صاحب حلب بذلك.
وقصر النيل في هذه السنة تقصيرا عظيما حتى إنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعا.
وفيها في العشرين من رمضان توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين «3» صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها [من البلاد] «4» الجبلية بشهرستانة (136) وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش وكان لقبه قطب الدين محمد فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلا حسن السيرة ويعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه تكش ضربت نوبتشيته ثلاثة أيام، وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر بعد موت السلطان صلاح الدين «5» .
فلما استقر في المملكة محمد بن تكش هرب ابن أخيه هندوخان بن(27/191)
ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده القيام معه.
وفي سنة سبع وتسعين وخمس مئة «13»
توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم «2» وصارت بلاده بعده وهي منبج وقلعة نجم، وفامية، وكفرطاب لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم «3» ، ولما استقر الشمس عبد الملك بمنبج سار إليها الملك الظاهر [صاحب حلب] «1» وحصرها وملك منبج وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة فحصره ونزل عبد الملك بالأمان فاعتقله الملك الظاهر وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم وفيها نائب ابن المقدم فحصرها وملكها في آخر رجب هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على الملك العادل فاعتذر الملك المنصور باليمين (137) التي في عنقه للملك العادل فلما أيس الملك الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفرطاب وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر أحضر ابن المقدم من حلب، وكان معتقلا بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية فامتنع فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربا عظيما وبقي يستغيث فأمر قراقوش فضربت النعّارات «4» على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلّم(27/192)
القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان هذه السنة، ونزل شمالي البلد وشعّث التربة للتقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي وقاتل قتالا شديدا، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان وجرى بينهم قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمر الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض صالح الملك المنصور على مال حمله إليه فقيل إنه ثلاثون ألف دينار صورية، ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل «1»
فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم [إليهما] «2» فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين (138) الأفضل والظاهر أنهما متى تملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ثم يسيران إلى الملك العادل بمصر فيأخذاها منه ويتسلمها الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب بحيث تبقى مصر للملك الأفضل ويصير الشام جميعه للظاهر، وكان قد تخلف من الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا «3» ، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الأفضل والدته وأهله إلى عند(27/193)
الملك المجاهد «1» بحمص، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين لدمشق فخرج بعساكر مصر، وأقام بنابلس ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك حسد أخاه الأفضل على دمشق، وقال له: أريد أن تسلم دمشق إلي الآن، فقال له الأفضل: إن حريمي [حريمك] «2» وهم على الأرض [وليس لنا موضع نقيم فيه] «3» وهب هذه المملكة لك فاجعلها لي إلى حين تملك مصر وتأخذها فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما هو لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر [فأنتم وإياه] «4» ، فقالوا: إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال وأرسلوا صالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وقد تفرقت العساكر (139) فرحل الظاهر عن دمشق في أول المحرم سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص.
وفيها، توفي العماد الكاتب.
وفيها، سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره واستدعى أخاه شهاب الدين من غزنة فسار إليه بعساكره أيضا، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش الذي هرب من عمه محمد إلى غياث الدين «5» ، ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها،(27/194)
ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده، وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهر والة [وهي] «1» من أعظم بلاد الهند.
وفيها، في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار سليمان إلى أرزن الروم وكانت لمحمد بن صليق وهو من بيت قديم ملكوا أرزن الروم، فخرج صاحب أرزن ليصالح سليمان فقبض عليه، وأخذ البلد منه، وهذا محمد آخر الملوك من أهل بيته.
وفيها، توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «2» .
وفي سنة ثمان وتسعين وخمس مئة «13»
بعد رحيل الملكين الأفضل والظاهر عن دمشق قدم الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه أعزاز.
وفيها، خرب الملك الظاهر (140) قلعة منبج خوفا أن تؤخذ منه، وأقطع منبج بعد ذلك لعماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب.
وفيها، أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدّم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسلم فامية بشرط أن يعطى شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعا برضاه فأقطعه الملك الظاهر الرّاوندان وكفرطاب ومفردة(27/195)
المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم عصى بالرّاوندان، فسار إليه الملك الظاهر وانزله منها وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل فأحسن إليه.
وفيها، سار الملك العادل من دمشق ووصل حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب فاستعد للحصار، وراسل عمه ولاطفه واستعد للصلح فوقع الصلح، وانتزعت [منه] «1» مفردة المعرة، واستقرت للملك المنصور صاحب حماة، وأخذت من الملك الظاهر أيضا قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل، وكان له سروج وسميساط وسلّم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى «2» وسيّره إلى الشرق، وكان الملك الأوحد بن الملك العادل بميّافارقين والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل «3» بقلعة جعبر، ولما استقر الصلح بين العادل والظاهر (141) رجع العادل إلى دمشق، وأقام بها، وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه، وخطب له على منابرها، [وضربت له السكة] «4» فيها باسمه.
وفيها، عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغور من خراسان إلى ملكه.(27/196)
وفي سنة تسع وتسعين وخمس مئة «13»
في المحرم توفي فلك الدين [سليمان] «1» أخو الملك العادل لأمه وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق.
ذكر الحوادث باليمن
كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب «2» ، وكان فيه هوج وخبط فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب لنفسه [ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان] «3» ، وكان طول الكم [نحو عشرين] «4» ذراعا، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه، واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل «5» ، وأقاموا في مملكة اليمن أخا له صغيرا وسموه الناصر «6» ، وبقي مدة وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر ثم مات سنقر بعد أربع سنين «7» ، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن(27/197)
جبريل «1» وقام بأتابكية الناصر ثم سم الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكا للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب (142) بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خالية بغير سلطان فتغلبت أم الناصر على زبيد وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه «2» وكان له ابن اسمه سليمان «3» فخرج بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر فقيرا يحمل الركوة على كتفه ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحجاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور فأحضروه إلى اليمن فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ الأرض ظلما وجورا واطّرح زوجته التي ملكته اليمن، وأرسل إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتابا جعل [في أوله] «4» إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«5»
فاستقل العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما نذكره «6» إن شاء الله(27/198)
تعالى.
وفيها، أرسل العادل إلى ولده الأشرف وأمره بحصار ماردين فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى العادل في الصلح فأجاب على أن يحمل صاحب ماردين مئة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السّكّة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجيب إلى ذلك واستقر الصلح عليه.
وفيها، أخرج الملك العادل الملك المنصور محمد بن (143) الملك العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر.
وفيها، سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطا للفرنج وأقام بها، وكتب الملك العادل إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان هذه السنة واقتتلوا فانهزم الفرنج، وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوما مشهودا، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السّنجاري «1» قصيدة منها: (البسيط)
ما لذة العيش إلّا صوت معمعة ... تنال فيها المنى بالبيض والأسل
يأيها الملك المنصور نصح فتى ... لم يلوه عن وفاء كثرة العذل
اعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجدّ والملك محتاج إلى رجل
يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل
ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع من(27/199)
السواحل، واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة وهو نازل ببارين حادي وعشري شهر رمضان هذه السنة بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوما فانتصر ثانيا، وانهزمت الفرنج هزيمة قبيحة وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح الملك المنصور بسبب هذه الوقعة سالم بن سعاد «1» الحمصي بقصيدة منها: (الكامل)
أمر اللواحظ أن تفوق الأسهما «2» ... ريم برامة مارنا حتى رمى
(144) ومنها:
فتّانة بالسّحر بل فتّاكة ... ما جار قاضيهن حتى حكّما «3»
أصبحت فيها مغرما كمحمد ... لما غدا بالأريحيّة مغرما
وشننت منتقما بساحل بحرها ... جيشا حكى البحر الخضمّ عرمرما
أسدلت في الآفاق من هبواته ... ليلا وأطلقت الأسنة أنجما
وفيها، ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد «4» صاحب حماة من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل «5» وسمي عمر، وإنما سمي [محمودا] «6» بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الأربعاء «7» رابع عشر رمضان هذه السنة.(27/200)
وفيها، أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل وهي رأس عين «1» وسروج وقلعة نجم «2» ، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته، ودخلت على الملك المنصور صاحب حماة ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده وتوجهت أم الأفضل وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين بن هندي «3» إلى الملك فلم يجبها ورجعت خائبة، قال عز الدين بن الأثير في «الكامل» :
وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم صلاح الدين لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد يتشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب سؤالهن، ثم ندم رحمه الله على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين (145) مع عمه مثل ذلك «4» .
ولما جرى ذلك أقام الملك الأفضل بسميساط وقطع خطبة الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم.(27/201)
وفيها، في جمادى الأولى، توفي غياث الدين محمد بن سام بن [الحسين] «1» الغوري صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازما على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الأولاد ولدا اسمه محمود «2» ولقبه غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها وكانت مغنية فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضربا مبرحا وأخذ أموالها. وكان غياث الدين مظفرا منصورا لم تنهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد، كثير الصدقات، وكان له فضل غزير، وأدب مع حسن حظ، وكان ينسخ المصاحف بخطه، ويوقفها على المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية ثم تركه وصار شافعيا.
وفيها، استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان «3» ، وكان مشغولا بشرب الخمر ليلا ونهارا لا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت.
وفي سنة ست مئة «13»
(146) كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.(27/202)
وفيها، نازل ابن لاون ملك الأرمن أنطاكية، فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاون عن أنطاكية على عقبه.
وفيها، خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده وانتمى إليه، فصعب على ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود وقصد نصيبين، وهي لقطب الدين محمد واستولى على مدينتها، واستنجد قطب الدين بالملك الأشرف بن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميّافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة فانهزم نور الدين صاحب الموصل هزيمة قبيحة ودخل الموصل وليس معه غير أربعة أنفس فكانت هذه الوقعة أول ما عرفت من سعادة الأشرف ابن العادل فإنه لم تنهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم بعد ذلك.
وفيها، اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس «1» ، فخرج الملك العادل من دمشق وجمع العساكر، ونزل على الطور «2» في قبالة الفرنج ودام ذلك إلى آخر السنة.
وفيها، استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جمع عظيم وحاصروها (147) وملكوها وأزالوا الروم «3» ، ولم تزل بيد الفرنج إلى سنة ستين(27/203)
وست مئة فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج «1» .
وفيها، توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق «2» ملك بلاد الروم في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمس مئة «3» ، وكان مرضه القولنج، وكان قبل موته بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ملك بعده ولده قليج أرسلان وكان صغيرا فلم يثبت أمره، وكان ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى.
وفيها، كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين الغوري قتال فانتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ورجع إلى غزنة واستقر في مملكته.
وفيها، قتل ككجا «5» مملوك البهلوان وكان قد ملك الري وهمذان وبلاد(27/204)
الجبل قتله أيدغمش البهلواني «1» وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم والحكم لأيدغمش.
وفيها، استولى إنسان (148) اسمه محمود بن [محمد] «2» الحميري على ظفار ومرباط «3» وغيرهما من حضرموت.
وفيها، خرج أسطول الفرنج واستولى على مدينة فوّة «4» من الديار المصرية ونهبوها خمسة أيام.
وفيها، كانت زلزلة عامة في أقطار الأرض خربت من المدن شيئا كثيرا.
سنة إحدى وست مئة إلى سنة عشر وست مئة
ف
ي سنة إحدى وست مئة «13»
كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مضافات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة أعطى العساكر دستورا، وسار إلى مصر، وأقام بدار الوزارة.
وفيها، أغارت الفرنج على حماة حتى قاربوها إلى قرية الرّقيطاء، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاغي «5» وكان فقيها شجاعا تولى بر حماة مرة وسلمية مرة أخرى، وحمله الفرنج أسيرا إلى(27/205)
طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك، ووصل إلى أهله بحماة سالما، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.
وفيها، بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من الملك العادل، فما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحسانا كثيرا، وأقام في خدمته شهورا، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة.
وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن (149) قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان على البلاد قد هرب كيخسروا إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى القسطنطينيّة فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينيّة إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو [من] «1» القسطنطينيّة، وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره «2» .
وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني «3» أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني «4» أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالا.(27/206)
وفي سنة اثنتين وست مئة «13»
في أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري «1» ملك غزنة وبعض خراسان بعد عوده من لهاوور، فوثب عليه قبل صلاة العشاء جماعة بخركاته «2» وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل إنهم من الكوكير وهم طائفة مفسدون من أهل الجبال كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل: إنهم من الإسماعيلية وأن شهاب الدين أيضا كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا قتلته عن آخرهم.
وكان شهاب الدين شجاعا كثير الغزو، عادلا في الرعية، كان الإمام فخر الدين يعظه في داره فحضر يوما ووعظه، وقال: يا سلطان! لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس.
ولما قتل (150) شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود ابن عم غياث الدين وشهاب الدين فسار [بهاء الدين] «3» ليتملك غزنة ومعه [ولداه] «4» علاء الدين محمد وجلال الدين فأدركت بهاء الدين [ساما] «5» الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى(27/207)
ابنه علاء الدين محمد، وأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها فتملكها علاء الدين فكان لغياث الدين مملوك اسمه يلدز «1» ، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة ويرجع الأتراك إليه، فسار تاج الدين يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام و [أخاه] «2» جلال الدين واستولى يلدز على غزنة، ثم إن علاء الدين وجلال الدين ابني بهاء الدين سام سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة فقاتلهما [يلدز] «3» فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال [الدين] «3» في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة جمع يلدز عساكر كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه (151) واقتتلا فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيرا فأكرمه يلدز واحترمه وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان وقبض على علاء الدين وعلى هندوخان «4» وتسلم غزنة.
وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية فإنه لما قتل عمه شهاب الدين وكان ببست فسار إلى فيروز كوه وملكها وجلس في دست(27/208)
أبيه غياث الدين وتلقب ألقابه، وفرح به أهل فيروز كوه وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقر يلدز بغزنة وأسر علاء الدين وجلال الدين كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سيف الدين سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
وفيها، تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة فعدل إلى المصاهرة والهدنة فكفوا الكرج عنه لذلك.
وفي سنة ثلاث وست مئة «13»
سار الملك العادل من مصر الشام ونازل في طريقه عكّا فصالحه أهلها على إطلاق جميع الأسارى، ووصل إلى دمشق ثم سار إلى بحيرة قدس واستدعى بالعسكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان، ثم سار ونازل حصن الأكراد، وفتح برج أعناز «1» وأخذ منه سلاحا ومالا وخمس مئة رجل، ثم سار ونازل طرابلس (152) ونصب عليها المناجيق وعاث العسكر في بلادها، وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس بظاهر حمص.
وفيها، أرسل غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية يستميل يلدز مملوك أبيه المستولى على غزنة فلم يجبه يلدز إلى ذلك فطلب يلدز من غياث الدين أن يعتقه فأحضر الشهود وعتقه وأرسل مع عتقه هدية عظيمة وكذلك عتق أيبك المستولي على الهند، وأرسل نحو ذلك فقبل كل منهما ذلك، وخطب أيبك لغياث الدين، [وأما يلدز فلم يخطب له] «2» وخرج غالب العسكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين.(27/209)
وفيها، [في] «1» ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب الروم أنطالية (باللام) «2» ، وهي مدينة للروم على ساحل البحر.
وفيها، قبض عسكر خلاط على صاحبها ابن بكتمر، وكان أتابكه قتلغ مملوك شاه أرمن فقبض عليه ابن بكتمر، فثارت [عليه] «3» أرباب الدولة وقبضوه، وملكوا بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان صاحب خلاط حسبما ذكرناه سنة أربع وتسعين وخمس مئة «4» .
وفي سنة أربع وست مئة «13»
كان الملك العادل نازلا ببحيرة قدس في أوائلها، ثم وقعت الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها.
وفيها ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل خلاط، وكان صاحب خلاط بلبان حسبما قدمنا ذكره في سنة أربع وتسعين (153) وخمس مئة «4» ، فسار الملك الأوحد من ميّافارقين وملك مدينة موش ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع به بلبان وهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان وقتله ليملك بلاده، وقصد خلاط فلم(27/210)
يسلموها له وقصد منازكرد فلم تسلم إليه فرجع طغريل إلى بلاده، وكاتب أهل خلاط الملك الأوحد فسار إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد إياسه منها، واستقر ملكه بها.
وفيها، وصل التشريف من الخليفة الناصر للسلطان الملك العادل بدمشق صحبة الشيخ شهاب الدين السّهروردي «1» ، فبالغ الملك العادل في إكرام الشيخ والتقاه إلى القصير «2» ، ووصل من صاحب حلب وحماة ذهب لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها الملك العادل ونثر ذلك الذهب وكان يوما مشهودا، وكانت الخلعة جبة أطلس أسود بطراز ذهب «3» وعمامة سوداء بطراز ذهب 1 وطوق ذهب مجوهر، وسيف جميع قرابه ملبّس بالذهب تقلد به الملك العادل وتطوق بالطوق وحصان أشهب بمركب ذهب، و [نثر] «4» على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة الناصر وألقابه، ثم خلع رسول الخليفة على كل واحد من الملكين الأشرف والمعظم ابني العادل عمامة سوداء و [ثوبا] «5»
أسود (154) واسع الكم، وكذلك على الوزير صفي الدين بن شكر «6» ، وركب العادل وولداه ووزيره بالخلع، ودخل القلعة، وكذلك وصل إلى الملك(27/211)
العادل مع الخلع تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه بشاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين.
ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر فخلع على الملك الكامل بها، وجرى بها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال، ثم عاد السّهروردي إلى بغداد مكرما معظما.
وفيها، اهتم الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كل واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها.
وفي هذه السنة كاتبت ملوك ما وراء النهر مثل ملك سمرقند وملك بخارى يشكون ما يلاقونه من الخطا إلى خوارزم شاه ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم إن دفع الخطا عنهم، فعبر علاء الدين [محمد] «1» خوارزم شاه بن تكش نهر جيجون واقتتل مع الخطا وكانت بينهم عدة وقائع والحرب بينهم سجال، واتفق في بعض الوقعات أن عسكر خوارزم انهزم وأخذ خوارزم شاه [أسيرا] «2» وأخذ معه آخر اسمه فلان بن شهاب الدين مسعود «3» ولم يعرفهما الخطائي الذي أسرهما، فقال ابن مسعود لخوارزم شاه، دع عنك المملكة وأدع أنك غلامي وأخدمني لعلّي احتال في خلاصك، فشرع خوارزم شاه يخدم ابن مسعود ويقلعه قماشه وخفه [ويلبسه] «2» ويخدمه فسأل الخطائي ابن مسعود من أنت، فقال: أنا فلان، فقال له الخطائي: لولا أخاف من الخطا (155) أطلقتك، فقال له ابن مسعود: إني أخشى أن ينقطع خبري عن أهلي فلا [يعلموا] «4» بحالي وأشتهي [أن] «2» أعلمهم بحياتي لئلا يظنوا موتي(27/212)
ويتقاسموا مالي، فأجابه الخطائي إلى ذلك، فقال له ابن مسعود: اشتهي أن تبعث غلامي هذا مع رسولك ليصدقوه فأجابه إلى ذلك، وراح خوارزم شاه مع ذلك الشخص حتى قرب من خوارزم فرجع الخطائي واستقر خوارزم شاه في ملكه، وتراجع إليه عسكره.
وكان لخوارزم شاه أخ يقال له علي شاه بن تكش «1» وكان نائب أخيه بخراسان فلما بلغه عدم أخيه في الوقعة مع الخطا دعا إلى نفسه بالسلطنة، واختلف الناس بخراسان وجرى فيها فتن كثيرة.
فلما عاد خوارزم شاه محمد إلى ملكه خاف أخوه علي شاه، فسار إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية فأكرمه غياث الدين وأقام علي شاه عنده بفيروز كوه، ولما استقر خوارزم شاه في ملكه وبلغه ما فعله أخوه علي شاه جهز عسكرا لقتال غياث الدين محمود الغوري، فسار العسكر إلى فيروز كوه مع مقدم اسمه أمير ملك وبلغ ذلك محمودا، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان فأعطاه أمير ملك الأمان، وخرج محمود وعلي شاه من فيروز كوه إلى أمير ملك فقبض عليهما، وأرسل يعلم خوارزم شاه بالحال، فأمره بقتلهما فقتلهما في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه بن تكش، وذلك سنة خمس وست مئة.
وهذا غياث الدين محمود بن (156) غياث الدين محمد بن سام بن الحسين هو آخر الملوك الغورية «2» ، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان هذا محمود كريما عادلا، رحمه الله تعالى.(27/213)
ثم إن خوارزم شاه محمد (ا) لما خلا شره من [جهة] «1» خراسان عبر النهر إلى الخطا، وكان وراء الخطا في حدود الصين التتر «2» ، وكان ملكهم حينئذ اسمه كشلي خان «3» ، وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة، فأرسل كشلي خان إلى خوارزم شاه أن يكون معه على الخطا، وأرسل ملك الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على التتر، فأجابهما خوارزم شاه بالمغلظة وانتظر ما يكون منهما، فاتقع كشلي خان والخطا فانهزمت الخطا، فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم، وكذلك فعل كشلي خان بهم، وانقرضت الخطا، ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال، أو استسلم وصار في عسكر خوارزم شاه.
وفي سنة خمس وست مئة «13»
توجه الملك الأشرف موسى بن العادل من دمشق راجعا إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عساكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة، وهي غلالة وقباء(27/214)
وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش وخمس خلع لأصحابه، وأقام على ذلك خمسة و [عشرين] «1» يوما، وقدم له (157) مئة ألف درهم، ومئة بقجة مع مئة مملوك.
منها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس و [ثوبان] «2»
خطائي «3» وعلى كل بقجة جلد قندس كبير «4» .
ومنها عشر في كل بقجة منها عشرة ثياب عتّابي «5» خوارزمي وعلى [كل] «1» بقجة جلد قندس كبير.
ومنها عشر في كل بقجة منها خمسة ثياب عتّابي [بغدادي] «1» وموصلي وعليها [عشرة] «6» جلود قندس صغار.
ومنها عشرون في كل بقجة خمس قطع من دبيقي «7» وسوسي «8» .(27/215)
ومنها أربعون في كل بقجة منها خمسة أقبية وخمسة كمام.
وحمل إليه خمسة حصن عربية بعدتها وعشرين إكديشا، وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللّجم المكفتة [وقطارين من الجمال] «1» ، وخلع على أصحابه مئة وخمسين خلعة وقاد [إلى] «1» أكثرهم بغلات وأكاديش، ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده.
وفيها، أمر الملك الظاهر صاحب حلب بإجراء القناة من حيلان «2» إلى حلب، وغرم على ذلك أموالا كثيرة، وبقي الماء يجري في البلد.
وفيها، وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش لقصد بلاد ابن لاون الأرمني، فأرسل إليه الملك الظاهر نجدة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاون وعاث فيها ونهب وفتح حصنا يعرف بفرقوس.
وفيها قتل معز الدين سنجرشاه «3» بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب جزيرة ابن عمر (158) ، وقد تقدم ذكر ولايته سنة ست وسبعين وخمس مئة «4» ، قتله ابنه غازي «5» .
وكان سنجر شاه ظالما قبيح السيرة جدا، لا يمتنع من قبيح يفعله من القتل وقطع الألسنة والأنوف وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث(27/216)
ابنيه محمودا «1» ومودودا «2» إلى قلعة فحبسهما فيها، وبعث ابنه غازي المذكور فحبسه في دار المدينة وضيق عليه وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي [منها] «3» حيّة وأرسلها إلى أبيه في منديل لعله يرق عليه، فلم يزده ذلك إلا قسوة فأعمل غازي الحيلة حتى يهرب، وكان واحد يخدمه فقرر معه أن يسافر ويظهر أنه غازي بن معز الدين سنجر شاه ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل فأعطي شيئا وسافر منها، فاتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وتوصل ابنه غازي حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم، وكتموا ذلك عن سنجر شاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجر شاه شرب يوما بظاهر البلد، وشرع يقترح على المغنين الأشعار الفائقة الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكران إلى عند الحظية التي ابنه مختبئ عندها، ثم قام سنجر شاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في (159) ذلك الوقت لتمّ أمره وملك البلاد، ولكنه سكر «4»
واطمأن، فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ داره، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجر شاه ولقب معز الدين بلقب أبيه [ووصل معز الدين محمود بن سنجر شاه بن زنكي] «5» فاستقر ملكه بالجزيرة وقبض على جواري أبيه فأغرقهن في دجلة، ثم قبض على أخيه مودود.(27/217)
وفي سنة ست وست مئة «13»
سار الملك العادل من دمشق وقطع الفرات وجمع الملوك من أولاده ونزل حران، ووصل إليه وبها الملك الصالح [محمود] «1» بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب آمد وحصن كيفا، وسار الملك العادل من حران، ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي فحاصره فطال الأمر في ذلك، ثم خامرت عساكر الملك العادل ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح معه، فرحل [عن سنجار] «2» وعاد إلى حران، واستولى الملك العادل على نصيبين، وكانت لقطب الدين محمد المذكور، وكذلك استولى على الخابور.
وفي سنة سبع وست مئة «14»
عاد السلطان الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق.
وفيها، قصدت الكرج خلاط، وحصروا الأوحد بن الملك العادل بها، واتفق أن ملك الكرج «3» شرب وسكر فحسن له السكر أن يقدم إلى خلاط في عشرين فارسا، وخرجت له المسلمون فأخذوه أسيرا وحملوه إلى الملك الأوحد فرد على الملك الأوحد عدة قلاع (160) وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير، ومئة ألف دينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة، وشرط أن يزوج ابنته للملك(27/218)
الأوحد «1» فتسلم ذلك منه وتحالفا وأطلق.
وفيها، توفي نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر «2» صاحب الموصل في آخر رجب، وكان مرضه قد طال، وملك الموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا، ولما اشتد به مرضه انحدر إلى العين القيارة «3» ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في شبّارة «4» فتوفي في الطريق ليلا، وكان أسمر، حسن الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شديد الهيبة على أصحابه، وكان عنده قلة صبر في أموره، واستقر في ملكه بعده ولده الملك [القاهر] «5» عز الدين مسعود بن أرسلان شاه «6» ، وكان عمر القاهر عشر سنين وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ «7» ، وكان لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه(27/219)
وأستاذ داره، وهذا لؤلؤ هو الذي ملك الموصل على ما سنذكره «1» إن شاء الله تعالى.
وكان لأرسلان شاه ولد آخر أصغر من القاهر اسمه [عماد الدين] «2» زنكي ملّكه أبوه قلعتي العقر وشوش «3» وهما بالقرب من الموصل.
وفيها، وردت رسل الخليفة الإمام الناصر إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة، ويلبسوا سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ففعلوا ذلك.
وفيها، سار الملك العادل بعد وصوله إلى دمشق إلى الديار المصرية، وأقام بدار الوزارة.
وفيها، توفي (161) الملك الأوحد عز الدين أيوب بن الملك العادل «4»
صاحب خلاط، فسار أخوه الأشرف وملك خلاط واستقل بملكها مضافا إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم شأنه ولقب بشاه أرمن.
وفيها، قتل غياث الدين كيخسرو صاحب الروم، قتله ملك الأشكري «5»
وملك بعده ابنه كيكاوس حسبما تقدم ذكره سنة ثمان وثمانين وخمس مئة.(27/220)
وفي سنة ثمان وست مئة «13»
قبض الملك المعظم عيسى بن العادل على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون بأمر أبيه العادل وحبسه بالكرك إلى أن مات «1» ، وحاصر الحصنين المذكورين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وبقية أثرها [فخربت] «2» وبقيت خرابا، وأبقى عجلون وانقرضت الصلاحية بهذا أسامة.
وملك الملك المعظم بلاد جهاركس «3» وهي بانياس وما معها لأخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن العادل «4» وأعطى صرخد لمملوكه عز الدين أيبك المعظمي «5» .
وفيها، عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده الملك المظفر غازي «6» الرّها مع ميّافارقين.(27/221)
وفيها، أرسل الملك الظاهر صاحب حلب القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون «1» ، فزوجه الملك العادل بها، وزال ما كان بينهما من الوحشة.
وفيها، أظهر الكيا جلال الدين حسن صاحب الألموت وهو من ولد [ابن] «2»
الصبّاح شعائر الإسلام، وكتب به (162) إلى جميع قلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، وأقيمت فيها شعائر الإسلام.
وفي سنة تسع وست مئة «13»
عقد الملك الظاهر على ضيفة خاتون بنت الملك العادل، وكان المهر خمسين ألف دينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب فاحتفل الملك الظاهر بها وأهدى لها أشياء نفيسة.
وفيها، عمّر الملك العادل قلعة الطور «3» ، وجمع لها الصنّاع من البلاد والعسكر حتى تمت.
وفيها، سار طغريل شاه بن قليج أرسلان «4» صاحب أرزن الروم، وحاصر ابن أخيه [سلطان الروم] «5» كيكاوس بن كيخسرو بسيواس فاستنجد كيكاوس بالأشرف بن العادل فخاف طغريل من الأشرف ورحل عن ابن أخيه كيكاوس،(27/222)
وكان لكيكاوس أخ اسمه كيقباذ، فلما جرى ما ذكرنا سار كيقباذ واستولى على أنكورية من بلاد أخيه كيكاوس، فسار كيكاوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه، وقبض على أمرائه وحلق لحاهم ورؤوسهم، وأركب كل واحد منهم فرسا وأركب قدامه وخلفه قحبتين وبيد كل واحدة منهن خف تصفعه به، وبين كل واحد منهم [مناد] «1» ينادي: هذا جزاء من خان سلطانه.
وفي سنة عشر وست مئة «13»
ظفر عز الدين كيكاوس بعمه طغريل شاه فأخذ بلاده وقتله «2» وذبح أكثر أمرائه، وقصد قتل أخيه علاء الدين كيقباذ فشفع فيه بعض أصحابه فعفا عنه.
وفيها، ولد للملك الظاهر من ضيفة خاتون (163) بنت الملك العادل ولده الملك العزيز غياث الدين محمد «3» .
وفيها، قتل أيدغمش مملوك البهلوان «4» ، وكان قد غلب على المملكة، وهي همذان والجبال، قتله خشداش [له] «5» من البهلوانية اسمه منكلي «6» ، وكان(27/223)
أيدغمش قد هرب منه والتجأ إلى الخليفة في سنة ثمان وست مئة، ثم رجع أيدغمش في هذه السنة إلى جهة همذان فقتل واستقل منكلي بالملك.
وفيها في شعبان، توفي ملك الغرب محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وكانت مدة مملكته ستّ عشرة سنة، وكان أشقر أسيل الخد، دائم الإطراق، كثير الصمت للثغة كانت في لسانه، وقد تقدم ذكر ولايته سنة خمس وتسعين وخمس مئة «1» .
ولما مات محمد الناصر ملك بعده ولده يوسف، وتلقب بالمستنصر أمير المؤمنين، وكنيته أبو يعقوب «2» .
سنة إحدى عشرة وست مئة إلى سنة عشرين وست مئة
في سنة إحدى عشرة وست مئة «13»
أسرت التركمان ملك الأشكري، وهو قاتل غياث الدين كيخسرو «3» فحمل إلى ابنه كيكاوس بن كيخسرو فأراد قتله فبذل له في نفسه أموالا عظيمة، وسلم إلى كيكاوس بلادا وقلاعا لم يملكها المسلمون قط.
وفيها، عاد الملك العادل من الشام إلى مصر.(27/224)
وفي سنة اثنتي عشرة وست مئة «13»
كان استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل «1» على اليمن.
وقد تقدم ذكر استيلاء سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين (164) عمر بن شاهنشاه بن أيوب في سنة تسع وتسعين وخمس مئة على اليمن وأنه ملأها ظلما وجورا وانه اطّرح زوجته التي ملّكته «2» ، فلما كان هذه السنة بعث الملك الكامل ابنه الملك المسعود يوسف المعروف بأقسيس إلى اليمن ومعه جيش فاستولى الملك المسعود عليها، وظفر بسليمان صاحب اليمن وبعثه مقيدا إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل سليمان مقيما بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وست مئة، فخرج إلى المنصورة غازيا فقتل شهيدا.
وفيها، تجمعت عساكر بغداد وغيرها وقصدوا منكلي الهمذاني صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد فهزمه عساكر الخليفة وقتلوه في ساوة «3» ، وولوا مكانة أغلمش «4» أحد المماليك البهلوانية.
وفيها، في شعبان ملك خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش مدينة غزنة(27/225)
وأعمالها وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين الغوري، فهرب يلدز إلى لهاوور من الهند واستولى عليها، ثم سار يلدز من لهاوور ليستولي على بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك خشداش يلدز المذكور، فجرى بينه وبين مملوك قطب الدين مصافّ «1» ، فقتل فيه يلدز «2» ، وكان يلدز حسن السيرة في الرعية، كثير الإحسان [إليهم] «3» .
وفي سنة ثلاث عشرة وست مئة «13»
صبيحة يوم السبت خامس عشري جمادى [الأولى] «4» ابتدأ بالملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب حمى حادة، ولما (165) اشتد مرضه أحضر القضاة والأكابر وكتب نسخة اليمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير الملك العزيز ثم بعده لولده الكبير الملك الصالح «5» صلاح الدين أحمد «6» وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف «7» وحلّف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل(27/226)
الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم «1» و [أعذق] «2» به جميع أمور الدولة.
وفي ثالث عشر جمادى الآخرة أقطع [أخاه] «3» الملك الظافر خضر [المعروف ب] «4» المستمر كفرسودا، وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر «5» مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائبا.
وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر ومنع الناس الدخول، وتوفي ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة «6» ، وكان مولده بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين وخمس مئة، وكان عمره أربعا وأربعين سنة وشهورا، وكان مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه إحدى و [ثلاثين] «7» سنة، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكيا فطنا.
وترتب الملك العزيز في المملكة و [أرجع] «8» الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم، فدبر الأمور وأحسن السياسة، وكان عمر الملك العزيز لما قرّر في المملكة سنتين وأشهرا، وعمر أخيه الملك الصالح اثنتي عشرة سنة.(27/227)
وفي سنة أربع عشرة وست مئة «13»
والملك العادل بالديار المصرية، وقد اجتمعت (166) الفرنج من داخل البحر، ووصلوا إلى عكّا في جمع عظيم، ولما بلغ العادل ذلك خرج بعساكر مصر، وسار حتى نزل نابلس فسارت الفرنج إليه ولم يكن معه من العساكر ما يقدر [به] «1» على مقاتلتهم فاندفع قدامهم إلى عقبة فيق «2» . فأغاروا على بلاد المسلمين، وأغاروا على نوى من بلد السواد ونهبوا ما بين بيسان ونابلس ما يفوت الحصر، وعادوا إلى مرج عكّا وكان قوة هذا النهب ما بين منتصف رمضان وعيد الفطر من هذه السنة، وأقام الملك العادل بمرج الصّفّر وسارت الفرنج وحصروا حصن الطور، وهو الذي بناه الملك العادل على ما تقدم ذكره «3» ، ثم رحلوا عنه وانقضت السنة والفرنج بجموعهم في عكّا.
وفيها، سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها، فمنها ساوة، وقزوين، وأبهر، وزنجان، وهمذان، وأصفهان، وقم، وقاشان ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أران وأذربيجان في طاعة خوارزم شاه وخطب له ببلاده.
ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها، وقدم بعض العسكر بين يديه، وسار خوارزم شاه في أثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة، فسقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله، فهلكت دوابّهم. وخاف من حركة(27/228)
التتر على بلاده فولى على البلاد التي استولى عليها وسار إلى خراسان، وقطع خطبة (167) الخليفة الإمام الناصر من خراسان في سنة خمس عشرة وستّ مئة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم، وسمرقند وهراة لم تقطع بهم خطبة الخليفة، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك.
وفي سنة خمس عشرة وست مئة «13»
كان الملك العادل بمرج الصّفّر في أوائلها وجموع الفرنج بمرج عكّا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية، ونزلوا على دمياط «1» فسار الملك الكامل بن العادل بمصر، ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر «2» ، وأرسل الملك العادل العسكر الذي عنده إلى عند ابنه الكامل، فوصلت إليه أولا فأولا، ولما اجتمعت العساكر عند الكامل أخذ في قتال الفرنج ودفعهم عن دمياط.
وفي هذه السنة، توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر «3» صاحب الموصل، وكانت(27/229)
وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وسبعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين أكبرهما اسمه أرسلان شاه «1» ، وكان حينئذ عمره نحو عشر سنين فأوصى بالملك له وأن يقوم بتدبيره بدر الدين لؤلؤ فنصّبه بدر الدين لؤلؤ في المملكة وجعل الخطبة (168) والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبير المملكة أحسن قيام.
وفيها، كانت قضية كيكاوس بن كيخسر (و) ملك الروم.
لما مات الملك الظاهر صاحب حلب، وجلس مكانه ولده العزيز في المملكة، وكان طفلا فطمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، فدعا الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار كيكاوس إلى تل باشر وبها [ابن دلدرم] «2»
ففتحها ولم يسلمها للأفضل فتغير خاطر الأفضل وخواطر أهل البلاد لذلك، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا، واتقع بعض العسكر مع مقدمة عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة(27/230)
عسكر كيكاوس، وأخذ منهم عدة أسارى، فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر بها، ولما بلغ [ذلك] «1» كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما (169) وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الملك الأشرف تل باشر واسترجعها واسترجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وست مئة على ما سنذكره «2»
إن شاء الله تعالى.
وعاد الملك الأشرف إلى حلب، وقد بلغه وفاة أبيه، وكانت وفاته أنه كان نازلا بمرج الصّفّر إلى عالقين، وهي عند عقبة فيق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك رحمه الله تعالى في سابع جمادى الآخرة من هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وست مئة «3» ، وكان مولده سنة أربعين وخمس مئة، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثا وعشرين سنة، ولمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان العادل حازما متيقظا غزير العقل سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، صبورا، حليما، يسمع ما يكره ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولاده من الملك والظفر ما رآه العادل، ولقد أجاد شرف الدين [بن] «1» عنين في قصيدة مدح بها الملك العادل مطلعها «4» :
(الكامل)
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
العادل الملك الذي أسماؤه ... في كلّ ناحية تشرّف منبرا(27/231)
(170) ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شكّ يريب بأنه خير الورى
بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثّريّا والثّرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا
لا تسمعنّ حديث ملك غيره ... يروى فكلّ الصيد في جوف الفرا «1»
وله الملوك بكلّ أرض منهم ... ملك يجرّ إلى الأعادي عسكرا
من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا فإن شهد الوغى فغضنفرا
وخلف الملك العادل ستة عشر ولدا ذكرا غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضرا، فحضر إليه ابنه الملك المعظّم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، فكتم موته، وأخذه ميتا في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك، ولما وصل إلى دمشق حلف الناس له وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء، وكتب إلى الملوك من إخوته وغيرهم بخبره، وكان في خزانة العادل لما توفي سبع مئة ألف دينار عينا.
ولما بلغ الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج عظم عليه جدا، واختلفت العساكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وكان مقدما عظيما في الأكراد الهكّارية (171) فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كبير حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى بن العادل ذلك، فرحل عن الشام ووصل إلى أخيه الملك الكامل وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه(27/232)
إلى الشام، فانتظم أمر الملك الكامل، وقويت مضايقة الفرنج لدمياط وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتن التي حصلت في عسكر الكامل من ابن المشطوب.
وفيها، استولى عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر على بعض قلاع الموصل.
(و) قد تقدم في سنة سبع وست مئة أن أرسلان شاه عند وفاته جعل مملكة الموصل لولده المسعود القاهر، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش «1» ، فلما مات أخوه القاهر وجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة وكان به قروح وأمراض فتحرك عمه عماد الدين زنكي وقصد العمادية «2» واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكّارية والزّوران «3» ، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المتولي على تدبير صاحب الموصل بالملك الأشرف بن العادل، ودخل في طاعته فأنجده الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي مزوجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب «4» أخت الملك العادل (172) زوجة مظفر الدين، وكان مظفر الدين لا يترك ممكنا في نصرة صهره زنكي المذكور، وبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.(27/233)
[ثم دخلت] «1» سنة ست عشرة وست مئة «13»
والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أحوالها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج وهم محاصرون لثغور دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة.
وفيها، توفي نور الدين أرسلان شاه بن القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «2» صاحب الموصل وكان لا يزال مريضا، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده أخاه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر «3»
وعمره حينئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له بالسلطنة من بيت أتابك زنكي بن آقسنقر، وكان أبوه القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم ثم [إن] «4» هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالموصل وأتته السعادة وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل بعد أخذ التتر بغداد على ما سنذكره «5» .
وفي هذه السنة، توفي قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود ابن الأتابك زنكي بن آقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهورا، ثم وثب عليه أخوه محمود فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر (173) من ملك سنجار من البيت(27/234)
الأتابكي «1» .
وفيها، أرسل الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق الحجارين والنقابين إلى القدس [فخرب أسوارها] «2» ، وكانت قد حصّنت إلى الغاية، وانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج وتغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس فخربه لذلك لعلمه أنه لا يقدر على منعهم.
وفيها، هجم الفرنج على دمياط بالسيف بعد مضايقة الفرنج لها مضايقة عظيمة، وقتلوا وأسروا من بها وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة عند مفرق البحرين [الآخذ] أحدهما إلى دمياط، والآخر إلى أشموم طنّاح، ونزل فيها عسكره.
وفيها، كان ظهور التتر وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون أعظم ما نكبوا هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تملك الفرنج دمياط وقتل أهلها وأسرهم، ومنه المصيبة الكبرى وهي ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم وسبي حريمهم وذراريهم، ولم يفجع المسلمون منذ ظهر دين الإسلام كهذه الفجيعة.
وفيها، خرجوا على خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش وعبروا نهر(27/235)
جيحون «1» ، ومعهم ملكهم جنكز خان، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها وقتلوا من كان بها (174) ، ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم.
قال محمد بن أحمد بن علي [المنشئ] «2» النسوي كاتب إنشاء جلال الدين: إن مملكة الصين مملكة متسعة دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره خان وهو الملك بلغتهم نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له الطرخان «3» قد توارث الخانية كابرا عن كابر بل كافرا عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطرغاج «4» وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وكان أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجا بعمة جنكز خان، وقبيلة جنكز خان هي المعروفة بقبيلة التمرجي سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين الترك بالغدر والشر (و) لم ير ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان مات فحضر جنكز خان إلى عمته زائرا ومعزيا، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور يقال لأحدهما كشلو خان «5» وللآخر فلان خان وكانا يليان ما يتاخم من أعمال دوشي خان المذكور من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشلو خان وإلى الآخر تنعى إليهما(27/236)
زوجها دوشي خان وأنه لم يخلف ولدا وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكز خان إن أقيم مقامه (175) يحذو حذو المتوفى في معاضدتهما [فأجابها] «1» الخانان إلى ذلك، وتولى جنكز خان ما كان لدوشي خان المتوفى من الأمور بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم الطرخان أنكر تولية جنكز خان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطرخان وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم ثم اقتتلوا مع الطرخان فتولى منهزما وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطرخان يطلب منهم الصلح وأن [يبقوه] «2» على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك، وبقي جنكز خان و [الخانان الآخران] «3» مشتركين في الأمر فاتفق موت الخان الواحد ثم مات كشلو خان وتملك ابنه مكانه ولقب كشلو خان «4» أيضا، فاستضعف جنكز خان جانب كشلو خان لصغره [وحداثة سنه] «5» ، وأخلّ بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلو خان عن جنكز خان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكز خان جيشا مع ولده دوشي خان فسار واقتتل مع كشلو خان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلو خان، وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى أبيه برأسه، فانفرد جنكز خان بالمملكة. ثم إن جنكز خان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح فلم ينتظم أمره، فجمع جنكز خان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد فانهزم خوارزم شاه، فاستولى جنكز خان(27/237)
[على بلاد ما وراء النهر ثم تبع خوارزم شاه محمدا وهو هارب بين يديه حتى دخل بحر طبرستان «1» ثم استولى جنكز خان] «1» على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكز خان ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى.
(176) وفي هذه السنة حلّف الملك المنصور صاحب حماة للناس لولده الملك المظفر نور الدين محمود، وجعله ولي عهده، وجهز له عسكرا إلى الملك الكامل بمصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية، وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون بنت الملك العادل «3» ، قال القاضي جمال الدين مؤلف «مفرج الكروب» :
وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته هذه، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشد الشعراء المراثي، فمنها قصيدة قالها حسام الدين خشترين «4» وهو جندي كردي مطلعها:
(البسيط)
الطرف في لجّة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشّرر
وفيها في لبس الملك المنصور الحداد عليها:
ما كنت أعلم أنّ الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر(27/238)
لو كان من مات يفدى مثلها لفدى ... أمّ المظفر آلاف من البشر
وفيها، توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان ابن مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي «1» صاحب بلاد الروم، وقد تقدم ذكر ولايته سنة سبع وست مئة «2» ، وكان قد تعلق به مرض السّل واشتدّ به ومات، فملك بعده أخوه كيقباذ، وكان كيكاوس قد حبس كيقباذ (177) المذكور «3»
فأخرجه الجند وملكوه.
وفي سنة سبع عشرة وست مئة «13»
كان الفرنج [متملكين] «4» دمياط، والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة مرابطا للجهاد، والملك الأشرف في حرّان، وكان الملك الأشرف قد أقطع عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب رأس عين، فخرج ابن المشطوب على الملك الأشرف، وجمع جيشا وحسّن لمحمود بن قطب الدين صاحب سنجار الخروج عن طاعة الأشرف أيضا، فخرج بدر الدين لؤلؤ من الموصل وحصر ابن المشطوب بتل أعفر وأخذه بالأمان وقبض عليه، وأعلم الملك الأشرف بذلك فسرّ به غاية السرور، واستمر ابن المشطوب في الحبس.
وسار الملك الأشرف من حرّان واستولى على دنيسر وقصد سنجار فأتته رسل صاحبها محمود بن قطب الدين تسأل أن يعطى الرقّة عوض سنجار ليسلم سنجار إلى الملك الأشرف، فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك، وتسلم سنجار في(27/239)
مستهل جمادى الأولى وسلم إليه الرقّة، وهذا كان من سعادة الأشرف فإن أباه الملك العادل نازل سنجار في جموع عظيمة وطال عليها مقامه فلم يملكها وملكها ابنه الأشرف بأهون سعي.
وبعد أن فرغ الأشرف من سنجار سار إلى الموصل، ووصل إليها تاسع عشر جمادى الأولى، وكان يوم وصوله إليها يوما مشهودا، وكتب إلى مظفر الدين صاحب إربل يأمره أن يعيد صهره عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود ابن (178) مودود على بدر الدين لؤلؤ القلاع التي استولى عليها فأعادها جميعها وترك في يده منها العمادية، واستقر الصلح بين الأشرف وبين مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وعماد الدين زنكي بن أرسلان صاحب العقر وشوش والعمادية، وكذلك استقر الصلح بينهما وبين بدر الدين صاحب الموصل، ولما استقر ذلك رحل الملك الأشرف عن الموصل ثاني شهر رمضان هذه السنة وعاد إلى سنجار وسلم بدر الدين صاحب الموصل تلعفر إلى الملك الأشرف ونقل الملك الأشرف ابن المشطوب من حبس الموصل وحطه مقيدا في جب بمدينة سنجار «1» حتى مات سنة تسع عشرة وست مئة «2» .
وفي هذه السنة، توفي الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب «3» صاحب حماة بقلعة حماة في ذي القعدة، وكانت مدة مرضه واحدا وعشرين يوما بحمى حادة، وورم دماغه.
وكان شجاعا عالما يحب العلماء، ورد إليه منهم جماعة منهم الشيخ سيف(27/240)
الدين علي الآمدي «1» وكان في خدمة الملك المنصور قريبا من مئتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك، وصنف الملك المنصور عدة مصنفات مثل «المضمار في التاريخ» «2» ، و «طبقات الشعراء» «3» ، وكان معتنيا بعمارة بلده والنظر في صالحه، وهو بنى الجسر الذي ظاهر حماة خارج باب حمص، واستقر له بعد وفاة والده من البلاد حماة والمعرة وسلميّة ومنبج وقلعة نجم، فلما فتح (179) بارين وكانت بيد إبراهيم بن المقدم ألزمه عمه الملك العادل أن يردها إليه فأجاب إلى تسليم منبج وقلعة نجم عوضا عنها وهما خير من بارين بكثير، اختار ذلك لقرب بارين من بلده، وجرت له حروب مع الفرنج وانتصر فيها، وكان ينظم الشعر، ولما توفي الملك المنصور كان ولده الملك المظفر محمود المعهود إليه بالسلطنة عند خاله الملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج، وكان ولده الآخر الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان «4» عند خاله الآخر الملك المعظم صاحب دمشق وهو في الساحل في الجهاد، وقد فتح قيساريّة وهدمها وعاد إلى عتليث ونازلها، وكان الوزير بحماة زين الدين بن فريج «5» فاتفق هو والكبراء على استدعاء الملك الناصر لعلمهم بلين عريكته وشدة بأس الملك المظفر، فأرسلوا إلى الملك الناصر وهو مع الملك المعظم كما ذكرنا فمنعه الملك المعظم من التوجه إلا(27/241)
بتقرير مال عليه يحمله إلى الملك المعظم في كل سنة، قيل: إن مبلغه أربع مئة ألف درهم، فلما أجاب الناصر إلى ذلك وحلف عليه أطلقه الملك المعظم فقدم الملك الناصر إلى حماة واجتمع بالوزير زين الدين والجماعة الذين كاتبوه واستحلفوه على ما أرادوا وأصعدوه القلعة، ثم ركب من القلعة بالسناجق السلطانية، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة لأن مولده سنة ست مئة.
ولما استقر الملك الناصر بملك حماة وبلغ أخاه الملك (180) المظفر ذلك استأذن الملك الكامل في المضي إلى حماة ظنا منه أنه إذا وصل إليها يسلمونها إليه بحكم الأيمان التي كانت له في أعناقهم، فأعطاه الملك الكامل الدستور، وسار الملك المظفر حتى وصل إلى الغور وجد خاله الملك المعظم صاحب دمشق هناك فأخبره أن أخاه الملك الناصر قد ملك حماة ويخشى عليك أنك إذا وصلت إلى حماة يعتقلك فسار الملك المظفر إلى دمشق وأقام بداره المعروفة بالزّنجيلي وكتب الملك المعظم والملك المظفر إلى أكابر حماة في تسليم حماة إلى الملك المظفر فلم يحصل منهم إجابة، فعاد الملك المظفر إلى مصر، وأقام في خدمة الملك الكامل فأقطعه إقطاعا بمصر إلى أن كان ما سنذكره»
إن شاء الله تعالى.
وكان قد استقر بيد الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل الرّها وسروج وميّافارقين، وخلاط بيد الملك الأشرف، ولم يكن للملك الأشرف ولد فجعل أخاه الملك المظفر غازي ولي عهده، وأعطاه ميّافارقين وخلاط وبلادهما وهما [إقليمان عظيمان] «2» يضاهيان ديار مصر، وأخذ منه الملك الأشرف الرّها وسروج.
وفي هذه السنة، أرسل جنكز خان عشرين ألف فارس في أثر خوارزم شاه(27/242)
محمد بن تكش بعد أن ملك سمرقند، وهذه الطائفة تسمى التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان فوصلوا إلى موضع يقال له (181) بنج آوو وعبروا هناك نهر جيحون وصار (وا) مع خوارزم شاه في بر واحد، فلم يشعر خوارزم شاه وعسكره إلا والتتر معه فتفرق عسكره أيدى سبأ، ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خواصّه، ووصل إلى نيسابور والتتر في أثره، فلما قربوا منه رحل إلى مازندران والتتر في أثره لا يلتفتون إلى شيء من البلاد ولا إلى غير ذلك بل قصدهم إدراك خوارزم شاه، فسار من مازندران إلى مرسى بحر طبرستان يعرف بالسكون، وله هناك قلعة في البحر فعبر هو وأصحابه إليها «1» ، ووقف التتار على ساحل البحر وأيسوا من لحاق خوارزم شاه، ولما استقر خوارزم شاه بهذه القلعة توفي فيها.
وهو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورا «2» واتسع ملكه فملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وسجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وكان عالما بالفقه والأصول وغيرهما، وكان صبورا على التعب وإدمان السير وسنذكر شيئا من أخباره عند مقتل ولده جلال الدين «3» .
ولما أيس التتر من إدراك خوارزم شاه عادوا إلى مازندران ففتحوها وقتلوا أهلها، ثم ساروا إلى الري وهمذان ففعلوا كذلك من القتل والسبي، ثم ملكوا مراغة في صفر سنة ثماني عشرة وست مئة، ثم ساروا إلى خراسان «4» (182)(27/243)
واستولوا عليها، ونازلوا خوارزم وقاتلهم أهلها مدة أشد قتال، ثم فتحوها وكان لها سد في نهر جيحون ففتحوه وركب الماء بخوارزم وغرقها، وفعلوا في هذه البلاد جميعها من قتل أهلها وسبي ذراريهم، وقتل العلماء والصلحاء والزهاد والعباد، وتخريب الجوامع، وتحريق المصاحف ما لم يسمع بمثله في تاريخ قبل الإسلام ولا بعده، فإن واقعة بخت نصر مع بني إسرائيل كانت لا تنسب إلى بعض بعض ما فعله هؤلاء، فإن كل مدينة من المدن التي أخربوها أعظم من القدس بكثير، وكل أمة قتلوهم من المسلمين أعظم من بني إسرائيل الذين قتلهم بخت نصر، ولما فرغ التتر من خراسان عادوا إلى ملكهم فأرسل جيشا كثيفا إلى غزنة وبها جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش المذكور مالكا لها، وقد اجتمع [إليه] «1» كثير من عسكر أبيه قيل: كانوا ستين ألف فارس، وكان [الجيش] «2» الذي سار إليهم من التتر اثني عشر ألفا فاقتتلوا مع جلال الدين قتالا شديدا وأنزل الله نصره على المسلمين، وانهزمت التتر وتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤوا، ثم أرسل جنكز خان سبعين ألفا من المقاتلة التتر مع بعض أولاده ووصلوا إلى كابل وتصاف معهم المسلمون فانهزم التتر ثانيا: وقتل المسلمون منهم وأسروا خلقا كثيرا، وكان في عسكر جلال الدين أمير كبير مقدام هو الذي كسر التتر على الحقيقة يقال له: بغراق (183) فوقع بينه وبين أمير كبير يقال له ملك خان وهو صاحب هراة وله نسب إلى خوارزم شاه [فتنة] «3» بسبب الكسب، فقتل في الفتنة أخو بغراق فغضب بغراق وفارق جلال الدين وسار إلى الهند وتبعه ثلاثون ألف فارس من العسكر، ولحقه جلال الدين وترضّاه فلم يرجع فضعف عسكر جلال الدين لذلك، ثم(27/244)
وصل جنكز خان بنفسه ومعه جيوشه وقد ضعف جلال الدين بما نقص من جيشه بسبب بغراق فلم يكن له بجنكز خان قدرة، فترك جلال الدين البلاد وسار إلى الهند، وتبعه جنكز خان فأدركه على نهر السند ولم يلحق جلال الدين ومن معه أن يعبروا النهر فاضطروا إلى القتال وقاتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، وصبر الفريقان ثم تأخر كل منهما عن صاحبه فعبر جلال الدين ذلك النهر إلى جهة الهند وعاد جنكز خان فاستولى على غزنة وقتل أهلها ونهب أموالهم، وكان قد سار من التتر فرقة عظيمة إلى جهة القفجاق واقتتلوا معهم فانتصر التتر واستولوا على مدينة القفجاق العظمى وتسمى السوداق «1» ، وكذلك فعلوا بقوم يقال لهم اللكزى بلادهم قرب دربند شروان، ثم سار التتر إلى الروس وانضم إلى الروس القفجاق وجرى بينهم وبين التتر قتال عظيم، فانتصر التتر وشردوهم في البلاد.
وفي سنة ثماني عشرة وست مئة «13»
قوي طمع الفرنج المتملكين لدمياط في الديار المصرية (184) وتقدموا عن دمياط إلى جهة مصر ووصلوا إلى المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين برا وبحرا، وكتب السلطان الملك الكامل متواترة إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فسار الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق إلى أخيه الملك الأشرف وهو بالبلاد الشرقية وطلب منه السير إلى أخيهما الملك الكامل، فجمع الأشرف عساكره واستصحب عسكر حلب، واستصحب الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور صاحب حماة، وكان الملك الناصر خائفا من خاله(27/245)
الكامل لا ينتزع حماة منه ويعطيها للملك المظفر، فحلف الملك الأشرف للملك الناصر صاحب حماة أنه لا يمكن أخاه الملك الكامل من التعرض إليه فسار معه بعسكر حماة، وكذلك سار مع الملك الأشرف [كل من صاحب بعلبك] «1»
الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه و [صاحب حمص] «1» الملك المجاهد شير كوه بعساكرهما، وسارت هذه العساكر كلها إلى الملك الكامل بالديار المصرية، فوجدوه وهو في قتال الفرنج على المنصورة فركب والتقى إخوته ومن في صحبتهم من الملوك وأكرمهم فقويت قلوب المسلمين وضعفت قلوب الفرنج بما شاهدوا من كثرة عساكر الإسلام، فاشتد القتال على الفريقين، ورسل الملك الكامل وإخوته مترددة إلى الفرنج في الصلح وبذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه السلطان (185) صلاح الدين من الساحل خلا الكرك والشّوبك والأمر متردد بينهم [على أن يجيبوا إلى الصلح وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم يرض الفرنج بذلك، وطلبوا ثلاث مئة ألف دينار عوضا عن تخريب الأسوار التي للقدس فإن الملك المعظم عيسى خربها كما ذكرنا، وقالوا لابد من تسليم الكرك والشّوبك] «2» فبينا هم كذلك إذ عبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي فيها الفرنج من بر دمياط ففجروا فجرة عظيمة من النيل، والنيل إذ ذاك في زمن قوته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، فركب الماء تلك الأرض، وصار حائلا بين الفرنج وبين دمياط فهلكوا جوعا، وبعثوا يطلبون الأمان على أن ينزلوا عن جميع ما بذله لهم المسلمون ويسلموا دمياط ويقيدوا مدة الصلح، وكان فيهم عشرون ملكا من الملوك الكبار، فاختلفت الآراء بين يدي السلطان الملك الكامل، فبعضهم قال: لا(27/246)
نعطيهم أمانا ونأخذهم ونتسلّم منهم ما بأيديهم من الساحل مثل عكّا وصور، ثم اتفقت آراؤهم على إجابتهم إلى الأمان لطول مدة البيكار وتضجر العساكر لأنهم كان لهم ثلاث سنين و [شهور] «1» في القتال فأجابهم الملك الكامل إلى ذلك وطلب الفرنج رهينة من الملك الكامل فبعث ابنه الملك الصالح أيوب وعمره يومئذ خمس عشرة سنة إلى الفرنج، وحضر من الفرنج على ذلك رهينة وهو ملك عكّا ونائب البابا صاحب رومية الكبرى وكندريس صاحب صور وغيرهم من الملوك وكان ذلك سابع رجب هذه السنة، واستحضر الملك الكامل ملوك الفرنج المذكورين وجلس لهم مجلسا عظيما، ووقف بين يديه الملوك من إخوته وأهل بيته وسلمت دمياط إلى المسلمين تاسع عشر هذه السنة، وقد حصنها (186) الفرنج إلى غاية ما يكون، وولاها السلطان الملك الكامل للأمير شجاع الدين جلدك التقوي «2» أحد مماليك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهنأت الشعراء الملك الكامل بهذا الفتح العظيم، «3» وفي جلوس الملك الكامل ووقوف أخويه المعظم عيسى والأشرف موسى لديه بحضور ملوك الفرنج والخيالة، والرعب يريهم الموت خياله، قال راجح الحلّي «4» : (الطويل)
«5» هنيئا فإنّ السعد راح مخلدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا(27/247)
حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ... مبينا وإنعاما وعزا مؤيّدا
تهلّل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أربدا
ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سلّ عزمه ... فكان كما سلّ الحسام مجرّدا
فلم ينج إلا كلّ شلو مخذل ... ثوى منهم أو من تراه مقيّدا
ونادى لسان الموت في الأرض رافعا ... عقيرته في الخانقين ومنشدا
أعبّاد عيسى إنّ عيسى برغمكم ... وموسى جميعا يخدمان محمّدا
فبهت الذي كفر، وكان ذلك طرار ذلك الظفر، وأحازه الملك الكامل بكل بيت ألفا، وكذلك فعل المعظم والأشرف.
ثم سار الملك الكامل ودخل دمياط ومعه إخوته وأهل بيته، وكان يوما مشهودا، ثم توجه إلى القاهرة (187) وأذن للملوك من إخوته وأهل بيته بالرجوع إلى بلادهم، فتوجه الملك الأشرف وانتزع الرّقّة من محمود [وقيل اسمه عمر] «1» بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، ولقي بغيه على أخيه، فإنا ذكرنا كيف وثب على أخيه فقتله وأخذ سنجار «2» ثم أقام الملك الأشرف بالرّقّة وورد إليه الملك الناصر صاحب حماة فأقام عنده مدة ثم عاد إلى بلده.
وفيها، توفي الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق «3» صاحب آمد وحصن كيفا بالقولنج، وقام في الملك بعده(27/248)
ولده الملك المسعود «1» وهو الذي انتزع منه الملك الكامل آمد «2» ، وكان الملك الصالح المذكور قبيح السيرة وقد أورد ابن الأثير وفاته سنة تسع عشرة «3» .
وفيها، في جمادى الآخرة خنق قتادة بن إدريس العلوي الحسني «4» أمير مكة وعمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت إلى نواحي اليمن، وكان حسن السيرة في مبدأ أمره، ثم أساءها وجدد المظالم والمكوس وصورة ما جرى له أنه كان مريضا فأرسل عسكرا مع أخيه ومع ابنه الحسن بن قتادة للاستيلاء على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذها من صاحبها فوثب الحسن بن قتادة في أثناء الطريق على عمه فقتله وعاد إلى أبيه قتادة بمكة فخنقه، وكان له أخ نائب بقلعة ينبع عن أبيه فأرسل إليه الحسن فحضر إلى مكة فقتله أيضا، وارتكب الحسن أمرا عظيما قتل عمه وأباه وأخاه في أيام يسيرة واستقر في ملك مكة، وكان قتادة (188) يقول الشعر، وطولب أن يحضر إلى أمير الحاج العراقي فامتنع، وعوتب من بغداد فأجاب بأبيات منها «5» : (الطويل)
ولي كفّ ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع
تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وباطنها للمجدبين ربيع
أأجعلها تحت الرحا ثم ابتغي ... خلاصا لها؟ إني إذا لرقيع
وما أنا إلا المسك في كلّ بلدة ... أضوع، وأما عندكم فأضيع(27/249)
وفيها، توفي جلال الدين بن الحسن «1» صاحب ألموت ومقدم الإسماعيلية، وولي بعدده ابنه علاء الدين محمد «2» .
وفي سنة تسع عشرة وست مئة «13»
توفي ناصر الدين محمود بن الملك القاهر مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «3» صاحب الموصل الذي كان نصبه بدر الدين لؤلؤ وهو صغير، فاستقل بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل وسمى لؤلؤ نفسه الملك الرحيم، وكان قد اعتضد بالملك الأشرف بن العادل فدافع عنه ونصره، وقلع لؤلؤ البيت الأتابكي بالكلية واستمر مالكا للموصل نيفا وأربعين سنة سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم من أيام أسياده نور الدين أرسلان شاه وابنه الملك القاهر مسعود.
وفيها، سار الملك الأشرف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وأقام عنده بمصر متنزها إلى أن خرجت السنة.
وفيها، فوض الأتابك طغريل الخادم مدبر مملكة حلب إلى الملك الصالح [أحمد] «4» بن الظاهر بن الناصر صلاح الدين (189) أمر الشّغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليهما وأضاف إليه الرّوج «5» ومعرة(27/250)
ومصرين.
وفيها، قصد الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حماة لأن الملك الناصر صاحب حماة قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك حماة»
فلم يف له فقصد المعظم حماة فنزل بقيرين وغلقت أبواب حماة فجرى بينهم قتال قليل.
ثم رحل المعظم إلى سلميّة فاستولى على أموالها وحواصلها وولى عليها من جهته. ثم سار إلى المعرة فاستولى عليها وأقام أميرا من جهته واليا عليها وقرر أمورها، وعاد إلى سلميّة فأقام بها حتى خرجت هذه السنة على قصد منازلة حماة.
وفيها حج من اليمن الملك المسعود يوسف الملقب أطسز، وتسميه العامة آقسيس، وكان قد استولى على اليمن سنة اثنتي عشرة وست مئة، وقبض على سليمان شاه بن شاهنشاه بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب «2» ، وحج في هذه السنة، فلما وقف الملك المسعود هذه السنة بعرفة، وتقدمت أعلام الخليفة الإمام الناصر لترفع على الجبل [تقدم] «3» الملك المسعود بعساكره ومنع ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم عاد الملك المسعود إلى اليمن، وبلغ ذلك الخليفة فعظم عليه، وأرسل يشكو إلى الملك الكامل فاعتذر (190) عن ذلك فقبل عذره، وأقام الملك المسعود باليمن مدة يسيرة ثم عاد إلى مكة ليستولي عليها فقاتله حسن بن قتادة فانتصر الملك المسعود وانهزم ابن قتادة، واستقرت مكة للملك المسعود وولى عليها وذلك في ربيع الأول سنة عشرين وست مئة [ثم(27/251)
عاد إلى اليمن] «1» .
وفي سنة عشرين وست مئة «13»
في أوائلها، كان الملك الأشرف بديار مصر عند أخيه الكامل وأخوهما المعظم عيسى بسلميّة مستول عليها، وعلى المعرة عازم على إحصار حماة وبلغ الملك الأشرف ما فعله أخوه الملك المعظم بصاحب حماة، فشق عليه، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على الملك المعظم وترحيله، فأرسل إليه الملك الكامل ناصح الدين الفارسي «2» فوصل إليه وهو بسلميّة وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل، فقال: السمع والطاعة. وكانت أطماعه قد قويت على الاستيلاء على حماة، فرحل مغضبا على أخويه الكامل والأشرف، ورجعت المعرة وسلميّة للناصر، وكان المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه مقيما عند الملك الكامل بديار مصر كما تقدم ذكره «3» .
وكان الملك الكامل يؤثر أن يملك الملك المظفر حماة، ولكن الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الناصر إليه، وجرى بين الكامل والأشرف في ذلك مراجعات آخرها أنهما اتفقا على أن تنزع سلميّة من يد الناصر ويسلمها إلى (191) أخيه المظفر فتسلمها المظفر وأرسل إليها وهو بمصر نائبا من جهته حسام الدين أبا علي محمد بن علي الهذباني واستقر بيد الناصر حماة والمعرة وبعرين.
ثم سار الملك الأشرف من مصر واستصحب معه خلعة وسناجق سلطانية من(27/252)
أخيه الملك الكامل للملك العزيز صاحب حلب وعمره يومئذ عشر سنين، ووصل الملك الأشرف بذلك إلى حلب، وأركب الملك العزيز في دست السلطنة.
وفي هذه السنة، لما وصل الملك الأشرف بالخلعة المذكورة اتفق مع الأشرف كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية، فأرسلوا إليها عسكرا هدموها إلى الأرض.
وفيها، تغلب غياث الدين تيزشاه «1» [أخو] «2» جلال الدين منكبرتي بن خوارزم شاه محمد بن تكش على الري وأصبهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم وهي البلاد المعروفة ببلاد الجبال، وكان غياث الدين المذكور قد ملك كرمان وما والاها، فلما تغلب على هذه البلاد في هذه السنة خرج عليه خاله يغان طايسي «3» وقاتله أشد قتال فانتصر عليه غياث الدين واستقر في بلاده منصورا.
وفيها، كان أهل مملكة الكرج قد مات ملكهم، ولم يبق من بيت الملك إلا امرأة فملّكوها وطلبوا لها رجلا يتزوجها ويقوم بالملك ويكون من أهل بيت المملكة فلم يجدوا فيهم من (192) يصلح لذلك، وكان صاحب أرزن الروم مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي من بيت كبير مشهور فأرسل يخطب هذه الملكة لولده ليتزوجها «4» ، وامتنعوا من إجابته إلا أن(27/253)
يتنصر، فأمر ولده فتنصر وسار إلى الكرج وتزوج الملكة، وكانت هذه الملكة تهوى مملوكا لها، ويعلم ابن طغريل شاه بذلك وتكاسر «1» فدخل يوما إلى البيت فوجد المملوك نائما معها في الفراش فلم يصبر المذكور على ذلك وأنكر عليها، فأخذته زوجته واعتقلته في بعض القلاع ثم أحضرت رجلين كانا قد وصفا لها بحسن الصورة فتزوجت أحدهما ثم فارقته وأحضرت إنسانا مسلما من كنجة «2» هويته وسألته أن يتنصر لتتزوج به فلم يجب إلى ذلك، فترددت الرسل بينهما فلم يجبها إلى التنصّر.
وفي هذه السنة، توفي المستنصر يوسف بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب وقد تقدم ذكر ولايته سنة عشر وست مئة «3» .
وكان يوسف المذكور منهمكا في اللذات فدخل الوهن على الدولة بسبب ذلك، ولم يخلف يوسف المذكور ولدا فاجتمع كبراء الدولة وملكوا عم أبيه لكبر سنه، وهو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن ولقبوه المستضيء، وكان عبد الواحد المذكور قد صار فقيرا بمراكش وقاسى الدهر، فلما تولى اشتغل باللذات والتنعم في المآكل والملابس (193) من غير أن يشرب خمرا فخلعوه بعد تسعة أشهر وقتلوه «4» وملكوا ابن أخيه عبد الله ولقبوه العادل، وهو عبد(27/254)
الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن «1» .
سنة إحدى وعشرين وست مئة إلى سنة ثلاثين وست مئة
في سنة إحدى وعشرين وست مئة «13»
وصل التتر إلى قرب توريز، وأرسلوا إلى صاحبها أزبك بن البهلوان يقولون له: إن كنت في طاعتنا فأرسل من عندك الخوارزمية إلينا، فجمع أزبك الخوارزمية وأرسلهم إلى التتر مع تقدمة عظيمة فكفوا عن بلاده وعادوا إلى خراسان.
وفيها استولى غياث الدين تيزشاه بن محمد بن تكش أخو جلال الدين منكبرتي بن محمد على غالب مملكة فارس، وكان صاحب فارس يقال له الأتابك سعد بن دكلا «2» وأقام غياث الدين بشيراز وفي كرسي مملكة فارس، ولم يبق مع أتابك سعد من فارس غير الحصون المنيعة، ثم اصطلح الأتابك سعد مع غياث الدين على أن يكون لكل منهما ما بعده.
وفي هذه السنة، عصى المظفر غازي بن العادل على أخيه الأشرف، وكان الملك الأشرف قد أنعم على أخيه المظفر غازي بخلاط، وهي مملكة عظيمة بإقليم أرمينية، وكان قد حصل بين الملك المعظم صاحب دمشق وبين أخويه الكامل والأشرف (194) وحشة بسبب ترحيله عن حماة كما تقدم ذكره «3» ،(27/255)
فأرسل المعظم وحسّن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الملك الأشرف فأجاب المظفر إلى ذلك، وخالف أخاه الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم عيسى والمظفر غازي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين كوجك صاحب إربل، وكان الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ منتميا إلى الأشرف فسار مظفر الدين صاحب إربل وحصر الموصل عشرة أيام، وكان نزوله على الموصل ثالث عشر جمادى الآخرة من هذه السنة ليشغل الملك الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها، فلم يلتفت الملك الأشرف إلى حصار الموصل وسار إلى خلاط وحاصر بها [أخاه] «1» المظفر شهاب الدين غازي فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل فنزل إلى أخيه الأشرف واعتذر إليه فقبل عذره وعفا عنه، وأقره على ميّافارقين، وارتجع باقي البلاد منه، وكان استيلاء الأشرف على خلاط وأخذها من أخيه في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي سنة اثنتين وعشرين وست مئة «13»
وصل جلال الدين من الهند إلى بلاده، وقد تقدم في سنة سبع عشرة وست مئة هروبه من غزنة لما قصده جنكز خان، وأنه دخل الهند «2» ، فلما كان في هذه السنة قدم من الهند إلى كرمان إلى أصفهان واستولى عليها وعلى باقي عراق العجم، وسار إلى (195) فارس وانتزعها من أخيه تيزشاه بن محمد وأعادها إلى صاحبها أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس وصار أتابك سعد وتيزشاه أخو جلال الدين منكبرتي بن خوارزم شاه تحت حكم جلال الدين المذكور، ثم(27/256)
استولى جلال الدين على خوزستان وكاتب الخليفة الإمام الناصر ثم صار حتى وصل إلى بعقوبا «1» بالقرب من بغداد، وخاف أهل بغداد منه واستعدوا للحصار، ونهبت الخوارزمية البلاد وقوي جلال الدين وعسكره ثم سار إلى قريب إربل فصالحه مظفر الدين كوكبوري ودخل في طاعته، ثم سار جلال الدين إلى أذربيجان وكرسي ملكها توريز فاستولى على توريز وهرب مظفر الدين أزبك بن البهلوان بن إلدكز صاحب أذربيجان، وكان أزبك المذكور قد قوي أمره لما قتل طغريل آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، واستقل أزبك المذكور في المملكة، وكان أزبك لا يزال مشغولا بشرب الخمر وليس له التفاته إلى تدبير المملكة، فلما استولى جلال الدين على توريز هرب أزبك إلى كنجة وهي من بلاد أران قرب برذعة «2» متاخمة لبلاد الكرج (و) استقل السلطان جلال الدين بمملكة أذربيجان وكثرت عساكره، ثم جرى بين جلال الدين وبين الكرج قتال عظيم من أعظم ما يكون، فانهزمت الكرج وتبعهم الخوارزمية يقتلونهم كيف شاؤوا واتفق أنه ثبت على قاضي توريز وقوع الطلاق على أزبك ابن البهلوان من زوجته بنت السلطان طغريل آخر الملوك السلجوقية المقدم الذكر (196) فتزوج جلال الدين بها، وأرسل جيشا إلى مدينة كنجة ففتحوها وهرب منها مظفر الدين أزبك بن البهلوان إلى قلعة هناك، ثم هلك وتلاشى أمره.
وفي هذه السنة، توفي الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب «3» وليس بيده غير سميساط فقط، وكان موته(27/257)
فجأة وعمره سبع وخمسون سنة، وكان الملك الأفضل فاضلا حسن السيرة، وتجمعت فيه الفضائل والأخلاق الحسنة، وكان مع ذلك قليل الحظ، وله الأشعار الحسنة الجيدة، فمنها يعرض إلى سوء حظه قوله: (الكامل)
يا من تسوّد شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنّه لا ينصل
ولما أخذت منه دمشق كتب إلى بعض أصحابه كتابا منه: أما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم، وسبب ذلك «1» : (المنسرح)
أيّ صديق سألت عنه ففي الذّ ... لّ وتحت الخمول في الوطن
وأيّ ضدّ سألت حالته ... سمعت ما لا تحبّه أذني
وفي أول شوال في هذه السنة، كانت وفاة الخليفة الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد «2» بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن القائم [ «3» عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المكتفي علي بن المعتضد أحمد بن الأمير الموفق، قيل اسمه طلحة، وقيل:
محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد ابن المنصور] عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عم النبي صلى الله عليه وسلم (197) بن عبد المطلب بن هاشم، وكان عمر الناصر نحو سبعين سنة ومدة خلافته سبع وأربعون سنة، وعمي في آخر عمره، وكان موته(27/258)
بالدوسنطاريا، وكان قبيح السيرة في رعيته ظالما لهم، خرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد، وكان يتشيع وهو منصرف الهمة إلى رمي البندق، والطيور المناسيب، ويلبس سراويلات الفتوة، ومنع رمي البندق إلا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك، إلا إنسانا واحدا يقال له: ابن السفت وهرب لذلك من بغداد إلى الشام.
وقد نسب إلى الإمام الناصر أنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد بسبب ما كان بينه وبين خوارزم شاه محمد بن تكش من العداوة ليشغل خوارزم شاه بهم عن قصد العراق.
خلافة ابنه الظاهر [بأمر الله] «1» [أبي نصر] «2» محمد «3» خامس ثلاثيهم
ولما بويع [الظاهر بأمر الله] «4» بعد موت أبيه أظهر العدل، وأزال المكوس.
وأخرج المحبسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادرا، ولم تصل مدته في الخلافة غير تسعة أشهر.(27/259)
وفي سنة ثلاث وعشرين وست مئة1»
سار الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق، ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين منكبرتي ومع مظفر الدين صاحب إربل أن يكونوا يدا واحدة، وكان الأشرف بالبلاد الشرقية، ثم رحل المعظم إلى دمشق بسبب [كثرة] «1» ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الأشرف (198) طالبا للصلح قطعا للفتن، فبقي عنده مكرما [ظاهرا] «1» ، وهو كالأسير معه في الباطن، وأقام الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة.
وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره فما أمكنه الخروج منها.
وفيها فتح السلطان جلال الدين تفليس وهي من المدن العظام.
وفيها، سار جلال الدين المذكور ونازل خلاط وهي منازلته الأولى وطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط حسام الدين علي الموصلي «2» وكان نزوله عليها ثالث عشري ذي القعدة «3» ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة لكثرة الثلوج.
وفي رابع عشر رجب من هذه السنة توفي الخليفة الظاهر [بأمر الله] «4»
محمد بن الناصر لدين الله «5» ، وكان متواضعا محسنا إلى الرعية جدا، وأبطل(27/260)
عدة مظالم منها أنه كان بخزانة الخلافة صنجة زائدة يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطالها، وأول التوقيع: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
«1» وعمل صنجة المخزن مثل [صنجة] «2» المسلمين، وكان مضاددا لأبيه الناصر في سائر أحواله ومنها أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة ومدته هو كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعا، وكان الظاهر سنيا، وكان أبوه ظالما جمّاعا للمال، وكان الظاهر في (199) غاية العدل وبذل الأموال [للمحبوسين وعلى العلماء] «3» .
خلافة المستنصر بالله أبي جعفر منصور «4» سادس ثلاثيهم
ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي في غاية الشجاعة وبقي حيا حتى أخذت التتر بغداد، وقتل مع من قتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك [في] «5» العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر.
وفيها، سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد(27/261)
الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتقي صاحب آمد، ونزل كيقباذ بملطية وهي من بلاد كيقباذ وأرسل عسكرا وفتحوا حصن منصور، وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور.
وفيها [في خامس عشر (ذي) الحجة] «1» ، نازل جلال الدين منكبرتي خلاط وبها حسام الدين علي الحاجب من جهة الأشرف، وهي منازلته الثانية «2» ، وجرى بينهم قتال كثير، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة.
وفي سنة أربع وعشرين وست مئة «13»
كان في أوائلها الكامل بديار مصر، وخوارزم شاه جلال الدين منكبرتي مالكا لأذربيجان وأرّان وبعض بلاد الكرج، وهو موافق للملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين جلال الدين والمعظم، والملك الأشرف معهم كالأسير عند أخيه المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم وأنه لا خلاص له منه إلا أن يجيبه إلى ما يريد أجابه كالمكره، وحلف أن يعاضده (200) ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى [الآخرة] «3» وكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر، «4» وفي اتفاقهما يقول الحسن بن يوسف الطائي «5» : (الكامل)(27/262)
لم يتفق موسى وعيسى آية ... إلا ليصبح كلّ أعمى مبصرا
بعثا فموسى كلّ فرعون طغى ... أردى، وعيسى بعده أحيا الورى
ولما استقر الملك الأشرف ببلاده رجع عن جميع ما تقرّر بينه وبين المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما رأى الملك الكامل اعتضاد الملك المعظم بجلال الدين خاف من ذلك، وكاتب الأمبروز ملك الفرنج «1» في أن يقدم عكّا ليشغل [أخاه] «2» المعظم عما هو فيه، ووعد الأمبروز أن يعطيه القدس، فسار الأمبروز إلى عكّا، وبلغ المعظم ذلك فكتب إلى أخيه الأشرف يستعطفه.
وفيها، انتزع الأتابك طغريل الخادم الشّغر وبكاس من الملك الصالح بن الملك الظاهر، وعوضه عنها بعين تاب والرّاوندان.
وفيها، سار الحاجب حسام الدين علي بعساكر الأشرف من خلاط إلى بلاد جلال الدين، فاستولى على خوي وسلماس ونقجوان.
وفي هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب «3» بقلعة دمشق بالدوسنطاريا وعمرة تسع وأربعون سنة، وكان مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهورا (201) وكان شجاعا، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يخطب لأخيه الكامل ببلاده ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جدا، وكان في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعليه كلوتة صفراء بلا شاش، ويخترق(27/263)
الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر هذا منه صار الإنسان إذا فعل أمرا لا يتكلف له يقال قد فعله بالمعظّمي، وكان عالما فاضلا في الفقه والنحو، وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي «1» ، وفي الفقه جمال الدين [الحصيري] «2» ، وكان حنفيا متعصبا لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته، فإنهم كانوا شافعية، ومن شعره قوله «3» : (الطويل)
ولي همة لولا العوائق لم تزل ... تشرّ (ق) في كسب العلى وتغرّب
ولكنها الأيام تبدي صروفها ... عجائب حتى لست منهن أعجب
وقوله: (الطويل)
نزلنا ضميرا «4» والجياد ضوامر ... وقد حان من شمس النهار غروبها
ففاضت غروب العين شوقا إليكم ... وليس عجيبا أن يفيض غروبها
وقوله: (الكامل)
ومورد الوجنات أغيد خاله ... بالحسن من فرط الملاحة عمّه(27/264)
كحل الجفون وكرّ في لحظاتها ... غنجا، فقلت: سقى الحسام وسمّه
(202) ولما توفي المعظم ترتب في مملكته ولده الملك الناصر صلاح الدين داود «1» ، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره عز الدين أيبك المعظّمي، وكان لأيبك المذكور صرخد وأعمالها.
وفي هذه السنة، خلع العادل عبد الله بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وست مئة بعد خلع عمه عبد الواحد وقتله «2» .
وفي أيام العادل المذكور كانت الوقعة بالأندلس بين المسلمين والفرنج على طليطلة، فانهزمت المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم المسلمين بالأندلس.
ولما خلع العادل المذكور حبس ثم خنق ونهب المصمودون قصره بمراكش واستباحوا حرمته.
ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن [يعقوب المنصور] «3» بن يوسف ابن عبد المؤمن «4» ، ويحيى يومئذ لم يخط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور «4» وهو أخو العادل عبد الله(27/265)
وتلقب إدريس بالمأمون وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون بإشبيلية ثارت جماعة من أهل مراكش وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل ثم اتصل بعرب المعقل «1» فغدروا به فقتلوه «2» ، وخطب للمأمون إدريس بمراكش واستقر في الخلافة بالبرّين بر الأندلس وبر العدوة.
ثم خرج على المأمون إدريس بشرق الأندلس (203) المتوكل ابن هود «3» واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس «4» ، وسار في البحر إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن.
ولما استقر إدريس بمراكش تتبع الخارجين على من قبله من الخلفاء فقتلهم عن آخرهم وسفك دماء كثيرة حتى سموه حجاج المغرب لذلك، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحا عالما بالأصول والفروع، ناظما ناثرا أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور وضلاله.
ثم ثار على إدريس المذكور أخوه «5» بسبتة، فسار إدريس من مراكش إلى سبتة وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر بسبتة أن بعض أولاد محمد(27/266)
الناصر قد دخل إلى مراكش «1» فرحل إدريس عن سبتة إلى مراكش فمات في الطريق بين سبتة ومراكش «2» .
ولما مات المأمون إدريس ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن وتلقب بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد غريقا في صهريج بستان له بحضرة مراكش في سنة أربعين وست مئة «3» ، وكان الرشيد حسن السياسة، وكان أبوه المأمون إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب إلا أنه تخلى للذاته لما استقل أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد بأفريقية ولا بالغرب (204) الأوسط.
ولما مات الرشيد عبد الواحد ملك بعده أخوه علي بن إدريس وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسمر اللون «4» ، مدحوضا في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه [أخاه] «5» الأصغر عبد الواحد المذكور، واستمر علي بن إدريس حتى قتل وهو محاصر قلعة بقرب تلمسان في صفر من سنة ست وأربعين وست مئة «6» .(27/267)
ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وست مئة وتلقب بالمرتضى «1» .
وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وست مئة دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضى إلى آزمّور من نواحي مراكش، فقبض عليه عامله بها وبعث إلى الواثق أعلمه، فأمره بقتله [فقتله] «2» في العشر الأخير من ربيع الآخر سنة خمس وستين وست مئة «3» بموضع يقال [له] «2» كتامة بعده عن مراكش ثلاثة أيام، وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين، وقتل في الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرّم سنة ثمان وستين وست مئة بموضع بينه وبين مراكش ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم «4» .
وقد اختلفوا في نسب أبي دبوس، فإني «5» وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن أن أبا دبّوس هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت (205) نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد(27/268)
المؤمن «1» على ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى.
وفي سنة خمس وعشرين وست مئة «13»
أرسل الملك الكامل صاحب مصر يطلب من ابن أخيه الناصر داود بن الملك المعظم صاحب دمشق حصن الشّوبك فلم يعطه الناصر ذلك ولا أجابه إليه، فسار الملك من مصر في رمضان هذه السنة ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد الناصر داود صاحب دمشق، وكان في صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة وهو موعود من الملك الكامل انتزاع بلاد أخيه المعظم من ابنه الناصر صاحب دمشق، فاستنجد الناصر بعمه الأشرف وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق، ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين.
قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضرا بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكبا مع ابن أخيه وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شير كوه، فإنه كان من المنتمين إلى الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود (و) شير كوه صحبة الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الأشرف إلى عند (206) أخيه الكامل بغزة شافعا في ابن أخيهما الناصر داود ففعلوا ذلك.(27/269)
ولما وصل الأشرف إلى أخيه الكامل وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر، وتعويضه عنها بحران والرّها والرقّة من بلاد الملك الأشرف، وتستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة فيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للكامل، وأن تنتزع حماة من الناصر قليج أرسلان وتصير للملك المظفّر محمود [أخي] «1» الناصر قليج أرسلان، وأن تنتزع سلميّة من الملك المظفّر وكانت إقطاعه لما كان مقيما عند الكامل بمصر، وتعطى لشير كوه صاحب حمص.
وخرجت هذه السنة والأشرف مقيم عند أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك.
وفيها، عاد التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، وكان في أكثر الأوقات الظفر للتتر.
وفيها، قدم الإمبراطور إلى عكّا بجموعه «2» ، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين بن الشيخ «3» يستدعيه إلى قصد الشام بسبب أخيه المعظم فقدم الإمبراطور وقد مات المعظم فنشب به الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على(27/270)
صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين وبينه، وسورها خراب، فعمره الفرنج، والإمبراطور معناه ملك الأمراء بالفرنجية، وإنما اسمه فردريك، وكان صاحب جزيرة صقلّية ومن البر الطويل جزيرة أنبولة «1» والأنبردية.
قال (207) القاضي جمال الدين بن واصل: ولقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولا من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد، قال: وكان ملك الفرنج الإمبراطور من بين قرنائه من ملوك الفرنج محبا للحكمة والمنطق والطب، مائلا إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلّية وغالب أهلها مسلمون «2» .
وترددت الرسل بين الملك الكامل والإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة.
وفيها، بعد فراغ جلال الدين من التتر قصد بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد، وفعل الأفعال القبيحة.
وفي سنة ست وعشرين وست مئة «13»
لما جرى بين السلطان الكامل والأشرف الاتفاق الذي ذكرناه بلغ الناصر داود ذلك وهو بنابلس، فلحق بدمشق وكان قد لحقه بالفور عمه الأشرف وعرفه ما أمر به الكامل، وأنه لا يمكن الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك، وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في أثره، وحصره بدمشق والكامل [مشتغل] «3» بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الكامل بدا من المهادنة(27/271)
أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه على أن تستمر أسواره خرابا ولا [يعمرها] «1» الفرنج، ولا [يتعرضوا] «2» إلى قبة الصخرة ولا إلى الجامع الأقصى ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكّا إلى القدس فقط، ووقع الأمر على ذلك (208) وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على القاعدة المذكورة «3» .
وكان ذلك والملك الناصر داود [محصور] «4» بدمشق، وعمه الأشرف يحاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج بن الجوزي «5» ، وكان واعظا وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلسا عظيما، ومن جملة ما أنشده قصيدة تائيّة ضمّنها بيت دعبل بن علي الخزاعي الشاعر، وهو «6» : (الطويل)
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات(27/272)
فارتفع بكاء الناس وضجيجهم «1» .
ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا شره من جهة الفرنج سار إلى دمشق ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب وخطب بنت الكامل فزوجه بنته فاطمة خاتون التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل بن الكامل «2» ، ثم استولى الملك [الكامل] «3» على دمشق وعوض [الناصر] »
عنها بالكرك والبلقاء والصّلت والأغوار والشّوبك، وأخذ الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر داود وهي حران والرّها، وكانت (209) بيد الأشرف ثم نزل الناصر داود عن الشّوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم الأشرف دمشق، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة، وفي «5» تسليم الأشرف دمشق وتملكها يقول ابن المسجف «6» : (الطويل)
وكنا نرجى بعد عيسى محمدا ... لينقذنا من فترة الظلم والبلوى
فأوقعنا في تيه موسى كما ترى ... حيارى ولا منّ لديه ولا سلوى(27/273)
وفي هذه السنة، توفي الملك المسعود يوسف الملقب أطسز المعروف بآقسيس بن الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب «1» ، وكان قد مرض باليمن فكره المقام بها وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره «2» ، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى وعمره ست وعشرون سنة، وكان مدة ملكه لليمن أربع عشرة سنة.
وكان الملك المسعود لما سار من اليمن قد استخلف عليها علي بن رسول «3» ، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الكامل وهو على حصار دمشق فجلس للعزاء، وخلّف الملك المسعود ولدا صغيرا اسمه أيضا يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب «4» صاحب مصر، وخلف يوسف ولدا صغيرا اسمه موسى ولقب الملك الأشرف، وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل المعظّم بن الصالح ابن الكامل «5» على ما سنذكره «6» .(27/274)
وفي هذه السنة (210) أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفيّ «1» ، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب حسام الدين علي الموصلي وحبسه ثم قتله «2» .
وكان حسام الدين المذكور من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف فجعله نائبا بخلاط فأحسن إلى الرعية، وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان مثل نقجوان وغيرها على ما تقدم ذكره «3» ، فقبض عليه الأشرف وقتله، قيل: إنه لذنب بدا منه لم يطلع عليه الناس واطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا حسام الدين الحاجب كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين، وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو المعروف بخان برج العطش، وهرب مملوك حسام الدين لما قتل أستاذه ولحق بجلال الدين منكبرتي فلما ملك جلال الدين خلاط كما سنذكره «4» قبض على أيبك الأشرفي وسلمه إلى مملوك حسام الدين فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
ولما سلّم الكامل دمشق إلى أخيه الأشرف سار من دمشق ونزل مجمع المروج «5» ، ثم نزل سلميّة، وأرسل عسكرا نازلوا حماة وبها صاحبها الناصر قليج أرسلان وكان فيه جبن فإنه لو عصى بحماة وطلب عنها عوضا لأجابه الملك الكامل ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه الملك المجاهد شير كوه(27/275)
صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشير كوه: إني أريد أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج (211) الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفّر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب إلى شير كوه في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، فأخذه شير كوه ومضى إلى الملك الكامل وهو نازل على سلميّة فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة [بتسليمها] «1» إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر الملك الكامل فامتنع من ذلك الطواشيان بشير «2» ومرشد «3» المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك العزيز «4» بن الملك المنصور صاحب حماة فملكوه حماة، وقالوا للملك الكامل:
لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة اتفق مع غلمان أبيك وتسلّم حماة، وكان الملك المظفر نازلا على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر حكام حماة فحلّفوه لهم وحلفوا له، وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها ففتحوا له باب النصر، ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الإكرام داخل باب المغار وهي الآن مدرسة تعرف(27/276)
بالخاتونية وقفتها عمتي مؤنسة خاتون «1» بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنؤوا المظفر ملك حماة، وكان ذلك في العشر الآخر من رمضان هذه السنة، وكانت مدة ملك الناصر (212) قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفّر في دار الإكرام يومين، وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة.
ولما ملك المظفر حماة فوض أمور تدبيرها صغيرها وكبيرها إلى الأمير علي ابن أبي علي الهذباني «2» ، وكان سيف الدين علي خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين بن أبي علي «3» [الذي كان نائب الملك المظفر بسلميّة لما سلمت إليه وهو بمصر عند الملك الكامل، ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي] وحشة ففارقه حسام الدين، واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له:
أشتهي أراك صاحب حماة وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة لما نازلها عسكر الكامل، وبقي بفرد عين فحظي عند المظفّر بذلك ولكفاءته وحسن تدبيره.
ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة انتزع الملك الكامل سلميّة منه وسلمها إلى شير كوه صاحب حمص على ما كان وقع عليه الاتفاق قبل ذلك،(27/277)
ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الناصر قليج أرسلان بارين بكاملها فسلمها إليه، ولم يبق بيد المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربع مئة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد (213) رسم الملك الكامل للمظفر أن يعطي المال لأخيه الناصر فماطل المظفر في ذلك ولم يعطه شيئا.
ولما استقر المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد ابن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة منها «1» : (الطويل)
تناهى إليك الملك واشتدّ كاهله ... وحلّ بك الراجي فحطّت رواحله
ترحّلت عن مصر فأمحل ربعها ... ولما حللت الشام روّض ما حلّه
وعزّت حماة في حمى أنت غابه ... بصولته يحمى كليب ووائله
وقد طالما ظلّت بتدبير أهوج ... يخيّب مرجيه ويحرم سائله
فلما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلميّة إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الأشرف عوضا عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل وهو بالشرق، وعقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل «2» ، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي ابني المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة ووصلته بخاله الملك الكامل، وكان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية وكان يصحبه بمصر رجل من(27/278)
أهلها يقال له الزكيّ القوصي «1» فاتفق وهما بمصر [وقد] «2» جرى ذكر الملك المظفر وزواجه من بنت خاله الملك الكامل فأنشده الزكيّ القوصي (البسيط)
(214) متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما روحان في بدن
هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنّئت بالملك والأحباب والوطن
فقال الملك المظفر إن صار ذلك يا زكيّ أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك المظفر حماة أعطى الزكيّ ما كان وعده به.
ولما فرغ الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد [مثل رأس عين والرّها وغير ذلك] «2» عاد إلى الديار المصرية.
وفيها، أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى الصالح إسماعيل بن الملك العادل «3» بعسكر فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب واستمرّ الحصار عليه.
وفيها، سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط وبها أيبك نائب الأشرف إلى أن خرجت السنة.
وفي سنة سبع وعشرين وست مئة «13»
شرع شير كوه صاحب حمص في عمارة قلعة سميمس «4» ، وكان لما سلم(27/279)
إليه الكامل سلميّة قد استأذنه في عمل تل سميمس قلعة فأذن له، ولما أراد شير كوه عمارته أراد المظفر صاحب حماة منعه من ذلك ثم لم يمكنه منعه لكونه بأمر الملك الكامل.
وفي هذه السنة سلّم الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك إلى الأشرف لطول الحصار، وعوضه الأشرف عنها الزّبداني وقصير دمشق الذي هو بشمالها ومواضع أخر (ى) وتوجه الأمجد وأقام بداره التي هي (215) داخل باب النصر «1» المسماة دار السعادة «2» ، وهي التي ينزل فيها النواب.
ولما أخذت منه بعلبك ونزل في داره المذكورة كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده في الدار، وجلس الأمجد قبالة باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك الباب ومعه سيف وضرب به أستاذه الأمجد وقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار، وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده «3» التي هي على الشّرف وكانت مدة ملكه بعلبك تسعا وأربعين سنة لأن عم أبيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين ملّكه بعلبك سنة ثمان وسبعين(27/280)
وخمس مئة لما مات أبوه فرّخشاه»
وانتزعت منه هذه السنة فذلك خمسون إلّا سنة، وكان الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور.
وفي هذه السنة، اشتد حصار جلال الدين على خلاط ومضايقته لها ففتحها بالسيف، وفعل في أهلها كما كان يفعله التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الأشرف بها وهو مملوكه أيبك الأشرفي وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب علي الموصلي فقتله وأخذ بثأر أستاذه «2» .
ولما جرى من جلال الدين ما جرى من أخذ خلاط [اتفق] «3» صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان والملك الأشرف بن العادل، فجمع الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس واجتمع فيها بملك الروم علاء الدين (216) كيقباذ المذكور وساروا إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان هذه السنة فولى جلال الدين والخوارزمية منهزمين وهلك غالب عسكره قتلا وترديا من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وبين كيقباذ وجلال الدين وتصالحوا وتحالفوا على ما بأيديهم وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر.
وفيها، استولى الملك المظفر غازي بن الملك العادل على أرزن «4» من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام(27/281)
الدين «1» من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب [فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني] «2» ، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه السلجوقي وإلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها، جمعت الفرنج من حصن الأكراد، وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون «3» وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر حماة مظفرا مؤيدا.
وفيها، ولد الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب «4» .
[ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وست مئة «13» ] «5»
واستقر السلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الأشرف بدمشق في ملاذه وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران (217) وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط قد خربت، ولم يكن للأشرف ولد ذكر فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ والأوقات الطيبة.
وفي هذه السنة، عاودت التتر قصد بلاد الإسلام وسفكوا وخربوا، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقا من ملوك(27/282)
الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك اختلاف عسكره عليه لما حصل له من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك فحزن عليه حزنا شديدا، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح عليه، ثم إنه لم يدفنه وبقي يستصحبه معه حيث سار وهو يلطم عليه، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه بأنه ميت، وكانوا يحملون إليه الطعام، ويقولون إنه يقبل الأرض ويقول إنه الآن أصلح مما كان، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الأشرف، وتمكنت التتر من البلاد، واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني «1» ، ولما تمكن التتر من البلاد سار جلال الدين يريد ديار بكر ليسير إلى الخليفة ويعتضد به وبملوك الأطراف على التتر ويخوفوهم عاقبة أمرهم فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلا وخالطوا (218) مخيمه، فهرب جلال الدين وقتل على ما سنشرحه «2» .
ولما قتل تمكنت التتر من البلاد، وساقوا إلى الفرات فاضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة وفعلوا من القتل والتخريب كما تقدم، قال النسوي كاتب إنشاء جلال الدين:
إن خوارزم شاه محمد بن تكش كان قد عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد قسم البلاد بينهم أكبرهم جلال الدين منكبرتي، وفوض إليه أمر غزنة، وباميان والغوروبست و [بكراباذ] «3» و [زمنداور] «4» وما يليها من(27/283)
الهند، وفوض خوارزم وخراسان ومازندران إلى ولده قطب الدين أزلاغ شاه وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد وفوضها إلى جلال الدين، وفوض كرمان وكيش ومكران إلى ولده غياث الدين تيزشاه وقد تقدمت أخباره «1» وفوض العراق إلى ولده [ركن الدين] «2» غور شاه يحيى وكان أحسن أولاده خلقا وخلقا، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات على عادة الملوك السلجوقية وانفرد أبوهم خوارزم شاه بنوبة ذي القرنين فإنها تضرب وقت طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه «3» سبعا وعشرين دبدبة من الذهب مرصعة بالجواهر وكذا باقي آلات النّوبتية وجعل سبعة وعشرين ملكا يضربونها في أول يوم قرعت (219) وكانوا من أكابر الملوك أولاد السلاطين منهم [طغريل] «4» أرسلان السلجوقي و [أولاد] «5» غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارى وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون من قبائل [بباووت] «6» وهي فرع من فروع يمسك وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش قدم إلى والدته تركان(27/284)
خاتون قبائل يمسك من الترك فعظم شأن ابنها محمد بهم، وتحكمت أيضا بسببهم تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليما إلا وأفرد لخاصتها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنصف المظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل فعظم شأنها بحيث إذا ورد توقيعات عنها وعن ابنها السلطان ينظر في تاريخهما فيعمل بالأخير منهما، وكانت طرر تواقيعها:
عصمة الدنيا والدين الغ تركان خاتون ملكة نساء العالمين، وعلامتها: اعتصمت بالله وحده، وكانت كتبها بقلم غليظ، وتحرر الكتابة.
قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه لما هرب من التتر بما وراء [النهر وعبر] «1» نهر جيحون ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان إلى (220) عراق العجم، ونزل عند بسطام، وأحضر عشرة صناديق ثم قال إنها كلها جواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، ثم أشار إلى صندوقين منها، وقال: إن فيها من الجواهر ما يساوي خراج الأرض، ثم حملها إلى قلعة أزدهن وهي [من] «1» أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد حملت إليه الصناديق المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فركب في مركب وهرب ولحقه التتر ورموه بالنشاب فنجا منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال:
ووصل إلى جزيرة في البحر «2» وأقام بها فريدا طريدا لا يملك طارفا ولا تليدا، والمرض به يزداد، وكان في أهل مازندران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما(27/285)
يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون حول خيمتي فرس يرعى وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدي إليه شيء وهو على تلك الحالة من مأكول أو غيره يطلق لذلك الشخص شيئا، ولم يكن عنده من كتب التواقيع فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطى مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى جلال الدين أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة (221) على تلك الحالة فغسله شمس بن محمد بلاغ «1» الجاويش ومقرب الدين مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن فيه فكفن في قميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وست مئة بعد أن كان بابه يزدحم بملوك الأرض وعظمائها يستندون بجنابه ويتفاخرون بلثم ترابه، ورقي إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته فصار طشتداره وركبداره وسلحداره وجمداره وغيرهم من أرباب الوظائف كلهم ملوكا، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها. فعلامة الدّوادار: الدواة، والسّلحدار: القوس، والطّشتدار المسينة والجمدار: البقجة «2» وأمير آخور «3» البغل «4» ، والجاويشية: قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر المجلس إلى يد الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهب وفضة، وكان السلطان محمد يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها: الجتر منشورا على رأسه إذا ركب،(27/286)
ومنها: الكح كح «1» وهي أنبوبة من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان تخرج منها المغرفة وتشد إلى أطراف اللجام، ومنها: الأعلام السذج السود [والسروج السود] «2» والبقج السود محمولة على أكتاف الجمدارية ولا تحمل لغيره على الكتف ومنها: أن جنائبه تجر قدامه وجنائب غيره من الملوك تجر خلفه، (222) ومنها: أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها:
الجلوس على الركبتين بين يديه لمن يريد مخاطبته.
قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبينهم من القتال ما تقدم ذكره «3» ، وسار إليه جنكز خان فهرب جلال الدين إلى الهند فلحقه جنكز خان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال سنة ثماني عشرة وست مئة، وكانت الكرة أولا على جنكز خان ثم صارت على جلال الدين وحال بينهما الليل وهرب جلال الدين وأسر ابنه وهو ابن سبع سنين فقتله جنكز خان بين يديه صبرا، ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيرا رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه فقالوا له بالله [عليك] «4» اقتلنا وخلّصنا «5» من الأسر فأمر بهن فغرقن وهذه من عجائب البلايا ونوادر المصائب والرزايا، ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير(27/287)
أربعة آلاف حفاة عراة، وأرمى الموج جلال الدين مع ثلاثة من خواصه إلى موضع بعيد وفقده أصحابه ثلاثة أيام وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر سائرين إلى أن قدم عليهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيدا، وظنوا أنهم أنشئوا خلقا جديدا، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد (223) وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من الهند، واستناب معه حسن قراق ولقبه وفا ملك، وفي سنة سبع وعشرين وست مئة طرد وفا ملك بهلوان أزبك، واستولى وفا ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند.
ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وست مئة وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل بعضهم ركاب بقر وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خوزستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان ثم على كنجة وسائر بلاد أرّان، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة نبشوه وأحرقوه، وكان هذا فعلهم في كل ملك عرفوا قبره فإنهم نبشوا محمد بن سبكتكين من غزنة وحرقوا عظامه.
ثم ذكر نزوله على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف بن العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه وبات بمنزله وشرب تلك الليلة وسكر سكرا خماره دوار الرأس، وتقطّع الأنفاس، وأحاط التتر بعسكره مصبحين «1» : (الوافر)(27/288)
(224) فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب
ومن في كفّه منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب
وأحاطت أطلاب التتر بخركاه جلال الدين وهو نائم سكران، فحمله بعض أمراء عسكره وكان اسمه أرخان، وكشف التتر عن الخركاه ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر فقال جلال الدين لأرخان: انفرد عني بحيث تشتغل التتر بتتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه قريب أربعة آلاف فارس من العسكر الجلالي وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما انفرد جلال الدين عن أرخان وساق إلى باسورة آمد فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميّافارقين طالبا شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميّافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وفيه أكراد يتخطفون الناس فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله، فقال جلال الدين لأحدهم: أنا السلطان استبقني أجعلك ملكا، فأخذ الكردي وأتى به إلى امرأته وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك فحضر شخص كردي وبيده حربة، قال للمرأة: لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ (225) فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك وقد أمنه زوجي: فقال الكردي إنه السلطان، وقد قتل أخا لي بخلاط خيرا منه وضربه بحربته فقتله «1» .
وكان جلال الدين أسمر قصيرا، تركي الشارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية [أيضا] «2» ، وكان يكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما يكاتب به(27/289)
أبوه خوارزم شاه محمد بن تكش وكان يكتب خادمه المطواع منكبرتي ثم بعد أخذ أخلاط خاطبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو [أخاه] «1» أو غير ذلك، وكان علامته على تواقيعه: النصر لله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب [له] «2» هذه العلامة تعظيما عن ذكر اسمه وكان يكتب العلامة بقلم غليظ، وكان جلال الدين يخاطب بخداوند عالم أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وست مئة، آخر كلام المنشئ.
وفي سنة تسع وعشرين وست مئة «13»
استولى التتر على بلاد العجم كلها والخليفة المستنصر بالعراق.
ثم ارتحل في هذه السنة الملك الأشرف وأخوه الكامل من ديار مصر، فسار الأشرف إلى البلاد الشرقية، وسار الكامل إلى الشّوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى بن العادل (226) أبي بكر بن أيوب احتفالا عظيما بالضيافات والإقامات والتقادم وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللّجّون قرب الكرك من العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللّجّون الملك المظفر محمود صاحب حماة ملتقيا، وسافر الناصر داود مع الكامل إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن الكامل بن العادل بن أيوب، ثم سار الملك الكامل ونزل سلميّة(27/290)
واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم فسار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود بن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق بن أكسل، [ومحمد بن قرا أرسلان] «1» المذكور هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان «2» .
وكان سبب انتزاع آمد من الملك المسعود لسوء سيرته وتعرضه إلى حريم الناس، وكانت له عجوز قوادة يقال لها الازاء كانت تؤلف بينه وبين نساء الأكابر ونساء الملوك.
ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه- ومن جملة معاملتها حصن كيفا، وهي في غاية الحصانة- أحسن الكامل إلى المسعود وأعطاه إقطاعا جليلا بديار مصر، ثم بدت منه [أمور] «3» اعتقله (227) الملك الكامل بها، ولم يزل الملك المسعود [معتقلا] «4» إلى أن مات الملك الكامل «5» فخرج من الاعتقال واتصل بحماة فأحسن إليه الملك المظفر صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود [إلى] «4» الشرق، واتصل بالتتر فقتلوه «6» .
ولما تسلم الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته، فجعل فيها ولده(27/291)
الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي «1» ، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق.
ولما خرج الملك الكامل من مصر هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب «2» وغازية خاتون «3» زوجة الملك المظفر صاحب حماة وحملتا إلى بعليهما واحتفل لدخولهما بحماة وحلب.
وفيها، توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر «4» .
وفي سنة ثلاثين وست مئة «13»
رجع الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها، ورجع إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده.
وفيها استولى الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر(27/292)
وكانت بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية «1» ، وكان سابق الدين وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد لسابق الدين عثمان بن الداية وشمس الدين وأخيه فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله (228) حجة لقصد الشام وانتزاعه من الملك الصالح، فاتصل أولاد الداية بخدمة صلاح الدين وصاروا من أكابر أمرائه، وكانت شيزر إقطاعا لسابق الدين المذكور فأقره صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس لما قتل صاحبها خماردكين «2» ، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان، حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر الملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم عليه وهو على شيزر الملك المظفر صاحب حماة مساعدا، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلى خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ يحيى بن خالد القيسراني «3» الملك العزيز بقوله «4» : (البسيط)
يا مالكا عمّ أهل الأرض نائله ... وخصّ إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي
ثم ولى الملك العزيز على شيزر، وأحسن إلى الملك المظفر صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده.(27/293)
وفيها استأذن الملك المظفر صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه الناصر قليج أرسلان لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن له الكامل في ذلك، فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان (229) إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماه، فامتنع وسار إلى مصر فبذل له الكامل إقطاعا جليلا، وأطلق له أملاك جده بدمشق، ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان في الحبس سنة خمس وثلاثين وست مئة «1» قبل موت الكامل بأيام.
وفيها توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين بن علي بن كوجك «2» وقد تقدم ذكر ملكه إربل بعد موت أخيه زين الدين في سنة ست وثمانين وخمس مئة «3» لما كان في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل فبقي مالكا لها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور لم يكن له ولد فأوصى بإربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين.
وكان مظفر الدين شجاعا عسوفا في استخراج أموال الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة.
وفي هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك الروم التعرض إلى بلاد أخلاط فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل(27/294)
بيته، ونزل شمالي سلميّة في شهر رمضان هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق «1» في حدود بلد الروم وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزا لستة عشر ملكا في خدمته منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والمظفر غازي صاحب (230) ميّافارقين، والحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين «2» ، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدما على عسكر حلب إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر داود ابن السلطان صلاح الدين «3» صاحب البيرة، وأخوه الملك [المفضل] «4» موسى صاحب سميصات، وكان قد ملك سميصات بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة، والملك الصالح أحمد بن الظاهر صاحب عين تاب، والملك الناصر داود صاحب الكرك بن الملك المعظم عيسى بن العادل، والملك المجاهد شير كوه صاحب حمص ابن محمد بن شير كوه وكان قد حفظ كيقباذ ملك الروم الدربندات وشحنها بالمقاتلة فلم يتمكن السلطان من دخول بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور، وهو من بلاد كيقباذ فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات إلى السويداء وقدم جاليشه تقدير ألفي وخمس مئة فارس مع الملك المظفر صاحب(27/295)
حماة، فسار المظفر بهم إلى خرتبرت «1» ، وسار كيقباذ إليهم واقتتلوا فانهزم العسكر الكاملي وانحصر المظفر في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجدّ كيقباذ في حصارهم والملك الكامل في السويداء وقد أحسّ من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة (231) والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم، وقال: إن السلطان ذكر أنه متى ملك البلاد الرومية فرقها على ملوك أهل بيته عوضا عما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه وينفرد بملكه وملك مصر، فتقاعدوا عن القتال، وفسدت نياتهم وعلم الملك الكامل بذلك فما أمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، فنزل إليه الملك المظفر فأكرمه كيقباذ وخلع عليه وتسلم كيقباذ خرت برت من صاحبها وكان من الأرتقية قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرت برت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرت برت يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة «2» من هذه السنة، ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوّى نفرة الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك فألزمه بطلاق بنته «3» ، فطلقها الناصر داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه.
سنة إحدى وثلاثين وست مئة إلى سنة أربعين وست مئة
في سنة إحدى وثلاثين وست مئة «13»
استتمّ بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي(27/296)
الهذباني على المظفّر صاحب حماة ببنائها فبناها وتمت (232) الآن، فشحنها بالرجال والسلاح ولم يكن ذلك من مصلحة، فإن الحلبيين حاصروها فيما بعد وأخذوها، وخربت المعرة بسببها.
[ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة «13» ] «1»
وكان الملك الكامل بالبلاد الشرقية، و [قد انثنى عزمه] «2» عن قصد بلاد الروم للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده.
وفيها، توفي الملك الزاهر داود بن السلطان صلاح الدين «3» صاحب البيرة، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضا فتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب، وكان الزاهر شقيق الظاهر صاحب حلب.
ولما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل وصل المظفّر صاحب حماة إلى حماة ودخلها لخمس بقين من ربيع الأول هذه السنة، واتفق مولد ولده الملك المنصور محمد «4» بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول هذه السنة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد(27/297)
والولد، وقال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة، فمنها:
(الطويل)
غدا الملك محروس الذّرا والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد
حيينا به يوم الخميس كأنّه ... خميس بدا للناس في شخص واحد
وسميته باسم النبيّ محمد ... وجدّيه فاستوفى جميع المحامد
أي وباسم جدّيه الملك الكامل والد والدته والملك المنصور صاحب حماة (233) والد والده، ومنها:
كأني به في سدّة الملك جالسا ... وقد ساد في أوصافه كلّ سائد
ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد
ألا أيها الملك المظفّر دعوتي ... ستوري بها زندي ويشتدّ ساعدي
هنيئا لك الملك الذي بقدومه ... ترحّل عنا كلّ همّ [معاود] «1»
وفيها، قصد كيقباذ ملك الروم حران والرّها وحاصرهما واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وست مئة «13»
سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد ملتجئا إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف من عمه الكامل، وقدّم إلى الخليفة تحفا عظيمة وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه وعلى أصحابه، وكان الناصر داود ينتظر أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر(27/298)
المذكور قصيدة يمدح المستنصر بالله فيها، ويعرّض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به، وهي طويلة فمنها «1» : (الطويل)
فأنت الإمام العدل والمعرق «2» الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه
جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرّقت جمع المال فانهال كائبه «3»
(234) ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه
بأني أخوض الدوّ «4» والدوّ مقفر ... سآريبه مغبرة وسباسبه «5»
وقد رصد الأعداء لي كلّ مرصد ... فكلّهم نحوي تدبّ عقاربه
وتسمح لي بالمال والجاه بغيتي ... وما المال «6» إلا بعض ما أنت واهبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
فيلقى دنوا منك لم ألق مثله ... ويحظى وما أحظى بما أنا طالبه
وينظر من لألاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإماميّ صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
لكنت أسلّي النفس عما أرومه ... وكنت أذود العين عمّا تراقبه
ولكنّه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه
وما أنا ممّن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه(27/299)
وكان الخليفة متوقفا في استحضار الناصر داود رعاية لخاطر الملك الكامل فجمع بين المصلحتين، واستحضره ليلا وعاد الناصر إلى الكرك.
وفيها، سار الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية واسترجع حران والرّها من يد كيقباذ ملك الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا [بهما] «1» [فقيدهم] «2» وأرسلهم إلى مصر فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد إلى أخيه الأشرف (235) بدمشق فأقام عنده حتى خرجت السنة، وعاد الملك الكامل إلى الديار المصرية في أوائل سنة أربع (وثلاثين وست مئة) .
وفي سنة أربع وثلاثين وست مئة «13»
خرج [الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر] «3» بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الصيد ورمي البندق، واغتسل بالماء البارد فحمّ ودخل إلى حلب وقد قويت به الحمّى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول هذه السنة، و [كان] «4» ، عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا «5» ، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف بن العزيز محمد وعمره سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني «6» وعز الدين(27/300)
عمر بن مجلّي، وجمال الدين إقبال الخاتوني «1» والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل.
وفيها، توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب الروم «2» ، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن يبغو بن سلجوق «3» .
وفيها، قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شير كوه صاحب حمص لما قصد الملك الكامل بلاد الروم «4» فاتفق الملك الأشرف مع أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب ومع باقي الملوك على خلاف الكامل خلا المظفّر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه، فقدم خوفا من ذلك إلى دمشق، وحلف (236) للملك الأشرف ووافقه على قتال أخيه الكامل، فكاتب الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم واتفق معه على قتال أخيه الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك: إنك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الكامل وصار معه على ملوك الشام، فسرّ به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه «4» ، وأركب الملك الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أن ينتزع دمشق من أخيه الأشرف ويعطيه(27/301)
إياها، وأمر الملك الكامل ولده الملك العادل وأمراء مصر بحمل الغاشية بين يدي الناصر داود وبالغ في إكرامه.
وفيها، توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز فحاصروا بغراس «1» وكان قد عمرها الداوية بعد ما فتحها صلاح الدين وخربها العزيز، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية «2» ، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك «3» وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب مع المعظم توران شاه، فولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج، وكانت هذه الوقعة من أجلّ الوقائع.
وفيها استخدم الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل (237) وهو بالبلاد الشرقية وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها نائبا عن أبيه الخوارزمية عسكر جلال الدين منكبرتي، فإنه بعد قتل جلال الدين ساروا إلى كيقباذ ملك الروم وخدموا عنده مدة مقدّمين مثل بركة خان «4» وكشلو خان «5» وصاروخان(27/302)
وفرخان وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو قبض على بركة خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته وساروا عن الروم ونهبوا ما كان في طريقهم، واستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له واستخدمهم.
وفي سنة خمس وثلاثين وست مئة «13»
استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذّرب «1» وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل بن العادل صاحب بصرى، ثم توفي في المحرم هذه السنة «2» .
وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتملك دمشق بعده أخوه الصالح بعهد منه وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثماني سنين وشهورا وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الكثيرة الجليلة، وكان ميمون النقيبة لم تنهزم له راية، وكان سعيدا وتتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة وبنى بدمشق قصورا ومتنزهات حسنة، وكان منهمكا في اللذات وسماع الأغاني، فلما (238) مرض أقلع عن ذلك وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي ودفن بتربته شمالي الجامع «3» ، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتا واحدة تزوجها الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل «4» ، وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الكامل بعد ما كان بينهما من(27/303)
المصافاة أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت قدوم أخيه الملك الكامل دمشق، وأيضا لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئا، وأيضا بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام وينتزع دمشق منه فتغير بسبب ذلك.
ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق كتب إلى الملوك من أهله وإلى كيخسرو صاحب الروم في اتفاقهم معه على أخيه الكامل، فوافقوه على ذلك إلا المظفّر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفّر رسولا إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، وأنه إنما وافق الأشرف خوفا منه، فقبل الملك الكامل عذره وتحقق صدقه ووعده بانتزاع سلميّة من شير كوه صاحب حمص وتسليمها إليه، ولما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الأشرف توجه إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك وهو لا يشك في أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق لما كان تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل فإنه استعد للحصار ووصلت إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص ونازل الملك الكامل دمشق، (239) وخرج الصالح بالنفّاطين فأحرق العقيبة بما بها من خانات وأسواق، وفي مدة الحصار وصل من عند صاحب حمص رجّالة يزيدون عن خمسين راجلا نجدة للصالح إسماعيل فظفر بهم الملك الكامل فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعا للملك المظفّر صاحب حماة بسلميّة فتسلمها الملك المظفّر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى هذه السنة في قوة الشتاء، ثم سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه(27/304)
الملك الكامل وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافا إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محيي الدين يوسف ابن جمال الدين بن الجوزي «1» للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شير كوه صاحب حمص فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفّر من حماة ونزل على الرّستن، واشتد خوف شير كوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل وأرسل نساءه إليه، ودخلن على الملك الكامل فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استمرار الملك الكامل في دمشق لم يلبث إلا [أياما] «2» حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام ودخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة فاندفعت النزلة إلى معدته (240) وتورمت منها، وحصلت له حمى فنهاه الأطباء عن القيء وخوفوه منه فلم يقبل وتقيّأ فمات لوقته وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من سنة خمس وثلاثين وست مئة «3» وكان بين موته وموت أخيه الأشرف ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان نائبا بها قبل ذلك عشرين سنة فتحكّم في مصر نائبا وملكا أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان أنه تحكم في الشام نائبا نحو عشرين سنة وملكا نحو عشرين سنة.(27/305)
وكان الملك الكامل ملكا جليلا مهيبا حازما، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحدا بعده، وكان يخرج الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محبا للعلماء ومجالستهم، وكان عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية «1» ، وبنى له دار الحديث بين القصرين في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة، رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمّوية «2» من أكابر أمراء دولته وهم: الأمير فخر الدين بن الشيخ وإخوته (241) عماد الدين «3» وكمال الدين «4» ومعين الدين «5» أولاد الشيخ المذكور، وكان كل من أولاد الشيخ المذكورين حاز فضلي السيف والقلم، يباشرون التدريس، ويتقدمون على الجيوش، ولما مات الكامل بدمشق كان معه بها الناصر داود صاحب الكرك فاتفقت آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك(27/306)
[الكامل] «1» وهو حينئذ نائب أبيه بمصر فحلف له جميع العسكر وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن ممدود بن الملك العادل أبي بكر أيوب نائبا عن العادل أبي بكر بن الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الناصر داود صاحب الكرك بالرحيل عن دمشق وتهددوه إن أقام فرحل إلى الكرك وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر وتأخر مع الجواد يونس بعضهم ومقدمهم عماد الدين بن الشيخ وتبقى يباشر الأمور مع الملك الجواد.
ولما بلغ شير كوه صاحب حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحا عظيما [وأتاه فرج] «2» ما كان يطمع نفسه به وأظهر [سرورا عظيما و] «2» لعب الكرة خلاف العادة وهو في عشر السبعين.
وأما المظفّر صاحب حماة فإنه حزن لذلك ورحل من الرّستن إلى حماة فأقام فيها العزاء، وأرسل شير كوه حينئذ ارتجع سلميّة من نواب الملك المظفّر، وقطع القناة الواصلة من سلميّة إلى حماة فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع نهر العاصي عن حماة فسدّ مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة وطواحينها، وذهب ماء العاصي في [واد] «3» (242) إلى جانب البحيرة ثم لما لم يجد الماء له مسلكا عاد فهدم ما كان قد عمله صاحب حمص وجرى كما كان [أولا] «2» ، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها الخوف من الملك الكامل فلما بلغهم موته فرحوا، ولما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة [ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة(27/307)
لموافقته الملك الكامل على قصدهم ووصل عسكر حلب إلى المعرة] «1» وانتزعوها من يد المظفّر، وحاصروا قلعتها وملكوها، وخرجت المعرة حينئذ عن المظفّر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة بعد استيلائهم على المعرة ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفّر، ونهب الحلبيون بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.
وفيها، عقد سلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد صاحب حلب، وهي صغيرة حينئذ، تولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات ثم عقد الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب العقد على أخت كيخسرو ملكة خاتون بنت كيقباذ وأم ملكة خاتون المذكورة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان قد زوجها المعظم عيسى صاحب دمشق كيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب.
وفيها، خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الكامل ونهبوا البلاد.
وفيها، سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح بسنجار، فأرسل الصالح استرضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرّها (243) فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ فانهزم بدر الدين وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئا كثيرا.
وفيها جرى بين الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المستولي(27/308)
عل دمشق مصافّ بين جينين ونابلس، فانتصر الملك الجواد وانهزم الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوي الملك الجواد بسبب هذه الوقعة، وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الناصر داود وأثقاله.
وفي هذه السنة ولد [والدي] «1» الملك الأفضل نور الدين علي بن المظفّر «2» صاحب حماة «3» .
وفي سنة ست وثلاثين وست مئة «13»
رحل عسكر حلب المحاصر لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة الحصار وضجروا، فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا وضاق الأمر على الملك المظفّر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالا كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين [وسلميّة في يد صاحب حمص] «4» ، ولم يبق بيد المظفّر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفّر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها فتقدم بهدمها فهدمت إلى الأرض في هذه السنة.
وفي جمادى الأولى «5» منها، استولى الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل(27/309)
على دمشق وأعمالها بتسليم الملك الجواد يونس وأخذ العوض عنها سنجار والرقّة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل بن الملك الكامل صاحب مصر لما علم باستيلاء الجواد على (244) دمشق أرسل إليه عماد الدين بن الشيخ لينتزع دمشق منه وأن يعوض عنها إقطاعا بمصر فمال الملك الجواد إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه وجهز على عماد الدين بن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه بسكين فقتله «1» ، ولما وصل الصالح أيوب إلى دمشق وصل معه المظفّر صاحب حماة معاضدا له، وكان قد لاقاه في أثناء الطريق واستقر الصالح أيوب في ملك دمشق وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة فتسلمها، ولما استقر ملك الصالح بدمشق وردت إليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله المظفّر في منازلة حمص وأخذها من شير كوه فبرز إلى الثنية وكانت قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة وحمص، فأرسل شيركوه مالا كثيرا وفرقه في الخوارزمية فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كرّ الملك الصالح عائدا إلى دمشق قاصدا مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص فعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عسكر مصر مقفزين، ولما خرج الصالح من دمشق جعل نائبه ولده الملك المغيث فتح الدين عمر «2» ، وشرع الملك الصالح (أيوب) يكاتب عمه الصالح إسماعيل [صاحب بعلبك] «3» ويستدعيه إليه وعمه المذكور يتحجج ويعتذر عن الحضور، ويظهر له أنه معه وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان الناصر داود صاحب الكرك قد سافر إلى مصر(27/310)
واتفق مع (245) الملك العادل بن الكامل على قتال الصالح أيوب، ووصل أيضا في هذه السنة محيي الدين بن الجوزي رسول الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محيي الدين هو الذي ورد ليصلح بين الكامل والأشرف فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء وهم: الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب الروم، فقال في ذلك ابن المسجف «1» أحد شعراء دمشق: (الخفيف)
يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الأثيل
ما جرى من رسولك الآن محيي ال ... دين في هذه البلاد قليل
جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول
أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسّل أم رسول؟
وفي صفر سنة سبع وثلاثين وست مئة «13»
سار الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ومعه الملك المجاهد صاحب حمص بجموعهما وهجموا دمشق وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل وقبض على المغيث فتح الدين عمر بن الصالح أيوب وكان الصالح أيوب بنابلس بقصد الاستيلاء على مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن وكان للصالح أيوب طبيب (246) يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك ومعه قفص من حمام نابلس ليطالعه بأخبار(27/311)
الصالح إسماعيل، وحال وصول الحكيم المذكور علم به الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام الذي لنابلس وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب بذلك فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع وهو في نية قصد دمشق ويبطّق فيقعد الطائر ببعلبك فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك وهو واصل إليك ويسرحه مع حمام نابلس فيعتمد الصالح [أيوب] «1» على ذلك الأمر من بطائق الحمام ويترك ما يرد غيره من الأخبار، واتفق أيضا أن المظفّر صاحب حماة علم بسعي الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق مع خلوها ممن يحفظها فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئا كثيرا ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفّر وابن أبي علي أنهما اختصما وأن ابن أبي علي قد غضب فاجتمع معه هذه الجماعة وقد قصدوا فراق صاحب حماة لأنه يريد أن يسلم حماة إلى الفرنج، كل ذلك خوفا من شير كوه صاحب حمص لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه فلم تخف عن شير كوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي علي إلى بحيرة حمص [قصده] «2»
شير كوه وذكر أنه مصدقه فيما قال (247) وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه فأخذ ابن أبي علي معه وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل حمص، ومنهم من هرب فسلم، ولما حصلوا عنده بحمص قبض على ابن أبي علي وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والمال وبقي يعذبهم(27/312)
ويطلب منهم أموالا حتى استصفاها ومات ابن أبي علي «1» وغيره في حبس شير كوه بحمص، والذي بقي إلى بعد موت شير كوه خلص، ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفّر صاحب حماة [ضعفا كثيرا] «2» .
وأما الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلى الغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه يحركون نعاراتهم ويرحلون مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك وكان قد نزل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته وكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق معه منهم غير عدة يسيرة.
ولما جرى ذلك أرسل (248) العادل أبو بكر صاحب مصر يطلب الصالح أيوب من الناصر داود فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل العادل يهدد الناصر داود بأخذ بلاده فلم يلتفت إلى ذلك، ثم إن الناصر داود بعد ذلك قصد القدس وكان الفرنج قد أعمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل فحاصرها وفتحها وخرب القلعة.
وفيها توفي الملك المجاهد شير كوه بن محمد بن شير كوه بن شاذي «3»(27/313)
وكانت مدة مملكته بحمص نحو ست وخمسين سنة لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمس مئة بعد موت أبيه ناصر الدين محمد بن شير كوه وكان عمره يومئذ اثنتي عشرة سنة، وكان شير كوه المذكور عسوفا لرعيته، وملك حمص بعده ولده المنصور إبراهيم «1» .
وفيها، استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل بن أيوب.
وفي أواخر رمضان أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه البهاء زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة وتحالفا بها على أن تكون ديار مصر للصالح ودمشق والديار الشرقية للناصر داود، فلما تملك الصالح لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرها، ثم سار إلى غزة فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح عظم عليه (249) وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر إلى بلبيس لقصد الناصر داود والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام وأن يستأصلهما، فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوّار فبينا الناصر داود والصالح في هذه الشدة بين عسكرين قد [أحاطا] «2» بهما إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية «3» ومقدمهم أيبك الأسمر «4» وأحاطوا بدهليز(27/314)
الملك العادل أبي بكر بن الكامل وقبضوا عليه وجعلوه في خيمة صغيرة ووكلوا عليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه فأتاه فرج لم يسمع بمثله، وفي ذلك «1» يقول شيخ الشيوخ الحموي من أبيات: (البسيط)
فإن بعثنا فعقبى دعوة سبقت ... ونحن في حاجم ضنك الأساليب
يا كاشف الضرّ عن أيوب حين دعا ... قد مسّنا الضرّ فاكشفه بأيوب
وسار الملك الصالح أيوب والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي الملك الصالح كل يوم يلتقي فوجا بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة ثامن ذي القعدة هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد وفرح الناس بمقدمه، وحصل للمظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح مصر (250) ما لا يمكن شرحه، فإنه ما زال على ولائه حتى إنه لما أمسك بالكرك كان يخطب له بحماة وبلادها.
ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر وعنده الناصر داود حصل عند كل واحد منهما استشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستورا وتوجه إلى الكرك.
وفي هذه السنة، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش ابن إلغازي بن أرتق صاحب ماردين «2» وكان يلقب بالملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين يولق أرسلان حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمس مئة «3» ، وبقي أرتق أرسلان متغلبا عليه ألبقش مملوك(27/315)
والده حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وست مئة واستقل بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة. ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وست مئة ظنا «1» . ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفّر قرا أرسلان بن غازي، وكانت وفاة الملك المظفّر قرا أرسلان المذكور سنة إحدى وتسعين وست مئة ظنا «2» . ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود بن قرا أرسلان سنة وتسعة أشهر ثم توفي «3» . وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي «4» في سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
وفي سنة ثمان وثلاثين وست مئة «13»
قبض الملك الصالح أيوب بعد استقراره في مصر على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية (251) وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع من هذه السنة في بناء(27/316)
قلعة [الجزيرة] «1» واتخذها مسكنا له.
وفيها، نزل الحافظ أرسلان شاه بن الملك العادل بن أيوب عن قلعة جعبر وبالس وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك أعزاز وبلادا معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور أصابه فالج وخشي من تغلب أولاده عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة [إلى حلب] «2» لا يمكنهم التعرض إليه.
وفيها كثر عبث الخوارزمية وفسادهم بعد مفارقة الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع المعظم توران شاه بن صلاح الدين ووقع بينهم القتال وانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير منهم الملك الصالح بن الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين «3» ، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم [بماله] «4» ، فأخذوا بذلك شيئا كثيرا، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على حيلان، وكثر فسادهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا حلب واستعد أهلها للحصار، وارتكبت (252) الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبوه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج وهجموها بالسيف يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الأول وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم وهي حران وما معها بعد أن خربوا بلد حلب، ثم إن(27/317)
الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقّة ووصلوا إلى الجبول «1» ثم إلى تل إعزاز ثم إلى سرمين ثم إلى المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على حمص نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها الملك المظفّر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلميّة ثم إلى الرصافة طالبين الرقّة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم ولحقهم العرب فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من الكسب وسيبوا الأسارى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان هذه السنة، ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفّين فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل (253) ، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطع الفرات منها وقصدوا الخوارزمية واتقعوا قريب الرّها لسبع بقين من رمضان هذه السنة فولى الخوارزمية [منهزمين] «2» وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها وهرب الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانتا للخوارزمية [فاستولى عليهما] «3» وخلص من كان بهما من الأسارى وكان منهم الملك(27/318)
المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين أسيرا في بلدة دارا «1» من حين أسروه من كسرة الحلبيين فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل وقدم له ثيابا وتحفا وبعث به إلى عسكر حلب فاستولى عسكر حلب [على] «2» الرقّة والرّها وسروج ورأس عين وما مع ذلك، واستولى المنصور إبراهيم صاحب حمص على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليه نجدة من الروم وحاصروا الملك المعظم بن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم «3» ولم يزل ذلك [بيده] «2» مدة حتى توفي أبوه الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم وبقي ولده الملك الموحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن الصالح أيوب «4» مالكا لحصن كيفا إلى أيام التتر وطالت مدته بها.
وفي هذه السنة (254) كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل «5» ، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار والملك الجواد غائب عنها واستولى عليها ولم يبق بيد الجواد شيء من البلاد، فسار على البرية إلى غزة وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه فلم يجبه إلى ذلك، فسار الجواد ودخل عكّا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق وبذل مالا للفرنج(27/319)
وتسلم الجواد منهم، واعتقله ثم خنقه.
وفيها ولى الملك الصالح أيوب الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام «1» القضاء بمصر والوجه القبلي «2» ، وكان الشيخ عز الدين بدمشق فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب سلم الصالح أيوب صفد والشّقيف للفرنج ليعضدوه ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب «3» ، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار الشيخ عز الدين إلى مصر وتولى القضاء بها كرها، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك فأقام عند صاحبها الناصر داود ونظم له (255) مقدمته «الكافية في النحو» «4» ، ثم سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية.(27/320)
ودخلت سنة تسع وثلاثين وست مئة «13»
والصالح إسماعيل صاحب دمشق والمنصور إبراهيم بن شير كوه صاحب حمص وصاحبة حلب متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب صاحب مصر، ولم يوافقهم المظفّر صاحب حماة على ذلك وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر.
وفيها اتفقت الخوارزمية مع المظفّر غازي بن الملك العادل بن أيوب صاحب ميّافارقين.
وفي شعبان منها، أصاب صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه بقلعة حماة، وبقي أياما لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر السنة، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير الدولة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل «1» ، ثم خف مرض الملك المظفّر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين لا يكاد يفهم، وكان العاطب الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح أيوب طبيبا حاذقا نصرانيا يقال له النفيس بن طليب ولم تنجح فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين في ذي الحجة.
(و) فيها، توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل بن أيوب «2» بأعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن بالفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب قلعة أعزاز وأعمالها.(27/321)
وفي سنة أربعين وست مئة «13»
كان بين (256) الخوارزمية ومعهم المظفّر غازي صاحب ميّافارقين، وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص مصاف قرب الخابور عند المجدل في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى المظفّر غازي والخوارزمية [منهزمين] «1» أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئا كثيرا، ونهبت وطاقات «2» الخوارزمية ونساؤهم أيضا، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة المظفّر غازي واحتوى خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.
وفي [ليلة الجمعة ل] «3» إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك العادل صاحبة حلب «4» ، وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى [أو اثنتين] «3»
وثمانين وخمس مئة بقلعة حلب حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين ويعطيها لابنه الظاهر غازي، واتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها العادل ضيف فسماها ضيفة، وكانت مدة عمرها نحو [تسع وخمسين] «5» سنة، وكان الملك الظاهر(27/322)
صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون المذكورة بأختها غازية فلما توفيت غازية «1» تزوج بضيفة المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها العزيز وتصرفت في الملك تصرف السلاطين (257) ، وقامت بالملك أحسن قيام، فمدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر [ابن] «2» ابنها [الملك] «2» الناصر [يوسف] «2» بن [الملك] «2» العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ [وحكم] «2» واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدولة إقبال الخصي الأسود الخاتوني «1» .
وفي هذه السنة، توفي الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الظاهر محمد بن الإمام الناصر «3» بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهرا، وكان حسن السيرة، عادلا في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد المسماة بالمستنصرية على جنب الدجلة من الجانب الشرقي مما يلي دار الخلافة وجعل لها أوقافا جليلة على أنواع البر، ولما توفي المستنصر اتفق آراء [أرباب] «2» الدولة مثل الدوادار «4» [و] «2» الشرابي «1» على تقليد الخلافة ولده عبد الله ولقبوه:(27/323)
المستعصم بالله [وهو] «1» سابع ثلاثي بني العباس وآخرهم
وكنيته أبو أحمد بن المستنصر [بالله] «2» منصور بن الظاهر «2» ، وكان المستعصم ضعيف الرأي، فاستبد كبراء دولته في الأمر وحسّنوا له قطع الأجناد وجمع المال ومداراة التتر ففعل ذلك، وقطع أكثر العساكر.
سنة إحدى وأربعين وست مئة إلى سنة خمسين وست مئة
(سنة إحدى وأربعين وست مئة) «13»
فيها، قصد التتر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان (258) السلجوقي صاحب بلاد الروم، فأرسل واستنجد بالحلبيين فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي فجمع العساكر من كل جهة والتقى مع التتر وانهزمت عسكر بلاد روم، وقتل التتر منهم خلقا كثيرا وتحكمت التتر في البلاد واستولوا على آمد وخلاط وبلادهما، وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض الأماكن ثم أرسل إلى التتر ودخل في طاعتهم ثم توفي غياث الدين المذكور في سنة أربع وخمسين وست مئة، وخلف ولدين صغيرين وهما ركن الدين وعز الدين، ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينيّة وبقي ركن الدين في الملك(27/324)
تحت حكم التتر والحاكم البرواناه معين الدين سليمان والبرواناه لقبه وهو اسم الحاجب بالعجمي، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولدا له صغيرا.
وفيها، كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين الصالح إسماعيل صاحب دمشق في الصلح، وأن يطلق الصالح إسماعيل فتح الدين عمر بن الصالح أيوب وحسام الدين بن أبي علي الهذباني وكانا معتقلين عند الصالح إسماعيل، فأطلق حسام الدين بن أبي علي واستمر الملك المغيث بن الصالح أيوب في الاعتقال. واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك واعتضدا بالفرنج وسلما أيضا إلى الفرنج عسقلان وطبرية فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما أيضا إليهم القدس بما فيه من المزارات.
قال ابن واصل: ومررت إذ ذاك بالقدس متوجها إلى مصر ورأيت القسوس قد جعلوا على الصخرة قناني الخمر (259) للقربان «1» .
وفي سنة اثنتين وأربعين وست مئة «13»
كان المصافّ بين عسكر مصر وبين عسكر دمشق، فوصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والروج في أطراف دمشق حتى وصلوا إلى غزة ووصل إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس «2» مملوك الملك الصالح أيوب، وكان من أكبر مماليكه ودخل معه إلى حبس الكرك، وأرسل الصالح(27/325)
إسماعيل عسكر دمشق مع المنصور إبراهيم صاحب حمص، وسار صاحب حمص جريدة ودخل عكّا واستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم ووعدهم بجزء من بلاد مصر، فخرجت الفرنج بالفارس والراجل واجتمعوا بصاحب حمص وعسكري دمشق والكرك ولم يحضر الناصر داود صاحب الكرك، والتقى الفريقان بظاهر غزة فولى عسكر دمشق وإبراهيم صاحب حمص والفرنج منهزمين، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقا عظيما واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ووصلت الرءوس إلى مصر فدقّت بها البشائر عدة أيام، ثم أرسل الصالح أيوب باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ واجتمع إليه بالشام من عسكر مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة وهم محاصروها.
وفي هذه (260) السنة، توفي الملك المظفر صاحب حماة تقي الدين محمود «1» يوم السبت ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام كان [فيها] «2» مريضا بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياما، وكانت وفاته وهو مفلوج بحمّى حادة عرضت له، وكان عمره ثلاثا وأربعين سنة، وكان شهما شجاعا ذكيا، وكان يحب [أهل الفضائل والعلوم] «3» ، واستخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف «4» ، وكان مهندسا فاضلا في العلوم الرياضية، فبنى للمظفر أبراجا بحماة وطاحونا(27/326)
على النهر العاصي، وعمل له كرة من الخشب مدهونة رسم فيها جميع الكواكب المرصودة، وعملت هذه الكرة بحماة، قال ابن واصل:
وساعدت الشيخ علم الدين على عملها، وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها «1» .
ولما مات المظفر صاحب حماة ملك بعده ولده الملك المنصور محمد وعمره حينئذ عشر سنين و [شهر واحد] «2» وثلاثة عشر يوما، والقائم بتدبير المملكة سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر، ومشاركة الشيخ شرف الدين عبد العزيز المعروف بشيخ الشيوخ، والطواشي مرشد، والوزير بهاء الدين بن التاج «3» ، والمرجع في الجميع إلى والدة الملك المنصور غازية خاتون بنت الملك الكامل.
وفيها، بلغ الصالح نجم الدين أيوب وفاة ابنه المغيث فتح الدين عمر «4» في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق، فاشتد حزن الصالح أيوب على ولده، (261) وكثر حنقه على الصالح إسماعيل.
وفيها، توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل «5» صاحب ميّافارقين، واستقر بعده في ملكه ولده الكامل ناصر الدين محمد «6» .
وفيها، سار من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله(27/327)
المعروف بابن المغيزل «1» رسولا إلى خليفة بغداد، [ «2» وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها، توفي القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد الشافعي عرف بابن أبي الدم قاضي حماة، وكان قد توجه في الرسلية إلى بغداد] ، فمرض في المعرة وعاد إلى حماة مريضا فتوفي بها، وهو الذي ألف التاريخ الكبير «المظفري» «3» ، وغيره.
وفي سنة ثلاث وأربعين وست مئة «13»
سيّر الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة «4» الذي كان سامريا وأسلم إلى العراق مستشفعا إلى الخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وكان أمين الدولة غالبا على الصالح إسماعيل بحيث إنه كان لا يخرج عن رأيه.
وفيها، تسلم عسكر الملك الصالح أيوب ومقدمهم معين الدين بن الشيخ دمشق من الصالح إسماعيل بن الملك العادل وكان محصورا معه بدمشق إبراهيم ابن شير كوه صاحب حمص، فتسلم دمشق على أن تستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسّواد، وتستقر بيد صاحب [حمص] «5» وما هو مضاف إليها(27/328)
فأجابهما معين الدين بن الشيخ إلى ذلك، ووصل إلى دمشق حسام الدين بن أبي علي بما كان معه من العسكر المصري، واتفق بعد تسليم دمشق أن معين الدين بن الشيخ مرض وتوفي بها «1» ، وبقي حسام الدين بن أبي علي نائبا بدمشق للملك الصالح أيوب، ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح (262) أيوب فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خواطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا عن طاعة الصالح أيوب، فصاروا مع الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحصروها، وغلت بها الأقوات، وقاسى أهلها شدة عظيمة لم يسمع بمثلها، وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام.
وفيها، قصدت التتر بغداد، وخرجت عساكر بغداد للقائهم فلم يكن للتتر بهم طاقة فولوا منهزمين تحت الليل.
وفيها، توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب «2» أخت السلطان صلاح الدين بدار العقيقي، وكانت قد جاوزت ثمانين سنة، وبنت مدرسة للحنابلة «3» بجبل الصالحية.
وفيها، لما تسلم الملك الصالح أيوب دمشق تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلميّة وانتزعوها من صاحب حمص، واستقرت سلميّة في هذه(27/329)
السنة [في] «1» ملك صاحب حماة.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وست مئة «13»
كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مع الصالح إسماعيل والناصر داود ومحاصرتهم دمشق وبها حسام الدين بن أبي علي، ولما وقع ذلك اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وساروا مع الصالح أيوب وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشق، وساروا نحو الحلبيين وصاحب حمص والتقوا على القصب «2» في هذه (263) السنة، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة وتشتت شملهم بعدها، وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان «3» وحمل رأسه إلى حلب، ومضت طائفة من الخوارزمية مع مقدمهم كشلو خان الخوارزمي فلحقوا بالتتر وصاروا معهم وانقطع منهم جماعة [وتفرقوا في الشام وخدموا به] «4» وكفى الله الناس شرهم.
ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر فرح فرحا عظيما، ودقّت البشائر بمصر، وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيم صاحب حمص، وحصل بينهما التصافي بسبب ذلك.
وأما الصالح إسماعيل، فإنه سار إلى الناصر يوسف صاحب حلب فاستجار به، فأرسل الصالح أيوب بطلبه فلم يسلمه الناصر يوسف إليه، ولما جرى ذلك(27/330)
رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بعسكر دمشق وحاصر بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث أمين الدولة وزير الصالح إسماعيل وأستاذ داره ناصر الدين يغمور «1» واعتقلا بمصر أيضا، وزينت القاهرة ومصر، ودقّت البشائر بهما لفتح بعلبك.
واتفق في هذه الأيام وفاة صاحب عجلون سيف الدين بن قليج أرسلان «2» ، فتسلم الصالح أيوب عجلون، ولما جرى ما ذكرناه أرسل الصالح أيوب عسكرا مع الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ وكان المذكور قد اعتقله العادل أبو بكر ابن الملك الكامل ثم لما ملك (264) الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه وأمره بملازمة بيته فلازمه مدة، ثم قدمه في هذه السنة على العسكر وجهزه إلى حرب الناصر داود صاحب الكرك، فسار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولى عليها، وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها، وأضعف الملك الناصر داود ضعفا بالغا، ولم يبق بيده غير الكرك بمفردها.
وفيها، حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس وهو الذي كان معه لما اعتقل بالكرك، وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية وإلى الناصر داود وصار معهم على أستاذه لما جرده إلى غزة فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله، فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة وكان آخر العهد به.(27/331)
وفيها، أرسل الملك المنصور إبراهيم بن شير كوه صاحب حمص وطلب دستورا من الملك الصالح أيوب ليسير إلى بابه وينتظم في سلك خدمته، وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السّل وسار على تلك الحالة إلى الديار المصرية، ووصل دمشق فقوي به المرض وتوفي بدمشق «1» فنقل إلى حمص [ودفن بها] «2» ، وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى «3» .
وفيها، بعد فتوح دمشق وبعلبك استدعى الملك الصالح أيوب حسام الدين ابن أبي علي إلى مصر وأرسل موضعه نائبا بدمشق الأمير جمال الدين بن مطروح «4» ، ولما وصل حسام الدين إلى مصر استنابة الملك الصالح بها، وسار الصالح أيوب إلى دمشق ومنها إلى بعلبك، ثم عاد إلى (265) دمشق ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المنصور محمد صاحب حماة والملك الأشرف موسى صاحب حمص فأكرمهما وردهما إلى بلادهما واستمر الملك الصالح أيوب بالشام حتى خرجت السنة.
وفي سنة خمس وأربعين وست مئة «13»
عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية.(27/332)
وفيها، فتح فخر الدين بن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية والملك الصالح [بالشام بعد محاصرتهما مدة] «1» ، وكنا قد ذكرنا [تسليمهما] «2» إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وست مئة «3» [فعمروهما] «4» واستمرتا بيد الفرنج حتى فتحتا هذه السنة.
وفيها، سلم الأشرف صاحب حمص سميمس للملك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام.
وفيها، توفي الملك العادل [أبو بكر] «5» بن الملك الكامل «6» بالحبس، وأمه بنت الفقيه نصر «7» وتعرف بالست السوداء وكان مسجونا من حين قبض عليه ببلبيس «8» إلى هذه الغاية، فكان مدة مقامه بالسجن ثماني سنين وكان عمره ثلاثين سنة، وخلف ولدا صغيرا وهو الملك المغيث فتح الدين عمر «9» ، وهو الذي ملك الكرك فيما بعد وقتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(27/333)
وفيها، توجه الطواشي مرشد الدين المنصوري ومجاهد الدين أمير جاندار «1»
من حماة إلى حلب وأحضرا بنت الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب وهي عائشة خاتون «1» زوج الملك المنصور صاحب حماة، وحضرت معها (266) أمها فاطمة خاتون بنت السلطان الملك الكامل «2» ووصلت إلى حماة في العشر الأوسط من رمضان هذه السنة، ووصلت في تجمل عظيم، واحتفل للقائها بحماة [احتفال عظيم] «3» .
وفي سنة ست وأربعين وست مئة «13»
أرسل الناصر يوسف صاحب حلب عسكرا مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم الأشرف إليهم حمص، وتعوّض عنها تل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر والرّحبة، ولما بلغ الصالح نجم الدين أيوب ذلك شقّ عليه، وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكرا إلى حمص مع حسام الدين بن أبي علي وفخر الدين بن الشيخ فنازلوا حمص ونصبوا عليها منجنيقا مغربيا يرمي بحجر زنته مئة وأربعون رطلا بالشامي ومعه عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قويا، واستمر الحصار عليها فاتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح أيوب وهو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط وكان أيضا قد قوي مرضه ووصل أيضا نجم الدين البادرائي «4» رسول الخليفة، وسعى في الصلح بين(27/334)
الملك الصالح والحلبيين، وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها، ثم رحل الملك الصالح (267) من دمشق [في محفة] «1» لقوة مرضه، واستناب بدمشق جمال الدين [بن] «1» يغمور وعزل ابن مطروح، وأرسل حسام الدين بن أبي علي ليسبقه إلى مصر وينوب عنه بها.
وفيها، توفي عز الدين أيبك المعظمي «2» في محبسه في القاهرة، وكان المذكور قد ملك صرخد في سنة ثمان وست مئة، قال ابن خلّكان:
إنه ملك صرخد سنة إحدى عشرة وست مئة، قال: لأن أستاذه الملك المعظم عيسى بن الملك العادل بن أيوب حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من ابن قراجا صاحبها وأعطاها لمملوكه أيبك المذكور، واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وست مئة، وأخذها الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل من أيبك المذكور، وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحبسه في القاهرة في دار الطوشي صواب، واستمر معتقلا بها حتى توفي في السنة المذكورة في أوائل جمادى الأولى [ودفن] «3» في تربة شمس الدولة، ثم نقل إلى الشام ودفن في تربة «4»
كان قد أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر(27/335)
الكبير» .
وفي سنة سبع وأربعين وست مئة «13»
سار ريد إفرنس «2» وهو من أعظم ملوك الفرنج وريد بلغتهم هو الملك أي ملك إفرنس وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج، وكان قد جمع ريد إفرنس نحو خمسين ألف مقاتل وشتى في جزيرة قبرس ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط وكان شحنها الملك الصالح أيوب بآلات عظيمة (268) وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة «3» وهم مشهورون بالشجاعة، وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين بن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر ليكونوا قبالة الفرنج على ظاهر دمياط، ولما وصلت الفرنج عبر فخر الدين بن الشيخ من الجانب الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر في هذه السنة.
ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط، وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال واستولوا على ما بها من الذخائر والأسلحة وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح وأمر بشنق بني(27/336)
كنانة فشنقوا عن آخرهم، ووصل الملك الصالح إلى المنصورة ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر من هذه السنة، وقد اشتد مرضه وهو السّل والقرحة التي كانت به.
وفي هذه السنة، سار الناصر داود بن الملك المعظم من الكرك إلى حلب لما ضاقت به الأمور مستجيرا بالملك الناصر يوسف صاحب حلب، وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير قيل كان يساوي مئة ألف دينار إذا بيع بالهوان، فلما وصل إلى حلب سير الجوهر المذكور إلى بغداد واستودعه عند الخليفة المستعصم، ووصل إليه خط الخليفة بتسلمه، فلم تقع عينه عليه بعد ذلك.
ولما سار الناصر داود عن الكرك استناب بها ابنه عيسى «1» ولقبه (269) الملك المعظم، وكان له ولدان آخران أكبر من عيسى هما: الأمجد حسن «2»
والظاهر شاذي «3» ، فغضب الأخوان المذكوران من تقديم أخيهما عيسى عليهما، وبعد سفر أبيهما [قبضا على أخيهما عيسى] «4» (و) سارا إلى مصر، وأطمعا الملك الصالح في الكرك، فأحسن الصالح إليهما، وأقطعهما إقطاعا أرضاهما به، وأرسل إلى الكرك وتسلمها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفرح الملك الصالح أيوب بالكرك فرحا عظيما مع ما هو(27/337)
فيه من المرض لما كان في خاطره من صاحبها.
وفي هذه السنة، توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب «1» ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان من هذه السنة، وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما، وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، وكان مهيبا عالي الهمة، شجاعا، عفيفا، طاهر اللسان والذيل، شديد الوقار، كثير الصمت، وجمع من المماليك الترك ما لم يجمعه غيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء العسكر مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه وسماهم البحرية، وكان لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا جوابا، ولا يتكلم بحضرته ابتداء، وكانت القصص توضع من يديه مع الخدم فيكتب بيده عليها، وتخرج للموقعين، وكان لا يستقبل [أحدا] «2» من أهل [دولته] «3» بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاويا للعمارة، بنى قلعة [الجزيرة] «4» بمصر، والصالحية «5» وهي بلدة بالسانح (270) وبنى بها قصورا للتصيد، وبنى قصرا عظيما بين مصر والقاهرة يسمى بالكبش «6» ، وكانت أم الصالح المذكور جارية سوداء تسمى ورد المنى غشيها الملك الكامل فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد أحدهم فتح الدين عمر توفي في حبس الصالح(27/338)
إسماعيل «1» ، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن بقي له غير المعظم توران شاه بحصن كيفا.
ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجر الدّر «2» جاريته فخر الدين بن الشيخ والطواشي جمال الدين [محسنا] «3»
وعرفتهما بموت السلطان فكتموا ذلك خوفا من الفرنج، وجمعت شجر الدّر الأمراء وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه المقيم بحصن كيفا وللأمير فخر الدين بن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتبت إلى حسام الدين بن أبي علي وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد بالعسكر بمصر والقاهرة على ذلك في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب والمراسيم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي (؟) فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، وأرسل فخر الدين بن الشيخ قاصدا لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك شاع بين الناس موت السلطان، وكان أرباب الدولة [لا يجسرون] «4»
أن يتفوهوا به، وتقدم الفرنج عن دمياط للمنصورة وجرى بينهم وبين المسلمين (271) في رمضان هذه السنة وقعة عظيمة استشهد فيها جماعة كبار من المسلمين، ونزلت الفرنج بشرمساح «5» ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر(27/339)
الدين يوسف بن الشيخ صدر الدين بن حمّوية بالحمّام في المنصورة، فركب مسرعا وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه «1» ، وكان سعيدا في الدنيا، ومات شهيدا، ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة.
وأما الملك المعظم توران شاه فإنه سار من حصن كيفا إلى دمشق في رمضان هذه السنة وعيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج برا وبحرا، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج فأخذوا منهم اثنين وثلاثين [مركبا] «2» منها تسع [شوان] «3» فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض السواحل و [أن] «4» يسلموا دمياط، فلم تقع الإجابة إلى ذلك.
وفيها، وقع الحرب بين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وبين الناصر صاحب حلب، فأرسل الملك الناصر عسكرا التقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة، واستولى الحلبيون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه وتسلموا نصيبين من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فتسلموها وخربوها بعد قتال (272) وحصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسياء «5» وعادوا إلى حلب.(27/340)
وفي سنة ثمان وأربعين وست مئة «13»
انهزم الفرنج لأنهم لما أقاموا قبالة المسلمين بالمنصورة فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط وأن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، ولم يبق لهم صبر على المقام فرحلوا ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم متوجهين إلى دمياط، وركبت [المسلمون] «1» أكتافهم، ولما أسفر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة الأسرى «2» من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل، وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة وقيد ريد إفرنس وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان «3» ، ووكل به الطواشي صبيح المعظّمي.
ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفارسكور «4» ، ونصب بها برج خشب للملك المعظم (كذا) .
وفي هذه السنة يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل «5» ، وسبب ذلك أن المذكور اطرح جانب [أمراء أبيه ومماليكه] «6» وكلّ منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر(27/341)
قلبه منه، واعتمد على بطانة وصلت معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافا أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد (273) نزوله بفارسكور وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطانا فيما بعد على ما سنذكره «1» ، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له فأطلقوا فيه النار ليركب في حرّاقته فحالوا بينه وبينها بالنشّاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في نهار الاثنين، وكان مدة إقامته في المملكة [من] «2» حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما.
ولما جرى ذلك اتفق الأمراء على إقامة شجر الدّر زوجة الملك الصالح في المملكة وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركماني «3»
أتابك العسكر وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدّر على المنابر، وضربت السكة باسمها، وكان نقش السكة: المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين ووالدة الملك المنصور خليل، وكان الملك الصالح قد ولد له من شجر الدّر [ولد] «4» ومات صغيرا واسمه خليل فتسمت شجر الدّر والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع: والدة خليل.
ولما جرى ذلك وقع الحديث مع ريد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه، فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه بتسليمها فسلموها وصعد إليهم العلم السلطاني يوم الجمعة لثلاث بقين من صفر من هذه السنة، وأطلق ريد إفرنس فركب البحر بمن سلم معه (274) نهار السبت غداة الجمعة المذكورة، وأقلعوا(27/342)
إلى عكّا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وفي واقعة [ريد] «1» إفرنس المذكورة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتا منها «2» :
(السريع)
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر [بالطبل] «3» ريح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا ترى منهمو ... غير قتيل أو أسير جريح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
ثم عادت العساكر ودخلت القاهرة يوم الجمعة تاسع صفر، وأرسل المصريون رسولا إلى أمراء دمشق في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه.
وكان الملك السعيد بن العزيز عثمان بن الملك العادل «4» صاحب الصّبيبة قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب، فلما جرى ذلك قصد قلعة الصّبيبة فسلمت إليه.(27/343)
وكان الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل بن الكامل قد أرسله المعظم لما وصل إلى الشّوبك واعتقله، وكان النائب بالكرك والشّوبك لؤلؤ الصالحي «1» فلما جرى ما ذكرناه من قتل المعظم، وما استقر عليه الحال بادر بدر الدين لؤلؤ (275) فأفرج عن المغيث وملكه قلعتي الكرك والشّوبك، وقام في خدمته أتم قيام.
ولما لم يجب أمراء دمشق إلى ما دعاهم إليه المصريون كاتب الأمراء القيمرية الذين بدمشق الملك الناصر صاحب حلب، فسار إليهم وملك دمشق ودخلها يوم السبت لثمان بقين «2» من ربيع الآخر هذه السنة.
ولما استقر الناصر المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين [بن] «3»
يغمور وعلى أمراء دمشق وأحسن إليهم، واعتقل جماعة من مماليك الصالح أيوب، وعصت عليه بعلبك وعجلون وسميمس [مدة] «3» مديدة، ثم سلمت إليه جميعها.
ولما بلغ الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.
ثم إنّ أمراء الدولة وأكابرها اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة، وأقاموا أيبك المذكور، وركب بالسناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر هذه السنة ولقب الملك العزيز، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجر الدّر.
ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لابد من إقامة شخص من بني أيوب في(27/344)
السلطنة، واجتمعوا على إقامة موسى المذكور «1» ولقبوه الأشرف وأن يكون أيبك التركماني [أتابكا] «2» .
وجلس الأشرف موسى بن يوسف بن الملك المسعود- صاحب اليمن الملقب أطسز المعروف بأقسيس- بن الملك الكامل بن العادل بن أيوب في دست (276) السلطنة، وحضرت الأمراء في خدمته يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى هذه السنة.
وكان بغزّة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهم خاص ترك «3» فسار إليهم عسكر دمشق فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسّانح، واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية [يوم الجمعة] «4» لأربع مضين من جمادى الآخرة هذه السنة.
ولما جرى ذلك اتفق كبراء الدولة بمصر ونادوا بالقاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم، ثم جدّدت الأيمان للملك الأشرف بالسلطنة ولأيبك التركماني بالأتابكية.
وفي يوم الأحد لخمس مضين من رجب رحل فارس الدين آقطاي الجمدار الصالحي «5» متوجها إلى جهة غزة ومعه [تقدير] «4» ألفي فارس، وكان آقطاي(27/345)
المذكور مقدم البحرية، فلما وصل إلى غزة اندفع من كان بها من جهة الملك الناصر بين يديه.
وفي هذه السنة، اتفق كبراء الدولة وهدموا سور دمياط في العشر الأخير من شعبان هذه السنة لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى، وبنوا مدينة بالقرب منها بالبر وسموها المنشية، وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل العباسي.
وفي مستهل شعبان، قبض الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب على الناصر داود بن المعظم بن العادل الذي كان صاحب الكرك وبعث به إلى حمص فاعتقل بها، وذلك (277) لأشياء بلغته عنه خاف منها.
وفي هذه السنة، سار الملك الناصر يوسف بعساكره من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، والأشرف موسى صاحب حمص وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر، والمعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين، وأخوه نصرة الدين «1» ، والأمجد حسن والظاهر شاذي ابنا الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل ابن أيوب، وتقي الدين عباس بن الملك العادل بن أيوب «2» ، ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان هذه السنة، ولما بلغ المصريين ذلك اهتموا لقتاله ودفعه، وبرزوا إلى السّانح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك عن ولدي الصالح إسماعيل(27/346)
وهما المنصور إبراهيم «1» والسعيد عبد الملك «2» ، وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك «3» ، وخلع عليهما ليوهم الناصر يوسف صاحب الشام من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة «4» يوم الخميس عاشر ذي القعدة هذه السنة، وكانت الكسرة أولا على عسكر مصر فخامر جماعة من مماليك الترك العزيزية على الملك الناصر صاحب الشام، وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة يسيرة من البحرية، فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الناصر إلى المعز (278) ، ولما انكسرت المصريون وتبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية في جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعزّ التركماني بمن معه عليه فولى الناصر منهزما طالبا جهة الشام، ثم حمل المعزّ على طلب شمس الدين لؤلؤ فهزمهم وأخذ لؤلؤ أسيرا فضربت عنقه صبرا «5» ، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري فضربت عنقه «6» ، وأسر يومئذ الصالح إسماعيل والأشرف موسى صاحب حمص والمعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الناصر في أثر المنهزمين(27/347)
إلى العباسية وضربوا دهليز الملك الناصر وهم لا يشكون أن الهزيمة [تمت] «1»
على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر اختلفت آراؤهم فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها ولو فعلوه لما كان بقي مع المعزّ من يقابلهم به فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام وكان منهم تاج الملوك بن المعظم وهو مجروح «2» ، وكانت الوقعة يوم الخميس، ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غداة الوقعة نهار الجمعة فلم يشك أهل مصر في تملك الملك الناصر ديار مصر، وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل بمصر.
وأما القاهرة فلم تقم فيها في ذلك اليوم خطبة لأحد، ثم وردت البشرى بانتصار البحرية، ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة، ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط وغيره من المعتقلين فحبسوا بالقلعة (279) وعقب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة وزير الصالح إسماعيل وأستاذ داره [ابن] «1» يغمور [وكانا معتقلين] «3» من حين [استيلاء] «1» الصالح أيوب على بعلبك «4» فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة.
وفي ليلة الأحد سابع عشري ذي القعدة هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب وهو يمص قصب سكر وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة وقتلوه فدفن هناك وعمره نحو خمسين(27/348)
سنة «1» ، وكانت أمه رومية من حظايا الملك العادل.
وفيها، بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام سار فارس الدين آقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة فاستولى عليها، ثم عاد إلى الديار المصرية.
وفي هذه السنة، وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن جماعة [من مماليكه] «2» فقتلوه، وهو عمر بن علي [بن] «2» رسول «3» ، [وكان «4» والده علي بن رسول أستاذ دار الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل، فلما سار الملك المسعود من اليمن قاصد (ا) الشام وتوفي [بمكة] «2» استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور على اليمن فاستقر نائبا بها لبني أيوب] ، [وكان»
لعلي المذكور إخوة فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفا من استيلاء علي بن رسول على اليمن، واستمر علي المذكور نائبا حتى مات، قيل سنة ثلاثين وست مئة واستولى على اليمن بعده ولده عمر على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نوابا موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن قبض عمر(27/349)
المذكور (280) عليهم واعتقلهم، واستقل بملك اليمن حينئذ وتلقّب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك فقتلوه في هذه السنة اعني سنة ثمان وأربعين وست مئة، واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف، وتلقّب بالملك المظفر «1» ، وصفا له اليمن وطالت أيام مملكته] .
[ «2» ثم دخلت سنة تسع وأربعين وست مئة «13»
فيها، توفي الصاحب محيي الدين بن مطروح «3» ، وكان متقدما عند الملك الصالح أيوب، كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق نظر الجيش ثم استعمله على دمشق ثم عزله وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلا في النثر والنظم فمن شعره: (الكامل)
عانقته فسكرت من طيب الشّذا ... غصن رطيب بالنسيم قد اغتذى
نشوان ما شرب المدام وإنّما ... أمسى بخمر رضابه متنبّذا
جاء العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام عليّ فيه مأخذا
لا أرعوي، لا أنثني، لا أنتهي ... عن حبّه فليهذ فيه من هذى
إن عشت عشت على الغرام وإن أمت ... وجدا به وصبابة يا حبّذا
وفيها، جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكرا إلى غزة، وخرج(27/350)
المصريون إلى السّانح وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة.
وفيها، توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف «1» ، وكان إماما في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سار إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس «2» علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من هذه السنة المذكورة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمس مئة بأصفون من شرقي صعيد مصر.
ثم دخلت سنة خمسين وست مئة «13»
ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ] .
سنة إحدى وخمسين وست مئة إلى سنة ستين وست مئة
في سنة إحدى وخمسين وست مئة «14»
استقر الصلح بين الناصر يوسف صاحب الشام وبين بحرية مصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن، وللملك الناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين البادرائي رسول الخليفة هو الذي حضر من جهة الخليفة وأصلح بينهم على ذلك، ورجع كل إلى مقره.
وفيها، قطع أيبك التركماني خبز «3» حسام الدين بن أبي علي الهذباني،(27/351)
فطلب دستورا فأعطاه فسار إلى الشام، فاستخدمه الناصر بدمشق.
وفيها، أفرج الملك الناصر يوسف عن الناصر داود بن المعظم [الذي كان صاحب الكرك] «1» وكان قد اعتقله بقلعة حمص، وأفرج عنه بشفاعة الخليفة المستعصم وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود إلى جهة بغداد فلم يمكنوه من الوصول إليها، وطلب وديعته الجوهر فمنعوه إياها، وكتب الملك الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف أن لا يؤووه ولا يميروه فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة وضاقت به الحال وبمن معه، وانضم (281) إليه جماعة غزيّة «2» فبقي معهم يرحلون وينزلون جميعا، [ثم لما] «3» قوي عليهم الحر ولم يبق بالبرية عشب قصدوا أزوار الفرات يقاسون بقّ الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده وكان لولده الظاهر شاذي فهد وكان يتصيد بالنهار عشرة غزلان، وكان يمضي للناصر داود وأصحابه [أيام] «4» لا يطعمون غير الغزلان، واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرّحبة يومئذ أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقا وشعيرا فأرسل الناصر يوسف يهدده على ذلك، ثم إن الناصر داود قصد مكانا للشرابي واستجار به فرتب له الشرابي شيئا دون كفايته وأذن له في النزول بالأنبار وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام والناصر داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب وديعته فلا يرد لهفته، ولا يجيبه إلا بالمماطلة والمطاولة، وكان مدة مقامه متنقلا في الصحارى مع الغزيّة ثلاثة(27/352)
أشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الناصر يوسف، فقبل شفاعته وأذن له في العود إلى دمشق ورتب له مئة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يحصل له من ذلك إلا دون الثلاثين ألف درهم.
وفيها، وصلت الأخبار من مكة أنّ نارا ظهرت من عدن وبعض جبالها بحيث كانت تظهر بالليل ويرتفع منها في النهار دخان عظيم.
[ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وست مئة «13»
] «1» ذكر أخبار الحفصيين ملوك تونس
(282) وإنما ذكرناها في هذه السنة لأنها كانت كالمتوسطة لمدة ملكهم، قال «2» : والحفصيون أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي «3» ، وهنتاتة بتائين مثناتين من فوقهما: قبيلة من المصامدة يزعمون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أبو حفص المذكور من أكبر أصحاب بن تومرت بعد عبد المؤمن، وتولى ولده عبد الواحد بن أبي حفص «4»
أفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن في سنة ثلاث وست مئة، ومات سلخ (ذي) الحجة سنة ثماني عشرة وست مئة، فتولى أبو العلا من بني عبد المؤمن ثم توفي(27/353)
فعادت أفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص «1» في سنة ثلاث وعشرين وست مئة، ولما تولى ولى أخاه [أبا] «2»
زكريا يحيى «3» قابس وأخاه أبا إبراهيم إسحاق «4» بلاد الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس أصحابه ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا سنة خمس وعشرين وست مئة «5» ، فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقي اسم المهدي وخلع طاعة بني عبد المؤمن، وتملك أفريقية، وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد والزاب وبقي كذلك إلى أن توفي سنة سبع وأربعين وست مئة، وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالما بالأدب، وخلف أربع بنين وهم: أبو عبد الله محمد «6» ، وأبو إسحاق إبراهيم «7» ، وأبو حفص عمر «8» ، وأبو بكر وكنيته (283) أبو يحيى «9» ،(27/354)
وخلف أخوين وهما أبو إبراهيم إسحاق ومحمد اللحياني «1» ابنا عبد الواحد بن أبي حفص، وكان محمد اللحياني صالحا منقطعا يتبرك به ثم تولى بعده «2» ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه إبراهيم في خلعه فخلع، وبايع لأخيه محمد اللحياني الزاهد على كره منه لذلك فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه في يوم خلعه وشدّ على عمّيه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه وتلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن الأمراء الراشدين، وفي أيامه في سنة ثمان وستين وست مئة وصل الفرنسيس إلى أفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت أفريقية على الذهاب، فقصمه الله ومات الفرنسيس وتفرقت جموعه «3» .
وفي أيامه خافه أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا فهرب ثم أقام بتلمسان وبقي المستنصر المذكور حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وست مئة، فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين «4» ، وكان ضعيف الرأي فتحرك عليه عمه أبو إسحاق الذي هرب وأقام بتلمسان وغلب على الواثق فخلع نفسه واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وست مئة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زيّ الحفصيين وأقام على زي زناتة وعكف على الشرب وفرق [المملكة] «5» على أولاده، فوثبت أولاده على الواثق المخلوع فذبحوه(27/355)
وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب، وسلم للواثق ابن صغير يلقب أبا عصيدة «1»
لأنهم (284) يصنعون للنفساء عصيدة فيها دواء ويهدونها للنسوان، وعملت أم الصبي ذلك فلقبوا ابنها [أبا] «2» عصيدة ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابيه واجتمعت عليه الناس، وقصدوا أبا إسحاق إبراهيم وقهره فهرب أبو إسحاق إلى بجاية وفيها ابنه أبو فارس عبد العزيز فترك [أبو] «3»
فارس أباه ببجاية وسار بإخوته «4» وجمعه إلى الدعي بتونس والتقى الجمعان فانهزم عسكر بجاية وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته ونجا له أخ اسمه يحيى «5»
وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا، ولما هزم الدعي عسكر بجاية وقتل المذكورين أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم وجاء برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الدعي واجتمعت العرب على عمر بن [أبي] «6» زكريا بعد هروبه من المعركة، وقوي أمره وقصد الدعي بتونس وقهره وأسر الدعي في بيت بعض التجار بتونس ثم أحضر واعترف بنسبه فضربت عنقه، وكان الدعي المذكور من أهل بجاية واسمه أحمد بن مرزوق ابن أبي عمار «7» ، وكان أبوه يتجر إلى بلاد(27/356)
السودان، وكان الدعي المذكور محارفا قصيفا وسار إلى ديار مصر، ونزل بدار الحديث الكاملية ثم عاد إلى الغرب فلما مرّ على طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيرا وكان خصيصا بالواثق المخلوع، وقد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في الدعي بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر فشهد له أنه الفضل بن الواثق فاجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه (285) حتى قتل، وكان الدعي يخطب له بالخليفة المنصور بالله القائم بحق الله أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين [أبي] «1» العباس الفضل، ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الدعي تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المستنصر الثاني، ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا الذي سلم من المعركة إلى بجاية وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله أمير المؤمنين، واستمر المستنصر الثاني أبو حفص عمر بن أبي زكريا في مملكته حتى توفي في أوائل محرم سنة خمس وتسعين وست مئة، ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير واجتمع الفقهاء وقالوا أنت صائر إلى الله وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع الذي كان صغيرا وسلم من الذبح الملقب بأبي عصيدة [وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر، وكان اسم أبي عصيدة المذكور] «2» أبا عبد الله محمد فلقب بالمستنصر أيضا وهو المستنصر الثالث، وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا وملك بجاية بعده ولده خالد «3» ، وبقي أبو عصيدة كذلك حتى توفي سنة تسع(27/357)
وسبع مئة فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت وأقام في المملكة ثمانية عشر يوما، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية ودخل تونس وقتل أبا بكر المذكور سنة تسع وسبع مئة.
ولما جرى ذلك كان زكريا اللحياني «1» بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر إلى طرابلس الغرب وبايعه العرب، وسار إلى تونس (286) فخلع خالد بن المنتخب وحبس ثم قتل قصاصا بأبي بكر بن عبد الرحمن المقدم الذكر، واستقر اللحياني في ملك أفريقية، وهو أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت، ثم تحرك على اللحياني أخو خالد بن المنتخب وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر بن يحيى المنتخب «2» تونس وما معها خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحياني بايع ابنه محمد «2»
نفسه واقتتل مع أبي بكر فهزمه أبو بكر واستقر محمد بن اللحياني بالمهدية وله معها طرابلس، وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلى ديار مصر في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وأقام اللحياني في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى الإسكندرية يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد أجابوا إلى طاعة اللحياني وبايعوا نائبه وهو محمد بن أبي بكر «2» من الحفصيين وهو صهر زكريا اللحياني المذكور وهم في انتظار وصول اللحياني إلى(27/358)
مملكته.
أقول «1» : وقد بقيت مملكة أفريقية مملكة يهرب «2» منها [لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها] «3» .
و [في هذه السنة] «4» اغتال المعزّ أيبك المستولي على مصر خوشداشه الفارس آقطاي الجمدار «5» وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك وهم: قطز «6» وبهادر «7» وسنجر الغتمي «7» فلما مر بهم آقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولما علمت البحرية ذلك هربوا من الديار المصرية إلى الشام.(27/359)
وكان الفارس آقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب «1» ، فلما قتل آقطاي استقل المعزّ بالسلطنة، وأبطل الأشرف موسى المذكور عنها بالكلية، وبعث به إلى عماته القطبيات «2» ، وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة بمصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة على ما شرحناه.
ووصلت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، واطمعوه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكره ونزل عمقا من الغور، وأرسل إلى غزة عسكرا فنزلوا بها، وبرز المعزّ أيبك إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك.
وفيها، قدمت ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك الروم إلى زوجها الملك الناصر صاحب الشام.
وفي سنة ثلاث وخمسين وست مئة «13»
عزمت العزيزية المقيمون مع المعزّ أيبك على القبض عليه، وعلم بذلك فاستعد لهم فهربوا من مخيمهم على العباسة على حمية، واحتيط على وطاقاتهم جميعا.
وفيها، تزوج المعزّ أيبك شجر الدّر أم خليل التي خطب لها بالسلطنة بديار مصر.
وفيها، طلب الملك الناصر داود من الناصر يوسف دستورا إلى العراق (288)(27/360)
بسبب طلب وديعته من الخليفة وهو الجوهر الذي تقدم ذكره «1» ، وأن يمضي إلى الحج فإذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء ثم منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس، وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلا عليه ومستشفعا به إلى ابن عمه المستعصم في أن يرد علي وديعتي، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتهم وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروح ودفع إلى أمير الحاج [كيخسرو] «2» وذلك يوم [السبت] «2» ثامن وعشري ذي الحجة، وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد.
سنة أربع وخمسين وست مئة «13»
توفي كيخسرو ملك الروم «3» وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان.
وفيها، توجه كمال الدين بن العديم «4» رسولا من الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم ومعه تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من مصر من جهة المعزّ التركماني شمس الدين سنقر الأقرع «5»(27/361)
وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميّافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر صاحب الشام، فبقي الخليفة متحيرا ثم إنه أحضر سكينا من اليشم كبيرة وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين لرسول صاحب الشام علامة مني أن له عندي خلعة في وقت (289) آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكنني، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة.
وفيها، جرى للناصر داود مع الخليفة ما صورته: أنه لما أقام ببغداد بعد وصوله مع الحجاج واستشفاعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رد وديعته أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر المذكور فيما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف اللحم والخبز والحطب والعليق والتّبن وغير ذلك وثمّن عليه بأغلى الأثمان وأرسل إليه شيئا نزرا وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته، وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئا فكتب خطه بذلك كرها وسار عن بغداد وأقام مع العرب، ثم أرسل إليه الناصر يوسف صاحب الشام فحلف له وطيب قلبه فقدم الناصر داود دمشق ونزل بالصالحية.
وفيها، في يوم الأحد ثالث شوال توفي سيف الدين طغريل «1» مملوك الملك المظفر [محمود صاحب حماة] «2» .
وفي سنة خمس وخمسين وست مئة «13»
قتل المعزّ التركماني الجاشنكير الصالحي «3» ، قتلته امرأته شجر الدّر التي(27/362)
كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب، وهي التي خطب لها بالسلطنة بديار مصر، وكان سبب ذلك أنه بلغها أن المعز قد خطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ويريد الدخول بها، فقتلته في الحمام بعد عوده من لعب الكرة في النهار المذكور، وكان الذي قتله سنجر الجوجري مملوك الطواشي محسن والخدام «1»
حسبما اتفقت (290) معهم، وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعزّ وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير «2» وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك، ولما ظهر الخبر أراد مماليك المعزّ قتل شجر الدّر فحماها المماليك الصالحية واتفقت الكلمة على إقامة نور الدين بن المعزّ ولقبوه الملك المنصور «3» وعمره حينئذ خمس عشرة سنة، ونقلت شجر الدّر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعزّ وهرب سنجر الجوجري ثم ظفروا به وصلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن حنّا «4» لكونه وزير شجر الدّر، وأخذ خطه بستين ألف دينار.
وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر هذه السنة، اتفقت مماليك المعز مثل سيف(27/363)
الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي «1» وكان قد صار أتابكا للملك المنصور علي بن المعزّ ورتبوا في الأتابكية آقطاي المستعرب الصالحي «2» .
وفي سادس ربيع الآخر من هذه السنة، قتلت شجر الدّر «3» وألقيت خارج البرج فحملت إلى تربة كانت قد عملتها فدفنت فيها، وكانت تركية الجنس، وقيل: أرمنية، وكانت مع الملك الصالح في الاعتقال بالكرك، وولدت منه ولدا أسمه خليل مات صغيرا، وبعد ذلك بأيام خنق شرف الدين الفائزي.
وفي هذه السنة، نقل إلى الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب الشام أن البحرية يريدون أن يمسكوا به، فاستوحش منهم خاطره، وتقدم إليهم بالانبراح عن دمشق، فساروا إلى (291) غزة وانتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة، وبرزوا إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة ومنهم عز الدين الأفرم «4» فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأفرم، ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام أرسل عسكرا في إثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه، ثم إن عسكر الناصرية بعد الكبسة كسر البحرية فانهزموا إلى البلقاء، وإلى زغر «5» ملتجئين إلى المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالا جليلة(27/364)
وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه، وسارت البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت منتصف (ذي) القعدة من هذه السنة، فانهزم عسكر المغيث والبحرية وفيهم بيبرس البندقداري المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر إلى جهة الكرك.
وفيها، وصل من الخليفة المستعصم الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز على يد الشيخ نجم الدين البادرائي فقال في ذلك الشهاب الوفائي «1» : (الكامل)
يا أيها المولى الذي أضحى الورى ... من فعله في نعمة ومزيد
إني عهدتك في العلوم مقلدا ... فعجبت كيف أتيت بالتقليد
وفيها، استجار الناصر داود بنجم الدين البادرائي في أن يتوجه صحبته (292) إلى بغداد فأخذه صحبته وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه من ذلك فلم يتهيأ له ذلك، وسار الناصر داود مع البادرائي إلى قرقيسياء فأخره البادرائي ليشاور عليه فأقام الناصر داود بقرقيسياء ينتظر الإذن له في القدوم إلى بغداد فلم يؤذن له، وطال مقامه فسار إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل وأقام مع عرب تلك البلاد.
وفيها، أو التي قبلها ظهرت نار الحرة عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لها بالليل ضوء عظيم يظهر من مسافة بعيدة جدا «2» ، ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فقال «3» :(27/365)
«نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرى»
ثم اتفق أن الخدام بحرم النبي صلى الله عليه وسلم وقع منهم في بعض الليالي تفريط، فاشتعلت النار في المسجد الشريف فاحترقت سقوفه ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم وتألم الناس لذلك.
وفي سنة ست وخمسين وست مئة «13»
كان استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية، وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي «1» كان رافضيا، وكان أهل الكرخ روافض، فجرت فتنة بين السنة والرافضة، فأمر أبو بكر بن الخليفة «2» (و) ركن الدين الدّوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير بن العلقمي فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر (293) بغداد يبلغ مئة ألف فارس فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه بطلبهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمهم ركن الدين الدّوادار والتقوا على مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر الخليفة ودخل بعضهم بغداد وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي، ونزل(27/366)
باجوا وهو مقدم كبير بالجانب الغربي على القرية قبالة دار الخليفة، وخرج مؤيد الدين بن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد إلى الخليفة وقال: إن هولاكو يبقيك بدار الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته بابنك أبي بكر وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج المستعصم في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون وكان منهم محيي الدين بن الجوزي وأولاده، وبقي كذلك يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة فلما تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر وعدى باجو ومن معه وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف ولم يسلم منهم إلا من كان صغيرا فأخذ أسيرا، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوما (294) ثم نودي بالأمان.
وأما الخليفة فإنهم قتلوه، ولم يقع اطلاع على كيفية قتله، فقيل: خنق، وقيل: وضعوه في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل: غرّق في دجلة والله أعلم «1» .
وكان هذا المستعصم أبو أحمد عبد الله بن المستنصر أبي جعفر منصور ابن محمد الظاهر بن الإمام الناصر أحمد وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند وفاة الإمام الناصر «2» ، ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره، تولى الخلافة بعد موت أبيه المستنصر في سنة أربعين وست مئة، وكانت مدة خلافته نحو ستّ عشرة سنة تقريبا، وهو آخر خلفاء بني العباس، وكان ابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهي السنة التي بويع فيها السفاح بالخلافة، وقتل فيها(27/367)
مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، فكانت مدة ملكهم خمس مئة وأربعا وعشرين سنة تقريبا، وعدة خلفائهم سبعة وثلاثون خليفة.
حكى القاضي جمال الدين بن واصل، قال: لقد أخبرني من أثق به أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته: أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بلغ خلفاء بني أمية عنه أنه يقول: إن الخلافة تصير إلى ولده فأمر الأموي بعلي بن عبد الله فحمل على جمل بعد أن ضرب وطيف به ونودي عليه عند ضربه: هذا جزاء من يفتري ويقول إن الخلافة تكون في ولده، فكان علي بن عبد الله يقول: إي والله لتكوننّ الخلافة في ولدي، لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع (295) مصداق ذلك وهو ورود هولاكو وإزالته ملك بني العباس «1» .
وفي هذه السنة، كانت الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر، كان قد انضمت البحرية إلى المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب ونزل من الكرك وخيم بغزة، وجمع الجموع وسار إلى مصر في دست السلطنة، وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعزّ أيبك وأكبرهم سيف الدين قطز والغتمي وبهادر، والتقى الفريقان وانكسر المغيث ومن معه وسار منهزما إلى الكرك في أسوأ حال، ونهب ثقله ودهليزه.
وفي هذه السنة أعني سنة ست وخمسين، توفي الملك الناصر داود «2» بظاهر دمشق في قرية يقال لها البويضاء، ومولده سنة ثلاث وست مئة، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين، وأنه توجه(27/368)