يناضل، وذروته التي بها يطاول، وإذا لم يحمل ما يريب من أدانيه رمته أقاصيه، ولابد للإنسان من طاعة ومعصية، ومن أجل طاعته تغفر معاصيه إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
«1»
وبعد، فإذا شاء المولى أن يقتل حرّا فليعف عن زلله، فإن إصابة عرضه أشد من إصابة مقتله.
ومنه قوله: سليب المدائح أبهج حسنا من الغصون المسكوة بأوراقها، والحمائم المتحلية بأطواقها، فهو عار من اللباس، مكسو من المحامد التي صاحبها هو الكاسي.
ومنه قوله في ذم الود المتكلف:
خير الود ما عطف عليك اختيارا، لا ما أعدته بالعتاب اقتسارا؛ فإن شيمة التبرع كحسن التأدب غير مجلوب، والإنجاح في الطلب إتعاب لوجه المطلوب، إلا أن خير الود ودّ تطوعت به النفس لا ود أتى وهو متعب.
ومنه قوله:
والشيب يعيد جدة الشباب وهي أخلاق، وهو على كراهة لقائه مكروه الفراق، فواها لنزوله، وآها لرحيله، وسحقا له بديلا من الشباب، وسحقا لبديله.
ومنه قوله في الهجو:
لم أر له في حظوظ المساعي من قسم، كأنه فيها واو عمرو أو ألف بسم «2» ،(12/291)
فهو لا يزال منكرا غير معروف، فإما زائد لا حاجة إليه وإما محذوف.
ومنه قوله:
السر أمانة لا تباع، ووديعة لا تضاع؛ فالعين تكاتم القلب فيها ما تبصره، والقلب يكاتم اللسان ما يضمره، وإذا حوفظ على السر هذه المحافظة، فقد ألقي في مهولة لا يرام اطلاعها، ونيط بصخرة أعيا الرجال على كثرة المحاولة انصداعها.
ومنه قوله في قتال قوم كانوا بجبل، ثم نزلوا فهزموا:
وبعد، فإن العساكر ركبت لارتياد موقف الحرب، واختيار المصعد السهل في الجبل الصعب، لتكون على بصيرة من أمورها، ولتأتي البيوت من أبوابها لا من ظهورها، فانبسطت كتائبها في كل منخفض ومنحدر، ومزلزل ومستقر، فحينئذ نفخ الشيطان في أنفه وساقه إلى حتفه، فبرز بمن قبله من الجنود، ونزل عن قلل الأوعال إلى مصطحر الأسود، وكان حزن الخطب في أحزانه، وتباعد مناله في تباعد مكانه، فلما أسهل أسهل النصر في طلبه، وأمكن يده من سلبه؛ لا جرم أنهم ردوا على الأعقاب، ونسفوا نسف الريح السحاب، فلم يكن لهم سلاح أوقى من الفرار، ولا عاصم إلا الجبل الذي عصم من طوفان السيف وما عصم من طوفان العار.
ومنه قوله: وثار بين أيدينا سرب ظباء مدرب على القنص ومقانصه، عارف بغوائله ومخالصه، وقد طرق مكانه حتى لم يهن بمرتعه ومشرعه، ولا أمن نبوة مصرعه، وكبس منه ما تمتع برؤية أشباهه من الفرقدين، ولم ينس الفجيعة بإلفه الذي خر(12/292)
لفمه واليدين، فلما أحس بنا طار خيفة حتفه، وكاد أن يخلف ظله من خلفه، فأرسلنا عليه سلس الضريبة، ميمون النقيبة، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبة، كأنما ينظر من جمرة، ويسمع من صخرة، ويطأ من كل برثن على شفرة، وله إهاب قد حيك من ضدين بياض وسواد، وصور على أشكال العيون، فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد، وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته، ويسبق الفريسة فلا يقنصها إلا عند التفاته، وقد علمت الظباء أن حبائلها في حبل ذراعه، وأن نفوسها مخبوءة بين أضلاعه، فلم يكن إلا نبضة عرق، أو ومضة برق، حتى أدرك عقيلة من تلك العقائل، فأناخ عليها بكلكله، ووقف بإزائها ينتظر وصول مرسله.
ومنه قوله:
والتاريخ معاد معنويّ يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت، ويستفيد به «1» عقول التجارب من كان غرا، ويلقى آدم ومن بعده من الأمم وهلم جرا، فهم لديه أحياء وقد تضمنتهم بطون القبور، وعنه غيب وقد جعلتهم الأخبار في عدة الحضور؛ ولولا التاريخ لجهلت الأنساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تراب، وكذلك لولا [التاريخ] لماتت الدول بموت زعمائها، وعمي عن الأواخر حال قدمائها، ولم تخطّ علما بما تداولته في الأرض من حوادث سمائها؛ ولمكان العناية إليه لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتى بأخباره المجملة، ومنها ما أتى بأخباره المفصلة، وقد ورد في التوراة في سفر من أسفارها، وتضمن تفصيل أحوال الأمم السالفة ومدد أعمارها.(12/293)
وقد كان العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جل دواعيها، وتجعل له أوفر حظ من مساعيها، فتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مكتوبها، وتعتاض برقم صدورها عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية منهم بأخبار أوائلها، وإبانة فضائلها؛ وهل الإنسان إلا ما أسسه ذكره وبناه؟
وهل البقاء بصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه؟.
ومنه قوله:
الخادم يعود المولى من شكاة جسمه، والناس يعودون الخادم من شكاة همه؛ وإذا مرض المولى المنعم سرى مرضه إلى عبيده وخدمه، فهم مشاركوه في اسم مرضه، وإن خالفوه في صورة ألمه؛ وقد تمرض أرواح المرض أجساد، ويشتركان في كل شيء حتى في عيادة العواد.
ومنه قوله في السير:
ولقد سرت مسير الأخبار، وأخذت بمطالع الليل والنهار، حتى عدمت رفقة ورفقا، وصيرت للغرب غربا وللشرق شرقا.
ومنه قوله:
إذا وقفت بالدار تسائل أحجارها، وتبكي آثارها، فإنك لا تبكي التراب، بل الأتراب، ولا تندب الآثار الحائلة، بل الأحباب الزائلة، ولا فائدة في سلامك على الطلل الذي لا يعي خطابا، ولا يرد جوابا، فإنما تخاطب أصداء لا تملك إعادة ولا إبداء؛ وإذا شغلت نفسك بسؤال التراب والجندل، فلا فرق بين سؤال من لا يجيب، وجواب من لا يسأل.
ومنه قوله قريب منه:(12/294)
ولقد قصد منه كريما لم تزل معاهد أكنافه معهودة، ومن مواهبه أن تكون قاصدة قبل أن تكون مقصودة؛ من يسأله غير درجات المعالي فقد قدح في مواهبه، وحط من مراتبه؛ أمسك المال وجعل حادث هلاكه في ضمن إمساكه، فلو حلف سائله أن يصافح السحاب لبر في يمينه بمصافحة يمينه، وليس هذا من المجاز الذي يتوسع في مقاله، بل هو من حقيقة القياس الذي يحمل على أشباهه وأمثاله.
ومنه قوله: وبأيديهم كل لدن شدته في لينه، وتمكن النصر منوط بتمكينه، فما منهم إلا من اعتقل ما يماثله قدا، ويناسبه جدا، فإذا مثلت شكولها وشكولهم قيل:
صعاد، في أيدي صعاد وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: أساود في أيدي آساد؛ ومن صفاتها أنها لا تنشد [إلا] إذا كانت قصائد، ولا تجور إلا إذا كانت قواصد، قد أدبها الثقاف من عهد فطامها، وكانت منابت التراب من شرابها، فأصبحت منابت الترائب من طعامها، فهذه هي الرماح التي تعلقها أيدي الأبطال، وتأوي منها إلى معاقل بذلك الاعتقال.
ومنه قوله:
مننّا عليهم من الأسلاب بالبيض القواطع، ليجعلوا حليها أساور في أيدي البيض ذوات البراقع «1» ، وحلية السيف لا تحسن إلا بكف يكون به ضاربا لا له حاملا، وإذا عطل في موقف الجهاد، فالأولى له أن يجعل عاطلا، فخفنا أن ينشدهم قول أبي العتاهية «2» : [الهزج](12/295)
فصغ ما كنت حليت ... به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا
ومنه قوله:
ولقد تعقبت الأيام نقصها بإتمامها، ونقضها بإبرامها، ونسي نعي ميتها ببشرى حيها، ونشرت المكارم التي كانت طويت، فوفى أنس نشرها بوحشة طيها، وأصبح عزاء الناس مستدركا بالهناء، وعوضوا عن كنز الغنى بكنز الغناء، حتى استرجعت العبرات ما جادت به من سحاب مزنها، واستبدلت ببرد مسرتها من حرارة حزنها.
ومنه قوله في الحلم:
إذا حكمت قدرته في الذنوب كان العفو لها عاتقا، وإذا أحب الشفعاء أن يشفعوا إليه كان كرمه لهم سابقا، فلا بارقة في بوارقه إلا وهي مغشية بغمامة حلمه، ولا بادرة من بوادره إلا وهي محبوسة في قبضة كظمه؛ وعلى هذا فإن الجاني غير مقتصر لديه إلى إقامة الأعذار، ولا إلى التوبة التي تستر عورة الإصرار، فيوشك أنه تخلق بخلق الله سبحانه في عموم المغفرة، ورأى أن لا أثر يبقى في صدر المغيظ إذا تولت إذهابه يد المقدرة.
ومنه قوله في الخمر:
سقيت مغارسها بالسرور بدلا من الماء، وجمع لها بين وصفين من تذكير الأفعال وتأنيث الأسماء، وما سجنت في دنها إلا لما عندها من النفار، وكانت حمراء اللون فألبسها السجن ثوب الاصفرار، وقد شبهت بالنار الموسوية في تألق ضرامها، وبالنار الخليلية في بردها وسلامها، وإذا نظر إليها وإلى زجاجها أشكل الأمر بينها وبين الزجاج، وقيل: هذا سراج في كأس أم كأس في سراج؟(12/296)
ومنه قوله:
النفوس تؤثر الخير تكلفا والشر طبعا، وهي مجبولة على حب الشهوات قلبا ولسانا وبصرا وسمعا، لكن للتدريج أثر في تقويم الاعوجاج، واصطناع الياقوت من أحجار الزجاج، ولهذا استخرج من أوراق الشجر وشائع الديباج.
ومنه قوله في المدح:
إذا أفضت في الثناء عليه، تنافس النظم والنثر في الاستقلال بأوصافه، وما منهما إلا من فض ختام طيبه ونشر مطاوي أفوافه، فما ترى في مديحي لمولانا من حسن فليس لها مخلوقا، بل من أوصاف سيدنا مسروقا: [البسيط]
إذا القصائد كانت من مدائحهم ... يوما فأنت لعمري من مدائحها
ومنه قوله:
المال يكون في خزائن أربابه صامتا، وإذا خرج في العطايا صار ناطقا، فيا قبحه في أيديهم حبيسا، ويا حسنه عنهم آبقا، ولم يسمع قبله بآبق أفاد صاحبه حمدا، وبنى له مجدا.
ومنه قوله في قريب منه:
جود مولانا قد هون على الناس مشقة الاغتراب، وأراهم من نعيم الإنعام ما حبب إليهم فراق الأحباب، فما منهم إلا من يحمد خطوب الأيام التي أخرجته من دياره، ونقلته عما لم يؤثر الانتقال منه إلى ما لقيه من إيثاره؛ فمثال بابه الكريم بقتلى الأيام، كمثل الجنة بقتلى الحمام؛ فلو علم داخل الجنة أنها تكون له مصيرا، لاستعذب كأس الحمام وإن كان مريرا؛ وذلك كما قال ابن الخياط «1» :(12/297)
[البسيط]
لأشكرن زمانا كان حادثه ... وصرفه بي إلي معروفكم سببا
ومنه قوله:
إذا حكمت سيوفنا في أموال العدى، حكمت فيها وسائل الندى، فهى طالبة ومطلوبة، وسالبة ومسلوبة، إلا أنها تأخذ ما تأخذه اقتسارا، وتعطي ما تعطيه اختيارا، فلها بسطة الغالب ومنّة الواهب.
ومنه قوله في شكر منعم:
إذا تقابلت مدائحي وسجاياه، رأيت مرآة صقيلة، تقابل صورة جميلة، فلولا هذه ورونق صقالها لما تمثلت تلك على هيئة جمالها؛ وأنا أول من طبع مرآة من الكلام، وصور الأخلاق فيها بصور الأجسام.
ومنه قوله:
وردت إشارة سيدنا أن أنظم في فلان قصيدا، يكون في نظمه فريدا، وقد علم أن أحرار الكلام وردت أن لها عزة الأحرار، وهي كالنفوس الأبية في الاستعلاء والاستكبار، فإذا كلفت مدح لئيم صدت مجانبة، وذهبت مغاضبة، ولهذا أبى كلامي وهو الحر في نسبه، الكريم في حسبه، أن يمدح من عرضه حرّاق قادح، وفريسة جارح، وطعمة هاج لا مادح؛ ولطيمة الطيب لا تلتئم بالكنيف، وصورة الشوهاء لا يزين منها التسوير والتشنيف.
ومنه قوله في قلم:
أخرس وهو فصيح الإيراد، وأصم وهو يسمع مناجاة الفؤاد، لا ينطق إلا إذا قطع لسانه، ولا يضحك إلا إذا بكت أجفانه.(12/298)
ومنه قوله في تفضيل الإحسان على الثناء:
الشكر أخف من الإحسان وزنا، وصاحبه يستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، ولقد ربحت صفقته إذا باع أقوالا وحاز أموالا، وأعطى كلمات خفافا وأخذ عروضا ثقالا؛ ومن زعم أن شكر الشاكر أفضل من موهبة الواهب فقد أغلى القول فيما ليس بغال، وأتى ويده السفلى من مكان عال؛ وأيّ فضل لمن غايته أن يكون مجازيا لا موازيا، ومعاملا لا معادلا؟ وإذا أنصف علم أنه جاء أخيرا، ولا فرق بينه وبين من أعطي أجره فصار أجيرا، وما أرى الشكر إلا حديثا يذهب في الرياح لو لم تقيده مكارم السماح، فلا حاجة مع لسانها إلى الشاكر، وإذا نطقت الحقائب فقد أغنت بنطقها عن مديح الشاعر «1» .
ومنه قوله:
الخادم لا يشكو الأقوام، ولكن يشكو الأيام؛ فإن المعدى على قدر العدوى، والمشكو إليه على قدر الشكوى؛ وممّا يشكوه منها أنها تبادهه ولا تواجهه، وتسارره ولا تجاهره، ولو كان لها شخص للقيه بعزم مولانا فقارعه، أو أرهبه باسمه الكريم فوادعه؛ وهي عبيده، تجني وهو المطلوب بجنايتها، وإذا رأت بأحد عناية من جاهه قرنتها بعنايتها؛ والمملوك يطالب مولانا بأرش «2» جراحها، ويسأله عناية تكف من غرب جماحها.
ومنه قوله في سرى النياق:
كم للركاب من يد لو علمتها لجعلت تراب أخفافها للعيون إثمدا، وخطط(12/299)
منازلها للجباه مسجدا؛ فهي الحاملة أعباء الهمم، والممكّنة من نواصي النعم.
ومنه قوله: جوده بعيد على الأمل، غير مفتقر إلى العذل، وإذا احتفل فهو نهر طالوت الذي حلل للغرفة لا للنهل.
ومنه قوله في كريم:
لا يضرب بين ماله حجابا وبين السائلين، وإذا عذل على الجود أجاب بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«1» .
ومنه قوله في الاقتصاد في طلب الرزق:
الإنسان في كفالة الله يرزقه غير واثق، وهو في كل طريق إليه سالك ولكل باب فيه طارق، وكثيرا من يأتيه الرزق وهو عن طلبه نائم، ويقعد عن ابتغائه وهو إليه قائم، ولا يصرف الأقدار إلا القادر على خلقها، وكم من دابة مرزوقة وهي ضعيفة عن حمل رزقها.
* قلت: ذكرت بهذه الكلمة دعاء كتاب كتبه ابن عبد الظاهر عن الملك الظاهر إلي وزيره بأن يربع «2» دواب الحرس، وكان قد أمر بإخصائها، لإزعاجها له بالنهيق، ثم رآها فرحمها، فأمر بذلك؛ والدعاء:
ولا زال يشكره غرب البلاد وشرقها، وحمامها وورقها، وما من دابة في الأرض إلا على الله- وعلى حسن تدبيره- رزقها «3» .(12/300)
عدنا إلى ابن الأثير:
ومنه قوله في ذكر الخدمة:
لو ساغ لوليّ من أولياء الديوان العزيز أن يمت بولائه، أو يدل بما أبلاه في الخدمة من حسن بلائه، لكان لسان الخادم في هذا المقام أكرم صدقا، أو مكانه منه أشرف حقا، لكن ليس لقائم بخدمتها أن يمن بقيامه، كمن ليس لمسلم أن يمن بإسلامه؛ والخادم وإن أمسك عن ذكر خدمه، فقد نطقت بها شهرة سماتها، وأصبحت مواقفها في المواقف أبكارا، ونطق البكر في صماتها، ولم تزل معروضة بالديوان العزيز، وكل وقت إبان وقتها، وهي كالآيات التي لا تأتي منها إلا كانت أكبر من أختها.
ومنه قوله:
ولطالما أورى الاغتراب عزا، وأثار من السعادة كنزا، حتى إن الله جعله سنة في أنبيائه ورسله، ونهج لهم سبيل العز بسلوك سبله، كسنة الغربة اليثربية، في الهجرة النبوية، وما أوجسه من القوة بعد الفرار، والكثرة بعد ثاني اثنين إذ هما في الغار؛ والتقليل سبب للسكون، والشهادة داعية لهدوء العيون، ولو لزم السيف غمده لم يبن أثر مضاربه، ولا خدمه لسان في نظم شاعره ولا نثر خاطبه، وبالاغتراب عذب ماء البحر لما فارق السحاب.
ومنه قوله:
له القلم الذي يصرع الخطب الجليل بضعفه، ويسبق الحرف الأمون «1»
بحرفه، وإذا نكس رأسه رأيت أبهة الخيلاء في عطفه، فهو يجل بأسا ويدق(12/301)
جسما، ويمج من لسانه شهدا وسمّا، فإذا ارتقى أنامله قيل: خطيب رقا منبرا، وإذا اهتز في يده كأنّه جانّ ولى الخطب مدبرا.
ومنه قوله:
لو ذهب الحزن بالدمع وانهماله، لكان الصبر بصاحبه أحرى، ولو لم ينل به أجرا، فكيف وصلوات الله ورحمته من ثوابه، وما اعتاض المرء صبرا عن المصاب، إلا كان فيه عوض عن مصابه.
ومنه قوله:
المكر ضراب من تحت الثياب، وسيفه لا يقطع إلا وهو في القراب، وصاحبه يلقى بوجه الأحباب، وهو كالجبل الذي تحسبه جامدا وهو يمر مرّ السحاب، يفرق الجموع وقد كادت تكون عليه لبدا، ويجعل قوتها أضعف ناصرا وكثرتها أقل عددا، ويستغني بلين كيده عن شدة أيده، وكثيرا ما يطعن أقرانه قبل الطعان، ويفاجئهم بالذعر وهم من الأمن في صوان.
ومنه قوله في التضرع إلى قريب مضايق:
أنا أسأله بالرحم التي أمر الله باتقائه واتقائها، وتكفل بالإسقاء يوم القيامة لمن تكفل بإسقائها، واشتق لها لكرامتها عليه اسما من اسمه، وقسم لواصلها ببسط العمر والرزق اللذين هما من أفضل قسمه، فلا تتركني أتأوه بقلب المتألم، وأجهر بلسان المتظلم، وأن أصله بسهام الدعاء القاصدة، وأحاكمه إلى صراعة البغي التي ليست عن الباغي براقدة، وأتمثل بقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ
«1» ويعز عليّ أن ألقاه بهذا القول(12/302)
الذي أنا فيه غير مختار، ولئن كان من المحظور النهي عنها، فالمحظور يباح لمرتكبه عند الاضطرار.
ومنه قوله في تذكير بعض الطغاة:
تذكير الطاغي من سنة الله التي خلت في عباده، وإن عسر نقله عما جبلت عليه فطرة ميلاده، وقد أمر موسى بتذكير فرعون مع أنه لم يستفد ذكرى، بل زاد إلى طغيانه طغيانا وإلى كفره كفرا.
ومنه قوله: ونصبت المجانيق فألقت عصيها وحبالها، وصبت على أقطار البلد نكالها، فسجدت لها الأسوار سجود السحرة لفعل العصا، وبادرت بالإيمان لها مبادرة من أطاع وما عصى، فلم يكن إيمانها إلا بعد إذن الأحجار، التي ما أذنت لمشيد إلا أخذ في البوار، وخر من الأقطار، وأصبح كشجرة اجتثت فوق الأرض مالها من قرار.
ومنه قوله في كتاب:
ورد كتابه فطلع طلوع الصباح السافر، على المدلج الحائر، لا بل أقبل إقبال الحياة على الأجساد، والحيا على السنة الجماد، فعظم موقعه أن يزال باليد أو ينال بالنظر، أو يوصف بأنه ثاني المطر، أو ثالث الشمس والقمر.
ومنه قوله، رسالة في البندق:
من المآرب ما يفعل طالبه، ويرتاح ناصبه، ويشترك فيه الناس، فكل منهم صاحبه كالقنص الذي هو للخاصة نهزة مراح، وللعامة صفقة أرباح، وهو جامع لرياضة أجسام ومسرة أرواح؛ وسأذكر موقفا وقفته وموسما عرفته، تخلسه الدهر إذا عرفته؛ وذلك أني في زمن الربيع، والأرض ديباجة، والسماء زجاجة، والجوّ(12/303)
قد أصبح بأنفاس الرياض معطرا، والشمس قد ضربت في أرجائها عمودا، فاخضر اخضرارا معصفرا، ولقد أصاب من مثل العام شخصا، وجعل الربيع بمنزلة ثغره النسيم، أو عمرا وجعله بمنزلة شبابه الوسيم، وقد زاد عندي حسنا أني أصبحت في هذا اليوم أصحب أخاه الذي شابهه في اعتدال زمانه، لا في تلون ألوانه، وناسبه في طيب شيمه، لكنه أسخى منه في فيض كرمه، وهو مولانا الملك الذي سعيه مشتقّ من لقبه، وسبقه إلى المعالي كسبق المنتمي إليه من نسبه، والمسمون بالملك كثير، غير أن هذا الاسم لا يختص إلا به «1» :
[الكامل]
ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيّام
وكان المنتظم بخدمته في هذا اليوم غلمان كأنهم لؤلؤ منظوم، وهو أشرف خادم لأشرف مخدوم، ومقامهم في الحسن سواء، فلا يقال فيهم: وما منا إلا له مقام معلوم، وكلهم قد تأهب للطرد تأهبه للطراد، وهم متقلدون قسي البندق مكان النجاد، فإذا تناولوها في أيديهم قيل: أهلة طالعة من أكفّ أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: منايا مشوقة بأيدي أقطار؛ وتلك قسيّ وضعت للعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال، وإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة، وصيغت من نوعين غريبين، فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حياة ونبات، ومؤلفة منهما على بعد الشتات، فهذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد؛ لها بنات أحكم تصويرها، وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الإهاب، وكأنما صنعت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا قذفتها الأطيار قيل: ويصعد من الأرض من(12/304)
جبال فيها من برد، ولا ترى حينئذ إلا قتيلا، ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رؤوسها، فما كان إلا أن ابتدر أولئك الغلمان طلقا من الرمي، يأتي على اختيار المختار المنايا ذات أسماع وأبصار، وإذا عرض له السّرب لم يخش فوت خطأ ولا فوت قرار، فمن بين دراجة أدرجت في ثوب دمائها، وحمامة حمّ عليها نزع دمائها، ومن كروان فجع بينهم فراخه، وإوزة ودّت لو لجأت إلى الصائد ومكيد فخاخه، فلم يضرنا مع ذلك فقد المنتخب من الجوارح، وكان اليوم كيوم المحصب «1» من كثرة الذبائح، وشهدت في خلال هذا المنتزه من لطائف اللذات ما يغلو على مستامه، ولا يجيله خاطر المنى في أوهامه، وإذا تذكرته النفس أعاد آخر طعمه أوله، وقالت: ترى الدهر نام عنه أو أغفله، على أنه لا يستغرب مواتاة مثله لمثل هذا السلطان، الذي الأيام له عبيد، ولا تمضي إلا ما يريد، ومن أكرم نعم الله عليّ أن أصبحت من خدمه معدودا، وعلى خدمته محسودا فلهذه النعمة أن أمسكها إمساك الشكور، وأصاحبها مصاحبة الغيور، وقد كنت بالأمس أنذر لها نذورا، وأنا الآن واف بتلك النذور، والسلام.
ومنه قوله من كتاب كتبه في معنى كتاب فاضلي، كتبه إلى الظاهر يعزيه بوالده؛ وكان جرى حديث هذا الكتاب في بعض المجالس فاستحسن، وطلب الجماعة الحاضرون أن يعارض بمثله، فأملى هذا الكتاب عليهم، وكان المتوفى قد مات وقت الصباح:
كتب المملوك كتابه هذا في ساعة أفلت الشمس فيها عند الصباح، وذهبت بروح الدنيا التي ذهبت بذهابها كثير من الأرواح، وتلك ساعة ظلت بها(12/305)
الألباب حائرة، وتمثلت فيها الأرض مائرة، والجبال سائرة، وأغمد سيف الله الذي كان على أعدائه دائم التجريد، وخفت الأرض من جبلها الذي كان يمنعها أن تميد، وأصبح الإسلام وقد فقد ناصره، فهو أعظم فاقد لأعظم فقيد، وليس أحد من الناس إلا وقد أصم سمعه الخبر، وأصيب في سواد القلب والبصر، وقال وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عمر، ولما غلبت على الدفاع عنه ألقيت بيدي إلقاء مكسور الجناح، واستنجدت الدموع والدموع من شر السلاح، ونظرت إلى العساكر حوله ولا غناء لها عن كثرة السيوف والرماح، وقد ودعته وداع من لا مطمع له في إيابه، وحال الترب بيني وبينه فصار بعيدا مني على اقترابه، وبرغمي أن يمشي لي قلم بعزائه، وأن أكاتب به أعز أعزائه، وليس عندي صبر حتى أحثّ على مثله، ولو كنت من رجاله لغلبني الأسى بخيله ورجله، والذي يستنطقه المولى من رأي فإن هذه الرزية أخرسته عن الكلام، وتوفته مع مخدومه الذاهب فاستويا جميعا في الحمام، ولكن في وصية عبد الملك لأولاده ما يغني عن الآراء واستنطاقها، وقد ضرب لهم مثلا في الاجتماع والافتراق باجتماع القداح وافتراقها؛ والسلام.
ومنه قوله ما كتبه إلى الأفضل عليّ عند عوده إلى الديار المصرية المحروسة:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«1»
يقبل الأرض بالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضليّ النوريّ، جعل الله الليالي والأيام من جنده، وأظهر آيته في اعتلاء أمره وتجديد جده، ووهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعقد له لواء نصر لا شركة للناس في عقده؛ ويهنئ مولانا بأثر نعم الله المؤذنة له باجتبائه، حتى بلغ أشده واستخرج كنز آبائه، ولو أنصف لهنأ الأرض منه بوائلها والأمة بكافلها، خصوصا أرض(12/306)
مصر لأنها قد حظيت بسكناه، وغدت في بحرين من فيض البحر وفيض يمناه، فأصبحت تشمخ بأنفها، وتسمو بطرفها، وتجير من الأيام وصدفها، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أو سيقت إليه الجنة بنضارتها وسرورها «1» :
[الكامل]
ما زلت تدنو وهي تعلو عزة ... حتى توارى في ثراها الفرقد
وقد كان منتهى أمل الأولياء أن تعود الضالة إلى ربها، وتفك الطريدة المغصوبة من يد عضبها، فأتى فضل الله بما لم يؤمله أمل الآمل، وعوض عن القطرة الواحدة بسحاب هاطل، وهذه نعمة يضيق عنها مجال القول المعاد، ويسرع بياضها في سواد الحساد؛ فلو غدت الجباه ساجدة، والقلوب حامدة، والأيدي ترفع الدعاء بادئة وعائدة، لما وفى ذلك بحقها، ولا أخرج الأعناق من عهدة رقها؛ وأحسن ما فيها أنها زارت على غير ميعاد، وحثت ركابها من غير سائق ولا حاد، وتخطت وقد ضرب دونها بسور من صدور الظبا ورؤوس الصعاد، فلم يكن لأحد فيها منة سوى الله الذي قرب بعيد أسبابها، وفتح مستغلق أبوابها، وأبرزها على حين غفلة من حجابها، فيجب على مولانا أن يختزنها بالإنفاق، وأن يقيدها بالإطلاق، وأن يقص أجنحتها لتظل طائرة في الآفاق؛ والمملوك في هذه الوصية كصيقل نصل له من جوهره صقال، وعاصر سحاب له من نفسه انهمال.
ومنه قوله في المجانيق:
ونصب المجانيق فأنشأت سحابا يخشى محلها، ولا يرجى وبلها، فما سيقت إلى بلد حي إلا أماتته، ولم تأته إلا أتاه أمر الله إذ أتته، فلم تزل تقذف(12/307)
السور بصوبها المدرار، وتنزل عليه جبالا من برد غير أنها من أحجار.
ومنه قوله في التوكل:
وألطاف الله لا يعرفها إلا من عرف الله فوفاه حقه، ولم يكن ممن ضرب له مثلا ونسي خلقه.
ومنه قوله:
وأفتى قوم بوقار المشيب بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثا للعمر، ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا.
ومنه قوله في الحث على الصدقة:
إنما الصدقة لمن قمصه الفقر لباسا، فستر ذلك اللباس، وكان لا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، والنار تتقى بشق تمرة، وما سد رمقا لا يطلق عليه اسم قلة، وإن لم يكن موصوفا بكثرة.
ومنه قوله في عيادة مريض:
ولما بلغ المملوك خبر شكاته، هيض منه ما ليس بمهيض، وأصبح وهو الصحيح أشد شكوى من المولى وهو المريض، وقد ودّ لو وقاه، وتلك أقصى درجات الوداد، ولم يق إلا نفسه بنفسه، وقد تجتمع النفسان في جسد من الأجساد، ولقد ناجى المملوك نفسه: إن هذه الشكاة لا تلبث إلا تلبث الزائر عند المزور، وإنها لم تأت إلا لتظهر ما عند الناس من مودات الصدور، فكم من أيد بالدعاء ممدودة، ونذور عند الله ليست بمعدودة، ولقد أخذ المملوك بالخبر النبويّ، فجعل الصدقة طبيبا، وتقالّ بأحاديث منام لم يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا.(12/308)
ومنه قوله: وهم سيوف الله التي إذا جردت زالت الهام عن مناكبها، واستوى في القتل نفس مضروبها وضاربها، فما عليها جاهدت صابرة محتسبة ما كان من موارد هلكها، ولا ألم عندها للكلوم إذا جاءت يوم القيامة، ولونها لون دمها وريحها ريح مسكها.
ومنه قوله في عدم قبول توبة باغ:
التوبة وإن جبت ما قبلها، فإنها معتبرة ممن ندم على ما فات، وأخلص فيما هو آت، وأما من يظهر أمرا ويبطن خلافه فإنه لا يلج بابها، ولا يرجو ثوابها.
ومنه قوله:
الفراسة تقرب عيونها، وتصدق ظنونها، والإنسان شر مكنون، يظهره الاختيار، ويخفيه الاختبار، وقد عولنا في ولاية فلانة على فلان، وما أهلناه لها حتى توسمنا منه ما نتوسم من الصالحين، وعضدنا رأينا فيه برأي من عندنا من الناصحين.
ومنه قوله:
فلان يومه في الصحبة كغده، ولسانه في العفاف كيده، لا يحفر لأخيه قليبا، ولا يكون على عوراته رقيبا.
ومنه قوله:
مواقيت الحمد مقسومة على مواقيت النعم، ولكلّ منهما قسمة منه وإن تفاوتت في أقدار القسم، ولا نعمة أعظم من سعادة المثول بالديوان العزيز الذي يرغب إليه ويرهب، ويقرأ فضله في السماء ويكتب، ويحجب لمهابته عن(12/309)
الأبصار، ويداه عنها لا تحجب؛ والعبد يحمد الله على هذه النعمة حمدا لا يزال جديدا، وليس فوقها غاية في الزيادة حتى يسأل مزيدا، ولو أمن إنكار أمير المؤمنين لخرّ بهذا المقام ساجدا، وهو يسجد له طائعا كما يسجد لله عابدا:
[المتقارب]
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا له فتركنا السّجودا
ولو بصر مخدوم العبد بمكانه لحسده على مواضع رجله، ورأى العلياء وهي شراك لنعله، وقال: يا ليتني فزت بمثل هذا الحظ الذي ليس شيء كمثله، وكيف لا يحسد وقد وقف بموقف يقرب من الجنة ويباعد من النار، ويقمص الواقف به رداء فخر لا يخلق على تطاول الأعمار، ويعطيه أمانا من زمنه حتى يصبح وله على الزمن الخيار، ولا جناح عليه أن ملكته مخيلة الإعجاب، وأن رأى السماء فوقه وهي منال يد في الاقتراب، ولولا أنه بصدد أداء الرسالة التي يحملها لبسط من عنانه، وانتهى إلى غاية ميدانه.
الآن ينهي خدمة مخدومه الذي له في الأولياء نسب كريم، وعرق قديم، يقول الاستحقاق: وأنا به زعيم، ومن أحسن أوصافه أنه لا يمتّ بما عنده من عقيدة في الطاعة ناصعة من الأكدار، راقية كل يوم إلى درجة تحتاج في التي قبلها إلى الاستغفار، ولئن حصل بذلك على مراضي أمير المؤمنين فإنه لا يني فتورا، ولكنه يأخذ بالقول النبوي فيقول: «ألا أكون عبدا شكورا.
وله شعر ذكره ابن العطار «1» ، منه قوله «2» : [الطويل](12/310)
رضيت بما ترضى به لي محبة ... وقدت إليك النفس قود المسلم
ومثلك من كان الفؤاد شفيعه ... يكلمني عنه ولم يتكلم
وقوله: [المنسرح]
لا طرق الداء من بصحبته ... يصح منا الرجاء والأمل «1»
لا عجبا أن نقيكم حذرا ... نحن جفون وأنتم مقل
وقوله: [الطويل]
وساءلتموه بعدكم كيف حاله ... [و] ذلك أمر بين ليس يشكل
فعن قلبه لا تسألوا فهو عندكم ... وأما عن الجسم المخلف فاسألوا
وقوله «2» : [مجزوء الرجز]
ثلاثة تجلو الفرح ... كيس وكوب وقدح
ما ذبح الدنّ بها ... لكن للهمّ ذبح
وقوله: [الطويل]
وأهيف تحكيه الغزالة مقلة ... وجيدا ويحكيها لنا في شماسه
أعار قضيب البان لين انعطافه ... فأهدى إليه حلة من لباسه
وقوله: [البسيط]
لولا الكرام وما سنّوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح
وهذا البيت عكس قول أبي تمام «3» : [من الطويل](12/311)
ولولا خلال سنّها الشّعر مادرت ... بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
12- ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني «1»
باني علا لا تفرع ذروتها، ورامي صفا لا تقرع مروتها؛ أطل على السماء والسماك، وأقل الانهمال في سحب المسرة والانهماك، وأنشأ البدائع وأنشأ الوشائع، وقلد من صنائع الخلفاء أشرف الصنائع، وولي أجل الوظائف بحضرة الخلافة، وكان بالديوان العزيز كاتب الإنشاء، وأستاذ الدار، وحاجب الباب، وبيده كثير من هذه الأسباب، ثم نقم عليه لأمر ما جناه بيديه، فعزل وبقي معزولا، ثم تولّى ومات سمينا وكان مهزولا.
* ومن نثره قوله: لا تنال مناقب الفتوح إلا بمقانب الحتوف؛ وخليق بالأمير أنه ينجد ويمير، والديوان العزيز منتظر لأنجاده، وتعليق سيف المضاء بنجاده.
ومنه قوله: وكم لك من تدبير غدت به سماء الخطوب مصحية، وشموسها بيمن(12/312)
سعيك مضحية، يتشعب الخلل إذا تفاقم وطرا، وتقرع أنف الحوادث إذا طم أو طغى؛ ولا مضيق إلا وبك انفراجه، ولا طريق للثناء إلا عليك انعراجه، فقد تكلفت بمصالح الدولة حتى صرت لها أبا، وكفيت من المهم ما سلم لك الحاسد الفضيلة فيه شاء أم أبى، فلذلك نادى منك أمير المؤمنين يقظا أجاب، ورفع بينه وبينك الحجاب، فانهض بما ناطه بك نهوض من لا يتعاظمه أمر وإن ثقل عبؤه ومحمله، واكفه المهم فيما تستقبله وتتقبله، وسارع إلى كل ما يرسمه لك وتمثله، واسحب على ثرى التفويض إليك أذيال الحلّ والعقد، واقدر قدر هذه النعمة التي أحلتك ذرى فلك المجد.
* ومن شعره قوله: [السريع]
من كانت البغضاء في طبعه ... لم يكفف الإحسان عدوانه
فالماء تطفي النار طبعا وإن ... أطال حرّ النار إسخانه
ومنه قوله: [الكامل]
مشمولة جاء النديم بها ... كالنار يقدحها من القدح
نحيا من الهم المميت بها ... فتميتنا من شدة الفرح
ومنه قوله «1» [الخفيف]
باضطراب الزمان يرتفع الأن ... ذال فيه حتى يعمّ البلاء
وكذا الماء ساكنا فإذا خر ... رك ثارت من قعره الأقذاء
ومنه قوله «2» : [البسيط]
إني لأعظم ما تلقوني جلدا ... إذا توسطت هول الحادث النكد(12/313)
كذلك الشمس لا تزداد قوتها ... إلا إذا حصلت في زبرة الأسد
ومنه قوله «1» : [البسيط]
لا تغبطن وزيرا للملوك وإن ... أناله الدهر منهم فوق رتبته
واعلم بأن له يوما تمور به ال ... أرض الوقور كما مارت بهيبته
هارون وهو أخو موسى الشقيق له ... لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته
ومنه قوله مما كتب إلى المستنجد «2»
: [من البسيط]
يا ماجدا جلّ قدرا أن نهنّئه ... لنا الهناء بظل منك ممدود
الدهر أنت فيوم العيد منك وما ... في العرف أنا نهني العيد بالعيد
13- ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي
«3»(12/314)
* كتب الإنشاء للدولة الخوارزمية، وكبت الأعداء بالصولة العجمية، وكان ذا فصاحة بلّغته شغاف الأرب، وسوّغته نطاف الأدب كالضرب، وفرغته لاقتطاف بدائع العرب؛ وصنف سيرة سنيّة «1» تسمع وقائع سيوفها المشرفية في الرقاب، وتبصر صنائع معروفها وقد مضت عليها الأحقاب، وفاء بعهده لتلك الدولة التي والاها وخدمها، وأولاها ما شرّف بغرره خدمها، فلم يدع مما يبهج حرفا ولا يدع للسان الطيب اللهج عرفا، بعبارة صاغها بلطافة، أعجب من الفريد، وأعجل في القلوب تأثيرا من لواحظ الغيد.
* ومن نثره قوله من كتاب كتبه إلى الديوان العزيز مع رأس طغرل «2» ، وصل بغداد في الرابع والعشرين من ربيع الأول، سنة تسعين وخمسمئة، افتتحه بقوله تعالى هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
«3» قال فيه:
وردت المراسم الشريفة بردع ذلك المارق الخائن، والمنافق الحائن، الذي استمرأ مرعى بغيه، واستعذب آجن غيّه، وأدلج في ليل ضلالته، وخبط في عشواء جهالته، شاربا من آسن الطغيان نهلا وعلّا، غير مراقب في الله ذمة ولا إلّا، مستسهلا للخطر الجسيم، مغترا بحلم الحليم غير مبال بانسلاخه من الدين، وخروجه عن زمرة المسلمين؛ نبذ أمر الله وراء ظهره، ولم يخش أليم عذابه، ولا راقب وبيل عقابه، فراسله الخادم داعيا له إلى الطريق اللاحب، ومشيرا عليه(12/315)
باعتماد الواجب، مهيبا به إلى طاعة الإمام، وعارضا عليه تجديد الإسلام، أو الاستعداد للمصافّ، والرجوع إلى حكم الأسياف، فخيره بين هذين الأمرين، وحكّمه في أحد القسمين، وكلاهما عنده خطة خسف، ومورد حتف؛ فلما أبى إلا إصرارا على خطيئته، وإمرارا لحبل منيته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ
«1» دلف إليه الخادم في كتيبة شهباء من جنود الإمام، مقنعة بالزرد المحبوك، محتفّة بالملائكة، محفوفة بالملوك، يتألق حديدها، وتتذامر أسودها، وتئن كالجبل العظيم، والليل البهيم، ضاربة رواقات العجاج، ممتدة الأطناب في الفجاج، وكأن ظللها ليل ولهاذم الرماح نجوم، ودخان الأسنة نار، والصوارم جحيم؛ وكأن رماحها آجال إلا أن الممنايا في أوائلها، وحديدها نار إلا أن المنايا تجول في مناصلها؛ ولم تزل ترجف وفوقها جيش من النسور والعقبان، ويدأب بين أيديها جيش من السباع والذؤبان، وأرثها شخص المنون وهو عريان، إلى أن وافى ذلك المخذول وقد جمع للّقاء، واستعد في جيش جم تضيق بهم قذف البيداء، قد استلأموا للقتال، واستلموا كعبة الضلال، إلا أن الله صب عليهم الخذلان، لما تراءى الجمعان، وبرز الكفر إلى الإيمان، فتلا الخادم عليهم:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
«2» ولم يكن إلا كنغبة خائف أو لمعة خاطف، حتى انجلت جند الله عنهم وهم كأعجاز نخل خاوية، وأصول ذاوية، لا يعرف لهم قتيل من دبير، ولا يفرق بين مأمور وأمير، وأنفذ الله حكمه في الطاغية، وعجل بروحه إلى الهاوية، وملك الخادم بلادهم، وحاز طريفهم وتلادهم، ونساءهم وأولادهم، وبادر بإنفاذ رسول مبشرا، وأنفذ معه رأسه وطبله وعلمه،(12/316)
ليلعم أن قد كسر وطل دمه، والخادم ينهي أن وراءه بلادا شاسعة، ومدنا واسعة، وهو بعيد الأيام، ولا يمكنه طول المقام.
قلت: وسلك هذا النّسائي مع سلطانه مهمها يعزف الجن في بيدائه، وتضيع الريح في أرجائه، في يوم تتململ أفاعيه في رمضائه، وتسجن وحشه في فضائه، يذوب به حصا الآكام، ويلفح الوجوه أشواظ الضرام، وقد صرّ الجندب، وصكّ وجه الغدير الطحلب، وصح أن الصدى قد قام يبلغ والحرباء تخطب، ولا ورد إلا راكد الشراب، أو مورد كأنه هجر الأحباب، كأنما صب على وجهه الزيت الذائب، أو ذرّ الكبريت للشارب، لا يهنأ برده، ولا يسوغ ورده، فقال له سلطانه: صف ما نحن فيه، فقال على البديهة: [الرجز]
قذفت بالعبّس وجه المهمه ... رميت منه مشبها بمشبه
والشمس قد أذكت ضرام نارها ... لكنه في موقد من أوجه
والقفر خاف لا يبين طرفه ... واضحها للعين كالمشتبه
وجندب الأرض بها مبلغ ... وخاطب الحرباء كالمبتده
والورد لو يشرب عصفور به ... على فسيح غدره لم يروه
مقتّر مقدر مكدر ... تقصر عنه صفة المشبه
فاستحسن أبياته، وأجازه عليها بلدا بعمله.
وسايره وقد لمع برق فائتلق، كأنه غرة في أدهم أو أبلق، أو سلاسل من ذهب وما لها حلق، لا يني غمامه ينهمر انهمارا، ويلد إثر القطار قطارا، وهو يجلو الظلماء بضوء جبينه الشرق، ويمتد من أرجائه ذهب ثم يتحدر من حافاته ورق؛ فأمره أن يقول فيه، فقال: [الرجز]
أنعت برقا في الدجى يأتلق ... كأنه في جلدتيه بلق(12/317)
يجلو الدجى له صباح شرق ... يرفضّ منه وابل مغدودق
كأنه جود المليك المغدق ... أو أنه من كفه متدفق
طورا بدى حما وطورا علق* ومن شعره قوله: [المتقارب]
وإني لفي قيد هذا الزمان ... لكالدّرّ إذ بات حشو الصدف
وإني على الرغم من حسّدي ... لأسلافي الصّيد نعم الخلف
فإن كان أنكر قدري الزمان ... فداهرة صدرت عن خرف
فعن أمم تنجلي عمّتي ... كبدر الدجى بعدما قد خسف
وتأتي المقادير منقادة ... تقول: عفا الله عمّا سلف
14- ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد
«1» .* كتب في ديوان الخلافة، وكبت من برع في المقال خلافه، وكان ذا لسن وبراعة، ورسن ممتد في البراعة؛ وكان من غلاة الشيعة، وولاة مقالات الرفض الشنيعة؛ رأس في الاعتزال، وكيس جدل يتفقأ سمنا بالهزال، على أنه كان(12/318)
يظهر التمذهب للشافعي، وكان أصوليا لا يحبس لسانه بالعي، مع أنه كان بالبيان يسحر، وبالجمان يسخر.
وهو الذي عاب على ابن الأثير الجزري في «المثل السائر» ووضع عليه «الفلك الدائر» كما قدمناه في ترجمة المذكور، وما قصر في المناقشة، ولا عذر في المعاجلة له والمباطشة.
* ومن نثره قوله: وبعد، فقد عرض بالديوان العزيز كتابك أيها الزعيم، وخطابك وأمير المؤمنين عليم، وشرحت ولاءك وذلك حبلك الوثيق، وكذلك إخلاصك القديم، وانتماؤك إلى الباب الأشرف، وهذه عقيدة أخذتها عن سلفك وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
«1» نعم، ولا يلقنها إلا ذو فعل كريم، من ذي سلف كريم،؛ وبرز الأمر الأشرف عن الديوان العزيز بتلقي واردك بالكرامة التي عدّيت بها رتبة كل نظير، وأصبحت وعلى رأسك شربوش وتاج، وأنت صاحب تخت وسرير، وستجاب من ديوان الوزارة المشرفة مفصلا عن فصول كتابك، وحسبك حسبك شرفا تتشرف به من الديوان العزيز، إذ كان هذا من خطابك.
ومنه قوله:
وانتهى أمر الجزري إلى أنه قلع قلع الجزر، وما أغناه ما تكهن أو حزر، وهذا معجل كل مائق، وله مؤجل يأتيه يوم تقوم الخلائق.
ومن نثره قوله في تقليد قاض: وأرفع المناصب وأعلاها، منصب الحكم العزيز، الذي يجتبي الشرع في(12/319)
ندبه، ويجتني السمع ثمرات كل شيء من جنبه، ويعرف به الحلال والحرام، ويتصرف في أوامر ذي الجلال والإكرام، وإن أحق من ألقي زمام أحكامه إليه، من تفرد بما لديه، وفاز بسهم معلى من العلوم، وأخذ من فنونها بنصيب معلوم، دأب نفسه في تحصيل نفائسها، واجتلاء غرائسها؛ فكم من أحاديث نبوية يعرف السقيم فيها من الصحيح، والعدل من رجالها من الجريح، وعلم الرواية على تشعبها، والأسانيد وطرقها، في حالتي تسهلها وتصعبها؛ وكم تفاسير كشف حقائقها، ومشكلات تأويل أظهر تحسين إيضاحه طرائقها، وكم فروع مسائل أصّلها، وأصول فقه حواها وحصّلها.
وكنت أيها القاضي فلان، لك فخر بعلم علمها لا يباهى، وورع لا تماثل فيه ولا تضاهى، وإفادة ينصب الطلبة لاستفادتها، وتشره الأسماع لحسن إيرادها واستعادتها؛ فلذلك أعهد عليك في القضاء بمدينة كذا، وألق من علومك ما يلاقي من أجله ذوو الطلبة للاستفادة، واعلم أنك حصلت على السعادة الدنيوية، فاعمل على الأخروية، فإنها أعلى السعادة، واجر على عادتك [في] التحرز في الأحكام، وامض على سننك في الاحتياط في كل نقض وإبرام، وأرع يراعك كل ما يفتقر أن يرعى، وكل ما يجب أن يمعن فيه النظر عقلا وشرعا؛ ثم والعدول فلتعتبر أحوالهم، وألزمهم بكل ما هو أجمع وأحوى لهم، فبهم تؤخذ الحقوق وتقام الحدود، وهم أمناء الله في أرضه، حيث هم على خلقه شهود، ومن وصايا العلم في تحقيق مسائل الخلاف لك عناية، فها عادة لا تقطع، وعدة لا تستدفع، وهي للمكمل الأدوات، المبرز بجميل الصفات، تذكرة تبدؤك نصائحها، وتتضح لديك مصالحها، فخذها نصب عينيك وتجاه أمرك، وأدم إحضارها في قضاياك ومرورها على فكرك.
* ومن شعره قوله: [الكامل](12/320)
بالله ضع قدميك فوق محاجري ... فلقد قنعت من الوصال بذاكا
وأطل معاتبتي فإن مسامعي ... تهوى حديثك مثل ما أهواكا
لا عانقتك من البرية كلها ... إلا يدي اليمنى وبند قباكا
كلا ولا رشفت رضابك بعدما ... قد ذقته إلا التي تهواكا
ومنه قوله في مليح جعل عارض الجيش، وخلع عليه خلعة خضراء «1» : [مخلع البسيط]
وأهيف كالقضيب قدا ... في خضر أثوابه يميد
قبلته باعتبار معنى ... لأنه عارض جديد
* واتفق له سرى ليلة برقها قد سرى، موهنا كوجيب الفؤاد، وموهما بأن طرفه لم يكتحل برقاد، كأنه فرس معار أشقر، أو نار تشب ضرمة وما خفي منه أكثر، والرباب دون السحاب كخليع من الفتيان يسحب مئزرا، وأمّ رؤوم على الأرض تدهن لمم الثرى، فقال: [الطويل]
أسري وومض البرق يخفق قلبه ... ويذكي له في الليل قدح زناد
ويوهمني أن ليس يكحل عينه ... رقاد، بلى قد كحلت برقاد
ودون الغوادي للرباب جلاجل ... تزور وهادا من عليّ نجاد
تزور بمبتل الحيا هامد الثرى ... وترشف ثغر النور ريق غواد
ثم لما أبهم عليه الأمر وأشكل، ولم ينخ راحلته فيعقلها ويتوكل، وقد سرى في ليل يخفي ظلامه قصد السبيل، ويملأ هوله صدر الذليل، ويفترس غوله خلب الغرير فكيف الدليل، تململ وتضجر، وقال لم يتصبر: [السريع](12/321)
ما لي ولليل وظلمائه ... ومهمه يحار فيه الدليل
كأنني في لجة غارق ... يا قوم قولوا لي كيف السبيل؟
ومن شعره أيضا مما أنشدنيه شيخنا أبو الثناء الحلبي «1» ، قوله: [البسيط]
أفدى الذي زارني والخوف يقلقه ... يمشي ويكمن في العطفات والطرق
قبلت أطراف كفيه على ثقة ... بالأمن منه وخديه على فرق
فكان في أخريات السكر مضطربا ... إذا أراد انتظام اللفظ لم يطق
لله ما أحسن الصهباء منعمة ... علي إذ علمته طيبة الخلق
أهدت إليه سرورا نلت معظمه ... كالفعل ينصب مفعولين في نسق
وقوله: [الكامل]
أعدى البياض إلى مجاوره ... ما ذاك إلا أنه مرض
هلا تيسر للسواد كذا ... وكلاهما في حكمنا عرض
وقوله: [الكامل]
يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لا يزال مريبا
هب ياسمين الشعر عاد بنفسجا ... أيعود عرجون القوام قضيبا
وقوله على الجادة في تفضيل السيف على القلم: [الطويل]
وما تدرك الأقلام شأو مهند ... يضيء إذا ما قام بين الكواكب
وأنّى لها وهي التي في طروسها ... تخر على الأذقان سود الذوائب
وكم بين من يبكي إذا ما انتدبته ... لأمر وبين الضاحك المتلاعب(12/322)
وقوله في عكسه على طريقة ابن الرومي في المغايرة: [الطويل]
وما تطرق الأقلام في الطرس ذلة ... ولكنها حيات رمل قواتل
ومن أين يلقى السيف بعض فعالها ... وآثارها من غير جرح عوامل
إذا كان بين المرء والسيف حائل ... فليس عن الأقلام والمرء حائل
وقوله مما كتب به إلى بعض أصحابه وقد فصد: [البسيط]
يد تسيل المعاني بين أسطرها ... ما عودت غر مس الطرس والكاس
تجري دماء الأعادي وهي سالمة ... أنّى جرى دمها من مبضع الآسي
سهّلت يا وارث العليا المقام له ... أم كان فاصدها من أشجع الناس
كأنما شق منها رأس مبضعه ... بحرا من الجود أو طودا من الباس
وإذ ذكرناه فلننبه على ذكر أخيه:
15- موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي
«1» * وكان باقعة في الاعتزال «2» ، ومعقلا للاختزال، دويهيّة تصفرّ منها(12/323)
الأنامل «1» ، وتزور مقل السيوف والعوامل.
وقفت من نثره على قوله:
ولي بيان في وصف مجده لا يكلّ، ولسان في ذكر مناقبه لا يذل، وسهمي لا يخطئ غرضه، وفعلى لا يردي إلا معترضه، إلا أنني لو واصلت الأمداد، وزاحمت الأطواد، وأرسلت السحب، وراسلت الشهب، لما وفيت حقه المتعين، ولا قلت إلا الحق البين.
ومن شعره قوله «2» : [البسيط]
يصحّني حبّه [طورا] وينكسني ... فكم أصح من البلوى وانتكس
وقوله «3» : [الكامل]
يا هاجري لما رأي شغفي به ... ما كان حق متيم أن يهجرا
إن الذي خلق الغرام هو الذي ... خلق السلو فلا يغرك ما ترى
وقوله «4» : [البسيط]
أبدت من الشّعر في تشبيه وجنتها ... لما أحاط بها سطر من الشّعر
كالظل في النور أو كالشمس عارضها ... خط من الغيم أو كالمحو في القمر(12/324)
وقوله فيما أنشدنيه شيخنا أبو الحسن الكندي «1» «2» : [الخفيف]
قد بدا ما تسر فيما تقول ... إنما أنت عاشق لا عذول
رابني منك في ملامك تكثي ... ر لصبري ببعضه تقليل
وحديث ملجلج فيه للقل ... ب على السّر آية ودليل
يا رعى الله شادنا أمست الأض ... داد فيه للحين وهي شكول
قسم البدر بيننا فله النو ... ر وعندي محاقه والذّبول
إنما أنت مهجتي واتخاذي ... بدلا عن حشاشتي مستحيل
ومنها:
ثروتي فوق همتي ومرامي ... فوق طولي وساعدي مغلول
«3» وقد رواها شيخنا أبو الثناء الحلبي لأخيه الموفق «4» ، وكلاهما ثبت، ولعل الكندي أدرى بطرق الرواية.
16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني
«5» .(12/325)
كتب للناصر داود بن عيسى «1» ، ووزر وجلس معه في صدر الإيوان والطرد، ونشأ وتأدب بالشام، وأومضت له بارقة كانت تشام، ثم صرف عن وزارة الناصر عنانه، ونفض منها بنانه، لأمور نقمها، وشرور خاف نقمها، وكان يحذر سوء خلائق مالكه، وتوعر طرائق مسالكه، فطالما أظلم جوّه، وأعتم دوّه، فتسلل منه بمخيلة ذبت في السراء، ودلت على الضراء، فخاف مساورة ذلك الأرقم، وترك مساقاة الشهد به خوفا من العلقم، وكان طود حجا وحجاج، وطوق جيد وحجاج، زينة إلى فصاحة شب على إرضاعها، وسماحة تولّى حفظ مضاعها، وبلاغة كانت حلية لنظامه، وحلة لإحلاله في الصدور وإعظامه؛ ووزر جدي رحمه الله بعده، ثم عاف تلك الدولة ففارقها في ليلة قمراء مسودة، لأمور ما هذا ميقات شرحها، ولا مرقاة صرحها؛ فأما ما لابن بصاقة:
* فمن نثره قوله:
وأما الأبيات الجيمية، الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام، بعيدة المرام، مقدمة على شعر من تقدمها في الجاهلية وعاصرها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول، إلا أن تلك خرقاء وهذه صناع، فإذا اعتبرت ألفاظها كانت درّا منظوما، وإذا اختبرت معانيها كانت رحيقا مختوما، جلّت بعلوها عن المغاني المطروقة، والمعاني المسروقة، ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة، فلو وجدها ابن المعتز(12/326)
لأجرى زورقه الفضة في نهرها، وألقى حمولته العنبر في بحرها «1» ، وألقى تشبيهاته «2» بأسرها في أسرها، ولو لقيها ابن حمدان لاغتم فرمى قوس الغمام، وانبرى زي السهام، وتغطى من أذيال الغلائل المصبغة بذيل الظلام «3» ، ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة، وكرته خاسرة، وأيقن أن وحوشه غير مكسورة، وعقبانه غير كاسرة؛ فأين الجزع الذي لم يثقب من الدرّ الذي قد ينظم ويهذب «4» ؟ وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي؟ فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة، وتشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة.
وأما الأبيات فهي هذه «5» : [الكامل]
يا ليلة قطّعت عمر ظلامها ... بمدامة صفراء ذات تأجج
بالساحل الباقي روائح نشره ... عن روضه المتضوع المتأرج
واليم زاه قد هدا تياره ... من بعد طول تقلّق وتموج(12/327)
طورا يدغدغه الشمال وتارة ... يكرى فتوقظه بنات الخزرج
«1»
والبدر قد ألقى سنا أنواره ... في لجه المتجعد المتدبج
فكأنه إذ قدّ صفحة متنه ... بشعاعه المتوقّد المتوهّج
نهر تكون من نضار مائع ... يجري على أرض من الفيروزج
قالها الملك الناصر داود، وبعث بها إليه يعرضها عليه؛ وهي أبيات يحق لها أن توصف بجودتها وشرف قائلها، وإن لم تحل الذروة، ولا أو شكت؛ ثم نعود إلى تتمة ما نذكره:
فمن قوله:
يقبل الأرض، وينهي أنه فارق مالك رقه مرارا، وما وجد لفراقه من الألم ما وجده هذه المرة، وبعد عن جالب رزقه، فانضرّ ولا مثل هذه المضرة، حتى لقد توهم أنها فرقة الأبد، وداخله من الأسف ما لم يبق معه صبر ولا جلد، وكلما شرع في الصبر أبى الذكر أن يحدث له صبرا، وكلما سهل عليه الأمر لم يزده تسهيله إلا عسرا؛ والله تعالى يسهل من اللقاء كل صعب عسير، ويجمع شمل المملوك بمالكه وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
ومنه قوله:
المملوك يشافه أرض مالكه بقبول خضوعه، ويبل ترابها بوابل دموعه، ويستقل فيضها ولو أنه من سيل نجيعه، لما ناله من الحادث المؤلم الملم، والخطب المظلم المدلهم، بانتقال الولد العزيز، الملك العزيز؛ فلقد ورد المملوك من الكتاب الوارد بنعيه مشرعا كدر الموارد، عسر المصادر «2» ، وحضر منه مجمعا كثير(12/328)
البوادي والحواضر، فياله ناعيا أصم الأسماع وأصماها، وأقذى العيون بل أعماها، وجرح القلوب فأدماها، وما أهمل سحب الجفون لكن أهملها وأهماها، وتبّا له من نغيص نغص الدنيا على أربابها، وإن كانت معشوقة محبوبة، وكره الحياة عند أصحابها مع أنها شهية مطلوبة، وكان الأولى بالمملوك أن يصرف عن ذكر الحادثة صفحا، ولا ينكأ بتجديده بالقرح قرحا، ولا يقصد لباب الجزع بعد انغلاقه فتحا، ولا يطلع التعزية ليلا وقد طلعت التسلية صبحا.
ومنه قوله:
وينهي ورود المثال الكريم، فوقف منه على اللفظ البليغ والمعنى البديع، وعلم عند تدبره أنه فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«1» ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
«2» وتصور أن كاتبه قد جاوز البحر فأتحفه بجواهره، بل جاور الملك فأسعفه بعساكره؛ وصدق تصوره كون ألفاظه جواهر وكنانة كتائب، وعجبت لخروج الدر من العذب حتى تذكرت أن عادة البحر العجائب؛ وأما ما أمر به من النيابة عنه في خدمة مولانا الوزير، فقد ناب عنها لكن مناب تراب التيمم عن الماء الطهور، وأنهى مشافهاته، وأدى من جملها في الساعة الواحدة ما لا يفصل في عدة من الشهور؛ وأما أحوال المملوك، فإنه من صدقات الديوان ما يعدم سوى النظر إلى طلعة مولانا التي هي عديمة النظير، ولا يشتهي غير الفوز بخدمته، وذلك هو الفوز الكبير؛ وكل هذا برفع محل مولانا لمحلي، ولأجله لا لأجلي: [الطويل]
أضمّ قضيب البان من أجل قدها ... والثم ثغر الكاس أحسبه فاها(12/329)
إلا أن المملوك قد أطال الإقامة في دار المقامة، ونال الكرامة حتى يكاد يسأم الكرامة، وله أسوة بالقائل وقد طالت حياته: سئمت تكاليف الحياة «1» ؛ وإذا أغرقت المياه وإن كانت عذبة شكيت المياه.
ومنه قوله: وينهي ورود المثال الكريم، بالنبإ العظيم الذي أصمى القلوب، وأصم المسامع، وأوقف الخواطر، وأجرى المدامع، وضيق على النفوس مجرى الصبر الواسع، وفزعت الآمال فيه إلى الكذب، فما أجدى جزع الجازع من نعي الإمام الطاهر النقي، العلم الزاهر الزكي، خليفة الله المستنصر بالله، بوأه الله جنان عدنه، وأسكنه غرفات أمنه، وانتقاله عن الغمة الضيقة إلى الرحمة الواسعة، ومصيره من الدار المفرقة إلى الدار الجامعة؛ فأظلم بها الأفق لكسوف شمس الضياء، ودجا ليل الجو لخسوف قمر العلياء، وضحيت وجوه المكارم لتقلص تلك الأفياء، وكادت تنفطر لفقده السماء ذات البروج بقضاء نحبها، وبكته بدموع قطرها من جفون سحبها، حتى خدت خدود المروج، وشقت للأرض جيوب تربها فألبسها حدادا من بياض الثلوج، فياله خطبا عم الوجود باسره بأسره، وحص جناح الإيمان بحصه بل بكسره، وعرف كل عارف بفظاعة نكره، وقضى لكل قلب بتجمع همه وتقسم فكره، وأعاد الإسلام غريبا كما بدأ أول عمره؛ لكن أقرن به الخبر الذي سر السرائر وجلّى الدياجر، وثبت القلوب بعد أن بلغت الحناجر، بولاية مولانا الإمام المحتوم الطاعة، خليفة الله في أرضه، والقائم بسنة الإيمان وفرضه، أمير المؤمنين المستعصم بالله ابن خليفته ووليه، وابن عم رسوله ونبيه، فأجلت بوائق الحادث الجلل، وقضت بانقباض الوجل، وانبساط الأجل،(12/330)
وحصل العطف والتوكيد بهذا النعت وهذا البدل، فالحمد لله الذي تدارك بالجبر كسر الإسلام، وحسم بالبرء موادّ الآلام، وأزال باليقين عوارض الأوهام، وعاجل بالرتق فتق الأيام؛ فيالها دعوة أجاب داعيها كل مبصر وسامع، وأمّن عليها كل ساجد وراكع، وتليت آياتها في كل مصر جامع، وتلقّى العبد هذه النعمة بالشكر الذي استغرق غاية جهده ونهاية وسعه، وأكثر الحمد لله على ما أولى من جزيل منّه وجميل صنعه، وسارع إلى تلقي المثال الكريم باتباعه وامتثاله، وأخذ البيعة على نفسه وشيعته ورعيته، وأعلن بالدعاء لإمامه، على منابر بلاده، التي هي من إنعامه، ولولا أنه في مقابلة عدو الدين لما قنع في تأدية فرض العين بسنة النيابة، وكان يسعى إلى الباب الكريم بعزيمة وارية غير وانية، ويشفع هجرته الأولى إلى الحرم الشريف بهجرة ثانية.
ومنه قوله في توقيع لقاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي العثماني «1»
:
ونحا سيرة أجداده فما عدل عنها ولا حاد، وفضل بالفضائل فما عد غيره في الجم الغفير إلا كان معدودا في الأفراد والآحاد، فإذا تولى أمرا بلغ فيه أقصى الأمل والإرادة، وإذا باشر مهما استقصى الغرض فلم يبق موضعا للزيادة؛ فرأينا أن ننوله من رتب السعادة ما رأيناه له أهلا، وأن نؤتيه منا فضلا، وأن ننصبه بين أهل بلده حاكما، وننضيه لحسم مواد المخاصمات صارما، ونحمله من أعباء المناصب ما يكون بحقوقه قائما، ويرتضى منه لتدبير عوالي المراتب طبا خبيرا، وإماما عالما.(12/331)
ومن قوله في خطبة صداق المراجعة:
رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً
«1»
الحمد لله جامع الشمل بعد الشتات، وواصل الحبل بعد البتات، ومحيي الأرض بعد الممات، ومنزل الماء الثجاج من المعصرات لإخراج الحب والنبات، والعالم بما كان وما يكون وما مضى وما هو آت؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تضاعف الحسنات، وتمحو السيئات؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وأزواجه الطاهرات، صلاة باقية بعد نفاد الأزمنة وفناء الأوقات؛ وبعد:
فالنكاح من السنن التي أمر الله بها، وندب إليها، ورغّب رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وحض عليها، فقال تعالى في كتابه العزيز المنزل على أفضل أنبيائه ورسله، الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله:
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المخصوص بالشفاعة والكرامة «3» : «تناكحوا تناسلوا أباهي بكم الأمم يوم القيامة» وقد جعل الله تعالى للزوجين أن يتواصلا وأن يتقاطعا، وأن يتباينا وأن يتخالعا، ورخص لهما في المراجعة بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا
«4» وكان من قضاء الله السابق علمه، وقدره المارق سهمه، ما ذكر في هذا الكتاب المقرون(12/332)
بالبركة رقمه، المعجون بالسعادة ختمه، كذا وكذا.
ومنه قوله، وهو حل بيت المتنبي، وهو «1» : [الكامل]
إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه
قتيل «2» الجفون الفواتر في سبيل حبه، كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه، إلا أن هذا يغسل بدموعه، وهذا يزمل بنجيعه، وهذا في حال حياته ميت يرمق، وهذا في حال مماته حي يرزق.
ومنه قوله في حل» أبيات ابن الرومي «4» : [الكامل]
وحديثها السحر الحلال لوانه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ودّ المحدث أنها لم توجز
شرك العقول وفتنة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز
لا جناح على من شغف بفاترة الجفون، فاتكة العيون، عليل لحظها، صحيح لفظها، تعد السقام الشفاء من قربها، وتوقع الأنام في شرك من هدبها؛ وإن أثبتت طعنت من ناضر غصن رطيب بعامل ذابل، وإن رمقت رشقت عن قوس حاجب بنبل نابل، وإن نطقت فاستمع لما أنزل على الملكين ببابل، فهو السحر الحلال، مع قتله النفوس عمدا؛ والعذب الزلال؛ إلا أنه أن يزيد المرتشف له وقدا، والعاقل للعقول فلا تجد من وقوعها في عقاله بدّا، يؤمن على طويلة الملك، وكل طويل سواه مملوك، ويود سامع قليله لو أنه بالكثرة متصف، وبالزيادة(12/333)
مشمول، يلهي المشتغل عن قضاء أشغاله، ويعوق عن مضي استعجاله بنزه النواظر في رياض حسنها الناظرة، وتغرق الخواطر في بحار ذهنها الزاخرة، تقيد الألباب ولو أساءت، وعهدنا الإنسان بالإحسان يتقيد، وتصيد القلوب طوعا وكرها، فاعجبوا من غزالة تتصيد.
* ومن شعره قوله «1» : [مخلع البسيط]
يقول لي ما دحوه لما ... فازوا وما فزت بالرغائب
مالك فينا بغير عين؟ ... قلت: لأني بغير حاجب
فإن تعجبتم لكوني ... وردت بحرا عذب المشارب
ولم أنل من نداه ريّي ... فالبحر من شأنه العجائب
ومنه قوله «2» : [السريع]
غبت عن القدس فأوحشته ... لما غدا باسمك مأنوسا
وكيف لا يلحقه وحشة ... وأنت روح القدس يا عيسى
ومنه قوله في الصّوم: [الطويل]
وما خاتم طول النهار لباسه ... وعند دخول الليل ينضى ويخلع
وأعجب شيء أن يسموه خاتما ... وما دخلت فيه مدى الدهر إصبع
ومنه قوله في قصب السكر: [الكامل]
جعلت فداك هل لك في حبيب ... مجيب في الوصال بلا محال
نقي الثغر معسول الثنايا ... له ريق ألذ من الزلازل(12/334)
يقام عليه حد القطع ظلما ... ولم يسرق ولم يتهم بمال
ويعصر كعبه من غير ذنب ... فيبدي الشكر من كرم الخلال
ومنه قوله في السيف «1» : [الطويل]
وأبيض وضاح الجبين صحبته ... فأحسن حتى ما أقوم بشكره
شددت يدي منه على قائم بما ... أكلفه يلقى الأعادي بصدره
إذا نابني خطب شديد ندبته ... فيهتز منه مستقلّ بأمره
صبور على الشكوى فلو دست خده ... على حدة فيه وثقت بصبره
«2»
ومنه قوله في الرمح «3» : [الطويل]
عصيّ ثقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكلّ حين يقصّر
ترى منه أمّيّا إلى الخط ينتمي ... ومغرى بغزو الروم وهو مزنّر
عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور
ومن طاعن في السن ليس بمنحن ... ومن أرعن مذعاش وهو موقر
ومنه قوله في الإبرة: [الطويل]
ومسمومة بالضد من أخواتها ... إذا زال عنها سمها ليس تنفع
إذا لدغت لم يدخل القلب إبرة ... لخوف وإن كانت تمض وتوجع
ترى خلفها مهما تمشت ذؤابة ... تجر وإن الرأس منها لأقرع
تحلت بضيق العين وهي سخية ... لها خلع بين الأنام توزع
وإن أجل الناس قدرا وقدرة ... ليلبس ما تنضوه عنها وتخلع(12/335)
ومنه قوله في صاغرة الإراقة: [المنسرح]
يا سيدا لم تزل أوامره ... فرضا على العبد فهو ممتثل
هل لك عند الماء في أمة ... بيضاء حمراء ما بها خجل
إن تدنها تأت وهي صاغرة ... أو تقصها لا يغيظها الملل
تنكحها كلما أردت ولا ... يضجرها منك ذلك العمل
تحبل في ليلها فإن تركت ... إلى غد زال ذلك الحبل
وهي إذا فتّشت فلا دبر ... يولج فيه لها ولا قبل
ومنه قوله «1» : [المتقارب]
وعلق تعلقته بعد ما ... غدا وهو من سقطات المتاع
فغرقني منه نوء البطين ... ورواه مني نوء الذراع
ومنه قوله في المحفة «2» : [الطويل]
وحاملة محمولة غير أنها ... إذا حملت ألقت سريعا جنينها
منعمة لم ترض خدمة نفسها ... فغلمانها من حولها يخدمونها
لها جسد ما بين روحين يغتدي ... ولولاهما كان الترهب دينها
فقد شبهت بالعرش في أن تحتها ... ثمانية من فوقها يحملونها
ومنه قوله في الإبرة «3» : [الطويل]
وعارية لا تشتكي البرد في الشتا ... على أنها منهوكة الجسم بالبرد(12/336)
إذا زال عنها سمها زال نفعها ... وكان دواء السم في ذاك بالضد
ومنه قوله في الميل: [الطويل]
ومعتدل في شكله وقوامه ... وليس له مثل وإن كان كالغصن
يسن وإن لم يرهف السن حده ... على أنه كالسيف سل من الجفن
ومنه قوله في المشط «1» : [الطويل]
بعض بأسنان وليس له فم ... ويثغر أحيانا وليس بذي ثغر
رأى الزهد رأيا فاغتدى متجللا ... على جسمه العاري بمسح من الشعر
17- ومنهم ولده «2» ، وهو محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، أبو عبد الله
«3» * فطرة ذكاء غذي بلبانها، وغدا في ورق الشباب يهتز اهتزاز قضبان بانها؛ طلب العلياء والشبيبة ممدودة الطراف، والحبيبة غضة الأطراف، وكان دأبه في أدب يوشيه، لطرب ينشيه، بفكر ينديه، لبكر يهديه، فأهداها خفرات، وأبداها مسفرات، من غرز وسام ودرر لا تسام، نثرها نثر الجمان، ونظمها قلائد في جيد(12/337)
الزمان، فقدحت الأنوار، وفتحت بين نرجس المجرة أعين النوار، فطابت بها الأيام بكر وأصائل، وطالت بسحبها الأيام غدر وخمائل، وكان مخالفا لمذهب أبيه في التيه الذي مقت لأجله، ووقت ميقات الحب لنجله.
ذكره أبو العباس ابن العطار، وقال: ولد بالموصل في رمضان، سنة خمس وثمانين وخمسمئة. وله كتاب «غرة الصباح في أوصاف الاصطباح» وكتاب «الأنوار في نعت الفواكه والثمار» «1»
وله نثر رائق، ونظم فائق.
* ومن نثره قوله:
بين المشوق وبين الحمام مناسبة في شجو تعبيره لا في شجو ضميره، فهو يعلن نحيبه تألما، وهي تعلن بعتابها ترنما، وفرق بين الأشجان الملهبة الأضالع، والألحان المطربة للمسامع، وقد زعم قوم أنها تذكر عهدا، وتجدد وجدا، وهذا شأن من كانت عهوده منسية الأيام، ومن لم يكن له من وجده حمامة لم يهتج لتغريد الحمام، ولست براض أن أرعى للإخوان عهدا يفتقر إلى تذكار، وأضمر لهم وجدا يحتاج إلى تجديد آثار، وأشواقي إليهم على النوى بين الأشواق التي تذهب بجلد الجلد، وتوري زناد الصبابة تحت الحشا الصلد، وإذا صافحت برد الموارد، وجدت حر الغليل في ذلك البرد، وإن زاد غيرها بحديث سعد، وكذلك هي في ارتياحها إليه والتياحها عليه.
ومنه قوله يصف سحابة:
خفقت بها بنود الرعود، وأطردت فيها خيول السيول؛ فالسحاب بها بين سائر ونازل، وواضع وحامل.(12/338)
ومنه قوله:
ولقد وافيتها في زمن المشمش الذي له المثل السائر والذكر الدائر، فرأيت منظر أبهاء، ومخبر اشتهاء، ذا لون ذهبي وشكل كوكبي، وعرف مندلي، وطعم عسلي، فهو يتمزق للطافة جلده، ويزهي بلذة طعمه، وعظم قدّه.
ومنه قوله:
وصل الورد على يد مشبهه عرفا، ومخجله وصفا؛ وما أقول إلا أني جرت في التشبيه، فعدت على خاطري بالتنبيه، وقلت: أين الورد الذي تناله الأيدي بتناولها، وتبذله بتداولها، من ورد لا يجنى إلا بالعيون، ولا ينال إلا بالظنون؟.
ومنه قوله:
كأنما خلقت أغصانها منابر لخطباء الغرام، وصوّرت أوراقها محاجر لدموع الغمام، وخرطت أزهارها مجامر للمندل الرطب، وقدر أقحوانها فما لمؤشر الثغر العذب، والطير «1» ما بين متطلع من وكنه، وقائم على غصنه، من كل مفوّف الطيلسان، ذا طوق يزهى به على طوق العقبان، يترنم خلال أوراق الغصون، فيلتقي شأن المتيم بين الشؤون: [الطويل]
يصلن بنوحي نوحهن وإنما ... بكيت بشجوي لا بشجو الحمائم
ومنه قوله في البنفسج والورد:
أنا حبيب النفوس، وتاج الرءوس، والعطر الموضوع في الجيوب، واللون الذي يشبه عذار المحبوب، ولئن ذممت بأن لباسي لباس السواد، فإن هذا من شيم أهل(12/339)
الوداد؛ فأقبل الورد في عسكره وجنوده، خافقة ألسنة عذباته وبنوده، محمر الوجنات من الغضب، منكرا على البنفسج ما جناه من سوء الأدب، فجال في ميدان المفاخرة وصال، وهتف بالبنفسج وقال: [الكامل]
أعلي يفتخر البنفسج جاهلا ... وإلي يعزى كل فضل ينهر
وأنا المحبب في القلوب زمانه ... وبمقدمي أهل المسرة تفخر
كيف أطعت هوى نفسك الأمارة، حتى افتخرت بحضرة الأمارة؟ ألست صاحب الاسم المعجم، والرداء الذي ليس يعلم؟ بينا ترى ناضرا، ويرى الطرف عنك نافرا، تهلك من الفخر، إلا أن تشبه بالعذار إذا بقل، والكبريت إذا اشتعل، ولم تحظ من هذين الوصفين إلا بالصيت المذموم، لأن هذا إحراق النار، وهذا تسويد الخد الملثوم، على أن بعض البلغاء قد أنكر تشبيهك بالعذار، ونزع عنك ضعة هذا الثوب المعار، فقال: [الكامل]
ومهفهف لما بدا في خده ... شبه البنفسج وانطفا توريده
غم البنفسج حين شوه خلقه ... وغدا على مبيضه تسويده
لكن أنا مرتقب الأيام، ومنتظر الأعوام، وأيامي أيام الأفراح، ومراوح الأرواح، لا يشرق الربيع إلا بورودي، ولا تشبه خدود الغيد إلا بخدودي.
ومنه قوله:
وبينما الغمامة تطلق لسانها، وتذكر إحسانها، إذ عارضتها الشمس، فخرجت من أثوابها، وقالت هذه منة على الأرض، أنا أولى بها، وأنا معجزة الجبار، وعروس الفلك الدوار، ومربية الأزهار والثمار، ومصلحة ما أفسده تابع الأمطار؛ على أن للمطر يدا لا تنسى، وطبّا به جراح الرق يوسى؛ فإنه مخرج الأرض من موتها إلى نشورها، وموقد فيها مصابيح نورها، تزف إلى عرائس(12/340)
الرياض وافي مهورها، ويظهر ما في بطون الأرض من الكنوز إلى ظهورها، قام بنسج أبرادها، ورد أرواحها إلى أجسادها، فهي المقدمة تهيج، وتهتز وتنبت من كل زوج بهيج.
* وأما نظمه، فلم أقف له منه على قصيدة مطولة فأذكرها متما ولا مختارا، إلا بائية مختصرة ستأتي؛ ومن مقطعاته قوله: [الرمل]
لمع البرق فهاجت لوعة ... لفؤاد بالتجني متعب
فتخال الجو من لمعته ... حبشيا في رداء مذهب
وهذا معنى مطروق، يشبه الليل بالحبشي، ولكن حسنته هذه التتمة التي جاءبها، ولا شيء أحسن من ردائه المذهب هنا؛ وإن نظر قول المعري، حسب الليل زنجيا جريحا.
وله: [الكامل]
في روضة سلت بها أنهارها ... من كل ماضي الشفرتين مهند
قد صيغ فيها فضة بيد الضحى ... وأتى الأصيل فصاغه من عسجد
وله: [الطويل]
ولم يطلع البدر السماء لأنه ... رأى بيننا بدرا له يخجل البدر
تغنى وأسباب السرور تمده ... وفي لفظه درّ وألحاظه سحر
وله: [الرجز]
أما ترى الليمون يب ... دو في خلال الورق
بظاهر من ذهب ... وباطن من ورق
تحوطه غلائل ... من أخضر إستبرق(12/341)
إذا دنا الليل لنا ... جلا ظلام الغسق
وله في المشمش: [السريع]
والمشمش الغض الجني بدا ... بين الغصون كأنجم السحر
إن رمت أن أجنيه يشغلني ... طيب المشمّ ورونق النظر
«1»
سبحان خالقه وجاعله ... نزه العيون وعسجد الثمر
وهذه الكلمة حسنة لولا كاف التشبيه في «أنجم» فإنها قذى في عين هذه العروس، ودعامة ملحقة في هذا البيت.
وأما قوله: وعسجد الثمر، فمطرب؛ وكذلك كلمة العماد «2» نثرا، وهي قوله: كأنما خرط من الصندل، أو خلط بالمندل.
عدنا إلى ابن الضياء الجزري.
وله: [الوافر]
وكمثرى حبوت به الندامى ... تزيل تقطب الوجه العبوس
كأكواب صغار من زجاج ... وقد ملئت بصفرة خندريس
وله: [السريع]
قد أسفر الصبح لنا عن نقاب ... ورقت الكأس وراق الشراب
فقم بنا نشرب من قهوة ... يلمع للشرب كلمع السراب
«3»
من قبل أن تلقط شمس الضحى ... من أعين النرجس ورد السحاب(12/342)
أما ترى الخمر وإيماضها ... كالسيف والكأس لها كالقراب
فهزّها في كأسها هزة ... تجن بها أثمار شرخ الشباب
وقوله: [الرجز]
وروضة طليقة حباء ... غناءة مخضرة جنابا
«1»
ينجاب عن نورها كمام ... ينحط عن وجهه نقابا
بات بها مبسم الأقاحي ... يرشف من طلها رضابا
وله: [السريع]
السحب تبكي والثرى ضاحك ... بكاء صب ملّ من جفوته
والزهر قد فتح أزراره ... كأنه استيقظ من رقدته
وله: [الكامل]
هب النسيم على الغصون فخلتها ... مثل الأحبة ساعة التوديع
وبكيت من وجدي وفرط صبابتي ... حتى سقيت أصولها بدموعي
وله: [الرجز]
والشمس خلف الغيم كال ... حسناء خلف المعجر
تبكي إذا ما احتجبت ... من شدة التحسر
لها النعامى نفس ... والدمع ماء المطر
تسفر أحيانا لكي ... تحظى ببعض النظر
كأنما تنثر في ال ... أرض نجوم السحر
أو ذهب منتثر ... على بساط أخضر(12/343)
وله: [الكامل]
نثر النسيم الطل من أغصانه ... والروض بين مذهب ومفضض
فتخاله فوق الغدير وقد طفا ... حببا يدور على شراب أبيض
وله: [الكامل]
والروض ساه باسم مستعبر ... خضل بطلّ سمائه مطلول
والفصل معتدل فيا عجبا له ... كيف النسيم يمرّ وهو عليل
وله: [السريع]
في روضة تطرب أغصانها ... سجع طيور في ذراها فصاح
قد فتح الزّخّر أحداقه ... [و] قبل الطل ثغور الأقاح
وتحسب الأنهار في جريها ... قد حمت الزهر ببيض الصفاح
ودغدغ الغيث بطون الثرى ... فابتسمت فيه ثغور الأقاح
وكلما غنت هزاراتها ... شقت جيوب النور هوج الرياح
وله: [الرجز]
إني رأيت بالأراك هتّفا ... تزعم أن عندها ما عندي
تبكي بلا دمع وأبكي بدم ... شتان بين وجدها ووجدي
وله: [الوافر]
تغني يا حمامة فوق غصن ... ثنت أعطافه ريح الشمال
فإنك كلما غردت صوتا ... أميل من اليمين إلى الشمال
وله: [مجزوء الكامل]
زهر البهار بلونه ... يزهو على شمس النهار(12/344)
بهر العيون بحسنه ... فلذاك سمي بالبهار
وله: [السريع]
أما ترى نرجسنا قائما ... وهو لنا في ليلنا حارسا
قد فتح الأحداق مستيقظا ... فظل يخشى أن يرى ناعسا
حتى إذا قبّلت من اشتهي ... تراه من فطنته ناكسا
وله: [المنسرح]
والماء بين الرياض تحسبه ... قد جرد البيض وهو يحميها
وكلما غنت الطيور بها ... تراقص الزهر في نواحيها
وله «1» : [مخلج البسيط]
للروض عند الصباح طيب ... نمت إلينا به الجنوب
واستمتع الطرف من كراه ... فملّت المضجع الجنوب
والطير فوق الغصون يدعو ... طاب لكم وقتكم فطيبوا
والكأس في كف ذي قوام ... يخجل من لينه القضيب
لولا لباس يقيه طرفي ... لكاد من لحظه يذوب
ما سعد الوالدان فيه ... إلا لتشقى به القلوب
راح إذا الراح أبرزتها ... صبا إلى شربها اللبيب
لها إذا الماء جال فيها ... في قعر كاساتها وثوب
إذا سرت في عروق شخص ... هانت على قلبه الخطوب
وقائل: تب، فقلت: كلا ... هيهات عن شربها أتوب(12/345)
إذا استقام الأنام طرا ... قل لي: لمن تغفر الذنوب
«1» وله «2» : [الخفيف]
فهي شمس لكن بغير مغيب ... ولهيب لكن بغير انطفاء
18- ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين «3» .
وهو من أهل حماة؛ ووقفت له على بديع رقم بغرائب النوار حماه، بيانا كالجوهر المعدود، وإحسانا كلّ سمع به معقود؛ كأنه شخص الحبيب بدا لعين محبه، أو طيف الخيال وأدني في قربه؛ وسمعت له كلما كلّما قرأتها استجدتها، وفقرا لقرى المسامع، مهما قدمت لك استزدتها.
* فمن نثره قوله:
وسار في فرسان كالأسود، إلا أن براثنها السلاح، وجنود كالطيور، إلا أنها تسبق الرياح، حتى أتى فلانة، ورتب عليها نوب اليزك «4» ، للمخايلة لا للمخاتلة، وانتظر أن يخرج إليه صاحبها متضرعا، أو يقصد إليه متخضعا، لأنه إنما قصده غضبا لله، لما انتهكه من محارمه، وأقامه لما رأى العدل الذي شرع في هدم معالمه؛ وشفقة على خلق الله الذين بسط عليهم منذ وليهم أيدي مظالمه؛ فلما أبى إلا الطغيان، والتمادي في مهالك العصيان، واغتر بأصحابه الذين هم معه بأجسامهم وعليه بقلوبهم، ووثق برعاياه الذين كانوا أوقعوا معه بذنوبهم،(12/346)
فلصق الجيش المنصور بالسور المقهور، فدنا وتدلى، ورأى الخصم عين القصم، فعبس وتولى، فكشفت الستور، وهتكت حجابه، وتبرج كل برج فحسر الزراقون لثامه، وأماطت النقابون نقابه، وطلعت على الأسوار المنيفة من الأعلام الشريفة كل راية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وأيد الله الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.
ومنه قوله:
فلم تر إلا شجرة قائمة على أصولها، وكروما خاوية العروش، وسقيط البلح المبثوث، وجبالا كالعهن المنفوش.
* ومن شعره قوله: [الرجز]
خذه إليك أدهما محجلا ... من يعل يوما متنه فقد نجا
يريك من تحجيله ولونه ... «طرة صبح تحت أذيال الدجى»
«1» ومنه قوله: [الخفيف]
من لقلبي من جور ظبي هواه ... لي شغل عن حاجر والعقيق
خصره تحت أحمر البند يحكي ... خنصرا فيه خاتم من عقيق
ومنه قوله: [الكامل]
جرح الفؤاد غداة جاء مجرحا ... ظبي من الأتراك معسول اللمى
أيلام عاشقه لفرط بكائه ... وعليه أعين درعه تبكي دما
ومنه قوله: [الكامل](12/347)
وكأن مسطولا غريرا قد غدا ... يرعى الحشيشة من جآذر جاسم
«وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم»
«1» ومنه قوله: [الطويل]
إلى الله أشكو داحسا قد أضرّ بي ... بوخز حكى وخز الرماح المداعس
«2»
وإني لفي حرب إذا بات ضاربا ... عليّ ومن يقوى على حرب داحس
19- ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس «3»
* كتب الدرج في أيام الناصر بن العزيز «4» ، فرقم ديباجها بالتطريز، وفضل فرادها وأزواجها بالتبريز، وكان صدر رئاسة وبدر عرفان وسياسة، لاقت العلياء بمعاطفه، وراقت الفضائل في كؤوس معارفه، من قوم وهبتهم الثريا سيادتها، وحبتهم جارة الشمس سعادتها، فثنت الجوزاء إليه عنانها، وأنقدته النجوم أعيانها، فجعلته الدول حلية للبّتها، وشية لأيامها، وقد نفضت عليها الليالي صبغ لمتها.
وقدم دمشق في أوائل دولة الظاهر بيبرس وكتب بها، ثم طلب إلى مصر(12/348)
واستكتب، واستعتب لحظه الناقص فأعتب؛ وله الآن يقتنى بقية العبق في المشام، والشهب في آخر الظلام.
ومن نثره قوله:
ولم يكن إلا كلمح البارق الخاطف، أو شرف الطائر الخائف، حتى علونا جدارها، وتسورنا أسوارها، وهذه قيسارية «1» كان ريد أفرنس «2» قد أحكم عمرانها فألحق بالسماء أرضها، وأبرم أسباب تحصينها إبراما منعه نقضها، وجعلناها أمام ما نقصده من الثغور الساحلية، لتعلم الفرنج المخذولين أن قصدنا بحصونهم أمام ما نقصده من الثغور الساحلية شامل، وعزمنا إليهم من كل جهة واصل، وأننا لا بد أن نغرق ببحر عساكرنا ما بأيديهم من الساحل، لتتفرق عزائمهم فلا ينصب إلى جهة واحدة، وتذهل خواطرهم، فتتوهم كل فرقة من الجيوش إليها قاصدة.
ومنه قوله:
وكنا لما شمخت بأنفها إباء، ورفعت رأسها منعة واستعصاء، وكلّنا «3»
باستلانة جانبها، ورياضة مصاعبها، كل طويل الباع، رحب الذراع، مضطلع بأمر الحصر أي اطلاع، فقذفها بشهب نجومه، وواصلها بتوالي رجومه، حتى عرف منها موقعه، واستبان من أبراجها موضعه، وألان من شامخها جامحه وممتنعه، فلم يزل يقبل ثغرها حتى أثغر «4» ، ويصادم ركبها حتى خرّ، وجاء(12/349)
ما لاصقه على الأكثر، وفي ضمن محاذاتها بالمجانيق، تخللنا حولها الأرض طرقا وأسرابا، وصيرناها إلى الخنادق أنفاقا وأبوابا، وصبر جنود الله حتى وصلوا بالحجارة إلى جدارها، فجاذبوا أذيال بنائها الشامخ، وحلوا عقد أساسها الراسخ، فتعلقوا بأبراجهم تعلق قرار لا لانتصار، ولاذوا بمعاقلهم لياذ رعب لا توهم اقتدار، وأذعنوا بلسان الاستعطاف فأجبناهم على أن يبقوا تحت أيدينا أسارى، وأغمدنا عنهم السيوف إلا من سبق في قتله السيف العذل، وأتاه الموت قبل تحقيق الأمان على عجل، وقد فتح الله على المسلمين حصنا كان عليهم وبالا، وحل عنهم من معقله عقالا، وخفف عن أعناق محاذيه من سوء جيرته أعباء ثقالا، ثم أمرنا بهدمها حتى عاد ما كان يرى منها شاهقا للعيان لا يكاد يدرك باللمس، وأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
ومنه قوله:
فنصبنا عليها من المجانيق كل صائب سهمه، ثاقب نجمه، محرق لشياطين الكفر رجمه، يهد ويهدم، ويردي ويردم، ويوهي ويوهن، ويسر بإردائه ويعلن، لم تنصب عوامله على سور متصل إلا هدمته، ولا مدت أسبابه على مبنى رفع واستغلق بابه إلا كسرته، ولم يزل يرمي غاديتها بالقارعة، ويصمي أسماعها بأحجاره الطائرة الواقعة، وأقبلنا بالمجاهدين إليها، فأحاطوا بها إحاطة الخاتم بخنصره، والسوار بمعصمه، وأمطرنا عليها بسحب القسي وبلا غرقهم بدافق أسهمه، فتجلد أعداء الله وجلدوا، وتعاقدوا على الموت وتعاهدوا، وأرسلوا من جروخهم سهاما لا يردها رادّ عن الأجسام، ولا يكسر عينها ما تصم، الأعضاء من تظاهر الآلام، وإذا شوهدت راعت الناظر، فلم يدر أعمد هي أم سهام؟
وشفعوها بضمّ أحجار صمّت لها أسماع الدرق، وكسرت بها رؤوس البيض،(12/350)
وفقئت أعين الحلق؛ وصبر أولياء الله، ولم يزالوا حتى ألحقوا النقابين بجدارها؛ وبوؤوهم المقاعد تحت أسوارها، وأضرموا نارا طاف بأهل السعير سعيرها، ونطقت عما أكنه ضميرها، فانحل من عقود بنيانها ما كان متسق النظام، ونبذ من شمل بروجها ما كان حسن الالتئام، وكانت لا تلوي جيدا صعرا، فألصق خدّها وهي راغمة بالرّغام.
20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد «1»
* رأس المعالي وتاجها، ولقاح المعاني ونتاجها، كان معدن الجلالة، وموطن الرقة والجزالة، ولم يزل بدر الفضائل وكمالها، وصدر المحافل وجمالها، ونفس المآثر وعنصرها، وخاتم المفاخر وخنصرها؛ صحب الأيام مسالما، وقاسم الليالي على النجوم الزهر مساهما، واكتنف البلاغة فقلدته تقليد العموم، وقدمته تقديم الإمام على المأموم، وخدم الدول فأولته إنعاما، وخولته مواهب طالما أخدمته للزمان عاما؛ وكان نداه موارد ملكها، ونهاه عطارد فلكها، فأرته وجوها وساما، وأرضته مصرا وشاما، فأهدى من فرائده ما «2» ابن العزيز، فاستخدم في ديوان الإنشاء واستكتب، واستعتب له الحظ لو يعتب، ثم نقل إلى الباب الظاهري، فكان هناك أحد المتخذين الأعيان، والمتحدين بسحر البيان، وولي في الأيام الأشرفية كتابة السر بالحضرة السلطانية، فلم يتم الشهر حتى مات، ودفن بغزة، فأغمدت المنايا منه عضبا، ووهبت منه إلى جانب البحر الملح بحرا عذبا،(12/351)
وكان هلالا للشهر، وروضا يلقط من أفنائه الزهر.
* قال شيخنا أبو الثناء: كان يبطئ ولا يخطئ. وقال: كان اعتناؤه بالألفاظ أكثر من المعاني.
قلت: ويدل على هذا ما يرى، وقد وقفنا على كثير منه وأكثره متزن، لو تجسد لاختزن؛ كأنه في تساويه سجع الحمامة، أو وقع الغمامة.
وحكي «1» أنه لما أناخ هولاكو على شاطئ الفرات، وفرش خوفه الخدود لمواطئ العبرات، وقطعت من تلك الدولة الأواصر، وأصبحت ومالها قوة ولا ناصر، كان الناصر بن العزيز قد جهز ولده إلى أردو هولاكو بطرف بعثها، وكتاب حل في سطوره عقد السحر ونفثها، كتبه له هذا الكاتب المذكور، واستشهد فيه بالبيت المشهور «2» : [البسيط]
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فلما عرضه على الملك الناصر قال له: هذا كتاب لا يلام دونه القاصر، وكان الأنسب في هذا المكان لو استشهدت فيه بقول ابن حمدان «3» : [الطويل]
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر
وقد يقطع العضو النفيس لغيره ... ويدخر للأمر الكبير الكبائر
«4»
فأقر له بالصواب وعلى نفسه بالخطإ، وبدل الاستشهاد بما قال، ثم ما أنقذ ذلك الكتاب من عثرة ولا أقال.(12/352)
* ومن نثره قوله:
كتابنا هذا والمرقب «1» في قبضة ملكنا، وربوعه قد عادت أطلالا، والأسياف التي كانت في أيدي أهلها قد جعلناها في أعناقهم أغلالا، وقد علم المجلس ما كانوا يحدثون به نفوسهم ويشبعون «2» به رؤوسهم؛ واستفزهم من يحسن لهم في الطمع أمورا، ويعدهم الأباطيل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً
«3» وكان المانع أولا، ما كان من اضطراب الأمور، والتقاء الجيوش، واختلاف الآراء، وتغير النيات، إلى أن أمكن الله عز وجل من كل مناوئ منافر، وظفرنا من الأعداء بكل كافر، وكل من هو للنعمة كافر، ونحن مع ذلك نحيط بما يمكرونه علما، ونملي لهم ليزدادوا إثما، فلما تلمحنا مخايل النصر، سرنا إليها سرى الخيال الطارق، وأسرعنا نحوهم كما تسرع لمحة البارق، ولم نزل نوقد لهم البواتر، وندير عليهم الدوائر، ونشتت لآرائهم شملا، ونقطع من مكائدهم حبلا، ونفض لعزائمهم جمعا، وتكون جنودنا واقفة بإزائهم، فيخيل إليهم من خوفهم أنها تسعى، إلى أن أدركنا فيهم الثأر، وأطفأنا بهم النار، وضربنا عليهم الذلة، وجمعناهم جمع القلة، وأصبح ما كان يحميهم، يتحاماهم، وقلنا:
يا سيوف، دونك وإياهم؛ وكانت هذه القلعة مكانها في جوار النجم، وفناء اليم، يقدمها الجبال، ويعصمها البحر، وتحجبها الأودية، ويحصنها الوعر، وتحف بها سيوف لا تكلّ، وآمال لا تمل، وآجال يحفظونهم ولا يضيعونهم، وقوم يعصون الله ويطيعونهم؛ وسطرناها وبلادهم مهدومة، وجموعهم مهزومة، ويد الله فوق أيديهم، والخذلان من كل ناحية يناديهم.(12/353)
ومنه قوله:
وبعد فإن الرتب شرفها بمتوليها ومتوقلها يزيد، والعقد ما امتاز على السلوك إلا بواسطة حسبها نظام كل فريد، والمملكة جمالها وزيرها، وقوامها مشيرها، وأمورها تكون ضياعا، وحزمها يكون مضاعا، مالم تؤازرها يد وازر شديد، ورأي سعيد، وقلم يقلم ظفر الملم ويقوم بعبء المهم، ويجري بالأرزاق ويدخرها، ويقتني الأموال العظيمة لمن يستصغرها؛ ولولاه لما افتخرت الدول، ولكانت مضطربة لولا ابتناؤها على الأقلام والأسل؛ وكان أولى من عول على تدبيره، واهتدى في الأمور بنوره، أهل العلم، فإنهم المذكورون لمن ملك، والمستفتون في الأرواح والأموال ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك، ويسترشد بهم من إذا ضلت الآراء، وأظلت الأهواء، وطلّت الأنواء، وتحكمت الأدواء، وتقسمت الأضواء، وكان فلان هو المعني بهذه المدح، والجدير بأن تجلى عليه هذه الملح، وتجمل بإلقاء دروسه صدر كل إيوان، وبتصريفه مكان كل ديوان، وتحاسدت الوزارة والأحكام عليه، إلى أن نالت الوزارة منه نحتها، منشدة: [الطويل]
هو الجد حتى تفضل العين أختها.
ومنه قوله:
يقبل اليد، لا زالت أقلامها محسنة في سفارتها، وكتبها لا تسلك إلا بخفارتها، والخدمة إذا لم يكن معها ذمام لا يؤمن عليها شنّ غارتها، وينهي ورود مشرفته التي أبهجته بما أسمعته، وأدت الأمانة فيما استودعته وحملت إليه الرياض زواهر، وأغنته بما أهدى إليه ذلك البحر من الجواهر، وقبل الرسالة والرسول، وقبل الحامل والمحمول، وأعاد الجواب وهو من خوف التقييد على(12/354)
وجل، وكتبه والقلم من حياء المماثلة لا يكاد يرفع رأسه من الخجل، فيعرضه مولانا على فكره النقاد، ويتصفحه بنظره الذي زمام الفضل به منقاد، ويسبل عليه ستر معروفه الذي [ ... ] «1» ، ويعيره نفحة أنفاسه التي يكاد يفوح المسك من عرفها الشذي، والله يشكر له الإحسان الذي لا يبلغ الوصف مداه، ويحرس عليه من الفضل ما ملكت يداه، ويفديه بكل مقصر عن شأوه، فلا أحد إذا إلا فداه.
ومنه قوله «2» :
يقبل اليد الشريفة المحيوية المحبوبة إلى كل قبلة، المحتوية على الكرم الذي هو للكرماء قبلة، لا زالت مخصوصة بفضائل الإعجاز، والبلاغة التي كل حقيقة عندها مجاز، والإحسان الذي يظن الإطناب في وصفه من الإيجاز، وينهي ورود مشرفته التي أخذت البلاغة فيها زخرفها، وأشبهت الرياض منها أحرفها، وأبانت عن معجزات البراعة، ومثلت له السحر كيف ينفث في عقد تلك اليراعة، وأبانت مجاري فضله على مثل الجمر وأفردته بالرتبة التي لا يدعيها زيد ولا عمرو، وعلمته كيف يكون الإنشاء، وأعلمته أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء؛ فوقف المملوك عليها وقوف من أفحمه الحصر، وتطاول لمباراته فيها، وكم يطول من في باعه قصر؟ واستقدم القلم في جوابها فأحجم، واستنطق لسانه ليعرب عن وصفها فأعجم، وقال لحسنها الذي استرق القلوب: قد ملكت فأسجح «3» ؛ وبلغ الغاية في نفسه التي قصرت عن شأوها، ومبلغ نفس عذرها(12/355)
مثل منجح «1» ، ومن أين لأحد تلك البديهة المتسرعة، والروية التي هي عن كل ما ينتحى وينتحل متورعة، والمعاني التي قطف نوارها أبكارا، والغرائب التي بحرها لا يهدي الدر إلا كبارا، والخاطر الذي «2» يستجدي الفضلاء من سماحته، واللسان الذي يخرس البلغاء عند فصاحته، والقلم الذي هو مفتاح الأقاليم، والطريق الذي كلّ فيه ضل ولو أنه عبد الحميد أو عبد الرحيم «3» ، والكتابة التي تشرق بأنوار المعاني، فكأنها الليلة المقمرة، واليد التي إن لم تكن الأقلام فيها مورقة فإنها مثمرة؛ ومولانا أوتي ملك البيان، واجتمع له طاعة القلم واللسان، وخطبت الأقلام بحمده على منابر الأنامل، وأخذت له البيعة بالتقدم على كل فاضل ولو كان الفاضل «4» ، وأصبح محله الأسنى، وأسماؤه فيها الحسنى، وجاء من المحاسن بكل ما تزهى به الدول، وأصبحت طريقته في هذا الفن كأنها ملة الإسلام في الملل، وعرف الإشارة إلى حلب وما صنعت بها الأيام، وما أشجى من ربعها الذي لم تبق فيه بشاشة تستام، ووقوف مولانا على أطلالها، وملاحظته الآثار التي أعرضت السعادة عنها بعد إقبالها، وتفجعه في دمنها، وتوجعه لتلك المحاسن التي أخذتها الأيام من مأمنها، وإنه وجدها وقد حلت عراصها، وزمت للنوى قلاصها، وغربانها في رسومها ناعبة، وأيدي البلاء والبلى بها لاعبة «5» : [الطويل]
فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا ... ولا نحن من فرط الأسى كيف نسأل(12/356)
فشكر الله موقفه في تلك الدمن، ورقته التي قابل بها جفوة الزمن، ورأى هذا العهد الذي تمسكت منه الآن بحسب، ورعى له حق الدمع الذي جرى فقضى في الربع ما وجب، ومن للملوك بوقفة في رسومها، واسترواحة بنسيمها، وسقياها بدمعه، وتجديد العهد بمغناها الذي كان يراه بقلبه فأصبح وهو يراه بسمعه، ولقد علم الله أن الأحلام ما مثلتها لعينه إلا تأرقت، ولا ذكرتها النفس إلا تمزقت، ولا تخيلتها فكرة فاستقرت على حال من القلق، ولا جردتها الأماني لخياله إلا وراحت مطايا الدمع في السبق «1» : [الطويل]
ولا قلت إيه بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي: آها
على أنه قد أصبح من ظل مولانا في وطن، وأنساه أنسه من خف ومن قطن، وشرف بخدمته التي تعلي لمن أخدمها منارا، واستفاد من الأيام التي أخذت منه درهما فأخذ عوضه دينارا، وأصبح لي عن كل شغل بها شغل، فاسأل فؤادي عني، وما ذكرت حبيبا إلا كنت الذي أعني: [الطويل]
وإن نظرت عيني سواك تلثمت ... حياء بأردان الدماء مع الدمع
ولو أني استطعت خفضت طرفي، ولو وصفت ما عسى أن أصفه من الشوق لكان الأمر فوق وصفي: [الطويل]
وإني في داري وأهلي كأنني ... لبعدك لا دار لدي ولا أهل
وعرف المملوك الإشارة إلى هذه السفرة ومتاعبها، والطرق ومصاعبها، والثلوج التي «2» شابت منها مفارق الجبال، والمفاوز التي يتهيب السرى فيها طيف الخيال، والمرجو من الله تعالى أن تكون العقبى مأمونة، والسلامة فيها(12/357)
مضمونة، وكأن مولانا بالديار وقد دنت، والراحة وقد أذنت، والتهاني وقد أشرقت بوفودها تلك الرحاب، والرياض وقد أبدت من ملحها ما يكفر به ذنب السحاب، والأنس وقد أمسى وهو مجتمع القوى، والرحلة وقد ألقت عصاها واستقرت بها النوى «1» .
ومنه قوله في كتاب كتبه عن الملك المنصور «2» إلى ابنه الملك الأشرف «3» بفتح المرقب:
أعز الله نصرة الجناب العالي الولدي، الملكي الأشرفي الصلاحي، عضد أمير المؤمنين، ولا زالت جيوشه تفتح من الممالك حصونها، وتبتذل مصونها، وتستنشر من السعادة غصونها، وتطوى لهم الأرض، ولا يبعد عليهم مرمى يعملون إليه العزائم وينضونها، ويقصون أجنحتها بالشكر ويفضّونها، تهدى إليه كل ساعة خبر جنوده وما ملكت، وخيوله وما سلكت، وسيوفه وما فتكت، ومهابته وما أخذت، ومواهبه وما تركت؛ وتبدي لعلمه الكريم أن الهمم بها تنال الممالك، وترتقى المسالك؛ وقل ما ظفر بالمراد وادع، وكل أنف لا يأنف المساءة فهو أحق الأعضاء بالمجادع، ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر، عند اضطراب النيات، وضعف البينات، وغرور الأيمان الكاذبة، واستمالات الخيالات الجاذبة، ونأخذ في أمرهم الظاهر(12/358)
بالرخصة دون العزيمة، ونعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجرّوا منه ذيل الهزيمة، ونستر ما تسدده إلى نحورهم من سهم، ونريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم، ونعرض عن مناقشتهم في الحساب وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ
«1» ومتى لم يؤاخذ المسيء بفعله، ويعرف مقدار جهله، استدام طمعه، واستقام طلعه، وحركته دواعي الشره والشرة، وتخيل السلامة في كل مرة؛ فلم نزل نتربص بهم ريب المنون، ونترك منهم ما كان في جنب ما يكون، إلى أن آن إمكان الفرصة، وجمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأنفذنا إليهم المرمى، وأعددنا مسعانا في طاعة الله غنما، إذ كانت مساعي الملوك غرما، ووصلنا السير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الكرى، وأوطأناهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم، وغشيهم منا ما غشي فرعون وجنوده من اليم، مع كون مكانهم قد جمع لهم منعة البر والبحر، وحل منهم بين السحر والنحر، تصدّ الرياح الهوج عنه مخافة، ويرجع عنه الطرف حسيرا لبعد المسافة، فلم يكن بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب الخطب، وعسكرنا بحمد الله قد ملأ الفجاج، واستعذب الأجاج، وقاسمهم الرماح، وأعطاهم الأسنة وأبقى الزجاج، يتعرض أبطاله المنايا وإن كانت عرضا، ويقول كل منهم: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى
«2» . فلم يزل القتال ينوبهم وسهام المنون تصيبهم، وسحابها يصوبهم، والمجانيق تذلل سورتهم، وتسكن فورتهم، وترميهم بنجومها، وتصمهم برجومها، وتقذفهم من كل جانب دحورا، وتعيد كلا منهم مذموما مدحورا، وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالسلم، وفتنتابهم(12/359)
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
«1» إلى أن فتحناها ولله الحمد عنوة، وحللنا مكائدهم فيها عقدة عقدة، ونقضناها عروة، وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت عليها بنودها، وذلت لها علوج الكفرة وكنودها، والسيف من دمائهم يقطر، والصليب خزيان ينظر، والآذان مكان الناقوس، والقراء موضع القسوس، والكنيسة قد عادت محرابا، والجنة قد فتحت للمجاهدين فكانت أبوابا، وكنا نود أن يكون الولد معنا في هذه المشاهد، وأن ينظرها بعين المشاهد، وإنا لنرجو أن لا يكون ممن يستلين المرقد، وإن لم نحضره هذه الغزوة فيتأهب للأخرى فكأن قد.
ومنه قوله من كتاب كتبه إلى صاحب اليمن بفتوح طرابلس:
هذه الخدمة بما تسنى من فتوح طرابلس الشام، وانتقالها بعد الكفر إلى الإسلام، وهو فتح طال عهد الإسلام بمثله، وقدح فتّ في عضد الشرك وأهله، لم يجل أمره في خلد ولا فكر، ولا رقت إليه همة عوان من النوائب ولا بكر، مرت عليها الأيام والليالي، وعجز عنها من كان في العصر الخوالي، ولم تزل الملوك تتحاماها، وإذا خطرتها الظنون في بال تخشى أن تحل حماها، ولما أفضى الله إلينا أمر الملك، وأنجى بنا من الهلك، عاهدنا على أن نغزو أعداءه برا وبحرا، ونوسع من كفر به قتلا وأسرا، ونورد المشركين موارد الحرب المفضية بهم إلى الهرب، ونجليهم عن البلاد جلاء طوائف المشركين عن جزيرة العرب، فجئناهم وزلزلنا أقدامهم، وأزلنا إقدامهم، وبرزنا لشقائهم بشقاقهم، وسددنا عليهم أنفاق نفاقهم، وقصدناهم في وقت تجمعت فيه أشتات الشتاء، وطرق خفية المدارج، أبية المعارج، صيفها شتاء، وصباحها مساء، شائبة المفارق بالثلوج،(12/360)
منهلة المدامع من عيون الجبال على خدود المروج، مزررة الجيوب على أكمام الغيوم التي ما للابسها من فروج، ولم تزل أقران الزحف، في غدران الزعف «1» ، ترميهم بالقوارص، وتأتيهم من البأس بما ترعد منه الفرائص، وتقلب لهم ظهر المجن، وتطرق أفئدتهم من الحرب بكل فن، وتقرب الأسواء من الأسوار، وتمزج لهم الأدواء في الأدوار، إلى أن وهى سلكها، ودنا هلكها، وسفل منها ما علا، ورخص ما غلا، وفتحناها وأنخناها، وخليناها وقد أخليناها، فأمست كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وأصبحت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
وهذه المدينة لها سمعة في البلاد، ومنعة ضربت دون العزم بالأسداد؛ فتحت في صدر الإسلام في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وتنقلت في أيدي الملوك، وعظمت في زمن بني عمّار، وبنوا بها دار العلم المشهورة في التواريخ، فلما كان في آخر المئة الخامسة وقدّر ما قدّر من ظهور طوائف الفرنج بالشام، إذ استولوا على البلاد، امتنعت هذه المدينة عليهم مدة، ثم ملكوها في سنة ثلاث وخمسمئة، واستمرت إلى الآن، وكان الملوك في ذلك الوقت ما منهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجالس أنسه، يصطبح في لهوه ويغتبق، ويجري في مضمار لعبه ويستبق، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب «2» ، لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب، ونفوس قد تجاوزت حد إسرافها، وبلاد تأتيها الأعداء فتنقصها من أطرافها، إلى أن أوجد الله من أوجده لنصرة دينه، وإذلال الشرك وشياطينه، فأحيا فريضة الجهاد بعد موتها، ورد ضالة الملك بعد فوتها؛ ونرجو بقدرة الله أن نجلي ديارهم من ناسهم، ونطهر الأرض من أدناسهم، ونجدد للأمة قوة سلطانها، ونعيد كلمة الإيمان إلى أوطانها؛(12/361)
والله تعالى يثبت في صحائفه أجر السرور بهذه المتجددات، التي يعظم بها أجر الحامد الشاكر، ويجعل له أوفى نصيب من نومن «1» الغزوات، التي أنجد فيها بهممه؛ والإنجاد بالهمم مثل الإنجاد بالعساكر.
* ومن شعره يداعب ابن البصري الكاتب، وكان رديء الخط: [البسيط]
للمجد خط حكى في القبح صورته ... ناهيك من خطأ باد ومن خطل
لم يلقه أحد إلا وينشده ... رميت يا دهر كف المجد بالشلل
وقوله: [المجتث]
أنبئت أن كتابا ... بعثته مع رسولي
ملأته منك طيبا ... فضاع قبل الوصول
21-[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي
«2» ، المتقدم ذكر أبيه.
* قائل كلم حسان، وقائد كرم وإحسان، سليل صدور كرام، ورسيل سحب مغدقة وبدور تمام، من بيت في حلب الشهباء رفع على صهواتها، ولزت به(12/362)
الخضراء وسائر أخواتها، أعاد الصبح العشاء، وكتب الإنشاء، وصرف أوامر الوزارة، وقاسم الوزير حسناته لا أوزاره، وكلامه عذب المساغ، للقلوب به شغل وفراغ، كأنما نشر به حلى أو صاغ، وكان بريئا من ظلمة التعقيد، كأنه الزهر الضاحك في رونق الربيع الجديد.
* ومن نثره قوله في توقيع كتبه لقاض اسمه يوسف «1» :
لأنه المستوجب بهجرته إلينا تحقيق ما نواه، وإنه يوسف الفضل الذي لما قدم مصر قيل لشيمنا الشريفة: أكرمي مثواه، وأرته أحلامه من الأماني ما جعلناه صدقا، وأنجز الله تعالى له منها ما قال معه: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا
«2» .
فليعتصم من طاعة الله بأقوى حبل، ويقف عند مراضيه ليجتبيه ويتم نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبل، وليتمسك من أسباب التقوى بما يكون له جنة، ويحرص على أن يكون الرجل الذي عرف الحق فقضى به، وكان المخصوص من القضاة الثلاثة بالجنة، ويجعل داء الهوى عنه محسوما، ولحظه ولفظه بين الخصوم مقسوما، ولا يأل ما يجب من الاجتهاد إذا اشتبه عليه الأمر، أن يعلم أنه إن اجتهد وأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وصوب الصواب واضح لمن استشف بنور الله برهانه، وليتوكل على الله في قصده، ويثق، فإن الله سيهدي قلبه ويثبت لسانه، وليجعل الاعتصام بحبل الله تعالى في كل ما تراود عليه النفوس من دواعي الهوى معاذا، ويتبصر من برهان ربه ما يتلو عليه عند كل داعية: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
«3» .(12/363)
ومنه قوله:
وينهي أنه وردت عليه مشرفة شريفة، وتحفة ثمنها على الأعناق ثقيلة، وبمواقعها من القلوب خفيفة، فقبلها المملوك ولثمها، ونثر عليها درر قبله ونظمها، ونقل معناها إلى قلبه فشف، ونقد ذهبها الخالص وأعاذه من الصرف، وانتهى إلي ما تضمنه من صدقات مولى ملك رقه، وأتاه من الفضل فوق ما استحقه، وأنزل له الكواكب فتناولها بلا مشقة، وآوى إلى حمى حرمه، وتغطى عن عين الخطب بستور نعمه، ورأى فيه الأزاهر وشم شذاها، والجواهر وضم إلى العقود حلاها، وشكر هذه المنن ومن والاها، وسبح لمن وهب من يحبه هذه البدائع وأتاها، وعمل بما أمره به مولاه في أمر تلك الورقة، وسدد سهمها إلى الغرض وفوقه، وتحجب لها فأخلى الطريق وطرقه، وعرضها في مجلس الوزارة الشريفة ونشر إستبرقه، وبرز المرسوم بالكشف، ويرجو أن يتكمل بالتوقيع، ويكمل بالتأصيل والتفريع، ثم يجهزه المملوك إلى خدمته الكريمة كما أمر، وما أخر الجواب هذه المدة إلا ليجهزه معه، فتعذر وما قدر.
ومنه قوله:
أول من عاودته عوائد فضلنا بمحابها، وتلقته صدور عوارفنا برحابها، ونقلت مكارمنا أطماعه من لامع سرابها إلى نافع شرابها، من هاجر ولاءه إلى حرم دولتنا القاهرة، وكان من أنصارها، وبادر في هيجاء أعدائها، فأغرقهم وأحرقهم بتيارها وبنارها، وتشوقت المسامع إلى ما تشتهيه، فكان ذكره الجميل من أعظم أسباب مسارها؛ والفارع ذروة هذه الصفات، القارع مروة هذه الصفاة، المجلس الفلاني، لأنه جامع محاسنها بمفرده، والحامي لسرحها ببطش يده، ورامي غرضها بصفاة مقصده؛ حمى الأطراف وحاطها، ورفع بهمة فعلق بالثريا مناطها،(12/364)
وكان واحد أولياء الدولة بأسا لا يكل شباه، وعزما لا يوفر كاهل الريح يقتاد جنائبه ويركب صباه، وفضلا جاملا جامعا فاق فيه كل شبيه إلا أباه.
ومنه قوله:
ولا زال بابه الكريم للآمال ملاذا، وجنابه المحروس من حوادث الأيام معاذا، وثوابه وعقابه لوليه وعدوه هذا لهذا، وهذا لهذا، وينهي أن مولانا- ولله الحمد- قد جبله الله على فعل الخير وجعله من أهله، وحبب إليه الإحسان ومكن من فعله، خصوصا من ينتمي إلى خدمته الشريفة ويلجأ إلى ظله، ومملوكه فلان ممن يعد نفسه من الأرقاء، ويرتمي إلى موالاته التي هي درجات السعادة والارتقاء، وما تهجم المملوك بهذه الخدمة إلا لما كان عند نفسه المثابة، ولا ثقل على خاطره الشريف إلا لوقوع ذلك من مكارم مولانا بموقع الإصابة، وقد جعل المملوك السؤال مفتتح عبوديته لمولانا وموالاته، بحسنة قد أهداها إلى صحائف حسناته.
22- ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس
«1»(12/365)
* بحر يقذف الدر، وأفق يطلع النجوم الغرّ، وكان للدنيا جمالا، وللدين كمالا، جعل للبيان سحرا، وللطيب شحرا، وقدمته الدولة على الرؤساء، وعظمته على الخلطاء والجلساء، وكانت الملوك تنزله منزلة لسانها ويمينها، وتحله محلة ترجمانها وأمينها، وظلت تصرف به البأس والندى، ويتصرف في الأولياء والعدى آونة تحسب نسيبه سؤالا، ويجود بسيبه نوالا، وآونة تحز بقصبه الغلاصم، ويجر بكتبه لجذّ الأيدي والمعاصم، وطالما فتحت به المعاقل الأشبة، وساقت سرجها السوام في رياض النجوم المعشبة، ثم قفلت الممالك بأقاليده، وقفلت المسالك بتقاليده واصطفته الرئاسة لقربها، وأصفت له السياسة موارد شربها، وكتب كتب السر أكثر عمره، وصرف ديوان الإنشاء مدة بأمره وكان بدمشق عينا لأعيانها، وزينا وحلية لبيانها، راقيا للإيوان، رائسا للديوان، وكان عمّي ثم أبي لا يعتمد كل منهما إلا على أمانته، ولا يرنح فكره إلا بإيضاحه وإبانته، وخطه أبهج من الروض الأريض، وأزين من النقش المخضر على معاصم الغواني البيض، وله من كثرة الاطلاع ما حقق له المآرب، وصدق أنه الشمس ضوؤها يغشى المشارق والمغارب، ولم يكن أكثر منه اتّضاعا في ارتفاع، وتنازلا وهو في اليفاع، لا يجد في نفسه حرجا لأحد، ولا مضضا ممن أنكر حقه وجحد، لا يضره أي مكان حله، ولا يضره لبس عباءة أم حلة، وكان يتعرف إلى الله عساه ولعله، ويتعرض لقضاء حوائج الناس لله لا لعلة، هذا بلا تكلف يشق عليه في عرضه مطلوب، أو يشق به لعرضه أردية أو جيوب، مع ملازمته تلاوة يؤنس بها جانب الجامع المعمور، ومرآة يشرق بها وجه النهار ويعمر قلب الديجور، وعمل زاك صحب به الأحياء، وجاور سكان القبور.
ومن نثره قوله:(12/366)
طالما حل الرتب العالية بجليل مقداره، وحلى المناصب العالية بجلي أنواره، وما شب على معاطف مناقبه ذوائب فخاره، وهامت الأفكار في أودية محامده وما بلغت وصف محله ومقداره، وافتخر قلم الفتيا براحته، فتباعد السيف عن قربه خوفا من مهابته، وسدد إلى الحق سهام أحكامه، فأصابت الأغراض وعالج الأفهام بإفهام كلامه، فشفى صحيحه الأمراض، وكان فلان ثمرة هذه الدوحة النضرة، ونشر هذه الروضة الخضرة، فرسم بالأمر العالي أن يفوض إليه تدريس المدرسة الأمينية بدمشق، فليكتب بها دروس فضله التي لا تدرس الأيام آثارها، ويغرس في قلوب طلبتها حب فوائده ليجتني ساعة غرسها ثمرها، لتصبح هذه المدرسة كنيفا ملئ علما، وقليبا حشي فهما، وفلكا تبدي شمسا وتخفي نجما، وكنانة تخرج من طلبتها في كل حين سهما.
قلت: هذا من توقيع كتبه في الأيام الكاملية حين خرج سنقر الأشقر على الملك المنصور لقاضي القضاة شمس الدين بن خلكان، وقد أخذت الأمينية «1» له من نجم الدين بن سني الدولة. «2»
عدنا إلى ابن العطار:
ومن إنشائه رسالته التي سماها «رصف الفريد في وصف البريد» : أما بعد حمد الله البر، المسير في البحر والبر، والصلاة على من علا البراق،(12/367)
واخترق السبع الطباق، وعلى آله وصحبه الذين سبقونا بالإيمان، وعلى التابعين لهم بإحسان:
فإنه لما كانت النفوس مولعة بحب العاجل، متطلعة إلى الاطلاع على المستقبل من الأمور والآجل، لم تزل أنفس الخلفاء والملوك وأنفس الأكابر من الأمراء والعظماء به كلفة صبّة، وإلى استعلام أحوال ممالكها وعساكرها ورعاياها منصبة، وعلم مثل ذلك من خلق الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، فبردهم في الآفاق ضاربة، وطلائعهم تارة بالمشارق طالعة وآونة في المغارب غاربة، كرة في أبحار السراب تعوم، وأخرى بالآفاق كأنها نجوم: [الطويل]
تروح فتغدو في الصباح طريدة ... وتغدو فتبدو في الظلام خيالا
تستطلع لهم خبرا، وتطوي وتنشر بساط الأرض وردا وصدرا، وتعوض أسماعهم بما تنقله إليهم أثرا، عما فات أعينهم مشاهدة ونظرا: [الكامل]
فلهم وإن غدت البلاد بعيدة ... طرف بأطراف البلاد موكل
«1» من كل فتى قد هجر الكرى، وأشبه البدر فلا يمل من طول السرى: [البسيط]
وخلّف الريح حسرى وهي جاهدة ... ومرّ يختطف الأبصار والنظرا
قد أعدّ للسفر في ليله ونهاره من الخيل كل أشقر صباح، وأشهب مساء، وأصفر أصيل، وأدهم ليل: [مخلع البسيط]
وألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال
وسابق الضلال فهي تزور عنه ذات اليمين وذات الشمال، فلا تزال من ورائه(12/368)
مشرقا قبل الزوال، ومغربا بعد الزوال، موكل بفضاء الأرض يذرعه «5» متوقع أن كل بلد يقطعه: [الكامل]
وكأنما اتخذ البروق أعنة ... وكأنما اتخذ الرياح جناحا
فمما أنبأ الكتاب العزيز من تطلع المرسلين والأنبياء، إلى سرعة الاطلاع من الأمور والأنباء، ما ورد في قصة سليمان عليه السلام من طلبه سرعة إتيان عرش بلقيس، ووصوله قبل ارتداد طرفه إليه، وقد نقل عن نوح عليه السلام استبطاؤه الغراب وإردافه له بالحمام «1» ؛ هذا وقد ضرب المثل ببكور الغراب «2» ، وخروجه في الظلام؛ ولولا اعتقاد موسى الكليم عليه السلام أنه للباري جل جلاله أرضى، لما قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى
«3» وفي سيره، بأهله ومسراه، ناداه ربه بالوادي المقدس: إني أنا الله؛ وما انعقد على رهن السباق والإجماع، إلا لما فيه من فضيلة الإسراع؛ ولم يكن الشيطان الرجيم بمطرود، لو جرى على سجيته في العجلة، وبادر في السجود، ولا سيما وقد خلق الإنسان من عجل؛ وما يعلو المدرك المسرع من أنوار الجذل، وما يغشى المبطئ من فتور الخجل، ومن كمال فضيلتي الحج والعمرة، ما هو واجب أو مستحبّ من الرمل وشتان ما بين المبطئة والسريعة، ويا بعد ما بين الساقة والطليعة: «4» [البسيط](12/369)
وربما فات قوما جل أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا
وكثيرا ما قيل في القوم: وعداك ذمّ، وتخطاك لوم، وتحرك تعش، وسر في البلاد تنتعش؛ وقال سبحانه وتعالى لخلقه: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
«1» هذا وأشرف الدراري الكواكب السواري، وما الجواري في البحر كالسواري، وهل أجن إلا الماء الواقف؟ وهل طاب إلا الماء الجاري؟: [الوافر]
وإن لزوم عقر البيت موت ... وإن السيرفي الأرض النشور
والقعود مع العيال قبيح، ومن يمن النجاح سرعة التسريح: [مخلع البسيط]
والمهد أسكن للصبي ... بحيث جاء به ومرّا
وبفضيلة السير في البلاد والانتقال، بلغ البدر درجة الكمال، وأمنت الشمس المنيرة من الملال: [الكامل]
والصقر ليس بصائد في وكنه ... والسيف ليس بضارب في جفنه
ولولا ضرب إخوة يوسف في الأرض، لما نجا أبوهم من حزنه، وقد جعل الله رحلتي الشتاء والصيف للإيلاف، وركني الحج والعمرة للسعي والطواف، وفي استخلاف من لا يستطيع التحيّز للضرورة خلاف: [البسيط]
والمرء ما لم يفد نفعا إقامته ... غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وسعة الخطوة دليل الإقبال، وسبيل إلى بلوغ الآمال، ولا ريب أن العز في النقل «2» ، وفي بلاد من أختها بدل «3» : [البسيط](12/370)
لو كان في شرف المثوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
والحركة ولود، والسكون عاقر، وقد ورد أن الله رحيم بالمسافر، وأنه للخضر عليه السلام خليفة «1» ، وناهيك شرفا بهذه الرتبة المنيفة، ولا إنافة على رتبة الخلافة؛ والسيف إن قرّ في الغمد صدي، والليث لولا الوثوب ردي، ولو يستوي بالقيام القعود لما ذكر الله فضل الجهاد، ولولا انتقال الدّرر عن البحور، لما عوضت من الحور بالنحور، وكثيرا ما ورد في الكتاب العزيز النهي عن التباطؤ، والحث على الإسراع: [الوافر]
وليست فرحة الإيّاب إلا ... لموقوف على ترح الوداع
[من الخفيف]
إن فيه اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم
وهذا وكم بين رتبة الاتباع ورتبة الاختراع والابتداع، وبين جمود الروية وتوقد الابتداء وكلالة الرقاد وحدة الانتباه، وشتان ما بين عقلة المشيب ونشطة الشباب، وحسبك بأنك تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ
«2» ، وقد علمت فائدة الإسراع بمن لا علم عنده ومن عنده علم الكتاب، وبحركة النبض يستدل على حال القلب، ولولا إدامة الترويح عليه لغم من الكرب، ولا يقاس موقف المأموم بمقام الإمام، وإذا كانت الشجاعة في الإقدام، كذلك السلامة في الانهزام، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأفلاك دائمة الحركات، وأرسل الرياح مبشرات، وللسحائب مسيرات، وبأرزاق العباد جاريات، وأقسم سبحانه وتعالى بالعاديات وبالمرسلات، وللإسراع سخر لمحب(12/371)
الخير عليه السلام الريح والطير، هذه غدوها شهر ورواحها شهر، وهذه تستطلع له أنباء الملوك فتستنزلهم على حكم الذل والقهر، ولذلك درجت الملوك الحمام ورتبت البريد، فبلغت بهما في الوقت القريب ما تريد من غاية المرام البعيد، وقربت لهم مستبعدات المطالب، وأطلعتهم بسرعة الإعلام على نهايات العواقب، فبلغت هذه بسرعة إيصال البطائق، ما لم يكن أحد من البشر بطائق، وارتفعت محلقة في الهواء، وحلقت مسخرة في جو السماء، وما خفقت بأجنحتها إلا وقد وافت بالبشرى مخلقة وما أخفقت، وما خضبت كفها وتطوقت إلا للسرور وصفقت، وما حفظت العهود من الأسرار، وما ردها الحنين إلى الأوكار، وما قطعت مسافة في ساعة من نهار، وما وما وما، ولا عرجت طائرة نحو السماء إلا وقد ذكرت عهودا بالحمى، إلا أن بطائقها ربما نقلت من جناح إلى جناح، وحصل بنقلها أعظم خطر وأوفر جناح، وكشف خدرها، وأذيع سرها، فغدت مذاعة السرائر، وكانت محجوبة عن مقلة كل طائر، وذاك حافظ لما استودع من الأمانة المؤداة، أمين على ما حمل من النفقات والمشافهات، إلى الأجانب وأهل المودات، حريص على إيصال كتبها، صائن لها في حربها، صيانة الصوارم في قربها، والعيون بهدبها، يوصلها بطيها مختومة بخاتم ربّها، فهو السهم الخارج عن كبد القوس، لا يزيغ عن الغرض، وتلك ربما جرحها الجوارح، وعرض لها بالبنادق من اعترض؛ وصدها عن بلوغ المرام، غموم الغمام، وعموم الظلام، وقطع «1» طريقها، وحتم تعويقها، وقضى وحكم عليها بالتأخير، لأنها فيهما لا تطير، وذاك في الليل والنهار، والصحو والغيم يسري ويسير، ولذلك لا تسرح الحمام في المهام، إلا ويرسل تحتها البريد، مؤرخ بتاريخها فهو لها وعليها سائق وشهيد، وهي وإن شهد لها المترنم المنتدم، بالفضل والتقدم، والفضل(12/372)
للمتقدم، فربما تقدمها البريد وسبق، وكثيرا ما توافيا فكأنما كانا على ميعاد فجاءا معا، في طلق كفرسي رهان، وشريكي عنان، وافتن فيه الناظرون وهو يحضر، فإصبع يومئ إليه بها وعين تنظر، هذا وكم شابت لقعقعة لجامه النواصي، وزينت لمقدمه البلاد والصياصي، وسرى وجفن البرق خوفا وطمعا يغامز ويختلج، فلذلك تارة ترد بما النفوس به تبتهج، وتارة بما الصدور به تنحرج، وتشاهد بما ينزل من السماء وما في الأرض يلج، وسرى وعيون القطر دامعة، وسيوف البرق لامعة، وسيول العيون للطرف قاطعة، ونبال الوبل في أكباد الأرض صادعة، ووافى المنازل والخيول بها طالعة، وبعد أن أصبحت طائرة أمست تحته واقعة، وكم حال دون «1» مرامه من أوجال أو حال، وعلق لثق ووهق زلق، يمنعه في سوقه من استرسال، بأوثق شبحة وشكال، وعام في أملاق إلى الذقن لا إلى الوسط، وتقطر فوافى ويده مغلولة إلى عنقه وكانت مبسوطة كل البسط، أو بات بعد أن كان راكبا نازلا، وبعد أن كان محمولا لسرجه وجرابه على كتفه حاملا، وسرى وطرفه بالسماء موكل، ونزل بمنزل ليس له بمنزل، وليس به ما يشرب ولا به ما يؤكل: [الرجز]
بمهمه فيه السراب يلمح ... وليله بجوه مطرّح
يدأب فيه القوم حتى يطلحوا ... ثم يظلون كما لم يبرحوا
كأنما أمسوا بحيث أصبحوا [الكامل]
يمشي زميلا للظلام وتارة ... ردفا على كفل الصباح الأشهب
ويعدو كالحبال يمشي إلى ورا، ويغدو فلا يسأل عن السّليك ولا عن(12/373)
الشنفرى، أو جاءت به عنس من الشام تلق، بعد أن كان يطوي الأرض بسوقه ويخترق، وقد فلى الفلا، وقيل له: هكذا هكذا وإلا فلا «1» : [البسيط]
يوما بحزوى ويوما بالعيق ويو ... ما بالعذيب ويوما قصر تيماء
وتارة ينتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وأخرى بالخليصاء
فكم قطع أرضا وركب ظهرا ووجد رفقا، ولم يكن كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وقلما جهز إلا في مصلحة من مصالح المسلمين العامة، الشاملة للأمة المحمدية من الخاصة والعامة؛ ما آب من سفر إلا إلى سفر وما سفر في مهم إلى بلد فقيل: إنه سفر ولكنه ظفر: [الطويل]
كأنّ به ضغنا على كلّ جانب ... من الأرض أو شوقا إلى كل جانب
ورد مبشرا وللمسار في الوجود مسيرا، فأزال العناء، وأنال المنى، وأفاد الغنى، وانثالت عليه الجوائز والتشاريف من ههنا ومن ههنا: [البسيط]
ما درت الشمس إلا جاء يقدمها ... وفي المغارب منه قبلها أثر
وكاد لشدة إحضاره، يسبق أذني جواده في مضماره، فتراه لسرعة سيره، لا يرتد طرفه عن أمد حتى يتعداه إلى غيره، فهو أبدا يسبق طرفه إلى ما يرمق، وما يستولي طرفه على أمد إلا ويتجاوزه ويسبق، فيكاد يأخذ مغربا من مشرق، فيبلغ غاية الأقطار، ويخترق من الآفاق حجب الأستار، حتى يقال: إنه ما سار ولكنه طار، وفي الأرض طار: [السريع]
قال له البرق وقالت له الر ... يح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا؟ قال: إن ... نشطت أضحكتكما منكما(12/374)
أنا ارتداد الطرف قد فتّه ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
ولم يزل البريد مرتبا فيما تقدم وسلف من الأيام؛ ومعاوية أول من أحدثه في الإسلام، وأحكم أمره الذي حكم البلاد شرقا وغربا، ونظر إلى السحابة فقال:
أمطري أنى شئت، فخراجك إليّ يجيء «1» ؛ وعلم أنه من أعظم مهمات الملك العظام، فقال: ربما فسد بحبسه ساعة تدبير عام: [الطويل]
فدانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيامه فيما يريد قيام
لا سيما في هذا العصر، وعدو الدين قد أمر أمره، واستشرى شره، وامتدت أطماعه في البلاد، وسرى فيها منه الفساد، مسرى السم في الأجساد، وهو أولى الأمور التي لا يستأذن عليه، وقد وافى مسرعا، والذي يقال له: لعا، إذا قيل لسواه لا لعا: [البسيط]
وجاء منه بقرطاس يخب به ... فأوحش القلب من قرطاسه فزعا
وقد أقام الله بهم للإسلام، بالديار المصرية والشام، كل شهم أمضى من سهم، وأبعد غاية من نجم: [الوافر]
إذا جارته شهب الأفق قالت: ... أعان الله أبعدنا مرادا
محمود الطرائق، مقبول الخلائق عند الخلائق، خفيف الحركات، مسارع إلى الحركات، قصيف يرجح به ظله، خفيف على ظهر المطية حمله، وإذا كان الناس أرواحا وأجساما، فهو روح كله، عارف بالآداب، والسلوك، للمثول بين يدي الأمراء والسلاطين والملوك، عذب العبارة، خفي الإشارة، منجح السفارة، كتوم الأسرار، موفق الإيراد والإصدار، صادق اللهجة، ثابت العدالة، مليّ بأداء(12/375)
السلام وإبلاغ الرسالة، ليست معرفته على آداب السفر مقصورة، جامع بين أدب النفس وأدب الدرس، حسن الاسم، وضي الرسم «1» ، سوي الوسم، سريع إلى الداعي، مبادر إلى امتثال الأوامر والدواعي، ما يفوه بالجواب إلا ورجله في الركاب، فهم، متى رسم لهم بالسفر يسارعون، وإلى الإجابة يهرعون، وعلى الخدمة أنفسهم يعرضون كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
«2» وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
«3»
[البسيط]
لا يستقر بهم ربع ولا سكن ... كأنهم فوق متن الريح نزّال
ما ندب منهم ندب لهم إلا وبادر مطيعا، وما غاب إلا ثاب سريعا، فما ماثله في السير ذكوان، ولا ضاهاه حذيفة بن بدر وقد ساق هجان النعمان «4» : [الكامل]
ألف النوى حتى كأن رحيله ... للبين رحلته إلى الأوطان
والله سبحانه وتعالى يطوي البعيد لمن يشاء من خلقه، ويسهل العسير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
إلا أن حضور النيات التي بها انعقاد الأمور الدينيات، لا يحصل إلا بالثبات والأناة، والطمأنينة في الركوع والسجود كمال الفرض فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
«5» وكما ورد في التنزيل النهي عن(12/376)
التباطي، ورد النهي عن التسرع وسببه، فقال عز من قائل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
«1» ونهى عن العجلة تارة في الخير وتارة في الشر، قولا جزما، فقال سبحانه وتعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
«2» وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً
«3» ، ولا ريب أن الثبات من الله تعالى، والعجلة من الشيطان الرجيم، وأن الله عز وجل امتنّ بالتثبت على النبي الكريم، فقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
«4» : وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا
«5» كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا
«6» وإن ورد عن سليمان عليه السلام طلب الإسراع في الكتاب المبين، فكذلك ورد عنه التثبت في قوله تعالى: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ
«7» وبماذا يصف الواصف، أو ينعت الناعت، فرق ما بين العجلة والتأني؟ وبين البروج المتقلبة والبروج الثوابت؟ وبالتأني يحصل التأتي، ويكون المرء من أمره على بصيرة، ويشاهد في مرأى مرآة فكره صورة الخيرة، ويأمن من تردد الحيرة، وقد قيل: أصاب متأن أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد، وحصل على أنكاد وأي أنكاد، ولولا التأني قبل إرسال السهم لم تحصل به النكاية، ولولا التثبت قبل إطلاقه ما وصل إلى الغرض ولا بلغ الغاية، فالعجلة والندامة فرسا رهان وشريكا عنان، وإن حمد المجلي يوم الرهان؛ وما(12/377)
زالت ثمرة العجلة الندامة، وربما كانت الهلكة في العجلة، وفي التؤدة السلامة، وفي الثبات والأناة ما لا يحصر من أمر العواقب في سائر الحالات؛ وأسرع السحب في الجهام، وما الإقدام في كل أمر من الشجاعة، ولا الثبات من الإحجام: [البسيط]
والحرب ترهب لكن الأناة لها ... عند التأيّد أضعاف من الرهب
لا يا من الدهر بأس الجمر لامسه ... وقد يروح سليما لامس اللهب
والتسرع خرق، والأناة حلم ووقار، والتثبت دليل القدرة من الله عز وجل مثبت القلوب والأبصار، وفرق سبحانه وتعالى بين الشجرة الثابتة والشجرة التي ما لها من قرار.
وما كان الثبات في شيء إلا زانه، ولا التسرع في أمر إلا شانه؛ ومع العجل الزلل، ومع الزلل الخجل، ومع الخجل الوجل، ومع الوجل الخلل الجلل.
وللثبات وثبات وأي وثبات، وقليلا ما حصل النصر والظفر إلا بالكمين والبيات؛ وقد حكم الصادر والوارد، والمداني والشارد، وأقر المعترف والجاحد، واعترف الصديق والعدو والحاسد، وسار في الأقطار والآفاق، وبلغ من بمصر والشام والروم والعراق «1» : [الطويل]
وسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا
ما حصل للإسلام والمسلمين من الانتفاع، ولعدو الدنيا والدين من الوهن والضعف والاندفاع، بثبات المقر العالي الجمالي، كافل الممالك الشريفة الشامية، أعز الله أنصاره، ومقامه على المرج، مع قوة الهرج وكثرة المرج، وأنه قام بذلك للدين نصيرا، وللملك ظهيرا، وأخذ هو ومن أقام بخدمته من العساكر(12/378)
الشامية بقوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
«1» : [الوافر]
سديد الرأي لا فوت التأني ... يلم به ولا زلل العجول
يعيب مضاءه وقفات حلم ... كعيب المشرفية بالفلول
وقد كان العدو المخذول يظن أنه يركن إلى الإحجام، ويتربص الدوائر والعرصات من سهام الأيام، فأخلف الله ظنه، وعجل هلاكه، وضعفه ووهنه، وتحقق أنه الطود الذي لا يلتقى، والسور الذي أحاط بالشام فما إن يتسوّر ولا يرتقى، فأجفل إجفال الظليم، وطلب النجاة لنفسه ولم يلو على مال ولا حريم، وحفظ الله تعالى بثباته الإسلام، ورفه خواطر أهل الديار المصرية، وصان أهل الشام، وعادت العساكر المصرية إلى بلادها، عود الصوارم إلى أغمادها، والأجفان إلى رقادها، والجنوب إلى مهادها، وافتدى بالسلطان الشهيد قدس الله روحه كما مضى وسبق، وجاءت النصرة بحمد الله تعالى كما أراد لا كما اتفق، وأصبح وأمسى يثني عليه عدوه، فيقول حاسده: صدق؛ وبدل الله المسلمين بالأمن بعد الأوجال وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ
«2» . وكان من خبر كذا وكذا.
قلت: ولشهاب الدين محمود في معنى ذلك:
أما بعد حمد الله، ميسر أسباب النجاح، وجاعل قوائم العاديات في مصالح الإسلام كقوادم ذات الجناح، فهذه تطوى لها الأرض كما تطوى لذي الصلاح، وتلك يتسع لها مجال الفضاء كما يتسع لمرسلات الرياح، وربما تساويا في سرعة(12/379)
القدوم، وامتازت الخيل في سرى الليل بمشابهة الفلك ومشاركة النجوم، إلا أن الخيل يعينها قوة راكبها وثباته، ويغريها بالسبق حدة عزم راكضها وثباته، ويطوي لها شقة الأرض حسن صبره على مواصلة السرى، ويقرب لها النازح طول هجره لطيف الكرى، حتى إن بعض راكبي بريدها يكاد يعثر طوق ليله بذيل صاحبه، ويلتبس على ناظره ومنتظره غدوه في المهمات برواحه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان الرعب يتقدمه مسيرة شهر إلى العدى، والوحي يأتيه من السماء بخبر من راح لحربه أو اغتدى.
فإنه لما كان البريد جناح الممالك، ورائد المهمات الإسلامية فيما قرب أو نأى من المسالك، وبه تنفذ المهمات في أوقاتها، وتتوافق الحركات فيما يتعين من ميقاتها، وتعرف أحوال الثغور على اتساع أطرافها واختلاف جهاتها، كان المبرز في ذلك من عرف منه السبق وألف، وسلم له التقدم في السرعة من نظرائه فما ارتيب في ترجحه ولا اختلف، فكأنه شهاب يتوقد في سمائه، أو برق تألق في أذيال الغمام بسرعة وميضه وانطوائه.
ولما كان فلان ممن جلى في هذه الحلبة، وبرز في ارتقاء هذه الرتبة، فبلغ إليها غاية لا يشق غبارها المثار، ونشر منها راية لا يتعلق منها الريح الخوافق بسوى مشاهدة الآثار، فسار على البريد في قوة الهواجر المثبطة وشدتها، وقصر الليالي المعينة على السوق وتقارب مدتها، من دمشق المحروسة إلى الديار المصرية في يومين ونصف، فكان له بذلك مزية على أقرانه، ودرجة لا يرتقي إليها إلا من جاراه إلى مثلها في ميدانه؛ وسأل من علم ذلك أن يكتب له خطه بما علمه، وأن يشهد له بما تحققه من هذه الحركة التي رفعت بين الأكفاء علمه.(12/380)
عدنا إلى ابن العطار:
ومنه رسالته في البندق أولها: أما بعد حمد الله على ما أسبغ من نعمائه، ووالى من آلائه، وأباح الإنسان من شرائه، وفسح له فيما يتدرب به ليوم هيجائه، ويعده من قوة لدفع الصائل عليه من أعدائه، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وصحبه وخلفائه وحلفائه، ما مدّ الكف الخضيب وتر البرق لقوس الغمام، وحلق طائر الفجر نحو الغرب من وكر الظلام، فإن الصيد مما اتفقت الشرائع المختلفة على تحليله، ولهجت النفوس الأبية، بتقديمه على سائر الملاذ الرياضية، وتفضيله مع أنه الراحة التي لا تنال إلا بتجشم التعب، والمسرة التي لا تدرك إلا بعد النصب واللغب، وألذه من القلوب موقعا، وأمكنه من النفوس موضعا، ما أدركه المرء بنفسه واكتسابه، لا بمشاركة بزاته وفهوده وكلابه؛ ولذلك أجهد نفوسهم فيه كثير من الملوك والخلفاء، ولم يرضوا بالصيد من وجه الأرض، فعمدوا إلى الصيد من كبد السماء، ولم يجدوا ذلك إلا في صرع الطائر الجليل، الذي لا يشترك فيه صغير مع كبير، ولا حقير مع جليل، ولو لم يكن فيه مع حصول المراد، إلا السلامة من التقطر عن الجياد، لكان أولاها بالاختيار، وأحقها عند الاختبار، وأنفوا من بقايا كسائر، كأشلاء الذئاب، وفضلات ما أكلته الفهود، وولعت به الصقور، وولغت فيه الكلاب، فعمد كل منهم إلى الانفراد في رمائه، وصرع كل طائر يتخبط في ذمائه، مخلّق بدمائه، مراصد بارتقائه لعيون الأوتار في التفافه وتحليقه، حذر في حالتي اجتماعه وتفريقه، وتغريبه وتشريقه، وإذا فكر اللبيب فيما أودعه الباري جلّ جلاله من القوى فيها، ظهر له أسرار ما أخفاه من بدائع صنعه بين قوادمها وخوافيها.(12/381)
فمنها التّم «1» ، الذي هو أتمها صورة، وأعظمها سورة، قد علا على الغيوم لرمي بنادق النجوم، وخاض بحر الظلام، وعبّ فيه، وأخذ منه قطعة بساقيه وقطعة بفيه، حتى ورد على جبال من برد، فاكتسب منها رياشه، واكتسب من بياضها أرياشه.
ثم الكيّ «2» ، الذي هو في طيرانه، واعتنانه في مضماره واستنانه، كالفارس في ميدانه، كأنه النجم في حالة الرجم، لو عارضه السماك لاقتلعه، أو الحوت لابتلعه.
ثم الإوز «3» ، الذي يمشي متبخترا، وينقر متحذرا، كأنما يدوس على مثل حد السيف ويمتاز على أبناء جنسه برحلة الشتاء والصيف، يبيت على فرد رجل واحدة، ويرمق موهما أن عينه راقدة، وليست براقدة.
ثم اللغلغ «4» ، الذي يوافي من بلاد الخزر، ولا يتقي من البندق سهام القدر، ولا يخشى أن تصيبه عين من الوتر، لا يحارب إلا بسحر الجفون من خزر العيون، ولا يستجن إلا من تدبيج الصدر بزرد موصون.
ثم الأنيسة «5» ، تتهادى تهادي الطاووس، وتختال اختيال العروس، حتى تلتقط حبات القلوب، وتصيد سوافر النفوس؛ كم قطعوا في طلبها من أنهار نهار، وسمحوا بإنفاق أكياس النجوم من خزائن الليل وما فيها من درهم ودينار، فما فازوا بوصالها، ولا ظفروا إلا من على وجه الماء بطيف خيالها.(12/382)
ثم الحبرج «1» ، الذي تهادى في مشيته غير مروع، وكأنما على كتفيه بقايا من صدأ الدروع، لم يتدرع بمقاصة الأنهار، ولا أوى إلى ظل الأشجار، بل برز كأنه مناجز، يشير ألا هل من مبارز.
ثم النّسر «2» ، الذي علا عليها شأنا، وغدا لها سلطانا، وسار فيها بالعفاف عن دمائها أجمل السير، وتحصن من قنة الجبل بقبة السماء، فأصبح صاحب القبة والطير، حتى لقد ضج الأبد من عمر لبد، «3» لما طالت صحبته له على رغمه واستعان به النمروذ في الصعود إلى السماء على زعمه، فما ظنك بفتية تقصد صرع من هذه قواه، ومن جملة أنجم السماء أخواه، لو صارعه عقاب الجو لصرعه، أو عارضه أحد النسرين لما قدر أن يطير معه.
ثم العقاب «4» ، التي اشتهر منها الشهامة والضراوة، حتى اشتهر ما بينها وبين الحية من العداوة، فإنها توسد فرخها لحوم الأرانب، وما عنقاء مغرب عندها إلا كبعض الجنادب، وطالما حلق وراء كل جيش عصائب منها تهتدي بعصائب «5» ، من كل لقوة ذي دكنة وقوة، تخال الغواني ضمختها بالغوالي، أو درعتها الغوادي مدرعة الليالي «6»
: [الطويل](12/383)
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
وأما التي تجهل بأسباقها، ولا تجهل بأعناقها، فنقول:
ثم الكركي «1» ، الذي فاق العقاب في قوة طيرانه والنسر، وأم مصر من الدربندات «2» ، ولم يبعد على عاشق مصر، نجعت من أقصى البلاد وآفاقها، خوارج في طلب أقواتها وأرزاقها.
ثم الغرانيق «3» ، التي لا تبرز إلا محمرة الحدق، لقوة الغيظ وشدة الحنق، حذرة من قوس الرامي وبندقه، مدرع كل طائر منها محبوك الزرد من مغرزه إلى مفرقه.
ثم الضّوع «4»
الذي زاد على الطيور طولا وعرضا، وأعد للدفاع من مغرزه ما هو أنكى من السيف والسنان وأمضى، وطالما رام الرامي إلحاقه بإرسال البنادق وراءه، فأتعب جياد القسي وأنضى، كأنه قطعة من الغيم تصرفها الرياح، أو بقية الغلس من الليل على وجه الصباح، وكأنما ورد مرة نهر المجرة، ورعى نرجس نجومه كرة، وخاف أن يكون له إليها كرة.
ثم المرزم «5» ، الذي يبارز بجوشن مورد وجؤجؤ مزرد، كأنه صرح ممرد، كأنما خرج من الهيجاء في طلب النجاء، وبه رشاش من الدماء، فتبصر فإذا الطير مسخرات في جو السماء.(12/384)
ثم السّبيطر «1» ، الذي يبارز مبارزة الشجاع، ويلتقم الأفعوان والشجاع، قد تبدأ الرماة بصدره وبنحره، وليس جوشنه من جناحيه إلا قدامه ووراء ظهره.
ثم العناد «2» ، الذي اشتد بأسا، واختار شعار الخلفاء لباسا، وما سمح بإظهار ذوائبه وأشرافها، إلا ليعلم أنها من عظماء الطير أشرفها، قد تحلى من الحدق المراض، بالضدين من السواد والبياض، وما منها إلا ما يزاحم النجوم بالمناكب، كأنه يحاول ثأرا عند بعض الكواكب، لا يبرز إليها رام إلا راجلا وهو مشمر للذيل، غارق إلى وسطه في وحل وسيل، يصرع فارسا من السماء على أشهب الصبح وأشقر البرق، وأدهم الليل.
ومنه قوله:
وأعلى في الخافقين خوافق أعلامه، وبسط على البسيطة قوادم عدله وخوافي إنعامه، حتى لا تشرق شمس إلا على ما ملكت يمينه، ولا تلقاه ملك إلا خضع له بالسجود جبينه.
المملوك يقبل الأرض، ويجمع بين الطهورين، صعيدها الطيب، وسحابها الصيب، وينهي ورود المثال الشريف، فتناول منه كتاب أمانه باليمين، وأعطي بمبايعته اليمين، ولثمه وهو موضع رغبات اللاثمين، وورده فرأى العجب، إنه البحر العذب، ولا يقذف من الدر إلا الثمين.
ومنه قوله:
وكانت المملكة الحلبية من ممالكنا بمنزلة السور على البلد، والروح من(12/385)
الجسد، وقد علم تعلق الروح بالجسد، واتفق لها الانتقال إلينا، ولنا بها إلى ربه الانتقال، وأصبحت من يميننا في اليمين، وكانت وهي من الشمال في الشمال، ولم نر لها إلا من غذي بلبانها، وعني بشأنها، وعد فارس حلبتها يوم رهانها، فطالما طمحت إليه بنظرها، واحتمت به من غير الأيام وغررها، فكفاها الأمور الجسام، وحمى حماها وكيف لا تحمى وهي ذات جوشن بالحسام، ولم يزل طامح نظره حولها يدندن، ولهجة أمله بها تلجلج، وعنها لا لا ترن «1» ، رأينا إنالته هذا المطلوب، وقضينا له منها حاجة كانت في نفس يعقوب، وحكمناه من ذلك فيما طلب، ومثله من حلب الدهر أشطره، ونال الزبدة من حلب.
وكان الجناب الحسامي هو الجناب المخصب لرائده، العالي عن مسامتة مستاميه ويده، فخرج أمرنا العالي أن يفوض إليه نيابة السلطنة المعظمة بالمملكة الحلبية، وقلدناه أمورها، ومن أحق من الحسام بالتقليد؟ وجردناه للانتصار به، ويظهر أثر الحسام عند التجريد، وليتفقد الجيوش ولا يفسح لهم في الركون إلى الأعذار والميل، وليتل عليهم وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ
«2» ولا يستخدم إلا كل شهم شهد الوقيعة، إذا قفل الجيش كان ساقة، وإذا توجه كان طليعة، والبريد والحمام، هما رسل المهام وأعلام الإعلام، وأرسلهما في كل مهم معا، وليجمع بين تجهزهما وإن لم يجتمعا، وليرتب أمورهما على أجمل الأوضاع، ليتوافيا على انفراد واجتماع، فكثيرا ما سبق البريد السائر، وجاء قبل الطير الطائر، فبلغ المرام، وعاق الحمام الحمام.
ومنه قوله:(12/386)
أعز الله أنصار المقام، ولا زالت مكارمه كالبحر تقذف لمن جاز به بدرّه، والروض يسابق من مر عليه بنشره، والمسك يبادر من دنا منه بعطره، والغيث الذي لا يقتصر على سائله بفيض قطره.
المملوك يقبل الأرض التي من حل بها نال الغنى، ومن خيم بدارها نال المنى، وما اجتاز بها إلا من وافاه إسعافه وإسعاده، وما سار أحد في الآفاق إلا ومن إنعامها راحلته وزاده، وينهي ورود كتاب فلان، يصف إحسان مولانا إليه وإنعامه، وما تعجل في مقامه الأمين من دار الكرامة، وإقامته به وبعسكره في حالتي توجهه وعوده، وشكر سحابه العميم وجود جوده، وشكر المملوك عنه صدقات ملل لا يخلو نازل من إكرامه، ولا راحل من إنعامه، ولا يزال في الإقامة والظعن، إما يؤويهم إلى كنفه أو يرسل عليهم ظلة من غمامه، وتلك سجية مولانا التي جبلت على الإحسان إلى كل إنسان، واصطناع المعروف إلى المعروف وغير المعروف، والله تعالى يوزع الدهر شكر مولانا الذي شمل بره الأنام، وسطرته أنامل الحمد في صحائف الأيام.
ومنه قوله:
ووصلنا معه طرابلس، فنزل بساحتها، وجعلها للعساكر المنصورة موطن راحتها، وموطن إباحتها، وقد تكفل البحر لها بالامتناع، وضمن لها ما يزيد على حصانة القلاع، وأمدها من بلاد الفرنج كل يوم بمدد، وواصلها بالمراكب الكثيرة العدد، بما يزيد على أمواجه في العدد، فوصل رسل أهلها وتوسلوا بالذرائع، وبذل الأموال والقطائع، وعمارة المئذنة والجامع، فلم يقنع منهم بغير الإسلام، أو تسليم البلد بجملته، وإعادة القبلة من شرق بيعته إلى قبلته، فاعتصموا بالأسوار، وركنوا للقتال من وراء الجدار، وأطلقوا نحو كل سهم من(12/387)
المنجنيق يشير عليهم بنانه بالإيمان، ويميل تارة إليهم وتارة إلينا ويميد كالنشوان، فنصبنا مجانيقنا قبالة مجانيقهم التي نصبوها من وراء أسوارها، ولم تزل ترميهم حتى عاد السور رميما، والحجر الذي كان بأعلى الأبراج في أسفل الخندق هشيما، وكثيرا ما كانت تتبر مجانيقهم فتقضي عليهم ببوارهم، وتبشرهم من أول أمرهم بإدبارهم، وتصيبهم قارعة بما صنعوا أو تحل قريبا من دارهم، فرجعت عليها العساكر المنصورة، وفي عاجل الوقت ملكوا الباشورة، فعلموا أنه لم يبق سوى الإسار، أو القتل أو الفرار، فالتبست على كل منهم مذاهبه «1» : [الطويل]
فراحوا فريقا في الإسار وبعضهم ... قتيل وبعض لاذ بالبحر هاربه
فهجمت العساكر المنصورة عليها هجوم الليوث الضواري، وعاجلت أكثرهم عن الالتجاء إلى المركب أو الاعتصام بالصواري، وتصرفت فيمن بقي منهم يد القهر، وتنوعت فيهم من القتل والنهب والسبي والأسر.
ومنه قوله مما كتبه إلى أبي الفضل بن عبد الظاهر «2» : [السريع]
سقى وحيّا الله طيفا أتى ... فقمت إجلالا وقبّلته
لشدة الشوق الذي بيننا ... قد زارني حقا وقد زرته
وافى من الجناب العالي المحيوي، آنس الله المملوك بقربه، وحفظ عليه منزلته من قلبه، وهداه إلى الطريق الذي كان قد ظفر فيها بمطلب البلاغة من كتبه، ولا شغله بسواه حتى لا يسمع غير كلامه، ولا يرى غير شخصه ولا ينطق إلا بذكره لغلبة حبه، ولا رآه في المنام، ولا رآه في خفية واكتتام، ولا شاهده بدعوى(12/388)
الأحلام، بلى فإن المنى أحلام المستيقظ، وهو به طول المدى حالم والناس نيام، ولا ينكر الإخلال بالمكاتبة على نائم، والقلم مرفوع عن النائم، غير أن المملوك الظاهري أماته الشوق فانتبه، بعد ما زاره بعينه، وهو لا يتأول ولا سيما في أمر ما اشتبه، وما كانت زيارته له إلا منافسة له بظنه أن المملوك علقت به سنة الكرى، ومناقشة لطلبه زور الخيال حقيقة لما سرى، لينفي الوسن عن نظره، ثم ينصرف على أثره، ولما سجدت له الأجفان ظن بها سنة فزارها منبها، وما كان إلا ساهيا بمزاره عن خدمته، فلا ينكر على جفنه السجود لما سها، ولكم غلة للشوق أطفأ حرها بمزاره، وأغلق به أشراك الأجفان خيفة من نفاره، وعقله بحبائل جفنيه خشية أن تنزع يد اليقظة حبيبه من جنبيه، وضمها على خياله ضم المحب للعناق يمينه على شماله، ولكن ما فاز بالعناق إلا يد ويدان، وعناق المملوك للطيف من فرط الوجد بأربعة أيد من الأجفان، وإن لم تؤخذ هذه الدعوى منه بالتسليم وقيل: ما زاره بل استزاره فكر له في كل واد يهيم، فبلى وحقه لقد صدق مرارا؛ إن الكريم إذا لم يستزر زارا «1» ؛ وتالله لقد وافاه ووسده على حشاه ويمناه، متشبثا بأذيال دجاه، وفجأه فوجده على أبرح الوجد الذي عهده، إلا أن ضيف الطيف ما اهتدى إلا بنار أشواقه، وما سرى بل سار في ضياء من بارق دمعه، وما يوري قدحا من سنابك براقه، وتسور أسوار الجفون، وخاض السيول من العيون، كيف لا وهو يتحقق أن لقاءه المراد، وإذا هو نام زاره طيف كرى في الرقاد.
* فأجابه ابن عبد الظاهر «2» : [السريع]
في النوم واليقظة لي راتب ... عليك في الحالين قررته(12/389)
تفضل المولى إذا زاره ... طيفي خيالي منه أن زرته
ورد على المملوك، أدام الله نعمة الجناب العالي الكمالي، ولا أسهر جفنه إلا في سبيل المكارم، ولا سهدها إلا في تأويل رؤيا مغارم الفضل التي يراها من جملة المغانم، وجعله يتغمر بحلمه هفوة الطيف، وكيف لا يحلم الحالم- كتاب شريف حبب إليه التشبيه بنصب حبائل الهدب من الجفون، والاستغشاء بالنعاس، لعل خيالا في المنام يكون «1» ، وليغنم اجتماعه ولو في الكرى، وتصبح عينه مدنية وإن مضى عليها زمن وهي من القرى، وينعم طرفه من التلاقي بأحسن الطرف، ويقول: هذا من تلك السجايا، أظرف الهدايا، ومن تلك المزايا ألطف التحف، ويرفع محل الطيف فيرقيه من الهدب في سلالم، بل يمطيه طرف طرفه ويجعلها له شكائم، لا بل يرخيها لصونه أستارا، ولا يصفها بأنها دخان إذ كان يجل موطن الطيف الكريم أن يؤجج نارا، ويعظمه عن أنه إذا أرسل خياله رائدا، أن تتعبه المناظر، وأن يكلفه مشقة بسلوك مدارج الدموع، إذ هي محاجر، ثم يخشى أنه يحصل نفور من التغالي في وصف الدموع بأنها سيول، فيهوّل من أمرها ما يهول، ويقول: هل الدمع إلا ما يرش به بين يدي الطيف؟ وهل الهدب على تقدير أنها دخان إلا ما لعله يرتفع لما يقرى به الضيف؟ وعن إبراد الأجفان بهذا، وإسخان العيون بهذه، وهل هما لإيلاف الخيال إلا ما يقصده من رحلة الشتاء ورحلة الصيف؟ ثم يحتقر المملوك إنسان عينه عن أنه يلزمه هذا الأمر تكليفا، ويتدبر قوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً
«2» ويقول له: لا تطيق القيام بما لهذه الزورة للزوم من الوظيفة، لأن(12/390)
النوم سلطان وخليفة، وأنى بذلك مع خليفة الحبيب، ويد الخلافة لا تطاولها يد؟ والعيون في الصبا زورتها حقيقة، ويمكن ألا توصف إلا بأنها ضعيفة، فنقول: كم مثلي إنسان تطاول لاستزارة الطيف حتى طرق؟ وكم خيال أتى على أعين الناس فجاء محمولا على الحدق؟ وكم محب درأ عن النوم بشبهة تغميض الأجفان عن غير غمض حد القطع على السرق؟ ثم يأخذ في طريقة غير هذه الطريقة، ويرى الاكتفاء بالمجاز عن الحقيقة، وإذا أقامت العين الحجة في تصويب استزارة الخيال يقول: ما هذه من الحجج التي تسمى وثيقة، ويرى أن تمثل الشخص الشريف في الخاطر قد أغناه عن أنه يتقلد منه الكرى، وكفاه أنه ينشد: [الكامل] سر الخيال بطيفه لما سرى
ولم يحوجه حاشاه إلى أنه يزور له محضرا، ولا أنه ينشد:
أترى درى ذاك الرقيب بما جرى «1»
اللهم إلا أن يورد مورد العين أنفع ما يدخر، والعين الصافية ما برح عندها من الخيال الخبر، وإذا كان القلب متولي الحرب مع الأشواق، فكيف يشاحح الخيال على أنه متولي النظر؟ فحينئذ يشتاق إلى الوسن، ويمد له من الهدب الرسن، ويزور ويستزير، ويقصر ويتلو وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
«2» ويذهب لأجل ذلك مذهب من يرى أنه يقدم على الأيام الليالي، ويعظمها لأنه مظنة هجمة الخيال، ويجعل جفونه أرض تلك النجمة التي تغلب عليها، وما برحت تغلّب لها أرض الجبال؛ وأما النيل فكم احتقره المملوك بالنسبة إلى كرم مولانا ونواله، وتكرّه(12/391)
مذاقه بالإضافة إلى زلاله، وتحقق أن مقياس راحته هو الذي يستسعد به الأمم، وأن الأصابع من الأصابع الكريمة، والعمود القلم، وأن طالب ورد ذاك تعب، وطالب جود سيدنا مستريح، ويكفي واصف نواله له وهو غاية المديح.
* وأمّا ما لابن العطار من شعر فكتب أبو الفضل عبد الله بن عبد الظاهر إليه «1» : [البسيط]
لا تنكرن على الأقلام إن قصرت ... له مساع إذا أبصرتها وخطا
فعارض الطرس في خدّ الطّروس بدا ... من أبيض الرمل شيب فيه قد وخطا
فقال ابن العطار يجيبه «1» : [البسيط]
أقلام فضلك ما شابت ولا قصرت ... له مساع إذا أنصفتها وخطا
بل عارض الطرس لما شاب غيّره ... بعشبة قبل شيب فيه قد وخطا
ومنه قوله في رثاء الظاهر بيبرس البندقداري «2» : [الكامل]
بكت القسي لفقده حتى انثنت ... ولها عليه من الرنين تحسر
ولحزنها بيض الصفاح قد انحنت ... وتبيت في أغمادها تتستر
أرخت ذوابله ذوائبها أسى ... ولرنكه وجه عليه أصفر
ولواؤه لبس الحداد فهل ترى ... كان الشعار لفقده يستشعر
ملك بكته أرائك وترائك ... وملائك وممالك لا تحصر
ولكم بكته حصنه وحصونه ... ونزيله ونزاله والعسكر
من للمالك بعده من كافل ... كم حاطها بالرأي منه مسور
قد حرك الثقلين هول مصابه ... فالظاهر المودي أو الإسكندر(12/392)
23- ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي
«1» * صدر إيمان وعلا، وبدر زمان أضاء الظلم وجلا، مجيل قداح من الأقلام، ومجيد اقتداح يشقق عن البرق جيوب الظلام، حلف زهد وورع، وجدّ طال به الأنام وفرع، وكان قريع علم لم يدعه إذ رأس، وفقه طالما ارتبط عليه ودرس، من بيت يتمسح بأركانه، ويتمسح من إمكانه، ولم يزل أهله أهلة كتاب، وأهل سنة وكتاب، وخدموا الدول، وختموا بالأمانة الأيام الأول، وكانوا كتاب إنشاء وحسّاب، وأصحاب إرث واكتساب، وأرباب فخار بنفوس وانتساب، ومنهم جماعة حلوا الممالك فوشوا حبراتها، ووشعوا بذائب النضار أصلها وبكراتها، وكانوا أهل مدائح علقت كالسحاب، وعقت البحر وتعلقت بالسحاب، مع نسب في آل المغيرة، لا تطمع في سرح كواكبه مواكب الصباح المغيرة، وكان يتروى ثم يأتي بنثر يفوق كثيرا، ويضحي على ورقه سقيط الطل منثورا، مع قضاء باء بيمن نقيبتها، ويجيء بدارين في حقيقتها، مع مروءة ما غبنه فيها شريك، ولا فتنه عنها سطا سلطان ولا مليك، وكان يجلس بين يدي كافل الممالك لقراءة قصص المظالم، وهو يقرأ القرآن الكريم، فإذا مر بآية سجدة استقبل القبلة وسجد، وربما استدبر كافل الممالك لأجل اتباع القبلة، فوجد عليه لهذا، وقال لعمّي في الاستفال به، فكان يدرأ عنه حده، ثم يوصيه فلا تفيد الوصايا عنده، بل يقرأ فإذا مرت به آية سجود سجد، وما عليه أن لا يجد في نفسه عليه أو وجد، مع ما كان هذا الرجل في إنابة الأدنين من كبراء شمخت بهم المناصب، وشدخت هامة المناصب.(12/393)
* ومن نثره قوله:
وبعد، فإن أولى ما عظم في النفوس، وازدانت به المحافل والطروس، الشرع الشريف، وبه زجر أهل الاجتراء والاجتراح، وتحقن الدماء وتستباح، ولهذا تعين أن لا يحل ذروته السنية، ورتبته العلية، إلا من انعقد الإجماع على أنه للولاية متعين، وأن موجب استخلاصه واختصاصه للمباشرة بين؛ ولما كان فلان هو العالم الذي ليس لفضله جاحد، والفقيه الواحد الذي هو أشد على الشيطان من ألف عابد، والذي عادل دم الشهداء مداده، وماثل البحر الزاخر مدده في الفضائل واستمداده، وباشر قضاء القضاة وقضاء العساكر المنصورة بالشام المحروس مدة متطاولة، وشكرت مباشرته المنصبين، وحكم بأهليته لما قامت البينة من خبره وخبره بشاهدين، وبرأت من عيون الأعيان إحكام الأحكام ولا أثرة بعد عين، وأبدع في تقريبه المسائل وتقريره وتحويره، وتحيّل حتى قيل: هو في العلو والعلوم شريك القاضي شريك، وبأنباء الشريعة المطهرة هو الخبير الذي ينبيك؛ وبلغنا أنه في هذه المدة حصل له في أثناء البحث ما أزعجه وأحرجه، وعن خلقه الرضي أخرجه، وامتنع من الحكم أياما، ولم يجر له في الأمور الشرعية لسانا ولا أقلاما، فاقتضى اعتناؤنا بالشريعة المطهرة، إشخاصه إلى بين أيدينا «1» ، واستعلام سبب ذلك يقينا، وأن نصرح له بتجديد توليه تولية مناصبه، وتأكيد رفعة يكف بها مناصبه.
ومنه قوله:
وينهي أن المشرف العالي ورد إليه فتنسم أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب بتعبير رقياه،(12/394)
فرأى خطه وشيا مرقوما، ولفظه رحيقا مختوما، ووجده مختوما على درر كلامية، وبشر منامية، وحديث نفس عصامية، نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأنبائه حفاظا
ومنه قوله يصف يادة النيل: وأقبل يعب عبايه، ويكاثر البحر المحيط انسكابه، ويطاوله وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ
«1» وأمر زيادته يعظم عن الشرح ويكبر، ومشاهده لقدرة الله فيه يتلو وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
. «2»
وقد تلقته البلاد تلقي المحب لحبيبه، والعليل المرتقب لطبيبه، وهو كلما حل بقعة صد صدا، وأجدى جدا، وكلما حباها بأصبع شكرت له يدا، وكان قد وصل في أثناء ذلك المفرد من الأعمال القوصية مخبرا بوفائه، واقتضى مذهبنا الشريف الحكم بخبر المفرد، والعمل بما عنه يروى وإليه يستند، ومع ذلك حصل التثبت إلى أن نقل هذا الأمر من الخبر إلى العيان، واستحق خليج مصر أن يفك عنه الحجر، ويجري مطلق العنان، ومن غرائب هذا البحر وإن كثرت فيه الغرائب ومنه الغرائب، أنّه كلما تكدر تتبسم له الثغور وتفتر، وأنه نيل أزرق وبصبغه تروق البلاد وتخضر، وسطرناها والخواطر الشريفة واثقة بسقيا أمنت من فوتها، والعيون ناظرة إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، والديار المصرية قد غدت للري في أكمل زي، وأبدت تموج الحلل وتبرج الحلي، وزهت حسنا بالزيادة في الحسنى، وتلا على ساكنها لسان الرحمة وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«3» فالمجلس يحمد الله لما أعاده على الوجود من إشراقه وأنسه،(12/395)
ويستديم النعمة بالشكر وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
«1»
والله تعالى يجعل هذه الرحمة إلى جهاته حسنة التفريج، مناظره بها ناضرة الرياض في التدبيج، مظهرة فيها معنى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
«2»
ومنه قوله:
وينهي ورود المشرف العالي، فاطلع من جواهر الألفاظ ما لو شاهده البدر لما أسفر، أو سمع به عبد الحميد لأحب أن لا يذكر، فتنزه في رياض كتابته التي أينعت أغصانها؛ وأبهجت بفنونها أفنانها، فلولا حلها وحرمة السحر لقلنا سحرا، ولولا أنه شغل الأعناق بمننه لقلدناها- إذ هي الدر- نحرا.
ومن قوله يذكر النيل:
وأمست التّراع من تراع، وأصبح الجدب مع ما كان فيه من القوة وقد أخذ في النزاع، وحققت به عروس مصر أن يزيد كقطرة في بحرها إذ يزيد «3» وأن باناس «3» لا ترفع به خلجانها من رأس «4» وأن ثورا «3» لو حف به شرب لما كمل دورا، وأن كل رابية منها تربي على الربوة والنيرب «4» وكل برق ما عدا برق سحابها الهاملة خلب، وأنها تخلب القلوب بالملق، وتسلب الألباب بالحدائق لا الحدق، وأن البسطة في البسطة «5» ، والنزهة في ربيعها إذا نسج بسطه، وأنها(12/396)
عما قليل تتجلى في حللها النضرة، وتتبين أنها لا ما عداها الدنيا إذ هي الخضرة.
24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء «1»
* جبل أدب لا مطمع في ارتقائه، وبحر علم لا مطمح إلا إلى ما يؤخذ من تلقائه؛ رقى السماء وتلقى من ربه كلمات علم بها الكتّاب الأسماء؛ ناضلت الدول بأقلامه، وكلمت ملوك العدى بكلامه، فحظي ببرها، وخطب لحفظ سرها، وتقدم باستحقاقه، واستعبد الكلام الحر باسترقاقه، وأقام بالشام ثم بمصر فطاب به الواديان كلاهما، وأغدق نوؤهما وكلؤهما، وكان كاتبا لا يعرف له نظير، ولا يعرف مثله في الزمن الأخير، تعين بدمشق فكان للكتاب والدا، وتفرد بمصر فبقي سهما في الكتابة واحدا، وكان بابل سحر، وعنبر شحر، وعانة مدام، وغاية إقدام، وغابة أسد ذي ظفر دام، لم يزل نجي ملك همام، ورسيل بحر وغمام، بكتب طالما أينعت روضة زهر وأفق سماء، نرجسه الثريا ومجرته النهر؛ وكان لا يرضى بدارات الأقمار لزهره كمامة، ولا بالهلال لظفر قلمه قلامة، بأدب دق على الأدباء، ورق فنسب الجفاء إلى الصهباء، فأشفق الشفق أن يكون لكؤوس كلمه مدامة، ودخان الند أن يكون على عنبر سطوره غمامة، وكان في الديوانين يتصدى لمهمات الإنشاء، فكم أطال لوجوه الأيام غررا، وقلد أعناق(12/397)
الممالك دررا، من تقاليد لو شيدت العماد لماماد، أو حبا بفضلها الفاضل لأنطق الجماد، أو أثرت ابن الأثير لاستغنى مما يثير، أو بنى على أبكارها ابن بنان لما ضم له على قلم بنان، أو خلّت شيئا لابن الخلال، لتاه بكرم الخلال، أو خصت ابن أبي الخصال بخصلة لطال بها وصال، وكسر على النصال النصال، إلى نظم وطئ بأخمصه الطائيين، وأفنى بخلود الذكر مدة الخالديين، بما أهدي إليه وترك الكندي مضللا، وخلى العزيز في قومه ابن أبي سلمى مذللا، حتى لو وسم عبيد بولائه في القريض لما قال: حال الجريض «1» ، فأما في توليد المعاني ففات ابني هاني «2» ، ونهض جده وسقط صريع الغواني؛ فمن نسيب نسي به القديم، وغزل ذكر به كل غزال ورئم كل ريم، ورثاء أسكت النائحتين الديلمي وذا النسب الصميم «3» ، وتشبيه ثلّث الملكين ابن المعتز [و] تميم «4» ، إلى تباس «5» أرهب العسكري في «الصناعتين» ، وفلك جرض «6» الراغب والجاحظ في البراعتين، وكان في كل منهما إماما، وسح في كل منهما غماما، بسجع كم غازل على أيكه حماما، وأعطى الغواني على حلي ذماما، وشق على لبة النهر أطواقا، وأرخى على أنامل الغصون أكماما؛ ثم ولي بدمشق صحابة ديوان الإنشاء، وأطلع في الصباح نجوم العشاء.
وهو شيخي في الأدب، وإن لم يكن لي أبا مثل أب، لزمته منذ قدم دمشق حتى مات، أقرأ عليه وأقرئ مما لديه، ومن حواصله أنفقت وجمعت وفرقت،(12/398)
وسددت إلى الغرض وفوقت؛ وأقول ولا أخشى: فمهما وصفته به من المحاسن صدقت، لأن الرجل أشهر من الشمس، وذكره أسير من «قفانبك» ، قد أنجد ذكره وأتهم، وأعرق وأشأم، وغنى به الملاح والحادي، وغني به سكان الجبل والوادي، هذا إلى ما له من المشاركة في علم الحديث، وحفظ المتون والرجال، والاطلاع على آراء الناس ومذاهب الأمم في الملل والنحل، وفرق الخلاف ومواضع الاختلاف، وضبط التاريخ، واستحضار الوقائع، وذكر نوب الدهر، وتصاريف الزمان، وأيام العرب والعجم، ومعرفة النسب ودول الخلفاء والملوك وأحوال الوزراء والكتاب والشعراء، ومشاهير الأمة والأعيان من أهل كل علم، والمقدمين في كل فن والمبرزين في كل صنعة، وأسماء الكتب المصنفة والمجاميع المؤلفة، وإجادة النظر في معرفة الخطوط، والإلمام بكتابة المكاتيب الحكمية والشروط، إلى معرفة الأمثال الجاهلي منها والمولد، والملوكي والسوقي، وأمثال الخواص والعوام، والعربي منها والعجمي، والأصل في ضرب كل مثل، مع إتقان قوانين الديوان مما لم يجمعه سواه، ولو تفرد بواحد منه كفاه، وبه انتفع كتاب زمانه وتخرجوا عليه، وتدربوا بين يديه.
أخذ الفقه عن ابن المنجّا، والنحو عن ابن مالك، والأدب عن ابن الظهير؛ وتنقل في الوظائف، وطلبه عمي إلى الديار المصرية بعد محيي الدين بن عبد الظاهر على معلومه، وكتب بين يدي الوزير ابن السلعوس، وقل أن كتب مدة مقامه بالحضرة مهم جليل إلا من إنشائه؛ وعين لقضاء الحنابلة بمصر فامتنع، حتى بعث إلى دمشق صاحبا لديوان الإنشاء، وأقام بها حتى مات.
ومن تصنيفه كتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» و «منازل الأحباب» و «أهنى المنائح في أسنى المدائح» من نظمه في المديح الشريف النبوي، زاده الله(12/399)
شرفا، ولم يكن مثله في إعطاء كل مقام حقه موفّى، من غير زيادة ولا نقص؛ وذكر ملاحم الحروب على إفراط التهويل، في رقة الغزل، للطف تخيله، ودقة تحيله، واستعاراته، وغرائب تشبيهاته.
ومن نثره قوله في توقيع لابن جماعة، بتدريس المدرسة المجاورة للشافعي:
وهو يعلم أن ذكر هذه البقعة سار في الآفاق، جار على ألسنة الرفاق، قدر شامية الشام ونظامية العراق، وأنها جمعت من العلماء أعلاما، ومن الأمة أئمة، لولا شرف البقعة لتفرقوا في الأرض هداة وحكاما، فلا يقف في العلم عند غاية، وليجد في طلب النهاية، وإن لم يكن للعلم نهاية، وليمثل نفسه ماثلا بين يدي من نسبت إليه، ويقيم روحه مقام من جلس للقراءة عليه، وليبث ما استودعه من أسرار مذهبه ليسبر عنه من معدنه، وينقل الفضل إلى الأوطان من مظنته وموطنه، وليلق بها عصا السرى، فإنها منزلة لا ينوي من بلغها سيرا، وليحمد الله على ما وهبه من بضاعته، فإنه من يرد الله به خيرا. «1»
ومنه قوله في تقليد وزير:
وليبدأ بالعدل، فإن الله قدمه على الإحسان، وحلى بهما أيامنا، ويجانب الظلم وأهله، فإن الله أرهف بمحوه من الوجود سيوفنا وأقلامنا، ويقرنه بالإحسان، فإن الله رفع بهذا منار ملكنا وأعلى بذا أعلامنا، ويمد خزائن الأموال بمكنون تدبيره، ويعد لمهمات الدولة القاهرة ذخائر تصرفه الجميل وحسن تأثيره، وليزن ذلك بالرفق، فإنه مع الخبرة أجدى من العنف وأجدر، وإذا رام المنبتّ بلوع الغاية، فإن المتثبت أقوى منه على ذلك وأقدر، فإن النماء مع العدل كفرسي رهان، وليس الخبير من حصل الأموال بالظلم بل من حصلها والحق عزيز(12/400)
والباطل مهان، وليتحر الحق المحض فيما أمر بأخذه رفقا ويناقش على حقوق بيت المال، فإنهما سواء من أخذ لغيره باطلا أو ترك له حقا، وليجتهد في عمارة البلاد، فإنها على الحقيقة معادن الأرزاق، وكنوز الأموال التي لا ينفدها الإنفاق.
ومنه قوله:
وقلدته مهابتنا سيفا يلمع مخايل النصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حده؛ ومتى جرده على ملك من ملوك العدى، وهنت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أن سيفنا على عاتق الملك الأغر نجاده، وفي يد جبار السماوات قائمه.
ومنه قوله:
وسرنا بالجيش الذي لا يدرك الطرف حده، ولا الوهم عده، وكأن ذوائب السحاب عذب بنوده، وكأن شوامخ الآكام مناكب أبطاله ومواكب جنوده، وما قصد عدوا إلا ونازلهم قبل خيلهم خياله، وقضى عليهم وعده ووعيده، قبل أن ترهف أسنته أو ترعف نصاله؛ وإذا لمع حديده وخفقت عذبه وبنوده، قيل هذا غمام تلهبت بوارقه، ودمدمت صواعقه؛ أو بحر تلاطمت أمواجه، أو سيل غصت به فجاجه، وعكس أشعة الشمس اضطرابه وارتجاجه، وما علا جبلا إلا وألحق صعوده إليه جريه بالصعيد، وما منع الريح مواجهته إلا لتسمع صهيل خيله بأقصى الروم من أقصى الصعيد.
ومن قوله:
وما رهج العدو المخذول بالحركة ورمي الصيت؟ فإن عدة العاجز الصياح،(12/401)
وقوة الجبان في القول، والقول يذهب في الرياح؛ وقد علموا أنهم ما قدموا إلينا إلا وكان أحد سلاحهم الهرب، ولا طمعوا في النجاح وكان لهم في غير الحياة أرب، يبالغون في الاحتشاد، والجازر لا يهوله كثرة الغنم، ويستكثرون من السواد، ووجود من لا ينفع أشبه شيء بالعدم، فقوتهم ضعيفة، ووطأتهم خفيفة، وثباتهم أقصر من حل العقال، وصبرهم أسرع من الظل في الانتقال، وخيولهم لا تطيع أمر أعنتها إلا في الفرار، ورماحهم لا تحمل كل أسنتها إلا للخور والانكسار، وسهامهم لا عهد لها بالمقاتل، وصفاحهم كل شيء من القصب غيرها يمكن وصفه بأنه قاتل؛ فإن دلاهم الشيطان بغروره، فسيبرأ منهم سريعا، وإن أطمعهم في اللقاء فستردهم كلام سيوفنا كأقسام الكلام الثلاثة:
هزيما أو أسيرا أو صريعا.
ومنه قوله رسالة طردية:
لا زال يمنه يستنزل العصم من معاقلها، ويسمع السهام الصم ما تحدث به حركات الطير عن مقاتلها، ويلجئ ضواري الوحش إلى سيوف أوليائه لترقرق ماء الفرند فيها بمناهلها، وينهي أنه سار إلى ما واجه وجه إقباله، متيمنا بسعده الذي ما برح يعتلق بحباله، ومعه:
من الجوارح كل بازي شديد الأسر، صحيح على ما اتصف به من الكسر، ينظر من بهار، ويخطر في ليل رقم به أديم نهار، ذي صدر مدبّج، ورأس متوج، ومخلب خطوف، ومنسر كصدغ معطوف، أسرع من هوج الرياح، وأقتل من عوج الصفاح، ينحط على الطير من عل، ويسبق إلى مقاتل الوحش كل رام من بني ثعل.
ومن الضواري كل حام أسبق من السهم، وأخف في الوثبة من الوهم، ذي(12/402)
صدر مجدول وساعد مفتول، وأنياب عصل، وظفر أقطع من نصل.
ومن الفهود كل أهرت الشدق، ظاهر الحدق، بادي العبوس، مديّر الملبوس، شثن البراثن بأنياب كالمدى، ومخالب كالمحاجن، قد أخذ من الفلق الغسق إهابا، وتقمص من السماح والبخل جلبابا، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشمس مذ لقبوها بالغزالة لا تطّلع على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامى طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه، فلا يستعمل النظر إلا وهو في كفه، وتتقدمه الضواري إلى الوحش، فإذا وثب له تعثرت من خلفه.
ومعنا غلمة نحن بسهامهم منها أوثق، وهم بإصابة شواكل المراد من كل ما ذكر أحذق؛ إذا أخذ كل منهم حنيته أرانا القمر في القوس، وإن نظم رميته قيل: هذا حبيب وإن لم يكن ابن أوس «1» ، فما لاح طائر إلا وله من السهام أجل، ووراءه من رجل الجوارح زجل؛ إن أخطأ هذا أصاب هذاك، وربما كان لهما «2» استهام في تحصيله واشتراك؛ وإن سنح وحش، فالسهام أدنى إلى وريده من قلادة جيده، فإن فات فالكلب أعرف باختلاسه منه بكناسه، وأسرع إلى احتباسه من رجع أنفاسه، وإلا فالفهد أسرع إلى لحاقه من أجله، وألزم لعنقه لو كان يعقل من عمله، وظللنا بين قدير معجل، وقديد مؤجل، نمش بأعراف الجياد كفوفنا «3» ، ونقري من صواف الطير وأصناف الوحش ضيوفنا، وكنا بين صيد تحصل وآخر يترقب، وغدونا «4» : [الطويل](12/403)
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقد أرسلنا إليه من ذلك ما يتحقق به إن نمته أمارنا وأوري نارنا، ويستدل به على حسن ظفرنا في سفرنا، وإنارة توفيقنا في طريقنا؛ والله تعالى لا يخلي منه مكان تأييد، ويبلغه من السعادة فوق ما يريد.
ومنه قوله:
وإن المخذولين أقبلوا كالرمال، واصطفوا كالجبال، وتدفقوا كالبحار الزواخر، وتوالوا كالأمواج التي لا يعرف لها الأول من الآخر، فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بددت شملهم، وعلمت الطير أكلهم، وحصرتهم في الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها فأسرفت في القضاء، وحصدت سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، وكانوا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج منهم إلا من لا يؤبه لهم من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيدة من الفلوات إلى الفرات، بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم، وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسرة وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الآسرة، وأماته الرعب من جيوشنا المنصورة فجاءة، واستولى عليه الوجل، فجاءه من أمر الله ما جاءه.
ومنه قوله مما كتب بمآل ملك سيس «1» :
وتبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسك بأذيال العفو قبل أن يرتفع دونه فلا تسبل، وتعجل بحمل أموال القطيعة، وإلا كان أهله وأولاده في(12/404)
جملة ما يحمل إلينا، ويسلم ما عدا عليه من فتوحنا، وإلا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخر من بلاده بين أيدينا.
ومنه قوله:
هذه المكاتبة إلى فلان، لا زال مأمون الغرة، مأمول الكرة، مجتنيا حلو الظفر من كمام تلك المرّة المرّة، راجيا من عواقب الصبر ما يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرة، واثقا من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في القوة والاستظهار كما بدأهم أول مرة، أصدرها وقد اتصل به بناء ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها، وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها، ولكن لم يكن الظفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات الحرب الزبون، والاصطلاء بجمرات المنون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفقت بحارهم على جداول من معه، ولولا حكم القدر لانتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد، فلم يفد الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملى للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوضوا بما لم يعرفوه من الإقدام على ما ألفوه من الفرار وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
«1» وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا، فلا ينسب إلى من كانت عليه، إذا اجتهد ولم يساعده القدر، أنه قصر، مع أنه قد أشهر ما فعله في مجاله من الذب عن رجاله، وما أبداه في قتاله من الضرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلا(12/405)
بدره بارتحاله، وأن الرماح التي امتدت إليه أخرس سفه ألسنة اسنتها، والجياد التي قدمت عليه جعل طعنه أكفالها مكان أعنتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله «1» ووقف وما في الموت شك لواقف «2» ، ليحمي خيله ورجله، حتى يجيز أصحابه إلى فئة مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النصر إذ فاته النصر «3» ، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد، فقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر؛ وكذا فليكن قلب الجيش كالقلب، يقوى بقوته الجسد، وإذا حقق اللقاء فلا يفرعن كناسه إلا الظبي، ولا يحمي عرينه إلا الأسد، وما بقي إلا أن تعفو الكلوم وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من قلوب المضارب صدور الصفاح، وتنهض لاقتضاء دين الدّنى من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله، فإن الله يمحّص المؤمنين ويمحق الكافرين؛ والليث إذا جرح كان أشد لثباته، وأمد لوثباته؛ والموتور لا يصطلى بناره، والثائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثأره، والدهر ذو دول، والزمان متلون، إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة، فقد أشرق لكم منه بالنصر ليال أول؛ فالمولى لا يلتفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعد للحرب عدته، ويعجل أمد الاستظهار ومدته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر بما جرى عجزا،(12/406)
فإن العاجز من ظن أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتخذ غير ظهر حصانه حصنا، فلا حرز أمنع من صهوة الجواد، ولا سلم أسلم من الركاب؛ وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدرع جنة الصبر ليكون من النصر على ثقة، ومن الظفر على يقين؛ فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطولى، وإذا لاقى عدو الله وعدوه فليصبر لحملته، فإن الصبر عند الصدمة الأولى؛ والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمده بعونه، ويجعل الظفر على عدوه موقوفا على مطالبته له بدينه.
ومن قوله في مثله على الطريق المعتاد في ذم المهزوم:
هذه المكاتبة إلى فلان، أقاله الله عثرة زلته، وأقامه من حفرة ذلته، وتجاوز له عن كبير فراره من جمع عدوه على قلته؛ بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها العدو بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المحال من الطل في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف الخيال؛ يحفّون منه بقلب واجب، ويهتدون من تجريبه وتهذيبه برأي بينه وبين الصواب حاجب، ويأتمون منه بمقدم يرى الواحد ممن عدوه كألف، ويتسرعون منه وراء مقدم يمشي إلى الزحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره ظالعة، وطلائعه كالنجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعد لمحارب فتغدو لهارب، وإنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوه لما رآه من عدده وعدده بمعاجلة الحين، أعجل نصول العدى عن وصولها، وترك غنيمة الظفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة الأسنّة الكرة الكرة، ولا يلتفت إلى ندائها، وتشكو له سيوفه الظمأ وقد رأت موارد الوريد فيعيدها إلي الغمود بدائها؛ فمنح عدوه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلى لهم خزائن سلاحه التي أعدها لقتالهم،(12/407)
فأصبحت معدة لقتاله، فنجا منجى الحارث بن هشام «1» ، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتسم بين أوليائه وأعدائه بسيمة الفرار، وكان يقال: النار ولا العار، فجمع له فراره من الزحف بين النار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظبا في أكتافهم، فبأي جنان يطمع في معاودة عدوه، وهذا قلبه وهؤلاء حزبه؟
وذلك القتال قتاله، وذلك الحرب حبه؟ وبعد، كان له حمية يتطهر آثارها، أو أريحية فيشب نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدنية، وتبعثه على طلب غايتين، إما شهادة مريحة أو [عيشة] هنية؛ والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانتصاف من عدوه قبل إكمال سنته.
ومنه قوله:
فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النقع مما يثيره، وحديد الهند مما يلاطمه، والأجل منا يسابقه إلى قبض الأرواح ويزاحمه.
ومنه قوله:
وكفى السيوف فخرا أنها للجنة ظلال، وإلى النصر مآل، وإذا كان من بيان الحديث سحر، فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السحر الحلال.
ومن قوله في قريب من معناه:
حسب ألسنته الأسنة شرفا، أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها، وأن بث(12/408)
أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها، فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى الملال، وإن لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل، فليس في الحيث سحر حلال.
ومنه قول في قريب من معناه إلا أنه جعله في البلاغة:
البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهرا، وتخيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهرا، لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز «1» ، فنتأول في حله؛ وإذا كان من الحديث ما هو عقلة المستوفز «1» ، فهذه أنشوطة نشاطه البليغ، وحل عقال عقله.
ومنه قوله:
خطه شكر للعقول، وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرأى المكتوب عن فصاحة المسموع المقول، ولو لم يكن البيان سحرا لما تجسدت منه في طرسها هذه الدرر، ولو لم يكن بعض السحر حلالا، لما انجلى ظلام النقس عما يهدي به من هذه الأوضاح والعذر.
ومنه قوله مما كتب به إلى أمير سرية:
ولا زال أخف في مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى في المطالبه من زورة طيف، وأسرع في تنقله من سحابة صيف، وأروع للعدي في تطلعه من سلة سيف، حتى تعجب عدو الدين في الاطلاع على عوراته، من أين دهي وكيف؟
وتعلم أن أول قسمة اللقاء حصل عليه في مقاصده الحيف، أصدرناها إليه نحثه(12/409)
على الركوب بطائفة أعجل من السيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصي الخيل، وأقدم من النمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروع في مخاتلة العدى من الذئب الحذر، على خيل تجري ما وجدت فلاة وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناة، تتسنم الجبال الصم كالوعل، وإذا جارتها البروق غدت وراءها تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل «1» ، وليكن كالنجوم في سراه، وبعده ذراه؛ إن جرى فكالسهم، وإن خطر فكالوهم، وإن طلب فكالليل الذي هو مدرك، وإن طلب فكالجنة التي لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتي على عدو الدين من كل شرف، ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف في الإقامة عليه، إلا إذا علم أن الخير في السرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرز منهم بصرهم وسمعهم، وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدها العزم أن ترى العدو الحقير جليلا، بل ترى الأمر على قصه، وتروي الخبر على نصه، وإن وجد مغرورا فليأخذ خبره، وإن قدر على الإتيان بعينه، وإلا فليذهب أثره، ولا يهج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ عليه عين عدو، مهما ظهر له أن المصلحة في إغفائها، وليكشف من أمورهم ما يبدي عند الملتقى عورتهم، ويخمد في حالة الزحف فورتهم، وليجعل قلبه في ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسرية كشفه؛ والله تعالى يمده بلطفه، ويحفظه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه.
ومما كتبه إلى بعض نواب الثغور:
أصدرناها ومنادي النفير قد أعلن بيا خيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظفر والتأييد اقربي؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرعب(12/410)
إلى العدى، والهمم قد نهضت إلى عدو الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب، فتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والكماة وقد زأرت كالليوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الاشتغال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش وقد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحمية للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوه بل عن مكانه، والنيات على طلب عدو الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه، وما بقي إلا طي المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدو الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين، من عذاب واصل وهم ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإحالة السيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على أيدي العصابة المؤيدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمر كل شيء بأمر ربها.
فليكن مترقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقنا من كرم الله تعالى استئصال عدوه الذي إن فر أدركته من ورائه، وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في(12/411)
حفظ ما قبله من الأطراف وضمها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المخوفة ولمها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرفة ورمها؛ فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنه بالعدو وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذم عقبى مسيره، وتحقق سوء منقلبه وضميره، وتبرأ من الشيطان الذي دلاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب الفلاة وضباعها، وبين عقبان الجو ونسوره، ثقة من وعد الله الذي تمسكنا منه باليقين، وتحققنا أن الله ينصر من نصره، وأن العاقبة للتقين.
ومنه قوله:
هذه المكاتبة إلى فلان- أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدو بما يسره، وبلغه عنا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدق الصفاح وألسنة الرماح سره وأراه من عواقب صنعه الجميل ما يتحقق به أن كسوف الشمس لا ينال طلعتها، وأن سرار القمر لا يضره- توضح لعلمه أنه ربما اتصل به خبر تلك الوقعة التي صدقنا فيها اللقاء، وصدمنا العدو صدمة من لا يحب البقاء، وأريناه حربا لو أعانها التأييد فللت جموعه، وأذقناه ضربا لو أن حكم النصر فيه إلى النصل أوجده مصارعه وأعدمه رجوعه، وحين شرعت رياح النصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصفاح في موارد نحورهم، وكشفت الرماح خبايا صدورهم، ولم يبق إلا أن تستكمل سيوفنا الريّ من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكف من صفحت الصفاح عن دمه، وتكف بالقبض يد من ألبسته الجراح حلة عندمه، أظهروا الجزع في عزائمهم، وحكموا الطمع في غنائمهم، فحصل لجندنا إعجاب أعجل سيوفنا أن تتم هدم بنيانهم، وطمع منع فوارسنا أن تكف عن النهب إلى(12/412)
أن نصير من ورائهم، فاغتنم العدو تلك الغفلة التي ساقها المهلكان العجب والطمع، وانتهز فرصة الكرة التي أعانه عليها المطمعان إبداء الهلع وتخلية ما جمع، فانتثر من جمعنا بعض ذلك العقد المنتظم، وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصف الذي أخذ فيه الزحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسرنا جفون السيوف، وحطمنا صدور الرماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعد الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدو وبين أصحابنا بضرب يكف أطماعهم، ويرد سراعهم، ويعمي ويصم عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفسنا للمنهزم عن خناقه، وأيأسنا طالبه من لحاقه، ورددناه عنه خائبا بعد أن كانت يده متعلقة بأطواقه، وأحجم العدو مع ما يرى من قلتنا عن الإقدام علينا، ورأى منّا جدّا كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يبيتهم وهم الغالبون، ويدركهم وهم الطالبون، ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون؛ وقد لمّ الخادم شعث رجاله، وضم فرقهم بذخائر ماله، وأمدهم بنفقات حلت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوهم أقوالهم، وسلاح جدد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوهم، وتحضهم على أخذ حظهم من اللقاء، كأنها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوة جلدهم، ولا بحدة أسيافهم، وسيعجلون العدو إن شاء الله عن اندمال جراحه، ويتعجلون إليه بجيوش تسوؤه طلائعها في مسائه، وتصبحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنة نصره من يدنا.
ومنه قوله مما كتبه على لسان مولود إلى أبيه، ولم يكتب به:
يقبل الأرض ابتداء بالخدمة من حين ظهر إلى الوجود، وتشوقا إلى امتطاء(12/413)
صهوات الجياد بين يدي سيده قبل المهود، وتمنيا أن يكون أول شيء يقع عليه نظره من الدنيا وجه مولانا الذي تعلو بنظره الجدود، وتتيمن برؤيته كواكب السعود، وينهي أنه يعجل السوق على صغره، وكأن كمال المسرة به أن يقع نظر مولانا الشريف عليه قبل البشرى بخبره، لتلقى عليه أشعة سعادة مولانا في ساعة ظهوره، ويكسى قبل أن تلقى عليه الملابس من إشراق محيّاه حلل نوره، ويكون أول ما يلج مسامعه صوت مولانا يحمد ربه على الزيادة في خدمه، وتكثير من يضرب بين يديه في الحرب بسيفه، ويقف في السلم أمامه على قدمه؛ فإن من يكون نجل مولانا تنطق بالنجابة مخايله، وتدل على الشجاعة سماته قبل أن تدل عليها شمائله؛ والهلال سيصير في أفقه بدرا منيرا، والشبل سيعود كأبيه أسدا هصورا؛ والله تعالى يهب العبد عمرا يبلغ به من طاعة مولانا ما يجب عليه، ويرزقه عملا صالحا يتقرب به إلى ربه وإليه.
ومنه قوله رسالة كتبها في البندق «1» :
الرياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلاني، وجعل حبه كقلب عدوه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسار جالبا، وللمضار حاجبا- تبعث النفس على مجانبه الدعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون، وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن، وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن، وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب، وتصرفها في ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب، فتارة تحمل الأكابر والعظماء(12/414)
في طلب الصيد على مواصلة السرى، ومقاطعة الكرى، ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار، ومكابدة الهواجر، ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر، وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها؛ وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب، فهذه صورة لعب يخرج إليه منها، وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق، وتحدوهم في سلوك طريقهم مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق، فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى، ويقتحمون جرف النهار إذا انهار، ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر، ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر، ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم، والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام.
ولما عدنا من الصيد الذي اتصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه، تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح، وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح، تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة في الرحال، وأخذا بقولهم: [البسيط]
لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة ... إلا التنقل من حال إلى حال
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتشير من الأفق الغربي إلى جانب رمسها، وتغازل عيون النور بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العوّد «1» ، فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضي بين أصحابه بقايا مدة الرمق، وقد اخضلت عيون النّور لوداعها، وهم الروض بخلع حلّته المموهة بذهب شعاعها: [البسيط](12/415)
والطل في أعين النوار تحسبه ... دمعا تحير لم يرقأ ولم يكف
كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحا ... بعقده وتبدى منه في شنف
يضم من سندس الأوراق في صرر ... خضر ويجني من الأزهار في صدف
والشمس في طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي
كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف
إلى أن نضى المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها، فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة.
ونهضنا وبرد الليل موشع، وعقدة مرصع، وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر، وبدره في خدر سراره مستكن، وفجره في حشا مطالعه مستجن، كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل «1» : [الطويل]
ولاحت نجوم الليل زهرا كأنها ... عقود على خود من الزنج تنظم
محلقة في الجو تحسب أنها ... طيور على نهر المجرة حوّم
إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم
«2» إلى حدائق ملتفة، وجداول محتفة، إذا حس النسيم غصونها اعتنقت عناق الأحباب، وإذا فزّك من المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب، ورقصت في المناهل رقص الحباب، وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق،(12/416)
وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلها في خدود الورد منبعث، وفي طرر الريحان حيران، وطائرها غرد، وماؤها مطرد، وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف، مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن، وتباين الترتيب؛ إذ كلما اعتل النسيم صح نشر الروض، وكلما خر الماء شمخ القضيب: [الكامل]
وكأنما تلك الغصون إذا انثنت ... أعطافها رسل الصبا أحباب
فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب
وكأنها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب
فغديرها كأس وعذب نطافها ... راح وأضواء النجوم حباب
تحيط بملق «1» نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد، وفي رأي العين طاف؛ إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل، وإذا اطردت عليه أنفاس الصبا، ظننت أفياء تلك الغصون فيه تارة تتموج وتارة تسيل، فكأنه محب هام بالغصون هوى، فمثّلها في قلبه، وكأن النسيم كلف غار من دنوها إليه فميّلها عن قربه «2» : [مجزوء الكامل]
والسرو مثل عرائس ... لفت عليهن الملاء
شمرن فضل الأزر عن ... سوق خلا خلهن ماء
والنهر كالمرآة تب ... صر وجهها فيه السماء(12/417)
وكأن صواف الطير المبيضة بتلك الملق، خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام، أو أباريق فضة رؤوسها لها فدام، ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام، وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب، أو شموع أسود رؤوسها ما انطفأ، وأحمره ما التهب، وكنا كالطير الجليل عده، وكطراز العمر الأول جده: [الكامل]
من كل أبلج كالنسيم لطافة ... عف الضمير مهذب الأخلاق
مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددا ومثل الشمس في الإشراق
ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها، والأهلة في نحافتها وتكوينها، والأزاهر في ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبجة، ومتونها مدرجة، كأنها الشولة «1»
في انعطافها، أو أرواق الظباء «2» في التفافها، لأوتارها عند القوادم أوتار، ولبنادقها في الحواصل أوكار، إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن ينصب لرمي بدت لها أنه أحق بها من نصيبه، ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطئ في سيره، أو يتخطى الغرض إلى غيره، أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها، أو أسفا لخروج بنيها عن يدها، على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء: [البسيط]
مثل العقارب أذنابا معقدة ... لمن تأملها أو حقق النظرا
إن مدها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها وانبرى سفرا
فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا في العقرب القمرا
ومن البنادق كرات متفقة السرد، متحدة العكس والطرد، كأنها خلطت من المندل الرطب، أو عجنت من العنبر الورد، تسري كالشهب في الظلام، وتسبق(12/418)
إلى مقاتل الطير مسددات السهام: [البسيط]
مثل النجوم إذا ما سرن في أفق ... عن الأهلة لكن نورها راء
ما فاتها من نجوم الليل إذ رمقت ... إلا ثبات يرى فيها وأضواء
تسري فلا يشعر الليل البهيم بها ... كأنها في جفون الليل إغفاء
وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا في الدياجي وهي صماء
تصونها جراوة «1» كأنها درج درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر، أو كنانة نبل، أو غمامة وبل، حالكة الأديم، كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم: [السريع]
كأنها في وصفها مشرق ... تنبت منه في الدجى الأنجم
أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملونا وانبعثت تسجم
فاتخذ كل لها مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا: [السريع]
كأنهم في يمن أفعالهم ... في نظر المنصف والجاحد
قد ولدوا في طالع واحد ... وأشرقوا من مطلع واحد
فسرت لها من الليل علينا من الطير عصابة، أظلتنا من أجنحتها سحابة، من كل طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ يبغي ماء جماما، فورد ولكن سما منقعا، وحلق في السماء يبغي ملعبا، فبات هو وأشياعه سجدا للقسي وركعا، فتباركنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.(12/419)
فاستقبل أولنا تمّا «1» تمّ بدره، وعظم في نوعه قدره، كأنه برق كرع في غسق، أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق، تحسبه في ائتلاف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدجى طرّة صبح «2» ، وعليه من البياض حلة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار، له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرفه نسيم: [المتقارب]
كلون المشيب وعصر الشبا ... ب ووقت الوصال ويوم الظفر
كأن الدجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فر
فأرسل عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما، فاستبشر بنجاحه، وكبر عند صياحه، وحصله من وسط الماء بجناحه.
وتلاه كيّ «3» نقي اللباس، مشتعل شيب الراس، كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس «4» ، إذا سفّ في طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام، ذو غببة «5» كالجراب، ومنقار كالحراب، ولون يغر في الدجى كالنجم، ويخدع في الضحى كالسراب، ظاهر الهرم، كأنما يخبر عن عاد، ويحدث عن إرم: [الكامل]
إن عام في زرق الغدير حسبته ... مبيض غيم في أديم سماء(12/420)
أو طار في أفق السماء ظننته ... في الجو شيخا عائما في ماء
متناقض الأوصاف فيه خفة ال ... جهّال تحت رزانة العلماء
فثنى إليه الثاني عنان بندقه، وتوخاه فيما بين أصل رأسه وعنقه، فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه، فتلقاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير.
وقارنته إوزة، حلتها دكناء، وحليتها حسناء، لها في الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفة ذات التبرج، وخفر ربات الحجال، كأنما غبت في ذهب، أو خاضت في لهب، تختال في مشيها كالكاعب، وتنأى في خطوها كاللاعب، وتعطو بجيدها كالظبي الغرير، وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير «1» : [الطويل]
إذا أقبلت تمشي بخطرة كاعب ... رداح وإن صاحت فصولة خادم
وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لي ... خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم
فأنعم بها في البعد زاد مسافر ... وأحسن بها في القرب تحفة قادم
فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها، فلجت في ترفعها ممعنة، ثم نزلت على حكمه مذعنة، فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط.
وحاذتها لغلغة «2» تحكي لون وشيها، وتصف حسن مشيها، وتربي عليها بغرتها، وتنافسها في المحاسن كضرتها؛ كأنها مدامة قطبت بمائها، أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها: [السريع](12/421)
بغرة بيضاء ميمونة ... تشرق في الليل كبدر التمام
وإن تبدت في الضحى خلتها ... في الحلة الدكناء برق الغمام
فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها، فجدت في العلو مغذة، وتطاردت أمام بندقه، ولولا طراد الصيد لم تك لذة «1» ؛ وانقض عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفة طيرانها من خلفها، فوقعت من الأفق في كفه، ونفر من في بقايا صفها عن صفه.
وأتت في إثرها أنيسة «2» آنسة، كأنها العذراء العانسة، أو الأدماء الكانسة، عليها خفر الأبكار، وخفة ذوات الأوكار، وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار، ولها أنس الربيب، وإذلال الحبيب، وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب، ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق، وصدر بهي الملبوس، شهيّ إلى النفوس، كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكي لونه المندل الرطب، لولا أنه حطب: [المتقارب]
مدبجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى الليل ضوء النهار
لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيجت بالبهار
فوثب الخامس منها إلى الغنيمة، ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة، وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة.
وأتى على صوتها حبرج «3» يسبق همته جناحه، ويغلب خفق قوادمه(12/422)
صياحه، مدبّج المطا، كأنما خلع حلة منكبيه على القطا، ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب: [المتقارب]
يزور الرياض ويجفو الحياض ... ويشبه في اللون كدر القطا
ويهوى الزروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا
فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه، فخر على الألاءة كبسطام بن قيس «1» ، وانقض عليه راميه، فحصله بحذق، وحمله بكيس.
وتعذر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه، فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل، فعن له نسر ذو قوائم شداد، ومناقير حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد «2» ، تحسبه في السماء ثالث أخويه، وتظنه في الفضاء قبته المنسوبة إليه، قد حلق كالفقراء رأسه، وجعل مما قصر من الدلوق الدكن «3» لباسه، واشتمل من الرياش العسلي إزارا، واختار العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزارا، قد شابت نواصي الليالي وهو لم يشب «4» ، ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب: [الطويل]
مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفي الأفق الأعلى له أخوان
له حال فتاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان
فدنا من مطاره، وتوخى ببندقه عنقه، فوقع في منقاره، فكأنما هدّ منه(12/423)
صخرا، أو هدم به بناء مشمخرا «1» .
ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن فريقه؛ وإذا به قد أظلته عقاب كاسر، فكأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر، أو حطت فسحاب انكشف، وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا، لدى وكرها العناب والحشف، «2» بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجت في علو، كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب «3» : [المتقارب]
ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله
فوثب إليها وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأول بندقة فما أخطأ قادمة جناحها، فأهوت كعود «4» صرع، أو طود صدع، قد ذهب بأسها، وتذهب بدمها لباسها، وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه، ويستنزل الأعصم من عقابه، فحملها بجناحها المهيض، ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض، ونزلا إلى الرفقة، جذلين بربح الصفقة.
فوجد التاسع قد مر به كركي طويل السفار، سريع النقار، شهي العراق،(12/424)
كثير الاغتراب، يشتو بمصر ويصيف بالعراق، لقوادمه في الجو هفيف، وأديمه لون السماء طرأ عليها غيم خفيف، تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوته الرياح البوارح، له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقية جرح تحت ضماد، أو فص عقيق شقت عنه بقاء ثماد، ذو منقار كسنان، وعنق كعنان، كأنما ينوس على عودين من آبنوس: [السريع]
إذا بدا في أفق مقلعا ... والجو كالماء تفاويفه
حسبته في لجة مركبا ... رجلاه في الأفق مجاذيفه
فصبر له حتى جازه مجليا، وعطف عليه مصليا، فخر مضرجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه؛ وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون، فكثر التكبير من أجله، وحمله راميه على وجه الأرض برجله.
وحاذاه غرنوق «1»
حكاه في زيه وقدره، وامتاز عنه بسواد صدره، له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنه مكان شنفه «2» : [السريع]
له من الكركي أوصافه ... سوى سواد الصدر والراس
إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس
«3» فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا، فخر كأنه صريح الألحان، أو نزيف بنت الحان، فأهوى إلى رجله بيده وأيده، وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده.
وتبعه من المطار صوغ «4»
كأنه من النضار مصوغ، تحسبه عاشقا قد مدّ(12/425)
صفحته، أو بارقا قد بث لفحته: [السريع]
طويلة رجلاه مسودة ... كأن منقاره خنجر
مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفي رقبتها معجر
«1» فاستقبله الحادي عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب، فسقط كفارس تقطر عن جواده، أو وامق أصيبت حبة فؤاده، فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه.
وأقرن به مرزم «2»
له في السماء سمي معروف، ذو منقار كصدغ معطوف، كأن رياشه فلق اتصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق: [الهزج]
له جسم من الثلج ... على رجلين من نار
إذا أقلع ليلا قل ... ت برق في الدجى سار
فانتحاه الثاني عشر متمما، ورماه مصمما، فأصابه في زوره، وحصله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره.
والتحق به شبيطر «3»
كأنه مدية مبيطر، ينحط كالسيل، ويكر على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدين، يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل، يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم: [البسيط]
تراه في الجو ممتدا وفي فمه ... من الأفاعي شجاع أرقم ذكر
كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورأسه رأسها والحية الوتر(12/426)
فصوب الثالث عشر إليه بندقه، فقطع لحيه وعنقه، فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد.
وأتبعه عناز «1»
أصبح في اللون ضده، وفي الشكل نده، كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره: [البسيط]
تراه في الجو عند الصبح حين بدا ... مسود أجنحة مبيض حيزوم
كأسود حبشي عام في نهر ... وضم في صدره طفلا من الروم
فنهض تمام القوم إلى التتمة، وأسفرت عن نجاح الجماعة تلك الليلة المدلهمة، وغدا ذلك الطير الواجب واجبا، وكمل به العدد قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا، فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح في الفضاء المتسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع، وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام، أو شرب كأن رقابهم من اللين لم يخلق لهن عظام، وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا، داعين المولى جهدنا، مدّعين له قبلنا أوردّنا، حاملين ما صرعنا إلى بين يديه، عاملين على الشرف بخدمه والانتماء إليه: [الطويل]
فأنت الذي لم يلف من لا يودّه ... ويدعو له في السر أو ندّعي له
فإن كان رمي أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمي رعيله
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل.
ومنه قوله مما كتبه جوابا عمن قيل من ادعى إليه في البندق: ولا زالت قدمة فضله مذهبة الفواتح بالفتوح، منبضة بالنجوم عن قوس عزم،(12/427)
مذ تشبه به هلال الأفق لم يجسر نسر السماء الطائر أن يلوح، منبئة عن فتكات اهتمام، لا ذو الجناح أمامه بناج، ولا يسلم منه مثار الوحش الجموح، مطرزة حلة الظلام برداء شفق، نشره في الأفق من صوب صابية دم الطير المسفوح، صدرت هذه المكاتبة تتلقى بالقبول وجه قصده الجميل، وتقابل سعد طائره الميمون بواجب الود الجليل، ويثني على عزمه الذي ما برح يسري في بردة اليمن إلى رواتبه كل فخار، ويثني أعنة الثناء إلى هممه التي استخارت التوفيق في الادعاء إلى قديم مجدنا الذي تتشرف به الأقدار، فجاد وتشكر سداد مقصده الذي لا يخفي مواقع إصابته الليل، واشتداد ساعده الذي أسبل الجناح على رجل حامله في الأفق إسبال الذيل، معلمة أن مكاتبته الكريمة وردت منبئة عن طروقه مظان الاسترواح، وسراه إلى مواطن النجح التي يحمد فيها عند الصباح، في رفقة من أولياء دولتنا، ما فيهم إلا من حسبه في الولاء صميم، وحديث مجده في إصابة مواقع الصواب في الخدمة قديم، مرهفا عزمة ما رأى نجوم أهلتها النسر الطائر إلا أصبح كأخيه واقعا، ولا نهضت إلى باسط جناح تهينه في أفق السماء إلا خرّ بين يديه متواضعا، وأن السعد هيأ له مقاما يستنزل فيه عظيم الطير من عواصم الأفق، وتسلك فيه رسل قوسه إلى أرواح ذوات الجناح المحلقة في الفضاء أقرب الطرق، وأنه حين مرّ به من اللغالغ صفّ قد أوثق بعضه القدر، وأوثق أوله بدرة عزمه، والبدر لمن بدر، أرسل أعزه الله عن كبد القوس ابنها فأنت، وخطب إلى نفس تلك العصبة من الطير نفسها فما ضنت، وصرع لغلغة مليحة مليحة، فأصابها في أقوى قوادمها إصابة صحيحة صريحة، فأهوت إلى بين يديه من مكامن مكانها، وحملها القديم الذي أشار إليه رافعا بالقسم بعلي لشأنها فتمنى كل تم «1» لو حصل كما حصلت، وود كل صوغ «1» لو صيغت عيونه في جملة(12/428)
حليها التي فصلت، وأنه ادعى لنا بهذه النسبة التي تثنت بالقبول أحكامها، وتقضى بانتساج الأواصر حكامها، وقد علم بذلك جميعه، وأفضنا في شكره، وأفضينا إلى غاية الثناء الجميل عند ذكره، وسررنا ببلوغ الوطر وحصول الظفر، وتفاءلنا أنه كذلك ينزل على حكم سيوفنا كل من كفر، وقابلنا ذلك بوجه القبول المبتهج، وأمضينا حكم هذا الانتماء الملتحم والانتساب الممتزج، ومن أولى منه بهذا الفخر الذي انتضمت عقوده، وتقابلت في أفق مجده سعوده؛ فليأخذ حظه من بشرى هذا القبول وبشره، حبرة خبره الذي يتضوع الوجود بنشره، والله تعالى يجعل مطالبه مقرونة بالنجاح، قادمة إليه بأنباء السعود على أوثق قوادم وأثبت جناح.
ومنه قوله في النيل:
وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب مواد نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم، حتى ما كان يشرب معروق ساقه من نيلهم بتناول الماء بفمه، وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له في الرفع عن محله، فسجد على الترب شكرا وتيمم الصعيد، وإن لم يبق به الآن على وجه الأرض صعيد، وأقبل بعد تقصير عامه الماضي بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بالأجل، وحزم أدرك الجدب موجه قبل أن يقول سآوي إلى جبل، واستظهار على كل ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل، ومهد الأرض التي كانت ترقبه فهوّلها المنظر على الحقيقة، ووطئ بطن الثرى فنتج الخصب بينهما، وذبح المحل في العقيقة، وتجعد على الآكام فخيل للعيون أنها تسيل، وشيب مفارق الثرى ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل، فيستقبل نعم الله التي سيسم الأرض وسمها،(12/429)
ويولي النعم وليها، ويأتي بالركاب أتيّها، حتى تغص بالنعم تلك الرحاب، ويظن لعموم ذي البلاد الشامية أن نيل مصر ركب إليها على السحاب.
ومنه قوله في مثله:
صدرت، ونعم الله قد عمت، وآلاؤه مع تحقق المزيد قد تمت، والسيل قد بلغ في تتبع بقايا القحط الربى، والنيل قد عمّ بنيله حتى كلل مفارق الآكام، وعمم رؤوس الربى، وحمى الأرض من تطرق المحول إليها فأصبحت منه في حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أن ابن ستة عشر بلغ إلى الهرم، وبث جوده في الوجود، فلو صور نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم «1» ، وتلقت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى، إذ لم يدر أياقوتا يشاهد أم قوتا، وجرى في الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه، ظهور الشمس، فألقى على الأرض أشعة سعادته، وبلغ الله به المنافع فزعزع الجبال الشم ولم يتجاسر على الجسور، وأقطع الخصب الأرض كلها، فله كل بقعة مثال مرأى ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سراياه جنوده عارضا مغضبا على المحل، ما يخطر إلا وسيفه مشهور، وجرى الأمر في التحليق على عوائد السرور، وعلقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار بل للإشاعة والظهور، واستقر حلم المسرة على السنن المعهود، وعاذ الناس به عند مرورهم إذ ذاك برحمة الله يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
«2»
وها هو الآن يرفع إلى كل تلعة على جناح النجاح، ويخيف السبل وما عليه حرج، ويقطع الطرق وليس عليه جناح.(12/430)
ومنه قوله يبشر بركوب السلطان بعد تقطر كان حصل له عن جواده: ولا زال مبشرا من النصر بما يقر عين الهدى، ويكمد قلوب العدى، وينذر أهل الكفر من ركوبنا اليوم بطلائع ركابنا عليهم غدا، ويسر حزب الإيمان من أخبار موكبنا الشريف بيوم كفر الدهر ذنب إساءته بالأمس وافتدى.
صدرت تخصه ببشرى عمت بشائرها، وسرت بالمسرات الكاملة بوادرها، وتأرجت الأرجاء، فلولا أمانة الكتب لقيل: تمت بأسرار السرور ضمائرها، وطارت بها محلقات التهاني في الوجود، ووجب بسببها وجوب سجود الشكر على كل مؤمن يتعبد عند تجدد النعمة بفرض السجود، وذلك أنه قد علم ما كان حصل من تأخر ركوبنا هذه الأيام، بسبب ما كان حصل من التقطر الذي كانت عاقبته بحمد الله مأمونة، وكبوة الجواد بحسن المآل فيه ميمونة «1» ، بما ألفنا من عوائد تأييد الله وعونه مضمونة، وكان تأخر الركوب في تلك المدة اللطيفة لموافقة آراء الحكماء في خدمة المزاج، وملاطفة العلاج، وقد منّ الله سبحانه وتعالى في كمال الصحة، وشمول العافية، وزوال البأس وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
«2» ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وسطرناها مبشرة بركوبنا الذي خضعت له أعناق الكفر والشقاق، وسارت به ركائب البشائر ونجائب التهاني في الآفاق، وضاقت به فجاج الأرض بأولياء الطاعة، فلولا سلوكهم آداب الخدمة في الترجل بين أيدينا زلزل ركض خيلهم بمصر أطراف العراق، فكان ركوبنا في موكبنا المنصور يوم كذا، وكان يوما مشهودا، ووقتا من مواسم الزمن معدودا، ربت فيه النعم على الحصر، ورفل به الدين في حلل التأييد والنصر، وسرى إلى أرواح العدى رعبه، وعزّ به في كل أفق دين الإسلام وحزبه، وتحقق به(12/431)
العدو الذي أملى له أن حركته حركة الذبيح، وجمعه الذي ألفه الشيطان بغروره للتكسير لا للتصحيح، وتضاعف شوقه إلى الجناب العالي في ذلك الموكب الذي أخذ فيه الأولياء من المسرة بأوفى القسم وأوفر النعم، ورفلوا فيه في مطارف الحبور، واتخذوه بينهم عيدا سموه عيد السرور، وقد عجلنا بإعلامه بذلك لعلمنا بمحبته الصادقة، وموالاته التي هي بمحض الصفاء ناطقة، ولأنّا نعلم مضاعفة سروره بها، وأدائه نذور الشكر بسببها، فليسر الأولياء بإشاعتها، وتتقدم بضرب البشائر في وقتها وساعتها؛ والله تعالى يضاعف إقباله، ويبلغه من النعم أمنيته وآماله.
ومنه قوله في تقليد لنائب البيرة «1» بالاستمرار: وعلم العدو أنه الندب الذي كثرت في سبيل الله أيامه، وما قصده العدو إلا وتمنى الذهاب، وحث للهرب الركاب، وقنع من الغنيمة بالإياب، وولى جمعهم الأدبار، ولم يعد إلى أهلهم سوى الأخبار، وما أقدموا عليه إلا وقد جعل الرعب من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فهم لا يبصرون، وما قاتلوه بعد ما قابلوه إلا أن الله طمس على قلوبهم، وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون، وكم أرسلوا في أيامه إلى الثغر السوابق، فضرب بينهم بسور، وطارت إليهم من كنانة بأسه حمام الحمام بأجنحة النسور، وسرت سراياه في بلاد العدو فسبقها الرعب إليهم، وأحاط النهب بما لديهم، واستولى عليهم الذعر حتى صاروا يحسبون كل صيحة عليهم، واطلع على خفايا أحوالهم، فما أجمعوا أمرا إلا وعلموا به إذ يأتمرون، ولا مكروا مكرا إلا أظهره الله عليهم، والله أعلم بما يمكرون.
وكان فلان هو الذي ما شام معه العدو بارقة ثغر إلا وأمطرتهم «2» من الوبال(12/432)
بوابل، وأوقعهم من النكال في كفة حابل، فاقتضت الآراء الشريفة أن يزداد أمره تمكنا، وقدره تحليا بالنعمة وتزينا، وسره استقرارا بعلو رتبته وتوطنا، وثغره تحسبا، بما افترّ من النعمة وتحصنا، ولذلك رسم بالأمر الشريف، لا زالت الثغور بمهابته تبتسم، والجنود تتحكم بسطواته في ذخائر العدى وتقتسم، أن نجدد له هذا التقليد الشريف باستمراره في النيابة بالبيرة على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، لنهوضه في مصالح الإسلام والمسلمين بما أحصى الله ونسوه، وإجراء عليه بما ألفه سلفنا الطاهر من رشد كفايته وأنسوه، ولأنهم غرسوه في هذا الثغر لتنتمي به المصالح، ويتعين أن يتعاهد بالإحسان سقيا ما غرسوه؛ فليتلق هذه النعمة بباع الشكر المديد، ويبرق بعلو الهمة إلى المزيد من فضل الله عليه، فإن لديه المزيد، ويجرد على من جاوره من العدى سيف عزمه، فإن نصر الله بأسيافنا أقرب إليه من حبل الوريد، ويجعل سراياه طلائع جيوشنا المنصورة، فإنها قد تكون بأقصى الممالك، وما هي من الظالمين ببعيد، ويكون متيقظا للعدو في حال سكونه، فإنه قد يتحامل الجريح ويتحرك الذبيح، والحازم من تراه في الأمن في درعه «1» ، فلا تبدو ليلة إلا وهو لها متيقظ في العدو وإن غفل، مشمّرا له عن ساق العزم وإن أسبل ملابس غروره ورفل، فإنه إذا فعل ذلك لم يلحقه ندم ولا لوم، والخاسر من جلبت عليه تعب سنة راحة يوم، وليكن وله من الكثافة في كل فريق فرقة ناجية، ومن القصاد بكل طريق عصبة بأسرار القلوب مناجية، ليعلم ما يأتي وما يذر، وإذا لم يأت بعدوه حراك فما يضر مع الأمين مبيته على حذر، وليضم الأطراف التي يطمع العدو بها في فرصة يختلسها أو دنية يفترسها، وليتعاهد منه رجال الثغر بالإحسان الذي يؤكد طاعتهم، ويجرد قوتهم في(12/433)
الجهاد واستطاعتهم، فإنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتقربوا بالجهاد في سبيله إليه، ولا يدع بالثغر مملوكا نصرانيا، فإنه يطلع على الأسرار، ويتطلع إلى الكفار، ولعبد مؤمن خير من مشرك، أولئك يدعون إلى النار.
ومنه قوله: وينهي أنه أرسل طيها قصيدة تنوب عن حضوره، وتعتذر لقصوره، وتنبئ عن مساهمة خاطره لخاطره الكريم في مساءته وسروره: [الطويل]
ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرّها وقلوب
ولما سام المملوك قلمه السعي في ذلك، مال إلى النفور، وجنح وقال:
ما عادتي أن أسعى إلى هذا الجناب الشريف إلا في التهاني والمدح؛ فقال له المملوك: إن مساء تلك المساءة أوجب أجرا، واستقبل من المساء فجرا؛ فكتب ما يقف الخاطر الشريف على مضمونه، ويتحقق به أن لمضمار حقه مدى تقف جياد القرائح من دونه.
ومن قوله: يقبل الأرض رافعا مجاب الدعاء، فاسحا مجال الولاء، ناشرا على أعطاف الطروس حلل الثناء، مبشرا نفسه والمسلمين، بما منّ الله به من قدوم مولانا تحت ألوية الظفر والنصر، محبوا بيمن العزمات التي قسمت أعداء الله وبلادهم بين الحصد والحصر، متوسلا إلى الله تعالى أن يجعل عزماته المرهفة في سبيل الله، حيث سلكت ملكت، وسيوفه المجردة على أعداء الله، أين سفرت من الغمود سفكت.
ومنه قوله من توقيع حسبة: وبعد، فإن أولى ما أنعم فيه نظر الاختيار، وأمعن فيه تدبر الارتياد(12/434)
والاعتبار، أمر تعم الأمة منافعه، وتتم به بركات الرزق الذي تدر بالتقوى منابعه، ويزال به الغش عن الأمة في الملابس والمطاعم، ويذاد به البخس في المكيال والميزان اللذين هما من أظهر المضار وأخفى المظالم، وتراعى به الهيئات الدالة على إتمام المروءة وإكمالها، وتدحض به النقائص التي تنتقد على أرباب المكانات في أقوالها وأعمالها؛ ولما كانت الحسبة هي الأمر الذي اشترك عموم نفعه، والمعنى الذي نبه على حصول الاضطرار إليه في إباحة الشيء ومنعه، والسبب الذي يحسم به مواد الأذى في التعرض إلى البيوع الفاسدة، والإقدام على مزج الأقوات النافقة بالكاسدة، والتحرز من الغش في الأشياء التي لا يترك صانعها هو وأمانته، ولا يقنع منها بسوى اليقين، وإن غلبت على واضعها عفته وصيانته، فإن البلوى بها قد تعم، والحزم بها في ترك التقليد؛ وإذا كانت الأفراد لا تظهر مع الهيئة الاجتماعية، فبين من يتحراها بالمباشرة، وبين من يتلقاها بالقبول، بون بعيد؛ فلذلك يتعين أن يكون مباشرها ممن هدته العلوم الدينية إلى ما يعتمد من مصالح لا يخرج فيها عن حكمها، وحدته القواعد الشرعية إلى ما يستند إليه فيها من عوائد لا يعدل بها عن وسمها الشريف ورسمها.
وكان فلان هو معنى هذه الألفاظ المجملة، وسرّ هذه المقاصد التي كان يحتاج إيضاحها من ذكره إلى التكملة، وبتجاربه للفضائل قوة في الحق لا تستفزها الرقى، واستقامة في الإنصاف لا تميلها الأهواء عن سنن التقى؛ ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة، تفويضا يمضي حكمه في مصالحها، ويجمل نظره في داني الأمور ونازحها؛ فليفعل في ذلك ما تقتضيه هذه الرتبة من منع احتكار، وقطع أسعار، وتفقد ما يصنع من منسوج ومرقوم ومشروب ومطعوم ومجلوب ومخزون ومكيل وموزون ومعدود ومذروع وباق على هيئته ومصنوع، ويجعل لذلك حدا في الجودة معلوما، وقدرا في القيمة(12/435)
مفهوما، ووصفا في العلو والدنو والتوسط بينهما مرسوما.
ومنه قوله توقيع خطابة: وبعد، فإن صهوات المنابر لا تستقل بكل راكب، ولا تستقر إلا تحت كل فارس يزاحم شرف علمه الكواكب بالمناكب، ولا تذعن إلا لمن إذا امتطى أعوادها أطال في المعنى وأطاب، وإذا قال: أما بعد لم تختلف الآراء في أنه دل على الحكمة بفصل الخطاب، وإذا ذكر بأمر الله أصحب كل قلب جامح، وغض كل طرف طامح، ورد كل عبد عن طاعة ربه نازح، وأصغى من صغى منه إلى قول مشفق في الله صالح، وخرجت الموعظة منه على لسان صادق فلم تعد حبات القلوب، وتتبع كلامه أدواء الضمائر فشفاها، ولا داء أوجع من الذنوب، ووثقت النفوس في أنه قول إمام عصره فتلقته بالتسليم، وجلست العلماء تحته للاقتداء بفوائده، فكان على الحقيقة فوق كل ذي علم عليم؛ وأحق المنابر بارتياد من يصلح لاقتعاد غاربها، وأولاها بالصدود عمن برز في صورة خاطبها، ما كان من أعظمها رفعة، وأكرمها بقعة، وأفخمها جماعة وجمعة، وأقدمها شهرة في الآفاق وسمعة، وأعجبها بناء وأنباء، وأحملها عن أئمة الأمة أثقالا وأعباء، وأكثرها زجلا بالتلاوة والأذكار، وأعمرها بالقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار؛ ولما كان المسجد الجامع بدمشق المحروسة هو الذي زاحم الأرض المقدسة بمنكبيه، فلو كان للمساجد الثلاثة رابع لشدت إليه الرحال، وتحقق بالرفعة التي لا تسامى أن نور المشكاة تشرق من أرجائه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ
«1» تعين أن نختار لها من هو رجل المنابر، وبطل المحابر، وهو فلان الذي شفت مواعظه القلوب وأثمرت بالتقى، واستلت سخائم الصدور، واستقرت من المصلي على النقا،(12/436)
ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه الإمامة بالمسجد الجامع بدمشق المحروسة، والخطابة بمنبره الكريم، عملا بالأولى في التقديم، واحتياطا للإمامة التي هي أثبت دعائم الدين القويم، فليحل هذه الرتبة التي لم تقرب لغيره جيادها، وليحل هذه العقيلة التي لا تزان بسوى العلم والعمل أجيادها، ويرق هذه الهضبة التي يطول إلا على مثله صعودها، ويلق تلك العصبة التي تجتمع للاقتداء به حشودها؛ ويعلم أنه في موقف الإبلاغ عن الله تعالى لعباده، والإنذار بما ورد عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله لا مراده؛ وتحت منبره من الأعيان من إن تلقّ غيره القول بتقليده تلقاه بانتقائه وانتقاده؛ فيعتصم بالله في قوله وفعله، ويتيقن أن الكلمة إذا خرجت من القلب لا تقع إلا في مثله، وليجعل خطبة كل وقت مناسبة لأحوال مستمعيها، متناسبة في وضوح المقاصد بين إدراك من يعي غوامض الكلام ومن لا يعيها، وليوشح خطبته بالدعاء لإمام عصره، ومالك أمصار الإسلام مع مصره، وللأمة بعموم تخصيصه وحصره، وهو يعلم أنه يكون في المحراب مناجيا لربه، واقفا بين يدي من يحول بين المرء وقلبه، فليلجأ إلى الله تعالى في الإعانة بالإخلاص على هول مقامه، ويسأله التثبيت بالعصمة في مستقره ومقامه، وليراع من وراءه من أهل التكليف، وتكثّر جماعتهم بتجنب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا من ترك التخفيف، ولينظر في عموم استطاعتهم دون خصوصها؛ فإن فيهم العاجز وذا الحاجة والضعيف، وليحافظ على فروض الكفايات الوازعة، والسنن التي ينادى لها: الصلاة جامعة، وليغرس في كل قلب حبه، ليقوموا إلى الائتمام به وهم فارهون، وليعمل في البداة في ذلك بصلاح نفسه، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ممن لا تجاوز صلاتهم آذانهم من أم قوما وهم له كارهون.
وله مما كتبه على قصيدة:(12/437)
فليس فيها بيت دخل في شفاعة أخيه، ولا معنى يثبت على غير قواعد الصحة أواخيه، ولا كلمة يصلح في مكانها سواها، ولا قافية أوهى السناد ركنها أو أضعف الإقواء قواها، وكل بيت منها بيت قصيد يعقد بالخناصر عليه، أو سلك فريد يشار ببنان البيان إليه، أو مقر معنى رئيس تجلس نفائس المعاني بين يديه.
* وأما نظمه، فمنه: [البسيط]
هذا ولم يبق لي في لذة أرب ... إلا اجتماعي بأصحابي وألزامي
وأين هم خلفوني مفردا ونأوا ... فبت أسهر أجفاني لنوّام
وأين نيل مرامي من لقائهم ... ضاق الزمان وهيّا سهمه الرامي
ومنه قوله: [الكامل]
ملك يوطد ركنه من ملحد ... أو معند بجداله وجلاده
ألف الوقائع والسرى دون الكرى ... فقصور لذته ظهور جياده
يروي لسان سنانه في حربه ... خبر المدرّع عن صميم فؤاده
متيقظ العزمات يعجل بأسه ... جيش العدو بها عن استعداده
ومنه قوله: [البسيط]
بانوا بقلبي وقلبي سار يتبعه ... فلست أطمع منهم في خيال كرى
ويح المحب الذي سارت أحبته ... عنه ولم يقض من توديعهم وطرا
وخلفوه يناجي الركب بعدهم ... فلا يبلّغه عن ركبهم خبرا
بانوا فصوّح نبت الروض بعدهم ... هذا وقد غادروا دمعي به غدرا
ومنه قوله يعزي ببنت: [الطويل](12/438)
وكم أوجه قد غبن في ظلمة الثرى ... ولم يرها في ظلمة الليل كوكب
ولا كالتي في المجد خالات أمها ... رقية بنت الهاشمي وزينب
ومنه قوله «1» : [المتقارب]
رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا
وقالت: بعينيّ هذا السقام ... فقلت: صدقت وبالخصر أيضا
ومن قوله: [الكامل]
ورأيته في الماء يسبح مرة ... والشعر قد رفت عليه ظلاله
فظننت أن البدر قابل وجهه ... وجه الغدير فلاح فيه خياله
ومنه قوله «2» : [السريع]
وسرت به في البحر جارية ... سوداء يسبق سيرها الشهبا
لو أن حكم البحر طوع يدي ... لأخذت كل سفينة غصبا
ومنه قوله: [الطويل]
أقول له والغصن يشبه قده ... أداعبه والظبي يحسب إياه:
أفيك سوى ذا الوجه تسبي به الورى؟ ... فقال: وهل في البدر إلا محياه
ومنه قوله «3» : [الطويل]
مضوا فاسترد الدهر أنسي الذي مضى ... كأن له عندي بقربهم قرضا
وبانوا فآلى البان لا مال بعدهم ... ولا عانقت أغصانه بعضه بعضا(12/439)
ومنه قوله: [السريع]
هنّئت بالطفل الذي استرجعت ... به العلى ما ضاع من دينها
تكاد تخفى الشمس إن قابلت ... طلعته خوفا على عينها
ومنه قوله: [الرمل]
دع فؤادي والصبا إن الصبا ... عالجت سكر فؤادي فصحا
وأعد لي ذكر من حل الحمى ... فعسى يرجع قلب نزحا
يا أخلائي ومن حسّن لي ... كلفي فهو الذي قد نصحا
أرشدوني هل قضى حق الهوى ... من ببذل الروح فيه سمحا
ومنه قوله يرثى شيخه مجد الدين بن الظهير: [الطويل]
بكته معاليه ولم ير قبله ... كريم مضى والمهلكات نوادبه
ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودى وهن صواحبه
أما والذي أرسى ثبيرا وحلمه ... لقد طاش حلمي يوم زمّت ركائبه
وقفنا وقد جد الوداع عشية ... فممسك دمع يوم ذاك وساكبه
أنودع نفس المجد بيتا مصرعا ... طويلا على زواره متقاربه
ظننت بأني مخلص في وداده ... وأخطأ وهمي، أسوأ الظن كاذبه
رجعت وأمسى الجود يصحب نفسه ... إلى رمسه فالجود- لا أنا- صاحبه
ومنه قوله «1» : [الكامل]
قل لي عن الحمّام كيف دخلتها ... يا صاحبي لتسر خلا مشفقا
أدخلتها وأولئك الأقوام قد ... شدوا المآزر فوق كثبان النقا؟(12/440)
ومنه قوله يصف قناة احتفرت وأنبط ماؤها لقرية المعيصرة: [البسيط]
أعرتها نظرة غراء لو لمحت ... سحائب الصيف لانهلت غواديها
فأصبحت مثل ظهر الأرض باطنها ... نورا كأن الثريا ركبت فيها
يكاد يقطعها الساري على فرس ... ركضا وليس تدانيه أعاليها
تبدو على الترب من بطن الثرى فترى ... تقبل الأرض إجلالا لمنشيها
ومنه قوله: [المتقارب]
إذا دغدغتني أيدي النسيم ... فملت وعندي بعض الكسل
فسل كيف حال قدود الملاح ... وعن حال سمر القنا لا تسل
ومنه قوله يمدح المنصور لاجين أيام نيابته بالشام، ويذكر إحراقه نصرانيا تعرض إلى مسلمة في رمضان: [الكامل]
يا من به وبرأيه وروائه ... بلغ المراد الدين من أعدائه
يا كافل الإسلام قبلك لم يقم ... هذا المقام سواك من كفلائه
أرسلتها بالعدل أحسن سيرة ... بك يقتدي من كان من أكفائه
وغضبت للإسلام غضبة ثائر ... لله غير مشارك في رأيه
وحميت سرح الدين من متخلس ... رجس يسن الغدر في استخفافه
أخفى سراه للحريم ومادرى ... أن الإله وأنت من رقبائه
جمع الخيانة والخنا في الأرض وال ... إشراك بالرحمن فوق سمائه
فأمرت أمرا جازما بحريقه ... ورأيت أن القتل دون جزائه
طهرت من دمه الثرى وقذفته ... في النار إذ هي منتهى نظرائه
ورفعت قدر السيف عنه وإنه ... ليجل عن تنجيسه بدمائه
أرعبت أهل الشرك منه فكلهم ... يلقى خيالك واقفا بإزائه(12/441)
وسلبتهم طيب الحياة فمن غفا ... ألفى دبيب النار في أعضائه
أو لو تخيل في المقام بحرمة ... خشي الحريق ومات في أعقابه
يا داعي الإسلام صنت السرب أن ... تدنو كلاب الشرك من ضعفائه
ما غرت إلا للإله وخلقه ... من فتك شر عبيده بإمائه
واستشهد الشهر الشريف فإنه ... يثني بما أبديت في أثنائه
عظمت حرمته وأهلكت الذي ... لم يرع حق الله في آنائه
فاسلم لهذا الدين تحرس سربه ... وتغص جفن الشرك منك بمائه
فاشكر إلهك بالذي ألهمته ... فيما فعلت يزدك من نعمائه
ومنه قوله يهنئ بإبلال من مرض: [مجزوء الكامل]
صحت بصحتك الأماني ... وضفت بها حلل التهاني
وجرى شفاؤك والسرو ... ر كما جرى فرسا رهان
برء أتى وضنى مضى ... فهما علينا نعمتان
ولكل يوم سجدة ... للشكر لا بل سجدتان
ومنه قوله في وداع الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: [الكامل]
يا سيد الثقلين دعوة من أتى ... يسعى إليك ولو على الأجفان
فارقت ربعك أولا لأداء ما ... كتب الإله علي في القرآن
ورجعت أضحك للتواصل مرة ... أخرى وأبكي للفراق الثاني
ومنه قوله وقد أشرف على مكة المعظمة: [الطويل]
أقول لصحبي والفيافي كأنها ... صحائف خطت بالمطي سطورها
دعوا طيّ عرض البيد بالسير والسرى ... فهذا حمى ليلى وهاتيك دورها(12/442)
ومنه قوله: [الرمل]
قاتل الله رفيقا بالحمى ... أنفد الأدمع واستبقى الغراما
غار من برق الثنايا فسقى ... وجنة الصب ولم يسق البشاما
وكئيب في الحمى تحسبه ... ظله الناحل وجدا وسقاما
يرقب الأرواح إن هبت صبا ... علّها أن تبلغ الحيّ السلاما
ومنه قوله: [الطويل]
كأني بكم والبيد تطوى لديكم ... وقد فزتم دون المتيم باللقا
وقد عبرت عن وجدكم عبراتكم ... إذ الدمع منك ثم أفصح منطقا
ومنه قوله: [الطويل]
سلوا الركب هل مروا بجرعاء مالك ... وهل عاينوا قلبا تركت هنالك
وأحسبه ما بين سلع إلى قبا ... أقام وإلا فهو ما بين ذلك
ومنه قوله: [الطويل]
إذا البرق من تلقاء كاظمة عنا ... أذاب الحشا منّا وذاد الكرى عنا
حسبناه إيماض الثغور على النقا ... وليس به لكنه قارب المعنى
متى قال حادينا رويدا فبينكم ... وبين الحمى مقدار يومين أو أدنى
وهبنا له شطر الحياة فإن أبى ... ولم يرضه ما قد وهبنا له زدنا
ومنه قوله: [الخفيف]
هل لحي إلى اللقاء سبيل ... وجيوش الفناء فينا تجول
أو يلذ المقام ثاو بدار ... ليس يدري متى يكون الرحيل
مزمع للمسير عنها ولا زا ... د وإن كان فهو نزر قليل(12/443)
شغّلته وفرّغت من لهاها ... يده فهو فارغ مشغول
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
ولي الدجى وكأنكم ... بسنا الصباح وقد تنفس
وغدا رداء دجى تدث ... ر بالكواكب وهو أطلس
علق الظلام بذيله ... فكأنه ثوب مقندس
والشمس تبدو في المور ... رد أولا ثم المورّس
كالخود تجلى في الثيا ... ب تظل تخلعها وتلبس
ومنه قوله: [البسيط]
تبدي السماء لنا معنى الحمى بسنا ... ناء قريب سفور الوجه محتجب
إذا ظمئنا توهمنا مجرتها ... نهرا طفت فيه أكواب من الشهب
كأنها روضة حفت أزاهرها ... بجدول من نمير الماء ذي شعب
أو حلة من بديع الوشي معلمة ... بالنور معقودة الأزرار من ذهب
ومنه قوله: [الطويل]
عسى وقفة بالركب يا حادي الركب ... لأسأل ما بين المحامل عن قلبي
فعهدي به لما استقلت ركابكم ... وقد قال للساري إلى طيبة سربي
«1»
وقد تقعد الأقدار من قل حظه ... على أنه وافي الهوى واقر الحب
ولكنني لم أتهم في تأخري ... على كثرة الأسباب شيئا سوى ذنبي
ومنه قوله «2» : [الطويل](12/444)
أسرّوا إلى ليلى سراهم فما انجلا ... وبات كطرفي نجمه وهو حيران
كلانا غريق في الدموع وفي الدجى ... كأن دموع العين والليل طوفان
«1» ومنه قوله «2» : [الطويل]
كأن الدراري والنجوم ودارة ... حوته وقد زان الثريا التئامها
حباب طفا من حول زورق فضة ... بكف فتاة طاف بالراح جامها
كأن سهيلا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها
ومنه قوله في الرثاء: [الطويل]
أبحر الندى طود المعالي وإنه ... ليغني عن التصريح باسمك من يكني
حللت برغمي في الرغام وإنه ... لمن تحته يبلي ومن فوقه يضني
أمر على مغناه كي يذهب الأسى ... كعادته الأولى فيغري ولا يغني
وأقسم أن الفضل مات لموته ... ويخطر في ذهني أخوه فأستثني
ومنه قوله: [الطويل]
شربت بكأس ما رآها أخو أسى ... ولا ذاقها قبلي محب ولا بعدي
فكرر بسمعي ذكر سفح طويلع ... وبان المصلى منعما واحد لي وحدي
ومنه قوله: [الكامل]
بانوا وخلفني الأسى في ربعهم ... أبكي الطلول مصرحا ومعرضا
ولو استطعت فراقها لتبعتهم ... فزمامها بيدي وما ضاق الفضا
ومنه قوله وهو من باب المغايرة: [الكامل](12/445)
ولقد ذكرتك والفوارس نحونا ... تترى فمدرع وآخر حاسر
فنسيت حبك عند ذاك مخافة ... ووددت أني في الهزيمة طائر
ومنه قوله: [البسيط]
من حاتم عنده واطرح [به] فبه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل
«1»
أين الذي بره الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممن بره الإبل
لو مثّل الجود سرحا قال حاتمه: ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ومنه قوله: [البسيط]
يا راكب الناقة الوجناء مشتملا ... ثوب الظلام كنجم لاح في أفق
يؤم قبل ازدحام الركب طيبة كي ... يطفي الجوى أو يروي غلة الحرق
كن لي رفيقا لأسعى نحوها عجلا ... إما على صحن خدي أو على حدقي
عساك تحيي بما توليه من كرم ... روحي وتدرك ما تلقاه من رمقي
وإن أتيت فقل: خلفت مرتهنا ... بالشوق يأتيك إن طال المدى وبقي
ومنه قوله: [المتقارب]
بلغت مرادي ونلت المنى ... وزاد سروري وزال العنا
فماذا الذي أرتجي بعد ذا ... وهذا الرسول وهذا أنا
فبشراك بشراك يا ناظري ... تملّى وإياك أن تغبنا
فحيث التفت رأيت الرسول ... وآثاره من هنا أو هنا
تملّى فهذا مكان الحبيب ... وهذا التواصل قد أمكنا
وخل الدموع إلى وقتها ... وإن حسن الدمع عند الهنا(12/446)
وختمت ذكر شيخي رحمه الله بهذه الأبيات، المتضمنة للمديح الشريف، لنختم بالصالحات عمله؛ وإني لأؤمل أن يحسن به في دار الكرامة نزله، وأن لا يخيب في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم أمله خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
«1»
25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن
«2» * أهل هذا البيت بجدّتهم للأم «3» ، من بيت صلاح ما فيه شبهة لمن يذم، وكتب الإنشاء منهم جماعة، وتلقوا بالفطرة سر هذه الصناعة، فنفذوا لسلطان البراعة، ونفثوا سحر البيان في عقد اليراعة، وكان هذا الرجل نسيج وحده في العوارف الحسان، ونسيب جده- أعني غانما- غانما للإحسان، مع ملابسته للدول في أمورها، وممارسته لها في أحوال حزنها وسرورها، إلا أنه كان يحجزه دينه، ويحجبه يقينه، وكان أقوم أهل بيته برئاسة لاكبر فيها، ورياضة لا كدر لصافيها، ومروءة كانت تلذ له ولو أدت إلى الخطر، وأبدت الأهوال دون الوطر،(12/447)
ووقع على القصص فأولى مننا، وأجرى الله به الخيرات زمنا، ولم يقصد إلا وجه الله بفعله، ولا أسدى المعروف إلا لأهله، ثم مات غالب من جرى لهم به ذلك المعروف، وبقي في بقاياهم، وحصل به الملوك الذين كتب عنهم الآخرة ببعض دنياهم؛ ولم يكن أسرع منه إلى أداء حق واجب، ولا أدعى لصحبة صاحب، ولا أسبق إلى عيادة مريض، وتشييع جنازة، وتنويع كرامة وغزارة، مع ملازمة الصلاة في الجماعة، وتعهد للمسجد لو قدر لما غاب عنه ساعة، ومداومة تلاوة لا يفتر من تردادها، وصلوات لا يخل بأورادها؛ هذا وبابه مفتوح، وسحابه ممنوع، وتجشّمه مع جلسائه مطروح وتجهّمه بالنّسبة إلى غيره خفّة روح، لبشاشة وجه تروي غلة الصادي، وسعة صدر تفيض على رحاب النادي، وسرعة إجابة تعاجل صوت المنادي، مع يد في هذا الشأن لا يخونها بنانها، بل يزينها بيانها.
* ومن نثره ما تتعب القرائح في أثره، قوله يصف قلعة «1» : ذات أودية ومحاجر، لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظرها إلا أنها طالعة بين النجوم بما لها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر المحيط، إلا أن هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء «2» ولا حرّ الهواجر، وقد توعرت مسالكه، ولا يداس فيه إلا على المحاجر، يتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه، وكأنما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ
»
ومنه قوله، ولقد أحسن في وصف القلم، فقال:(12/448)
القلم الذي كم أعان من هو قارئ للحروف، ومن هو لصنوف الضيوف قاري، وهو الراكع الساجد في ملازمة الخمس طاعة للباري، شق لسانه فنطق، وأنار صباحه وعليه جلابيب الغسق، ثم خضع له السيف، وزاره معنى تخيله لما مد، وهكذا في الظلام زور الطيف، ولم يزل يعظم ويتسوّد، ويحكي الرمح فيتخطر، والغصن فيتأود، ويقيم فلا يقتات، ويسافر فيتزود.
ومنه قوله:
فسارعوا إلى إنجاد من نازله العدو من إخوانكم المسلمين وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
«1»
وامضوا عليهم بقدمكم وإقدامكم، وانصروا الله بجهادكم واجتهادكم، فإنكم إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
«2» وكتاب الله أولى ما عمل به العاملون، قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
«3» .
ومنه قوله: قد تجردوا عن العلائق، واشتغلوا بخدمة المخلوق «4» عن الخلائق، وبرئوا من التكلف، وزهدوا في عرض الدنيا، فهم من الذين تعرفهم بسيماهم ويَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
«5»(12/449)
ومنه قوله يصف الكرة: وانتهى إلى حديث الرغبة في تلك اللعبة، وهي الجارية التي لم تزل بالضرب دانية شاسعة، مبتذلة من الطراد والإبعاد، دائرة في أرض الله الواسعة، فلم تزل أيدي الأيّدين، وحملات المؤيدين، خافضة لها رافعة، تالية في مجال القتال إلى النجم، فإذا وقعت الأرض تلا لها: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ
«1» ، من الشجر الأخضر كونها، وإذا سأل عنها سائل، قيل صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها
«2» ، لا تزال الفوارس إليها كالجهاد بالجياد تتعادى، وعليها مع المرافقة والمصادقة بالتنافس تتعادى، تشبه الهامة الملقاة بين أرجل الجياد في الحرب، ولا تزال هاربة من طالبيها لكثرة ما يقع فيها من الضرب، تنفر من الأبطال نفور حمر مستنفرة فرت من قسورة «3» ، وتتواثب عليها الرجال تواثب الليوث الضاربة الضارية، فكم لهم من الكرّة على تلك الكرة.
ومنه قوله في توقيع رجل يعرف بالجمال إبراهيم: فليعمل بتقوى الله في هذه الأعمال، آتيا فيها من حسن التأني كل ما يليق أن تشاهده العيون من الجمال، وهو أدرى بما يعتمده، إذ هو الصدر الذي كل أحد بعلمه عليم، والرئيس الذي لا يخفى بين الرؤساء، وهل يخفى مقام إبراهيم؟
ومنه قوله من كتاب كتبه:
يقبل اليد، لا زالت بمننها مواسية، ولكلوم القلوب بطب كلامها آسية،(12/450)
ولعهود محبيها على ممر الأيام، وإن نسيها من نسيها،: غير ناسية، وينهي ورود الكتاب الكريم، فتسلى عن كل من حجبه النوى، وتملى بنضارته ومحاسنه عن وجه بالجفاء قد جف، وعصر بالذم قد ذوى، وعلم الإشارة العالية إلى أمر الحبيب النازح، والذي جد في الصد وكان غير مازح، وإنه استدل من كلام المملوك على شدة موجدته لبعده، وعدم صبره عن استجلاء وجهه، واعتناق قده، ودعا بعودة ذلك الغائب قبل أن يذوي عوده، ورجوعه قبل أن تنطفئ بطلوع الذقن سعوده، وقد تحقق تفضله، وهو نعم من أمّه الشاكى وأمّله «1» : [الطويل]
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ومنه قوله في كتاب إلى قاضي القضاة إمام الدين القزويني «2» : أدام الله الأنس بقرب الجناب العالي القضائي الإمامي، وجعله للمتقين إماما، ورأيه للصواب زماما، ولقّاه بمنّه حيث يحل تحية وسلاما؛ ورد المشرف الكريم الذي تلقاه بقلبه قبل يده، وحل منه بمحل روحه من جسده، وناظره من أسوده، وسر بما تضمنه من أخبار قربه، وبما دل عليه من فنون فضله الذي المملوك منه على بينه من ربه، ويحقق الإشارة الكريمة في تعويض قضاء القضاة إلى نظره الكريم، وحصول التعويل في ذلك على مقامه الذي يتشرف به كل عظيم، ولقد نال هذا المنصب من جلالة قدره ما سر به واغتبط، وتحقق بمصيره إليه أنه على الخبير به سقط، ووصل التقليد الشريف، وقبل وقوبل بالامتثال، وحصل السرور به وعم، وكمل به هناء القلوب وتم، وعرض له من الارتياح إلى لقائه، ما سلبه القرار، وعظم به الشوق عنده أعظم ما يكون، إذا دنت الديار من(12/451)
الديار «1» ، ولولا ما يعلمه من التصدي لمهمات الإسلام، لما نابت في قصد لقائه الأقلام؛ والله تعالى يقدمه قدوم البدر بروج سعوده، ويديم في المعالي سموه إلى الغاية التي لا مزيد على غايتها في صعوده.
* ومن شعره قوله، [الطويل]
بكيت بدمع فاق دمع الغمائم ... وناحت لنوحي ساجعات الحمائم
على جيرة جار الزمان لفقدهم ... ومن بعدهم جاورت غير ملائم
مضت لي بهم أيام أنس حميدة ... نعمت بها دهرا كأحلام نائم
وإني بأرض الشام أشتاق أرضهم ... إذا لمع برق لاح منها لشائم
فلله أيام الصبا حيث لا نرى ... وقارا لنا إلا بخلع العمائم
ومنه قوله «2» : [الطويل]
وكم سرحة لي في الربى زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الشذا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزها ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلاريا
غدا الغصن فيه راقصا ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى [به] متمشيا
تغنت لديه الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا
وهذه أبيات لله من سمع مثلها! لو حصلت لابن خاقان لجعلها واسطة(12/452)
«قلائده» أو ابن بسام لاتخذها من أفضل «ذخيرته» «1» .
ومنه قوله «2» : [البسيط]
فعد نفسك من أهل القبور بها ... فعن قليل إليه سوف تنتقل
واذكر مصارع قوم قد قضوا ومضوا ... كأنهم لم يكونوا بعد ما رحلوا
يا ليت شعري ما قالوا وقيل لهم ... وما الذي قد أجابوا عند ما سئلوا
ومنه قوله «3» : [مجزوء الرمل]
سلب المهجة مني ... بالجفون الفاترات
لو يزور البيت لم ير ... م الحشا بالجمرات
* وكنت قد بعثت له درجين أحمرين من الورق، ثم لم أعد أجهز له بعدها شيئا، فكتب إلي: [البسيط]
يا من مكارمه عمت فكم شملت ... ذا فاقة ما بقي منه سوى الرمق
قد كنت أرسلت لي درجين لونهما ... من حمرة مثل لون الشمس في الأفق
وبعد ذلك لم أفرح بمثلهما ... من سيدي لا ولا شيء من الورق
فبعثت إليه درجين أحمر وأبيض، وكتبت إليه معهما: [البسيط]
أمسك سحابك لا يفضي إلى الغرق ... فقد كفى منه صوب الوابل الغدق
بدائع من علاء الدين بت بها ... ألذ في طيب تقبيل ومعتنق
مطلوبه ورق مني ويا عجبا ... من الغصون إذا احتاجت إلى الورق(12/453)
وقد بعثت به تجلى الخدود له ... في أحمر شرق أو أبيض يقق
وما علي إذا أرسلت رائده ... وعاد بالشهب مخبوءا أمن الأفق
هذا عليّ وهذا جود راحته ... يا من رأى البحر والأنواء في نسق
26- ومنهم: عبد الباقي بن عبد المجيد بن أبي المعالي متّى بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن يوسف «1» ، القرشي، المخزومي أبو المحاسن، تاج الدين، المعروف باليماني، المكي مولدا.
* أحد مشاهير الأدباء، وأحد جماهير الأولياء، سرحة فضائل، ودوحة علم يتفيأ ظلالها عن الأيمان وعن الشمائل، بحر يؤخذ منه درّة «2» بلا ثمن، وروض «2» تجد منه روح الرحن من قبل اليمن، قدم مصر قديما ثم الشام، وأقام بدمشق مدة، ثم هفت به ريح يمانية، وذهب بلبه برق علانية، فسلبب قرارا، وغلب استقرارا، وعاد إلى وطنه آئبا، وعاود سكنه لا ذاما ولا عائبا، واتصل بالملك المؤيد داود، ووصل منه بثقة ودود، فعول عليه وقلده كتابة السر لديه، وبقي حتى انمحى من أديم السماء هلاله، وأضحت في تلك الأفياء ظلاله، فقربه قريبه الملك الظاهر قربا حقده الملك المجاهد ابن الملك المؤيد، فأخذ أمواله واجتاحها، ونزف أمواهه وامتاحها، وتطلبه ليردي به، ففر وسكن مصر، ثم ما(12/454)
استقر فقصد دمشق، ثم أتى القدس الشريف واستوطنه، واتخذ المسجد الأقصى موطنه، ورأيته به بين علوم ينشر جناحها، وتعبدات يضيء في حندس الليل صباحها.
* ومن نثره قوله من رقعة كتبها إلي، قال فيها: وكتب المملوك في يوم توقدت جمرته، وطالت في نهار القيظ حجوله وغرته، وناره على الأكباد موقدة، لو لم يكن إلا لأن المملوك فارق سيده، ونسيم المملوك سموم، وشربه يحموم، وحشاه تكاد تذوب، وجفنة كراه في نهاره وليله مسلوب، وهيهات ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
«1» .
فكتب عنها إليه جوابا منه: وكتبتها واليوم قد طار في أفقه جناح الشعاع، وأوهم الصبا وغر برقه اللماع، وصر الجندب في نواحيه، وسكت الطير بعد تلاحيه، وغرق في آله الليل، وعرف بسواده في كف ماحيه، والشمس في كبد السماء ترمي بشرر كالقصر، والأصيل قد آلى أن لا يميد ولا يجنح للعصر.
ومن نثره- أعني السماني- قوله: وينهي أنه بلغه وفاة الولد، وأن الله نقله إليه ولم يعلق بشيء من الذنوب، وجعله ذخيرة وفرطا لمولانا، يوم يجازى كل امرئ بما قدم من سالف العمل المحسوب، فلقد جرّع الأحشاء صابه، وجرح القلب ساعة التفريق مصابه، وقطع الأكباد فقده، وأورث الأحزان بعده، فياله من قرة عين أورثها القدر قذى الأجفان، وغصن سؤدد اقتطفه قبل الإزهار يد الأحزان، وهلال حسن اعتور نوره(12/455)
الحدثان، وثمرة جود أودعدت مدارج الأكفان، وربع أنس أمسى صاحبه بالخطوب خللا، وقادح أمر أضحى بيان أمره جللا، على أن الخطوب لا تزاحم إلا ثبيرا، ولا تعاند بورودها إلا كبيرا، وفي سجاياه الكريمة خلال قل أن تكون [في] غيره من الناس، وصفات تفرد بها وهي الثبوت عند هجوم الباس، ولئن غاب من سماء علائه هذا النجم الزاهر، وذهب أثره المنير الباهر، فكم في فلك محامده من نجم سيادة بأنوار الرئاسة ساطع، وكوكب فضل ما يقال له: هذا غارب حتى لا يقال لأخيه هذا طالع.
ومنه قوله من كتابق كتبه إليّ: وينهي أنه كان من خدم هذا البيت الشريف، والغني بسمة ولائه بين أوليائه عن التعريف، وقد سارت مدائحه في هذه البقية العمرية مغربة ومشرقة، ومنجدة ومعرقة، يهجم بها وجفنه لبعده عن باب سيده لا يذوق غمضا، ولا يعرف ليلا أقبل أو يقضى، وقصارى مناه أن لا يقبل فيه قول حاسد، أو جاهل، حاشا المجلس الشريف، أو عالم معاند؛ ومولانا يعذر المملوك، فإنه كتب هذه الضراعة والليل قد أسفر دجنه، والسهر قد ترسم المملوك حتى تغير ذهنه، والمملوك ما يتغير في هذا البيت المعمور العمري ظنه.
فكتبت له جوابا منه: وانتهى إلى هنا، والنسيم في السحر قد هلهل ثوب الظلام، وسحب رداءه على أعقاب ذيول الغمام، والجوزاء قد انتشرت تحت مسبح السرطان، وشعاع الشمس المحمر قد غرق في مقلة الأسد الغضبان، والديك قد طلع على شرف الجدار، وصاح في الليل منه جاويش النهار، والمصابيح قد فرغ سليطها، وكثر في ضوء الصباح تخليطها، فوقف المملوك وقفة الحيران، وتململ تململ(12/456)
الغيران، وأراد أن يطيل القول بقدر ما يدعوه إليه رائد الشوق، ويحمله على أن يحمل السمع الكريم فوق الطوق، ثم رجع فعاتبه فكره الطليح، وجاذبه قلمه الطريح، وأنبه أدبه، وقال له: قد آن لك أن تريح الرجل من تطويلك وتستريح.
ومنه قوله- أعني اليماني- في كتاب يزعمه في معنى الكتاب يزعمه في معنى الكتاب الفاضلي بفتوح القدس:
هذا وعلوم الديوان العزيزة محيطة باستيلاء أهل التثليث على البيت المقدس، والمسجد الذي هو على التقوى مؤسس، وأنهم جعلوه مفزع طريدهم، ومقر شديدهم، ومعقل رهبانهم، ومعلم أديانهم، ومقر طالبهم، ومنتجع هاربهم، ومنهج شرعتهم، وعمود بيعتهم، وعكاظ نفاقهم، وموسم شقاقهم:
وبادي سمارهم، ومظهر شعارهم، ومنار منارهم، وملتقط أخبارهم، ومنزل أحبارهم، مع أن طوائف الفرنج ببيعته طائفة، وأمم النصارى على دين الصليب به عاكفة، لا يعرفون عن الإنجيل غير ما بدّلوه، ومن القرب غير ما مثلوه، فنهض إليه الخادم في جحفل من أولياء الدولة القاهرة، يرون الموت مغنما، والسلامة مغرما، والهزيمة عارا، والإدبار نارا، ما حلوا بأرض إلا وأنبتت من ساعتها قنا، ولا نازلوا حصنا إلا بلغوا من شماخه المنى، بايعوا الله على إخماد الكفر جهارا، وعاهدوه على أن لا يذر ماضي سيوفهم على وجه الأرض من الكافرين ديارا، فلما شاهدنا رفعتها، وميزنا علوها ومنعتها، رأينا معهدا أخذ الشيطان على أهله أن لا يخفر لهم عهدا، وعلما أمسى لدين النصرانية على ما ادعوه فردا، قد كملوا عدتها وعديدها، واستخدموا للمحاربة شقيها وسعيدها، وإذا رأوا على أرجائها حفيرا أضحى بجمالها سوارا، ولحمايتها من التطرق إلى منازعة نزعها أسوارا؛ بناء ولكن تقصر عن مماثلته يدان، وإتقان هو بلا شك من صنعة الجان، وعمارة ولكن من ساحر عنيد، وتدبير ولكن عن رأي شيطان مريد، وتماثيل يخيل إلينا(12/457)
من سحرهم أنها تسعى، وصحراء أرض ليس لمن أقام بها ظل هناك ولا مرعى؛ فاسترقينا مكانا دلنا عليه حسن الإيمان، نصبنا على أرجائه منجنيقا هدر بازله، وهثم ثغر تلك الأبنية نازله، وتجسدت عصيه حيات تلقف ما صنعوا، وفرقت ما جمعوا، وظل لنا ولهم يوم ولا كيوم ذي قار، وحرب ولكن أين حزب أهل الجنة من حزب أهل النار، سيوف مخروطة، وأيد منا ومنهم بالدعاء مبسوطة، وعجاج انعقد مثاره، وقسطل ولكن استعر بحوافر الصوافن أواره، بذلوا أنفسهم دونها، وراموا ولو بهلاكهم صونها، وعلا شرفاتها منهم أمم لا تحصى، وجمع آلت يد المنيّة لعددهم لابد تستقصى، ولم تزل المنايا تسخن بقوة الله ذلك الحفير، وتورد سكان تلك البقاع بعون الله سوء المصير، ثم سارت رجّا فتنا، وجال النقب في أرجائها، وبلغت الأماني من النصر غاية رجائها، وصيرناها بالحديد، والطلل الدارس بعد المشيد، وحملنا عليهم بقلب رجل واحد، فانطمس محكم التثليث، واستبان طريق الواحد، وتفرق من بها بين أسير أثقلته أغلاله، وقتيل غرته بالإقدام آماله، وطريد لا يعرف له مكانا، وخائف كلما تبدّى له مرأى ظنه إنسانا، وفتحناها بكرة الجمعة، وغدت أعلام الخلافة المعظمة على بقايا شرفاتها خافقة، وأطلاب الإسلام لاستئصال شأفتهم متلاحقة، وقام خطيبنا على صهوة المنبر الأقصى مرتجلا، وصاغ أوصاف المواقف المعظمة والمواطن المكرمة لجيده حلى، وذكره الحرب وكان ناسيا، وألان له بالمواعظ قلبا كان لعدم الادّكار قاسيا، وأعدنا إليه ما كان يعهده من الجمع، وتقدمنا بهدم ما استحدث من البيع، وشيدنا ما دثر من مشهد، اعتمدوا تخريبه ومعبد، وأ تستنقذنا معالم الصخرة الشريفة من الإشراك، فعادت إلى أخوة الحجر الأسود، وهذا الفتح وإن كان المقصود منه مكانا مخصوصا، فهو فتح يشتمل على مدن عامرة، ورباع غير عامرة، وقلاع مرفوعة، وفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقرى ظاهرة، وركبان(12/458)
واردة وصادرة، وهذا المسجد شقيق الحرمين، وثالث الرحلتين، ومعبد الأنبياء، وموطن بركة الأولياء، فلله درة فتحا أقر نور الدين في ناظره وشعار الإسلام في مشاعره.
قلت: ووقفت له على رقعة ذكر فيها يوما، أصبح والثريا فيه كأنها في بروج المطالع، كف جود تختمت في رؤوس الأصابع «1» ، والصباح جام لجين ملأته أشعة الشمس خمرا، والمجرة بحر مزبد يقذف القواقع درا، والنسر قد ضجر مما حام، وسهيل قد تقدم خوفا من الزحام، وقد عارضت وسط السماء الشعرى، كأنها ياقوتة في مذرى، والجوزاء قد مالت كشارب قهوة لم تمزج، أو حسناء تنفست في المرآة إذ نظرت محاسنها ولم تتزوج. «2» .
والرقعة هذه مضمونها وهو: أسعد الله مولانا بهذا اليوم الذي تمثلت ثرياه صورة كأس يطاف به على الجلاس، وأتى نسره إلى المجرة حائما على الورود، رازئا كأنه مجهود، والجوزاء مسبلة الذوائب، وسهيل لها خاطب، والشعرى شعرها وغدائرها الغياهب، ومد الله عمر مولانا ومتعه بشرف المناقب.
* وبهذا ذكرت قولي من قصيدة وهو: [الكامل]
شق الصباح غلالة الظلماء ... وجلا النهار غدير كل سماء(12/459)
لولا كواكب في الصباح تأخرت ... كحمامة مبثوثة في ماء
بصبيحة رقت حواشي هدبها ... ووشى النسيم بها إلى الأنواء
حتى تجلت مثل خود ختّمت ... بالنجم تحت مظلة الجوزاء
وبدا سهيل ثم والشعرى تلي ال ... ياقوتة الصفراء بالحمراء
وكأنما زهر المجرة روضة ... قد كللت بجواهر الأنداء
والنسر في شفق الصباح مشمّر ... كي لا يبل لباسه بدماء
عدنا إلي اليمني:
ومن شعره قوله يذم مدينة عدن «1» : [الكامل]
عدن إذا رمت المقام بربعها ... فلقد تقيم على لهيب الهاويه
بلد خلا من فاضل وصدوره ... أعجاز نخل إذ تراها خاويه
وقوله: [الوافر]
إذا حلت أيادي البرق رمزا ... على كنز العمام سقين حرزا
وأمطرت الغيوم خيول سيل ... على وجه الثرى يجمزن جمزا
أثرن بياته فكسا ربوعا ... تعرت عن ملابسهن خزا
وباع المشتري لما توالى ... محبته لكف الأرض بزا
وأطلعت الرياض نجوم نور ... فتغريها أيادي الشرب حزا
وولى عسكر الظلماء هزما ... أخافت من سنان البرق وخزا
فحينئذ ترى عقد الثريا ... على جيد الحمائل قد تجزا
فما هذا التأني يا نديمي ... لقد خالفت إذ حالفت عجزا(12/460)
وجام الشرب ينسب للثريا ... وشمس الراح نحو الكرم تعزى
فواصلني بها فلعل دائي ... يزول إذا شربت الخمر مزا
على نهر المجرة والدراري ... عيون حولها يبدين غمزا
فجرد جيش لهوك يا خليلي ... لغزو غنيمة من قبل تغزى
27- ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي. «1»
* شاب برع وبهر، وطلع مثل الكواكب وظهر، وما أعرف في أي وقت اشتغل، ولا متى ألهب سعفه واشتعل، كأنما لقن سحر البيان من حين ولدته أمه، وبزغ في الأفق نجمه، وأتى بلطائف الشباب، وتلاءم في الكؤوس جائل الحباب، هذا إلى حسن خط كأنما نمنمة عذاره، وقيام حسنه عند المحبين بأعذاره، وهذا كله في مدة أقصر من رجع النفس، وأسرع من قدح الزناد للقبس، في زمان أعجل من إيماء المليح، وأقل من مقام الضيف عند الشحيح، لكنه لما جاء بالألفاظ يبهر حسنها، ويرجح وزنها، ظن أنه قد انتهى، وتناول بإحدي يديه القمر وبالأخرى السها، فترك الطلب، وقد كان له انتصب، واستنزف ثمده البلى حتى نضب، وكان يشغله ما يشغل الشباب، ويصرفه عن الثبات على حال ما يصرف النسيم الهاب، فكان لا يرى مستقرا قدر دقيقة، ولا رجع طرف حقيقة، فكان يعيبه التهور ويزينه كثرة التصور؛ وما سلّم حتى ودّع، ولا تلقته القوابل حتى شيّعه من شيّع.(12/461)
* ومن نثره قوله في جواب كتبه عن نائب الشام تنكز «1» إلى نائب طريق في معنى الحريق الذي حصل بدمشق في سنة أربعين وسبعمئة:
أعزّ الله أنصار المقر الشريف، وحرس بره الذي يتحرى، وحبوه الذي يتسرع إلى القلوب ويتسرى، وأمره الذي يبرد بنداه كل كبد حرى، وسره الذي إذا ناجته خواطر الإشفاق والإرفاق أنشدهما: قفا نبك من ذكرى «2» .
المملوك يقبل الباسطة الشريفة تقبيلا يبرد به الغليل، ويداوي بطبه الفكر العليل، وينهي ورود مشرفة تتضمن أمر الحريق الذي حصل بدمشق في هذه المدة، حتى أحرقها بناره، وحفّ جنّتها بالمكاره، وسلّ عليها سيف الضرام، وحكم عليها حكم الدهر على الكرام، وأطلع في وجه شامها لغير الحسن شاما، وكاد يأتي عليها لولا تدارك لطف الله ب يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً
«3» وهجم على جيرون «4» فغير دهشتها، وعلى الخضراء «5» فرمى فرشتها، وعلى اللبادين فكسر قلبها، لأنه كان زجاجا، وعلى الوراقين فما شعرت حتى صار باللهب كلّ ورّاق سراجا، وكل طلحية وقد تفرق طلحها المنضود، وكل كراسة وقد ردّ «6» وجوهها البيض وهي سود، وأضحى فم الفوارة يصاعد جمرات أنفاس، وسوق النحاسين يرسل منه، إلى سور الجامع شواظ من نار ونحاس، وكل محبوبة(12/462)
بالطرائفيين وقد رأت مكروهها، وكل براعة دهماء وقد ابيض بالنار فودها، فلذلك سودت الدوي وجوهها، وغادر كل دكان دكا، فأوسع قوائم العمد وأضلاع السقوف كسرا وفكا، وأقعد بيت الساعات إلى قيام الساعة، ودخل إلى باب الجامع لكن لغير طاعة، وكاد يصلى به من يصلي، ويقبل على صف العابدين فيولي، واهتزت المئذنة بحمى نافض، وتشعث وجه المشهد الأبي بكري، فكأنما أصابته عين الروافض، وترقرقت عيون العابدين من الألم، ورقّ صحن الجامع لمأتم هداة الساجدين من المئذنة بنار على علم، وما زالت مراءات اللهب حتى خربت المنار، وصف بعد ذلك في صحن الجامع ما فضل عن أكل النار، فيا لها داهية عمت المسلمين، ومصيبة سودت وجه الدنيا فبيض الله وجه الدين، وواقعة لها اقتربت الساعة، وقارعة لولا المعوذات لما قبلت فيها شفاعة، ويا لها عينا دخلت على هذه الأسواق فحلت، ويدا استجدت منها محاسنها فأعطتها وما تخلت؛ كانت لعمارتها رمانة فأمست جلنار، وكانت محاسنها ليس عليها غبار، فأصبحت لا تعرف من الغبار، وما سكت لهذه النار لسان، ولا خفي لها شخص ولا عيان، ولا نشفت الدموع التي أطفأتها، ولا بردت ضلوع القياسير التي دفأتها، حتى طلعت شمس الفتنة من غربها، وتعالت أصوات النائبة عن قربها، وأتى النقص من جهة الزيادة، وسعى الداء بما وسع العيادة، فصار سوق الكفت كفاتا، وسوق الخام رفاتا، وخرجت قيسارية القاس عن القياس، وتوارد الإياس والرجاء في أمر البلد بمجموعه ولكن غلب الإياس، فركب المملوك بنفسه ومن عنده من الأمراء، وبأيديهم أسلحة المعاول، وعلى عواتقهم لقطع عنق النار سيوف الجداول، فكم من رأس داسته النار دوسا، وكم من قدّ وقوس تصرفت فيهما، فصار القوس قدّا والقدّ قوسا، وكم من أوتار أخذت منها الأوتار، وكم من سهام نفذت لها في قلب الإسلام كما شاء(12/463)
الكفار، وكم من حلقة انفضت، وكم من عين بيضاء اسودت، وعين سوداء ابيضت، وكم من لجام دخل فيه لسان النّار فلاكه، وكم من بحر سرج رمى عليه اللهب شبكه فأكل أسماكه، وبقي المملوك كلما دار إلى دار سبقه إليها المقدار، أو أشار إلى دكان تداعت منها الأركان، هذا والصاغة تعوذ عين ذهبها من عين لهبها، والمئذنة ترجف فرائص تختها من مصرع أختها؛ وتدارك الله الحال بلطفه، ومن بإطفاء ذلك الحريق، ولولا منّه لم نطقه ولم نطفه؛ ولم تقتصر الحال على هذين الحريقين، بل تتابع بعدهما لهما أمثال، وما يشك المملوك في صدق ما أشار إليه مولانا من تلك الحكايات، وضربه من الأمثال، فإنه ما يسعر هذه النار إلا عدوّ أزرق، ومن أحرق قلبه بحريق جانب من معبده فلا غرو إذا أحرق.
ومنه قوله: [الكامل]
يا سادة نزحوا دموعي عندما ... نزحوا وعهدي منذ ذلك عام
أو ما وجدتم ريّ دمعي عندما ... وافاكم من ناظريّ غمام
«1»
كيف اعتقدتم سلوتي عن ذكركم ... أيطيب إلا بالكمال كلام
ها أنتم في ناظري ما دمت يق ... ظانا وتجلوكم لي الأحلام
أشجى فراقكم دمشق فغصنها ... قلق إذا ناحت عليه حمام
ونزلتم الشهباء فاختالت لأن ... علمت بأن النازلين كرام
طابت بكم ويطيب كلّ حمى غدا ... يعزى لإبراهيم فيه مقام
وينهي ورود مثاله الكريم، بعد أن وجد عن بعد ريحه، وشام برقه العالي، قبل أن يأتي قميصه بالبشرى الصريحة، وأحسن الخاطر بسروره الزائر، وإن كان ما كل روايات الخواطر صحيحة فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ(12/464)
رَبِّي
«1» وصدقت ظنون حبي، ويا أيتها الأيام التي قد طال بيني وبينها عتب النوى حسبي، ثم عطف على الكتاب الكريم يغازله، ويصاعد فيه نظر اللوم وينازله، ويقول له: أين لطف الترسل إذ عدمنا لطف الكلام؟ قد احترقنا بنار إبراهيم ولا برد ولا سلام، قد أخذ بفراقه لذة أيامنا نهبا، وقد كنا ونحن بالشّعراء لا نطيق جفاءه، فكيف وقد ركب علينا الشهباء، وشرع في فنون العتب ينسقها، وفي حمول الشكوى يوسقها، إلى أن فض لطيمة الطرس، ففاح عبيره، ولاح حبيره، وباح بالبيان صغير لفظه وكبيره، فكل زهرة حرف عليها للحسن ندى، وكل غصن سطر طفا حب القلوب عليه نقطا، وبدا يود ابن هلال «2» لو استعار منه معنى الكمال، ويتطلع ياقوت «3» إلى أن يكون فضا لخاتمة الذي ختم به على هذا السحر الحلال، ويتهافت المسك على أن يكون به تحرير ذلك الحرير، ويخلع صوف ذلك الغزال، فلما رأى المملوك نسمات تلك المحاسن قد ناوحت الهبوب، وتراوحت بالشمال والجنوب، وأنشد لسان حالها، ومن أين للوجه الجميل ذنوب؛ قبل بشفاعة حسنه الأعذار، ونادى حرب العتب: ضعي الأوزار؛ وعاود وصف الشوق فيقول: ما الربيع على أنس البلاد به، وتحلّى عاطل الروض بذهبه، واستطال صاحي الطير بخيامه المضروبة، حيث حبال الشمس من طنبه؛ بأشدّ من شوق المملوك إلى تلك المحاسن، التي من رأى خط شبابها تحقق أنه ما محاه آسن، وقد آن للملوك أن يهرب من الاستهداف لهذه الأوصاف، وألا ينسبه إلى انحراف كل قليل الإنصاف، وما أكثر القليل ذكر مولانا المقام،(12/465)
ومقامه فشوّق وما ذوّق، وعرض ببيتين أنشرا من لسان المملوك وقلمه ميتين، فخذا حذوهما في اللفظ، وتصرف في المعنى، وقال في معنى ما مولانا بصدده من ملازمة الاشتغال: [الوافر]
أقمت مجاورا في كسر بيتي ... لأن تنقلي داء عقام
إذا رزق الفتى عقلا ودينا ... ودنيا برّة طاب المقام
آخر تتمة:
مللت من المقام على خمول ... وحل من الهموم بي انتقام
ولو أني سعيت لكسب مال ... حلال طاب لي فيه المقام
وإذا وصلت المقامة تمت المقامة، وإلا فكلام المملوك خبط عشواء، في هذه الحالة نسق الملوك من كتابه عرف الأدب الوردي فتنهد، وارتاح إلى ذلك الدّين الذي عري المملوك من فضله، مع أنه ما برح حتى للرياض بالكسوة يتعهد، فيا شوقي إلى دنانيره وقد ألقاها الشرق في بناني، وإلى وجناته الوردية وقد وقفت نصب عياني، ولكن ما أفعل في سوء الحظ، غايتي أن ألومه، ومولانا يعرض عليه لهفاتي، وما يخفي عنه طريق أكرومة.
ومنه قوله: وينهي ورود البشرى التي ملأت الوجود بشرا، والوجود نشرا، وأقامت بالسرائر سوقا أضحت تباع به البشائر وتشرى، بما حصل لمولانا من الإقبال الشريف الذي تعددت تشاريفه، وتحددت تكاليفه، وتزيدت على وسع الآمال مصاريفه، من تيجان عمام اعتدلت فوق مفرقه، وألوان فراج أحرق في سمّور سجفها زركش النجوم، فلاحت تلك اللمع من محرقه، ومن هالات طرحات كأنما كن لشهابه المشرق فلك تدوير، ومن أبدان سنجاب حكت ببياض البطون(12/466)
وزرقة الظهور طلوع الشمس في يوم مطير؛ فقابل المملوك وسائر المماليك المحبين هذه النعمة بحقها من الشكر، وأفاق بهبوب نسيمها، وإن كان غرامه في هذه المدة بمطالعة «مسالك الأبصار» لا يدعه يفيق من السكر، فلله هذا الحبيب المشنف، والغريب المصنف، والمنوع المنور، والدهر الذي هو بأهله من لدن آدم مصور؛ حرس الله هذا الجمع الصحيح، وهذا الفصل الذي نثر من الدر في حجور التراجم كل مليح، وهذا السياق الذي سير الشموس من الطروس على نجائب، وهذا الوفاق الذي حصله بين البر والبحر، وحدث عن العجائب بعجائب، فما كان للمملوك دأب في هذه المدة إلا التقاط درره من أصداف الأوراق، واجتناء ثمره من غصون تلك السطور، وكله قد راق، فإن اعترضته عنبرة ثناء فتّها على جمر الشوق فتا، أو عارضته عرائس تصانيف الأولين أقام تلك المجلدات الخمس فتصير ستا، والمرجو من الله تعالى رؤية ذلك الوجه الكريم على ما يسر الأولياء ويسوء الأعداء، وحاشاه أن يكون له أعداء.
* ومن شعره قوله في مليح نظر إلى الشمس عند غروبها مضمنا: [الرمل]
وغزال غازل الشمس وقد ... وقفت فوق ثنيات الأصيل
فتعوضناه منها بدلا ... «وتفارقنا على وجه جميل»
ومنه قوله غير مضمن: [السريع]
وذي دلال حسنه وافر ... تقصّر الأوصاف عن كنهه
رنا من الشمس وقد غربت ... بفاتر اللحظ إلى شبهه
ففوضت في الحسن من بعدها ... ولاية العهد إلى وجهه
ومنه قوله مضمنا: [المنسرح](12/467)
ورب ظبي مخضر شاربه ... رطب حواشي اللمى موردها
«1»
قال وشمس الأصيل قد وقفت ... على ثنايا الأصيل تنشدها
كعاشق سار عن هواه ففي ... مقلته دمعة يرددها
«قفا بها قليلا علي فلا ... أقل من نظرة أزودها»
ومنه قوله: [الكامل]
نعس الحبيب فقيل: ماذا شأنه ... فأجابهم بالحاجب المقرون
وبطرة أشرت وطرف أدعج ... كالنون فوق العين تحت السين
* فهؤلاء أعيان كتاب المشارقة، ممن مات وفات، وبقي منه ما ينشر العظام الرفات، وأكثرهم قد جهل قبره وفني، وما فني ذكره ولا بره، خلا عمّي الصاحب شرف الدين أبي محمد عبد الوهاب رحمه الله، فإنني ذكرته في كتاب «فواضل السمر في فضائل آل عمر» إذ لم يكن بدّ من ذكره هناك مع أقربائه، وسلف أهل بيته وآبائه، وكذلك والدي تغمده الله برحمته، وإن كان دون أخيه قدر مقال لا مقام، ودرّ نظام لا انتظام، وسيأتي ذكر جماعة من أهل هذا البيت في الكتاب المذكور، ومنه يعرف خبر كل معروف غير منكور، على أنني بشهادة الله لآنف لي ولسلفي أن ننحاز إلى هذه الفئة، أو نلم كرى بعيونها المغفية؛ ولله المعرّي حيث يقول «2» : [البسيط]
دع اليراع لقوم يفخرون به ... وبالطوال الردينيات فافتخر
فهن أقلامك اللائي إذا كتبت ... يوما أتت بمداد من دم هدر(12/468)
فأما الأحياء بالجانب الشرقي، ممن يطلق عليه هذا الاسم بالاستحقاق، فبقية:
28- ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي
«1» * من بيت قضاء وخطابة ببلاد صفد والساحل من زمان الفتوح، وهم أهل قرى لا يغلق بابهم المفتوح، وفيهم بنين «2» من يضيف الوارد والصادر، ويطيف كرمه بالعاجز والقادر، على قلة يسار، وخلة إعسار، وبرع هذا الرجل فيهم وتأدب، وتذهب أدبه وتهذب، وأتقن علم العربية، وتم له تمام الفضائل الأدبية، إلى فقه درّسه، وفضل نوّعه وجنّسه، وعلم معقول أدركه بمجرد التصور، ووازع إيمان منعه فيه من التهور، واطلاع أشرف من يفاعه، وأطل عليه من شرف ارتفاعه؛ كل هذا إلى ذكاء يتدفق سيله، ويعرف من بين النجوم سهيله، وتفرد بمعرفة التنفيذ للمهمات قل من يحسنها، أو يحير جوابا حيث ينطق ألسنها، هذا مع خط كأنما ألحف جناح الطاووس، أو تلألأت تحت جنحه أشعة الشموس، وحسن مصاحبة تطمئن بها النفوس، ومواظبة على علا يسود بها ويسوس؛ صحبته من قديم، وعرفه أولياء الأمر، وتنبه ذكره ثم رقد، وهب لهب صيته ثم خمد، وجرى ماء حظه يتدفق ثم جمد، ورتب في كتابة الدرج في عدة مواضع من الممالك في أقرب مدة من الزمان، واشتهر برجاحة العقل والكتمان، ووفور الفضل والأدب، ثم كتب الإنشاء بدمشق ثم بمصر، فأنشأ غر التقاليد ورقم برودها، ونظم ما استجدت منه أجياد الحسان عقودها، وحضر بين(12/469)
يدي المقام الشريف؛ وكان عندي موضع الثقة، وقدمته لأهليته، ثم بعد أن رفعت ذلك الشعار، وخلعت ذاك الرداء المعار، وقلت: الموت ولا العار، لبث قليلا ثم تبعته عوادي الضراء، وروعته في وسط السراء، ثم كان في صفد بين قومه إلا أنه لا يجد قوت يومه، وبقي حيا ميتا، لا يملك بيتا، ثم انفرجت حلقة ضائقته، وعادت لوامع شارقته، وفسح له في سكنى دمشق، فعاد إلى صدور مجالسها، ثم كتب في ديوان الإنشاء بها، وحل مفاخر رتبها، فتبلل عودها بأندائه، وأشرقت سعودها باستظهاره على أعدائه، ثم طلب إلى مصر ووقع بالدست، وهو الآن جمال الأوان، وكمال الديوان، وبيده الأزمة، وإليه الأمور المهمة، وفضله يستحق التتمة.
* ومن نثره قوله في ورقة كتبها إلى والدي: وينهي أن إحسان مولانا وصل إلى ذلك الفقير الصالح، الذي من قرية نين، وهي قرية المملوك التي أخرجته، وإنما خدمته للبيت العمري هي التي خرجته، وإلى طبقات الناس درجته، وقد بقي يعوزه كتاب كريم إلى مشدّ صفد، نظرا لكتاب الكريم الذي صار في يده إلى نائبها، والمملوك يسأل الصدقة عليه بالمطلوب، وأن يكون كتابا حسنا يعيره مولانا سماحة كرمه وقلمه، ويلحفه جناح جاهه وكلمه، صدقة على المملوك دونه، ويدا يقبلها ويقبّلها ممتنة غير ممنونة، والوحى الوحى، وقد ضجر المملوك وهو استحى؛ والله يرفع درجة مولانا، حتى يكون على الكواكب مستفتحا، ولنظره في حديقة المجرة منزّها، وبعرف نرجسها مترنحا.
ومنه قوله في تهنئة بعود الركاب السلطاني من الحج: وجمع الحجيج في سنتهم الواحدة بين حجتين، وكتب لمناسكهم بيمنه أجر مصلي القبلتين، وتمّ لتوجههم بأنواره الهدى والنور، وحصلوا من صفقته(12/470)
الرابحة على تجارة لن تبور، ووقاهم لفح الهجير تطوفهم بالكعبتين، ذات المقام وظله، وأمّنهم العقبى تمسكهم بالعروتين، من «1» البيت العتيق وفضله، وعشوا إلى ضوئين من ناره التي هي أم القرى، ومكة المسماة في الذكر القديم أم القرى، فهذه المهاجرة التي جددت السنة بمحمدها، والمثابرة التي أعلنت الألسنة بمدح سؤددها، وهو الجدير بأن يوفيها من استبشاره وشكره أكمل وظيفة، وأن يقدر موقعها حق قدره، وإن كان مما لا تطيق الأمة تكليفه.
ومنه قوله وقد أهدى إليه صاحب له طبق مشمش مع غلام مليح: وصل البر الذي زاد على منتهى الطلب، وأشهد النواظر بين يدي قضيب البان كرات الذهب، وجاء بالبدر وقد اتسق، والنجوم وقد ركبت في دائرة الطبق، فبهت لدنو صور الكواكب من اللمس، وتسيير القمر في منازل الأرض، وهو الذي لا ينبغي أن تدركه الشمس، ثم تأمل وتملى، واستجلى واستحلى، وقال: شكرا للمرسل والرسول، ويا حسن الحامل ويا لذة المحمول؛ أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه، ومرحبا بكرم جمع بين تنوعه وتسرعه، أين الأمل من هذه الغاية؟
وكيف غفل الدهر حتى تناهى في الإحسان إلى هذه النهاية؟ مولى يسعى إلى عبده، وغصن يجيء بثمرة تميس في أوراقه من برده.
ومنه قوله في ذكر الدواة: وقد أرسلها مشتعلة بالشيب مفارق رأسها، مستعدية على وضعها الذي انتزع روحها باستمداد أنفاسها، واستحال عليها مع الدهر حتى عكس النقب في روعها من قرطاسها، فهي بيضاء إلا أن السواد كان أنقى لسمائها، وناجية عندها أن الغرق أسكن لروعتها من نجاتها، وأملها أن يسودها يد لك لا تسوّد إلا من النفس، وأن تديل لها من سالب صبغتها وهو الطرس، فيطيل لسان فمها،(12/471)
وهو القلم يمج على حواشيه لعاب الظلماء في لهوات الشمس.
ومنه قوله: أمر وفاء النيل؛ وذلك أنه عند تسطيرها ورد المثال الشريف يتضمن نبأه بسطوره التي كأنها جداوله، وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها، فكأن المسؤول لا شك سائله، وما أظنه إلا حيا نزل دون تلك الديار مهابة لمن حلها من مطايا الغمام، وأحلها من أجله أن يلم بها ركبا، فمشى على وجهه إليها تناهيا في الإكرام، ولم يزل يجري لمستقر له، ويضمه شيئا فشيئا إلى أن أدرك آخره أوله، ووارده في كل ساعة يشهد بنجاح رأي الرائد على التحقيق، ومخلّقه المتواري لحجاب الماء يومئ بإصبعه إلى حسن العاقبة على أنه في حالة الغريق، ولو قدر على المقال لظهر خافيه، ونطق بتوفية عوائده، وأنى ينطق والماء ملء فيه؛ حتى إذا تكمل سمو أمواجه حالا على حال، وتنور أقاصي الأرض من ثنية المقياس، فأدناها النظر العال، لم يملك طبعه السيال أن غطى مساوئها البادية، ورأى ظمأها إليه مع القصور عنه، فنقع بانتقاله إليها غلة كبدها الصادية، وكان له الفضل على الثرى والورى في ذلك المسعى، وقالت ألطاف الله المتتابعة: هذا الماء وسيتلوه المرعى، وكان هواؤه المعتدل على اعتلاله عدلا، فحمّل قلب كل غدير ما أطاق، ولم تبق عين بقعة كانت فارغة إلا وكلها عند نظرة الدمع مآق.
ومنه قوله: وينهي أنه لو أمكن دفاع القضاء، أو قبل غريم الموت المتقاضي أخذ الفداء، لحمي هذا المحترم بأنصار الرجال، لا بجواري العيون المحزونة، ولصرفت عنه المهج يد المنون ببذل نفوسها المصونة، فقد كان والله شقيق الشمس رفعة وهدى، ومباري غرة البدر في النديّ، ورسيل الغيث في الندى، وإن أمسى الزمان لتواري(12/472)
شخصه آية ليل ما محيت، وظلة غيم رأيت عليها لمحة بارق لمعت ثم زويت؛ فلعهدي وهو بآية نهار حياته المبصرة أحسن «1» اجتلاء، وأبهى وأبهر بين المشاهد في المعنى والصورة رؤية ورواء؛ طوبى له حل في أمنع جوار، وحصل على سعادة في دار القرار، يفرح بها من إرث شقوة الحزن في هذه الدار، والمملوك منذ سمع نعيه يحسد صم الرماح، ويتزود من سواد مقلته ودمعها، في ظلمة باك من فقد نورها على الصباح، وما أدعو لمولانا وحده إلى سنة العزاء المشروط، ولا أقول له: مهلا ليذهب بك فرط الجزع على أخيك مذهب القنوط، وإنما أشرك نفسي معه في التعزية والتسلية، وأتجلد وإن كان لا جدل على نفوذه هذه الرمية المصمية، فأتعلل وأتمثل بقول الأول: [الطويل]
ولو لم أكن منكم لعزيتكم بكم ... ولكن حظي في المصاب جليل
إلا أن أخصه لاختصاص نسبه، وأفرده بجامع أدبه، فلا أجمع لأقسام الكمال من أدبه، وأستشهد بأن أنشد: [الطويل]
ومن يك ذا نفس كنفسك حرة ... ففيه لها مغن وفيها له مسلي
ومنه قوله «2» : وينهي ورود المشرف الكريم ووقت الصوم قد حان، وهلاله في عنان السماء مرخى العنان، يشار إليه للبيان بالبنان «3» ، كأنه الطليعة وهي الراء من أول رمضان، أو الساقة وهي النون من آخر شعبان، أو الخائف اختفى عن العيان، وترامته الأبصار فاستعان، أو طالب حاجة مع الشمس أدركه الليل فوقف وقفة الحيران، أو كوة في غار فغار، أو رقيب وقد اختبأ ليطلع عن مغيبات الأسرار، أو(12/473)
الحاجب لا جرم أنه حجب عن الإفطار، أو كأنه ما انهار من جرف النهار، أو المخلب الصائل على النظار، الصائد ما جاوره من النجوم لتتكمل فيه الأنوار، وتتم باجتماعها إليه في صورة الأقمار، أو المنجل الحاصد للأعمار، القاصد حتى ما علا نهر المجرة من الأنهار، أو طوق لم ينضم، أو مبدأ عمامة لمعم، أو قرط خانته العلاقة فانقطع، أو ما انخرم معه في شحمة الأذن لما وقع، أو علامة عضة، أو قلامة مبيضة أو قطعة من سوار فضة، أو تشريف نوارة غضة، أو شفة فتاة بضة، أو حافر جواد حلّى أرضه، أو وطأة حاف خلى من أثر كعبه بعضه، أو درهم فيه ثلمة، أو دينار مخسوف الجانب لحكمة، أو تمثال، عشر في ختمة، أو نصف دائرة من خط بيكار ما أتمه، أو عرجون قديم، أو ما مال من كأس نديم، أو شطر من كرة مقسومة، أو ضاحك أسنانه مهتومة، أو هالة والت قطرا منها غير مركومة، أو لثام على حنك، أو زورق من ورق حمولته من عنبر الحلك، أو حجل نزع من ساق، أو روق راجع من الأرواق «1» ، أو ما انحل من الخصر من النطاق، أو وقف من عاج، أو صدع في زجاج، أو جدول منعطف، أو قفل في فلاة قد حذف، أو لبة فؤاد، أو غصن أثقله الثمر فانآد، وعقد سماءه بأرضه أو كاد، أو ثغرة في سور، أو فم قدح مكسور، أو نوى محفور، أو فخ منصوب على طول الدهر، أو عرق مغروس، أو بعض ما في ريش الطاووس من المنقوس، أو حلقة منقوصة، أو أذن ريم مقصوصة، أو ضفيرة معقوصة، أو خاتم زال فصه ففغر، أو ما انداح من رمية في صفحة الماء بحجر، أو طية من أعكان، أو سرة محققة في كشح ريان، أو ذؤابة مردودة، أو حزة من بطيخة مقدودة، أو خيزرانة ملتقية غير معقودة أو قوس محني القرى، أو عروة مفكوكة من العرى، أو فتر مرفوع، أو طيلسان مقور مقطوع، أو قبضة إبريق مخلوعة، أو آلة للطيب مصنوعة، أو يد(12/474)
التفت على عناق حبيب، أو شعرة مشيب فضلت من خضيب، أو ما أحاط من الإكليل بالجبين، أو محراب لبعض المصلين، أو سالف تحسين، أو مشقة قاف أو سين، أو ما اندفع في جؤجؤ السفين أو أحد الجفنين، أو عذار حول الخدين، أو رأس من كتابة صاد لم يلتحم، أو عين أو دال منقلب، أو طاء منفصل الطرفين، سقط ألفه المنتصب، أو مبسم مثقوب، أو تعريقة جيم مكتوب، أو عقرب شائلة، أو شعلة نار لعبت بها الريح الجائلة، فهي مائلة، أو حية ملتوية، أو صولجان مقصوف لم يبق منه سوى الحنية، أو ترقوة بدا عظمها، أو طارة غرض خرق هيآتها سهمها، أو فلكة مغزل مشظاة، أو دفّ أمسكت كف سوداء على أعلاه، أو ما تحت تنفس [المرأة في] المرآة «1» ، أو قنطرة منكوسة الوضع في البنيان، أو طبق قائم أخذ من حافته شيء فبان، أو غرة في أدهم من الخيل، صانعت بها الشمس عن نفسها لخاطف الليل، أو رداء أسبله الشرف فكف الغرب منه الذيل، أو صعدة، أو مكان ورقة من وردة، أو قفل على تجليد، أو إحدى المطيفين بالوريد، أو لبب مركب، أو كوز مرتب، أو قتب مجرد أو سرج مؤكد، أو قربوس منه مفرد، أو واحدة من خشكنان، أو حدقة نجلاء من إنسان، أو طعنة ميّلها بسنان، أو سيف لان في يمين ضارب، أو مطرح القلادة من ترائب الكاعب، أو المملوك مما شفته الأشواق، وصنعته به عوادي الفراق، أو ما خدّه في خدّه الدفع المهراق؛ وكان للناس اشتغال باستقبال الهلال، وقلب المملوك في اشتغال مما عنده من البلبال، ومن ضنى جسده البال، وحالت الأحوال وما استحال، وبات وطرفه يتملى من المشرق الكريم حظا ماله مثال، وتأمل منه لفظا بمعاينه تضرب الأمثال، وتقلب وجهه في أفقه الدال على ودّ صح، فليس به اعتلال.(12/475)
ومنه قوله: وعلمنا ما ذكره من أمر الصقر الذي وقع له، وما لحظه فيه من القبول، فأرسله وحمله إلى حيث حمله، ووصل وقد طرز رقوم المحاسن حلله، وزانته بديباجة مكملة، وحلية مكللة، خالصا كالذهب، متوقدا كشرارة لهب، موشى الصدر كما طفت على الكأس فواقع الحبب، أو كروضة منها ما لم يخرج من الآكام، ومنها ما هب مع النسيم حين هب، حسن الاستعداد للتدريب، مدركا فإذا دعي يجيب، مظفرا كجد مهدية فلا يخيب، وقد قبلناه تبركا بما يهديه، واشتغلنا به اشتغالا حقق ما لحظه من القبول فيه، ورفعناه من يدنا الشريفة إلى رتبة لا يصل معها، وإن كان بغيرها يتيه، وقدمناه على ما عندنا من الجوارح على كثرة عددها، وغزارة مددها، كتقدم المقام على الملوك الصائلة في عديدها وعددها، فلو رآه وله في حلاوة الالتفات تشوف الريم، وفي طلاوة الإنصات دل الأغيد الرخيم، وإلى أغراض مرسله تشوف الواله إذا ظل يهيم، وإصابة الباع المستفيد بالسهم المستقيم، وعلى الصيد حرص الغريم على الغريم، وفي طلبه سورة الظالم وثورة الظليم، إن أعطي الكمة فحليم، وإن كشف عنه غطاؤه فبصره حديد، ورأيه حكيم، فاقترب، فيد تطلقه وأخرى تحتطب، وسابق يحصّل ما يجتذب ويجتلب، وسائق «1» يقد ثقة بعوائده ولا يرتقب؛ يهفو بقوادم أقوى من قوائم، وعزائم على النجح علائم، كأنه كبير قوم، أو ممسك لصوم، يعفو عما كسره، ويعف عن شره، إذا افترس حرس، وإذا أحرز حرز، وإذا أدرك ترك، ولكن من مخالبه في شرك، كأنه يعرف التحليل فيبقى للتذكية، أو يحب الثناء فيعمل على التزكية، حتى إذا أدى الأمانة، وقضى إدمانه، وسطا في صيانة، تنحى جانبا، وانتحى مجانبا، واحتشم هائبا، انطوى على الطوى، وأعرض مع الخوى(12/476)
على ما حوى، فإذا أباحه محصّله مما يأكله، وأطلقه عما أوثقه، وخلى ما بينه وبين ما صاد، بايته باقتصاد، كأن عليه رقيبا بمرصاد، وتناول قدر الحاجة، بشهوة مهاجة، ورجع إلى الكمة بطرف غضيض، وبطش غير مهيض، وثبات بعد وثبات كطرفي نقيض، بصره ثم تصرفه بين أيدينا في صيده، وحسن تلقفه لما يعن له بلباقة كيده، ورشاقة أيده، ولا يثنى عليه ثناء من أنهب سعيه، ورام ورمى فتم مرامه وصح رميه، ونحن نشكر مكارمه التي ملأت الحقائق والحقائب، ومدت عصائب جنود وجود يتبعها من الطير والعفاة عصائب.
* ومن نظمه قوله: [الوافر]
أقول وقد سألت قصاص قتلي ... فقام لها الكرى بالاعتذار
كفاني من توفاكم بليل ... ويعلم ما جرحتم بالنهار
ومنه قوله: [الطويل]
وما مثل هذا اليوم يخلف دره ... فيخلفه بالدر بيض الغمائم
وقد عكس التشبيه فيه فعهنه ... جبال لصلع الأرض مثل العمائم
ومنه قوله وقد أهدي إليه حلواء: [الوافر]
ولما جاءني منك افتقاد ... حلا فحكى ثناءك حين يجري
حصلت بما أتى وحصلت مني ... على الحلوين من بر وشكر
ومنه قوله: [الوافر]
أتى زيد إلى الحمّام يثني ... معاطفه كما مال الرديني
فكان الماء وهو عليه جار ... يرينا لؤلؤا فوق اللجين
ومنه قوله: [الطويل](12/477)
ولما أراد الصب خطا تسابقت ... مدامع عينيه تحاول محوه
كأن بعينيه من الخط غيرة ... على وجه محبوبي إذا سار نحوه
ومنه قوله مما يكتب على عصابة ذهب لامرأة حسناء: [الوافر]
تأمل هذه الوجنات تزهى ... وقد حلّى تحلّيها الدلال
ترى شمس الضحى منها ومني ... تتوجها على الرأس الهلال
ومنه قوله «1» : [السريع]
أنزلت من أهواه في مقلتي ... صونا له من أعين الحسد
فجاء قلبي من طريق الكرى ... يسرقها منها فلم ترقد
ومنه قوله: [الكامل]
تبسم ثغرها والخال يبدو ... عليه كقلب ظمآن إليه
فقلت: الصبح؟ قالت: كيف يأتي ... وليل الخال بواب عليه
وكتب إليّ: [البسيط]
إنا لتملكنا من هيبة خرس ... في حيكم وعلينا منكم حرس
وإن خلونا وخلنا وحشة عرضت ... عذنا بأسمائكم فاعتادنا الأنس
فنحن منكم وفيكم لا يزال لنا ... من غيرة حرس، من هيبة خرس
حالان في حبكم ما حال بينهما ... عهد الهوى وعليكم ليس تلتبس
وهل علمتم وحبكم الحال واحدة ... أنا على النأي للأذكار نختلس
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ... ونترك الذكر إجلالا فننتكس
ومن لنا لو لثمنا تربكم فبها ... شفاء أكبادنا والبرء يلتمس(12/478)
أرض لها قبس من نوركم وكذا ... من وطء أقدامكم يندى بها اليبس
تفديكم أنفس منا تحبكم ... حياتها منكم في موتها نفس
فكتبت إليه: [البسيط]
مرت على عجل والركب محتبس ... فما شككت بها والأمر ملتبس
وبان بان الحمى واهتز إذ خطرت ... ولاح ضوء هلال أو بدا قبس
وفاح من مسك دارين لنا سحرا ... نشر الخمائل إلا أنه نفس
وبت والليل يرميني بأنجمه ... مثل العيون ومنها أعين نعس
فقمت في غفلة النوام أشربها ... صرفا من الراح إلا أنها لعس
وما توهمت أن الليل منصرم ... حتى تجرد من جلبابه الغلس
وافت تذكر بالعهد القديم وما ... نسيته وهو لي في وحشتي أنس
ثقي سليمى بود لا يغيره ... نأي الديار ولا يذكى له الحرس
بل ما تجن جوى منه القلوب ولا ... يبدي هواه ومنه الجمر يقتبس
يا جيرة القدس ما قلبي كصخرته ... وليس لي عين سلوان فتلتمس
لم نعتقد بعدكم والله يعلم ذا ... إلا الوفاء لكم والحر محترس
قول ابن زيدون من حر الصبابة في ... «بنتم وبنا» وسوف البين ينعكس
«1»
عتبا وصلحا ولا يدري بنا أحد ... والودّ يبرأ أحيانا وينتكس
فسرّ عاذلنا لا كان عاذلنا ... وكان أفصح نطق العاذل الخرس(12/479)
29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين
«1» هو خليلي الذي أنادي، وصاحبي إذا شكرت الأيادي، والذي أنادي منه خليل الصفاء، وصديق الوفاء، والذي أرضاني عن صنيع الليالي لما أتاني بنجومها قليلا، والذي لم أخالل سواه إلا قلت لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا
«2» ، والذي صحبت أبا الصفاء من وده الذي لم تشبه الشوائب، والخليل إلا أنه كان- لأحمد- أكثر مما كان عنده ابنه في النوائب، والذي عاقدني منه خليل صدق فما ذممت له ذماما، وأوقد لي من حميته نارا خليلية كانت بردا وسلاما، موسوية فلهذا ما تركت ظلاما، والذي لم يزل يرشد من خاطري مضللا، ويريني في صفائه ما أردت ممثلا، ويغنيني أن أقف عند سوى تصانيفه، وأقول: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا «3» ، وملأ مسمعي بأدبه حتى قلت يكفيكما، وأغنى ناظري بكتبه فقلت: خليلي هبّا بارك الله فيكما، وقررت له وأقررت، أنه إمام المحسنين، وبايعته واتبعته وأنا من الموقنين، وبسطت يدي فبايعت ملك البلغاء خليل أمير المؤمنين، ورتعت في مراد تصانيفه أستزيرها وقنعت بمذاكرته ولم أقل: خليلي هل من رقدة أستعيرها؛ أقسم بالله وهو آكد الأيمان، وأوثق ما يقف معه أهل الإيمان، ما إن رأيت منه آدب، ولا مع(12/480)
غناه عن التحصيل أدأب، ولا أظن مثله أجمع لمدحة وآبدة، وأخبار أمم باقية وبائدة لديها واقدة، ولا مقل الفراقد عن التطلع إلى هذا، وما كسا الزمان مثله ثوبيه، ولا حمل الوجود حفيا شبهه بين جنبيه، فهو محدث يحدث بالصحيح، وتروى عنه العجائب، والمعروف وكله غرائب، كم قال وكم ألجم الحصر كل لسن، وقام بالسنة وكل سنده علي وحديثه حسن، هذا على أنه حامل فقه لا ينقل إلى أوعى منه، ومتقن علم لا يؤخذ القديم والحديث إلا عنه، نعم وأنعم به من مؤرخ ينسئ الأمم وينشر الرمم، وينشد ضوال الأنباء وقد أماتها البكم، وأقبرها الصمم، فشق أصداف اللحود عن دررهم، وكشط جلد الدهماء عن غررهم، وأوجدهم فما كتب من التاريخ وجودا ثانيا، فأقاموا به أرواحا وسئلوا فقالوا فصاحا: ساقهم في تاريخه فكأنما قاموا في صعيد واحد لديه، وأتى بهم من عهد آدم وهلم جرّا إليه، أجل، وهو أجل كاتب تخضع لطرسه مهارق السحائب، ويخشع لقلمه سيف البرق المسنون، ويسقط قلبه الواجب، وأضاء أيضا له نور حكمة، يغلب فجرها الطالع مشارق الأنوار، ويغل فكرها السابق يد القيرواني «1» إن نظمت أبكار الأفكار، ويذهب التحصيل وليس من بدره المنير درهم ولا من شمسه المشرقة دينار؛ وينبو دونه مضرب السيف ولو أن الآمدي ذا الفقر ذو الفقار، فأما ابن سناء فيخفي في طي البروق إشاراته، والرازي يرزأ كتبه، وتجف في لسان القلم عباراته، وقل أن وجد في علم أقليدس مثله من يحل إشكاله، ويجل أشكاله، ويغدو من قلّ علمه الأقلودي للأرض مقسما، ولمقادير الكواكب متوسما، بل لو وصل إلى ابن واصل علمه لقنع بما فضل، أو ابن العديم جمال الدين ما عدم ما تعنّى إليه وما وصل، وكل هذا عوله على أدبه الذي هو أغض من ورق النبات، وأحسن من تذهيب الحياء فضة خدود البنات، بقريحة(12/481)
أصفى من الماء، وأورى من النجوم في الظلماء، وأغرب من عنقاء، وأطرب من ورقاء.
وكتب الإنشاء مصرا وشاما فكبت، وجرت معه القرائح إلا أنها السوابق فكبت، وطاب به الواديان، وطال الناديان، وقلد الممالك ما هو أعلق بها من أطواق الحمائم، وأعبق فيها [] جنوب الغمائم.
وله التصانيف الكثيرة الكبيرة بنفسها، الأبكار التي ما أوت إلا سرادق نفسها.
* ومما كتب لي من نثره، وأتبعه من شعره قوله؛ من ذلك كتاب كتبه بشارة بوفاء النيل، وهو: ضاعف الله نعمة الجناب العالي، وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من أنباء الهناء كل آية أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبيحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أخبار الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا؛ هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، تخصه بسلام يرق كالماء انسجاما، ويروق كالزهر ابتساما، وتتحفه بثناء يجعل المسك له ختاما، ويضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص البلاد المصرية بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافة وفائه، ونزهه عن منة الغمام الذي إن جاد فلابد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس، وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب، لأن القطر سهام، والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث(12/482)
بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل، وأنا بالملق أطبع، والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها: وجود الوفاء، عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم، إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر، وهو كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمى، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى، إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في هذا العام المبارك، جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من يراعه، وحصنها بسواري الصواري، وما هي إلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا كل يوم بخبر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا، وأقبلت سوابق الخير سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بأن يخلّق، ويعلّم تاريخ هنائه ويغلّق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوج موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته، ولولا ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشّر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله تعالى على العباد، وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا، التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ ما نهبه لرعايانا من فوائدها، ونخص بالشكر قوادمها، فهي(12/483)
تدب حولنا وتدرج، ونخص قوادمها بالثناء والمدح، فهي تدخل إلينا وتخرج، فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى، التي جادت بالمن والمنح، وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق، ويتخذها عقدا يحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة؛ والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه.
ومن ذلك جواب كتبه عن النائب بالشام، إلى الملك الأفضل صاحب حماة، وقد أرسل مشمشا كافوريا: لا زال إحسانه كالعلم المشهور، وجوده المنظوم يهدي من الثمرات ما هو كاللؤلؤ المنثور، وبره يتحف بما هو كالشهد في الطعم واللون، وكالنجم في الشكل والنور، وكرمه يتضوع نشرا، وكيف لا وقد جاد بما ينسب إلى الكافور؛ وينهي ورود المشرفة العالية قرين ما أنعم به مولانا من المشمش الكافوري، فوقف عليها وقابل إحسانه بشكر يشرق نورا، وثناء يدير على الأسماع كأسا كان مزاجها كافورا، وواجه جوده بحمد يتلوه منه وجه الروض بمنثوره، وتجد الألسنة لمنظومه لذة تنسي الأسماع ما قاله أبو الطيب في كافوره، ومتع ناظره بتلك الكواكب التي اتسقت من العلب في أفلاك، وتنسّقت كالدرر وما لها غير حسن الرصف أسلاك، وتأملها وهي كرات بلور اكتنفها الأصيل والشفق، وركبت حين ملأت الصدور طبقا عن طبق، فأكرم بها هدية كانت بحلل الأشجار أزرارا، ولجنات الأوراق نارا؛ كيف مكنت فروعها يد قاطفها من السلب؟ وكيف أقبلت في حلة الروع والوجل وهي طيبة القلب؟
كأنها لم تكن لقسي الغصون بنادق، ولا في رقع الأوراق بنادق، فالله يشكر(12/484)
لمولانا هذا الإحسان العلوي الذي جاد بالنجم زهرا، والجود الروضي الذي ملأ العيون حسنا وملأ الصدور درا، وأدام الله أيامه التي تسبق فيها الغرائب، وتستبق إلى مكارمها الرغائب، بمنه وكرمه.
ومن ذلك جواب كتبه إليه أيضا، وقد أهدى إليه رخاما ملونا: وينهي وصول الرخام الملون الذي فتح به عين هذه الدار المكونة، وأهدى إلى روضها الذاوي أزهاره الملونة، ولا غرو فإن العيون توقظها الشموس بالأشعة من المنام، والأزهار توجد بالرياض من جود الغمام، ولو لم يكن كرم مولانا سحابا، لما جاد بألوان قوس قزح، ولو لم يكن علوه كالشمس لما انبعثت عنه أنوار تلهب شعاعها في هذه الدار وقدح، وتحاشى المملوك تشبيه ذلك بالزهر، فإن هذا أبدا يانع، وذلك يؤول إلى الذبول، أو التمثيل بالأشعة، فإن هذا أبدا مشرق، وذاك بذهاب سره يحول ويزول؛ وهذه معجزة كرم لمولانا، فإن ريش الطاووس صار له جلمدا، وقوس السحاب تجسّد له على طول المدى، فلو ناظره مباه بمحاسنه لكان له الفخر، ولو حاولت المياه أن تبليه لما بالى بما لها عليه من الزخر، ولو أجرت دموعها عليه لما لابتك، فما كل باك خنساء، ولا كل جماد صخر، ولو رأته العيون لسبحت الألسن من راح له صانعا، ولو أراد بليغ أن يقوم بحقه وصفا لوجده مانعا، والله يشكر لمولانا هذا الإحسان المديد الوافر، والفضل الأفضلي الذي أنبت في الروض أزاهر.
ومن ذلك مقامة أنشأها في الحريق الذي اتفق بدمشق، سنة أربعين وسبعمئة، وسماها «رشف الرحيق في وصف الحريق» وهي: حكى شعلة بن أبي لهب عن أبي الزناد شهاب، أنه قال: لم تزل أذني متشنفة بأوصاف دمشق، متلذذة بماء الأقلام في ذكر محاسنها من التعليق(12/485)
والمشق، حتى رأيت الحزم، شد الكور إليها والحزم، فأزمعت السير، ولم أزجر الطير، وقطعت أديم الأرض بالسير، وركبت إليها مطاء الشوق قبل مطايا السوق، ولم يتلفت القلب إلى الوطن، ولا حن النجيب إلى العطن، حتى بلغتها بعد مكابدة السرى، وإثارة العجاج من الثرى، فلما حللت مغناها وجدتها: [الكامل]
بلدا أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس
وكأنما الأنهار فيه سلافة ... وكأن ساحات الديار كؤوس
فألقيت العصا في ساحتها، وألفيت زوال التعب في مصافحة راحتها، فما سرت فيها إلى روض إلا وأجلسني من النرجس على أحداقه، وقام السرو من السرور بين يدي على ساقه، وجرى الماء في خدمتي لكرم أخلاقه، وظللني الدوح لطيب أعراقه، ومد الغصن لي ستور أوراقه، وغنى لي الحمام على عوده، ولو تأنى أو تأبى جره بأطواقه. قال:
فشفيت سقمي بنسيمها العليل، واستروحت إلى ما نقله عن بانه وبنفسجه لا إلى ما يتحمله من الإذخر والجليل، وخلت أنه بلطف مسه يلين له الجندل، وجننت بعرفه المندلي، وما رأى الناس من جنّ بالمندل، وبردت بأنفاسه حر الصبابة والجوى، وقلت: [الكامل]
أضحى نسيم دمشق حياها الحيا ... يمشي الهوينا في ظلال حماها
فكأنه من مائها وهضابها ... ما داس إلا أعينا وجباها
وقطعت بها زمنا ألذ من وصال الحبيب، وأشهى إلى النفس من التشفي بأذى الرقيب، فلا أبعد الله ما في بساتينها من شجرات، ولا قدّر الكسوف على ما فيها من كواكب الثمرات، ولا دكّ هضبات أزهارها التي تضوع بطن نعمان برياها، لا بمن مشى به من الخفرات، فإنها: [الخفيف](12/486)
شوقتنا إلى الجنان فزدنا ... في اجتناب الذنوب والآثام
قال: ولازمت جامعها الذي تحيرت العقول في تكوينه وكنهه، وحسنه الذي لم يكن فيه عيب سوى أنه لم تقع العين على شبهه، ولله من نظم درّا فيه حين قال فيه: [المتقارب]
دمشق لها منظر رائق ... وكلّ إلى وصلها تائق
وكيف تقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق
فإنه يوقظ النائم، بحسن رخامه القائم، ويجلو بهيم الدجى حصّة الفجر من حصّه، وتروي لك زخرفته حديث الحسن بفصه، كم زهرت فيه ليلة النصف من ذبالة هي نجم توقد، وكم دار به دولاب كانت قناديله تدور مثل الفرقد، وكم طلع في سماء صحنه من ثريا، وكم تمنى من القمر لو كان بين نجومه فما اتفق له ذلك ولا تهيا، وكم جليت عروسه في عقود وقود، وكم تمتعت الأبصار فيه بوجوه تخجل البدر في ليالي السعود، وكم فيه من عمود قام على قاعدة، وكم به من منجور كغضون أوجه العجائز وأزراره ناهدة، وكم من أعطاف رؤيت في صحنه مائدة، وكم من طائر لرفع نسره مخفوض، وكم حسن بناء عند بنائه يعرب أنه مرفوض، كم أظهرت الصناع فيه بدائع لا يدعيها غيرهم ولا يتعاطى، وكم أبرزوا فيه من معجز لأنهم جعلوا الحجارة أوراقا والرخام أخياطا، قد عمر الله تعالى أوقاته بالذكر، وأراح قلب من يراه من الهم، وأراح عنه الفكر.
قال: فلما رأيت مجموعه المختار، وأن العيون تودّ لو نسج له من شعر جفونها أستار، قلت «1» : [الطويل]
تقول دمشق إذ تفاخر غيرها ... بجامعها الزاهي البديع المشيد(12/487)
جرى لتناهي حسنه كلّ جامع ... وما قصبات السبق إلا لمعبد
قال: فبينا نحن ذات ليلة وقد وردنا حمى المضاجع، ودخل ضيف الطيف على مقلة الهاجع، وإذا بالأصوات تعجّ، والدعوات تلج أبواب السماء وتلجّ: [الطويل]
فلو نشدت نعشا هناك بناته ... لمات ولم يسمع لها صوت منشد
فسألت عن الخبر ممن عبر، فقال: إن الحريق وقع قريبا من الجامع، وانظر إلى نسج الجوّ كيف انتشرت فيه عقائق اللهب اللامع؛ فبادرت إلى صحنه والناس فيه قطعة لحم، والقلوب ذائبة بتلك النار كما يذوب الشحم، ورأيت النار وقد نشرت في حداد الظلماء معصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذبات ذوائبها: [من الطويل]
ذوائب لجت في علوّ كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب
وعلت في الجو كأنها أعلام ملائكة النصر، وكان الواقف في الميدان يراها وهي ترمي بشرر كالقصر، فكم زمر أضحت لذلك الدخان جاثية، وكم نفس كانت في النازعات وهي تتلو: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ
«1» ولم تزل النار تأكل ما يليها، وتفني ما يستفلها ويعتليها، إلى أن ارتقت إلى المئذنة الشرقية، ولعبت ألسنتها المسودة في أعراض أخشابها النقية، وثارت إليها من الأرض لأخذ الثأر، وأصبح صخرها كما قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار «2» ؛ فنكست وكانت للتوحيد سبابة، ولمعبدها المطرب شبابة، وابتلي رأسها من الهدم والنار بشقيقة، وأدار الحريق على دائرها رحيقه: [المتقارب](12/488)
وبالأرض من حبها صفرة ... فما ينبت الروض إلا بهارا
وترقى إليها أو لو العزم من النظارة، وصبروا على النار والشعث بعد النعيم والنضارة، وكادت نارها تكون كنار القيامة وقودها الناس «1» والحجارة؛ هذا وبنفسج الظلام يذوي، ولينوفر «2» النار يشب على الماء ويقوى، حتى نثرت غصون ذوائب النار شررها في النواحي، وظننا الدخان روضة سوسن تخللها نرجس وأقاحي، وعقد الدخان سماء أخرى، وأطلع الشرار فيها كواكب زهرا، وكأن أهل دمشق دعوا طارق النيل والفرات ليقرى، وخافوا ضلاله فرفعوا له من النار في الظلماء ألوية حمرا، إلى أن أتاها البحر- لا زال نصره عجاجا، ولا برحت سيوفه تكاثر البحار أمواجا- فانكشفت لما أن رأت من وجهه سراجا وهاجا، وطفئت لما أن رأت جوده عذبا فراتا، وبأسه ملحا أجاجا، وكاثرهم بهمم أمرائه فأحكم إخمادها وتلقى بصدره من خطب الزمان ما دهى؛ ولما طلع في روض السماء ياسمين النهار، وعاد إهليلجا ما رؤي بالليل من الجلنار، وقف النادبون على الرسوم، ورأوا صنع النار التي عكست نار الآخرة، فكان لكلّ مكان منها جزء مقسوم «3» : [الطويل]
فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا ... ولا نحن من فرط الجوى كيف نسأل
وأصبح باب الساعات «4» وهو من آيات الساعة، وخلت مصاطب الشهود من السنة والجماعة، وعادت الدهشة وقد آل أمرها إلى الوحشة، وحسنها البديع، وقد ثلث النار عرشه، كأن لم أر بها سميرا، ولا شاهدت من بنائها(12/489)
وقماشها جنة وحريرا، قد سلط الله عليها النار التي ما لها ردة، وأحرق أزهار ثيابها الملونة بوردة؛ ونظرت إلى الوراقين وقد زال ما بها من الطرائف، وطاف عليها من الدثور والخراب طائف، فيا ضياع أوضاعها المكونة، ويا سواد وجوه أوراقها الملونة، ولمحت اللبادين وقد صارت كالعهن المنفوش، ومحيت بأيدي النار سطور كل خاتم منقوش، وأصبح أهلها كالحمائم تنوح على أقفاصها، وتود اللآلئ أنها لم تخرج إليهم من مغاصها، فما منهم إلا ربّ نعمة سلبت، أصبح بعد الجديد في خلق، أو غنيّ أمسى بعد ما ضم قفصه يكدي في الحلق، وكادت الخضراء «1» تذهب بالنار الحمراء.
قال: فلما رأيت تلك الأطلال الدائرة، ونسخ هاتيك الظلال المتصلة بالهاجرة، وخطوطها وزواياها كيف أحاط بها سوء الدائرة: قلت عند مشاهدة تلك الحال في الحال: [الطويل]
حريق دمشق قد بدا لعياني ... ليظهر لي عند البيان معاني
غدت ناره في الجو تعلو وترتقي ... كأن لها عند النجوم أماني
لقد ضوّأ الآفاق لامع برقها ... وما كلّ برق شمته بيماني
وقد كاد يمحو آية الليل ضوؤها ... ويبدي نهارا بعد ذلك ثاني
ونالت عنان الجو حتى رأيتها ... يصرفه من تحتها بعنان
وطالت إلى نهر المجرة في السما ... لتقصد شيّ الحوت والسرطان
فأبصر أهل النيل لما ترفعت ... نجوم شرار في سماء دخان
كأن دخان النار غبراء مغزل ... وكل شرار فيه مثل سنان
ولو لم تكن نار الأعادي لما غدت ... وحنّاؤها باد بكل بنان
ولا صبغت بالزعفران قميصها ... سرورا ولا طالت بكل لسان(12/490)
قال: وما نفض الناس غبار ذلك الهدم، ولا رماد ذلك الصدع الشديد الصدم، حتى وقع بالمدرسة الأمينية «1» حريق ثان، ودهمت شقراء النار دهماء الظلام، ولم يوجد لعنانها ثان، فجمعت بين عين الوداع وسين السلام، وكانت كحمى أبي الطيب، فليس تزور إلا في الظلام «2» فيا لسوق الكفت كيف باد وفتت الأكباد؛ علكت النار لجمه، وكسفت نجمه، أين بأسه الشديد، ومنافعه التي لا تبيد؟ سكت زبره، ورفع خبره.
ويا لسوق الخيم، كيف ذهب، وعدم النصر على الكافرين، فتبت يدا أبي لهب، لقد تمسكت النار بأطنابه، وتجلد لها والنار تحت ثيابه، وأمسى وكل عمود غصنه مهصور، وكل خام وهو على البلى مقصور، كأن الشاعر قديما تخيل ما يحصل لها من الأوام، فقال: سقيت الغيث أيتها الخيام.
ويا لسوق القسي كيف محي من الوجود ونسي، لم يبق لقوس قلبها، ولم يعطها لباريها ربها، كأنما كان للنار عند القسي أوتار، وكأن نسخها كان محققا فجاءهم بقلم الطومار، أو كأن امتهانها كان معلقا بثلث الليل بعد ما رقت حواشيها ولم يقع عليها غبار، فكم قسي توفر من النار سهمها، وعظم بوهنها وهمها، وأقامتها النار بعد ما كانت حنايا، وأفنت قرنها وما اختلط بعظم أو الحوايا، لم تبطش ولها أيد، ولم تهرب ولها أرجل ولم تئنّ وهي مرنان، ولم تدفع الأذى عن نفسها ونفثها يقتل، ولم ينبسط لها إلى الدفع قبضة، ولم تصل إلى غرض، ولم ينبض لعرق وترها نبضة؛ قد قال لها لسان النار: هل سمعت بهذه الحادثة في ملحمة ابن عقب؟ أو اتصل بناؤها بقوس السحاب فانتظره وارتقب؛ كيف غفلت عن هذه النازلة، وأنت عدة قوم قليلا من الليل ما(12/491)
يهجعون؟ وكيف نمت ولا عجب لمن نعس وهو ذو قرون؟
قال: فبينما هما في المناجاة، وتكرار المحاجاة، إذ جاء النار خير مالك، وأشرف من زهيت به الدول والممالك، فجاس خلال ضرامها، ودخل لظاها فتلقته ببردها وسلامها، وتتبع أثرها الذي آثر اقتلاعه واقتحمها، فتعلقت إذ تألقت في الجو، والفرار قدام الملوك طاعة، ولم ير تلك الساعة أحد أقرب منه إليها، ولا أسلط سطا منه عليها، وثب في جهاتها مماليكه وأمراؤه، وصغار بنيه وكبراؤه، فهم قوم: [الطويل]
إذا ركبوا زادوا المواكب بهجة ... وإن جلسوا كانوا صدور المجالس
فلم ير أسهل من خمودها، ولا أسرع من إبطال حركتها وجمودها؛ ونصر- أعز الله أنصاره- هذه الملة المحمدية، وحاز بهذه المنقبة الكرامة الأحمدية.
ولما رأيت مسك هذا الختام، وأن الجيش تعالى وانحط القتام، قلت: [السريع]
جاد ليطفي النار من اسمه ... بحر فأخفى زندها الواري
ومن يكن بحرا فلا غرو أن ... تطفا لظى منه بتيار
وقام في الله لدفع الأذى ... مؤيدا بالقدر الجبّار
وغير بدع أن يرد الردى ... بمرهف الحدين بتار
لأنه سيف ولم يدخر ... إلا لخطب طارق طار
واقتحم النار بوجه حكى ... بدر الدجى إذ لاح للساري
فانظر إليه وهو في وسطها ... تشاهد الجنة في النار
قال: ولم يزل الناس من أمر هذه النار في قلق، وحدس نفى عن قلوبهم القرار، ورمى جفونهم بالأرق، وحنق يود الصبح لو تنفس، والفجر معه لو انفلق، حتى أظهر الله تعالى أن النصارى قصدوا الجامع بذلك، وتخيلوا أن النار تلعب في(12/492)
جوانب دمشق، وما الناس إلا هالك وابن هالك «1» ؛ وتوهموا أن فعلاتهم المذمومة تغطي مساوئها الليالي الحوالك، فعل من صوّر الصور بيده وعبدها، وكفر بالوحدانية وجحدها، وعكف على الخيانة والجناية، واعتمد على عقل أداه إلى أن الواحد تعالى ثلاثة، فتهيب بعض الناس رميهم بهذا الحجر وأعظم نسبة هذا الفعل إليهم، وفجر وخوف بانتصار الفرنج لأهل ملتهم، وإزاحة علّتهم، وكشف غمتهم، والأخذ بثأر رمّتهم؛ فقال من صدق في إيمانه، وكان من أنصار الإسلام وأعوانه «2» : [الوافر]
أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا
فما كان إلا أن صممت العزمات السيفية، وعمت بإحسانها الشامل، حتى خلصت النفوس البريئة من هذه البرية، وأيقظت عين حزمها الراقدة، واستبدت مرة واحدة؛ ورسم بإمساك من أبرم هذا الأمر وحرره، وبيت على فعله وقرره، فأقروا بما فعلوا، ووجدوا ما عملوا، فضربوا بسياط كشطت غلظ الغلظ من جلدتهم، وأوهنت قوى شجاعتهم وجلدهم، كم فيهم من أسود اللّمّة فتق جلده الشيب، وخطّ وخطه على جنبه ما كان مخبوءا له في الغيب، وأقبل بعضهم يوبخ بعضا فيما أشار، ويتبرم هذا إذ يتبرأ ذاك من هذه الآثار، ويتسابون فيما بينهم، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
»
. ولقد قلت فيهم عند التشفي، والانكفاء عن عقابهم بما يكفّ الحنق ويكفي: [الكامل]
حرثت جنوبهم وشقت أرضها ... ليلا فجاد نباتها بشقيق(12/493)
وأريد تأريخ الحريق فخطه ال ... والي على أضلاعهم بعقيق
ولما أخذ سحت أموالهم، وصرف في إيجاد ما أعدموه بفعالهم، نظر في سوء منقلبهم ومآلهم، وتمام المقابلة على تجنيس أعماله، وورد المرسوم العشرين بتسميرهم على الجمال، وإظهار ما لهذه الملة القاهرة من العز والجمال، فقضى الله تعالى فيهم أمرهم، وجعلهم آية لأهل الصليب وعبرة، وأخرجوا وطباع الورى على عدم رحمتهم مجبولة، وقدموا في حلقة الناس، فخرج كل واحد منهم بجمل وست فحولة، وأقيموا رقباء للشمس كالحرباء، فليس لهم من دونها ستر منسبل، وتنوع الناس في شتمهم، فقال: أشبعتمونا شتما «1» ، ورحنا بالإبل: [الكامل]
انظر إليهم في الجذوع كأنهم ... قد فوقوا يرمون بالنشاب
أو عصبة عزموا الرحيل فنكسوا ... أعناقهم أسفا على الأحباب
وطيف بهم بياض يومين، ثم أنزلوا ليجعل كل سطل منهم دلوين، فجردوا من ثيابهم، وجمع شمل السرور بتمزيق إهابهم: [السريع]
ساقهم البغي إلى صرعة ... للحين لم تخطر على بالهم
كم أملوا المكروه في غيرهم ... فنالهم مكروه آمالهم
وسبق السيف فيهم العذل، وقال كل مسلم لمصرعهم: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل؛ وبقيت أشلاؤهم طريحة الحفير، وألقوا في جهنم وبئس المصير.
* ومن شعره قوله: [البسيط]
أدعوك يا موجد الأشياء من عدم ... وصانع العالم العلوي والأرضي(12/494)
إن كنت تعرض يوم الحشر لي عملا ... فلا تقدر له طولا على عرضي
وقوله: [السريع]
يا رب إن لم ألق منك الرضا ... عمري وحاشا فضلك الغامر
فعند حفر القبر لا تنسني ... يا حسنه نقدا مع الحافر
وقوله: [من الوافر]
يقول الفكر لي دنست ثوب الش ... شباب في غداة الشيب تتعب
وتغسله بدمعك كل وقت ... وما ينقى لأن الطبع أغلب
وقوله «1» : [السريع]
لا تسأل الناس فإني امرؤ ... ما طاب لي عرف من العرف
واقنع ولا تجمع حطاما فكم ... في الدهر للدينار من صرف
وقوله «2» : [السريع]
لا تجمع الدينار واسمح به ... ولا تقل: كن في حمى كنفي
ما الدهر نحويّ فينجو الهدى ... ويمنع الجمع من الصرف
وقوله «3» : [السريع]
يا زمنا أوقعنا شؤمه ... في محنة ليس لها كاشفه
الفضل يحتاج إلى عارف ... والحال يحتاج إلى عارفه
وقوله: [من السريع](12/495)
لا ترع للملاق عهدا ولا ... تصغ لما نمقه واختلق
فأنت تدري ما جنته يد الر ... رامي على الطير برعي الملق
وقوله مضمنا «1» : [الطويل]
يقول لنا المقياس والنيل هابط ... لنقطع آمال المنى والمطامع
«ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع»
وقوله: [السريع]
لا تطغ تلق الشر كالنيل إذ ... طغى وزاد الأمر في هيجه
كم جاءه بالشر شرّ إلى ... أن كسر الأضلاع من موجه
وقوله «2» : [المجتث]
لم لا أهيم بمصر ... وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى ... من مائها إن تملق
وقوله: [البسيط]
لقد رأيت بمصر مذحللت بها ... عجائبا ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل
وقوله: [البسيط]
قالوا: علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طمى
فقلت: هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما(12/496)
وقوله «1» : [السريع]
قد زاد هذا النيل في عامنا ... فأغرق الأرض بإنعامه
وكاد أن يعطف من مائه ... عرى على أزرار أهرامه
وقوله: [مخلع البسيط]
قد حارب الريح نيل مصر ... وعض من غيظه الأصابع
فجاءت الريح بانزعاج ... كسّر من موجه الأضالع
وقوله: [الهزج]
وعين ماؤها صاف ... كمثل الشمس في الأوج
ولم أر قبلها عينا ... حواجبها من الموج
وقوله: [البسيط]
ركبت في البحر [يوما] مع أخي أدب ... فقال: دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم، قلت [له:] ... لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل
«2» وقوله: [الكامل]
لك إن تغب شخص وذكر أصبحا ... ملكين في ذاتي وذلك لائق
فخيام جفني فوق ذا مضروبة ... ولواء قلبي فوق هذا خافق
وقوله: [السريع]
كأنما الليل إذا مادجا ... وصدّ من قلبي به مغرى
صحيفة سودا وشخصي به ... من انتحالي ألف صفرا(12/497)
وقوله «1» : [الطويل]
أتاني وقد أودى السهاد بناظري ... يمزق جنح الليل بارق فيه
فقلت له: يا طيب الأصل هكذا ... أخذت الكرى مني وعيني فيه
وقوله: [الكامل]
لما رقدت أتى خيالك بغتة ... فغدا فؤادي خافقا يتموج
«2»
لو أن صحبي شاهدوني في الكرى ... والقلب يرقص في الخيال تفرجوا
وقوله «3» : [المتقارب]
ضممت خيالك لما أتى ... وقبلته قبلة المغرم
وقمت ومن فرحتي باللقا ... حلاوة ذاك اللمى في فمي
وقوله: [السريع]
عجبت إذ زارت على خفية ... من أعلم الواشي بمسراها
هذا فضول من نسيم الصبا ... فهو الذي ينقل رياها
وقوله: [السريع]
قلت له: زرني فلابد أن ... يدري بنا الواشي ويغري العذول
فالريح ما تكتم سرا وما ... يبرح ريّاك يعاني الفضول
وقوله: [السريع]
قالوا: وشى الحلي بها إذ مشت ... إليك من قبل ابتسام الصباح(12/498)
فقلت: لا خلخالها صامت ... ثم تذكرت فضول الوشاح
وقوله «1» : [الكامل]
علم الوشاة بأن ريق معذبي ... راح يعيد الصب بعد هلاكه
أما أنا لم يبد هذا من فمي ... لكن هذا من فضول سواكه
وقوله: [السريع]
يقول: لما قلت هذا اللمى ... أسكرني لما ترشفت فاك
سواك ما ذاق لمى مبسمي ... أستغفر الله ذكرت السواك
وقوله: [المتقارب]
إذا شئت حليك أن لا يشي ... وقد زرت في الحندس المظلم
فردي السوار مكان الوشا ... ح وخلي سوارك في المعصم
وقوله: [الخفيف]
قال لي: لا تفه بميل قوامي ... إن تثنى واستره خوف العيون
قلت: [إن] الصبا التي قد أشاعت ... عنك هذا الحديث بين الغصون
«2» وقوله: [البسيط]
أقول: يا غصن هلا ملت نحو فتى ... فؤاده طار حتى ليس يألفه
فقال: من قال: قدي مثل غصن نقا؟ ... قلت: النسيم الذي ما زال يعطفه
وقوله مضمنا: [الطويل](12/499)
أقول لغصن البان: إن كان لم يمس ... قوامك إلا بالصبا في التنسم
فعارض حبيبي حين يثني قوامه ... وقف وقفة قدامه تتعلم
وقوله: [من السريع]
يوهمني من لين أعطافه ... بأنه لم يقس يوما علي
ويخدع البند إلى أن غدا ... يربطه الخصر على غير شيّ
وقوله: [مجزوء الكامل]
لم أنسه في روضة ... والطير يصدح فوق غصن
فأعلم الورق البكا ... ويعلّم الغصن التثني
وقوله: [المجتث]
يهتز قدك لينا ... وفي الحشا منه غصه
يغيب عني حينا ... وإن أتى جاء برقصه
وقوله: [الخفيف]
أيها الأهيف الذي قد تثني ... عطفه والتوى من اللين غصنه
لك ردف من وافر وبسيط ... لا يرى في الربا ولا الكثب وزنه
وقوله: [المجتث]
يقول ردف حبيبي ... وعطفه المتثني:
ما أنت يا غصن قدي ... ولا كثيبك وزني
وقوله: [الهزج]
لقد أضعفني حزني ... وضاعف خالقي حسنك
فها أنا لم أزن وجدي ... لأني لم أجد وزنك(12/500)
وقوله: [البسيط]
ألبستها من عناقي وهي نائمة ... ثوبا يزر بلثم غير منفصل
يا خجلتا في غد منها إذا أخذت ... مرآتها ورأت ما أثرت قبلي
وقوله: [المنسرح]
يا برق بلغ رسالتي فمها ... إن أنكرتني فصف لها عللي
لأن بيني وبين مبسمها ... ليلة زارت علامة القبل
وقوله: [مخلع البسيط]
قلت له: إن بعدت عني ... تفضولت بيننا العواذل
أما ترانا لما اعتنقنا ... ما دخلت بيننا الغلائل
وقوله: [الوافر]
نظرت إلى الرياض ولي مجاز ... يؤديني إلى المعنى الحقيقي
فكم أبصرت من آس تبدى ... وما اندملت جراحات الشقيق
وقوله: [المتقارب]
عذارك والطرف يا قاتلي ... يحاكيهما الآس والنرجس
وقد صار بينهما نسبة ... فهذا يدب وذا ينعس
وقوله «1» : [الخفيف]
إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها(12/501)
وقوله «1» : [الكامل]
أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى
وعلمت أن بعادكم لا بدّ أن ... يجري له دمعي دما وكذا جرى
وجاءت شتوة وشّعت بروقها حاشية السحاب، ووشّت لمم الجبال الشائبة توشية الخضاب، وهدرت رعودها الصائلة، ووفت عهودها السائلة، وتوالت مدة لا يكشط فيها سماء، ولا يكشف بأيام الثلوج المصبحة ظلماء، ودامت أياما لا تفصل فصالها عن سحائب، ولا تولد بكرة يوم إلا وهي في طفولتها شائبة النواصي والذوائب، هذا ولا تصبح صبيحة ضاحك إلا ووجه الأرض عبوس، ومعطف السماء في لبوس بؤس، وقوس السحاب ترمي بقسي مالها وتر، وغدر الثلج الصافية كالبلور كلها كدر، والسقوف وقد أرقها المطر فأنهرها، والطرق قد عرفها اللثق ونكّرها، والبرد قد اشتد كلبه، ولهذا غطى جمده الماء، ولم يشتف حتى شرب العذب البارد ممزوجا بمثل الدماء.
فكتبت إليه: كيف أصبح مولانا في هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مقدمه، ويرهب تقدمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه؟ وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وسرر لياليه التي لا تبيت منها بليلة صالحة وسحابه وأمواجه وجليده، والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الحثيث، وتطاول فرع ليله الأثيث، ومواقده السود الممقوتة، وذائب جمره المحمر، وأهون بها ولو أن كل حمراء ياقوتة، وتحدر نؤيه المتصبب، وتحير نجمه المتصوب؟ وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى نصب مضارب غمامه،(12/502)
وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه؟ هذا على أنه عرّى الأبنية، وحلل مما تلف ذمّه سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رض العظام وأنخرها، ودق فخارات الأجسام وفخرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه «1» لسان المنطيق، ويبس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيد الأرجل فكانت لا تمشي إلا تتوقع عطبا، وأتى الزمهرير بجنود ما للقوي بها قبل، وحمل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصمهم منه من قال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ
«2» ، ومدّ من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأول ما بدأ الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيدي في هذه الأحوال؟ وكيف أنت في مقاساة هذه الأهوال؟ وكيف رأيت منها ما شيب بثلجه نواصي الجبال؟ وجاء من البحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصي، وخيوط السحاب من حبال؛ أما نحن فبين أفواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم؛ وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهم ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلون؟ رد الله عليه صوائب سهامه، وبدّلنا منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه دهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من تؤامه، وعوضنا وإيّاه منه بالصيف إذا أقبل، وأراحنا من هذا الشتاء، ومشى غمامه المتبختر بكمه المسبل.
فكتب إلي جوابا: وينهي ورود هذه الرقعة التي هي طراز في حلة الدهر، والحديقة التي تذكّر بزمن الربيع وما تهديه أيامه من أنواع الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدلت فروع غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كلّ كواكبه شموس(12/503)
وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا تفعله نغمات الشبّابة، وأرشفته سلافا كورسها الحروف، وكل نقطة حبابة؛ وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم، المتصلة الظلام فلا أوحش الله من طلعة الشمس، وحواجب الأهلة، وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحّابة، والرعود الصخّابة، والبروق اللهّابة، والغمائم السكابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصّابة والبرد الذي أمست إبره لغضون الجلود قطّابة، والزميتا التي لا تروي عن أبي ذر، إلا ويروي الغيث عن أبي قلابة، كلما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق جمرتها، وكلما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت وهي مرهاء لما أسبلت من عبرتها، فما هذا طوبة «1» ، إن هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون، إن هو إلا تنور الطوفان، التي متى قطن هذه الثلوج يطرح على حباب الجبال، وإلى متى تفاض دلاص الأنهار، وترشقها قوس قزح بالنبال؟ وإلى متى تشقّق السحاب ما لها من الحلل والحبر؟، وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجو وفي أطرافها على الغدران إبر؟ وإلى متى تجمد عيون الغمام وتلحّها البروق بالنار؟ وإلى متى نثار هذه الفضة وما يرى للنجم دينار؟ وإلى متى نحن نحنو على النار حنو المرضعات على الفطيم؟ «2» وإلى متى تبكي هذه الميازيب بكاء الأولياء بغير حزن، إذا استولوا على مال اليتيم؟ «3» وإلى متى هذا البرق تتلوى بطون حياته، وتتقلب حماليق العيون المحمرة من أسود غاباته؟ وإلى متى يزمجر عتب هذه الرياح العاصفة؟ وإلى متى يرسل الزمهرير أعوانا تصبح بها حلاوة(12/504)
الوجوه تالفة؟ أترى هذه الأمطار تقلب من أزيار؟ أم ترى هذه المواليد تنتهي فيها الأعمار؟ كم من جليد يذوب له قلب الجليد، ويرى زجاجه الشفاف أصلب من الحديد! وكم من وحل لا تمشي هريرة فيه الوجى! «1» ، وكم من برد لا ينتطق فيه نوم الضحى! اللهم حوالينا ولا علينا، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كلّ عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتخلل الضباب زوايا البيوت، والأطفال ضباب الضباب، كل ضبّ منهم قد لزم باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حسد على النار من أمسى مذنبا وأصبح عاصيا، وتمنى أن يرى من فواكه الجمرات عنابا أو قراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر فضائل مولانا، فيا طول ما تسفح، وإن كانت العواصف تتشبه ببأسه، فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرع، فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلون خجلا من طروسه، فياطول ما تتأنق، وإن كانت الرعود تحكي جوانح أعاديه، فيا طول ما تفهق وتشهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده، فيا طول ما تجري على طول المدى وما تلحق؛ والأولى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفصل المبغض ألا يتعرض؛ ورحم الله من عرف قدره، وكفى الناس شره، وتحقق أن مولانا في هذا الوجود ندرة.
فأجبته: وقف لمواقع القلم الشريف ووقف عليه، وتيمن بمجرد إقباله إليه، وقبّلة لقرب عهده بيديه، وعدّه لجلاء المرّة لما أمرّه على عينيه، لا برح الشهد من جني ريقه(12/505)
المعلل، والطرب بكأس رحيقه المحلل، والتيه وحاشاه منه في سلوك طريقه المدلل، والجهد- ولو كلف- لا يجيء بمثل سيره المذلل، والسحاب لا يطير إلا بجناح كرمه المبلل، والروض لا يبرز إلا في ثوب زخرفه المجلل، والبرق لا يهتز إلا في مثل ردائه المشلل، والنصر يفضي لمواضيه على حد حسامه المفلل، والفجر لولا بيانه الوضاح لما أرشد دليله المضلل، والبحر لولا ما عرف من عبابه الزاخر لما ذم على غزر المادة نواله المقلل، والفخر- ولو شمخ بأنفه- لا ينافس عقده الموشح، ولا يتطاول إلى تاجه المكلل، وفهمه فهام، وعلمه فزاد صقال الأفهام، وقصر عن معرفته فما شك أنه إلهام، وانتهى في الجواب إلى وصف أنواء تلك الليلة الماطرة، وما موهت به السحب من ذهب برقها، وقتلته الأنواء من خيوط ودقها، ونفخت فيه الرياح من جمر كانونها، وأظهرت حقيقته الرعود من سرّ مكنونها، وما تبثه عارضة ذلك العارض الممطر الذي هو أقوى من شآبيبها، وأوقى مما أرقته «1» السّماء من جلابيبها، وأسرى من برقها المومض في غرابيبها، وأسرع من سرى رياحها وقد جمعت أطواق السحب وأخذت بتلابيبها؛ وسبح الملوك من عجب لهذه البلاغة التي كملت الفضائل، وفضلت عن العلم وفي الرعيل الأول علم الأوائل، وفضلت مبدعها وحق له التفضيل، وآتته جملة الفضل وفي ضمنها التفضيل، وانطقت لسان بيانه وأخرست كل لسان، وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إحسان، ونشرت علم علمه وأدخلت تحته كل فاضل، وأرهفت شبا حده وقطعت به كل مناظر وكل مناضل، وقالت للسحاب: إليك- وقد طبق- إليك، فإن البحر قد جاءك؛ وللنوء- وقد أغدق- تنح، فإن الطوفان قد ضيق أرجاءك؛ وللرعد وقد صرخ: اسكت، فقد آن لهذه الشقاشق أن تسكت؛ وللبرق وقد نسخ آية الليل: استدرك غلطك، لئلا تبكت؛ أما ترى هذه العلوم(12/506)
الجمة وقد زخر بحرها، وأثر في الألباب سحرها، وهذه الفضائل وكيف تفننت فنونها، وفتنت عيونها، وتهدلت بالثمرات أفنانها، وتزخرفت بالمحاسن جنانها، وهذه الألمعية وكيف ذهّبت الأصائل، وهذه اللوذعية وما أبقت مقالا لقائل، وهذه البراعة التي فاضت وكلّ منها سكران طافح، وهذه الفصاحة وما غادرت بين الجوانح، وهذه البلاغة التي سالت بأعناق المطي بها الأباطح «1» ، وهذه الحكم البوالغ، وهذه النعم السوابغ، وهذه الهمم التي ترقت بتوجهها إلى السماء، فكشفت غياية عارضها، وكفت غواية البرق وقد ولع خط مشيبه بخط عارضها، حتى جلاها وأضحاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها
«2» وجلا صدأ تلك الليلة عن صفيحة ذلك اليوم المشمس، وبدل بذلك الصحو المطبع من ذلك الغيم المؤنس، وأترع غدير ذلك النهار خالصا من الرنق، وضوّع غير ذلك الثرى خاليا من اللثق، وأطلع شمس ذلك اليوم يوشع جانب مشرقها، ويوشي بذائب الذهب رداء أفقها.
كما قلت: [السريع]
كأنما اليوم وقد موهت ... مشرقه الشمس ولا جاحد
ثوب من الشرب ولكنه ... طرّز منه كمّه الواحد
أستغفر الله، بل ذلك بشر ذلك البشر، بل الملك الكريم وصفيحة وجهه المتهلل الوسيم، لا بل صفيحة «3» عمله وصفيحة أمله، وأنموذج راية الثناء عليه، وصنويده البيضاء وصنع يديه؛ فلله تلك اليد المقبلة، ولله تلك اليد المؤملة،(12/507)
ولله تلك المواهب المجزلة، ولله تلك الراحة التي لا تقاس بأنملة، ولله ذلك البنان الساحر، ولله ذلك البيان الساخر، ولله ذلك اللسان المدرب، وذلك البحر الزاخر، ولله ذلك الإنسان الذي طال باع عمله وطار، فأوقد ضرام ذلك الصحو شعاع فهمه، وطاب جني ثمره وجناب حلمه، وطاف الأرض صيته، ونفق كاسد الفضائل باسمه؛ لقد ألبس المملوك رداء الفخار، وعرّفه العوم وكان لا يطمع أن يشق بحره الزخار، ومحى عنه صبغ دجنة تلك الليلة، وفرج عنه لباس تلك السحب وقد ضم عليه ذيله، وفرق ذلك النور المعتلج وقد جاراه جفنه، وأجرى مثله سبله، وأطلق لسانه من الاعتقال، وأنطق بيانه فقال، وحمى له هجير الذكاء فقال، ووقفه ولولا إيقافه لغبّر على آثاره في وجه من سبق.
فكتب هو الجواب: [الكامل]
جاء الجواب يزف منه فواضلا ... ويرف في روض البيان خمائلا
أغرقت غر السحب حين وصفتها ... يا من غدا بحرا يموج فضائلا
لو لم تكن يمناك بحرا زاخرا ... ما أرسلت تلك السطور جداولا
ضرب من السّحر الحلال متى تشأ ... أخرجته فيعود ضربا داخلا
ما إن جلا راويه بحر بيانه ... إلا وزان مشاهدا ومحافلا
فمتى يروم به اللحاق مقصّر ... والنجم أقرب من مداه تناولا
أبرزته أفقا فكل قرينة ... برج حوى معناه أفقا كاملا
فكأنما تلك الحروف حدائق ... أمست معانيها تصيح بلابلا
وكأن ذاك الطرس خد رائق ... والسطر فيه غدا عذارا سائلا
مهلا أبا العباس قد أفحمتني ... وتركتني بعد التحلي عاطلا
بالله قل لي عند ما سطرته ... هل كنت تحسب أن تجيب الفاضلا
أقسمت لو جاراك في إنشائه ... ما كان ضم على اليراع أناملا(12/508)
حركت منك حمية عدوية ... ملأت فضاء الطرس منك جحافلا
كم فيه من لام كلأمة فارس ... قد هزّ من ألفات خطك ذابلا
هل شئت أن تنشي الجواب سحابة ... تندى فجاءت منك سيلا سائلا
يا فارس الإنشاء رفقا بالذي ... نازلته يوم الترسل راجلا
لو رام أن يجري وراءك خطوة ... نصبت له تلك الحروف حبائلا
فاحبس عنانك قد تجاوزت المدى ... وتركت سحبان الفصاحة باقلا
والفاضل المسكين أصبح فنه ... من بعد ما قد راح فينا خاملا
فاسلم لتبليغ النفوس مرامها ... فالدهر في أبواب فضلك ماثلا
كم فيك لي أمل يروق لأنني ... أدري بأنك لا تخيب آملا
وكتبت أنا الجواب إليه: [الكامل]
وافى الكمي بها يهز مناصلا ... ويرم صبغا للشبيبة ناصلا
سبق الظلام بها ونبه ليله ... ولو انه في الفجر حلى العاطلا
حمراء قانية يذوب شعاعها ... وترى حصا الياقوت فيها سائلا
حمراء قانية تحث كؤوسها ... وقع الصوارم والوشيج الذابلا
ذهبية ما عرق عانة كرمها ... لكنها كف الكريم شمائلا
كف كمنبجس النوال كأنما ... دفع السيول تمد منه نائلا
كرم خليلي يمد سماطه ... ويشب نارا للقرى وفواضلا
ولهيب فكر لو تطير شرارة ... منه لما بل السحاب الوابلا
يذكي به في كل صبحة قرة ... فهما لنيران القرائح آكلا
عجبا له من سابق متأخر ... فات الأواخر ثم فات أوائلا
دانوه في شبه وما قيسوا به ... من ذا تراه للغمام مساجلا
ماثل به البحر الخضم فإنه ... لا يرتضي خلقا سواه مماثلا(12/509)
وافت عقيلته ولو بدأ امرؤ ... فيها استقل من البروج معاقلا
جاءت شبيه الخود في حلل لها ... حمر بتذهيب الخدود لها حلى
قد خضبت بدم الحسود أما ترى ... أثر السواد بها عليه دلائلا
حلل على سحبان تسحب ذيلها ... وتجر من طرف الذبول الفاضلا
خلت الهلال يلوح طلع نقابها ... حتى نضت فرأيت بدرا كاملا
بنت القريحة ما ونت في خدرها ... حسن المليحة أن تواصل عاجلا
جاءت تصوغ من العناق أساورا ... لا بل تخوض من السيول خلاخلا
قبلتها وأعدت تقبيلي لها ... إن المتيم لا يخاف العاذلا
وأتت وجيش النوء مرهوب السطا ... ملأ الوجود له قنا وقنابلا
والبرق مشبوب الضرام لأنه ... صاد الغزالة حيث مد حبائلا
وأتت ورأس الطود يشكو لمة ... قد عممت بالثلج شيبا شاملا
وكأنما نثرت قراضة فضة ... أيدي البروق وقد خرقن أناملا
ملأت به كل الفضاء فلا ترى ... إلا لجينا جامدا أو سائلا
والأفق كالكأس المفضض ملؤه ... صهباء قد عقدت حبابا جائلا
أبناء يوم قد تقهقر ضوؤه ... وبدا ذبالا في الأصائل ناحلا
والجو منخرق القميص كأنه ... حنق يقد من السحاب غلائلا
والسيل منحدر يسيل مهندا ... إفرنده ذهب يمد سلاسلا
لله أنت أبا الصفاء فإنني ... ألقى خليلا منك لي ومخاللا
أنت الذي حلقت صقرا أجدلا ... وصممت في برديك ليثا باسلا
يا من ينفق سوق كل فضيلة ... إسأر فما أبقيت بعدك فاضلا
«1» [فكتب هو الجواب] [الخفيف](12/510)
يا فريدا ألفاظه كالفريد ... ومجيدا قد فاق عبد المجيد
«1»
وإمام الأنام في كل علم ... وشريكا في الفضل للتوحيدي
عرف العالمون فضلك بالعل ... - م وقال الجهال بالتقليد
من تمنى بأن يرى لك شبها ... رام نقضا بالجهل حكم الوجود
طال قدري على السماكين لما ... جاءني منك [عقد] در نضيد
«2»
شابه الدر في النظام ولما ... شابه السحر شاب رأس الوليد
«3»
هو لغز في ذات خدر منيع ... نزلت في العلى بقصر مشيد
هي أم الأمين ذات المعالي ... من بني هاشم ذوي التأييد
أنت كنت البادي لمعناه حقا ... حين لوحت لي بذكر الرشيد
* وهذا آخر من ختمنا به أهل قطرنا أحياء وأمواتا، ولا حفلة بمن تخطيناه فواتا، إذ كان هؤلاء هم أعيان القوم، من أول هذه الملة وإلى اليوم، ممن اشتهر لعلو قدره أو لغلو دره، وثم بقايا ما حلوا مع أحد هذين، ولا كانوا في قسميها اللذين.
وهذه جملة كافية في الكتاب المشارقة، وإنما أطلعنا من شموسهم شارقة، وهي دالة على ما بعدها من نهار يطنب في الخافقين، ويطيب ملائي النيرين الشارقين.(12/511)
آخر السفر الثاني عشر من «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ويتلوه إن شاء الله تعالى في السفر الثالث عشر،: فأما الكتاب المغاربة، وما لهم من نجوم غير غاربة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين، الطاهرين؛ حسبنا الله ونعم الوكيل. هـ «13» .(12/512)
فهرس المترجمين
1 أبو اسحاق، الصابي 9
2 أبو محمّد، عبد الله بن عمر بن محمد الفياض 38
3 الحريري، أبو محمد، القاسم بن علي بن محمد بن عثمان 39
4 أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، المخزومي، المعروف بالببغاء 53
5 بديع الزمان الهمذاني 67
6 أبو نصر العتبي 119
7 الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد، أبو إسماعيل، مؤيد الدين، الطغرائي 124
8 أبو علي، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني 135
9 القاضي الفاضل، محيي الدين، أبو علي، عبد الرحيم بن علي بن الحسن العسقلاني 140
10 محمد بن محمد، عماد الدين، أبو حامد القرشي الأصبهاني 253
11 نصر الله بن محمد بن محمد، ضياء الدين، أبو الفتح ابن الأثير الجزري 269
12 ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله الشيباني 312
13 شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي الخرندزي 314(12/513)
14 ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد المدائني 318
15 أخوه: موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبو المعالي، المدائني 323
16 ابن بصاقة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي الغفاري 325
17 محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد، أبو عبد الله، الشيباني 337
18 ابن قرناص، محيي الدين، الحموي 346
19 ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس 348
20 ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد 351
21 شهاب الدين، أبو محمد، يوسف بن أحمد بن عبد العزيز العجمي 362
22 أحمد بن محمود الشيباني، كمال الدين، أبو العباس، ابن العطار 365
23 محمد بن عبد الله، أبو محمد، ابن القيسراني، القرشي 393
24 محمود بن سلمان بن فهد الحلبي، شهاب الدين، أبو الثناء 397
25 علي بن محمد بن سلمان بن حمائل، علاء الدين، أبو الحسن 447
26 عبد الباقي بن عبد المجيد بن متى بن أحمد، القرشي، المخزومي، اليماني 454
27 عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، ابن غانم، أبو الفضل المقدسي 461
28 زين الدين الصفدي، أبو حفص، عمر بن داود بن هارون الحارثي 469
29 خليل بن آيبك الصفدي، أبو الصفاء، صلاح الدين 480(12/514)
فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة]
- آداب الملوك، للثعالبي، تحقيق د. جليل العطية، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990 م.
- اتعاظ الحنفا، للمقريزي، ط. د. جمال الشيال ومحمد حلمي أحمد، المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية، القاهرة 1967
- أحسن ما سمعت، للثعالبي، تحقيق: أحمد تمام وسيد عاصم، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1989 م
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء تاريخ الحكماء.
- الأزمنة والأنواء، لابن الأجدابي، تحقيق د. عزة حسن، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1964 م.
- أساس البلاغة، للزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، ط. مطبعة أولاد أرفاند، القاهرة 1953 م.
- أسرار الحكماء، لياقوت المستعصمي، تحقيق سميح صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1994 م.
- إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، لليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، ط. مركز الملك فيصل 1986 م.
- أشعار اللصوص، جمع وتحقيق عبد المعين الملوحي، ط. دار الحضارة الجديدة،(12/515)
بيروت 1993 م.
- الإعجاز والإيجاز، للثعالبي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 2001 م.
- أعيان العصر، للصفدي، تحقيق د. علي أبو زيد وزملائه، ط. دار الفكر، دمشق 1998 م.
- الأغاني، للأصفهاني، مصورة دار الكتب المصرية، والهيئة العامة للكتاب، القاهرة.
- الأمالي، للقالي، تحقيق عبد المجيد الأصمعي، مصورة دار الكتب المصرية، ط، المكتب التجاري، بيروت.
- الأمثال والحكم، للرازي، تحقيق د. فيروز حريرجي، ط. المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق 1987 م.
- إنباه الرواة، للقفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الكتب المصرية 1952 م.
- الأنساب، للسمعاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي وغيره، ط. أمين دمج، بيروت 1980 م.
- أنساب الخيل، لابن الكلبي، تحقيق أحمد زكي، ط. القاهرة 1965 م.
- الببغاء، حياته، ديوانه، رسائله، قصصه؛ جمع وتحقيق هلال ناجي، ط.
عالم الكتب، بيروت 1998 م.
- بدائع البداءة، لابن ظافر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. المكتبة العصرية- صيدا 1992 م.(12/516)
- البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق د. عبد المحسن التركي، ط. دار هجر، الرياض 1997 م.
- برنامج الوادي آشي، تحقيق محمد محفوظ، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1982 م.
- بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم، تحقيق د. سهيل زكار، ط. دار البعث، دمشق 1988 م- بغية الوعاة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي، القاهرة 1964 م
- البلغة في تاريخ أئمة اللغة، للفيروز أبادي، تحقيق محمد المصري، ط. وزارة الثقافة بدمشق 1972 م.
- بهجة المجالس، لابن عبد البرّ، تحقيق د. محمد مرسي الخولي، ط. القاهرة 1962 م.
- البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط. القاهرة 1961 م.
- تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق د. عمر عبد السلام التدمري، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1986 م.
- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، تحقيق حامد الفقي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
- تاريخ الحكماء، للقفطي، ط المتنبي، القاهرة (بلا تاريخ) .
- تاريخ الخلفاء للسيوطي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار صادر- بيروت 1997 م.(12/517)
- تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق عدد من المحققين، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق. (لم يتم) .
- تاريخ الطبري، للطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار المعارف، القاهرة 1967 م.
- تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق د. عدنان درويش، ط. المعهد الفرنسي، دمشق 1994 م
- تاريخ ابن الوردي، ط. القاهرة 1285 هـ.
- تالي وفيات الأعيان، للصقاعي، تحقيق جاكلين سوبليه، ط. المعهد الفرنسي، دمشق 1974 م.
- التذكرة الحمدونية، لابن حمدون، تحقيق د. إحسان عباس وأخيه، ط. دار صادر، بيروت 1996 م.
- تذكرة النبيه، لابن حبيب، تحقيق محمد محمد أمين، ط. دار الكتب المصرية 1976 م.
- ترويح القلوب بذكر الملوك بني أيوب، للزبيدي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1969 م.
- التّطفيل، للخطيب البغدادي، تحقيق: د. عبد الله عسيلان، ط. دار المدني، جدة 1986 م.
- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى، محمد قنديل البقلي، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1984 م.
- تعريف ذوي العلا، للتقيّ الفاسي، تحقيق محمود الأرناؤوط وأكرم البوشي،(12/518)
ط. دار صادر، بيروت 1998 م.
- تكملة إكمال الإكمال، لابن الصابوني، تحقيق د. مصطفى جواد، ط. عالم الكتب، بيروت 1986 م.
- التكملة في وفيات النقلة، للمنذري، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط.
الرسالة، بيروت 1981 م.
- تكملة المعاجم العربية، لدوزي، ترجمة د. محمد سليم النعيمي، ط. وزارة الثقافة، بغداد 1978 م.
- تلخيص مجمع الآداب، لابن الفوطي، تحقيق د. مصطفى جواد، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1963 م.
- تلخيص مجمع الآداب، لابن الفوطي، تحقيق محمد الكاظم، ط. وزارة الثقافة، طهران 1416 هـ.
- تمام المتون، للصفدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. القاهرة 1969 م.
- التمثيل والمحاضرة، للثعالبي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، ط. الحلبي، القاهرة 1961 م.
- التنبيه على حدوث التصحيف، لحمزة الأصبهاني، تحقيق د. محمد أسعد طلس، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1968 م.
- توضيح المشتبه، لابن ناصر، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، ط. الرسالة، بيروت 1993 م.
- ثمار القلوب، للثعالبي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1994 م.(12/519)
- ثمرات الأوراق، للحموي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. مكتبة الخانجي، القاهرة 1971 م.
- الجامع الكبير، للترمذي، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1998 م.
- جمهرة الإسلام، للشيزري، نسخة مجمع اللغة العربية بدمشق.
- جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، تحقيق عبد السلام هارون، ط. دار المعارف، القاهرة 1977 م.
- الجواهر المضية، لابن أبي الوفا القرشي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، ط. دار هجر، الرياض 1993 م.
- حسن المحاضرة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1998 م.
- حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1985 م.
- الحوادث، لمؤلف مجهول، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997 م.
- حياة الحيوان، للدميري، ط. انتشارات ناصر خسرو، طهران.
- الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط. الحلبي، القاهرة 1965 م.
- خاص الخاص، للثعالبي، تحقيق: د. صادق النقوي، ط. دائرة المعارف العثمانية، الهند 1984 م.
- خريدة القصر، للعماد الأصبهاني، (قسم مصر) تحقيق: أحمد أمين وزملائه(12/520)
ط. لجنة التأليف، القاهرة.
- خريدة القصر، للعماد الأصبهاني، (قسم العراق) تحقيق: محمد بهجة الأثري، ط. بغداد.
- الدارس في تاريخ المدارس، للنعيمي، تحقيق جعفر الحسيني، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق.
- الدّرر الكامنة، لابن حجر، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ مصورة الهند.
- الدّرّ المنضد، للعليمي، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، ط. مكتبة التوبة، الرياض 1992 م.
- الدليل الشافي، لابن تغري بردي، تحقيق فهيم شلتوت، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1983 م.
- ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمد محمد حسين، ط. الرسالة، بيروت 1973 م.
- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار المعارف، القاهرة، 1964 م.
- ديوان أوس بن حجر، تحقيق د. محمد يوسف نجم، ط. دار صادر، بيروت 1967 م.
- ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي، ط. دار المعارف، القاهرة 1980 م.
- ديوان بديع الزمان الهمذاني، تحقيق يسري عبد الله، ط. دار الكتب العلمية(12/521)
بيروت 1987 م.
- ديوان بشار بن برد، تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ط. الشركة التونسية، تونس 1976 م.
- ديوان أبي بكر الخوارزمي، تحقيق د. حامد صدقي، ط. نشر التراث المخطوط، طهران 1997 م.
- ديوان أبي تمام، بشرح التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، ط. دار المعارف، القاهرة 1951 م.
- ديوان جرير، بشرح ابن السكيت وغيره، تحقيق محمد نعمان أمين طه، ط.
الحلبي، القاهرة.
- ديوان جميل بثينة، تحقيق عبد الستار فراج، ط. نهضة مصر، القاهرة 1967 م.
- ديوان الحارث بن حلزة، تحقيق د. إميل يعقوب، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1991 م.
- ديوان ابن الحجاج، نسخة دار الكتب المصرية (شعر تيمور 606) .
- ديوان حسان بن ثابت، تحقيق د. وليد عرفات، ط. دار صادر، بيروت 1974 م.
- ديوان الخالديين، تحقيق د. سامي الدهان، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1969 م.
- ديوان الخنساء، بشرح ثعلب، تحقيق د. محمد أنور أبو سويلم، ط. دار عمار، عمّان 1988 م.(12/522)
- ديوان ابن الخياط الدمشقي، تحقيق خليل مردم بك. ط. دار صادر، بيروت 1994 م.
- ديوان أبي دهبل الجمحي، رواية أبي عمرو الشيباني، تحقيق عبد العظيم عبد المحسن، ط. مطبعة القضاء، النجف 1972 م.
- ديوان ابن الرومي، تحقيق د. حسين نصار، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة 1977 م.
- ديوان ابن زيدون، تحقيق علي عبد العظيم، ط. مكتبة نضهة مصر 1957 م.
- ديوان الشريف الرضي، ط. وزارة الإرشاد الإسلامي، إيران 1406 هـ.
- ديوان أبي الشيص الخزاعي، صنعة: عبد الله الجبوري، ط. المكتب الإسلامي، دمشق 1984 م.
- ديوان صريع الغواني، بشرح الطبيخي، تحقيق د. سامي الدهان، ط. دار المعارف، القاهرة 1970 م.
- ديوان الصنوبري، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1998 م.
- ديوان طرفة بن العبد، بشرح الشنتمري، تحقيق لطفي الصقال ودريّة الخطيب، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1975 م.
- ديوان الطرماح بن حكيم، تحقيق د. عزة حسن، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1968 م.
- ديوان الطغرائي، تحقيق د. علي جواد ود. يحيي الجبوري، دار الحرية، بغداد 1976 م.
- ديوان ظافر الحداد، تحقيق د. حسين نصار، ط. مكتبة مصر 1969 م.(12/523)
- ديوان عبد الصمد بن المعذل، تحقيق د. زهير زاهد، ط. دار صادر، بيروت 1998 م.
- ديوان أبي العتاهية، تحقيق د. شكري فيصل، ط. جامعة دمشق، 1965 م.
- ديوان عدي بن الرقاع العاملي، بشرح ثعلب، تحقيق د. نوري القيسي ود.
حاتم الضامن، ط. المجمع العلمي العراقي 1987 م.
- ديوان عروة بن الورد، بشرح ابن السكيت، تحقيق محمد فؤاد نعناع، ط. دار العروبة، الكويت 1995 م.
- ديوان العماد الأصبهاني، جمع وتحقيق د. ناظم رشيد، ط. جامعة الموصل 1983 م.
- ديوان فتيان الشاغوري، تحقيق أحمد الجندي، ط، مجمع اللغة العربية، دمشق 1967 م.
- ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق د. محمد ألتونجي، ط. المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق 1987 م.
- ديوان القاضي الفاضل، تحقيق د. أحمد أحمد بدوي، ط. وزارة الثقافة، القاهرة 1961 م
- ديوان القطامي، تحقيق د. إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب، ط. دار الثقافة، بيروت 1960 م.
- ديوان كثير عزة، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1971 م.
- ديوان كشاجم، تحقيق د. النبوي شعلان، ط. الخانجي، القاهرة 1997 م.
- ديوان لبيد بن ربيعة، تحقيق د. إحسان عباس، ط. الكويت 1984 م.(12/524)
- ديوان المتنبي، بشرحه المنسوب إلى العكبري، وهو لابن عدلان، تحقيق مصطفى السقا وزملائه، ط. الحلبي، القاهرة 1971 م.
- ديوان مجنون ليلى، تحقيق عبد الستار فراج، ط. نهضة مصر، القاهرة.
- ديوان المعاني، للعسكري، تحقيق القدسي، ط. القدسي. القاهرة.
- ديوان ابن المعتز، تحقيق د. محمد بديع شريف، ط. دار المعارف، القاهرة 1977 م.
- ديوان المقنع الكندي (ضمن شعراء أمويون) تحقيق د. نوري حمودي القيسي، ط. عالم الكتب، بيروت 1987 م.
- ديوان منصور النمري، جمع وتحقيق الطيب العشاش، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1971 م.
- ديوان النابغة الذبياني، بشرح ابن السكيت، تحقيق د. شكري فيصل، ط.
دار الفكر، بيروت 1980 م.
- ديوان نصيب بن رباح، جمع وتحقيق د. داود سلوم، ط. مكتبة الأندلس، بغداد 1968 م.
- ديوان أبي نواس، بشرح حمزة الأصبهاني، تحقيق إيفالد فاغنر، ط. فيسبادن (لم يتم) .
- ديوان يزيد بن الطثرية، جمع وتحقيق د. ناصر الرشيد، ط. دار الوثبة، دمشق.
- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام الشنتريني، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1979 م.(12/525)
- ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق ديدرنغ، ط. ليدن 1934 م.
- الذيل التام على دول الإسلام، للسخاوي، تحقيق حسن مروة، ط. دار العروبة، الكويت 1992 م.
- الذيل على الروضتين، لأبي شامة، ط. دار الجيل، بيروت 1974 م.
- الذّيل على العبر في خبر من عبر، لابن العراقي، تحقيق: صالح مهدي عباس، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1989 م.
- ذيل مرآة الزّمان، لليونيني، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة 1992 م.
- ذيول العبر، للذهبي والحسيني، تحقيق محمد رشاد عبد المطلب، ط. مطبعة حكومة الكويت 1986 م.
- ربيع الأبرار، للزمخشري، تحقيق د. محمد سليم النعيمي، ط. دار الذخائر، إيران.
- الرسائل، لابن الأثير، تحقيق أنيس المقدسي، ط. دار العلم للملايين، بيروت 1959 م.
- رسائل بديع الزمان الهمذاني، بشرح الأحدب، ط. دار التراث، بيروت.
- رسائل الحريري، نسخة مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، رقم 62 أدب.
- رسائل الصابي والشريف الرضي، تحقيق د. محمد يوسف نجم، ط. مطبعة حكومة الكويت 1961 م.
- الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة، تحقيق إبراهيم الزيبق، ط. الرسالة، بيروت 1997 م.(12/526)
- زهر الآداب، للحصري، تحقيق علي محمد البجاوي، ط. دار إحياء الكتب العربية 1969 م.
- سرح العيون، لابن نباتة المصري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1964 م.
- سنا البرق الشامي، للبنداري، تحقيق د. رمضان ششن، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1971 م.
- سنن الترمذي الجامع الكبير.
- سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. المكتبة الإسلامية، استانبول.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين، ط. الرسالة، بيروت 1981 م.
- سيرة السلطان جلال الدين منكو برتي، للنسائي، تحقيق د. ضياء الدين موسى بونيادوف، ط. موسكو 1996 م.
- شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق محمود الأرناؤوط، ط. دار ابن كثير، دمشق 1986 م.
- شرح أشعار الهذليين، للسكري، تحقيق عبد الستار فراج، ط. دار العروبة، القاهرة 1965 م.
- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، لثعلب، تحقيق أحمد زكي العدوي، ط.
دار الكتب المصرية، القاهرة 1964 م.
- شرح مقصورة ابن دريد، للتبريزي، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط. المكتبة(12/527)
العربية بحلب 1978 م.
- شروح سقط الزند، للتبريزي وغيره، تحقيق لجنة إحياء آثار أبي العلاء، ط.
القاهرة.
- شعر الخوارج، جمع وتحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1962 م.
- شفاء القلوب، للحنبلي، تحقيق د. ناظم رشيد، ط. دار الحرية، بغداد 1978 م.
- صبح الأعشى، للقلقشندي، ط. المؤسسة المصرية العامة، القاهرة 1963 م.
- الصبح المنبي، للبديعي، تحقيق مصطفى السقا وغيره، دار المعارف، القاهرة 1977 م.
- صحيح البخاري، تحقيق محمد ذهني، ط. المكتبة الإسلامية، إستانبول 1979 م.
- صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الحديث، القاهرة 1991 م.
- الصداقة والصديق، للتوحيدي، تحقيق د. إبراهيم الكيلاني، ط. دار الفكر، دمشق 1998 م
- الطالع السعيد، للأدفوي، تحقيق سعد محمد حسن، ط. الدار المصرية، القاهرة 1966 م.
- طبقات الشافعية، للإسنوي، تحقيق د. عبد الله الجبوري، ط. وزارة الأوقاف، بغداد 1390 هـ.(12/528)
- طبقات الشافعية الكبري، للسبكي، تحقيق د. محمود الطناحي وغيره، ط.
دار هجر، الرياض 1992 م.
- العبر في خبر من عبر، للذهبي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. الكويت 1984 م.
- العقد الفريد، لابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين وغيره، ط، لجنة التأليف، القاهرة.
- عقود الجمان، لابن الشعار، (نسخة السليمانية- إستانبول) نشره فؤاد سزكين، ألمانيا 1990 م.
- عيون الأخبار، لابن قتيبة، تحقيق أحمد زكي العدوي، ط. المؤسسة المصرية العامة، القاهرة 1963 م.
- الغيث المسجم، للصفدي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1975 م.
- فصل المقال، للبكري، تحقيق د. إحسان عباس وزميله، ط. الرسالة، بيروت 1971 م.
- الفصوص، لصاعد الأندلسي، تحقيق د. عبد الوهاب التازي سعود، ط.
المغرب 1993 م.
- فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1950 م.
- الفوائد والأخبار، لابن دريد، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 2001 م.
- فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر،(12/529)
بيروت 1973 م.
- القاموس المحيط، للفيروز أبادي، تحقيق نصر الهوريني، ط. الحلبي 1955 م.
- الكامل في التاريخ، لابن الأثير الجزري، ط. دار صادر، بيروت 1979 م.
- كشف الظنون، لحاجي خليفة، تحقيق الكليسي ويالتقايا، مصورة عن طبعة إستانبول.
- اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير الجزري، ط. دار صادر، بيروت 1980 م.
- لسان العرب، لابن منظور، تحقيق عبد الله الكبير وزملائه، ط. دار المعارف، القاهرة 1981 م.
- ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه، للمحبي، نسخة دار الكتب الوطنية بتونس.
- مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، ط. السّنة المحمدية، القاهرة 1955 م.
- محاضرات الأدباء، للراغب الأصبهاني، ط. دار مكتبة الحياة، بيروت.
- المختار من رسائل الصابي، تحقيق الأمير شكيب أرسلان، ط. دار النهضة الحديثة، بيروت.
- المختار من شعر بشار، للتجيبي، تحقيق محمد بدر الدين العلوي، ط. لجنة التأليف، القاهرة 1934 م.(12/530)
- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، تحقيق عدد من المحققين، ط. دار الفكر، دمشق 1984 م.
- المختصر المحتاج إليه، للدّبيتي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1985 م.
- مسالك الأبصار ج 20، للعمري، تحقيق محمد نايف الدليمي، ط. عالم الكتب، بيروت 1999 م.
- المستطرف، للأبشيهي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار صادر، بيروت 1999 م.
- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، للدمياطي، تحقيق محمد مولود خلف، ط.
الرسالة، بيروت.
- المستقصى في أمثال العرب، للزمخشري. ط. دار الكتب العلمية، بيروت- مصورة حيدر أباد، الهند.
- المسند، للإمام أحمد بن حنبل، ط. دار صادر، بيروت- مصورة الطبعة الأولى بالقاهرة.
- مطالع البدور في منازل السّرور، للغزولي، ط. مطبعة إدارة الوطن، القاهرة 1300 هـ.
- معاهد التنصيص، للعباسي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط.
عالم الكتب، بيروت 1970 م.
- معجم الأدباء، لياقوت الحموي، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993 م.
- معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة، لإدّي شير، ط. مكتبة لبنان، بيروت(12/531)
1990 م.
- معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط. دار صادر، بيروت 1977 م.
- معجم الشيوخ، للذهبي، تحقيق د. محمد الحبيب الهيلة، ط. مكتبة الصديق، الطائف 1988 م.
- المعجم المختص، للذهبي، تحقيق د. محمد الحبيب الهيلة، ط، مكتبة الصديق الطائف 1988 م.
- مقامات بديع الزمان الهمذاني، بشرح محمد عبده، ط. الدار المتحدة للنشر، بيروت 1983 م.
- المقصد الأرشد، لابن مفلح، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، ط. مكتبة الرشد، الرياض 1990 م.
- المقفى الكبير، للمقريزي، تحقيق محمد اليعلاوي، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1991 م.
- المنازل والدّيار، لأسامة بن منقذ، تحقيق مصطفى حجازي، ط. دار سعاد الصباح، القاهرة 1992 م.
- المناقب والمثالب، لريحان الخوارزمي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1999 م.
- منتخب من كتاب الشعراء، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق إبراهيم صالح، ط.
دار البشائر دمشق 1994 م.
- المنتخل، للميكالي، تحقيق د. يحيى الجبوري، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 2000 م.(12/532)
- المنتظم، لابن الجوزي، تحقيق عبد القادر عطا وغيره، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1992 م.
- المنتقى من درّة الأسلاك، لمؤلف مجهول، تحقيق عبد الجبار زكار، ط. دار الملاح، دمشق 1999 م.
- منتهى الطلب من أشعار العرب، لابن ميمون، تحقيق د. محمد نبيل طريفي، ط. دار صادر، بيروت 1999 م.
- من غاب عنه المطرب، للثعالبي، تحقيق يونس السامرائي، ط. عالم الكتب، بيروت 1987 م.
- المنهج الأحمد، للعليمي، تحقيق عدد من المحققين، ط. دار صادر، بيروت 1997 م.
- المنهل الصافي، لابن تغري بردي، تحقيق محمد محمد أمين، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1985 م.
- المؤتلف والمختلف، للآمدي، تحقيق عبد الستار فراج، ط. الحلبي، القاهرة 1961 م.
- الموطأ، للإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1985 م.
- نثر الدر، للآبي، تحقيق محمد علي قرنة وغيره، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1980 م.
- النجوم الزّاهرة، لابن تغري بردي، مصورة دار الكتب المصرية.
- النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة، لابن سعيد، تحقيق د. حسين نصار،(12/533)
ط. دار الكتب المصرية، القاهرة 1971 م.
- نزهة الألبّاء، لابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. نهضة مصر، القاهرة 1967 م.
- نزهة الأنام في محاسن الشام، للبدري، ط. السلفية، القاهرة 1341 هـ.
- نزهة الخاطر وبهجة الناظر، للأنصاري، تحقيق عدنان محمد، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1991 م.
- نفح الطيب، للمقري، تحقق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1968 م.
- نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة، تحقيق بيقان، ط. دار الكتاب العربي، بيروت.
- نكت الهميان. للصفدي، تحقيق أحمد زكي. ط. الجمالية، القاهرة 1911 م.
- نهاية الأرب، للنويري، مصورة دار الكتب المصرية والهيئة المصرية العامة.
- الوافي بالوفيات، للصفدي، تحقيق عدد من المحققين، ط. مطابع مختلفة، بإشراف المستشرقين الألمان.
- الوفيات، لابن رافع السلامي، تحقيق عبد الجبار زكار، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1985 م.
- وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1969 م.(12/534)
- يتيمة الدهر، للثعالبي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط. دار الفكر بيروت 1973 م.(12/535)
[الجزء الخامس عشر]
[شعراء العباسيين]
مقدمة التحقيق
- 1- هذا هو السفر الخامس عشر من تلك الموسوعة الكبرى التي صنفّها شهاب الدين، أحمد ابن يحيى بن فضل الله العمري. ومسماها (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، وينتمي هذا الكتاب إلى تلك المرحلة التي اصطلح عليها دارسو الأدب بالمرحلة المتأخرة، وكانت لهم فيها آراء مختلفة وقفت عندها في مقدمة تحقيقي مقدّمة كتاب (الدرّ الفريد وبيت القصيد) لمحمد بن أيدمر المستعصمي، وخلاصة الأمر أنّ هذه المرحلة بحاجة إلى (إعادة قراءة) بحيث تضعها في مكانها الموضوعي الحقّ بعيدا عن النعوت المتسرّعة، والألقاب غير المنهجية.
ويعجب المرء وهو يتابع حياة العمري، ومسرد مؤلفاته كيف تسنّى له أن يرفد المكتبة العربية بهذا النتاج العلمي الغزير في سنيّ حياته القصيرة التي لم تبلغ الخمسين عدّا، فقد ولد سنة 700 للهجرة، وتوفي سنة 749 للهجرة في أصحّ الأقوال، فإذا أضفنا إلى هذا انشغاله بالحياة العامة من حيث عمله مع والده في ديوان الإنشاء بدمشق، واتصاله المباشر بالملك الناصر إذ" صار يقرأ البريد له، وينفذ المهمات" «1» ، أقول إذا تأمّلنا هذا كلّه أدركنا أنّ العمري كان منصرفا بكلّيته إلى التحصيل، والدرس، والتأليف وخصوصا حين يبتعد عن الدنيا وشواغلها، فهذا هو التفسير المنطقي الذي يحلّ تلك الإشكالية: قصر العمر وغزارة التأليف.
وحين نعود إلى تصانيفه نجد أنّ من يترجم له يقدّم مسردا بستة عشر كتابا عدا (مسالك الأبصار) ، وواحد من هذه الكتب يقع بمجلدات هو [فواضل السّمر في فضائل آل عمر] الذي يقع بأربعة مجلدات، وهي تشير بمجموعها إلى حقول معرفية متنوعة عالجتها تلك الكتب مثل الأدب، والتاريخ، والبلدان، وصناعة الإنشاء، وغيرها، ولم يكتف العمري بما بين يديه من تراث عربي ضخم يجول في جنباته بل رنا بعيون قوية إلى ما لدى [الآخر](15/5)
من علم، وفنّ، نجد مصداق هذا في كتابه [مسالك عبّاد الصليب] الذي" وصف فيه ملوك الإفرنج في عصره ... فوصف ممالك فرنسا وألمانيا، وأحوالهما السياسية والاجتماعية، وفعل نحو ذلك في البنادقة والإيطاليين وأهل جنوة، وبين علائقهم بالمسلمين" «1» ، يضاف إلى هذا معرفته الدقيقة بتاريخ المغول، والهند، والأتراك وأحوالهم السياسية والاجتماعية. ونعتقد أن اهتمامه بأحوال ذلك [الآخر] نابع من ظمئه العلمي الذي لا يعرف الحدود، كما أنّ هذا [الآخر] قد أصبح قريبا جدا منه وخصوصا بعد الحروب الصليبية التي استغرقت وقتا طويلا، واجتياح المغول الشرق، وتقويضهم الخلافة العباسية ببغداد، فلم يكن له وهو العالم الثبت، والأديب المتميّز القريب من السلطة، أقول لم يكن له بعد هذا أن يقف بمعزل عن تلك التيارات الفكرية التي كانت تموج بها ديار الإسلام ويشكّل ذلك [الآخر] رافدا بل روافد مهمّة فيها.
- 2- ترجم العمري في هذا السفر لتسعة وأربعين شاعرا، افتتحه بأبي الطيب المتنبي وختمه بابن الهبّارية، وتطول الترجمات، أو تقصر حسب مكانة الشاعر، وتوفّر المادة الشعرية بين يدي المصنّف، وهو يتبع في كتابه منهجا واحدا لا يحيد عنه، إذ يقدّم للشعر المختار بمقدمة من إنشائه يتبعها بالشعر، فإذا كان الشاعر ذا حظّ من النثر أيضا قدّم شيئا من رسائله، أو قطعه النثرية. وقد رصدنا بعض الملاحظات التي انتظمت التراجم جميعها، ويمكن تلخيصها على الهيئة الآتية:-
1- يولي العمري اهتماما ملحوظا بالشعر لا بالشاعر بحيث تطغى المادة الشعرية على السّفر كلّه، ويمكن القول بشيء قليل من الاحتراز إنّ هذا السّفر أقرب إلى كتب [الاختيارات الشعرية] منه إلى كتب التراجم، فهو أقرب إلى المفضليات، والأصمعيات والحماسات منه إلى وفيات الأعيان، ومعجم الأدباء، وفوات الوفيات، وإن خطط له صاحبه ليكون كتاب تراجم، فهو بمحتواه العام لا يؤدي ذلك المعنى بل يقدّم جمهرة واسعة من(15/6)
الشعر على حساب التراجم وشروطها.
2- إنّ هذا الأمر يقودنا إلى الإلماع إلى مصادره التي اعتمد عليها في تحرير ترجماته فمن الممكن القول إنّه اعتمد على الكثير من الدواوين والمجاميع الشعرية، والقليل من المصادر الأخرى ككتب التراجم مثلا فالمادة الشعرية الضخمة التي حواها بين دفتيه هي نتيجة الاتكاء على مكتبة شعرية كبيرة ضمت عشرات الدواوين بحيث مكنّه هذا من الانتقاء، والاختيار، بينما لا تتجاوز مصادره الأخرى ثلاثة كتب ذكرها صراحة هي يتيمة الدهر للثعالبي، وخريدة القصر للعماد الأصفهاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وهو لا ينقل من تلك الكتب- على قلّتها- سوى الشذرة التي تشير، والحسوة التي لا تروي، وهذا معلوم واضح فغايته الشعر فليتخّذ له أهبته، ويهيّئ له أدواته، وقد فعل.
3- يعمد العمري إلى اصطفاء [العيون] من شعر الشاعر على وفق الذوقين الخاص، والعام فكثير ممّا هو ذائع مشهور من الشعر نجده في ثنايا التراجم ممّا يشير إلى مجاراته الذوق العام، أمّا ذوقه الخاص فيتمثّل في إكثاره من شعر الطبيعة، والغزل، والخمر، ولا ينسى الحكمة، غير أنّ أمرا آخر كان ماثلا في ذهنه، وحاضرا في تصوّره وهو يختار، ونعني به جوهر الشعر وهو [الصورة] ، فما أكثر الأبيات، والقطع التي أثبتها وهي تجمل في تضاعيفها استعارة بديعة، أو تشبيها متميزا، أو كناية ذات دلالة، بالإضافة إلى ذلك التلوين الأسلوبي الذي قدّمه بعض الشعر من التفات. أو استفهام. أو أمر، تلك التلاوين التي أغنت مبحث الإنشاء في البلاغة العربية. لقد كان العمري- في الغالب- وفيّا لمتطلبات الفنّ وهو يختار، وكأنّه قد أفاد من سابقيه وفتح الباب عريضا لمن جاء بعده، وحقّق تلك المقولة الرائدة: اختيار الرجل قطعة من عقله، وأحسب أنّه قد نال نصيبا وافرا من العقل ونجاح الاختيار على حدّ سواء.
4- ويبدو أنّ غزارة المادة الشعرية التي تعامل معها العمري في هذا السّفر قد دعته إلى أن ينسب القطعة الواحدة إلى شاعرين، وخصوصا أولئك الشعراء المتعاصرين الذين طرقوا موضوعات متقاربة مثل وصف الطبيعة، أو الغزل، أو الخمريات، فهو يغفل الإشارة أو التنبيه(15/7)
إلى ذلك التنازع، وقد أشير إلى هذا في مواضعه، غير أنّ الغالب على المادة الشعرية هو التوثيق، ونسبة الشعر إلى أصحابه بشكل دقيق.
5- يقدّم العمري بين يدي الترجمة قطعة من إنشائه يكون الشاعر المترجم له محوره، وتخلو تلك القطع في الأغلب من أيّ مادة معرفية من الممكن الإفادة منها في تتّبع مراحل حياة الشاعر، أو تطورّه الفكري والروحي، ولعلّ هذا الأمر يؤكّد ما ذهبنا إليه سابقا من حيث اهتمام المصنّف بالشعر لا بالشاعر، فهو غير معنيّ بتفاصيل حياة الشاعر، وثقافته وشيوخه، وأسفاره، كما عهدنا في كتب التراجم الأخرى، فغاية وكده منصبّة على الإبداع وحده يريد أن يقدّم منه الكثير.
6- يسرف العمري بشكل لافت للنظر في إضفاء نعوت المديح على الشعراء. ويكيل لهم الأوصاف كيلا، ويبالغ كثيرا في حديثه عنهم، فهذا رأس وغيره ذيول، وهذا ذو نظم زاهر، ورقم باهر، والثالث بلغ فهمه مغار الكواكب فهو يساقطها، أمّا الرابع فهو في الصناعتين كما تماثل الوشيان، وكما تقابل في الحسن شيئان، والخامس مثله فقد جلّى فسمّي سابقا، فكان اسمه لمسماه مطابقا، وتستمرّ القطع على هذا المنوال، ولعلّه متأثر بمن سبقه من كتّاب التراجم الأدبية، وخصوصا الثعالبي في اليتمية، فقد نهج هو الأخر هذا النهج، وهو بمجمله يشير إلى ذوق العصر، ويومي إلى ما شاع من أساليب.
7- من الممكن القول من جهة أخرى أنّ تلك المقدّمات، أو القطع الإنشائية هي أشبه بالخلاصات النقدية المكثّفة التي يحاول العمري فيها جاهدا حصر أهمّ الخصائص، والسمات الموضوعية، والفنية التي تميّز بها الشاعر وشعره، ولم نصل إلى هذه النتيجة بغير القراءة المتريّثة لتلك المقدمات. وتأمّل مضامينها، فالقراءة العجلى لن تنتج سوى انطباع أنّها أمشاج من حياة الشاعر بشكل سريع خاطف أفرغ في تصنّع لفظي مقصود، بيد أنّ القراءة الواعية بإمكانها أن تزيل ذلك الغبش الذي ران على الترجمات، وتكشف عن فوائد نقدية ليست بالقليلة.(15/8)
8- وتأسيسا على ما نقّدم نستطيع القول باطمئنان إنّ شخصية العمري الناقدة، وثقافته الواسعة، ونجاحه في الاختيار يظهر جليّا سواء أكان في تلك المقدّمات أم في الشعر المختار، فهو يفيد في تلك المقدمات من التراث النقدي، والأدبي الذي سبقه، وينتقي منه ما يقتنع به ويستصفي لكتابه ما هو لائق به ليصبّه أخيرا بأسلوبه الخاص، ومنهجه الذي ارتضاه لنفسه.
9- وممّا يتعلّق بالنقطة السابقة، أي موقفه النقدي من الشعراء، ما رأيناه من فصله الحاسم بين حياة الشاعر، وما ورد في شعره من خروج على التقاليد، وبين حكمه النقدي عليه، فهو يبدو غير متأثّر البتّة بالأحكام الأخلاقية التي تزن الشاعر وشعره بميزان الحرص على القيم السائدة، وترك الخروج عليها فله على سبيل المثال رأي حسن في ابن الحجّاج، وابن منير الطرابلسي مع أنّ إبداعهما مليء بما يخدش الثابت والقارّ، وكأنّه بذلك يرسخ ذلك الاتجاه القديم الجديد في النقد العربي من الدعوة إلى فصل الشعر عن الأخلاق، والنظر إليه بمعايير الفنّ وحده، وهو الاتجاه الذي نظّر له تنظيرا هامّا الناقد قدامة بن جعفر في كتابه [نقد الشعر] .
وظلّت الجمهرة من النقّاد العرب وفيّة له على مرّ عصور النقد العربي، وجاء العمري بأخرة ليدعمه من خلال الرأي، والاختيار لكليهما.
10- ومن الضروري أن نشير هنا إلى ما يظهر جليّا في تلك المقدمات من اصطناع صاحبها فيها لأساليب الصنعة اللفظية، وأفانين الزخرفة اللغوية بحيث تكاد تكون هي الصوت المنفرد العالي فيها، إذ يعمد بشكل مقصود إلى توظيف الجناس، والطباق والسجع، والتضمين حتى ليكاد القارئ يشعر أنّ القطعة ترزح تحت وطأة حمل كبير وترسف بأغلال ثقيلة تمنعها من التحرك والانطلاق، ولعلّ هذا قد جاء منسجما مع أسلوب الكتابة السائد في عصره من جهة، وهو يتناغم مع ما استقرّ عليه في الكتابة الديوانية التي صار جزءا أصيلا فيها من جهة أخرى.
هذه هي الصورة العامة لهذا السفر، وهو يتضافر مع أسفار الكتاب الأخرى مقدّما جهدا علميا نادرا، وصبرا على التصنيف قلّ نظيره.(15/9)
- 3-
كان الاعتماد في تحقيق هذا السّفر على النسخة المخطوطة المحفوظة في أيا صوفيا، مكتبة السليمانية، ورقمها [3428] ، إستانبول، ويبدو أنّها بخطّ المؤلف على حدّ قول الأستاذ فؤاد سزكين الذي قام من خلال معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت بنشر [مسالك الأبصار] بأجزائه التي بلغت سبعة وعشرين جزءا «1» ، أو سفرا على حدّ التقسيم المأخوذ به فقدّم بذلك النشر خدمة كبيرة للتراث العربي، هو ما ليس غريبا على عمل ذلك المعهد، غير أنّ في نشر [مسالك الأبصار] خصوصية ما بسبب ضخامة الكتاب من جهة، وتفرّق أسفاره في مكتبات متباعدة من جهة أخرى، فجاء هذا النشر ليضع الكتاب كلّه في حيّز واحد ممّا يسهل قراءته، والانتفاع به، أو تحقيقه وهو ما اضطلع به المجمّع الثقافي.
تقع هذه النسخة ب [541] صفحة، وهي مكتوبة بخطّ معتاد، وفي الصفحة سبعة عشر سطرا، وفي السطر ثلاث عشرة كلمة، وهذا كلّه على وجه التقريب، فقد تزيد الأسطر أو تنقص وكذلك الكلمات وخصوصا في الشعر.
والنسخة على العموم واضحة تخلو من الطمس إلّا في مواضع قليلة أمكن تدارك بعضها، وبقي الآخر بياضا، وقد أشير إلى ذلك في مواضعه، كما يغفل الناسخ كثيرا إعجام الحروف ممّا يولّد صعوبات في قراءة الكلمات. وقد تمّ التغلّب على هذه الصعوبات بالعودة(15/10)
إلى الدواوين، وبشيء من الصّبر والخبرة في قراءة المخطوط العربي.
ومن الممكن تلخيص عملي في تحقيق هذا السفر بما يأتي:
1- تقديم قراءة سليمة لنصّ السّفر كما أراده صاحبه، والحفاظ على منهجه، وترتيبه فيه.
وقد استغرقت القراءة، والنسخ بعدها وقتا طويلا بسبب ضخامة هذا السفر، وترك الإعجام في بعض المواضع، والطمس في مواضع أخرى، وقد أشرت إلى ذلك في وصف المخطوطة.
2- تقديم تراجم مختصرة للشعراء الذين توقّف عندهم العمري، وقد حرصت أن تكون تلك التراجم موجزة ومفيدة، تبيّن مكانة الشاعر، ومنزلته الشعرية مع إحالات إلى مصادر دراسته.
3- توثيق ما ينقله العمري من المصادر المتقدّمة كيتيمة الدهر، ووفيات الأعيان وغيرها. وكم بدا العمري أمينا وهو ينقل عن السابقين وهو ممّا يحسب له بالإضافة إلى أياديه البيضاء الأخرى.
4- تخريج الشعر والنثر، وهو عمود هذا العمل وأساسه، وخصوصا بعد ما رأيناه سابقا من التنويه إلى أنّ هذا السّفر أقرب إلى كتب الاختيارات الشعرية منه إلى كتب التراجم، ولذلك فقد حرصت على تخريج الشعر [كلّه] ذلك الذي ساقه المؤلف بعد مقدّماته النثرية، وهو كثير العدد، متباعد الجوانب، ثقيل المؤونة، ولذلك عمدت إلى دواوين الشعراء، وما جمع لهم من شعر فخرّجت منها. معتمدا على الطبقات المحقّقة تحقيقا علميا، ومن ليس له ديوان أو مجموع شعري فقد خرّجت شعره من المصادر المعتمدة، وبقي القليل من الشعر ذلك الذي أخلّت به الدواوين أو المجاميع، أو لم يرد في المصادر المعتمدة. وها هنا نقطة أرجأت الحديث عنها سابقا لأننّي رأيت أنّ موضعها المناسب مع الحديث عن تخريج الشعر.
وتتلخّص هذه النقطة في أنّ كثيرا من الشعر الذي يسوقه المصنّف في ثنايا التراجم(15/11)
[جديد] ، بمعنى أنّ الدواوين، والمجاميع الشعرية لم تعرفه، فهو بهذا المعنى يضيف ثروة جديدة إلى تراث الشعراء، ويجعلنا نعيد النّظر في الجمهرة من الأحكام عليهم بعد توفّر هذه المادة الشعرية الجديدة، وقد بينّت هذا الموضوع بجلاء في مقدّمه تحقيقي كتاب [الدرّ الفريد وبيت القصيد] من أنّ من حسنات هذه الكتب [المتأخرة] أنّها حفظت زادا ثمينا أخلّت به الكتب السابقة، أو فقدت تلك الكتب التي حفظت هذه المادة، وجاء هذا الكتاب [المتأخر] أو ذاك فقدّمها لنا محافظا عليها، أمينا على محتواها، وهي نقطة جديرة بالتوقّف، خليقة بالاهتمام. ويقال الشيء نفسه عن القطع النثرية التي ساقها المصنّف للشعراء الذين كانت لهم مشاركات نثرية، فقد خرّجت هذه القطع من مجموعات رسائلهم، أو من المصادر المعتمدة. والكتاب بصورته النهائية يقدّم فائدتين جليلتين تتمثّل الأولى في الحفاظ على ما هو موجود، وتتجلّى الثانية في رفد القارئ الحديث بمادّة إبداعية جديدة لم يواجهها من قبل، وحسب العمري ما أدّاه في هاتين الفائدتين.
ويتقدّم المحقّق في نهاية هذه المقدمة بوافر شكره للمجمّع الثقافي في أبو ظبي لنهوضه بتحقيق ونشر هذا المشروع العلمي الضخم، وكم للمجمّع من أياد على الثقافة العربية الجادة الرصينة، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ
[الرعد، 16] صدق الله العظيم.
وأحسب أنّ ما يقوم به المجمّع الثقافي ماكث في الأرض بحوله تعالى، ينفع الناس وينشر بينهم المعرفة، فله التقدير المخلص، والثناء الرّطب.
د. وليد محمود خالص
جامعة السلطان قابوس
كلية الآداب والعلوم الاجتماعية(15/12)
صفحة المحتويات(15/13)
الصفحة الأولى من المخطوط(15/14)
الصفحة الثانية من المخطوط(15/15)
والحمد لله وحده وصلوته علي سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل الصفحة الأخيرة من المخطوط(15/16)
1- أبو الطيّب أحمد بن الحسين الجعفي المعروف بالمتنبي «1»
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلّا بالله، ومنهم: حكيم الشعراء، وشاعر الحكماء، تكلّم على ألسنة الناس، وعاصر الشعراء فكانوا الذنابى وكان الراس، وافق قول أرسطاطاليس ليس، ووافى بأمثال تلك النواميس، وأثار دفائن تلك النواويس، وثار بما لا ينهض به تلك الأباليس، وأتى بديباج كأنّه أجنحة الطواويس، وتخييل كأنّه لعب الأماني بالمفاليس، وخرّج له الحاتمي «2» حين عاد عليه بوجه الإقبال، وكفّ عن مؤاخذاته رشق النبال جملة أبيات توارد هو وأرسطو على معناها، وتبادر هو وإيّاه إلى مجناها، وأراد أن يتّخذ بيوتا إلّا أنّ أرسطو ما بناها، والمتنبي بناها، فإن كان قد وقف منها على ما قاله أرسطو فقد أخذه تربا ثم أعاده تبرا «3» يدخر منه سبائك ذهب، وقطرا ثم علّق منه قرطا للؤلؤه جائل حبب، وإن كان ما وقف عليه فهو مفتّق نوره، ومفتّح ثمره، ومدفّق نهره، ومفترع عذاراه، ومفرّع دوحه بما يتلفت إليه على خدّ المليح عذاراه فيكون له بهذا الفضل الأكبر، ويكون هو الأصل الذي جلب الجوهر، أو ما هو به أخبر، لأنّه مخرج خبيّه، ومحوج أمّة الشعراء إلى الإيمان بنبيّه، وعلى هذه السجعة أقول إنّه تنبّأ(15/17)
بالبادية، ونبا بإفراط ألمعيته وميض مخايله البادية ثم تاب، وبات لا يجد مسلكا إليه العتاب، وقد كان تبعه من بني كلب أهل بادية السماوة قوم أميّون لا يعلمون ما علم الكتاب وخدعه ضلال، ثم زال بحسن المآب، ونام لا يخشى أن يدخل هذا الباطل على 3/سمعه/ من طاقة، ولا على جفنه من باب، ولا يتهافت على ناره تهافت الفراش، ولا يقع على دناياه وقوع الذباب، وكان شمس سماء، وبدر مساء، ومبسم صباح، وموسم صباح، ونبعه زلال، وطلعه هلال، ومركز عوال، ومركب أهوال، ومكتّب خدود بدم لا بغوال ومصوّب أسنّة تمدّ لقبض أرواح لا نوال، وقارع بيض ببيض، وقارن خيل بخيل لها فى كلّ شارقة وميض، وقاري كلّ ذيب ونسر في كلّ أوج وحفيض، وقارض أعمار بظباة سيوف لا قريض، وهذا هو الذي قتله، وإنّما عجّل عليه قول قاله غلامه ليته لا قبله، وهو قوله: [البسيط]
والخيل والليل والبيداء تشهد لي ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم
وجال البلاد جول القداح، وجاب الآفاق جوب السحاب تقذفه الرياح، وتنقّل بين ملوكها تنقّل الظلّ وتوقّل في غاب مهالكها توقّل الأسد المدلّ حتى كان عندهم أحظى من الغنى وأحفى بالآمال من المنى، وتنافست الملوك على قربه، وعلى انتضاء سيفه المشرفيّ من قربه، واختصّ بسيف الدولة ابن حمدان، ثمّ كان يتجنّى عليه والذنب ذنبه، ويتمنى البعد عنه ولا يعجبه إلّا قربه [] «1» ، وله مع كافور الاخشيدي ما كان الأليق به غيره في حكم الموافاة، والأجدر به الجميل لو عرفه أو كافاه، ثم اتصل بخدمة عضد الدولة بن بويه ومدحه فأثابه ما أوقر إبله ذهبا، وأوقد مصباحه لهى لا لهبا، ثم كانت هي آخر سفرته، وشدّ ركائبه إلى مقيل حضرته، وكان واسع الرواية، مطّلعا على اللغة إلى غاية، وقد حكي عن أبي علي الفارسي لمّا سأله تلك الحكاية وجده لا يقارب 4/ولا يساوى، ولا يقاوم ولا يقاوى/ ولا تترشفه المسامع إلّا عادت القلوب نشاوى، ولا تغاير به الكواكب إلّا ترامت(15/18)
ساقطة تتهاوى وكان كثير الولوع بديوان أبي تمام حبيب بن أوس، والنزوع منه لسهام لا ترمى بها حنيّة قوس، ثمّ كان ولع أبي العلاء المعري به مثل ولعه بأبي تمام لا يسأم طرفه الطارق له من إلمام.
حكى ابن خلكان «1» أنّ المعري لما فرغ من تصنيف كتابه اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي، وقرئ عليه أخذ الجماعة في وصفه، فقال: كأنّما نظر المتنبي إليّ بلحظ الغيب حيث يقول: [البسيط]
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
وقد ذكره الثعالبي في اليتيمة «2» فقال: هو وإن كان كوفيّ المولد شامي المنشأ، وبها تخرّج، وفيها خرج. نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع من قدره، ونفّق من شعره فألقى عليه شعاع سعادته حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت [الليالي] «3» تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
[الطويل]
وما الدهر إلّا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمّرا ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا
وكما قال: [المتقارب]
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرّد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
5/إذا سرن من مقولي مرّة ... وثبن الجبال. وخضن البحارا(15/19)
ثمّ قال، أعني الثعالبي «1» : وليس اليوم مجالس الدرس أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس، ولا أقلام كتّاب الرسائل أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألّفت الكتب في تفسيره، وحلّ مشكله وعويصه، وكسرت الدفاتر على ذكر جيّده وردّيه، وتكلّم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه «2» ، وتفرّقوا فرقا في مدحه، وذمّه، والقدح فيه والنصح عنه، والتعصّب له وعليه، وذلك أدلّ الدلائل على وفور فضله، وتقدّم قدمه، وتفرّده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي، ورقّ المعاني، والكامل من عدّت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته، وما زالت الأملاك تهجى وتمدح. وانتهى كلام الثعالبي.
ولعمري لقد أوردها مشتملا، وذاد لها مرعى خضلا، واستصحب الحال في إعجاب الناس به من ذلك الزمان وهلم جرا وإلى الآن حتى بلغت شروحه أربعين شرحا، فمن بين بان له صرحا، وبين مبالغ فيه جرحا، وإنّه لمنقطع القرين، وليث في عرين، ولولا خشية مستدرك لا يدري ما ضمير الشأن «3» لأضربنا عن انتقاء شعره في هذا الديوان اكتفاء بشهرته في الأذهان، وعملا على أنّه الشمس لا تخفى بكلّ مكان، وإذا كان لا بدّ من الذّكر فمن مخترعه البكر، وأبياتها التي ليس لأحد عليها حكر، قوله في الحكم والآداب والمواعظ:
[الكامل]
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أوّل وهي المحلّ الثاني «4»
6/فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة ... بلغت من العلياء كلّ مكان
ولربّما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران(15/20)
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
ولما تفاضلت النفوس ودبّرت ... أيدي الكماة عوالي المرّان «1»
وقوله: [الكامل]
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم «2»
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولي وعاف يندم
لا يخد عنّك من عدوّ دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدّم
والظّلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
ومن البليّة عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم «3»
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصّداقة ما يضرّ ويؤلم
وقوله: [الطويل]
يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب «4»
كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشها مثل ذاهب
إليك فإنّي لست ممّن إذا اتّقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب(15/21)
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي يغني كرام المناسب «1»
وقوله: [الوافر]
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم «2»
7/فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم «3»
وكلّ شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم «4»
وقوله: [الطويل]
وما منزل اللّذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجّل عنده وأكرّم «5»
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم
وعادى محبّيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشّك مظلم
أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلّم
وأحلم عن خلّي وأعلم أنّه ... متى أجزه حلما على الجهل يندم
وما كلّ هاو للجميل بفاعل ... ولا كلّ فعّال له بمتمّم
وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كفّ منعم(15/22)
وأشرفهم من كان أشرف همّة ... وأكبر إقداما على كلّ معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مسآة مجرم «1»
وقوله: [الطويل]
وأتعب خلق الله من زاد همّه ... وقصّر عمّا تشتهي النفس وجده «2»
فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده
وقوله: [البسيط]
لا تلق دهرك إلّا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن «3»
فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يردّ عليك الفائت الحزن «4»
8/ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهي السّفن
وقوله: [الوافر]
فلا تغررك ألسنة موال ... تقلبّهنّ أفئدة أعادي «5»(15/23)
فإنّ الجرح ينخر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد
وإنّ الماء يجري من جماد ... وإنّ النار تخرج من رماد «1»
وقوله: [الطويل]
وإنّي لنجم يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النجوم سحاب «2»
غنيّ عن الأوطان لا تستخفّني ... إلى بلد سافرت عنه إياب «3»
وأصدى ولا أبدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب «4»
وللسّر منّي موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
وما العشق إلّا غرّة وطماعة ... يعرّض قلب نفسه فتصاب
وغير فؤادي للغواني رمّية ... وغير بناني للزجاج ركاب «5»
تركنا لأطراف القنا كلّ شهوة ... فليس لنا إلّا بهنّ لعاب
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وقوله: [المنسرح]
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل «6»(15/24)
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
أبلغ ما يطلب النجاح به الطّب ... ع وعند التعمّق الزلل
وقوله: [الطويل]
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر «1»
9/وإنّي رأيت الضرّ أحسن منظرا ... وأهون من مرأى صغير به كبر
وقوله: [البسيط]
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وإهوانا «2»
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إنّ النفيس غريب حيثما كانا
محسّد الفضل مكذوب على أثري ... ألقى الكميّ ويلقاني إذا حانا
لا أشرئبّ إلى ما لم يفت طمعا ... ولا أبيت على ما فات حسرانا
ولا أسرّ بما غيري الحميد به ... ولو حملت إليّ الدرّ ملآنا «3»(15/25)
وقوله: [الخفيف]
كلّ حلم أتى بغير اقتدار ... حجّة لا جئ إليها اللئام «1»
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميّت إيلام
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضوى به الأجسام
وقوله: [الطويل]
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا «2»
وللنفس اخلاق تدلّ على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
وقوله: [الطويل]
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا «3»
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيّده الضرغام فيما تصيّدا «4»(15/26)
وقوله: [الطويل]
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق «1»
10/وجائزة دعوى المحبّة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
وما يوجع الحرمان من كفّ حارم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق
وقوله: [الطويل]
وما الخيل إلّا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب «2»
إذا لم يشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب «3»
وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
وقوله: [الخفيف]
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا «4»
من أطاق التماس شئ غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
كلّ غاد لحاجة يتمنّى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا «5»(15/27)
وقوله: [المتقارب]
وكلّ طريق أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطا «1»
ومن جهلت نفسه قدره ... يرى غيره منه ما لا يرى «2»
وقوله: [الطويل]
ذريني أنل ما لا ينال من العلى ... فصعب العلى للصعب والسهل للسهل «3»
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بدّ دون الشهد من إبر النّحل
وقوله: [البسيط]
لولا المشقّة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال «4»
وإنّما يبلغ الانسان طاقته ... ما كلّ ماشية بالرّجل شملال «5»
إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
11/ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال «6»(15/28)
وقوله: [الكامل]
أنف الكريم من الدنيّة تارك ... في عينه العدّ الكثير قليلا «1»
والعار مضّاض وليس بخائف ... من حتفه من خاف ممّا قيلا
وقوله: [الوافر]
وفي الأحباب مختصّ بوجد ... وآخر يدّعي معه اشتراكا «2»
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممّن تباكى
وقوله: [المنسرح]
يجني الغنى للّئام لو عقلوا ... ما ليس يجنى عليهم العدم «3»
(هـ) م لأموالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح ملتئم «4»(15/29)
وقوله: [الخفيف]
والغنى في يد اللئيم قبيح ... مثل قبح الكريم في الإملاق «1»
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أنّ الحمام مرّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون قبل الفراق «2»
وقوله: [الخفيف]
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوى في الفؤاد «3»
وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلّم تقادم الميلاد «4»
وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطّيش في صدور الصعاد «5»
وقوله: [الكامل]
إنّي لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فتشجع «6»(15/30)
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع
12/ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
وقوله: [الكامل]
نبكي على الدنيا وما من معشر ... جمعتهم الدنيا فلم يتفرّقوا «1»
أين الأكاسرة الجبابرة الألى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحد ضيّق
والموت آت والنفوس نفائس ... والمستغرّ بما لديه الأحمق
وقوله: أبيات مفردة منتزعة من قصائده تليق بهذا الموضع، منها: [المتقارب]
تفانى الرجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل «2»
ومنها: [الخفيف]
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام «3»(15/31)
ومنها: [الوافر]
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول «1»
ومنها: [الطويل]
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد «2»
ومنها: [الوافر]
وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل «3»
ومنها: [الطويل]
وكلّ أنابيب القنا مدد له ... وما تنكت الفرسان إلّا العوامل «4»
وفي شكوى الزمان وأهله والفخر، قوله: [الطويل](15/32)
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا «1»
تمنّيتها لما تمنّيت أن ترى ... صديقا فأعيا أو عدوّا مداجيا
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّة ... فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا
13/ولا تستطيلنّ الرماح لغارة ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا «2»
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقى حتى تكون ضواريا
حببتك قلبي قبل حبّك من نأى ... وقد كان غدّارا فكن لي موافيا «3»
وأعلم أنّ البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
أقلّ اشتياقا أيّها القلب ربّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا
وقوله: [الطويل]
أطاعن خيلا من فوارسها الدّهر ... وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر «4»
وأشجع منّي كلّ يوم سلامتي ... وما ثبتت إلّا وفي نفسها أمر
تمرّست بالآفات حتى تركتها ... تقول: أمات الموت أم ذعر الذّعر
وأقدمت إقدام الأتيّ كأنّ لي ... سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر «5»
ذر النّفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر «6»(15/33)
ولا تحسبنّ المجد زقّا وقينة ... فما المجد إلّا السيف والفتكة البكر «1»
وقوله: [الوافر]
فؤاد ما تسلّيه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام «2»
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث جسام «3»
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام
أرانب غير أنّهم ملوك ... مفتّحة عيونهم نيام
خليلك أنت لا من قلت خلّي ... وإن كثر التّجمّل والكلام
ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنّب عنق صيقله الحسام
14/وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام
ولو لم يعل إلّا ذو محلّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام «4»
وقوله: [الكامل]
كيف الرّجاء من الخطوب تخلّصا ... من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا «5»
ونصبنني غرض الرّماة تصيبني ... محن أحد من السيوف مضاربا
أظمتني الدّنيا فلمّا جئتها ... مستسقيا مطرت عليّ مصائبا(15/34)
وقوله: [الوافر]
أرى المتشاعرين غروا بذمّي ... ومن ذا يحمد الدّاء العضالا «1»
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزلالا
وقوله: [الطويل]
ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا «2»
ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا
أرى كلّنا يبغي الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبّا «3»
فحبّ الجبان النّفس أورده البقا ... وحبّ الشجاع الحرب أورده الحربا «4»
ويختلف الرّزقان والفعل واحد ... إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا
وقوله: [الوافر]
أعزمي طال هذا الليل فانظر ... أفيك الصبح يفرق أن يؤوبا «5»
15/كأنّ الفجر حبّ مستزار ... يراعي من دجنّته رقيبا(15/35)
كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا «1»
كأنّ الجوّ قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا
أقلّب فيه أجفاني كأنّي ... أعدّ بها على الدّهر الذنوبا
وما ليل بأطول من نهار ... يظلّ بلحظ حسّادي مشوبا
وما موت بأبغض من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا
عرفت نوائب الحدثان حتّى ... لو [انتسبت] لكنت لها نسيبا»
وقوله: [الطويل]
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم «3»
وإن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الرّدى الجاري عليهم بآثم
إذا صلت لم أترك مصالا لصائل ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
وقوله: [البسيط]
غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا «4»
أهل الحفيظة إلّا أن تجرّبهم ... وفي التجارب بعد الغيّ ما يزع(15/36)
ليس الجمال بوجه صحّ مارنه ... أنف العزيز بقطع العزّ ينجدع «1»
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع
والمشرفيّة لا زالت مشرّفة ... دواء كلّ كريم أو هي الوجع
16/لقد أباحك غشّا في معاملة ... من كنت منه بغير الصّدق تنتفع
وقوله: [الطويل]
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدّوا له ما من صداقته بدّ «2»
تلجّ دموعي بالجفون كأنّما ... جفوني لعيني كلّ باكية خدّ
وإنّي لتغنيني من الماء نغبة ... وأصبر عنه مثلما تصبر الرّبد «3»
وقوله: [الطويل]
ألحّ عليّ السقم حتى ألفته ... وملّ طبيبي جانبي والعوائد «4»
أهمّ بشيء والليالي كأنّها ... تطاردني عن كونه وأطارد
وحيد من الخلّان في كلّ بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
وأورد نفسي والمهنّد في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد(15/37)
ولكن إذا لم يحمل القلب كفّه ... على حاله لم يحمل الكفّ ساعد
وقوله: [الطويل]
أعادي على ما يوجب الحبّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيّ تجول «1»
سوى وجع الحسّاد داو فإنّه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول
ولا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتنيل
وإنّا لنلقى الحادثات بأنفس ... كثير الرزايا عندهنّ قليل
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
وقوله: [الطويل]
وأسرع مفعول فعلت تغيّرا ... تكلّف شيء في طباعك ضدّه «2»
17/وفي النّاس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكنّ قلبا بين جنبيّ ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحدّه
وإنّي إذا باشرت أمرا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشدّه
وقوله: [الطويل]
أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... صديقا تنآئى أو حبيبا تقرّب «3»(15/38)
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب
وبي ما يذود الشعر عنّي أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب «1»
وقوله: [البسيط]
بم التعلّل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن «2»
أريد من زمني ذا أن يبلّغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
ممّا أضرّ بأهل العشق أنّهم ... هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم ... في إثر كلّ قبيح وجهه حسن
وقوله: [الطويل]
ولو أنّ ما بي من حبيب مقنّع ... عذرت ولكن من حبيب معمّم «3»
رمى واتّقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفّي وقوسي وأسهمي
وقوله: [الخفيف](15/39)
صحب النّاس قبلنا ذا الزّمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا «1»
وتوفّوا بغصّة كلّهم من ... هـ وإن سرّ بعضهم أحيانا «2»
18/ربّما تحسن الصّنيع ليالي ... هـ ولكن تكدّر الإحسانا
وكأنّا لم يرض فينا بريب ال ... دّهر حتى أعانه من أعانا
كلّما أنبت الزمان قناة ... ركّب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن ... تتعادى فيه وأن تتفانى
غير أنّ الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا
ولو انّ الحياة تبقى لحيّ ... لعددنا أضلّنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تكون جبانا «3»
وقوله: [الوافر]
ولمّا صار حبّ الناس خبّا ... جزيت عن ابتسام بابتسام «4»
وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام
وآنف من أخي لأبي وأمّي ... إذا ما لم أجده من الكرام(15/40)
أرى الأجداد تغلبها كثيرا ... على الأولاد أخلاق اللئام «1»
ولم أر في عيوب النّاسى شيئا ... كنقص القادرين على التمام
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخبّ بي الركاب ولا أمامي «2»
وملّني الفراش وكان جنبي ... يملّ لقاءه في كلّ عام
قليل عائدي سقم فؤادي ... كثير حاسدي صعب مرامي
منها يذكر الحمّى «3» :
وزائرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظلام
بذّلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
19/يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصّدق شرّ ... إذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدّهر عندي كلّ بنت ... فكيف وصلت أنت من الزحام
جرحت مجرّحا لم يبق فيه ... مكان للسيوف ولا السهام
يقول لي الطّبيب أكلت شيئا ... وداؤك في شرابك والطعام
وما في ظنّه أنّي جواد ... أضرّ بجسمه طول الجمام «4»(15/41)
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أجمم فما جمّ اعتزامي «1»
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
تمتّع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمن كرى تحت الرّجام «2»
فإنّ لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
وقوله: [الوافر]
وما أدري أذا داء حديث ... أصاب النّاس أم داء قديم «3»
إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم «4»
وقوله: [الوافر]
إذا ما الناس جرّبهم لبيب ... فإنّي قد أكلتهم وذاقا «5»
فلم أر ودّهم إلّا خداعا ... ولم أر دينهم إلّا نفاقا
وقوله: [البسيط]
لم يترك الدّهر من قلبي ولا كبدي ... شيئا تتيّمه عين ولا جيد «6»(15/42)
20/يا ساقييّ أخمر في كؤوسكما ... أم في كؤوسكما همّ وتسهيد
أصخرة أنا مالي لا تغيّرني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد «1»
إذا أردت كميت اللّون صافية ... وجدتها وحبيب النّفس مفقود «2»
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أنّي بما أنا باك منه محسود
وقوله: [البسيط]
توهّم القوم أنّ العجز قرّبنا ... وفي التقرّب ما يدعو إلى التّهم «3»
ولم تزل قلّة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
هوّن على بصر ما شقّ منظره ... فإنّما يقظات العين كالحلم
ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم «4»
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ... وأعوز الصدق في الأخبار والقسم
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم
وقوله: [الطويل](15/43)
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدّ «1»
وليس حياء الوجه في الذئب شيمة ... ولكنّه من شيمة الأسد الورد
إذا لم تجزهم دار قوم مودّة ... أجاز القنا والخوف خير من الودّ
وقوله: [البسيط]
ليس التعلّل بالآمال من إربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي «2»
ولا أظنّ بنات الدهر تتركني ... حتى تسدّ عليها طرقها هممي
21/لأتركنّ وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
ردي حياض الردى يا نفس واتّركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت ابن أمّ المجد والكرم
أيملك الملك والأسياف ظامئة ... والطير جائعة لحم على وضم «3»
من لو رآني ماء مات من ظمأ ... ولو مثلث له في النوم لم ينم
وقوله: [البسيط]
أذاقني زمني بلوى شرقت بها ... لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا «4»(15/44)
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهريّ أخا والمشرفيّ أبا
بكلّ أشعث يلقى الموت مبتسما ... حتى كأنّ له في قتله إربا
الموت أعذر لي والصبر أجمل بي ... والبرّ أوسع والدنيا لمن غلبا
وقوله: [الكامل]
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنّني الجوزاء «1»
وإذا خفيت عن الغبيّ فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء
[وقوله] «2» : [الطويل]
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل «3»
وما التيه طبّي فيهم غير أنّه ... بغيض إليّ الجاهل المتعاقل «4»
وقوله: [المنسرح]
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنّت للموت نفس معترف «5»
لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدرّ ساكن الصدف(15/45)
وقوله: [المنسرح]
إنّي وإن لمت حاسديّ فما ... أنكر أنّي عقوبة لهم «1»
22/وكيف لا يحسد امرؤ علم ... له على كلّ هامة قدم
كفاني الذمّ أنني رجل ... أكرم مال ملكته الكرم
وقوله: [الخفيف]
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي «2»
أنا ترب العلى وربّ القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
وقوله: [الكامل]
أنكرت طارقة الليالي مرة ... ثمّ اعترفت بها فصارت ديدنا «3»
وفي النسيب قوله: [الطويل]
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق «4»(15/46)
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسّروا في المفارق «1»
وليلا توسّدنا الثويّة تحته ... كأنّ ثراها عنبر في المرافق
بلاد إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقّبنه للمخانق
سقتني بها القطر بّليّ مليحة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق «2»
سهاد لأجفان وشمس لناظر ... وسقم لأبدان ومسك لناشق
وقوله: [البسيط]
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا «3»
والوجد يقوى كما يقوى النوى أبدا ... والصّبر ينحل في جسمي كما نحلا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وقوله: [الكامل]
إن كان أغناها السلوّ فإنّني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما «4»
غصني على نقوي فلاة نابت ... شمس النهار تقلّ ليلا مظلما
23/وقوله: [البسيط]
أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني ... وفرّق الهجر بين الجفن والوسن «5»(15/47)
روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن «1»
كفى بجسمي نحولا أنّني رجل ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني
وقوله: [الطويل]
حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ... فلم أدر أيّ الظاعنين أشيّع «2»
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس ... تسيل من الآماق والسقم أدمع
ولو حمّلت صمّ الجبال الذي بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدّع
حشاي على جمر ذكيّ من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع
فيا ليلة ما كان أطول بتّها ... وسمّ الأفاعي عذب ما أتجرّع «3»
تذلّل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشق من لا يذلّ ويخضع
وقوله: [الكامل]
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل «4»
إنعم ولذّ فللأمور أواخر ... أبدا إذا كانت لهنّ أوائل
ما دمت من أرب الحسان فإنّما ... روق الشباب عليك ظلّ زائل
للهو آونة تمرّ كأنّها ... قبل تزوّدها حبيب راحل
وقوله: [البسيط](15/48)
حاش الرقيب فخانته ضمائره ... وغيّض الدمع فانهلّت بوادره «1»
وكاتم الحبّ يوم البين منهتك ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
أعارني سقم جفنيه وحمّلني ... من الهوى ثقل ما تحوي مآزره «2»
24/من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأنّ أول يوم الحشر آخره
وقوله: [الطويل]
فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري ... نذير إلى من ظنّ أنّ الهوى سهل «3»
وما هي إلّا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كلّ شغل بها شغل
ومن جسدي لم يترك السقم شعرة ... فما فوقها إلّا وفيها له فعل
كأنّ رقيبا منك سدّ مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأنّ سهاد الليل يعشق مقلتي ... فبينهما في كلّ هجر لنا وصل
وقوله: [الكامل]
إنّ التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أنّ دمي الذي تتقلّد «4»
قالت وقد رأت اصفراري: من به ... وتنهدت فاجبتها المتنهّد(15/49)
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها ... لوني كما صبغ اللجين العسجد
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى ... متأوّدا غصن به يتأوّد
أبلت مودّتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيّد
وقوله: [الطويل]
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفيّ برود وهو في كبدي جمر «1»
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي ... فقلن: نرى شمسا وما طلع الفجر
رأين التي للسّحر في لحظاتها ... سيوف ظباها من دمي أبدا حمر
تناهى سكون الحبّ في حركاتها ... فليس لراء وجهها لم يمت عذر «2»
25/وقوله: [الطويل]
نرى عظما بالصدّ والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم «3»
ومن لبّه مع غيره كيف حاله ... ومن سرّه في جفنه كيف يكتم
ولمّا التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
فلم أرّ بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم
بفرع يعيد الليل والصبح نيّر ... ووجه يعيد الصبح والليل مظلم
وقوله: [البسيط]
ما الشوق مقتنعا منّي بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلب ولا جسد «4»(15/50)
وكلّما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأنّ ما سال من جفنيّ من جلدي
وقوله: [الوافر]
أيدري الربع أيّ دم أراقا ... وأيّ قلوب هذا الركب شاقا «1»
لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى
فليت هوى الأحبّة كان عدلا ... فحمّل كلّ قلب ما أطاقا
نظرت إليهم والعين شكرى ... فصارت كلّها للدمع ماقا «2»
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السّقم المحاقا
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله: [الوافر]
تولّوا بغتة فكأنّ بينا ... تهيبّني ففاجأني اغتيالا «3»
فكان مسير عيسهم ذميلا ... وسير الدمع إثرهم انهمالا «4»
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
26/لبسن الوشي لا متجمّلات ... ولكن كي يصنّ به الجمالا
وضفّرن الغدائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشّعر الضلالا(15/51)
وقوله: [الطويل]
أيا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم «1»
ولكننّي ممّا شدهت متيّم ... كسال وقلبي بائح مثل كاتم
وقفنا كأنا كلّ وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم «2»
ودسنا بأخفاف المطيّ ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
ديار اللواتي دارهنّ عزيزة ... بطول القنا.. حفّظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسّ في أجسادهنّ النواعم
ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التراقي وشحّت بالمباسم
وقوله: [الكامل]
في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا «3»
يا نظرة نفت الرقاد وغادرت ... في حدّ قلبي ما حييت فلولا
كانت من الكحلاء سؤلي إنّما ... أحلي تمثّل في فؤادي سولا
أجد الجفاء على سواك مروءة ... والصبر إلّا في نواك جميلا
حدق الحسان من الغواني هجن لي ... يوم الفراق صبابة وعويلا «4»
وقوله: [الكامل]
القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحقّ منك بجفنه وبمائه «5»(15/52)
فومن أحبّ لأعصينّك في الهوى ... قسما به وبحسنه وبهائه
27/أأحبّه وأحبّ فيه ملامة ... إنّ الملامة فيه من أعدائه
ما الخلّ إلّا من أودّ بقلبه ... وأرى بطرف لا يرى بسوائه
إنّ المعين على الصبابة بالأسى ... أولى برحمة ربّها وإخائه
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه «1»
إنّ القتيل مضرّجا بدموعه ... مثل القتيل مضرّجا بدمائه
والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه
وقي الأمير هوى العيون فإنّه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
يستأسر البطل الكميّ بنظرة ... ويحول بين فؤاده وعزائه
وقوله: [الطويل]
لياليّ بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل «2»
يبنّ لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدرا ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبّة سلوة ... ولكننّي للنائبات حمول
وما شرقي بالماء إلّا تذكّرا ... لماء به أهل الحبيب نزول
يحرّمه لمع الأسنّة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول
أما في النجوم السائرات وغيرها ... لعيني على ضوء الصباح دليل
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقّة ونحول
لقيت بدرب القلّة الفجر لقية ... شفت كبدي والليل فيه قتيل «3»(15/53)
ويوما كأنّ الحسن فيه علامة ... بعثت بها والشمس منك رسول
وما قبل سيف الدولة اثّار عاشق ... ولا طلبت عند الظلام ذحول «1»
28/ولكنه يأتي بكلّ غريبة ... تروق على استغرابها وتهول
وقوله: [الطويل]
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي «2»
وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر جفونك يعشق
عشيّة يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذّة التوديع خوف التفرّق
وبين الرّضا والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتقي
وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا ... عفافي ويرضي الحبّ والخيل تلتقي
وقوله: [الطويل]
عدمت فؤادا لم تبت فيه فضلة ... لغير الثنايا الغرّ والحدق البخّل «3»
وقوله: [الخفيف]
شيب رأسي وذلّتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي «4»(15/54)
أيّ يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود
وقوله: [الكامل]
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق «1»
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنّني ... عيرّتهم فلقيت فيه ما لقوا
وقوله: [البسيط]
كتمت حبّك حتى منك تكرمة ... ثمّ استوى فيك إسراري وإعلاني «2»
كأنّه زاد حتى فاض من جسدي ... فصار سقمي به في حسم كتماني
وقوله: [الكامل]
إن كنت ظاعنة فإنّ مدامعي ... تكفي مزادكم وتروى العيسا «3»
29/حاشا لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
وقوله: [البسيط]
بحب قاتلتي والشيب تغذيتي ... هواي طفلا وشيبي بالغ الحلم «4»
فما أمرّ برسم لا أسائله ... ولا بذات خمار لا تريق دمي(15/55)
تنفّست عن وفاء غير منصدع ... يوم الرحيل وشعب غير ملتئم
قبّلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبّلتني على خوف فما لفم
فذقت ماء حياة من مقبّلها ... لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم
ترنو إليّ بعين الظبي مجهشة ... وتمسح الطلّ فوق الورد بالعنم
وقوله: [الكامل]
يمّمت شاسع دارهم عن نيّة ... إنّ المحبّ على البعاد يزور «1»
وقنعت باللقيا وأوّل نظرة ... إنّ القليل من المحبّ كثير
وقوله: [الطويل]
عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإنّ ضجيع الخود منّي لماجد «2»
يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشا ... محبّ لها في قربه متباعد
وقوله: [الوافر]
أقول لها اكشفي ضرّي وقولي ... بأكثر من تدلّلها خضوعا «3»
أخفت الله من إحياء نفس ... متى عصي الاله بأن أطيعا(15/56)
غدا بك كلّ خلو مستهاما ... وأصبح كلّ مستور خليعا
وقوله: [البسيط]
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتا من القلب لم تمدد له طنبا «1»
30/مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا «2»
بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا
كأنّها الشمس يعيي كفّ قابضه ... شعاعها وبراه الطرف مقتربا
وقوله: [الطويل]
أردّد ويلي لو قضى الويل حاجة ... وأكثر لهفي لو شفى غلّة لهف «3»
ضنى في الهوى كالسّم في الشهد كامنا ... لذذت به جهلا وفي اللّذة الحتف
وقوله: [الكامل]
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا «4»
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا(15/57)
وقوله: [الكامل]
أسفي على أسفي الذي دلّهتني ... عن علمه فبه عليّ خفاء «1»
وشكيّتي فقد السقام لأنّه ... قد كان لمّا كان لي أعضاء
وقوله: [البسيط]
أمّلت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحيّ دون السير حيرانا «2»
ولو بدت لأتاهتهم فحجبّها ... صون عقولهم من لحظه صانا
منها:
أمّا الثياب فتعرى من محاسنه ... إذا نضاها ويكسى الحسن عريانا
يضمّه المسك ضمّ المستهام به ... حتى يصير على الأعكان أعكانا «3»
منها:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا
تهدي البوارق أخلاف المياه لكم ... وللمحبّ من التذكار نيرانا
وقوله: [الطويل]
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردّوا رقادي فهو لحظ الحبائب «4»(15/58)
31/فإنّ نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنّما ... عقدتم أعالي كلّ هدب بحاجب
وأحسب أنّي لو هويت فراقكم ... لفارقته والدهر أخبث صاحب
فياليت ما بيني وبين أحبّتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب
أراك ظننت السّلك جسمي فعفيه ... عليك بدرّ عن لقاء الترائب
ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السقم ما غيّرت من خطّ كاتب
وقوله: [الطويل]
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه «1»
سقاك وحيّانا بك الله إنّما ... على العيس نور والخدود كمائمه
وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه
حبيب كأنّ الحسن كان يحبّه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه
وما استغربت عيني فراقا رأيته ... ولا علّمتني غير ما القلب عالمه
وما خضب الناس البياض لأنّه ... قبيح ولكن أحسن الشّعر فاحمه
وقوله: [المتقارب]
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل «2»
وإنّي لأعشق من عشقكم ... نحولي وكلّ امرئ ناحل(15/59)
ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبّي الزائل
كأنّ الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل
وقوله: [الطويل]
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنّك كنت الشرق للشمس والغربا «1»
32/وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الديار ولا لبّا «2»
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبّا
ومن صحب الدنيا طويلا تقلّبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
نذمّ السحاب الغرّ في فعلها به ... ونعرض عنها كلّما طلعت عتبا
ذكرت به وصلا كأن لم أفز به ... وعيشا كأنّي كنت أقطعه وثبا
لها بشر الدرّ الذي قلّدت به ... ولم أر بدرا قبلها قلّد الشهبا
وقوله: [البسيط]
وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل «3»
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
والهجر أقتل لي ممّا أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
قد ذقت شدّة أيامي ولذّتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل «4»(15/60)
وقد طرقت فتاة الحيّ مرتديا ... بصاحب غير عزهاة ولا غزل «1»
فبات بين تراقينا ندفّعه ... وليس يعلم بالشكوى ولا القبل
ثمّ انثنى وبه من طيبها أثر ... على ذوائبه والجفن والخلل «2»
وقوله: [الطويل]
تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب «3»
وإنّي لممنوع المقاتل في الوغي ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ
ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب
33/وقوله: [البسيط]
من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب «4»
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب «5»
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
وقوله: [الكامل](15/61)
ذكر الصّبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي «1»
دمن تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثر اللوّام
فكأن كلّ سحابة وكفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام
قد كنت تهزأ بالفراق مجانة ... وتجرّ ذيلي شرّة وعرام
ليس القباب على الركاب وإنّما ... هنّ الحياة ترحّلت بسلام
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخفا فهنّ مفاصلي وعظامي
وقوله: [الخفيف]
وإذا خامر الهوى قلب صبّ ... فعليه لكلّ عين دليل «2»
زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال تحول
إن تريني أدمت بعد بياض ... فحميد من القناة الذبول «3»
وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من ردّه تعليل
وقوله: [المنسرح]
شاميّة طالما خلوت بها ... تبصر في ناظري محيّاها «4»
فقبّلت ناظري تغالطني ... وإنّما قبّلت به فاها(15/62)
34/كلّ جريح ترجى سلامته ... إلّا فؤادا دهته عيناها
وقوله: [الطويل]
أسرّ بتجديد الهوى ذكر ما مضى ... وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد «1»
إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهد
وإن عشقت كانت أشدّ صبابة ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصد «2»
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
كذلك أخلاق النساء وربّما ... يضلّ بها الهادي ويخفى بها الرشد
ولكنّ حبّا خامر القلب في الصّبا ... يزيد على مرّ الزمان ويشتدّ
وقوله: [الكامل]
الحبّ ما منع الكلام الألسنا ... وألذّ شكوى عاشق ما أعلنا «3»
وقوله: [المقتضب]
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنّها العمي ما لها قائد «4»
ومن المختار له في المديح في سيف الدولة ابن حمدان: [الطويل](15/63)
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم «1»
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
يكلّف سيف الدولة الجيش همّه ... وقد عجزت عنه الملوك الخضارم
ويطلب عند الناس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدّعيه الضراغم
يفدّى أتمّ الطير عمرا سلاحه ... نسور الفلا أحداثها والقشاعم
وما ضرّها خلق بغير مخالب ... وقد خلقت أسيافه والقوائم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعرف أيّ الساقيين الغمائم
35/سقتها الغمام الغرّ قبل نزوله ... فلمّا دنا منها سقتها الجماجم
بناها وعلّا والقنا يقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
طريدة دهر ساقها فرددتها ... على الدين بالخطيّ والدهر راغم
وكيف ترجيّ الروم والروس هدمها ... وذا الطعن آساس لها ودعائم
تفيت الليالي كلّ شيء أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تأتي عليه الجوازم
وقد حاكموها والمنايا حواكم ... فما مات مظلوم ولا عاش ظالم
وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
ضممت جناحيهم على القلب ضمّة ... تموت الخوافي تحته والقوادم «2»
بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللبّات والنصر قادم «3»(15/64)
ومن طلب الفتح الجليل فانّما ... مفاتيحه البيض الرقاق الصوارم «1»
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أنّ أصوات السيوف أعاجم
لك الحمد في الدرّ الذي أنا ناظم ... فإنّك معطيه وإنّي ناظم «2»
وقوله: [البسيط]
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند محبيهنّ كالقبل «3»
وما تقرّ سيوف في ممالكها ... حتى يقلقل دهرا قبل في القلل
36/مثل الأمير بغى أمرا فقرّ به ... طول الرماح وأيدي الخيل والإبل
وعزمة بعثتها همّة زحل ... من تحتها بمكان الترب من زحل «4»
تتلو أسنّته الكتب التي نفذت ... وتجعل الخيل أبدالا من الرسل
تلقى الملوك ولا تلقى سوى جزر ... وما أعدّوا فلا يلقى سوى نفل
منها:
والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النهار فصار الظهر كالطّفل «5»
الجوّ أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشمس فيه أحير المقل
ينال أبعد منها وهي ناظرة ... فما تقابله إلّا على وجل
يعود من كلّ فتح غير مفتخر ... وقد أغذّ إليه غير محتفل(15/65)
ولا يجير عليه الدهر بغيته ... ولا يحصّن درع مهجة البطل
إذا خلعت على عرض له حللا ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
إنّ السعادة فيما أنت فاعله ... وفّقت مرتحلا أو غير مرتحل
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضرّ رياح الورد بالجعل
أجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في أخلاقك الأول
فلا هجمت بها إلّا على ظفر ... ولا وصلت بها إلّا إلى أمل
وقوله يمدحه: [البسيط]
بالجيش تمتنع السادات كلّهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع «1»
لا تعتفي بلدا مسراه عن بلد ... كالموت ليس به ريّ ولا شبع
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
يطمّع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى يكاد على أحيائهم يقع
تغدو المنايا فلا تنفكّ واقفة ... حتى يقول لها عودي فتندفع
37/لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس يأكل إلّا الميّت الضبع
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
منها:
من كان فوق محلّ الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
ليت الملوك على الأقدار معطية ... فلم يكن لدنيّ عندها طمع
لقد أباحك غشّا في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع
الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع(15/66)
وقد يظنّ شجاعا من به خرق ... وقد يظنّ جبانا من به زمع «1»
إنّ السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كلّ ذوات المخلب السّبع
وقوله: [الطويل]
ولولاك لم تجر الدماء ولا اللهى ... ولم يك للدنيا ولا أهلها معنى «2»
وما الخوف إلّا ما تخوّفه الفتى ... وما الأمن إلّا ما رآه الفتى أمنا
وقوله: [الطويل]
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه «3»
له عسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكرا لم تبق إلّا جماجمه
سحاب من العقبان يزحف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه
تحاربه الأعداء وهي عباده ... ويدخر الأموال وهي غنائمه
ويستكبرون الدّهر والدهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه
وما كلّ سيف يقطع الهام حدّه ... ويقطع لزبات الزمان مكارمه «4»(15/67)
منها:
فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه
38/فقد ملّ ضوء الصبح ممّا تغيره ... وملّ سواد الليل ممّا تزاحمه
وملّ القنا ممّا تدقّ صدوره ... وملّ حديد الهند ممّا تلاطمه
وقوله: [المتقارب]
خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل «1»
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص من قابل
فإن الحسام الخضيب الذي ... قتلتم به في يد القاتل
تفكّ العناة وتغني العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل
وقوله: [الطويل]
إذا كان مدح فالنسيب المقدّم ... أكلّ فصيح قال شعرا متيّم «2»
لحبّ ابن عبد الله أولى فإنّه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم
أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم
تعرّض سيف الدولة الدهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم
فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم
فلم يخل من نصر له من له يد ... ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ... ولم يخل دينار ولم يخل درهم(15/68)
يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسعد من لا ينجّم
إذا نحن سمينّاك خلنا سيوفنا ... من التّيه في أغمادها تتبسّم
أخذت على الأرواح كلّ ثنيّة ... من العيش يعطي من يشاء ويحرم «1»
فلا موت إلّا من سنانك يتّقى ... ولا رزق إلّا من يمينك يقسم
39/وقوله: [الطويل]
خليليّ إنّي لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدعوى ومنّي القصائد «2»
فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة ... ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد
ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقنّت أنّ الدهر للناس ناقد
أحقّهم بالسيف من ضرب الطّلى ... وبالأمر من هانت عليه الشدائد
وإنّ دما أجريته بك فاخر ... وإن فؤادا رعته لك حامد
وكلّ يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكنّ طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدنيا بأنّك خالد
وتضحى الحصون المشمخراّت في الذرى ... وخيلك في أعناقهنّ قلائد
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وقوله: [الوافر]
رأيتك في الذين أرى ملوكا ... كأنّك مستقيم في محال «3»(15/69)
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
وقوله: [الطويل]
تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا «1»
ويرهب ناب الليث والليث وحده ... فكيف إذا كان الليوث له صحبا
ويخش عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغش البلاد إذا غبّا
هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم ... وأنّك حزب الله جرت له حزبا
وأنك رعت الدهر فيها وريبه ... فإن شكّ فليحدث بساحتها خطبا
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
40/كأنّ نجوم الليل خافت مغاره ... فمدّت عليها من عجاجته حجبا
وقوله: [البسيط]
قد زرته وسيوف الهند مغمدة ... وقد نظرت إليه والسيوف دم «2»
فكان أحسن خلق الله كلّهم ... وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
فوت العدوّ الذي يممّته ظفر ... في طيّه أسف في طيّه نعم(15/70)
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة مالا تصنع البهم «1»
ألزمت نفسك شيئا ليس يلزمها ... أن لا تواريهم أرض ولا علم
عليك هزمهم في كلّ معترك ... وما عليك بهم عار إذا انهزموا
وقوله: [البسيط]
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل «2»
فنحن في جذل والروم في وجل ... والبرّ في شغل والبحر في خجل
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزى بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول
والمدح لابن أبي الهيجاء ننجده ... بالجاهلية عين الغيّ والخطل
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل «3»
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل
وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل
لأنّ حلمك حلم لا تكلّفه ... ليس التكحّل في العينين كالكحل
لا زلت تضرب من عاداك عن عرض ... بعاجل النصر في مستأخر الأجل
41/وقوله: [الطويل]
لقد جدت حتى جدت في كلّ ملّة ... وحتى أتاك الحمد من كلّ منطق «4»(15/71)
فيا أيّها المطلوب جاوره تمتنع ... ويا أيّها المحروم يمّمه ترزق
ويا أجبن الفرسان صاحبه تجترئ ... ويا أشجع الشجعان فارقه تفرق
وقوله: [الطويل]
فلمّا رأوه وحده دون جيشه ... دروا أنّ كلّ العالمين فضول «1»
وأنّ رماح الخطّ عنه قصيرة ... وأنّ حديد الهند عنه كليل
فإن تكن الأيام أبصرن صولة ... فقد علّم الأيام كيف تصول
فأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتى بأسه مثل العطاء جزيل
شريك المنايا والنفوس غنيمة ... فكلّ ممات لم يمته غلول «2»
وقوله: [الطويل]
لكلّ امرئ من دهره ما تعودّا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا «3»
ومستكبر لم يعرف الله ساعة ... رأى سيفه في كفّه فتشهدّا
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدرّ واحذره إذا كان مزبدا «4»(15/72)
تظلّ ملوك الأرض خاضعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدّا «1»
وتحيي له المال الصوارم والقنا ... ويقتل ما يحيي التبسّم والجدّا
ذكيّ تظنّيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما يرى غدا «2»
وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا
يدقّ على الأفكار ما أنت فاعل ... فيترك ما يخفى ويؤخذ ما بدا
وقوله: [البسيط]
تشبيه جودك بالأمطار غادية ... جود لكفّك ثان ناله المطر «3»
42/تكسّب الشمس منك النور طالعة ... كما تكسب منها نوره القمر
وقوله: [الطويل]
أرى كلّ ذي ملك إليك مصيره ... كأنّك بحر والملوك جداول «4»
إذا مطرت منهم ومنك سحائب ... فوابلهم طلّ وطلّك وابل
وأسعد مشتاق وأظفر طالب ... همام إلى تقبيل كفّك واصل
وقد زعموا أنّ النجوم خوالد ... ولو حاربته ناح فيها الثواكل
وما كان أدناها له لو أرادها ... وألطفها لو أنّها متناول «5»(15/73)
يدبر شرق الأرض والغرب كفّه ... وليس لها وقتا عن الجود شاغل
تتبّع هرّاب الرجال مراده ... فمن فرّ حربا عارضته الغوائل
ومن فرّ من إحسانه حسدا له ... تلقّاه منه حيثما سار نائل
وقوله: [الكامل]
إنّ السيوف مع الذين قلوبهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمعان «1»
تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كلّ جبان
وقوله: [المنسرح]
فاضح أعدائه كأنّهم ... له يقلّون كلّما كثروا «2»
أعاذك الله من سهامهم ... ومخطئ من رميّه القمر
وقوله: [الطويل]
جرى معك الجارون حتى إذا انتهوا ... إلى الغاية القصوى جريت وناموا «3»
فليس لشمس مذ أنرت إنارة ... وليس لبدر إذ تممت تمام «4»(15/74)
وقوله: [الوافر]
وأضحى بالعواصم مستقرّا ... وليس لبحر نائله قرار «1»
43/تخرّ له القبائل ساجدات ... وتحمده الأسنّة والشّفار
وقوله: [الخفيف]
وإذا اهتزّ للندى كان بحرا ... وإذا اهتزّ للوغى كان نصلا «2»
وإذا الأرض أظلمت كان شمسا ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
من تعاطى تشبّها بك أعيا ... هـ ومن دلّ في طريقك ضلّا
فإذا ما اشتهى خلودك داع ... قال لا زلت أو ترى لك مثلا
وقوله: [الكامل]
ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيام «3»
تالله ما علم امرؤ لولاكم ... كيف السخاء وكيف ضرب الهام
وقوله: [البسيط]
ألقت إليك دماء الروم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضرب أجاب دم «4»(15/75)
يسابق القتل فيهم كلّ حادثة ... فما يصيبهم موت ولا هرم
وقد تمنّوا غداة الدرب في لجب ... أن يبصروك فلمّا أبصروك عموا
فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
والشمس يعنون إلّا أنّهم جهلوا ... والموت يدعون إلّا أنّهم وهموا
لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته ... إنّ الكريم بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وقوله يمدح كافورا الإخشيدي: [الطويل]
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا «1»
فجاءت به انسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا «2»
44/يبيد عداوات البغاء بلطفه ... فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا
يدلّ بمعنى واحد كلّ فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
إذا كسب الناس المعالي بالندى ... فإنّك تعطي في نداك المعاليا
وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها- وحاشاك- فانيا
وما كنت ممّن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيام أشبن النواصيا
وقوله يمدحه: [الطويل]
إذا منعت منك السياسة نفسها «3» ... فقف وقفة قدّامه تتعلّم(15/76)
يضيق على من راءه العذر أن ترى ... ضعيف المساعي أو ضعيف التكرّم
وقوله: [الطويل]
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى عليّ وأكتب «1»
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويممّ كافورا فما يتغرّب
فتى يملأ الأفعال رأيا وحكمة ... ونادرة أيّان يرضى ويغضب
منها:
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكّموا ... وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبّوا
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب
سللت سيوفا علّمت كلّ خاطب ... على كلّ عود كيف يدعو ويخطب
ويغنيك عمّا ينسب الناس أنّه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
وقوله: [الطويل]
عدوّك مذموم بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران «2»
45/ولله سرّ في علاك وإنّما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
أيلتمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان(15/77)
رأت كلّ من يبغي لك الغدر يبتلى ... بغدر حياة أو بغدر زمان
قضى الله يا كافور أنّك أول ... وليس بقاض أن يرى لك ثان
فمالك تختار القسيّ وإنّما ... عن السعد يرمي دونك الثّقلان
ومالك تعنى بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّان بغير سنان
ولم يحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غنيّ عنه بالحدثان
وقوله: [الطويل]
تجاوز قدر المدح حتى كأنّه ... بأحسن ما يثنى عليه يعاب «1»
وغالبه الأعداء ثمّ عنوا له ... كما غالبت بيض السيوف رقاب
وقوله في مدح فاتك: [البسيط]
القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال «2»
يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرجال وفيها الماء والآل
يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر وصروف الدهر تغتال
وقوله: [الطويل]
عفيف يروق الشمس صورة وجهه ... ولو نزلت شوقا لحاد إلى الظّل «3»(15/78)
شجاع كأنّ الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدّته بالخيل والرجل
وريّان لا تصدى إلى الخمر نفسه ... وعطشان لا تروى يداه من البذل
فتى لا يرجّى أن يتم طهارة ... لمن لم يطهّر راحتيه من البخل
46/وفي مثل الثاني قلت من قصيدة وزدت المعنى وأحكمت للفظه بنيانا بأن جعلت الحرب تهوى بقاه، وهو بسيفه يحمي حوبّاه، وأبو الطيب حيث أطلق الفداء يجوز أن يكون غيره أنكى الأعداء، والذي قلته هذا: [البسيط]
يخفيه كالليل صونا رمح عسكره ... وضوء صارمه كالصبح يبديه
تهوى البقاء له الهيجاء فهي بمن ... ترديه أسيافه فى الحرب تفديه
وقوله: [الكامل]
أعطى الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد لي فأردت أن أتخيّرا «1»
أرجان أيتّها الجياد فإنّه ... عزمي الذي يذر الوشيج مكسّرا «2»
أمّي أبا الفضل المبّر أليّتي ... لأيممّنّ أجلّ بحر جوهرا
يتكسّب القصب الضعيف بخطّه ... شرفا على صمّ الرماح ومفخرا «3»
ويبين فيما مسّ منه بنانه ... تيه المدلّ فلو مشى لتبخترا
يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا
أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقة ... ومن الرديف وقد ركبت غضنفرا(15/79)
قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
فهو المشيّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا
وإذا سكتّ فإن أبلغ خاطب ... قلم لك اتخّذ الأصابع منبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا
منها في ذكر الناقة:
فأتتك دامية الأظّل كأنّما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا «1»
47/بدرت إليك يد الزمان كأنّما ... وجدته مشغول اليدين مفكّرا
من مبلغ الأعراب أنّي بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا
زحل على أنّ الكواكب قومه ... لو كان منك لكان أكرم معشرا
وقوله: [الطويل]
ومن يصحب اسم ابن العميد محمّد ... يسر بين أنياب الأساود والأسد «2»
كأنّا أرادت شكرنا الأرض عنده ... فلم يخلنا جوّ هبطناه من رفد
إذا الشرفاء البيض قتّوا بقتوه ... أتى نسب أعلى من الأب والجد «3»
حشت كلّ أرض تربة في غباره ... فهنّ عليه كالطرائق في البرد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنّني ... مخلّف قلبي عند من فضله عندي(15/80)
وقوله في عضد الدولة: [المنسرح]
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها «1»
ومن مناياهم براحته ... يأمرها فيهم وينهاها
أبا شجاع بفارس عضد ال ... دّولة فنّا خسرو وشهنشاها
أساميا لم تزده معرفة ... وإنّما لذّة ذكرناها
مبتسم والوجوه عابسة ... سلم العدى عنده كهيجاها
لا يجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلّة تلافاها
تشرق تيجانه بغرّته ... إشراق ألفاظه بمعناها
48/دان له شرقها ومغربها ... ونفسه تستقلّ دنياها
تجمّعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منزلة عندهم ولا جاها
وقوله فيه: [الوافر]
يقول بشعب بوّان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان «2»
أبوكم آدم سنّ المعاصي ... وعلّمكم مفارقة الجنان
فقلت إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان(15/81)
فإنّ الناس والدنيا طريق ... إلى من لا له في الناس ثاني «1»
ولا تحصى فضائله بظنّ ... ولا الإخبار عنه ولا العيان
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع في أمان «2»
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان
ولم أر قبله شبلي هزبر ... كشبليه ولا فرسي رهان
أشدّ تنازعا لكريم أصل ... وأشبه منظرا بأب هجان
وأول لفظة فهما وقالا ... إغاثة صارخ أوفكّ عاني
وكنت الشمس تبهر كلّ عين ... فكيف وقد بدت معها اثنتان
فعاشا عيشة القمرين يحيا ... بضوئهما ولا يتحاسدان
ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلان
دعاء كالثناء بلا رياء ... يؤدّيه الجنان إلى الجنان
49/فلولا كونكم في الناس كانوا ... هذاء كالكلام بلا معاني «3»
وقوله فيه: [الكامل المرفل]
إن لم يكن من قبله عجزوا ... عمّا يسوس به فقد غفلوا «4»
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل
شكوى العليل إلى الكفيل له ... ألّا تمرّ بجسمه العلل(15/82)
لا يستحي أحد يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا «1»
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
وقوله: [الكامل]
كبّرت حول ديارهم لمّا بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق «2»
وعجبت من أرض سحاب أكفّهم ... من فوقها وصخورها لا تورق
ويفوح من طيب الثناء روائح ... لهم بكلّ مكانة تستنشق
مسكّية النفحات إلّا أنّها ... وحشية بسواهم لا تعبق
وقوله: [البسيط]
إذا خلت منك حمص لا خلت أبدا ... فلا سقاها من الوسميّ باكره «3»
دخلتها وشعاع الشمس متّقد ... ونور وجهك بين الخلق باهره
في فيلق من حديد لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها إلى الملك الميمون طائره
قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره
حلو خلائقه شوس حقائقه ... يحصى الحصا قبل أن تحصى مآثره
50/تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت ... كصدره لم تبن فيها عساكره(15/83)
إذا تغلغل فكر المرء في طرق ... من مجده غرقت فيه خواطره
تحمي السيوف على أعدائه معه ... حتى كأنهنّ بنوه أو عشائره
إذا انتضاها لحرب لم تدع جسدا ... إلّا وباطنه للعين ظاهره
فقد تيقّن أنّ الحقّ في يده ... وقد وثقن بأنّ الله ناصره
من قال لست بخير الناس كلّهم ... فجهله بك عند الناس عاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
وقوله: [الطويل]
تباعدت الآمال عن كلّ مقصد ... وضاق بها إلّا إلى بابك السّبل «1»
وحالت عطايا كفّه دون وعده ... فليس له إنجاز وعد ولا مطل
وأقرب من تحديدها ردّ فائت ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل
إذا قيل رفقا قال للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وما عزّه فيها مراد أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل
فويل لنفس حاولت منك غرّة ... وطوبى لعين ساعة منك لا تخلو
فما بفقير شام برقك حاجة ... ولا في بلاد أنت صيبّها محل «2»
وقوله: [الكامل]
أعطى فقلت لجوده ما يقتنى ... وسطا فقلت لسيفه ما يولد «3»(15/84)
وتحيّرت فيك الصفات لأنّها ... ألفت طرائقه عليها تبعد
في شأنه ولسانه وبنانه ... وجنانه عجب لمن يتفقّد
51/إنّ العطايا والرزايا والقنا ... حلفاء طيّ غوّروا أو أنجدوا
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد «1»
وقوله: [البسيط]
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدى حافر الفرس «2»
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبا غير مفترس
من كلّ أبيض وضّاح عمامته ... كأنّما اشتملت نورا على قبس
لو كان فيض يديه ماء غادية ... عزّ القطا في الفيافي موضع اليبس
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرّت كلّ مصر عن طرابلس
أيّ الملوك- وهم قصدي- أحاذره ... وأيّ قرن وهم سيفي وهم ترسي
وقوله: [الطويل]
ولو ترك الدنيا على حكم كفّه ... لأصبحت الدنيا وأكثرها نزر «3»
متى ما يشر نحو السماء بوجهه ... تخرّ له الشّعرى وينكسف البدر(15/85)
له منن تغني الثناء كأنّما ... به أقسمت أن لا يؤدّى لها شكر
بمن تضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر «1»
وقوله: [البسيط]
لمّا وزنت بك الدنيا فملت بها ... وبالورى قلّ عندي كثرة العدد «2»
ماضي الجنان يريه الحزم قبل غد ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غد
ماذا البهاء ولا ذا النور من بشر ... ولا السماح الذي فيه سماح يد
أيّ الأكفّ يباري الغيث ما اتّفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعد
52/لم أجر غاية فكري منك في صفة ... إلّا وجدت مداها غاية الأبد
وقوله: [الطويل]
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجّى الحيا منها وتخشى الصواعق «3»
ومن تقشعرّ الأرض خوفا إذا مشى ... عليها وترتجّ الجبال الشواهق
كأنّك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كلّ حرب للمنّية عاشق
وقوله: [المنسرح](15/86)
ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم «1»
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنّما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا
إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنّها في نفوسهم شيم
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنّه في الكرام متّهم
وقوله: [البسيط]
إذا بدا حجبت عينيك بهجته ... وليس يحجبه ستر إذا احتجبا «2»
عمر العدوّ إذا لاقاه في رهج ... أقلّ من عمر ما يحوي إذا وهبا «3»
53/تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا «4»
وتغبط الأرض منها حيث حلّ به ... وتحسد الخيل منها أيّها ركبا
منها:
مبرقعي خيلهم بالبيض متّخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا(15/87)
مراتب صعدت والفكر يتبعها ... فجاز وهو على آثارها الشّهب
وقوله: [الوافر]
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام «1»
قبيل يحملون من المعالي ... كما حملت من الجسد العظام «2»
فلو يممّتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلّوا وصاموا
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنّك في فم الزمن ابتسام
وقوله: [الطويل]
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف «3»
فإن نفد الإعطاء حنّت يمينه ... إليه حنين الإلف فارقه الإلف «4»
وأضحى وبين الناس في كلّ سيّد ... من الناس إلّا في سيادته خلف
ولم نر شيئا يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف «5»
ولا حبس البحر المحيط لقاصد ... ومن تحته فرش ومن فوقه سقف «6»
فواعجبا منّي أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيس والصّحف(15/88)
وقوله: [الكامل]
ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دما وعرفا ساكبا «1»
هذا الذي أفنى النّضار مواهبا ... وعداه قتلا والزمان تجاربا
54/كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا
كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... جودا ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
منها:
تدبير ذي حنك يفكّر في غد ... وهجوم غرّ لا يخاف عواقبا
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمنيّ في الثناء الواجبا
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
وقوله: [الطويل]
ألذّ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقّاه معدم «2»
سنيّ العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللؤم آلى أنّها لا تهّوم
وقوله: [الكامل]
نظمت مواهبه عليه تمائما ... فاعتادها فإذا سقطن تفزّعا «3»(15/89)
نفس لها خلق الزمان لأنّه ... مفني النفوس مفرّق ما جمعّا
ويد لها كرم الغمام لأنّه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا
وقوله:
من نفعه في أن يهاج وضرّه ... في تركه لو يفطن الأعداء «1»
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدّها تتبيّن الأشياء «2»
والسّلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
متفرّق الطّعمين مجتمع القوى ... فكأنّه السّراء والضراء
في خطّه من كلّ قلب شهوة ... حتى كأنّ مداده الأهواء
55/ولكلّ عين قرّة في قربه ... حتى كأنّ مغيبه الأقذاء
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء
لم تحك نائلك السحاب وإنّما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء
وقوله: [المتقارب]
تجلّى لنا فأضأنا به ... كأنّا نجوم لقينا سعودا «3»
وهول كشفت ونصل قصفت ... ورمح تركت مبادا مبيدا(15/90)
ومال وهبت بلا موعد ... وقرن سبقت إليه الوعيدا
بهجر سيوفك أغمادها ... تمنى الطّلى أن يكون الغمودا
قتلت نفوس العدى بالحدي ... د حتى قتلت بهنّ الحديدا
وقوله: [المنسرح]
تعرف في عينه حقائقه ... كأنّه بالذكاء مكتحل «1»
أشفق عند اتّقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
أغرّ أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكثروا الذي فعلوا
إنّك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
وقوله: [الوافر]
أغرّ مغالب كفّا وسيفا ... ومقدرة ومحمية وآلا «2»
وأشرف فاخر نفسا وقوما ... وأكرم منتم عمّا وخالا
لقد أمنت بك الإعدام نفس ... تعدّ رجاءها إيّاك مالا
56/سرورك أن تسرّ الناس طرّا ... تعلّمهم عليك به الدلالا
إذا سألوا شكرتهم عليه ... وإن سكتوا سألتهم السؤالا(15/91)
وأسعد من رأينا مستميح ... ينيل المستماح بأن ينالا
يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا
فما تقف السهام على قرار ... كأنّ الريش تطّلب النصالا «1»
وقوله: [الكامل]
أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا «2»
ولقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا
نطقت بسؤددك الحمام تغنّيا ... وبما تجشّمها الجياد صهيلا
وقوله: [البسيط]
قاض إذا التبس الأمران عنّ له ... رأي يفرّق بين الماء واللبن «3»
أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
ذا جود من ليس من دهر على ثقة ... وزهد من ليس من دنياه في وطن
وهذه هيئة لم يؤتها بشر ... وذا اقتدار لسان ليس في المنن «4»
وقوله: [الكامل](15/92)
علّامة العلماء واللجّ الذي ... لا ينتهي ولكلّ لجّ ساحل «1»
متشابهي ورع النفوس: كبيرهم ... وصغيرهم عفّ الإزار حلاحل
فافخر فإنّ الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل
ولقد علوت فما تبالي بعدما ... عرفوا أيحمد أم يذمّ القائل
57/ما دار في الحنك اللسان وقلّبت ... قلما بأحسن من ثناك أنامل
وقوله: [البسيط]
خفّ الزمان على أطراف أنمله ... حتى توهّمن للأزمان أزمانا «2»
يلقى الوغى والقنا والنازلات به ... والسيف والضيف رحب الباع جذلانا
تخاله من ذكاء القلب محتميا ... ومن تكرّمه والبشر نشوانا
ما شيّد الله من مجد لسالفهم ... إلّا ونحن نراه فيهم الآنا
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخطّ واللفظ والهيجاء فرسانا
كأنّهم يردون الموت منتظمأ ... أو ينشقون من الخطيّ ريحانا
يا صائد الجحفل المرهوب جانبه ... إنّ الليوث تصيد الناس وحدانا «3»
أنت الذي سبك الأموال تكرمة ... ثمّ اتخذت لها السؤال خزّانا
عليك منك إذا أخليت مرتقب ... لم يأت في السر ما لم تأت إعلانا(15/93)
لا أستزيدك فيما فيك من كرم ... أنا الذي نمت إن نبّهت يقظانا «1»
قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا
وقوله: [الكامل]
عجبا له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها «2»
كرم تبيّن في كلامك ماثلا ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
أعيا زوالك عن محلّ نلته ... لا تخرج الأقمار عن هالاتها
منها:
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها
تلك النفوس الغالبات على العلى ... والمجد يغلبها على شهواتها
58/وقوله: [الطويل]
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر «3»
ولا ينفع الإمكان لولا سخاؤه ... وهل نافع لولا الأكفّ القنا السمر
أزالت بك الأيام عتبي كأنّما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وقوله: [الوافر](15/94)
أشدّ من الرماح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا «1»
وقالوا ذاك أرمى من رأينا ... فقلت رأيتم الغرض القريبا
وهل يهطي بأسهمه الرمايا ... وما يخطي بما ظنّ الغيوبا
ألست ابن الأولى سعدوا وسادوا ... ولم يلدوا امرءا إلّا نجيبا
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هونا ... وصادوا الوحش نملهم دبيبا
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الترب طيبا
فلا زالت ديارك مشرقات ... ولا دانيت يا شمس الغروبا
لأصبح آمنا فيك الرزايا ... كما أنا آمن فيك العيوبا
وقوله: [الطويل]
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم «2»
تمرّ عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
إذا ضؤوها لاقى من الطير فرجة ... تدوّر فوق البيض مثل الدراهم
هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبهّتها بهم ... ولكنّها معدودة في البهائم
سرى النوم مني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كلّ نائم
59/إلى مطلق الأسرى ومخترم العدا ... ومشكى ذوي الشكوى ورغم المراغم(15/95)
وكان سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم «1»
وقوله يمدح أبا القاسم طاهر بن حسين العلوي: [الطويل]
كذا الفاطميون الندى في بنانهم ... أعزّ امّحاء من خطوط الرواجب «2»
وما قربت أشباه قوم أباعد ... ولا بعدت أشباه قوم أقارب
إذا علويّ لم يكن مثل طامة ... فما هو إلّا حجّة للنواصب
يقولون تأثير الكواكب في الورى ... فما باله تأثيره في الكواكب
وحقّ له أن يسبق الناس جالسا ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
ويحذى عرانين الملوك وإنّها ... لمن قدميه في أجلّ المراتب
يد للزمان الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب
ألا أيّها المال الذي قد أباده ... تعزّ فهذا فعله بالكتائب
لعلّك في وقت شغلت فؤاده ... عن الجود أو أكثرت جيش محارب
وقوله: [الخفيف]
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأنّ القتال قبل التلاقي «3»
وتكاد الظّبا لما عوّدوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق(15/96)
كلّ ذمر يزيد في الموت حسنا ... كبدور تمامها في المحاق «1»
كرم خشّن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشّفار الرقاق
ومعال إذا دعاها سواهم ... لزمته جناية السّرّاق
وقوله: [المنسرح]
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه «2»
60/والجود عين وفيك ناظرها ... والناس باع وفيك يمناه «3»
سبحان من خار للكواكب في ... البعد ولو نلن كنّ جدواه
لو كان ضوء الشموس في يده ... أضاعه جوده وأفناه
وقوله: [الوافر]
متى أحصيت فضلك في كلام ... فقد أحصيت حبّات الرمال «4»
وقوله: [الطويل]
فإن يك سيّار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد «5»
وقوله في شريف: [الخفيف](15/97)
قيل لي: لم تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمّعن فيه «1»
قلت: لا أهتدي لمدح إمام ... كان جبريل خادما لأبيه
وقوله: [الكامل]
وشغلت مدحي بالذي أرجوهم ... لا نال منهم بالمدائح نائلا «2»
وتركت مدحي للوصيّ تعمّدا ... إذ كان نورا مستطيلا شاملا
وإذا استطال الشيء قام بذاته ... وكذا صفات الشمس تذهب باطلا
وفي المراثي قوله يرثي أم سيف الدولة ابن حمدان: [الوافر]
نعدّ المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال «3»
ونرتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي
نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالارزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسّرت النّصال على النّصال
61/صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال
على المدفون قبل الترب صونا ... وقبل اللّحد في كرم الخلال
كأنّ الموت لم يفجع بنفس ... ولم يخطر لمخلوق ببال
ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضّلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
منها:(15/98)
يدفّن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأوالي
وكم عين مقبّلة النّواحي ... كحيل بالجنادل والرمال
وقوله يرثي أبا الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة: [الطويل]
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرّمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي «1»
كأنّك أبصرت الذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثكل
فان تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يبكى على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل
ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل
تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثناء عن الشّغل
وما الموت إلّا سارق دقّ شخصه ... يصول بلا كّف ويسعى بلا رجل
يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل
بنفس وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أمّ لا تطرّق بالحمل «2»
منها:
إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنّت أنّ الموت ضرب من القتل
هل الولد المحبوب إلّا تعلّة ... وهل خلوة الحسناء إلّا لذي البعل
62/وما الدهر أهل أن يؤمّل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النّسل
وما تسع الأيام علمي بأمرها ... ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي
وقوله يرثي مملوك سيف الدولة: [الطويل](15/99)
ومن سرّ أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرّها وقلوب «1»
وقد فارق الناس الأحبّة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كلّ طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب
ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب «2»
وكنت إذا أبصرته لك قائما ... نظرت إلى ذي لبدتين أديب «3»
وما كلّ وجه أبيض بمبارك ... ولا كلّ جفن ضيّق بنجيب
لئن ظهرت فينا عليه كآبة ... لقد ظهرت في حدّ كلّ قضيب
وفي كلّ قوس يوم كلّ تناضل ... وفي كلّ طرف كلّ يوم ركوب «4»
كأنّ الردى عاد على كلّ ماجد ... إذا لم يعوّد مجده بعيوب
ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب
وقوله يرثي أخت سيف الدولة: [البسيط]
فإن تكن خلقت أنثى فقد خلقت ... كريمة غير أنثى العقل والحسب «5»
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإنّ في الخمر معنى ليس في العنب(15/100)
فليت طالعة الشمسين غائبة ... وليت غائبة الشمسين لم تغب
وليت عين التي آب النهار بها ... فداء عين التي زالت ولم تؤب
63/فما ذكرت جميلا من صنائعها ... إلّا بكيت ولا ودّ بلا سبب
قد كان كلّ حجاب دون رؤيتها ... فما قنعت لها يا أرض بالحجب
ولا رأيت عيون الأنس تدركها ... فهل حسدت عليها أعين الشهب
يا أحسن الصبر زر أولى القلوب بها ... وقل لصاحبه يا أنفع السحب
وأكرم الناس لا مستثنيا احدا ... من الكرام سوى آبائك النجب
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درّهما المفديّ بالذهب
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنّا لنغفل والأيام في الطلب
ما كان أقصر وقتا كان بينهما ... كأنّه الوقت بين الورد والقرب «1»
منها:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلّا على شجب والخلف في الشّجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن يفكّر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والعجب «2»
وقوله: [الطويل]
لأيّ صروف الدهر فيه نعاتب ... وايّ رزاياه بوتر نطالب «3»
مضى من فقدنا صبرنا عند فقده ... وقد كان يعطي الصبر والصبر عازب(15/101)
يرون الأعادي في سماء عجاجه ... أسنّتها في جانبيها الكواكب «1»
فتسفر عنه والسيوف كأنّما ... مضاربها ممّا انفللن ضرائب
طلعن شموسا والغمود مشارق ... لهنّ وهامات الرجال مغارب
مصائب شتى جمّعت في مصيبة ... ولم يكفها حتى قفتها مصائب
ألا إنّما كانت وفاة محمد ... دليلا على أن ليس لله غالب
64/وقوله: [الكامل]
إنّي لأعلم واللبيب خبير ... أنّ الحياة وإن حرصت غرور «2»
ورأيت كلّا ما يعلّل نفسه ... بتعلّة وإلى الفناء يصير
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أنّ الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نفسك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير
منها:
والشمس في كبد السماء مريضة ... والأرض واجفة تكاد تمور
حتى ثوى جدثا كأنّ ضريحه ... في قلب كلّ موحّد محفور «3»
كفل الثناء له بردّ حياته ... لما انطوى فكأنّه منشور
غاضت أنامله فهنّ بحور ... وخبت مكائده فهنّ سعير
نفر إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال العباد حضور
تدمي خدودهم الدموع وتنقضي ... ساعات ليلهم وهنّ دهور
أبناء عّم كلّ ذنب لا مرئ ... إلّا السعاية بينهم مغفور(15/102)
وقوله يرثي جدّته لأمّه وقد ماتت فرحا حين وصل كتابه إليها: [الطويل]
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى «1»
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلمّا دهتنا لم تزدني بها علما
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجدّ والفهما
أحنّ إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا
بكيت عليها خيفة في حياتها ... وذاق كلانا فقد صاحبه قدما
ولم يسلها إلّا المنايا وإنّما ... أشدّ من السّقم الذي أذهب السّقما
وكنت قبيل الموت استعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
65/وما انسدّت الدنيا عليّ لضيقها ... ولكنّ طرفا لا أراك به أعمى
ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمّا
لئن لذّ يوم الشامتين بيومها ... لقد ولدت منّي لأنفهم رغما «2»
هبيني أخذت الثأر فيك من العدا ... فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمّى
وقوله: [الطويل]
فإن يك انسانا مضى لسبيله ... فإنّ المنايا غاية الحيوان «3»(15/103)
ولو سلكت طرق السلاح لردّها ... بطول يمين واتساع جنان
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصور وغير معان
وقوله في رثاء فاتك: [الكامل]
الحزن يقلق والتجمّل يردع ... والدمع بينهما عصيّ طيّع «1»
يتنازعون دموع عين مسّهد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع «2»
النوم بعد أبي شجاع نافر ... والليل معي والكواكب ظلّع
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش لها الهمام الأروع
برّد حشاي إن استطعت بلفظة ... فلقد تضرّ إذا تشاء وتنفع
ما زلت تدفع كلّ أمر فادح ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
فظللت تنظر لا رماحك شرّع ... فيما عراك ولا سيوفك قطّع
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر ... يبكي ومن شرّ السلاح الأدمع
واذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رعت به وخدّك تقرع
من للمحافل والجحافل والسّرى ... فقدت بفقدك نيّرا لا يطلع
66/ومن اتّخذت على الضيوف خليفة ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيّع
قد كان أسرع فارس في طعنة ... فرسا ولكنّ المنية أسرع
لا قلّبت أيدي الفوارس بعده ... رمحا ولا حملت جوادا أربع
وقوله يرثي عمّه عضد الدولة: [السريع]
لا بدّ للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع عن جنبه «3»(15/104)
ينسى بها ما كان من عجبه ... وما أذاق الموت من كربه
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لابدّ من شربه «1»
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه
فهذه الأرواح من جوّه ... وهذه الأجسام من تربه
لو فكّر العاشق في منتهى ... عشق الذي يسبيه لم يسبه «2»
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشّكت الأنفس في غربه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبّه
وربّما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه
أستغفر الله لشخص مضى ... كان نداه منتهى ذنبه
وكان من حدّد إحسانه ... كأنّه أسرف في سبّه «3»
يريد من حبّ العلى عيشة ... ولا يزيد العيش من حبّه
67/يحسبه دافنه وحده ... ومجده في القبر من صحبه
وقوله: وليست من المراثي ولكنها تناسبها: [الطويل]
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهارا في الخدود الشقائق «4»(15/105)
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميت ومولود وقال ووامق «1»
منها:
تخلّى من الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق
وفي العتاب قوله: [البسيط]
واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم «2»
مالي أكتّم حبّا قد برى جسدي ... ويدّعي حبّ سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حبّ لغرّته ... فليت أنّا بقدر الحبّ نقتسم
يا أعدل الناس إلّا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فرّاسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنّن أنّ الليث مبتسم «3»
فالخيل والليل والبيداء تشهد لي ... والحرب والضرب [والقرطاس والقلم] «4»
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو انّ أمركم من أمرنا أمم(15/106)
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما بجرح إذا ارضاكم ألم
68/وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إنّ المعارف في أهل النّهى ذمم
كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
شرّ البلاد مكان لا صديق به ... وشرّ ما يكسب الانسان ما يصم «1»
وشرّ ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرّخم
هذا عتابك إلّا أنّه مقة ... قد ضمّن الدر إلّا أنّه كلم
وقوله يعاتبه: [البسيط]
فارقتكم فإذا ما كان عندكم ... قبل الفراق اذى بعد الفراق يد «2»
إذا تذكّرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشوق الذي أجد
وقوله يعاتب أصحاب سيف الدولة: [البسيط]
يا من نعيت على بعد بمجلسه ... كلّ بما زعم الناعون مرتهن «3»
ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن متّ شوقا ولا فيها لها ثمن
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللبن
جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محبّ منكم ضغن(15/107)
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمرّ مريدي وارعوى الوسن
وإن بليت بودّ مثل ودّكم ... فإنّني بفراق مثله قمن
69/وقوله يخاطب كافورا: [الوافر]
إذا سرنا عن الفسطاط يوما ... فلقّني الفوارس والرجالا «1»
لتعلم قدر ما فارقت منّي ... وأنّك رمت من ضيمي محالا
وقوله حين وضع عليه غلمان أبي العشائر النشاب فلمّا كرّ عليهم انتسبوا إليه:
[الطويل]
ومنتسب عندي إلى من أحبّه ... وللنّبل حولي من يديه حفيف «2»
فهيّج من شوقي وما من مذلّة ... حننت ولكنّ الكريم ألوف
وكلّ وداد لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
ونفسي له نفس الفداء لنفسه ... ولكنّ بعض المالكين عنيف
وقوله: [الكامل]
يخفي العداوة وهي غير خفيّة ... نظر العدوّ بما يسرّ يبوح «3»
وفي الاعتذار قوله يخاطب سيف الدولة: [الطويل](15/108)
وقد كان يدني مجلسي في سمائه ... أحادث فيها بدرها والكواكبا «1»
حنانيك مسئولا ولبّيك داعيا ... وحسبي موهوبا وحسبك واهبا
وإن كان ذنبي كلّ ذنب فإنّه ... محا الذنب كلّ الذنب من جاء تائبا
وقوله: [البسيط]
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي «2»
ما كان يومي إلّا فوق معرفتي ... بأنّ رأيك لا يؤتى من الزلل
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربّما صحّت الأجسام بالعلل
70/ولا سمعت ولا غيري بمقتدر ... أذبّ منك لقول الزور عن رجل «3»
وقوله يخاطبه: [المتقارب]
أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل الكلام اختصارا «4»
تركتني اليوم في خجلة ... أموت مرارا وأحيا مرارا
أسارقك اللّحظ مستحييا ... وأزجر في الخيل مهري سرارا
وأعلم أنّي إذا ما اعتذرت ... أراد اعتذاري إليك اعتذارا(15/109)
كفرت مكارمك الباهرا ... ت إن كان ذلك منّي اختيارا
فلا تلزمنّي ذنوب الزمان ... إليّ أساء وإيايّ ضارا
وعندي لك الشرّد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا «1»
فإنّي إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا «2»
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
فلو خلق الناس من دهرهم ... لكانوا الظلام وكنت النهارا
سما بك همّي فوق الهموم ... فلست أعدّ يسارا يسارا
ومن كنت بحرا له يا عليّ ... لم يقبل الدّرّ إلّا كبارا
وقوله يخاطبه: [الطويل]
بأدنى ابتسام منك تحيا القرائح ... وتقوى من الجسم الضعيف الجوارح «3»
ومن ذا الذي يقضي حقوقك كلّها ... ومن ذا الذي يرضى سوى من تسامح
وقد تقبل العذر الخفيّ تكرّما ... فما بال عذري واقفا وهو واضح
وما كان ترك الشعر إلّا لأنّه ... تقصّر عن وصف الأمير المدائح «4»
71/وقوله يخاطب ابن العميد: [الخفيف]
ربّ ما لا يعبّر اللفظ عنه ... والذي يضمر الفؤاد اعتقاده «5»
إنّ في الموج للغريق لعذرا ... واضحا أن يفوته تعداده(15/110)
ما سمعنا بمن أحبّ العطايا ... فاشتهى أن يكون فيها فؤاده
وهجي الحسين بن اسحاق التنوخي على لسانه فكتب إليه يعاتبه فأجابه أبو الطيب بقوله من أبيات: [الوافر]
أتنكر يا ابن اسحاق إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي «1»
أأنطق فيك هجرا بعد علمي ... بأنّك خير من تحت السماء
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
وأنّ من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقلّ من الهباء
وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزناء
وقوله يخاطب بدر بن عمّار حين تخلّف عنه: [الكامل]
فاغفر فديتك واحبني من بعدها ... لتخّصني بعطيّة منها أنا «2»
وانه المشير عليك فيّ بضلّة ... فالحرّ ممتحن بأولاد الزنا
ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى
غضب الحسود إذا لقيتك راضيا ... رزء أخفّ عليّ من أن يوزنا
في الاستعطاف قوله يخاطب سيف الدولة في بني كلاب: [الوافر]
بغيرك راعيا عبث الذئاب ... وغيرك صارما ثلم الضّراب «3»(15/111)
ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرفق بالجاني عتاب
72/وأنّهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لحادثة أجابوا
وكيف يتمّ بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما خفي الصواب
وكم ذنب مولّده دلال ... وكم بعد مولّده اقتراب
وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحلّ بغير جانيه العقاب
وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب
فإن هابوا بجرمهم عليّا ... فقد يرجو عليّا من يهاب
ولو غير الأمير غزا كلابا ... ثناه عن شموسهم الضباب «1»
ولكن ربّهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
ولا ليل أجنّ ولا نهار ... ولا خيل حملن ولا ركاب
فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب
ومن في كفهّ منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب
إذا ما سرت في آثار قوم ... تخاذلت الجماجم والرقاب
طلبتهم على الأمواه حتى ... تخوّف أن تفتّشه السحاب
بنو قتلى أبيك بأرض نجد ... ومن أبقى وأبقته الحراب
عفا عنهم وأعتقهم صغارا ... وفي أعناق أكثرهم سخاب «2»(15/112)
وكلّكم أتى مأتى أبيه ... وكلّ فعال كلكّم عجاب
73/كذا فليسر من طلب الأعادي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وقوله يخاطبه: [الطويل]
ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيّامها فيما يريد قيام «1»
فتى يتبع الأزمان في الناس خطوه ... لكلّ زمان في يديه زمام
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
فإن كنت لا تعطي الزمان طواعة ... فعوذ الأعادي بالكريم ذمام «2»
وإنّ نفوسا يممّتك منيعة ... وإنّ دماء يممّتك حرام «3»
إذا خاف ملك من مليك أجرته ... وسيفك خافوا والجوار تسام
فلو كان صلحا لم يكن بشفاعة ... ولكنّه ذلّ لهم وغرام
على وجهك الميمون في كلّ غارة ... صلاة توالي منهم وسلام
وقوله يخاطبه: [الوافر]
طوال قنا تطاعنها قصار ... وقطرك في ندى ووغى بحار «4»
وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظنّ كرامة وهي احتقار
وما انقادت لغيرك في زمان ... فتدري ما المقادة والصّغار
فلزّهم القتال إلى طراد ... أحدّ سلاحهم فيه الفرار «5»(15/113)
مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار
إذا صرف النهار الضوء عنهم ... دجا ليلان: ليل والغبار
وإن جنح الظلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفية والنهار
يرون الموت قدّاما وخلفا ... فيختارون والموت اضطرار
74/فلو لم تبق لم تعش البقايا ... وفي الماضي لمن بقي اعتبار
لعلّ بنيهم لبنيك جندّ ... فأول قرّح الخيل المهار «1»
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلّة العبدان عار
في الاستجداء، والتقاضي قوله: [البسيط]
شكر العفاة لما أوليت أوجدني ... إلى نداك طريق العرف مسلوكا «2»
ما زلت تتبع ما تولي يدا بيد ... حتى ظننت حياتي من حياتيكا «3»
وقوله: [الكامل]
يا ذا الذي يهب الكثير وعنده ... أنّي عليه بأخذه أتصدّق «4»
أمطر عليّ سحاب جودك ثرّة ... وانظر إليّ برحمة لا أغرق «5»(15/114)
وقوله: [البسيط]
أنصر بجودك ألفاظا تركت بها ... في الشرق والغرب من عاداك مبهوتا «1»
فقد نظرتك حتى عاد مرتحل ... وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا «2»
وقوله: [الطويل]
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لا حق «3»
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وقوله: [الطويل]
وثقنا بأن تعطي فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من شدّة الوهم «4»
وأطمعتني في نيل ما لا أناله ... فما زلت حتى صرت أطمع في النجم
وقوله: [الخفيف]
ومن البرّ بطء سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام «5»(15/115)
75/وقوله: [البسيط]
وربّما فارق الانسان مهجته ... يوم الوغى غير قال خشية العار «1»
وقد منيت بحسّاد أحاربهم ... فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري
وقوله: [البسيط]
وجدت أنفع مال كنت أذخره ... ما في السوابق من جري وتقريب «2»
وكيف أكفر يا كافور نعمتها ... وقد بلغنك بي يا خير مطلوب
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
أنت الحبيب ولكنّي ألوذ به ... من أن أكون محبّا غير محبوب «3»
وقوله: [الطويل]
أزل حسد الحسّاد عنّي بكبتهم ... فأنت الذي صيّرتهم لي حسّدا «4»
إذا شدّ أزري حسن رأيك في يدي ... ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا»
وما أنا إلّا سمهريّ حملته ... فزيّن معروضا وراع مسدّدا «6»(15/116)
وما الدهر إلّا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا «1»
فسار به من لا يسير مشمّرا ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنّما ... بشعري أتاك المادحون مردّدا
ودع كلّ صوت بعد صوتي فإنّني ... أنا الصائح المحكيّ والآخر الصدى «2»
تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
إذا سأل الإنسان أيّامه الغنى ... وأنت على بعد جعلتك موعدا «3»
وقوله: [الطويل]
وأمضى سلاح قلّد المرء نفسه ... رجاء أبي المسك الكريم وقصده «4»
76/هما ناصرا من خانه كلّ ناصر ... وأسرة من لم يكثر النّسل جدّه
أنا اليوم من غلمانه في عشيرة ... لنا والد منه يفدّيه ولده
فمن ماله مال الكبير ونفسه ... ومن ماله درّ الصغير ومهده «5»
تولّى الصّبا عني فأخلفت طيبه ... وما ضرّني لمّا رأيتك فقده
لقد شبّ في هذا الزمان كهوله ... لديك وشابت عند غيرك مرده(15/117)
فكن في اصطناعي محسنا كمجرّب ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فاما تنفّيه وإما يقدّه
وما الصارم الهنديّ إلّا كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده
وكلّ نوال كان أو هو كائن ... فلحظة طرف منك عندي ندّه
وإنّي لفي بحر من الخير أصله ... عطاياك أرجو مدّها وهي مدّه
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنّها في مفخر استجدّه
فإنّك ما مرّ النحوس بكوكب ... وقابلته إلّا ووجهك سعده
وقوله: [الطويل]
رضيت بما ترضى به لي محبّة ... وقدت إليك النّفس قود المسلّم «1»
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم
وقوله: [الطويل]
أبا المسك هل في الكأس فضل أنا له ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب «2»
وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
77/منها:
ولكنّه طال الطريق ولم أزل ... أفتش عن هذا الكلام وينهب
فشرّق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرّب حتى ليس للغرب مغرب(15/118)
إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدار معلّى أو خباء مطنّب
وقوله: [الخفيف]
يا رجاء العيون في كلّ أرض ... لم يكن غير أن أراك رجائي «1»
فارم بي ما أردت منّي فإنّي ... أسد القلب آدمي الرّواء
وفؤادي من الملوك وإن كان ... لساني يرى من الشعراء
وقوله: [الطويل]
أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني «2»
لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه ... لعوّقه شيء عن الدوران
وقوله: [الطويل]
أيا أسدا في جسمه روح ضيغم ... وكم أسد أرواحهنّ كلاب «3»
ويا آخذا من دهره حقّ نفسه ... ومثلك يعطى حقّه ويهاب
لنا عند هذا الدهر حقّ يلطّه ... وقد قلّ إعتاب وطال عتاب(15/119)
وقد تحدث الأيام عندك شيمة ... وتنعمر الأوقات وهي يباب
أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أمّلت منك حجاب
أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النّفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وما أنا بالباغي على الحبّ رشوة ... ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
78/وما شئت إلّا أن أذلّ عواذلي ... على أنّ رأيي في هواك صواب
وأعلم قوما خالفوني فشّرقوا ... وغرّبت أنّي قد ظفرت وخابوا
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التراب تراب
وما كنت لولا أنت إلّا مهاجرا ... له كلّ يوم بلدة وصحاب
ولكنّك الدنيا إليّ حبيبة ... فما عنك لي إلّا إليك ذهاب
وقوله: [المنسرح]
فعد بها لا عدمتها أبدا ... خير صلات الكريم أعودها «1»
وقوله: [الطويل]
وأكثر تيهي أنّني بك واثق ... وأكثر مالي أنّني لك آمل «2»
وفي الشكر قوله يخاطب فاتكا: [البسيط](15/120)
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال «1»
وإن تكن محكمات الشّكل تمنعني ... ظهور جري فلي فيهنّ تصهال
وما شكرت لأنّ المال فرّحني ... سيّان عندي إكثار وإقلال «2»
لكن رأيت قبيحا أن يجادلنا ... وأنّنا بقضاء الحقّ بخّال
فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيث بغير سباخ الأرض هطّال
غيث يبيّن للنّظار موقعه ... إنّ الغيوث بما تأتيه جهّال
لا يدرك المجد إلّا سيّد فطن ... لما يشقّ على السادات فعّال
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال
لطّفت رأيك في وصلي وتكرمتي ... إنّ الكريم على العلياء يحتال
وقوله: [المنسرح]
له أياد إليّ سابغة ... أعدّ منها ولا أعدّدها «3»
79/يعطي فلا مطله يكدّرها ... بها ولا منّه ينكدّها
وقوله: [المنسرح]
تمثّلوا حاتما ولو عقلوا ... لكنت في الجود غاية المثل «4»
كيف أكافئ على أجلّ يد ... من لا يرى أنّها يد قبلي(15/121)
وقوله: [الوافر]
وإنّي عنك بعد غد لغاد ... وقلبي عن فنائك غير غاد «1»
محبّك حيثما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
وقوله: [الوافر]
ومن إحدى فوائده العطايا ... ومن إحدى عطاياه الدوام «2»
فقد خفي الزمان بها علينا ... كسلك الدرّ يخفيه النّظام «3»
أقامت في الرّقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام
وقوله: [الطويل]
مدحت أباه قبله فشفى يدي ... من العدم من تشفى به الأعين الرمد «4»
حباني بأثمان السوابق دونها ... مخافة سيري أنّها للنّوى جند
وأصبح شعري منهم في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد «5»(15/122)
وقوله: [المنسرح]
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه «1»
إن كان فيما نراه من كرم ... فيك فريد فزادك الله
وقوله: [الطويل]
أحبّك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لا مني فيك السّها والفراقد «2»
فإنّ قليل الحبّ بالعقل صالح ... وإنّ كثير الحبّ بالجهل فاسد
80/وقوله: [الكامل]
يا من يقتّل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان «3»
فإذا رأيتك حار دونك ناظري ... وإذا مدحتك حار فيك لساني
في التهاني والعيادات قوله: [البسيط]
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم «4»
وراجع الشّمس نور كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم(15/123)
وما أخصّك في برى بتهنئة ... إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا
وقوله يهنئ بعيد الفطر: [البسيط]
الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك حتى الشمس والقمر «1»
ما الدهر عندك إلّا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر
ما ينتهي لك في أيّامه كرم ... فلا انتهى لك في أعوامه عمر
وقوله يهنئ بعيد الأضحى: [الطويل]
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمّى وضحّى وعيّدا»
ولا زالت الأيام لبسك بعده ... تسلّم مخروقا وتعطى مجدّدا
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا
هو الجدّ حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيّدا «3»
وقوله: [الطويل]
تحاسدت البلدان حتى لو أنّها ... نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا «4»
وأصبح مصر لا تكون أميره ... ولو أنّه ذو مقلة وفم بكى
وقوله: [البسيط](15/124)
غاب الأمير فغاب الخير عن بلد ... كادت لفقد اسمه تبكي منابره «1»
81/حتى إذا عقدت فيه القباب له ... أهلّ لله باديه وحاضره
وجدّدت فرحا لا الغمّ يطرده ... ولا الصبابة في قلب تجاوره
وقوله: [الكامل]
ما منبج مذ غبت إلّا مقلة ... سهرت ووجهك نومها والإثمد «2»
فالليل حين قدمت فيه أبيض ... والصبح منذ رحلت عنها أسود
ما زلت تدنو وهي تعلو همّة ... حتى توارى في ثراها الفرقد «3»
أبدى العداة بك السرور كأنّهم ... فرحوا وعندهم المقيم المقعد
حتى انثنوا ولو أنّ حدّ قلوبهم ... في قلب هاجرة لذاب الجلمد
وقوله: [البسيط]
إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها «4»
لا ينكر الحسن من دار تكون بها ... فإنّ ريحك روح في مغانيها «5»(15/125)
وقوله في الحمّى: [الكامل]
ومنازل الحمّى الجسوم فقل لها ... ما عذرها في تركها خيراتها «1»
أعجبتها شرقا فطال وقوفها ... لتأمّل الأعضاء لا لأذاتها
وبذلت ما عشقته نفسك كلّه ... حتى بذلت لهذه صحّاتها
وقوله: [الوافر]
أيدري ما أرابك من يريب ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب «2»
وجسمك فوق همّة كلّ داء ... فقرب أقلّها منه عجيب
يجمّشك الزمان هوى وحبّا ... وقد يؤذي من المقة الحبيب «3»
82/وكيف تعلّك الدنيا بشيء ... وأنت بعلّة الدنيا طبيب
وفي التعازي قوله: [الطويل]
عزاؤك سيف الدولة المقتدى به ... فانّك نصل والشدائد للنّصل «4»
ومن كان ذا نفس كنفسك حرّة ... ففيه لها مغن وفيها له مسلي(15/126)
وقوله يعزّيه بغلامه: [الطويل]
علينا لك الإسعاد إن كان نافعا ... بشقّ قلوب لا بشقّ جيوب «1»
فرّب كئيب ليس تندى جفونه ... وربّ غزير الدمع غير كئيب «2»
إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبث ثنت فاستدبرته بطيب
فدتك نفوس الحاسدين فإنّها ... معذّبة في حضرة ومغيب
وفي تعب من يحسد الشّمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
وقوله يعزّيه بأخته الصغرى ويسلّيه ببقاء الكبرى: [الخفيف]
أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الذي يعزّيك عقلا «3»
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قال الذي له قلت قبلا
قد بلوت الخطوب مرّا وحلوا ... وملكت الزمان حزنا وسهلا «4»
وقتلت الزمان علما فما يعر ... رف قولا ولا يجدّد فعلا
فإذا قست ما أخذن بما أغ ... درن سرّى عن الفواد وسلّى
وتيقنّت أنّ حظّك أوفى ... وتبيّنت أنّ جدّك أعلى «5»
وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر أرادت الموت بعلا(15/127)
وقوله يعزّي عضد الدولة بعمّته: [السريع]
83/ما كان عندي أنّ بدر الدجى ... يوحشه المفقود من شهبه «1»
يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في قلبه
مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدّمع عن غربه
ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه
وقوله: [الكامل]
صبرا بني اسحاق عنه تكرّما ... إنّ العظيم على العظيم صبور «2»
فلكلّ مفجوع سواكم مشبه ... ولكلّ مفقود سواه نظير
فأعيذ إخوته بربّ محمّد ... أن يحزنوا ومحمّد مسرور
وفي الإخوانيات قوله: [الكامل]
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني فأقام بين ضلوعي «3»
أو ما وجدتم في الصّراة ملوحة ... ممّا أرقرق فيه ماء دموعي «4»
ما زلت أحذر من وداعك جاهدا ... حتى اغتدى أسفي على التوديع(15/128)
رحل العزاء برحلتي فكأنّما ... أتبعته الأنفاس للتّشييع
وقوله: [الخفيف]
كلّما رحّبت بنا الأرض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل «1»
والمسمّون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول
الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي ما يزول
وإذا صحّ فالزمان صحيح ... وإذا اعتلّ فالزمان عليل
وإذا غاب وجهه عن مكان ... فبه من ثناه وجه جميل
ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول «2»
84/نغّص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي نحيل
إن تبّوأت غير داري أرضا ... وأتاني نيل فأنت المنيل «3»
من عبيدي إن عشت لي ألف كا ... فور ولي من نداك ريف ونيل
ما أبالي إذا اتّقتك المنايا ... من دهته خبولها والحبول «4»
وقوله: [الكامل المرفل]
إنّ الذين أممت وارتحلوا ... أيّامهم كديارهم دول «5»(15/129)
الحسن يرحل كلّما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
وقوله: [الطويل]
رجونا الذي يرجون في كلّ جنّة ... بأرجان حتى ما يئسنا من الخلد «1»
تفضّلت الأيام بالجمع بيننا ... فلمّا حمدنا لم تدمنا على الحمد
وقد كنت أدركت المنى غير أنّني ... يعيّرني قومي بإدراكها وحدي
ولو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد «2»
وقوله: [الوافر]
تسايرك السواري والغوادي ... مسايرة الأحبّاء الطراب «3»
تفيد الجود منك فتحتذيه ... وتعجز عن خلائقك العذاب
وقوله: [الكامل]
يجد الحمام ولو كوجدي لا نبرى ... شجر الأراك مع الحمام ينوح «4»(15/130)
وقوله: [الخفيف]
وافترقنا حولا فلمّا التقينا ... كان تسليمه عليّ وداعا «1»
وفي الهجاء قوله في هجاء كافور: [الطويل]
أريك الرّضا لو أخفت العين خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا «2»
85/أمينا وإخلافا وغدرا وخسّة ... وخبثا أشخصا لحت لي أم مخازيا
تظنّ ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلّا ضاحك من رجائيا «3»
ولولا فضول الناس جئتك مادحا ... بما كنت في سّري به لك هاجيا
وأصبحت مسرورا بما أنا منشد ... وإن كان بالانشاد هجوك غاليا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ... ليضحك ربّات الحداد البواكيا
وقوله يهجوه: [البسيط]
إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدود «4»
جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ... إلّا وفي يده من نتنها عود
من كلّ رخو وكاء البطن منتفخ ... لا في الرجال ولا النسوان معدود «5»(15/131)
العبد ليس لحرّ صالح بأخ ... لو أنّه في ثياب الحرّ مولود
لا تشتر العبد إلّا والعصا معه ... إنّ العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن ... يسىء بي فيه كلب وهو محمود
من علّم الأسود المخصيّ مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السود «1»
أم أذنه في يد النخّاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود
86/وقوله يهجوه: [المتقارب]
لقد كنت أحسب قبل الخصيّ ... بأنّ الرءوس مقرّ النّهى «2»
فلمّا نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى
وقوله يهجوه: [السريع]
العبد لا تفضل أخلاقه ... عن فرجه المنتن أو ضرسه «3»
فلا ترجّ الخير عند امرئ ... مرّت يد النخاس في رأسه
وإن عراك الشكّ في أمره ... بحاله فانظر إلى جنسه
فقلّ ما يلؤم في ثوبه ... إلّا الذي يلؤم في غرسه
وقوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ: [الكامل](15/132)
وارفق بنفسك إنّ خلقك ناقص ... وارفق بنفسك إنّ أصلك مظلم «1»
واحذر مناواة الرجال فإنّما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم
وغناك مسألة وطيشك نفخة ... ورضاك فيشلة وربّك درهم
يمشي باربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء تلجم
وجفونه ما تستقرّ كأنّها ... مطروقة أوفتّ فيها حصرم
وإذا أشار محدّثا فكأنّه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
يقلي مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمّم
وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... وتراه أكذب ما يكون ويقسم «2»
أرسلت تسألني المديح سفاهة ... صفراء أضيق منك ماذا أزعم «3»
وأشدّ ما جاوزت قدرك صاعدا ... وأشدّ ما قربت عليك الأنجم
87/وقوله يهجو الأعور بن كروس: [الوافر]
تعادينا لأنّا غير لكن ... وتبغضنا لأنّا غير عور «4»
فلو كنت امرءا تهجى هجونا ... ولكن ضاق فتر عن مسير
وقوله: [البسيط](15/133)
كريشة بمهبّ الريح ساقطة ... لا تستقرّ على حال من القلق «1»
وقوله: [المجتث]
إن آنستك المخازي ... فإنّها لك نسبه «2»
أو أوحشتك المعالي ... فإنّها دار غربه
ومن المختار له في أشياء متفرّقة قوله: [الكامل]
سر حيث شئت يحلّه النّوار ... وأراد فيك مرادك المقدار «3»
وإذا ارتحلت فشيعّتك سلامة ... حيث اتّجهت وديمة مدرار
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتى كأنّ صروفه انصار
وصدرت أغنم صادر عن مورد ... مرفوعة لقدومك الأبصار
أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار «4»
وإذا تنكّر فالفناء عقابه ... وإذا عفا فعطاؤه الأعمار
لله قلبك لا يخاف من الردى ... ويخاف أن يدنو إليك العار
يا من يعزّ على الأعزّة جاره ... ويذلّ في سطواته الجبّار
إنّ الذي خلّفت خلفي ضائع ... مالي على قلقي عليه خيار(15/134)
وإذا صحبت فكلّ ماء مشرب ... لولا العيال وكلّ أرض دار
إذن الأمير بأن أعود إليهم ... صلة تسير بذكرها الأشعار «1»
وقوله: [الوافر]
وصار أحبّ ما تهدي إلينا ... لغير قلى وداعك والسّلاما «2»
88/ولكنّ الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره المقاما
وقوله: [الطويل]
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانوية تكذب «3»
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيّان تغرب
وقوله وقد سقطت خيمة سيف الدولة: [المتقارب]
فلا تنكرنّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل «4»
فلو بلّغ الناس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل
ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن اشار بما تفعل
وقوله: [الوافر](15/135)
أعن إذني تهبّ الريح رهوا ... ويسري كلّما سقت الغمام «1»
ولكنّ الغمام له طباع ... تبجّسه بها وكذا الكرام «2»
وقوله: [الطويل]
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل «3»
أتسلم للخطّية ابنك هاربا ... ويسكن في الدنيا إليك خليل
وقوله: [الكامل]
لمّا تحكّمت الأسنّة فيهم ... جارت وهنّ يجرن في الأحكام «4»
فتركتهم خلل البيوت كأنّما ... غضبت رؤوسهم على الأجسام
وقوله: [الطويل]
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق «5»
وما كمد الحسّاد شيئا قصدته ... ولكنّه من يزحم البحر يغرق
89/ويمتحن الناس الأمير برأيه ... ويغضي على علم بكلّ ممخرق(15/136)
وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
وقوله: [الوافر]
وللحسّاد عذر أن يشحّوا ... على نظري إليه وأن يذوبوا «1»
فإنّي قد وصلت إلى مكان ... عليه تحسد الحدق القلوب
وقوله: [الطويل]
أسير إلى إقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بخيامه «2»
فلا زالت الشمس التي في سمائه ... مطالعة الشمس الذي في لثامه
ولا زال تجتاز البدور لوجهه ... تعجّب من نقصانها وتمامه «3»
وقوله: [الخفيف]
إنّما أحفظ المديح بعيني ... لا بقلبي لما رأت في الأمير «4»
من خصال إذا نظرت إليها ... نظمت لي غرائب المنثور
وقوله وقد استدعاه سيف الدولة إلى حضرته: [الطويل]
ولكنّ لي كفّا أعيش بفضلها ... ولا أشتري إلّا بها وأبيع «5»(15/137)
أأطرحها تحت الرّجا ثمّ أبتغي ... لها مخلصا إنّي إذا لرقيع
وقوله: [الطويل]
فليس الذي يتّبّع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل «1»
وما أنا ممّن يدّعي الشوق قلبه ... ويعتلّ في ترك الزيارة بالشغل «2»
وقوله: [الطويل]
رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليّ وكم باك بأجفان ضيغم «3»
ومارّبة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم
90/وقوله: [الوافر]
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبّك أن يحلّ به سواكا «4»
لعلّ الله يجعله رحيلا ... يعين على الإقامة في ذراكا
فلو أنّي استطعت خفضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا(15/138)
ولولا أنّ أكثر ما تمنّى ... معاودة لقلت ولا مناكا
قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل ما أعلّك ما شفاكا
وما أعتاض منك إذا افترقنا ... وكلّ الناس زور ما خلاكا
وقوله: [الخفيف]
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسّاد «1»
إنّما أنت والد والأب القا ... طع أحنّ من واصل الأولاد
أنتما- ما اتّفقتما- الجسم والرو ... ح فلا احتجتما إلى العوّاد
هذه دولة المكارم والرأ ... فة والمجد والنّدى والأيادي
كسفت ساعة كما تكسف الشم ... س وعادت ونورها في ازدياد
كيف لا تترك الطريق لسيل ... ضيّق عن أتّيه كلّ واد
وقوله وقد نام أبو بكر الطائي: [الكامل]
إنّ القوافي لم تنمك وإنّما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد «2»
فكأنّ أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنّها ممّا سكرت المرقد
وقوله: [الطويل]
أتاني وعيد الأدعياء وأنّهم ... أعدّوا لي السودان في كفر عاقب «3»
ولو صدقوا في جدّهم لحذرتهم ... فهل فيّ وحدي قولهم غير كاذب(15/139)
91/وقوله: [البسيط]
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم «1»
وقي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم
وقوله: [الوافر]
وما ماضي الشباب بمستردّ ... ولا يوم يمرّ بمستعاد «2»
متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد «3»
متى ما ازددت من بعد التناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد «4»
وقوله: [البسيط]
تسوّد الشمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم «5»
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
وقوله: [الخفيف]
وإذا الشيخ قال أفّ فما م ... لّ حياة وإنّما الضعف ملّا «6»(15/140)
آلة العيش صحة وشباب ... فإذا ولّيا عن المرء ولّى
أبدا تستردّ ما تهب الدّن ... يا فياليت جودها كان بخلا
وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهدا ولا تتممّ وصلا
كلّ دمع يسيل منها عليها ... وبفكّ اليدين منها تحلّى
وقوله: [البسيط]
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... منّي بحلمي الذي أعطت وتجريبي «1»
فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبّان والشّيب
وقوله يصف فرسا: [الرجز]
لو سابق الشمس من المشارق ... جاء إلى الغرب مجيء السابق «2»
وقوله يصف شعره: [الطويل]
92/وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيّض من نورها الحبر «3»
كأنّ المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الزّهر
وماذا الذي فيه من الحسن رونقا ... ولكن بدا في وجهه نحوك البشر(15/141)
وقوله يصف القلم: [الطويل]
نحيف الشوى يعدو على أمّ رأسه ... ويخفى فيقوى عدوه حين يقطع «1»
يمجّ ظلاما في نهار لسانه ... ويفهم عمّن قال ما ليس يسمع
ذباب حسام منه أنجى ضريبة ... وأعصى لمولاه وذا منه أطوع
بكفّ جواد لو حكتها سحابة ... لما فاتها في الشرق والغرب موضع
وقوله: [المقتضب]
أبلج لو عاذت الحمام به ... ما خشيت راميا ولا صائد «2»
وقوله: [البسيط]
أما ترى ما أراه أيّها الملك ... كأنّنا في سماء مالها حبك «3»
الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك
وقوله يصف قلعة: [الطويل]
فأضحت كأنّ السور من فوق بدئه ... إلى الأرض قد شقّ الكواكب والتّربا «4»(15/142)
تصدّ الرياح الهوج عنها مخافة ... ويفزع فيها الطير أن يلقظ الحبّا
وقوله: [الوافر]
ولو سرنا إليه في طريق ... من النيران لم نخف احتراقا «1»
فابلغ حاسديّ عليه إنّي ... كبا برق يحاول بي لحاقا
وهل تغني الرسائل في عدوّ ... إذا ما لم يكنّ ظبا رقاقا
93/وقوله: [المجتث]
إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا «2»
وقوله: [الكامل]
وتوهّموا اللّعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وقوله: [المتقارب]
وجدت المدامة غلّابة ... تهيجّ للقلب أشواقه «3»
وأنفس ما للفتى لبّه ... وذو اللّبّ يكره إنفاقه
وقوله: [المقتضب](15/143)
ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدرّ درّ برغم من جهله «1»
وصرت كالسيف حامدا يده ... ما يحمد السّيف كلّ من حمله
وقوله: [الوافر]
أبا الغمرات توعدنا النّصارى ... ونحن نجومها وهي البروج «2»
وقوله: [الوافر]
رضوا بك كالرضى بالشّيب قسرا ... وقد وخط النّواصي والفروعا «3»
وقوله: [الخفيف]
إنّ بعضا من القريض هذاء ... ليس شيئا وبعضه أحكام «4»
وقوله: [البسيط]
كلام أكثر من تلقى ومنظره ... ممّا يشقّ على الآذان والحدق «5»(15/144)
وقوله: [الطويل]
رأيت الحميّا في الزجاج بكفّه ... فشبّهتها بالشمس في البدر في البحر «1»
وقوله: [الوافر]
كأنّ بنات نعش في دجاها ... خرائد سافرات في حداد «2»
وقوله: [الخفيف]
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضّلتها بقصدك الأقدام «3»
وقوله: [الوافر]
فلا حطّت لك العلياء سرجا ... ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا «4»
وقوله: [الطويل]
وهذا دعاء لو سكتّ كفيته ... لأنّي سألت الله فيك وقد فعل «5»(15/145)
وقوله: [الطويل]
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل «1»(15/146)
ومنهم:
2- السريّ بن أحمد الكندي المعروف بالرّفاء الموصلي «1» .
توفي سنة ستين وثلثمائة. كان معيديا تسمع به لا أن تراه، 94/جريريا أدبه لا مرآه.
وكان فى أول/ صباه يرفو ويطرّز فى دكان بالموصل وهو يجتهد فى مواد الأدب ويحصّل، ثمّ ما زال يطرّز حتى ظهر بهذا الطّرز، وأسلم أجيرا للخياط فجاء تاجرا بمثل هذا البزّ، واتّخذ نسخ ديوان كشاجم ديدنه، ونسف ترابه وأدبه حتى استثار معدنه بحدّة ذهن حلّ به مرموزه، وشدّة تتبّع أخرج به مكنوزه، ثم كانت بينه وبين الخالديّين هنات «2» أراد بها التغطية على محاسنهم، والتعمية على ما لا يصطاد شوارده إلّا من مكامنهم، وكان يأخذ نوادرهم البديعة (وبوادرهم) «3» ممّا لا يجي به إلّا الفكرة السريعة فيخلطه فى ديوان كشاجم لينسب إليه وينسي من لم تنتجها قريحة ولود إلّا بين جنبيه «4» .
قال ابن خلكان «5» ما معناه: ولهذا اختلفت نسخ هذا الديوان، واختلّت إلى هذا(15/147)
الأوان. وكان السريّ معجبا بشعر كشاجم يقفو أثره، ويغفى وطيف خياله لا يفارق نظره فحظي بالافتنان فى التشبيه، وحبي بما لا يؤمن الافتتان منه بما ليس له شبيه.
ومنه قوله فى أبيات أجاب بها صديقا له كتب يسأله عن حاله: [السريع]
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرّزق بها ضيّقا ... كأنّه من ثقبها جاري «1»
ومنه قوله فى سيف الدولة: [الوافر]
طلعت على الديار وهم نبات ... فأغمدت السيوف وهم حصيد
فما أبقيت إلّا مخطّفات ... حمى الأعطاف منها والنهود «2»
ومنه قوله: [الكامل]
حيّيت من طلل أجاب دثوره ... يوم العقيق سؤال دمع سائل
95/نحفى وننزل وهو أعظم حرمة ... من أن يذال براكب أو نازل «3»
ومنه قوله: [الطويل]
عليلة أنفاس الرياح كأنّما ... يعلّ بماء الورد نرجسها النّدي «4»
يشقّ جيوب الورد فى شجراتها ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد
ومنه قوله، وذكر الخيال: [الكامل](15/148)
وفى فحّقق لي الوفاء ولم يزل ... خدن الصبابة بالوفاء حقيقا «1»
ومضى وقد منع الجفون خفوقها ... قلب لذكرك لا يقرّ خفوقا
ومنه قوله: [الكامل]
نضت البراقع عن محاسن روضة ... ريضت بمحتفل الحيا أنوارها «2»
فمن الثغور المشرقات لجينها ... ومن الخدود المذهبات نضارها
أغصان بان أغربت في حملها ... فغرائب الورد الجنيّ ثمارها
ومنه قوله: [الكامل]
تلك المكارم لا أرى متأخرا ... أولى بها منه ولا متقدّما «3»
عفو أظلّ ذوي الجرائم كلّهم ... حتى لقد حسد المطيع المجرما
ومنه قوله: [الوافر]
تحنّ جمالنا هونا إليها ... فأحسبها ترى منها جمالا «4»
ويسأل من معالمها محيلا ... فنطلب من إجابتها محالا
ومنه قوله يتشوّق بني فهد: [الطويل]
فشرّق منهم سيد ذو حفيظة ... وغرّب منهم سيد فتشأما «5»
كأنّ نواحي الجو تنثر منهم ... على كلّ فّج قاتم اللون أنجما(15/149)
96/ومنه قوله: [الطويل]
وأغيد مهتزّ على صحن خدّه ... غلائل من صبغ الحياء رقاق «1»
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق
ومنه قوله: [مجزوء البسيط]
ترتع حولي الظّبا آنسة ... نظائرا فى الجمال أشباها «2»
رقّت عن الوشي نعمة فإذا ... صافح منها الجسوم وشّاها
ومنه قوله من أبيات كتبها إلى صديق أهدى إليه ماء ورد فى قارورة بيضاء مذهبة مزينة كالروضة المعشبة: [الطويل]
بعثت بها عذراء حالية النّحر ... مشهّرة الجلباب حوريّة النّشر «3»
مضمّنة ماء صفا مثل صفوها ... فجاءت كذوب الدرّ في جامد الدرّ «4»
ينوب بكفّي عن أبيه وقد مضى ... كما نبت عن آبائك السادة الغرّ
ومنه قوله:
لمّا تراءى لك الجمع الذي نزحت ... أقطاره ونأت بعدا جوانبه «5»
تركتهم بين مصبوغ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه
فحائد وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه
يهوي إليه بمثل النجم طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق ضاربه(15/150)
يكسوه من دمه ثوبا ويلبسه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
ومنه قوله: [الكامل]
يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا «1»
97/رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا
ومنه قوله: [الكامل]
ألبستني نعما رأيت بها الدجى ... صبحا وكنت أرى الصباح بهيما «2»
فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدوّ رحيما
وقوله: [الوافر]
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحيّة والسلام «3»
وحتفي كامن فى مقلتيه ... كمون الموت فى حدّ الحسام
ومنه قوله فى سيف الدولة وذكر العدوّ: [البسيط]
تروع أحشاءه بالكتب وهو لها ... خوف الدّوى ورجاء السّلم مستلم «4»
لا يشرب الماء إلّا غصّ من حذر ... ولا يهوّم إلّا راعه الحلم
وقوله: [الوافر]
وقفنا نحمد العبرات لمّا ... رأينا البين مذموم السجايا «5»(15/151)
كأنّ خدودهنّ إذا استقلّت ... شقيق فيه من طلّ بقايا
ومنه قوله فى رثاء امرأة: [الطويل]
تذال مصونات الدموع إزاءها ... وتمشي حفاة حولها الرّجل والركب «1»
تساوت قلوب الناس فى الحزن إذ ثوت ... كأنّ قلوب الناس في موتها قلب
ومنه قوله وكتب به إلى صديق له اتّهمه بغلام بعثه إليه فى حاجة: [الوافر]
وخفت عليه فى الخلوات منّى ... ولم يك بيننا حال يخاف «2»
فلو أنّي هممت بقبح فعل ... لدى الإغفاء أيقظني العفاف
وقوله: [البسيط]
أيام لي فى الهوى العذريّ مأربة ... وليس لي فى هوى العذّال من أرب «3»
سقى الغمام رباها دمع مبتسم ... فكم سقاها التصابي دمع مكتئب
98/ومنه قوله: [الطويل]
ولمّا اعتنقنا خلت أنّ قلوبنا ... تناجي بأفعال الهوى وهي تخفق «4»
هي الدار لم يخل الغمام ولا الهوى ... معالمها من عبرة تترقرق
منها:
وطوّقت قوما فى الرقاب صنائعا ... كأنّهم منها الحمام المطّوق «5»(15/152)
ومنه قوله فى سيف الدولة: [الطويل]
تبسّم برق الغيم فاختال لامعا ... وحلّ عقود الغيث فارفضّ هاملا «1»
فقلت: عليّ منك أعلى صنائعا ... إذا ما رجوناه وأرجى مخايلا
ومنه قوله: [الكامل]
قامت تميّل للعناق مقوّما ... كالخوط أبدع في الثمار وأغربا «2»
حملت ذراه الأقحوان مفضضّا ... يسقي المدامة والشقيق مذهّبا
وأبت وقد أخذ النقاب جمالها ... حركات غصن البان أن تتنقّبا
وقوله يذكر جراحا نالته فى بعض أسفاره: [الخفيف]
نوب لو علت شماريخ رضوى ... أو شكت أن تخرّ منهنّ هدّا «3»
عرضتني على الحسام فأضحى ... كلّ عضو منّي لحدّيه غمدا
وكست مفرقي عمامة ضرب ... أرجوانية الذوائب تندى
ومنه قوله: [الكامل]
وأرى العدوّ نقيصة في عمره ... وأرى الصديق زيادة في ماله «4»
بوقائع للبأس فى أعدائه ... ووقائع للجود في أمواله
عذلوه في الجدوى ومن يثني الحيا ... أم من يسدّ عليه طرق سجاله
99/وقوله في وصف طير الماء: [الطويل](15/153)
وآمنة لا الوحش يذعر سربها ... ولا الطير منها داميات المخالب «1»
هي الروض لم تنش الخمائل زهره ... ولا اخضلّ عن دمع من المزن ساكب «2»
إذا انبعثت بين الملاعب خلتها ... زرابيّ كسرى بثّها في الملاعب
وإن آنست شخصا من الناس صرصرت ... كما صرصرت فى الطرس أقلام كاتب
ومنه قوله: [الكامل]
وأنا الفداء لمرغم فيّ العدى ... إذ زارني وهنا على عدوائه «3»
قمر إذا ما الوشي حين أذاله ... كيما يصون بهاءه ببهائه
ضعفت معاقد خصره وعقوده ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه
ومنه قوله: [البسيط]
حليّه وثناياه وعنبره ... كلّ ينمّ عليه أو يراقبه «4»
فلست أدرى إذا ما سار في أفق ... شمائل الأفق أذكى أم جنائبه
ومنه قوله فى القلم يخاطب الصابي «5» : [الكامل]
وفتى إذا هزّ اليراع حسبته ... لمضاء عزمته يهزّ مناصلا «6»(15/154)
من كلّ ضافي البرد ينطق راكبا ... بلسان حامله ويصمت راجلا
وقوله: [المنسرح]
والغيث والليث والهلال إذا ... أقمر بأسا وبهجة وندى «1»
ناس عن الجود ما يجود به ... وذاكر منه كلّ ما وعدا
ومنه قوله فى وصف أشعاره: [الخفيف]
خلع غضّة النسيم غذاها ... صفو ماء العلوم والآداب «2»
100/فهى كالخرّد العرائس يخلط ... ن شماس الصّبا بأنس التصابي «3»
رقّة فوق رقّة الخصر تبدي ... فطنة فوق فطنة الأعراب
ومنه قوله: [الطويل]
ألست ترى ركب الغمام يساق ... فأدمعه بين الرياض تراق «4»
ورقّت جلابيب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق «5»
ومنه قوله: [الكامل]
فلتشكرنّك دولة جددتها ... فتجددّت أعلامها ومنارها «6»
حلّيتها وحميت بيضة ملكها ... فغرار سيفك سورها وسوارها(15/155)
وقوله: [الكامل]
نشر الثناء فكان من أعلامه ... وطوى الوداد فكان من إضماره «1»
كالنخل يبدي الطّلع من إثماره ... حسنا ويخفي الغضّ من جمّاره «2»
وقوله فى الشمع: [الرجز]
1- أعددت للّيل إذا الليل غسق «3» ... 2- وقيّد الألحاظ من دون الطرق
3- قضبان تبر عريت من الورق «4» ... 4- شفاؤها إن مرضت ضرب العنق
ومنه قوله: [المنسرح]
وانظر إلى الليل كيف تصدعه ... راية صبح مبيضّة العذب «5»
كراهب خرّ للهوى طربا ... فشقّ جلبابه من الطّرب «6»
وقوله: [البسيط]
وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين «7»
مشوا إلى الراح مشي الرّخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
101/وقوله يصف الشطرنج: [الكامل]
يبدي لعينيك كلّما عاينته ... قرنين جالا: مقدما ومخاتلا «8»(15/156)
فكأن ذا صاح يسير مقوّما ... وكأنّ ذا نشوان يخطر مائلا
وقوله يصف كانون نار: [المتقارب]
وذي أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
نحمّله سبجا أسودا ... فيجعله ذهبا أحمرا»
وقوله: [الوافر]
وكم خرق الحجاب إلى مقام ... توارى الشمس فيه بالحجاب «2»
كأنّ سيوفه بين العوالي ... جداول يطّردن خلال غاب
وقوله يصف شعره: [الوافر]
إليك رفعتها عذراء تأوي ... حجاب القلب لا حجب القباب «3»
أذبت لصوغها ذهب القوافي ... فأدّت رونق الذّهب المذاب
وقوله: [الوافر]
وما زالت رياح الشعر شتّى ... فمن ريّا الهبوب ومن سموم «4»
منحتك من محاسنها بديعا ... مقيم الزهر سيّار النسيم «5»
وقوله: [البسيط]
والشعر كالرّوض ذا ظام وذا خضل ... أو كالصوارم ذا ناب وذا خذم «6»
أو كالعرانين هذا حظّه خنس ... مزر عليه وهذا حظّه شمم(15/157)
وقوله: [المنسرح]
وخلعة للثّناء دبّجها ال ... فكر ففاقت بحسنها البدعا «1»
وقرّب الحذق لفظها فغدا ... من قربه مطمعا وممتنعا
وقوله: [البسيط]
إنّ المدائح لا تهدى لناقدها ... إلّا وألفاظها أصفى من الذّهب «2»
102/كم رضت بالفكر منها روضة أنفا ... تفتّح الزهر فيها عن جنى الأدب
لفظ يروح له الريحان مطرّحا ... إذا جعلناه ريحانا على النّخب
وقوله: [الوافر]
أتتك يجول ماء الطّبع فيها ... مجال الماء في السيف الصقيل «3»
قواف إن ثنت للمرء عطفا ... ثنى الأعطاف فى برد جميل
وقوله: [الكامل]
شرقت بماء الطّبع حتى خلتها ... شرقت لرونقها بتبر ذائب «4»
ويقول سامعها إذا ما أنشدت ... أعقود حمد أم عقود كواكب
وقوله: [الكامل]
والبس غرائب مدحة دبجّتها ... فكأنّما دبّجت منها مطرفا «5»(15/158)
من كل بيت لو تجسّم لفظه ... لرأيته وشيا عليك مفوّفا
وقوله: [الكامل]
ألفاظه كالدّر في أصدافه ... لا بل يزيد عليه في لألآئه «1»
من كلّ ريّقة الجمال كأنّما ... جاد الشباب لها بريّق مائه
والشعر بحر نلت أنفس درّه ... وتنافس الشعراء في حصبائه
وقوله: [الكامل]
وغرائب مثل السيوف إضاءة ... وجدت من الفكر الدّقاق صياقلا «2»
فلو استعار الشيب بعض جمالها ... أضحى إلى البيض الحسان وسائلا
جاءتك بين رصينة ورقيقة ... تهدي إليك مطارفا وغلائلا
وقوله يتظلّم من الخالديين «3»
إلى ابن فهد: [الطويل]
تحيّف شعري يا ابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى «4»
103/وفي كلّ يوم للغبييّن غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا
إذا عنّ لي معنى تضاحك لفظه ... كما ضاحك النّوار في روضه الغدرا
غريب كسطر البرق لمّا تبسّمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه صدرا
تناوله مثر من الجهل معدم ... من الحلم معذور متى خلع العذرا(15/159)
فبعّد ما قرّبت منه غباوة ... وأورد ما سهلّت من لفظه وعرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... ودنّستما تلك المطارف والأزرا
فويحكما هلّا بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي من محاسنها شطرا
وقوله يتظلّم منهما إلى ابن ناصر الدولة: [البسيط]
يا أكرم الناس إلّا أن يعدّ أبا ... فات الكرام بآباء وآثار «1»
أشكو إليك حليفي غارة شهرا ... سيف الشّقاق على ديباج أشعاري
ذئبين لو ظفرا بالشّعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار
وكلّ مسفرة الألفاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار
أرقت ماء شبابي في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري
كأنّها أنفس الريحان تمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوّار «2»
إن قلّداك بدرّ فهو من لججي ... أو ختّماك بياقوت فأحجاري «3»
منها:
هذا وعندي من لفظ أشعشعه ... سلافة ذات أضواء وأنوار
ينشا خلال شغاف القلب إن نشأت ... ذات الحباب خلال الطين والقار «4»
لم يبق لي من قريض كان لي وزرا ... على الشدائد إلّا ثقل أوزاري
104/وقوله في مثله: [الطويل](15/160)
ولا بّد أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيّته الغصب «1»
تخيّل شعري أنّه قوم صالح ... هلاكا وأنّ الخالديّ له سقب «2»
وكان رياضا غضّة فتكدّرت ... مواردها وأصفّر في تربها العشب
غصبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب وجوهره نهب
وأبكاره شتّى أذيل مصونها ... وريعت عذاراها كما روّع السّرب
وقوله يخاطب أبا الخطّاب في أمر الخالديين عند رجوعهما إلى العراق: [الكامل]
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطّاب «3»
ورد العراق ربيعة بن مكدّم ... وعيينة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شكّ بأنّهما هما ... في الفتك لا في صحّة الأنساب
وبدائع الشعراء فيما جهّزا ... مقرونة بغرائب الكتّاب
شنّا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
فحذار من حركات صلّي قفرة ... وحذار من حركات ليثي غاب
لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهبان نتائج الألباب
كم حاولا أمدي فطال عليهما ... أن يدركا إلّا مثار ترابي
ولقد حميت الشعر وهو لمعشر ... رمم سوى الأسماء والألقاب
وضربت عنه المدّعين وإنّما ... عن حوزة الآداب كان ضرابي «4»
فغدت نبيط الخالديّة تدّعي ... شعري وترفل في حبير ثيابي(15/161)
قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نفضت عمائمهم على الأبواب
105/من كلّ كهل يستطيل سباله ... لونين بين أنامل البوّاب «1»
مغض على ذلّ الحجاب بردّه ... دامي الجبين، تجهّم الحجّاب
نظرا إلى شعري يروق فترّبا ... منه خدود كواعب أتراب
شرباه فاعترفا له بعذوبة ... ولربّ عذب عاد سوط عذاب
فى غارة لم تنثلم فيها الظّبا ... ضربا، ولم تند القنا بخضاب
تركت غرائب منطقي في غربة ... مسبيّة لا تهتدي لإياب
جرحى وما ضربت بحدّ مهنّد ... أسرى وما حملت على الأقتاب
لفظ صقلت متونه فكأنّه ... في مشرقات النظم درّ سخاب «2»
وإذا ترقوق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
جدّ يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
وقوله في أبي إسحاق الصابي وقد ورد عليه كتابهما بانحدار هما إلى بغداد: [الخفيف]
قد أظلّتك يا أبا اسحاق ... غارة اللفظ والمعاني الدّقاق «3»
فاتّخذ معقلا لشعرك يحمي ... هـ مروق الخوارج المرّاق
قبل رقراقة الحديد يريق الس ... م في صفو مائه الرقراق
كان شرّ الغارات في البلد ال ... قفر فأضحى على سرير العراق «4»
غارة لم تكن بسمر العوالي ... حيث شنّت ولا السيوف الرقاق(15/162)
بدع كالسيوف أرهفن حسنا ... وسقاهنّ رونق الطّبع ساقي
مشرقات تريك لفظا ومعنى ... حمرة الحلي في بياض التراقي
يالها غارة تفرّق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق
106/والوجوه الرّقاق دامية الأب ... شار في معرك الوجوه الصّفاق
منها:
لتنفّست رحمة للخدود ال ... حمر منهنّ والخدود الرّشاق
والرياض التى ألحّ عليها ... كاذب الوبل صادق الإحراق
والنجوم التى تظلّ نجوم ال ... أرض حسّادها على الإشراق «1»
بعد ما لحن في سماء المعالي ... طلّعا أو نثرن في الآفاق «2»
وتخيّرت حليهنّ فلم تع ... د خيار النحور والأعناق
فهو مثل المدام بين صفاء ... وبهاء ونفحة ومذاق «3»
منطق يخجل الرّبيع إذا حل ... ل عليه السحاب عقد النطاق
يا هلال الآداب يا ابن هلال ... صرف الله عنك صرف المحاق
سوف أهدي إليك من خدم المج ... د إماء تعاف قبح الإباق
كلّ مطبوعة على اسمك باد ... وسمها في الجباه والآفاق
وقوله يهجو النامي «4» وكان جزارا: [الوافر](15/163)
ورقّع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسمّ الزعاف «1»
لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي
لها أرج السوالف حين تجلى ... على الأسماع أو أرج السّلاف
جمعن الحسنيين فمن رياح ... معنبرة وأرواح خفاف
وما عدمت مغيرا منك يرمي ... رقيق طباعها بطباع جافي
معان تستعار من الدّياجي ... وألفاظ تعدّ من الأثافي
كأنّك قاطف منها ثمارا ... سبقت إليه إبّان القطاف
107/وشرّ الشعر ما أدّاه فكر ... تعثّر بين كدّ واعتساف
سأشفي الشعر منك بنظم شعر ... تبيت له على مثل الأثافي
وأبعد بالمودّة عنك عهدى ... فقف لي بالمودّة خلف قاف»
وقوله يعرض بالتلعفري المؤدب: [الطويل]
وكلّ غبيّ لو يباشر برده ... لظى النار أضحى حرّها وهو بارد «3»
أفيقوا فلن يعطى القريض معلّم ... وهل يتولى الأغبياء عطارد
ولا تمنحوا منه الكرام قلائدا ... فليس من الحصباء تهدى القلائد
وقوله في مثله: [الكامل]
وعلمت إذ كلّفت نفسك غايتي ... أنّ الرياح بعيدة الأشواط «4»
أترومني وعلى السّماك محلّتي ... شرفا وبين الفرقدين صراطي(15/164)
وقوله في رجل «1» يتعصّب للخالديين ورماه بالقيادة: [الطويل]
وعندي له لو كان كفؤ قوارضي ... قوارض ينثرن الدّلاص المسرّدا «2»
ومغموسة في الشّري والأري هذه ... ليردى بها باغ وتلك لترتدى «3»
لك الويل إن أطلقت بيض سيوفها ... وأطلقتها خرز النواظر شرّدا
ولست لجدّ القول أهلا فإنما ... أطير سهام الهزل مثنى وموحدا
نصبت لفتيان البطالة قبّة ... لتدخلها الفتيان كهلا وأمردا
وكم لذّة لا منّ فيها ولا أذى ... هديت لها خدن الضلالة فاهتدى
منها في ذكر المائدة وسمكة مشوية:
نثرت عليها البقل غضّا كأنما ... نثرت على حرّ اللجين الزبرجدا
108/ومصبوغة بالزعفران عريضة ... كأنّ على أعطافها منه مجسدا «4»
تريك وقد غطّت بياضا بصفرة ... مثالا عن الكافور ألبس عسجدا «5»
تحفّ بها منهم كهول وفتية ... كأنّهم عقد يحفّ مقلّدا
وملت بهم من غير فضل عليهم ... إلى الورد غضّا والشراب مورّدا
إذا وصلوا أضحى الخوان مدبّجا ... وإن هجروا أضحى سليبا مجرّدا «6»
لك القبّة البيضاء أوضحت نهجها ... فأطلعت فيها للفتّوة فرقدا «7»(15/165)
يصادف منها الزّور جيبا مزرّرا ... وباطية ملأى وظبيا مغرّدا
ومنه قوله فيه وكان يعرف بالملحي: [الطويل]
دعاني فغدّاني بإنشاد شعره ... فلولا انصرافي عنه متّ من الطّوى «1»
وناولني مسودّة لو قرنتها ... إلى القار كانا فى سوادهما سوا
وقال: أرى هذا الشراب لصفوه ... ورقته كالنجم قلت: إذا هوى
وفضّل في الشعر امرأ غير فاضل ... فقلت له أمسك نطقت عن الهوى
ومنه قوله فيه: [الوافر]
وشيخ طاب أخلاقا فأضحى ... أحبّ إلى الشباب من الشباب «2»
له قفص إذا استخفيت فيه ... أمنت فلم تنلك يد الطّلاب «3»
طرقناه وقنديل الثريا ... يحطّ وفارس الظلماء كابي
فرحبّ واستمال وقال: حطّت ... رحالكم بأفنية رحاب
وحضّ على المناهدة الندامى ... بألفاظ مهذّبة عذاب
وقال: تيمّموا الأبواب منها ... فكلّ جاء من تلقاء باب
109/فهذا قال: قدر من طعام ... وهذا قال: دنّ من شراب
وهذا قال: ريحان ونقل ... وثلج مثل رقرقة السّراب
وسمح القوم من سمحت يداه ... بخدّ غريرة بكر كعاب
فتمّ لهم بذلك يوم لهو ... غريب الحسن عذب مستطاب(15/166)
إذا العبء الثقيل توزّعته ... أكفّ القوم خفّ على الرقاب «1»
ومنه قوله فيه: [مجزوء الرمل]
مجلس فيه لأربا ... ب الخنا قال وقيل «2»
وضراط مثلما انشق ... ق الدّبيقي الصقيل «3»
فإذا اختالت خلال الش ... شرب عذراء شمول
لعبت أيد لها أق ... فية القوم طبول
ومنه قوله فيه: [المنسرح]
تطنّ تحت الأكفّ هامته ... إذا علتها طنين فولاذ «4»
وخير ما فيه أنّه رجل ... يخدمني الدّهر وهو أستاذي
إذا انتشى أقبلت أنامله ... تنشر ميتا خلال أفخاذي «5»
وقوله فيه وقد دعاه في يوم حار وأطعمه هريسة وسقاه نبيذ الدّبس: [الطويل]
دعانا ليستوفي الثناء فأظلمت ... خلائق تستوفي لصاحبها السّبا «6»
وأحضرنا محبوسة طول ليلها ... معذّبة بالنار مسعرة كربا
تخيّر من رطب الذؤابة لحمها ... ومن يابس الحبّ الثقيل لها حبّا «7»(15/167)
وساهرها ليلا يضيّق سجنها ... فلما أضاء الصبح أوسعها ضربا
إذا مسحتها الريح راحت كأنّها ... تمسّح موتى كشّفت عنهم التّربا
وداذيّة تنهى الصباح إذا بدا ... وتفسد أنفاس النسيم إذا هبّا
110/شراب يفضّ الطين عنه وعمره ... ثلاثة أيام وقد شبّ لا شبّا
يمدّ بأطراف النهار وما افترى ... ولا كان خدنا للزناة ولا تربا
فلمّا ترايت الجميع إزاءنا ... عجبت لمضروبين ما جنيا ذنبا «1»
ومنه قوله: [الخفيف]
فاغد سرّا بنا إلى قفص المل ... حيّ فالعيش فيه نضير «2»
نتوارى من الحوادث والده ... ر خبير بمن توارى بصير
مجلس في فناء دجلة ير ... تاح إليه الخليع والمستور «3»
طائر فى الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير
وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون جدره وستور
وإذا غارت الكواكب صبحا ... فهو الكواكب الذي لا يغور
ليس فيه إلّا خمار وخمر ... وممات من سكره ونشور
وحديث كأنّه زهر المنث ... ور حسنا ولؤلؤ منثور «4»
وجريح من الدّنان يسيل الر ... راح من جرحه وقدر تفور
ولك الظّبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير(15/168)
فتمتّع بما تشاء نهارا ... ثم بت معرسا وأنت أمير «1»
كلّ هذا بدر همين فإن زد ... دت فأنت المبجّل الموفور
ومنه قوله في الغزل وهو ممّا غنّي به: [البسيط]
ورحت في الحسن أشكالا مقسّمة ... بين الهلال وبين الغصن والعقد «2»
111/أريتني مطرا ينهلّ ساكبه ... من الجفون وبرقا لاح من برد
ووجنة لا يروّي ماؤها ظمأ ... نجلّا وقد لذعت نيرانها كبدي
فكيف أبقي على ماء الشؤون وما ... أبقى الغرام على صبري ولا جلدي
ومنه قوله: [الوافر]
أبيت الليل مرتفقا أنادي ... بصدق الوجد كاذبة الأماني «3»
فتشهد لي على الأرض الثريا ... ويعلم ما أجنّ الفرقدان «4»
إذا دنت الخيام بهم فأهلا ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تمّ ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنار ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من ريّاك ريّا ... وحيّانا بأوجهك الحسان
ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحي من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحبّ أحلى من جناني
فياولع العواذل خلّ عنيّ ... ويا إلف الغرام خذي عناني «5»(15/169)
وقوله: [البسيط]
ومن وراء سجوف الرّقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داجي «1»
مقدودة خطرت أيدي الشباب لها ... حقّين دون مجال العقد من عاج
وقوله: [الخفيف]
لطمت خدّها بحمر لطاف ... نال منها عذاب بيض عذاب «2»
فتشكّى العنّاب نور الأقاحي ... واشتكى الورد ناضر العنّاب
وقوله: [مجزوء الكامل]
قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها «3»
112/ويهزّها سكران: سك ... ر شرابها وشبابها
تسعى بصهباوين ... من ألحاظها وشرابها
فكأنّ كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ما ... لاح تحت نقابها
وقوله: [الكامل]
لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... صنما تسربل قبلها أثوابا»
وحكت عن الظبي الغرير ثلاثة ... جيدا وطرفا فاتنا وإهابا «5»
وقوله: [الكامل](15/170)
أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى ... وهنا فوشّح روضه بسلاسل «1»
أذكرتنا النشوات في عهد الصّبا ... والعيش في سنة الزمان الغافل «2»
أيام أستر صبوتي من كاشح ... عمدا وأسرق لذّتي من عاذل
وقوله: [الوافر]
تثنّى البرق يذكرني الثنايا ... على أثناء دجلة والشعابا «3»
وأياما عهدت بها التّصابي ... وأوطانا صحبت بها الشبابا
وقوله: [الطويل]
فكم ليلة شمّرت للراح رائحا ... وبتّ لغزلان الصّريم مغازلا «4»
وحلّيت كأسي والسماء بحليها ... فما عطّلت حتى بدا الأفق عاطلا
وقوله فى قصيدة يتشوّق بها إلى الموصل وهو بحلب: [الكامل]
أم هل أرى القصر المنيف معمّما ... برداء غيم كالرداء رقيق
وقلالي الدّير التي لولا النّوى ... لم أرمها بقلى ولا بعقوق «5»
محمّرة الجدران ينفح طيبها ... فكأنها مبنيّة بخلوق
113/منها:
يتنازعون على الرحيق غرائبا ... يحسبن زاهرة كؤوس رحيق
صدرت عن الأفكار وهي كأنها ... رقراق صادرة عن الراووق(15/171)
منها:
دهر ترفّق بي فوافى صرفه ... وسطا عليّ فكان غير رفيق «1»
فمتى أزور قباب مشرفة الذّرى ... فأرود بين النّسر والعيّوق
وأرى الصوامع في غوارب أكمها ... مثل الهوادج في غوارب نوق
حمرا يلوح خلالها بيض كما ... فصّلت بالكافور سمط عقيق
وقوله فى حسن التخلّص «2» : [الكامل]
عصر مزجت شمائلي بشموله ... وظلاله ممزوجة بشماله «3»
حتى حسبت الورد من أشجاره ... يجنى أو الريحان من آصاله «4»
وكأنّني لمّا ارتديت ظلاله ... جار الوزير المرتدي بظلاله
وقوله: [الكامل]
أكني عن البلد البعيد بغيره ... وأردّ عنه عنان قلب مائل «5»
وأودّ لو فعل الحيا بسهوله ... وحزونه فعل الأمير بآمل
وقوله: [الكامل]
وركائب يخرجن من غلس الدّجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا «6»
والفجر مصقول الرداء كأنّه ... جلباب خود أشربته خلوقا «7»(15/172)
أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من شيم الأمير بروقا «1»
وقوله: [المتقارب]
ترى البرق يبسم سرّا بها ... إذا انتحب الرّعد فيها جهارا «2»
إذا ما تنمّر وسمّيها ... تعصفر بارقها فاستطارا
114/يعارضها في الهواء النّسيم ... فينثر في الأرض درّا صغارا
فطورا يشقّ جيوب الحياء ... وطورا يسحّ الدموع الغزارا
كأنّ الأمير أعار الرّبا ... شمائله فاشتملن المعارا
وقوله: [البسيط]
أقول للمبتغي إدراك سؤدده ... خفّض عليك فليس النّجم مطلوبا «3»
كم من جبين أزار السيف صفحته ... فعاد طرسا بحدّ السيف مكتوبا «4»
وكم له في الوغي من طعنة نظمت ... عداه أو نثرت رمحا أنابيبا
وقوله: [الكامل]
كالغيث يحيي إن همى والسّيل ير ... وي إن طمى والدهر يصمي إن رمى «5»
شتّى الخلال يروح إمّا سالبا ... نقم العدى قسرا وإما منعما
مثل الشهاب أصاب فجّا معشبا ... بحريقه وأصاب فجّا مظلما(15/173)
أو كالغمام الجود إن بعث الحيا ... أحيا وإن بعث الصواعق ضرّما «1»
أو كالحسام إذا تبسّم متنه ... عبس الرّدى في حدّه فتجّهما
ويلمّ من شعث العلى بشمائل ... أحلى من اللّعس الممنّع واللّمى «2»
وقوله: [الكامل]
نسب أضاء عموده في رفعة ... كالصّبح فيه ترفّع وضياء «3»
وشمائل شهد العداة بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
وقوله: [البسيط]
والبيض ظلّ عليك الدّهر منتشر ... والنقع جيب عليك الدّهر مزرور «4»
115/والشرك قد هتكت أستار بيضته ... بحدّ سيفك والإسلام منشور
كم وقعة لك شبّت في ديارهم ... نارا وأشرق منها في الهدى نور
وقوله: [البسيط]
وعاشق خيلاء الخيل مبتذل ... نفسا تصان المعالي حين تبتذل «5»
أشمّ تبدي الحصون الشمّ طاعته ... خوفا فيسلم من فيها ويرتحل
تشوقه ورماح الخطّ مشرعة ... نجل الجراح بها لا الأعين النجل
كأنّه وهجير الروع يلفحه ... نشوان مدّ عليه ظلّه الأسل «6»(15/174)
فالصافنات حشاياه وإن قلقت ... والسابغات وإن أوهت له حلل
لمّا تمزّقت الأغماد عن شغل ... تمزّقت عن سنا أقمارها الكلل
أكرم بسيفك فيها صائلا غزلا ... يفري الشؤون ويثني غربه المقل «1»
وقوله: [الكامل]
ولربّ يوم لا تزال جياده ... تطأ الوشيج مخضّبا ومحطّما «2»
معقودة غرر الجياد بنقعه ... وحجولها ممّا تخوض من الدّما
يلقاك من وضح الحديد موضّحا ... طورا ومن رهج السنابك أدهما
أقدمت تفترس الفوارس جرأة ... فيه وقد هاب الردّى أن يقدما
والنّدب من لقي الأسنّة سافرا ... وثنى الأعنّة بالعجاج معمّما «3»
وقوله: [الوافر]
وأغلب عامه في السّلم يوم ... ولكن يومه في الحرب عام «4»
يهجّر والرماح عليه ظل ... ويسفر والعجاج له لثام
116/وقوله: [الكامل]
جيش إذا لاقى العدوّ صدوره ... لم يلق للأعجاز منه لحوقا «5»
حجبت له شمس النهار وأشرقت ... شمس الحديد بجانبيه شروقا
وقوله: [الكامل](15/175)
كم معرك عرك القنا أبطاله ... فسقاهم في النّقع سمّا ناقعا «1»
هبّت رياحك في ذراه سمائما ... وغدت سماؤك تستهلّ فجائعا
فتركت من حرّ الحديد مصائغا ... فيه ومن فيض الدّماء مراتعا
وقوله: [الرمل]
والضّحى أدهم بالنّقع فإن ... ضحكت فيه الظّبا كان أغر «2»
موقف لو لم يكن نارا إذا ... لم يكن زرق عواليه شرر
وقوله في العتاب: [المتقارب]
أتسلمني بعد أن رحت لي ... على نوب الدّهر جارا مجيرا»
وأسفر حظّي لما رآ ... ك بيني وبين الليالي سفيرا
سأهدي إليك نسيم العتاب ... وأضمر من حرّ عتب سعيرا
وقوله يعاتب صديقا أفشى له سرّا: [الطويل]
رأيتك تبري للصدّيق نوافذا ... عدوّك من أمثالها الدّهر آمن «4»
وتكشف أسرار الأخلّاء مازحا ... ويا ربّ مزح راح وهو ضغائن «5»
سأحفظ ما بيني وبينك صائنا ... عهودك إنّ الحرّ للعهد صائن
وألقاك بالبشر الجميل مداهنا ... فلي منك خلّ ما علمت مداهن
أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشيء فيها ظاهرا وهو باطن(15/176)
117/وقوله في مثله: [الوافر]
ثنتني عنك فاستشعرت هجرا ... خلال فيك لست لها براضي «1»
وأنّك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النسيم على الرياض
وقوله: [البسيط]
أمانك السيف لا يبقى له أثر ... وأنت كالصّلّ لا تبقي ولا تذر «2»
سرّي إليك كأسرار الزجاجة لا ... يخفى على العين منها الصّفو والكدر
فاحذر من الشّعر كسرا لا انجبار له ... فللزجاجة كسر ليس ينجبر
وقوله: [البسيط]
أستودع الله خلّا منك أوسعه ... ودّا فيوسعني غشّا وتمويها «3»
كأنّ سرّي في أحشائه لهب ... فما تطيق له طيّا حواشيها
قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها
فعاد من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشفّ العين ما فيها «4»
وقوله: [الكامل]
لا تأنفنّ من العتاب وقرصه ... فالمسك يسحق كي يزيد فضائلا «5»
ما أحرق العود الذي أشبهته ... خطأ ولا غمّ البنفسج باطلا
وقوله في الربيع وآثاره ونواّره وأزهاره: [البسيط](15/177)
أما ترى الجوّ يجلى في ممسّكة ... والأرض تختال في أبرادها القشب «1»
إذا ألحّ حسام البرق مؤتلقا ... في الومض جدّ خطيب الرّعد في الخطب «2»
والريح وسنى خلال الروض وانية ... فما يراع لها مستيقظ التّرب «3»
وقوله: [الرمل]
شاقني مستشرف الدّير وقد ... راح صوب المزن فيه وبكر «4»
118/أهواء رقّ في جانبه ... أم هوى راق فما فيه كدر «5»
وخدود سفرت عن وردها ... أم ربيع عن جنى الورد سفر
مجلس ينصرف الشّرب وما ... طويت من بسطة تلك الحبر
وكأنّ الشمس فيه نثرت ... ورقا ما بين أوراق الشجر «6»
بين غدر يقع الطير بها ... فتراهنّ رياضا في غدر
ونسيم وكره الروّض فإن ... طار في الصّبح ارتديناه عطر «7»
وثرى يشهد بالطيب له ... عبق حالف أطراف الأزر
وغيوم نشرت أعلامها ... فلها ظلّ علينا منتشر
وقوله: [الكامل](15/178)
وحدائق يسبيك وشي برودها ... حتى تشبّهها سبائب عبقر «1»
يجري النسيم خلالها وكأنّما ... غمست فضول ردائه في العنبر
باتت قلوب المحل تخفق بينها ... بخفوق رايات السحاب الممطر «2»
من كلّ نائي الحجرتين مولّع ... بالبرق داني الظلّتين مشهّر «3»
تحدى بألسنة الرّعود عشاره ... فتسير بين مغرّد ومزمجر
طارت عقيقة برقه فكأنّما ... صدعت ممسّك غيمه بمعصفر
وقوله من أرجوزة في روض وغدير وطير الماء: [الرجز]
وضاحك الروض محلّى المنزل «4» ... سبط هبوب الريح جعد المنهل
موشّح بالنور أو مكلّل ... مفروجة حلّته عن جدول
أقبل قد غصّ بمدّ مقبل ... والطير تنقضّ عليه من عل
119/تساقط الوشي على المصندل
وقوله: [السريع]
لو رحّبت كأس بذي زورة ... لرحّبت بالورد إذ زارها «5»
جاء فخلناه خدودا بدت ... مضرمة من خجل نارها
وعطّر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياك عطّارها
وقوله: [الرجز](15/179)
وصاحب يقدح لي ... نار السرور في القدح «1»
في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطلّ سبح
والجوّ في ممسّك ... طرازه قوس قزح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
وقوله: [المتقارب]
غيوم تمسّك أفق السّما ... وبرق يكتّبها بالذّهب «2»
وخضراء ننثر فيها الندى ... فريد ندى ماله من ثقب
وأنوارها مثل نظم الحلي ... وأنهارها مثل بيض القضب
حللت بها في ندامى سلوا ... عن الجدّ واشتهروا باللّعب «3»
وأغنتهم عن بديع السّماع ... بدائع ما ضمنّته الكتب «4»
وأحسن شيء ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب
وقوله في البرد: [مجزوء الوافر]
يوم خلعت به عذاري ... فعريت من حلل الوقار «5»
وضحكت فيه إلى الصبّا ... والشيب يضحك في عذاري «6»
120/متلوّنا يبدي لنا ... طرفا بأطراف النهار
فهواؤه سكب الرّدا ... ء وغيمه صافي الإزار(15/180)
يبكي فيجمد دمعه ... والبرق يكحله بنار «1»
وقوله في الخمر: [الطويل]
إذا ما مضى يوم من العيش صالح ... فصله بيوم صالح العيش مرغد «2»
وحالية من حسنها وجمالها ... وإن برزت عطل الشّوى والمقلّد
تعاطيك كأسا غير ملأى كأنّما ... فواقعها أحداق درع مزرّد
كأنّ أعاليها بياض سوالف ... تلوح على توريد خدّ مورّد «3»
وقوله في مثله: [الطويل]
وصفراء من ماء الكروم شربتها ... على وجه صفراء الغلائل غضّة «4»
تبدّت وفضل الكأس يلمع فوقها ... كأترجة زينت بإكليل فضّة
وقوله في مثله: [المتقارب]
دعانا إلى اللهو داعي السّرور ... فبتنا نبوح بما في الصدور «5»
وطافت علينا بشمس الدّنا ... ن في غسق الليل شمس الخدور «6»
كأنّ الكؤوس وقد كلّلت ... بفضلاتهنّ أكاليل نور
جيوب من الوشي مزرورة ... يلوح عليها بياض النّحور
وقوله: [المنسرح](15/181)
وفتية دارت السّعود بهم ... فدار للراح بينهم فلك»
بتنا وضوء الكؤوس يهتك بال ... إشراق ستر الدّجي فينهتك
121/يدني الثريا والبدر في قرن ... كما يحيّا بنرجس ملك «2»
وقوله: [المنسرح]
قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القضب «3»
كأنّها والرياح تعطفها ... صفّ قنى سندسيّة العذب
والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد طرّزتها البروق بالذّهب
وقوله: [البسيط]
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب «4»
وجدّ في أثر الجوزاء يطلبها ... في الجوّ ركض هلال دائم الطّلب
كصولجان لجين في يدي ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذّهب
فقم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنّها نار بلا لهب
عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب
وقوله: [الخفيف]
وسحاب إذ همى الماء فيه ... ألهب الرعد في حشاه البروقا «5»
مثل ماء العيون لم يجر إلّا ... ظلّ يذكي على القلوب حريقا(15/182)
وقوله: [الخفيف]
جوهريّ الأوصاف يقصر عنه ... كلّ وصف لكلّ ذهن رقيق «1»
شارب من زبرجد وثنايا ... لؤلؤ فوقها فم من عقيق
وقوله: [السريع]
صوّره خالقه جامعا ... لكلّ شيء حسن جامع «2»
فكلّ حسن في جميع الورى ... مختصر من ذلك الجامع
122/وقوله: [المنسرح]
عشقت من لا ألام فيه ولا ... يخلو من اللّوم كلّ من عشقا «3»
رأي الورى في سواه مختلف ... وأنت تلقاه فيه متّفقا
فكلّ قلب إليه منصرف ... كأنّه من جميعها خلقا
وقوله: [الخفيف]
زارني في دجى الظلام البهيم ... قمر بات مؤنسي ونديمي «4»
بحديث كأنّه عودة الصحّة ... في الجسم بعد يأس السقيم
يتلّقى القلوب منه قبول ... كتلقّي المخمور برد النسيم
وقوله: [مجزوء الكامل]
لا تلفينّ مقارنا ... من لا يزين من الصّحاب «5»(15/183)
فالثوب ينفض صبغه ... فيما يليه من الثياب
وقوله: [السريع]
ريق إذا ما ازددت من شربه ... ريّا ثناني الريّ ظمآنا «1»
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا
وقوله: [الخفيف]
حملت كفّه إلى شفتيه ... كأسه والظلام مرخيّ الإزار «2»
فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار
وفيه: [الطويل]
وصفراء من ماء الكروم كأنّها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق «3»
كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درّ في سماء عقيق
صببت عليها الماء حتى تعوضّت ... قميص بهار في قميص شقيق
وقوله وقد شرب ليلة في زورق: [الطويل]
ومعتدل يسعى إليّ بكأسه ... وقد كاد ضوء الصّبح بالليل يفتك «4»
123/وقد حجب الغيم السماء كأنّما ... يزرّ عليها منه ثوب ممسّك
ظللنا نبثّ الوجد والكأس دائر ... ونهتك أستار الهوى فتهتّك
ومجلسنا في الماء يهوي ويرتقي ... وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك(15/184)
وقوله: [المتقارب]
وساق يقابل إبريقه ... كما قابل الظبي ظبيا ربيبا «1»
يطوف علينا بشمسّية ... يروع لها الشمس حتى تغيبا
وقوله: [المتقارب]
وملآن من عبرات الكروم ... كأنّ على فمه عصفرا «2»
إذا قرّبته أكفّ السّقاة ... من الكأس قهقه واستعبرا
تروّحه عذبات الغرام ... بريّا النسيم إذا ما جرى
وريم إذا رام حثّ الكؤو ... س قطّب للتيه واستكبرا
وجرّد من طرفه خنجرا ... ومن نون طرّته خنجرا
ترى ورد وجنته أحمرا ... وريحان شاربه أخضرا
وقوله يذكر ليلة قطعها، وبالشمع لمّعها، وهى قطعة اطّردت كعوبها، وخلت من حشو يعيبها، فأثبتناها لا تّساقها وتناسب مساقها: [المتقارب]
كستك الشبية ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها «3»
فدم للنّديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها
فقد خلع الأفق ثوب الدّجى ... كما نضت البيض أجفانها
124/وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين إنسانها «4»
يتّوج بالكأس كفّ النديم ... إذا نظم الماء تيجانها(15/185)
فطورا يوشّح ياقوتها ... وطورا يرصّع عقيانها
رميت بأفراسيها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها
ودير شغفت بغزلانه ... فكدت أقبّل صلبانها
ولمّا دجا الليل فرّجته ... بروح تحيّف جثمانها
بشمع أعير قدود الرّماح ... وسرج ذراها وألوانها
غصون من التّبر قد أزهرت ... لهيبا يزيّن أفنانها
فيا حسن أرواحها في الدّجى ... وقد أكلت فيه أبدانها
سكرت بقطربّل ليلة ... لهوت فغازلت غزلانها «1»
وأيّ ليالي الهوى أحسنت ... إليّ فأنكرت إحسانها
وقوله: [البسيط]
أما ترى الصّبح قد قامت عساكره ... في الشرق تنشر أعلاما من الذّهب «2»
والجوّ يختال في حجب ممسّكة ... كأنّما البرق فيها قلب ذي رعب
تجنّبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعشوق والشنب «3»
فالعيش في ظلّ أيام الصّبا فإذا ... ودّعت طيب الشباب الغضّ لم يطب
جريت في حلبة الأهواء مجتهدا ... وكيف أقصر والأيام في طلبي
توّج بكأسك قبل النائبات يدي ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
125/وقوله: [البسيط](15/186)
في حامل الكأس من بدر الدّجى خلف ... وفى المدامة من شمس الضّحى عوض «1»
كأن نجم الثريّا كفّ ذي كرم ... مبسوطة للعطايا ليس تنقبض
دارت علينا كؤوس الراح مترعة ... وللدّجى عارض في الجوّ معترض «2»
حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنهنّ عيون حشوها مرض «3»
وقوله يصف ظلّ كرم: [الطويل]
فلا عيش إلّا في اعتصام بقهوة ... يروح الفتى منها خضيب المعاصم «4»
ولا ظلّ إلا ظلّ كرم معرش ... تغنّيك من قطريه ورق الحمائم
سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ... على الأرض إلّا مثل نثر الدراهم
وقوله: [البسيط]
حثّا المدام فذا يوم به قصر ... وما به عن تمام الحسن تقصير «5»
صحو وغيم يروق العين حسنهما ... فالصحّو فيروزج والغيم سمّور
وقوله: [الطويل]
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى ضحوة الغد «6»
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهّمته يسعى بكمّ مورّد
وقوله: [الطويل]
وشعث دنان خاويات كأنّها ... صدور رجال فارقتها قلوبها «7»(15/187)
فسقياك لا سقيا السحاب فإنّما ... هي العلّة الكبرى وأنت طبيبها «1»
وقوله: [مجزوء الوافر]
أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم «2»
ولست أسيغها إلّا ... كلون الورد والعنم
فشيئا من دم العنقو ... د أجعله مكان دمي
126/وقوله إلى صديق له في يوم شديد الثلج والبرد: [الطويل]
طرقتك ممتاحا وليس لطارق ... يرومك من وقع الضّريب طريق «3»
جنوب تحث المزن حثّا وشمال ... يعبّس منها الوجه وهو طليق
وضدّ حريق ألبس الأرض ثوبه ... يخاف على الأقدام منه حريق «4»
تثير الصّبا في الجوّ منه عجاجة ... كما انتثر الكافور وهو سحيق
وما انفكّ حرّ القرّ إلّا بقهوة ... ترقرق فى كاساتها فتروق»
إذا ألبست أثوابها فعقيقة ... وإن نشرت أنفاسها فخلوق
تدور علينا كأسها في غلائل ... تردّ صفيق العيش وهو رقيق «6»
فألبس منها جبّة حين أنتشي ... وأخلعها بالكره حين أفيق «7»(15/188)
وإنّي خليق من نداك بمثلها ... وأنت بما أمّلت منك خليق «1»
وقوله في الاستزارة يدعو صديقا ويصف غرفة والنهر والقدر والكانون والخمر:
[المتقارب]
لنا غرفة حسنت منظرا ... وطابت لساكنها مخبرا «2»
ترى العين قدّامها روضة ... ومن فوقها عارضا ممطرا «3»
وينساب ما بينها جدول ... كما ذعر الأيم أو نفّرا «4»
وراح كأنّ نسيم الصّبا ... تحمّل من نشرها العنبرا
وعندي ريم قليل المكاس ... وندمان صدق قليل المرا «5»
ودهماء تهدر هدر الفنيق ... إذا ما امتطت لهبا مسعرا «6»
تجيش بأوصال وحشيّة ... رعت زهرات الرّبا أشهرا
127/كأنّ على النار زنجيّة ... تفرّج بردا لها أصفرا
وذو أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السّير فيمن سرى
نحمّله سبجا أسودا ... فيجعله ذهبا أحمرا
فشمّر إلى لذّة ترتضى ... فإنّ أخا الجدّ من شمّرا
وقوله: [المنسرح]
لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلّا ثنتني إليك مرتاحا «7»(15/189)
وعندنا ظبية مهفهفة ... ترأم ريما يحنّ صدّاحا «1»
وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتس غرّة وأوضاحا
إن خمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا غدا راحا «2»
عصابة إن حضرت مجلسهم ... كنت شهابا له ومصباحا «3»
أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا
وقوله يدعو صديقا ويصف كانون نار: [المنسرح]
يوم رذاذ ممسّك الحجب ... يضحك فيه السرور عن كثب «4»
ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب
وقد جرت خيل راحنا خببا ... في حلبة أو هممن بالخبب «5»
والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كلّ منظر عجب
إذا ارتمت بالشّرار واطّردت ... على ذراها مطارد اللهب
رأيت ياقوتة ممسّكة ... يطير عنها قراضة الذّهب «6»
128/فصر إلى المجلس الذي ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب
وقوله: [الكامل](15/190)
نفسي فداؤك كيف تصبر طائعا ... عن فتية مثل البدور صباح «1»
حنّت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفسا يعلّ مسالك الأرواح «2»
وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الراح
فإذا جرت حببا على أيديهم ... جعلوه ريحانا على الأقداح
وقوله: [الوافر]
ألا عدلي بباطية وكاس ... وزع همّي بإبريق وطاس «3»
وذاكرني بشعر أبي فراس ... على روض كشعر أبي نواس
وغيم مرهفات البرق فيه ... عوار والرياض به كواس
وقد سلّت جيوش الفطر فيه ... على شهر الصيام سيوف باس
فلاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللّباس
وقوله: [المنسرح]
أما ترى الهلال ترمقه ... قوم لهم إن رأوه إهلال «4»
كأنّه قيد فضّة حرج ... فضّ عن الصائمين فاختالوا
وقوله: [الكامل]
وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت بصفحته الجنوب فأرعدا «5»
يشتاقه الشّرب الكرام فكلّما ... مرض النسيم سروا إليه عوّدا(15/191)
وقوله في طبل العزف: [مجزوء الكامل]
129/ومقيد الطّرفين يط ... رب عند تضييق القيود «1»
ولقد يلطّم خدّه ... في حال ترفيه الخدود
وكأنّما زأراته ... يحسبن زأرات الأسود
انظر إليه مع المدا ... م ترى بروقا في رعود
وقوله يصف المنثور: [الكامل]
ومجرّد كالسّيف أسلم نفسه ... لمجرّد يكسوه مالا ينسج «2»
ثوب تمزّقه الأنامل رقّة ... ويذيبه الماء القراح فيبهج
فكأنّه لمّا استوى في خصره ... نصفان ذا عاج وذا فيروزج «3»
وقوله في وصف الديك: [الكامل]
كشف الصّياح قناعه فتألّقا ... وسطا على [الليل] البهيم فأطرقا «4» «5»
وعلا فلاح على الجدار موشّح ... بالوشي توّج بالعقيق وطوّقا
مرخ فضول التاج في لبّاته ... ومشمّر وشيا عليه منمّقا
وقوله يصف كلاب الصيد: [الطويل]
غدوت بها مجنوبة في اغتدائها ... تلاقي الوحوش الحين عند لقائها «6»(15/192)
لهنّ شيات كالدواويج أصبحت ... مولّعة ظلماؤها بضيائها «1»
وأيد إذا سلّت صوالج فضة ... على الوحش يوما ذهّبت بدمائها
وقوله في مثله: [الطويل]
كأنّ جلود الوحش بين كلابها ... وقد دميت أجيادها والمعاطس «2»
مصندلة القمصان شقّت جيوبها ... ورقرق فيهنّ العبير العرائس «3»
130/وقوله في وصف قدر: [مخلع البسيط]
يلعب في جسمها لهيب ... لعب سنا البرق في الظلام «4»
لها كلام إذا تناهت ... غير فصيح من الكلام
وهي وإن لم تذق طعاما ... مملوءة الجسم من طعام «5»
كأنّما الجنّ ركّبتها ... على ثلاث من الإكام
ولم يزل مالنا مباحا ... من غير ذلّ ولا اهتضام
نأخذ للقوت منه سهما ... وللنّدى سائر السّهام
وقوله في حمل مشوي: [الرّجز]
أنعته معصفر البردين» ... أبيض صافي حمرة الجنبين «7»(15/193)
فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين
بين ذراعين مفصّلين ... كسارق حدّ من اليدين
وطرف مستوقف الطّرفين ... كمثل مرآة من اللجين «1»
مذهبة المقبض والوجهين ... بكف شاو عطر اليدين «2»
شقّ حشاه عن شقيقتين ... أختين في القدّ شبيهتين
كما قرنت بين كمأتين ... أو كرتي مسك لطيفتين
وقوله في وصف جام فالوذج: [الطويل]
بأحمر مبيّض الزّجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخلوق «3»
131/له في الحشا برد الوصال وطيبه ... وإن كان يلقاه بلون حريق
كأنّ بياض اللّوز في جنباته ... كواكب لاحت في سماء عقيق
وقوله في وصف الفقاع: [المنسرح]
يطير عن رأسه القناع إذا ... نفّست عنه خناق مقرور «4»
رام بسهم كأنّه خصر ... وطيب نشر نسيم كافور
يميل أعلاه وهو مهتضب ... كأنّه صولجان بلّور
وقوله في وصف طبيب: [السريع]
أوضح نهج الطبّ في حذقه ... فراح يدعى وراث العلم «5»(15/194)
كأنّه في لطف أفكاره ... يحول بين الدّم واللحم
وقوله في مثله: [الكامل]
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عاف «1»
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتنّ بين جوانحي وشغافي
يبدو له الداء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وقوله فى وصف مزيّن: [المتقارب]
إذا لمع البرق في كفّه ... أفاض على الوجه ماء النّعيم «2»
جهول الحسام ولكنّه ... يروح ويغدو بكفّي حليم
له راحة سرّها راحة ... تمرّ على الرأس مرّ النسيم «3»
نعمنا بخدمته مذ نشا ... فنحن به في نعيم مقيم
وقوله: [الطويل]
بنفسي من ردّ التحية ضاحكا ... فجدّد بعد البأس في الوصل مطمعي «4»
132/وحالت دموع العين بيني وبينه ... كأن دموع العين تعشقه معي
وقوله: [المنسرح]
حيّا بك الله عاشقيك فقد ... أصبحت ريحانة لمن عشقا «5»(15/195)
وقوله: [الطويل]
يلوح على الكاسات فاضلها كما ... تلوح على حمر الخدود السوالف «1»
وقوله: [الرجز]
قد أغتدي نشوان من خمر الكرى «2» ... أجرّ برديّ على برد الثرى
والصبح حمل بين أحشاء الدّجى(15/196)
ومنهم:
3- أبو الفتح، ولقّب كشاجم «1»
لخمسة فنون كان يحسنها، ويأخذ منها بطرف جيّد وإن كان لا يتقنها، فكان كاتبا بذّ، وشاعرا من ذاق شعره استلذّ، وأديبا أدبه مثل قطع السّحاب إذا رذّ، وجدليّا ما أخذ بطرف مباحث إلّا جذّ، ومنجّما أتقن أحكام النجوم إلّا ما شذّ، هذا على أنّه إنّما يتقن نكته الأدبية فإنّها النجوم الزاهرة، ويتكلّم بالعلوم الباطنة على أحكامها الظاهرة، وكان طبّاخا مجيدا لا تعدّ ألوانه «2» ، ولا يمدّ الّا بين سماطي الملوك خوانه، وله بدائع في وصف المواقد والنيران وألوان الطعام، ولم يحضرني في هذا الوقت ولا ديوانه، وإنّما غلب عليه الشعر حتى عرف به دون بقية ما يعرفه، واشتهر بنقده ممّا كان مثل الذهب الإبريز يصرفه بلطف لو دبّ ماؤه في الخدود لصبغها، أو جال في مراشف الكؤوس لسوّغها، وكتب فأراش السهام وبراها، وطيّب الأفهام فأبراها، وصبّ الأقلام في نحور الرماح فدراها، وأصدر الأعلام إلى مواقف النّصرة كأنّه على معاقد البنود قراها ببصيرة درّية، وبديهية على اختلاف المعاني جرّية، ومسدّدات من الآراء يزيل بها الظنون شبهها/ 133 وتستحلب النّعم سبهها لإدارة تجلو عن مقل الأسنّة مرمها، وسعادة كانت تأتيه من قبل أمور كثيرة ولو كرهها، فهو لجّ والبحر شاطئه، وكواكب وما النجم إلّا ما هو يواطئه وكثيرا ما نحل إليه السريّ الرّفاء ممّا ينسب إلى الخالديّين بنات أفكاره. ومن جيّد ما وقع لي من صالح أشعاره قوله: [المجتث]
بي منك ما لو وزنت أيسره ... بما على الأرض كلّها وزنا «3»(15/197)
لو قيل من أحسن الأنام ومن ... أعشقهم قلت: هذه وأنا
وقوله: [المديد]
خوّفوني من فضيحته ... ليته واتى وأفتضح «1»
ذهبّي الخدّ تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح
صدّ إذا مازحته غضبا ... ما على الأحباب إذ مزحوا
وهو لا يدري لنخوته ... أنّنا في النوم نصطلح
وقوله: [الوافر]
غدا وغدا تورّد وجنتيه ... لعين محبّه يصف الرّياضا «2»
كتمت هواه حتى فاض دمعي ... فصيّره حديثا مستفاضا
وقوله: [الخفيف]
أقبلت في غلالة زرقاء ... زرقة لقّبت بجري الماء «3»
فتأملت في الغلالة منها ... جسد النّور في قميص الهواء
هي بدر فإنّ أحسن لون ... ظهر البدر فيه لون السماء
وقوله: [الكامل المرفل]
ومهذّب الأخلاق منطقه ... ما فيه من خطل ولا مين «4»
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقّيه من العين(15/198)
134/وقوله يدعو صديقا له فى يوم شكّ من قصيدة: [مجزوء الكامل]
والجوّ حلّته ممسّ ... سكة ومطرفه معنبر «1»
والماء فضيّ ال ... قميص وطيلسان الأرض أخضر
نبت يصعّد زهره ... في الأرض قطر ندى تحدّر
وأخو الحجى لو كان هـ ... ذا اليوم من رمضان أفطر
وقوله في عود: [المنسرح]
جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى «2»
مخفّف خفّت النفوس به ... كأنّما الزهر حوله نبتا «3»
دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف اليدين شبّكتا «4»
لو حرّكته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا
يا حسن صوتيهما كأنّهما ... أختان في صنعة تراسلتا
وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها وعنه تنوب إن سكتا
وقوله من قصيدة: [الخفيف]
طلعت في مصبّغ جلّنار ... طلعة الشمس في ابتداء النهار «5»
طاف من حولها الحواري فقلت: ال ... بدر حفّت به النجوم الدراري
وقوله في جمر الفحم: [الكامل المرفّل](15/199)
فحم أنارت ناره ... فتضرّمت منه حريقا «1»
فكأنّه وكأنّها ... سبج قرنت به عقيقا
وقوله من قصيدة: [الرمل]
من عذيري من عذاري رشأ ... عرّض القلب لأسباب التّلف «2»
135/زيد حسنا وضياء بهما ... فهو الآن كبدر في سدف
وقوله: [الوافر]
ألست ترى الظلام وقد تولّى ... وعنقود الثريا قد تدلّى «3»
فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلّا الأقلّا
بزلنا دنّها والليل داج ... فصيرت الدجى شمسا وظلّا
وقوله: [مجزوء الكامل]
أهلا وسهلا بالهلا ... ل بدا لعين المبصر «4»
أو ما تراه يلوح في ... جوّ السماء الأخضر
كشعرة من فضّة ... قد ركبّت في خنجر
وقوله من قصيدة يهجو قوما من أهل حلب: [البسيط]
أرداك قوم أبا حوا لؤمهم شرفي ... وقد ينال من الأشراف أوضاع «5»
وحلّ قدري واستحلوا مساجلتي ... إنّ الذباب على الماذيّ وقّاع(15/200)
وقوله من قصيدة: [مجزوء الرمل]
فكأنّ الكأس لمّا ... ضحكت تحت الحباب «1»
وجنة حمراء لاحت ... لك من تحت النقّاب
وقوله من قصيدة: [المنسرح]
كانت شفائي من خدّه قبّل ... لو جاد أو من رضابه جرع»
فبات بيني وبينه أمل ... دون الذي رمت منقطع
يدني للثم رياض وجنته ... طورا ويبدو له فيمتنع
كأنّه وجنة مخيلة ... تسفّ للقطر ثمّ تنقشع «3»
136/وقوله من قصيدة: [الطويل]
ومسمعة تحنو على مترنّم ... له رجل غال وليس له سحر «4»
إذا ما تأملت الحشا منه خلته ... تضمن شبعا وهو منحرف صفر
له نغم يغضين من كلّ سامع ... إلى حيث لا يفضي إلى مثله الخمر
إذا طوّقته بالأنامل والتقى ... على جنبه من جسمها الصّدر والحجر «5»
بكى طربا فاستضحك اللهو نحوه ... وفضّت عرى الألباب واستلب الصّبر
وتمنحه اليمنى حسابا مفصّلا ... نتحمل منه الخمس والستّ والعشر
فبتّ صريع الكأس أطيب بيتة ... وما الحلم إلّا ما يسفّهك السكر(15/201)
وقوله: [الكامل]
حور شغلن قلوبنا بفراغ ... لرسائل قصرت عن الإبلاغ «1»
ومنعن ورد خدودهنّ فلم نطق ... قطفا له بعقارب الأصداغ
وقوله: [الطويل]
صليه فقد قطّعته مذ قطعته ... وأقرحت جفنيه وأسهرت ناظره «2»
إذا كنت تحييه وأنت قتلته ... فأنت على محو الخطيئة قادره
وقوله من قصيدة: [المديد]
عاذلي دع عنك عذل فتى ... لجّ في عصيان من عذله «3»
أنا مشغول بها دنف ... وهي بالهجران مشتغله «4»
وقوله يفتخر: [مجزوء الكامل]
ولئن شعرت لما تعم ... مدت الهجاء ولا المديحه «5»
لكن وجدت الشعر للآ ... داب ترجمة فصيحه «6»
وقوله: [المتقارب]
لقد لام طرفك عن ساهر ... غريق المدامع من دمعته «7»(15/202)
137/صدودك أقرب من همّه ... ووصلك أبعد من همّته
وقوله من قصيدة يصف فرسا: [الكامل]
قد راح تحت الصّبح ليل مظلم ... إذ راح في السرج المحلّى الأدهم «1»
ضحك اللّجين على سواد أديمه ... وكذا الظلام تبين فيه الأنجم
فكأنّه ببنات نعش ملبب ... وكأنّما هو بالثريا ملجم «2»
وقوله يرثي قدحا له انكسر: [المتقارب]
عرانى الزمان بأحداثه ... فبعضا أطقت وبعضا فدح «3»
وعندي فجائع للنائبا ... ت ولا كفجيعتها بالقدح
وعاء المدام وتاج البنان ... ومدني السرور ومفضي الفرح «4»
ومعرض راح متى تكسه ... ومستودع السّر فيه يبح «5»
وجسم هواء فإن لم يكن ... يرى للهواء بجسم سبح
يردّ على الشخص تمثاله ... وإن تتّخذه مراة صلح
ويعبق من نكهات المدام ... فتحسب منه عبيرا يفح «6»
ورقّ فلو حلّ في كفّه ... فلا شيء في أختها ما رجح
يكاد مع الماء إن مسّه ... لما فيه من شكله ينفسح
سيفقد بعدك رسم السرور ... ويوحش منك معاني الصبح «7»(15/203)
وقوله: [البسيط]
إنّي فزعت إلى صبري فأنقذني ... من سوء فعلك بي إذ قصّرت حيلي «1»
والصّبر مثل اسمه في كلّ نائبة ... لكن له فرحة أحلى من العسل «2»
138/وقوله يرثي عودا انكسر لمغنية: [الكامل]
بأبي أقيك من الحوادث والرّدى ... بالعود لا بل طارق الحدثان «3»
فجعت به غرد الأنين كأنّه ... صبّان مهجوران يشتكيان «4»
وقوله: [المنسرح]
ادن من الدنّ بي فداك أبي ... واشرب وهات الكأس وانتخب «5»
أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نور تدعو إلى الطّرب
في كلّ عين للطّل لؤلؤة ... كدمعة من جفون منتحب
والصّبح قد جرّدت صوارمه ... والليل قد همّ منه بالهرب
والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد كتبتها البروق بالذّهب
فهاتها كالعروس محمرّة ال ... خدّين في معجر من الحبب «6»
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب
فلو ترى الكأس حين تمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب(15/204)
نار حوتها الزجاج يلهبها ال ... ددنّ بغير ما ثقب «1»
وقوله: [الطويل]
فما أنسها لا أنس منها إشارة ... بسبّابة اليمنى على خاتم الفم «2»
وأعلنت بالشكوى إليها فأومأت ... حذارا من الواشين أى لا تكلّم
فلم أر شكلا واقعا قبل شكله ... كعنّابة توقي بها فوق عندم
وقوله في وصف سحابة أتت إثر ليلة لم يزل بها [] «3» البرق تغلي لمم الظلام:
[الرجز]
139/غادية والشمس من طرادها «4» ... مكنونة كالسرّ في فؤادها
مريضة تشكو إلى عوّادها ... بياضها قد ضاع في سوادها
تكاد لولا الماء في مزادها ... تحرقها البروق في إيقادها «5»
لها على الروضة في بعادها ... تعطّف الأمّ على أولادها
كأنّها فى سرعة ارتدادها ... وحثها للفرع من أدرادها «6»
غريبة حنّت إلى بلادها ... فالأرض للزينة في أعيادها
وقوله: [المنسرح]
كأنّما الجمر والرّماد وقد ... كاد يواري من نورها نورا «7»(15/205)
ورد جنى القطاف أحمر قد ... ذّرت عليه الأكفّ كافورا
وقوله: [الكامل]
ما زال حرّ الشوق يغلب صبرها ... حتى تحدّر دمعها المتعلّق «1»
وجرى من الكحل السحيق بخدّها ... خطّ تورّده الدموع السّبق
فكأنّ مجرى الدمع حلية فضة ... في بعضه ذهب وبعض محرق
وقوله من قصيدة يصف مذّبة أهداها: [السريع]
مذبّة تهدى إلى سيّد ... ما زال عن كلّ وليّ يذب»
طريفة لم تخل من مثلها ... مجلس ذي سرّ ولا ذي أدب
ناصية الأدهم في عودها ... لم تك من عرف ولا من ذنب «3»
وذاك فأل إن تأمّلته ... لما ترجى من نواصي الرّ [تب] «4»
لطيفة تجمعها حلية ... من ذهب في قائم منتخب
140/كأنّها في ظهر مجدولة ... ذؤابة أنبوبها من ذهب
وقوله: [السريع]
ما لذّة أكمل في طيبها ... من قبلة في إثرها عضّة «5»
كأنّما تأثيرها لمعة ... من ذهب أجري في الفضّة(15/206)
خلسته بالكره من شادن ... يعشق منه بعضه بعضه
وقوله يصف الأترج: [المنسرح]
يا حّبذا يومنا ونحن على ... رؤوسنا نعقد الأكاليلا «1»
في جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدانيات تذليلا
كأنّ أترجّها تميل به ... أغصانه حاملا ومحمولا
سلاسلا من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا
وقوله: [البسيط]
فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة عن ذلك الخبر «2»
فلم يزل خدّها ركنا أطوف به ... والخال في صحنه يغني عن الحجر
وقوله: [الوافر]
دموعي فيك أنواء غزار ... وحبّي لا يقرّ له قرار «3»
وكلّ فتى عليه ثوب سقم ... فذاك الثوب منّي مستعار «4»
وقوله: [الخفيف]
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها «5»
لست تدري من رقّة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها «6»(15/207)
وقوله: [الطويل]
لقد بخلت عنّي بطيف خيالها ... عليّ وقالت: رحمة لنحيبي «1»
141/أخاف على طيفي إذا جاء زائرا ... وسادك أن يلقاه طيف رقيبي
وقوله: [الكامل]
الثلج يسقط أم لجين يسبك ... أم ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك «2»
راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... من كلّ ناحية بثغرك تضحك «3»
شابت مفارقها فبيّن ضحكها ... طربا وعهدي بالمشيب ينسّك
وتزيّت الأشجار فيه ملاءة ... عمّا قليل بالرياح تهتّك «4»
فالجّو من أرج الهواء كأنّه ... ثوب يعنبر تارة ويمسّك
وقوله: [المنسرح]
باكر فهذه صبحة قرّه ... واليوم يوم سماؤه ثرّه «5»
ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كلّ جانب غرّه
باتت وقيعانها زبرجدة ... وأصبحت قد تحوّلت درّه
كأنّها والثلوج تضحكها ... تعار من أحبّه ثغره
كأنّ في الجوّ أيديا نثرت ... وردا علينا فأسرعت نثره
فاشرب على الثلج من مشعشعة ... كأنّها في إنائها جمره(15/208)
قد جليت في البياض بلدتنا ... فاجل علينا الكؤوس بالخمره
وقوله: [مجزوء الرمل]
حان أن تستحيي الأس ... قام من جسمي وتخزى «1»
لم تدع لي منه ما في ... مثله لي متعزّى
حزّت الأعضاء منه ... كلّها بالصّبر حزّا
فأنا الجزء الذي من ... لطفه ما يتجزّا
142/وقوله: [مجزوء الكامل]
مزجت دموع العين م ... ني يوم بانوا بالدّماء «2»
فكأنّما مزجت بخد ... دي مقلتي خمرا بماء
ذهب البكاء بعبرتي ... حتى بكيت على البكاء
وقوله: [السريع]
قالت وقالوا بأنّ أحبابه ... وأبدلوه البعد [ب] القرب «3» «4»
والله ما شطّت نوى عاشق ... سلّ من العين إلى القلب
وقوله يرثي طاووسا كان له من قصيدة: [المنسرح]
رزئته روضة ترفّ ولم ... أسمع بروض [يسعى] على قدم «5» «6»(15/209)
جثل الدّبابي كلّ سندسه ... زرّت عليه موشية العلم «1»
متوّجا حلّة حباه بها ... ذو الفطن المعجزات في الحكم «2»
كأنّه يزدجرد منتصبا ... يثني فيعلي مآثر العجم
يطبق أجفانه ويحسن عن ... فصيّن يستصحبان في الظّلم
أدلّ بالحسن فاستدال له ... ذيلا من الكبر غير محتشم
وقوله يصف فصّا: [الكامل]
ساجل بفصّك من أردت وباهه ... فكفى به كمدا لقلب الحاسد «3»
متألّق فيه الفرند كأنّه ... وجهي غداة قرى بضيف قاصد
لو أنّ ظمأى منه علّت لارتوت ... من ماء جوهره المعين البارد
بهر العيون إضاءة في رقة ... فكأنّني متختّم بعطارد «4»
وقوله يهجو غلاما من الكتّاب: [الوافر]
تغيّر حسن صورته البهيّة ... وكان خروج لحيته بليّه «5»
143/وأصبح ليس يمنع نائكيه ... بنقد طالبوه ولا نسيّه
لو انّ قفاه مرآة لكانت ... من الأنفاس مرآة صدّيه
وقوله: [المتقارب]
عدمت رياسة قوم شقوا ... شبابا ونالوا الغنى حين شابوا «6»(15/210)
حديث بنعمتهم عهدهم ... فليس لهم في المعالي نصاب
وإن كاتبوا صارفوا في الدعاء ... كأنّ دعائهم مستجاب «1»
وقوله: [البسيط]
أنباك شاهد أمري في مغيّبه ... وجدّ وجد الهوى بي في تلعّبه «2»
يا نازحا نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدّمع ما أبكي عليك به
وقوله: [الطويل]
لعمرك إنّي للثريا لحاسد ... وإنّي على ريب الزمان لواجد «3»
جميعا شملها وهي سبعة ... [] وأفقد من أحببته وهو واحد «4»
وقوله: [الطويل]
ألا ربّ ليل بتّ أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا الليل غمضّا «5»
كأنّ الثريا راحة تستر الدّجى ... لتعلم طال الليل بي أم تعرّضا
فأعجب بليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا
وقوله: [البسيط]
جاءت بعود كأنّ الحبّ أنحله ... فما ترى فيه إلّا الوهم والشبح»(15/211)
كلّ اللباس عليها معرض حسن ... وكلّ ما تتغنّى فهو مقترح
وقوله: [المنسرح]
شيخ لنا من مشايخ الكوفه ... نسبته للعليل موصوفه «1»
لو بدّل الله قمله غنما ... ما طمع الجار منه في صوفه
144/وقوله: [الكامل]
عندي معتّقة كودك صافيه ... ونديمك الدّمث الرقيق الحاشية «2»
فإذا طربت إلى السماع ترنّمت ... بيضاء داهية تسمّى داهيه «3»
فصل العناء يمينها بشمالها ... كمثلّث أضلاعه متساويه
وتجيبها سوداء تصلح عودها ... فتريك كافورا يقادم غاليه
فاحضر فقد حضر السرور ولا تدع ... يوما يفوتك فهي دنيا فانيه
وقوله يهجو رجلا كبيرا أنفه: [الطويل]
لقد مرّ عبد الله في السوق راكبا ... له حاجب من أنفه ومطرّق «4»
وعنّت له من جانب السوق مخطة ... توهمّت أنّ السوق منها تغرّق «5»
فأقذر به أنفا وأقبح بربّه ... على وجهه منه كنيف معلّق
وقوله: [مجزوء الخفيف](15/212)
داو جسمي فإنّه ... فيك بالصدّ قد شقي «1»
إن ترد الذي مضى ... منه فارفق بما بقي
وقوله: [السريع]
مملوكة تملك أربابها ... ما شانها ذاك ولا عابها «2»
قد سمّيت بالضدّ مظلومة ... وهى التي تظلم أحبابها
وقوله: [المتقارب]
حسن مثاني يمزجنها ... بنقر الدّفوف فأطر بنني «3»
عمدن لإصلاح أوتارهنّ ... فأصلحتهنّ فأفسدنني
وقوله من قصيدة: [الرجز]
يا ليت شعري ما الذي ... ألقيت لي في خلدك «4»
تريد أن تقتلني ... بالهجر هذا في يدك «5»
وقوله: [الهزج]
تنام الليل أسهره ... وأشكوه وتشكره «6»
145/وليل الصبّ أطوله ... على المعشوق أقصره(15/213)
كثير الذّنب إلّا أن ... ن فرط الحبّ يغفره
أكاتم حبّه الواشي ... ن والعبرات تظهره
وأذكر خاليا حججي ... وأنسى حين أبصره
وقوله: [المنسرح]
طاف خيال المحبّ في الغلس ... وبتّ منه ناعم الأنس «1»
طيف خيال حفظت خلّته ... وأذكرته ملالة فنسي «2»
قصّر ليلي بطيب زورته ... فكان ليلي أمدّ من نفس
وقوله: [الطويل]
يقولون: تب والكأس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي «3»
فقلت لهم: لو كنت أضمرت توبة ... وأبصرت هذا كله لبدالي
وقوله من قصيدة: [المنسرح]
تبسّمت وانجلى الظلام ولم ... تخف وقد كان قبل أخفاها «4»
فانصرفت خيفة الوشاة بها ... مالي عذر سوى ثناياها
وقوله من قصيدة في وصف الشقائق: [البسيط]
فانظر بعينك أغصان الشقائق في ... فروعها زهر في الحسن أمثال «5»(15/214)
كأنّها وجنات أربع جمعت ... وكلّ واحدة في صحنها خال
وقوله: [السريع]
لا عبت في الخاتم انسانة ... كالبدر في داجى الدّجى الفاحم «1»
ألقته في فيها فقلت انظروا ... قد خبّت الخاتم في الخاتم «2»
وقوله من قصيدة في ضرب الصوالجة: [الرجز]
146/وملعب للخيل في قرواح «3» ... منفسح الأرجاء والنواحي «4»
كأنّه كفّ فتى جحجاح ... مبسوطة للبذل والسماح
عمرته بفتية صحاح ... بيض بأعراضهم شحاح
من كلّ طرف سابح طمّاح ... مناسب للبرق والرياح
وقان مثل دم الجراح ... سبط كخطّيّ من الرماح
فخلتهم من شدّة المراح ... ونزوات الأكر الملاح
سكرى انتشوا من حمّيا الراح ... تواصلوا التجميش بالتفاح
فياله لهو بلا جناح ... شبّه فيه الجدّ بالمزاح
وقوله من قصيدة: [الوافر]
وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضي الصديق عن الصديق «5»(15/215)
كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فمالت مثل شرّاب الرحيق «1»
كأنّ الطلّ منتثرا عليه ... بقايا الدّمع في خدّ المشوق
كأنّ شقائق النعمان فيه ... مخصّرة كؤوس من عقيق
كأنّ النرجس البريّ فيه ... مداهن من لجين للخلوق
يذكّرني بنفسجه بقايا ... صنيع الغصن في الخدّ الرقيق «2»
وقوله: [مجزوء الرجز]
ما الناس إلّا اثنان ... إن فكّر فيهم مجتهد «3»
فواحد لا يكتفي ... وطالب ليس يجد
وقوله من قصيدة: [مجزوء الخفيف]
ثم جاءت بمأتم ... آه من ذلك المجي «4»
في حداد كأنّها ... وردة في بنفسج
147/وقوله يذم مغنيا: [مجزوء الرمل]
ومغنّ بارد النغ ... مة مختلّ اليدين «5»
ما رآه أحد في ... دار قوم مرّتين
قربه أقطع للّذا ... ت في صبحة بين(15/216)
وقوله يرثي برذونا له: [الكامل المرفل]
وأرى العزاء جفاك حين جفا ... ك الدّهر بالمكروه في الأبلق «1»
يمشي وتجري الخيل في سنن ... فيجي سوابقها ولا يسبق
كالموج يسمو إن علوت به ... شرفا وفي الوهدات كالزّئبق
وقوله في وصف الديك: [المنسرح]
مطرب الصّبح هيّج الطّربا ... لمّا قضى الليل نحبه انتحبا «2»
مغرّد يانع الصباح فما ... يدري رضا كان ذاك أم غضبا
مدّ ليمتدّ صوته عنفا ... منه وهزّ الجناح والذّنبا
ما ينكر الطّير أنّه ملك ... لها فبالتاج ظلّ مغتصبا
فباكر الخمرة التى تركت ... بنان كفّ المدير مختضبا
كأنّما صبّ في الزجا ... جة من لطف ومن رقّة النسيم صبا
يظلّ رقّ المدام ممتهنا ... سحبا وذيل المجون منسحبا
وساحر الطّرف لا يعاب له ... إذ كان بالجلّنار منتقبا
[] من ثغره ووجنته «3» ... أنامل الطّرف زهره عجبا
شقائقا مذهبا تري خجلا ... وأقحوانا منصّصا شبا
148/وقوله يهجو رجلا أسود: [السريع]
يا مشبها في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه «4»(15/217)
ظلمك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتقّ من الظّلمه
وقوله: [مجزوء الكامل]
الآن أشبه خدّه ... ورد الشقيق علانيه «1»
لمّا بدا في خدّه ... خال كنقطة غاليه»
وقوله من أرجوزة في وصف الباقلاء الرطب: [الرجز]
وباقلّا حسن المجرّد ... مسك الثرى شهد الجنى غضّ ندي «3»
ذي ورق يكحل عين الأرمد ... ورقة تشفي أوار الكبد
وقوله: [الوافر]
ألذّ العيش اتيان القبيح ... وعصيان النصيحة والنّصيح «4»
وإصغاء إلى وتر وناي ... إذا ناحا على دنّ جريح
غداة دجنّة وطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزهر المليح
وقد جذبت قلائصها الحيارى ... بحاد من رواعدها فصيح
وبرق مثل حاشيتي رداء ... جديد مذهب في يوم ريح
وقوله: [الخفيف]
رقّ ثوب الدّجى فطاب الهواء ... وتدلّت للمغرب الجوزاء «5»(15/218)
والصباح المنير نثرت من ... هـ على الأرض ريطة بيضاء
فاسقنيها حتى أرى الأرض في ال ... أرض عليها غلالة حمراء «1»
فهي في خدّ كأسها صفرة الور ... س وفي الخدّ وردة حمراء «2»
149/عجبا ما رأيت من أعجب الأشي ... اء تقدير من له الأشياء
سيج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسلّ منه ضياء
وقوله من أرجوزة ذكر فيها يوما أظلّته سحابة حتى انكسف ضوؤها اليقق، وأقبل المساء توقّد في ثوب الدجى الشفوف [] «3» لعين الفجر أن ينفجر ولمفرق الشرق بإكليل الشمس أن يعتجر: [الرجز]
أما ترى طلائع الصّباح ... كالدّهم قد طوّقن بالأوضاح «4»
فعاطيا صديقة الأرواح وقوله من أرجوزة يصف فيها النّخل وقد رأى منه قدودا تتأوّد بذهب القنوان تتقلّد [] «5» : [الرجز]
لنا على دجلة نخل منتخل ... نسلفه ماء ويقضينا عسل «6»
مسطّر على قوام معتدل ... لم ينحرف عن سطره ولم يمل
يسقي بماء وهو مثنى في الأكل ... كأنّما أعذاقه إذا حمل «7»(15/219)
غدائر من شعر وحف رجل ... في لون داء العشق لا داء العلل «1»
كالذّهب الابريز لونا ومحل ... يخمّص الخود به الصبّ الغزل «2»
كأن في أعرافه مثل السّعل ... ويكتسي من صبغة البدر حلل
كأنّها في الخدّ تلوين الخجلّ ... وعظم الأزاذ فيه ونبل
مثل أنابيب قنا الخطّ الذبل وقوله: [مجزوء الكامل]
يا من يؤمّل جعفرا ... من بين أهل زمانه «3»
لو أنّ في استك درهما ... لاستلّه بلسانه
وقوله في وصف كانون: [المتقارب]
هلمّا بكانوننا جاحما ... وقولوا لموقده أجّج «4»
إلى أن يرى لهبا كالرياض ... فناهيك من منظر مبهج
ومن عذّب في اخضرار الحرير ... ومن صفرة التبر لم ينسج
150/وتحسبها مسخبا مذهبا ... حواليه قضبان فيروزج
وقوله يصف السفينة: [الكامل]
وإلى نداك ركبتها زنجيّة ... كرمت مناسب ساجها والعرعر «5»(15/220)
سحماء منشؤها ببحر مخصب ... أبدا ومولدها ببرّ مقفر
إن جانبت قصدي الهدى بمقدّم ... عطفته كفّ دليلها بمؤخّر «1»
فكأنها والفجر قد خلع الدّجى ... للعين قطعة ظلّة لم يسفر «2»
طارت أمام تطاير بقوادم ... منشورة وقوائم لم تنشر
وقوله يستهدي بركارا: [المنسرح]
جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينه الأعاجيبا «3»
ملتئم الشفرتين معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا
أشبه شيء في اشتباكهما ... بصاحب لا يملّ مصحوبا «4»
أوثق مسماره وغيّب عن ... نواظر الناقدين تغييبا
فعين من يجتليه تحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا
لولاه ما صّح شكل دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا
وقوله من قصيدة: [المنسرح]
الليل يا صاحبي منطلق ... يقاد زحفا وما به رمق «5»
غمّض دون الغروب كوكبه ... أن شفّه طول ليله الأرق
ورقّ جدا برد ظلّته ... فهو على منكب الرّبى خلق «6»(15/221)
تأمّل الغرب كيف ذهّبه ... شرق بتوريد خدّه شرق «1»
151/وقوله يصف راووق الشراب: [الرجز]
كأنّما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل قطّعت أنيابه «2»
مخضّب وحبّذا خضا به ... كأنّ عطرا فتّقت عيابه
غيث مدام غدق سحابه ... كالضرع يكفي حلبه انحلابه «3»
سال براح قرقف لعابه ... رضاب من أعشقه رضابه
وقوله من قصيدة يستهدي باشقا: [الكامل]
نبئّت عندك باشقا متجرّدا ... للصّيد لم ير مثله من باشق «4»
وكأنّما سكن الهوى أعضاؤه ... فأعارهنّ نحول جسم العاشق
وإذا انبرى نحو الطرّيدة خلته ... كالريح في الإسراع أو كالبارق
ما خام عن طلب الحمام ولم يفق ... مذ كان من صيد الأوزّ الفائق «5»
وقوله يصف سحابا: [الرجز]
سارية من الدّياجي السّود ... مكحولة الأجفان بالسّهود «6»
منهلّة بمائها البرود ... مثل الهلال مقلة العميد
كأنّها إذ أقلعت لتودي ... يرمي به مذ كان يوم عيد(15/222)
سرب النّعام نافرا في البيد ... فالنّبت قد قام من اللحود
غاديتها قبل غدوّ السّيد ... وقبل أن يجهر بالتوحيد «1»
بطائر يعدّ في الأسود ... منتصب كالبطل النجيد
عيناه للمشبّه المجيد ... كالحبتّين السود في العنقود
فغنّ لي بالطالع السعيد ... سرب ظباء كالعذارى الغيد
152/تجذب جيد الخائف المردود «2» ... حتى سرقت الريح من بعيد
وصرت بعد الهبط في الصّعود ... وانحطّ مثل الحجر الصيخود
ينشب من نافوخه والجيد ... مخالبا أمضى من الحديد
من القديد ومن القديد ... وعامر الطاجن والسّفود
وقوله من قصيدة يمدح الحسين بن علي التنوخي: [الكامل]
وتعجّبت لمّا بكى بدم ولو ... تركت له دمعا إذا لبكى به «3»
ما أنصفته يكون من أعدائها ... في زعمها وتكون من أحبابه
وقوله: [السريع]
ومستزيد في طلاب العلى ... يجمع لحما ماله طابخ «4»
ضيّع ما نال بما يرتجي ... والنار قد يطفؤها النافخ
وقوله في وصف السحاب: [الرجز](15/223)
غيث أتانا مؤذن بخفض ... متّصل الوبل حثيث الركض «1»
يقضي بحكم الله فيما يقضي ... كالجيش يتلو بعضه ببعض
يضحك عن برق خفيّ الومض ... كالكفّ في انبساطها والقبض
دنا فخلناه فويق الأرض ... متصلا بطولها والعرض
فالأرض تجلى في النبات الغضّ ... في حليها المحمرّ والمبيضّ «2»
من سوسن أحوى وورد غضّ ... مثل الخدود نقشّت بالعضّ
وأقحوان كاللجين المحض ... ونرجس ذاك النسيم فضّي «3»
مثل العيون رنّقت للغمض ... ترنو فيغشاها الكرى فتغضي
وقوله من قصيدة يهجو خادما يسمّى كافورا: [المتقارب]
153/أكافور قبّحت من خادم ... ولا فيك مسرعة جائحه «4»
حكيت سميّك في برده ... وأخطأك اللّون والرائحه
وقوله من قصيدة: [المجتث]
والنّهر في اعتدال ... في سيره وتأوّد «5»
كأفعوان تلوّى ... ثمّ استوى وتمدّد
كأنّ فيه سيوفا ... مهنّدات تجرّد
فتارة وهى تنضى ... وتارة وهى تغمّد(15/224)
كأنّ نيلوفر الزّه ... ر فيه سرج توقّد
كأنّ أوراقه الخض ... ر بين مثنى وموحد
وقوله: [الوافر]
بليت ولجّ بي وجدي بظبي ... يصدّ وما به إلّا لجاج «1»
أغار إذا دنت من فيه كأسي ... على درّ يقبّله زجاج
وقوله: [البسيط]
يا مسدي العرف إسرارا وإعلانا ... ومتبع البرّ والإحسان إحسانا «2»
أقلع سحابك قد غرّقتني مننا ... ما أدمن الغيث الّا صار طوفانا
وقوله من قصيدة: [الخفيف]
ضمّ أجزاءه وألّف أجسا ... ما حوت كلّ مطعم موفوق «3»
ثمّ صفّوه كالأهلّة لاحت ... لمواقيتها خلال الشروق «4»
وقوله يصف نبتا «5» أسود: [الرجز]
أمزجي المزجيّ أيّ مزج ... في تينه البالغ غير الفجّ «6»
يشبه في اللون وطعم الأرج ... نوافج المسك وبرد الثلج «7»(15/225)
154/مثل رؤوس العلق سود النسج ... أو كثدايا ناهدات الزنج
وقوله يصف الرمان: [المنسرح]
فلاح رمّاننا بزينته ... بين صحيح وبين مفتوت «1»
من كلّ مصفرة مزعفرة ... تفوت في الحسن كلّ منعوت
كأنّها حقّة وإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت
وقوله يصف كيزان الفقّاع «2» : [الرجز]
دواء داء الثّمل المخمور ... رشف شراب شبم مقرور «3»
رقّ كدمع العاشق المهجور ... في قصر كيزان من الصخور
يدفع قضبانا من البلّور ... في نفس مثل جنى الكافور(15/226)
ومنهم:
4- أبو الفرج محمد أحمد الغساني المعروف بالوأواء الدمشقي «1»
ذكره صاحب اليتيمة، وعرض جوهره الغالي القيمة. قال «2» : وكان مناديا بدمشق بدار البطيخ ينادي على الفواكه، وقال: وما زال يشعر حتى جاد كلامه، وساد شعره، ووقع منه ما يروق ويشرق ويفوق حتى بلغ العيّوق. انتهى كلامه، والتهى عن بدره، وما تمّ تمامه. كان نظمه زهرا ورقمه باهرا يحوي صدره زاخرا ويهدي شعره طيف الحبيب زائرا. وله الاستعارات اللائقة في مواضعها الفائقة بما لا تطلع معه النجوم في مطالعها. المتماثلة في أماكنها المتقابلة حسنا في مواطنها المتناسبة في معادنها المناسبة جواهر وبيوتها بيوت خزائنها.
155/وقد يوجد في ديوانه/ زيادات كالشغا نقص بها ونقد أهل التمييز شعره بسببها، حصلت من جهة الرواة آفاتها وما آفة الأخبار إلّا رواتها «3» ، على أنّ ما صحّت للوأواء روايته ووضحت في الأدباء آيته أجلى من النهار غبّ السحاب وأحلى من العقار في مراشف الأحباب، عجبا له كان ينادي على الفاكهة وتعقل أفنانه وقد تهدّلت ثمراتها(15/227)
وتهلّلت سافرة مبرّاتها اللهم إلّا أن احتال له عذرا، وقال تلك درر لا ثمر يباع ويشرى، فإنّه لا يجد إلّا من يسلّم إليه ويدع الإنكار ويعترف بأنّه بحر يقذف اللؤلؤ ومن جداوله دوح تخرج الثمار، وممّا له من المختار قوله: [الكامل]
حاز الجمال بأسره فكأنّما ... قسمت محاسنه على الأشياء «1»
متبسّم عن لؤلؤ رطب حكى ... بردا تساقط من عقود سماء
تغني عن التفاح حمرة خدّه ... وتنوب ريقته عن الصّهباء
ويدير عينا في حديقة نرجس ... كسواد يأس في بياض رجاء
فامزج بمائك راح كأسك واسقني ... فلقد مزجت مدامعي بدمائي
وكأن مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار ركّبت وهواء
ويظلّ صّباغ الحياء محكما ... في نقض حمرتها بأيدي الماء «2»
وكأنّها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على النّدماء
شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
ومنه قوله: [الطويل]
أمغنى الهوى غالتك أيدي النوائب ... فأصبحت مغنى للصّبا والجنائب «3»
156/أثاف كنقط الثاء في وسط دمنة ... ونؤي كدور النّون من خطّ كاتب «4»
وليل كلبس الثاكلات لبسته ... مشارقه لا تهتدي لمغارب «5»
بركب سقوا كأس الكرى فرؤوسهم ... موسّدة أعناقها بالمناكب(15/228)
كأنّ اخضرار الجوّ صرح زبرجد ... تناثر فيه الدرّ من كفّ حاصب «1»
كأنّ نجوم اللّيل سرب روائع ... لها البدر راع في رياض السحائب
كأنّ موشّى السحب في جنباتها ... صدور بزاة أو ظهور الجنادب «2»
كأنّ بياض الفجر في ظلمة الدّجى ... بياض ولاء حار في قلب ناصبي «3»
صبحت به والصّبح في خلع الدجى ... على منكبيه طيلسان الغياهب
تكاد تظنّ العيس أن ليس فوقها ... إذا سكتوا إلّا ظهور الحقائب «4»
على ناحلات كالأهلّة إن بدت ... أتّم انقواسا من قسيّ الحواجب
طواهنّ طيّ السّير حتى كأنّها ... قناطر تسعى مخطفات الجوانب
وقد طويت أذنابها فكأنّها ... رؤوس نخيل مسدلات الذوائب «5»
خفاف طوين الشّرق تحت خفافها ... بنا ونشرن الغرب فوق الغوارب
ضربن الدّجى صفحا على أم رأسه ... وقد ثملت من خمر رعي الكواكب «6»
فلمّا أجزناها بساحات طاهر ... ذهبن بنا في مذهبات المذاهب
إلى من يرى أنّ الدروع غلائل ... وأنّ ركوب الموت خير المراكب
لئن أقعدت أسيافه كلّ قائم ... لقد أرحلت أرماحه كلّ راكب
على سافرات للطعان نحورها ... أقل حياء من صروف النوائب
ركوب لأعناق الأمور إذا سطا ... عفا باقتدار حين يسطو بواجب(15/229)
157/بما انهلّ من كفّيك من ذلك النّدى ... وما حملته من قنا وقواضب
أرحها قليلا كي تقرّ كأنّها ... من الضرب أضحت ناحلات المضارب «1»
وقوله: [المنسرح]
عذّبتها بالمزاج فابتسمت ... عن برد نابت على لهب «2»
كأنّ أيدي المزاج قد سكبت ... في كأسها فضّة على ذهب
وقوله: [الطويل]
كأنّ دمي يوم الفراق سروا به ... وقد سفكوه باحتثاث الركائب «3»
أظنهّم لو فتّشوا في رحالهم ... إذا وجدوا آثاره في الحقائب
إذا أنا دافعت الخطوب بذكرهم ... نسيت الذي بيني وبين النوائب
وقوله: [مجزوء الرمل]
فتأملّت الثريا ... في طلوع ومغيب «4»
فهي كأس في شروق ... وهي قرط في غروب
وقوله: [المنسرح]
قوام غصن كأنّه القصب ... يهدي لنا من ضيائه لهب «5»
باطنها مكتس وظاهرها ... للعين فيه مستنزه عجب
قد يئست من بقائها فترى ... دموعها باللهب تنسكب(15/230)
تكابد اللّيل وهي جاهلة ... وعمرها في الكباد ينقضب
وقوله: [الكامل المرفل]
وإذا نظرت إلى محاسنه ... أخرجته عطلا من الذنب «1»
ورميت باللحظات مقلته ... فاقتصّ ناظره من القلب «2»
وقوله: [المنسرح]
وزعفرانية إذا برزت ... تقطر حزنا على الدّجى ذهبا «3»
158/كأنّما رأسها إذا طغيت ... طرف محبّ يراقب الرّقبا
وقوله: [الكامل]
ومصلوب قوم في الجذيع كأنّه ... شبه المحبّ إذا رأى أحبابه «4»
أو كالطّروب بمجلس غنىّ له ... صوتا فمزقّ باليدين ثيابه
وقوله: [البسيط]
كأنّها ولسان الماء يقرعها ... دمع ترقرق في أجفان منتحب «5»
إذا علاها حباب خلته شبكا ... من اللّجين على أرض من الذّهب
تسورّت من أديم الكأس سورتها ... فأنبتت لهبا منها على لهب «6»(15/231)
تخال منها بجيد الكأس إذ مزجت ... عقدا من الدرّ أو طوقا من الحبب «1»
وقوله: [الطويل]
وليل بأعلاه وليلين أسدلا ... بخدّيه إلّا أنّها ليس تغرب «2»
ولما حوى نصف الدجى نصف خدّه ... تحيّر حتى ما درى كيف يذهب «3»
وقوله: [البسيط]
ما خانك الطّرف مني قطّ في نظر ... ولا سلا عنك قلبي في تقلّبه «4»
بل أنت والله يا من كلّه فتن ... أعزّ في مهجتي ممّا أراك به «5»
وقوله: [المنسرح]
دمع غريب جرى بغربته ... أفرده البين عن أحبّته «6»
إنسان عيني لولا سباحته ... كان غريقا في ماء دمعته «7»
وقوله: [البسيط]
ومن بزرقة سيف اللّحظ طلّ دمي ... والسيف ما فخره إلّا بزرقته
علّمت انسان عيني أن يعوم فقد ... جاءت سباحته في ماء دمعته
وقوله: [البسيط](15/232)
تقنّعت بالدّجى خوف الضحى وثنت ... في عاج عارضها لاما من السّبج «1»
159/كأنّما ألبست في لون مبسمها ... غلالة طرّزتها من دم المهج
لها من الماء كف في تأمّله ... إذ صافحتني به نار بلا وهج «2»
تكاد من لمعان الحسن تستره ... كأنّما طرّفته من دم المهج
وقوله: [مخلع البسيط]
أطال ليلي الصدود حتى ... أيست من غرّة الصّباح «3»
كأنّه إذ دجا غراب ... قد حضن الأرض بالجناح «4»
وقوله: [الوافر]
وليل مثل يوم البين طولا ... كواكبه إذا أفلت تعود «5»
بدائع نومها فيه انتباه ... فأعينها مفتّحة رقود
وقوله: [الوافر]
وليل مثل يوم الحشر طولا ... كأنّ ظلامه لون الصّدود «6»
بياض هلاله فيه سواد ... كأثر اللّطم في يقق الخدود
وقوله: [الخفيف](15/233)
ربّ ليل ما زلت ألثم فيه ... قمرا لابسا غلالة ورد «1»
والثريا كأنّها كفّ خود ... داخلتها للبين رعدة وجد
وقوله: [البسيط]
قالت وقد قتلت منّا لواحظها ... عمدا أما لقتيل اللّحظ من قود «2»
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبّرد
وقوله: [الكامل المرفل]
وكأنّ كافور الدّموع وقد جرى ... بخلوقه منها على الخدّ «3»
در وياقوت تساقط بينه ... في نثره كحل من الندّ
فكأنّما نظمت دموع جفونها ... في نحرها بدلا من العقد
160/وقوله: [المنسرح]
قد سترت وجهها عن النّظر ... بساعد حلّ عقد مصطبري «4»
كأنّه والعيون ترمقه ... عمود نور في دارة القمر
وقوله: [المنسرح]
كأنّما النوم حين يطرقني ... يريد وصلي فالعين تهجره «5»
صديق صدق أطال غيبته ... أعرفه تارة وأنكره «6»(15/234)
وقوله: [السريع]
مرّ بنا في قرطق أخضر ... مزرفن الأصداغ بالعنبر «1»
قد كتب الحسن على خدّه ... يا أعين النّاس قفي وانظري
وقوله: [الكامل]
والبدر أوّل ما بدا متلثّما ... يبدي الضياء لنا بخدّ مسفر «2»
فكأنّما هو خوذة من فضّة ... قد ركّبت في هامة من عنبر
وقوله: [البسيط]
يا ذا الذي تخجل الأغصان قامته ... ومن له البدر وجه والدّجى شعر «3»
ومن إذا قيل إنّ البدر يشبهه ... عمدا أتى البدر ممّا قيل يعتذر «4»
وقوله: [البسيط]
أما ترى النّرجس الميّاس يلحظنا ... لحاظ ذي جذل بالغيث مسرور «5»
كأنّ أوراقه في حسن صورتها ... مداهن التبر في أوراق كافور «6»
كأنّ طلّ النّدى فيه لمبصره ... دمع تحدّر في أجفان مهجور
[وقوله] «7» : [الخفيف](15/235)
جعلت تشتكي الفراق وفي أج ... فانها عقد لؤلؤ منثور «1»
فكأنّ الكحل السّحيق مع الدّم ... ع على خدّها بقايا سطور
وقوله: [الكامل المرفل]
لي من تمرضّ طرفه وكلامه ... سكران من لفظ ومن سحر «2»
161/خلقت محاسنه عليه كما اشتهى ... وخلقت مالي عنه من صبر
وقوله: [السريع]
زار فنلت السّؤل إذ زارني ... وكان قدما غير زوّار «3»
وفوقنا البدر على نصفه ... كأنّه شقّة دينار
وقوله: [السريع]
ظبي من الإنس ولكنّه ... قد تاه بالحسن على البدر «4»
فعاله أسمح من صدّه ... ووجهه أحسن من عذري
وقوله: [السريع]
مضى الذي أودع قلبي الجفا ... فدمعتي من حسرتي قاطره «5»
واصلني ثّم بدا هجره ... تلك لعمري كرّة خاسره
وقوله: [الكامل](15/236)
وكأنّها تهوى إذاعة ضوئها ... للناظرين بسعدهم لنحوسها «1»
فإذا تقرّب عمرها لنفاده ... ردوّا لها عمرا بقطع رؤوسها
وقوله: [المنسرح]
يا بدر بادر إليّ بالكاس ... فربّ نجح أتى على ياس «2»
ولا تقبّل يدي فإنّ فمي ... أولى بها من يدي ومن راس
وقوله: [البسيط]
سقيا ليوم غدا قوس الغمام به ... والشمس مسفرة والبرق خلّاس «3»
كأنّه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقوله: [المتقارب]
شربنا على النّيل لمّا بدا ... بمدّ يزيد ولا ينقص «4»
فخلنا تقلّب أمواجه ... معاطف جارية ترقص «5»
وقوله: [مجزوء الرّمل]
لي حبيب خدّه كال ... ورد حسنا في بياض «6»
وهو بين النّاس غضبا ... ن وفي الخلوة راضي(15/237)
162/وقوله: [المنسرح]
نرجسة لم تزل محدقّة ... لم تكتمل قطّ لذّة الغمض «1»
أمالها القطر فهي باهتة ... تنظر فعل السماء في الأرض
وقوله: [الطويل]
تقول وقد بانت حياتي ببينها ... أتطمع أن تشكو إليّ فأسمعك «2»
فلو كان حقّا ما تقول لما انثنت ... يداك وقد عانقتني بهما معك «3»
وقوله: [الكامل]
وإذا ذكرتك يوم سرت مودّعا ... وقف الأسى في الصّدر غير مودّع «4»
ورأيت شخصك في سواد جوانحي ... متمثلا وكأننا في موضع
فيا أسفي زدني جوى كلّ ليلة ... ويا كبدي وجدا عليه تقطّعي «5»
وإنّي لمشتاق إلى من أحبّه ... فلا معه شوقي ولا صبره معي
رعى الله ليلا ضلّ عنه صباحه ... وطيفك فيه ما يفارق مضجعي
ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه كأنّ الليل يعشقه معي
وما زلت أبكي ما دجا الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيضّ من فيض أدمعي «6»
وقوله: [المنسرح](15/238)
عانقت مولاي عند رؤيته ... ونلت سؤلي بحسن ما صنعا «1»
في قمر صار في تنصّفه ... كأنّه نصف درهم قطعا «2»
وقوله: [مجزوء الرّمل]
ما ترى النّيل عليه ... حبكا مثل الدروع «3»
إنّما زاد لأنّي ... فيه أجريت دموعي
وقوله «4» : [المتقارب]
وهيفاء من ندماء الملو ... ك صفراء كالعاشق المدنف «5»
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في موقف
163/وقوله: [الكامل المرفل]
يا ليت جسمي كلّه حدق ... حتى أراك وليتها تكفي «6»
ما دار ذكر نواك في خلدي ... إلّا طرقت بدمعتي طرفي «7»
وقوله: [مخلع البسيط]
ابيضّ واصفرّ لاعتلال ... فكان كالنّرجس المضعّف «8»(15/239)
كأنّ نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلّف
يرشح منه الجبين ماء ... كأنّه لؤلؤ منصّف
كأنّما كان مذ بدا لي ... على تلافي به مؤلّف
وقوله: [البسيط]
راح إذا استعطفتها بالمزاج يد ... تكاد تخرس عنها ألسن الحدق «1»
كأنّها خجل في كأس شاربها ... فاجاه عند مزاج صفرة الفرق
أو مثل وجنة معشوق إذا نثرت ... يد الدّلال عليها لؤلؤ العرق
كأنّ ما ابيضّ فيها في تورّده ... كواكب نثرت في حمرة الشّفق «2»
وقوله: [الكامل]
أجرت من الكحل السّحيق بخدّها ... سطرا تؤثره الدموع السّبق «3»
فكأنّ مجرى الدّمع حلية فضة ... في بعضها ذهب وبعض محرق
و [قوله] «4» : [الرجز]
ربّ نجوم في ظلام أزرق ... راعيتها في مغرب ومشرق «5»(15/240)
كأنّها من خجل لم تطرق ... أو نرجس في روضة مفرّق
وقوله: [المتقارب]
إذا ضاحك النّور زهر الرياض ... فكيف الخلاص وأين الطريق «1»
بهار بهير به غيرة ... على نرجس وشقيق شفيق
مداهن يحملن طلّ النّدى ... فهاتيك تبر وهذا عقيق
164/ويوم ستارته غيمة ... قد طرّزت رفرفيها البروق
جعلن من الندّ دخّانه ... ومن شرر الراح فيه حريق «2»
تظلّ به الشمس محجوبة ... كأنّ اصطباحك فيها غبوق
على شجر رافعات الذيول ... لماء الجداول فيها شهيق «3»
كأنّ طيالس غدرانه ... على هيكل الماء فيها خروق «4»
سجدنا لصلبان منثورها ... وقد نصرتنا عليها الرحيق
وقلنا لها ولضوء الصّباح ... على عنبر الفجر منه خلوق «5»
أدر يا غلام كؤوس المدام ... وإلّا فيكفيك لحظ وريق
وقوله: [الطويل]
سقى الله ليلا طال إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصّباح عناقا «6»(15/241)
بطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا
وقوله: [المنسرح]
ونرجس للنسيم معتنق ... يسهر طبعا وما به أرق «1»
كأنّه والقوام معتدل ... وفي المآقي تزعفر عبق «2»
أجفان درّ على ذرى قصب ... تقطّر سبكا وما بها عرق
وقوله: [البسيط]
يا ممرض الجسم منّي بعد صحّته ... هب لي على طول هجراني عليك بقا «3»
أغريت بالسّقم جسمي إذ غريت به ... كأنّ جسمي من جفنيك قد خلقا
وقوله «4» : [مجزوء الرجز]
مقدودة في قدّها ... تحكي لنا قّدّ الأسل «5»
كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
وقوله: [الخفيف]
165/وإذا افتضّها المزاج كساها ... حلّة الشمس عند وقت الزّوال «6»
وترى الكأس دائرا كهلال ... سار فيه المحاق بعد الكمال(15/242)
وقوله: [الخفيف]
ما اعتنقنا حتى افترقنا وخفتا ... ن الدجى عن قميصه محلول «1»
وكأنّ الهلال فوق الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
وقوله: [الوافر]
وما أبقى الهوى والشّوق منّي ... سوى نفس تردّد في خيال «2»
خفيت عن المنيّة أن تراني ... كأنّ الجسم مني في محال
وقوله: [المنسرح]
ملّ فأبدى الصّدود والمللا ... واعتلّ في صحّة من العلل «3»
وكنت إن غبت عنه راسلني ... فنحن في فترة من الرّسل
وقوله: [البسيط]
لا أجلّ الله آجال الدموع إذا ... ما لم يكنّ لأخلّاء الهوى خدما «4»
يا هذه هذه روحي متى ألمت ... من الملام بكم قطّعتها ألما
يا معلما بطراز الفخر نسبته ... ومن غدا بين أبناء العلا علما «5»
ومن هو الشمس في ليل بلا فلك ... ومن هو البدر في أرض بغير سما «6»
هذي يمينك في الآجال صائلة ... فاقتل بسيف نداك الخوف والعدما(15/243)
وقوله: [الكامل]
يا نازحا لعب القلى بعهوده ... الصّبر عنك أقلّ ممّا تعلم «1»
لي والهوى ما بين أجنحة الكرى ... ليلان نومهما عليّ محرّم
جهد الشكاية أنّ ألسننا [بها] «2» ... خرست وأنّ جفوننا تتكلّم
166/لو كنت أكتم سرّ من كتم الهوى ... يوم النّوى لكتمت قلبا يكتم
وقوله: [مجزوء الكامل]
قم فاجل همّي يا غلام ... بالرّاح إذ ضحك الظلام «3»
وجلا الثريّا في ملا ... ءة نورها البدر التمام
فكأنّها كأس يد ... ير بها الدّجى والليل جام
وكأنّ زرق نجومها ... حدق مفتّحة نيام
وأظنّها من صحّة ... مرضت وليس بها سقام
وكأنّها وكأنّه ... إذ حان بينهما انصرام
والفجر في غسق الدّجى ... كالماء خالطه ظلام «4»
خود هوى من أذنها ... قرط فقبلّه غلام
وقوله «5» : [مجزوء الكامل](15/244)
قم يا غلام إلى المدام ... قم داوني منها بجام «1»
والفجر ينتهب الدّجى ... والصّبح يضحك بالظلام «2»
وقوله: [الطويل]
فقلت لأصحاب عليّ أعزّة ... عزيز علينا ما بكم من تألّم «3»
خذوا بدمي ذات الوشاح فإنّني ... رأيت بعيني في أناملها دمي
وقوله: [الطويل]
كأنّ نجوم الليل من خوف فجرها ... وقد جدّ منها للغروب عزائم «4»
عيون حماها الشّوق أن تطعم الكرى ... فأعينها مستيقظات نوائم «5»
وقوله: [مجزوء الكامل]
سقيا لأيام المدام ... لو ساعدتنا بالدّوام «6»
أيام أيامي بها ... مثل الكواكب في الظّلام(15/245)
167/ومنهم:
5- الأخوان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان «1»
كانا رضيعي ندى، وصديقي صباح تبلجّ عن هدى. وفرقدي سماء، وموقدي ذكاء يقدح ضوؤه للفهماء. وعلمي ملّة من الأدب كادت تذهب، وعلمي حلّة هي الديباج الخسرواني وهي الطراز المذهّب. وشقيقين تشاطرا الألفاظ والمعاني، وتشارطا أن يطبعا الجواهر ويرفعا بها المباني، وصقرين حطّا إلى وكر، وقلبين اتّحدا في فكر.
168/وكانا كاليدين في المقاصد تعاضدا، وكالنّجدين في الرضاع/ ترادفا وكالسيف ذي الحدّين لا يعرف أيّهما أمضى مضربا، وأشدّ ساعدا، وكالمبتدأ والخبر يترافعان «2» ، وكالمسمعين يوديان إلى خاطر ما يسمعان، وكالمصراعين على باب وراء كلّ ذخيرة يجتمعان، وكالعينين في روضة يسرحان ويسخان، وكالقمرين «3» في فلك واحد يسبحان(15/246)
ويسبّحان يتباريان إلى الغاية غربا وشرقا، ويتعاوران ملاءة الحضر «1» قوة وسبقا كالدائرة تلاقى طرفاها، وكالقوس صحّ عنقاها في يمين من براها.
وقد ذكرهما صاحب اليتيمة فقال «2» : إن هذان لساحران يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان. وكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوّة النسب، فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة، ويشتركان في قرض الشعر، وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان، وكانا في التساوى كما قال أبو تمام:
[المتقارب]
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل كما قال البحتري: [الكامل]
كالفر قدين إذا تأمّل ناظر ... لم يعد موضع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو اسحاق الصابي فيهما: [الطويل]
أرى الشاعرين الخالديّين سيّرا ... قصائد يفنى الدّهر وهي تخلّد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصّر عنها راجز ومقصّد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردّد
فطائفة قالت: سعيد مقدّم ... وطائفة قالت لهم: بل محمّد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلّا بالتي هي أرشد
169/هما في اجتماع الفضل زوج مؤلّف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد(15/247)
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... على أشكلا هذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتّفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
وما أعدل هذه الحكومة من أبي اسحاق، فما منهما إلّا محسن يخطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاثر محاسنه وبدائعه الأفراد، وقد ذكرت ما شجر بينهما وبين السريّ من دسّ أشعارهما في شعر كشاجم. وكان أفاضل أهل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين إحداهما في شقّ الرجحان تتعصّب عليه لهما ما رزقاه من قلوب الأكابر والملوك. والأخرى تتعصّب له عليهما. انتهى كلام الثعالبي.
وهذا وقت الإثبات لما نختار لهما من الأبيات، ونبدأ بأبي بكر كما بدأ به الثعالبي، لأنّه الأكبر، فمن شعره، وقوله: [الطويل]
دم المجد أجراه الطبيب وعصّبت ... على ساعد العلياء تلك العصائب «1»
لئن لاح في عضد الأمير نجيعه ... غداة جرت في الطست منه سبائب «2»
فلا غرو للصمصام أن مسّ حدّه ... دم وهو مصقول الغرارين قاضب
وليث الشّرى لا تنكر العين أن ترى ... براثنه مخضوبة والمخالب
وقوله يصف دارا: [الوافر]
غدت دار الأمير كما روينا ... من الأخبار عن حسن الجنان «3»
علت جدرانها حتى لقلنا ... سيقصر عن مداها الفرقدان
وجال الطّرف في ميدان صحن ... يردّ الطّرف دون مداه وان(15/248)
170/منها يذكر البستان:
ترى فيه حدائق ناضرات ... تشبههنّ أحداق الغواني «1»
تشير إلى الصّبوح بغير طرف ... وتستدعي الغبوق بلا لسان
كأنّ تفتّح الخشخاش فيه ... على أوراقه الخضر اللدان
سوالف غانيات فاتنات ... علت قمص الفريد الخسرواني
وصبغ شقائق النعمان تحكي ... يواقيتا نظمن على اقتران
وأحيانا تشبهّها خدودا ... كستها الراح ثوبا أرجواني
على أنّا سننعت ذا وهذا ... بنسبتهنّ ما يتغيران
هما في صحّة وبديع لفظ ... كما قرن الجمان مع الجمان
شقائق مثل أقداح ملاء ... وخشخاش كفارغة القناني
ولمّا غازلتها الريح خلنا ... بها جيشي وغى يتقابلان
غدت راياتهم بيضا وحمرا ... تميّلها الفوارس للطعان
وللمنثور أنوار تراها ... كما أبصرت أثواب القيان
تخال به ثغورا باسمات ... إذا ما افترّ نور الأقحوان
وآذريونه قد شبّهوه ... بتشبيه صحيح في المعاني
ككأس من عقيق فيه مسك ... وهذا الحقّ أيّد بالبيان
وقوله: [الطويل]
كأنّي بهم إذ خالفوا بعض أمره ... وقد جمعت أعناقهم والسلاسل «2»
وصيغت خلاخيل لهم وأساور ... على أنّ حاليها مدى الدّهر عاطل
فلا نزعت تلك الأساور عنهم ... ولا فارقتهم في الحياة الخلاخل(15/249)
171/وقوله: [الطويل]
ومعذورة في هجرها لجمالها ... كبدر على خوط من البان مائد «1»
أروم هواها والمشيب مخالفي ... وقد هجرتني والشباب مساعدي
ومن عرف الدنيا استقلّ سرورها ... ولو برزت من حسنها في مجاسد
منها:
صقيل حسام الفكر يلقاك رأيه ... لما غاب عن ألحاظه كالمشاهد «2»
وما شهد الهيجاء إلّا تباعدت ... مسافة ما بين الطّلى والسواعد «3»
يؤازره في الرّوع قلب مشيّع ... ومبتسم يبكي عيون العوائد
سهرت لها والنجم في الأفق نائم ... فهاهي كالإبريز في كفّ ناقد
بقيت كما تبقى معاليك في الورى ... فهنّ على الأيام غير بوائد
وقوله: [الطويل]
ويكشف بالآراء ما كان مشكلا ... ولو كان في طيّ الضمير مكتّما «4»
يرى العار أن يثني العنان عن الرّدى ... إذا ما ثنى الطعن الوشيج المعوّقا
يردّ غرار المشرفيّ مثلّما ... ضرابا وصدر الراعبيّ محطمّا
ومنتقم حتى إذا ما تمكنّت ... يميناه من أعدائه ظلّ منعما
وقوله: [الطويل]
وما خلق الانسان إلّا لينطوي ... عليه من الأيام بؤس وأنعم «5»(15/250)
ولولا اختباري حاسدي صلت صولة ... تروح وماء البحر من هولها دم
ويا أيّها المستام حربي بجهله ... وذو الجهل يعلو ساعة ثم يندم
إذا وصلتنا بالأمير ركابنا ... فليس لنا عتب على الدهر يعلم
وإن نحن أعصمنا الرجال بحبله ... فإنا بأمراس الكواكب نعصم
172/ومن أيّ وجه واجهته عيوننا ... تبدّى لها بدر وبحر وضيغم
سماح بتيّار الغمام مسربل ... وفخر بلألاء النجوم معمّم
وشانيك يدري أنّه غير بالغ ... مداك ولكن يرتجي ويرجّم
طما بحرك السامي عليه فلو لجا ... إلى الفلك الدّوار ما كان يسلم
إذا انأدّت الأرماح في هبوة الوغى ... غدت بك في عوج الضّلوع تقوّم
سرى قاسمتنا الأين فيها ركابنا ... تحشّم منها مثلما تتجشّم
تجوب جبالا تبلغ الأفق رفعة ... ومن دونها العقبان في الجوّ حوّم
إذا ما علونا فالصخور لوطئنا ... مراق إلى الجوزاء والطّود سلّم
وقوله: [الوافر]
بقاع أشرقت فكأنّ فيها ... وميض البرق من فرط البريق «1»
وأودية كأنّ الزّهر فيها ... يواقيت تفصّل بالعقيق
لها حصباء كالكافور بثّت ... على ترب خلقن من الخلوق
وقوله: [الطويل]
دع العود محزونا يطيل بكاءه ... على الزقّ مذبوحا يسيل نجيعه «2»
ويوم نأى إصباحه من مسائه ... غداة تدانت للضراب جموعه(15/251)
إذا كان ليلا رهجه وقتامه ... ثنتها نهارا بيضه ودروعه
جعلت لقلبي الصّبر فيه شريعة ... حفاظا وأطراف الرماح شروعه
سلمت لمجد دارة الشمس داره ... وبين رباع الفرقدين ربوعه
وقوله: [الكامل]
ولقد تلقّيت الصّباح بمثله ... لا بل بأشرق منه في لألائه «1»
173/ورضيت من وصل الحبيب وبعده ... بدنوّ منزله وطول جفائه
وسمعت عذل عواذلي لمّا مشى ... إصباح هذا الشيب في إمسائه
سأعود في غيّ الشباب وإن غدا ... رشد المشيب مقنّعي بردائه
وقوله: [الطويل]
بدا فأراك الشمس في الغصن النّضر ... وعيني مهاة الرّمل في القمر البدر «2»
هلال دجى لولا الخلاخل في الشوّى ... وظبي نقى لولا المناطق في الخصر «3»
وينظم عقد الشوق تيها ونخوة ... بياقوت خدّ فوق درّ من الثّغر
ومسوّد صدغ فوق محمّر وجنة ... ترى ذاك من مسك وهاتيك من خمر
فكم يا غراما جائرا ترشق الحشا ... بأسهم وجد من فراق ومن هجر
وقفت فؤادي بين همّ وحسرة ... بذكر له يجري وطيف له يسري
ويا طيف أنّى بتّ بتّ مضاجعي ... كأنّك ما قد سار في الأرض من ذكري
عدمتك يا من رام شعري سفاهة ... متى كنت من أقران هاروت في السّحر
ودادي لهم دان وأمّا ودادهم ... ففي عنق العنقاء أو منسر النسر
وأمسك سهم العتب بين أناملي ... وأغمد صمصام الملامة في صدري(15/252)
وما يحسن الخلخال في الساق يدّعي ... بأنّ له حسن القلادة في النّحر
كأنّ القنا تلقاه من أنسه بها ... بتفاحتي خدّ ورمّانتي صدر
وقوله: [مجزوء الكامل]
لفظ كخدّ يجتلي ... معنى كثغر يرشف «1»
وقوله: [الخفيف]
لا ترى رأيه يضلّ عن الرّش ... د ونجم الصباح كيف يضلّ «2»
وهياج له من البيض والرّايا ... ت تحت العجاج شمس وظلّ
174/وقوله: [الطويل]
وأنحلني حتى لو أنّي بكفّة ... وظلّي بأخرى ما رجحت على ظلّي «3»
إذا طلعت قلت الغزالة في الضّحى ... وإن نظرت قلت الغزالة في الرّمل
خلال يراها الطّرف حتى كأنّها ... مبادي نعاس ذرّ في أعين نجل
وقد هذّبته الحادثات وإنّما ... يبيّن إفرند الحسام على الصّقل
كذا البدر شبه للهلال ولم يزل ... يرى في هزبر الليث شبه من الشبل
تبارك من أبداك بدرا بلا دجى ... وشبلا بلا غيل وغيثا بلا وحل
وقوله: [مجزوء الرّمل]
صاح غمّضت وما غم ... مض جفنيّ الهجود «4»
لبريق هبّ تحدو ... هـ بروق ورعود(15/253)
مقبل يقصد أحيا ... نا وأحيانا يحيد
زجل يحسب في قط ... ريه غيل وأسود
علوه في النّجم لكن ... سفله حيث الصّعيد
فيه للأزمة والرو ... ضة وعد ووعيد
وقوله: [الهزج]
وليل مثل يوم البع ... ث في العرض وفي الطول «1»
ترى نجمه كالنّا ... ر في زهر القناديل
فعاينت به الأنج ... م مثل الأعين الحول
أتى الدّن بمبزال ... وإبريق ومنديل
منها:
فأجراها كخلخال ... من الياقوت مفتول
175/مداما لا يرى طرف ... ك منها غير تخييل
كشخص الآل لا يدر ... ك معناه بتحصيل
يريك الصّبح في ستر ... من الظلماء مسدول
وقوله: [الطويل]
وتأتي بك الحاجات عفوا كأنّما ... مغالقها في راحتيك مفاتح «2»
ودونكها أبيات شعر كأنّها ... خدود الغواني فوقها المسك فائح
وقوله: [البسيط]
قبر تودّ العلى ضنّا بساكنه ... على الثرى أنّه فيهنّ محفور «3»(15/254)
فإن يضق فله من صدره سعة ... وإن دجا فله من وجهه نور «1»
وقوله: [البسيط]
ترى البرّية في حالي ندى وردى ... يريشها وبحدّ السيف يبريها «2»
ففرقة بمناياها مصبّحة ... وفرقة صدقت فيها أمانيها
كأنّه الدهر في الآمال ينشرها ... بين العباد وفي الأعمار يطويها
إذا الصوارم عرّتهنّ غضبته ... فإنّه بنفوس الأسد كاسيها
يظلّ بالهزّ يوم الروع يضحكها ... وبالدماء من الهامات يبكيها
حتى كأنّ جفون المشركين حكت ... طيّاتها وأعارتها مآقيها «3»
وقوله: [الطويل]
يرى فيه إيماض السيوف كأنّه ... خدود الغواني والعجاج لها خمر «4»
يهدّى إليه الذئب من أبعد المدى ... وكيف يضلّ الذئب والرائد النّسر
وقوله: [الطويل]
وتطمح فوّاراتها فكأنّها ... دموع المحبّين استهلّ همولها «5»
176/تمدّ إلى الجوزاء أرماح مائها ... فتذعرها في أفقها وتهولها «6»(15/255)
وقوله: [الوافر]
وإن بدت الستّور لنا رأينا ... بزاة قد قرنّ بطير ماء «1»
وأسدا في مرابضها ظباء ... تقابلها على حال استواء
فلا هذا يراع لذا ولا ذا ... يروّع ذا بجور واعتداء
كأنّ الدار مكة فهي أمن ... لتلك الوحش من سفك الدّماء
وقوله: [الكامل]
وكذا أنابيب القناة كثيرة ... والموت مقصور على أنبوب «2»
وقوله: [السريع]
دعا فؤادي للأسى وحده ... وفرّقا للّوم عن سائري «3»
وقوله: [المجتث]
تتيه كبرا ولكن ... جمالها يتودّد «4»
جفت فعالا وأمست ... تحلّ لينا وتعقد
وقوله: [المنسرح]
وجاهل بالغرام قلت له ... إذ قال لي ما الهوى وما فتنه «5»
إن كنت تهوى الممات فاصب هوى ... فالصبّ ميت قميصه كفنه(15/256)
وقوله: [الخفيف]
ربّ يوم بوصلها ساعد الدّه ... ر تساوى صباحه والمساء «1»
ساعدتنا ساعاته بحديث ... رقّ حتى جفا إليه الهواء
وتخبّى وجه الغزالة عنّا ... وعلينا من الغمام خباء
منها:
ويك إنّ الحصا مقيم وما يض ... عنّ وهو الحياة إلّا الماء «2»
وقوله في القلم: [الكامل]
إن قيدته يد مشى ومتى خلا ... من قيده ظلّ الحسير المثقلا «3»
177/يمشي بمفرقه ويعلم ما انطوى ... في قلب صاحبه إذا ما أعملا
وقوله: [الخفيف]
واستمعها أرقّ من ورق الور ... د وأندى من ياسمين مندّى «4»
بمعان لو أنهنّ خدود ... كنّ في الحسن جلّنارا ووردا
لو هجونا بها المنون لذلّت ... أو مدحنا بها الزمان لأجدى
وقوله: [مجزوء الرمل]
قام مثل الغصن المي ... ياد في لين الشباب «5»(15/257)
يمزج الخمر لنا بالص ... صفو من ماء الرضاب
فكأنّ الكأس لمّا ... ضحكت تحت الحباب
وجنة حمراء لاحت ... لك من تحت النّقاب
وقوله: [الطويل]
ألا فاسقني والليل قد غاب نوره ... لغيبة بدر في السماء غريق «1»
وقد فضح الظلماء برق كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق
مداما كأنّ الكفّ من طيب نشرها ... وصفرتها قد خلّقت بخلوق
نعاينها نورا جلاه تجسّد ... ونشربها نارا بغير حريق
كأنّ حباب الكأس في جنباتها ... كواكب درّ في سماء عقيق
وقوله: [المنسرح]
مطرّب الصّبح هيّج الطّربا ... كما قضى الليل نحبه انتحبا «2»
مغرّد تابع الصّياح فما ... يدري رضى كان ذاك أم غضبا
ما تنكر الطّير أنّه ملك ... لها فبالتاج راح معتصبا
178/طوى الظلام البنود منصرفا ... حين رأى الفجر ينشر العذبا
والليل من فتكة الصّباح به ... كراهب شقّ جيبه طربا
فباكر الخمرة التي تركت ... بنان كفّ المدير مختضبا
كأنّما صبّ في الزجاجة من ... لطف ومن رقّة نسيم صبا
وليس نار الهموم خامدة ... إلّا بنور الكؤوس ملتهبا
يظلّ زقّ المدام ممتهنا ... سحبا وذيل المجون منسحبا(15/258)
منها في الكانون:
ومقعد لا حراك ينهضه ... وهو على أربع قد انتصبا «1»
مصفر محرق تنفّسه ... تخاله العين عاشقا وصبا
إذا نظمنا في جيده سبجا ... صيّره بعد ساعة ذهبا
فما خبت نارنا ولا وقفت ... خيول لهو جرت بنا خببا
وساحر الطّرف لا نقاب له ... إذ كان بالجلنار منتقبا
جنيت من ثغره ووجنته ... بلحظ عينيّ زهرة عجبا
شقائقا مذهبا يرى خجلا ... وأقحوانا مفضّضا شنبا
حتى إذا ما انثنى ونشوته ... قد سهّلت منه كلّ ما صعبا
غلبت صحبي عليه منفردا ... وهل به فاز غير من غلبا
أرشف ريقا عذب اللّمى خصرا ... كأنّ فيه الضّريب والضّربا «2»
وقوله: [المنسرح]
قد ضربت خيمة الغمام لنا ... ورشّ جيش النّسيم بالمطر «3»
179/وعندنا عاتقان حمراء كالشم ... س وأخرى صفراء كالقمر
مدامة كأنّ من تقادمها ... عاصرها آدم أبو البشر
وبنت خدر تريك صورتها ... بدر الدجى جمرة بلا شرر «4»(15/259)
تسعى علينا بها الوصائف قل ... لدن مجونا قلائد الزّهر
يا تاركا طيب يومه لغد ... يبيع عين السرور بالأثر
وقوله: [الخفيف]
رقّ ثوب الدّجى وطاب الهواء ... وتدلّت للمغرب الجوزاء «1»
والصباح المنير قد نشرت من ... هـ على الأرض ريطة بيضاء
فاسقنيها حتى ترى الشمس في ال ... غرب عليها غلالة صفراء
قد كستها الدّهور أردية الرق ... قة حتى جفا لديها الهواء
فهي في خدّ كأسها صفرة التبر ... وفي الخدّ وردة حمراء
سبج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسلّ منه ضياء
وقوله يذكر ديرا ورهابنة: [البسيط]
منادما في قلاليه رهابنة ... راحت خلائقهم أصفى من الراح «2»
قد عدّلوا ثقل أديان ومعرفة ... فيهم بخفّة أبدان وأرواح «3»
ووشّحوا غرر الآداب فلسفة ... وحكمة بعلوم ذات أوضاح «4»
في طبّ بقراط لحن الموصليّ وفي ... نحو المبرّد أشعار الطرماح
وكم حننت إلى حاناته وغدا ... شوقي يكاثر أصواتا بأقداح
حتى تخمّر خمّاري بمعرفتي ... وحيّرت ملحي في السكر ملّاحي «5»(15/260)
180/إن تغن كأسك أكياسي فإنّ بها ... يفلّ جيش همومي جيش أفراحي
وان أقم سوق إطرائي فلا عجب ... هذا نداك إذا ما قام نوّاحي
وقوله: [البسيط]
بكى لي غداة البين حين رأى ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت «1»
فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعه ذوب درّ فوق ياقوت
وقوله: [البسيط]
أنباك شاهد أمري عن مغيّبه ... وجدّ جدّ الهوى بي في تلعّبه «2»
يا نازحا نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدّمع ما أبكي عليك به
وقوله: [البسيط]
ما زاره الطّيف بعد اليوم معتمدا ... إلّا ليدني له الشوق الذي بعدا «3»
كأنّما من ثناياها ومبسمها ... أيدي الغمام سرقن البرق والبردا
وقوله: [البسيط]
حمراء حين جلتها الكأس نقّطها ... مزاجها بدنانير من الذّهب «4»
كانت لها أرجل الأعلاج واترة ... بالدّوس فانتصفت من أرؤس العرب
يسقيكها من بني الكفّار بدر دجى ... ألحاظه للمعاصي أوكد السّبب
يومي إليك بأطراف مطرّفة ... بها خضابان للعنّاب والعنب(15/261)
وقوله: [الكامل]
أرعى النجوم كأنّها في أفقها ... زهر الأقاحي في رياض بنفسج «1»
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المتدحرج
181/مسمار تبر أصفر ركبّته ... في فصّ خاتم فضّة فيروزج
وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج
وتنقّبت بخفيف غيم أبيض ... هي فيه بين تخفّر وتبرّج
كتنفّس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوّج
وقوله: [الخفيف]
وسحاب يجرّ في الأرض ذيلي ... مطرف زرّه على الجوّ زرّا «2»
برقه لمحة ولكن له رع ... د بطيء يكسو المسامع وقرا
كخليّ منافق يهوا ... هـ فهو يبكى جهرا ويضحك سرّا
وقوله: [الوافر]
ألست ترى الظلام وقد تولّى ... وعنقود الثريّا قد تدلّى «3»
فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلّا الأقلّا
بزلنا دنّها والليل داج ... فصّيرت الدّجى شمسا وظلّا
وقوله: [الخفيف]
يا معيري بالصدّ ثوب السقام ... أنت همّي في يقظتي والمنام «4»(15/262)
أنت أمنيتّي فإن رمت غمضا ... سلّمتك المنى إلى الأحلام «1»
وقوله: [الكامل]
روحي الفداء لظاعنين رحيلهم ... أنكى وأفسد في القلوب وعاثا «2»
فليقض عدّته السرور فإنّني ... طلّقت بعدهم النّعيم ثلاثا
وقوله: [المنسرح]
في كنف الله ظاعن ظعنا ... أودع قلبي وداعه حزنا «3»
لا أبصرت مقلتي محاسنه ... إن كنت أبصرت بعده حسنا
182/وقوله: [البسيط]
كأنّ خمرته إذ قام يمزجها ... من خدّه اعتصرت أو من ثناياه «4»
إذا سقتك من الممزوج راحته ... كأسا سقتك كؤوس الصرف عيناه
في وجهه كلّ ريحان تراح له ... منّا قلوب وأبصار وتهواه
النرجس الغضّ عيناه وطرّته ... بنفسجّ وجنيّ الورد خدّاه
وقوله: [الخفيف]
قلت لمّا بدا الهلال لعين ... منعتها من الكرى عيناكا»
يا هلال السماء لولا هلال ال ... أرض ما بتّ ساهرا أرعاكا(15/263)
وقوله: [الطويل]
وبدر دجى يمشي به غصن رطب ... دنا نوره لكن تناوله صعب «1»
إذا ما بدا أغرى به كلّ ناظر ... كأنّ قلوب الناس في حبّه قلب
وقوله: [البسيط]
لا تحسبوا أنّني باغ بكم بدلا ... ولو تمكنّت من صبري ومن جلدي «2»
قلبي رقيب على قلبي لكم أبدا ... والعين عين عليه آخر الآبد
وقوله: [البسيط]
فديت من زرعت في القلب لحظته ... صبابة وسقى بالدّمع ما زرعا «3»
لو أنّ قلبي وفّاه محبّته ... أحبّه بقلوب العالمين معا
وقوله: [المنسرح]
كأنّما أنجم السّماء لمن ... يرمقها والظلام منطبق «4»
مال بخيل يجمّعه ... من كلّ وجه وليس يفترق
وقوله: [الخفيف]
يا خليلي من عذيري من الدن ... يا ومن جورها عليّ وصبري «5»
عجبا أنّني أنافس في عم ... ران أيامها وتخرب عمري(15/264)
181/وقوله: [السريع]
إن خانك الدّهر فكن عائذا ... بالبيض والظّلماء والعيس «1»
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس
وقوله: [الكامل]
حور جعلن وقد رحلن وداعنا ... بمدامع نطقت وهنّ سكوت «2»
فعيونها سبج ونثر دموعها ... درّ وحمر خدودها ياقوت
وقوله: [الكامل]
ما عذرنا في حبسنا الأكوابا ... سقط النّدى وصفا الهواء وطابا «3»
وكأنّما الصبح المنير وقد بدا ... باز أطار من الظلام غرابا
فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزمان شبابا
سفرت فغار حبابها من لحظنا ... فعلا محاسنها فصار نقابا
وقوله: [الكامل]
والجوّ يسحب من عليل هوائه ... ثوبا يرشّ بطلّه المترقرق «4»
حتى رأينا الليل قوّس ظهره ... هرما وأثّر فيه شيب المفرق
وكأنّ ضوء البدر في باقي الدجي ... سيف محلّى باللجين المحرق
وقوله: [مجزوء الرمل](15/265)
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا «1»
ونظير الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرّنا بالقرب زالا
وقوله: [الخفيف]
ربّ ليل فضحته بضياء ال ... راح حتى تركته كالنّهار «2»
ذي سماء كخرّم ونجوم ... مشرقات كنرجس وبهار «3»
184/وهلال يلوح في ساعد الغر ... ب كدلموج فضّة أو سوار
بتّ أجلو به شموس وجوه ... حملت في الدجى شموس عقار
وقوله: [الطويل]
وأغيد روّته المدامة فانثنى ... كما ينثني من ريّه الغصن الغضّ «4»
دعوت إليها وهي في دعوة الكرى ... وقد أخذت في خلع أسودها الأرض
فقام وفي أعطافه فضل سكرة ... وفي عينه من ورد وجنته نفض
وقوله: [الكامل]
ومدامة صفراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء «5»
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء(15/266)
وقوله: [المجتث]
راح كضوء الشهاب ... سلافة الأعناب «1»
والمزج ماء غدير ... صاف كماء الشباب
لو لم يكن ماء مزن ... لكان لمع سراب
كأنّه جسم درّ ... عليه درع حباب
يجري خلال حصيّ ... بيض كقطر السحاب
كأنّه الرّيق يجري ... على الثنايا العذاب
وقوله: [الكامل المرفل]
بأبي التي كتمت محاسنها ... خوف العيون وليس تنكتم «2»
لبست سوادا كي تعاب به ... والبدر ليس يعيبه الظّلم
وقوله: [الكامل]
ما صحّ علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس «3»
185/تعطيهم الأموال في بدر إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس
وقوله: [المتقارب]
وكبرّ حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا «4»
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالا تعالى ووجهها تلالا
وقوله: [الطويل](15/267)
وكم من عدوّ صار بعد عداوة ... صديقا مجلّا في المجالس معظما «1»
ولا غرو فالعنقود من عود كرمة ... يري عنبا من بعد ما كان حصرما
وقوله: [الكامل]
وأخ رخصت عليه حتى ملّني ... والشيء مملول إذا ما يرخص «2»
ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلّا صديق مخلص
وقوله يصف السيف: [الكامل]
متوقّد مترقرق عجبا له ... نار وماء كيف يجتمعان «3»
تجري مضاربه دما يوم الوغى ... فكأنّما حدّاه مفتصدان
وقوله: [المنسرح]
لمّا تبدّى الكوفيّ ينشدنا ... قلنا له طعنة وطاعونا «4»
تجمّع يا أحمق العباد لنا ... شعرك في برده وكانونا
وقوله في مثله: [المنسرح]
لو أنّ فيه جمرا ثمّ أنشدنا ... شعرا لما ضّره من برد انشاده «5»
وأمّا شعر أبي عثمان بن سعيد فمنه قوله: [المنسرح]
أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نور يدعو إلى الطّرب «6»(15/268)
في كلّ عين للطلّ لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحب
والصّبح قد جرّدت صوارمه ... والليل قد هّم منه بالهرب
186/والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد كتبتها البروق بالذهب
فهاتها كالعروس محمّرة ال ... خدّين في معجر من الحبب «1»
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب
نار حواها الزّجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في لهب
وقوله: [مجزوء الكامل]
والجوّ حلّته ممس ... سكة وطرفه معنبر «2»
والماء عوديّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر «3»
وقوله: [المتقارب]
فديتك ما شبت عن كبرة ... وهذي سنيّ وهذا الحساب «4»
ولكن هجرت فحلّ المشي ... ب ولو قد وصلت لعاد الشباب
وقوله: [مجزوء الوافر]
يسوّفني بنائله ... وقد أهدى لي الأسفا «5»(15/269)
وآخذ وصله عدة ... ويأخذ مهجتي سلفا
وقوله: [الوافر]
دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقرّ له قرار «1»
وكلّ فتى علاه ثوب سقم ... فذاك الثوب منّي مستعار
وقوله: [الخفيف]
وقفتني ما بين همّ وبؤس ... وثنّت بعد ضحكة بعبوس «2»
إذا رأتني مشّطت عاجا بعاج ... وهي الأبنوس بالأبنوس
187/وقوله: [المتقارب]
كأنّ الرّعود خلال البرو ... ق والريح تكثر تحريضها»
رتوج إذا خفقت بينها ... دبادبها جردّت بيضها «4»
وقوله: [مجزوء الكامل]
يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار «5»
هذي المدام هي الحيا ... ة قميصها خزف وقار
وقوله: [الخفيف](15/270)
شعر عبد السلام فيه رديّ ... ومحال وساقط وبديع «1»
فهو مثل الزمان فيه مصيف ... وخريف وشتوة وربيع
وقوله: [البسيط]
أما ترى الغيم يا من قلبه قاس ... كأنّه أنا مقياسا بمقياس «2»
قطر كدمعي وبرق مثل نار هوى ... في القلب منّي مديح مثل أنفاس «3»
وقوله: [مجزوء الرّمل]
يا نديمي اطلق الفج ... ر فما للكأس حبس «4»
قهوة طلعتها قب ... ل طلوع الشمس شمس «5»
وهي كالمريخ لكن ... هي سعد وهو نحس
وقوله: [الخفيف]
يا قضيبا يميس تحت هلال ... وهلالا يرنو بعيني غزال «6»
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنوّ السنّا وبعد المنال
وقوله: [مجزوء الكامل]
وكساه ثوب مشيبه ... في عنفوان شبابه «7»
فتراه يؤذن في أوا ... ن مجيئه بذهابه(15/271)
وقوله: [الخفيف]
هتف الصّبح بالدّجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها «1»
لست أدري لرقّة وصفاء ... هي في الكأس أم الكأس فيها «2»
188/وقوله: [مجزوء الخفيف]
ظالم لي وليته ال ... دّهر يبقى ويظلم «3»
وصله جنّة ول ... كن جفاه جهّنم
ورضاه وسخطه ل ... ي عرس ومأتم
وقوله: [الخفيف]
إنّ شهر الصّيام إذ جاء في فص ... ل ربيع أودى بحسن وطيب «4»
وكأنّ الورد المضعّف في الصّو ... م حبيب يمشي بجنب رقيب
وقوله: [مجزوء الرجز]
كأنّما نجومها ... في مغرب ومشرق «5»
دراهم منثورة ... على بساط أزرق
وقوله: [الطويل]
بنفسي حبيب بان صبري ببينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودّعا «6»(15/272)
وأنحلني بالهجر حتى لو انّني ... قذى بين جفني أرمد ما توجّعا
وقوله: [السريع]
حتى إذا ما انحلّ جيب الدّجى ... فينا وجيب الصّبح مزرور «1»
جرت هنات لي أجملتها ... فهل لها عندك تفسير
وقوله: [مجزوء الرجز]
معصفر التّفاح في ... خدّ مليح الضّرج «2»
جمّشه الشعر وما ... ذاك لطول الحجج
وإنما عارضه ... شنّفه بالسّبج
وقوله: [البسيط]
وللنسيم على الغدران رفرفة ... يزورها فتلقّاه بأمواج «3»
وكلّها من أزاهير النّهار على ... رؤوسنا كأنو شروان في التاج «4»
ونحن في فلك اللهو المحيط بنا ... كأننا في سماء ذات أبراج
وقوله: [البسيط]
في شمّك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر «5»
189/لو لم أكن مشبها للناس في خلقي ... لقلت إنّي من جيل سوى البشر
أو لم يكن ماء علمي قاهرا فكري ... لأحرقتني في نيرانها فكري(15/273)
تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا ... كأننّي المسك بين الفهر والحجر
أرى ثيابا وفي أثنائها بقر ... بلا قرون وذا عيب على البقر
إنّي لأسير في الآفاق من مثل ... سار وأملأ للأبصار من قمر
إذا تشكّكت فيما أنت مبصره ... فلا تقل إنني في الناس ذو بصر
وكيف يفرح إنسان بغرّته ... إذا نصاها فلم تصدقه في النّظر
لقد فرحت بما عانيت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
وربّما ابتهج الأعمى بحالته ... لأنّه قد نجا من طيرة العور
ولست أبكي لشيب قد منيت به ... يبكي على الشيّب من يأس على العمر
كن من صديقك لا من غيره حذرا ... إن كان ينجيك منه شدّة الحذر
وقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصّغر
وما شكرت زماني وهو يصعد بي ... فكيف أشكره في حال منحدري
لا عار يلحقني أنّي بلا نشب ... وأيّ عار على عين بلا حور
وإن بلغت الذي أهوى فعن قدر ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
وقوله: [الكامل]
وإذا تطلّع في مرائي فكره ... لم تخف خافية على تنقيبه «1»
فتراه يبلغ ما أراد برفقة ... كالفجر يبلغ ما ابتغى بدبيبه
وقوله: [الكامل]
والحبّ لولا جوره في حكمه ... ما سلّم الأقوى لأمر الأضعف «2»
190/لم يبق لي جسما ولا دمعا فقل ... في مدنف يبكي بدمع مدنف(15/274)
ومنهم:
6- أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الضّبي «1»
شاعر يعقد الثريا إكليلا، ويبسط النّشرة منديلا، ويدني منه القمر نزيلا، ويأوي منازل الأسد غيلا، يسلك المجرّة سبيلا، ويسكن الزهر قبيلا، ويقيم الصّباح دليلا، ويأتي بالشمس أو مثلها تمثيلا، ويبذل الدرّ في لفظه فيطلب الزّهر عليه تطفيلا. جمع به شلو ضبّة بعد أن مزّقه المتنبي كلّ ممزّق «2» ، وضمّ شملها بعد أن بدّده بالهجاء فتفرّق، وتدارك آخرها بعد أن هلهل نسجها بقوارضه، وجلّل سماءها بكسف عوارضه حتى كأنّ أبا برزة في حيّها لم يمت، وفيء ما جنح بعد العصر ولم يفت، وشعره ممّا لا ينكر مجيد إحسانه ولا يغضّ منه وقد ماثل آس السوالف من قلم سوسانه، ولا يلوم من قال بقوله: إنّ البنفسج لمّا زعم أنّه كعذاره سلّوا من قفاه لسانه.
ومن المختار له:
قوله: [الكامل]
زعم البنفسج أنّه كعذاره ... حسنا فسلّوا من قفاه لسانه
لم يظلموا في الحكم إذ مثلوا به ... بأشدّ ما رفع البنفسج شانه
وقوله: [المنسرح](15/275)
يا مهديا لي بنفسجا نضرا ... يرتاح قلبي له وينشرح
بشّر بي عاجلا مصحّفه ... بأنّ ضيق الأمور تنفسح
وقوله: [الوافر]
ترفّق أيّها المولى بعبد ... فقد أفنت لواحظك النفوسا «1»
وأسكرت العقول فلست تدري ... أسحرا ما تسقّي أم كؤوسا
191/وقوله:
ألا يا ليت شعري ما مرادك ... فقلبي قد أضرّ به بعادك «2»
وأيّ محاسن لك قد سبتني ... جمالك أم كمالك أم ودادك
وأيّ ثلاثة أو فى سوادا ... أخالك أم عذارك أم فؤادك
وقوله: [مجزوء الكامل]
لا تركننّ إلى الفراق ... فإنّه مرّ المذاق «3»
فالشمس عند غروبها ... تصفّر من فرق الفراق
وقوله: [مجزوء الرجز]
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس «4»
مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس(15/276)
ومنهم:
7- أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن محمد القرشي المخزومي المعروف بالسلامي «1»
من ولد الوليد بن الوليد بن المغيرة. عطارد فهم وطارد وهم وراشق بكلّ معنى كأنّه سهم، وطارق باب قبله لم يفتح وطارح رشاء في قليب لولاه لم يمتح، ومادح ملوك وهو أحقّ لحسبه أن يمدح إذ كان من مخزوم في ولد المغيرة وعدد تلك السوابق المغيرة، جدولا من تلك البحار وكوكبا من أولئك الأقمار، وفي النّسب القرشي قطعة من ذلك الغرار وشعبة من سيل ذلك القرار.
والسّلامي بفتح السين المهملة نسبة له إلى دار السّلام بغداد، لا إلى الآباء والأجداد كأنّه سمّي بهذا لسلامة شعره من العيوب، وسلاسة لفظه كأنّه الماء الشّروب.
قال الثعالبي «2» : هو من أشعر أهل العراق قولا بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق، وعلى ما أجريته من ذكره شاهد عدل من شعره والذي كتبت من محاسنه نزه العيون،/ 192/(15/277)
ورقى القلوب، ومنى النفوس. ذكر «1» هذا في تقريظه ونسي أمثاله ممّا تملى حسناته على حفيظه.
نشأ «2» ببغداد وخرج إلى الموصل وهو صبيّ ما خرج لزهره من كمامه جنيّ، فوجد بالموصل جماعة من مشايخ الشعراء منهم أبو عثمان الخالدي، وأبو الفرج الببغاء، وأبو الحسن التلعفري، فلمّا رأوه عجبوا منه لبراعته مع حداثة سنّه، ودماثة ما لم يشتد من يانع غصنه فاتّهموا في الشعر دعواه، وما شكّوا أنّما ينشدهم لسواه، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره وأستبين لكم فجره، واتخذ دعوة جمع عليها الآراء، وجمع عليها الشعراء، وأحضر السلامي ليزيل المراءة، فلمّا توسّطوا الشراب أخذوا في التنبيش على بضاعته، والتفتيش على صناعته، فجاء مطر شديد أفاض تلك الغدر، وأضاف إليه بردا شابت به النّواصي العذر حتى كأنّما مرّ السحاب بتلك الرّبى مسبل الجلباب، أو آبت به غربة النّوى فتضاحكت من جميع نواحيه ثغور الأحباب، فألقى الخالديّ نارنجا كان بين يديه في ذلك البرد، وأوقد منه نارا في ماء جمد كأنّما أهدى به الخدود إلى الثغور، أوصفّ به الياقوت على اللؤلؤ المنثور ثم قال: يا أصحابنا هل لكم أن نصف هذا؟ فقال السلامي شعرا منه: [مجزوء الكامل]
أهدي لماء المز ... ن عند جموده نار السّعير
لا تعذلوه فإنّما ... أهدى الخدود إلى الثغور
فعرفوا حينئذ حقّه، وشهدوا له من الفضل بما استحقّه، ثمّ كانوا يذعنون لإجادته ويمعنون في وصف ما يرونه من ريادته إلّا التلعفري فإنّه أقام على قوله الأول، وهل تصحّ دعوى من يتقوّل؟!
193/واتصل بعضد الدولة/ فاشتمل عليه بجناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول.
وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السّلامي في مجلس ظننت أنّ عطارد قد نزل من(15/278)
الفلك إليّ، ووقف بين يدي، ثمّ تراجع بعده طبع السلامي، ورقّت حاله، ثمّ قّرت به الجدث رحاله.
ومن شعره المطبوع، ودّره المبذول الممنوع، قوله: [الوافر]
وميدان تجول به خيول ... تقود الدّار عين ولا تقاد «1»
ركبت به إلى اللّذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد
جرى فظننت أنّ الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السواد
وقوله، وقد رأى المرآة في يد غلام كان يهواه: [المنسرح]
رأيته والمرآة في يده ... كأنّها شمسة على ملك «2»
فقلت للصورة التي احتجبت ... من غير زهد فينا ولا نسك
يا أشبه الناس بالحبيب ألا ... تخبرنا عنك غير مؤتفك
قال: أنا البدر زرت بدركم ... وهذه قطعة من الفلك
فقلت: إنّي أرى بها صدأ ... فقال: هذا بقية الحبك
وقوله في التلعفري: [الوافر]
فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله «3»
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
ودخل على أبي ثعلب وبين يديه درع محبوكة كأنّها من عيون الجراد مسبوكة، فقال:
صفها وانصفها، فارتجل من غير وجل ولا خجل: [الكامل](15/279)
194/يا ربّ سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفنّد «1»
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... فظللت أبذلها لكلّ مهنّد
ومن شعره قوله في الصاحب بن عباد: [الوافر]
رقي العذّال أم خدع الرّقيب ... سقت ورد الخدود من القلوب «2»
وآباء الصبّابة أم بنوها ... يروضون الشبيبة للمشيب
وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدّمع آفاق الغروب
تعجّب من عناق جرّ دمعا ... وتقبيل يشيع بالنحيب
وقد ضاق العنان فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب
تبسّطنا على الأيام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب «3»
ولولا الصاحب اخترع القوافي ... لما سهل الخلاص من النسيب
ومن يثني إلى ليث هصور ... لواحظه عن الرشأ الربيب
وكيف يمسّ حدّ السيف طوعا ... قريب الكفّ من غصن رطيب
يشقّ الفكر عن لفظ بديع ... فيقدم بي على معنى غريب
وقوله: [الكامل]
وأتى الخيال فلا يزرني في الكرى ... حاشا لحسنك أن يكون خيالا «4»
وقوله من أرجوزة في الصاحب: [الرجز](15/280)
وشم يروق سيفه إذا وقد ... وانساب ماء الحسن فيه واطّرد «1»
كالروح لا تكمن إلّا في جسد
منها في ذكر الفرس:
خاض الدّماء وتحلّى بالزّبد ... كأنّه إنسان عين في رمد
195/وقوله في عضد الدولة: [الطويل]
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر «2»
وكنت وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدّهر
وقوله: [الوافر]
منيت بمن إذا منّيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه «3»
وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه
وقوله: [المتقارب]
فما زلت أعصر من خمره ... وأقطف من مجتنى ورده «4»
أشمّ بنفسج أصداغه ... وزهرا تعصفر في خدّه
وأظمأ فأرشف من ريقه ... فيا حرّ صدري إلى برده
وما للّحاظ سوى وجهه ... ولا للعناق سوى قدّه(15/281)
وقوله فى أعرابي اسمه سعيد بعمامة حمراء: [المتقارب]
أعناق من قدّه صعدة ... ترى اللّحظ منها مكان السّنان «1»
أدار اللّثام على ثغره ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان
ومسك ذوائبه سائل ... على آس ديباجه الخسرواني
أحيّيه بالورد والياسمين ... فيصبو إلى الشيّح والأيهقان
فيا بدويّ سهام الجفون ... صرعن ضيوفك حول الجفان
فإن كان دينك رعي الذّمام ... فقل أنت من مقلتي في أمان «2»
196/وقوله في غلام التحى: [المنسرح]
في كلّ يوم تراه مؤتزرا ... بالرّوض بين الحياض والبرك «3»
وما علمنا بأنّه قمر ... حتى اكتسى قطعة من الفلك
وقوله من أرجوزة: [الرجز]
وليلة كأنّها على حذر ... فمرّها أسرع من لمح البصر «4»
من قبلها لم أر ليلا مختصر ... ولا زمانا لم يبن منه القصر
والليل لا يركب إلّا في غرر ... إذا وفى أحبابنا فيه غدر
زار وما ازورّ الدّجى ولا اعتكر ... أبيض إلّا المقلتين والشّعر
أغرّ أوقاتي إذا زار غرر ... فلم يكن إلّا السلّام والنّظر
أو قبلة خالستها على خطر ... حتى انتضى الفجر حساما مشتهر
وانفلّ من أهواه في جيش البكر ... فبتّ محزونا كأنّي لم أزر(15/282)
يا حسرتا لليلنا كيف انحسر
وقوله: [المتقارب]
عذارك جادت عليه الرّيا ... ض بأجفانها وبآماقها «1»
وطال غرام الغواني به ... فقد طرزّته بأحداقها
وقوله: [الخفيف]
فاض ماء الجمال في الأقطار ... كلّ بدر مطرّز بعذار «2»
قد أرانا عقارب الصّدغ من خد ... ديه تأوي مكان الجلّنار
وقوله: [المتقارب]
يغضّ الغزال جفون الغزل ... وقد فضح الكحل فيها الكحل «3»
ولولا جنى الورد من وجنتيه ... ما أوجب اللثم ذاك الخجل
197/وقوله: [الكامل]
ما تسرع الألحاظ تخطو خطوة ... في خدّه إلّا عثرن بخاله «4»
قد نقّبوه وزرفنوا أصداغه ... ختموا بغالية على أقفاله
وقوله في معذر: [الرجز]
تعرّض الشّعر بعارضيه ... فأطلق العشاق من يديه «5»(15/283)
حتى إذا أبصر وجنتيه ... جاد عذاريه بعبرتيه
كأنّما يغسل من خدّيه ... صحيفة قد كتبت عليه
وقوله في غلام تركي: [الكامل]
علّقت مفترس الضّراغم فارسا ... رحب المدى والصّدر والميدان «1»
قمر من الأتراك يشهد أنّه ... الخود الحصان على أقبّ حصان
ورمى بلحظته القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السّهمان
بطل حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزجّ كقوسه المرنان
حييّته ولعا فأمطر راحتي ... قبلا فليت فمي مكان بناني
وخدعته بالكأس حتى ارتاض لي ... ودرأت عنيّ الحدّ بالكتمان
وقوله: [البسيط]
وللصّبابة قوم لا يسرّهم ... أن يلبسوا الوشي إلّا تحته سقم «2»
أشتاق أهلي لظبي بين أرحلهم ... والحب يوصل مالا يوصل الرّحم
وقوله: [البسيط]
ما ضنّ عنك بموجود ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النّفس التي بذلا «3»
تحكي المطايا حنينا والهجير جوى ... والمزن دمعا وأطلال الديار بلى
198/وقوله: [البسيط]
صحبته والصّبا تغري الصّبابة بي ... والوصل طفل غرير والهوى يفع «4»(15/284)
أيام لا النّوم في أجفاننا خلس ... ولا الزيادة من أحبابنا لمع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللّذات لي شيع
وليلة لا ينال الفكر آخرها ... كأنّما طرفاها الصّبر والجزع
أحببتها ونديمي في الدجي أمل ... رحب الذّرى وسميري خاطر صنع
حتى تبسّم إعجابا بزينته ... لفظ بديع ومعنى فيك مخترع
وقوله: [الوافر]
ويذكرني بذكر الرّبع غيد ... به صيد وحور فيه عين «1»
سللن من العيون السود بيضا ... فما أدري قيان أم قيون «2»
وقوله: [الوافر]
أتنشط للصّبوح أبا عليّ ... على حكم المنى ورضى الصّديق «3»
بنهر للرياح عليه درع ... يذهّب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وقفت به وكم خّد رقيق ... يغازلني على قدّ رشيق
وخمر صبّ في الأغصان حتّى ... أضاع الماء في وهج الحريق «4»
كدهم الخيل في ميدان تبر ... تصاغ لها كرات من عقيق
فهل لك في ختام المسك فضّت ... نوافجه ومختوم الرّحيق
وقوله: [الوافر](15/285)
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار «1»
199/إذا اصفرّت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
كأنّ الماء أرض من لجين ... مغشّاة صفائح من نضار
وأشجار محمّلة كؤوسا ... تضاحك في احمرار واخضرار
إذا أبصرت في نهر سماء ... وهبن لها نجوم الجلّنار
وقوله: [البسيط]
وقد كتبت إلى ان خانني قلمي ... وقد ترددّت حتى ملّني الطّرق «2»
فابعث إليّ بصفو الراح يشبهه ... منيّ قريضي ومنك العرف والخلق
وقوله: [الكامل]
والطير قد طربت لحسن غنائنا ... لو أنّها فطنت لشرب الكاس «3»
والشمس من حسد تغيّر لونها ... ألّا تكون كغرّة العباس
أنا لا أبالي من فقدت من الورى ... إمّا حضرت فأنت كلّ الناس
وقوله: [البسيط]
والكأس للسكّر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدّري نظّام «4»
بتنا نكفكف للكاسات أدمعنا ... كأنّنا في جحور الروّض أيتام «5»
وقوله: [المتقارب](15/286)
نفرّغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا «1»
حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا
وقوله: [الطويل]
غزال صريم في رجوم صوارم ... وبدر تمام في نجوم تمائم «2»
وكان رقادي بين كأس وروضة ... فصار سهادي بين طرف وصارم
ولولا نسيب مطرب من قصائدي ... لما احتال طيف في زيارة نائم
200/وقوله: [الكامل]
أو ما ترى طرز البروق توسّطت ... أفقا كأنّ المزن فيه شفوف «3»
واليوم من خدّ الشقيق مضرّج ... خجل ومن مرض النسيم ضعيف «4»
والأرض طرس والرياض سطوره ... والزهر شكل بينها وحروف
وكأنّما الدولاب ضلّ طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف
وقوله: [الطويل]
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم «5»
وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ... عقار وفوها الكأس أو كأسها فم
إلى أن بدرنا والنجوم وغربها ... يفضّ عقود الدرّ والشرق ينظم
ونبّهت فتيان الصّبوح للذّة ... تلوح كدينار يغطّيه درهم(15/287)
وقوله ارتجالا في ذكر شعب بوّان، وقد نزله عضد الدولة: [البسيط]
إذا لبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقّن العجم من أطياره نتفا «1»
وثمرت حسنه الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا
والماء يثني على أعطافه أزرا ... والريح تعقد من أطرافها طرفا
من قائل نسجت درعا مضاعفة ... وقائل ذهّبت أو فضّضت صحفا
ظلّت تزفّ إلى الدنيا محاسنها ... وتستعدّ لها الألطاف والتّحفا
ولست أحصي حصى الياقوت فيه ولا ... درّا أصادفه في مائه صدفا
وقوله في النار: [البسيط]
يعلو الدخان بسود من ذوائبها ... قد عطّ عنها قناع التبر واستلبا «2»
201/قد كلّلت عنبرا بالمسك ممتزجا ... وطوّقت جلّنارا واكتست ذهبا
فالنور يلعب في أطرافها مرحا ... والخمر يرعد في أكنافها رهبا
وطار عنها شرار لو جرى معه ... برق دنا أو تلقّى كوكبا لكبا
لو كان وقت نثار خلته دررا ... أو كان وقت انتصار خلته شهبا
والليل عريان فيها من ملابسه ... نشوان قد شقّ أثواب الدجى طربا
أقسمت بالطرف لو أشرفت حين خبت ... جعلت أنفس أعضائي لها حطبا
وقوله: [الخفيف]
فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إليها مبشّرا بالصباح «3»
والثريا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح(15/288)
وكأنّ النجوم من كفّ ساق ... يتهادى بهادي الأقداح «1»
وجمعنا بين اللواحظ والرّا ... ح وبين الخدود والتفّاح
وشممنا بنفسج الصّدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاحي
زمن فات بين لهو وشرب ... وغناء وراحة وارتياح
وقوله وقد خرج من دار الشريف الرضي في المطر فأعطاه كساء تلفّع به: [الكامل]
أشكو إليك عشيّة لم نفترق ... فيها على ملل ولا استعتاب «2»
ما كنت إلّا جنّة فارقتها ... كرها فصبّ عليّ سوط عذاب
ودّعت دارك والسماء تحدّني ... بيد الغمام فلا يكن بك ما بي «3»
ما زلت أركض في الوحول مباريا ... فيها الخيول لواحق الأقراب
وحمى كساؤك- لا عدمت معيره- ... درّاعتي وعمامتي وجبابي
202/فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي
غيثان هذا ابن الذي من أجله ... خلق السحاب وذا سليل سحاب
فوصلت أشكو ذا وأشكر ذا وما ... يغنين ما بهما عن التسكاب «4»
وقوله: [المتقارب]
ولم نر بحرا جرى كالعقار ... ولا ذهبا صيغ منه جبل «5»
إلى أن جرت دجلة في الشعاع ... وطنّب بالنور أعلى القلل(15/289)
سحاب الدخان وبرق الشرار ... ورعد الملاهي وغيث الجذل
وما زال يعلو عجاج الدخان ... حتى تلوّن منه زحل
وكنّا نرى الموج من فضّة ... فذهّبه النور حتى اشتعل
وقوله يستهدي مهرا: [الطويل]
فمر لي به لا الدّهم فازت بلونه ... ولا البرش حازت بردتيه ولا الصّقر «1»
كميت تذال الشهب والبلق إن بدا ... وتسمو بما نالته من شبهه الشّقر
يخوض إذا لاقى دما مثل لونه ... ولا ماء إلّا ماء رونقه الغمر
فغرّته مبيضّة وخجولة ... ولكن أريقت فوق سائره الخمر
وأسبق من عاف إليك وشاعر ... قوافيه أفراد محجّلة غرّ
وقوله في وصف زنبور: [الطويل]
ولابس لون واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع «2»
أغرّ محشّ الطيلسان مدبّج ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حكّ أعلى رأسه فكأنّما ... بسالفتيه من يديه جوامع
203/يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسيّ الزيّ يعقد خصره ... عليه قباء زينّته الوشائع
فمعجزه الورديّ أحمر ناصع ... ومئزره التبريّ أصفر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقي كؤوسا ملؤها السّم ناقع
وقوله يصف الحرب: [الكامل]
فالروض من زهر النجوم مضرّج ... والماء من ماء الترائب أشكل «3»(15/290)
والنّقع ثوب بالنسور مطيّر ... والأرض فرش بالجياد مخيّل
يهفو العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدل ومجدّل
وسطور خيلك إنّما ألفاتها ... سمر تنقّط بالدّماء وتشكل
وقوله: [الكامل]
خلنا على الكرسيّ ليثا غابه ... سمر القنا نبتت بغيض بحاره «1»
وغداة ظلت مساير الإقبال في ... خلع الإمام وطوقه وسواره
متسوّرا بأهلّة متطوّقا ... بالشمس أو بالبدر أو أظّاره «2»
في خلعة صيغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبلوا على إيثاره
وقوله في عبد العزيز بن يوسف وقد ورد رسولا على الخليفة من قبل عضد الدولة:
[المتقارب]
دنوت إلى تاجه والسرير ... فهذا تعالى وذاك اتّسع «3»
وضاحك برد النبيّ القضي ... ب أنسا بخوضك فيما شرع
وأثنت فضائلك الباهرات ... على ملك الدهر فيما اصطنع
204/طلعت فكنت كنجم الصّبا ... ح دلّ على الشمس لمّا طلع
ومن كلّف الدّهر أمثالكم ... فقد كلّف الدّهر ما لم يسع
وقوله: [الوافر]
كرمت وسدت فالجدوى انتهاب ... إذا زرناك والمدح اقتضاب «4»(15/291)
أخزّان وما أبقيت مالا ... وأبواب وقد رفع الحجاب
وقوله: [الكامل]
إن كان بالكرم الخلود فما أرى ... في العالمين سوى سعيد يسلم «1»
وله من الحسن البديع براقع ... وعليه من بشر السّماحة ميسم
عبق به مسك الثناء تكاد في ... النادي نوافج مسكه تتكلّم
وقوله: [الكامل]
قد قلت حين أفاض أحمد سيبه ... يا شقوة المتشبّهين بأحمد «2»
يشرون مثل جياده وعبيده ... أفيقدرون على ابتياع السؤدد
وقوله: [الكامل]
أفلا أجار ولي ثلاثة أشهر ... لا تعلمون بما أقيم تجمّلي «3»
قد بعت حتى بعت طرفا قائما ... تحت القدور على ثلاثة أرجل
وقوله: [الوافر]
وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام «4»
وكانت منزلا طلق المحيّا ... فصارت واديا صعب المرام
وبحرا من عجائبه خلوصي ... إليكم ظامئا والبحر طام
بناتي كالضفادع في ثراها ... وأهلي في الروازن كالحمام(15/292)
تهافت ركّع الجدران فيها ... سجودا للرعود بلا إمام
205/كأنّ مصون ما أحرزت فيها ... على أبواب مشرعة الخيام
وقوله يذكر سقطته في سكره: [الطويل]
وكانت لنا في جبهة الدّهر ليلة ... كهمّك لان العيش فيها وأخصبا «1»
عفا الدهر عنها بعد ما كان ساخطا ... وأحسن فيها بعد ما كان مذنبا
فيا فرحتا لو كنت أصبحت سالما ... ويا شقوتي إن مركبي زلّ أو كبا «2»
أروح وصبغ الراح يخضب راحتي ... وأغدو بعضو من دمي قد تخضّبا
يقولون [لي] تب لا تعاود لمثلها «3» ... وهيهات ضاع الوعظ فيّ وخيّبا
وكم قبلها قدمتّ بالسكر مرّة ... وعدت فكان العود أحلى وأطيبا
وقوله: [مجزوء الكامل]
نبهّت ندماني وقد ... عبرت بنا الشّعري العبور «4»
والبدر في أفق السّما ... ء كروضة فيها غدير(15/293)
ومنهم:
8- أبو سعيد محمد بن محمد بن الحسن الرستمي «1»
رقيق الحاشية، دقيق الناشية، كأنّما أمدّته عانة بسلافها، وحبته الرياض جنى ألفافها بعبارات ألعب بالألباب من نبت الزرجون، وإشارات أقتل للعشاق من إيماء الجفون، أبرزها في معان كانت له مخبوءة في مدارج الكلام، وألفاظ كانت له معدّة على ألسنة الأقلام فجاء من الكلام بما حلى العاطل، وطلع في الظلام فجره الصادق لا المماطل، وكان الصاحب بن عباد يمازحه، ويداعبه فيما يطارحه ميلا إلى خلقه الدمث، ولطفه المنبعث، وممّا استجيد له انتقاؤه، 206/واستعيد به إذ فات لقاؤه،/ قوله: [الطويل]
وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي كما نبكي عليها المنازل «2»
فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خدّه الدّمع سائل
كأنّ عيون النّرجس الغضّ بينها ... نشاوى كرى أعناقهنّ موائل «3»
وقوله: [الطويل]
وأهيف معشوق الدلّال منعّم ... معقرب صدغ كالهلال مداره
إذا ما استعار الجلّنار بخدّه ... أعار الحشا من خدّه جلّ ناره
وقوله في الصاحب بن عبّاد: [الكامل](15/294)
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد «1»
يروي عن العبّاس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد
شرف كعقد الدّر واصل بعضه ... بعضا كأنبوب القنا المنّاد
وعلى كأيام السنين ترادفت ... أيّامها بمكرّر ومعاد
بين المدينة واديان تجاريا ... وكأنّما كانا على ميعاد «2»
مدّان هذا ليس ينفد فضله ... أبدا وهذا فيضه لنفاد
وقوله: [الطويل]
إذا نزلوا اخضرّ الندى من نزولها ... وإن نازلوا احمرّ الثرى من نزالها «3»
ببيض كأنّ الملح فوق متونها ... ودهم كأنّ الزنج تحت جلالها
[وقوله] «4» : [الطويل]
أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعرا ... ويحرم ما بين الورى شاعر مثلي «5»
كما سامحوا عمرا بواو زيادة ... وضويق باسم الله في ألف الوصل «6»
207/وهل بارق يشتام إلّا من الحيا ... وهل عسل يشتار إلّا من النّحل
وقاك بنو الدّنيا جميعا صروفها ... جميعا فإنّ الجفن من خدم النّصل(15/295)
ومنهم:
9- أبو محمد، الحسن بن علي بن مطران «1»
إذا شعر فالدّرر لولا صدفها، والدراري لولا سدفها، والنور لولا أفوله، والنّور لولا ذبوله والعين لولا تخالف أعجازها وصدورها، والقلائد وهذه تفضل بأنّها شذور كلّها، وتلك تفصّل بشذورها. كلامه عذب، ومعانيه تحسن الذبّ، ومقاطعه تقتطع على القصائد طرق الأسماع. ويقول خير القول ما قلّ ودلّ، وإنّما الطول فضول في الطباع. ولم يحضرني من شعره عند هذا الإيراد إلّا ما أسوقه لك لمعة في هذا السواد، منه قوله: [الطويل]
ظباء أعارتها المها حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر «2»
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبلّت ... مواطئ من أقدامهنّ الضفائر
وقوله: [البسيط]
أخو الهوى يستطيل الليل من سهره ... والليل من طوله جار على قدره «3»
ليل الهوى سنة في الهجر مدّته ... لكنّه سنة في الوصل من قصره
وقوله: [مجزوء الخفيف]
والمودات ما خلت ... من هدايا مكرّره «4»(15/296)
كطبيخ خلا من ال ... لحم يدعى مزوّره
وقوله: [المنسرح]
قل للفلاني إنّ مدحك عن ... هجوك ما إن يقوم معتذرا «1»
وهل يعفى يوما إساءته ... تبصبص الكلب بعد ما عقرا
وقوله: [الوافر]
أبا نصر سمحت لنا بثوب ... حكى من فرط ضيق العرض باعك «2»
سخافة نسجه تحكيك عقلا ... وغلظة غزله تحكي طباعك «3»
ومنهم:
10- أبو الفتح البكتمري، يعرف بابن الشامي الكاتب «4»
له في اليتيمة ذكر مترجم، وطالع منجّم، واسم ثابت في ذلك المعجم، وعود بين تلك السّهام لا يرمى ولا يعجم.
قال فيه الثعالبي «5» : له شعر يتغنّى بأكثره ملاحة ولطافة، ولو قال امتزاجا بالأهواء لم تتطرّق إلى شهادته آفة. ولقد رأيت منازعه تنبئ عن حذقه، وتنبي ألفاظه على رقّة(15/297)
يستحليها المترنّم في نطقه، لا تتعسّف طريقا، ولا يكلف السامع استخراجا سحيقا، وهذه عبقة من مسكه، وتعليقة من سبكه، ومعيار يأتيك بصّحة محكه، وخطفة تلوح لك ببرقه، وقطعة تبوح إليك بما أبقينا من حقّه، من ذلك قوله: [الرجز]
وروضة راضية عن الدّيم ... وطأتها بناظري دون القدم «1»
وصنتها صوني بالشكر النّعم وقوله: [مجزوء الكامل]
قالوا: بكيت دما فقل ... ت: مسحت من خدّي خلوقا «2»
أبصرت لؤلؤ ثغره ... فنثرت من جفني عقيقا
لولا التمسّك بالهوى ... لظللت في دمعي غريقا «3»
وقوله: [مجزوء الكامل]
قمر كأنّ قوامه ... من قدّ غصن مسترقّ «4»
وكأنّما اصطبح ال ... ربيع بوجنتيه واغتبق
وكأنّما قلم الزمر ... رد فوق عارضه مشق
وقوله: [المتقارب]
سقاني بعينيه كأس الهوى ... وثنىّ وثلّث بالحاجب «5»
كأنّ العذار على خدّه ... فذلك من مشقة الكاتب(15/298)
209/وقوله: [الكامل]
ردّوا الهدوّ كما عهدت إلى الحشا ... والمقلتين إلى الكرى ثمّ اهجروا «1»
من بعد ملكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة بيّعين تخيّر «2»
وقوله في بيت الخلا «3» .
ومنهم:
11- أبو محمد عبد الله بن محمد الفيّاض كاتب سيف الدولة، ونديمه «4»
حسبنا إذا وصفناه ولو نقشنا بالأحداق في الخدود لما أنصفناه. أن نقول كاتب سيف الدولة بن حمدان، ونديم ذلك الفضل الذي ما ذهب بذهاب الزمان، والخصيص به بين أقران يكبر كلّ منهم أن يتكنّى على كيوان سيف الدولة لا يختار إلّا الأليق بيانا، والألبق بنانا والأتمّ أخلاقا، والأعمّ وفاقا، والأغزر مادة، والأقوم جادّة.
وقد أثنى عليه الثعالبي ثناء لو رزقه البدر لما تكلّف، أو لاقى الشمس لما فارقت الدّنيا في كلّ ليلة بحالة مدنف، حيث قال فيه، ومن جاء بالمليح كيف يخفيه «5» : معروف ببعد المدى في مضمار الأدب، وحلبة الكتابة، وأخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة [أحدا] «6» لحسن عبارته، وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق(15/299)
الأغراض، وتحصيل المراد، وأنّه كان يعجن مداده بالمسك، ولا تلاق دواته إلّا بماء الورد تفاديا من قول القائل: [الوافر]
دعيّ في الكتابة لا رويّ ... له فيها يعدّ ولا بديه
كأنّ دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبدا كريه
وإيثارا لما قال الآخر: [الرجز]
في كفّه مثل سنان الصعده ... أرقش بزّ الأفعوان جلده
210/كأنّما النّقش إذا استمدّه ... غالية مدوفة بندّه
وإذ قد فرغنا من الثعالبي في قصصه، وأتينا من خبر هذا التقريظ بملخّصه، فها أنا أدير على سمعك من نطفه ما يندّي قلبك بترشّفه، وأروقك بما يشوقك من نتفه الشفّافة فما قدر السلافة وعفوه الذي حصل على صفوه ما يعول لو أخذ الليل مدادا حتى لا يجد القمر سوادا يجوب فيه الفلك تردادا، وأخلى العيون من كحلها الباصر، والأفئدة من حبّها المرعي بالخواطر، واستقطر ماء الآفاق لدواة تلاق وأخذ لها الشعور من الجور، وانتزع رمح السماك من مقلّده فبراه قلما يكتب به في يده لكان باستحقاقه ولما أنفت هذه المواد من استرقاقه، وإليك ما وعدتك به آنفا، وهجتك لاستشرافه واصفا، منه قوله: [البسيط]
قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود «1»
كأسا إذا أبصرت في القوم محتشما ... قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوّج ابن سحاب بنت عنقود «2»
وقوله في غلام كان يحبّه استوحش لميله إلى غلام آخر اسمه إقبال: [الكامل](15/300)
أنكرت إقبالي على إقبال ... وخشيت أن تتساويا في الحال «1»
هيهات لا تجزع فكلّ طريفة ... ريح تمرّ وأنت رأس المال «2»
وقوله في مثله: [الكامل]
الآن تهجرني وأنت المذنب ... وظننت أنّك عاتب لا تعتب «3»
وأمنت من قلبي التقلّب واثقا ... بوفائه لك والقلوب تقلّب
211/وقوله: [الوافر]
وما بقيت من اللّذات إلّا ... محادثة الرجال على الشراب «4»
ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بوجهه ماء الشباب
ومنهم:
12- أبو طاهر سيدوك بن حبيب الواسطي «5»
تتعلّق العقول بما يقول، ويسقط طير القلب على لؤلؤه المحبوب لا الحبّ.
خرج من واسط أمة وسطا، وقام في الأدب موهوب العطا مرهوب السّطا، غذاء الأرواح مرويّه، وداعي الأفراح روّيه، غض الثمر على الأبد طريّه، سهل المرمى على بعد الغوص سريه. ألفاظ مصفّاة ومعان من العناء معفاة، وإن أنشدت قالت الأسماع: لنا المنّة على الألباب، وإن رمقت قالت العيون عندنا اللباب وهذا اللسان وراء الباب، ولم يقع لنا منه إلّا(15/301)
كقبلة المختلس، أو شعلة المقتبس، أو نظرة العجل أو فكرة المرتجل، أو تحية الوداع، أو إشارة من وراء قناع، أو ضمّة حبيب فاجأه الصباح فارتاع منه، قوله: [البسيط]
عهدي بنا ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر «1»
فالآن ليلي مذ غابوا- فديتهم- ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
وقوله: [الوافر]
أراح الله نفسي من فؤاد ... أقام على اللجاجة والخلاف «2»
ومن مملوكة ملكت رقاها ... ذوي الألباب بالخدع اللّطاف
كأنّ جوانحي شوقا إليها ... بنات الماء ترقص في حقاف
وقوله: [مخلع البسيط]
أنت من القلب في السواد ... وموضع السرّ من فؤادي «3»
يا ساكنا في سواد عيني ... وبين جفنيّ والرقاد
212/لم تنأ لمّا نأيت عنّي ... ولا تباعدت بالبعاد
وقوله: [مجزوء الكامل]
حذري عليك أشدّ من ... حذري على بصري وسمعي «4»
إن كنت تنكر ما أقو ... ل فهاك سل سهري ودمعي(15/302)
ومنهم:
13- أبو الحسن علي بن الحسن اللحام «1»
هجّاء يرمي الأعراض كالأغراض ويقصّ من فكّيه بمقراض، ويعبث بالأشلاء الصحيحة دون الألحاظ المراض. أكل لحوم الأحياء بلسانه وهو لحمة وسدى، وألحم في سبّ الناس فبئس السّدى وبئست اللّحمة. وقسا قلبه على الأبرياء فلم تثنه رقّة، ولا أخذته رحمة كأنّ في فؤاده إحنة حرّى، أو في فمه مرّة صفراء فما تخرج له كلمة إلّا مرّة، ولا تدخل له حسنة إلّا على سبيئة لها ضرّة، ولا تقع من يده تمرة إلّا معها جمرة مضرّة. من ذلك قوله:
[الكامل]
يا سائلي عن جعفر عهدي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد «2»
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي «3»
وقوله: [مجزوء الرمل]
تكذب الكذبة جهلا ... ثمّ تنساها قريبا «4»
كن ذكورا يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا
وقوله: [المتقارب](15/303)
على عدد القوم رغفانه ... فلست ترى لقمة زائده «1»
أرى الصوم في أرضه للفتى ... إذا حلّها أعظم الفائده
وقوله: [البسيط]
وقائل لي دنّست الهجاء بمن ... يدنّس الكلب إن أقعى وإن شردا «2»
فقلت: أنصفت لكن هل سمعت بمن ... إن هرّ كلب عليه بارز الأسدا
وقوله: [المجتث]
هذا زمانك فاخت ... م بالطين والطين رطب
213/فإن سقيا اللي ... الي فيها أجاج وعذب
ومنهم:
14- أبو العلاء «3» السروي «4»
وراء الحسن طوره، وبعيد على الغوص غوره، وغالب على الإحسان فوره. كأنّ فهمه مغار الكواكب فهو يساقطها، أو مغاص اللآلي فعنده يطلبها لا قطها، وكأنّ في شعره دمى أو عليه ما على اللّمى، أو كأنّ مبذوله على القرائح حمى. يهزّ السامع ويهزأ بالطامع، له ما للشبيبة من الإمتاع بالمؤانسة، وما للمشيب من الرياضة لتدليل الظبية الكانسة، فأقبل(15/304)
على ما يقابلك من شعره، واقبل ما لا حيلة لك في ردّه من سحره، كقوله: [الطويل]
مررنا على الروض الندي تبسّمت ... رباه وأرواح الأباريق تسفك «1»
فلم أر شيئا كان أحسن منظرا ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وقوله: [البسيط]
حيّ الربيع فقد حيّا بباكور ... من نرجس ببهاء الحسن مذكور «2»
كأنّما جفنه بالغنج منفتحا ... كأس من التبر في منديل كافور
وقوله: [الكامل]
ومعشّق الحركات تحسب نصفه ... لولا التمنطق بائنا عن نصفه «3»
يسعى إليّ بكأسه فكأنّما ... يسعى إليّ بخده في كفّه
قد قلت لما أن بدا متبخترا ... والردف يجذب خصره من خلفه
يا من يخلّص خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه «4»
وقوله: [الطويل]
ثنى قلبه عن شغل قلبي بغيره ... فقلت: رويدا إنّما أنت أوّل «5»
214/فقال: دع العذر الضعيف فليس من ... يولّى على أمر كمن هو يعزل «6»(15/305)
وقوله: [المنسرح]
بالورد في وجنتيك من لطمك ... ومن سقاك المدام لم ظلمك «1»
خلّاك ما تستفيق من سكر ... توسع شتما وجفوة خدمك
مسوّس الصدغ قد ثملت فما ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
تجرّ فضل الإزار منخلع النع ... لين قد لوّث الثرى قدمك
أظلّ من حيرة ومن دهش ... أقول لمّا رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك
ومنهم:
15- أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان المعروف الخبّاز البلدي «2»
له كلّ بيت معمور الجوانب بالغيد الكواعب، من كلّ ذات دلال يزين خدّها حسنة خال وتزيدها ملاحة لفتة غزال، وفلتة سالف لا يزال جاور في صنعته نارا لها وقود فاشتعل فؤاده ذكاء بطيء الخمود، وهو مع ذلك عذب برود سلسبيل مورود.
وقال فيه الثعالبي وقد ذكره «3» : ومن عجيب شأنه أنّه كان أميّا، وشعره كلّه ملح وتحف، وغرر وطرف، ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن، أو مثل سائر، وكان حافظا(15/306)
للقرآن مقتبسا منه في شعره منه
كقوله: [الطويل]
ألا إنّ اخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمال لا تقصّر في لسعي «1»
ظننت بهم خيرا فلمّا بلوتهم ... نزلت بواد منهم غير ذي زرع
وقوله: [الطويل]
كأنّ يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يذرف الدّمعا «2»
215/يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلت تلك العصا حيّة تسعى
وقوله: [الخفيف]
أترى الجيرة الذين تداعوا ... بكرة للزّيال قبل الزوال «3»
علموا أنّني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال «4»
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرّحال
وقوله: [الكامل المرفل]
قد قلت إذ سار السّفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا «5»
لو أنّ لي عزّا أصول به ... لأخذت كلّ سفينة غصبا
ومن شعره قوله: [السريع]
بالغت في شتمي وفي ذمّي ... وما خشيت الشاعر الأمّي «6»(15/307)
جرّبت في نفسك سمّا فما ... أحمدت تجريبك للسّم
وقوله: [الوافر]
إذا استثقلت أو أبغضت خلقا ... وسرّك بعده حتى التنادي «1»
فشرّده بقرض دريهمات ... فإنّ القرض داعية الفساد «2»
وقوله: [الطويل]
ذرى شجر للطير فيه تشاجر ... كأنّ صنوف النّور فيه جواهر «3»
كأنّ القمارى والبلابل حولها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
وقوله: [البسيط]
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نار إذ يؤججّها «4»
لا تمزجنها بغير الريق منك فإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
وقوله: [مجزوء الرمل]
قلت والليل مقيم ... ود جاه غير سار «5»
أعظم الخالق أجر ال ... خلق في شمس النهار
216/فلقد ماتت كما ما ... ت عزائي واصطباري
وقوله: [الخفيف](15/308)
صدّني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديع «1»
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع
وقوله: [السريع]
يا ذا الذي أصبح لا والد ... له على الأرض ولا والده «2»
إن جئت أرضا أهلها كلّهم ... عور فغمّض عينك الواحده
وقوله: [السريع]
نكبت في شعري وثغري وما ... نفسي في صبري بمنكوبه «3»
إذا دنت بيضاء مكروهة ... منّي نأت بيضاء محبوبه
وقوله: [البسيط]
ليل المحبّين مطويّ جوانبه ... مشمّر الذيل منسوب إلى القصر «4»
ما ذاك إلّا لأنّ الصبح نمّ بنا ... فأطلع الشمس من غيظ على القمر
وقوله في أمرد التحى: [السريع]
انظر إلى ميت ولكنّه ... خلو من الأكفان والغاسل «5»
قد كتب الدهر على خدّه ... بالشعر هذا آخر الباطل
وقوله: [الطويل](15/309)
أهزّك لا أنّي وجدتك ناسيا ... لوعد ولا أني أردت التقاضيا «1»
ولكن رأيت السيف من بعد سلّه ... إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا
ومنهم:
16- أبو القاسم عبد الصّمد بن بابك: «2»
شاعر لم يخل شعره من مسمع، ولا ذكره من مجمع، ولا عذره في جوب البلاد من مطمع، ولا سّره العذري مما يذوب له مدمع، ولا علاقة وجده العراقي من هوى يتجرّع مريره، وجوى قطع مريده، وجال البلاد 217/طولا وعرضا/ وقلب العباد سماء وأرضا فورد البحار والثماد واستمرأ السماح والجماد، وامتطى العير والجواد وقطع الرّبى والوهاد، وصحب الملاح والحاد، وخاض السراب واللجج، وراض الصّهوة والثبج، وركب الأمن والغرر، وتبلّل بالصفو والكدر، وأقلع مع كلّ ريح فعلا وانحدر، ومدح ملوكا وسوقة، ومنح جوائز مرقوقة وغير مرقوقة، وصار لتقاذف النّوى به يأنس بكلّ غريب ليس من داره، ويخضع لكلّ رقيب ليس هو من أوطاره، ويكلف بكلّ ظبي لا يألم لنفاره، ويتسّم بكل بدر لا يكمد لسراره، ويستميله كلّ قضيب لا يطعم من ثماره، ويستهويه كلّ حبيب لا يطمع في ازدياره، وهو ذو الرائية «3» المرائية في كلّ أفق المرمية هوى لا هوانا على الطرق، الفاتنة رآتها كأنّ كلّ راء منها وقفة عذار أو ليّة سوار، أو عطفة صدغ ما مكنّت راس(15/310)
[] «1» مع تغريقتها فما استدار، وهي التي أوّلها علّقته أسود العينين والشعره هبّت في الأرض هبوب النسيم، واستطارت في الآفاق استطارة البرق في الليل البهيم، ورواها من شعر ومن لم يشعر، وطواها في مدارج حفظه من نشر ومن لم ينشر. وله ديوان كبير حجمه، كثير في القيمة نظمه، قصائد ماله فيها عذير، وموارد كأنّما شهر جدولها سيفه فليس جوشنه الغدير، منها «2»
قوله: [البسيط]
هبّت عليّ صبا بالعرف لو عصفت ... يوما على الغصن الرّيان ما اضطربا
ذنبي إلى الدهر أنّي ما استكنت له ... ولا اتخذت إلى نيل العلى سببا
وعزمة كذباب النّصل رعت بها ... تيها كأنّ على أعلامه عذبا
وقوله: [الوافر]
وربّة ليلة صدعت دجاها ... عزيمة صادق الأطماع صاب
218/خلعت سوادها والشمس وسنى ... وعين النجم سافرة النّقاب
وأطراف الرماح نجوم ليل ... وصبحي كلّ مصقول الذّباب
منها:
يجاذب خطوها كسل التثنّي ... ويكسر لفظها مرض العتاب
فأدنتني على فرق ومجّت ... مباسمها جنى الضّرب المذاب «3»
فقالت لي النّجاء فإنّ صبحا ... وراءك قد علا حدب الروابي
فقلت: ثقي فبين يدي وسادي ... مسافة بين جيدك والسّحاب(15/311)
وأيّة ليلة لم أعش فيها ... إليك مواطي الخطط الصّعاب
ويوم أشكل البردين رطب ال ... حواشي أربد الصفحات كابي
أذاع نسيمه سرّ الخزامى ... وحلتّ شمسه زرّ الضّباب
يبلّ مطامعي وشل الأماني ... ويسحر مقلتي ملق السراب
وقوله: [الطويل]
وإنّي إذا اهتزّت ذؤابة فاخر ... ضربت قباب العزّ فوق الكواكب
خلقت سفيه السيف لا أعرف الرضّا ... كأنّ عليّ الموت ضربة لازب
تطاول أطراف الرماح ذؤابتي ... إذا ما انحنى النّبع انحناء الحواجب
وحمرة طرف كالذّبال عقدتها ... بأعجاز ليل أشمط الأفق شاحب
كأنّ انشقاق الصبح في أخرياته ... تكشّف روض عن شريعة شارب
وقوله: [الطويل]
أيا ملك الأملاك اطرق إلى الحيا ... فأنت سماء للغيوث السواكب
تقاعس عنك الفاخرون فأحجموا ... وخيل المعالي غير خيل المواكب
219/وقوله: [الوافر]
ففتّرن العيون لها خداعا ... لتسمح بالدنو لمن تقرّب
وقلن لها صلي دنفا تخطّى ... رماحك والمغرّر لا يخيّب
فجرّدن اللحاظ ومرّضتها ... ولا يرضيك إلّا من تغضّب
لحاظ يتّركن أخا التصابي ... وما فيه لحدّ السيف مضرب
وقوله: [الوافر]
فقصرك لا تطل عتب الليالي ... ولا تقرع على الحدثان بابا(15/312)
ورض بالصّبر نفسك ما أطاعت ... فإن عاصتك فاتّهم الشبابا
وقوله: [المتقارب]
ففي وجه كلّ ثرى بهجة ... وفي وجه كلّ سماء سحوب
وقد شقّت الشمس جيب السحا ... ب وعند الفراق تشقّ الجيوب
إذا قلت قد نظرت أطرقت ... ووصل الحبيب بعيد قريب
وهذي الحمامة تشكو الجوى ... إليّ ولي من هواها نصيب
أجبت ولم تدعني صبوة ... وكلّ أخي صبوة يستجيب
رياض تشتّت فيها المياه ... وغيم تؤلف منه الجنوب
وواد كما ارتمضت حيّة ... تلوّى بها يوم قيظ كثيب
كأنّ الغياض عليه رجال ... يصلّون والطّير فيهم خطيب
وقوله: [البسيط]
فما صبا ونبا إلّا وفى وعفا ... ولا ارتدى وانتدى إلّا احتبى وحبا
جذلان يقتل بالنّعماء حاسده ... قتلا شهيا كحكّ الراحة الجربا
وقوله يهجو عوّادة: [السريع]
220/كأنّها والعود في حجرها ... ثاكلة قد أسندت ميتا
تقعقعت أطرافها فوقه ... فليت ماتت بعده ليّتا
شبّهتها من فوق أوتاره ... بعنكبوت نسجت بيّتا
وقوله: [الطويل]
ألا يا سميّ الحرص إن خفت ضلّة ... بأرض فطوّح بالغنى ما تطوّحا
ولا تفترش ظلّ النسيم فإنّني ... رأيت ظلال الناس أندى وأروحا(15/313)
وسل عامل الرمح الطويل عن الغنى ... فما امتدّ باع الرمح إلّا ليسمحا
وقوله: [الوافر]
أنا السكران من نخب الأماني ... وسكران المطامع غير صاح
ولست بطارد حظي ولكن ... سل الحسناء عن بخت القباح
وقوله: [البسيط]
يجري وليدهم في شوط يافعهم ... فخر إذا الكهل عن خوض العلى ذادا
كذا الكواكب أشتات وأصغرها ... في العين أبعدها في الجوّ إصعادا
وقوله: [الطويل]
ومطّرد أغرى من الشوق بالحشا ... وأهدى إلى طيّ الضلوع من الحقد
إذا اعترضته الكفّ ريع كأنّما ... تحرّق من أطرافه لوعة الوجد
وليل كأنّ الشهب في أخرياته ... فصيص حميم زلّ عن وارد جعد «1»
عقدت بأطواق الحمام ذيوله ... وقد نفضت دمع الندى قصب الرّند «2»
وقوله: [المتقارب]
وجاريت فرسان هذا الكلام ... فشفّ الغبار وقلّ العدد
وأدركت غاية ميدانهم ... ولم يدن من ذيل نقعي أحد
221/فأحرزت في الشرط خصل السبا ... ق وخلّيت للقوم مضغ الحسد
ولمّا تجنّوا تحاميتهم ... وما اجتمع الفضل إلّا انفرد
وقوله: [مخلع البسيط](15/314)
مقرنص الأنف وهو علج ... على سبال منازكرد «1»
كأنّ تشمير منخريه ... بقية الجعس في است قرد
وقوله: [الكامل]
شفق تحيّفه الظلام فشمسه ... كالخدّ سال عليه خطّ عذار
والليل في بدد الردّاد كأنّه ... كحل يكاثر صوب دمع جاري
حتى تجاذبت الصبّا هدّابه ... وذكا ذبال الكوكب الغرّار
وافترّ عن فجر كأنّ نجومه ... شرر يطيش على لسان النار
وقوله: [البسيط]
فلو رأيت كؤوس الراح دائرة ... في كفّ كلّ طليق البشر مسرور
صهباء يرعشها طورا وترعشه ... كأنّها قبس في كفّ مقرور
وقوله: [الوافر]
كأنّ الطلّ أقراط تهاوت ... من الآذان لؤلؤها صغار
فتلك غضارة الدّنيا فنلها ... فإنّ العمر ثوب مستعار
وقوله: [المتقارب]
ألا ربّ ليل تبطّنته ... بنقب الثنيّة من ظهر مر
كأنّ دخانا على أرضه ... تطير عليها نجوم الشّرر
كأنّ بآفاقه روضة ... توقد فيها ذبال الزّهر
وقوله: [الطويل](15/315)
فقالت هو الغيران فانج فقلمّا ... نجوت فإن الأمر يرهقه الأمر
222/وولّت تعال المشي يعسف خطوها ... فيقعدها ردف وينهضها خصر
وقوله: [البسيط]
أحببته أسود العينين والشّعره ... في عينه عدة للوصل منتظره «1»
لدن المقلّد مخطوف الحشا ثملا ... رخص العظام أشمّ الأنف والقصره
للظبيّ لفتته والغصن فتلته ... والروض ما بثّه والرمل ما ستره
تكاد عيني إذا خاضت محاسنه ... إليه تشربه من رقّة البشره
حتى إذا قلت قد أمللتها شرهت ... شوقا إليه وفي عين المحبّ شره
أدنى إليّ فما أعطاه ريقته ... طير يفيض على أعطافه حبره
مزنّد لم تنصّره مشمّسة ... ولا ارحجنّت على أنصابه الكفره
نبهّته وسنان الفجر معترض ... والليل كالبحر يخفي لجّه درره
فقام يكسر من أجفانه وسنا ... ودمعة الدلّ في عينيه معتصره
نشوان تسرق ليّ البان خطرته ... مبلبل الخطو والأعطاف والشّعره
في كفه خمرة تنزو فواقعها ... كما تدوّم فوق الجمرة الشرّره
ما زال يسحرني لحظا وأسحره ... لفظا فيسبق سيلي في الهوى مطره
ثمّ اكتحلنا بأوشال الدموع كما ... تقطّرت برذاذ المزنة السّحره
يجني ويغضب والإقرار من شيمي ... وللمحبّ ذنوب غير مغتفره
وقوله في وصف بطيخة: [السريع]
تجمعّت تكتم أسرارها ... ففرّقتها مدية كالقبس
فصّلها القطع فمن حزّة ... كحاجب الشمس بعيد الغلس(15/316)
223/وحزّة كالنون ممشوقة ... كأنّها موطئ نعل الفرس
وقوله: [الوافر]
وجاثمة من الانصاف ورق ... كأنّ ثلاثهنّ حمام عشّ
ونؤي كالقلادة أو كممشى ... سجاع الرّمل ساور ضبّ حرشي «1»
وقوله: [البسيط]
جفن كأنّ به من كسره مرضا ... أصبحت للنبل من ألحاظه غرضا
ذنبي إلى من سلاني أنّني رجل ... متى أردت سلّوا لم أجد عوضا
مالي أدافع عن حلمي مراغمة ... إنّي لأحبب دين الحبّ مفترضا
لله هاجرة عفت الرّقاد لها ... حتى كأنّ على جنبيّ جمر غضا
تحارزت عينها سخطا فقلت لها ... فإنّ وراء السخط منك رضى
أنسيت ليلتنا والصّبح في شغل ... عنّا وقد سار حادي النّجم فاعترضا
وبيننا وقد عتب في نسيم رضى ... لو أنّ ميتا جرى في سمعه نهضا
وقوله: [المتقارب]
فلن للخطوب إذا استصعبت ... وصاب الزمان إذا استشمطا «2»
وخض وشل الماء إن لم تقم ... وأسهل إذا لم تعف مهبطا
ودار تعش طاعما كاسيا ... وثير الدّثار مهيد الوطا
هو الذلّ إن كنت ذا ونية ... وكلّ ذلول القرى ممتطى
فأمّا قنعت وأمّا قنطت ... ومن آية العجز أن تقنطا(15/317)
فعدّ عن الحرص أو فارضه ... وإن كان ترك الرضا أحوطا
وقوله: [الكامل]
شجر يشفّ على ذوائب نوره ... طلّ كما تتعلّق الأقراط
نور إذا نثر السحاب رذاذه ... نظمته أوراق عليه سباط
224/أرض عليها من زخاريف الندى ... ونمارق الذهب الستيت بساط
وقوله: [البسيط]
ثمّ استقلّ كأنّ المشي يقعده ... إذا تفتّل في أبراده وخطا
ورفّ مشمولة شابت مسائحها ... عذراء تكس عقود الدرّ والسّمطا
وقد نهضنا إلى الكاسات ننهبها ... كأنّنا في غدير الراح سرب قطا
وقوله: [الطويل]
عقار عليها من دم الصّب نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع «1»
معوّدة غصب العقول كأنّما ... لها عند ألباب الرجال ودائع
تحيّر دمع المزن في كأسها كما ... تحيّر في ورد الخدود المدامع
تدير إذا سحّت عيونا كأنّها ... عيون العذارى شقّ عنها البراقع
فبتنا وظلّ الوصل دان وسرّنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع
إلى أن سلا عن ورده فارط القطا ... ولاذت بأطراف الغصون السواجع
وقوله: [الطويل]
فبي صبوة لولا الضّنا لم أبح بها ... بأحور نائي مسقط القرط أتلعا «2»(15/318)
برى الله بدرا في محط عذاره ... وشقّ له من مغرب الشمس مطلعا
أسائل روّاع الكرى عن خياله ... وإن شطّ عنيّ طيفه والكرى معا
منها:
إذا استروحت عيني إلى الناس لم تجد ... عزاء سوى أن تستهلّ فتدمعا
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... أنازع فيها البابليّ المشعشعا
يطوف بها في نهضة الليل شادن ... تجنّس فيه الحسن ثمّ تنوعّا
225/وقوله: [الهزج]
أردّ البيض نابية ... وكعب الرّمح منصدعا
ويعطفني النسيم إذا ... حمام الأيكتين دعا
وقوله: [الوافر]
وهات الكأس أرعشها مزاجا ... إذا دارت وترعشني خمارا
إذا انعطفت يد الساقي عليها ... حسبت عليه من ورس صدارا «1»
يشبّ الماء نارا في حشاها ... تزيد على تفجّره استعارا
إذا ابتسمت أرتك هلال فطر ... رضاؤك طوقه ثمّ استنارا
له في حمرة الشّفق التواء ... كما ألقيت في النار السوارا
كأنّ سقاتها أبناء وبر ... أصابوا من عقول الشّرب نارا
وقوله: [المنسرح]
ما أرج البان ضحى إنّما ... علّمه ذكرك أن يضوعا(15/319)
فهاتها تضحك عن درّ الندى ... خرطك خيط اللؤلؤ المقطوعا
تشدخ في وجه الظلام غزّة ... كما سللت الصارم القطوعا
وقوله: [المتقارب]
إذا بخل الإلف فاسمح به ... فمن كذّبته السماء انتجع
ولا تغلونّ إذا لم تنل ... ولا تأمرنّ إذا لم تطع
هو الرزق لا في استلاب القنا ... فخذه عزيزا وإلّا فدع
ألا هل إلى العزّ أكرومة ... تنفّس عنّي خناق الطّمع
وقوله: [المنسرح]
في ليلة نجمها بها كلف ... صبّ وفي وجه بدرها كلف
226/حتى كسا البرق شهبها رقدا ... واستنهضتها البواكر النّطف
هذا وكم خضت نار هاجرة ... كأن حرباء شمسها ألف
وقوله: [الوافر]
وما انتجع الرعاة الشّيح إلّا ... رعوا بقل الجزائر والطّفاف «1»
يحدّث لكنة الأنباط عنهم ... ويسحق من جفال التّرب ساف
وتنبو رقّة الأعراب عنهم ... نبّو الطّبع عن ذوق الزحاف
فعدّ النّفس عن قلق المداجي ... ونزّهها عن الضدّ المنافي
وإن عاديت فاخبر من تعادي ... وإن صافيت فانظر من تصافي
وقوله: [الكامل]
وإذا مدحت أبا العلاء فإنّما ... سقت النّسيم إلى القضيب الأهيف(15/320)
ثمل الخلائق والأنامل والظبى ... أرج المسارح طيّب المتعرّف
وإذا انتمى فإلى فروع أرومة ... ريّا المنابت رخصة المتعطّف
وقوله: [الخفيف]
قد شربنا المدام من كفّ ساق ... فاتر الطّرف ناعم الأطراف
بين ليلي ذوائب وظلام ... وصباحي سوالف وسلاف
وقوله: [مجزوء الكامل]
يا سالب الالف القوا ... م وملبسي سقم الألف
ومسلّم القدّ الرشي ... ق إلى القضيب المنعطف
أجل الشّمول فقد صفا ... نجم السمّاك المنحرف
وحكى سواد الليل ... أطناب الخباء المنكشف
227/صهباء يشرق صبغها ... من خجلة البشر التّرف
وتكاد رشفة كأسها ... في خدّ شاربها تكف
وإذا مررت بروضة ... عثر النسيم بها فصف
ينهض بنفحتها إليك ... تحنّث الأرج الصّلف
نشر كعرف محاسن ال ... شيخ الجليل إذا وصف
وقوله: [الطويل]
من الخرّد اللاتي إذا رمن نهضة ... تغنّت على أوساطهنّ المناطق
رواجح يحرسن الأساور والبرى ... وتصدح في لبّاتهنّ المخانق
تلفّ عليهنّ الذوائب فضلها ... وتنفر عن أعجازهنّ القراطق
فما زلت أعطي اللهو أرسان طاعتي ... وعود الصّبا ريّان والحلم آبق(15/321)
وقوله: [الخفيف]
ربّ ليل مرقت من فحمتيه ... أنا والعيس والقنا والبروق «1»
ملئت لي مساحب الريح خيلا ... فتخطّيت والرماح طريق
ورقاد كخفقة النبض يغشى ... مقلة راعها الخيال الطّروق
في ظلام كمسحة الغمض عمرا ... يتجارى أصيله والبروق
سرقته الجفون ختلا فلمّا ... هزّ من عطفه القضيب الغريق
وكأنّ الرّبى هوادج ظعن ... وكأنّ النجوم ركب خفوق
واستهلّت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات حدادها التّطويق
فتضاحكت شامتا وكأنّ ال ... صبح جيب على الدّجى مشقوق
228/سبك الشرق منه تبرا مذابا ... لفرند الشعاع فيه بريق «2»
وكأنّ المهاة ربّة خدر ... وكأنّ الحرباء صبّ مشوق
وتمشّت على الرياض النّعامى ... وثنى قدّه القضيب الوريق «3»
كلّما هزّه غناء القوافي ... وتهادى كما انتشى المغبوق
منها:
قال أحسنت واستطار مراحا ... وبأحسنت ما يباع الدقيق
وقوله: [الطويل]
خلعت سراب القاع واليوم ناصل ... سحيق حواشي البرد والجوّ أورق
وكفّ سواد الليل إطرار وجهتي ... كما أحرز الظلّ الجناء المورّق
فسامرت فيه النّجم حتى أنمته ... وقد كاد سربال الدّجى يتمزّق(15/322)
منها:
فأسهلت منها والثريّا كأنّها ... على أذن الجوزاء قرط معلّق
وسلّت يمين الشرق فجرا كأنّه ... إذا ما التقى في هامة الليل مفرق
فأصحر طرفي والصباح كأنّه ... لواء على قرن الغزالة يخفق
وقوله: [الطويل]
ألا ربّ ليل قد نثرت نجومه ... على الغرب نثر السلك درّ المخانق
أودّع فيه كلّ نجم كأنّما ... يقلّب تحت الليل أجفان عاشق
إلى أن بدت أعراف صبح كأنّها ... عصائب أعلام البنود الخوافق
فقمت أمسّ الفرقدين ذؤابتي ... وأطعم مرو الأبرقين بنائقي
وقوله: [الكامل]
يخفى ويظهر والحسام دليله ... وسنا البصيرة والحسام الصّادق
229/فإن استطار فبرق دخن واقد ... وإن استطال فطود عزّ شاهق
فذبالتان عقيقة وعزيمة ... وسلافتان زجاجة وخلائق
وقوله: [السريع]
ودون مجرى شهبها مزنة ... كأنّ فيها راية تخفق
للبرق فيها لهب طائش ... كما تعرى الفرس الأبلق
لا ضوء إلّا الصبح أو وجنة ... ينفذ عنها الشفق المشرق
أو وجه حمد وتباشيره ... إذا اعتراه المجدب المملق
وقوله: [مجزوء الرجز]
وليلة جوزاؤها ... مثل الخباء المنهتك(15/323)
قطعتها والبدر عن ... سمت الثريا منفرك
كأنّها في عرضه ... باز على كفّ ملك
وقوله: [الكامل]
من آل كسرى لم يطنّب بيته ... بيفاع توضح أو بدارة جلجل
بل معقد التاج الطموح وملتقى ... شرف المناسب والبناء الأطول
وقوله: [الطويل]
ولكنّه بخل الدلال وحبّذا ... سريعة بخل سنّها لك باذل
أغرّك أنّي كلمّا دنت للأسى ... تعرّض لي ضيف من الشوق نازل
إذا غالك السلوان والرّمل بيننا ... وشى بك ممطور من الرند ناحل
يجاذبه والصّبح في حجر أمّه ... نسيم بفرع الأقحوانة هازل
مغان إذا ما شئت والروض بلسم ... شربت بها دمعي وغنّى العواذل
وعهدي بسلمى والظلام قناعها ... ورائدها حسّ من الوطء خامل
تفتّل في أعطاف ريط يهزّه ... قضيب كعود الخيزرانة مائل
230/وقوله: [الطويل]
نشاوى يرون الزّغفّ خودان رملة ... أناف على حبل من الرمل مبقل «1»
يحيّون بالأرماح حتى كأنّما ... يشمّون بالخرصان نور القرنفل
منها:
بلى قد صدعت السّجف عن كلّ باسم ... يعلّمه ليّ البرود تعزّلي
تنصّب أعناق الملوك تحيّتي ... إذا رضت أطراف الكلام المذلّل(15/324)
وقوله: [البسيط]
وأنشد النّجم والحرباء يكتمه ... حتى إذا اليوم من صبغ الدّجى نصلا
وشمّر الشفق الورديّ بردته ... وصاح راهب دين الله: حيّ على
وقوله: [الوافر]
يقصّر خطوه دلّ التجنّي ... ويخفض جفنه كسل الدّلال
ألفّ الخصر ريّان الحواشي ... وقور الردف مذعور الأعالي
له سطران من شعر جديل ... كما درجت نمال في رمال
كأنّ مواقع الخيلان منها ... نثار المسك أو رشّ الغوالي
وقوله: [البسيط]
النّفس نفسي إذا العزّ استقرّ لها ... فإن رأيت مكان الذلّ لم تك لي
أأبى الدناءة بل تأبى الدناءة لي ... أنف أشمّ وعرض غير مبتذل
بيني وبين زماني إن ظفرت به ... عتب يقدّ قميص الدارع البطل
هي المطامع غرّتني برونقها ... فما نظرت ولا أطرقت عن خجل
لكن جنحت جنوح المستريب بها ... ومن تهيّب لم ينسب إلى الملل
نهى عن الحجّ منع البرّ جانبه ... فالذنب للبّر ليس الذنب للجمل
231/زعمت أنّي من الأطماع يوسفها ... فهل رأيت قميصي قدّ من قبل
ما استطرد الماء إلّا فتّه عطشا ... وربّما غمرتني نطفة الوشل
يقول هل لك في ذلّ يؤول إلى ... عزّ وجرم الليالي غير محتمل
فصرت أرسخ في النّعماء من حيل ... وكنت أسرد في اللأواء من مثل
منها:(15/325)
وافى الصّقيع فبزّ النور بهجته ... فعل المشيب بشعر اللّمّة الرّجل «1»
ورد تفتّح ثمّ ارتدّ مجتمعا ... كما تجمعّت الأفواه للقبل
وقوله: [البسيط]
يا من حروف اسمه عين وحاجبها ... ومبسم في رضاب غير سلسال
ومشقة كهلال الفطر قد نقطت ... من فوقها نقط نون الصدغ بالخال
وقوله: [الخفيف]
أنا صبّ متيّم مستهام ... بغزال إبريقه كالغزال
بجديل العذار عذب الثنايا ... خنث العين والخطا والدلال
ساحر اللّفظ والجفون غرير ... وجهه حجّتي على العذّال
فاسقني خمرة كرقّة ديني ... أو كعقلي ولا أقول كحالي
خيفة من توهّم الناس أنّي ... قلت هذا تعرّضا للنوال
وقوله: [الكامل]
ثمل القوام كأنّ خطّ عذاره ... فيء القضيب اهتزّ يوم شمال
رام يصيبك لحظه وكأنّما ... ريشت سهام جفونه بنصال
ذي ملثم عاص ولحظ طائع ... ومزنّر صبّ وردف سال «2»
يسقيكها كأسا كأنّ زجاجها ... في الكفّ نحر والحباب لآلي
232/وقوله: [المتقارب]
إذا حجب الليل ندمانها ... أضاءت وكانت عليه دليلا(15/326)
كأنّ انحدار حباب النّدى ... عليها دموع أصابت مسيلا
كأنّ بها شفقا عاريا ... رأيت عليه هلالا نحيلا
وقوله: [الطويل]
أودّع لا عن سلوة أستفيدها ... ولكن لأيام الهوى والنّوى دول
ولولا اهتزاز الصارم العضب ما نبا ... ولولا اضطراب المارن اللدن ما اعتدل
وقوله: [المتقارب]
وخشف تعرّض لي معلما ... بحدّ السيوف وقدّ الأسل
يرجّع في أذني نغمة ... تموت لها النّفس قبل الأجل
وقوله: [الوافر]
تبادرت الصّبوح بمترعات ... تصوّب بين جلدي والعظام
على شجر كأنّ النّور فيه ... تصوّر من صفاتك أو كلامي
وقوله: [الطويل]
عرفت فلم أبسط إلى منعم يدا ... وفهت فلم أفغر بقارصة فما
فما أسأل الآمال عن وجهه ولا ... أمرّ على الأطماع إلّا مسلّما
خلقت عليّا لا تنال مكانتي ... ولا أرتقي من خشية الضّيم سلّما
ولست بليلى العامرية مغرما ... ولا بالثريّا والرّباب متيمّا
وقوله: [الوافر]
وداجية كأنّ النّجم فيها ... يبيت على شماريخ الرّعان
نثرت نجومها في الغرب لمّا ... سللت الشمس من شفق الأواني(15/327)
233/كأنّ الشمس والظلماء تحدو ... به جلّ تكشّف عن حصان «1»
وقوله: [الوافر]
توضّح والنسيم الرّطب وان ... مخايل من سنا برق يماني
تألّق يستطير كما تمشّى ... لسان النار في طرر الدخان
كأنّ وميضه يد مستقيل ... ألاحت بالمعاصم والبنان
أضاء حصى العقيق ورمل حزوى ... ومهوى الشّعب من سفحي أبان
سحا بالطلّ يركله صباحا ... نسيم مثل رجع الغيث وان
تنفّس في مساقطه صباح ... أشقّ كسلّة السيف اليماني
وقوله: [الطويل]
فيادهر لا تغرر بلين معاطفي ... فإنّ القنا يشتدّ حين يلين
ويا جمرة الحرب العوان توقدّي ... فإنّي بعودات الطعان أدين
وقوله: [الكامل]
يا حبّذا ضعف النسيم إذا ونى ... وتحرّش الأغصان بالأغصان
أرج تحنّث حين جمّشه النّدى ... واختال في عذب من الريحان
أيام يذكرني القدود وفتلها ... ريّ تردّد في غصون البان
في شاطئي ماء تطرف رملة ... خضراء يفحصها الرّباب الداني
فالريح تعثر في برود رياضها ... والماء يمشي مشبه السكران
منها:
واشرب مشعشعة كأنّ زجاجها ... خمر وأطراف البنان أواني(15/328)
حتّى ترى سرج السماء دوانيا ... يسبحن تحت أسنّة الخرصان «1»
وقوله: [البسيط]
يا ساقييّ قضيب الرّند ريّان ... والبدر ملتثم والصبح عريان «2»
234/والنرجس الغضّ ساه والنسيم ند ... والطلّ في طرر الريحان حيران
والظلّ أورف والظلماء جانحة ... والنجم في منحنى الأجداع وسنان
وللصّبا عثرات لا تقال وفي ... سجع الحمامة ترجيع وإرنان
فغالبا نفثتي بالراح واختلسا ... عقلي فقد نفح النسرين والبان
واسترقصا لمّتي واستغرقا طربي ... قبل الشروق فللأطراب أوطان
وعرّضا بهوى لبنى فلي ولها ... وللزجاجة إن عرّضتما شان
حوراء تكسر جفنيها على عدة ... ودون تسويفها مطل وليّان
تنهال في دفع الخطو البهير كما ... ينوء بالأبرق المنهال ثعبان
غضبى تعاطيك شطر النظرتين كما ... يزور في أخريات اللّحظ غضبان
وقوله: [البسيط]
ما زلت أسحب أبرادي على المنن ... حتى رجعت إلى وعد من الظنن «3»
ذنبي إلى الدّهر أنّي ما خضعت له ... ولا طويت له عرضي على درن
وقوله: [الكامل]
في جنّة تصغي عيون رياضها ... فكأنّما يسمعن بالأجفان
شخصت إلى صوب الحيا ريّا كما ... نصب الأراك سوالف الغزلان(15/329)
وتخلّلت فتل الجداول ظلّها ... زحف الأراقم في نقا الصّمّان «1»
فالماء إن سمحت به أوراقها ... كالنار تنظر من فروج دخان
وقوله: [الكامل]
عاطيتهنّ من الحديث زجاجة ... بسمت فأطربت الحمام المعلنا
حتى إذا سقط النّدى عنّينني ... لولا مراقبة العيون أريننا
حدق المها وسوالف الآرام من ... خلل الأسنّة والأعنّة والقنا
ومنهم:
17- القاضي التنوخي، أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فهم «2»
جبل بعيد الرقّى، وأمل بعيد اللقّى، 235/حجّة في العلم لا تقطع، وباب من الحلم لا يقرع، وسابق في الأدب لا يتبع، وشارق كسلّة السيف لا يطبع.
ولي قضاء البصرة والأهواز ثمّ عزل، فقصد سيف الدولة ابن حمدان مستشفعا به(15/330)
فأكرمه، وشفع له فأعيد إلى عمله وتسلّمه. وكان ناسك نهار، وفاتك ليل، يزرّر جيوبه شموس العقار، وكان هو وابن قريعة، وابن معروف، والقاضي [الا يذجي] «1» من ندماء الوزير المهلبي يغضّون النهار وقارا، والليل عقارا، ويأخذون بنصيب من كلّ، وحظّ إثمه ألزم لأعناقهم من غلّ. وحكي أنّهم كانوا يحضرون مجلسه لسماع الطّرب حتى إذا استفزّهم فزّة الثّمل بالراح، وهزّهم هزّة الغصن بالرياح أقبلوا على الشراب بجملتهم، وقابلوا راياته المنشورة بحملتهم، وكانوا كلّهم شيوخا لم يبق من سواد لمّمهم إلّا ما سوّد الصحائف، ولا من هممهم إلّا التهتّك في وردة خدّ وريحانة سالف، وكانوا إذا حميت بالخمر رؤوسهم، وحجبت بالخمر من العقل ما يسوسهم قدّم لكلّ واحد منهم طاس ذهب من ألف دينار يقدح بمدامه نارا بنار فيغمسون فيه لحاهم ويدعونها حتى تتشرّب المدام، ويطير في قزع رؤوسهم سحابها الجهام، ثم يرسلون على الندماء مطرها دفاقا، ويفعلون هذا قصدا لا اتفاقا «2» . وبهذا ذكرت شناعة أقيمت في زماننا بمثل هذا على رجل أعلم براءته من حديثها المفترى، وكذبها الشائع في الورى، وإذا كان قد رمي بهذا الافتراء رجل من أهل عصرنا، ومن أهلّة مصرنا كيف لا يكون قد رمي به هؤلاء مع بعد زمانهم، وموت من له علم بشانهم، وإنّما ذكرنا ما قيل، ولو أنكرنا هذا دفعا عنهم لما كان إلى الإنكار سبيل «3» .
ومن شعره المرهف لحدّ الأفهام، المسعف بأفخر من الدّرر التوام ...
قوله: [الخفيف](15/331)
236/ربّ ليل قطعته كصدود ... أو فراق ما كان فيه وداع «1»
موحش كالثقيل تقذى به ال ... عين وتأبى حديثه الأسماع
وكأنّ النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهنّ ابتداع
مشرقات كأنهنّ حجاج ... تقطع الخصم والظلام انقطاع
وكأنّ السماء خيمة وشي ... وكأنّ الجوزاء فيها شراع
وقوله: [السريع]
كأنّما المرّيخ والمشتري ... قدّامه في شامخ الرّفعه «2»
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجوا قدّامه شمعه
وقوله: [الطويل]
كأنّ نجوم الليل في غسق الدّجى ... سنا أوجه العافين في ظلمة الردّ «3»
وقد أبطأت خيل الصباح كأنّها ... بخيل تباطأ حين سيل عن الردّ
وقوله: [الطويل]
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوّم «4»
كأنّ عيون الساهرين لطولها ... وقد أشخصت للأنجم الزّهر أنجم «5»
كأنّ سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسّم
وقوله في الكواكب وهي تغور والصباح عليها يغور: [البسيط](15/332)
عهدي بها وضياء الصّبح يطفؤها ... كالسّرج تطفأ أو كالأعين العور «1»
أعجب به حين وافى وهي نيّرة ... فظلّ يطمس منها النّور بالنّور
وقوله: [مجزوء الرمل]
ربّ ليل كتجنّي ... ك مقيم ليس يذهب «2»
قد قطعناه بعزم ... كالحريق المتلهّب
237/وكأنّ البرق لمّا ... لاح فيه يتنصّب
كاتب من فوق جزع ال ... غيم بالعقيان يكتب «3»
وكأنّ الرّعد حاد ... أو مناد أو مثوّب
ونجوم الليل وقف ... كلآل لم تثقّب
وبدا البدر كسيف ... في يد الجوزاء مذهب
وقوله: [المتقارب]
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نضار «4»
هواء ولكنّه جامد ... وماء ولكنّه غير جار «5»
إذا ما تأمّلتها وهي فيه ... تأمّلت نورا محيطا بنار «6»
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلّنار(15/333)
وقوله في دجلة والقمر: [الكامل]
لم أنس دجلة والدّجى متصوّب ... والبدر في أفق السّماء مغرّب «1»
فكأنّها فيه بساط أزرق ... وكأنّها فيه طراز مذهب
وقوله: [الخفيف]
ورياض حاكت لهنّ الثريّا ... حللا كان غزلها للرّعود «2»
نثر الغيث درّ دمعي عليها ... فتحلّت بمثل درّ العقود
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعضّ ورد الخدود
وعيون من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التّسهيد
وكأنّ النّدى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وكأنّ الشقيق حين تبدّى ... ظلمة الصّدغ في خدود الغيد
238/وقوله من قصيدة يصف نهرا: [الكامل]
متسلسل فكأنّه لصفائه ... دمع بخدّي كاعب يتسلسل «3»
وإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنّه درع جلاه صيقل
وكأنّ دجلة إذ يغطمط موجها ... ملك يعظّم خيفة ويبجّل
وكأنّها ياقوتة أو أعين ... زرق تلائم بينها وتوصل
عذبت فما تدري أماء ماؤها ... عند المذاقة أو رحيق سلسل
ولها بمدّ بعد جزر ذاهب ... جيشان يدبر ذا وهذا يقبل
وإذا نظرت إلى الأبلّة خلتها ... من جنّة الفردوس حين تخيّل(15/334)
وكأنّما تلك القصور عرائس ... والروض حلي فهي فيه ترفل «1»
غنّت قيان الطّير في أرجائها ... هزجا يخفّ له الثّقيل الأوّل «2»
وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وعيرهم يترحّل
ربع الربيع بها فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل
فمدبّج وموشّح ومدثّر ... ومعمّد ومحبّر ومهلّل
فتخال ذا عينا وذا خدّا وذا ... ثغرا يعضّض مرّة ويقبّل
وقوله: [البسيط]
أما ترى البرد قد ولّت عساكره ... وعسكر الحرّ كيف انصاع منطلقا «3»
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ... قد ألبست حبكا أو غشيّت ورقا
فانهض بنار إلى فحم كأنّهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتّفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... بردا فصرنا كقلب الصبّ إذ عشقا
239/وقوله من أبيات كتب بها إلى الوزير المهلّبي وقد منعه المطر عن خدمته:
[الطويل]
سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنف «4»
أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكّر أو كالنادم المتلهّف «5»
ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف
غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضحى ... بظلمته في ثوب ليل مسجّف(15/335)
يعبّس عن برق به متبسّم ... عبوس بخيل في تبسّم معتف
تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف
فأفرغ ماء قال وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف «1»
أتى رحمة للناس غيري فإنّه ... عليّ عذاب ماله من تكشّف «2»
سحاب عداني عن سحاب وعارض ... منعت به من عارض متكفكف
وقوله من أبيات كتب بها إلى بعض أصدقائه: [الطويل]
ولي أدمع غزر تفيض كأنّها ... سحائب فاضت من يديك غزار «3»
ولم أر مثل الدّمع ماء إذا جرى ... تلهّب منه في الجوانح نار
رحلت وزادي لوعة ومطيّتي ... جوانح من حرّ الفراق حرار
مسير دعاه الناس سيرا توسّعا ... ومعنى اسمه إن حققّوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكّرت به ... ديار لها بين الضلوع ديار
وقوله: [الطويل]
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب «4»
كأنّك من كلّ النفوس مركّب ... فأنت إلى كلّ النفوس حبيب(15/336)
18- 240/ابنه أبو علي، المحسّن «1»
قال فيه الثعالبي «2» : هلال ذلك القمر، وغصن تلك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول عبد الله بن الحجّاج: [الوافر]
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيّرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلّا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وله كتاب (الفرج بعد الشدّة) «3» ، وناهيك بحسنه وإمتاع فنّه، وما جرى من التفاؤل بيمنه. أسير من الأمثال، وأسرى من الجبال. وديوان شعره أكبر حجما من ديوان شعر أبيه. هذا ملخّص ما ذكره.
ولم يقع لنا ديوانه «4» عند هذا الإملاء لنختار منه شرط المفاخرة بالانتقاء، وقد أتينا منه بما اتّفق، وهو حريرة من سرق «5» ، وغرّة من يقق، ونسمة من عبق، وجدول من سيل وكلمة طيبة من دعاء مجاب تحت الليل، وموضع علامة من أسجال، أو تاريخ يضبط به إخراج الحال.(15/337)
منه قوله: [الطويل]
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا «1»
فلمّا بدا يدعو تقشّعت السما ... فما تمّ إلّا والغمام قد انفضّا
وقوله: [الطويل]
أقول لها والحيّ قد فطنوا بنا ... ومالي عن أيدي المنون براح «2»
لما ساءني أن وشحّتني سيوفهم ... وأنك من دون الوشاح وشاح «3»
وقوله: [الطويل]
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد «4»
241/مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
وقوله: [الخفيف]
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيه «5»
أنت في الناس مثل شهرك في ال ... أشهر بل مثل ليلة القدر فيه
ومنهم:
19- القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني «6»
علم منصوب يهتدي به السارون، وعلم مصبوب يجتدي منه الممتارون، ومتقدّم تمسح(15/338)
هواديها من غباره المجارون. الأدب ذيل على فنون تجمّل بتيجانها، وتكمّل شانه بما تحمّل من شانها، وعلوم وزن المعارف بميزانها، واستودعها من خاطره وأحفظ خزّانها، وفصّل منها حللا خلع على الناس ما فضل من أردانها، وفضائل فضّت سحبها فملأ الفجاج بما فاض من غدرانها. البلاغة ما صاغه، والفصاحة ما أبان إيضاحه، وأطال غرره وأوضاحه، وسائر الفنون في ذهنه عجنت طينتها فاختمرت، وعن نظره أخذت بآفاق السّماء زينتها فأزهرت.
إليه يرجع إذا تشعبّت بالأقوال طرقها المبثوثة، وعليه تجتمع الآراء وكلّ قوّة مفكّرة قد مستها لوثة.
وقد أثنى عليه الثعالبي فقال «1» : فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقه العلم، وقبّة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، ويجمع خطّ ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري، وينظم عقده الإحسان والإتقان في كلّ ما يتعاطاه، وله يقول الصاحب: [الطويل]
إذا نحن سلّمنا لك العلم كلّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها
وقد كان في صباه خلف الخضر «2» في قطع الأرض، وتدويخ البلاد 242/من العراق/ والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار في العلوم علما وفي الكمال عالما انتهى ثناؤه المنصوص، وتقريظه الذي كأنّه نقش الفصوص.(15/339)
وأنا ذاكر من شعره ملحا «1» ، أجيء بها على منطقة البروج مستفتحا، تحلّق بجناحي باز مطلّ وتخلّف الصّبا وراءها ذات نفس منقطع وأثر مضمحلّ. حكم تلقّفها ثّم ثقّفها ومعان اخترفها ثمّ لطّفها فيما عرّفها. رقّت مزاجا وراقت كالراح فامتزجت بالأرواح امتزاجا، بقية أسفار صقلتها صقل العيون، ونجيّة أفكار شفّت عنها مخيلات الظنون، ولولا أنّ الأدب كالدرهم والدينار لا يلتذّ به صاحبه إلّا إذا طار لكانت هذه النفائس ممّا يضنّ به فلا تذال، وتغار عليه يدحوته فما تبذله ولو مثقالا بألف مثقال.
من ذلك قوله: [السريع]
أفدي الذي قال وفي كفّه ... مثل الذي أشرب من فيه «2»
الورد قد أينع في وجنتي ... قلت: فمي باللّثم يجنيه
وقوله: [المنسرح]
بالله فضّ العقيق عن برد ... برق أقاحيه من مدام فمه «3»
وامسح غوالي العذار عن قمر ... يعضّ بالورد خدّ ملتثمه «4»
قل للسقام الذي بناظره ... دعه وأشرك حشاي في سقمه
كلّ غرام تخاف فتنته ... فبين ألحاظه ومبتسمه
وقوله: [السريع]
قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك «5»(15/340)
لا تجفه وارع له حقّه ... فإنّه خاتم عشّاقك
243/وقوله: [المنسرح]
ياليت عيني تحملّت ألمك ... بل ليت نفسي تقسّمت سقمك «1»
وليت كفّ الطبيب إذ فصدت ... عرقك أجرت من ناظريّ دمك
أعرته صبغ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حدّ مبضعه ... فالحظ به العرق وارتجز ألمك
وقوله: [الكامل]
هذا الهلال شبيهه في حسنه ... كيف احتيالك من تأوّد غصنه «2»
لولا حظتك جفونها بفتورها ... أقسمت أنّك ما رأيت كحسنه
وقوله: [السريع]
ما بال عينيه وألحاظه ... دائبة تعمل في حتفي «3»
واها لذاك الورد في خدّه ... لو لم يكن ممتنع القطف
أشكو إلى قلبك يا سيدّي ... ما يشتكي قلبي من طرفي
وقوله: [السريع]
انثر على خدّي من وردك ... ودع فمي يقطف من خدّك «4»
وارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدّك(15/341)
وقل لعينيك بروحي هما ... يخفّفان السقم عن عبدك «1»
وقوله: [الطويل]
فقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قرّبوا- خوف التباعد- جودي «2»
فليس قريبا من يخاف بعاده ... ولا من يرجّى قربه ببعيد
وقوله: [السريع]
وغنج عينيك وما أودعت ... أجفانها قلب شج وامق «3»
ما خلق الرحمن تفاحتي ... خدّك إلّا لفم العاشق
لكنّني أمنع منها فما ... حظّي إلّا خلسة السارق
244/وقوله يمدح دائر بن يشكرور «4» : [البسيط]
وقد كفاني انتجاع الغيث معرفتي ... بأنّ دائر لي من سيبه بدل «5»
تجنّبت نشوات الخمر همّته ... فأعلمتنا العطايا أنّه ثمل
وقوله في الصاحب بن عبّاد: [الطويل]
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها «6»
سبقت بأفراد المعاني وألّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها(15/342)
فإن نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على معروفها ومعادها «1»
وقوله: [المنسرح]
لو قد تراني وقد ظفرت به ... ليلا وستر الظلام منسدل «2»
وخوّصت أعين الوشاة كما ... جمّش معشوقه الفتى الغزل
فذاك مغف وذاك مختلط ... يهذي وهذا كأنّه ثمل
وقلت يا سيدي بدا علم ال ... صبح وكاد الظلام يرتحل
فبات يشكو وبتّ أعذره ... وليس إلّا العتاب والعلل
لخلتنا ثمّ شعبتي غصن ... يوم صبا نلتوي ونعتدل
وقوله: [الخفيف]
في ليال كأنهنّ أمان ... من زمان كأنّه أحلام «3»
زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى يستلذّها الأوهام
وقوله يذكر بغداد: [الطويل]
يحنّ إليها كلّ قلب كأنّما ... تشاد بحبات القلوب ربوعها «4»
245/وكلّ ليالي عيشها زمن الصّبا ... وكلّ فصول الدّهر فيها ربيعها
منها:
كأنّ خرير الماء في جنباتها ... رعود عليها مزنة تستريعها «5»(15/343)
إذا ضربتها الريح وانبسطت لها ... ملاءة زهر فصّلتها وشيعها «1»
رأيت سيوفا بين أثناء أدرع ... مذهّبة تخشى العيون لموعها «2»
فمن صبغة البدر المنير نصولها ... ومن نسج أنفاس الرياح دروعها «3»
صفا عيشنا فيها وكادت لطيبها ... تمازجها الأرواح لو تستطيعها
وقوله: [البسيط]
في كلّ يوم لعيني ما يؤرّقها ... من ذكره ولقلبي ما يعذّبه «4»
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمر على ظلمي وأعتبه
حتى أوت لي النّوى من طول جفوته ... وسهّلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجنّبه
وقوله في حسن التخلّص «5» : [الطويل]
أقول وما في الأرض غير قرارة ... تصافح روضا حولها متقاربا «6»
أباتت يد الأستاذ بين رياضها ... تدفّق أم أهدت إليك سحائبا
أألبسها أخلاقه الغرّ فاغتدت ... كواكبها تجلو عليك كواعبا
أوشّت حواشيها خواطر فكره ... فأبدت من الزّهر الأنيق غرائبا
أهزّ الصّبا قضبانه كاهتزازه ... إذا لمست كفّيه كفّك طالبا(15/344)
أخالته يصبو نحوها فتزيّنت ... تؤمّل أن يختار منها ملاعبا
وقوله: [الطويل]
ولمّا تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغرّب «1»
246/تلقّين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلّا بين دمع مضيّع ... ولا قمن إلّا فوق قلب معذّب
كأنّ فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب
وقوله: [الخفيف]
ليلة للعيون فيها وللأس ... ماع ما للقلوب والآمال «2»
نظمت لي المدام فيها الأماني ... مثل نظم الأمير شمس المعالي
وقوله فى العيادة: [الطويل]
بعيني ما يخفي الوزير وما يبدي ... فنورهما من فضل نعمائه عندي «3»
لأعدي تشكّيك البلاد وأهلها ... وما خلت أنّ الشكو يعدي على البعد
ولم أدر بالشكوى التي عرضت له ... ونعماه حتى أقبل المجد يستعدي
وما هي إلّا من تلهّب ذهنه ... توقّد حتى فاض من شدّة الوقد
وقوله من أخرى يهنؤه بالبرء: [الطويل]
تقسّمت العلياء جسمك كلّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب «4»(15/345)
إذا ألمت نفس الوزير تألّمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
وليس شحوبا ما أراه بوجهه ... ولكنّه في المكرمات ندوب
وقوله: [الطويل]
وما الشعر إلّا ما استفزّ ممدّحا ... وأطرب مشتاقا وأرضى مغاضبا «1»
أطاع فلم توجد قوافيه نفّرا ... ولم تأته الألفاظ حسرى لواغبا
وفي الناس أتباع القوافي تراهم ... يبثّون في آثارهنّ المقانبا
247/إذا لحظوا حرف الرويّ تبادروا ... وقد تركوا المعنى مع اللفظ جانبا
وإن منعوا حرّ الكلام تطرقّوا ... حواشيه فاحتالوا الضعيف المقاربا
ولكنّني أرمي بكلّ بديعة ... تظلّ بألباب الرجال لواعبا
تسير ولم ترحل وتدنو وقد نأت ... وتكسب حفّاظ الرجال المراتبا
ترى الناس إمّا مستهاما بذكرها ... ولوعا وإمّا مستعيرا وغاصبا
أذود لئام الناس عنها وأتّقي ... على حسبي إذ لم أصنها المعايبا
وأعضلها حتى إذا جاء كفؤها ... سمحت بها مستشرفات كواعبا
وأيّ غيور لا يجيب وقد رأى ... مكارمك اللاتي أتين خواطبا
وقوله: [الطويل]
ترى كلّ بيت مستقلّا بنفسه ... تباهي معانيه بألفاظه الغرّ «2»
كأنّك إذ مرّت على فيك أفرغت ... ثناياك في ألفاظها بهجة البشر
كفتنا حميّا الحمر رقّة لفظها ... وأمّننا تهذيبها هفوة السّكر
وقوله من جواب: [الطويل](15/346)
تنازعها قلبي مليّا وناظري ... فأعطيت كلّا من محاسنها شطرا «1»
تضاحكنا فيها المعاني فكلّما ... تأملت منها لفظة خلتها ثغرا «2»
فمن ثيّب لم تفترع غير خلسة ... وبكر من الألفاظ قد زوجّت بكرا
فلا تشك أحداث الزمان فإنّني ... أراه بمن يشكو حوادثه مغرى
وهل نصرت من قبل شكواك فاضلا ... فتأمل منهنّ المعونة والنّصرا
وما غلب الأيّام إلّا مجرّب ... إذا غلبته غاية ألف الصبرا «3»
248/وقوله: [الطويل]
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما «4»
وما زلت منحازا بعرضي جانبا ... من الذمّ أعتدّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظّما «5»
ولكن أهانوه فهان ودنسّوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهّما
وقوله: [الطويل]
كأنّي ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب وما ذنبي سوى أنّني حرّ «6»(15/347)
إذا لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعا فعندي له الصّبر
وقالوا توصّل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرمّا ... عليّ الغنى: نفسي الأبيّة والدهر
إذا قيل: هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا أقدموا بالوفر أقدمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حظّه التبر
ومنهم:
20- أبو طالب، عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون «1»
بقية تلك السلالة، وشعلة تلك الذبالة، وآخر ذلك البحر الذي لم يبق منه إلّا ملالة، والبدر الذي ذهب وبقي أثره في الهالة، والذكاء الذي لا يذكر معه 249/سواه إلّا علالة، والكرم الذي لا يفضي إلى ملالة، والشرف الذي غني بنفسه فلا يحتاج إلى دلالة. أتى في هذا البيت ندره، وطلع شاعرا مدره، يذكر من سلفه الكريم منائح الآباء وقرائح الألبّاء، فطفق ينثر درّه، ويثير خواطر له عليها قدره، ومواطر له وقعت على النّهر لوشّح بجوهرها صدره، أو سقطت إلى غيور حيّي أسكن عربها الأبكار خدره، وزاد فخار العقب المأموني، وزان أقمار النسب الهاروني، وانتهى إليه ميراث فضل المأمون وحطّت لديه ركائب حموله، وشاد بذكره هو لا دعبل بعد طول خموله.(15/348)
وأثنى عليه صاحب اليتيمة «1» ثناء لو أنّه على الروض لما خاف أن يمشي بالنميمة.
ومن كلمه التي نقطف نوّارها، ونتحف بمجاج النّحل ثمارها، ويصرف دجى الليل ضوء مدامها المتوقّد إلّا أنّه نورها لا نارها، قوله يذكر دارا بناها بعض الرؤوساء من قصيدة:
[الخفيف]
ضاقت الأرض عنك فارتدت ربعا ... يسع البحر والحيا والسماحا «2»
فهنيئا منها بدار حوت من ... ك جبالا من الحلوم رجاحا
ذات صحن كرحب صدرك قد ... زاد على ظنّ آمليك انفساحا «3»
يغرس الصّيد في ذراها من ال ... تقبيل غرسا فتجتنيه نجاحا
ما بكاء الرياض بالطلّ إلّا ... خجلا من رياضها وافتضاحا
وكأنّ الأبواب صحب تلاقي ... ن انغلاقا ثمّ افترقن انفتاحا
وكأنّ الستور قد نقش الطاوو ... س فيها من كلّ باب جناحا
وكأنّ الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذرى العباب صباحا
وبيوت كأنهنّ قلاع ... مزمعات للنّيرين نطاحا
250/وقوله في المنارة: [الطويل]
وقائمة بين الجلوس على شوى ... ثلاث فما تخطو بهنّ مكانا «4»
على رأسها نجل لها لم تجنّه ... حشاها ولا علّته قطّ لبانا
يشدّد في أعلاه كلّ دجنّة ... يشقّ جلابيب الظلام سنانا(15/349)
وقوله في الحمّام: [الطويل]
وبيت كأحشاء المحبّ دخلته ... ومالي ثياب فيه غير إهابي «1»
أرى محرما فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلّا فيه نزع ثيابي «2»
بماء كدمع الصبّ في حرّ قلبه ... إذا آذنت أحبابه بذهاب
توهّمت فيه قطعة من جهنّم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب
يثير ضبابا بالبخار مجلّلا ... بدور زجاج في سماء قباب
وقوله في ماء بجليد: [الرجز]
ورائق مثل الهواء صاف ... أسرع في الجسم من العوافي «3»
فيه الجليد راسب وطافي ... كأنّه ودائع الأصداف
وقوله في المنشفة: [المنسرح]
منشفة خملها تخال به ... قد فتّ كافورة على طبق «4»
كأنّما أنبتت خمائلها ... ما ارتشفت من لآلئ العرق
وقوله في الباقلاء الأخضر: [مجزوء الرجز]
وباقلاء أخضر ... مثل سموط الجوهر «5»
أوساطه مخطفة ... مثل خصور ضمّر
أطرافه مذروبة ... مسروقة من أنسر(15/350)
وطرف كمخلب ... وطرف كمنسر
251/وقوله في العجّة: [المنسرح]
عندي للضيف عجّة شرقت ... بدهنها فهي أعجب العجب «1»
قد عضّت النار وجهها وغدت ... كياسمين بالورد منتقب
وقوله فى سمكة مشوية: [السريع]
ماوية في النار مصلوبة ... يصبغ من فضّتها عسجد «2»
كأنّما جلدتها جوشن ... مزرفن الصّفة أو مبرد
وقوله في اللوزينج الرطب: [الطويل]
ولوزينج يعزى إلى الفرس خلته ... بنان عروس في رقاق الغلائل «3»
فإن حملت إحداه خمس حسبتها ... زيادة كفّ بين خمس أنامل
وقوله فى التدرج: [الخفيف]
قد بعثنا بكلّ لون بديع ... كنبات الربيع أو هي أحسن «4»
في قناع من جلّنار وآس ... وقميصين ياسمين وسوسن
وقوله في الجمر خبا بعد اشتعاله لهبا: [الخفيف]
أما ترى النّار كيف أسقمها القر ... ر فأضحت تخبو وحينا تسعّر «5»(15/351)
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميصين مذهب ومعصفر
وقوله في البرد: [الطويل]
وبيضاء كالبّلور جاد بها الحيا ... فأهوت تهادى بين أجنحة القطر «1»
تذوب كقلب الصبّ لكنّه جو ... بنار هواه وهي مثلجة الصدر
وقوله في الأسطرلاب: [الخفيف]
252/وشبيه بالشمس يسترق ال ... أخبار من بين لحظها في خفاء «2»
فتراه أدرى وأعلم منها ... وهي في الأرض بالذي في السماء
وقوله فيه: [السريع]
وعالم بالغيب من غير ما ... سمع ولا قلب ولا ناظر «3»
يقابل الشمس فيأتي بما ... في ضمنها من خبر حاضر
كأنّها ناجته لّما بدا ... بعينها بالفكر والخاطر
فألهمته علم ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر(15/352)
ومنهم:
21- الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير «1»
[توفي سنة ثلاث وأربعمائة] «2» . أمير لا يمارى، وملك بارى السحاب مدرارا، وسلطان تحضر يده ندى ويتلهّب فكره نارا، وجواد مطلق العنان أمن عثارا، وبطل يأتي بنجوم الظلام نثرا وهام الأبطال نثارا، وقائد جنود لا يطلب للمكاثرة أنصارا، ورائد وغى يرسل النّبل صمائم والرماح أغصانا والسيوف أنهارا، ومبيد عدى لا يدع منهم على الأرض ديّارا، وقاري ضيفان يوقد الدجنّة جل نار والأسنّة جلّنار. ذو خطّ ماذوى ولا انحطّ. كان يقول فيه الصاحب بن عباد: خطّ قابوس أم جناح طاووس. وقد وصفه العتبي ووصله بما اهتزّ له روضه الأدبيّ، كأنّ في كلّ قلب من خطّه شهوة، وفي كلّ ذوق من كلمه قهوة، لمعان تعب من يعانيها، ولعب من طلب بها اللّحاق وما قدر يدانيها، غضّة الأطراف، بضّة الأعطاف، رضّية الأوصاف، فضيّة الكؤوس بذهبيّ السلاف، وضيئة المخيلات الشراف. أجرى في الأفهام من الماء في المهنّدة الصقال، 253/وأسرى/ في الكلام من البرق في السّحب الثقال. منية أديب وغنية لبيب، وحلية نهار يوشّع طرفاه بالتهذيب، ورمية طرف يجرح القلب وهو لا يتنحّى عن طريق سهمه المصيب. طائر في البلاد كأنّما نصب له الهلال(15/353)
مصائد فخّه، سائر في الآفاق كأنّما لاق له الظلام دواته، وبرى البرق قلمه لنسخه ببدائع لو ولجت على الليل ستره لم يرخه، أو أشعلت حمر الشقيق ما قدر لافح الريح على نفخه.
ومن قوله الممتّع بشرخه وطوله الذي لا تقدر خيلاء الروض على بذخه: [البسيط]
قل للذي بصروف الدّهر عيرّنا ... هل عاند الدهر إلّا من له خطر «1»
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر
وإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه الضّرر
ففي السماء نجوم مالها عدد ... وليس يخسف إلّا الشمس والقمر
وقوله: [البسيط]
بالله لا تنهضي يا دولة السّفل ... وقصّري فضل ما أرخيت من طول «2»
أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي ... عن التهوّر ثمّ امشي على مهل
مخدّمون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول
وقوله: [الكامل]
خطرات ذكرك تستميل مودّتي ... فأحسّ منها في الفؤاد دبيبا «3»
لا عضو لي إلّا وفيه صبابة ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوبا
ومنهم:
22- الأمير أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي «4»(15/354)
254/فارع إمارة، وفارس إغارة، وفاره ميدان يردي جاره، ويردي مجاريه عاره، وقابس جذوة ترمي في كلّ خطفة بشرارة، وقابض درّ يوالي نثاره، وطويل باع يهجم على الأسد داره، وينتزع البدر من الدارة، وذكيّ قلب يصيب في كلّ إشارة، وحاضر خاطر لا تغيب له شارة، وحاضن لفظ لا يعيب ناقد الكلام له عبارة، ونديّ كفّ يمطر ديما، ويخضّر قلمه بلاغة وكرما. إن كتب فالورق وريق والخطّ كالخطّ «1» تثقيفا يعلوه بريق، والكرم جمّ لا يقع المزن في بحره بلّة ريق، والخطاب فصل لا يشتبه، والكتاب روضة من أعين زهرها منتبه وغير منتبه، وإن انتضى سيفه راع الجيش لمعه، وفضّ ما في الصدور وقعه وقصّ غريبا من قائل يرفضّ بالدم دمعه.
له نظم يسحر، ونثر يعجب من يتبحّر، وما كلّ من تأمّر على الأنام أمّر في أصناف الكلام ولكنّها مواهب توجد في الندرة بعد الندرة، وفضل من الله لا تتأهّل له كلّ فطرة، ولا تسري في كلّ فكرة، وهذا أبو الفضل من أولئك الأفراد، وواحد كالألوف في رئاسة العلم، وسياسة العباد. وهو يعاني من التجنيس ما يخفّ ويصوب ماؤه ولا يجفّ.
ومن أنموذج نسجه، وزهر مرجه، قوله: [الطويل](15/355)
لقد راعني بدر الدّجي بصدوده ... ووكّل أجفاني برعي كواكبه «1»
فيا جزعي مهلا عساه يعود لي ... ويا كبدي صبرا على ما كواك به
وقوله: [الطويل]
عذيري من ريم رماني بسهمه ... فلم يخط ما بين الحشى والترائب «2»
فأصداغه يلسعنني كالعقارب ... وألحاظه يفعلن فعل العقاربي
255/وقوله: [الخفيف]
إنّ لي في الهوى لسانا كتوما ... وفؤادا يخفي حريق جواه «3»
غير أنّي أخاف دمعي عليه ... ستراه يبدي الذي ستراه
وقوله: [مجزوء الكامل]
ومهفهف يلهو بلب ... ب المرء منه شمائل «4»
فالردف دعص هائل ... والقدّ غصن مائل
والخدّ نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل
والطرف سيف ماله ... إلّا العذار حمائل
وقوله: [الكامل]
هبه تغيّر حائلا عن عهده ... ورمى فؤادي بالصدود فأزعجا «5»(15/356)
ما بال نرجسه تحوّل وردة ... في خدّه والورد عاد بنفسجا
وقوله: [مجزوء الكامل]
فصد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعي ذريعا «1»
وأمسّني وقع الحديد ... بعرقه ألما وجيعا
فأريته من عبرتي ... ما سال من دمّه نجيعا
وقوله: [الخفيف]
لم ألمه أن اتّقى بحجاب ... ردّني واله الفؤاد لمابي «2»
هو روحي وليس ينكر للرو ... ح توار عن الورى بحجاب
وقوله: [الرجز]
ظبي يحار البرق في بريقه ... غنيت عن إبريقه بريقه «3»
ولم أزل أرشف من رحيقه ... حتى شفيت القلب من حريقه
وقوله: [السريع]
كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد «4»
كالعين لا تدرك ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد
وقوله: [الطويل]
بنفسي غزال صار للحسن كعبة ... تحجّ من الفجّ البعيد وتقصد «5»(15/357)
256/دعاني الهوى فيه فلبيّت طائعا ... وأحرمت بالإخلاص والسعي يشهد
فجفني للتسهيد والدّمع قارن ... وقلبي فيه للصّبابة مفرد
وقوله: [الطويل]
يصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلي «1»
وفيهنّ نوّار الشقائق قد حكى ... خدود عذارى نقّطت بغوالي
وقوله: [الطويل]
وما ضمّ شمل الأنس يوما كنرجس ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر «2»
فأحداقه أقداح تبر وساقه ... كأسوق ساق في غلائله الخضر «3»
وقوله: [الرجز]
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال نوره نور اللهب «4»
ككرة من فضّة مجلوّة ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وقوله: [الخفيف]
عيّرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الكرام لبيب «5»
هي تحت الظلام نور وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب
قلت: يا هذه عدلت عن النصّح ... وما للرشاد فيك نصيب(15/358)
إنّها للستّور هتك وبالألبا ... ب فتك وفي المعاد ذنوب
وقوله: [الخفيف]
خير ما استعصمت به الكفّ يوما ... في سواد الخطوب عضب صقيل «1»
عن سؤال اللئام مغن وفي العظم ... مغن وفي المنايا رسول «2»
وقوله: [الخفيف]
خير ما استطرف الفوارس طرف ... كلّ طرف لحسنه مبهوت «3»
هو فوق الجبال وعل وفي السه ... ل ظليم وفي المعابر حوت
257/وقوله: [الطويل]
أخلي أمّا الودّ منه فزائد ... وألفاظه بين الحديث فرائد «4»
إذا غاب يوما لم يغب عنه شاهد ... وإن شهد ارتاحت إليه المشاهد
وقوله: [الكامل]
تمّت محاسنه فما يزري بها ... مع فضله وسخائه وكماله «5»
إلّا قصور وجوده عن جوده ... لا عون للرّجل الكريم كماله
وقوله: [الكامل المرفل]
يا دهر دع ظلم الكرام فهم ... عقد لنحرك لو درى النّحر «6»(15/359)
سالمهم واستبق ودّهم ... فهم نجوم ظلامك الزّهر
وقوله: [الطويل]
دع الحرص واقنع بالكفاف من الغنى ... فرزق الفتى ما عاش عند معيشه «1»
فقد تهلك الانسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه
وقوله: [البسيط]
متّع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث «2»
فخير عيش الفتى ريعان جدّته ... فالعمر من فضّة والشيب من خبث «3»
وقوله: [الرجز]
ربّ جنين من حمى نمير ... مهتّك الأستار والضمير «4»
سللته من رحم الغدير ... كأنّه صحائف البلّور
أو أكر تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكا على الدهور ... لعطلت قلائد النحور
أو أخجلت جواهر البحور ... وسميّت ضرائر الثغور
يا حسنه في زمن الحرور ... إذ قيظه مثل حشى المهجور
يهدي إلى الأكباد والصّدور ... روحا تحاكي نفثة المصدور(15/360)
258/ومنهم:
23- أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع التنيسي «1»
صاحب لسان نضناض، وساحب ذيل فضفاض، وموشع برود كقطع الرياض، وموشي رقوم كالبرق في تطريز الإيماض، أو كورد خدّ استدار به آس عذار فاض، وأطلّ عليه نرجس الحدق المراض، وفدّته العيون بمثله من السواد والبياض. فضل يوجّه ما شاء من الحجّة، وينّبه من تاه على اتّباع المحجّة، وعلم لا يعيا بقطع منازع، وفهم عنده بصحّة الدليل لكلّ مجادل وازع. عارف بالأدب علما وعملا، وطائف في طرق الصناعة يسلك سبلها ذللا.
إذا ركب كلاما كان قيودا لكنّها لا تألف التعقيد، وقلائد إلّا أنها كلّها فريد، ونجوما سعيدة وما كلّ نجم في السماء بسعيد، ودررا ما رأى الناس مثلها في بيوت قصيد، ولملكته في فنون الأدب، ونسلها إليه من كلّ حدب، واطلاعه على الأشعار وقالتها، وإحاطته منها بمعان عمه الناس في جهالتها. صنّف على شعر المتنبي كتابا سمّاه [المنصف] «2» تكلّم فيه على سرقاته الفاضحة، ومآخذه الواضحة، ورماه بالأوابد، وأتى بنيانه من القواعد. أنبأ عن غزارة مدد، وكثرة حفظ لا يحصر بعدد. ومن وقف عليه علم بأنّ محلّ ابن وكيع كقدر البدر(15/361)
في فلكه الرفيع، وأمّا نظمه فكلّه بديع، منه
قوله: [الرمل]
غرّد الطيّر فنبّه من نفس ... وأدر كأسك فالعيش خلس «1»
سلّ سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرّى الصبح عن ثوب الغلس «2»
وانجلى عن حلل فضيّة ... نالها من ظلم الليل دنس «3»
وقوله من مزدوجة: [الرجز]
ما العذر في السّلوة عن غزال ... منقطع الأقران والأشكال «4»
259/تستخلف الشمس لدى الزوال ... ضياء خدّيه على الليالي
والشكل والخفّة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح
من كان يهوى منظرا بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر
وقوله من أخرى يذكر فصل الربيع: [الرجز]
نهاره من أحسن النهار ... في غاية الإشراق والإسفار «5»
تضحك فيه الشمس من غير عجب ... كأنّها في الأفق جام من ذهب
وليله مستلطف النّسيم ... مقوّم في أحسن التّقويم
لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور
كجامة البلّور في صفائها ... أذابت الجراد في نقائها(15/362)
كأنّه إذا دنت من نحره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره «1»
رومّية حلّتها زرقاء ... في الجيد منها درّة بيضاء
فيه يظلّ الطير في ترنّم ... حاذقة باللحن لم تعلّم
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا مغرمه «2»
من كلّ دبسيّ له رنين ... وكلّ قمريّ له حنين
في قرطق أعجل أن يورّدا ... خاط له الخياط طوقا أسودا
هذا وفيه للرياض منظر ... يفشي الثرى من سرّها ما يضمر
سرّ نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه
فيه ضروب للنبات الغضّ ... يحكي لباس الجند يوم العرض
من نرجس أبيض كالثغور ... كأنّه مخانق الكافور
260/وروضة تزهر من بنفسج ... كأنّها أرض من الفيروزج
قد لبست غلالة زرقاء ... قد كايدت بلبسها السّماء
تبصرها كثاكل أولادها ... قد لبست من حزن حدادها
يضحك فيها زهر الشقيق ... كأنّه مداهن العقيق
مضمّنات قطعا من السّبج ... فأشرقت بين احمرار ودعج
كأنّما المحمرّ في المسوّد ... منه إذا لاح عيون الرّمد
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنّه من أحسن الأنوار
كأنّه مداهن من عسجد ... قد سمّرت في قضب الزبرجد
واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفرّ من لون المزاج لونها «3»
من كفّ ظبي من بني النصارى ... ألبابنا في حسنه حيارى(15/363)
يبدي جمالا جلّ عن أن يوصفا ... لو أنّه رزق حريص لاكتفى
وقوله: [الرجز]
وانظر إلى النارنج في بهجته ... يلوح في أفنان هاتيك الشّجر «1»
مثل دبابيس نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر «2»
كأنّ زهر الباقلاء إذ بدا ... لناظريه أعين فيها حور «3»
كمثل ألحاظ اليعافير إذا ... روّعها من قانص فرط الحذر
كأنّه مداهن من فضّة ... أوساطها بها من المسك أثر
كأنّه سوالف من خردّ ... قد زينّت بياضها سود الطّرر
وقوله في الخمر:
261/خيالها جسمه لجين ... وجسمها شخصه نضار «4»
كأنّها تحته كميت ... عليه من فضّة عذار
منها في الساقي: [مخلع البسيط]
كأنّ صدغا له تراه ... وهو على خدّه مدار
ميدان آس بدا جنيّا ... ألهب في جانبيه نار
وقوله: [الطويل]
فمن نرجس لّما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب بها فتبسّما «5»(15/364)
وأبدى على الورد الجنيّ تطاولا ... فأظهر غيظ الورد في خدّه دما
وقوله: [الوافر]
سلا عن حبّك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق «1»
جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلي عن الولد العقوق
وقوله: [المنسرح]
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه «2»
فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه
قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه
فظلّ من حيث ليس يدري ... يأمر بالحبّ من نهاه
وقوله: [الكامل]
إن كان قد بعد اللقاء فودّنا ... باق ونحن على النّوى أحباب «3»
كم قاطع للوصل يؤمن ودّه ... ومواصل بوداده يرتاب
وقوله: [الكامل]
يا من إذا لاحت محاسن وجهه ... غفرت بدائعها جميع ذنوبه «4»
والنّجم يعلم أنّ عيني في الدّجى ... معقودة بطلوعه وغروبه
وقوله: [المجتث](15/365)
وجلّنار بهيّ ... ضرامه يتوقّد «1»
262/بدا لنا في غصون ... خضر من الريّ ميّد
يحكي فصوص عقيق ... في قبّة من زبرجد
وقوله: [الكامل]
ازهد إذا الدنيا أنالتك المنى ... فهناك زهدك من فروض الدين «2»
والزهد في الدّنيا إذا مارمتها ... فأبت عليك كعفّة العنّين
وقوله: [الخفيف]
فحم شبّه الغلام وأدنى ... في كوانينه حياة النفوس «3»
كان كالأبنوس غير مجلّى ... فغدا وهو مذهب الأبنوس
لقّي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبّغات عروس «4»
ومنهم:
24- أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن الحجّاج «5»
فاتح باب، ومانح لباب، وماتح بحر لا غدير ولا سحاب، ونازح فكر يجيء بكلّ معنى(15/366)
قريب، وبمنى أجنبيّ وما هو بغريب. فتح باب المجون ومنح منه اللّباب المصون، وجاء بغرائب ما سبق إليها ولا لحق فيها، وقد زوحم عليها، وكان في هذا الباب نظير امرئ القيس فى ذلك الباب كلّ منهما افترع بكرا عذراء مالها أتراب «1» ، وأطلع حقيقة لا تتوارى بحجاب، ولا تصل إليها الأيدي وهي مطمعة أطماع السراب. جعل الهزل كالجّد الصريح، وكسا الباطل زخرفا حتى كأنّه الحقّ الصحيح، وأجاد في السّخف حتى استخفّ الوقور وهزّ المعاطف بنشأة المخمور، واخترع ملحا بها الإعجاب وما زاد على كلام الناس المتداول بينهم وفيه العجب العجاب.
وحكي أنّه كانت له في حارة الزطّ دار تجاورهم/ 236/ويتأدّى بها إلى سمعه تحاورهم، وكان يسمع من لغاتهم السخيفة ونزغاتهم الظريفة ما نظمه شعرا، وعلمه في بابل سحرا، وأعانه على هذا إقبال منه على الخلاعة وإقبال عليه نفّق له هذه البضاعة فكانت ملوك بني بويه وبني حمدان «2» فمن دونهم لا تقبل منه مديحا حتى يكون السّخف غزله(15/367)
ولا يعجبها منه الجدّ إلّا إذا كان الهزل أوّله، ولقد مدح بعضهم بقصيدة لطيفة يذوب غزلها وينوب عن لمى الشّفاه قبلها وعن ثغور الغيد المنظّمة مقبّلها. فلم يهشّ له الممدوح ولا جرى للبشاشة في قبولها روح، واستدعى المدح منه على طريقته المعهودة منه سلوكها المنضود به في ترائب اللهو سلوكها، فلمّا أتى بها على منهجه قبلت وكثّرت وما قلّلت، فكان بعد هذا مقبلا على شأنه في هذا الأسلوب قائلا منه ما يأخذ بمجامع القلوب، على أنّ المجمع عليه أنّه كان على طريق حميدة من العفاف وسبيل ما طار به قزعة مع الخفاف، وإنّما كان يقول هذا تظرّفا يهصر جنّاته الألفاف وتلطّفا لا يطرأ على ورقاته الجفاف «1» .
وقد قال عند موته لابنته، وقد هبب الهواء ثوبه عن سوءته: يا بنيّة غطّي سوءة ما عصت الله قط. وكان مقبوضا حتى غطّته فانبسط لكنّه كان رافضيا لا يسلم منه مذهبه، ولا يعلم منه في طرز الشعر ما ساء به مذهبه، وقد قيل إنّه رئي في النوم بعد موته فقيل له:
ما فعل الله بك؟ فقال: [من الرجز]
أفسد حسن مذهبي ... في الشعر سوء مذهبي
وحملي الجدّ على ... ظهر حصان اللّعب
لم يرض مولاي على ... سبيّ لأصحاب النّبي
فلم ينكر أديب من أهل عصره أنّها شعره، وشبيهة بشعره «2» .
264 وقد نقل أنّه أوصى أن/ يدفن عند رجلي موسى بن جعفر عليهما السلام،(15/368)
ويكتب على قبره: [وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد] «1» .
وقال الثعالبي «2» ، وقد أرخى العنان فيما اختار له على اختلاف الأوزان ممّا زان وخفّ على الأذهان، وقد ثقل في الميزان: ومحاسن ابن الحجاج لا تنتهي حتى ينتهى عنها.
ونحن الآن نذكر جوهره، ومن أبدع ما أثبته من سطره. قوله: [الخفيف]
جبل كنت في ذراه فزلّت ... من ذراه برجلي الصّفراء
معرض كيف دار درت بوجهي ... فهو شمس وعبده حرباء
وقوله: [الخفيف]
لا تسلني عن شرح حالي فإنّي ... كالخرا الرّطب فوق رأس الماء «3»
رجل فارغ المعا فارع الجوف ... من الجوع ضامر الأحشاء
فأنا اليوم من ملائكة الدو ... لة أحيا وحدي بغير غذاء
منها:
تشتكي خيله الوجى من سرى ال ... ليل إلى كلّ غارة شعواء
فإذا ما أراحها ركض الخوف ... بها في خواطر الأعداء
وقوله: [الخفيف]
ربّ ريح يوم الدواء دبور ... وسوست في عصاعص الأغبياء «4»
قدّروها فسا وقد كمن ال ... جعس في مهبّ ذاك الفساء(15/369)
فإذا الفرش في خليج سلاح ... ذائب في قوام جسم الماء
فاتّق الله أن يغرّك ريح ... عصفت في جوانب الأحشاء
وقوله: [البسيط]
فديت من أبصرتني شبت مكتهلا ... فأمعنت باستها من لحيتي هربا
265/يصبو خراها إلى عثنون عاشقها ... كأنّ بين خراها واللّحى نسبا
كأنّ مبعرها في أصل شعرتها ... بثق أعدّوا عليه الشوك والحطبا
تصمّ إن ضرطت أذن الرقيب فلا ... عدمت فرقعة است تطرش الرقبا
ومدمج ذي خصى كالضرع محتقبا ... ما مصّ مذ نحو شهرين ولا حلبا
كأنّه ثعلب في الكرم يطفر ما ... بين العناقيد حتى يخرط العنبا
تشكّكت باستها فيه أمن خشب ... قد صار أم هو شيء يشبه الخشبا
كأنّه ساجة لو شرّحت جعلت ... لبعض أبواب أحجار النسا عتبا
وأنشدت بعد ما جسّته فقحتها ... فما رأت ثمّ لا لحما ولا عصبا
أمسى يواثبني فى استي فأدّبني ... أبعد خمسين منّي تبتغي الأدبا
منها فى الخمر:
حمراء يمسي بناني وهي فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا «1»
وأربح الناس عندي في تجارته ... محصّل يشتري بالفضة الذّهبا
وقوله: [الطويل]
فمن غادة ملتفّة الخصر شحمها ... نديف على أردافها والحوالب
ومن أمرد تنزو الفياش على استه ... إذا كظّها الإنعاظ نزو الجنادب(15/370)
وقوله: [المنسرح]
كأنّ شفريه عندما هدلا ... شدق بعير مهنأ جرب
كأنّ ناسور باب مبعرها ... عنقود كرم مزّيت العنب
كأنّما الأير فوق عصعصها ... راكب جمّارة على قتب
266/ومنه قوله: [الخفيف]
خضبت رأسها ووجّهت ... بسوء فها فكانت جوابي
وعلى رأسها ولا تصب الخصّ ... ردا حائل بلون التراب
فتوهّمت رأسها من بعيد ... قفصا فيه طائر عنّابي
وقوله: [الطويل]
وكان ولائي قبله مثل قبضة ... من الريح في منقار عنقاء مغرب
وقوله: [مخلع البسيط]
وصيد زبّي لكسّ ستّي ... ليس بناب ولا بمخلب
بخصية جلدها مدلّى ... وفيشة رأسها مدبّب
أحسن من صيد ألف كلب ... في كلّ يوم لألف أرنب
صبيّة بظرها بجنبي ... يبيت مثل الصبي المحصّب
مفعول باب استها يأير ال ... فاعل فوق الفراش ينصب
ومنه قوله: [المتقارب]
وأيّة دار تيمّمتها ... تيمّم بوابها حجبتي «1»
فإن أنا زاحمت حتى أموت ... دخلت وقد خرجت مهجتي(15/371)
فيدفعني الناس بعد الوصو ... ل إليهم وقد فترت همّتي
وإن قدّموا خيلهم للركو ... ب خرجت فقدّمت لي ركبتي
ولا لي غلام فأدعو به ... سوى من أبوه أخو عمتي
وكنت برأس كظهر الغداف ... فقد صرت أقرع من فيشتي
ومنه قوله: [الخفيف]
267/نطق الموت بك يدعو ... ك وأنصارك الحضور سكوت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنّما الملك ملك من لا يموت
ومنه قوله: [السريع]
رأيتها وهي على سطحها ... قاعدة في جانب السطح
فقلت بالمزح وفي طبعها ... فديتها صبر على المزح
أشعرة في السطح أم هذه ... لحية فرعون على الصّرح
فتى له يوم الوغى راية ... قد قسّت الأعداء بالقرح
قد كتب الإقبال في رأسها ... أبشر بنصر الله والفتح
يجلو دجى الخطب بوجه له ... يشرق فيه كوكب الصّبح
يا من إذا أجرى إلى غاية ... فات إليها سرعة اللّمح
ومنه قوله: [المتقارب]
أتتك الوزارة تسعى إليك ... بوجه عليه دليل النجاح
وقد زاحموك فما زعزعت ... مناكب رضوى بمرّ الرياح
فكم ثمّ من رأس ذي لوثة ... قد اعتدل اليوم بعد الطماح
وشعري لا بدّ من سخفه ... ولا بدّ للدار من مستراح(15/372)
وقوله: [السريع]
خدّك نسرين وتفاح ... والآس في صدغك قدّاح
وشعرك الليل ولكن لنا ... في الليل من وجهك مصباح
يا ظالما قلبي إلى جوره ... يحنّ مشتاقا ويرتاح
268/منها:
أفسدتني بعد صلاحي فهل ... يرجى لإفسادك إصلاح
فتى له جود عميم الندى ... حواله في الأرض سيّاح
نمسي كما تصبح في خيره ... ما دام إمساء وإصباح
يحيى وينتاش بإحسانه ... وبأسه يردي ويجتاح
إن وعد الوعد فإنجازه ... لقفل باب الوعد مفتاح
إنّ المواعيد شخوص لها ... مكارم الأفعال أرواح
وقوله في نخاس اشترى له جارية ووعده بالربح فيها وكتب عهدتها باسم طلحة غلام النّحاس: [السريع]
قل لأبي الفتح الذي لم تزل ... أخلاقه طيّبة سمحه
ابتعت لي جارية ما اسمها ... فرحة لكنّ اسمها قرحه
وقلت لي تربح في بيعها ... غدا فقد أربحتني سلحه
وكيف يرجى الربح في عهدة ... تكتب هذا ما اشترى طلحه
هيهات أن تخرج فروّجة ... من بيضة فاسدة المحّه
فقل لمن يبتاعها إنّها ... فارهة جيدة الفقحه
فسيحة السّرم ففي نيكها ... الاست عند الفقها فسحه
عرّس بها الليلة واجعل عدا ... ذقنك في باب استها صبحه(15/373)
وقوله: [السريع]
يا أيّها الأستاذ يا من له ... خلائق بالحسن ممدوحه
است بن حجّاج على ضعفها ... بذقن من يشناك منكوحه
269/قد وقع الصّلح الذي لم يكن ... عنه لكم في الرأي مندوحه
لكنّه صلح بسين على ... عنفقتي والسين مفتوحه
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
مريضة المقلتين لكن ... عين استها صلبة صحيحه
وذات بعل جوارح استي ... من خوف عثنونه جريحه
مولاي هذي أبيات شيخ ... في مدحكم جيّد القريحه
جاءتك من حضرة الأماني ... ممدودة الكفّ مستميحه
فانزل على حكمها وإلّا ... صرنا جميعا بها فضيحه
ومنه قوله: [المتقارب]
ففي طبع أشعاره رقّة ... فخاطره أبدا يسلح
وكم قد جرى في مدى مذهبي ... أناس فأكدوا وما أفلحوا
رأوا غاية دونها مخرج ... على حافتي بئره يطفح
فعادوا وقد جشّموا خطّة ... عنافقهم تحتها تدلح
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
جاءتك من تعب ال ... تكلّف والتعسّف مستريحه
مدح إذا أنشدته ... استخففت في الإنشاد روحه
حلو وبعض الشعر في ال ... إنشاد تعلوه ملوحه(15/374)
وقوله: [الخفيف]
ولها شعرة ولا زبد البحر بيا ... ضا وعصعص كالمداد
وحر أشمط العذارين ألحى ... فيه سمت النساك والعبّاد
270/عرّفيني أمّ الدواهي متى ... كانت سيوف الخصى بلا أغماد
ومنه قوله: [البسيط]
ياباني المجد لّما انهدّ معظمه ... وراعي الجود لّما أهمل الجود
إن يحسدوك على فضل خصصت به ... فكلّ منفرد بالفضل محسود
فتحت ثغر المعالي وهو ممتنع ... صعب وباب الأيادي وهو مسدود
مكارم لك قبل اليوم شيّدها ... أجدادك الغرّ أو آباؤك الصّيد
فتى ينوب عن البيض الرقاق إذا ... حلّت حباها إلى الموت الصناديد
رأي له محصد زرع النفوس به ... في الحرب لا بسيوف الهند محصود
منها في ذكر الخمر:
من بنت كرم إذا استجليتها خجلت ... فبان في وجه بنت الكرم توريد
مر لي بها وبصوت من مهفهفة ... لها قوام كغصن البان مقدود
رود الشباب فإنّ الشيخ يعجبه ... من الغواني الفتاة الطفلة الروّد
بنت العناقيد في فيها وقد سدلت ... جعدا على رأسها منه عناقيد
وقوله: [المنسرح]
فرعاء من رأسها وأسفلها ... تسحب شعرا حباله مسد
تجنّبت سرمها الفيّاش فما ... يدقّ في كوّة استهاوتد
ومنعظ فوق سطح بيضته ... بالليل أير كأنّه جرد
إذا تمطّى على الحشا انقلبت ... بثغلها فى الحناجر المعد(15/375)
تحبل من أدخلته منه به ... سرّا وفي وقت سلّه تلد
271/حصنه جوف بيته عسس ... يصفع فيه الحراس من وجدوا
فبات تحت اللحاف يجلدها ... من فزع الصّفع وهو يرتعد
وقوله: [السريع]
وقال والوردة في كفّه ... مع قدح أذكى من النّد «1»
اشرب هنيئا لك يا عاشقي ... ريقي من كفّي على خدّي
ومنه قوله: [المنسرح]
دع عنك ذكر القتال كيف جرى ... ومنهل القتل فيه مورود
والناس صرعى على رؤوسهم ... سرادق للسيوف ممدود
ومنه قوله: [الخفيف]
إنّ هذا الزمان كان بصيرا ... صير فّيا مهذّبا للنقود
ثمّ شاخ الدهر الذي يحبو ... بين عاد وتبّع وثمود
واستمرّ العمى بعينيه حتى ... أبدل الفضّة النّقا بالحديد
فلهذا ساد القرود وصرنا ... نحن أذناب بعض تلك القرود
وقوله يعزّي أخاه عن بنت ماتت له: [الطويل]
وما الميت فافهم عن أخيك إذا مضى ... سوى غائب عن أهله نازح المدى
فإن هو لم يلمم بنا اليوم قادما ... قدمنا عليه نحن في داره غدا
ومنه قوله: [البسيط](15/376)
زبّاء زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف فى الزرع ناطور
كأنّ مبعرها في حلق فيشلتي ... طوق على عنق كالدنّ مزرور
لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير
272/كأنّه شاغر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور «1»
واست لمبعرها عمق بلا سعة ... كأنّها جبل في لحفه بير
تشمّ ريح استها فيش الزناة كما ... تشمّ رائحة اللحم السنانير
على استها رقباء يزعقون بها ... كما يصيح على الزرع النواطير
كأنّها وهم من حولها عسل ... تحميه من خارج الكور الزنابير
منها:
إذا انثنت وغنّت خلت قامتها ... غصن عليه قبيل الصّبح شحرور
والمدح كالقدر لا تمري وإن أكلت ... إلّا إذا طرحت فيها الأبازير
منها:
كأنّه زند مقطوع على سرق ... في زنده الأيمن المقطوع ساجور
تبارك الله فالدّنيا كما زعموا ... من استنام إليها فهو مغرور
تحلو مذاقا ولكن فوق تمرتها ... لمن يقول بأكل التمر زنبور
ومنه قوله: [الطويل]
فتى فوق رأس المجد يسحب ذيله ... ويوم الوغى يلقاه وهو مشمّر
إذا رام يوما غّرة من عدوّه ... تأمّل قبل الورد من أين يصدر
بقلب له عينان: عين عن الهوى ... تغضّ وعين في العواقب تنظر(15/377)
وقوله: [البسيط]
ظبي الكناس الذي في طرفه حور ... أما لورد النّوى بعد النّوى صدر
قلبي بكفّك فانظر في تصفّحه ... هل نال حظّك من سودائه بشر
الله جاد بني حمدان ما طلعت ... شمس وما دار في أرجائها قمر
قوم يغضون من نوّ السّماك إذا ... جادوا ويزرون بالشّعرى إذا افتخروا
273/بدور تمّ منيرات إذا جلسوا ... وأسد غاب هصورات إذا [نفروا] «1»
لم يبق فيهم لمغترّبهم طمع ... إلّا عواطف حلم كلّما قدروا
من كلّ أغلب ما في جأشه خور ... تحت العجاج ولا في باعه قصر
إنّ الأمير الذي أضحت شمائله ... في الناس فاعلة ما يفعل المطر
أنحى على طخية الأحداث فانكشفت ... كاللّيل جلّي دجى ظلمائه السّحر
بهمّة يشمل الدنيا تيقظها ... فليس يعجزها بدو ولا حضر
يا ابن الذين تقصّوا في العلى أمدا ... ما فوق غايته للنّجم مفتخر
رعيت سرب حماه وهو مخترم ... واغتلت كيد عداه وهو معتكر
مضّر ما نار هذا وهي خامدة ... ومطفئا نار هذي وهي تستعر
ملق على فلوات الأرض كلكله ... في ظلّ أغلب ما في رأيه غرر
تنير تحت عجاج النّقع غرّته ... كما ينير وراء الهالة القمر
وقوله في وصف شعره: [مخلع البسيط]
نسيمه منتن المعاني ... كأنّني قلته بجحري «2»
شعر يفيض الكنيف فيه ... من جانبي خاطري وفكري(15/378)
لوجّد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل وهي تسري
وقوله: [المنسرح]
يوم رأينا الرايات قد وردت ... بالنّصر بيضا وأصدرت حمرا
والخيل مثل السفين يسبح في ... الدما شهبا وتنكفي شقرا
وقوله: [مجزوء الرجز]
من الجنان ريقها ... وسرمها من سقر «1»
274/لها حر كأنّه ... وجه غلام خزري
وشعرة أطرافها ... شبه رؤوس الإبر
وهذه قصيدة ... قد سال فيها قذري
تبيع في سوق الخرا ... شواربا وتشتري
وقوله: [مخلع البسيط]
مع قينة لا تريد غيري ... فهي تجيني بغير حذر
أيري مع أنّه طويل ... أقصر من بظرها بشبر
وقوله: [مجزوء الكامل]
قد كنت قبل اليوم تط ... لبني وتستدعي حضوري «2»
وأرى الجفا بعد الوقا ... مثل الفسا بعد البخور
ومنه قوله يصف فرسه: [مخلع البسيط]
يئنّ طول النهار تحتي ... أنين شيخ به زحير(15/379)
ما فيه روح سوى ضراط ... تجفل من صوته الحمير
وقوله: [الكامل]
يا صاحبيّ استيقظا من رقدة ... ترزي على عقل اللبيب الأكيس «1»
هذي المجرّة والنجوم كأنّها ... نهر تدفّق في حديقة نرجس
وأرى الصّبا قد غلّست بنسيمها ... فعلام شرب الراح غير مغلّس
قوما اسقياني قهوة رومية ... من عهد قيصر دنّها لم يمسس
صرفا تضيف إذا تسلّط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس
ومنه قوله: [السريع]
باتت كأنّ الفيش في رحمها ... جماجم في قعر ناووس
كأنّ أيري فوق عظم استها ... لتّ على جانب قربوس
275/وقوله: [المنسرح]
من كلّ طنطكاه زوجته ... تنجر حتى تصبح بالقوس
قد خرّق النيك سرمها فغدت ... مثل قميص بلا تخاريس
وقوله: [البسيط]
وقائل كم تنيك قلت له ... ليس بنيك الحرام من باس
خصاي قوس وشعرتي وتري ... والسهم أيري والسّرم برجاسي
ومنه قوله: [الوافر]
أبا يعلى وأنت فتى تحبّ ال ... مديح فدونك المدح الرخيصا(15/380)
براح كالعقيق صفاء لون ... فلو جمدت خرطناها فصوصا
وقوله: [مخلع البسيط]
فديت من في استها لعوق ... يشفي به المدنف المريض
لها حر مدنف عليل ... ملكلك ما به نهوض
من اختلاف السفاد صارت ... تضرط منه ولا تحيض
فهو وفي ذاك خيرة لي ... تذرق مائي ولا تبيض
عندي لعمر أنّ تحت سرمي ... قافية مالها مغيض
كتمتها عامدا ولكن ... أظنّها سوف تستفيض
ومنه قوله: [المنسرح]
فيا أبا الأزهر الذي ارتعدت ... من خوف إشخاصه مضاريطي
وحقّ مغساة كلّ مدخلة ... تحشر يوم المعاد مع لوطي
لها شباك من شعر شعرتها ... فيها أيور مثل الشبابيط
تناك في سرمها وفي حرها ... فعام عفص وعام بلّوط
وقوله: [السريع]
طبيبكم إن لم يصن نفسه ... خريت في لحية بقراط
276/إلى متى يبعث عثنونه ... بعارم الفقحة ضرّاط
لو عصفت في الري ريح استه ... تقطع الغزل بدمياط
ومنه قوله: [الخفيف]
هل لما فات عهده من رجوع ... أم لعينيّ حيلة في الهجوع
بأبي من أزورها كلّ يومين ... حذارا من كثرة التّشييع(15/381)
إنّ لي في جماعها ألف واش ... [] في نيكها بالجميع «1»
غادة وجهها بديع فموتي ... في هواها إن متّ غير بديع
ذات خصر كالدّعص رّيا وشبعا ... وبردف طعامه من ضريع
وبسرم كمثل حاشية البر ... د صفيق صنيع
قد لبسناه بالأيور خليعا ... ولبسناه وهو غير خليع
فوجدناه غير رثّ الحواشي ... مثل قبّ الغلالة المرقوع
ومنه قوله: [الخفيف]
جوده كالطبيب فينا يداوي ... سوء أحوالنا بحسن الصّنيع
فهو كالموميا إذا انكسر العظم ... ومثل الدرياق للملسوع
وقوله: [مجزوء الكامل]
است يصكّ ضراطها ... تحت اللحاف مسامعي
است إذا قلّبتها ... بالليل فوق مضاجعي
وقعدت أجرف في الفرا ... ش خلوقها بأصابعي
غلّفت لحية عاذلي ... منها بأصفر فاقع
وقوله: [السريع]
وفقحة في الفرش نهّافة ... واسعة الحلق لها بعبعه
277/يخاف أن يجتاز أيري بها ... إلّا إذا كان خصاه معه
ومنه قوله: [المنسرح]
لله درّ الأستاذ من ملك ... في دوس خدّي بنعله شرفي(15/382)
فتى إذا متّ قبله فعلى ... خدمته لا على البقا أسفي
ينصف في حكمه رعيّته ... وماله منه غير منتصف
يبتغي بالمديح نائله ... كالرطب الغضّ بيع بالحشف
ومنه قوله: [المجتث]
يا حامل الدقن تسبي ... حسنا وتفتن طرفا
واصل بدقنك سرمي ... ما مثل ذا الدقن تجفى
وقوله: [السريع]
فديت ستّا لي معشوقة ... يقصر عن وجدي بها وصفي
تنام في البئر على ظهرها ... وبظرها يحتكّ بالسّقف
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
وجدتها هرّة عجوزا ... معدومة الضّيق والنشافه
ذات حر للسعاة فيه ... مع بعد غاياتهم مسافه
ألحى على عارضيه شيب ... في غاية الحسن والكثافه
لو كان مع دقنه خطيبا ... ولّيته جامع الرصافه
وقوله: [المتقارب]
أيا ملكا لم يزل قلبه ... على من يلوذ به ينعطف
يريدون صرفي عن حسبتي ... فكيف وأحمق لا ينصرف
ومنه قوله: [الوافر]
فديت أبا عليّ من هلال ... أغضّ إذا نظرت إليه طرفي
278/أقول وقد سمعت الشمس يوما ... تماري فيه: يا خرقاء كفّي(15/383)
أأنت تنازعين أبا عليّ ... محاسن قطّ لم تدرك بوصف
فغطّت وجهها بالغيم منّي ... محاجرة ولم تنطق بحرف
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
أذكرني البرق إذ تألّق ... عهد است من يذكر الموفّق
مشرقة ردفها منيف ... كأنّه في العلوّ جوسق
تخرا على ساقها من است ... كأنّه بربخ معلّق
فليس يرقا أيري إليها ... في الليل إلّا إذا تسلّق
عصعصها أسود وأيري ... أبيض مع طوله معرّق
كأنّ شعر استها وأيري ... غراب بين يزقّ لقلق
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
فقل لمولاي وهو بحر ... بالعين والورق قد تدفّق
الملك الكسرويّ هذا ال ... متوّج السيّد المطّوق
مولاي أحسن أنعم تطوّل ... امنن تعطّف ارحم تصدّق
ومنه قوله: [البسيط]
فارقت من لم أخلّف بعد فرقتها ... حبل الهوى عندها رثّا ولا خلقا
ومن شكوت وقد ودّعتها كمدي ... فقال دمعي على خدّي لها صدقا
نامي هنيئا لعينيك الرقاد فما ... أمسيت أعرف إلّا الهمّ والأرقا
وإن أردت حياتي فامسكي رمقي ... إن كان بعدك شيء يمسك الرّمقا
279/ومنه قوله: [السريع]
لو واصلتني نكتها في استها ... بلحيتي من شدّة العشق(15/384)
أدخل رأسي وأرى سرمها ... قد دار مثل الطوق في حلقي
وكلّما سال طحين استها ... دهنت في الليل به فرقي
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
وعجائز مثل الحصا ... يتدحرجون ولا البنادق
أحراهم بيض الشوا ... ئب واللحى سود العنافق
فكأنّ شعر استاههن ال ... بلق أعشاش العقاعق
في راس سندان استها ... مثل الخسوف من المطارق
مفتنّة تجري طبي ... عتها على كلّ الطرائق
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
لمّا ركبت على استها ... وحدي أحجّ بلا رفيق
في شقّ محمل عصعص ... لحم عليه غشا دبيقي
قلت: انزلي في ذات عرق ... فمنزلي ذات الشقوق
لكنّني أشرفت من حرها ... على واد عميق
ورأيت يسرة جحرها ... بالعرض في ذاك المضيق
شوك أم غيلان فكد ... ت أعود من نصف الطريق
وهناك جرح تحت مجمع شا ... ريانات العروق
تمسي خصاي بميله ... يحشوه بالسمن العتيق
ومنه قوله: [الرمل]
يا بني حمدان ما جاراكم ... سابق في المجد إلّا سبقا
280/كلّ من جاد وأعطى وحبا ... كان بالعطف عليكم نسقا(15/385)
ومنه قوله: [السريع]
فديت من باب استها نقشة ... سوسنة في رأس عوّاقه
قد خلطت طاقات شعر استها ... فليس للنّتف بها طاقه
لّما اجتمعنا واستها لم تزل ... خدّاعة للزبّ ملّاقه
باتت يرشّى الأير ماء الخصى ... في وجه مغساها بزرّاقه
ومنه قوله: [الطويل]
أرى الشيب عند الغانيات مقامه ... مقام الخرابين اللّحى والعنافق
وكيف يروم الشيخ كسّ صبيّة ... تحنّ إلى زبّ الصبيّ المراهق
إذا ضرطت في نهر عيس أجابها ... صدى سرمها في الحال من درب سابق
إذا طرقتني باستها وهي عاتق ... حملت بأيري بظرها فوق عاتقي
ومنه قوله: [الخفيف]
كيف لي بالخلاص من شوك شعراس ... ت فتاة بدّدت فيه دقيقي
وهي خود كما علمت بسرم ... مارئي مثله على مخلوق
إنّ سلمى لا يعمل الخيط والإب ... رة في درز سرمها المفتوق
إنّ سلمى تمشي وتسحب أطرا ... ف حواشي برد استها في الطريق
إنّ سلمى مذنمت عنها بأيري ... بات طست استها بلا إبريق
است سلمى ما دبدبت قطّ إلّا ... ضرب الأير خلفها بالبوق
وقوله: [الخفيف]
انتهز فرصة الصبوح بإحضا ... ر الغواني والسلسبيل الرحيق
281/قهوة لا تحلّ إلّا لشيخ ... لك مثل معطّل زنديق(15/386)
لا تصفي الرهبان رطلين منها ... إلّا بلحية الجاثليق
ومنه قوله: [المتقارب]
عدّوك مستحلق العارضين ... في الكتف مستنتف العنفقه
حبست على دقنه فقحتي ... ونعلك في صفعه مطلقه
وزوجة تشتكي في الفراش ... شدّة حمّى استها المطبقه
وبالزبّ يؤكل مخّ استها ... كما يؤكل الزبد بالملعقة
وقوله: [السريع]
وأصداغها السّود في خدّها ... كما تنقش الفضّة المحرقه
بوابك الصانع عهدي به ... وعرسه مثقوبة البوتقه
في سرمها طست لنفث الخصى ... مدوّر في قدر المبزقه
وقوله: [الخفيف]
مكّنيني من بوس يسراك ألفا ... واعرفي فضلها على يمناك
إنّ يسرى يديك أقرب عهدا ... وقت غسل الخرا بمستنجاك
اطرحي نفسك اطرحي واخربي ... السقف برجليك وافتحي لي فاك
وخذي من أصول قنا المخاصي ... مع بروز الفقّاع والنكناك
تجدي للشفاء مثل دبيب ال ... نّمل طول النهار في مفساك
ومنه قوله: [السريع]
أنت بخير يا أبا جعفر ... ما دمت صلب الأير نيّاكا «1»
فنك ولو أمّك واصفع ولو ... أباك إن لامك في ذاكا(15/387)
282/ومنه قوله: [الوافر]
ألا يا سيدي قد كنت هالك ... بلغت من الحساب إلى قذالك
وكنت إلى الجحيم فسرت عدوا ... فلم يفرح بقربي منه مالك
وردّوني إلى رضوان لهفي ... على ما فاتني ممّا هنالك
فقال وقد رأى شيبي أرقني ... تجنّبني فما أنا من رجالك
فلا في جنّتي سرم لعلق ... يحنّ به اللواط إلى قذالك
فعد في غير حفظ الله عنّي ... إلى ما كنت فيه من ضلالك
وقوله: [مجزوء الرجز]
قالت وقد فلقتها ... عن أسود الشّعر حلك
دع الجدال والمرا ... وشل برجليّ ونك
فقلت إعجابا بها ... أحسنت لي متّعت بك
أحسنت يا أوسع من ... فتوح مولانا الملك
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
العيد قد جاءنا فقدّم ... من قبل يضحي النهار أكلك
ومر بفرخ القنديل حتى ... يغسل من زيته ويدلك
وطفّحوه خمرا وقل لي ... خذ بيمين السرور رطلك
فإنّ هذا الصواب عندي ... وليس مثلي يغرّ مثلك
ومنه قوله: [السريع]
لا سيّما جارية باستها ... يقعد مثل الجمل البارك
هذا وإن نامت على وجهها ... بالطول في جنح الدّجى الحالك(15/388)
283/حسبتها تحت الخصى شقّة ... ممدودة بين يدي حائك
ومنه قوله: [المنسرح]
جاءت بسرم يعين عصعصها ... درز سخيف التركيب محلول
اصف في فرد عينيه حول ... والغنج يعتاد أعين الحول
عين لها في جفونها مرض ... يخرج مثل [] «1» على الميل
واست ولا التلّ من تسنّمها ... رأي النواطير في الغرازيل
وقفت في سطحها فأشرف بي ... من نهر عيسى على فم النّيل
من ذاك أنّي مضيت أمس بها ... في السوق تمشي كمشية الغول
فعارضتني في ذاك دايتها ... قالت ولكن بغير تحصيل
ظننت ما لا يكون يا ابن أخي ... فقلت: قومي يا عّمتي بولي
ومنه قوله: [الوافر]
كفاهم منك بالأهواز يوم ... تفصّل من مهابته العظام
وما لأموا وكيف يقال فيهم ... وقد لا قوك أنّهم لئام
أذّقتهم مراس الحرب يوما ... وفيما بعد [] «2» الكلام
إلى أن أسلموها واطمأنّوا ... فقد قرّت مضاجعهم وناموا
ألا يا أيّها الملك المرجّى ... ومن يرجى لدولته الدّوام
سموت إلى العراق بمقربات ... تمحّص من تذكرها الشآم
فلم يسطع عمود الفجر حتى ... خلت من أهلها تلك الخيام
ومنه قوله: [الوافر](15/389)
284/خليليّ ازففا بنت الكروم ... إلى كفؤ لها ندب كريم
ولا سيما إذا هبّت جنوب ... تؤلّف بين أشتات الغيوم
ودمّعت السماء بما يندّي ... الثرى ويبلّ أذيال النسيم
[كما يبكي الوصيّ بغير دمع ... إذا استولى على مال اليتيم] «1»
نعيم فيه ألقاكم بسجفي ... وثمّ لنسألنّ عن النعيم
ولكنّي أمتّ إلى إلهي ... إذا برى الحميم من الحميم
بنبيّ أحمد والله ربّي ... وخير أئمتي عبد الكريم
إمام هدى له بيت مشيد ... بمكة بين زمزم والحطيم
ومنه قوله: [السريع]
طرف إذا أسرج من حرصه ... يكاد يعدو قبل أن يحزما
قال له البرق وقالت له ... الريح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن ... بسطت أضحكتكما منكما
هذا ارتداد الطرف قد فتّه ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
ومنه قوله:
عملت في دارك فوّارة ... غرّقت في الأرض بها الأنجما «2»
فاض إلى نحو السّما ماؤها ... فأصبحت أرضك تسقي السّما
وقوله: [المنسرح]
وألف شيخ إذا مررت بهم ... يستقبلوني بألف عثنون
لهم لحىّ من شيبها قرع ... تمغص بطني حتى تخريني(15/390)
وقوله: [الخفيف]
ليس إلّا ماء الظهور أراه ... بالدّوالي ينصبّ جوف البطون
بأيور كأنّها من حديد ... في فقاح كأنّها من عجين
285/وقوله: [الخفيف]
افتحي فاك في الخلا وابلعيني ... وعلى شاربي أبيك اسلحيني
انصبي من أصل بظرك جذعا ... مشرفا في العلوّ من شلبين
ثمّ شيلي أيري عليه بشغري ... ك جميعا إلى السما فاصلبيني
أنا راض ببوسة منك في الشه ... ر وفرد في الاست في كلّ حين
منها:
ولها است بالليل يحمل سك ... كان المخاصي في فلكها المشحون
سفلها في الشّري والبيع يغلي ... كلّ يوم وليلة بالزبون
كلّ يوم دخل استها بين ... سبعين [] إلى تسعين «1»
ارتفاعا محصّلا بحساب ... كلّ يوم قد صار كالقانون
بحساب يعلم البظر منه ... بين شغريه نسبة السبعين
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
يا سادتي ما استرقّ ديني ... شيء كمثل الحر السمين «2»
كلّما أراه يزول عقلي ... عنّي ويعتادني جنوني
وأشتهي أن أغوص فيه ... من مشط رجلي إلى جبيني
وكلّما شلت منه رأسي ... رزقت قوما يغوّصوني(15/391)
أغيب شهرا فلا تراني ال ... عيون والناس يطلبوني
حتى إذا كان بعد شهر ... دلّ على موضعي أنيني
وقوله من أبيات: [المنسرح]
كم وقعة لي مع من تحصّله ... بين شباب وبين مردان
تفتح باب استها المشوم كما ... أفتح في السوق باب دكاني
286/أقربه أمس إذ قعدت لها ... بعقل صاح وزبّ سكران
فأدخلت واحدا صبرت له ... حتى أتاني في عقبه ثاني
فلو حضرتم عندي لهالكم ... صيال فحل كالليث غيران
ما راعني أنّني وجدتهما ... وحدي وتحت اللّحاف اثنان
وحقّ رأسي لقد صفعتهما ... حتى استغاثت أصول آذاني
لا حاطها الله من مناقرة ... في جلدها ألف ألف شيطان
وحقّ هذي اللحى الطوال لقد ... ضرّطني خوفها وخرّاني
ومنه قوله: [الخفيف]
حمل الله كلّ فحل فسا ... اليوم على أمّ صاحب الديوان
فهو عندي والكلب لا بل ... خرا الكلب إذا كان يابسا سيان
أيّ شيء أخشى وشعري مجنّي ... والقوافي نبلي وسيفى لساني
ومنه قوله:
قلت وافى شعبان والله يدري ... كيف عزمي يكون في رمضان «1»
فيه ما لو كشفته لك يا هذا ... رمينا في الدار بالحيطان(15/392)
ويحكم يا شيوخ أو يا كحول ال ... فسق أو يا معاشر الفتيان
اشربوها وكلّ إثم عليكم ... إن شربتم بالرّطل في ميزاني
أنا إبليس فاشربوها وغنّوا ... أنت مثل الشيطان للإنسان
ومنه قوله:
لي طبع كأنّما حلّ في الشعر ... يقرّص البنفسج الرّيحاني
287/اضربوا لي وجه العدوّ فإنّي ... مثل موسى الحجّام في الأذقان
وانظروا الشوارب البيض وال ... سود على استي تجول في الميدان
ومنه قوله: [الوافر]
عجوز من وصائف قصر كسرى ... بسرم مثل جاعرة الأتانه
لها في سرمها بعر صغار ... على مقدار حبّ السيسبانه
به ترمي لحى متعشّقيها ... كما يرمي الفتى بالزر بطانه
أحرّ المدخلات ممرّ سرم ... سلكناه وأحسنهنّ عانه
خليليّ اتركاني من حديث ... رواه لنا فلان عن فلانه
وهاتا فاسقياني الخمر صرفا ... وزورا حانة من بعد حانه
ومنه قوله: [الوافر]
ألا هبّي بنعلك فاصفعينا ... ومن قبل الغداة بها اصبحينا
فإنّ غدا وإنّ اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا
أدير بها علينا كلّ يوم ... بمقبضها شمالا أو يمينا
مخصّرة إذا ذكرت عمشنا ... على بعد وإن حضرت عمينا
تجوز بذي الخشونة في قفاه ... إذا ما ذاقها حتى يلينا(15/393)
منها:
لحىّ مثل القباطي حين هرّت ... وقد رقّت طبائعنا خرينا
حبلت من الأذى فحملت في أستي ... النّتوج إلى عنافقهم جنينا
وكنت إذا حبلت ولدت أمّا ... رقيقا في العنافق أو ثخينا
وقوله: [السريع]
إنّ بني الحجّاج فاستبقهم ... أيورهم كالسمك البنّي
288/وليس مع ذا منهم واحد ... أشفى لديدان المعي منّي
يا صاحب الذقن الذي شانه ... بالجعس من شاني ومن فنّي
سرمي أنا الشيعيّ يا شيخنا ... يضرط في عثنونك السنّي
ومنه قوله: [المنسرح]
لّما فست فسوة رأيت لها ... تغيّرا في وجوه غلماني
تضوّع الجعس من روائحها ... بين سطوحي وبين حيطاني
جارية بين معينين لمن ... يلوط منّا بها وللزاني
ففي است معشوقتي وفي حرها ... صنوان نيك وغير صنوان
بئست كأنّي من فوقها أرق ... قد نام بالطول فوق دكان
وبولها من حمى مثانتها ... كأنّه الماء في حزيران
يا سائلي اليوم كيف عزمي أن ... أسقى وأسقي بالرّطل ندماني
لو كنت كسرى لما شربت غدا ... ما بين بصرى وقصر سلماني
إلّا برطل إذا شربت به ... خريت عقلي في جوف إيواني
لو رام فرعون أن يساويني ... ضرّطته في سبال هامان(15/394)
ومنه قوله: [الخفيف]
يا خليلي قد عطشت وفي ال ... خمرة ريّ للحائم العطشان «1»
فاسقياني بين الدّنان إلى أن ... ترياني كبعض تلك الدّنان
في ليال لو أنّها دفعتني ... وسط ظهري وقعت في رمضان
كلّ شيء قدّمته لمعادي ... رأس مال يفضي إلى خسران
289/غير حبّي أهل الحواميم والحش ... ر وطه وسورة الرحمن
فبهم قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير صرف زماني
وقوله: [المجتث]
كلّ تيس من التيو ... س الكبار المقرننه
رقعة است أخت خا ... له باسم أيري معنونه
كهلة لحية استها ... بغساها مدّخنه
كسّها قبلة الغيا ... شل والبظر مئذنه
وقوله: [الهزج]
قضيب جمّعت فيه ... لمن يهواه ألوان
فخدّ فيه تفاح ... وصدر فيه رمّان
وشعر هو للعا ... شق في المجلس ريحان
فمن أبصر شخصا قطّ ... يمشي وهو بستان
غزال ناعس الطّرف ... ولا بقّال نعسان(15/395)
ومنه قوله: [البسيط]
تبول من شقّ مهزول به عجف ... وقد تفقّا عليه بظرها سمنا «1»
يرغي ويزبد شفراه إذا اختلفا ... كأنّه شدق مفلوج حسى لبنا
وقوله: [الوافر]
أناس أصبحوا منّا وأمسوا ... بمنزلة السّواد من العيون
ترابهم وحقّ أبي تراب ... أعزّ عليّ من عيني اليمين
منها:
وباب لي عليه كلّ يوم ... حروب بين أصحاب الديون
يغيظوني فأشتمهم وأربي ... عليهم في المقال فيلعنوني
وأدعوهم إلى القاضي عساهم ... إذا وقع الجحود يحلّفوني
290/وأضيع ما يكون الدّين عندي ... إذا عزم الغريم على يميني
وقوله من أبيات: [المنسرح]
وكلّما رمت أن أقابله ... على تماديه في تعديّه
جاءت على غفلة محاسنه ... تسألني الصّفح عن مساويه
وقوله: [مخلع البسيط]
يا ربّي يا عالم الخفايا ... قد شفّ قلبي هوى الصبايا
يعجبني أن أبوس حتى ... تخرج روحي على الثنايا
وأشتهي أن أدبّ حتى ... أندسّ معهم جوف الزوايا
شهوة شيخ زيف إليه ... في السّخف يسترحل المطايا(15/396)
قد نبضت رأسه الليالي ... وسوّدت وجهه الخطايا
منها:
يا ملكا جوده المرجّى ... بثّ يوم الندى العطايا
الصوم يحتاج فيه مثلي ... إلى السكابيج والقلايا
والخبز رغفانه صحاح ... تلمع بيضا مثل المرايا
فأشبعوني لحما وخبزا ... وجرّعوني سمّ المنايا
ومنهم:
25- القاضي أبو أحمد، منصور بن محمد الأزدي الهروي «1»
هو «2» في الصناعتين كما تماثل الوشيان، وكما تقابل في الحسن شيئان، وشي البرود ووشى الخدود، والنّيران في الفلك تلاقيا وأعطيا حركة واحدة فتراقيا. نثر فطوت المجرّة ملاءتها ضنّا بما أفادها، وظنّا حقّق لها أنّه زانها بما زادها، وترك كلّ غادة لا تحبّ من العقود إلّا ما انحلّ 291/ليلتقط، وكلّ طرف يجود بدمعه طمعا أنّه يشابه منه ما فرط، وكلّ زهر(15/397)
يفتح عيونه وجه النهار ثمّ يغضي حياء كلّما انبسط، ونظم فاهتزّت أنابيب الرماح تيها واستقامت السهام لما كان اطراده له شبيها.
وقد أتينا من شعره بخيلان وجنات، وولدان جنّات، وخيال يردّ عليك من عصره ما فات.
من ذلك قوله: [البسيط]
خشف من التّرك مثل البدر طلعته ... يحوز ضدّين من ليل وإصباح «1»
كأنّ عينيه والتفتير غنجهما ... آثار ظفر بدا في صحن تفّاح
ومنه قوله: [المنسرح]
أفدي الذي كلّما تأمّله ... طرفي يكاد الضّمير يلتهب «2»
ينتهب اللحظ ورد وجنته ... ولحظه للقلوب ينتهب
وقوله: [الكامل]
ومهفهف لّما تمايل خلته ... غصنا يجدّ به النسيم ويلعب «3»
أومى إليّ بكأسه فشربتها ... وحسبتني من وجنتيه أشرب
ودنا إليّ بطاقة من نرجس ... فرأيت بدرا في يديه كوكب
ومنه قوله: [الكامل]
أنسيت إذ نبهّت من نبهّته ... والفجر من خلل الدّجى يتنّفس «4»
يسعى إليك مع المدام بوردة ... صفراء يحكيها لمن يتفرّس(15/398)
كعب من الميناء ركّب فوقه ... جام من الذهب السبيك مسدّس
وقوله: [الكامل]
أدر المدامة يا غلام فإنّنا ... في مجلس بيد الربيع منجّد «1»
والورد أصفره يلوح كأنّه ... أقداح تبر كعّبت بزبرجد
292/ومنه قوله: [الكامل]
طلع البنفسج زائرا أهلا به ... من وافد سرّ القلوب وزائر «2»
فكأنّما النقّاش قطّع لي به ... من أزرق الديباج صورة طائر
وقوله: [السريع]
وشادن تفعل ألحاظه ... بالقلب ما لا يفعل السحر قط «3»
لم أنسه يكسر أعطافه ... والورد من وجنتيه يلتقط
معتدلا ضربا وصوتا معا ... كما التقى للعين خدّ وخط
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
فكأنّني بك ناظر ... في إثر صيد أفلتا «4»
لا تحسبنّ جمال وج ... هك دائما لك مثبتا
فالخطّ يفعل ما علم ... ت وما علمت فقد أتى(15/399)
وقوله: [مجزوء الرمل]
ولنا راح كمثل النا ... ر في الكأس تأجّج «1»
ومغّن ساحر الألحا ... ظ ساجي الطّرف أدعج
فإذا شاء تغنّى ... وإذا شاء تغنّج
وقوله: [المتقارب]
شمائل مشرقة عذبة ... تعادل رقّتها والصفاء «2»
فهنّ العتاب وهنّ الدموع ... وهنّ المدام وهنّ الهواء
ومنهم:
26- أبو بكر علي بن الحسن البلخي القهستاني
«3» له في الأرض سياحة، كأنّه يبغي لها مساحة، أو كأنّه الهلال يقيس الدنيا بشبره، أو كأنّه يمتحن نفسه في تجريب صبره، وكذا الدرّ يهجر البحور ليجاور النّحور، والغمام يجدّ السّير ليجد الأنام على وجهه الخير، والطير يضرب بجناحه الخفّاق يطلب في الدائرة الاسترزاق، وهذا الفاضل أدمن رحلة شرقا وغربا، ووالى تنقّله يفارق صحبا ويرافق صحبا كأنّه قذاة لا يلتقيها جفن إلّا كها، ولا تخرج من عين إلّا وكأنّها لفقده بالدموع مرّة، وله كلّ بديعة تسحر الفطن، وتسخر بمن لاقت فما يستقرّ بها دار ولا وطن. من ذلك،(15/400)
قوله: [البسيط]
أقمت لي قيمة مذ صرت تلحظني ... شمس الكفاة بعيني محسن النّظر «1»
كذا اليواقيت فيما قد سمعت ... من لطف تأثير عين الشمس في الحجر
ومنه قوله: [السريع]
يا ما لهذا القلب لا يرعوي ... وقد درى أن قد هوى من هوي «2»
هوى ببست وببلخ هوى ... ثان فما هذا الهوى الغزنوي
ثلاثة والحقّ في واحد ... والقول بالاثنين للمانوي
وإنّ تثليث النّصارى لمن ... يدين بالإسلام لا يستوي
وقوله في عجّة اتّخذت بين يديه: [البسيط]
جاء الغلام بمقلاة فأفرشها ... جمرا وجمر الطّوى في الجوف يلتهب «3»
وجاء بالبيض مثل الدرّ يغلقه ... فيها وللدّهن صوت بينها لجب
فأخرجت مثل قرص الشمس مشرقة ... كأنّها فضّة قد مسّها ذهب(15/401)
293/ومنهم:
27- مهيار بن مرزويه الديلمي
«1» [توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائه] «2» ، شعره يذوب لطفا، ويذود عينا تعير سواه طرفا. ذهب مذاهب العشّاق، ونهب مذهب معانيهم الرّشاق، وولع بمنهوك الأعاريض ومتروك القريض، وأخذ من الأوزان أخفّها، وركب من البحور أشفّها، وحلّى شعره من الزحاف بما لذّ قليله وحسن وإن كان معيبا كالخور في الطرف، أو ما هذا قبيله. ومذهبه في التشيّع ماله عنه مذهب، ولا منه مهرب ولا مرهب، ويقال إنّه أسلم على يد الشريف الرضي، ثمّ كان بالرفض غير المرضي. قال له ابن برهان «3» : يا مهيار قد 294/انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى/ زاوية، فقال: وكيف ذاك؟ فقال: كنت مجوسيا فصرت تسبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(15/402)
قلت: ومهيار معدود من الكتّاب إلّا أنّني لم أذكره فيهم، لأنّني لم أقف له إلّا على الشعر العالي على الشّعرى مرقى بيوته، الباقي بقاء النّجم دوام ثبوته، وقد قال فيه الباخرزي «1» : هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعب، وكاتب تتجلّى تحت كلّ كلمة من كلماته كاعب، وما في قصيدة من قصائده بيت تتحكّم عليه (لو) و (لا) و (ليت) فهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الزمان المذنب من الذنوب.
وقد اختار ابن الصيرفي «2» ديوانه، وأثنى عليه في ذلك ثناء أذكر عنوانه، قال يعني نفسه في اختياره واقتصاره على الجيّد من مختاره، وأدّاه سعيه الآن إلى أن يعتمد على شاعر يتخيّر من إحسانه، ويتفسّح في ميدان ديوانه، ورأى أنّ أغزر الشعراء فتونا، وأكثرهم غررا وعيونا مهيار بن مرزويه الديلمي وله ما يستدعي ضروب الافتنان والطرب، ويزيد به على أكثر من هو عريق في العرب، على أنّه قد حكى أنّ أصل الديلم من بني ضبّة، وأنّ هؤلاء الضبّيين هم الذين افتضّوا عذرة السكنى في بلادهم، ثمّ قال بعد تاريخ ذكره: فأمّا مهيار فإنّ كثيرا من الشعراء يعترفون بقصورهم عنه فيما يقرضونه، وجماعة من العلماء يبالغون فيما يصفونه به ويقرّظونه إلّا أنّ صحيح شعره لا يوجد قلّة ولا تعذّرا، والنسخ المرضيّة منه عزيزة حتى إنّها لا تكاد ترى. ثمّ قال إنّه وقف على جزء من ديوانه عليه بخطّ أبي الحسن الصقلّي. قال علي بن عبد الرحمن:/ 295/ما نعرف مقدار ما وهب لأبي الحسن مهيار من صناعة النظم إلّا من تبحّر في شعره ووقف على ما فيه من التصرّف وحسن الاختراعات، وصحة التشبيه، ولطف التخلّص، وبعد المرامي مع حلاوة لفظ، وجزالة معنى ورصف وتطرف يخلطه بأساليب عشّاق العرب وينافر به عجزفية العجم.(15/403)
قلت: وقد وفّاه ابن الصيرفي حقّه بغير حيف، ونقده الصيارفة فرآه خالصا من الزيف إلّا أنّه استجود من دنانيره ما هو المشوف المعلم، واختار من ذهبه المنقود المسلّم، وأحرى عليه المعاملة إلّا أنّها لا تجوز على من لا يفهم، وقدّر بها القيم إلّا أنّ كلّ دينار منها تحسب البدر منه بدرهم، هذا في قيمة التثمين قيمة ما حدّه الصير في بيعه للثمين.
ومن المختار له قوله: [السريع]
لا والذي لو ساء لم أعتذر ... في حبّه من حيث لم أذنب «1»
ما حدّدت ريح الصبا بعده ... لثامها عن نفس طيّب
ولا حلا البذل ولا المنع لي ... مذ هو لم يرض ولم يغضب
ومنه قوله: [الطويل]
تبسّم عن بيض صوادع في الدّجى ... رقاق ثناياها عذاب غروبها «2»
إذا غادت المسواك كان تحيّة ... كأنّ الذي مسّ المساويك طيبها
وقوله: [السريع]
يا راكب الأخطار تهوي به ... انزل كفيت السّير يا راكب «3»
مالك والراحة قد أمكنت ... تشقى بما أنت له طالب
وقوله: [الطويل]
يلوم على نجد ضنين بدمعه ... إذا فارق الأحباب جفتّ غروبه «4»
وهل طائل في أن يكثّر عذله ... إذا قلّ من إصغاء سمعي نصيبه(15/404)
[وقوله] «1» : [البسيط]
296/لك الغرام وللواشي بك العتب ... وكلّ عذل إذا جدّ الهوى لعب «2»
أما كفاه انصراف العين معرضة ... عنه وسمع بوقر الشوق محتجب
وما أسفت لشيء فاتني أسفي ... من أن أعيش وجيران الغضا غيب «3»
لا يبعد الله قلبا ضلّ عندكم ... لم يغنني فيه نشدان ولا طلب «4»
سلبتموه ولم تفتوا برجعته ... وربّما ردّ بعد الغارة السّلّب
فأين ذمّتكم قبل الفراق له ... أن لا يضام ولا تمشي به الرّيب «5»
أسيرة لكم في الغدر حادثة ... تخصّ أم رجعت عن دينها العرب
وقوله: [الطويل]
وخلف ستور الحيّ من كان بينه ... على طول ما ستّرت حبّي فاضحي «6»
وهبت له عيني وقلبي وإنّما ... لفرقته هانت عليّ جوارحي
وقوله: [الوافر]
وما أتبعت ظعن الحيّ طرفي ... لأغنم نظرة فتكون زادي «7»
ولكنيّ بعثت بلحظ عيني ... وراء الركب يسأل عن فؤادي
وقوله: [الوافر](15/405)
نغضن الحبّ أسمالا وعندي ... لهنّ على القلى حبّ جديد «1»
ورمن وقد سفكن دما حراما ... تصيح به الأنامل والخدود
ومنه قوله: [الكامل]
وأخ رفعت له بحيّ على السّرى ... والنجم يسبح في غدير راكد «2»
فوعى فهبّ يحلّ خيط جفونه ... بالكره من كفّ النّعاس العاقد
حتى رجمت اللّيل منه بكوكب ... فتق الدجى وأضاء وجه مقاصدي
وقوله: [الخفيف]
297/يا عقيدي على الغرام بليل ... قم وفيّا وغيرك المأمور «3»
وأعرني إن كان ممّا يعار ال ... قلب لو كنت ممّن يعير
ومنه قوله: [الكامل]
الليل بعد اليأس أطمع ناظري ... في عطفة السالي ووصل الهاجر «4»
غلط الكرى بزيارة لم أرضها ... مخلوسة جاءت بكره الزائر
هاج الرّقاد بها غراما كامنا ... فذممته وحمدت ليل السّاهر
هل عند ليلاتي الطوال ببابل ... ردّ لأيامي القصار بحاجر «5»
قدرت على قتل النفوس ضعيفة ... يا للرجال من الضعيف القادر
ومنه قوله: [الطويل](15/406)
رنا اللحظة الأولى فقلت مجرّب ... وكررّها أخرى فأحسست بالشرّ «1»
فهل ظنّ ما قد حرّم الله من دمي ... مباحا له أم نام قومي عن الوتر «2»
لقد كنت لا أوتى من الصبر قبلها ... فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري
فأعدى إليّ الحب صحبة أهله ... ولم يدر قلبي أنّ داء الهوى يسري
ومنه قوله: [الخفيف]
المغاني أخفى بقلبي من العذ ... ل وإن هجن لوعة وزفيرا «3»
يا معيري أجفانه أنا أغنى ... بجفوني الغزار أن أستعيرا
لي فيكم قلب أغير عليه ... يوم سلع ولا أسمّي المغيرا «4»
وقتيل لكم ولا يشتكيكم ... هل رأيتم قبلي قتيلا شكورا
وقوله: [الخفيف]
آه والشوق ما تأوّهت منه ... لليال بالسّفح لو عدن أخرى «5»
298/صرن دهما من الدآدي وقد ... كنّ بتلك الوجوه درعا وقمرا «6»
أيّ عين أصابت الدار أقذى ... الله بعدي أجفانها وأضرّا
وبقايا مواقد يصف الجو ... د أباديد في يد الريح يذرى «7»(15/407)
قلّبوا ذلك الرماد تصيبوا ... فيه قلبي إن لم تصيبوا الجمرا
ومنه قوله: [المتقارب]
عليّ لعيني اختيار الحبيب ... وإن خانني فإليّ الخيار «1»
أحبّ الجفاء على عزّة ... ولا أحمل الوصل فالوصل عار «2»
ومنه قوله: [المتقارب]
وأنشد خرقاء بالعاشقين ... تمدّ إلى الفتك كفّا صناعا «3»
إذا استبطأت من دجى ليلة ... صباحا أماطت يداها القناعا
وقوله: [المتقارب]
حملن نشاوى بكأس الغرا ... م وكلّ غدا لأخيه رضيعا «4»
أحبّوا فرادى ولكنّهم ... على صيحة البين ماتوا جميعا
وقوله: [الرجز]
عدمت صبري فجزعت بعدكم ... ثمّ ذهلت فعدمت الجزّعا «5»
سلبتموني كبدا صحيحة ... أمس فردّوها عليّ قطعا
وقوله: [المنسرح]
أكرهت عيني على الكرى طلب ال ... طيف ونومي لولاه ممتنع «6»(15/408)
حتى تمنيّت لو سهرت مع ال ... ركب وودّ السارون لو هجعوا
وقوله: [الكامل]
إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب ... أو شاء ظلّ غمامة فلتقلع «1»
فمقيل جسمي في ذيول ربوعهم ... كاف وشربي من فواضل أدمعي
299/وقوله: [مجزوء الكامل]
قالوا غدا وعد النّوى ... يا بردها لو لم يفوا «2»
هل أنت يا قلبي معي ... أم معهم منصرف «3»
يا زمني على الغضا ... ما أنت إلّا الأسف
لهفي عليك يا ضيا ... لوردك التلهّف «4»
وقوله: [الكامل]
لم ترمني الأيام فيك بعائر ... هي أسهم وجوارحي أهداف «5»
أأذمّ فاحش صنعها في غدره ... عندي لها أمثالها آلاف «6»
ومنه قوله: [الخفيف]
سنحت والعيون مطلقة تر ... عى وغابت وكلّها في وثاق «7»(15/409)
لم تزل تخدع للعيون إلى أن ... علّقت دمعة على كلّ ماق «1»
وقوله: [الكامل]
إنّ التي علّقت قلبك ودّها ... راحت بقلب عنك غير علوق «2»
عقدت ضمان وفائها من خصرها ... فوهى كلا القدين غير وثيق
ومنه قوله: [الرجز]
كم بالغضا يا زفرتي على الغضا ... من شافع ردّ وعهد سرقا «3»
ونظرة لله فيها حكمة ... يوم تخاصم القلوب الحدقا
وقوله: [السريع]
من حكّم الألحاظ في قلبه ... دلّ على مقتله النائلا «4»
سل نافث السّحر بنجد متى ... حوّل نجد بعدنا بابلا
ومنه قوله: [المتقارب]
تعجّلت يوم اللّوى نظرة ... ولم أتلفّت إلى الآجل «5»
فيا ربّ قلّد دمي مقلتي ... بما نظرت واعف عن قاتلي
300/ومنه قوله: [الكامل]
قم غير معتذر ولا متثاقل ... فاقصص معي أثر الخليط الراحل «6»(15/410)
إن كان فاتك يوم رامة نصرتي ... فتغنّم الأخرى ببرقة عاقل «1»
وقوله: [الطويل]
أيا صاحبي نجواي يوم سويقة ... أناة وإن لم تسعدا فتجملّا «2»
سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا
أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلّمت غصن البان أن يتميّلا
وأذكر عذبا من رضابك سلسلا ... فما أشرب الصّهباء إلّا تعلّلا «3»
ومنه قوله: [الرجز]
ظنّ غداة البين أن قد سلما ... لمّا رأى سهما وما أجرى دما «4»
فعاد يستقري حشاه فإذا ... فؤاده من بينها قد عدما
لم يدر من أين أصيب قلبه ... وإنّما الرامي درى كيف رمى
يا قاتل الله العيون خلقت ... جوارحا فكيف صارت أسهما
ومنه قوله: [الرمل]
حمّلوا ريح الصّبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وخزامى «5»
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما
ومنه قوله: [الطويل](15/411)
هبي ذنب قلبي إنّه يوم بينكم ... شكاك لوجد أو لروعة بين «1»
فما بال عيني عوقبت وهي التي ... سعت بينكم حتى عشقت وبيني
301/وقوله: [الكامل]
دع بين جلدي والعظام مكانا ... يسع الغرام ويحمل الأحزانا «2»
واستبق طرفي ربّما غلط الكرى ... بطروقه فسلكته وسنانا
وقوله: [الكامل]
عيني جنت يا ظالمين فما لكم ... جور القضاء تعاقبون جناني «3»
ما هذه يا قلب أوّل نظرة ... أخذ البريء بها بذنب الجاني
ومنه قوله: [مجزوء الرجز]
ويوم ذي البان تبا ... يعنا فحزت الغبنا «4»
كان الغرام المشتري ... وكان قلبي الثّمنا
وقوله: [الرمل]
ليت جسمي مع قلبي عندكم ... إنّه فارقني يوم افترقنا «5»
أتّمناكم على اليأس ومن ... تركوه ومنى النّفس تمنّى
وقوله: [الوافر](15/412)
أرى صورا وشارات حسانا ... مصائد للطّماعة والأماني «1»
فأستذري بظلّ لم يسعني ... وأستروي غماما ما سقاني
ومنه قوله: [الطويل]
وفي الرّكب لي إن أنجد الركب حاجة ... أجلّ اسمها أن تقتضى وأصون «2»
يماطلني عنها المليّ وقد درى ... على عذره أنّ العهود ديون
وعوّذني عّراف نجد بذكرها ... فأعلمني أنّ الغرام جنون
تعوّد داء ظاهرا أن يطبّه ... فكيف له بالداء وهو دفين
ومنه قوله: [البسيط]
عرّض بغيري ودعني من ظنونهم ... أن قيل من يك يخفي الحبّ في الظّنن «3»
وجنّب العتب أمّا جئت زائرنا ... فأنت في العين أحلى منك في الأذن
وقوله: [الطويل]
أحبّ لظمياء العدى من قبيلها ... وأهوى تراب الأرض ما كنت أهواها «4»
302/يراها بعين الشوق قلبي على النّوى ... فيحظى ولكن من لعيني برؤياها
وليل بذات الأثل قصّر طوله ... سرى طيفها آها لذكرته آها «5»
تخطّت إليّ الهول مشيا على الهوى ... وأهو اله لا أصغر الله ممشاها «6»(15/413)
ومنه قوله: [الرمل]
قال واشيها وقد راودتها ... رشفة تبرد قلبي من لماها «1»
لا تسمها فمها إنّ الذي ... حرّم الخمرة قد حرّم فاها
وقوله: [الوافر]
أجيران الحمى من لابن ليل ... أتى مسترشدا بكم فتاها «2»
ولمّا كنتم يوم الثنايا ... منيّة نفسه كنتم مناها «3»
وقوله في الطيف: [الطويل]
قضى دين سعدى طيفها المتأوّب ... ونوّل إلّا ما أبى المتحوّب «4»
فمثّلها لا عطفها متشمّس ... ولا مسّها تحت الكرى متعصّب
تحيّي نشاوى من سرى الليل ألصقوا ... جنوبا بجنب الأرض ما تتقلّب «5»
ألا ربّما أعطتك صادقة المنى ... محادثة الأحلام من حيث تكذب «6»
وقوله: [الطويل]
خيال على الزوراء صدّقت فرحة ... به خدعات الليل والصّبح أصدق «7»
عجبت له أدنى البعيد وسمّح ال ... بخيل وأهدى النوم وهو مورّق(15/414)
ونبّه من أيام جمع لبانة ... يكاد لها جمع الضلوع يفرّق «1»
وقوله: [مجزوء الكامل]
زارت وتحت خدودنا ... ركب المطيّ وأسؤقه «2»
فتعطّرت بذيولها ... كتب الغوير وأبرقه
303/واسترجعت باقي كرى ... بتنا اختطافا نسرقه
وقوله: [الرجز]
لقد سرى بين الغرار والكرى ... طيف لها ردّ الظلام فلقا «3»
فقمت ليس غير طرفي ويدي ... أنفض رحلي وأقصّ الطّرقا
ثمّ وهمت أنّ بدرا زارني ... فبتّ لا أسأل إلّا الأفقا
وقوله: [مجزوء الرجز]
ضنّت عليك يقظى ... وسمحت بالحلم «4»
سماحة ليس على ... باذلها من غرم
ومنه قوله: [المنسرح]
وزائر قرّبت زيارته ... من آنس بالظلام محتشم «5»
يعرف رحلي بين الركاب برج ... عان التشكّي وأنّة النّعم(15/415)
ثمّ دنا جاذبا عطافي وال ... خوف يلوّي منه فقال: قم
قم لي فلولاك لم أجب خطرا ... قلت ولولا سراك لم أنم
أكرومة للدّجى وهبت ذنو ... ب الصّبح فيها لشافع الظّلم «1»
وقوله في المديح: [الوافر]
وسيّد قومه من سوّدوه ... بلا عصبيّة وبلا تحاب «2»
وإن كان الفتى لأبيه فرعا ... فإنّ الغيث فخر للسّحاب «3»
وقوله: [الطويل]
وفيت لآباء تكفّلت عنهم ... ببأسك ما سنّوا فخارا وستّروا «4»
وجئت بمعنى زائد وكأنّهم ... وما قصّروا عن غاية المجد قصّروا
وقوله: [البسيط]
قد أفقرتك العطايا والثناء غنى ... وأنصبتك العلى والراحة التّعب «5»
عزّي بنفسي ولكن زادني شرفا ... أنّي إليكم إذا باهلت انتسب «6»
304/ومنه قوله: [الطويل]
محيط بأقطار الإصابة رأيه ... بديها ورأي الناس مختمر غبّ «7»(15/416)
تصوّر من حسن وحزم ونائل ... ففي الدّست منه البدر والبحر والهضب «1»
منها «2» :
وأستعتب الأيام وهي مصرّة ... بهيبتهم حتى تفيء فتعتب «3»
فلو قلت إنّي في مديح سواهم ... صدقت لقال الشعر في السرّ تكذب
فما كلّ ما استوضحت فيه هداية ... وليس ضلالا كلّ ما تتنكّب
وقوله: [الكامل المرفّل]
لا توسّعني من نوا ... لك فوق ما يسع امتداحي «4»
دعني أطير بشكره ... ما دام يحملني جناحي
ومنه قوله: [الكامل]
من حوله غرر لهم وضّاحة ... تبيضّ منهنّ الليالي السّود «5»
وإذا أناخ به الوفود رأيتهم ... كرما قياما والوفود قعود
ومضى يريد النجم حتى حازه ... شرفا فقال النجم: أين تريد؟
أفنى الثراء على الثناء لعلمه ... أنّ الفناء مع الثناء خلود «6»
وقوله: [الوافر]
فتى عقدت تمائمه فطيما ... على أكرومة ووفاء عهد «7»(15/417)
ورتّبه على خلق المعالي ... غرائز من أب عال وجدّ
فما مجّت له أذن سؤالا ... ولا سمحت له شفة برّد
وقوله: [الرجز]
305/قد أفسدوا الدّنيا على أبنائها ... فما ترى مثلهم فيمن تلد «1»
وفى بمجد قومه محمد ... فبّرهم وربّما عقّ الولد
ودبّر الدنيا برأي واحد ... يأنف أن يشركه فيه أحد
وقوله: [الرجز]
اعترفت لك العدى إقرارنا ... بالحقّ إذ لم يغنها إقرارها «2»
ولو رأت وجه الجحود جحدت ... وإنّما ضرورة امرارها
وقوله: [السريع]
سل بعليّ خصمه إنّنا ... نقنع فيه بشهود الخصام «3»
يخبرك من يحسده أنّه ... - ضرورة- واحد هذا الأنام
وقوله يصف فرسا: [الرجز]
وضارب إلى الوجيه عرقه ... بأربع يشقى بها الأوابد «4»
خاض الظلام واهتدى بغرّة ... كوكبها لمقلتيه قائد
ينصاع كالمريخ في اتّقاده ... وأنت فوق ظهره عطارد «5»(15/418)
وقوله: [المتقارب]
كريم يعدّك أغنيته ... إذا [أنت] جئت لإفقاره «1» «2»
كأنّك أول أحبابه ... إذا كنت آخر زوّاره
وقوله: [الكامل]
أنفقت كلّ مودّة أحرزتها ... سرفا ورحت بودّه متربّصا «3»
وخبرت قوما قبله وخبرته ... فعرفت مولى السّيف من عبد العصا
306/ومنه قوله: [المتقارب]
ولمّا برزت ترائي الهلال ... مضى آيسا منه من يطمع «4»
لأنّهم أنكروا أن يروا ... هلالا على قمر يطلع
وقوله: [الكامل]
والبدر من أنوار وجهك خاشع ... يشكو وشكوى مثله استعطاف «5»
لك دونه شرف النهار وحظّه ... من ليله الإظلام والإسداف
وإذا استتم فليله من شهره ... نصف وشهرك كلّه أنصاف
وقوله: [مجزوء الرجز]
لا يلبث الوفر الجمي ... ع أن يشتّ شمله «6»(15/419)
ولا تكون يده ... لماله مجلّه
فكان كلّ درهم ... من كفّه لقبله «1»
وقوله: [الطويل]
لعاذله حقّ على من يزوره ... لكثرة ما يغريه باللّوم عاذله «2»
وقوله: [الطويل]
كأنّ النّدى دين له كلّما انقضت ... فرائضه عنه تلته نوافله «2»
وقوله: [الكامل]
وافى الحجا ويخال أن برأسه ... في الحرب عارض جنّة أو أخبل «4»
ما قنّعت أفقا عجاجة غارة ... إلّا تخرّق عنه ثوب القسطل
وقوله: [البسيط]
أدراك الأفق العالي أم اعتصمت ... بها السماء يقينا أنّها حرم «5»
أم الكواكب من شوق إليك هوت ... ترجو نداك فمجموع ومنفصم
أم أنت يوسف موعودا وقد سجدت ... لك النجوم وهذا كلّه حلم
وقوله: [البسيط]
رسم من الملك كان البخل عطّله ... أنشرت فيه بني كسرى وما رسموا «6»(15/420)
307/نعمى على العجم خصّتهم كرامتها ... لا بل تساهم فيها العرب والعجم
قوم يرون القرى بالنار يكسبهم ... فخرا وقوم يرون النار ربّهم
وقوله: [الكامل]
ضربوا بمدرجة السبيل قبابهم ... يتقارعون بها على الضّيفان «1»
ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حبّ القرى حطبا على النيران
ومنه قوله: [البسيط]
وعمّ جودك حتى المزن ينشده ... هذي المكارم لا قعبان من لبن «2»
ظفرت منه بكنز ما نصبت له ... سعيا ولا كدّني معطيه بالمنن
وما ذممت زماني في معاتبة ... وحجتّي بك إلّا وهو يخصمني
ومنه قوله: [مجزوء الرجز]
ذو غرّة أعدى بها ال ... بدر السنّاء والسّنا «3»
أفقره سماحه ... وذلك الفقر الغنى
وقوله: [الرجز]
وفي فؤادي لهواك رتبة ... لا يصل العشق إلى مكانها «4»
يستأذن الناس عليها فمتى ... ما حجبوا فادخل بلا استئذانها(15/421)
ومنه قوله: [الطويل]
كريم إذا صمّ الزمان فجوده ... سميع لأصوات العفاة أذين «1»
وحلّق يبغي موطنا بعلائه ... فأصبح فوقا والكواكب دون
منها:
وأرجوك لي حّيا وأرجو لوارثي ... نداك وجسمي في التراب دفين «2»
إذا صانك المقدار عن كلّ حادث ... فوجهي عن ذلّ السؤال مصون
ومنه قوله: [السريع]
308/يا باسطا من يده مزنة ... يبسم منها البلد القاطب «3»
ما زال تنكيلك بالمجرم ال ... مصرّ حتى خافك التائب
وقوله: [الطويل]
فداؤك من يشقى بسعدك جدّه ... ويحييك طيب الذّكر وهو دفين «4»
يساميك لا كسرى أبوه ولا له ال ... مدائن دار والجبال حصون
ولا صّر أعواد السرير به ولا ... تغضّن تحت التاج منه جبين
وقوله: [الطويل]
وللحبّ منّي ما أمنت خيانة ... محلّة قلب قلّما يتقلّب «5»(15/422)
وما كلّما فارقت أسرب أدمعي ... ولا كلّما غنّى الحمام أطرّب «1»
وقوله: [الوافر]
وما ألقى بغير الصّبر قرنا ... لعلّي أجتني ثمرات صبري «2»
وما يخشى الصديق شبا لساني ... على عرض ولا لسعات فكري «3»
ومنه قوله: [الكامل]
ولقد أضمّ إليّ فضل قناعتي ... وأبيت مشتملا بها متسربلا «4»
وأري العدوّ على الخصاصة شارة ... تصف الغنى فتخالني متمولا «5»
وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرة ... وأمانيا أفنيتهنّ توكّلا
وقوله: [الوافر]
وهبتك للحريص عليك لمّا ... بلوتك في القساوة والتجنّي «6»
ولمّا كان بعض النوم عارا ... ملكت على الكرى أهداب جفني «7»
وقوله: [الطويل]
فمّدت إليها بالرّدى يد كاسر ... وكان يقيها المجد من يد ثاقب «8»(15/423)
بكت أدمعا بيضا ودمّت جباهها ... فتحسبها تبكي دما بالحواجب
309/منها:
إذا كان سهم الموت لا بدّ واقعا ... فياليتني المرميّ من قبل صاحبي «1»
متى دنّس الحزن السّلو غسلته ... فعاد جديدا بالدموع السواكب «2»
وقوله: [الطويل]
برغمي أن يسري غزيّ من الأسى ... إليك ولم تفلل بنصري كتائبه «3»
إذا سلّم البدر التمام فهيّن ... على الليل أن تهوي صغارا كواكبه
وقوله: [الكامل]
ووراء ثأرك غلمة لسيوفهم ... من الرّوع من مهج العدى ما اختاروا «4»
يتهافتون على المنون كأنّهم ... - حرصا- فراش والمنيّة نار
وقوله: [الكامل]
وإذا عددت سنيّ لم أك صاعدا ... عدد الأنابيب التي في صعدتي «5»
وألام فيك وفيك شبت على الصّبا ... يا جور لائمتي عليك ولمّتي
وقوله: [الكامل المرفل]
وتقول للعذّال مرضية ... شيّبته من حيث لا يدري «6»(15/424)
قبّلت شكرانا عوارضه ... عمدا فأعدى شعره ثغري «1»
وقوله: [الطويل]
تعيب عليّ الشيب خنساء أن رأت ... تطلّع ضوء الفجر تحت هزيع «2»
وما شبت لكن ضاع ممّا بكيتكم ... سواد عذاري في بياض دموعي «3»
وقوله: [الكامل]
بعدت بآثار الأنيس عهودها ... فوحوشها في نجوة أن تقنصا «4»
وكأنّ جاثمة النعام بعقرها ... أشياخ حيّ جالسين القرفصا «5»
وقوله: [الكامل]
لمن الطّلول كأنهنّ رقوم ... تضحى لعينك تارة وتغيم «6»
ما كنت أعرف أنهنّ نشيدتي ... حتى تحدّث بينهنّ نسيم
310/ومنه قوله: [الكامل]
يا سيف نصري والمهنّد تابع ... وربيع أرضي والسحاب مصاف «7»
أخلاقك الغرّ النميرة مالها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف «8»(15/425)
والإفك في مرآة رأيك ماله ... يخفى وأنت الجوهر الشفّاف
وقوله: [الكامل]
عيش كلا عيش ونفس مالها ... من هذه الدنيا سوى حسراتها «1»
ويزيدها جلدا وفرط تجمّل ... بين العدى الإشفاق من إشماتها «2»
إن كان عندك يا زمان بقية ... ممّا يضام به الكرام فهاتها
وقوله: [الكامل]
ما إن ضنيت مع الظنون بصاحب ... إلّا سمحت به مع التّحقيق «3»
لا يضحك الأيام كذب مطامعي ... إلّا إذا طالبتها بصديق
[وقوله] «4» : [الكامل]
ما موت حظّي إنّ مثلي ممكن ... لكن كثرت على الزمان فملّني «5»
ممّا أبثّك أنّنا في أرضنا ... لا يعرف الإحسان غير مؤبّن «6»
وقوله يصف شعره: [المنسرح]
يظهر منها السرور حاسدها ... ضرورة الحقّ وهو مكتئب «7»
يطربه البيت وهو يحزنه ... ومن أنين الحمامة الطّرب(15/426)
وقوله: [الوافر]
تبادر تلقط الأسماع منها ... عن الأفواه ما نثر النشيد «1»
تسير بوصفكم وتقيم فيكم ... خوالد فهي قاطنة شرود
وقوله: [الكامل]
311/في كلّ يوم بنت فكر حرّة ... تغني ببهجتها عن التنميق «2»
لم يجد لي تعبي بها فكأنّني ... ممّا يخيب ولدتها لعقوقي
وقوله: [مخلع البسيط]
يا من رأى باللّوى بريقا ... تقدح نيرانه الجنوب «3»
كأنّ ما لاح منه وهنا ... على شباب الدّجى مشيب
وقوله: [الرجز]
آنس برقا بالغوير لامعا ... معتليا طورا وطورا خاضعا «4»
يخرق جيب الليل عن شمس الضّحى ... ثمّ يغور فيعود راقعا
[وقوله] «5» : [المتقارب]
أيا صاحبي أين وجه الصّباح ... وأين غدّ صف لعيني غدا «6»
أسدّوا مسارح ليل العرا ... ق أم صبغوا فجره أسودا(15/427)
وقوله: [البسيط]
يا ليلة ما رأتها أعين الغير ... لم ينج لي قبلها صفو من الكدر «1»
يئست من صبحها حتى التفتّ إلى ... وجه العشاء أعزّيه عن السّحر
كم يوم سخط صفالي منه ليل رضا ... حتى وهبت ذنوب الشمس للقمر
وقوله في وصف الليلة بالطّول: [مجزوء الرجز]
أرقب من نجومها ... زوال أمر مستقر «2»
رواكد كأنّما ... أفلاكهنّ لم تدر
وكلّما قلت انطوى ... شطر من الليل انتشر
أسألها أين الكرى؟ ... أين الصباح المنتظر؟ «3»
وكلّ شيء عندها ... إلّا الرقاد والسّحر
[وماتت الشمس نعم ... فكيف خلّد القمر] «4»
312/ومنه قوله: [الطويل]
وكم حملتنا نبتغي المجد عندكم ... أو الرّفد فتلاء الذراع أمون «5»
كأنّا قتلنا الصّبح من طول خوضنا ... حشى ليلها والصبح فيه جنين «6»
وقوله: [الطويل](15/428)
إذا يبست أقلامه أو تصاممت ... فصارمه رطب اللسان خطيب «1»
يرى كلّ يوم لابسا دم فارس ... له جسد فوق التراب صليب «2»
ولم أر مثل السيف عريان كاسيا ... ولا أمرد الخدّين وهو خضيب
وقوله: [الطويل]
لمن طالعات في السراب أفول ... يقوّمها الحادون وهي تميل «3»
هواها وراء والسّرى من أمامها ... فهنّ صحيحات النواظر حول
نجائب إن ضلّ الحمام طريقه ... إلى أنفس العشاق فهو دليل
وقوله في السّمك: [الطويل]
تعيش بخفض ما تمنّت ونعمة ... بحيث سواها لو ثوى فارق العمرا «4»
مسربلة لم يدفع النّبل درعها ... وعريانة لم تشك حرّا ولا قرّا
وقوله في الخمر: [المتقارب]
عقرن البدور لهم في المهو ... ر حتى جلوها علينا عقارا «5»
يطوف بها عاطل المعصمي ... ن يلبسها الجام منها سوارا
وقوله: [الوافر](15/429)
خطبناها فقام القسّ عنها ... يخاطبنا فخلنا القسّ قسّا «1»
وسام بمهرها ثمنا يغالي ... به في ظنّه فنراه بخسا
314/ومنهم:
28- أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري «2»
رفض الدنيا وما سلم، وفرض غاياتها فعمل بما علم، وتداوى باليأس من مطامعها وألّم ودارى الناس بترك حظّه لهم ومع هذا ظلم. نفض يديه من الدنيا وساكنها، وخفض لديه قدر محاسنها، وانقطع في بيت كان له بالمعرّة لا يخرج منه إلّا إلى مسجده، ولا ينهج طريقا إلّا إلى تهجّده. وأخذ نفسه بالقناعة حتى صارت جنّة تقيه المطامع، ومنّة تقوّيه على مغالبة الأمل الطامع، وترك أكل لحوم الحيوان وعموم ما يجري مجراها من الأعسال والألبان(15/430)
ومال في هذا إلى رأي الحكماء وقال بمذهب البراهمة في تجنّب إراقة الدماء. وكان قد طلع عليه وهو في الرابعة من عمره جدري وذهب ببصره، وأفقده نور نظره، فلمّا كبر سمّى نفسه [رهين المحبسين] يعني بهما الدنيا والعمى. وكان أبو العلاء من بيت أطلع جماعة من الفضلاء «1» ، وأقطع بنيه العلاء بأبي العلاء. وكان مطلعا على العلوم لا يخلو في علم من الأخذ بطرف، متبحّرا في اللغة، متّسع النطاق في العربية، جامع الشعوب للطرق الأدبية. ندرة في العلم، وشذرة في بني آدم. ما ولدت مثله الليالي ولا أوجدت شبيهه المعالي. وله من الكتب المصنّفة والدواوين المدّونة ما اشتهر ذكره وظهر من ذلك البحر درّه «2» . وهو عدد لا تعقد جمله ولا يحصى ما أحرزه عمله. عقمت القرائح بأمثالها، وعدمت الجوارح أن تضمّ على مثالها من كلم غريبة المعاني أنفس من العقود، وحكم قريبة الوصول تشقّ القلوب قبل الجلود، وله من بدائع النظم والنثر قمراها ومن روائع العلم والعمل سمراها ومن يانع ما تجني المسامع والأبصار ثمراها، هذا على انقطاع حتى/ 315/عن نفسه وامتناع حتى عن أنسه ونفار حتى من ظلّه، وحذار حتى ممّا يجالسه من فضله مع ما مني به من فقد حاسّة بصره، ورمي به من عدم حامّة معشره وخلّوه ممّن يماثله في بلده ويراسله فيما يأخذ في جدده واطّراحه للمذاكرة وانتزاحه عن المحاضرة، واشتغاله أكثر الأوقات بالفكر في معاده والذّكر لما يحتاج أن يستصحبه من زاده. والتأهب للسفر والتوثب مستوقرا ليكون في أول النّفر إلّا أنّه كان مع هذا مذهبه أن لا يفارق إلّا ونفسه كاملة بالمعارف عاملة على أن لا يفوتها شيء من العوارف، لترقى روحه إلى عالمها وتتلقى بروح القبول في معالمها، ولا تخرج إلّا وهي بالعلوم مرتسمة وللقلوب مبتسمة، فهذا الذي كان يثير عزمه الساكن وعلمه إلى أشرف الأماكن. وكان ممّن أوتي ذكاء تتوقّد زجاجته(15/431)
وغناء تبلغ به فوق الكفاية حاجته. والناس فيه بين مكفّر ومعتقد له بالولاية وما بين بين هذه الغاية «1» .
واحتجّ الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم «2» رحمه الله له في المآخذ التي أخذت عليه ونفذت بها سهام المؤاخذة إليه، وألّف في هذا تأليفا سمّاه الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعري «3» ، قال فيه «4» : إنّني وقفت على جملة من مصنّفات عالم معرة النعمان أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان مودعة فنونا من الفوائد الحسان، محتوية على أنواع الأدب مشتملة من علوم العرب على الخالص واللّباب. لا يجد الطامح فيها سقطة ولا يدرك الكاشح فيها غلطة. ولمّا كانت مختصّة/ 316/بهذه الأوصاف متميّزة على غيرها عند أهل الإنصاف قصدوه جماعة لم يعوا عنه وعيه وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتّبعوا كتبه على وجه الانتقاد ووجدوها خالية من الزّيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين سلكوا فيها مسلك الكذب والمين. ورموه بالإلحاد والتعطيل والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا وحسناته ذنوبا، وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السّهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرّفوا كلمه عن(15/432)
مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه. ولو نظر الطاعن كلامه بعين الرضا وأغمد سيف الحسد من عليه انتضى لأوسع له صدرا وشرح واستحسن ما ذمّ ومدح، لكن جرى الزمان على عاداته في مطالبة أهل الفضل بترّاته وقصدهم بإساءاته، فسلّط عليهم أبناءه وجعلهم أعداءه فقصدوه بالطعن والإساءة واللبيب مقصود والأديب عن بلوغ الغرض مصدود وكلّ ذي نعمة محسود. ومن سلك في الفصاحة مسلكه وأدرك من أنواع العلوم ما أدركه، وقصد في كتبه الغريب وأودعها كلّ معنى غريب كان للطاعّن سبيل إلى عكس معانيها وقلبها وتحريفها عن وجوهها المقصودة وسلبها «1» . ألا ترى إلى كتاب الله العزيز المحتوي على المنع والتجويز الذي لا يقبل التبديل في شيء من صحفه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كيف أحال جماعة من أرباب الأقاويل تأويله إلى غير وجه التأويل فصرفوا تأويله إلى ما أرادوا فما أحسنوا في ذلك ولا أجادوا، فما ظنّك بكلام رجل من البشر ليس بمعصوم إن زلّ أو عثر،/ 317/وقد تعمّق في فصيح الكلام وأتي من اللغات بما لا يتيسّر لغيره ولا يرام، وأودعها في كلامه أحسن إيداع وأبرزها في النظم البديع والأسجاع، وإذا قصده بعض الحساد فحمل كلامه على غير ما أراد، وقد وضع أبو العلاء كتابا وسمه بزجر النابح «2» أبطل فيه طعن المزري عليه والقادح، وبيّن فيه عذره الصحيح وإيمانه الصريح ووجه كلامه الفصيح، ثمّ أتبع ذلك بكتاب وسمه بنجر الزّجر بيّن فيه مواضع طعنوا بها عليه بيان الفجر فلم يمنعهم زجره ولا اتّضح لهم عذره بل تحقّق عندهم كفره، وأصرّوا على ذلك(15/433)
وداموا وعنّفوا من انتصر له ولاموا، وقعدوا في أمره وقاموا، فلم يرعوا له حرمه ولا أكرموا علمه ولا راقبوا فيه إلّا ولا ذمّه، حتى حكوا كفره بالأسانيد وشدّدوا في ذلك غاية التشديد وكفّره من جاء بعدهم بالتقليد فابتدرت دونه مناضلا وانتصبت عنه مجادلا وانتدبت لمحاسنه ناقلا. وذكرت في هذا الكتاب مولده ونسبه وتحصيله للعلم وطلبه ودينه الصحيح ومذهبه، وورعه الشديد وزهده واجتهاده القويّ وجدّه وطعن القادح عليه وردّه ودفع الظلم عنه وصدّه. انتهى كلام الصاحب كمال الدين ابن العديم في صدر تأليفه، ثمّ أخذ يقصّ أخباره، ويستقصي آثاره، وأنا ذاكر ما حكاه نكتا أختصرها، وأقتصر مما أورده على لطائف ألخّصها بعبارة تحصرها.
أمّا بلده فمعّرة النعمان بها ولد، والصحيح أنّها تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وكان واليا على حمص وقنسرين في ولاية معاوية، وابنه يزيد. ومات للنعمان بها ولد، وجدّد عمارتها فنسبت إليه. وكانت تسمّى ذات القصور.
وأمّا نسبه فمن تنوخ، وأمّا بيته فسادة لهم/ 318/في الفضل رسوخ غير منسوخ منهم قضاة الأمة والفضلاء الأئمة، والعلماء أصحاب العلوم الجمّة، والأدباء المنطقون بالحكمة، والشعراء الذين اغتصبوا البحر درّه، والفلك نجمه والخطباء أهل الورع والأثبات الذين أحبّوا السّنة، وأماتوا البدع ممّن لا يتسّع التأليف لإحصائهم، وحصر أسمائهم، وإنّما نحن بصدد ذكر أبي العلاء على التخصيص، والإشادة من مجده بما يكاد أن يلحق بشواهد التنصيص.
قرأ القرآن العظيم بالروايات على جماعة من الشيوخ، وتوسّع في اللغة والنحو، ورحل إلى بغداد في طلب العلم، وروى الحديث وخرّج من حديثه سبعة أجزاء رويت عنه، وفي بعض رسائله يقول: وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثّر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم فشاهدت أنفس ما كان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. وأخذ عنه خلق لا يعلمهم إلّا الله كلّهم قضاة، وأئمة، وخطباء، وأهل تبحّر وديانات، واستفادوا منه،(15/434)
ولم يذكره أحد منهم بطعن، ولم ينسب حديثه إلى ضعف ولا وهن. وكان له أربعة من الكتّاب المجودين في جرايته وجاريه يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر، والتصانيف، والإجازات، والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه، وغير هؤلاء من الكتّاب الذين يغيبون ويحضرون منهم جماعة من بني هاشم «1» ، وله رسالة تعرف برسالة الضّبعين كتبها إلى معزّ الدولة ثمال بن صالح يشكو إليه رجلين كانا يؤلّبان عليه، وقد حرّفا بيتا من لزوم ما لا يلزم قال فيها: وفي حلب حماها الله نسخ من هذا الكتاب بخطوط قوم ثقات يعرفون ببني أبي هاشم أحرار نسكة، أيديهم/ 319/بحبل الورع متمسكة جرت عادتهم أن ينسخوا ما أمليه وإن أحضرت ظهرت الحجّة بما قلت فيه.
واتّفق يوم وصوله إلى بغداد موت الشريف الطاهر يعني أبا أحمد الحسين بن موسى والد الشريفين: الرضي والمرتضى فدخل أبو العلاء إلى عزائه والناس مجتمعون، والمجلس غاص بأهله فتخطّى بعض الناس، فقال له بعضهم ولم يعرفه: إلى أين يا كلب؟ فقال:
الكلب من لا يعرف للكلب كذا وكذا اسما، ثمّ جلس في أخريات المجلس إلى أن قام الشعراء، وأنشدوا فقام أبو العلاء، وأنشد قصيدته التي أوّلها:
أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف
يرثي بها الشريف المذكور فلمّا سمعه ولداه الرضي والمرتضى قاما إليه، ورفعا مجلسه، وقالا له: لعلّك أبو العلاء المعري؟ قال: نعم، فأكرماه واحترماه.
ثم إنّ أبا العلاء بعد ذلك طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد فأدخل إليها وجعل لا يقرأ عليه كتاب إلّا حفظ جميع ما يقرأ عليه.
وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة.
وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة في العلم؟ فقال: ما سمعت شيئا إلّا حفظته، وما حفظت شيئا فأنسيته.(15/435)
وحكى عنه تلميذه أبو زكريا التبريزي أنّه كان قاعدا في مسجده بمعّرة النعمان يقرأ عليه شيئا من تصانيفه قال: وكنت قد أتممت عنده سنتين ولم أر أحدا من بلدي، فدخل مغافصة «1» المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، وتغيّرت من الفرح فقال لي أبو العلاء: ما أصابك؟ فحكيت له أنّي رأيت جارا بعد أن لم ألق أحدا من بلدي منذ سنتين فقال لي: قم وكلّمه، فقلت: حتى أتّمم السّبق «2» . فقال: قم، أنا أنتظرك، فقمت وكلّمته بالأذربيجية شيئا كثيرا، إلى أن سألت عمّا أردت، فلمّا فرغت،/ 320/وقعدت بين يديه قال لي: أيّ لسان هذا؟ قلت لسان أهل أذربيجان، فقال: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أنّي حفظت ما قلتما، ثم أعاد لفظنا بلفظ ما قلنا. فجعل جاري يتعجب غاية التعجّب، ويقول: كيف حفظ شيئا لم يفهمه!
وقال هبة الله بن موسى: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء، وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر تعجّبي منه، فلمّا وصلت المعرة قاصدا الديار المصرية لم أقدّم شيئا على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر، فلم أسمح بمفارقته والاشتغال بها، فتحدّث معي أخي حديثا باللسان الفارسيّ، فأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثمّ غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث، إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال: خذ كتابا من هذه الخزانة القريبة منك فاذكر أوّله، فإنّي أورده عليك حفظا، فقلت كتابك ليس بغريب إن حفظته، قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسيّة، إن شئت أعدته عليك، قلت: أعده.
فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف، ولم يكن يعرف اللّغة الفارسيّة.
وكان لأبي العلاء جار أعجميّ بمعرّة النعمان، فغاب في بعض حوائجه، فحضر رجل غريب أعجميّ مجتاز، قد قدم من بلاد العجم، فطلبه، ولم يمكنه المقام، وهو لا يعرف اللّسان العربيّ. فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه. فجعل يتكلّم بالفارسيّة وأبو(15/436)
العلاء يصغي إليه، إلى أن فرغ من كلامه وهو لا يفهم ما يقول، ومضى الرجل، وقدم جار أبي العلاء العجميّ الغائب، وحضر عند أبي العلاء، فذكر له حال الرّجل وطلبه له، وجعل يعيد عليه ما قال بالفارسيّة، والرجل يستغيث ويلطم على رأسه، إلى أن فرغ أبو العلاء.
وسئل عن حاله، فأخبرهم أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة/ 321/من أهله. أو كما قال.
ومن ذكائه وحفظه، أنّ جارا له سمّانا كان بينه وبين رجل من أهل المرّة معاملة، فجاءه ذلك الرّجل، ودفع إليه السّمّان رقاعا كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له. وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السّمّان له، وأعاد الرّجل الرّقاع إلى السّمّان. ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السّمّان وهو يتأوّه ويتململ، فسأله عن حاله، فقال: كنت حاسبت فلانا برقاع كانت له عندى، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه. فقال: لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما. وجعل يملي عليه معاملته جميعها وهو يكتبها، إلى أن فرغ وقام. فلم يمض إلا أيام يسيرة، فوجد السّمّان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء، فلم يخط في حرف واحد.
ولمّا دخل إلى بغداد أرادوا امتحانه، فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة وهو يسمع، إلى أن فرغوا. فابتدأ أبو العلاء، وسرد عليهم كلّ ما أوردوه عليه.
وسمع أهل حلب بذكائه وهو صغير، فسافر جماعة من أكابرهم إلى معرّة النعمان لمشاهدته، وسألوا عنه، فقيل لهم: هو يلعب مع الصبيان، فجاءوا إليه وسلّموا عليه، فردّ عليهم السلام، فقيل له: هؤلاء جماعة من أكابر حلب أتوا لينظروك ويمتحنوك، فقال لهم: هل لكم فى المقافاة «1» بالشّعر؟ فقالوا: نعم. فجعل كلّ واحد منهم(15/437)
ينشد [بيتا] «1» وهو ينشد على قافيته، حتّى فرغ حفظهم بأجمعهم وقهرهم، فقال لهم:
أعجزتم أن يعمل كلّ واحد منكم بيتا عند الحاجة إليه على القافية التى يريد؟ فقالوا له:
فأفعل أنت ذلك. فجعل كلّما أنشده واحد منهم بيتا أجابه من نظمه على قافيته، حتّى قطعهم كلّهم، فعجبوا منه وانصرفوا.
322/ومرّ في طريقه إلى بغداد وهو راكب على جمل بشجرة، فقيل له: طأطئ رأسك، ففعل. وأقام ببغداد ما شاء الله، فلما عاد اجتاز بذلك الموضع وقد قطعت تلك الشجرة، فطأطأ رأسه، فسئل عن ذلك فقال: ها هنا شجرة. فقيل له: ما ها هنا شئ.
فقال: بلى. فحفروا ذلك الموضع، فوجدوا أصلها.
وقيل لبعض أمراء حلب: إنّ اللغة التى ينقلها أبو العلاء إنّما هى من" الجمهرة"، وعنده منها نسخة ليس في الدنيا مثلها، وأشاروا عليه بطلبها منه، قصدا لأذاه. فسيّر أمير حلب رسولا إلى أبي العلاء يطلبها منه، فأجابه بالسّمع والطاعة، وقال تقيم عندنا أيّاما حتّى تقضي شغلك. ثمّ أمر من يقرأ عليه كتاب الجمهرة، فقرئت عليه حتّى فرغوا من قراءتها، ثم دفعها إلى الرسول [وقال له] «2» : ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطرى، خوفا من أن يكون قد ند منها شئ عن خاطري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك، فقال:
من يكون هذا حاله لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب، وأمر بردّه إليه.
وكان له محلّ عال عند الملوك، يقبلون عليه، ويقبلون شفاعته، ويعظّمون قدره. وله كرم، لو ملك الدنيا لبذلها. وفيه مناقب، نقول ولا نحاشي «3» : إنه كان أكثرها أفضلها.
ومن أشعاره التى سيّر في الأرض مثلها، قوله في النسيب والغزل: [البسيط](15/438)
حسّنت نظم كلام توصفين به ... ومنزلا بك معمورا من الخفر «1»
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشّعر أو بيت من الشّعر
وقوله: [الكامل]
كم قبلة لك في الضّمائر لم أخف ... فيها الحساب لأنّها لم تكتب «2»
ورسول أحلام إليك بعثته ... فأتى على يأس بنجح المطلب
323/وقوله: [البسيط]
نكّست قرطيك تعذيبا وما سحرا ... أخلت قرطيك هاروتا وماروتا «3»
لو قلت ما قاله فرعون مفتريا ... لخفت أن تنصبي في الأرض طاغوتا
فلست أوّل إنسان أضلّ به ... إبليس من تخذ الإنسان لاهوتا
منها:
يا عارضا راح تحدوه بوارقه ... للكرخ سلّمت من غيث ونجّيتا
لنا ببغداد من نهوى تحيّته ... فإن تحمّلتها عنّا فحييّتا
بت الزمان حبالي من حبالكم ... أعزز عليّ بكون الوصل مبتوتا
وقوله: [البسيط]
منك الصّدود ومنّي بالصّدود رضا ... من ذا علي بهذا في هواك قضى «4»
بي منك ما لو غدا بالشّمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
إذا الفتى ذمّ دهرا في شبيبته ... فما يقول إذا عصر الشّباب مضى(15/439)
وقد تعوّضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيّام الصّبا عوضا
وقوله: [الكامل]
زارت عليها للظّلام رواق ... ومن النّجوم قلائد ونطاق «1»
والطّوق من لبس الحمام عهدته ... وظباء وجرة مالها أطواق
وقوله في المديح والفخر: [البسيط]
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسّير «2»
وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السّحر
الموقدون بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العزّ في الحضر
إذا همى القطر شبّتها عبيدهم ... تحت الغمائم للسّارين بالقطر
324/وقوله: [الكامل]
يتهلّلون طلاقة وكلومهم ... ينهلّ منهنّ النّجيع الأحمر «3»
لا يعرفون سوى التقدّم آسيا ... فجراحهم بالسّمهريّة تسبر
من كلّ من لولا تسعّر بأسه ... لا خضّر في يمنى يديه الأسمر
وقوله: [الطويل]
بأىّ لسان ذامني متجاهل ... علّي وخفق الرّيح فيّ ثناء «4»
تكلّم بالقول المضلّل حاسد ... وكلّ كلام الحاسدين هراء
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ... ونحن على قوّالها أمراء(15/440)
ولا سار في عرض السّماوة بارق ... وليس له من قومنا خفراء
وقوله: [الطويل]
فإن يك أضحى القول جمّا طيوره ... فما تستوى عقبانه بحمامه «1»
وإن يك وادينا من الشّعر نبته ... فغير خفيّ أثله من ثمامه
منها:
إذا افتخر المسك الذّكيّ فإنما ... يقول افتخارا إنّه من رغامه
غمامان مبيضّان منذ براهما ... لنا الله لم نحفل ببيض غمامه «2»
وقوله: [الوافر]
لقد شرّفتني ورفعت قدري ... به وأنلتني الحظّ الرّبيحا «3»
أجل ولو انّ علم الغيب عندي ... لقلت أفدتني أجلا فسيحا
وقوله فى ذكر النّوق يتخلّص إلى المدح: [الوافر]
سألن فقلت مقصدنا سعيد ... وكان اسم الامير لهنّ فالا «4»
325/وقوله: [الوافر]
ولو قيل اسألوا شرفا لقلنا ... يعيش لنا الأمير ولا نزاد «5»
وقوله: [الطويل](15/441)
إليك تناهى كلّ فخر وسؤدد ... فأبل اللّيالي والأنام وجدّد «1»
لجدّك كان المجد ثمّ حويته ... ولابنك يبنى منه أشرف مقعد
ثلاثة أيام هي الدهر كلّه ... وما هنّ غير اليوم والأمس والغد
وما البدر إلا نيّر غير أنّه ... يغيب ويأتي بالضّياء المجدّد
فلا تحسب الأقمار خلقا كثيرة ... فجملتها من نيّر متردّد
وقوله: [الطويل]
هو الشّهد مجّته الخطوب مرارة ... وقد نفرت أفواهها لالتهامه «2»
تهاب الأعادي بأسه وهو ساكن ... كما هيب مسّ الجمر قبل اضطرامه
وقوله: [الطويل]
تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي الّا العلا والفواضل «3»
كأنّي إذا طلت الزّمان وأهله ... رجعت وعندي للأنام فواضل «4»
وقد سار ذكرى فى البلاد فمن لهم ... بإخفاء شمس ضوءها متكامل
يهمّ الليالي بعض ما أنا فاعل ... ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وأغدو ولو أنّ الصبّاح صوارم ... وأسري ولو أنّ الظّلام جحافل
وإنّي جواد لم يحلّ لجامه ... ونضويمان أغفلته الصياقل
وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السّيف إلّا غمده والحمائل(15/442)
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنّني بين السّماكين نازل
326/لدى موطن يشتاقه كلّ سيّد ... ويقصر عن إدراكه المتناول
ولمّا رأيت الجهل في الناس فاشيا ... تجاهلت حتّى ظنّ أنّي جاهل
فواعجبا كم يدّعي الفضل ناقص ... ووا أسفّا كم يظهر النّقص فاضل
وكيف تنام الطّير في وكناتها ... وقد نصبت للفرقدين الحبائل
ينافس يومي فيّ أمسي تشرّفا ... وتحسد أسحاري عليّ الأصائل
فلو بان عضدي ما تأسّف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل
إذا وصف الطّائيّ بالبخل مادر ... وعيّر قسّا بالفهاهة باقل
وقال السّها يا شمس أنت خفيّة ... وقال الدّجى يا صبح لونك حائل
وطاولت الأرض السّماء سفاهة ... وفاخرت الشّهب الحصى والجنادل
فياموت زر إنّ الحياة كريهة ... ويا نفس جدّي إنّ دهرك هازل
وقوله: [الوافر]
لي الشّرف الذي يطأ الثّريا ... مع الفضل الذي بهر العبادا «1»
وكم عين تؤمّل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السّوادا
وقوله: [الطويل]
إذا ما أخفت المرء جنّ مخافة ... فأيقن أنّ الأرض كفّة حابل «2»
يرى نفسه في ظلّ سيفك واقفا ... وبينكما بعد المدى المتطاول
يظنّ سنيرا من تفاوت لحظه ... ولبنان سارا في القنا والقنابل
وقوله: [الطويل](15/443)
تخيرّت جهدي لو وجدت خيارا ... وطرت بعزمي لو أصبت مطارا «1»
جهلت فلمّا لم أر الجهل مغنيا ... حكمت فأوسعت الزّمان وقارا
327/إلى كم تشكّاني إليّ ركائبي ... وتوسع عتبي خفية وجهارا
أسير بها تحت المنايا وفوقها ... فيسقط بي شخص الحمام عثارا
وقوله: [الوافر]
إذا سارتك شهب اللّيل قالت ... أعان الله أبعدنا مرادا «2»
وإن جارتك هوج الرّيح كانت ... أكلّ ركائبا وأقلّ زادا
وقوله: [الوافر]
أيدفع معجزات الرّسل قوم ... وفيك وفي بديهتك اعتبار «3»
كأنّ بيوته الشّهب السّواري ... وكلّ قصيدة فلك مدار
وقوله يرثي أباه: [الطويل]
نقمت الرّضا حتّى على ضاحك المزن ... فلا جادني إلّا عبوس من الدّجن «4»
وليت فمي إن شاء سنّي تبسّمي ... فم الطّعنة النّجلاء تدمي بلا سنّ
منها:
فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن
حجا زاده من جرأة وسماحة ... وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن(15/444)
على أمّ دفر غضبة الله إنّها ... لأجدر أنثى أن تخون وأن تخني
كعاب دجاها فرعها ونهارها ... محيّا لها قامت له الشّمس بالحسن
كأنّ بنيها يولدون ومالها ... حليل فتخشى العار إن سمحت بآبن
منها:
وخوف الرّدى آوى إلى الكهف أهله ... وكلّف نوحا وابنه عمل السّفن
وما استعذبته روح موسى وآدم ... وقد وعدا من بعده جنّتي عدن
منها:
أمرّ بربع كنت فيه كأنّما ... أمرّ من الإكرام بالحجر والرّكن
وإجلال مغناك اجتهاد مقصّر ... إذا السّيف أودى فالعفاء على الجفن
328/منها:
فليتك في جفني موارى نزاهة ... بتلك السّجايا عن حشاي وعن ضبني
ولو حفروا في درّة ما رضيتها ... لجسمك إبقاء عليه من الدّفن
وقوله يرثي والدته: [الوافر]
فيا ركب المنون أما رسول ... يبلغ روحها أرج السّلام «1»
ذكيّا يصحب الكافور منه ... بمثل المسك مفضوض الختام
سألت متى اللّقاء فقيل حتّى ... يقوم الهامدون من الرّجام
وقوله: [الطويل]
وما مثل فقدان الشّريف محمّد ... رزيّة خطب جناية ذي جرم «2»(15/445)
فيا دافنيه في الثّرى إنّ لحده ... مقرّ الثّريّا فادفنوها على علم
ويا حاملي أعواده إنّ فوقها ... سماوىّ سرّ فاتّقوا كوكب الرّجم
وما نعشه إلّا كنعش وجدته ... أبّا لبنات لا يخفن من اليتم
منها:
إذا قيل نسك فالخليل بن آزر ... وإن قيل فهم فالخليل أخو الفهم
أقامت بيوت الشعر تحكم بعده ... بناء المراثي وهى صور إلى الهدم
نعيناه حتّى للغزالة والسّها ... فكلّ تمنى لو فداه من الحتم
وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّدم
منها:
ولا تنسني في الحشر والحوض حوله ... عضائب شتّى بين غرّ إلى بهم
لعلّك في يوم القيامة ذاكري ... فتسأل ربّي أن يخفّف من إثمي
وقوله: [الخفيف]
غير مجد في ملّتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنّم شاد «1»
329/وشبيه صوت النّعيّ إذا قي ... س بصوت البشير في كلّ ناد
صاح هذي قبورنا تملأ الرّح ... ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظنّ أديم الأ ... رض إلّا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه ... د هوان الآباء والأجداد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين ... في طويل الأزمان والآباد(15/446)
فاسأل الفرقدين عمن أحسّا ... من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار ... وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلّها الحياة فما أع ... جب إلّا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد
خلق النّاس للبقاء فضلّت ... أمّة يحسبونهم للنّفاد
إنّما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال ... جسم فيه والعيش مثل السّهاد
منها:
قصد الدّهر من أبي حمزة الأوّ ... اب مولى حجا وخدن اقتصاد
وفقيها أفكاره شدن للنّع ... مان ما لم يشده شعر زياد
والعراقيّ بعده للحجازيّ ... قليل الخلاف سهل القياد
وخطيبا لو قام بين وحوش ... علّم الضّاريات برّ النّقاد
روايا للحديث لم يحوج المع ... روف من صدقه إلى الإسناد
ذا بنان لا تلمس الذّهب الأح ... مر زهدا في العسجد المستفاد
330/ودّعا أيّها الحفيّان ذاك الشّ ... خص إنّ الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدّمع إن كان طهرا ... وادفناه بين الحشا والفؤاد
واحبواه الأكفان من ورق المض ... حف كبرا عن أنفس الأبراد
منها:
كيف أصبحت فى محلّك بعدي ... يا جديرا مني بحسن افتقاد
قد أقرّ الطبيب عنك بعجز ... وتقضّى تردّد العوّاد
منها:(15/447)
زحل أشرف الكواكب دارا ... من لقاء الرّدى على ميعاد
ولنار المرّيخ من حدثان الدّ ... هر مطف وإن علت في اتّقاد
والثريا رهينة بافتراق الشّ ... مل حتّى تعدّ في الأفراد
منها:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
واللبيب اللبيب من ليس يغ ... ترّ بكون مصيره للفساد
وقوله: [الكامل]
أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف «1»
الطّاهر الآباء والأبناء وال ... آراب والأثواب والألّاف
منها:
طار النّواعب يوم فاد نواعيا ... فندبنه لموافق ومناف
ونعيبها كنحيبها وحدادها ... أبدا سواد قوادم وخواف
لا خاب سعيك من خفاف أسحم ... كسحيم الأسديّ أو كخفاف
من شاعر للبين قال قصيدة ... يرثي الشّريف على رويّ القاف
بنيت على الإيطاء سالمة من ال ... إقواء والإكفاء والإصراف
منها:
فارقت دهرك ساخطا أفعاله ... وهو الجدير بقلّة الإنصاف
331/ولقيت ربّك فاستردّ لك الهدى ... ما نالت الأيّام بالإتلاف
أنتم ذوو النّسب القصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف(15/448)
والرّاح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... بأب عن الأسماء والأوصاف
ما زاغ بيتكم الرّفيع وإنّما ... بالوجد أدركه خّفيّ زحاف
والشّمس دائمة البقاء وإن تنل ... بالشّكو فهي سريعة الإخطاف
وقوله في الحكم والأمثال: [البسيط]
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر «1»
منها:
والنّجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذّنب للطّرف لا للنّجم في الصّغر
وقوله: [الوافر]
وكالنّار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأوّلها دخان «2»
وقوله: [الطويل]
وهل يذخر الضّرغام قوتا ليومه ... إذا ادّخر النّمل الطّعام لعامه «3»
وهل يدّعي اللّيل الدّجوجيّ أنّه ... تضيء ضياء الشّمس شهب ظلامه
وقوله: [الكامل]
والسّمهريّة ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنهّا عن غابه «4»
وقوله: [الطويل](15/449)
إذا أنت أعطيت السّعادة لم تبل ... ولو نظرت شزرا إليك القبائل «1»
تقتك على أكتاف أبطالها القنا ... وهابتك في أغمادهنّ المناصل
وإن سدّد الأعداء نحوك أسهما ... نكصن على أفواقهنّ المعابل
تحامى الرّزايا كلّ خفّ ومنسم ... وتلقى رداهّن الذّرى والكواهل
وترجع أعقاب الرّماح سليمة ... وقد حطمت في الدّارعين العوامل
332/وإن كنت تهوى العيش فابغ توسّطا ... فعند التّناهي يقصر المتطاول
توقّى البدور النّقص وهى أهلّة ... ويدركها النّقصان وهى كوامل
وقوله: [الطويل]
ولا بدّ للإنسان من سكر ساعة ... تهون عليه غيرها السّكرات «2»
ألا إنّما الأيّام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلّها أخوات
وقوله: [السريع]
والشّيء لا يكثر مدّاحه ... إلّا إذا قيس إلى ضدّه «3»
لولا غضى نجد وقلّامه ... لم يثن بالطّيب على رنده
يشتاق أيّار نفوس الورى ... وإنّما الشّوق إلى ورده
أضحى الذي أجلّ في سنّه ... مثل الذي عوجل في مهده
ولا يبالي الميت في قبره ... بذمّه شيّع أو حمده
والواحد المفرد في حتفه ... كالحاشد المكثر من حشده
وحالة الباكي لآبائه ... كحالة الباكي على ولده(15/450)
تجربة الدنيا وأفعالها ... حثّت أخا الزّهد على زهده
وقوله: [الوافر]
وظنّ بسائر الإخوان شرا ... ولا تأمن على سرّ فؤادا «1»
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لما طلعت مخافة أن تكادا
منها:
فأيّ الناس أجعله صديقا ... وأيّ الأرض أسلكه ارتيادا
ولو أنّ النّجوم لديّ مال ... نفت كفّاي أكثرها انتقادا
كأنّي في لسان الدّهر لفظ ... تضمّن منه أغراضا بعادا
يكرّرني ليفهمني رجال ... كما كررت معنى مستعادا
333/وقوله: [الطويل]
وما الدّهر إلّا دولة ثمّ صولة ... وما العيش إلّا صحّة وسقام «2»
ولو دامت الدّولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهنّ دوام
وقوله: [الطويل]
ولسنا وإن كان البقاء محبّبا ... بأوّل من أخنى عليه حمام
وحبّ الفتى طول الحياة يذلّه ... وإن كان فيه نخوة وعرام
وكلّ يريد العيش والعيش حتفه ... ويستعذب اللذّات وهى سمام
وقوله: [البسيط](15/451)
لا تنس لي نفحاتي وانس لي زللي ... ولا يغرّك خلقي واتّبع خلقي «1»
فربّما ضّر خلّ نافع أبدا ... كالرّيق يحدث منه عارض الشّرق
فإن توافق في معنى بنو زمن ... فإنّ جلّ المعاني غير متّفق
قد يبعد الشّيء من شيء يشابهه ... إن السماء نظير الماء في الزّرق
وقوله: [الكامل]
ومن العجائب أن يسيّر آمل ... مدحا ولم يعلم بها المأمول «2»
والعيس أقتل ما يكون لها الظّما ... والماء فوق ظهورها محمول
وقوله في الوصف والتّشبيه والاستعارة: [الوافر]
أعن وخد القلاص كشفت حالا ... ومن عند الظّلام طلبت مالا «3»
ودرّا خلت أنجمه عليه ... فهلّا خلتهنّ به ذبالا
وقلت الشّمس بالبيداء تبر ... ومثلك من تخيّل ثمّ خالا
ومنها في ذكر الخيل:
نشأن مع النّعام بكل دوّ ... فقد ألفت نتائجها الرئّالا
ولمّا لم يسابقهنّ شيء ... من الحيوان سابقن الظّلالا
334/وفي ذكر الخيل أيضا:
ونمّ بطيفها السّاري جواد ... فجّنبنا الزّيارة والوصالا
وأيقظ بالصّهيل الركب حتّى ... ظننت صهيله قيلا وقالا
ولولا غيرة من أعوجيّ ... لبات يرى الغزالة والغزالا(15/452)
يحسّ إذا الخيال سرى إلينا ... فيمنع من تعهّدنا الخيالا
وقد يلفى زبرجده عقيقا ... إذا شهد الأمير به القتالا
وكلّ ذؤابة في رأس خود ... تمنّى أن تكون له شكالا
ومنها في ذكر السيف:
يذيب الرّعب منه كلّ عضب ... فولا الغمد يمسكه لسالا
ودّبت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا
وقوله: [الكامل]
صاغ النّهار حجوله فكأنّما ... قطعت له الظّلماء ثوب الأدهم «1»
قلق السّماك لركضه ولربّما ... نفض الغبار على جبين المرزم
وبنت حوافرها قتاما ساطعا ... لولا انقياد عداك لم يتهدّم
باض النّسور به وخيّم مصعدا ... حتّى ترعرع فيه فرخ القشعم
وقوله: [الوافر]
فكاد الفجر تشربه المطايا ... وتملأ منه أسقية شنان «2»
وقد دقّت هواديهنّ حتّى ... كأنّ رقابهنّ الخيزران
إذا شربت رأيت الماء فيها ... أزيرق ليس يستره الجران
335/وقوله في الخيل أيضا: [البسيط]
كأنّ أذنيه أعطت قلبه خبرا ... من السّماء بما يلقى من الغير «3»
يحسّ وطء الرّزايا وهى نازلة ... فينهب الجري نفس الحادث المكر(15/453)
يغنى عن الورد إن سلّوا صوارمهم ... أمامه لاشتباه البيض بالغدر
وقوله من أخرى في السيف: [البسيط]
وكلّ أبيض هنديّ به شطب ... مثل التكسّر في جار بمنحدر «1»
تغايرت فيه أرواح تموت به ... من الضّراغم والفرسان والجزر
روض المنايا على أنّ الدّماء به ... وإن تخالفن أبدال من الزّهر
ما كنت أحسب جفنا قبل مسكنه ... في الجفن يطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النّمل يمكنها ... مشي على اللّجّ أو سعي على السّعر
وقوله: [الكامل]
وهجيرة كالهجر موج سرابها ... كالبحر ليس لمائه من طحلب «2»
أوفى بها الحرباء عودي منبر ... للظّهر إلا أنّه لم يخطب
وكأنّه رام الكلام ومسّه ... عيّ فأسعده لسان الجندب
وقوله: [الوافر]
ألاح وقد رأى برقا مليحا ... سرى فأتى الحمى نضوا طليحا «3»
وقوله: [الوافر]
إذا الحرباء أظهر دين كسرى ... فصلّي والنّهار أخو صيام «4»
وأذّنت الجنادب في ضحاها ... أذانا غير منتظر الإمام(15/454)
وقوله: [الوافر]
وليل خاف قول النّاس لمّا ... تولّى سار منهزما فعادا «1»
336/دجا فتلهّب المرّيخ فيه ... وألبس جمرة الشّمس الرّمادا
وقوله: [الطويل]
حروف سرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماء لهنّ وأفعال «2»
يحاذرن من لدغ الأزمّة لا اهتدى ... مخبّرها أنّ الأزمة أصلال
وقوله: [الوافر]
إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا ... حسبت اللّيل زنجيا جريحا «3»
وقوله: [الوافر]
وإصباح فلينا اللّيل عنه ... كما يفلى عن النّار الرّماد «4»
أبلّ به الدّجى من كلّ سقم ... وكوكبه مريض لا يعاد
ومن غلل تحيد الرّيح عنه ... مخافة أن يمزّقها القتاد
لو انّ بياض عين المرء صبح ... هنالك ما أضاء به السواد
وقوله: [الطويل]
تبيت النّجوم الزّهر في حجراته ... شوارع مثل اللؤلؤ المتبدّد «5»
فأطمعن في أشباحهن سواقطا ... على الماء حتّى كدن يلقطن باليد
بخرق يطيل الجنح فيه سجوده ... وللأرض زيّ الرّاهب المتعبّد(15/455)
ولو نشدت نعشا هناك بناته ... لماتت ولم تسمع له صوت منشد
وتكتم فيه العاصفات نفوسها ... فلو عصفت بالنبت لم يتأوّد
وقوله: [البسيط]
تناعس البرق أي لا أستطيع سرّى ... فنام صحبي وأمسى يقطع البيدا «1»
كأنّه غار منا أن نصاحبه ... وخاف أن نتقاضاك المواعيدا
337/وقوله: [البسيط]
هذا قريض عن الأملاك محتجب ... فلا تذله بإكثار على السّوق «2»
كأنّه الرّوض يبدي منظرا عجبا ... وإن غدا وهو مبذول على الطّرق
لفظ كأنّ معاني السّكر تسكنه ... فمن تحفّظ بيتا منه لم يفق
وقوله: [الطويل]
كانّ الدّجى نوق عرقن من الونى ... وأنجمها فيها قلائد من ودع «3»
وقوله: [الكامل]
لا تستبين به النّجوم تنائيا ... ويلوح فيه البدر مثل الدّرهم «4»
وقوله: [الطويل]
كأنّ الثّريّا والصباح يروعها ... أخو سقطة أو ظالع متحامل «5»(15/456)
وقوله: [الطويل]
بريح أعيرت حافرا من زبرجد ... لها التّبر جسم واللّجين خلاخل
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
ومنها فى الليل:
كأنّ دجاه الهجر والصبح موعد ... بوصل وضوء الصّبح حبّ مماطل
وقوله: [الطويل]
فتى تقصر الأبصار عن قسماته ... ولا ستر إلّا هيبة وجلال «1»
فجاش عليها البحر وهو كتائب ... وخرّت إليها الشّهب وهى نصال
بأيديهم السّمر العوالي كأنّما ... يشبّ على أطرافهن ذبال
وقوله في وصف النهار: [الطويل]
نهار كأنّ البدر قاسى هجيره ... فعاد بلون شاحب من سهامه «2»
بلاد يضلّ النّجم فيها سبيله ... وتثني دجاها طيفها عن لمامه
وقوله من مرثية: [الطويل]
وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّطم «3»
338/وقوله يصف الخمرة: [الوافر]
تطلّع من جدار الكأس كيما ... يحيّي أوجه الشّرب الكرام «4»(15/457)
وقوله: [الوافر]
كأنّ الليل حار بها ففيه ... هلال مثل ما انعطف اللّسان «1»
ومن أمّ النّجوم عليه درع ... يحاذر أن يمزّقها الطّعان
وقد بسطت إلى الغرب الثّريّا ... يدا غلقت بأنملها الرّهان
كأنّ يمينها سرقتك شيئا ... ومقطوع عن السّرق البنان
وقوله: [الطويل]
بيوم كأنّ الشّمس فيه خريدة ... عليها من النّقع الأحمّ لثام «2»
وقوله: [الطويل]
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال «3»
وقوله: [الطويل]
خفاف يباهي كلّ هجل هبطنه ... بهنّ على العلّات ربد نعامه «4»
إذا أرزمت فيه المهاري ولم يجب ... حوار أجابت عنه أصداء هامه
ولو وطئت في سيرها جفن نائم ... بأخفافها لم ينتبه من منامه
وقوله: [الخفيف]
ربّ ليل كأنّه الصّبح في الحس ... ن وإن كان أسود الطّيلسان «5»
قد ركضنا فيه إلى اللهو حتّى ... وقف النّجم وقفة الحيران(15/458)
وكأنّي ما قلت والبدر طفل ... وشباب الظّلام في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الزّن ... ج عليها قلائد من جمان
هرب النّوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأنّ الهلال يهوى الثّريا ... فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحبّ في اللو ... ن وقلب المحبّ في الخفقان
يسرع اللّمح في احمرار كما تس ... رع في اللّمح مقلة الغضبان
339/ثمّ شاب الدّجى فخاف من الهج ... ر فغطّى المشيب بالزّعفران
وقوله يصف الدرع: [الخفيف]
نثرة من ضمانها للقنا الخ ... طّيّ عند اللقاء نثر الكعوب «1»
مثل وشي الوليد لانت وإن كا ... نت من الصّنع مثل وشي حبيب
تلك ماذية وما لذباب السّ ... يف والصّيف عندها من نصيب
وقوله: [الوافر]
أضاة لا يزال الزّغف منها ... كفيلا بالإضاءة في الدّياجي «2»
مموّهة كأنّ بها ارتعاشا ... لفرط السّنّ أو داء اختلاج
وهل تعشو النّبال إلى ضياء ... ثنى السّمراء مطفأة السّراج
وقوله: [الكامل]
سالت على العاري وهالت وانطوت ... لينا فكالتها الفتاة بصاعها «3»
آليّة ليست تغرّ سوى القنا ... والمرهفات بمكرها وخداعها(15/459)
وكأنّما رعب السّيول تسرّعت ... فمضت وقرّ الصّفو من دفّاعها
وقوله: [السريع]
فمن لبسطام بين قيس بها ... ذخيرة أو عامر بن الطّفيل «1»
فارسها يسبح في لجة ... من دجلة الزّرقاء أو من دجيل
وقوله: [الوافر]
كأثواب الأراقم مزّقتها ... فخاطتها بأعينها الجراد «2»
وقوله: [الرجز]
جرّدت الحيّات فيها لبسها ... وطرّحت للرّيح كلّ معوز «3»
إن نفخت فيه الصّبا رأيته ... مثل عمود الفضّة المخرّز
وقوله في الشّمعة: [الطويل]
340/وصفراء لون التّبر مثلي جليدة ... على نوب الأيّام والعيشة الضّنك «4»
تريك ابتساما دائما وتجلّدا ... وصبرا على ما نالها وهى في الهلك
ولو نطقت يوما لقالت أظنكّم ... تخالون أنّي من حذار الردّى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع العينان من كثرة الضّحك «5»(15/460)
وحكي من ذكاء أبي العلاء أنّه لمّا سافر إلى بغداد دفع بعض أهله إلى خادمه الذي كان سافر معه لخدمته ماء من بئر بالمعرّة، يقال لها بئر القراميد، وقال له: إذا أراد العود من بغداد فاسقه من هذا الماء. فلمّا خرج من بغداد متوجّها إلى معرّة النعمان سقاه ذلك الماء، فقال أبو العلاء: ما أشبه هذا الماء بماء بئر القراميد!
وحكى القاضي الرشيد بن الزبير المصريّ «1» ، في كتاب" جنان الجنان" «2» ، قال:
حدّثني القاضي أبو عبد الله محمد بن سنديّ القنّسريّ، قال: حدثني أبي، قال: بينما أنا عند أبي العلاء المعرّي، في الوقت الذي يملي فيه شعره المعروف بلزوم ما لا يلزم، فأملى في ليلة واحدة ألفي بيت، كان يسكت زمانا ثمّ يملي قريبا من خمسائة بيت، ثمّ يعود إلى الفكرة والعمل، إلى ان كمّل العدّة المذكورة.
ونقل أن رجلا من طلبة العلم باليمن وقع إليه كتاب في اللغة سقط أوّله، وأعجبه جمعه وترتيبه، فاتّفق أنّه حجّ فحمله معه، وكان إذا اجتمع بأديب أراه ذلك الكتاب وسأله عنه: هل يعرفه أو يعرف مصنّفه؟ فلم يجد أحدا يخبره بذلك. فأراه في بعض الأحيان لبعض الأدباء، وكان ممّن يعلم حال أبي العلاء وتبحره في العلم، فدلّه عليه. فخرج ذلك الرجل إلى الشام، ووصل إلى معرّة النعمان، فاجتمع بأبي العلاء، وعرّفه ما حمله على الرحلة إليه، وأحضر ذلك الكتاب/ 341/وهو مقطوع الأوّل. فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئا. فقرأ عليه. فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا وكذا، ومصنّفه فلان بن فلان. ثم ابتدأ أبو العلاء فقرأ له أوّل الكتاب، إلى أن انتهى إلى ما هو عند ذلك الرجل.(15/461)
فنقل ما نقص منه عن أبي العلاء، وأكمل النسخة.
وقيل: إن الكتاب المذكور هو" ديوان الأدب" للفارابي. والله أعلم.
وقال محمد بن أبي بكر الخاتمي: ارتحلت أريد المعرّة لألقى أبا العلاء، فلقيت في طريقي شابا حسنا وسيما وهو أعور، ومعه شخص وضيء الوجه، حسن الصورة، يعتبه عتابا لطيفا، فلمّا انتهى إلى آخر عتابه قال له الشابّ الأعور منشدا: [الكامل المرفّل]
إن كنت خنتك في الهوى ... فحشرت أقبح من فضيحه
قال الحاتمىّ: فرمت أن أزيد على هذا البيت فلم أستطع، لكثرة طربي به، إلى أن انتهيت إلى المعرّة، ودخلت على أبي العلاء، فكان أوّل حديثي معه أن تذاكرنا في أبيات من الشعر، ذكر منها بيت جهل قائله، وهو: [الرمل]
إنّما تسرح آساد الشّرى ... حيث لا تنصب أشراك الحدق
فقال: لقد أضاء بصيرة وإن عمي بصرا. فقلنا له: أتعرف لمن الشعر؟ فقال لا.
فبحثنا عنه، فوجدناه لبشار بن برد. ثمّ خلوت معه، فسألنى: من أنت؟ فانتسبت إليه، فقال: أنشدني شيئا من شعرك، فأنشدته، ثمّ حكيت له حكاية الشّاب، وأنسيت أن أقول له أنّه أعور، وأنشدته قوله:
إن كنت خنتك في الهوى ... فحشرت أقبح من فضيحة
فأسرع أن قال لي: أفلا زدت عليه:
وجحدت نعمة خالقي ... وفقدت مقلتي الصحيحه
342/فقلت: والله ما كان إلّا أعور، فمن أين لك هذا؟ قال: شمت «1» إحدى عينيه من بيته.(15/462)
وعرض على أبي العلاء كفّ من اللّوبياء، فأخذ منها واحدة ولمسها بيده، ثم قال: ما أدري ما هي إلّا إنّي أشبّهه بالكلية. فتعجّبوا من فطنته وإصابة حدسه.
وقال أبو العلاء في وقت لجماعة حضروا عنده: عدوا علّي الألوان، فقالوا: أبيض، وأخضر، وأصفر، وأسود، وأحمر. فقال: هذا هو ملكها. يعني الأحمر. وكان أبو العلاء يقول: أذكر من الألوان الحمرة، وذلك أنّني لمّا جدرت ألبست ثوبا أحمر. وهذا من فرط ذكائه، لأنّه كان عمره أربع سنين.
ودخل عليه أبو محمد الخفاجيّ الحلبي، وسلّم عليه ولم يكن يعرفه، فردّ عليه السلام.
وقال: هذا رجل طوال. ثم سأله عن صناعته فقال: أقرأ القرآن. فقال: اقرأ علىّ شيئا منه. فقرأ عليه عشرا. فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبيّ؟ فقال: نعم. فسئل عن ذلك فقال: أمّا طوله فعرفته بالسّلام، وأمّا كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب، فإنّني سمعت بحديثه.
وممّا حكي عن أبي العلاء، أنّه كان يعجبه قصيدة التّهامي التى يرثى بها ولده، وأوّلها:
[الكامل]
حكم المنيّة في البريّة جاري ... ما هذه الدّنيا بدار قرار
وكان لا يرد عليه أحد إلّا ويستنشده إيّاها، لإعجابه بها. فقدم التهاميّ معرّة النعمان ودخل على أبي العلاء، فآستنشده إيّاها، فأنشدها، فقال له: أنت التهامي؟ فقال: نعم.
فقال: كيف عرفتني؟ فقال: لأني سمعتها منك ومن غيرك؟ فأدركت من حالك أنّك تنشدها من قلب قريح، فعلمت أنّك قائلها.
ومن رسائل أبي العلاء رسالة كتب بها إلى أبي نصر صدقة بن يوسف، لمّا استدناه إلى حضرة عزيز الدولة فاتك/ 343/صاحب حلب، وهي «1» :(15/463)
لو أهديت إلى حضرة سيّدي الرّبيع يزهي بأحسن زهره، والبحر يتباهى بالنّفيس من جوهره، لكان عندي أنّي قصّرت واختصرت، فكيف بي ولا أقدر على أن أهدي زهره، ولا أنتزع صدفه، فدع الجوهرة. والرّائد لا يكذب أهله. فأمّا العبد إذا كذب سيّده فبعد ولا سعد. والذّاهل من لم يذكر أمسه، والجاهل من لم يعرف نفسه. ولنفسي أقول:
أعيت رياضة الهرم، واعتصار الماء من الجمر المضطرم. [إن كذبت، فعن الخير أعذبت] . ما اعتزلت، حتّى جددت وهزلت، فوجدتني لا أصلح لجدّ ولا هزل، فعندها رضيت بالأزل.
ما حمامة ذات طوق، يضرب بها المثل في الشّوق، كانت في وكر مصون، بين الشّجر والغصون، تألف من أبناء جنسها ريدا، فيتراسلان تغريدا، مسكنها نعمان الأراك، تأمن به غوائل الأشراك، وتمرّ في بكرتها بالبيت الحرام، لا تفرق لمكان صائد ولا رام، فغرّها القدر، فخرجت من الأرض المحرّمة، فأصبحت وهى جدّ مغرمة، صادها وليد في الحلّ، ما حفظ لها من إلّ، فأودعها سجنا للطير، ومنعها من كلّ مير، فإذا رأت من خصاص القفص بواكر الحمام، ظلّت تمارس جرع الحمام، تسأل بطرفها أخاها، ما فعل بعدها فرخاها؟ فيقول:
أصبحا ضائعين، قد سترهما الورق عن كلّ عين.
فريخان ينضاعان في الفجر كلّما ... أحسّا دويّ الرّيح أو صوت ناعب «1»
بأشواق إلى المعيشة النّضرة، منّي إلى تلك الحضرة. ولكن صنع الزّمان ما هو صانع، واعترض دون الخير موانع. حال الغص دون القصص، والجريض دون القريض. المورد نمير أزرق، ولكن المدنف بالشراب يشرق.
لمّا رأى لبد النّسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل «2»
344/انهض لبد، هيهات! صدّك الأبد.(15/464)
ولمّا كان اليوم الذي ورد كتابه، المشتمل من حسن الظنّ بوليّه على ما لا يستوجبه، عكفت عليه الغربان مبشّرات، مثلّثات بالنعيب ومعشّرات. لو أنس إليّ ابن دأية لم أخله إن رغب في الحلي من حجل، في الرّجل، أو تقليد، يقع في الجيد، ولضمّخت جناحه مسكا وعنبرا، ولكسوته وشيا وحبرا، على أنه يختال من لون الشّبيبة، فى أجمل سبيبة.
يا غراب، لغيرك بعدها التراب! إن قضى الله نبذت لك من الطعام، إتاوة في كلّ يوم لا في كلّ عام.
كأن كتابه الشّريف قسيمة من الطيب، تضوع بالأناب القطيب، وكأنّما طرقتني منه روضة نجديّة، سقتها الأنوار الأسدية، فعمد ثراها، وأرجت رباها، وأبدى بهارها للأبصار، كدنانير ضربت قصار، وازدانت من الشّقيق، بمشبه العقيق، ولعب فيها الماء، فهي أرض وكأنّها سماء، لها من النّجم نجوم، ومن طلّ السّحر دمع مسجوم. وقد سألت من ورد إليه أن يؤنسني بتركه لديّ، كي أستمتع في ناجر، بمشاكل خبيّة الحاجر، ولأكون جليس الروضة إن لم يرها منظرا مبهجا، ساف منها عرفا متأرجا. وإنّ العامة عهدتني في صدر العمر أستصحب شيئا من أساطير الأولين فقالت عالم، والناطق بذلك هو الظالم. ورأتني مضطرا إلى القناعة فقالت زاهد، وأنا في طلب الدنيا جاهد. وزاد تقوّل القوم عليّ حتى خشيت أن أكون أحد الجهّال، الذين ورد فيهم الحديث المأثور:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا".
فغدوت حلس ربع، كالميّت بعد ثلاث أو سبع. وحدثت علّة كني عنها/ 345/في المستمع، وعاقت عن الحضور في الجمع. وفي الكتاب الكريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
. وإنّما ذكرت ذلك لينتهي إلى حضرة [السيّد] عزيز الدولة، [أعز الله نصره] ، أنّي تخلّفت عن خدمته لمرض، منع من أداء المفترض، وإنّ الذكر ليطير للرجل وغيره الخطير. كم من شجرة شاكة ظّلها ليس برحب، وثمرها غير عذب، سمها السّمرة، وكنيتها أمّ غيلان، تذكر في آفاق البلاد، وغيرها من(15/465)
أشجار الثمار إن ذكر، نكر. والإرماء، لا توجبه للشيء الأسماء. ربّ أسود كريه الرائحة يسمى كافورا وعنبرا، وقبيح الصّورة [من البشر] يدعى هلالا وقمرا. وكيف يتأدّى العلم إليّ وأنا رجل ضرير! وكفى من شرّ سماعه، ونشأت في بلد لا عالم فيه، وإنّما تشبّث النامية، بالجوازع السامية. ولم أكن صاحب ثروة فكيف الحداء بغير بعير، والإنباض مع فقد التّوتير. فإن بلغ سيّدي الشّيخ أنّ ساري اللّيل، قبض على سهيل، وأن الأرض أنبتت وشيا وحريرا، والسحاب أمطر مداما وعبيرا، فهو أعلم بردّه على المبطلين. حسب الأرض، أن تعنو بخلّة وحمض. وعادة السّحاب المرتفع في السّماء، أن يأتي بريّ الظّلماء.
والدّلجة، بلّغت إلى البلجة. لهفي على فوات هذه المنزلة! ومن للورقاء، بكوكب الخرقاء، والراقد عند الغرقد، أن يضحي مجاور الفرقد! من لا يصلح لمجالسة النّظراء، فكيف ينتدب للقاء السادات الكبراء!
لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
هل آمل من الله ثوابا، وإنما [أنا] «1» كقتلى بدر أسمع ولا أملك جوابا. ولمثل هذه الرتبة سهر من أهل العلم الساهرون. أعرض النّوافل وغاب العائم، وأومض البارق فأين الشائم. إنّ الحيّ خلوف، يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
/ 346/وعزيز الدولة/ ليس كغيره من الملوك والسادات، لأنّه يوصف بفارس من جهات: فهو فارس الأقران، من فرس الأسد، فارس على الجواد العتد، فارس من فراسة الألمعيّ، سالم من الخطل والعيّ. والإنسان يستحي من نظيره، فكيف من سيّد العصر وأميره! يا فضحة فتاة قيل إنها بيضاء، كأنّها من النّعمة ما تضمّنته الإضاء، حليمة رزان، تزين المجلس ولا تزان، حوراء غيداء، فلما كان الهداء، وجدت على خلاف ذلك، فإذا بياضها سواد رائع، والنّعمة جفاء فى الجسد ذائع، والحور زرق مباين، والغيد وقص شائن، وإذا هى سفيهة رواد، لا يشغف بودّها الفؤاد. والمثل السائر:" أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه".(15/466)
ولست أرضى لحضرة [مولاي] الشيخ بتحيّة نصيب، لأنّه رضى بعشر تحيّات في الصبّاح، وعشر عند الرواح ووليّه يحمل إلى حضرته الجليلة تحيّة شاكر طروب، تصل شروق الشّمس بالغروب، وتكر من طلوع الشفق، إلى حين تمزّق ثياب الغسق، كلمّا اجتازت بالصّعيد الأعفر، جعلته كالهنديّ الأذفر. إن شاء الله تعالى.
وأثبتنا هذه الرسالة بجملتها لاتّساقها، واتّفاقها. وهي كبنيان لو أخذت منه لبنة لا نقضّ، وسلك لو انحلّ منه طاق لتداعى فيه النّقض، وكعقد لو انفرطت درّة منه لا رفضّ، وكصفّ لو نقل منه واحد لتخلّى عن البعض.
ومن رسالة له سماها رسالة المنيح «1» :
إن كان للأدب نسيم يتضوّع، وللذّكاء نار تشرق وتلمع، فقد فعمنا على بعد الداّر أرج أدبه، ومحا اللّيل عنّا ذكاؤه بتلهّبه، وخوّل الأسماع شنوفا غير ذاهبة، وأطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة. وذلك أنّا، معشر أهل هذه البلدة، وصف لنا شرف عظيم، وألقي إلينا كتاب كريم،/ 347/قراءته نسك، وختامه بل سائره مسك، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
. أجلّ عن التقبيل فظلاله المقبّلة، ونزّه أن يبذل فنسخه المبتذلة، وأنّه عندنا لكتاب عزيز. ولولا الإلاحة، على ما ضمن من الملاحة، والخشية على دجى مداده من التوزّع، ونهار معانيه من التشتّت والتقطّع، لعكفت عليه الأفواه باللّثم، والموارن بالانتشاء والشمّ، حتى تصير سطوره لمىّ في الشّفاه، وخيلانا على مواضع السّجود من الجباه.
منها:
موشّحا بكل شذرة أعذب من سلاف العنقود، وأحسن من الدّينار المنقود، فجاء كلوائح البروق، أو يوح عند الشّروق.(15/467)
ولو أنّ شوقه إلى حضرته تمثّل فمثل، وتجسّم حتّى يتوسّم، لملأ ذات الطّول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يكتف حتّى يكلّف الخطوة، أن تسع صهوة، والراحة، أن تكون مثل الساحة. وبلغ وليّه السّلام الذي لو مرّ بسلمة وارية لأغدقت، أو سلمة عارية لأورقت، فحمل فؤادي من الطّرب على روق اليعفور، بل فوق جناح العصفور، فكأنّما رفعني الفلك، أو جاءني الملك.
منها:
وكدت لولا اشتمال المخاوف على هذه المحلّة، واشتعال الضمائر فيها بقبس الغلّة، أحسب سلامه السّلام الذي ذكره البارئ جلّ اسمه في قوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ.
أفبلدتنا جنان، أم وضح لأهلها الغفران، أم نشروا بعد ما قبروا، أم جزوا الغرفة بما صبروا، فهم يلقّون فيها تحيّة وسلاما. وإن نالوا بمنهّ أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد أنزلت بهم خلّة من خلال الأشقياء الكفّار، وذلك أنهم بأسد البلاغة افترسوا، وبأسبابها عقدت ألسنتهم عن الجواب فخرسوا، فكأنّما قيل لهم: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
. وإنّما غرقوا في لجّ التّبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفتوا، فقلم كاتبهم/ 348/عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت. على أنّهم قد راموا تصريف الخطاب فصرفوا، وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مبارك العروج، فلمحوه في مآرك البروج، واستنهضتهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التّبلد فأنجزوا، ولن توجد آثار النّوق، في أوكار الأنوق، فهم يتأمّلون وميضه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيّدهم من الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليمّ كالغدير المسمّى بالغدر، وإلحاق السّها بالقمر ليلة البدر، ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرّازم، فكيف بمن امتطى به عزمه كتد الرّيح، وحكم له سعده بالسّعي النجيح، وخصّه بارئه بطبع راض، صعاب الأغراض، حتّى ذللها، وأبسّ بوحوش اللّغات فأهّلها، فصار حزن كلام العرب إذا نطق به سهلا، وركيكه إن أيّده بصنعته قويا جزلا. فمثله مثل جارسة(15/468)
الكحلاء، تسمح بالمسائب الملاء، تطعم الغرب، وتجود بالضّرب، وتجني مرّ الأنوار، فيعود شهدا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهب لا أعتقده، وقول من سواي يسدّده، يجتذب أجزاء البخار، فيسقى من تحته عذب الأمطار. ومن لنا بأنّ اللفظ المشوف، يمثّل عليه التمثيل من على الحروف، فعساها تبلّ بفقرة زاهرة، أو تظفر باستخراج لؤلؤة فاخرة. على أنّه من العناء سؤال البرم، ورياضة الهرم. وهيهات! بعدت محالّ الغفر الطّالع، عن مزالّ الغفر الظالع، وأعجز البارق، يد السارق، وجلّت الشموس، عن سكنى الرّموس، وهو- رزق لامه، ما رزق كلامه- أولى النّاس، بإضاءة النبراس.
وقد كان فيما مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، وتزيّنوا بالسجع، تزيّن المحول 349/بالرّجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدما على محجّته. لكنهم تعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا. ولو طمعوا فى الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرّتب، على الرّتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل، ليدركوا بطلبهم ما أدرك عن غير جدّ، واغترفه من بديهه العدّ. وكلّهم لو شاهده لرضي بأن يدعى السّكيت في حلبة سيّدنا فيها سابق الرهان، وتمنّى أن يكون زجا في قناة هو منها موضع السنان، ولمّا وردت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة، والقلائد المنفسة، أبطلت كيد السّحار، وعصفت بهشيم الأشعار، فوجد في وطنه أشباح أوزان تتخيّل، وانقاد أذهان تتهيّل، فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
شاهدناه فيما سمعناه المعنى الحصير، في الوزن القصير، كصورة كسرى فى كأس المشروب، وتمثال قيصر في الإبريز المضروب، لم يزر به ضيق الدّار، وقصر الجدار، إن تغزّل فحنين العود، أو تجزّل فهدير الرعود، وإن كان استصغر من ذلك ما استكثرناه، واستنزر من أدبه الذي استغمرناه.
منها:
وإن كان في وانية آدابنا بقيّة إرقال، ولآنية أفهامنا خفيّة صقال، فسوف تنتفع، وهو(15/469)
ذريعة الانتفاع، وتضيء بما أهدى إليها من الشعاع، إضاءة الصّفر، بما قابل من النّيرات الزّهر وقد يرى خيال الجوزاء على رفعتها، في أضاة المعزاء مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتفيض الرّدهة، عن نوء الجبهة. ولو تفوّه بمقال جامد، وهمّ باختيال هامد، لنشرت المعّرة صحف الافتخار، وسحبت ذيل العظمة والاستكبار. عجبا أنّ فكره يلحظها لحظ الشّاهد الساهد،/ 350/إنّما هو في الرّحيل عنها كجسم ذى روح، نقل من الغرقئ إلى اللّوح، وهى بعده كقسيمة الوسيمة، ذهب عطرها، وبقي نشرها. وإنّما شرفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها، لإقامته في تلك الأيام، وإنامته عن أهلها نواظر أزام، فعرفت عند ذلك به، ونالت خيرها من حسبه.
وإنّما فضل الطّور بالكليم، والمقام بإبراهيم. ولقد سمونا بمجاورته، قبل محاورته، سموّ اليثربيّ، بجوار النّبي. ولعل المعرّة علمت أنّه عقد لا يصلح لمقلّدها، وسوار يرتفع لجلالته عن يدها، وتاج لا يطيق حمله مفرقها، وجونة يشرق بذرورها مشرقها. ومغانية الأولى كالشّجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة.
ولم يخف علينا أنّ القمر، لم يخلق للسمر. وليس للمستعير أن يحسب العارية هبة، ولا يظن ردّها إلى المعير مثلبة، لكن شرف للصّعلوك، العارية من الملوك. وقد أفادت هذه البقعة الصّيت البعيد، وانقادت لها أزمّة الجد السعيد.
فطعن وأرجه مقيم، وارتحل وللثّناء تخييم، ولولا جفاء التّربة والأحجار، عن التخلّق بأخلاق الجار، لأصبحت ساحتها للتأدّب مختارة، والفصاحة من عند أهلها ممتارة.
ولكن أبى الجلمود، قبول الطّبع المحمود. وما همّ ابن داية، بصيد الجداية! فكيف يلتقط الفار بالمنقار، ويستر القرواح بالجناح، أم كيف يمدّ الطّراف من النّسع، ويقدّ النّجاد من الشّسع! هذا ما لا يكون، ولا تسبق إليه الظّنون.(15/470)
والظّلم البيّن، والخطب الذي ليس بهينّ، تكليف القطب النابت، مداناة القطب الثابت، وإلزام نسر الحافر، مرام النّسر الطائر.
وإذا قيل فلان أديب، وفلان أريب، فإنّ اتفاق الأسماء، لا يمنع الفراق عند الرّماء.
الذّباب، سميّ طرف القرضاب، وليس كلّ مثّوب/ 351/مبشّرا، ولا كل متثائب مؤشرا، أعرض شأو لا يتعلق بنصبه، وعنّ أمد لا يتعب في طلبه.
نام والله اللاغب، وأدلج الراغب، والعجمة أسهل من البكمة، والحبسة أقلّ ضررا من الخرسة.
ومن يجعل الرّبوة روبة، والسّبت عروبة! وضائع أداء الفروض قبل دخول الأوقات، والإحرام بعد مجاوزة الميقات، وارتياح اللاقطة [بساقطة] النّقد، كارتياح الماشطة بواسطة العقد.
منها:
فقليل العلم منهم يستطرف، ولا يكاد يعرف، كالشّنوف، على الأنوف.
وإنّما يشدو بالترنّم شاديهم، ويغدو في أولى الدّعوى غاديهم، بين أناس يقظة أحدهم أقصر من لحظته، وسنته أطول من سنته، وحلية الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحسن اليراعة، أحسن البراعة.
وربّما جعل الخمار، على وجه الحمار. ليس الضّريع بالمرعى المريع.
إن أغفيت فالوسن يري الحلم الحسن.
هل أدبي في أدبه إلّا كالقطرة في المطرة، والنحلة عند النخلة.
فليته اطّلع من وليّه على كنين الاعتقاد، وجنين السّواد، فيعلم أنّ الرّوع، وجوانح الضلوع، مفعمة له بالإعظام، مترعة بمحبّته إتراع الجام، لا لأنّه جعل حصاتي كثبير، وخلط(15/471)
عثيري بالعبير.
أصف وكلّ وصفي صحيح، وأحلف وحلفي تسبيح.
وليس النّصر بقدم العصر.
وما جحد أحد ضحاه، ولا وحي مخلوق مثل وحاه، ولكن للمهج بالفارط لهج.
وقد أنكر من أعظم العزّى واللات، ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات.
وقد تقبل صلاة الأميّ، ويسمع دعاء الأعجميّ.
وأنا على إسهابي كخابط الظلماء، وباسط اليد الجذماء. ولو جئت من الزّرق بكّر، ما كافأت على الفريدة من الدّرّ. وليس سرب القطا وإن كثر، بمقاوم للبازي ولو لطف وصغر.
352/وأين الماء، من السماء، وموقع السّيل، من مطلع سهيل!
وتالله أساجل بثمدي بحره، ولن يهلك امرؤ عرف قدره. والسلام.
ومنهم:
29- أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان «1»
هو لأبي العلاء أخوه، ولو عدّ معه ألف مثله لم يؤاخوه، على أنّه لم يكن عاريا من فضل يسحب مطرفه. ويصحب مشرفه. وهو وإن كان لا يطير مع أخيه إذا علّى ولا يسبق معه إذا جلّى، فإنّه لا يقصّر عن غاية من الفضلاء لا ينحطّ صفيحها ولا يشتطّ إذا أبعد مرماه فصيحها. وليس له هذا ببدع وهو شقيق ذلك الزّند القادح، ورفيق ذلك النّهد(15/472)
القارح، ومن أحسن ما وقع عليه نظر اللّامح وهزّ غصنه البارح، قوله: [الكامل]
متلهّب الأحشاء تحسب ليله ... أبدا دخانا والنجوم شرار
وقوله يخاطب بعض الشعراء: [الكامل]
زدني من الشعر الذي استنبطته ... من فكرة المتصرّف المستجنس «1»
فدّنية الأشعار تصقل خاطري ... مثل الحسام جلوته بالمدوس
وقوله في ربوع ديار، مرّ برجل يولع منها بقلع أحجار: [الطويل]
أمتلفها شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو زائر أو مسائل
منازل قوم حدّثتنا حديثهم ... فلم أر أحلى من حديث المنازل
ومنهم:
353/30- أبو الحسن، علي بن الدويّدة المعرّي «2»
ملء الفم فخامة، ووقر الصّدر ضخامة، لا تنقضّ بيوته، ولا ينقض ثبوته، ولا يرفضّ لنظمه عقد بمعنى يفوته، غير أنّي لم أسمع شعره إلّا طائحا، ولا رأيت بدره إلّا قدر ما بدا هلاله في أوّل الشهر لائحا، ولا جالست نهره إلّا وقد جرى مدّه العجل سائحا، ولا شممت زهره إلّا في غرّة الفجر وقد هبّ فائحا. وهو ممّن ركب ثبج الأدب لا يبالي بغمراته، ولا يغالي من جوهره إلّا فيما يلتهب ياقوت جمراته.
وممّا نورده ممّا سقط إلينا من شعره سقوط النّدى، ووقع علينا وقوع الماء الزّلال على شعل الصدّى، قوله: [الكامل](15/473)
جنبوا الجياد إلى المطيّ فغادروا ... بالبيد سطرا من حروف المعجم
فترى بها عينا بوطأة حافر ... وترى بها هاء بوطأة منسم
ومنه قوله يرثي [عمّ أبيه أبي مسلم وادع] «1» من قصيدة: [المتقارب]
فتى تجتليه لحاظ الرّجاء ... كما يجتلى القمر الطالع «2»
354/ومنهم:
31- السابق أبو اليمن ابن أبي مهزول المعّري «3»
جلّى فسّمي سابقا، وجدّ فكان اسمه لمسّماه مطابقا، وحلّ في لفظه المسك عابقا وحلّى صنعته بما لا تنشره ملاءة الربيع، ولا تشبه منطقة البروج فيما لها من التوشّية والتّوشيع.
كأنّ النعمان أفضى إليه بوصف شقيقه، أو عهد إليه من الزّهر الغضّ بما أدرجه في تنميقه، ولولا أنّ يد الزمان غالت نفائسه غيرة عليها من البذلة، وضنّة بها أن تجيء معترضة في كلّ جملة لأودعنا كتابنا هذا منها كنوزا مغنية ورموزا لحاذق النّظر معنيّة، وما عنّ فكرامته في قلّة دورانه على الألسنة وما طاب في الذوق فحسب اللبيب منه كلمة محسنة، والذي وقع إلينا من بقية ما ترك، وهدّية ما علق من تقييد الخطّ في شرك، قوله: [المتقارب]
كأنّ الشقائق والأقحوان ... خدود تقبّلهنّ الثغور
فهاتيك أخجلهنّ الحيا ... وهاتيك أضحكهنّ السرور
ومنه قوله يهجو: [السريع](15/474)
إليّ أرسلت مقال الخنا ... ستحرق النار فم النافخ «1»
أقدمت يا أوقح من أيّل ... على ابتلاع الأرقم السالخ
يا حلقة الخاتم يا إبرة ال ... الخياط يا محبرة الناسخ
ومنه قوله في مليح ينظر في مرآة: [الوافر]
وظبي قابل المرآة زهوا ... فأحرق بالصبابة كلّ نفس «2»
وليس من العجائب أن تأتّى ... حريق بين مرآة وشمس
ومنه قوله يهجو ابن البوين «3» الشاعر: [السريع]
355/شعر البوينيّ له روعة ... ليس لها في النقد محصول «4»
مثل جبال الشمس ممدودة ... ما فاتها عرض ولا طول
ومنه قوله في رثاء عمّ أبيه أبي مسلم، وادع من قصيدة: [الطويل]
أبا مسلم لا زلت منّا على ذكر ... ولا درست آيات علياك في الدّهر «5»
وكنّا نعدّ الصبر للخطب يعترى ... إلى ان أصبنا عند يومك بالصّبر
ومنهم:
32- الوامق المعري «6»(15/475)
شعره صديق الأرواح، رقيق كما راقت الراح. للقلوب به زهو، وللعقول منه سكر ما معه لغو. يطمع سهله كالأدماء الكانسة، ويؤيس ممتنعه كالدّراري ولكنّها غير الخانسة.
اخترع وولّد، وتزيّن في الأدب بما تزيّد، لو تمثّل معناه أراك الرّشأ الأغيد، وانبرى لك في هيئة الخدّ المورّد، وظفرت له ببيتين علا مبناهما على من ناواهما، وعمّرا بالشمس والقمر وما والاهما، وهما: [البسيط]
انظر إلى منظر يسبيك منظره ... بحسنه في البرايا يضرب المثل
نار تلوح من النارنج في شجر ... لا النار تخبو ولا الأغصان تشتعل
ومنهم:
33- الأمير أبو الفتح، [الحسن بن عبد الله بن أحمد] «1» ابن أبي حصينة «2»(15/476)
جمع أبو العلاء المعري ديوانه، ورفع في السماء كيوانه، وتكلّم على غريبه فتقدّم حرّا على عريبه. وقال أبو العلاء «1» : سألني أن أسمع شعره فقرئ عليّ ما أنشأه من أنواع القريض فوجدت لفظه غير مريض، ومعانيه صحاحا مخترعه، وأغراضه بعيدة مبتدعه، وهو وإن كان متأخرا في الزمان وكأنّه من فرط عهد النّعمان. ومن سمع كلامه علم أنّه لم يعر شهادة، ولا حرم في إبداع الكلم سياده. انتهى قوله فيه.
356/ولقد وقفت على هذا الديوان فوجدته قد أكره ثقل التجنيس عفوه، وكدّر رنق التكليف صفوه إلّا ما ندر له من الأبيات الآهلة المغاني بأهلّة المعاني البارعة جمالا يفتن وكمالا يؤذن بأنّ قيمة كلّ امرئ ما يحسن، فإنّها لم تخل من مثل شرود، وأمل لمن يرود أتت عليها نزعة بداوة، وجرعة زلال لم تغيّر بأداوه. ما خضخضت قليب سجله الأرشية ولا مضمضت فم منهله الأسقية، كأنّما قال أعربي في طمريه زرود، وقال عليه أوان ورود فهبّ ينمّ بالنسيم الحاجريّ ريحه، ويتبلبل ببلل الطلّ في طرّة السّحر شيحه.
ومن شعره الفتّان مليحه، قوله: [البسيط]
يا ساكنين بحيث الخبت من هجر ... أطلتم الهجر مذ صرتم إلى هجر «2»
عودوا غضابا ولا تنأى دياركم ... فقلّة الماء ترضي الكدر بالكدر «3»
ومنها قوله: [الطويل]
وذبّل من رماح الخطّ حاملة ... من الأسنّة نيرانا بلا شرر «4»(15/477)
إذا هووا في متون الدّارعين بها ... حسبتهم غمسوا الأسطال في الغدر
ومنه قوله: [الطويل]
بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا ... وما ذاك إلّا حين عممّك الوخط «1»
من الآنسات اللابسات ملابسا ... من الصّون لم تدنس لها بالخنا مرط
شرطت عليهنّ الوفاء فمذ بدا ... بياض عذاري للعذارى قضي الشرط
كأنّ الفتى يرقى من العمر سلّما ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ
ومنها:
فدع ذا ولكن ربّ ليل عسفته ... بركب كأنّ العيس من تحتهم مقط «2»
على كلّ موّار الوضين كأنّه ... مريرة قدّ لا يبين له وسط «3»
357/وقد لاح للرّكب الصباح كأنّه ... بدا من جلابيب الربى لمم شمط «4»
ونجم الثريا في السماء كأنّها ... صنوبرة من صائغ الدّر أو قرط
وقوله: [مجزوء الرجز]
سقى محلا قد دثر ... أوطف وسميّ البكر «5»
ما دقّ من روس الإبر ... قدحك بالمرخ العشر
غبّ ربيع وصفر ... ينفض أهداب الوبر
فهنّ أمثال الزبر ... يرى على وجه العقر
من وبله إذا انحدر ... إمّا غديرا أو نهر(15/478)
أو الثماد في النّقر «1» ... أمثال أحداق البقر
كأنّما ذاك المطر ... يد المعزّ المشتهر
ومهمه جمّ الخطر ... ظليمه تحت الخمر «2»
يخضن درما كالأكر «3» ... حتى إذا جاع ابتكر
إلى هبيد في عجر ... مفوّقات كالحبر
ومقفر حزت الغرر ... فيه بحدّب كالمرر «4»
قد ذبن من طول السّفر ... إلى فتى ساد البشر
يعطي [اللهى] بلا ضجر «5» ... كأنّما عادى البدر
مناقبا ملء السّير ... فلو سكتنا لم نصر
والصّبح يغنيه النظر ... عن شاهد إذا انفجر
ومنه قوله: [الوافر]
ومائرة الأزقّة مبريات ... كأنّ على غواربها صلالا «6»
شربن الخمس بعد الخمس حتى ... ظمئن فكدن يشربن الطلالا «7»
ومنه قوله: [الكامل]
ماضي الجنان إذا تقلّد مخذما ... ألقى النّجاد على نظير المخدم «8»(15/479)
جلد على نوب الزمان كأنّما ... ريح تهبّ على هضاب يلملم
ومنها:
جنبوا الجياد إلى المطيّ فسطّروا ... في البيد سطرا من حروف المعجم «1»
فترى بها عينا بوطأة حافر ... وترى بها هاء بوطأة منسم
ومنه قوله: [الطويل]
358/وإن كنت لم أدرك جزاك فإنّني ... أبيت بما أوليتني ولي الجهد «2»
ولم أر مثل الحمد ثوبا للابس ... وأدون ثوب أنت لابسه الحمد «3»
وقوله: [الكامل]
وأضعت مدحي قبله في غيره ... إنّ المدائح في سواه تضيّع «4»
يثني عليه بدون ما في طبعه ... كالمسك أيسره الذي يتضوع «5»
ومنه قوله: [الكامل]
ولقد سرى برق العراق فهاج لي ... بالشام وجدا من سنا لمعانه «6»
يبدو لعينك في الظلام كأنّه ... صلّ الكثيب منضنضا بلسانه «7»
فكأنّه والليل معتكر الدّجى ... نار المعزّ على متون رعانه(15/480)
ومنه قوله: [الكامل]
للورد حمرة خدّه والغصن هز ... زة قده والظبي مدّة جيده «1»
أهوى الدجى من أجل أنّ هلاله ... كسواره ونجومه كعقوده
وقوله: [البسيط]
لا تحسبي شيب رأسي أنّه هرم ... فإنّما ابيضّ لمّا ابيضّت الهمم «2»
وللشّبيبة بنيان تكمّله ... لك الثلاثون عاما ثمّ ينهدم
ومنه قوله: [الكامل]
ما ضرّ من حدت النّوى أحمالها ... لو أنّها أهدت إليك خيالها «3»
يا صاحبيّ قفا عليّ بقدر ما ... أسقي بواكف عبرتي أطلالها
ولقد سرت بك والركاب لواغب ... مرقالة شكت الفلا إرقالها «4»
لعبت بنمرقها الشمال ومزّقت ... في البيد أنياب العضاة جلالها
ومنه قوله: [الطويل]
359/وقد أغتدي والليل قد محّ برده ... ونجم الثريا في المغارب وسنان «5»
بجائلة الأنساع مالت من السّرى ... كما مال من رشف الزجاجة نشوان
تدوس الحصا أخفافها وهو لؤلؤ ... وترفعها من فوقه وهو مرجان
تناهبني مرتا كأنّ نعامه ... تسوس أكبّت في مسوح ورهبان «6»(15/481)
ومنه قوله: [البسيط]
منّت عليه بك البيداء واتخّذت ... فعلا جميلا إليه العرمس الأجد «1»
أسرت فغمّض طول الليل أعينها ... كأنّما كفّ من أبصارها الرّمد
مجهولة البيد لم يمدد بها طنب ... من الغريب ولم يضرب لها وتد
كأنّما الآل فيها حين تنظره ... يمّ ونوارها من فوقه زبد «2»
ومنه قوله: [البسيط]
لو شئت أقصرت من لومي ومن عذلي ... فالدّهر قسّم يوميه عليّ ولي «3»
لا تحسبيني أغضّ الطرف من جزع ... فالحزن للخود ليس الحزن للرجل
إنّا لقوم إذا اشتدّ الزمان بنا ... كنّا أشدّ أنابيبا من الأسل
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... ونحن أغلظ أكبادا من الإبل
ومنه قوله: [البسيط]
بصحّة العزم يعلو كلّ معتزم ... وما حلا غمرات الهمّ كالهمم «4»
والعزّ يوجد في شيئين موطنه ... أمّا شباة حسام أو شبا قلم «5»
ومنه قوله: [الوافر]
إذا شهد الطّعان به ثناه ... وقد أدمى ضليفيه العنان «6»(15/482)
360/بحيث ترى الرماح محطّمات ... كأنّ حطامهنّ الأرجوان «1»
إذا طعن المدجّج في قراه ... قرا ما في ضمائره السّنان
كأنّ الرّمح حين يسلّ منه ... وجار سلّ منه الأفعوان
ومنه قوله: [الطويل]
لقد أيّدت كفّ لها منك ساعد ... وطال بناء شاده منك شائد «2»
أرى الناس في الدنيا كثيرا عديدهم ... وأكثر منهم نصب عيني واحد
ومنه قوله: [الكامل]
لمّا طلعت على سمند سابح ... في لون حلي لجامه والمركب «3»
سود قوائمه ولكن جسمه ... لولا السبائب كالقضيب المذهب «4»
نهدت مراكله وأشرق متنه ... وعلت مناكبه علوّ المرقب
وكأنّما خاض الدّجى فتسربلت ... منه شوامته بمثل الغيهب
سلس القياد كأنّ فضل عنانه ... ممّا يلين مركّب في كوكب «5»
ومنه قوله في قصيدة: [الطويل]
لقد خامرتني من هواك صبابة ... تعود بها مثل الجراح الجوارح «6»
ومنه قوله من قصيدة أوّلها: [البسيط](15/483)
خير الأحاديث ما يبقى على الحقب ... وخير مالك ما دارا عن الحسب «1»
منها:
عرض الفتى حين يغدو أبيضا يققا ... خير من الفضّة البيضاء والذّهب «2»
منها في المديح:
روحي فدى لأبي العلوان من ملك ... سمح اليدين بتاج الملك معتصب «3»
361/قد بيّضت ناره الظلماء أو تركت ... لون الدّجى لون رأس الأشمط الجرب
وفي القباب اللواتي أبرزت ملك ... يمينه رحمة صبّت على حلب «4»
تلقى الملوك كثيرا إن عددتهم ... وفي الذوابل فخر ليس في القصب
ما سار نحو العدى في جحفل لجب ... إلّا وقام مقام الجحفل اللّجب
في ظهر عارية الظهرين قد دربت ... بالطعن من تحت طبّ بالوغى درب
تعود مبيضّة المتنين من زبد ... محمرّة الفم والرّسغين واللّبب
كقهوة صفقت في الكأس فاكتسبت ... بالمزج لونين لون الراح والحبب
ومنه قوله من قصيدة: [البسيط]
كنتم ثلاثة آلاف وردّكم ... ثلاثة وأبى أن ينفع العدد «5»
وما القليل قليلا حين تخبره ... ولا الكثير كثيرا حين ينتقد
ومنه قوله: [الوافر](15/484)
سحائب كلّما رفعت شراعا ... يفرّغ درّه أرخت شراعا «1»
تمدّ لريّها الجوزاء كفّا ... وتبسط نحوها الأسد الذراعا
ويلمع برقها والليل داج ... كما عانيت في اليمّ الشعاعا
ومنها:
رماهم بالسلّاهب مقربات ... يزلزلن الأباطح والتلاعا «2»
وحجّبن السّنا بالنقع حتى ... كأنّ الشمس لابسة قناعا
ومنها:
إذا فعل الكريم بلا قياس ... فعالا كان ما فعل ابتداعا «3»
مكارم ما اقتدى فيها بخلق ... ولكن ركّبت فيه طباعا
362/علوت إلى السماء بكلّ فضل ... فكاد الجوّ يخفيك ارتفاعا
وآخيت النّدى والجود حتى ... حسبنا أنّ بينكما رضاعا
ومنه قوله: [البسيط]
أمّا فؤادي فقد أضحى أسيركم ... يا ويحه من فؤاد ماله فادي «4»
كيف الخلاص وقد أضرمت في كبدي ... زندين ضدّين من خاف ومن بادي
ومنه قوله: [الكامل]
لو كان ينفع في الزمان عتاب ... لعتبته في الرّبع وهو يباب «5»(15/485)
عجنا عليه العيس نسأل رسمه ... لو انّ من سأل الطلول يجاب
دمن لأحباب نحبّ ديارهم ... من أجلهم فكأنّها أحباب
ومنه قوله: [البسيط]
يا ليل ما طلت عمّا كنت أعرفه ... وإنّما طال بي فيك الذي أجد «1»
ومنه قوله: [الوافر]
بكلّ غريرة تهتزّ لينا ... كما يهتزّ مشمول اليراع «2»
ألاحظها بطرف غير سام ... وأتبعها فؤادا غير واع
ومنه قوله مديحا: [الطويل]
ملكت على الأعداء شرقا ومغربا ... فليس لهم شرق يجنّ ولا غرب «3»
سلوا عن ورود الماء في كلّ مصبح ... فقد يئسوا منه كما يئس الضبّ
ومنه قوله من قصيدة يصف البرق: [الكامل]
يحمرّ أعلاه وينصع متنه ... فسناه يلمع مذهبا ومفضّضا «4»
363/روحي الفداء لحائل عن عهده ... عرّضت بالشكوى إليه فأعرضا
ولساخط يرضيه قتلي في الهوى ... فأموت بين السخط منه والرّضا
ومنه قوله من قصيدة يمدح: [الوافر]
إذا خفقت له أعلام جيش ... فقد خفقت قلوب الخافقين «5»(15/486)
ومنه قوله: [الطويل]
ولمّا وقفنا للوداع ودمعها ... ودمعي يبثّان الصبابة والوجدا «1»
بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا
وقوله: [الكامل]
بيض يكنّ إذا انتقبن أهلّة ... وإذا سفرن النّقب كنّ شموسا «2»
أنهبننا لما برزن محاسنا ... وصددن عنّا فانتهين نفوسا
وقوله: [المتقارب]
إذا جذبنا برى اليعملات ... بين المخارم ظلّت تبارى «3»
وأمّمن بحرا إذا ما شرعن ... إلى مائه العذب عفن البحارا
أقول لصحبي نحو الغمير ... وقد ضلّ حادي المطايا وحارا
تيامنتم عن بلاد المعزّ ... فعوجوا يسارا تلاقوا يسارا «4»
ومنه قوله: [الكامل]
قد أدمنوا لبس الدّروع كأنّما ... صارت لهم عوض الجلود جلودا «5»
يتهجّمون على الحمام كأنّما ... يجدون في عدم الحياة وجودا «6»(15/487)
أيمانهم مثل البحور وإنّما ... جعلوا له مدّ الأكفّ مدودا
وقوله: [الكامل]
ولربّ مرت قد رميت فجاجها ... تحت الدجى بحنيّة مرنان «1»
تنزو براكبها إذا متع الضحى ... مرحا كما ينزو فؤاد جبان
364/وتسيل ذفراها وقلت حجاجها ... عرقا كلون عصارة الرّمان
وكأنّ موضع ما يخطّ زمامها ... فوق التراب مراغة الثعبان
ومنها قوله:
من معشر بيض الوجوه كأنّهم ... وسط النديّ مصابح الرّهبان «2»
ما دوا العلى بسنان كلّ مثقّف ... قاني الشبا وغرار كلّ يماني «3»
وثنوا أنابيب الرماح كأنّما ... يقطرن من علق سلاف دنان
وكأنّ معوجّ الأسنّة بعد ما ... طعنوا بهنّ مخالب الغربان
وكأنّما قطع الرماح تدوسها ... أيدي الجياد سبائك العقيان
قوم إذا لبسوا التّريك لحادث ... غطّوا بهنّ مواقع التيجان «4»
ومنه قوله: [الكامل]
ما كلّ من طلب النجاح منجّحا ... في قوله وفعاله ومرامه «5»
إنّ الذي يرمي السّهام نوافذا ... يرمي وليس يصيب كلّ سهامه(15/488)
[وقوله] «1» : [السريع]
لا يختشي فوت العلى ضارب ... بنفسه في الهول ضرب القداح «2»
إن أدرك الأمر الذي رامه ... فاز وإن ذاق الحمام استراح
ومنه قوله:
يكاد أن يختم من وطئه ... أهلّة فوق ظهور البطاح «3»
كالغادة الحسناء أرسانه ... يلعب في هاديه لعب الوشاح
له سبيب مسبل خلفه ... كأنّه قرع القناة الرّداح
إذا مشى سدّ به فرجه ... مثل عثاكيل نخيل القراح
365/ويسمع الصوت بمنصوبة ... كأنّها قادمة في جناح
ومنه قوله:
ونصب عينيّ فتى ماجد ... سلاحه النّصر ونعم السلاح «4»
ما للغوادي نفع إحسانه ... وإنّما وصف الغوادي اصطلاح
تكاد أن تشرب أخلاقه ... من طيبها شرب الزلال القراح
وليلة كلّفت صحبي بها ... خبط الدّجى باليعملات الطلاح
ومنه قوله: [الكامل]
قل للغمام إذا استهلّ مطيره ... وانهلّ أوّله وسحّ أخيره «5»(15/489)
أحسبت أنّك حين صبت عديله ... وظننت أنّك يا غمام نظيره
أبدا لناريفان أمّا خيره ... لا زال منتجعا وأمّا خيره
ومنه قوله: [الوافر]
وليل بتّ أخبط جانبيه ... بدامية الحزامة والبطان «1»
تحيّف شخصها التأويب حتى ... لكادت أن تدقّ عن العيان
وسال جحاجها عرقا بهيما ... كلون الوكف من خلل الدخان
أقول لفتية لغبوا وليلي ... وليلهم مكبّ للجران
وقد مالت رقابهم ولا نوا ... على الأكوار لين الخيزران
أبو العلوان مقصدكم فهزّوا ... إليه عرائك الإبل الهجان «2»
ومنه قوله يصف مقتل ذئب: [الطويل]
وأطلس مدلاج إلى الرزق ساغب ... يراح إلى ضنك المعيشة أو يغدى «3»
366/غدا معرضا للجيش يقصد جبنه ... وما كان أمّا للرجال ولا قصدا
فلمّا رأى خيل المنايا معدّة ... إليه تمطّى كالشراكين وامتدّا
سما نحوه طرف امرئ لو سما به ... إلى جبل لانهدّ من خوفه هدّا
فأوجره سمراء لو مدّ باعه ... بها طاعنا للسدّ أنفذت السّدا
فخرّ مكبّا للجران ونفسه ... تسرّ لمرديه الضغينة والحقدا
فقلت له يا ذئب لا تخش سبّة ... فمرديك أردى قبلك الأسد الوردا
وما هي إلّا ميتة قلّ عارها ... إذا أرغم السّيدان من أرغم الأسدا(15/490)
ومنه قوله: [البسيط]
لو كنت في عصر قوم سار ذكرهم ... في الجاهلية لم تكتب لهم سير «1»
إنّ العصور وأهليها الذين مضوا ... مذ مرّ ذكرك بالأسماع ما ذكروا
انظر لتنظر شيئا جلّ خالقه ... يحار فيه وفي أمثاله النّظر «2»
طوقا على الملك الميمون طائره ... كأنّه هالة في وسطها قمر
وحلّة من أديم الشمس مشرقة ... لا يستطيع ثباتا فوقها البصر
توقدّ التبر حتى لو دنوت به ... من عرفج لرأيت النار تستعر
قد كفّها عن كثير من توقدها ... خرق ترى الماء من كفّيه ينعصر
وصارما ذكرا قد ناب حامله ... عن الخليفة هذا الصّارم الذّكر
كأنّما حمّلت منه حمائله ... عقيقة أو جرى في غمده نهر
وراية بات معقودا بذروتها ... من فوقه العز والتأييد والظّفر
تهتزّ من فرح والعزّ شاملها ... كأنّما عندها من سعدها خبر «3»
367/خفّاقة كقلوب الشانئين لها ... إذا تمكن منها الخوف والحذر
هوت نحور العدى والنجب حاملة ... تلك القباب عليها الوشي والحبر
خوص تهادى بأنماط مصوّرة ... تكاد تنطق في حافاتها الصّور
ومنه قوله: [الرجز]
وجنّة زهت بها الغروس ... أغصانها مونقة تميس «4»
كأنّها حين تميس العيس ... رنّحها التهجير والتغليس(15/491)
إلى فتى بعض عداه الكيس ومنه قوله: [الطويل]
خليليّ مالي أصطفي بين أضلعي ... أخا ليس يخلو أن تغول غوائله «1»
أعفّ ولا أجزيه جهلا بجهله ... ولا آكل اللحم الذي هو آكله
سيزداد غيظا كلّما مدّ باعه ... فقصّر عن إدراك ما هو نائله «2»
فيا منطقي أطلق عنانك إنّما ... يعدّ الحسام العضب للضرب حامله
يغلّ بنعماه الرّقاب كأنّما ... صنائعه أغلاله وسلاسله
وقد طاولته النّيرات فطالها ... فأيّ امرئ بعد النجوم يطاوله
جلا كربة الاسلام والشرك حالف ... بمجر يسدّ الخافقين جحافله
لهام يسدّ الجوّ بالنقع زحفه ... وتقلع أوتاد الجبال زلازله
ومنه قوله: [الطويل]
فإن كنت لا تشكو غناء فقد شكا ... حسام وعسّال وسهم ويعبوب «3»
وهام على البيداء ملقى كأنّه ... صحاف قرى منها سويّ ومكبوب
368/ومنه قوله: [الكامل]
لا شيء أعشق من حسامك للطّلى ... إلّا يداك لنائل وسخاء «4»
أنت السخيّ فلم بخلت على الورى ... أن يشبهوك ولست في البخلاء
ومنه قوله يصف سيفا جفنه من كيمخت أبيض: [الكامل](15/492)
وتقلّد العضب الشبيه بغمده ... فكأنّما هو مصلت لم يغمد «1»
من فوقه سفن يشفّ كأنّه ... حبب يطفّ على خليج مزبد
كثرت بحدّيه الفلول كأنّه ... مما تكسّر في الطّلى فم أدرد
ومنها يصف الفرس:
من كلّ ملفوف النّداد مقلّص ... كالسّيد سيد الردهة المتمّرد «2»
مترفّق يمشي بحلية سرجه ... مشي المقيّد وهو غير مقيّد
ومنها في الراية البيضاء:
ووراء ظهرك راية مرفوعة ... تهدي الخميس من الضّلال فتهتدي «3»
كالغادة الحسناء ذات ذوائب ... تهفو وذات تعطّف وتأوّد
في لون عرضك كلّما خفقت بها ... ريح الصّبا خفقت قلوب الحسّد
ومنه قوله: [الخفيف]
أمرضتني مريضة اللحظ سكرى ... مرضا ما إخاله الدّهر يبرى «4»
ولقد هاج لي رسيسا إلى الغو ... ر خيال من ساكن الغور أسرى
صاح مالي وللهوى كلّما حا ... ولت عنه صبرا تجرّعت صبرا
ذبت وجدا فلو قضيت لما احتج ... ت سوى موطئ البعوضة قبرا
369/وقوله: [الطويل](15/493)
إذا سرت أخفيت النهار بقسطل ... يلفّك في جنح من الليل معتم «1»
كأنّك فيه والقنا يزحم القنا ... هلال سماء طالع بين أنجم
ومنه قوله: [الكامل]
أهوى وحرّ جوى بكم وفراق ... أيّ الثلاث الفادحات يطاق «2»
كلّ الدّماء لأهلها مضمونة ... إلّا دم يوم الفراق يراق
ومنها قوله يصف الرمح والسيف:
ولقد سريت ومؤنسي متمايل ... ميل النّزيف مرّوع مقلاق «3»
في لونه كلف وفي أعضائه ... قضف وفي أوصاله استيثاق
عاري العظام دوين مفرق رأسه ... مثل النطاق ذؤابة ونطاق
هذا وماء جامد ممّا اقتنى ... لزمانه المتجبّر العملاق «4»
طال الزمان عليه حتى إنّه ... لم يبق إلّا ماؤه الرقراق
ومنه قوله في البرق: [الطويل]
أهاج لك التبّريح إيماض بارق ... على الجوّ منه ساطع يتوهّج «5»
بدا موهنا والليل [بالنور] أسفع ... فضّواه حتى الليل أنبط أخرج «6»
فألمحته صحبي وقد مدّ ضوءه ... كما امتدّ من تبر شريط مدّرج(15/494)
أرقت له لمّا بدا الليل طالعا ... عليه من الظلماء ثوب مفرّج «1»
ومنها قوله يصف الحنظل:
ترى ثمر الخطبان فيها كأنّه ... على صفحة البيداء هام مدحرج «2»
تعاديه خيطان النعام كأنّها ... إلى ميرة بزل تشدّ وتحدج
370/ومنها قوله يصف سلخ الأفعى:
وتلقى بها قمص الأفاعي كأنّها ... حباب الحميّا أربدت حين تمزج «3»
يخلّفها الصلّ الذي ملّ لبسها ... كما خلّف الدرع الكميّ المدجّج
ومنها قوله يصف السّرى ورؤية الهلال:
أقول لصحبي والرّكاب شواحب ... كأنّ رذاياها المزاد المشنّج «4»
وقد لاح للساري هلال كأنّه ... من الفضة البيضاء ميل معوّج
ومنه قوله: [المتقارب]
وخلّ الرماح أنابيبها ... لدى كلّ أنبوبة جدول «5»
كأنّ السيوف وقد خضّبت ... سنا البرق أوّل ما تشعل «6»
صوارم عوّدها أن تهان ... فليست تداس ولا تصقل
ومنها:(15/495)
رجال ترفّ مناياهم ... عليهم كما رفرف الأجدل
كأنّي بهم قوت وحش الفلا ... فهنّيت رزقك يا جيأل
ومنه قوله: [الطويل]
وقد كنت ذا ذخر من المال صالح ... وما تركت لي كثرة النّسل من ذخر «1»
جنيت على نفسي بنفسي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي خفّ من ظهري «2»
ومنه قوله: [الطويل]
جزى الله خيرا ليلة خاضت الدّجى ... إليك وسافتها الغريرية الهدل «3»
وضعت يميني في يمينك للغنى ... فأوّل بؤسي زال عنّي بها البخل
وقوله: [الوافر]
إذا كانت منايانا طباعا ... فما تحتاج ما طبع القيون
371/فلو سلم الطعين وعاش دهرا ... لمات بغير طعنته الطّعين
ومنه قوله: [البسيط]
حمر الأسنّة في أطرافها سرع ... إلى الكماة وفي أعقابها مهل
كأنّها وهي في الماديّ مسرعة ... غدر يغيّب في أمواجها الشّعل
ومنه قوله: [الطويل]
تركنا سيوف الهند خشنا متونها ... على اللمّس ممّا كسّرت في الجماجم
لعمري لنعم القوم قوم تغايروا ... على العرّ حتى أيقظوا كلّ نائم(15/496)
وخيل تماشى في الحديد كأنّما ... كسونا هواديها سلوخ الأراقم
ركبنا بها الأهوال حتى تكشّفت ... عماية ذاك العارض المتراكم
فأمست رجال من عديّ بشاهق ... يبثّ عليها فيه رغد المطاعم
بأرجلهم دهم جناها ركوبهم ... لدهم جرت من تحتهم في العواصم
ومنه قوله: [البسيط]
طاف الخيال بناو الصبح محتجب ... كأنّه صارم في الليل معمود
والشهب في جوّها مثنى وواحدة ... كأنّها الدرّ مبثوث ومنضود
والليل كالأمة السوداء في يدها ... معلّق من ثريا الجوّ عنقود
والنسر كالنسر مبسوط قوادمه ... ينجو وصاحبه بالغرب مصيود
ومنها:
نادمت صحبي بها والراح بينهم ... تضيء منها جلابيب الدّجى السود
تفرّقت فهي في صدر الفتى طرب ... جمّ وفي وجنة الندمان توريد
أعني مديح أبي العلوان شاربها ... أن يقرع الدفّ أو يستحضر العود
372/غنّى الحمام وغنّيت النديم به ... فلي وللطير تغريد وتغريد
ومنها في السيف:
وفي يمينه ماضي الحدّ ذو شطب ... كأنّ ضربته الفوهاء أخدود
ما رقّ قطّ ولكن رقّ مضربه ... ممّا تداوله صون وتجريد
ومنها:
وفوقه ثوب ماء كان أحكمه ... لنفسه من قديم الدّهر داود
مضاعف السّرد قد سدّت خصائصه ... فللمنايا طريق عنه مسدود(15/497)
ومنه قوله: [الطويل]
مواض فواض شبن ممّا تصعّبت ... وهانت عليهنّ الخطوب اللوازب
تكسّر في الهامات حتى تظنّها ... من الضّرب لم يحل لهنّ مضارب
وحطّته تشكو اللقاء وتشتكي ... أنابيبها قبل اللقاء المناكب
تعاودن قبل الرّوع عوجا كأنّما ... تعلّق في أطرافهنّ العقارب
ومنها قوله:
وفي ولديك السالمين بقية ... تسرّ فلا ينصبك للهمّ ناصب
وما النّسل بالغالي عليك التماسه ... إذا كان لا تغلو عليك الكواعب
ومنه قوله:
وعضب له من رونق الماء رونق ... وجسم ومن حدّ الردّى حدّ مضرب
كأنّ غماما أمطرت فوق غمده ... صغارا من الدرّ الذي لم يثقّب
ومنه قوله: [الوافر]
أدائمة الكرى لو كان عدلا ... هواك لما نفى عنّي المناما
373/ولو أنصفتني لوصلت يوما ... وكنت مثابة وهجرت عاما
[ومنه قوله] «1» : [الوافر]
تعاتبني أمامة في التّصابي ... وكيف به وقد فات العتاب «2»
نضا منّي الصّبا ونضوت منه ... كما ينضو من الكفّ الخضاب
ومنه قوله يرثي: [الكامل](15/498)
ولد النّدى معه وعاشا برهة ... لا فرق بينهما وقد ماتا معا
قطعت يد مدّت إليه فإنّها ... قطعت عن الياس الربيع الممرعا
وقوله: [الوافر]
وردت بهم ونسر الجوّ يحكي ... أثافي القدر في الأفق العليّ
وقد حكت الثريا شنف خود ... وباقي البدر خلخال الهديّ
منها يصف الرماح:
لهنّ إذا اشتجرن غدّاة حرب ... قراع مثل وسواس الحليّ
ومنه قوله: [البسيط]
تندى يداه ويندى صدر ذائله ... من الفوارس والأرماح تشتجر
ردّ الأسنّة والأوضاح واحدة ... حتى تشابهت الخرصان والغرر
وقوله: [الوافر]
تحنّ إلى البقيع وحبّ هند ... تكلّفك الحنين إلى البقيع
وترجو أن يزورك طيف هند ... ولست لما رجوت بمستطيع
ولو سمحت بمسرى الطّيف هند ... لما سمحت جفونك بالهجوع
منها في وصف ذئب:
ترنّم ذيبه الطاوي ثلاثا ... ترنّم شارب الكأس الخليع
وقوله: [الكامل]
من كلّ جائلة الوشاح غريرة ... ترمي إلى المهجات سهما صائبا
ضنّت بوصلك واستنابت طيفها ... خوف الوشاة فلا عدمت النائبا(15/499)
374/ومنه قوله: [الكامل]
أسفي على عصر اللّوى أن لم يعد ... وعلى التيام الشمل أن لم يرجع
بانت أمامة وانثنيت وفي يدي ... أرمام باقي حبلها المتقطّع
بخلت عليّ بوصلها وتمنّعت ... سقيا لذاك الباخل المتمنّع
ومنه قوله: [الكامل]
ولقد سريت يشقّ بي غلس الدّجى ... وحف السبائب كالرداء المسبل
وكأنّما الأوضاح فوق إهابه ... صبح تقطّع فوق ليل أليل
هذا ومن [] «1» ... وافي الخزامة والنّسا والمركل
كاسي المناكب لا يزال حميمه ... ينصب من مثل الإزار المخمل
ومنه قوله: [البسيط]
وليلة بتّ أفنيها مشاهدة ... والنسر لم يسر والضرغام لم يثب
وقد أطلّ هلال في أوائلها ... كأنّه نصف خلخال من الذّهب
ومنه قوله: [البسيط]
هل في الأخلّاء من خلّ أخي ثقة ... أصفيه ودّي مدى عمري ويصفيني
وما أصيب ولكنّي أصيب أخا ... يفوّق السهم مشموما ويرميني
وقوله: [البسيط]
ابشر فإنّك من عاداتك الظّفر ... ما أومض البرق إلّا أسبل المطر
تلقى الليالي بسعد لا احتباس له ... ويصنع الله ما لا يحسب البشر
وقوله: [مخلع البسيط](15/500)
تذهب أرحامكم ضياعا ... لا كانت المدن والضّياع
من قبل أن تشمت الأعادي ... وقبل أن يكشف القناع
375/ومنه قوله: [الخفيف]
ينشدك الدهر مديحي فما ... تحتاج أن تسمع إنشادي
أمضي وذكري غابر فيكم ... فيوم دفني يوم ميلادي
وقوله: [الوافر]
إذا داس التراب بأخمصيه ... تحوّل عنبرا ذاك التراب
فتى يخضّر قائم كلّ عضب ... يجردّه ويحمّر الذباب
ومنه قوله: [الكامل]
وإلى ابن فخر الملك سرن نجائبا ... مثل السفائن في بحور سراب
يثني عليه فتنثني أعناقها ... فكأنّما خلقت بغير رقاب
ومنه قوله: [المنسرح]
كأنّما تحت ثوبه أسد ... عبل الشّوى في ذراعه فدع
إذا مشى تاه في تبختره ... كأنّما في مشاته ظلع
أزلّ طاوي الحشا على زمع ... منبسط تارة ومجتمع
تغدو وحوش الفلا مصرّعة ... أشلاؤها في بيوته قطع «1»
أطلّ من مرقب وعنّ له ... سرب وفيه المسنّ والجذع
فمدّ نحو الصّوار مشعلة ... كأنّها بعد موهن شمع
وانضمّ حتى كأنّه كرة ... وامتدّ حتى كأنّه ربع(15/501)
مدّ إليها أسنّة ذربا ... لا يقع النقع موضعا تقع
فبسطات المتون تحسبها ... مدى ثني رؤوسها الصّنع
فأقعصت لا ترم عالمة ... إنّ المنايا دوارك سرع
كأنّما انحطّ فوقها جبل ... أو مقرم في تليله تلع
376/ذاك أو أرقم بمغصية ... منضنض في إهابه لمع
عفّ عن الزاد أن يعيش به ... فهو يسفّ التراب مقتنع
تهتزّ متناه وهو منبعث ... كأنّ فرط اهتزازه زمع
قدحك ضيق الوجار هامته ... حتى حسبناه أنّه قرع
منها:
طالوا فنالوا السماء من كثب ... واجتنبوا الكبرياء فاتّضعوا
حتّى لظنّ الغنيّ أنّهم ... قد نزلوا والرجال قد طلعوا
أكرم ما في الفتى أواخرها ... عندهم لا الأوائل الشرع
ومنه قوله: [الطويل]
إذا قلت أسلو جدّدت لي صبابة ... صمائم ورق في ذرى الأيك هتّف
تجاوبن في الأفنان حتى كأنّما ... تجاوب فيهنّ اليراع المجوّف
377/ومنهم:
34- الأمير أبو الفتيان مصطفى الدولة محمد بن حيّوس «1»(15/502)
من بيت خيّم على منازل النجوم فخاره، وحوّم على مناهل الغيوم مطاره، كان يدعى بالأمير، لأنّ أباه كان أميرا «1» ، وكان بما يقيت القلوب مميرا، لا ترد المسامع منه إلّا نميرا، ولا تجدّ المجامع به إلّا للكواكب سميرا، ويده في هذه الصناعة لا يماثل صناعها، ولا يقاس بشيء إلّا وطال عليه في القياس ذراعها. وديوانه كبير الحجم «2» ، منير الجوانب كأنّما طلع في آفاقه النجم، وقد اعتمد فيه الجناس فأكثر منه حتى كدّر صفوه الزلال، وعسر عفوه حتى كاد يبطل به عمل سحره الحلال «3» . ومدح الملوك، والأمراء، والوزراء، وحصّل النعمة والثراء، وكان جملة فخر وقلّة ثبات لا يدهده له صخر.
حكى ابن خلكان «4» أنّ أباه كان من أمراء العرب، وأنّه من شعراء الشام، ولد بدمشق، وتوفي بحلب، وكان هو وأبوه في تلك الأيام من أهل اللقب، وله مفاخر باقية على الحقب، وكان يتردّد إلى البادية أحيانا، ويتخّذ له ممّا حول الريّان «5» أوطانا، فأتت على أشعاره فصاحة البدو، ولطف الحضر، وجاءت فيها مواضع كأنّما خرجت من ألسنة العرب، ومرّت بنعمان الأراك «6» عدو بها الطرب، وأخذت من أفواه سكان الأجيرع «7» فجاءت بضرب من الضرب «8» ، ومالت أدواحا، ولا قست النفوس فجرت فيها أرواحا، وكان لا يعيا 378/(15/503)
عليه معنى استغلق فهمه، ولا مبنى استوثق ببيته المشيد أن لا يتمّ نظمه، ولا بعيد من الأغراض ألّا يخطيه سهمه، ولا بديع مثل سحر الجفون المراض يحسن على معاصم العذارى نقشه، وعلى وجنات ذوي العذار رقمه، وله كلّ قصيدة لا يشان في عبارة ولا يشاب أوقاتها مثل صائدة القلوب، وقد قيل: ليس ذا وقت الزيارة «1» .
ومن منتخب أشعاره السيّارة، وقصائده التى سكنت أو كار القلوب ذوات أغاريدها للطيّارة قوله: [الطويل]
ومحجوبة عزّت وعزّ نظيرها ... وإن أشبهت في الحسن والعفّة الدّمى «2»
أعنّف فيها صبوة قطّ ما ارعوت ... وأسأل عنها معلما ما تكلّما
وأذيال دوح نيربيّ تخاله ... سماء دجى أبدت من النور أنجما «3»
إذا قابلت شمس الأصائل ما علا ... تدنّر أو بدر الظلام تدرهما «4»
ومنه قوله: [البسيط]
لي بامتداحك عن ذكر الهوى شغل ... وبارتياحك عن عصر الصّبا بدل «5»
وكيف يعدوك بالتأميل من بلغت ... به عطاياك ما لم يبلغ الأمل
منها:
أمّا عفاتك لا أكدوا فمالهم ... إذا المطامع طاحت عنك مرتحل «6»(15/504)
فالعيس تدرس أيدي الخيل ما وطست ... والمقربات تعفّي وطأها القبل
ومنها:
وكلّ أسمر ما في عوده طمع ... بعد اللقاء ولا في عوده خطل «1»
وكلّ أبيض مضروب بشفرته ... رأس المدجج مضروب به المثل
وكلّ سلهبة أنت الكفيل لها ... ألّا يصاب لها في غارة كفل
379/دهماء كالليل أو شقراء صافية ... تريك في الليل ثوبا حاكه الأصل
ومنه قوله: [الكامل]
نظر الخليفة للملوك كساهم ... تاجا به تسمو وطورا تخضع «2»
ناقضتهم فوهبت ما ضنّوا به ... وحفظت غير منازع ما ضيّعوا
وقوله: [الكامل]
وتنوفة عقمت فما تلد الكرى ... لكنّها للنائبات ولود «3»
فيها يطيش السهم وهو مسدّد ... ويضلّ رأي المرء وهو سديد
أفنيتها بقلائص عاداتها ... أن تنقص الفلوات وهى تزيد
ومنها قوله يصف قصيدة:
لو أنّ فحلي طييّء حضرا لها ... أمضى حبيب حكمها ووليد «4»
مبذولة في القوم وهي مصونة ... معقولة في الحيّ وهي شرود(15/505)
وتكررّت فينا فممّا كررّت ... قد صار يحفظها الدّجى والبيد
ومنه قوله: [الوافر]
ومن بعد الألوف منحت كوما ... غنيّ من تقلّ ومن تمون «1»
محرّمة الغوارب ما علتها الرّ ... جال ولا تبطّنها وضين
وقوله: [الطويل]
ذر الهمّ للمرتاد مالا يناله ... ومن لم تنكّبه الخطوب النواكب «2»
وذلّل عصيّ النوم بالسطوة التي ... أرحت بها نوم الورى وهو عازب
مهلّلة نصريّة صالحية ... حمتها العوالي والرّهاف القواضب «3»
380/وكنت شجى للآخذيها تعدّيا ... ولولا الشّجى ما غصّ بالماء شارب
ألست من القوم الألى كفلت لهم ... بإذلال من عادوا عتاق سلاهب
إذا قدحت في الليل لم يدج غاسق ... وإن ضبحت في الصبح لم ينج هارب
إذا عدّدت أفعالكم عند مفخر ... غنيتم بها عن أن تعدّ المناسب
ومنه قوله: [الطويل]
صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنّه لولاك لم يمكن الصّبر «4»
غرانا ببؤس لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقوم لها الشكر
فأوجبت الأولى الملام فلم نلم ... وأنّى له لوم وأنت له عذر(15/506)
ومنه قوله: [البسيط]
نبكي وتسعدنا كوم المطيّ فهل ... نحن المشوقون فيها أم مطايانا «1»
لا ومن فطر الأشياء ما وجدت ... كوجدنا العيس بل رقّت لشكوانا «2»
ومنه قوله: [الكامل]
من عاف ماء العيش وهو مكدّر ... عند الكرائه لم يرده زلالا «3»
تضحي سيوفك للبلاد مفاتحا ... فإذا فتحت جعلتها أقفالا
إن شئت تعرف أنّ رأيك ثاقب ... لا ما رأوا فانظر إلى ما آلا
وقوله: [الطويل]
وكانت دموع العين بيضا كغيرها ... فلمّا تلوّنتم علينا تلوّنّا «4»
لذاك إذا يممّت بالركب منزلا ... أجابت دموعي قبل أن أسأل المغنى
ومنه قوله: [الكامل]
ما في المعالي مطمع لسواكا ... أينال ما استولت عليه يداكا»
381/من رام أن يرقى محلّك فليحز ... بأسا كبأسك أوندى كنداكا
لا تنض عزمك طالبا أثر العدى ... فلو اكتفيت ببعضه لكفاكا
فمتى نظرت الشّرك أدنى نظرة ... كانت لأسرى المسلمين فكاكا
ومنه قوله في المنطقة: [الكامل](15/507)
ومضيئة كست النديّ بضوئها ... والحاضرين به حريقا مشعلا «1»
ما إن رأينا هالة من قبلها ... أضحت تضمّن عارضا متهلّلا
وأظنّها تاجا ولكن لم تجد ... لعلوّ قدرك فوق خصرك منزلا
منها في الفرس:
وسوابق حزن الجمال فلو مشى ... شبداز كسرى بينها لتخّيلا «2»
من كلّ محبوك القوى لو لم يكن ... بعض الجبال لهدّه ما حمّلا
في العلم:
ومحلّق في الجوّ تحسب أنّه ... ظام وقد ظنّ المجرّة منهلا «3»
أو فى على قوس الغمام معمّما ... منه بناحية لأخرى مسدلا
ومنه قوله: [الطويل]
وإنّ ألذّ القرب ما قبله نوى ... وأحلى وصال ما تقدّمه صدّ «4»
ولست موفىّ بعض ما تستحقّه ... إذا لم ينب عن كلّ رجل مشت خدّ
ومنه قوله: [الكامل]
من كلّ أشقر لم يكن من قبل أن ... تغشى به وخذ الأسنّة أشقرا «5»
يتلوه أدهم كان وردا برهة ... ممّا تسربله النّجيع الأحمرا
داج ويشرق من ضياء حجوله ... فيخاله رائيه ليلا مقمرا(15/508)
382/ومنه قوله: [الخفيف]
صدّقت هذه المخايل بالإح ... سان قول المدّاح والوصّاف «1»
فبقاء المديح ما لم يكن في ... ك بقاء الحباب فوق السّلاف
وقوله: [الطويل]
تصدّت إلى أن قلت ما البخل دينها ... وصدّت إلى أن كدت أن أنكر الصّدا «2»
وبانت فبان الطيف يقضي بحكمها ... يواصلني سهوا ويهجرني عمدا
ومنه قوله: [الكامل]
ومحمّل الأيام ما لم تحتمل ... يفني الحياة مخيّبا مكدودا «3»
أنّى يحلّ محلّه الجوزاء من ... لا يستطيع من الصّعيد صعودا
وقوله:
نالوا بقربك عزّة ونباهة ... وحموا بسيفك طارفا وتليدا «4»
ولطالما خصّت نحوس كواكب ... قوما وكنّ لآخرين سعودا
ومنه قوله: [المتقارب]
وتغضي عن الذّنب لا رهبة ... كما احمرّت البيض لا من خفر «5»
وتهتزّ للمدح عند السماع ... كما اهتزّ في الرّوع عضب ذكر «6»(15/509)
وقوله: [الكامل]
هذي مناقبكم فهل من طامع ... وصفات مجدكم فهل من طامع «1»
إنّي دعوت ندى الكرام ولم يجب ... فلأشكرنّ ندى أجاب وما دعي
ومنه قوله:
فحويت ما لم يجر في خلد المنى ... من سيبه وحصدت ما لم أزرع «2»
منن وصلن على التداني والنّوى ... فجمعن شمل رجائي المتوزّع
إن أقترب فنوال كفك موطني ... أو أغترب فإلى جميلك مرجعي
383/ومن العجائب والعجائب جمّة ... شكر بطيء عن ندى متسرّع
ومنه قوله: [الكامل]
وإذا امتطوها في نزال خلتهم ... آساد غاب في ظهور رئال «3»
ما أوردوها قطّ إلّا أصدرت ... جرحى الصدور سليمة الأكفال
أسد إذا صالوا صقور إن علوا ... ولربّما كمنوا كمون صلال
وقوله: [الطويل]
إذا ما أدّعينا سلوة عن هواكم ... جرى الدّمع منهلّا فكذّب دعوانا «4»
هبوا الوصل بالعذّال صار قطيعة ... وبعدا فماذا صيّر الذكر نسيانا «5»
بنا حبّ من نرعاه وهو يروعنا ... ونذكره حتى الممات وينسانا(15/510)
ومنه قوله: [الطويل]
وموّهتم يوم الفراق بأدمع ... تخبّر عن صدق الوداد فتكذب «1»
وكم غرّ ظمآنا سراب بقفرة ... وخبّر برق بالحيا وهو خلّب
منها:
وقد رمت أن ألقى الصّدود بمثله ... مقابلة لكنّني أتهيّب
سأحبر صبر الصّنب والماء ذو قذى ... وأمشي على السّعدان والذلّ مركب «2»
منها:
ولست كمن أنحى عليه زمانه ... فظلّ على أحداثه يتعتّب «3»
تلذّ له الشكوى وإن لم يفد بها ... صلاحا كما يلتذّ بالحكّ أجرب
منها:
فجاورت ملكا تستهلّ يمينه ... ندى حين يرضى أوردى حين يغضب «4»
تدور كؤوس الحمد حينا فينتشي ... وطورا تصلّ المرهفات فيطرب
إذا ما احتبى غبّ الوغى خلت أجدلا ... له أبدا فوق المجرّة مرقب «5»
وإن أعمل الأفكار عند ملمّة ... تلمّ أرته ما يسرّ المغيّب
384/ومنه قوله: [الكامل](15/511)
حسنات فعلك جمّة فبأيّها ... أصبحت منفردا عن الأضراب «1»
بمضائك المجتاح أم بقضائك ال ... منتاش أم بعطائك المنتاب
منها:
شفع الشّجاعة بالخضوع لرّبه ... ما أحسن المحراب في المحراب «2»
وغدا يحاسب نفسه لمعاده ... وهباته تترى بغير حساب «3»
ومنه قوله: [الطويل]
خلائق أعيا في الخلائق ندّها ... تروقك مرأى أو تشوقك مسمعا «4»
تزيد على ماء الغوادي طهارة ... وينسيك ريّاها الرحيق المشعشعا
وقوله: [الكامل]
رشأ تشابه طرفه ووداده ... ومحبّه كلّ أراه سقيما «5»
يحكي تعرّضه لنا ونفاره ... والجيد والطّرف الكحيل الريما
ويشاكل الشمس المنيرة وجهه ... نورا وبعد تناول وأديما(15/512)
ويقايس المسك الذكيّ بعرفه ... فيكون أطيب في الأنوف شميما «1»
ومنه قوله: [الكامل]
وأسود هيجاء إذا قصدت وغى ... حملت على أكتافها الآجاما «2»
ما ضرّهم لمّا تناسب فعلهم ... في الرّوع أن يتباعدوا أرحاما
وقوله: [الخفيف]
صحّة الشوق أحدثت علّة الصّب ... ر وبعد المزار أدنى السهادا «3»
كم عذول عليكم رام إصلا ... حي فكان الملام لي إفسادا
كلّما زاد عذله زاد وجدي ... فكلانا في شأنه قد تمادى
ومنه قوله: [الطويل]
385/يصيب الفتى ما لم يكن في حسابه ... ويحذر من شيء وليس بواقع «4»
وغير قريب من فؤاد ومسمع ... زئير الأسود من نقيق الضفادع
وقوله: [الكامل]
وممنطق يغني النّديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه «5»
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه
ومنه قوله: [الطويل](15/513)
ولمّا وقفنا والرسائل بيننا ... دموع نهاها الوجد أن تتوقفا»
ذكرنا الليالي بالعقيق وظلّها ال ... أنيق فقطّعنا القلوب تأسّفا
وقوله:
وإذا ما أردت تعرف لخما ... فشم القوم في ندى أو نزال «2»
تلق خضر الأكناف سود مثار النق ... ع بيض الأحساب حمر النّصال
ومنه قوله: [الطويل]
وما هي إلّا غرّة سنّها النّدى ... على سمعه في غارة سنّها الشّعر «3»
ونشوان من خمر المكارم لم يفق ... فواقا ولولا هنّ لم تدر ما السّكر
وقوله: [الوافر]
وما أعطى الصّبابة ما استحقّت ... عليه ولا قضى حقّ المنازل «4»
ملاحظها بعين غير عبرى ... وزائرها بجسم غير ناحل
ومنه قوله: [الطويل]
أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم في ربع قلبي سكّان «5»
ودوموا على حسن الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا حفظوا خانوا «6»(15/514)
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالنوم لي فيه أجفان «1»
وهل جرّدت أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلّا جفوني أجفان
386/ومنه قوله: [الطويل]
كذا في طلاب المجد فليسع من سعى ... بلغت المدى فليعط فخرك ما ادعى «2»
فلست ترى طرفا إلى المجد طامحا ... سلا الناس ما لم تدّع فيه مطمعا
تبيت العتاق القبّ تحت سروجها ... لترسلها في غرّة الصّبح فزّعا
وتمنع ما تحوي لتعطيه ندى ... وغيرك ما ينفكّ يعطى ليمنعا
ومنهم:
35- عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي «3»
شاعر على ألفاظه عروبة، وعلى حفاظه ما لا يقوم به أسلة أنبوبة. جيّد السّبك كأنّما(15/515)
خلص به ذهبا، وقّاد الذهن كأنّما حرش به لهبا. جال البلاد وجابها، وجاز على الملوك وما هابها، وتوغّل غارب كلّ سرى كأنّه كوكب أو هلال، وغالب كلّ كرى كأنّه عاشق أو خيال. طوّف جانبا من الأرض لا يزوي عنه منها إلّا ما قلّ، وما ترك بعضه لبعض منه عليه دلّ، وكان مقدّما حيث حلّ، متقدّما في الغوص ما دقّ به معنيّ الأجلّ، ومدح الملوك والوزراء، والرؤساء مدائح موسومة، ومنح الدّرر وأخذ البدر، أخذها منثورة، وأعطاها منظومة. وله في سيف الدولة ابن حمدان غرر القصائد، ومنه في جوائزه مالا يصيبه سهم كلّ صائد، وكان له منه قبول يبرق أساريره، وتشرق في صحائف الأيام أساطيره، واحتفال به كاد يلحق السعدي بالكندي، لا بل يجعله أسعد، ويرفعه عليه إلى ما هو أصعد، ويقرّبه قربا يسرّ أبا الطيب أن يدانيه ولو كان منه أبعد. وله مع ابن العميد أمور يضيق هذا الموطن بإثباتها، ولا يطيق إبراز مخبآتها، ولا يفيق سكرا من راحها الممزوج بسكّر نباتها.
فأمّا أبياته الخارجة مخرج الأمثال، وكلماته/ 387/التي كأنّما تنصبّ في القلوب أو تنثال فما لا يطاولها باع ملتمس، ولا يحاولها شعاع مقتبس، كلّ معنى لا يلتبس، وكلّ بيت وأخوه يقول له: أنا أخوك فلا تبتئس.
من ذلك قوله: [الطويل]
وولّوا عليها يقدمون رماحنا ... وتقدمها أعناقهم والمناكب «1»
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
بيوم العظالى والسيوف صواعق ... تخرّ عليهم والقسيّ حواصب «2»
لقوا نبلها مرد العوارض وانثنوا ... لأوجههم منها لحيّ وشوارب
ومنه قوله: [البسيط](15/516)
يا أهل بابل عزمي قبله فكري ... في النائبات وسيفي بعده عذلي «1»
كم عندكم نعم عندي مصائبها ... لكم وصال الغواني والصبابة لي
وقوله: [الطويل]
فخطّة ضيم قد أبيت وليلة ... سريت وكان المجد ما أنا صانع «2»
هتكت دجاها والنجوم كأنّها ... عيون لها ثوب السماء براقع
ومنه قوله: [الكامل]
قد جاءنا الطّرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه «3»
وكأنّما لطم الصّباح جبينه ... فاقتصّ منه وخاض في أحشائه
وقوله: [الوافر]
وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريّا «4»
سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا
فلمّا خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيّا
ومنه قوله: [الطويل]
388/يخيّل لي أنّ النجوم أسنّة ... ينهنه عنها البرق سلّة صارم «5»
وإنّ الكرى سهم إلى كلّ مقلة ... ترقرق فيها والرّدى طيف حالم
كأنّ الدّجى مالت عليه كتيبة ... فنبّه من أهواله كلّ نائم(15/517)
ومنه قوله: [الكامل]
أخفيت آية حبّكم فتوهّمت ... روحي بأنّ جوانحي أحبابي «1»
وكذا توهّمت الجوارح أنّكم ... روحي وكلّ ليس يعلم ما بي
فالوجد لا تجد الجوانح حرّة ... والسقم لا تدري به أثوابي
ومنه قوله: [الوافر]
ومن طلب النجوم أطال صبرا ... على بعد المسافة والمنال «2»
وتثمر حاجة الإنسان نجحا ... إذا ما كان فيها ذا احتيال
وقوله من قصيدة: [الكامل]
ما كدت أعرف عيب من أحببته ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق «3»
وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق
وأعيش بالبلل الذي لو أنّه ... دمع لما رويت به الآماق
ويزيدني عدم الدراهم عفّة ... وعلى الدراهم تضرب الأعناق
ومنه قوله في السيف: [الطويل]
وأبيض بالأبصار يلعب لونه ... فعال شعاع الشمس في الأعين الرّمد «4»
كذي شوس تنبيك روعة لحظه ... على ما حواه في الضمير من الحقد
ومنه قوله في الغزل: [الرمل](15/518)
389/طلعت من جانب الخدر لنا ... في بدور كشّفتهنّ الكلل «1»
فكتمت الحبّ حتى شفّني ... وإذا ما كتم الداء قتل
وقوله: [الرمل]
وسنان مثل مصباح الدّجى ... زان أعطاف قضيب معتدل «2»
ثغرة القرن به فاعلة ... مثلما يفعل بالخدّ الخجل
لا يخاف الضّيم من يحمله ... عقل العزّ بأطراف الأسل
ومنه قوله: [المتقارب]
ومولى يكاتمني ضغنه ... ولا تكتم العين ما قد كتم «3»
له لحظة غير مأمونة ... كما يلحظ الحاسدون النّعم
وقوله: [الوافر]
ملكن على المفاوز كلّ تيه ... خفيّ السّمت منخرق الفجاج «4»
كأطراف الرماح مسدّدات ... إلى ثغر الهواجر والدّياجي
دفعن ذلاذل الظلماء حتى ... بدا منهنّ ورد ذو انبلاج
إذا مرّت ركائبها بقاع ... خلعن عليه أردية العجاج
ومنه قوله في الحيّة: [الطويل]
وصلّ صفا بالسنّ دون سميرة ... له في عقول الناظرين وجار «5»(15/519)
يخادع ألباب الرجال كأنّه ... إذا ما تطوّى للأكفّ سوار
وقوله: [مجزوء الكامل]
سقيا لأيام مضي ... ن كأنّها أحلام نائم «1»
متناسقات بالسّرو ... ر كما يعدّ العقد ناظم
وقوله: [الكامل المرفل]
طوبى لهم لو كنت جارهم ... من أين يعرف جارك الخطب «2»
تهوي النجوم لأنهنّ على ... ومرامهنّ لأنّه صعب
390/ومنه قوله في الغزل: [المتقارب]
غبطت الذي لا مني فيكم ... ولم أدر أنّي حسدت الحسودا «3»
فليت العيون وجدن الدموع ... وليت الدموع وجدن الخدودا
وقوله فى المدح: [المنسرح]
أنت عليهم وإن أخفتهم ... أشفق من والد على ولد «4»
كنت عليهم بالغيب مؤتمنا ... والروح مأمونة على الجسد
لا تأمنن نبوة العدوّ وإن ... ناصح يوما فغشّه لغد
شيمة غدر وإن أخلّ بها ... كامنة في طبيعة الأسد
ومنه قوله في المدح: [الخفيف](15/520)
من به فخره ومن جلّ أن تنس ... ب أفعاله إلى منسوب «1»
بهر النّاس هيبة وجمالا ... فهو في العين مثله في القلوب
همّة تقصر الكواكب عنها ... وذكاء يغني عن التجريب
وقوله في مثله: [الوافر]
فتى ما هيب هيبته مليك ... ولا انتقادت رعيّته لراعي «2»
سما للمجد يطلب منتهاه ... فأدرك فوق ما تسع المساعي «3»
وقوله:
ولا يرعى الأمانة يوسفيّ ... مودّته على حبل الذراع «4»
إذا محيت ضغائنه بغدر ... نبتن نبات أنياب الأفاعي
وقوله في الحضّ على المصالحة لأخ: [البسيط]
بلّغ بلغت سلاما أو معاتبة ... أخا بفارس نرميه ويرمينا «5»
391/ما بالنا بالنّدى ندني أبا عدنا ... ولا نقرّب بالقربى أدانينا
ولو ترافدت الأيدي لما وجدت ... فينا العداة مساغا حين تبغينا
هلمّ ننس الذي قلنا وقيل لنا ... ولا نؤاخذ بالزّلات جانينا
نكفّ صمّ العوالي عن مقاتلنا ... ونجعل الحدّ منها في أعادينا
ومنه قوله: [الخفيف](15/521)
نصر الله كلّ من صعب الضي ... م عليه فصادف الموت سهلا «1»
وورود الحمام حين يعاف ال ... ذلّ حلو والعيش في العزّ أحلى
ومنه قوله في الجمل: [مجزوء الرجز]
أهوج برّاق النّظر ... بذّ المطايا وحسر «2»
لو أنّه داس النّغر «3» ... من خفّة لما شعر
وقوله: [الخفيف]
قيل إنّ الهوى فراغ جهول ... وكفى بالهوى لذي اللّب شغلا «4»
ما استحقّ الفراق نجد فيشتا ... ق ولا استأهل الحمى أن يملّا
وقوله فى المدح: [المتقارب]
ترى القوم حين يفاجيهم ... كريم له شرف المجلس «5»
قياما لهيبته خشعّا ... ومن وطئ النار لم يجلس
كأنّ عيونهم حيرة ... لرؤيته أعين النّرجس
تدير عليهم كؤوس المنون ... مدار المدامة في الأكؤس «6»
وأنت بجدّهم لاعب ... كما يلعب الموت بالأنفس
وقوله: [الكامل](15/522)
يا غائبا وعتابه إفراق ... ما هكذا يتحاسب العشّاق «1»
يا من يعلّل نفسه بلقائنا ... يفنى الحنين ويذهل المشتاق
392/ما كدت أعرف عيب من أحببته ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق «2»
وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق «2»
وقوله في الحكمة:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إنّ المحامد والعلا أرزاق «4»
وارغب بنفسك أن تكون مقصّرا ... عن غاية فيها الطلاب سباق
لا تشفقنّ فإنّ يومك إن أتى ... ميقاته لم ينفع الإشفاق
وإذا عجزت عن العدوّ فداره ... وامزح له إنّ المزاح وفاق
يعتاض من قدري بمن هو دونه ... والدّر ليس يشينه الإنفاق
وأعيش بالبلل الذي لو أنه ... دمع لما رويت به الآماق «5»
ويزيدني عدم الدراهم عفّة ... وعلى الدراهم تضرب الأعناق «5»
وقوله في المدح: [الكامل المرفل]
بلغوا من الدنيا نهايتها ... وجرى بهم في صرفها المثل «7»
وإذا الرجال بغيرهم عرفوا ... لم يعرفوا إلّا بما فعلوا
تبقى لهم أخبار من غلبوا ... فكأنّهم أحيوا وقد قتلوا(15/523)
من كلّ منشقّ الكعوب له ... نصل على الأرواح تتّصل
منقضّة الأطراف تحسبها ... طيرا على اللّبات تنتضل
وقوله في مصلوب: [الطويل]
على الجذع موف لا يزال كأنّه ... سليب دعا قوما إليه فأقبلوا «1»
فقام يماريهم وقد مدّ باعه ... يقول لهم عرضي أم الطّول أطول
393/وقوله: [الطويل]
سهامي من حظّي سهام أعدّها ... عطائف نبع لحمهنّ ينال «2»
يردن وأطراف الرماح حوائم ... وهنّ قصار والرّماح طوال
وقوله: [المنسرح]
وصارم في الضراب نفخته ... يتبعها المنكبان والعنق «3»
ومن نطاق الجوزاء مطرّد ... كأنّها في كعوبه نسق
وقوله في الساقه: [الرجز]
قد برأت أحلامها من النّزق ... وانتقلت أخفافهنّ بالعلق «4»
عالجن خبثا طبقا بعد طبق ... ظلّا يماشيها وظلّا قد أبق
وقوله:(15/524)
أخزر ما في جفن عينيه طرق ... لو أنه يخرق طرق لخرق «1»
وقوله في الفرس: [السريع]
كأنّ هاديه إذا عجته ... يرغب بالبعض عن البعض «2»
وكلّما زدت إلى جيده ... عنانه زادك في الركض
كأنّه البرق إذا رعته ... أو هرب السهم من النّبض
تذعر منه ناشطات الملا ... بكوكب في الجوّ منقضّ
إذا سما في صيد رأسه ... أكرمت فوديه عن الغضّ
لا عيب فيه غير تيسيره ... وأنّه يمشي على الأرض
ليس بمحدود إذا قسته ... يعلم منه الكلّ بالبعض
وهو إذا حلّ بديمومة ... لم تعرف الطّول من العرض
وقوله في الحكمة: [الطويل]
أقلّا فإنّ العيش مال وصحة ... إذا عدّها لم يحمد العيش حامد «3»
394/ولا تأمنا لبس السقام سلمتما ... على جسد فالسقم للموت رائد «4»
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تخالفت الأسباب والدّاء واحد «5»
وقوله في رثاء بنت: [الخفيف](15/525)
ولعمري للبنت أصبت للقل ... ب وأدنى إلى نوال البخيل «1»
لا كمن مات في البنات ولا مث ... لك للحادث الملمّ الجليل
لا عقوق البنين يعدّ منهنّ ... ولا جفوة الأب المملول
ولهنّ الحظّ الجزيل من الحر ... قة والحزن والحنين الطويل «2»
والزيارات للقبور على اليأ ... س وبعد الرجاء والتأميل
ولهذا يقال في المثل السا ... ئر لا وجد فوق وجد الثكول
وقوله في عتاب أخ نصحه في الحفلة فنسبه إلى تقريعه: [البسيط]
هلّا خلوت بسمعي يوم تنصحني ... إنّ النصيحة وسط القوم تقريع «3»
صنيعة خفت أن تخفى فبحت بها ... لقد أضعت وبعض الحفظ تضييع «4»
يا زفرة قدحت نار الهموم بها ... إنّ الهموم لها في الصدر ينبوع
قطعت حبل إخاء كان متّصلا ... وكلّ من قطع الإخوان مقطوع
وقوله في الحكمة: [الطويل]
وإن أخي من لا يملّ خليقتي ... ومن لا يراني قائما وهو جالس «5»
يجانسني في كلّ حال وإنّما ... لكلّ امرئ من صحبه من يجانس «6»
وكنت مثال الكفّ منه ففاتني ... وقد يحبس الشيء القريب الحوابس «7»(15/526)
وقوله في النياق: [الطويل]
395/وطارت بهم حدب الظهور كأنّها ... سفائن في لجّ الفلاة تمور «1»
إذا سألوها الوخد عاند سيرها ... خوائف من جذب الأعنّة زور
تضلّ فتهديها بحدّ نسورها ... قوادح مرو ليلهنّ بصير
كأنّ مخاضات الفرات صحائف ... وهزّ به حتى عبرن سطور «2»
وقوله في الذكرى: [الكامل]
علّل جفونك بالرقاد فإنّه ... ما كان ذاك العيش غير منام «3»
وأخاله حلما لكثرة ما أرى ... أيامه في طارق الأحلام
وقوله: [الخفيف]
أيّ عذر للدّهر أو أيّ معنى ... في محلّ يمحى وآخر يبنى «4»
وإذا مرّت الجنائز أعرض ... نا كأنّا بمرّها ليس نعنى
وقوله: [الطويل]
رأيت أبا نصر يثمّر ماله ... ولا تحفظ الأيام ما هو حافظ «5»
وإن امرأ تنعى الجنائز نفسه ... لفي عظة لو أيقظته المواعظ
ومنه قوله في المدح: [الطويل]
ومن مثله فيكم إذا الخيل طوردت ... وقد وردت ورد الحمام ضوائعا «6»(15/527)
وما زال مذ ملّ الرهان عنانه ... يقطّع أنفاس السّوابق وادعا «1»
في الهجاء: [السريع]
قلت لحلو راقني قوله ... ما أحوج القول إلى فاعل «2»
أعيا على الغامز تقويمه ... ومن يداوي مرض الجاهل
وقوله في الجيش: [السريع]
يلتهم البرّ برجراجة ... كأنّها البحر بلا ساحل «3»
مرنّق الطير على ضربها ... يكاد يدنو من يد النائل
396/كأنّما النسر بها راية ... بين سنان الرمح والعامل
وقوله في السيف والرمح والقوس: [الكامل]
وقواطع مأثورة آياتها ... في الدارعين خفيّة الآثار «4»
من كلّ مطّرد الكعوب سنانه ... كالبرق ينبض أو لسان النار
يحبو الكميّ إذا اجتداه مرشّه ... مجنونة الإقبال والإدبار
نعارة تطغى إذا هي روغمت ... بالفتك رجع فواقها الهدّار
وقوله في السّرى إلى روضة:
حاولت قصدك في قصّيات المنى ... بسرى إلى اللّذات غير سرار «5»
في ليلة سرق المحاق هلالها ... فكأنّه في الأفق نصف سوار(15/528)
واستودع الوسميّ كلّ وقيعة ... من فضل صيّبه وكلّ قرار
حتى إذا بهر الأباطح والربى ... نظرت إليك بأعين النوّار
وقوله في المدح:
وبنو خفاجة من عقابك عالجوا ... يوما طويل الشرّ بالأنبار «1»
ولقد وعظت بهم مسامع غيرهم ... وبلغت أقصى العذر في الإعذار
ولعمر جدّهم لقد أنذرتهم ... لو أنّهم أصغوا إلى الإنذار
وقوله في الحكمة: [المتقارب]
تربّص بيومك ما في غد ... فإنّ العواقب قد تعقب «2»
رضيت بميسور ما نلته ... فلا أستزيد ولا أطلب
وقوله في الخيل: [الطويل]
397/إذا سار أعدته على البيد والعدى ... شوادن من آل الوجيه وقرّح «3»
حوافرها من راعف ومثلّم ... يرضّ بها الصخر الأصمّ ويفلح
وقد برحت والسنّ سنّ سميرة ... به أثر من وطئها ليس يبرح
وما استصحب الفتيان مثل مثقّف ... يماج به ماء القلوب ويمنح
ولا مثل مرتاع المهزّ كأنّه ... عقيقة برق يستطير ويلمح
وقوله في الفرس: [الكامل]
وطمّرة مأطورة بلجامها ... قوداء سالمة النساة الأشعر «4»(15/529)
يوما يطارد في الرياض ظلالها ... أشرا فيوما في ظلال العثير «1»
وقوله: [الخفيف]
وقسيّ معطّفات من النب ... ع تطيع الأكفّ بعد نزاع «2»
كضلوع الأوعال تحفر نبلا ... غير مأمونة على الأضلاع
وتنمّي إلى العلا غير وان ... ربّ وان في حاجة وهو ساع
أريحي يخاله القوم مرعي ... يا إذا كان فيهم وهو راعي
وقوله: [مجزوء الكامل]
ضاح يكون مقيله ... في ظلّ ألوية العساكر «3»
صلب فإن لا ينته ... ألفيته هشّ المكاسر
من معشر لا يتركو ... ن لوارث إلّا المآثر
وقوله: [الخفيف]
أنت شمسي على النهار ظهيرا ... وعلى الليل أنت بدري ونجمي «4»
عرف الناس رغبتي عن سواكم ... فإذا ما مدحتكم لا أسمّي
وقوله: [البسيط]
وربّ ماء يقلّ النازلون به ... عذب الموارد لا فيض ولا وشل «5»
وردته والدّجى حيران قد صدرت ... عنه النجوم وفي أعناقها ميل(15/530)
398/ومنه قوله في البرق: [الطويل]
ألا من لبرق في جوانح ليلة ... كأنّ الدجى من حمله يتأوّد «1»
إذا قلت يبدو الصبح لي من خلاله ... محاضوءه جنح من الليل أسود
يشبّ حريقا في السماء وميضه ... كنار قرى في دارة الحيّ توقد «2»
أقام رهينا بالصّباح كأنّه ... على الليل أسياف تسلّ وتغمد
ومنه قوله: [الكامل]
نصر العواذل والدّموع خواذلي ... الآن سالمت السّهام مقاتلي «3»
بخلت دموع العين لي وسمحتم ... أنتم دموع العين وهي عواذلي
وقوله:
ما بال سيف الدّولة الملك اغتدى ... وهو الوسيلة أن يردّ وسائلي «4»
فكأننّي قلت الكواكب مثله ... أو قلت إنّ الرزق ليس بجاهل
وقوله: [الكامل المرفل]
وكأن لي في كلّ جارحة ... كبد مقلية على الجمر «5»
ومدامع بيض بأعيننا ... تنحلّ من أكبادنا الحمر
وقوله: [الهزج]
وأير طوله باع ... ولكن عرضه شبر «6»(15/531)
إذا أفرغ ما فيه ... تدلّى وهو ينخرّ
في الهجاء: [المجتث]
يحبّ فيشل أير ... مفرطح الرأس أعجر «1»
إذا رآه كبيرا ... صلّى عليه وكبّر
وردّه بعد عصر ... مثل الحرير المجندر
إن تكته فتقدّم ... عليه ثمّ تأخّر
واسلله كيما تراه ... مثل الحسام المشهّر
واردده ردّا عنيفا ... كأنّه رأس خنجر
فإنّه من غباه ... يهوى الحديث المكرّر
ومنهم:
36- الوزير أبو نصر أحمد بن يوسف المنازي السليكي «2»
399/مجيد على الإقلال، ومفيد يرمي الدّرر بالاستقلال، لا تحوي مثله دارة الهلال، ولا تروي بغزارة مدده السّحب ذوات الاستهلال، ولا يعرف له ديوان يجمع شعره(15/532)
فيه، ولا صوان يتدفّق نهره بين حواشيه، إلّا أنّ ما يوجد به ينازع الأهيف الألمى ما بين شفتيه، ويغالب الظبي الأغنّ على ما في مقلتيه، كأنّما شقّ عنه الزّهر من الكمام لبّتيه، أو آواه الروض في الخمائل بين لابتيه.
ولقد تطلّب القاضي الفاضل رحمه الله ديوان المنازي فعزّ حتى كأنّه لم يكن موجودا «1» ، ولا كان إلّا آلى أن يفارقه فجاوز معه ملحودا، على أنّه الباقي بما تتفرّقه الألسنة وجود المشرق كالشمس على صفحات الأيام فلا تستطيع له جحودا. وأجاب من طلب الفاضل منه هذا الديوان بجواب قال فيه:
وأقفر من شعر المنازي المنازل
فأعجب الفاضل بجوابه، وقال: إن فاتنا نجح طلابه فما فاتنا حسن خطابه.
وكان بين المنازي والمعري «2» اجتماع طرب له الدهر وضرب له بسهم رقص الحباب له على جنبات النهر، وكان ذا إلف للحدائق تفيّأ ظلالها، وتهيّأ طبعه السلسال لرشف زلالها ومصابحة خلقه البهيّ لو سيمها، ومقاومة خلقه السريّ لنسيمها، ومراوحة ما تديره كؤوس الورد من سلاف رحيقها، ومراودة أبكار الرياض على فضّ ختام الأرج وافتضاض(15/533)
عذرة شقيقها.
وزر للمروانيين ملوك ديار بكر وزارة ناطت نجاديّ سيفها بلواء، ووادي سيبها بكشف لأواء، وترسّل إلى خلفاء مصر «1» فنزل بذلك القبيل، ومسح جناح الفرات بالنيل، ورجع إلى مرسله أحسن مرجع، وأخصب به ثرى رائده بأكرم مستنجع. وكان في الدولة المروانية حيث لا مثل له في أولاها، ولا نصل أمضى من قلمه في المناضلة عن علاها/ 400/حتى كانت به في بعد اللّمس كأنّها دولة بني مروان الأولى من بني عبد شمس، فقام في دولة المروانيين مقام عبد الحميد «2» عند مروان، أو رجاء بن حيوة «3» عند عبد الملك في ذلك الأوان إلّا أنّه تأخّر عن ذلك العصر، وجاء بما يجيء به من مذهبات الألوان، وكان لا يعبأ بذي همم، ولا يعيا بجدال رمح يتشاوس موهما أنّه في أذنه صمم، ولا بحجّة سيف شامخ المضارب في عرنينه شمم، وله إدلال بشعره، وإذلال بنظمه الدرّ على غلّو سعره.
ومن بدائع نظمه الذي لا تساقط مثله النجوى ولا تريق شبيهه على خدود الحبائب دمعة الشكوى، قوله يخاطب أبا العلاء، وقد فاوضه في شيء فأعجبه كلامه: [البسيط]
لله لؤلؤ ألفاظ تساقطها ... لو كنّ للغيد لاستأنسن بالعطل
ومن عيون معان لو كحلن بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل
سحر من اللّفظ لو دارت سلافته ... على الزمان تمشّى مشية الثّمل
ومنه قوله في ولد له توفّي ولم يكن له غيره: [الطويل]
أطاقت يد الموت انتزاعك من يدي ... ولم يطق الموت انتزاعك من صدري(15/534)
لئن كنت مبثوث المحاسن في الحشا ... فإنّك ممحوّ المحاسن في القبر
رجوتك طفلا فوق ما يرتجي الفتى ... كذاك هلال الشهر أرجى من البدر
فلا وصل إلّا بين عينيّ والبكا ... ولا هجر إلّا بين قلبي والصّبر
ومنه قوله في الوزير أبي القاسم الحسين بن علي ابن المغربي «1» : [الكامل]
اصفح لطرف الصبّ عن نظراته ... إن كنت آخذه بما لم يأته
سقيا لوجهك فهو أول روضة ... زهرت أقاحيه أمام بناته
401/لمّا خططت مثاله في ناظري ... مدّ الحجاب عليه من نظراته
حالت حماتك دون ورد غديره ... وشميم زهرته ورشف قلاته
الماء يلمع في أريض جنابه ... والنار تسفع من ضلوع رعاته
وإذا ادّعى بدر التمام بهاءه ... وأنار للساري قلا زعماته
منها:
ولئن جزت نعم الحسين محامد ... فلتجزينّ الغيث عن هطلاته
أقنى وأغنى فانقلبت ولي به ... شغلان بين صفاته وصلاته
حاولت عدّ خلاله فوجدتها ... يشقى الرواة بها شقاء عداته
أبصرت سبل المجد من لحظاته ... وأفدت حسن القول من لفظاته
فأرى الفصاحة والسماحة والغنى ... ومكارم الأخلاق بعض هباته
ورث المعالي عن عليّ وابتنى ... رتبا مشيّدة إلى رتباته
وكذاك لابن القيل إرث علائه ... فرض ولابن القين إرث علاته(15/535)
وقوله: [البسيط]
لو قيل لي وهجير الصّيف متّقد ... وفي فؤادي جوى بالحرّ يضطرم
أهم أحبّ الآن تشهدهم ... أم شربة من زلال الماء، قلت: هم
وقوله: [الطويل]
هي الشمس حالت دونها حجب خدرها ... ولو برزت كان الضياء لها حجبا
إذا جهرت ألحاظها قصد غافل ... أغارت على قلب أو استهلكت لبّا
ألم يأن في حكم الهوى أن ترقّ لي ... من المدمع الريّان والكبد اللهبى
ومن زفرة حرّى إذا ما تقطّعت ... شعاعا تدمّي الجفن أو تحرق الهدبا
402/شجتني ذات الطوق عجماء لم تبن ... وشيمة عجم الطير أن تشجو العربا
دنا إلفها واخضلّ أطراف عيشها ... فهاجت إلى البلوى وقد هدلت عجبا
هفا بك متن الغصن لو أنّ قدرة ... سلبتك حلي الطوق والغصن الرّطبا
ولكنّ إخوانا أعدّ فراقهم ... خسارا ولو سافرت أقتنص الشّهبا
وخلّفت قلبي بالعراق رهينة ... لقصد بلاد ما اكتسبت بها قلبا
وإنّي ليحييني على بعد داره ... نسيم نعاماه ولو حملت تربا
ومن شيمتي أن أستمدّ له الصّبا ... وأستتبع النّعمى وأستمطر السّحبا
وأعمر من ذكراه كل مفازة ... وألهي بعلياه الركائب والرّكبا
وأذكره بالضيف إن جاء طارقا ... وبالطيف إن أسرى وبالسيف إن هبّا
وبالبدر إن أوفى وبالليث إن سطا ... وبالغيث إن أروى وبالبحر إن عبّا
وأشتاق أياما تقضّت كأنّما ... أسرت عن الأيام أو أدركت غصبا
نحنّ حنين البعد والشمل جامع ... ويزداد حبّا كلّما لم يزر غبّا
إخاء تعالى أن يكون أخوّة ... وقربى وداد لا تقاس إلى قربى(15/536)
وقوله يصف دار حرب جلا ساكنها: [الوافر]
جلا حتّى الذباب الخضر عنها ... ذباب من حسامك ذو اخضرار
وتفرّ ضاريات الأسد منها ... ثعالب من أسنّتك الضواري
وقوله: [الطويل]
لحى الله من يستنصر ابن عدوّه ... سفاها ولا يستنصر ابن أبيه
كفيل من الشطرنج يحمي ويحتمي ... بقاطبة الشطرنج غير أخيه
403/وقوله: [الوافر]
وقانا لفحة الرّمضاء واد ... وقاه مضاعف النّبت العميم «1»
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنّو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذّ من المدامة للنّديم
يصدّ الشمس أنّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النّظيم
وقوله: [الوافر]
غزال قدّه قدّ رطيب ... يليق به المدائح والنّسيب «2»
جهدت فما أصبت رضاه يوما ... وقالوا كلّ مجتهد نصيب
ومنه قوله: [الوافر](15/537)
ومبتسم بثغر كالأقاحي ... وقد لبس الدّجى فوق الصّباح «1»
له وجه يدلّ به وعين ... يمرّضها فيسكر كلّ صاح
تثنّي عطفه خطرات دلّ ... إذا لم تثنه نشوات راح
يميل مع الوشاة وأيّ غصن ... رطيب لا يميل مع الرياح
وقوله: [الوافر]
لقد هتف الحمام لنا بشدو ... إذا أصغى له ركب تلاحا «2»
شجا قلب الخليّ فقال: غنّ ... وبرّح بالشجيّ فقال: ناحا
ومنهم:
37- الماهر الحلبي «3»
لفظه حال كما جال الوشاح، عال كما طفت على نهر زهرات أقاح، رقيق كما رقّت الراح، خفيف كما خفّت الجسوم بالأرواح، خلوب كما خامر الهوى لبّ صب فباح، مطرب كما اهتزّ خفّاق الجناح فناح. على كلّ بيت له علم تأوي/ 400/إليه كواكبه، ونور أضاء حتى نظّم اللؤلؤ من فكره ثاقبه.
وقد أورد له الباخرزي في الدمية بيتين حسنين، زيّنهما منهما بعقدين مستحسنين، وإن كانا في رثاء من قلب حزين فإنّهما أعربا عن أدب غزير، وعقل رزين. قال الباخرزي «4» في(15/538)
وصفهما والإشادة بصحّة رصفهما: هذا أرقّ ما يكون من المراثي يكاد يفجّر عيون الأحجار فتسيل بمدود الأنهار، بل بأمواج البحار، وهما: [الوافر]
برغمي أن أعنّف فيك دهرا ... قليل همّه بمعنّفيه «1»
وأن أرعى النجوم ولست فيها ... وأن أطأ التراب وأنت فيه
405/وقوله: [الطويل]
ترى منهم يوم الوغى كلّ ناشر ... من النقع فوق الدارعين مطاردا «2»
ينالون من أمسى بعيدا مناله ... كأنّهم أعطوا الرماح سواعدا
وقوله يشبّب بغلام أثّرت فيه الحمّى، وأحسن في التخلّص إلى المدح: [المنسرح]
وأسيل الخدّ شاحبه ... كحلت عيناه بالفتن «3»
تركت حمّاه وجنته ... في اصفرار اللون تشبهني
وأرى خدّيه وردهما ... ما جنى ذنبا فكيف جني
نهبا حتى كأنّهما ... ما حوت كفّا أبي الحسن
منها:
ذو جفون تشتري أبدا ... غبرات النّقع بالوسن
ويد تندى ندى وردى ... تجمع الضدّين في قرن
وقوله: [السريع]
مجدي وقد يثبت في نفسه ... فضيلة المجدى على المجدي «4»(15/539)
لو كان من أحببته بعض ما ... في يده زار بلا وعد
406/ومنهم:
38- أبو عبد الله بن السراج الصوري «1»
من سمع شعره المرقوم، ورأى درّه المنظوم عرف كيف يستخدم النجوم، وكيف يستخرج السرّ المكتوم. وكيف تنوب الخواطر، عن السحب المواطر إلّا أنّ هذه تفتح زهرا باللّمس يذوي، وهذه تنقّح كلما يروى كلما تروي. ألفاظه منتقاه، ومعناه يقطع على السحر رقاه. وقد وصف الفهد وصفا أخذه من العيون، وأقام به الليل والنهار على حدّ موزون، لو أنّه للنّمر للان خلقه الشرس، وأنس طبعه المفترس، وارتاض ما فيه من نزق، ورضي فلم يكن به على الحيوان ذلك الحنق.
وهذه قطعة من شعره المنقوش ديناره، المنقود نضاره، المعقود بالشّعرى العبور سيّاره، من ذلك قوله الأبيات الموعود بها في وصف الفهود: وهي: [البسيط]
وأهرت الشّدق في فيه وفي يده ... ما في القواضب والعسّالة الذبل
والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه إلّا على وجل
ونقّطته حباء لا يسالمها ... على المنون نعاج الرّمل بالمقل(15/540)
407/ومنهم:
39- أبو عبد الله، أحمد الخياط الدمشقي «1»
توفي سنة سبع عشرة وخمسمائة. قدّر الشعر ثمّ فصّله، وحرّز مقاديره ثمّ وصله، ومسح الألفاظ على المعاني فجاءت سواء وجادت رواء، وجالت على المعاطف تامّة حللها، ضامّة لآيات حسن يتلوها مفصّلها، قد فاقت تحصيلا، وراقت جملة وتفصيلا، ثمّ برزت تلك الخرّد العين تجلى في تلك الملابس، وتزهى على الأقمار والظباء الأوانس.
كان ولوعا بتصحيح المعنى يبيت طول ليلته يلوطه، ويفتق له ذهنه كأنّه يخيطه، من كلّ معنى لو تصوّر لما عدت نفسه سجاياها «2» ، ولا عدّت ولائد النجوم إلّا سباياها.
قصائد تركت والحسن في قرن، وملكت الحبّ كلّه بلا ثمن، تبتسم لسقيط الدرّ ثمّ تريبها، وتخاف العين وهي تصيب بالعين وتصيبها، إذا وصفت كان واصفها وإن جهد كأنّه يعيبها، وإذا غابت وشبّهها بالبدر كان كأنّه يستغيبها. عرب كرائم ما خلطن بهجان،(15/541)
أبكار لم يطمثهنّ إنس ولا جان. تخال خلال بيوتها دمى، وتظنّ خلال ريقتها سلافة راح لا لمى، وكان جزل القول كأنّه صليل سيوف، أو صرير أقلام في مخوف. فاض أيّتها على المدارج، وآض إلى/ 408/الآكام يصعد بلا معارج، قد نوّر كلامه أضواء من المسارج، وتطوّر فكأنّه اطّرد من مأرج يانع المسارج، ضائع الأرج وهو ليس ببارج، وكان من تغلب في أسرة لا يجد لكلبها شفاء إلّا أن يجدّ في الدماء ولوغا، ولا تعدّ لمنقلبها إذ تعد إلّا نزوغا، ما تحلّت جيادها إلّا بتحجيل الصباح رسوغا، ولا حلّت راية للأعداء إلّا لتعقد عوضها لواء بالدماء مصبوغا.
منذ نظم حسدت الشّعرى شعره وودّ الغزال لو أنّ روقيه أحدهما له قلم والآخر لأبيه الخياط إبرة. ومن أبنائه أبناء سنى الدولة، وهم قضاة أخذت بأيديهم الأقلام من السهام سدادها، والسّجلات من النهار ما اتخّذت منه ومن الظلام مدادها. حكّام عرفوا الحقّ فسلكوا طرقه، وشرفوا السجل بعلائمهم بالقضاء وملكوا رقّة. وكان ابن الخياط في وقته ممّن له القدر العليّ، والصدر الرحيب لفضله الجلّي، وهو دمشقي الدار، شقي الحظ باللئام لا بغلبة الأقدار. هجي بما نبّه على جلالته، ونوّه بقدر أصالته، وشبّه على حسوده فأكدّ له المدح بما يشبه الذمّ، وأراد به النّقص في حقّه، وأراد الله خلافه فتّم، وتحيّل في إخفاء مسكه المتضوّع وريحه قد نمّ.
ومن شعره الذي هو الدرّ تتزيّن به إلّا أنّه العنبر الذي يشمّ، قوله: [الوافر]
إذا عاينت من عود دخانا ... فأوشك أن تعاين منه نارا «1»
وما همم الفتى إلّا غصون ... يكون لها مطالبه ثمارا
منها:(15/542)
لقد لبست بك الدنيا جمالا ... فلو كانت يدا كنت السوارا «1»
يضيء جبينك الوضّاح فيها ... إذا ما الركب في الظلماء حارا
409/وقوله من أخرى: [الطويل]
يقيني يقيني حادثات النوائب ... وحزمي حزمي في ظهور النجائب «2»
سينجدني جيش من العزم طالما ... غلبت به الخطب الذي هو غالبي
وقوله: [الطويل]
وما زال شوم الجدّ من كلّ طالب ... كفيلا ببعد المطلب المتداني «3»
وقد يحرم الجلد الحريص مرامه ... ويعطى مناه العاجز المتواني
وقوله: [الوافر]
فلا تغر الحوادث بي فحسبي ... جفاؤكم من النّوب الشداد «4»
إذا ما النار كان لها اضطرام ... فما الداعي إلى قدح الزناد
وقوله: [البسيط]
لئن عداني زمان عن لقائكم ... لما عداني عن تذكار ما سلفا «5»
وإن تعوضّ قوم من أحبّتهم ... فما تعوّضت إلّا الوجد والأسفا
ما أحدث الدّهر عندي بعد فرقتكم ... إلّا ودادا كماء المزن إن رشفا «6»(15/543)
كالورد نشرا ولكن من سجيّته ... أن ليس يبرح غصنا كلّما قطفا
وقوله: [الطويل]
وكنت إذا ما اشتقت عوّلت في البكا ... على لجّة إنسان عيني غريقها «1»
فلم يبق من ذي الدّمع إلّا نشيجه ... ومن كبد المشتاق إلّا خفوقها «2»
فياليتني أبقي إلى الوجد عبرة ... فأقضي بها حقّ النّوى وأريقها
منها:
وخرق كأنّ اليمّ موج سرابه ... ترامت بنا أجوازه وخروقها «3»
كأنّا على سفن من العيس فوقه ... مجاديفها أيدي المطيّ وسوقها
وقوله: [البسيط]
ألحّ دهر لجوج في معاتبتي ... وكلّما رضته في مطلب صعبا «4»
410/كخائض الوحل إذا طال العناء به ... فكلّما قلقلته نهضة رسبا
منها:
يا ربّ أجرد ورسيّ سرابله ... تكاد تقبس منه في الدجى لهبا «5»
إذا نضا الفجر عنه صبغ حلّته ... أجرى الصباح على أعطافه ذهبا
وقوله: [المتقارب](15/544)
صباح صبيح بأمثاله ... تقرّ العيون وتشفى الصدور «1»
شربنا به العزّ صرفا فمال ... بنا طربا واتّقتنا الخمور
وما لذّة السكر إلّا بحيث ... تغنّي المنى ويدور السرور
وقوله في تهنئة بمولود: [الكامل]
لم تلحظ الأبصار يوم ظهوره ... إلّا كؤوسا للسرور تدار «2»
فغدوت تشرع في حلال مسكر ... ما كلّ ما طرد الهموم عقار
وقوله يرثي: [المتقارب]
بكيتك للبين قبل الحمام ... وأين من الثكل حرّ الغرام «3»
وما كان ذاك الفراق المشت ... ت إلّا دخانا لهذا الضرام
فأنشد مثواك عند الهبوب ... وأرقب طيفك عند المنام
منها:
وبكّتك كلّ عروضية ... ترنّ لها كلّ ميم ولام «4»
إذا ضنّ عنك بنور الرياض ... حبتك غرائب نور الكلام
وقوله: [الخفيف]
يا نسيم الصّبا الولوع بوجدي ... حبّذا أنت لو مررت بنجد «5»
أجر ذكرى نعمت وأنعت غرامي ... بالحمى ولتكن يدا لك عندي(15/545)
411/ولقد رابني شذاك فباللّ ... هـ متى عهده بأطلال هند
إنّ خير المعروف ما جاء لا سي ... ن سؤال فيه ولا واو وعد
عاقدتني به الليالي فما تخ ... فر عهدي ولا تغيّر عقدي
وقوله: [الوافر]
وشعر لو يكون الشعر غيثا ... لبات ونوؤه الشّعرى الصبور «1»
معان تحت ألفاظ حسان ... كما اجتمع القلائد والنحور
وقوله: [الوافر]
سأبكي والقوافي مسعداتي ... بندب من ثنائك أو مناح «2»
إذا ما خانني دمع بليد ... بكيت بأدمع الشعر الفصاح
وقوله يعاتب: [الطويل]
لئن كان عزّي قبلها عن مودّة ... صديق لقد حقّ الغداة عزائي «3»
وفي أيّ مأمول يصحّ لآمل ... رجاء إذا ما اعتلّ فيك رجائي
أعيذك بالنفس الكريمة أن ترى ... مخلّا بغرض الجود في الكرماء
وبالخلق السّهل الذي لو سقيته ... غليل الثرى لم يرض بعد بماء
وقوله: [المتقارب]
فياليتني لم أكن قبلها ... شغفت بحبّك يوما فؤادي «4»(15/546)
فإنّ القطيعة أشهى إليّ ... إذا أنا لم أنتفع بالوداد
ولولا شماتة من لا مني ... على بث شكرك في كلّ نادي
وقولهم ودّ غير الودود ... فجوزي على قربه بالبعاد
لما كنت بعد نيل الصفاء ... لأرغب في النائل المستفاد
412/ومنه قوله: [الطويل]
وما هى إلّا حرمة لو رعيتها ... رعيت فتى عن شكرها لا يقصّر «1»
كريما متى عاطيته كأس عشرة ... تعلّمت من أخلاقه كيف يشكر
وقوله: [الكامل]
يا محرقا بالنار جسم محبّه ... نار الجوى أحرى بأن تؤذيه «2»
ولحرّها برد على كبدي إذا ... أيقنت أنّ تحرّقي يرضيه
عذّب بها جسدي فداك معذّبا ... واحذر على قلبي فإنّك فيه
وقوله: [السريع]
أذلّني حبكم في الهوى ... فما حمتني ذلّة منكم «3»
ومذهب ما زال مستقبحا ... في الحرب أن يقتل مستسلم
وقوله في مخلص مديح: [الطويل]
وخيل تمطّت بي وليل كأنّه ... ترادف وفد الهمّ أو زاخر اليمّ «4»(15/547)
شققت دجاه والنجوم كأنّها ... قلائد نظمي أو مساعي أبي النّجم
وقوله: [الطويل]
عليكم سلام لم أقل ما يريبكم ... ولكنّه عتب تجيش به النّفس «1»
حبست القوافي قبل إغضاب ربّها ... وما للقوافي بعد إغضابها حبس
إذا العرب العرباء لم ترع ذمّة ... فغير ملوم بعدها الروم والفرس
وقوله: [الطويل]
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبّه «2»
وإيّاكما ذاك النسيم فإنّه ... إذا هبّ كان الوجد أيسر خطبه
خليليّ لو أحببتما لعلمتما ... محلّ الهوى من مغرم القلب صبّه
413/تذكّر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحبّ يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطويّ الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي السقام يلبّه
إذا خطرت من جانب الرّمل نفحة ... تضمّن فيها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنّة والظّبا ... وفى القلب من إعراضه مثل حجبه «3»
أغار إذا آنست في الحيّ أنّه ... حذارا عليه أن تكون لحبّه
ويوم الرّضا والصبّ يحمل سخطه ... بقلب ضعيف عن تحمّل عتبه
جلالي براّق الثنايا شتيتها ... وحلّاني عن بارد الورد عذبه
فيالسقامي من هوى متجنّب ... بكى عاذلاه رحمة لمحبّه(15/548)
ومن ساعة للبين غير حميدة ... سمحت بطلّ الدمع فيها وسكبه
وقوله: [المتقارب]
ويوم أخذنا به فرصة ... من العيش والعيش مستفرص «1»
ركضنا مع اللهو فيه الصّبا ... وأفراسه مرحا تقمص
إلى جنّة لا مدى عرضها ... يضيق ولا طلّها يقلص
وشرب تعاطوا كؤوس المدام ... فما كدّروها ولا نغصّوا «2»
سددنا بها طرقات الهموم ... فعادت على عقبها تنكص
فلو همّ همّ بنا لم نجد ... طريقا إلينا بها يخلص
لدى بركة حرّكت راؤها ... فليست تقلّ ولا تنقص
تغنّى لنا طربا ماؤها ... وقامت أنابيبها ترقص
414/يريك الجواهر تقبيبها ... وهنّ طواف بها غوّص
ومستضحك ذهبيّ الشفاه ... بما جزّعوا منه أو فصّصوا
منيف يجرّ بذوب اللجين ... على ذهب سبكه المخلص
ترى الطّير والوحش من جانبي ... هـ يشكو البطين بها الأخمص
دوان روان فلا هذه ... تراع ولا هذه تقنص
وفوّارة ما يفي وصفها ... جرير ولا رامه الأحوص
كأنّ لها مطلبا في السماء ... فهي على نيله تحرص
إذا ما وفا قدّها بالسموّ ... أخلفها عنق يوقص «3»
وتوجّها الشّرب نارنجة ... فخلت المذّبة تستخوص(15/549)
مشجّرة الماء تحليّه ... كجّمة شمطاء لا تعقص
ودوح أغانيّ قمريّه ... تهزّ اللبيبو تسترقص
وروض جلا النور خشخاشه ... تحار له العين أو تشخص
فمن أبيض يقق لونه ... يروقك كافوره الأخلص
ومن أحمر شابه زرقة ... حكى الوجنات إذا تقرص
وقوله: [المتقارب]
وباتت ثناياها عانيّة ال ... مراشف داريّة المنتشق «1»
وبتّ أخالج شكّي به ... أزور طرا أم خيال طرق
أفكّر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتّفق
فللحبّ ما عزّ منّي وهان ... وللحسن ما جلّ منه ودقّ
415/وقوله: [الطويل]
أغالب بالشكّ اليقين صبابة ... وأدفع في صدر الحقيقة بالوهم «2»
فلّما أبى إلّا البكاء لي الأسى ... بكيت فما أبقيت للرسم من رسم
وقوله: [الخفيف]
ومن العجز أنّ شكري نسيء ... كلّ وقت وأنّ برّك نقد «3»
كرم لا أبيت إلّا ولي من ... هـ على ما اقترحت زاد معّدّ
وقوله: [الكامل](15/550)
لو كنت شاهد عبرتي يوم النّقا ... لمنعت قلبك بعدها أن يعشقا «1»
ولكنت أوّل نازع من خطّتي ... يده ولو كنت المحبّ المشفقا
وعذرت في أن لا أطيق تجلّدا ... وعجبت من أن لا أذوب تحرّقا
كلني إلى عنف الصدود فربّما ... كان الصّدود من النّوى بي أرفقا
قد سال حتى قد أسال سواده ... طرفي فخالط دمعه المترقرقا
واستبق للأطلال فضلة أدمع ... أفنيتهنّ قطيعة وتغرّقا
أو فاستمح لي من خليّي سلوة ... إن كان ذو الإثراء يسعف مملقا
إنّ الظباء غداة رامة لم تدع ... إلّا حشى قلقا وقلبا شيّقا
سنحت وما منحت وكم من عارض ... قد مرّ مجتازا عليك وما سقى
ولكم نهيت الليث أغلب باسلا ... عن أن يرود الظبي أتلع أرشقا
فإذا القضاء على المضاء مركّب ... وإذا الشقاء موكّل بأخي الشقا
ولقد سريت إذا السماء تخالها ... بردا براكدة النجوم مشبرقا «2»
والليل مثل السّيل لولا لجة ... تغشى الرّبى ما عمّ فيه وأعمقا
وقوله من أخرى: [الطويل]
416/وما أنس لا أنسى الحمى وأهلّة ... تضلّ ومن حقّ الأهلّة أن تهدي «3»
وما إن اخال الجهل فيه من النّهى ... وحبّ أعدّ الغيّ فيه من الرشد
غنين وما نوّلن شيئا سوى الجوى ... وبنّ وما زوّدن شيئا سوى الوجد
عواطف يعيى عطفها كلّ رائض ... ضعائف يوهي ضعفها قوّة الجلد(15/551)
وقوله يشبه الهلال وفوقه كوكبان: [الكامل]
لاح الهلال كما تعوّج مرهفا ... والكوكبان فأعجبا بل أطرفا «1»
متتابعين تتابع الكعبين في ... رمح أقيم الصدر منه وثقّفا
فكأنّه وقد استقاها فوقه ... كفّ تخالف أكرتين تلقّفا
وقوله: [الكامل المرفل]
لاح الهلال فما يكاد يرى ... سقما كصبّ شفّه الخبل «2»
كالفتر أم كالحجل قد فتحت ... منه الكعاب لتدخل الرّجل
والزهرة الزهراء تقدمه ... في الجوّ وهو وراءها يتلو
كالقوس فوّق سهمها فبدا ... متألّقا في رأسه النّصل
وقوله يصف النّرد: [الرجز]
والنّرد كالناورد في مجالها ... أو كالمجوس ضمّها ما شوشها «3»
كأنّها دساكر للشرب أو ... عساكر جائشة جيوشها
وللفصوص جولة وصولة ... تحيّر الألباب أو تطيشها
قاتلها الله فلا بنوجها ... يرقع لي رأسا ولا يشوشها
أرسلها بيضا إذا أرسلتها ... كأنّها قد محيت نقوشها
417/كأنّ نكرا أن أبيت ليلة ... مقمورها غيري أو مقموشها
كأنّني أقرأ منها أسطرا ... من الزبور درست رقوشها
تطيع قوما عمّهم نصوحها ... وخصّني من بينهم غشوشها(15/552)
يجيبهم متى دعوا أخرسها ... وإن يقولوا يستمع أطروشها
مذبذبين دأبهم غيظ فما ... تسلم منهم عيشة أعيشها
كأنّ روحي بينهم أيكيّة ... راحت وكفّ أجدل تنوشها
وقوله: [الكامل]
لم يبق عندي ما يباع بحبّة ... وكفاك شاهد منظري عن مخبري «1»
إلّا بقيّة ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري
وقوله: [المتقارب]
مرضت فهل من شفاء يصاب ... وهيهات والداء طرف وجيد «2»
ويا حبّذا مرضي لو يكو ... ن ممرضي اليوم فيمن يعود
أيا غرم ما أتلفت مقلتاه ... وقد يحمل الثأر من لا يقيد
ومنهم:
40- أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي «3»(15/553)
مؤلف [دمية القصر] «1» كتابا طرّزه بأدبه، وطرّفه بذهبه. وذكر له فى أثنائه درر كلم تنطق بثنائه.
وكان في أوّل حاله فقيها صحب الجويني والد إمام الحرمين «2» صحبة أثمرت أفانينها، وعمرت بالفوائد أحايينها، ثمّ شغل بالأدب ورقم طرزه، ونظم درّه لا خرزه.
ما نسب بالباخرزي إلّا إلى باخرز «3» ، ولا حسب له إلّا الجوهر، وما هو من ذلك الطّرز.
وباخرز ناحية من نواحي نيسابور أخرجت جماعة من الفضلاء، وما خرّجت جماعة إلّا بالغلاء. وصادف الهوى قبولا من قابليته انطبع في مرآته،/ 418/وانقطع كلّ سابق عن مجاراته، واحتاج كلّ من يؤثر عنه من هذا الشان إلى مداراته لحسن يحسن في إظهاره، وقبيح يحمل في مواراته توقّعا لما يقوله في الدمية أو توقّيا واتّقاء منه إذ يسم هذا انحطاطا(15/554)
وهذا ترقّيا، فكم خلّص واحدا من عاب، وأحلّ آخر علياء الشّعاب، وكسى آخر فخرا لا يبلى جديده ولا يقصر مديده، وترك آخر نجابه عرضه منجى الذباب، وخيف ضرره خيفة الوزغ لا الحباب.
وكان ذا ذهن حدّ لا يصدأ صقيله، ولا يهدأ في المباحث صليله، ولا يعرف شرار النار إلّا أن يكون هو أو سليله، ولا طريق إلى الاختراع إلّا في شعره وما هو سبيله، ولا رحيق المراشف إلّا ما أداره لمى غزاله أو سلسبيله ببدائع ما الروض غاداه السّحاب، وهداه السخاب، ومرّ به النسيم مثل الجلباب معتل الهبوب في طفل الشباب، قد أخذت الأرض زينتها وجبلت بكافور القطر الذائب في عنبر الأرض طينتها حتى تسلسل ماؤها وهو مطلق وأطلق فيها النظر وهو موثق، وتجاوبت قيان ورقها الصّوادح، وتطايرت شرارات جلّنارها في كفّ كلّ قادح، وبرزت شقائقها مجامر، وبدت مخاضات أقاحها معابر، وتوردّ وردها بالخجل حياء من مقل النرجس، وطال لسان سوسانها عتابا على المنثور حيث أجلس، وتنمّر البنفسج في ورقه وازرقّ من حنقه، وبان على البان في قضبه، وعلى باقي الزّهر ما فرّ به إلى رؤوس كتبه، إلى غير هذا من محاسن جمعت، وميامن أودعت بأبدع من تلك البدائع، ولا بأبدع من ذلك الفضل الرائع.
وسنورد من بديعه ما يشقّ كتمانه على لسان مذيعه، منه قوله: [الطويل]
وذي زجل والى سهام رهامه ... وولّى فألقى قوسه في انهزامه «1»
419/ألم تر خدّ الورد مدمى لوقعها ... وأنصلها مخضوبة في كمامه
وقوله: [المنسرح]
ومطرب صوته وفوه ... قد جمعا الطيّبات طرّا «2»(15/555)
لو لم يكن صوته بديعا ... ما ملأ الله فاه درّا
وقوله وقد أصابه مع محبوبه جرب: [الطويل]
لنا جرب بين البنان نحكّه ... رضينا به والكاشحون غضاب «1»
وكنّا كمثل الماء والخمر صحبة ... علاها بطول الامتزاج حباب
وقوله: [الطويل]
وإنّي لأشكو لسع أصداغك التي ... عقاربها في وجنتيك نجوم «2»
وأبكي لدرّ الثغر منك ولي أب ... فكيف نديم الضحك وهو يتيم
وقوله في شدّة البرد: [الكامل]
لبس الشتاء من الجليد جلودا ... فالبس فقد برد الزمان برودا «3»
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكّان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حرّ النار والسّفودا
فالرّيق في الأشداق أصبح جامدا ... والدّمع في الآماق صار برودا «4»
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
وقوله من أبيات: [البسيط]
يا فالق الصبح من لألاء غرّته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا «5»(15/556)
بصورة الوثن استعبدتني وبها ... فتنتني وقديما هجت لي شجنا
لا غرو أن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حقّ على من يعبد الوثنا «1»
420/ومنه قوله: [الطويل]
زكاة رؤوس الناس في عيد فطرهم ... بقول رسول الله صاع من البرّ «2»
ورأسك أغلى قيمة فتصدّقي ... بفيك علينا فهو صاع من الدرّ
ومنه قوله في معذّر يكتب خطّا مليحا: [الكامل]
قد قلت لمّا فاق خطّ عذاره ... في الحسن خطّ يمينه المستملحا «3»
من يكتب الخطّ المليح لغيره ... فلنفسه لا شك يكتب أملحا
وقوله: [الكامل]
قالوا التحى ومحا الاله جماله ... وكساه ثوب مذلّة ومحاق «4»
كتب الزمان على محاسن خدّه ... هذا جزاء معذّب العشّاق
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
عجبت من دمعتي وعيني ... من قبل بين وبعد بين «5»
قد كان عيني بغير دمع ... فصار دمعي بغير عين
وقوله: [البسيط](15/557)
وشاغل بالنّوى قلبي ليجرحه ... أمسى جريحا بنزع الروح مشغولا «1»
مشى برجليه عمدا نحو مصرعه ... ليقضي الله أمرا كان مفعولا
ومنه قوله: [الكامل]
إنّي لأعجب من عقارب صدغه ... سلمت وملعبها خلال حريقه «2»
وتظلّ ترقص فوق وردة خدّه ... طربا إذا شربت مدامة ريقه
وقوله: [الوافر]
رنا ظبيا، ذكا وردا تثنى ... قضيبا، ماج دعصا لاح بدرا «3»
يسائل كيف حالك بعد عهدي ... فديتك ما السؤال وأنت أدرى
ومنه قوله: [الوافر]
421/عزاؤك أن حبست وليس عيبا ... فتلك الراح تحبس في الدّنان «4»
وهذا الورد قد يزداد طيبا ... إذا حبسته أطراف البنان
وصبرك إن ضربت فليس عارا ... كذلك يضرب السيف اليماني
ومنه قوله: [الطويل]
يروقك بشرا وهو جذلان مثلما ... تخاف شباه وهو غضبان محنق «5»
كذا السيف في أطرافه الموت كامن ... وفي متنه ضوء يروق ورونق(15/558)
[ومنه قوله] «1» : [الكامل]
قالت وقد ساءلت عنها كلّ من ... لاقيته من حاضر أو بادي «2»
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها: وأين فؤادي؟
ومنه قوله: [المتقارب]
أطلت الحنين وزدت الأنين ... وأصبحت من سوء حالي بحال «3»
كذاك القسيّ تطيل الأنين ... إذا كلّفوها فراق النبال
وقوله في مليحة مات أبوها فأفرط بها الجزع عليه: [الطويل]
ودرّة حسن أنفدت حسن صبرها ... وفاة أبيها فهي تبكي وتجزع «4»
فقلت اصبري فاليتم زادك قيمة ... أليس يتيم الدرّ أبهى وأبدع
وقوله في ذمّ الشراب: [البسيط]
لا تسقنيه فإنّي أيّها الساقي ... أخاف يوم التفاف الساق بالساق «5»
هذا الشراب تهيج الشرّ نشوته ... فميّز الشرّ عنه واسقني الباقي
وقوله في عيادة: [الخفيف]
لا يروعنّه الذبول فقدما ... قد حمدنا من القناة الذبولا «6»
ونسيم الرياض لا يكتسي الصّح ... حة إلّا بأن يهبّ عليلا
422/ومنه قوله: [الكامل](15/559)
لا تنكري يا عزّ إن ذلّ الفتى ... ذو الأصل واستغنى لئيم المحتد «1»
إنّ البزاة رؤوسهنّ عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد
وله نثر يروع حالية العذارى، وتغور منه الدرّاري غيارى، ويريك السامعين من الطرب سكارى، وما هم بسكارى ولكنّها نشوة استحسان، ونشأة روح وريحان.
منه قوله في خطبة الدمية «2» ، وقد حمد الله وأثنى عليه، وانتهى إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال حيث ساق الصلاة والتسليم إليه:
صلاة تكبو بالإضافة في حلبات نسيمها دخن الكباء «3» ، وتسرّ باستعارة نفحات سميمها سرر الظباء وما نفجت «4» السحب بذنابها ولألأت الفور «5» بأذنابها، وأقول: إنّي لم أزل قلق التشوّق إلى التفكّه بثمار الأدب الغضّ، صادق الرغبة في أخذ الحظّ من راحه بالغبّ ومن تفّاحه بالعضّ، وارتفع عن مثاقفة المعلمين أمري، وكبر عن تقلّد طوقهم عمري، ثاقب العزيمة كما يلسن في الظلام شواظ النار، نافذ الصّريمة، كما طنّ في العظام ذباب البتّار مغرما بمطالعة الكتب. ألزمها العين شطرا فشطرا، وأكاد أقشرها بمحكّ النّظر سطرا فسطرا، وبلغني أنّ بعضا من جناة ثمرتي ورماة مدرتي «6» ، يزعم أنّ عليّا قد أنجب به إزمان والديه، وليس كذا ولا ردّا عليه، ولكن ربّما أخلف وميض المزن الواعد، وكذب صلف «7» تحت الغيم الراعد، وما عندي من هذه الصّناعة إلّا تكثير سوادها. وإن كنت(15/560)
فسكل «1» آمادها ولما أضرّ بي طول الجمام «2» ،/423/وقرمت «3» إلى علك شكيمة اللّجام، خلعت عذاري على الاستنان «4» ، ورقصت مرحا في سير العنان، وعهد الصّبا مخيّم ما انتقل، والوجه بالنبت موشم همّ وما بقل «5» ، والخطّان المتورّدان من يمينه ويساره لم يتصافحا، والضّدّان المتناقضان من ليله ونهاره لم يتصالحا.
ومنه:
وسرت والمشيّعون يذرّون على الهواء فتات الأكباد، والمودّعون يزرّون لعناق التوديع أعضادهم على الأجياد، فلم يحفل بحمارّة «6» قيظ جوّها محموم ورشحها يحموم، يتوسّد وحشها ظل الأرطاة «7» ، وتسجر رمضاؤها وطيس الأفحوص «8» على القطاة، واعتنق على التهاب الضّرام أمرها، والتقط النقاط النعام جمرها، وكفى بالعلم مفخرا، يقدع به أنوف المفاخرين، وبالثّناء الجميل مدّخرا، وهو لسان الصدق في الآخرين.
ومنه:
وقد وليت وجهي شطر الفضلاء والوجاه، وبسطت حجري لالتقاط درر الشّفاه، وتركت اليراعة، التي هي أنبوب من رمح البراعة، يطول انضمامها إلى أناملي سادسة لخامسها، والمداد الذي هو مستسقى أرشية «9» الأقلام منهلا منهلا لخوامسها، لا جرم أحمدت سراي عند الصّباح، ونادى بي داعي الخير: حيّ على الفلاح، وهيّأ الله لي من(15/561)
أمري رشدا، وثمّر لي من طول معاناة المخض زبدا، وتحقّق لي كلّ ظن بما تجمّع لي من كل فنّ، فكأنّ الأرض ذلّلت لي على امتناع جوانبها، فمشيت في مناكبها، وزويت لي الفضلاء من مشارقها ومغاربها، وكأني في تخليد آثارهم وتجديد الدارس من آثارهم، قبلّي من اللواقح السواحب، ذيولها على الأرض الخاشعة إحياء لمواتها أو ربعي من السوافح النوافخ في صور رعدها على الرّوضة الهائجة إنشارا لنباتها. فلله سلّم فيه ارتقيت وأعيان بهم التقيت، ونجوم بأيّهم اقتديت اهتديت، وإن لم يتيسّر الوصول إليها والفراغ/ 424/منها، إلّا وقد وخط القتير، وطلع النذير، وانضمّ الخيط الأبيض من الفجر إلى الخيط الأسود من الشّعر، فخلّى الفود مشتعلا والفؤاد مشتغلا، وأضاف الذّود إلى الذود فصارت إبلا.
ومنه في تقريظه لبعض من لقيه «1» :
عهدته بها وبنانه ضرّة المزن في السخاء، ولسانه خليفة السيف في المضاء.
فهؤلاء سادات من عظام الصّدور وصارت صدورهم عظاما، وكبار من هامات الرءوس أطارت رؤوسهم هاما: [الطويل]
ربا حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجانا وهنّ سكون.
وقد بعثرت من دفائنهم ما تعظم أخطاره عند أولي المروءة، وملكت من خزائنهم ما إنّ مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة ثم نقف منهم على أطلال الماضين نترسّمها، ولا نكاد نعيّنها إلّا أواريّ «2» لأيا ما أبيّنها، فنباكي حمام الأيك شجوا، ونصوغ على وزان أسجاعها شدوا.
ومنه
وما أشبّه ذلك الفاضل إلّا بخصب ورثناه في رحالنا من أمداد سيول غاضت فعشنا في معروفها بعد غيضها، أو بعنبر دسره «3» إلى سواحل أمصارنا أمواج بحور فاضت فتلّهفنا(15/562)
على فوات فيضها، فأصبح كلّ منهم ممتلئ الصّرة على فراغ الجنان مثنيّ الحقيبة على سكوت اللسان، فهي الرتبة العالية قرّبت درجاتها للمرتقين، والجنة العاجلة أزلفت طيّباتها للمتقين.
ومنه:
وهذا حين أسوق صدر الكتاب إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز. وكنت على ألّا أوارد الثّعالبيّ في يتيمته، ولا أزاحمه في كريمته، إلّا ما تجذبني شجون الأحاديث إليه، فأفرغ كلامي عليه. ممّن رأيته فكان لقاؤه لعيني كحلا، أو سمعت به فكانت أخباره/ 425/لسمعي نحلا، ولولا تكرار الكؤوس لما استقرّت الأطراب في النفوس، ولا استقلّت صبابة الخمار عن الرءوس، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها ما جاوزت النّفس إلا ودّت معاده، وحبّها لكلّ من الحيوانات عادة. حتى إنّها لا تملّ إذا كرّرت عليها، ولا تكره إذا ردّت إليها، فإنّ في الزّوايا منهم بقايا، قد أرخي لهم إلى عصرنا هذا طول البقاء، وبقي ممّا أسأرته «1» شفاه الفناء، صبابة في قعر الإناء، وأنا إذا على ذكر شعراء العصر جريدة فريدة، ثم انتهيت إلى مكانهم منها، فأسقطت شذورهم من النّظام، وطفرت إلى من وراءهم طفرة النظّام، لمن آمن أن يقال: هذا رجل ضيق العطن، قصير الشّطن، قليل الثّبات، نزق الوثبات، يتخطّى رقاب الأحياء إلى رفات الأموات والوجه يملكه الحياء، وما يستوي الأموات والأحياء.
ومنه:
وألّا أستعير من تلك الحقائق حليّا، ولا أن أرعى من تلك الرّياض خليّا، وأقتصر من ذلك الأديم على مقدود من السّير، وأسلو بغثيّ عن ثمين الغير، فالضّرغام على اقتضاض مضجعه من الرّغام، لا يفترش غير إهابه عند المنام، وسينقل إليك من فرائد أشعارهم من جوّد نقلها أو لم يجوّد، ويأتيك بنوادر أخبارهم من زودته أو لم تزوّد. وما كلّ من نشر(15/563)
أجنحته بلغ الإحاطة، ولا كلّ من نثر كنانته قرطس الحماطة.
وقال بعد الفراغ من الخطبة:
لمّا كان كتابي هذا بين رعايا الكتب أميرا، أمطيته من عروش الإمارة سريرا، وجعلت رأسه بسماء الفخر مظلّلا، وبتاج العزّ مكلّلا.
ثم أخذ يذكر الخليفة القائم بأمر الله، وساق شعرا له في مدحه.
منه قوله: [البسيط]
أليس من عجب أنّي ضحى ارتحلوا ... أوقدت من ماء دمعي في الحشا لهبا
وأن أجفان عيني أمطرت ورقا ... وأنّ ساحة خدّي أنبتت ذهبا
426/أأن توقد برق من جوانبهم ... توقد الشوق في جنبيّ والتهبا؟
كأنّ ما انعقّ عنه من معصفره ... قميص يوسف غشّوه دما كذبا
منها:
ومهمه يتراءى آله لججا ... يستغرق الوخد والتّقريب والخببا
تصاحب الريح فيه الغيم لم ينيا ... أن يشركا في كلا حظّيهما عقبا
فالريح ترضع درّ الغيم إن عطشت ... والغيم يركب ظهر الريح إن لغبا
أنكحته ذات خلخال مقرّطة ... والرّكب كانوا شهودا والصّدى خطبا
ومنهم:
41- الوزير شرف الدين، أبو الحسن علي بن الحسن بن علي البيهقي «1»(15/564)
وزير لا تقتحم لججه، ولا تخصم حججه، بلسان طلق، وسنان ذلق، وبيان ترجم ما في صدور الخلق، وإحسان لو تطلّبت مثله لم تلق. تقلّبت به الأحوال تقلّب الأيام والليّال، وتصرّفت به الدهور تصرّف السنين والشهور، ولم يكسه طول المدّة إلّا جدّة، ولم يكسبه تصريف الزمان إلّا تشريف المكان، وما زال في قطر المشرق أفقه المشرق الطالع، ومفرقه الذي يحتقر له التيجان ولو رصّعت بالنجوم الطوالع.
شرفت به بلاد العجم شرفا ما له براح، وعرفت له مهابة لو أذمّ بها الليل لما هجم عليه الصباح، وكان صدر خراسان وملء صدر كلّ انسان، بدرا لا يدركه السرار، وعودا لا ينهكه السّفار. طود نهى، وجود لهى «1» ، وكان في دولة آل سلجوق لمعاقد الوزارة مرشّحا، ولقلائد السفارة موشحّا، ودفعه تصريف الدهر في صدره دفعة أقعدته على عجزه، وردّته ردّة عاد بها إلى أوّل مركزه لولا كرم رجل انتاشه، وأضفى كذنب الطاووس رياشه، وصحبه حتى قد قدمت الجنائز تهزّ نعوشها، وتصرّمت بقايا ليال كان يعيشها.
وقد ذكره العماد الكاتب في الخريدة،/ 427/وآثره بالصفات الحميدة «2» .
ومن أشعاره التي تدبّ كالخمر في المفاصل، وتهبّ كنار المضاء في بريق المناصل،(15/565)
قوله: [السريع]
كأنّما بغداد في جانبيّ ... بنيتها حبّ له عاشق
والحسن ما بينهما فاقد ... والنهر من غيرته خافق
ومنه قوله: [الطويل]
تشير بأطراف لطاف كأنّها ... أنابيب مسك أو أساريع مندل «1»
وتومي بلحظ فاتر الطرف فاتن ... بمرود سحر بابليّ مكحّل
ينمّ على ما بيننا من تجاذب ... نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل
وقوله: [السريع]
يا خالق العرش حملت الورى ... لمّا طغى الماء على جاريه «2»
وعبدك الآن طغى ماؤه ... في الصّلب فاحمله على جاريه
ومنهم:
42- سعد بن علي الحظيري الكتبي «3»(15/566)
محظور على غيره البلاغة، محذور البيان فلا يؤمّل بلاغه، قرأ واطّلع وامتلأ واضطلع حتى ألّف وجمع، وصنّف ما أضاءت له هذه اللّمع، وله من سرّ الصناعة ما يحقّ له به أن لا يبوح لا بل هو المسك أقلّ رتبة أن يفوح، والبدر لو جهد الغمام في إخفائه لا بدّ أن يلوح، والسجع المطرب فلا غرو للحمام لقصوره عنه أن ينوح.
وله تأليفات أبدعها، وأودعها فوائد نوّعها، وفرائد في عقود الآداب رصّعها منها زينة الدهر، نحى بها منحى اليتيمة، ومنها لمح الملح، ويشتمل على بديع أجاد تقسيمه لمن أراد تعليمه «1» .
وممّا نذكره من جنيه الملتقط، وشهيّه الذي لا يلام من ترك المدام، واقتصر عليه فقط.
/ 428/قوله، وقد أثبت شيئا من شعره في خاتمة زينة الدهر: [السريع]
هذا كتاب قد غدا روضة ... ونزهة للقلب والعين «2»
جعلت من شعري له عوذة ... خوفا وإشفاقا من العين
ومنه قوله: [البسيط]
شابت ذوائب صبري يا معذّبتي ... في ليلتي وعذار الليل لم يشب
ودون صبحي ستر من زمرّدة ... مسمّر بمسامير من الذّهب
وقوله: [الطويل]
شكوت إلى من شفّ قلبي ببعده ... توقّد نار ليس يطفا سعيرها
فقال: بعادي عنك أقرب راحة ... فلولا ارتفاع الشمس أحرق نورها
وقوله: [مخلع البسيط](15/567)
قد حجبت شمس وجنتيه ... سحاب شعر من العذار
فاعتضت من حرّها ببرد ... وقرّ في حبّه قراري
وقوله: [السريع]
مدّ على ماء الشباب الذي ... بخدّه جسرا من الشّعر «1»
صار طريقا لي إلى هجره ... وكنت فيه موثق الأسر
وقوله: [الخفيف]
أحدقت ظلمة العذار بخدّب ... هـ فهاجت في حبّه زفراتي «2»
قلت: ماء الحياة في فمه الآ ... ن فدعني أخوض في الظلمات
وقوله: [مجزوء الكامل]
إن لم ينم لك وهو أم ... رد، نام وهو معذّر «3»
والنوم يعسر في النها ... ر وفي الدّجى يتيسّر
وقلت في معناه: [الكامل]
قد كان أمرد فالتحى وبدت على ... كافور وجنته سحائب عنبر
429/وتسهّلت للعاشقين حباله ... من بعد طول تمنّع وتعسّر
فكأنّه نوم تيسّر في الدجى ... لمّا تعذّر في الصباح المسفر
وقوله: [الخفيف]
كنت فيما مضى أحبّ فلانا ... وثناني عنه سواد العذار(15/568)
نار وجدي توقّدت فوق خدّي ... هـ وهذا رماد تلك النار
وقوله: [مخلع البسيط]
وذات طرف قد طرّفته ... تسبق في الوهم كلّ نعت «1»
كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سواد بختي
وقوله: [الكامل]
قالوا: به عرج فقلت: ضللتم ... حاشاه أن تسطو العيون عليه «2»
ما ذاك من عرج به لكنّها ... قدماه لم تنهض برادفتيه
وقوله: [السريع]
كأنّني الحمّام من زفرتي ... وأدمعي الهامية الجاريه
الماء يجري من أنابيبه ... والنار في أحشائه واريه
وقوله: [السريع]
(نصر) علينا زاد في تيهه ... وهجونا ينقص من مجده «3»
والظّفر إن أسرف في طوله ... يردّ بالقصّ إلى حدّه
وقوله: [المنسرح]
وأشقر الشعر من لطافته ... يجرح لحظ العيون خدّيه «4»
فإن بدا من يشكّ فيه فلي ... شاهد عدل من لون صدغيه(15/569)
وقوله: [المنسرح]
وأشقر الشّعر بتّ من كلفي ... به على النار من محبّته «1»
كأنّ صدغيه في احمرارهما ... قد صبغا من مدام وجنته
430/ومنه قوله: [البسيط]
ما اشقرّ شعر حبيبي إنّ وجنته ... سقته من خمرها يوما وقد خجلا «2»
وإنّما لفحت خدّيه من كبدي ... نار ودبّت إلى صدغيه فاشتعلا
وقوله: [المنسرح]
تحت فم الحبيب شامة كملت ... حسنا وحاز الجمال مبسمه
كأنّها قد غدت تراصد أن ... يغفل عنه الواشي فتلثمه
ومنه قوله: [الخفيف]
قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دون فيه: دع الملامة فيه «3»
إنّما الشامة التي قلت عيب ... فصّ فيروزح لخاتم فيه
وقوله: [مخلع البسيط]
أقول والليل في امتداد ... وأدمع الغيث في انفساح
أظنّ ليلي بغير شك ... قد بات يبكي على الصّباح
ومنه قوله: [الكامل]
وخريدة قبّلتها وجبينها ... فلق الصباح وشعرها جنح الدّجى(15/570)
وقرصت خدّيها لأجني وردها ... فكأنّما أنبتّ فيه بنفسجا
وقوله: [السريع]
قد وضع الكفّ على كشحه ... وسمعه مصغ إلى المنشد «1»
خاف من الردف على خصره ... فقد غدا يمسكه باليد
ومنه قوله: [الكامل]
قد كان يجمع صحبة وقرابة ... فتفرّقوا عنه لكثرة ماله
مثل الهلال ترى الكواكب حوله ... فإذا استتمّ تناقصوا لكماله
وقوله: [الكامل]
لم يحبس المولى الكريم نواله ... بخلا عليّ ولم يكن بالسّاخط «2»
431/أنشدت في علياه شعرا باردا ... والبرد يقبض كل كفّ باسط
وقوله: [الطويل]
بدا الشيب في فودي فأقصر باطلي ... وأيقنت قطعا بالمصير إلى قبري «3»
أتطمع في تسويد صحفي يد الهوى ... وقد بيّضت كفّ النّهى حسبة العمر
ومنه قوله: [الطويل]
ومستحسن أصحبت أهذي بذكره ... وأمسيت فى شغل من الوجد شاغل «4»
وعارضني من سحر عينيه جنّة ... وقيّدني من حبّه بسلاسل(15/571)
وقوله: [المتقارب]
لئن قيل أبدع تشبيهه ... ولم يكس معناه لفظا سليما «1»
فمن عنب الكرم تجنى السلاف ... وإن لم يكن غصنه مستقيما
ومنه قوله لغز في القلم: [الوافر]
وممشوق القوام إذا تثنّى ... رأيت الحسن في ذاك التثنّي
تراه يطابطون البيض طورا ... وطورا فوق أظهرهنّ يمني
يواصل في الشباب فحين يبدو ... مشيب الرأس يعروه التجنّي
ومنه قوله: [البسيط]
لمّا حنى الشيب ظهري صحت وا حزنا ... دنا أوان فراق الروح للجسد «2»
أما ترى القوس أحني ظهرها فدنا ... ترحّل السهم عنها وهي في الكبد
ومنه قوله لغز في الناعورة: [المتقارب]
وصامتة تتغنّى لنا ... وأدمعها بين سفح وسفك
تراها كذا أبدا ودهرا ... تدور على غير شيء وتبكي
وقوله: [الهزج]
إذا المعنى عدا الشعر ... فتعليقي له جهل
432/ولولا الدّر في البح ... ر لما كان له فضل(15/572)
ومنهم:
43- القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرّجاني «1» .
قرأ الفقه حتى ثبت ورسخ، والأدب حتى نبت غصنه وما فسخ، وكتب حتى ظنّ خطّ العذار البديع أنّه ممّا نسخ. وحصل جوائز الثناء من بعض ما به رضخ، وصاد المعاني وما امتدّ له من النجوم شباك ولا نصب له من الهلال فخّ. إمام في الغوص لا يبلغ مبلغه، وغمام لا شيء يفرغه، ومورد فضل لكلّ وارد يسوغه، ومقصد أمل أقلّ رتبة أنّه يبلغه. تفقّه أوّل زمانه ثمّ تأدّب، وتنبّه به خصب التحصيل وما كان أجدب، وولي قضاء تستر، وعسكر مكرم، ووجد الكرامة من كلّ مكرم، وهو ممّن أثنى عليه ابن سعيد ثناء صريحا، بل جعل له غناء لا يدع إلّا من هو من فواضل غناه مستميحا، [] «2» له حلل هذا التقريظ الأريض وحلي ذهب هذا الوميض، إذ كان لا يلزّ بقرين في القريض، ولا يستفزّ بقريب ولا بعيد معه يفيض، من كلّ قصيدة تسكن الأوج والنجوم حضيض، ومعنى أسحر من الجفن الصحيح المريض، وأبعد في التصوّر من اجتماع النقيض والنقيض، بخاطر إناؤه بالذكاء يفيض وقلب(15/573)
قراره للأذن مغيض، وذهن تطاير شرارا، وفنّ تناثر كواكب لا تعدم الهلال سرارا، وعني بجمع ديوان شعره العماد الأصفهاني الكاتب، وعلا به أشرف المراتب، ولأهل بلاد العجم فيه رغبة الضنين، وطربة الحنين، على أنّه ليست من تراب العجم طينته، ولا إلى أتراب فارس سكينته، وإنّما سكن بلاد فارس سلفه فغلب على نسبه العربيّ نسبته العجميّة حتى غطّى على نهاره سدفه.
قال العماد الكاتب في حقّه في الخريدة «1» :".... وهو وإن/ 433/كان في العجم مولده فمن العرب محتده، سلفه الكريم من الأنصار لم يسمح بنظيره في سالف الأعصار، أوسيّ الأسّ خزرجّيه قسيّ النّطق إياديّه، فارسيّ القلم، وفارس ميدانه، وسلمان برهانه، من أبناء فارس نالوا العلم «2» المتعلّق بالثريّا. جمع بين العذوبة والطيب في الريّ والريّا".
انتهى كلام العماد.
ومختاره الذي لا يثلم له غرار «3» ، ولا يهدم له منار، قوله: [الكامل]
علق القضيب مع الكثيب بقدّه ... متجاذبين لحسنه وبهائه «4»
حتى إذا خافا النزاع تراضيا ... للفصل بينهما بعقد قبائه «5»
ذو غرّة كالنجّم يلمع نوره ... في ظلمة أخفته من رقبائه
أترعت في حجري غديرا للبكا ... فعسى يلوح خيالها في مائه(15/574)
بيضاء لما آيست من وصلها ... وبدت بدوّ البدر وسط سمائه «1»
ومنه قوله: [الخفيف]
وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء «2»
ثمّ غارت من أن يماشيها ال ... ظلّ فزارت في ليلة ظلماء
ثمّ خافت لمّا رأت أنجم الل ... ليل شبيهات أعين الرقباء
فاستنابت طيفا يلمّ ومن ... يملك عينا تهمّ بالإغفاء «3»
هكذا نيلها إذا نوّلتنا ... وعناء تسمّح البخلاء
لست أنسى يوم الرحيل وقد غر ... رد حادي الركائب للإفضاء «4»
فتباكت ودمعها كسقيط الط ... لّ في الجلنّارة الحمراء
وأرت أنّها في الوجد مثلي ... ولها للفراق مثل بكائي
434/فترى الدّمعتين في حمرة الل ... لون سواء وما هما بسواء
وقوله: [الكامل]
يا دمية من دون رفع سجوفها ... خوض الفتى بالخيل بحر دماء «5»
دمعي وبخلك يسلكان طريقة ... تغني عن الواشين والرّقباء
ومنه قوله:
يا ماءها أنا من فنائك راحل ... فلقد أطلت ولم ينلك رشائي «6»(15/575)
بخل الغمام عليك بخلك ظالما ... وجفا ذراك كما أطلت جفائي
وإذا تفروزت المياه بخضرة ... فبقيت غير مدبّج الأرجاء «1»
وإذا الربيع كسا البلاد برودة ... فتجاوزتك فسائح الأنواء «2»
وقوله: [الطويل]
وإنّي لأستشفي بسقم جفونها ... وهل عند سقم مطلب لشفاء «3»
ولمّا تلاقينا وللعين عادة ... تثير وشاة عند كلّ لقاء
بدت أدمعي في خدّها من صقالة ... فغاروا وظنّوا أن بكت لبكائي
وممّا شجاني والزمان مقوّض ... حمائم غنّت في فروع أشاء
وما خلت ألحان الأعاجم قبلها ... تشوق وتشجو علية الفصحاء
وما ذكّرتني ما نسيت من الهوى ... بحال ولكن طربة بغناء
وقوله منها في المديح:
أغرّ يطيف العين من نور وجهه ... بشمس سماح لا بشمس سماء «4»
سل العيس عنه هل وردن فناءه ... فأصدرن عنه الوفد غير رواء
435/وهل ينظم الأقران في سلك رمحه ... بطعن كتفصيل الجمان ولاء
فلله ما ضمّت حمائل سيفه ... لداعي الندى من هزّة ومضاء
وقوله: [الرمل](15/576)
بكروا والصّبح في طيّ الدّجى ... وجه حسناء حيّي في خباء «1»
وحداة العيس ينفون الكرى ... ويطيرون المطايا بالحداء
كلّ وجناء إذا ما طرّبوا ... عطّت البيد بهم عطّ الملاء
وإذا ما ادّرعت هاجرة ... جعل الظلّ لها مثل الحذاء
ومنه قوله في وصف تركي، والترك لا تنطق بالفاء، لأنّها لا رهن لها قولا بالوفاء، وأبدع في البيت الثاني، وأودع فيه ما زاد على سياق المعاني وهو: [الخفيف]
كيف يسخو لنا بفعل وفاء ... ذو لسان خال من اسم الوفاء «2»
كيف يصحو من سكرة التيه بدر ... ما خلافوه قطّ من صهباء
ومنه قوله: [الطويل]
وقالت لي الحسناء غالطت ناظري ... وبعض بكاء العاشقين خلاب «3»
وما ارتاب بي الأحباب إلّا بأنّهم ... إذا نظروا كانوا الذين أرابوا
وقوله: [الطويل]
فإن تسلبوا القلب الذي في جوانحي ... فإنّي إليكم بعده لطروب «4»
فنحن أناس للحنين كأنّما ... خلقنا جسوما كلّهن قلوب
ومنه قوله: [الكامل]
حلفت بإنضاء السّفار ذوائب ... عليهنّ أنجاب وهنّ نجائب «5»(15/577)
لأدرعنّ الليل أسحب ذيله ... إلى أن يرى فرع من الصّبح شائب
بصحب لهم بيض السيوف أضالع ... وعيس عليهنّ الرجال غوارب
436/ومنه قوله، وهو وإن كان مطروقا، فإنّه لمكان الزيادة فيه موموقا: [الطويل]
وقد ماج للأبصار بحر صبيحة ... به الشّهب درّ بين طاف وراسب «1»
وأهوى الثريّا للأفول بدقّة ... كما قرّبت كأس إلى فم شارب
ومنه قوله:
ردوا يا بني الآمال جمّة جوده ... فما البحر من غرف الأكفّ بناضب «2»
إلى بيت جود ما يزال حجيجه ... يوافون ملء الطّرق من كلّ جانب
إذا مدّت الأعناق أجمال سائر ... إليه تلقّتهنّ أجمال آئب
فلم ندر ماذا منه نقضي تعجّبا ... سؤال المطايا أم جواب الحقائب
تسحّ مياه الجود في بطن كفّه ... لكلّ أناس فهي شتّى المشارب
ويحسب ما تبدو به من خطوطه ... أسارير كفّ وهي طرق المواهب
وقوله: [الكامل]
ما جبت آفاق البلاد مطوّفا ... إلّا وأنتم في الورى متطلّبي «3»
سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدّهر بي
أنحوكم ويردّ وجهي القهقرى ... دهري فيسري مثل سير الكواكب «4»
فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسّير رأي العين نحو المغرب(15/578)
ومنه قوله: [الكامل]
في حكم طرفي حين كان مريبا ... أن لا أعد على الوشاة ذنوبا «1»
الدّمع منه فكم أعاتب واشيا ... والمنع منك فلم ألوم رقيبا
437/يا برق لم يقدح زنادك موهنا ... إلّا لتوقع في حشاي لهيبا
عندي من العبرات ما تسقى به ... للعامرّية أجرعا وكثيبا
وبمهجتي سار أجدّ مع النوى ... عتبا وساق مع الركاب قلوبا
فغدا بقلبي في الظعائن مركبا ... وبكلّ قلب غيره مجنوبا
منها:
يا ماجدا ما لاح بارق بشره ... إلّا بوابل جوده مصحوبا «2»
آوى الوفاء إلى كريم جنابه ... إذ كان في هذا الزمان غريبا «3»
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
لله يوم الجزع موقفنا ... لمّا تعرّض للمها سرب «4»
متطلّعات للعيون ضحى ... وأكفّها لوجوهها نقب
يرمقن من شبك البنان فما ... يزكو حليم القوم أو يصبو «5»
من كلّ فاتنة لمعصمها ... تبدي فيشجى القلب والقلب «6»(15/579)
كالسّهم راميه يقرّبه ... ولأجل بعد ذلك القرب
مدّت إليّ يدا تودّعني ... فدنا إليها المغرم الصّب
وقوله: [الطويل]
أحنّ إلى طيف الأحبّة ساريا ... ودون سراه نبوة الجفن الجنب «1»
فما للنوى لا يعتري غير مغرم ... كأنّ النوى صبّ من الناس بالصّب
فلله ربع من أميمة عاطل ... توشّحه الأنداء باللؤلؤ الرّطب
جعلت به قيد الركائب وقفة ... إذا شاء ربع الحي طالت على صحبي
رميت محيّا دارهم عن صبابة ... بسافحة الإنسان سافحة الغرب
438/أروّي بها خدّي وفي القلب غلّتي ... وقد يتخطّى الغيث أمكنة الجدب
ومنه قوله: [الطويل]
سل النّجم عنّي في رفيع سمائه ... أشاهد مثلي من جليس مبائت «2»
أساهره حتى تكلّ لحاظه ... وينسلّ في الصّبح انسلال المغالت
[وقوله] «3» : [الكامل]
يا ناسي الميعاد من سكر الصّبا ... بعذاب هجرك كم ترى أن تعنتا «4»
يوم المتيّم منك حول كامل ... يتعاقب الفصلان فيه إذا أتى
ما بين نار حشى وماء مدامع ... إن جنّ صاف وإن بكى وجدا شتا
وقوله: [الكامل](15/580)
واها لعصر العامرية في الحمى ... والعهد لولا أنّه منكوث «1»
بيضاء فاتنة لصخرة قلبها ... في ماء عيني لو تلين أميث
مقسومة شمسا وليلا إذ بدت ... للناظرين فواضح وأثيث «2»
فالشمس في حيث النقاب تحطّه ... والليل في حيث الخمار تلوث
ودّ الهلال لو انّه طوق لها ... والنجم لو أمس بها التّرعيث «3»
والشمس أقنع قلبها من شبهها ... أن قد تعلّق باسمها تأنيث
وقوله: [الطويل]
ويوم الكثيب الفرد لمّا استفزنّا ... وداع وكنّا من وشاة بمدرج «4»
وقفنا فدلّسنا على رقبائنا ... فظنّوا خليّا كلّ ذي لوعة شجي
حططت لثاما عن مجود مورّس ... وألقت نقابا عن أسيل مضرّج «5»
فما زلت أذري دمع عيني صبابة ... وتبدي دلالا عن شتيت مفلّج «6»
439/وقال رقيبانا دعوا لوم ناظر ... وناظرة لم تنو سوءا فتحرج
رعت هي روض الزّعفران وبادرت ... وحدّق ذا في الشمس عند التوهّج
فبالطّبع مجلوب بكاه وضحكها ... بلا محزن ممّا ظننّا ومبهج
منها في المديح:(15/581)
كسرتم جناحي جيش كسرى وقلبه ... بضرب كما ألهبت نيران عرفج «1»
غداة دلفتم بالرماح شوائلا ... ترى النقع فيها مثل ثوب مفرّج
وقوله: [السريع]
أكلّما اشتقت الحمى شفّني ... لاح إذا برق على الغور لاح «2»
يزيد إغرائي إذا لامني ... وربّما أفسد باغي الصّلاح
ماذا عسى الواشون أن يصنعوا ... إذا تراسلنا بأيدي الرّياح
وربّ ليل قد تدرّعته ... رهين شوق نحوكم وارتياح
حتى بدت تطلق طير الدّجى ... من شبك الأنجم كفّ الصّباح
لا غرو أن فاضت دما مقلتي ... وقد غدت ملء فؤادي جراح
وقوله: [الطويل]
سعى للعلى والأفق حول ركابه ... بأعزل يسعى من نجوم ورامح «3»
كأنّ الثريا استأمنت لجنودها ... فقد بسطت للعهد كفّ مصالح
وقوله: [الكامل]
شاق الحمام إليك لمّا ناحا ... صبّا تذكّر إلفه فارتاحا «4»
ليت الحمام أتّم بي إحسانه ... فأعارني أيضا إليك جناحا
440/يا نازحا لم ينقطع ذكري له ... لو أنّ ذاك يقرّب النّزاحا
وعلى الجياد معارضين فوارس ... فوق الكواثب عارضين رماحا(15/582)
لو قاتلوا بدل الظّبى بلحاظها ... كانوا إذا أمضى الأنام سلاحا
ومرنّح الأعطاف تحسب صدغه ... ليلا وتحسب خدّه مصباحا
بتنا نديمي عفة في خلوة ... متساقيين ولا زجاجة راحا
خاطبت كلّ معاشر بلغاتهم ... زمنا مخاطبة الصّدى من صاحا
وقوله في الشمعة: [الكامل]
أفردت من إلف شهيّ وصله ... حلو الجنى عذب المذاق صريح «1»
قد سلّ من جسمي وكان شقيقه ... فرجعت عنه بقلبي المقروح
وأنا له هو قد فقدت بعينه ... أفليس بخل مدامعي بقبيح
بالنّار فرّقت الحوادث بيننا ... وبها نذرت أعود أقتل روحي
وقوله: [الطويل]
ومسترق من وصل أغيد فاتن ... محاسنه روضي وعيناي رائدي «2»
تغطيّت منه تحت قطر مدامعي ... تغطّي سلك تحت نظم الفرائد
تمتّعتما يا ناظريّ بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد «3»
أعينيّ كفّا عن فؤادي فإنّه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
ومنها قوله:
مواقف خطّت للهدى نبوّية ... لأبيض من بيت النّبوة ماجد «4»
إذا خرجت منها المراسم صوّرت ... ثرى الأرض آثار الوجوه السواجد «5»(15/583)
441/ومنه قوله: [الطويل]
أحنّ إلى ليلى على قرب دارها ... حنين الذي يشكو لألّافه فقدا «1»
ولي سلك جسم ملؤه درّ أدمع ... فلولا العدا أمسيت في جيدها عقدا
وآخر عهدي يوم جرعاء مالك ... بمنعرج الوادي وأظعانهم تحدى
ولما دنت والسّتر مرخى ودونها ... غيارى غدت تغلي صدورهم حقدا
تقدّمت أبغي أن أبيع بنظرة ... إلى سجفها روحي لقد رخصت جدّا
أسفت على ماضي عهود أحبّتي ... وهل يملك المحزون للفائت الرّدا
ومنه قوله: [الكامل]
ناشدتكم إلّا قصرتم ساعة ... فضل الأزمّة عند برقة منشد «2»
أنا مسعد فيكم فهل من مغرم ... أو مغرم فيكم فهل من مسعد
ربع وقفت أرى وجوه أحبتي ... فيه بعيني ذكري المتجدّد
من كلّ ظاعنة أقام خيالها ... وقضت تروح لها الركاب وتغتدي
لمّا سبقت إلى الحمى وتلاحقوا ... صحبي وهل لأسير حبّ مغتدي
بمعاج نضو في محلّ داثر ... ومجال طرف في رسوم همّد
عطر ثراه على تطاول عهده ... بمجرّ أذيال الحسان الخرّد
ومسهّر قال النجوم لطرفه ... هي عقبة بيني وبينك فارصد
كم قد سهرت وكم رقدت لياليا ... فالآن قد أغنيت فاسهر وارقد
وقوله: [الطويل](15/584)
نظرت وأقمار الخدود طوالع ... فقد أتلعت بيض السوالف غيدها «1»
فلم أر كالألحاظ لولا نبوّها ... ولم أر كالأجياد لولا صدودها
442/ومهما حدا الحادي بسعدى ففي الكرى ... معيد على رغم الفراق يعيدها
ممنّعة حاطت عليها رماحها ... ولو قدرت خيطت عليها جلودها
وقد زاد أشواقي إليكم حمائم ... وما كنت أدري أنّ شيئا يزيدها
مطوّقة من زرقة الفجر قمصها ... ومن حلكة الليل البهيم عقودها
ولو قد أعادت حين شاقت إليكم ... جناحا به يطوى على النأي بيدها
تقلّدت منها منّة يغتدي لها ... مدى الدّهر في طوقين جيدي وجيدها
ومنه قوله: [الخفيف]
أنشدتنا ورق الحمائم عند الصّ ... بح من شعرها القديم قصيدا «2»
قوّمت وزنها وإن لم تعلّم ... من عروض طويلها والمديدا
وتغنّت بكلّ منظومة عج ... ماء تجلو معنى وتحلو نشيدا
ما ابتداها لكن إذا درس الشّو ... ق فؤادي كان الحمام معيدا
وكأنّ الحبيب يوم وداعي ... ودموعي للبين تحكي الفريدا
علّق العقد فوق خدّي وأوصى ... أن يخلى كذاك حتى يعودا
ومنه قوله: [الخفيف]
ربّ مستجهل العواذل فيه ... بتّ منه بمقلة ليس تهدى «3»
قمر بتّ ساهرا فيه حتى ... كدت أفني فيه الكواكب عدّا(15/585)
لو عدا منه [] غليلي «1» ... لأبت وجنتاي أن تتندّى
جاء يوم الوداع ينشد فيه ... ما ترى العيس في الأزمّة تحدى
وبدا للنّوى به مثل مابي ... كم هوى كان لازما فتعدّى
443/وتقاضيته وداعا ولثما ... ليكونا لنا سلاما وبردا
فتأبّى واعتاده خجل ... ألهب منّي ومنه قلبا وخدّا
ثمّ ولّى كالغصن في مرح ... يفتل مني ومنه جيدا وقدّا
بعد ما أنفذ الحشا بجفون ... سحر القلب طرفها حين ردّا
ومنه قوله: [البسيط]
يا من غدا فرط حبّي وهو يحمله ... على البصيرة منّي لو على البصر «2»
إن تغش طرفي وقلبي نازلا بهما ... فالطرف والقلب كلّ منزل القمر
إن يطرق الطيّف عيني وهي باكية ... فالبدر في الغيم يسري وهو ذو مطر
كأنّ جفني إكراما لزائره ... أمسى على قدميه ناثر الدّرر
تحيّة من عرار الرّمل واصلة ... والرّكب يطلع من أعلام ذي نفر
وليس بالرّيح إلّا أنّها نسمت ... على مساحب ذيل بالحمى عطر
لله خيل بكا تجري صوالجها ... أهداب عيني وقطر الدّمع كالأكر
والجوّ كالروّضة الخضراء معرضة ... لناظري والنجوم الزّهر كالزّهر
ومنه قوله: [الطويل]
أذاكرة يوم الوداع نوار ... وقد لمعت منها يد وسوار «3»(15/586)
عشيّة ضنّوا أن يجودوا فعلّلوا ... وخافوا العدى أن ينطقوا فأشاروا
فليت ديار النازحات قلوبنا ... لنسلو من ليت القلوب ديار «1»
وليلة أهدين الخيال لناظري ... وبالنّوم لولا الطّيف عنه نفار
تقنّصته والأفق يجتاب حلّة ... من الوشي يسدى نسجها وينار «2»
444/فلا تحسب الجوزاء طرفك إنّها ... هديّ لها شهب الظلام نثار «3»
وإنّ الثّريا بات فضيّ كأسها ... بأيدي ندامى الرّيح وهو يدار «4»
فليس الدّجى إلّا لنار تنفّسي ... دخان تراقى والنجوم شرار
وقوله: [الطويل]
خيالك من قبل الكرى طارقي ذكرا ... ففيم التزامي للكرى منّة أخرى «5»
غدا شخصكم في العين منّي قائما ... فمن نمّة الواشي بكم أخذ الحذرا
فو الله ما ضمّي الجفون لرقدة ... ولكن لألقى منكم دونكم سترا «6»
وفتّانة صاغت سلاسل صدغها ... قيودا على أعداد عشاّقها الأسرى «7»
تبسّم عن درّ تكلّم مثله ... فلم أر أحلى منه نظما ولا نثرا
وقوله: [الكامل]
لا طالب الله الأحبّة إنّهم ... ناموا عن الصبّ الكئيب وأسهروا «8»(15/587)
هجروا وقد وصّوا بهجري طيفهم ... يا طيف حتى أنت ممّن يهجر
دون الخيال ودون من يشتاقه ... ليل يطول على جفون تقصر
ومخيّمون مع القطيعة إن دنوا ... هجروا وإن راحوا إلينا هجرّوا
أرأيت يوم البين ما صنعوا بنا ... والحيّ منهم منجد ومغوّر «1»
سفروا فلمّا عارض القوم اتّقوا ... بمعاصم فكأنّهم لم يسفروا
أعقيلة الحيّ المطنّب بيتها ... حيث القنا من دونه تتكسّر
أخفى إذا عاينت وجهك من ضنى ... فأدقّ عن درك العيون وأصغر «2»
وأرى بنورك كلمّا أدنيتني ... وكذا السّها ببنات نعش يبصر
445/خطرت إليّ فزاد من طربي لها ... أن لم يكن بالبال ممّا يخطر
وكأنّما تركت بخدّي عقدها ... ليكون تذكرة بها يتذكّر
ومنه قوله: [الطويل]
ولم أنسها يوم الرّحيل وقد لوت ... بتسليمة التوديع حاشية السّتر «3»
وقلبي مع الرّكب اليمانيّ رائح ... لقى بين أيدي العيس في البلد القفر
أقول وإلفي للوداع معانقي ... ولي دمعة غيّضتها فهي في نحري
أدر لي كؤوس اللثم صرفا لعلّه ... تسير المطايا عند سكري ولا أدري
ومنه قوله: [البسيط]
خود إذا سفرت للعين أو نطقت ... فالطّرف لي قاطف والسّمع مشتار «4»(15/588)
تريك حليا على نحر إذا التمعا ... لاحا كأنّهما جمر وجمّار
لا أشرب الدّمع إلّا أن يغنّيني ... ورق سواجر مهما رقّ أسحار «1»
من كلّ أخطب مسكيّ العلاط له ... في منبر الأيك تسجاع وتهدار «2»
خطيب خطب وقد أفنى السواد بلى ... فمن بقيّته في الجيد أزرار
ومنه قوله: [الخفيف]
أحضر الليل منه عقدا وثغرا ... حين ولّى ليعقب الوصل هجرا «3»
وأردت اختلاس قبلة تودي ... ع فكلّ في ناظري كان درّا
فتحيّرت أحسب الثغر عقدا ... من سليمى وأحسب العقد ثغرا
فلثمت الجميع قطعا لشكي ... وكذا يفعل الذي يتحرّى
ومنه قوله: [المنسرح]
446/عدت بقلب في الوجد منتكس ... وناظر في الدموع منغمس «4»
وكان ليلي كأنّه نفس ... فصار ليلي كأنّه نفسي
وقوله: [الطويل]
بما عنّ من شكوى زمان تعرّضا ... تناسيت لذّات الزمان الذي مضى «5»
فلا تذكراني عهد نجد وأهله ... إذا الريح هبّت أو إذا البرق أومضا
فما في ضميري اليوم من طارق الأسى ... مكان لتذكار السرور الذي انقضى(15/589)
ولو خلصت لي من فؤادي شعبة ... من الهمّ لم أذكر سوى ساكن الفضا
ومنه قوله: [الطويل]
سرى ولثام الصّبح قد كاد ينحطّ ... خيال تسدّى القاع والحيّ قد شطّوا «1»
وزار وقد ندّى النسيم حليّه ... فبات يباري الثّغر في برده القرط «2»
وما عطّرت نجدا صباها وإنّما ... سرى وهو مجرور على إثرها المرط «3»
هو البدر وافى والثريا كأنّها ... على الأفق ملقى منه من عجل قرط
ومنه قوله: [البسيط]
لم يعتمد في العلى من أمرها طرفا ... ولم يقع رأيه في نقدها غلطا «4»
لو لم يكن وسط الأشياء أشرفها ... ما اختارت الشمس في أفلاكها الوسطا
وقوله فى الأقلام: [الطويل]
ولا عجب أن تملك العين إن جرت ... وماست على القرطاس أعطاف رقطها «5»
فما اللّحظ من عين الفتاة كجريها ... وما الخال في خدّ المليح كنقطها
وقوله: [الكامل]
ودع التناهي في طلابك للعلى ... واقنع فلم أر مثل عزّ القانع «6»
فبسابع الأفلاك لم يحلل سوى ... زحل ومجرى الشمس وسط الرابع(15/590)
447/وقوله: [الكامل]
ما أسأروا في كأس دمعي فضلة ... عنهم فأجعلها نصيب الأربع «1»
هو ذلك الدرّ الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من مدمعي
وقوله: [الكامل]
أبدوا وأخفوا عاجلا فكأنّني ... طيف سرى في أخريات هجوع «2»
وأرى فؤادي في الزمان كأنّه ... بيت العروض يرام للتقطيع «3»
وقوله: [البسيط]
حيث انتهيت من الهجران بي فقف ... ومن وراء دمي سمر القنا فخف «4»
يا عابثا بعدات الوصل يخلفها ... حتى إذا كان ميعاد الفراق يفي
اعدل كفاتن قدّ منك معتدل ... واعطف كسائل صدغ منك منعطف
ويا عذولي ومن يصغي إلى عذل ... إذا رنا أحور العينين ذو هيف
تلوم قلبي أن أصماه ناظره ... فيم اعتراضك بين السّهم والهدف
سلوا عقائل هذا الحيّ أيّ دم ... للأعين النّجل عند الأعين الذّرف
يستوصفون لساني عن محبّتهم ... وأنت أصدق يا دمعي لهم فصف «5»
لم أنس يوم رحيل الحيّ موقفنا ... والعيس تطلع أولاها على شرف
والعين من لفتة الغيران ما خطيت ... والدّمع من رقبة الواشين لم يكف «6»(15/591)
وفي الحدوج الغوادي كلّ آنسة ... إن ينكشف سجفها للشمس تنكسف
وقوله:
أيّها النائمون عن سهر الصّ ... ب إذا هوّم الخليّ وأغفى «1»
448/ما عرفت الرقاد بالعين طعما ... فصفوه أعرفه بالأذن وصفا
سلبتنيه ظبية تركتني ... مقلتاها ما عشت للوجد حلفا
غادة ورد خدّها وسط شوك ... من قنا قومها إذا شئت قطفا
منها في المديح:
فغداه من الورى كلّ نكس ... يدعي نسبة العلى وهو ينفى «2»
وضع النقص منه فازداد كبرا ... ويزيد التصغير في الاسم حرفا
وقوله منها:
آخر يفضل الأوائل معنى ... مثلما يفضل الرّويّ الردفا «3»
فهو أوفى الأنام عرفان ذي فض ... ل وأوفاهم لذي الفضل عرفا
وقوله: [الكامل المرفل]
عجب الخلائق من فؤاد فتى ... أرسى بحيث الأسهم المرق «4»
يلتذّ ما أصماه قاتله ... وبه إذا لم يرمه القلق
أشجع بقلبي حين ترشقه ... لو أنّ صدغك فوقه حلق(15/592)
وقوله: [الطويل]
أقول وقد ناحت مطّوقة ورقا ... على فنن والصّبح قد نور الشرقا «1»
بكت وهي لم تبعد بألّافها النوى ... كإلفي ولم تفقد قرائنها الورقا
كذا كنت أبكي ضلّة في وصالهم ... إلى أن نأوا عني فصار البكا حقّا
فلا [] قال الفراق مجانة «2» ... فتلقى على فقد الأحبّة ما ألقى
خذي اليوم في أنس بإلفك وانطقي ... بشكر زمان ضمّ شملكما نطقا
وخلّ البكا ما دام إلفك حاضرا ... يكن بين لقياه وغيبته فرقا
449/وفي الدّهر ما يبكي فلا تتعجّبي ... ولا تحسبي شيئا على حاله يبقى
وقوله: [المنسرح]
كنّا جميعا والدّار تجمعنا ... مثل حروف الجمع ملتصقه «3»
واليوم جاء الوداع يجعلنا ... مثل حروف الوداع مفترقه
ومنه قوله: [الكامل]
لا تقرب العوراء من قولي ولا ... ينحّل في الفحشاء عقد نطاقي «4»
والناس مختلفون في آدابهم ... وكذا اختلاف مآرب العشّاق
وقوله: [الطويل]
رأى الفلك الدّوار أنّك فتّه ... وخاف عليه أن يصبّ سطاكا «5»(15/593)
فرصّع في ترس هلالا وأنجما ... وأغمد شمسا في دجى ورشاكا
ولا شكّ أنّ البدر في الأفق درهم ... من النثر باق في طريق علاكا
ومنه قوله: [البسيط]
زمّوا وقد سفكوا دمعي ركائبهم ... فكدت أغرق ما زمّوا بما سفكوا «1»
وراعني يوم تشييعي هوادجهم ... والعيس من عجل في السّير ترتبك
ستران ستر عن الأقمار منفرج ... يبدو وآخر للعشّاق منهتك
منها:
قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلا ... والشمع عند اشتعال الرأس ينسبك «2»
فإن يكن راعها من لونه يقق ... فطالما راقها من قبله حلك
عرفت دهري وأهليه ببادرتي ... من قبل أن نجدّتني فيهم الحنك
فلا حسائك في صدري على أحد ... منهم ولا لهم في مضجعي حسك
ولا أغرّ ببشر في وجوههم ... وربّما غرّ حبّ تحته شبك
وقوله: [الكامل]
ذهب الذين صحبتهم فوجدتهم ... سحب المؤمّل أنجم المتأمّل «3»
450/وبليت بعدهم بكلّ مذمّم ... لا مجمل طبعا ولا متجمّل
منها:
أسف على ماضي الزّمان وحيرة ... في الحال منه وخشية المستقبل(15/594)
ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلّا بكيت على الزّمان الأول
منها:
وهززت أعطاف الصّباح إليهم ... في متن ليل بالنهار مخلخل
جذلان ينتصب انتصاب المجدل ال ... عالي وينقضّ انقضاض الأجدل «1»
ويهزّ جيدا كالقناة ينوطه ... بحديد أذن كالسنان مؤلّل
وتخال غرّته سطوع ذبالة ... طلعت بها ليلا ذؤابة يذبل
ومنه قوله: [الوافر]
وأغيد رقّ ماء الوجه منه ... فلو أرخى لثاما عنه سالا «2»
تبين سوادها الأبصار فيه ... فحيث لحظت منه حسبت خالا
بطرف ليس يشعر ما التشكّي ... وينشد سقم عاشقه انتحالا «3»
منها:
وأشتمل الظّلام وفي شمالي ... زمام شمّلة تحكي الشّمالا
من اللّاتي إذا طربت لحدو ... خشيت من النّسوع لها انسلالا «4»
ولو سلخت لنا في الشرق شهرا ... سبقن بنا إلى الغرب الهلالا
ومنه قوله: [الكامل]
دعني وأطماري أجرّ ذيولها ... وأنزّه الديباجتين عن البلى «5»(15/595)
أنا صائن عرضي وإن صفرت يدي ... كم من أغرّ ولا يكون محجّلا
إنّا على عظّ الزمان لمعشر ... من دون ماء وجوهنا ماء الطّلى
من كلّ مستبق اليدين إلى الظّبى ... طربا إلى يوم الوغى مستعجلا
451/ويخال محمّر الصفائح وجنة ... ويعدّ سمراء الوشيج مقبلا
ومنها في وصف الخيل:
فكأنّما يكبو إذا استدبرته ... وكأنّما يقعي إذا ما استقبلا «1»
ويهزّ جيدا كالقناة مرنّحا ... ويدير سمعا كالسّنان مؤلّلا «2»
فإذا دنا فجع الغزال بأمّه ... وإذا رنا خطف الظّليم المجفلا
فيفوت مطرح طرفه مترفّفا ... ويجي سابق ظلّه متمهّلا
وتخال منه صاعدا أو هابطا ... سجلا هوى ملآن أو سهما علا «3»
وأغرّ في ثني العنان محجّل ... فتخال يوم وغاه فيه مثّلا
أمّا كميت في قنوّ أديمه ... يحكي سميّته الرحيق السّلسلا «4»
عكفت به من ضوء صبح فرجة ... وأعير من ليل قناعا مسبلا «5»
فتراه بحرا والجبين ذبالة ... ويديه ريحا والحوافر جندلا
أو أشقر في غرّة فكأنّه ... شفق المغارب بالهلال تكلّلا
وكأنّه قد درّع النار التي ... قدحت سنابكه النّواهب للفلا
يرتدّ خدّ السيف منه مواردا ... عكسا وطرف الشمس منه مكحّلا(15/596)
أو أشهب يحكي الشهاب إذا سرى ... يجتاب تحت النّقع ليلا أليلا
ربد إذا ما النقع زلزل أرضه ... أهوى يفوت النّاظر المتأمّلا «1»
أو أدهم قرن الحجول بغرّة ... لطمت له وجها كريم المجتلى
فظننت جونا ذا بوارق مرعدا ... وحسبت ليلا ذا كواكب مقبلا «2»
سلت الأكارع صبغه كمظاهر ... بردين شمّر ذا وهذا ذيّلا
452/لبس السّواد على البياض فراقنا ... أن قلّص الأعلى وأرخى الأسفلا
كدجنّة صقلت دراري خمسة ... ومحدّة كشفت محاسن نصّلا «3»
أو أصفر كالتبّر يأبى عزّة ... أن لا يحاكي لونه أن ينعلا
ترنو خطا فرس المسابق خلفه ... فتخاله بحجوله متشكّلا
أو أبلق يسبي العيون إذا بدا ... من تحت فارسه الكميّ مجوّلا
مثل الجهام تشققّت أحضانه ... برقا وراح له شمالك شمألا «4»
وكأنّ خيطي ليله ونهاره ... قد قطعّا مزقا عليه ووصّلا
ومنه قوله: [الطويل]
ونحن نجوب البيد فوق ركائب ... تراها مع الركب العجال تجول «5»
فلو وقفوا في ظلّ رمح ونوّخوا ... لضمّهم والعيس فيه مقيل
وقوله: [الطويل](15/597)
ويعلو الغمام الأرض من أجل أنّه ... يسوق إليها وهي لن تبرح الوبلا «1»
إذا ما قضت نفسي من العزّ حاجة ... فلست أبالي الدّهر أملى لها أم لا «2»
وقوله: [الكامل]
في ليلة أسر الظلام نجومها ... فثوت تلوح على الدّجى إكليلا «3»
وتناهبت خيل الوزير صباحها ... فقسمنه غررا لها وحجولا «4»
منها:
وسطا فما ينفكّ طرف عداته ... بظباه أو بخيالها مكحولا «5»
لم يشعروا حتى طرقت كأنّما ... حوّلت في الحدق الخيال خيولا
وقوله: [المجتث]
هذا الوزير الأجلّ ... ما في مطاويه غلّ «6»
الشرّ فيه قليل ... والخير فيه أقلّ
453/وقوله: [الكامل]
سأل الحمى عنه وأصغى للعدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله «7»
ناداه أين ترى محطّ رحاله ... فأجاب أين ترى محطّ رحاله(15/598)
[وقوله] «1» : [الطويل]
تمزّقت الظلماء عن نور غادة ... أضاء من الآفاق ما كان مظلما «2»
إذا وجهها والبدر لاحا بليلة ... فما أحد يدري من البدر منهما
وقوله، والثاني يقرأ مقلوبا: [الوافر]
وفي الفتيان كلّ ربيط جأش ... يرى حرب الزمان ولا يخيم «3»
مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم
وقوله: [الطويل]
رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لمّا لم يكن لي راحم «4»
فدلّس بي حتى طرقت مكانه ... وأوهمت إلفي أنّه بي حالم
فبتنا ولا يدري لنا الناس ليلة ... أنا ساهر في عينه وهو نائم
وقوله: [المنسرح]
ما يلتقي اثنان منصفان معا ... إذا اختبرت الناس كلّهم «5»
تنصف ما دام يظلمونك أو ... تظلم إن كان ينصفون هم
أعداء عذّالهم إذا عشقوا ... وعذّل العاشقين إن سلموا
وقوله: [المتقارب](15/599)
تظلّم من طرف ظبي رخيم ... سقيم غدا شاكيا من سقيم «1»
فلم يسع بينكما للعتاب ... رسول يشاكل غير النسيم
وقوله: [الرمل]
قاتل الله أراكا بالحمى ... أبدا يملي على القلب الغراما «2»
يصف الثّغر لنا يابسه ... ويحاكي رطبه منها القواما
يا أراك الجذع هب لي ريقها ... ولأطرافك فاستسق الغماما
454/أرد الماء وتمتاح اللمّى ... ساء هذا يا ابنة القوم اقتساما
منها:
غالطتني إذ كست جسمي الضّنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما
ثمّ قالت: أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقت لكن [] «3»
وقوله: [الكامل]
ورد الخدود ودونه شوك القنا ... فمن المحدّث نفسه أن يجتنى «4»
لا تمدد الأيدي إليه فطالما ... شبّوا الحروب لأن مددنا الأعينا
ورد تخيّر من مخافة نهبه ... باللّحظ من ورق البراقع مكمنا
منها:
إنّي لأذكر في الليالي ليلة ... والإلف فيها زارني متوسّنا «5»(15/600)
بعث الخيال وجاءني في إثره ... أرأيت ضيفا قطّ يتبع ضيفنا
منها:
في ليلة حسدت مصابيح الدّجى ... كلمي وقد كانت لها هي أزينا
قلمي بها حتى الصباح وشمعتي ... بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا
حتّى هزمنا للظلام جنوده ... لمّا تشاهرنا عليك الألسنا «1»
أفناهما قطعي وأفنيت الدّجى ... سهرا فأصبحنا وأسعدهم أنا
وقوله: [البسيط]
تقول للبدر في الظلماء طلعته ... بأيّ وجه إذا أقبلت تلقاني «2»
وجه السماء مرآة لي أطالعها ... والبدر وهنا خيالي فيه لاقاني
لم أنسه يوم أبكاني وأضحكه ... وقوفنا حيث أرعاه ويرعاني
455/كلّ رأى نفسه في عين صاحبه ... فالحسن أضحكه والحزن أبكاني
قد قوّس القدّ توديعا وقرّبني ... سهما فأبعدني من حيث أدناني
وكنت والعشق مثل الشمع معتلقا ... بالنار ألفيته جهلا فأفناني
وقوله: [الطويل]
فلمّا غدا عبأ على جفن ناظري ... لقاء الورى من صاحب وخدين «3»
ألفت الفلا مستوطنا ظهر ناقة ... تلف سهولا دائما بحزون
وما سرت إلّا في الهواجر وحدها ... كراهة ظلّي أن يكون قريني
وقوله: [الوافر](15/601)
وأين من الملام لقى هموم ... يبيت ونضوه ملقى الجران «1»
يشيم البرق وهو ضجيع عضب ... وفي الجفنين منه يمانيان
منها:
فماج إلى الوداع كثيب رمل ... ومال إلى العناق قضيب بان «2»
وحاول منه تذكرة مشوق ... فأعطى خدّه عقدي جمان
منها:
ألا لله ما صنعت بعقلي ... عقائل ذلك الحيّ اليماني
نواعم ينتقبن على شقيق ... يرفّ ويبتسمن عن اقحوان
دنون عشيّة التوديع مني ... ولي عينان بالدّم تجريان
فلم يمسحن إكراما جفوني ... ولكن رمن تخضيب البنان
وقوله: [المتقارب]
ولا عيب فيه سوى أنّه ... إذا الناس مدّوا إليه العيونا «3»
يظنّ خيالات أهدابها ... عذارا على خدّه النّاظرونا
456/منها:
وقبل ثناياه والثّغر منه ... لم نر من خطّ في الميم سينا «4»
لقلبي بلابل تأوي القدود ... حكتها بلابل تأوي الغصونا(15/602)
وقوله: [البسيط]
أجري دموعي وحتى اليوم مارقأت ... سرّ به الإلف لمّا سار حدّثني «1»
كأنّما خرقت كفّ الوداع إلى ... عيني طريقا لذاك الدرّ من أذني
هم في فؤادي ويبقى للفتى رمق ... ما دامت الروح في جزء من البدن
وقوله: [الطويل]
أقول ونحر الغرب حال عشيّة ... كأنّ على لبّاته طوق عقيان «2»
أحرف مراة من خلال غشائها ... بدا أم هلال لاح للناظر الراني
أم الفلك الدوّار أمسى موسّما ... بآخر حرف من حروف اسم عثمان
وقوله: [البسيط]
لو شاء طيفك بعد الله أحياني ... إلمامة منه بي في بعض أحياني «3»
بل لو أردت وجنح الليل معتكر ... والحيّ من راقد عنّا ويقظان
غيّمت يا قمر الآفاق من نفسي ... فسرت نحوي ولم تبصرك عينان
لا بل إذا شئت فأذن لي أزرك وفي ... ضمان سقمي عن الأبصار كتماني
أبقى الهوى لك منّي في الورى شبحا ... لو وازن الطيف لم يخصص برجحان
وقوله: [الكامل]
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحقّ لا يخفى على رأيين «4»
فالمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين(15/603)
وقوله: [الكامل]
أضحي أخا سفر فما ألقاكم ... وأبيت ذا سهر فما يلقاني «1»
457/ما زلت أحكي في النحول مثاله ... حتى تناهى السقم بي فحكاني
وقوله: [الكامل]
وكأنّ كلّ شقيقة مكحولة ... شرقت محاجرها بأحمر قان «2»
عين لإنسان وقد ملئت دما ... منه فما يبدو سوى الإنسان
وقوله: [البسيط]
لم تشتبك بعد أطناب الخيام لنا ... ولا المنازل ضمّتهم وإيّانا «3»
لكنّهم عاجلونا بالنّوى وقضوا ... وخلّفوا الطّرب المشتاق حيرانا
يمناه بعد من التسليم ما فرغت ... إذ مدّ يسراه للتوديع عجلانا
لم يملأ العين من أحبابه نظرا ... إذ غادر الدّمع منه الجفن ملآنا
وقوله: [البسيط]
حيث الغبار يسدّ الجوّ ساطعه ... والخيل تحمل للأقران أقرانا «4»
والطعن يحفر في لبّاتها قلبا ... تظلّ فيها رماح القوم أشطانا
وقوله: [الوافر]
نظرت إلى الحمول غداة سارت ... بطرف غير شاف وهو [ساكن] «5»(15/604)
وبيض الهند من وجدي [هواز] «1» ... بإحدى البيض من عليا هوازن
وقوله: [البسيط]
هذا الزمان على ما فيه من كدر ... حكى انقلاب لياليه بأهليه «2»
غدير ماء تراءى في أسافله ... خيال قوم قيام في أعاليه
فالرّجل تبصر مرفوعا أخامصها ... والرأس يوجد منكوصا أعاليه «3»
وقوله: [السريع]
والإلف قد عانقني للنّوى ... فالتفّ خدّي وخدّاه «4»
كأنّه رام إلى غاية ... تناول السّهم بيمناه
458/حتى إذا أدناه من صدره ... أبعده ساعة أدناه
ومنه قوله في الشمعة من قصيدته المشهورة، وخريدته التي هي بالألباب ممهورة، وأوّلها: [البسيط]
نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها «5»
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلّا تراقيه نارا من تراقيها
سفيهة لم يزل طول اللسان لها ... في الحيّ يجني عليها ضرب هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها
تنفّست نفس المهجور وادّكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها(15/605)
يخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيّيها
بدت كنجم هوى في إثر عفرية ... في الأرض فاشتعلت منه نواصيها «1»
نجم رأى الأرض أولى أن يبوّأها ... من السماء فأضحى طوع أهليها
كأنّها غرّة قد سال شادخها ... في وجه دهماء يزهاها تجلّيها
أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة ... فكلّما حجبت قامت تحاكيها
ما طنّبت قطّ في أرض مخيّمة ... إلّا وأقمر للأبصار راجيها
منها:
فالوجنة الورد إلّا في تناولها ... والقامة الغصن إلّا في تثنّيها «2»
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكفّ إن أهويت تجنيها «3»
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقّيها
صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها
وصيفة لست فيها قاضيا وطرا ... إن أنت لم تكسها تاجا يحلّيها
459/صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقدّ واللين إن أتممت تشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها ... وعندها أنّها إذ ذاك تحييها
قدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها
أبدت إليّ ابتساما في خلال بكى ... وعبرتي أنا محض الحزن يمريها «4»
ومنها في التخلّص:(15/606)
فقلت في جنح ليل وهي واقفة ... ونحن في حضرة جلّت أياديها «1»
لو أنّها علمت في قرب من نصبت ... من الورى لثنت أعطافها تيها
وقوله: [مخلع البسيط]
شبت أنا والتحى حبيبي ... حتى برغمي سلوت عنه «2»
فابيضّ ذاك السواد مني ... واسودّ ذاك البياض منه
وقوله: [السريع]
قابلني حتى بدت أدمعي ... في صحن خدّ منه مثل المراه «3»
يوهم صحبي أنّه مسعدي ... بأدمع لم تذرها مقلتاه
ولم تقع في خدّه قطرة ... إلّا خيالات دموع البكاه
وقوله: [الوافر]
سهام نواظر تصمي الرمايا ... وهنّ من الحواجب في حنايا «4»
ومن عجب سهام لم تفارق ... حناياها وقد جرحت حشايا
منها:
يريك بوجنتيه الورد غضّا ... ونور الأقحوان من الثنايا
تأمّل منه تحت الصّدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا
تغنّم صحبتي يا صاح إنّي ... نزعت عن الصّبا إلّا بقايا «5»(15/607)
وخالف من تنسّك من رجال ... [لقوك بأكبد الإبل الأبايا] «6»
ولا تسلك سوى طرقي فإنّي ... [أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا] «6»
وقم نأخذ من اللذّات حّظا ... [فإنّا سوف تدركنا المنايا] «6»
وساعد زمرة ركضوا إليها ... [فآبوا بالنهاب وبالسّبايا] «6»
واهد إلى الوزير المدح يجعل ... [لك المرباع منها والصّفايا] «6»
وقل للراحلين إلى ذراه ... [ألستم خير من ركب المطايا] «6»
وقوله: [البسيط]
أخذت عندي معرّجا وتعرضه ... على الورى مستقيما حيثما اجتليا «7»
كالشمع يقبل نقش الفصّ منعكسا ... مكتوبه ليريه الناس مستويا
ومنهم:
44- الأديب أبو اسحاق، ابراهيم بن عثمان الكلبي ثمّ الأشهبي المعروف بالغزّي «8» .(15/608)
فتح عليه وباب الدواعي والبواعث مغلق، وجلباب المساعي والمطالب مخلق، وابتلي مع كساد البضاعه، وفساد ثدي كان يتمصّص من الجوائز رضاعه بأنّه كان لا يزال عليه في سرحه يطرق، وأنّ شعره الكاسد لا يشترى ومع هذا يخان فيه ويسرق.
ولد بغزّة، وتأدّب بها، ثم تنقّل في البلاد ساريا سرى الكواكب، سائرا سير الشمس إلّا أنّه إلى المشارق لا إلى المغارب. دخل العراق، ورحل إلى خراسان، وعرّج على كرمان.
يوما بحزوى ويوما بالعذيب ويو ... ما بالعقيق ويوما بالخليصاء
وتارة ينتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وأخرى قصر تيماء
وعرّض سؤاله للنجّح والحرمان، ومدح أكابر تلك البلاد في ذلك الزمان،/ 461/وطفح مغاصه المثري بفرائد الجمان، وغلا سعره في تلك الأقطار غلوّا بذلت فيه النفائس وعلا علوّا قصّر عنه من يقايس.
وقد ذكره العماد الكاتب فقال «1» : أتى بكلّ معنى مخترع، ونظم مبتدع، وحكمه محكمة النّسج، وفقره واضحة النّهج. وكلام أحلى من منطق الحسناء، وأعلى من منطقة الجوزاء.
ثمّ قال في كلام آخر «2» : الغزّيّ حسن المغزى، وما يعزّ من المعاني الغزّ إلّا إليه يعزى، يعنى بالمعنى، ويحكم منه المبنى ويودعها اللفظ إيداع الدرّ الصّدف، والبدر السّدف، فمن أفراد أبياته التى علت بها راياته، وبهرت آياته ولم تملل منها غاياته، قوله، ثمّ أخذ يسرد ما انتقاه له سردا، ويأتي بكلّ بيت فاق، وفاقه أخوه فكان مثل السيف فردا.(15/609)
وإليكها جواهر شفّت، وأغصانا وريقة رفّت، وعيونا أشبهت الزّهر فما أغفت.
من ذلك
قوله: [الطويل]
فقلنا: أدرها وهي في الكأس جمرة ... تلظّى ومن فرط اللطافة ماء
أمط عنك ذكر اللهو فالعيش بلغة ... وكلّ بقاء لا يدوم فناء
أرى الهمّة العلياء تخفض موضعي ... وكلّ دواء لا يريحك داء
وقد تتعب الفكر المنى وهي عذبة ... ويؤذي الدخان العين وهو كباء
ومن قال إنّ الشّهب أكبرها السّها ... برغم الثريّا كذّبته ذكاء
له نائل كالطّيف يطرق فجأة ... فيؤمن في لقيانه الرّقباء
ومنه قوله: [الكامل]
ومن الدليل على الصّباح وفضله ... ما يلبس الآفاق من أضوائه
وترفّع الأوباش فوقي جائز ... أو ليس درّ البحر تحت جفائه
462/ومنه قوله في مليح يسبح: [السريع]
وسابح في لجّة شقّها ... شقّ شهاب جيب ظلماء
سال من اللّطف فلم أستطع ... تمييزه من جملة الماء
وقوله: [الطويل]
وليل رجونا أن يدبّ عذاره ... فما اختطّ حتى صار بالفجر شائبا «1»
منها في ذكر العيس:
يرقصهنّ الآل إمّا طوافيا ... تراهنّ في آذيّه أو رواسبا(15/610)
سوابح كالنينان تحسب أنّني ... مسحت المطايا أو مسحت السباسبا «1»
تنسّمن من كرمان عرفا عرفنه ... فهنّ يلاعبن النشاط لواغبا
كأنّا بضوء البشر فوق جبينه ... ترى دونه من حاجب الشمس حاجبا
ومنه قوله: [المنسرح]
أنت جمادى إذا سئلت ندى ... ويوم تدعى إلى الوغى رجب «2»
مالك عرض تخاف وصمته ... أيّ طلاق يخافه عزب
ومنه قوله: [المنسرح]
مشتبكات الأسنّة انتظمت ... درعا متى شمّها الحسام نبا
قوم يصير القنا إذا حملوا ... طورا وشيجا وتارة يلبا
منها:
على غدير بروضة نظمت ... نوّارها حول بدرها شهبا «3»
يدقّ فيه الغمام أسهمه ... فيكتسي من نصالها حببا
ضروب وشي كأنّما خلع ال ... أيم عليهن من برده طربا «4»
منها:
رئاسة معنوية وهبت ... لكلّ ثغر من العلى شنبا
463/وبيت مجد عماده كرم ... مدّ له قدّ بحره طنبا(15/611)
وقوله: [الخفيف]
كلّ ما كان نوره بدنوّ ال ... شمس كانت ببعده ظلماؤه
وقوله: [الكامل]
سهب الدّجى ترعاه أو شهب القنا ... فالنجمّ لا ينفكّ من رقبائه
ولقد عجبت لعاذل متحرّق ... حتى كأنّ جواي في أحشائه
ومنه قوله: [الطويل]
ولي أدب زان الزمان اصطحابه ... وقرب التلاقي غير قرب التناسب «1»
وفي صحبة الضدّ الشريف تزيّن ... وما الليل من جنس النجوم الثواقب
منها:
وإنّ ركوب الفرقدين ترجّل ... ونيل كنوز الأرض تقصير كاسب
ولست بمذّاق الوداد فيتّقى ... دبيب نمالي قبل لسب عقاربي
ومنه قوله: [المنسرح]
ضعف جبان في أيد مملّكة ... غمد حديد ومنصل خشب
وخلت كشف القناع ينفعني ... والكشف في غير وقته حجب
وقوله: [المنسرح]
والدّهر طلق اليدين يدرك من ... ساعاته ما يرام من حقبه
ينظم غادي الحيا ورائحة ... قلادة للغدير من حببه
ويطلع النّجم مثله مائة ... لكنّها ما تدور في قطبه(15/612)
ومنه قوله: [الطويل]
يقولون: لا تتعب فرزقك قسمة ... وبالتّعب اشتدّت حبال المطالب
وفي العجز من وجه التّرفه نعمة ... ولكنّها معدودة في المصائب
وقوله: [المنسرح]
تألّق الشيب فاعتذرت له ... وقلت نور بدا على قضبه
464/كأنّ ثغر الحبيب ركّب في ... مفارقي ما أضاء من شنبه
منها:
قالوا: دع العلم صار مطرّحا ... يقوم بيت العلى بلا طنبه
فقلت: إنّ القصور في همم ال ... خلق وليس القصور في سببه
ما احتجب الأفق إنّما احتجبت ... أبصارنا بالنهار عن شهبه
من هيبة الشعر أنّ قائله ... يصغي إلى ما افتراه من كذبه
منها في ذكر البيداء:
كأنّما الآل في جوانبها ... يرقص تحت الرّكاب من طربه
أظميت بالوخد قلب فدفدها ... وسافر الجوّ مثل منتقبه
لك الكلام الذي علا وغدا ... يدقّ عن فهم خاطبي خطبه
كجوهر الكيمياء ليس ترى ... من ناله والأنام في طلبه
يقرّ ما خلّف الكرام فتى ... تبقى سجايا أبيه في عقبه
ومنه قوله: [البسيط]
نسيت إلّا غزالا بات يرشقني ... من ثغره بردا زاد الحشا لهبا
بمجلس لا رقيب فيه يمنعني ... من بغيتي غير خوفي أن يقال صبا(15/613)
منها:
ظبا المحارف أقلام مكسّرة ... رؤوسهنّ وأقلام السعيد ظبا
والسيف وهو جماد ما انتضته يد ... إلّا وأصبح فيها أفصح الخطبا
ومنه قوله: [الوافر]
كأنّ كراك كان سحيق ملح ... فلمّا استلّ بالعبرات ذابا
رجوت القرب من عنق النّواجي ... فكانت للنوى ظفرا ونابا
465/رمتني في بلاد علّلتني ... بسحب كان أكثرها ضبابا
بلاد خلابة يلقاك فيها ... حبيبك يوم تأتيه حبابا
فياليت الذي أعطى وعودا ... حثا في وجه مادحه الترابا
مركّب جوهر الأفهام فينا ... سقى عسلا وصبّ عليه صابا
ولو خيّرت لم يكن اختياري ... سوى أن يسبق الشيب الشبابا
كأنّ شعاع همّته سمّوا ... دعا المظلوم يخترق الحجابا
وكم للغيث من أثر كفاني ... سؤالي كيف صاب وأين صابا
بك اعتذرت مسيئات الليالي ... ومن تك عذره أمن العتابا
منها:
فأكمل ما يكون البدر نورا ... إذا كان النجوم له صحابا
ومنه قوله: [الطويل]
مشعشعة في كأسها فمن الذي ... رأى فوق نار ثوب نور يناسبه
ومن حسن عهد الليل يزور نجمه ... [ ... ] من خوف الفراق ذوائبه
منها:(15/614)
غسلت يدي جمعا من الشّعر والمنى ... وما الشعر بالفنّ المقدّم صاحبه
ونزّهت نفسي عن أكاذيب مسمعي ... وأقبح في عيني من الكذب كاذبه
منها:
وإن لم يكن لي عندكم قدر شاعر ... هبوني لكم راوي الحديث وكاتبه
ومنه قوله: [المتقارب]
تواضع لمن فقته ما سعى ... له الجدّ والجدّ لا ينتقب
ولا تعجبنّ فإنّ الجديد ... بأضعف من جسمه ينجذب
منها:
[] تنفض كمّ السحاب «1» ... فيسبقها ذيله المنسحب
466/حمى نفسه الحسن أضعاف ما ... حمى نفسه الجمر لمّا التهب
منها:
وصاف يشنّ عليه الصّبا ... دلاصا مساميرها من حبب
وما السيف إلّا لمن سلّه ... ولم يزل الملك فيمن غلب
منها:
ويجمع في صبره حزمه ... وما اجتمع اللّيث إلا وثب
مدحت الورى قبله كاذبا ... وما صدق الفجر حتى كذب
ولولا الأنامل لم تنتظم ... برأسي اليراع جمان الكتب
ومنه قوله: [الكامل](15/615)
وأنامل آثارهنّ كأنّها ... في الجرم آثار الحبيّ الصّيب
فانجح بهمتّك التي منظومها ... طوق الهلال وقرط أذن الكوكب
ظفر الذّ من المدام سقيتها ... مقطوبة من كفّ غير مقطّب
كفّ المقلّ تكون أرضا في الجدا ... وسماه تلك الأرض كفّ المترب
فحبائل الأشعار ليس بواقع ... فيهنّ إلّا كلّ باز أشهب
ومنه قوله: [الوافر]
وليس لوصل من يدعى فيأتي ... عذوبة وصل من يدعى فيابى
ألم تر أنّه للمجد شمس ... ويرضى أن تلقّبه شهابا
ومنه قوله: [البسيط]
قابلت بالشنب الأجفان مبتسما ... فطاح عن ناظريك السّحر منكوتا «1»
جسما من الماء مشروبا لأعيننا ... يضمّ قلبا من الأحجار منحوتا
ونشر ذكراك أذكى الطّيب رائحة ... ونور وجهك ردّ البدر مبهوتا
467/فضحت بالغيد الغزلان ملتفتا ... ولم يكن عن حيال الأسد ملفوتا
عذرت طيفك في هجري وقلت له ... لو استطعت إلينا في الكرى جيتا
وفتية من كماة الترك ما تركت ... للرّعد كبّاتهم صوتا ولا صيتا «2»
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
مدّت إلى النّهب أيديهم وأعينهم ... وزادهم قلق الأخلاق تثبيتا
بدار قارون لو مرّوا على عجل ... لبات من فاقة لا يملك القوتا
حبل المنى مثل حبل الشمس متّصلا ... يرى وإن كان عند اللّمس مبتوتا(15/616)
العلم يؤتى ولا يأتي وليس لمن ... يغتابني منهما إلّا بأن يوتى
إذا رأيت كساد القول في بلد ... وأنت قسّ فكن في أهله حوتا
بعزمة لو غدا العيّوق حاسدها ... لبات في الفلك العلويّ مكبوتا
ومنه قوله: [الكامل]
ما في مراجعة المسرّة رخصة ... من بعد تطليق السرور ثلاثا
ولئن سلمت ولم تزل أسباب من ... طلب السلامة بالخمول رثاثا
لنقرّطنّ بنات أعوج بالقنا ... يوما تصير به الذكور إناثا
منها:
بقريحة كالنار أخلص حرّها ... أصل النّضار وأحرق الأخباثا
وخلاصة السّحر الحلال وحسنه ... ما كان في عقد النّهى نفّاثا
رفعت لهاك الفقر عنّا بالغنى ... رفع الطهور المطلق الأحداثا
ومنه قوله: [البسيط]
ولن تقوم لأهل الحبّ بينّة ... على بياض صباح أو سواد دجى
468/ومن يكن فوق أرض [] درر ... يستطرق الجزع من مهديه والسّبجا «1»
كم عالم لم يلج بالقرع باب منى ... وجاهل قبل قرع الباب قد ولجا
لولا التباعد بين الحاجبين به ... بان افتراقهما لم يعرف البلجا
زاد الوزارة فخرا من نهاه كما ... زاد البراق سمّوا من به عرجا
مؤمّل لا ترى في خدّه صعرا ... مثقّف لا ترى في عزمه عوجا
بحر يزيد سكونا كلّما عصفت ... ريح الخطوب فما تلقاه منزعجا
أسعد بما حال من حول وزد شرفا ... تبلى بجدّته الأيام والحججا(15/617)
وافى المحرّم والعلياء محرمة ... إلّا عليك فكن بالفضل مبتهجا
لا زال عزمك والتأييد في صفة ... كالماء والخمر في كأس إذا امتزجا
صقال نقدك أمضاني وهذّبني ... كم مادح بركيكات الصّفات هجا
وما ذكرناك في ظلماء مسغبة ... إلّا تنفّس صبح الخطب وانبلجا
ومنه قوله: [الوافر]
أأيامي أقوّم أم ضلوعي ... تناسبني انحناء واعوجاجا
فأمّ البخل تيتم كلّ يوم ... وأمّ الجود تسقطه خداجا
إذا عزموا تغايرت الدّراري ... وإن جادوا حسبت البحر ماجا
[] «1» كلّ فجّ ... ومن نثر المنى نظم الفجاجا
ولولا قلّة الإنصاف منّا ... لوفّرنا على النّحل المجاجا
إذا ما المزنة الوطفاء جادت ... ولم ترو الثرى كانت عجاجا
ومنه قوله: [الطويل]
469/ومن ليلة دهماء فازت بغرّة ... من البدر لم ترزق حجولا من الصّبح
كأنّ صغار الشهب فوق ظلامها ... لآلئ غوّاص نثرن على مسح
كأنّ سهيلا رعدة وتباعدا ... غريق جبان يدّعي قوّة السبح
ونصح الورى عند المحبّين باطل ... يردّونه ردّ الشهادة بالجرح
فلا تنتظر علم التجارب واعتمد ... على الخاطر الوقّاد والخلق السّمح
تعود مساعي المرء قبل مشيبه ... أحقّ بما يجنيه من ثمر النّجح
يراعك يجرى حين يسوّد رأسه ... وليس بجار حين يبيضّ بالمسح
خلقتم كراما في زمان [] «2» ... وأحسن ما لاح الكواكب في الجنح(15/618)
يضيع الندى ما فارق الشعر وصفه ... ضياع سنان لم تركّبه في رمح
ومنه قوله: [الكامل]
كل ما يهول من الأمور إلى الذي ... علم السريرة وهو بالمرصاد «1»
كم سرّ آخر عارض من بعدما ... ساءتك منه طليعة وهوادي
في كلّ حكم حكمة مدفونة ... كشرارة غطّيتها برماد
ما الناس إلّا جازع أو طامع ... خلقوا عبيد السيف والإرفاد «2»
تبّت يد الأيام إنّ صروفها ... سقم الكرام وصحّة الأوغاد
فمن الحدائد وهي أصل واحد ... سيف الكميّ ومبضع الفصّاد
ما كثرة الشعراء إلّا علّة ... مشتقّة من قلّة النّقاد
فلك البلاغة والفصاحة خاطري ... أهدي لمجدك كلّ نجم هادي
فانظر إليّ بعين فضلك نظرة ... تهدي المنام فقد أطلت سهادي
470/ومنه قوله: [الطويل]
نأى الرّيم فاسوّدت حياتي تكدّرا ... ومن مثل ما قاسيته المسك أسود
فياليت أحبابي، غرامي ليكثروا ... ويا ليت عذّالي، سلويّ لينفدوا
بهمّته نال العلا وبرزقه ... ومن سوّدته همّة فهو سيّد
تفجّر ينبوع السلال [] «3» لفظها ... ولكن معانيها لها السحر يسجد
تنّم بأسرار السجايا وتمتري ... بلاغتها ضرع النّهى يوم ينشد
ولو بان فضل المرء من غير واصف ... لبان فرند السيف والسيف مغمد(15/619)
ومنه قوله: [الكامل]
والغرب مثل الغمد منتظم الحلى ... والشرق مثل النّصل منتثر الصدى «1»
والصبح ملك والنجوم رعيّة ... بصرت بغرّته فخرّت سجّدا
فتردّد الأشياء ينقص حسنها ... ويزيد حسن الجود أن يتردّدا
وافى زمانك آخرا وتقدّمت ... بك همّة في كفّها قصب المدى
فغدوت كالعنوان يكتب خاتما ... وبذاك في حال القراءة يبتدا
لا أقتضيك بما سماحك فوقه ... فأكون كالرّاجي من البحر النّدى
السيف لولا أن تحرّكه يد ... أكل القراب بحدّه فتجرّدا
والبدر لو لم ألقه مستسعفا ... من نوره للقيته مستسعدا
ومنه قوله: [الطويل]
وليس يفي لحن الهزار إذا علا ... بصرصرة البازيّ يوم يصيد «2»
فما للغصون المستقيمات أوجه ... ولا للبدور المشرقات قدود
471/فتى خطّه في ناظر الملك إثمد ... ومسعاه في جيد الزمان عقود
خلال يسير المجد تحت ظلالها ... كأنّ العلا جيش وهنّ بنود
بقيت سعيد الجدّ ما جدّ غيهب ... وأشرق مصباح وأورق عود
ومنه قوله: [الكامل]
في روضة قرن النهار نجومها ... بسنا ذكاء فزادهنّ توقّدا
وانجرّ فوق غديرها ذيل الصّبا ... سحرا فأصبحت الصحيفة مبردا
ومهنّد يضحي عقيقا في الطّلى ... ويبيت في ضمن القراب زبرجدا(15/620)
كن تحت أذيال القناعة والرضا ... أو فوق أثباج الشجاعة والنّدى
والفعل كان مقلّلا ومكثّرا ... ولذاك جاء مخفّفا ومشدّدا
أمّلت موعدهم فزدت مشقّة ... لمع السراب يزيد وارده صدى
ومنه قوله: [البسيط]
مذاهب الناس شتّى والهوى طرق ... كنّا طرائق في أخلاقنا قددا
ومن تقلّد من مدح بلا صلة ... قلادة أصبحت في جيده مسدا
شهادة اللفظ والمعنى تقدّمني ... من يشرح اللفظ والمعنى إذا شهدا
ومنه قوله: [الطويل]
وما ذكر الناس الصّبا وتلهفّوا ... على فقده حتى تقادم عهده
بنفسي غزال ما دعاه الورى أخا ... لبدر الدّجى إلّا توقّد حقده
ذروني................ ..... ... لأجل سكون الطفل حرّك مهده
وقوله: [الكامل]
حال يخون السمهريّ سنانه ... فيها ويتّم المهنّد حدّه
472/من يقتدح زندا بكفّ مالها ... زند [ ... ] يقدح زنده
من يستطيع جحود مجدك بعدما ... صحّ اعتراف الدّين أنّك مجده
وقوله: [البسيط]
مهاك يا عقد الوعساء أعينها ... ممّن تعلّمن هذا التعث في العقد
صدر شرحت به صدرا وكنت لقى ... كالظبي خاف فلم يصدر ولم يرد
ومنه قوله: [الوافر]
وكم عرّضت والتعريض يكفي ... وما التّصريح إلّا للبليد(15/621)
وقوله: [الطويل]
ونضحي أساطير الكتاب بنظمه ... عقود بها القرطاس يحسده الجيد
أمير المعالي كان موكب فضله ... لواء عليه من ثنا الوفد معقود
ومن صححّت بالجود أخبار فضله ... روتها القوافي والمعاني أسانيد
ومنه قوله: [الطويل]
وتختلف الأغراض بالناس في الهوى ... وكلّ إلى ما قاده الطّبع قاصد
وكيف يرجّى للثمار مزيّة ... وبالبقل في الدنيا تزان الموائد
ولا تبغ برهانا على مكرماته ... طلابك برهانا على الصبح بارد
ومنه قوله: [الكامل]
لا تجنحنّ إلى الهوى إنّ الهوى ... طمع تولّد من قياس فاسد «1»
كن في زمانك جاهلا متجاهلا ... إن كنت تطمع في منال فوائد
والعود يعرب فرعه عن أصله ... ويجيء من ثمراته بشواهد
إن لم تنلها هزّة فالبحر لا ... لا يهتزّ إن اتحفته بفرائد
وقوله: [البسيط]
إليك عنّي ظباء العقد ما خلقت ... ألحاظهنّ لغير النّفث في العقد
473/لو لم يدم مطر الأجفان ما نبتت ... قتادة الشوق بين القلب والكبد
إنّي لأهضم نفسي بعد معرفتي ... أنّ الجمانة لا تطفو مع الزّبد
دع ما تناسب في الأبصار ظاهره ... ولا تقل بقياس غير مطّرد
فهيئة المتنافي لا اعتدال بها ... شتّان ما بين مهتزّ ومرتعد(15/622)
حتى وصلت بروح ما لها جسد ... ولا حياة بغير الروح والجسد
رئاسة فوق أسّ العلم نابتة ... ودولة نلتها من واحد صمد
مجدا بطارفه أحييت تالده ... من اكتفى بعلى الآباء لم يسد
ما صحّ لي خبر عن منظر حسن ... في مخبر حسن لولاك عن أحد
ومنه قوله: [الكامل]
لا تعتبنّ على الزمان فإنّه ... فلك على قطب اللّجاج يدور «1»
إنّ الخلائق للحوادث مرتع ... شهد الصباح بذاك والدّيجور
نقّح بفكرك ما تخاطبه به ... واسهر فناقد ما تقول بصير
ومنه قوله: [الخفيف]
كيف أقتصّ والحوادث عجم ... إنّ جرح العجماء كان جبارا «2»
كم لبسنا أضفى السوابغ ذيلا ... وطرقنا أحمى القبائل جارا
وخلونا بالعامريّة والخيل صيا ... م والحيّ ما شبّ نارا
وانكفينا والفجر يعطس والرّي ... ح تعفي بذيلها الآثارا
لو حبا الله خلقه بالتّساوي ... لوجدنا في كلّ عود ثمارا
قلم خلته لكثرة ما يأسو ... كلوم الورى به مسبارا
474/لو كتبنا إليه عون المعاني ... أصبحت في مديحه أبكارا
منيتي أن تدوم للفضل كهفا ... خلق الناس في المنى أطورا
وإذا كان دونك الله درعا ... جعل الأيدي الطّوال قصارا
ومنه قوله: [مجزوء الكامل](15/623)
المجد سهل والطريق إلي ... هـ بالاتّفاق وعر «1»
كتب الكواكب مدحه ... فعلى المجرّة منه سطر
وقوله: [المتقارب]
وعدت وغير دمي ما ... أرقت وغير فؤادي لم ينحر
ومنه قوله: [الطويل]
وليس يحلى منه ذا العصر وحده ... هو الشمس كم حلّى به الله من عصر
ومن كانت الشّعرى دوين محلّه ... فياليت شعري أين يدركه شعري
ومنه قوله: [البسيط]
ذا الدّرس سهل المعاني في جزالته ... يكاد يحفظه من لا يكرّره
فليس للشّرع جيد لا تقلّده ... وليس للمجد جيب لا تعطّره
كنت الطبيب لجسم الفضل دمت ولي ... تعيد صحّته فيما تدبّره
لا أجحد الصّبح حقا من تبلّجه ... ولا أكذّب عيني وهي تبصره
شخص نرى كلّ فضل فيه مجتمعا ... تبارك الخالق الباري مصوّره
ومنه قوله: [البسيط]
ليت البياض الذي زال السّواد به ... أبقى لنا منه ما في القلب والبصر «2»
هذي الوزارة لا ما كنت أعهده ... أين اعتكار الدّجى من بلجة السّحر
475/وقوله: [الكامل]
زادت بروق الأقحوان تألّقا ... وسقت رياض الورد سحب النّرجس(15/624)
وقوله: [الطويل]
تقدّمت دون الكلّ والحزم والنهى ... وفضّلت تفضيل السماء على الأرض
وقوله: [البسيط]
لا تأمننّ امرأ لانت سجيّته ... فرقّة الخمر رقّت من بها سقطا
وأنفس الدرّ ما جاد اللسان به ... في سلك منتظم التاريخ منخرطا
صدر سما أن يدانى في لهى وسطى ... فخجّل البحر جودا والهزبر سطا
إن هزّه الجود كان الغيث منهمرا ... أو هزّه البأس كان السيف مخترطا
وقوله: [البسيط]
لي حقّ سالف مدح أنت عالمه ... والمحسنون إذا ما أوثروا شفعوا
وقوله: [الوافر]
كيوسف ما أراد سوى أخيه ... وإن ورّى بفقدان الصّواع
ويكتب في الترائب بالعوالي ... حروفا دونها خطّ اليراع
وما القلم القصير القدّ إلّا ... أخو الرمح الطويل من الرّضاع
ومنه قوله: [الطويل]
هجرت الكرى فوق الحشيّة غرّة ... على ظهر برق قلب لاقيه يخطف
يبيت معي في خيمة من دجنّة ... لها طنب فوق الثريّا ورفرف
وما الخوط خوط البان في روضة الرّبى ... يغطّى بأذيال السحاب ويكشف
فيمسي بدرّ الطلّ وهو مقلّد ... ويضحي بتبر الشمس وهو مشنّف
بأحسن من عرض يفدّى بنائل ... وعرف بمسك الشاردات يعرّف
وما كنت أخشى أن تغبّ تفقّدي ... ويلهيه عن حالي نديم وقرقف
ولكن خلاعات النفوس ولهوها ... نقاب على وجه المناقب مغدف(15/625)
وحيث ترى الدّنيا الدّنية جهمة ... شرودا فثمّ السؤدد المتآلف
476/ومنه قوله: [البسيط]
إذا تعانق منآد ومعتدل ... كانا كلا ضاع فيها اللّام والألف «1»
أعجب بهم قطّ في الآراء ما اتّفقوا ... على صواب وفي التقصير ما اختلفوا
لا عيب فيه سوى ظلم الزمان له ... والدّهر معتذر طورا ومقترف
وإنّما رام بالإنقاص وقفته ... عن هزّة الجود والأفلاك لا تقف
وربّما حال دون الجود ضيق يد ... والغيث أحواله في الجود تختلف
ممهّد العذر في نظم بعثت به ... من عنده الدرّ لا يهدى له الصّدف
ومنه قوله: [البسيط]
إن قصّرت خدمتي فالجود أفضله ... تجاوز المرتجى عن هفوة الهافي
وما نقول سوى ما أنت تعلمه ... نحن الظماء وأنت المنهل الصافي
ومنه قوله: [البسيط]
كم في القريض على العلّات من حكم ... ما بين متّفق المعنى ومختلفه «2»
إذا تساوى لديك الناطقون به ... فما عرفت صحيح القول من دنفه
فلا تهزّن إلّا من شهدت له ... بجوهر كان في الماضين من سلفه
أين الذي ملك الدّنيا وضنّ بها ... مضى وما حمل الدّنيا على كتفه
جهل الملوك بهذا الفنّ أفسدهم ... والبدر بدر على ما لاح من كلفه
بالشيب فارقني دهري ولا ثمر ... في العود بعد اشتعال النار في طرفه
دامت مساعيك للعليا فكلّ على ... بلا مساعيك سهم طاش عن هدفه(15/626)
ومنه قوله: [الطويل]
477/وقد تحمل الشمس الصّباح بضوئها ... تفاوتت الأنوار والكلّ رائق
بخوض النّجيع احمرّ ذيل..... ... كما نبتت حول الغدير الشقاشق
وكم في اجتماع الشّمل لله من رضى ... وإن أخفقت منه القلوب الخوافق
إذا جادت السّحب الصباح بطبعها ... فأجدر مخصوص بهنّ الحدائق
وما نلت هذا كلّه نيل فلتة ... ولكن بنفس هذّبتها الحقائق
خلائق لولا أنهنّ كواكب ... لما استمطرت أنواءهنّ الخلائق
بقاؤك للإسلام عزّ مؤبّد ... فدم وابق للاسلام ما ذرّ شاهق
ومنه قوله: [الكامل]
نطقوا بأعينهم وأفصح ناطق ... دمع كفضّ ختامه الأشواق «1»
ولقد صحبت الليل يسحب مسحه ... والجوّ خضر والنجوم نطاق
حتى إذا ظهرت لسيف الفجر في ... هام الدّجنة شجّة سمحاق
لا تعتبنّ على الخطوب فربّما ... خفي الصواب وأخطأ الحذّاق
ومنه قوله: [الكامل]
ربع وقفت به أمزّق سلوتي ... بصوارم العبرات كلّ ممزّق
والسّحب من برد تسحّ كأنّها ... ترمي البسيطة عن قسيّ البندق
[وقوله] «2» : [البسيط]
ما اسودّ عيشي وذهني والنّهى كملا ... حتى تشعشع هذا الأبيض اليقق «3»(15/627)
منها:
موفّق لاقتناء الحمد منتصب ... على محبّته الآراء تتفّق
وكيف قربك لم تصقل خلائقهم ... فقد ينير بضوء الكوكب الغسق
وقوله: [الطويل]
وأسيافنا في السابغات كأنّها ... جداول تجري بين نور تفتّقا
478/عرفت الغنى بالفقر والفقر بالغنى ... ومن صحب الأيام أثرى وأملقا
وقوله: [الطويل]
تقدّمت فضلا أن تأخّرت مدّة ... هوادي الحيا طلّ وعقباه وابل «1»
كشفت دجاها والبروق صوارم ... وجدت ثراها والغمام قساطل
إليه مردّ الأمر والأمر مشكل ... وفيه مجال الفكر والفكر ذاهل
كأنّ المعاني في محاريب كتبه ... قناديل ليل والسّطور سلاسل
ومن لم تساعده المنى فهو خائب ... ومن لم يغرّسه الغنى فهو راجل
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل
ومنه قوله: [الوافر]
وبورك في خيام قبيل سلمى ... وفي تلك المضارب والحجال
منها:
ومن تملأ مدائحه المعاني ... فيكتبها المعادي والموالي
منها:
عقود في طلى الأيام تجلى ... وطرز فوق أكمام الليالي(15/628)
منها:
ودمت تقلّد التوفيق سيفا ... ويحيي جودك الرّمم البوالي
ومنه قوله: [الطويل]
ولمّا شكونا ناظريها وأطرقت ... وإطراق ذاك الطّرف إغماد منصل
منها:
تناسب من جاب العجاجة معلما ... بهاديه من جاب الظلام بمشعل
منها:
وصفت بها الأشعار في غير أهلها ... فأخطأت في التأميل قبل التأمّل
منها:
جزيل اللهى صفر اليدين ولم أكن ... سمعت ببحر فاض من نضح جدول
وجازاك قوم في السماح ومن يرد ... مسابقة الأفلاك بالفلك يحجل
أبوك معلّى بيت كعب ومن بنى ... لملك عقيل بالنّدى كلّ معقل
479/وأسلافك الغرّ الذين عهدتهم ... أهلّة أو كواكب جحفل «2»
لشعري على فكري «2»
وقوله: [الكامل]
حتّام أنتظر الوصال وماله ... سبب، وهل تلد التي لا تحبل «3»
لمساجليك من المعالي لفظها ... ولك المعاني والمعاني أفضل
ومنه قوله: [المتقارب](15/629)
وقالوا: الكمال به نقرس ... فقلت: العفاء على عقله
تشنج كفّيه يوم النّدى ... تعدّى فدّب إلى رجله
ومنه قوله: [الكامل]
ما كلّ من خطب العلا فحل ولا ... من طاول الجبل الأشمّ يطوله
فتواك أنعت أم فتوّتك التي ... صار الرجاء بها [] «1» يبلّ غليله
فالشرع مبنيّ على تشريعكم ... والدين تاج حبّكم إكليله
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
فاستغفر الله ... لها في دم المقل «2»
واستر عليك دلاص تسلية ... فاللحظ يبطل حيلة البطل
منها:
وكتابة في جنب أسطرها ... خطّ ابن مقلة بيّن الخطل
لا تحقرنّ طفيف الرزق واغن به ... ما الغمر مجتمع إلّا من الوشل «3»
إنّي لأشكو خطوبا لا أعيّنها ... ليسلم الناس من عذري ومن عذلي
كالشّمع يبكي فلا يدرى أعبرته ... من صحبة النار أم من فرقة العسل
منها:
وانه المعيد دروسا أنت ذاكرها ... عن التشبّه في الإعجاز بالرّسل(15/630)
480/إن كانت الأرض عينا فالبلاد لها ... جفن فمقلتها بغداد لم تزل
كان الأئمّة كحلا في محاجرها ... فزانها الله منك اليوم بالكحل
ولا خلوت من الحسّاد في شرف ... لولا السّفوح جهلنا رتبة القلل
ومنه قوله: [البسيط]
حتّى أتتنا وفي أعطافها بلل ... يهدي لكلّ مريض فيه إقلال
والنّفس بين تباريح الجوى نفس ... والوصل تحت سيوف الهجر أوصال
حدّثت عن منحنى الوادي ونازله ... كرّر حديثك لا ضاقت بك الحال
لئن حلبنا صروف الدّهر أشطرها ... فكلّنا بصروف الدّهر جهّال
وإنّما خدمتي بالشعر تذكرة ... تبقى على أنّ رسم الشمس إغفال
ومنه قوله: [الرمل]
موت أفهام الورى أوجب أن ... لا يخطر المعنى لمخلوق ببال
وقوله: [الوافر]
ولو عاتبت غيرك كان عتبي ... وإن لطفت عبارته نصالا
ولكنّي إذا أصميت قلبي ... بسهمي ذقت من فعلي وبالا
وإن أطفأت مصباحي بنفخي ... وطال الليل كنت أشدّ حالا
ومنه قوله: [الخفيف]
كاد يخفى عليّ قبل اشتعال ال ... رأس أنّ الخمود في الاشتعال
منها:
حسن الخطّ والعبارة وال ... لفظ قريب الرضا بعيد المنال(15/631)
منها:
قد أتيت العلياء من جانبيها ... يا كريم الأعمام والأخوال
هذه غاية الكمال المرجّى ... صرف الله عنك عين الكمال
481/ومنه قوله: [الطويل]
ولن تتساوى سادة وعبيدهم ... على أنّ أسماء الجميع موالي
هو اللؤلؤ المكنون في صدف النهى ... وما كلّ حال من سواه بحال
على القلم التعويل في السخط والرضا ... وما الرّمح إلّا آلة لقتال
ويكتب ذاك الخطّ والخط بيّن ... فأيّهما أولى بوصف كمال
كماة إذا هزّوا الذوابل خلتهم ... يشبّون نارا في رؤوس جبال
ومنه قوله: [البسيط]
خير النّدى ما تحلّى العاطلون به ... وأحسن النّصر ما يهدى لمنهزم
مالي سوى الكرم المعهود من سبب ... هل عندكم سبب أقوى من الكرم
منها:
وروضة ما اجتنت كفّ لها زهرا ... وإنّما يجتنيها خاطر الفهم
ومنه قوله: [المتقارب]
ولم أر كالسيف يهوى الطّلى ... ويبكي إذا وصلته دما
وإن لبس الجوّ يوم الوغى ... ثياب العجاج غدا محرما
سرت في الظلام ولو لم تغن ... بواقعها الليل ما أظلما
منها:
هو البدر طلقا وصوب الحيا ... منيلا وليث الشّرى مقدما(15/632)
رأى الله أيّامه غرّة ... فحلّى بها الزمن الأدهما
ألست الذي يأنف الجود أن ... يرى في رعيّته معدما
وهل ريّح المسك من طيبه ... سوى أن يفوح وأن تفعما
وقد عنون الله بالمكرمات ... كتاب سعاداتك المعجما
ومنه قوله: [الكامل]
وشمائل أنطقنني من بعد ما ... كان السكوت عليّ ضربة لازم «1»
482/وإذا بسطت إليّ كفّك بالندى ... عرّفتني منها بخمس غمائم
ومنه قوله: [الطويل]
يعاب على كيوان ما لاق بالسّها ... وكلّ عظيم الحزم مستعظم الحزم
كأنّ نسيم الصّبح عاد جفونها ... فشاطرها ما تدّعيه من السّقم
[وقوله] «2» : [الطويل]
فلم يبق دينار سوى الشمس لم تنل ... ولم يبق غير البدر في الناس درهم «3»
تحلى بأسماء الشهور فكفّه ... جمادى وما ضمّت عليه المحرّم
دقيق المعاني جلّ إنجاز لفظه ... عن الوصف حتى عنه سحبان مفحم
ولكنّني ألفيت بالعجز رخصة ... وبالجرح حول البحر جاز التيّمم
وكم من محبّ فارق الحبّ هيبة ... وبات صبا أخباره يتنسّم
وما خلتني ألفي وفي الناس عالم ... ويرزق بي أهل القريض وأحرم
ومنه قوله: [مجزوء الكامل](15/633)
هذا يغلّط سيبويه ... وذاك يقدح في قدامه
جاءوا أمامك والأمي ... ر يجيء حاجبه أمامه
منها:
نثرت على أفوافها ... أحداقها غزلان رامه
كرم السّجية خلقة ... لا تسلب الطّوق الحمامه
ومنه قوله: [الخفيف]
كلّ شيء له مآل ومفضى ... وإلى الانتباه أفضى المنام
وغصون ثمارهنّ التثنّي ... وبروق غمامهنّ اللثام
بلغت بالثرى خطاك الثريّا ... واستوت خلف سعيك الأقدام
483/نافذ الأمر لو أجار من النّق ... ص بدور الدّجى لدام التمام
ومنه قوله: [مخلع البسيط]
ولهذا ثنت عليه الليالي ... ومشت في ركابه الأيام
فقت أهل الزمان علما وحزما ... واستوت خلف سعيك الأقدام
وقوله:
جاءتك تسري وما سمعنا ... بالروض يسري إلى الغمام
والماء إن مازج الحمّيا ... أصلح من سورة المدام
فراق ناديك سوء حظّ ... لا سيما مدّة الصيام
ومنه قوله: [البسيط]
حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحلّ بالضمّ سلك العقد في الظّلم «1»(15/634)
تبسّمت فأضاء الليل فالتقطت ... حباب منتثر في نور منتظم
فاسلم لنظم المعالي وابق ما بقيت ... على ممرّ الليالي حضرة السلم
واصفح فما سالف التقصير معتبر ... بعد اعتذاري بما استأنفت من خذمي
ومنه قوله: [الكامل]
وجدعت عرنين الضّلال بعزمة ... مرّت بها عين الهدى فتبسّما
عقد إذا كان اهتمامك سلكه ... وأحاط بالجبل الأشمّ تهدّما
وقوله: [الكامل]
وصفات مجدك لا يكلّف عندها ... ألفاظ من وصف الكرام معاني
كلّ يضاف إليه ما يعنى به ... وكذاك مثل شقائق النعمان
معنى العلى والدّعاوى للورى ... سؤر الهرير وليمة السّرحان
والبرق ألمع من حسام هزّه ... بطل وأخفق من فؤاد جبان
484/منها:
وكذاك يزدحم الورى في بابه ... شروى ازدحام الحبّ في الرّمان «1»
لا ينزل الدينار ساحة كفّه ... حتى ينادى أنت رزق فلان
وكأنّه في كيسه عرض فما ... يبقى زمانا فيه بعد زمان
لولا شهود الجود أنكر سامع ... ما قاله حسّان في غسّان
أنا غرس همّتك الشريفة فاسقني ... واجر المناقب في جنان جناني
ومنه قوله: [الوافر](15/635)
وقد تدنو المقاصد والمباغي ... فتعترض الحوادث والمنون «1»
أترضى أن يقال: الصدر يرضى ... بجعجعة وليس يرى طحين
فما يندى لممدوح بنان ... ولا يندى لمهجوّ جبين
وظّني كان ضامن ما أرجّي ... فإن أخّرته أخذ الضّمين
ومنه قوله: [الخفيف]
أفسد الشيب فيك رأي الغواني ... والصّبا كان من عواري الزمان
فوّقت للسرور فيه سهام ... وقعت في مقاتل الأحزان
كلّ يوم ترى يد الشّعر تجني ... ثمرا من علاك في أغصان
ومنه قوله: [الكامل]
لو لم ينمّ بما أراق بنانه ... لم يدر ما فعلت بنا أجفانه
أرأيت كيف تمارضت في صحّة ... وكفاك من خير المريب عيانه
لا غرو أن تجني عليّ فضائلي ... سبب احتراق المندليّ دخانه
وعبارة كالرّوض لمّا شنّفت ... سحرا بلؤلؤ طلّه آذانه
485/والبحر ما احتملت من المزن الطلى ... حتى تنظّم في الطّلى مرجانه
ومنه قوله: [البسيط]
ولست في المجد محتاجا إلى حجج ... ما كان للشمس غرّ الشمس برهانا
لم يبق غيرك إنسانا نلوذ به ... فلا برحت لعين الدّهر انسانا
وقوله: [البسيط]
وفوق أشواق آمالي خطا هممي ... فالدّهر يسخطني من حيث يرضيني(15/636)
وجود كفّ على الأيام متّصلا ... وللسحائب جود في الأحايين
والبحر ما فار قبل الغوص وارده ... بلؤلؤ في قرار منه مكنون
ومنه قوله: [الكامل]
شوق البراقع والبلاقع دونها ... أنا منه بين تلهّف وحنين
لا تشك فالأيام حبلى ربّما ... جاءتك من أعجوبة بجنين
ما ضاع يونس بالعراء مجرّدا ... في ظلّ نابتة من اليقطين
ومن نثره خطبة افتتح بها ألف بيت من شعره، قال فيها «1» : أمّا بعد حمد الله الواجب، والصلاة على نبيّه المخصوص بالمناقب، فإنّ الشعر زبدة الأدب، وديوان العرب.
كانوا في جاهليتهم يعظّمونه تعظيم الشرائع، ويعدّونه من أعلى الذرائع. وجاء الاسلام فأجراه على الرسم المعهود في قطع لسان قائله بالجود، وإذا طالعت الأخبار، وصحّ عندك ما فاض من إحسان النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى حسّان بن ثابت، وخلعه البردة على كعب ابن زهير، واهتزازه للشعر الفصيح، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من الشعر لحكما، علمت أنّ أكثر الشعر سنّة ألغاها الناس لعمى البصائر، وتركيب الشحّ في الطباع.
وقد كنت في عنفوان الصّبا المّ به إلمام الصّبا بخزامى/ 486/الرّبى، وأنظمه في غرض يستدعيه لأذن تعيه، فلّما دفعت إلى مضائق الغربة جعلته وسيلة تستحلب بها أخلاق الشيم، وتستخرج بها درر الأفعال من أصداف الهمم، حتى إذا خلا الزمان من راغب في منقبة تحمد، ومأثرة تخلّد، وثبت في الانزواء على فريسة لم يزاحمني فيها أسد، ولا يرضى بها أحد، على أنّ من سالمه الزمان أجناه ثمن الإحسان، ومن ساعدته الأيام أعثرته على الكرام، وذلك أنّ الوزير بهاء الدين التمس منّي جمع فقر من شعري يروض نفسه لحفظها، وتأمّل معانيها ولفظها، فعلمت أنّ الكريم على العلياء يحتال.(15/637)
وقد جمعت ممّا قلت فيه، وفي غيره ألف بيت ضاق نطاق الوقت عن تنقيحها، وإماطة سقيمها عن صحيحها، والاعتماد على كرم الناظر والمتأمل لها، ومن الله سبحانه وتعالى التسهيل، وهو حسبي ونعم الوكيل، عليه توكلّت وإليه أنيب.
ومنهم:
45- أفضل الدولة، أبو المظفّر، محمد بن أبي العباس أحمد الأبيوردي «1» .
صدر من صدور خراسان، وبدور آفاقه الحسان. بحر أدب لا تدرك قرارته، وبدر نسب لا تطرق دارته، مع نسك وافر، وترك لما يخبئه قلب الليل الكافر، وكرم أبوّة لا يدنس من اللؤم عرضها، وعظم فتّوة لا يدلس بضوء الصباح عرضها، وله نسب إلى أبي سفيان «2» ومحاسن يقرّ بها العيان، ويقرّ «3» لها الأعيان، وتقرب البعيد فتغني عن التبيان وكتب إلى بعض الخلفاء «4» رقعة قال فيها: قال فيها المعاوي فكشط الخليفة الميم فبقيت العاوي.
ونسبه العماد الكاتب إلى معاوية بن محمد من ولد عنبسة بن أبي سفيان فتكون نسبته إلى معاوية هذا لا إلى معاوية أمير المؤمنين، وإنّما هو لأخيه من عنبر ذلك الطين، وقد كان حيث أراد من فضل يستسقى/ 487/لعس نؤيه العهاد «5»(15/638)
ويستشفى بنفس كرمه جدب السنة الجماد، وهو ممّن قال فيه العماد الكاتب: شعره متين الحوك، محكم النسج، حسن الصّوغ، سليم النهج، منتقى اللفظ، منتخب المعنى، مهذّب المبنى، معسول الكلم، مقبول الحكم، ولقد كان عزيز النفس أبّيها، عزيز الفضيلة سنّيها وقّاد القريحة لو ذعيّها، نقّاد البصيرة ألمعيّها، وإنّه ولي في آخر عمره إشراف مملكة السلطان محمد بن ملكشاه «1» فسقوه السمّ وهو واقف عند سرير السلطان فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله فقال «2» : [الطويل]
وقفنا بحيث العدل مدّ رواقه ... وخيّم في أرجائه الجود والباس
وفوق السرير ابن الملوك محمّد ... تخرّ له من فرط هيبته الناس
فخامرني ما خانني قدمي له ... وإن ردّ عني نفرة الجأش إيناس
وذاك مقام لا نوّ فيه حقّه ... إذا لم ينب فيه عن القدم الراس
لئن عثرت رجلي فليس لمقولي ... عثار وكم زلّت أفاضل أكياس «3»
وتوفي يوم الخميس العشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة بأصفهان «4» ، ثمّ قال: وكان- رحمه الله- عفيف الذيل غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحّرا في الأدب، خبيرا بعلم النّسب. انتهى كلام العماد.(15/639)
ومن شعر الأبيوردي وطرره المشبّه بالعذار الريحاني على الخدّ الوردي قوله يصف قصائده ويصفّ مصائده: [الخفيف]
دلّ فيها الذهن الجليّ بألفا ... ظ رقاق على معان دقاق
فقريضي يراه من ينقد الأش ... عار سهل المرام صعب المراقي
مؤيس مطمع قريب بعيد ... فهو أنس المقيم زاد الرفاق «1»
وقوله من قصيدة يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلّم أولها: [البسيط]
488/خاض الدجى ورواق الليل مسدول ... برق كما اهتز ماضي الحدّ مصقول
أشيمه وضجيعي صارم خذم ... ومحملي برشاش الدمع مبلول
يخدي بأروع لا يغفي وناظره ... بإثمد الليل في البيداء مكحول
منها:
إذا قضى عقب الإسراء ليلته ... أناخه وهو بالإعياء معقول
وحال دون نسيبي بالدّمى مدح ... تحبيرها برضا الرحمن موصول
أزيرها قرشيّا في أزرّته ... نور ومن راحتيه الخير مأمول «2»
تحكي شمائله في طيبها زهرا ... يفوح والروض مرهوم ومشمول «3»
من دوحة بسقت لا الفرع مؤتشب ... منها ولا عرقها في الحيّ مدخول «4»
يا سيّد الرّسل إن لم تخش بادرتي ... على أعاديك غالتني إذن غول «5»
والنّصر باليد منّي واللسان معا ... ومن لوى عنك جيدا فهو مخذول(15/640)
فمر وقل أتّبع ما أنت تنهجه ... والأمر ممتثل والقول مقبول «1»
وساعدي وهو لا يلوى به خور ... على القنا في اتّباع الحقّ مفتول «2»
منها في ذكر الصحابة رضي الله عنهم:
فمن أحبّهم نال النجاة بهم ... ومن أبى حبّهم فالسيف مسلول
ومنه قوله: [الطويل]
وصار الهوى فينا على رأي واحد ... إذا ما أمنّا عذله عاد واشيا
تردّ على أعقابهن دموعنا ... وقد وجدت- لولا الوشاة- مجاريا «3»
ومنها، وهو نوع من البديع يسمّى التفريع «4» :
489/وما مغزل فاءت إلى خوط بانة ... نأت بمجانيها عن الخشف عاطيا «5»
برابية والروض يصحو وينتشي ... يظلّ عليها عاطل الترب حاليا «6»
فمالت إلى ظلّ الكناس وصادفت ... طلا تتهاداه الذئاب عواديا «7»
فولّت حذارا تستغيث من الردى ... بأظلافها والليل يلقي المراسيا(15/641)
فلمّا استنار الصبح ينفض ظلّه ... كما نثرت أيدي العذارى لآليا «1»
قضت نفسا يطغى إذا ردّ غربه ... إلى صدره الحراّن رام التراقيا
بأبرح منّي لوعة يوم ودّعت ... أميمة حزوى واحتللنا المطاليا «2» «3»
ومنه قوله: [الطويل]
فلا وصل حتى يذرع العيس مهمها ... إذا الجنّ غنّتنا به رقص الآل «4»
لئن لوّحتنا الشمس والبرد منهج ... فقد يبلغ المجد الفتى وهو أسمال «5»
ولم يبق منّي في مهاواتنا السّرى ... ومن صاحبي إلّا نجاد وسربال «6»
ومنه قوله: [الكامل]
طرقت ونحن بسرّة البطحاء ... والليل ينشر وفرة الظّلماء «7»
هلّا اتّقيت الشهب حين تخاوصت ... فرنت إليك بأعين الرقباء «8»
خضت الظلام ومن جبينك يجتلى ... صبح ينمّ عليك بالأضواء «9»
منها:
وخطا الملوك الصّيد تقصر دونه ... وتطول فيه ألسن الشعراء(15/642)
يتسرّعون إلى الوغى بصوارم ... خلطت بنشر المسك ريح دماء
لا تهجر الأغماد إلّا ريثما ... تعرى لتغمد في طلى الأعداء «1»
من كلّ مشبوح الأشاجع ساحب ... في الروع ذيل النثرة الحصداء «2»
490/ينساب في الأدراع عامل رمحه ... كالأيم يسبح في غدير الماء «3»
وتردّ من قلقت به أضغانه ... حيّ المخافة ميّت الأعضاء
وإصابة الخلفاء فيما دبّروا «4» ... مقرونة بكفاية الوزراء «5»
ومنه قوله: [الطويل]
فصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما أردنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها «6»
وقوله: [البسيط]
والفقر تطفأ أنوار الكرام به ... كما يقلّ وميض السيف بالصّدإ «7»
ومنه قوله: [الطويل]
وما أمّ ساجي الطّرف مال به الكرى ... على عذبات الجزع تحسبه قلبا «8»(15/643)
فلاح لها من جانب الرّمل مرتع ... كأنّ الربيع الطّلق ألبسه عصبا «1»
فمالت إليه والحريص إذا عدت ... به طوره الأطماع لم يحمد العقبى
فلمّا قضت منه اللبّانة راجعت ... طلاها فألفته قضى بعدها نحبا
بأوجد منّي يوم عجّت ركابها ... لبين فلم تترك لذي صبوة لبّا «2»
منها:
مهفهفة لم ترض أترابها لها ... ببدر الدجى شبها، وشمس الضحى تربا
تنفّس حتى يسلم العقد سلكه ... وأكظم وجدا كاد ينتزع الخلبا «3»
وتذري شآبيب الدموع كأنّما ... أذابت بعينيها النّوى لؤلؤا رطبا «4»
ومنه قوله: [الطويل]
كأنّ نسيم العنبر الورد إن سرت ... إلينا ووسواس الحليّ رقيبها «5»
وكنت إذ الأيكية الورق غرّدت ... أخذت بأحناء الضلوع أجيبها «6»
491/ومنه قوله: [البسيط]
وفيّ من شيم الضرغام جرأته ... إذا أرابتك أخلاق من الذيب
أواصل الخشف والغيران مرتقب ... لا خير في الوصل عندي غير مرقوب «7»(15/644)
منها:
أعداؤهم ومطاياهم على وجل ... فهم أعادي رؤوس أو عراقيب «1»
ومنه قوله: [المديد]
وأراني صبح وجنته ... بظلام الصّدغ ينتقب
وسعى بالكأس مترعة ... كضرام النار يلتهب
فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشهب «2»
ولها من نفسها طرب «3» ... فلهذا يرقص الحبب «4»
ومنه قوله: [الطويل]
إذا ما عقدنا راية مقتديّة ... رجعنا بها خفّاقة عذباتها
تسير حواليها الملوك بأوجه ... تباهي ظبى أسيافهم صفحاتها «5»
إذا ركزوها فالأنام عفاتهم ... وإن رفعوها فالنسور عفاتها «6»
ومنه قوله يصف الديك: [الطويل]
متوّج أعلى قمة الرأس ساحب ... جناحيه في العصب اليماني مرعّث «7»
إذا ما دعا لبّاه حمش كأنّها ... تفتّش عن سرّ الصباح وتبحث «8»(15/645)
لك الله من سار إذا كتم السّرى ... فلا ضوؤه يخفى ولا الليل يمكث «1»
ينمّ علينا الحلي حتى إذا رمى ... به بات واشي العطر عنّا يحدّث
له لفتة الخشف الأغنّ ونظرة ... بأمثالها في عقدة السحر ينفث
وقدّ كخوط البان غازله الصّبا ... يذكّر أحيانا وحينا يؤنّث
ومن بيّنات الشوق أنّي على النوى ... أموت لذكراه مرارا وأبعث
بقايا جوى تحت الضلوع كأنّها ... لظى بشآبيب الدموع يورّث
وركب يزجّون المطايا كأنّهم ... أثاروا بها ربد النعام وحثحثوا «2»
ومنه قوله: [الوافر]
وإن لبس العجاجة ضلّ فيها ... ضلال المشط في الشعر الأثيث «3»
وقوله: [البسيط]
وإن كويت فأنضج غير متّئد ... لا نفع للكيّ إلّا بعد إنضاج «4»
منها:
ألست أغزرهم جودين شوبهما ... دم وأولاهما فودين بالتاج «5»
من فرع عدنان في أزكى أرومتها ... كالبحر يدفع أمواجا بأمواج
قوم حوى الشرف الوضّاح أوّلهم ... والناس بين سلالات «6» وأمشاج «7»(15/646)
ومنه قوله: [الطويل]
وقد صغت الجوزاء والفجر ساطع ... كما لمعت ريّا إليّ بدملج «1»
وشوقي حليم غير أنّ صبابة ... تسفّه حلم الوامق المتحرّج «2»
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
وأغنّ إن عذر الورى ... في حبّه عذل الحجى «3»
ورقيبه في ناظري ... ي قذى وفي صدري شجى
أهوى إليّ بكأسه ... كالجمر حين تأججّا
والليل أسحم لم يكد ... سر باله أن ينهجا
فافتّر عن قصر أها ... ب بفجره فتبلّجا
وكأنّ طرّة صبحه ... ليثت «4» بناحية الدّجى «5»
ومنه قوله: [الوافر]
لأرتدينّ بالظلماء حتى ... تشقّ عزائمي ثغر الدياجي
وأروع تحت أخمصه الثريّا ... وفوق جبينه خرزات تاج «6»
ومنه قوله: [السريع]
وإن وشى الحلي به راعه ... بعد وفاء الخرس غدر الفصاح «7»(15/647)
وكيف يستكتم خلخاله ... سرّا وقد نمّ عليه الوشاح
وما أضاء البرق من ثغره ... إلّا تجلّى حبب فوق راح
كأنّه الروضة مطلولة ... لها اغتباق بالندى واصطباح «1»
فالطرف- إن مرّضه- نرجس ... والخدّ ورد والثغور الأقاح «2»
ومنه قوله: [الطويل]
وإنّي لتسمو بي إلى المجد همّة ... تودّ الثريا أن تكون وشاحها
فإن نلتها استخلصت حقّي وإن أخب ... فخطوة ساع لم تصادف نجاحها «3»
ومنه قوله في الفهد: [الكامل]
ومقيل عفر زرته ويد الردى ... بسطت أناملها لكي تجتاحها «4»
ولديّ مرقوم القميص قد احتمت ... منه بأجنحة الحمى فأباحها «5»
وفللت عن بقر الصريمة غربه ... والرعب أقمأ باللّوى أشباحها «6»
فكأنّما خلعت عليه إذ نجت ... منه نواظر لا تكفّ طماحها «7»
وتحوّلت نقطا بضاحي جلده ... حتى وقت بعيونها أرواحها «8»(15/648)
وقوله: [البسيط]
إنّي لأذكرها بالظبي ملتفتا ... والشمس طالعة والغصن ميّادا
وقد رضيت من المعروف تبذله ... أن ينجز الطيف في مسراه ميعادا «1»
وقوله: [الوافر]
وقد جعلت على خفر تراءى ... فتخفي من محاسنها وتبدي
وكم باك كأنّ الجيد منه ... يوشّح من مدامعه بعقد «2»
وإن يك صافيا وشل تمشّت ... بجانبه الصبّا فكذاك ودّي «3»
ومنه قوله: [الطويل]
سرت أمّ عمرو والنجوم كأنّها ... على مستدار الحلي من نحرها عقد «4»
وقوله: [الكامل]
والسّمر من حذر التحطّم في الوغى ... تبدي اهتزاز منضنض مطرود «5»
فكأنّهن أعرن من أعدائه ... يوم اللقاء تلوّي المزؤود «6»
ومنه قوله: [الوافر]
كأنّهم ونار الحرب يقظى ... تمشّى في عيونهم الرقاد
هم بخلوا بطاعتهم ولكن ... على الأسلات بالأرواح جادوا «7»(15/649)
وقوله: [الكامل]
وبكلّ مرمى نظرة من وامق ... تحكي مباسمهنّ فيه عقود
خدّ وخال يعشقان كأنّما ... نقطت بحبّات القلوب خدود «1»
ومنه قوله: [الكامل]
وعليلة اللحظات يشكو قرطها ... بعد المسافة من مناط عقودها
حكت الغزالة والغزال ببعدها ... وبصدّها وبوجهها وبجيدها
فمنال تلك إذا نأت كوصالها ... ونفار ذاك إذا دنت كصدودها «2»
إذ شقّ أردية الشقيق بها الحيا «3» ... فحكينها بقلوبها وخدودها «4»
495/ومنه قوله: [الطويل]
لأدّرعنّ النّقع والسيف ينتضى ... لجينا ونؤويه إلى الغمد عسجدا «5»
بجرد يجاذبن الأعنّة أيديا ... لبيقات أطراف الأنامل بالنّدى «6»
إذا هنّ نبّهنّ الثرى من رقاده ... ذررن به في مقلة النجم إثمدا «7»
وشعّثن أعراف الصباح بهبوة ... يطالعن منها ناظر الشمس أرمدا «8»(15/650)
ومنه قوله: [الطويل]
ويوم تراءى شمسه من عجاجه ... تطّلع أسرار الهوى من ضمائري «1»
وتختفق الرايات فيه كأنّما ... هفت بحواشيها قوادم طائر «2»
وقوله: [الطويل]
ففي العسر أحيانا وفي اليسر تارة ... يعيش الفتى والغصن يعرى ويكتسي «3»
ومنه قوله: [الطويل]
وأبدى الرّضا والعتب في أخرياته ... ومن بيّنات الحبّ أن يجمعا معا «4»
إذا ما غسلت العار عنّي لم أبل ... نداء زعيم الحيّ بشّر أو نعى «5»
وقوله: [الطويل]
فإنّ ازدياد المال من غير نائل ... يشين الفتى كالسنّ لزّ به الشّفا «6»
بقيت ضجيع العزّ في حضن دولة ... لبست بها طوق الأهلّة مفرغا «7»
ومنه قوله: [الطويل]
وأصبو ويلحاني على الحبّ عاذلي ... وأين فؤاد للسلوّ يصاغ(15/651)
ومن شغلته بالهوى نظراتها ... فليس له حتى الممات فراغ «1»
وقوله: [البسيط]
لئن جحدتك نعمى قدّ ريّقها ... إلى النوائب منّي باع منتصف «2»
فلا تلقّيت خلّي حين تزعجه ... فظاظة الدهر بالمألوف من لطفي «3»
وقوله: [الطويل]
بروض تمشّى بين أزهاره الصّبا ... فتحسبها مذعورة حين ترجف «4»
ومنه قوله: [الكامل]
هيفاء نشوى اللّحظ يقصر طرفها ... خفر ويسكر تارة ويفيق
فكأنّه والبين يخضل جفنه ... بالدمع من حدق المها مسروق «5»
منها:
يفترّ عن برد يكاد يذيبه ... قبل تردّد في اللّمى المرشوف «6»
وجرت أحاديث تبيت قلائد ... من أجلهنّ حواسدا لشنوف «7»
ومنه قوله: [البسيط]
كالماء والنار موجودين في حجر ... والبدر في سدف والدرّ في صدف «8»(15/652)
496/كالبحر لو أمّن التيار راكبه ... والبدر لو لم يشنه عارض الكلف
ولم يذر في النّدى إسرافه كرما ... وإنّما شرف الأجواد في السّرف «1»
وقوله: [الكامل]
وهواي تلو هواك في روق الصّبا ... حتى كأنّ العاشق المعشوق «2»
ومنه قوله: [الطويل]
ولا أرض إلّا وهي من كلّ جانب ... إلى بابه للمعتفين طريق
وبشر يلوح الجود منه وهيبة ... تروع لحاظ المجتلي وتروق «3»
وقوله: [المتقارب]
ولمّا رأينا رداء الدّجى ... لقى بيد الفجر عنّا يشق
جرت عبرة رقرقتها النوى ... على وجنة هي منها أرقّ
ويقصر ليلي حتى يكا ... د يعلق ذيل الصباح الشّفق «4»
ومنه قوله: [الطويل]
صفت في الهوى منّي ومنك سرائر ... جمعن قلوبا في جسوم تفرّق
ففيك سكوتي والضمائر تنتجي ... وعنك إذا ما ساعد القول أنطق «5»(15/653)
وقوله: [مجزوء الكامل]
ففؤاده كسوارها حرج ... ووساده كوشاحها قلق
497/عانقتها والشهب ناعسة ... والأفق بالظلماء منتطق
فلثمتها والليل من قصر ... قد كان يلثم فجره الشفق
ثم افترقنا حين فاجأنا ... صبح تقاسم ضوءه الحدق
وبنحرها من أدمعي بلل ... وبراحتي من نشرها عبق «1»
ومنه قوله في وصف الفرس: [البسيط]
ومرتد بالدّجى روّحت صهوته ... بعد اختلاس ذماء الريح بالعنق «2»
فما مسحت بعرف الصبح حافره ... ولا فليت عليه لمّة الغسق «3»
وليس في الأرض من يطوي إليه ولا ... يجلو لمى الليل فيه مبسم الفلق «4»
ومنه قوله: [الكامل]
صدّت أميمة حين لاح بمفرقي ... شيب يبرح بالمحبّ الوامق
لا تعرضي عنّي فأنت جنيته ... وهواك منّع بالمشيب مفارقي
ولقد خلعت عليك ما استحسنته ... وهو الشباب وذاك جهد العاشق
فتركتني أرعى النجوم بناظر ... يشكو الغرام إلى فؤاد خافق «5»(15/654)
فسمحت حتى بالحشاشة في الهوى ... وبخلت حتى بالخيال الطارق «1»
ومنه قوله: [الطويل]
وذي هيف للبرق منه ابتسامة ... وراء غمام عن مدامعه أبكي
أظنّ مهاة الرمل عن لحظاته ... إذا نظرت تحكي من السحر ما يحكي «2»
ومنه قوله في صفة الدرع: [الوافر]
وكلّ مفاضة تحكي غديرا ... يعانق وهو مرتعد شمالا «3»
498/وقد أهدى الدّبى حدقا صغارا ... لها فتحولت حلقا دخالا «4»
إذا وسع التّقى كرمي فأهون ... بخود ضاق قلباها مجالا «5»
ومنه قوله: [البسيط]
ما للجبان ألان الله جانبه ... ظنّ الشجاعة مرقاة إلى الأجل
وكم حياة جنتها النّفس من تلف ... ورب أمن حواه القلب من وجل «6»
منها:
حنّت إليهم ظبا الأسياف ظامئة ... حتى أبت صحبة الأجفان والخلل «7»(15/655)
إذا جرى ذكرهم باتت على طرب ... متونهنّ إلى الأعناق والقلل «1»
ومرهف أنحل الهيجاء مضربه ... لا يألف الدهر إلّا هامة البطل «2»
وذابل ينثني نشوان من علق ... كالأيم رفّع عطفيه من البلل «3»
وقوله: [الكامل]
والشمس راكدة يذوب لعابها ... والظلّ يكنس تارة ويماشي «4»
ومنه قوله: [الكامل]
فبدا وقد نشر الصباح رداءه ... كالأيم ماج به الغدير فنضنضا «5»
إذ لم يصرّح بابتسامك جهرة ... فلقد- وحبّك يالبينى- عرّضا «6»
وقوله فيه: [الطويل]
كأنّ خلال الغيم من لمعانه ... يدي قادح يرفضّ من زنده سقط «7»
تناعس في وطفاء إن حلّت الصّبا ... عزاليها بالودق عيّ بها الرّبط «8»
منها:(15/656)
تبسّم عن أحوى اللثاث يزينه ... جمان يباهيه على جيدها السّمط «1»
ومنه قوله: [الكامل]
499/والرّكب من دهش النّوى في حيرة ... لا راقدون ولا هم أيقاظ
وبدت لنا هيفاء مخطفة الحشا ... فتناهبت وجناتها الألحاظ
فكأنّما ألفاظها عبراتها ... وكأنّما عبراتها الألفاظ «2»
وقوله: [الطويل]
علوت ففتّ النّجم حتى تخاوصت ... إليك عيون الشهب وهي جواحظ «3»
ومنه قوله: [البسيط]
رنا وناظره بالحسر مكتحل ... أغنّ يمتار من ألحاظه المقل «4»
فرحت أدنو بقلب هاجه شجن ... وراح ينأى بخّد زانه خجل «5»
منها:
يمشي كما لاعبت ريح الصّبا غصنا ... ظلّت تجور به طورا وتعتدل
ذو وجنة إن جنت عين الرقيب بها ... ورد الحياء كساها ورسه الوجل «6»
ومنه: [الطويل](15/657)
وحيّ من الأعداء تبدي شفاههم ... نواجذ مقرون بهنّ الأنامل «1»
فمنهم بمستنّ المنايا معرس ... تطيف به سمر القنا والقنابل «2»
وآخر تستدني خطاه قيوده ... وهنّ بساقي كلّ عاص خلاخل
أزرتهم بيضا كأنّ متونها ... أجنّ المنايا اسودّ فيها الصياقل «3»
ومنه قوله: [الكامل]
واها لعصرك وهو يقطر نضرة ... ويميس تحت ظلاله التأميل
فكأنّه ورد الخدود إذا اكتست ... خجلا وكان يذيبها التقبيل
لولا تأخرّه وقد أوقرته ... كرما لنمّ بفضله التنزيل «4»
ومنه قوله في وصف بغداد: [الطويل]
500/هواء كأيام الهوى لا يغبّه ... نسيم كلحظ الغانيات عليل
وعصر رقيق الطّرتين تدرّجت ... على صفحتيه نضرة وقبول «5»
ومنه قوله: [البسيط]
لله ما صنعت أيدي الركاب بنا ... عشيّة استتر الأقمار بالكلل «6»
إذا ابتسمن سلبن البرق روعته ... وإن نظرن فجعن الظّبي بالكحل
من كلّ بيضاء مصقول ترائبها ... مقسومة العهد بين الغدر والملل(15/658)
تسلّ من مقلتيها صارما أخذت ... من حدّه وجنتاها حمرة الخجل «1»
ومنه قوله: [الطويل]
أتحسب تلك العامرية أنّني ... أذلّ ويأبى المجد أن أتذّللا
وتزعم أنّي رضت قلبي لسلوة ... إذا لا أقال الله عثرة من سلا «2»
ومنه قوله: [الطويل]
ولولاك يا ذات الوشاحين لم تكن ... موشّحة من أدمعي بلآل
وفيك صدود من دلال أظنّه ... على ما حكى الواشي صدود ملال
فلا تلزميني ذنب دهر يسومني ... على غلظ الأيام رقّة حالي «3»
وعند بنيه حين يخشى بناتها ... قلوب نساء في جسوم رجال «4»
ومنه قوله: [البسيط]
من أغفل الحزم أدمى كفّه ندما ... واستضحك النّصر من أبكى السيوف دما
فالرأي يدرك ما يعيا الحسام به ... إذا الزمان بذيل الفتنة التثما «5»
[ومنه قوله] «6» : [الطويل]
يشيّعهم قلب المشوق وربّما ... يقاد إلى ما ساءه بزمام(15/659)
501/وقد بخلت سعدى فلا الطيف طارق ... وليس بمردود إليّ سلامي
من الهيف يستعدي على لحظها المها ... وتسلب خوط البان حسن قوام «1»
وكم ظمأ تحت الضلوع أجنّه ... إلى رشفات من وراء لثام
وما ذقت فاها غير أنّي مكرّر ... أحاديث ترويها فروع بشام «2»
ومنها:
وهل أتناسى العيش غضّا كأنّما ... أعير اخضرارا من عذار غلام «3»
بأرض كأنّ الروض في جنباتها ... تجرّ ذيول العصب فوق أكام «4»
إذا صافحت غدرانه الريح خلتها ... تدرّع أثرا في غرار حسام «5»
ومنه قوله: [الطويل]
سرى طيفها والليل رقّ ظلامه ... وقد حطّ عن وجه الصباح لثامه
وهبّت عصافير اللّوى فتكلّمت ... وجاوبها فوق الأراك حمامه «6»
منها:
فما راعني إلّا الخيال وعتبه ... وفجر نضا برد الظلام ابتسامه
كأنّ ظلام الليل والنجم جائح ... إلى الغرب غمد والصباح حسامه «7»(15/660)
ومنه قوله: [البسيط]
إذا استنامت إلى العصيان مارقة ... يأبى لها الحين أن تبقى إلى حين
مشوا إليها بأسياف كما انكدرت ... شهب ثواقب في إثر الشياطين «1»
ومنه قوله: [الطويل]
وليلة نعمان وشى البرق بالهوى ... ألا بأبي برق يمان ونعمان «2»
فلله حزوى حين أيقظ روضها ... رشاش الحيا والنجم في الأفق وسنان
إذا ما النسيم الطّلق غازل روضها ... أمال إليه عطفه وهو نشوان «3»
502/ولو لم يكن صوب الغمام مدامة ... يعلّ بها حزوى لما سكر البان «4»
ومنه قوله: [الكامل]
ولقد طرقت الحيّ يحمل شكّتي ... ظامي الفصوص أديمه ريّان «5»
ووقفته حيث اليمين جعلتها ... طوق الفتاة وفي الشمال عنان «6»
ولقد ذكرت العامريّة ذكرة ... لا يستشفّ وراءها النسيان «7»
وهفا بنا ولع النسيم على الحمى ... فثنى معاطفه عليّ البان «8»(15/661)
ومشى بأجرعه فهبّ عراره ... من نومه وتناجت الأغصان
بأكفّ أبطال تكاد دروعهم ... عند اللقاء تذيبها الأضغان «2»
منها:
ومهنّد تندى مضاربه دما ... بيد ينم بجودها الإحسان «2»
ومنه قوله: [الكامل]
ورأيت من يمتار ضوء جبينه ... بصري فقبلّت الثرى بجبيني «3»
ومنه قوله: [البسيط]
وفضّ غمد حسامي في العناق لها ... ضمّي كما التفّ بالأغصان أغصان
والشهب تحكي عيون الروم خيط على ... أحداقها الذرق للسودان أجفان
يا أخت معتقل الأرماح يتبعه ... إلى وقائعه نسر وسرحان
أعرضت غضبى وأغريت الخيال بنا ... فلست ألقاه إلّا وهو غضبان «4»
ومنه قوله: [المتقارب]
ولمّا تناديتم بالرحي ... ل لم يترك الدمع سرّا مصونا
أمنتم على السرّ منّا القلوب ... فهلّا اتّهمتم عليه العيونا «5»
503/قال العماد الكاتب: أنشدني الحافظ أبو طاهر السلفي قال: أنشدني الأبيوردي:(15/662)
تنكّر لي دهري ولم يدر أنّني ... أعزّ وأحداث الزمان تهون
فظلّ يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصّبر كيف يكون «1»
وقوله: [البسيط]
فلست أدري أمن دمع أرقرقه ... أم من مباسمها ما في تراقيها «2»
وقوله: [الطويل]
فبرّح بي شوق أراني بثغرها ... ودمعي وعقديها وشعري لآليا «3»
ومنه قوله في رثاء السلطان أحمد بن ملكشاه «4» : [الكامل]
والبيض تقلق في الغمود كما التوت ... رقش تبلّ متونها الأنداء «5»
والسّمر راجفة كأنّ كعوبها ... تلوي معاقدها يد شلّاء «6»
والشمس شاحبة يمور شعاعها ... مور الغدير طغت به النكباء
والنيّرات طوالع رأد الضّحى ... نفضت على صفحاتها الظلماء «7»
ومنه قوله من مرثية «8» : [الكامل](15/663)
ولنا بمعترك المنايا أنفس ... وقفت بمدرجة القضاء الجاري
ملأت قبورهم الفضاء كأنّها ... بزل الجمال أنخن بالأكوار «1»
ألقوا عصّيهم بدار إقامة ... أنضاء أيام مضين قصار «2»
وكأنّهم بلغوا المدى فتواقفوا ... يتذاكرون عواقب الأسفار
لم يذهبوا سلفا لنغبر بعدهم ... أين البقاء ونحن في الآثار «3»
منها:
والناس يستبقون في مضمارها ... والموت آخر ذلك المضمار «4»
وقوله من مرثية أخرى «5» : [الكامل]
والعيش أوّله عقيد مشقّة ... وأذى وآخره مقيل حمام «6»
504/والعمر لو جاز المدى لتبّرم ال ... أرواح منه بصحبة الأجسام
فمضى وقد أصحبته سيّارة ... كالروض يضحك من بكاء غمام «7»(15/664)
ومنهم:
46- أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني «1» .
هو أول بيته، وممول حيّه وميته، لأنّه نبّه ذكر عقبه وشبّه بالنظراء أهل نسبه بما ألهمه من ذكاء أضاء له زناده المقتدح، وجاء وفق المقترح فنظم القصائد الغرّ، ومدح بها وتكسّب بتجارتها، وتوصّل إلى المجالس بسفارتها، وأرخص سومها في البيع فكانت على قلّة المتحصّل أجدى في الرّيع، وتوسّع في المدائح وتنوّع في تحصيل المنائح، ومدح حتى رؤوساء اليهود، وكبراء الرعاع طلبا للجود، هذا مع ما ادّعاه من النّسب القرشي، والأدب الذي ليس معه شيء بمخشي حتى قال إنّه من ولد خالد بن الوليد رضي الله عنه قولا ردّه النّسابون، وصدّه أهل الصدق بما عرف به الكذّابون. وقد أتى في ذكر بعض ولده من الكتاب ما ذهبت مذهب التّصريح معاريضه، وركبت ركوب الأبحر أعاريضه.
وهذا الأديب أصله من قيسارية الساحل، ومولده عكا، وأقام بها لا يزال يتشكّى حظّه وعكا ثمّ اضطرب في بلاد الشام وشقّها طولا وعرضا، وشام بارقها خفوا وومضا. ومدح الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وحظي بجوائزه ثمّ تصرّف ابنه في ملكه تصرّف مالك حائزه حتى بعثه نور الدين إلى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب(15/665)
قدّس الله روحه ظنا أنّه يضبط له مال مصر ويمتدّ له هناك قلم قطّه صلاح الدين وغلّه بعدم التمكين فعاد بأقبح خزية وأبداها. وأخيب سفرة/ 505/ما أقلّ جداها، ثمّ كان في هذا البيت من ذكر ممّن ذمّ أو شكر، وكان هذا أصل تلك الدّوحة، وأصل وأبكار تلك الغدوة والرّوحة، وكان في الهيئة ذا مشاركة لا تخطي في مساحتها إذا قسّم، ولا تضيق في صدره ساحتها إذا توسّم، وكان في الأدب حيث يستمك السنّام، ويستمع قول الأنام، وكانت بينه وبين ابن منير الطرابلسي شحناء لا يسكن غليانها، وبفضاء لا تنقضي أحيانها، واستعدى ابن القيسراني الملك العادل نور الدين عليه فأباحه دمه، وحلّى وشاحه بسيف يضرب به عنقه، ويطيح دمه، وجعل له هذا السّيف حكما ماضيا، وحكما قاضيا، فتحّيل ابن منير بحيل دقّقها، ووصل اهتبل بها غرّة ابن القيسراني ووطي عنقها حتى أخذ ذلك السيف وبخّه بخلّ ثمّ رده إلى قرابه فصدأ في القراب، ولصق به لصوقا لا يفارقه إذا سلّه للضراب، ثمّ كان ابن منير في تلك المدّة يتحيّد ابن القيسراني ويقول قول الأرنب أن خير إليّ يوم لا أرى الكلب ولا الكلب يراني حتى علم بأنّ سمّ كيده قد استحكم في جسم ذلك السيف، وأنّ جفن ذلك الغرار قد تملّأ كرى لا حلم فيه ولا طيف ثمّ تعرّض له في الطريق، وأتاه وهو بين حفد له غير فرق من ذلك الفريق، فأومأ ابن القيسراني بيده إلى السيف ليخرطه فما انخرط، وخان عهده مقيما عذره في عدم الوفاء بأنّه ما شرط، فضحك من حضر، وخجل ابن القيسراني خجلا صار به مثلا للبشر، وبلغ هذا نور الدين فقال: لو كان ابن القيسراني محقّا ما كفّ عن هذا ودمه هدر.
أمّا ما يختار له فقوله: [الطويل]
كتائب تروى بالكتائب لفظها ... ظباها وسمر الخطّ فيها بنودها «1»
وقوله: [الطويل](15/666)
فمن حذري ورّيت بالبان والنّقا ... مخافة أن يسعى عليّ رقيب «1»
506/فلا تمنعيها من قوامك هزّة ... فيحظى بها غصن سواك رطيب
منها في ذكر النّياق:
وليلة بتنا والمهاري حواسرا ... يزرّ عليها للظلام جيوب
فبتن يبارين الكواكب في الدّجى ... لهنّ طلوع بالفلا وغروب
نواصل من صبغ الظلام كما بدا ... لعينك من تحت الخضاب مشيب «2»
خوافق في صدر الفضاء كأنّها ... وقد وجبت منّا القلوب قلوب
منها:
سوابح في بحري فضاء وسدفة ... لهنّ اعتلاء بالضحى ورسوب «3»
وريق وفي عود الكرام قساوة ... طليق وفي وجه الزّمان قطوب
بليغ إذا جدّ الخصام مضى له ... لسان بأطراف الكلام لعوب
نسيب المعالي يطرب القوم مدحه ... كأنّ الثناء المحض فيه نسيب
ومنه قوله: [السريع]
أشتاق أهلي بدمشق وفي ... بغداد حظّ القلب والعين «4»
ففي لقائي ذا فراقي لذا ... قل إلى متى أخلو من البين
وقوله: [الوافر](15/667)
وضاقت ساحة الأخلاق حتى ... نبا الخلق الكريم عن التغاضي «1»
وعندك أنّني مع ما ألاقي ... نسيتك، لا وعينيك المراض
ومنه قوله: [المتقارب]
وفي الركب صب إذا اشتاقكم ... لوى جيده نحوكم فالتوى «2»
يجود بعين لو أنّ الرّكا ... ب تغمّر في دمها لارتوى
أحبّ الشآم وأهوى العراق ... فخلفي هوى وأمامي هوى
507/وقوله: [الوافر]
شتوا يدعو الضيوف إلى قراهم ... سنانير أنّهم فوق الروابي «3»
وقوله: [الوافر]
يتيّمني بأرض الشام حبّ ... ويعطعني على بغداد حبّ «4»
فكلّ هوى يطالبني بقلب ... وهل إلى غير هذا القلب قلب
إذا كان التنائي في التلاقي ... فماذا يصنع الدّنف المحبّ
ومنه قوله: [المتقارب]
وكيف يفوز بفضل الكما ... ل من جعل الأكمل الأنقصا «5»
لعمرك ما أنصف المثمرا ... ت من يجتنيها بخبط العصا
وقوله: [مجزوء الكامل](15/668)
أو ما ترى طرب الغدي ... ر إلى النسيم إذا تحرّك «1»
بل لو رأيت الماء يل ... عب في جوانبه لسرّك
فإذا الصّبا هبّت علي ... هـ أتاك في ثوب مغرّك
ومنه قوله: [السريع]
آلى على الخمرة لا ذاقها ... ما عاش إلّا زمن الورد «2»
وقد مضى الورد فهل رخصة ... في أن يكون الورد من خدّ
وقوله: [الكامل المرفّل]
لم أنس ليلة قال لي ... لمّا رأى جسدي يذوب «3»
بالله قل لي من أعل ... لك يا فتى؟ قلت: الطبيب
وقوله: [الطويل]
عفائف إلا عن معاقرة الهوى ... ضعائف إلّا في مغالبة الصّب «4»
إذا جاذبتهنّ البوادي مزية ... من الحسن شبهّن البراقع بالنّقب
ولمّا دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سر بي عن ملاحظة السّرب
إذا كانت الأحداق نوعا من الظبى ... فلا شك أنّ اللحظ ضرب من الضّرب
508/وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر التّرب
وأعجب ما في خمر عينيه أنّها ... تضاعف سكري كلّما قللّت شربي
ومنه قوله: [الكامل](15/669)
نبت الجفون فما اغتمضن وإنّما ... حقّ السيوف إذا نبت أن تغمدا «1»
وكأنّ طرفي حين أبكته دما ... ألقى الشعاع بخدّها فتورّدا
وقوله: [الطويل]
غدرتم بنا غدر الشباب الذي مضى ... فوا أسفا هل كان بينكما عهد «2»
وإن قلتم إنّي سبقت إلى النّوى ... فما جئتها حتى بدا منكم الصدّ
فلا تغفلوا ناري فلي عنده [هوى] «3» ... متى كتمته العين نمّ به الخدّ
ومنه قوله: [الكامل]
أتقيّل الجدوى وتلك غمامة ... حاشاكم انقشعت ونجم قد خوى «4»
ولكم نويت لقاءكم وتصدّني ... أيدي النّوى ولكلّ عبد ما نوى
وقوله: [الطويل]
تجاهل صحبي أن بكيت صبابة ... عليّ فقالوا: ما جرى؟ قلت: أدمع «5»
وما عبّر الصبّ الكئيب عن النوى ... بمثل لسان فوه جفن ومدمع
إلى الله من قلب يواصل بثّه ... عشيّة أسباب المنى تتقطّع
وقد ردّت الحاجات خوف وشاتها ... إلى مقلة فيها لسان ومسمع
منها في ذكر الفرس:(15/670)
وأسرى نعاس يممّوا كعبة الندى ... فهم سجّد فوق المذاكي وركّع «1»
على كلّ نشوان العنان كأنّما ... جرى في وريديه الرحيق المشعشع
وقوله: [الكامل]
حسبي من البرحاء أنّي مولع ... بمهفهف أمسى بقتلي مولعا «2»
509/يسبي القلوب بفاحمين تكنّفا ... من طرّتيه للغزالة مطلعا
وفم تخال غديره مترقرقا ... في نوره حوضا وروضا ممرعا
فعلى العواذل فيه أن لا تنتهي ... عن عذلها وعليّ أن لا أسمعا
ومنه قوله: [الطويل]
يخوّفني بالبعد من لا أودّه ... ويأمرني بالعجز من لا أطيعه «3»
وهل يفرس الضرغام إلّا انتجاعه ... ولو دام في عرّيسه دام جوعه
وقوله: [الطويل]
سقى الله أيام التهافت في الصّبا ... جنى كلّ جنّان الأصائل أو طفا «4»
ليالي أضللت الرّقيب موافقا ... أغازل فيهنّ الغزال المشنّفا
إذا بتّ أستجلي الحسان محاسنا ... تروّحت أستجلي البنان المطرّفا
أودّع لبّي ذاهل العقل مغرما ... وأودع قلبي فاتر الطّرف أهيفا
ومنه قوله: [الخفيف](15/671)
كلّما امتدّ بيننا أمد البي ... ن تدانى هواكم المرموق «1»
طول عهدي بكم يضاعف وجدي ... وكذا يفعل الشراب العتيق
وقوله: [الطويل]
ألذّ بما أشكوه من ألم الجوى ... وأفرق إن قلبي من الوجد أفرقا «2»
وأذهل حتى أحسب الصدّ والنّوى ... بمعترك الذكرى وصالا وملتقى
ومنه قوله: [الوافر]
تملّكتم فؤادي دون جسمي ... فما أنا بالأسير ولا الطّليق «3»
وذي عذل معنّى بالمعنّى ... يميل على الدعابة للعقوق
يحوم من الغرام على خلافي ... وأين الروح من نفس الغريق
[وقوله] «4» : [الكامل]
510/بنتم فبان محلّ صبري عنكم ... والجسم بعد القلب أوّل لاحق»
وتقوّضت خيماتكم عن ناظري ... فضربتموها في الفؤاد الوامق
فلأهدينّ إلى جفونكم الكرى ... ولأسرينّ سرى الخيال الطارق
ولأقضينّ مناسكي من قربكم ... فزيارة المعشوق حجّ العاشق
ومنه قوله: [البسيط](15/672)
على اسم [مريم] «1» فيه هيكل صلف ... سماؤه ذات أنوار من الحبك «2»
لمّا رأيت بها الأقمار طالعة ... عجبت كيف أقاموا قبّة الفلك
وقوله: [الطويل]
تنوء بها يوم الخصام حلومها ... وتغدو بها نحو الصّريخ خيولها «3»
كأنّ أنابيب القنا بأكفّهم ... قداح بأيدي اللاعبين تجيلها
ومنه قوله: [البسيط]
أقول للصّاحب الهادي ملامته ... ضلالة القلب في أكناف ذي ضال «4»
دعني أفضّ شؤوني في معالمها ... فالدمع دمعي والأطلال أطلالي
أما كفى أسفا أنّي أصخت إلى ... نهي النّهى وكفيت الشّهيب عذّالي
إذا التفتّ إلى ما فات من عمري ... سحبت فوق رسوم اللهو أذيالي
سقى الحيا طرفي عيش نعمت به ... فلم يكن غير أسحار وآصال
أولى لها أن دنت بالوصل ثانية ... فإن ذكرت النّوى يوما فأولى لي
ومنه قوله مهنئا بالنوروز: [الكامل]
ملك المدى يوم أغرّ محجّل ... يأتي السوابق وهو منها أوّل «5»
يختال في عطفيه جوّ ضاحك ... ويميس في طرفيه عام مقبل
511/دول الربيع له بأكمل زينة ... فأتاك في خلع الغمائم يرفل «6»(15/673)
من أقحوان ما جرى دمع الحيا ... إلّا تبسّم من شقيق يخجل
وعيون نور هوّمت أجفانها ... فسرى ينبّهها النسيم المرسل
فلكل ضاحكة إذا استجليتها ... ثغر بأفواه العيون تقبّل
ومنه قوله: [البسيط]
من كلّ ذي هيف ترنو لواحظه ... إليك من لهذم في صدر عسّال «1»
أبلّ كلّ نسيم غير ناظره ... وغيّر جسمي ما همّا بإبلال
كم ليلة بتّ من كأس وريقته ... نشوان أمزج سلسالا بسلسال
وبات لا تحتمي عنّي مراشفه ... كأنّما ثغره ثغر بلا وال
ولم يدع لي سوى نفس أجود بها ... والجود بالنفس غير الجود بالمال «2»
هب أنّ ليل شبابي زال فاحمه ... عنّي فما بال أسحاري وآصالي
تجري النّعامى فما بالي إذا خطرت ... بالركب ما خطرت إلّا على بالي «3»
ومنه قوله: [الطويل]
كأنّ الذي آلى على بسط كفّه ... سوى ما لها في البأس من قائم النّصل «4»
يروح عقيد الراح لا يستفزّه ... إلى الكأس إلّا أنّها ضرّة البخل
يملّك ألباب الملوك بروعة ... تحالف من بعدي على حرب من قبلي
وليست كأخرى تربها يكفر الحيا ... كأنّ وقوع الغيث منها على رمل
أبا الحسن انقادت إلى بابك المنى ... وحلّت به الآمال محلولة العقل(15/674)
بقيت [لنشء] «1» الدولة المرتجى لها ... إلى أن ترى من نسله أبوي شبل
512/هلال تجلّى في الكمال على الصّبا ... وربّ صبا يأوي إلى سؤدد كهل
وغرس علمنا أصله من فروعه ... وما العلم إلّا ردّ فرع إلى أصل
ومنه قوله: [الطويل]
تباشرت الأقطار من فرح به ... ففي كلّ ثغر من ظباه مباسم «2»
وما تحمل الخيل الأعادي جهالة ... به بل رجاء أنهنّ غنائم
وقوله: [الرمل]
وما عليهم لو أباحوا في الهوى ... ما عليهم من صفات المستهام «3»
من حضور وشحّوها بالضنى ... وعيون كحّلوها بالسّقام
ومنه قوله: [الطويل]
إذا أبرزتهنّ العيون حواسرا ... نظرن إلينا من خلال المعاصم «4»
حلول بمستنّ العفاة عفاتهم ... غنيّون عن نار القرى بالمباسم
وقد بان عن لبنان برق كأنّه ... بياض الأيادي أو سنا وجه حاتم
تعود وفود الحمد عنه كأنّهم ... قد افترقوا عن جامعات المواسم
ومنه قوله: [البسيط]
وخبّروني عن قلب ومالكه ... فرّبما أشكل المعنى على الفطن «5»(15/675)
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن
وقوله: [الخفيف]
ظنّ صبغ الشباب صبغ الليالي ... فاصطفاها عليّ أكبر عون «1»
حال حين استحال لون شبابي ... باعني في الهوى بفاضل لون
وقوله: [مجزوء الكامل]
ينأى ويدنو طيفه ... فهو المواصل والمباين «2»
ما أغفل الأجسام من ... أخذ القلوب بها رهائن
513/ومنه قوله: [البسيط]
والله لو أنصف العشّاق أنفسهم ... أعطوك ما ادّخروا منها وما صانوا «3»
ما أنت حين تغنّي في مجالسهم ... إلّا نسيم الصّبا والقوم أغصان
وقوله: [البسيط]
شطّت بصحبي عن الشطّين فانبعثت ... تراهن الكوكب الساري فيشآه «4»
أفنى بمائلها الحادي فما عملت ... لمّا هوى النّجم عنها أين مهواه
ومنه قوله فيمن اسمه وهيب: [الوافر]
أجرني يا وهيب وهب حياتي ... لخال فوق وجنتك اليسار «5»(15/676)
بدا كبقية الندّ المعلّى ... رماها قابس في وسط نار
وقوله: [المتقارب]
أهيم إلى العذب من ريقه ... إذا تيّم العاشقين العذيب «1»
شهدت عليه وما ذقته ... يقينا ولكن من الغيب غيب
ومنه قوله: [السريع]
سطرا عذار مونق خطّه ... يقرأ لي منه المعاذير «2»
بينهما روضة ورد لها ... من خالها الأسود ناطور
ومنه قوله ممّا يكتب على سرج: [المتقارب]
حملت الكرام فأكرمنني ... ورحت وقد حملتني الجياد «3»
فإن ترني للمعالي مهادا ... فلي من ظهور المذاكي مهاد
فلم لا أتيه على العالمين ... وفوقي جواد وتحتي جواد
ومنه قوله: [المتقارب]
ولمّا أردنا نتاج السرور ... خطبنا من الماء للخمر صهرا «4»
فزفّت عروسا تريك الحبا ... ب إن شئت عقدا وإن شئت ثغرا
514/إذا الماء أهدى له لونه ... رأيت العقيق وقد حال درّا
ومنه قوله في رثاء: [الطويل](15/677)
وعيشك ما سمّيت يومك باسمه ... ولكنّني أرّخته مولد العدى «1»
وحسبك من زوّار قبرك روضة ... ترى أعين الباكين زهرا مورّدا
ومنه قوله: [السريع]
دمعي لسان فمه ناظر ... يعزو الوشايات إلى سبكه «2»
فاعجب لطرف دلّ قلبا على ال ... حبّ هو الواشي على حبّه
إذا الحبيب اشتطّ في هجره ... فاعدل من الحسن إلى تربه
وداو أدواء الهوى بالهوى ... إفاقة المخمور في شربه
يا عجبا من قائل لم يجد ... معنى فقاس الشمس يوما به
تلك احتراق النّجم في قربها ... منه وهذا الفوز في قربه
ومنه قوله يصف دارا: [المتقارب]
تأنّق في وضعها ماهر ... تفيت البصائر أنوارها «3»
بنى في حشا الصبّ حمّامها ... وفي وجنة الحبّ طيّارها
ومنه قوله: [الرمل]
داو أنفاسي بأنفاس الصّبا ... فلتعليل الهوى اعتلّ الهواء «4»
وجفون دمعها الساعي بها ... فعليها من بكاها رقباء
هل محلّ الحبّ إلّا أعين ... خائنات أو قلوب أمناء «5»(15/678)
يا نديميّ وكأسي وجنة ... ضرّجتها باللّحاظ الندماء «1»
515/لا تظنّوا الورد ما يسقي الحيا ... إنّما الورد الذي يسقى الحياء
منها في ذكر العافية:
أعقب البرء سرورا ضاحكا ... في جفون كاد يدميها البكاء «2»
وأرت ألحاظها أعراضها ... لا يصحّ اللحظّ ما اعتلّ الضياء
ومنه قوله: [الطويل]
وقلّدتني طوق الحمامة منّة ... تردّد فيها من ثنائك تغريد»
ثناء يثني أعظم الدهر دقّة ... وإيراده في وجنة الشمس توريد
وقوله: [الكامل]
لاموا على فرط البكاء وفقده ... فدهيت من قبل الوفيّ الغادر «4»
وهب المدامع أخرست أفما رأوا ... سهرا يصيح على جفون السّاهر
ومنه قوله: [الوافر]
وآراء إذا شهرت ظباها ... على ليل الظبى فتقت نهاره «5»
ومجد ندّ عن شعري وهمّت ... به الشعرى فما شقّت غباره
وما للشمس أن تخفي سناها ... ولا للصبح أن يطوي مناره
منها:(15/679)
يحاول رزقه بنفاد رزقي ... وربّ جسارة عادت خساره
وإنّ من العجائب أنّ ناري ... موججة وتلذعني شراره
ومنه قوله: [الطويل]
نشدتك لا تأمن على مضمر الحشا ... مدامع شمل الستر فيها مبدّد «1»
وكلّ حديث يمكن السمع ردّه ... سوى مستفيض عن جوى القلب يسند
بكينا دما والقاصرات سوافر ... فلاحت خدود كلّهنّ مورّد «2»
516/وقد وقف الواشون من كلّ وجنة ... على محضر فيه المدامع تشهد
فجفن محبّ فيه جرح مضرّج ... كجفن حبيب فيه سيف مهنّد
وقوله: [الخفيف]
فارقونا وكلّ عين من الحر ... قة قلب وكلّ جفن وريد «3»
ومنه قوله: [البسيط]
قد أنكر الناس من دمعي ومن حرقي ... هوى تهادن فيه الماء والنّار «4»
غصن تنزه أن يجنى له ثمر ... من الوصال وهل للبان أثمار
ومنه قوله: [الكامل المرفل]
يجري الثناء له بسؤدده ... وأخو العنان أحقّ بالفرس «5»
والشكر عند المستحقّ له ... مثل الجنى في كفّ مغترس(15/680)
ومنه قوله: [البسيط]
وما يريب الغواني من ذوي كلف ... عفوا فعفوا طريق الطيّف بالسّهر «1»
أما ترى سنّة الأقمار مشرقة ... في لمّتي فبياض الليل للقمر
هبني تخلّصت جسمي من معذّبه ... فمن يخلّص قلبي من يدي نظري «2»
ويا نسيم الخزامى هبّ عن كثب ... لعلّ نشرك مطويّ على خبر «3»
واحذر لسان غرامي أن ينمّ به ... فإنّ سرّي من دمعي على خطر
منها في ذكر القصيدة:
إذا المقاصد عنّت سامعا أخذت ... على طريق إلى الأفهام مختصر «4»
خود يسرّك منها أنّها أبدا ... مقيمة وهي في الدنيا على سفر
وقوله: [الكامل]
أهوى الغصون وإنّما أضنى الصّبا ... شوق النسيم إلى القضيب المائد «5»
517/يمضي العزائم وهي غير قواطع ... ما السيف إلّا قوة في الساعد
وقوله: [الكامل]
وخوافق قد توّجت بأهلّة ... وعوامل قد نصبّت بكواكب «6»
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... دون الفريسة فهو عين الواثب(15/681)
ومنه قوله: [البسيط]
لئن علوت ملوك العصر مرتبة ... فمثل ما نلته تعلو بك الرّتبا «1»
لو لم يكن شرف الأفعال معتبرا ... كان القنا مثل باقي جنسه قصبا «2»
ومنه قوله: [الكامل]
إنّي لأغنى الناس عن عصبّة ... ما الحقّ مفتقر إلى متعصّب «3»
ومخاتل بالكيد يهتك شخصه ... وضح النهار فيحتمي بالغيهب
ما كان أبصرني بكفّ أذاته ... لو كنت أحسن رقية للعقرب
يأتّم في ليل الوغى بسنانه ... أرأيت شمسا تستنير بكوكب
ومنه قوله: [البسيط]
عجبت للصّعدة السمراء مثمرة ... برأسه إنّ إثمار القنا عجب «4»
سما عليها سمو الما لترهقه ... أنبوبة في صعود أصله صبب «5»
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها في نحره سرب «6»
لم يبق منهم سوى نبض بلا رمق ... كما التوى بعد رأس الحيّة الذّنب
ومنه قوله: [الطويل]
فلا تسألنّ الصبّ أين فؤاده ... فإنّ فؤاد المرء مع من يحبّه «7»(15/682)
غداة هوى شطرين للسيف رأسه ... وللرمح حتى توّج الرأس قلبه
518/عجبت لمنّان عليه بأنّه ... محبّ وهل في الناس إلّا محبّه
وقوله: [المتقارب]
وما كلف البدر ما قيل فيه ... ولكن رأى وجهها فانتقب «1»
وما خلّف الرّيق مثل الرحي ... ق لو لم يفتها اللّمى والشنب
ومنه قوله: [الرمل]
ومتى ما قيل ردّي قلبه ... قالت: القاتل أولى بالسّلب «2»
وقوله: [مجزوء الكامل]
منّيتني بتعلّة ... حبست فهاجت علّتي «3»
ووعدتني بطويلة ... تأتي فكانت ليلتي
وقوله: [المقتضب]
بأبي من في عمامته ... قمر في هالة القمر «4»
ومنهم:
47- أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي «5» .(15/683)
لو نازع البحر غصبه مغاصه، ولو نازل الفلك لأزال اعتياصه. هذا يستّل درّه، وهذا يستلب زهره، وهذا يفاضل مدّه، وهذا يناضل سعده، وكلاهما دون ذهنه يقف، ومن صوب خاطره يكف. له قصائد موشّحه بالسّخب «1» ذات بيوت تقصر عن مطاولتها السّهب، ولا تسكنها إلّا الكواعب الأتراب والخرّد العرب، إلا أنه كان رافضّيا خبيث اللسان، مهينا لأعراض الرجال، يسهل عليه الهوان. لا يسلم أحد من هجائه، ولا تظلم في الذّم مواقف هيجائه، وبينه وبين ابن القيسراني العداوة المذكورة آنفا فلا تحتاج واصفا.
وهجا الصحابة رضي الله عنهم، ونال- لا نول الله أمله- ما شاء منهم.
وكان أبوه ساقطا وضيعا يغنّي في الأسواق، ويتغنّى وما هزّته الأشواق، ونشأ ابنه على هذا في الميل إلى التنقّل والأسفار، معهم في كلّ سفرة يقنع فيها من الغنيمة بالقفل، ثم أخذ الأدب عن مشايخ/ 519/سوء رفّضوه بل أبعدوه عن مطاولة النظراء، ورفضوه.
وذكره الحافظ ابن عساكر «2» فقال: حدّث الخطيب السّديد أبو محمد عبد القادر بن عبد العزيز خطيب حماه قال: رأيت أبا الحسين ابن منير الشاعر في النّوم بعد موته وأنا على قرنة بستان مرتفعة فسألته عن حاله، وقلت له: اصعد إلى عندي. فقال: ما أقدر من رائحتي.
فقلت: تشرب الخمر؟ فقال: شرّا من الخمر يا خطيب. فقلت: ما هو. فقال: تدري ما(15/684)
جرى عليّ من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس؟ فقلت له: ما جرى عليك منها؟
فقال: لساني قد طال وثخن، وصار مدّ البصر، وكلّما قرأت قصيدة منها قد صارت كلّابا تتعلّق في لساني، وأبصرته حافيا عليه ثياب رثّة إلى غاية، وسمعت قارئا يقرأ من فوقه:
" لهم من فوقهم ظلل من النّار" الآية، ثم انتبهت مرعوبا.
وأمّا شعره فعقود مفصّلة الجمان، موصلة النداء إلى أغلى الأثمان. ومنه قوله: [الوافر]
على أكبادها كلّ ابن موت ... غذته دم القراح رحى طحون «1»
تخال بكوره إلفا تلوّى ... بها في مهرق البيداء نون
منها:
وألبسهم ثياب المكر حين ... فمّزقها بهنّ ظباك حين
إذا ما الفعل علّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاه أو سكون
ومنه قوله: [الخفيف]
تحت ظلّ من المنى أرج النّف ... حة تضفي عليك أمنا أمينا «2»
تتثنّى من الغصون قدودا ... وتميس القدود فيه غصونا
ولحون للطّير تحسب ما ... ثقّف بالنحو عندها ملحونا
520/ومنه قوله: [الكامل]
وكأنّما نسج الحيا من نوره ... حللا تفتّق تارة وتخاط «3»
نثرت به تنّيس نظم رقومها ... وحنت عليه طرازها دمياط «4»(15/685)
وقوله: [الكامل]
ما ضرّ من أمسى الفؤاد بأسره ... في أسره لو منّ بالإطلاق»
ساق إذا اشتجر الكؤوس تراه في ... سلب النفوس مشمّرا عن ساق
تكسو سوالفه السلّامة رونقا ... وتعيره شفتاه طيب مذاق
منها:
صرعى تضرّج بالدماء خدودهم ... فكأنّما ذبحوا من الآماق
أكلتهم الفلوات حتى أقبلوا ... يزجون أشباحا على أرماق
وشجا الفراق مطيّهم فعيونها ... تتلو حديث مصارع العشّاق
ومنه قوله: [الكامل]
وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحّلا «2»
كالبدر لمّا أن تضاءل جدّ في ... طلب الكمال فحازه متنقّلا
سفها لحلمك أن رضيت بمشرب ... رنق ورزق الله قد ملأ الملا
ساهمت عيسك مرّ عيشك قاعدا ... أفلا فليت بهنّ ناحية الفلا
فارق ترق كالسيف سلّ فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا
لا تحسبنّ ذهاب نفسك ميتة ... ما الموت إلّا أن تعيش مذلّلا
للقفر لا للفقر هبها إنّما ... مغناك ما أغناك أن تتوسّلا
لا ترض من دنياك ما أرضاك من ... دنس وكن طيفا جلا ثم انجلى «3»(15/686)
إن يحو شأوك فهو بخل سوابق ... ما زال آخرهم يفوت الأولا «1»
521/نسب كما انتسقت أنابيب القنا ... كسب العلاء صغيرها لمّا علا «2»
ومنه قوله: [الرمل]
في زمان صقلت أطرافه ... وتساوى الليل فيه والنهار «3»
شقّ جيب الترب عن نار شق ... يق طائر منها على الماء شرار
وانبرت غبراؤه عن زهره ... أشرقت فيها كما دبّ العذار
يأتي في وجه الربيع المجتلى ... وشموس الراح في الراح تدار
سافرات مسفرات فلها ... مشرق بين الندامى ومغار
لطفت فهي هواء وصفت ... فهي ماء واستطارت فهي نار
ومنه قوله: [البسيط]
أيام يقنص فيها كلّ مقتنص ... ألفّ تثقله أردافه هيفا «4»
زاه بلا مين من صدغيه بينهما ... نونان قد فّرعا من خصره ألفا
وقوله: [الكامل]
يا حبّذا عصر الشباب فإنّه ... ليل اضاء وحين أصبح أظلما «5»
بيض من الشّعرات سود زورها ... وجهي فساد مودّعا ومسلّما
يا أحسن اللّونين ليتك لم تكن ... يوما إلى ما ساء عيني سلّما(15/687)
منها:
ما كان يعرفني المفنّد فيهم ... إلّا كما عرف الدّيار توهّما
سفروا فهل وسموا الشفاه بأث ... مد الأجفان أم كحلوا النواظر باللّمى
ومنه قوله: [الوافر]
أيا بدر السماء حجبت عنّا ... فلم ينقص ضياؤك للتواري «1»
حبست فكنت كالسيف استكنّت ... مضارب حدّه وسناه واري
522/وهل صدأ علاك عليك عار ... إذا ما كنت بتّار الغرار
رقا الصدّيق يوسف بعد سجن ... سرير الملك من أيدي التجار
وأخفى الغار خير الخلق خوفا ... ومنه علا على الفلك المدار
ولو لم يخف وجه الشمس ليلا ... لفاتته الفضيلة في النّهار
ومن ظلم الدّنان السود يلقي ... على الكاسات أنوار العقار
ولولا الفجر في [] «2» جار ال ... كسوف على الحصى وعدا الدراري
هي الأيام تختصّ الأعالي ... وتختصّ الأسافل باخصرار
كذا الدولاب سافله غنيّ ... وأعلاه المحلّق ذو افتقار
ومنه قوله: [المنسرح]
أحلى الهوى ما تحلّه التّهم ... باح به العاشقون أو كتموا «3»
أغرى المحبين بالمحبة فال ... عذل كلام أسماؤه كلم
وليس يفضي بك الملام إلى ... تغيير حكم جرى به القلم «4»(15/688)
ومعرض صرّح الوشاة له ... فعلّموه قتلي وما علموا
سعوا بنا لا سعت بهم قدم ... فلا لنا أصلحوا ولا لهم
وقال ابن منير الطرابلسي «1» : [مخلع البسيط]
من ركّب البدر في صدر الرديني ... وموّه السّحر في حدّ اليماني «2»
وأنزل النيّر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
وقوله: [البسيط]
طرف رنا أم قراب سلّ صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطيّ «3»
وبرق غادية أم ضوء مبتسم ... يغترّ من خلل الصّدغ الدّجوجي
523/ويلاه من فارسيّ النحر مفترس ... بفاتر أسديّ الفتك ريميّ
يكنّ ناظره ما في كنانته ... فليس ينفكّ من إقصاد مرميّ
أذلّني بعد عزّ والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظبيّ الكناسيّ
ومنه قوله: [الرمل]
بين صدغيه إلى طرّته ... فلك دار على روض الملح «4»
صفّقت مقلته لي خمرة ... نقلها الوجنة والثغر القدح
بات يسقيها وأسقيه التي ... ريّضت أخلاقه لمّا جمح
كان كالشمس شماسا فمشت ... بيننا تعطفه حتى سمح
وقوله في محموم: [الكامل](15/689)
ومهفهف عبثت بروض جماله ... حمّى أذابت في ثراه خلوقا «1»
أمسى يهزّ عناقها من قدّه ... ريان من ماء الشباب وريقا
بينا تراه معصفرا لفراقها ... عكرت فبدّلت البهار شقيقا
ثمّ انثنت لوادعه فكأنّما ... ستر الجمان بوجنتيه عقيقا
وقوله في أبيات: [الخفيف]
فاعتراني مثل الحيا وجمعت ... ثيابي فحين أيقن عجزي «2»
صاح يا نصف سيبويه لقد أح ... رزت علم الإعراب في غير حرز
أنا خفض وأنت رفع وها ... أيرك نصب فلم تخففّ همزي
قد صحبت النحاة قبلك واستو ... عبت ما كان من معنى ولغز
وأراهم قد أدخلوا ألف الوصل ... على استي وأنت كالمشمئّز
524/قلت: هذاك للضرورة فاستض ... حك تيها وقال كالمتهزّي
فاحتسبها ضرورة واتبع القو ... م فقد بان فيك معنى التنزّي
ما مددت المقصور في باب عين ال ... فعل إلّا وأنت تطلب طعزي
فاجزم الآن سين جعسي وسكّن ... راء ناري وافتح به دال درزي
لا تهابنّ مرقعي ودواتي ... وفرائي المسنجبات وطرزي
أنا بيت نافى العروض فلا ... يشبه صدري لمن تأمّل عجزي
لي قلب عفّ ودبر طموح ال ... عين مغرى بكلّ جاسي المهزّ
فاخنق اليوم حلق أيرك في ... حلقة دبر ضنك المباءة كزّ
فتأدبت ثمّ سلّم أيري ... عند باب استه وليّنت وخزي(15/690)
وإذا مبعر عليه من الحشمة ... ما لم يكن لقصر المعزّ
جوسق مشرف وزلّاقة مل ... ساء مرصوفة بطين ومزّ
ورواق وبادهنج وسابا ... ط وكرم معرّش فوق نشز
فترى تقلّب الخصا في عناقي ... د بواسيره يهمّ بقفز
بات بيضي مكردنا منه في تنور ... نار يشويه شيّ الأوزّ «1»
ومنه قوله: [الرمل]
لا تخالوا خاله في خدّه ... قطرة من صبغ جفن نطفت «2»
تلك من نار فؤادي جذوة ... فيه شبّت وانطفت ثم طفت «3»
ومنهم:
48- أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي المعروف بحيص بيص «4» .
فقيه تبادى «5» وطوّل طرطوره «6» ، وحوّل أموره/ 525/وبرز في زيّ العرب في هيئة(15/691)
منكورة. وكان لا يمشي إلّا متقلّدا بسيف، ولا يمسي إلّا مترقّبا لضيف. حمل السيف إلّا أنّه ما أعمله، والرّمح أنّه ما زاد على أنّه اعتقله. وزعم أنّه من ولد أكثم بن صيفي «1» حكيم العرب، ويكتم من هوى البداوة أيّ أرب. تشبّه بأهل البادية «2» في الحاضرة، وتشبّث بأهداب الأسلاف الغابرة، وكان متمذهبا للإمام الشافعي رضي الله عنه، وتفقّه بالريّ على القاضي محمد بن عبد الكريم الوزان «3» ، وتكلّم في مسائل الخلاف، وتقدّم بشمائل آداب أرقّ من السلاف، وغلب عليه الأدب لتوفيره على مادّته، واستقامته في جادّته، فإنّه لم يبق إلّا طالب لإفادته، وسالب إجادة كلّ محسن لإجادته، وله رسائل فصيحة بليغة «4» إلّا أنّها ما أفرغت في قوالب حسن الصيغة؛ لأنه نحابها منحى القدماء(15/692)
فجاءت قاسية محكمة الصيغة إلا أنّها كالجبال الراسية. وذكره السمعاني «1» وأثنى عليه، وحدّث ببعض مسموعاته، وأخذ طرفا في الأدب من تنوعاته.
وكان الحيص بيص يحمّق، ويفتح فاه ويتشدّق، ويتقعّر في كلامه ويتعمّق، وكثر عبث الناس به «2» لغرابة أسلوبه، وغلاظة تركيبه، وكان ذا إعجاب يخيط ناظريه، وكبر يريه النجوم تحت مواطئ قدميه؛ لتيه يفرط به الإعظام، ويفرغ رأسه فيما يداس عليه بالأقدام وممّا نطلعه من شعره كواكب لا تأفل، وخمائل في البحر السحائب تكفل، قوله في صفة السحاب: [الكامل]
دان يكاد الوحش يكرع وسطه ... وتمسّه كفّ الوليد المرضع «3»
وقوله: [السريع]
يزيد في عزّ الفتى ذلّه ... حينا وإن كان له آبيا»
كسابق قصّر عن غاية ... فكان بالسوط لها حاويا
526/ومنه قوله: [البسيط]
الخرق يرهب لكنّ الأناة لها ... عند التأيّد أضعاف من الرّهب «5»
لا يأمن الدّهر بأس الجمر لامسه ... وقد يروح سليما لامس اللهب
وقوله: [الكامل المرفل](15/693)
شكوا أشمس أنت أم قمر ... ولفرط ذلك أشكل الأمر «1»
فانجاب ليل الشّك حين قضى ... ليل العذار بأنّك البدر
ومنه قوله: [الطويل]
هل المال إلّا خادم شهوة الفتى ... وهل شهوة إلّا لجلب المعاطب «2»
فلا تطلبن منه سوى سدّ خلّة ... فإن زاد شيئا فليكن للمواهب
منها:
أسود إذا شبّ الخميس ضرامه ... أسالوا نفوس الأسد فوق الثعالب «3»
منها:
وبي ظمأ لم أرض ناقع حرّه ... سواك فهل في الكأس فضل لشارب «4»
وقوله: [الطويل]
إذا ما أتاه مجرم وهو قادر ... توهّمته عن عفوه غير قادر «5»
وقوله: [الكامل]
شغلته عن وصف [الهوى] «6» ذكر العلى ... فنضا شعار الشاعر المتغزّل «7»
قضّى شبيبته بمجد مشيبه ... فإذا المشيب بدا له لم يوجل(15/694)
منها:
ووراء ليل الحظّ صبح سعادة ... فارغب بنفسك عن خليقة مهمل «1»
وقوله: [الطويل]
كررت عليه الحلم حتى تبدّلت ... جرائمه من خجلة بالمعاذر «2»
وقوله: [الطويل]
فبرد الصّبا عندي قشيب وهمّتي ... قناة وأيام الزمان أماميا «3»
خزائنهم أيدي العفاة لأنّهم ... رأوها على مرّ الزمان بواقيا
وقوله: [البسيط]
إن شاركوني في قول فلا عجب ... ما حال إبليس في التخليد كالخضر «4»
527/أنازع الملك الطاغي وسادته ... ويحجبون عن التسليم والنّظر
كأنّني باذل ما جئت أطلبه ... عند الملوك لفرط العزّ والخطر
منها:
من كلّ مشتمل بالذلّ مضطهد ... يرقّق العيش بين الذلّ والحصر
أضلّه نور فضلي عن مقاصده ... وربّما ضلّ ساري الليل بالقمر
منها:
لا تحسبوا شرس الأخلاق منقصة ... فمرّة الخمر أشهاها إلى البشر «5»(15/695)
كفى حسودي جهلا أنه رجل ... معاند لقضاء الله والقدر
منها:
لا شيء أقتل من حلم يمازجه ... تيه تشاوس في ألحاظ محتقر
يودّ منه سفيه الحيّ لو ضربت ... ليتاه في موضع الأهواء بالبتر
منها:
فكلّ ليل إلى صبح نهايته ... وإن تباعد أولاه عن السّحر
ومنه قوله: [السريع]
علوت عن تأثير قول الخنا ... فلست أخشى سفه الشاتم «1»
لو رجم النّجم بأيدي الورى ... لم تدمه قطّ يد الرّاجم
منها:
صيد ومن رائق أخلاقهم ... يشتبه المخدوم بالخادم
وقوله: [الخفيف]
إنّما الجود كالحياة ولكن ... يعتريها السّقام بالميعاد «2»
ومنه قوله: [الكامل]
لا تحسبي مزح الرّجال ظرافة ... إنّ المزاح هو السّباب الأصغر «3»
قد يحقر الملك المطاع ممازحا ... ويهاب سوقيّ الرجال الأوقر(15/696)
وقوله: [الطويل]
إذا ما استقاد العاديات إلى الوغى ... تلون بتصهال لنا سورة الفتح «1»
وقوله: [الطويل]
هجرت الهوى والعمر غضّ نباته ... فكيف وقد لاح المشيب بمفرقي «2»
528/منها:
وقافية سيّارة عطّ وخدها ... برود الملا ما بين غرب ومشرق
منها:
قشيب رداء العرض لكنّ ماله ... تمزّقه العافون كلّ ممزّق
وقوله: [الخفيف]
يغضل النّار في الحفيظة لكن ... عنده في الوداد لطف الماء «3»
ومنه قوله: [الكامل]
وأطيع حزمي قبل طاعة عزمتي ... والعزم منقصة إذا لم يحزم «4»
وأعاف إدراك الغنى بمذلّة ... وغنى الذليل عديد فقر المعدم
منها:
وعجبت من مثر إذا سئل النّدى ... لم يعطه ولقادر لم يحلم(15/697)
منها:
لبق الشمائل بالنعيم كأنّما ... أعطافه محفوفة بالأنجم
وقوله: [الطويل]
تنوّرت منه لمعة المجد يانعا ... فها رقت حتى طوّحت بالغياهب «1»
وقوله: [الطويل]
إذا استنّ في الجدوى وجدّ إلى اللّقا ... تمنّى مقاميه الحيا والمناصل «2»
ومنه قوله: [الطويل]
ومن كقريش في المعارك والنّدى ... يموت مناويها ويحيا فقيرها «3»
أبرّت معاليها على كلّ ما جد ... فأولها حاز العلى وأخيرها «4»
منها:
قواف تخطّت عرض كلّ تنوفة ... يشقّ على أيدي الركاب مسيرها «5»
ومن عجب تغشى البلاد قلائدي ... وتعرض عن زورائكم لا تزورها
منها:
وما الدّهر إلّا حلية مستعارة ... جدير بكسب الحمد من يستعيرها «6»
ومنه قوله: [الطويل](15/698)
لحى الله مجهود الفؤاد من الأذى ... إذا هو لم يستخلص العزم شافيا «1»
فما أحرز الآمال مثل مهاجر ... إليها وفات النّجح من بات ثاويا
529/عصيت إبائي إذ أطعت مطامعي ... ولو كنت شهما ما عصيت إبائيا
منها:
صموت يضيق النّطق عنه وباسم ... إذا اختبرت حالاته كان باكيا
ومنه قوله: [البسيط]
بين الإباء وبين الصّبر ملحمة ... وقد غدت بين جفن العين والوسن «2»
منها:
وقد يكون مقال المرء آونة ... عيّا ويحسب بعض الصمت من لسن «3»
منها:
يحار طرفي وقلبي حين أنظره ... ما بين إحسانه والمنظر الحسن
ومنه قوله: [الرمل]
ولقد أكتم همّي حازما ... وهو في القلب كأطراف الأسل «4»
منها:
فإذا ما غضب ساورني ... طلع الحبّ عليه فاضمحل(15/699)
وقوله: [الرمل]
لم يدرّجه إلى منصبه ... كسواه عمل بعد عمل «1»
إنّما منشؤه حجر العلى ... فخر الناس جنينا وفضل
وقوله: [الطويل]
ولا تأل جهدا في اصطفائي فإنّني ... نهوض بآداب الملوك كفيل»
فإن لم أكن قلت الذي فيك من علا ... فإنّي بعون الله سوف أقول
وقوله: [البسيط]
وما أطيق لما أوليت محمدة ... وكيف ينهض من محموله جبل «3»
ومنه قوله يكتب على مقرعة: [الكامل المرفل]
لم لا أتيه على الرّماح إذا ... فخرت وتحسدني الظّبا البتر «4»
وإليّ سوق الرّيح حاملة ... طودا أشمّ وقابضي بحر
وقوله: [الطويل]
إلام يراك المجد في زيّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر «5»
530/منها:
ولا خير في فضل تباعد عزّه ... ولو فاق أضواء النجوم الزواهر(15/700)
وقوله: [الكامل]
حثّ الكريم على النّدى وتقاضه ... بالوعد وابعثه على الإنجاز «1»
ودع الوثوق بطبعه فلطالما ... نشط الجواد بشوكة المهماز
ومنه قوله: [الوافر]
تبدّل موقف العزمات حزما ... وتختلف السجايا بالزمان «2»
وكنت أجيلها متمطّرات ... فها أنا لا أفرّط في العنان
وقوله: [الوافر]
وجوه لا يحمّرها عتاب ... جدير أن تصفّر بالصّفار «3»
فما دان اللئام لغير بأس ... ولا لان الحديد لغير نار
ومنه قوله: [السريع]
إن عزّ لقياك وماء النّدى ... هام فإنّي شاكر عاذر «4»
يسقي السحاب الجدب سحّا ولا ... يجتمع الممطور والماطر
وقوله: [السريع]
يلين في القول ويحنو على ... سامعه وهوله يعصم «5»
كشوكة العقرب في شكلها ... لها حنوّ وهي لا ترحم(15/701)
وقوله: [مجزوء الكامل]
فالحظّ قد غطّى مطالعه ... بخل الملوك وعزّة النّفس «1»
ولقد شكوت الأمس قبل غد ... وأتى غد فشكرت للأمس
وقوله: [الطويل]
إذا المرء لم يرزق مع الأيد همّة ... فلا شرف في الأيد منه ولا فخر «2»
ألم تر أنّ الباز يسمو لصيده ... عزيزا ويهوي نحو جيفته النّسر
ومنه قوله في قميص: [البسيط]
531/إذا اشتملت على شمس وبدر دجى ... يهدى به الرّكب أنّى وجهة سلكوا «3»
فمن دعاني قميصا بات يظلمني ... وإنّما أنا لو أنصفتم فلك
وقوله: [الطويل]
عجزت ومالي حيلة في هواكم ... سوى أنّني أزداد وجدا مع الصدّ «4»
ولو أنّني جاهدت نفسي فيكم ... سلوت ولكن لا جهاد على العبد
ومنه قوله: [البسيط]
زار الخيال بخيلا مثل مرسله ... فما شفاني منه الضمّ والقبل «5»
ما زارني قط إلا كي يواقفني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل(15/702)
وأجيز: [البسيط]
وما درى أنّ نومي حيلة نصبت ... لو صله حين أعيا اليقظة الحيل «1»
وقوله: [مجزوء الكامل]
باغي الصّلاح تقال عثرته ... وسواه لا يعفى من الزلّل «2»
قتل الطّبيب فلم يقد بدم ... والثأر مطلوب من البطل
وقوله: [البسيط]
العزّ والنّشب المجموع بينهما ... تباين ولو انّ المرء سلطان «3»
فجرّد النّفس نحو العزّ أجمعه ... لا يرهب السيف إلّا وهو عريان
ومنهم:
49- الشريف أبو يعلى، محمد بن صالح الهاشمي المعروف بابن الهبّارية «4» .(15/703)
هو شريف وضيع، وسخيف إلّا أنّه غير صنيع، من بيت هاشميّ حطّ بسوء الصّنع سمكه الرّفيع، وحلّ بهذر القول سمطه الجميع. تطبّع بطباع ابن الحجاج، وقاسمه شرب الأدب إلّا أنّ ذاك عذب فرات، وهذا ملح أجاج إلّا بعض تندير في أبيات جاءت قلائل كأنّما قدّرها بتقدير، وسائر ماله من النوادر فاتر لا بالسّخن ولا بالبارد، ولا يضحك بالناقص ولا [بالزائد] «1» . راود عقائل «2» ابن/ 532/الحجاج فتمنّعت، وراوغ عقائم معانيه «3» المسفرة فتبرقعت، فقصّر دون غايته، وجهد به شيطانه وما قدر على مثل غوايته وحاكى ذلك الثغر ففاته الشّنب، وتعلّق بذلك الثاوي فانقطع به السبب.
وكان من شعراء الوزير نظام الملك المبالغ في مديحه، ثمّ أنّه ما خلا من تقبيحه، وهجاه بشعر لم يعلق به وضر قبيحه، ولا ضرر نبيحه.
وله على نمط كتاب كليلة ودمنة «4» ما قيدّت به أمثاله الشوارد، وأشباهه الفرائد وأنظاره إلّا أنّها النجوم الماثلة في الظلام الراكد.
ومن كلماته العذاب، ومعلماته المطرّزة تطريز الشارب المخضّر فوق شهد اللمى المذاب، قوله: [مجزوء الكامل]
إن كان قدّك مثل شب ... ري إنّ بظرك مثل باعي
أو هل يعيب البد ... ر طول مسيره تحت الشعاع(15/704)
ما حطّ فقري سؤددي ... عن قدر مجدي وارتفاعي
إيّاك تحقرني فلي ... س تكال معرفتي بصاع
فالجسم بيت والرجو ... ع إلى الخلائق والطباع
وقوله: [السريع]
من كلّ تيس خرق بارد ... ثيابه غمد بلا نصل «1»
والطّرف بالعين يجوز المدى ... في السير لا بالسرج والجلّ
ما صغت فيك المدح لكننّي ... من حسن أوصافك أستملي
تملى سجاياك على خاطري ... فها أنا أكتب ما تملي
ومنه قوله: [الطويل]
فللسرم صيغ الأير لا شكّ أنّه ... له وعليه والمثال مقدّر
أما السرم في التحقيق باب مقوّر ... كما الأير في التقدير ساق مدوّر
533/فهذا لهذا لا محالة قدّه ... على قدره أو إن شككتم فقدّروا
فأمّا الحر الملعون فهو مطاول ... يريد طبرزينا وفيه نعذّر
ومنه قوله: [السريع]
يا حبّذا الصهباء لو لم يكن ... تمنعني من ذلك الأمر
فيغتدي أيري على بيضه ... كالفرخ لم ينهض من الوكر
كأنّه من حزنه ثاكل ... منكّس الرأس على الصدر
ومنه قوله: [السريع]
باتت فما زلت على ظهرها ... تمصّ غرمولي وتستقصي(15/705)
رفعت رجليها إلى أن غدا ... خلخالها أعلى من الخرص
وقلت: دوري فأطاعت كما ... أمرتها طرفا ولم تعص
ما رابني منها سوى شعرة ... كأنّها العوسج في الخصّ
وقوله: [المنسرح]
وكلّ بظراء حمراء فرق ... كعرف ديك أفرق أشهب
ومنه قوله: [الخفيف]
وطباع الأشكال توجب لل ... أشكال جمعا مؤلّفا واقترابا
وعيوب الرجال تجمعها قربى ... إلى أن يظنّها أنسابا
فلذاك البازي يطير مع ال ... بازي وينأى عن الغراب اجتنابا
وكذا البوم يصحب البوم طبعا ... والغراب الخبيث يهوى الغرابا
والتيوس الكبار لا تترك ال ... أخلاق حين تعاين القصّابا
قديما سكتّ عن أذاه احتقارا ... وسكوت الأسود يغري الكلابا
534/منها يصف شعره:
وهو عذب لو ذاقه الكمد ال ... عاشق لم يرشف الثنايا العذابا
رقّ في قوّة فلولا معانيه ... التي تبهر العقول لذابا
مطمع مؤيس قريب بعيد ... لو تراءى شخصا لكان سرابا
وافتراق الأخلاق لا تجمع ال ... ضدّين إنّما تشاكلا ألقابا
ومنه قوله: [مجزوء الرجز]
أفصح دمعي بالهوى ... فصار سرّي علنا
فلست أدري خلق ... ت مدامعا وألسنا(15/706)
وقوله: [الوافر]
لئن حذفتني الأيام فيهن فما ... بي مع خمولي من خفاء
وإنّي مع تعمّدهم خمولي ... ألوح كأنّني حرف النداء
وقوله: [مجزوء الرجز]
حتى كأنّ ما نظم ... ت فيه كان كذبا
نخل أذاني شوكه ... وما جنيت منه رطبا
ومنه قوله: [البسيط]
قل للوزير ولا تخدعك هيبته ... إذا تتايه واستعلى بمنصبه «1»
لولا فلانة ما استوزرت ثانية ... فاشكر حرا صرت مولانا الوزير به
وقوله: [الكامل المرفل]
وإذا نسيبك غلّ ساعده ... يوما فليس بنافع نسبه
خذ من صديقك غير متعبه ... إنّ الجواد يؤوده تعبه
وقوله: [الكامل]
أرسلن من أقرانهنّ أفاعيا ... وبعثن من أصداغهنّ عقاربا
وهززن من أعطافهنّ ذوابلا ... وسللن من ألحاظهنّ قواضبا
535/ونصبن من ألفاظهنّ حبائلا ... وجعلن أشراك القلوب ذوائبا
جعلوا السهام الصائبات لواحظا ... تصمي الرمايا والقسيّ حواجبا
[] «2» من خوص الركاب بأمرد ... من يافث فغدوت أحبو راكبا(15/707)
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
حالت علائقه وغا ... بت أنجمي معه وغارت
صاد المودّة ثم قا ... ل ملالة طيري فطارت
وقوله: [السريع]
سبحان من حّول أحوالنا ... فأصبحت تعلو إلى تحت
صيرّنا الله قرودا ولم ... نكن من العادين في السبت
ومنه قوله: [الوافر]
يدلّ على فعالك سوء حالي ... وتخبر عن نوالك إن كتمت
إذا استخبرت ماذا نلت منه ... وقد عمّ الوفود ندى سكتّ
وها أنا ساكت فإن اصطلحنا ... وإلّا خانني صبري وقلت
ومنه قوله: [السريع]
وأبرزته لعيون الورى ... من سرمها بالطّوق والتاج
ولم يزل ليلته قائما ... كأنّه إصبع محتاج
وقوله: [المتقارب]
لقد ساهرتني عيون الدّجى ... وقد نمن عنّي عيون الملاح
إذا ما شكا الليل هجر الصباح ... شكوت إلى الليل هجر الصباح
وقوله: [المتقارب]
وكان كتوما لسرّ الهوى ... ولكن جرى دمعه فافتضح
يحبّ الفقاح ويهوى الملاح ... ويقدح زند الهوى بالقدح(15/708)
536/يطيع الغرام ويعصي الملام ... ويأخذ من وقته ما سنح
ومنه قوله وقد عزل ابن جهير وولّي أبو شجاع: [الكامل]
وكذا سرار البدر أصل كماله ... وبسوء فعل النار يذكى العود «1»
إنّ الخليفة في التبدّل منهم ... بأبي شجاع والزمان جدود
كالعاشق المهجور يقنع أن يرى ... طيف الحبيب إذا ثناه صدود
والحائم الصّديان يخدع رأيه ... آل الهجير وللهجير وقود
وكذلك الساري إذا ما لم يكن ... بدر هداه الفرقد المعهود
جهدوا وفاز سواهم بمكانهم ... ومن الكلام جواهر وعقود
إن نال دستك بعد بعدك هيكل ... جعد الأنامل في الأمور بليد
فكذا سليمان النبيّ غدا على ... كرسيّه جسدا له مرّيد
حتى إذا حطّ اليقين لثامه ... عادت سيوف العلج وهي قيود
ومنه قوله: [الطويل]
إلى رجل لو أنّ بعض ذكائه ... على كلّ مولود تكلّم في المهد «2»
فلولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكنّ الندى مانع الوقد
وقوله: [الوافر]
فإن تك ليّنا في غير ضعف ... فإنّ الموت في لين الصّعاد
وإن تك مضمرا في الحلم بطشا ... فإنّ النار تكمن في الزناد
ومنه قوله: [الخفيف]
وبوجه كالبدر حسنا وبعدا ... حار فيه ماء الصّبا وتردّد(15/709)
وبصدغ مبلبل مثل قلبي ... فوق خدّ كالجلّنار مورّد
537/مشرق كالصباح أبيض يبدو ... تحت قطع من حندس الليل أسود
وبخصر مثلي نحيف ضعيف ... كاد من لينه يحلّ ويعقد
ومنه قوله: [السريع]
أخضر هنديّ لمى كلّه ... والصارم الهنديّ ذو خضره «1»
مهفهف الأعطاف ممشوقها ... مبلبل الأصداغ والطرّه
بفقحة كالتلّ مرتجة ... وتينة أحلى من التمره
وقوله: [مجزوء الكامل]
في ليلة فلك الصّباح على ... دجاها غير دائر
أعيت كواكبها فشب ... بهت الثوائر بالسوائر
ثمّ انثنت والصبح مح ... مرّ المآقي والنواظر
فكأنّه غيران أو احفظه ... وصالك يا تماضر
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
قد قلت للشيخ الأجلّ ... أخي السماح أبي المظّفر «2»
ذكّر معين الدين بي ... قال: المؤنّث لا يذكّر
وقوله: [السريع]
لو أنّ نور الشمس في كفّه ... من بخله لم تطلع الشمس «3»
يبني وينقض ما يشيّده ... فكأنّه متبخّر يفسو(15/710)
ومنه قوله: [مجزوء الرجز]
كأنّ برق ثغره ال ... واضح سيف مخترط «1»
كأنّ درّ ثغره ... عقد لآل في سفط
كأنّه إذ نكته ... ثوب من الوجد يقط
وقوله: [البسيط]
أستغفر الله من ظنّ أثمت به ... أحسنته في امرئ في ذا الورى غلطا «2»
538/ندمت بل تبت من ظنّ يقاربه ... كالدّبر ضمّ حياء بعدما ضرطا
ومنه قوله: [الوافر]
وما أدري إذا أولجت فيه ... أفتّقه بذلك أم أخيط
فأيري إبرتي أرفو حشاه ... وشعرة عانتي فيها خيوط
وقوله: [الوافر]
وشدّ الليل من درر الثريا ... على ليت السّها في الغرب شنفا»
كأنّ الجوّ صرح أو غدير ... صفاء حين تنظره ولطفا
كأنّ ذراعه فيه ذراع ... يمدّ إلى صفاح البدر كفّا
ومصباح الضّحى قد كاد يبدو ... ومصباح الدّجى قد كاد يطفا
كأنّ ذكا عروس في حجاب ... يشيل ستورها سجفا فسجفا
وقد أكل المحاق البدر حتى ... غدا في معصم الجوزاء وقفا
وقد رقّ المدام وراق حتى ... غدا من دمعة المهجور أصفى(15/711)
ومنه قوله في تاج الملوك وقد خرج من محبسه: [الرجز]
فكان في بحر الخطوب عائما ... لا يختشي كالدرّ لا يخشى الغرق «1»
كأنّه الدينار في النار إذا ... زادت لظى زاد صفاء وبرق
والعود بالإحراق يبدو عرفه ... والمسك أذكى عبقا إذا انسحق
ما كان حبسا ذاك بل صيانة ... والصّون للشيء النفيس مستحق
أمنكر صون الضلوع القلب أم ... مستبدع صون الجفون للحدق
لولا سرار البدر ما تمّ فهل ... يؤيس من تمامه إذا امتحق
وقد يصان السيف بالغمد وقد ... يغيب علويّ النجوم في الشّفق
539/كالكوكب العلويّ لا يضرّه ... حوادث الجوّ وإن قيل اخترق
وقوله: [الكامل]
كم سفرة نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتسب الحريص ويخفق «2»
كالبدر يكتسب الكمال يسيره ... وبه إذا حرم السّعادة يمحق
وقوله: [مجزوء الكامل]
وجهي يرقّ عن السؤا ... ل وحالتي منه أرقّ «3»
دقّت معاني الفضل فيّ ... وحرفتي منها أدقّ
وقوله: [السريع]
واصبر على وحشة غلماج ... لا بدّ للورد من الشّوك «4»(15/712)
ومنه قوله: [المنسرح]
مصارع العاشقين أكثر ما ... تكون بين العذار والكفل
منها:
فإنّه من عطارد أخذ الظّر ... ف وخلّى النسا على زحل
ما كان ظنّي قبل رؤيته ... أنّي أرى النيّرين في رجل
لو لم يكن في اللواط منقبة ... إلّا أماني فيه من الحبل
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
حلو الشمائل ساحر ال ... ألفاظ يصلح للعمل
في خدّه ماء الشبا ... ب كأنّه ماء المقل
فإذا نظرت إليه ... أنبت خدّه ورد الخجل
ومنه قوله، وهو معنى كررّه، وأعجب به فأكثره: [الكامل المرفل]
ومقابر العشاق أكثر ما ... يحفرن بين الخصر والكفل
وقوله: [مجزوء الرجز]
دعوه ما شاء فعل ... سيّان صدّ أو وصل «1»
فكم رأيت في الهوى ... أسود من ذا ونصل
ومنه قوله: [الكامل]
ومقاطع الندمان فوق معاطف ال ... أغصان فوق معاقد الكثبان
540/وتراسل الأطيار فوق سلاسل ال ... أزهار بين ترقرق الغدران(15/713)
ويشوقني برد الثغور وأشتهي ... ورد الخدود ونرجس الأجفان
ومنه قوله: [الكامل]
بي مثل ما بك يا حمام البان ... أنا بالقدود وأنت بالأغصان «1»
أعد الترنّم كيف شئت فإنّما ... فيما نجنّ من الهوى سيّان
لي ما رويت من النسيب وإنّما ... لك فيه حقّ الشدو والألحان
ومنه قوله: [الكامل]
لا يزهدنّك منظري في مخبري ... فالبحر ملح مياهه عقيانه
ليس القدود ولا البرود فضيلة ... ما المرء إلّا قلبه ولسانه
وقوله: [المجتث]
سيّدنا لا ينيك حتى ... يناك نيكا له حلاوه
كالفأس لا يستمرّ قطعا ... إلّا وفي ثقبها هراوه
ومنه قوله: [الوافر]
وما تركت لي الستون أيرا ... ولكن فيّ من شبقي بقايا
ويعجبني على شيبي وفقهي ... فقاح الترك تلمع كالمرايا
وقوله: [الكامل]
وإذا البيادق في الدّسوت تفرزنت ... فالرأي أن تتبيذق الفرزان «2»(15/714)
نجز السفر الخامس عشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ولله الحمد والمنّة ويتلوه في السفر السادس عشر ومنهم الأديب أبو محمد الحسن بن أحمد بن حكينا البغدادي 541/والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(15/715)
مصادر التحقيق ومراجعه(15/717)
مصادر التحقيق ومراجعه 1- ابن القيسراني. حياته وشعره. فاروق جرّار. عمّان. الأردن. سنة 1974.
2- ابن وكيع التنيّسي، شاعر الزهر والخمر. د. حسين نصّار. مكتبة مصر. القاهرة. سنة 1953.
3- أمالي المرتضى. غرر الفرائد ودرر القلائد. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الكتاب العربي. الطبعة الثانية. بيروت. لبنان. سنة 1967.
4- الإمتاع والمؤانسة. أبو حيان التوحيدي. صحّحه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. طبعة مصوّرة عنها في المكتبة العصرية. بيروت. صيدا. بلا تاريخ.
5- الأمكنة والجبال والمياه. الزمخشري. تحقيق د. إبراهيم السامرائي. دار عمّار. الأردن.
سنة 1999.
6- البداية والنهاية. ابن كثير الدمشقي. ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي. القاهرة.
الطبعة الثانية. سنة 1387 هـ.
7- تاريخ الأدب العربي. د. عمر فروخ. دار العلم للملايين. بيروت. لبنان. الطبعة الرابعة.
سنة 1984.
8- تاريخ الأدب العربي. كارل بروكلمان. نقله إلى العربية الدكتور السيد يعقوب بكر والدكتور رمضان عبد التواب. دار المعارف بمصر. القاهرة. الطبعة الثالثة. سنة 1983.
9- تاريخ بغداد. الخطيب البغدادي. الناشر دار الكتاب العربي. بيروت. لبنان. بلا تاريخ.
10- تعريف القدماء بأبي العلاء. أشرف عليه الدكتور طه حسين. نسخة مصوّرة عن(15/719)
طبعة دار الكتب المصرية سنة 1944. الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. سنة 1965.
11- ثلاثمائة وخمسون مصدرا لدراسة أبي العلاء. يوسف أسعد داغر. بيروت. سنة 1944.
12- الجامع في أخبار أبي العلاء المعري وآثاره. محمد سليم الجندي. المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1962.
13- جمهرة الأمثال. أبو هلال العسكري. حقّقه وعلّق حواشيه ووضع فهارسه محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش. المؤسسة العربية الحديثة. القاهرة. الطبعة الأولى سنة 1964.
14- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. القسم العراقي. حقّقه محمد بهجت الأثري والدكتور جميل سعيد. مطبعة المجمع العلمي العراقي. سنة 1955.
15- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. قسم شعراء الشام. عني بتحقيقه د. شكري فيصل. مطبوعات المجمع العلمي بدمشق. سنة 1959.
16- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. في ذكر فضلاء خراسان وهراة.
تقديم وتحقيق د. عدنان محمد آل طعمة. طهران، الطبعة الأولى. سنة 1999.
17- الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة. حمزه الأصبهاني. حقّقه وقدّم له ووضع حواشيه وفهارسه عبد المجيد قطامش. دار المعارف بمصر. القاهرة. سنة 1971.
18- دمية القصر وعصرة أهل العصر. الباخرزي. تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو. دار الفكر العربي. القاهرة. سنة 1968.
19- ديوان ابن أبي حصينة. سمعه وشرحه أبو العلاء المعري. حقّقه محمد أسعد طلس مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1956.(15/720)
20- ديوان ابن حيّوس. عني بنشره وتحقيقه خليل مردم بك. دار صادر. بيروت. سنة 1984.
21- ديوان ابن الخياط. عني بتحقيقه خليل مردم بك. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. المطبعة الهاشمية. سنة 1958.
22- ديوان ابن منير الطرابلسي. جمعه وقدّم له د. عمر عبد السلام تدمري. دار الجيل.
بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1986.
23- ديوان ابن نباتة السعدي. دراسة وتحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي. منشورات وزارة الإعلام الجمهورية العراقية. سنة 1977.
24- ديوان ابن وكيع التنيّسي. حقّقه وصنع تتمّته هلال ناجي. دار الجيل. بيروت.
الطبعة الأولى. سنة 1991.
25- ديوان أبي الطيب المتنبي. المنسوب وهما إلى أبي البقاء العكبري وهو لابن عدلان الموصلي. ضبط نصّه وصححّه د. كمال طالب. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان.
الطبعة الأولى. سنة 1997.
26- ديوان الأبيوردي. تحقيق د. عمر الأسعد. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الثانية.
سنة 1987.
27- ديوان الأرّجاني. تقديم وضبط وشرح قدري مايو. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى.
سنة 1998.
28- ديوان الأمير شهاب الدين أبي الفوارس المعروف ب حيص بيص. حقّقه مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر. منشورات وزارة الإعلام. الجمهورية العراقية. سنة 1974.
29- ديوان الخالديّين. جمعه وحقّقه الدكتور سامي الدهان. مطبوعات مجمع اللغة(15/721)
العربية بدمشق. سنة 1969.
30- ديوان السري الرفاء. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1991.
31- ديوان السري الرفاء. تقديم وشرح كرم البستاني. مراجعة ناهد جعفر. دار صادر.
بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1996.
32- ديوان الصادح والباغم. ابن الهبّارية. نشره وشرح ألفاظه وترجم للمؤلف عزّت العطار. القاهرة. سنة 1355 للهجرة.
33- ديوان مهيار الديلمي. مطبعة دار الكتب المصرية. القاهرة. سنة 25- 1930.
34- ديوان الوأواء الدمشقي. عني بنشره وتحقيقه ووضع فهارسه سامي الدهان.
مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1950، طبعة مصوّرة عنها بدار صادر، بيروت. سنة 1993.
35- رسائل أبي العلاء المعري. تحقيق د. عبد الكريم خليفة. منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر. عمّان. الأردن. سنة 1976.
36- الرسالة الموضحة. الحاتمي. تحقيق د. محمد يوسف نجم. دار صادر. بيروت. سنة 1965.
37- سير أعلام النبلاء. الذهبي. حقّقه وخرّج أحاديثه شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1983.
38- شاعرية أبي العلاء في نظر القدامى. محمد مصطفى بالحاج. الدار العربية للكتاب.
ليبيا. تونس. سنة 1976.
39- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. ابن العماد الحنبلي. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت بلا تاريخ.(15/722)
40- شروح سقط الزند. أبو العلاء المعري. تحقيق الأساتذة مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وعبد السلام هارون، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية المطبوعة سنة 1945. الدار القومية للطباعة والنشر.
القاهرة. سنة 1964.
41- شعر ابن القيسراني. جمع وتحقيق ودراسة د. عادل جابر صالح محمد. الوكالة العربية للتوزيع. الزرقاء. الأردن. الطبعة الأولى. سنة 1991.
42- شعر ابن منير الطرابلسي. جمعه وحقّقه وقدّم له د. سعود محمود عبد الجابر. دار القلم. الكويت. الطبعة الأولى. سنة 1982.
43- شعر الخبّاز البلدي. جمع وتحقيق صبيح رديف. مطبعة الجامعة. بغداد. سنة 1973. الطبعة الأولى.
44- شعر السري الرفاء في ضوء المقاييس البلاغية والنقدية. د. المحمدي عبد العزيز الحناوي. دار الطباعة المحمدية. القاهرة. الطبعة الأولى. سنة 1985.
45- شعر السلامي. جمع وتحقيق صبيح رديف مطبعة الإيمان. بغداد. سنة 1971.
46- صدى الغزو الصليبي في شعر ابن القيسراني. د. محمود إبراهيم. دار البشير.
عمّان. سنة 1988.
47- عصر الدول والإمارات. د. شوقي ضيف. دار المعارف بمصر.
48- فضل العرب والتنبيه على علومها. ابن قتيبة الدينوري. تقديم وتحقيق د. وليد محمود خالص. مطبوعات المجمع الثقافي. أبو ظبي. الطبعة الأولى. سنة 1998.
49- فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين. د. مصطفى الشكعة. بيروت. لبنان.
50- فوات الوفيات. محمد بن شاكر الكتبي. تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار(15/723)
صادر. بيروت. سنة 1973.
51- كشاف مصادر دراسة أبي العلاء المعري. مصطفى صالح. دمشق. سنة 1978.
52- المحبّ والمحبوب والمشموم والمشروب. السري الرفّاء. تحقيق مصباح غلا ونجي.
مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. بلا تاريخ.
53- المصايد والمطارد. كشاجم. تحقيق محمد أسعد طلس. بغداد. سنة 1954.
54- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص. عبد الرحيم العباسي. حقّقه وعلّق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب. بيروت، طبعة مصورة عن طبعة 1947.
55- معجم الأدباء. ياقوت الحموي. مطبوعات دار المأمون. طبعة الدكتور أحمد فريد رفاعي. مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركاه. القاهرة. سنة 1936.
56- معجم المصطلحات البلاغية وتطورها. د. أحمد مطلوب. مطبوعات المجمع العلمي العراقي.
57- من غاب عنه المطرب. الثعالبي. تحقيق. د. يونس أحمد السامرائي. عالم الكتب.
مكتبة النهضة العربية. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1987.
58- الموشح. المرزباني. تحقيق علي محمد البجاوي. دار نهضة مصر. القاهرة. سنة 1965.
59- مهيار الديلمي. حياته وشعره. د. عصام عبد علي. منشورات وزارة الإعلام.
الجمهورية العراقية. سنة 1976.
60- النثر الفني في القرن الرابع. زكي مبارك. المطبعة التجارية الكبرى. القاهرة.
الطبعة الثانية. بلا تاريخ.(15/724)
61- الوافي بالوفيات. الصفدي. باعتناء هلموت ريتر. دار النشر فرانز شتاينر بفسبادن سنة 1962.
62- وفيات الأعيان. ابن خلكان. حقّقه د. إحسان عباس. دار صادر. بيروت. سنة 1977.
63- يتيمة الدهر. الثعالبي. شرح وتحقيق مفيد محمد قميحة. دار الكتب العلمية.
بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. سنة 1983.(15/725)
فهرس الموضوعات
* مقدمة التحقيق 5
1- أبو الطيب أحمد بن الحسين (المتنبي) 17
2- السري بن أحمد الكندي (الرفاء الموصلي) 147
3- أبو الفتح (كشاجم) 197
4- أبو الفرج محمد أحمد الغساني (الوأواء الدمشقي) 227
5- الأخوان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد 246
6- أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي 275
7- أبو الحسن محمد بن عبيد الله (السلامي) 277
8- أبو سعيد محمد بن محمد بن الحسن الرستمي 294
9- أبو محمد، الحسن بن علي بن مطران 296
10- أبو الفتح البكتمري (ابن الشامي الكاتب) 297
11- أبو محمد عبد الله بن محمد بن الفياض 299
12- أبو طاهر سيدوك بن حبيب الواسطي 301
13- أبو الحسن علي بن الحسن اللحام 303
14- أبو العلاء السروي 304
15- أبو بكر محمد بن أحمد (الخباز البلدي) 306
16- أبو القاسم عبد الصمد بن بابك 310(15/727)
17- القاضي التنوخي، أبو القاسم علي بن محمد 330
18- المحسن بن علي التنوخي 337
19- القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني 338
20- أبو طالب، عبد السلام بن الحسين المأموني 348
21- الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير 353
22- الأمير أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي 354
23- أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع التنيس 361
24- أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن الحجاج 366
25- القاضي أبو أحمد، منصور بن محمد الأزدي الهروي 397
26- أبو بكر علي بن الحسن البلخي القهستاني 400
27- مهيار بن مرزويه الديلمي 402
28- أبو العلاء بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري 430
29- أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان 472
30- أبو الحسن، علي بن الدويدة المعري 473
31- السابق أبو اليمن ابن أبي مهزول المعري 474
32- الوامق المعري 475
33- الأمير أبو الفتح (الحسن بن عبد الله بن أحمد) 476
34- الأمير أبو الفتيان مصطفى الدولة محمد بن حيوس 502(15/728)
35- عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي 515
36- الوزير أبو نصر أحمد بن يوسف المنازي السليكي 532
37- الماهر الحلبي 538
38- أبو عبد الله بن السراج الصوري 540
39- أبو عبد الله، أحمد الخياط الدمشقي 541
40- أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي 553
41- الوزير شرف الدين، أبو الحسن علي بن الحسن بن علي البيهقي 564
42- سعد بن علي الحظيري الكتبي 566
43- القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني 573
44- الأديب أبو إسحاق، إبراهيم بن عثمان الكلبي 608
45- أفضل الدولة، أبو المظفر، محمد بن أبي العباس أحمد الأبيوردي 638
46- أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني 665
47- أبو الحسن أحمد بن منير الطرابلسي 683
48- أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد (حيص بيص) 691
49- الشريف أبو يعلي، محمد بن صالح الهاشمي المعروف بابن الهبارية 703
* مصادر التحقيق ومراجعه 719(15/729)
تم بحمد الله(15/730)
الجزء السادس عشر
[شعراء العصر العباسى الثانى]
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار(16/3)
تقديم (1)
هذا هو السّفر السّادس عشر من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري، وقد اشتمل على (69) تسع وستين ترجمة لشعراء الجانب الشرقي، كما اصطلح عليهم، بدأهم بالشاعر حكّينا البغدادي، المتوفى سنة 528 هـ، وختمهم بمعاصره الشاعر عمر بن الوردي. أي أن هذا السّفر اشتمل على تراجم شعراء أواخر العصر العباسي.
وقد تفاوت الشعراء الذين عرض لهم العمري في سفره هذا. فمنهم المقدم المشهور المعروف منذ عصره إلى يومنا هذا بديوانه وسيرته، كأسامة بن منقذ، وسبط بن التعاويذي، وعمارة اليمني، وابن عنين، وفتيان الشاغوري، وصفي الدين الحلي، وعمر بن الوردي. ومنهم المغمور الذي لا يعرف شاعرا، لكن العمري درجه ضمن الشعراء كآل منقذ الذين ذكر كثيرا منهم، وهم وإن كان لهم شأن اجتماعي أو سياسي في زمنهم، إلا أنهم أبعد ما يكونون عن الشعر.
وقد كان كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» للعماد الأصفهاني بأقسامه الثلاثة: العراق، والشام، وفارس، المصدر الأول الذي عوّل عليه المؤلف في تراجمه. يضاف إليه دواوين الشعراء المتأخرين الذين عاصروا العمري، وتأخروا عن صاحب اليتيمة، كصفي الدين الحلي وعمر بن الوردي.
ولا شك في أن التراجم التي اشتمل عليها هذا السفر، والاختيارات الشعرية التي جاءت تالية لهذه التراجم تعطي صورة واضحة لعصرها الذي قيلت فيه.
وهي صورة دللت من جديد على أنه عصر أقرب للضعف منه للقوة؟ وأن شعراءه كانوا صدى خافتا مبهما لمن سبقوهم من شعراء العصر العباسي الأول. وإن نشر شعرهم أدخل في باب التاريخ منه في باب الفن.(16/5)
(2)
جاء منهجي في التحقيق معتمدا على النسخة المخطوطة الوحيدة التي بين يدي، وقد عنيت بقراءتها غير مرة، وآمل أن أكون قد وفقت في هذه القراءة لأصل إلى تقديم النص كما أراده مؤلف الكتاب.
وأحلت غير سير الشعراء وشعرهم كما يلي:
- إذا كان للشاعر ديوان شعر منشور اعتمدت على الديوان حسب، سيرة وشعرا.
- إذا لم يكن للشاعر ديوان شعر أحلت على أقدم المصادر وأوفاها بمصدر أو اثنين.
- جعلت لكل شاعر رقما، وأثبت اسمه تحت رقم، بوصفه عنوانا للترجمة.
- الشروح والتعليقات كانت محدودة جدا لأن طبيعة الشعر لا تتطلب ذلك.
- ذيلت السفر بقائمة للمصادر والمراجع.
- ختمت السفر بالمحتوى، وهو أسماء الشعراء وأرقام تراجمهم في الكتاب.
- ألحقت بالتقديم أربع صفحات: اثنتان للعنوان والصفحة الأولى من السفر. واثنتان للصفحتين الأخيرتين من السفر.
وبالله التوفيق.
محمد إبراهيم حوّر
عمّان في: أول رجب 1422 هـ
الموافق 17 أيلول (سبتمبر) 2001 م(16/6)
صورة الغلاف(16/7)
صورة الصفحة الأولى(16/8)
صورة الصفحة الثانية(16/9)
صورة الصفحة قبل الأخيرة(16/10)
صورة الصفحة الأخيرة(16/11)
ومنهم:
1- الأديب أبو محمد الحسن بن أحمد حكّينا البغداديّ «3»
(2) بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله شاعر تتبّع من القصائد أبهجها، ونقّب عن الفوائد فاستخرجها؛ حاك من النّظم حللا، كأنّه بأشعّة الشّموس مزجها، وحاكى رضاب بنت الكرم، إلّا أنّه بالشّهد لا بالماء مزجها.
وشعره زهريّ النفحات، زهريّ اللمحات، لدقّة معنى. تختلس القلوب، وتختلف بتغذية الأرواح، اختلاف النسيم عند الهبوب.
اتّفق أهل العراق على استحسان لطائفه، وإحسان دوحه المثمر، فيما أجناه لقاطفه وكانت تستروح ببرد سحره، وورد خضره، ورويّة ورد أفنانه في شجره.
وقدر ابن حكّينا فوق ما حكينا، وقد ذكره العماد الكاتب وشكره، بما تلمس الغواني عليه الترائب. وقال فيه: «ظريف الشعر مطبوعه. لم يجد الزمان بمثله في رقّة لفظه وسلاسته. وقد أجمع أهل العراق «1» على أنّه لم يرزق أحد من الشعراء لطافة طبعه. وله الإشارات «2» النادرة المذهبة، التي من حقّها أن(16/13)
تكتب بماء الذهب» «1» انتهى كلام العماد الكاتب.
وما المختار هاهنا من شعره- على قلة ما وقفت له عليه وقطفت من جنى جنيه، «2» فمنه قوله: «3» [المنسرح]
عيناك ترمي قلبي بأسهمها ... فما لخدّيك تلبس الزّردا
ريقته الشّهد والدّليل على ... ذلك نمل بخدّه صعدا «4»
ومنه قوله:
يا من تشكّى عنه، وبلاؤه منها، وفيها النّا ... س منها يشتكون وأنت منها تشتكيها
ومنه قوله: [مجزوء الرجز]
تبرم بالعذار وظنّ أنّي ... أقاطعه وأخرج من يديه
وخافت عارضاه خلاص قلبي ... من التّبريح فانقفلت عليه
ومنه قوله: «5» [المديد]
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والنّاس نوّام «6»
(3) كيف يخفى ما أكتّمه ... والذي أهواه نمّام «7»
ومنه قوله: [المنسرح](16/14)
يا سيّدي والذي مودّته ... عندي روح تحيا به الجسد
من ألم الظّهر أستغيث وهل ... يألم ظهر إليك يستند
ونظر إليه بعض إخوانه في يوم عاشوراء، وقد اكتحل وطرف أهدابه بالحداد لا بالكحل، فلامه لما رأى طرفه الكحول، ولم يعلم أنّه ممّا نزف الدمع من سواد عينه المحلول، فقال: «1» [مخلع البسيط]
ولائم لام في اكتحالي ... يوم استباحوا دم الحسين
فقلت دعني، أحقّ عضو ... منّي يلبس السّواد عيني «2»
وباقي المختار من شعره قوله: «3» [مجزوء الخفيف]
كم تقولون بعض عا ... رضه قد تغيّرا «4»
إنّما الحسن حيث مر ... ربه الحبّ مسفرا «5»
رام تبخيره فذر ... ر على الجمر عنبرا
ومنه قوله: «6» [الطويل]
وربّ جفون شاكلتني لأنني ... أقمت على سهم ولم أخل من سحر
قسا ثمّ أجرى دمعتي فكأنّه ... لفرقته الخنساء تبكي على صخر «7»(16/15)
ومنه قوله: [الطويل]
مولى تزايد في تواضعه عظما ... كذاك البدر في الأفق
ومنه قوله: «1» [الخفيف]
لست أحوي صفاته غير أنّي ... ما رأيت الإعسار منذ رآني
وإذا أظهر التّواضع فينا ... فهو من أنّه عظيم الشّأن «2»
ومتى لاحت النّجوم على صف ... حة ماء، فما النّجوم دواني
(4) ومنه قوله: [الخفيف]
وكأنّ الوهاد بالدّم كاسا ... ت عقار فيها الرّءوس حباب
كلما ذمّت العدى ما أتاهم ... من عقاب أثنت عليك العقاب
ومنه قوله: «3» [السريع]
قصدت ربعي فتعالى به قد ... ري فدتك النّفس من قاصد «4»
ولم ير العالم من قبلها ... بحرا مشى قطّ إلى وارد «5»
ومنه قوله: «6» [الطويل]
ويكتب بالبيض الصّوارم أسطرا ... على أوجه الفرسان تنقطها السّمر
وينظمهم في الرّمح نظما وإنّما ... رؤوسهم من بعد نظمهم نثر(16/16)
ومنه قوله: [السريع]
ناولني تفاحة أشبهت لو ... ني وطيب الرّيح من فيه
ظبي جعلت القلب في أسره ... فقد غدا محتكما فيه
ومنه قوله: «1» [السريع]
ما فيكم بخل ولا بي غنى ... عن نائل والنّجح في الصّدق «2»
ولست أستبطي ولكنّني ... ينقطع الغيث فاستسقي
ومنه قوله يهجو: [مجزوء الخفيف]
للنّميريّ نكهة ... طال منها تحيّري
هي أفسا إذا تنف ... فس من ألف مبعر
قلت لما شممتها ... من خري جوف منخري
ومنه قوله في العزيز عمّ العماد الكاتب: «3» [الكامل]
لنكتال من مال العزيز بصاعه ... فميلوا بنا نحو العراق ركابكم
ومنه قوله في الشّريف الشّجري النّحويّ: «4» [المنسرح]
يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر
ما فيك من جدّك النّبيّ سوى ... أنّك لا ينبغي لك الشّعر «5»(16/17)
(5) ومنه قوله: «1» [المنسرح]
ارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
ومنه قوله: «2» [الطويل]
مدحتهم فازددت بعدا بمدحهم ... فخيّل لي أنّ المديح هجاء
يقولون ما لا يفعلون كأنّهم ... إذا سئلوا رفدا هم الشّعراء
ومنه قوله: «3» [الطويل]
أتاني بنو الحاجات من كلّ وجهة ... يقولون لي: أين الموفّق قاعد؟
فقلت لهم: فوق المجرّة داره ... ولكنني فارقته وهو صاعد
فإن شئتم أن لا تضلّوا فيمّموا ... إلى حيث سارت بالثّناء القصائد
ومنه قوله: «4» [الطويل]
لاقى طريق النّسك شاسعة ... فاستصحب اللذّات وانحرفا
يهوى كؤوس الرّاح تذكره ... قبسا أضاء وبارقا خطفا
يهدي المزاج بجيدها حببا ... مثل السّهام تعاورت هدفا «5»
وإذا دعاه طرف غانية ... للوصل بادره ولو زحفا
منها:(16/18)
واعقد بطرفك صدغ ذي ترف ... لّما ألمّ بخصره انعطفا
كالنّون منحنيا فإن عبثت ... كفّي أحالت شكله ألفا «1»
والماء تطربه منادمتي ... فلو استبدّ برأيه وقفا
وخلائق مثل النّسيم جرى ... فإذا تعرّض للعدا عصفا
وتراه يرفدني وأنشده ... مدحي فنظهر بيننا الطّرفا «2»
ومنه قوله: «3» [السريع]
لم أجن ذنبا في مديح امرئ ... قابل شعري بالمواعيد
إن قلت: بحر فبما نالني ... من هوله أيّام ترد يدي
(6) أو قلت: ليث فبتكليحه ... إذا أتاه طالب الجود
ومنه قوله في ولده: «4» [السريع]
ابني بلا شكّ ولا خلف ... في غاية الإدبار والسّخف «5»
كأنّه الحبّال في مشيه ... يزداد إقبالا إلى خلف
ومنه قوله: «6» [الطويل]
سكن المجرّة واستهلّ ندا ... وكذا الغمام إذا علا وكفا
لم آت أستكفيه حادثة ... إلّا تهلّل بشره وكفا(16/19)
ومنهم:
2- أبو عبد الله محمد بن مبارك بن عليّ بن جارية القصّار، البغداديّ «13»
لفظه عال، ودرّه غال. يبدو عليه ظرف أهل العراق، ووصف أهل بغداد، في كرم الأخلاق. ومن شعره الحالي الرّشفات، الحاوي لإحياء الرّفات، من النّمط العالي الصّفات، الغالي، فالذهب ما إليه التفات، قوله: «1» [مخلع البسيط]
وأدهم اللّون ذي حجول ... قد عقدت صبحه بليله
كأنّما البرق خاف منه ... فجاء مستمسكا بذيله
ومنه قوله يهجو مغنيا اسمه محمود: «2» [الخفيف]
أنت تدري أن الشتاء على الأش ... جار صعب، إذا أطلّ شديد
لو أراد الإله بالأرض خصبا ... ما تغنّى من فوقها محمود
كلّما أنبتت يسيرا من العش ... ب وغنّى، غطّى عليه الجليد
ومن قوله في ذمّ الشّيب: «3» [البسيط]
ولي إلى الشّيب شوق ما ينهنهه ... سعي للقياه من عمري على قدم «4»
ما أرغد الدّهر عيشي في الشّباب ولا ... أحلى فأبكى شبابي حالة الهرم(16/20)
ومنه قوله «1» [الكامل]
علّ النحيلة أن تجود بنظرة ... ولقد يجود بمائه الجلمود
(7) إن كان موعدنا برامة غاله ... خلف فهذا موعد وزرود «2»
ومنه قوله: «3» [المتقارب]
إذا كان حظّ الفتى صاعدا ... فلا بأس بالأدب النّازل
أحذقا ورزقا لقد رمت ما ... يزيد على أمل الآمل
هما خلفان، فهذا المقي ... م يعقب من ذلك الرّاحل
وما غاية الفضل نظم القري ... ض ولكنّه نفثة الفاضل
واستدعاه بعض أصدقائه صبيحة ليلة، أكلت الشمس نجومها، وحدرت على صفحة السّماء غيومها، وقد أذابت كحل الليل دمعة الفجر، وتحرّك نهر النّهار، إلّا أنّه لم يجر، ثمّ دام عنده نهاره كلّه حتّى اعتلّ اليوم، واختلّ القوم، وقبض المساء روح الشّمس وهيّأ الغرب لميّت النّهار الرّمس، وأتت الليلة المقبلة بذكيّ شعلها، وتدبّر حللها، حتى آن لسيف الدّجى أن يستلّ من شعر العذّال الأشيب، ولثعلب الفجر على ممرّ حان أوّله يتوثّب. فلمّا أتّمهما عنده يوما وليلة، جمع طوق كلّ منهما وذيله. سأله في الانصراف، فأذن له على تلوّ عليه وتروّ أن يخرج من يديه. فلما خرج كتب إليه: [الخفيف]
أيّها الصّاحب الذي عزّ عندي ... إذ تحقّقت في المودة ميله
ليت شعري ماذا استطلت من ال ... وصل، وما كان غير يوم وليله(16/21)
فكتب إليه: [الخفيف]
أيها الصّاحب الذي زاد عتبا ... لصديق له توهّم ميله
دمت يوما وليلة ما افترقنا ... وهل الدّهر غير يوم وليله؟
ومنهم:
3- القاضي أبو عمرو، يحيى بن صاعد بن سيّار الهرويّ، قاضي قضاة هراة «13»
حاكم على الكلام، وناجم في أفق الأيّام، علم الأدب وقاله، وبلغ به مع العلم كماله. ممن لا يقاس به إذا ندر، ولا ترد القرائح إلّا إذا أصدر. ولا يفخر العلماء إلّا إذا قاموا لديه. وقد تصدر ولا تجد المدائح لبوسها إلّا (8) مما قدر عليه أو قدّر.
قال فيه العماد: «صاحب بديهة، ينظم بسرعة، حلو الشّعر لطيفه» «1» قلت:
ومن شعره المنتخب ثمينه، المنتخل من درّه ما يزينه، قوله في زرقة العين: «2» [الكامل]
ما شانها وأبيك زرقة عينها ... بل صار ذلك زائدا في زينها «3»
كادت أساود شعرها تسطو على ... مهج الورى لولا زمرّد عينها
ومنه قوله: «4» [الكامل]
ومن العجائب أن يمرّ كلامه ... وممرّه بالشّهد من شفتيه «5»(16/22)
وكذا تنفّس من رآه بارد ... وممرّه بالنّار من جنبيه
ومنه قوله: «1» [السريع]
قلبي هو العاشق لا صدغه ... فلا أراه أبدا يضطرب «2»
لا تعجبن من فعله هكذا ... سنّة من يرقد فوق اللهب
ومنه قوله: «3» [السريع]
أبكي إذا ما حضروا منهم ... وإن نأوا أبكي على النّائي
كأنّني السّكّر في طبعه ... أذوب في النّار وفي الماء
ومنه قوله: «4» [مجزوء الرجز]
لا تفخرن بالشّعر إنّ العقل لا يوجبه ... وأيّ فخر بالذي أجوده أكذبه
ومنه قوله: «5» [البسيط]
سألتها ودموع العين تشفع لي ... بالله ترحم قلبا لي بها تاها «6»
قالت لديّ قلوب جمّة علقت ... فأيّها أنت تعني؟ قلت: أشقاها
ومنه قوله في الشّمعة: «7» [الوافر](16/23)
ومن يك ضاق في الظّلماء ذرعا ... فإنّي من يسرّ به جنانه
أطارد عسكر الظّلماء عنّي ... برمح صيغ من ذهب سنانه
(9) ومنه قوله: «1» [الوافر]
أنا المغترّ حين ظننت أن لا ... يكون لوصلهم أبدا فراق
وقالوا: كيف ليلك؟ قلت ليلي ... كليل الشّمع أجمعه احتراق
ومنهم:
4- أبو عبد الله النّقّاش، عيسى بن هبة الله البزّاز البغدادي «13»
شعره كأيّام الشّباب، والتآم الأحباب. ولم يقع إليّ منه إلّا ما يقع من الشّمس بين الغصون، أو بقدر ما يبوح به الكتوم من السّرّ المصون. وقد ذكره العماد الكاتب ذكر التفخيم، وأشار إليه إشارة قامت مقام الدّلّ من الأغيد الرّخيم. والذي أتيت له به حتى نوار ومجاجة شهد من يد مشتار، وزجاجة شفّت عن كوكب درّيّ يوقد بالأنوار.
منه قوله: «2» [المتقارب]
إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السّراج ... له لهب قبل أن ينطفي(16/24)
ومنهم:
5- أبو المظفّر، أسامة بن مرشد بن عليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، الكنانيّ الكلبيّ الشيزريّ، مؤيّد الدولة «13»
مجد الدّين، ورفد المحدثين. سليل إمارة، وسيل سحب مدرارة، وعديل شهب سيّارة. من أكابر بني منقذ، أصحاب شيزر، وأرباب تقى. لا يشدّ له على الفحشاء مئزر. توارثها منهم سادة غرّ، وقادة توزّعت خطياتهم الدّراري والدرّ، وكان هذا من أسنى بدورهم تماما، وأندى زهورهم أرجا ناغى غماما. فارس وغى، لا تقعده السآمة، وبطل حرب لا يدعى إليها أشجع من أسامة. من العلماء الشّجعان، والكرماء في الطّعام والطّعان. يطعنون صدر الكتيبة، ويطعمون السّنة الجديبة. يمتّون إلى البيت الفاضليّ بحقّ الجوار، وحظّ النّسب في الأدب، لا في النّجاد. وكانت له مع القاضي الفاضل صحبة زادت قدره بكتابه، وزانت حظّه له مشابه، وبينه وبينهم كتب تنشر (10) الرياض لمن تأمّل، وتنظر الشّهب منها في أردان من تحمّل، إلى همم يناط بالفراقد نجادها، وينام على الظّلم سهّادها.
وهو في بني منقذ علامة أعلام، وضرغامة في أجمة أسل وأقلام. حمامة سجع، وغمامة رجع، وصمصامة مرهف منهم لا يفلّ له حدّ، وأسامة من بيت، كلّهم أسود، ما منهم إلّا كريم الجدّ، طمى على قريبهم سيله، وغطّى على أطوادهم المنيفة ذيله.
وقد ذكره العماد الكاتب ذكرا يوشّح الأعطاف، ويرشّح لفواضل هزّاته السّلاف، قال: «وسكن دمشق، ثمّ نبت به كما تنبو الدّار بالكريم، فانتقل إلى مصر، فبقي بها مؤمّرا مشارا إليه بالتّعظيم، إلى أيّام الصّالح ابن رزّيك. ثم عاد(16/25)
إلى الشّام، ثم رماه الزّمان إلى حصن كيفا، فأقام بها حتّى ملك السّلطان صلاح الدّين، فاستدعاه وقد جاوز الثّمانين» «1» انتهى كلامه.
قلت: وقدم عليه وقد أمسك الهرم بواعثه، وشدّ بإمساك العصا له رجلا ثالثة، وقد جاوز الثّمانين، وجاور ركائب إلى المنايا ما بين. وفي سنّه يقول: لمّا علّت ومرّت أيامه التي خلت، وقد وهن جلده، ووهى بنانه، ورعشت يده.
ويصف فيها ما آلت إليه أحواله وآصت، أقصر من أعمر الأيام أحواله، يتذكّر شبابه المفارق، وناب سنانه في صدر المارق، إذ كانت قناته تحرق لبّة الأسد، وتخلق له في قلب الشّجاع الحسد: [البسيط]
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبّة الأسد «2»
وله ديوان شعر رقيق الجلباب كخدود الغيد، تحيّر فيها ماء الشّباب. لا يصل إلى درّه الغوّاص، ولا يطّلع على سرّه إلّا الخواص.
ومما له يرشف ثغوره، وترهف كالسّيوف الحداد سطوره، قوله: «3» [الطويل]
تخالفت الأهواء وانشقّت العصا ... وشعّبهم وشك النّوى كلّ مشعب
وقد نثر التّوديع في كلّ مقلة ... على كلّ خد لؤلوا لم ينقّب
(11) ومنه قوله: «4» [مجزوء الكامل]
يا عاتبا أحبابه ... أأمنت تقليب القلوب؟(16/26)
لا تفز عنّ سماع من ... تهوى بتعداد الذّنوب
ما ناقش الأحباب إلا (م) ... من يعيش بلا حبيب
ومنه قوله: «1» [البسيط]
أفدي خيالا سرى ليلا فاشرقت الدّ ... نيا بأنواره والصّبح ما انبلجا
عجبت منه تخطّى الهول معترضا ... أرض العدا ووشاة الحيّ، كيف نجا؟
ومنه قوله: «2» [المنسرح]
انظر إليها فإن نظرت ترى ... شخصا عن العاشقين يحتجّ «3»
غصن ودعص فالغصن من هيف ... يميس لينا والدّعص يرتجّ
شمس وليل فاعجب لشمس ضحى ... تشرق والليل راكد يدجو
منه قوله: «4» [السريع]
نفسي فدت بدر تمام إذا ... عاتبني بالجدّ أو بالمزاح
سددت بالتّقبيل فاه على ... مسك ودرّ ورضاب وراح «5»
ومنه قوله: «6» [مجزوء الرمل]
يا من فدتك النفس قد أس ... رفت في هجري وصدّي
ابق من هجرك حظا ... للذي يهواك بعدي «7»(16/27)
قلت: وما كان ضرّ هذا الشاعر لو قال بعدها:
لا تخلّي الهجر طرا ... في نصيبي أنا وحدي
ومنه قوله: «1» [مخلع البسيط]
إن راعنا البين بافتراق ... وساء بعد الدّنوّ بعد
فهذه شيمة الليالي ... تعيرنا ثمّ تستردّ
ومنه قوله: «2» [الرجز]
ما هاج هذا الشّوق غير الذّكر ... وزورة الطّيف أتى من مصر «3»
(12) كم خاض بحرا وفلا كبحر ... حتى أتى طلائحا في قفر
قد انطوينا من سرى وضمر ... حتى اغتدين كهلال الشّهر
يحملن كل ما جد كالصّقر ... بعيد مهوى همّة وذكر
للمجد يسعى لا لكسب الوفر ... يذكرني طيب الزّمان النّضر
ما كان إلا غرة في الدّهر
ومنه قوله: «4» [الكامل]
واها لليل خلتني من طيبه ... متفيّئا في ظلّ طير طائر
ناهلت فيه البدر شمسا توّجت ... عند المزاح بكلّ نجم زاهر «5»
ولثمت برقا لو تألّق في دجى ... أغنى المحول عن الغمام الماطر «6»(16/28)
ومنه قوله: «1» [الكامل]
عاتبته في صدّه قبل النّوى ... فكأنّ عتبي زاده إصرارا
ورأيت أمواه الحياء بخدّه ... فترقرقت حتى استحالت نارا
ومنه قوله: «2» [الرمل]
راحتي في فيض دمعي ... لو أطاعتني الدّموع
وخداع الطّيف لوطا ... ف بأجفاني الهجوع
ومنه قوله: «3» [الكامل]
أحبابنا المتوجّعون لما بنا ... هجروا وأبدوا رأفة وتوجّعا
صدّوا فأشعرني السّقام صدودهم ... وأعاض عيني من كراها أدمعا
وهم جنوا ما أنكروا فتوجّعوا ... متنصّلين تقيّة وتورّعا
كالقوس ترمي السّهم ثم ترنّ من ... وجد عليه تأسّفا وتفجّعا
وفي هذا زيادة على قول ابن الرومي: «4» [البسيط]
كالقوس يصمي الرمّايا وهي مرنان
ومنه قوله: «5» [الكامل]
في وجهه ماء الملاحة حائر ... وبخدّه ورد الحيا لم يقطف
وكأن وشي عذاره في خدّه ... نمل تسرّب فوق ورد مضعف(16/29)
(13) ومنه قوله: «1» [الكامل]
هبني أكفكف زفرتي ومدامعي ... ما حيلتي وشجا التجمّل خانقي
أنا كالحمام تبوح حين تنوح بالشّ (م) ... كوى ولم يفغر لها فم ناطق «2»
ومنه قوله: «3» [الكامل]
لله ليلتنا التي رحبت لنا ... فيها المسرّة في مجال ضيّق
ما شابها لولا مشيب ظلامها ... كدر ولا راعت بواش محنق
فلو استطعت خضبتها بشبيبتي ... وجعلت لون صباحها في مفرقي
ومنه قوله: «4» [المنسرح]
أقول للعين في يوم الوداع وقد ... فاضت بقان على الخدّين مستبق «5»
تزودّي اليوم من توديعهم نظرا ... ففي غد تفرغي للبين والأرق «6»
ومنه قوله في الخمر: «7» [المنسرح]
إذا قراها المزاج أضرمها ... وقلت: أيدي السّقاة تحترق «8»
توّجها الماء من فواقعه ... درّا به ترتدي وتنتطق «9»(16/30)
ومنه قوله: «1» [البسيط]
ما حيلتي خذلتني بعد بعدكم ... مدامعي واستحالت في الحشا حرقا
كأنّما رام قلبي أن يصعّد من ... دمي دموعا بنار الشّوق فاحترقا
ومنه قوله: «2» [السريع]
أخرجني حبّك عن شيمتي ... حتى لقد أنكرت أخلاقي
أخضع للواشي ولولا الجوى ... لم يخضع الملسوع للراقي
أشفق أن يظهر حبّي لكم ... هيهات يا ضيعة إشفاقي
ومنه قوله: «3» [مخلع البسيط]
قل للملوك الذي تجنّى ... وخان من بعد ملك رقيّ
أحسن بي لا عن اعتماد ... غدرك إذ جاد لي بعتقي
(14) ومنه قوله: «4» [الخفيف]
لو رآني أموت ظمآن والنّي ... ل بكفّيه ما سقاني بلالا
وهو لو رام أخذ إنسان عيني ... قلت: خذه يكن بخدّك خالا
ومنه قوله: «5» [الكامل]
نفسي الفداء لمن يعاتبني ... وفمي على فمه يقبّله
ويريد يوضح وجه حجّته ... واللّثم يعجله ويخجله(16/31)
حتّى إذا أضجرته سترت ... ما بين فيّ وفيه أنمله
ويعود معتذرا ليشغلني ... عنه بعذر لست أقبله
ومنه قوله: «1» [الكامل]
راجع أحبّتك الذين هجرتهم ... أو فالق هجرتهم بقلب سال
تاركتهم لا معلنا بقطيعة ... تسلي ولا متعرّضا لوصال
ثقة بهم ونسيت أنّ قلوبهم ... مخلوقة من جفوة وملال
وغدا إذا استعطفتهم وتمنّعوا ... أدمت بنانك حسرة الإخلال
ومنه قوله: «2»
عتبي نفاق لا تحفلنّ به ... قول بلا نيّة ولا عمل
يشبه تعبيس شارب الخمر لا ... لكرهها بل لفارط الجذل
ومنه قوله: «3» [الكامل]
لا تستعر جلدا على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم
واعلم بأنّك إن رجعت إليهم ... طوعا، وإلّا عدت عودة راغم
ومنه قوله: «4» [الكامل]
قسما بمن لم يبق خو ... ف رقيبه لي فيه قسما
خاف الوشاة فصدّ حتّ ... ى في الرّقاد إذا ألمّا(16/32)
لأخاطرنّ بمهجتي ... في حبّه إمّا وإمّا
ومنه قوله: «1» [البسيط]
من لي بأنّ بسيط الأرض دونكم ... طرس وأنّي في أرجائه قلم
(15) أسعى إليكم على رأسي ويمنعني ... إجلالي الودّ أن تسعى بي القدم «2»
ومنه قوله: «3» [الكامل]
نمّت على حسراته زفراته ... وكذا ينمّ على الضرام دخانه
وأخو الهوى مثل الكتاب دليل ذا ... ك عيانه ودليل ذا عنوانه
تحكي البروق فؤاده فضرامها ... أشواقه وخفوقها خفقانه
ومنها: [الكامل]
كاتمت واشيك الهوى قبل النّوى ... فبدا له من بعدها كتمانه
وعصاك دمعك عند خطرة ذكرهم ... وبقدر طاعتك الهوى عصيانه
وتخلّق الطّيف الطّروق بخلقهم ... فإذا ألمّ يروعني هجرانه
ومنه قوله: «4» [الكامل]
أنكرت واشيك الغرا ... م فجاء سقمي بالبيان
شهد النّحول به وما ... يغني الجحود عن العيان
ما يستدلّ على وقو ... د النّار إلّا بالدّخان(16/33)
ومنه قوله: «1» [الكامل]
يمتنّ طيفك بالزّيارة كلّما ... دلّته أفكاري على أجفاني
المنّ للأفكار لو لم تهده ... نحوي لكان كأنت في الهجران
لقن القطيعة منك في سنة الكرى ... فإذا جفا وجنى فأنت الجاني
ومنه قوله: «2» [الكامل]
يا هاجري [أبدا] في يقظتي فإذا ... هوّمت وكّل بي طيفا يؤرّقني «3»
يلمّ بي غير مشتاق على عجل ... وينثني حين يشجيني ويقلقني
فلست أنفكّ من بين مجدّد لي ... روعاته بخيال منك يطرقني «4»
ومنه قوله: «5» [السريع]
كيف انتصاري من هوى ظالم ... قلبي وعيني بعض أعوانه؟
(16) في كلّ يوم موقف للنّوى ... من عتبه ظلما وهجرانه
فعهده أضعف من خصره ... وخصره في سقم أجفانه
ومنه قوله: «6» [البسيط]
جاهرت بالهجر أستبقي الوصال به ... وربّما استتر الإسرار في العلن
فضاع في الصّدّ أيّام حفظت بها ... أيّام وصلك في مستأنف الزّمن(16/34)
كذاك الدّم وهو الرّوح يهرقه الطّ ... بيب حفظا لباقي الرّوح في البدن «1»
ومنه قوله: «2» [البسيط]
إن ألقه سرّه قربي وآنسه ... وإن أغب صدّ عنّي معرضا ولها
كأنّني ميّت في النّوم يبهجه ... لقاؤه ثمّ ينساه إذا انتبها
ومنه قوله: «3» [الكامل]
تخفى عليّ ذنوبه في حبّه ... ويرى ذنوبي قبل أن أجنيها
فكأنّه عيني ترى عيبي ولا ... يبدو لي العيب الذي هو فيها
ومنه قوله: «4» [الكامل]
يغالطني فيكم هواي فأنثني ... إليكم على إنكار ما قد بداليا
كعطفة أمّ البوّ ترأم شلوه ... وقد رابها منه الذي ليس خافيا «5»
ومنه قوله:»
[البسيط]
بعدا لمن شرّه أعمى يصيب ولا ... يرى مكان الأقاصي من ذوي النّسب «7»
كالنّار تحرق طبعا لا تميز بي ... ن المندل الرّطب في الإحراق والحطب(16/35)
ومنه قوله: «1» [مخلع البسيط]
أنت كلون البياض تهوى ... وهو أذى كلّه وعيب
إن حلّ في العين فهو شين ... أو حلّ في الرّأس فهو شيب
وقوله: «2» [الوافر]
وما أشكو تلوّن أهل ودّي ... ولو أجدت شكيّتهم شكوت
(17) مللت عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهم فيمن رجوت
إذا أدمت قوارضهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت «3»
ورحت عليهم طلق المحيّا ... كأنّي ما سمعت ولا رأيت
ومنه قوله: «4» [الكامل]
لا تنكرن مرّ العتاب فتحته ... شهد جنته يد الوداد الناصح
وتطلّب المحبوب في مكروهه ... فالدّرّ يطلب في الأجاج المالح
ومنه قوله: «5» [الخفيف]
لي مولى صحبته مدّة العم ... ر فلم يرع حرمتي وذمامي
ظنّني ظلّه أصاحبه الدّه ... ر على غير نائل واحترام
فافترقنا كأنّه كان طيفا ... وكأنّي رأيته في المنام(16/36)
وقوله من مرثيّة: «1» [الطويل]
أطلت عليّ الليل حتّى كأنّما ... زماني ليل كلّه ما له فجر
تمثّلك الأفكار لي كلّ ليلة ... وتؤنسني أشباهك الأنجم الزّهر
وقوله: «2» [البسيط]
أزور قبرك مشتاقا فيحجبني ... ماهيل فوقك من ترب وأحجار
فأنثني ودموعي من جوى كبدي ... تفيض فاعجب لماء فاض من نار
ومنه قوله: «3» [الكامل]
حيّا ربوعك من ربى ومنازل ... ساري الغمام بكلّ هام هامل
وسقتك يا دار الهوى بعد النّوى ... وطفاء تسفح بالهتون الهاطل
حتّى تروّض كلّ ماح ما حل ... عاف وتروي كلّ ذاو ذابل
أبكيك أم أبكي زماني فيك أم ... أهليك أم شرخ الشّباب الزائل
وما قدر دمعي أن تقسّمه النّوى ... والوجد بين أحبّة ومنازل «4»
ومنه قوله: «5» [الكامل]
نظرت إلى ذي شيبة متهدّم ... أفناه ما أفنى من الأيّام «6»
(18) يمشي وتقدمه العصا وقد انحنى ... فكأنّها وتر لقوس الرّامي(16/37)
ومنه قوله: «1» [البسيط]
إذا كتبت فخطّي جدّ مرتعش ... كخطّ مضطرب الكفّين مرتعد «2»
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبّة الأسد
وإن مشيت وفي كفّي العصا ثقلت ... رجلي كأنّي أخوض الوحل في الجلد
وقد تقدّم البيت الثّاني منها في ترجمته.
ومنه قوله: «3» [الكامل]
كم حار في ليل الشّباب فدلّه ... صبح المشيب على الطّريق الأقصد «4»
وإذا عددت سنيّ ثمّ نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي «5»
ومنه قوله: «6» [الطويل]
أراني نهار الشّيب قصدي وطالما ... تجاوز بي ليل الشّباب سبيلي
وقد كان عذري أن أضلّني الدّجا ... فهل لي عذر والنّهار دليلي
ومنه قوله: «7» [البسيط]
يا ربّ حسن رجائي فيك حسّن لي ... تضييع وقتي في لغو وفي لعب «8»
وأنت قلت لمن أضحى على ثقة ... بحسن عفوك إنّي عند ظنّك بي(16/38)
ومنه قوله: «1» [البسيط]
الرّوح محصورة في الجسم موثقة ... بقيد مهلتها أو ينتهي العمر
حتى إذا خلصت أفضت إلى سعة ال ... فضاء وانزاح عنها الضّيق والضّرر
كالنّور في العين محصور ويخرج من ... حرص دقيق وضيق ثم ينتشر
ومنه قوله في قلع الضّرس: «2» [البسيط]
وصاحب لا تملّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم يبد لي مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد «3»
ومنه قوله: «4» [البسيط]
علا إلى الأفق أقوام بلا أدب ... وفي الحضيض ذوو الآداب قد همدوا
(19) كأنّما النّاس في بحر يموج بهم ... رسا به الدّرّ واستعلى به الزّبد
ومنه قوله: «5» [الكامل]
استر همومك بالتّجمّل واصطبر ... إنّ الكريم على الحوادث يصبر
كالشّمع يظهر نوره متجمّلا ... فوق الشّمات وفيه نار تسعر
ومنه قوله: «6» [البسيط](16/39)
اصبر إذا ناب أمر وانتظر فرجا ... يأتي به الله بعد الضّرّ والياس
إن اصطبار ابنة العنقود إذ حبست ... في ظلمة القار أفضاها إلى الكاس
ومنه قوله: «1» [الكامل]
اصبر على جور الولاة وعسفهم ... وترقّب الفرج الذي يتوقّع
وادفع معرّتهم بطاعة خاضع ... فالدّهر عارية غدا يسترجع
فالنّبت يسجد خاضعا متواضعا ... للريّح ثمّ إذا تولّت يرفع
ومنه قوله: «2» [البسيط]
إنّي وثقت بأمر عزّني أملي ... فيه وقد قيل كم من واثق خجل
عادت إليّ الأماني منه آيسة ... فيا حياء المنى من خيبة الأمل
ومنه قوله: «3» [الكامل]
النّاس أشباه فإن خطب عرا ... حطّ الدّنيّ وساد ذكر الأفضل
كالعود مشتبها فإن أحرقته ... كره الدّخان وطاب عرف المندل «4»
ومنه قوله: «5» [البسيط]
زهّدني في العقل أنّي أرى ... عناية الأيّام بالجهل
والدّهر كالميزان: ذو الفضل ين ... حطّ وذو النقصان يستعلي(16/40)
ومنه قوله، وفي كل كلمة نون: «1» [الكامل]
نزّه لسانك عن خنا ونميمة ... من نمّ بين النّاس كان مهينا
وامنح نوالك من نحاك بظنّة ... وأنف لنفسك أن تكون ضنينا
(20) ومنه قوله: «2» [الخفيف]
كم تغصّ الأيّام منّي وتأبى ... همّتي أن تنال منّي مناها
أنا في كفّها كجذوة نار ... كلّما نكّست تعالى سناها
ومنه قوله: «3» [مجزوء الرمل]
يا ظلوما كلّما استع ... طفته صدّ وتاها
زدت في تيهك والشي ... ء إذا زاد تناهى
تتقصّى دولة الحس ... ن وإن طال مداها
ومنه قوله: «4» [الكامل]
خلع الخليع عذاره في عشقه ... حتّى تهتّك غاية الإفراط «5»
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا ... هذا كذلك إبرة الخيّاط
ومنه قوله: «6» [الكامل]
قالوا نهته الأربعون عن الصّبا ... وأخو المشيب يجور ثمّت يهتدي(16/41)
كم حار في ليل الشّباب فدلّه ... صبح المشيب على الطّريق الأقصد «1»
ومنه قوله: «2» [الكامل]
لا تحسدنّ على البقاء معمّرا ... فالموت أيسر ما يؤول إليه
وإذا دعوت بطول عمر لامرئ ... فاعلم بأنّك قد دعوت عليه
انتهى ذكره، وسنذكر بقايا بيته. وإذا اختصرنا فهو من جرثومة مثمرة الأغصان، مقمرة الأهلّة في طلائع الخرصان. أهل فضل لا ينزح قليبه، ولا يبرح يستسقى اغترافا باليد قريبه.
ومنهم:
6- أخوه أبو الحسن «13»
فاق بني منقذ سؤددا ضخما، وشجاعة أنحلت المشرفيّ عناقا، والرّدينيّ ضمّا. ورد بغداد حالا في كنف إمامها، وحاجّا تحت ظلّ أعلامها. واستشهد في حرب الإفرنج على باب غزّة، ودفن بها، فوسّد ترابها عزّه. وأنشد له أخوه شعرا ما شمخت (21) عندي ذوائبه، ولا نفحت في أذني عجائبه، وإنّما منه: «3» [الكامل]
ما فهت مع متحدّث متشاغلا ... إلا رأيتك خاطرا في خاطري
ولو استطعت لزرت ربعك ماشيا ... بسواد قلبي لا بسواد النّاظر «4»(16/42)
ومنهم:
7- أبو الحسن عليّ بن مقلد «13»
جدّه سديد الملك، وهو جدهم السعيد وزندهم القادح ضرما في ماء الحديد، لولاه ما زأر أسامة، ولا استعرض مرهف الحرب ولا سآمة، ولا كان مرشد إلا حائرا يطلب طريق السّلامة، ولكن فخروا جدودا، وادجروا جودا، وأصبحوا يتوقّل الحصون لواؤهم، ويصبّ على المعاقل أنواؤهم. وهو الذي أخذ حصن شيزر من الأسقف الذي كان مالك صياصيه، بمال بذله له فسلّمه إليه بنواصيه. ثم شرع في عمارته، وبرع به في إماراته.
وهو ممدوح فحول الشّعراء في أوانه، ومستودع درر القرائح في صوانه. وله شعر ما قصّر به عن مدى، ولا تأخر عن الزهر المبلل بالنّدى. فمنه قوله في غلام ضربه، وقد أبدع فيه وأغرب، وقال فأطرب، وهو: «1» [البسيط]
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... كفّيّ غلّهما غيظا إلى عنقي
وأستعير إذا عاتبته حنقا ... وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق «2»
ومنه قوله: «3» [مجزوء الرمل]
بكرت تنظر شيبي ... وثيابي يوم عيد
ثم قالت لي بهزء ... يا خليعا في جديد
لا تغالطني فما تص ... لح إلا للصّدود(16/43)
ومنهم:
8- أبو سلامة، مرشد بن عليّ بن مقلد «13»
وهو ممن كتب خطّا فائقا، وأضحى لجيوب الكمائم فاتقا. وتقدّم على قومه فتأخّروا عن شوطه، وتأثّروا بزجره قبل سوطه. وأسنّ وعمّر، وسنّ معروفا منذ أمّر. وولد أولادا نجباء، وأمجادا كرماء.
وذكره صاحب بغية الألباء فلم ينشد له شعرا، ولا أنشق له عطرا. وقد أنشد له مؤلف «الفضل الأغزر في ملوك شيزر» (22) شعرا كثيرا، أليقه بالأبيات، وأنسبه طللا يلحق بالأبيات، قوله: [الطويل]
بكائي على إخوان صدق فقدتهم ... أصابهم سهم الرّدى وعداني
فلا صاحب إن غبت عنه أشوقه ... ولا صاحب إن متّ عنه بكاني
ومنهم:
9- حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم، أبو الغنائم «14»
الملقب بمكين الدّولة. تالي قرآن لا يفتر منه لسانه، وتالي غمام لا يقصر عنه إحسانه. ينظم من الشّعر فاخر عقوده، ويشقّ زاخر بحوره. ولا يردّ عن مقصوده.
شاعر فحل، ظاهر في كلامه جنى النّحل. مع عفاف لا يدنّس له بردا، ولا يكدّر له وردا. هذا إلى تتيّم بسلمى وسعدى، وكلف لا يبيت ليلة لا يستنجز وعدا. كلّ هذا صناعة أدبية، ورقة عربيّة. ومن شعره السّائر، ونظمه الطّائر،(16/44)
قوله: «1» [البسيط]
ما بعد جلّق للمرتاد منزلة ... ولا كسكّانها في الأرض سكّان
في كلّ ناحية عين وكلّ فتى ... تلقاه من أهلها للعين إنسان
ومنهم:
10- أبو الفضل، إسماعيل بن أبي العلاء «13»
سلطان بن عليّ بن منقذ. أبوه عمّ مؤيّد الدّولة أسامة. هو الفضل حقيقة، وله الفعل الجميل خليقة. نشأ شابّا يترنّح غصنه شبابا، ويضيء ذهنه شهابا، ويرقّ خلقه شرابا. اعتورت المنايا سراجه، وعجّبت الرّزايا أدراجه. فما بزغ حتى أفل، ولا آب حتى قفل. وذكره العماد الكاتب وقال: سمعت من شعره: «2» [الطويل]
ومهفهف كتب الجمال بخدّه ... سطرا يحيّر ناظر المتأمّل
بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأي إلّا رأي أهل الموصل
وذكره صاحب بغية الألبّاء، وقال: اتّصل بي ذكره، وأنه كان في مخيّمه، فطار عليه زنبوران، وكان على رأسه مملوك وضيء الوجه، فطيّرهما. فكتب إلى ابن عنين: «3» [الطويل]
متفرّدين ترنّما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام «4»(16/45)
(23) هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيشكر ذا وذاك يذام «1»
فأجابه: «2» [الكامل]
هذان زنبوران أما جود ذا ... عسل وذا لدغ عليه يذام
كلحاظ من أهوى وريقة ثغره ... خمر لراشفها وذاك سهام
ومنهم:
11- أبو الفتح يحيى بن سلطان بن منقذ «13»
مجد الدين «3» كان لا يعدم بينهم تمجيدا، ولا يطاول أخدعا وجيدا. إلّا أنّه كان يتنعب من العيش زهيدا، ثم قتل بعد ذلك شهيدا. وله شعر منه: [البسيط]
والشمس مصفرّة في الغرب قد نشرت ... شعاعها في تفاريق من السّحب
كأنّما السّحب أعلام مورّدة ... والشمس من تحتها ترس من الذّهب
وروى هذه أيضا لغيره. وإنّما شيخنا علاء الدّين الكندي رواهما له، ومنه سمعت.
ومنهم:
12- أبو مرهف، نصر بن علي بن مقلد «14»
عمّ مؤيّد الدّولة أسامة. وكان يلقّب بعزّ الدّولة. مؤرّخ لا يفوته فائت، ولا(16/46)
تخفى عليه حال مقيل ولا بائت. فضلا أتقنه، وشغلا جعله ديدنه. هذا، مع تحف أناشيد، وطرف شعر ألذّ من الأغاريد. سريع المحاضرة، سريّ المذاكرة، يغترف من بحر لجّيّ، ويقتطف من ليل دجوجي، فلهذا لا تعدّ درره ولا دراريه، ولا تحدّ أواخره ولا مباديه.
ذكره العماد الكاتب الأصفهاني فقال: حضرنا عند الملك الصالح ليلة بدمشق، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، والأمير مؤيّد الدّولة حاضر، يناشدنا ملح القصائد، وينشد لنا ضالة الفوائد. وجرى ذكر بيتين لبعضهم، في المشط الأسود والمشط الأبيض، وهما لأبي الحسين أحمد بن محمد الدويدة، وهما: [الخفيف]
كنت أستعمل السواد من الأم ... شاط والشّعر في سواد الدياجي
أتلقّى مثلا بمثل فلمّا ... صار عاجا سرّحته بالعاج
فقال أسامة: أخذ هذا المعنى عمّي نصر، وعكسه، فقال: [الخفيف]
كنت أستعمل البياض من الأم ... شاط عجبا بلمّتي وشبابي
(14) فاتّخذت السّواد في حالة الشّي ... ب سلوّا عن الصّبا والتّصابي
ومنهم:
13- أبو الفوارس، مرهف بن أسامة بن مرشد بن عليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، عضد الدّولة «13»
أسنّ وما خلع جلباب الشّباب، ولا ودّع سلمى والرّباب. بخلق زادته السنون صفاء، وأفادته رقة يتخذ معها مواصلة الراح جفاء. وكان كريما خرق البنان، خلق للقلم والعنان. اقتنى الكتب وجمعها، واجتنى الآداب وأبدعها، ومتّع(16/47)
بحواسّه فما فقدها، ولا طلبها إلّا وجدها. ما تغبّر له ذهن ولا عقل، ولا غاب عنه بحث ولا نقل. وكان إلى أن مات يقرأ الخطّ الرقيق قراءة الشّبّان، ولا يتمادى عليه أوان.
ومما كتب به إلى أبيه: «1» [الطويل]
رحلتم وقلبي بالولاء مشرّق ... لديكم وجسمي للعناء مغرّب «2»
فهذا سعيد بالدّنوّ منعّم ... وهذا شقيّ بالبعاد معذّب
وما أدّعي شوقا فسحب مدامعي ... تترجم عن شوقي إليكم وتعرب
وو الله ما اخترت التّأخّر عنكم ... ولكن قضاء الله ما منه مهرب
انتهى البيت المنقذي.
ثم نذكر بقية من نحن بصددهم، فنقول:
14- القاضي أبو غانم عبد الرزاق بن أبي حصين «13»
المعري أصفه مختصرا، وأدل عليه مقتصرا، فأقول: إن تقدّمه بلديّه بزمانه، فقد أدركه بإحسانه، وما يأتي من شعره أنموذج من بيانه. ومنه قوله في كوز الفقّاع: «3» [الوافر]
ومحبوس بلا جرم جناه ... له حبس بباب من رصاص
يضيّق بابه خوفا عليه ... ويوثق بعد ذلك بالعفاص «4»
إذا أطلقته خرج ارتقاصا ... وقبّل فاك من فرح الخلاص(16/48)
وقد ترجم له العماد، وقال بعد إيرادها: وما أعجب به من إنشادها، ما صورته هذه الأبيات الحسنة، صقلتها الألسنة وهي عروسها في كنّها، خندريس في دنّها، مطبوعة في فنّها. يعدّ هذا الأسلوب من النظم معمّى. (25) ويدلّ على أن لقائله فضلا جمّا. انتهى كلام العماد.
ولو شاء في الثّناء زيادة لزاد. ومن شعره قوله في حجر الرّجل: «1» [الكامل]
وعجيبة أبصرتها فخبأتها ... لغزا لكلّ مساجل ومناضل
ما تستقرّ بكف ألكن ناقص ... حتى تجرّ برجل أروع فاضل «2»
ومنهم:
15- أبو العلاء بن أبي الندى «13»
أبو العلاء بن أبي الندى، وقيل ابن جعفر بن عمرو المعري. الشعر فضله على فضائله. والأدب طبع يبدو على مخائله. من هذه البلد التي أخرجت الأخاير، وملئت بجواهرهم الذخائر. وكان أبو العلاء ذاك، ذكاء ليس فيه شاك.
قال فيه العماد: «اشتغل صغيرا بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشّبه، سمح البديهة والرّويّة. مجيد وحيد فريد، غدر به عمره، وطوي نشره، وغيّض فيضه قبره، ونضب عند تموّج عبابه بحره. ولو عاش لكان آية، فلم يبق في علم من العلوم غاية» . ومن شعره يمدح بهاء الدّين الشّريف: «3» [الكامل]
من أين كان لكنّ يا حدق المهى ... علم بنفث السّحر في عقد النّهى(16/49)
أم من أعار البان في مهج الورى ... فتكا فأصبح بالقنا متشبّها
من كلّ ميّاد القوام منعّم ... يختال من سكر الشّباب فيزدهى «1»
واهي الجفون فلو تكفّل جفنه ... فعل الصّوارم لاستقلّ وما وهى
يبدو بوجه كلّما قابلته ... أهدى إليك من المحاسن أوجها
كالفضّة البيضاء إلا أنّه ... يلقاك من ذهب الحياء مموّها
وله على القمر المنير فضيلة ... كفضيلة القمر المنير على السّها «2»
جمّ البهاء كأنّما جمعت له ... تلك الصّفات الغرّ من شيم البها
البدر يقصر أن أقايسه به ... والشّمس تصغر أن أشبههه بها
وظلمت شامخ مجده إن جئته ... عند المديح ممثّلا ومشبّها
أنتم بني الزهراء، أهل الحجّة ال ... زهراء إن فطن المجاور أوسها
فإلام يجحد في البريّة حقّكم ... قد آن للوسنان أن يتنبّها
(26) صنتم ببذل عروضكم أعراضكم ... وصيانة الأعراض في بذل اللها
ماذا أقول، وما لوصف علاكم ... حدّ، ولا لنهاكم من منتهى
منكم سنا الشّرف المبين جميعه ... وإلى بهاء الدّين بعدكم انتهى
ومنه قوله: «3» [البسيط]
لا غرو إن كان من دوني يفوز بكم ... وأنثني عنكم بالويل والحرب
يدنى الأراك فيمسي وهو ملتثم ... ثغر الفتاة ويلقى العود في اللهب(16/50)
ومنه قوله في المروحة: «1» [الوافر]
وقابضة بعنان النّسيم ... تصرّفه كيف شاءت هبوبا
فمن حيث شاءت أهبّت صبا ... ومن حيث شاءت أهبّت جنوبا
يضمّخ بالطّيب أردانها ... فتهدي لملبسها الطّيب طيبا
إذا أقبل القرّ كانت عدوّا ... وإن أقبل القيظ صارت حبيبا
ومنه قوله في غلام ينظر في مرآة: «2» [البسيط]
بدا لنا فازدهانا حسن صورته ... حتى امترينا لها في أنه بشر
وقابلت وجهه مرآته فبدت ... كأنها هالة في وسطها قمر
ومنه قوله: «3» [الطويل]
خذي قلبه رهنا وردّي له الكرى ... لعلّ خيالا منك في النّوم يطرق
فواعجبا للطّيف ليس بواصل ... إلى الجفن إلّا وهو وسنان مطبق
يصدّ إذا الأبواب تفتح دونه ... ويقرب منها شخصه حين تغلق
وما ذاك دأب الزّائرين وإنّما ... زيارته للصّبّ زور منمّق «4»(16/51)
ومنهم:
16- محمد بن حيدر البغدادي «13»
الأديب أبو طاهر، محمد بن حيدر البغداديّ. ممن زاد بذكره الخطيري. زينة الدّهر وجلاها حسناء لم يغلها المهر. وله لطائف أغضّ من الزّهر، وأندى من الأقاحي على النّهر، ومنها قوله: «1» [الكامل]
يا جاحدي فضلي وقد نطقت ... بفضائلي بدهاته عنه
(27) هل أنت إلّا البدر توضحه ... شمس الضّحى وكسوفها منه؟
وقوله: [المنسرح]
أما ترى البدر كيف مدّ على ... دجلة ضوءا من نوره البهج
والجسر من فوقها يرقّصه الن ... نسيم من مائها على اللّجج
كأنها لاذة مفرّكة ... يقطعها قاطع من الشّبج
ومنه قوله: [الوافر]
وصاحبة وردت بها غديرا ... يقدّر من صفاء الماء أرضا
كأنّ الوحش حين تعبّ منه ... يقبّل بعضها للشّوق بعضا
وقوله: «2» [الطويل]
ومدامة كدم الذّبيح سخا بها ... للشّرب من لهواته الإبريق
حتى إذا ضحك الزّجاج لقربها ... منه بكى لفراقها الراووق
وقوله: [مجزوء الكامل](16/52)
يا صاح قد جمع السّرو ... رلنا بقربك ما تبدّد
قم فاسقني والسحب با ... كية وطرف البرق أرمد
والليل فد شابت ذوا ... ئب أفقه والبدر أمرد
والماء في وسط الصّرا ... ة كأنّه زرد مبدد
وقوله: «1» [الهزج]
خف الأمر وإن هان ... ولا يطغ بك الشّبع
ولا تصد من الكل ... فة ما يصقله الطّبع
فقد يخشى من الفأ ... ر على من عضّه السّبع
ومنهم:
17- أبو الفتح، محمد بن عبد الله، سبط ابن التعاويذي «13»
الملقّب بأمين الدّولة. رجل تدفع العين عوذه، وتمنع من يرتاد الرّوض نبذه.
كان من الكتاب استرزاقا لا صناعة واستحقاقا. لو أن مادته في الشّعر له (28) بضاعة. وأدبه نسب النسيم إذا سرى سحرا، ونبّه عيون النّور من وسعه الكرى.
وله في الشعر توليد غير موءود، وديوان شعر ما فيه مخرّج لا مردود. وكله مما يلج بلا استئذان، ويصل إلى القلب قبل الأذان، إلّا أنّ الغوص في أكثره قليل، والدّقيق في مواضعه منه حليل.
وهو ممن تديّر ريفا، وتفيّأ من النّخيل ظلا وريفا، لا يعلّله إلا أساها، ولا يعلمه شكوى الفراق إلا نوح الحمائم في مصبحها وممساها. وكان مسترزقا(16/53)
بالمديح، مادّا منه كفّ المستميح.
وبعث مديحا إلى السّلطان صلاح الدّين- قدّس الله روحه- أرسله لأمله رائدا، وبعث يطلب بكرمه معنى زائرا.
وبعث قصيدة إلى العماد الكاتب استجداه فيها فروة يدفع بها برد الشّتاء الكالح، ونبل الوبل الرّاشق، وخطّار البرق الرامح.
وكان شيخنا شهاب الدّين مفتونا بطريقه، مغبونا في رحيقه. لا يقدم عليه شاعرا من معاصريه، ولا يحب ذا أدب لا يكون من ناصريه.
وحدّثني الحافظ أبو الفتح ابن سيّد الناس العمري، قال: كان قاضي القضاة ابن دقيق العيد يثني عليه ويقول: من يحسن مثل قوله: «1» [السريع]
سرت بنا في ليلة القرّ ... تجمع بين الإثم والأجر
والله لو مدحت بمثلها لأجرت عليها ألف دينار.
قلت: وحسبه ثناء هذين وكفى.
ومن سهل مطبوعه، وجيده المنتقى من مطبوعه، قوله: «2» [الخفيف]
بات يجلو عليّ روضة حسن ... بتّ منها ما بين روض وآس «3»
قلقي من وشاحه وبقلبي ... ما بخلخاله من الوسواس
ومنه قوله: «4» [المنسرح](16/54)
وقائد الجرد كالعقارب لا ... يدركها في نجائها البصر «1»
حماتها كلّ يوم ملحمة ... حماتها والقنا لها إبر
ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل]
قالت وأدمعها تسي ... ل أسى على الخدّ الأسيل
(29) يا بين كم أجليت يو ... م نوى الأحبّة عن قتيل
منها في المديح:
يا فارج الكرب العظي ... م وكاشف الخطب الجليل
أحسنت في الدّهر المسي ... ء وجدت في الزّمن البخيل «3»
ومنه قوله: «4» [الخفيف]
بأبي الأسمر العزيز وقد با ... ت على غيرة الوشاة سميري «5»
زارني بعد هجعة يمسح الرّق ... دة عن جفن عينه المزرور
ومنه قوله: «6» [الكامل]
عودي مريضا في يديك شفاؤه ... أشفى وأنت بما يكابد أعلم
ولطالما وجد الطّبيب لدائه ... برءا إذا كان الطّبيب المسقم «7»(16/55)
ومنه قوله: «1» [الطويل]
يعزّ على زرق الأسنّة عودها ... وما نهلت ذوابلها السّمر
تحوم ظماء والنحور كأنّها ... مناهل ورد والرّماح قطا كدر
ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل]
أين استقلّت بالحبيب ركابه ومتى ظعن ... ولربّ ليل بتّ فيه صريع باطية ودن
مع مخطف لدن القوام إذا انثنى رخص البدن ... لكنّني كفّرت ليلة زرته عنّي وعن
ومنه قوله: «3» [المنسرح]
قد أقسمت لا اهتدى الخيال إلى ... جفني وبرّت لمياء في القسم
أمزج شكواي بالخضوع لها ... ودمع عيني صبابة بدمي
ومنه قوله: «4» [الكامل]
يا شاكي اللّحظات شكوى مغرم ... يلقاك وهو من التجلّد أعزل
أصمت لواحظك المقاتل راميا ... أفما يدقّ على سهامك مقتل
(30) ومنه قوله: «5» [الطويل](16/56)
إذا ما أظلّتني عناقيد فرعها ... سقتني بكأس الثّغر ماء العناقيد
ومنه قوله: «1» [السريع]
وليلة بات سميري بها ... وناظري بالنّجم معقود
حتى انمحى صبغ الدّجى واغتدت ... كأس الثّريّا وهي عنقود «2»
ومنه قوله: «3» [الكامل]
خذ في أفانين الصّدود فإنّ لي ... قلبا على العلّات لا يتقلّب «4»
أتظنني أضمرت بعدك سلوة ... هيهات عطفك من سلوّي أقرب
ومنه قوله: «5» [مجزوء البسيط]
وبارد الظّلم شتيت الثّغر ... واهي المواعيد معا والخصر «6»
في خدّه ماء الشّباب يجري ... قافية من شعري «7»
أصبحت لا أملك فيه أمري
ومنه قوله يمدح: «8» [الكامل]
قوم إذا اعتقلوا مثقفة القنا ... لوغى حسبت الأسد في الآجام «9»(16/57)
غلب ولكن في المغافر منهم ... حدق المها وسوالف الآرام
ومنه قوله: «1» [الوافر]
عليل الشوق فيك متى يصحّ ... وسكران بحبّك كيف يصحو
وأبعد ما يرام له شفاء ... فؤاد من لحاظك فيه جرح «2»
فبين القلب والسّلوان حرب ... وبين الجفن والعبرات صلح
ومنه قوله: «3» [المتقارب]
حمته صوارم ألحاظه ... فأصبح والثّغر من فيه ثغر
نشدتك يا ظالم المقلتين ... هل عند قلبي لعينيك وتر
ومنه قوله: «4» [الوافر]
بنفسي من وهبت لها رقادي ... قليلي بعد فرقتها طويل
(31) وما بخلت عليّ بيوم وصل ... ولكنّ الزّمان بها بخيل
ومنه قوله: «5» [السريع]
تختلف الأيام في أهلها ... مثل اختلاف المدّ والجزر
وما لإنسانيتي شاهد ... عندي سوى أنّي في خسر
ومنه قوله: «6» [الطويل](16/58)
ومما شجاني أنّني يوم بينهم ... شكوت الذي ألقى إلى غير راحم
ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهر ... لهان ولكنّي سهرت لنائم
ومنه قوله يذكر عود الوزارة: «1» [الكامل]
أنتم وإن رغم العدى ورّاثها ... قدما وغيركم الدعيّ الملحق
لكم استفاد على الإباء شموسها ... وبكم تجمّع شملها المتفرّق
ومنه قوله: «2» [المتقارب]
وربّ ليال مزجنا بهنّ ... حرّ الفراق ببرد التلاقي
تقضّت قصارا ولكنّها ... أطالت عليّ الليالي البواقي
ومنه قوله: «3» [مجزوء الكامل]
جذلان من مرح الشّبا ... ب ينام عن ليل المسهّد «4»
ظبي سقاني خمر عيني ... هـ فأسكرني وعربد
ومنه قوله: «5» [مجزوء الرجز]
وليلة شربت فيها بالرقاد السّهرا ... قضّيتها يزاحم العشاء منها السّحرا
لو كحّل الصّبح بها من قصر ما شعرا ... باريتها نواظرا مكحولة وطررا
فبتّ أستجلي بها وهي سرار قمرا(16/59)
ومنه قوله يصف الحمام الرسائلي من مديح: «1» [الوافر]
تنال بجدّك الطّلبات حتما ... فليس يفوتها أبدا طلاب «2»
(32) وتصدر عن مراحلها سراعا ... كما ينقضّ للرّجم الشّهاب
تخوض دماء أفئدة الأعادي ... فمنه على معاصمها خضاب
ومنه قوله: «3» [الرجز]
يا نابذا بين الظّباء قلبه ... ذريّة لكل سهم عاثر
كيف تعرّضت وأنت حازم ... يوم اللّوى لأعين الجآذر
أما علمت أن أحداق الظّبا ... ء النّجل لا يؤخذن بالجرائر
ومنه قوله: «4» [مجزوء الكامل]
لله زورته وقد ... مالت إلى الغرب النجوم «5»
وقلادة الجوزاء عق ... د في ترائبه نظيم
وقد انتشى خوط الأر ... اكة والحمام له نديم
ومنه قوله: «6» [الطويل]
يجيل على متنيه سود غدائر ... كما نفض الغصن المرنّح أوراقا «7»
وقالوا نجا من عقرب الصّدغ خدّه ... فقلت اعترفتم أنّ فيه درياقا(16/60)
ومنه قوله: «1» [البسيط]
يظنّ من فتنته أنّها عنم ... ولّت تشير بأطراف مخضّبه
أنّ الخضاب على ذاك البنان دم ... تروقه وهو لا يدري لشقوته
منها في المديح: [البسيط]
يكاد يقطر من نادي أسرّته ... ماء الحياء ومن أعطافه الكرم
ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل]
قم يا نديم فناد في النّدماء حيّ على الفلاح «3»
سيما ونشر الرّوض قد جلبته أنفاس الرياح «4»
والديك كالنشوان من طرب يصفّق بالجناح
ومنه قوله: «5» [مجزوء الكامل]
ولقد نزعت عن الغوا ... ية لا بسا ثوب الوقار
(33) لما تبلّح فجر فودي ... وانجلى ليل العذار
وكذا المريب يسير لي ... لته ويكمن في النّهار
ومنه قوله يعاتب: «6» [الكامل]
لا غرو أن نسيت عهود مودتي ... وقديم أيامي وسالف صحبتي(16/61)
أنا لا أعدّ اليوم إلا ميّتا ... ومتى وفى الأحياء قطّ لميّت
ومنه قوله: «1» [المتقارب]
فمن شبّه العمر كأسا يقرّ ... قذاه ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذى طافيا ... على صفحة الكأس من أوّله «2»
ومنه قوله: «3» [مخلع البسيط]
لم يبق لي في هوى الغواني ... مذ تقضّى الصّبا طماعه
خلعت نفسي من التّصابي ... ما لأخي الشّيب والخلاعه
أنكرن مني شيبا وعدما ... فلا بضاع ولا بضاعه
ومنه قوله يذم خشكنانجة من قصيدة: «4» [البسيط]
وخشكنانجة سوداء فارغة ... كأنّها قطعة من قرن جاموس
ومنه قوله: «5» [الوافر]
إذا ما الرّعد زمجر خلت أسدا ... غضابا في السّحاب لها زئير
وإن سلّت صوارمها الغوادي ... أفاض عليه جوشنه الغدير «6»
ومنه قوله: «7» [السريع](16/62)
وروضة غنّاء باكرتها ... والشّمس قد جاوزت الحوتا
سرت بريّاها نسيم الصّبا ... تحمل نشر المسك مفتوتا «1»
وردّ ما استودعه تربها ... من لؤلؤ القطر يواقيتا
ومنه قوله: «2» [المنسرح]
يرنحها نشوات الشباب فتمشي ... كما انعطف الغصن غضّا
(34) صحت وهي بالدّلّ سكرى القوا ... م وصحّت لواحظها وهي مرضى
أقام لي خدّك الدّليل بما ... ضرّمه من جوى على كبدي
إنّ مرايا الأحداق تحرق ما ... قابله نورها على البعد
وقوله: «3» [الوافر]
أدر كأس المدام عليّ صرفا ... ولا تفسد كؤوسك بالمزاج
ودعني والصّلاة إذا تدانت ... فليس على خراب من خراج
وقوله: «4» [الطويل]
سمحت بدمعي للدّيار مسائلا ... رسوم الهوى لو أنّ تسآلها يجدي
على القلب تجني كلّ عين بلحظها ... وعيني على قلبي جنت وعلى خدّي
وقوله: «5» [المنسرح]
وريع سرب النّجوم فاستبقت ... في أخريات الظلام تطّرد «6»(16/63)
وطار عن وكره إلى الأفق النّس ... ر وخاف الغزالة الأسد
وقوله: «1» [الكامل]
قالت أتقنع أن أزورك في الكرى ... فتبيت في حكم المنام ضجيعي
وأبيك ما سمحت بطيف خيالها ... إلا وقد ملكت عليّ هجوعي
ومنهم:
18- أبو الغنائم، محمد بن عليّ بن المعلّم الواسطيّ «13»
الملقّب نجم الدّين. شاعر كأنّما حرّك بكلّ هوى، وحرّق بكلّ جوى، فتحمّل كلّ صبابة، وتجمّل بالصبر لو أصابه. فداوت نسيمه وصبا «2» ، وهبّت جنوبا وصبا «3» . وسكن البطائح، وسكب في رواقها الأحمديّ «4» دم كلّ دمع طائح.
وعني بشعره بين يديّ شيخ الطائفة أحمد بن الرفاعيّ، قدّس الله روحه، فطاب به هو والفقراء، فعادت عليه بركاتهم، وسرت فيه حركاتهم، وحصلت له حظوة نهنهته في العراق، ورفعت رأسه من الإطراق، فلم يخل مجلس (35) رئيس من منشد لشعره أو مستنشد، ومتّهم به أو متحدّ.
واتّخذت ديوانه الوعّاظ موضع إنشادهم، ومكان استشهادهم. فذهب بالقلوب، ونهب الألباب، بلفظه الخلوب، للطافة مأخذه، وقرب وصوله إلى القلب ومنفذه: حتّى إنّ الكلمة كانت تختطف من فمه، وتقتطف قبل أن يثمر(16/64)
بها أفنان قلمه. فلا تنشد له قصيدة إلا تناهب إنشادها من حضر، وتواثب إليها كلّ منهم وابتدر. فقلّ أن تميّز منشد له بإنشاد، أو برز منفردا بإيراد، لمسابقة الحضور له إلى أبياتها، مسارعة الجميع له إلى غاياتها، لسرعة انتشارها، وسعة اشتهارها، فجاء كلّه حلوا رقيقا، وصفوا رحيقا.
ومن مختاره المختال، وشجاره المعتال، قوله: [المتقارب]
دعوه فقد قيل إن الغرا ... م جنون وما كذب القائل
ولا تسلو حاضرا غائبا ... كفى مخبرا دمعه السائل
قفا بي ولو ساعة في العقي ... ق لنبكي على النّاحل النّاحل
يحاول من دمعه ناصرا ... على البين والنّاصر الخاذل
وقوله: [الطويل]
ألم تسأموا عذلي، دعوني والبكا ... ألام على فيض الدموع ألام
أسكّان نجد أين أيّام رامة ... إذ الورد من ماء الوصال جمام
صحا كلّ ذي سكر بكم غير شارب ... له النّجم خدن والدّموع مدام
سلوا غير طرفي إن سألتم عن الكرى ... فما لجفون العاشقين منام
وخلّوا زفيري يحد دمعي فكلّما ... تتابع برق استهلّ غمام
وقوله: [البسيط]
أضلّه وطريق الرّكب ملحوب ... وها أمامك حيث البان ملحوب «1»
عرّج وقف وقفة لوت الإزا ... ربه فما عليك به إثم ولا حوب «2»
دع التجلّد وامدد للغرام يدا ... من غالب الشّوق أمسى وهو مغلوب(16/65)
(36) وما خلت أنّ الهوى يقضي عليّ به ... والحبّ كالحين للإنسان مجلوب
لم أخل أنّ سرّ الوجد يفضحه ... من الحمائم تغريد وتطريب
فما بدا البارق العلويّ معترضا ... إلا أبيت وعندي منه ألهوب
كأنّما هو من جنبيّ مخترط ... للومض أو هو في جنبيّ مقروب
يبدو وأبكي دما فهو الصدوق منى ... ما لاح إذ ومضه بالبيض محجوب
وقوله: [البسيط]
كم لي أمدّ غطاء الصّبر أستر أس ... رار الغرام وكفّ البين يكشفه
وكم أكتّم دمعي وهو منسكب ... يجري، وخوفا من الواشي أكفكفه
لا تنكروا ماء أجفاني وحمرته ... لو كان في العين دمع كنت أنزفه
أفنى الهوى أدمعي نزفا ولم يرني ... سوى دمي فهو بالتّوديع يذرفه
ومنها في المديح:
وما أمتّ بشعر بتّ أنظمه ... للمدح فيك ولا سجع أصنّفه
أخذت منك الذي أثني عليك به ... فأنت لا أنا بالنّعمى مؤلّفه
وقوله: [المنسرح]
دار بقوس صحّت النفوس بها ... والحبّ حيث الشّقاء والعلل «1»
مذ سكنتها البدور ما انتقلت ... عن جوّها والبدور تنتقل
توسع فتكا فليس ندري ال ... جراحات بها أم عيونها النّجل
وقوله: [الرمل](16/66)
كلفي فيكم قديم عهده ... ما صباباتي بكم مكتسبه
أين ورق الجزع من لي أن ... أرى عجمه أو أن أشاهد عربه
ونعم إذا بان حزوى فاسألوا ... إن شككتم في عذابي عذّبه
عن جفوني النوم من بعده ... وإلى جسمي الضّنى من قرّبه
وصلوا طيفا إذا لم تصلوا ... مستها ما قد قطعتم سببه
(37) فإلى أن تحسنوا صنعا بنا ... قد أساء الحبّ فينا أدبه
أعشق اللّوم لحبي ذكركم ... يا لمرّ في الهوى ما أعذبه
وقال: [الخفيف]
قسما بالقدود وهنّ رماح ... ولحاظ العيون وهنّ سهام
ويجور الهوى وأعظم أقسا ... م المحبّين هذه الأقسام
لأطيلنّ وقفة الحزن في ال ... أطلال حتّى يرثي لي اللّوّام
وقال من أخرى: [الطويل]
تظلّ عيون النّور في تلعاته ... إلى أعين السّحب الهوامي روامقا
فتضحك أنواء السّحاب إذا بكت ... عليه غزار موثقا وشقائقا
وقال من أخرى: [الطويل]
تخال لديه الشّمس في الجوّ غادة ... عليها ردى من نقعه وخمار
ويقدحن من نقع الحوامي على الحصى ... لظى برءوس السّمر منه شرار
وقال منها في المديح:
وراح ببذل المال صبّا كأنّه ال ... فرزدق والجود الصّريح نوار
إذا هزّ يوم الرّوع رمحا فإنّما ... لثعلبه صدر الكميّ وجار(16/67)
وقال: [الطويل]
فلله عطف من صبا الغور مائس ... ولله طرف من سنا البرق يدمع
يشاهد منه النّجم جفن مسهّد ... ويقرع منه الخدّ ماء مشعشع
وقال من أخرى: [الطويل]
وصارخة من أيكة أجّجت له ... لظا طالما أذكته في قلبه الورق
بكت طربا فانصاع يبكي تشوقا ... فدمعتها زور ودمعته حقّ
وهل يستوي ذو صبوة وابن راحة ... إذا استعبرا، هيهات بينهما فرق
ذري الآن يا ورقاء نوحك إنّما ال ... بكاء لمن دمعه يخجل الودق
(38) فما أنا بالمثني عليك وإنّما ... له الحزن في هذا البكا ولك السّبق
وقال: [المنسرح]
يا للهوى نمّت الجفون بنا ... وليس يخلو المحبّ من زلل
ما عصينا القلوب، أعينهم ... نحن، وهبنا القلوب للمقل
وقال: [الخفيف]
قل لحيّ على اللّوى والكثيب ال ... فرد جاد الحيا الكثيب الفردا
قد وقفنا من بعدكم نسأل ال ... بان ضلالا عنكم ويشكو الرّبدا «1»
فشفانا صمتا، ولم يشف نطقا ... وحكاكم لينا ولم يحك قدّا
وقال: [الطويل]
عسى من كسا الجسم السّقام يعوده ... ومن سلب الجفن المنام يعيده(16/68)
فما يبري المشتاق إلا معلّة ... وينقص داء المحبّ إلا مزيده «1»
وقال: [البسيط]
هو الحمى مغانيه مغانيه ... فاحبس وعان بليلى ما تعانيه
لا تسأل الرّكب والحادي فما سأل ال ... عشّاق قبلك من ركب وحاديه
ما في الصّحاب أخو وجد يطارحه ... حديث نجد ولا صبّ نجاريه
إليك عن كلّ قلب في أماكنه ... ساه، وعن كلّ دمع في مآقيه
ما واجد الصّبر في المعنى كفاقده ... وجامد الدّمع في المعنى كجاريه
لقي الكئيب هوى عادت أواخره ... على العقيق كما عادت أواليه
يجدّد العشق والأشجان تخلفه ... وينثر الدّمع والأحزان تطويه
ربع، ثغور الهوى، لا الرّوض يضحكه ... وأعين العشق، لا الأنواء تبكيه
خلا، وغير فؤادي ما يهيم به ... دعا، وغير دموعي ما تلبّيه
يا منزلا بدواعي البين منتهب ... وما البليّة إلّا من دواعيه
فالنّار من زفراتي لا بوارقه ... والماء من عبراتي لا غواديه
(39) ومودع القلب إذ ودّعته لهبا ... حاشاه حاشاه من قلبي وما فيه
يوهي قوى جلدي من لا أبوح به ... ويستبيح دمي من لا أسمّيه
قسا فما في فؤادي ما يعاتبه ... ضعفا يلاقي فؤادي ما يقاسيه
لم أدر حين بدا والكأس في يده ... من كأسه السّكر أم عينيه أم فيه
وما المدامة إلا من تثنيّته ... وما الظّلامة إلّا من تثنّيه
لو لم يطل عصره فخرا وتاه به ... عجبا لما اهتز عطفاه من التّيه
وقوله: [الكامل](16/69)
عرض العقيق له وجرعاء الحمى ... فطواهما نظرا وأعرض عنهما
هاجا صبابته ولم يقل اسلما ... لهما ولا حال الهوى ما هجتما
صونا لسرّهما القديم وحقّ من ... حمل المحبّة أن يصون ويكتما
منها: [الكامل]
يا ردفه، افتضح الكثيب، وعطفه عرف ال ... قضيب بما استعارا منكما
ما ضرّ ذاك، الظّلم لو اتّقى ... ظلمي وعاف تألّمي ذاك اللّمى
وقوله: [الكامل]
وا رحمتا للصّبّ تاه وما له ... جلد، ولا حمل الأذى من عاده
هو في العراق، وقلبه بتهامة ... يا قرب مسمعه، وبعد فؤاده
وقوله: [الكامل]
لو رام هذا السّائق العجلان ... خبر الغضا لا بان عنه البان
أمسوا، وقد ظعنوا يحدّث عنهم ... ويميل عنه كأنّه سكران
ما يستفيق كأنّما عرضت له ال ... أشواق أو ولعت به الأشجان
وكأنّه صبّ تهيج له الصّبا ... ذكرى تمايل عندها الأغصان
بانوا وفي عذباته من طيبهم ... ماء الثّرى، وكأنّهم ما بانوا
إن تجتنب حزوى فلا ذهل بها ... يستوقف الحادي ولا شيبان
(40) فخفى هوى نطقت به أجفانه ... هيهات ليس مع البكا كتمان
ينسى، وأذكره العقيق وما له ... ولهي ولا دمعي به الهتّان
منها:(16/70)
أأصونه وهو العقيق وطالما ... سمحت به الأجفان وهو جمان
إنّ الألى بخلوا برد تحيّة ... ما ضنّ بعدهم بدمع شان
خذ من عيونهم الأمان وهل لمن ... حمل الغرام من العيون أمان
كم في البراقع من قسيّ حواجب ... تصمي القلوب وغيرها المرنان
منها:
واستقبلوا الوادي فأطرقت المهى ... وتحيّرت بغصونها الكثبان
فكأنّما اعترفت لهم بقدودها ال ... أغصان أو لعيونها الغزلان
وقوله: [الوافر]
إذا رفعت عن الغور الخيام ... وعزّ مرامها هان الحمام
دعوني والبكا، فلغير طر ... فيّ البكا ولغير أذنيّ الملام
منها:
أقصّ على البشام بها حديثي ... ولولا الدّمع لاحترق البشام
أشبّب بالغصون فلا التواء ... ينوب عن القدود ولا قوام
يفرّق شمل دمعي البان فيها ... وينظم نثر شكواي الحمام
يميل كأنّما يقسى نسيم ... يمرّ عليه أو دمعي مدام
منها:
إذا كانت حواجبها قسيّا ... فإنّ لحاظ أعينها سهام
إذا نفسي ودمعي قابلاه ... درى ما الريح والغيث الرهام
وقوله: [الكامل](16/71)
دعني فما اخضرّ العقيق ... إلّا وصرّح نبته بزفيري
مهلا فما دمعي بمحبوس ولا ... قلبي على جور النّوى بصبور
(41) وإليك عن ذكر المحبّين الألى ... درجوا فما المطويّ كالمنشور
وقوله: [الكامل]
ما وقفة الحادي على يبرين وهـ ... والخليّ من الظّباء العين
إلا ليمنحني جوى ويزيدني ... مرضا على مرضي ولا يبريني
قسما بما ضمّت إليه شفاههم ... من قرقف في لؤلؤ مكنون «1»
إن شارف الحادي الغوير لأقضين ... نحبي ومن لي أن تبرّ يميني «2»
ولقد مررت على العقيق بزفرة ... أمسى الأراك بها بغير غصون
فبكا الحمام وما يحنّ صبابتي ... وشكا المطيّ وما يحنّ حنيني
وأظنّ ما اشتملت عليه أضالعي ... أهدي الذي حلّت به لجفوني
فلذاك نار حشاي يظهر سرّها ... من حرّ هذا الدّمع بعد كمون
أنا كالسّحاب إذا توالى برقه ... والى بغيث كالدّموع هتون
يا صاحبي ما أنت إن لم ترث لي ... يوما على سرّ الهوى بأمين
سل باللّوى إن كنت تخبر فيه عن ... دمعي الطّليق ودمعي المكنون
وقوله: [مجزوء الكامل]
قف بي على الوادي الذي ... أقوى ربا وعفا محلا
أشكو بلائي إليه وال ... مشكوّ من شاكيه أبلى
وعلى مرارات الهوى ... ما أعذب الشّكوى، وأحلا(16/72)
وقوله: [الكامل]
وتنكّر الوادي فأصبح بعدهم ... قفرا وشمل جميعهم متبدّدا
وكأنّما الأغصان لم تصبح به ... سكرى ولم يمس الحمام مغرّدا
وقوله: [البسيط]
بانوا بزهر النّجوم الطّالعات فما ... في الرّبع معنى ولا بالرّوض من زهر
(42) وأيّ نور تشيم العين من فلك ... أمسى خلاء بلا نجم ولا قمر
وقوله: [الكامل]
إنّ الألى رحلوا بأقمار الدّجى ... وربا النقا ونواظر الغزلان
لم ينج ربّ صنيعة بتدرّع منهم ... ولا بالشّدّ ربّ حصان
شهروا عن الطعن العيون وكيف لا ... تحمي وهنّ مقاتل الفرسان
وقوله: [الكامل]
وأصون عن نظر الوشاة مدامعي ... من أن يبوح الدّمع بالكتمان
ويخونني طرف فينطق بالذي ... أخفيه من شأن الممنع شاني
ما لي وما لليل وقف طوله ... هدي الكواكب وقفة الحيران
وقوله: [الكامل]
لا تعجبوا إن عاف مشربه الذي ... أجفانه سمحت بأحمر مربد
هي مهجة لا دمعة جمدت وقد ... ذابت دما فكأنّها لم تجمد
منها:
أمزودي الأضياف ضيف جمالكم ... لم يحظ لا بقرى ولا بتزوّد
لا رقة للمشتكي بجنابكم ... وجد المحبّ ولا جدى للمجتدي(16/73)
أترى الذي صبغ الوجوه برقة الص ... صهباء صاغ قلوبها من جلمد
وقوله: [مجزوء الكامل]
رحلوا بأغيد مائس ال ... أعطاف معسول الشمائل
طامي الوشاح بعيد مه ... وى القرط ريّان الخلاخل
يفترّ عن درّ علاه ... كأنّ مبسمه المراسل «1»
يجفو ويبعث طيفه ... فهو المقاطع والمواصل
كالبدر وجها وهو أب ... هى طلعة والبدر كامل
(43) والغصن قدا وهو أح ... سن منه معتدلا ومائل
والسّحر لحظا وهو أف ... تك في الحشا من سحر بابل
وقوله: [المنسرح]
أين تريد درّس الربع البلا ... هو الحمى فاحبس عليه الإبلا
وقفت أشكوه بجفن مارقا ... حوادث البين، وقلب ماسلا
بكيته فهل رأيتم طللا ... قبل وقوفي فيه يبكي طللا
عليّ أن أمطره دمعي وما ... عليّ إن جاد الحيا أو بخلا
وقوله: [البسيط]
لم يدر بي عاذلي لولا لظى نفسي ... ولا اهتدى الطيف بي لولا توقّده
يا للهوى دلّ عذالي على سقمي ... وجدي الذي كأحرّ النّار أبرده
وقوله: [من الرجز]
يا صاح إن فتّ الأراك سالما ... منه مراحا لم يفته مغدا(16/74)
يهدي إليك النوح من حمامه ... غبّ الهدوء قلقا ما يهدا
أمّا الهوى: بان اللّوى ورنده ... سقى الحيا بان الهوى والرّندا
وقوله: [البسيط]
يقوى البلاء على قلبي وأوثره ... علما بأنّ بلائي فيه يؤثره
وتستلذّ الضّنى نفسي وعادتها ... ألّا تمرّ بصاف لا تكدّره
يا نازلين الحمى رفقا بقلب فتى ... إن صاح بالبين راع باح مضمره
لا تحسبوا الصّدّ عن عهدي يغيّرني ... غيري ملازمة البلوى مغيّره
كم تستريحون في صبحي وأتعبه ... وكم تنامون عن ليلي وأسهره
وقوله: [الرمل]
أتلقّى باحتجاجي ذنبه ... مغمدا ما من مساويه سهر
فإذا قيل أسا قلت عفا ... وإذا قيل جنى قلت غفر
(44) ما دنا إلّا نأى من عزّه ... هو والشّمس سواء والقمر
يوسفيّ الحسن زادت بسطة ... بمعانيه على البدو الحضر
وقوله: [مجزوء الكامل]
ما زال يظهرني البكا ... لهم ويخفيني النّحول
حتى رثى لي حاسدي ... فيهم ورقّ لي العذول
وقوله: [من الرجز]
تنبهي يا عذبات الرّند كم ... ذا الكرى هبّ نسيم نجد
مرّ على الرّوض وجاء سحرا ... يسحب ثوبي أرج ورند
حتى إذا عانقت منها نفحة ... عاد سموما والغرام يعدي(16/75)
وا عجبا منّي أستشفي الصّبا ... وما تزيد النّار غير وقد
أعلّل القلب ببان رامة ... وما ينوب غصن عن مد
وأسأل الرّبع ومن لي وعى ... رجع الكلام أو سخا بردّ
تعلّة وقوفنا بطلل ... وضلة سؤالنا لصلد
وأقتضي النوح حمامات اللوى ... هيهات ما عند اللوى ما عندي
بانوا فلا دار العقيق بعدهم ... داري ولا عهد الحمى بعهدي
وأنت يا عيني وعدت بالبكا ... هذا الفراق فانعمي بالوعد
آه من البعد ولو رفقتم ... ما ضرّني تأوّهي للبعد
ماذا على العاذل لو كنّيت عن ... حزوى وليلى بالحمى وهند
وقوله: [الطويل]
أمن بابل أم من لواحظك السّحر ... أمن حانة أم من مراشفك الخمر
وهل ما أراه الموت أم حادث النوى ... وهل هو شوق بين جنبيّ أم جمر
سلوا بعدكم وادي الحمى ما أساله ... دمي أم دموع العاشقين أم القطر
أيحكي الحيا عذب المذاقة أبيضا ... سيول دموعي وهي مالحة حمر
يجفّ السحاب الرطب فيكم وتنضب ال ... مياه وطرفي ما يجفّ له شفر
بكيت دما إذ ليس لي عنكم غنى ... وذبت جوى إذ ليس لي عنكم صبر
منها:
وفي الركب من لو حطّ ليلا نقابه ... لردّ الدآدي وهي من وجهه قمر «1»
بكى فالتقى باللؤلؤ الرطب هازئا ... على نحره من طرفه اللؤلؤ النثر(16/76)
وقوله: [الطويل]
أجيراننا إنّ الدموع التي جرت ... رخاصا على أيدي النّوى لغوال
أقيموا على الوادي ولو عمر ساعة ... كلوث إزار أو كحلّ عقال
ومنهم:
19- عمارة بن عليّ بن زيدان الحكمي «13»
الفقيه، اليمني، الشافعيّ. شاعر لا تنقشع عارضته، ولا تتوقع معارضته، لو قاومه المغلّب لما ناهضه، أو قاوله الفرزدق لما ناقضه. لا يدرك لبحره قرار، ولا لبدره سرار «1» . كان عربيّا فصيحا، ينطف ردنه خزامى وشيحا، تكلم بلسان العرب فما أخطأ، ولا فات سهما ولا عرفا، بفصاحة تسيل شعابها وتسير هضابها. وأصله من مدينة يقال لها (مرطان) من تهامة، وتأدّبه بزبيد من اليمن. وحج سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فسيّره القاسم بن هاشم بن فليتة صاحب مكة المعظمة رسولا إلى مصر، فسرى إليها يتأنّس بمهنّده، ويقطع الظلام يكتحل في كل ميل بإثمد. هذا، ورائد الفضل يقدمه، وقائد الحظّ يخدمه.
فأتى مصر والملك الصالح ابن رزيك يومئذ وزيرها، وبه يبتدأ من يزورها، والفائز اسم ابن رزيك معناه، ومضطجع مهد لولاه لم يلهم لمعناه، فأكرم الصالح منه زائرا أشهى من الطيف لماما، وأخفّ من الضيف مقاما، ودخل على الفائز بقبو الذهب وهو في مجلس كلّ أشمّ الأنف فيه خاضع، وكلّ شامخ الرأس لديه متواضع، وكلّ طرف متشاوس به عضيض، وكلّ جناح همة متعال عنده مهيض، لا يتكلّم فيه إلّا أذن وقال صوابا، ولا يتكلم فيه إلّا من منحه الحصر (46) أن(16/77)
يردّ جوابا، والفائز على سرير مرتفع تقع مرامي العيون دونه وتودّ أسرّة النجوم أن تكونه، وزعماء الجيش قد أخذت مجالسها في نواحيه، ومنعتها المهابة أن تتخيل أنها فيه، فأنشد قصيدة مر بها الفائز ووزيره الصالح ووصف حسن قيامه بالمصالح، وهي: «1» [البسيط]
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النّعم
لا أجحد الحقّ عندي للركاب يد ... تمنّت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد المزار العزّ من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم «2»
ورحن من كعبة البطحاء سائرة ... وفدا إلى كعبة المعروف والكرم «3»
فهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... على النقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار مقدّسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوّة آيات تنصّ لنا ... على الحقيقين من حلم ومن حلم «4»
وللمكارم أعلام تعلّمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلى ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم
دراية الشّرف البذّاخ ترفعها ... يد الرّفيعين من مجد ومن همم
أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا ... فوز النّجاة وأجر البرّ في القسم
لقد حمى الدين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصّالح الفرّاج للغمم
اللابس الفخر لم تنسج غلائله ... إلّا يد لصنيعي السّيف والقلم «5»(16/78)
وجوده أوجد الأيام ما اقترحت ... وجوده أعدم الشّاكين للعدم
قد ملّكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثّريا عزّة الشّمم
أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنّه [من] جملة الحلم «1»
يوم من العمر لم يخطر على أملي ... ولا ترقّت إليه رغبة الهمم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
(47) ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متّهم
عواطف أعلمتنا أنّ بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرّحم «2»
خليفة ووزير مدّ عدلهما ... ظلا على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النّيل نقص عند فيضهما ... فما عسى تتعاطى منّة الدّيم «3»
فاستحسن قصيدته الحاضرون. ثم عاد إلى مكة وهم إليه بعيونهم ناظرون.
ثم إنّ صاحب مكة أعاده إلى الفائز مرة ثانية، وهبّت إلى مصر ريح يمانية ومدّ إليها منه بحر عدّت البحار السبعة ثمانية. وأتاها على نيّة مقيم، وبعلانية أنّه عنها لا يريم، فلما دنا عمارة من الفائز أدناه، وسوّغه فوق مناه، شكرا لمسعاته، وبرّا كلّمه به بغير ترجمان من دعاته، وذلك بما لقّنه ابن رزيك وفطّنه، واستجلبه به ليوطّنه، ثم اختص بابن رزيك خصوصيّة اللسان بالبيان، واليد بالبنان، فغرفه الصالح بسجله، وعرفه نجح ما جاء لأجله، وجعله لا يطأ الثريّا برجله، ولا يطلب الجوزاء بأن تصاغ بحجله، وقد تقدّم في ترجمة الفائز ذكر وفادته، وأنّها كانت بكر سعادته، وأتينا هناك على عيون من أخباره، ومكنون من أشعاره، فلقد أحلّه ابن رزيك منه مكانا تسفّ عنه الرياح المحلّقة، وتشف عنه مصابيح النجوم(16/79)
المعلّقة، ثم إنّ الصالح أراد به زيادة اختلاطه، قوة ارتباطه، فدعاه كما تقدم في ذكر الفائز ليدخل في مذهبه، ويعجّل له آلاف ذهبه، فتباعد من أربه وتأفف من سوء مشربه، وكان الصّالح قد كتب إليه: [الكامل]
قل للفقيه عمارة يا خير من ... أضحى يؤلّف خطبة وكتابا
الأبيات الخمسة المقدّمة الذكر، فيما مرّ من هذا الكتاب. فلما أتت عمارة هذه الأبيات، وسع من الغيظ فوق مليئه، وحمل النّفس حشو عبيئه، وأبى له أن يخيب يقينه، وأنف له لهذه الدنيّة دنية، وكان شافعي المذهب، حسن المعتقد، متعصّبا لأهل السنّة. وكان هذا ينكّب خطّته، ويتجنّب خلطته (48) وكتب إليه جوابا أقذاه، وطوى جوانحه على أذاه وهو: [الكامل]
يا خير أملاك الزّمان نصابا ... حاشاك من هذا الخطاب خطابا
الأبيات الثّلاثة المقدّمة أيضا. ثم إنّ الصّالح يفسد ما بينه وبين عمارة، وسكت عنه تصريحا وإشارة، وسدّ هذا الباب فلم يفتح له قفلا، ولم يكلّفه منه فرضا ولا نفلا، بل قاربه إذ جانب، وواصله إذ جاذب، وكان هو وإياه خليطي خمر وماء، وقسيمي بؤس ونعماء، وكان الصّالح يغمره ببحره، ويؤمّره على أمره، وعمارة يجعل شكره صحيفة آنائه، وحقيبة ثنائه، يقرن كل بيت بوفقه، وينظم كلّ معنى إلى لفقه، ومضت قريحته على هذا التوالي، ودبت الأيام ودرجت الليالي، بفرائد ماتت بين السحر والنحر، وقصائد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، ومدائح ركبت الأفواه ووردت المياه، وطرقت الأندية والخدور، وحلت الأطراف والصدور، وقال فسكت كلّ متكلّم، وصدّ كلّ ناطق مترنّم، ويدلّ على أكبر حاله قصيدته التي مدح بها السّلطان صلاح الدّين، ومنها قوله: [الطويل]
أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنّة موجع(16/80)
يقاصرني خطو الزمان وباعه ... فقصّر من ذرعي وقصّر أذرعي
وأخرجني من موضع كنت أهله ... وآداني بالجور في غير موضعي
تيممت مصرا أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما في ظلّ عيش ممتّع
وزرت ملوك النّيل أرتاد نيلهم ... فأدركت آمالي وأخصب مرتعي
وجاد ابن رزيك فيهما بمواهب ... وكم زاد عن مرمى رجائي ومطمعي
مذاهبهم في الجود مذهب سنة ... وإن خالفوني في اعتقاد التشيّع
فقل لصلاح الدّين والعدل شأنه ... من الحاكم المصغي إليّ فأدّعي
فيا راعي الإسلام كيف تركتنا ... فريقي ضياع من عرايا وجوّع
ونصري له من حيث لا أنت ناصر ... بضرب صقيلات ولاطعن شرّع
فمالك لم توسع عليّ وتلتفت ... إليّ التفات المنعم المتبرّع
فيا واصل الأرزاق كيف تركتني ... أمدّ إلى زند العلا كفّ أقطع
وأقسمت (49) لو قالت لياليك للدجى ... أعد غارب الجوزاء قال لها اطلعي
فيا زارع الإحسان في كلّ تربة ... ظفرت بترب تنبت الشّكر فازرع
ومن شعره النّادر وقوله المبادر، ما سأشنّف به هذا التّصنيف، وأكمل عور هذا التّأليف. وقد حكى ابن خلكان عنه، وقد ذكره، قال: «ورأيت في كتابه الذي جعله تاريخ اليمن، أنّه فارق بلاده في شعبان سنة اثنتين وخمسين، ثم قال: فأحسن الصالح وبنوه وأهله إليه كلّ الإحسان وصحبوه مع اختلاف العقيدة بحسن صحبته. ثم قال: وكانت بينه وبين الكامل ابن شاور صحبة متأكّدة قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه، فكتب إليه: «1» [الطويل]
إذا لم يسالمك الزّمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب(16/81)
ولا تحتقر كيدا ضعيفا فربّما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب «1»
فقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد ... وخرّب فأر قبل سدّ المآرب «2»
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب
فبين اختلاف اللّيل والصّبح معرك ... يكرّ علينا جيشه بالعجائب
وما راعني غدر الشّباب لأنني ... أنست بهذا الخلق من كلّ صاحب
وغدر الفتى في عهده ووفائه ... وغدر المواضي في نبوّ المضارب
إذا كان هذا الدّرّ معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب
رأيت رجالا أصبحت في مآرب ... لديكم وحالي وحدها في نوادب «3»
تأخّرت لما قدّمتهم علاكم ... عليّ وتأبى الأسد سبق الثّعالب
ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهنّ أكرم نائب «4»
ليالي أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب
ومما كان فيه بلاؤه الموكّل بالمنطق قوله- وقد رأى مصلوبا مما أنشد له ابن سعيد- وقال: وكأنما كان لسان حاله، وهو: [الكامل]
ورأت يداه عظيم ما جنتا ... فنفرن ذي شرقا وذي غربا
(50) وأمال نحو الصدر منه فما ... ليلوم في أفعاله القلبا
وكذلك أنشد له قوله: [الكامل]
يا ساكن الجفن القريح وليته ... يرعى لجاري الدّمع حقّ الجار(16/82)
ومن شعره قوله: [البسيط]
واقبض على كلماتي كفّ منتقد ... زيف الكلام فليس الصّفر كالذّهب
قصائد لم تزل في كلّ جارحة ... من حسنها نشوات الخمر والطّرب
كانت مكرّمة المثوى منزّهة ... في أرض مصر عن التّصريح بالطلب
فأصبحت في زمان التّرك طامية ... تحوم حول زلال الماء والعشب
حتى كأنّ أذى قلبي يطيب لهم ... كالعود لولا حريق النّار لم يطب
وقوله: «1» [الكامل]
غصبت أميّة إرث آل محمّد ... سفها وشنّت غارة الشّنان
وغدت تخالف في الخلافة أهلها ... وتقابل البرهان بالبهتان
لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النّفاق وغارب العدوان «2»
وقعودهم في رتبة نبويّة ... لم يبنها لهم أبو سفيان
حتّى أضافوا بعد ذلك أنّهم ... أخذوا بثأر الكفر في الإيمان
فأتى زياد في القبيح زيادة ... تركت يزيد يزيد في النّقصان
تأمل هذا اللفظ المحكم، والمعنى المحكّم، والتجنيس الخالي من التكليف، والعبارة البريئة من التعقيد، والعروس المحببة إلى من زفّت إليه، وجليت عليه، وإلى المقاصد الملائمة لهوى الممدوح، وقد جلاها هذا الفقيه السّنّي، لابسة إزار التشيّع المحض، (51) بارزة في رداء الروض الغض. وقد أكثر النّاس في هذا المعنى فما منهم من قارب هذا الفحل ولا داناه، ولا أشبه أعلى شعره ولا أدناه، ولهذا تحق له بهذا المدح ومثله أن يخصّ، تنكأ الشيعة جناحه وتريشه بالندى،(16/83)
وقلّ من يسود سدى، ولهذا كان قسيم ذهبها وإن باين تأسي مذهبها، وهذا الذي أورده في الدّولة الصّلاحيّة ذلك المورد الذي عجز عن إصداره، ورفعه على الجذع التي لا تناسب جلالة مقداره، ولكنه القضاء المحكّم، والبلاء المختّم، فنعوذ بالله من خرق لا يرقع، وخرق يودع صاحبه البلقع.
عدنا إليه، ومنه قوله: [الكامل]
يا حاسدي عضد الإمام جهالة ... غضّوا جفونكم على الأقذاء
فو حقّه ما نال إلّا حقّه ... والدرّ أحسنه على الحسناء
وقوله: «1» [الطويل]
خفضت لواء الحمد من بعد رفعه ... وحلّت بنان العتب عقد لوائي
ولم يتخلّف بيننا كلّ خامل ... أشرّف من مقداره بهجاء «2»
وقوله: [البسيط]
ألقى الكفيل أبو الغارات كلكله ... على الزمان فضاعت حيلة النّوب
لما تمرّد بهرام وأسرته ... جهلا وراموا قراع النبع بالغرب
صدّعت بالناصر المحيي زجاجتهم ... وللزجاجة صدع غير منشعب
في ليلة قدحت زرق النّصال بها ... نارا تشبّ بأطراف القنا الأشب
ظنوا الشجاعة تنجيهم فقارعهم ... أبو شجاع قريع المجد والحسب
سقوا بأسكر سكرا لا انقضاء له ... من قهوة الموت لا من قهوة العنب
تسنّموا إبلا يتلو قلائعهم ... يا عزة السّرج ذوقي ذلة القتب
(52) كأنهم فوقها خشب مسنّدة ... إن النّفاق لمنسوب إلى الخشب(16/84)
سما إليهم سموّ البدر تصحبه ... كواكب من سحاب النقع في حجب
في فتية من بني رزيك تحسبهم ... عن جانبيه رحا دارت على قطب
كأنّ لمع المواضي في أكفّهم ... صواعق في الوغى تنقضّ من سحب
متوّج من بني رزيك تنسبه ... بين المساعي إلى جرثومة العرب
ما أليق التّاج معصوبا بمفرقه ... وربّ معتصب بالتاج مغتصب
أرضته عن هفوات النّاس قدرته ... فما يكدّر صفو الحلم بالغضب
تجر بين يديه من سوابقه ... قبّ ترقرق منها الحسن في أهب
من كلّ أجرد مسكيّ الأديم له ... صبغ إذا شاب رأس الليل لم يشب
وأحمر شفقيّ اللون متّقد ... بحدّة الشوط لا بالسوط ملتهب
مسوّمات عراب لم تزل أبدا ... تجلى وتكسى بما بزّت من السّلب
يرى لكلّ هلال من مراكبها ... خيط المجرّة مجرورا على اللبب
جرد إذا جرّدتها كفّ عزمته ... للغزو هزّت عذاب الشرك في العذب
تثير نقع دخان تحته لهب ... إنّ الدّخان لنمّام على اللهب
تحكي مجر عواليها إذا رحلت ... عن منزل أثر الحيات في الكثب
لانت صفاة عدو أنت قارعها ... فاصلب على ملّة الأوثان والصّلب
فعندك الضّمّر الجرد التي عرفوا ... وفوقهن أسود الغاب لم تغب
إذا تهنت بك الأيام قاطبة ... فما الهناء بمقصور على رجب
وقوله: [الكامل]
جاءته إخوته ووالده إلى ... مصر على التدريج والترتيب
فانظر إلى الأسباط زارت يوسفا ... والشّمل مجتمع إلى يعقوب
جاءوا وما جاءوا أباهم فرية ... بحديث ذيب أو دم مكذوب(16/85)
وقوله: «1» [الطويل]
فهاجرت بعد الصالح الملك هجرة ... غدت سببا للعز وهو المسبب «2»
(53) غفرت به ذنب الليالي التي مضت ... وربّتما يستوجب العفو مذنب
رأينا بيومي بأسه ونواله ... علا ضاع فيه حاتم والمهلّب
أقول لمغترّ بظاهر بشره ... تيقظ فإنّ الماء تخفيه طحلب
ولا تركنن للبحر عند سكونه ... وبادر فإنّ البحر إن هاج يعطب
وقد يبسم الضرغام وهو معبّس ... وقد يتلظى البرق والغيث يسكب
وقوله: [الطويل]
عليم بأوضاع السياسة لم يزل ... يصرفها منه الخبير المجرّب
وهون قدر الانتقام فما يرى ... له أثر في وجهه حين يغضب
هذا الذهب الإبريز، والأنموذج الغريب، والمدح الذي يحثا في وجه سواه التّراب والحلم الذي ليس فيه ما يستراب، والحكمة ثمانيه [هكذا!] وما أثمن حكمته، وأوفر حظّه منها وقسمته، وانظر إلى أين طوّح نظره، وهمته، عدنا إليه، وقوله: [البسيط]
نور النبوة في ذا الدست مؤتلق ... للنّاظرين ونار العزم تلتهب
في صدره فائز بالنصر محتجب ... بنوره وبتاج العز معتصب
لا يستوي وملوك الأرض في شرف ... إلّا كما يتساوى الصّفر والذهب
من معشر شابت الدنيا ومجدهم ... غصن وأثوابه فضفاضة قشب
لولا الوزير أبو الغارات ما خفقت ... للنصر في القصر رايات ولا عذب(16/86)
وسطوة لو خلت عن عفو مقتدر ... على العقاب لكاد الجوّ يلتهب
يا ابن النبي نداء ما لصاحبه ... قلب إلى غير حسن الظنّ ينقلب
كم موقف لك قد نادى نداك به ... يا مادحين لكفّ المادح السّلب
وقوله: [البسيط]
الأروع البرّ لا تخشى بوادره ... إذا استخفّت رجالا سورة الغضب
لو كان في السّلف الماضي لكان به ... إما وليّا لعهد أو وصيّ نبي
(54) وقوله: [البسيط]
عمت رعايته أقصى رعيّته ... حتى استوى نازح منها ومقترب
يا طالب الشرف الأقصى ولو عدمت ... بنو أبي طالب ما أنجح الطلب
ولو تولت بنو رزيك نصرتكم ... في سالف الدهر ما نابتكم النّوب
أندى الملوك وجوها غير أنّهم ... ترضى المواضي بأيديهم إذا غضبوا
وقوله: «1» [السريع]
طرقتها والليل وجف الجناح ... وما تلبّست بثوب الجناح «2»
في ليلة بات نجادي بها ... ذوائب تخفق فوق الوشاح «3»
وفاح من عرف الصبا عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصباح
لاموا عليها مغرما سمعه ... كراحة الناصر عند السماح
كأنما أسيافه روضة ... لما بها من ورقات الصفاح
والملك لا يسكب خطّابه ... إن لم يكلّمهم كلوم الجراح(16/87)
فالقدس قد آذن إغلاقه ... على يدي يوسف بالانفتاح
ملك إذا حدّثت عن بأسه ... قال النّدى واذكر حديث السّماح
وقوله: «1» [الكامل]
ضاق الصّعيد على جيادك بعد ما ... ضمنت صعادك فتح كلّ صعيد «2»
والغرب واليمن القصيّ وأهله ... من خوفهم في قائم وحصيد
فإلى متى أيدي الكماة معوقة ... عن نشر ألوية ونشر بنود
وخلفت مملكة تقول طريقها ... للدّهر أرّخ بي وخلّ تليدي
وقوله: [الكامل]
شرفا بني رزيك إنّ علوّكم ... أبدا على مسّ الحديد حديد
لا تفتل الأيام حبل مكيدة ... إلا وفيه لأمركم تأكيد
وقوله: «3» [الكامل]
يا دار دار عليك سعد المشتري ... وجرى إليك زلال نهر الكوثر «4»
(55) ولقد كسيت من الرّخام غلائلا ... نسجت ولكن من نقيّ المرمر
وكأنّ حسن سواده وبياضه ... ليل تبسّم عن صباح مسفر «5»
كمرايش الحبرات أو كقلائد ... كافورهنّ مفصّل بالعنبر
دارت مناطقه على فسقيّة ... تملى فتحكي مقلة من محجر «6»(16/88)
وعلى جوانبها بساط خميلة ... قد فروزوه بالنّبات الأخضر
وقوله: [الوافر]
رحلت وكان حظي في رحيلي ... وقربي في التّنائي عن بلادي
فمن عثرت به قدم فإني ... بمصر قد عثرت على المراد
وقوله: «1» [الكامل]
سفر الزّمان بواضح من بشره ... وافترّ باسم ثغره من ثغره
وأضاء حتى خلت فحمة ليله ... طارت شرارا من توقّد فجره
بالياسر المغني بأيسر جوده ... والمقتني عزّ الزّمان بأسره «2»
ما كانت الدّنيا تضيق بطالب ... لو أنّ واسع صدرها من صدره
لله هذه الديباجة الخسروانية، والحبرات اليمانية، عدنا إليه:
وقوله: [البسيط]
هبت رويحة نجد وهي من قطري ... فعطّرت بالخزامى نفحة المطر
عليلة النّفس الحادي وأحسن ما ... هبّ النسيم عليلا آخر السّحر
واستشرفت عقدات البان لي فهفا ... قلبي بمعتدل منها ومنأطر
أضمّهنّ وفي الأغصان تسلية ... عن القدود وليس العين كالأثر
والليل قد طال حتى خلت أنجمه ... مسمّرات أو الأفلاك لم تدر
قالت: كبرت وشبّت فيك ناشئة ... من الغرام تنافي حالة الكبر؟!
ومادرت أنّ حبّ الحبّ منبته ... في أسود القلب لا في أسود الشّعر(16/89)
أنكرت أشهب رأسي بعد أدهمه ... والفرع ليل وحسن الليل بالقمر
(56) يا قصّر الله باع الدهر كيف سعى ... في نقض مبرمة الأطراف في مزر
وردّ بقلة راسي وهي ذاوية ... وكان أخضرها ريحانة العمر
وقوله منها: [البسيط]
من ذا يعيرك أجفانا لتوقعها ... في قبضة الظالمين الدمع والسهر
قالوا أتبكي لهم والقلب من حجر ... فقلت والماء قد يجري من الحجر
قلب: هو الطير في جوّ الغرام فلم ... تبتاعه إنّ ذا بيع على غرر
لكلّ ورد ذبول قد سمعت به ... إلّا الذي فوق خديه من الخفر
لك الحديث الذي تبقى حوادثه ... ما قيّد الذكر مثل الصارم الذّكر
قالوا إلى اليمن الميمون رحلته ... فقلت ما دونه شيء سوى السّفر
لا توقدن لها النّار التي عهدت ... خفّض عليك تنل ما شئت بالشّرر
الحال ملء يد والقوم ملك يد ... وما أطيل وهذا جملة الخبر
يا عدن كم فيك إلّا في ربا عدن ... للجسم من وطن والقلب من وطر
ردها على الصّفو من حمات مشرعها ... فقد عهدناك ورّادا على الكدر
وطأ بها هامة الدنيا وأوح إلى ... فرق المنابر ما توحي إلى السّور
كانت إليك عيون الملك ناظرة ... وكنت أشرف مأمول ومنتظر
تصدّعت بك من مصر زجاجتها ... ما للزجاجة من صبر على الحجر
غسلت بالسّيف والأيام راغمة ... ما كان فوق رداء الملك من وضر
وقد قصدتك في جاه وفي وزر ... وإن فعلت فما تخطي خطا سفري
فإن عزمت فقل فيها لعزمك يا ... ذريعة الخير لا تبقي ولا تذري(16/90)
وقوله: «1» [الكامل]
وأجلّها يوم الخليج فإنّه ... من بينها يوم أغرّ مشهّر
وافاك فيه النيل وهو من الحيا ... خجل يقدّم رجله ويؤخّر
قد جاء معتذرا إليك وتائبا ... من ذنبه الماضي ومثلك يعذر
(57) لولا تعثّره بأذيال الثّرى ... ما كان مذرورا عليه العنبر
ولو أنّه لاقى ركابك صافيا ... صرفا لكدّره العجاج الأكدر «2»
ولقد عدمناه فنبت نيابة ... عزّ الغنيّ بها وأثرى المعسر
كسر الخليج عبارة عن منّة ... أضحى بها كسر البريّة يجبر
وقوله: «3» [الكامل]
أكفيل آل محمّد ووليّهم ... في حيث عرف ولائهم إنكار «4»
واخجلتا للبيض كيف تطاولت ... سفها بأيدي البيض وهي قصار
رصدوك في ضيق المجال بحيث لا ال ... خطّيّ متّسع ولا الخطّار
أوفى أبو حسن بعهدك عندما ... خذلت يمين أختها ويسار
غابت حماتك واثقين ولم يغب ... فكأنّهم بحضوره حضّار
لا تسألن إلّا مضارب سيفه ... فلقد تزيد وتنقص الأخبار
هي وقفة رزق المكرّم جهدها ... وعلى رجال يومها والعار
وقوله: «5» [الكامل](16/91)
لم تحترق دار الخليج وإنّما ... شبّت لمن يسري بها نار القرى
طلبت يفاع الأرض دون وهادها ... فتوقّدت في راس شامخة الذّرى
طلعت طلوع النّجم نال به الهدى ... سار أضلّ طريقه فتحيّرا «1»
ودليل ذلك أنّها لم تشتعل ... في اللّيل حتّى رنّقت سنة الكرى
أوهل تزور النّار ساحة جنّة ... أجريت فيها من نداك الكوثرا
فتملّ دارا شيّدتها نعمة ... يغدو العسير بأمرها متيسّرا «2»
ألبستها بيض السّتور وحمرها ... فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا
لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلّا غدا فيها الجميع مصوّرا
فيها حدائق لم تجدها ديمة ... أبدا ولا نبتت على وجه الثّرى
لم يبد فيها الرّوض إلّا مزهرا ... والنّخل والرّمان إلّا مثمرا «3»
(58) وبها من الحيوان كلّ مسهّر ... لبس النسيج العبقريّ مشهّرا
أنست نوافر وحشها بسباعها ... فظباؤها لا تتقي أسد الشّرى
وبها زرافات كأنّ رقابها ... في الطّول ألوية تؤمّ العسكرا
نوبّية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا
وقوله: [من الرجز]
عند ظباء الجلهتين «4» ثاره ... وبين أطناب المها عثاره
فلا ترقّا لشكاة مغرم ... أسلمه إلى الضّنى اصطباره
تخيّر الموت بألحاظ المها ... فخلّيا عنه وما اختياره(16/92)
يا حبّذا في حبّهنّ لوعة ... تضرم وجدا لا يبوح ناره
وموقف رقّت حواشي عتبه ... ودقّ حتى لم يبن سراره «1»
من كلّ من طال لسان عتبها ... على محبّ قصّر احتذاره
يا صاحبيّ والغرام صبوة ... ألذّها ما عظم اشتهاره
فاستقبلا رونق عيش مقبل ... وابتدراه لا يفت بداره
فقد ضمنت للعذول عنكما ... أمرا عليّ في الهوى إمراره
إن كان دينا فعليّ دينه ... أو كان عارا فعليّ عاره
لا تسألنّ شاكيا عمّا به ... فإنّما سكوته إمراره
يا هذه إنّ المشيب حلّة ... يخلعها على الفتى وقاره
فلا تصدّي واعلمي بأنّه ... ما كلّ من شاب بدا عواره
إن أقلع الوبل فعندي طلّه ... أو ذهب الخمر فبي خماره «2»
سقى مغانيك وإن لم يغنها ... عن أدمعي مع الحيا مدراره
يسحب ذيل السّحب فيها وابل ... تزجى على وجه الثرى أستاره
تحسب صوت الرعد في ربابه ... صوت قطيع أرزمت «3» عشاره
كأنّ بدرا «4» سمحت يمينه ... بذلك الوابل أو يساره
(59) أبلج من غسان، لا نصيفه ... يدرك في المجد ولا معشاره(16/93)
فرّ من الذّمّ إلى بذل الندى ... فاعجب لليث زانه فراره
من آل رزيك الذين أقسموا ... لا خذل الحقّ وهم أنصاره
مؤيّد سمر القنا بنانه ... مظفّر بيض الظّبى أظفاره
يطلع من أبنائه في ملكه ... نجوم ملك تجتلى أقماره
أشبال خيس وهم أسوده ... صغار عصر وهم كباره
وقوله: [الوافر]
وقائلة من الرجل الذي لا ... تماثله الرجال فقلت عيسى
فقالت ما دليلك قلت أضحت ... بهمّته كلوم الدهر توسى
في «1» بعض كتّاب النصارى وقد خدم بدار الكباش بمصر: [المتقارب]
رأيت أبا النّقص ضاقت به ... مذاهبه في التماس المعاش
فمن حبّه لبنات القرون «2» ... غدا وهو خادم دار الكباش
وقوله: [البسيط]
مدائحي وسجاياه ونائله ... ثلاثة نظمت كالدّرّ في نسق
يرجى ويخشى ما في ذاك من عجب ... كالماء يشرق إذ ينجي من الشّرق
وقوله: «3» [الكامل]
لمّا أدار «4» سلافة الأحداق ... دبّت حميّا نشوة الأشواق(16/94)
ما كنت أدري قبل رؤية وجهه ... أنّ الخدود مصارع العشّاق
وقوله: [البسيط]
من كان لا يعشق الأجياد والحدقا ... ثمّ ادّعى لذّة الدنيا فما صدقا
في العشق معنى لطيف ليس يدركه ... من البريّة إلّا كلّ من عشقا
لا خفّف الله عن قلبي صبابته ... بالغانيات ولا عن طرفي الأرقا
من كلّ شمس إذا قابلتها التثمت ... كأنّما أشفقت أن ألثم الشفقا
(60) وقوله [في] طرخان بن يوسف وقد صلب: «1» [الوافر]
تمنّى رفعة وعلوّ قدر ... فأصبح فوق جذع وهو عال «2»
ومدّ على صليب الصّلب منه ... يمينا لا تطول على الشمال «3»
ونكّس رأسه بعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضّلال
وقوله: [البسيط]
قل للرعيّة لا تقنط مطامعها ... فجرح عيسى بعبد الله يندمل
أما ترى حركات النّيل قد نشطت ... من بعد ما كان في أعطافها كسل
زيادة النّيل في إقبال دولته ... مما يدلّك أنّ السّعد مقتبل
وقوله: [الطويل]
أفاتح أرض النيل وهي منيعة ... على كلّ راج فتحها ومؤمّل
متى توقد النّار التي أنت قادح ... بغمدان مشبوب سناها بمندل
وتسمع من لفظ التحيّة ما سما ... إليه ابن هند وهو باغ على علي(16/95)